استيلاء السلطان محمود على سنجار
و لما ملك قطب الدين مودود الموصل و كان أخوه نور الدين محمود بالشام و كان أكبر منه و له حلب و حماة كاتبه جماعة من الأمراء بعد أخيه غازي و فيمن كاتبه نائب سنجار المقدم عبد الملك فبادر إليه في سبعين فارشا من أمرائه و سبق أصحابه في يوم مطير إلى مساكن و دخل البلد و لم يعرفوا منه إلا أنه أمير من جند التركمان ثم دخل على الشحنة بيته فقبل يده و أطاعه و لحق به أصحابه و ساروا جميعا إلى سنجار و أغذ السير فقطع عنه أصحابه و توصل إلى سنجار في فارسين و نزل بظاهر البلد و بعث إلى المقدم فوصله و كان قد سار إلى الموصل و ترك ابنه شمس الدين محمد بالقلعة فبعث في أثر أبيه و عاد من طريقه و سلم سنجار إلى نور الدين محمود فملكها و استدعى فخر الدين قرى أرسلان صاحب كيفا لمودة بينهما فوصل في عساكره و بلغ الخبر إلى قطب الدين صاحب الموصل و وزيره جمال الدين و أمير جيشه زين الدين فساروا إلى سنجار للقاء نور الدين محمود و انتهبوا إلى تل اعفر ثم خاموا عن لقائه و أشار الوزير جمال الدين بمصالحته و سار إليه بنفسه فعقد معه الصلح و أعاد سنجار على أخيه قطب الدين و سلم له أخوه مدينة حمص و الرحبة و الشام فانفرد بملك الشام و انفرد أخوه قطب الدين بالجزيرة و اتفقا و عاد نور الدين إلى حلب و حمل ما كان لابيهم الاتابك زنكي من الذخيرة و اتفقا و عاد نور الدين إلى حلب و حمل ما كان لابيهم الاتابك زنكي من الذخيرة لسنجار و كانت لا يعبر عنها و الله تعالى أعلم (5/282)
غزو نور الدين إلى انطاكية و قتل صاحبها و فتح أفاميا
ثم غزا نور الدين سنة أربع و أربعين إلى انطاكية فعاث فيها و خرب كثيرا من حصونها و بينما هو يحاصر بعض الحصون اجتمع الإفرنج و زحفوا إليه فلقيهم و حاربهم و أبلى في ذلك الموقف فهزم الإفرنج و قتل البرنس صاحب انطاكية و كان من عتاة الإفرنج و ملك بعده ابنه سمند طفلا و تزوجت أمه برنس آخر يكفل ولدها و يدبر ملكها فغراه نور الدين و لقوه فهزمهم و أسر ذلك البرنس الثاني و تمكن الطفل سمند من ملكه بانطاكية ثم سار نور الدين سنة خمس و أربعين إلى حصن أفاميا بين شيرز و حماة و هو من أحسن القلاع فحاصروه و ملكه و شحنه حامية و سلاح و اقواتا و لم يفرغ من أمره إلا و الإفرنج الذي بالشام جمعوا و زحفوا إليه و بلغهم الخبر فخاموا عن اللقاء و صالحوه في المهادنة فعقد لهم انتهى (5/282)
هزيمة نور الدين جوسكين و أسر جوسكين
ثم جمع نور الدين بعد ذلك و سار غازيا إلى بلاد زعيم الإفرنج و هي تل باشر و عنتاب و عذار و غيرها من حصون شمالي حلب فجمع جوسكين لمدافعته عنها و لقيه فاقتتلوا و محص الله المسلمين و استشهد كثير منهم و أسر آخرون و فيهم صاحب نور الدين فبعثه جوسكين إلى الملك مسعود بن قليج أرسلان يعيره به لمكان صهره نور الدين على ابنته فعظم ذلك عليه و أعمل الحيلة في جوسكين و بذل المال لأحياء التركمان البادين بضواحيه أن يحتالوا في القبض عليه ففعلوا و ظفر به بعضهم فشاركهم في إطلاقه على مال و بعث من يأتي به و شعر بذلك و إلى حلب أبو بكر بن الرامة فبعث عسكرا ليسوا من ذلك الحي جاؤا بجوسكين أسيرا إلى حلب و ثار نور الدين إلى القلاع فملكها و هي تل باشر و عنتاب و عذار و تل خالد و قورص و داوندار و مرج الرصاص و حصن النادة و كفرشود و كفرلات و دلوكا و مرعش و نهر الجود و شحنها بالأقوات و زحف إليه الإفرنج ليدافعوه فلقيهم على حصن جلدك و انهزم الإفرنج و أثخن المسلمون فيهم بالقتل و الاسر و رجع نور الدين إلى دلوكا ففتحها و تأخر فتح تل باشر منها إلى أن ملك نور الدين دمشق و استأمنوا إليه و بعث إليهم حسان المنبجي فتسلمها منهم و حصنها و ذلك في سنة تسع و أربعين و خمسمائة و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/283)
استيلاء نور الدين على دمشق
كان الإفرنج سنة ثمان و أربعين قد ملكوا عسقلان من يد العلوية خلفاء مصر و اعترضت دمشق بين نور الدين و بينهما فلم يجد سبيلا إلى المدافعة عنها و استطال الإفرنج على دمشق بعد ملكهم عسقلان و وضعوا عليها الجزية و اشترطوا عليهم تخيير الأسرى الذين بأيديهم في الرجوع إلى وطنهم و كان بها يومئذ مجير الدين أنز بن محمد بن بوري بن طغركين الأتابك واهن القوى مستضعف القوة فخشي نور الدين عليها من الإفرنج و ربما ضايق مجير الدين بعض الملوك من جيرانه فيفرغ إلى الإفرنج فيغلبون عليه و أمعن النظر في ذلك و بدأ أمره بمواصلة مجير الدين و ملاطفته حتى استحكمت المودة بينهما حتى صار يداخله في أهله دولته و يرميهم عنده أنهم كاتبوه فيوقع الآخر بهم حتى هدم أركان دولته و لم يبق من أمرائه إلا الخادم عطاء بن حفاظ و كان هو القائم بدولته فغصى به نور الدين و حال بينه و بين دمشق فأغرى به صاحبه مجير الدين حتى نكبه و قتله و خلت دمشق من الحامية فسار حينئذ نور الدين مجاهرا بعداوة مجير الدولة و متجنبا عليه و استنجد بالإفرنج على أن يعطيهم الأموال و يسلم لهم بعلبك فجمعوا و احتشدوا و في خلال ذلك عمد نور الدين إلى دمشق سنة سبع و أربعين و كاتب جماعة من أحداثها و وعدهم من أنفسهم فلما وصل ثاروا بمجير الدين و لجأ إلى القلعة و ملك نور الدين المدينة و حاصره بالقلعة و بذل له إقطاعا منها مدينة حمص فسار إليها مجير الدين و ملك نور الدين القلعة ثم عوضه عن حمص ببالس فلم يرضها و لحق ببغداد و ابتنى بها دارا و أقام إلى أن توفى و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/283)
استيلاء نور الدين على تل باشر و حصاره قلعة حارم
و لما فرغ نور الدين من أمر دمشق بعث إليه الإفرنج الذين في تل باشر في شمالي حلب و استأمنوا إليه و مكنوه من حصنهم فتسلمه حسان المنبجي من كبراء أمراء نور الدين سنة تسع و أربعين ثم سار سنة إحدى و خمسين إلى قلعة بهرام بالقرب من إنطاكية و هي لسمند أمير إنطاكية من الإفرنج فحاصرها و اجتمع الإفرنج لمدافعته ثم خاموا عن لقائه و صالحوه على نصف أعمال حارم فقبل صلحهم و رحل عنها و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق بمنه و كرمه (5/284)
استيلاء نور الدين على شيزر
شيزر هذه حصن قريب من حماة على نصف مرحلة منها على جبل منيع عال لا يسلك إليه إلى من طريق واحدة و كانت لبني منقذ الكنانيين يتوارثون ذلك من أيام صالح بن مرداس صاحب حلب من أعوام عشرين و أربعمائة إلى أن انتهى ملكه إلى المرهف نصر بن علي بن نصير بن منقذ بعد أبيه أبي الحسن علي فلما حضره الموت سنة تسعين و أربعمائة عهد لأخيه أبي سلمة بن مرشد و كان عالما بالقراآت و الأدب و ولى مرشد أخاه الأصغر سلطان بن علي و كان بينهما من الإتفاق و الملاءمة ما لم يكن بين اثنين و نشأ لمرشد بنون كثيرون و في السود منهم عز الدولة أبو الحسن علي و مؤيد الدولة أسامة و ولده علي و تعدد ولده و نافسوا بني عمهم و فشت بينهم السعايات فتماسكوا لمكان مرشد و التئامه بأخيه فلما مات مرشد سنة إحدى و ثلاثين و خمسمائة تنكر أخوه سلطان لولده و أخرجهم من شيزر فتفرقوا و قصد بعضهم نور الدين فامتعض لهم و كان مشتغلا عنهم بالإفرنج ثم توفي سلطان و قام بأمر شيزر أولاده و راسلوا الإفرنج فحنق نور الدين عليهم لذلك ثم وقعت الزلازل بالشام و خرب أكثر مدنه مثل حماة و حمص و كفر طاب و المعرة و أفامية و حصن الأكراد و عرقة و لاذقية و طرابلس و إنطاكية هذه سقطت جميعها و تهدمت سنة اثنتين و خمسين و ما سقط بعضه و تهدمت أسواره فأكثر بلاد الشام و خشي نور الدين عليها من الإفرنج فوقف بعساكره في أطراف البلاد حتى رم ما تثلم من أسوارها و كان بنو منقذ أمراء شيزر قد اجتمعوا عند صاحبها منهم في دعوة فأصابتهم الزلزلة مجتمعين فسقطت عليهم القلعة و لم ينج منهم أحد و كان بالقرب منها بعض أمراء نور الدين فبادر و صعد إليها و ملكها منه نور الدين و رم ما تثلم من أسوارها و جدد بناءها فعادت كما كانت هكذا قال ابن الأثير و قال ابن خلكان و في سنة أربع و سبعين و أربعمائة استولى بنو منقذ على شيزر من يد الروم و الذي تولى فتحها منهم علي بن منقذ بن نصر بن سعد و كتب إلى بغداد بشرح الحال ما نصه كتابي من حصن شيزر حماه الله و قد رزقني الله من الإستيلاء على هذا المعقل العظيم ما لم يتأت لمخلوق في هذا الزمان و إذا عرف الأمر على حقيقته علم أني هزبر هذه الأمة و سليمان الجن و المردة و أنا أفرق بين المرء و زوجه و استنزل القمر من محله أنا أبو النجم و شعري شعري نظرت إلى هذا الحصن فرأيت أمرا يذهل الألباب يسع ثلاثة آلاف رجل بالأهل و المال و تمسكه خمس نسوة فعمدت إلى تل بينه و بين حصن الروم يعرف بالحواص و يسمى هذا التل بالحصن فعمرته حصنا و جمعت فيه أهلي و عشيرتي و نفرت نفرة على حصن الحواص فأخذته بالسيف من الروم و مع ذلك فلما أخذت من به من الروم أحسنت إليهم و أكرمتهم و مزجتهم بأهلي و عشيرتي و خلطت خنازيرهم بغنمي و نواقيسهم بصوت الأذان و رأى أهل شيزر فعلي ذلك فأنسوا بي و وصل إلى منهم قريب من نصفهم فبالغت في إكرامهم و وصل إليهم مسلم بن قريش العقيلي فقتل من أهل شيزر نحو عشرين رجلا فلما انصرف مسلم عنهم سلموا إلي الحصن انتهى كتاب علي بن منقذ و بين هذا الذي ذكره ابن خلكان و الذي ذكره ابن الأثير نحو خمسين سنة و ما ذكره ابن الأثير أولى لأن الإفرنج لم يملكوا من الشام شيئا في أوائل المائة الخامسة و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/284)
استيلاء نور الدين على بعلبك
كانت بعلبك في يد الضحاك البقاعي نسبة إلى بقاعة و الآن عليها صاحب دمشق فلما ملك نور الدين دمشق امتنع ضحاك ببعلبك و شغل نور الدين عنه بالإفرنج فلما كانت سنة اثنتين و خمسين إستنزله نور الدين عنها و ملكها و الله أعلم (5/286)
استيلاء أخي نور الدين على حران ثم ارتجاعها
كان نور الدين سنة أربع و خمسين و خمسمائة بحلب و معه أخوه الأصغر أمير أميران فمرض نور الدين بالقلعة و اشتد مرضه فجمع أخوه و حاصر قلعة حلب و كان شيركوه بن شادي أكبر أمرائه بحمص فلما بلغه لأزحاف سار إلى دمشق ليملكها و عليها أخوه نجم الدين أيوب فنكر و أمره بالمسير إلى حلب حتى يتبين حياة نور الدين من موته فأغذ السير إلى حلب و صعد القلعة و أظهر نور الدين للناس من سطح مشرف فافترقوا عن أخيه أمير أميران فسار إلى حران فملكها فلما أفاق نور الدين سلمها إلى زين الدين علي كجك نائب أخيه قطب الدين بالموصل و سار إلى الرقة فحاصرها و الله تعالى ولي التوفيق (5/286)
خبر سليمان شاه و حبسه بالموصل ثم مسيره منها إلى السلطنة بهمذان
كان الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر بخراسان و قد عهد له بملكه باسمه على منابر خراسان فلما حصل سنجر في أسر العدو سنة ثمان و أربعين و خمسمائة كما مر في أخبار دولتهم و اجتمعت العساكر على سليمان شاه هذا و قدموه فلم يطق مقاومة العدو فمضى إلى خوارزم شاه و زوجه ابنة أخيه ثم بلغه عنه ما ارتاب له فأخرجه من خوارزم و قصد أصبهان فمنعه الشحنة من الدخول فقصد قاشان فبعث إليه محمد شاه ابن أخيه محمود عسكرا دافعوه عنها فسار إلى خراسان فمنعه ملك شاه منها فقصد النجف و نزل و أرسل للخليفة المستنصر و بعث أهله و ولده رهنا بالطاعة و استأذن في دخول بغداد فأكرمهم الخليفة و أذن له و خرج ابن الوزير ابن هبيرة لتلقيه في الموكب و فيه قاضي القضاة و التقيا و دخل بغداد و خلع عليه آخر سنة خمسين و بعد أيام أحضر بالقصر و استخلف بحضرة قاضي القضاة و الأعيان و خطب له ببغداد و لقب ألقاب أبيه و أمر بثلاثة آلاف فارس و سار نحو بلاد الجبل في ربيع سنة إحدى و خمسين و نزل الخليفة حلوان و استنفر له ابن أخيه ملك شاه صاحب همذان فقدم إليه في ألفي فارس و جعله سليمان شاه ولي عهده و أمدهما الخليفة بالمال و السلاح و لحق بهما ايلدكز صاحب الري فكثرت جموعهم و بعث السلطان محمد إلى قطب الدين مودود صاحب الموصل و زين الدين كجك علي نائبه في المظاهرة و الأنجاد و سار إلى لقاء سليمان شاه فانهزم و تمزق عسكره و فارقه أيلدكز فذهب إلى بغداد على طريق بشهرزوز و بلغ خبر الهزيمة إلى زين الدين علي كجك فخرج في جماعة من عسكر الموصل و قعد له بشهرزور و معه الأمير إيراق حتى مر بهم سليمان شاه فقبض عليه زين الدين و حمله إلى الموصل فحبسه بها مكرما و طير إلى السلطان محمود بالخبر فلما هلك السلطان محمود بن محمد سنة خمس و خمسين أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين أتابك وزيره وزيرا له و تعاهدوا على ذلك و جهزه قطب الدين جهاز الملك و سار معه زين الدين علي كجك في عسكر الموصل إلى همذان فلما قاربوا بلاد الجبل تتابعت العساكر والإمداد للقائهم إرسالا و اجتمعوا على سليمان شاه و جروا معه على مذاهب الدولة فخشيهم زين الدين على نفسه و فارقهم إلى الموصل و سار سليمان شاه إلى همذان فكان من أمرهم ما تقدم في أخبار الدولة السلجوقية (5/286)
حصار قلعة حارم و انهزام نور الدين إمام الإفرنج ثم هزيمتهم و فتحها
ثم جمع نور الدين محمود عساكر حلب و حاصر الإفرنج بقلعة حارم و جمعوا لمدافعته ثم خاموا عن لقائه و لم يناجزوه و طال عليه أمرها فعاد عنها ثم جمع عساكره و سار سنة ثمان و خمسين معتزما على غزو طرابلس و انتهى إلى البقيعة تحت حصن الأكراد فكبسهم الإفرنج هنالك و أثخنوا فيهم و نجا نور الدين في الفل إلى بحيرة مرس قريبا من حمص و لحق به المنهزمون و بعث إلى دمشق و حلب في الأموال و الخيام و الظهر و أزاح علل العسكر و علم الإفرنج بمكان نور الدين من حمص فنكبوا عن قصدها و سألوه الصلح فامتنع فأنزلوا حاميتهم بحصن الأكراد و رجعوا و في هذه الغزاة عزل نور الدين رجلا يعرف بابن نصري تنصح له بكثرة خرجه بصلاته و صدقاته على الفقراء و الفقهاء و الصوفية و القراء إلى مصارف الجهاد فغضب و قال و الله لا أرجو النصر إلا بأولئك فإنهم يقاتلون عني بسهام الدعاء في الليل و كيف أصرفها عنهم و هي من حقوقهم في بيت المال ذلك لا يحل لي ثم أخذ في الإستعداد للأخذ من الإفرنج و سار بعضهم إلى ملك مصر فأراد أن يخالفهم إلى بلادهم فبعث إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل و إلى فخر الدين قرا أرسلان صاحب كيفا و إلى نجم الدين و إلى صاحب ماردين بالنجدة فسار من بينهم أخوه قطب الدين و في مقدمته زين الدين علي كجك صاحب جيشه ثم تبعه صاحب كيفا و بعث نجم الدين عسكره فلما توافت الإمداد سار نور الدين نحو حارم سنة تسع و خمسين فحاصرها و نصب عليها المجانيق و اجتمع من بقي بالساحل من ملوك الإفرنج و مقدمهم البرنس سمند صاحب إنطاكية و القمص صاحب طرابلس و ابن جوسكين و استنفر لهم أمم النصرانية و قصدوه فأفرج عن حارم إلى إرتاج ثم خاموا عن لقائه و عادوا إلى حصن حارم و سار في إتباعهم و ناوشهم الحرب فحملوا على عساكر حلب و صاحب كيفا في ميمنة المسلمين فهزموها و مروا في أتباعهم و حمل زين الدين في عساكر الموصل على الصف فلقيه الرجل فأثخن فيهم و استلحمهم و عاد الإفرنج من أتباع الميمنة فسقط في أيديهم و دارت رحا الحرب على الإفرنج فانهزموا و رجع المسلمون من القتل إلى الأسر فأسروا منهم أمما فيهم سمند صاحب إنطاكية و القمص صاحب طرابلس و بعث السرايا في تلك الأعمال بقصد إنطاكية لخلوها من الحامية فأبى و قال أخشى أن يسلمها أصحابها لملك الروم فإن سمند ابن أخته و مجاورته أحق إلي من مجاورة ملك الروم ثم عاج على قلعة حارم فحاصرها و افتتحها و رجع مظفرا و الله يؤيد بنصره من يشاء عباده (5/288)
فتح نور الدين قلعة بانياس
و لما افتتح نور الدين قلعة حارم أذن لعسكر الموصل و حصن كيفا بالإنطلاق إلى بلادهم و عزم على منازلة بانياس و كانت بيد الإفرنج من سنة ثلاث و أربعين و خمسمائة ثم ورى عنها بقصد طبرية فصرف الإفرنج همتهم إلى حمايتها و خالف هو إلى بانياس لقلة بانياس حاميتها فحاصرها و ضيق عليها في ذي الحجة من سنة تسع و خمسين و كان معه أخوه نصير الدين أمير أميران فاصيب بسهم في إحدى عينيه و أخذ الإفرنج في الجمع لمدافعته فلم يستكملوا أمرهم حتى فتحها و شحن قلعتها بالمقاتلة و السلاح و خافه الإفرنج فشاطروه في أعمال طبرية عليهم الجزية في الباقي و وصل الخبر بفتح حارم و بانياس إلى ملوكهم الذين ساروا إلى مصر فسبقهم بالفتح و عاد إلى دمشق ثم سار إحدى و ستين متجردا إلى حصن المنيطرة فنازلهم على غرة و ملكه عنوة و لم يجتمع الإفرنج إلا و قد ملكه فافترقوا و يئسوا من إرتجاعه و الله تعالى أعلم (5/289)
وفادة شاور وزير العاضد بمصر على نور الدين العادل صريخا و إنجاده بالعسكر مع أسد الدين شيركوه
كانت دولة العلويين بمصر قد أخذت في التلاشي و صارت إلى استبداد وزرائها على خلفائها و كان من آخر المسلمين بها شاور السعدي استعمله الصالح بن زربك على قوص و ندم فلما هلك الصالح بن زربك و كان مستبدا عل الدولة قام ابنه زربك مقامه فعزل شاور عن قوص فلم يرض بعزله و جمع و زحف إلى القاهرة فملكها و قتل زربك و استبد على العاضد و لقيه أمير الجيوش و كانت سنة ثمان و خمسين و خمسمائة ثم نازعه الضرغام و كان صاحب الباب و مقدم البرقية فثار عليه لسبعة أشهر من وزارته و أخرجه من القاهرة فلحق بالشام و قصد نور الدين محمود بن زنكي مستنجدا به على أن يكون له ثلث الجباية بمصر و يقيم عسكر نور الدين بها مددا له فاختار من أمرائه لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي الكردي و كان بحمص و جهزه بالعساكر فسار لذلك في جمادي سنة تسع و خمسين و أتبعه نور الدين إلى أطراف بلاد الإفرنج فشغلها عن التعرض للعساكر و سار أسد الدين مع شاور و سار معه صلاح الدين ابن أخيه نجم الدين أيوب و انتهوا إلى بلبيس فلقيهم ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فانهزم و رجع إلى القاهرة و أتبعه أسد الدين فقتله عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله تعالى عنها و قتل أخوه و عاد شاور إلى وزارته و أقام أسد الدين بظاهر القاهرة ينتظر الوفاء بالعهد من شاور بما عاهد عليه نور الدين فنكث شاور العهد و بعث إليه بالرجوع إلى بلده فلج في طلب ضريبته و رحل إلى بلبيس و البلاد الشرقية فاستولى عليها و استمد شاور عليه بالإفرنج فبادروا إلى ذلك لما كان في نفوسهم من تخوف غائلته و طمعوا في ملك مصر و سار نور الدين من دمشق ليأخذ بحجرتهم على المسير فلم يثنهم ذلك و تركوا ببلادهم حامية فلما قاربوا مصر فارقها أسد الدين و اجتمع الإفرنج و عساكر مصر فحاصروه ثلاثة أشهر يغاديهم القتال و يراوحهم و جاءهم الخبر بهزيمة الإفرنج على حارم و ما هيأ الله لنور الدين في ذلك فراسلوا أسد الدين شيركوه في الصلح و طووا عنه الخبر فصالحهم و خرج و لحق بالشام و وضع له الإفرنج المراصد بالطريق فعدل عنها ثم أعاده نور الدين إلى مصر سنة اثنتين و ستين فسار بالعساكر في ربيع و نزل اطفيح و عبر النيل و جاء إلى القاهرة من جانبها الغربي و نزل الجيزة في عدوة النيل و حاصرها خمسين يوما و استمد شاور بالإفرنج و عبر إلى أسد الدين فتأخر إلى الصعيد و لقيهم منتصف السنة فهزمهم و سار إلى ثغر الإسكندرية فملكها و ولي عليها صلاح الدين ابن أخيه و رجع فدوخ بلاد الصعيد و سارت عساكره مصر و الإفرنج إلى الإسكندرية و حاصروا بها صلاح الدين فسار إليه أسد الدين فقتلوه بطلب الصلح فتم ذلك بينهم و عاد إلى الشام و ترك لهم الإسكندرية و كاتب شجاع بن شاور نور الدين بالطاعة عنه و عن طائفة من الأمراء ثم استطال الإفرنج على أهل مصر و فرضوا عليهم الجزية و أنزلوا بالقاهرة الشحنة و تسلموا أبوابها و استدعوا ملكهم إلى الإستيلاء عليها فبادر نور الدين و أعاد أسد الدين في العساكر إليها في ربيع سنة أربع و ستين فملكها و قتل شاور و طرد الإفرنج عنها و قدمه العاضد لوزارته و الإستبداد عليه كما كان من قبله ثم هلك أسد الدين و قام صلاح الدين ابن أخيه مكانه و هو مع ذلك في طاعة نور الدين محمود و هلك العاضد فكتب نور الدين إلى صلاح الدين بأمره بإقامة الدعوة العباسية بمصر و الخطبة للمستضيء و يقال أنه كتب له بذلك في حياة العاضد و بين يدي وفاته و هلك لخمسين يوما أو نحوها فخطب للمستضيء العباسي و انقرضت الدولة العلوية بمصر و ذلك سنة سبع و ستين كما نأتي على شرحه و تفصيله في دولة بني أيوب إن شاء الله تعالى و وقعت خلال ذلك فتنة بين نور الدين محمود و بين صاحب الروم قليج أرسلان بن مسعود بن قليج أرسلان سنة ستين و خمسمائة و كتب الصالح ابن زربك إلى قليج أرسلان ينهاه عن الفتنة و الله تعالى ولي التوفيق (5/289)
فتح نور الدين صافيتا و عريمة و منبج و جعبر
ثم جمع نور الدين عساكره سنة اثنتين و استدعى أخاه قطب الدين من الموصل فقدم عليه بحمص و دخلوا جميعا بلاد الإفرنج و مروا بحصن الأكراد و اكتسحوا نواحيه ثم حاصروا عرقة و خرجوا جكة و فتحوا العريمة و صافيتا و بعثوا سراياهم فعاثت في البلاد و رجعوا إلى حمص فأقاموا بها إلى رمضان و انتقلوا إلى بانياس و قصدوا حصن حموص فهرب عنه الإفرنج فهدم نور الدين سوره و أحرقه و اعتزم على بيروت فرجع عنه أخوه قطب الدين إلى الموصل و أعطاه نور الدين من عمله الرقة على الفرات ثم انتقض بمدينة منبج غازي بن حسان و بعث إليها العساكر فملكها عنوة و أقطعها أخاه قطب الدين نيال بن حسان وبقيت بيده إلى أن أخذها منه صلاح الدين بن أيوب ثم قبض بنو كلاب على شهاب الدين ملك بن علي بن مالك العقيلي صاحب قلعة جعبر و كانت تسمى دوس ثم سميت باسم جعبر بانيها و كان السلطان ملك شاه أعطاه لجده عندما ملك حلب كما مر في أخباره و لم تزل بيده و يد عقبه إلى أن هلك هذا فخرج يتصيد سنة ثلاث و ستين و قد أرصد له بنو كلاب فأسروه و حملوه إلى نور الدين محمود صاحب دمشق فاعتقله مكرما و حاوله في النزول عن جعبر بالترغيب تارة و بالترهيب أخرى فأبى و بعث بالعساكر مع الأمير فخر الدين محمود بن أبي علي الزعفراني و حاصرها مدة فامتنعت فبعث عسكرا آخر و قدم على الجميع الأمير فخر الدين أبا بكر ابن الداية رضيعه و أكبر أمرائه فحاصرها فامتنعت و رجع إلى ملاطفة صاحبها فأجاب و عوضه نور الدين عنها سروج و أعمالها و ساحة حلب و مراغة و عشرين ألف دينار و ملك قلعة جعبر سنة أربع و ستين و انقرض أمر بني مالك منها و البقاء لله وحده (5/291)
رحلة زين الدين نائب الموصل إلى أربل و استبداد قطب الدين بملكه
قد كان تقدم لنا أن نصير الدين جقري كان نائب الأتابك زنكي بالموصل و قتل البارسلان ابن السلطان محمود آخر سنة تسع وثلاثين و خمسمائة طمعا في الملك لغيبة الأتابك فرجع من غيبته في حصار البيرة و قدم مكانه زين الدين علي بن كمستكين بقلعة الموصل فلم يزل بها بقية أيام الأتابك و أيام ابنه غازي و ابنه الآخر قطب الدين سنة ثمان و خمسين على وزيرهم جمال الدين محمد بن علي بن منصور الأصبهاني فاعتقله و هلك لسنة من الإعتقال و حمل إلى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة و أتم التسليم فدفن بها في رباط هناك أعده لذلك و كانت وفاته أيام سيف الدين غازي بن قطب الدين فولي مكانه جلال أبا الحسن ابنه و كان زين الدين علي بن كمستكين و يعرف بكجك قد استبد في دولة قطب الدين و استغل بحكم الدولة و صارت بيده أكثر البلاد اقطاعا مثل أربل و شهرزور و القلاع التي في تلك البلاد الهكارية منها العمادية و غيرها و الحميدية و تكريت و سنجار و قد كان نقل أهله و ولده و ذخائره إلى أربل و أقام بمحلها نيابته من قلعة الموصل فأصابه الكبر و طرقه العمى و الصمم فعزم على مفارقة الموصل إلى كسر بيته بأربل فسلم جميع البلاد التي بيده إلى قطب الدين ما عدا أربل و سار إليها سنة أربع و ستين و أقام قطب الدين مكانه فخر الدين عبد المسيح خصيا من موالي جده الأتابك زنكي و حكمه في دولته فنزل بالقلعة و عمرها و كان الخراب قد لحقها بإهمال زين الدين أمر البناء و الله تعالى أعلم (5/292)
حصار نور الدين قلعة الكرك
ثم بعث صلاح الدين سنة خمس و ستين إلى نور الدين محمود يطلب إنفاذ أبيه نجم الدين أيوب إليه فبعثه في عسكر و اجتمع إليه خلق من التجار و من أصحاب صلاح الدين و خشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج فسارت العساكر إلى الكرك و هو حصن إختطه من الإفرنج البرنس إرقاط و إختط له قلعة فحاصره نور الدين و جمع له الإفرنج فرحل إلى مقدمتهم قبل أن يتلاحقوا فخاموا عن لقائه و نكصوا على أعقابهم و سار في بلادهم فاكتسحها و خرب ما مر من القلاع و انتهى إلى بلاد المسلمين حتى نزل حوشب و بعث نجم الدين من هنالك إلى مصر فوصلها منتصف خمس و ستين و ركب العاضد و لما كان نور الدين بعشيرا سار للقاء شهاب الدين محمد بن الياس بن أبي الغازي بن أرتق صاحب قلعة أكبره فلما انتهى إلى نواحي بعلبك لقي سرية من الإفرنج فقاتلهم و هزمهم و استلحمهم و جاء بالأسرى و رؤس القتلى إلى نور الدين و عرف الرؤس مقدم الإستبان صاحب حصن الأكراد و كان شجى في قلوب المسلمين و بلغه و هو بهذا المنزل خبر الزلازل التي عمت البلاد بالشام و الموصل و الجزيرة و العراق و خرجت أكثر البلاد بعمله فسار إليها و شغل في إصلاحها من واحدة إلى أخرى حتى أكملها بمبلغ جهده و اشتغل الإفرنج بعمارة بلادهم أيضا خوفا من غائلته و الله تعالى أعلم (5/292)
وفاة قطب الدين صاحب الموصل و ملك ابنه سيف الدين غازي
ثم توفي قطب الدين مودود بن الأتابك زنكي صاحب الموصل في ذي الحجة سنة خمس و ستين لإحدى و عشرين سنة و نصف من ملكه و عهد لابنه الأكبر عماد الدين بالملك و كان القائم بدولته فخر الدين عبد المسيح و كان شديد الطواعية لنور الدين محمود و يعلم ميله عن عماد الدين زنكي بن مودود فعدل عنه إلى أخيه سيف الدين غازي بن مودود بموافقة أمه خاتون بنت حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي و لحق عماد الدين بعمه نور الدين منتصرا به و قام فخر الدين عبد المسيح بتدبير الدولة بالموصل و استبد بها و الله تعالى أعلم (5/293)
استيلاء نور الدين على الموصل و إقراره ابن أخيه سيف الدين عليها
و لما ولي سيف الدين غازي بالموصل بعد أبيه قطب الدين و استبد عليه فخر الدين عبد المسيح كما تقدم و بلغ الخبر إلى نور الدين باستبداده أنف من ذلك و سار في خف من العسكر و عبر الفرات عند جعبر أول سنة ست و ستين و قصد الرقة فملكها ثم الخابور فملك جميعه ثم نصيبين و كلها من أعمال الموصل و جاءه هناك نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان صاحب كيفا مددا ثم سار إلى سنجار فحاصرها و ملكها و سلمها لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين ثم جاءته كتب الأمراء بالموصل فاستحثوه فأغذ السير إلى مدينة كلك ثم عبر الدجلة و نزل شرقي الموصل على حصن نينوى و دجلة بينه و بين الموصل و سقطت ذلك اليوم ثلمة كبيرة من سور الموصل و كان سيف الدين غازي قد بعث أخاه عز الدين مسعود إلى الأتابك شمس الدين صاحب همذان و بلاد الجبل و أذربيجان و أصبهان و الري يستنجده على عمه نور الدين فأرسل أيلدكز إلى نور الدين ينهاه عن الموصل فاساء جوابه و توعده و أقام يحاصر الموصل ثم اجتمع أمراؤها على طلعة نور الدين و لما استحث فخر الدين عبد المسيح استأمن إلى نور الدين على أن يبقى سيف الدين ابن أخيه على ملكها فأجابه على أن يخرج هو عنه و يكون معه بالشام و تم ذلك بينهما و ملك نور الدين منتصف جمادي الأولى من سنة ست و ستين و دخل المدينة و استناب بالقلعة خصيا اسمه كمستكين و لقبه سعد الدين فأقر سيف الدين ابن أخيه على ملكه و خلع عليه وردت عليه من الخليفة المستضيء و هو يحاصرها و أمر ببناء جامع بالموصل فبني و شهر باسمه و أمر سيف الدين أن يشاور كمستكين في جميع أموره و أقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين و عاد إلى الشام و الله تعالى أعلم (5/293)
الوحشة بين نور الدين و صلاح الدين
ثم سار صلاح الدين في صفر سنة تسع و ستين من مصر إلى بلاد الإفرنج غازيا و نازل حصن الشويك من أعمال و استأمن إليه أهله على أن يمهلهم عشرة أيام فأجابهم و سمع نور الدين بذلك فسار من دمشق غازيا أيضا بلاد الإفرنج من جانب آخر و تنصح لصلاح الدين أصحابه بأنك إن ظاهرته على الإفرنج اضمحل أمرهم فاستطال عليك نور الدين و لا تقدر على الإمتناع منه فترك الشويك و كر راجعا إلى مصر و كتب لنور الدين يعتذر له بأنه بلغه عن بعض سفلة العلويين بمصر أنهم معتزمون على الوثوب فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك و اعتزم على عزله عن مصر فاستشار صلاح الدين أباه و خاله شهاب الدين الحارمي و قرابتهم فأشار عليه تقي الدين عمر بن أخيه بالإمتناع و العصيان ففكر عليه نجم الدين ابوه و قال له ليس منا من يقوم بعصيان نور الدين لو حضر أو بعث و أشار عليه بأن يكاتبه بالطاعة و أنه إن عزم على أخذ البلاد منك فسلمها و يصل بنفسه و افترق المجلس فخلا به أبوه و قال مالك توجد بهذا الكلام السبيل للأمراء في استطالتهم عليك و لو فعلتم ما فعلتم كنت أول الممتنعين عليه و لكن ملاطفته أولى و كتب صلاح الدين إلى نور الدين بما أشار به أبوه من الملاطفة فتركهم نور الدين و أعرض عن قصدهم ثم توفي و اشتغل صلاح الدين بملك البلاد ثم جمع نور الدين العساكر و سار لغزو الإفرنج بسبب ما أخذوه لأهل البلاد من مراكب التجار و نكثوا فيها العهد مغالطين بأنها تكسرت فلم يقبل مغالطتهم و سار إليهم و بث السرايا في بلادهم نحو إنطاكية و طرابلس و حاصر هو حصن عرقة و خرب ربضه و أرسل عسكرا إلى حصن صافيتا و عريمة ففتحهما عنوة و خربهما ثم سار من عرقة إلى طرابلس و اكتسح كل ما مر عليه حتى رجع الإفرنج إلى الإنصاف من أنفسهم و ردوا ما أخذوا من المكرمين الأعزين و سألوا تجديد الهدنة فأجابهم بعد أن خربت بلادهم و قتلت رجالهم و غنمت أموالهم ثم اتخذ نور الدين في هذه السنة الحمام بالشام تطير إلى أوعارها من لإتساع بلاده و وصول الأخبار بسرعة فبادر إلى القيام بواجبه و أجرى الجرايات على المرتبين لحفظها لتصل الكتب في أجنحتها ثم أغار الإفرنج على حوران من أعمال دمشق و كان نور الدين بمنزل الكسوة فرحل إليهم و رحلوا أمامه إلى السواد و تبعهم المسلمون و نالوا منهم و نزل نور الدين على عشيرا و بعث منها سرية إلى أعمال طبرية فاكتسحها و سار الإفرنج لمدافعتهم فرجعوا عنها و أتبعهم الإفرنج فعبروا النهر و طمعوا في استنقاذ غنائمهم فقاتلهم المسلمون دونها أشد قتال إلى أن استنقذت و تحاجزوا و رجع الإفرنج خائبين و الله تعالى ينصر المسلمين على الكافرين بمنه و كرمه (5/294)
واقعة ابن ليون ملك الأرمن بالروم
كان مليح بن ليون صاحب دروب حلب أطاع نور الدين محمود بن زنكي و أمره على الحمالة و أقطعه ببلاد الشام و كان يسير في خدمته و يشهد حروبه مع الإفرنج أهل ملته و كان الأرمني أيضا يستظهر به على أعدائه و كانت أذنة و المصيصة و طرسوس مجاورة لابن ليون و هي بيد ملك الروم صاحب القسطنطينية فتغلب عليها ابن ليون و ملكها و بعث صاحب القسطنطينية منتصف سنة ثمان و ستين و خمسمائة جيشا كثيفا مع عظيم من بطارقته فلقيه ابن ليون بعد أن استنجد نور الدين فأنجده بالعساكر و قاتلهم فهزمهم و بعث بغنائمهم و أسراهم إلى نور الدين و قويت شوكة ابن ليون و يئس الروم من تلك البلاد و الله تعالى أعلم (5/295)
مسير نور الدين إلى بلاد الروم
كان ذو النون بن محمد بن الدانشمند صاحب ملطية و سيواس و أخصرى و قيسارية ملكها بعد عمه باغي أرسلان و أخيه إبراهيم بن محمد فلم يزل قليج أرسلان بن محمد بن قليج أرسلان يتخيف بلاده إلى أن استولى عليها و لحق ذو النون بنور الدين صريخا و أرسل إلى قليج أرسلان بالشفاعة في رد بلاده فلم يشفعه إليه و ملك من بلاده بكسور و مهنسا و مرعش و مرزبان و ما بينهما في ذي القعدة سنة ثمان و ستين ثم بعث عسكرا إلى سيواس فملكوها ثم أرسل قليج أرسلان إلى نور الدين يستعطفه و قد كان يجير أمامه إلى قاصية بلاده فأجابه نور الدين إلى الصلح على أن ينجده بعسكر الإفرنج و يبقي سيواس بيد ذي النون و عسكر نور الدين الذي معه فيها و رجع نور الدين إلى بلاده و بقيت سيواس بيد ذي النون حتى مات نور الدين و عاد قليج أرسلان ثم وصل رسول نور الدين من بغداد كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري و معه منشور من الخليفة المستضيء لنور الدين بالموصل و الجزيرة و أربل و خلاط و الشام و بلاد الروم و ديار مصر و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/296)
مسير صلاح الدين إلى الكرك و رجوعه
و لما كانت الوحشة بين نور الدين و صلاح الدين كما قدمناه و اعتزم نور الدين على عزله عن مصر و استعطفه صلاح الدين و كان فيما تقرر بينهما أنهما يجتمعان على الكرك و أيهما سبق انتظر صاحبه فسار صلاح الدين من مصر في شوال سنة ثمان و ستين و يبق إلى الكرك و حاصره و خرج نور الدين بعد أن بلغه مسير صلاح الدين من مصر و أزاح علل العساكر و انتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك فخافه صلاح الدين على نفسه و خشى أن يعزله عند لقائه و كان استخلف أباه نجم الدين أيوب على مصر فبلغه أنه طرقه مرض شديد فوجد فيه عذر لنور الدين و كر راجعا إلى مصر و بعث الفقيه عيسى بذلك العذر و إن حفظه مصر أهم عليه فلما وصل مصر وجد أباه قد توفي من سقطة سقطها عن مركوبه هزه المرح فرماه وحمل إلى بيته و قيذا و مات لأيام قريبة آخر ذي الحجة من السنة و رجع نور الدين إلى دمشق و كان قد بعث رسوله كمال الدين الشهرزوري القاضي ببلاده و صاحب الوقوف و الديوان لطلب التقليد للبلاد التي بيده مثل مصر و الشام و الجزيرة و الموصل و التي دخلت في طاعته كديار بكر و خلاط و بلاد الروم و أن يعادله ما كان لأبيه زنكي من الإقطاع بالعراق و هي صريفين و درب هرون و أن يسوغ قطعة أرض على شاطىء دجلة بظاهر الموصل يبني فيها مدرسة للشافعية فاسعف بذلك كله (5/296)
وفاة نور الدين محمود و ولاية ابنه إسمعيل الصالح
ثم توفي نور الدين محمود بن الأتابك زنكي حادي عشر شوال سنة تسع و ستين و خمسمائة لسبع عشرة سنة من ولايته و كان قد شرع في التجهيز لأخذ مصر من صلاح الدين بن أيوب و استنفر سيف الدين ابن أخيه في العساكر موريا بغزوا الإفرنج و كان قد اتسع ملكه و خطب له بالحرمين الشريفين و باليمن لما ملكها سيف الدولة بن أيوب و كان معتنيا بمصالح المسلمين مواظبا على الصلاة و الجهاد و كان عارفا بمذهب أبي حنيفة و متحريا للعدل و متجافيا عن أخذ المكوس في جميع أعماله و هو الذي حصن قلاع الشام و بني الأسوار على مدنها مثل دمشق و حمص و حماة و شيرز و بعلبك و بني مدارس كثيرة للحنفية و الشافعية و بنى الجامع النوري بالموصل و المارستانات و الخانات في الطريق و الخوانق للصوفية في البلاد و استكثر من الأوقاف عليها يقال بلغ ريع أوقافه في كل شهر تسعة آلاف دينار صوري و كان يكرم العلماء و أهل الدين و يعظمهم و يتمثل لهم قائما و يؤنسهم في المجالسة و لا يرد لهم قولا و كان متواضعا مهيبا وقورا و لما توفي اجتمع الأمراء و المقدمون و أهل الدولة بدمشق و بايعوا ابنه الملك الصالح إسمعيل و هو ابن إحدى عشرة سنة و حلفوا له و أطاعه الناس بالشام و صلاح الدين بمصر و خطب له هنالك و ضرب السكة بإسمه و قام بكفالته و تدبير دولته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم و أشار عليه القاضي كمال الدين الشهرزوري بأن يرجعوا في جميع أمورهم إلى صلاح الدين لئلا ينبذ طاعتهم فأعرضوا عن ذلك و الله تعالى ولي التوفيق (5/297)
استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة
قد كنا قدمنا أن نور الدين إستولى على بلاد الجزيرة و أقر سيف الدين ابن أخيه قطب الدين على الموصل و احتمل معه فخر الدين عبد المسيح الذي ولى سيف الدين و استبد عليه بأمره و ولى على قلعة الموصل سعد الدين كمستكين و لما استنفرهم نور الدين بين يدي موته سار إليه سيف الدين غازي و كمستكين الخادم في العساكر و بلغهم في طريقهم خبر وفاته و كان كمستكين في المقدمة فهرب إلى حلب واستولى سيف الدين على مخلفه و سواده و عاد إلى نصيبين فملكها و بعث العساكر إلى الخابور فاستولى عليها و على أقطاعها ثم سار إلى حران و بها قايماز الحراني مولى نور الدين فحاصرها أياما ثم استنزله على أن يقطعه حران فلما نزل قبض عليه و ملكها ثم سار إلى الرها و بها خادم لنور الدين افتسلمها و عوضه عنها قلعة الزعفراني من جزيرة ابن عمر و انتزعها منه بعد ذلك سار إلى الرقة و سروج فملكها و استوعب بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر لا متناعها و سوى رأس عين كانت لقطب الدين صاحب ماردين و هو ابن خاله وكان شمس الدين علي ابن الداية بحلب و هو من أكبر أمراء نور الدين و معه العساكر و لم يقدر على مدافعة سيف الدين فخر الدين عبد المسيح و كان نور الدين تركه قبل موته بسيواس مع ذي النون بن الدانشمند فلما مات نور الدين رجع إلى صاحبه سيف الدين غازي و هو الذي كان ملكه فوجده بالجزيرة و قد ملكها فأشار عليه بالعبور إلى الشام و عارضه آخر من أكبر الأمراء في ذلك فرجع سيف الدين إلى قوله و عاد إلى الموصل و أرشد صلاح الدين إلى الملك الصالح و أهل دولته يعاتبهم حيث لم يستدعوه لمدافعة سيف الدين عن الجزيرة و يتهدد ابن المقدم و أهل الدولة على انفرادهم بأمر الملك الصالح دونه و على قعودهم عن مدافعة سيف الدين غازي ثم أرسل شمس الدين ابن الداية إلى الملك الصالح يستدعيه من دمشق إلى حلب ليدافع شمس الدين ابن عمه قطب الدين عن الجزيرة فمنعه أمراؤه عن ذلك مخافة أن يستولي عليه ابن الداية و الله سبحانه و تعالى أعلم بغيبه (5/298)
حصار الإفرنج بانياس
و لما مات نور الدين اجتمع الإفرنج و حاصروا قلعة بانياس من أعمال دمشق و جمع شمس الدين بن المقدم العساكر و سار عن دمشق و راسل الإفرنج و تهددهم بسيف الدين صاحب الموصل و صلاح الدين صاحب مصر فصالحوه على مال يبعثه إليهم و اشترى من الإفرنج و أطلعهم و تقررت الهدنة و بلغ ذلك صلاح الدين فنكره و استعظمه و كتب إلى الصالح و أهل دولته يقبح و بعدهم بغزوة الإفرنج و قصده إنما هو طريقه إلى الشام ليتملك البلاد و إنما صالح ابن المقدم الإفرنج خوفا منه و من سيف الدين و الله تعالى أعلم (5/298)
استيلاء صلاح الدين على دمشق
و لما كان ما ذكرناه من استيلاء سيف الدين غازي على بلاد الجزيرة خاف شمس الدين ابن الداية منه على حلب و كان سعد الدين كمستكين قد هرب من سيف الدين غازي إليه فأرسله إلى دمشق ليستدعي الملك الصالح للمدافعة فلما قارب دمشق أنفذ ابن المقدم إليه عسكرا فنهبوه و عاد إلى حلب ثم رأى ابن المقدم و أهل الدولة بدمشق أن مسير الصالح إلى حلب أصلح فبعثوا إلى كمستكين و بعثوا معه الملك الصالح فلما وصل إلى حلب قبض كمستكين على ابن الداية و إخوته و على رئيس حلب ابن الخشاب و على مقدم الأحداث بها و استبد بأمر الصالح و خشى ابن المقدم و أمراؤه بدمشق غائلته فكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل أن يملكوه فأحجم عن المسير إليهم وطنها مكيدة و بعث بخبرهم إلى كمستكين و صالحه على مال أخذه من البلاد فكثر إرتياب القوم في دمشق فكاتبوا صلاح الدين بن أيوب فطار إليهم و نكب عن الإفرنج في طريقه و قصد بصرى و أطاعه صاحبها ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج إليه أهل الدولة بمقدمهم شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم و هو الذي كان أبوه سلم سنجار لنور الدين سنة أربع و أربعين كما مر و دخل صلاح الدين دمشق آخر سنة سبعين و نزل دار أبيه المعروفة بدار العفيفي و كان في القلعة ريحان خديم نور الدين فبعث إليه صلاح الدين القاضي كمال الدين الشهرزوري بأنه على طاعة الصالح و الخطبة له في بلاده وأنه إنما جاء ليرتجع البلاد التي أخذت له فسلم إليه ريحان القلعة واستولى على ما فيها من الأموال و هو في ذلك كله يظهر طاعة الملك الصالح و يخطب له و ينقش السكة باسمه انتهى والله أعلم (5/299)
استيلاء صلاح الدين على حمص و حماة ثم حصاره حلب ثم ملكه بعلبك
و لما ملك صلاح الدين دمشق من أيالة الملك الصالح استخلف عليها أخاه سيف الدين الإسلام طغركين بن أيوب و كانت حمص و حماة و قلعة مرعش و سليمية و تل خالد و الرها من بلاد الجزيرة في إقطاع فخر الدين مسعود الزعفراني من أمراء نور الدين ما عدا القلاع منها و لما مات نور الدين أجفل الزعفراني عنها لسوء سيرته و لما ملك صلاح الدين دمشق سار إلى حمص فملك البلد و امتنعت القلعة بالوالي الذي بها فجهز عسكر لحصارها و سار إلى حماة فنازلها منتصف شعبان و بقلعتها الأمير خرديك فبعث إليه صلاح الدين بأنه في طاعة الملك صالح و إنما جاء لمدافعة الإفرنج عنه و إرتجاع بلاده بالجزيرة من ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل و استخلفه على ذلك عز الدين ثم بعثه صلاح الدين إلى الملك الصالح بحلب في الإتفاق و إطلاق شمس الدين علي حسن و عثمان تقي الدين من الإعتقال فسار عز الدين لذلك و استخلف بالقلعة أخاه و لما وصل إلى حلب قبض عليه كمستكين و حبسه فسلم أخوه قلعة حماة لصلاح الدين و ملكها ثم سار صلاح الدين من وقته إلى حلب و حاصرها و ركب الملك الصالح و هو صبي مناهز فسار في البلد و استعان بالناس و ذكر حقوق أبيه فبكى الناس رحمة له و استماتوا دونه و خرجوا فدافعوا عسكر صلاح الدين و دس كمستكين إلى مقدم الإسماعيلية في الفتك بصلاح الدين فبعث لذلك فداوية منهم و شعر بذلك بعض أصحاب صلاح الدين و جماعة منهم و قتلوا عن آخرهم و أقام صلاح الدين محاصرا لحلب و بعث كمستكين إلى الإفرنج يستنجدهم على منازلة بلاد صلاح الدين ليرحل عنهم و كان القمص سمند السنجيلي صاحب طرابلس أثره نور الدين في حارم سنة تسع و خمسين و بقي معتقلا بحلب فأطلقه الآن كمستكين بمائة و خمسين ألف دينار صورية و ألف أسير و كان متغلبا على ابن مري ملك الإفرنج بكونه محذوفا لا يصدر إلا عن رأيه فسار بجموع الإفرنج إلى حصن الرستن سابع رجب و صالحهم صلاح الدين من الغد فأجفلوا و حاصر هو القلعة و ملكها آخر شعبان واستولى على أكثر الشام ثم سار إلى بعلبك و بها يمن الخادم من موالي نور الدين فحاصرها حتى استأمنوا إليه فملكها منتصف رمضان من السنة وأقطعها شمس الدين محمد ابن عبد الملك المقدم بما تولى له من إظهار طاعته بدمشق و تسليمها له والله تعالى أعلم (5/299)
حروب صلاح الدين مع سيف الدين غازي صاحب الموصل و غلبه إياه و استيلاؤه على بغدوين و غيرها من أعمال الملك الصالح ثم مصالحته على حلب
لما ملك صلاح الدين حمص و حماة و حاصر حلب كاتب الملك الصالح إسمعيل من حلب إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فجمع عساكره و استنجد أخاه عماد الدين زنكي صاحب سنجار فلم يجبه لما كان بينه و بين صلاح الدين و أنه ولاه سنجار و يطعمه في الملك فبعث سيف الدين غازي بالعساكر لمدافعة صلاح الدين عن الشام في رمضان سنة سبعين و خمسمائة مع أخيه عز الدين مسعود و أمير جيوش عز الدين القندار و جعل التدبير إليه و سار هو إلى سنجار فحاصر بها أخاه عماد الدين و امتنع عليه و بينما هو يحاصره جاء الخبر بأن صلاح الدين هزم أخاه عز الدين و عساكره فصالح عماد الدين على سنجار و عاد إلى الموصل ثم جهز أخاه عز الدين في العساكر ثانية و معه القندار و ساروا إلى حلب فانضمت إليه عساكره و ساروا جميعا إلى صلاح الدين فأرسل إلى عماد الدين بالموصل في الصلح بينه و بين الملك الصالح على أن يرد عليه حمص و حماة و يسوغه الصالح دمشق فأبى إلا إرتجاع جميع بلاد الشام و اقتصاره على مصر سار صلاح الدين إلى عساكرهم و لقيها قريبا من حماة فانهزمت و ثبت عز الدين ليلا ثم صدق عليه صلاح الدين الحملة فانهزم و غنم سوادهم و مخلفهم و اتبع عساكر حلب حتى أخرجهم منها و حاصرها و قطع خطبة الملك الصالح و بعث بالخطبة للسلطان في جميع بلاده و لما طال عليهم الحصار صالحوه على إقراره على جميع ما ملك من الشام رحل عن حلب عاشر شوال من السنة و عاد إلى حماة ثم سار منها إلى بغدوين و كانت لفخر الدين مسعود بن الزعفراني من أمراء نور الدين و كان قد اتصل بالسلطان صلاح الدين و استخدم له ثم فارقه حيث لم يحصل على غرضه عنده فلحق ببغدوين و بها نائب الزعفراني فحاصرها حتى استأمنوا إليه و أقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي و أقطع حمص ناصر الدين ابن عمه شيركوه و عاد إلى دمشق آخر سنة سبعين و كان سيف الدين غازي صاحب الموصل بعد هزيمة أخيه وعساكره عاد من حصار أخيه بسنجار كما قلناه إلى الموصل فجمع العساكر و فرق الأموال و استنجد صاحب كيفا و صاحب ماردين و سار في ستة آلاف فارس و انتهى إلى نصيبين في ربيع سنة إحدى وسبعين فأقام إلى انسلاخ فصل الشتاء و سار إلى حلب فبرز إليه سعد الدين كمستكين الخادم مدبر الصالح في عساكر حلب و بعث صلاح الدين عن عساكره من مصر و قد كان أذن لهم في الإنطلاق فجاؤا إليه من دمشق إلى سيف الدين و كمستكين فلقيهم بتل الفحول و انهزموا راجعين إلى حلب و ترك سيف الدين أخاه عز الدين بها في جمع من العساكر و عبر الفرات إلى الموصل يظن أن صلاح الدين في إتباعه و شاور الصالح وزيره جلال الدين و مجاهد الدين قايماز في مفارقة الموصل إلى قلعة الحميدية فعارضه في ذلك ثم عزل القندار عن إمارة الجيوش لأنه كان جر الهزيمة برأيه و مفارقته و ولى مكانه مجاهد الدين قايماز و لما إنهزمت العساكر أمام صلاح الدين و غنم مخلفها سار إلى مراغة و ملكها و ولى عليها ثم سار إلى منبج و بها صاحبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي و كان شديد العداوة لصلاح الدين فملك المدينة و حاصره بالقلعة و ضيق مخنقه ثم نقب أسوارها و ملكها عليه عنوة و أسره ثم أطلقه سليبا فلحق بالموصل و أقطعه سيف الدين الرقة و لما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة عزاز و هي في غاية المنعة فحاصرها أربعين يوما حتى استأمنوا إليه فتسلمها في الأضحى ثم رحل فحاصرها و بها الملك الصالح و اشتد أهلها في قتاله فعدل إلى المطاولة ثم سعى بينهما في الصلح و على أن يدخل فيه سيف الدين صاحب الموصل و صاحب كيفا و صاحب ماردين فاستقر الأمر على ذلك و خرجت أخت الملك الصالح إلى صلاح الدين فأكرمها و أفاض عليها العطاء و طلبت منه قلعة عزاز فأعطاها إياها و رحل إلى بلاد الإسماعيلية و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/300)
عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين صاحب الموصل و رجوعه
كان مجاهد الدين قايماز متولى مدينة اربل و كان بينه و بين شهاب الدين محمد بن بدران صاحب شهرزور عداوة فلما ولى سيف الدين مجاهد الدين قايماز نيابة الموصل خاف شهاب الدين غائلته عن تعاهد الخدمة بالموصل و أظهر الامتناع و ذلك سنة اثنتين و سبعين فخاطبه جلال الدين الوزير في ذلك مخاطبة بليغة و حذره و رغبه فعاود الطاعة و بادر إلى الحضور بالموصل و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/302)
نكبة كمستكين الخادم و مقتله
كان سعد الدين كمستكين الخادم قائما بدولة الملك الصالح في حلب و كان يناهضه فيها أبو صالح العجمي فقدم عند نور الدين و عند ابن الملك الصالح و تجاوز مراتب الوزير فعدا عليه بعض الباطنية فقتله و خلا الجو لكمستكين و انفرد بالاستبداد على الصالح و كثرت السعاية فيه بحجر السلطان و الاستبداد عليه و أنه قتل وزيره فقبض عليه و امتحنه و كان قد أقطعه قلعة حارم فامتنع بها أصحابه و أرادهم الصالح على تسليمها فامتنعوا و هلك كمستكين في المحنة و طمع فيها و ساروا إليها و حاصروها و صانعهم الصالح بالمال فرجعوا عنها و بعث هو عساكره إليها و قد جهدهم الحصار فسلموها له و ولى عليها و الله تعالى أعلم (5/302)
وفاة الصالح اسمعيل و استيلاء ابن عمه عز الدين مسعود على حلب
ثم توفي الملك الصالح اسمعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب في منتصف سنة سبع و سبعين لثمان سنين من ولايته و عهد بملكه لابن عمه عز الدين صاحب الموصل و استخلف أهل دولته على ذلك بعضهم بعماد الدين صاحب سنجار أخي عز الدين الأكبر لمكان صهره على أخت الصالح و أن أباه نور الدين كان يميل إليه فأبى و قال عز الدين أنا أقدر على مدافعة صلاح الدين عن حلب فلما قضى نحبه أرسل الأمراء بحلب إلى عز الدين مسعود يستدعونه هو و مجاهد الدين قايماز إلى الفرات و لقي هنالك أمراء حلب و جاؤا معه فدخلها آخر شعبان من السنة و صلاح الدين يومئذ بمصر بعيدا عنهم و تقي الدين عمر ابن أخيه في منبج فلما أحسن بهم فارقها إلى حماة و ثار به أهل حماة و نادوا بشعار عز الدين و أشار أهل حلب عليه بقصد دمشق و بلاد الشام و أطمعوه فيها فأبى من أجل العهد الذي بينه و بين صلاح الدين ثم أقام بحلب شهورا و سار عنها إلى الرقة و الله تعالى أعلم (5/303)
استيلاء عماد الدين على حلب و نزوله عن سنجار لأخيه عز الدين
و لما انتهى عز الدين إلى الرقة منقلبا من حلب وافقه هنالك رسل أخيه عماد الدين صاحب سنجار يطلب منه أن يملكه مدينة سنجار و ينزل هو له عن حلب فلم يجبه إلى ذلك فبعث عماد الدين إليه بأنه يسلم سنجار إلى صلاح الدين فحمل الأمراء حينئذ على معارضته على سنجار و تحمسهم له و لم يكن لعز الدين مخالفا لتمكنه في الدولة و كثرة بلاده و عساكره فأخذ سنجار من أخيه عماد الدين و أعطاه حلب و سار إليها عماد الدين و ملكها و سهل أمره على صلاح الدين بعد أن كان متخوفا من عز الدين على دمشق و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/303)
مسير صلاح الدين إلى بلاد الجزيرة و حصاره الموصل و استيلاؤه على كثير من بلادها ثم على سنجار
كان عز الدين صاحب الموصل قد أقطع مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك مدينة حران و قلعتها و لما سار صلاح الدين لحصار البيرة جنح إليه مظفر الدين و وعده النصر و استحثه للقدوم على الجزيرة فسار إلى الفرات موريا بقصد و عبر إليه مظفر الدين فلقيه و جاء معه إلى البيرة و هي قلعة منيعة على الفرات من عدوة الجزيرة و كان صاحبها من بني ارتق أهل ماردين قد أطاع صلاح الدين فعبر من جسرها و عز الدين صاحب الموصل يومئذ قد سار و معه مجاهد الدين إلى نصيبين لمدافعة صلاح الدين عن حلب فلما بلغهما عبوره الفرات عادا إلى الموصل و بعثا حامية إلى الرها و كاتب صلاح الدين ملوك النواحي بالنجدة و الوعد على ذلك و كان تقدم العهد بينه و بين نور الدين محمد بن قرا ارسلان صاحب كيفا على أن صلاح الدين يفتح آمد و يسلمها إليه فلما كاتبهم الآن كان صاحب كيفا أول مجيب و سار صلاح الدين إلى الرها فحاصرها في جمادي سنة ثمان و سبعين و بها يومئذ فخر الدين مسعود الزعفراني فلما اشتد به الحصار استأمن إلى صلاح الدين و حاصر معه القلعة حتى سلمها نائبها على مال أخذه و أقطعها صلاح الدين مظفر الدين كوكبري صاحب حران و سار عنها إلى الرقة و بها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنجي فاجفل عنها إلى الموصل و ملكها صلاح الدين و سار إلى الخابور و هو قرقيسيا و ماكسين و عرمان فاستولى على جميعها و سار إلى نصيبين فملكها لوقتها و حاصر القلعة أياما و ملكها و أقطعها أبا الهيجاء السمين من أكبر أمرائه و سار عنها و ملكها و معه صاحب كيفا و جاءه الخبر بأن الافرنج أغاروا على أعمال دمشق و وصلوا داريا فلم يحفل بخبرهم و استمر على شأنه و أغراه مظفر الدين كوكبري و ناصر الدين محمد بن شيركوه بالموصل و رجحا قصدها على سنجار و جزيرة ابن عمر كما أشار عليهما فسار صلاح الدين و صاحبها عز الدين و نائبه مجاهد الدين و قد جمعوا العساكر و أفاضوا العطاء و شحنوا البلاد التي بأيديهم كالجزيرة و سنجار و الموصل و اربل و سار صلاح الدين حتى قاربها و سار هو و مظفر الدين و ابن شيركوه في أعيان دولته إلى السور فرآه مخايل الامتناع و قال لمظفر الدين و لناصر الدين ابن عمه قد أغر رتماني ثم صبح البلد و ناشبه و ركب أصحابه في المقاعد للقتال و نصب منجنيقا فلم يغن و نصب إليه من البلد تسعة ثم خرج إليه جماعة من البلد و أخذوه و كانوا يخرجون ليلا من البلد بالمشاعل يوهمون الحركة فخشي صلاح الدين من البيات و تأخر عن القصد و كان صدر الدين شيخ الشيوخ قد وصل من قبل الخليفة الناصر مع بشير الخادم من خواصه في الصلح بين الفريقين على اعادة صلاح الدين بلاد الجزيرة فأجاب على اعادة الآخرين حلب فامتنعوا ثم رجع عن شرط حلب إلى ترك مظاهرة صاحبها فاعتذروا عن ذلك و وصلت رسل صاحب أذربيجان قرا ارسلان و أرسل صاحب خلاط شاهرين فلم ينتظم بينهما أمر و رحل صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار فحاصرها و بها أمير أميران و أخوه عز الدين صاحب الموصل في عسكر و لقيه شرف الدين و جاءها المدد من الموصل فخال بينهم و بينها و داخله بعض أمراء الأكراد من الدوادية من داخلها فكبسها صلاح الدين من ناحيته و استأ من شرف الدين لوقته فأمنه صرح الدين و لحق بالموصل و ملك صلاح الدين سنجار و صارت سياجا على جميع ما ملكه بالجزيرة و ولى عليها سعد الدين بن معين الدين أنز الذي كان متغلبا بدمشق على آخر طغركين و عاد فمر بنصيبين و شكا إليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله و سار إلى حران بلد مظفر الدين كوكبري فوصلها في القلعة من سنة سبع و ثمانين فأراح بها و أذن لعساكره في الانطلاق و كان عز الدين قد بعث إلى شاهرين صاحب خلاط يستنجده و أرسل شاهرين إلى صلاح الدين بالشفاعة في ذلك رسلا عديدة آخرهم مولاه سكرجاه و هو على سنجار فلم يشفعه أخاه من ذلك و فارقه مغاضبا و سار شاهرين إلى قطب الدين صاحب ماردين و هو ابن أخته و ابن حال عز الدين و صهره على بنته فاستنجده و سار معه و جاءهم عز الدين من الموصل في عساكره و اعتزموا على قصد صلاح الدين و بلغه الخبر و هو مريح بحران فبعث عن تقي الدين ابن أخيه صاحب حمص و حماة و ارتحل للقائهم و نزل رأس عين فخاموا عن لقائه و لحق كل ببلده و سار صلاح الدين إلى ماردين فأقام عليها أياما و رجع و الله تعالى أعلم (5/304)
استيلاء صلاح الدين على حلب و أعمالها
و لما ارتحل صلاح الدين عن ماردين قصد آمد فحاصرها سنة تسع و سبعين و ملكها و سلمها لنور الدين محمد بن قرا ارسلان كما كان العهد بينهما و قد أشرنا إليه ثم سار إلى الشام فحاصر تل خالد من أعمال حلب حتى استأمنوا إليه و ملكها في محرم سنة تسع و سبعين و سار منها إلى عينتاب و بها ناصر الدين محمد أخو الشيخ اسمعيل خازن نور الدين محمود و صاحبه ولاه عليها نور الدين فلم يزل بها فاستأمن من إلى صلاح الدين على أن يقره على الحصن و يكون في خدمته فأقره و أطاعه و رحل صلاح الدين إلى حلب و بها عماد الدين زنكي بن مودود و نزل عليها بالميلان الاخضر اياما ثم انتقل إلى جبل جوشن أياما أخرى و أظهر أنه أبنى عليها و عجز عماد الدين عن عطاء الجند فراسل صلاح الدين أن يعوضه عنها سنجار و نصيبين و الخابور و الرقة و سروج فأجاب إلى ذلك و أعطاه عنها تلك البلاد و ملكها و كان في شرط صلاح الدين عليه أنه يبادر إلى الخدمة متى دعاه إليها و سار عماد الدين إلى بلاده تلك و دخل صلاح الدين حلب في آخر سنة تسع و سبعين و مات عليها أخوه الأصغر تاج الملوك بوري بضربة في ركبته تصدعت لها و مات بعد فتح حلب ثم ارتحل صلاح الدين إلى قلعة حارم و بها سرجك من موالي نور الدين ولاه عليها عماد الدين فلما سلم حلب لصلاح الدين امتنع سرجك في قلعة حارم فحاصره صلاح الدين و ترددت الرسل بينهما و قد دس إلى الافرنج و دعاهم و خشي الجند الذين معه أن يسلمها إليهم فحبسوه و استأمنوا إلى صلاح الدين فملكها و ولى عليها بعض خواصه و على تل خالد الأمير داروم الياروقي صاحب تل باشر و أقطع قلعة إعزاز الأمير سليمان بن جندر فعمرها بعد أن كان عماد الدين خربها و أقطع صلاح الدين أعمال حلب لامرائه و عساكره و الله تعالى أعلم (5/306)
نكبة مجاهد الدين قايمان
كان مجاهد الدين قايمان قائما بدولة الموصل و متحكما فيها كما قلناه و كان عز الدين محمود الملقب القندار صاحب الجيش و شرف الدين أحمد بن أبي الخير الذي كان صاحب العراق كان من أكابر الأمراء عند السلطان عز الدين مسعود صاحب الموصل و كانا يغريانه بمجاهد الدين و يكثران السعاية عنده فيه حتى اعتزم على نكبته و لم يقدر على ذلك في مجلسه لاستبداد مجاهد الدين و قوة شوكته فانقطع في بيته لعارض مرض و كان مجاهد الدين خصيا لا يحتجب منه النساء فدخل عليه يعوده فقبض عليه و ركب إلى القلعة فاحتوى على أمواله و ذخائره و ولى بها لقندار نائبا و جعل ابن صاحب العراق أمير حاجبا و حكمهما في دولته و كان في يد مجاهد الدين اربل و أعمالها فيها زين الدين يوسف بن زين الدين علي كجك صبيا صغيرا تحت استبداده و بيده أيضا جزيرة ابن عمر لمعز الدين سنجر شاه بن يوسف الدين غازي و هو صبي تحت استبداده و بيده أيضا شهرزور و أعمالها و دقوقا و قلعة عقر الحميدية و نوابه في جميعها و لم يكن لعز الدين مسعود بعد استيلاء صلاح الدين على الجزيرة سوى الموصل و قلعتها لمجاهد الدين و هو الملك في الحقيقة فلما قبض عز الدين عليه امتنع صاحب اربل و استبد بنفسه و كان صاحب جزيرة ابن عمر و بعث بطاعته إلى صلاح الدين و بعث الخليفة الناصر شيخ الشيوخ و بشير الخادم بالصلح بين عز الدين و صلاح الدين على أن تكون الجزيرة و اربل من أعماله و امتنع عز الدين و قال هما من أعمالي و طمع صلاح الدين في الموصل فتنكر عز الدين لزلقندار و لابن صاحب العراق لما حملاه عليه من الفساد لنكبة مجاهد الدين فبدأ أولا بعزل صاحب أذربيجان فقال له أنا أكفيكه و جهز له عسكرا نحو ثلاثة آلاف فارس و ساروا نحو اربل فاكتسحوا البلد و خربوها و سار إليهم زين الدين يوسف باربل فوجدهم مفترقين في النهب فهزمهم و ما كان معهم و عاد مظفرا و لحق العجم ببلادهم و عاد مجاهد الدين إلى الموصل و الله سبحانه و تعالى ولى التوفيق (5/306)
حصار صلاح الدين الموصل و صلحه مع عز الدين صاحبها
ثم سار صلاح الدين من دمشق في ذي القعدة سنة إحدى و ثمانين فلما انتهى إلى حران قبض على صاحبها مظفر الدين كوكبري لانه كان لذلك وعده بخمسين ألف دينار حتى إذا وصل لم يف له بها فقبض عليه لانحراف أهل الجزيرة عنه فأطلقه و رد عليه عمله بحران و الرها و سار عن حران و جاء معه عساكر كيفا وداري و عساكر جزيرة ابن عمر مع صاحبها معز الدين سنجر شاه ابن أخي عز الدين صاحب الموصل و قد كان استبد بأمره و فارق طاعة عمه بعد نكبة مجاهد الدين كما قلناه فساروا مع صلاح الدين إلى الموصل و لما انتهوا إلى مدينة بله وفدت عليه أم عز الدين و ابن عمه نور الدين محمود و جماعة من أعيان الدولة ظنا بانه لا يردهم و أشار عليه الفقيه عيسى و علي بن أحمد المشطوب بردهم و رحل إلى الموصل فقاتلها و امتنعت عليه و ندم على الوفد و جاءه كتاب القاضي الفاضل بالأئمة ثم قدم عليه زين الدين يوسف صاحب اربل فأنزله مع أخيه مظفر الدين كوكبري و غيره من الأمراء ثم بعث الأمير علي بن أحمد المشطوب إلى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فاجتمع عليه الأكراد الهكارية و أقام يحاصرها و كاتب نائب القلعة زلقندار و نمي خبر مكاتبته إلى عز الدين فمنعه و اطرحه من المشورة و عدل إلى مجاهد الدين قايمان و كان يقتدي برأيه فضبط الامور و أصلحها ثم بلغه في آخر ربيع من سنة اثنتين و ثمانين و قد ضجر من حصار الموصل أن شاهرين صاحب خلاط توفي تاسع ربيع و استولى عليها مولاه بكتمر فرحل عن الموصل و ملك ميا فارقين كما يأتي في أخبار دولته و لما فرغ منها عاد إلى الموصل و مر بنصيبين و نزل الموصل في رمضان سنة اثنتين و ثمانين و ترددت الرسل بينهما في الصلح على أن يسلم إليه عز الدين شهرزور و أعمالها و ولاية الفرائلي و ما وراء الزاب و يخطب له على منابرها و ينقش اسمه على سكته و مرض صلاح الدين أثناء ذلك و وصل إلى حران و لحقته الرسل بالاجابة إلى الصلح و تحالفا عليه و بعث من يسلم البلاد و أقام ممرضا بحران و عنده العادل و ناصر الدولة ابن عمه شيركوه و امنت بلاد الموصل ثم حدثت بعد ذلك فتنة بين التركمان و الأكراد بالجزيرة و الموصل و ديار بكر و خلاط و الشام و شهرزور و أذربيجان و قتل فيها ما لا يحصى من الأمم و اتصلت أعواما و سببها أن عروسا من التركمان أهديت إلى زوجها و مروا بقلعة الزوزان و الاكراد و طلبوا منهم الوليمة على الفتيان فأغلظوا في الرد فقتل صاحب القلعة الزوج و ثار التركمان بجماعة من الأكراد فقتلوهم ثم أصلح مجاهد الدين بينهم و أفاض فيهم العطاء فعادوا إلى الوفاق و ذهبت بينهم الفتنة و الله تعالى أعلم (5/307)
وفاة زين الدين يوسف صاحب اربل و ولاية أخيه مظفر الدين اقتهى
كان زين الدين يوسف بن علي كجك قد صار في طاعة صلاح الدين كما ذكرناه قبل و اربل من أعماله و وقع الصلح على ذلك بينه و بين عز الدين صاحب الموصل سنة ست و ثمانين للعسكر معه فمات عنده أخريات رمضان من السنة و استولى أخوه على موجوده و قبض على جماعة من أمرائه مثل بلدا حي صاحب القلعة حقبير كان و غيره و طلب من صلاح الدين أن يقطعه اربل مكان أخيه و ينزل عن حران و الرها فأقطعه اربل و أضاف إليها شهرزور و أعمالها و دوقبر قرابلي و بني قفجاق و راسل أهل اربل مجاهد الدين قايمان و استدعوه ليملكوه و هو بالموصل فلم يتطاول لذلك خوفا من صلاح الدين و لان عز الدين لما كان ولاه نيابته بعد أن أطلقه من الاعتقال لم يمكنه كما كان أول مرة و جعل معه رديفا في الحكم كان من بعض غلمانه فكان أسفا لذلك فلما راسله أهل اربل قال و الله لا أفعل لئلا يحكم معي فيها فلان و سار مظفر الدين إليها و ملكها (5/308)
حصار عز الدين صاحب الموصل جزيرة ابن عمر
كان سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود قد ملك جزيرة ابن عمر بوصية أبيه و خرج عن طاعة عمه عز الدين عند نكبة مجاهد الدين كما قلناه و صار عينا على عمه يكاتب صلاح الدين بأخباره و يغريه به و يسعى في القطيعة بينهما ثم حاصر صلاح الدين قلعة عكا سنة ست و ثمانين و استنفر لها أصحاب الاطراف المتشبثين بدعوته مثل عز الدين صاحب الموصل و أخيه عماد الدين صاحب سنجار و نصيبين و سنجر شاه هذا ابن عمه و صاحب كيفا و غيرهم و اجتمعوا عنده على عكا و جاء جماعة من جزيرة ابن عمر يتظلمون من سنجر شاه فخاف و استأذن في الانطلاق فاعتذر صلاح الدين بأن في ذلك افتراق هذه العساكر فالح عليه في ذلك و غدا عليه يوم الفطر مسلما فوعده و انصرف و كان تقي الدين عمر بن شاه أخي صلاح الدين مقبلا من حماة في عسكر فأرسل إليه صلاح الدين باعتراضه و رده طوعا أو كرها فلقيه بقلعة فنك و رده كرها و كتب صلاح الدين إلى عز الدين صاحب الموصل بحصار جزيرة ابن عمر يظنها مكيدة فتلقاها بالمراجعة و طلب اقطاع الجزيرة فأسعفه و سار إليها و حاصرها أربعة أشهر فامتنعت عليه ثم صالحه على نصف أعماله و رجع الموصل و الله تعالى أعلم (5/309)
مسير عز الدين صاحب الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة و رجوعه عنها
كان صلاح الدين قد ملك من بلاد الجزيرة حران و الرها و سميساط و ميافارقين و كانت بيد ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاه ثم توفي تقي الدين فاقطعها أخاه العادل أبا بكر بن أيوب ثم توفي صلاح الدين سنة تسع و ثمانين فطمع عز الدين صاحب الموصل في ارتجاعها و استشار أصحابه فأشار عليه بعضهم بمعالجتها و أن تستنفر أصحاب الأطراف لها مثل صاحب اربل و صاحب جزيرة ابن عمر و صاحب سنجار و نصيبين و من امتنع يعاجله حربا و يعاجل البلد قبل أن يستعد أهله للمدافعة و أشار مجاهد الدين قايمان بمشاورة هؤلاء الملوك و العمل بأشارتهم فقبل من مجاهد الدين و كاتبهم فأشاروا بانتظار أولاد صلاح الدين و أن البلد في طاعته و أنه القائم بدولته و أنه بلغه أن صاحب ماردين تعرض لبعض بلاده فجهز جيشا كثيفا لقصد ماردين فوجموا الكتابة و تركوا الحركة ثم بلغهم أنه بظاهر حران في خف من العسكر فتجهز للحركة عليه و لما وقع الاتفاق مع صاحب سنجار جاءت عساكر الشام إلى العادل من الافضل فامتنع و سار عز الدين في عساكره من الموصل إلى نصيبين و اجتمع بأخيه عماد الدين و ساروا إلى الرها و قد عسكر العادل قريبا منهم بمرج الريحان و خافهم فأقاموا أياما كذلك ثم طرق عز الدين المرض فترك العساكر مع أخيه عماد الدين و سار إلى الموصل و الله تعالى أعلم (5/309)
وفاة عز الدين صاحب الموصل و ولاية ابنه نور الدين
و لما رجع عز الدين إلى الموصل أقام بها مدة شهرين و اشتد مرضه فتوفي آخر شعبان سنة تسع و ثمانين و ولى ابنه نور الدين أرسلان شاه بن عز الدين مسعود بن مودود بن الأتابك زنكي و قام بتدبير دولته مجاهد الدين قايمان مدبر دولة أبيه و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/310)
وفاة عماد الدين صاحب سنجار و ولاية ابنه قطب الدين
ثم توفي عماد الدين زنكي بن مودود بن الأتابك زنكي صاحب سنجار و الخابور و نصيبين و الرقة و سروج و هي التي عوضه صلاح الدين عن حلب لما أخذها منه توفي في محرم سنة أربع و تسعين و ملك بعده ابنه قطب الدين و تولى تدبير مجاهد الدين برتقش مولى أبيه و كان دينا خيرا عادلا متواضعا محبا لأهل العلم و الدين معظما لهم و كان متعصبا على الشافعية حتى أنه بني مدرسة للحنفية بسنجار و كان حسن السيرة و الله تعالى أعلم (5/310)
استيلاء نور الدين صاحب الموصل على نصيبين
كان عماد الدين صاحب سنجار و نصيبين قد امتدت أيدي نوابه بنصيبين إلى قرى من أعمال الموصل تجاورهم و بعث إليه في ذلك مجاهد الدين قايمان صاحب دولة الموصل يشكو إليه نوابه سرا من سلطانه نور الدين فلج عماد الدين في ادعاء أنها من أعماله و اساء الرد فأعاد نور الدين الرسالة إليه مع بعض مشايخ دولته و قد طرقه المرض فأجاب مثل الأول فنصح الرسول و كان من بقية الأتابك زنكي و عاد إلى فأغلظ له في القول و اعتزم نور الدين على المسير إلى نصيبين و وصل الخبر اثر ذلك بوفاة عماد الدين و ولاية ابنه قطب الدين فقوي طمع نور الدين في نصيبين و تجهز لها في جمادي سنة أربع و تسعين و سار قطب الدين بن سنجر في عسكره فسبقه نور الدين إلى نصيبين فلما وصل لقيه فهزمه نور الدين و دخل إلى قلعة نصيبين مهزوما ثم أسرى منها إلى حران و معه نائبه مجاهد الدين برتقش و كاتبوا العادل أبا بكر بن أيوب يستحثونه من دمشق و أقام نور الدين بنصيبين حتى وصل العادل إلى الجزيرة ففارقها إلى الموصل في رمضان من السنة و عاد قطب الدين إليها و كان الموتان قد وقع عسكر نور الدين فمات كثير من أمراء الموصل و مات مجاهد الدين قايمان القائم بالدولة و لما عاد نور الدين إلى الموصل و عاد قطب الدين إلى نصيبين سار العادل إلى ماردين فحاصرها أياما و ضيق عليها ثم انصرف و الله تعالى أعلم (5/311)
هزيمة الكامل بن العادل على ماردين أمام نور الدين صاحب الموصل و بني عمه ملوك الجزيرة
لما رحل العادل عن ماردين كما قدمناه جر العساكر عليها للحصار مع ابنه الكامل و عظم ذلك على ملوك الجزيرة و ديار بكر و خافوا أن ملكها يغلبهم على أمرهم و لم يكن سار من سار معه منهم عند اشتغاله بحرب نور الدين إلا تقية لكثرة عساكره فلما رجع إلى دمشق و بقي الكامل على ماردين استهانوا بأمره و طمعوا في مدافعه و أغراهم بذلك الظاهر و الأفضل ابنا صلاح الدين لفتنتهم مع عمهم العادل فتجهز نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل و سار أول شعبان سنة خمس و تسعين و انتهى إلى دبيس فأقام بها و لحق به ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار و ابن عمه الآخر سنجر شاه بن غازي صاحب جزيرة ابن عمر حتى إذا انقضي عيد الفطر ارتحلوا و تقدموا إلى مزاحمة الكامل على ماردين و كان أهل ماردين خلال ذلك قد ضاق مخنقهم و جهدهم الحصار و بعث النظام المستولى على دولة صاحبها إلى الكامل يراوده في الصلح و تسليم القلعة له إلى أجل سماه على أن يبيح لهم ما يقويهم من الميرة فأسعفهم بذلك و بينما هم في ذلك جاءهم خبر العساكر فامتنعوا و زحف الكامل مهزوما إلى معسكره بالربض فخرج أهل القلعة إليهم و قاتلوهم إلى المساء ثم أجفل الكامل من ليلته منتصف شوال و عاد إلى بلاده و نهبت أهل القلعة مخلفه و خرج صاحب ماردين و هو بولو ارسلان ابن أبي الغازي فلقي نور الدين و شكره و عاد إلى حصنه و رجع نور الدين و أصحابه إلى تستر ثم سار منها إلى رأس عين فقدم عليها هنالك رسول الظاهر بن صلاح الدين من حلب يطلب له منه السكة و الخطبة فوجم لذلك و ثنى عزمه عن مظاهرتهم ثم طرقه المرض فبعث إليهم بالغدر و عاد إلى الموصل في ذي الحجة آخر السنة و الله تعالى أعلم (5/311)
مسير نور الدين صاحب الموصل إلى بلاد العادل بالجزيرة
ثم إن الملك العادل ملك مصر سنة ست و تسعين من يد الأفضل ابن أخيه فخشيه الظاهر صاحب حلب و صاحب ماردين و راسلوا نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق و أن يسير إلى بلاد العادل بالجزيرة حران و الرها و الرقة و سنجار فسار نور الدين لملكها في شعبان سنة سبع و تسعين و سار معه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار و حسام الدين صاحب ماردين و انتهوا إلى رأس عين و كان بحران الفائز بن العادل في عسكر فأرسل إلى نور الدين في الصلح فبادر إلى الإجابة لما وقع في عسكره من الموتان و استحلفهم و حلف لهم و بعثوا إلى العادل فحلف و عاد نور الدين إلى الموصل في ذي القعدة من السنة و الله تعالى أعلم (5/312)
هزيمة نور الدين صاحب الموصل أمام عسكر العادل
لم يزل الملك العادل يراسل قطب الدين صاحب سنجار و يستميله إلى أن خطب له في أعماله سنة ستمائة فسار نور الدين صاحب الموصل إلى نصيبين من أعمال قطب الدين فحاصرها و ملك المدينة و أقام يحاصر القلعة فبينما هو قد قارب فتحها بلغه الخبر من نائبه بالموصل بأن مظفر الدين كوكبري صاحب اربل من أعمال الموصل فرحل عن نصيبين معتزما على قصد اربل فلم يجد كل الخبر صحيحا فسار إلى تل اعفر من أعمال سنجار فحاصرها و ملكها و كان الأشرف موسى بن العادل قد سار من حران إلى رأس عين نجدة لصاحب سنجار و قد اتفق معه على ذلك مظفر الدين صاحب اربل و صاحب كيفا و آمد و صاحب جزيرة ابن عمر و تراسلوا و تواعدوا للاجتماع فلما ارتحل نور الدين عن نصيبين اجتمعوا عليها و جاءهم أخو الاشرف نجم الدين صاحب ميا فارقين و ساروا إلى البقعا من تل اعفر إلى كفررقان و قصده المطاولة حتى جاءه بعض عيونه فقللهم في عينه و أطمعه فيهم و كان من مواليه فوثق بقوله و رحل إلى نوشري قريبا منهم و تراءى الجمعان فالتقوا و انهزم نور الدين و نجا في فل قليل و نزلت العساكر كفررقان و نهبوا مدينة فيد و ما إليها و أقاموا هنالك و ترددت الرسل في الصلح على أن يعيد نور الدين تل اعفر لقطب الدين صاحب سنجار فأعاده و اصطلحوا سنة إحدى و ستمائة و رجع كل إلى بلده و الله تعالى ولى التوفيق (5/312)
مقتل سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر و ولاية ابنه محمود بعده
كان سنجر شاه بن غازي بن مودود ابن الأتابك زنكي صاحب جزيرة ابن عمر و أعمالها أوصى له بها أبوه عند وفاته كما مر و كان سيء السيرة غشوما ظلوما مرهف الحد على رعيته و جنده و حرمه و لوده كثير القهر لهم و الانتقام منهم فاقد الشفقة على بنيه حتى غرب ابنيه محمودا و مودودا إلى قلعة فرح من بلاد الزوزان لتوهم توهمه فيهما و أخرج ابنه غازي إلى دار بالمدينة و وكل به فساءت حاله و كانت الدار كثيرة الخشاش فضجر من حاله و تناول حية و بعثها إلى أبيه فلم يعطف عليه فتسلل من الدار و استخفى في المدينة و بعث إلى نور الدين صاحب الموصل من أوهمه بوصوله إليه فبعث إليه بنفقة ورده خوفا من أبيه و ترك أبوه طلبه لما شاع انه بالشام فلم يزل غازي يعمل الحيلة حتى دخل دار أبيه و اختفى عند بعض حظاياه و طرق عليه الخلاء في بعض الليالي و هو سكران فطعنه أربع عشرة طعنة ثم ذبحه و أقام مع الحرم و علم أستاذ الدولة من خارج بالخبر فأحضر أعيان الدولة و أغلق أبواب القصر و بايع الناس لمحمود بن سنجر شاه و استدعاه و أخاه مودودا من قلعة فرح ثم دخلوا إلى غازي و قتلوه و وصل محمود فملكوه و لقبوه معز الدين لقب أبيه و عمد إلى الجواري التي واطأت على قتل أبيه فغرقهن في الدجلة و الله تعالى أعلم (5/313)
استيلاء العادل على الخابور و نصيبين من أعمال صاحب سنجار و حصاره اياه
كان بين قطب الدين محمود بن زنكي بن مودود و بين ابن عمه نور الدين ارسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة قد مر كثير من أخبارها ولما كانت سنة خمس و ستمائة أصهر العادل بن أيوب صاحب مصر و الشام إلى نور الدين في ابنته فزوجها نور الدين من ابنه و استكثر به و طمح إلى الاستيلاء على جزيرة ابن عمر فأغرى العادل بأن يظاهره على ولاية ابن عمه قطب الدين سنجر و تكون ولاية قطب الدين و هي سنجار و نصيبين و الخابور للعادل و تكون ولاية غازي بن سنجر شاه لنور الدين صاحب الموصل فأجاب إلى ذلك العادل و أطمع نور الدين في أنه يقطع ولاية قطب الدين إذا ملكها لابنه الذي هو صهره على ابنته و تحالفا على ذلك و سار العادل سنة ست و ستمائة من دمشق لملك الخابور و راجع نور الدين رأيه فإذا هو قد تورط و أنه يملك البلاد كما يحب دونه أن وفى له و سار نور الدين إلى الجزيرة فربما حال بنو العادل بينه و بين الموصل و أن انتقض نور الدين عليه سار إليه فاضطرب في أمره و ملك العادل الخابور و نصيبين و اعتزم قطب الدين على أن يعتاض منه عن سنجار ببعض البلاد فمنعه من ذلك أحمد بن برتقش مولى أبيه و جهز نور الدين عسكرا مع ابنه القاهر مددا للعادل كما اتفقا عليه و في خلال ذلك بعث قطب الدين سنجر ابنه إلى مظفر الدين صاحب اربل يستنجده فأرسل إلى العادل شافعا في أمره فلم يشفعه لمظاهرة نور الدين اياه فغضب مظفر الدين و أرسل إلى نور الدين في المساعدة على دفاع العدو فأجاب نور الدين إلى ذلك و رجع عن مظاهرة العادل و أرسل هو و مظفر الدين إلى الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب و إلى كسنجر بن قليج أرسلان صاحب الروم يستنجدانهما فأجاباهما و تداعوا إلى قصد بلاد العادل إن لم يرحل عن سنجار و بعث الخليفة الناصر أستاذا لدار أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك و الأمير اقناش من خواص مواليه في الافرنج عن سنجار و تخاذل أصحابه عن مضايقة سنجار معه و سيما أسد الدين شيركوه صاحب حمص و الرحبة فانه جاهر بخلافه في ذلك فأجاب العادل في الصلح على أن تكون نصيبين و الخابور اللذان ملكهما له و تبقى سنجار لقطب الدين و تحالفوا على ذلك و رجع العادل إلى حران و مظفر الدين إلى اربل و الله تعالى أعلم (5/314)
وفاة نور الدين صاحب الموصل و ولاية ابنه القاهر
ثم توفي نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود بن الاتابك زنكي منتصف سنة سبع و ستمائة لثمان عشرة سنة من ولايته و كان شهما شجاعا مهيبا عند أصحابه حسن السياسة لرعيته و جدد ملك آبائه بعد أن أشفى على الذهاب و لما احتضر عهد بالملك لابنه عز الدين مسعود و هو ابن عشرين سنة و أوصاه أن يتولى تدبير ملكه مولاه بدر الدين لؤلؤ لما فيه من حسن السياسة و كان قائما بأمره منذ توفي مجاهد الدين قايمان و أوصى لولده الاصغر عماد الدين بقلعة عقر الحميدية و قلعة شوش و ولايتها و لفته إلى العقر فلما توفي نور الدين بايع الناس ابنه عز الدين مسعودا و لقبوه القاهر و استقر ملك الموصل أعمالها له و قام بدر الدين لؤلؤ بتدبير دولته و البقاء لله وحده (5/315)
وفاة القاهر و ولاية ابنه نور الدين أرسلان شاه في كفالة بدر الدين لؤلؤ
لما توفي الملك القاهر عز الدين مسعود بن أرسلان شاه بن مسعود مودود بن الأتابك زنكي صاحب الموصل آخر ربيع الأول سنة خمس عشرة و خمسمائة لثمان سنين من ولايته بعد أن عهد بالملك لابنه الأكبر نور الدين أرسلان شاه و عمره عشرون سنة و جعل الوصي عليه و المدبر لدولته لؤلؤا كما كان في دولة القاهر و ابنه نور الدين فبايع له و قام بملكه و أرسل إلى الخليفة في التقليد و الخلع على العادة فوصلت و بعث إلى الملوك في الأطراف في تجديد العهد كما كان بينهم و بين سلفه و ضبط أموره و كان عمه نور الدين زنكي أرسلان شاه بقلعة عقر الحميدية لا يشك في مصير السلطان له فدفعه عن ذلك و استقامت أموره و أحسن السيرة و سمع شكوى المتظلمين و أنصفهم و وصل في تقليد الخليفة لنور الدين اسناد التتر في أموره لبدر الدين لؤلؤ و الله أعلم (5/315)
استيلاء عماد الدين صاحب عقر على قلاع الهكارية و الزوزان
كان عماد الدين زنكي قد ولاه أبوه قلعتي العقر و الشوش قريبا من الموصل و أوصى له بهما و عهد بالملك لابنه الأكبر القاهر فلما توفي القاهر كما ذكرنا طمح زنكي إلى الملك و كان يحدث به نفسه فلم يحصل له و كان بالعمادية نائب من موالي جده مسعود فداخله في الطاعة له و شعر بذلك بدر الدين لؤلؤ فعزل ذلك النائب و بعث إليها أميرا أنزله بها و جعل فيها نائبا من قبله و استبد بالنواب في غيرها و كان نور الدين بن القاهر لا يزال عليلا لضعف مزاجه و توالي الأمراض عليه فبقي محتجبا طول المدة فأرسل زنكي إلى نور الدين بالعمادية يشيع موته و يقول أنا أحق بملك سلفي فتوهموا صدقة و قبضوا على نائب لؤلؤ و من معه و سلموا البلد لعماد الدين زنكي منتصف رمضان سنة خمس عشرة و جهز لؤلؤ العساكر و حاصروه بالعمادية في فصل الشتاء و كلب البرد و تراكم الثلج و لم يتمكنوا من قتاله و ظاهره مظفر الدين صاحب اربل على شأنه و ذكر لؤلؤا بالعهد الذي بينهما أن لا يتعرض لاعمال الموصل و النص فيها على قلاع الهكارية و الزوزان و أنه مظاهر لهم على من يتعرض لها فلج في مظاهرته و اعتمد نقض العهد و أقام العسكر محاصرا لزنكي بالعمادية و تقدموا بعض الليالي و ركبو الاوعار إليه فبرز إليهم أهل العمادية و هزموهم في المضايق و الشعاب فعادوا إلى الموصل و راسل عماد الدين قلاع الهكارية و الزوزان في الطاعة له فأجابوه و ملكها و ولى عليها و الله أعلم (5/316)
مظاهرة الاشرف بن العادل للؤلؤ صاحب الموصل
و لما استولى عماد الدين زنكي على قلاع الهكارية و الزوزان و ظاهره مظفر الدين صاحب اربل خاف لؤلؤ غائلته فبعث بطاعته إلى الاشرف موسى بن العادل و قد ملك أكثر بلاد الجزيرة و خلاط و أعمالها و يسأله المعاضدة فأجابه و كان يومئذ بحلب في مدافعة كيكاوس صاحب بلاد الروم عن أعمالها فأرسل إلى مظفر الدين بالنكير عليه فيما فعل من نقضه العهد الذي كان بينهم جميعا كما مر و يعزم عليه في اعادة ما أخذ من بلاد الموصل و يتوعده أن أصر على مظاهرة زنكي بقصد بلاده فلم يجب مظفر الدين إلى ذلك و استألف على أمره صاحب ماردين و ناصر الدين محمودا صاحب كيفا و آمد فوافقوه و فارقوا طاعة الاشرف في ذلك فبعث الاشرف عساكره إلى نصيبين لانجاد لؤلؤ متى احتاج إليه و الله تعالى أعلم (5/316)
واقعة عساكر لؤلؤ بعماد الدين
و لما عاد عسكر الموصل عن حصار العمادية خرج زنكي إلى قلعة العقر ليتمكن من أعمال الموصل الصحراوية إذ كان قد فرغ من أعمالها الجبلية و أمده مظفر الدين صاحب اربل بالعساكر و عسكر جند الموصل على أربع فراسخ من البلد من ناحية العقر ثم اتفقوا على المسير إلى زنكي و صبحوه آخر المحرم سنة ست عشرة و ستمائة و هزموه فلحق باربل و عاد العسكر إلى مكانهم و وصل رسل الخليفة الناصر و الاشرف ابن العادل في الصلح بينهما فاصطلحوا و تحالفوا و الله تعالى أعلم (5/317)
وفاة نور الدين صاحب الموصل و ولاية أخيه ناصر الدين
لما توفي نور الدين أرسلان شاه ابن الملك القاهر كما قدمناه من سوء مزاجه و اختلاف الاسقام عليه فتوفي قبل كمال الحول و نصب لؤلؤ مكانه أخاه ناصر الدين محمد بن القاهر في سن الثلاث و استخلف له الجند و أركبه في الموكب فرضي به الناس لما بلوا من عجز أخيه عن الركوب لمرضه و الله تعالى ولى التوفيق (5/317)
هزيمة لؤلؤ صاحب الموصل من مظفر الدين صاحب اربل
و لما توفي نور الدين و نصب لؤلؤ أخاه ناصر الدين محمدا على صغر سنه تجدد الطمع لعماد الدين عمه و لمظفر الدين صاحب اربل في الاستيلاء على الموصل و تجهزوا لذلك و عاثت سراياه في نواحي الموصل و كذا لؤلؤ قد بعث ابنه الأكبر في العساكر نجده للملك الاشرف و هو يقصد بلاد الإفرنج بالسواحل ليأخذ بحجزتهم عن امداد اخوانهم بدمياط عن أبيه الكامل بمصر فبادر لؤلؤ إلى عسكر الاشرف الذين بنصيبين و استدعاهم فجاؤا إلى الموصل منتصف سنة عشر و ستمائة و عليهم ايبك مولي الاشرف فاستقلهم لؤلؤ و رآهم مثل عسكره الذين بالشام أودونهم و ألح على عبور دجلة إلى اربل فمنعه أياما فلما أصر عبر لؤلؤ معه و نزلوا على فرسخين من الموصل شرقي دجلة و جمع مظفر الدين زنكي و عبروا الزاب و تقدم إليهم ايبك في عسكره و أصحاب لؤلؤ و سار منتصف الليل من رجب و أشار عليه لؤلؤ بانتظار الصباح فلم يفعل و لقيهم بالليل و حمل ايبك على زنكي في الميسرة فهزمه و انهزمت ميسرة لؤلؤ فبقي في نفر قليل فتقدم إليه مظفر الدين فهزمه و عبر دجلة إلى الموصل و ظهر مظفر الدين على تبريز ثلاثا ثم بلغه أن لؤلؤا يريد تبييته فأجفل راجعا و ترددت الرسل بينهما فاصطلحا على كل ما بيده و الله أعلم (5/317)
وفاة صاحب سنجار و ولاية ابنه ثم مقتله و ولاية أخيه
ثم توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود بن الاتابك زنكي صاحب سنجار في ثامن صفر سنة ست عشرة و ستمائة و كان حسن السيرة مسلما إلى نوابه و ملك بعده ابنه عماد الدين شاهين شاه و اشتمل الناس عليه فملك شهورا ثم سار إلى تل اعفر فاغتاله أخوه عمر و دخل إليه في جمعة فقتلوه و ملك بعده و بقي مدة إلى أن تسلم منها الاشرف بن العادل مدينة سنجار في جمادى سنة سبع عشرة و ستمائة و الله أعلم (5/318)
استيلاء عماد الدين على قلعة كواشي و لؤلؤ على تل أعفر و الأشرف على سنجار
كانت كواشي من أحسن قلاع الموصل و أمنعه و أعلاه و لما رأى الجند الذين بها بعد أهل العمادية و استبدادهم بأنفسهم طمعوا في مثل ذلك و أخرجوا نواب لؤلؤ عنهم و تمسكوا بإظهار الطاعة على البعد خوفا على رهائنهم بالموصل ثم استدعوا عماد الدين زنكي و سلموا له القلعة و أقام عندهم و بعث لؤلؤ إلى مظفر الدين يذكره العهود التي لم يجز ثلمها بعد فأعرض و أرسل إلى الأشرف بحلب يستنجده فسار و عبر الفرات إلى حران و كان مظفر الدين صاحب أربل يراسل الملوك بالأطراف و يغريهم بالأشرف و يخوفهم غائلته و لما كان بين كيكاوس بن كنجسر و صاحب الروم من الفتنة ما نذكره في أخباره و سار كيكاوس إلى حلب دعا مظفر الدين الملوك بناحيته إلىوفاق كيكاوس مثل صاحب كيفا و آمد صاحب ماردين فأطاعوه و خطبوا له في أعمالهم و مات كيكاوس و في نفس الأشرف منه و من مظفر الدين ما في نفسه و لما سار الأشرف إلى حران لمظاهرة لؤلؤ راسل مظفر الدين جماعة من أمرائه مثل أحمد بن علي المشطوب و عز الدين محمد بن بدر الحميدي و غيرهما و استمالهم ففارقوا الأشرف و نازلوا دبيس تحت ماردين ليجتمعوا مع ملوك الأطراف لمدافعته الأشرف و استمال الأشرف صاحب آمد و أعطاه مدينة حالى و جبل حودي و وعده بدارا إذا ملكها فأجاب و فارقهم إليه و اضطر آخرون منهم إلى طاعة الأشرف فانحل أمرهم و إنفرد ابن المشطوب بمشاقة الأشرف فقصد أربل و مر بنصيبين فقاتله شيخ بها فانهزم إلى سنجار فأسره صاحبها و كان هواه مع الأشرف و لؤلؤ فصده ابن المشطوب عن رأيه فيهم حتى أجمع خلافه و أطلقه فجمع المفسدين و قصد البقعا من أعمال الموصل فاكتسح نواحيها و عاد ثم سار من سنجار ثانية إلى الموصل و أرصد له لؤلؤ عسكرا فاعترضوه فهزمه و اجتاز بتل أعفر من أعمال صاحب سنجار فأقاموا عليها و بعثوا إلى لؤلؤ فسار و حاصرها و ملكها في ربيع سنة سبع عشرة و ستمائة و أسر ابن المشطوب و جاء به إلى الموصل ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران سنين و هلك في محبسه و لما أطاع صاحب آمد الأشرف رحل من حران إلى ماردين و نزل دبيس و حاصر ماردين و معه صاحب آمد و ترددت الرسل بينه و بين صاحب ماردين على أن يرد عليه رأس عين و كان الأشرف قد أقطعها له على أن يحمل إليه ثلاثين ألف دينار و أن يعطي لصاحب آمد الورزني بلد و انعقد الصلح بينهما و إرتحل الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل فلقيه رسل صاحب سنجار يطلب من يتسلمها منه على أن يعوضه الأشرف منها بالرقة بما أدركه من الخوف عند استيلاء لؤلؤ على تل أعفر و نفرة أهل دولته عنه لقتله أخاه كما ذكرناه فأجابه الأشرف و أعطاه الرقة و ملك سنجار في جمادي سنة سبع عشرة و ستمائة و رحل عنها بأهله و عشيرته و انقرض أمر بني زنكي منها بعد أربع و تسعين سنة و البقاء لله و حده (5/318)
صلح الأشرف مع مظفر الدين
و لما ملك الأشرف سنجار سار إلى الموصل و وافاه بها رسل الخليفة الناصر و مظفر الدين صاحب أربل في الصلح و رد القلاع المأخوذة من إيالة الموصل على صاحبها لؤلؤ ما عدى العمادية فتبقى زنكي و تردد الحديث في ذلك شهرين و لم يتم فرحل الأشرف بقصد إربل حتى قارب نهر الزاب و كان العسكر قد ضجروا سوء صاحب آمدمع مظفر الدين فأشار باجابته إلى ما سأل و وافق على ذلك أصحاب الأشرف فانعقد الصلح و ساق زنكي إلى الأشرف رهينة على ذلك و سلمت قلعة العقر و شوش لنواب الأشرف و هما لزنكي رهنا أيضا و عاد الأشرف إلى سنجار في رمضان سنة سبع عشرة و بعثوا إلى القلاع فلم يسلمها جندها و امتنعوا بها و استجار عماد الدين زنكي بشهاب بن العادل فاستعطف له أخاه الأشرف فأطلقه و رد عليه قلعتي العقروشوش و صرف نوابه عنهما و سمع لؤلؤ الأشرف يميل إلى قلعة تل أعفر و أنها لم تزل لسنجار قديما فبعث إليه بتسليهما و الله تعالى أعلم (5/320)
رجوع قلاع الهكارية و الزوزان إلى طاعة صاحب الموصل
لما رأى زنكي أنه ملك قلاع الهكارية و الزوزان و ساوة فلم يروا عنده ما ظنوه من حسن السيرة كما يفعله لؤلؤ مع جنده و رعاياه اعتزموا على مراجعة طاعة لؤلؤ و طلبوه في الإقطاع فأجابهم و استأذن الأشرف فلم يأذن له و جاء زنكي من عند الأشرف فحاصر العمادية و لم يبلغ منها غرضا فأعادوا مراسلة لؤلؤ فاستأذن الأشرف و أعطاه قلعة جديدة و نصيبين و ولاية بين النهرين و أذن له في تملك القلاع و أرسل نوابه إليها و وفى لهم بما عاهدهم عليه و تبعهم بقية القلاع من أعمال الموصل فدخلوا كلهم في طاعة لؤلؤ و انتظم له ملكها و الله تعالى أعلم (5/320)
استيلاء صاحب الموصل على قلعة سوس
كانت قلعة شوش و قلعة العقر متجاوتين على اثني عشر فرسخا من الموصل و كانتا لعماد الدين زنكي بن نور الدين أرسلان شاه بوصية أبيه كما مر و ملك معها قلاع الهكارية و الزوزان و رجعت إلى الموصل و سار هو سنة تسعة عشر إلى أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان من بقية السلجوقية فسار معه و أقطع له الإقطاعات و أقام عنده فسار لؤلؤ من الموصل إلى قلعة شوش فحاصرها و ضيق عليها و امتنعت عليه فجمر العساكر لحصارها و عاد إلى الموصل ثم اشتد الحصار بأهلها و انقطعت عنهم الأسباب فاستأمنوا إلى لؤلؤ و نزلوا له عنها على شروط اشترطوها و قبلها و بعث نوابه عليها و الله تعالى أعلم (5/320)
حصار مظفر الدين الموصل
كان الأشرف بن العادل بن أيوب قد استولى على الموصل و دخل لؤلؤ في طاعته و استولى على خلاط و سائر أرمينية و أقطعها أخاه شهاب الدين غازي ثم جعله ولي عهده في سائر أعماله ثم نشأت الفتنة بينهما فاستظهر غازي بأخيه المعظم صاحب دمشق و بمظفر الدين كوكبري و تداعوا لحصار الموصل فجمع أخوهما الكامل عساكره و سار إلى خلاط فحاصرها بعد أن بعث إلى المعظم صاحب دمشق و تهدده فأقصر عن مظاهرة أخيه و استنجد غازي مظفر الدين كوكبري صاحب أربل فسار إلى الموصل و حاصرها ليأخذ بحجزة الأشرف عن خلاط و نهض المعظم صاحبها دمشق لإنجاد أخيه غازي و كان لؤلؤ صاحب الموصل قد استعد للحصار فأقام عليها مظفر الدين عشرا ثم رحل منتصف إحدى و عشرين لامتناعها عليه و لقيه الخبر بأن الأشرف قد ملك خلاط من يد أخيه فندم على ما كان منه (5/321)
إنتقاض أهل العمادية على لؤلؤ ثم استيلاؤه عليها
قد تقدم لنا انتقاض أهل قلعة من أعمال الموصل سنة خمس عشرة و رجوعه إلى عماد الدين زنكي ثم عودهم إلى طاعة لؤلؤ فأقاموا عل ذلك مدة ثم عادوا إلى ديدنهم من التمريض في الطاعة و تجنوا على لؤلؤ بعزل نوابه فعزلهم مرة بعد أخرى ثم استبد بها أولاد خواجا إبراهيم و أخوه فيمن تبعهم و أخرجوا من خالفهم و اظهروا العصيان على لؤلؤ فسار إليهم سنة اثنتين و عشرين و حاصرهم و قطع الميرة عنهم و بعث عسكر إلى قلعة هزوران و قد كانوا تبعوا أهل العمادية في العصيان فحاصرهم حتى استأمنوا و ملكها ثم جهز العساكر إلى العمادية مع نائبه أمين الدين و عاد إلى الموصل و استمر الحصار إلى ذي القعدة من السنة ثم راسلوا أمين الدين في الصلح على مال و أقطاع و عوض عن القلعة و أجاب لؤلؤ إلى ذلك و كان أمين الدين قد وليها قبل ذلك فكان له فيها بطانة مستمدون على عهده و مكاتبته و سخط كثير من أهل البلد فعل أولاد خواجا إبراهيم و استئثارهم بالصلح دونهم فوجد أولئك البطانة سبيلا إلى التسلط عليهم و دسوا لأمين الدين أن يبيت البلد و يصالحهم فوثبوا بأولاد خواجا و نادوا بشعار لؤلؤ فصعد العسكر القلعة و ملكها أمين الدين و بعث بالخبر إلى لؤلؤ قبل أن ينعقد اليمين مع وفد أولاد خواجا و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق (5/321)
مسير مظفر الدين صاحب أربل إلى أعمال الموصل و عوده عنها
كان جلال الدين شكري بن خوارزم شاه قد غلبه التتر أول خروجهم سنة سبع عشرة و ستمائة على خوارزم و خراسان و غزتة و فر أمامهم إلى الهند ثم رجع عنها لسنة اثنتين و عشرين و استولى على العراق ثم على أذربيجان و جاور الأشرف بن العادل في ولايته بخلاط و الجزيرة و حدثت بينهما الفتنة و راسله أعيان الأشرف في الأغراء به مثل مظفر الدين صاحب أربل و مسعود صاحب آمد و أخيه المعظم صاحب دمشق و اتفقوا على ذلك و سار جلال الدين إلى خلاط و سار مظفر الدين إلى الموصل و انتهى إلى الزاب ينتظر الخبر عن جلال الدين و سار المعظم صاحب دمشق إلى حمص و حماة و بعث لؤلؤ من الموصل يستنجد الأشرف فسار إلى حران ثم إلى دبيس فاكتسح أعمال ماردين و كان جلال الدين قد بلغه إنتقاض نائبه بكرمان فاغذ السير إليه و ترك خلاط بعد أن عاث في أعمالها وفت ذلك في أعضاد الآخرين و عظمت سطوة الأشرف بهم و بعث إليه أخوه و قد نازل حمص و حماة يتوعده بمحاصرتهما و محاصرة مظفر الدين الموصل فرجع عن ماردين و رجع الآخران عن حمص و حماة و الموصل و لحق كل ببلده و الله تعالى أعلم (5/322)
مسير التتر في بلاد الموصل و أربل
و لما أوقع التتر بجلال الدين خوارزم شاه على آمد سنة ثمان و عشرين و قتلوه و لم يبق لهم مدافع من الملوك و لا ممانع إنساحوا في البلاد طولا و عرضا و دخلوا ديار بكر و اكتسحوا سواد آمدوارزن و ميافارقين و حاصروا و ملكوها بالأمان ثم استباحوها و ساروا إلى ماردين فعاثوا في نواحيها ثم دخلوا الجزيرة و اكتسحوا أعمال نصيبين ثم رموا إلى سنجار فنهبوها و دخلوا الخابور و استباحوه و سارت طائفة منهم إلى الموصل فاستباحوا أعمالها ثم أعمال أربل و أفحشوا فيها و برز مظفر الدين في عساكره و استمد عساكر الموصل فبعث بها لؤلؤ إليه ثم عاد التتر عنهم إلى أذربيجان فعاد كل إلى بلاده و الله أعلم (5/322)
وفاة مظفر الدين صاحب أربل و عودها إلى الخليفة
ثم توفي مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك صاحب أربل سنة تسع و عشرين لأربع و أربعين سنة من ولايته عليها أيام صلاح الدين بعد أخيه يوسف و لم يكن له ولد فأوصى بأربل للخليفة المستنصر فبعث إليها نوابه و استولى عليها و صارت من أعماله و الله تعالى أعلم (5/323)
بقية أخبار لؤلؤ صاحب الموصل
كان عسكر خوارزم شاه بعد مهلكه سنة ثمان و عشرين على آمد لحقوا بصاحب الروم كيقباد فاستنجدهم و هلك سنة أربع و ثلاثين و ستمائة و ولي ابنه كنجسرو فقبض على أميرهم و مر الباقون و انتبذوا بأطراف البلاد و كان الصالح نجم الدين أيوب في حران و كيفا و آمد نائبا عن أبيه الملك العادل فرأى المصلحة في استضافتهم إليه فاستمالهم و استخدمهم بعد أن أذن أبوه له في ذلك فلما مات أبوه سنة خمس انتقضوا و لحقوا بالموصل و اشتمل عليهم لؤلؤ و سار معهم فحاصر الصالح بسنجار ثم بعث الصالح إلى الخوارزمية و استمالهم فرجعوا إلى طاعته على أن يعطيهم حران و الرها ينزلون بها فأعطاهما إياهم و ملكوهما ثم ملكوا نصيبين من أعمال لؤلؤ و بنو أيوب يومئذ متفرقون على كراسي الشام و بينهم من الأنفة و الفرقة ما نتلو عليك قصصه في دولتهم ثم استقر ملك سنجار للجواد يونس منهم و هو ابن مودود بن العادل أخذها من الصالح نجم الدين أيوب عوضا عن دمشق و استولى لؤلؤ على سنجار من يده سنة سبع و ثلاثين ثم حدثت بين صاحب حلب و بين الخوارزمية فتنة و لجؤا يومئذ لصفيتهم خاتون بنت العادل فبعثت العساكر إليهم مع المعظم بوران شاه بن صلاح الدين فهزموا عساكره و أسروا ابن أخيه الأفضل و دخلوا حلب و استباحوها فتحوا منبج و عاثوا فيها و قطعوا الفرات من الرقة و هم يذهبون و تبعهم عسكر دمشق و حمص فهزموهم و أثخنوا فيهم و لحقوا ببلدهم حران فسارت إليهم عساكر حلب و استولوا على حران و لحق الخوارزمية بغانة و بادر لؤلؤ صاحب الموصل إلى نصيبين فملكها من أيديهم ثم توفيت صفية بنت العادل سنة أربعين في حلب و كانت ولايتها بعد وفاة أبيها العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين فولي بعدها ابنه الناصر يوسف ابن العزيز في كفالة مولاه إحيال الخاتوني فلما كانت سنة ثمان و أربعين و ستمائة وقع بين عسكره و بين بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل حرب إنهزم فيها لؤلؤ و ملك الناصر نصيبين و دارا و قرقيسيا و لحق لؤلؤ بحلب ثم زحف هلاكو ملك التتر إلى بغداد سنة و ملكها و قتل الخليفة المستعصم و استلحم العلية من بغداد كما مر في أخبار الخلفاء و يأتي في أخبار التتر و تخطى منها إلى أذربيجان فبادر لؤلؤ و وصل إليه بأذربيجان و آتاه طاعته و عاد إلى الموصل و الله تعالى يؤيد من يشاء من عباده (5/323)
وفاة صاحب الموصل و ولاية ابنه الصالح
ثم توفي بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع و خمسين و ستمائة و كان يلقب الملك الرحيم و ملك بعده على الموصل ابنه الصالح إسمعيل و على سنجار ابنه المظفر علاء الدين علي و على جزيرة ابن عمر ابنه المجاهد إسحق و أبقاهم هلاكو عليها مدة ثم أخذها منهم و لحقوا بمصر فنزلوا على الملك الظاهر بيبرس كما نذكر في أخباره و سار هلاكو إلى الشام فملكها و إنقرضت دولة الأتابك زنكي و بينه و موإليه من الشام و الجزيرة أجمع كان لم تكن و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين و البقاء لله تعالى وحده و الله تعالى أعلم (5/424)
دولة بني أيوب ـ الخبر عن دولة بني أيوب القائمين بالدولة العباسية و ما كان لهم من الملك بمصر و الشام و اليمن و المغرب و أولية ذلك و مصايره
هذه الدولة من فروع دولة بني زنكي كما تراه و جدهم هو أيوب بن شادي بن مروان بن علي ابن الحسن بن علي بن أحمد بن علي بن عبد العزيز بن هدبة بن الحصين بن الحرث بن سنان بن عمر بن مرة بن عوف الحميري الدوسي هكذا نسبه بعض المؤرخين لدولتهم قال ابن الأثير أنهم من الأكراد الروادية و قال ابن خلكان شادي أبوهم من أعيان درين و كان صاحبه بها فأصابه خصي من بعض أمرائه و فر حياء من المثلة فلحق بدولة السلطان مسعود بن محمد بن ملك شاه و تعلق بخدمة داية بنيه حتى إذا هلك الداية أقامه السلطان لبنيه مقامه فظهرت كفايته و علا في الدولة محله عن شادي بن مروان صاحبه لما بينهما من الألفة و أكيد الصحبة فقدم عليه ثم ولى السلطان بهروز شحنة بغداد فسار إليها و استصحب شادي معه ثم أقطعه السلطان قلعة تكريت فولى عليها شادي فهلك و هو وال عليها و ولى بهروز مكانه ابنه نجم الدين أيوب و هو أكبر من أسد الدين شيركوه فلم يزل واليا عليها و لما زحف عماد الدين زنكي صاحب الموصل لمظاهرة مسعود على الخليفة المسترشد سنة عشرين و خمسمائة و انهزم الأتابك و انكفأ راجعا إلى الموصل و مر بتكريت قام نجم الدين بعلوفته و ازواده و عقد له الجسور على دجلة و سهل له عبورها ثم أن شيركوه أصاب دما في تكريت و لم يفده منه أخوه أيوب فعزله بهروز و أخرجهما من تكريت فلحقا بعماد الدين بالموصل فأحسن إليهما ثم ملك بعلبك سنة اثنتين و ثلاثين و جعله نائبا و لم يزل بها أيوب و لما مات عماد الدين زنكي سنة إحدى و أربعين زحف صاحب دمشق فخر الدين طغركين إلى بعلبك و حاصرها و استنزل أيوب منها على ما شرط لنفسه من الإقطاع و أقام معه بدمشق و بقي شيركوه مع نور الدين محمود بن زنكي و أقطعه حمص و الرحبة لإستطلاعه و كفايته و جعله مقدم عساكره و لما صرف نظره إلى الإستيلاء على دمشق و اعتزم على مداخلة أهلها كان ذلك على يد شيركوه و بمكاتبته لأخيه أيوب و هو بدمشق فتم ذلك على أيديهما و بمحاولتهما و ملكها سنة تسع و أربعين و خمسمائة و كانت دولة العلويين بمصر قد أخلقت جدتها و ذهب استفحالها و استبد وزراؤها على خلفائها فلم يكن الخلفاء يملكون معهم و طمع الإفرنج و ذهب استفحالها و استبد وزراؤها على خلفائهم فلم يكن الخلفاء يملكون معهم و طمع الإفرنج في سواحلهم و أمصارهم لما نالهم من الهرم و الوهن فمالوا عليهم و انتزعوا البلاد من أيديهم و كانوا يردون عليهم كرسي خلافتهم بالقاهرة و وضعوا عليهم الجزية و هم يتجرعون المصاب من ذلك و يتحملونه مع بقاء أمرهم كاد الأتابك زنكي و قومه السلجوقية من قبله أن يمحو دعوتهم و يذهبوا بدولتهم و أقاموا من ذلك على مضض و قلق و جاء الله بدعوة العاضد آخرهم و تغلب عليه بعد الصالح بن زريك شاور السعدي و قتل رزيك بن صالح سنة ثمان و خمسين و استبد على العاضد ثم نازعه الضرغام لتسعة أشهر من ولايته و غلبه و أخرجه من القاهرة فلحق بالشام و لحق بنور الدين صريخا سنة تسع و خمسين و شرط له على نفسه ثلث الجباية بأعمال مصر على أن يبعث معه عسكرا يقيمون بها فأجابه إلى ذلك و بعث أسد الدين شيركوه في العساكر فقتل الضرغام و رد شاور إلى رتبته و آل أمرهم إلى محو الدولة العلوية و إنتظام مصر و أعمالها في ملكة ابن أيوب بدعوة نور الدين محمود بن زنكي و يخطب للخلفاء العباسيين لما هلك نور الدين محمود و استبد صلاح الدين بأمره في مصر ثم غلب على بني نور الدين محمود و ملك الشام من أيديهم و كثر عيث ابن عمهم مودود و استفحل ملكه و عظمت دولة بنيه من بعده إلى أن انقرضوا و البقاء لله وحده (5/326)
مسير أسد الدين شيركوه إلى مصر و إعادة شاور إلى وزارته
لما اعتزم نور الدين محمود صاحب الشام على صريخ شاور و إرسال العساكر معه و اختار لذلك أسد الدين شيركوه بن شادي و كان من أكبر أمرائه فاستدعاه من حمص و كان أميرا عليها و هي أقطاعه و جمع له العساكر و أزاح عللهم و فصل بهم شيركوه من دمشق في جمادي سنة تسع و خمسين و سار نور الدين بالعساكر إلى بلاد الإفرنج ليأخذ بحجزتهم عن اعتراضه أو صده لما كان بينهم و بين صاحب مصر من الألفة و التظاهر و لما وصل أسد الدين بلبيس لقيه هنالك ناصر الدين أخو الضرغام و قاتله فانهزم و عاد إلى القاهرة مهزوما و خرج الضرغام منسلخ جمادى الأخيرة فقتل عند مشهد السيدة نفيسة رضي الله عنها و قتل أخوه و أعاد شاور إلى وزارته و تمكن فيها و صرف أسد الدين إلى بلده و أعرض عما كان بينهما فطالبه أسد الدين بالوفاء فلم يجب إليه فتغلب أسد الدين على بلبيس و البلاد الشرقية و بعث شاور إلى الإفرنج يستنجدهم و يعدهم فبادروا إلى إجابته و سار بهم ملكهم مرى لخوفهم أن يملك أسد الدين مصر و استعانوا بجمع من الإفرنج جاؤا الزيارة القدس و سار نور الدين إليهم ليشغلهم فلم يثنهم ذلك و طمعوا لعزمهم و رزأ أسد الدين إلى بلبيس و اجتمعت العساكر المصرية و الإفرنج عليه و حاصروه ثلاثة أشهر و هو يغاديهم القتال و يراوحهم و امتنع عليهم و قصاراهم منع الأخبار عنه و استنفر نور الدين ملوك الجزيرة و ديار بكر و قصر حارم و سار الإفرنج لمدافعته فهزمهم و أثخن فيهم و أسر صاحب إنطاكية و طرابلس و فتح حارم قريبا من حلب ثم سار إلى بانياس قريبا من دمشق ففتحها كما مر في أخبار نور الدين و بلغ الخبر بذلك إلى الإفرنج و هم محاصرون أسد الدين في بلبيس ففت في عزائمهم و طووا الخبر عنه و راسلوه في الصلح على أن يعود إلى الشام فصالحهم و عاد إلى الشام في ذي الحجة من السنة و الله تعالى أعلم (5/327)
مسير أسد الدين ثانيا إلى مصر و ملكه لإسكندرية ثم صلحه عليها و عوده
و لما رجع أسد الدين إلى الشام لم يزل في نفسه مما كان من غدر شاور و بقي يشحن لغزوهم إلى سنة اثنين و ستين فجمع العساكر و بعث معه نور الدين جماعة من الأمراء و اكثف له العسكر خوفا على حامية الإسلام و سار أسد الدين إلى مصر و انتهى إلى أطفيح و عبر منها إلى العدوة الغربية و نزل الجيزة و أقام نحوا من خمسين يوما و بعث شاور إلى الإفرنج يستمدهم على العادة و على مالهم من التخوف من استفحال ملك نور الدين و شيركوه فسارعوا إلى مصر و عبروا مع عساكره إلى الجيزة و قد ارتحل عنها أسد الدين إلى الصعيد و انتهى منها إلى و أتبعوه و أدركوه بها منتصف اثنتين و ستين و لما رأى كثرة عددهم و استعدادهم مع تخاذل أصحابه فاستشارهم فأشار بعضهم بعبور النيل إلى العدوة الشرقية و العود إلى الشام و أبى زعماؤهم إلا الاستماتة سيما مع خشية العتب من نور الدين و تقدم صلاح الدين بذلك و أدركهم القوم على تعبية و جعل صلاح الدين في القلب و أوصاه أن يندفع أمامهم و وقف هو في الميمنة مع من وثق باستماتته و حمل القوم على صلاح الدين فسار بين أيديهم على تعبيته و خالفهم أسد الدين إلى مخلفهم فوضع السيف فيهم و أثخن قتلا و أسرا و رجعوا عن صلاح الدين يظنون أنهم ساروا منهزمين فوجدوا أسد الدين قد استولى على مخلفهم و استباحه فانهزموا إلى مصر و سار أسد الدين إلى الإسكندرية فتلقاه أهلها بالطاعة و استخلف بها صلاح الدين ابن أخيه و عاد إلى الصعيد فاستولى عليه و فرق العمال على جباية أمواله و وصلت عساكر مصر و الإفرنج إلى القاهرة و أزاحوا عللهم و ساروا إلى الإسكندرية فحاصروا بها صلاح الدين و جهده الحصار و سار أسد الدين من الصعيد لإمداده و قد انتقض عليه طائفة من التركمان من عسكره و بينما هو في ذلك جاءته رسل القوم في الصلح على أن يرد عليهم الاسكندرية و يعطوه خمسين ألف دينار سوى ما جباه من أموال الصعيد فأجابهم إلى ذلك على أن يرجع الإفرنج إلى بلادهم و لا يملكوا من البلاد قرية فانعقد ذلك بينهم منتصف شوال و عاد أسد الدين و أصحابه إلى الشام منتصف ذي القعدة ثم شرط الإفرنج على شاور أن ينزلوا بالقاهرة شحنة و تكون أبوابها بأيديهم ليتمكنوا من مدافعة نور الدين فضربوا عليه مائة ألف دينار في كل سنة جزية فقبل ذلك و عاد الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام و تركوا بمصر جماعة من زعمائهم و بعث الكامل أبا شجاع شاور إلى نور الدين بطاعته و أن يبث بمصر دعوته و قرر على نفسه ما لا يحمل كل سنة إلى نور الدين فأجابه إلى ذلك و بقي شيعة له بمصر و الله تعالى أعلم (5/328)
استيلاء أسد الدين على مصر و مقتل شاور
و لما ضرب الإفرنج الجزية على القاهرة و مصر و أنزلوا بها الشحنة و ملكوا أبوابها تمكنوا من البلاد و أقاموا فيها من زعمائهم فتحكموا و أطلعوا على عورات الدولة فطمعوا فيما وراء ذلك من الاستيلاء و راسلوا بذلك ملكهم بالشام و اسمه مري و لم يكن ظهر بالشام من الإفرنج مثله فاستدعوه لذلك و أغروه فلم يجبهم و استحثه أصحابه لملكها و ما زالوا يفتلون له قي الذروة و الغارب و يوهمونه القوة بتملكها على نور الدين و يريهم هو أن ذلك يؤل إلى خروج أصحابها عنها النور الدين فبقي بها إلى أن غلبوا عليه فرجع إلى رأيهم و تجهز و بلغ الخبر نور الدين فجمع عساكره و استنفر من في ثغوره و سار الإفرنج إلى مصر مفتتح أربع و ستين فملكوا بلبيس عنوة في صفر و استباحوها و كاتبهم جماعة من أعداء شاور فأنسوا مكاتبهم و ساروا إلى مصر و نازلوا القاهرة و أمر شاور بإحراق مدينة مصر لينتقل أهلها إلى القاهرة فيضبط الحصار فانتقلوا و أخذهم الحريق و امتدت الأيدي و أنتهبت أموالهم و اتصل الحريق فيها شهرين و بعث العاضد إلى نور الدين يستغيث به فأجاب و أخذ في تجهيز العساكر فاشتد الحصار على القاهرة و ضاق الأمر بشاور فبعث إلى ملك الإفرنج يذكره بقديمه و أن هواه معه دون العاضد و نور الدين و يسأل في الصلح على المال لنفور المسلمين مما سوى ذلك فأجابه ملك الافرنج على ألف ألف دينار لما رأى من امتناع القاهرة و بعث إليهم شاور بمائة ألف منها و سألهم في الإفرنج فارتحلوا و شرع في جمع المال فعجز الناس عنه و رسل العاضد خلال ذلك تردد إلى نور الدين في أن يكون أسد الدين و عساكره حامية عنده و عطاؤهم عليه و ثلث الجباية خالصة لنور الدين فاستدعى نور الدين أسد الدين من حمص و أعطاه مائتي ألف دينار و جهزه بما يحتاجه من الثياب و الدواب و الأسلحة و حكمه في العساكر و الخزائن و نقد العسكر عشرين دينارا لكل فارس و بعث معه من أمرائه مولاه عز الدين خردك و عز الدين قليج و شرف الدين ترعش و عز الدولة الباروقي و قطب الدين نيال بن حسان المنبجي و أمد صلاح الدين يوسف بن أيوب مع عمه أسد الدين فتعلل عليه و اعتزم عليه فأجاب و سار أسد الدين منتصف ربيع فلما قارب مصر رجع الإفرنج إلى بلادهم فسر بذلك نور الدين و أقام عليه البشائر في الشام و وصل أسد الدين القاهرة و دخلها منتصف جمادى الأخيرة و نزل بظاهرها و لقي العاضد و خلع عليه و أجرى عليه و على عساكره الجرايات و الاتاوات و أقام أسد الدين ينتظر شرطهم و شاور يماطله و يعلله بالمواعيد ثم فاوض أصحابه في القبض على أسد الدين و استخدام جنده فمنعه ابنه الكامل من ذلك فأقصر ثم أشرف أصحاب أسد الدين على اليأس من شاور و تفاوض أمراؤه في ذلك فاتفق صلاح الدين مع ابن أخيه و عز الدين خردك على قتل شاور و أسد الدين ينهاهم و غدا شاور يوما على أسد الدين في خيامه فألقاه قد ركب لزيارة تربة الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه فتلقاه صلاح الدين و خردك و ركبوا معه لقصد أسد الدين فقبضوا عليه في طريقهم و طيروا بالخبر إلى أسد الدين و بعث العاضد لوقته يحرضهم على قتله فبعثوا إليه برأسه و أمر العاضد بنهب دوره فنهبها العامة و جاء أسد الدين لقصر العاضد فخلع عليه الوزارة و لقبه الملك المنصور أمير الجيوش و خرج له من القصر منشور من إنشاء القاضي الفاضل البيساني و عليه مكتوب بخط الخليفة ما نصه :
هذا عهد لا عهد لوزير بمثله فتقلد ما رآك الله و أمير المؤمنين أهلا لحمله و عليك الحجة من الله فيما أوضح لك من مراشد سبله فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة و أسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة و اتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلا و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها و قد جعلتم الله عليكم كفيلا ثم ركب أسد الدين إلى دار الوزارة التي كان فيها شاور و جلس مجلس الأمر و النهي و ولى على الأعمال و أقطع البلاد للعساكر و أمن أهل مصر بالرجوع إلى بلادهم و رمها و عمارتها و كاتب نور الدين بالواقع مفصلا و انتصب للأمور ثم دخل للعاضد و خطب الأستاذ جوهر الخصي عنه و هو يومئذ أكبر الأساتيذ فقال يقول لك مولانا نؤثر مقامك عندنا من أول قدومك و أنت تعلم الواقع من ذلك و قد تيقنا أن الله عز و جل أدخرك لنا نصرة على أعدائنا فحلف له أسد الدين على النصيحة و إظهار الدولة فقال الأستاذ عن العاضد الأمر بيدك هذا و أكثر ثم جددت الخلع و استخلص أسد الدين الجليس عبد القوي و كان قاضي القضاة و داعي الدعاة و استحسنه و اختصه و أما الكامل بن شاور فدخل القصر مع أخوته معتصمين به و كان آخر العهد به و أسف أسد الدين عليه لما كان منه في رد أبيه و ذهب كل بما كسب و الله تعالى أعلم (5/329)
وفاة أسد الدين و ولاية ابن أخيه صلاح الدين
ثم توفي أسد الدين شيركوه آخر جمادي الأخيرة من سنة أربع و ستين لشهرين من وزارته و لما احتضر أوصى حواشيه بهاء الدين قراقوش فقال له الحمد لله الذي بلغنا من هذه الديار ما أردنا و صار أهلها راضين عنا فلا تفارقوا سور القاهرة و لا تفرطوا في الأسطول و لما توفي تشوف الأمراء الذين معه إلى رتبة الوزارة مكانه مثل عز الدولة الباروقي و شرف الدين المشطوب الهكاري و قطب الدين نيال بن حسان المنبجي و شهاب الدين الحارمي و هو خال صلاح الدين و جمع كل لمغالبة صاحبه و كان أهل القصر و خواص الدولة قد تشاوروا فأشار جوهر بإخلاء رتبة الوزارة و إصطفاء ثلاثة آلاف من عسكر الغز يقودهم قراقوش و يعطي لهم الشرقية إقطاعا ينزلون بها حشدا دون الإفرنج من يستبد على الخليفة بل يقيم واسطة بينه و بين الناس على العادة و أشار آخرون بإقامة صلاح الدين مقام عمه و الناس تبع له و مال القاضي لذلك حياء من صلاح الدين و جنوحا إلى صغر سنه و أنه لا يتوهم فيه من استبداد ما يتوهم في غيره من أصحابه و أنهم في سعة من رأيهم مع ولايته فاستدعاه و خلع عليه و لقبه الملك الناصر و اختلف عليه أصحابه فلم يطيعوه و كان عيسى الهكاري شيعة له و استمالهم إليه إلا الباروقي فإنه امتنع و عاد إلى نور الدين بالشام و ثبت قدم صلاح الدين في مصر و كان نائبا عن نور الدين و نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسار و يجمعه في الخطاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية و ما زال صلاح الدين يحسن المباشرة و يستميل الناس و يفيض العطاء حتى غلب على أفئدة الناس و ضعف أمر العاضد ثم أرسل يطلب أخوته و أهله من نور الدين فبعث بهم إليه من الشام و استقامت أموره و أطردت سعادته و الله تعالى ولي التوفيق (5/331)
واقعة السودان بمصر
كان بقصر العاضد خصى حاكم على أهل القصر يدعي مؤتمن الخلافة فلما غص أهل الدولة بوزارة صلاح الدين داخل جماعة منهم و كاتب الإفرنج يستدعيهم ليبرز صلاح الدين لمدافعتهم فيثوروا بمخلفه ثم يتبعونه و قد ناشب الإفرنج فيأتون عليه و بعثوا الكتاب مع ذي طمرين حمله في نعاله فاعترضه بعض التركمان و استلبه و رأوا النعال جديدة فاسترابوا بها فجاؤا به إلى صلاح الدين فقرأ الكتاب و دخل على كاتبه فأخبره بحقيقة الأمر فطوي ذلك و انتظر مؤتمن الخلافة حتى خرج إلى بعض قراه متنزها و بعث من جاء برأسه و منع الخصيين بالقصر عن ولاية أموره و قدم عليهم بهاء الدين قراقوش خصيا أبيض من خدمه و جعل إليه جميع الأمور بالقصر و امتعض السودان بمصر لمؤتمن الخلافة و اجتمعوا لحرب صلاح الدين و بلغوا خمسة آلاف و ناجزوا عسكره من القصر في ذي القعدة من السنة و بعث إلى محلتهم بالمنصورة من أحرقها على أهليهم و أولادهم فلما سمعوا بذلك انهزموا و أخذهم السيف إلى محلتهم بالمنصورة من أحرقها على أهليهم وأولادهم فلما سمعوا بذلك انهزموا و أخذهم السيف في السكك فاستأمنوا و عبروا إلى الجيزة فسار إليهم شمس الدولة أخو صلاح الدين في طائفة من العسكر فاستلحمهم و أبادهم و الله أعلم (5/332)
منازلة الإفرنج دمياط و فتح ايلة
و لما استولى صلاح الدين على دولة مصر و قد كان الإفرنج أسفوا على ما فاتهم من صده و صد عمه عن مصر و تواقعوا الهلاك من استطالة نور الدين عليهم بملك مصر فبعثوا الرهبان و الأقسة إلى بلاد القرانية يدعونهم إلى المدافعة عن بيت المقدس و كاتبوا الإفرنج بصقلية و الأندلس يستنجدونهم فنفروا و استعدوا لإمدادهم و اجتمع الذين بسواحل الشام في فاتح خمس و ستين و ثلثمائة و ركبوا في ألف من الأساطيل و أرسلوا لدمياط ليملكوها و يقربوا من مصر و كان صلاح الدين قد ولاها شمس الخواص منكبرس فبعث إليه بالخبر فجهز إليها بهاء الدين قراقوش و أمراء الغز في البر متتابعين و واصل المراكب بالأسلحة و الإتاوات و خاطب نور الدين يستمده لدمياط لأنه لا يقدر على المسير إليها خشية من أهل الدولة بمصر فبعث نور الدين إليها العساكر أرسالا ثم سار بنفسه و خالف الإفرنج إلى بلادهم بسواحل الشام فاستباحها و خربها و بلغهم الخبر بذلك على دمياط و قد امتنعت عليهم و وقع فيهم الموتان فأقلعوا عنها لخمسين يوما من حصارها و رجع أهل سواحل الشام لبلادهم فوجدوها خرابا و كان جملة ما بعثه نور الدين في المدد لصلاح الدين في شأن دمياط هذه ألف ألف دينار سوى الثياب و الأسلحة و غيرها ثم أرسل صلاح الدين إلى نور الدين في منتصف السنة يستدعي منه أباه نجم الدين أيوب فجهزه إليه مع عسكر و اجتمع معهم من التجار جماعة و خشي عليهم نور الدين في طريقهم من الإفرنج الذين بالكرك فسار إلى الكرك و حاصرهم بها و جمع الإفرنج الآخرون فصمد للقائهم فخافوا عنه و سار في وسط بلادهم و سار إلى عشيرا و وصل نجم الدين أيوب إلى مصر و ركب العاضد لتلقيه ثم سار صلاح الدين سنة ست و ستين لغزو بلاد الإفرنج و أغار على أعمال عسقلان و الرملة و نهب ربط غزة و لقي ملك الإفرنج فهزمه و عاد إلى مصر ثم أسأ مراكب و حملها مفصلة عل الجمال إلى أيلة فألفها و ألقاها في البحر و حاصر أيلة برا و بحرا و فتحها عنوة في شهر ربيع من السنة و استباحها و عاد إلى مصر فعزل قضاة الشيعة و أقام قاضيا شافعيا فيها و ولى في جميع البلاد كذلك ثم بعث أخاه شمس الدين الدولة توزان شاه إلى الصعيد فأغار على العرب و كانوا قد عاثوا و أفسدوا فكفهم عن ذلك و الله تعالى أعلم (5/332)
إقامة الخطبة العباسية بمصر
ثم كتب نور الدين بإقامة الخطبة للمستضيء العباسي و ترك الخطبة للعاضد بمصر فاعتذر عن ذلك بميل أهل مصر للعلويين و في باطن الأمر خشي من نور الدين فلم يقبل نور الدين عذره في ذلك و لم تسعه مخالفته و أحجم عن القيام بذلك و ورد على صلاح الدين شخص من علماء الأعاجم يعرف بالخبشاني و يلقب بالأمير العالم فلما رآهم محجمين عن ذلك صعد المنبر يوم الجمعة قبل الخطيب و دعى للمستضيء فلما كانت الجمعة القابلة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر و القاهرة بقطع خطبة العاضد و الخطبة للمستضيء فتراسلوا بذلك ثاني جمعة من المحرم سنة سبع و ستين و خمسمائة و كان المستضيء قد ولي الخلافة بعد أبيه المستنجد في ربيع من السنة قبلها و لما خطب له بمصر كان العاضد مريضا فلم يشعروه بذلك و توفي يوم عاشوراء من السنة و لما خطب له على منابر مصر جلس صلاح الدين للغزاء و استولى على قصره و وكل به بهاء الدين قراقوش و كان فيه من الذخائر ما يعز وجوده مثل حبل الياقوت الذي وزن كل حصاة منه سبعة عشر مثقالا و مصاف الزمرد الذي طوله أربعة أصابع طولا في عرض و مثل طبل القولنج الذي يضربه فيعافى بذلك من داء القولنج و كسروه لما وجدوا ذلك منه فلما ذكرت لهم منفعته ندموا عليه و وجدوا من الكتب النفسية ما لا يعد و نقل أهل العاضد إلى بعض حجر القصر و وكل بهم و إخراج الأماء و العبيد و قسمهم بين البيع و الهبة و العتق و كان العاضد لما اشتد مرضه استدعاه فلم يجب داعيه و ظنها خديعة فلما توفي ندم و كان يصفه بالكرم و لين الجانب و غلبة الخير على طبعه و الإنقياد و لما وصل الخبر إلى بغداد بالخطبة للمستضيء ضربت البشائر و زينت بغداد أياما و بعثت الخلع لنور الدين و صلاح الدين مع صندل الخادم من خواص المقتفي فوصل إلى نور الدين و بعث بخلعة صلاح الدين و خلع الخطباء بمصر و الاعلام السود و الله تعالى أعلم (5/333)
الوحشة بين صلاح الدين و نور الدين
قد كان تقدم لنا ذكر هذه الوحشة في أخبار نور الدين مستوفاة و أن صلاح الدين غزا بلاد الإفرنج سنة سبع و ستين و حاصر حصن الشوبك على مرحلة من الكرك حتى استأمنوا إليه فبلغ ذلك نور الدين فاعتزم على قصد بلاد الإفرنج من ناحية أخرى فارتاب صلاح الدين في أمره و في لقاء نور الدين و إظهار طاعته و ما ينشأ عن ذلك من تحكمه فيه فأسرع العود إلى مصر و اعتذر لنور الدين بشيء بلغه عن شيعة العلويين ليعتزله نور الدين و أخذ في الإستعداد لعزله و بلغ ذلك صلاح الدين و أصحابه فتفاوضوا في مدافعته و نهاهم أبوه نجم الدين أيوب و أشار بمكاتبته و التلطف له مخافة أن يبلغه غير ذلك فيقوي عزمه على العمل به ففعل ذلك صلاح الدين فسالمه نور الدين و عادت المخالطة بينهما كما كانت و اتفقا على اجتماعهما لحصار الكرك فسار صلاح الدين لذلك سنة ثمان و ستين و خرج نور الدين من دمشق بعد أن تجهز فلما انتهى إلى الرقيم على مرحلتين من الكرك و بلغ صلاح الدين خبره ارتابه ثانيا و جاءه الخبر بمرض نجم الدين أبيه بمصر فكر راجعا و أرسل إلى نور الدين الفقيه عيسى الهكاري بما وقع من حديث المرض بأبيه و أنه رجع من أجله فأظهر نور الدين القبول و عاد إلى دمشق و الله تعالى أعلم (5/334)
وفاة نجم الدين أيوب
كان نجم الدين أيوب بعد إنصراف ابنه صلاح الدين إلى مصر أقام بدمشق عند نور الدين ثم بعث عنه ابنه صلاح الدين عندما استوثق له ملك مصر فجهزه نور الدين سنة خمس و ستين في عسكره و سار لحصار الكرك ليشغل الإفرنج عن اعتراضه كما مر ذكره و وصل إلى مصر و خرج العاضد لتلقيه و أقام مكرما ثم سار صلاح الدين إلى الكرك سنة ثمان و ستين المرة الثانية في مواعدة نور الدين و أقام نجم الدين بمصر و ركب يوما في مركب و سار ظاهر البلد و الفرس في غلواء مراحه و ملاعبة ظله فسقط عنه و حمل و قيذا إلى بيته فهلك لأيام منها آخر ذي الحجة من السنة و كان خبرا جواد محسنا للعلماء و الفقراء و قد تقدم ذكر أوليته و الله ولي التوفيق (5/334)
استيلاء قراقوش على طرابلس الغرب
كان قراقوش من موالي تقي الدين عمر بن شاه نجم الدين أيوب و هو ابن أخي صلاح الدين فغضب مولاه في بعض النزعات و ذهب مغاضبا إلى المغرب و لحق بجبل نفوسه من ضواحي طرابلس الغرب و أقام هنالك دعوة مواليه و كان في بسائط تلك الجبال مسعود بن زمام المعروف بالبلط في أحيائه من رياح من عرب هلال بن عامر كان منحرفا عن طاعة عبد المؤمن شيخ الموحدين و خليفة المهدي فيهم فانتبذ مسعود بقومه عن المغرب و أفريقية إلى تلك القاصية فدعاه قراقوش إلى إظهار دعوة مواليه بني أيوب فأجابه و نزل معه بأحيائه على طرابلس فحاصرها قراقوش و افتتحها و نزل بأهله و عياله في قصرها ثم استولى على قابس من ورائها و على توزر و نفطة و بلاد نفراوة من أفريقية و جمع أموالا جمة و جعل ذخيرته بمدينة قابس و خربت تلك البلاد أثناء ذلك باستيلاء العرب عليها و لم يكن لهم قدرة على منعهم ثم طمع في الاستيلاء على جميع أفريقية و وصل يده بيحي بن غانية اللمتوني الثائر بتلك الناحية بدعوة لمتونة من بقية الأمراء في دولتهم فكانت لهما بتلك الناحية آثار مذكورة في أخبار دولة الموحدين إلى أن غلبه ابن غانية على ما ملك من تلك البلاد و قتله كما هو مذكور في أخبارهم و الله أعلم (5/335)
استيلاء نور الدين توران شاه بن أيوب على بلاد النوبة ثم على بلاد اليمن
كان صلاح الدين و قومه على كثرة ارتيابهم من نور الدين و ظنهم به الظنون يحاولون ملك القاصية عن مصر ليمتنعوا بها أن طرقهم منه حادث أو عزم على المسير إليهم في مصر فصرفوا عزمهم في ذلك إلى بلاد النوبة أو بلاد اليمن و تجهز شمس الدولة توران شاه بن أيوب و هو أخو صلاح الدين الأكبر إلى ملك النوبة و سار إليها في العساكر سنة ثمان و ستين و حاصر قلعة من ثغورهم ففتحها و اختبرها فلم يجد فيها خرجا و لا في البلاد بأسرها جباية و أقواتهم الذرة و هم في شظف من العيش و معاناة للفتن فاقتصر على ما فتحه من ثغورهم و عاد في غنيته بالعبدى و الجواري فلما وصل إلى مصر أقام بها قليلا و بعثه صلاح الدين إلى اليمن و قد كان غلب عليه علي بن مهدي الخارجي سنة أربع و خمسين و صار أمره إلى ابنه عبد النبي و كرسي ملكه زبيد منها و في عدد ياسر بن بلال بقية ملوك بني الربيع و كان عمارة اليمنى شاعر العبيدي و صاحب بني رزيك من أمرائهم و كان أصله من اليمن و كان في خدمة شمس الدولة و يغريه به فسار إليه سنة شمس الدولة بعد أن تجهز و أزاح العلل و استعد للمال و العيال و سار من مصر منتصف سنة تسع و ستين و مر بمكة و انتهى إلى زبيد و بها ملك اليمن عبد النبي بن علي بن مهدي فبرز إليه و قاتله فانهزم و انحجر بالبلد و زحفت عساكر شمس الدولة فتسنموا أسوارها و ملكوها عنوة و استباحوها و أسروا عبد النبي و زوجته و ولى شمس الدولة على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزركان في جملته و دفع إليه عبد النبي ليستخلص منه الأموال فاستخرج من قرابته دفائن كانت فيها أموال جليلة و دلتهم زوجته الحرة على ودائع استولوا منها على أموال جمة و أقيمت الخطبة العباسية في زبيد و سار شمس الدولة توران شاه إلى عدن و بها ياسر بن بلال كان أبوه بلال بن جرير مستبدا بها على مواليه بني الزريع و ورثها عنه ابنه ياسر فسار ياسر للقائه فهزمه شمس الدولة و سارت عساكره إلى البلد فملكوها و جاؤا بياسر أسيرا إلى شمس الدولة فدخل عدن و عبد النبي معه في الإعتقال و استولى على نواحيها و عاد إلى زبيد ثم سار إلى حصون الجبال فملك تعز و هي من أحصن القلاع و حصن التعكر و الجند و غيرها من المعاقل و الحصون و ولى على عدن عز الدولة عثمان بن الزنجبيلي و اتخذ زبيد سببا لملكه ثم استوخمها و سار في الجبال و معه الأطباء يتخير مكانا صحيح الهواء للسكنى فوقع إختيارهم على تعز فاختط هناك مدينة و اتخذها كرسيا لملكه و بقيت لبنيه و مواليهم بني رسول كما نذكره في أخبارهم و الله تعالى ولي التوفيق (5/335)
واقعة عمارة و مقتله
كان جماعة من شيعة العلويين بمصر منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر و عبد الصمد الكاتب و القاضي العويدس و ابن كامل و داعي الدعاة و جماعة من الجند و حاشية القصر اتفقوا على استدعاء الإفرنج من صقلية و سواحل الشام و بذلوا لهم الأموال على أن يقصدوا مصرفان خرج صلاح الدين للقائهم بالعساكر ثار هؤلاء بالقاهرة و أعادوا الدولة العبيدية و إلا فلا بد له إن أقام من بعث عساكره لمدافعة الإفرنج فينفردون به و يقبضون عليه و واطأهم على ذلك جماعة من أمراء صلاح الدين و تحينوا لذلك غيبة أخيه توران شاه باليمن و ثقوا بأنفسهم و صدقوا توهماتهم و رتبوا وظائف الدولة و خططها و تنازع في الوزارة بنو رزيك و بنو شاور و كان على بن نجي الواعظ ممن داخلهم في ذلك فأطلع صلاح الدين هو في الباطن إليهم و نمى الخبر إلى صلاح الدين من عيونه ببلاد الإفرنج فوضع على رسول الله عنده عيونا جاؤه بحلية خبره فقبض حينئذ عليهم و قل إن علي بن نجي أنمى خبرهم إلى القاضي فأوصله إلى صلاح الدين و لما قبض عليهم صلاح الدين أمر بصلبهم و مر عمارة ببيت القاضي و طلب لقاءه فلم يسعفه و أنشد البيت المشهور
( عبد الرحيم قد احتجب ... أن الخلاص هو العجب )
ثم صلبوا جميعا و نودي في شيعة العلويين بالخروج من ديار مصر إلى الصعيد و احتيط على سلالة العاضد بالقصر و جاء الافرنج على ذلك من صقلية إلى الإسكندرية كما يأتي خبره إن شاء الله تعالى و الله أعلم (5/336)
وصول الإفرنج من صقلية إلى الإسكندرية
لما وصلت رسل هؤلاء الشيعة إلى الإفرنج بصقلية تجهزوا و بعثوا مراكبهم مائتي أسطول للمقاتلة فيها خمسون ألف رجل و ألفان و خمسمائة فارس و ثلاثون مركبا للخيول و ستة مراكب لآلة الحرب و أربعون للازواد و تقدم عليهم ابن عم الملك صاحب صقلية و وصلوا إلى ساحل الإسكندرية سنة سبعين و ركب أهل البلد الأسوار و قاتلهم الإفرنج و نصبوا الآلات عليها و طار الخبر إلى صلاح الدين بمصر و وصلت الأمراء إلى الإسكندرية من كل جانب من نواحيها و خرجوا في اليوم الثالث فقاتلوا الإفرنج فظفروا عليهم ثم جاءهم البشير آخر النهار بمجيء صلاح الدين فاهتاجوا للحرب و خرجوا عند اختلاط الظلام فكبسوا الإفرنج في خيامهم بالسواحل و تبادروا إلى ركوب البحر فتقسموا بين القتل و الغرق و لم ينج إلا القليل و اعتصم منهم نحو من ثلثمائة برأس رابية هنالك إلى أن أصبحوا فقتل بعضهم و أسر الباقون و أقلعوا بأساطيلهم راجعين و الله تعالى أعلم (5/337)
واقعة كنز الدولة بالصعيد
كان أمير العرب بنواحي اسوان يلقب كنز الدولة و كان شيعة للعلوية بمصر و طالت أيامه و اشتهر و لما ملك صلاح الدين قسم الصعيد اقطاعا بين أمرائه و كان أخو أبي الهيجاء السمين من أمرائه و اقطاعه في نواحيهم فعصي كنز الدولة سنة سبعين و اجتمع إليه العرب و السودان و هجم على أخي أبي الهيجاء السمين في اقطاعه فقتله و كان أبو الهيجاء من أكبر الأمراء فبعثه صلاح الدين لقتال الكنز و بعث معه جماعة من الأمراء و التف له الجند فساروا إلى اسوان و مروا بصدد فحاصروا بها جماعة و ظفروا بهم فاستلحموهم ثم ساروا إلى الكنز فقاتلوه و هزموه و قتل و استلحم جميع أصحابه و أمنت بلاد اسوان و الصعيد و الله تعالى ولى التوفيق (5/338)
استيلاء صلاح الدين على قواعد الشام بعد وفاة العادل نور الدين
كان صلاح الدين كما قدمناه قائما في مصر بطاعة العادل نور الدين محمود بن زنكي و لما توفي سنة تسع و ستين و نصب ابنه الصالح اسمعيل في كفالة شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم و بعث إليه صلاح الدين بطاعته و نقم عليهم أنهم لم يردوا الأمر إليه و سار غازي صاحب الموصل بن قطب الدين مودود بن زنكي إلى بلاد نور الدين التي بالجزيرة و هي نصيبين و الخابور و حران و الرها و الرقة فملكها و نقم عليه صلاح الدين أنهم لم يخبروه حتى يدافعه عن بلادهم و كان الخادم سعد الدين كمستكين الذي ولاه نور الدين قلعة الموصل و أمر سيف الدين غازي بمطالعته بأموره قد لحق عند وفاة نور الدين بحلب و أقام بها عند شمس الدين علي ابن الداية المستبد بها بعد نور الدين فبعثه ابن الداية إلى دمشق في عسكر ليجيء بالملك الصالح إلى حلب لمدافعة سيف الدين غازي فنكروه أولا و طردوه ثم رجعوا إلى هذا الرأي و بعثوا عنه فسار مع الملك الصالح إلى حلب و لحين دخوله قبض على ابن الداية و على مقدمي حلب و استبد بكفالة الصالح و خاف الأمراء بدمشق و بعثوا إلى سيف الدين غازي ليملكوه فظنها مكيدة من ابن عمه و امتنع عليهم و صالح ابن عمه على ما أخذ من البلاد فبعث أمراء دمشق إلى صلاح الدين و تولى كبر ذلك ابن المقدم فبادر إلى الشام و ملك بصرى ثم سار إلى دمشق فدخلها في منسلخ ربيع سنة سبعين و خمسمائة و نزل دار أبيه المعروفة بالعفيفي و بعث القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري إلى ريحان الخادم بالقلعة أنه على طاعة الملك الصالح و في خدمته و ما جاء إلا لنصرته فسلم إليه القلعة و ملكها و استخلف على دمشق أخاه سيف الإسلام طغركين و سار إلى حمص و بها وال من قبل الأمير مسعود الزعفراني و كانت من أعماله فقاتلها و ملكها و جمر عسكرا لقتال قلعتها و سار إلى حماة مظهرا لطاعة الملك لصالح و ارتجاع ما أخذ من بلاده بالجزيرة و بعث بذلك إلى صاحب قلعتها خرديك و استخلفه و سار إلى الملك الصالح ليجمع الكلمة و يطلق أولاد الداية و استخلف على قلعة حماة أخاه و لما وصل إلى حلب حبسه كمستكين الخادم و وصل الخبر إلى أخيه بقلعة حماة فسلمها لصلاح الدين و سار إلى حلب فحاصرها ثالث جمادي الاخيرة و استمات أهلها في المدافعة عن الصالح و كان بحلب سمند صابح طرابلس من الإفرنج محبوسا منذ أسره نور الدين على حارم سنة تسع و خمسين فأطلقه كمستكين على مال و أسرى ببلده و توفي نور الدين أول السنة و خلف ابنا مجذوما فكفله سمند و استولى على ملكهم فلما حاصر صلاح الدين حلب بعث كمستكين إلى سمند يستنجده فسار إلى حمص و نزلها فسار إليه صلاح الدين و ترك حلب و سمع الإفرنج بمسيره فرحلوا عن حمص و وصل هو إليها عاشر رجب فحاصر قلعتها و ملكها آخر شعبان من السنة ثم سار إلى بعلبك و بها يمن الخادم من أيام نور الدين فحاصره حتى استأمن إليه و ملكها رابع رمضان من السنة و صار بيده من الشام دمشق و حماة و بعلبك و لما استولى صلاح الدين على هذه البلاد من أعمال الملك الصالح كتب الصالح إلى ابن عمه سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده على صلاح الدين فأنجده بعساكره مع أخيه عز الدين مسعود و صاحب جيشه عز الدين زلقندار و سارت معهم عساكر حلب و ساروا جميعا لمحاربة صلاح الدين و بعث صلاح الدين إلى سيف الدين غازي أن يسلم لهم حمص و حماة و يبقي بدمشق نائبا عن الصالح فأبي إلا رد جميعها فسار صلاح الدين إلى العساكر و لقيهم آخر رمضان بنواحي فهزمهم و اتبعهم إلى حلب و حاصرها و قطع خطبة الصالح ثم صالحوه على ما بيده من الشام فأجابهم و رحل عن حلب لعشرين من شوال و عاد إلى حماة و كان فخر الدين مسعود بن الزعفراني من الأمراء النورية و كانت ماردين من أعماله مع حمص و حماة و سلمية و تل خالد و الرها فلما ملك أقطاعه هذه اتصل به فلم ير نفسه عنده كما ظن ففارقه فلما عاد صلاح الدين من حصار حلب إلى حماة سار إلى بعلبك و استأمن إليه وإليها فملكها و عاد إلى حماة فأقطعها خالد شهاب الدين محمود و أقطع حمص ناصر الدولة بن شيركوه و أقطع بعلبك شمس الدين ابن المقدم و دمشق إلى عماد و الله تعالى ولى التوفيق بمنه و كرمه (5/338)
واقعة صلاح الدين مع الملك الصالح و صاحب الموصل و ما ملك من الشام بعد انهزامهما
ثم سار سيف الدين غازي صاحب الموصل في سنة إحدى و سبعين بعد انهزام أخيه و عساكره و استقدم صاحب كيفا و صاحب ماردين و سار في ستة آلاف فارس و انتهى إلى نصيبين في ربيع من السنة فشتى بها حتى ضجرت العساكر من طول المقام و سار إلى حلب فخرجت إليه عساكر الملك الصالح مع كمستكين الخادم و سار صلاح الدين من دمشق للقائهم فلقيهم قبل السلطان فهزمهم و اتبعهم إلى حلب و عبر سيف الدين الفرات منهزما إلى الموصل و ترك أخاه عز الدين بحلب و استولى صلاح على مخلفهم و سار إلى مراغة فملكها و ولى عليها ثم إلى منبج و بها قطب الدين نيال بن حسان المنجي و كان حنقا عليه لقبح آثاره في عداوته فلحق بالموصل و ولاه غازي مدينة الرقة ثم سار صلاح الدين إلى قلعة إعزاز فحاصرها أوائل ذي القعدة من السنة أربعين يوما و شد حصارها فاستأمنوا إليه فملكها ثاني الاضحى من السنة وثب عليه في بعض أيام حصارها باطني من الفداوية فضربه و كان مسلحا فأمسك يد الفداوي حتى قتل و قتل جماعة كانوا معه لذلك و رحل صلاح الدين بعد الاستيلاء على قلعة إعزاز إلى حلب فحاصرها و بها الملك الصالح و اعصوصب عليه أهل البلد و استماتوا في المدافعة عنه ثم ترددت الرسل في الصلح بينهما و بين صاح الموصل و كيفا و صاحب ماردين فانعقد بينهم في محرم سنة اثنتين و تسعين و عاد صلاح الدين إلى دمشق بعد أن رد قلعة إعزاز إلى الملك الصالح بوسيلة أخته الصغيرة خرجت إلى صلاح الدين ثائرة فاستوهبته قلعة إعزاز فوهبها لها و الله تعالى أعلم (5/340)
مسير صلاح الدين إلى بلاد الإسماعيلية
و لما رحل صلاح الدين عن حلب و قد وقع من الإسماعيلية على حصن إعزاز ما وقع قصد بلادهم في محرم سنة اثنتين و تسعين و نهبها و خربها و حاصر قلعة باميان و نصب عليها المجانيق و بعث سنان مقدم الإسماعيلية الشام إلى شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين بحماة يسأله الشفاعة فيهم و يتوعده بالقتل فشفع فيهم و أرحل العساكر عنهم و قدم عليه أخوه توران شاه من اليمن بعد فتحه و إظهار دعوتهم فيه و ولى على مدنه و امصاره فاستخلفه صلاح الدين على دمشق و سار إلى مصر لطول عهده بها أبو الحسن بن سنان بن سقمان بن محمد و لما وصل إليها أمر بادارة سور على مصر القاهرة و القلعة التي بالجبل دوره تسعة و عشرون ألف ذراع ثلثمائة ذراع بالهاشمي و اتصل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين و كان متولي النظر فيه مولاه قراقوش و الله تعالى ولي التوفيق بمنه (5/340)
غزوات بين المسلمين و الإفرنج
كان شمس الدين محمد ابن المقدم صاحب بعلبك و أغار جمع من الإفرنج على البقاع من أعمال حلب فسار إليهم و أكمن لهم في الغياض حتى نال منهم و فتك فيهم و بعث إلى صلاح الدين بمائتي أسير منهم و قارن ذلك وصول شمس الدولة توران شاه بن أيوب من اليمن فبلغه أن جمعا من الإفرنج أغاروا على أعمال دمشق فسار إليهم و لقيهم بالمروج فلم يثبت و هزموه و أسر سيف الدين أبو بكر بن السلار من أعيان الجند بدمشق و تجاسر الإفرنج على تلك الولاية ثم اعتزم صلاح الدين على غزو بلاد الإفرنج فبعثوا في الهدنة و أجابهم إليها و عقد لهم و الله تعالى ولى التوفيق (5/341)
هزيمة صلاح الدين بالرملة أمام الإفرنج
ثم سار صلاح من مصر في جمادى الأولى سنة ثلاث و سبعين إلى ساحل الشام لغزو بلاد الإفرنج و انتهى إلى عسقلان فاكتسح أعمالها و لم يروا للإفرنج خبرا فانساحوا في البلاد و انقلبوا إلى الرملة فما راعهم إلا الإفرنج مقبلين في جموعهم و ابطالهم و قد افترق أصحاب صلاح الدين في السرايا فثبت في موقفه و اشتد القتال و أبلى يومئذ محمد ابن أخيه في المدافعة عنه و قتل من أصحابه جماعة و كان لتقي الدين بن شاه ابن اسمه أحمد متكامل الخلال لم يطر شاربه فابلى يومئذ و استشهد و تمت الهزيمة على المسلمين و كان بعض الإفرنج تخلصوا إلى صلاح الدين فقتل بين يديه و عاد منهزما و اسر الفقيه عيسى الهكاري بعد أن أبلى يومئذ بلاء شديدا و سار صلاح الدين حتى غشيه الليل ثم دخل البرية في فل قليل إلى مصر و لحقهم الجهد و العطش و دخل إلى القاهرة منتصف جمادي الاخيرة قال ابن الاثير و رأيت كتابه إلى أخيه توران شاه بدمشق يذكر الواقعة
( ذكرتك و الخطي يخطر بيننا ... و قد فتكت فينا المثقفة السمر )
و من فصوله لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة و ما نجانا الله سبحانه منه إلا لأمر يريده و ما ثبتت إلا و في نفسها أمر انتهى و أما السرايا التي دخلت بلاد الإفرنج فتقسمهم القتل و الاسر و أما الفقيه عيسى الهكاري فلما ولى منهزما و معه أخوه الظهير ضل عن الطريق و معهما جماعة من أصحابهما فأسروا و فداه صلاح الدين بعد ذلك بستين ألف دينار و الله تعالى أعلم (5/341)
حصار الإفرنج مدينة حماة
ثم وصل في جمادي الأولى إلى ساحل الشام زعيم من طواغيت الإفرنج و قارن وصوله هزيمة صلاح الدين و عاد إلى دمشق يومئذ توران شاه بن أيوب في قلة من العسكر و هو مع ذلك منهمك في لذاته فسار ذلك الزعيم بعد أن جمع فرنج الشام و بذل لهم العطاء فحاصر مدينة منهمك في لذاته فسار ذلك الزعيم بعد أن جمع فرنج الشام و بذل لهم العطاء فحاصر مدينة حماة و بها شهاب الدين محمود الحارمي خال صلاح الدين مريضا و شد حصارها و قتالها حتى أشرف على أخذها و هجموا يوما على البلد و ملكوا ناحية منه فدافعهم المسلمون و أخرجوهم و منعوا حماة منهم فأفرجوا عنها بعد أربعة أيام و ساروا إلى حارم فحاصروها و لما رحلوا عن حماة مات شهاب الدين الحارمي و لم يزل الافرنج على حارم يحاصرونها و أطعمهم فيها ما كان من نكبة الصالح صاحب حلب لكمستكين الخادم كافل دولته ثم صانعهم بالمال فرحلوا عنها ثم عاد الإفرنج إلى مدينة حماة في ربيع سنة أربع و سبعين فعاثوا في نواحيها و اكتسحوا أعمالها و خرج العسكر حامية البلد إليهم فهزموهم و استردوا ما أخذوا من السواد و بعثوا بالرؤس و الاسرى إلى صلاح الدين و هو بظاهر حمص منقلبا من الشام فأمر بقتل الاسرى و الله تعالى ولي التوفيق (5/342)
انتقاض ابن المقدم ببعلبك و فتحها
كان صلاح الدين لما ملك بعلبك استخلف فيها شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم جزاء بما فعله في تسليم دمشق و كان شمس الدولة محمد أخو صلاح الدين ناشئا في ظل أخيه و كفالته فكان يميل إليه و طلب منه أقطاع بعلبك فأمر ابن المقدم بتمكينه منها فأبى و ذكره عهده في أمر دمشق فسار ابن المقدم إلى بعلبك و امتنع فيها و نازلته العساكر فامتنع و طاولوه حتى بعث إلى صلاح الدين يطلب العوض فعوضه عنها و سار أخوه شمس الدين إليها فملكها و الله تعالى ولى التوفيق (5/342)
وقائع مع الإفرنج
و في سنة أربع و سبعين سار ملك الإفرنج في عسكر عظيم فأغار على أعمال دمشق و اكتسحها و أثخن فيها قتلا وسبيا و أرسل صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه في العسكر لمدافعته فسار يطلبهم و لقيهم على غير استعداد فقاتل أشد القتال و نصر الله المسلمين و قتل جماعة من زعماء الإفرنج منهم هنغري و كان يضرب به المثل ثم أغار البرنس صاحب إنطاكية و اللاذقية على صرح المسلمين بشيرز و كان صلاح الدين على بانياس لتخريب حصن الافرنج بمخاضة الاضرار فبعث تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه و ناصر الدين محمد إلى حمص لحماية البلد من العدو كما نذكره إن شاء الله تعالى (5/343)
تخريب حصن الافرنج
كان الإفرنج قد اتخذوا حصنا منيعا بقرب بانياس عند بيت يعقوب عليه السلام و يسمي مكانه مخاضة الضرار فسار صلاح الدين من دمشق إلى بانياس سنة خمس و سبعين و أقام بها و بعث فيها الغارات على بلادهم ثم سار إلى الحصن فحاصره ليختبره وعاد عنه إلى اجتماع العساكر و بث السرايا في بلاد الإفرنج للغارة و جاء ملك الإفرنج للغارة على سريته و معه جماعة من عساكره فبعثوا إلى صلاح الدين بالخبر فوافاهم و هم يقتتلون فهزم الإفرنج و أثخن فيهم و نجا ملكهم في فل و أسر صاحب الرملة و نابلس منهم و كان رديف ملكهم و أسر أخوه صاحب جبيل و طبرية و مقدم الفداوية و مقدم الأستارية و غيرهم من طواغيتهم و فادى صاحب الرملة نفسه و هو ارتيرزان بمائة و خمسين ألف دينار صورية و ألف أسير من المسلمين و أبلى في هذا اليوم عز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين بلاء حسنا ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس و بث السرايا في بلاد الافرنج و سار لحصار الحصن فقاتله قتالا شديدا و تسنم المسلمون سوره حتى ملكوا برجا منه و كان مدد الإفرنج بطبرية و المسلمون يرتقبون وصولهم فأصبحوا من الغد و نقبوا السور و أضرموا فيه النار فسقط و ملك المسلمون الحصن عنة آخر ربيع سنة خمس و سبعين و أسروا كل من فيه و أمر صلاح الدين بهدم الحصن فالحق بالأرض و بلغ الخبر إلى الإفرنج و هم مجتمعون بطبرية لإمداده فافترقوا و انهزم الإفرنج و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/467)
الفتنة بين صلاح الدين و قليج ارسلان صاحب الروم
كان صاحب رعبان من شمالي حلب قد ملكه نور الدين العادل بن قليج ارسلان صاحب بلاد الروم و هو بيد شمس الدين ابن المقدم فلما انقطع حصن رعبان عن ايالة صلاح الدين وراء حلب طمع قليج أرسلان في استرجاعه فبعث إليه عسكرا يحاصرونه و بعث صلاح الدين تقي الدين ابن أخيه في عسكر لمدافعتهم فلقيهم و هزمهم و عاد إلى عمه صلاح الدين و لم يحضر معه تخريب حصن الإضرار و كان نور الدين محمود بن قليج أرسلان بن داود صاحب حصن كيفا و آمد و غيرهما من ديار بكر قد فسد ما بينه و بين قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بسبب اضراره ببنته و زواجه عليها و اعتزم قليج أرسلان على حربه و أخذ بلاده فاستنجد نور الدين بصلاح الدين و بعث إلى قليج أرسلان يشفع في شأنه فطلب استرجاع حصونه التي أعطاها لنور الدين عند المصاهرة و لج في ذلك صلاح الدين على قليج و سار إلى رعبان و مر بحلب فتركها ذات الشمال و سلك على تل باشر و لما انتهى إلى رعبان جاءه نور الدين محمود و أقام عنده و راسل إليه قليج ارسلان يصف فعل نور الدين و اضراره ببنته فلما أدى الرسول رسالته امتعض صلاح الدين و توعدهم بالمسير إلى بلده فتركه الرسول حتى سكن و غدا عليه فطلب الخلوة و تلطف له في فسخ ما هو فيه من ترك الغزو و نفقة الأموال في هذا الغرض الحقير بنت قليج ارسلان يجب على مثلك من الملوك الامتعاض لها و لا تترك المضارة من دونها فعلم صلاح الدين الحق فيما قاله و قال للرسول إن نور الدين استند إلى فعلك فاصلح الأمر بينهما و أنا معين على ما تحبونه جميعا ففعل الرسول ذلك و أصلح بينهما و عاد صلاح الدين إلى الشام و نور الدين محمود إلى ديار بكر و طلق ضرة بنت قليج أرسلان للأجل الذي أجله للرسول و الله تعالى أعلم (5/344)
مسير صلاح الدين إلى بلاد ابن اليون
كان قليج بن اليون من ملوك الارض صاحب الدروب المجاورة لحلب و كان نور الدين محمود قد استخدمه و أقطع له في الشام و كان يعسكر معه و كان يعسكر معه و كان جرئيا على صاحب القسطنطينية و ملك وادقة و المصيصة و طرسوس من يد الروم و كانت بينهما من أجل ذلك حروب و لما توفي نور الدين و انتقضت دولته أقام ابن اليون في بلاده و كان التركمان يحتاجون إلى رعي مواشيهم بأرضه على حصانتها و صعوبة مضايقها و كان يأذن لهم فيدخلونها و غدر بهم في بعض السنين و استباحهم و استاق مواشيهم و بلغ الخبر إلى صلاح الدين منصرفه من رعيان فقصد بلده و نزل النهر الأسود و بث الغارات في بلادهم و اكتسحها و كان لابن اليون حصن و فيه ذخيرته فخشى عليه فقصد تخريبه و سابقه إليه صلاح الدين فغنم ما فيه و بعث إليه ابن اليون برد ما أخذ من التركمان و اطلاق أسراهم على الصلح و الرجوع عنه فأجابه إلى ذلك و عاد عنه في منتصف سنة خمس و سبعين و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/344)
غزوة صلاح الدين إلى الكرك
كان البرنس ارناط صاحب الكرك من مردة الإفرنج و شياطينهم و هو الذي اختط مدينة الكرك و قلعتها و لم تكن هنالك و اعتزم على غزو المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة و أتم السلام و سمع عز الدين فرخشاه بذلك و هو بدمشق فجمع و سار إلى الكرك سنة سبعين و اكتسح نواحيه و أقام ليشغله عن ذلك الغرض حتى انقطع أمله و عاد إلى الكرك فعاد فرخشاه إلى دمشق و الله تعالى أعلم بغيبه (5/245)
مسير سيف الإسلام طغركين بن أيوب إلى اليمن واليا عليها
قد كان تقدم لنا فتح شمس الدولة توران شاه لليمن و استيلاؤه عليه سنة ثمان و ستين و أنه ولى على زبيد مبارك بن كامل بن منقذ من أمراء شيزر و على عدن عز الدولة عثمان الزنجيلي و اختط مدينة تعز في بلاد اليمن و اتخذها كرسيا لملكه ثم عاد إلى أخيه سنة اثنتين و سبعين و أدركه منصرفا من حصار حلب فولاه على دمشق و سار إلى مصر ثم ولاه أخوه صلاح الدين بعد ذلك مدينة الاسكندرية و أقطعه إياها مضافة إلى أعمال اليمن و كانت الأموال تحمل إليه من زبيد و عدن و سائر ولايات اليمن و مع ذلك فكان عليه دين قريب من مائتي ألف دينار مصرية و توفي سنة ست و سبعن فقضاها عنه صلاح الدين و لما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر و استخلف على دمشق عز الدين فرخشاه ابن شاهنشاه و كان سيف الدين مبارك بن كامل بن منقذ الكناني نائبه بزبيد قد تغلب في ولايته و تحكم في الأموال فنزع إلى وطنه و استأذن شمس الدولة قبل موته فأذن له في المجيء و استأذن أخاه عطاف بن زبيد و أقام مع شمس الدولة حتى إذا مات بقي في خدمة صلاح الدين و كان محشدا فسعى فيه عنده أنه احتجر أموال اليمن و لم يعرض له فتحيل اعداؤه عليه و كان ينزل بالعدوية قرب مصر فصنع في بعض الأيام صنيعا دعى إليه أعيان الدولة و اختلف مواليه و خدامه إلى مصر في شراء حاجتهم فتحيلوا لصلاح الدين إنه هارب إلى اليمن فتمت حيلتهم فقبض عليه ثم ضاق عليه الحال و صابره على ثمانين ألف دينار مصرية سوى ما أعطى لأهل الدولة فأطلقه و أعاده إلى منزلته فلما بلغ شمس الدين إلى اليمن اختلف نوابه بها خطان بن منقذ و عثمان بن الزنجبيلي و خشي صلاح الدين أن تخرج اليمن عن طاعته فجهز جماعة من امرائه إلى اليمن مع صارم الدين قطلغ أبيه والي مصر من أمرائه فساروا لذلك سنة سبع و سبعين و استولى قطلغ أبيه على زبيد من حطان بن منقذ ثم مات قريبا فعاد حطان إلى زبيد و أطاعه الناس و قوي على عثمان الزنجبيلي فكتب عثمان إلى صلاح الدين أن يبعث بعض قرابته فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغركين فسار إلى اليمن و خرج حطان بن منقذ من زبيد و تحصن في بعض القلاع و نزل سيف الإسلام زبيد و بعث إلى حطان بالامان فنزل إليه و أولاه الاحسان ثم طلب اللحاق بالشام فمنعه ثم الح عليه فأذن له حتى إذا خرج و احنمل رواحله و جاء ليودعه قبض عليه و استولى على ما معه ثم حبسه في بعض القلاع فكان آخر العهد به و يقال كان فيما أخذه سبعون حملا من الذهب و لما سمع عثمان الزنجبيلي خبر حطان خشي على نفسه و حمل أمواله في البحر و لحق بالشام و بقيت مراكبه مراكب لسيف الإسلام فاستولى عليها و لم يخلص إلا بما كان معه في طريقه وصفا اليمن لسيف الإسلام و الله تعالى أعلم (5/345)
دخول قلعة البيرة في ايالة صلاح الدين و غزوه الإفرنج و فتح بعض حصونهم مثل الشقيف و الغرر و بيروت
كانت قلعة البيرة من قلاع العراق لشهاب الدين بن ارتق و هو ابن عم قطب الدين أبي الغازي بن ارتق صاحب ماردين و كان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام ثم مات و ملك البيرة بعده ابنه و مات نور الدين فصار إلى طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل ثم وقع بين صاحب ماردين و صاحب الموصل من المخالصة و الاتفاق ما وقع و طلب من عز الدين أن يأذن له في أخذ البيرة فأذن له فسار قطب الدين في عسكره إلى قلعة شميشاط و أقام بها و بعث العسكر إلى البيرة و حاصروها و بعث صاحبها يستنجد صلاح الدين و يكون له كما كان أبوه لنور الدين فشفع صلاح الدين إلى قطب الدين صاحب ماردين و لم يشفعه و شغل عنه بأمر الإفرنج و رحلت عساكر قطب الدين عنها فرجع صاحبها إلى صلاح الدين و أعطاه طاعته و عاد في ايالته ثم خرج صلاح الدين من مصر في محرم سنة ثمان و سبعين قصدا الشام و مر بايلة و جمع الإفرنج لاعتراضه فبعث أثقاله مع أخيه تاج الملوك إلى دمشق و مال على بلادهم فاكتسح نواحي الكرك و الشويك و عاد إلى دمشق منتصف صفر و كان الإفرنج لما اجتمعوا على الكرك دخلوا بلادهم من نواحي الشام فخالفهم عز الدين فرخشاه نائب دمشق إليها و اكتسح نواحيها و خرب قراها و أثخن فيهم قتلا و سبيا و فتح الشقيف من حصونهم عنوة وكان له نكاية في المسلمين فبعث إلى صلاح الدين بفتحه فسر بذلك ثم أراح صلاح الدين بدمشق أياما و سار في ربيع الأول من السنة و قصد طبرية و خيم بالاردن و اجتمعت الإفرنج على طبرية فسير صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه إلى بيسان فملكها عنوة و استباحها و أغار على الغور فأثخن فيها قتلا و سبيا و سار الإفرنج من طبرية إلى جبل كوكب و تقدم صلاح الدين إليهم بعساكره فتحصنوا بالجبل فأمر ابني أخيه تقي الدين عمر و عز الدين فرخشاه ابني شاهنشاه فقاتلوا الإفرنج قتالا شديدا ثم تحاجزوا و عاد صلاح الدين إلى دمشق ثم سار إلى بيروت فاكتسح نواحيها و كان قد استدعى الأسطول من مصر لحصارها فوافاه بها و حاصرها أيام ثم بلغه أن البحر قد قذف بدمياط مركبا للإفرنج فيه جماعة منهم جاؤا لزيارة القدس فالقتهم بدمياط و أسر منهم ألف و ستمائة أسير ثم ارتحل عن بيروت إلى الجزيرة كما نذكره أن شاء الله تعالى (5/346)
مسير صلاح الدين إلى الجزيرة و استيلاؤه علىحران و الرها و الرقة و الخابور و نصيبين و سنجار و حصار الموصل
كان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك الذي كان أبوه نائب القلعة بالموصل مستوليا في دولة مودود و بنيه و انتقل آخرا إلى اربل و مات بها و أقطعه عز الدين صاحب الموصل ابنه مظفر الدين و كان هواه مع صلاح الدين و يؤمله ملكه بلاد الجزيرة فراسله و هو محاصر لبيروت و أطمعه في البلاد و استحثه للوصول فسار صلاح الدين عن بيروت موريا بحلب و قصد الفرات و لقيه مظفر الدين و ساروا إلى البيرة و قد دخل طاعة عز الدين و كان عز الدين صاحب الموصل و مجاهد الدين لما بلغهما مسير صلاح الدين إلى الشام ظنوا أنه يريد حلب فساروا لمدافعته فلما عبر الفرات عادوا إلى الموصل و بعثوا حامية إلى الرها و كاتب صلاح الدين ملوك الأطراف بديار بكر و غيرها بالوعد و المغاربة و وعد نور الدين محمودا صاحب كيفا أنه يملكه آمد و وصل إليه فساروا إلى مدينة الرها فحاصروها و بها يومئذ الأمير فخر الدين بن مسعود الزعفراني و اشتد عليه القتال فاستأمن إلى صلاح الدين و ملكه المدينة و حاصر معه القلعة حتى سلمها النائب الذي بها على مال شرطه فأضافها صلاح الدين إلى مظفر الدين مع حران و ساروا إلى الرقة و بها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي ففارقها إلى الموصل و ملكها صلاح الدين ثم سار إلى قرقيسيا و ماسكين و عربان و هي بلاد الخابور فاستولى على جميعها و سار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها و حاصر القلعة أياما ثم ملكها و أقطعها للأمير أبي الهيجاء السمين ثم رحل عنها و نور الدين صاحب كيفا معه معتزما على قصد الموصل و جاءه الخبر بأن الإفرنج أغاروا على نواحي دمشق و اكتسحوا قراها و أرادوا تخريب جامع داريا فتوعدهم نائب دمشق بتخريب بيعهم و كنائسهم فتركوه فلم يثن ذلك من عزمه و قصد الموصل و قد جمع صاحبها العساكر و استعد للحصار و خلى نائبه في الاستعداد و بعث إلى سنجار و اربل و جزيرة ابن عمر فشحنها بالامداد من الرجال و السلاح و الأموال و أنزل صاحب الدار عساكره بقربها و تقدم هو و مظفر الدين و ابن شيركوه فهالهم استعداد صاحب البلد و أيقنوا بامتناعه و عذل صاحبيه هذين فانهما كانا أشارا بالبداءة بالموصل ثم أصبح صلاح الدين من الغد في عسكره و نزل عليه أول رجب على باب كندة و أنزل صاحب الحصن باب الجسر و أخاه تاج الملوك بالباب العمادي و قاتلهم فلم يظفر و خرج بعض الرجال فنالوا منه و نصب منجنيقا فنصبوا عليه من البلد تسعة ثم خرجوا إليه من البلد فأخذوه بعد قتال كثير و خشي صلاح الدين من البيات فتأخر لأنه رآهم في بعض الليالي يخرجون من باب الجسر يالمشاعل و يرجعون و كان صدر الدين شيخ الشيوخ و مشير الخادم قد وصلا من عند الخليفة الناصر في الصلح و ترددت الرسل بينهم فطلب عز الدين من صلاح الدين رد ما أخذه من بلادهم فأجاب على أن يمكنوه من حلب فامتنع فرجع إلى ترك مظاهرة صاحبها فامتنع أيضا ثم وصلت أيضا رسل صاحب أذربيجان و رسل شاهرين صاحب خلاط في الصلح فلم يتم و سار أهل سنجار يعترضون من يقصده من عساكره و أصحابه فأفرج عن الموصل و سار إليها و بها شرف الدين أمير أميران هند و أخو عز الدين صاحب الموصل في عسكر و بعث إليه مجاهد الدين النائب بعسكر آخر مددا و حاصرها صلاح الدين و ضيق عليها و استمال بعض أمراء الأكراد الذين بها من الزواوية فواعده من ناحيته و طرقه صلاح الدين فملكه البرج الذي في ناحيته فاستأمن أمير أميران و خرج و عسكره معه إلى الموصل و ملك صلاح الدين سنجار و ولى عليها سعد الدين بن معين الدين الذي كان أبوه كامل بن طغركين بدمشق و صارت سنجار من سائر البلاد التي ملكها من الجزيرة و سار صلاح الدين إلى نصيبين فشكا إليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله عنهم و استصحبه معه و سار إلى حران في ذي القعدة من سنة ثمان و سبعين و فرق عساكره ليستريحوا و أقام في خواصه و كبار أصحابه و الله أعلم (5/473)
مسير شاهرين صاحب خلاط الدين لنجدة صاحب الموصل
كان عز الدين قد أرسل إلى شاهرين يستنجده على صلاح الدين فبعث إليه عدة رسل شافعا في أمره فلم يشفعه و غالطه فبعث إليه مولاه آخرا سيف الدين بكتمر و هو على سنجار يسأله في الإفراج عنها فلم يجبه إلى ذلك و سوفه رجاء أن يفتحها فأبلغه بكتمر الوعيد عن مولاه و فارقه مغاضبا و لم يقبل صلته و أغراه بصلاح الدين فسار شاهرين من مخيمه بظاهر خلاط إلى ماردين و صاحبها يومئذ ابن أخته و ابن خال عز الدين و صهره على بنته و هو قطب الدين ابن نجم الدين و سار إليهم أتابك عز الدين صاحب الموصل و كان صلاح الدين في حران منصرفه من سنجار و فرق عساكره فلما سمع باجتماعهم استدعى تقي الدين ابن أخيه شاهنشاه من حماة و رحل إلى رأس عين فافترق القوم و عاد كل إلى بلده و قصد صلاح الدين ماردين فأقام عليها عدة أيام و رجع و الله تعالى ولي التوفيق بمنه و كرمه (5/349)
واقعة الإفرنج في بحر السويس
كان البرنس ارناط صاحب الكرك قد أنشأ أسطولا مفصلا و حمل أجزاءه إلى صاحب ايلة و ركبه على ما تقتضيه صناعة النشابة و قذفه في السويس و شحنه بالمقاتلة و أقلعوا في البحر ففرقة أقاموا على حصن ايلة يحاصرونه و فرقة ساروا نحو عيذاب و أغاروا على سواحل الحجاز و أخذوا ما وجدوا بها من مراكب التجار و طرق الناس منهم بلية لم يعرفونها لأنه لم يعهد ببحر السويس افرنجي محارب و لا تاجر و كان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب نائبا عن أخيه صلاح الدين فعمر اسطولا و شحنه بالمقاتلة و سار به حسام الدين لؤلؤ الحاجب قائد الاساطيل بديار مصر فبدأ باسطول الافرنج الذي يحاصر ايلة فمزقهم كل ممزق و بعد الظفر بهم اقلع في طلب الآخرين و انتهى إلى عيذاب فلم يجدهم فرجع إلى رابغ و أدركهم بساحل الحوراء و كانوا عازمين على طروق الحرمين و اليمن و الاغارة على الحاج فلما أطل عليهم لؤلؤ بالأسطول أيقنوا بالتغلب و تراموا على الحوراء و أسنموا إليها و اعتصموا بشعابها و نزل لؤلؤ من مراكبه و جمع خيل الأعراب هنالك و قاتلهم فظفر بهم و قتل أكثرهم و أسر الباقين فأرسل بعضهم إلى منى فقتلوا بها أيام النحر و عاد بالباقين إلى مصر و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء (5/349)
وفاة فرخشاه
ثم توفي عز الدين فرخشاه بن شاهنشاه أخو صلاح الدين النائب عنه بدمشق و كان خليفته في أهله و وثوقه به أكثر من جميع أصحابه و خرج من دمشق غازيا الإفرنج و طرقه المرض و عاد فتوفي في جمادي سنة ثمان و سبعين و بلغ خبره صلاح الدين و قد عبر الفرات إلى الجزيرة و الموصل فأعاد شمس الدين محمد ابن المقدم إلى دمشق و جعله نائبا فيها و استمر لشأنه و الله تعالى يورث الملك لمن يشاء من عباده (5/350)
استيلاء صلاح الدين على آمد و تسليمها لصاحب كيفا
قد تقدم لنا مسير صلاح الدين إلى ماردين و إقامته عليها أياما من نواحيها ثم ارتحل عنها إلى آمد كما كان العهد بينه و بين نور الدين صاحب كيفا فنازلها منتصف ذي الحجة و بها بهاء الدين بن بيسان فحاصرها و كانت غاية في المنعة و أساء ابن بيسان التدبير و قبض يده عن العطاء و كان أهلها قد ضجروا منه لسوء سيرته و تضييقه عليهم في مكابسهم و كتب إليهم صلاح الدين بالترغيب و الترهيب فتخاذلوا عن بيسان و تركوا القتال معه و نقب السور من خارج بيت ابن بيسان و أخرج نساءه مع القاضي الفاضل يستميل إليه صلاح الدين و يؤجله ثلاثة أيام للرحلة فأجابه صلاح الدين و ملك البلد في عاشوراء سنة تسع و سبعين و بنى خيمة بظاهر البلد ينقل إليها ذخيرته فلم يلتفت الناس إليه و تعذر عليه أمره فبعث إلى صلاح الدين يسأله الاعانة فأمر له بالدواب و الرجال فنقل في الأيام الثلاثة كثيرا من موجوده و منع بعد انقضاء الأجل عن نقل ما بقي و لما ملكها صلاح الدين سلمها لنور الدين صاحب كيفا و أخبر صلاح الدين بما فيها من الذخائر لينقلها النفسه فأبى و قال ما كنت لأعطي الأصل و أبخل بالقرع و دخل نور الدين البلد و دعا صلاح الدين و أمراءه إلى صنيع صنعه لهم و قدم لهم من التحف و الهدايا ما يليق بهم و عاد بهم صلاح الدين و الله تعالى أعلم (5/350)
استيلاء صلاح الدين على تل خالد و عنتاب
و لما فرغ صلاح الدين من آمد سار إلى أعمال حلب فحاصر تل خالد و نصب عليه المجانيق حتى تسلمه بالأمان في محرم سنة تسع و سبعين ثم سار إلى عنتاب فحاصرها و بها ناصر الدين محمد أخو الشيخ اسمعيل الذي كان خازن نور الدين العادل و صاحبه و هو الذي ولاه عليها فطلب من صلاح الدين أن يقرها بيده و يكون في طاعته فأجابه إلى ذلك و حلف له و سار في خدمته و غنم المسلمون خلال ذلك مغانم فمنها في البحر سار اسطول مصر فلقي في البحر مركبا فيها نحو ستمائة من الإفرنج بالسلاح و الأموال قاصدون الإفرنج بالشام فظفروا بهم و غنموا ما معهم و عادوا إلى مصر سالمين و منها في البر أغار الداورن جماعة من الإفرنج و لحقهم المسلمون بايلة و اتبعوهم إلى العسيلة و عطش المسلمون فانزل الله تعالى عليهم المطر حتى رووا و قاتلوا الإفرنج فظفروا بهم هنالك و استلحموهم و استقاموا معهم و عادوا سالمين إلى مصر و الله أعلم (5/351)
استيلاء صلاح الدين على حلب و قلعة حارم
كان الملك الصالح اسمعيل بن نور الدين العادل صاحب حلب لم يبق له من الشام غيرها و هو يدافع صلاح الدين عنها فتوفي منتصف سنة سبع و سبعين و عهد لابن عمه عز الدين صاحب الموصل و سار عز الدين صاحب الموصل مع نائبه مجاهد الدين قايمان إليها فملكها ثم طلبها منه أخوه عماد الدين صاحب سنجار على أن يأخذ عنها سنجار فأجابه إلى ذلك و أخذ عز الدين سنجار و عاد إلى الموصل و سار عماد الدين إلى حلب فملكها و عظم ذلك على صلاح الدين و خشي أن يسير منها إلى دمشق و كان بمصر فسار إلى الشام و سار منها إلى الجزيرة و ملك ما ملك منها و حاصر الموصل ثم حاصر آمد و ملكها ثم سار إلى أعمال حلب كما ذكرناه فملك تل خالد و عنتاب ثم سار إلى حلب و حاصرها في محرم سنة تسع و سبعين و نزل الميدان الاخضر أياما ثم انتقل إلى جبل جوشق و أظهر البقاء عليها و هو يغاديها القتال و يراوحها و طلب عماد الدين جنده في العطاء و ضايقوه في تسليم حلب لصلاح الدين و أرسل إليه في ذلك الأمر طومان الباروقي و كان يميل إلى صلاح الدين فشارطه على سنجار و نصيبين و الرقة و الخابور و ينزل له عن حلب و تحالفوا على ذلك و خرج عنها عماد الدين ثامن عشر صفر من السنة إلى هذه البلاد و دخل صلاح الدين حلب بعد أن شرط على عماد الدين أن يعسكر معه متى عاد و لما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين صنع له دعوة احتفل فيها و انصرف و كان فيمن هلك في حصار حلب تاج الملوك نور الدين أخو صلاح الدين الأصغر أصابته جراحة فمت منها بعد الصلح و قبل أن يدخل صلاح الدين البلد و لما ملك صلاح الدين حلب سار إلى قلعة حارم و بها الأمير طرخك من موالي نور الدين العادل و كان عليها ابنه الملك الصالح فحاصره صلاح الدين و وعده و ترددت الرسل بينهم و هو يمتنع و قد أرسل إلى الإفرنج يدعوهم للانجاد و سمع بذلك الجند الذين معه فوثبوا به و حبسوه و استأمنوا إلى صلاح الدين فملك الحصن و ولى عليه بعض خواصه و قطع تل خالد الباروقي صاحب تل باشر و أما قلعة اعزاز فأن عماد الدين اسمعيل كان خربها فأقطعها صلاح الدين سليمان بن جسار و أقام بحلب إلى أن قضى جميع أشغالها و أقطع أعمالها و سار إلى دمشق و الله تعالى أعلم (5/351)
غزوة بيسان
و لما فرغ صلاح الدين من أمر حلب ولى عليها ابنه الظاهر غازي و معه الأمير سيف الدين تاوكج كافلا له لصغره و هو أكبر الأمراء الأسدية و سار إلى دمشق فتجهز للغزو و جمع عساكر الشام و الجزيرة و ديار بكر و قصد بلاد الإفرنج فعبر الأردن منتصف سبع و سبعين و أجفل أهل تلك الأعمال أمامه فقصد بيسان و خربها و حرقها و أغار على نواحيها و اجتمع الإفرنج له فلما رأوه خاموا عن لقائه و استندوا إلى جبل و خندقوا عليهم و أقام يحاصرهم خمسة أيام و يستدرجهم للنزول فلم يفعلوا فرجع المسلمون عنهم و أغاروا على تلك النواحي و امتلأت أيديهم بالغنائم و عادوا إلى بلادهم و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/352)
غزو الكرك و ولاية العادل على حلب
و لما عاد صلاح الدين من غزوة بيسان تجهز لغزو الكرك و سار في العساكر و استدعى أخاه العادل أبا بكر بن أيوب من مصر و هو نائبها ليلحق به على الكرك و كان قد سأله في ولاية حلب و قلعتها فأجابه إلى ذلك و أمره أن يجيء بأهله و ماله فوافاه على الكرك و حاصروه أياما و ملكوا أرباضه و نصبوا عليها المجانيق و لم يكن بالغ في الاستعداد لحصاره لظنه أن الإفرنج يدافعون عنه فأفرج عنه منتصف شعبان و بعث تقي الدين ابن أخيه شاه على نيابة مصر مكان أخيه العادل و استصحب العادل معه إلى دمشق فولاه مدينة حلب و مدينة حلب منبج و ما إليها و بعثه بذلك في شهر رمضان من السنة و استدعى ولده الظاهر غازي من حلب إلى دمشق ثم سار في ربيع الآخر من سنة ثمانين لحصار الكرك بعد أن جمع العساكر و استدعى نور الدين صاحب كيفا و عساكر مصر و استعد لحصاره و نصب المجانيق على ربضه فملكه المسلمون و بقي الحصن وراء خندق بينه و بين الربض عمقه ستون ذراعا و راموا طمه فنضحوهم بالسهام و رموهم بالحجارة فأمر برفع السقف ليمشي المقاتلة تحتها إلى الخندق و أرسل أهل الحصن إلى ملكهم يستمدونه و يخبرونه بما نزل بهم فاجتمع الافرنج و أوعبوا و ساروا إليهم فرحل صلاح الدين للقائهم حتى انتهى إلى حزونة الأرض فأقام ينتظر خروجهم إلى البسيط فخاموا عن ذلك فتأخر عنهم فراسخ و مروا إلى الكرك و علم صلاح الدين أن الكرك قد امتنع بهؤلاء فتركه و سار إلى نابلس فخربها و حرقها و سار إلى سنطية و بها مشهد زكرياء عليه السلام فاستنقذ من وجد بها من أسارى المسلمين و رحل إلى جينين فنهبها و خربها و سار إلى دمشق بعد أن بث السرايا في كل ناحية و نهب كل ما مر به و امتلأت الأيدي من الغنائم و عاد إلى دمشق مظفرا و الله تعالى أعلم (5/353)
حصار صلاح الدين الموصل
ثم سار صلاح الدين من دمشق إلى الجزيرة في ذي القعدة من سنة ثمان و عبر الفرات و كان مظفر الدين كوكبري على كجك يستحثه للمسير إلى الموصل في كل وقت و ربما وعده بخمسين ألف دينار إذا وصل فلما وصل إلى حران لم يف له فقبض عليه ثم خشى معيرة أهل الجزيرة فأطلقه و أعاد عليهم حران و الرها و سار في ربيع الأول و لقيه نور الدين صاحب كيفا و معز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر و قد انحرف عن عمه عز الدين صاحب الموصل بعد نكبة مجاهد الدين نائبه و ساروا كلهم مع صلاح الدين إلى الموصل و انتهوا إلى مدينة بلد فلقيه هنالك أم عز الدين و ابنة عمه نور الدين و جماعة من أهل بيته يسألونه الصلح ظنا بأنه لا يردهن و سيما بنت نور الدين و استشار صلاح الدين أصحابه فأشار الفقيه عيسى و علي بن أحمد المشطوب بردهن و ساروا إلى الموصل و قاتلوها و استمات أهلها و امتعضوا لرد النساء فامتنعت عليهم و عاد على أصحابه باللوم في اشارتهم و جاء زين الدين يوسف صاحب اربل و أخوه مظفر الدين كوكبري فانزلهما بالجانب الشرقي و بعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجزيرة ليحاصرها فاجتمع عليه الأكراد الهكارية إلى أن عاد صلاح الدين عن الموصل و بلغ عز الدين نائبه بالقلعة زلقندار يكاتب صلاح الدين فمنعه منها و انحرف عنه إلى الاقتداء برأي مجاهد الدين و تصدر عنه ثم بلغه خبر وفاة شاهرين صاحب خلاط فطمع صلاح الدين في ملكها و أنه يستعين بها على أموره ثم جاءته كتب أهلها يستدعونه فسار عن الموصل إليها و كان أهل خلاط إنما كاتبوه مكرا لان شمس الدين البهلوان ابن ايلدكز صاحب أذربيجان و همذان قصده تملكهم بعد أن كان زوج ابنته من شاهرين على كبره و جعل ذريعة إلى ملك خلاط فلما سار إليهم كاتبوا صلاح الدين و دافعوا كلا منهما بالآخر فسار صلاح الدين و في مقدمته ناصر الدين محمد بن شيركوه و مظفر الدين صاحب اربل و غيرهما و تقدموا إلى خلاط و تقدم صاحب أذربيجان فنزل قريبا من خلاط و ترددت رسل أهل خلاط بينه و بين البهلوان ثم خطبوا للبهلوان و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/353)
استيلاء صلاح الدين على ميافارقين
و لما خطب أهل خلاط للبهلوان و صلاح الدين على ميافارقين و كانت لقطب الدين صاحب ماردين فتوفي و ملك ابنه طفلا صغيرا بعده ورد أمرها إلى شاهرين صاحب خلاط و أنزل بها عسكره فطمع فيها صلاح الدين بعد وفاة شاهرين و حاصرها من أول جمادي سنة إحدى و ثمانين و على أجنادها الأمير أسد الدين برنيقش فأحسن الدفاع و كان بالبلد زوجة قطب الدين المتوفي و معها بناتها منه و هي أخت نور الدين صاحب كيفا فراسلها صلاح الدين بأن برنيقش قد مال إليها في تسليم البلد و نحن ندعي حق أخيك نور الدين فأزوج بناتك من أبنائي و تكون البلد لنا و وضع على برنيقش من أخبره بأن الخاتون مالت إلى صلاح الدين و أن أهل خلاط كاتبوه و كان خبر أهل خلاط صحيحا فسقط في يده و بعث في التسليم على شروط اشترطها من اقطاع و مال و سلم البلد فملكها صلاح الدين و عقد النكاح لبعض ولده على بعض بنات خاتون و أنزلها و بناتها بقلعة هقناج و عاد إلى الموصل و مر بنصيبن و انتهى إلى كفر أرمان و اعتزم على أن يشتوابه و يقطع جميع ضياع الموصل و يحيى أعمالها و يكتسح غلاتها و جنح مجاهد الدين إلى مصالحته و ترددت الرسل في ذلك على أن يسلم إليه عز الدين شهرزور و أعمالها و ولاية الغرابلي و ما وراء الزاب من الأعمال ثم طرقه المرض فعاد إلى حران و أدركه الرسل بالإجابة إلى ما طلب فانعقد هنالك و تحالفوا و تسلم البلاد و طال مرضه بحران و كان عنده أخوه العادل و بيده حلب و بها الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين و اشتد به المرض فقسم البلاد بين أولاده و أوصى أخاه العادل على الجميع و عاد إلى دمشق في محرم سنة اثنتين و ثمانين و كان عنده بحران ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه و من اقطاعه حمص و الرحبة فعاد قبله إلى حمص و مر بحلب و صانع جماعة من أمرائها على أن يقوموا بدعوته أن حدث بصلاح الدين أمر و بلغ إلى حمص فبعث إلى أهل دمشق بمثل ذلك و أفاق صلاح الدين من مرضه و مات ناصر الدين ليلة الأضحى و يقال دس عليه من سمه و ورث أعماله ابنه شيركوه و هو ابن اثنتين عشرة سنة و الله تعالى أعلم (5/354)
قسمة صلاح الدين الأعمال بين ولده و أخيه
كان ابنه العزيز عثمان بحلب في كفالة أخيه العادل و ابنه الأكبر الأفضل علي بمصر في كفالة تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه بعثه إليها عندما استدعى العادل منها كما مر فلما مرض بحران أسف على كونه لم يول أحدا من ولده استقلالا و سعى إليه بذلك بطانته فبعث ابنه عثمان العزيز إلى مصر في كفالة أخيه العادل كما كان بحلب ثم أقطع العادل حران و الرها و ميافارقين من بلاد الجزيرة و ترك عثمان ابنه بمصر ثم بعث ابنه الأفضل و تقي الدين ابن أخيه فامتنع تقي الدين من الحضور و اعتزم على المسير إلى المغرب و اللحاق بمولاه قراقوش في ولايته التي حصلت له بطرابلس و الجريد من إفريقية فراسله صلاح الدين و لاطفه و لما وصل أقطعه حماة و منبج و المعرة و كفرطاب و جبل جوز و سائر أعمالها و قيل إن تقي الدين لما أرجف بمرض صلاح الدين و موته تحرك في طلب الأمر لنفسه و بلغ ذلك صلاح الدين فأرسل الفقيه عيسى الهكاري و كان مطاعا فيهم و أمره بإخراج تقي الدين من مصر و المقام بها فسار و دخلها على حين غفلة و أمر تقي الدين بالخروج فأقام خارج البلد و تجهز للمغرب فراسله صلاح الدين إلى آخر الخبر و الله تعالى أعلم (5/355)
اتفاق القمص صاحب طرابلس مع صلاح الدين و منابذة البرنس صاحب الكرك له و حصاره إياه و الإغارة على عكا
كان القمص صاحب طرابلس و هو ريمند بن ريمند بن صنجيل تزوج بالقومصة صاحبة طبرية و انتقل إليها فأقام عندها و مات ملك الإفرنج بالشام و كان مجذوما كما مر و أوصى بالملك لابن أخيه صغيرا فكفله هذا القمص و قام بتدبيره لملكه لعظمه فيهم و طمع أن تكون كفالته ذريعة إلى الملك ثم مات الصغير فانتقل الملك إلى أبيه و يئس القمص عندها مما كان يحدث به نفسه ثم أن الملكة تزوجت ابن غتم من الإفرنج القادمين من المغرب و توجته و أحضرت البطرك و القسوس و الرهبان و الاستبارية و الدواوية و اليارونة و أشهدتهم وخروجها له عن الملك ثم طولب القمص بالجباية أيام كفالته الصبي فأنف و غضب و جاهر بالشقاق لهم و راسل صلاح الدين و سار إلى ولايته و خلف له على مصره من أهل ملته و أطلق له صلاح الدين جماعة من زعماء النصارى كانوا أسارى عنده فازاداد غبطة بمظاهرته و كان ذلك ذريعة لفتح بلادهم و ارتجاع القدس منهم و بث صلاح الدين السرايا من ناحية طبرية في سائر بلاد الإفرنج فاكتسحوها و عادوا غانمين و ذلك كله سنة اثنتين و ثمانين و كان البرنس ارناط صاحب الكرك من أعظم الإفرنج مكرا و أشدهم ضررا و كان صلاح الدين قد سلط الغارة و الحصار على بلده حتى سأل في الصلح فصالحه فصلحت السابلة بين الآمين ثم مرت في هذه السنة قافلة كثيرة التجار و الجند فغدر بهم و أسر و أخذ ما معهم و بعث إليه صلاح الدين فأصر على غدرته فنذر أنه يقتله إن ظفر به و استنفر الناس للجهاد من سائر الأعمال من الموصل و الجزيرة و إربل و مصر و الشام و خرج من دمشق في محرم سنة ثلاث و ثمانين و انتهى إلى رأس الماء و بلغه أن البرنس ارناط صاحب الكرك يريد أن يتعرض للحاج من الشام و كان معهم ابن أخيه محمد بن لاجين و غيره فترك من العساكر مع ابنه الأفضل علي و سار إلى بصرى و سمع البرنس بمسيره فأحجم عن الخروج و وصل الحاج سالمين و سار صلاح الدين إلى الكرك و بث السرايا في أعمالها و أعمال الشويك فاكتسحوهما و البرنس محصور بالكرك و قد عجز الإفرنج عن إمداده لمكان العساكر مع الأفضل بن صلاح الدين ثم بعث صلاح الدين إلى ابنه الأفضل فأمره بإرسال بعث إلى عكا ليكتسحوا نواحيها فبعث مظفر الدين كوكبري صاحب حران و الرها و قايماز النجمي و داروم الباروقي و ساروا في آخر صفر فصبحوا صفورية و بها جمع من الفداوية و الاستبارية فبرزوا إليهم و كانت بينهم حروب شديدة تولى الله النصر فيها للمسلمين و انهزم الإفرنج و قتل مقدمهم و امتلأت أيدي المسلمين من الغنائم و انقلبوا ظافرين و مروا بطبرية و بها القمص فلم يهجهم لما تقدم بينه و بين صلاح الدين من الولاية و عظم هذا الفتح و سار البشير به في البلاد و الله تعالى أعلم (5/356)
هزيمة الإفرنج و فتح طبرية ثم عكا
و لما إنهزم الفداوية و الإستبارية بصفورية و مر المسلمون بالغنائم على القمص ريمند بطبرية و وصلت البشائر بذلك إلى صلاح الدين عاد إلى معسكره الذي مع ابنه و مر بالكرك و اعتزم على غزو بلاد الإفرنج فاعترض عساكره و بلغه أن القمص ريمند قد راجع أهل ملته و نقض عهده معه و أن البطرك و القسس و الرهبان أنكروا عليه مظاهرته للمسلمين و مرور عساكرهم به بأسرى النصارى و غنائمهم و لم يعترضهم مع إيقاعهم بالفداوية و الإستبارية أعيان الملة و تهددوه بإلحاق كلمة الكفر به فتنصل و راجع رأيه و اعتذر إليهم فقبلوا عذره و خلص لكفره و طواغيته فجددوا الحلف و الاجتماع و ساروا من عكا إلى صفورية و بلغ الخبر إلى صلاح الدين و شاور أصحابه فمنهم من أشار بترك اللقاء و شن الغارات عليهم حتى يضعفوا و منهم من أشار باللقاء لنزول عكا و استيفاء ما فعلوه في المسلمين بالجزيرة فاستصوبه صلاح الدين و استعجل لقاءهم ثم رحل من الأقحوانة أواخر رمضان فسار حتى خلف طبرية و تقدم إلى معسكر الإفرنج فلم يفارقوا خيامهم فلما كان الليل أقام طائفة من العسكر فسار إلى طبرية فملكها من ليلته عنوة و نهبها و أحرقها و امتنع أهلها بالقلعة و معهم الملكة و أولادها فبلغ الخبر إلى الإفرنج فضج القمص و عمد إلى الصلح و أطال القول في تعظيم الخطب و كثرة المسلمين فنكر عليه البرنس صاحب الكرك و اتهمه ببقائه على ولاية صلاح الدين و اعتزموا على اللقاء و وصلوا من مكانهم لقصد المعسكر و عاد صلاح الدين إلى معسكره و بعدت المياه من حوالي الإفرنج و عطشوا و لم يتمكنوا من الرجوع فركبهم صلاح الدين دون قصدهم و اشتدت الحرب و صلاح الدين يجول بين الصفوف يتفقد أحوال المسلمين ثم حمل القمص على ناحية تقي الدين عمر بن شاه حملة استمات فيها هو و أصحابه فأفرج له الصف و خلص من تلك الناحية إلى منجاته و اختل مصاف الإفرنج و تابعوا الحملات و كان بالأرض هشيم أصابه شرر فاضطرم نارا فجهدهم لفحها و مات جلهم من العطش فوهنوا و أحاط بهم المسلمون من ناحية فارتفعوا إلى تل بناحية حطين لينصبوا خيامهم به فلم يتمكنوا إلا من خيمة الملك فقط و السيف يجول فيهم مجاله حتى فني أكثرهم و لم يبق إلا نحو المائة و الخمسين من خلاصة زعمائهم مع ملكهم و المسلمون يكرون عليهم مرة بعد أخرى حتى ألقوا ما بأيديهم و أسروا الملك و أخاه البرنس أرناط صاحب الكرك و صاحب جبيل و ابن هنفري و مقدم الفداوية و جماعة من الفداوية و الإستبارية و لم يصابوا منذ ملكوا هذه البلاد أعوام التسعين و الأربعمائة بمثل هذه الوقعة ثم جلس صلاح الدين في خيمته و أحضر هؤلاء الأسرى فقرع الملك و وبخه أن أجلسه إلى جانبه وفاء بمنصب الملك و قام إلى البرنس فتولى قتله بيده حرصا على الوفاء بنذره بعد أن عرفه بغدرته و بجسارته على ما كان يرومه في الحرمين و حبس الباقين و أما القمص صاحب طرابلس فنجا كما ذكرناه إلى بلده ثم مات لأيام قلائل أسفا و لما فرغ صلاح الدين من هزيمتهم نهض إلى طبرية فنازلها و استأمنت إليه الملكة بها فأمنها في ولدها و أصحابها و مالها و خرجت إليه فوفى لها و بعث الملك و أعيان الأسرى إلى دمشق فحبسوا بها و جمع أسرى الفداوية و الاستبارية بعد أن بذل لمن يجده منهم من المقاتلة خمسين دينارا مصرية لكل واحد و قتلهم أجمعين قال ابن الأثير و لقد اجتزت بمكان الوقعة بعد سنة فرأيت عظامهم ماثلة على البعد أحجفتها السيول و مزقتها السباع و لما فرغ صلاح الدين من طبرية سار عنها إلى عكا فنازلها و اعتصم الإفرنج الذين بها بالأسوار و شادوا بالاستئمان فأمنهم و خيرهم فاختاروا الرحيل فحملوا ما أقلته رحالهم و دخلها صلاح الدين غرة جمادى سنة ثلاث و ثمانين وصلوا في جامعها القديم الجمعة يوم دخولهم فكانت أول جمعة أقيمت بساحل الشام بعد استيلاء الإفرنج عليه و أقطع صلاح الدين بلد عكا لابنه الأفضل و جميع ما كان فيه للفداوية من أقطاع و ضياع و وهب للفقيه عيسى الهكاري كثيرا مما عجز الإفرنج عن حمله و قسم الباقي على أصحابه ثم قسم الأفضل ما بقي في أصحابه بعد مسير صلاح الدين ثم أقام صلاح الدين أياما حتى أصلح أحوالها و رحل عنها و الله تعالى أعلم (5/357)
فتح يافا و صيدا و جبيل و بيروت و حصون عكا
لما هزم صلاح الدين الإفرنج كتب إلى أخيه العادل بمصر يسيره و يأمره بالمسير إلى جهات الإفرنج من جهات مصر فنازل حصن مجدل و فتحه و غنم ما فيه ثم سار إلى مدينة يافا ففتحها عنوة و استباحها و كان صلاح الدين أيام مقامه بعكا بعث بعوثه قيسارية و حيفا و سطورية و بعليا و شقيف و غيرها في نواحي عكا فملكوها و استباحوها و امتلأت أيديهم من غنائمها و بعث حسام الدين عمر بن الأصعن في عسكر إلى نابلس فملك سبطية مدينة الأسباط و بها قبر زكريا عليه السلام ثم سار إلى مدينة نابلس فملكها و اعتصم الإفرنج الذين بها بالقلعة فأقرهم على أموالهم و بعث تقي الدين عمر بن شاهنشاه إلى تبنين ليقطع الميرة عنها و عن صور فوصل إليها و حاصرها و ضيق عليها حتى استأمنوا فأمنهم و ملكها و مر إلى صيدا و مر في طريقه بصرخد فملكها بعد قتال و جاء الخبر بفرار صاحب صيدا فسار و ملكها آخر جمادى الأولى من السنة ثم سار من يومه إلى بيروت و قاتلها من أحد جوانبها فتوهموا أن المسلمين دخلوا عليهم من الجانب الآخر فاهتاجوا لذلك فلم يستقروا و لا قدروا على تسكين الهيعة لكثرة ما معهم من أخلاط السواد فاستأمنوا إليه و ملكها آخر يوم من جمادى لثمانية أيام من حصارها وكان صاحب جبيل أسير بدمشق فضمن لنائبها تسليم جبيل لصلاح الدين على أن يطلقه فاستدعاه و هو محاصر لبيروت و سلم الحصن و أطلقه و كان من أعيان الإفرنج و أولي الرأي منهم و الله تعالى أعلم (5/358)
وصول المركيش إلى صور و امتناعه بها
كان القمص صاحب طرابلس لما نجا من هزيمة لحق بمدينة صور و أقام بها يريد حمايتها و منعها من المسلمين فلما ملك صلاح الدين نسيس و صيدا و بيروت ضعف عزمه عن ذلك و لحق ببلده طرابلس و بقيت صيدا و صور بدون حامية و جاء المركيش من تجار الإفرنج من المغرب في كثرة و قوة فأرسى بعكا و لم يشعر بفتحها و خرج إليه الرائد فأخبره بمكان الأفضل بن صلاح الدين فيها و أن صور و عسقلان باقية للإفرنج فلم يطق الإقلاع إليهما لركود الريح فشغلهم بطلب الأمان ليدخل المرسى ثم طابت ريحه و جرت به إلى صور و أمر الأفضل بخروج الشواني في طلبه قلم يدركوه حتى دخل مرسى صور فوجد بها أخلاطا كثيرة من فل الحصون المفتتحة فجاءوا إليه و ضمن لهم حفظ المدينة و بذل أمواله في الإنفاق عليها على أن تكون هي و أعمالها له دون غيره و استحلفهم على ذلك ثم قام بتدبير أحوالها و شرع في تحصينها فحفر الخنادق و رم الأسوار و استبد بها و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/359)
فتح عسقلان و ما جاورها
و لما ملك صلاح الدين بيروت و جبيل و تلك الحصون صرف همته إلى عسقلان و القدس لعظم شأن القدس و لأن عسقلان مقطع بين الشام و مصر فسار عن بيروت إلى عسقلان و لحق به أخوه العادل في عساكر مصر و نازلها أوائل جمادى الأخيرة و استدعى ملك الإفرنج و مقدم الراية و كانا أسيرين بدمشق فأحضرهما و أمرهما بالإذن للإفرنج بعسقلان في تسليمها فلم يجيبوا إلى ذلك و أساءوا الرد عليهما فاشتد في قتالهم و نصب المجانيق عليهم يردد الرسائل إليهم في التسليم عساه ينطلق و يأخذ بالثأر من المسلمين فلم يجيبوه ثم جهدهم الحصار و بعد عليهم الصريخ فاستأمنوا إلى صلاح الدين على شروط اشترطوها كان أهمها عندهم أن يمنعهم من الهراسة لما قتلوا أميرهم في الحصار فأجابهم إلى جميع ما اشترطوه و ملك المدينة منتصف السنة لأربعة عشر يوما من حصارها و خرجوا بأهليهم و أموالهم و أولادهم إلى القدس ثم بعث السرايا في تلك الأعمال ففتحوا الرملة و الداروم و غزة و مدن الخليل و بيت لحم البطرون و كل ما كان للفداوية و كان أيام حصار عسقلان قد بعث عن أسطول مصر فجاء به حسام الدين لؤلؤ الحاجب و أقام يغير على مرسى عسقلان و القدس و يغنم جميع ما يقصده من النواحي و الله سبحانه و تعالى يؤيد من يشاء بنصره (5/360)
فتح القدس
لما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان و ما يجاورها سار إلى بيت المقدس و بها البطرك الأعظم و بليان بن نيزران صاحب الرملة و ربيسة قريبة الملك و من نجا من زعمائهم من حطين و أهل البلد المفتتحة عليهم و قد اجتمعوا كلهم بالقدس و استماتوا للدين و بعد لصريخ و أكثروا الاستعداد و نصبوا المجانيق من داخله و تقدم إليه أمير من المسلمين فخرج إليه الإفرنج فأوقعوا به و قتلوه في جماعة ممن معه و فجع المسلمون بقتله و ساروا فنزلوا على القدس منتصف رجب و هالهم كثرة حاميته و طاف بهم صلاح الدين خمسة أيام فتحيز متبوأ عليه للقتال حتى اختار جهة الشمال نحو باب العمود و كنيسة صهيون يتحول إليه و نصب المجانيق عليها و اشتد القتال و كان كل يوم يقتل بين الفريقين خلق و كان ممن استشهد عز الدين عيسى بن مالك من أكابر أمراء بني بدران و أبوه صاحب لمعة جعبر فأسف المسلمون لقتله و حملوا عليهم حتى أزالوهم عن مواقفهم و أحجروهم البلد و ملكوا عليهم الخندق و نقبوا السور فوهن الإفرنج و استأمنوا لصلاح الدين أبى إلا العنوة كما ملكه الإفرنج أول الأمر سنة إحدى و سبعين و أربعمائة و استأمن له الباب ابن نيزران صاحب الرملة و خرج إليه و شافهه بالإستئمان و استعطفه فأصر على الامتناع فتهدده بالاستماتة و قتل النساء و الأبناء و حرق الأمتعة و تخريب المشاعر المعظمة و استلحام أسرى المسلمين و كانوا خمسة آلاف أسير و استهلاك جميع الحيوانات الداجنة بالقدس من الظهر و غيره فحينئذ استشار صلاح الدين صحبه فجنحوا إلى تأمينهم فشارطهم على عشرة دنانير للرجل و خمسة للمرأة و دينارين للولد صبي أو صبية و على أجل أربعين يوما فمن تأخر أداؤه عنها فهو أسير و بذل بليان ابن نيزران عن فقراء أهل ملته ثلاثين ألف دينار و ملك صلاح الدين المدينة يوم الجمعة لتسع و عشرين من رجب سنة ثلاث و ثمانين و رفعت الأعلام الإسلامية على أسواره و كان يوما مشهودا و رتب على أبواب القدس الأمناء لقبض هذا المال و لم يبن الأمر فيه على المشاحة فذهب أكثرهم دون شيء و عجز آخر الأمر ستة عشر ألف نسمة فأخذوا أسارى و كان فيه على التحقيق ستون ألف مقاتل غير النساء و الولدان فإن الإفرنج أزروا إليه من كل جانب لما افتتحت عليهم حصونهم و قلاعهم و من الدليل على مقاربة هذا العدد أن بليان صاحب الرملة أعطى ثلاثين ألف دينار على ثمانية عشر ألفا و عجز منهم ستة عشر ألفا و أخرج جميع الأمراء خلقا لا تحصى في زي المسلمين بعد أن يشارطوهم على بعض القطيعة و استوهب آخرون جموعا منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم إياهم و أطلق بعض نساء الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم و حشمهم و أموالهم و كذا ملكة القدس التي أسر صلاح الدين زوجها ملك الإفرنج بسببها و كان محبوسا بقلعة نابلس فأطلقها بجميع ما معها و لم يحصل من القطيعة على خراج و خرج البطرك الأعظم بما معه من ماله و أموال البيع و لم يتعرض له و جاءته امرأة البرنس صاحب الكرك الذي قتله يوم حطين تشفع في ولدها و كان أسيرا فبعثها إلى الكرك لتأذن الإفرنج في النزول عنه للمسلمين و كان على رأسه قبة خضراء لها صليب عظيم مذهب و تسلق جماعة من المسلمين إليه و اقتلعوه و ارتجت الأرض بالتكبير و العويل و لما خلا القدس من العدو أمر صلاح الدين برد مشاعره إلى أوضاعها القديمة و كانوا قد غيروها فأعيدت إلى حالها الأول و أمر بتطهير المسجد و الصخرة من الأقذار فطهرا ثم صلى المسلمون الجمعة الأخرى في قبة الصخرة و خطب محي الدين بن زنكي قاضي دمشق بأمر صلاح الدين و أتى في خطبته بعجائب من البلاغة في وصف الحال و عظة الإسلام اقشعرت لها الجلود و تناقلها الرواة و تحدثت بها السمار أحوالا ثم أقام صلاح الدين بالمسجد للصلوات الخمس إماما و خطيبا و أمر بعمل المنبر له فتحدثوا عنده بأن نور الدين محمودا اتخذ له منبرا منذ عشرين سنة و جمع الصناع بحلب فأحسنوا صنعته في عدد سنين فأمر بحمله و نصبه بالمسجد الأقصى ثم أمر بعمارة المسجد و اقتلاع الرخام الذي فوق الصخرة لأن القسيسين كانوا يبيعون الحجر من الصخرة ينحتونها نحتا و يبيعونها بالذهب وزنا بوزن فتنافس الإفرنج فيها التماس البركة منها و يدعونها في الكنائس فخشي ملوكهم أن تفنى الصخرة فعالوا عليها بفرش الرخام فأمر صلاح الدين بقلعه ثم استكثر في المسجد من المصاحف و رتب فيه القراء و وفر لهم الجرايات و تقدم ببناء الربط و المدارس فكانت من مكارمه رحمه الله تعالى و ارتحل الإفرنج بعد أن باعوا جميع ما يملكونه من العقار بأرخص ثمن و اشتراه أهل العسكر و نصارى القدس الأقدمون بعد أن ضربت عليهم الجزية كما كانوا و الله تعالى أعلم (5/360)
حصار صور ثم صفد و كوكب و الكرك
لما فتح صلاح الدين القدس أقام بظاهره إلى آخر شعبان من السنة حتى فرغ من جميع أشغاله ثم رحل إلى مدينة صور و قد اجتمع فيها من الإفرنج عوالم و قد نزل بها المركيش و ضبطها و لما انتهى صلاح الدين إلى عكا أقام بها أياما فبالغ المركيش في الإستعداد و تعميق الخنادق و إصلاح الأسوار و كان البحر يحيط بها من ثلاث جهاتها فوصل جانب اليمين بالشمال و صارت كالجزيرة و سار إليها فنزل عليها لتسع بقين من رمضان على تل يشرف منه على مكان القتال و جعل القتال على أقيال عسكره نوبا بين ابنه الأفضل و ابنه الظاهر و أخيه العادل و ابن أخيه تقي الدين و نصب عليها المجانيق و العرادات و كان الإفرنج يركبون في الشواني و الحراقات و يأتون المسلمين من ورائهم فيرمون عليهم من البحر و يقاتلونهم و يمنعونهم من الدنو إلى السور فبعث صلاح الدين عن أسطول مصر من مرسى عكا فجاء و دافع الإفرنج و تمكن المسلمون من قتال الأسوار و حاصروها برا و بحرا ثم كبس أسطول الإفرنج خمسة من أساطيل المسلمين ففتكوا بهم و رد صلاح الدين الباقي إلى بيروت لقلتها فاتبعها أساطيل الإفرنج فلما أرهقوهم في الطلب ألقوا بأنفسهم إلى الساحل و تركوها فحكمها صلاح الدين و نقضها وجد في حصار صور فلم يفد و امتنعت عليه لما كان فيها من كثرة الإفرنج الذين أمنهم بعكا و عسقلان و القدس فنزلوا إليها بأموالهم و أمدوا صاحبها و استدعوا الإفرنج وراء البحر فوعدوهم بالنصر و أقاموا في انتظارهم و لما رأى صلاح الدين امتناعها شاور أصحابه في الرحيل فترددوا و تخاذلوا في القتال فرحل آخر شوال إلى عكا و أذن للعساكر في المشي إلى أوطانهم إلى فصل الربيع و عادت عساكر الشرق و الشام و مصر و أقام بقلعة عكا في خواصه ورد أحكام البلد إلى خرديك من أمراء نور الدين و كان صلاح الدين عندما اشتغل بحصار عسقلان بعث لحصار صور فشددوا حصارها و قطعوا عنها الميرة و بعثوا إلى صلاح الدين و هو يحاصر صور فاستأمنوا له و نزلوا عنها فملكها و كان أيضا صلاح الدين لما سار إلى عسقلان جهز عسكرا لحصار قلعة كوكب يحرسون السابلة في طريقها من الإفرنج الذين فيها و هي ملطة على الأردن و هي للإستبارية و جهز عسكرا لحصار صفد و هي للفداوية مطلة على طبرية و لجأ إلى هذين الحصنين من سلم من وقعة حطين و امتنعوا بهما فلما جهز العساكر إليهما صلحت الطريق و ارتفع منها الفساد فلما كان آخر ليلة من شوال غفل الموكلون بالحصار على قلعة كوكب و كانت ليلة شاتية باردة فكبسهم الإفرنج و نهبوا ما عندهم من طعام و سلاح و عادوا إلى قلعتهم و بلغ ذلك صلاح الدين و هو يعتزم على الرحيل عن صور فشحذ من عزيمته ثم جهز عسكرا على صور مع الأمير قايماز النجمي و ارتحل إلى عكا فلما انصرم فصل الشتاء سار من عكا في محرم سنة أربع و ثمانين إلى قلعة كوكب فحاصرها و امتنعت عليه و لم يكن بقي في البلاد الساحلية من عكا إلى الجنوب غيرها و غير صفد و الكرك فلما امتنعت عليه جهز العسكر لحصارها مع قايماز النجمي و رحل عنها في ربيع الأول إلى دمشق و وافته رسل أرسلان و فرح الناس بقدومه و الله تعالى ولي التوفيق (5/362)
غزو صلاح الدين إلى سواحل الشام و ما فتحه من حصونها و صلحه آخرا مع صاحب انطاكية
لما رجع صلاح الدين من فتح القدس و حاصر صور و صفد و كوكب عاد إلى دمشق ثم تجهز للغزو إلى سواحل الشام و أعمال انطاكية و سار عن دمشق في ربيع سنة أربع و ثمانين فنزل على حمص و استدعى عساكر الجزيرة و ملوك الأطراف فاجتمعوا إليه و سار إلى حصن الأكراد فضرب عسكره هنالك و دخل متجردا إلى القلاع بنواحي انطاكية فنقص طرفها و أغار على ولايتها إلى طرابلس حتى شفي نفسه من إرتيادها و عاد إلى معسكره فجرت الأرض بالغنائم فأقام عند حصن الأكراد و وفد عليه هنالك منصور بن نبيل صاحب جبلة و كان من يوم استيلاء الإفرنج على جبلة عند صاحب انطاكية حاكما على جميع المسلمين فيها و متوليا أمور سمند فلما هبت ريح الإسلام بصلاح الدين و ظهوره نزل إليه ليكشف الغماء و دله على عورة جبلة و اللاذقية و استحثه لهما فسار أول جمادى و نزل بطرسوس و قد اعتصم الإفرنج منها ببرجين حصينين و أخلوا المدينة فخربوها و استباحوها و كان أحد الحصنين للفداوية و فيه مقدمهم الذي أسره صلاح الدين يوم المصاف و أطلقه عن فتح القدس و استأمن إليه أهل البرج الآخر و نزلوا له عنه فخربه صلاح الدين و ألقى حجارته في البحر و امتنع عليه برج الفداوية فسار إلى المرقب و هو للإستبارية و لا يرام لعلوه و إرتفاعه و إمتناعه و الطريق في الجبل إلى جبلة عليه فهو عن يمين الطريق و البحر عن يساره في مسلك ضيق إنما يمر به الواحد فالواحد (5/364)
فتح جبلة
و كان وصل أسطول من صاحب صقلية مددا للإفرنج في تلك السواحل في سنتين قطعة فأرسوا بطرابلس فلما سمعوا بصلاح الدين أقلعوا إلى المغرب و وقفوا قبالتها ينضحون بسهامهم المارة بتلك الطريق فضرب صلاح الدين على ذلك الطريق سورا من جهة البحر من المتارس و وقف وراءه الرماة حتى سلك العسكر المضيق إلى جبلة و وصلها آخر جمادى و سبق إليها القاضي و ملكها صلاح الدين لحينه و رفع أعلام الإسلام على سورها و نفى حاميتها إلى القلعة فاستنزلهم القاضي على الأمان و استمر منهم جماعة في رهن القاضي و المسلمين عند صاحب إنطاكية حتى أطلقهم و جاء رؤساء أهل البلد إلى طاعة صلاح الدين و هو بجبل ما بين جبلة و حماة و كان الطريق عليه بينهما صعبا ففتحه صلاح الدين من ذلك الوقت و استناب بجبلة سابق الدين عثمان ابن الداية صاحب شيرز و سار عنها للاذقية و الله تعالى أعلم بغيبه و أحكم (5/364)
فتح اللاذقية
و لما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة سار إلى اللاذقية فوصلها آخر جمادي الأولى و امتنع حاميتها بحصنين لها في أعلى الجبل و ملك المسلمون المدينة و حصروا الإفرنج في القلعتين و حفروا تحت الأسوار و أيقن الإفرنج بالهلكة و دخل إليهم قاضي جبلة ثالث نزولها فاستأمنوا معه و أمنهم صلاح الدين و رفعوا أعلام الإسلام في الحصنين و خرب المسلمون المدينة و كانت مبانيها في غاية الوثاقة و الضخامة لتقي الدين ابن أخيه فأعادها إلى أحسن ما كانت من العمارة و التحصين و كان عظيم الهمة في ذلك و كان أسطول صقلية في مرسى اللاذقية و سخطوا ما فعله أهلها و منعوهم من الخروج منها و جاء مقدمهم إلى صلاح الدين فرغب منه إقامتهم على الجزية و عرض في كلامه بالتهديد بامداد الإفرنج من وراء البحر فأجابه صلاح الدين باستهانة أمر الإفرنج و هدده فانصرف إلى أصحابه و رحل صلاح الدين إلى صهيون و الله تعالى أعلم (5/365)
فتح صهيون
و لما فرغ صلاح الدين من فتح اللاذقية سار إلى قلعة صهيون و هي على جبل صعبة المرتقي بعيدة المهوى يحيط بجبلها واد عميق ضيق و يتصل بالجبل من جهة الشمال و عليها خمسة أسوار و خندق عميق فنزل صلاح الدين على الجبل لضيقها و قدم ولده الظاهر صاحب حلب فنزل مضيق الوادي و نصب المنجنيقات هنالك فرمى بها على الحصن و نضحهم بالسهام من سائر أصناف القسى و صابروا قليلا ثم زحف المسلمون ثاني جمادى الأخرى و سلكوا بين الصخور حتى ملكوا أحد أسوارها و قاتلوهم منه فملكوا عليهم سورين آخرين و غنموا جميع ما كان في البلد من الدواب و البقر و الذخائر و لجأ الحامية إلى القلعة و قاتلهم المسلمون عليها فنادوا ما كان في البلد من الدواب و البقر و الذخائر و لجأ الحامية إلى القلعة و قاتلهم المسلمون عليها فنادوا بالأمان فشرط عليهم مثل قطيعة القدس و ملك المسلمون الحصن و ولي عليه ناصر الدين بن كورس صاحب قلعة بوفلس فحصنه و افترق المسلمون في تلك النواحي فوجدوا الإفرنج قد فروا من حصونها فملكوها جميعا و هيؤا إليها طريقا على عقبة صعبة لعفاء طريقها السهلة بالإفرنج و الإسماعيلية و الله تعالى أعلم (5/365)
فتح بكاس و الشغر
ثم سار صلاح الدين عن صهيون ثالث جمادى إلى قلعة بكاس و قد فارقها الإفرنج و تحصنوا بقلعة شغر فملك بكاس و حاصر قلعة الشغر و الطريق منها مسلوك إلى اللاذقية و جبلة و صهيون فقاتلهم و نصب المنجنيقات عليها فقصرت حجارتها عن الوصول و كانوا تمنعوا و بعثوا خلال ذلك إلى صاحب انطاكية و كان الحصن من إيالته فاستمدوه و إلا أعطوا الحصن بما قذف الله في قلوبهم من الرعب فلما قعد عن نصرهم فاستأمنوا إلى صلاح الدين و سألوه إنظار ثلاث للفتح فأنظرهم و أخذ رهنهم ثم سلموه بعد لثلاث في منتصف جمادي من السنة و الله تعالى أعلم (5/366)
فتح سرمينية
كان صلاح الدين عن اشتغاله بفتح هذه الحصون بعث ابنه الظاهر غازيا صاحب حلب إلى سرمينية و حاصرها و استنزل الإفرنج الذين بها على قطيعة أعطوها و هدم الحصن و كان فتحه آخر جمادى الأخيرة فانطلق جماعة من الأسارى كانوا بهذا الحصن و كانت هذه الفتوحات كلها في مقدار شهر و جميعها من أعمال انطاكية و الله تعالى أعلم (5/366)
فتح برزية
و لما فرغ صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية قبالة افامية و تقاسمها في أعمالها و بينهما بحيرة من ماء العاصي و العيون التي تجري و كانوا أشد شيء في الأذى للمسلمين فنازلها في الرابع و العشرين من جمادي الأخيرة و هي متعذرة المصعد من الشمال و الجنوب و صعبته من الشرق و بجهة الغرب مسلك إليها فنزل هنالك صلاح الدين و نصب المجانيق فلم تصل حجارتها لبعد القلعة و علوها فرجع إلى المزاحفة و قسم عساكره على أمرائها و جعل القتال بينهم نوبا فقاتلهم أولا عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار و أصعدهم إلى قلعتهم حتى صعب المرتقى على المسلمين و بلغوا مواقع سهامهم و حجارتهم من الحصن و كانوا يدحرجون الحجارة على المقاتلة فلا يقوم لها شيء فلما تعب أهل هذه النوبة عادوا و صعد خاصة صلاح الدين فقاتلوا قتالا شديدا و صلاح الدين و تقي الدين ابن أخيه يحرضانهم حتى أعيوا و هموا بالرجوع فصاح فيهم صلاح الدين و في أهل النوبة الثانية فتلاحقوا بهم و جاء أهل نوبة عماد الدين على أثرهم و حمي الوطيس و ردوا الإفرنج على أعقابهم إلى حصنهم فدخلوا و دخل المسلمون معهم و كان بقية المسلمين في الخيام شرقي الحصن و قد أهمله الإفرنج فعمد أهل الخيام من ملك الناحية و اجتمعوا مع المسلمين في أعقاب الإفرنج عند الحصن فملكوه عنوة و جاء الإفرنج إلى قبة الحصن و معهم جماعة من أسارى المسلمين في القيود فلما سمعوا تكبير إخوانهم خارج القبة كبروا فدهش الإفرنج و ظنوا أن المسلمين خالطوهم فألقوا باليد و أسرهم المسلمون و استباحوهم و أحرقوا البلد و أسروا صاحبها و أهله و ولده و افترقوا في أسراهم فجمعهم صلاح الدين حتى إذا قارب انطاكية بعثهم إليها لأن زوجة صاحب إنطاكية كانت تراسل صلاح الدين بالأخبار و تهاديه فرعي لها ذلك و الله تعالى ولي التوفيق (5/366)
فتح دربساك
و لما فرغ صلاح الدين من حصن برزية دخل من الغد إلى الجسر الجديد على نهر العاصي قرب انطاكية فأقام عليه فلحق به فخلف العسكر ثم سار إلى قلعة دربساك و نزل عليها في رجب من السنة و هي معاقل الفداوية التي يلجؤن إلى الإعتصام بها و نصب عليها المجانيق حتى هدم من سورها ثم هجمها بالمزاحفة و كشف المقاتلة عن سورها و نقبوا منها برجا من أسفله فسقط ثم باكروا الزحف من الغد و صابرهم الإفرنج ينتظرون المدد من صاحبهم سمند صاحب انطاكية فلما تبينوا عجزه استأمنوا صلاح الدين فأمنهم في أنفسهم فقط و خرجوا إلى انطاكية و ملك الحصن في عشرين من رجب من السنة و الله تعالى أعلم (5/367)
فتح بغراس
ثم سار عماد الدين عن دربساك إلى قلعة بغراس على تعددها و قربها من انطاكية فيحتاج مع قتالها إلى ردء من العسكر بينه و بين انطاكية فحاصرها و نصب عليها المجانيق فقصرت عنها لعلوها و شق عليهم حمل الماء إلى أعلى الجبل و بينما هم في ذلك إذ جاء رسولهم يستأمن لهم فأمنهم في أنفسهم فقط كما أمن أهل دربساك و تسلم القلعة بما فيها و خربها فجددها ابن اليون صاحب الأرمن و حصنها و صارت في أيالته و الله أعلم (5/367)
صلح انطاكية
و لما فتح حصن بغراس خاف سمند صاحب انطاكية و أرسل إلى صلاح الدين في الصلح على أن يطلق أسرى المسلمين الذين عنده و تحامل عليه أصحابه في ذلك ليريح الناس و يستعدوا فأجابه صلاح الدين إلى ذلك لثمانية أشهر من يوم عقد الهدنة و بعث إليه من استخلفه و أطلق الأسرى و كان سمند في هذا الوقت عظيم الإفرنج متسع المملكة و طرابلس و أعمالها قد صارت إليه بعد القمص و استخلف فيها ابنه الأكبر و عاد صلاح الدين إلى حلب فدخلها ثالث شعبان من السنة و انطلق ملوك الأطراف بالجزيرة و غيرها إلى بلادهم ثم رحل إلى دمشق و كان معه أبوه فليتة قاسم بن مهنا أمير المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة و أتم التسليم قد عسكر معه و شهد فتوجه و كان يتيمن بصحبته و يتبرك برؤيته و يجتهد في تأنيسه و تكرمته و يرجع إلى مشورته و دخل دمشق أول رمضان من السنة و أشير عليه بتفريق العساكر فأبى و قال هذه الحصون كوكب و صفد و الكرك في وسط بلاد الإسلام فلا بد من البدار إلى فتحها و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/368)
فتح الكرك
كان صلاح الدين قد جهز العساكر على الكرك مع أخيه العادل حتى سار إلى دربساك و بغراس و أبعد في تلك الناحية فشد العادل حصارها حتى جهدوا و فنيت أقواتهم فراسلوه في الأمان فأجابهم و سلموا المعلقة فملكها و ملك الحصون التي حواليها و أعظمها الشويك و أمنت تلك الناحية و اتصلت إيالة المسلمين من مصر إلى القدس و الله تعالى أعلم (5/368)
فتح صفد
لما عاد صلاح الدين إلى دمشق أقام بها نصف رمضان ثم تجهز لحصار صفد فنزل عليها و نصب المجانيق و كانت أقواتهم قد تسلط عليها الحصار الأول فخافوا من نفاذها فاستأمنوا فأمنهم و ملكها و لحقوا بمدينة صور و الله تعالى أعلم (5/368)
فتح كوكب
لما كان صلاح الدين على صفد خافه الإفرنج على حصن كوكب فبعثوا إليه نجدة و كان قايماز النجمي يحاصره فشعر بتلك النجدة و ركب إليهم و هم مخنقون ببعض الشعاب فكبسهم ولم يفلت منهم أحد و كان فيهم مقدمان من الإستبارية فحملهما إلى صلاح الدين على صفد فاحضرهما القتل على عادته في الفداوية و الاستبارية فاستعطفه واحد منهما فعفا عنهما و حبسهما و لما فتح صفد سار إلى كوكب و حاصره و أرسل إليهم بالأمان فاصروا على الامتناع عليه فنصب عليهم المجانيق و تابع المزاحفة ثم عافه المطر عن القتال و طال مقامه فلما انقضى المطر عاود المزاحفة و ضايقهم بالسور و نقب منه برجا فسقط فارتاعوا و استأمنوا و ملك الحصن منتصف ذي القعدة من السنة و لحق الإفرنج بصور و اجتمع الزعماء و تابعوا الرسل إلى إخوانهم وراء البحر في حوزة يستصرخونهم فتابعوا إليهم المدد و اتصل المسلمون في الساحل من أيلة إلى بيروت لا يفصل بينهم إلا مدينة صور و لما فرغ صلاح الدين من صفد و كوكب سار إلى القدس فقضى فيه نسك الأضحى ثم سار إلى عكا فأقام بها إلى انسلاخ الشتاء و الله تعالى أعلم (5/369)
فتح الشقيف
ثم سار صلاح الدين في ربيع سنة خمس و ثمانين إلى محاصرة الشقيف و كان لأرناط صاحب صيدا و هو من أعظم الناس مكرا و دهاء فلما نزل صلاح الدين بمرج العيون جاء إليه و أظهر له المحبة و الميل و طلب المهلة إلى جمادى الأخيرة ليتخلص أهله و ولده من المركيش بصور و يسلم له حصن الشقيف فأقام صلاح الدين هنالك لوعده و انقضت مدة الهدنة بينه و بين سمند صاحب إنطاكية فبعث تقي الدين ابن أخيه مسلحة في العساكر إلى البلاد التي قرب انطاكية ثم بلغه اجتماع الإفرنج بصور عند المركيش و ان الإمداد وافتهم من أهل ملتهم وراء البحر و ان ملك الإفرنج بالشام الذي أطلقه صلاح الدين بعد فتح القدس قد اتفق مع المركيش و وصل يده به و اجتمعوا في أمم لا تحصى و خشى أن يتقدم إليهم و يترك الشقيف وراءه فتنقطع عنه الميرة فأقام بمكانه فلما انقضى الأجل تقدم إلى الشقيف و استدعى أرناط فجاء و اعتذر بأن المركيش لم يمكنه من أهله و ولده و طلب الإمهال مرة أخرى فتبين صلاح الدين مكره فحبسه و أمره أن يبعث إلى أهل الشقيف بالتسليم فلم يجب فبعث به إلى دمشق فحبس بها و تقدم إلى الشقيف فحاصره بعد أن أقام مسلحة قبالة الإفرنج الذين بظاهر صور فجاءه الخبر بأنهم فارقوا صور لحصار صيدا فلقيتهم المسلحة و قاتلوهم فغلبوهم و أسروا سبعة من فرسانهم و قتلوا آخرين و قتل مولى لصلاح الدين من أشجع الناس و ردوهم على أعقابهم إلى معسكرهم بظاهر صور و جاء صلاح الدين بعد انقضاء الواقعة فأقام في المسلحة رجاء أن يصادف أحدا من الإفرنج فينتقم منهم و ركب في بعض الأيام ليشارف معسكر الإفرنج فظن عسكره أنه يريد القتال فنجعوا و أوغلوا إلى العدو و بعث صلاح الدين الأمراء في أثرهم يردونهم فلم يرجعوا و رآهم الإفرنج فظنوا أن وراءهم كمينا فأرسلوا من يكشف خبرهم فوجدوهم منقطعين فحملوا عليهم و أناموهم جميعا و ذلك تاسع جمادي الأولى من السنة ثم انحدر إليهم صلاح الدين في عساكره من الجبل فهزمهم إلى الجسر و غرق منهم في البحر نحو من مائة دارع سوى من قتل و عزم السلطان على حصارهم و اجتمع إليه الناس ثم عاد الإفرنج إلى صور و عاد السلطان إلى بليس ليشارف عكا و يرجع إلى مخيمه و لما وصل إلى المعسكر جاء الخبر بأن الإفرنج يتعدون عن صدور مذاهبهم لحاجاتهم فكتب إلى المعسكر بعكا و وعدهم ثامن جمادى الأخيرة يوافونه من ناحيتهم للإغارة عليهم و أكمن لهم في الأودية و الشعاب من سائر النواحي و اختار جماعة من فرسان عسكره و تقدم إليهم بأن يتعرضوا للإفرنج ثم يستطردوا لهم إلى مواضع الكمناء ففعلوا و ناشبوا الإفرنج و انفوا من الاستطراد و طال على الكمناء الإنتظار فخرجوا خشية على أصحابهم فوافوهم في شدة الحرب فانهزم المسلمون و وقع التمحيص و كان أربعة في الكمين من أمراء طيء فعدلوا عن طريق أصابهم و سلكوا الوادي و تبعهم بعض العسكر من موالي صلاح الدين و رآهم الإفرنج في الوادي فعلموا أنهم أضلوا الطريق فاتبعوهم و قتلوهم و الله تعالى أعلم (5/369)
محاصرة الإفرنج أهل صور لعكا و الحروب عليها
كانت صور كما قدمنا ضبطها المركيش من الإفرنج الواصل من وراء البحر و قام بها و كان كلما فتح صلاح الدين مدينة أو حصنا على الأمان لحق أهلها بصور فاجتمع بها عدد عظيم من الإفرنج و أموال جمة و لما فتح القدس لبس كثير من رهبانهم و قسيسيهم و زعمائهم السواد حزنا على البيت المقدس و ارتحل بطرك من القدس و هم معه يستصرخون أهل الملة النصرانية من وراء البحر للأخذ بثأر القدس فخرجوا للجهاد من كل بلد حتى النساء اللواتي يجدن القوة على الحرب و من لم يستطع الخروج استأجر مكانه و بذلوا الأموال لهم و جاء الإفرنج من كل مكان و نزلوا بصور و مدد الرجال و الأقوات و الأسلحة متداركة لهم في كل وقت و اتفقوا على الرحيل إلى عكا و محاصرتها فخرجوا ثامن رجب من سنة خمس و ثمانين و سلكوا على الطريق الساحل و أساطيلهم تحاذيهم في البحر و مسلحة المسلمين تتخطفهم من جوانبهم حتى وصلوا إلى عكا منتصف رجب و كان رأي صلاح الدين أن يحاذيهم في مسيرهم لينال منهم فخالفه أصحابه و اعتذروا بضيق الطريق و وعره فسلك طريقا آخر و وافاهم على عكا و قد نزلوا عليها و أحاطوا بها من البحر فليس للمسلمين إليها طريق و نزل صلاح الدين قبالهم و بعث إلى الأطراف يستنفر الناس فجاءت عساكر الموصل و ديار بكر و سنجار و سائر بلاد الجزيرة و جاء تقي الدين ابن أخيه من حماة و مظفر الدين كوكبري من حران و الرها و كان أمداد المسلمين تصل في البر و إمداد الإفرنج في البحر و هم محصورون في صور محاصرين و كانت بينهم أيام مذكورة و وقائع مشهورة و أقام السلطان بقية رجب لم يقاتلهم فلما استهل شعبان قاتلهم يوما بكامله و بات الناس على تعبية ثم صبحهم بالقتال و نزل الصبر و حمل عليهم تقي الدين ابن أخيه منتصف النهار من الميمنة حملة أزالتهم عن مواقفهم و ملك مكانهم و اتصل بالبلد فدخلها المسلمون و شحنها صلاح الدين بالمدد من كل شيء و بعث إليهم الأمير حسام الدين أبا الهيجاء السمين من أكابر امرائه من الأكراد الخطية من أربل ثم نهض المسلمون من الغد فوجدوا الإفرنج قد أداروا عليهم خندقا يمتنعون به و منعوهم القتال يومهم و أقاموا كذلك و مع السلطان أحياء من العرب فكمنوا في معاطف النهر من ناحية الإفرنج على الساحل للخطف منهم و كبسوهم منتصف شعبان و قتلوهم و جاؤا برؤسهم إلى صلاح الدين فأحسن إليهم و الله تعالى أعلم (5/370)
الواقعة على عكا
كان صلاح الدين قد بعث عن عسكر مصر و بلغ الإفرنج فأرادوا معاجلته قبل وصولهم و كانت عساكره متفرقة في المسالح على الجهات فمسلحة تقابل انطاكية و سمند من أعمال حلب و مسلحة بحمص تحفظها من أهل طرابلس و مسلحة تقابل صور و مسلحة بدمياط و الإسكندرية و اعتزم الإفرنج على مهاجمتهم بالقتال و لم يشعروا بهم و صحبوهم لعشرين من شعبان و ركب صلاح الدين وعبي عساكره و قصدوا الميمنة و عليها تقي الدين ابن أخيه فتزحزح بعض الشيء و أمده صلاح الدين بالرجال من عنده فحطوا على صلاح الدين في القلب فتضعضع و استشهد جماعة منهم الأمير علي بن مردان و الظهير أخو الفقيه عيسى والي القدس و الحاجب خليل الهكاري و غيرهم و قصدوا خيمة صلاح الدين فقتلوا من وزرائه و نهبوا و استشهد جمال الدين بن رواحة من العلماء و وضعوا السيف في المسلمين و انهزم الذين كانوا حوالي الخيمة و لم تسقط و انقطع الذين ولوها من الإفرنج عن أصحابهم وراءهم و حملت ميسرة المسلمين عليهم فاحجمتهم وراء الخنادق و عادوا إلى خيمة صلاح الدين فقتلوا كل من وجدوا عندها من الإفرنج و صلاح الدين قد عاد من إتباع أصحابه يردهم للقتال و قد اجتمعوا عليهم فلم يفلت منهم أحد و أسروا مقدم الفداوية فأمر بقتله و كان أطلقه مرة أخرى و بلغت عدة القتلى عشرة آلاف فألقوا في النهر و أما المنهزمون من المسلمين فمنهم من رجع من طبرية و منهم من جاوز الأردن و رجع و منهم من بلغ دمشق و اتصل قتال المسلمين للإفرنج و كادوا يلجون عليهم معسكرهم ثم جاءهم الصريخ بنهب أموالهم و كان المنهزمون قد حملوا أثقالهم فامتدت إليها الأوباش و نهبوها فكان ذلك مما شغل المسلمين عن استئصال الإفرنج و أقاموا في ذلك يوما و ليلة يستردون النهب من أيدي المسلمين و نفس بذلك عن الإفرنج بعض الشيء و الله تعالى أعلم (5/371)
رحيل صلاح الدين عن الإفرنج بعكا
و لما انقضت هذه الواقعة و امتلأت الأرض من جيف الإفرنج تغير الهواء و أنتن و حدث بصلاح الدين قولنج كان يعاوده فأشار عليه أصحابه بالإنتقال عسى الإفرنج ينتقلون و إن أقاموا عدنا إليهم و حمله الأطباء على ذلك فرحل رابع رمضان من السنة و تقدم إلى أهل عكا بحياطتها و أعلمهم سبب رحيله فلما إرتحل الإفرنج في حصار عكا و أحاطوا بها دائرة مع اسطولهم في البحر و حفروا خندقا على معسكرهم و أداروا عليهم سورا من ترابه حصنا من صلاح الدين أن يعود إليهم و مسلحة المسلمين قبالتهم يناوشوهم القتال فلا يقاتلونهم و بلغ ذلك صلاح الدين و أشار أصحابه بإرسال العساكر ليمنع من التحصين فامتنع من ذلك لمرضه فتم للإفرنج ما أرادوه و أهل عكا يخرجون إليهم في كل يوم و يقاتلونهم و الله تعالى أعلم (5/372)
معاودة صلاح الدين حصار الإفرنج على عكا
ثم وصل العادل أبو بكر بن أيوب منتصف شوال في عساكر مصر و معه الجم الغفير من المقاتلة و الأصناف الكثيرة من آلات الحصار و وصل على أثره أسطول مصر مع الأمير لؤلؤ و كبس مركبا فغنم ما فبه و دخل به إلى عكا و برىء صلاح الدين من مرضه و أقام بمكانه بالجزيرة إلى إنسلاخ الشتاء و سمع الإفرنج أن صلاح الدين سار إليهم و استقلوا مسلحة المسلمين عندهم فزحفوا إليهم في صفر سنة ست و ثمانين و استمات المسلمون و قتل بين الفريقين خلق و بلغ الخبر بذلك صلاح الدين و جاءته العساكر من دمشق و حمص و حماة فتقدم من الجزيرة إلى تل كيسانو تابع القتال على الإفرنج يشغلهم عن المسلمين فكانوا يقاتلون الفريقين و كان الإفرنج مدة مقامهم على عكا قد صنعوا ثلاثة أبراج من الخشب إرتفاع كل برج ستون ذراعا و فيه خمس طبقات و غشوها بالجلود و طلوها بالأدوية التي لا تلعق النار بها و شحنوها بالمقاتلة و دنوها إلى البلد من ثلاث جهات في العشرين من ربيع الأول سنة ست و ثمانين و أشرفوا بها على السور فكشف من عليه المقاتلة و شرع الإفرنج في طم الخندق و بعث أهل عكا سابحا في البحر يصف لهم حالهم فركب في عساكره و اشتد في قتال الإفرنج فخف على أهل البلد ما كانوا فيه و أقاموا كذلك ثلاثة أيام يقاتلون الجهتين و عجزوا عن دفع الأبراج و رموها بالنفط فلم يؤثر فيها و كان عندهم رجل من أهل دمشق يعاني أحوال النفط فأخذ عقاقير و صنعها و حضر عند قراقوش حاكم البلد و أعطاه دواء و قال أرم بهذا في المنجنيق المقابل لإحدى الأبراج فيحترق فحرد عليه ثم وافق و رمى به في قدر ثم رمى بعده بقدر أخرى مملوأة نارا فاضطرمت النار و احترق البرج بمن فيه ثم فعل بالثاني و الثالث كذلك و فرح أهل البلد و تخلصوا من تلك الورطة فأمر صلاح الدين بالاحسان إلى ذلك الرجل فلم يقبل و قال إنما فعلته لله و لا أريد الجراء الا منه ثم بعث صلاح الدين إلى ملوك الأطراف ليستنفرهم فجاء عماد الدين زنكي بن مودود صاحب سنجار ثم علاء الدين بن طالب صاحب الموصل ثم عز الدين مسعود بن مودود و بعثه أبوه بالعساكر ثم زين الدين صاحب أربل و كان كل واحد منهم إذا وصل يتقدم بعسكر فيقاتلون الإفرنج ثم يضربون أبنيتهم و جاء الخبر بوصول الأسطول من مصر فجهز الإفرنج أسطولا لقتاله و شغلهم صلاح الدين بالقتال ليتمكن الأسطول من دخول عكا فلم يشغلوا عنه و قاتلوا الفريقين برا و بحرا و دخل الأسطول إلى مرسى عكا سالما و الله تعالى أعلم يغيبه (5/372)
وصول ملك الألمان إلى الشام و مهلكه
هؤلاء الألمان شعب من شعوب الإفرنج كثير العدد موصوف بالبأس و الشدة و هم موطنون بجزيرة إنكلطيرة في الجهة الشمالية الغربية من البحر المحيط و هم حديثو عهد بالنصرانية و لما سار القسس و الرهبان بخبر بيت المقدس و استنفار النصرانية لها قام ملكهم لها وقعد و جمع عساكره و سار للجهاد بزعمه و فسح النصارى له الطريق و قصد القسطنطينية فعجز ملك الروم عن منعه بعد أن كان يعد بذلك نفسه و كتب بها إلى صلاح الدين لكنه منع عنهم الميرة فضافت عليهم الأقوات و عبروا خليج القسطنطينية و مروا بمملكة قليج أرسلان و تبعهم التركمان يحفون بهم و يتخطفون منهم و كان الفصل شتاء و البلاد باردة فهلك أكثرهم من البرد و الجوع و مروا بقونية و بها قطب الدين ملك شاه بن قليج أسلان قد غلب عليه ألاوده و افترقوا في النواحي فخرج ليصدهم فلم يطق ذلك و رجع فساروا في أثره إلى قونية و بعثوا إليه بهدية على أن يأذن لهم في الميرة فأذن لهم و استرهنوا عشرين من أمرائه و تكاثر عليهم اللصوص فقيدوا أولئك الأمراء و حبسوهم و ساروا إلى بلاد الأرمن و صاحبها كاقولي بن حطفاي بن اليون فأمدهم بالأزواد و العلوفات و أظهر طاعتهم و سار إلى إنطاكية و دخل ملكهم ليغتسل في نهر هنالك فغرق و ملك بعده ابنه و لما بلغوا انطاكية اختلفوا فبعضهم مال إلى تمليك أخيه و بعضهم مال إلى العود فعادوا كلهم و سار ابن الملك فيمن ثبت معه يزيدون على أربعين ألفا و أصابهم الموتان و حسن إليهم صاحب انطاكية المسير إلى الإفرنج على عكا فساروا على جبلة اللاذقية و مروا بحلب و تخطف أهلها منهم خلقا و بلغوا طرابلس و قد أفناهم الموتان و لم يبق منهم إلا نحو ألف رجل فركبوا البحر إلى عكا ثم رأوا ما هم فيه من الوهن و الخلاف فركبوا البحر إلى بلدهم و غرقت بهم المراكب و لم ينج منهم أحد و كان الملك قليج ارسلان يكاتب صلاح الدين بأخبارهم و يعده بمنعهم من العبور عليه فلما عبروا اعتذر بالعجز عنهم و افتراق أولاده و استبدادهم و أما صلاح الدين فإنه استشار أصحابه عند وصول خبرهم فأشار بعضهم إلى لقائهم في طريقهم و محاربتهم و أشار آخرون بالمقام لئلا يأخذ الإفرنج عكا و مال صلاح الدين إلى هذا الرأي و بعث العساكر من جبلة و اللاذقية و شيزر إلى حلب ليحفظوها من عاديتهم و الله تعالى ولي التوفيق (5/373)
واقعة المسلمين مع الإفرنج على عكا
ثم زحف الإفرنج على عكا في عشر من جمادى الأخيرة من سنة ست و ثمانين وخرجوا من خنادقهم إلى عساكر صلاح الدين و قصد العادل أبو بكر بن أيوب في عساكر مصر فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كشفهم الإفرنج عن الخيام و ملكوها ثم كر عليهم المصريون فكشفوهم عن خيامهم و خالفهم بعض عساكر مصر إلى الخنادق إلى الخنادق فقطعوا عنهم بعض مدد أصحابهم فأخذتهم السيوف و قتل منهم ما يزيد على عشرين ألفا و كانت عساكر الموصل قريبا من عسكر مصر و مقدمهم علاء الدين خوارزم شاه بن عز الدين مسعود صاحب الموصل فعدمت ميرتهم و أمر صلاح الدين بمناجزتهم على هذا الحال و بلغه الخبر بموت الألمان و ما أصاب قومه من الشتات فسر المسلمون بذلك و ظنوا وهن الإفرنج به ثم بعد يومين لحقت بالإفرنج إمداد في البحر مع كند من الكنود يقال له الكندهري ابن أخي الاقرسيس لأبيه و ابن أخي ملك انكلطيرة لأمه ففرق في الإفرنج أموالا و جند لهم أجنادا و وعدهم بوصول الإمداد على أثره فاعتزموا على الخروج لقتال المسلمين فانتقل صلاح الدين من مكانه إلى الحزونة لثلاث بقين من جمادى الأخيرة لضيق المجال و نتن المكان من جيف القتلى ثم نصب الكندهري على عكا مجانيق و ذبابات فأخذها أهل عكا و قتلوا عندها جموعا من الإفرنج فلم يتمكن من ذلك و لا من الستائر عليها لأن أهل البلاد كانوا يصيبونها فعمل تلا عاليا من التراب و نصب المجانيق من ورائه و ضاقت الأحوال و قلت الميرة و أرسل صلاح الدين إلى الإسكندرية ببعث الأقوات في المراكب إلى عكا و بعث إلى بيروت بمثل ذلك فبعثوا مركبا و نصبوا فيها الصلبان يوهمون أنه للإفرنج حتى دخلوا إلى المرسى و جاءت بعد الميرة من الإسكندرية ثم جاءت ملكة من الإفرنج من وراء البحر في نحو ألف مقاتل للجهاد بزعمها فأخذت ببحر الإسكندرية هي و جميع ما معها ثم كتب البابا كبير الملة النصرانية من كنيسة برومة يأمرهم بالصبر و الجهاد و يخبرهم بوصول الإمداد و أنه راسل ملوك الإفرنج يحثهم على إمدادهم فأزدادوا بذلك قوة و اعتزموا على مناجزة المسلمين و جمروا عسكرا لحصار عكا و ارتحلوا حادي عشر شوال من السنة فنقل صلاح الدين أثقال العسكر إلى على ثلاثة فراسخ من عكا و لقي الإفرنج على التعبية و كان أولاده الأفضل علي و الظاهر غازي و الظافر خضر في القلب و أخوه العادل أبو بكر في الميمنة بعساكر مصر و من انضم إليهم و عماد الدين صاحب سنجار و تقي الدين صاحب حماة و معز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر في المسيرة و صلاح الدين في خيمة صغيرة على تل مشرف نصب له من أجل موضعه فلما وصل الإفرنج و عاينوا كثرة المسلمين ندموا على مفارقة خنادقهم و باتوا ليلتهم و عادوا من الغد إلى معسكرهم فاتبعوهم أهل المقدمة و تخطفوهم من كل ناحية و أحجروهم وراء خنادقهم ثم ناوشوهم القتال في الثالث و العشرين من شوال بعد أن أكمنوا لهم عسكرا فخرج لهم الإفرنج في نحو أربعمائة فارس و استطرد لهم المسلمون إلى أن وصلوا كمينهم فخرجوا عليهم فلم يفلت منهم أحد و اشتد الغلاء على الإفرنج و بلغت الغرارة مائة دينار صوري مع ما كان يحمل إليهم من البلدان من بيروت على يد صاحبها أسامة و من صيدا على يد نائبها سيف الدين علي ابن أحمد المشطوب و من عسقلان و غيرها ثم اشتد الحال عليهم عند هيجان البحر و انقطاع المراكب في فصل الشتاء ثم هجم الشتاء و أرسى الإفرنج مراكبهم بصور خوفا عليها على عادتهم في صور في فصل الشتاء و وجد الطريق إلى عكا في البحر فأرسل أهلها إلى صلاح الدين يشكون ما نزل بهم و كان بها الأمير حسام الدين أبو الهيجاء فشكى من ضجره بطول المقام و الحرب فأمر صلاح الدين بانفاذ نائب و عسكر إليها بدلا منهم و أمر أخاه العادل بمباشرة ذلك فانتقل إلى جانب البحر عند جبل بدلها و جمع المراكب و الشواني و بعث العساكر إليها شيئا فشيئا كلما دخلت طائفة خرج بدلها فدخل عشرون أميرا بدلا من ستين كانوا و أهملوا أهل الرجل و تعينت دواودين صاحب صلاح الدين و كانوا نصارى على الجند في إثباتهم و إطلاق نفقاتهم فبلغ الحامية بعكا و ضعفت و عادت مراكب الإفرنج بعد إنحسار الشتاء فانقطعت الأخبار عن عكا و عنها و كان من الأمراء الذين دخلوا عكا سيف الدين علي بن أحمد المشطوب و عز الدين أرسلان مقدم الأسدية و ابن جاولي و غيرهم و كان دخولهم عكا أول سنة سبع و ثمانين و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/374)
وفاة زين الدين صاحب إربل و ولاية أخيه كوكبري
كان زين الدين يوسف بن زين الدين قد دخل في طاعة صلاح الدين و كانت له إربل كما مر لأبيه و حران و الرها لأخيه مظفر الدين كوكبري و كان يعسكر مع صلاح الدين في غزواته و حضر عنده على عكا فأصابه المرض و توفي في ثامن عشر رمضان سنة أربع و ثمانين فقبض أخوه مظفر الدين كوكبري على بلد أمير من أمرائه و بعث إلى صلاح الدين يطلب إربل و ينزل عن حران و الرها فأجابه و أقطعه إياهما و أضاف إليهما شهرزور و أعمالها و دار بند العرابلي و هي قفجاق و كاتب أهل إربل مجاهد الدين صاحب الموصل خوفا من صلاح الدين مع أن مجاهد الدين كان عز الدين قد حبسه كما مر ثم أطلقه و ولاه نائبه و جعل بعض غلماته عيثا عليه فكان يناقضه في كثير من الأحوال فقصد مجاهد الدين أن يفعل معه مثل ذلك في إربل فامتنع منها و ولاها مظفر الدين و استفحل أمره فيها و لما نزل مظفر الدين عن حران و الرها ولاها صلاح الدين لابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه مضافة إلى ميافرقين بديار بكر و حماة و أعمالها بالشام و تقدم له أن يقطع أعمالها للجند فيتقوى بهم على الإفرنج فسار تقي الدين إليها و قرر أمورها ثم انتهى إلى ميافارقين و تجدد له طمع فيما يجاورها من البلاد فقصد مدينة حال من ديار بكر و سار إليه سيف الدين بكتمر صاحب خلاط في عساكره و قاتله فهزمه تقي الدين و وطىء بلاده و كان بكتمر قد قبض على مجد الدين بن رستق وزير سلطان شاكرين و حبسه في قلعة هنالك فلما انهزم كتب إلى والي القلعة بقتله فوافاه الكتاب و تقي الدين محاصر له فلما ملك القلعة أطلق ابن رستق و سار إلى خلاط و حاصرها فامتنعت عليه فعاد عنها إلى ملاذ كرد فضيق عليها حتى استأمنوا له و ضرب لهم أجلا في تسليم البلد ثم مرض و مات قبل ذلك الأجل بيومين و حمله ابنه إلى ميافارقين فدفنه بها و استفلحت دولة بكتمر في خلاط و الله تعالى أعلم (5/376)
وصول إمداد الإفرنج من الغرب إلى عكا
ثم تتابعت إمداد الإفرنج من وراء البحر لإخوانهم المحاصرين لعكا و أول من وصل منهم الملك ملك إفرنسة و هوذ فيهم و ملكه ليس بالقوى هكذا قال ابن الأثير و عنى أنه كان مستفحلا في ذلك العصر لأنه في الحقيقة ملك الإفرنج و هو في ذلك العصر أشد من كانوا قوة و استفحالا فوصل ثاني عشر ربيع الأول سنة أربع و ثمانين في ستة مراكب عظيمة مشحونة بالمقاتلة و السلاح فقوي الإفرنج على عكا بمكانه و ولي حرب المسلمين فيها و كان صلاح الدين على معمر عمر قريبا من معسكر الإفرنج فكان يصابحهم كل يوم عن مزاحفة البلد و تقدم إلى أسامة في بيروت بتجهيز ما عنده من المراكب و الشواني إلى مرسى عكا ليشغل الإفرنج أيضا فبعثها و لقيت خمسة مراكب في البحر و كان ملك الإنكلطيرة أقدمها و أقام على جزيرة قبرص طامعا في ملكها فغنم أسطول المسلمين الخمسة مراكب بما فيها و نفذت كلمة صلاح الدين إلى سائر النواب بأعماله بمثل ذلك فجهزوا الشواني و ملؤا بها مرسى عكا و واصل الإفرنج قتال البلد و نصبوا عليها المنجنيقات رابع جمادي و تحول صلاح الدين لمعسكره قريبا منهم ليشغلهم عن البلد فخف قتالهم عن أهل البلد ثم فرغ ملك إنكلطيرة من جزيرة قبرص و ملكها و عزل صاحبها و بلغ إلى عكا في خمس و عشرين مركبا مشحونة بالرجال و الأموال و وصل منتصف رجب و لقي في طريقه مركبا جهز من بيروت إلى عكا و فيه سبعمائة مقاتل فقاتله فلما يئس المسلمون الذين به من الخلاص نزل مقدمهم و هو يعقوب الحلي غلام ابن شفنين فحرق المركب خوفا من أن يظفر الإفرنج برجاله و ذخائره فغرق ثم عمل الإفرنج ذبابات و كباشا و زحفوا بها فأحرق المسلمون بعضها و أخذوا بعضها فرجع الإفرنج إلى نصب التلال من التراب يقاتلون من ورائها فامتنعت من نفوذ الحيلة فيها و ضاق حال أهل عكا (5/377)
استيلاء الإفرنج على عكا
و لما جهد المسلمين بعكا الحصار خرج الأمير سيف الدين علي بن أحمد الهكاري المشطوب من أكبر أمرائها إلى ملك إفرنسة يستأمنه لأهل عكا فلم يجبه و ضعفت نفوس أهل البلد لذلك و وهنوا ثم هرب من الأمراء عز الدين أرسل الأسدي و ابن عز الدين جاولي و سنقر الأرجاني في جماعة منهم و لحقوا بالعساكر فازداد أهل عكا و بعث الإفرنج إلى صلاح الدين في تسليمها فأجاب على أن يؤمنوا أهل البلد و يطلق لهم من أسراهم بعدد أهل البلد و يعطيهم الصليب الذي أخذه من القدس فلم يرضوا بما فعل إلى المسلمين بعكا أن يخرجوا بجمعهم و يتركوا البلد و يسيروا مع البحر و يحملوا على العدو حملة مستميتين و يجيء المسلمون من وراء العدو فعساهم يخلصون بذلك فلما أصبحوا زحف الإفرنج إلى البلد و رفع المسلمون أعلامهم و أرسل المشطوب من البلد إلى الإفرنج فصالحهم على الأمان على أن يعطيهم مائتي ألف دينار و يطلق لهم خمسمائة أسير و يعيد لهم الصليب و يعطي للمركيش صاحب صور أربعة عشر ألف دينار فأجابوا إلى ذلك و ضربوا المدة للمال و الأسرى شهرين و سلموا لهم البلد فلما ملكوها غدروا بهم و حبسوهم رهنا بزعمهم في المال و الأسرى و الصليب و لم يكن لصلاح الدين ذخيرة من المال لكثرة إنفاقه في المصالح فشرع في جمع المال حتى اجتمع مائة ألف دينار و بعث نائبا يستحلفهم على أن يضمن الفداوية من الخلف و الضمان خوفا من غدر أصحابه و قال ملوكهم إذا سلمتم المال و الأسرى و الصليب تعطونا رهنا في بقية المال و نطلق أصحابكم و طلب صلاح الدين أن يضمن الفداوية الرهن و يحلفوا فامتنعوا أيضا و قالوا ترسلون المائة ألف دينار و الأسرى و الصليب فنطلق من نراه و نبقي الباقي إلى مجيء بقية المال فتبين المسلمون غدرهم و أنهم يطلقون من لا يعبأ به و يمسكون الأمراء و الأعيان حتى يفادوهم فلم يجبهم صلاح الدين إلى شيء و لما كان آخر رجب ركب الإفرنج إلى ظاهر البلد في احتفال و ركب المسلمون فشدوا عليهم و كشفوهم عن مواقفهم فإذا المسلمون الذين كانوا عندهم قتلى بين الصفين قد استلحموا ضعفاءهم و تمسكوا بالأعيان للمفاداة فسقط في يد صلاح الدين و تمسك بالمال الذي جمعه لغيرها من المصالح و الله تعالى أعلم (5/378)
تخريب صلاح الدين عسقلان
و لما استولى الإفرنج على عكا استوحش المركيش صاحب صور من ملك إنكلطيرة و أحس من بالغدر فلحق ببلده صور ثم سار الإفرنج مستهل شعبان لقصد عسقلان و ساروا مع ساحل البحر لا يفارقونه و نادي صلاح الدين باتباعهم مع ابنه الأفضل و سيف الدين أبي زكوش و عز الدين خرديك فاتبعوهم يقاتلونهم و يتخطفونهم من كل ناحية ففتكوا فيهم بالقتل و الأسر و بعث الأفضل إلى أبيه يستمده فلم يجد العساكر مستعدة و سار ملك إنكلطيرة في ساقة الإفرنج فحملهم و إنتهوا إلى يافا فأقاموا بها و المسلمون قبالهم مقيمون و لحق بهم من عكا من احتاجوا إليه ثم ساروا إلى قيسارية و المسلمون يتبعونهم و يقتلون من ظفروا به منهم و زاحموهم عند قيسارية فنالوا منهم و باتوا بها مثاورين و اختطف المسلمون منهم بالليل فقتلوا و أسروا و ساروا من الغد إلى أرسوف و سبقهم المسلمون إليها لضيق الطريق فحملوا عليهم عندها حتى اضطروهم إلى البحر فحينئذ استمات الإفرنج و حملوا على المسلمين فهزموهم و أثخنوا في تابعهم و ألحقوهم بالقلب و فيه صلاح الدين و تستر المسلمون المنهزمون بخمر الشعراء فرجع الإفرنج عنهم و إنفرج ما كانوا فيه من الضيق المذكور و ساروا إلى يافا فوجدوها خالية و ملكوها و كان صلاح الدين قد سار من مكان الهزيمة إلى الرملة و جمع مخلفه و أثقاله و اعتزم على مسابقة الإفرنج إلى عسقلان فمنعه أصحابه و قالوا نخشى أن تزاحمنا الإفرنج عليها و يغلبونا على حصارها كما غلبونا على حصار عكا و يملكوها آخرا و يقووا بما فيها من الذخائر و الأسلحة فندبهم إلى المسير إليها و حمايتها من الإفرنج فلجوا في الامتناع من ذلك فسار و ترك العساكر مع أخيه العادل قبالة الإفرنج و وصل إلى عسقلان و خربها تاسع عشر شعبان و ألقيت حجارتها في البحر و بقي أثرها و هلك فيها من الأموال و الذخائر ما لا يحصى فلما بلغ الإفرنج ذلك أقاموا بياقا و بعث المركيش إلى ملك إنكلطيرة يعذله حيث لم يناجز صلاح الدين على عسقلان و يمنعه من تخريبها فما خربها حتى عجز عن حمايتها ثم رحل صلاح الدين من عسقلان ثاني شهر رمضان إلى الرملة فخرب حصنها ثم سار إلى القدس من شدة و المطر لينظر في مصالح القدس و ترتبهم في الاستعداد للحصار و أذن للعساكر في العود إلى بلادهم للإراحة و عاد إلى مخيمه ثامن رمضان و أقام الإفرنج بيافا و شرعوا في عمارتها فرحل صلاح الدين إلى نطرون و خيم به منتصف رمضان و تردد الرسل بين ملك إنكلطيرة و بين العادل على أن يزوجه ملك إنكلطيرة أخته و يكون القدس و بلاد المسلمين بالساحل للعادل و عكا و بلاد الإفرنج بالساحل لها إلى مملكتها وراء البحر بشرط رضا الفداوية و أجاب صلاح الدين إلى ذلك و منع الأقسة و الرهبان أخت ملك إنكلطيرة من ذلك و نكروا عليها فلم يتم و إنما كان ملك إنكلطيرة يخادع بذلك ثم إعتزم الإفرنج على القدس و رحلوا من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة و سار صلاح الدين إلى القدس و قدم عليه عسكر مصر مع أبي الهيجاء السمين فقويت به نفوس المسلمين و سار الإفرنج من الرملة إلى النطرون ثالث ذي الحجة و المسلمون يحاذونهم و كانت بينهم وقعات أسروا في واحد منها نيفا و خمسين من مقاتلة الإفرنج و اهتم صلاح الدين بعمارة أسوار القدس و رم ما ثلم منها و ضبط المكان الذي ملك القدس منه و سد فروجه و أمر بحفر الخندق خارج الفصيل و قسم ولاية هذه الأعمال بين ولده و أصحابه و قلت الحجارة للبنيان و كان صلاح الدين يركب إلى الأماكن البعيدة و ينقلها على مركوبه فبقتدي به العسكر ثم إن الإفرنج ضاقت أحوالهم بالنطرون و قطع المسلمون عنهم الميرة من ساحلهم فلم يكن كما عده بالرملة و سأل ملك انكلطيرة عن صورة القدس ليعلم كيفية ترتيب حصارها فصورت له و رأى الوادي محيطا بها إلا قليلا من جهة الشمال مع عمقه و وعرة مسالكه فقال هذه لا يمكن حصارها لانا إذا اجتمعنا عليها من جانب بقيت الجوانب الأخرى و أن افترقنا على جانب الوادي و الجانب الآخر كبس المسلمون إحدى الطائفتين و لم تصل الأخرى لإنجادهم خوفا من المسلمين على معسكرهم و إن تركوا من أصحابه حامية المعسكر فالمدى بعيد لا يصلون للإنجاد إلا بعد الوفاة هذا إلى ما يلحقنا من تعذر القوت بانقطاع الميرة فعلموا صدقة و ارتحلوا عائدين إلى الرملة ثم ارتحلوا في محرم سنة ثمان و ثمانين إلى عسقلان و شرعوا في عمارتها و سار ملك إنكلطيرة إلى مسلح المسلمين فواقعوهم و جرت بينهم حروب شديدة و صلاح الدين يبعث سراياه من القدس إلى الإفرنج للإغارة و قطع الميرة فيغنمون و يعودون و الله تعالى أعلم (5/379)
مقتل المركيش و ملك الكندهري مكانه
ثم ارتحل صلاح الدين إلى سنان مقدم الإسماعيلية بالشام في قتل ملك إنكلطيرة و المركيش و جعل له على ذلك عشرة آلف دينار فلم يمكنهم قتل ملك إنكلطيرة لما رأوه من المصلحة لئلا بتفرغ لهم صلاح الدين و بعث رجلين لقتل المركيش في زي الرهبان فاتصلا بصاحب صيدا و ابن بازران صاحب و أقاما عندهما بصور ستة أشهر مقبلين على رهبانيتهما حتى لأنس بهما المركيش ثم دعاه الأسقف بصور دعوى فوثبا عليه فخرجاه ولجأ أحدهما إلى كنيسة و اختفى فيها و حمل إليها المركيش لشدة جراحه فأجهز عليه ذلك الباطني و قتله و نسب ذلك إلى ملك إنكلطيرة رجاء أن ينفرد بملك الإفرنج بالشام و لما قتل المركيش ملك المدينة زعيم من الإفرنج الواردين من وراء البحر يعرف بالكندهري ابن أخت ملك إفرنسة و ابن أخي ملك إنكلطيرة من أبيه و تزوج بالملكة في ليلته و بنى بها و ملك عكا و سائر البلاد بعد عود ملك إنكلطيرة و عاش إلى سنة أربع و تسعين و سقط من سطح و لما رحل ملك إنكلطيرة إلى بلاده أرسل هذا الكندهري إلى صلاح الدين و استماله للصلح و التمس منه الخلعة فبعث إليه بها و لبسها بعكا و الله تعالى أعلم (5/381)
مسير الإفرنج إلى القدس
و لما قدم صلاح الدين القدس و كان قد بلغه مهلك تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه و أن ابنه ناصر الدين استولى على أعماله بالجزيرة و هي حران و الرها و سميساط و ميافارقين و جان و بعث إلى صلاح الدين يسأل إبقاءها في يده مضافة إلى ما كان لأبيه من الأعمال بالشام فاستقصره صلاح الدين لصغره و طلب منه ابنه الأفضل أن يعطيها له و ينزل عن دمشق فأجابه إلى ذلك و أمره أن يسير إليها و كاتب ملوك البلاد الشرقية بالموصل و سنجار و الجزيرة و اربل و سار لإنجاده بالعساكر و علم ناصر الدين أنه لا قبل له بذلك فبعث للملك العادل يستشفع له عند صلاح الدين على أن يبقى بيده ما كان لأبيه بالشام فقط و ينزل عن بلاد الجزيرة فأقطعها صلاح الدين أخاه الملك العادل و بعثه يتسلمها و يرد ابنه الأفضل فلحق بالأفضل بحلب و أعاده و عبر الفرات و تسلم البلاد من ناصر الدين بن تقي الدين و أنزل بها عماله و استصحبه و ساير العساكر الجزرية إلى صلاح الدين بالقدس و لما بلغ الإفرنج أن صلاح الدين بعث ابنه الأفضل و أخاه العادل و فرق العساكر عليهما و لم يبق معه بالقدس إلا بعض الخاصة فطمعوا فيه و أغاروا على عسكر مصر و هو قاصد إليه و مقدمهم سليمان أخو العادل لأمه فأخذوه بنواحي الخليل و قتلوا و غنموا و نجا فلهم إلى جبل الخليل و ساروا إلى الداروم فخربوه ثم ساروا إلى القدس و انتهوا إلى بيت قوجة على فرسخين من القدس تاسع جمادي الأولى من سنة ثمان و ثمانين و استعد صلاح الدين للحصار و فرق أبراج السور على أمرائه و سلط السرايا و البعوث عليهم فرأوا ما لا قبل لهم به قتأخروا عن منازلتهم بيافا و أصبحت بقولهم و ميرتهم غنائم للمسلمين و بلغهم أن العساكر الشرقية التي مع العادل و الأفضل عادت إلى دمشق فعادوا إلى عكا و عزموا على محاصرة بيروت فأمر صلاح الدين ابنه الأفضل أن يسير في العساكر الشرقية إليها فسار و انتهى إلى مرج العيون فلم يبرج الإفرنج من عكا و اجتمع عند صلاح الدين خلال ذلك العساكر من حلب و غيرها فسار إلى يافا فحاصرها و ملكها عنوة في عشرى رجب من السنة ثم حاصر القلعة بقية يومه و أشرفوا على فتحها و كانوا ينتظرون المدد من عكا فشغلوا المسلمين بطلب الأمان إلى الغد فأجابوهم إليه و جاءهم ملك انكلطيرة ليلا و تبعه مدد عكا و برز من الغد فلم يتقدم إليه أحد من المسلمين ثم نزل بين السماطين و جلس للأكل و أمر صلاح الدين بالحملة عليهم فتقدم أخ المشطوب و كان يلقب بالجناح و قال لصلاح الدين نحن نتقدم للقتال و مماليكك للغنيمة فغضب صلاح الدين و عاد عن الإفرنج إلى خيامه حتى جاء ابنه الأفضل و أخوه العادل فرحل إلى الرملة ينتظر مآل أمره مع الإفرنج و أقاموا بيافا و الله تعالى أعلم (5/381)
الصلح بين صلاح الدين و الإفرنج و مسير ملك إنكلطيرة إلى بلاده
كان ملك انكلطيرة إلى هذه المدة قد طال مغيبه عن بلاده و يئس من الساحل لأن المسلمين استولوا عليه فأرسل إلى صلاح الدين يسأله في الصلح و ظن صلاح الدين أن ذلك مكر فلم يحبه و طلب الحرب فألح ملك إنكلطيرة في السؤال و ظهر صدق ذلك منه فترك ما كان فيه من عمارة عسقلان و غزة و الداروم و الرملة و بعث إلى الملك العادل بأن يتوسط في ذلك فأشار على صلاح الدين بالإجابة هو و سائر الأمراء لما حدث عند العسكر من الضجر و نفاد النفقات و هلاك الدواب و الأسلحة و ما بلغهم أن ملك إنكلطيرة عائد إلى بلاده و إن لم تقع الإجابة آخر فصل الشتاء امتنع ركوب البحر فيقيم إلى قابل فلما وعي ذلك صلاح الدين و علم صحته أجاب إلى الصلح و عقد الهدنة مع رسل الإفرنج في عشرين من شعبان سنة ثمان و ثمانين لمدة أربعة و أربعين شهرا فتحالفوا على ذلك و أذن صلاح الدين للإفرنج في زيارة القدس و ارتحل ملك انكلطيرة في البحر عائدا إلى بلده و أقام الكندهري صاحب صور بعد المركيش ملكا على الإفرنج بسواحل الشام و تزوج الملكة التي كانت تملكهم قبله و قبل صلاح الدين كما مر و سار صلاح الدين إلى القدس فأصلح أسواره و أدخل كنيسة صهيون في البلد و كانت خارج السور و اختط المدارس و الربط و المارستان و وقف عليها الأوقاف و اعتزم على الإحرام منه للحج فاعترضه القواطع دون ذلك فسار إلى دمشق خامس شوال و استخلف عليه الأمير جرديك من موالي نور الدين و مر بكفور المسلمين نابلس و طبرية و صفد و بيروت و لما انتهى إلى بيروت أتاه بها سمند صاحب انطاكية و طرابلس و أعمالها فالتزم طاعة صلاح الدين و عاد و دخل صلاح الدين دمشق في الخامس و العشرين من شوال و سر الناس بقدومه و وهن العدو و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/382)
وفاة صلاح الدين و حال ولده و أخيه من بعده
و لما وصل صلاح الدين إلى دمشق و قد خف من شواغل الإفرنج بوهنهم و ما عقد من الهدنة فأراح قليلا ثم اعتزم على أحداث الغزو فاستشار ابنه الأفضل وأخاه العادل في مذهبه فأشار العادل بخلاط لأنه كان وعده أن يقطعه إياها إذا ملكها و أشار الأفضل ببلاد الروم إيالة بني قليج أرسلان لسهولة أمرها و اعتراض الإفرنج فيها إذا قصدوا الشام لأنها طريقهم فقال لأخيه تذهب أنت لخلاط في بعض ولدي و بعض العسكر و أذهب أنا إلى بلاد الروم فإذا فرغت منها لحقت بكم فسرنا إلى أذربيجان ثم إلى بلاد العجم و أمره بالمسير إلى الكرك و هي من أقطاعه ليتجهز منها و يعود لشأنه فسار إلى الكرك و مرض صلاح الدين بعده و مات في صفر سنة تسع و ثمانين و خمسمائة لخمس و عشرين من ملكه مصر رحمة الله تعالى و كان معه بدمشق ابنه الأفضل نور الدين و العساكر عنده فملك دمشق و الساحل و بعلبك و صرخد و بصرى و بانياس و شوش و جميع الأعمال إلى الداروم و كان بمصر ابنه العزيز عثمان فاستولى عليها و كان بحلب ابنه الظاهر غازي فاستولى عليها و على أعمالها مثل حارم و تل باشر و إعزاز و برزية و دربساك و غيرها و أطاعه صاحب حماة ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شيركوه و له مع حماة سلمية و المعرة و منبج و ابن محمد بن شيركوه و له مع الرحبة حمص و تدمر و بعلبك بهرام شاه بن فرخشاه بن شاهنشاه و لقبه الأمجد و ببصرى الظافر بن صلاح الدين و لقبه الأمجد مع أخيه الأفضل و شيرز سابق الدين عثمان ابن الداية و بالكرك و الشويك الملك العادل و بلغ الخبر إلى العادل فأقام بالكرك و استدعاه الأفضل من دمشق فلم يجبه فخوفه ابن أخيه العزيز صاحب مصر من عز الدين صاحب الموصل و قد كان سار من الموصل إلى بلاده العادل بالجزيرة فوعده بالنصر منه و أوهمه الرسول إن لم يسر إلى الأفضل بدمشق أنه متوجه إلى العزيز بمصر ليحالفه عليه فحينئذ إرتاب العادل و سار إلى الأفضل بدمشق فتلقاه بالميرة و جهز له العساكر لمدافعة عز الدين صاحب الموصل عن بلاد الجزيرة و أرسل إلى صاحب حمص و صاحب حماة يحضهم على إنفاذ العساكر معه و عبر بها الفرات و أقام بنواحي الرها و كان عز الدين مسعود بن مودود صاحب الموصل لما بلغه وفاة صلاح الدين اعتزم على المسير إلى بلاد العادل بالجزيرة حران و الرها و سائرها ليرتجعها من يده و مجاهد الدين قايماز أتابك دولته يثنيه عن ذلك و يعذله فيه فتبين حال العادل مع ابن أخيه و بينما هو في ذلك إذا جاءت الأخبار بأن العادل بحران ثم وافاهم كتابه بأن الأفضل ملك بعد أبيه صلاح الدين و أطاعه الناس فكاتب عز الدين جيرانه من الملوك مثل صاحب سنجار و صاحب ماردين يستنجدهم و جاء إليه أخوه على نصيبن و سار معه إلى الرها فأصابه المرض في طريقه و رجع إلى الموصل فمات أول رجب من السنة و استقرت إيالة العادل في ملكه من الجزيرة فلم يهجه منها أحد و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/383)
مسير العزيز من مصر إلى حصار الأفضل بدمشق و ما استقر بينهم في الولايات
كان العزيز عثمان بن صلاح الدين قد استقر بمصر كما موالي أبيه منحرفين عن الأفضل و رؤساؤهم يومئذ جهاركس و قراجا و قد استقر بهم عدو الأفضل و الأكراد و موالي شيركوه شيعة له فكان العدو يعدون العزيز بهؤلاء الشيع و يخوفونه من أخيه الأفضل و يغرونه بانتزاع دمشق من يده فسار لذلك سنة تسعين و خمسمائة و نزل على دمشق و استنزل الأفضل و هو بأعماله بالجزيرة و سار لعمه العادل بنفسه و سار معه الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب و ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه صاحب حماة و شيركوه ابن محمد بن شيركوه صاحب حمص و عساكر الموصل ممن قبل عز الدين مسعود بن مودود و ساروا كلهم إلى الأفضل بدمشق لإنجاده فامتنع على العزيز مرامه و تراسلوا في الصلح على أن يكون القدس و أعمال فلسطين للعزيز و جبلة و اللاذقية للظاهر صاحب حلب و تبقى دمشق و طبرية و الغور للأفضل وأن يستقر العادل بمصر مدبرا دولة العزيز على اقطاعه الأول و انعقد الصلح على ذلك و رجع العزيز إلى مصر و عاد كل إلى بلده و الله تعالى أعلم (5/384)
حصار العزيز ثانيا دمشق و هزيمته
و لما عاد العزيز إلى مصر عاد موالي صلاح الدين إلى أغرائه بأخيه الأفضل فتجهز لحصاره بدمشق سنة إحدى و تسعين و سار الأفضل من دمشق إلى عمه العادل بقلعة جعبر ثم إلى أخيه الظاهر غازي بحلب مستنجدا لهما و عاد إلى دمشق فوجد العادل قد سبقه إليها و اتفقا على أن تكون مصر للأفضل و دمشق للعادل و وصل العزيز إلى قرب دمشق و كان الأكراد و موالي شيركوه منحرفين عنه كما قدمناه وشيعة للأفضل و مقدمها سيف الدين أبو ركوش من الموالي و أبو الهيجاء السمين من الأكراد فدلسا للأفضل بالخروج إلى العزيز و واعداه الهزيمة عنه فخرجا في العساكر و إنحار إليهما الموالي و الأكراد و انهزم العزيز إلى مصر و بعث الأفضل العادل إلى القدس فتسلمه من نائب العزيز و ساروا في إتباعه إلى مصر و العساكر ملتفة على الأفضل فارتاب العادل و خشي أن لا يفي له الأفضل بما اتفقا عليه ولا يمكنه من دمشق فراسل العزيز بالثبات و أن ينزل حامية و وعد من نفسه المظاهرة على أخيه و تكفل له منعه من مقاتلته بلبيس فترك العزيز بها فخر الدين جهاركس في عسكر من موالي أبيه و أراد الأفضل مناجزتهم فمنعه العادل فأراد الرحيل إلى مصر فمنعه أيضا و قال له إن أخذت مصر عنوة انخرقت الهيبة و طمع فيها الأعداء و المطاولة أولى و دس إلى العزيز بإرسال القاضي الفاضل و كان مطاعا فيهم لمنزلته عند صلاح الدين فجاء إليهما و عقد الصلح بينهم على أن يكون للأفضل القدس و فلسطين و طبرية و الأردن مضافة إلى دمشق و يكون للعادل كما كان القديم و يقيم بمصر عند العزيز يدبر أمره و تحالفوا على ذلك و عاد الأفضل إلى دمشق و أقام العادل عند العزيز بمصر انتهى و الله أعلم (5/385)
استيلاء العادل على دمشق
ثم أن العزيز استمال العادل و أطمعه في دمشق أن يأخذها من أخيه و يسلمها إليه و كان الظاهر صاحب حلب يعذل الأفضل في موالاة عمه العادل و يحرضه على أبعاده فيلج في ذلك ثم أن العادل و العزيز ساروا من مصر و حاصروا دمشق و استمالوا من أمراء الأفضل أبا غالب الحمصي على وثوق الأفضل به و إحسانه إليه ففتح لهم الباب الشرقي عشي السابع و العشرين ممن رجب سنة اثنتين و تسعين فدخل العادل منه إلى دمشق و وقف العزيز بالميدان الأخضر و خرج إليه أخوه الأفضل دار شيركوه و أظهروا مصالحة الأفضل خشية من جموعه و أعادوه إلى القلعة و أقاموا بظاهر البلد و الأفضل يغاديهم كل يوم و يراوحهم حتى استفحل أمرهم فأمروه بالخروج من دمشق و تسليم أعمالها و أعطوه قلعة صرخد و ملك العزيز القلعة و نقل للعادل أن العزيز يريد أن يتردد إلى دمشق فجاء إليه و حمله على تسليم القلعة فسلمها و خرج الأفضل إلى رستاق له خارج البلد فأقام به و سار إلى صرخد و عاد العزيز إلى مصر و أقام العادل بدمشق و الله سبحانه و تعالى أعلم بغيبه و أحكم (5/385)
فتح العادل يافا من الإفرنج و استيلاء الإفرنج على بيروت و حصارهم تبنبن
و لما توفي صلاح الدين و ملك أولاده بعده جدد العزيز الهدنة مع الكندهري ملك الإفرنج كما عقد أبوه معه و كان الأمير أسامة يقطع بيروت فكان يبعث الشواني للإغارة على الإفرنج و شكوا ذلك إلى العادل بدمشق و العزيز بمصر فلم يشكياهم فأرسلوا إلى ملوكهم وراء البحر يستنجدونهم فأمدوهم بالعساكر و أكثرهم من الإلمان و نزلوا بعكا و استنجد العادل بالعزيز فبعث إليه بالعساكر و جاءته عساكر الجزيرة و الموصل و اجتمعوا بعين جالوت و أقاموا رمضان و بعض شوال من سنة اثنتين و تسعين ثم ساروا إلى يافا فملكوا المدينة أولا و خربوها و امتنع الحامية بالقلعة فحاصروها و فتحوها عنوة و استباحوها و جاء الإفرنج من عكا لصريخ إخوانهم و انتهوا إلى قيسارية فبلغهم خبر وفادتهم و خبر وفادة الكندهري ملكهم بعكا فرجعوا ثم اعتزموا على قصد بيروت فسار العادل لتخريبها حذرا عليها من الإفرنج فتكفل له أسامة عاملها بحمايتها و عاد و وصل إليها الإفرنج يوم عرفة من السنة و هرب منها أسامة و ملكوها و فرق العادل العساكر فخربوا ما كان بقي من صيدا بعد تخريب صلاح الدين و عاثوا في نواحي صور فعاد الإفرنج إلى صور و نزل المسلمون على قلعة هونين ثم نازل الإفرنج حصن تبنبن في صفر سنة أربع و تسعين و بعث العادل عسكرا لحمايته فلم يغنوا عنه و نقب الإفرنج أسواره فبعث العادل بالصريخ إلى العزيز صاحب مصر فأغذ السير بعساكره و انتهى إلى عسقلان في ربيع من السنة و كان المسلمون في تبنين قد بعثوا إلى الإفرنج من يستأمن لهم و يسلمون لهم فأنذرهم بعض الإفرنج بأنهم يغدرون بهم فعادوا إلى حصنهم و أصروا على الإمتناع حتى وصل العزيز إلى عسقلان فاضطرب الإفرنج لوصوله و لم يكن لهم ملك و إنما كان معهم الجنصكر القسيس من أصحاب ملك الألمان و المرأة زوجة الكندهري فاستدعوا ملك قبرص و إسمه هبري و هو أخ الملك الذي أسر بحطين فجاءهم و زجوه بملكتهم فلما جاء العزيز و سار من عسقلان إلى جبل الخليل و أطل على الإفرنج و ناوشهم القتال رجع الإفرنج إلى صور ثم إلى عكا و نزلت عساكر المسلمين بالبحور فاضطرب أمراء العزيز و اجتمع جماعة منهم و هم ميمون القصري و قراسنقر و الحجاب و ابن المشطوب على الغدر بالعزيز و مدبر دولته فخر الدين جهاركس فأغذا السير إلى مصر و تراسل العادل و الإفرنج في الصلح و انعقد بينهم في شعبان من السنة و رجع العادل إلى دمشق و سار منها إلى ماردين كما يأتي خبره و الله تعالى أعلم (5/386)
وفاة طغتكين بن أيوب باليمن و ملك ابنه إسمعيل ثم سليمان بن تقي الدين شاهنشاه
قد تقدم لنا أن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب سار إلى المدينة سنة ثمان و سبعين بعد وفاة أخيه شمس الدولة توران شاه و اختلاف نوابه باليمن و استولى عليها و نزل زبيد و أقام بها إلى أن توفي في شوال سنة ثلاث و تسعين و كان سيء السيرة كثير الظلم للرعية جماعا للأموال و لما استفحل بها أراد الإستيلاء على مكة فبعث الخليفة الناصر إلى أخيه صلاح الدين يمنعه من ذلك فمنعه و لما توفي مكانه ابنه إسمعيل و بلغ المعز و كان أهوج فانتسب في بني أمية و ادعى الخلافة و تلقب بالهادي و لبس الخضرة و بعث إليه عمه العادل بالملامة و التوبيخ فلم يقبل و أساء السيرة في رعيته و أهل دولته فوثبوا و قتلوه و تولى ذلك سيف الدين سنقر مولى أبيه و نصب أخاه الناصر سنة ثمان و تسعين فأقام بأمره ثم هلك سنقر لأربع سنين من دولته و قام مكانه غازي بن جبريل من أمرائهم و تزوج أم الناصر ثم قتل الناصر مسموما و ثأر العرب منه بغازي المذكور و بقي أهل اليمن فوضى و استولى على طغان و بلاد حضرموت محمد بن محمد الحميري و استبدت أم الناصر و ملكت زبيد و بعثت في طلب أحد من بني أيوب تملكه على اليمن و كان مظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه و قيل لابنه سعد الدين شاهنشاه ابن اسمه سليمان ترهب و لبس المسوح و لقيه بالموسم بعض غلمانها و جاءته فتزوجته و ملكته اليمن و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/387)
مسير العادل إلى الجزيرة و حصاره ماردين
كان نور الدين أرسلان شاه مسعود صاحب الموصل قد وقع بينه و بين قطب الدين محمد ابن عمه عماد الدين زنكي صاحب نصيبين و الخابور و الرقة و بين أبيه عماد الدين قبله فتنة بسبب الحدود في تخوم أعمالهم فسار نور الدين إليه في عساكره و ملك منه نصيبين و لحق قطب الدين بحران و الرها إيالة العادل بن أيوب و بعث إليه بالصريخ و هو بدمشق و بذل له الأموال في إنجاده فسار العادل إلى حران و ارتحل نور الدين من نصيبين إلى الموصل و سار قطب الدين إليها فملكها و سار العادل إلى ماردين في رمضان من السنة فحاصرها و كان صاحبها حسام الدين بولو أرسلان بن أبي الغازي بن ألبابن تمرتاش أبي الغازي بن أرتق و هو صبي و كافله مولى النظام برتقش مولى أبيه و الحكم له و دام حصاره عليها و ملك الربض و قطع الميرة عنها ثم رحل عنها في العام القابل كما تقدم في أخبار دولة زنكي و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/388)
وفاة العزيز صاحب مصر و ولاية أخيه الأفضل
ثم توفي العزيز عثمان بن صلاح الدين آخر محرم سنة خمس و تسعين و كان فخر الدين أياس جهاركس مولى أبيه مستبدا عليه فأرسل العادل بمكانه من حصار ماردين يستدعيه للملك و كان جهاركس هذا مقدم موالي صلاح الدين و كانوا منحرفين عن الأفضل و كان موالي صلاح الدين شيركوه و الأكراد شيعة و جمعهم جهاركس لينظر في الولاية و أشار بتولية ابن العزيز فقال له سيف الدين أيازكوش مقدم موالي شيركوه لا يصلح لذلك لصغره إلا أن يكفله أحد من ولد صلاح الدين لأن رياسة العساكر صنعه و اتفقوا على الأفضل ثم مضوا إلى القاضي الفاضل فأشار بذلك أيضا و أرسل أياز كوش من يستدعيه من صرخد فسار آخر صفر من السنة و لقيه الخبر في طريقه الخبر في طريقه بطاعة القدس له و خرج أمراء مصر فلقوه ببلبيس و أضافه أخوه المؤيد مسعود و فخر الدين جهاركس و دولة العزيز فقدم أخاه و ارتاب جهاركس و استأذنه في المسير ليصلح بين طائفتين من العرب اقتتلا فأذنه فسار فخر الدين إلى القدس و تملكه و لحقه جماعة من موالي صلاح منهم قراجا الدكرمس و قراسنقر و جاءهم ميمون القصري فقويت شوكتهم به و اتفقوا على عصيان الأفضل و أرسلوا إلى الملك العادل يستدعونه فلم يعجل لإجابتهم لطمعه في أخذ ماردين و إرتاب الأفضل بموالي صلاح الدين و هم شقيرة و أنبك مطيش و ألبكي و لحق جماعة منهم بأصحابهم بالقدس و أرسل الأفضل إليهم في العود على ما يختارونه فامتنعوا و أقام هو بالقاهرة و قرر دولته و قدم فيها سيف الدين أياز كوش و الملك لابن أخيه العزيز عثمان و هو كافل له لصغره و انتظمت أمورهم على ذلك انتهى و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/388)
حصار الأفضل دمشق و عوده عنها
و لما انتظمت الأمور للأفضل بعث إليه الظاهر غازي صاحب حلب و ابن عمه شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص يغريانه بملك دمشق لغيبة العادل عنها في حصار ماردين و يعدانه المظاهرة فسار من منتصف السنة و وصل إلى دمشق منتصف شعبان و سبقه العادل إليها و ترك العساكر مع ابنه الكامل ماردين و لما نزل الأفضل على دمشق و كان معه الأمير مجد الدين أخو عيسى الهكاري فداخل قوما من الأجناد في دمشق في أن يفتحوا له باب السلامة و دخل منه هو و الأفضل سرا و انتهوا إلى باب البريد ففطن عسكر العادل لقلتهم و إنقطاع مددهم فتراجعوا و أخرجوهم و نزل الأفضل بميدان الحصار و ضعف أمره و اعصوصب الأكراد من عساكره فارتاب بهم الآخرون و انحازوا عنهم في المعسكر و وصل شيركوه صاحب حمص ثم الظاهر صاحب حلب آخر شعبان و أول رمضان لمظاهرة الأفضل و أرسل العادل إلى موالي صلاح الدين بالقدس فساروا إليه و قوي بهم و يئس الأفضل و أصحابه و خرج عساكر دمشق ليبيتوهم فوجدوهم حذرين فرجعوا و جاء الخبر إلى العادل بوصول ابنه محمد الكامل إلى حران فاستدعاه و وصل منتصف صفر سنة ست و تسعين فعند ذلك رحلت العساكر عن دمشق و عاد كل منهم إلى بلاده انتهى و الله أعلم (5/389)
إفراج الكامل عن ماردين
قد كان تقدم لنا مسير العادل إلى ماردين و سار معه صاحب الموصل و غيره من ملوك الجزيرة و ديار بكر و في نفوسهم غصص من تغلب العادل على ماردين و غلبهم فلما عاد العادل إلى دمشق لمدافعة الأفضل و ترك ابنه الكامل على حصار ماردين و اجتمع ملوك الجزيرة و ديار بكر على مدافعته عنها و سار نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل و ابن عمه قطب الدين محمد بن زنكي صاحب سنجار و ابن عمه قطب الدين سنجر شاه بن غازي صاحب جزيرة ابن عمر و اجتمعوا كلهم ببدليس حتى قضوا عيد الفطر و ارتحلوا سادس شوال و قاربوا جبل ماردين و كان أهل ماردين قد اشتد عليهم الحصار و بعث النظام برتقش صاحبها إلى الكامل بتسليم القلعة على شروط اشترطها إلى أجل ضربه و أذن لهم الكامل في إدخال الأقوات في تلك المدة ثم جاءه الخبر بوصول صاحب الموصل و من معه فنزل القائم للقائهم و ترك عسكرا بالربض و بعث قطب الدين صاحب سنجار إلى الكامل و وعده بالإنهزام فلم يغن و لما التقى الفريقان حمل صاحب الموصل عليهم مستميتا فانهزم الكامل و صعد إلى الربض فوجد أهل ماردين قد غلبوا عسكره الذي هنالك و نهبوا مخلفهم فارتحل الكامل منتصف شوال مجفلا و لحق بميافارقين و انتهب أهل ماردين مخلفه و نزل صاحبها فلقي صاحب الموصل و عاد إلى قلعته و ارتحل صاحب الموصل إلى رأس عين لقصد حلوان و الرها و بلاد الجزيرة من بلاد العادل فلقيه هنالك رسول الظاهر صاحب حلب يطلبه في السكة و الخطبة فارتاب لذلك و كان عازما على نصرتهم فقعد عنهم و عاد إلى الموصل و أرسل إلى الأفضل و الظاهر يعتذر بمرض طرقه و هم يومئذ على دمشق و وصل الكامل من ميافارقين إلى حران فاستدعاه أبوه من دمشق و سار إليه في العساكر فأفرج عنه الأفضل و الظاهر و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/389)
استيلاء العادل على مصر
و لما رحل الأفضل و الظاهر إلى بلادهم تجهز العادل إلى مصر و أغراه موالي صلاح الدين بذلك و استحلفوه على أن يكون ابن العزيز ملكا و هو كافله و بلغت الأخبار بذلك إلى الأفضل و هو في بلبيس فسار منها و لقيهم فانهزم لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ست و تسعين و دخل القاهرة ليلا و حضر الصلاة على القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني توفي تلك الليلة و سار العادل لحصار القاهرة و تخاذل أصحاب الأفضل عنه فأرسل إلى عمه في الصلح و تسليم الديار المصرية على أن يعوضه دمشق أو بلاد الجزيرة و هي حران و الرها و سروج فلم يجبه و عوضه ميافارقين و جبال نور و تحالفوا على ذلك و خرج الأفضل من القاهرة ثامن عشر ربيع و اجتمع بالعادل و سار إلى بلده صرخد و دخل العادل القاهرة من يومه و لما وصل الأفضل صرخد بعث من يتسلم البلاد التي عوضه العادل و كان بها ابنه نجم الدين أيوب فامتنع من تسليم ميافارقين و سلم ما عداها و ردد الأفضل رسله في ذلك إلى العادل فزعم أن ابنه عصاه فعلم الأفضل أنه أمره و استفحل العادل في مصر و قطع خطبة المنصور بن العزيز و خطب لنفسه و اعترض الجند و محصهم بالمحو و الإثبات فاستوحشوا لذلك و بعث العادل فخر الدين جهاركس مقدم موالي صلاح الدين في عسكر إلى بانياس ليحاصرها و يملكها لنفسه ففصل من مصر للشام في جماعة الموالي الصلاحية و كان بها الأمير بشارة من أمراء الترك ارتاب العادل بطاعته فبعث العساكر إليه مع جهاركس و الله تعالى أعلم (5/390)
مسير الظاهر و الأفضل إلى حصار دمشق
و لما قطع العادل خطبة المنصور بن العزيز بمصر استوحش الأمراء لذلك و لما كان منه في اعتراض الجند فراسلوا الظاهر بحلب و الأفضل بصرخد أن يحاصرا دمشق فيسير إليهما الملك العادل فيتأخرون عنه بمصر و يقومون بدعوتهما و نمي الخبر إلى العادل و كتب به إليه الأمير عز الدين أسامة جاء من الحج و مر بصرخد فلقيه الأفضل و دعاه إلى أمرهم و أطلعه على ما عنده فكتب به إلى العادل و أرسل العادل إلى ابنه المعظم عيسى بدمشق يأمره بحصار الأفضل بصرخد و كتب إلى جهاركس بمكانه من حصار بانياس و إلى ميمون القصري صاحب نابلس بالمسير معه إلى صرخد ففر منها الأفضل منها الأفضل إلى أخيه الظاهر بحلب فوجده يتجهز لأنه بعث أميرا من أمرائه إلى العادل فرده من طريقه فسار إلى منبج فملكها ثم قلعة نجم كذلك و ذلك سلخ رجب من سنة سبع و تسعين و سار المعظم بقصد صرخد و انتهى إلى بصرى و بعث عن جهاركس و الذين معه على بانياس فغالطوه و لم يجيبوه فعاد إلى دمشق و بعث إليهم الأمير أسامة يستحثهم فأغلظوا له في القول و تناوله البكاء منهم و ثاروا به جميعا فتذمم لميمون القصري منهم فأمنه و عاد إلى دمشق ثم ساروا إلى الظاهر حضر به صلاح الدين و أنزله من صرخد و استحثوا الظاهر و الأفضل للوصول فتباطأ الظاهر عنهم و سار من منبج إلى حماة فحاصرها حتى صالحه صاحبها ناصر الدين محمد على ثلاثين ألف دينار صورية فارتحل عنها تاسع رمضان إلى حمص و معه أخوه الأفضل و منها إلى بعلبك إلى دمشق و وافاه هنالك الموالي الصلاحية مع الظاهر خضر بن مولاهم و كان الوفاق بينهم إذا فتحوا دمشق أن تكون بيد الأفضل فإذا ملكوا مصر سار إليها و بقيت للظاهر و أقطع الأفضل صرخد لمولى أبيه زين الدين قراجا و أخرج أهله منها إلى حمص عند شيركوه بن محمد شيركوه و كان العادل قد سار من مصر إلى الشام فانتهى إلى نابلس و بعث عسكرا إلى دمشق و وصلوا قبل وصول هذه العساكر فلما وصلوها قاتلوها يوما و ثانيه منتصف ذي القعدة و أشرفوا على أخذها فبعث الظاهر إلى الأفضل بأن دمشق تكون له فاعتذر بأن أهله في غير مستقر و لعلهم يأوون إلى دمشق في خلال ما يملك مصر فلج الظاهر في ذلك و كان الموالي الصلاحية مشتملين على الأفضل و شيعة له فخيرهم بين المقام و الانصراف و لحق فخر الدين جهاركس و قراجا بدمشق فامتنعت عليهم و عادوا إلى تجديد الصلح مع العادل على أن يكون للظاهر منبج و أفامية و كفر طاب و بعض قرى المعرة و الأفضل له سميساط و سروج و رأس عين و حملين فتم ذلك بينهم و رحلوا عن دمشق في محرم سنة ثمان و تسعين و سار الظاهر إلى حلب و الأفضل إلى حمص فأقام بها عند أهله و وصل العادل إلى دمشق في تاسوعاء و جاء الأفضل فلقيه بظاهر دمشق و عاد إلى بلاده فتسلمها و كان الظاهر و الأفضل لما فعلا من منبج إلى دمشق بعثا إلى نور الدين صاحب الموصل أن يقصد بلاده العادل بالجزيرة و كانت بينه و بينهما و بين صاحب ماردين يمين و اتفاق على العادل منذ ملك مصر مخافة أن يطرق أعمالهم فسار نور الدين عن الموصل في شعبان و معه ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار و عسكر ماردين و نزلوا رأس عين و كان الفائز بن العادل في عسكر يحفظ أعمالهم بالجزيرة فبعث إلى نور الدين في الصلح و وصل الخبر بصلح العادل مع الظاهر و الأفضل فأجابهم نور الدين إلى الصلح و استخلفوا و بعث أرسلان من عنده إلى العادل فاستخلفوه أيضا و صحت الحال و الله تعالى ولي التوفيق (5/391)
حصار ماردين ثم الصلح بين العادل و الأشرف
ثم بعث الملك العادل ابنه الأشرف موسى في العساكر لحصار ماردين فسار إليها و معه عساكر الموصل و سنجار و نزلوا بالحريم تحت ماردين و سار عسكر من قلعة البازغية من أعمال ماردين لقطع الميرة عن عسكر الأشرف فلقيهم جماعة من عسكر الأشرف و هزموهم و أفسد التركمان السابلة في تلك النواحي و امتنع على الأشرف قصده فتوسط الظاهر غازي في الإصلاح بينهم على أن يحمل صاحب ماردين للعادل مائة و خمسين ألف دينار و الدينار أحد عشر قيراطا من الأميري و يخطب له ببلاده و يضرب السكة باسمه و تعسكر طائفة من جنده معه متى دعاهم لذلك فأجاب العادل و تم الصلح بينهما و رحل الأشرف عن ماردين و الله أعلم (5/392)
أخذ البلاد من يد الأفضل
قد كان تقدم أن الظاهر و الأفضل لما صالحا العادل سنة سبع و تسعين أخذ الأفضل سميساط و سروج و رأس عين و حملين و كانت بيده معها قلعة نجم التي ملكها الظاهر بين يدي الحصار قبل الصلح ثم استرد العادل البلاد من يد الأفضل سنة تسع و تسعين و أبقى له سميساط و قلعة نجم فطلب الظاهر قلعة نجم على أن يشفع له عند العادل في رد ما أخذ منه فلم يجب فتهدده و لم تزل الرسل تتردد بينهما حتى سلمها إليه في شعبان من السنة و بعث الأفضل أمه إلى العادل في رد سروج و رأس عين عليهم فلم يشفعها فبعث الأفضل إلى ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان صاحب بلاد الروم بطاعته و أن يخطب له فبعث إليه بالخلعة و خطب له الأفضل في سميساط سنة ستمائة و سار من جملة نوابه في أعماله و في سنة تسع و تسعين هذه خاف على مصر محمود بن العزيز صاحب مصر بعث العساكر إلى الرها لأنه لما قطع خطبته من مصر سنة ست و تسعين خاف على مصر من شيعة أبيه فأخرجه سنة ثمان و تسعين إلى دمشق ثم نقله في هذه السنة إلى الرها و معه إخواته و أمه و أهله فأقاموا بها و الله أعلم (5/393)
واقعة الأشرف مع صاحب الموصل
كانت الفتنة متصلة بين نور الدين أرسلان شاه صاحب الموصل و بين ابن عمه قطب الدين صاحب سنجار و استمال العادل بن أيوب قطب الدين فخطب له بأعماله و سار إليه نور الدين غيرة من ذلك فحاصر نصيبين في شعبان من سنة ستمائة و بعث قطب الدين يستمد الأشرف موسى بن العادل و هو بحران فسار إلى رأس عين إمداده و مدافعة نور الدين عنه بعد أن اتفق على ذلك مع مظفر الدين صاحب أربل و صاحب جزيرة ابن عمر و صاحب كيفا و آمد ففارق نور الدين نصيبين و سار إليها الأشرف و جاءه أخوه نجم الدين صاحب ميافارقين و صاحب كيفا و صاحب الجزيرة و ساروا جميعا إلى بلد البقعا و نور الدين صاحب الموصل قد انصرف من تل أعفر و قد ملكها كفرزمان معتزما على مطاولتهم إلى أن يفترقوا ثم أغراه بعض موإليه كان بعثه عينا عليهم فقللهم في عينه و حرضه على معاجلتهم باللقاء فسار إلى نوشرا و نزل قريبا منهم ثم ركب لقتالهم و اقتتلوا فانهزم نور الدين و لحق بالموصل و نزل الأشرف و أصحابه كفرزمان و عاثوا في البلاد و اكتسحوها وترددت الرسل بينهم في الصلح على أن يعيد نور الدين على قطب الدين قلعة تل أعفر التي أخذها له فتم ذلك سنة إحدى و ستمائة و عاد إلى بلده و الله تعالى أعلم (5/393)
وصول الإفرنج إلى الشام و الصلح معهم
و لما ملك الإفرنج القسطنطينية من يد الروم سنة إحدى و ستمائة تكالبوا على البلاد و وصل جمع منهم إلى الشام و أرسوا بعكا غارمين على ارتجاع القدس من المسلمين ثم ساروا في نواحي الأردن فاكتسحوها و كان العادل بدمشق استنفر العساكر من الشام و مصر و سار فنزل بالطور قريبا من عكا لمدافعتهم و هم قبالته بمرج عكا و ساروا إلى كفركنا فاستباحوه ثم انقضت سنة إحدى و ستمائة و تراسلوا في المهادنة على أن ينزل لهم العادل عن كثير من مناصف الرملة و غيرها و يعطيهم و غيرها و تم ذلك بينهم و سار العادل إلى مصر فقصد الإفرنج حماة و قاتلهم صاحبها ناصر الدين محمد فهزموه و أقاموا أياما عليها ثم رجعوا و الله تعالى أعلم (5/394)
غارة ابن ليون على أعمال حلب
قد تقدم لنا ذكر ابن ليون ملك الأرمن و صاحب الدروب فأغار سنة اثنتين و ستمائة على أعمال حلب و اكتسحها و اتصل ذلك منه فجمع الظاهر غازي صاحب حلب و نزل على خمسة فراسخ من حلب و في مقدمته ميمون القصري من موالي أبيه منسوبا إلى قصر الخلفاء بمصر و منه كان أبوه و كان الطريق إلى بلاد الأرمن متعذرا من حلب لتوعر الجبال و صعوبة المضايق و كان ابن ليون قد نزل في طرف بلاده لما يلي حلب و من ثغورها قلعة دربساك فخشي الظاهر عليها منه و بعث إليها مددا و أمر ميمون القصري أن يشيعه بطائفة من عسكره ففعل و بقي في خف الجند و وصل خبره إلى ابن ليون فكبس القصري و نال منه و من المسلمين و انهزموا أمامه فظفر بمخلفهم و رجع فلقي في طريقه المدد الذي بعث إلى دربساك فهزمهم و ظفر بما كان معهم و عاد الأرمن إلى بلادهم فاعتصموا بحصونهم و الله تعالى أعلم (5/394)
استيلاء نجم الدين بن العادل على خلاط
كان العادل قد استولى على ميافارقين و أنزل بها ابنه الأوحد نجم الدين ثم استولى نجم الدين على حصون من أعمال خلاط و زحف إليها سنة ثلاث و ستمائة و قد استولى عليها بليان مولى شاهرين فقالته و هزمه و عاد إلى ميافارقين فهزمهم ثم دخلت سنة أربع و ستمائة و ملك مدينة سوس و غيرها و أمده أبوه العادل بالعساكر فقصد خلاط و سار إليه بليان فهزمه نجم الدين و حاصره بخلاط و بعث بليان إلى مغيث الدين طغرل شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم يستنجده فجاء في عساكره و اجتمع مع بليان و انهزم نجم الدين و نزلا على مدينة تلبوس فحاصرها ثم غدر طغرل شاه ببليان و قتله و سار إلى خلاط ليملكها فطرده أهلها فسار إلى ملازكرد فامتنعت عليه فعاد إلى بلاده و أرسل أهل خلاط إلى نجم الدين فملكوه خلاط و أعمالها و خافه الملوك المجاورون له و ملك الكرك و تابعوا الغارات على بلاده فلم يخرج إليهم خشية على خلاط و اعتزل جماعة من عسكر خلاط فاستولوا على حصن و إن من أعظم الحصون و أمنعها فعصوا على نجم الدين و اجتمع إليهم جمع كثير و ملكوا مدينة أرجيش و استمد نجم الدين على خلاط و أعمالها و عاد أخوه الأشرف إلى أعماله بحران و الرها ثم سار الأوحد نجم الدين إلى ملازكرد ليرتب أحوالها فوثب أهل خلاط على عسكره فأخرجوهم و حصروا أصحابه بالقلعة و نادوا بشعار بني شاهرين و عاد نجم الدين إليهم وقد وافاه عسكر من الجزيرة فقوي بهم و حاصر خلاط و اختلف أهلها فملكها و استلحم أهلها و حبس كثيرا من أعيانها كانوا فارين و ذل أهل خلاط لبني أيوب بعد هذه الوقعة إلى آخر الدولة و الله تعالى أعلم (5/395)
غارات الإفرنج بالشام
كان الإفرنج بالشام قد أكثروا الغارات سنة أربع و ستمائة بحشد ثان ما ملكوا القسطنطينية و استفحل ملكهم فيها فأغار أهل طرابلس و حصن الأكراد منهم على حمص و أعمالها و عجز صاحبها شيركوه بن محمد شيركوه عن دفاعهم و استنجد عليهم فأنجده الظاهر صاحب حلب بعسكر أقاموا عنده للمدافعة عنه و أغار أهل قبرص في البحر على أسطول مصر فظفروا منه بعدة قطع و أسروا من وجدوا فيها و بعث العادل إلى صاحب عكا يحتج عليه بالصلح فاعتذر بأن أهل قبرص في طاعة الإفرنج الذين بالقسطنطينية و أنه لا حكم له عليهم فخرج العادل في العساكر إلى عكا حتى صالحه صاحبها على إطلاق أسرى من المسلمين ثم سار إلى حمص و نازل القلعتين عند بحيرة قدس ففتحه و أطلق صاحبه و غنم ما فيه و خربه و تقدم إلى طرابلس فاكتسح نواحيها اثني عشر يوما و عاد إلى بحيرة قدس و راسله الإفرنج في الصلح فلم يجبهم و أظله الشتاء فأذن لعساكر الجزيرة في العود إلى بلادهم و ترك عند صاحب حمص عسكرا أنجده بهم و عاد إلى دمشق فشتى بها و الله أعلم (5/395)
غارات الكرج على خلاط و أعمالها و ملكهم أرجيش
و لما ملك الأوحد نجم الدين خلاط كما مر ردد الكرج الغارات على أعمالها و عاثوا فيها ثم ساروا سنة خمس و ستمائة إلى مدينة أرجيش فحاصروها و ملكوها عنوة و استباحوها و خربوها و خام نجم الدين عن لقائهم و مدافعتهم إلى أن انتقض عليه أهل خلاط لما فارقها و وقع بينه و بينهم ما مر ثم سار الكرج سنة تسع إلى خلاط و حاصروها و حاربهم الأوحد و هزمهم و أسر ملكهم ثم فاداه بمائة دينار و خمسة آلاف و على الهدنة مع المسلمين و أن يزوج بنته من الأوحد فانعقد ذلك و الله تعالى أعلم بغيبه (5/396)
استيلاء العادل على الخابور و نصيبين من عمل سنجار و حصارها
قد تقدم لنا أن قطب الدين زنكي بن محمود بن مودود صاحب سنجار و الخابور و نصيبين و ما إليها كانت بينه و بين ابن عمه نور الدين أرسلان شاه بن مسعود بن مودود صاحب الموصل عداوة مستحكمة و فتنة متصلة و زوج نور الدين صاحب الموصل بنته من ابن العادل بن أيوب سنة خمس و ستمائة و اتصل بهما لذلك فزين له وزراؤه و أهل دولته أن يستنجد بالعادل على جزيرة ابن عمر و أعمالها التي لابن عمه سنجر شاه بن غازي بن مودود فتكون الجزيرة بكمالها مضافة إلى الموصل و ملك العادل سنجار و ما إليها و هي ولاية قطب الدين فتكون له فأجاب العادل إلى ذلك و رآه ذريعة إلى ملك الموصل و أطمع نور الدين في أيالة قطب الدين إذا ملكها تكون لابنه الذي هو صهره على ابنته و تكون عنده بالموصل و سار العادل بعساكره سنة ست و ستمائة و قصد الخابور فملكه فتبين لنور الدين صاحب الموصل حينئذ أنه لا مانع منه و ندم على ما فرط في رأيه من وفادته و رجع إلى الاستعداد للحصار و خوفه الوزراء و الحاشية أن ينتقض على العادل فيبدأ به و سار العادل من الخابور إلى نصيبين فملكها و قام بمدافعته عن قطب الدين و حماية البلد من الأمير أحمد بن برتقش مولى أبيه و شرع نور الدين في تجهيز العساكر مع ابنه القاهر مددا للعادل و بعث قطب الدين صاحب سنجار ابنه مظفر الدين يستشفع به إلى العادل لمكانه منه و أثره في موالاته فشفع و لم يشفعه العادل فراسل نور الدين صاحب الموصل في الاتفاق على العادل فأجابه و سار بعساكره من الموصل و اجتمع مع نور الدين بظاهرها و استنجد بصاحب حلب الظاهر و صاحب بلاد الروم كنجسرو و تداعوا على الحركة إلى بلاد العادل إن امتنع من الصلح و الإبقاء على صاحب سنجار و بعثوا إلى الخليفة الناصر أن العادل فبعث إليه أستاذ داره أبا نصر هبة الله بن المبارك بن الضحاك و الأمير اقباش من خواص موإليه فأجاب إلى ذلك ثم غالطهم و ذهب إلى المطاولة ثم صالحهم على سنجار فقط و له ما أخذ و تحالفوا على ذلك و عاد كل إلى بلده ثم قبض المعظم عيسى سنة عشر و ستمائة على الأمير أسامة بأمر أبيه العادل و أخذ منه حصن كوكب و عجلون و كانا من أعماله فخر بهما و حصن أردن بالكوكب و بني مكانه حصنا قرب عكا على جبل الطور و شحنه بالرجال و الأقوات و الله تعالى أعلم (5/396)
وفاة الظاهر صاحب حلب و ولاية ابنه العزيز
لما توفي الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين بن أيوب صاحب حلب و منبج و غيرهما من بلاد الشام في جمادى الأخيرة سنة ثلاث عشرة و كان مرهف الحد ضابطا جماعة للأموال شديد الانتقام محسنا للقضاة و عهد بالملك لابنه الصغير محمد بن الظاهر و هو ابن ثلاث سنين و عدل عن الكبير لأن أمه بنت عمه العادل و لقبه العزيز غياث الدين و جعل أتابكه و كافله و خادمه طغرلبك و لقبه شهاب الدين و كان خيرا صاحب إحسان و معروف فأحسن كفالة الولد و عدل في سيرته و ضبط الإيالة بجميل نظره و الله أعلم (5/397)
ولاية مسعود بن الكامل على اليمن
و لما ملك سليمان بن المظفر على اليمن سنة تسع و تسعين و خمسمائة أساء إلى زوجته أم الناصر التي ملكته و ضارها و أعرض عنها و استبد بملكه و ملأ الدنيا ظلما و أقام على ذلك ثلاث عشرة سنة ثم انتقض على العادل و أساء معاملته و كتب إليه بعض الأحيان أنه من سليمان و أنه بسم الله الرحمن الرحيم فكتب العادل إلى ابنه الكامل أن يبعث العساكر إلى اليمن مع وال من قبله فبعث ابنه المسعود يوسف و اسمه بالتركي أقسنس في العساكر سنة اثنتي عشرة و ستمائة فملك اليمن و قبض على سليمان شاه و بعث به معتقلا إلى مصر فلم يزل بها إلى أن استشهد في حروب دمياط مع الإفرنج أعوام تسع و أربعين و طالت أيام مسعود باليمن و حج سنة تسع عشرة و قدم أعلام أبيه على أعلام الخليفة الناصر فكتب الناصر يشكوه إلى أبيه فكتب إليه أبوه الكامل برئت من العادل يا أخس إن لم أقطع يمينك فقد نبذت وراء ظهرك دنياك و دينك و لا حول و لا قوة إلا بالله فاستعتب إلى أبيه و أعتبه ثم غلب سنة ست و عشرين على مكة من يد الحسن بن قتادة سيد بني أدريس بن مطاعن من بني حسن و ولى عليها و عاد إلى اليمن فهلك بقية السنة و غلب على أمر اليمن بعده علي بن رسول أستاذ داره و نصب للملك ابنه الأشرف موسى و كفله ثم هلك موسى و استبد ابن رسول باليمن و أورثه بنيه فكانت لهم دولة اتصلت لهذا العهد كما نذكره في أخبارها إن شاء الله تعالى (5/397)
وصول الإفرنج من وراء البحر إلى سواحل الشام و مسيرهم إلى دمياط و حصارها و استيلاؤهم عليها
كان صاحب رومة أعظم ملوك الإفرنج بالعدوة الشمالية من البحر الرومي و كانوا كلهم يدينون بطاعته و بلغه اختلاف أموال الإفرنج بساحل الشام و ظهور المسلمين عليهم فانتدب إلى إمدادهم و جهز إليهم العساكر فامتثلوا أمره من إيالته و تقدم إلى ملوك الإفرنج أن يسيروا بأنفسهم أو يرسلوا العساكر فامتثلوا و توافدت الإمداد إلى عكا من سواحل الشام سنة أربع عشرة و سار العادل من مصر إلى الرملة و برز الإفرنج من عكا ليصدوه فسار إلى نابلس يسابقهم إلى أطراف البلاد و يدافعهم عنها فسبقوه و نزل هو بيسان من الأردن و زحف الإفرنج لحربه في شعبان من السنة و كان في خف من العساكر فخام عن لقائهم و رجع إلى دمشق و نزل مرج الصفر و استدعى العساكر ليجمعها و انتهب الفرنج مخلفه في بيسان و اكتسحوا ما بينها و بين بانياس و نازلوا بانياس ثلاثا ثم عادوا إلى مرج عكا بعد أن خربوا تلك الأعمال و امتلأت أيديهم من نهبها و سباياها ثم ساروا إلى صور و نهبوا صيدا و الشقيف على فرسخين من بانياس و عادوا إلى عكا بعد عيد الفطر ثم حاصروا حصن الطور على جبل قريب من عكا كان العادل اختطها فحاصروها سبعة عشر يوما و قتل عليها بعض ملوكهم فرجعوا عنها و بعث العادل ابنه المعظم عيسى إلى حصن الطور فخربها لئلا يملكها الإفرنج ثم سار الإفرنج من عكا في البحر إلى دمياط و أرسوا بسواحلها في صفر و النيل بينهم و كان على النيل برج حصين تمر منه إلى سور دمياط سلاسل من حديد محكمة تمنع السفن من البحر الملح أن تصعد في النيل إلى مصر فلما نزل الإفرنج بذلك الساحل خندقوا عليهم و بنوا سورا بينهم و بين الخندق و شرعوا في حصار دمياط و استكثروا من آلات الحصار و بعث العادل إلى ابنه الكامل بمصر أن يخرج في العساكر و يقف قبالتهم ففعل و خرج من مصر في عساكر المسلمين فنزل قريبا من دمياط بالعادلية و ألح الإفرنج على قتال ذلك البرج أربعة أشهر حتى ملكوه و وجدوا السبيل إلى دخول النيل ليتمكنوا من النزول على دمياط فبنى الكامل عوض السلاسل جسرا عظيما يمانع الداخلين إلى النيل فقاتلوا عليه قتالا شديدا حتى قطعوه فأمر الكامل بمراكب مملوأة بالحجارة و خرقوها و غرقوها وراء الجسر تمنع المراكب من الدخول إلى النيل فعدل الإفرنج إلى الخليج الأزرق و كان النيل يجري فيه قديما فحفروه فوق الجسر و أجروا فيه الماء إلى البحر و أصعدوا مراكبهم إلى قبالة معسكر المسلمين ليتمكنوا من قتالهم لأن دمياط كانت حاجزة بينهم فاقتتلوا معهم و هم في مراكبهم فلم يظفروا و الميرة و الإمداد متصلة إلى دمياط و النيل حاجز بينهم و بين الإفرنج فلا يحصل لهم من الحصار ضيق ثم بلغ الخبر بموت العادل فاختلف العسكر و سعى مقدم الأمراء عماد الدين أحمد بن سيف الدين علي بن المشطوب الهكاري في خلع الكامل و ولاية أخيه الأصغر الفائز و نمى الخبر إلى الكامل فأسرى من ليلته إلى أشمون طناح و تفقده المسلمون من الغد فأجفلوا و لحقوا بالكامل و خلفوا سوادهم بما فيه فاستولى عليه الإفرنج و عبروا النيل إلى البر المتصل بدمياط و جالوا بينها و بين أرض مصر و فسدت السابلة بالأعراب و انقطعت الميرة عن دمياط و اشتد الإفرنج في قتالها و هي في قلة من الحامية لإجفال المسلمين عنها بغتة و لما جهدهم الحصار و تعذر عليهم القوت استأمنوا إلى الإفرنج فملكوها آخر شعبان سنة ست عشرة و بنوا سراياهم فيما جاورها فأقفروه و رجعوا إلى عمارة دمياط و تحصينها و أقام الكامل قريبا منهم لحماية البلاد و بنى المنصورة بقرب مصر عند مفترق البحر من جهة دمياط و الله تعالى أعلم (5/398)
وفاة العادل و اقتسام الملك بين بنيه
قد ذكرنا خبر العادل مع الإفرنج الذين جاءوا من وراء البحر إلى سواحل الشام سنة أربع عشرة و ما وقع بينه و بينهم بعكا و بيسان و أنه عاد إلى مرج الصفر قريبا من دمشق فأقام به فلما سار الإفرنج إلى دمياط انتقل هو خانقين فأقام بها ثم مرض و توفي سابع جمادي الأخيرة سنة خمس عشرة و ستمائة لثلاث و عشرين سنة من ملكه دمشق و خمس و سبعين من عمره و كان ابنه المعظم عيسى بنابلس فجاء و دفنه بدمشق و قام بملكها و استأثر بمخلفه من المال و السلاح و كان لا يعبر عنه يقال كان المال العين في سترته سبعمائة ألف دينار و كان ملكا حليما صبورا مسددا صاحب إفادة و خديعة منجمة في أحواله و كان قد قسم البلاد في حياته بين بنيه فمصر للكامل و دمشق و القدس و طبرية و الكرك و ما إليها للمعظم عيسى و خلاط و ما إليها و بلاد الجزيرة غير الرها و نصيبين و ميافارقين للأشرف موسى و الرها و ميافارقين لشهاب الدين غازي و قلعة جعبر للخضر أرسلان شاه فلما توفي استقل كل منهم بعمله و بلغ الخبر بذلك إلى الملك الكامل بمكانه قبالة الإفرنج بدمياط فاضطرب عسكره و سعى المشطوب كما نقدم في ولاية أخيه الفائز و وصل الخبر بذلك إلى أخيه المعظم عيسى فأغذ السير من دمشق إليه بمصر و أخرج المشطوب إلى الشام فلحق بأخيهما الأشرف و صار في جملته و استقام للكامل ملكه بمصر و رجع المعظم من مصر فقصد القدس في ذي القعدة من السنة و خرب أسواره حذرا عليه من الإفرنج و ملك الإفرنج دمياط كما ذكرناه و أقام الكامل قبالتهم و الله ينصر من يشاء من عباده (5/400)
وفاة المنصوب صاحب حماة و ولاية ابنه الناصر
قد تقدم لنا صلاح الدين كان قد أقطع تقي الدين عمر ابن أخيه شاهنشاه مدينة حماة و أعمالها ثم بعثه إلى الجزيرة سنة سبع و ثمانين فملك حران و الرها و سروج و ميافارقين و ما إليها من بلاد الجزيرة فأقطعه إياها صلاح الدين ثم سار إلى بلاد أرمينية و قصد بكتمر صاحب خلاط و حاصرها ثم انتقل إلى حصار ملازكرد و هلك عليها تلك السنة و تولى ابنه ناصر الدين محمد و يلقب المنصور على أعماله ثم انتزع صلاح الدين منه بلاد الجزيرة و أقطعها أخاه العادل و أبقى حماة و أعمالها بيد ناصر الدين محمد المذكور فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع عشرة و ستمائة لثمان و عشرين سنة من ولايته عليها بعد مهلك عم أبيه صلاح الدين و العادل و كان ابنه ولي عهده المظفر عند العادل بمصر و ابنه الآخر قليج أرسلان عند خاله المعظم عيسى بمكانه من حصاره لملازكرد فاستدعاه أهل دولته بحماة و اشترط المعظم عليه ما لا يحمله و أطلقه إليهم فملك حماة و تلقب الناصر و جاءه أخوه ولي العهد من مصر فدافعه أهل حماة فرجع إلى دمشق عند المعظم و كاتبهم و استمالهم فلم يجيبوه و رجع إلى مصر و الله تعالى أعلم (5/400)
مسير صاحب بلاد الروم إلى حلب و إنهزامه و دخولها في طاعة الأشرف
قد كنا قدمنا وفاة الظاهر غازي بن صلاح الدين حلب و منبج سنة ثلاث عشرة و ولاية ابنه الأصغر محمد العزيز غياث الدين في كفالة طغرل الخادم مولى أبيه الظاهر و أن شهاب الدين هذا الكامل أحسن السيرة و أفاض العدل و عف عن أموال الرعية و رد السعاية فيهم بعضهم على بعض و كان بحلب رجلان من الأشرار يكثران السعاية عند الظاهر و يغريانه بالناس و لقي الناس منهما شدة فأبعدهما شهاب الدين فيمن أبعد من أهل الشر ورد عليهما السعاية فكسدت سوقهما و تناولهما الناس بالألسنة و الوعيد فلحقا ببلاد الروم و أطمعا صاحبها كيكاوس في ملك حلب و ما بعدها ثم رأى أن ذلك لا يتم إلا أن يكون معه بعض بني أيوب لينقاد أهل البلاد إليه و كان الأفضل بن صلاح الدين بسميساط و قد دخل في طاعة كيكاوس غضبا من أخيه الظاهر و عمه العادل بما انتزعا من أعماله فاستدعاه كيكاوس و طلبه في المسير على أن يكون ما يفتحه من حلب و أعمالها للأفضل و الخطبة و السكة لكيكاوس ثم يقصدون بلاد الأشرف بالجزيرة حران و الرها و ما إليهما على هذا الحكم و تحالفوا على ذلك و جمعوا العساكر و ساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة رعبان فتسلمها الأفضل ثم قلعة تل باشر من صاحبها ابن بدر الدين أرزم الباروقي بعد أن كانوا حاصروها و ضيقوا عليها و ملكها كيكاوس لنفسه فاستوحش الأفضل و أهل البلدان بفعل مثل ذلك في حلب و كان شهاب الدين كافل العزيز بن الظاهر مقيما بقلعة حلب لا يفارقها خشية عليها فطير الخبر إلى الملك الأشرف صاحب الجزيرة و خلاط لتكون طاعتهم و خطبتهم له و السكة باسمه و يأخذ من أعمال حلب ما اختار فجمع العساكر و سار إليهم سنة خمس عشرة و معه و أميرهم نافع من خدمه و غيرهم من العرب و نزل بظاهر حلب و توجه كيكاوس و الأفضل من تل باشر إلى منبج و سار الأشرف نحوهم و في مقدمته العرب فلقوا مقدمة كيكاوس فهزموها فلما عادوا إلى كيكاوس منهزمين أجفل إلى بلاده و سار الأشرف فملك رعبان و تل باشر و أخذ من كان عساكر كيكاوس و أطلقهم فلحقوا بكيكاوس فجمعهم في دار و أحرقهم عليهم فهلكوا و سلم الأشرف ما ملكه من قلاع حلب لشهاب الدين الخادم كافل العزيز بحلب و اعتزم على اتباع كيكاوس إلى بلاده فأدركه الخبر بوفاة أبيه العادل فرجع انتهى و الله تعالى أعلم (5/401)
دخول الموصل في طاعة الأشرف و ملكه سنجار
قد ذكرنا في دولة بني زنكي أن القاهر عز الدين مسعود صاحب الموصل توفي في ربيع سنة خمس عشرة و ستمائة و ولي ابنه نور الدين أرسلان شاه في كفالة مولى أبيه نور الدين لؤلؤ مولاه و مدبر دولته و كان أخوه عماد الدين زنكي في قلعة الصغد و السوس من أعمال الموصل بوصية أبيهما إليه و أنه بعد وفاة أخيه عز الدين طلب الأمر لنفسه و ملك العمادية و ظاهره مظفر الدين كوكبري صاحب إربل على شأنه فبعث نور الدين لؤلؤ إلى الأشرف موسى بن العادل و الجزيرة كلها و خلاط و أعمالها في طاعته فأرسل إليه طاعته و كان على حلب مدافعا لكيكاوس صاحب بلاد الروم كما نذكره بعد فأجابه الأشرف بالقبول و وعده النصر على أعدائه و كتب إلى مظفر الدين يقبح عليه ما وقع من نكث العهد في اليمين التي كانت بينهم جميعا و يأمره بإعادة عماد الدين زنكي ما أخذه من بلاد الموصل و إلا فيسير بنفسه و يسترجعها ممن أخذها و يدعوه إلى ترك الفتنة و الاشتغال معه بما هو فيه من جهاد الإفرنج فصمم مظفر الدين عن ندبته و وافقه صاحب ماردين و صاحب كيفا و آمد يجهز إلى الأشرف عسكرا إلى نصيبين للؤلؤ صاحب الموصل ثم جهز لؤلؤ العساكر إلى عماد الدين فهزموه و لحق بإربل عند المظفر جاءت الرسل من الخليفة الناصر و الملك الأشرف فأصلحوا بينهما و تحالفا ثم وثب عماد الدين زنكي إلى قلعة كواشى فملكها و بعث لؤلؤ إلى الأشرف و هو على حلب يستنجده فعبر الفرات إلى حران و استمال مظفر الدين ملوك الأطراف و حملهم على طاعة كيكاوس و الخطبة له و كان عدو الأشرف و منازعا له في منبج كما نذكره و بعث أيضا إلى الأمراء الذين مع الأشرف و استمالهم فأجابه منهم أحمد بن علي المشطوب صاحب الفعلة مع الكامل على دمياط و عز الدين محمد بن نور الدين الحميدي و فارقوا الأشرف إلى دبيس تحت ماردين ليجتمعوا على منع الأشرف من العبور إلى الموصل ثم استمال الأشرف صاحب كيفا و آمد و أعطاه مدينة جانين و جبل الجودي و وعده بدارا إذا ملكها و لحق به صاحب كيفا و فارق أصحابه الملوك و اقتدى به بعضهم في طاعة الأشرف و النزوع إليه فافترق ذلك الجمع و سار كل ملك إلى عمله و سار ابن المشطوب إلى إربل و مر بنصيبين فقاتله عساكرها و هزموه و افترق جمعه و مضى منهزما و اجتاز بسنجار و بها فروخ شاه عمر بن زنكي بن مودود فبعث إليه عسكرا فجاؤا به أسيرا و كان في طاعة الأشرف فحبس له ابن المشطوب ثم رجاه فأطلقه و سار في جماعة من المفسدين إلى البقعاء من أعمال الموصل فاكتسحها و عاد إلى سنجار ثم سار ثانيا للإغارة على أعمال الموصل فأرصد له لؤلؤ عسكرا بتل أعفر من أعمال سنجار فلما مر بهم قاتلوه و صعد إلى تل أعفر منهزما و جاء لؤلؤ من الموصل فحاصره بها شهرا أو بعضه و ملكها منتصف ربيع الآخر من سنة سبع عشرة و حبس ابن المشطوب بالموصل ثم بعث به إلى الأشرف فحبسه بحران إلى أن توفي في ربيع الآخر من سنة سبعة عشر و لما افترق جمع الملوك سار الأشرف من حران محاصرا لماردين ثم صالحه على أن يرد عليه رأس عين و كان الأشرف أقطعه له و على أن يأخذ منه ثلاثين ألف دينار و على أن يعطي صاحب كيفا و آمد قلعة المور من بلده و رجع الأشرف من دبيس إلى نصيبين يريد الموصل و كان عمر صاحب سنجار لما أخذ منه لؤلؤ تل أعفر تخاذل عنه أصحابه و ساءت ظنونهم بنفسه لما ساء فعله في أخيه و غي غيره فاعتزم على الإلقاء باليد للأشرف و تسليم سنجار له و الإعتياض عنها بالرقة و بعث رسله إليه بذلك فلحقوه في طريقه من دبيس إلى نصيبين فأجاب إلى ذلك و سلم إليه الرقة و سلم سنجار في مستهل جمادي الأولى سنة سبعة عشر و فارقها عمر فروخ شاه و إخوته بأهليهم و أموالهم و سار الأشرف من سنجار إلى الموصل فوصلها تاسع عشر جمادى الأولى من السنة و جاءته رسل الخليفة و مظفر الدين في الصلح و رد ما أخذه عماد الدين من قلاع الموصل إلى لؤلؤ ما عدا العمادية و طال الحديث في ذلك و رحل الأشرف يريد إربل ثم شفع عنده صاحب كيفا و غيره من بطانته و أنهوا إليه العساكر فأجاب إلى هذا الصلح و فسح في تسليم القلاع إلى مدة ضربوها و سار عماد الدين مع الأشرف حتى يتم تسليم الباقي و رحل الأشرف عن الموصل ثاني رمضان و بعث لؤلؤ نوابه إلى القلاع فامتنع جندها من تسليمها إليهم و انقضى الأجل و استمال عماد الدين زنكي شهاب الدين غازي أخا الأشرف فاستعطف له أخاه فأطلقه ورد عليه قلعة العقروسوس و سلم لؤلؤ قلعة تل أعفر كما كانت من أعمال سنجار و الله تعالى أعلم (5/402)
ارتجاع دمياط من يد الإفرنج
و لما ملك الإفرنج دمياط أقبلوا على تحصنها و رجع الكامل إلى مصر و عسكر بأطراف الديار المصرية مسلحة عليها منهم و بنى المنصورة بعد المنزلة و أقام كذلك سنين و بلغ الإفرنج وراء البحر فتحها و استيلاء إخوانهم عليها فلهجوا بذلك و توالت امدادهم في كل وقت إليها و الكامل مقيم بمكانه و تواترت الأخبار بظهور التتر و وصولهم إلى أذربيجان و أران و أصبح المسلمون بمصر و الشام على تخوف من سائر جهاتهم و استنجد الكامل بأخيه المعظم صاحب دمشق و أخيه الأشرف صاحب الجزيرة و أرمينية و سار المعظم إلى الأشرف يستحثه للوصول فوجده في شغل بالفتنة التي ذكرناها فعاد عنه إلى أن انقضت تلك الفتنة ثم تقدم الإفرنج من دمياط بعساكرهم إلى جهة مصر و أعاد الكامل خطابه إليهما سنة ثماني عشرة يستنجدهما و سار المعظم إلى الأشرف يستحثه فجاء معه إلى دمشق و سار منها إلى مصر و معه عساكر حلب و الناصر صاحب حماة و شيركوه صاحب حمص و الأمجد صاحب بعلبك فوجدوا الكامل على بحر أشمون و قد سار الإفرنج من دمياط بجموعهم و نزلوا قبالته بعدوة النيل و هم يرمون على معسكره بالمجانيق و الناس قد أشفقوا من الإفرنج على الديار المصرية فسار الكامل و بقي أخوه الأشرف بمصر و جاء المعظم بعد الأشرف و قصد دمياط يسابق الإفرنج و نزل الكامل و الأشرف و ظفرت شواني المسلمين بثلاث قطع من شواني الإفرنج فغنموها بما فيها ثم ترددت الرسل بينهم في تسليم دمياط على أن يأخذوا القدس و عسقلان و طبرية و صيدا و جبلة و اللاذقية و جمع ما فتحه صلاح الدين غير الكرك فاشتطوا و اشترطوا إعادة الكرك و الشويك و زيادة ثلثمائة ألف دينار لرم أسوار القدس التي خربها المعظم و الكامل فرجع المسلمون إلى قتالهم و افتقد الإفرنج الأقوات لأنهم لم يحملوها من دمياط ظنا بأنهم غالبون على السواد و ميرته بأيديهم فبدا لهم ما لم يحتسبوا ثم فجر المسلمون النيل إلى العدوة التي كانوا عليها فركبها الماء و لم يبق لهم إلا مسلك ضيق و نصب الكامل الجسور عند اشمون فعبرت العساكر عليها و ملكوا ذلك المسلك و حالوا بين الإفرنج و بين دمياط و وصل إليهم مركب مشحون بالمدد من الميرة و السلاح و معه حراقات فخرجت شواني المسلمين و هي في تلك الحال فغنموها بما فيها و اشتد الحال عليهم في معسكرهم و أحاطت بهم عساكر المسلمين و هم في تلك الحال يقاتلونهم و يتخطفونهم من كل جانب فأحرقوا خيامهم و مجانيقهم و أرادوا الاستماتة في العود فرأوا ما حال بينهم و بينها من الرجل فاستأمنوا إلى الكامل و الأشرف عل تسليم دمياط من غير عوض و بينما هم في ذلك وصل المعظم صاحب دمشق من جهة دمياط كما مر فازدادوا وهنا و خذلانا و سلموا دمياط منتصف سنة ثمان عشرة و أعطوا عشرين ملكا منهم رهنا عليها و أرسلوا الأقسة و الرهبان منهم إلى دمياط فسلموها للمسلمين و كان يوما مشهودا و وصلهم بعد تسليمها مدد من وراء البحر فلم يغن عنهم و دخلها المسلمون و قد حصنها الإفرنج فصبحت من أمنع حصون الإسلام و الله تعالى أعلم (5/404)
وفاة الأوحد نجم الدين بن العادل صاحب خلاط و ولاية أخيه الظاهر غازي عليها
قد تقدم لنا أن الأوحد نجم الدين بن العادل ملك ميافارقين و بعدها خلاط و أرمينية سنة ثلاث و ستمائة ثم توفي سنة سبع فأقطع العادل ما كان بيده من الأعمال لأخيه الأشرف ثم أقطع العادل ابنه الظاهر غازي سنة عشرة سروج و الرها و ما إليها و لما توفي العادل و استقل ولده الأشرف بالبلاد الشرقية عقد لأخيه غازي على خلاط و ميافارقين مضافا إلى ولايته من أبيه العادل و هو سروج و الرها و جعله ولي عهده لأنه كان عاقرا لا يولد له و أقام على ذلك إلى أن انتقض على الأشرف عندما حدثت الفتنة بين بني العادل فانتزع أكثر الأعمال منه كما نذكره إن شاء الله تعالى (5/405)
فتنة المعظم مع أخويه الكامل و الأشرف و ما دعت إليه من الأحوال
كان بنو العادل الكامل و الأشرف و المعظم لما توفي أبوهم قد اشتغل كل واحد منهم بأعماله التي عهد له أبوه و كان الأشرف و المعظم يرجعان إلى الكامل و في طاعته ثم تغلب المعظم عيسى على صاحب حماة الناصر بن المنصور بن المظفر و زحف سنة تسع عشرة إلى حماة فحاصرها و امتنعت عليه فسار إلى سلمية و المعرة من أعمالها فملكها و بعث إليه الكامل صاحب مصر بالنكير و الإفراج عن البلد فامتثل و أضغن ذلك عليه و أقطع الكامل سلمية لنزيله المظفر بن المنصور أخي صاحب حماة و كشف المعظم قناعه في فتنة أخويه الكامل و الأشرف و أرسل إلى ملوك الشرق يدعوهم إلى المظاهرة عليهما و كان جلال الدين منكبري بن علاء الدين خوارزم شاه قد رجع من الهند بعد ما غلبه التتر على خوارزم و خراسان و غزنة و عراق العجم و جاز إلى الهند ثم رجع سنة إحدى و عشرين و ستمائة فاستولى على فارس و غزنة وعراق العجم و أذربيجان و نزل توريز و جاور بني أيوب في أعمالهم فراسله المعظم صاحب دمشق و صالحه و استنجده على أخويه فأجابه و دعا المعظم الظاهر أخا الأشرف و عامله على خلاط و المظفر كوكبري صاحب إربل إلى ذلك فأجابوه كلهم و انتقض الظاهر غازي على أخيه الأشرف في خلاط و أرمينية و أظهر عصيانه و ولايته التي بيده فسار إليه الأشرف سنة إحدى و عشرين و غلبه على خلاط فملكها و ولى عليها حسام الدين أبا علي الموصلي كان أصله من الموصل و استخدم للأشرف و ترقى في خدمته إلى أن ولاه خلاط و عفا الأشرف عن أخيه الظاهر غازي و أقره على ميافارقين و سار المظفر صاحب إربل و لؤلؤ صاحبها في طاعة الأشرف فحاصرها و امتنعت عليه و رجع عنها و سار المعظم بنفسه من دمشق إلى حمص و صاحبها شيركوه بن محمج بن شيركوه في طاعة الكامل فحاصرها و امتنعت عليه و رجع إلى دمشق ثم سار الأشرف إلى المعظم طالبا للصلح فأمسكه عنده على أن ينحرف عن طاعة الكامل و انطلق إلى بلده فاستمر على شأنه ثم زحف جلال الدين صاحب أذربيجان سنة أربع و عشرين إلى خلاط فحاصرها مرة بعد مرة و أفرج عنها فسار حسام الدين نائبها إلى بلاد جلال الدين و ملك حصونها و اضطرب الحال بينهم و خشى الكامل مغبة الأمر مع المعظم بمالأته لجلال الدين و ملك حصونها و اضطرب الحال بينهم و خشى الكامل مغبة الأمر مع المعظم بمالأته لجلال الدين و الخوارزمية فاستنجد هو بالإفرنج و كاتب الامبراطور ملكهم من وراء البحر يستحثه للقدوم على عكا في صريخه على أن ينزل له عن القدس و بلغ ذلك إلى المعظم فخشي العواقب و أقصر عن فتنتنه و كتب إليه يستعطفه و الله تعالى أعلم (5/405)
وفاة المعظم صاحب دمشق و ولاية ابنه الناصر ثم استيلاء الأشرف عليها و اعتياض الناصر بالكرك
ثم توفي المعظم بن العادل صاحب دمشق سنة أربع و عشرين و ولي مكانه ابنه داود و لقب بالناصر و قام بتدبير ملكه عز الدين أتابك خادم أبيه و جرى على سنن المعظم أولا في طاعة الكامل و الخطبة له ثم انتقض خمس و عشرين عندما طالبه بالنزول له عن حصن الشويك فامتنع و انتقض و سار الكامل إليه في العساكر فانتهى إلى غزة و انتزع القدس و نابلس من أيديهم و ولى عليها من قبله و استنجد الناصر عمه الأشرف فجاءه إلى دمشق و خرج منها إلى نابلس ثم تقدم منها إلى الكامل ليصلح أمر الناصر معه فدعاه الكامل إلى إنتزاع دمشق من الناصر له و أقطعه اياها فلم يجب الناصر إلى ذلك و عاد إلى دمشق فحاصره الأشرف ثم صالح الكامل ملك الإفرنج ليفرغ لأمر دمشق عن الشواغل و أمكنهم من القدس على أن يخرب سورها فاستولوا عليها كذلك و زحف الكامل إلى دمشق سنة ست و عشرين فحاصرها مع الأشرف و خاف الحصار بالناصر فنزل على أن يستقل بالكرك و الشويك و البلقاء فسلموا له في ذلك و سار إليها و استولى الأشرف على دمشق و نزل للكامل عن أعماله و هي حران و الرها و ما إليهما و بمكانهما من حصار دمشق و وصل الخبر إلى الكامل بوفاة ابنه المسعود صاحب اليمن و قد مر خبره و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/406)
استيلاء المظفر بن المنصور على حماة من يد أخيه الناصر
و لما ملك الكامل دمشق شرع في إنجاد نزيله المظفر محمود بن المنصور صاحب حماة و بها أخوه الناصر و قد كاتبه بعض أهل البلد يستدعونه لملكها فجهزه بالعساكر و سار إليها فحاصرها و دس لمن كاتبه من أهلها فأجابوه و واعدوه ليلا فطرقها و تسورها و ملكها و كتب إليه الكامل أن يقطع الناصر قلعة ماردين فأقطعه إياها و انتزع الكامل منه سلمية و أقطعها لصاحب حمص شيركوه بن محمد بن شيركوه و استقل المظفر محمود بملك حماة و فوض أمور دولته إلى حسام الدين علي بن أبي علي الهدباني فقام بها ثم استوحش منه فلحق بأبيه نجم الدين أيوب و لم تزل ماردين بيد الناصر أخي المظفر إلى سنة ثلاثين فهم الناصر بأن يملكها للإفرنج و شكا المظفر بذلك للكامل فأمره بانتزاعها منه ثم اعتقله الكامل إلى أن هلك سنة خمس و ثلاثين انتهى و الله أعلم (5/407)
استيلاء الأشرف على بعلبك من يد الأمجد و إقطاعها لأخيه إسمعيل بن العادل
كان السلطان صلاح الدين قد أقطع الأمجد بهرام شاه بن فرخنشاه أخي تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب قلعة بعلبك و كانت بصرى لخضر ثم صارت بعد وفاة العادل لابنه الأشرف و عليها أخوه إسمعيل بن العادل فجهزه سنة ست و عشرين إلى بعلبك و حاصرها بها الأمجد حتى تسلمها منه على إقطاع أقطعه إياه إسمعيل إلى دمشق فنزلها إلى أن قتلته مواليه و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/407)
فتنة جلال الدين خوارزم شاه مع الأشرف و استيلاؤه على خلاط
قد كنا قدمنا أن جلال الدين خوارزم شاه ملك أذربيجان و جاور أعمال بني أيوب و كان الأشرف قد ولى على خلاط لما انتزعها من يد أخيه غازي سنة اثنتين و عشرين حسام الدين أبا علي الموصلي ثم صالح المعظم جلال الدين خوارزم شاه و دعاه إلى الفتنة مع أخويه كما قدمناه فزحف جلال الدين خوارزم شاه إلى خلاط و حاصرها مرتين و رجع عنها فسار حسام الدين إلى يلده و ملك بعض حصونه و داخل زوجته التي كانت زوجة أزبك بن البهلوان و كانت مقيمة بخوي و هجرها جلال الدين و قطع عنها ما كانت تعتاده من التحكم في الدولة مع زوجها قبله فدست إلى حسام الدين نائب خلاط و استدعته هي و أهل خوي ليملكوه البلاد فسار و ملك خوي من الحصون و مدينة قرند و كاتبه أهل بقجوان و ملكوه بلدهم و عاد إلى خلاط و نقل معه زوجة جلال الدين و هي بنت السلطان طغرل فامتعض جلال الدين لذلك ثم ارتاب الأشرف بحسام الدين نائب خلاط و أرسل أكبر أمرائه عز الدين أبيك فقبض على حسام الدين و كان عدوا له و قتله غيلة و هرب مولاه فلحق بجلال الدين ثم زحف جلال الدين في شوال سنة ست و عشرين إلى خلاط فحاصرها و نصب عليها المجانيق و قطع عنها الميرة مدة ثمانية أشهر ثم ألح عليها بالقتال و ملكها عنوة آخر جمادى الاولى من سنة سبع و عشرين و امتنع أيبك و حاميتها بالقلعة و استماتوا و استباح جلال الدين مدينة خلاط و عاث فيها بما لم يسمع بمثله ثم تغلب على القلعة و أسر أيبك نائب خلاط فدفعه إلى مولى حسام الدين نائبها قبله فقتله بيده و الله تعالى أعلم (5/408)
مسير الكامل في إنجاد الأشرف و هزيمة جلال الدين أمام الأشرف
و لما استولى جلال الدين على خلاط سار الأشرف من دمشق إلى أخيه الكامل بمصر يستنجده فسار معه و ولى على مصر ابنه العادل و لقيه في طريقه صاحب الكرك الناصر بن المعظم و صاحب حماة المظفر بن المنصور و سائر بني أيوب و انتهى إلى سلمية و كلهم في طاعته ثم سار إلى آمد فملكها من يد مسعود بن محمد بن الصالح بن محمد بن قرا أرسلان ين سقمان بن أرتق و كان صلاح الدين أقطعه إياها عندما ملكها من ابن نعشان فلما نزل إليه اعتقله و ملك آمد ثم انطلق بعد وفاة الكامل من الإعتقال و لحق بالتتر ثم استولى الكامل على البلاد الشرقية التي نزل له عنه الأشرف عوضا عن دمشق و هي حران و الرها و ما إليهما و لما تسلمها ولى عليها ابنه الصالح نجم الدين أيوب و كان جلال البدين لما ملك خلاط حضر معه صاحب أرزن الروم فاغتم لذلك علاء الدين كيقباد ملك بلاد الروم لما بينه و بين صاحب أرزن من العداوة و القرابة و خشيهما على ملكه فبعث إلى الكامل و الأشرف بحران يستنجدهما و يستحث الأشرف للوصول فجمع عساكر الجزيرة و الشام و سار إلى علاء الدين فاجتمع معه بسيواس و سار نحو خلاط و سار جلال الدين للقائهما و التقوا بأعمال أرزنكان و تقدم عسكر حلب للقتال و مقدمهم عز الدين عمر بن علي الهكاري من أعظم الشجعان فلم يثبت لهم مصاف جلال الدين و انهزم خلاط فأخرج منها و لحق بأذربيجان و وقف الأشرف على خلاط و هي خاوية و كان صاحب أرزن الروم مع جلال الدين فجيء به أسيرا إلى ابن عمه علاء الدين صاحب بلاد الروم فسار به إلى أرزن و سلمها له و ما تبعها من القلاع ثم ترددت الرسل بينهم و بين جلال الدين في الصلح فاصطلحوا كل على ما بيده و تحالفوا و عاد الأشرف إلى سنجار و سار أخوه غازي صاحب ميافارقين فحاصر مدينة أرزن من ديار بكر و كان حاضرا مع الأشرف في هذه الحروب و أسره جلال الدين ثم أطلقه بعد أن أخذ عليه العهد في طاعته فسار إليه شهاب الدين غازي و حاصره و ملك منه أرزن صلحا و أعطاه عنها مدينة جاني من ديار بكر و كان اسمه حسام الدين و كان من بيت عريق في الملك يعرفون ببني الأحدب أقطعها لهم السلطان ملك شاه و الله تعالى أعلم (5/408)
استيلاء العزيز صاحب حلب على شيزر ثم وفاته و ولاية ابنه الناصر بعده
كان سابق الدين عثمان ابن الداية من أمراء الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي و اعتقله ابنه الصالح إسمعيل فنكر عليه صلاح الدين ذلك و سار ببنيه إلى دمشق فملكها و أقطع سابق الدين شيزر فلم تزل له و لبنيه إلى أن استقرت لشهاب الدين يوسف بن مسعود بن سابق الدين فسار إليه صاحب حلب محمد بن العزيز بن الغازي الظاهر بأمر الكامل سنة ثلاثين و ستمائة و ملكها من يده ثم هلك سنة أربع و ثلاثين و ملك في حلب مكانه ابنه الناصر يوسف في كفالة جدته لأبيه صفية خاتون بنت العادل و استولى على الدولة شمس الدين لؤلؤ ارمني و عز الدين المجلي و إقبال الخاتوني و كلهم في تصريفها و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/409)
فتنة كيقباد صاحب بلاد الروم و استيلاؤه على خلاط
كان كقباد بن كيكاوس صاحب بلاد الروم قد استفحل ملكه بها و مديده إلى ما يجاورها من البلاد فملك خلاط بعد أن دفع عنها مع الأشرف جلال الدين شاه كما قدمناه و نازعه الأشرف في ذلك و استنجد بأخيه الكامل فسار بالعساكر من مصر سنة إحدى و ثلاثين و سار معه الملوك من أهل بيته و انتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم و بعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيقباد و هزمه و حصره في خرت برت و تخاذل عن الحرب ثم استأمن المظفر صاحب حماة إلى كيقباد فأمنه و ملك خرت برت و كان لبني أرتق و رجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين و ثلاثين و كيقباد في أتباعهم ثم سار إلى حران و الرها فملكها من يد نواب الكامل و ولى عليها من قبله و سار الكامل سنة ثلاث و ثلاثين و الله أعلم (5/410)
وفاة الأشرف بن العادل و استيلاء الكامل على ممالكة
كان الأشرف سنة أربع و ثلاثين قد استوحش من أخيه الكامل و نقض طاعته و مالأه على ذلك أهل حلب و كنجسر و صاحب بلاد الروم و جميع ملوك الشام من قرابتهما غير الناصر بن المعظم صاحب الكرك فإنه أقام على طاعة الكامل و سار إليه بمصر بالمبرة و التكرمة ثم هلك الأشرف خلال ذلك سنة خمس و ثلاثين و عهد بملك دمشق لأخيه الصالح إسمعيل صاحب بصرى فسار إليها و ملكها و بقي الملوك في وفاقه على الكامل كما كانوا على عهد الأشرف إلا المظفر صاحب حماة فإنه عدل عنهم إلى الكامل و سار الكامل إلى دمشق فحاصرها و ضيق عليها حتى تسلمها صلحا و عوضه عنها بعلبك و استولى على سائر أعمال الأشرف و دخل سائر بني أيوب في طاعته و الله أعلم (5/410)
وفاة الكامل و ولاية ابنه العادل بمصر و استيلاء ابنه الآخر نجم الدين أيوب على دمشق
ثم توفي الكامل بن العادل صاحب دمشق و مصر و الجزيرة سنة خمس و ثلاثين بدمشق لستة أشهر من وفاة أخيه الأشرف فانفض الملوك راجعين كل إلى بلاده المظفر إلى حماة و الناصر إلى الكرك و بويع بمصر ابنه العادل أبو بكر فنصب العساكر بدمشق الجواد يونس ابن عمه مودود بن العادل نائبا عنه و سار الناصر داود إلى دمشق ليملكها فبرز إليه الجواد يونس و هزمه و تمكن في ملك دمشق و خلع طاعة العادل بن الكامل و راسل الصالح أيوب في أن يملكه دمشق و ينزل له الصالح عن البلاد الشرقية التي ولاه أبوه عليها فسار الصالح لذلك سنة ست و ثلاثين و ملك دمشق و سار يونس إلى البلاد الشرقية فاستولى عليها و لم تزل بيده إلى أن زحف إليه لؤلؤ صاحب الموصل و غلبه عليها و استقرت دمشق في يد الصالح و لما أخذ لؤلؤ البلاد من يونس الجواد سار عن القفر إلى غزة فمنعه الصالح من الدخول إليها فدخل إلى الإفرنج بعكا و باعوه من الصالح إسمعيل صاحب دمشق فاعتقله و قتله انتهى و الله أعلم (5/411)
أخبار الخوارزمية
ثم زحف التتر إلى أذربيجان و استولوا على جلال الدين و قتلوه سنة ثمان و عشرين و انفض أصحابه و ذهبوا في كل ناحية و سار جمهورهم إلى بلاد الروم فنزلوا على علاء الدين كيقباد ملكها حتى إذا مات و ملك ابنه كنجسرو إرتاب بهم و قبض على أمرائهم و انفض الباقون عنه و عاثوا في الجهات فاستأذن الصالح أيوب صاحب سنجار و ما إليها أباه الكامل صاحب مصر في استخدامهم ليحسم عن بلاد ضررهم فاجتمعوا عنده و أفاض فيهم الأرزاق و لما توفي الكامل سنة خمس و ثلاثين انتقضوا عن الصلح و خرجوا فاكتسحوا النواحي و سار لؤلؤ إلى سنجار فحاصر الصالح فبعث الصالح الخوارزمية فاستمالهم و أقطعهم حران و الرها و لقي بهم لؤلؤا فهزمه و غنم معسكره و الله تعالى أعلم (5/411)
مسير الصالح إلى مصر و اعتقال الناصر له بالكرك
لما ملك العادل بمصر بعد أبيه اضطرب عليه أهل الدولة و بلغهم استيلاء أخيه الصالح على دمشق فاستدعوه ليملكوه فبعث عن عمه الصالح إسمعيل من بعلبك ليسير معه فاعتذر عن الوصول و سار الصالح أيوب و ولى دمشق ابنه المغيث فتح الدين عمر و لما فصل عن دمشق خالفه إليها عمه الصالح إسمعيل فملكها و معه شيركوه صاحب حمص و قبض على المغيث فتح الدين بن الصالح أيوب و بلغ الخبر إليه و هو بنابلس فانقضت عنه العساكر و دخل نابلس و جاءه الناصر داود من الكرك فقبض عليه و اعتقله و بعث فيه أخوه العادل فامتنع من تسليمه إليه ثم قصد داود القدس فملكها من يد الإفرنج و خرب القلعة و الله تعالى ولي التوفيق (5/411)
وفاة شيركوه صاحب مصر و ولاية ابنه إبراهيم المنصور
ثم توفي المجاهد شيركوه بن محمد بن شيركوه صاحب حمص سنة ست و ثلاثين و كانت ولايته أول المائة السابعة و ولي من بعده بنه إبراهيم و يلقب بالمنصور و الله أعلم (5/412)
خلع العادل و اعتقاله و استيلاء أخيه الصالح أيوب على مصر
و لما رجع الناصر داود من فتح القدس أطلق الصالح نجم الدين أيوب من الإعتقال فاجتمعت إليه مواليه و اتصل اضطراب أهل الدولة بمصر على أخيه العادل فكاتبوا الصالح و استدعوه ليملكوه فسار معه الناصر داود و انتهى إلى غزة و برز العادل إلى بلبيس و كتب إلى عمه الصالح بدمشق يستنجده على أخيه أيوب فسار من دمشق و انتهى إلى الغور ثم وثب بالعادل في معسكره مواليه و مقدمهم أيبك الأسمر و قبضوا عليه و بعثوا إلى الملك الصالح فجاء و معه الناصر داود صاحب الكرك فدخل القلعة سنة سبع و ثلاثين و استقر في ملكه و ارتاب منه الناصر داود فلحق بالكرك و استوحش من الأمراء الذين وثبوا بأخيه فاعتقلهم و فيهم أيبك الأسمر و ذلك سنة ثمان و ثلاثين و حبس أخاه العادل إلى أن هلك في محبسه سنة خمس و أربعين ثم اختط قلعة بين سعي النيل أزاء المقياس و اتخذها مسكنا و أنز بها حامية من مواليه فكانوا يعرفون بالبحرية آخر أيامهم انتهى و الله أعلم (5/412)
فتنة الخوارزمية
ثم كثر عيث الخوارزمية بالبلاد المشرقية و عبروا الفرات و قصدوا حلب فبرزت إليهم عساكرها مع المعظم تورانشاه بن صلاح الدين فهزموه و أسروه و قتلوا الصالح بن الأفضل صاحب سميساط وكان في جملته و ملكوا منبج عنوة و رجعوا ثم ساروا من حران و عبروا من ناحية الرقة و عاثوا في البلاد و جمع أهل حلب العساكر و أمدهم الصالح إسمعيل من دمشق بعسكر مع المنصور إبراهيم صاحب حمص و قصدوا الخوارزمية فانقلبوا إلى حران ثم تواقعوا مع العساكر فانهزموا و استولى عسكر حلب على حران و الرها و سروج و الرقة و رأس عين و ما إليها و خلص المعظم تورانشاه فبعث به لؤلؤ صاحب الموصل إلى عسكر حلب ثم سار عسكر حلب إلى آمد و حاصروا المعظم تورانشاه و غلبوه على آمد و أقام بحصن كيفا إلى أن هلك أبوه بمصر و استدعى هو لملكها فسار لذلك و ولي ابنه الموحد عبد الله بكيفا إلى أن غلب التتر على بلاد الشام ثم سار الخوارزميه سنة أربعين مع المظفر غازي صاحب ميافارقين من أقتال صاحب حلب و معهم المنصور إبراهيم صاحب حمص فانهزموا وغنمت العساكر سوادهم و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/412)
أخبار حلب
قد كان تقدم لنا ولاية الظاهر غازي على حلب بعد وفاة أبيه ثم توفي سنة أربع و ثلاثين و نصب أهل الدولة ابنه الناصر يوسف في كفالة جدته أم العزيز صفية خاتون بنت العادل و لؤلؤ الأرمني و إقبال الخاتوني وعز الدين بن مجلي قائمون بالدولة في تصريفها و ما زالت تجهز العساكر لدفاع الخوارزمية و تفتح البلاد إلى أن توفيت سنة أربعين و استقل الناصر بتدبير ملكه و صرف النظر في أموره لجمال الدين و إقبال الخاتوني و الله أعلم (5/413)
فتنة الصالح أيوب مع عمه الصالح إسمعيل على دمشق و استيلاء أيوب آخرا عليها
قد كان تقدم لنا أن الصالح إسمعيل بن العادل خلف الصالح أيوب على دمشق عند مسيره إلى مصر فملك دمشق سنة ست و ثلاثين و كان بعد ذلك اعتقال الصالح بالكرك ثم استيلاؤه على مصر سنة سبع و ثلاثين و بقيت الفتنة متصلة بينهما و طلب إسمعيل صاحب دمشق من الإفرنج المظاهرة على أيوب صاحب مصر على أن يعطيهم حصن الشقيف و صفد فأمضى ذلك و نكره مشيخة العلماء بعصره و خرج من دمشق عز الدين بن عبد السلام الشافعي و لحق بمصر فولاه الصالح خطة القضاء بها ثم خرج بعده جمال الدين ابن الحاجب المالكي إلى الكرك و لحق بالإسكندرية فمات بها ثم تداعى ملوك الشام لفتنة الصالح أيوب خاتون و إبراهيم المنصور بن شيركوه صاحب حمص و خالفهم المظفر صاحب حماة و جنح إلى ولاية نجم الدين أيوب و أقام حالهم في الفتنة على ذلك ثم جنحوا إلى الصلح إلى أن يطلق صاحب دمشق فتح الدين عمر بن نجم الدين أيوب الذي اعتقله بدمشق فلم يجب إلى ذلك و استجدت الفتنة و سار الناصر داود صاحب الكرك مع إسمعيل الصالح صاحب دمشق و استظهروا بالإفرنج و أعطاهم إسمعيل القدس على ذلك و استنجد بالخوارزمية أيضا فأجابوه و اجتمعوا بغزة و بعث نجم الدين العساكر مع مولاه بيبرس و كانت له ذمة باعتقاله معه فتلاقوا مع الخوارزمية و جاءت عساكر مصر مع المنصور إبراهيم بن شيركوه و لاقوا الإفرنج من عكا فكان الظفر لعساكر مصر و الخوارزمية و اتبعوهم إلى دمشق و حاصروا بها الصالح إسمعيل إلى أن جهده الحصار و سأل في الصلح على أن يعوض عن دمشق ببعلبك و بصرى و السواد فأجابه أيوب إلى ذلك و خرج إسمعيل من دمشق إلى بعلبك سنة ثمان و أربعين و بعث نجم الدين إلى حسام الدين علي بن أبي علي الهدباني و كان معتقلا عند إسمعيل بدمشق فشرط نجم الدين إطلاقه في الصلح الأول فأطلقه و بعث إليه بالنيابة عنه بدمشق فقام بها و انصرف إبراهيم المنصور إلى حمص و انتزع صاحب حماة منه سلمية فملكها و اشتط الخوارزمية على الهدباني في دمشق في الولايات و الإقطاعات و امتعضوا لذلك فسار بهم الصالح إسمعيل إلى دمشق موصلا الكرة و معه الناصر صاحب الكرك فقام الهدباني في دفاعهم أحسن قيام و بعث نجم الدين من مصر إلى يوسف الناصر يستنجده على دفع الخوارزمية عن دمشق فسار في عساكره ومعه إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص فهزموا الخوارزمية على دمشق سنة أربع و أربعين و قتل مقدمهم حسام الدين بركت خان و ذهب بقيتهم مع مقدمهم الآخر كشلوخان فلحقوا بالتتر و اندرجوا في جملتهم و ذهب أثرهم من الشام و استجار إسمعيل الصالح و كان معهم بالناصر صاحب حلب فأجاره من نجم الدين أيوب و سار حسام الدين الهدباني بعساكر دمشق إلى بعلبك و تسلمها بالأمان و بعث بأولاد إسمعيل و وزيره ناصر الدين يغمور إلى نجم الدين أيوب فاعتقلهم بمصر و سارت عساكر الناصر يوسف صاحب حلب إلى الجزيرة فتواقعوا مع لؤلؤ صاحب الموصل فانهزم لؤلؤ و ملك الناصر نصيبين و دارا و قرقيسيا و عاد عسكره إلى حلب و الله تعالى أعلم (5/413)
مسير الصالح أيوب إلى دمشق أولا و ثانيا و حصار حمص و ما كان مع ذلك من الأحداث
ثم بعث الصالح حسم الدين الهدباني من دمشق و ولى مكانه عليها جمال الدين بن مطروح ثم سار إلى دمشق سنة خمس و أربعين و استخلف الهدباني على مصر و لما وصل إلى دمشق جهز فخر الدين بن الشيخ بالعساكر إلى عسقلان و طبرية فحاصرهما مدة و فتحها من يد الإفرنج و وفد على الصالح بدمشق المنصور صاحب حماة و كان أبوه المظفر توفي سنة ثلاث و أربعين و ولى المنصور ابنه هذا و اسمه محمد و وفد أيضا الأشرف موسى صاحب حمص و قد كان أبوه إبراهيم المنصور توفي سنة أربع و أربعين قبلها بدمشق و هو ذاهب إلى مصر وافدا على الصالح أيوب و أقام بحمص ابنه مظفر الدين موسى و لقب الأشرف و جاءت عساكر حلب سنة ست و أربعين مع لؤلؤ الأرمني و حصروا مصر شهرين و ملكوها من يد موسى الأشرف و أعاضوه عنها تل باشر من قلاع حلب مضافة إلى الرحبة و تدمر و كانتا بيده مع حمص و غضب لذلك الصالح فسار من مصر إلى دمشق و جهز العساكر إلى حمص مع حسام الدين الهدباني و فخر الدين بن الشيخ فحاصروا مصر مدة و جاء رسول الخليفة المستعصم إلى الصالح أيوب شافعا فأفرج العساكر عنها و ولى على دمشق جمال الدين يغمور و عزل ابن مطروح و الله تعالى أعلم (5/415)
استيلاء الإفرنج على دمياط
كانت إفرنسة أمة عظيمة من الإفرنج و الظاهر أنهم أصل الإفرنج و أن إفرنسة هي إفرنجة إنقلبت السيز بها جيما عندما عربتها العرب و كان ملكها من أعظم ملوكهم لذلك العصر و يسمونه ري الإفرنس و معنى ري لغتهم ملك إفرنس فاعتزم هذا الملك على سواحل الشام و سار لذلك كما من قبله من ملوكهم و كان ملكه قد استفحل فركب البحر إلى قبرص في خمسين ألف مقاتل و شتى بها ثم عبر سنة سبع و أربعين إلى دمياط و بها بنو كنانة أنزلهم الصالح بها حامية فلما رأوا ما لا قبل لهم به أجفلوا عنها فملكها ري إفرنس و بلغ الخبر إلى الصالح و هو بدمشق و عساكره نازلة بحمص فكر راجعا إلى مصر و قدم فخر الدين بن الشيخ أتابك عساكره و وصل بعده فنزل المنصورة و قد أصابه بالطريق و عك و اشتد عليه و الله تعالى أعلم (5/415)
استيلاء الصالح على الكرك
كان بين الصالح أيوب و بين الناصر داود ابن عمه المعظم من العداوة ما تقدم و قد ذكرنا اعتقال الناصر له بالكرك فلما ملك الصالح دمشق بعث العساكر مع أتابكة فخر الدين يوسف ابن الشيخ لحصار الكرك و كان أخوه العادل اعتقله و أطلقه الصالح و ألزمه بيته ثم جهزه لحصار الكرك فسار إليها سنة أربع و أربعين و حاصرها و ملك سائر أعمالها و خرب نواحيها و سار الناصر من الكرك إلى الناصر يوسف صاحب حلب مستجيرا به بعد أن بعث بذخيرته إلى المستعصم و كتب له خطه بوصولها و كان قد استخلاف على الكرك عندما سار إلى حلب ابنه الأصغر عيسى و لقبه المعظم فغضب أخواه الأكبران الأمجد حسن و الظاهر شادي فقبضا على أخيهما عيسى و وفدا على الصالح سنة ست و أربعين و هو بالمنصورة قبالة الإفرنج فملك الكرك و الشويك منهما و ولى عليهما بدرا الصواي و أقطعهما بالديار المصرية و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/416)
وفاة الصالح أيوب صاحب مصر و الشام و سيد ملوك الترك بمصر و ولاية ابنه تورانشاه و هزيمة الإفرنج و أسر ملكهم
ثم توفي الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل سنة سبع و أربعين بمكانه من المنصورة قبالة الإفرنج و خشي أهل الدولة من الإفرنج فكتموا موته و قامت أم ولده شجرة الدر بالأمر و جمعت الأمراء و سيروا بالخبر إلى حسام الدين الهدباني بمصر فجمع الأمراء و قوى جاشهم و استحلفهم و أرسل الأتابك فخر الدين بن الشيخ بالخبر إلى المعظم تورانشاه بن الصالح و استدعاه من مكان إمارته بحصن كيفا ثم انتشر خبر الوفاة و بلغ الإفرنج فشرهوا إلى قتال المسلمين و دلفوا إلى المعسكر فانكشف المسلمون و قتلوا الأتابك فخر الدين ثم أتاح الله الكرة للمسلمين و انهزم الإفرنج و وصل المعظم تورانشاه من مكانه بحصن كيفا لثلاثة أشهر أو تزيد فبايعه المسلمون و اجتمعوا عليه و اشتدوا في قتال الإفرنج و غلبت أساطيلهم أساطيل العدو و سال الإفرنج في الإفراج عن دمياط على أن يعاضوا بالقدس فلم يجبهم المسلمون إلى ذلك و سارت سرايا المسلمين من حولهم و فيما بين معسكرهم و بين دمياط فرحلوا راجعين إليها و أتبعهم المسلمون فأدركهم الدهش و انهزموا و أسر ملكهم ري إفرنس و هو المعروف بالفرنسيس و قتل منهم أكثر من ثلاثين ألفا و اعتقل الفرنسيس بالدار المعروفة بفحر الدين بن لقمان و وكل بها الخادم صبيح المعظمي ثم رحل المعظم بعساكر المسلمين راجعا إلى مصر والله تعالى أعلم (5/416)
مقتل المعظم تورانشاه و ولاية شجرة الدر و فداء الفرنسيس بدمياط
و لما بويع المعظم تورانشاه و كانت له بطانة من المماليك جاء بهم من كيفا فتسلطوا على موالي أبيه و تقسموهم بين النكبة و الإهمال و كان للصالح جماعة من الموالي و هم البحرية الذين كان ينزلهم بالدار التي بناها إزاء المقياس و كانوا بطانته و خالصته و كان كبيرهم بيبرس و هو الذي كان الصالح بعثه بالعساكر لقتال الخوارزمية عندما زحفوا مع عمه الصالح إسمعيل صاحب دمشق و قد مر ذكر ذلك فصارت طاغيته معهم استمالهم الصالح فصاروا معه و زحفوا مع عساكره إلى عساكر دمشق و الإفرنج فهزموهم و حاصروا دمشق و ملكوها بدعوة الصالح كما مر و استوحش بيبرس حتى بعث إليه الصالح بالأمان سنة أربع و أربعين و لحقه بمصر فحبسه على ما كان منه ثم أطلقه و كان من خواص الصالح أيضا قلاون الصالحي كان من موالي علاء الدين قراسنقر مملوك العادل و توفي سنة خمس و أربعين و ورثه الصالح بحكم الولاء و منهم أقطاي الجامدار و أيبك التركماني و غيرهم فأنفوا من استعلاء بطانة المعظم تورانشاه عليهم و تحكمهم فيهم فاعصوا صبوا و اعتزموا على الفتك بالمعظم و رحل من المنصورة بعد هزيمة الإفرنج راجعا إلى مصر فلما قربت له الحراقة عند البرج ليركب البحر كبسوه بمجلسه و تناوله بيبرس بالسيف فهرب إلى البرج فاضرموه نارا فهرب إلى البحر فرموه بالسهام فألقى نفسه في الماء و هلك بين السيف و الماء لشهرين من وصوله و ملكه ثم اجتمع هؤلاء الأمراء المتولون قتل تورنشاه و نصبوا للملك أم خليل شجرة الدر زوجة الصالح و أم و لده خليل المتوفي في حياته و به كانت تلقب و خطب لها المنابر و ضربت السكة باسمها و وضعت علامتها على المراسم و كان نص علامتها أم خليل و قدم أتابك على العساكر عز الدين الجاشنكير أيبك التركماني فلما استقرت الدولة طلبهم الفرنسيس في الفداء على تسليم دمياط للمسلمين فاستولوا عليها سنة ثمان و أربعين و ركب الفرنسيس البحر إلى عكا و عظم الفتح و أنشد الشعراء في ذلك و تساجلوا و لجمال الدين بن مطروح نائب دمشق أبيات في الواقعة يتداولها الناس لهذا العصر و الله تعالى ولي التوفيق و هي
( قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال صدق عن قول فصيح )
( آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يسوع المسيح )
( أتيت مصرا تبتغي ملكها ... تحسب أن الزمر بالطبل ريح )
( فساقك الحين إلى أدهم ... ضاق بهم في ناظريك الفسيح )
( و كل أصحابك أودعتهم ... بسوء تدبيرك بطن الضريح )
( خمسون ألفا لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح )
( وفقك الله لأمثالها ... لعلنا من شركم نستريح )
( إن كان باباكم بذار راضيا ... فرب غش قد أتى من نصيح )
( أوصيكم خيرا به أنه ... لطف من الله إليكم أتيح )
( لو كان ذارشد على زعمكم ... ما كان يستحسن هذا القبيح )
( فقل لهم إن أضمروا عودة ... لأخذ ثار أو لقصد قبيح )
( دار ابن لقمان على حالها ... و القيد باق و الطواشي صبيح )
و الطواشي في لغة أهل المشرق هو الخصي و يسمونه الخادم أيضا و الله أعلم (5/417)
استيلاء الناصر صاحب حلب على دمشق و بيعة الترك بمصر لموسى الأشرف بن أطسز بن المسعود صاحب اليمن و تراجعهما ثم صلحهما
و لما قتل المعظم تورانشاه و نصب الأمراء بعده شجرة الدر زوجة الصالح متعض لذلك أمراء بني أيوب بالشام و كان بدر الصوابي بالكرك و الشويك ولاه الصالح عليهما و حبس عنده فتح الدين عمر بن أخيه العادل فأطلقه من محبسه و بايع له و قام بتدبير دولته جمال الدين بن يغمور بدمشق و اجتمع مع الأمراء القصرية بها على استدعاء الناصر صاحب حلب و تمليكه فسار و ملك دمشق و اعتقل جماعة من موالي الصالح و بلغ الخبر إلى مصر فخلعوا شجرة الدر و نصبوا موسى الأشرف بن مسعود أخي الصالح بن الكامل و هو الذي ملك أخوه أطسز و اسمه يوسف باليمن بعد أبيهما مسعود و بايعوا له و اجلسوه على التخت و جعلوا أيبك أتابكة ثم انتقض الترك بغزة و نادوا بطاعة المغيث صاحب الكرك فنادى الترك بمصر بطاعة المستعصم و جددوا البيعة للأشرف و أتابكة ثم سار الناصر يوسف بعسكره من دمشق إلى مصر فجهز الأمراء العساكر إلى الشام مع أقطاي الجامدار كبير البحرية و يلقب فارس الدين فأجفلت عساكر الشام بين يديه ثم قبض الناصر يوسف صاحب دمشق على الناصر داود لشيء بلغه عنه و حبسه بحمص عن ملوك بني أيوب فجاءه موسى الأشرف صاحب حمص و الرحبة و تدمر و الصالح إسمعيل بن العادل من بعلبك و المعظم تورانشاه و أخوه نصر الدين أبنا صلاح الدين و الأمجد حسام الدين و الظاهر شادي إبنا الناصر و داود صاحب الكرك و تقي الدين عباس بن العادل و اجتمعوا بدمشق و بعث في مقدمته مولاه لؤلؤ الأرمني و خرج أيبك التركماني في العساكر من مصر للقائهم و أفرج عن ولدي الصالح إسمعيل المعتقلين منذ أخذهم الهذباني من بعلبك ليتهم الناس أباهم و يستريبوا به و التقى الجمعان في العباسية فانكشفت عساكر مصر و سارت عساكر الشام في أتباعهم و ثبت أيبك و هرب إليه جماعة من عساكر الناصر ثم صدق أيبك الحملة على الناصر فتفرقت عساكره و سار منهزما و جيء لأيبك بلؤلؤ الأرمني أسيرا فقتله و أسر إسمعيل الصالح و موسى الأشرف و تورانشاه المعظم و أخوه و لحق المنهزمون من عسكر مصر بالبلد و شعر المتبعون لهم من عساكر الشام بهزيمة الناصر وراءهم فرجعوا و دخل أيبك إلى القاهرة و حبس بني أيوب بالقلعة ثم قتل يغمور وزير الصالح إسمعيل المعتقل ببعلبك مع بنيه و قتل الصالح إسمعيل في محبسه ثم جهز الناصر العساكر من دمشق إلى غزة فتواقعوا مع فارس الدين أقطاي مقدم عساكر مصر فهزموهم و استولوا عليها و ترددت الرسل بين الناصر و بين الأمراء بمصر و اصطلحوا سنة خمسين و جعلوا التخم بينهم نهر الأردن ثم أطلق أيبك حسام الدين الهذباني فسار إلى دمشق و سار في خدمة الناصر و جاءت إلى الناصر شفاعة المستعصم في الناصر داود صاحب الكرك الذي حبسه بحمص فأفرج عنه و لحق ببغداد و معه إبناه الأمجد و الظاهر فمنعه الخليفة من دخولها فطلب وديعته فلم يسعف بها و أقام في أحياء عرية ثم رحع إلى دمشق بشفاعة من المستعصم للناصر و سكن عنده و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/418)
خلع الأشرف بن أطسز و استبداد أيبك و أمراء الترك بمصر
قد تقدم لنا آنفا بيعة أمراء التركمان بمصر للأشراف موسى بن يوسف أطسز بن الكامل و أنهم خطبوا له و أجلسوه على التخت بعد أن نصبوا للملك أيبك و كان طموحا إلى الإستبداد و كان أقطاي الجامدار من أمراء البحرية يدافعه عن ذلك و يغض من عنانه منافسة و غيرة فأرصد له أيبك ثلاثة من المماليك اغتالوه في بعض سكك القصر و قتلوه سنة اثنتين و خمسين و كانت جماعة البحرية ملتفة عليه فانفضوا و لحقوا بالناصر في دمشق و استبد أيبك بمصر و خلع الأشرف و قطع الخطبة له فكان آخر أمراء بني أيوب بمصر و خطب أيبك لنفسه ثم تزوج شجرة الدر أم خليل الملكة قبله فلما وصل البحرية إلى الناصر بدمشق أطمعوه في ملك مصر و استحثوه فتجهز و سار إلى غزة و برز أيبك بعساكره إلى العباسية فنزل بها و انتقض عليه فتوهموا بالثورة به فإرتاب بهم و لحقوا بالناصر ثم ترددت الرسل بين الناصر و أيبك فاصطلحوا على أن يكون التخم بينهم العريش و بعث الناصر إلى المستعصم مع وزيره كمال الدين بن العديم في طلب الخلعة و كان أيبك قد بعث بالهدية و الطاعة إلى المستعصم فمطل المستعصم الناصر بالخلعة حتى بعثها إليه سنة خمس و خمسين ثم قتل المعز أيبك قتلته شجرة الدر غيلة في الحمام سنة خمس و خمسين غيرة من خطبته بنت لؤلؤ صاحب الموصل فنصبوا مكانه ابنه عليا و لقبوه المنصور و ثاروا به من شجرة الدر كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى (5/420)
مسير المغيث بن العادل صاحب الكرك مع البحرية إلى مصر و انهزامهم
كان البحرية منذ لحقوا بالناصر بعد مقتل أقطاي الجامدار مقيمين عنده ثم ارتاب بهم و طردهم آخر سنة خمس و خمسين فلحقوا بغزة و كاتبوا المغيث فتح الدين عمر بن العادل بالكرك و قد كنا ذكرنا أن بدر الصوافي أخرجه من محبسه بالكرك بعده مقتل تورانشاه بمصر و ولاه الملك و قام بتدبير دولته و بعث إليه الآن بيبرس البند قداري مقدم البحرية من غزة يدعوه إلى الملك و بلغ الخبر إلى الناصر بدمشق فجهز العساكر إلى غزة فقاتلوهم و انهزموا إلى الكرك فتلقاهم المغيث و قسم فيهم الأموال و استحثوه لملك مصر فسار معهم و برزت عساكر مصر لقتالهم مع قطز مولى أيبك المعز و مواليه فالتقى الفريقان بالعباسية فانهزم المغيث و البحرية إلى الكرك و رجعت العساكر إلى مصر و في خلال ذلك أخرج الناصر داود بن المعظم من دمشق حاجا و نادى في الموسم بتوسله إلى المستعصم في وديعته و انصرف مع الحاج إلى العراق فاكرهه المستعصم على براءته من وديعته فكتب و أشهد و لحق بالبرية و بعث إلى الناصر يوسف يستعطفه فأذن له و سكن دمشق ثم رجع مع رسول المستعصم الذي جاء معه إلى الناصر بالخلعة و التقليد فأقام بقرقيسيا حتى يستأذن له الرسول فلم يأذن له فأقام عند أحياء العرب في التيه فقربوا في تقلبهم من الكرك فقبض عليه المغيث صاحب الكرك و حبسه حتى إذا زحف التتر لبغداد بحث عنه المستعصم ليبعثه مع العساكر لمدافعتهم و قد استولى التتر على بغداد فرجع و مات ببعض قرى دمشق بالطاعون سنة ست و خمسين انتهى و الله تعالى أعلم (5/420)
زحف الناصر صاحب دمشق إلى الكرك و حصارها و القبض على البحرية
و لما كان من المغيث و البحرية ما قدمناه و رجعوا منهزمين إلى الكرك بعث الناصر عساكره من دمشق إلى البحرية فالتقوه بغزة و انهزمت عساكر الناصر و ظفرت البحرية بهم و استفحل أمرهم بالكرك فسار الناصر بنفسه إليهم بالعساكر من دمشق سنة سبع و خمسين و سار معه صاحب حماه المنصور بن المظفر محمود فنزلوا على الكرك و حاصروا و أرسل المغيث إلى الناصر في الصلح فشرط عليه أن يحبس البحرية فأجاب و نمي الخبر إلى بيبرس أميرهم البندقداري فهرب في جماعة منهم و لحق بالناصر و قبض المغيث على الباقين و بعث بهم إلى الناصر في القيود و رجع الكرك ثم بعث إلى الأمراء بمصر وزيره كمال الدين بن العديم يدعوهم إلى الإتفاق إلى مدافعة التتر وفي أيام مقدم ابن العديم مصر خلع الأمراء على ابن المعز أيبك و قبض عليه أتابك عسكره و موالي أبيه و جلس على التخت و خطب لنفسه و قبض على الأمراء الذين يرتاب منازعتهم كما نذكره في أخبارهم و أعاد ابن العديم إلى مرسله صاحب دمشق بالإجابة و الوعد بالمظاهرة و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/421)
استيلاء التتر على الشام و انقراض ملك بني أيوب و هلاك من هلك منهم
ثم زحف التتر و سلطانهم هلاكو إلى بغداد و استولى على كرسي الخلافة و قتلوا المستعصم و طمسوا معالم الملة و كادت تكون من أشراط الساعة و قد شرحناها في أخبار الخلفاء و نذكرها في أخبار التتر فبادر الناصر صاحب دمشق بمصانعته و بعث ابنه العزيز محمدا إلى السلطان هلاكو بالهدايا و الألطاف فلم يغن ورده بالوعد ثم بعث هلاكو عساكره إلى ميافارقين و بها الكامل محمد بن المظفر شهاب الدين غازي بن العادل الكبير فحاصروها سنتين ثم ملكوها عنوة سنة ثمان و خمسين و قتلوه و بعث العساكر إلى إربل فحاصروها ستة أشهر و فتحوها و سار ملوك بلاد الروم كيكاوس و قليج أرسلان ابنا كنسجرو إلى هلاكو أثر ما ملك بغداد فدخلوا في طاعته و رجعوا إلى بلاده و سار هلاكو إلى بلاد أذربيجان و وفد عليه هنالك لؤلؤ صاحب الموصل سنة سبع و خمسين و دخل في طاعته ورده إلى بلده و هلك أثر ذلك و ملك الموصل مكانه ابنه الصالح و سنجار ابنه علاء الدين ثم أوفد الناصر ابنه على هلاكو بالهدايا و التحف على سبيل المصانعة و اعتذر عن لقائه بالتخويف على سواحل الشام من الإفرنج فتلقى ولده بالقبول و عذره و أرجعه إلى بلده بالمهادنة و المواعدة الجميلة ثم سار هلاكو إلى حران و بعث ابنه في العساكر إلى حلب و بها المعظم تورانشاه بن صلاح الدين نائبا عن الناصر يوسف فخرج لقتالهم في العساكر و أكمن له التتر و استجروهم ثم كروا عليهم فاثخنوا فيهم و رحلوا إلى أعزاز فملكوها صلحا و بلغ الخبر إلى الناصر و هو بدمشق معسكر من ثورة سنة ثمان و خمسين و جاء الناصر بن المظفر صاحب حماة فأقام معه ينتظر أمرهم ثم بلغه أن جماعة من مواليه اعتزموا على الثورة به فكر راجعا و لحق أولئك الموالي بغزة ثم أطلع على خبثهم و أن قصدهم تمليك أخيه الظاهر فاستوحش منهم و لحق الظاهر بهم فنصبوه للأمر و اعصوصبوا عليه و كان معهم بيبرس البندقداري و شعر بتلاشي أحوالهم فكاتب المظفر صاحب مصر و استأمن إليه فأمنه و سار إلى مصر فتلقى بالكرامة و انزل بدار الوزارة و أقطعه السلطان قطز قليوب بأعماله ثم هرب هلاكو إلى الفرات فملك و كان بها إسمعيل أخو الناصر معتقلا فأطلقه و سرحه إلى عمله بالصبينة و بانياس و ولاه عليهما و قدم صاحب أرزن إلى تورانشاه نائب حلب يدعوه إلى الطاعة فامتنع فسار إليهما و ملكها عنوة و أمنها و اعتصم تورانشاه و الحامية بالقلعة و بعث أهل حماة بطاعتهم إلى هلاكو و أن يبعث عليهم نائبا من قبله و يسمى برطانتهم الشحنة فأرسل إليهم قائدا يسمى خسروشاه و ينسب في العرب إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه و بلغ الناصر أخذ حلب فأجفل عن دمشق و استخلف عليها و سار إلى غزة و اجتمع عليه مواليه و أخوه و سار التتر إلى نابلس فملكوها و قتلوا من كان بها من العسكر و سار الناصر من غزة إلى العريش و قدم رسله إلى قطز تسأله النصر من عدوهم و إجتماع الأيدي على المدافعة ثم تقدموا إلى و استراب الناصر بأهل مصر فسار هو و أخوه الظاهر و معهما الصالح بن الأشرف موسى بن شيركوه إلى التيه فدخلوا إليه و فارقهم المنصور صاحب حماة و العساكر إلى مصر فتلقاهم السلطان قطز بالصالحية و آنسهم و رجع بهم إلى مصر و استولى التتر على دمشق و سائر بلاد الشام إلى غزة و ولوا على جميعها أمراءهم ثم افتتحت قلعة حلب و كان بها جماعة من البحرية معتقلين منهم سنقر الأشقر فدفعهم هلاكو إلى السلطان جق من أكابر أمرائه و ولى على حلب عماد الدين القزويني و وفد عليه بحلب الأشرف موسى بن منصور بن إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص و كان الناصر قد أخذها منه كما قدمناه فأعادها عليه هلاكو و رد جميع ولايته بالشام إلى رأيه و سار إلى قلعة حارم فملكها و استباحها و أمر بتخريب أسوار حلب و قلعتها و كذلك حماة و حمص و حاصروا قلعة دمشق طويلا ثم تسلموها بالأمان ثم ملكوا بعلبك و هدموا قلعتها و ساروا إلى الصبينة و بها السعيد بن العزيز بن العادل فملكوها منه على الأمان و سار معهم و وفد على هلاكو فخر الدين بن الزكي من أهل دمشق فولاه القضاة بها ثم اعتزم هلاكو على الرجوع إلى العراق فعبروا الفرات و ولى على الشام أجمع أميرا اسمه كتبغا من أكابر أمرائه و احتمل عماد الدين القزويني من حلب و ولى مكانه آخر و أما الناصر فلما دخل في التيه هاله أمره و حسن له أصحابه قصد هلاكو فوصل إلى كتبغا نائب الشام يستأذنه ثم وصل فقبض عليه و سار به إلى حتى سلمها إليه أهلها و بعث به إلى هلاكو فمر بدمشق ثم بحماة و بها الأشرف صاحب حمص و خسرو شاه نائبها فخرجا لتلقيه ثم مر بحلب و وصل إلى هلاكو فأقبل عليه و وعده برده إلى ملكه ثم ثار المسلمون بدمشق بالنصارى أهل الذمة و خربوا كنيسة مريم من كنائسهم و كانت من أعظم الكنائس في الجانب الذي فتحه خالد بن الوليد رحمه الله و كانت لهم أخرى في الجانب الذي فتحه أبو عبيدة بالأمان و لما ولي الوليد طالبهم في هذه الكنيسة ليدخلها في جامع البلد و أعلى لهم في السوم فامتنعوا فهدمها و زادها في الجامع لأنها كانت لصقه فلما ولي عمر بن عبد العزيز استعاضوه فعوضهم بالكنيسة التي ملكها المسلمون بالعنوة مع خالد بن الوليد رحمه الله و قد تقدم ذكر هذه القصة فلما ثار المسلمون الآن بالنصارى أهل الذمة خربوا كنيسة مريم هذه و لم يبقوا لها أثر ثم إن العساكر الإسلامية اجتمعت بمصر و ساروا إلى الشام لقتال التتر صحبة السلطان قطز صاحب و معه المنصور صاحب حماة و أخوه الأفضل فسار إليه كتبغا نائب الشام و معه الأشرف صاحب حمص و السعيد صاحب الصبينة ابن العزيز بن العادل و التقوا على عين جالوت بالغور فانهزم التتر و قتل أميرهم النائب كتبغا و أسر السعيد صاحب الصبينة فقتله قطز و استولى على الشام أجمع و أقر المنصور صاحب حماة على بلده و رجع إلى مصر فهلك في طريقه قتله بيبرس البندقداري و جلس على التخت مكانه و تلقب بالظاهر حسبما يذكر ذلك كله في دولة الترك ثم جاءت عساكر التتر إلى الشام و شغل هلاكو عنهم بالفتنة مع قومه و أسف على قتل كتبغا نائبه و هزيمة عساكر فأحضر الناصر ولامه على ما كان منه من تسهيله عليه أمر الشام و تجنى عليه أنه غره بذلك فاعتذر له الناصر فلم يقبل فرماه بسهم فأنفذه ثم أتبعه بأخيه الظاهر و بالصالح بن الأشرف موسى صاحب حمص و شفعت زوجة هلاكو في العزيز بن الناصر و كان مع ذلك يحبه فاستبقاه و انقرض ملك بني أيوب من الشام كما انقرض قبلها من مصر و اجتمعت مصر و الشام في مملكة الترك و لم يبق لبني أيوب بهما ملك إلا للمنصور بن المظفر صاحب حماة فإن قطزا أقره عليها و الظاهر بيبرس من بعده و بقي في إمارته هو و بنوه مدة من دولة الترك و طاعتهم حتى أذن الله بانقراضهم و ولي عليها غيرهم من أمرائهم كما نذكر في أخبار دولتهم و الله وارث الأرض و من عليها و العاقبة للمتقين (5/422)
دولة الترك ـ الخبر عن دولة الترك القائمين بالدولة العباسية بمصر و الشام من بعد بني أيوب و لهذا العهد و مبادي أمورهم و تصاريف أحوالهم
قد تقدم لنا ذكر الترك و أنسابهم أول الكتاب عند ذكر أمم العالم ثم في أخبار الأمم السلجوقية و أنهم من ولد يافث بن نوح باتفاق من أهل الخليفة فعند نسابة العرب أنهم من عامور بن سويل بن يافث و عند نسابة الروم انهم من طيراش بن يافث هكذا وقع في التوراة و الظاهر أن ما وقع لنسابة العرب غلط و أن عامور هو مصحف كومر لأن كافه تنقلب عند التعريب غنيا معجمة فربما صحف عينا مهملة أو بقيت بحالها و أما سويل فغلط بالزيادة و أما ما وقع للروم من نسبتهم إلى طيراش فهو منقول في الإسرائيليات و هو رأي مرجوح عندهم لمخالفته لما في التوراة و أما شعوبهم و أجناسهم فكثيرة و قد عددنا منهم أول الكتاب التغرغز و هم التتر و الخطا و كانوا بأرض طمغاج و هي بلاد ملوكهم في الإسلام تركستان و كاشغر و عددنا منهم أيضا الخزلخية و الغز الذين كان منهم السلجوقية و الهياطلة الذين منهم الخلج و بلادهم الصغد قريبا من سمرقند و يسمون بها أيضا و عددنا منهم أيضا الغور و الخزر و القفجاق و يقال الخفشاخ و يمك و العلان و يقال اللان و شركس و أركش و قال صاحب كتاب زجار في الكلام على الجغرافيا أجناس من الترك كلهم وراء النهر إلى البحر المظلم و هي العيسة و التغرغزية و الخرخيرية و الكماكية و الخزلخية و الخزر و الحاسان و تركش و أركش و خفشاخ و الخلخ و الغزية و بلغار و خجاكت و يمناك و برطاس و سنجرت و خرجان و أنكر و ذكر في موضع آخر أنكر من شعوب الترك و أنهم في بلاد البنادقة من أرض الروم و أما مواطنهم فإنهم ملكوا الجانب الشمالي من المعمور في النصف الشرقي منه قبالة الهند و العراق في ثلاثة أقاليم هي السادس و السابع و الخامس كما ملك العرب الجانب الجنوبي من المعمور أيضا في جزيرة العرب و ما إليها من أطراف الشام و العراق و هم رحالة مثلهم و أهل حرب و افتراس و معاش من التغلب و النهب إلا في الأقل و قد ذكرنا أنهم عند الفتح لم يذعنوا إلا بعد طول حرب و ممارسة أيام سائر دولة بني أمية و صدرا من صولة بني العباس و امتلأت أيدي العرب يومئذ من سبيهم فاتخذوهم خولا في المهن و الصنائع و نساءهم فرشا للولادة كما فعلوه في سبي الفرس و الروم و سائر الأمم الذين قاتلوهم على الدين و كان شأنهم أن لا يستعينوا برقيقهم في شيء مما يعانونه من الغزو و الفتوح و محاربة الأمم و من أسلم منهم تركوه لسبيله التي هو عليها من أمر معاشه على طاغية هواه لأن عصبية العرب كانت مستفحلة يومئذ و شوكتهم قائمة مرهفة و يدهم و يد سلطانهم في الأمر جميعا و مرماهم إلى العز و المجد واحد و كانوا كأسنان المشط لتزاحم الأنساب و غضاضة الدين حتى إذا أرهف الملك حده و نهج إلى الإستبداد طريقه و احتاج السلطان في القيام بأمره إلى الاستظهار على المنازعين فيه من قومه بالعصبية المدافعة دونه و الشوكة المعترض شباها في اذيالة حتى تجذع أنوفهم عن التطاول إلى رتبته و تغض أعنتهم عن السير في مضماره اتخذ بنو العباس من لدن المهدي و الرشيد بطانة إصطنعوهم من موالي الترك و الروم و البربر ملؤا منهم المواكب في الأعياد و المشاهد و الحروب و الصوائف و الحراسة على السلطان و زينة في أيام السلم و اكثافا لعصابة الملك حتى لقد اتخذ المعتصم مدينة سامرا لنزلهم تحرجا من أضرار الرعية باصطدام مراكبهم و تراكم القتام بجوهم و ضيق السكك على المارين بزحامهم و كان اسم الترك غالبا على جميعهم فكانوا تبعا لهم و مندرجين فيهم و كانت حروب المسلمين لذلك العهد في القاصية و خصوصا مع الترك متصلة و الفتوح فيهم متعاقبة و أمواج السبي من كل وجه متداركة و ربما رام الخلفاء عند استكمال بغيتهم و استجماع عصابتهم و إصطفاء علية منهم للمخالصة و قواد العساكر و رؤساء المراكب فكانوا يأخذون في تدريجهم لذلك بمذاهب الترشيح فينتقون من أجود السبي الغلمان كالدنانير و الجوار كاللآلىء و يسلمونهم إلى قهارمة القصور و قرمة الدواوين يأخذونهم بحدود الإسلام و الشريعة و آداب الملك و السياسة و مراس الثقافة في المران على المناضلة بالسهام و المسالحة بالسيوف و المطاعنة بالرماح و البصر بأمور الحرب و الفروسية و معاناة الخيول و السلاح و الوقوف على معاني السياسة حتى إذا تنازعوا في الترشيح و انسلخوا من جلدة الخشونة إلى رقة الحاشية و ملكة التهذيب اصطنعوا منهم للمخالصة و رقوهم في المراتب و اختاروا منهم لقيادة العساكر في الحروب و رياسة المواكب أيام الزينة و رتق الفتوق الحادثة و سد الثغور القاضية كل على شاكلة غنائه و سابق اصطناعه فلم يزل هذا دأب الخلفاء في اصطناعهم و دعامة سرير الملك بعمدهم و تمهيد الخلافة بمقاماتهم حتى سموا في درج الملك و امتلأت جوانجهم من الغزو و طمحت أبصارهم إلى الإستبداد فتغلبوا على الدولة و حجروا الخلفاء و قعدوا بدست الملك و مدرج النهي و الأمر و قادوا الدولة بزعامهم و أضافوا اسم السلطان إلى مراتبهم و كان مبدأ ذلك واقعة المتوكل و ما حصل بعدها من تغلب الموالي و استبدادهم بالدولة و السلطان و نهج السلف منهم في ذلك السبيل للخلف و اقتدى الآخر بالأول فكانت لهم دول في الإسلام متعددة تعقب غالبا دولة أهل العصبية و شوكة النسب كمثل دولة بني سامان وراء النهر و بني سبكتكين بعدهم و بني طولون بمصر و بني طغج و ما كان بعد الدولة السلجوقية من دولتهم مثل بني خوارزم شاه بما وراء النهر و بني طغرلتكين بدمشق و بني أرتق بماردين و بني زنكي بالموصل و الشام و غير ذلك من دولهم التي قصصناها عليك في تصانيف الكتاب حتى إذا استغرقت الدولة في الحضارة و الترف و لبست أثواب البلاء و العجز و رميت الدولة بكفرة التتر الذين أزالوا كرسي الخلافة و طمسوا رونق البلاد و أدالوا بالكفر من الإيمان بم أخذ أهلها عند الاستغراق في التنعم و التشاغل في اللذات و الإسترسال في الترف من تكاسل الهمم و القعود عن المناصرة و الانسلاخ من جلدة الرأس و شعار الرجولية فكان من لطف الله سبحانه أن تدارك الإيمان بأحياء رمقه و تلافى شمل المسلمين بالديار المصرية بحفظ نظامه و حماية سياجه بأن بعث لهم من هذه الطائفة التركية و قبائلها الغزيرة المتوافرة أمراء حامية و أنصارا متوافية يجلبون من دار الحرب إلى دار الإسلام في مقادة الرق الذي كمن اللطف في طيه و أخلاق بدوية لم يدنسها لؤم الطباع و لا خالطتها أقذار اللذات و لا دنستها عوائد الحضارة و لا كسر من سورتها غزارة الترف ثم يخرج بهم التجار إلى مصر أرسالا كالقطا نحو الموارد فيستعرضهم أهل الملك منهم و يتنافسون في أثمانهم بما يخرج عن القيمة لا لقصد الإستعباد إنما هو إكثاف للعصبية و تغليظ للشوكة و نزوع إلى العصبية الحامية يصطفون من كل منهم بما يؤنسونه من شيم قومهم و عشائرهم ثم ينزلونهم في غرف الملك و يأخذونهم بالمخالصة و معاهده التربية و مدارسة القرآن و ممارسة التعليم حتى يشتدوا في ذلك ثم يعرضونهم على الرمي و الثقافة و ركض الخيل في الميادين و المطاعنة بالرماح و المماصعة بالسيوف حتى تشتد منهم السواعد و تستحكم الملكات و يستيقنوا منهم المدافعة عنهم و الاستماتة دونهم فإذا بلغوا إلى هذا الحد ضاعفوا أرزاقهم و وفروا من أقطاهم و فرضوا عليهم إستجادة السلاح و إرتباط الخيل و الإستكثار من أجناسهم لمثل هذا القصد و ربما عمروا بهم خطط الملك و درجوهم في مراتب الدولة فيسترشح من يسترشح منهم لإقتعاد كرسي السلطان و القيام بأمور المسلمين عناية من الله تعالى سابقة و لطائف في خلقه سارية فلا يزال نشو منهم يردف نشوا و جيل يعقب جيلا و الإسلام يبتهج بما يحصل به من الغناء و الدولة ترف أغصانها من نضرة الشباب و كان صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر و الشام و أخوه العادل أبو بكر من بعده ثم بنوهم من بعدهم قد تناغوا في ذلك بما فوق الغاية و اختص الصالح نجم الدين أيوب آخر ملوكهم بالمبالغة في ذلك و الأمعان فيه فكان عامة عسكره منهم فلما انقض عشيرة و خذله أنصاره و قعد عنه أولياؤه و جنوده لم يدع سببا في استجلابهم إلا أتاه من إستجادة المترددين إلى ناحيتهم و مراضاة التجار في أثمانهم بأضعاف ثمنهم و كان رقيقهم قد بلغ الغاية من الكثرة لما كان التتر قد دوخوا الجانب الغربي من ناحية الشمال و أوقعوا بسكانه من الترك و هم شعوب القفجاق و الروس و العلان و المولات و ما جاورهم من قبائل جركس و كان ملك التتر بالشمال يومئذ دوشي خان بن جنسكز خان قد أصابهم بالقتل و السبي فامتلأت أيدي أهل تلك النواحي برقيقهم و صاروا عند التجار من أنفس بضائعهم و الله تعالى أعلم (5/426)
ذكر بيبرس البندقداري
في تاريخه حكاية غربية عن سبب دخول التتر لبلادهم بعد أن عد شعوبهم فقال و من قبائلهم يعني القفجاق قبيلة طغصبا و ستا و برج أغلا و البولى و قنعرا على و أوغلي و دورت و قلابا أعلى و جرثان و قد كابركي و كنن هذه إحدى عشرة قبيلة و ليس فيها ذكر الشعوب العشرة القديمة الذكر التي عددها النسابة كما قدمناه أول الترجمة و هذه و الله أعلم بطون متفرعة من القفجاق فقط و هي التي في ناحية الغرب من بلادهم الشمالية فإن سياق كلامه إنما هو في الترك المجلوبين من تلك الناحية لا من ناحية خوارزم و لا ما وراء النهر قال بيبرس و لما استولى التتر على بلادهم سنة ست و عشرين و الملك يومئذ بكرسي جنكزخان لولده دوشي خان و اتفق أن شخصا من قبيلة دورت يسمى منقوش بن كتمر خرج متصيدا فلقيه آخر من قبيلة طغصبا اسمه آقاكبك و بين القبيلتين عداوة مستحكمة فقتله و أبطأ خبره عن أهله فبعثوا طليعة لاستكشاف أمره اسمه جلنقر فرجع إليهم و أخبرهم و أنه قتل و سمى لهم قائله فجمعوا للحرب و تزاحفت القبيلتان فانهزمت قبيلة طغصبا و خرج أقاكبك القاتل و تفرق جمعه فأرسل أخاه أقصر إلى ملكهم دوشي يستعلم ما على ذوي قبيلة دورت القفجاقية و ذكره ما فعل كتمر و قومه بأخيه و أغراه بهم و سهل له الشأن فيهم و بعث دوشي خان جاسوسه لإستكشاف حالهم و اختيار مراسهم و شكيمتهم فعاد إليه بتسهيل المرام فيهم و قال إن رأيت كلابا مكبين على فريستهم متى طردتهم عنها تمكنت منها فأطمعه ذلك في بلاد القفجاق و استحثه أقصر الذي جاء صريخا و قال له ما معناه نحن ألف رأس تجر ذنبا واحدا و أنتم رأس واحد تجر ألف ذنب فزاده ذلك أغراء و نهض بجموع التتر فأوقع بالقفجاق و أثخن فيهم قتلا و سبيا و أسرا و فرقهم في البقاع و امتلأت أيدي التجار و جلبوهم إلى مصر فعوضه الله بالدخول في الإيمان و الاستيلاء على الملك و السلطان انتهى كلام بيبرس و مساق القصة يدل على أن قبيلة دورت من القفجاق و أن قبيلة طغصبا من التتر فيقضي ذلك أن هذه البطون التي عددت ليست من بطن واحد و كذلك يدل مساقها على أن أكثر هؤلاء الترك الذين بديار مصر من القفجاق و الله تعالى أعلم (5/429)
الخبر عن استبداد الترك بمصر و انفرادهم بها عن بني أيوب و دولة المعز أيبك أول ملوكهم
قد تقدم لنا أن الملك الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل بن العادل قد استكثر من المماليك الترك و من في معناهم من التركمان و الأرمن و الروم و جركس و غيرهم إلا أن اسم الترك غالب على جميعهم لكثرتهم و مزيتهم و كانوا طوائف متميزين بسمات من ينسبون إليه من نسب أو سلطان فمنهم العزيزية نسبة إلى العزيز عثمان بن صلاح الدين و منهم الصالحة نسبة إلى هذا الصالح أيوب و منهم البحرية نسبة إلى القلعة التي بناها الصالح بين شعبتي النيل أزاء المقياس بما كانوا حاميتها و كان هؤلاء البحرية شومة دولته و عصابة سلطانه و خواص داره و كان من كبرائهم عز الدين أيبك الجاشنكير التركماني و رديفه فارس الدين أقطاي الجامدار و ركن الدين بيبرس البندقداري و لما كان ما قدمناه و وفاة الصالح بالمنصورة في محاصرة الإفرنج بدمياط في سنة سبع و أربعين و كتمانهم موته و رجوعهم في تدبير أمورهم إلى شجرة الدر زوجة الصالح و أم ولده خليل و بعثهم إلى ابنه المعظم تورانشاه و انتظاره و أن الإفرنج شعروا بموت الصالح فدلفوا إلى معسكر المسلمين على حين غفلة فانكشف أوائل العسكر و قتل فخر الدين الأتابك ثم أفرغ الله الصبر و ثبت أقدامهم و أبلى أمراء الترك في ذلك اليوم بلاء حسنا و وقفوا مع شجرة الدر زوج السلطان تحت الرايات ينوهون بمكانها فكانت لهم الكرة و هزم الله العدو و ثم وصل المعظم تورانشاه من كيفا فبايعوا له و أعطوه الصفقة و انتظم الحال و استطال المسلمون على الإفرنج برا و بحرا فكان ما قدمناه من هزيمتهم و الفتك بهم و أسر ملكهم الفرنسيس ثم رحل المعظم أثر هذا الفتح إلى مصر لشهرين من وصوله و نزل بفارس كور يريد مصر و كانت بطانته قد استطالوا على موالي أبيه و تقسموهم بين النكبة و الإهمال فاتفق كبراء البحرية على قتله و هم أيبك و أقطاي و بيبرس فقتلوه كما مر و نصبوا للملك شجرة الدر أم خليل و خطب لها على المنابر و نقش اسمها على السكة و وضعت علامتها على المراسم و نصها أم خليل و قام أيبك التركماني بأتابكية العسكر ثم فودي الفرنسيس بالنزول عن دمياط و ملكها المسلمون سنة ثمان و أربعين و سرحوه في البحر إلى بلاده بعد أن توثقوا منه باليمين أن لا يتعرض لبلاد المسلمين ما بقي و استقلت الدولة بمصر للترك و انقرضت منها دولة بني أيوب بقتل المعظم و ولاية المرأة و ما اكتنف ذلك فامتعضوا له و كان فتح الدين عمر بن العادل قد حبسه عمه الصالح أيوب بالكرك لنظر بدر الصوابي خادمه الذي ولاه على الكرك و الشويك لما ملكها كما مر فاطلق بدر الدين من محبسه و بايع له و قام بأمره و لقبه المغيث و اتصل الخبر بمصر و علموا أن الناس قد نقموا عليهم ولاية المرأة فاتفقوا على ولاية زعيمهم أيبك لتقدمه عند الصالح و أخيه العادل قبله فبايعوا له و خلعوا أم خليل و لقبوه بالمعز فقام بالأمر و انفرد بملك مصر و ولى مولاه سيف الدين قطز نائبا و عمر المراتب و الوظائف بأمراء الترك و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/430)
نهوض الناصر صاحب دمشق من بني أيوب إلى مصر و ولاية الأشرف موسى مكان أيبك
كان الملك الصالح أيوب قبل موته قد استخلف جمال الدين بن يغمور على دمشق مكان ابن مطروح و أمراء الدولة الأيوبية بها متوافرون فلما بلغهم استبداد الترك بمصر و ولاية أيبك و بيعه المغيث بالكرك أمعنوا النظر في تلافي أمورهم و كبراء بني أيوب يومئذ بالشام الناصر يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين حلب و حمص و ما إليها فاستدعوه و بايعوا له بدمشق و أغروه بطلب مصر و اتصل الخبر للترك في مصر فاعتزموا على أن ينصبوا بعض بني أيوب فيكفوا به ألسنة النكير عنهم فبايعوا لموسى الذي كان أبوه يوسف صاحب اليمن و هو يوسف أطسز بن المسعود بن الكامل و هو يومئذ ابن ست سنين و لقبوه الأشرف و تزحزح له أيبك عن كرسي السلطان إلى رتبة الأتابكية و استمر الناصر على غلوائه في النهوض إلى مصر و استدعى ملوك الشام من بني أيوب فأقبل إليه موسى الأشرف الذي كان صاحب حمص و إسمعيل الصالح بن العادل صاحب بعلبك و المعظم تورانشاه بن صلاح الدين و أخوه نصر الدين و ابنا داود الناصر صاحب الكرك و هما الأمجد حسن و الظاهر شادي و ارتحل من دمشق سنة ثمان و أربعين و في مقدمته أتابكه لؤلؤ الأرمني و بلغ الخبر إلى مصر فاضطرب الأمر و نادوا بشعار الخلافة و الدعاء للمستعصم و جددوا البيعة على ذلك للأشرف و جهزوا العساكر و خرجوا للقائهم و سار في المقدمة أقطاي الجامدار و جمهور البحرية و تبعهم أيبك ساقة في العساكر و التقى الجمعان بالعباسية فانكشف عسكر مصر أولا و تبعهم أهل الشام و ثبت المعز في القلب و دارت عليه رحى الحرب و هرب إليه جماعة من عسكر الناصر فيهم أمراء العزيزية مثل جمال الدين لا يدعون و شمس الدين أتسز اليرلي و شمس الدين أتسز الحسامي غضبوا من رياسة لؤلؤ عليهم فهربوا و بقي لؤلؤ في المعركة صامدا ثم حمل المعز على الناصر و أصحابه فانهزموا و انفض عسكرهم و جيء بلؤلؤ الأتابكي أسيرا فقتله صبرا و بأمراء بني أيوب فحبسهم و رجع أيبك من الوقعة فوجد عساكر الناصر مجتمعين بالعباسية يظنون الغلب لهم فعدل إلى بلبيس ثم إلى القلعة و رجعت عساكر الشام من أتباع المنهزمين لما شعروا بهزيمة صاحبهم فلحقوا بالناصر بدمشق و دخل أيبك إلى القاهرة و حبس بني أيوب بالقلعة ثم قتل منهم إسمعيل الصالح و وزيره ابن يغمور الذي كان معتقلا من قبل و لما وصل الناصر إلى دمشق أزاح علل عساكره و عجل الكرة إلى مصر و نزل غزة سنة خمسين و برزت عساكر مصر للقائه فتوافقوا مليا ثم وصل نجم الدين البادر إلى رسول المستعصم فأصلح بين الطائفتين على أن يكون القدس و الساحل إلى نابلس للمعز و التخم بين المملكتين نهر الأردن و انعقد الأمر علىذلك و رجع كل إلى بلده و أخرج المعز عن أمراء بني أيوب الذين حبسهم يوم الوقعة و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/431)
واقعة العرب بالصعيد مع أقطاي
لما شغل الصالح بالإفرنج و ما بعدهم عظم فساد العرب بالصعيد و اجتمعوا على الشريف خضر الدين أبي ثعلب بن نجم الدين عمر بن فخر الدين إسمعيل بن حصن الدين ثعلب الجعفري من ولد جعفر بن أبي طالب الذين أجازوا من الحجاز لما غلبهم بنو عمهم بنواحي المدينة في الحروب التي كانت بينهم و اطاعه أعراب الصعيد كافة و لم يقدر على كفهم عن الراية و اتصل ذلك و هلك الصالح و استبد الترك بمصر و شغلوا عنهم بما كان من مطالبة بني أيوب لهم فلما فرغ المعز أيبك من أمر الناصر و عقد الصلح معه بعث لحربهم فارس الدين أقطاي و عز الدين أيبك الأفرم أمير البحرية فساروا إليهم و لقوهم بنواحي أخميم فهزموهم و فر الشريف ناجيا بنفسه ثم قبض عليه بعد ذلك و قتل و رجعت العساكر إلى القاهرة و الله تعالى أعلم (5/432)
مقتل اقطاي الجامدار و فرار البحرية إلى الناصر و رجوع أيبك إلى كرسيه
كان اقطاي الجامدار من أمراء البحرية و عظمائهم و يلقب فارس الدين و كان رديفا للمعز أيبك في سلطانه و أتابكه و كان يغض من عنانه عن الطموح إلى الكرسي و كان يخفض من جناحه للبحرية يتألفهم بذلك فيميلون له عن أيبك فاعتز في الدولة و استفحل أمره و أخذ من المعز الإسكندرية اقطاعا و تصرف في بيت المال و بعث فخر الدين محمد بن الناصر بهاء الدين بن حياء إلى المظفر صاحب حماة في خطبة ابنته فتزوجها و أطلق يده في العطاء و الإقطاع فعم الناس و كثر تابعه و غص به المعز أيبك و أجمع قتله فاستدعاه بعض الأيام للقصر للشورى سنة اثنتين و خمسين و قد اكمن له ثلاثة من مواليه في ممره بقاعة الأعمدة و هم قطز و بهادل و سنجر فوثبوا عليه عند مروره بهم و بادروا بالسيوف و قتلوه لحينه و اتصلت الهيعة بالبحرية فركبوا و طافوا بالقلعة فرمى إليهم برأسه فانفضوا و استراب أمراؤهم فاجتمع ركن الدين بيبرس البندقداري و سيف الدين قلاون الصالحي و سيف الدين سنقر الأشقر و بدر الدين بنسر الشمسي و سيف الدين بلبان الرشيدي و سيف الدين تنكر و أخوه سيف الدين موافق و لحقوا بالشام فيمن انضم إليهم من البحرية و اختفى من تخلف منهم و استصفيت أموالهم و ذخائرهم و ارتجع ما أخذه اقطاي من بيت المال ورد ثغر الإسكندرية إلى أعمال السلطان و انفرد المعز أيبك بتدبير الدولة و خلع موسى الأشرف و قطع خطبته و خطب لنفسه و تزوج شجرة الدر زوجة الصالح التي كانوا ملكوها من قبل و استخلص علاء الدين أيدغدي العزيزي و جماعة العزيزية و أقطعه دمياط و لما وصل البحرية و أمراؤهم إلى غزة كاتبوا الناصر يستأذنونه في القدوم و ساروا إليه فاحتفل في مبرتهم و أغروه بملك مصر فأجابهم و جهز العساكر و كتب المعز فيهم إلى الناصر و طلبوا منه القدس و البلاد الساحلية فاقطعها لهم ثم سار الناصر إلى الغور و برز إلى القاهرة في العزيزية و من إليهم و نزل العباسية و توافق الفريقان مدة ثم اصطلحوا و رجع كل إلى بلده سنة أربع و خمسين و بعث أيبك روسله إلى المستعصم بطاعته و طلب الألوية و التقليد و لما رجع إلى مصر قبض على علاء الدين أيدغدي لإسترابته به و أعاد دمياط إلى أعمال السلطان و اتصلت أحواله إلى أن هلك في الدولة و الله تعالى أعلم (5/432)
فرار الافرم إلى الناصر بدمشق
كان عز الدين أيبك الأفرم الصالحي واليا على قوص و اخميم و أعمالها فقوي أمره و هم بالإستبداد و أراد المعز عزله فامتنع عليه فبعث بعض الخوارزمية مددا له و دس إليهم الفتك به فلما وصلوا إليه استخدمهم و خلطهم بنفسه فاغتالوه و قبضوا عليه و تراموا إليه للحين فبطشوا بهم و قتلوهم و خلعوه ثم عزله بعد ذلك عز الدين الصميري في خدمته و استدعاه إلى مصر فأقام عنده ثم بعثه مع أقطاي إلى الصعيد و حضر و معه الشريف أبو ثعلب و العرب كما مر و عاد أقطاي إلى مكانه من الدولة و أوعز المعز أيبك إلى الأقزم بالمقام لتمهيد بلاد الصعيد و أن يكون الصميري في خدمته و بلغه و هو هناك أن المعز عدا على أقطاي و قتله و أن أصحابه البحرية فروا إلى الشام فاستوحش و أظهر العصيان و استدعى الشريف أبا ثعلب و تظاهر معه على الفساد و جمعوا الأعراب من كل ناحية ثم بعث المعز سنة ثلاث و خمسين شمس الدين اليرلي في العساكر فهزمهم و اعتقل الشريف فلم يزل في محبسه إلى أن قتله الظاهر و نجا الأفرم في فل من مواليه إلى الواحات ثم اعتزم على قصد الشام فرجع إلى الصعيد مع جماعة من اعراب جذام مروا به على السويس و الطور و رجع عنه مواليه إلى مصر و لما انتهى إلى غزة تولع به الناصر فأذنه بالقدوم عليه بدمشق و ركب يوم وصوله فتلقاه بالكسوة و أعطاه خمسة آلاف دينار و لم يزل عنده بدمشق إلى أن هرب البحرية من الكرك إلى مصر كما يذكر فخشي أن يأخذ الناصر و كاتب الأتابك قطز بمصر و سار إليه فقبله أولا ثم قبض عليه بعد ذلك و اعتقله بالإسكندرية و كان الصميري قد بقي بعد الافرم في ولاية الصعيد و استفحل فيه فسولت له نفسه الإستبداد و لم يتم له فهرب إلى الناصر سنة أربع و خمسين انتهى و الله تعالى أعلم (5/433)
مقتل المعز أيبك و ولاية ابنه علي المنصور
كان المعز أيبك عندما استفحل أمره و مهد سلطانه و دفع الأعداء عن حوزته طمحت نفسه إلى مظاهرة المنصور صاحب حماة و لؤلؤ صاحب الموصل ليصل يده بهما و أرسل إليهما في الخطبة و أثار ذلك غيرة من زوجته شجرة الدر و أغرت به جماعة من الخصيان منهم محسن الخزري و خصى العزيزي و يقال سنجر الخادمان فبيتوه في الحمام بقصره و قتلوه سنة خمس و خمسين لثلاث سنين من ولايته و سمع مواليه الناعية من جوف الليل فجاؤا مع سيف الدين قطز و سنجر الغتمي و بهادر فدخلوا القصر و قبضوا على الجوجري فقتلوه و فر سنجر العزيزي إلى الشام و هموا بقتل شجرة الدر و قام الموالي الصالحية دونها فاعتقلوها و نصبوا للملك علي بن المعز أيبك و لقبوه المنصور و كان أتابكه علم الدين سنجر الحلي و اشتمل موالي المعز على ابنه المنصور فكبسوا علم الدين سنجر و اعتقلوه و ولوا مكانه أقطاي المعزي الصالحي مولى العزيز على الدولة في نقضها و إبرامها سنة ست و خمسين و أغرته أم المنصور بالصاخب شرف الدين الغازي لأن المعز كان يستودعه سراياه عنده فاستصفاه و قتله و في هذه السنة توفي زهير بن علي المهلي و كان يكتب عن الصالح و يلازمه في سجنه بالكرك ثم صحبه إلى مصر و الله تعالى أعلم (5/434)
نهوض البحرية بالمغيث صاحب الكرك و انهزامهم
قد ذكرنا فرار البحرية إلى الناصر و نهوضهم به إلى مصر و خروج أيبك إلى العباسية و ما كان بينهما من الصلح فلما انعقد الصلح و رجع الناصر إلى دمشق و رجعوا عنه إلى قلعة و لم يرضوا الصلح فاستراب بهم الناصر و صرفهم عنه فلحقوا بغزة و نابلس و بعثوا إلى المغيث صاحب الكرك بطاعتهم فأرسل الناصر عساكره للإيقاع بهم فهزموهم فسار إليهم بنفسه فهزموه إلى البلقاء و لحقوا و أطمعوا المغيث في مصر و استمدوه لها فأمدهم بعسكره و قصدوا مصر و كبراؤهم بيبرس البندقداري و قلاوون الصالحي و بليان الرشيدي و برز الأمير سيف الدين قطز بعساكر مصر إلى الصالحية فهزمهم و قتل بلغار الأشرفي و أسر قلاوون الصالحي و بليان الرشيدي و أطلق قلاوون بعد أيام كفالة أستاذ الدار فاختفى ثم لحق بأصحابه و استحثوا المغيث إلى مصر فنهض في عساكره سنة ست و خمسين و نزل الصالحة و قدم إليه عز الدين الرومي و الكافوري و الهواشر ممن كان يكاتبه من أمراء مصر و برز سيف الدين قطز في عساكر مصر و التقى الجمعان فانهزم المغيث و لحق في الفل بالكرك و فرت البحرية إلى الغور فوجدوا هنالك أحياء من الأكراد فروا من جبال شهرزور أمام التتر فاجتمعوا بهم و التحموا بالصهر معهم و خشي الناصر غائلة اجتماعهم فجهز العساكر من دمشق إليهم و التقوا بالغور فانهزمت عساكره فتجهز ثانيا بنفسه و سار إليهم فخاموا عن لقائه و افترقوا فلحق الأكراد بمصر و اعترضهم التركمان في طريقهم بالعريش فأوقعوا بهم و خلصوا إلى مصر و لحق البحرية بالكرك مع عسكر المغيث و وعدهم بالنصر و أرسل إليه من دمشق في أسلامهم إليه و توعده أنفسهم و إضطربوا ففر بيبرس و قلاوون إلى الصحراء و أقاموا بها ثم لحقوا بمصر و أكرمهم الأتابك قطز و أقطعهم و أقاموا عنده و لما فر بيبرس و قلاوون من المغيث قبض على بقية أمراء البحرية سنقر الأشقر و شكر برابق و بعث بهم إلى الناصر فحبسهم بقلعة حلب إلى أن استولى التتر عليها و نقلهم هلاكو إلى بلاده و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/435)
خلع المنصور علي بن أيبك و استبداد قطز بالملك
ثم كان ما ذكرناه و نذكره من زحف هلاكو إلى بغداد و استيلائه عليها و ما بعدها إلى الفرات و فتحه ميافارقين و إربل و مسير لؤلؤ صاحب الموصل إليه و دخوله في طاعته و وفادة ابن الناصر صاحب دمشق إليه رسولا عن أبيه بالهدايا و التحف على سبيل المصانعة و العذر عن الوصول بنفسه خوفا على سواحل الشام من الإفرنج فارتاب الأمراء بشأنهم و استصغروا سلطانهم المنصور علي بن المعز أيبك عن مدافعة هذا العدو لعدم ممارسته للحروب و قلة دربته بالوقاع و اتفقوا على البيعة لسيف الدين قطر المعزي و كان معروفا بالصرامة و الإقدام فبايعوا له و أجلسوه على الكرسي سنة ست و خمسين و لقبوه المظفر و خلعوا المنصور لسنتين من ولايته و حبسوه و أخويه بدمياط ثم غربهما و لقبوه المظفر و خلعوا المنصور لسنتين من ولايته و حبسوه و أخويه بدمياط ثم غربهما الظاهر بعد ذلك إلى القسطنطينية و كان المتولون لذلك الصالحية و العزيزية و من يرجع إلى قطز من المعزية و كان بهادر و سنجر الغتمي غائبين فلما قدما استراب بهما قطز و خشي من نكيرهما و مزاحمتهما فقبض عليهما و حبسهما و أخذ في تمهيد الدولة فاستوثقت له و كان قطز من أولاد الملوك الخوارزمية يقال أنه ابن أخت خوارزم شاه و اسمه محمود بن مودود أسره التتر عند الحادثة عليهم و بيع و اشتراه ابن الزعيم حكاه النووي عن جماعة من المؤرخين و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/436)
استيلاء التتر على الشام و انقراض أمر بني أيوب ثم مسير قطز بالعساكر و ارتجاعه الشام من أيدي التتر و هزيمتهم و حصول الشام في ملك الترك
ثم عبر هلاكو الفرات سنة ثمان و خمسين و فر الناصر و أخوه الظاهر إلى التيه و لحق بمصر المنصور صاحب حماة و جماعة البحرية الذين كانوا بأحياء العرب في القفر و ملك هلاكو بلاد الشام واحدة واحدة و هدم أسوارها و ولى عليها و أطلق المعتقلين من البحرية بحلب مثل سنقر الأشقر و شكر و برابق و استخدمهم ثم قفل إلى العراق لاختلاف بين أخوته و استخلف على الشام كتبغا من أكبر أمرائه في اثنتي عشر ألفا من العساكر و تقدم إليه بمطالعة الأشرف إبراهيم بن شيركوه صاحب حمص بعد أن ولاه على مدينة دمشق و سائر مدن الشام و احتمل معه الناصر و ابنه العزيز بعد أن استشاره في تجهيز العساكر بالشام لمدافعة أهل مصر عنها فهون عليه الأمر و قللهم في عينه فجهز كتبغا و من معه و لما فصل سار كتبغا إلى قلعة دمشق و هي ممتنعة بعد فحاصرها و افتتحها عنوة و قتل نائبها بدر الدين بربدك و خيم بمرج دمشق و جاءه من ملوك الإفرنج بالساحل و وفد عليه الظاهر أخو الناصر صاحب صرخد فرده إلى عمله و أوفد عليه المغيث صاحب الكرك ابنه العزيز بطاعته فقبله ورده إلى أبيه و اجتمعت عساكر مصر و احتشد المظفر العرب و التركمان و بعث إليهم بالعطايا و أزاح العلل و بعث كتبغا إلى المظفر قطز بأن يقيم طاعة هلاكو بمصر فضرب أعناق الرسل و نهض إلى الشام مصمما للقاء العدو و معه المنصور صاحب حماة و أخوه الأفضل و زحف كتبغا و عساكر التتر و معه الأشرف صاحب حمص و السعيد صاحب الضبينة ابن العزيز بن العادل و بعث إليهما قطز يستميلهما فوعده الأشرف بالإنهزام يوم اللقاء و أساء العزيز الرد على رسوله و أوقع به و التقى الفريقان بالغور على عين جالوت و تحيز الأشرف عندما تناشبوا فانهزم التتر و قتل أميرهم كتبغا في المعركة و جيء بالسعيد صاحب الضبينة أسيرا فوبخه ثم قتله و جيء بالعزيز بن المغيث و أسر يومئذ الذي ملك مصر بعد و لقي العادل بيبرس المنهزمين في عسكر من الترك فأثخن فيهم و انتهى إلى حمص قلقي مددا من التتر جاء لكتبغا فاستأصلهم و رجع إليه الأشرف صاحب حمص من عسكر التتر فأقره على بلده و بعث المنصور على بلده حماة و أقره عليها و رد إليه المعرة و انتزع منه سلمية فأقطعها لأمير العرب مهنا بن مانع بن جديلة و سار إلى دمشق فهرب من كان بها من التتر و قتل من وجد بها من بقاياهم و رتب العساكر في البلاد و ولى على دمشق علم الدين سنجر الحلي الصالحي و هو الذي كان أتابك علي بن أيبك و نجم الدين أبا الهيجاء ابن خشترين الكردي و ولى على حلب السعيد و يقال المظفر علاء الدين بن لؤلؤ صاحب الموصل و كان وصل إلى الناصر بمصر هاربا أمام التتر و سار معه فلما دخل الناصر منها لحق هو بمصر و أحسن إليه قطز ثم ولاه الناصر على حلب الآن ليتوصل إلى أخبار التتر من أخيه الصالح بالموصل و ولى نابلس و غزة و السواحل شمس الدين دانشير اليرلي من أمراء العزيز محمد و هو أبو الناصر و كان هرب منه عند نهوضه إلى مصر في جماعة من العزيزية و لحق بأتابك ثم ارتاب بهم و قبض على بعضهم و رجع اليرلي في الباقين إلى الناصر فاعتقله بقلعة حلب حتى سار إلى التتر فلما دخل إليها سار اليرلي مع العساكر إلى مصر فأكرمه المظفر و ولاه الآن على السواحل و غزة و أقام المظفر بدمشق عشرين ليلة و أقبل إلى مصر و لما بلغ إلى هلاكو ما وقع بقومه في الشام و استيلاء الترك عليه اتهم صاحب دمشق بأنه خدعه في إشارته و قتله كما مر و انقرض ملك بني أيوب من الشام أجمع و صار لملوك مصر من الترك و الله يرث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (5/436)
مقتل المظفر و ولاية الظاهر بيبرس
كان البحرية من حين مقتل أميرهم أقطاي الجامدار يتحينون لأخذ ثاره و كان قطز هو الذي تولى قتله فكان مستريبا بهم و لما سار إلى التتر ذهل كل منهم عن شأنه و جاء البحرية من القفر هاربين من المغيث صاحب الكرك فوثقوا لأنفسهم من السلطان قطز أحوج ما كان إلى أمثالهم من المدافعة عن الإسلام و أهله فأمنهم و اشتمل عليهم و شهدوا معه واقعة التتر على عين جالوت و أبلغوا فيها و المقدمون فيهم يومئذ بيبرس البندقداري و أنز الأصبهاني و بليان الرشيدي و بكتون الجوكندراي و بندوغار التركي فلما انهزم التتر من لاشام و استولوا عليه و حسر ذلك المد و أفرج عن الخائفين الروع عاد هؤلاء البحرية إلى ديدنهم من الترصد لثار أقطاي فلما قفل قطر من دمشق سنة ثمان و خمسين أجمعوا أن يبرزوا به في طريقهم فلما قارب مصر ذهب في بعض أيامه يتصيد و سارت الرواحل على الطريق فاتبعوه و تقدم إليه أنز شفيعا في بعض أصحابه فشفعه فأهوى يقبل يده فأمسكها و علاه بيبرس بالسيف فخر صريعا لليدين و الفم و رشقه الآخرون بالسهام فقتلوه و تبادروا إلى الخيم و قام دون فارس الدين اقطاي على ابن المعز أيبك و سأل من تولى قتله منكم فقالوا بيبرس فبايع له و أتبعه أهل المعسكر و لقبوه الظاهر و بعثوا أيدمر الحلي بالخبر إلى القلعة بمصر فأخذ له البيعة على من هناك و وصل الظاهر منتصف ذي القعدة من السنة فجلس على كرسيه و استخلف الناس عل طبقاتهم و كتب إلى الأقطار بذلك و رتب الوظائف و ولى الأمراء و ولى تاج الدين عبد الوهاب ابن بنت الأعز الوزارة مع القضاة و اقتدى بآثار أستاذه الصالح نجم الدين و مبدأ أمر هذا الظاهر بيبرس أنه كان من موالي علاء الدين أيدكين البندقداري مولى الصالح فسخط عليه و اعتقله و انتزع ماله و مواليه و كان منهم بيبرس فصيره مع الجامدارية و ما زال يترقى في المراتب إلى أن تقدم في الحروب و رياسة المراكب ثم كان خبره بعد الصالح ما قصصناه انتهى و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/438)
انتقاض سنجر الحلي بدمشق ثم أقوس البرلي بحلب
و لما بلغ علم الدين سنجر بدمشق مقتل قطز و ولاية الظاهر بيبرس انتقض و دعا لنفسه و جلس على التخت بدمشق و تلقب المجاهد و خطب لنفسه و ضرب السكة باسمه و تمسك المنصور صاحب حماة بدعوة الظاهر و جاءت عساكر التتر إلى الشام فلما شارفوا البيرة جرد إليهم السعيد بن لؤلؤ من حلب عسكرا فهزمهم التتر و قتلوهم و اتهم الأمراء العزيزية و الناصرية ابن لؤلؤ في ذلك فاعتقلوه و قدموا عليهم حسام الدين الجوكنداري و أقره الظاهر و زحف التتر إلى حلب فملكوها و هرب حسام الدين إلى حماة ثم زحف إليها التتر فلحق صاحبها المنصور و أخوه علي الأفضل إلى حمص و بها الأشرف بن شيركوه و اجتمعت إليه العزيزة و الناصرية و قصدوا التتر سنة تسع و خمسين فهزموهم بعد هزيمتهم و نازلوا حماة و سار المنصور و الأشرف صاحب حمص إلى سنجر الحلي بدمشق و لم يدخلا في طاعته لضعفه و سار التتر من حماة إلى أفامية فحاصروها يوما و عبروا الفرات إلى بلادهم و بعث بيبرس الظاهر صاحب مصر أستاذه علاء الدين البندقداري في العساكر لقتال سنجر الحلي بدمشق و قاتلهم فهزموه و لجأ إلى القلعة ثم خرج منها ليلا إلى بعلبك و أتبعوه فقبضوا عليه و بعثوه إلى الظاهر فاعتقله و استقر أيدكين بدمشق و رجع صاحب حمص و حماة إلى بلديهما و بعث الظاهر إلى أيديكن بالقبض على بهاء الدين بقري و شمس الدين أقوش اليرلي و غيرهما من العزيزية فقبض على بقري و فر العزيزية و الناصرية مع أقوش اليرلي و طالبوا صاحب حمص و صاحب حماة في الإنتقاض فلم يجيباهم إلى ذلك فقال لفخر الدين أطلب لي الظاهر المقدم معك في خدمتك و بينما هو يسير لذلك خالفه اليرلي إلى حلب و ثار بها و جمع العرب و التركمان و نصب للحرب فجاءت العساكر من مصر فقاتلوه و غلبوه عليها و لحق بالبيرة فملكها و استقر بها حتى إذا جهر الظاهر عساكره سنة ستين إلى حلب مع سنقر الرومي سار معه صاحب حماة و صاحب حمص للإغارة على أنطاكية و لقيهم اليرلي و أعطاهم طاعته و أقره الظاهر على البيرة ثم ارتاب به بعد ذلك و اعتقله ثم علاء الدين أيدكين البندقداري مولى السلطان بدمشق و ولى عليها بيبرس الوزير و رجع و الله ينصر من يشاء من عباده انتهى (5/439)
البيعة للخليفة بمصر ثم مقتله بالحديثة و غانة على يد التتر و البيعة للآخر الذي استقرت الخلافة في عقبه بمصر
لما قتل الخليفة عبد الله المستعصم ببغداد بقي رسم الخلافة الإسلامية عطلا بأقطار الأرض و الظاهر متشوف إلى تجديده و عمارة دسته و وصل إلى مصر سنة تسع و خمسين عم المستعصم و هو أبو العباس أحمد بن الظاهر كان بقصورهم ببغداد و خلص يوم البيعة و أقام يتردد في الأحياء إلى أن لحق بمصر فسر الظاهر بقدومه و كرب للقائه و دعا الناس على طبقاتهم إلى أبواب السلطان بالقلعة و أفرد بالمجلس أدبا معه و حضر القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز فحكم باتصال نسبه بالشجرة الكريمة بشهادة العرب الواصلين به و الخدم الناجعين من قصورهم ثم بايع له الظاهر و الناس على طبقاتهم و كتب إلى النواحي بأخذ البيعة له و الخطبة على المنابر و نقش اسمه في السكة و لقب المستنصر و أشهد هو حينئذ الملأ بنفويض الأمر للظاهر و الخروج له عن العهد و كتب بذلك سجله و أنشأه فخر الدين بن لقمان كاتب الترسيل ثم ركب السلطان و الناس كافة إلى خيمة بنيت خارج المدينة فقرىء التقليد على الناس و خلع على أهل المراتب و الخواص و نادى السلطان بمظاهرته و إعادته إلى دار خلافته ثم خطب هذا الخليفة يوم الجمعة و خشع في منبره فأبكى الناس و صلى و انصرفوا إلى منازلهم و وصل على أثره الصالح إسمعيل بن لؤلؤ صاحب الموصل و أخوه إسحق صاحب الجزيرة و قد كان أبوهما لؤلؤ استخدم لهلاكو كما مر و أقره على الموصل و ما إليها و توفي سنة سبع و خمسين و قد ولي ابنه إسمعيل على الموصل و ابنه المجاهد على جزيرة ابن عمر و ابنه السعيد على سنجار و أقرهم هلاكو على أعمالهم و لحق السعيد بالناصر صاحب دمشق و سار معه إلى مصر و صار مع قطز و ولاه حلب كما مر ثم اعتقل ثم ارتاب هلاكو بالأخوين فأجفلا و لحقا بمصر و بالغ الظاهر في إكرامهم و سألوه في إطلاق أخيهم المعتقل فأطلقه و كتب لهم بالولاية على أعمالهم و أعطاهم الألوية و شرع في تجهيز الخليفة إلى كرسيه ببغداد فاستخدم له العساكر و أقام له الفساطيط و الخيام و رتب له الوظائف و أزاح علل الجميع يقال أنفق في تلك النوبة نحوا من ألف ألف دينار ثم سار من مصر في شوال من السنة إلى دمشق ليبعث من هناك الخليفة و ابني لؤلؤ إلى ممالكهم و وصل إلى دمشق و نزل بالقلعة و بعث بليان الرشيدي و شمس الدين سنقر إلى الفرات و صمم الخليفة لقصده و فارقهم و سار الصالح إسمعيل و أخواه إلى الموصل و بلغ الخبر إلى هلاكو فجرد العساكر إلى الخيفة و كبسوه بغانة و الحديثة فصابرهم قليلا ثم استشهد و بعث العساكر إلى الموصل فحاصروها تسعة أشهر حتى جهدهم الحصار و استسلموا فملكها التتر و قتلوا الصالح إسمعيل و الظاهر خلال ذلك مقيم بدمشق و قد وفد عليه بنو أيوب من نواحي الشام و أعطوه طاعتهم المنصور صاحب حماة و الأشرف صاحب حمص فأكرمهم و صلهما و ولاهما على أعمالها و أذن لهما في اتخاذ الآلة و بسط حكمهما على بلاد الإسماعيلية و إلى المنصور تل باشر الذي اعتاضه عن حمص لما آخذها منه الناصر صاحب حلب و وفد على الظاهر أيضا بدمشق الزاهد أسد الدين شيركوه صاحب حمص و صاحب بعلبك و المنصور و السعيد ابنا الصالح اسمعيل بن العادل و الأمجد بن الناصر داود و الأشرف بن مسعود و الظاهر بن المعظم فأكرم و فادتهم و قابل بالإحسان و القبول طاعتهم و فرض لهم الأرزاق و قرر الجرايات ثم قف إلى مصر و أفرج عن العزيز بن المغيث الذي كان اعتقله قطز و أطلقه يوم الموقعة بالكرك و ولى على أحياء العرب بالشام عيسى بن مهنا بن مانع بن جريلة من رجالاتهم و وفر لهم الإقطاع على حفظ السابلة إلى حدود العراق و رجع إلى مصر فقدم عليه رجل من عقب المسترشد من خلفاء بني العباس ببغداد اسمه أحمد فأثبت نسبه ابن بنت الأعز كالأول و جمع الظاهر الناس على مراتبهم و بايع له و فوض إليه هو الأمور و خرج إليه عن التدبير و كانت هذه البيعة سنة ستين و نسبه عند العباسيين في أدراج نسبهم الثابت أحمد بن أبي بكر علي بن أبي بكر بن أحمد بن الإمام المسترشد و عند نسابة مصر أحمد بن حسن بن أبي بكر بن الأمير أبي علي القتبي بن الأمير حسن بن الإمام الراشد بن الإمام المسترشد هكذا قال صاحب حماة في تاريخه و هو الذي استقرت الخلافة في عقبه بمصر لهذا العهد انتهى و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/440)
فرار التركمان من الشام إلى بلاد الروم
كان التركمان عند دخول التتر إلى بلاد الشام كلهم قد أجفلوا إلى الساحل و اجتمعت أحياؤهم بالجو كان قريبا من صفد و كان الظاهر لما نهض إلى الشام اعترضه رسل الإفرنج من يافا و بيروت و صفد يسألونه في الصلح على ما كان لعهد صلاح الدين فأجابهم و كتب به إلى الانبردور ملكهم ببلاد إفرنسة وراء البحر فكانوا في ذمة الظاهر و عهد و وقعت بين الإفرنج بصفد و بين أحياء التركمان واقعة يقال أغار فيها أهل صفد عليهم فأوقع بهم التركمان و أسروا عدة من رؤسائهم و فادوهم بالمال ثم خشوا عاقبة ذلك من الظاهر فارتحلوا إلى بلاد الروم و أقفر الشام منهم و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/441)
انتقاض الأشرفية و العزيزية و استيلاء اليرلي على البيرة
كان هؤلاء العزيزية و الأشرفية من أعظم جموع هؤلاء الموالي و كان مقدم الأشرفية بهاء الدين بقري و مقدم العزيزية شمس الدين أقوش و كان المظفر قطز قد أقطعه نابلس و غزة و سواحل الشام و لما ولي الظاهر انتقض عليه سنجر الحلي بدمشق و جهز أستاذه علاء الدين البندقداري في العساكر لقتاله و كان الأشرفية و العزيزية بحلب و قد انتقضوا على نائبها السعيد بن لؤلؤ كما مر فتقدم البندقداري باستدعائهم معه إلى دمشق ثم أضاف الظاهر بيسان لليرلي زيادة على ما بيده فسارو ملك دمشق ثم أوعز الظاهر إلى البندقداري بالقبض على العزيزية و الأشرفية فلم يتمكن الأمن بقرى مقدم الأشرفية و فارقه الباقون و انتقضوا و استولى شرف الدين اليرلي على البيرة و أقام بها و شن الغارات على التتر شرقي الفرات فنال منهم ثم جهز عساكره إليه مع جمال الدين بامو الحموي فهزمهم و أطلقهم و أقام الظاهر على استمالته بالترغيب و الترهيب حتى جنح إلى الطاعة و استأذن في القدوم و سار بكباس الفخري للقائه فلقيه بدمشق سنة إحدى و ستين ثم وصل فأوسعه السلطان يدا و عطاء و الواصلين معه على مراتبهم و اختصه بمراكبته و مشورته و سأله النزول عن البيرة فنزل عنها فقبلها الظاهر و أعاضه عنها و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/442)
استيلاء الظاهر على الكرك من يد المغيث و على حمص بعد وفاة صاحبها
لما قفل السلطان من الشام سنة ستين كما قدمناه جرد عسكرا إلى الشويك مع بدر الدين أيدمري فملكها و ولى عليها بدر الدين بليان الخصي و رجع إلى مصر و كان عند المغيث بالكرك جماعة من الأكراد الذين اجفلوا من شهرزور أمام التتر إلى الشام و كان قد اتخذهم جندا لعسكرته فسرحهم للإغارة على الشويك و نواحيه فاعتزم السلطان على الحركة إلى الكرك مخافة المغيث و بعث بالطاعة و استأمن الأكراد فقبلهم الظاهر و أمن الأكراد فوصلوا إليه ثم سار سنة إحدى و ستين إلى الكرك و استخلف على مصر سنجر الحلي و استخلف على غزة فلقي هنالك أم المغيث تستعطفه و تستأمن منه لحضور ابنها فأجابها و سار إلى بيسان فسار المغيث للقائه فلما وصل قبض عليه و بعثه من حينه إلى القاهرة مع أقسنقر الفارقاني و قتل بعد ذلك بمصر و ولي على الكرك عز الدين أيدمر و أرسل نور الدين بيسري الشمسي ليؤمن أهل الكرك و يرتب الأمور بها و أقام بالطور في انتظاره فأبلغ بيسري القصد من ذلك و رجع إليه فإرتحل إلى القدس و أمر بعمارة مسجده و رجع إلى مصر و بلغه وفاة صاحب حمص موسى الأشرف ابن إبراهيم المنصور شيركوه المجاهد بن ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه و كانت وراثة له من آبائه أقطعه نور الدين العادل لجده أسد الدين و لم تزل في أيديهم و أخذها الناصر يوسف صاحب حلب سنة ست و أربعين و عوضه عنها تل باشر و أعادها عليه هلاكو و أقره الظاهر توفي سنة إحدى و ستين و صارت للظاهر و انقرض منها ملك بني أيوب و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/442)
هزيمة التتر على البيرة و فتح قيسارية و ارسوف بعدها
ثم رجعت عساكر التتر إلى البيرة مع ردمانة من أمراء المغل سنة ثلاث و ستين فحاصروها و نصبوا عليها المجانيق فجهز السلطان العساكر مع لوغان من أمراء الترك فساروا في ربيع من السنة و سار السلطان في أثرهم و انتهى إلى غزة و لما وصلت العساكر إلى البيرة و أشرفوا عليها و العدو يحاصرها أجفلت عساكر التتر و ساروا منهزمين و خلفوا سوادهم و أثقالهم فنهبتها العساكر و ارتحل السلطان من غزة و قصد قيسارية و هي للإفرنج فنزل عليها عاشر جمادي من السنة فنصب المجانيق و دعا أهلها للحرب و اقتحمها عليهم فهربوا إلى القلعة فحاصرها خمسا و ملكها عنوة و فر الافرنج منها ثم رحل في خف من العساكر إلى عملها فشن عليها الغارة و سرح عسكرا إلى حيفا فملكها عنوة و خربوها و قلعتها في يوم أو بعض يوم ثم ارتحل إلى ارسوف فنازلها مستهل جمادي الأخيرة فحاصرها و فتحها عنوة و أسر الافرنج الذين بها و بعث بهم إلى الكرك و قسم أسوارها على الأمراء فرموها و عمد إلى ما ملك في هذه الغزاة من القرى و الضياع و الأرضين فقسمها على الأمراء الذين كانوا معه و كانوا اثنين و خمسين و كتب لهم بذلك و قفل إلى مصر و بلغه الخبر بوفاة هلاكو ملك التتر في ربيع من السنة و ولاية ابنه ابغا مكانه و ما وقع بينه و بين بركة صاحب الشمال من الفتنة و لأول دخوله لمصر قبض على شمس الدين سنقر الرومي و حبسه و كانت الفتنة قبل غزاته بين عيسى بن مهنا و لحق زامل بعد ذلك بهلاكو ثم استأمن إلى الظاهر فامنه و عاد إلى إحيائه و الله تعالى أعلم (5/443)
غزو طرابلس و فتح صفد
كانت طرابلس للإفرنج و بها سمند بن البرنس الأشتر و له معها انطاكية و بلغ السلطان أنه قد تجهز للقتال فلقيه النائب بها علم الدين سنجر الباشقر و انهزم المسلمون و استشهد كثير منهم فتجهز السلطان للغزو و سار من مصر في شعبان سنة أربع و ستين و ترك ابنه السعيد عليا بالقلعة في كفالة عز الدين ايدمر الحلي و قد كان عهد لابنه السعيد بالملك سنة اثنتين و ستين و لما انتهى إلى غزة بعث العساكر صحبة سيف الدين قلاون ايدغدي العزيزي فنازل القليعات و حلب و عرقا من حصون طرابلس فاستأمنوا إليه و زحفت العساكر و سار السلطان إلى صفد فحاصرها عشرا ثم اقتحمها عليهم في عشرين من رمضان السنة و جمع الإفرنج الذين بها فاستلحمهم أجمعين و أنزل بها الحامية و فرض أرزاقهم في ديوان العطاء و رجع إلى دمشق و الله تعالى أعلم (5/443)
مسير العساكر لغزو الأرمن
هؤلاء الأرمن من ولد أخي إبراهيم عليه السلام من بني قوميل بن ناحور و ناحور بن تارح و عبر عنه في النزيل بآزر و ناحور أخو إبراهيم عليه السلام و يقال أن الكرج اخوة الأرمن و أرمينية منسوبة إليهم و آخر مواطنهم الدروب المجاورة لحلب و قاعدتها سيس و يلقب ملكهم التكفور و كان ملكهم صاحب هذه الدروب لعهد الملك الكامل و صلاح الدين من بعده اسمه قليج بن اليون و استنجد به العادل و أقطع له و كان يعسكر معه و صالحه صلاح الدين على بلاده ثم كان ملكهم لعهد هلاكو و التتر هيثوم بن قسطنطين و لعله من أعقاب قليج أو قرابته و لما ملك هلاكو العراق و الشام دخل هيثوم في طاعته فأقره على سلطانه ثم أمره بالاغارة على بلاد الشام و أمده صاحب بلاد الروم من التتر و سار سنة اثنتين و ستين و معه بنو كلاب من أعراب حلب و انتهوا إلى سيس و جهز الظاهر عساكر حماة و حمص فساروا إليهم و هزموهم و رجعوا إلى بلادهم فلما رجع السلطان من غزاة طرابلس سنة أربع و ستين سرح العساكر لغزو سيس و بلاد الأرمن و عليهم سيف الدين قلاون و المنصور صاحب حماة فساروا لذلك و كان هيثوم ملكهم قد ترهب و نصب للملك ابنه كيقومن فجمع كيقومن الأرمن و سار للقائهم و معه أخوه و عمه و أوقع بهم المسلمون قتلا و أسرا و قتل أخوه و عمه في جماعة من الأرمن و اكتسحت عساكر المسلمين بلادهم و اقتحموا مدينة سيس و خربوها و رجعوا و قد امتلأت أيديهم بالغنائم و السبي و تلقاهم الظاهر من دمشق عند قارا فلما رآهم ازداد سرورا بما حصل لهم و شكا إليه هنالك الرعية ما لحقهم من عدوان الأحياء الرحالة و انهم ينهبون موجودهم و يبيعون ما يتخطفونه منهم من الإفرنج بعكا فأمر باستباحهم و أصبحوا نهبا في أيدي العساكر بين القتل و الأسر و السبي ثم سار إلى مصر و أطلق كيقومن من ملك الأرمن و صالحه على بلده و لم يزل مقيما إلى أن بعث أبوه في فدائه و بذل فيه الأموال و القلاع فأبى الظاهر من ذلك و شرط عليه خلاص الأمراء الذين أخذهم هلاكو من سجن حلب و هم سنقر الأشقر و أصحابه فبعث فيهم تكفر إلى هلاكو فبعث بهم إليه و بعث الظاهر بابنه منتصف شوال و تسلم القلاع التي بذلت في فدائه و كانت من أعظم القلاع و أحصنها منها مرزبان و رعبان و قدم سنقر الأشقر على الظاهر بدمشق و أصبح معه في الموكب و لم يكن أحد علم بأمره و أعظم إليه السلطان النعمة و رفع الرتبة و رعى له السابقة و الصحبة و توفي هيثوم سنة ستين بعدها و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/444)
مسير الظاهر لغزو حصون الإفرنج بالشام و فتح يافا و الشقيف ثم إنطاكية
كان الظاهر عندما رجع من غزاة طرابلس إلى مصر أمر بتجديد الجامع الأزهر و إقامة الخطبة به و كان معطلا منها منذ مائة سنة و هو أول مسجد أسسه الشيعة بالقاهرة حين اختطوها ثم خرج إلى دمشق لخبر بلغه عن التتر و لم يثبت فسار من هنالك إلى صفد و كان أمر عند مسيره بعمارتها و بلغه اغارة أهل الشقيف على الثغور فقصدها و شن الغارة على عكا و اكتسح بسائطها حتى سأل الإفرنج منه الصلح على ما يرضيه فشرط المقاسمة في صيدا و هدم الشقيف و اطلاق تجار من المسلمين كانوا أسروهم و دية بعض القتلى الذي أصابوا دمه و عقد الصلح لعشر سنين و لم يوفوا بما شرط فنهض لغزوهم و نزل فلسطين في جمادى سنة ست و ستين و سرح العساكر لحصار الشقيف ثم بلغه مهلك صاحب يافا من الإفرنج و ملك ابنه مكانه و جاءت رسله إليه في طلب الموادعة فحبسهم و صبح البلد فاقتحهما و لجأ أهلها إلى القلعة فاستنزلهم بالأمان و هدمها و كان أول من اختط مدينة يافا هذه صنكل من ملوك الإفرنج عند ما ملكوا سواحل الشام سنة ثلاث و تسعين و أربعمائة ثم مدنها و أتم عمارتها ريدا فرنس المأسور على دمياط عندما خلص من محبسه بدار بن لقمان ثم رجع إلى حصن الشقيف فحاصرها و افتتحه بالأمان و بث العساكر في نواحي طرابلس فاكتسحوها و خربوا عمرانها و كنائسها و بادر صاحب طرطوس بطاعة السلطان و بعث إلى العساكر بالميرة و أطلق الأسرى الذين عنده ثلثمائة أو يزيدون ثم ارتحل السلطان إلى حمص و حماة يريد إنطاكية و قدم سيف الدين قلاون في العساكر فنازل إنطاكية في شعبان فسار المنصور صاحب حماة و جماعة البحرية الذين كانوا بأحياء العرب في القفر و كان صاحب انطاكية سمند بن تيمند و كانت قاعدة ملك الروم قبل الإسلام اختطها انطيخس من ملوك اليونانيين و إليه تنسب ثم صارت للروم و ملكها المسلمون عند الفتح ثم ملكها الإفرنج عندما ساروا إلى ساحل الشام أعوام التسعين و الأربعمائة ثم استطردها صلاح الدين من البرنس ارناط الذي قتله في واقعة حطين كما مر ثم ارتجعها الإفرنج بعد ذلك على يد البرنس الأشتر و أظنه صنكل ثم صارت لابنه تيمند ثم لابنه سمند و كان عندما حاصرها الظاهر بطرابلس و كان بها كنداصطبل عم يغمور ملك الأرمن أفلت من الواقعة عليه بالذرابند و استقر بانطاكية عند سمند فخرج في جموعه لقتال الظاهر فانهزم أصحابه و أسر كنداصطبل على أن يحمل أهل انطاكية على الطاعة فلم يوافقوه ثم جهدهم الحصار و اقتحمها المسلمون عنوة و أثخنوا فيهم و نجا فلهم إلى القلعة فاستنزلوا على الأمان و كتب الظاهر إلى ملكهم سمند و هو بطرابلس و أطلق كنداصطبل و أقاربه إلى ملكهم هيثوم بسيس ثم جمع الغنائم و قسمها و خرب قلعة انطاكية و أضرمها نارا و استأمن من صاحب بغراس فبعث إليه سنقر الفارقي استاذ داره فملكها و أرسل صاحب عكا إلى الظاهر في الصلح و هو ابن أخت صاحب قبرس فعقد له السلطان الصلح لعشر سنين ثم عاد إلى مصر فدخلها ثالث أيام التشريق من السنة و الله تعالى أعلم (5/445)
الصلح مع التتر
ثم نهض السلطان من مصر سنة سبع و ستين لغزو الإفرنج بسواحل الشام و خلف على مصر عز الدين ايدمر الحلي مع ابنه السعيد ولي عهده و انتهى إلى ارسوف فبلغه أن رسلا جاؤا من عند ابغا بن هلاكو و مروا نقفور ملك الروم فبعث بهم إلى فبعث أميرا من حلب لاحضارهم و قرأ كتاب ابغا نفقور تكفر في الصلح و يحتال فيما أذاعه من رسالته فأعاد رسله بجوابهم و أذن للامراء في الإنطلاق إلى مصر و رجع إلى دمشق ثم سار منها في خف من العسكر إلى القلاع و بلغه وفاة ايدمر الحلى بمصر فخيم بخربة اللصوص و أغذ السير إلى مصر متنكرا منتصف شعبان في خف من التركمان و قد طوى خبره عن معسكره و أوهمهم القعود في خيمته عليلا و وصل إلى القلعة ليلة الثلاثاء رابعة سفره فتنكر له الحراس و طولع مقدم الطواشية فطلب منهم إمارة على صدقهم فأعطوها ثم دخل فعرفوه و باكر الميدان يوم الخميس فسر به الناس ثم قضى جاجة نفسه و خرج ليلة الإثنين عائدا إلى الشام كما جاء فوصل إلى مخيمه ليلة الجمعة تاسع شعبان و فرح الأمراء بقدومه ثم فرق البعوث في الجهات و أغاروا على صور و ملكوا إحدى الضياع و ساحوا في بسيط كركو فاكتسحوها و امتلأت أيديهم بالغنائم و رجعوا و الله تعالى أعلم (5/446)
استيلاء الظاهر على صهيون
كان صلاح الدين بن أيوب قد أقطعها يوم فتحها و هي سنة أربع و ثمانين و خمسمائة لناصر الدين منكبرس فلم تزل بيده إلى أن هلك و ولي فيها بعده ابنه مظفر الدين عثمان و بعده ابنه سيف الدين بن عثمان و استبد الترك بمصر و بعث سيف الدين أخاه عماد الدين سنة ستين بالهدايا إلى الملك الظاهر بيبرس فقبلها و أحسن إليه ثم مات سيف الدين سنة تسع و ستين و كان أوصى أولاده بالنزول للظاهر عن صهيون فوفد ابناه سابق الدين و فخر الدين على السلطان بمصر فأكرمهما و أقطعهما و ولى سابق الدين منهما أميرا و ولى على صهيون من قبله و لم يزل كذلك إلى أن غلب عليها سنقر الاشقر عندما انتقض بدمشق أيام المنصور و الله تعالى أعلم (5/447)
نهوض الظاهر إلى الحج
ثم بلغ الظاهر أن أبا نمي بن أبي سعد بن قتادة غلب عمه ادريس بن قتادة على مكة و استبد بها و خطب للظاهر فكتب له بالإمارة على مكة و اعتزم على النهوض إلى الحج و تجهز لذلك سنة سبع و ستين و أزاح علل أصحابه و شيع العساكر مع اقسنقر الفارقاني استاذ داره إلى دمشق و سار إلى الكرك موريا بالصيد و انتهى إلى الشويك و رحل منه لإحدى عشرة ليلة من ذي القعدة و مر بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة و أتم التسليم فأحرم من ميقاتها و قدم مكة لخمس من ذي الحجة و غسل الكعبة بيده و حمل لها الماء على كتفه و أباح للمسلمين دخولها و أقام على بابها يأخذ بأيديهم ثم قضى حجه و مناسكه و ولى نائبا على مكة شمس الدين مروان و أحسن إلى الأمير أبي نمي والي صاحب ينبع و خليص و سائر شرفاء الحجاز و كتب إلى صاحب اليمن :
إني بمكة و قد وصلتها في سبع عشرة خطوة ثم فصل من مكة ثالث عشر ذي الحجة فوصل المدينة على سبعة أيام و وصل إلى الكرك منسلخ السنة ثم وصل دمشق غرة ثمان و ستين و سار إلى زيارة القدس و قدم العساكر مع الأمير اقسنقر إلى مصر و عاد من الزيارة فأدركهم بتل العجول و وصل القلعة ثالث صفر من السنة و الله تعالى أعلم (5/447)
اغارة الإفرنج و التتر على حلب و نهوض السلطان إليهم
كان صمغان من أمراء التتر مقيما ببلاد الروم و أميرا عليها فوقعت المراسلة بينه و بين الافرنج في الاغارة على بلاد الشام و جاء صمغان في عسكره لموعدهم فأغار على أحياء العرب بنواحي حلب و بلغ الخبر إلى الظاهر سنة ثمان و ستين و هو يتصيد بنواحي الإسكندرية فنهض من وقته إلى غزة ثم إلى دمشق و رجع التتر على أعقابهم ثم سار إلى عكا فاكتسح نواحيها و أثخن فيها و فعل كذلك بحصن الاكراد و رجع إلى دمشق آخر رجب ثم مصر و مر بعسقلان فخربها و طمس آثارها و جاءه الخبر بمصر بأن الفرنسيس لويس بن لويس و ملك انكلترة و ملك اسكوسنا و ملك نودل و ملك برشلونة و هو ريدراكون و جماعة من ملوك الافرنج جاؤا في الاساطيل إلى صقلية و شرعوا في الاستكثار من الشواني و آلة الحرب و لم يعرف وجه مذهبهم فاهتم الظاهر بحفظ الثغور و السواحل و استكثر من الشواني و المراكب ثم جاء الخبر الصحيح بأنهم قاصدون تونس فكان من خبرهم ما نذكره في دولة السلطان بها من بني أبي حفص و الله تعالى أعلم (5/448)
فتح حصن الأكراد و عكا و حصون صور
ثم سار السلطان سنة تسع و ستين لغزو بلاد الإفرنج و سرح ابنه السعيد في العساكر إلى المرقب لنظر الأمير قلاون و ببعلبك الخزندار و سار إلى طرابلس فاكتسحوا سائر تلك النواحي لحصن الأكراد عاشر شعبان من السنة فحاصره السلطان عشرا ثم اقتحمت أرباضه و انحجر الإفرنج في قلعته و استأمنوا و خرجوا إلى بلادهم و ملك الظاهر الحصون و كتب إلى صاحب الأستبار بالفتح و هو بطرسوس و أجاب بطلب الصلح فعقد له على طرسوس و المرقب و ارتحل السلطان عن حصن الأكراد بعد أن شحنه بالاقوات و الحامية و نازل حصن عكا و اشتد في حصاره و استأ من أهله إليه و ملكه ثم ارتحل بعد الفطر إلى طرابلس و اشتد في قتالها و سأل صاحبها البرنس الصلح فعقد له على ذلك لعشر سنين و رجع إلى دمشق ثم خرج آخر شوال إلى العليقه بالأمان على أن يتركوا الأموال و السلاح و استولى عليه و هدمه و سار إلى اللجون و بعث إليه صاحب صور في الصلح على أن ينزل له عن خمس من قلاعه فعقد له الصلح لعشر سنين و ملكها ثم كتب إلى نائبه بمصر أن يجهز عشرة من الشواني إلى قبرس فجهزها و وصلت ليلا إلى قبرس و الله أعلم (5/448)
استيلاء الظاهر على حصون الإسماعيلية بالشام
كان الإسماعيلية في حصون من الشام قد ملكوها و هي مصياف و العليقة و الكهف و المنيفة و القدموس و كان كبيرهم لعهد الظاهر نجم الدين الشعراني و كان قد جعل له الظاهر و لايتها ثم تأخر عن لقائها في بعض الأوقات فعزله و ولى عليها خادم الدين بن الرضا على أن ينزل له عن حصن مصياف و أرسل معه العساكر فتسلموه منه ثم قدم عليه سنة ثمان و ستين و هو على حصن الأكراد و كان نجم الدين الشعراني قد أسن و هرم فاستعتب و أعتبه الظاهر و عطف عليه و قسم الولاية بينه و بين الرضا و فرض عليهما مائة و عشرين ألف درهم يحملانها في كل سنة و لما رجع سنة تسع و ستين و فتح حصن الأكراد مر بحصن العليقة من حصونهم فملكه من يد ابن الرضى منتصف شوال من السنة و أنزل به حامية ثم سار لقتال التتر على البيرة كما يذكر و رجع إلى مصر فوجد الاسماعيلية قد نزلوا على الحصون التي بقيت بأيديهم و سلموها لنواب الظاهر فملكوها و انتظمت قلاع الإسماعيلية في ملكة الظاهر و انقرضت منها دعوتهم و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/449)
حصار التتر البيرة و هزيمتهم عليها
ثم بعث ابغا بن هلاكو العساكر إلى البيرة سنة إحدى و سبعين مع درباي من مقدمي أمرائه فحاصرها و نصب عليها المجانيق و كان السلطان بدمشق فجمع العساكر من مصر و الشام و زحف إلى الفرات و قد جهز العساكر على قاصيته فتقدم الأمير قلاون و خالط التتر عليها في مخيمهم فجالوا معه ثم انهزموا و قتل مقدمهم و خاض السلطان بعساكره بحر الفرات إليهم فأجفلوا و تركوا خيامهم بما فيها و خرج أهل البيرة فنهبوا سوادهم و أحرقوا آلات الحصار و وقف السلطان بساحتها قليلا و خلع على النائب بها لحق درباري بسلطانه ابغا مفلولا فسخطه و لم يعتبه و الله تعالى ولى التوفيق (5/449)
غزوة سيس و تخريبها
ثم نهض الظاهر من مصر لغزو سيس في شعبان سنة ثلاث و سبعين و انتهى إلى دمشق في رمضان و سار منها و على مقدمته الأمير قلاون و بدر الدين ببليك الخازندار فوصلوا إلى المصيصة و افتتحوها عنوة و جاء السلطان على أثرهم و سار بجميع العساكر إلى سيس بعد أن كنف الحامية بالبيرة خوفا عليها من التتر و بعث حسام الدين العنتابي و مهنا بن عيسى أمير العرب بالشام للاغارة على بلاد التتر من ناحيتها و سار إلى سيس فخربها و بث السرايا في نواحيها فانتهوا إلى بانياس و أذنة و اكتسحوا سائر الجهات و وصل إلى دربند الروم و عاد إلى المصيصة في التعبية فأحرقها ثم انتهى إلى انطاكية فأقام عليها حتى قسم الغنائم ثم رحل إلى القصر و كان للإفرنج خالصا لتبركهم برومة الذي يسمونه البابا فافتتحه و لقيه هنالك حسام الدين العنتابي و مهنا بن عيسى راجعين من إغارتهم وراء الفرات ثم بلغه مهلك البرنس سمند بن تيمند صاحب طرابلس فبعث الظاهر بليان الدوادار ليقرر الصلح مع بنيه فقرره على عشرين ألف دينار و عشرين أسيرا كل سنة و حضر لذلك صاحب قبرس و كان جاء معزيا لبني البرنس و رجع الدوادار إلى الظاهر فقفل إلى دمشق منتصف ذي الحجة و الله تعالى ينصر من شاء من عباده (5/450)
ايقاع الظاهر بالتتر في بلاد الروم و مقتل البرواناة بمداخلته في ذلك
كان علاء الدين البرواناة متغلبا على غياث الدين كنجسرو صاحب بلاد الروم من بني قليج ارسلان و قد غلب التتر على جميع ممالك بلاد الروم و أبقوا على كنجسرو اسم الملك في كفالة البرواناة و أقاموا أميرا من أمرائهم و معه عسكر التتر حامية بالبلاد و يسمونه بالشحنة و كان أول أمير من التتر ببلاد الروم بيكو و هو الذي افتتحها و بعده صمغان و بعده توقوو و تدوان شريكين في أمرهما لعهد الملك الظاهر و كان البرواناة يتأفف من التتر لاستطالتهم عليه و سوء ملكهم و لما استفحل أمر الظاهر بمصر و الشام أمل البرواناة الظهور على التتر و الكرة لبني قليج ارسلان بممالأة الظاهر فداخله في ذلك و كاتبه و زحف ابغا ملك التتر إلى البيرة سنة أربع و سبعين و خرج الظاهر بالعساكر من دمشق و كاتبه البرواناة يستدعيه و أقام الظاهر على حمص و أرسل إليه البرواناة يستحثه للقاء التتر و عزم ابغا على البرواناة في الوصول فاعتذر ثم رحل متثاقلا و كتب إليه الأمراء بعده بأن الظاهر قد نهض إلى بلاد الروم بوصيته إليه بذلك فبعث ابغا و استمده فأمده بعساكر المغل و أمره بالرجوع لمدافعة الظاهر فرجع و وجد جماعة من الأمراء قد كاتبوا الظاهر و استحثوه للقدوم فسقط في أيديهم و حيل بينهم و بين مرامهم و رجع إلى مصر في رجب من السنة و أقام بها حولا ثم لحق توقوو تدوان أمير التتر ببلاد الروم و سار إلى الثغور بالشام و بلغ السلطان خبرهما فسار من مصر في رمضان سنة خمس و سبعين و قصد بلاد الروم و انتهى إلى النهر الأزرق فبعث شمس الدين سنقر الأشقر فلقي مقدمه التتر فهزمهم و رجع إلى السلطان و ساروا جميعا فلقو التتر على البلنشين و معهم علاء الدين البرواناة في عساكره فهزمهم و قتل الأمير توقوو و تدوان و فر البرواناة و سلطانه كنجسرو لما كان منفردا عنهم و أسر كثير من المغل منهم سلار بن طغرل و منهم قفجاق و جاروصي و أسر علاء الدين بن معين الدين البرواناة و قتل كثير منهم ثم رحل السلطان إلى قيسارية فملكها و أقام عليها ينتظر البرواناة لموعد كان بينهما و أبطأ عليه و قفل راجعا و رجع خبر الهزيمة إلى ابغا ملك التتر و اطلع من بعض عيونه على ما كان بين البرواناة و الظاهر من المداخلة فتنكر للبرواناة و جاء لوقته حتى وقف على موضع المعركة و ارتاب لكثرة القتلى من المغل و أن عسكر الروم لم يصب منهم أحد فرجع على بلادهم بالقتل و التخريب و الأكتساح و امتنع كثير من القلاع ثم أمنهم و رجع و سار معه البرواناة و هم بقتله أولا ثم رجع لتخليته لحفظ البلاد فأعول نساء القتلى من المغل عند بابه فرحم لبكائهن و بعث أميرا من المغل فقتله في بعض الطريق و الله سبحانه و تعالى أعلم بغيبه و أحكم (5/450)
وفاة الظاهر و ولاية ابنه السعيد
و لما رجع السلطان من واقعته بالتتر على البلستين و قيسارية طرقه المرض في محرم سنة ست و سبعين و هلك من آخره و كان ببليك الخزندار مستوليا على دولته فكتم موته و دفنه و رجع بالعساكر إلى مصر فلما وصل القلعة جمع الناس و بايع لبركة بن الملك الظاهر و لقبه السعيد و هلك ببليك اثر ذلك فقام بتدبير الدولة استاذ داره شمس الدين الفارقاني و كان نائب مصر أيام مغيب الظاهر بالشام و استقامت أموره ثم قبض على شمس الدين سنقر الاشقر و بدر الدين بيسري من أمراء الظاهر بسعاية بطانته الذين جمعهم عليه لأول ولايته و كانوا من أوغاد الموالي و كان يرجع إليهم لمساعدتهم له على هواه و صارت شبيبته و لما قبض على هذين الأميرين نكر ذلك عليه خاله محمد بن بركة خان فاعتقله معهما فاستوحشت أمه لذلك فأطلق الجميع فارتاب الأمراء و أجمعوا على معاتبته فاستعتب و استحلفوه ثم أغراه بطانته بشمس الدين الفارقاني مدبر دولته فقبض عليه و اعتقله و هلك لأيام من اعتقاله و ولى مكانه شمس الدين سنقر الالفي ثم سعى أولئك البطانة به فعزله و ولى مكانه سيف الدولة كونك الساقي صهر الأمير سيف الدين قلاون على أخت زوجته بنت كرمون كان أبوها من أمراء التتر قد خرج إلى الظاهر و استقر عنده و زوج بنته من الأمير قلاون و بنته الأخرى من كوزبك ثم حضر عند السعيد لاشين الربعي من حاشيته و غلب على هراة و استمال أهل الدولة بقضاء حاجاتهم و استمر معروفه لهم و استمر الحال على ذلك و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/451)
خلع السعيد و ولاية أخيه شلامش
و لما استقر السعيد بملكه في مصر أجمع المسير إلى الشام للنظر في مصالحه فسار لذلك سنة سبع و سبعين فاستقر بدمشق و بعث العساكر إلى الجهات و سار قلاون الصالحي و بدر الدين بيسري إلى سيس زين له ذلك لاشين الربعي و البطانة الذين معه و أغروه بالقبض عليهم عند مرجعهم ثم حدث بين هؤلاء البطانة و بين النائب سيف الدين كونك وحشة و آسفوه بما يلقون فيه عند السلطان فغضب لذلك و سارت العساكر فأغاروا على سيس و اكتسحوا نواحيها و رجعوا فلقيهم النائب كونك و أسر إليهم ما أضمر لهم السلطان فخيموا بالمرج و قعدوا عن لقاء السلطان و بعثوا إليه بالعذل في بطانته و أن ينصف نائبه منهم فأعرض عنهم و دس لموالي أبيه أن يعاودوهم إليه فأطلعوهم على كتابه فزادهم ضغنا و صرحوا بالانتفاض فبعث إليهم سنقر الأشقر و سنقر التركيتي استاذ داره بالاستعطاف فردوهما فبعث أمه بنت بركة خان فلم يقبلوها و ارتحلوا إلى القاهرة فوصلوها في محرمة سنة ثمان و سبعين و بالقلعة عز الدين ايبك الافرم الصالحي أمير جندار و علاء الدين اقطوان الساقي و سيف الدين بليان أستاذ داره فضبطوا أبواب القاهرة و منعوهم من الدخول و ترددت المراسة بينهم و خرج ايبك الافرام و اقطوان و لاشين التركماني للحديث فتبقضوا عليهم و دخلوا إلى بيوتهم ثم باكروا القلعة بالحصار و منعوا عنها الماء و كان السعيد بعدة منصرفهم من دمشق سار في بقية العساكر و استنفر الاعراب و بث العطاء و انتهى إلى غزة فتفرقت عنه الأعراب و اتبعهم الناس ثم انتهى إلى بلبيس و رأى قلة العساكر فرد عن الشام مع عز الدين ايدمر الظاهري إلى دمشق و النائب بها يومئذ اقوش فقبض عليه و بعث به إلى الأمراء بمصر و لما رحل السعيد من بلبيس إلى القلعة أعتزل عنه سنقر الأشقر و سار الأمراء في العساكر لاعتراضه دون القلعة و ألقى الله عليه حجابا من الغيوم المتراكمة فلم يهتدوا إلى طريقه و خلص إلى القلعة و أطلق علم الدين سنجر الحنفي من محبسه ليستعين به ثم اختلف عليه بطانته و فارقه بعضهم فرجع إلى مصانعه الأمراء بأن يترك لهم الشام أجمع فأبوا الأحبسه فسألهم أن يعطوه الكرك فأجابوه و حلفهم على الأمان و حلف لهم أن لا ينتقض عليهم و لا يداخل أحدا من العساكر و لا يستميله فبعثوه من حينه إلى الكرك و كتبوا إلى النائب بها علاء الدين ايدكز الفخري أن يمكنه منها ففعل و استمر السعيد بالكرك و قام بدولته ايدكز الفخري و اجتمع الأمراء بمصر و عرضوا الملك على الأمير قلاون و كان أحق به فلم يقبل و أشار إلى شلامش بن الظاهر و هو ابن ثمان سنين فنصبوه للملك في ربيع سنة ثمان و سبعين و لقبوه بدر الدين و ولى الأمير قلاون أتابك الجيوش و بعث مكان جمال الدين اقوش نائب دمشق بتسليمها منه و سار اقوش إلى حلب نائبا و ولى قلاون في الوزارة برهان الحصري السنحاوي و جمع المماليك الصالحية و وفر اقطاعاتهم و عمر بهم مراتب الدولة و أبعد الظاهرية و أودعهم السجون ومنع الفساد و لم يقطع عنهم رزقا إلى أن بلغ العقاب فيهم أجله فأطلقهم تباعا و استقام أمره و الله تعالى أعلم (5/452)
خلع شلامش و ولاية المنصور قلاون
أصل هذا السلطان قلاون من القفجاق ثم من قبيلة منهم يعرفون برج أعلى و قد مر ذكرهم و كان مولى لعلاء الدين اقسنقر الكابلي مولى الصالح نجم الدين أيوب فلما مات علاء الدين صار من موالى الصالح و كان من نفرتهم و استقامتهم ما قدمناه ثم قدم إلى مصر في دولة المظفر قطز مع الظاهر بيبرس و لما ملك الظاهر قربه و اختصه و أصهر إليه ثم بايع لابنه السعيد من بعده و لما استوحش الأمراء من السعيد و خلعوه رغبوا من الأمير قلاون في الولاية عليهم كما قدمناه و نصب أخاه شلامش بن الظاهر فوافقه الأمراء على ذلك طواعية له و اتصلت رغبتهم في ولايته مدة شهرين حتى أجابهم إلى ذلك فبايعوه في جمادى سنة ثمان و سبعين فقام بالأمر و رفع كثيرا من المكوس و الظلامات و قسم الوظائف بين الأمراء و ولى جماعة من مماليكه امرة الألوف و زادهم في الاقطاعات و أفرج لوقته عن عز الدين ايبك الافرم الصالحي و ولاه نائبا بمصر ثم استبقاه فأعفاه و ولى مملوكه حسام الدين طرنطاي مكانه و مملوكه علم الدين سنجر الشجاعي رئاسة الدواوين و أقر الصاحب برهان الدين السنجاري في الوزارة ثم عزله بفخر الدين إبراهيم بن لقمان و بعث عز الدين ايدمر الظاهري الذي كان اعتقله جمال الدين اقوش حين رجع بعساكر الشام عن السعيد بن الظاهر من بلبيس فجيء به مقيدا و اعتقله و الله تعالى ولى التوفيق (5/453)
انتفاض السعيد بن الظاهر بالكرك و وفاته و ولاية أخيه خسرو مكانه
و لما ملك السلطان قلاون شرع السعيد بالكرك و كاتب الأمراء بمصر و الشام في الانتقاض و خاطبه السلطان بالعتاب على نقض العهد فلم يستعتب و بعث عساكره مع حسام الدين لاشين الجامدار إلى الشويك فاستولى عليها فبعث السلطان نور الدين ببليك الايدمري في العساكر فارتدها في ذي القعدة سنة ثمان و سبعين و قارن ذلك وفاة السعيد بالكرك و اجتمع الأمراء الذين بها و مقدمهم نائبه ايدكين الفخري و قال ايدكين أن نائبه كان ايدغري الحراني فنصبوا أخاه خسرو و لقبوه المسعود نجم الدين و استولى الموالي على رأيه و أفاضوا المال من غير تقدير و لا حساب حتى أنفقوا ما كان بالكرك من الذخيرة التي ادخرها الملك الظاهر و بعض أمراء الشام في الخلاف و بعثوا العساكر فاستولوا على الصليب و حاصروا صرخد فامتنعت و كاتبوا سنقر الاشقر المتظاهر على الخلاف فبعث السلطان ايبك الافرم في العساكر لحصار الكرك فحاصرها و ضيق عليها ثم سأل المسعود في الصلح على ما كان الناصر داود بن المعظم فأجابه السلطان قلاون و عقد له ذلك ثم انتقض ثانية و نزع عنه نائبه علاء الدين ايدغري الحراني و نزع عنه إلى السلطان فصدق ما نقل عنه من ذلك ثم بعث السلطان سنة خمس و ثمانين نائبه حسام الدين طرنطاي في العساكر لحصار الكرك فحاصروها و استنزل المسعود و أخاه شلامش منها على الأمان و ملكها و جاء بهما إلى السلطان قلاون فأكرمهما وخلطهما بولده إلى أن توفي فغر بهما الاشرف إلى القسطنطينية (5/454)
انتفاض سنقر الأشقر بدمشق و هزيمته ثم امتناعه بصهيون
كان شمس الدين سنقر الاشقر لما استقر في نيابة دمشق أجمع الانتقاض و الاستبداد و تسلم القلاع من الظاهرية و ولى فيها و طالب المنصور قلاون دخول الشام باسرها من العريش إلى الفرات في ولايته و زعم أنه عاهده على ذلك و ولى السلطان على قلعة دمشق مولاه حسام الدين لاشين الصغير سلحدار في ذي الحجة سنة ثمان و سبعين فنكر ذلك سنقر و انتقض و دعا لنفسه ثم بلغ خبر قلاون و جلوسه على التخت فدعا الأمراء و أشاع أن قلاون قتل و استحلفهم على منعته و حبس من امتنع من اليمين و تلقب الكامل وذلك في ذي الحجة من السنة و قبض على لاشين نائب القلعة و جهز سيف الدين إلى الممالك الشامية و القلاع للاستحلاف و ولى في وزارة الشام مجد الدين اسمعيل بن كسيرات و سكن سنقر بالقلعة ثم بعث السلطان ايبك الأفرم بالعساكر إلى الكرك لما توفي السعيد صاحبها و انتهى إلى غزة و اجتمع إليه ببليك الايدمري منقلبا من الشويك بعد فتحه فحذرهم سنقر الاشقر و خاطب الأفرم يتجنى على السلطان بأنه لم يفرده بولاية الشام و ولى في قلعة دمشق و في حلب و بعث الأفرم بالكتاب إلى السلطان قلاون فأجابه و تقدم إلى الأفرم أن يكاتبه بالعزل فيما فعله و ارتكبه فلم يرجع عن شأنه و جمع العساكر من عمالات الشام و احتشد العربان و بعثهم مع قراسنقر المعري إلى غزة فلقيهم الأفرم و أصحابه و هزموهم و أسروا جماعة من أمرائهم و بعثوا بهم إلى السلطان قلاون فأطلقهم و خلع عليهم و لما وصلت العساكر مفلولة إلى دمشق عسكر سنقر الاشقر بالمرج و كاتب الأمراء بغزة يستميلهم و بعث السلطان العساكر بمصر مع علم الدين سنجر لاشين المنصوري و بدر الدين بكتاش الفخري السلحدار فساروا إلى دمشق فلقيهم الاشقر على الجسر بالكسرة فهزموه في صفر سنة تسع و سبعين و تقدموا إلى دمشق فملكوها و أطلق علم الدين سنجر لاشين المنصوري من الأعتقال و ولاه نيابة دمشق و ولى على القلعة سيف الدين سنجار المنصوري و كتب إلى السلطان بالفتح و سار سنقر إلى الرحبة فامتنع عليه نائبها فسار إلى عيسى بن مهنا و رجع عنه إلى الفل و كاتبوا ابغا ملك التتر و استحثو ملك الشام يستميلونه فلم يجب و بعث إليه العساكر فأجفلوا إلى صهيون و ملكها سنقر و ملك معها شيزر و بعث السلطان العساكر لحصار شيزر مع عز الدين الأفرم فحاصرها و جاءت الأخبار بزحف ابغا ملك التتر إلى الشام في مواعدة سنقر و ابن مهنا و استدعى صغار صاحب بلاد الروم فيمن معه من المغل و أنه بعث بيدو ابن أخيه طرخان صاحب ماردين و صاحب سيس من ناحية أذربيجان و جاء هو على طريق الشام و في مقدمته أخوه منكوتمر فلما تواترت الأخبار بذلك أفرج الأفرم عن حصار شيزر و دعا الاشقر إلى مدافعة عدو المسلمين فأجابه و رفع عن موالاة ابغا و سار من صهيون للاجتماع بعساكر المسلمين و جمع السلطان العساكر بمصر و سار إلى الشام و استخلف على مصر ابنه أبا الفتح عليا بعد أن ولاه عهده و قرأ كتابه بذلك على الناس و خرج لجمع العساكر في جمادى سنة تسع و سبعين و انتهى إلى غزة و وصل التتر إلى حلب و قد أجفل عنها أهلها و أقفرت منازلها فأضرموا النار في بيوتها و مساجدها و تولى كبر ذلك صاحب سيس و الأرمن و بلغهم وصول السلطان إلى غزة فأجفلوا راجعين إلى بلادهم و عاد السلطان إلى مصر بعد أن جرد العساكر إلى حمص و بلاد السواحل بحمايتها من الأفرنج و رجع سنقر الأشقر إلى صهيون و فارقه كثير من عسكره فلحقوا بالشام و أقام معه سنجر الدوادار و عز الدين اردين و الأمراء الذين مكنوه من قلاع الشام عند انتقاضه و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/455)
مسير السلطان لحصار المرقب ثم الصلح معهم و مع سنقر الاشقر بصهيون و مع بني الظاهر بالكرك
كان الإفرنج الذين بحصن المرقب عندما بلغهم هجوم التتر على الشام شنوا الغارات في بلاد المسلمين من سائر النواحي فلم رجع التتر عن الشام استأذن بليان الطباخي صاحب حصن الأكراد في غزوهم و سار إليهم في حامية الحصون بنواحيه و جمع التركمان و بلغ الحصن المرقب و وقف أسفله و استطرد له أهل الحصن حتى تورط في أوعار الجبل ثم هجموا عليه دفعة فانهزم و نالوا من المسلمين و بلغ الخبر إلى السلطان فخرج من مصر لغزوهم آخر سنة تسع و سبعين و استخلف ابنه مكانه و انتهى إلى الروحاء فوصله هنالك رسل الإفرنج في تقرير الهدنة مع أهل المرقب على أن يطلقوا من أسروه من المسلمين في واقعة بليان فقعد لهم في المحرم سنة ثمانين و عقد لصاحب بيت الاستبار و ابنه و لصاحب طرابلس سمند بن تيمند و لصاحب عكا على بلادهم و على قلاع الإسماعيلية و على جميع البلاد المستجدة الفتح و ما سيفتحه على أن يسكن عمال المسلمين في اللاذقية و أن لا يستنجدوا اسير قلعة و لا غيرها و لا يداخلوا التتر في فتنة و لايمر عليهم إلى بلاد المسلمين إن أطاقوا ذلك و عقد معهم ذلك لإحدى عشرة سنة و بعث السلطان من أمرائه من يستحلف الإفرنج على ذلك و بلغه الخبر بأن جماعة من أمرائه أجمعوا الفتك به و داخلوا الإفرنج في ذلك و كان كبيرهم كوندك فلما وصل إلى بيسان قبض عليه و عليهم و قتلهم و استراب من داخلهم في ذلك و لحقوا بسنقر في صهيون و دخل السلطان دمشق و بعث العساكر لحصار شيزر ثم ترددت الرسل بينه و بين الأشقر في الصلح على أن ينزل عن شيزر و يتعوض عنها بالشقر و بكاس و على أن يقتصر في حامية الحصون التي لقطره على ستمائة من الفرسان فقط و يطرد عنه الأمراء الذين لحقوا به فتم الصلح على ذلك و كتب له التقليد بتلك الأعمال و رجع من عنده سنجر الدوادار فأحسن إليه السلطان و ولى على نيابة شيزر بليان الطباخي و كان بنو الظاهر بالكرك يسألون السلطان في الصلح بالزيادة على الكرك كما كان السلطان داود فلما تم الصلح مع سنقر رجعوا إلى القنوع بالكرك و بعث إليهم السلطان بأقاربهم من القاهرة و أتم لهم العقد على ذلك و بعث الأمير سلحدار و القاضي تاج الدين بن الأثير لاستحلافهم و الله تعالى أعلم (5/456)
واقعة التتر بحمص و مهلك ابغا سلطانهم باثرها
ثم زحف التتر سنة ثمانين إلى الشام من كل ناحية متظاهرين فسار ابغا في عساكر المغل و جموع التتر و انتهى إلى الرحبة فحاصرها و معه صاحب ماردين و قدم أخوه منكوتمر العساكر إلى الشام و جاء صاحب الشمال منكوتمر من بني دوشي خان من كرسيهم بصراي مظاهرا لابغا بن هلاكو على الشام فمر بالقسطنطينية ثم نزل بين قيسارية و تفليس ثم سار إلى منكوتمر بن هلاكو و تقدم معه إلى الشام و خرج السلطان من دمشق في عساكر المسلمين و سابقهم إلى حمص و لقيه هناك سنقر الأشقر فيمن معه من أمراء الظاهرية و زحف التتر و من معهم من عساكر الروم و الإفرنج و الأمن و الكرج ثمانون ألفا أو يزيدون و التقى الفريقان على حمص و جعل السلطان في ميمنته صاحب حماة محمد بن المظفر و نائب دمشق لاشين السلحدار و عيسى بن مهنا فيمن إليه من العرب و في المسيرة سنقر الأشقر في الظاهرية مع جموع التركمان و من إليهم جماعة من أمرائه و في القلب نائبه حسام الدين طرنطاي و الحاجب ركن الدين اياحي و جمهور العساكر المماليك و وقف السلطان تحت الرايات في مواليه و حاشيته و وقفت عساكر التتر كراديس و ذلك منتصف رجب سنة ثمانين و اقتتلوا و نزل الصبر ثم انفضت ميسرة المسلمين و اتبعهم التتر و انفضت ميسرة التتر و رجعوا على ملكهم منكوتمر في القلب فانهزم و رجع التتر من اتباع ميسرة المسلمين فمروا بالسلطان و هو ثابت في مقامه لم يبرح و رجع أهل الميرة و نزل السلطان في خيامه و رحل من الغد في اتباع العدو و أوعز إلى الحصون التي في ناحية الفرات باعتراضهم على المقابر فعدلوا عنها و خاضوا الفرات في المجاهل فغرقوا و مر بعضهم برد سلمية فهلكوا و انتهى الخبر إلى ابغا و هو على الرحبة فأجفل إلى بغداد و صرف السلطان العساكر إلى أماكنهم و سار سنقر الأشقر إلى مكانه بصهيون و تخلف عنه كثير من الظاهرية عند السلطان و عاد السلطان إلى دمشق ثم إلى مصر آخر شعبان من السنة فبلغه الخبر بمهلك منكوتمر بن هلاكو بهمذان و منكوتمر صاحب الشمال بصراي فكان ذلك تماما للفتح ثم هلك ابغا بن هلاكو سنة إحدى و ثمانين و كان سبب مهلكه فيما يقال أنه اتهم شمس الدين الجريض وزيره باغتيال أخيه منكوتمر منصرفه من واقعة حمص فقبض عليه و امتحنه و استصفاه فدس له الجويني من سمه و مات و كان ابغا اتهم بأخيه أيضا أميرا من المغل كان شحنة بالجزيرة ففر منها و أقام مشركا و بعث السلطان قلاون بعثا إلى ناحية الموصل للإغارة عليها و انتهوا إلى سنجر فصادفوا هذا الأمير و جاؤا به إلى السلطان فحبسه ثم أطلقه و أثبت اسمه في الديوان و كان يحدث من أخبار التتر و كتب بعضها عنه و بعث السلطان في هذه السنة بعوثا أخرى إلى نواحي سيس من بلاد الروم جزاء بما كان من الأرمن في حلب و مساجدها فاكتسحوا تلك النواحي و لقيهم بعض أمراء التتر بمكان هنالك فهزموه و وصلوا إلى جبال بلغار و رجعوا غانمين و بعث السلطان شمس الدين قرا سنقر المنصوري إلى حلب لإصلاح ما خرب التتر من قلعتها و جامعها فأعاد ذلك إلى أحسن ما كان عليه ثم أسلم ملوك التتر فبعث أولا بكدار بن هلاكو صاحب العراق بإسلامه و إنه تسمى أحمد و جاءت رسله بذلك إلى السلطان و هم شمس الدين أتابك و مسعود بن كيكاوس صاحب بلاد الروم و قطب الدين محمود الشيرازي قاضي شيواس و شمس الدين محمد بن الصاحب من حاشية صاحب ماردين و كان كتابه مؤرخا بجمادى سنة إحدى و ثمانين و حملوا على الكرامة و أجيب سلطانهم بما يناسبه ثم وصل رسول قودان بن طقان المتولي بكرسي الشمال بعد أخيه منكوتمر سنة اثنتين و ثمانين بخبر ولايته و دخوله في دين الإسلام و بطلب تقليد الخليفة و اللقب منه و الراية للجهاد فيمن يليه من الكفار فأسعف بذلك و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/457)
استيلاء السلطان قلاون على الكرك و على صهيون و وفاة صاحب حماة
ثم توفي المنصور محمد بن المظفر صاحب حماة في شوال سنة اثنتين و ثمانين و ولي السلطان ابنه المظفر و بعث بالخلع له و لا قاربه و سار السلطان قلاون إلى الشام في ربيع سنة ثلاث و ثمانين لمحاصرة المرقب بما فعلوه من ممالأة العدو فحاصرها حتى استأمنوا إليه و ملك الحصن من أيديهم و انتظر وصول سنقر الأشقر من صهيون فلم يصل فرجع إلى مصر و جهز النائب حسام الدين طرنطاي في العساكر لحصار الكرك بما وقع من شلامش و خسرو من الانتقاض فسار سنة خمس و ثمانين و حاصرهم حتى استأمنوا و جاء بهم إلى السلطان فركب للقائهم و بالغ في اكرامهم ثم ساءت سيرتهم فاستراب بهم و اعتقلهم و غربهم إلى القسطنطينية و ولى على الكرك عز الدين المنصوري و بعده بيبرس الدويدار مؤلف أخبار الترك ثم جهز السلطان ثانيا النائب طرنطاي بالعساكر لحصار سنقر الأشقر بصهيون لانتفاضه و اغارته على بلاد السلطان فسار لذلك سنة ست و ثمانين و حاصره حتى استأمن هو و من معه و جاء به السلطان و أنزله بالقلعة و لم يزل عنده إلى أن هلك السلطان فقبض عليه و تولى ابنه الأشرف من بعده كما نذكره إن شاء الله تعالى (5/459)
وفاة ميخاييل ملك القسطنطينية
قد تقدم لنا كيف تغلب الإفرنج على القسطنطينية من يد الروم سنة ستمائة و كان ميخاييل هذا من بطارقتهم أقام في بعض الحصون بنواحيها فلما أمكنته الفرصة بيتها و قتل من كان بها من الإفرنج وفر الباقون في مراكبهم و اجتمع الروم إلى ميخاييل هذا و ملكوه عليهم و قتل الملك الذي قبله و كان بينه و بين صاحب مصر و الناصر قلاون من بعده اتصال و مهاداة و نزل بنو الظاهر عليه عندما غربوا من مصر ثم مات ميخاييل سنة إحدى و ثمانين و ولى ابنه ماندر و يلقب الراونس و ميخاييل هذا يعرف بالأشكري و بنوه من بعده بنو الاشكري وهم ملوك القسطنطينية إلى هذا العهد و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/459)
أخبار النوبة
كان الملك الظاهر وفد عليه أعوام سنة خمس و سبعين ملك النوبة من تشكيل مستجدا به على ابن أخيه داود لما كان تغلب عليه و انتزع الملك من يده فوعده السلطان و أقام ينتظر و استفحل ملد داود و تجاوز حدود مملكته إلى قرب اسوان من آخر الصعيد فجهز السلطان العساكر إليه مع اقسنقر الفارقاني و ايبك الأفرم أستاذ داره و أطلق معهم مرتشكين ملك النوبة فساروا لذلك و استنفروا العرب و انتهوا إلى رأس الجنادل و استولوا على تلك البلاد و أمنوا أهلها و ساروا في البلاد فلقيهم داود الملك فهزموه و أثخنوا في عساكره و أسروا أخاه و أخته و أمه و سار إلى مملكة السودان بالأبواب و رآه فقاتله ملكها و هزمه و أسره و بعث به مقيدا إلى السلطان فاعتقل بالقلعة إلى أن مات و استقر مرتشكين في سلطان النوبة على جراية مفروضة و هدايا معلومة في كل سنة و على أن تكون الحصون المجاورة لأسوان خالصة للسلطان و على أن يمكن ابن أخيه داود و جميع أصحابه من كل مالهم في بلادهم فوفى بذلك ثم مات الظاهر و انقرضت دولته و دولة بنيه و انتقل الملك إلى المنصور قلاون فبعث سنة ست و ثمانين العساكر إلى النوبة مع علم الدين سنجر الخياط و عز الدين الكوراني و سار معهم نائب قوص عز الدين ايدمر السيفي بعد أن استنفر العربان أولاد أبي بكر و أولاد عمر و أولاد شريف و أولاد شيبان و أولاد كنز الدولة و جماعة من الغرب و بني هلال و ساروا على العدوة الغربية و الشرقية في دنقلة و ملكهم بيتمامون هكذا أسماه النووي و أظنه أخا مرتشكين و برزوا للعساكر فهزمتهم و اتبعتهم خمسة عشر يوما وراء دنقلة و رتب ابن أخت بيتمامون في الملك و رجعت العساكر إلى مصر فجاء بيتمامون إلى دنقلة فاستولى على البلاد و لحق ابن أخته بمصر صريحا بالسلطان فبعث معه عز الدين أيك الافرم في العساكر و معه ثلاثة من الأمراء و عز الدين نائب قوص و ذلك سنة ثمان و ثمانين و بعثوا المراكب في البحر بالازودة و السلاح و مات ملك النوبة بأسوان و دفن بها و جاء نائبه صريخا إلى السلطان فبعث معه داود ابن أخي مرتشكين الذي كان أسيرا بالقلعة و تقدم جريس بين يدي العساكر فهرب بيتمامون و امتنع بجزيرة وسط النيل على خمس عشرة مرحلة وراء دنقلة و وقفت العساكر على ساحل البحر و تعذر وصول المراكب إلى الجزيرة من كثرة الحجر و خرج بيتمامون منها فلحق بالابواب و رجع عنه أصحابه و رجعت إلى مصر و رجع بيتمامون إلى دنقلة و قتل داود و بعث الأمير الذي كان معهم إلى السلطان و حمله رغبة في الصلح على أن يؤدي الضريبة المعلومة فأسعف لذلك و استقر في ملكه انتهى و الله تعالى أعلم (5/459)
فتح طرابلس
كان الإفرنج الذين بها قد نقضوا الصلح و أغاروا على الجهات فاستنفر السلطان العساكر من مصر و الشام و أزاح عللهم و جهز آلات الحصار و سار إليها في محرم سنة ثمان و ثمانين فحاصرها و نصب عليها المجانيق و فتحها عنوة لأربعة و ثلاثين يوما من حصارها و استباحها و ركب بعضهم الشواني للنجاة فردتهم الريح إلى السواحل فقتلوا و أسروا و أمر السلطان بتخريبها فخربت و أحرقت و فتح السلطان ما إليها من الحصون و المعاقل و أنزل حاميتها و عاملها بحصن الأكراد ثم اتخذ حصنا آخر لترك النائب و الحامية في العمل و سمي باسم المدينة و هو الموجود لهذا العهد و كان من خبر هذه المدينة من لدن الفتح أن معاوية أيام ولايته الشام لعهد عثمان بن عفان رضي الله عنه بعث إليها سفيان بن مخنف الأزدي فحاصرها و بنى عليها حصنا حتى جهد أهلها الحصار و هربوا منها في البحر و كتب سفيان إلى معاوية بالفتح و كان يبعث العساكر كل سنة للمرابطة بها ثم جاء إلى عبد الملك بن مروان بطريق من الروم و سأله في عمارتها و النزول بها مجمعا على أن يعطيه الخراج فأجابه و أقام قليلا ثم غدر بمن عنده من المسلمين و ذهب إلى بلاد الروم فتخطفته شواني المسلمين في البحر و قتله عبد الملك و يقال الوليد و ملكها المسلمون و بقي الولاة يملكونها من دمشق إلى أن جاءت دولة العبيديين فأفردوها بالولاية و وليها رمان الخادم ثم سر الدولة ثم أبو السعادة علي بن عبد الرحمن بن جبارة ثم نزال ثم مختار الدولة بن نزال و هؤلاء كلهم من أهل دولته ثم تغلب قاضيها أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار و توفى سنة أربع و ستين و أربعمائة و كان من فقهاء الشيعة و هو الذي صنف الكتاب الملقب بخراب الدولة ابن منقذ بن كمود فقام بولاية أخيه أبي الحسن ابن محمد بن عمار و لقبه جلال الدين و توفى سنة اثنتين و تسعين صنجيل من ملوكهم و اسمه ميمنت و معناه ميمون و صنجيل اسم مدينة عرف بها و أقام صنجيل يحاصرها طويلا و عجز ابن عمار عن دفاعه ثم قصد سلطان السلجوقية بالعراق محمد بن ملكشاه مستنجدا به و استخلف بالمناقب ابن عمه على طرابلس و معه سعد الدولة فتيان بن الأغر فقتله أبو المناقب و دعا للأفضل ابن أمير الجيوش المستبد على خلفاء العبيديين بمصر لذلك العهد ثم هلك صنجيل و هو محاصر لها و ولي مكانه السرداني من زعمائهم و بعث الأفضل قائدا إلى طرابلس فأقام بها و شغل عن مدافعة العدو و بجمع الأموال و نمي عنه إلى الأفضل أنه يروم الاستبداد فبعث آخر مكانه و نافر أهل البلد لسوء سيرته فتبين وصول المراكب من مصر بالمدد و قبض على أعيانهم و على مخلف خر الملك بن عمار من أهله و ولده و بعث بهم إلى مصر و جاء فخر الملك بن عمار بعد أن قطع حبل الرجاء في يده من أنجاد السلجوقية لما كانوا فيه من الشغل بالفتنة و ربما علله بعضهم بولاية الوزارة له ثم رجع إلى دمشق سنة اثنتين و خمسمائة و نزل على طغتكين الأتابك ثم ملكها السرداني سنة ثلاث و خمسمائة بعد حصارها سبع سنين و جاء ابن صنحبيل من بلاد الإفرنج فملكها منه و أقامت في مملكته نحوا من ثلاثين سنة ثم ثار عليه بعض الزعماء و قتله بطرس الأعور و استخلف في طرابلس القوش بطرار ثم كانت الواقعة بين صاحب القدس ملك الإفرنج و بين زنكي الأتابك صاحب الموصل و انهزم الإفرنج و أسر القوش في تلك الوقعة و نجا ملك الإفرنج إلى تغريب فتحصن بها و حضره زنكي حتى اصطلحا على أن يعطي تغريب و يطلق زنكي الأسرى في الواقعة فانطلق القوش إلى طرابلس فأقام بها مدة و وثب الإسماعيلية به فقتلوه و ولي بعده رهند صبيا و حضر مع الإفرنج سنة سبع و خمسين وقعة حارم التي هزمهم فيها العادل و أسر رهند يومئذ و بقي في اعتقاله إلى أن ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب فأطلقه سنة سبعين و خمسمائة و لحق بطرابلس و لم تزل في ملكه و ملك ولده إلى أن فتحها المنصور سنة ثمان و ثمانين كما مر و الله تعالى أعلم (5/461)
إنشاء المدرسة و المارستان بمصر
كان المنصور قلاون قد اعتزم على إنشاء المارستان بالقاهرة و نظر له الأماكن حتى وقف نظره على الدار القطبية من قصور العبيديين و ما يجاورها من القصرين و اعتمد إنشاءه هنالك و جعل الدار أصل المارستان و بنى بازائه مدرسة لتدريس العلم و قبة لدفنه و جعل النظر في ذلك لعلم الدين الشجاعي فقام بإنشاء ذلك لأقرب وقت و كملت العمارة سنة اثنتين و ثمانين و ستمائة و وقف عليها أملاكا و ضياعا بمصر و الشام و جلس بالمارستان في يوم مشهود تناول قدحا من الأشربة الطبية و قال وقفت هذا المارستان على مثلي فمن دوني من أصناف الخلق فكان ذلك من صالح آثاره و الله أعلم (5/462)
وفاة المنصور قلاون و ولاية ابنه خليل الاشرف
كان المنصور قلاون قد عهد لابنه علاء الدين و لقبه الصالح و توفي سنة سبع و ثمانين فولى العهد مكانه ابنه الآخر خليل ثم انتقض الإفرنج بعكا و أغاروا على النواحي و مرت بهم رفقة من التجار برقيق من الروم و الترك جلبوهم للسلطان فنهبوهم و أسروهم فأجمع السلطان غزوهم و خرج في العساكر بعد الفطر من سنة تسع و ثمانين و استخلف ابنه خليلا على القاهرة و معه زين الدين سيف و علم الدين الشجاعي الوزير و عسكر بظاهر البلد فطرقه المرض و رجع إلى قصره فمرض و توفي في ذي القعدة من السنة فبويع ابنه خليل و لقب الأشرف و كان حسام الدين طرنطاي نائب المنصور إليه فأقره و أشرك معه زين الدين سيف في نيابة العتبة و أقر علم الدين الشجاعي على الوزارة و بدر الدين بيدو أستاذ داره و عز الدين أيبك خزندار و كان حسام الدين لاشين السلجدار نائبا بدمشق و شمس الدين قراسنقر الجوكندار نائبا بحلب فأقرهما و جمع ما كان بالشام من ولاة أبيه ثم قبض على النائب حسام الدين طرنطاي لأيام قلائل و قتله و استولى على مخلفه و كان لا يعبر عنه كان الناض منها ستمائة ألف دينار و حملت كلها لخزانته و استقل بدر الدين بالنيابة و بعث إلى محمد بن عثمان بن السلعوس من الحجاز فولاه الوزارة و كان تاجرا من تجار الشام و تقرب له أيام أبيه و استخدم له فاستعمله في بعض اقطاعه بالشام و وفر جبايتها فولاه ديوانه بمصر فأسرف في الظلم و أنهى أمره إلى طرنطاي النائب صادره المنصور و امتحنه و نفاه عن الشام و حج في هذه السنة و ولى الأشرف فكان أول أعماله البعث عنه و ولاه الوزارة فبلغ المبالغ في الظهور و علو الكلمة و استخدم الخواص له و ترفع عن الناس و استقل الرتب و قبض الأشرف على شمس الدين سنقر و حبسه و كان قد قبض مع طرنطاي النائب على عز الدين سيف لما بلغه أنه يدبر عليه مع طرنطاي ثم ثبتت عنده براءته فأطلقه و الله تعالى أعلم (5/462)
فتح عكا و تخريبها
ثم سار الأشرف أول سنة تسعين و ستمائة لحصار عكا متمما عزم أبيه فيها فجهز العساكر و استنفر أهل الشام و خرج من القاهرة فأغذ السير إلى عكا و وافاه بها أمراء الشام و المظفر بن المنصور صاحب حماة فحاصرها و رماها بالمجانيق فهدم كثير من أبراجها و تلاها المقاتلة لاقتحامها فرشقوهم بالسهام فأمن اللبود و زحفوا في كنها و ردموا الخندق بالتراب فحمل كل واحد منهم ما قدر عليه حتى طموه و انتهوا إلى الأبراج المتهدمة فالصقوها بالأرض و اقتحموا البلد من ناحيتها و استلحموا من كان فيها و أكثروا القتل و النهب و نجا الفل من العدو إلى أبراجها الكبار التي بقيت ماثلة فحاصرها عشرا آخر ثم اقتحمها عليهم فاستوعبهم السيف و كان الفتح منتصف جمادي سنة سبعين لمائة و ثلاث سنين من ارتجاع الكفر لها من يد صلاح الدين سنة سبع و ثمانين و خمسمائة و أمر الأشرف بتخريبها فخربت و بلغ الخبر إلى الإفرنج بصور و صيدا و عتلية و حيفا فأجفلوا عنها و تركوها خاوية و مر السلطان بها و أمر بهدمها فهدمت جميعا و انكف راجعا إلى دمشق و تقبض في طريقه على لاشين نائب دمشق لأن بعض الشياطين أوحى إليه أن السلطان يروم الفتك به فركب للفرار و أتبعه علم الدين سنجر الشجاعي و سار إلى بيروت فتحها و مر السلطان بالكرك فاستعفى نائبها ركن الدين بيبرس الدوادار و هو المؤرخ فولى مكانه جمال الدين اتسز الأشرفي و رجع السلطان إلى القاهرة فبعث شلامش و خسروا ابني الظاهر من محبسهما بالاسكندرية إلى القسطنطينية و مات شلامش هنالك و أفرج عن شمس الدين سنقر الأشقر و حسام الدين لاشين المنصوري اللذين اعتقلهما كما قدمناه و قبض على علم الدين سنجر نائب دمشق و سيق إلى مصر معتقلا و أمر السلطان ببناء الرفوف بالقلعة على أوسع ما يكون و رافعه و بنى القبة بإزائه لجلوس السلطان أيام الزينة و الفرح فبنيت مشرفة على سوق الخيل و الميدان و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/463)
فتح قلعة الروم
ثم سار السلطان سنة إحدى و تسعين في عساكره إلى الشام بعد أن أفرج عن حسام الدين لاشين و رده إلى إمارته و انتهى إلى دمشق ثم سار إلى حلب ثم دخل منها إلى قلعة الروم فحاصرها في جمادي من السنة و ملكها عنوة بعد ثلاثين يوما من الحصار و قاتل المقاتلة الذريعة و خرب القلعة و أخذ فيها بترك الأرمن أسيرا و انكف السلطان راجعا إلى حلب فأقام بها شعبان و ولى عليها سيف الدين الطباقي نائبا مكان قراسنقر الظاهري لأنه ولاه مقدم المماليك و رحل إلى دمشق فقضى بها عيد الفطر و استراب لاشين النائب فهرب ليلة الفطر و أركب السلطان في طلبه و تقبض عليه بعض العرب في حيه و جاء به إلى السلطان فبعثه مقيدا إلى القاهرة و ولى على نيابة دمشق عز الدين أيبك الحميدي عوضا عن علم الدين سنجر الشجاعي و رجع إلى مصر فأفرج عن علم الدين سنجر الشجاعي و توفي لسنة بعد إطلاقه ثم قبض على سنقر الأشقر و قتله و سمع نائبه بيدو ببراءة لاشين فأطلقه و توفي ابن الأثير بعد شهر فولى مكان ابنه عماد الدين أيوب و كان أيوب قد اعتقله المنصور لأول ولايته فأطلقه الأشرف هذه السنة لثلاث عشرة سنة من اعتقاله و استخلصه للمجالسة و الشورى و توفي القاضي فتح الدين محمد بن عبد الله بن عبد الظاهر كاتب السر و صاحب ديوان الإنشاء و له التقدم عنده و عند أبيه فولى مكانه فتح الدين أحمد بن الأثير الحلي و ترك ابن عبد الظاهر ابنه علاء الدين عليا فألقى عليه النعمة منتظما في جملة الكتاب ثم سار السلطان إلى الصعيد يتصيد و استخلف بيدو النائب على دار ملكه و انتهى إلى قوص و كان ابن السلعوس قد دس إليه بأن بيدو احتجن بالصعيد من الزرع ما لا يحصى فوقف هنالك على مخازنها و استكثرها و ارتاب بيدو لذلك و لما رجع الأشرف إلى مصر ارتجع منه بعض أقطاعه و بقي بيدو مرتابا من ذلك و أتحف السلطان بالهدايا من الخيام و الهجن و غيرهما و الله تعالى أعلم (5/464)
مسير السلطان إلى الشام و صلح الأرمن و مكثه في مصيا و هدم الشويك
ثم تجهز السلطان سنة اثنتين و تسعين إلى الشام و قدم بيدو النائب بالعساكر و عاج على الكرك على الهجن فوقف عليها و أصلح من أمورها و رجع و وصل إلى الشام فوافاة رسول صاحب سيس ملك الأرمن راغبا في الصلح على أن يعطي تهسنا و مرعش و تل حمدون فعقد لهم على ذلك و ملك هذه القلاع و هي في غم الدرب من ضياع حلب و كانت تهسنا للمسلمين و لما ملك هلاكو حلب باعها النائب من ملك الأرمن سيس ثم سار السلطان إلى حمص و وصل إليها في رجب من السنة و معه المظفر صاحب حماة و نزل سلمية و لقيه مهنا بن عيسى أمير العرب فقبض عليه و على أخويه محمد و فضل و ابنه موسى و بعثهم معتقلين مع لاشين إلى دمشق و من هناك إلى مصر فحبسوا بها و ولى على الغرب مكانهم محمد بن أبي بكر بن علي ابن جديلة و أوعز و هو بحمص إلى نائب الكرك بهدم قلعة الشويك فهدمت و انكف راجعا إلى مصر و قدم العساكر مع بيدو و جاء في الساقة على الهجن مع خواصه و لما دخل على مصر أفرج عن لاشين المنصوري و الله تعالى أعلم (5/465)
مقتل الأشرف و ولاية أخيه محمد الناصر في كفالة كيبغا
كان النائب بيدو مستوليا على الأشرف و الأشرف مستريب به حتى كأنه مستبد و كان مستوحشا من الأشرف سنة ثلاث و تسعين على الصيد في البحيرة فخرج إليها و بعثها وزيره ابن السلعوس للإسكندرية لتحصيل الأموال و الأقمشة فوجد بيدو قد سبقوا إليها و استصفوا ما هنالك فكاتب السلطان بذلك فغضب و استدعى بيدو فوبخه و توعده و لم يزل هو يلاطفه حتى كسر من سورة غضبه ثم خلص إلى أصحابه و داخلهم في التوثب به و تولى كبر ذلك منهم لاشين المنصوري نائب دمشق و قرا سنقر المنصوري نائب حلب و كان الأمراء كلهم حاقدين على الأشرف لتقديمه حاشيته عليهم و لما كتب إليه السلعوس بقلة المال صرف مواليه إلى القلعة تخفيفا من النفقة و بقي في القليل و ركب بعض أيامه يتصيد و هو مقيم فرجة فاتبعوه و أدركوه في صيده فأوجس في نفسه الشر منهم فعاجلوه و علوه بالسيوف ضربه أولا بيدو و ثنى عليه لاشين و تركوه مجدنلا بمصرعه منتصف محرم من السنة و رجعوا إلى المخيم و قد أبرموا أن يولوا بيدو فولوه و لقبوه القاهر و تقبض على بيسري الشمسى و سيف الدين بكتمر السلحدار و احتملوهما و ساروا إلى قلعة الملك و كان زين الدين سيف قد ركب للصيد فبلغه الخبر في صيده فسار في اتباعهم و معه سوس الجاشنكير و حسام الدين استاذ دار و ركن الدين سوس و طقجي في طائفة من الجاشنكيرية و ادركوا القوم على الطرانة و لما عاينهم بيدو و بيسري و بكتمر المعتقلين في المخيم رجعوا إلى كيبغا على القناة و افترق أصحابه قراسنقر و لاشين بالقاهرة و يقال أن لاشين كان مختفيا في مأذنة جامع ابن طولون و وصل كيبغا و أصحابه إلى القلعة و بها علم الدين الشجاعي و استدعوا محمد بن قلاون أخا الأشرف و بايعوه و لقبوه الناصر و قام بالنيابة كبغا و بالاتابكية حسام الدين و بالوزارة علم الدين سنجر و بالاستاذ دارية ركن الدين سوس الجاشنكير و استبدوا بالدولة فلم يكن الناصر يملك معهم شيئا من أمره و جدوا في طلب المراء الذين داخلو بيدو في قتل الأشرف فاستوعبوهم بالقتل و الصلب و القطع و كان بهادر رأس نوبة و أقوش الموصلي فقتلا و أحرقت أشلاؤهما و شفع كيبغا في لاشين و قرا سنقر المتوليين كبر ذلك فظهرا من الأختفاء و عادا إلى محلهما من الدولة ثم تقبض على الوزير محمد بن السلعوس عند وصوله من الإسكندرية و صادره الوزير الشجاعي و امتحنه فمات تحت الامتحان و أفرج عن عز الدين ايبك الصالحي و كان الأشرف اعتقله سنة اثنتين و تسعين و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/465)
وحشة كيبغا و مقتل الشجاعي
ثم إن الشجاعي لطف محله من الناصر و اختصه بالمداخلة و أشار عليه بالقبض على جماعة من الأمراء فاعتقلهم و فيهم سيف الدين كرجي و سيف الدين طونجي و طوى ذلك عن كيبغا و بلغه الخبر و هو في موكب بساحة القلعة و كان الأمراء يركبون في خدمته فاستوحش و ارتاب بالشجاعي و بالناصر ثم جاء بعض مماليك الشجاعي إلى كيبغا في الموكب و جرد سيفه لقتله فقتله مماليكه و تأخر هو و من كان معه من الأمراء عن دخول القلعة و تقبضوا على سوس الجاشنكير أستاذ دار و بعثوا إلى الإسكندرية و نادوا في العسكر فاجتمعوا و حاصروا القلعة و بعث إليهم السلطان أميرا فشرطوا عليه أن يمكنهم من الشجاعي فامتنع و حاصروه سبعا و اشتد القتال و فر من كان بقي في القلعة من العسكر إلى كيبغا و خرج الشجاعي لمدافعتهم فلم يغن شيئا و رجع السلطان و قد خامره الرعب فطلب أن يحبس نفسه فمضى به المماليك إلى السجن و قتلوه في طريقهم و بلغ الخبر إلى كيبغا و من كان معه فذهبت عنهم الهواجس و استأمنوا للسلطان فأمنهم و استحلفوه فحلف لهم و دخلوا إلى القلعة و أفاض كيبغا العطاء في الناسو أخرج من كان في الطباق من كان في الطباق من المماليك بمداخلة الشجاعي فأنزلهم إلى البلد بمقاصر الكسرو دار الوزارة و الجوار و كانوا نحوا من آلاف فأقاموا بها و لما كان المحرم فاتح سنة أربع و تسعين استعدوا ليلة و ركبوا فيها جميعا و أخرجوا من كان في السجون و نهبوا بيوت الأمراء و اعجلهم الصبح عن تمام قصدهم و باكرهم الحاجب بهادر ببعض العساكر فهزمهم و افترقوا و تقبض على كثير منهم فأخذ منهم العقاب مأخذه قتلا و ضربا و عزلا و أفرح عن عز الدين أيبك الأفرم و أعيد إلى وظيفته أمير جندار ثم هلك قريبا و استحكم أمر السلطان و نائبه كيبغا و هو مستبد عليه و استمر الحال على ذلك إلى أن كان ما نذكره أن شاء الله تعالى و الله تعالى ولى التوفيق (5/467)
خلع الناصر و ولاية كيبغا العادل
و لما وقعت الوحشة بين كيبغا و الشجاعي و تلتها هذه الفتنة استوحش كيبغا في ظاهر أمره و انقطع عن دار النيابة متمارضا و تردد السلطان لعيادته ثم حمل بطانته على الاستبداد بالملك و الجلوس على التخت و كان طموحا لذلك من أول أمره فجمع الأمراء و دعاهم إلى بيعته فبايعوه و خلع الناصر و ركب إلى دار السلطان فجلس على التخت و تلقب بالعادل و أخرج السلطان من قصور الملك و كان مع أمه ببعض الحجر و ولى حسام الدين لاشين نائبا و الصاحب فخر الدين عمر بن عبد العزيز الخليلي الدار وزيرا نقله إليها من النظر في الديوان لعلاء الدين ولى العهد ابن قلاون و عز الدين ايبك الأفرم الصالحي أمير جندار و بهادر الحلبي أمير حاجب و سيف الدين منماص أستاذ دار و قسم إمارة الدولة بين مماليكه و كتب إلى نواب الشام بأخذ البيعة فأجابوا بالسمع و الطاعة و قبض على عز الدين ايبك الخازندار نائب طرابلس و ولى مكانه فخر الدين ايبك الموصلي و كان الخازندار ينزل حصن الأكراد و نزل الموصلي بطرابلس و عادت دار امارة ثم وفد سنة خمس و تسعين على العادل كيبغا طائفة من التتر يعرفون بالاربدانية و مقدمهم طرنطاي كان مداخلا لبدولي كنجاب ابن عمه ملك التتر فلما سار الملك إلى غازان خافه طرنطاي و كانت احياؤه بين غازان و الموصل و أوعز غازان إلى التتر الذين من مارتكن فأخذ الطرق عليهم و بعث قط قرا من أمرائه للقبض على طرنطاي و أصحابه و عبروا الفرات إلى الشام و اتبعهم التتر من ديار بكر فكروا عليهم فهزموهم و أمر العادل سنجر الدوادار أن يتلقاهم بالرحب و احتفل نائب دمشق لقدومهم ثم ساروا إلى مصر فتلقاهم شمس الدين قرا سنقر و كانوا يجلسون مع الأمراء بباب القلعة فانفوا لذلك و كان سببا لخلع العادل كما نذكر و وصل على أثرهم بقية قومهم بعد أن مات منهم كثير ثم رسخوا في الدولة و خلطهم الترك بأنفسهم و أسلموا و استخدموا أولادهم و خلطوهم بالصهر و الولاء و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/467)
خلع العادل كيبغا و ولاية لاشين المنصور
كان أهل الدولة نقموا على السلطان كيبغا العادل تقديم مماليكه عليهم و مساواة الاربدانية سمن التتر بهم على خلعه و سار إلى الشام في شوال سنة خمس و تسعين فعزل عز الدين ايبك الحموي نائب دمشق و استصفاه و ولى مكانه سيف الدين عزلو من مواليه ثم سار إلى حمص متصيدا و لقيه المظفر صاحب حماة فأكرمه ورده إلى بلده مصر و الأمراء مجمعون خلعه و الفتك بمماليكه و انتهى إلى العوجاء من أرض فلسطين و بلغه عن بيسري الشمسي أنه كاتب التتر فنكر عليه و اغلظ له في الوعيد و ارتاب الأمراء من ذلك و تمشت رجالاتهم و اتفقوا و ركب حسام الدين قفجاق و بهادر الحلبي الحاجب و بكناش الفخري و ببليك الخازندار و اقوش الموصلي و بكتمر السلحدار و سلار و طغجي و كرجي و معطاي و من انضاف إليهم بعد أن بايعوا لاشين و قصدوا مخيم بكتوت الأزرق فقتلوه و جاءهم ميحاص فقتلوه أيضا و ركب السلطان كيبغا في لفيفه فحملوا عليه فانهزم إلى دمشق و بايع القوم لاشين و لقبوه المنصور و شرطوا عليه أن لا ينفرد عنهم برأي فقبل و سار إلى مصر و دخل القلعة و لما وصل كيبغا إلى دمشق لقيه نائبه سيف الدين عزلو و أدخله القلعة و احتاط على حواصل لاشين و الأمراء الذين معه و أمن جماعة من مواليه و وصلت العساكر التي كانت مجردة بالرحبة و مقدمهم جاغان و كانوا قد داخلوا لاشين في شأنه و نزلوا ظاهر دمشق و اتفقوا على بيعة لاشين و أعلنوا بدعوته و انحل أمر العادل و سأل ولاية صرخد و ألقي بيده فحبس بالقلعة لسنتين من ولايته و بعث الأمراء ببيعتهم للاشين و دخل سيف الدين جاغان إلى القلعة ثم وصل كتاب لاشين ببعثه إلى مصر و بعث إلى كيبغا بولاية صرخد كما سأل و وصل قفجق المنصوري نائبا عن دمشق و أفرج لاشين بمصر عن ركن الدين بيبرس الجاشنكير و غيره من المماليك و ولى قرا سنقر نائبا و سيف الدين سلار أستاذ دار و سيف الدين بكتمر السلحدار أمير جاندار و بهادر الحلبي صاحب و أقر فخر الدين الخليلي على وزارته ثم عزله و ولى مكانه شمس الدين سنقر الأشقر و قبض على قرا سنقر النائب و سيف الدين سلار أستاذ دار سنة ست و تسعين و ولى مكانه سيف الدين منكوتمر الحسامي مولاه و استعمل سيف الدين قفجق المنصوري نائبا ثم أمر بتجديد عمارة جامع ابن طولون و ندب لذلك علم الدين سنجر الدوادار و أخرج للنفقة فيه من خالص ماله عشرين ألف دينار و وقف عليه أملاكا و ضياعا ثم بعث سنة تسع و سبعين بالناصر محمد بن قلاون إلى الكرك مع سيف الدين سلار أستاذ دار و قال لزين الدين بن مخلوف فقيه بيته هو ابن أستاذي و أنا نائبه في الأمر و لو علمت أنه يقوم بالأمر لاقمته و قد خشيت عليه في الوقت فبعثه إلى الكرك فوصلها في ربيع و قال النووي إنه بعث معه جمال الدين بن أقوش ثم قبض السلطان في هذه السنة على بدر الدين بيسري الشمسي بسعاية منكوتمر نائبه لان لاشين أراد أن يعهد إليه بالأمر فرده بيسري عن ذلك و قبحه عليه فدس منكوتمر بعض مماليك بيسري و انهوا إلى السلطان أنه يريد الثورة فقبض عليه آخر ربيع الثاني من السنة و أودعه السجن فمات في محبسه و قبض في هذه السنة على بهادر الحلبي و على عز الدين ايبك الحموي ثم أمر في هذه السنة برد الأقطاعات في النواحي و بعث الأمراء و الكتاب لذلك و تولى ذلك عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة و قال مؤرخ حماة المؤيد كانت مصر منقسمة على أربعة و عشرين قيراطا أربعة منها للسلطان و الكلف و الرواتب و عشرة للأمراء و الإطلقات و الزيادات و عشرة للأجناد الجلقة فصيروها عشرة للأمراء و الإطلاقات و الزيادات و الأجناد و أربعة عشر للسلطان فضعف الجيش و قال النووي قرر للخاص في الروك الجيزة و اطفج و دمياط و منفلوط و الكوم الأحمر و حولت السنة الخراجية من سنة ست و تسعين و هذا في العدد إنما هو بعد انقضاء ثلاثة و ثلاثين سنة واحدة و هي تفاوت ما بين السنين الشمسية و القمرية و هو حجة ديوان الجيش في انقضاء التفاوت الجيشي وهو تحويل بالأقلام فقط و ليس فيه نقص شيء ثم أقطعت البلاد بعد الروك و استثنيت المراتب الجسرية و الرزق الأحباسية انتهى كلام النووي رحمه الله و الله تعالى أعلم (5/468)
فتح حصون سيس
و لما ولي سيف الدين منكوتمر النيابة و كانت مختصا بالسطان استولى على الدولة و طلب من السلطان أن يعهد له بالملك فنكر ذلك الأمراء و ثنوا عنه السلطان فتنكر لهم منكوتمر و أكثر السعاية فيهم حتى قبض على بعضهم و تفرق الآخرون في النواحي و بعث السلطان جماعة منهم سنة سبع و تسعين لغزو سيس و بلاد الأرمن كان منهم بكتاش أمير سلاح و قرا سنقر و يكتمر السلحدار و تدلار و تمراز و معهم الالفي نائب صفد في العساكر و نائب طرابلس و نائب حماة ثم أردفهم بعلم الدين سنجر الدوادار و جاءت رسل صاحب سيس و أغاروا عليها ثلاثة أيام و اكتسحوها ثم مروا ببغراس ثم بمرج انطاكية و أقاموا بها ثلاثا و مروا بجسر الحديد ببلاد الروم ثم قصدوا تل حمدون فوجدوها خاوية و قد انتقل الأرمن الذين بها إلى قلعة النجيمة و فتحوا قلعة مرعش و حاصروا قلعة النجيمة أربعين يوما افتتحوها صلحا و أخذوا أحد عشر حصنا منها المصيصة و حموم و غيرهما و اضطرب أهلها من الخوف فأعطوا طاعتهم و رجع العساكر إلى حلب و بلغ السلطان لاشين أن التتر قاصدون الشام فجهز العساكر إلى دمشق مع جمال الدين أقوش الأفرم و أمره أن يخرج العساكر من دمشق إلى حلب مع قفجق النائب فسار إلى حمص و أقام بها ثم بلغهم الخبر برجوع التتر و وصل أمر السلطان إلى سيف الدين الطباخي نائب حلب بالقبض على بكتمر السلحدار و الألفي نائب صفد و جماعة من الأمراء بحلب بسعاية بكتمر و حاول الطباخي ذلك فتعذر عليه و برز تدلار إلى بسار فتوفي بها و أقام الآخرون و شعروا بذلك فلحقوا بقفجق النائب على حمص فأمنهم و كتب إلى السلطان يشفع فيهم فأبطأ جوابه و عزله سيف الدين كرجي و علاء الدين إيدغري من إجارتهم فاستراب و ولى السلطان مكانه على دمشق جاغان فكتب إلى قفجق بطلبهم فنفروا و افترق عسكره و عبره الفرات إلى العراق و معه أصحابه بعد أن قبضوا على نائب حمص و احتملوه و لحقهم الخبر بقتل السلطان لاشين و قد تورطوا في بلاد العدو فلم يمكنهم الرجوع و وفدوا على غازان بنواحي واسط و كان قفجق من جند التتر و أبوه من جند غازان خصوصا و لما وقعت الفتنة بين لاشين و غازان و كان فيروز أتابك غازان مستوحشا من سلطانه فكاتب لاشين في اللحاق به و اطلع سلطانه على كتبه فأرسل إلى قطلوشاه نائب حران فقبض على فيروز و قتله و قتل غازان أخويه في بغداد و الله تعالى أعلم (5/470)
مقتل لاشين و عود الناصر محمد بن قلاون إلى ملكه
كان السلطان لاشين قد فوض أمر دولته إلى مولاه منكوتمر فاستطال و طمع في الاستبداد و نكره الأمراء كما قدمناه فأغرى السلطان بهم و شردهم كل مشرد بالنكبة و البعاد و كان سيف الدين كرجي من الجاشنكير و مقدما عليهم كما كان قرا سنقر مع الأشرف و كان جماعة المماليك معصوصبين عليه و سعى منكوتمر في نيابته على القلاع التي افتتحت من الأرمن ببلاد سيس فاستعفى من ذلك و أسرها في نفسه و أخذ في السعاية على منكوتمر و ظاهره على أمره قفجي من كبار الجاشنكيرية و كان لطقجي صهر من كبار الجاشنكيرية اسمه طنطاي أغلط له منكوتمر يوما في المخاطبة فامتعض و فزع إلى كرجي و طقجي فاتفقوا على اغتيال السلطان و قصدوه ليلا و هو يلعب بالشطرنج و عنده حسام الدين قاضي الحنفية فأخبره كرجي بغلق الأبواب على المماليك فنكره و لم يزل يتصرف أمامه حتى ستر سيفه بمنديل طرحه عليه فلما قام السلطان لصلاة العتمة نحاها عنه و علاه بالسيف و افتقد السلطان سيفه فتعاوروه بسيوفهم حتى قتلوه و هموا بقتل القاضي ثم تركوه و خرج كرجي إلى طقجي بمكان انتظاره و قصدوا منكوتمر و هو بدار النيابة فاستجار بطقجي فأجاره و حبسه بالجب ثم راجعوا رأيهم و اتفقوا على قتله فقتلوه و كان مقتل لاشين في ربيع سنة ثمان و تسعين و كان من موالي علي بن المعز ايبك فلما غرب للقسطنطينية تركه بالقاهرة و اشتراه قلاون من القاضي بحكم البيع على الغائب بألف درهم و كان يعرف بلاشين الصغير لأنه كان هناك لاشين آخر أكبر منه و كان نائبا بحمص و لما قتل اجتمع الأمراء و فيهم ركن الدين بيبرس الجاشنكير و سيف الدين سلار أستاذ دار و حسام الدين لاشين الرومي و قد وصل على البريد من بلاد سيس جمال الدين أقوش الأفرم و قد عاد من دمشق بعد أن أخرج النائب و العساكر إلى حمص و عز الدين ايبك الخزندار و بدر الدين السلحدار فضبطوا القلعة و بعثوا إلى الناصر محمد بن قلاون بالكرك يستدعونه للملك فاعتزم طقجي على الجلوس على التخت و اتفق وصول الأمراء الذين كانوا بحلب منصرفين من غزاة سيس و فيهم سيف الدين كرجي و شمس الدين سرقنشاه و مقدمهم بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح فأشار الأمراء على طقجي بالركوب للقائهم فأنف أولا ثم ركب و لقيهم و سألوه عن السلطان فقال قتل فقتلوه و كان كرجي عند القلعة فركب هاربا و أدرك عند القرافة و قتل و دخل بكتاش و الأمراء للقلعة لحول من غزاة سيس ثم اجتمعوا بمصر و كان الأمر دائرا بين سلار و بيبرس و ايبك الجامدار و أقوش الأفرم و بكتمر أمير جندار و كرت الحاجب و هم ينتظرون وصول الناصر من الكرك و كتبوا إلى الأمراء بدمشق بما فعلوه فوافقوا عليه ثم قبضوا على نائبها جاغان الحسامي و تولى ذلك بهاء الدين قرا أرسلان السيفي فاعتقل و مات لأيام قلائل فبعث الأمراء بمصر مكانه سيف الدين قطلو بك المنصوري ثم وصل الناصر محمد بن قلاون إلى مصر في جمادى سنة ثمان و تسعين فبايعوا له و ولى سلار نائبا و بيبرس أستاذ دار و بكتمر الجوكندار أمير جندار و شمس الدين الأعسر وزيرا و عزل فخر الدين بن الخليلي بعد أن كان أقره و بعث على دمشق جمال الدين أقوش الأفرم عوضا عن سيف الدين قطلوبك و استدعاه إلى مصر فولاه حاجبا و بعث على طرابلس سيف الدين كرت و على الحصون سيف الدين كراي و أقر بليان الطباخي على حلب و أفرج عن قرا سنقر المنصوري و بعثه على الضبينة ثم نقله إلى حماة عندما وصله وفاة صاحبها المظفر آخر السنة و خلع على الأمراء و بث العطايا و الأرزاق و استقر في ملكه و بيبرس و سلار مستوليان عليه و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/471)
الفتنة مع التتر
قد كنا قدمنا ما كان من فرار قفجق نائب دمشق إلى غازان و حدوث الوحشة بين المملكتين فشرع غازان في تجهيز العساكر إلى الشام و بعث شلامش بن امال بن بكو في خمسة و عشرين ألفا في عساكر المغل و معه أخوه قطقطو و أمره بالمسير من جهة سيس فسار لذلك ثم حدثته نفسه بالملك فخاضع و طلب الملك لنفسه ابن قزمان أمير التركمان فسار إليه في عشرة آلاف فارس و سار في ستين ألف فارس و سار إلى سيواس فامتنعت عليه و كتب إلى صاحب مصر مع مخلص الرومي يستنجده فبعث إلى نائب دمشق بإنجاده و بلغ الخبر غازان فبعث لقتاله مولاي من أمراء التتر في خمسة و ثلاثين ألف فارس و لحقه إلى سيواس فانتقض عليه العسكر و رجع التتر إلى مولاي و لحق التركمان بالجبال و لحق هو بسيس في فل منه العسكر و سار إلى دمشق ثم إلى مصر و سأل من السلطان لاشين أن يمده بعسكر ينقل به عياله إلى الشام فأمر السلطان نائب حلب أن ينجده على ذلك فبعث معه عسكرا عليهم بكتمر الحلبي و ساروا إلى سيواس فاعترضهم التتر و هزموهم و قتل الحلبي و نجا شلامش إلى بعض القلاع فاستنزله غازان و قتله و استقر أخوه قطقطو و مخلص و أقطع لهما و انتظما في عسكر مصر و الله تعالى أعلم (5/472)
واقعة التتر على الناصر و استيلاء غازان على الشام ثم ارتجاعه منه
قد كنا قدمنا ما حدث من الوحشة بين التتر و بين الترك بمصر و قدمنا من أسبابها ما قدمناه فلما بويع الناصر بلغه أن غازان زاحف إلى الشام فتجهز و قدم العساكر مع قطلبك الكبير و سيف الدين غزار و سار على أثرهم آخر سنة ثمان و سبعين و انتهى إلى غزة فنمي إليه أن بعض المماليك مجمعون للتوثب عليه و أن الأربدانية الذين وفدوا من التتر على كيبغا داخلوهم في ذلك و بينهما هو يستكشف الخبر إذ بمملوك من أولئك قد شهر سيفه و اخترق صفوف العساكر و هم مصطفون بظاهر غزة فقتل لحينه و تتبع أمرهم من الباردة حتى ظهرت حليتها فسبق الأربدانية و مقدمهم طرنطاي و قتل بعض المماليك و حبس الباقون بالكرك و رحل السلطان إلى عسقلان ثم إلى دمشق ثم سار و لقي غازان ما بين سلمية و حمص بمجمع الرموج و معه الكرج و الأرمن في مقدمته أمراء الترك الذين هربوا من الشام و هم قفجق المنصوري و بكتمر السلحدار و فارس الدين البكي و سيف الدين غزار فكانت الجولة منتصف ربيع فانهزمت ميمنة التتر و ثبت غازان ثم حمل على القلب فانهزم الناصر و استشهد كثير من الأمراء و فقد حسام الدين قاضي الحنفية و عماد الدين اسمعيل ابن الأمير و سار غازان إلى حمص فاستولى على الذخائر السلطانية و طار الخبر إلى دمشق فاضطرب العامة و ثار الغوغاء و خرج المشيخة إلى غازان يقدمهم بدر الدين بن جماعة و تقي الدين بن تيمية و جلال الدين القزويني و بقي البلد فوضى و خاطب المشيخة غازان في الأمان فقال قد خالفكم إلى بلدكم كتاب الأمان و وصل جماعة من أمرائه فيهم اسمعيل ابن الأمير و الشريف الرضي و قرأ كتاب الأمان و يسمونه بلغاتهم الفرمان و ترجل الأمراء بالبساتين خارج البلد و امتنع علم الدين سلحدار بالقلعة فبعث إليه اسمعيل يستنزله بالأمان فامتنع فبعث إليه المشيخة من أهل دمشق فزاد امتناعا و دس إليه الناصر بالتحفظ و أن المدد على غزة و وصل قفجق بكتمر فنزلوا الميدان و بعثوا إلى سنجر صاحب القلعة في الطاعة فأساء جوابهم و قال لهم أن السلطان وصل و هزم عساكر التتر التي اتبعته و دخل قفجق إلى دمشق فقرأ عهد غازان له بولاية دمشق و الشام جميعا و جعل إليه ولاية القضاء و خطب لغازان في الجامع و انطلقت أيدي العساكر في البلد بأنواع جميع العيث و كذا في الصالحية و القرى التي بها و المزة و داريا و ركب ابن تيمية إلى شيخ الشيوخ نظام الدين محمود الشيباني و كان نزل بالعادلية فأركبه معه إلى الصالحية و طردوا منها أهل العيث و ركب المشيخة إلى غازان شاكين فمنعوا من لقائه حذرا من سطوته بالتتر فيقع الخلاف و يقع و بال ذلك على أهل البلد فرجعوا إلى الوزير سعد الدين و رشد الدين فأطقوا لهم الأسرى و السبي و شاع في الناس أن غازان أذن للمغل في البلد و ما فيه ففزع الناس إلى شيخ الشيوخ و فرضوا على أنفسهم أربعمائة ألف درهم مصانعة له على ذلك و أكرهوا على غرمها بالضرب و الحبس حتى كلت و نزل التتر بالمدرسة العادلية فأحرقها أرجواش نائب القلعة و نصب المنجنيق على القلعة بسطح جامع بني أمية فأحرقوه فأعيد عمله و كان المغل يحرسونه فانتهكوا حرمة المسجد بكل محرم من غير استثناء و هجم أهل القلعة فقتلوا النجار الذي كان يصنع المنجنيق و هدم نائب القلعة أرجواش ما كان حولها من المساكن و المدارس و الأبنية و دار السعادة و طلبوا مالا يقدرون عليه و امتهن القضاة و الخطباء و عطلت الجماعات و الجمعة و فحش القتل و السبي و هدمت دار الحديث و كثير من المدارس ثم قفل إلى بلده بعد أن ولى على دمشق و الشام قفجق و على حماة و حمص بكتمر السلحدار و على صفد و طرابلس و الساحل فارس الدين البكي و خلف نائبه قطلوشاه في ستين ألف حامية للشام و استصحب وزيره بدر الدين بن فضل الله و شرف الدين ابن الأمير و علاء الدين بن القلانسي و حاصر قطلوشاه القلعة و امتنعت عليه فاعتزم على الرحيل و جمع له قفجق الأوغاد في جمادى من السنة و بقي قفجق منفردا بأمره فأمن الناس بعض الشيء و أمر مماليكه و رجعت عساكر التتر من اتباع الترك بعد أن وصلوا إلى القدس و غزة و الرملة و استباحوا و نهبوا و قائدهم يومئذ مولاي من أمراء التتر فخرج إليه ابن تيمية و استوهبه بعض الأسرى فأطلقهم و كان الملك الناصر لما وصل إلى القلعة و وصل معه كيبغا العادل و كان حضر معه المعركة من محل نيابته بصرخد فلما وقعت الهزيمة سار مع السلطان إلى مصر و بقي في خدمة النائب سلار و جرد السلطان العساكر و بث النفقات و سار إلى الصالحية و بلغه رحيل غازان من الشام و وصل إليه بليان الطباخي نائب حلب على طريق طرابلس و جمال الدين الأفرم نائب دمشق و سيف الدين كراي نائب طرابلس و اتفق السلطان في عساكرهم و بلغه أن قطلوشاه نائب غازان رحل من الشام على أثر غازان فتقدم بيبرس و سار في العساكر و وقعت المراسلة بينه و بين قفجق و بكتمر و البكي فأذعنوا للطاعة و وصلوا إلى بيبرس و سلار فبعثوا بهم إلى السلطان و هو في الصالحية في شعبان من السنة فركب للقائهم و بالغ في تكرمتهم و الاتطاع لهم و ولى قفجق على الشوبك و رحل عائدا إلى مصر و دخل بيبرس و سلار إلى مصر و قرروا و في ولايتها جمال الدين أقوش الإفرم بدمشق و في نيابة حلب قرا سنقر المنصوري الجوكندار لاستعفاء بليان الطباخي عنها و في طرابلس سيف الدين قطلبك و في حماة كيبغا العادل و في قضاء دمشق بدر الدين بن جماعة لوفاة إمام الدين بن سعد الدين القزويني و عاد بيبرس و سلار إلى مصر منتصف شوال و عاقب الأفرم كل من استخدم للتتر من أهل دمشق و أغزى عساكره جبل كسروان و الدرزية لما نالوا من العسكر عند الهزيمة و ألزم أهل دمشق بالرماية و حمل السلاح و فرضت على أهل دمشق و مصر الأموال عن بعث الخيالة و المساكن لأربعة أشهر و ضمان للقرى و كثر الأرجاف سنة سبعمائة بحركة التتر فتوجه السلطان إلى الشام بعد أن فرض على الرعية أموالا و استخرجها لتقوية عساكره و أقام بظاهر غزة أياما يؤلف فيها الأمصار ثم بعث ألفي فارس إلى دمشق و عاد إلى مصر منسلخ ربيع الآخر و جاء غازان بعساكره و أجفلت الرعايا أمامه حتى ضاقت بهم السبل و الجهات فنزل ما بين حلب و مرس و نازلها و اكتسح البلاد إلى إنطاكية و جبل السمر و أصابهم هجوم البرد و كثرة الأمطار و الوحل و انقطعت الميرة عنهم و عدمت الأقوات و صوعت المراعي من كثرة الثلج و ارتحلوا إلى بلادهم و كان السلطان قد جهز العساكر كما قلنا إلى الشام صحبة بكتمر السلحدار نائب صفد و ولى مكانه سيف الدين فنحاص المنصوري ثم وقعت المراسلة بين السلطان الناصر و بين غازان و جاءت كتبه و بعث الناصر كتبه و رسله و ولى السلطان على حمص فارس الدين البكي و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/473)
وفاة الخليفة الحاكم و ولاية ابنه المستكفي و الغزاة إلى الغرب بالصعيد
ثم توفي الخليفة الحاكم بأمر الله أحمد وهو الذي ولاه الظاهر و بايع له سنة ستين فتوفي سنة إحدى و سبعمائة لإحدى و أربعين سنة من خلافته و قد عهد لابنه أبي الربيع سليمان فبايع له الناصر و لقبه المستكفي و ارتفعت شكوى الرعايا في الصعيد من الأعراب و كثر عيثهم فجهز السلطان العساكر مع شمس الدين قرا سنقر فاكتسحهم و راجعوا الطاعة و قرر عليهم مالا حملوه ألف ألف و خمسمائة ألف درهم و ألف فرس واحدا و ألفي جمل اثنين و عشرة آلاف ألف رأس من الغنم و أظهروا الاستكانة ثم أظهروا النفاق فسار إليهم كافل المملكة سلار و بيبرس في العساكر فاستلحموهم و أبادوهم و أصابوا أموالهم و نعمهم و رجعوا و استأذن بيبرس في قضاء فرضه فخرج حاجا و كان أبو نمى أمير مكة قد توفي و قام بأمره في مكة ابناه رميثة و خميصة و اعتقلا أخويهما عطيفة و أبا الغيث فنقبا السجن و جاءا إلى بيبرس مستعديين على أخويهما فقبض عليهما بيبرس و جاء بهما إلى القاهرة و في سنة ستين و سبعمائة بعدها خرجت الشواني مشحونة بالمقاتلة إلى جزيرة أرواد في بحر طرطوس و بها جماعة من الإفرنج قد حصنوها و سكنوها فملكوها و أسروا أهلها و خربوها و أذهبوا آثارها و الله تعالى ولي التوفيق (5/476)
تقرير العهد لأهل الذمة
حضر في سنة سبعمائة وزير من المغرب في غرض الرسالة فرأى حال أهل الذمة و ترفهم و تصرفهم في أهل الدولة فنكره و قبح ذلك و اتصل بالسلطان نكيره فأمر بجمع الفقهاء للنظر في الحدود التي تقف عندها أهل الذمة بمقتضى عهود المسلمين لهم عند الفتح و أجمع الملاء فيهم على ما نذكر و هو أن يميز بين أهل الذمة بشعار يخصهم فالنصارى بالعمائم السود و اليهود بالصفر و النساء منهن بعلامات تناسبهن و أن لا يركبوا فرسا و لا يحملوا سلاحا و إذا ركبوا الحمير يركبونها عرضا و يتنحون وسط الطريق و لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت المسلمين و لا يعلوا بناءهم على بناء المسلمين و لا يظهروا شعائرهم و لا يضربوا بالنواقيس و لا ينصروا مسلما و لا يهودوه و لا يشتروا من الرقيق مسلما و لا من سباه مسلم و لا من جرت عليه سهام المسلمين و من دخل منهم الحمام يجعل في عنقه جرسا يتميز به و لا ينقشوا فص الخاتم بالعربي و لا يعلموا أولادهم القرآن و لا يخدموا في أعمالهم الشاقة مسلما و لا يرفعوا النيران و من زنا منهم بمسلمة قتل و قال البترك بحضرة العدول حرمت على أهل ملتي و أصحابي مخالفة ذلك و العدول عنه و قال رئيس اليهود أوقعت الكلمة على أهل ملتي و طائفتي و كتب بذلك إلى الأعمال و لنذكر في هذا الموضع نسخة كتاب عمر بالعهد لأهل الذمة بعد كتاب نصارى الشام و مصر إليه و نصه هذا الكتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى أهل الشام و مضر لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا و ذرارينا و أموالنا و أهل ملتنا و شرطنا على أنفسنا أن لا تحدث في مدائننا و لا فيما حولها ديرا و لا كنيسة و لا علية و لا صومعة راهب و لا نجدد ما خرب منها و لا ما كان في خطط و أن نوسع أبوابنا للمارة و لبني السبيل و أن ننزل من مر بنا من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم و لا نؤوي في كنائسنا و لا في منازلنا جاسوسا و لا نكتم عيبا للمسلمين و لا نعلم أولادنا القرآن و لا نظهر شرعنا و لا ندعو إليه أحدا و لا نمنع أحد من ذي قرابتنا الدخول في دين الإسلام إن أرادوه و أن نوقر المسلمين و نقوم لهم في مجالسنا إذا أرادوا الجلوس و لا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة و لا عمامة و لا نعلين و لا فرق شعر و لا نتسمى بأسمائهم و لا نتكنى بكناهم و لا نركب السروج و لا نتقلد بالسيوف و لا نتخذ شيئا من السلاح و لا نحمله معنا و لا ننقش على خواتمنا بالعربية و أن نجز مقدم رؤسنا و نكرم نزيلنا حيث كنا و أن نشد الزنانير على أوساطنا و لا نظهر صلباننا و لا نفتح كنفنا في طريق المسلمين و لا أسواقهم و لا نضرب بنواقيسنا في شيء من حضرة المسلمين و لا نخرج شعانيننا و لا طواغيتنا و لا نرفع أصواتنا مع موتانا و لا نوقد النيران في طرق المسلمين و لا أسواقهم و لا نجاورهم بموتانا و لا نتخذ من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين و لا نطلع في منازلهم و لا نعلي منازلنا فلما أتى عمر بالكتاب زاد فيه و لا نضرب أحدا من المسلمين شرطنا ذلك على أنفسنا و أهل ملتنا و قبلنا عليه الأمان فإن نحن خلفنا في شيء مما شرطنا لكم علينا و ضمناه على أنفسنا و أهل ملتنا فلا ذمة لنا عليكم و قد حل بنا ما حل بغيرنا من أهل المعاندة و الشقاق فكتب عمر رضي الله عنه أمض ما سألوه و أحلق فيه حرفا اشترطه عليهم مع ما اشترطوه من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده و على أحكام هذا الكتاب جرت فتاوى الفقهاء في أهل الذمة نصا و قياسا و أما كنائسهم فقال أبو هريرة أمر عمر بهدم كل كنيسة استحدثت بعد الهجرة و لم يبق إلا ما كان قبل الإسلام و سير عروة بن محمد فهدم الكنائس بصنعاء و صالح القبط على كنائسهم و هدم بعضها و لم يبق من الكنائس إلا ما كان قبل الهجرة و في إباحة رمها و إصلاحها لهم خلاف معروف بين الفقهاء و الله تعالى ولي التوفيق (5/476)
إيقاع الناصر بالتتر على شقحب
ثم تواترت الأخبار سنة اثنتين و سبعمائة بحركة التتر و أن قطلوشاه وصل إلى جهة الفرات و أنه قدم كتابه إلى نائب حلب بأن بلادهم محلة و أنهم يرتادون المراعي بنواحي الفرات فخادع بذلك عن قصده و يوهم الرعية أن يجفلوا من البسائط ثم وصلت الأخبار بإجازتهم الفرات فأجفل الناس أمامهم كل ناحية و نزل التتر مرعش و بعث العساكر من مصر مددا لأهل الشام فوصلوا إلى دمشق و بلغهم هنالك أن السلطان قازان وصل في جيوش التتر إلى مدينة الرحبة و نازلها فقدم نائبها قرى و علوفة و اعتذر له بأنه في طاعته إلى أن يرد الشام فإن ظفر به فالرحبة أهون شيء و أعطاه ولده رهينة على ذلك فأمسك عنه و لم يلبث أن عبر الفرات راجعا إلى بلاده و كتب إلى أهل الشام كتابا مطولا ينذرهم فيه أن يستمدوا عسكر السلطان أو يستجيشوه و يخادعهم بلين القول و ملاطفته و تقدم قطلوشاه و جوبان إلى الشام بعساكر التتر يقال في تسعين ألفا أو يزيدون و بلغ الخبر إلى السلطان فقدم العساكر من مصر و تقدم بيبرس كافل المملكة إلى الشأم و السلطان و سلار على إثره و معهم الخليفة أبو الربيع و ساروا في التعبية و دخل بيبرس دمشق و كان النائب بحلب
قرا سنقر المنصوري و قد اجتمع إليه كيبغا العادل نائب حماة و أسد الدين كرجي نائب طرابلس بمن معهم من العساكر فأغار التتر على القرينين و بها أحياء من التركمان كانوا أجفلوا أمامهم من الفرات فاستاقوا أحياءهم بما فيها و اتبعهم العساكر من حلب فأوقعوا بهم و استخلصوا أحياء التركمان من أيديهم و زحف قطلوشاه و جوبان بجموعهما إلى دمشق يظنان أن السلطان لم يخرج من مصر و العساكر و المسلمون مقيمون بمرج الصفر و هو المسمى بشقحب مع ركن الدين بيبرس و نائب دمشق أقوش الأفرم ينتظرون وصول السلطان فارتابوا لزحف التتر و تأخروا عن مراكزهم قليلا و ارتاعت الرعايا من تأخرهم فأجفلوا إلى نواحي مصر و بينما هم كذلك إذ وصل السلطان في عساكره و جموعه غرة رمضان من السنة فرتب مصافه و خرج لقصدهم فالتقى الجمعان بمرج الصفر و حمل التتر على ميمنة السلطان فثبت الله أقدامهم و صابروهم إلى أن غشيهم الليل و استشهد جماعة في الجولة ثم انهزم التتر و لجأوا إلى الجبل يعتصمون به و اتبعهم السلطان فأحاط بالجبل إلى أن أظل الصباح و شعر المسلمون باستماتتهم فأفرجوا لهم من بعض الجوانب و تسلل معظمهم مع قطلوشاه و جوبان و حملت العساكر الشامية على من بقي منهم فاستلحموهم و أبادوهم و اتبعت الخيول آثار المنهزمين و قد اعترضتهم الا و حال بما كان السلطان قدم إلى أهل الأنهار بين أيديهم فبثقوها و وحلت خيولهم فيها فاستوعبوهم قتلا و أسرا و كتب السلطان إلى قازان بما يجدد عليه الحسرة و يملأ قلبه رعبا و بعث البشائر إلى مصر ثم دخل إلى دمشق و أقام بها عيد الفطر و خرج لثالثه منها إلى مصر فدخلها آخر شوال في موكب حفل و مشهد عظيم وقر الإسلام بنصره و تيمن بنقيب نوابه و أنشده الشعراء في ذلك و في هذه السنة توفي كيبغا العادل نائب حماة و هو الذي كان ولى الملك بمصر كما تقدم ذكره فدفن بدمشق و توفي أيضا بليان الجوكندار نائب حمص و توفي أيضا القاضي تقي الدين بن دقيق العيد بمصر لولايته ست سنين بها و ولى مكانه بدر الدين بن جماعة و هلك قازان ملك التتر يقال أصابته حمى حادة للهزيمة التي بلغته فهلك و ولى أخوه خربندا و فيها أفرج السلطان عن رميثة و حميصة ولدى الشريف أبي نمى و ولاهما بدلا من أخويهما عطيفة و أبي الغيث و الله تعالى أعلم (5/478)
أخبار الأرمن ـ أخبار الأرمن و غزو بلادهم و ادعاؤهم الصلح ثم مقتل ملكهم صاحب سيس على يد التتر
قد كان تقدم لنا ذكر هؤلاء الأرمن و انهم و إخوتهم الكرج من ولد قويل بن ناحور بن آرز و ناحور أخوا إبراهيم عليه السلام و كانوا أخذوا بدين النصرانية قبل الملة و كانت مواطنهم أرمينية و هي منسوبة إليهم و قاعدتها خلاط و هي كرسي ملكهم و يسمى ملكهم النكفور ثم ملك المسلمون بلادهم و ضربوا الجزية على من بقي منهم و اختلف عليهم الولاة و نزلت بهم الفتن و خرجت خلاط فانتقل ملكهم إلى سيس عند الدروب المجاورة لحلب و انزووا إليها و كانوا يؤدون الضريبة للمسلمين و كان ملكهم لعهد نور الدين العادل قليج بن اليون و هو صاحب ملك الدروب و استخدم للعادل و أقطع له ملك المصيصة و أردن و طرسوس من يد الروم و أبقاه صلاح الدين بعد العادل نور الدين على ما كان عليه من الخدمة و غدر في بعض السنين بالتركمان فغزاهم صلاح الدين و أخنى عليهم حتى أذعنوا و رجع إلى حاله من أداء الجزية و الطاعة و حسن الجوار بثغور حلب ثم ملكهم لعهد الظاهر هيثوم بن قسطنطين ابن يانس و يظهر أنه من أعقاب قليج أو من أهل بيته و لما ملك هلاكو العراق و الشام دخل هيثوم في طاعته و أقره على سلطانه و أجلب مع التتر في غزواتهم على الشام وغزا سنة اثنتين و ستين صاحب بلاد الروم من التتر و استنفر معه بني كلاب من أعراب حلب و عاثوا في نواحي عنتاب ثم ترهب هيثوم بن قسطنطين و نصب ابنه للملك و بعث الظاهر العساكر سنة أربع و ستين و معه قلاون المنصور صاحب حماة إلى بلادهم فلقيهم ليون في جموعه قبل الدربند فانهزم و أسرو خرب العساكر مدينة سيس و بذل هيثوم الأموال و القلاع في فداء ابنه ليون فشرط عليه الظاهر أن يستوهب سنقر الأشقر و أصحابه من أبغا بن هلاكو و كان هلاكو أخذهم من سجن حلب فاستوهبهم و بعث بهم و أعطى خمسا من القلاع منها رغبان و مرزبان لما توفي هيثوم سنة تسع و ستين و ملك بعده ابنه ليون و بقي الملك في عقبه و كان بينهم و بين الترك نفرة و استقامة لقرب جوارهم من حلب و الترك يرددون العساكر إلى بلادهم حتى أجابوا بالصلح على الطاعة و الجزية و شحنة التتر مقيم عندهم بالعساكر من قبل شحنة بلاد الروم و لما توفي ليون ملك بعده ابنه هيثوم و وثب عليه أخوه سنباط فخلعه و حبسه بعد أن سمل عينه الواحدة و قتل أخاهما الأصغر يروس و نازلت عساكر الترك لعهده قلعة حموض من قبل العادل كيبغا فاستضعف الأرمن سنباط و هموا به فلحق بالقسطنطينية و قدموا عليهم أخاه رندين فصالح المسلمين و أعطاهم مرعش و جميع القلاع على جيحان و جعلوهم تخما و رجعت العساكر عنهم ثم أفرج رندين عن أخيه هيثوم الأعور سنة تسع و ستين فأقام معه قليلا ثم وثب برندين ففر إلى القسطنطينية و أقام هيثوم بسيس في ملك الأرمن و قدم ابن أخيه تروس معسول أتابكا و استقامت دولته فيهم و سار مع قازان في وقعته مع الملك الناصر فعاث الأرمن في البلاد و استردوا بعض قلاعهم و خربوا تل حمدون فلما هزم الناصر التتر سنة اثنتين و سبعمائة بعث العساكر إلى يلادهم فاسترجعوا القلاع و ملكوا حمص و اكتسحوا بسائط سيس و ما إليها و منع الضريبة المقررة عليهم فأنفذ نائب حلب قراسنقر المنصوري سنة سبع و ستمائة العساكر إليهم مع أربعة من الأمراء فعاثوا في بلادهم و اعترضهم شحنة التتر بسيس فهزموهم و قتل أميرهم و أسر الباقون و جهز العساكر من مصر مع بكتاش الفخري أمير سلاح من بقية البحرية و انتهوا إلى غزة و خشي هيثوم مغبة هذه الحادثة فبعث إلى نائب حلب بالجزية التي عليهم لسنة خمس و قبلها و توسل بشفاعته إلى السلطان فشفعه و أمنه و كان شحنة التتر ببلاد الروم لهذا العهد أرفلي و كان قد أسلم لما أسلم ابغا و بنى مدرسة بأذنة و شيد فيها مئذنة ثم حدث بينه و بين هيثوم صاحب سيس وحشة فسعى فيه هيثوم عند خربندا ملك التتر بأنه مداخل لأهل الشام و قد واطأهم على ملك سيس و ما إليهما و استشهد له بالمدرسة و المئذنة و كتب بذلك إلى أرفلي بعض قرابته فأسرها في نفسه و اغتاله في صنيع دعاه إليه و قبض على وافد من مماليك الترك كان عند هيثوم من قبل نائب حلب يطلب الجزية المقررة عليه و هو أيدغدي الشهر زوري و لم يزل في سجن التتر إلى أن فر من محبسه بتوزير سنة عشر و سبعمائة و نصب لمللك سيس أوشني بن ليون و سار ارفلي إلى خربندا فسابقه ألتاق أخو هيثوم بنسائه و ولده مستعدين عليه فتفجع لهم خربندا وسط أرفلي و قتله وأقر أوشين أخاه في ملكه لسيس فبادر إلى مراسلة الناصر بمصر و تقرير الجزية عليه كما كانت و ما زال يبعثها مع الأحيان و الله تعالى أعلم (5/480)
مراسلة ملك المغرب و مهاداته
كان ملك المغرب الاقصى من بني مرين المتولين أمره من بعد الموحدين و هو يوسف بن يعقوب بن عبد الحق قد بعث إلى السلطان الناصر سنة أربع و سبعمائة رسوله علاء الدين أيدغدي الشهرزوري من الشهر زورية المقربين هنالك أيام الظاهر بيبرس و معه هدية حافلة من الخيل و البغال و الإبل و كثير من ماعون المغرب و سائر طرفه من الذهب العين في ركب عظيم من المغاربة ذاهبين لقضاء فرضهم فقابلهم السلطان بأبلغ وجوه التكرمة و بعث معهم أميرا لإكرامهم و قراهم في طريقهم حتى قضوا فرضهم و عاد الرسول أيدغدي المذكور من حجه سنة خمس فبعث السلطان معه مكافأة هديتهم بما يليق بها من النفاسة و عين لذلك أميرين من بابه أيدغدي البابلي و أيدغدي الخوارزمي كل منهما لقبه علاء الدين فانتهوا إلى يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان كما هو في ربيع الآخر سنة ست قابلهم بما يجب لهم و لمرسلهم و أوسع لهم في الكرامة و الحباء و بعثهم إلى ممالكه بفاس و مراكش ليتطوفا بها و يعاينا مسرتها و هلك يوسف بن يعقوب بمكانه من حصار تلمسان و انطلق الرسولان المذكوران من فاس راجعين من رسالتهما في رجب سنة سبع في ركب عظيم من أهل المغرب اجتمعوا عليهم لقصد الحج و لقوا السلطان أبا ثابت البزولي من بعد يوسف بن يعقوب في طريقهم فبالغ في التكرمة و الإحسان إليهم و بعث إلى مراسلهم الملك الناصر بهدية أخرى من الخيل و البغال و الإبل ثم مروا بتلمسان و بها أبو زيان و أبو حموابنا عثمان بن يغمراس فلم يصرفا إليهما وجها من القبول و طلبا منهما خفير يخفرهما إلى تخوم بلادهما لما كانت نواحي تلمسان قد اضطربت بعد مهلك يوسف بن يعقوب و ما كان من شأنه فبعث معهما بعض العرب فلم يغن عنهم و اعترضهم في طريقهم أشرار على الركب بما فيه و نهبوا جميع الحجاج و رسل الملك الناصر معهم و خلصوا برؤوسهم إلى الشيخ بمر بن زغلي بني يزيد بن زغبة بوطن حمزة بنواحي بجاية فأوصلهم إلى السلطان بجباية أبي البقاء خالد من ولد الأمير أبي زكريا يحيى ابن عبد الواحد بن أبي حفص ملوك أفريقية فكساهم و حملهم إلى حضرة تونس و بها السلطان أبو عصيدة محمد بن يحيى الواثق من بني عمه فبالغ في تكرمتهم و سافر معهم إبراهيم ابن عيسى من بني و سنار أحد أمراء بني مرين كان أميرا على الغراة بالأندلس و خرج لقضاء فرضه فمر بتونس و استنهضه سلطانهم على الإفرنج بجزيرة جربة فسار إليها بقومه و معه عبد الحق بن عمر بن رحو من أعيان بني مرين و كان الشيخ أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني يحاصرها في عسكر تونس فأقام معهم مدة ثم استوحش أبو يحيى اللحياني من سلطانه بتونس فلحق بطرابلس و ساروا جميعا إلى مصر و تقدم السلطان بإكرامهم حتى قضوا فرضهم و عادوا إلى المغرب و استمد أبو يحيى اللحياني السلطان الناصر فأمده بالأموال و المماليك و كان سببا لإستيلائه على الملك بتونس كما نذكره في أخباره أن شاء الله تعالى (5/481)
وحشة الناصر من كافليه بيبرس و سلار و لحاقه بالكرك و خلعه و البيعة لبيبرس
ثم عرضت وحشة بين السلطان الناصر و بين كافلية بيبرس و سلار سنة سبع فامتنع من العلامة على المراسم و ترددت بينه و بينهم السعاة بالعتاب و ركب بعض الأمراء في ساحة القلعة من جوف الليل و دافعهم الحامية في جوف الليل و افترقوا و امتعض السلطان لذلك و إزداد وحشة ثم سعى بكتمر الجوكندار في إصلاح الحال و حمل السلطان على تغريب بعض الخواص من مماليكه إلى القدس بيبرس ينسب إليهم هذه الفتنة و نشأتها من أجلهم ففر بهم السلطان و أعتب الأميرين ثم أعيد الموالي من القدس إلى محلهم من خدمتهم و اتهم السلطان الجوكندار في سعايته فسخطه و أبعده و بعثه نائبا عن صفد ثم غص بما هو فيه من الحجر و الإستبداد و طلب الحج فهجره بيبرس و سلار و سار على الكرك سنة ثمان و ودعه الأمراء و استصحب بعضا منهم فلما مر بالكرك دخل القلعة و أخرج النائب جمال الدين أقوش الأشرف إلى مصر و بعث عن أهله و ولده كانوا مع المحمل الحجازي فعادوا إليه من العقبة و صرف الأمراء الذين توجهوا معه و أظهر الإنقطاع بالكرك للعبادة و أذن لهم في إقامة من يصلح لأمرهم فاجتمعوا بدار النيابة و تشاوروا و اتفقوا على أن يكون بيبرس سلطانا عليهم و سلار على نيابته و بايعوا بيبرس في شوال سنة ثمان و لقبوه المظفر و قلده الخليفة أبو الربيع و كتب للناصر بنيابة الكرك و عنيت له إقطاع يختص بها و قام سيف الدين سلار بالنيابة على عادة من قبله و أقر أهل الوظائف و الرتب على مراتبهم و بعث أهل الشام بطاعتهم و استقر بيبرس في سلطانه و الله تعالى أعلم (5/483)
انتقاض الأمير بيبرس و عود الناصر إلى ملكه
و لما دخلت سنة تسع هرب بعض موالي الناصر فلحقوا بالكرك و قلق الظاهر بيبرس المظفر و بعث في أثرهم فلم يدركوهم و اتهم آخرون فقبض عليهم و نشأت الوحشة لذلك و اتصلت المكاتبة من الأمراء الذين بالشام إلى السلطان بالكرك و خرج من مكانه يريد النهوض إليهم ثم رجع و وصل كتاب نائب دمشق أقوش الافرم فسكن الحال و بعث الجاشنكير بيبرس إلى السلطان برسالة مع الأمير علاء الدين مغلطاي أيدغلي و قطلو بغا تتضمن الأرجاف فثارت لها حفائظه و عاقب الرسولين و كاتب أمراء الشام يتظلم من بيبرس و أصحابه بمصر و يقول سلمت لهم في الملك و رضيت بالضنك رجاء الراحة فلم يرجعوا عني و بعثوا إلي بالوعيد و أنهم فعلوا ما فعلوا بأولاد المعز أيبك و بيبرس الظاهر و مثل ذلك من القول و يستنجدهم و يمت إليهم بوسائل التربية و العتق في دفاع هؤلاء عنه و إلا لحقت ببلاد التتر و بعث بهذه الرسالة مع بعض الجند كان مستخدما بالكرك من عهد أقوش الاشرفي و أقام هنالك و كان مولعا بالصيد فاتصل بالسلطان في مصايده و بث إليه ذات يوم شكواه فقال أنا أكون رسولك إلى أمراء الشام فبعث إليهم بهذه الرسالة فامتعضوا و أجابوه بالطاعة كما يجب منهم و سار السلطان إلى البلقاء و أرسل جمال الدين أقوش الأفرم نائب دمشق إلى مصر فأخبر الجاشنكير بيبرس بالحال و استمده بالعساكر للدفاع فبعث إليه بأربعة آلاف من العساكر مع كبار الأمراء و أزاح عللهم و أنفق في سائر العساكر بمصر و كثر الأرجاف و شغبت العامة و تعين مماليك السلطان للخروج إلى النواحي إسترابة بمكانهم و وصل الخبر برجوع السلطان من البلقاء إلى الكرك لرأي رآه و استراب لرجعته سائر أصحابه و حاشيته و خاف أن يهجمهم عساكر مصر بما كان يشاع عندهم من اعتزام بيبرس على ذلك ثم دس السلطان إلى مماليكه و شيه إليهم فأجابوه و أعاد الكتاب إلى نواب الشام مثل شمس الدين اقسنقر نائب حلب و سيف الدين نائب حمص فأجابوه بالسمع و الطاعة و بعث نائب حلب ولده إليه و استنهضوه للوصول فخرج من الكرك في شعبان سنة تسع و لحق به طائفة من أمراء دمشق و بعث النائب أقوش أميرين لحفظ الطرقات فلحقا بالسلطان و كتب بيبرس الجاشنكير إلى نواب الشام بالوقوف مع جمال الدين أقوش نائب دمشق و الاجتماع على السلطان الناصر عن دمشق فأعرضوا و لحقوا بالسلطان و سار أقوش إلى البقاع و الشقيف و استأمن إلى السلطان فبعث إليه بالأمان مع أميرين من أكابر أمرائه و سار إلى دمشق فدخلها و هي خالصة يومئذ لسيف الدين بكتمر أمير جامدار جاءه من صفد و هاجر إلى خدمته فتلقاه و جازاه أحسن الجزاء ثم وصل أقوش الأفرم فتلقاه السلطان بالميرة و التكرمة و أقره على نيابه دمشق و اضطربت أمور الجاشنكير بمصر و خرجت طائفة من مماليك السلطان هاربين إلى الشام فسرح في أثرهم العساكر فأدركوهم و نال الهاربون منهم قتلا و جراحة و رجعوا و تجمعت و ثاب العامة و الغوغاء و أحاطوا بالقلعة و جاهروا بالخلعان و قبض على بعضهم و عوقب فلم يزدهم إلا عتوا و تحاملا و ارتاب الجاشنكير لحاله و اجتمع الناس للحلف و حضر الخليفة و جدد عليه و عليهم الحلف و بعث نسخة البيعة لتقرأ بالجامع يوم الجمعة فصاح الناس بهم و هموا أن يحصبوهم على المنبر فرجع إلى النفقة و بذل المال و اعتزم على المسير إلى الشام و قدم أكابر الأمراء فلحقوا بالسلطان من دمشق منتصف رمضان و قدم بين يديه أميرين من أمراء غزة فوصلاها و اجتمعت إليه العرب و التركمان و بلغ الخبر إلى الجاشنكير فجمع إليه شمس الدين سلار و بدر الدين بكتوت الجوكندار و سيف الدين السلحدار و فاوضهم في الأمر فرأوا أن الخرق قد اتسع و لم يبق إلا البدار بالرغبة إلى السلطان أن يقطعه الكرك أو حماة أو صهيون و يتسلم السلطان ملكه فأجمعوا على ذلك و بعثوا بيبرس الدوادار و سيف الدين بهادر بعد أن أشهد الجاشنكير بالخلع و خرج من القلعة إلى أطفيح بمماليكه فلم يستقر بها و تقدم قاصدا أسوان و احتمل ما شاء من المال و الذخيرة و خيول الإصطبل و قام بحفظ القلعة صاحبه سيف الدين سلار و كاتب السلطان يطالعه بذلك و خطب للسلطان على المنابر و دعى باسمه على المآذن و هتف باسمه العامة في الطرقات و جهز سلار سائر شعار السلطنة و وصلت رسل الجاشنكير إلى السلطان بما طلب فأسعفه بصهيون و ردهم إليه بالأمان و الولاية و وافى السلطان عيد الفطر بالبركة و لقيه هنالك سيف الدين سلار و أعطاه الطاعة و دخل السلطان إلى القلعة و جلس باقي العيد بالإيوان جلوسا فخما و استخلف الناس عامة و سأله سلار في الخروج إلى إقطاعه فأذن له بعد أن خلع عليه فخرج ثالث شوال و أقام ولده بباب السلطان ثم بعث السلطان الأمراء إلى أخميم فانتزعوا من الجاشنكير ما كان احتمله من المال و الذخيرة و أوصلوها إلى الخزائن و وصل معهم جماعة من مماليكه كانوا أمراء و اختاروا الرجوع إلى السلطان و ولى السلطان سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جاندار نائبا بمصر و قراسنقر المنصوري نائبا بدمشق و بعث نائبها الأفرم نائبا بصرخد و سيف الدين قفجق نائبا بحلب و سيف الدين بهادر نائبا بطرابلس و خرجوا جميعا إلى الشام و قبض السلطان على جماعة من الأمراء ارتاب بهم و ولى على وزارته فخر الدين عمر بن الخليلي عوضا عن ضياء الدين أبي بكر ثم إنصرف بيبرس الجاشنكير متوجها إلى صهيون و بها بهادر بها الأشجعي موكل به إلى حيث قصد و رجع عنه الأمراء الذين كانوا عنده إلى السلطان فاستضاف بعضهم إلى مماليكه و اعتقل بعضهم ثم بدا للسلطان في أمره و بعث إلى قراسنقر و بهادر و هما مقيمان بغزة و لم ينفصلا إلى الشام أن يقبضا عليه فقبضا عليه و بعثا به إلى القلعة آخر ذي القعدة فاعتقل و مات هنالك و الله تعالى ولي التوفيق (5/483)
خبر سلار ومآل أمره
لما انتقل السلطان إلى ملكه بمصر و كان لسلار من السعي في أمره و تمكين سلطانه ما ذكرناه و كانت له سوء بال عند السلطان يعتني برعيها له و كانت الشويك من أقطاعه فرغب إلى السلطان في المسير إليها و التخلي فيها فأذن له و خلع عليه و زاده في أقطاعه و أقطاع مماليكه و اتبعه مائة من الطواشية بأقطاعهم و سار من مصر إلى الشويك في شوال سنة ثمان و سبعمائة ثم بعث له داود المقسور بالكرك مضافا إلى الشويك و باللواء و بخلعة مذهبة و مركب ثقيل و منطقة مجوهرة و أقام هنالك فلما كانت سنة عشر بعدها نمى إلى السلطان عن جماعة من الأمراء أنهم معتزمون على الثورة و فيهم أخو سلار فقبض عليهم جميعا و على شيع سلار و حاشيته الذين بمصر و بعث علم الدين الخوالي لاستقدامه من الكرك تأنيساله و تسكينا فقدم في ربيع من السنة و اعتقل إلى أن هلك في معتقله و استصفيت أمواله و ذخائره بمصر و الكرك و كانت شيئا لا يعبر عنه من الأموال و الفصوص و اللآلي و الدروع و الكراع و الإبل و يقال أنه كان يغل كل يوم من أقطاعه و ضياعه ألف دينار و أما أوليته فإنه لما خلص من أسر التتر صار مولى لعلاء الدين علي بن المنصور قلاون و لما مات صار لأبيه قلاون ثم لابنه الأشرف ثم لأخيه محمد بن الناصر و ظهر في دولهم كلها و كان بينه و بين لاشين مودة فاستخدم له و عظم في دولته متقربا في المراكب متحريا لمحبة السلطان إلى أن انقرض أمره و يقال أنه لما احتضر في محبسه قيل له قد رضي عنك السلطان فوثب قائما و مشى خطوات ثم مات و الله أعلم (5/486)
انتقاض النواب بالشام و مسيرهم إلى التتر و ولاية تنكز على الشام
كان قفجق نائب حلب قد توفي بعد أن ولاه السلطان فنقل مكانه إلى حلب الكرجي من حماة سنة عشر فتظلم الناس منه فقبض عليه و نقل إليها قراسنقر المنصوري من نيابة دمشق و ولى مكانه بدمشق سيف الدين كراي المنصوري سنة إحدى عشرة ثم سخطه و اعتقله و ولى مكانه بدمشق جمال الدين أقوش الأشرفي نقله إليها من الكرك و توفي بها محمد نائب طرابلس فنقل إليها أقوش الأفرم من صرخد ثم قبض على بكتمر الجوكندار نائب مصر و حبسه بالكرك و جعل مكانه في الثانية بيبرس الدوادار ثم ارتاب قراسنقر نائب حلب فهرب إلى البرية و اجتمع مع مهنا بن عيسى و يقال أنه استأذن السلطان في الحج فأذن له فلما توسط البرية استوعرها فرجع فمنعه الأمراء الذين بحلب من دخولها إلا بإذن السلطان فرجع إلى الفرات و بعث مهنا بن عيسى شافعا له عند السلطان فقبله ورده إلى نيابة حلب ثم بلغ السلطان أن خربندا ملك التتر زاحف إلى الشام فجهز العساكر من مصر و تقدم إلى عساكر الشام بأن يجتمعوا معهم بحمص فارتاب قراسنقر و خرج من حلب و عبر الفرات ثم راجع نفسه و استأمن السلطان على أن يقيم بالفرات فأقطعه السلطان الشويك يقيم بها فلم يفعل و بقي بمكان من الفرات مع مهنا بن عيسى ثم ارتاب جماعة من الأمراء فلحقوا به و فيهم أقوش الأفرم نائب طرابلس و أمضوا عزمهم عل اللحاق بخربندا فوصلوا إلى ماردين فتلقاهم صاحبها بالكرامة وحمل إليهم تسعين ألف درهم و رتب لهم الأتاوات ثم ساروا إلى خلاط أن جاءهم إذن خربندا فساروا إليه و استحثوه للشام و بلغ الخبر إلى السلطان فأتهم الأمراء الذين في خدمته بالشام بمداخلة قراسنقر و أصحابه فاستدعاهم و بعث على حلب سيف الدين مكان قراسنقر و على طرابلس بكتمر الساقي مكان أقوش و بعث على العرب فضل بن عيسى مكان أخيه مهنا و وصل الأمراء إلى مصر فقبض عليهم جميعا و على أقوش الأشرفي نائب دمشق و ولى مكانه تنكز الناصري سنة اثنتي عشرة و جعل له الولاية على سائر الممالك الإسلامية و قبض على نائبه بمصر بيبرس الدوادار و حبسه بالكرك و ولى مكانه أرغون الدوادار و عسكر بظاهر القلعة و ارتحل بعد عيد الفطر من السنة فلقيه الخبر أثناء طريقه بأن خربندا وصل إلى الرحبة و نازلها و انصرف عنها راجعا فانكفأ السلطان إلى دمشق و فرق العساكر بالشام ثم سار إلى الكرك و اعتزم على قضاء فرضه تلك السنة و خرج حاجا من الكرك و رجع سنة ثلاث عشرة إلى الشام و بعث إلى مهنا بن عيسى يستميله و عاد الرسول بامتناعه ثم لحق سنة ست عشرة بخرابندا و أقطعه بالعراق و أقام هنالك فلم يرجع إلا بعد مهلك خربندا و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/486)
رجوع حماة إلى بني المظفر شاهنشاه بن أيوب ثم لبني الأفضل منهم و إنقراض أمرهم
قد كان تقدم لنا أن حماة كانت من أقطاع تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب أقطعه إياها عمه صلاح الدين بن أيوب سنة أربع و سبعين و خمسمائة فلم تزل بيده إلى أن توفي سنة سبع و ثمانين و خمسمائة فأقطعها ابنه ناصر الدين محمدا و لقبه المنصور و توفي سنة سبع عشرة و ستمائة بعد عمه صلاح الدين و العادل فوليها ابنه قليح أرسلان و يلقب الناصر سنة ست و عشرين و كان أخوه المظفر ولي عهد أبيه عند الكامل بن العادل فجهزه بالعساكر من دمشق و ملكها من يد أخيه و أقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث و أربعين و ولي ابنه محمد و يلقب المنصور و لم يزل في ولايتها إلى أن سار يوسف بن العزيز ملك الشام من بني أيوب هاربا إلى مصر أيام التتر فسار معه المنصور صاحب حماة و أخوه الأفضل ثم خشي من الترك بمصر فرجع إلى هلاكو و استمر المنصور إلى مصر فأقام بها و ملك هلاكو الشام و قتل الناصر و سائر بني أيوب كما مر ثم سار قطز إلى الشام عندما رجع هلاكو عنه عندما شغل عنه بفتنة قومه فارتجعه من ملكة التتر و ولى على قواعده و أمصاره و رد المنصور إلى حماة فلم يزل واليا عليها و حضر واقعة على التتر بحمص سنة ثلاثين و كان يتردد إلى مصر سائر أيامه و يخرج مع البعوث إلى بلاد الأرمن و غيرها و يعسكر مع ملوك مصر متى طلبوه لذلك ثم توفي ثلاث و ثمانين و أقر قلاون ابنه المظفر على ما كان أبوه و جرى هو معهم على سننه إلى أن توفي سنة ثمان و تسعين عندما بويع الناصر محمد بن قلاون بعد لاشين و انقطع عقب المنصور فولى السلطان عليها قراسنقر من أمراء الترك نقله إليها من الضبينة و أمره باستقرار بني أيوب و سائر الناس على أقطاعاتهم ثم كان استيلاء قازان على الشام و رجوعه سنة تسع و تسعين و مسير بيبرس و سلار و انتزاع الشام من التتر و كان كيبغا العادل الذي ملك مصر و خلعه لاشين نائبا بصرخد فجلا في هذه الوقائع و تنصح لبيبرس و سلار و حضر معهم بدمشق فولوه على حماة و غزا بالعساكر بلاد الأرمن و حضر هزيمة التتر مع الناصر سنة اثنتين و سبعمائة فرجع إلى حماة فمات بها و ولى السلطان بعده سيف الدين قفجق استدعاه إليها من أقطاعه بالشويك و كان الأفضل علاء الدين أخو المنصور صاحب حماة توفي أيام أخيه المنصور و خلف ولدا إسمه إسمعيل و لقبه عماد الدين و نشأ في دولتهم عاكفا على العلم و الأدب حتى توفر منهما حظه و له كتاب في التاريخ مشهور و لما رجع السلطان الناصر من الكرك إلى كرسيه وسطا ببيبرس و سلار راجع نظره في الإحسان إلى أهل هذا البيت و اختار منهم عماد الدين إسمعيل هذا و ولاه على حماة مكان قومه ست عشرة و سبعمائة و كان عند رجوعه إلى ملكه قد ولى نيابة حلب سيف الدين قفجق و جعل مكانه بحماة أيدمر الكرجي و توفي قفجق فنقل أيدمر من حماة إلى حلب مكانه و ولى إسمعيل على حماة كما قلناه و لقبه المؤيد و لم يزل عليها إلى أن توفي سنة اثنتين و ثلاثين و ولى الناصر ابنه الأفضل محمد برغبة أبيه إلى السلطان في ذلك ثم مات الملك الناصر في ذي الحجة سنة إحدى و أربعين و قام بعده بالأمر مولاه قوص و نصب ابنه أبا بكر محمدا فكان أول شيء أحدثه عزل الأفضل من حماة و بعث عليها مكانه صفر دمول النائب و سار الأفضل إلى دمشق فمات بها سنة اثنتين و أربعين و انقرضت إيالة بني أيوب من حماة و البقاء لله وحده لأرب غيره و لا معبود سواه (5/488)
غزو العرب بالصعيد و فتح ملطية و آمد
ثم خرج السلطان سنة ثلاث عشرة فعسكر بالأهرام موريا بالنزهة و قد بلغه ما نزل بالصعيد من عيث العرب و فسادهم في نواحيه و إضرارهم بالسابلة فسرح العساكر في كل ناحية منه و أخذ الهلاك منهم مأخذه إلى أن تغلب عليهم و استباحهم من كل ناحية و شرد بهم من خلفهم ثم سرح العساكر سنة أربع عشرة بعدها إلى ملطية و هي للأرمن و ملكها عنوة وسار لذلك تنكز نائب دمشق بعساكر الشام و ستة من أمراء مصر و نازلوها في محرم سنة خمس عشرة و بها جموع من نصارى الأرمن و العربان و قليل من المسلمين تحت الجزية فقاتلوهم حتى ألقوا باليد و اقتحموها عنوة و استباحوها و جاؤا بملكها مع الأسرى فأبقاه السلطان و أنعم عليه ثم نمي عنه أنه يكاتب ملوك العراق فحبسه ثم بعث السلطان العساكر من حلب سنة خمس عشرة إلى عرقية من أعمال آمد ففتحوها و جاءت العساكر سنة سبع عشرة ثانية إلى آمد ففتحوها و استباحوها و غنموا منها أموالا جمة و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/489)
الولايات
و في سنة خمس عشرة سخط السلطان سيف الدين نمر نائب طرابلس الذي وليها بعد أقوش الأفرم و أمده به و سيق معتقلا إلى مصر و ولى مكانه سيف الدين كستاي ثم هلك فولى مكانه شهاب الدين قرطاي نقله إليها من نيابة حمص سيف الدين أقطاي ثم قبض سنة ثمان عشرة على طغاي الحسامي من الجاشنكيرية و صرف نائبا إلى صفد مكان بكتمر الحاجب ثم سخطه فأحضره معتقلا و حبسه بالاسكندرية و بعث على صفد سيف الدين أقطاي نقله إليها من حمص و بعث على حمص بدر الدين بكتوت القرماني و الله تعالى أعلم (5/489)
العمائر
ابتدأ السلطان سنة إحدى عشرة و سبعمائة ببناء الجامع الجديد بمصر و أكمله و وقف عليه الأوقاف المغلة ثم أمر سنة أربع عشرة ببناء القصر الأبلق من قصور الملك فجاء من أفخر المصانع الملوكية و في سنة ثمان عشرة أمر بتوسعة جامع القلعة فهدم ما حوله من المساكن و زيد فيه إلى الحد الذي هو عليه بهذا العهد ثم أمر في سنة ثلاث و عشرين بعمارة القصور لمنازله بسرياقوس و بنى بازائها الخانقاه الكبيرة المنسوبة إليه و في سنة ثلاث و ثلاثين أمر بعمارة الأيوان الضخم بالقلعة و جعله مجلس ملكه و بيت كرسيه و دعاه دار العدل و الله تعالى أعلم (5/490)
حجاب السلطان
و حج الملك الناصر محمد بن قلاون في أيام دولته ثلاث حجات أولا سنة ثلاث عشرة عند ما إنقرض قراسنقر نائب حلب و أقوش الأفرم نائب طرابلس و مهنا بن عيسى أمير العرب و جاء خربندا إلى الشام و رجع من الرحبة فسار السلطان من مصر إلى الشام و بلغه رجوع خربندا فسار من هناك حاجا و قضى فرضه سنة ثلاث عشرة و رجع إلى الشام ثم حج الثانية سنة تسع عشرة ركب إليها من مصر في أواخر ذي القعدة و معه المؤيد صاحب حماة و الأمير محمد ابن أخت علاء الدين ملك الهند صاحب دلى و لما قضى حجه انطلق الأمير محمد ابن أخت علاء الدين ملك الهند صاحب دلى و لما قضى حجه انطلق الأمير محمد ابن أخت علاء الدين من هناك إلى الهند على اليمن و رجع إلى مصر فأفرج عن رميثة أمير مكة من نبي حسن و عن المعتقلين بمحبسه و وصله و وصلهم ثم حج الثالثة سنة اثنتين و ثلاثين و معه الأفضل بن المؤيد صاحب حماة على عادة أبيه في مراكبة السلطان و قفل من حجه سنة ثلاث و ثلاثين فأمر بعمل باب الكعبة مصفحا بالفضة أنفق فية خمسة و ثلاثين ألف درهم و في منصرفه من هذه الحجة مات بكتمر الساقي من أعظم أمرائه و خواصه و يقال أنه سمه و هو من مماليك بيبرس الجاشنكير و انتقل إلى الناصر فجعله أمير السقاة و عظمت منزلته عنده و لطفت خلته حتى كانا لا يفترقان إما في بيت السلطان و إما في بيته و كان حسن السياسة في الغاية و خلف بعد وفاته من الأموال و الجواهر و الذخائر ما يفوت الحصر و الله تعالى ولي التوفيق بمنه و كرمه (5/490)
أخبار النوبة و إسلامهم
قد تقدم لنا غزو الترك إلى النوبة أيام الظاهر بيبرس و المنصور قلاون لما كان عليهم من الجزية التي فرضها عمرو بن العاص عليهم و قررها الملوك بعد ذلك و ربما كانوا يماطلون بها أو يمتنعون من أدائها فتغزوهم عساكر المسلمين من مصر حتى يستقيموا و كان ملكهم بدنقلة أيام سارت العساكر من عند قلاون إليها سنة ثمنين و ستمائة و اسمه سامون ثم كان ملكهم لهذا العهد اسمه آي لا أدري أكان معاقبا لسمامون أو توسط بينهما متوسط و توفي آي سنة ست عشرة و سبعمائة و ملك بعده في دنقلة أخوه كربيس ثم نزع من بيت ملوكهم رجل إلى مصر اسمه نشلى و أسلم فحسن إسلامه و أجرى له رزقا و أقام عنده فلما كانت سنة ست عشرة أمتنع كربيس من أداء الجزية فجهز السلطان إليه العساكر و بعث معها عبد الله نشلى المهاجر إلى الإسلام من بيت ملكهم فخام كربيس عن لقائهم و فر إلى بلد الأبواب و رجعت العساكر إلى مصر و استقر نشلى في ملك النوبة على حاله من الإسلام و بعث السلطان إلى ملك الأبواب في كربيس فبعث به إليه و أقام بباب السلطان ثم أن أهل النوبة اجتمعوا على نشلى و قتلوه بمالأة جماعة من العرب سنة تسع و بحثوا عن كربيس ببلد الأبواب فألقوه بمصر و بلغ الخبر إلى السلطان فبعثه إلى النوبة فملكها و انقطعت الجزية باسلامهم ثم انتشرت أحياء العرب من جهينة في بلادهم و استوطنوها و ملكوها و ملؤوها عيثا و فسادا و ذهب ملوك النوبة إلى مدافعتهم فعجزوا ثم ساروا إلى مصانعتهم بالصهر فافترق ملكهم و صار لبعض أبناء جهينة من أمهاتهم على عادة الأعاجم في تمليك الأخت و ابن الأخت فتمزق ملكهم و استولى أعراب جهينة على بلادهم و ليس في طريقه شيء من السياسة الملوكية للآفة التي تمنع من انقياد بعضهم إلى بعض فصاروا شيعا لهذا العهد و لم يبق لبلادهم رسم للملك و إنما هم الآن رجالة بادية يتبعون مواقع القطر شأن بوادي الأعراب و لم يبق في بلادهم رسم للملك لما أحالته صبغة البداوة العربية من صبغتهم بالخلطة و الالتحام و الله غالب على أمره و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/491)
بقية أخبار الأرمن إلى الفتح أياس ثم فتح سيس و إنقراض أمرهم
قد كنا قدمنا أخبار الأرمن إلى قتل ملكهم هيثوم على يد أيدغدي شحنة التتر ببلاد الروم سنة سبع و استقرار الملك بسيس لأخيه أو سير بن ليون و كان بينه و بين قزمان ملك التركمان مصاف سنة تسع عشرة فهزمه قزمان و لم يزل أوسير بن ليون ملكا عليهم إلى سنة اثنتين و سبعين فهلك و نصبوا للملك بعده ابنه ليون صغيرا ابن اثنتي عشرة سنة و كان الناصر قد طلب أوسير أن ينزل له عن القلاع التي تلي الشام فاتسع و جهز إليه عساكر الشام فاكتسحوا بلاده و خربوها و هلك أوسير على أثر ذلك ثم أمر الناصر كيبغا نائب حلب بغزو سيس فدخل إليها بالعساكر سنة ست و ثلاثين و اكتسح جهاتها و حصر قلعة النقير و افتتحها و أسر من الأرمن عدة يقال بلغوا ثلثمائة و بلغ خبرهم إلى النصارى باياس فثاروا بمن عندهم من المسلمين و أحرقوهم غضبا للأرمن لمشاركتهم في دين النصرانية ولم يثبت أن بعث إلى السلطان دمرداش بن جوبان شحنة المغل ببلاد الروم يعرفه بدخوله في الإسلام و يستنفر عساكره لجهاد نصارى الآرمن فأسعفه بذلك و جهز إليه عساكر الشام من دمشق و حلب و حماة سنة سبع و ثلاثين و نازلوا مدينة أياس ففتحوها و خربوها و نجافلهم إلى الجبال فاتبعهم عساكر حلب و عادوا إلى بلادهم ثم سار سنة إحدى و ستين بندمر الخوارزمي نائب حلب لغزو سيس ففتح أذنه و طرسوس و المصيصة ثم قلعتي كلال و الجرايدة و سنباط كلا و تمرور و ولى نائبين في أذنة و طرسوس و عاد إلى حلب و ولى بعده على حلب عشقيم النصارى فسار سنة ست و سبعين و حصر سيس و قلعتها شهرين إلى أن نفدت أقواتهم و جهدهم الحصار فاستأمنوا و نزلوا على حكمه فخرج ملكهم النكفور و أمراؤه و عساكره إلى عشقيم فبعث بهم إلى مصر و استولى المسلمون على سيس و سائر قلاعها و انقرضت منها دولة الأرمن و البقاء لله وحده انتهى (5/491)
الصلح مع ملوك التتر و صهر الناصر مع ملوك الشمال منهم
كان للتتر دولتان مستفحلتان إحداهما بني هلاكو آخذ بغداد و المستولي على كرسي الإسلام بالعراق و أصارها هو و بنوه كرسيا لهم و لهم مع ذلك عراق العجم و فارس و خراسان و ما وراء النهر و دولة بني دوشي خان بن جنكزخان بالشمال متصلة إلى خوارزم بالمشرق إلى القرم و حدود القسطنطينية بالجنوب و إلى أرض بلغار بالمغرب و كان بين الدولتين فتن و حروب كما تحدث بين الدول المتجاورة و كانت دولة الترك بمصر و الشام مجاورة لدولة بني هلاكو و كان يطمعون في ملك الشام و يرددون الغزو إليه مرة بعد أخرى و يستميلون أولياءهم و أشياعهم من العرب و التركمان فيستظهرون بهم عليهم كما رأيت ذلك في أخبارهم و كانت بين ملوكهم من الجانبين وقائع متعددة و حروبهم فيها سجال و ربما غلبوا من الفتنة بين دولة بني دوشي و بين بني هلاكو و لبعدهم عن فتنة بني دوشي خان لتوسط الممالك بين مملكتهم و مملكة مصر و الشام فتقع لهم الصاغية إليهم و تتجدد بينهم المراسلة و المهاداة في كل وقت و يستحث ملك الترك ملك صراي من بني دوشي خان لفتنة بني هلاكو و الأجلاب عليهم في خراسان و ما إليها من حدود مملكتهم ليشغلوهم عن الشام و يأخذوا بحجرتهم عن النهوض إليه و ما زال ذلك دأبهم من أول دولة الترك و كانت رغبة بني دوشي خان في ذلك أعظم يفتخرون به على بني هلاكو و لما ولي صراي أنبك من بني دوشي خان سنة ثلاث عشرة و كان نائبا ببلاد الروم قطلغمير وفدت عليه الرسل من مصر على العادة فعرض لهم قطلغمير بالصهر مع السلطان الناصر ببعض نساء ذلك البيت على شرطية الرغبة من السلطان في ظاهر الأمر و التمهل منهم في إمضاء ذلك و زعموا أن هذه عادة الملوك منهم ففعل السلطان ذلك و ردد الرسل و الهدايا أعواما ستة إلى أن استحكم ذلك بينهم و بعثوا إليه بمخطوبته طلبناش بنت طغاجي بن هند و ابن بكر بن دوشي سنة عشرين مع كبير المغل و كان مقلدا يحمل على الأعناق و معهم جماعة من أمرائهم و برهان الدين أمام أزبك و مروا بالقسطنطينية فبالغ لشكري في كرامتهم يقال أنه أنفق عليهم ستين ألف دينار و ركبوا البحر من هناك إلى الإسكندرية ثم ساروا بها إلى مصر محمولة على عجلة وراء ستور من الذهب و الحرير يجرها كديش يقود اثنان من مواليها في مظهر عظيم من الوقار و التجلة و لما قاربوا مصر ركب للقائهم النائبان ارغون و بكتمر الساقي في العساكر و كريم الدين وكيل السلطان و أدخلت الخاتون إلى القصر و استدعى ثالث وصولها القضاة و الفقهاء و سائر الناس على طبقاتهم إلى الجامع بالقلعة و حضر الرسل الوافدون عندهم بعد أن خلع عليهم و انعقد النكاح بين وكيل السلطان و وكيل أزبك و انفض ذلك المجمع و كان يوما مشهودا و وصلت رسل أبي سعيد صاحب بغداد و العراق سنة اثنتين و عشرين و فيهم قاضي توزير يسألون الصلح و انتظام الكلمة و اجتماع اليد على إقامة معالم الإسلام من الحج و إصلاح السابلة و جهاد العدو فأجاب السلطان إلى ذلك و بعث سيف الدين أيتمش المحمدي لأحكام العقد معهم و امتضاء إيمانهم فتوجهه لذلك بهدية سنية ثلاث و عشرين و معه رسل أبي سعيد و معه جوبان لمثل ذلك فتم ذلك و انعقد بينهم و قد كانت قبل ذلك تجددت الفتنة بين أبي سعيد و صاحب صراي نفرة من أزبك صاحب صراي من تغلب جوبان على أبي سعيد و فتكه في المغل و كانت بين جوبان و بين سبول صاحب خوارزم و ما وراء النهر فتنة ظهر فيها أزبك و أمده بالعساكر فاستولى أزبك على أكثر بلاد خراسان و طلب من الناصر بعد الإلتحام بالصهر المظاهرة على أبي سعيد و جوبان فأجابه إلى ذلك ثم بعث إليه أبو سعيد في الصلح كما قلناه فآثره و عقد له و بلغ الخبر إلى أزبك و رسل الناصر عنده فأغلظ في القول و بعث بالعتاب و اعتذر له الناصر بأنهم إنما دعوه لإقامة شعائر الإسلام و لا يسع التخلف عن ذلك فقبل ثم وقعت بينه و بين أبي سعيد مراوضة في الصلح بعد أن استرد جوبان ما ملكه أزبك من خراسان فتوادع كل هؤلاء الملوك و اصطلحوا و وضعوا أوزار الحرب حينا من الدهر إلى أن تقلبت الأحوال و تبدلت الأمور و الله مقلب الليل و النهار (5/492)
مقتل أولاد بني نمى أمراء مكة من بني حسن
قد تقدم لنا استيلاء قتادة على مكة و الحجاز من يد الهواشم و استقرارها لبنيه إلى أن استولى منهم أبو نمي و هو محمد بن أبي سعيد علي بن قتادة ثم توفي سنة اثنتين و سبعمائة و ولي مكانه ابناه رميثة و خميصة و اعتقلا أخويهما عطيفة و أبا الغيث و لما حج الأميران كافلا المملكة بيبرس و سلار هربا إليهما من مكان اعتقالهما و شكيا ما نالهما من رميثة و خميصة فأشكاهما الأميران و اعتقلا رميثة و خمصية و أوصلاهما إلى مصر و وليا عطيفة و أبا الغيث و بعثا بهما إلى السلطان صحبة الأمير أيدمر الكوكبي الذي جاء بالعساكر معهما ثم رضي السلطان عنهما و ولاهما مكان رميثة و خميصة و بعث معهما العساكر ثانيا سنة عشرة و فر رميثة و خميصة عن البلاد و رجع العسكر و أقام أبو الغيث و عطيفة فرجع إليهما رميثة و خميصة و تلاقوا فانهزم أبو الغيث و عطيفة فسارا إلى المدينة في جوار منصور بن حماد فأمدهما ببني عقبة و بني مهدي و رجع إلى حرب رميثة و خميصة فاقتتلوا ثانيا ببطن مرو فانهزم أبو الغيث و قتل و استمر رميثة و خميصة و لحق بهما أخوهما عطيفة و سار معهما ثم تشاجروا سنة خمس عشر و لحق رميثة بالسلطان مستعديا على أخويه فبعث معه العساكر ففر خميصة بعد أن استصفى أهل مكة و هرب إلى السبعة مدن و لحقته العساكر فاستلحق أله تلك المدن و لقيهم فانهزموا و نجا خميصة بنفسه ثم رجعت العساكر فرجع و بعث رميثة يستنجد السلطان فبعث إليه العساكر ففر خميصة ثم رجع و اتفق مع أخويه رميثة و عطيفة ثم لحق عطيفة بالسلطان سنة ثمان عشرة و بعث معه العساكر فتقبضوا على رميثة و أوصلوه معتقلا فسجن بالقلعة و استقر عطيفة بمكة و بقي خميصة مشردا ثم لحق بملك التتر ملك العراق خربندا و استنجده على ملك الحجاز فانجده بالعساكر و شاع بين الناس أنه داخل الروافض الذين عند خربندا في إخراج الشيخين من قبريهما و عظم ذلك على الناس و لقبه محمد بن عيسى أخو مهنا حسبة و امتعاضا للدين و كان عند خربندا فاتبعه و اعترضه و هزمه و يقال أنه أخذ منه المعاول و الفؤس التي أعدوها لذلك و كان سببا لرضا السلطان عنه و جاء خميصة إلى مكة سنة ثماني عشرة و بعث الناصر العساكر إليه فهرب و تركها ثم أطلق رميثة سنة تسع عشرة فهرب إلى الحجاز و معه وزيره على بن هنجس فرد من طريقه و اعتقل و أفرج عنه السلطان بعد مرجعه من الحج سنة عشرين ثم أن خميصة استأمن السلطان سنة عشرين و كان معه جماعة من المماليك هربوا إليه فخاموا أن يحضروا معه إلى السلطان فاغتالوه و حضروا و كان السلطان قد أطلق رميثة من الاعتقال فأمكنه منهم فثأر من المباشر قتل أخيه و عفا عن الباقين ثم صرف السلطان رميثة إلى مكة و ولاه مع أخيه عطيفة و استمرت حالهما و وفد عطيفة سنة إحدى و عشرين على الأبواب و معه قتادة صاحب الينبع يطلب الصريخ على ابن عمه عقيل قاتل ولده فأجابه السلطان و جهز العساكر لصريخه و قوبل كل منهما بالأكراد و انصرفوا و في سنة إحدى و ثلاثين وقعت الفتنة بمكة و قتل العبيد جماعة من الأمراء و الترك فبعث السلطان أيدغمش و معه العساكر فهرب الشرفاء و العبيد و حضر رميثة و بذل الطاعة و حلف متبرئا مما وقع فقبل منه السلطان و عفا له عنها و استمرت حاله على ذلك إلى أن هلك سنة و تداولت الإمارة بين إبنيه عجلان و بقية ثم استبد عجلان كما نذكره في أخبارهم و ورثتها بنوه لهذا العهد كما نذكره مرتبا في أخبارهم إن شاء الله تعالى (5/494)
حج ملك التكرور
كان ملك السودان بصحراء المغرب في الإقليم الأول و الثاني منقسما بين أمم من السودان أولهم مما يلي البحر المحيط أمة صوصو و كانوا مستولين على غانة و دخلوا في الإسلام أيام الفتح و ذكر صاحب كتاب رجاز في الجغرافيا أن بني صالح من بني عبد الله بن الحسن بن الحسن كانت لهم بها دولة و ملك عظيم و لم يقع لنا في تحقيق هذا الخبر أكثر من هذا و صالح من بني حسن مجهول و أهل غانة منكرون أن يكون عليهم ملك لأحد غير صوصو ثم يلي أمه صوصو أمة مالي من شرقهم و كرسي ملكهم بمدينة بني ثم من بعدهم شرقا عنهم أمة كوكو ثم التكرور بعدهم و فيما بينهم و بين النوبة أمة كانم و غيرها و تحولت الأحوال باستمرار العصور فاستولى أهل مالي على ما وراءهم و بين أيديهم من بلاد صوصو و كوكو و آخر ما استولوا عليه بلاد التكرور و استفحل ملكهم إلى الغاية و أصبحت مدينتهم بني حاضرة بلاد السودان بالمغرب و دخلوا في دين الإسلام منذ حين من السنين و حج جماعة من ملوكهم و أول من حج منهم برمندار و سمعت في ضبطه من بعض فضلائهم برمند أنه و سبيله في الحج هي التي اقتفاها ملوكهم من بعده ثم حج منهم منساولي بن ماري بن ماري جاطة أيام الظاهر بيبرس و حج بعده منهم مولاهم صاكوره و كان تغلب على ملكهم و هو الذي افتتح مدينة كوكو ثم حج أيام الناصر و حج من بعده منهم منسا موسى حسبما ذلك مذكور في أخبارهم عند دول البربر عند ذكر صنهاجة و دولة لمتونة من شعوبهم و لما خرج منسا موسى من بلاد المغرب للحج سلك على طريق الصحراء و خرج عند الأهرام بمصر و أهدى إلى الناصر هدية حفيلة يقال أن فيها خمسين ألف دينار و أنزله بقصر عند القرافة الكبرى و أقطعه إياها و لقيه السلطان بمجلسه و حدثه و وصله و زوده و قرب إليه الخيل و الهجن و بعث معه الأمراء يقومون بخدمته إلى أن قضى فرضه سنة أربع و عشرين و رجع فأصابته في طريقه بالحجاز نكبة تخلصه منها أجله و ذلك أنه ضل في الطريق عن المحمل و الركب و إنفرد بقومه عن العرب و هي كلها مجاهل لهم فلم يهتدوا إلى عمران و لا وقفوا على مورد و ساروا على السمت إلى أن نفذوا عند السويس و هم يأكلون لحم الحيتان إذا وجدوها و الأعراب تتخطفهم من أطرافهم إلى أن خلصوا ثم جدد السلطان له الكرامة و وسع له في الحباء و كان أعد لنفقته من بلاده فيما يقال مائة حمل من التبر في كل حمل ثلاثة قناطير فنفذت كلها و أعجزته النفقة فاقترض من أعيان التجار و كان في صحبته منهم بنو الكويك فاقرضوه خمسين ألف دينار و ابتاع منهم القصر الذي أقطعه السلطان و أمضى له ذلك و بعث سراج الدين بن الكويك معه وزيره يرد له منه ما أقرضه من المال فهلك هنالك و أتبعه سراج الدين آخرا بإبنه فمات هنالك و جاء ابنه فخر الدين أبو جعفر بالبعض و هلك منسا موسى قبل وفاته فلم يظفروا منه بشيء انتهى و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/495)
أنجاد المجاهد ملك اليمن
قد تقدم لنا استبداد علي بن رسول فملك بعد مهلك سيده يوسف أتسز بن الكامل بن العادل بن أيوب و يلقب المسعود و كان علي بن رسول أستاذ داره و مستوليا على دولته فلما هلك سنة ست و عشرين و ستمائة نصب ابن رسول ابنه موسى الأشرف لملكه و كفله قريبا و استولى ابن رسول و أورث ملكه باليمن لبنيه لهذا العهد و انتقل الأمر للمجاهد منهم علي بن داود و المؤيد بن يوسف المظفر بن عمر المنصور بن علي بن رسول سنة إحدى و عشرين و انتقض عليه جلال الدين ابن عمه الأشرف فظهر عليه المجاهد و اعتقله ثم انتقض عليه عمه المنصور سنة ثلاث و عشرين و حبسه و أطلق من محبسه و اعتقل عمه المنصور و كان عبد الله الظاهر بن المنصور قائما بأمر أبيه و منازلة المجاهد سنة أربع و عشرين بالصريخ إلى الناصر سليمان الترك بمصر و كان هو و قومه يعطونهم الطاعة و يبعثون إليهم الأتاوة من الأموال و الهدايا و طرف اليمن و ما عونه فجهز لهم الناصر صحبة بيبرس الحاجب و طنبال من أعظم أمرائه فساروا إلى اليمن و لقيهم المجاهد بعدن فأصلحوا بين الفريقين على أن تكون و يستقر المجاهد في سلطانه باليمن و مالوا على كل من كان سببا في الفتنة فقتلوهم و دوخوا اليمن و حملوا أهله على طاعة المجاهد و رجعوا إلى محلهم من الأبواب السلطانية و الله تعالى ولي التوفيق (5/496)
ولاية أحمد ابن الملك الناصر على الكرك
و لما استفحل ملك السلطان الناصر و استمر و كثر ولده طمحت نفسه إلى ترشيح ولده لتقر عينه بملكهم فبعث كبيرهم أحمد إلى قلعة الكرك سنة ست و عشرين و رتب الأمراء المقيمين بوظائف السلطان فسار إلى الكرك و أقام بها أربع سنين ممتعا بالملك و الدولة و أبوه قرير العين بامارته في حياته ثم استقدمه سنة ثلاثين و أقام فيه سنة الختان و احتفل في الصنيع به و ختن معه من أنباء الأمراء و الخواص جماعة انتقاهم و وقع اختياره عليهم ثم صرفه إلى مكان إمارته بالكرك فأقام بها إلى أن توفي الملك الناصر و كان ما نذكره و الله تعالى أعلم (5/497)
وفاة مرداش بن جوبان شحنة بلاد الروم و مقتله
كان جوبان نائب مملكة التتر مستوليا على سلطانه أبي سعيد بن خربندا لصغره و كانت حاله مع أبيه خربندا قريبا من الإستيلاء فولى على مملكة بلاد الروم دمرداش ثم وقعت الفتنة بينهم و بين ملك الشمال أزبك من بني دوشي خان على خراسان و سار جوبان من بغداد سنة تسع و عشرين لمدافعته كما يأتي في أخبارهم و ترك عند السلطان أبي سعيد ببغداد ابنه خواجا دمشق فسعى به أعداؤه و أنهوا عنه قبائح من الأفعال لم يحتملها له فسطا به و قتله و بلغ الخبر إلى أبيه جوبان فانتقض و عاجله أبو سعيد بالمسير إلى خراسان فتفرقت عنه أصحابه و فر فأدرك بهراة و قتل و أذن السلطان أبو سعيد لأهله أن ينقلوه إلى التربة التي اختطها بالمدينة النبوية لدفنه فاحتملوه و لم يتوقفوا على إذن صاحب مصر فمنعهم صاحب المدينة و دفنوه بالبقيع و لما بلغ الخبر بمقتله إلى ابنه دمرداش في إمارته ببلاد الروم خشي على نفسه فهرب إلى مصر و ترك مولاه أرتق مقيما لأمر البلد و أنزله بسيواس و لما وصل إلى دمشق و ركب النائب لتلقيه و سار معه إلى مصر فأقبل عليه السلطان و أحله محل الكرامة و كان معه سبعة من الأمراء و من العسكر نحو ألف فارس فأكرمهم السلطان و أجرى عليهم الأرزاق و أقاموا عنده و جاءت على أثره رسل السلطان أبي سعيد و طلبه بذمة الصلح الذي عقده مع الملك الناصر و أوضحوا لعلم السلطان من فساد طويته و طوية أبيه جوبان و سعيهم في الأرض بالفساد ما أوجب إعطاءه باليد و شرط السلطان عليهم إمضاء حكم الله تعالى في قراسنقر نائب حلب الذي كان فر سنة اثنتي عشرة مع أقوش الأفرم إلى خربندا و أغروه بملك الشام و لم يتم ذلك و أقاموا عند خربندا و ولي أقوش الأفرم على همذان فمات بها سنة ست عشرة فولي صاحبه قراسنقر مكانه بهمذان فلما شرط عليهم السلطان قتله كما قتل دمرداش أمضوا فيه حكم الله تعالى و قتلوه جزاء بما كان عليه من الفساد في الأرض و الله متولي جزائهم ثم وصل على أثر ذلك ابن السلطان أبي سعيد و معه جماعة من قومه في تأكيد الصلح و الإصهار من السلطان فقوبلوا بالكرامة التي تليق بهم و اتصلت المراسلة و المهاداة بين هذين السلطانين إلى أن توفيا و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (5/497)
وفاة مهنا بن عيسى أمير العرب بالشأم و أخبار قومه
هذا الحي من العرب يعرفون بآل فضل رحالة ما بين الشام و الجزيرة و تربة نجد من أرض الحجاز يتقلبون بينها في الرحلتين و ينتسبون في طيء و معهم أياء من زبيد و كلب و هذيل و مذحج أحلاف لهم و يناهضهم في الغلب و العدد آل مراد يزعمون أن فضلا و مرادا أبناء ربيعة و يزعمون أيضا أن فضلا ينقسم ولده بين آل مهنا و آل علي و أن آل فضل كلهم بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراد و أخرجوهم منها فنزلوا حمص و نواحيها و أقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم بها حتى لا يفارقونها قالوا ثم اتصل آل فضل بالدول السلطانية و ولوهم على أحياء العرب و أقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام و العراق فاستظهروا برياستهم على آل مراد و غلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريبا من التلول و القرى لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل و كانت معهم أحياء من أفاريق العرب مندرجون في لفيفهم و حلفهم من مذحج و عامر و زبيد كما كان آل فضل إلا أن أكثر من كان مع آل مراد من أولئك الأحياء و أوفرهم عدة بنو حارثة بن سنبس إحدى شعوب طيء هكذا ذكر لي الثقة عندي من رجالتهم و بنو حارثة هؤلاء متغلبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى العمران و رياسة آل فضل لهذا العهد لبني مهنا و ينسبونه هكذا مهنا بن مانع ابن جديلة بن فضل بن بدر بن ربيعة بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن جصة بن بدر ابن سميع و يقفون عند سميع و يقول رعاؤهم أن سمعيا هذا هو الذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي و حاشى لله من هذه المقالة في الرشيد و أخته و في انتساب كبراء العرب من طيء إلى موالي العجم من برمك و أنسابهم ثم أن الوجدان يحيل رياسة هؤلاء على هذا الحي إن لم يكونوا من نسبتهم و قد تقدم مثل ذلك في مقدمة الكتاب و كان مبدأ رياستهم من أول دولة بني أيوب قال العماد الأصبهاني في كتاب البرق السامي نزل العادل بمرج دمشق و معه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة انتهى و كانت الرياسة قبلهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيء و كان كبيرهم مفرج بن دغفل ابن جراح و كان من إقطاعه الرملة و هو الذي قبض على افتكين مولى بني بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق و جاء به إلى المعز فأكرمه و رقاه في دولته و لم يزل شأن مفرج هكذا و توفى سنة أربع و أربعمائة و كان من ولده حسان و محمود و علي و جران و ولي حسان بعده و عظم صيته و كان بينه و بين خلفاء الفاطميين نفرة و استجاشة و هو الذي هدم الرملة و هزم قائدهم هاروق الرتكي و قتله و سبى نساءه و هو الذي مدحه التهامي و قد ذكر المسيحي و غيره من مؤرخي دولة العبيديين في قرابة حسان بن مفرج فضل بن ربيعة بن حازم بن جراح و أخاه بدر بن ربيعة و لعل فضلا هذا هو جد آل فضل و قال ابن الأثير و فضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب البلقاء و البيت المقدس و كان فضل تارة مع الإفرنج و تارة مع خلفاء مصر و نكره لذلك طغركين أتابك دمشق و كافل بني تتش و طرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد و حالفه و وصله حين قدم من دمشق بتسعة آلاف دينار فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان محمد بن ملك شاه سنة خمسمائة و ما بعدها و وقعت بينهما الفتنة اجتمع فضل هذا و قرواش بن شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل و بعض أمراء التركمان كانوا أولياء صدقة فساروا في الطلائع بين يدي الحرب و هربوا إلى السلطان فأكرمهم و خلع عليهم و أنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة بن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة استأذنه في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجزة صدقة فأذن له و عبر إلى الأنبار و لم يرجع للسلطان بعدها انتهى كلام ابن الأثير و يظهر من كلامه و كلام المسيحي أن فضلا هذا و بدرا من آل جراح من غير شك و يظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أن فضلا هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه فضل بن علي بن مفرج و هو عند الآخرين فضل بن علي بن جراح فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة إلى مفرج الذي هو كبير بني الجراح لطول العهد و قلة المحافظة على مثل هذا من البادية الغفل و أما نسبة هذا الحي في طيء فبعضهم يقول أن الرياسة في طيء كانت لأياس بن قبيصة من بني سنبس بن عمر و بن الغوث بن طيء و أياس هو الذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر عندما قتل النعمان بن المنذر و هو الذي صالح خالد بن الوليد على الحيرة و لم تزل الرياسة على طيء في بني قبيصة هؤلاء صدرا من دولة الإسلام فلعل آل فضل هؤلاء و آل الجراح من أعقابهم و إن كان انقراض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليه لأن الرياسة في الأحياء و الشعوب إنما تتصل في أهل العصبية و النسب كما مر أول الكتاب و قال ابن حزم عند ما ذكر أنساب طيء أنهم لما خرجوا من اليمن نزلوا أجا و سلمى و أوطنوهما و ما بينهما و نزل بنو أسد ما بينهما و بين العراق و فضل كثير منهم و هم بنو خارجة بن سعد بن عبادة من طيء و يقال لهم جديلة نسبة إلى أمهم بنت تيم الله و حبيش و الأسعد إخوتهم رحلوا عن الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب و حاضر طيء و أوطنوا تلك البلاد الأبنى رمان ابن جندب بن خارجة بن سعد فإنهم أقاموا بالجبلين فكان يقال لأهل الجبلين الجبليون و لأهل حلب و حاضر طيء من بني خارجة السهليون انتهى فلعل هذه أحياء الذين بالشام من بني الجراح و آل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكر ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب و حاضر طيء لأن هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبل أجا و سلمى الذين هما موطن الآخرين و الله أعلم أي ذلك يصح من أنسابهم لنرجع الآن إلى سرد الخبر عن رياسة آل فضل أهل هذا البيت منذ دولة بني أيوب فنقول كان الأمير منهم لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما قلناه و نقلناه عن العماد الأصبهاني الكاتب ثم كان بعده حسام الدين مانع بن خدينة بن غصينة بن فضل و توفي سنة ثلاثين و ستمائة و ولي عليهم بعده ابنه مهنا و لما ارتجع قطز ثالث ملوك الترك بمصر و ملك الشام من يد التتر و هزم عسكرهم بعين جالوت أقطع سلمية لمهنا بن مانع و انتزعها من عمل المنصور بن المظفر بن شاهنشاه صاحب حماة و لم أقف على تاريخ وفاة مهنا ثم ولي الظاهر على أحياء العرب بالشام عندما استفحل أمر الترك و سار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم لبغداد فولى العرب عيسى بن مهنا بن مانع و وفر له الإقطاعات على حفظ السابلة و حبس ابن عمه زامل بن علي بن ربيعة من آل علي لإعناته و أعراضه ولم يزل أميرا على أحياء العرب و صلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدة عليهم و هرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع و تسعين و كاتبوا أبغا و استحثوه لملك الشام و توفي عيسى بن مهنا سنة أربع و ثمانين فولى المنصور قلاون بعده ابنه مهنا ثم سار الأشرف بن قلاون إلى الشام و نزل حمص و وفد عليه مهنا بن عيسى في جماعة من قومه فقبض عليه و على ابنه موسى و أخويه محمد و فضل ابني عيسى بن مهنا و بعث بهم إلى مصر فحبسوا بها حتى أفرج عنهم العادل كيبغا عندما جلس على التخت سنة أربع و تسعين و رجع إلى إمارته ثم كان له في أيام الناصر نفرة و استجاشة و ميل إلى ملوك التتر بالعراق ولم يحضر شيئا من وقائع غازان و لما انتقض سنقر و أقوش الأفرم و أصحابهما سنة اثنتي عشرة و سبعمائة لحقوا به و ساروا من عنده إلى خربندا و استوحش هو من السلطان و أقام في أحيائه منقبضا عن الوفادة و وفد أخوه فضل سنة اثنتي عشرة فرعى له حق وفادته و ولاه على العرب مكان أخيه مهنا و بقي مهنا مشردا ثم لحق سنة ست عشرة بخربندا ملك التتر فأكرمه و أقطعه بالعراق و هلك خربندا في تلك السنة فرجع إلى أحيائه و أوفدا بينه أحمد و موسى و أخاه محمد بن عيسى مستعتبين للناصر و متطارحين عليه فأكرم وفادتهم و أنزلهم بالقصر الأبلق و شملهم بالإحسان و أعتب مهنا ورده على إمارته و إقطاعه و ذلك سنة سبع عشرة و حج هذه السنة ابنه عيسى و أخوه محمد و جماعة من آل فضل اثنا عشر ألف راحلة ثم رجع مهنا إلى ديدنه في ممالأة التتر و الإجلاب على الشام و اتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه و سخطه قومه أجمع و كتب إلى نواب الشام سنة عشرين بعد مرجعه من الحج فطرد آل فضل عن البلاد و ادال منهم آل علي عديدة نسبهم و ولي منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر و صرف إقطاع مهنا و ولده إلى محمد و ولده فأقام مهنا على ذلك مدة ثم وفد سنة إحدى و ثلاثين مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلا به و متطارحا على السلطان فأقبل عليه ورد عليه إقطاعه و إمارته و ذكر لي بعض أكابر الأمراء بمصر ممن أدرك وفادته أو حدث عنها أنه تجافى في هذه الوفادة عن قبول شيء من السلطان حتى أنه ساق من النياق المحلوبة و استقاها و أنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة و لا سألهم شيئا من حاجته ثم رجع إلى أحيائه و توفي سنة أربع و ثلاثين فولي ابنه مظفر الدين موسى و توفي سنة اثنتين و أربعين عقب مهلك الناصر و ولي مكانه أخوه سليمان ثم هلك سليمان سنة ثلاث و أربعين فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى ثم توفي سنة أربع و أربعين بالقدس و دفن عند قبر خالد بن الوليد رضي الله عنه و ولي مكانه أخوه سيف بن فضل ثم عزله السلطان بمصر الكامل بن الناصر سنة ست و أربعين و ولي مكانه مهنا بن عيسى ثم جمع سيف بن مهنا و لقيه فياض بن مهنا فانهزم سيف ثم ولى السلطان حسين بن الناصر في دولته الأولى و هو في كفالة بيقاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم ثم توفي سنة تسع و أربعين فولي مكانه أخوه فياض و هلك سنة اثنتين و ستين فولي مكانه أخوه خيار بن مهنا ولاه حسين بن الناصر في دولته الثانية ثم انتقض سنة خمس و ستين و أقام سنين بالقفر ضاحيا إلى أن شفع نائب حماة فأعيد إلى إمارته ثم انتقض سنة سبعين فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى و جاء إلى نواحي حلب و اجتمع إليه بنو كلاب و غيرهم و عاثوا في البلاد و على حلب يومئذ قشتمر المنصوري فبرز إليهم و انتهى إلى مخيمتهم و استاق نعمهم و تخطى إلى الخيام فاستماتوا دونها و هزموا عساكره و قتل قشتمر و ابنه في المعركة و تولى ذلك زامل بيده و ذهب إلى القفر منتقضا فولي مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى ثم بعث معيقيل صاحبه سنة إحدى و سبعين يستأمن لخيار فأمنه ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس و سبعين فرضي عنه السلطان فأعادة إلى إمارته ثم توفي سنة سبع و سبعين فولي أخوه قارة إلى أن توفي سنة إحدى و ثمانين فولي مكانه معيقيل بن فضل بن عيسى و زامل بن موسى بن مهنا شريكين في إمارتهما ثم عزلا لسنة من ولايتهما و ولي بصير بن جبار بن مهنا و اسمه محمد و هو لهذا العهد أمير على آل فضل و جميع أحياء طيء و الله تعالى أعلم (5/498)
وفاة أبي سعيد ملك العراق و انقراض أمر بني هلاكو
ثم توفي أبو سعيد ملك العراق من التتر ابن خربندا بن ابغو بن ابغا بن هلاكو بن طولى خان بن جنكزخان سنة ست و ثلاثين و سبعمائة لعشرين سنة من ملكه و لم يعقب فانقرض بموته ملك بني هلاكو و صار الأمر بالعراق لسواهم و افترق ملك التتر في سائر ممالكهم كما نذكر في أخبارهم و لما استبد ببغداد الشيخ حسن من أسباطهم كثر عليه المنازعون فبعث رسله إلى الناصر قبل وفاته يستنجده على أن يسلم له بغداد و يعطي الرهن في العساكر حتى يقضي بها في أعدائه فأجابه الناصر إلى ذلك ثم توفي قريبا فلم يتم و الأمر لله وحده (5/502)
وصول هدية ملك المغرب الأقصى مع رسله و كريمته صحبة الحاج
كان ملك بني مرين بالمغرب الأقصى قد استفحل لهذه العصور و صار للسلطان أبي الحسن علي بن السلطان أبي سعيد عثمان بن السلطان أبي يوسف بن يعقوب بن عبد الحق جد ملوكهم و أسف إلى ملك جيرانهم من الدول فزحف إلى المغرب الأوسط و هو في ملكة بني عبد الواد أعداء قومه من زناتة و ملكهم أبو تاشفين عبد الرحمن بن أبي حمو موسى ابن أبي سعيد عثمان بن السلطان يغمراسن بن زيان جد ملوكهم أيضا و كرسيه تلمسان سبعة و عشرين شهرا و نصب عليها المجانيق و أدار بالأسوار سياجا لمنع وصول الميرة و الأقوات إليها و تقرى أعمالها بلدا بلدا فملك جميعها ثم افتتحها عنوة آخر رمضان سنة سبع و ثلاثين ففض جموعها و قتل سلطانها عند باب قصره كما نذكره في أخبارهم ثم كتب للملك الناصر صاحب مصر يخبره بفتحها و زوال العائق عن وفادة الحاج و أنه ناظر في ذلك بما يسهل سبيلهم و يزيل عللهم و كانت كريمة من كرائم أبيه السلطان أبي سعيد و من أهل فراشه قد اقتضت منه الوعد بالحج عندما ملك تلمسان فلما فتحها و أذهب عدوه منها جهز تلك المرأة للحج بما يناسب قرابتها منه و جهز معها للملك الناصر صاحب مصر هدية فخمة مشتملة على خمسمائة من الجياد المغربيات بعدتها و عدة فرسانها من السروج و اللجم و السيوف و ظرف المغرب و ما عونه من شتى أصنافه و من ثياب الحرير و الصوف و الكتان و صنائع الجلد حتى ليزعموا أنه كان فيها من أواني الخزف و أصناف الدر و الياقوت و ما يشبههما في سبيل التودد و عرض أحوال المغرب على سلطان المشرق و لعظم قدر هذه الوافدة عند الناصر أوفد معها من عظماء قومه و وزارئه و أهل مجلسه فوفدوا على الناصر سنة ثمان و ثلاثين و أحلهم بأشرف محل من التكرمة و بعث من إصطبلاته ثلاثين خطلا من البغال يحملون الهدية من بحر النيل سوى ما تبعها من البخاتي و الجمال و جلس لهم في يوم مشهود و دخلوا عليه و عرضوا الهدية فعم بها أهل دولته إحسانا في ذلك المجلس و استأثر منها على ما زعموا بالدر و الياقوت فقط ثم فرقهم في منازله و أنزلهم دار كرامته و قد هيئت بالفرش و الماعون و وفر لهم الجرايات و استكثر لهم من الأزودة و بعث أمراء في خدمتهم إلى الحجاز حتى قضوا فرضهم في تلك السنة و انقلبوا إلى سلطانهم فجهز الناصر معهم هدية إلى ملك المغرب تشتمل على ثياب الحرير المصنوعة بالإسكندرية و عين منها الحمل المتعارف في كل سنة الخزانة السلطان و قيمته لذلك العهد خمسون ألف دينار و على خيمة من خيم السلطان المصنوعة بالشام فيها أمثال البيوت و القباب و الكفات مرساة أطرافها في الأرض بأوتاد الحديد و الخشب كأنها قباب مائلة و على خيمة مؤزر باطنها من ثياب الحرير العراقية و ظاهرها من ثياب القطن الصرافية مستجادة الصنعة بين الحدل و الأوتاد أحسن ما يراه من البيوت و على صوان من الحرير مربع الشكل يقام بالحدل الحافظ ظله من الشمس و على عشرة من الجياد المقربات الملوكية بسروج و لجم ملوكية مصنوعة من الذهب و الفضة مرصعة باللآلي و الفصوص و بعث مع تلك الجياد خدم يقومون ببنائها المتعارف فيها و وصلت الهدية إلى سلطان المغرب وقعت منه أحسن المواقع و أعاد الكتب و الرسل بالشكر و استحكمت المودة بين هذين السلطانين و اتصلت المهاداة إلى أن مضيا لسبيلهما و الله تعالى ولي التوفيق (5/503)
وفاة الخليفة أبي الربيع و ولاية ابنه
قد ذكرنا أيام الظاهر و أنه أقام خليفة بمصر من ولد الراشد وصل يومئذ من بغداد و اسمه أحمد بن محمد و ذكرنا نسبة هنالك إلى الراشد و أنه بويع له بالخلافة سنة ستين و ستمائة و لقبه الحاكم فلم يزل في خلافته إلى أن توفي سنة إحدى و سبعمائة و قد عهد لابنه سليمان فبايع له أهل دولة الناصر الكافلون لها و لقبوه المستكفي فبقي خليفة سائر أيام الناصر ثم تنكر له السلطان سنة ست و ثلاثين لشيء نمي له عن بنيه فأسكنه بالقلعة و منعه من لقاء الناس فبقي حولا كذلك ثم ترك سبيله و نزل إلى بيته ثم كثرت السعاية في بنيه فغربه سنة ثمان و ثلاثين إلى قوص هو و بنيه و سائر أقاربه و أقام هنالك إلى أن هلك سنة أربعين قبل مهلك الناصر و قد عهد بالخلافة لابنه أحمد و لقبه الحاكم فلم يمض الناصر عهده في ذلك لأن أكثر السعاية المشار إليها كانت فيه فنصب للخلافة بعد المستكفي ابن عمه إبراهيم بن محمد و لقبه الواثق و هلك لأشهر قريبة فاتفق الأمراء بعده على إمضاء عهد المستكفي في ابنه أحمد فبايعوه سنة إحدى و أربعين و أقام في الخلافة إلى سنة ثلاث و خمسين فتوفي و ولي أخوه أبو بكر و لقب المعتضد ثم هلك سنة ثلاث و ستين لعشرة أشهر من خلافته و نصب بعده ابنه محمد و لقب المتوكل و نورد من أخباره في أماكنها ما يحضرنا ذكره و الله سبحانه و تعالى أعلم بغيبه (5/504)
نكبة تنكز و مقتله
كان تنكز مولى من موالي لاشين اصطفاه الناصر و قربه و شهد معه وقائع التتر و سار معه إلى الكرك و أقام في خدمته مدة خلعه و لما رجع إلى كرسيه و مهد أمور ملكه و رتب الولاية لمن يرضاه من أمرائه بعث تنكز إلى الشام و جعله نائبا بدمشق و مشارفا لسائر بلاد الروم ففتح ملطية و دوخ بلاد الأرمن و كان يتردد بالوفادة على السلطان يشاوره و ربما استدعاه للمفاوضة في المهمات و استفحل في دفاع التتر و كيادهم و لما توفي أبو سعيد و انقرض ملك بني هلاكو و افترق أمر بغداد و تورين و كانا معا يجاورانه و يستنجدانه و سخطه بعضهم فراسل السلطان بغشه و أدهانه في طاعته و ممالأة أعدائه و شرع السلطان في استكشاف حاله و كان قد عقد له على بنته فبعث داوداره باجار يستقدمه للأعراس بها و كان عدوا له للمنافسة و الغيرة فأشار على تنكز بالمقام و تخليه عن السلطان و غشه في النصيحة و حذر السلطان منه فبعث الملك الناصر إلى طمشتر نائب صفد أن يتوجه إلى دمشق و يقبض عليه فقبض عليه سنة أربعين لثمان و عشرين سنة لولايته بدمشق و بعث الملك الناصر مولاه لشمك إلى دمشق في العساكر فاحتاط على موجوده و كان شيئا لا يعبر عنه من أصناف المتملكات و جاء به مقيدا فاعتقل بالإسكندرية ثم قتل في محبسه و الله تعالى أعلم (5/504)
وفاة الملك الناصر و ابنه أنوك قبله و ولاية ابنه أبي بكر ثم كجك
ثم توفي الملك الناصر محمد بن المنصور قلاون أمجد ما كان ملكا و أعظم استبدادا توفي على فراشه في ذي الحجة آخر إحدى و أربعين و سبعمائة بعد أن توفي قبله بقليل ابنه أنوك فاحتسبه و كانت وفاته لثمان و أربعين سنة من ولايته الأولى في كفالة طنبغا و لاثنتين و ثلاثين من حين استبداده يأمره بعد بيبرس وصفا الملك له و ولي النيابة في هذه ثلاثة من أمرائه بيبرس الدوادار المؤرخ ثم بكتمر الجوكندار ثم أرغون الدوادار و لم يول أحد النيابة بعده و بقيت الوظيفة عطلا آخر أيامه و أما دوادارية فأيدمر ثم سلار ثم الحلي ثم يوسف بن الأسعد ثم بغا ثم طاجارو كتب عنه شرف الدين بن فضل الله ثم علاء الدين بن الأمير ثم محيى الدين بن فضل الله ثم ابنه شهاب الدين ثم ابنه الآخر علاء الدين و ولي القضاة في دولته تقي الدين بن دقيق العيد ثم بدر الدين بن جماعة و إنما ذكرت هذه الوظائف و إن كان ذلك ليس من شرط الكتاب لعظم دولة الناصر و طول أمدها و استفحال دولة الترك عندها و قدمت الكتاب على القضاة و إن كانوا أحق بالتقديم لأن الكتاب أمس بالدولة فإنهم من أعوان الملك و لما اشتد المرض بالسلطان و كان قوصون أحظى عظيم من أمرائه فبادر القصر في مماليكه متسلحين و كان بشتك يضاهيه فارتاب و سلح أصحابه و بدا بينهما التنافس و دس بشتك الشكوى إلى السلطان فاستدعاهما و أصلح بينهما و أراد أن يعهد بالملك إلى قوصون فامتنع فعهد لابنه أبي بكر و مات فمال من عماله بشتك إلى ولاية أحمد صاحب الكرك و أبى قوصون إلا الوفاء بعهد السلطان ثم رجع إليه بشتك بعد مراوضة فبويع أبو بكر و لقب المنصور و قام بأمر الدولة قوصون و ردفه قطلوبغا الفخري فولوا على نيابة السلطان طقرد مر و بعثوا على حلب طشتمر و على حمص أخضر عوضا عن طغراي و أقروا كيبغا الصالحي على دمشق ثم استوحش بشتك من استبداد قوصون و قطلو بغادونه فطلب نيابة دمشق و كان يعجب بها من يوم دخلها للحوطة على تنكز فاستعفوه فلما جاء للوداع قبض عليه قطلوبغا الفخري و بعث به إلى الإسكندرية فاعتقل بها ثم أقبل السلطان أبو بكر على لذاته و نزع عن لملك و صار يمشي في سكك المدينة في الليل متنكرا مخالطا للسوقة فنكر ذلك الأمراء و خلعه قوصون و قطلوبغا لسبعة و خمسين يوما من بيعته و بعثوا به إلى قوص فحبس بها و ولوا أخاه كجك و لقبوه الأشرف و عزلوا طقرد مر عن النيابة و قام بها قوصون و بعثوا طقرد مر نائبا على حماة و أدالوا به من الأفضل بن المؤيد فكان آخر من وليها من بني المظفر و قبضوا على طاجار الدويدار و بعثوا به إلى الإسكندرية فغرق في البحر و بعثوا بقتل بشتك في محبسه بالإسكندرية و الله تعالى ينصر من يشاء من عباده (5/505)
مقتل قوصون و دولة أحمد بن الملك الناصر
لما بلغ الخبر إلى الأمراء بالشام باستبداد قوصون على الدولة غصوا من مكانه و اعتزموا على البيعة لأحمد بن الملك الناصر و كان يومئذ بالكرك مقيما منذ ولاه أبوه إمارتها كما قدمناه فكاتبه طشتمر نائب حمص و أخضر نائب حلب و استدعاه إلى الملك و بلغ الخبر إلى مصر فخرج قطلوبغا في العساكر لحصار الكرك و بعثوا إلى طنبغا الصالحي نائب دمشق فسار في العساكر إلى حلب للقبض على طشتمر نائب حمص و أخضر و كان قطلوبغا الفخري قد استوحش من صاحبه قوصون و غص باستبداده عليه فلما فصل بالجند من مصر بعث بيعته إلى أحمد بن الملك الناصر بالكرك و سار إلى الشام فأقام دعوته في دمشق و دعا إليها طقرمرد نائب حماة فأجابه و قدم عليه و انتهى الخبر إلى طنبغا نائب دمشق و هو يحاصر حلب فافرج عنها و دعاه قطلوبغا إلى بيعة أحمد فأبى فانتقض عليه أصحابه و سار إلى مصر و استولى قطلوبغا الفخري على الشام أجمع بدعوة أحمد و بعث إلى الأمراء بمصر فأجابوا إليها و اجتمع أيدغمش و أقسنقر السلاري و غازي و من تبعهم من الأمراء على البيعة لأحمد و استراب بهم قوصون كافل المملكة و هم بالقبض عليهم و شاور طنبغا اليحياوي من عنده من أصحابه في ذلك فغشوه و خذلوه و ركب القوم ليلا و كان أيدغمش عنده بالإصطبل و هو أمير الماصورية و هم قوصون بالركوب فخذله و ثنى عزمه ثم ركب معهم و اتصلت الهيعة و نادى في الغوغاء بنهب بيوت قوصون فنهبوها و خربوها و خربوا الحمامات التي بناها بالقرافة تحت القلعة و نهب شيخها شمس الدين الأصبهاني فسلبوه ثيابه و انطلقت أيدي الغوغاء في البلد و لحقت الناس منهم مضرات في بيوتهم و اقتحموا بيت حسام الدين الغوري قاضي الحنفية فنهبوه و سبوا عياله و قادهم إليه بعض من كان يحنق عليه من الخصوم فجرت عليه معرة من ذلك ثم اقتحم أيدغمش و أصحابه القلعة و تقبضوا على قوصون و بعثوا به إلى الإسكندرية فمات في محبسه و كان قوصون قد أخرج جماعة من الأمراء للقاء طنبغا الصالحي فسار قراسنقر السلاري في أثرهم و تقبض عليهم و على الصالحي و بعث بهم جميعا إلى الإسكندرية فيما بعد سنة خمس و أربعين و بعث لأحمد بن الملك الناصر و طير إليه بالخبر و تقبض على جماعة من الأمراء و اعتقلهم ثم قدم السلطان أحمد من الكرك في رمضان سنة اثنتين و أربعين و معه طشتمر نائب حمص و أخضر نائب حلب و قطلوبغا الفخر فولى طشتمر نائبا بمصر و قطلوبغا الفخري بعثه إلى دمشق نائبا ثم قبض على أخضر لشهر أو نحوه و قبض على أيدغمش و أقسنقر السلاري ثم ولى أيدغمش على حلب و بلغ الخبر إلى قطلوبغا الفخري قبل وصوله إلى دمشق فعدل إلى حلب و أتبعته العساكر فلم يدركوه و تقبض على أيدغمش بحلب و بعث به إلى مصر فاعتقل مع طشتمر و إرتاب الأمراء بأنفسهم و استوحش السلطان منهم انتهى و الله أعلم (5/506)
مسير السلطان أحمد إلى الكرك و اتفاق الأمراء على خلعه و البيعة لأخيه الصالح
و لما استوحش الأمراء من السلطان و ارتاب بهم ارتحل إلى الكرك لثلاثة أشهر من بيعته و احتمل معه طشتمر و أيدغمش معتقلين و استصحب الخليفة الحاكم و استوحش نائب صفد بيبرس الأحمدي و سار إلى دمشق و هي يومئذ فوضى فتلقاه العسكر و أنزلوه و بعث السلطان في القبض عليه فأبى من إعطاء يده و قال إنما الطاعة لسلطان مصر و أما صاحب الكرك فلا و طالت غيبة السلطان أحمد بالكرك و إضطرب الشام فبعث إليه الأمراء بمصر في الرجوع إلى دار ملكه فامتنع و قال هذه مملكتي أنزل من بلادها حيث شئت و عمد إلى طشتمر و أيدغمش الفخري فقتلهما فاجتمع الأمراء بمصر و كبيرهم بيبرس العلاني و أرغون الكاملي و خلعوه و بايعوا لأخيه اسمعيل في محرم سنة ثلاث و أربعين و لقبوه الصالح فولى أقسنقر السلاري و نقل أيدغمش الناصري من نيابة حلب إلى نيابة دمشق و ولى مكانه بحلب طقرمرد ثم عزل أديغمش من دمشق و نقل إليها طقرمرد و ولي بحلب طنبغا المارداني ثم هلك المارداني فولى مكانه طنبغا اليحياوي و استقامت أموره و الله تعالى ولي التوفيق (5/507)
ثورة رمضان بن الناصر و مقتله و حصار الكرك و مقتل السلطان أحمد
ثم أن بعض المماليك داخل رمضان بن الملك الناصر في الثورة بأخيه و واعدوه قبة النصر فركب إليهم و أخلفوه فوقف في مماليكه ساعة يهتفون بدعوته ثم استمر هاربا إلى الكرك و أتبعه العسكر مجدين السير في الطريق و جاؤا به فقتل بمصر و ارتاب السلطان بالكثير من الأمراء و تقبض على نائبه أقسنقر السلاري و بعث به إلى الإسكندرية فقتل هنالك و ولى مكانه إنجاح الملك ثم سرح العساكر سنة أربع و أربعين لحصار الكرك مترادفة و نزع بعض العساكر عن السلطان أحمد من الكرك فلحقوا بمصر و كان آخر من سار من الأمراء لحصار الكرك قماري و مساري سنة خمس و أربعين فأخذوا بمخنقة ثم اقتحموا عليه و ملكوه و قتلوه فكان لبثه بالملك في مصر ثلاثة أشهر و أياما و انتقل إلى الكرك في محرم سنة ثلاث و أربعين إلى أن حوصر و مثل به و توفي في أيامه طنبغا المارداني نائب حلب فولي مكانه طنبغا اليحياوي و سيف الدين طراي الجاشنكير نائب طرابلس فولي مكانه أقسنقر الناصري و الله تعالى أعلم (5/508)
وفاة الصالح بن الناصر و ولاية أخيه الكامل
ثم توفي الملك إسمعيل بن الملك الناصر حتف أنفه سنة ست و أربعين لثلاث سنسن و ثلاثة أشهر من ولايته و بويع بعده أخوه زين الدين شعبان و لقب الكامل و قام بأمره أرغون العلاوي و ولي نيابة مصر و عرض إنجاح الملك إلى صفد ثم رده من طريقه معتقلا إلى دمشق و بعث إلى القماري الكبير فبعثه إلى حبس الإسكندرية و استدعى طقرمرد نائب دمشق و كجك الأشرف المخلوع بن الناصر الذي ولاه قوصون و هلك إنجاح الملك الجوكندار في محبسه بدمشق انتهى و الله أعلم (5/508)
مقتل الكامل و بيعة أخيه المظفر حاجي
كان السلطان الكامل قد أرهف حده في الإستبداد على أهل دولته فرارا مما يتوهم فيهم من الحجر عليه فتراسل الأمراء بمصر و الشام و أجمعوا الإدالة منهم و انتقض طنبغا البحياوي و من معه بدمشق سنة سبع و أربعين و برز العساكر يريد مصر و بعث الكامل منجو اليوسفي يستلطع أخبارهم فحبسه اليحياوي و اتصل الخبر بالكامل فجرد العساكر إلى الشام و اعتقل حاجي و أمير حسين بالقلعة و اجتمع الأمراء بمصر للثورة و ركبوا إلى قبة النصر مع أيدمر الحجازي و أقسنقر الناصري و أرغون شاه فركب إليهم الكامل في مواليه و معه أرغون العلاوي نائبه فكانت بينهما جولة هلك فيها أرغون العلاوي و رجع الكامل إلى القلعة منهزما و دخل من باب السر مختفيا و قصد محبس أخويه ليقتلهما فحال الخدام دونهما و غلقوا الأبواب و جمع الذخيرة ليحملها فعاجلوه عنها و دخلوا القلعة و قصدوا حاجي بن الناصر فأخرجوه من معتقله و جاؤا به فبايعوا و لقبوه المظفر و افتقدوا الكامل و تهددوا جواريه بالقتل فدلوا عليه و اعتقل مكان حاجي بالدهشة و قتل في اليوم الثاني و أطلق حسين و قام بأمر المظفر حاجي أرغون شاه و الحجازي و ولوا طقتمر الأحمدي نائبا بحلب و الصلاحي نائبا بحمص و حبس جميع موالي الكامل و أخرج صندوق من بيت الكامل قيل أن السحر فأحرق بمحضر الأمراء و نزع المظفر حاجي إلى الإستبداد كما نزع أخوه فقبض على الحجازي و الناصري و قتلهما لأربعين يوما من ولايته و على أرغون شاه و بعثه نائبا إلى صفد و جعل مكان طقتمر الأحمدي في حلب تدمر البدري و ولى على نيابة الحاج أرقطاي و أرهف حده في الإستبداد و ارتاب الأمراء بمصر و الشام و انتقض اليحياوي بدمشق سنة ثمان و أربعين و داخله نواب الشام في الخلاف و وصل الخبر إلى مصر فاجتمع المراء و تواعدوا للوثوب و نمي الخبر إلى المظفر فأركب مواليه من جوف الليل و طافوا بالقلعة و تداعى الأمراء إلى الركوب و استدعاهم من الغد إلى القصر و قبض على كل من اتهمه منهم بالخلاف و هرب بعضهم فأدرك بساحة البلد و اعتقلوا جميعا و قتلوا من تلك الليلة و بعث بعضهم إلى الشام فقتلوا بالطريق و ولى من الغد مكانهم خمسة عشر أميرا و وصل الخبر إلى دمشق فلاذ اليحياوي بالمغالطة يخادع بها و قبض على جماعة من الأمراء و كان السلطان المظفر قد بعث الأمير الجبقا من خاصته إلى الشام عندما بلغه انتقاض طنبغا اليحياوي يستطلع أخباره فحمل الناس على طاعة المظفر و أغراهم باليحياوي حتى قتلوه و بعثوا برأسه إلى مصر و سكنت الفتنة و استوسق الملك للمظفر و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/509)
مقتل المظفر حاجي بن الناصر و بيعة أخيه حسن الناصر و دولته الأولى
قد كنا قدمنا أن السلطان بعث جبقا إلى الشام حتى مهده و مما أثر الخلاف منه و رجع إلى السلطان سنة ثمان و أربعين و قد استوسق أمره فوجد الأمراء مستوحشين من السلطان و منكرين عليه اللعب بالحمام فتنصح له بذلك يريد إقلاعه عنه فسخط ذلك منه و أمر بالحمام فذبحت كلها و قال لجبقا أنه أذبح خياركم كما ذبحت هذه فاستوحش جبقا و غدا على الأمراء و النائب بيقاروس و ثاروا بالسلطان و خرجوا إلى قبة النصر و ركب المظفر في مواليه و الأمراء الذين معه قد داخلوا الآخرين في الثورة و رأيهم واحد في خلعه فبعث إليهم الأمير شيخوا يتلطف لهم فأبوا إلا خلعه فجاءهم بالخبر ثم رجع إليهم و زحف معهم و لحق بهم الأمراء الذين مع المظفر عندما تورط في اللقاء و حمل عليه بيقاروس فأسلمه أصحابه و أمسكه باليد فذبحه في تربة أمه خارج القلعة و دفن هناك و دخلوا القلعة في رمضان من السنة و أقاموا عامة يومهم يتشاورون فيمن يولونه حتى هم أكثر الموالي يالثورة و الركوب إلى قبة النصر فحينئذ بايعوا حسن بن الملك الناصر و لقبوه الناصر بلقب أبيه فوكل بأخيه حسين و مواليه لنفسه و نقل المال بالحوش فوضعه بالخزانة و قام بالدولة ستة من المراء و هم شيخوا وطاز و الجبقا و أحمد شادي الشرنخاناه و أرغون الإسماعيلي و المستبد عليهم جميعا بيقاروس و يعرف بالقاسمي فقتل الحجازي و أقسنقر القائمين بدولة المظفر بمحبسهما بالقلعة و ولي بيقاروس نائبا بمصر فكان أرقطاي و أرغون شاه نائبا بحلب مكان تدمر البدري ثم نقله إلى دمشق منذ مقتل اليحياوي و ولى مكانه بحلب أياس الناصر ثم تقبض بيقاروس على رفيقه أحمد شادي الشرنخاناه و غربه إلى صفد و أبعد الجبقا من رفقته و بعثه نائبا على طرابلس و بعث أرغون الإسماعيلي منهم نائبا على حلب و في هذه السنة وقعت الفتنة بينه و بين مهنا بن عيسى و لقيه فهزمه و وفد أحمد أخوه على السلطان فولاه إمارة العرب و هدأت الفتنة بينهم ثم هلك سنة تسع و أربعين بعدها و ولى أخوه فياض كما مر في أخبارهم و الله تعالى أعلم (5/510)
مقتل أرغون شاه نائب دمشق
كان خبر الواقعة الغريبة أن الجبقا بعثوه نائبا على طرابلس و سار صحبة أياس الحاجب نائبا على حلب سنة خمسين و انتهوا إلى دمشق و نمي إلى الجبقا عن أرغون شاه أنه تعرض لبعض حرمة بصنيع جمع فيه نسوان أهل الدولة بدمشق فكتب إليه ليلا و طرقه في بيته فلما خرج إليه قبض عليه و ذبحه في ربيع و صنع مرسوما سلطانيا دافع به الناس و الأمراء و استصفى أمواله و لحق بطرابلس و جاء الأمر و جاء الأمر من مصر باتباعه و إنكار المرسوم الذي أظهروه فزحفت العساكر من دمشق و قبضوا على الجبقا و أياس الحاجب بطربلس و جاؤا بهما إلى مصر فقتلا و ولي الشمس الناصري نيابة دمشق مع أرغون شاه و صلب أرغون الكافلي و ذلك في جمادى سنة خمسين واصل أرغون شاه من بلاد الصين جلب إلى السلطان أبي سعيد ملك التتر ببغداد فأعطاه للأمير خواجا نائب جوبان و أهداه خواجا للملك الناصر فحظي عنده و قدمه رأس نوبة و زوجه بنت عبد الواحد ثم ولاه الكامل استاذ دار ثم عظمت مرتبته أيام المظفر و جعل نائبا في صفد ثم حلب و لما حبس طنبغا اليحياوي على دمشق بسعاية الجبقا كما مر ولى أرغون شاه بدمشق و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/511)
نكبة بيقاروس
ثم إن السلطان حسن شرع في الاستبداد و قبض على منجك اليوسفي استاذ داره و على السلحدار و اعتقلهما من غير مشورة بيقاروس و أصحابه و كان لمنجك اختصاص ببيقاروس و أخوه معه فارتاب و استأذن السلطان في الحج هو وطاز فأذن لهما و دس إلى طاز بالقبض على بيقاروس و سارا لشأنهما فلما نزلا بالينبع قبض طاز على بيقاروس فخرج و رغب إليه في أن يتركه يحج مقيدا فتركه فلما قضى نسكه و رجعوا حبسه طاز بالكرك بأمر السلطان و أفرج عنه بعد ذلك و ولي نيابة حلب و انتقض بها كما نذكر بعد أن شاء الله تعالى و بلغ خبرا اعتقاله إلى أحمد شادي الشرنخاناه بصفد فانتقض و جهز السلطان إليه العساكر فقبض عليه و جيء به إلى مصر فأعتقل بالإسكندرية و قام بالدولة مغلطاي من أمرائها و الله تعالى أعلم (5/511)
واقعة الظاهر ملك اليمن بمكة و اعتقاله ثم اطلاقه
كان ملك اليمن و هو المجاهد علي بن داود المؤيد قد جاء إلى مكة حاجا سنة إحدى و خمسين و هي السنة التي حج فيها طاز و شاع في الناس عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر وفد المصريين لوفد اليمنيين و وقعت في بعض الأيام هيعة في ركب الحاج فتحاربوا و انهزم المجاهد و كان بيقاروس مقيدا فأطلقه و أركبه ليستعين به فجلا في تلك الهيعة و أعيد إلى اعتقاله و نهب حاج اليمن و قيد المجاهد إلى مصر فاعتقل بها حتى أطلق في دولة الصالح سنة اثنتين و خمسين و توجه معه قشتمر المنصوري ليعيده إلى بلاده فلما انتهى إلى الينبع أشيع عنه أنه هم بالهرب فقبض عليه قشتمر المنصوري و حبسه بالكرك ثم أطلق بعد ذلك و أعيد إلى ملكه و الله أعلم (5/511)
خلع حسن الناصر و ولاية أخيه الصالح
لما قبض السلطان حسن على بيقاروس و حبسه و تنكر لأهل دولته و رفع عليهم مغلطاي و اختصه و استوحشوا لذلك و تفاوضوا و داخل طاز و هو كبيرهم جماعة من الأمراء في الثورة و أجابه إلى ذلك بيقو الشمسي في آخرين و اجتمعوا لخلعة و ركبوا في جمادي سنة اثنتين و خمسين فلم يمانعهم أحد و ملكوا أمرهم و دخلوا القلعة و قبض طاز على حسن الناصر و اعتقله و أخرج أخاه حسينا من اعتقاله فبايعه و لقبه الصالح و قام بحمل الدولة و أخرج بيقو الشمسي إلى دمشق و بيقر إلى حلب أسيرين و انفرد بالأمر ثم نافسه أهل الدولة و اجتمعوا على الثورة و تولى كبر ذلك مغلطاي و منكلي و بيبقا القمري و ركبوا فيمن اجتمع إليهم إلى قبة النصر للحرب فركب طاز و سلطانه الصالح في جموعه و حمل عليهم ففض جمعهم و أثخن فيهم و قبض على مغلطاي و منكلي فحبسهما بالإسكندرية و أفرج عن منجك و عن شيخو و جعله أتابكه على العساكر و أشركه في سلطانه و ولى سيف الدين ملاي نيابته و اختص سرغتمش و رقاه في الدولة و قبض على الشمسي المحمدي نائب دمشق و نقل إليها لمكانه أرغون الكاملي من حلب و أفرج عن بيقاروس بالكرك و بعثه مكانه إلى حلب ثم تغير منجك و اختفى بالقاهرة و الله تعالى أعلم (5/512)
انتقاض بيقاروس و استيلاؤه على الشام و مسير السلطان إليه و مقتله
قد تقدم لنا ذكر بيقاروس و قيامه بدولة حسن الأولى و نكبته في طريقه إلى الحج بالكرك و لما أطلقه طاز و ولاه على حلب أدركته المنافسة و الغيرة من طاز و استبداده بالدولة فحدثته نفسه بالخلاف و داخل نواب الشام و وافقه في ذلك بلكمش نائب طرابلس و أحمد شادي الشرنخاناه نائب صفد وخالفه أرغون الكاملي نائب دمشق و تمسك بالطاعة و تعاقد هؤلاء على الخلاف مع شيخو و سرغتمش في رجب سنة ثلاث و خمسين ثم دعا بيقاروس العرب و التركمان إلى الموافقة فأجابه جبار بن مهنا من العرب و قراجا بن العادل من التركمان في جموعهما و برز من حلب بقصد دمشق فأجفل عنها أرغون النائب إلى غزة و استخلف عليها الجبقا العادلي و وصل بيقاروس فملكها و امتنعت القلعة فحاصرها و كثر العيث من عساكره في القرى و سار السلطان الصالح و أمراء الدولة من مصر في العساكر في شعبان من السنة و أخرج معه الخليفة المعتضد أبا الفتح أبا بكر بن المستكفي و عثر بين يدي خروجه على منجك ببعض البيوت لسنة من اختفائه فبعث به سرغتمش إلى الإسكندرية و بلغ بيقاروس خروج السلطان من مصر فأجفل عن دمشق و ثار العوام بالتركمان فأثخنوا فيهم و وصل السلطان إلى دمشق و نزل بالقلعة و جهز العساكر في إتباع بيقاروس فجاؤا بجماعة من الأمراء الذين كانوا معه فقتل السلطان بعضهم ثالث الفطر و حبس الباقين و ولى على دمشق المير عليا المارداني و نقل منها أرغون الكاملي إلى حلب و سرح العساكر في طلب بيقاروس مع مغلطاي الدوادار و عاد إلى مصر فدخلها في ذي القعدة من السنة و سار مغلطاي في طلب بيقاروس و أصحابه فأوقع بهم و تقبض على بيقاروس و أحمد و قطلمش و قتلهم و بعث برؤسهم إلى مصر أوائل سنة أربع و خمسين و أوعز السلطان إلى أرغون الكاملي نائب حلب بأن يخرج في العساكر لطلب قراجا بن العادل مقدم التركمان فسار إلى بلده البلسين فوجدها مقفرة و قد أجفل عنها فهدمها أرغون و أتبعه إلى بلاد الروم فلما أحس بهم أجفل و لحق بابن أرشا قائد المغل في سيواس و نهب العساكر أحياءه و استاقوا مواشيه ثم قبض عليه ابن ارشا قائد المغل و بعث به إلى مصر فقتل بها و سكنت الفتنة و أطلق المعتقلون بالإسكندرية و تأخر منهم مغلطاي و منجك أياما ثم أطلقا و غربا إلى الشام و الله تعالى أعلم (5/512)
واقعة العرب بالصعيد
و في أثناء هذه الفتن كثر فساد العرب بالصعيد و عيثهم و انتهبوا الزروع و الأموال و تولى كبر ذلك الأحدب و كثرت جموعه فخرج السلطان في العساكر سنة أربع و خمسين و معه طاز و سار شيخو في المقدمة فهزم العرب و استلحم جموعهم و امتلأت أيدي العساكر بغنائمهم و خلص السلطان من الظهر و السلاح ما لا يعبر عنه و أسر جماعة منهم فقتلوا و هرب الأحدب حتى استأمن بعد رجوع السلطان فأمنه على أن يمتنعوا من ركوب الخيل و حمل السلاح و يقبلوا على الفلاحة و الله تعالى أعلم (5/513)
خلع الصالح و ولاية حسن الناصر الثانية
كان شيخو أتابك العساكر قد إرتاب بصاحبه طاز فداخل الأمراء بالثورة بالدولة و تربص بها إلى أن خرج طاز سنة خمس و خمسين إلى البحيرة متصيدا و ركب إلى القلعة فخلع الصالح ابن بنت تنكز و قبض عليه و ألزمه بيته لثلاث سنين كوامل من دولته و بايع لحسن الناصر أخيه و أعاده إلى كرسيه و قبض على طاز فاستدعاه من البحيرة فبعثه إلى حلب نائبا و عزل أرغون الكاملي فلحق بدمشق حتى تقبض عليه سنة ست و خمسين و سيق إلى الإسكندرية فحبس بها و بلغ الخبر بوفاة الشمسي الأحمدي نائب طرابلس و ولى مكانه منجك و استبد شيخو بالدولة و تصرف بالأمر و النهي و ولى على مكة عجلان بن رميثة و أفرده بإمارتها و كانت له الولاية و العزل و الحلى و العقد سائر أيامه و اعتمد الملوك من النواحي شرقا و غربا بالمخاطبات و كان رديفه في حمل الدولة سرغتمش من موالي السلطان و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده بمنه (5/514)
مهلك شيخو ثم سرغتمش بعده و استبداد السلطان بأمره
لم يزل شيخو مستبدا بالدولة و كافلا للسلطان حتى وثب عليه يوما بعض الموالي بمجلس السلطان في دار العدل في شعبان سنة ثمان و خمسين اعتمده في دخوله من باب الايوان و ضربه بالسيف ثلاثا أصاب بها وجهه و رأسه و ذراعيه فخر لليدين و دخل السلطان بيته و انفض المجلس و اتصلت الهيعة بالعسكر خارج القلعة فاضطربوا و اقتحم موالي شيخو القلعة إلى الإيوان بتقدمهم خليل بن قوصون و كان ربيبه لان شيخو تزوج بأمه فاحتمل شيخو إلى منزله و أمر الناصر بقتل المملوك الذي ضربه فقتل ليومه و عاده الناصر من الغد و توجل من الوثبة أن تكون بأمره و أقام شي خو عليلا إلى أن هلك في ذي القعدة من السنة و هو أول من سمي الأمير الكبير بمصر و استقل سرغتمش رديفه بحمل الدولة و بعث عن طاز فأمسكه بحلب و حبسه بالاسكندرية و ولى مكانه الأمير عليا المارداني نقله إليها من دمشق و ولى مكانه بدمشق منجك اليوسفي ثم تقبض السلطان على سرغتمش في رمضان سنة تسع و خمسين و على جماعة من الأمراء معه مثل مغلطاي الدوادار و طشتمر القامسي الحاجب و طنبغا الماجاري و خليل بن قوصون و محا السلحدار و غيرهم و ركب مواليه و قاتلوا مماليك السلطان في ساحة القلعة صدر نهار ثم انهزموا و قتلوا و اعتقل سرغتمش و جماعته المنكوبون بالاسكندرية و قتل بمحبسه لسبعين يوما من اعتقاله و تخطت النكبة إلى شيعته و أصحابه من الأمراء و القضاة و العمال و كان الذي تولى نكبة هؤلاء كلهم بأمر السلطان منكلي بيبقا الشمسي ثم استبد السلطان بملكه و استولى على أمره و قدم مملوكه بيبقا القمري و جعله أمير ألف و أقام في الحجابة الجاي اليوسفي ثم بعثه إلى دمشق نائبا و استقدم منجك نائب دمشق فلما وصل إلى غزة استتر و اختفى فولى الناصر مكانه بدمشق الأمير عليا المارداني نقله من حلب و ولى على حلب سيف الدين بكتمر المؤمني ثم أدال من علي المارداني في دمشق باستدمر و من المؤمني في حلب بمندمر الحوراني و أمره السلطان سنة احدى و ستين بغزو سيس و فتح أذنة و طرسوس و المصيصة في حصون أخرى و ولى عليها و رجع فولاه السلطان نيابة دمشق مكان استدمر و ولى على حلب أحمد بن القتمري ثم عثر بدمشق سنة إحدى و ستين على منجك بعد أن نال العقاب بسببه جماعة من الناس فلما حضر عفا عنه السلطان و أمده و خيره في النزول حيث شاء من بلاد الشام و أقام السلطان بقية دولته مستبدا على رجال دولته و كان يأنس بالعلماء و القضاة و يجمعهم في بيته متبذلا و يفاوضهم في مسائل العلم و يصلهم و يحسن إليهم و يخالطهم أكثر ممن سواهم إلى أن انقرضت دولته و البقاء لله وحده (5/514)
ثورة بيبقا و مقتل السلطان حسن و ولاية منصور بن المظفر حاجي في كفالة بيبقا
كان بيبقا هذا من موالى السلطان حسن و أعلاهم منزلة عنده و كان يعرف بالخاصكي نسبة إلى خواص السلطان و كان الناصر قد رقاه في مراتب الدولة و ولاه الأمارة ثم رفعه إلى الأتابكية و كان لجنوحه إلى الأستبداد كثيرا ما يبوح بشكاية مثل ذلك فأحضره بعض الليالي بين حرمه و صرفه في جملة من الخدمة لبعض مواليه و قادها فأسرها بيبقا في نفسه و استوحش و خرج السلطان سنة اثنتين و ستين إلى كوم برى و ضرب بها خيامه و أذن للخاصكي في مخيمه قريبا منه ثم نمي عنه خبر الأنتقاض فأجمع القبض عليه و استدعاه فامتنع من الوصول و ربما أشعره داعيه بالاسترابة فركب إليه الناصر بنفسه فيمن حضره من مماليكه و خواص أمرائه تاسع جمادى من السنة و برز إليه بيبقا و قد أنذر به و اعتدله فصدقه القتال في ساحة مخيمه و انهزم أصحاب السلطان عنه و مضى إلى القلعة و بيبقا في اتباعه فامتنع الحراس بالقلعة من اخافة طارقة جوف الليل فتسرب في المدينة و اختفى في بيت الأمير ابن الأزكشي بالحسينية و ركب الأمراء من القاهرة مثل ناصر الدين الحسيني و قشتمر المنصوري و غيرهما لمدافعة بيبقا فلقيهم ببولاق و هزمهم و اجتمع ثانية و ثالثة و هزمهم و تنكر الناصر مع ايدمر الدوادار يحاولان النجاة إلى الشام و اطلع عليهما بعض المماليك فوشى بهما إلى بيبقا فبعث من أحضره فكان آخر العهد به و يقال أنه امتحنه قبل القتل فدله على أموال السلطان و ذخائره و ذلك لست سنين و نصف من تملكه ثم نصب بيبقا للملك محمد بن المظفر حاجي و لقبه المنصور و قام بكفالته و تدبير دولته و جعل طنبغا الطويل رديفه و ولى قشتمر المنصوري نائبا و غشتمر أمير مجلس و موسى الأزكشي أستاذ دار و أفرج عن القاسمي و بعثه نائبا بالكرك و أفرج عن طاز و قد كان عمي فبعثه إلى القدس بسؤاله ثم إلى دمشق و مات بها في السنة بعدها و أقر عجلان في ولاية مكة و ولى على عرب الشام جبار بن مهنا و أمسك جماعة من الأمراء فحبسهم و الله تعالى أعلم (5/515)
انتقاض استدمر بدمشق
و لما اتصل بالشام ما فعله بيبقا و أنه استبد بالدولة و كان استدمر نائبا بدمشق كما قدمناه امتعض لذلك و أجمع الانتقاض و داخله في ذلك مندمر و البري و منجك اليوسفي و استولى على قلعة دمشق و سار في العساكر و معه السلطان المنصور و وصل إلى دمشق و اعتصم القوم بالقلعة و ترددت بينهما القضاة بالشام حتى نزلوا على الأمان بعد أن حلف بيبقا فلما نزلوا إليه بعث بهم إلى الإسكندرية فحبسوا بها و ولى الأمير المارداني نائبا بدمشق و قطلوبغا الأحمدي نائبا بحلب مكان أحمد بن القتمري بصفد و عاد السلطان المنصور و بيبقا إلى مصر و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/516)
وفاة الخليفة المعتضد بن المستكفي و ولاية ابنه المتوكل
قد تقدم لنا أن الخليفة المستكفي لما توفي قبل الملك الناصر عهد لابنه أحمد و لقبه الحاكم و أن الناصر عدل عنه إلى إبراهيم بن محمد عم المستكفي و لقبه الواثق فلما توفي الناصر آخر سنة إحدى و أربعين أغار الأمراء القائمون بالدولة و الأمير أحمد الحاكم ابن المستكفي ولي عهده فلم يزل في خلافته إلى أن هلك سنة ثلاث و خمسين لاول دولة الصالح سبط تنكز و ولي بعده أخوه أبو الفتح بن المستكفي و لقب المعتضد ثم توفي سنة ثلاث و ستين لعشرة أعوام من خلافته و عهد إلى ابنه أحمد فولى مكانه و لقب المستكفي و الله تعالى أعلم (5/516)
خلع المنصور و ولاية الأشرف
ثم بدا لبيبقا الخاصكي في أمر المنصور محمد بن حاجي فخلعه استرابة به في شعبان سنة أربع و ستين لسبعة و عشرين شهرا من ولايته و نصب مكانه شعبان بن الناصر حسن بن الملك الناصر و كان أبوه قد توفي في ربيع الآخر من تلك السنة و كان آخر بني الملك الناصر فمات فولي ابنه شعبان ابن عشر سنين و لقبه الأشرف و تولى كفالته و في سنة خمس و ستين عزل المارداني من دمشق و ولى مكانه منكلي بغا نقله من حلب و ولى مكانه قطلوبغا الاحمدي و توفي قطلوبغا فولى مكانه غشقتمر سنة ست و ستين فولى مكانه سيف الدين فرجي و أوعز إليه سنة سبع و ستين أن يسير في العساكر لطلب خليل بن قراجا بن العادل أمير التركمان فيحضره معتقلا فسار إليه و امتنع في خرت برت فحاصره أربعة أشهر و استأمن من خليل بعدها و جاء إلى مصر فأمنه السلطان و خلع عليه و ولاه و رجع إلى بلده و قومه و الله تعالى أعلم (5/517)
واقعة الإسكندرية
كان أهل جزيرة قبرص من أمم النصرانية و هم من بقايا الروم و إنما ينتسبون لهذا العهد إلى الإفرنج لظهور الافرنج على سائر أمم النصرانية و إلا فقد نسبهم هروشيوش إلى كتيم و هم الروم عندهم و نسب أهل رودس إلى دوداتم و جلعهم اخوة كيتم و نسبهما معا إلى رومان و كانت على أهل قبرص جزية معلومة يؤدونها لصاحب مصر و ما زالت مقررة عليهم من لدن فتحها على يد معاوية أمير الشام أيام عمر و كانوا إذا منعوا الجزية يسلط صاحب الشام عليهم أساطيل المسلمين فيفسدون مراسيها و يعيثون في سواحلها حتى يستقيموا لأداء الجزية و تقدم لنا آنفا في دولة الترك أن الظاهر بيبرس بعث إليها سنة تسع و ستين و ستمائة أسطولا من الشواني و طرقت مرساها ليلا فتكسرت لكثرة الحجارة المحيطة بها في كل ناحية ثم غلب لهذه العصور أهل جنوة من الإفرنج على جزيرة رودس حازتها من يد لشكري صاحب القسطنطينية سنة ثمان و سبعمائة و أخذوا بمخنقها و أقام أهل قبرص معهم بين فتنة و صلح و سلم و حرب آخر أيامهم و جزيرة قبرص هذه على مسافة يوم و ليلة في البحر قبالة طرابلس منصوبة على سواحل الشام و مصر و اطلعوا بعض الأيام على غرة في الإسكندرية و أخبروا حاجبهم و عزم على انتهاز الفرصة فيها فنهض في أساطيله و استقر من سائر الإفرنج و وافى مرساها سابع عشر من المحرم سنة سبع و ستين في اسطول عظيم يقال بلغ سبعين مركبا مشحونة بالعدة و العدد و معه الفرسان المقاتلة بخيولهم فلما أرسى بها قدمهم إلى السواحل و عبى صفوفه و زحف و قد غص الساحل بالنظارة برزوا من البلد على سبيل النزهة لا يلقون بالا لما هو فيه و لا ينظرون مغبة أمره لبعد عهدهم بالحرب و حاميتهم يومئذ قليلة و أسوارهم من الرماة المناضلين دون الحصون خالية و نائبها القائم بمصالحها في الحرب و السلم و هو يومئذ خليل بن عوام غائب في قضاء فرضه فما هو إلا أن رجعت تلك الصفوف على التعبية و نضحوا العوام بالنبل فأجفلوا متسابقين إلى المدينة و أغلقوا أبوابها و صعدوا إلى الأسوار ينظرون و وصل القوم إلى الباب فأحرقوه و اقتحموا المدينة و اضطرب أهلها و ماج بعضهم في بعض ثم أجفلوا إلى جهة البر بما أمكنهم من عيالهم و ولدهم و ما اقتدروا عليه من أموالهم و سالت بهم الطرق و الأباطح ذاهبين في غير وجه حيرة و دهشة و شعر بهم الأعراب أهل الضاحية فتخطفوا الكثير منهم و توسط الأفرنج المدينة و نهبوا ما مروا عليه من الدور و أسواق البر و دكاكين الصيارفة و مودعات التجار و ملؤا سفنهم من المتاع و البضائع و الذخيرة و الصامت و احتملوا ما استولوا عليه من السبي و الأسرى و أكثر ما فيهم الصبيان و النساء ثم تسايل إليهم الصريخ من العرب و غيرهم فانكفأ الإفرنج إلى أساطيلهم و انكمشوا فيها بقية يومهم و أقلعوا من الغد و طار الخبر إلى كافل الدولة بمصر الأمير بيبقا فقام في ركائبه و خرج لوقته بسلطانه و عساكره و معه ابن عوام نائب الأسكندرية منصرفه من الحج و في مقدمته خليل بن قوصون و قطلوبغا الفخري من أمرائه و عزائمهم مرهفة و نيابتهم في الجهاد صادقة حتى بلغهم الخبر في طريقهم باقلاع العدو فلم يثنه ذلك و استمر إلى الإسكندرية و شاهد ما وقع بها من معرة الخراب و آثار الفساد فأمر بهدم ذلك و اصلاحه و رجع ادراجه إلى دار الملك و قد امتلأت جوانحه غيظا و حنقا على أهل قبرص فأمر بإنشاء مائة أسطول من الأساطيل التي يسمونها القربان معتزما على غزو قبرص فيها بجميع من معه من عساكر المسلمين بالديار المصرية و احتفل في الأستعداد لذلك و استكثر من السلاح و آلات الحصار و كمل غرضه من ذلك كله في رمضان من السنة لثمانية أشهر من الشروع فيه فلم يقدر على تمام غرضه من الجهاد لما وقع من العوائق كما نقصه و الله تعالى ولى التوفيق (5/517)
ثورة الطويل و نكبته
كان طنبغا الطويل من موالي السلطان حسن و كانت وظيفته في الدولة أمير سلاح و هو مع ذلك رديف بيبقا في أمره و كان يؤمل الاستبداد ثم حدثت له المنافسة و الغيرة من بيبقا كما حدثت لسائر أهل الدولة عندما استكمل أمره و استفحل سلطانه و داخلوا الطويل في الثورة و كان دوادار السلطان ارغون الأشقري و أستاذ دار المحمدي و بيناهم في ذلك خرج الطويل للسرحة بالعباسية في جمادى سنة سبع و ستين و فشا الأمر بين أهل الدولة فنمي إلى بيبقا و اعتزم على اخراج الطويل إلى بلاد الشام و أصدر له المرسوم السلطاني بنيابة دمشق و بعث به إليه و بالخلعة على العادة مع ارغون الأشقري الدوادار و روس المحمدي أستاذ دار من المداخلين له و معه ارغون الأرقي و طنبغا العلائي من أصحاب بيبقا فردهم الطويل و أساء عليهم و واعد بيبقا قبة النصر فهزمهم و قبض على الطويل و الأشقري و المحمدي و حبسوا بالإسكندرية ثم شفع للسلطان في الطويل في شهر شعبان من السنة و بعثه إلى القدس ثم أطلق الأشقري و المحمدي و بعث بهما إلى الشام و ولى مكان الطويل طيدمر الباسلي و مكان الأشقري في الدويدارية طنبغا الأبي بكري ثم عزله بيبقا العلائي و ولى مكانه روس العادل المحمدي و كان جماعة من الأمراء أهل وظائف في الدولة قد خرجوا مع الطويل و حبسوا فولى في وظائفهم أمراء آخرين ممن لم تكن له وظيفة و استدعى منكلي بيبقا الشمسي نائب دمشق إلى مصر يطلبه فقدم نائبا بحلب مكان سيف الدين برجي و أذن له في الإستكثار من العساكر و جعلت رتبته فوق نائب دمشق و ولى مكانه بدمشق اقطمر عبد العزيز انتهى و الله تعالى أعلم (5/519)
ثورة المماليك ببيبقا و مقتله و استبداد استدمر
كان طنبقا قد طال استبداده على السلطان و ثقلت و طاته على الأمراء و أهل الدولة و خصوصا على مماليكه و كان قد استكثر من المماليك و أرهف حده لهم في التأديب و تجاوز الضرب فيهم بالعصا إلى جدع الانوف و اصطلام الآذان فكتموا الأمر في نفوسهم و ضمائرهم لذلك و طووا على الغش و كان كبير خواصه استدمر و اقتفان الأحمدي و وقع في بعض الأيام بمثل هذه العقوبة في أخي استدمر فاستوحش له و ارتاب و داخل سائر الأمراء في الثورة يرون فيها نجاتهم منهم و خلصوا النجوى مع السلطان فيه و اقتضوا منه الأذن و سرح السلطان بيبقا إلى البحيرة في عام ثمان و سبعين و انعقد هؤلاء المماليك المتفاضون في الثورة بمنزل الطرانة و بيتوا له و نمي إليه خبرهم و رأى العلامات التي قد أعطيها من أمرهم فركب مكرا في بعض خواصه و خاض النيل إلى القاهرة و تقدم إلى نواتية البحر أن يرسوا سفنهم عند العدوة الشرقية و يمنعوا العبور كل من يرومه من العدوة الغربية و خالفه استدمر و اقتفان إلى السلطان في ليلتهم و بايعوه على مقاطعة بيبقا و نكبته و لما وصل بيبقا إلى القاهرة جمع من كان بها من الأمراء و الحجاب من مماليكه و غيرهم و كان بها ايبك البدري أمير ماخورية فاجتمعوا عليه و كان يقتمر النظامي و ارغون ططن بالعباسية سارحين فاجتمعوا إليه فخلع الاشرف و نصب أخاه اتوك و لقبه المنصور و أحضر الخليفة فولاه و استعد للحرب و ضرب مخيمة بالجزيرة الوسطى على البحر و لحق به من كانت له معه طاغية من الأمراء الذين مع السلطان بصحابة أو أمر أو ولاية مثل بيبقا العلائي الدوادار و يونس الرمام و كمشيقا الحموي و خليل بن قوصون و يعقوب شاه و قرابقا البدري و ابتغا الجوهري و وصل السلطان الاشرف من الطرانة صبيحة ذلك اليوم على التعبية قاصدا دار ملكه و انتهى إلى عدوة البحر فوجدها مقفرة من السفن فخيم هنالك و أقام ثلاثا و بيبقا و أصحابه قبالتهم بالجزيرة الوسطى ينفحونهم بالنبل و يرسلون عليهم الحجارة من المجانيق و صواعق الأنفاط و عوالم النظارة في السفن إلى أن تتوسط فيركبونها و يحركونها بالمجاذيف ناحية إلى السلطان حتى كملت منها عدة و أكثرها من القربان التي أنشأها بيبقا و أجاز فيها السلطان و أصحابه إلى جزيرة الفيل و سار التعبية و قد ملأت عساكره و تابعه بسيط الأرض و تراكم القتام بالجو و غشيت سحابه موكب بيبقا و أصحابه فتقدموا للدفاع و صدقتهم عساكر السلطان القتال فانفضوا عن بيبقا و تركوه أوحش من وتد قلاع فولى منهزما و مر بالميدان فصلى ركعتين عند بابه و استمر إلى بيته و العوام ترجمه في طريقه و سار السلطان في تعبيته إلى القلعة و دخل قصره و بعث عن بيبقا فجيء به و اعتقل بحبس القلعة سائر يومه فلم غشي الليل ارتاب المماليك بحياته و جاؤا إلى السلطان يطلبونه و قد أضمروا الفتك به و أحضره السلطان مع مقبل على التضرع للسلطان ضربه بعضهم فأناب رأسه و ارتاب من كان منهم خارج القصر في قتله فطلبوا معاينته و لم يزالوا يناولون رأسه من واحد إلى واحد حتى رماه آخرهم في مشعل كان بازائه ثم دفن و فرغ من أمره و قام بأمر الدولة استدمر الناصري و رديفه بيبقا الاحمدي و معهما بحماس الطازي و قرابقا الصرغتمشي و تغري بدمشق المتولون كبر هذه الفعلة و تقبضوا على الأمراء الذين عدلوا عنهم إلى بيبقا فحبسوهم بالإسكندرية و قد مر ذكرهم و عزل خليل بن قوصون و ألزم بيته و ولوا أمراء مكان المحبوسين و أهل وظائف من كانت له و استقر أمر الدولة على ذلك و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/519)
واقعة الاجلاب ثم نكبتهم و مهلك استدمر و ذهاب دولته
ثم تنافس هؤلاء القائمون بالدولة و حبسوا قرابقا السرغتمشي و امتعض له تغري بدمشق و داخل بعض الأمراء في الثورة و وافقه ايبك البدري و جماعة معه و ركب منتصف رجب سنة ثمان و ستين للحرب فركب له استدمر و أصحابه فتقبضوا عليهم و حبسوهم بالاسكندرية و عظم طغيان هؤلاء الاجلاب و كثر عيثهم في البلد و تجاوزهم حدود الشريعة و الملك و فاوض السلطان أمرائه في شأنهم فأشاروا بمعاجلتهم و حسم دائهم فنبذ السلطان إليهم العهد و جلس على كرسيه بالأساطيل و تقدم إلى الأمراء بالركوب فركب الجائي اليوسفي و طغتمر النظامي و سائر أمراء السلطان و من استخدموهم من مماليك بيبقا و تحيز إليهم ايبقا الجلب و بحماس الطازي عن صاحبهما استدمر و ركب لقتالهم استدمر و أصحابه و سائر الاجلاب و حاصروا القلعة إلى أن خرج الطلحساه السلطانية فاختل مركز الأمراء و فارقهم المستخدمون عندهم من مماليك بيبقا فانقض جمعهم و انهزموا و ثبت الجائي اليوسقي و أرغون التتر في سبعين من مماليكهم فوقفوا قليلا ثم انهزموا إلى قبة النصر و قتل دروط ابن أخي الحاج الملك و قبض على ايبقا الجلب جريحا و على طغتمر النظامي و على بحماس الطازي و الجائي اليوسفي و أرغون التتر و كثير من امراء الألوف و من دونهم و استولى استدمر و أصحابه الاجلاب على السلطان كما كانوا و ولى مكان المحبوسين من الأمراء و أهل الوظائف و عاد خليل بن قوصون على امارته و عزل قشتمر عن طرابلس و حبس بالاسكندرية و استبدل بكثير من أمراء الشام و استمر الحال على ذلك بقية السنة و الاجلاب على حالهم في الاستهتار بالسلطان و الرعية فلما كان محرم سنة تسع و ستين عادوا إلى الإجلاب على الدولة فركب أمراء السلطان إلى استدمر يشكونهم و يعاتبونهم في شأنهم فقبض على جماعة منهم كسر بهم الفتنة و ذلك يوم الأربعاء سادس صفر فلما كان يوم السبت عاودا الركوب و نادوا بخلع السلطان في مماليكه و نحو المائتين و التف عليهم العوام و قد حنقوا على الإجلاب بشراشرهم فيهم و ركب استدمر في الاجلاب على التعبية و هم ألف و خمسمائة و جاؤا من وراء القلعة على عادتهم حتى شارفوا القوم فأحجموا و وقفوا و أدلفتهم الحجارة من أيدي العوام بالمقاليع و حملت عليهم العساكر فانهزموا و قبض على قرابقا السرغتمشي و جماعة معه فحبسوا بالخزانة ثم جيء باستدمر أسيرا و شفع فيه الأمراء فشفعهم السلطان و أطلقه باقيا على أتابكيته و نزل إلى بيته بقبض الكيس و كان خليل بن قوصون تولى آتابكا في تلك الفترة فأمره السلطان أن يباكر به لحبسه من الغد فركب خليل إلى بيته و حمله على الانتقاض على أن يكون الكرسي لخليل بعلاقة نسبته إلى الملك الناصر من أمه فأجتمع منهم جماعة من الاجلاب و ركبوا بالرميلة فركب إليهم السلطان و الأمراء في العساكر فانهزموا و قتل كثير منهم و بعثوا بهم إلى الاسكندرية فحبسوا بها و قتل كثير ممن أسر في تلك الواقعة منهم و طيف بهم على الجمال و في أقطار المدينة ثم تتبع بقية الاجلاب بالقتل و الحبس بالثغور القاصية و كان ممن حبس منهم بالكرك برقوق العثماني الذي ولي الملك بعد ذلك بمصر و بركة الجولاني وطنبغا الجوباني و جركس الخليلي و نعنع و أقاموا كلهم متلفين بين السجن و النفي إلى أن اجتمع شملهم بعد ذلك كما نذكره و استبد السلطان بأمره بعض الشيء و أفرج عن الجائي اليوسفي و طغتمر النظامي و جماعة من المسجونين من أمرائه و ولى الجائي أمير سلاح و ولى بيبقا المنصوري و بكتمر المحمدي من أمراء الإجلاب في الأتابكية شريكين ثم نمي عنهما أنهما يرومان الثورة و اطلاق المسجونين من الإجلاب و الاستبداد على السلطان فقبض عليهما و بعث عن منكلي بغا الشمسي من حلب و أقامه في الأتابكية و استدعى أمير على المارداني من دمشق و ولاه النيابة و ولى في جميع الوظائف استبدالا وانشاء بنظره و اختياره و كان منهم مولاه ارغون الاشرفي و مازال يرقيه في الوظائف إلى أن جعله أتابك دولته و كان خالصته كما سنذكر و ولى على حلب مكان منكلي بغا طنبغا الطويل و على دمشق مكان المارداني بندمر الخوارزمي ثم اعتقله و صادره على مائة ألف دينار و نفاه إلى طرسوس و ولى مكانه منجك اليوسفي نقله إليها من طرابلس و أعاد إليها غشقتمر المارداني كما كان قبله ثم توفي طنبغا الطويل بحلب آخر سنة تسع و ستين بعد أن يروم الأنتقاض فولى مكانه استبغا الأبو بكري ثم عزله سنة سبعين و ولى مكانه قشتمر المنصوري و الله تعالى ولى التوفيق بمنه و فضله (5/521)
مقتل قشتمر المنصوري بحلب في واقعة العرب
كان جماز بن مهنا أمير العرب من آل فضل قد انتقض و ولى السلطان مكانه ابن عمه نزال بن موسى بن عيسى و استمرجماز على خلافة و وطىء بلاد حلب أيام المصيف و اجتمع إليه بنو كلاب و امتدت أيديهم على السابلة فخرج إليهم نائب حلب قشتمر المنصوري عساكره فأغار على أحيائه و استاق نعمهم و مواشيهم و شره إلى اصطلامهم فتذامروا دون احيائهم و كانت بينه و بينهم جولة أجلت عن قشتمر المنصوري و ابنه محمد قتيلين و يقال قتلهما يعبر بن جماز و رجعت عساكر الترك منهزمين إلى حلب و ذهب جماز إلى القفر ناجيا به و ولى السلطان على العرب معيقيل بن فضل ثم استأ من له جماز بن مهنا و عاود الطاعة فأعاده السلطان إلى امارته و الله تعالى أعلم (5/522)
استبداد الجائي اليوسفي ثم انتقاضه و مقتله
لما أذهب السلطان الأشرف أثر الاجلاب من دولته و قام بعض الشيء بأمره فاستدعى سنكلي بغا من حلب و جعله أتابكا و أمير على المارداني من دمشق و جعله نائبا و ولى الجائي اليوسفي أمير سلاح و ولى اصبغا عبد الله دوادار بعد أن كان الاجلاب ولوا في الدوادارية منهم واحد بعد واحد ثم سخطه و ولى مكانه اقطمر الصباحي و عمر سائر الخطط السلطانية بمن و قع عليه اختياره و رقى مولاه أرغون شاه في المراتب من واحدة إلى أخرى إلى أن أربى به على الأتابكية كما يأتي و ولى بهادر الجمالي أستاذ دار ثم أمير الماخورية تردد بينهما ثم استقر آخرا في الماخورية و ولى محمد بن اسقلاص أستاذ دار و ولى بيبقا الناصري الحجابة بعد وظائف أخرى نقله منها و زوج أمه الجائي اليوسفي فعلت رتبته بذلك في الدولة و استغلظ أمره و أغلظ له الدوادار يوما في القول فنفي و ولى مكانه منكوتمر عبد الغني ثم عزل سنة اثنتين و سبعين لسنة من ولايته و ولى السلطان مكانه طشتمر العلائي الذي كان دوادارا لبيبقا و استقرت الدولة على هذا النمط و الجائي اليوسفي مستبد فيها و وصل قود منجك من الشام سنة أربع و سبعين بمالا يعبر عنه اشتمل على الخيل و البخاتي المجللة و الجمال و الهجن و القماش و الحلاوات و الحلي و الطرف و المواعين حتى كان فيها من الكلاب الصائده و السباع و الإبل ما لم ير مثله في أصنافه ثم وصل قودقشتمر المارداني من حلب على نسبة ذلك و الله تعالى أعلم (5/523)
انتقاض الجائي اليوسفي و مهلكه و استبداد الأشرف بملكه من بعده
لم تزل الدولة مستقرة على ما وصفناه إلى أن هلك الأمير منكلي بغا الأتابك منتصف سنة أربع و سبعين و استضاف الجائي اليوسفي الأتابكيه إلى ما كان بيده و رتبته أشد من ذلك كله و هو القائم المستبد بها ثم توفيت أم السلطان و هي في عصمته فاستحق منها ميراثا دعاه لؤم الأخلاق فيه إلى المماحكة في المخلف و تجافى السلطان له عن ذلك إلا أنه كان ضيق الصدر شرس الأخلاق فكان يغلظ القول بما يخشن الصدور فأظلم الجو بينه و بين السلطان و تمكنت فيه السعاية و ذكرت هذه انتقاضه الأول و ذلك أنه كان سخط في بعض النزعات على بعض العوام من البلد فأمر بالركوب إلى العامة و قتلهم فقتل منهم كثير و نمي الخبر إلى السلطان على ألسنة أهل البصائر من دولته و عذلوه عنده فاستشاط السلطان و زجره و أغلظ له فغضب و ركب إلى قبة النصر منتقضا و ذهب السلطان في مداراة آمره إلى الملاطفة و اللين و كان الأتابك منكلي بغا يوم ذاك حيا فأوغر السلطان إليه فرجع و خلع عليه و أعاده إلى أحسن ما كان فلما بدرت هذه الثانية حذر السلطان بطانته من شأنه و خرج هو منتقضا و ركب في مماليكه بساحة القلعة و جلس السلطان و ترددت الرسل بينهما بالملاطفة فأصر و استكبر ثم أذن السلطان لمماليكه في قتاله و كان أكثرهم من الإجلاب مماليك بيبقا و قد جمعهم السلطان و استخدمهم في جملة ابنه أمير علي ولى عهده فقاتلوه في محرم سنة خمس و تسعين و كان موقفه في ذلك المعترك إلى حائط الميدان المتصل بالأساطيل فنفذت له المقاتلة من داخل الأساطيل و نضحوه بالسهام فتنحا عن الحائط حتى إذا حل مركزه ركبوا خيولهم و خرجوا من باب الأساطيل و صدقوا عليه الحملة فانهزم إلى بركة الحبش و رجع من وراء الجبل إلى قبة النصر فأقام بها ثلاثا و السلطان يراوضه و هو يشتط و شيعه يتسللون عنه ثم بعث إليه السلطان لمة من العسكر ففر أمامهم إلى قليوب و اتبعوه فخاض البحر و كان آخر العهد به ثم أخرج شلوه و دفن و أسف السلطان لمهلكه و نقل أولاده إلى قصره و رتب لهم و لحاشيتهم الأرزاق في ديوانه و قبض على من اتهمه بمداخلته و أرباب و ظائفه فصودروا كلهم و عزلوا و غربوا إلى الشام و استبد السلطان بأمره و استدعى ايدمر القرى الدوادار و كان نائبا بطرابلس فولاه أتابكا مكان الجائي و رفع رتبته و ولى أرغون شاه و جعله أمير مجلس و ولى سرغتمش من مواليه أمير سلاح و اختص بالسلطان طشتمر الدوادار و ناصر الدين محمد بن اسقلاص أستاذ دار فكانت أمور الدولة منقسمة بينهما و تصاريفها تجري بساستهما إلى أن كان ما نذكره و الله تعالى ولى التوفيق (5/523)
استقدام منجك للنيابة
كان أمير علي المارداني قد توفي سنة اثنتين و سبعين و بقيت و ظيفته خلوا لمكان الجائي اليوسفي و أحكامه و لما هلك سنة خمس و سبعين ولى السلطان اقطمر عبد الغني نائبا ثم بدا له أن يولي بالنيابة منجك اليوسفي لما رآه فيه من الأهلية لذلك و القيام به و لتقلبه في الإمارة منذ عهد الناصر حسن و أنه كان من مواليه أخا لبيبقا روس و طاز و سرغتمش فهو بقية المناجب فلما وقع نظره عليه بعث في استقدامه بيبقا الناصري من أمراء دولته و ولى مكانه بندمر الخوارزمي و أعاد عشقتمر إلى حلب مكانه و وصل منجك إلى مصر آخر سنة خمس و سبعين و معه مماليكه و حاشيته و صهر روس المحمدي فاحتفل السلطان في تكرمته و أمر أهل الدولة بالركوب لتلقيه فتلقاه الأمراء و العساكر و أرباب الوظائف من القضاة و الفقهاء و الدواوين و أذن له في الدخول من باب السر راكبا و خاصة السلطان مشاة بين يديه حتى نزل عند مقاعد الطواشية بباب القصر حيث يجلس مقدم المماليك ثم استدعى إلى السلطان فدخل و أقبل عليه السلطان و شافهه بالنيابة المطلقة و فوض إليه الولاية و العزل في سائر المراتب السلطانية من الوزراء و الخواص و القضاة و الأوقاف و غيرها و خلع عليه و خرج ثم قرر تقليده بذلك في الايوان ثاني يوم وصوله فكان يوما مشهودا و ولى الأشرف في ذلك اليوم بيبقا الناصري الذين قدم به حاجبا ثم سافر عشقتمر نائب حلب آخر سنة ست و سبعين بعدها للعساكر إلى بلاد الأرمن ففتح سائر أعمالها و استولى على ملكها النكفور بالامان فوصل بأهله و ولده إلى الأبواب السلطانية و رتب لهم الأرزاق و ولى السلطان على سيس و انقرض منها ملك الأرمن و توفي منجك آخر هذه السنة فولى السلطان اقتمر الصاجي المعروف بالحلى ثم عزله و رفع مجلسه و ولى مكانه اقتمر الالقني ثم توفي جبار بن مهنا أمير العرب بالشام فولى السلطان ابنه يعبرا مكانه ثم توفي أمير مكة من بني حسن فولى الأشرف مكانه و استقرت الأمور على ذلك و الله أعلم (5/524)
الخبر عن مماليك بيبقا و ترشيحهم في الدولة
كان السلطان الأشرف بعد أن سطا بمماليك بيبقا تلك السطوة و قسمهم بين القتل و النفي و أسكنهم السجون و أذهب أثرهم من الدولة بالجملة أرجع جملة منهم بعد ذلك و عاتبه منكلي ابغا و أن في اتلافهم قص جناح الدولة و أنهم ناشئة من الجند يحتاج الملك لمثلهم فندم على من قتل منهم و أطلق من بقي من المحبوسين بعد خمس من السنين و سرحهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء و كان فيمن أطلق الجماعة بحبس الكرك و هم برقوق العثماني و بركة الجوباني و طنبقا الجوباني و جركس الخليلي و نعنع فأطلقوا إلى الشام و دعا منجك صاحب الشام كبراءهم إلى تعليم المماليك ثقافة الرمح و كانوا بصراء بها فأقاموا عنده مدة أخبرني بذلك الطنبقا الجوباني أيام اتصالي به قال و أقمنا عند منجك إلى أن استدعاه السلطان الأشرف و كتب إليه الجائي اليوسفي بمثل ذلك فاضطرب في أيهما يجيبه فيها ثم أراد أن يخرج من العهدة فرد الأمر إلينا فأبينا إلا امتثال أمره فتحير ثم اهتدى إلى أن يبعث إلى الجائي اليوسفي و دس إلى قرطاي كافل الأمير علي ابن السلطان و كان صديقه بطلبنا من الجائي بخدمة ولى العهد و صانع الجهتين بذلك قال و صرنا إلى ولي العهد فعرضنا على السلطان أبيه و اختصنا عنده بتعليم الثقافة لمماليكه إلى أن دعانا السلطان يوم واقعة الجائي و هو جالس بالإصطبل فندبنا لحربه و ذكرنا حقوقه و أزاح عللنا بالجياد و الأسلحة فجلبنا في قتله إلى أن انهزم و ما زال السلطان بعدها يرعى لنا ذلك و يقدمنا انتهى خبر الجوباني و كان طشتمر الدوادار قد لطف محله عند الأشرف و خلاله و جهه و كان هواه في اجتماع مماليك بيبقا في الدولة يستكثر بهم فيما يومله من الاستبداد على السلطان فكان يشير في كل وقت على الاشرف باستقدامهم من كل ناحية و اجتماعهم عصابة للدولة يخادع بذلك عن قصده و كان محمد بن اسقلاص استاذ دار يساميه في الدولة و يزاحمه في مخالصة الأشرف و لطف المحل عنده ينهى السلطان عن ذلك و يحذره مغبة اجتماعهم فغص طشتمر بذلك و كان عند السلطان مماليك دونه من مماليكه الخاصكية شبابا قد اصطفاهم و هذبهم و خالصهم بالمحبة و الصهر و رشحهم للمراتب و ولى بعضهم و كان الاكابر من أهل الدولة يفضون إليهم بحاجاتهم و يتوسلون بمساعيهم فصرف طشتمر إليهم وجه السعاية و غشي مجالسهم و أغراهم بابن اسقلاص و أنه يصد السلطان أكثر الأوقات عن اغراضهم منه و يبعد أبواب الانعام و الصلات منه و صدق ذلك عندهم كثرة حاجاتهم في و ظيفته و تقرر الكثير منها عليهم عنده فوغرت صدورهم منه و أغروا به السلطان باطباق اغراء طشتمر ظاهرا حتى تمت عليهم نكبته و جمعت الكلمة و قبض عليه منتصف جمادي سنة سبع و ثماني نفاه إلى القدس فخلا لطشتمر وجه السلطان و انفرد بالتدبير و اجتمع المماليك البيبقاوية من كل ناحية حتى كثروا أهل الدولة و عمروا مراتبها و وظائفها و احتاروا من جوانبها إلى أن كان ما نذكره أن شاء الله تعالى و الله أعلم (5/525)
حج السلطان الأشرف و انتقاض المماليك عليه بالعقبة و ما كان مع ذلك من ثورة قرطاي بالقاهرة و بيعة الأمير علي ولي العهد و مقتل السلطان أثر ذلك
لما استقر السلطان في دولته على أكمل حالات الاستبداد و الظهور و اذعان الناس لطاعته في كل ناحية و أكمل الله له الامتاع بملكه و دنياه سمت نفسه إلى قضاء فرضه فأجمع الحج سنة ثمان و سبعين و تجهز لذلك و استكثر من الرواحل المستجادة و الزودة المثقلة من سائر الاصناف و استعد للسفر و احتفل في الابهة بما لم يعهد مثله و استخلف ابنه ولي العهد في ملكه و أوصى النائب اكتمر عبد النبي بمباكرة بابه و الانتهاء إلى مراسمه و أخرج بني الملك الناصر المحجوبين بالقلعة مع سرد الشيخوني إلى الكرك يقيمون به إلى منصرفه و تجهز الخليفة العباسي محمد المتوكل بن المعتضد و القضاة للحج معه و جهز جماعة من الأمراء أهل دولته و أزاح عللهم و ملأ بمعروفه حقائبهم و خرج ثاني عشر شوال في المراكب و القطارات يروق الناظرين و مخافة و زينة و الخليفة و القضاة و الأمراء حفا فيه و برز النظارة حتى العواتق من خدورهن و تجللت بمركبهم البسيطة و ماجت الأرض بهم موجا و خيم بالبركة منزل الحاج و أقام بها أيام حتى فرغ لناس من حاجاتهم و ارتحل فمازال ينتقل في المنازل إلى العقبة ثم أقام فيها على عادة الحاج و كان في نفوس المماليك و خصوصا البيبقاوية و هم الأكثر شجى يتشوقون به إلى الاستبداد من الدولة فتنكروا و اشتطوا في اقتضاء أرزاقهم و المباشرون يعللونهم و انتهى أمرهم إلى الفساد ثم طلبوا العلوفة المستقبلة إلى دار الازلم فاعتذر المباشرون بأن الأقوات حملت إلى أمام فلم يقبلوا و كشفوا القناع في الانتقاض و باتوا ليلتهم على تعبية و استدعى الأشرف طشتمر الدوادار و كان كبيرهم ففاوضه في الأمر ليفك من عزمهم فأجمل العذر عنهم و خرج إليهم فخرجوا ثم ركبوا من الغد و اصطفوا و اركبوا طشتمر معهم و منعوه من معاودة السلطان و تولى كبر ذلك منهم مبارك الطازي و سراي تمر المحمدي و بطلقمر العلائي و ركب السلطان في خاصته يظن أنهم يرعوون أو يجنح إليه بعضهم فأبوا الا الاحفاف على قتاله و نضحوا موكبه بالنبل لما عاينوه فرجع إلى خيامه منهزما ثم ركب البحر في لفيف من خواصه و معه أرغون شاه الأتابك و بيبقا الناصري و محمد بن عيسى صاحب الدرك من لفائف الأعراب أهل الضاحية و في ركابه جماعة الشباب الذين أنشأهم في مخالصته و رشحهم للوظائف في دولته كما مر و خام الفل إلى القاهرة و قد كان السلطان عندما سافر عن القاهرة ترك بها جماعة من الأمراء و المماليك مقيمين في وظائفهم كان منهم قرطاي الطازي كافل أمير علي ولى العهد و اقتمر الخليلي و قشتمر و استدمر السرغتمشي و ايبك البدري و كان الشيطان من التمردة قد أوحى إلى قرطاي بأنه يكون صاحب الدولة بمصر فكان يتشوف لذلك و يترصد له و ربما وقع بينه و بين وزير الدولة منازعة في جراية مماليك مكفوله ولي العهد و علوفاتهم أغلظ له فيها الوزير فوجم و أخذ في أسباب الأنتقاض و داخل في ذلك بعض أصحابه و واعدهم ثالث ذي القعدة و تقدم إلى داية ولي العهد ليلة ذلك اليوم بأن يصلح من شأنه و يفرغ عليه ملابس السلطان و يهيئه لجلوس التخت و ركب هو صبيحة ذلك اليوم و وقف بالرميلة عند مصلى العيد و تناول قطعة من ثوب فنصبها لواء و كان صبيان المدينة قد شرعوا اتخاذ الدبادب و الطبيلات فأمر بتناول بعضها منهم و قرعت بين يديه و تسايل الناس إليه من كل أوب و نزل من كان بطباق القصر و غرفه و بالقاهرة من المماليك و اجتمعوا إليه حتى كظ ذلك الفضاء و جاؤا تعادي بهم الخيل فاستغلظ لفيفهم ثم اقتحم القلعة في جمعه من باب الاصطبل إلى بيت مكفوله ولي العهد أمير علي عند باب الستارة يطلبونه و قبضوا على زمام الذود و كانوا عدة حتى أحضروا ولي العهد و جاؤا به على الأكتاف إلى الايوان فأجلسوه على التخت و أحضروا ايدمر نائب القلعة فبايع له ثم انزلوه إلى باب الاصطبل و أجلسوه هناك على الكرسي و استدعى الأمراء القائمين بالقاهرة فبايعوه و حبس بعضهم بالقلعة و بعث اكتمر الحلي إلى الصعيد يستكشف أحواله و اختص منهم ايبك فجعله رديفا في دولته و باتوا كذلك و أصبحوا يسائلون الركبان و يستكشفون خبر السلطان و كان السلطان لما انهزم من العقبة سار ليلتين و جاء إلى البركة آخر الثانية و جاءه الخبر بواقعة القاهرة و ما فعله قرطاي و تشاوروا فأشار محمد بن عيسى بقصد الشام و أشار آخرون بالوصول إلى القاهرة و سار السلطان إليهما و استمروا إلى قبة النصر و تهافتوا عن رواحلهم بالطلاح و قد أنهكهم التعب و أضناهم السير فما هو إلا أن وقعوا لمناكبهم و جنوبهم و غشيهم النعاس و جاء الناصري إلى السلطان الأشرف من بينهم فتنصح له بأن يتسلل من أصحابه و يتسرب في بعض البيوت بالقاهرة حتى يتبين له وجه مذهبه و انطلق بين يديه فقصد بعض النساء ممن كان ينتاب قصده و اختفى فظن النجاة في ذلك و فارقه الناصري يطلب نفقا في الأرض و قد كانوا بعثوا من قبة النصر بعض المماليك عنهم روائد يستوضحون الخبر فأصبحوا بالرميلة أمام القلعة و تعرف الناس أنه من الحاج فرفعوه إلى صاحب الدولة و عرض عليه العذاب حتى أخبره عن السلطان و أنه و أصحابه بقبة النصر مصرعين من غشي النوم فطار إليهم شراد العسكر مع استدمر السرغتمشي و الجمهور في ساقتهم حتى وقفوا إليهم في مضاجعهم و افتقدوا السلطان من بينهم و قتلوهم جميعا و جاؤا برؤسهم و وجموا لافتقاد السلطان و نادوا بطلبه و عرضوا العذاب و القتل على محمد بن عيسى صاحب الدرك فتبرأ و حبس رهينة من ثقاته ثم جاءت امرأة إلى ايبك فدلته عليه في بيت جارتها فاستخرجوه من ذلك البيت إلى ايبك فامتحنه حتى دلهم على الذخيرة و الأموال ثم قتلوه خنقا و جددوا البيعة لابنه الأمير علي و لقبوه المنصور و استقل بدولته كافله من قبل الأمير قرطاي و رديفه ايبك البدري و استقر الأمر على ذلك (5/526)
مجيء طشتمر من العقبة و انهزامه ثم مسيره إلى الشام و تجديد البيعة للمنصور بأذن الخليفة و تقديمه
لما انهزم السلطان من العقبة و مضى إلى القاهرة اجتمع أهل الثورة على قشتمر و ألقوه إليه القياد و دعوا الخليفة إلى البيعة له فتفادى من ذلك و مضى الحاج من مكة مع أمير المحمل بهادر الجمالي على العادة و رجع القضاة و الفقهاء إلى القدس و توجه طشتمر و الأمراء إلى مصر لتلافي السلطان أو تلفه فلقيهم خبر مهلكه بعجرود و ما كان من بيعة ابنه و استقلال قرطاي بالملك فثاب لهم رأي آخر في حرب أهل الدولة و ساروا على التعبية و بعثوا في مقدمتهم قطلقتمر و لقي طلائع مصر فهزمهم و سار في اتباعهم إلى ساحة القلعة فلم يشعر إلا و قد تورط في جمهور العسكر فتقبضوا عليه و كان قرطاي قد بعث عن اقتمر الصاحبي الحنبلي من الصعيد و يرجع في العساكر لحرب قشتمر و أصحابه فبرز إليهم و التقوا في ساحة القلعة و انهزم قشتمر إلى الكيمان بناحية مصر ثم استأمن فأمنوه و اعتقلوه ثم جمع الناس ليوم مشهود و حضر الخليفة و الأمراء و القضاة و العلماء و عقد الخليفة للمنصور بن الأشرف و فوض إليه و قام قرطاي بالدولة و قسم الوظائف فولى قشتمر اللفاف و استأمر السرغتشمي دوادار و ايبك البدري أمير مجلس و قرطاي الطازي رأس نوبة و اياس الصرغتمشي دوادار و ايبك البدري أمير الماخورية و سردون جركس أستاذ دار و اقتمر الحنبلي نائبا و جعل له الأقطاع للاجناد و الأمراء و النواب و أفرج عن طشتمر العلائي الدوادار و اقطعه الاسكندرية و أحضر بني الملك الناصر من الكرك مع حافظهم سردون الشيخوني و ولاه حاجبا و كذلك قلوط الصرغتمشي و أصاب الناس في آخر السنة طاعون إلى أول سنة تسع و سبعين فهلك طشتمر اللفاف الأتابك و ولي مكانه قرطاي الطازي في وظيفته و استدعى بيبقا الناصري من الشام فاختصه الأمير الكبير قرطاي بالمخالصة و المشاورة (5/529)
نكبة قرطاي و استقلال ايبك بالدولة ثم مهلكه
كان ايبك الغزي هذا قد ردف قرطاي في حمل الدولة من أول ثورتهم و قيامهم على السلطان فخالصه و خلطه بنفسه في الاصهار إليه و كان ايبك يروم الاستبداد بشأن أصحابه و كان يعرف من قرطاي عكوفه على لذاته و انقسامه مع ندمائه فعمل قرطاي في صفر سنة تسع و سبعين ضيافة في بيته و جمع ندماءه مثل سودون جركس و مبارك الطازي و غيرهم و اهدى له ايبك نبيذا أذيب فيه بعض المرقدات فباتوا يتعاطونه حتى غلبهم السكر على أنفسهم و لم يفيقوا فركب ايبك من ليلته و أركب السلطان المنصور معه و اختار الأمر لنفسه و اجتمع إليه الناس و أفاق قرطاي بعد ثلاث و قد انحلت عنه العقدة و اجتمع الناس على ايبك فبعث إليه قرطاي يستأمن فأمنه ثم قبض عليه فسيره إلى صفد و استقل ايبك بالملك و الدولة ثم بلغه منتصف صفر من السنة انتقاض طشتمر بالشام و انتقاض الأمراء هنالك في سائر الممالك على الخلاف معه فنادى في الناس بالمسير إلى الشام فتجهزوا و سرح المقدمة آخر صفر مع ابنه أحمد و أخيه قطلوفجا و فيها من مماليكه و مماليك السلطان و جماعة من الأمراء كان منهم الأميران برقوق و بركة المستبدان بعد ذلك ثم خرج ايبك ثاني ربيع في الساقة بالسلطان و الأمراء و العساكر و انتهوا إلى بلبيس و ثار الأمراء الذين كانوا مع أخيه في المقدمة و رجع إليه منهزما فأجفل راجعا إلى القلعة بالسلطان و العساكر و خرج عليه ساعة وصوله يوم الاثنين جماعة من الأمراء و هم قطلتمر العلائي الطويل و الطنبقا السلطاني و النعناع و واعدوه قبة النصر فسرح إليهم العساكر مع أخيه قطلوفجا فأوقعوا به و تقبضوا عليه و بلغ الخبر إلى ايبك فسرح من حضره من الأمراء للقائهم و هم أيدمر الشمسي و اقطمر عبد الغني و بهادر الجمالي و مبارك الطازي في آخرين و لما تواروا عنه ركب هو هاربا إلى كيمان مصر و اتبعه ايدمر القنائي فلم يقف له على خبر و دخل الأمراء من قبة النصر إلى الاصطبل و امضوا الأمراء إلى قطلتمر العلائي و هم يحاذونه و أشير عليه بخلع المنصور و البيعة لمن يقوم على هذا الأمر من أبناء السلطان فأبى ثم وصل صبيحة الثلاثاء الأمراء الذين ثاروا فجاء أخو ايبك في مقدمة العسكر و فيهم بيبقا الناظري و دمرداش اليوسفي و بلاط من أمراء الألوف و برقوق و بركة و غيرهما من الطلخامات فنازعوهم الأمر و غلبوهم عليه و بعثوا بهم إلى الإسكندرية معتقلين و فوض الأمراء إلى بيبقا الناظري فقام بأمرهم و هو شعاع و آراؤهم مختلفة ثم حضر يوم الاحد التاسع من ربيع ايبك صاحب الدولة و ظهر من الاختفاء و جاء إلى بلاط منهم و أحضره عند بيبقا الناظري فبعث به إلى الإسكندرية فحبسه بها و كان بيبقا الناظري يختص برقوق و بركة بالمفاوضة استرابة بالآخرين فاتفق رأيهم على أن يستدعي طشتمر من الشام و ينصبوه للامارة فبعثوا إليه بذلك و انتظروه (5/529)
استبداد الأميرين أبي سعيد برقوق و بركة بالدولة من بعد ايبك و وصول طشتمر من الشأم و قيامه بالدولة ثم نكبته
لما تغلب هؤلاء الأمراء على الدولة و نصبوا بيبقا الناظري و لم يمضوا له بالطاعة بقي أمرهم مضطربا و آراؤهم مختلفة و كان برقوق و بركة أبصر القوم بالسياسة و طرق التدبير و كان الناظري يخالصهما كما مر فتفاوضوا في القبض على هؤلاء المتصدين للمنازعة و كبح شكائمهم و هم دمرداش اليوسفي و ترباي الحسيني و افتقلاص السلجوقي و استدمر ابن العثماني في آخرين من نظرائهم و ركبوا منتصف صفر و قبضوا عليهم أجمعين و بعثوا بهم إلى الاسكندرية فحبسوهم بها و اصطفوا بلاطا منهم و ولوه الامارة و خلطوه بأنفسهم و أبقوا بيبقا الناظري على اتابكيته كما كان و أنزلوه من القلعة فسكن بيت شيخو قبالته و ولى برقوق أمير الماخورية و نزل باب الاصطبل و ولى بركة الجوباني أمير مجلس و استقرت الدولة على ذلك و كان طشتمر نائب الشام قد انتقض و استبد بأمره و جمع عساكر الشام و امراءه و استنفر العرب و التركمان و خيم بظاهر دمشق يريد السير إلى مصر و برز ايبك من مصر بالسلطان و العساكر يريد الشام لمحاربته فكان قدمناه من نكبته و خروج الأمراء عليه و مصيرهم إلى جماعة البيبقاوية الطائرين بايبك و مقدمهم بيبقا الناظري ثم تفاوض بيبقا الناظري مع برقوق و بركة في استدعاء طشتمر فوافقاه و نظراه رأيا و فيه طلب الصلح من الذين معه و حسم الداء منه بكونهم في مصر فكتبوا إليه بالوصول إلى مصر للاتابكية و تدبير الدولة و أنه شيخ البيبقاوية و كبيرهم فسكت نفسه لذلك و وضع أوزار الفتنة و سار إلى مصر فلما وصلها اختلفوا في أمره و تعظيمه و أركبوا السلطان إلى الزيدانية لتلقيه و دفعوا الأمراء إليه و أشاروا له إلى الاتابكية و وضعوا زمام الدولة في يده فصار إليه التولية و العزل و الحل و العقد و ولي بيبقا الناظري أمير سلاح مكان سباطا و بعثوا بلاطا إلى الكرك لاستقلال طمشتر بمكانه و ولى بندمر الخوارزمي نائبا بدمشق على سائر وظائف الدولة و ممالك الشام كما اقتضاه نظره و وافق عليه استاذ دار برقوق و بركة و ولى ايبك اليوسفي فرتب برقوق رأس نوبه مكان الناصري و استمر الحال على ذلك و برقوق و بركة اثناء هذه الامور يستكثران من المماليك استغلاظا لشوكتهما و اكتنافا لعصبيتهما أن يمتد الأمير إلى مراتبهما فيبذلان الجاه لتابعهما و يوفران الاقطاع لمن يستخدم لهما و يخصان بالامرة من يجنح من أهل الدولة إليهم وإلى ابوابهما و انصرفت الوجوه عن سواهما و ارتاب طشتمر بنفسه في ذلك و أغراه أصحابه بالتوثب بهذين الأميرين فلما كان ذو الحجة سنة تسع و سبعين استعجل أصحابه على غير روية و بعثوا إليه فأحجم و قعد عن الركوب و اجتمع برقوق و بركة بالاصطيل فركن إليه و قاتل مماليك طشتمر بالرميلة ساعة من نهار و انهزموا و افترقوا و استأمن طشتمر فأمنوه و استدعوه إلى القلعة فقبضوا عليه و على جماعة من أصحابه منهم اطلمش الارغوني و مدلان الناصري و أمير حاج بن مغلطاي و دواداره أرغون و بعث بهم إلى الاسكندرية فحبسوا بها و بعث معهم بيبقا الناصري كذلك ثم أفرج عنه لايام و بعثه نائبا على طرابلس ثم أفرج عن طشتمر بعد ذلك إلى دمياط ثم إلى القدس إلى أن مات سنة سبع و ثمانين و استقامت الدولة للأميرين بعد اعتقالهما و خلت لهما من المنازعين و ولى الأمير برقوق اتابكا و ولى الماخورية الجابي الشمسي و ولى قريبه انيال أمير سلاح مكان الناصري و ولى أقتمر العثماني دوادار مكان اطلمش الأرغوني و ولى الطنبقا الجوباني رأس نوبة ثانيا و دمرداش أمير مجلس و توفي بيبقا النظامي نائب حلب فولى مكانه عشقتمر المارداني ثم استأذن عشقتمر فأذن له و حبس بالاسكندرية و ولى مكانه بحلب تمرتاشي الحسيني الدمرداشي ثم أفرج عنه و أقام بالقدس قليلا ثم استدعاه بركة و أكرم نزله و بعثه نائبا إلى حلب (5/531)
ثورة انيال و نكبته
كان انيال هذا أمير سلاح و كان له مقام في الدولة و هو قريب الأمير برقوق و كان شديد الانحراف على الأمير بركة و يحمل قريبه على منافرته و لا يجيبه إلى ذلك فاعتزم على الثورة و تحين لها سفر الأمير بركة إلى البحيرة يتصيد فركب الأمير برقوق في بعض تلك الأيام متصيدا بساحة البلد فرأى أن قد خلاله الجو فركب و عمد إلى باب الاصطبل فملكه و معه جماعة من مماليكه و مماليك الأمير برقوق و تقبضوا على أمير الماخورية جركس الخليلي و استدعوا السلطان المنصور ليظهروه للناس فمنعه المقدمون من باب الستارة و جاء الأمير برقوق من صيده و معه الاتابك الشمسي فوصلوا إلى منزله خارج القلعة و أفرغوا السلاح على سائر مماليكهم و ركبوا إلى ساحة الاصطبل ثم قصدوا إلى الباب فأحرقوه و تسلق الأمير قرطاي المنصوري من جهة باب السر و فتحه لهم فدخلوا منه و دافعوا انيال و انتقض عليه المماليك الذين كانوا معه من مماليك الأمير برقوق و رموه بالسهام فانهزم و نزل إلى بيته جريحا و أحضر إلى الأمير برقوق فاعتذر له بانه لم يقصد بفعلته إلا التغلب على بركة فبعث به إلى الاسكندرية معتقلا و أعاد بيبقا الناصري أمير سلاح كما كان و استدعي لها من نيابة طرابلس و وصل الخبر إلى بركة فأسرع الكر من البحيرة و انتظم الحال و نظروا في الوظائف التي خلت في هذه الفتنة فعمروها بمن يقوم بها و اختصوا بها من حس غناؤه في هذه الواقعة مثل قردم و قرط و ذلك سنة إحدى و ثمانين و اقام انيال معتقلا بالاسكندرية ثم أفرج عنه في صفر سنة اثنتين و ثمانين و ولى على طرابلس ثم توفي منكلي بقا الاحمدي نائب حلب فولى انيال مكانه ثن تقبض عليه آخر السنة و حبس بالكرك و ولى مكانه بيبقا الحمدي نائب دمشق فولى مكانه بندمر الخوارزمي ثم توفي سنة احدى و ثمانين جيار بن المهنا أمير العرب بالشام فولى مكانه معقيل بن عيسى و زامل بن موسى بن عيسى شريكين ثم عزلا و ولى يعبر بن جيار (5/532)
ثورة بركة و نكبته و استقلال الأمير برقوق بالدولة
كان هذا الأمير بركة يعادل الأمير برقوق في حمل الدولة كما ذكرناه و كان أصحابه يفوضون إليه الاستبداد في الأموال و كان الأمير برقوق كثير التثبيت في الأمور و الميل إلى المصالح فيعارضهم في الغالب و يضرب على أيديهم في لكثير من الأحوال فغضوا بمكانه و أغروا بركة بالتوثب و الاستقلال بالأمر و سعوا عنده باشمس من كبار أصحاب الأمير برقوق و أنه يحمل برقوق على مقاطعة بركة و يفسد ذات بينهما و أنه يطلب الأمر لنفسه و قد اعتزم على الوثوب عليهما فجاء بذلك إلى الأمير برقوق و أراد القبض على اشمس فمنعه الأمير برقوق و دفع عنه و عظم انحراف بركة على أشمس ثم عن الأمير برقوق و سعى في الاصلاح بينهما الأكابر حتى كمال الدين شيخ التكية و الخلدي شيخ الصوفية من أهل خراسان و جاؤا بأشمس إلى بركة مستعتبا فأعتبه و خلع عليه ثم انحرافه ثانية فمسح أعطافه و سكن و هو مجمع الثورة و الفتك ثم عاود حاله تلك ثالثة و اتفق أن صنع في بيت الأمير برقوق لسروروليمة في بعض أيام الجمعة في شهر ربيع سنة اثنتين و ثمانين و حضر عنده أصحاب بركة كلهم و أهل شوكته و قد جاءه النصيح بأن بركة قد أجمع الثورة غداة يومه فقبض الأمير برقوق على من كان عنده من أصحاب بركة ليقص جناحه منهم و أركب حاشيته للقبض عليه و اصعد بدلان الناصري على مأذنة مدرسة حسن فنضحه بالنبل في اصطبله و ركب بركة إلى قبة النصر و خيم بها و نودي في العامة بنهب بيوته فنهبوها للوقت و خربوها و تحيز إليه بيبقا الناصري فخرج معه و جلس الأمير برقوق بباب القلعة من ناحية الاصطبل و سرح الفرسان للقتال و اقتتلوا عامة يومهم فزحف بركة على تعبيتين احداهما لبيبقا الناصري و خرج الاق الشعباني للقائه و أشمس للقاء بيبقا الناصري فانهزم أصحاب بركة و رجع إلى قبة النصر و قد اثخنوا بالجراح و تسلل أكثرهم إلى بيته و أقام الليل ثم دخل إلى جامع البلدة و بات به و نمي إلى الأمير برقوق خبره فأركب إليه الطنبقا الجوباني و جاء به إلى القلعة و بعث به الأمير برقوق إلى الاسكندرية فحبس بها إلى أن قتله النائب بها صلاح الدين بن عزام و قتل به في خبر يأتي شرحه أن شاء الله تعالى و تقبض على بيبقا الناصري و سائر شيعته من الأمراء و أودعهم السجون إلى أن استحالت الأحوال و ولى وظائفهم من أوقف عليه نظره من أمراء الدولة و أفرج عن انيال الثائر قبله و بعثه نائبا على طرابلس و استقل بحمل الدولة و انتظمت به أحوالها و استراب سندمر نائب دمشق لصحابته مع بركة فتقبض عليه و على أصحابه بدمشق و ولى نيابة دمشق عشقتمر و نيابة حلب انيال و ولى اشمس الأتابكية مكان بركة و الاق الشعباني أمير سلاح و الطنبقا الجوباني أمير مجلس و ابقا العثماني دوادار و جركس الخليلي أمير الماخورية و الله تعالى ولي التوفيق (5/533)
انتقاض أهل البحيرة و واقعة العساكر
كان هؤلاء الظواعن الذين عمروا الدولة من بقايا هوراة و مزاتة و زناتة يعمرونها بمن تحت أيديهم من هذه القبائل و غيرهم و يقومون بخراج السلطان كل سنة في ابانه و كانت الرياسة عليهم حتى في اداء الخراج لبدر بن سلام و آبائه من قبله و هو من زناتة احدى شعوب لواتة و كان للبادية المنتبذين مثل أبي ذئب شيخ أحياء مهرانة و عسرة و مثل بني التركية أمراء العرب بعقبة الإسكندرية اتصال بهم لاحتياجهم إلى الميرة من البحيرة ثم استخدموا لامراء الرتك في مقاصدهم و أموالهم و اعتزوا بجاههم و أسفوا على نظائرهم من هوارة و غيرهم ثم حدثت الزيادة في وظائف الجباية كما هي طبيعة الدول فاستثقلوها و حدثتهم أنفسهم بالامتناع منها لما عندهم من الاعتزاز فأرهقوا في الطلب و حبس سلام بالقاهرة و أجفل ابنه بدر إلى الصعيد بالقبلية و اعترضه هناك عساكر السلطان فقاتلهم و قتل الكاشف في حربه و سارت إليه العساكر سنة ثمانين مع الاق الشعباني و أحمد بن بيبقا و انيال قبل ثورته فهربوا و عاثت العساكر في مخلفهم و رجعوا و عاد بدر إلى البحيرة و شغلت الدولة عنهم بما كان من ثورة اينال و بركة بعده و اتصل فساد بدر و امتناعه فخرجت إليه العساكر مع الاتابك اشمس و الأمير سلام و الجوباني أمر مجلس و غيرهم من الامراء الغريبة و نزلت العساكر البحيرة و اعتزم بدر على قتالهم فجاءهم النذير بذلك فانتبذوا عن الخيام و تركوها خاوية و وقفوا على مراكزهم حتى توسط القوم المخيم و شغلوا بنهبه فكرت عليهم العساكر فكادوا يستلحمونهم و لم يفلت منهم إلا الأقل و بعث بدر بالطاعة و اعتذر بالخوف و قام بالخراج فرجعت العساكر و ولى بكتمر الشريف على البحيرة ثم استبدل منه بقرط بن عمر ثم عاد بدر إلى حاله فخرجت العساكر فهرب أمامها و عاث القرط فيهم و قتل الكثير من رجالهم و حبس آخرين و رجع عن بدر أصحابه مع ابن عمه و مات ابن شادي و طلب الباقي الامان فأمنوا و حبس رجال منهم و ضمن الباقون القيام بالخراج و استأمن بدر فلم يقبل فلحق بناحية الصعيد و اتبعته العساكر فهرب و استبيح مخلفه و احياؤه و لحق ببرقة و نزل على أبي ذئب فأجاره و استقام أمر البحيرة و تمكن قرط من جبايتها و قتل رحاب و أولاد شادي و كان قرطاي يستوعب رجالتهم بالقتل و أقام بدر عند أبي ذئب يتردد ما بين احيائه و بين الواحات حتى لقيه أهل الثأر عنده فثأروا منه سنة تسع و ثمانين و ذهب مثلا في الآخرين و الله تعالى أعلم (5/534)
مقتل بركة في محبسه و قتل ابن عزام بثأره
كان الأمير بركة استعمل أيام امارته خليل بن عزام استاذ داره ثم اتهمه في ماله و سخطه و نكبه و صادره على مال امتحنه عليه ثم أطلقه فكان يطوي له على النكث ثم صار بركة إلى ما صار إليه من الاعتقال بالاسكندرية و تولي ابن عزام نيابتها فحاول على حاجة نفسه في قتل بركة و وصل إلى القاهرة متبرئا من أمره متخوفا من مغبته و رجع و قد طوى من ذلك على الدغل ثم حمله الحقد الكامن في نفسه على اغتياله في جنح الليل فأدخل عليه جماعة متسلحين فقتلوه و زعم أنه أذن له في ذلك و بلغ الخبر إلى كافل الدولة الأمير برقوق و صرح مماليكه بالشكوى إليه فأنكر ذلك و أغلظ على ابن عزام و بعث دوداره الأمير يونس يكشف عن سببه واحضار ابن عزام فجاء به مقيدا و أوقفه على شنيع مرتكبه في بركة فحلف الأمير ليقادن منه به و أحضر إلى القلعة في منتصف رجب من سنة اثنتين و ثمانين فضرب بباب القلعة اسواطا ثم حمل على جمل مشتهرا و أنزل سوق الخيل فتلقاه مماليك بركة فتناولوه بالسيوف إلى أن تواقعت اشلاؤه بكل ناحية و كان فيه عظة لمن يتعظ أعاذنا الله من درك الشقاء و سوء القضاء و شماتة الأعداء انتهى (5/535)
وفاة السلطان المنصور علي بن الأشرف و ولاية الصالح أمير حاج
كان هذا السلطان علي بن الأشرف قد نصبه الأمير قرطاي في ثورته على أبيه الأشرف و هو ابن اثنتي عشرة سنة فلم يزل منصورا و الأمر ينتقل من دولة كما ذكرناه إلى أن هلك لخمس سنين من ولايته في صفر سنة ثلاث و ثمانين فحضر الأمير برقوق و استدعى الأمراء و اتفقوا على نصب أخيه أمير حاج و لقبوه الصالح و أركبوه إلى الايوان فأجلسوه على التخت و قلده الخليفة على العادة و جعل الأمير برقوق كافله في الولاية و النظر للمسلمين لصغره حينئذ عن القيام بهذه العهدة و أفتى العلماء يومئذ بذلك و جعلوه من مضمون البيعة و قرىء كتاب التقليد على الأمراء و القضاة و الخاصة و العامة في يوم مشهود و انفض الجمع و انعقد أمر السلطان و بيعته و ضرب فيها للأمير برقوق بسهم و الله تعالى مالك الأمور (5/535)
وصول أنس الغساني والد الأمير برقوق و انتظامه في الأمراء
أصل هذا الأمير برقوق من قبيلة جركس الموطنين ببلاد الشمال في الجبال المحيطة بوطء القفجاق و الروس و اللان من شرقيها المطلة على بسائطهم و يقال إنهم من غسان الداخلين إلى بلاد الروم مع أميرهم جبلة بن الايهم عندما أجفل هرقل إلى الشام و سار إلى القسطنطينية و خبر مسيره من أرض الشام و قصته مع عمر بن الخطاب رضى الله عنه متناقلة معروفة بين المؤرخين و أما هذا الرأي فليس على ظاهره و قبيلة جركس من الترك معروفة بين النسابين و نزولهم بتلك المواطن قبل دخول غسان و تحقيق هذا الرأي أن غسان لما دخلوا مع جبلة إلى هرقل أقاموا عنده و يئسوا من الرجوع لبلادهم و هلك هرقل و اضطرب ملك الروم و انتشرت الفتنة هنالك في ممالكهم و احتاجت غسان إلى الحلف للمدافعة في الفتن و حالفوا قبائل جركس و نزلوا في بسيط جبلهم من جانبه الشرقي مما يلي القسطنطينية و خالطوهم بالنسب و الصهر و اندرجوا فيهم حتى تلاشت احياؤهم و صاروا إلى تلك الأماكن و أووا من البسائط إلى الجبال مع جركس فلا يبعد مع هذا أن تكون أنسابهم تداخلت معهم ممن انتسب إلى غسان من جركس و هو مصدق في نسبه و يستأنس له بما ذكرناه فهو نسبة قوية في صحته و الله تعالى أعلم و جلب هذا الأمير برقوق على عهد الأمير بيبقا عثمان قراجا من التجار المعروفين يومئذ بتلك الجهات فملكه بيبقا و ربي في أطباق بيته و اوى من قصده و شد في الرماية و الثقافة و تلعم آداب الملك و انسلخ من جلدة الخشونة و ترشح للرياسة و الامارة و السعادة تشير إليه و العناية الربانية تحوم عليه ثم كان ما ذكرناه من شأن مماليك بيبقا و مهلك كبيرهم يومئذ استدمر و كيف تقسموا بين الجلاء و السجن و كان الأمير برقوق أعزه الله تعالى ممن أدركه التمحص فلبث في سجن الكرك خمس سنين بين أصحاب له منهم فكانت تهوينا لما لقي من بوائقه و شكرا له بالرجوع إلى الله ليتم ما قدر فيه من حمل امانته و استرعاء عباده ثم خلص من ذلك المحبس مع أصحابه و خلى سبيله فانطلقوا إلى الشام و استخلصهم الأمير منجك نائب الشام يومئذ و كان بصيرا مجربا فألقى محبته و عنايته على هذا الأمير لما رأى عليه من علامات القبول و السعادة و لم يزل هناك في خالصته إلى أن هجس في نفس السلطان الاشرف استدعاء المرشحين من مماليكه و هذا الأمير يقدمهم و أفاض فيهم الاحسان و استضافهم لولده الأمير علي و لم يكن إلا أيام و قد انتقض الجائي القائم بالدولة و ركب على السلطان فأحضرهم السلطان الأشرف و أطلق أيديهم في خيوله المقربة و أسلحته المستجادة فاصطفوا منها ما اختاروه و ركبوا في مدافعة الجائي و صدقوه القتال حتى دافعوه على الرميلة ثم اتبعوه حتى ألقى نفسه في البحر فكان آخر العهد به و اختلوا بمكان من أثره السلطان و اختصاصه فسوغ لهم الاقطاعات و أطلق لهم الجرايات و لهذا الأمير بين يديه من بينهم مزيد مكانة و رفيع محل إلى أن خرج السلطان الاشرف إلى الحج و كان ما قدمناه من انتقاض قرطاي و استبداده ثم استبداد ايبك من بعده و قد عظم محل هذا الأمير من الدولة و نما عزه و سمت رتبته ثم فسد أمر ايبك و تغلب على الأمر جماعة من الأمراء مفترقي الأهواء و خشي العقلاء انتقاض الأمر و سوء المغبة فبادر هذا الأمير و تناول الحبل بيده و جعل طرفه في يد بركة رديفه فأمسك معه برهة من الأيام ثم اضطرب و انتقض و صار إلى ما صار إليه من الهلاك و استقل الأمير برقوق بحمل الدولة و العناية الربانية تكفله و السعادة تواخيه و كان من جميل الصنع الرباني له أن كيف غريبة في اجتماع شمل أبيه به فقدم وفد التجار بابيه من قاصية بلادهم بعد أن أعملوا الحيلة في استخلاصه و تلطفوا في استخراجه و كان اسمه أنس فاحتفل ابنه الأمير برقوق من مبرته و أركب العساكر و سائر الناس على طبقاتهم لتلقيه و اعد الخيام بسرياقوس لنزوله فحضروا هنالك جميعا في ثاني ذي الحجة سنة اثنتين و ثمانين و جلس الأمير أنس الوافد صدر المجلس و هم جميعا حفافيه من القضاة و الأمراء و نصب السماط فطعم الناس و انتشروا ثم ركبوا إلى البلد و قد زينت الأسواق و أوقدت الشموع و ماجت السكك بالنظارة من عالم لا يحصيهم إلا خالقهم و كان يوما مشهودا و أنزله بالاصطبل تحت المدينة الناصرية و نظمه السلطان في أقربائه و بني عمه و بني إخوانه و اجتمع شملهم به و فرض لهم الأرزاق و قررهم في الوظائف ثم مات هذا الأب الوافد و هو الأمير أنس رحمه الله في أواسط و ثمانين بعد أن أوصى بحجة إسلامه و شرفت مراتب الإمارة بمقامه و دفنه السلطان بتربة الدوادار يونس ثم نقله إلى المدفن بجوار المدرسة التي أنشاها بين القصرين سنة ثمان و ثمانين و الله يؤتي الملك من يشاء (5/536)
خلع الصالح أمير حاج و جلوس الأمير برقوق على التخت و استبداده بالسلطان
كان أهل الدولة من البيبقاوية من ولي منهم هذا الأمير برقوق قد طمعوا في الاستبداد و ظفروا بلذة الملك و السلطان و رتعوا في ظل الدولة و الأمان ثم سمت أحوالهم إلى أن يستقل أميرهم بالدولة و يستبد بها دون الاصاغرين المنتصبين بالمملكة و ربما أشار بذلك بعض أهل الفتيا يوم بيعة أمير حاج و قال لابد أن يشرك معه في تفويض الخليفة الأمير القائم بالدولة لتشد الناس إلى عقدة محكمة فأمضى الأمر على ذلك و قام الأمير بالدولة فأنس الرعية بحسن سياسته و جميل سيرته و اتفق أن جماعة من الأمراء المختصين بهذا الصبي المنصوب غصوا بمكان هذا الأمير وتفاوضوا في العذر به و كان متولي ذلك منهم ابقا العثماني دوادار السلطان و نمي الخبر إليه بذلك فتقبض عليهم و بعث ابقا إلى دمشق على امارته و غرب الآخرين إلى قوص فاعتقلوا هنالك حتى أنفذ فيهم حكمه و اشفق الأمراء من تدبر مثل هؤلاء عليهم و تفاوضوا في محو الاصاغر من الدست و قيامه بأمرهم مستقلا فجمعهم لذلك في تاسع عشر رمضان سنة أربع و ثمانين و حضر الخاصة و العامة من الجند و القضاة و العلماء و أرباب الشورى و الفتيا و أطبقوا على بيعته و عزل السلطان أمير حاج فبعث إليه أميرين من الأمراء فادخلوه إلى بيته و تناولوا السيف من يده فأحضروها ثم ركب هذا السلطان من مجلسه بباب الاصطبل و قد لبس شعار السلطنة و خلعة الخلافة فدخل إلى القصور السلطانية و جلس بالقصر الابلق على التخت و أتاه الناس ببيعتهم أرسالا و انعقد أمره يومئذ و لقب الملك الظاهر و قرعت الطبول و انتشرت البشائر و خلع على أمراء الدولة مثل أشمس الأتابك و الطنبقا الجوباني أمير مجلس و جركس الخليلي أمير الماخورية و سودون الشيخوني نائبا و الطنبقا المعلم أمير سلاح و يونس النوروي دوادار و قردم الحسيني رأس نوبة و على كتابه أوحد الدين بن ياسين كاتب سره ادال به من بدر الدين بن فضل الله كاتب سر السلطان من قبل و على جميع أرباب الوظائف من وزير و كاتب و قاض و محتسب و على مشاهير العلم و الفتيا و الصوفية و انتظمت الدولة أحسن انتظام و سر الناس بدخولهم في ايالة السلطان يقدر للامور قدرها و يحكم أو أخيها و استأذنه الطنبقا الجوباني أمير مجلس في الحج تلك السنة و أذن له فانطلق لقضاء فرضه و عاد انتهى و الله تعالى أعلم (5/538)
مقتل قرط و خلع الخليفة و نصب ابن عمه الواثق للخلافة
كان قرط بن عمر من التركمان المستخدمين في الدولة و كان له اقدام و صرامة رقابهما إلى محل من مرادفة الأمراء في وجوههم و مذاهبهم و دفع إلى ولاية الصعيد و محاربة أولاد الكنز من العرب الجائلين في نواحي اسوان فكان له في ذلك غناء و أحسن في تشريدهم عن تلك الناحية ثم بعث إلى البحيرة واليا عند انتقاض بدر بن سلام و فراره و مرجع العساكر من تمهيدها فقام بولايتها و تتبع آثار أولئك المنافقين و حسم عللهم و حضر في ثورة انيال فجلا في ذلك اليوم لشهامته و اقدامه و كان هو المتولي تسور الحائط و احراق الباب الظهراني الذي ولجوا عليه و امسكوه فكان يمت بهذه الوسائل اجمع و السلطان يرعى له إلا أنه كان ظلوما غشوما فكثرت شكايات الرعايا و المتظلمين به فقبض عليه لاول بيعته و أودعه السجن ثم عفا عنه و أطلقه و بقي مباكرا باب السلطان مع الخواص و الأولياء و طوى على الغث و تربص بالدولة و نمي عنه أنه فاوض الخليفة المتوكل بن المعتضد في الانتقاض و الإجلاب على الدولة بالعرب المخالفين بنواحي برقة من أهل البحيرة و أصحاب بدر بن سلام و أن يفوض الخليفة الأمر إلى سوى هذا السلطان القائم بالدولة و أنه داخل في ذلك بعض ضعفاء العقول من امراء الترك ممن لا يؤبه له فاحضرهم من غداته و عرض عليهم الحديث فوجموا و تناكروا و أقر بعضهم و اعتقل الخليفة بالقلعة و أخرج قرط هذا لوقته فطيف به على الجمل مسمرا ابلاغا في عقابه ثم سيق إلى مصرعه خارج البلد و قد بالسيف نصفين و ضم الباقون إلى السجون وولى السلطان الخلافة عمر بن إبراهيم الواثق من أقاربه و هو الذي كان الملك الناصر ولى أباه إبراهيم بعد الخليفة أبي الربيع و عزل عن ابنه أحمد كما مر و كان هذا كله في ربيع سنة خمس و ثمانين و ولى مكانه أخوه زكريا و لقب المعتصم و استقرت الأحوال إلى أن كان ما نذكره أن شاء الله تعالى (5/539)
نكبة الناصري و اعتقاله
كان هذا الناصري من مماليك بيبقا و أرباب الوظائف في أيامه و كان له مع السلطان الظاهر ذمة وداد و خلة من لدن المربى و العشرة فقد كانوا أترابا بها و كانت لهم دالة عليه لعلو سنه و قد ذكرنا كيف استبدوا بعد ايبك و نصبوا الناصري أتابكا و لم يحسن القيام عليها و جاء طشتمر بعد ذلك فكان معه حتى في النكبة و المحبس ثم أشخص إلى الشام و ولى على طرابلس ثم كانت ثورة انيال و نكبته في جمادى سنة إحدى و ثمانين فاستقدمهم من طرابلس و ولى أمير سلاح مكان انيال و استخلصه الأمير بركة و خلطه بنفسه و كانت نكبته فحبس معه ثم أشخص إلى الشام و كان انيال قد أطلق من اعتقاله و ولى على حلب سنة اثنتين و ثمانين مكان منكلي بقري الاحمدي فأقام بها سنة أو و نحوها ثم نمي عنه خبر الانتقاض فقبض عليه و حبس بالكرك و ولى مكانه على حلب بيبقا الناصري في شوال سنة ثلاث و ثمانين و قعد الظاهر على التخت لسنة بعدها و استبد بملك مصر و كان الناصري لما عنده من الدالة يتوقف في انفاذ أوامره لما يراه من المصالح بزعمه و السلطان ينكر ذلك و يحقده عليه و كان له مع الطنبقا الجوباني أمير مجلس أحد أركان الدولة حلف لم يغن عنه و أمر السلطان بالقبض على سولي بن بلقادر حين وفد عليه بحلب فأبي من ذلك صونا لوفائه بزعمه و دس بذلك إلى سولي فهرب و نجا من النكبة و وفد على السلطان سنة خمس و ثمانين و جدد حلفه مع الجوباني و مع أشمس الأتابك و رجع إلى حلب ثم خرج بالعساكر إلى التركمان آخر سنة خمس و ثمانين دون إذن السلطان فانهزم و فسدت العساكر و نجا بعد ثالثة جريحا و احقد عليه السلطان هذه كلها ثم استقدمه سنة سبع و ثمانين فلما انتهى إلى سرياقوس تلقاه بها أستاذ دار فتقبض عليه و طير به إلى الإسكندرية فحبس بها مدة عامين و ولى مكانه بحلب الحاجب سودون المظفر و كان عيبة نصح للسلطان و عينا على الناصري فيما يأتيه و يذره لأنه من وظائف الحاجب للسلطان في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو بطانة السلطان بما يحدث في عمله و يعترض شجا في صدر من يروم الانتقاض من ولايته و كان هذا الحاجب سودون هو الذي ينمي أخباره إلى السلطان و يطلعه على مكا من مكره فلما حبس الناصري بالإسكندرية ولاه مكانه بحلب و ارتاب الجوباني من نكبة الناصري لما كان بينهما من الوصلة و الحلف فوجم و اضطرب و تبين السلطان منه النكر فنكبه كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى و أقصاه و الله أعلم (5/540)
اقصاء الجوباني إلى الكرك ثم ولايته على الشام بعد واقعة بندمر
أصل هذا الأمير الجوباني من قبائل الترك و اسمه الطنبقا و كان من موالي بيبقا الخاصكي المستولي على السلطان الاشرف و قد مر ذكره ربي في قصره و جو عزه و لقن الخلال و الآداب في كنفه و كانت بينه و بين السلطان خلة و مصافاة اكتسبتها له تلك الكفالة بما كانا رضيعي ثديها و كوكبي أفقها و تربي مرقاها و قد كان متصلا فيما قبله بينهما من لدن المربى في بلادهم و اشتمل بعضهم على بعض و استحكم الاتحاد حتى بالعشرة أيام التمحيص و الاغتراب كما مر فلقد كان معتقلا معه بالكرك أيام المحنة خمسا من السنين أدال الله لهذا السلطان حزنها بالمسرة و النحوسة بالسعادة و السجن بالملك و قسمت للجوباني بها شائبة من رحمة الله و عنايته في خدمة السلطان بدار الغربة و المحنة و الفته به في المنزل الخشن لتعظم له الوسائل و تكرم الاذمة و العهود
( أن الكرام اذ ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن )
ثم كان انطلاقهما إلى الشام و مقامهما جميعا و استدعاؤهما إلى دار الملك و رقيهما في درج العز و التغريب كذلك و كان للسلطان أصحاب سراة يمتون إليه بمثل هذه الوسائل و ينتظمون في ملكها و كان متميز الرتبة عنهم سابقا في مرقى درجات العز أمامهم مجلبا في الحلبة التي فيها طلقهم إلى أن ظفر بالملك و استولى على الدولة و هو يستتبعهم في مقاماته و يوطئهم عقبه و يذلل لهم الصعاب فيقتحموها و يحوز لهم الرتب فيستهمون عليها ثم اقتعد منبر الملك و السلطان و استولى على كرسيه و قسم مراتب الدولة و وظائفها بين هؤلاء الأصحاب و آثر الجوباني منهم بالصفاء و المرباع فجعله أمير مجلسه و معناه صاحب الشورى في الدولة و هو ثاني الأتابك و تلو رتبته فكانت له القدم العالية من أمرائه و خلصائه و الحظ الوافر من رضاه و ايثاره و أصبح أحد الأركان التي بها عمد دولته باساطينها و أرسى ملكه بقواعدها إلى أن دبت عقارب الحسد إلى مهاده و حومت شباه السعاية على قرطاسه و ارتاب السلطان بمكانه و أعجل الحزم على امهاله فتقبض عليه يوم الاثنين لسبع بقين من سنة سبع و ثمانين و أودعه بعض حجر القصر عامة ثم أقصاه إلى الكرك و عواطف الرحمة تنازعه و سجايا الكرم و الوفاء تقض من سخطه ثم سمح و هو بالخير أسمح و جنح و هو إلى الأدنى من الله أجنح فسرح إليه من الغد بمرسوم النيابة على تلك الأعمال فكانت غريبة لم يسمع بمثلها من حلم هذا السلطان و اناته و حسن نيته و بصيرته و كرم عهده و جميل وفائه و انطلقت الالسن بالدعاء له و امتلأت القلوب بالمحبة و علم الأولياء و الخاصة و الشيع و الكافة إنهم في كفالة أمن و لطف و ملكة احسان و عدل ثم مكث حولا يتعقب أحواله و يتتبع سيره و أخباره طاويا شأنه في ذلك عن سائر الأولياء إلى أن وقف على الصحيح من أمره و علم خلوص مصادقته و جميل خلوصه فاخفق سعي الداعين و خابت ظنون الكاشحين و أداله العتبى من العتاب و الرضا من النكرى و اعتقد أن يمحو عنه هواجس الاسترابة و الاستيحاش و رده إلى أرفع الامارة و بينما هو يطوي على ذلك ضميره و يناجي سره إذ حدثت واقعة بندمر بالشام فكانت ميقاتا لبدر السعادة و علما على فوزه بذلك الحظ كما نذكر أن شاء الله تعالى و خبر هذه الواقعة أن بندمر الخوارزمي كان نائبا بدمشق و قد مر ذكره غير مرة و أصله من الخوارزمية اتباع خوارزم شاه صاحب العراق عند استيلاء التتر و افترقوا عند مهلكه على يد جنكزخان في ممالك الشام و استخدموا لبني أيوب و الترك أول استبدادهم بمصر و كان هذا الرجل من أعقاب أصلهم و كان له نجابة جذبت بضيعه و نصب عند الأمراء من سوقه فاستخدم بها إلى أن ترشح للولاية في الأعمال و تداول امارة دمشق مع منجك اليوسفي و عشقتمر الناصري و كان له انتقاض بدمشق عند تغلب الخاصكي و حاصره و استنزله بامانه ثم أعيد إلى ولايته ثن تصرمت تلك الدول و تغلب هذا السلطان على الأمر و ردافه فيه فولوه على دمشق و كانت صاغيته مع بركة فلما حدث انتقاض بركة كتب إليه وإلى بقري بدمشق أولياؤه هنالك بالاستيلاء على القلعة و كتب برقوق إلى نائب القلعة يحذرهم فركب جنتمراخ طاز و ابن جرجي و محمد بيك و قاتلوه ثلاثا ثم أمسكوه و قيدوه و معه بقري بن برقش و جبريل مرتبه و سيقوا إلى الإسكندرية فحبسوا فلما قتل بركة أطلق بندمر و من كان حبس من أصحاب بركة مثل بيبقا الناصري و دمرداش الأحمدي ثم استخلصه السلطان برقوق و رده إلى عمله الأول بعد جلوسه على التخت و الشام له و كان جماعا للأموال شديد الظلامة فيها متحيلا على استخلاصها من أيدي أهلها بما يطرق لهم من أسباب العقاب مصانعا للحاشية بماله من حاميته إلى أن سئم الناس ايالته و ترحمت القلوب منه و كان بدمشق جماعة من الموسوسين المسامرين لطلب العلم بزعمهم متهمون في عقيدتهم بين مجسم و رافضي و حلولي جمعت بينهم انساب الضلال و الحرمان و قعدوا عن نيل الرتب بما هم فيه تلبسوا بإظهار الزهد و النكير على الخلق حتى على الدولة في توسعة بطلان الاحكام و الجباية عن الشرع إلى السياسة التي تداولها الخلفاء و أرخص فيها العلماء و أرباب الفتيا و حملة الشريعة بما تمس إليه الحاجة من الوازع السلطاني و المعونة على الدفاع و قديما نصبت الشرطة الصغرى و الكبرى و وظيفة المظالم ببغداد دار السلام و مقر الخلافة و ايوان الدين و العلم و تكلم الناس فيها بما هو معروف و فرضت أرزاق العساكر في أثمان البياعات عن حاجة الدولة الأموية فليس ذلك من المنكر الذي يعتد بتغييره فلبس هؤلاء الحمقى على الناس بأمثال هذه الكلمات وداخلوا من في قلبه مرض من الدولة و أوهموا أن قد توثقوا من الحل و العقد في الانتقاض فرية انتحلوها و جمعا انهوه نهايته و عدوا على كافل القلعة بدمشق و حاميتها يسألونهم الدخول معهم في ذلك لصحابة كانت بين بعضهم و بينه فاعتقلهم و طالع السلطان بأمرهم و تحدث الناس أنهم داخلوا في ذلك بندمر النائب بمداخلة بعضهم كابنه محمد شاه ونمي الخبر بذلك إلى السلطان فارتاب به و عاجله بالقبض و التوثق منه و من حاشيته ثم أخرج مستوفي الأموال بالحضرة لاستخلاص ما احتازه من أموال الرعايا و استأثر به على الدولة و أحضر هؤلاء الحمقى و من بسوء سيرتهم مقتدون إلى الأبواب العالية فقذفوا في السجون و كانوا أحق بغير ذلك من أنواع العذاب و النكال و بعث السلطان لعشقتمر الناصري و كان مقيما بالقدس أن يخرج نائبا على دمشق فتوجه إليها و أقام رسم الامارة بها أياما ظهر عجزه و بين عن ذلك الرتبة قعوده بما أصابه من وهن الكبر و طوارق الزمانة و الضعف حتى زعموا أنه كان يحمل على الفراش في بيته إلى منعقد حكمه فعندما بعث السلطان عن هذا الأمير الجوباني و قد خلص من الفتن ابريزه و أينع بنفحات الرضا و القبول عوده بمطالعة الانس و القرب روعه فجاء من الكرك على البريد و قد أعدت له أنواع الكرامة و هيء له المنزل و الركاب و الفرش و الثياب و الآنية و الخوان و الخرثى و الصوان و احتفل لقدومه و تلقيه بما لم يكن في أمله و قضى الناس العجب من حلم هذا السلطان و كرم عهده و جميل وفائه و تحدث به الركبان ثم ولاه نيابة دمشق و بعثه لكرسيها مطلق اليد ماضي الحكم عزيز الولاية و عسكر بالزيدانية ظاهر القاهرة ثالث ربيع الاول من سنة سبع و ثمانين و ارتحل من الغد و سعادة السلطان تقدمه و رضاه ينقله إلى أن قارب دمشق و الناس يتلقونه أرسالا ثم دخل المدينة غرة ربيع الثاني و قد احتفل الناس لقدومه و غصت السكك بالمتنزهين و تطاول إلى دولته أرباب الحدود و تحدث الناس بجمال هذا المشهد الحفيل و تناقلوا خبره و استقل بولاية دمشق و عناية السلطان تلاحظه و مذاهب الطاعة و الخلوص تهديه بحسن ذكره و أفاض الناس الثناء في حسن اختياره و جمال مذهبه و أقام السلطان في وظيفته أحمد ابن الأمير بيبقا فكان أمير مجلس و الله غالب على أمره (5/541)
هدية صاحب إفريقية
كان السلطان لهذا العهد بإفريقية من الموحدين و من أعقاب الأمير أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص الهنتاتي المستبد بإفريقية على بني عبد المؤمن ملوك مراكش أعوام خمس و عشرين و ستمائة و هو أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم أبي زكريا سلسلة ملوك كلهم و لم تزل ملوك المغرب على القدم و لهذا العهد يعرفون لملوك الترك بمصر حقهم و يوجبون لهم الفضل و المزية بما خصهم الله من ضخامة الملك و شرف الولاية بالمساجد المعظمة و خدمة الحرمين و كانت المهاداة بينهم تتصل بعض الأحيان ثم تنقطع بما يعرض في الدولتين من الأحوال و كان لي اختصاص بذلك السلطان و مكان من مجلسه و لما رحلت إلى هذا القطر سنة أربع و ثمانين و اتصلت بهذا السلطان بمصر الملك الظاهر سألني عنه لأول لقيه فذكرته له بأوصافه الحميدة و ما عنده من الحب و الثناء و معرفة حقه على المسلمين أجمع و على الملوك خصوصا في تسهيل سبيل الحج و حماية البيت للطائفين و العاكفين و الركع السجود أحسن الله جزاءه و مثوبته ثم بلغني أن السلطان بإفريقية صد أهلي و ولدي عن اللحاق بي اغتياطا بمكاني و طلبا لفيئتي إلى بابه و رجوعي فتطارحت على هذا السلطان في وسيلة شفاعة تسهل منه الاذن فاسعفني بذلك و خاطبت ذلك السلطان كان الله له أغبطه بمودة هذا السلطان و العمل على مواصلته و مهاداته كما كان بين سلفهم في الدولتين فقبل مني و بادر إلى اتحافه بمقربات افليس عندنا في المغرب تحفة تطرف بها ملوك إلا الجياد العرب و أما ما سوى ذلك من أنواع الطرف و التحف بالمغرب فكثير لديهم أمثاله و يقبح أن يطرف عظماء الملوك بالتافه المطروح لديهم و اختار لتلك سفينته التي أعدها لذلك و أنزل بها أهلي و ولدي بوسيلة هذا السلطان أيده الله لسهولة سبيل البحر و قرب مسافته فلما قاربوا مرسى الاسكندرية عافتهم عواصف الرياح عن احتلال السفينة و غرق معظم ما فيها من الحيوان و البضائع و هلك أهلي و ولدي فيمن هلك و نفقت تلك الجياد و كانت رائعة الحسن صافية النسب و سلم من ذلك المهلك رسول جاء من ذلك السلطان لمد العهد و تقرر المودة فتلقى بالقبول و الكرامة و أوسع النزل و القرى ثم اعتزم على العودة إلى مرسله فانتقي السلطان ثيابا من الوشي المرقوم من عمل العراق و الاسكندرية يفوت القيمة و استكثر منها و اتحف بها السلطان ملك إفريقية على يد هذا الرسول على عادة عظماء الملوك في اتحافهم و هداياهم و خاطبت ذلك السلطان معه يحسن الثناء على قصده و جميل موقع هديته من السلطان و استحكام مودته له و أجابني بالعذر من الموقع و انه مستأنف من الاتحاف للسلطان و استحكام مودته لما يسره الحال فلما قدم الحاج من المغرب سنة ثمان و ثمانين وصل فيهم من كبار الغرب بدولته و أبناء الاعاظم المستبدين على سلفه عبيد بن القائد أبي عبد الله محمد بن الحكيم بهدية من المقربات رائقة الحلى رائعة الاوصاف منتخبة الاجناس و الانساب غريبة الألوان و الأشكال فاعترضها السلطان و قابلها بالقبول و حسن الموقع و حضر الرسول بكتابه فقرىء و أكرم حامله و أنعم عليه بالزاد لسفر الحج و أوصى أمراء المحمل فقضى فرضه على أكمل الأحوال و كانت أهم أمنياته ثم انقلب ظافرا بقصده و اعاده السلطان إلى مرسله بهدية نحو من الأولى من أجناس تلك الثياب و مستجادها مما يجاوز الكثيرة و يفوت و استحكمت عقدة المودة بين هذين السلطانين و شكرت الله على ما كان فيها من أثر مسعاي و لو قل و كان وصل في جملة الحاج من المغرب كبير العرب من هلال و هو يعقوب بن علي بن أحمد أمير رياح الموطنين بضواحي قسنطينة و بجاية و الزاب في وفد من بنيه و أقربائه و وصل في جملتهم أيضا عون بن يحيى بن طالب بن مهلهل من الكعوب أحد شعوب سليم الموطنين بضواحي تونس و القيروان و الجريد و بنو أبيه فقضوا فرضهم أجمعون و انقلبوا إلى مواطنهم أواسط شهر ربيع الآخر من سنة تسع و ثمانين و اطردت أحوال هذه الدولة على أحسن ما يكون و الله متولي أمرها بمنه و كرمه انتهى (5/544)
حوادث مكة و أمرائها
قد تقدم لنا أن ملك مكة سار في هذه الاعصار لبني قتادة من بني مطاعن الهواشم بني حسن و ذلك منذ دولة الترك و كان ملكهم بها بدويا و هم يعطون الطاعة لملك مصر و يقيمون مع ذلك منذ الدولة العباسية للخليفة الذي ينصبه الترك بمصر إلى أن استقر أمرها آخر الوقت لأحد بن عجلان من رميثة بن أبي نمى أعوام سنة ستين و سبعمائة بعد أبيه عجلان فأظهر في سلطانه عدلا و تعففا عن أموال الناس و قبض أيدي أهل العيث و الظلم و حاشيتهم و عبيدهم و خصوصا عن المجاورين و أعانه على ذلك ما كان له من الشوكة بقوة أخواله و يعرفون بني عمر من اتباع هؤلاء السادة و مواليهم فاستقام أمره و شاع بالعدل ذكره و حسنت سيرته و امتلات مكة بالمجاورين و التجار حتى غصت بيوتها بهم و كان عنان ابن عمه مقامس بن رميثة و محمد ابن عمه مقامس بن رميثة ينفسون عليه ما آتاه الله من الخير و يجدون في أنفسهم إذ ليس يقسم لهم برضاهم في أموال جبايته فتنكروا له و هموا بالانتقاض فتقبض عليهم و كان لهم حلف مع أخيه محمد بن عجلان فراوده على تركهم أو حبسهم فحبسوا و لبثوا في محبسهم ذلك حولا أو فوقه ثم نقبوا السجن ليلا و فروا فأدركوا من ليلتهم و أعيدوا إلى محبسهم و أفلت منهم عنان بن مقامس و خجا إلى مصر سنة ثمان و ثمانين صريخا بالسلطان و عن قليل وصل الخبر بوفاة أحمد بن عجلان على فراشه و أن أخاه كبيش بن عجلان نصب ابنه محمدا مكانه و قام بأمره و أنه عمد إلى هؤلاء المعتقلين فسمهم صونا للأمر عنهم لمكان ترشيحهم فنكر السلطان ذلك و سخطه من فعلاتهم و افتياتهم و نسب إلى كبيش و أنه يفسد مكة بالفساد بين هؤلاء الأقارب و لما خرج الحاج سنة ثمان و ثمانين أوصى أمير حاج بعزل الصبي المنصوب و الاستبدال عنه بابن عنان بن مقامس و القبض على كبيش و لما وصل الحاج إلى مكة و خرج الصبي لتلقي المحمل الخلافي و قد أرصد الرجال حفافيه للبطش بكبيش و أميره المنصوب فعقد كبيش عن الحضور و جاء الصبي و ترجل عن فرسه لتقبيل الخف من راحلة المحمل على العادة فوثب به أولئك المرصدون طعنا بالخناجر يظنونه كبيشا ثم غابوا فلم يوقف لهم على خبر و تركوه طريحا بالبطحاء و دخل الأمير إلى الحرم فطاف و سعي و خلع على عنان بن مقامس الإمارة على عادة من سلف من قومه و نجا كبيش إلى جدة من سواحل مكة ثم لحق بأحياء العرب المنتبذين ببقاع الحجاز صريخا فقعدوا عن نصرته وفاء بطاعة السلطان و افترق أمره و خذله عشيره و انقلب الأمير بالحاج إلى مصر فعنفه السلطان على قتله الصبي فاعتذر بافتيات أولئك الرجال عليه فعذره و جاء كبيش بعد منصرف الحاج و قد انضم إليه أوباش من العرب فقعد بالمرصد يخيف السابلة و الركاب و المسافرين ثم زحف إلى مكة و حاصرها أول سنة تسع و ثمانين و خرج عنان بن مقامس بعض الأيام و بارزه فقتله و اضطرب الأمر بمكة و امتدت أيدي عنان و الأشرار معه إلى أموال المجاورين فتسلطوا عليها و نهبوا زرع الأمراء هنالك و زرع السلطان للصدقة و ولى السلطان علي بن عجلان و اعتقله حسا لمادة طوراق عن مكة و استقر الحال على ذلك إلى أن كانت فتنة الناصر كما نذكر أن شاء الله تعالى انتهى (5/545)
انتقاض منطاش بملطية و لحاقه بسيواس و مسير العساكر في طلبه
كان منطاش هذا و تمرتاي الدمرداشي الذي مر ذكره أخوين لتمراز الناصري من موالي الملك الناصر محمد بن قلاون و ريبا في كفالة أمهما و كان اسم تمرتاي محمدا و هو الأكبر و اسم منطاش أحمد و هو الأصغر و اتصل تمرتاي بالسلطان الأشرف و ترقى في دولته في الوظائف إلى أن ولي بحلب سنة ثمانين و كانت واقعته مع التركمان و ذلك أنه وفد عليه أمراؤهم فقبض عليهم لما كان من عيثهم في النواحي و اجتمعوا فسار إليهم و أمده السلطان بعساكر الشام و حماة و انهزموا أمامهم إلى الدربند ثم كروا عل العساكر فهزموها و نهبوها في المضايق و توفي تمرتاي سنة اثنتين و ثمانين و كان السلطان الظاهر برقوق برعى لهما هذا الولاء فولى منطاش على ملطية و لما قعد على الكرسي و استبد بالسلطان بدت من منطاش علامات الخلاف فهم به ثم راجع و وفد و تنصل للسلطان و كان سودون باق من أمراء الألوف خالصة للسلطان و من أهل عصبيته و كان من قبل ذلك في جملة الأمير تمرتاي فرعا لمنطاش حق أخيه و شفع له عند السلطان و كفل حسن الطاعة منه و أنه يخرج على التركمان المخالفين و يحسم علل فسادهم و انطلق إلى قاعدة عمله بملطية ثم لم تزل آثار العصيان بادية عليه و ربما داخل أمراء التركمان في ذلك و نمي الخبر إلى السلطان فطوى له و شعر هو بذلك فراسل صاحب سيواس قاعدة بلاد الروم و بها قاض مستبد على صبي من أعقاب بني أرشي ملوكها من عهد هلاكو قد اعصوصب عليه بقية من احياء التتر الذين كانوا حامية هنالك مع الشحنة فيها كما نذكره و لما وصلت رسل منطاش و كتبه إلى هذا القاضي بادر باجابته و بعث رسلا وفدا من أصحابه في اتمام الحديث معه فخرج منطاش إلى لقائهم و استخلف على ملطية دواداره و كان مغفلا فخشي مغبة ما يرومه صاحبه من الانتقاض فلاذ بالطاعة و تبرأ من منطاش و أقام دعوة السلطان في البلد و بلغ الخبر إلى منطاش فاضطرب ثم استمر و سار مع وفد القاضي إلى سيواس فلما قدم عليه و قد انقطع الحبل في يده أعرض عنه و صار إلى مغالطة السلطان عما أتاه من مداخلة منطاش و قبض عليه و حبسه و سرح السلطان سنة تسع و ثلاثين عساكره مع يونس الدوادار و قردم رأس نوبة و الطنبقا الرماح أمير سلاح و سودون باق من أمراء الألوف و أوعز إلى الناصري فأتى و طلب أن يخرج معهم بعساكره إلى انيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق و ساروا جميعا و كان يومئذ ملك التتر بما وراء النهر و خراسان تمر من نسب جفطاي قد زحف إلى العراقين و أذربيجان و ملك توزير عنوة و استباحها و هو يحاول ملك بغداد فسارت هذه العساكر توري بغزوه و دفاعه حتى إذا بلغوا حلب أتى إليهم الخبر بأن تمر رجع بعساكره لخارج خرج عليه بقاصية ما وراء النهر فرجعت عساكر السلطان إلى جهة سيواس و اقتحموا تخومها عل حين غفلة من أهلها فبادر القاضي إلى اطلاق منطاش لوقته و قد كان أيام حبسه يوسوس إليه بالرجوع عن موالاة السلطان و ممالأته و لم يزل يفتل له في الذروة و الغارب حتى جنح إلى قوله فبعث لأحياء التتر الذين كانوا ببلاد الروم فيئة ابن اريثا ابن أول فسار إليهم و استجاشهم على عسكر السلطان و حذرهم استئصال شأفتهم باستئصال ملك ابن اريثا و بلده و وصلت العساكر خلال ذلك إلى سيواس فحاصروها أياما و ضيقوا عليها و كادت أن تلقي باليد و وصل منطاش أثر ذلك بإحياء التتر فقاتلهم العساكر و دافعوهم و نالوا منهم رجلا الناصري في هذه الوقائع و أدرك العساكر الملل و الضجر من طول المقام و بطء الظفر و انقطاع الميرة بتوغلهم في البلاد و بعد الشقة فتداعوا للرجوع و دعوا الأمراء إليه فجنح لذلك بعضهم فانكفؤا على تعبيتهم و سار بعض التتر في اتباعهم فكروا عليهم و استلحموهم و خلصوا إلى بلاد الشام على أحسن حالات الظهور و نية العود ليحسموا علل العدو و يمحوا أثر الفتنة و الله تعالى أعلم (5/546)
نكبة الجوباني و اعتقاله بالإسكندرية
كان الأمراء الذين حاصروا سيواس قد لحقهم الضجر و السآمة من طول المقام و فزع قردم الطنبقا المعلم منهم إلى الناصري مقدم العساكر بالشكوى من السلطان فيما دعاهم إليه من هذا المرتكب و تفاوضوا في ذلك مليا و تداعوا إلى الإفرنج عن البلد بعد أن بعثوا إلى القاضي بها و اتخذوا عنده يدا بذلك و أوصوه بمنطاش و الإبقاء عليه ليكون لهم وقوفا للفتنة و علم يونس الدوادار أنهم في الطاعة فلم يسعه خلافهم ففوض لهم و لما انتهى إلى حلب غدا عليه دمرداش من أمرائها فنصح له بأن الجوباني نائب مداخل للناصر في تمريضه في الطاعة و أنهما مصران على الخلاف و قفل يونس إلى مصر فقص على السلطان نصيحته و استدعى دمرداش فشاقه السلطان بذلك و اطلع منه على جلي الخبر في شأنهما و كان للجوباني مماليك أوغاد قد أبطرتهم النعمة و استهواهم الجاه و شرهوا إلى التوثب و هو يزجرهم فصاروا إلى اغرائه بالحاجب يومئذ طرنطاي فقعد في بيته عن المجلس السلطاني و طير بالخبر إلى مصر فاستراب الجوباني و سابقه بالحضور عند السلطان لينضح عنخ ما علق به من الأوهام و أذن له في ذلك فنهض من دمشق على البريد في ربيع سنة تسعين و لما انتهى إلى سرياقوس أزعج استاذ داره بهادر المنجكي فقبض عليه و طير به السفن إلى الاسكندرية و أصبح السلطان من الغد فقبض على قردم و الطنبقا المعلم و ألحقهما به فحبسوا هنالك جميعا و انحسم ما كان يتوقع من انتقاضهم و ولى السلطان مكان الجوباني بدمشق طرنطاي الحاجب و مكان قردم بمصر ابن عمه مجماس و مكان المعلم دمرداش و استمر الحال على ذلك (5/548)
فتنة الناصري و استيلاؤه على الشام و مصر و اعتقال السلطان بالكرك
لما بلغ الناصري بحلب اعتقال هؤلاء الأمراء استراب و اضطرب و شرع في أسباب الانتقاض و دعا إليه من يشيع الشر و سماسرة الفتن من الأمراء و غيرهم فأطاعوه و افتتح أمره بالنكير للأمير سودون المظفري و الانحراف عنه لما كان منه في نكبته و اغراء السلطان به ثم ولايته مكانه و من وظائف الحاجب في دولة الترك خطة البريد المعروفة في الدول القديمة فهو يطالع السلطان بما يحدث في عمله و يعترض شجى في صدر من يريد الانتقاض من ولاته فأظلم الجو بين هؤلاء الرهط و بين المظفري و تفاقم الأمر و طير بالخبر إلى السلطان فأخرج للوقت دواداره الأصغر تلكتمر ليصلح بينهما و يسكن الثائرة و حين سمعوا بمقدمة ارتباوا و ارتبكوا في أمرهم و قدم تلكتمر فتلقاه الناصري و ألقى إليه كتاب السلطان بالندب إلى الصلح مع الحاجب و الاغضاء له فأجاب بعد أن التمس من حقائب تلكتمر مخاطبة السلطان و ملاطفته للأمراء حتى وقف عليه ثم غلب عليه أولئك الرهط من أصحابه بالفتك بالحاجب فأطاعهم و باكرهم تلكتمر بدار السعادة ليتم الصلح بينهم و تذهب الهواجس و النفرة فدعاه الناصر إلى بعض خلواته و بينما هو يحادثه و إذا بالقوم قد وثبوا على الحاجب و فتكوا به و تولى كبر ذلك انبقا الجوهري و اتصلت الهيعة فوجم تلكتمر و نهض إلى محل نزوله و اجتمع الأمراء إلى الناصري و اعصوصبوا عليه و دعاهم إلى الخلعان فأجابوا و ذلك في محرم سنة إحدى و تسعين و اتصل الخبر بطرابلس و بها جماعة من الأمراء يرومون الانتقاض منهم بدلار الناصري عميد الفتن فتولى كبرها و جمع الذين تمالؤا عليها و عمدوا إلى الايوان السلطاني المسمى بدار السعادة و قبضوا على النائب و حبسوه و لحق بدلار الناصري في عساكر طرابلس و أمرائها و فعل مثل ذلك أهل حلب و حمص و سائر ممالك الشام و سرح السلطان العساكر لقتالهم فسارا يتمش الأتابك و يونس الدوادار و الخليلي جركس أمير الماخورية و أحمد بن بيبقا أمير مجلس و ابدكاز صاحب الحجاب فيمن إليهم من العسارك و انتخب من أبطال مماليكهم و شجعانهم خمسمائة مقاتل و استضافهم إلى الخليلي و عقد لهم لواءه المسمى بالشاليش و أزاح عللهم و علل سائر العساكر و ساروا على التعبية منتصف ربيع السنة و كان الناصري لما فعل فعلته بعث عن منطاش و كان مقيما بين أحياء التتر منذ رجوع العساكر عن سيواس فدعاه ليمسك معه حبل الفتنة و الخلاف فجاء و ملأه مبرة و إحسانا و استنفر طوائف التركمان و العرب و نهض في جموعه يريد دمشق و طرنطاي نائبها يواصل تعريف السلطان بالأخبار و يستحث العساكر من مصر على خلع نائبها الأمير الصفوي و بينه و بين الناصر علاقة و صحبة فاسترابوا به و تقبضوا عليه و نهبوا بيته و بعثوا به حبيسا إلى الكرك و ولوا مكانه محمد باكيش بن جند التركماني كان مستخدما عند بندمر هو و أبوه و ولي لهذا العهد على نابلس و ما يجاورها فنقلوه إلى غزة ثم تقدموا إلى دمشق و اختاروا من القضاة وفدا أوفدوه على الناصري و أصحابه للاصلاح فلم يجيبوا و أمسكوا الوفد عندهم و ساروا للقاء و لما تراءى الجمعان بالمرج نزع أحمد بن بيبقا و ايدكاز الحاجب و من معهما إلى القوم فساروا معهم و اتبعهم مماليك الأمراء و صدق القوم الحملة على من بقي فانفضوا و لجأ ايتمش إلى قلعة دمشق فدخلها و كان معه مكتوب السلطان بذلك متى احتاج إليه و ذهب يونس حيران و قد أفرده مماليكه فلقيه عنقا أمير الأمراء و كان عقد له بعض النزعات أيام سلطانه فتقبض عليه و أحيط بجركس الخليلي و مماليك السلطان حوله و قد أبلوا في ذلك الموقف و استلحم عامتهم فخلص بعض العدو إليه و طعنه فأكبه ثم احتز رأسه و ذهب ذلك الجمع شعاعا و افترقت العساكر في كل وجه و جيء بهم أسرى من كل ناحية و دخل الناصري و أصحابه دمشق لوقتهم و استولوا عليها و عاثت عساكرهم من العرب و التركمان في نواحيها و بعث إليهم عنقا يستأذنهم في أمر يونس فأمر بقتله فقتله و بعث إليهم برأسه و أوعزوا إلى نائب القلعة بحبس ايتمش عنده و فرقوا المحبوسين من أهل الواقعة على السجون بقلعة دمشق و صفد و حلب و غيرها و أظهر ابن باكيس دعوته بغزة و أخذ بطاعتهم و مر به انيال اليوسفي من أمراء الألوف بدمشق ناجيا من الوقعة إلى مصر فقبض عليه و حبسه بالكرك و استعد السلان للمدافعة و ولى دمرداش أتابكا مكان ايتمش و قرماش الجندارد و اردار مكان يونس و عمر سائر المراتب عمن فقدمنها و أطلق الخليفة المعتقل المتوكل بن المعتضد و أعاده إلى خلافته و عزل المنصوب مكانه و أقام الناصري وأصحابه بدمشق أياما ثم أجمعوا المسير إلى مصر و نهضوا إليها بجموعهم و عميت أنباؤهم حتى أطلت مقدمتهم على بليس ثم تقدموا على بليس إلى بركة الحاج و خيموا بها لسبع من جمادي الأخيرة من السنة و برز السلطان في مماليكه و وقف أمام القلعة بقية يومه و الناس يتسايلون إلى الناصري من العساكر و من العامة حتى غصت بهم بسائط البركة و استأمن أكثر الأمراء مع السلطان إلى الناصري فأمنهم و اطلع السلطان على شأنهم و سارت طائفة من العسكر و ناوشوهم القتال و عادوا منهزمين إلى السلطان و ارتاب السلطان بأمره و عاين انحلال عقدته فدس إلى الناصري بالصلح و بعث إليه بالملاطفة و أن يستمر على ملكه و يقوم بدولته خدمه و أعوانه و أشار بأن يتوارى بشخصه أن يصينه أحد من غير البيبقاوية بسوء فلما غشيه الليل أذن لم بقي معه من مماليكه في الانطلاق و دخل إلى بيته ثم خرج متنكرا و سرى في غيابات المدينة و باكرهم الناصري و أصحابه القلعة فاستولوا عليها و دعوا أمير حاج ابن الأشرف فأعادوا إلى التخت كما كان و نصبوه للملك و لقبوه المنصور و بادروا باستدعاء الجوباني و الأمراء المعتقلين بالإسكندرية فأغذوا السير و وصلوا ثاني يومهم و ركب الناصري و أصحابه للقائهم و أنزل الجوباني عنده بالاصطبل و أشركه في أمره و أصبحوا ينادون بطلب السلطان الظاهر بقية يومهم ذلك و من الغد حتى دل عليه بعض مماليك الجوباني و حين رآه قبل الأرض و بالغ في الأدب معه و حلف له على الأمان و جاء به إلى القلعة فأنزله بقاعة الغصة و اشتوروا في أمره و كان حرص منطاش و زلار على قتله أكثر من سواهما و أبى الناصري و الجوباني إلا الوفاء بما اعتقد معهم و استقر الجوباني أتابك و الناصري رأس النوبة الكبرى و دمرداش الأحمدي أمير سلاح و أحمد بن بيبقا أمير مجلس و الابقا العثماني دوادار و انبقا الجوهري استاذدار و عمرت الوظائف و المراتب ثم بعثوا زلار نائبا على دمشق و أخرجوه إليها و بعثوا كتبقا البيبقاوي على حلب و كان السلطان قد عزله عن طرابلس و اعتقله بدمشق فلما جاء في جملة الناصري بعثه على حلب مكانه و قبضوا على جماعة من الأمراء فيهم النائب سودون باق و سودون الطرنطاي فحبسوا بعضهم بالإسكندرية و بعثوا آخرين إلى الشام فحبسوا هنالك و تتبعوا مماليك السلطان فحبسوا أكثرهم و أشخصوا بقيتهم إلى الشام يستخدمون عند الأمراء و قبضوا على استاذدار محمود قهرمان الدولة و قارون القصري فصادروه على ألف ألف درهم ثم أودعوه السجن و هم مع ذلك يتشاورون في مستقر السلطان بين الكرك و قوص و الاسكندرية حتى اجمعوا على الكرك و وروا بالإسكندرية حذرا عليه من منطاش فلما أزف مسيره قعد له منطاش عند البحر رصدا و بات عامة ليله و ركب الجوباني مع السلطان من القلعة و أركب معه صاحب الكرك موسى بن عيسى في لمة من قومه يوصلونه إلى الكرك و سار معه برهة من الليل مشيعا ثم رجع و شعر منطاش من أمره و طوى على الغش و أخذ ثياب الثورة كما يذكر و نجا السلطان إلى الكرك في فل من غلماته و مواليه و وكل الناصري به حسن الكشكي من خواصه و ولاه على الكرك و أوصاه بخدمته و منعه ممن يرومه بسوء فتقدمه إلى الكرك و أنزله القلعة و هيأ له النزول بما يحتاج إليه و أقام هنالك حتى وقع من لطائف الله في أمره ما يذكر بعد أن شاء الله تعالى و جاء الخبر أن جماعة من مماليك الظاهر كانوا مختفين منذ الوقعة فاعتزموا على الثورة بدمشق و إنهم ظفروا بهم و حبسوا جميعا و منه أيبقا الصغير و الله تعالى أعلم (5/549)
ثورة منطاش و استيلاؤه على الأمر و نكبة الجوباني و حبس الناصري و الأمراء البيبقاوية بالاسكندرية
كان منطاش منذ دخل مع الناصري إلى مصر متربصا بالدولة طاويا جوانحه على الغدر لأنهم لم يوفروا حظه من الإقطاع و لم يجعلوا له اسما في الوظائف حين اقتسموها و لا راعى له الناصري حق خدمته و مقارعته الأعداء و كان ينقم عليه مع ذلك ايثاره الجوباني و اختصاصه فاستوحش و أجمع الثورة و كان مماليك الجوباني لما حبس أميرهم و انتقض الناصري بحلب لحقوا به و جاؤا في جمله و اشتملوا على منطاش فكان له بهم في ذلك السفر أنس و له إليهم صفو فداخل جماعة منهم في الثورة حملهم على صاحبهم و تطفل على الجوباني في المخالصة بغشيان مجلسه و ملابسة ندمائه و حضور مائدته و كان البيقاوية جميعا ينقمون على الناصري و يرون أنه مقصر في الرواتب و الإقطاع و طووا من ذلك على النكث و دعاهم منطاش التوثب فكانوا إليه أسرع و زينوه له و قعدوا عنه عند الحاجة و نمي الخبر إلى الناصري و الجوباني فعزموا على اشخاص منطاش إلى الشام فتمارض و تخلف في بيته أياما يطاولهم ليحكم التدبير عليهم ثم عدا عليه الجوباني يوم الاثنين و قد أكمن في بيته رجالا للثورة فقبضوا على الجوجاني و قتلوه لحينه و ركب منطاش إلى الرميلة فنهب مراكب الأمراء بباب الاصطبل و وقف عند مأذنة المدرسة الناصرية و قد شحنها ناشبة و مقاتلة مع أمير من أصحابه و قف في حمايتهم و اجتمع إليه من داخله في الثورة من الأشرفية و غيرهم و اجتمع إليه من كان بقي من مماليك الظاهر و اتصلت الهيعة فركب الأمراء البيبقاوية من بيوتهم و لما أفضوا إلى الرميلة و قفوا ينظرون مآل الحال و برز الناصري من الاصطبل فيمن حضر و أمر الأمراء بالحملة عليهم فوقفوا فأحجم هو عن الحملة و تخاذل أصحابه و أصحاب منطاش و مال إلى الناصري مماليك الجوباني لنكبة صاحبهم فهددهم منطاش بقتله فافترقوا و تحاجز الفريقان آخر النهار و باكروا شأنهم من الغد و حمل الناصري فانهزم و أقاموا على ذلك ثلاثا و جموع منطاش في تزايد ثم انفض الناس عن الناصري عشية الأربعاء لسبعين يوما من دخول القلعة اقتحمها عليه منطاش نهب بيوته و خزائنه و ذهب الناصري حيران و أصحابه يرجعون عنه و باكر البيبقاوية مجلس منطاش من الغد فقبض عليهم وسيق من تخلف منهم عن الناصري أفذاذا و بعث بهم جميعا إلى الإسكندرية و بعث جماعة ممن حبسهم الناصري إلى قوص و دمياط ثم جدد البيعة لأمير حاج منصور ثم نادى في مماليك السلطان بالعرض و قبض على جماعة منهم و فر الباقون و بعث بالمحبوسين منهم إلى قوص و صادر جماعة من أهل الأموال و أفرج عن محمود استاذدار و خلع عليه ليوليه في وظيفته ثم بداله في أمره و عاود مصادرته و امتحانه و استصفى منه أموالا عظيمة يقال ستين قنطارا من الذهب و لما استقل بتدبير الدول عمر الوظائف و المراتب و ولى فيها بنظره و بعث عن الاشقتمري من الشام و كان أخوه تمرتاي قد آخى بينهما فولاه النيابة الكبرى و عن استدمر بن يعقوب شاه فجعله أمير سلاح و عن انبقا الصفوي فولاه صاحب الحجاب و اختص الثلاثة بالمشورة و أقام أركانا للدولة و كان إبراهيم بن بطلقتمر أمير جندار قد داخله في الثورة فرعى له ذلك و قدمه في أمراء الألوف ثم بلغه أنه تفاوض مع الأمراء في الثورة به و استبداد السلطان فقبض عليه ثم أشخصه إلى حلب على إمارته هناك و كان قد اختص ارغون السمندار و ألقى عليه محبته و عنايته فغشيه الناس و باكروا بابه و عظم في الدولة صيته ثم نمي عنه أنه من المداخلين لإبراهيم أمير جندار فسطا به و امتحنه أن له على هؤلاء المداخلين لإبراهيم فلاذ بالانكار و أقام في محبسه و أفرج عن سودون النائب فجاء إلى مصر فألزمه بيته و استمر الحال على ذلك انتهى (5/552)
ثورة بذلار بدمشق
و لما بلغ الخبر إلى بذلار بدمشق باستقلال منطاش بالدولة أنف من ذلك و ارتاب و داخلته الغيرة جمع الانتقاض و كاتب نواب الممالك بالشام في حلب و غيرها يدعوهم إلى الوفاق فأعرضوا عنه و تمسكوا بطاعتهم و كان الأمير الكبير بدمشق جنتمر أخوطاز يداخل الأمراء هناك في التوثب به و توثق منهم للدولة و بلغ الخبر إلى بذلار فركب في مماليكه و شيعته يروم القبض عليه فلم يتمكن من ذلك و اجتمعوا و ظاهرهم عامة دمشق عليه فقاتلوه ساعة من نهار ثم أيقن بالغلب و الهلكة فألقى بيده و قبضوا عليه و طيروا بالخبر إلى منطاش و هو صاحب الدولة فأمر باعتقاله و هلك مريضا في محبسه و ولى منطاش جنتمر نيابة دمشق و استقرت الأحوال على ذلك و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عبادة (5/553)
خروج السلطان من الكرك و ظفره بعساكر الشام و حصاره دمشق
و لما بلغ الخبر إلى السلطان الظاهر بالكرك بأن منطاش استقل بالدولة و حبس البيبقاوية جميعا و أذال منهم بأصحابه أهمته نفسه و خشي غائلته و لم يكن عند منطاش لأول استقلاله أهم من شأنه و شأن السلطان فكتب إلى حسن الكشكي نائب الكرم بقتله و قد كان الناصري أوصاه في وصيته حين وكله به أن لا يمكنه ممن يرومه بسوء فتجافى عن ذلك و استدعى البريدي و فاوض أصحابه و قاضي البلد و كاتب السر فأشاروا بالتحرز من دمه جهد الطاقة فكتب إلى منطاش معتذرا بالخطر الذي في ارتكابه دون اذن السلطان و الخليفة فأعاد عليه الكتاب مع كتاب السلطان و الخليفة بالاذن فيه و استحثه في الاجهاز عليه فأنزل البريدي و علله بالوعد و طاوله يرجو المخلص من ذلك و كانوا يطوون الأمر عن السلطان شفقة و اجلالا فشعر بذلك و أخلص اللجأ إلى الله و التوسل بإبراهيم الخليل لأنه كان يراقب مدفنه من شباك في بيته و انطلق غلمانه في المدينة حتى ظفروا برجال داخلوهم في حسن الدفاع عن السلطان و أفاضوا فيهم فأجابوا و صدقوا ما عاهدوا عليه و اتعدوا لقتال البريدي و كان منزله بازاء السلطان فتوافوا ببابه ليلة العاشر من رمضان و هجموا عليه فقتلوه و دخلوا برأسه إلى السلطان و شفار سيوفهم دامية و كان النائب حسن الكشكي يفطر على سماط السلطان تأنيسا لهم فلما رآهم دهش و هموا بقتله فأجاره السلطان و ملك السلطان أمره بالقلعة و بايعه النائب و صعد إليه أهل المدينة من الغد فبايعوه و وفد عليه عرب الضاحية من بني عقبة و غيرهم فأعطوه طاعتهم و فشا الخبر في النواحي فتساقط إليه مماليكه من كل جهة و بلغت أخباره إلى منطاش فأوعز إلى ابن باكيش نائب غزة أن يسير العساكر إلى الكرك و تردد السلطان بين لقائه أو النهوض إلى الشام ثم أجمع المسير إلى دمشق فبرز من الكرك منتصف شوال فعكسر بالقبة و جمع جموعه من العرب و سار في ألف أو يزيدون من العرب و الترك و طوى المراحل إلى الشام و سرح جنتمر نائب دمشق العساكر لدفاعه فيهم أمراء الشام و أولاد بندمر فالتقوا بشقحب و كانت بينهم واقعة عظيمة أجلت عن هزيمة أهل دمشق و قتل الكثير منهم و ظفر السلطان بهم و اتبعهم إلى دمشق و نجا الكثير منهم إلى مصر ثم أحس السلطان بأن ابن باكيش و عساكره في اتباعه فكر إليهم و أسرى ليلته و صبحهم على غفلة في عشر ذي القعدة فانهزموا و نهب السلطان و قومه جميع ما معهم و امتلأت أيديهم و استفحل أمره و رجع إلى دمشق و نزل بالميدان و ثار العوام و أهل القبيبات و نواحيها بالسلطان و قصدوه بالميدان فركب ناجيا و ترك أثقاله فنهبها العوام و سلبوا من لقوه من مماليكه و لحق بقبة بلبغا فأقام بها و أغلقوا الأبواب دونه فأقام يحاصرهم إلى محرم سنة اثنتين و تسعين و كان كمشيقا الحموي نائب حلب قد أظهر دعوته في عمله و كاتبه بذلك عندما نهض من الكرك إلى الشام كما نذكره و لما بلغه حصاره لدمشق تجهز للقائه و احتمل معه ما يزيح على السلطان من كل صنف و أقام له أبهة و وصل اينال اليوسفي و قجماش ابن عم السلطان و جماعة من الأمراء كانوا محبوسين بصفد و كان مع نائبها جماعة من مماليك السلطان يستخدمون فغدروا به و أطلقوا من كان من الأمراء في سجن صفد كما نذكر و لحقوا بالسلطان و تقدمهم اينال و هو محاصر لدمشق فأقاموا معه و الله تعالى أعلم (5/554)
ثورة المعتقلين بقوص و مسير العساكر إليهم و اعتقالهم
و لم بلغ الخبر إلى الأمراء المحبوسين بقوص خلاص السلطان من الاعتقال و استيلاؤه على الكرك و اجتماع الناس إليه فثاروا بقوص أوائل شوال من السنة و قبضوا على الوالي بها و أخذوا من مودع القاضي ما كان فيه من المال و بلغ خبرهم إلى مصر فسرح إليهم العساكر ثم بلغه أنهم ساروا إلى أسوان و شايعوا الوالي بها حسن بن قرط فلحن لهم بالوعد و عرض بالوفاق فطمعوا و اعتزموا أن يسيروا من وادي القصب من الجهة الشرقية إلى السويس و يسيروا من هناك إلى الكرك و لما وصل خبر ابن قرط أخر منطاش سندمر بن يعقوب شاه ثامن عشرين من السنة و انكفأ جموعه و سار على العدوة الشرقية في جموعه لاعتراضهم فوصل إلى قوص و بادر ابن قرط فخالفه إلى منطاش بطاعته فأكرمه و رده على عمله فوافى ابن يعقوب شاه بقوص و قد استولى على النواحي و استنزل الأمراء المخالفين ثم قبض عليهم و قتل جميع من كان معهم من مماليك السلطان الظاهر و مماليك ولاة الصعيد و جاء بالأمراء إلى مصر فدخل بهم منتصف ذي الحجة من السنة فأفرج عن أربعة منهم سوماي اللاي و حبس الباقين و الله تعالى أعلم (5/555)
ثورة كمشيقا بحلب و قيامه بدعوة السلطان
قد كنا قدمنا أن الناصري ولى كمشيقا رأس نوبة نيابة حلب و لما استقل منطاش بالدولة ارتاب و دعاه بذلار و لما ثار بدمشق إلى الوفاق فامتنع ثم بلغه الخبر بخلاص السلطان من الاعتقال بالكرك فأظهر الانتقاض و قام بدعوة السلطان و خالفه إبراهيم بن أمير جندار و اعصوصب عليه أهل باقوسا من أرباض حلب فقاتلهم كمشيقا جميعا و هزمهم و قتل القاضي ابن أبي الرضا و كان معه في ذلك الخلاف و استقل بأمر حلب و ذلك في شوال من السنة ثم بلغه أن السلطان هزم عساكر دمشق و ابن باكيش و انه مقيم بقبة بلبغبا محاصرا لدمشق بعد أن نهبوا أثقاله و أخرجوا من الميدان فتجهز من حلب إليه في العساكر و الحشود و جهز له جميع ما يحتاج إليه من المال و الأقمشة و السلاح و الخيل و الابل و خيام الملك بفرشها و ما عونها و آلات الحصار و تلقاه السلطان و بالغ في تكرمته و وفوض إليه في الاتابكية و المشورة و قام معه محاصرا لدمشق و اشتد الحصار على أهل دمشق بعد وصوله و استكثار السلطان من المقاتلة و آلات الحصار و خرب كثيرا من جوانبها بحجارة المجانيق و تصدعت حيطانها و أضرم كثيرا من البيوت على أربابها فاحترقت و استولى الخراب و الحريق على القبيبات أجمع و تفاحش فيها و اشتد أهل القتال و الدفاع من فوق الأسوار و تولى كبر ذلك منهم قاضي الشافعية أحمد بن القرشي بما أشار عليهم وفاه أهل العلم و الدين بالنكير فيه و كان منطاش لما بلغه حصار دمشق بعث طنبقا الحلي دوادار الاشرف بمدد من المال يمد به العساكر هنالك و أقام معهم ثم بعث جنتمر إلى أمير آل فضل يعبر بن جبار يستجد به فجاء لقتالهم و سار كمشيقا نائب حلب فلقيه و فض جموعه و أسر خادمه و جاء به أسيرا فمن عليه السلطان و أطلقه و كساه و حمله و رده إلى صاحبه و استمر حصار دمشق إلى أن كان ما نذكره ان شاء الله تعالى (5/556)
ثورة انيال بصفد بدعوة السلطان
كان انيال لما انهزم يوم واقعة دمشق فر إلى مصر و مر بغزة فاعتقله ابن باكيش و حبس بالكرك فلما استولى الناصري أشخصه إلى صفد فحبس بها مع جماعة من الأمراء و ولى على صفد قلطبك النظامي فاستخدم جماهة من مماليك برقوق و اتخذ منهم بلبغا السالمي دوادار فلما بلغه خلاص السلطان من الاعتقال و مسيره إلى الشام داخل بلبغا مماليك استاذه قطلوبقا في الخلاف و اللحاق بالسلطان و هرب منهم جماعة فركب قطلوبقا في اتباعهم و أبقى بلبغا السالمي دوادار و حاجب صفد فاطلقوا انيال و سائر المحبوسين من السلطان فملك أنيال القلعة و رجع قطلوبقا من اتباع الهاربين فوجدهم قد استولوا و امتنعوا و ارتاب من مماليكه فسار عن صفد و نهب بيته و مخلفه و لحق بالشام فلقي الأمراء المنهزمي أمام السلطان بشقحب قاصدين مصر فسار معهم و لحق انيال بالسلطان من صفد بعد أن ضبطها و استخلف عليها و أقام مع السلطان و الله تعالى أعلم (5/556)
مسير منطاش و سلطانه أمير حاجي إلى الشام و انهزامهم و دخول منطاش إلى دمشق و ظفر السلطان الظاهر بأمير حاجي و الخليفة و القضاة و عوده لملكه
و لما تواترت الأخبار بهزيمة عساكر الشام و حصار السلطان الظاهر دمشق و ظهور دعوته في حلب و صفد و سائر بلاد الشام ثم وصلت العساكر المنهزمون و أولاد بندمر و نائب صفد و استحثوه و تواترت كتب جنتمر نائب دمشق و صريخه أجمع منطاش أمره حينئذ على المسير إلى الشام فتجهز و نادى في العساكر و أخرج السلطان و الخليفة و القضاة و العلماء سابع عشر ذي الحجة سنة إحدى و تسعين و خيمو بالريدانية من ناحية القاهرة حتى أزاح العلل و استخلف على القاهرة دوادار صراي تمر و أطلق يده في الحل و العقد و التولية و العزل و استخلف على القلعة بكا الاشرفي و عمد إلى خزانة من خزائن الذخيرة بالقلعة فسد بابها و نقبها من أعلاها حتى صارت كهيئة الجب و نقل إليها من كان في سجنه من أهل دولة السلطان و نقل سودون النائب إلى القلعة فأنزله بها و أمر بالقبض على من بقي من مماليك السلطان حيث كانوا فتسربوا في غيابات المدينة و لاذوا بالاختفاء و أوعز بسد كثير من أبواب الدروب بالقاهرة فسدت و رحل في الثاني و العشرين من الشهر بالسلطان و عساكره على التعبية و طووا المراحل و نمي إليه أثناء طريقه أن بعض مماليك السلطان المستخدمين عند الامراء مجمعون على التوثب و مداخلون لغيرهم فأجمع السطوة بهم ففروا و لحقوا بالسلطان و لما بلغ خبره مسيرهم السلطان و هو محاصر دمشق ارتحل في عساكره إلى لقائهم و نزل قريبا من شقحب و أصبحوا على التعبية و كمشيقا بعساكر حلب في ميمنة السلطان و منطاش قد عبى جيشه و جعل السلطان أمير حاجي و الخليفة و القضاة و الرماة من ورائهم و وقف معهم تمار تمرراس نوبة و سندمر بن يعقوب شاه أمير سلاح و وقف هو في طائفة من مماليكه و أصحابه في حومة المعترك فلما تراءى الجمعان حمل هو و أصحابه على ميمنة السلطان ففضوها و انهزم كمشيقا الى حلب و مروا في اتباعه ثم عطفوا على مخيم السلطان فنهبوه و أسروا قجماش ابن عمه كان هناك جريحا ثم حطم السلطان على الذي فيه أمير حاجي و الخليفة و القضاة فدخلوا في حكمه و وكل بهم و اختلط الفريقان و صاروا في عمى من أمرهم و السلطان في لمة من فرسانه يخترق جوانب المعترك و يحطم الفرسان و يشردهم في كل ناحية و شراد مماليكه و أمرائه يتساقطون إليه حتى كثف جمعه ثم حمل على بقية العسكر و هم ملتئمون على الصفدي فهزمهم و لحقوا بدمشق و ضرب خيامه بشقحب و لما وصل منطاش إلى دمشق أوهم النائب جنتمر أن الغلب له و أن السلطان أمير حاجي على الأثر و نادى في العساكر بالخروج في السلاح لتلقيه و خرج من الغد موريا بذلك فركب إليهم السلطان في العساكر فهزمهم و أثخن فيهم و استلحم كثيرا من عامة دمشق و رجع السلطان إلى خيامه و بعث أمير حاجي بالتبري من الملك و العجز عنه و الخروج إليه من عهدته فأحضر الخليفة و القضاة فشهدوا عليه بالخلع و على الخليفة بالتفويض إلى السلطان و البيعة له و العود إلى كرسيه و أقام السلطان بشقحب تسعا و اشتد كلب البرد و افتقدت الأقوات لقلة الميرة فأجمع العود إلى مصر و رحل يقصدها و بلغ الخبر إلى منطاش فركب لاتباعه فلما أطل عليه أحجم و رجع و استمر السلطان لقصده و قدم حاجب غزة للقبض على ابن باكيش فقبض عليه و لما وافى السلطان غزة ولى عليها مكانه و حمله معتقلا و سار و هو مستطلع أحوال مصر حتى كان ما نذكره إن شاء الله تعالى (5/557)
ثورة بكا و المعتقلين بالقلعة و استيلاؤهم عليها بدعوة السلطان الظاهر و عوده إلى كرسيه بمصر و انتظام أمره
كان منطاش لما فصل إلى الشام بسلطانه و عساكره كما مر و استخلف على القاهرة دواداره سراي تمر و أنزله بالاصطبل و على القلعة بكا الأشرفي وكله بالمعتقلين هنالك فأخذوا أنفسهم بالحزم و الشدة و بعد أيام نمي إليهم أن جماعة من مماليك السلطان مجتمعون للثورة و قد داخلوا مماليكهم فبيتوهم و قبضوا عليهم بعد جولة دافع فيها المماليك عن أنفسهم ثم قبضوا على من داخلهم من مماليكهم و كانوا جماعة كثيرة و حدثت لهم بذلك رتبة و اشتداد في الحزم فنادوا بالوعيد لمن وجد عنده أحد من المماليك السلطان و نقلوا ابن أخت السلطان من بيت أمه إلى القلعة و حبسوه و أوعزوا بقتل الأمراء المعتقلين بالفيوم فقتلوا و عميت عليهم أنباء منطاش و العساكر و بعثوا من يقتص لهم الطريق و يسائل الركبان و اعتزموا على قتل المسجونين بالقلعة ثم تلاوموا في ذلك و رجعوا إلى التضييق عليهم و منع المترددين بأقواتهم فضاقت أحوالهم و ضجروا و أهمتهم أنفسهم و في خلال ذلك عثر بعضهم على منفذ إلى سرب تحت الأرض يقضي إلى حائط الاسطبل ففرحوا بذلك و تنسموا ريح الفرج و لما أظلتهم ليلة الأربعاء غرة صفر سنة اثنتين و تسعين مروا في ذلك السرب فوجدوا فيه آلة النقب فنقبوا الحائط و أفضوا إلى أعلى الاسطبل و تقدم بهم خاصكي من أكابر الخاصكية و هجموا على الحراس فثاروا إليهم فقتلوا بعضهم بالقيود من أرجلهم و هرب الباقون و نادوا شعبان بكا نائب القلعة يوهمون أنه انتقض ثم كسروا باب الاسطبل الأعلى و الأسفل و أقضوا إلى منزل سراي تمر فأيقظه لغطهم و هلع من شأن بكا فأرمى نفسه من السور ناجيا و مر بالحاجب قطلوبقا و لحق بمدرسة حسن و قد كان منطاش أنزل بها ناشبة من التركمان لحماية الإسطبل و أجرى لهم الارزاق و جعلهم لنظر تنكر رأس نوبة ثم هجم أصحاب بكا على بيت سراي تمر فنهبوا ماله و قماشه و سلاحه و ركبوا خيله و استولوا على الاسطبل و قرعوا الطبول ليلتهم و قاتلهم بكا من الغد و سرب الرجال إلى الطبلخانات فملكها ثم أزعجوه عنها و زحف سراي تمر و قطلوبغا الحاجب إلى الإسطبل لقتالهم و برزوا إليهم فقاتلوهم و اعتصموا بالمدرسة و استولى بكا على أمره و بعث إلى باب السر من المدرسة ليحرقه فاستأمن إليه التركمان الذين به فأنزلهم على الأمان وسرب أصحابه في البلد لنهب بيوت منطاش و أصحابه فعاثوا فيها و تسلل إليه مماليك السلطان المختفون بالقاهرة فبلغوا ألفا أو يزيدون ثم استأمن بكا من الغد فأمنه سودون النائب و جاء به الناصري أمير سلاح و دمرداش و كان عنده فحبسهما بكا ثم و قف سودون على مدرسة حسن و الأرض تموج بعوالم النظارة فاستنزل منها سراي تمر و قطلوبغا الحاجب فنزلا على أمانه و هم العوالم بهما فحال دونهما و جاء بهما إلى بكا فحبسهما و ركب سودون يوم الجمعة في القاهرة و نادى بالأمان و الخطبة للسلطان فخطب له من يومه و أمر بكا بفتح السجون و إخراج من كان فيها في حبس منطاش و حكام تلك الدولة و هرب الوالي حسن بن الكوراني خوفا على نفسه لما كان شيعة لمنطاش على مماليك السلطان ثم عثر عليه بكا و حبسه مع سائر شيعة منطاش و أطلق جميع الأمراء الذين حبسهم بمصر و دمياط و الفيوم ثم بعث الشريف عنان بن مقامس أمير بني حسن بمكة و كان محبوسا و خرج معهم فبعثه مع أخيه أيبقا على الهجن لاستكشاف خبر السلطان و وصل يوم الأحد بعدها كتاب السلطان مع ابن صاحب الدرك سيف بن محمد بن عيسى العائدي باعداد الميرة و العلوفة في منازل السلطان على العادة و قص خبر الواقعة و أن السلطان توجع إلى مصر و انتهى إلى الرملة ثم وصل أيبقا أخو بكا يوم الأربعاء ثامن صفر بمثل ذلك و تتابع الواصلون من عسكر السلطان ثم نزل بالصالحية و خرج السلطان لتلقية بالعكرشة ثم أصبح يوم الثلاثاء رابع صفر في ساحة القلعة و قلده الخليفة و عاد إلى سريره ثم بعث عن الأمراء الذين كان حبسهم منطاش بالاسكندرية و فيهم الناصري و الجوباني و ابن بيبقا و قرادمرداش و أبغا الجوهري و سودون باق و سودون الطرنطاي و قردمر المعلم في آخرين متعددين و استعتبوا للسلطان فأعتبهم و أعادهم إلى مراتبهم و ولى انيال اليوسفي اتابكا و الناصري أمير سلاح و الجوباني رأس نوبة و سودون نائبا و بكادوادار و قرقماش استاذ دار و كمشيقا الخاصكي أمير مجلس و تطلميش أمير الماخورية و علاء الدين كاتب سر الكرك كاتب سره بمصر و عمر سائر المراتب و الوظائف و توفي قرقماش فولى محمود أستاذ داره الأول و رعى له سوابق خدمته و محنة العدوله في محبته و انتظم أمر دولته و استوثق ملكه و صرف نظره إلى الشام و تلافيه من مملكة العدو و فساده و الله تعالى أعلم (5/558)
ولاية الجوباني على دمشق و استيلاؤه عليها من يد منطاش ثم هزيمته و مقتله و ولاية الناصري مكانه
لما استقر السلطان على كرسيه بالقاهرة و انتظمت أمور دولته صرف نظره إلى الشام و شرع في تجهيز العساكر لازعاج العدو منه و عين الجوباني لنيابة دمشق و رياسة العساكر و الناصري لحلب لأن السلطان كان عاهد كمشيقا على أتابكية مصر و عين قرادمرداش لطرابلس مأمونا القلحطاوي لحماة فولى في جميع ممالك الشام و وظائفه و أمرهم بالتجهيز و نودي في العساكر بذلك و خرجوا ثامن جمادى الأولى من سنة اثنتين و تسعين و كان منطاش قد اجتهد جهده في طي خبر السلطان بمصر عن أمرائه و سائر عساكره و مازال يفشو حتى شاع و ظهر بين الناس فانصرف هواهم إلى السلطان و بعث في أثناء ذلك الأمير ايمازتمر نائبا على حلب فاجتمع إليه أهل كانفوسا و حاصر كمشيقا بالقلعة نحوا من خمسة أشهر وشد حصارها و أحرق باب القلعة و الجسر و نقب سورها من ثلاثة مواضع و اتصل القتال بين الفريقين في أحد الأنقاب لشهرين على ضوء الشموع ثم بعث العساكر إلى بعلبك مع محمد بن سندمر في نفر من قرابته و جنده فقتلهم منطاش بدمشق أجمعين ثم أوعز إلى قشتمر الأشرفي نائب طرابلس بالمسير إلى حصار صفد فسار إليها و برز إليه جندها فقاتلوه و هزموه فجهز إليها العساكر مع ابقا الصفدي كبير دولته فسار إليها في سبعمائة من العساكر و قد كان لما تيقن عنده استيلاء السلطان على كرسيه بمصر جنح إلى الطاعة و الاعتصام بالجماعة و كاتب السلطان بمغارمه و وعده فلما وصل إلى صفد بعث إلى نائبها بطاعته و فارق أصحاب منطاش و من له هوى فيه و صفوا إليه و بات ليلته بظاهر صفد و ارتحل من الغد إلى مصر فوصلها منتصف جمادى الأخيرة و أمراء الشام معسكرون مع الجوباني بظاهر القلعة فأقبل السلطان عليه و جعله من أمراء الألوف و لما رجع أصحابه من صفد إلى دمشق اضطرب منطاش و تبين له نكر الناس و ارتاب بأصحابه و قبض على جماعة من الأمراء و على جنتمر نائب دمشق و ابن جرجي من أمراء الألوف و ابن قفجق الحاجب و قتله و القاضي محمد بن القرشي في جملة من الأعيان و استوحش الناس و نفروا عنه و استأمنوا إلى السلطان مثل محمد بن سندمر و غيره و هرب كاتب السر بدر الدين بن فضل الله و ناظر الجيش و قد كانوا يوم الواقعة على شقحب لحقوا بدمشق يظنون أن السلطان يملكها يومه ذلك فبقوا في ملكة منطاش و أجمعوا الفرار مرة بعد أخرى فلم يتهيأ لهم و شرع منطاش في الفتك بالمنتمين إلى السلطان من المماليك المحبوسين بالقلعة و غيرهم و ذبح جماعة من الجراكسة و هم بقتل اشمس فدفعه الله عنه و ارتحل الأمراء من مصر في العساكر السلطانية إلى الشام مع الجوباني يطوون المراحل و الأمراء من دمشق يلقونهم في كل منزلة هاربين إليهم حتى كان آخر من لقيهم ابن نصير أمير العرب بطاعة أبيه و دخلوا حدود الشام ثم ارتبك منطاش في أمره و استقر الخوف و الهلع و الاسترابة بمن معه فخرج منتصف جمادى الأخيرة هاربا من دمشق في خواصه و أصحابه و معه سبعون حملا من المال و الأقمشة و احتمل معه محمد بن اينال و انتقض عليه جماعة من المماليك فرجعوا به إلى أبيه و كان يعبر بن جبار أمير آل فضل مقيما أحيائه آل مر و أميرهم عنقا فلحق بهم هنالك منطاش مستجيرا فأجاروه و نزل معهم و لما فصل منطاش عن دمشق خرج أشمس من محبسه و ملك القلعة و معه مماليك السلطان معصوصبون عليه و أرسل الجوباني بالخبر فأخذ السير إلى دمشق و جلس بموضع نيابته و قبض على من بقي من أصحاب منطاش و خدمه مع من كان حبس هو معهم و وصل الطنبقا الحلبي و دمرداش اليوسفي من طرابلس و كان منطاش استقدمهم و هرب قبل وصولهم و بلغ الخبر إلى ايماز تمر و هو يحاصر حلب و أهل كانفوسا معصوصبون عليه فأجفل و لحق بمنطاش و ركب كمشيقا من القلعة إليهم بعد أنم أصلح الجسر و أركب معه الحجاب و قاتل أهل كانفوسا و من معهم من أشياع منطاش ثلاثة أيام ثم هزموهم و قتل كمشيقا منهم أكثر من ثمانمائة و خرب كانفوسا فأصبحت خرابا و عمر القلعة و حصنها و شحنها بالأقوات و بعث الجوباني بالعساكر إلى طرابلس و ملكوها من يد قشتمر الأشرفي نائب منطاش من غير قتال و كذلك حماة و حمص ثم بعث الجوباني نائب دمشق و كافل الممالك الشامية إلى يعبر بن جبار أمير العرب باسلام منطاش و إخراجه من أحيائه فامتنع و اعتذر فبرز من دمشق بالعساكر و معه الناصري و سائر الأمراء و نهض إلى مصر و لما انتهوا إلى حمص أقاموا بها و بعثوا إلى يعبر يعتذرون إليه فلج و استكبر و حال دونه و بعث إليه اشمس خلال ذلك من دمشق بأن جماعة شيعة بندمر و جنتمر يرومون الثورة فركب الناصري إلى دمشق و كبسهم و أثخن فيهم و رجع إلى العسكر و ارتحلوا إلى سلمية و استمر يعبر في غلوائه و ترددت الرسل بينهما فلم تغن ثم كانت بين الفريقين حرب شديدة و حملت العساكر على منطاش و العرب فهزموهم إلى الخيام و اتبع دمرداش منطاش حتى جاوز به الحي و ارتحلت العرب و حملوا بطانتهم على العسكر فلم يثبتوا لحملتهم و كان معهم آل علي بجموعهم فنهبوهم من ورائهم و انهزموا و أفراد الجوباني مماليكه فأسره العرب و سيق إلى يعبر فقتله و لحق الناصري بدمشق و أسر جماعة من الأمراء و قتل منهم أيبقا الجوهري و مأمون المعلم في عدد آخرين و نهب العرب مخيمهم و أثقالهم و دخل الناصري إلى دمشق فبات ليلته و باكر من الغد آل علي في أحيائهم فكسبهم و استلحم منهم جماعة فثار منهم بما فعلوه في الواقعة ثم بعث إليه السلطان بنيابة دمشق منتصف شعبان من السنة فقام بأمرها و أحكم التصريف في حمايتها و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/560)
إعادة محمود إلى استاذية الدار و استقلاله في الدولة
هذا الرجل من ناسئة الترك و ولدانهم و من أعقاب كراي المنصوري منهم شب في ظل الدولة و مرعى نعمها و نهض بنفسه إلى الاضطلاع و الكفاية و باشر كثيرا من أعمال الأمراء و الوزراء حتى أوفى على ثنية النجابة و عرضته الشهرة على اختيار السلطان فعجم عوده و نقد جوهره ثم الحق به أغراض الخدمة ببابه فأصاب شاكله الرمية و مضى قدما في مذاهب السلطان مرهف الحد قوي الشكيمة فصدق ظنه و شكر اختياره ثم دفعه إلى معاينة الحبس و شد الدواوين من و ظائف الدولة فجلا و هلك خلال ذلك أستاذ الدار بهادر المنجكي سنة تسعين فأقامه السلطان مكانه قهرمانا لداره و دولته و انتضاره على دواوين الجبابة من قراب اختياره و نقده جماعة للأموال غواصا على استخراج الحقوق السلطانية قارمنا للكنوز اكسيرا للنقود مغناطيسا للقنية يسابق أقلام الكتاب و يستوفى تفاصيل الحساب بمدارك الهامة و تصور صحيح و حدس ثاقب لا يرجع إلى حذاقة الكتاب و لا إلى ايسر الأعمال بل يتناول الصعاب فيذللها و يحوم على الأغراض البعيدة فيقربها و ربما يحاضر بذكائه في العلوم فينفذ في مسائلها و يفحم جهابذتها موهبة من الله اختصه بها و نعمة أسبغ عليه لبوسها فقام بما دفع إليه السلطان من ذلك و أدر خروج الجباية فضاقت افنية الحواصل و الخزائن بما تحصل و تسرب إليها و كفى السلطان مهمة في دولته و مماليكه و رجاله بما يسوغ لهم من نعمه و يوسع من أرزاقه و عطائه حتى أزاح عللهم بتوالي انفاقه و قرت عين السلطان باصطناعه و غص به الدواوين و الحاشية ففوقوا إليه سهام السعاية و سلطوا عليه السنة المتظلمين فخلص من ذلك خلوص الأبر و لم تعلق به ظنة و لا حامت عليه ريبة ثم طرق الدولة ما طرقها من النكبة و الاعتقال و أودعته المحنة غيابات السجون و حفت به أنواع المكاره و اصطلمت نعمته و استصفيت أمواله في المصادرة و الامتحان حتى زعموا أن الناصري المتغلب يومئذ استأئر منه بخمسة قناطير من دنانير الذهب و منطاش بعده بخمسة و خمسين ثم خلص ابريزه من ذلك السبك و أهل قمره بعد المحاق و استقل السلطان من نكبته و طلع بافق مصره و تمهد أريكة ملكه و دفعه لما كان بسبيله فأحسن الكرة في الكفاية لمهمه و توسيع عطاياه و أرزاقه و تمكين أحوال دولته و تسربت الجباية من غير حساب و لا تقرير إلى خزائنه و أحسن النظر في الصرف و الخرج بحزمه و كفايته حتى عادت الأمور إلى أحسن معهودها بيمن تعبيته و سديد رأيه و صلابة عوده و قوة صرامته مع بذل معروفه و جاهه لمن تحت يده و بشاشته و كفايته لغاشيته و حسن الكرامة لمنتابه و مقابلة من يأتي إليه بكرم مقاصده فأصبح طرازا للدولة و تاجا للخواص و قذفه المنافسون بخطا السعايات فزلت في جهات جلم السلطان و جميل اغتباطه و تثبته حتى أعيتهم المذاهب و انسدت عليهم الطرق و رسخت قدمه في الدولة و احتل من السلطان بكرم العهد و الذمة و وثق بغنائه و اضطلاعه فرمى إليه مقاليد الأمور و أوطأ عقبه أعيان الخاصة و الجمهور و أفرده في الدولة بالنظر في الأمور حسبانا و تقديرا و جمعا و تقريرا و كنزا موفرا و صرفا لا يعرف تبذيرا و بطرا و في الانهاء بالعزل و الاهانة مشهورا مع ما يمتاز به من الأمر و الشأن و سمو مرتبته على مر الازمان و هو على ذلك لهذا العهد عند سفر السلطان إلى الشام لمدافعة سلطان المغل كما مر ذكره و الله متولي الأمور لا رب غيره (5/562)
مسير منطاش و يعبر إلى نواحي حلب و حصارها ثم مفارقة يعبر و حصاره عنتاب ثم رجوعه
و لما انهزمت العساكر بسلمية كما قلنا ارتحل يعبر في أحيائه و معه منطاش و أصحابه إلى نواحي حلب و سار يعبر إلى بلد سرمين من اقطاعه ليقسهما في قومه على عادتهم و كان كمشيقا نائب حلب قد أقطعها الجند من التركمان في خدمته فلما وافاه يعبر فرجعوا عنه و لقيهم علي بن يعبر فقاتلوه و هزموه و قتلوا بعض أصحابه صبرا و رجع يعبر إلى أحيائه و ارتحلوا إلى حلب فحاصروها و ضيقوا عليها أيام رمضان ثم راجع يعبر نفسه و راسل كمشيقا نائب حلب في الطاعة و اعتذر عما وقع منه و طوق الذنب بالجوباني و أصحابه أهل الواقعة و سال الامان مع حاجبه عبد الرحمن فأرسله كمشيقا إلى السلطان و أخبره بما اشترط يعبر فأجابه السلطان إلى سؤاله و شعر بذلك منطاش بمكانه من حصار حلب فارتاب و خادع يعبر إلى الغارة على التركمان بقربهم فأذن للعرب في المسير معه و سار معه منهم سبعمائة فلما جاوز الدربند أرجلهم عن الخيل و أخذها و لحق بالتركمان و نزل بمرعش بلد أميرهم سولي و رجع العرب مشاة إلى يعبر فارتحل إلى سبيله راجعا و سار منطلش إلى عنتاب من قلاع حلب و نائبها محمد بن شهري فملكها و اعتصم نائبها بالقلعة أياما ثم ثبت منطاش و أثخن في أصحابه و قتل جماعة من أمرائه و كانت العساكر قد جاءت من حلب و حماة و صفد لقتاله فهرب إلى مرعش و سار منها إلى بلاد الروم و اضمحل أمره و فارقه جماعة من أصحابه إلى العساكر و راجعوا طاعة السلطان آخر ذي القعدة من سنة اثنتين و سبعين و بعث سولى بن دلقادر أمير التركمان في عشر ذي الحجة يستأمن إلى السلطان فأمنه و ولاه البلستين كما كان و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/564)
قدوم كمشيقا من حلب
قد كان تقدم لنا أن كمشيقا الحموي رأس نوبة بيبقا كان نائبا بطرابلس و أن السلطان عزله و حبسه بدمشق فلما استولى الناصري على دمشق أطلقه من الإعتقال و جاء في جملته إلى مصر فلما ولي على مماليك الشام و أعمالها ولاه على حلب مكانه منتصف إحدى و سبعين و لما استقل السلطان من النكبة و قصد دمشق كما مر أرسل كمشيقا إليه بطاعته و مشايعته على أمره و أظهر دعوته في حلب و ما إليها من أعماله ثم سار السلطان إلى دمشق و حاصرها و أمده كمشيقا بجميع ما يحتاج إليه ثم جاءه بنفسه في عساكر حلب صريخا و حمل إليه جميع حاجاته و أزاح علله و أقام له رسوم ملكه و شكر السلطان أفعاله في ذلك و عاهده على أتابكية مصر ثم كانت الواقعة على شقحب فانهزم كمشيقا إلى حلب فامتنع بها و حاصره يماز تمر أتابك منطاش أشهرا كما مر ثم هرب منطاش من دمشق إلى العرب فأفرج أيمازتمر عن حلب ثم كانت واقعة الجوباني و مقتله و زحف منطاش و يعبر إلى حلب فحاصروها مدة ثم وقع الخلاف بينهما و هرب منطاش إلى بلاد التركمان و رجع يعبر إلى بلدة سلمية و استأمن إلى السلطان ورجع إلى طاعته منتصف شوال و لما أفرجوا عن حلب نزل كميشقا من القلعة ورم خرابها و خرب بانفوسا و استلحم أهلها و أخذ في إصلاح أسوار حلب ورم ما ثلم منها و كانت خرابا من عهد هلاكو و جمع له أهل حلب ألف ألف درهم للنفقة و فرغ منه لثلاثة أشهر و لما استوسق أمر السلطان و انتظمت دولته بعث إليه يستدعيه في شهر ذي الحجة سنة اثنتين و تسعين و ولى مكانه في حلب قراد مرداش نقله إليها من طرابلس و ولى مكانه أنيال الصغير فسار كمشيقا من حلب و وصل مصر تاسع صفر سنة ثلاث و تسعين فاهتزله السلطان و أركب الأمراء للقائه مع النائب ثم دخل إلى السلطان فحياه و بالغ في تكرمته و تلقاه بالرحب و رفع مجلسه فوق الأتابك انيال و أنزله بيت منجك و قد هيأ فيه من الفرش و الماعون و الخرثى ما فيه للمنزل ثم بعث إليه بالأقمشة و قرب إليه الجياد بالمراكب الثقيلة و تقدم للأمراء أن يتحفوه بهداياهم فتنازعوا في ذلك و جاؤا من وراء الغاية و حضر في ركابه من أمراء الشام الطنبقا الأشرفي و حسن الكشكي فأكرمهما السلطان و استقر كمشيقا بمصر في أعلى مراتب الدولة إلى أن توفي أنيال الأتابك في جمادى أربع و تسعين فولاه السلطان مكانه كما عاهده عليه بشقحب و جعل إليه نظر المارستان على عادة الأتابكية و استمر على ذلك لهذا العهد و الله سبحانه و تعالى أعلم بغيبه (5/564)
استقدام أيتمش
كان أيتمش النجاشي أتابك الدولة قد نكبه السلطان و سار في العساكر إلى الشام منتصف ربيع إحدى و تسعين لقتال الناصري و أصحابه لما إنتقض عليه و كانت الواقعة بينهم بالمرج من نواحي دمشق و انهزمت العساكر و نجا أتيمش إلى قلعة دمشق و معه كتب السلطان في دخولها متى اضطر إليه فامتنع بها و ملكها الناصري من الغد بطاعة نائبها ابن الحمصي فوكل بايتمش و أقام حبيسا موسعا عليه ثم سار الناصري إلى مصر و ملكها و عاد السلطان إلى كرسيه في صفر سنة اثنتين و تسعين كما فصل ذلك من قبل و أيتمش في أثناء ذلك كله محبوس بالقلعة ثم زحف الجوباني في جمادى الأخيرة و خلص أيتمش من اعتقاله و فقت مماليك السلطان السجن الذي كانوا فيه بقلعة دمشق و خرجوا و أعصوصبوا على أتيمش قبل مجيء الجوباني و بعث إليه بالخبر و بعث الجوباني إلى السلطان بمثل ذلك فتقدم إليه السلطان بالمقام بالقلعة حتى يفرغ من أمر عدوه ثم كان بعد ذلك واقعة الجوباني مع منطاش و العرب و مقتله و ولاية الناصري على دمشق مكانه ثم افترق العرب و فارقهم منطاش إلى التركمان و انتظمت ممالك الشام في ملكة السلطان و استوسق ملكه و استفحلت دولته فاستدعي الأمير أتيمش من قلعة دمشق و سار لإستدعائه قنوباي من مماليك السلطان ثامن ربيع الأول سنة ثلاث و تسعين و وصل إلى مصر رابع جمادى الأولى من السنة و وصل في ركابه حاجب الحجاب بدمشق و معه الأمراء الذين حبسوا بالشام منهم جنتمر نائب دمشق و ابنه و ابن أخته و أستاذ داره طنبقا و دمرداش اليوسفي نائب طرابلس و الطنبقا الحلي و القاضي أحمد بن القريشي و فتح الدين بن الرشيد و كاتب السر في ست و ثلاثين نفرا من الأمراء و غيرهم و لما وصل أتيمش قابله السلطان بالتكرمة و الرحب و عرض الحاجب المساجين الذي معه و وبخ السلطان بعضهم ثم حبسوا بالقلعة حتى نفذ قضاء الله و قتلوا مع غيرهم ممن أوجبت السياسة قتلهم و الله تعالى مالك الأمور لا رب سواه انتهى (5/565)
هدية أفريقية
كان السلطان قد حصل بينه و بين سلطان أفريقية أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن أبي حفص الموحدي مودة و التئام و كانت كثيرا ما تجددها الهدايا من الجانبين و نذكرها إن شاء الله تعالى و لما بلغ الخبر إلى تونس بما كان من نكبة السلطان و ما كان أمره امتعض له هذا السلطان بتونس و تفجع لشأنه و أقام يستطلع خبره و يستكشف من الجار التي تحضر إلى مصر من أهل تونس أنباءه حتى وقف على الجلي من أمره و ما كيف الله من أسباب السعادة في خلاصه و عوده إلى كرسيه فملا السرور جوانحه و أوفد عليه بالتهنئة رسوله بهدية من المقربات على سبيل الوداد مع خالصة من كبراء الموحدين محمد بن أبي هلال فوصل في العشر الأواخر من رمضان سنة اثنتين و تسعين فتلقاه السلطان بالكرامة و ركب محمود أستاذ داره ليتلقاه عند نزوله من البحر بساحل بولاق و أنزل ببيت طشتمر بالرميلة قبالة الإصطبل و أجريت عليه النفقة بما لم يجر لأمثاله و رغب من السلطان في الحج فحج و أصحب هدية إلى مرسله من ثياب الوشي و الديباج و السلاح بما لم يعهده مثلها و انصرف آخر ربيع سنة ثلاث و تسعين و الله تعالى أعلم بغيبه (5/566)
حصار منطاش دمشق و مسير السلطان من مصر إليه و فراره و مقتل الناصري
لم يزل منطاش شريدا عند التركمان منذ فارق العرب و لما كان منتصف سنة ثلاث و تسعين اعتزم على قصد دمشق و يقال أن ذلك كان بإغراء الناصري يخادعه بذلك ليقبض عليه فسار منطاش من مرعش على نواحي حلب و تقدم خبره إلى حماة فهرب نائبها إلى طرابلس و دخل منطاش حماة و نادى فيها بالأمان ثم سار منها إلى حمص كذلك ثم إلى بعلبك و هرب نائبها إلى دمشق فخرج الناصري نائب دمشق في العساكر لمدافعته و سار على طريق الريداني فخالفه منطاش إلى دمشق و قدم إليها أحمد شكار بن أبي بندمر فثار شيعة الخوارزمية و البندمرية و فتحوا له أبواب البلد و مر باصطبلات فقاد منها نحوا من ثمانمائة فرس و جاء منطاش من الغد على أثره فنزل بالقصر الأبلق و أنزل الأمراء الذين معه في البيوت حوالي القصر و في جامع شكن و جامع بيبقا و شرع في مصادرة الناس و الفريضة عليهم و أقام يومه في ذلك و إذا بالناصري قد وصل عساكره فاقتتلوا عشية ذلك اليوم مرات و من الغد كذلك و أقام كل واحد منهما في حومته و القتال متصل بينهما سائر رجب و شعبان و لما بلغ الخبر إلى السلطان ارتاب بالناصري و اتهمه بالمداهنة في أمر منطاش و تجهز لقصد الشام و أدى في العساكر بذلك عاشر شعبان و قتل أهل الخلاف من الأمراء المحبوسين و أشخص البطالين من الأمراء إلى الإسكندرية و دمياط و خرج يوم عشرين شعبان فخيم بالريدانية حتى أزاح علل العساكر و قضوا حاجاتهم و استخلف على القاهرة الأتابك كمشيقا الحموي و أنزله الإصطبل و جعل له التصرف في التولية و العزل و ترك بالقاهرة من الأمراء جماعة لنظر الأتابك و تحت أمره و أنزل النائب سودون بالقلعة و ترك بها ستمائة من مماليكه الأصاغر و أخرج معه القضاة الأربعة و المفتين و إرتحل غرة رمضان من السنة بقصد الشام و جاء الخبر رابع الشهر بأن منطاش لما بلغه مسيرة السلطان من مصر هرب من دمشق منتصف شعبان مع عنقا بن أمير آل مراء الصريخ منطاش فكانت بينهما وقعة انهزم فيها الناصري وقتل جماعة من أمراء الشام نحو خمسة عشر فيهم إبراهيم بن منجك و غيره ثم خرج الناصري من الغد في إتباع منطاش و قد ذكر له أن الفلاحين نزعوا من نواحي دمشق و احتاطوا به فركب إليه منطاش ليقاتله ففارقه أتابكه يمازتمر إلى الناصري في أكثر العساكر و ولي هاربا و رجع الناصري إلى دمشق و أكرم ايمازتمر و أجمل له الوعد و جاءه الخبر بأن السلطان قد دخل حدود الشام فسار ليلقاه فلقيه بقانون و بالغ السلطان في تكرمته و ترجل حين نزوله و عانقه و أركبه بقربه و رده إلى دمشق ثم سار في أثره إلى أن وصل دمشق و خرج الناصري ثانية و دخل إلى القلعة ثاني عشر رمضان من السنة و الأمراء مشاة بين يديه و الناصري راكب معه يحمل الخبز على رأسه و بعث يعبر في كتاب نائب حماة بالعذر عما وقع منه و أنه إتهم الناصري في أمر منطاش فقصد حسم الفتنة في ذلك و استأمن السلطان و ضمن له إحضار منطاش من حيث كان فأمنه و كتب إليه بإجابة سؤاله و لما قضى عيد الفطر برز من دمشق سابع شوال إلى حلب في طلب منطاش و لقيه أثناء طريقه رسول سولي بن دلقادر أمير التركمان بهديته و استئمانه و عذره عن تعرضه لسيس و أنه يسلهما لنائب حلب فقبل السلطان منه و أمنه و وعده بالجميل ثم وفد عليه أمراء آل مهنا و آل عيسى في الطاعة و مظاهرة السلطان على منطاش و يعبر و أنهما نازلان بالرحبة من تخوم الشام فأكرم السلطان و فادتهم و تقبل طاعتهم و سار إلى حلب و نزل بالقلعة منها ثاني شوال ثم وصل الخبر إلى السلطان بأن منطاش فارق يعبرا و مر ببلاد ماردين فواقعته عساكر هناك و قبضوا على جماعة من أصحابه و خلص هو من الواقعة إلى سالم الرودكاري من أمراء التركمان فقبض عليه و أرسل إلى السلطان يطالعه بشأنه و يطلب بعض أمراء السلطان قراد مرداش نائب حلب في عساكره إلى سالم الرودكاري لإحضار منطاش و أتبعه بالناصري و أرسل الأتابك إلى ماردين لإحضار من حصل من أصحاب منطاش و انتهى أنيال إلى رأس العين و أتى أصحاب سلطان ماردين و تسلم منهم أصحاب منطاش و كتب سلطانهم بأنه معتقل في مقاصد السلطان و مرتصد لعدوه و انتهى قراد مرداش إلى سالم الرودكاري و أقام عنده أربعة أيام في طلب منطاش و هو يماطله فأغار قراد مرداش عليه و نهب أحياءه و فتك في قومه و هرب هو و منطاش إلى سنجار و جاء الناصري على أثر ذلك و نكر على دمرداش ما أتاه و ارتفعت الملاجة بينهما حتى هم الناصري به و رفع الآلة بضربه و لم يحصل أحد منهم بطائل و رجعوا بالعساكر إلى السلطان و كتب إليه سالم الرودكاري بالعذر عن أمر منطاش و أن الناصري كتب إليه و أمره بالمحافظة على منطاش و أن فيه زبونا للترك فجلس السلطان بالقلعة جلوسا ضخما سادس ذي الحجة من السنة و استدعى الناصري فوبخه ثم قبض عليه و على ابن أخيه كشلي و رأس نوبة شيخ حسن و على أحمد بن الهمدار الذي أمكنه من قلعة حلب و أمر بقتله و قشتمر الأشرفي الذي وصل من ماردين معهم و ولى على نيابة دمشق مكانه بطا الدوادار و أعطى إقطاعه لقراد مرداش و أمره بالمسير إلى مصر و ولى مكانه بحلب حلبان رأس نوبة و ولى أبا يزيد دوادارا مكان بطا و رعى له و سائله في الخدمة و تردده في السفارة بينه و بين الناصري أيام ملك الناصري و أجلب على مصر و أشار عليه الناصري بالإنتقاء كما ذكرناه فاختفى عند أصحاب أبي يزيد هذا بسعايته في ذلك ثم ارتحل من حلب و وصل إلى دمشق منتصف ذي الحجة و قتل بها جماعة من الأمراء أهل الفساد يبلغون خمسة و عشرين و ولى على العرب محمد بن مهنا و أعطى إقطاع يعبر لجماعة من التركمان و قفل إلى مصر و لقيه الأتابك كمشيقا و النائب سودون و الحاجب سكيس ثم دخل إلى لاقلعة على التعبية منتصف المحرم سنة أربع و تسعين في يوم مشهود و وصل الخبر لعاشر دخوله بوفاة بطا نائب دمشق فولي مكانه سودون الطرنطاي ثم قبض في منتصف صفر على قراد مرداش الأحمدي و هلك في محبسه و قبض على طنبقا المعلم و قردم الحسيني و جاء الخبر أواخر صفر من السنة بأن جماعة من المماليك مقدمهم إيبقا دوادار بذلار لما هلك بطا و اضطرب أصحابه و هرب بعضهم عمد هؤلاء المماليك إلى قلعة دمشق و هجموا عليها و ملكوها و نقبوا السجن و أخرجوا المعتقلين به من أصحاب الناصري و منطاش و هم نحو المائة و ركبت العساكر إليها و حاصروها ثلاثا ثم هجموا على الباب فاحرقوه و دخلوا إلى القلعة فقبضوا عليهم أجمعين و قتلوهم و فر إيبقا دوادار بذلار في خمسة نفر و انحسمت عللهم ثم وصل الخبر آخر شعبان من السنة بوفاة سودون الطرنطاي فولى السلطان مكانه كمشيقا الأشرفي أمير مجلس و ولى مكان كمشيقا أمير شيخ الخاجكي انتهى و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/567)
مقتل منطاش
كان منطاش فر مع سالم الرودكاري إلى سنجار و أقام معه أياما ثم فارقه و لحق بيعبر فأقام في أحيائه و أصهر إليه بعض أهل الحي بابنته فتزوجها و أقام معهم ثم سار أول رمضان سنة أربع و تسعين و عبر الفرات إلى نواحي حلب و أوقعت به العساكر هناك و هزموهم و أسروا جماعة من أصحابه ثم طال على يعبر أمر الخلاف و ضجر قومه من افتقاد الميرة من التلول فأرسل حاجبه يسأل الأمان و أنه يمكن من منطاش على أن يقطع أربع بلاد منها المعرة فكتب له الدوادار أبو يزيد على لسانه بالإجابة إلى ذلك ثم وفد محمد بن سنة خمس و تسعين فأخبر أنه كان مقيما بسلمية في أحيائه و معه التركمان المقيمون بشيزر فركبوا إليهم و هزموهم و ضرب بعض الفرسان منطاش فأكبه و جرحه و لم يعرف في المعركة لسوء صورته بما أصابه من الشظف و الحفاء فأردفه ابن يعبر و نجابه و قتل منهم جماعة منهم ابن بردعان و ابن أنيال و جيء برؤسها إلى دمشق و أوعز السلطان إلى أمراء الشام أن يخرجوا بالعساكر و ينفوه إلى أطراف البلاد لحمايتها حتى يرفع الناس زروعهم ثم زحف يعبر و منطاش في العساكر أول جمادى الأخيرة من السنة إلى سلمية فلقيهم نائب حلب و نائب حماة فهزموهما و نهبوا حماه و خالفهم نائب حلب إلى أحياء يعبر فأغار عليها و نهب سوادها و أموالها و استاق نعمها و مواشيها و أضرم النار فيما بقي و أكمن لهم ينتظر رجوعهم و بلغهم الخبر بحماة فأسرعوا الكر إلى أحيائهم فخرج عليهم الكمناء و أثخنوا فيهم و هلك بين الفريقين خلق من العرب و الأمراء و المماليك ثم وفد على السلطان أواخر شعبان عامر بن طاهر بن جبار طائعا للسلطان و منابذا لعمه و ذكوان بن يعبر على طاعة السلطان و أنهم يمكنون من منطاش متى طلب منهم فأقبل عليه السلطان و أثقل كاهله بالاحسان و المواعيد و دس معه إلى بني يعبر بامضاء ذلك و لهم ما يختارونه فلما رجع عامر ابن عمهم طاهر بمواعيد السلطان تفاوضوا مع آل مهنا جميعا و رغبوهم فيما عند السلطان و وصفوا ما هم فيه من الضنك و سوء العيش بالخلاف و الانحراف عن الطاعة و عرضوا عل يعبر بأن يجيبهم إلى إحدى الحسنيين من إمساك منطاش أو تخلية سبيلهم إلى طاعة السلطان و يفارقهم هو إلى حيث شاء من البلاد فجزع لذلك و لم يسعه خلافهم و أذن لهم في القبض على منطاش و تسليمه إلى نواب السلطان فقبضوا عليه و بعثوا إلى نائب حلب فيمن يتسلمه و استحلفوه على مقاصدهم من السلطان لهم و لأبيهم يعبر فحلف لهم و بعث إليهم بعض أمرائه فامكنوه منه و بعثوا معه الفرسان و الرجالة حتى أوصلوه و دخل إلى حلب في يوم مشهود و حبس بالقلعة و بعث السلطان أميرا من القاهرة فاقتحمه و قتله و حمل رأسه و طاف به في ممالك الشام و جاء به إلى القاهرة حادي عشر رمضان سنة خمس و تسعين فعلقت على باب القلعة ثم طيف بها مصر و القاهرة و علقت على باب زويلة ثم دفعت إلى أهله فدفنوها آخر رمضان من السنة و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (5/569)
حوادث مكة
قد تقدم لنا أن عنان بن مقامس ولاه السلطان على مكة بعد مقتل محمد بن أحمد بن عجلان في موسم سنة ثمان و ثمانين و أن كنيش بن عجلان أقام على خلافه و حاصره بمكة فقتل في حومة الحرب سنة تسع بعدها و ساء أثر عنان و عجز عن مغالبة الأشراف من بني عمه و سواهم و امتدت أيديهم إلى أموال المجاورين و صادروهم عليها و نهبوا الزرع الواصل في الشواني من مصر إلى جدة للسلطان و الأمراء و التجار و نهبوا تجار اليمن و ساءت أحوال مكة بهم و بتابعهم و طلب الناس من السلطان إعادة بني عجلان لإمارة مكة و وفد على السلطان بمصر سنة تسع و ثمانين صبي من بني عجلان اسمه علي فولاه على إمارة مكة و بعثه مع أمير الحاج و أوصاه بالإصلاح بين الشرفاء و لما وصل الأمير إلى مكة يومئذ قرقماش خشى الإشراف منه و اضطرب عنان و ركب للقائه ثم توجس الخيفة و كر راجعا و أتبع الأشراف و اجتمعوا على منابذة علي بن عجلان و شيعته من القواد و العبيد و وفد عنان بن مقامس على السلطان سنة تسعين فقبض عليه و حبسه و لم يزل محبوسا إلى أن خرج مع بطا عند ثورته بالقلعة في صفر سنة اثنتين و تسعين و بعثه مع أخيه إيبقا يستكشف خبر السلطان كما مر و انتظم أمر السلطان بسعاية بطا في العود إلى إمارته رعيا لما كان بينهما من العشرة في البحر و أسعفه السلطان بذلك و ولاه شريكا لعلي بن عجلان في الإمارة فأقاما كذلك سنتين و أمرهما مضطرب و الأشرف معصوصبون على عنان و هو عاجز عن الضرب على أيديهم و علي بن عجلان مع القواد و العبيد كذلك و أهل مكة على وجل من أمرهم في ضنك من اختلاف الأيدي عليهم ثم استقدمهم السلطان سنة أربع و تسعين فقدموا أول شعبان من السنة فأكرمهما و رفع مجلسهما و رفع مجلس علي على سائرهم و لما انقضى الفطر ولي علي بن عجلان مستقلا و استبلغ في الإحسان إليه بأصناف الأقمشة و الخيول و الممالك و الحبوب و أذن له في الجراية و العلوفة فوق الكفاية ثم ظهر عليه بعد شهر و قد أعد الرواحل ليلحق بمكة هاربا فقبض عليه و حبسه بالقلعة و سار علي بن عجلان إلى مكة و قبض على الأشراف لتستقيم إمارته ثم خودع عنهم فأطلقهم فنفروا عنه و لم يعاودوا طاعته فاضطرب أمره و فسد رأيه و هو مقيم على ذلك لهذا العهد و الله غالب على أمره أنه على كل شيء قدير (5/571)
وصول أحياء من التتر و سلطانهم إلى صاحب بغداد و استيلاؤه عليها و مسير السلطان بالعساكر إليه
كان هؤلاء التتر من شعوب الترك و قد ملكوا جوانب الشرق من تخوم الصين إلى ما وراء النهر ثم خوارزم و خراسان و جانبيها إلى سجستان و كرمان جنوبا و بلاد القفجاق و بلغار شمالا ثم عراق العجم و بلاد فارس و أذربيجان و عراق العرب و الجزيرة و بلاد الروم إلى أن بلغوا حدود الفرات و استولوا على الشام مرة بعد أخرى كما تقدم في أخبارهم و يأتي إن شاء الله تعالى و كان أول من خرج منهم ملكهم جنكزخان أعوام عشر و ستمائة و استقلوا بهذه الممالك كلها ثم انقسمت دولته بين بينهم فيها فكان لبني دوشي خان منهم بلاد القفجاق و جانب الشمال بأسره و لبني هلاكو بن طولي خان خراسان و العراق و فارس و أذربيجان و الجزيرة و بلاد الروم و لبني جفطاي خوارزم و ما إليها و استمرت هذه الدول الثلاث إلى هذا العهد في مائة و ثمانين سنة انقرض فيها ملك بني هلاكو في سنة أربعين من هذه المائة بوفاة أبي سعيد أخرهم و لم يعقب و افترق ملكه بين جماعة من أهل دولته في خراسان و أصبهان و فارس و عراق العرب و أذربيجان و توريز و بلاد الروم فكانت خراسان للشيخ ولي و أصبهان و فارس و سجستان للمظفر الأزدي و بنيه و خوارزم و أعمالها إلى تركستان لبني جفطاي و بلاد الروم لبني أرشا مولى من موالي دمرداش بن جوبان و بغداد و أذربيجان و الجزيرة للشيخ حسن بن حسين بن أيبغا بن أيكان و أيكان سبط أرغون بن أبغا بن هلاكو و لبنيه و هو من كبار المغل في نسبه و لم يزل ملكهم المفترق في هذه الدول متناقلا بين أعقابهم إلى أن تلاشى و اضمحل و استقر ملك بغداد و أذربيجان و الجزيرة لهذا العهد لأحمد بن أويس ابن الشيخ حسن سبط أرغون كما في أخبار يأتي شرحها في دول التتر بعد و لما كان في هذه العصور ظهر بتركستان و بخارى فيما وراء النهر أمير اسمه تمر في جموع من المغل و التتر ينسب هو و قومه إلى جفطاي لا أدري هو جفطاي بن جنكزخان أو جفطاي آخر من شعوب المغل و الأول أقرب لما قدمته من ولاية جفطاي بن جنكزخان على بلاد ما وراء النهر لعهد أبيه و أن اعترض معترض بكثرة هذا الشعب الذي مع تمر و قصر المدة أن هذه المدة من لدن جفطاي تقارب مائتي سنة لأن جفطاي كان لعهد أبيه جنكزخان يقارب الأربعين فهذه المدة أزيد من خمسة من العصور لأن العصر أربعون سنة و أقل ما يتناسل من الرجل في العصر عشرة من الولد فإذا ضوعفت لعشرة بالضرب خمس مراتب كانت مائة ألف و أن فرضنا أن المتناسلين تسعة لكل عصر بلغوا في الخمسة عصور إلى نحو من سبعين ألفا و إن جعلناها ثمانية بلغوا فوق الاثنين و ثلاثين و إن جعلناهم سبعة بلغوا ستة عشر ألفا و السبعة أقل ما يمكن من الرجل الواحد لا سيما مع البداوة المقتضية لكثرة النسل و الستة عشر ألفا عصابة كافية في استتباع غيرها من العصائب حتى تنتهي إلى غاية العساكر و لما ظهر هذا فيما وراء النهر عبر إلى خراسان فملكها من يد الشيخ ولي صاحبها أعوام أربعة و ثمانين بعد مراجفات و حروب و هرب الشيخ ولي إلى توزير فعمد إليه تمر في جموعه سنة سبع و ثمانين و ملك توزير و أذربيجان و خربها و قتل الشيخ ولي في حروبه و مر بأصبهان فأعطوه طاعة معروفة و أطل بعد توزير على نواحي بغداد فأرجفوا منه و واقعت عساكره بأذربيجان جموع الترك أهل الجزيرة و الموصل و كانت الحروب بينهم سجالا ثم تأخر إلى ناحية أصبهان و جاءه الخبر بخارج خرج عليه من قومه يعرف بقمر لدين تطمش ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكزخان و هو صاحب كرسي صراي أمده بأمواله و عساكره فكر راجعا إلى بلده و عميت أنباؤه إلى سنة خمس و تسعين ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمرالدين الخارج عليه و محا أثر فساده و استولى على كرسي صراي فكر تمر راجعا و ملكها ثم خطى إلى أصبهان و عراق العجم و فارس و كرمان فملك جميعها من يد بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم و بددت جموعهم و راسله صاحب بغداد أحمد بن أويس و صانعه بالهدايا و التحف فلم يغن عنه و ما زال يخادعه بالملاطفة و المراسلة إلى أن فتر عزم أحمد و افترقت عساكره فصمد إليه يغذ السير حتى انتهى إلى دجلة و سبق النذير إلى أحمد فأسرى من ليلة و مر بجسر الحلة فقطعه و صبح مشهد علي و وافى تمر و عساكره دجلة يوم الحادي و العشرين من شوال سنة خمس و تسعين و أجازوا دجلة سجا و دخلوا بغداد و استولوا عليها و بعث العساكر في إتباع أحمد فلحقوا بأعقابه و خاضوا إليه النهر عند الجسر المقطوع و أدركوه بالمشهد فكر عليهم في جموعه و قتل الأمير الذي كان في إتباعه و رجعوا عنه بعد أن كانوا استولوا على جميع أثقاله و رواحله بما فيها من الأموال و الذخيرة فرجعوا بها و نجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها و طالع نائبها السلطان بأمره فأخرج إليه بعض خواصه بالنفقات و الأزواد ليستقدمه فقدم به إلى حلب آخر ذي القعدة فأراح بها و طرقه مرض أبطأ به عن مصر و جاءت الأخبار بأن تمرعاث في مخلفه و استصفى ذخائره و استوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم و فقرائهم حتى مستهم الحاجة و أقفرت جوانب بغداد من العيث ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست و تسعين مستصرخا به على طلب ملكه و الانتقام من عدوه فأجاب السلطان صريخه و نادى في عساكره بالتجهز إلى الشام و قد كان تمر بعدها استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت فأولى المخالفين و عثاء الحرابة و رصد السابلة و أتاح عليها بجموعه أربعين يوما فحاصرها حتى نزلوا على حكمه و قتل من قتل منهم ثم خربها و أسرها ثم انتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها و وقفوا عليها ساعة من نهار فملكوها و اشفوا نعمتها و افترق أهلها و بلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالريدانية أياما أزاح فيها علل عسكره و أفاض العطاء في مماليكه و استوعب الحشد من سائر أصناف الجند و استخلف على القاهرة النائب مودود و ارتحل إلى الشام على التعبية و معه أحمد بن أويس صاحب بغداد بعد أن كفاه مهمه و سرب النفقات في تابعه و جنده و دخل دمشق آخر جمادي الأولى و قد كان أوعز إلى جلبان نائب حلب بالخروج إلى الفرات و استيعاب العرب و التركمان للإقامة هنالك رصدا للعدو فلما وصل إلى دمشق وفد عليه جلبان و طالعه بمهماته و ما عنده من أخبار القوم و رجع لإنفاذ أوامره و الفصل فيما يطالعه فيه و بعث السلطان على أثره العساكر مددا له مع كميشقا الأتابك و تلكمش أمير سلاح و أحمد بن بيبقا و كان العدو قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا ثم ملكها و عاثت عساكره فيها و امتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم و مر بقلاع الكراد فأغارت عساكره عليها و اكتسحت نواحيها و السلطان لهذا العهد و هو شعبان سنة ست و تسعين مقيم بدمشق مستجمع للوثبة به متى استقبل جهته و الله ولي الأمور و هذا آخر ما انتهت إليه دولة الترك بإنتهاء الأيام و ما يعلم أحد ما في غد و الله مقدر الأمور و خالقها (5/572)
دولة بني رسول ـ الخبر عن دولة بني رسول مولى بني أيوب الملوك باليمن بعدهم و مبدأ أمرهم و تصاريف أحوالهم
قد كان تقدم لنا كيف استولى بنو أيوب على اليمن و اختلف عليها الولاة منهم إلى أن ملكها من بني المظفر شاهنشاه بن أيوب حافده سليمان بن ابن المظفر و انتقض أيام العادل سنة اثنتي عشرة و ستمائة فأمر العادل ابنه الكامل خليفته على مصر أن يبعث ابنه يوسف المسعود إلى اليمن و هو أخو الصالح و يلقب بالتركي أطس و يقال أقسنس و قد تقدم ذكر هذا اللقب فملكها المسعود من يد سليمان و بعث به معتقلا إلى مصر و هلك جهاد الإفرنج بدمياط سنة سبع و أربعين و هلك العادل أخو المسعود سنة خمس عشرة و ستمائة و ولي بعده ابنه الكامل و جدد العهد إلى يوسف المسعود على اليمن و حج المسعود سنة تسع عشرة و كان من خبره في تأخير أعلام الخليفة عن أعلامه ما مر في أخبار دولتهم ثم جاء سنة عشرين إلى مكة و أميرها حسن بن قتادة من بني مطا عن إحدى بطون بني حسن فجمع لقتاله و هزمه المسعود و ملك مكة و ولى عليها و رجع إلى اليمن فأقام به ثم طرقه المرض سنة ست و عشرين فارتحل إلى مكة و استخلف على اليمن علي بن رسول التركماني أستاذ داره ثم هلك المسعود بمكة لأربع عشرة سنة من ملكه و بلغ خبر وفاته إلى أبيه و هو محاصر دمشق و رجع ابن قتادة إلى مكة و نصب علي بن رسول على اليمن موسى بن المسعود و لقبه الأشرف و أقام مملكا على اليمن إلى أن خلع و خلف المسعود ولد آخر اسمه يوسف و مات و خلفه ابنه و اسمه موسى و هو الذي نصبه الترك بعد أيبك ثم خلعوه ثم خلع علي بن رسول موسى الأشرف بن المسعود و استبد ملك اليمن و أخذ بدعوة الكامل بمصر و بعث أخويه رهنا على الطاعة ثم هلك سنة تسع و عشرين و ولي ابنه المنصور عمر بن علي بن رسول و لما هلك علي بن منصور ولى بعده الكامل ابنه عمر ثم توفي الكامل سنة خمس و ثلاثين و شغل بنو أيوب بالفتنة بينهم فاستغلظ سلطان عمر باليمن و تلقب المنصور و منع الأتاوة التي كان يبعث بها إلى مصر فأطلق صاحب مصر العادل بن الكامل عمومته الذين كان أبوه رهنهم على الطاعة لينازعوه في الأمر فغلبهم و حبسهم و كان أمر الزيدية بصفد قد خرج من بني الرسي و صار لبني سليمان بن داود كما مر في أخبارهم ثم بويع من بني الرسي أحمد بن الحسين من بني الهادي يحيى بن الحسن بن القاسم الرسي بايع له الزيدية بحصن ملا و كانوا من يوم أخرجهم السليمانيون من صفد قد أووا إلى جبل مكانه فلما بويع أحمد بن الحسين هذا لقبوه الموطىء و كان تحصن بملا و كان الحديث شائعا بين الزيدية بأن الأمر يرجع إلى بني الرسي و كان أحمد فقيها أديبا عالما بمذهب الزيدية مجتهدا في العبادة و بويع سنة خمس و أربعين و ستمائة و أهم عمر بن رسول شأنه فشمر لحربه و حاصره بحصن ملامدة ثم أفرج عنه و جهز العساكر لحصاره من الحصون المجاورة له و لم يزل قائما بأمره إلى أن وثب عليه سنة ثمان و أربعين جماعة من مماليكه بممالأة بني أخيه حسن فقتلوه لثمان عشرة سنة من ولاية المظفر يوسف بن عمر و لما هلك المنصور علي بن رسول كما قلناه قام بالأمر مكانه ابنه المظفر شمس الدين يوسف و كان عادلا محسنا و فرض الأتاوة عليه لملوك مصر من الترك لما استقلوا بالملك و ما زال يصانعهم بها و يعطيهم إياها و كان لأول ملكه امتنع عليه حصن الدملوة فشغل بحصاره و تمكن أحمد الموطىء الثائر بحصن ملامن الزيدية من أعقاب بني الرسى فملك عشرين حصنا من حصون الزيدية و زحف إلى صفد فملكها من يد السلمانيين و نزل له أحمد المتوكل إمام الزيدية منهم فبايعه و أمنه و لما كانوا في خطابة لم يزل في كل عصر منهم إمام كما ذكرناه في أخبارهم قبل و لم يزل المظفر واليا على اليمن إلى أن هلك بغته سنة أربع و تسعين لست و أربعين سنة من ملكة الأشرف عمر بن المظفر يوسف و لما هلك المظفر يوسف كما قلناه و ولي بعده ابنه الأشرف ممهد الدين عمر و كان أخوه داود واليا على الشحر فدعا لنفسه و نازعه الأمر فبعث الأشرف عساكره و قاتلوه و هزموه و قبضوا عليه و حبسه و استمر الأشرف في ملكه إلى أن سمته جاريته فمات سنة ست و تسعين لعشرين شهرا من ولايته أخوه داود بن المظفر المؤيد يوسف و لما هلك الأشرف بن عمر بن المظفر يوسف أخرج أخاه مؤيد الدين داود من معتقله و وله عليهم و لقبوه المؤيد و افتتح أمره بقتل الجارية التي سمت أخاه و ما زال يواصل ملوك الترك بهداياه و صلاته و تحفه و الضريبة التي قررها سلفه و انتهت هديته سنة إحدى عشرة و سبعمائة إلى مائتي و قر بعير بالثياب و التحف و مائتين من الجمال و الخيل ثم بعث سنة خمس عشرة بمثل ذلك و فسد ما بينه و بين ملوك الترك بمصر و بعث بهديته سنة ثمان عشرة فردوها عليه ثم هلك سنة إحدى و عشرين و سبعمائة لخمس و عشرين سنة من ملكه و كان فاضلا شافعي المذهب و جمع الكتب من سائر الأمصار فاشتملت خزانته على مائة ألف مجلد و كان يتفقد العلماء بصلاته و يبعث لابن دقيق العيد فقيه الشافعية بمصر جوائزه و لما توفي المؤيد داود سنة إحدى عشرين كما قلناه قام بملكه ابنه المجاهد سيف الدين علي ابن اثنتي عشرة سنة و الله وارث الأرض و من عليها (5/576)
ثورة جلال الدين بن عمر الأشرف و حبسه
و لما هلك المجاهد علي شغل بلذاته و أساء السيرة في أهل المناصب الدينية بالعزل و الاستبدال بغير حق فنكره أهل الدولة و انتقض عليه جلال الدين ابن عمه الأشرف و زحف إليه و كانت بينهما حروب و وقائع كان النصر فيها للمجاهد و غلب على جلال الدين و حبسه و الله تعالى أعلم (5/578)
ثورة جلال الدين ثانيا و حبس المجاهد و بيعة المنصور أيوب بن المظفر يوسف
و بعد أن قبض المجاهد على جلال الدين ابن عمه الأشرف و حبسه لم يزل مشتغلا بلهوه عاكفا على لذاته و ضجر منه أهل الدولة و داخلهم جلال الدين في خلعه فوافقوه فرحل إلى سنة اثنتين و عشرين فخرج جلال الدين من محبسه و هجم عليه في بعض البساتين و فتك بحرمه و قبض عليه و بايع لعمه المنصور أيوب بن المظفر يوسف و اعتقل المجاهد عنده في نفر و أطلق جلال الدين ابن عمه و الله تعالى أعلم بغيبه (5/578)
خلع المنصور أيوب و مقتله و عود المجاهد إلى ملكه و منازعة الظاهر بن المنصور أيوب له
و لما جلس المجاهد بقلعة تعز و استقل المنصور بالملك اجتمع شيعة المجاهد و هجموا على المنصور في بيته بتعز و حبسوه و أخرجوا المجاهد و أعادوه إلى ملكه و رجع أهل اليمن لطاعته و كان أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب بالدملوة فعصى عليه و امتنع بها و كتب إليه المجاهد يهدده بقتل أبيه فلج و اتسع الخرق بينهما و عظمت الفتنة و افترق عليهما العرب و كثر عيثهم و كثر الفساد و بعث المنصور من محبسه إلى ابنه عبد الله أن يسلم الدملوة خوفا على نفسه من القتل فأبى عبد الله من ذلك و أساء الرد على أبيه و لما يئس المجاهد منه قتل أباه المنصور أيوب بن المظفر في محبسه و اجتمع أهل الدملوة و كبيرهم الشريف ابن حمزة و بايعوا أسد الدين عبد الله بن المنصور أيوب و بعث عسكرا مع الشهاب الصفوي إلى زبيد فحاصروها و فتحوها و جهز المجاهد عساكره إليها مع قائده علي بن الدوادار و لما قاربوا زبيد أصابهم سيل و بيتهم أهل زبيد فنالوا منهم و أسروا أمراءهم و اتهم المجاهد قائده علي بن الدوادار بمداخلة عدوه فكتب إليه أن يسير إلى عدن لتحصيل مواليها و كتب إلى والي عدن بالقبض عليه و وقع الكتاب بيد الظاهر فبعث به إلى الدوادار فرجع إلى عدن و حاصرها و فتحها و خطب بها للظاهر سنة ثلاث و عشرين و ملك عدن بعدها ثم استمال صاحب صنعاء و حوض فقاموا بدعوة الظاهر و بعث المجاهد إلى مذحج و الأكراد يستنجدهم فلم ينجدوه و هو بحصن المعدية و كتب الظاهر إلى أشراف مكة و قاضيها نجم الدين الطبري بأن الأمر قد استقر له باليمن و الله تعالى ولي التوفيق لا رب سواه (5/579)
وصول العساكر من مصر مددا للمجاهد و استيلاؤه على أمره و صلحه مع الظاهر
و لما غلب الظاهر بن المنصور أيوب على قلاع اليمن و انتزاعها من المجاهد و حاصره بقلعة المعدية بعث المجاهد سنة أربع و عشرين بصريخه إلى السلطان بمصر من الترك الناصر محمد بم قلاون سنة خمس و عشرين فبعث إليه العساكر مع بيبرس الحاجب و انيال من أمراء دولته و وصلوا إليه سنة خمس و عشرين فسار إليهم المجاهد من حصن المعدية بنواحي عدن إلى تغر فاستأمن إليه أهلها فأمنهم و راسلوا الظاهر في الصلح فأجاب على أن تكون له الدملوة و تحالفوا على ذلك و طلب أمراء الترك الشهاب الصفوي الذي أنشأ الفتنة بين المجاهد و الظاهر فامتنع عن إجابتهم فركب بيبرس و هجم عليه في خيمته و قتله بسوق الخيل بتغر و اثخنوا في العصاة على المجاهد في كل ناحية حتى أطاعوا و تمهد له الملك و رجعت العساكر إلى مصر سنة ست و عشرين و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/579)
نزول الظاهر للمجاهد عن الدملوة و مقتله
و لما استقام الأمر للمجاهد باليمن و استخلفه الظاهر على الدملوة أخذ المجاهد في تأنيسه و أحكام الوصلة به حتى اطمأن و هو يفتل له في الذروة و الغارب حتى نزل له عن الدملوة و ولى عليها من قبله و صار الظاهر في جملته ثم قبض عليه و حبسه بقلعة تعز ثم قتله في محبسه سنة أربع و ثلاثين و الله تعالى أعلم (5/580)
حج المجاهد علي بن المؤيد داود و واقعة مع أمراء مصر و اعتقاله بالكرك ثم إطلاقه و رجوعه إلى ملكه
ثم حج المجاهد سنة إحدى و خمسين أيام حسن الناصري الأولى و هي السنة التي حج فيها طاز كافل المملكة أميرا و حج بيبقاروس الكافل الآخر مقيدا لأن السلطان أمر طاز بالقبض عليه في طريقه
فلما قبض عليه رغب منه أن يخلي سبيله لإداء فرضه فأجابه و حج مقيدا
و جاء المجاهد ملك اليمن للحج و شاع عنه أنه يروم كسوة الكعبة فتنكر أمراء مصر و عساكرها لأهل اليمن و وقعت في بعض الأيام هيعه في ركب اليمن فتحاربوا و انهزم و ذهب سواده و ركب أهل اليمن كافة و أطلق بيبقاروس للقتال فجلا في تلك الواقعة و أعيد إلى اعتقاله
و حمل المجاهد إلى مصر معتقلا فحبس ثم أطلق سنة اثنتين و خمسين في دولة الصالح و بعثوا معه قشتمر المنصوري إلى بلاده فلما انتهى إلى الينبع ظهر قشتمر بأنه يروم الهرب فرده و حبسه بالكرك ثم أطلق بعد ذلك و أعيد إلى ملكه و أقام على مهاداة صاحب مصر و صانعته إلى أن توفي سنة ست و ستين لاثنتين و أربعين سنة من ملكه (5/580)
ولاية الأفضل عباس بن المجاهد علي
و لما توفي المجاهد سنة ست و ستين ولي بعده ابنه عباس و استقام له ملك اليمن إلى أن هلك سنة ثمان و سبعين لاثنتي عشرة سنة من ملكه و الله تعالى أعلم (5/581)
ولاية المنصور محمد بن الأفضل عباس
و لما توفي الأفضل عباس بن المجاهد سنة ثمان و سبعين ولي بعده ابنه المنصور محمد و استولى على أمره و اجتمع جماعة من مماليكه سنة اثنتين و ثمانين للثورة به و قتله و أطلع على شأنهم فهربوا إلى الدملوة و أخذهم العرب في طريقهم و جاؤا بهم و عفا عنهم و استمر في ملكه إلى أن هلك و الله تعالى أعلم (5/581)
ولاية أخيه الأشرف بن الأفضل عباس
و لما توفي المنصور محمد بن الأفضل سنة ولي أخوه الأشرف إسمعيل و استقام أمره و هو صاحب اليمن لهذا العهد لسنة ست و تسعين و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (5/581)
الخبر عن دولة التتر من شعوب الترك و كيف تغلبوا على الممالك الإسلامية و انتزوا على كرسي الخلافة ببغداد و ما كان لهم من الدول المفترقة و كيف أسلموا بعد ذلك و مبدأ أمورهم و تصاريف أحوالهم
قد تقدم لنا ذكر التتر و أنهم من شعوب الترك و أن الترك كلهم ولد كومر بن يافث على الصحيح و هو الذي وقع في التوراة
و تقدم لنا ذكر أجناس الترك و شعوبهم و عددنا منهم الغز الذين منهم السلجوقية و الهياطلة الذين منهم القلج و بلاد الصغد قريبا من سمرقند و يسمون بها أيضا و عددنا منهم الخطا و الطغر غر و هم التتر و كانت مساكن هاتين الأمتين بأرض طمغاج و يقال أنها بلاد تركستان و كاشغر و ما إليها من وراء النهر و هي بلاد ملوكهم في الإسلام و عددنا منهم الخزلجية و الغور و الخزر و الخفشاج و هم القفجاق و يمك و العلان و يقال الآن و جركس و اركش و عد صاحب روجار في كتابه على الجغرافيا العسسه و التغز غزية و الخر خيرية و الكيماكية و الخزلجية و الخزر و الخلج و بلغار و يمناك و برطاس و سنجرت و خرجان و أنكر و ذكر مساكن أنكر في بلاد البنادقة من أرض الروم و جمهور هذه الأمم من الترك فيما وراء الهز شرقا إلى البحر المحيط بين الجنوب و الشمال من الأقليم الأول إلى السابع و الصين في وسط بلادهم
و كانت الصين أولا لبني صيني إخوانهم من بني يافث ثم صار لهم و استولوا على معظمه إلا قليلا من أطرافه على ساحل البحر و هم رجاله كما مر في ذكرهم أول الكتاب و في دولة السلجوقية و أكثرهم من المفارزة التي بين الصين و بلاد تركستان و كان لهم قبل الإسلام دولة و لهم مع الفرس حروب مذكورة و ملكهم لذلك العهد في بني فراسيان
و كان بينهم و بين العرب لأول الفتح حروب طويلة قاتلوهم على الإسلام فلم يجيبوا فأثخنوا فيهم و غلبوهم على أطراف بلادهم و أسلم ملوكهم على بلادهم و ذلك من بعد القرن الأول
و كانت لهم في الإسلام دولة ببلاد تركستان و كاشغر و لا أدري من أي شعوبهم كان هؤلاء الملوك
و قد قيل فيهم أنهم من ولد قراسيان و لا يعرف شعب فراسيان فيهم و كان هؤلاء الملوك يلقبون بالخاقان بالخاء و القاف سمة لكل من يملك منهم مثل كسرى للفرس و قيصر للروم و أسلم ملوكهم بعد صدر من الملة على بلادهم و ملكهم فأقاموا بها و كان بينهم و بين بني سامان الملوك القائمين فيما وراء النهر و بدولة بني العباس حرب و سلم اتصلت حالهم عليها إلى أن تلاشت دولتهم و دولة بني سامان جميعا و قام محمود بن سبكتكين من موالي بني سامان بدولتهم و ملكهم فيما وراء النهر و خراسان
و قد ظهر لذلك العهد بنو سلجوق و غلبوا ملوك الترك على أمرهم و أصبحوا في عداد ولاتهم شأن الدول البادية الجديدة مع الدول القديمة الحاضرة ثم قارعوا بني سبكتكين و غلبوهم على ملكهم فيما بعد المائة الرابعة و استولوا على ممالك الإسلام بأسرها و ملكوا ما بين الهند و نهاية المعمور في الشمال و ما بين الصين و خليج القسطنطينية في الغرب و على اليمن و الحجاز و الشام و فتحوا كثيرا من بلاد الروم و استفحلت دولتهم بما لم تنته إليه دولة بعد العرب و الخلفاء في الملة ثم تلاشت دولتهم و انقرضت بعد مائتين من السنين شأن الدول و سنة الله في العباد
و كانوا بعد خروج السلجوقية إلى خراسان قد خلفتهم في بلاد بضواحي تركستان و حدود الصين و لم يقدر ملوك الخانية بتركستان على دفاعهم لعجزهم عن ذلك فكان أرسلان خان ابن محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الدروب ما بينه و بين الصين و يقطعهم على ذلك و يوقع بهم على الفساد و العيث ثم زحف من الصين ملك الترك الاعظم كوخان سنة اثنتين و عشرين و خمسمائة و لحقت به أمم الخطا و لقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بن بقراخان صاحب تركستان و ما وراء النهر من الخانية و هو ابن أخت السلطان سنجر بن ملك شاه صاحب خراسان من ملوك السلجوقية فهزموه و بعث بالصريخ إلى خاله سنجر فاستنفر ملوك خراسان و عساكر المسلمين و عبر جيحون للقائهم و سارت إليه أمم التتر و الخاط و تواقعوا في صفر سنة ست و ثلاثين و خمسمائة و انهزم سنجر و أسرت زوجته ثم أطلقها كوخان ملك الترك و استولى على ما وراء النهر
ثم مات كوخان سنة سبع و ثلاثين و ملكت بعده بنته ثم ماتت فملكت بعدها أمها زوجة كوخان و ابنه محمد ثم انقرض ملكهم و استولى الخطا على ما وراء النهر ثم غلب على خوارزم علاء الدين محمد بن تكش كما قدمناه و يلقب هو و أبوه بخوارزم شاه و كان ملوك الخانية ببلادهم فيما وراء النهر فاستصرخوا به على الخطا لما كثر من عيثهم و فسادهم فأجاب صريخهم و عبر النهر سنة ست و ستمائة و ملكهم يومئذ كبير السن بصير في الحرب فلقيهم فهزموه و أسر خوارزم شاه ملكهم طانيكوه و حبسه بخوارزم و ملك سائر بلاد الخطا إلى أوركندا و أنزل به نوابه و زوج أخته من الخان صاحب سمرقند و أنزل معه شحنة كما كانت للخطا و عاد إلى بلاده
و ثار ملك الخانية بالشحنة بعد رجوعه بسنة و قتلهم و هم بقتل زوجته أخت خوارزم شاه و حاصره بسمرقند و اقتحمها عليه عنوة و قتله في جماعة من أقاربه و محا أثر الخانية و ملكهم مما وراء النهر و أنزل في سائر البلد نوابه و كانت أمة التتر من وراء الخطا هؤلاء قد نزلوا في حدود الصين ما بينها و بين تركستان و كان ملكهم كشلي خان و وقع بينهم و بين الخطا من العداوة و الحروب يقع بين الأمم المتجاورة فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم و زحف كشلي خان في أمم التتر إلى الخطا لينتهز الفرصة فيهم فبعث الخطا إلى خوارزم شاه يتلطفون له و يسألونه النصر من عدوهم قبل أن يستحكم أمره و تضيق عنه قدرتهم و قدرته و بعث إليه كشلي ملك التتر بمثل ذلك فتجهز يوهم كل واحد من الفريقين أنه له و أقام منتبذا عنهما و قد تواقعوا و انهزم الخطا فمال مع التتر عليهم و استلحموهم في كل وجه و لم ينج منهم إلا قليل تحصنوا بين جبال في نواحي تركستان و قليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه فكانوا معه و بعث خوارزم شاه إلى كشلي خان ملك التتر يعتد عليه بهزيمة الخطا و أنها إنما كانت بمظاهرته فأظهر له الإعتراف و شكره ثم نازعه في بلادهم و أملاكهم و بعث خوارزم شاه بحربهم ثم علم أنه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم عن اللقاء و كشلي خان يعذله في ذلك و هو يغالطه و استولى كشلي خان خلال ذلك على كاشغر و بلاد تركستان و ساغون ثم عمد خوارزم شاه إلى الشاش و فرغانة و اسبيجاب و قاشان و ما حولها من المدن التي لم يكن في بلاد الله أنزه و لا أحسن عمارة فجلا أهلها إلى بلاد المسلمين و خرب جميعها خوفا أن يملكها التتر بعد ذلك و خرج على كشلي خان طائفة أخرى يعرفون بالمغل و ملكهم جنكزخان فشغل كشلي خان بحربهم عن خوارزم شاه و عبر النهر إلى خراسان و نزل خوارزم إلى أن كان من أمره ما نذكره و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/583)
استيلاء التتر على ممالك خوارزم شاه فيما وراء النهر و خراسان و مهلك خوارزم شاه و تولية محمد بن تكش
و لما رحل السلطان إلى خراسان استولى على الممالك ما بينه و بين بغداد من خراسان و مازندان و باميان و غزنة إلى بلاد الهند و غلب الغورية على ما بأيديهم ثم ملك الري و أصبهان و سائر بلاد الجبل و سار إلى العراق و بعث إلى الخليفة في الخطبة كما كانت لملوك بني سلجوق فامتنع الخليفة من ذلك كما مر ذلك كله في أخبار دولتهم ثم عاد من العراق سنة ست عشرة و ستمائة و استقر بنيسابور فوفدت عليه رسل جنكزخان بهدية من نقرة المعدنين و نوافج المسك و حجر اليشم و الثياب الخطائية المنسوجة من وبر الإبل البيض و يخبر أمه ملك الصين و ما بينها من بلاد الترك و يطلب الموادعة و الإذن للتجار بالتردد لمتاجرهم من الجانبين و كان في خطابه أطراء السلطان خوارزم شاه بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك و امتعض له و أجمع عداوته و استدعى محمودا الخوارزمي من رسل جنكزخان و اصطنعه ليكون عينا له على صاحبه و استخبره عما قاله في كتابه من أنه ملك الصين و استولى على مدينة طوغاج فصدق له ذلك و سأله عن مقدار العساكر فقللها و غشه في ذلك ثم نكر عليه الخطاب بالولد ثم صرف الرسل بما طلبوه من الموادعة و الإذن للتجار و وصل على أثر ذلك بعض التجار من بلادهم إلى أطرار و بها أأأأأأانيال خان ابن خال السلطان خوارزم شاه فعثر على أموالهم و رفع إلى السلطان أنهم عيون على البلاد و ليسوا بتجار فأمره بالإحتياط عليهم ففعل و أخذ أموالهم و قتلهم خفية و فشا الخبر إلى جنكزخان فبعث بالنكير على السلطان في ذلك و قال له إن كان فعله أنيال خان فابعثه إلي و تهدده على ذلك في كتابه فانزعج السلطان لها و قتل الرسل و بلغ الخبر إلى جنكزخان فسار في العساكر إلى بلاده و جبى السلطان من سمرقند خراج سنتين حصن به أسوار سمرقند و جبى ثالثة استخدم بها الفرسان لحمايتها ثم سار للقاء جنكزخان فكانت بينهما واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين فكبسهم و هو غائب عنهم و رجع خوارزم شاه إلى جيحون و أقام عليه و فرق عساكره في أعمال ما وراء النهر بخارى و سمرقند و ترمذ و أنزل آنبايخ من أكبر أمرائه و أصحاب دولته في بخارى و جهلهم لنظره ثم جاء جنكزخان إليه فعبر النهر مجفلا و قصد جنكزخان أطرار فحاصرها و ملكها غلابا و أسر أميرها أنيال خان الذي قتل التجار فأذاب الفضة في أذنيه و عينيه ثم حاصر بخارى و ملكها على الأمان و قاتلوا معه القلعة حتى خربها ثم غدر بهم فقتلهم و سباهم و فعل مثل ذلك في سمرقند سنة تسع عشرة ثم كتب كتبا إلى أمراء خوارزم شاه قرابة أمه كأنها أجوبة عن كتبهم إليه باستدعائه و البراءة من خوارزم شاه و ذمه بعقوق أمه فبسط آمالهم في كتبه و وعد تركمان خاتون أم السلطان و كانت في خوارزم فوعدها بزيارة خراسان و أن تبعث من يستخلفه على ذلك و بعث بالكتب من يعترض بها للسلطان فلما قرأها ارتاب بأمه و بقرابتها فاستوحشوا ووقع التقاطع و النفرة و لما استولى جنكزخان على ما وراء النهر و نجا نائب بخارى في الفل أجفل السلطان و عبر جيحون و رجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه و تخاذل الناس و سرح جنكزخان العساكر في أثره نحوا من عشرين ألفا كانوا يسمونهم التتر المغربة لتوغلهم في البلاد غربي خراسان إلى بلاد القفجاق و وصل السلطان إلى نيسابور فلم يلبث بها و ارتحل إلى مازندان و التتر في أثره ثم انتهى إلى همذان فكبسوه هنالك و فرقوا جموعه و نجا إلى جبال طبرستان فأقام بقربة بساحل البحر في فل من قومه ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر إلى جزيرة في بحيرة طبرستان و خاضوا في أثره فغلبهم الماء و رجعوا و أقام خوارزم شاه بالجزيرة و مرض بها و مات سنة سبع عشرة و ستمائة و عهد لابنه جلال الدين سكري و لما بلغ خبر اجفاله إلى أمه تركمان خاتون بخوارزم خرجت سارية و اعتصمت بقلعة أيلاز من مازندان و رجع التتر عن إتباع خوارزم شاه فافتتحوا قلاع مازندان و ملكوها و ملكوا قلعة أيلاز صلحا و أسروا أم السلطان و بناته و تزوجهن التتر و تزوج دوشي خان بن جنكزخان واحدة و بقيت تركمان خاتون أسيرة عندهم في ذل و خمول و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/585)
مسير التتر المغربة بعد خوارزم شاه إلى العراق و أذربيجان و استيلاؤهم عليها إلى بلاد قفجاق و الروس و بلاد الخزر
و لما رجع التتر المغربة من اتباع خوارزم شاه سنة سبع عشرة عادوا إلى همذان و انستفوا ما مروا عليه و صانعهم أهل همذان بما طلبوه ثم ساروا إلى سنجار كذلك ثم إلى قومس فامتنعوا منهم و حاصروها و ملكوها غلابا و قتلوا أكثر من أربعين ألفا ثم ساروا إلى أذربيجان و صانعهم صاحب تبريز و انصرفوا إلى موقان و مروا ببلاد الكرج فاكتسحوها و جمعوا لهم فهزموهم و اثخنوا فيهم و ذلك آخر سنة سبع عشرة ثم عادوا إلى مراغة فملكوها عنوة في صفر سنة ثمان عشرة و استباحوها و رحلوا عنها إلى أربل و بها مظفر الدين كوكبري
و استمد صاحب الموصل فأمده بالعساكر ثم استدعاهم الخليفة الناصر إلى دقوقا للمدافعة عن العراق مع عساكره و ولى عليهم مظفر الدين صاحب أربل فخام عن لقائهم و خاموا عن لقائه
و ساروا إلى همذان و بها شحنتهمم فامتنعوا من مصانعتهم و قاتلوهم فملكوها عنوة و استباحوها و استلحموا أهلها و رجعوا إلى أذربيجان فملكوا أردبيل و استباحوها و خربوها و ساروا إلى تبريز و قد فارقها أزبك بن البهلوان إلى نقجوان فصانعوهم بالأمان و ساروا إلى بيلقان و ملكوها عنوة و افحشوا في القتل و المثلة و اكتسحوا جميع الضاحية ثم ساروا إلى كنجة قاعدة أران فصانعهم أهلها فساروا إلى بلاد الكرج فهزموهم و حاصروهم بقاعدتهم تفليس و ردهم كثرة الأوعار عن التوغل فيها
ثم قصدوا دربند شروان و حاصروا مدينة سماجي و دخلوه عنوة و ملكوه و استباحوه و أعجزهم الدربند عن المسير فراسلوا شروان في الصلح فبعث إليهم رجالا من أصحابه فقتلوا بعضهم و قتلوا الباقين أذلاء
و أفضوا من الدربند إلى أرض أسحمة و بها من القفجاق و اللاز و الغز و طوائف من الترك مسلمون و كفار أمم لا تحصى و لم يطيقوا مغالبتهم لكثرتهم فرجعوا إلى التضريب بينهم حتى استولوا على بلادهم ثم اكتسحوها و أوسعوهم قتلا و سبيا و فر أكثرهم إلى بلاد الروس وراءهم و اعتصم الباقون بالجبال و الغياض و انتهى التتر إلى مدينتهم الكبرى سرداق على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية و هي مادتهم و فيها تجارتهم فملكها التتر و افترق أهلها في الجبال و ركب أهلها البحر إلى بلاد الروم في إيالة بني قليج أرسلان
ثم سار التتر سنة عشرين و ستمائة من بلاد قفجاق إلى بيلاد الروس المجاورة لها و هي بلاد فسيحة و أهلها يدينون بالنصرانية فساروا إلى مدافعتهم في تخوم بلادهم و معهم جموع من القفجاق أياما
ثم إنهزموا و اثخن فيهم التتر قتلا و سبيا ونهبا و ركبوا السفن هاربين إلى بلاد الإسلام و تركوا بلادهم فاكتسحها التتر ثم عادوا عنها و قصدوا بلغار آخر السنة و اجتمع أهلها و ساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم ثم استطردوا أمامهم و خرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينجمنهم إلا القليل و ارتحلوا عائدين إلى جنكزخان بأرض الطالقان و رجع القفجاق إلى بلادهم و استقروا فيها و الله تعالى ولي التوفيق بمنه و كرمه (5/587)
مسير جنكزخان إلى خراسان و تغلبه على أعمالها و على خوارزم شاه
و كان جنكزخان بعد أن أجفل خوارزم شاه في جيحون و مسير التتر المغربة في طلبه ملك سمرقند فبعث عسكرا إلى ترمذ و عسكرا إلى خوارزم و عسكرا إلى خراسان و كان عسكر خوارزم أعظمها لأنها كرسي الملك و مأوى العساكر و بعث مع العساكر ابنه جفطاي و أركطاي فحاصروها خمسة عشر أشهر و امتنعت فأمدهم جنكزخان بالعساكر متلاحقة و ملكوها ناحية ناحية إلى أن استوعبوا ثم نقبوا السد الذي يمنع ماء جيحون عنها فسال إليها جيحون ففرقها و تقسم أهلها بين السند و العراق و هكذا قال ابن الأثير
و قال النسابي كاتب جلال الدين : إن دوشي خان عرض عليهم الأمان و خرجوا إليه فقتلهم أجمعين و ذلك في محرم سنة سبع عشرة و عاد دوشي خان و العساكر إلى جنكزخان فوجدوه بالطالقان
و أما عسكر ترمذ فساروا إليها و ملكوها و تقدموا إلى كلابه من قلاع جيحون فملكوها و خربوها و عسكر فرغانه كذلك و أما عسكر خوارزم فعبروا إلى بلخ و ملكوها على الأمان سنة سبع عشرة و أنزلوا بها شحنة ثم ساروا إلى الزوزان و أيدحور و مازندان فملكوها و ولوا عليها ثم ساروا إلى الطالقان و حاصروا أربعة أشهر أخرى ثم أمر بنقل الخشب و التراب ليجتمع به تل يتعالى به البلد فلما استيقنوا الهلكة فتحوا الباب و صدقوا الحملة فنجا الخيالة و تفرقوا في البلاد و الشعاب و قتل الرجالة و دخل التتر فاستباحوها و بعث جنكزخان عسكرا إلى سبا مع صهره قفجاق نون فقتل في حصارها ثم ملكوها فاستباحوها و
و يقال قتل فيها أكثر من سبعين ألفا ثم بعث جنكزخان في العساكر إلى مدينة مرو و قد كان الناجون من هذه الوقائع انزووا إليها فاجتمعوا بظاهرها أكثر من مائتي ألف لا أشهر و استنزلوا أميرها على الأمان
ثم قتلوهم جميعا و حضر جنكزخان قتلهم يقال قتل فيها سبعمائة ألف ثم ساروا إلى نيسابور فاقتحموها عنده و قتلوا و عاثوا ثم إلى طرابلس كذلك ثم ساروا إلى هراة فملكوها على الأمان و أنزلوا عندهم الشحنة و عادوا إلى جنكزخان بالطالقان و هو يرسل العساكر و السرايا في نواحي خراسان حتى أتوا عليها تخريبا و ذلك كله سنة سبع عشرة و الله تعالى أعلم (5/588)
إجفال جلال الدين و مسير التتر في إتباعه و فراره إلى الهند
ثم بعث العساكر في طلب جلال الدين و قد كان بعد مهلك أبيه و خروج تركمان خاتون من خوارزم سار إليها و ملكها و اجتمع إليه الناس ثم نمي إليه أن قرابة تركمان خاتون و هم البياروتية مالوا إلى أخيه يولغ شاه و ابن أختهم و أنهم يريدون الوثوب بجلال الدين ففر و لحق بنيسابور و جاءت عساكر التتر إلى خوارزم فأجفل يولغ شاه و أخوه ليلحقوا به بنيسابور فأدركهم التتر و هم محاصرون قلعة فندهار فاستلحمهم ثم سار غزنة فملكها من يد الثوار الذين استولوا عليها أيام هذه الفتنة و ذلك سنة ثمان عشرة و لحق به أمراء أبيه الذين تغلبوا على نواحي خراسان في هذه الفتنة و أزعجهم التتر عنها فحضروا مع جلال الدين كبسه التتر بقلعة قندهار و لحق فلهم بجنكزخان و بعث ابنه طولي خان لقتال جلال الدين فهزمه جلال الدين و قتله و لحق الفل من عساكره بجنكزخان فسار في أمم التتر و لقي جلال الدين فإنهزم و لم يفلت من التتر إلا الأقل و رجع جلال الدين فنزل على نهر السند و قد كان جماعة من أمرائه إنعزلوا عنه يوم الواقعة الأولى بسبب الغنائم فبعث إليهم يستألفهم فعاجله جنكزخان و قاتله ثلاثا ثم هزمه و اعترضه نهر السند فاقتحمه و خلص إلى السند بعد أن قتل حرمه أجمعين و ذلك سنة ثمان عشرة و الله تعالى أعلم (5/589)
أخبار غياث الدين بن خوارزم شاه مع التتر
كان خوارزم شاه قد قسم الملك بين ولده فجعل العراق لغور نشاه و كرمان لغياث الدين تمر شاه فلم ينفذ إليها أيام أبيه فلما فر خوارزم شاه إلى ناحية الري لقيه ابنه غورنشاه صاحب العراق ثم كانت واقعة التتر به على حدوى و لحق خوارزم شاه بجزيرة طبرستان و لحق غورنشاه بكرمان ثم رجع و استولى على أصبهان و على الري و زحف التتر إليه و حاصروه بقلعة أوند و قتلوه و كان أخوه غياث الدين بكرمان و ملكه بينه و بين بقا طرابلسي أتابكه و فر إلى ناحية أذربيجان و استولى غياث الدين على العراق و مازندان و خوزستان فأقطع بقا طرابلسي همذان ثم سار غياث الدين إلى أذربيجان فصانعه صاحبها أزبك بن البهلوان و لحق به من كان متغلبا من أمراء أبيه بخراسان و كان أبنايخ خان نائب بخارى قد تغلب بعد الواقعة على نسا و نواحيها و جرجان و على شيروان و عامة خراسان و كان تكين بهلوان متغلبا على مرو فعبر جيحون سنة سبع عشرة و كبس شحنة التتر و أتبعوه إلى شيروان و لقوا إبنايخ خان على جرجان فهزموه و نجا فلهم إلى غياث الدين على العراق و الري و ما وراءها في الجنوب من موكان و أذربيجان و بقيت خوارزم طوائف و في كل ناحية منها متغلب و عساكر التتر في كل وقت تدوخ بلاد العراق و غياث الدين منهمك في لذاته و الله تعالى أعلم (5/590)
رجوع جلال الدين من الهند و استيلاؤه على العراق و كرمان و أذربيجان ثم زحف التتر إليه
ثم رجع جلال الدين من الهند سنة إحدى و عشرين و استولى على ملك أخيه غياث الدين بالعراق و كرمان و بعث إلى الخليفة يطلب الخطبة فلم يسعف فاستعد لمحاربته و قد كانت بلاد الري من بعد تخريب التتر المغربة لها عاد إليها بعض أهلها و عمروها فبعث إليها جنكزخان عسكرا من التتر فخربوها ثانية و خربوا ساوة و قم و قاشان و أجفل أمامهم عسكر خوارزم شاه من همذان فخربوها و اتبعوهم فكبسوهم في حدود أذربيجان و لحق بعضهم بتبريز و التتر في ابتاعهم فصانعهم صاحبها أزبك بن البهلوان و بعث بهم إلى التتر الذين في أتباعهم بعد أن قتل جماعة منهم و بعث برؤسهم و بالأموال على سبيل المصانعة فرجعوا عن بلاده و سار جلال الدين إلى أذربيجان سنة اثنتين و عشرين فملكها و كانت له فيها أخبار ذكرناها في دولته ثم بلغ السلطان جلال الدين أن التتر زحفوا من بلادهم وراء النهر إلى العراق فنهض من تبريز للقائهم في رمضان سنة خمس و عشرين و لقيهم على أصبهان و انفض عنه أخوه غياث الدين في طائفة من العساكر و انهزمت ميسرة التتر و سار السلطان في اتباعهم و قد أكمنوا له و أحاطوا به و استشهد جماعة ثم صدق عليهم الحملة فأفرجوا له و مضى لوجهه و انهزمت العساكر إلى فارس و كرمان و أذربيجان و رجع المتبعون للتتر من قاشان فوجدوه قد انهزم فافترقوا أشتاتا و لحق السلطان بأصبهان بعد ثمانية أيام فوجد التتر يحاصرون أصبهان فبرز إليهم في عساكرها و هزمهم و أتبعهم إلى الري و بعث العساكر في اتباعهم إلى خراسان و رجع إلى أذربيجان و أقام بها و كانت له فيها أخبار مذكورة في دولته و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/590)
مسير التتر إلى أذربيجان و استيلاؤهم على تبريز واقعتهم على جلال الدين بآمد و مقتله
كان التتر لما استقروا فيما وراء النهر عمروا تلك البلاد و اختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوض منها و بقيت خراسان خاوية و استبد بالمدن فيها طوائف من الأمراء أشباه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين منذ جاء من الهند و انفرد جلال الدين بملك العراق و فارس و كرمان و أذربيجان و أران و ما إلى ذلك و بقيت خراسان مجالا لغزاة التتر و عساكرهم و سارت طائفة منهم سنة خمس و عشرين إلى أصبهان و كانت بينهم و بين جلال الدين الواقعة كما مر ثم زحف جلال الدين إلى خلاط و ملكها
و زحف إليه صاحبها الأشرف بن العادل من الشام و علاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم و أوقعوا به كما مر في أخباره سنة سبع و عشرين الواقعة التي أوهنت منه و حلت عرى ملكه و كان مقدم الإسماعيلية بقلعة الموت عدوا لجلال الدين بما أثخن في بلاده و قرر عليه وظائف الأموال فبعث إلى التتر يخبرهم أن الهزيمة أوهنته و يحثهم على قصده فسار إلى أذربيجان أول سنة ثلاث و عشرين
و بلغ الخبر إلى السلطان بمسيرهم فرحل من تبريز إلى موقان و أقام بها في انتظار شحنة خراسان و مازندران و شغل بالصيد فكبسه التتر و نهبوا معسكره و خلص إلى نهر رأس من أران ثم رجع إلى أذربيجان و شتى بماهان ثم جاءه النذير بمسير التتر إليه فرحل إلى أران و تحصن بها و ثار أهل تبريز لما بلغهم خبر الوقعة الأولى بمن عندهم من عساكر الخوارزمية و قتلوهم و منعهم رئيسهم الطغرياني من طاعة التتر و وصل للسلطان جلال الدين ثم هلك قريبا فسلحوا بلادهم للتتر و كذا فعل أهل كنجة و أهل سلعار ثم سار السلطان إلى كنجة و ارتجعها و قتل المعترضين للثورة فيها و سار إلى خلاط و استمد الأشرف بن العادل صاحب الشام فعلله بالمواعيد و سار إلى مصر و يئس من إنجاده فبعث إلى جيرانه من الملوك يستنجدهم مثل صاحب حلب و آمد و ماردين
و جرد عسكرا إلى بلاد الروم في خرت برت و ملطية و أذربيجان فاقتحموها لما بين صاحبها كيقباد و بين الأشرف من الموالاة فاستوحش جميع الملوك من ذلك و قعدوا عن نصرته
و جاءه الخبر و هو بخلاط أن التتر زحفوا إليه فاضطرب في رحله و بعث أتابكه أو ترخان في أربعة آلاف فارس طليعة فرجع و أخبره أن التتر رجعوا من حدود ملاذكرد و أشار عليه قومه بالمسير إلى أصفهان و زين له صاحب آمد قصد بلاد الروم و أطمعه في الإستيلاء عليها ليتصل باقفجاق و يستظهر بهم على التتر و وعده الإمداد بنفسه يروم الإنتقام من صاحب بلاد الروم لما ملك من قلاعه فخيم و عدل عن أصفهان و نزل بآمد و بعث إليه التركمان بالنذير و أنهم رأوا نيران التتر فاتهم خبرهم و صحبه التتر على آمد منتصف شوال سنة ثمان و عشرين و أحاطوا بخيمته و حمل عليهم أتابكه أوترخان و كشفهم عن الخيمة
و ركب السلطان و أسلم أهله و سواده و رد أوترخان العساكر و انتبد ليتوارى عن عين العدو و سار أوترخان إلى أصفهان و استولى عليها إلى أن ملكها التتر من يده سنة تسع و ثلاثين و ذهب السلطان منجفلا و قد امتلأت الدربندات و المضايق بالمفسدين من غير صنوفهم بالقتل و النهب فأشار عليه أوترخان بالرجوع فرجع إلى قرية من قرى ميافارقين و نزل في بيدرها و فارقه أوترخان إلى حلب
و هجم التتر على السلطان بالبيدر و قتلوا من كان معه و هرب فصعد إلى جبل الأكراد و هم مترصدون الطرق للنهب فسلبوه و هموا بقتله
و شعر بعضهم أنه السلطان فمضى به إلى بيته ليخلصه إلى بعض النواحي و دخل البيت في مغيبه بعض سفلتهم و هو يريد الثأر من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله و لم يغن عنه أهل البيت ثم إنتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد و أرزن و ميافارقين و سائر ديار بكر فاكتسحوها و خربوها و ملكوا مدينة أسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام و مروا بميافارقين فامتنعت ثم وصلوا إلى نصيبين فاكتسحوا نواحيها ثم إلى سنجار و جبالها و الخابور
ثم ساروا إلى أيدس فأحرقوها ثم إلى أعمال خلاط فاستباحوها هاكر و أرجيش و جاءت طائفة أخرى من أذربيجان إلى أعمال أربل و مروا في طريقهم بالتركمان الأيوبية و الأكراد الجوزقان فنهبوا و قتلوا و خرج إليهم والي أربل مستمدا أهلها و عساكر الموصل فلم يدركوهم فعادوا و بقيت البلاد قاعا صفصفا
والله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (5/591)
التعريف بجنكزخان و قسمة الأعمال بين ولده و انفراده بالكرسي في قراقوم و بلاد الصين
هذا السلطان جنكزخان هو سلطان التتر لعهده ثم من المغل أحد شعوبهم و في كتاب لشهاب الدين بن فضل الله : أنه من قبيلة أشهر قبائل المغل و أكبرهم ( وزايه التي بين الكاف و الخاء ليست صريحة و إنما مشتملة بالصاد فينطق بها بين الصاد و الزاي ) و كان اسمه تمرجين ثم أصاروه جنكزخان تمام الإسم و هو بمعنى الملك عندهم و أما نسبته فهي هكذا :
جنكز بن بيسوكي بن بهادر بن تومان برتيل خان بن تومينه بن باد سنقر بن تيدوان ديوم بن بقا بن مودنجه أحد عشر إسما أعجميا صعبة الضبط و هذا منحاها و في كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصفهاني إمام المعقولات بالمشرق أخذها عن أصحاب نظير الدين الطوسي قال : أن مودنجه إسم امرأة و هي جدتهم من غير أب
قالوا : و كانت متزوجة و ولدت ولدين اسم أحدهما بكتوت و الآخر بلكتوت و يقال لولدها بنو الدلوكية ثم مات زوجها و تأيمت و حملت و هي أيم فنكر عليها أقرباؤها فذكرت أنها رأت بعض الأيام نورا دخل في فرجها ثلاث مرات و طرأ عليها الحمل بعده
و قالت لهم : إن في حملها ثلاثة ذكور فإن صدق ذلك عند الوضع و إلا فافعلوا ما بدا لكم فوضعت ثلاثة توائم من ذلك الحمل فظهرت براءتها بزعمهم اسم أحدهم : برقد و الآخر قونا و الثالث نجعو و هو جد جنكزخان الذي في عمود نسبه كما مر و كانوا يسمونهم النورانيين نسبة إلى النور الذي إدعته و لذلك يقولون جنكزخان ابن الشمس
و أما أوليته فقال يحيى بن أحمد بن علي النسابي كاتب جلال الدين خوارزم شاه في تاريخ دولته أن مملكة الصين متسعة و دورها مسيرة تسعة أشهر و هي منقسمة من قديم الزمان على تسعة أجزاء كل جزء منها مسيرة شهر و يتولى ملك كل جزء منها ملك يسمى بلغتهم خان و يكون نائبا عن الخان الأعظم قال و كان الأعظم الذي عاصر خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش يقال له طرخان توارثها عن آبائه و كان مقيما بطوغاج و هي وسط الصين و كان جنكزخان من أولئك الخانات الستة و كان من سكان البدو و من أهل النجدة و الشرف و كان مشتاه فارعون من بلاد الصين و كان من خاناتهم أيضا ملك آخر اسمه دوشي خان كان متزوجا بزوجة جنكزخان و اتفقت وفاته فحضر جنكزخان يوم وفاة زوجها دوشي خان فولته مكانه و حملت قومها على طاعته و بلغ الخبر إلى الخان الأعظم طرخان فنكر ذلك و زحف إليهم فقاتلوه و هزموه و غلبوه على أثر بلاده ثم صالحهم عليها و أقام متغلبا ثم مات بقية الخانات الستة و إنفرد جنكزخان بأمرهم جميعا و أصبح ملكهم و كان بينه و بين خوارزم شاه من الحروب ما قدمناه و في كتاب ابن فضل الله محكيا عن الصاحب علاء الدين عطاء و حدثه به قال كان ملك عظيم من التتر في قبيلة عظيمة من قبائلهم يدعى أزبك خان و كان مطاعا في قومه فإتصل به جنكزخان فقربه و استخلصه و نافسه قرابة السلطان و سعوا به عنده حتى استفسدوه عليه و طوى له و تربص به و سخط أزبك خان على مملوكين عنده فاستجارا بجنكزخان فأجارهما و ضمن لهما أمانة و أطلعاه على رأي السلطان فيه فاستوحش و حذر وثبة السلطان فأجفل أمامه و أتبعه السلطان في عساكره فلما أدركه كر عليه جنكزخان فهزمه و غنم سواده و ما معه ثم استمرت العداوة و انتبذ عن السلطان و استألف العساكر و الأتباع و أفاض فيهم الإحسان فاشتدت شوكته و دخل في طاعته قبيلتان عظيمتان من المغل و هما أورات و منفورات فعظمت جموعه و أحسن إلى المملوكين اللذين حذراه من أزبك خان و رفع رتبتهما و كتب لهما العهود بما إختاراه و كتب فيها أن يستمر ذلك لهما إلى تسعة بطون من أعقابهما ثم جهز العساكر لحرب أزبك خان فهزمه و قتله و استولى على مملكة التتر بأسرها و لما توطأ أمره تسمى جنكزخان و كان اسمه تمرجين كما مر و كتب لهم كتابا في السياسة سماه السياسة الكبيرة ذكر فيه أحكام السياسة في الملك و الحروب و الأحكام العامة شبه أحكام الشرائع و أمر أن يوضع في خزانته و أن تختص بقرابته و لم يكن يؤتى بمثله و إنما كان دينه و دين أبائه و قومه المجوسية حتى ملكوا الأرض و استفلحت دولتهم بالعراق و الشمال و ما وراء النهر و أسلم من ملوكهم من هداه الله للإسلام كما نذكره إن شاء الله تعالى فدخلوا في عدد ملوك الإسلام إلى أن انقرضت دولهم و انقضت أيامهم و البقاء لله وحده و أما فكثير و هو الذي يقتضيه حال بداوته و عصبيته إلا أن المشهور منهم أربعة أولهم دوشي خان و يقال جرجي و ثانيهم جفطاي و يقال كداي و ثالثهم أوكداي و يقال أوكتاي و رابعهم طولي بين التاء و الطاء و الثلاثة الأول لأم واحدة و هي أوبولى بنت تيكي من كبار المغل وعد شمس الدين الأصبهاني الأربعة فقال جرجي و كداي و طولي و أوكداي و قال نظام الدين يحيى بن الحليم نور الدين عبد الرحمن الصيادي كاتب السلطان أبي سعيد فيما نقله عنه شهاب الدين بن فضل الله أن كداي هو جفطاي و جرجي هو طوشي فلما ملك جنكزخان البلاد قسم الممالك فكان لولده طوشي بلاد فيلاق إلى بلغار و هي دست القفجاق و أضاف إليه أران و همذان و تبريز و مراغة و عيرلان و كتاي حدود آمد و قوباق و ما أدري تفسير هذه و جعله ولي عهده و عين لجفطاي من الأيقور إلى سمرقند و بخارى و ما وراء النهر و لم يعين لطولي شيئا و عين لأخيه أوتكين نوى بلاد أبخت و لا أدري معنى هذا الإسم و لما استفحل ملكه و استولى على هذه المماليك جلس على التخت و انتقل إلى وطنه القديم بين الخطا و إلا يقور و هو تركستان و كاشغر و في ذلك الوطن مدينة قراقوم و بها كان كرسيه و مكانه بين أعمال ولده مكان المركز من الدائرة و كان كبير ولده طوشي و يقال دوشي و مات في حياته و خلف من الولد ناخوا و بركة و داوردة و طوفل هكذا قال ابن الحكيم و قال شمس الدين ناظو و بركة فقط و مات طولي أيضا في حياته في حربه مع جلال الدين خوارزم شاه بنواحي غزنة و خلف من الولد منكو قبلاي و أزبيك و هلاكو و الله تعالى أعلم بغيبه و أحكم (5/593)
ملوك التخت بقراقوم من بعد جنكزخان
قال ابن فضل الله و لما هلك جنكزخان استقل أوكداي بالتخت و بدست القفجاق و ما معه و كان أصغر ولده و انتقل إلى قراقوم بمكانهم الأصلي فاعطى وقراياق التي كانت بيده لابنه كفود و لم يتمكن كداي و هو جفطاي من مملكة ما وراء النهر و نازع ناظو بن دوشي خان في اران و همذان و تبريز و مراغة و بعث أميرا من أمرائها لحمل أموالها و القبض على عماله بها و قد كان ناظو كتب إليهم بالقبض على ذلك الأمير فقبضوا عليه و حملوه إلى ناظو فطحنه و بلغ ذلك إلى كفود فسار إلى ناظو في ستمائة ألف من العساكر و هلك قبل أن يصل إليه بعشر مراحل فبعث القوم إلى ناظو أن يكون صاحب التخت فأبى و جعله لأخيه منكوفان بن طولي و بعثه إليه و أخويه معه قبلاي و هلاكو و بعث معهم أخاه بركة بن طولي في مائة ألف من العساكر ليجلسه على التخت فلما عاد من بخارى لقي الشيخ شمس الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين كبير الصوفية فأسلم على يده و تأكدت صحبته و معه و حرضه على التمسك بطاعة الخليفة و مكاتبته المعتصم و مبايعته و مهاداته و ترددت الرسل بينه و بين المعتصم و تأكدت الموالاة و استقل منكوفان بالتخت و ولى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر امضاء لوصية جنكزخان لأبيهم التي مات دونها و وفد عليه جماعة من أهل قزوين و بلاد الجبل يشكون ما نزل بهم من ضرر الإسماعيلية و فسادهم فجهز أخاه هلاكو لقتالهم و استئصال قلاعهم فمضى لذلك و حسن لأخيه منكوفان الاستيلاء على أعمال الخليفة فأذن له فيه و بلغ ذلك بركة فنكره على أخيه ناظو الذي ولى منكوفان لما كان بين بركة و المعتصم من الولاية و الوصلة بوصية الشيخ الباخوري فبعث ناظو إلى أخيه هلاكو بالنهي عن ذلك و أن لا يتعدى مكانه و بلغته رسل ناظو بذلك و هو وراء النهر قبل أن يفصل بالعساكر فأقام سنين امتثالا لامره حتى مات ناظو و تولى بركة مكانه فاستأذن أخاه منكوفان ثانية و سار لقصد الملاحدة و أعمال الخليفة فأوقع بالملاحدة و فتح قلاعهم و استلحمهم و أوقع بأهل همذان و استباحهم لميلهم إلى بركة و أخيه ناظو ثم سار إلى بركة بدست القفجاق فزحف إليه بركة في جموع لا تحصى و التقيا و استمر القتل في أصحاب هلاكو و هم بالهزيمة ثم حال نهر الكر بين الفريقين و عاد هلاكو في البلاد و استحكمت العداوة بينهما و سار هلاكو إلى بغداد فكانت له واقعة المشهورة كما مر و يأتي في أخبار دولته انشاء الله تعالى و في كتاب ابن فضل الله فيما نقله عن شمس الدين الأصبهاني أن هلاكو لم يكن مستقلا بالملك و إنما كان نائبا عن أخيه منكوفان و لا ضربت السكة باسمه و لا ابنه ابغا و إنما ضربها منهم ارغو حين استقل فجعل اسمه في السكة مع اسم صاحب التخت قال و كان شحنة صاحب التخت لا يزال ببغداد إلى أن ملك قازان فطرد الشحنة و أفرد اسمه في السكة و قال ما ملكت البلاد إلا بسيفي و بيت جنكزخان يرون أن بني هلاكو إنما كانوا ثوارا و جنكزخان لم يملك طولي شيئا و أن أخاه منكوفان الذين ولاه عليها إنما بعثه نائبا مع أن منكوفان إنما ولاه ناظو بن دوشي خان كما مر قال و نقل عن ثقاة أنه لم يبق هلاكو من يحقق نسبه لكثرة ما وقع فيهم من القتل غيرة على الملك و من نجا طلب الاختفاء بشخصه فخفي نسبه إلا ما قيل في محمل المنسوب إلى بحرحي قال شمس الدين الأصبهاني و نقله عن أمير كبير منهم أن أول من استقل بالتخت جنكزخان ثم ابنه أوكداي ثم ابنه كفود بن اوكداي ثم منكوفان بن طولي ثم أخوه اربيكان ثم أخوهما قبلاي ثم دمرفاي و يقال تمرفاي ثم تربى كيزي ثم كيزقان ثم سندمرقان بن طرما لابن جنكمر بن قبلاي بن طولي انتهى كلام ابن فضل الله و عن غيره أن منكوفان جهز عساكر التتر أيام ملكه على التخت إلى بلاد الروم سنة مع أمير من أمراء المغل اسمه بيكو فملكها من يد بني قليج ارسلان كما هو مذكور في أخبارهم فأقامت في طاعة القان إلى أن انقرض أمر المغل منها ثم بعث منكوفان العساكر لغزو بلاد الخطا مع أخيه قبلاي بعد أن عهد له بالخانية ثم سار على أثره بنفسه و استخلف أخاه الآخر ازبك على كرسي قراقوم و هلك منكوفان في طريقه ذلك على نهر الطاي من بلاد الغور سنة ثمان و خمسين فجلس ازبك على التخت و عاد قبلاي من بلاد الخطا فزحف إليه فهزمه إلى بعض النواحي و استأثر بالغنائم عن إخوته و قومه فمالوا إلى طاعة قبلاي و استدعوه فجاء و قاتل أخاه ازبك فغلبه و تقبض عليه و حبسه و استقر في الغانية و بلغ الخبر إلى هلاكو و هو في الشام عندما استولى عليه فرجع لما كان يؤمله من الغانية و لما انتهى إلى جيحون بلغه استقلال أخيه قبلاي في الغانية و تبين له عجزه عنه فسالمه و قنع بما في يديه و رجع إلى العراق ثم نازع قبلاي في الغانية لآخر دولته سنة سبع و ثمانين بعض بني أوكداي صاحب التخت الأول و هو قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي و نزع إليه بعض أمراء قبلاي و زينوا له ذلك فسار له و بعث قبلاي العساكر للقائه مع ابنه تمقان فهزمه قيدو و رجع منهزما إلى أبيه فسخطه و طرده إلى بلاد الخطا و مات هنالك و سلط قبلاي على قيدو و كان غلب على ما وراء النهر براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي من بني جفطاي ملوك ما وراء النهر بوصية أبيهم جنكزخان فغلبه براق و استولى على ما وراء النهر ثم هلك قبلاي صاحب التخت سنة ثمان و ثمانين و ملك ابنه سرتموق هذا ما انتهى إلينا من أخبار ملوك التخت بقراقوم من بني جنكزخان و لم تقف على غيرها و الله تعالى ولى التوفيق بمنه و كرمه (5/597)
ملوك بني جفطاي بن جنكزخان بتركستان و كاشغر و ما وراء النهر
هذا الأقليم هو مملكة الترك الأولى قبل الإسلام و أسلم ملوكهم على تركستان و كاشغر فأقاموا بها و ملك بنو سامان نواحي بخارى و سمرقند و استبدوا و منها كان ظهور السلجوقية و التتر من بعدهم و لما استولى جنكزخان على البلاد أوصى بهذه المملكة لابنه جفطاي و لم يتم ذلك في حياته و مات جفطاي دونه فلما ولي منكوفان بن طولي على التخت ولى أولاد جفطاي عمه على ما وراء النهر امضاء لوصية جنكزخان لابيهم التي مات دونها و ولى منكوفان فلما هلك ولى أخوه هلاكو ابنه مبارك شاه ثم غلب عليهم قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن جنكزخان و انتزع ما وراء النهر من أيديهم و كان جده كفوك صاحب التخت و بعده ولي منكوفان فلما ولي قيدو نازع صاحب التخت يومئذ و هو قبلاي و كانت بينهما حروب و أعان قبلاي في خلالها بني جفطاي على استرجاع ملكهم و ولي منهم براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي و أمده بالعساكر و الأموال فغلب قيدو بن قاشي بن كفود بن أوكداي بن جنكزخان و انتزع من صاحب التخت يومئذ و استبد بملك آبائه ثم هلك فولي من بعده دوا ثم من بعد دوا بنون له أربعة واحدا بعد واحد و هم كجك ثم اسعا ثم كبك ثم انجكداي ثم ولي بعد الأربعة دواتمر ثم ترماشين ثم توزون بن اوماكان بن منكوفان بن جفطاي و تخلل هؤلاء من توثب عل الملك و لم ينتظم له مثل سياسور بن اركتم بن بغاتمر بن براق و لم يزل ملكهم بعد ترماشين مضطربا إلى أن ملك منهم جنقصو بن دواتمر بن حلو بن براق بن سنتف كانوا كلهم على دين المجوسية و خصوصا دين جنكزخان و عبادته الشمس و كان فيما يقال على دين النجشية فكان بنو جفطاي يعضون عليها بالنواجذ و يتبعون سياسته مثل أصحاب التخت فلما صار الملك إلى ترماشن منهم أسلم رحمه الله سنة خمس و عشرين و سبعمائة و جاهد و أكرم التجار المترددين و كانت تجار مصر ممنوعين من بلاده فلما بلغهم ذلك قصدوها فحمدوها و لم انقرضت دول بني جنكزخان و تلاشت في جميع النواحي ظهر في أعقاب دولة بني جفطاي هؤلاء بسمرقند و ما وراء النهر ملك اسمه تمر و لا أدري كيف كان يتصل نسبه فيهم و يقال أنه من غير نسبهم و إنما هو متغلب على صبي من أعقاب ملوكهم اسمه طغتمش أو محمود درج اسمه بعد مهلك أبيه و استبد عليه و أنه من أمرائهم و أخبرني من لقيته من أهل الصين أن أباه أيضا كان في مثل مكانه من الامارة و الاستبداد و ما أدري أهو طيبة في نسب جفطاي أو من أحلافهم و اتباعهم و أخبرني الفقيه برهان الدين الخوارزمي و هو من علماء خوارزم و أعيانها قال كان لعصره و أول ظهوره ببخارى رجل يعرف بحسن من أمراء المغل و آخر بخوارزم من ملوك صراي أهل التخت يعرف بالحاج حسن الصوفي تهيأ و زحف إلى بخارى فملكها من يد حسن ثم إلى خوارزم و طالت حروبه مع الحاج حسن الصوفي و حاصرها مرارا و هلك حسن خلال ذلك و ولي أخوه يوسف فملكها تمر من يده و خربها في حصار طويل ثم كلف بعمارتها و بناء ما خرب منها و انتظم له الملك بما وراء النهر و نزل قجارى ثم زحف إلى خراسان فملك هراة من يد صاحبها و أظنه من بقايا ملوك الغورية ثم زحف إلى مازندان و طال تمرسه و حروبه مع صاحبها الشيخ ولي إلى أن ملكها عليه سنة أربع و ثمانين و لحق الشيخ ولي بتوزير إلى أن ملكها تمر سنة ثمان و ثمانين فهلك في حروبه معها ثم زحف إلى أصبهان فآتوه طاعة ممرضة و خالفه في قومه كبير من أهل نسبه يعرف بمعمر الدين و أمده طغتمش صاحب التخت بصراي فكر راجعا و شغل بحربه إلى أن غلبه و محا أثره و غلب طغتمش على ما بيده من البلاد ثم زحف إلى بغداد سنة خمس و تسعين فأجفل عنها ملكها أحمد بن أويس ابن الشيخ حسن المتغلب عليه بعد بني هلاكو فلحق أحمد ببر الشام سنة ست و تسعن و استولى تمر على بغداد و الجزيرة و ديار بكر إلى الفرات و استعد ملك مصر للقائه و نزل الفرات فأحجم عنه و تأخر عنه إلى قلاع الأكراد و أطراف بلاد الروم و أناخ على قراباغ ما بين أذربيجان و الأبواب و رجع خلال ذلك طغتمش صاحب التخت إلى صراي و ملكه فسار إليه تمر أول سنة سبع و تسعين و غلبه على ملكه و أخرجه عن سائر ممالكه ثم وصل الخبر آخر السنة بظفره بطغتمش و قتله اياه و استيلائه على جميع أعماله و الحال على ذلك لهذا العهد و الله وارث الأرض و من عليها و في خبر العجم أن ظهوره سنة عذب يعنون سنة اثنتين و سبعين و سبعمائة بحساب الجمل في حروف هذه اللفظة و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق بمنه و كرمه (5/600)
الخبر عن ملوك بني دوشي خان من التتر ملوك خوارزم و دست القفجاق و مبادي أمروهم و تصاريف أحوالهم
قد تقدم لنا أن جنكزخان عين هذه البلاد لابنه دوشي خان و ملكه عليها و هي مملكة متسعة في الشمال آخذة من خوارزم إلى ناركند و صفد و صراي إلى مدينة ماجرى واران و سرادق و بلغار و باشقرد و جدلمان و في حدود هذه المملكة مدينة باكو من مدن شروان و عندها باب الحديد و يسمونه دمرقفو و سمر حدود هذه المملكة في الجنوب إلى حدود القسطنطينية و هي قليلة المدن كثيرة العمارة و الله تعالى أعلم (5/602)
دوشي خان بن جنكزخان
و أول من وليها من التتر دوشي خان فلم يزل ملكا عليها إلى أن هلك في حياة أبيه كما مر سنة (5/603)
ناظو خان بن دوشيي خان
و لما هلك دوشي خان ولي مكانه ابنه ناظو خان و يقال صامرخان و معناه الملك المغير فلم يزل ملكا عليها إلى أن هلك سن خمسين و ستمائة (5/603)
طرطو بن دوشي خان
و لما هلك ناظو ولي أخوه طرطو فأقام ملكا سنتين و هلك سنة اثنتين و خمسين و لما هلك ولي مكانه أخوه بركة هكذا نقل ابن فضل الله عن ابن الحكيم و قال المؤيد صاحب حماة في تاريخه أنه لما هلك طرطو هلك من غير عقب و كان لأخيه ناظو خان ولدان و هما تدان و بركة و كان مرشحا للملك فعدل عنه أهل الدولة و ملكوا أخاه بركة و سارت أم تدان إلى هلاكو عندما ملك العراق تستحثه لملك قومها فردوها من الطريق و قتلوها و استمر بركة في سلطانه انتهى فنسب المؤيد بركة إلى ناظو خان بن دوشي خان و ابن الحكيم على ما نقل ابن فضل الله جعله ابن دوشي خان نفسه و ذكر المؤيد قصة اسلامه على يد شمس الدين الباخوري من أصحاب نجم الدين و ان الباخوري كان مقيما ببخارى و بعث إلى بركة يدعوه إلى الإسلام فأسلم و بعث إليه كتابه باطلاق يده في سائر أعماله بما شاء فرده عليه و أعمل بركة الرحلة إلى لقائه فلم يأذن له في الدخول حتى تطارح عليه أصحابه و سهلوا الاذن لبركة فدخل و جدد الإسلام و عاهده الشيخ على اظهاره الإسلام و أن يحمل عليه سائر قومه فحملهم و اتخذ المساجد و المدارس في جميع بلاده و قرب العلماء و الفقهاء و وصلهم و سياق القصة على ما ذكره المؤيد يدل على أن اسلامه كان أيام ملكه و على ما ذكر ابن الحكيم أن اسلامه كان أيام ناظو و لم يذكر ابن الحكيم طرطو و انما ذكر بعد ناظو أخاه بركة و لم نقف على تاريخ لدولتهم حتى يرجع إليه و هذا ما أدى إليه الاجتهاد و ما بعدها مأخوذ من تاريخ المؤيد صاحب حماة من بني المظفر بن شاهنشاه بن أيوب قال ثم بعث بركة أيام سلطانه أخاه ناظو إلى ناحية الغرب للجهاد و قاتل ملك اللمان من الإفرنج فانهزم و رجع و مات أسفا ثم حدثت الفتنة بين بركة و بين قبلاي صاحب التخت و انتزع بركة الخاقانية من أعمال قبلاي و ولى عليها سرخاد ابن أخيه ناظو و كان على دين النصرانية و داخله هلاكو في الانتقاض على عمه بركة إلى أخيه قبلاي صاحب التخت و يقطعه الخاقانية و ما يشاء معها و شعر بركة بشأنه و أن سرخاد يحاول قتله بالسم فقتله و ولى الخاقانية أخاه مكانه و أقام هلاكو طالبا بثأر سرخاد و وقعت الحرب بينه و بين بركة على نهر آمد سنة ستين ثم هلك هلاكو سنة ثلاث و ستين و ولى ابنه ابغا فسار إلى حربه و سرح بركة للقائه سنتاي بن بانيغان بن جفطاي و نوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان فلما التقى الجمعان أحجم سنتاي و رجع منهزما و انهزم ابغا أمام نوغيثة و أثخن في عساكره و عظمت فنزلة نوغثية عند بركة و سخط بركة سنتاي و ساءت منزلته عند إلى أن هلك بركة سنة خمس و ستين و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/603)
منكوتمر بن طغان بن ناظو خان
و لما هلك بركة ملك الدست بالشمال ملك مكانه منكونمر بن طغان بن ناظو خان ابن دوشي خان و طالت أيامه و زحف سنة سبعين إلى القسطنطينية لجدة وجدها على الاشكر ملكها فتلقاه بالخضوع و الرغبة و رجع عنه ثم زحف سنة ثمانين إلى بلاد الشام في مظاهرة ابغا بن هلاكو و نزل بين قيسارية و ابلستين من بلاد الروم ثم أجاز الدربند و مر ابغا و هو منازل الرحبة و تقدم مع أخيه منكوتمر بن هلاكو إلى حماة فنازلوها و زحف إليهم المنصور قلاون ملك مصر و الشام من دمشق و لقيهم بظاهر حمص و كانت الدائرة على ملوك التتر و هلك خلق من عساكرهم و أسر آخرون و أجفل ابغا من منازلة الرحبة و رجعوا إلى بلادهم منهزمين و هلك على أثر ذلك منكوتمر ملك الشمال و منكوتمر بن هلاكو سنة إحدى و ثمانين و لما هلك منكوتمر ملك مكانه ابنه تدان و جلس على كرسي ملكهم بصراي فأقام خمس سنين ثم ترهب و خرج عن الملك سنة ست و ثمانين و انقطع إلى صحبة المشايخ الفقراء و لما ترهب تدان بن منكوتمر و خرج عن الملك ملك مكانه اخوه قلابغا و أجمع على غزو بلاد الكرك و استنفر نوغيثة بن تتر بن مغل بن دوشي خان و كان حاكما على طائفة من بلاد الشمال و له استبداد على ملوك بني دوشي خان فنفر معه في عساكره و كانت عظيمة و دخلوا جميعا بلاد الكرك و أغاروا عليها و عاثوا في نواحيها و فصلوا منها و قد تمكن فصل الشتاء و سلك السلطان مسافة اعتسف فيها البيداء و هلك أكثر عساكره من البرد و الجوع و أكلوا دوابهم و سار نوغيثة من أقرب المسالك فنجا إلى بلاده سالما من تلك الشدة فاتهمه السلطان قلابغا بالادهان في أمره و كان ينقم عليه استبداده حتى أنه قتل امرأة كنجك و كانت متحكمة في أيام أبيه و أخيه و شكت إلى نوغيثة فأمر بقتلها خنقا و قتل أميرا كان في خدمتها اسمه بيطرا فتنكر له قلابغا و أجمع الفتك به و أرسل يستدعيه لما طوي له عليه و نمي الخبر بذلك إلى نوغيثة فبالغ في اظهار النصيحة و الاشفاق على السلطان و خاطب أمه بأن عنده نصائح يود لو ألقاها إلى السلطان في خلوة فثنت ابنها عن رأيه فيه و أشارت عليه باستدعائه و الاطلاع على ما عنده و جاء نوغينة و قد بعث عن جماعة من اخوة السلطان قلابغا كانوا يميلون إليه و منهم طغطاي و بولك و صراي و تدان بنو منكوتمر بن طغان فجاؤا معه و قد توقفوا لما هجم السلطان قلابغا و ركب للقاء نوغيثة في لمة من عسكره و جاء نوغيثة و قد أكمن له طائفة من العسكر فلما التقيا تحادثا مليا و خرجت الكمناء و أحاطوا بالسلطان و قتلوه سنة تسعين و ستمائة و أقبل طغطاي ابن منكوتمر و لما قتل قلابغا ولوا مكانه طغطاي لوقته و رجع نوغيثة إلى بلاده و بعث إلى طغطاي في قتل الأمراء الذين داخلوا قلابغا في قتله فقتلهم طغطاي أجمعين ثم تنكر طغطاي لنوغينة لما كان عليه من الاستبداد و أنف طغطاي منه و أظلم الجو بينهما و اجتمع أعيان الدولة إلى نوغينة فكان يوغر صدرهم على طغطاي و اصهر إلى طاز بن منجك منهم بابنته فسار إليه طغطاي و لقيه نوغينة فهزمه و اعترضه نهر مل فغرق كثير من عساكره و رجع نوغينة عن اتباعه و استولى على بلاد الشمال و أقطع سبطه قراجا بن طشتمر سنة ثمان و سبعين مدينة القرم و سار إليها لقبض أموالها فأضافوه و بيتوه و قتلوه من ليلته و بعث نوغينة العساكر إلى القرم فاستباحوها و ما يجاورها من القرى و الضياع و خرب سائرها و كان نوغينة كثير الإيثار لأصحابه فلما استبد بأمره آثر ولده على الأمراء الذين معه و حسوا عليهم و كان رديفه من ملك المغل اياجي بن قرمش و أخوه قراجا فلما آثر و لده عليهما نزعا إلى طغطاي في قومهما و سار ولد نوغيثة في اتباعهما فرجع بعضهم و استمر الباقون و قتل ولد نوغيثة من رجع معه من أصحاب اياجي و قراجا و ولدهم فامتعض لذلك أمراء المغل الذين معه و لحقوا بطغطاي و استحثوه لحرب نوغينة فجمع و سار إليه سنة تسع و تسعين بكوكان لك فانهزمت عساكر نوغينة و ولده و قتل في المعركة و حمل رأسه إلى طبطاي فقتل قاتله و قال السوقة لا تقتل الملوك و استبيح معسكر نوغينة و بيع سباياهم و أسراهم في الأقطار و كان بمصر منهم جماعة استرقوا بها و انتظموا في ديوان جندها و لم هلك نوغينة خلفه في أعماله ابنه جكك و انتقض عليه أخوه فقتله فاستوحش لذلك أصحابه و أجمعوا الفتك به و تولى ذلك نائبه طغرلجاي و صهره على أخته طاز بن منجك و نمي الخبر بذلك إليه و هو في بلاد اللازو الروس غازيا فهرب و لحق ببلاده ثم لحق به عسكره فعاد إلى حربهم و غلبهم على البلاد ثم أمدهما طغطاي على جكا بن نوغينة فانهزم و لحق ببلاد أولاق و حاول الامتناع ببعض القلاع من بلاد أولاق و فيها صهره فقبض عليه صاحب القلعة و استخدم بها الطغطاي فأمره بقتله سنة إحدى و سبعمائة و نجا أخوه طراي و ابنه قراكسك شريدين و خلا الجو لطغطاي من المنازعين و المخالفين و استقر في الدولة قدمه و قسم أعماله بين أخيه صراي بغا و بين ابنيه و أنزل منكلي بغا من ابنيه في عمل نهر طنطا مما يلي باب الحديد ثم رجع صراي بن نوغيثة من مفره و استذم بصراي بغا أخي طغطاي فأذمه و أقام عنده فلما أنس به كشف له القناع عما في صدره و استهواه للانتقاض على أخيه طغطاي و كان أخوهما ازبك أكبر منه و كان مقيما عند طغطاي فركب إليه صراي بغا ليفاوضه في الشأن فاستعظمه و اطلع عليه أخاهما طغطاي فأمره لوقته باحضار أخيه صراي بغا و صراي بن نوغيثة و قتلهما و استضاف عمل أخيه صراي بغا لابنه أيل بهادر ثم بعث في طلب قراكسك بن نوغينة فأبعد في ناحية الشمال و استذم ببعض الملوك هنالك ثم هلك سنة تسع و سبعمائة أخوه لذلك و ابنه ايل بهادر و هلك طغطاي بعدهما سنة اثنتي عشرة و الله تعالى أعلم (5/604)
أزبك بن طغرلجاي بن منكوتمر
و لما هلك طغطاي بايع نائبه قتطلتمر لازبك ابن أخيه طغرلجاي باشارة الخاتون تنوفالون زوج أبيه طغرلجاي و عاهده على الإسلام فأسلم و أتخذ مسجدا للصلاة و أنكر عليه بعض أمرائه فقتله و تزوج الخاتون بثالون و كانت المواصلة بين طغطاي و بين ملوك مصر و مات طغطاي و رسله عند الملك الناصر محمد بن قلاون فرجعوا إلى أزبك مكرمين و جدد أزبك الولاية معه و حببه قطلتمر في بعض كرائمهم يرغبه و عين له بنت بذلك أخي طغطان و تكررت الرسالة في ذلك إلى أن تم الأمر و بعثوا بكريمتهم المخطوبة إلى مصر فعقد عليها الناصر و بنى بها كما مر في أخباره ثم حدثت الفتنة بين أزبك و بين أبي سعيد ملك التتر بالعراق من بني هلاكو و بعث أزبك عساكره إلى أذربيجان و كان بنو دوشي يدعون أن توريز و مراغة لهم و أن القان لما بعث هلاكو لغزو بلاد الإسماعيلية و فتح بغداد استكثر من العساكر و سار معه عسكر أهل الشمال هؤلاء و قررت لهم العلوفة بتوريز و لما مات هلاكو طلب بركة من ابنه ابغا أن يأذن له في بناء جامع تبريز و دار لنسخ الثياب و الطرز فأذن له فبناهما و قام بذلك ثم اصطلحوا و أعيدت فادعى بنو دوشي خان أن توريز و مراغاة من أعمالهم و لم يزالوا مطالبين بهذه الدعوة فلما وقعت هذه الفتنة بين أزبك و أبي سعيد افتتح أمره بغزو موقان فبعث العساكر إليها سنة تسعة عشر فاكتسحوا نواحيها و رجعوا و جمع جوبان على دولته و تحكمه في بني جنكزخان و أنه يأنف أن يكون براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي ملكا على خوارزم فأغزاه أزبك فملك خراسان و أمده بالعساكر مع نائبه قطلتمر و سار سيول لذلك و بعث أبو سعيد نائبه جوبان لمدافعتهما فلم يطق و غلب سيول على كثير من خراسان و صالحه جوبان عليها و هلك سيول سنة عشرين ثم عزل أزبك نائبه قطلتمر سنة إحدى و عشرين و ولي مكانه عيسى كوكز ثم ردة سنة أربع و عشرين إلى نيابته و لم تزل الحرب متصلة بين أزبك و أبي سعيد إلى أن هلك أبو سعيد سنة ست و ثلاثين ثم هلك القان في هذه السنة و لما هلك أزبك بن طغرلجاي ولي مكانه ابنه جاني بك و كان أبو سعيد قد هلك كما قلنا ولم يعقب و ولي مكانه على العراق الشيخ حسن من أسباط ابغا بن هلاكو و افترق الملك في عمالاتهم طوائف و ردد جاني بك العساكر إلى خراسان إلى أن ملكها سنة ثمان و خمسين ثم زحف إلى أذربيجان و توريز و كان قد غلب عليها الشيخ الصغير ابن دمرداش بن جوبان و أخوه الاشرف من بعده كما يذكر في أخبارهم أن شاء الله تعالى فزحف جاني بك في العساكر إلى اذربيجان بتلك المطالبة التي كان سلفه يدعون بها فقتل الأشرف و استولى على توريز و أذربيجان و انكفأ راجعا إلى خوزستان بعد أن ولى على توريز ابنه بردبيك و اعتل جاني بك في طريقه و مات (5/606)
بردبيك بن جاني
و لما اعتل جاني في ذهابه من توريز إلى خراسان طير أهل الدولة الخبر إلى ابنه بردبيك و قد استخلفه في توريز فولي عليها أميرا من قبله و أغذ السير إلى قومه و وصل إلى صراي و قد هلك أبوه جاني فولوه مكانه و استقل بالدولة و هلك لثلاث سنين من ملكه (5/607)
ماماي المتغلب على مملكة صراي
و لما هلك بردبيك خلف ابنه طغطمش غلاما صغيرا و كانت أخته بنت بردبيك تحت كبير من أمراء المغل اسمه ماماي و كان متحكما في دولته و كانت مدينة القرم من ولايته و كان يومئذ غائبا بها و كان جماعة من أمراء المغل متفرقين في ولايات الأعمال بنواحي صراي ففرقوا الكلمة و استبدوا بأعمالها فتغلب حاجي شركس على ناحية منج طرخان و تغلب أهل خان على عمله و ايبك خان و كذلك و كان كلهم يسمون أمراء المسيرة فلما هلك بردبيك و انقرضت الدولة و استبد هؤلاء في النواحي خرج ماماي إلى القرم و نصب صبيا من ولد أزبك القان اسمه عبد الله و زحف به إلى صراي فهرب منها طغطمش و لحق بمملكة أرض خان في ناحية جبال خوارزم إلى مملكة بني جفطاي بن جنكزخان في سمرقند و ما وراء النهر و المتغلب عليها يومئذ السلطان تمر من أمراء المغل و قد نصب صبيا منهم اسمه محمود و طغطمش و تزوج أمه و استبد عليه فأقام طغطمش هناك ثم تتنافس الأمراء المتغلبون على أعمال صراي و زحف حاجي شركس صاحب عمل منج طرخان إلى ماماي فغلبه على صراي فملكها من يده و سار ماماي إلى القرم فاستبد بها و لما زحف حاجي شركس من عمله بعث أرض خان عساكره من نواحي خوارزم فحاصروا منج طرخان و بعث حاجي العساكر إليهم مع بعض أمرائه فأعمل الحيلة حتى هزمهم عن منج طرخان و فتك بهم و بالأمير الذي يقودهم و شغل حاجي شركس بتلك الفتنة فزحف إليه ايبك خان و ملك صراي من يده و استبد بها أياما ثم هلك و ولي بعده بصراي ابنه قاريخان ثم زحف إليه أرض خان من جبال خوارزم فغلبه على صراي و هرب قاريخان بن ايبك خان و عادوا إلى عملهم الأول و استقر أرض خان بصراي و ماماي بالقرم ما بينه و بين صراي في مملكته و كان هذا في حدود أعوام سنة ست و سبعين و طغطمش في خلال ذلك مقيم عند السلطان تمر فيما وراء النهر ثم طمحت نفس طغطمش إلى ملك آبائه بصراي فجهز معه السلطان تمر العساكر و سار بها فلما بلغ جبال خوارزم اعترضه هناك عساكر أرض خان فقاتلوه و انهزم و رجع إلى تمر ثم هلك أرض خان قريبا من منتصف تلك السنة فخرج السلطان تمر بالعساكر مع طغطمش مددا له إلى حدود عمله و رجع و استمر طغطمش فاستولى على أعمال أرض خان بجبال خوارزم ثم سار إلى صراي و بها عمال أرض خان فملكها من أيديهم و استرجع ما تغلب عليه ماماي من ضواحيها و ملك أعمال حاجي شركس في منج طرخان و استنزع جميع ما كان بأيدي المتغلبين و محا أثرهم و سار إلى ماماي بالقرم فهرب أمامه و لم يوقف على خبره ثم صح الخبر بمهلكه من بعد ذلك و استوسق الملك بصراي و أعمالها لطغطمش بن بردبيك كما كان لقومه (5/607)
حروب السلطان تمر مع طغطمش صاحب صراي
قد ذكرنا فيما مر ظهور هذا السلطان تمر في دولة بني جفطاي و كيف أجاز من بخارى و سمرقند إلى خراسان أعوام أربعة و ثمانين و سبعمائة فنزل على هراة و بها ملك من بقايا الغورية فحاصرها و ملكها من يده ثم زحف إلى مازندان و بها الشيخ ولي تغلب عليها بعد بني هلاكو فطالت حروبه معه إلى أن غلبه عليها و لحق الشيخ ولي بتوريز في فل من أهل دولته ثم طوى تمر المماليك طيا و زحف إلى أصبهان فآتاه ابن المظفر بها طاعته ثم إلى توريز سنة سبع و ثمانين فملكها و خربها و كان قد زحف قبلها إلى دست القفجاق و بصراي فملكها من يد طغطمش و أخرجه عنها فأقام بأطراف الأعمال حتى أجاز تمر إلى أصبهان فرجع إلى كرسيه و كان للسلطان تمر قريع في قومه يعرف بقمر الدين فراسله طغطمش صاحب صراي و أغراه بالانتقاض على تمر و أمده بالأموال و العساكر فعاث بتلك البلاد و بلغ خبره إلى تمر منصرفه من فتحه فكر راجعا و عظمت حروبه مع قمرالدين إلى أن غلبه و حسم علته و صرف و جهه إلى شانه الأول و قرر الزحف إلى طغطمش و سار طغطمش للقائه و معه اغلان بلاط من أهل بيته فداخله تمر و جماعة الأمراء معه و استراب بهم طغطمش و قد حان اللقاء و تصافحوا للحرب فصدم ناحية من عسكر تمر و صدم من لقي فيها و تبدد عياله و افترق الأمراء الذين داخلوا تمر و ساروا إلى الثغور فاستولوا عليها و جاء طغطمش إلى صراي فاسترجعها و هرب اغلان بلاط إلى القرم فملكها و زحف إليه طغطمش في العساكر فحاصرها و خالفه أرض خان إلى صراي فملكها فرجع طغطمش و انتزعها من يده و لم تزل عساكره تختلف إلى القرم و تعاهدها بالحصار إلى أن ملكها و ظفر باغلان بلاط فقتله و كان السلطان تمر بعد فراغه من حروبه مع طغطمش سار إلى أصبهان فملكها أيضا و استوعب ملوك بني المظفر و عاملهم بالقتل و انتظم له أعمالهم جميعا في مملكته ثم زحف إلى بغداد فملكها من يد أحمد بن أويس سنة خمس و تسعين كما ذكره و لحق أحمد بالسلطان الظاهر صاحب مصر مستصرخا به فخرج معه في العساكر و انتهى إلى الفرات و قد سار تمر عن بغداد إلى ماردين فحاصرها و ملكها و امتنعت عليه قلعتها فعاج من هنالك إلى حصون الأكراد ثم إلى بلاد الأرمن ثم إلى بلاد الروم و بعث السلطان الظاهر صاحب مصر العساكر مددا لابن أويس فسار إلى بغداد و بها شرذمة من عسكر تمر فملكها من أيديهم و رجع الملك الظاهر إلى مصر و قد أظل الشتاء و رجع تمر إلى نواحي أعماله فأقام في عمل قرا باق ما بين أذربيجان و همذان و الأبواب ثم بلغ الخبر إلى تمر فسار من مكانه ذلك إلى محاربة طغطمش و عميت أنباؤه مدة ثم بلغ الخبر آخر سنة سبع و تسعين إلى السلطان فأن تمر ظفر بطغطمش و قتله و استولى على سائر أعماله و الله غالب على أمره انتهى (5/608)
ملوك غزنة و باميان من بني دوشي خان
كانت أعمال غزنة و باميان هذه قد صارت لدوشي خان و هي من أعمال ما وراء النهر من جانب الجنوب و تتاخم سجستان و بلاد الهند و كان في مملكة بني خوارزم شاه فملكها التتر لأول خروجهم من أيديهم و ملكها جنكزخان لابنه دوشي خان و صارت لابنه أردنو ثم لابنه انجبي بن أردنو و هلك على رأس المائة السابعة و خلف من الولد بيان و كبك و منغطاي و انقسمت الأعمال بينهم و كان كبيرهم بيان في غزنة و قام بالملك بعد انجبي ابنه كبك و انتقض عليه أخوه بيان و استمد بطغطاي صاحب صراي فامده بأخيه بذا لك و استنجد كبك بقندو فأمده و لم يغن عنه و انهزم و مات سنة تسع و سبعمائة و استولى بيان على الأعمال و أقام بغزنة و زحف إليه قوشناي ابن أخيه كبك و استمد بقندو و غلب عمه على غزنة و لحق بيان بطغطاي و استقر قوشوناي بغزنة و يقال أن الذي غلب عليها إنما هو أخوه طغطاي و لم نقف بعد على شيء من أخبارهم و الله تعالى أعلم بغيبه و أحكم (5/610)
ملوك التخت بصراي (5/611)
دولة بني هلاكو ـ دولة بني هلاكو ملوك التتر بالعراقين و خراسان و مبادي أمورهم و تصاريف أحوالهم
قد تقدم لنا أن جنكزخان عهد بالتخت و هو كرسي الملك بقراقوم لابنه أوكداي ثم ورثه من بعده كفود بن أوكداي و أن الفتنة وقعت بينه و بين صاحب الشمال من بني جنكزخان و هو ناظو بن دوشي خان صاحب التخت بصراي و سار إليه في جموع المغل و التتر و هلك في طريقه و سلم المغل الذين معه التخت لناظو فامتنع من مباشرته بنفسه و بعث إليه أخاه منكوفان و بعث معه بالعساكر أخويه الآخرين قبلاي و هلاكو و معهما أخوهما بركة ليجلسه على التخت فأجلسه سنة خمسين و ذكرنا سبب اسلام بركة عند مرجعه و أن منكوفان استقل بالتخت و ولى بني جفطاي بن جنكزخان على بلاد ما وراء النهر امضاء لوصية جنكزخان و بعث أخاه هلاكو لتدويخ عراق العجم و قلاع الإسماعيلية و يسمون الملاحدة و الاستيلاء على ممالك الخليفة (5/612)
هلاكو بن طولي
و لما بعث منكوفان أخاه إلى العراق فسار لذلك سنة اثنتين و خمسين و ستمائة و فتح الكثير من قلاعهم و ضيق بالحصار مخنقهم و ولى خلال ذلك في كرسي صراي بالشمآل بركة بن ناظو بن دوشي خان فحدثت الفتنة بينه و بين هلاكو و نشأت من الفتنة الحرب و سار بركة و معه نوغان بن ططر بن مغل بن دوشي خان و التقوا على نهر نول و قد جمد ماؤه لشدة البرد و انخسف من تحته فانهزم هلاكو و هلك عامة عسكره و قد ذكرنا أسباب الفتنة بينهما ثم رجع هلاكو إلى بلاد الإسماعيلية و قصد قلعة الموت و بها صاحبها علاء الدين فبلغه في طريقه وصية من ابن العلقمي وزير المستعصم ببغداد في كتاب ابن الصلايا صاحب أربل يستحثوه للمسير إلى بغداد و يسهل عليه أمرها لما كان ابن العلقمي رافضيا هو و أهل محلته بالكرخ و تعصب عليهم أهل السنة و تمسكوا بأن الخليفة و الدوادار يظاهرونهم و أوقعوا بأهل الكرخ فغضب لذلك ابن العقلمي و دس إلى ابن الصلايا بأربل و كان صديقا له بأن يستحث التتر لملك بغداد و أسقط عامة الجند يموه بأنه يصانع التتر بعطائهم و سار هلاكو و التتر إلى بغداد و استنفر بنحو مقدم التتر ببلاد الروم فيمن كان معه من العساكر فامتنع أولا ثم أجاب و سار إليه و لما أطل هلاكو على بغداد في عساكره برز للقائه أيبك الدوادار في عساكر المسلمين فهزموا عساكر التتر ثم تراجع التتر فهزموهم و اعترضهم دون بغداد بثوق انبثقت في ليلتهم تلك من دجلة فحالحت دونها فقتلوا أجمعين و هلك أيبك الدوادار و أسر الأمراء الذين معه و رجعوا إلى البلد فحاصروها مدة ثم استأمن من ابن العلقمي للمستعصم و لنفسه آملا بأن هلاكو يستبقيه فخرج إليه في موكب من الأعيان و ذلك في محرم سنة ست و خمسين و تقبض على المستعصم فشدخ بالمعاول في عدل تجافيا عن سفك دمه بزعمهم و يقال أن الذي أحصاه فيها من القتلى ألف ألف و ثلثمائة ألف و استولوا من قصور الخلافة و ذخائرها على مالا يحصره العدد و الضبط و ألقيت كتب العلم التي كانت في خزائنهم بدجلة معاملة بزعمهم لما فعله المسلمون بكتب الفرس عند فتح المدائن و اعتزم هلاكو على إضرام بيوتها نارا فلم يوافقه أهل مملكته و استبقى ابن العلقمي على الوزارة و الرتبة ساقطة عندهم فلم يكن قصارى أمره إلا الكلام في الدخل و الخرج متصرفا من تحت آخر أقرب إلى هلاكو منه فبقى على ذلك مدة ثم إضطرب و قتله هلاكو ثم بعث هلاكو بعد فتح بغداد بالعساكر إلى ميافارقين و بها الكامل محمد بن غازي بن العادل فحاصروها سنين حتى جهد الحصار أهلها ثم اقتحموها عنوة و استلحموا حاميتها ثم بعث إليه بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل ابنه ركن الدين إسمعيل بالطاعة و الهدية و تقبله و بعثه إلى القان الأعظم منكوفان بقراقوم و أبطأ على لؤلؤ خبره فبعث بالولدين الآخرين شمس الدين إسحق و علاء الدين بهدية أخرى و رجعوا إليه بخبر ابنه و قرب إيابه فتوجه لؤلؤ بنفسه إلى هلاكو و لقيه بأذربيجان و حضر حصار ميافارقين و جاءه ابنه ركن الدين من عند منكوفان بولاية الموصل و أعمالها ثم هلك سنة سبع و خمسين و ولي ابنه ركن الدين إسمعيل و يلقب الصالح و بعث هلاكو عسكرا إلى أربل فحاصرها ستة أشهر و امتنعت فأفرجت عنها العساكر فاغتنم ابن الصلايا الفرصة و نزل عنها لشرف الدين الكردي و لحق بهلاكو فقتله صاحب الشام يومئذ الناصر بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين فلما بلغه استيلاء هلاكو على بغداد بعث إليه ابنه بالهدايا و المصانعة و العذر عن الوصول بنفسه لمكان الإفرنج من سواحل الشام فقبل هديته و عذره و رجع ابنه بالمواعيد و لم يتم لهلاكو الإستيلاء على الجزيرة و ديار بكر و ديار ربيعة و انتهى ملكه إلى الفرات و تاخم الشام و عبر الفرات سنة ثمان و خمسين فملك البيرة و وجد بها السعيد أخا الناصر بن العزيز معتقلا فأطلقه و رده إلى عمله بالضبينة و بانياس ثم سار إلى حلب فحاصرها مدة ثم ملكها و من عليه و أطلقه و وجد بها المعتقلين من البحرية مماليك الصالح أيوب الذين حبسهم الناصر و هم سنقر الأشقر و تنكز و غيرهما فأطلقهم و كان معهم أمير من أكابر القفجاق لحق به و استخدم له و جعله معه و ولى على البلاد التي ملكها من الشام ثم جهز العساكر إلى دمشق و ارتحل الناصر إلى مصر و رجع عنه الصالح بن الأشرف صاحب حمص إلى هلاكو فولاه دمشق و جعل نوابه بها لنظره و بلغ الناصر إلى هلاكو ثم استوحش الخليفة من قطز سلطان مصر لما كان بينهما من الفتنة فخرج إلى هلاكو فأقبل عليه و استشاره في انزال الكتائب بالشام فسهل له الأمر في عساكر مصر و رجع إلى رأيه في ذلك و ترك نائبه كيبغا من أمراء التتر في خف من الجنود فبعث كيبغا إلى سلطان مصر و أساء رسله بمجلس السلطان في الخطاب بطلب الطاعة فقتلهم و سار إلى الشام فلقي كيبغا بعين جالوت فانهزمت عساكر التتر و قتل كيبغا أميرهم و السعيد صاحب الضبينة أخو الناصر كان حاضرا مع التتر فقبض عليه و قتل صبرا ثم بعث هلاكو العساكر إلى البيرة و السعيد بن لؤلؤ على حلب و معه طائفة من العساكر فبعث بعضهم لمدافعة التتر فانهزموا و حنق الأمراء على السعيد بسبب ذلك و حبسوه و ولوا عليهم حسام الدين الجوكندار و زحف التتر إلى حلب فأجفل عنها و اجتمع مع صاحبها المنصور على حمص و زحفوا إلى التتر فهزموهم و سار التتر إلى أفامية فحاصروها و هابوا وراءها و ارتحلوا إلى بلادهم و بلغ الخبر إلى هلاكو فقتل الناصر صاحب دمشق لإتهامه إياه فيما أشار به من الإستهانة بأهل مصر و كان هلاكو لما فتح الشام سنة ثمان و خمسين بلغه مهلك أخيه القان الأعظم منكوفان في مسيره إلى غزو بلاد الخطا فطمع في القانية و بادر لذلك فوجد أخاه قبلاي قد استقل فيها بعد حروب بدت بينه و بين أخيه أزبك تقدم ذكرها في أخبار القان الأعظم فشغل بذلك عن أمر الشام ثم لما يئس من القانية قنع بما حصل عنده من الأقاليم و الأعمال و رجع إلى بلاده و الأقاليم التي حصلت بيده إقليم خراسان كرسية نيسابور و من مدنه طوس و هراة و ترمذ و بلخ همذان و نهاوند و كنجة عراق العجم كرسيه أصبهان و من مدنه قزوين و قم و قاشان و شهرزور و سجستان و طبرستان و طلان و بلاد الإسماعيلية عراق العرب كرسيه بغداد و من مدنه الدينور و الكوفة و البصرة أذربيجان و كرسيه توريز و من مدنه حران و سلماس و قفجاق خوزستان كرسيها ششتر و من مدنها الأهواز و غيرها فارس كرسيها شيراز و من مدنها كش و نعمان و محمل رزون و البحرين ديار بكر كرسيها الموصل و من مدنها ميافارقين و نصيبين و سنجار و اسعرد و دبيس و حران و الرها و جزيرة ابن عمر بلاد الروم كرسيها قونية و من مدنه ملطية و أقصرا و أورنكار و سيواس و إنطاكية و العلايا ثم أجلاه أحمد الحاكم خليفة مصر فزحف إلى بغداد و هذا الحاكم هو عم المستعصم لحق بمصر بعد الواقعة و معه الصالح بن لؤلؤ بعد أن أزاله التتر من الموصل فنصب الظاهر بيبرس أحمد هذا في الخلافة سنة تسع و خمسين و بعثه لاسترجاع بغداد و معه الصالح بن لؤلؤ على الموصل فلما أجازوا الفرات و قاربوا بغداد كبسهم التتر ما بين هيت و غانة فكبسوا الخليفة و فر ابن لؤلؤ و أخواه إلى الموصل فنازلهم التتر سبعة أشهر ثم اقتحموها عليهم عنوة و قتلوا الصالح و خشى الظاهر بيبرس غائلة هلاكو ثم أن بركة صاحب الشمال قد بعث إلى الظاهر سنة ستماية و سبعين بإسلامه فجعلها الظاهر وسيلة للوصلة معه و الانجاد و أغراه بهلاكو لما بينهما من الفتنة فسار بركة لحربه و أخذ بحجزته عن الشام ثم بعث هلاكو عساكر التتر لحصار البيرة و معه درباي من أكابر أمراء المغل و أردفه بإبنه أبغا و بعث الظاهر عساكره لإنجاد أهلها فلما أطلقوا على عسكر درباي و عاينهم أجفل و ترك المخيم و الآلة و لحق بابغا منهزما فاعتقله و سخطه ثم هلك هلاكو سنة ثنتين و ستين لعشر سنين من ولايته العراق و الله أعلم (5/612)
أبغا بن هلاكو
و لما هلك هلاكو ولي مكانه ابنه أبغا و سار لأول ولايته لحرب بركة صاحب الشمال فسرح إليه بركة العساكر مع قريبه نوغاي بن ططر بن مغل بن دوشي خان و مع سنتف بن منكوفان ابن جفطاي بن جنكزخان و خام سنتف عن اللقاء و رجع منهزما و أقام نوغاي فهزم أبغا و أثخن في عساكره و عظمت منزلته بذلك عند بركة ثم بعث سنة إحدى و سبعين عساكره مع درباي لحصار البيرة و عبر الظاهر إليهم الفرات و هزمهم و قتل أميرين مع درباي و لحق درباي بأبغا منهزما فسخطه و أدال منه بأبطاي و في سنة اثنتين و سبعين زحف أبغا إلى تكدار بن موجي بن جفطاي بن جنكزخان و كان صاحبه فاستنجد بابن عمه براق بن سنتف بن منكوفان بن جفطاي فأمده بنفسه و عساكره و استنفر أبغا عساكر الروم و أميرهم طمقان و البر و اناة و التقى الجمعان ببلاد الكرج فإنهزم تكدار و لجأ إلى جبل هنالك حتى استأمن ابغا فأمنه و عهد أن لا يركب فرسا فارها و لا يمس قوسا و نمي إلى أبغا أن الظاهر صاحب مصر سار إلى بلاد الروم فبعث العساكر إليها مع قائدين من قواد المغل و هما تدوان و نغوا فسارا و ملك الظاهر قيسارية من تخوم بلادهم و بلغ الخبر إلى أبغا فجاء بنفسه إلى موضع الهزيمة و عاين مصارع قومه و لم يسمع ذكرا لأحد من عسكر البرواناة أنه صرع فاتهمه و بعث عنه بعد مرجعه فقتله ثم سار أبغا سنة ثمانين و عبر الفرات و نازل الرحبة و بعث إلى صاحب ماردين فنزل معه هناك و كان منكوتمر ابن أخي بركة ملك صراي فسار بعساكره من المغل و حشود الكرج و الأرمن و الروم و مر بقيسارية و ابلسين و أجاز الدربند إلى الرحبة فنازلها و بعث أبغا إليه بالعساكر مع أخيه منكوتمر بن هلاكو و أقام هو على الرحبة و زحف الظاهر من مصر في عساكر المسلمين فلقيهم التتر على حمص و انهزم التتر هزيمة شنعاء هلك فيها عامة عساكرهم و أجفل أبغا من حصار الرحبة و هلك أخوه منكوتمر بن هلاكو مرجعه من تلك الواقعة يقال مسموما و أنه مر ببعض أمرائه بجزيرة تسمى موعواغا كان يضطغن له بعض الفعلات فسقاه سما عند مروره به و هرب إلى مصر فلم يدركوه و أنهم قتلوا أبناءه و نساءه ثم هلك أبغا سنة إحدى بعدها و يقال مسموما أيضا على يد وزيره الصاحب شمس الدين الجوني مشير دولته و كبيرها حمله الخوف على ذلك و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/615)
تكدار بن هلاكو و يسمى أحمد
و لما توفي أبغا كما ذكرناه و كان إبنه أرغو غائبا بخراسان فبايع المغل لأخيه تكدار فأسلم و تسمى أحمد و خاطب بذلك الملوك لعصره و أرسل إلى مصر يخبرهم و يطلب المساعدة و جاء بذلك قاضي سيواس قطب الدين الشيرازي و أتابك بلاد الروم و ابن الصاحب من وراء ماردين و كان أخوه قنقرطاي مع صمغان الشحنة فبعث تكدار عن أخيه فامتنع من الإجابة و أجاره غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم قتوعده تكدار فخاف منه و سار هو و قنقرطاي إلى تكدار فقتل أخاه و حبس غياث الدين و ولى مكانه أخاه عز الدين و أدال من صمغان الشحنة بأولاطو من أمراء المغل ثم جهز العساكر إلى خراسان لقتال أخيه أرغو فسار إليهم أرغو و كبسهم و هزمهم و فتك فيهم فسار تكدار فهزم أرغو و أسره و أثخن في عساكره و قتل اثني عشر أميرا من المغل فاستوحش أهل معسكره و كانوا ينقمون عليه إسلامه فثاروا عليه و قتلوا نائبه ثم قتلوه سنة اثنتين و ثمانين و بعثوا إلى أرغوبن أبغا بطاعتهم و الله تعالى أعلم (5/616)
أرغو بن أبغا
و لما ثار المغل على تكدار و قتلوه و بعثوا بطاعتهم إلى أرغو فجاء و ولوه أمرهم فقام بسلطانه و قتل غياث الدين كنخسرو صاحب بلاد الروم في محبسه اتهمه بمداهنته في قتل عمه قنقرطاي و تقبض لأول ولايته على الوزير شمس الدين الجوني و كان متهما بأبيه و عمه فقتله و ولى على وزارته سعد اليهودي الموصلي و لقبه سعد الدولة و كان عالما بالحكمة و ولى ابنيه قازان و خربندا على خراسان لنظر نيروز أتابكه و لما فرغ من أمور ملكه و كان قد عدل عن دين الإسلام و أحب دين البراهمة من عبادة الأصنام و انتحال السحر و الرياضة له و وفد عليه بعض سحرة الهند فركب له دواء لحفظ الصحة و استدامتها فأصابه منه صرع فمات سنة سبعين و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/616)
كتخاتو بن أبغا
و لما هلك أرغو بن أبغا و ابناه قازان و خربندا غائبان بخراسان اجتمع المغل على أخيه كتخاتو فبايعوه و قدموه للملك ثم ساءت سيرته و أفحش في المناكر و إباحة الحرمات و التعرض للغلمان من أبنائهم و كان في عسكره بيدو بن عمر طرغاي بن هلاكو فاجتمع إليه أمراء المغل و بايعوه سرا و شعر بهم كتخاتو ففر من معسكره إلى جهة كرمان و ساروا في أثره فأدركوا بأعمال غانة و قتلوه سنة ثلاث و تسعين لثلاث سنين و أشهر من ولايته و الله تعالى أعلم (5/617)
بيدو بن طرغاي بن هلاكو
و لما قتل أمراء المغل كتخاتو بن أبغا بايعوا مكانه لابن عمه بيدو بن طرغاي بن هلاكو و كان قازان بن أرغو بخراسان فسار لحرب بيدو و معه الأتابك نيروز فلما تقاربا للقاء تردد الناس بينهما في الصلح على أن يقيم نيروز الأتابك عند بيدو و اصطلحا و عاد قازان ثم أرسل نيروز الأتابك إلى قازان يستحثه فسار من خراسان ولما بلغ الخبر إلى بيدو فاوض فيه نيروز الأتابك فقال أنا أكفيكه فصبر حتى أتى إليه فسرحه و لما وصل إلى قازان أطلعه على شأن أمراء بيدو و أنهم راغبون عنه و حرضه على المسير فامتعض لذلك بيدو و سار للقائهم فلما التقى الجمعان انتقض عليه أمراؤه بمداخلة نيروز فانهزم و لحق بنواحي همذان فأدرك هناك و قتل سنة خمس و تسعين لثمانية أشهر من ملكه و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/617)
قازن بن أرغو
و لما انهزم بيدو و قتل ملك على المغل مكانه قازان بن أرغو فجعل أخاه خربندا واليا على خراسان و جعل نيروز الأتابك مدبرا لمملكته و سعى لأول أمره في التدبير على طرغاي من أمرائه و مواليه من المغل الذي داخل بيدو في قتل كتخاتو الذي تولى كبر ذلك فخافه طرغاي على نفسه و كان نازلا بين بغداد و الموصل فبعث إلى كيبغا العادل صاحب مصر و الشام يستأذنه في اللحاق به ثم ولى قازان على ديار بكر أميرا من أتباعه اسمه مولان فهزمه و قتل الكثير من أصحابه و نجا إلى الشام و بعث كيبغا من تلقاه و جاء به إلى مصر و دخل مجلس الملك و رفع مجلسه فيها قبل أن يسلم و استقر هو و قومه الأوبراتية بمصر و أقطع لهم و كان ذلك داعيا إلى الفتنة بين الدولتين ثم قتل قازان الأتابك نيروز و ذلك أنه استوحش من قازان و كاتب لاشين سلطان مصر و الشام المتولي بعد كيبغا و أحسن نيروز بذلك فلحق بهراة مستجيرا بصاحبها و هو فخر الدين ابن شمس الدين كرت صاحب سجستان فقبض عليه فخر الدين و أسلمه إلى قطلو شاه فقتله و قتل قازان بعد ذلك أخويه ببغداد و هما حاجي و لكري و قفل السفير إليه بالكتاب من مصر ثم كان بعد ذلك مفر شلامس بن أيال بن منجو إلى مصر و كان أميرا في بلاد الروم على الطومار المحجر فيها و الطومار عندهم عبارة عن مائة ألف من العساكر عن قازان فارتاب به و أرسل إلى لاشين يستأذنه في اللحاق به و بعث قازان العساكر إليه فقاتلوه و انفض عنه أكثر أصحابه ففر إلى مصر و ترك أهله و ولده و بعث معه صاحب مصر العساكر لتلقي أهله و مروا بسيس فاعترضه عساكر التتر هناك فهزموه و قتلوا أمير مصر الذي معه و اعتصم هو ببعض القلاع فاستنزلوه منها و بعثوا به إلى قازان فقتله و أقام أخوه قطقطو بمصر في جملة عسكرها و نشأت بهذه كلها الفتن بين قازان و أهل مصر و نزع إليه أمراء الشام فلحق نائب دمشق و بكتمر نائب حلب و البكي الظاهري و عزاز الصالحي و استرابوا بسلطانهم الناصر محمد بن قلاون فلحقوا به و استحثوه إلى الشام و سار سنة تسع و سبعين في عساكر المغل و الأرمن و معه نائبه قطلوشاه و مولي و جاء الملك الناصر من مصر في عساكر المسلمين و لما انتهى إلى غزة أطلع على تدبير بعض المماليك عليه من أصحاب كيبغا و مداخلة الأمراء الذين هاجروا من المغل إلى مملكة مصر لهم في ذلك فسبق جميعهم و ارتحل إلى حمص للقاء التتر ثم سار فصبحهم بمرج المروج و التقى الجمعان و كانت الدبرة على المسلمين و استشهد منهم عدد و نجا السلطان إلى مصر و سار قازان على التعبية فملك حمص و استوعب مخلف السلطان فيها ثم تقدم إلى دمشق فملك المدينة و تقدم إلى قفجاق لجباية أموالها و لحصار القلعة و بها علاء الدين سنجر المنصور فامتنع و هدم ما حولها من العمران و فيها دار السعادة التي بها أيوان الملك و سار قازان إلى حلب فملكها و امتنعت عليه القلعة و عاثت عساكره في البلاد و انتهت غاراتهم إلى غزة و لما امتنعت عليه القلاع ارتحل عائدا إلى بلده و خلف قطلوشاه في عساكر لحماية البلد و حصار القلعة و يحيى بن جلال الدين لجباية الأموال و ترك قفجاق على نيابة دمشق و بكتمر على نيابة حلب و حمص و حماة و كر الملك الناصر راجعا إلى الشام بعد أن جمع العساكر و بث العطاء و أزاح العلل و على مقدمته سرمز الجاشنكير و سلار كافلا مملكته فتقدموا إلى حدود الشام و أقام هو بالصالحية و استأمن لهما قفجاق و بكتمر النائبان بدمشق وحلب و راجعا طاعة السلطان و استولى سرمز و سلار على الشام و رجع قطلوشاه إلى العراق ثم عاود قازان المسير إلى الشام سنة اثنتين و سبعين و عبر الفرات و نزل على الرحبة و كاتب أهل الشام يخادعهم و قدم قطلوشاه فأغار على القدس و بها أحياء التركمان فقاتلوه و نالوا منه و توقفوا هنالك و سار الناصر من مصر في العساكر ثالث شعبان و لقي قطلوشاه بمرج الصفر فهزمه بعد حرب شديدة و سار في إتباعهم إلى الليل فاعتصموا بجبل في طريقهم و بات المسلمون يحرسونهم ثم تسللوا و أخذ القتل منهم كل مأخذ و اعترضهم الوحل من أمامهم من بثوق بثقب لهم من نهر دمشق فلم ينج منهم أحد و قدم الفل على قازان بنواحي كيلان و مرض هنالك و مات في ذي الحجة من السنة و يقال أنه مات أسفا و الله تعالى أعلم بالصواب (5/617)
خربندا بن أرغو
و لما هلك قازان ولي بعده أخوه حربندا و ابتدا أمره بالدخول في دين الإسلام و تسمى بمحمد و تلقب غياث الدين و أقر قطلوشاه على نيابته ثم جهزه لقتال الكرد في جبال كيلان و قاتلهم فهزموه و قتلوه و ولى مكانه جوبان بن تدوان و أقام في سلطانه حسن الدين معظما للخلفاء و كتب أسماءهم على سكته ثم صحب الروافض فساء اعتقاده و حذف ذكر الشيخين من الخطبة و نقش أسماء الأئمة لاثني عشر على سكته ثم أنشأ مدينة بين قزوين و همذان و سماها السلطانية و نزلها و اتخذ بها بيتا لطيفا بلبن الذهب و الفضة و أنشأ بازائها بستانا جعل فيه أشجار الذهب بثمر اللؤلؤ و الفصوص و أجرى اللبن و العسل أنهارا و أسكن به الغلمان و الجواري تشبيها له بالجنة و أفحش في التعرض لحرمات قومه ثم سار إلى الشام سنة ثلاث عشرة و عبر الفرات و نزل الرحبة و رجع ثم هلك و يقال مات مسموما على يد بعض أمرائه سنة ست عشرة و الله تعالى أعلم (5/619)
أبو سعيد بن خربندا
و لما هلك خربندا خلف ابنه أبا سعيد طفلا صغيرا ابن ثلاث عشرة سنة فاستصغره جوبان و أرسل إلى أزبك ملك الشمال بصراي يستدعيه لملك العراقين فحذره نائبه قطلقتمر من ذلك و بايع جوبان لأبي سعيد بن خربندا على صغره و بدأ أمره بقتل أبي الطيب رشيد الدولة فضل الله بن يحيى الهمذاني المتهم بقتل أبيه فقتله و كان مقدما في العلوم و سريا في الغاية و له تاريخ جمع فيه أخبار التتر و أنسابهم و قبائلهم و كتبه مشجرا كما في كتابنا هذا و كان جوبان يومئذ بخراسان يقاتل عليها سيول بن براق بن سنتف بن ماسان بن جفطاي صاحب خوارزم أغراه أزبك صاحب الشمال بخراسان و أمده بعساكره و كان جوبان موافقا له فلما هلك خربندا طمع سيول في الاستيلاء على خراسان و كاتب أمراء المغل بدولة أبي سعيد رغبهم فأطمعوه فسار جوبان إلى الأردن و معناه بلغتهم و المخيم و انتهى إلى أبي سعيد خبر أمرائه فقتل منهم أربعين و رجع جوبان إلى خراسان سنة ثمان عشرة و قد استولى سيول عليها و على طائفة من عراق العجم و بعث إليه أزبك صاحب الشمال نائبه قطلتمر مددا في العساكر فلقيهم جوبان و كانت بينهم و حروب و انتزع جوبان ما ملكه سيول من بلاد خراسان و صالحه على ما بقي و رجع ثم سار أزبك ملك الشمال إلى مراغة فأغار عليها و غنم و رجع و أتبعه جوبان في العساكر فلم يدركه و هلك سيول سنة عشرين و ارتجع أبو سعيد ما كان بيده من خراسان و كان أزبك صاحب الشمال ينقم على أبي سعيد استبداد جوبان عليه و تحكمه في بني جمكزخان و يحرض أهل النواحي على جوبان و يتوقع له المهالك و أوصل الملوك في النواحي للمظاهرة على جوبان و سلطانه أبي سعيد حتى لقد صاهر صاحب مصر على مثل ذلك و لم يتم الصلح لأبي سعيد معه كما مر في أخبارهم و جهز أزبك العساكر سنة عشرين لحرب جوبان فحاصرهم المدني بنهر كوزل الذي في حدود ملكهم فرجعوا ثم جهز جيشا آخر مع قطلقتمر نائبه و كان جوبان نائب أبي سعيد قد ولى على بلاد الروم ابنه دمرداش فزحف سنة إحدى و عشرين إلى بلاد سيس و افتتح منها قلاعا ثلاثا و خربها و بعث إلى الملك الناصر يطلب المظاهرة في جهاد الأرمن بسيس فبعث السلطان عساكره سنة اثنتين و عشرين و معهم من المتطوعة عدد و حاصروا سيس ثم انعقد الصلح سنة ثلاث و عشرين بعدها بين الملك الناصر و بين أبي سعيد و استقامت الأحوال و حج أكابر المغل من قرابة أبي سعيد ملك التتر بالعراقين و اتصلت المهاداة بينهما و سار نائبه جوبان سنة خمس و عشرين إلى خراسان في العساكر و قد زحف إليه كبك بن سيول فجرت بينهما حروب و انهزم جوبان و استولى كبك على خراسان ثم كبسه جوبان فهزمه و أثخن في عساكره و غلبه على خراسان فعادت إلى ملكة أبي سعيد و بينما جوبان مشتغل بتلك الفتنة و الحروب في نواحي خراسان إذ بلغه الخبر بأن السلطان أبا سعيد تقبض على إبنه خواجا دمشق فلما بلغه الخبر بذلك انتقض و زحف إليه أبو سعيد فافترق عنه أصحابه و لحق بهراة فقتل بها سنة ست و عشرين و أذن أبو سعيد لولده أن ينقلوا شلوه إلى تربته التي بناها بالمدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة و السلام و نقلوه فلم يقدر دفنه بها و توقف أمير المدينة على أذن السلطان بمصر في ذلك فدفن بالبقيع و لما بلغ خبر جوبان لابنه دمرداش و هو أمير ببلاد الروم انزعج لذلك و لحق بمصر فيمن معه من الأمراء و العساكر و أقبل السلطان الملك الناصر عليه و أحله محل التكرمة و جاءت على أثره رسل أبي سعيد يطلب حكم الله فيه لسعيه في الفساد و الفتنة و أجابه السلطان إلى ذلك على أن يفعل مثل ذلك في قراسنقر النازع إليهم من أمراء الشام فأمضى ذلك فيهما جزاء بما قدمت أيديهما ثم تأكدت أسباب المواصلة و الالتحام بين هذين السلطانين بالأصهار و المهاداة و اتصل ذلك و انقطع زبون العرب و فسادهم بي المملكتين و هلك السلطان أبو سعيد سنة ست و ثلاثين و لم يعقب و دفن بالسلطانية و اختلف أهل دولته و انقرض الملك من بني هلاكو و افترقت الأعمال التي كانت في ملكهم و أصبحت طوائف في خراسان و في عراق العجم و فارس و في أذربيجان كله في عراق العرب و في بلاد الروم كما نذكر ذلك و الله وارث الأرض و من عليها و إليه يرجعون (5/620)
اضطراب دولة بني هلاكو و انقسام الملك طوائف في أعمالهم و انفراد الشيخ حسن ببغداد و استيلاء بنيه معها على توريز و ما كان لهم فيها من الملك و الدولة و ابتدائها و مصايرها
لما هلك أبو سعيد بن خربندا ملك التتر بكرسي بغداد سنة ست و ثلاثين و لم يعقب نصب أمراء المغل الوزير غياث الدين و خلع أورخان و نصب للملك موسى خان من أسباطهم و قام بدولته الشيخ حسن بن حسين بن بيبقا بن أملكان و هو ابن عمة السلطان أبي سعيد سبط أرغو بن أبغا أنزله أبو سعيد بقلعة كانج من بلاد الروم و وكل به فلما هلك أبو سعيد و انحل عقاله و ذهب أبو نور بن ماس عفى عليها و بلغه شأن أهل الدولة ببغداد فلم يرضه و نهض إليها فقتل علي ماسا القائم بالدولة و عزل موسى خان الملك و نصب مكانه محمد بن عنبرجى و هو الذي تقدم في ملوك التخت صحة نسبه إلى هلاكو و استولى الشيخ حسن على بغداد و توريز ثم سار إليه حسن بن دمرداش من مكان إمارته و إمارة أبيه ببلاد الروم و غلبه على توريز و قتل سلطانه محمد بن عنبرجي و لحق الشيخ حسن ببغداد و استقر حسن بن دمرداش في توريز و نصب للملك أخت السلطان أبي سعيد اسمها صالبيك و زوجها لسليمان خان من أسباط هلاكو و استقل بملك توريز و كان يعرف بالشيخ حسن الصغير لأن صاحب بغداد كان يشاركه في اسمه و هو أسن و أدخل في نسب الخان فميز بالكبير و ميز هذا بالصغير و لما استقل حسن الصغير بالملك و الخان عنده عجز عنه الشيخ حسن الكبير و غلبته أمم التركمان بضواحي الموصل إلى سائر بلاد الجزيرة فيقال أنه أرسل إلى الملك الناصر صاحب مصر بأن يملكه بغداد و يلحق به فيقيم عنده و طلب منه أن يبعث عساكره لذلك على أن يرهن فيهم ابنه فلم يتم ذلك لما اعترضه من الأحوال و افترقت مملكة بني هلاكو فكان هو ببغداد و الصغير بتوريز و ابن المظفر بعراق العجم و فارس و الملك حسين بخراسان و استولى على أكثرها ملك الشمال أزبك صاحب التخت بصراي من بني دوشي خان بن جنكزخان ثم استوحش الشيخ حسن من سلطانه سليمان خان فقتله و استبد ثم هلك الشيخ حسن الصغير بن دمرداش بتوريز سنة أربع و أربعين و ملك مكانه أخوه الأشرف ثم هلك الشيخ حسن الكبير ببغداد سنة سبع و خمسين و الله تعالى أعلم (5/622)
أويس بن الشيخ حسن
و لما هلك الشيخ حسن الكبير ببغداد ولي مكانه ابنه أويس و كان بتوزير الأشرف بن دمرداش فزحف إليه ملك الشمال جاني بك بن أزبك سنة ثمان و خمسين و ملكها من يده و رجع إلى خراسان بعد أن استخلف عليها ابنه و اعتقل في طريقه فكتب أهل الدولة إلى ابنه بردبيك يستحثونه للملك فأغذ السير إليهم و ترك بتوريز عاملها أخبجوخ فسار إليه أويس صاحب بغداد و غلبه عليها و ملكها ثم ارتجعها منه أخبجوخ و أقام بها فزحف إليه ابن المظفر صاحب أصبهان و ملكها من يده و قتله و انتظم في ملكه عراق العجم و توريز و تستر و خوزستان ثم سار أويس فانتزعها من يد ابن المظفر و استقرت في ملكه و رجع إلى بغداد و جلس على التخت و استفحل أمره ثم هلك سنة ست و سبعين حسين بن أويس و قد خلف بنين خمسة و هم الشيخ حسن و حسين و الشيخ علي و أبو يزيد و أحمد و كان وزيره زكريا و كبير دولته الأمير عادل كان كافلا لحسن و من اقطاعه السلطانية فاجتمع أهل الدولة و بايعوا لابنه حسين بتوزير و قتلوا الشيخ حسن و زعموا أن أباهم أويسا أوصاهم بقتله و كان الشيخ علي بن أويس ببغداد فدخل في طاعة أخيه حسين و كان قنبر علي بادك من أمرائهم نائبا بتستر و خوزستان فبايع لحسين و بعث إليه بطاعته و استولى على دولته بتوزير زكريا وزير أبيه و كان إسمعيل ابن الوزير زكريا بالشام هاربا أمام أويس فقدم على أبيه زكريا و بعث إلى بغداد ليقوم بخدمة الشيخ علي فاستخلصه و استبد عليه فغلب شجاع بن المظفر على توريز و ارتجعها منه و ما استقل حسين بتوريز كان بنو المظفر طامعين في ولايتها و قد ملكوها من قبل كما مر و انتزعها أويس منهم فلما توفي أويس سار شجاع إلى توريز في عساكره فأجفل عنها حسين بن أويس إلى بغداد و استولى عليها شجاع و لحق حسين بأخيه الشيخ علي و وزيره إسمعيل ببغداد مستجيشا بهما فسرحوا معه العساكر و رجع أدراجه إليها فهرب عنها شجاع إلى خوزستان و حصن ملكه بها و استقر فيها (5/623)
مقتل إسمعيل و استيلاء حسين على بغداد ثم ارتجاعها منه
كان إسمعيل مستبدا على الشيخ علي ببغداد كما قدمناه فتوثب به جماعة من أهل الدولة منهم مبارك شاه و قنبر و قرا محمد فقتلوه و عمه أمير أحمد منتصف إحدى و ثمانين و استدعوا قنبر علي بادك من تستر فولوه مكان اسمعيل و استبد على الشيخ علي ببغداد و نكر حسين عليهم ما آتوه و سار في عساكره من توريز إلى بغداد ففارقها الشيخ علي و قنبر على بادك إلى تستر و استولى حسين على بغداد و استمده فاتهمه بممالأة أخيه الشيخ علي و لم يمده و نهض الشيخ علي من تستر إلى واسط و جمع العرب من عبادان و الجزيرة فأجفل أحمد من واسط إلى بغداد و سار الشيخ علي في أثره فأجفل حسين إلى توريز و استوسق ملك بغداد للشيخ علي و استقر كل ببلده و الله تعالى أعلم (5/624)
انتقاض أحمد و استيلاؤه على توريز و مقتل حسين
و لما رجع حسين من بغداد إلى توريز عكف على لذاته و شغل بلهوه و استوحش منه أخوه أحمد فلحق بأردبيل و بها الشيخ صدر الدين و اجتمع إليه من العساكر ثلاثة آلاف أو يزيدون فسار إلى توريز و طرقها على حين غفلة فملكها و اختفى حسين أياما ثم قبض عليه أحمد و قتله و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/624)
انتقاض عادل و مسيره لقتال أحمد
كان الأمير عادل واليا على السلطانية و كانت من أقطاعه فلما بلغه مقتل حسين امتعض له و كان عنده أبو يزيد بن أويس فسارا إلى شجاع بن المظفر اليزدي صاحب فارس يستصرخانه على الأمير أحمد بن أويس فبعث العساكر لصريخهما و برز الأمير أحمد للقائهم ثم تقاربوا و اتفقوا أن يستقر أبو يزيد في السلطانية أميرا و يخرج الأمير عادل عن مملكتهم و يقيم عند شجاع بفارس و اصطلحوا على ذلك و عاد أبو يزيد إلى السلطانية فأقام بها و أضر أمراؤه و خاصته بالرعايا فدسوا الصريخ إلى أحمد بتوريز فسار في العساكر إليه و قبض عليه و كحله و توفي بعد ذلك ببغداد (5/625)
مقتل الشيخ علي و استيلاء أحمد على بغداد
لم قتل أحمد أخاه حسينا جمع الشيخ علي العساكر و استنفر قرا محمد أمير التركمان بالجزيرة و سار من بغداد يريد توريز فبرز أحمد للقائه و استطرد له لما كان منه فبالغ في إتباعه إلى أن خفت عساكره فكر مستميتا و كانت جولة أصيب فيها الشيخ علي بسهم فمات و أسر قرا محمد قتل و رجع أحمد إلى توريز و استوسق له ملكها و نهض إليه عادل ابن السلطان أبي سعيد يروم فرصة فيه فهزمه ثم سار أحمد إلى بغداد و قد كان استبد بها بعد مهلك الشيخ علي خواجا عبد الملك من صنائعهم بدعوة أحمد ثم قام الأمير عادل في السلطانية بدعوة أبي يزيد و بعث إلى بغداد قائدا اسمه برسق ليقيم بها دعوته فأطاعه عبد الملك و أدخله إلى بغداد ثم قتله برسق ثاني يوم دخوله و اضطرب البلد شهرا ثم وصل أحمد من توريز و خرج برسق القائد لمدافعته فانهزم و جيء به إلى أحمد أسيرا فحبسه ثم قتله و قتل عادل بعد ذلك و كفى أحمد شره و انتظمت في ملكه توزير و بغداد و تستر و السلطانية و ما إليها و استوسق أمره فيها ثم انتقض عليه أهل دولته سنة ست و ثمانين و سار بعضهم إلى تمر سلطان بني جفطاي بعد أن خرج من وراء النهر بملكه يومئذ و استولى على خراسان فاستصرخه على أحمد فأجاب صريخه و بعث معه العساكر إلى توريز فأجفل عنها أحمد إلى بغداد و استبد بها ذلك الثائر و رجع تمر إلى مملكته الأولى و طمع طغطمش ملك الشمال من بني دوشي خان في انتزاع توريز من يد ذلك الثائر فسار إليها و ملكها زحف تمر في عساكره سنة سبع و ثمانين إلى أصبهان و بعث العساكر إلى توريز فاستباحها و خربها و استولى على تستر و السلطانية و انتظمهما في أعماله و انفرد أحمد ببغداد و أقام بها (5/625)
استيلاء تمر على بغداد و لحاق أحمد بالشام
كان تمر سلطان المغل بعد أن استولى على توريز خرج عليه خارج من قومه في بلاده يعرف بقمر الدين فجاءه الخبر عنه و أن طغطمش صاحب كرسي صراي في الشمال أمده بأمواله و عساكره فكر راجعا من أصبهان إلى بلاده و عميت أنباؤه إلى سنة خمس و سبعين ثم جاءت الأخبار بأنه غلب قمرالدين الخارج عليه و محا أثر فساده ثم استولى على كرسي صراي و أعمالها ثم خطى إلى أصبهان و عراق للعجم و الري و فارس و كرمان فملك جميعها من بني المظفر اليزدي بعد حروب هلك فيها ملوكهم و بادت جموعهم و شد أحمد ببغداد عزائمه و جمع عساكره و أخذ في الاستعداد ثم عدل إلى مصانعته و مهاداته فلم يغن ذلك و ما زال تمر يخادعه بالملاطفه و المراسلة إلى أن فتر عزمه و افترقت عساكره فنهض إليه يغذ السير في غفلة منه حتى انتهى إلى دجلة و سبق النذير إلى أحمد فأسرى بغلس ليلة و حمل ما أقلته الرواحل من أمواله و ذخائره و خرق سفن دجلة و مر بنهر الحلة فقطعه و صبح مشهد علي و وافى تمر و عساكره دجلة في حادي عشر شوال سنة خمس و تسعين و لم يجد السفن فاقتحم بعساكره النهر و دخل بغداد و استولى عليها و بعث العساكر في إتباع أحمد فساروا إلى الحلة و قد قطع جسرها فخاضوا النهر عندها و أدركوا أحمد بمشهد علي و استولوا على أثقاله و رواحله فكر عليهم في جموعه و استماتوا وقتل الأمير الذي كان في إتباعه و رجع بقية التتر عنهم و نجا أحمد إلى الرحبة من تخوم الشام فأراح بها و طالع نائبها السلطان بأمره فسرح بعض خواصه لتلقيه بالنفقات و الازواد و ليستقدمه فقدم به إلى حلب و أراح بها و طرقه مرض أبطأ به عن مصر و جاءت الأخبار بأن تمر عاث في مخلفه و استصفى ذخائره و استوعب موجود أهل بغداد بالمصادرات لأغنيائهم و فقرائهم حتى مستهم الحاجة و أقفرت جوانب بغداد من العيث ثم قدم أحمد بن أويس على السلطان بمصر في شهر ربيع سنة ست و تسعين مستصرخا به على طلب ملكه و الانتقام من عدوه فأجاب السلطان صريخه و نادى في عسكره بالتجهيز إلى الشام و قد كان تمر بعدها استولى على بغداد زحف في عساكره إلى تكريت مأوى المخالفين و عش الحرابة و رصد السابلة و أناخ عليها بجموعه أربعين فحاصرها حتى نزلوا على حكمه و قتل من قتل منهم ثم خربها و أقفرها و انتشرت عساكره في ديار بكر إلى الرها و وقفوا عليها ساعة من نهر فملكوها و انتسفوا نعمها و افترق أهلها و بلغ الخبر إلى السلطان فخيم بالزيدانية أياما أزاح فيها علل عساكره و أفاض العطاء في مماليكه و استوعب الحشد من سائر أصناف الجند و استخلف على القاهرة النائب سودون و ارتحل إلى الشام على التعبية و معه أحمد بن أويس بعد أن كفاه مهمه و شرب النفقات في تابعه و جنده و دخل دمشق آخر جمادى الأولى و قد كان أوعز إلى جلبان صاحب حلب بالخروج إلى الفرات و استنفار العرب و التركمان للإقامة هناك رصدا للعدو فلما وصل إلى دمشق وفد عليه جلبان و طالعه بمهماته و ما عنده من أخبار القوم و رجع لإنفاذ أوامره و الفصل فيما يطالعه فيه و بعث السلطان على أثره العساكر مددا له مع كمشيقا الأتابك و تكلتمش أمير سلاح و أحمد بن بيبقا و كان العدو تمر قد شغل بحصار ماردين فأقام عليها أشهرا و ملكها و عاثت عساكره فيها و اكتسحت نواحيها و امتنعت عليه قلعتها فارتحل عنها إلى ناحية بلاد الروم و مر بقلاع الأكراد فأغارت عساكره عليها و اكتسحت نواحيها و السلطان لهذا العهد و هو شعبان سنة ستمائة و تسعين مقيم بدمشق مستجمع لنطاحه و الوثبة به متى استقبل جهته و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق بمنه و كرمه (5/626)
الخبر عن بني المظفر اليزدي المتغلبين على أصفهان و فارس بعد انقراض دولة بني هلاكو و ابتداء أمورهم و مصايرها
كان أحمد المظفر من أهل يزد و كان شجاعا و اتصل بالدولة أيام أبي سعيد فولوه حفظ السابلة بفارس و كان منها مبدأ أمرهم و ذلك أنه لما توفي أبو سعيد سنة ست و ثلاثين و سبعمائة و لم يعقب اضطربت الدولة و مرج أمر الناس و افترق الملك طوائف و غلب أزبك صاحب الشمال على طائفة من خراسان فملكها و استبد بهراة الملك حسين و ألان محمود فرشحه من أهل دولة السلطان أبي سعيد عاملا على أصبهان و فارس فاستبد بأمره و اتخذ الكرسي بشيراز إلى أن هلك ولي بعده ابنه أبو إسحق أمير شيخ سالكا سبيله في الإستبداد و كانت له آثار جمبلة و صنف الشيخ عضد الدين كتاب المواقف و الشيخ عماد الدين الكاشي شرح كتاب المفتاح وسموها باسمه و تغلب أيضا محمد بن المظفر على كرمان و نواحيها فصارت بيده و طمع في الإستيلاء على فارس و كان أبو إسحق أمر شيخ قد قتل شريفا من أعيان شيراز فنادى بالنكير عليه ليتوصل إلى غرض انتزاع الملك من يده و سار في جموعه إلى شيراز و مال إليه أهل البلد لنفرتهم عن أمير شيخ لفعلته فيهم فأمكنوه من البلد و ملكها و استولى على كرسيها و هرب أبو إسحق أمر شيخ إلى أصبهان و أتبعه ففر منه أيضا و ملك أصبهان و بث الطلب في الجهات حتى تقبض عليه و قتله قصاصا بالشريف الذي قتله بشيراز و كان له من الولد أربعة شاه ولي و محمود و شجاع و أحمد و توفي شاه ولي أيام أبيه و ترك ابنيه منصورا و يحيى و ملك ابنه محمود أصبهان و ابنه شجاع شيراز و كرمان و استبد عليه محمود و شجاع و خلفاه في ملكه سنة ستين و كحلاه و تولى ذلك شجاع و سار إليه محمود من أصبهان بعد أن استجاش باويس بن حسن الكبير فأمده بالعساكر سنة خمس و ستين و ملك شيراز و لحق شجاع بكرمان من أعماله و أقام بها و اختلف عليه عماله ثم استقاموا على طاعته ثم جمع بعد ثلاث سنين و رجع إلى شيراز ففارقها أخوه محمد إلى أصبهان و أقام بها إلى أن هلك سن ست و سبعين فاستضافها شجاع إلى أعماله و أطعهما لابنه زين العابدين و زوجه بابنة أويس التي كانت تحت محمود و ولى على مردى ابن أخيه شاه ولي ثم هلك شجاع سنة سبع و ثمانين و استقل ابنه زين العابدين بأصبهان و خلفه ف شيراز و فارس منصور ابن أخيه شاه ولي و كان عادل كبير دولة بني أويس بالسلطانية كما مر و لحق به منصور بن شاه ولي هاربا من شيراز أمام عمه زين العابدين فحبس ثم فر من محبسه و لحق بأحمد بن أويس مستصرخا به فصارخه و أنزله بتستر من أعماله ثم سار منها إلى شيراز ففارقها عمه زين العابدين إلى أصبهان و أخوه يحيى بن بيزد و عمهما أحمد بن محمد بن المظفر بكرمان ثم زحف تمر سلطان التتر من بني جفطاي بن جنكزخان سنة ثمان و ثمانين و ملك توريز و خربها كما مر في أخباره فأطاعه يحيى صاحب يزد و أحمد صاحب كرمان و هرب زين العابدين من أصبهان و ملكها عليه تمر فلحق بشيراز و رجع تمر إلى بلاده فيما وراء النهر و عميت أنباؤه إلى سنة خمس و تسعين فزحف إلى بلاد فارس و جمع منصور بن شاه ولي العساكر لحربه فخادعه تمر بولايته و إنكفأ راجعا إلى هراة فافترقت عساكر منصور بن شاه ولي و جاءت عيون تمر بخبر افتراقها إليه فأغذ السير و كبس منصور بن شاه ولي بظاهر شيراز و هو في قل من العساكر لا يجاوزن الفين فهرب الكثير من أصحابه إلى تمر و استمات هو و الباقون و قاتلوا أشد قتال و فقد هو في المعركة فلم يوقف له على خبر و ملك تمر شيراز و استضافها إلى أصبهان و ولى عليها من قبله و قتل أحمد بن محمد صاحب كرمان و ابنيه و ولى على كرمان من قبله و قتل يحيى بن شاه ولي صاحب يزد و ابنيه و ولي على يزد من قبله و استلحم بني المظفر و استصفى زين العابدين بن شجاع بن محمود و هرب ابنه فلحق بخاله أحمد بن أويس و هو لهذا العهد مقيم معه بمصر و الله وارث الأرض و من عليها و إليه يرجعون (5/628)
الخبر عن بني ارتنا ملوك بلاد الروم من المغل بعد بني هلاكو و الإلمام بمبادي أمورهم و مصايرهم
قد سبق لنا أن هذه المملكة كانت لبني قليج أرسلان من ملوك السلجوقية و هم الذين أقاموا فيها دعوة الإسلام و انتزعوها من يد ملوك الروم أهل قسطنطينية و استضافوا إليها كثيرا من أعمال الأرض و من ديار بكر فانفسحت أعمالها و عظمت ممالكهم و كان كرسهم بقونية و من أعمالها أقصرا و إنطاكية و العلايا و طغرل و دمر لو وقرا حصار و من ممالكهم أذربيجان و من أعمالها أقشهر و كامخ و قلعة كعونية و من ممالكهم قيسارية و من أعمالها نكره و عدا قليلة و منال و من ممالكهم أيضا سيواس و أعمالها ملكوها من يد الونشمند كما مر في أخبارهم و من أعمالها نكسار و أقاسية و توقات و قمنات و كنكرة كورية و سامسول و صغوى و كسحونية و طرخلوا و برلوا و مما استضافوه من بلاد الأرمن خلطوا و أرمينية الكبرى و أني و سلطان و أرجيس و أعمالها و من ديار بكر خرت برت و ملطية و سميساط و مسارة فكانت لهم هذه الأعمال و ما يتصل بها من الشمال إلى مدينة برصة ثم إلى مدينة خليج القسطنطينية و استفحل ملكهم فيها و عظمت دولتهم ثم طرقها الهرم و الفشل كما يطرق الدول و لما استولى التتر على ممالك الإسلام و ورثوا الدول في سائر النواحي و استقر التخت الأعظم لمنكوفان أخي هلاكو و جهز عساكر المغل سنة أربع و خمسين و ستمائة إلى هذه البلاد و عليهم بيكو من أكابر أمرائهم و على بلاد الروم يومئذ غياث الدين كنخسرو بن علاء الدين كيقباد و هو الثاني عشر من ملوكهم من ولد قطلمش فنزلوا على أرزن الروم بها سنان الدين ياقوت مولى علاء الدين فملكوها بعد حصار شهرين و استباحوها و تقدموا أمامهم و لقيهم غياث الدين بالصحراء على أقشهر و زنجان و انهزم غياث الدين و احتمل ذخيرته و عياله و لحق بقونية و استولى بيكو على مخلفه ثم سار إلى قيسارية فملكوها و هلك غياث الدين أثر ذلك و ملك بعده بعهد ابنه علاء الدين كيبقاد و أشرك معه أخويه في أمره و ها عز الدين كيكاوس و ركن الدين قليج أرسلان و عاثت عساكر التتر في البلدا فسار علاء الدين كيبقاد إلى منكوفان صاحب التخت و اختلف أخواه من بعده و غلب عز الدين كيكاوس و اعتقل أخاه ركن الدين بقونية و بعث في أثر أخيه علاء الدين من يستفسد له منكوفان فلم يحصل من ذلك على طائل و هلك علاء الدين في طريقه و كتب منكوفان بتشريك الملك بين عز الدين و ركن الدين و البلاد بينهما مقسومة فعز الدين من سيواس إلى تخوم القسطنطينية و لركن الدين من سيواس إلى أرزن الروم متصلا من جهة الشرق ببلاد التتر و أفرج عز الدين عن ركن الدين و استقر في طاعة التتر و سار بيكو في بلاد الروم قبل أن يرجع عز الدين فلقيه أرسلان دغمش من أمراء عز الدين فهزمه بيكو إلى قونية فأجفل عنها عز الدين إلى العلايا و حاصرها بيكو فملكها على يد خطيبها و خرج إلى بيكو فأسلمت زوجته على يده و منع التتر من دخولها إلا وحدانا و أن لا يتعرضوا لأحد و استقر عز الدين و ركن الدين في طاعة التتر و لهما اسم الملك و الحكم للشحنة بيكو و لما زحف هلاكو إلى بغداد سنة ست و خمسين و استنفر بيكو و عساكره فامتنع و اعتذر بمن في طريقه من طوائف الأكراد الفراسيلية و الياروقية فبعث إليه هلاكو العساكر و مروا بأذربيجان و قد أجفل أهلها و هم قوم من الأكراد فملكوها و ساروا مع بيكو إلى هلاكو و حضروا معه فتح بغداد و ما بعدها و لما نزل هلاكو حلب استعدى عز الدين و ركن الدين فحضرا معه فتحها و حضر معهما وزيرهما معين الدين سليمان البرواناة و استحسنه هلاكو و تقدم إلى ركن الدين بأن يكون السفير إليه عنه فلم يزل على ذلك ثم هلك بيكو مقدم التتر ببلاد الروم و ولي مكانه صمقار من أمراء المغل ثم اختلف الأميران عز الدين و غياث الدين سنة تسع و خمسين و استولى عز الدين على أعمال ركن الدين فسار و معه البرواناة إلى هلاكو صريخا فأمده هلاكو و انهزم عز الدين فلحق بالقسطنطينية و أقام عند صاحبها لشكري و استولى ركن الدين قليج أرسلان على بلاد الروم و امتنع التركمان الذين بتلك الأعمال بأطراف الأعمال و الثغور و السواحل و طلبوا الولاية من هلاكو فولاهم و أعطاهم الله الملك فهم الملوك بها من يومئذ كما يأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى و أقام عز الدين بالقسطنطينية و أراد التوثب بصاحبها لشكري و وشى به أخواله من الروم فاعتقله لشكري في بعض قلاعه ثم هلك و يقال أن ملك الشمال منكوتمر صاحب التخت بصراي حدثت بينه و بين صاحب القسطنطينية فتنة فغزاه و اكتسح بلاده و مر بالقلعة التي بها عز الدين معتقلا فاحتمله معه إلى صراي و هلك عنده و لحق ابنه مسعود بعد ذلك بأبغا بن هلاكو فأكرمه و ولاه على بعض القلاع ببلاد الروم ثم أن معين الدين سليمان البرواناة إرتاب بركن الدين فقتله غيلة سنة ست و ستين و نصب ابنه كنخسرو للملك و لقبه غياث الدين و كان متغلبا عليه مقيما مع ذلك على طاعة التتر و ربما كان يستوحش منهم فيكاتب سلطان مصر بالدخول في طاعته و اطلع أبغا على كتابه بذلك إلى الظاهر بيبرس فنكره و هلك صمغار الشحنة فبعث أبغا مكانه أميرين من أمراء المعل و هما تدوان و توقر فتقدما سنة خمس و سبعين إلى بلاد الشام و نزلا بابلستين و معهما غياث الدين كنجسرو و كافله البرواناة في العساكر و سار الظاهر من دمشق فلقيهم بابلستين و قد قعد البرواناة لما كان تواعد مع الظاهر عيله و هزمهم الظاهر جميعا و قتل الأميرين تدوان و توقر في جماعة من التتر و نجا البرواناة و سلطانه فلم يصب منهم أحد و استراب السلطان بالبرواناة لذلك و ملك الظاهر قيسارية كرسي بلاد الروم و عاد إلى مصر و جاء أبغا و وقف على مكانه الملحمة و رأى مصارع قومه فصدق الريبة بممالأة الظاهر و البرواناة و أصحابه فاكتسح البلاد و خربها و رجع ثم استدعى البرواناة إلى معسكره فقتله و أقام مكانه في كفالة كنجسرو أخاه عز الدين محمدا و لم يزل غياث الدين واليا على بلاد الروم و الشحنة من المغل حاكم في البلاد إلى أن ولي تكرار بن هلاكو و كان أخوه قنقرطاي مقيما ببلاد الروم مع صمغار فبعث عنه و امتنع من الوصول فأوعز إلى غياث الدين و اعتقله بارزنكان و ولي على بلاد الروم على الشحنة أولاكو من أمراء المغل و ذلك سنة إحدى و ثمانين و يقال أن أرغو بن أبغا هو الذي ولى أولاكو شحنة ببلاد الروم بعد صمغار و أن تداون و توفر إنما بعث بهما أبغا لقتال الظاهر و لم يرسلها شحنة ثم أقام مسعود بن عز الدين كيكاوس في سلطانه ببلاد الروم و الحكم لشحنة التتر و ليس له من الملك إلا اسمه إلى أن افترق و إضمحل أمره و بقي أمراء المغل يتعاقبون في الشحنة ببلاد الروم و كان منهم أول المائة الثامنة الأمير علي و هو الذي قتل ملك الأرمن هيشوش بن ليعون صاحب سيس و استعدى أخوه عليه بخربندا فأعداه و قتله كما مر في أخبار الأرمن في دولة الترك و كان منهم سنة عشرين و سبعمائة الأمير ألبغا و لي السلطان أبو سعيد على بلاد الروم دمرداش بن جوبان سنة ثلاث و عشرين و استفحل بها ملكه و جاهد الأرمن بسيس و استمد الناصر محمد بن قلاون صاحب مصر عليهم فأمده بالعساكر و افتتحوا أياس عنوة و رجعوا ثم نكب السلطان أبو سعيد نائبه جوبان بن بروان و قتله كما مر في أخبارهم و بلغ الخبر إلى دمرداش ابنه ببلاد الروم فاضطرب لذلك و لحق بمصر في عساكره و أمرائه فأقبل السلطان عليه و تلقاء بالتكرمة و الإيثار و جاءت رسل أبي سعيد في اتباعه تطلب حكم الله تعالى فيه بسعيه في الفساد و إثارة الفتنة على أن يفعل مثل ذلك في قراسنقر النازع إليهم من أمراء الشام فقتلوه و قتل دمرداش بمصر و ذهبا بما كسبا و كان دمرداش لما هرب من بلاد الروم إلى مصر ترك من أمرائه إرتنا و كان يسمى النوير اسم أبناء الملوك فبعث إلى أبي سعيد بطاعته فولاه على البلاد فملكها و نزل سيواس و اتخذها كرسي ملكه ثم استبد حسن بن دمرداش بتوريز فبايع له إرتنا ثم انتقض و كاتب الملك الناصر صاحب مصر و دخل في طاعته و بعث إليه بالولاية و الخلع فجمع له حسن بن دمرداش و سار إليه بسيواس و سار ارتنا للقائه بصحراء كسنوك و هزمه و أسر جماعة من أمرائه و ذلك سنة أربع و أربعين و استفحل ملك ارتنا من يومئذ و عجز جويان و حسن بن دمرداش عن طلبه إلى أن توفي سنة ثلاث و خمسين و أما بنوه من بعده فلا أدري من ملك منهم و لا ترتيب ولايتهم إلا أنه وقع في أخبار الترك أن السطان أوعز سنة ست و ستين إلى نائب حلب أن يسير في العساكر لإنجاد محمد بك بن إرتنا فمضوا و ظفروا و ما زال إرتنا و بنوه مستبدين ببلاد الروم و أعمالها و إقتطع لهم التركمان منها بلاد الأرمن سيس و ما إليها فاستولى عليها بنو دلقادر على خلافه و زحف إليه و هي في أيديهم لهذا العهد و لما خالف سعاروس من أمراء الترك سنة اثنتين و خمسين ظاهره قراجا بن دلقادر على خلافه و زحف إليه السلطان من مصر فافترقت جموعه و اتبعه العساكر فقتل و بعث السلطان سنة أربع و خمسين عسكرا في طلب قراجا فساروا إلى ابلستين و أجفل عنها نائبها فنهبوا أحياءه و لحق هو بابن أرتنا بسيواس فقبض عليه و بعث به إلى السلطان بمصر فقتله و اقتطع التركمان ناحية الشمال من أعمالهم إلى القسطنطينية و أثحنوا في أمم النصرانية وراءهم و استولوا على كثير من تلك الممالك وراء القسطنطينية و أميرهم لهذا العهد في عداد الملوك الأعاظم و دولتهم ناشئة متجددة و كان صبيا بسيواس منذ أعوام الثمانين و هو من أعقاب بني إرتنا فاستبد عليه قاضي البلد لما كان كافلا له بوصية أبيه ثم قتل القاضي ذلك الصبي أعوام اثنتين و تسعين و استبد بذلك و كانت هناك أحياء التتر يناهزون ثلاثين ألفا أو نحوها مقيمين بتلك النواحي دمرداش بن جوبان و من قبله من أمراء المغل فكانوا شيعة لبني إرتنا و عصابه لهم و هم الذين استنجد بهم القاضي حين وجهت إليه عساكر مصر في طلب منطاش الثائر الذي فر ثم لحق به و سارت عساكره مصر في طلبه سنة تسع و ثمانين فاستنجد القاضي بأحياء التتر هؤلاء و جاؤا لإنجاده و رجعت عساكر مصر عنهم كما تقدم ذلك كله في أخبار الترك و الحال على ذلك لهذا العهد و الله مصير الأمور بحكمته و هو على كل شيء قدير
ج ب ا
إبراهيم بن محمد بك بن ارتنا النوير عامل أبي سعيد على بلاد الروم (5/630)
الخبر عن الدولة المستجدة للتركمان في شمال بلاد الروم إلى خليج القسطنطينية و ما وراءه لبني عثمان و إخوته
قد تقدم لنا في أنساب العالم ذكر هؤلاك التركمان و إنهم من ولد يافث بن نوح أي من توغرما بن كومر يافث كذا وقع في التوراة و ذكر الفيومي من علماء بني إسرائيل و نسابتهم أن توغرماهم الخرز و أن الخزر هم التركمان أخوة الترك و مواطنهم فيما وجدناه من بحر طبرستان و يسمى بحر الخزر إلى جو في القسطنطينية و شرقها إلى ديار بكر و بعد إنقراض العرب و الأرمن ملكوا نواحي الفرات من أوله إلى مصبه في دجلة و هم شعوب متفرقون و أحياء مختلفون لا يحصرهم الضبط و لا يحويهم العد و كان منهم ببلاد الروم و جموع مستكثرة كان ملوكها يستكثرون بهم في حروبهم مع أعدائهم و كان كبيرهم فيها لعهد المائة الرابعة جق و كانت أحياؤهم متوافرة و أعدادهم متكاثرة و لما ملك سليمان بن قطلمش قولية بعد أبيه و فتح أنطاكية سنة سبع و سبعين من يد الروم طالبه مسلم بن قريش بما كان له على الروم فيها من الجزية فأنف من ذلك و حدثت بينهما الفتنة و جمع قريش العرب و التركمان مع أميرهم جق و سار إلى حرب سليمان بانطاكية فلما التقيا مال التركمان إلى سليمان لعصبية الترك و انهزم مسلم بن قريش و قتل و أقام أولئك التركمان ببلاد لروم أيام بني قطلمش موطنين بالجبال و السواحل و لما ملك التتر ببلاد الروم و أبقوا على بني قطمش ملكهم و ولوا ركن الدولة قليج أرسلان بعد أن غلب أخوه عز الدين كيكاوس و هرب إلى القسطنطينية و كان أمراء هؤلاء التركمان يومئذ محمد بك و أخاه الياس بك و صهره علي بك و قريبه سونج و الظاهر أنهم من بني جق فانتقضوا على ركن الدولة و بعثوا إلى هلاكو بطاعتهم و تقرير الأثر عليهم و أن يبعث إليهم باللواء على العادة و أن يبعث شحنة من التتر يختص بهم فأسعفهم بذلك و قلدهم و هم من يومئذ ملوك بها ثم أرسل هلاكو إلى محمد بك الأمير يستدعيه فامتنع من المسير إليه و اعتذر فأوعز هلاكو إلى الشحنة الذي ببلاد الروم إلى السلطان قليج أرسلان بمحاربته فساروا إليه و حاربوه و نزع عنه صهره علي بك و وقد على هلاكو فقدمه مكان محمد صهره و لقي محمد العساكر فانهزم و أبعد في المفر ثم جاء إلى قليج أرسلان مستامنا فأمنه و سار معه إلى قونية فقتله و استقر صهره علي بك أميرا على التركمان و فتحت عساكر التتر نوزاحي بلاد الروم إلى اسطنبول و الظاهر أن بني عثمان ملوكهم لهذا العهد من أعقاب علي بك أو أقاربه يشهد بذلك إتصال هذه الإمارة فيهم مده هذه المائة سنة و لما اضحمل أمر التتر من بلاد الروم و استقر بنو ارتنا بسيواس و أعمالها غلب هؤلاء التركمان على ما وراء الدروب إلى خليج القسطنطينية و نزل ملكهم مدينة برصا من تلك الناحية و كان يسمى أورخان بن عثمان جق فاتخذها دارا لملكهم و لم يفارق الخيام إلى القصور و إنما ينزل بخيامه في بسيطها و ضواحيها و ولي بعده ابنه مراد بك و توغل في بلاد النصرانية وراء الخليج و افتتح بلادهم إلى قريب من خليج البنادقة و جبال جنوة و صار أكثرهم ذمة و رعايا و عاث في بلاد الصقالية بما لم يعهد لمن قبله و أحاط بالقسطنطينية من جميع نواحيها حتى اعتقل ملكها من أعقاب لشكري و طلب منه الذمة و أعطاه الجزية و لم يزل على جهاد أمم النصرانية وراءه إلى أن قتله الصقالبة في حروبه معهم سنة إحدى و تسعين و سبعمائة و ولي بعده ابنه أبو يزيد و هو ملكهم لهذا العهد و قد استفحل ملكهم و استنجدت بالغز دولتهم و كان قد غلب على قطعة من بلاد الروم ما بين سيواس و بلادهم من انطاكية و العلايا بجبال البحر إلى قونية بنو قرمان من أمراء التركمان و هم الذين كانوا في حدود أرمينية وجدهم هو الذي هزم أوشين بن ليعون ملك سيس من الأرض من الأرمن سنة عشرين و سبعمائة ثم كان بين بني عثمان جق و بين بني قرمان إتصال و مصاهرة و كان ابن قرمان لهذا العهد صهر السلطان مراد بك على أخته فغلبه السلطان مراد بك على ما بيده و دخل ابن قرمون صاحب العلايا في طاعته بل و التركمان كلهم و فتح سائر البلاد و لم يبق له إلا سيواس بلد بني ارتنا في استبداد القاضي الذي عليها و ما أدرى ما الله صانع بعد ظهور هذا الملك تمر المتغلب على ملك المغل من بني جفطاي بن جنكزخان و ملك ابن عثمان لهذا العهد مستفحل بتلك الناحية الشمالية و متسع في أقطارها و مرهوب عند أمم النصرانية هنالك و دولته مستجدة عزيزة على تلك الأمم و الأحياء و الله غالب على أمره و إلى هنا انتهت أخبار الطبقة الثالثة من العرب و دولهم و هم الأمم التابعة للعرب بما تضمنه من الدول الإسلامية شرقا و غربا لهم و لمن تبعهم من العجم فلنرجع الآن إلى ذكر الطبقة الرابعة من العرب و هم المستعجمة أهل الجبل الناشيء بعد انقراض اللسان المضري و دروسه و نذكر أخبارهم ثم نخرج إلى الكتاب الثالث من الثالث في أخبار البربر و دولهم فنفرغ بفراغها من الكتاب إن شاء الله تعالى و الله ولي العون و التوفيق بمنه و كرمه
تم طبع الجزء الخامس و يليه الجزء السادس أوله الطبعة الرابعة (5/634)
الطبقة الرابعة من العرب المستعجمة أهل الجيل الناشىء لهذا العهد من بقة أهل الدولة الإسلامية من العرب
لما استقلت مضر و فرسانها و أنصارها من اليمن بالدولة الإسلامية فيمن تبع دينهم من إخوانهم ربيعة و من وافقهم من الأحياء اليمنية و غلبوا الملل و الأمم على أمورهم و انتزعوا الأمصار من أيديهم و انقلبت أحوالهم من خشونة البداوة و سذاجة الخلافة إلى عز الملك و ترف الحضارة ففارقوا الحلل و افترقوا على الثغور البعيدة و الأقطار البائنة عن ممالك الإسلام فنزلوا بها حامية و مرابطين عصبا و فرادى و تناقل الملك من عنصر إلى عنصر و من بيت إلى بيت و استفحل ملكهم في دولة بني أمية و بني العباس من بعدهم بالعراق ثم دولة بني أمية الأخرى بالأندلس و بلغوا من الترف و البذخ ما لم تبلغه دولة من دول العرب و العجم من قبلهم فانقسموا في الدنيا و نبتت أجيالهم في ماء النعيم و استأثروا مهاد الدعة و استطابوا خفض العيش و طال نومهم في ظل الغرف و السلم حتى ألفوا الحضارة و نسوا عهد البادية و انفلتت من أيديهم الملكة التي نالوا بها الملك و غلبوا الأمم من خشونة الدين و بداوة الأخلاق و مضاء المضرب
فاستوت الحامية و الرعية لولا الثقافة و تشابه الجند و الحضر إلا في الشارة و أنف السلطان من المساهمة في المجد و المشاركة في النسب فجدعوا أنوف المتطاولين إليه من أعياصهم و عشائرهم و وجوه قبائلهم و غضوا من عنان طموحهم و اتخذوا البطانة مقرهم من موالي الأعجام و صنائع الدولة حتى كثروا بهم قبيلتهم من العرب الذين أقاموا الدولة و نصروا الملة و دعموا الخلافة و أذاقوهم و بال الخلابة من القهر و ساموهم خطة الخسف و الذل فأنسوهم ذكر المجد و حلاوة العز و سلبوهم نصرة العصبية حتى صاروا أجراء على الحامية و خولا لمن استعبدهم من الخاصة و أوزاعا متفرقين بين الأمة و صيروا لغيرهم الحل و العقد و الإبرام و النقض من الموالي و الصنائع فداخلتهم أريحية العز و حدثوا أنفسهم بالملك فجحدوا الخلفاء و قعدوا بدست الأمر و النهي و اندرج العرب أهل الحماية في القهر و اختلطوا بالهمج و لم يراجعوا أحوال البداوة لبعدها و لا تذكروا عهد الأنساب لدروسها فدثروا و تلاشوا شأن من قبلهم و بعدهم سنة الله قد خلت من قبل و لن تجد لسنة الله تبديلا
و كان المولدون لتمهيد قواعد الأمر و بناء أساسه من أول الإسلام و الذين و الخلافة من بعده و الملك قبائل من العرب موفورة العدد عزيزة الأحياء فنصروا الإيمان و المللة و وطدوا أكناف الخلافة و فتحوا الأمصار و الأقاليم و غلبوا عليها الأممم و الدول أما من مضر : فقريش و كنانة و خزاعة و بنو أسد و هذيل و تميم و غطفان و سليم و هوزان و بطونها من ثقيف و سعد بن بكر و عامر بن صعصعة و من إليهم من الشعوب و البطون و الأفخاذ و العشائر و الخلفاء و الموالي و أما من ربيعة : فبنو ثعلب بن وائل و بنو بكر بن وائل و كافة شعوبهم من بني شكر و بني حنيفة و بني عجل و بني ذهل و بني شيبان و تيم الله ثم بنوا النمر من قاسط ثم عبد القيس و من إليهم و أما من اليمنية ثم من كهلان بن سبأ منهم : فأنصار الله الخزرج و الأوس إبنا قيلة من شعوب غسان و سائر قبال الأزد ثم همذان و خثعم و بجيلة ثم مذحج و كافة بطونها من عبس و مراد و زبيد و النخع و الأشعريين و بني الحرث بن كعب ثم لحى و بطونها و لخم و بطونها ثم كندة و ملوكها
و أما من حمير بن سبأ فقضاعة و جميع بطونها و من إلى هذه القبائل و الأفخاذ و العشائر و الأحلاف هؤلاء كلهم أنفقتهم الدولة الإسلامية العربية فنبا منهم الثغور و القصية و أكلتهم الأقطار المتباعدة و استلحمتهم الوقائع المذكورة فلم يبق منهم حي يطرف و لا حلة تنجع و لا عشير يعرف و لا قليل يذكر و لا عاقلة تحمل جناية و لا عصابة بصريخ إلا سمع من ذكر أسمائهم في أنساب أعقاب متفرقين في الأمصار التي ألخموها بجملتهم فتقطعوا في البلاد و دخلوا بين الناس فامتهنوا و استهينوا و أصبحوا خولا للأمراء و ريبا للواسد و عالة على الحرب و قام بالإسلام و الملة غيرهم و صار الملك و الأمر في أيدي سواهم و جلبت بضائع العلوم و الصنائع إلى غير سوقهم فغلب أعاجم المشرق من الديلم و انسلخوا فيه و الأكراد و العرب و الترك على ملكه و دولته فلم يزل مناقلة فيهم إلى هذا العهد و غلب أعاجم المغرب من زناتة و البربر على أمره أيضا فلم تزل الدول تتناقل فيهم على ما نذكره بعد إلى هذا العهد و غلب أعاجم المغرب و البربر على أمره و انقرض أكثر الشعوب الذين كان لهم الملك من هؤلاء فلم يبق لهم ذكر و انتبذ بقية هذه الشعوب من هذه الطبقة بالقفار و أقاموا أحياء بادين لم يفارقوا الحلل و لا تركوا البداوة و الخشونة فلم يتورطوا في مهلكة الترف و لا غرقوا في بحر النعيم و لا فقدوا في غيابات الأمصار و الحضارة و لهذا أنشد شاعرهم :
( فمن ترك الحضارة أعجبته ... بأي رجال بادية ترانا )
و قال المتنبي يمدح سيف الدولة و يعرض بذكر العرب الذين أوقع بهم لما كثر عيثهم و فسادهم :
( و كانوا يروعون الملوك بأن بدوا ... و أن نبتت في الماء نبت الغلافق )
( فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه ... و أبدى بيوتا من أداحي النقانق )
و أقامت هذه الأحياء في صحاؤى الجنوب من المغرب و المشرق بأفريقية و مصر و الشام و الحجاز و العراق و كرمان كما كان سلفهم من ربيعة و مضر و كهلان في الجاهلية و عتوا و كثروا و انقرض الملك العربي الإسلامي و طرق الدول الهرم الذي هو شأنها و اعتز بعض أهل هذا الجيل غربا و شرقا فاستعملتهم الدول و ولوهم الإمارة على أحيائهم و أقطعوهم في الضاحية و الأمصار و التلول و أصبحوا جيلا في العالم ناشئا كثروا سائر أهله من العجم و لهم في تلك الإمارة دول فاستحقوا أن تذكر أخبارهم و تلحق بالأحياء من العرب سلفهم ثم إن اللسان المضري الذي وقع به الإعجاز و نزل به القرآن فثوى فيهم و تبدل إعرابه فمالوا إلى العجمة و إن كانت الأوضاع في أصلها صحيحة و استحقوا أن يوصفوا بالعجمة من أجل الإعراب فلذلك قلنا فيهم العرب المستعجمة
فلنذكر الآن بقية هؤلاء الشعوب من هذه الطبقة في المغرب و المشرق و نخص منهم الأحياء الناجعة و الأقدار النابهة و نلغي المندرجين في غيرهم ثم نرجع إلى ذكر المنتقلين من هذه الطبقة إلى أفريقية و المغرب فنستوعب أخبارهم لأن العرب لم يكن المغرب لهم في الأيام السابقة بوطن و إنما انتقل إليه في أواسط المائة الخامسة أفاريق من بني هلال و سليم اختلطوا في الدول هنالك فكانت أخبارهم من أخبارها فلذلك استوعبناها و أما آخر مواطن العرب فكانت برقة و كان فيها بنو قرة بن هلال بن عامر و كان لهم في دول العبيديين أخبار و حكايتهم في الثورة أيام الحاكم و البيعة لأبي ركوة من بني أمية في الأندلس معروفة و قد أشرنا إليها في دولة العبيديين
و لما أجاز بنو هلال و سليم إلى المغرب خالطوهم في تلك المواطن ثم ارتحلوا معهم إلى المغرب كما نذكره في دخول العرب إلى أفريقية و المغرب و بقي في مواطنهم ببرقة لهذا العهد أحياء بني جعفر و كان شيخهم أوسط هذه المائة الثامنة أبو ذئب و أخوه حامد ابن حميد و هم ينسبون في المغرب تارة في العزة و يزعمون أنهم من بني كعب ابن سليم و تارة في الهيب كذلك و تارة في فزارة و الصحيح في نسبهم أنهم من مسراته إحدى بطون هوارة سمعته من كثير من نسابتهم و بعدهم فيما بين برقة و العقبة الكبيرة أولاد سلام و ما بين العقبة الكبيرة و الإسكندرية أولاد مقدم و هم بطنان :
أولاد التركية و أولاد قائد و مقدم و سلام معا ينسبون إلى لبيد فبعضهم يقول لبيد بن لعتة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر و بعضهم يقول في مقدم : مقدم بن عزاز بن كعب بن سليم
و ذكر لي سلام شيخ أولاد التركية : أن أولاد مقدم من ربيعة بن نزار و مع هؤلاء الأحياء حتى محارب ينتمون بآل جعفر و يقال إنهم من جعفر بن كلاب و هي رواحة ينتمون بآل زبيد و يقال من جعفر أيضا و الناجعة من هؤلاء الأحياء كلهم ينتمون في شأنهم إلى الواحات من بلاد القبلة و قال ابن سعيد و من غطفان في برقة مهيب و رواحة و فزارة فجعل هؤلاء من غطفان و الله أعلم بصحة ذلك
و فيما بين الإسكندرية و مصر قبائل رحالة ينتقلون في نواحي البحيرة هنالك و يعمرون أرضها بالسكنى و الفلح و يخرجون في المشاتي إلى نواحي العقبة و برقة من مراية و حوارة و زنارة إحدى بطون لواته و عليهم مغارم الفلح و يندرج فيهم أخلاط من العرب و البربر لا يحصون كثرة و بنواحي الصغير قبائل من العرب من بني هلال و بني كلاب من ربيعة و هؤلاء أحياء كثيرة و يركبون الخيل و يحملون السلاح و يعمرون الأرض بالفلاحة و يقومون بالخراج للسلطان و بينهم مع ذلك من الحروب و الفتن ما ليس يكون بين أحياء القفر
و بالصعيد الأعلى من أسوان و ما وراءها إلى أرض النوبة إلى بلاد الحبشة قبائل متعددة و أحياء متفرقة كلهم من جهينة إحدى بطون قضاعة ملؤا تلك القفار و غلبوا النوبة على مواطنهم و ملكهم و زاحموا الحبشة في بلادهم و شاركوهم في أطرافها و الذين يلون أسوان هم يعرفون بأولاد الكنز كان جدهم كنز الدولة و له مقامات مع الدول مذكورة و نزل معهم في تلك المواطن من أسوان إلى قوص بنو جعفر بن أبي طالب حين غلبهم بنو الحسن على نواحي المدينة و أخرجوهم منها فهم يعرفون بينهم بالشرفاء الجعافرة و يحترفون في غالب أحوالهم بالتجارة
و بنواحي مصر من جهة القبلة إلى عقبة أيلة أحياء جذام جمهورهم من العائد و عليهم درك السابلة بتلك الناحية و لهم على ذلك الأقطاع و العوائد من السلطان و يليهم من جهة الشرق بالكرك و نواحيها أحياء بني عقبة من جذام أيضا و رحالة ناجعة تنتهي رحلتهم إلى المدينة النبوية و عليهم درك السابلة فيما يليهم و فيما وراء عقبة أيلة إلى القلزم قبائل من قضاعة و من القلزم إلى الينبع مع قبائل من جهينة و من الينبع إلى بدر و نواحيه من زبيد إحدى بطون مذحج و لهم الأمراء بمكة من بني حسن حلف و مواخاة و فيما بين مكة و المهجم مما يلي اليمن قبائل بني شعبة من كنانة و فيما بين الكرك و غزة شرقا قبائل جذام من قضاعة في جموع وافرة ولهم أمراء أعزة يقطعهم السلطان على العسكر و حفظ السابلة و ينجعون في المشاتي إلى معان و ما يليها من أسافل نجد مما يلي تيماء و بعدهم في أرض الشام بنو حارثة بن سنبس و آل مراء من ربيعة إخوة فضل الملوك على العرب في برية الشام و العراق ونجد و أخبرني بعض أمراء حارثة بن سنبس عن بطون فلنذكر الآن خبر أولاد فضل أمراء الشام و العراق من طيء فنبين أعراب الشام جميعا (6/3)
خبر آل فضل و بني مهنا منهم و دولتهم بالشام و العراق
هذا الحي من العرب يعرفون بآل فضل و هم ما بين الشام و الجزيرة و برية نجد من أرض الحجاز ينتقلون هكذا بينها في الرحلتين و ينتهون في طيء و معهم أحياء من زبيد و كلب و هزيم و مذحج أحلاف لهم باين بعضهم في الغلب و العدد آل مراء و يزعمون أن فضلا و مراء آل ربيعة و يزعمون أيضا أن فضلا ينقسم ولده بين آل مهنا و آل علي و أن فضل كلهم كانوا بأرض حوران فغلبهم عليها آل مراء و أخرجوهم منها فنزلوا حمص و نواحيها و أقامت زبيد من أحلافهم بحوران فهم بها حتى الآن لا يفارقونها قالوا : ثم اتصل آل فضل باللد من السلطنة و ولوهم على أحياء العرب و أقطعوهم على إصلاح السابلة بين الشام و العراق فاستظهروا برياستهم على آل مراء و غلبوهم على المشاتي فصار عامة رحلتهم في حدود الشام قريبا من التلول و القرى لا ينجعون إلى البرية إلا في الأقل
و كانت معهم أحياء من أفاريق الأعراب يندرجون في لفيفهم و حلفهم من مذحج و عامر و زبيد كما كان لآل فضل إلا أن أكثر من كان من آل مراء أولئك الأحياء و أوفرهم عددا بنو حارثة من إحدى سنى بطون طيء هكذا ذكر الثقة عنهم من رجالاتهم و حارثة هؤلاء متغلبون لهذا العهد في تلول الشام لا يجاوزونها إلى القفاز و مواطن طيء بنجد قد اتسعت و كانوا أول خروجهم من اليمن نزلوا جبلي أجا و سلمى و غلبوا عليهما بني أسد و جاوروهم و كان لهم من مواطن سميراء و ميد من منازل الحاج ثم انقرض بنو أسد و ورثت طيء بلادهم فيما وراء الكرخ من أرض غفرو و كذلك ورثوا منازل تميم بأرض نجد فيما بين البصرة و الكوفة و اليمامة و كذلك و رثوا غطفان ببطن مما يلي وادي القرى
هكذا قال ابن سعيد و قال : أشهر الحجازيين منهم الآن بنو لام و بنو نبهان و الصولة بالحجاز لبني لام بين المدينة و العراق و لهم حلف مع بني الحسين أمراء المدينة
قال : و بنو صخر منهم في جهة تيماء بين الشام و خيبر قال : و غربة من طيء بنو غربة بن أفلت بن معبد بن عمر بن عنبس بن سلامان و من بعد بلادهم حي الأنمر و الأساور ورثوها من عنزة و منازلهم لهذا العهد في مصايفهم بالكبيات و في مشاتيهم مع بني لام من طيء و هم أهل غارة وصولة بين الشام و العراق و من بطونهم الأجود و البطنين و إخوانهم زبيد نازلون بالموصل فقد جعل ابن سعيد : زبيد هؤلاء من بطون طيء و لم يجعلهم من مذحج رياسة آل فضل في هذا العهد في بني مهنا و ينسبونه هكذا : كنا بن مايع بن مدسة بن عصية بن فضل بن بدر بن علي بن مفرج بن بدر بن سالم بن قصية بن بدر بن سميع و يقفون عند سميع و يقول زعماؤهم أن سميعا هذا هو الذي ولدته العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي و حاشا لله من هذه المقالة في الرشيد و أخته و في بنات كبراء العرب من طيء إلى موالي العجم من بني برمك و أمثالهم
ثم إن الموجود تميل رياسته مثل هؤلاء على هذا الحي إذا لم يكونوا من نسبهم و قد تقدم مثل ذلك في مقدمات الكتاب
و كان مبدأ رياستهم من أول دولة من بني يعقوب قال العماد الأصبهاني : نزل العادل بمرج دمشق و معه عيسى بن محمد بن ربيعة شيخ الأعراب في جموع كثيرة و كانت الرياسة فيهم لعهد الفاطميين لبني جراح من طيء و كان كبيرهم مفرج بن دغفل بن جراح و كان من أقطاعه التي معه و هو الذي قبض على اسكى مولى بني بويه لما انهزم مع مولاه بختيار بالعراق و جاء إلى الشام سنة أربع و ستين و ثلثمائة و ملك دمشق و زحف مع القرامطة لقتال العزيز بن المعز لدين الله صاحب مصر فهزمهم العزيز و هرب أفتكين فلقيه مفرج بن دغفل و جاء به إلى العزيز فأكرمه و رقاه في دولته و لم يزل شأن مفرج هذا و توفي سنة أربع و أربعمائة و كان من ولده حسان و محمود و علي و جرار و ولي حسان بعده و عظم صيته و كان بينه و بين خلفاء الفاطميين معزة و استقامة و هو الذي هزم الرملة و هزم قائدهم باروق التركي و قلته و سبى نساءه و هو الذي مدحه التهامي و يذكر المسمى و غيره أن موطىء دولة العبيديين في قرابة حسان بن مفرج هذا فضل بن ربيعة بن حازم و أخوه بدر بن ربيعة و إبنا بدر و لعل فضلا هذا هو جد آل فضل
قال ابن الأثير إن فضل بن ربيعة بن حازم كان آباؤه أصحاب السقاء و البيت المقدس و كان الفضل تارة مع الفرنج و تارة مع خلفاء مصر و نكره لذلك طغركين أتابك دمشق و كافل بني تتش فطرده من الشام فنزل على صدقة بن مزيد بالحلة و حالفه و وصله صدقة بتسعة آلاف دينار فلما خالف صدقة بن مزيد على السلطان محمد بن ملكشاه سنة خمسمائة و ما بعدها و وقعت بينهما الفتنة اجتمع له فضل هذا و قرواش بن شرف الدولة و مسلم بن قريش صاحب الموصل و بعض أمراء التركمان كانوا كلهم أولياء صدقة فصار في الطلائع بين يدي الحرب و هربوا إلى السلطان فأكرمهم و خلع عليهم و أنزل فضل بن ربيعة بدار صدقة بن مزيد ببغداد حتى إذا سار السلطان لقتال صدقة و استأذنه فضل في الخروج إلى البرية ليأخذ بحجزة صدقة فأذن له و عبر إلى الأنبار فلم يراجع السلطان بعدها كلام ابن الأثير و يظهر من كلامه و كلام المسبحي أن فضلا هذا و بدرا من آل جراح بلا شك و يظهر من سياقة هؤلاء نسبهم أن فضلا هذا هو جدهم لأنهم ينسبونه : فضل بن ربيعة بن الجراح فلعل هؤلاء نسبوا ربيعة إلى مفرج الذي هو كبير بني الجراح لبعد العهد و قلة المحافظة على مثل هذا من البادية القفر
و أما نسبة هذا الحي من آل فضل بن ربيعة بن فلاح من مفرج في طيء فبعضهم يقول : إن الرياسة في طيء كانت لأياس بن قبيصة من بني سبأ بن عمر و بن الغوث من طيء و أياس هو الذي ملكه كسرى على الحيرة بعد آل المنذر لما قتل النعمان بن المنذر و هو الذي صالح خالد بن الوليد عن الحيرة على الجزية و لم تزل الرياسة على طيء إلى بني قبيصة هؤلاء صدرا من دولة الإسلام فلعل بني الجراح و آل فضل هؤلاء من أعقابهم و إن كان انقرض أعقابهم فهم من أقرب الحي إليهم لأن الرياسة على الأحياء و الشعوب إنما تتصل في أهل العصبية و النسب كما مر أول الكتاب
و قال ابن حزم عندما ذكر أنساب طيء و أنهم لما خرجوا من اليمن مع بني أسد نزلوا جبلي أجا و سلمى و أوطنوها و ما بينهما و نزل بنو أسد ما بينهم و بين العراق و فضل كثير منهم و هم : بنو حارثة نسبة إلى أمهم و تيم الله و حبيش و الأسعد إخوتهم رحلوا على الجبلين في حرب الفساد فلحقوا بحلب و حاضر طيء و أوطنوا تلك البلاد إلا بني رومان بن جندب بن خارجة بن سعد فإنهم أقاموا بالجبلين فكانوا جبلين و لأهل حلب و حاضر طيء من بني خارجة السهيليون
فلعل هذه الأحياء الذين بالشام من بني الجراح و آل فضل من بني خارجة هؤلاء الذين ذكر ابن حزم أنهم انتقلوا إلى حلب و حاضر طيء لأن هذا الموطن أقرب إلى مواطنهم لهذا العهد من مواطن بني الجراح بفلسطين من جبلي أجا و سلمى الذي هو موضع الآخرين فالله أعلم أي ذلك يصح من أنسابهم و تحت خفارتهم بنواحي الفرات ابن كلاب بن ربيعة بن عامر دخلوا مع قبائل عامر بن صعصعة من نجد إلى الجزيرة
و لما افترق بنو عامر على الممالك الإسلامية اختص هؤلاء بنواحي حلب و ملكها منهم بنو صالح بن مرداس من بني عمر و بن كلاب ثم تلاشى ملكهم و رجعوا عنها الى الأحياء و أقاموا بالفرات تحت خفارة هؤلاء الأمراء من طيء
و أما ترتيب رياستهم على العرب بالشام و العراق منذ دولة بني أيوب العادل و إلى هذا العهد و هو آخر ست و تسعين و سبعمائة فقد ذكرنا ذلك في دولة الترك ملوك مصر و الشام و ذكرناهم واحدا بعد واحد على ترتيبهم و سنذكرهم ههنا على ذلك الترتيب فنقول : كان الأمير لعهد بني أيوب عيسى بن محمد بن ربيعة أيام العادل كما كان بعده حسام الدين مانع بن حارثة بمصر و الشام
و في سنة ثلاثين و ستمائة ولي عليهم بعده إبنه مهنا و لما ارتجع قطز بن عصية بن فضل أحد ملوك الترك بمصر و الشام من أيدي التتر و هزمهم بعين جالوت أقطع سلمية لمهنا بن مانع و انتزعها من عمل المنصور بن مظفر بن شاهنشاه صاحب حماة و لم أقف على تاريخ وفاة مهنا ثم ولي الظاهر على أحياء العرب بالشام عند ما استفحل ملك الترك و سار إلى دمشق لتشييع الخليفة الحاكم عم المستعصم إلى بغداد عيسى بن مهنا بن نافع و جر له الاقطاعات على حفظ السابلة و حبس ابن عمه زامل بن علي بن ربيعة من آل فضل على سعايته و إغرامه و لم يزل يغير على أحياء العرب و صلحوا في أيامه لأنه خالف أباه في الشدة عليهم و هرب إليه سنقر الأشقر سنة تسع و سبعين و ستمائة و كاتبوا أبغا و استحثوه لملك الشام
و توفي عيسى بن مهنا سنة أربع و ثمانين و ستمائة فولى المنصور قلاون من بعده إبنه مهنا
ثم سار الأشرف بن قلاون إلى الشام و نزل حمص و وفد عليه مهنا بن عيسى في جماعة من قومه فقبض عليه و على إبنه موسى و إخوته محمد و فضل إبني مهنا و بعث بهم إلى مصر فحسبوا بها حتى أفرج عنهم العادل كتبغا عندما جلس على التخت سنة أربع و تسعين و ستمائة و رجع إلى إمارته و كان له في أيام الناصر نصرة و استقامة و ميلة إلى ملوك التتر بالعراق و لم يحضر شيئا من وقائع غازان و لما فر أسفر و أقوش الأفرم و أصحابهما سنة عشر و سبعمائة لحقوا به و ساروا من عنده إلى خرشد و استوحش هو من السلطان و أقام في أحيائه منقبضا عن الوفادة
و وفد أخوه فضل سنة إثنتي عشرة و سبعمائة فرعا له حق وفادته و ولاه على العرب مكان أخيه مهنا و بقي مهنا مشردا ثم لحق سنة ست عشرة و سبعمائة بخرشد ملك التتر فأكرمه و أقطعه بالعراق و هلك خرشد في تلك السنة فرجع مهنا إلى أحيائه و وفد ابنه أحمد و موسى و أخوه محمد بن عيسى مستعتبين على الناصر و متطارحين عليه فأكرم و فادتهم و أنزلهم بالقصر الأبلق و شملهم بالإحسان و أعتب مهنا ورده إلى إمارته و أقطاعه و ذلك سنة سبع عشرة و سبعمائة و حج هذه السنة ابنه عيسى و أخوه محمد و جماعة من آل فضل في اثني عشر ألف راحلة ثم رجع مهنا إلى دينه في ممالأة التتر و الاجلاب على الشام و اتصل ذلك منه فنقم السلطان عليه و سخط عليه قومه أجمع و تقدم إلى أبواب الشام سنة عشرين و سبعمائة بعد مرجعه من الحج فطرد آل فضل عن البلاد و أدال منهم مالكا على عدالته بينهم و ولى منهم على أحياء العرب محمد بن أبي بكر و صرف أقطاع مهنا و ولده إلى محمد و ولده فأقام مهنا على ذلك مدة
ثم وفد سنة إحدى و ثلاثين و سبعمائة مع الأفضل بن المؤيد صاحب حماة متوسلا به و متطارحا على السلطان فأقبل عليه ورد عليه أقطاعه و إمارته
و ذكر لي بعض أمراء الكبراء بمصر فيمن أدرك وفادته أو حدث بها : أنه تجافى في هذه الوفادة من قبول شيء من السلطان حتى أنه ساق عنده النياق الحلوبة و العراب و أنه لم يغش باب أحد من أرباب الدولة ولا سأل منهم شيئا من حاجاته ثم رجع إلى أحيائه و توفي سنة أربع و ثلاثين و سبعمائة فولي ابنه مظفر الدين موسى و توفي سنة اثنتين و أربعين و سبعمائة عقب مهلك الناصر و ولي مكانه أخوه سليمان
ثم هلك سليمان سنة ثلاث و أربعين و سبعمائة فولي مكانه شرف الدين عيسى ابن عمه فضل بن عيسى ثم توفى سنة أربع و أربعين و سبعمائة بالقريتين و دفن عند قبر خالد بن الوليد و ولي مكانه أخوه سيف بن فضل ثم عزله السلطان بمصر الكامل ابن الناصر سنة ست و أربعين و سبعمائة و ولي مكانه أحمد بن مهنا بن عيسى ثم جمع سيف بن فضل و لقيه فياض بن مهنا بن عيسى و انهزم سيف ثم ولي السلطان حسن الناصر في دولته الأولى و هو في كفالة بيبغاروس أحمد بن مهنا فسكنت الفتنة بينهم ثم توفي سنة سبع و أربعين فولي مكانه أخوه فياض و هلك سنة تسع و أربعين و سبعمائة و ولي مكانه أخوه خيار بن مهنا و ولاه حسن الناصر في دولته الثانية ثم انتقض سنة خمس و ستين و سبعمائة و أقام سنتين بالقصر عاصيا إلى أن تشفع فيه نائب حماة فأعيد إلى إمارته ثم انتقض سنة سبعين و سبعمائة فولى السلطان الأشرف مكانه ابن عمه زامل بن موسى بن عيسى و جاء إلى نواحي حلب و اجتمع إليه بنو كلاب و غيرهم و عاثوا في البلاد و على حلب يومئذ قشتمر المنصوري فبرز إليهم و انتهى إلى خيمهم و استاق نعمهم و تخطى إلى الخيام فاستجاشوا بها و هزموا عساكره و قتل قشتمر ابنه في المعركة تولى هو قتله بيده و ذهب إلى القفر منتقضا فولى الأشرف مكانه ابن عمه معيقل بن فضل بن عيسى ثم بعث ابن معيقل صاحبه سنة إحدى و سبعين و سبعمائة يستأمن لخيار فأمنه ثم وفد خيار بن مهنا سنة خمس و سبعين و سبعمائة فرضي عنه السلطان و أعاده إلى إمارته ثم توفي سنة سبع و سبعين و سبعمائة فولي أخوه مالك إلى أن هلك سنة إحدى و ثمانين و سبعمائة فولى مكانه معيقل بن موسى بن عيسى و ابن مهنا شريكين في إمارتهما ثم عزلا لسنة و ولي بعير بن جابر بن مهنا و اسمه محمد و هو لهذا العهد أمير على آل فضل و جميع أحياء طيء بالشام و السلطان الظاهر لعهده يزاحمه بحجر بن محمد بن قارى حتى سخطه ثم وصل انتقاضه على السلطان و خلافه و ظاهر السلطان على موالاة محمد بن قاري فسخطه و ولى مكانهما ابن عمهما محمد بن كوكتين ابن عمه موسى بن عساف بن مهنا فقام بأمر العرب و بقي بعير منتبذا بالقفر و عجز عن الميرة لقلة ما بيده و اختلت أحواله و هو على ذلك لهذا العهد و الله ولي الأمور لا رب سواه
و لنرجع إلى ما بقي من شعوب هذه الطبقة فنقول : كان بنو عامر بن صعصعة كلهم بنجد و بنو كلاب في خناصرة و الربذة من جهات المدينة و كعب بن ربيعة فيما بين تهامة و المدينة و أرض الشام وبنو هلال بن عامر في بسائط الطائف ما بينه و بين جبل غزوان و نمير بن حامد معهم و جشم محسوبون منهم بنجد و انتقلوا كلهم في الإسلام إلى الجزيرة الفراتية فملك نمير حران و نواحيها و أقام بنو هلال بالشام إلى أن ظعنوا إلى المغرب كما نذكر في أخبارهم و بقي منهم بقية بجبل بني هلال المشهور بهم الذي فيه قلعة صرخد و أكثرهم اليوم يتعاطون الفلح و بنو كلاب بن ربيعة ملكوا أرض حلب و مدينتها كما ذكرناه و بنو كعب بن ربيعة دخلت إلى الشام منهم قبائل عقيل وقشير و جريش و جعدة فانقرض الثلاثة في دولة الإسلام و لم يبق إلا بنو عقيل
و ذكر ابن حزم : أن عددهم يفي عدد جميع فملك منهم الموصل بنو مالك بعد بني حمدان و تغلب و استولوا عليها و على نواحيها و على حلب معها ثم انقرض ملكهم و رجعوا للبادية و ورثوا مواطن العرب في كل جهة فمنهم بنو المنتفق بن عامر بن عقيل و كان بنو مالك بن عقيل في أرض تيماء من نجد و هم الآن بجهات البصرة في الآجام التي بينها و بين الكوفة المعروفة بالبطائح و الإمارة منهم في بني معروف و بالمغرب من بني المنتفق أحياء دخلوا مع هلال بن عامر يعرفون بالخلط و مواطنهم بالمغرب الأقصى ما بين فاس و مراكش
و قال الجرجاني : إن بني المنتفق كلهم يعرفون بالخلط و يليهم في جنوب البصرة إخوتهم بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر و عوف أخو المنتفق قد غلبوا على البحرين و غمارة و ملكوها من يدي أبي الحسن الأصغر بن ثعلب و كانت هذه المواطن للأزد و بني تميم و عبد القيس فورث هؤلاء أرضهم فيها و ديارهم
قال ابن سعيد : و ملكوا أيضا أرض اليمامة من بني كلاب و كان ملوكهم فيها لعهد الخمسين و الستمائة بني عصفور و كان من بني عقيل خفاجة بن عمرو بن عقيل كان انتقالهم إلى العراق فأقاموا به و ملكوا ضواحيه و كانت لهم مقامات و ذكر و هم أصحاب صولة و كثرة و هم الآن ما بين دجلة و الفرات و من عقيل هؤلاء بنو عبادة بن عقيل و منهم الأجافل لأن عبادة كان يعرف بالأجفل و هم لهذا العهد بالعراق مع بني المنتفق و في البطائح التي بين البصرة و الكوفة و واسط و الإمارة فيهم على ما يبلغنا لرجل إسمه ميان بن صالح و هو في عدد و منعه و ما أدري أهو في بني معروف أمراء البطائح بني المنتفق أو من عبادة الأجافل ؟ هذه أحوال بني عامر بن صعصعة و استيلاؤهم على مواطن العرب من كهلان و ربيعة و مضر
فأما بنو كهلان فلم يبق لهم أحياء فيما يسمع و أما ربيعة فأجازوا بلاد فارس و كرمان فهم ينتجعون هنالك ما بين كرمان و خراسان و بقيت بالعراق منهم طائفة ينزلون البطائح و انتسب إلى الكوفة منهم بنو صباح و معهم لفائف من الأوس و الخزرج فأمير ربيعة اسمه الشيخ ولي و على الأوس و الخزرج طاهر بن خضر منهم هذه شعوب الطبقة الثالثة من العرب لهذا العهد في ديار المشرق بما أدى إليه الإمكان
و نحن الآن نذكر شعوبهم الذين انتقلوا إلى المغرب : فإن أمة العرب لم يكن لهم إلمام قط بالمغرب لا في الجاهلية و لا في الإسلام لإن أمة البربر الذين كانوا به كانوا يمانعون عليه الأمم و قد غزاه افريقش بن ضبيع الذي سميت به أفريقية من ملوك التبابعة و ملكها ثم رجع عنها و ترك كتامة و صنهاجة من قبائل حمير فاستحالت طبيعتهم إلى البربر و اندرجوا في عدادهم و ذهب ملك العرب منهم ثم جاءت الملة الإسلامية و ظهر العرب على سائر الأمم بظهور الدين فسارت في المغرب و افتتحوا سائر أمصاره و مدنه و عانوا من حروب البربر شدة و قد تقدم لنا ما ذكره ابن أبي زيد من أنهم ارتدوا اثنتي عشرة مرة ثم رسخ فيهم الإسلام و لم يسكنوا بأجيالهم في الخيام و لا نزلوا أحياء لأن الملك الذي حصل لهم يمنعهم من سكنى الضاحية و يعدل بهم إلى المدن و الأمصار فلهذا قلنا إن العرب لم يوطنوا بلاد المغرب ثم أنهم دخلوا إليه في منتصف المائة الخامسة و أوطنوه و افترقوا بأحيائهم في جهاته كما نذكر الآن و نستوعب أسبابه (6/8)
الخبر عن دخول العرب من بني هلال و سليم المغرب من الطبقة الرابعة و أخبارهم هنالك
كانت بطون هلال و سليم من مضر لم يزالوا بادين منذ الدولة العباسية و كانوا أحياء ناجعة محلاتهم من بعد الحجاز بنجد فبنو سليم مما يلي المدينة و بنو هلال في جبل غزوان عند الطائف و ربما كانوا يطوفون في رحلة الصيف و الشتاء أطراف العراق و الشام فيغيرون على الضواحي و يفسدون السابلة و يقطعون على الرفاق و ربما أغار بنو سليم على الحاج أيام الموسم بمكة و أيام الزيارة بالمدينة و ما زالت البعوث تجهز و الكتائب تكتب من باب الخلافة ببغداد للإيقاع بهم وصون الحاج عن مضرات هجومهم ثم تحيز بنو سليم و الكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم و صاروا جندا بالبحرين و عمان و لما تغلب شيعة ابن عبيد الله المهدي على مصر و الشام و كان القرامطة قد تغلبوا على أمصار الشام فانتزعها العزيز منهم و غلبهم عليها و ردهم على أعقابهم إلى قرارهم بالبحرين و نقل أشياعهم من العرب من بني هلال و سليم فأنزلهم بالصعيد و في العدوة الشرقية من بحر النيل فأقاموا هناك و كان لهم أضرار بالبلاد و لما انساق ملك صنهاجة بالقيروان إلى المعز بن باديس بن المنصور سنة ثمان و أربعمائة قلده الظاهر لدين الله علي بن الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز لدين الله أمر أفريقية على عادة آبائه كما نذكره لك بعد و كان لعهد ولايته غلاما يفعة ابن ثمان سنين فلم يكن مجربا للأمور و لا بصيرا بالسياسة و لا كانت فيه عزة و أنفة ثم هلك الظاهر سنة سبع و عشرين و أربعمائة و ولي المنتصر بالله معز الطويل أمر الخلافة بما لم ينله أحد من خلفاء الإسلام يقال ولي خمسا و سبعين و قيل خمسا و تسعين و الصحيح ثلاث و سبعون لأن مهلكه كان على رأس المائة الخامسة و كانت أذن المعز بن باديس صاغية إلى مذاهب أهل السنة و ربما كانت شواهدها تظهر عليه و كبابة فرسه في أول ولايته لبعض مذاهبه فنادى مستغثيا بالشيخين أبي بكر و عمر و سمعته العامة فثاروا بالرافضة و قتلوهم بالمعتقد الحق و نادوا بشعار الإيمان و قطعوا من الأذان حي على خير العمل و أغضى عنه الظاهر من ذلك و ابنه معد المنتصر من بعده و اعتذر بالعامة فقبل و استمر على إقامة الدعوة و المهاداة و هو في أثناء ذلك يكاتب وزيرهما و حاجب دولتهما المضطلع بأمورهما أبا القاسم أحمد بن علي الجرجاني و يستميله يعرض ببني عبيد و شيعتهم و كان الجرجاني يلقب بالأقطع بما كان أقطعه الحاكم بجناية ظهرت عليه في الأعمال و انتهضته السيدة بنت الملك عمة المنتصر
فلما ماتت استبد بالدولة سنة أربع عشرة و أربعمائة إلى أن هلك سنة ست و ثلاثين و أربعمائة و ولي الوزارة بعده أبو محمد الحسن بن علي الياروزي أصله من قرى فلسطين و كان أبوه ملاحا بها فلما ولي الوزارة خاطبه أهل الجهات و لم يولوه فأنف من ذلك فعظم عليه و حنق عليه ثمال بن صالح صاحب حلب و المعز بن باديس صاحب أفريقية و انحرفوا عنه و حلف المعز لينقضن طاعتهم و ليحولن الدعوة إلى بني عباس و يمحون اسم بني عبيد من منابره ولج في ذلك و قطع أسماءهم من الطراز و الرايات و بايع القائم أبا جعفر بن القادر من خلفاء بني العباس و خاطبه و دعا له على منابره سنة سبع و ثلاثين و أربعمائة و بعث بالبيعة إلى بغداد
و وصله أبو الفضل البغدادي و حظي من الخليفة بالتقليد و الخلع و قرىء كتابه بجامع القيروان و نشرت الرايات السود و هدمت دار الإسماعيلية و بلغ الخبر إلى المستنصر معز الخليفة بالقاهرة و إلى الشيعة الرافضة من كتامة و صنائع الدولة فوجموا و طلع عليهم المقيم المقعد من ذلك و ارتكبوا في أمرهم و كان أحياء هلال هؤلاء الأحياء من جشم و الاثير و زغبة و رياح و ربيعة و عدي في محلاتهم بالصعيد كما قدمناه و قد عم ضررهم و أحرق البلاد و الدولة شررهم فأشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي اليازوري باصطناعهم و التقدم لمشايخهم و توليتهم أعمال أفريقية و تقليدهم أمرها و دفعهم إلى حرب صنهاجة ليكونوا عند نصر الشيعة و السبب في الدفاع عن الدولة فإن صدقت المخيلة في ظفرهم بالمعز و صنهاجة كانوا أولياء للدعوة و عمالا بتلك القاصية و ارتفع عدوانهم من ساحة الخلافة و إن كانت الأخرى فلها ما بعدها و أمر العرب البادية أسهل من أمر صنهاجة الملوك فتغلبوا على هدية و ثوراته و قيل إن الذي أشار بذلك و فعله و أدخل العرب إلى أفريقية إنما هو أبو القاسم الجرجاني و ليس ذلك بصحيح فبعث المستنصر وزيره على هؤلاء الأحياء سنة إحدى و أربعين و أربعمائة و أرضخ لأمرائهم في العطاء و وصل عامتهم بعيرا و دينارا لكل واحد منهم و أباح لهم إجازة النيل و قال لهم : قد أعطيتكم المغرب و ملك المعز بن بلكين الصنهاجي العبد الآبق فلا تفتقرون و كتب الباروزي إلى المغرب : أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا و أرسلنا عليها رجالا كهولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا فطمعت العرب إذ ذاك و أجازوا النيل إلى برقة و نزلوا بها و افتتحوا أمصارها و استباحوها و كتبوا لأخوانهم شرقي النيل يرغبونهم في البلاد فأجازوا إليهم بعد أن أعطوا لكل رأس دينارين فأخذ منهم أضعاف ما أخذوه و تقارعوا على البلاد فحصل لسليم الشرق و لهلال الغرب و خربوا المدينة الحمراء و أجدابية و أسمرا و سرت
و أقامت لهب من سليم و أحلافها رواحة و ناصرة و غمرة بأرض برقة و سارت قبائل دياب و عوف و زغب و جميع بطون هلال إلى أفريقية كالجراد المنتشر لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه حتى وصلوا إلى أفريقية سنة ثلاث و أربعين و أربعمائة و كان أول من وصل إليهم أمير رياح موسى بن يحيى الصنبري فاستماله المعز و استدعاه و استخلصه لنفسه و أصهر إليه و فاوضه في استدعاء العرب من قاصية وطنه للاستغلاظ على نواحي بني عمه فاستنفر القرى و أتى عليهم فاستدعاهم فعاثوا في البلاد و أظهروا الفساد في الأرض و نادوا بشعار الخليفة المستنصر و سرح إليهم من صنهاجة الأولياء فأوقعوا بها فتمخط المعز لكبره و أشاط بغضبه و تقبض على أخي موسى و عسكر بظاهر القيروان و بعث بالصريخ إلى ابن عمه صاحب القلعة القائد بن حامد بن بلكين فكتب إليه كتيبة من ألف فارس سرحهم إليه و استفرزوا عن زناتة فوصل إليه المستنصر بن حزور المغراوي في ألف فارس من قومه
و كان بالبدو من أفريقية مع الناجعة من زناتة و هو من أعظم ساداتهم و ارتحل المعز في أولئك النفر و من لف لفهم من الأتباع و الحشم و الأولياء و من في إيالتهم من بقايا عرب الفتح و حشد زناتة و البربر و صمد نحوهم في أمم لا تحصى يناهز عددهم فيما يذكر ثلاثون ألفا و كانت رياح و زغبة و عدي حيدران من جهة فاس و لما تزاحف الفريقان انخذل بقية عرب الفتح و تحيزوا إلى الهلاليين للعصبية القديمة و خانته زناتة و صنهاجة و كانت الهزيمة على المعز وفر بنفسه و خاصته إلى القيروان و انتهبت العرب جميع مخلفه من المال و المتاع و الذخيرة و الفساطيط و الرايات و قتلوا فيها من البشر ما لا يحصى يقال إن القتلى من صنهاجة بلغوا ثلاثة آلاف و ثلثمائة و في ذلك يقول علي بن رزق الرياحي كلمته و يقال إنها لابن شداد و أولها :
( لقد زار وهنا من أميم خيال ... و أيدي المطايا بالزميل عجال )
( و أن ابن باديس لأفضل مالك ... لعمري و لكن ما رجال )
( ثلاثون ألفا منهم قد هزمتهم ... ثلاثة آلاف و ذاك ضلال )
ثم نازلوه بالقيروان و طال عليه أمر الحصار و هلكت الضواحي و القرى بإفساد العرب و عيثهم و انتقام السلطان منهم بانتمائهم في ولاية العرب و لجأ إلى القيروان و أكثروا النهب و اشتد الحصار و فر أهل القيروان إلى تونس و سوسه و عم النهب في البلاد و العيث في البلاد و دخلت تلك الأرض سنة خمس و أربعين و أحاطت زغبة و رياح بالقيروان و نزل موسى قريبا من ساحة البلد و فر القرابة و الأعياص من آل زير فولاهم موسى قابس و غيرها ثم ملكوا بلاد قسطينة كلها و غزا عامل بن أبي الغيث منهم زناتة و مغراوة فاستباحهم و رجع
و اقتسمت العرب بلاد أفريقية سنة ست و أربعين و كان لزغبة طرابلس و ما يليها و لمرداس بن رياح باجة و ما يليها ثم اقتسموا البلاد ثانية فكان لهلال من تونس إلى الغرب و هم : رياح و زغبة و المعقل و جشم و قرة و الاثبج و الخلط و سفيان و تصرم الملك من يد المعز و تغلب عائد بن أبي الغيث على مدينة تونس و سباها و ملك أبو مسعود من شيوخهم مومه صلحا و عامل المعز على خلاص نفسه و صاهره ببناته ثلاثة من أمراء العرب فارس بن أبي الغيث و أخاه عائذا و الفضل بن أبي علي المرادي و قدم ابنه تميم إلى المهدية سنة ثمان و أربعين و أربعمائة و لسنة تسع بعدها بعث إلى أصهاره من العرب و ترحم بهم و لحق بهم بالقيروان و اتبعوه فركب البحر و الساحل و أصلح أهل القيروان فأخبرهم ابنه المنصور بخبر أبيه فساروا بالسودان و المنصور و جاء العرب فدخلوا البلد و استباحوه و اكتسحوا المكاسب و خربوا المباني و عاثوا في محاسنها و طمسوا من الحسن و الرونق معالمها و استصفوا ما كان لآل بلكين في قصورها و شملوا بالعيث و النهب سائر حريمها و تفرق أهلها في الأقطار فعظمت الرزية و انتشر الداء و أعضل الخطب ثم ارتحلوا إلى المهدية فنزلوها و ضيقوا عليها بمنع المرافق و إفساد السابلة ثم حاربوا زناتة من بعد صنهاجة و غلبوهم على الضواحي و اتصلت الفتنة بينهم و أغزاهم صاحب تلمسان من أعقاب محمد بن خزر و جيوشه مع وزيره أبي سعدى خليفة اليفرني فهزموه و قتلوه بعد حروب طويلة و اضطرب أمر أفريقية و خرب عمرانها و فسدت سابلتها و كانت رياسة الضواحي من زناتة و البربر لبني يفرن و مغراوة و بني ماند و بني تلومان و لم يزل هذا دأب العرب و زناتة حتى غلبوا صنهاجة و زناتة على ضواحي أفريقية و الزاب و غلبوا عليها صنهاجة و قهروا من بها من البربر و أصاروهم عبيدا و خدما بباجة و كان في هؤلاء العرب لعهد دخولهم أفريقية رجالات مذكورون
و كان من أشرفهم حسن بن سرحان و أخوه بدر و فضل بن ناهض و ينسبون هؤلاء في دريد بن الأثبج و ماضي بن مقرب و نيونة بن قرة و سلامة بن رزق في بني كثير من بطون كرفة بن الأثبج و شاقة بن الأحمير و أخوه صليصل و نسبوهم في بني عطية من كرفه و دياب بن عانم و ينسبونه في بني ثور و موسى بن يحيى و ينسبونه في مرداس رياح لا مرداس سليم فاحذر من الغلط في هذا و هو بني صفير بطن من بطون مرداس رياح و زيد بن زيدان و ينسبونه في الضحاك و مليحان بن عباس و ينسبونه في حمير و زيد العجاج بن فاضل و يزعمون أنه مات بالحجاز قبيل دخولهم إلى أفريقية و فارس بن أبي الغيث و عامر أخوه و الفضل بن أبي علي و نسبهم أهل الأخبار منهم في مرداس المقهى كل هؤلاء يذكرون في أشعارهم و كان زياد بن عامر رائدهم في دخول أفريقية و يسمونه بذلك أبا مخيبر و شعوبهم لذلك العهد كما نقلناهم زغبة و رياح و الأثبج و قرة و كلهم من هلال بن عامر و ربما ذكر فيهم بنو عدي و لم نقف على أخبارهم و ليس لهم لهذا العهد حي معروف فلعلهم دثروا و تلاشوا و افترقوا في القبائل و كذلك ذكر فيهم ربيعة و لم نعرفهم لهذا العهد إلا أن يكونوا هم المعقل كما تراه في نسبهم و كن فيهم من غير هلال كثير منفزارة و أشجع من بطون غطفان و جشم بن معاوية بن بكر بن هوزان و سلول بن مرة ابن صعصعة بن معاوية و المعقل من بطون اليمنية و عمرة بن أسد بن ربيعة بن نزار و بني ثور بن معاوية بن عبادة بن ربيعة البكاء بن عامر بن صعصعة و عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان و طرود بطن من فهم بن قيس إلا أنهم كلهم مندرجون في هلال و في الأثبج منهم خصوصا لأن الرياسة كانت عند دخولهم للأثبج و هلال فأدخلوا فيهم و صاروا مندرجين في جملتهم و فرقة من هؤلاء الهلاليين لم يكونوا من الذين أجازوا القيل لعهد البازوري أو الجرجاني و إنما كانوا من قبل ذلك ببرقة أيام الحاكم العبيدي ولهم فيها أخبار مع الصنهاجيين ببرقة و الشيعة بمصر خطوب و نسبهم إلى عبد مناف بن هلال كما ذكر شاعرهم في قوله :
( طلبنا القرب منهم و جزيل منهم ... بلا عيب من عرب سحاح جمودها )
( و بيت غرت أمره منا و بينها ... طرود أنكاد اللي يكودها )
( ماتت ثلاث آلاف مرة و أربعة ... بحرمة منا تداوي كبودها )
و قال الآخر منهم
( أيا رب خير الخلق من نائج البلا ... إلا القليل انجار مالا يجيرها )
( و خص بها قرة مناف و عينها ... ديما لأرياد البوادي تشيرها )
فذكر نسبهم في مناف و ليس في هلال مناف هكذا منفردا إنما هو عبد مناف و الله تعالى أعلم و كان شيخهم أيام الحاكم مختار بن القاسم و لما بعث الحاكم يحيى ابن علي الأندلسي لصريخ فلفول بن سعيد بن خزروق بطرابلس على صنهاجة كما نذكره في أخبار بني خزروق أوعز لهم السير معه فوصلوا إلى طرابلس و جروا الهزيمة على يحيى بن علي و رجعوا إلى برقة و بعث عنهم فامتنعوا ثم بعث لهم بالأمان و وصل وفدهم إلى الإسكندرية فقتلوا عن آخرهم سنة أربع و تسعين و ثلثمائة و كان عندهم معلم للقرآن إسمه الوليد بن هشام ينسب إلى المغيرة بن عبد الرحمن من بني أمية و كان يزعم أن لديه إثارة من علم في اختيار ملك آبائه و قبل ذلك منه البرابرة من مرامة و زناتة و لواتة و تحدثوا بشأنه فنصبه بنو قرة و ما بعده بالخلافة سنة خمس و تسعين و ثلثمائة و تغلبوا على مدينة برقة و زحف إليهم جيوش الحاكم فهزموهم و قتل الوليد بن هشام و قائدها من الترك
ثم رجعوا به إلى مصر فانهزموا و لحق الوليد بأرض النجاء من بلاد السودان ثم أخفرت ذمته وسيق إلى مصر و قتل و هدرت لبني قرة جنايتهم هذه و عفا عنهم و لما كانت سنة إثنتين و أربعمائة اعترضوا هدة باديس بن منصور ملك صنهاجة من أفريقية إلى مصر فأخذوها و زحفوا إلى برقة فغلبوا العامل عليها و فر في البحر و استولوا على برقة و لم يزل هذا شأنهم ببرقة فلما زحف إخوانهم الهلاليون من زغبة و رياح و الأثبج و اتباعهم إلى أفريقية كانوا ممن زحف معهم و كان من شيوخهم ماضي بن مقرب المذكور في أخبار هلال
و لهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى أفريقية طرق في الخبر غريبة : يزعمون أن الشريف بن هاشم كان صاحب الحجاز و يسمونه شكر بن أبي الفتوح و أنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته الجازية فأنكحه إياها و ولدت منه ولدا اسمه محمد و أنه حدث بينهم و بين الشريف مغاضبة و فتنة و أجمعوا الرحلة عن نجد إلى إفريقية و تحيلوا عليه في استرجاع هذه الجازية فطلبته في زيارة أبويها فأزارها إياهم و خرج بها إلى حللهم فارتحلوا به و بها و كتموا رحلتها عنه و موهوا عليه بأنهم يباكرون به للصيد و القنص و يروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه و صار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم ففارقوه فرجع إلى مكانه من مكة و بين جوانحه من حبها داء دخيل و أنها من بعد ذلك كلفت به مثل كلفه إلى أن ماتت من حبه
و يتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفى عن خبر قيس و كثير و يروون كثيرا من أشعارها محكمة المباني متفقة الأطراف و فيها المطبوع و المنتحل و المصنوع لم يفقد فيها من البلاغة شيء و إنما أخلوا فيها بالإعراب فقط و لا مدخل له في البلاغة كما قررناه لك في الكتاب الأول من كتابنا هذا إلا أن الخاصة من أهل العلم بالمدن يزهدون في روايتها و يستنكفون عنها لما فيها من خلل الإعراب و يحسبون أن الإعراب هو أصل البلاغة و ليس كذلك و في هذه الأشعار كثير أدخلته الصنعة و فقدت فيه صحة الرواية فلذلك لا يوثق به و لو صحت روايته لكانت فيه شواهد بآياتهم و وقائعهم مع زناتة و حروبهم و ضبط لأسماء رجالاتهم و كثير من أحوالهم لكنا لا نثق بروايتها و ربما يشعر البصير بالبلاغة بالمصنوع منها و يتهمه و هذا قصارى الأمر فيه و هم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية و الشريف خلفا عن سلف و جيلا عن جيل و يكاد القادح فيها و المستريب في أمرها أن يرمي عندهم بالجنون و الخلل المفرط لتواترها بينهم و هذا الشريف الذي يشيرون إليه هو من الهواشم و هو شكر بن أبي الفتوح الحسن بن أبي جعفر بن هاشم محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون بن عبد الله بن إدريس و أبوه الفتوح هو الذي خطب لنفسه بمكة أيام الحاكم العبيدي و بايع له بنوا الجراح أمراء طيء بالشام و بعثوا عنه فوصل إلى أحيائهم و بايع له كافة العرب ثم غلبتهم عساكر الحاكم العبيدي و رجع إلى مكة و هلك سنة ثلاثين و أربعمائة فولي بعده إبنه شكر هذا و هلك سنة ثلاث و خمسين و ولي إبنه محمد الذي يزعم هؤلاء الهلاليون أنه من الجازية هذه و تقدم ذلك في أخبار العلوية هكذا نسبه ابن حزم
و قال ابن سعيد : هو من السليمانيين من ولد محمد بن سليمان بن داود بن حسن بن الحسين السبط الذي بايع له أبو الزاب الشيباني بعد ابن طباطبا و يسمى الناهض و لحق بالمدينة فاستولى على الحجاز و استقرت إمارة ملكه في بنيه إلى أن غلبهم عليها هؤلاء الهواشم جدا قريبا من الحسن و الحسين و أما هاشم الأعلى فمشترك بين سائر الشرفاء فلا يكون مميزا لبعضهم على بعض و أخبرني من أثق به من الهلاليين لهذا العهد أنه وقف على بلاد الشريف شكر و أنها بقعة من أرض نجد مما يلي الفرات و أن ولده بها لهذا العهد و الله أعلم
و من مزاعمهم أن الجازية لما صارت إلى أفريقية و فارقت الشريف خلفه عليها منهم ماض بن مقرب من رجالات دريد و كان المستنصر لما بعثهم إلى أفريقية عقد لرجالاتهم على أمصارها و ثغورها و قلدهم أعمالها فعقد لموسى بن يحيى المرداسي على القيروان و باجة و عقد لزغبة على طرابلس و قابس و عقد لحسن بن سرحان على قسنطينة فلما غلبوا صنهاجة على الأمصار و ملك كل ما عقد له سميت الرعايا بالأمصار عسفهم و عيثهم باختلاف الأيدي إذ الوازع مفقود من أهل هذا الجيل العربي مذ كانوا فثاروا بهم و أخرجوهم من الأمصار و صاروا إلى ملك الضواحي و التغلب عليها و سيم الرعايا بالخسف في النهب و العيث و إفساد السابلة هكذا إلى هلم ولما غلبوا صنهاجة اجتهد زناتة في مدافعتهم بما كانوا أملك للبأس و النجدة بالبداوة فحاربوهم و رجعوا إليهم من أفريقية و المغرب الأوسط و جهز صاحب تلمسان من بني خزر قائده أبا سعدى اليفرني فكانت بينهم و بينه حروب إلى أن قتلوه بنواحي الزاب و تغلبوا على الضواحي في كل وجه و عجزت زناتة عن مدافعتهم بأفريقية و الزاب و صار الملتحم بينهم في الضواحي بجبل راشد و مصاب من بلاد المغرب الأوسط فلما استقر لهم الغلب وضعت الحرب أوزارها و صالحهم الصنهاجيون على خطة خسف في انفرادهم بملك الضواحي دونهم و صاروا إلى التفريق بينهم و ظاهروا الأثبج على رياح و زغبة و حشد الناصر بن علناس صاحب القلعة لمظاهرتهم و جمع زناتة
و كان فيهم المعز بن زيري صاحب فاس من مغراوة و نزلوا الأربس جميعا و لقيهم رياح و زغبة بسببه و مكر المعز بن زيري المغراوي بالناصر و صنهاجة بدسيسة زعموا من تميم بن المعز بن باديس صاحب القيروان فجر عليهم الهزيمة و استباحت العرب و زناتة خزائن الناصر و مضاربه و قتل أخوه القاسم و نجا إلى قسنطينة و رياح في اتباعه ثم لحق بلقلعة فنازلوها و خربوا جنباتها و أحبطوا عروشها و عاجوا على ما هنالك من الأمصار ثم طبنة و المسيلة فخربوها و أزعجوا ساكنيها و عطفوا على المنازل و القرى و الضياع و المدن فتركوها قاعا صفصفا أقفر من بلاد الجن و أوحش من جوف العير و غوروا المياه و احتطبوا الشجر و أظهروا في الأرض الفساد و هجروا ملوك أفريقية و المغرب من صنهاجة و ولاة أعمالها في الأمصار و ملكوا عليهم الضواحي يتحيفون جوانبهم و يقعدون لهم بالمرصاد و يأخذون لهم الأتاوة على التصرف في أوطانهم
و لم يزل هذا دأبهم حتى لقد هجر الناصر بن علناس سكنى القلعة و اختط بالساحل مدينة بجاية و نقل إليها ذخيرته و أعدها لنزله و نزلها المنصور ابنه من بعده فرارا من ضيم هذا الجيل و فسادهم بالضواحي إلى منعة الجبال و توعر مسالكها على رواحلهم و استقروا بها بعد و تركوا القلعة و كانوا يختصون الأثبج من هؤلاء الأحياء بالرياسة سائر أيامهم ثم افترق جمع الأثبج و ذهبت بذهاب صنهاجة دولتهم و لما غلب الموحدون سائر الدول بالمغرب في سني إحدى و أربعين و خمسمائة و زحف شيخ الموحدين عبد المؤمن إلى أفريقية وفد عليه بالجزائر أميران منهم لذلك العهد أبو الجليل بن شاكر أمير الأثبج و حباس بن مشيفر من رجالات جشم فتلقاهما بالمبرة و عقد لهما على قومهما و مضى لوجهه و فتح بجاية سنة تسع و خمسين و خمسماية
ثم انتقض العرب الهلاليون على دعوة صنهاجة و كان أمير رياح فيهم محرز بن زناد ابن بادخ إحدى بطون بني علي بن رباح فلقيتهم جيوش الموحدين بسيطف و عليهم عبد الله بن عبد المؤمن فتوافقوا ثلاثا علقوا فيهما رواحلهم و أثبتوا في مستنقع الموت أقدامهم ثم انتقض في الرابعة جمعهم و استلحمهم الموحدون و غلبوا عليهم و غنموا أموالهم و أسروا رجالهم و سبوا نساءهم و اتبعوا أدبارهم إلى محصن سبتة ثم راجعوا من بعد ذلك بصائرهم و استكانوا لعز الموحدين و غلبهم فدخلوا في دعوتهم و تمسكوا بطاعتهم و أطلق عبد المؤمن أسراهم و لم يزالوا على استقامتهم ولم يزل الموحدون يستنفرونهم في جهادهم بالأندلس و ربما بعثوا إليهم في ذلك المخاطبات الشعرية فأجازوا مع عبد المؤمن و يوسف ابنه كما هو في أخبار دولتهم و لم يزالوا في استقامتهم إلى أن خرج عن الدولة بنو غانية المسوفيون أمراء ميورقة أجازوا البحر في أساطيلهم إلى بجاية فكسبوها سنة إحدى و ثمانين و خمسمائة لأول دولة المنصور و كشفوا القناع في نقض طاعة الموحدين و دعوا العرب بها فعادت هيف إلى أديانها
و كانت قبائل جشم و رياح و جمهور الأثبج من هؤلاء الهلاليين أسرع إجابة إليها و لما تحركت جيوش الموحدين إلى أفريقية لكف عدوانهم تحيزت قبائل زغبة إليهم و كانوا في جملتهم و لحق بنو غانية بفاس و معهم كافة جشم و رياح و لحق بهم جل قومهم من مسوفة و إخوانهم لمتونة من أطراف البقاع و استمسكوا بالدعوة العباسية التي كان أمراؤهم بنو تاشفين بالمغرب يتمسكون بها فأقاموها فيمن إليهم من القبائل و المسالك و نزلوا بفاس و طلبوا من الخليفة ببغداد المستنصر تجديد العهد لهم بذلك و أوفدوا عليه كاتبهم عبد البر بن فرسان فعقد لابن غانية و أذن له في حرب الموحدين و اجتمعت إليه قبائل بني سليم بن منصور و كانوا جاؤا على أثر الهلاليين عند إجازتهم إلى أفريقية و ظاهره على أمره ذلك قراقوش الأرمني و نذكر أخباره في أخبار الميروقي فاجتمع لعلي بن غانية من الملثمين و العرب و العجم عساكر جمة و غلب الضواحي و افتتح بلاد الجريد و ملك قفصة و توزر و نفطة و نهض اليه المنصور من مراكش يجر أمم المغرب من زناتة و المصامدة و زغبة من الهلاليين و جمهور الأثبج فأوقعوا بمقدمة بفحص غمرة من جهات قفصة ثم زحف إليهم من تونس فكانت الكرة عليهم و فل جمعهم و اتبع آثارهم إلى أن شردهم إلى صحاري برقة و انتزع بلاد قسنطينة و قابس و قفصة من أيديهم و راجعت قبائل جشم و رياح من الهلاليين طاعته و لا ذوا بدعوته فنفاهم إلى المغرب الأقصى و أنزل جشم ببلاد تامسنا و رياحا ببلاد الهبط و أزغار مما يلي سواحل طنجة إلى سلا و كانت تخوم بلاد زناتة منذ غلبهم الهلاليون على أفريقية و ضواحيها أرض مصاب ما بين صحراء أفريقية و صحراء المغرب الأوسط و بها قصور جددها فسميت بإسم من ولي خطتها من شعوبهم و كان بنو بادين و زناتة و هم بنو عبد الواد و توجين و مصاب و بقوز و دال و بنو راش شيعة الموحدين منذ أول دولتهم فكانوا أقرب إليهم من أمثالهم بنو مرين و أنظارهم كما يأتي و كانوا يتولون من رياف المغرب الأوسط و تلوله ما ليس يليه أحد من زناتة و يجوسون خلاله في رحلة الصيف بما لم يؤذن لأحد ممن سواهم في مثله حتى كأنهم من جملة عساكر الموحدين و حاميتهم و أمرهم إذ ذاك راجع إلى صاحب تلمسان من سادة القرابة و نزل هذا الحي من زغبة مع بني بادين هؤلاء لما اعتزلوا إخوانهم الهلاليين و تحيزوا إلى فئتهم و صاروا جميعا قبلة المغرب الأوسط من مصاب إلىجبل راشد بعد أن كان قسمتهم الأولى بقابس و طرابلس و كانت لهم حروب مع أولاد خزرون أصحاب طرابلس و قتلوا سعيد بن خزرون فصاروا إلى هذا الوطن الآخر لفتنة إبن غانية و انحرافهم عنه إلى الموحدين و انعقد ما بينهم و بين بني بادين حلف على الجوار و الذب عن الأوطان و حمايتها من معرة العدو في احتيال غرتها و انتهاز الفرصة فيها فتعاقدوا على ذلك و اجتوروا و أقامت زغبة في القفار و بنو بادين بالتلول و الضواحي ثم فر مسعود بن سلطان بن زمام أمير الرياحيين من بلاد الهبط و لحق ببلاد طرابلس و نزل على زغبة و ذياب من قبائل بني سليم و وصل إلى قراقيش بن رياح و حصر معه طرابلس حين افتتحها و هلك هنالك و قام إلى الميروني و لحق و لقيه بالحملة فهزمه و قتل الكثير من قومه
و انهزمت طائفة من قوم محمد بن مسعود منهم : ابنه عبد الله و ابن عمه حركات بن أبي الشيخ بن عساكر بن سلطان وشيخ من شيوخ قرة فضرب أعناقهم و فر يحيى بن غانية إلى مسقطة من الصحراء و استمرت على ذلك أحوال هذه القبائل من هلال و سليم و اتباعها و نحن الآن نذكر أخبارهم و مصائر أمورهم و نعددهم فرقة فرقة و نخص منهم بالذكر من كان لهذا العهد بحيه و ناجعته و نطوي ذكر من انقرض منهم و نبدأ بذكر الأثبج لتقدم رياستهم أيام صنهاجة كما ذكرناه ثم نقفي بذكر جشم لأنهم معدودون فيهم ثم نذكر رياحا و زغبة ثم المعقل لأنهم من أعداء هلال ثم نأتي بعدهم بذكر سليم لأنهم جاؤا منبعدهم و لله الخلاق القديم (6/17)
الخبر عن الأثبج و بطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة
كان هؤلاء الأثبج من الهلاليين أوفر عددا و أكثر بطونا و كان التقدم لهم في جملتهم و كان منهم الضحاك و عياض و مقدم و العاصم و الطيف و دريد و كرفة و غيرهم حسما يظهر في نسبهم و في دريد بطنان توبة و عنز و يقولن بزعمهم إن أثبج هو ابن ربيعة ابن نهيك بن هلال فكرفة هو ابن الأثبج و كان لهم جمع و قوة و كانوا أحياء غزيرة من جملة الهلاليين الداخلين لأفريقية و كانت مواطنهم حيال جبل أوراس من شرقية و لما استقر أمر الأثبج بأفريقية على غلب صنهاجة على الضواحي و وقعت الفتنة بينهم و لذلك أن حسن بن سرحان و هو من دريد قتل شبانة بن الأحمير من كرفة غيلة فطوت كرفة له على الهائم
ثم إن أخته الجازية غاضبت زوجها ماضي بن مقرب بن قرة و لحقت بأخيها فمنعها منه فاجتمعت قرة و كرفة على فتنة حسن و قومه و ظاهرتهم عياض و لم تزل الفتنة إلى أن قتل حسن بن سرحان قتله أولاد شبانة بن الأحيمر و ثأروا منه بأبيهم ثم كان الغلب بعده لدريد على كرفة و عياض و قرة و استمرت الفتنة بين هؤلاء الأمالح و افترق أمرهم و جاءت دولة الموحدين و هم على ذلك الشتات و الفتنة و كانت لبطونهم ولاية لصنهاجة فلما ملك الموحدون أفريقية نقلوا منهم إلى المغرب العاصم و مقدما و قرة و توابع لهم من جشم و أنزلوا جميعهم بالمغرب كما نذكر و اعتزت رياح بعدهم بأفريقية و ملكوا ضواحي قسنطينة و رجع إليهم شيخهم مسعود بن زمام من المغرب فاعتز الزواودة على الأمراء و الدول و ساء أثرهم فيها و غلبوا بقايا الأثابج فنزلوا قرى الزاب و قعدوا عن الطعن و أوطنوا بالقرى و الآطام و لما نبذ بنو أبي حفص العهد للزواودة كما يأتي في أخبارهم و استجاش عليهم بنو سليم و أنزلوهم القيروان اصطنعوا كرفة من بطون الأثابج فكانوا حربا لرياح و شيعة للسلطان و أقطعتهم الدولة لذلك جباية الجانب الشرقي من جبل أوراس و كثيرا من بلاد الزاب الشرقية حيث كانت محلاتهم الشتوية حتى إذا اختل ريح الدولة و أخلقت جدتها و اعتزت رياح عليها و ملكوا المجالات على من يظعن فيها نزل كرفة هؤلاء بجبل أوراس حيث إقطاعاتهم و سكنوه حللا متفرقة و اتخذوه وطنا و ربما يظعن بعضهم إلى تخوم الزاب كما نذكر عن بطونهم و هم بطون كثيرة فأولهم : بنو محمد بن كرفة و يعرفون بالكلبية و أولاد سهيب بن محمد بن كليب و يعرفون بالشبه و أولاد صبيح بن فاضل بن محمد بن كليب و يعرفون بالصبحة و أولاد سرحان بن فاضل أيضا و يعرفون بالسرحانية و هؤلاء هم المودعات و هم موطنون بجبل أوراس مما يلي زاب تهودا ثم أولاد نافت بن فاضل و هم أهل الرياسة في كرفة و لهم أقطاعات السلطان التي ذكرناها و هم ثلاثة أفخاذ : أولاد مساعد و أولاد ظافر و أولاد قطيفة و الرياسة أخص بأولاد مساعد في أولاد علي بن جابر بن فتاح بن مساعد بن نابت و أما بنو محمد و المروانة فهم ظواعن جائلة في القفار تلقاء مواطن أولاد نابت و يكتالون الحبوب لأقواتهم من زروع أهل الجبل و أولاد نابت و ربما يستعملهم صاحب الزاب في تصاريف أمره من عسكر و إخفار و غير ذلك من أعراضه و أما دريد فكانوا أعز الأثبج و أعلاهم كعبا بما كانت الرياسة على الأثبج كلهم عند دخولهم إلى أفريقية لحسن بن سرحان بن وبرة إحدى بطونهم و كانت مواطنهم ما بين ولد العناب إلى قسنطينة إلى طارف مصقلة و ما يحاذيها من القفر و كانت بينهم و بين كرفة الفتنة التي هلك فيها حسن بن سرحان كما ذكرناه و قبره هنالك و كانوا بطونا كثيرة منهم أولاد عطية بن دريد و أولاد سرور بن دريد و أولاد جار الله من ولد عبد الله بن دريد و توبة من ولد عبد الله أيضا و هو توبة بن جبر ابن عطاف بن عبد الله و كانت لهم بين هلال رياسة كثيرة و مدحهم شعراؤهم بشعر كثير فمن ذلك قول بعض شعرائهم :
( دريد ذات سراة البد و للجود منقع ... كما كل أرض منقع الماء خيارها )
( تحن إلى أوطان مرة ناقتي لكن معها ... جملة دريد كان موارها )
( و هم عربوا الأعراب حتى تعربت ... بنوف المعالي ما ينفي قصارها )
( و تركوا طريق النار برهة و قد ... كان ما تقوى المطايا حجارها )
فأما أولاد عطية فكانت رياستهم في أولاد بني مبارك بن حباس و كانت لهم تلة ابن حلوف من أرض قسنطينة ثم دثروا و تلاشوا و غلبتهم توبة على تلة ابن حلوف زحفوا إليها من مواطنهم بطارق مصقلة فملكوها و ما إليها ثم عجزوا عن رحلة القفر و تركوا الإبل و اتخذوا الشاء و البقر و صاروا في عداد القبائل الغارمة و ربما طالبهم السلطان بالعسكرة معه فيعينون له جندا منهم و رياستهم في أولاد و شاح بن عطوة بن عطية ابن كمون بن فرج بن ثوبة و في أولاد مبارك بن عابر بن عطية بن عطوة و هم على ذلك لهذا العهد و يجاورهم أولاد سرور و أولاد جار الله على سننهم في ذلك
فأما أولاد و شاح فرياستهم لهذا العهد منقسمة بين سجم بن كثير بن جماعة بن و شاح و بين أحمد بن خليفة بن رشاش بن وشاح و أما أولاد مبارك بن عابد فرياستهم أيضا منقسمة بين نجاح بن محمد بن منصور بن عبد بن مبارك و عبد الله بن أحمد بن عنان بن منصور ورثها عن عمه راجح بن عثمان بن منصور و أما أولاد جار الله فرياستهم في ولد عنان بن سلام منهم و أما العاصم و مقدم و الضحاك و عياض فهم أولاد مشرف بن أثبج و لطيف و هو ابن سرح بن مشرف و كان لهم عدد و قوة بين الأثابج و كان العاصم و مقدم انحرفوا عن طاعة الموحدين إلى ابن غانية فأشخصهم يعقوب المنصور إلى المغرب و أنزلهم تامستا مع جشم ويأتي خبرهم و بقيت عياض و الضحاك بمواطنهم بأفريقية فعياض نزلوا بجبل القلعة قلعة بني حماد و ملكوا قبائله و غلبوهم على أمرهم و صاروا يتولون جبايتهم ولما غلبت عليهم الدولة بمظاهرة رياح صاروا إلى المدافعة عن تلك الرعايا و جبايتهم للسلطان و سكنوا ذلك الجبل فطوله من المشرق إلى المغرب ما بين ثنية غنية و القصاب إلى وطن بني يزيد بن زغبة فأولهم مما يلي غنية للمهاية و رياستهم في أولاد ديفل و معهم بطن منهم يقال لهم الزير و بعدهم المرتفع و الخراج من بطونهم
فأما المرتفع فثلاثة بطون : أولاد تبان و رياستهم في أولاد محمد بن موسى و أولاد حناش و رياستهم في بني عبد السلام و أولاد عبدوس و رياستهم في بني صالح و يدعى أولاد حناش و أولاد تبار جميعا أولاد حناش و أما الخراج فرياستهم لأولاد زائدة بني عباس بن خفير و يجاور الخراج من جانب الغرب أولاد صخر و أولاد رحمة من بطون عياض و هم مجاورون لبني يزيد بن زغبة في آخر وطن الأثابج من الهلاليين و أما الضحاك فكانوا بطونا كثيرة و كانت رياستهم مفترقة بين أميرين منهم و هما أبو عطية و كلب بن منيع و غلب كلب أبا عطية على رياسة قبيلتهما الأول دولة الموحدين فارتحل فيما زعموا إلى المغرب و سكن صخر سجلماسة و كانت له فيها آثار حتى قتله الموحدون أو غربوه إلى الأندلس هكذا ينقل أصحاب أخبارهم و بقي تجمعهم بالزاب حتى غلب مسعود بن زمام و الزواودة عليهم و أصاروهم في جملتهم ثم عجزوا عن الطعن و نزلوا بلاد الزاب و اتخذوا بها المدن فهم على ذلك لهذا العهد و أما لطيف فهم بطون كثيرة منهم اليتامى و هم أولاد كسلان بن خليفة بن لطيف بني ذوي مطرف و ذوي أبي الخليل و ذوي حلال بن معافى و منهم اللقامنة أولاد لقمان بن خليفة بن لطيف و منهم : أولاد جرير بن علوان بن محمد بن لقمان و نزار بن معن بن محيا و إليه يرجع نسب بني مزنى الولاة بالزاب لهذا العهد و كانت لهؤلاء كثرة و نجعة ثم عجزوا عن الطعن و غلبهم على الضواحي الزواودة من بعدهم لما قل جمعهم و افترق ملوكهم و صار إلى المغرب من صار منهم من جمهور الأثبج فاهتضموا و عليهم رياح و الزواودة فنزلوا بلاد الزاب و اتخذوا بها الآطام و المدن مثل الدوسن و غريبوا و تهدوه و نقموه و بادس و هم لهذا العهد من جملة الرعايا الغارمة لأمير الزاب و لهم عجمة منذ رياستهم القديمة لم يفارقوها و هم على ذلك العهد و بينهم في قصورهم بالزاب فتن متصلة بين المتجاورين منهم و حروب و قتل و عامل الزاب يدرأ بعضا ببعض و يستوفي جبايته منهم جميعا و الله خير الوارثين
و يلحق بهؤلاء الأثبج العمور و غلب على الظن أنهم من ولد عمرو بن عبد مناف بن هلال أخوة قرة بن عبد مناف و ليسوا من ولد عمر بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال لأن رياحا و زغبة و الأثبج من أبي ربيعة و لا نجد بينهم انتماء بالجملة و نجد بينهم وبين قرة و غيرهم من بطون هلال الانتماء دل على أنهم لعمرو بن عبد مناف أو يكونون من عمر بن روينة بن عبد الله بن هلال و كلهم معروف ذكره ابن الكلبي و الله أعلم بذلك و هم بطنان : قرة و عبد الله و ليس لهم رياسة على أحد من هلال و لا ناجعة تظعن لقلتهم و افتراق ملتهم إنما هم ساكنون بالضواحي و الجبال و فيهم الفرسان و أكثرهم رجالة و مواطنهم ما بين جبل أوراس شرقا إلى جبل راشد و كان كل ذلك من ناحية المصنة و الصحراء و أما التلول فهم مرفوعون عنها بقلتهم و خوفهم من حامية الدول فتجدهم أقرب إلى موطن القفر و الجدب
فأما بنو قرة منهم فبطن متسع إلا أنهم مفترقون في القبائل و المدن و حدانا و بنو عبد الله منهم على رياسة فيهم و هم : عبد الله بن علي و بنوه محمد و ماضي بطنان و ولد محمد عنان و عزيز بطنان و ولد عنان شكر و فارس بطنان من ولد شكر أولاد يحيى ابن سعيد بن بسيط بن شكر بطن أيضا فأما أولاد فارس و أولاد عزيز و أولاد ماضي فموطنهم بسفح جبل أوراس المطل على بسكرة قاعدة الزاب متصلين كذلك غربا إلى مواطن غمرة و هم في جوار رياح و تحت أيديهم و خول لأولاده و خصوصا من الزواودة المتولين موطنهم بالمجال لصاحب الزاب عليهم طاعة لقرب جواره و حاجتهم إلى سلطانه فيصرفهم لذلك في حاجته متى عنت من إخفار العير و مقارفة مدن الزاب مع رجله و غير ذلك
و أما أولاد شكر و هم أكبر رياسة فيهم فنزلوا جبل راشد و كانوا فريقين فنزلوا و احتربوا و غلب اولاد محيا بن سعيد منهم أولاد زكرير و دفعوهم عن جبل راشد فصاروا إلى جبل كسال محاذيه من ناحية الغرب و أوطنوه و اتصلت فتنتهم معهم على طول الأيام و افتتحهم رجال زغبة باقتسام المواطن فصار أولاد يحيى أهل جبل راشد في إيالة سويد بن زغبة و أحلافا لهم و أولاد ذكرى أهل جبل كسال في إيالة بني عامر و أحلافا لهم و ربما يقتحمون بادية زغبة مع أهل المصر أحلافا لهم في فتنتهم كما نذكر في أخبار زغبة و كان شيخهم من أولاد يحيى فيما قرب من عهدنا عامر بن أبي يحيى بن محيا و كان له فيهم ذكر و شهرة و كان ينتحل العبادة و حج و لقي بمصر شيخ الصوفية لعصره يوسف الكوراني و أخذ عنه لقن طرق هدايته و رجع إلى قومه و عاهدهم على طريقته و نحلته فاتبعه الكثير منهم و غزا المفسدون من بادية النضر في جواره و جاهدهم إلى أن اغتالوا بعض الأيام في الصيد فقتلوه و كان شيخ أولاد زكرير يغمور بن موسى بن بوزير بن زكرير و كان يسامي عامرا و يناهضه في شرفه إلا أن عامرا كان أسود منه بنحلة العبادة و الله مصرف الأمور و الخلق (6/30)
الخبر عن جشم الموطنين بسائط المغرب و بطونهم من هذه الطبقة
هؤلاء الأحياء بالمغرب لهذا العهد فيهم بطون من قرة و العاصم و مقدم و الأثبج و جشم و الخلط و غلب عليهم جميعا اسم جشم فعرفوا به و هم : جشم بن معاوية ابن بكر بن هوازن و كان أصل دخولهم إلى المغرب أن الموحدين لما غلبوا على أفريقية أذعنت لهم هؤلاء القبائل من العرب طوعا و كراهية ثم كانت فتنة ابن غانية فأجلبوا فيها و انحرفوا عن الموحدين و ارجعوا الطاعة لعهد المنصور فنقل جمهور هؤلاء القبائل إلى المغرب ممن كثرة و شوكة و ظواعن ناجعة فنقل العاصم و مقدم من بطون الأثبج و معهم بطون و نقل جشم هؤلاء الذين غلب اسمهم على من معهم من الأحياء و أنزلهم تامستا و نقل رياح و أنزلهم الهبط فنزل جشم بتامستا البسيط الأفيح ما بين سلا و مراكش أوسط بلاد المغرب الأقصى و أبعدها عن الثنايا المفضية إلى القفار لإحاطة جبل درن بها و شموخه بأنفه حذاءها و وشوج أراقه حجرا عليها فلم ينتجعوا بعدها قفرا و لا بعدوا رحلة و أقاموا بها أحياء حلولا و افترقت جيوشهم بالمغرب إلى الخلط و سفيان و بني جابر
و كانت الرياسة لسفيان من بينهم في أولاد جرمون سائر أيام الموحدين و لما وهن أمر بني عبد المؤمن و فشلوا و ذهبت ريحهم استكثروا بجموعهم فكانت لهم سورة غلب و اعتراز على الدولة بكثرتهم و قرب عهدهم بالبداوة و خربوا ما بين الأعياص و ظاهروا الخلافة و أكثروا الفساد و سائر آثارهم باقية
و لما اقتحم بنو مرين بلاد المغرب على الموحدين و ملكوا فاس و قريتها لم تكن فيه حامية أشد منهم بأسا و من رياح لقرب العهد بالبداوة فكانت لهم معهم وقائع و حروب استلحمهم فيها بنو مرين إلى أن حق الغلب و استكانوا لعز بني مرين وصولتهم و أعطوهم صفقة الطاعة و أصهر بنو مرين منهم إلى الخلط في بنت بني مهلهل فكان في جملة مرين و كانت لهم الجولة للملك و استقرت رياسة جشم و كثرهم في الخلط منهم في بنت مهلهل بعد أن كانت على عهد الموحدين في سفيان
ثم ضربت الأيام ضرباتها و أخلقت جدتهم و فشلوا و ذهبت ريحهم و نسوا عهد البداوة و الناجعة و صاروا في عداد القبائل الغارمة للجباية و العسكرة مع السلطان و لنذكر الآن فرقهم الأربع و أحياء كل واحدة منها و نحق الكلام في أنسابهم فليست راجعة إلى جشم على ما يتبين و لكن الشهرة بهذا النسب متصلة و الله أعلم بحقائق الأمور
هذه قبائل معدودة في جشم و جشم المعهود هو جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن أو لعله جشم آخر من غيرها و كان شيخهم المشهور لعهد المأمون و بنيه جرمون بن عيسى و نسبه فيما يزعم بعض المؤرخين أيام الموحدين في بني قرة و كانت بينهم و بين الخلط شيعة للمأمون و بينه فصار سفيان لذلك شيعة يحيى بن الناصر منازعه في الخلافة بمراكش ثم قتل الرشيد مسعود بن حميدان شيخ الخلط كما نذكره بعد فصاروا إلى يحيى بن الناصر و صار سفيان إلى الرشيد ثم ظهر بنو مرين بالمغرب و اتصلت حروبهم مع الموحدين و نزع جرمون سنة ثمان و ثلاثين و ستمائة عن الرشيد و لحق بمحمد بن عبد الحق أمير بني مرين حياء مما وقع له معه و ذلك سنة ثمان و ثلاثين و ستمائة و ذلك أنه نادمه ذات ليلة حتى سكر و حمل عليه و هو سكران يرقص طربا ثم أفاق فندم و فر إلى محمد بن عبد الحق و ذلك سنة ثمان و ثلاثين و ستمائة و هلك سنة تسع و ثلاثين بعدها و علا كعب كانون ابنه من بعده عند السعيد و خالف عليه عند نهوضه إلى بني مرين سنة ثلاث و أربعين و ستمائة و رجع إلى أزمور فملكها
وفت ذلك في عضد السعيد فرجع عن حركته و قصد كانون بن جرمون ففر أمامه و حضر حركته إلى تامز ردكت و قتل قبل مهلكه بيوم قتله الخلط في فتنة وقعت بينهم في محلة السعيد و هي التي جرت عليها تلك الواقعة و أقام بأمر سفيان من بعده أخوه يعقوب بن جرمون و قتل محمد ابن أخيه كانون وقام بأمر سفيان و حضر مع المرتضي حركة أمان ايملولين سنة تسع و أربعين و ستمائة فرحل عن السلطان و اختل عسكره فرجع فاتبعه بنو مرين و كانت الهزيمة ثم رجع المرتضى و عفا له عنها ثم قتله سنة تسع و خمسين و ستمائة مسعود وعلي أبناء أخيه كانون بثأر أبيهما و لحقا بيعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين و قدم المرتضى ابنه عبد الرحمن فعجز عن القيام بأمره فقد عمه عبيد الله بن جرمون فعجز فقدم مسعود بن كانون و لحق عبد الرحمن ببني مرين
ثم تقبض المرتضى على يعقوب بن قيطون شيخ بني جابر و قدم عوضا منه يعقوب بن كانون السفياني ثم راجع عبد الرحمن بن يعقوب سنة أربع و خمسين و ستمائة فتقبض عليه و اعتقل و أقام مسعود بن كانون شيخا على سفيان و كان لابني عمه معه ظهور و هما : حطوش و عيسى أبناء يعقوب بن جرمون و نزع مسعود عن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة ست و ستين و ستمائة ابن عبد الحق و لحق بمسكورة و شب نار الفتنة و الحرب و أقيم حطوش بن يعقوب مقامه إلى أن هلك سنة تسع و ستين و ستمائة فولي مكانه أخوه عيسى و هلك مسعود بمسكورة سنة ثمانين و ستمائة و لحق ابنه منصور بن مسعود بالسكسيوي إلى أن راجع الخدمة أيام يوسف بن يعقوب و وفد عليه بعسكره من حصار تلمسان سنة ست و سبعمائة فتقبله
و اتصلت الرياسة على سفيان في بني جرمون هؤلاء إلى عهدنا و أدركت شيخا لعهد السلطان أبي عنان يعقوب بن علي بن منصور بن عيسى بن يعقوب بن جرمون بن عيسى و كان سفيان هؤلاء حيا حلولا بأطراف تامستا مما يلي أسفى و ملك بسائطها الفسيحة عليهم الخلط و بقي من أحيائهم الحرث و الكلابية ينتجعون أرض السوس و قفاره و يطلبون ضواحي بلاد جاجة من المصامدة فبقيت فيهم لذلك شدة و بأس و رياستهم في أولاد مطاوع من الحرث و طال عيثهم في ضواحي مراكش و إفسادهم فلما استبد سلطان مراكش الأمير عبد الرحمن بن أبي فلفوس علي ابن السلطان أبي على سنة ست و سبعين و سبعمائة كما نذكر استخلصهم و رفع منزلتهم و استقدمهم بعض أيامه للعرض بفرسانهم و رجلهم على العادة و شيخهم منصور بن يعيش من أولاد مطاع و تقبض عليهم أجمعين و قتل من قتل منهم و أودع الآخرين سجونه فذهبوا مثلا في الأيام و حصدت شوكتهم و الله قادر على ما يشاء (6/37)
الخلط من جشم
هذا القبيل يعرف بالخلط و هم في عداد جشم هؤلاء لكن المعروف أن الخلط بنو المنتفق من بني عامر بن عقيل بن كعب كلهم شيعة للقرامطة بالبحرين و لما ضعف أمر القرامطة استولى بنو سليم على البحرين بدعوة الشعية ثم غلبهم عليها بنو أبي الحسين من بطون تغلب بالدعوة العباسية فارتحل بنو سليم و بنو المنتفق من هؤلاء المسمون بالخلط إلى أفريقية و بقي سائر بني عقيل بنواحي البحرين إلى أن غلب منهم على التغلبيين بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف بن مالك بن عوف بن عامر بن عقيل إخوة الخلط هؤلاء لأنهم في المغرب منسوبون إلى جشم تخليطا في النسب ممن يحققه من العوام
و لما أدخلهم المنصور إلى المغرب كما قلنا استقروا ببسائط تامستا فكانوا أولي عدد و قوة و كان شيخهم هلال بن حميدان بن مقدم بن محمد بن هبيرة بن عواج لا نعرف من نسبه أكثر من هذا فلما و لي العادل بن منصور خالفوا عليه و هزموا عساكره و بعث هلال ببيعته إلى المأمون سنة خمس و عشرين و ستمائة و اتبعه الموحدون في ذلك و جاء المأمون و ظاهروه على أمره و تحيز أعداؤهم سفيان إلى يحيى بن القاص منازعة و لم يزل هلال مع المأمون إلى أن هلك في حركة سبتة و بايع بعده لابنه الرشيد و جاء به إلى مراكش و هزم سفيان و استباحهم
ثم هلك هلال و ولي أخوه مسعود و خالف على الرشيد عمر بن أوقاريط شيخ الهساكرة من الموحدين و كان صديقا لمسعود بن حميدان فاغراه بالخرف على اكسز السلطان فخالف و حاول عليه الرشيد حتى قدم عليه بمراكش و قتله في جماعة من قومه سنة اثنتين و ثلاثين و ستمائة و ولي أمر الخلط بعده يحيى ابن أخيه هلال و مر بقومه إلى يحيى بن القاص و حصروا مراكش و معهم ابن أوقاريط و خرج الرشيد إلى سجلماسة و استولوا على مراكش و عاثوا فيها ثم جاء الرشيد سنة ثلاث و ثلاثين و ستمائة و غلبهم عليها و لحق ابن أوقاريط بالأندلس
و أبدى علي بن هود بيعة الخلط و علموا أنها حيلة من ابن أوقاريط و أنه تخلص من الورطة فطردوا عنهم يحيى بن القاص إلى معقل و راجعوا الرشيد فقبض على علي و وشاح ابني هلال و سجنهم بأزمور سنة خمس و ثلاثين و ستمائة ثم أطلقهم ثم غدر بعد ذلك بمشيختهم بعد الاستدعاء و التأنيس و قتلهم جميعا مع عمر بن أوقاريط كان أهل اشبيلية بعثوا به إليه ثم حضروا مع السعيد في حركته إلى بني عبد الواد و جروا عليه الواقعة حتى قتل فيها بفتنتهم مع سفيان يومئذ فلم يزل المرتضى يعمل الحيلة فيهم إلى أن تقبض على أشياخهم سنة إثنتين و خمسين و ستمائة و قتلهم و لحق عواج بن هلال ببني مرين و قدم المرتضى عليهم علي بن أبي من بيت الرياسة فيهم ثم رجع عواج سنة أربع و خمسين و ستمائة و أغزاه علي بن أبي علي فقتل في غزاته
ثم كانت واقعة أم الرجلين على المرتضى سنة ستين و ستمائة فرجع علي بن أبي علي إلى بني مرين ثم صار الخلط كلهم إلى بني مرين و كانت الرياسة فيهم بأول السلطان لبني مرين لمهلهل بن يحيى من مقدم و أصهر إليه يعقوب بن عبد الحق فانكحه ابنته التي كان منها ابنه السلطان أبو سعيد و لم يزل مهلهل عليهم إلى أن هلك سنة خمس و تسعين و ستمائة ثم ابنه عطية و كان لعهد السلطان أبي سعيد و ابنه أبو الحسن و بعثه سفيرا إلى سلطان مصر الملك الناصر
و لما هلك قام بأمره أخوه عيسى بن عطية ثم ابن أخيهما زمام بن إبراهيم بن عطية و بلغ إلى المبالغ من العز و الترف و الدالة على السلطان و القرب من مجلسه إلى أن هلك فولي أمره ابنه أحمد بن إبراهيم ثم أخوه سليمان بن إبراهيم ثم أخوهما مبارك على مثل حالهم أيام السلطان أبي عنان و من بعده إلى أن كانت الفتنة بالمغرب بعد مهلك السلطان أبي سالم و استولى على المغرب أخوه عبد العزيز و أقطع ابنه أبا الفضل ناحية مراكش فكان مبارك هذا معه
و لما تقبض على أبي الفضل تقبض على مبارك و أودع السجن إلى أن غلب السلطان عبد العزيز على عامر بن محمد و قتله فقتل معه مبارك هذا لما كان يعرف به من صحابته و مداخلته في الفتن كما يذكر في أخبار بني مرين و ولي ابنه محمد على قبيل الخلط إلا أن الخلط إلا أن اليوم دثرت كأن لم تكن بما أصابهم من الخصب و الترف منذ مائتين من السنين بذلك البسيط الأفيح زيادة للعز و الدعة فأكلتهم السنون و ذهب بهم اترف و الله غالب على أمره (6/40)
بنو جابر بن جشم
بنو جابر هؤلاء من عداد بالمغرب و ربما يقال إنهم من سدراتة إحدى فرق زناتة أولواتة و الله أعلم بذلك و كان لهم أثر في فتنة يحيى بن الناصر بما كانوا معه من أحزابه و لما هلك يحيى بن الناصر سنة ثلاث و ثلاثين و ستمائة بعث الرشيد بقتل شيخهم قائد بن عامر و أخيه فائد و ولي بعده يعقوب بن محمد بن قيطون ثم اعتقله يغلو قائد الموحدين بعثه المرتضى لذلك و قدم يعقوب بن جرموق و ولي مشيخة بني جابر إسمعيل بن يعقوب بن قيطون ثم تحيز بنو جابر هؤلاء من أحياء جشم إلى سفح الجبل بتادلا و ما إليها يجاورون هناك صناكة الساكنين بقشتة و هضابه من البربر فيسهلون إلى البسيط تارة و يأوون إلى الجبل في حلف البربر و جوارهم أخرى إذا دهمتهم مخافة من السلطان أو ذي غلبة
و الرياسة فيهم لهذه العصور في ورديقة من بطونهم أدركت شيخا عليهم لعهد السلطان أبي عنان حسين بن علي الورديقي ثم هلك و أقيم مقامه الناصر ابنه و لحق بهم الوزير الحسن بن عمر عند نزوعه عن السلطان إلى سالم سنة ستين و سبعمائة و نهضت إليهم عساكر السلطان فأمكنوا منه ثم لحق بهم أبو الفضل ابن السلطان أبي سالم عند فراره عن مراكش سنة ثمان و ستين و نازله السلطان عبد العزيز و أحيط به فلحق برابرة صناكة من قومه ثم أمكنوا منه على مال حمل إليهم و لحق بهم أثناء هذه الفتن الأمير عبد الرحمن يغلوس على عهد الوزير عمر بن عبد الله المتغلب على المغرب
و طلبه عمر فأخرجوه عنهم و طال بذلك مراس الناصر هذا للفتنة فنكرته الدولة و تقبض عليه و أودع السجن فمكث فيه سنين و تجافت الدول عنه من بعد ذلك و أطلق عقالهم ثم رجع من المشرق فتقبض عليه الوزير أبو بكر بن غازي المستبد بالمغرب على ابن السلطان عبد العزيز و أودعه السجن و نقلوا الرياسة عن بني علي هؤلاء و الله يقلب الليل و النهار و قد يزعم كثير من الناس أن ورديقة من بني جابر ليسوا من جشم و أنهم بطن من بطون سدراته إحدى شعوب لواتة من البربر و يستدلون على ذلك بمواطنهم و جوارهم للبربر و الله أعلم بحقيقة ذلك (6/42)
العاصم ومقدم من الأثبج
هؤلاء الأحياء من الأثبج كما ذكرنا في أنسابهم و نزلوا تامستا معهم و كانت لهم عزة و علياء إلا أن جشم أعز منهم لمكان الكثرة و كان موطنهم بسيط تامستا و كانت للسلطان عليهم عسكرة و جباية كان إخوانهم من جشم و كان شيخ العاصم لعهد الموحدين ثم عهد المأمون منهم حسن بن زيد و كان له أثر في فتنة يحيى بن الناصر و لما هلك سنة ثلاث و ثلاثين و ستمائة أمر الرشيد بقتل حسن بن زيد مع قائد و فائد ابني عامر شيوخ بني جابر فقتلوا جميعا ثم صارت الرياسة لأبي عياد و بنيه و كان بينهم لعهد بني مرين عياد بن أبي عياد و كان له تغلب في النفرة و الاستقامة
فر إلى تلمسان و رجع منها أعوام تسعين و ستمائة و فر إلى السوس و رجع منه سنة سبع و سبعمائة و لم يزل دأبه هذا و كانت له ولاية مع يعقوب بن عبد الحق من قبل ذلك و مقاماته في الجهاد مذكورة و بقيت رياسته في بنيه إلى أن انقرض أمرهم و أمر مقدم و دثروا و تلاشوا و الله خير الوارثين (6/43)
الخبر عن رياح و بطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة
كان هذا القبيل من أعز قبائل هلال و أكثرهم جمعا عند دخولهم أفريقية و هم فيما ذكره ابن الكلبي : رياح بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر و كانت رياستهم حينئذ لموسى بن يحيى الصنبري من بطون مرداس بن رياح و كان من رجالاتهم لذلك العهد الفضل بن علي مذكور في حروبهم مع صنهاجة و كانت بطونهم عمر و مرداس و على كلهم بنو رياح و سعيد بن رياح و خضر بن عامر بن رياح و هم الأخضر و لمرداس بطون كثيرة : داود بن مرداس و صنبر بن حواز بن عقيل بن مرداس و إخواتهم مسلم بن عقيل و من أولاده عامر بن يزيد بن مرداس بطون أخرى منهم : بنو موسى بن عامر و جابر بن عامر و قد يقال : إنهم من لطيف كما قدمناه و سودان و مشهور و معاوية بنو محمد بن عامر بطون ثلاثة و اسم سودان علي بن محمد و قد يقال أيضا إن المشاهرة و هم بنو مشهور بن هلال بن عامر من نمير رياح و الله أعلم
و الرياسة على رياح في هذه البطون كلها لمرداس و كانت عند دخولهم أفريقية في صنبر منهم ثم صارت للزواودة أبناء داود بن مرداس بن رياح و يزعم بنو عمر بن رياح أن أباهم كفله و رباه و كان رئيسهم لعهد الموحدين مسعود بن سلطان بن زمام بن ورديقي بن داود و كان يلقب البلط لشدته و صلابته ولما نقل المنصور رياحا إلى المغرب تخلف عساكر أخو مسعود في جماعات منهم لما بلاه السلطان من طاعته و انحياشه و أنزل مسعودا و قومه لبلاد الهبط ما بين قصور كتامة المعروف بالقصر الكبير إلى إزغار البسيط الفيح هناك إلى ساحل البحر الأخضر و استقروا هنالك
وفر مسعود بن زمام من بينهم في لمة من قومه سني تسعين و خمسمائة و لحق بأفريقية و اجتمع إليه بنو عساكر أخيه و لحقوا بطرابلس و نزلوا على زغب و ذياب يتقلبون بينهم ثم نزع إلى خدمة قراقش و حضر معه بقومه فتح طرابلس كما نذكره في أخبار قراقش ثم رجع إلى ابن غانية الميروقي و لم يزل في خلافة ذلك إلى أن هلك و قام بأمره من بعده ابنه محمد و كانت له رياسه و غناء في فتنة الميروقي مع الموحدين
و لما غلب أبو محمد بن أبي حفص يحيى الميروقي مع الموحدين سنة ثماني عشرة و ستمائة على الحمة من بلاد الجريد و قتل من العرب من قتل كان فيمن قتله ذلك اليوم عبد الله بن محمد هذا و ابن عمه أبو الشيخ بن حركات بن عساكر
و لما هلك الشيخ أبو محمد رجع محمد بن مسعود إلى أفريقية و غلب عليها و اجتمع إليه حلف الأثبج ظواعن من الضحاك و لطيف فكاثروه و اعتزوا به على قتالهم من دريد و كرفة إلى أن عجزت ظواعن الضحاك و لطيف عن الرحلة و افترقوا في قرى الزاب و صدرة و بقي محمد بن مسعود يتغلب في رحلته و صارت رياسة البدو في ضواحي أفريقية ما بين قسطيلة و الزاب و القيروان و المسيلة له و لقومه و لما هلك يحيى بن غانية من العرب من بني سليم و الرياح سنة إحدى و ثلاثين و ستمائة كما نذكره انقطع ملكهم و استغلظ سلطان أبي حفص
و استقل منهم الأمير يحيى بن عبد الواحد بخطبة الخلافة عندما فسد كرسيها بمراكش و افترق اتباع بن غانية من العرب من بني سليم و الرياح فنكره آل أبي حفص هؤلاء الزواودة و مكانهم من الوطن مما سلف من عنادهم و مشايعتهم لابن غانية عدوهم فجاجا الأمير أبو زكريا في بني سليم من مواطنهم لذلك العهد بقابس و طرابلس و ما إليها و التقدم فيهم يومئذ لمرداش و الكعوب كما نذكره في أخبارهم و اصطنعوهم لمشايعة الدولة و ضربوا بينهم و بين قبائل رياح و أنزلوهم بالقيروان و بلاد قسطيلة و كانت آية لمحمد بن مسعود و وفد عليه في بعض السنين وفد مرداس يطلبون المكيل و ينزلون عليهم فشرهوا إلى نعمتهم و قاتلوهم عليها و قتلوا رزق ابن سلطان عم محمد بن مسعود فكانت بينهم و بين رياح أيام و حروب حتى رحلوهم جانب المشرق من أفريقية و أصاروهم إلى جانبها الغربي
و ملك الكعوب و مرداس من بني سليم ضواحي الجانب الشرقي كلها من قابس إلى بونة نفطة و امتاز الزواودة بملك ضواحي قسنطينة و بجاية من التلول و مجالات الزاب و ريغ و واركلا و ما وراءها من القفار في بلاد القبلة و هلك محمد بن مسعود فولي رياسته موسى بن محمد و كان له صيت و غناء في قومه و اعتزاز على الدولة
و لما هلك يحيى بن عبد الواحد بويع ابنه محمد المستنصر الطائر الذكر المشهود له في الشهرة و خرج عليه أخوه إبراهيم فلحق بالزواودة هؤلاء فبايعوه بجهات قسنطينة و اتفقوا على تقديمه و نهض إليه المستنصر سنة ست و ستين و ستمائة ففروا أمامه و افترق جمعهم و تخير إليه بنو عساكر بن سلطان منهم و رياستهم يومئذ لولد مهدي بن عساكر و نبذوا العهد إلى ابراهيم بن يحيى و لحقوا بتلمسان و أجاز البحر إلى الأندلس و أقام بها في جوار الشيخ ابن الأحمر
ثم هلك موسى بن محمد و ولي رياسته ابنه شبل بن موسى واستطال على الدولة و كثر عيثهم فنبذ المستنصر عهدهم و نهض إليه بعساكره و جموعه من الموحدين و العرب من بني سليم و أولاد عساكر إخوانهم و على مقدمته الشيخ أبو هلال عياد بن محمد الهنتاني و كان يومئذ أميرا ببجاية و حاول عليهم فاستقدم رؤساؤهم شبل بن موسى بن محمد بن مسعود و أخاه يحيى و سباع بن يحيى بن دريد ين مسعود و حداد بن مولاهم بن خنفر بن مسعود و فضل بن ميمون بن دريد بن مسعود و معهم دريد بن تاز يرشيخ أولاد نابت من كرفة فقبض عليهم لحين قدومهم و ضرب أعناقهم في سريح و أخذ ابن راية حيث بايعوا أبا اسحاق أخاه و القاسم بن أبي زيد بن أبي حفص الفازع إليهم لطلب الخروج على الدولة
و افترقت ظوا عنهم و فروا أمامه و اتبعهم إلى آخر الزاب و ترك شبل بن موسى سباعا ابنه طفلا صغيرا فكفله عمه مولاهم بن موسى و لم تزل الرياسة بهم و ترك سباع ابنه يحيى أيضا طفلا فكفله عمه طلحة بن يحيى و لحق جلهم بملوك زناتة المغرب وأولاد محمد لحقوا بيعقوب بن عبد الحق بقاس و أولاد سباع بن يحيى لحقوا بيغمرا سن بن زيان بتلمسان فكسوهم و حملوهم فارتاشوا و قاتلوا و احتالوا و زحفوا إلى مواطنهم فتغلبوا على أطراف الزاب من واركلان و قصور ريغ و صيروها سهاما بينهم و انتزعوها للموحدين فكان آخر عهدهم بملكها
ثم تقدموا إلى بلاد الزاب و جمع لهم عاملها أبو سعيد عثمان بن محمد بن عثمان و يعرف بابن عتوا من رؤساء الموحدين و كان منزله بمقرة فزحف إليهم بمكانهم من الزاب و أوقعوا به و قتلوه به بقلطاوة و غلبوا على الزاب و ضواحيه لهذا العهد ثم تقدموا إلى جبل أوراس فغلبوا على من به من القبائل ثم تقدموا إلى التل و جمع لهم من كان به من أولاد عساكر و غلبهم موسى بن ماضي بن مهدي بن عساكر فجمع قومه و من في حلفهم من عياض و غيرهم
و تزاحفوا فغلبهم أولاد مسعود و قتلوا شيخهم موسى بن ماضي و تولوا الوطن بما فيه ثم تلافت الدولة أمرهم بالاصطناع و الاستمالة و أقطعوهم ما غلبوا عليه من البلاد بجبل أوراس و الزاب ثم الأمصار التي بالبسيط الغربي من جبل أوراس المسمى عندهم بالحصنة و هي نقاوس و مقرة و المسيلة و اختص أقطاع المسيلة بسباع بن شبل بن يحيى حتى صارت لعلي بن سباع بن يحيى من بعد ذلك فهي في قسم بنيه و سهامهم و اختص أقطاع مقرة بأحمد بن عمر بن محمد و هو ابن عم شبل بن موسى بن سباع و نقاوس بأولاد عساكر ثم هلك سباع بن شبل و قام بأمرهم ابنه عثمان و يعرف بالعاكر فنازعه الرياسة بنو عمه على بن أحمد بن عمر بن محمد بن مسعود و سلمان بن علي بن سباع بن يحيى و لم يزالوا كذلك لهذا العهد ولهم تغلب على ضواحي بجاية و قسنطينة و من بها من سرديكش و عياض و أمثالهم و رياسة أولاد محمد الآن ليعقوب بن علي بن أحمد و هو كبير الزواودة بمكانه و سنه و له شهرة و ذكر و محل من السلطان متوارث
و رياسة أولاد سباع في أولاد علي بن سباع و أولاد علي أشرف منهم و أعز بالكثرة و العدد و رياستهم في ولد يوسف بن سليمان بن علي بن سباع و يرادفهم أولاد يحيى بن علي بن سباع و اختص أولاد محمد بنواحي قسنطينة و أقطعتهم الدول كثيرا من أريافها و اختص أولاد سباع بنواحي بجاية و أقطاعهم فيها قليل لمنعة بجاية و ضواحيها عن ضيم العرب و لغلبهم بالجبال المطيفة بها و توعر مسالكها على رواحل الناجعة و أماريغ و واركلا فقسمة بينهم منذ عهد سلفهم كما قلناه
و أما الزاب فالجانب الغربي منه و قاعدته طواقة لأولاد محمد و أولاد سباع بن يحيى و كانت لأبي بكر بن مسعود فلما ضعف بنوه و دثروا اشتراها منهم علي بن أحمد شيخ أولاد عمر و سليمان بن علي شيخ أولاد سباع و اتصلت بينهم بسببها الفتنة و صارت في مجالات أولاد سباع بن يحيى فسار غلب سليمان و بنيه عليها أكثر
و الجانب الوسط و قاعدته بسكرة لأولاد محمد و في مجالاتهم و ليعقوب بن علي على عامله بسبب ذلك سلطان و عزة و له به تمسك و إليه انحياش في منعته من الدولة و استبداده بوطنه و حماية ضواحيه من عيث الأعراب و فسادهم غالب الأوقات
و أما الجانب الشرقي من الزاب و قاعدته بادس و تنومة فهو لأولاد نابت رؤساء كرفة بما هو من مجالاتهم و ليس هو من مجالات رياح إلا أن عمال الزاب تأخذ منه في الأكثر جباية غير متسوفاة بعسكر لها إلا في بعض الأحايين ببادية رياح بإذن من كبيرهم و يعقوب و إشراكه في الأمر و بطون رياح كلها تبع لهؤلاء الزواودة و مقتسمون عليهم و ملتمسون مما في أيديهم و ليس لهم في البلاد ملك يستولون عليه و أشدهم قوة و أكثرهم جمعا بطون سعيد و مسلم و الأخضر يبعدون النجعة في القفار و الرمال و يسخرون الزواودة في فتنة بعضهم مع بعض و يختصون بالحلف فريقا دون آخر
فسعيد أحلاف لأولاد محمد سائر أيامهم إلا قليلا من الأحيان ينابذونهم ثم يراجعونهم و مسلم و الأخضر أحلاف لأولاد سباع كذلك إلا في بعض الأحايين
( فأما سعيد ) فرياستهم لأولاد يوسف بن زيد منهم في ولد ميمون بن يعقوب بن عريف بن يعقوب بن يوسف و أردافهم أولاد عيسى بن رحاب بن يوسف و هم ينتسبون بزعمهم إلى بني سليم في أولاد القوس من سليم و الصحيح من نسبهم أنهم من رياح بالحلف و الموطن و مع أولاد يوسف هؤلاء لفائف من العرب يعرفون بالمخادمة و الغيوث و الفجور فأما المخادمة و الغيوث من أبناء مخدم فمن ولد مشرف بن أثبج و أما الفجور فمنهم من البرابر لواتة و زناتة إحدى بطونهم و فيهم من نفاث فأما نفاث فمن بطون جذام و سيأتي ذكرهم
( و أما زناتة ) فهم من بطون لواتة كما ذكرناه في بني جابر و بتادلا كثير منهم و أجاز منهم إلى العدوة لعهد بني الأحمر سلطان الزنادي و كانت له في الجهاد آثار و ذكروا أن منهم بأرض مصر و الصعيد كثيرا و أما أحلاف أولاد محمد من الزواودة فبطن من رقاب بن سودات بن عامر بن صعصعة اندرجوا في أعداد رياح و لهم معهم ظعن و نجعة و لهم مكان من حلفهم و مظاهرتهم و أما أحلاف أولاد سباع من مسلم و الأخضر فقد قدمنا أن مسلما من أولاد عقيل بن مرداس بن رياح أخو جواز بن رياح بعضهم ينتسب إلى الزبير بن العوام و هو خلط و يقول بعض من ينكر عليهم إنما هو نسب إلى الزبير بن المهاية الذين هم من بطون عياض كما ذكرناه و رياسته في أولاد جماعة بن مسلم بن حماد بن مسلم بين أولاد تساكر بن حامد بن كسلان بن غيث بن رحال بن جماعة و بين أولاد بن موسى بن قطران بن جماعة
و أما الأخضر فيقولون إنهم من ولد خضر بن عامر و ليس عامر بن صعصعة فإن أبناء عامر بن صعصعة معروفون كلهم عند النسابين و إنما هو و الله أعلم عامر آخر من أولاد رياح و لعله عامر بن زيد بن مرداس المذكور في بطونهم أولهم من الخضر الذين هم و لد مالك بن طريف بن مالك بن حفصة بن قيس عيلان ذكرهم صاحب الأغاني و قال : إنما سموا الخضر لسوادهم و العرب تسمي الأسود أخضر قال :
و كان مالك شديد السمرة فأشبهه ولده و رياستهم في أولاد تامر بن علي بن تمام بن عمار بن خضر بن عامر بن رياح و اختصت مرين بأولاد تامر ولد عامر بن صالح بن عامر بن عطية بن تامر و فيهم بطن آخر لزيادة بن تمام بن عمار و في رياح أيضا بطن من عنزة بن أسد بن ربيعة من نزار و يظعنون مع باديتهم
( و أما من نزل من رياح ) ببلاد الهبط حيث أنزلهم المنصور فأقاموا هنالك بعد رحلة رئيسهم مسعود بن زمام بتلك المواطن إلى أن انقرضت دولة الموحدين و كان عثمان بن نصر رئيسهم أيام المأمون و قتله سنة ثلاثين و ستمائة و لما تغلب بنو مرين على ضواحي المغرب الموحدون على رياح هؤلاء البعث مع عساكرهم فقاموا بحماية ضواحيهم و تحيز لهم بنو عسكر بن محمد بن محمد من بني مرين حين كانوا حربا لإخوانهم بني حمامة بن محمد سلف الملوك منهم لهذا العهد فكانت بين الفريقين جولة قتل فيها عبد الحق بن مجيد بن أبي بكر بن جماعة أبو الملك و ابنه إدريس فأوجدوا السبيل لبني مرين على أنفسهم في طلب الترة و الدماء فأثخنوا فيهم و استلحموهم قتلا و سبيا مرة بعد أخرى
و كان آخر من أوقع بهم السلطان أبو ثابت عامر بن يوسف بن يعقوب سنة سبع و سبعمائة تتبعهم بالقتل إلى أن لحقوا برؤس الهضاب و أسنمة الربى المتوسطة في المرج المستبحر باز غار فصاروا إلى عدد قليل و لحقوا بالقبائل الغارمة ثم دثروا و تلاشوا شأن كل أمة و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين لا رب غيره و لا معبود سواه و هو نعم المولى و نعم النصير عليه توكلنا و إليه أنبنا و إليه المصير نسأله سبحانه و تعالى من فيض فضله العميم و نتوسل إليه بجاه نبيه الكريم أن يرزقنا إيمانا دائما و قلبا خاشعا و علما نافعا و يقينا صادقا و دينا قيما و العافية من كل بلية و تمام العافية و دوام العافية و الشكر على العافية و الغنى عن الناس و أن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها و أن يجيرنا من خزي الدنيا و عذاب الآخرة و أن يرزقنا من فضله و كرمه إيمانا لا يرتد و نعيما لا ينفد و قرة عين لا تنقطع و مرافقة نبينا و سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم في أعلى جنان الخلد بمنه و كرمه إنه على ما يشاء قدير و بالإجابة جدير و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم و الحمد لله رب العالمين (6/43)
الخبر عن سعادة العالم بالسنة في رياح و مآل أمره و تصاريف أحواله
كان هذا الرجل من مسلم إحدى شعوب رياح ثم من رحمان منهم و كانت أمه تدعى خضيبة و كانت في أعلى مقامات العبادة و الورع و نشأ هو منتحلا للعبادة و الزهد و ارتحل إلى المغرب إلى المغرب و لقي شيخ الصالحين و الفقهاء لذلك العهد بنواحي تازة أبا إسحق التسولي و أخذ عنه و لزمه و تفقه عليه و رجع إلى وطن رياح بفقه صحيح و ورع وافر و نزل طولقة من بلاد الزاب و أخذ بنفسه في تغيير المنكر على أقاربه و عشيرته و من عرفه أو صحبه فاشتهر بذلك و كثرت غاشيته لذلك من قومه و غيرهم
و لزم صحابته منهم أعلام عاهدوه على التزام طريقته كان من أشهرهم :
أبو يحيى بن أحمد بن عمر شيخ بني محمد بن مسعود من الزواودة و عطية بن سليمان بن سباع شيخ أولاد سباع بن يحيى منهم و عيسى بن يحيى بن إدريس شيخ أولاد إدريس و أولاد عساكر منهم و حسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة بن يحيى بن دريد بن مسعود منهم و هجرس بن علي من أولاد يزيد بن زغبة و رجالات من العطاف من زغبة في كثير من أتباعهم و المستضعفين من قومهم
فكثر بذلك تابعه و استظهر بهم على شأنه في إقامة السنة و تغيير المنكر على من جاء به
و اشتد على قاطع الطريق من شرار البوادي ثم تخطى ذلك إلى العمار فطلب عامل الزاب يومئذ منصور بن فضل بن مزني بإعفاء الرعايا من المكوس و الظلامات فامتنع من ذلك و اعتزم على الإيقاع به فحال دونه عشائر أصحابه و بايعوه على إقامة السنة و الموت دونه في ذلك
و آذنهم ابن مزني في الحرب و دعا لذلك أمثالهم و نظراءهم من قومهم و كان لذلك العهد علي بن أحمد بن عمر بن محمد قد قام برياسة أولاد محمد و سليمان بن علي بن سباع قد قام برياسة أولاد يحيى و اقتسموا رياسة الزواودة فظاهروا ابن مزين على مدافعه سعادة و أصحابه المرابطين من إخوانهم و كان أمر ابن مزني و الزاب يومئذ راجعا إلى صاحب بجاية من بني أبي حفص و هو الأمير خالد ابن الأمير أبي زكريا و القائم بدولته أبو عبد الرحمن بن عمر و بعث إليه ابن مزني في المدد فأمده بالعساكر و الجيوش و أوعز إلى أهل طولقة بالقبض على سعادة فخرج منها و ابتنى بأنحائها زاوية و نزل بها هو و أصحابه ثم جمع أصحابه المرابطين و كان يسميهم السنية و زحفوا إلى بسكرة و حاصروا ابن مزني سنة ثلاث و سبعمائة و قطعوا نخيلها و امتنعت عليهم فرحلوا عنها ثم أعادوا حصارها سنة أربع و سبعمائة و امتنعت ثم انحدر أصحاب سعادة من الزواودة إلى مشايتهم سنة خمس و سبعمائة و أقام المرابط سعادة بزاويته من زاب طوقة و جمع من كان إليه من المرابطين المتخلفين عن الناجعة و غزا مليلي و حاصرها أياما و بعثوا بالصريخ إلى ابن مزني و العسكر السلطاني مقيم عندهم ببسكرة فأركبهم ليلا مع أولاد حرب من الزواودة و أصبحوا سعادة و أصحابه على مليلي فكانت بينهم جولة قتل فيها سعادة و استلحتم الكثير من أصحابه و حمل رأسه إلى ابن مزني
و بلغ الخبر إلى أصحابه بمشايتهم فظهروا إلى الزاب و رؤساؤهم أبو يحيى بن أحمد ابن عمر شيخ أولاد محرز و عطية بن سليمان شيخ أولاد سباع و عيسى بن يحيى شيخ أولاد عساكر و محمد بن حسن شيخ أولاد عطية و رياستهم جميعا راجعة لأبي يحيى بن أحمد و نازلوا بسكرة و قطعوا نخيلها و تقبضوا على عمال ابن مزني فأحرقوهم في النار و اتسع الخرق بينهم و بينه و نادى ابن مزني في أوليائه من الزواودة و اجتمع إليه علي بن أحمد شيخ أولاد محمد و سليمان بن علي شيخ أولاد سباع و هما يومئذ أجلاء الزواودة و خرج إبنه علي بينهم بعساكر السلطان و تزاحفوا بالصحراء سنة ثلاث عشرة و سبعمائة فغلبهم المرابطون و قتل علي بن مزني و تقبض على علي بن أحمد فقادوه أسيرا ثم أطلقه عيسى بن أحمد رعيا لأخيه أبي يحيى بن أحمد
و استفحل أمر هؤلاء السنية ما شاء الله أن يستفحل ثم هلك أبو يحيى بن أحمد و عيسى بن يحيى و خلت أحياء أولاد محرز من هؤلاء السنية و تفاوض السنية فيمن يقيمونه بينهم في الفتيا في الأحكام و العبادات فوقع نظرهم على الفقيه أبي عبد الله محمد بن الأزرق من فقهاء مقرة و كان أخذ العلم ببجاية على أبي محمد الزواوي من كبار مشيختها فقصدوه بذلك و أجابهم و ارتحل معهم و نزل على حسن بن سلامة شيخ أولاد طلحة و اجتمع إليه السنية و استفحل بهم جانب أولاد سباع و اجتمعوا على الزاب و حاربوا علي بن أحمد طويلا
و كان السلطان أبو تاشفين حين كان يجلب على أوطان الموحدين و يخيب عليهم أولياءهم من العرب يبعث إلى هؤلاء السنية بالجوائز يستدعي بذلك ولايتهم و يبعث معهم للفقيه أبي الأزرق بجائزة معلومة في كل سنة و لم يزل ابن الأزرق مقيما لرسمهم إلى أن غلبهم على أمرهم ذلك علي بن أحمد شيخ أولاد محمد و هلك حسن بن سلامة و انقرض أمر السنية من رياح و نزل ابن الأزرق بسكرة فاستدعاه يوسف بن مزني لقضائها تفريقا لأمر السنية فأجابه و نزل عنده فولاه القضاء ببسكرة إلى أن هلك سنة
ثم قام علي بن أحمد بهذه السنية بعد حين و دعا إليها و جمع لابن مزني سنة أربعين و سبعمائة و نزل بسكرة و جاءه مدد أهل ريغ و أقام محاصرا لها أشهرا و امتنعت عليه فأقلع عنها و راجع يوسف بن مزني و صاروا إلى الولاية إلى أن هلك علي بن أحمد و بقي من عقب سعادة في زاويته بنون و حفدة يوجب لهم ابن مزني الرعاية و تعرف لهم أعراب الفلاة من رياح حقا في إجازة من يجيزونه من أهل السابلة و بقى هؤلاء الزواودة ينزع بعضهم أحيانا إلى إقامة هذه الدعوة فيأخذون بها أنفسهم غير متصفين من الدين و التعمق في الورع بما يناسبها و يقضي حقها بل يجعلونها ذريعة لأخذ الزكوات من الرعايا و يتظاهرون بتغيير المنكر يسرون بذلك حسدا في ارتقاء فينحل أمرهم بذلك و تخفق مساعيهم و يتنازعون على ما تحصل بأيديهم و يعترفون على غير شيء و الله متولي الأمور لا إله إلا هو سبحانه يحيى و يميت (6/51)
الخبر عن رغبة و بطونهم من هلال بن عامر من هذه الطبقة الرابعة
هذه القبيلة إخوة رياح ذكر ابن الكلبي أن زغبة و رياحا أبناء أبي ربيعة بن نهيك ابن هلال بن عامر هكذا نسبهم و هم لهذا العهد مما يزعمون أن عبد الله يجمعهم بكسر دال عبد و لم يذكر ابن الكلبي ذلك و ذكر عبد الله في ولد هلال فلعل انتسابهم إليه بما كلفهم و اشتره دونهم و كثيرا ما يقع مثل هذا في أنساب العرب أعني انتساب الأنباء لعمهم أو كافلهم و الله أعلم
و كانت لهم عزة و كثرة عند دخولهم أفريقية و تغلبوا على نواحي طرابلس و قابس و قتلوا سعيد بن خزرون من ملوك مغراوة بطرابلس و لم يزالوا بتلك الحال إلى أن غلب الموحدون على أفريقية و ثار بها ابن غانية و تخيرت إليه أفاريق هلال بن رياح و جشم فنزعت زغبة إلى الموحدين و انحرفوا عن غانية فرعوا له حق نزوعهم و صاروا يدا واحدة مع بني يادين من زناتة في حماية المغرب الأوسط من ابن غانية و اتباعه و اتصلت مجالاتهم ما بين المسيلة و قبلة تلمسان في القفار و ملك بنو يادين و زناتة عليهم التلول
و لما ملكت زناتة بلاد المغرب الأوسط و نزلوا بأمصاره دخل زغبة هؤلاء التلول و تغلبوا فيها و وضعوا الأتاوة على الكثير من أهلها بما جمعهم و زناتة من البداوة و عصبية الحلف و خلا قفرهم من ظعونهم و حمايتهم فطرقته عرب المعقل المجاورون لهم من جانب المغرب و غلبوا على من وجدوا من مخلف زغبة هؤلاء بتلك القفار و جعلوا عليهم خفارة يأخذونها من إبلهم و يختارون عليهم البكرات منها و أنفوا بذلك و تآمروا و تعاقدوا على دفع هذه الهضمة و تولى كبرها من بطونهم ثواب بن جوثة من سديد كما نذكره بعد فدفعوهم عن أوطانهم من ذلك القفر ثم استفحلت دولة زناتة و كفحوا العرب عن وطن تلوهم لما انتشأ عنهم من العيث و الفساد فرجعوا إلى صحرائهم و ملكت الدولة عليهم التلول و الحبوب و استصعب الميرة و هزل الكراع و تلاشت أحوالهم و ضربت عليهم البعوث و أعطوا الأتاوة و الصدقة حتى إذا فشل ريح زناتة و داخل الهرم دولتهم و انتزى الخوارج من قرابة الملك بالقاصبة وجدوا السبيل بالفتن إلى طروق التلول ثم إلى الغلب فيها ثم غالبوا زناتة عليها فغلبوهم في أكثر الأحايين وأقطعتهم الدولة الكثير من نواحي المغرب الاوسط و أمصاره في سبيل الاستظهار بهم فتمشت ظعونهم فيه و ملكوه من كل جانب كما نذكره و بطون زغبة هؤلاء يتعددون من يزيد و حصين و مالك و عامر و عروة و قد اقتسموا بلاد المغرب الأوسط كما نذكر في أخبارهم (6/54)
بنو يزيد بن زغبة
كان لبني يزيد هؤلاء محل من زغبة بالكثرة و الشرف و كان للدول به عناية فكانوا لذلك أول من أقطعته الدول من العرب التلول و الضواحي أقطعهم الموحدون في أرض حمزة من أوطان بجاية مما يلي بلاد رياح و الأثابج فنزلوا هنالك و لجوا الثنايا المفضية إلى تلول حمزة و الدهوس و أرض بني حسن و نزلوها ريفا و صحراء و صار للدولة استظهار بهم على جباية تلك الرعايا من صنهاجة و زواوة فلما عجزت عساكر بجاية من جبايتهم دفعوهم لها فأحسنوا في اقتضائها وزادت الدول بهم تكرمة و عناية بذلك و أقطعتهم الكثير من تلك الأوطان ثم غلب زناتة الموحدون على تلك الأوطان فاقتطعوها عن أوطان بجاية و أصاروها عن ممالكهم
فلما فشل ريح زناتة و جاش بحر فتنتهم مع العرب استبد بنو يزيد هؤلاء بملكه تلك الأوطان و غلبوا عليها من جميع جوانبها فرغوا لجبايتها و اقتضاء مغارمها و هم على ذلك لهذا العهد و هم بطون كثيرة فمنهم حميان بن عقبة بن يزيد و جواب و بنو كرز و بنو موسى و المرابعة و الخشنة و هم جميعا بنو يزيد بن عيسى بن زغبة و إخوانهم عكرمة بن عيسى من ظعونهم و كانت الرياسة في بني يزيد لأولاد لاحق ثم لأولاد معافى ثم صارت في بيت سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن مهدي بن يزيد بن عيسى بن زغبة و هم يزعمون أنه مهدي بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق نسب تأباه رياستهم على غير عصبتهم و قد مر ذلك قبل
و ربما نسبهم آخرون إلى سلول و هم بنو مرة بن صعصعة أخي عامر بن صعصعة و ليس بصحيح لما قلناه و قد يقال : إن سلولا و بني يزيد إخوة و يقال لهم جميعا أولاد فاطمة و بنو هؤلاء ثلاثة بطون : بنو ماضي بن رزق بن سعد و بنو منصور بن سعد و بنو زغلي بن رزق بن سعد و اختصت الرياسة على الظعون و الحلول ببني زغلي و كانت لريان بن زغلي فيما علمناه ثم من بعده لأخيه ديفل ثم لأخيهم أبي بكر ثم لابنه ساسي بن أبي بكر ثم لإبنه معتوق بن أبي بكر ثم لموسى ابن عمهم أبي الفضل بن زغلي ثم لأخيه أحمد بن أبي الفضل ثم لاخيهما علي بن أبي الفضل ثم لأبي الليل بن أبي موسى بن أبي الفضل و هو رئيسهم لهذا العهد و توفي سنة إحدى و تسعين و خلفه في قومه ابنه و كان من أحلافهم فيما تقدم بنو عامر بن زغبة يظعنون معهم في مجالاتهم و يظاهرونهم في حروبهم و كانت بين رياح و زغبة فتنة طويلة لعهد موسى بن محمد بن مسعود و ابنه شبل أيام المستنصر بن أبي حفص فكان بنو يزيد هؤلاء يتولون كبرها لمكان الجوار و كان بنو عامر أحلافهم فيها و ظهراءهم و كان لهم على مظاهرتهم و ضيعة من الزرع تسمى الغرارة و هي ألف غرارة من الزرع و كان سببها فيما يزعمون : أن أبا بكر بن زغلي غلبته رياح على الدهوس من وطن حمزة أزمان فتنته معهم فاستنصر بني عامر فجاءه أولاد شافع و عليهم صالح بن بالغ و بنو يعقوب و عليهم داود بن عطاف و حميد و عليهم يعقوب بن معروف و استرجع وطنه و فرض لهم على وطنه ألف غرارة من الزرع و استمرت لبني عامر
فلما ملك يغمراسن بن زيان تلمسان و نواحيها و دخلت زناتة إلى التلول والأرياف كثر عيث المعقل و فسادهم في وطنها فجاء يغمراسن ببني عامر هؤلاء من محلاتهم بصحراء بني يزيد و أنزلهم في جواره بصحراء لتمسان كيادا للمعقل و مزاحمة لهم بأقيالهم فنزلوا هنالك و تبعتهم حميان من بطون بني يزيد بما كانوا بطونا و ناجعة ولم يكونوا حلولا فصاروا في عداد بني عامر لهذا العهد و تولت بنو يزيد بلاد الريف و خصبه فأوطن فيه أكثرهم و قال أهل الناجعة منهم الأفاريق من عكرمة و بعض بطون عيسى يظعنون مع أولاد زغلي في قفرهم
و أقصروا عن الظعن في القفر إلا في القليل و مع أحلافهم من ظعون رياح أو زغبة و هم على ذلك لهذا العهد و من بطون بني يزيد بن عيسى زغبة هؤلاء بنو خشين و بنو موسى و بنو معافى و بنو لاحق و كانت الرياسة لهم و لبني معافى قبل بني سعد بن مالك و بنو جواب و بنو كرز و بنو مربع و هم المرابعة و هؤلاء كلهم بطن حمزة لهذا العهد و من المرابعة حي ينجعون بضواحي تونس لهذا العهد و غلب عليهم بسبب زغبة و الله الخلاق العليم
أبو الفضل بن موسى بن زغلي بن رزق بن سعد بن مالك بن عبد القوي بن عبد الله بن سعيد بن محمد بن عبد الله (6/55)
حصين بن زغبة
و أما أولاد حصين بن زغبة فكانت مواطنهم بجوار بني يزيد إلى المغرب عنهم كانوا حيا حلوا هنالك و كان الريف للحاذي من تيطري و نواحي المدينة مواطن للثعالبة من بطون البعوث و يأخذون منهم الأتاوات و الصدقات حتى إذا ذهب سلطان بني توجين من أرض المدينة و غلبهم عليهم بنو عبد الواد ساموا حصينا هؤلاء خطة الخسف و الذل و ألزموهم الوضائع و المغارم و استلحموهم بالقتل و هضموهم بالتكاليف و صيروهم في عداد القبائل الغارمة و مآثر ذلك كان تغلب بني مرين على جميع زناتة كما نذكره فكانوا لهم أطوع و لدولتهم أذل فلما عاد بنو عبد الواد إلى ملكهم لعهد أبي حمو موسى بن يوسف بعد مهلك السلطان أبي عنان هبت ريح العز للعرب و فشل ريح زناتة و لحق دولتهم ما يلحق الدول من الهرم و نزل حصين هؤلاء بتيطري و هو جبل أشيرو ملكوه و تحصنوا به
و كان أبو زيان ابن عم السلطان أبي حمو لما ملك من قبله لحق بتونس مقتطعا حبالة بني مرين و خرج طالبا أبيه و منازلا لابن عمه هذا و نزل في خبر طويل نذكره بقبائل حصين هؤلاء أحوج ما كانوا لمثلها لما راموه من خلع ما كان بأعناقهم من الدول و طرق الاهتضام و العسف فتلقوه بما يجب له و نزل منهم بأكرم نزل و أحسن مثوى و بايعوه و راسلوا إخوانهم و كبراءهم من رؤساء زغبة بني سويد و بني عامر فأصفقوا عليه و ترددت عساكر السلطان أبي حمو و بني عبد الواد إليهم فتحصنوا بجبل تيطري و أوقعوا بهم و نهض إليهم السلطان أبو حمود بعساكره فقتلوه و نالوا منه و نالت زغبة بذلك ما أرادوه من الاعتزاز على الدولة آخر الأيام و تملكوا البلاد أقطاعات و سهمانا و رجع أبو زيان إلى رياح فنزل بهم على سلم عقده مع ابن عمه و بقي لحصين أثر الاعتزاز من جرائه و أقطعتهم الدولة ما ولوه من نواحي المدينة و بلاد صنهاجة لحصين و لهؤلاء بطنان عظيمان جندل و خراش فمن جندل أولاد سعد خنفر بن مبارك بن فيصل بن سنان بن سباع بن موسى بن كمام بن علي بن جندل و رياستهم في بني خليفة بن سعد لعلي و سيدهم أولاد خشعة بن جندل
و كانت رياستهم على جندل قبل أولاد خليفة و رئيسهم الآن علي بن صالح بن دياب بن مبارك بن يحيى بن مهلهل بن شكر بن عامر بن محمد بن خشعة و من خراش أولاد مسعود بن مظفر بن محمد الكامل بن خراش و رياستهم لهذا العهد في و لد رحاب بن عيسى بن أبي بكر بن زمام بن مسعود و أولاد فرج بن مظفر و رياستهم في بني خليفة بن عثمان بن موسى بن فرج و أولاد طريف بن معبد بن خراش و يعرفون بالمعابدة و رياستهم في أولاد عريف و ربما انتسب أولاد مظفر من خراش إلى بني سليم و يزعمون أن مظفر بن محمد الكامل جاء من بني سليم و نزل بهم و الله أعلم بحقيقة ذلك (6/58)
بنو مالك بن زغبة
و أما بنو مالك بن زغبة فهم بطون ثلاثة : سويد بن عامر بن مالك و هم بطنان العطاف بن ولد عطاف بن رومي بن حارث و الديالم من ولد ديلم بن حسن بن إبراهيم بن رومي فأما سويد فكانوا أحلافا لبني يادين قبل الدولة و كان لهم اختصاص ببني عبد الواد و كانت لهم لهذا العهد أتاوات على بلد سيراة و البطحاء و هوارة و لما ملك بنو يادين تلول المغرب الأوسط و أمصاره كان قسم بني توجين منه شياخ التلول القبلية ما بين قلعة سعيدة في الغرب إلى المرية في الشرق فكان لهم قلعة ابن سلامة و منداس و أنشريس و ورنية و ما بينهما فاتصل جوارهم لبني مالك هؤلاء في القفر و التل
و لما ملك بنو عبد الواد تلمسان و نزلوا بساحتها و ضواحيها كان سويد هؤلاء أخص بحلفهم و ولايتهم من سائر زغبة و كانت لسويد هؤلاء بطون مذكورون من فلمة و شبانة و مجاهر و جوثة كلهم من بني سويد و الحساسة بطن من شبانة إلى حسان بن شبانة و غفير و شافع و مالف كلهم بنو سليمة بن مجاهر و بو رحمة و بو كامل و حمدان بنو مقدر بن مجاهر و يزعم بعض نسابتهم أن مقدرا ليس بجد لهم و إنما وضع ذلك أولا بو كامل
و كانت رياستهم لعهدهم في يغمراسن و ما قبله في أولاد عيسى بن عبد القوي بن حمدان و كانوا ثلاثة : مهدي و عطية و طراد و اختص مهدي بالرياسة عليهم ثم ابنه يوسف بن مهدي ثم أخوه عمر بن مهدي و اقطع يغمراس يوسف بن مهدي ببلاد البطحاء و سيرات و أقطع عنتر بن طراد بن عيسى مراري البطحاء و كان يقتضون أتاوتهم على الرعايا ولا يناكرهم فيها و ربما خرج في بعض خروجه و استخلف عمر بن مهدي على تلمسان و ما إليها من ناحية المشرق
و في خلال ذلك خلت مجالاتهم بالقفر من ظعونهم و ناجعتهم إلا أحياء من بطونهم قليلي العدد من الجوثة و فليتة و مالف و غفير و شاقع و أمثالهم فغلب عليهم هنالك المعقل و فرضوا عليهم أتاوة من الإبل يعطونها و يختارونها عليهم من البكرات و كان المتولي لأخذها منهم من شيوخ المعقل ابن الريش بن نهار بن عثمان بن عبيد الله و قيل علي بن عثمان أخو نهار و قيل إن البكرات إنما فرضها للمعقل على قومه عامر بن جميل لأجل مظاهرة له على عدوه و بقيت للمعقل عادة إلى أن تمشت رجالات من زغبة في نقض ذلك و غدروا برجال المعقل ومنعوا تلك البكرات
أخبرني يوسف بن علي ثم غانم عن شيوخ قومه من المعقل أن سبب البكرات و فرضها على زعمه كما ذكرناه و أما سبب رفعها فهو أن المعقل كانوا يقولون غرامتها ادالة بينهم فلما دالت لعبيد الله الدولة في غرامتها جمع ثوابه في جوثة قومه و حرضهم على منعها فاختلفوا و اختبروا مع عبيد الله و دفعوهم إلى جانب الشرق و حالوا بينهم و بين أحيائهم و بلادهم و طالت الحرب و مات فيها بنو جوثة و ابن مريح من رجالاتهم و كتب بنو عبد الله إلى قومهم من قصيدة بني معقل
( بني معقل إن لم تصرخونا على العدو ... فلا يذلكم تذكر ما طرا لنا )
( قتلنا ابن جوثه و الهمام بن مريح ... على الوجه مكبوب و ذا من فعالنا )
فاجتمعوا و جاؤا إلى قومهم و فرت أحياء زغبة و اجتمع بنو عبيد الله و إخوانهم من ذوي منصور و ذوي حسان و ارتفع أمر البكرات من زغبة لهذا العهد ثم حدث بين يغمراسن و بينهم فتنة هلك فيها عمر بن مهدي و ابن حلوا و انزلوهم عن التلول و الأرياف من بلاد عبد الواد إلى القفر المحاذي لأوطان بني توجين على المهادنة و المصاهرة فصاروا لهم حلفاء على بني عبد الواد و من عجز منهم عن الظعن نزل ببسائط البطحاء و سارت بطونهم كلها من شبابة و مجاهر و غفير و شافع و مالف و بو رحمة و بو كامل و نزل محيسن بن عمارة و أخوه سويد بضواحي و هران فوضعت عليهم الأتاوات و المغارم و صاروا من عداد الرعايا أهل الجباية و ولي عثمان بن عمر أمر الظعون من سويد ثم هلك و قام بأمره ابنه ميمون و غلب عليه أخوه سعيد و استبد و كان بين سويد و بين بني عامر بن زغبة فتنة اتصلت على الأيام و ثقلت و طأة الدولة الزيانية عليهم و زحف يوسف بن يعقوب إلى منازلة تلمسان و طال مقامه عليها فوفد عليه سعيد بن عثمان بن عمر بن مهدي شيخهم لعهده فأتى مجلسه و أكرم و ادته ثم أجمع قتله ففر و لحق و أجلب على أطراف التلول و ملك السرسو قبلة بلاد توجين و نزعت إليه طائفة من عكرمة بني يزيد و عجزوا عن الظعن و أنزلهم بجبل كريكرة قبلة السرسو و وضع عليهم الأتاوة و لم يزل كذلك إلى أن هلك يوسف بن يعقوب و اتصل سلطان آل يغمراسن
و لما ولي أبو تاشفين بن موسى بن عثمان بن يغمراسن استخلص عريف بن يحيى لديه صحابة كانت له معه قبل الملك ثم آسفه ببعض النزعات الملوكية و كان هلال مولاه المستولي عليه يغص بما كان عريف منه فنزع عريف بن يحيى إلى بني مرين ملوك المغرب الأقصى و نزل على السلطان أبي سعيد منهم سنة عشرين و سبعمائة و اعتقل أبو تاشفين عمه سعيد بن عثمان إلى أن هلك في محبسه قبيل فتح تلمسان و لحق أخوه ميمون بن عثمان و ولده بملك المغرب و أنزل عريف بن يحيى من سلطان بني مرين أكرم نزل و أدنى مجلسه و أكرم مثواه ثم اتخذه ابنه السلطان أبو الحسن من بعده بطانة لشواره و نجيا لخلواته و لم يزل يحرضهم على آل زيان بتلمسان و نفس ميمون بن عثمان و ولده عريف رتبته عند السلطان أبي الحسن فنزعوا إلى أخيه أبي علي بتافيلات فلم يزالوا بها إلى أن هلك ميمون تغلب السلطان أبو الحسن على أخيه أبي علي و صار أولاد ميمون في جملته و زحف السلطان أبو الحسن إلى تلمسان يجر أمم المغرب و أحجر على زيان بتلمسان ثم اقتحمها عليهم عنوة و أبتزهم ملكهم و قتل السلطان أبا تاشفين عند شدونة و بعث كلمته في أقطار المغرب الأقصى و الأدنى إلى تخوم الموحدين من أندلس و جمع كلمة زناتة و استتبعهم تحت لواتة و فر بنو عامر من زغبة أولياء بني عبد الواد إلى القفر كما نذكره و رفع السلطان أبو الحسن قوم عريف بن يحيى بمحلته على كل عربي في إيالته من زغبة و المعقل و كان عقد سمعون بن سعيد على الناجعة من سويد وهلك أيام نزول السلطان بتاسالة سنة اثنتين و ثلاثين و سبعمائة قبل فتح تلمسان
و ولي من بعده أخوه عطية و هلك لأشهر من ولايته بعد فتح تلمسان فعقد السلطان لوزمار بن عريف على سويد و سائر بني مالك و جعل رياسة البدو حيث كان من أعماله و أخذ الصدقات منهم و الأتاوات فعكفت على هيئة أمم البدو و اقتدى بشواره رؤساؤهم و فر ابن عمه المسعود بن سعيد و لحق ببني عامر و أجلبوا على السلطان بدعاء جزار شبة ابنه أبي عبد الرحمن فجمع لهم وزمار و هزمهم كما نذكره و سفر عريف بين السلطان أبي الحسن و بين الملوك لعهده من الموحدين بأفريقية و بني الأحمر بالأندلس و الترك بالقاهرة و لم يزل على ذلك إلى أن هلك السلطان أبو الحسن
و لما تغلب السلطان أبو عنان على تلمسان كما سنذكره رعى لسويد ذمة الانقطاع إليه فرفع و زمار بن عريف على سائر رؤساء البدو من زغبة و أقطعه السرسو و قلعة ابن سلامة و كثيرا من بلاد توجين و هلك أبو عريف بن يحيى فاستقدمه من البدو و أجلسه بمكان أبيه من مجلسه جوار أريكته و لم يزل على ذلك و عقد لأخيه عيسى على البدو من قومه ثم بني عبد الواد بعد ملك السلطان أبي عنان عادت لهم الدولة بأبي حمو موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن أبي يغمراسن من أعياص ملوكهم
و تولى كبر ذلك صغير بن عامر و قومه لما لهم مع آل زيان من الولاية و ما كان لبني مرين فيهم من النعمات فملكوا تلمسان و نواحيها و عقدوا على سويد لميمون بن سعيد ابن عثمان و تاب وزمار بن عريف و رأى الترهب و الخروج عن الرياسة فبنى حصنا بوادي ملوية من تخوم بني مرين و نزل به و أقام هنالك لهذا العهد و ملوك بني مرين يرعون له ذمة اختصاصه سلفهم فيؤثرونه بالشورى و المداخلة في الأحوال الخاصة مع الملوك و الرؤساء من سائر النواحي فتوجهت إليه بسبب ذلك وجوه أهل الجهات من الملوك و شيوخ العرب و رؤساء الأقطار
و لحق أخواه أبو بكر و محمد بقومهم فمكروا بالميمون و دسوا عليه من قتله غيلة من ذويهم و حاشيتهم و استبدوا برياسة البدو ثم لما نصبت بنو حصين بن زيان ابن عم السلطان أبي حمو للملك كما نذكره و رشحوه للمنازعة سنة سبع و ستين و سبعمائة هبت من يومئذ ريح العرب و جاش مرجلهم على زناتة و وطئوا من تلول بلادهم بالمغرب الأوسط فأعجزوا عن حمايته و ولجوا من فروجها ما قصروا عن سده و دبوا فيها دبيب الظلال في الفيوء فتملكت زغبة سائر البلاد بالأقطاع من السلطان طوعا و كرها رعيا لخدمته و ترغيبا فيها و عدة و تمكينا لقوته حتى أفرجت لهم زناتة عن كثيرها و لجؤا إلى سيف البحر
و حصل كل منهم في الفلول على ما يلي موطنه من بلاد القفز فاستولى بنو يزيد على بلاد حمزة و بني حسن كما كانوا من قبل و منعوا المغارم و استولى بنو حسين على ضواحي المدينة أقطاعا و العطاف على نواحي مليمانة و الديالم على وزينة و سويد على بلاد بني توجين كلها ما عدا جبل و نشريس لتوعره بقيت فيه لمة من توجين رياستهم لأولاد عمر بن عثمان من الجشم بني تيغرين كما نذكره و بني عامر على تاسالة و ميلانة إلى صيرور إلى كيدزة الجبل المشرف على وهران
و تماسك السلطان بالأمصار و أقطع منها كلميتو لأبي بكر بن عريف و مازونة لمحمد بن عريف و نزلوا لهم عن سائر الضواحي فاستولوا عليها كافة و أوشك بهم أن يستولوا على الأمصار و كل أول فإلى آخر و لكل أجل كتاب و هم على ذلك لهذا العهد
و من بطون سويد هؤلاء بطن بنواحي البطحاء يعرفون بهبرة ينسبهم الناس إلى مجاهد ابن سويد و هم يزعمون أنهم من قوم المقداد بن الأسود وهم بهذا من قضاعة و منهم من يزعم أنهم من تجيب إحدى بطون كندة و الله أعلم
و من ظواعن سويد هؤلاء ناجعة يعرفون بصبيح و نسبهم إلى صبيح بن علاج بن مالك و لهم عدد و قوة و هم يظعنون بظعن سويد و يقيمون بمقامهم
و أما الحرث بن مالك و هم العطاف و الديام فموطن العطاف قبلة مليانة و رياسة ظعونهم لولد يعقوب بن نصر بن عروة من منصور بن أبي الذئب بن حسن بن عياض بن عطاف بن زيان بن يعقوب و ابن أخيه علي بن أحمد و بنيهم و معهم طائفة من براز إحدى بطون الأثبج و أقطعهم السلطان مغارم جبل دراك و ما إليه من وادي شلب و حال بينهم و بين موطن سويد و نشريس و لهم بلاد و زينة في قبلة الجبل رياستهم في ولد إبراهيم بن زروق بن رعاية من مزروع بن صالح بن ديلم و السعد بن العباس بن إبراهيم منهم لهذا العهد و كانت من قبل لعمه أبي يحيى بن إبراهيم و تقبض عليه السلطان أبو عثمان بإشارة عريف بن يحيى وأغرى به و هلك به و هلك في محبسه
و فيهم بطون كثيرة منهم بنو زيادة بن إبراهيم بن رومي و الدهاقنة أولاد هلال بن حسن و بنو نوال بن حسن أيضا و كلهم إخوة ديلم بن حسن و ابن عكرمة من مزروع بن صالح و يعرفون بالعكارمة و هؤلاء العطاف و الديالم أقل عددا من سويد و أولياؤهم في فتتتهم مع بني عامر لمكان العصبية من نسب مالك و لسويد عليهم اعتزاز بالكثرة و الديالم أبعد مجالا منهم في القفر و يحاذيهم في مواطنهم من جانب التلول بطن من بطون الحرث يعرفون بغريب نسبهم إلى غريب بن حارث حي حلول بتلك المواطن يطلبهم السلطان في العسكرة و يأخذ منهم المغارم و هم أهل شاء و بقر و رياستهم في أبناء مزروع بن خليفة بن خلوف بن يوسف بن بكرة بن منهاب بن مكتوب بن منيع بن مغيث بن محمد الغريب و هو جدهم ابن حارث و ترادفهم في رياستهم على غريب أولاد يوسف و هم جميعا أولاد بني منيع و سائر غريب من الأحلاف شيوخهم أولاد كامل و الله مالك الخلق و الأمر (6/59)
بنو عامر بن زغبة
و أما بنو عامر بن زغبة فمواطنهم في آخر مواطن زغبة من المغرب الأوسط قبلة تلمسان مما يلي المعقل و كانت مواطنهم من قبل ذلك في آخرها مما يلي المشرق و كانوا مع بني يزيد حيا جميعا و كانوا يغلبون غيرهم في مواطن حمزة و الدهوس و بني حسن لميرة أقواتهم في المصيف و لهم على وطن بني يزيد ضريبة من الزرع متعارفة بين أهله لهذا العهد يقال : إنها كانت لهم أزمان تغلبهم في ذلك الوطن و قيل إن أبا بكر بن زغبي في فتنته مع رياح غلبوه على الدهوس من وطنه فاستصرخ بني عامر فجاؤا لصريخه و على بني يعقوب داود بن عطاف و على بني حميد يعقوب بن معروف و على شافع بن صالح بن بالغ و غلبوا رياحا بعزلان و فرض لهم على وطن بني يزيد ألف غرارة و استمرت لهم عادة عليهم
و لما نقلهم يغمراسن إلى مواطنهم هذه لمحاذاة تلمسان ليكونوا حجزا بين المعقل و بين وطنها استقروا هنالك يتقلبون في قفارها في المشاتي و يظهرون إلى التلول في المرابع و المصايف
و كان فيهم ثلاثة بطون : بنو يعقوب بن عامر و بنو حميد بن عامر و بنو شافع بن عامر و هم بنو شقارة و بنو مطرف و لكل واحد من البطنين الآخرين أفخاذ و عمائر و لبني حميد فصائل أخرى فمنهم : بنو حميد و من عبيد الحجز و هم بنو حجاز بن عبيد و كان له من الولد حجوش و هجيش إبني حجاز و حجوش حامد و محمد و رباب
و من محمد الولالدة بنو ولاد بن محمد و من رباب بنو رباب و هم معروفون لهذا العهد و من عبيد أيضا العقلق بن عقيل بن عبيد و المحارزة بنو محرز بن حمزة بن عبيد و كانت الرياسة على حميد لعلاق من هؤلاء المحارزة و هم الذين قبل حجوش جد بني رباب و كانت الرياسة على بني عامر كافة لبني يعقوب على عهد يغمراسن و ابنه لداود بن هلال بن عطاف بن رداد بن ركيش بن عياد بن منيع بن يعقوب منهم و كان بنو حميد أيضا برئيسهم و شيخهم إلا أنه رديف لشيخ بني يعقوب منهم و كانت رياسة حميد لأولاد رباب بن حامد بن حجوش بن حجاز بن عبيد ابن حميد و يسمون الحجز و على عهد يغمراسن لمعرف بن سعيد بن رباب منهم و هو رديف لداود كما قلناه و وقعت بين عثمان و بين داود بن عطاف مغاضبة و سخطه عثمان لما أجاز الأمير أبا زكريا ابن السلطان أبي إسحق من آل أبي حفص حين فر من تلمسان طالب الخروج على الخليفة بتونس و كان عثمان بن يغمراسن في بيعته فاعتزم على رجعه فأبى داود من إخفار ذمته في ذلك و رحل معه حتى لحق بعطية بن سليمان من شيوخ الزواودة و تغلب على بجاية و قسنطينة كما يذكر في أخباره
و أقطع داود بن هلال رعيا لفعلته وطنا من بلاد حمزة يسمى كدارة و أقام داود هنالك في مجالاتهم الأولى إلى أن نازل يوسف بن يعقوب تلمسان و طال حصاره لها فوفد عليه داود مؤملا صلاح حاله لديه و حمله صاحب بجاية رسالة إلى يوسف بن يعقوب فاستراب به من أجلها فلما قفل من وفادته بعث في أثره خيالة من زناتة بيتوه ببني يبقى في سد و قتلوه و قام بأمره في قومه ابنه سعيد و نفس مخنق الحصار عن تلمسان و كان قبل بني مرين و سيلة رعاها لهم بنو عثمان بن يغمراسن فرجعوهم إلى مواطنهم و مع قومهم و قد اغتر أولاد معرف بن سعيد في غيبتهم تلك يساجلونهم في رياسة بني عامر و غص كل واحد بمكان صاحبه و اختص بنو معرف بإقبال الدولة عليهم لسلامتهم من الحزازة و الخلاف و نزع سعيد بن داود لأجل هذه الغيرة إلى بني مرين
و وفد على السلطان أبي ثابت من ملوكهم يؤمل به الكرة فلم يصادف لها محلا و رجع إلى قومه و كانوا مع ذلك حيا جميعا و لم تزل السعاية بينهم تدب حتى عدا إبراهيم بن يعقوب بن معرف على سعيد بن داود فقتله و تناول قتله ماضي بن ردان من أولاد معرف بن عامر بمجالاته و تعصب عليه أولاد رباب كافة فافترق أمر بني عامر و صاروا حيين بنو يعقوب و بنو حميد و ذلك لعهد أبي حمو موسى بن عثمان من آل زيان و قام بأمر بني يعقوب بعد سعيد ابنه عثمان ثم هلك بعد حين إبراهيم بن يعقوب شيخ بني حميد و قام مقامه من قومه ابنه عامر بن إبراهيم و كان شهما حازما و له ذكر و نزل المغرب قبل عريف بن يحيى و نزل على السلطان أبي سعيد و أصهر إليه ابنته فأنكحه عامر إياها و زفها إليه و وصله بمال له خطر فلم يزل عثمان يحاول أن يثأر منه بأبيه بالفتنة تارة و الصلح و الاجتماع أخرى حتى غدره في بيته و قتله و ارتكب فيه الشنعاء التي تنكرها العرب فتقاطع الفريقان لذلك آخر الدهر و صارت بنو يعقوب أحلافا لسويد في فتنتهم مع بني حميد هؤلاء ثم تلاحقت ظواعن سويد بعريف بن يحيى في مكانه عند بني مرين و استطال و لد عامر ابن إبراهيم بقومهم على بني يعقوب فلحقوا بالمغرب ولم يزالوا به إلى أن جاؤا في عساكر السلطان أبي الحسن و هلك شيخهم عثمان قتله أولاد عريف بن سعيد بثأر عامر بن إبراهيم و ولي بعده ابن عمه هجرس بن غانم بن هلال فكان رديفا له في حياته ثم هلك و قام بأمرهم بعده عمه سليمان بن داود
و لما تغلب السلطان أبو الحسن على تلمسان فر بنو عامر بن إبراهيم إلى الصحراء و كان شيخهم لذلك العهد صغير ابنه و استأنف السلطان على يد عريف بن يحيى سائر بطون حميد و أولاد رباب فخالف صغيرا إخوانه إلى السلطان و ولي عليهم شيخا من بني عمهم عريف بن سعيد و هو يعقوب بن العباس بن ميمون بن عريف و وفد بعد ذلك عمر بن إبراهيم عم صغير فولاه عليهم و استخدمهم و لحق بنو عامر بن إبراهيم بالزواودة و نزلوا على يعقوب بن علي و لم يزالوا هناك حتى شبوا نار الفتنة بالدعي بن هيدور الملبس بشبه أبي عبد الرحمن ابن السلطان أبي الحسن و أعانه على ذلك أهل الحقود على الدولة و الأضعان من الديالم و أولاد ميمون بن غنم ابن سويد نقموا على الدولة مكان عريف و ابنه و نزمار منها فاجتمعوا و بايعوا لهذا الداعي
و أوعز السلطان إلى و نزمار بحربهم فنهض إليهم بالعرب كافة و أوقع بهم و فضهم و مزق جموعهم و طال مفر مقير بن عامر و إخوته في القفار و ابعدوا في الهرب قطعوا لعرق الرمل الذي هو سياج على مجالات العرب و نزل قليعة والد و أوطنها
و وفد من بعد ذلك على السلطان أبي الحسن منذ نمي به فقبل وفادته و استرهن أخاه أبا بكر و صحب السلطان إلى أفريقية و حضر معه واقعة القيروان ثم رجع إلى قومه و عادوا جميعا إلى لواتة بني يغمراسن و استخدموا قبائلهم لأبي سعيد عثمان ابن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمراسن الدائل بتلمسان بعد واقعة القيروان أعوام خمسين و سبعمائة فكان له و لقومه فيها مكان و لحق سويد و بنو يعقوب بالمغرب حتى جاؤا في مقدمة السلطان أبي عنان
و لما هلك بنو عبد الواد و افترق جمعهم فر صغير إلى الصحراء على عادته و أقام بالقفر يترقب الخوارج ولحق به أكثر قومه من بني معرف بن سعيد فأجلب بهم على كل ناحية و خالف أولاد حسين بالمعقل على السلطان أبي عنان أعوام خمس و خمسين و سبعمائة و ما بعدها و نازلوا سجلماسة فكاثرهم و كان معهم و أوقعت بهم عساكر بني مرين في بعض سني خلائهم و هم بنكور يمتارون فاكتسحوا عامة أموالهم و أثخنوا فيهم قتلا و أسرا و لم يزالوا كذلك شريدا في الصحراء و سويد و بنو يعقوب بمكانهم من المجالات و في خطهم عند السلطان حتى هلك السلطان أبو عنان و جاء أبو حمو موسى بن يوسف أخو السلطان أبي سعيد عثمان بن عبد الرحمن لطلب ملك قومه بتلمسان و كان مستقرا بتونس منذ غلبهم أبو علي على أمرهم فرحل مقير إلى وطن الزواودة و نزل على يعقوب بن علي أزمان خلافه على السلطان أبي عنان و داخله في استخلاص أبي حمو هذا من إيالة الموحدين للإجلاب على وطن تلمسان و بني مرين الذين به فأرسلوا معه الآلة و مضى به مقير وصولة بن يعقوب بن علي وزيان ابن عثمان بن سباع و شبل ابن أخيه ملوك بني عثمان و من بادية رياح دعار بن عيسى ابن رحاب بقومه من سعيد و بلغوا معهم إلى تخوم بلادهم فرجع عنهم رياح إلا دعار بن عيسى و شبل بن ملوك و مضوا لوجههم و لقيتهم جموع سويد و كان الغلب لبني عامر و قتل يومئذ شيخ سويد بن عيسى بن عريف و أسر أخوه أبو بكر ثم من عليه علي بن عمر بن إبراهيم و أطلقه و لم يتصل الخبر بفاس إلا و الناس منصرفون من جنازة السلطان أبي عنان ثم أجلب حمو بالمغرب على تلمسان فأخذها و غلب عساكر بني مرين عليها و استوسق ملكه بها ثم هلك مقير لسنتين أو نحوهما حمل نفسه في جولة فتنة في الحي يروم تسكينها على بعض الفرسان فاعترضه سنان رمح على غير قصد فأنفذه و هلك لوقته و ولي رياستهم من بعده أخوه خالد بن عامر يرادفه عبد الله ابن أخيه مقير و خلصت زغبة كلها للسلطان أبي حمو فأساء بني مرين لما كان بينهم من الفتنة و استخدم جميعا على مضاربهم و عوائدهم من سويد و بني يعقوب والد يالم و العطاف حتى إذا كانت فتنة أبي زيان ابن السلطان أبي سعيد عم أبي حمو كما نذكره في خبرهم جاش مرجل الفتنة من زغبة و اختلفوا على أبي حمو و تقبض على محمد بن عريف أمير سويد لاتهامه إياه بالادهان في أمره فنزع أخوه أبو بكر و قومه إلى صاحب المغرب عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن سنة سبعين و سبعمائة و جاؤا في قومته و استولى على موطنهم
و لحق بنو عامر و أبو حمو بالصحراء و طال ترددهم فيها و سعى عند أبي حمو في خالد من عمومته و أقاربه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب و معرف هو أخو إبراهيم بن يعقوب و كان عبد الله هذا بطانة للسلطان و عينا فاستفسد بذلك قلب خالد و تغير و نبذ إليه عهده و نزع إلى السلطان عبد العزيز و جاءت به عساكر بني مرين فأوقع بالسلطان أبي حمو و من معه من العرب
و هلك عبد العزيز سنة أربع و سبعين و سبعمائة فارتحل إلى المغرب هو و عبد الله ابن أخيه مقير و لحقهم ساسي بن سليم بن داود شيخ بني يعقوب كان قومه بني يعقوب قتلوا أبناء محمد بن عريف فحدثت بينهم فتنة و لحق ساسي هذا و قومه بالمغرب و صحب خالدا يؤمل به الكرة و يئسوا من صريخ بني مرين لم بينهم من الفتنة فرجعوا إلى أوطانهم سنة سبع و سبعين و سبعمائة و أضرموا نار الفتنة و خرجت إليهم عساكر السلطان أبي حمو مع ابنه أبي تاشفين و زحف معه سويد و الديالم و العطاف فأوقعوا بهم على وادي مينا قبلة القلعة
و قتل عبد الله بن مقير و أخوه ملوك في قرابة لهم آخرين و سار فلهم شريدا إلى الصحراء و لحقوا بالديالم و العطاف و اجتمعوا جميعا إلى سالم بن إبراهيم كبير الثعالبة و صاحب وطن تيجه و كان يتوجس لأبي حمو الخيفة فاتفقوا على الخلاف و بعثوا إلى الأمير أبي زيان بمكانه من وطن رياح فجاءهم و تابعوه و أمكنه سالم من الجزائر ثم هلك خالد في بعض تلك الأيام فافترق أمرهم و ولي علي بني عامر المسعود بن مقير و زحف إليهم أبو حمو في سويد و أولئائه من بني عامر
و استخدم سالم بن ابراهيم و خرج أبو زيان إلى مكانه من وكن رياح و لحق المسعود ابن عامر و قومه بالقفر و لحق ساسي بن سليم بيعقوب بن علي و قومه من الزواودة
ثم راجعوا جميعا خدمة السلطان و أوفدوا عليه فأمنهم و قدموا عليه و أظهروا البر و الرحب بالمسعود و ساسي و طوى لهم على السوء ثم داخل بطانة من بني عامر و سويد في نكبتهم فأجابوه و مكر بهم و بعث ابنه أبا تاشفين لقبض الصدقات من قومهم حتى اجتمع له ما أراد من الجموع قتقبض على المسعود و عشرة من إخوانه بني عامر بن إبراهيم و نهض أبو تاشفين و العرب جميعا إلى أحياء بني يعقوب و كانوا بسيرات و قد أرصد لهم سويد بوادي مينا فصحبهم بنو عامر بمكانهم و اكتسحوهم و صار فلهم سويد بوادي مينا فصبحهم بنو عامر بمكانهم و اكتسحوهم و صار فلهم إلى الصحراء فأعترضهم أبو تاشفين ببني راشد فلم يبق لهم باقية و نجا ساسي بن سليم إلى الصحراء في فل قليل من قومه و نزل على النضر ابن عروة و استبد برياسة بني عامر سليمان بن ابراهيم بن يعقوب عم مقير و رديفه عبد الله بن عسكر بن معرف بن يعقوب و هو أقرب مكانا من السلطان و خلعه
ثم بعث صاحب المغرب السلطان أبو العباس أحمد بن الولي أبا سالم بالشفاعة في المسعود و إخوانه بوسيلة من ونزمار بن عريف بعد أن كان مداخلا لأبي حمو و لإخوانه في نكبتهم فأطلقهم أبو حمو بتلك الشفاعة فعادوا إلى الخلاف و خرجوا إلى الصحراء و اجتمع إليهم الكثير من أولاد إبراهيم بن يعقوب و اجتمع أيضا فل بني يعقوب من مطارحهم إلى شيخهم ساسي بن سليم و نزلوا جميعا مع عروة و أوفد إخوانه على السلطان أبي العباس صاحب أفريقية لهذا العهد منتدبا به و صريخا على عدوه فتلقاه من البر و الإحسان ما يناسبه و أفاض في وفده العطاء و صرفه بالوعد الجميل
و شعر بذلك أبو حمو فبعث من عيونه من اغتاله و وفد بعدها على السلطان أبي العباس صاحب أفريقية علي بن عمر بن إبراهيم و هو ابن عم خالد بن محمد و كبير النفر المخالفين من بني عامر على أبي حمو
و وفد معه سليمان بن شعيب بن عامر فوفدوا عليه بتونس يطلبون صريخه فأجابتهم و وعدهم و احسب الإحسان و المبرة أمامهم و رجعوا إلى قومهم ثم راجع علي بن عمر خدمة أبي حمو و قدمه على بني عامر و أدال به من سليمان بن إبراهيم بن عامر فخرج سليمان إلى أهل بيته من ولد عامر بن إبراهيم الذين بالصحراء و نزلوا مع بني يعقوب بأحياء أبي بكر بن عريف و هو على ذلك لهذا العهد و لله مقدر الليل و النهار (6/68)
عروة بن زغبة
و أما عروة بن زغبة فهم بطنان : النضر بن عروة و خميس بن عروة و بطون خميس ثلاثة : عبيد الله و فرغ و يقظان من بطون فرغ بنو قائل أحلاف أولاد يحيى من المعمور القاطنين بجبل راشد و بنو يقظان و عبيد الله أحلاف لسويد يظعنون لظعنهم و يقيمون لإقامتهم و رياستهم لأولاد عابد من بطن راشد و أما النضر بن عروة فمنتبذون بالقفر ينتجعون في رماله و يصعدون إلى أطراف التلول في إيالة الديالم و العطاف و حصين و تخوم أوطانهم و ليس لهم ملك و لا أقطاع لعجزهم عن دخول التلول بلغتهم و ممانعة بطون زغبة الآخرين عنها إلا ما تغلبوا عليه في أذناب الوطن بجبل المستند مما يلي وطن رياح يسكنه قوم من غمرة و زناتة استمر عليهم غلب العرب منذ سنين فوضع النضر هؤلاء عليهم الأتاوة و أصاروهم خولا و رعية و ربما نزل منهم مع هؤلاء البرابر من عجز عن الظعن في بيوتهم و لهم بطون مذكورة أولاد خليفة و الخماننة و شريعة السحاوى و ذوي زيان و أولاد سليمان و رياستهم جميعا في أولاد خليفة بن النضر بن عروة و هي لهذا العهد لمحمد بن زيان بن عسكر ابن خليفة و رديفه سمعون بن أبي يحيى بن خليفة بن عسكر و أكثر السحارى موطنون بجبل المستند الذي ذكرناه و رياستهم في أولاد و ناجعة هؤلاء النضر أحلاف لزغبة دائما فتارة للحرب و حصين جيرانهم في المواطن و تارة لبني عامر في فتنتهم مع سويد و ندبتهم مع بني عامر فيما يزعمون بأبي قحافة و سمعت من مشايخهم أنه ليس بأب لهم و إنما هو إسم واد كان به حلفهم قديما و ربما يظاهرون سويدا على بني عامر إلا أنه في الأقل و الندرة و هم إلى حلف بني عامر أقرب و أسرع لما ذكرناه و ربما ظاهروا رياحا بعض المرات في فتنتهم لجوار الوطن إلا أنه قليل أيضا و في النادر و يتناولون في الأكثر مع البادية من رياح مثل مسلم و سعيد و ربما وقعت بينهم حروب في القفر يصيب فيها بعض من دماء بعض هذه بطون زغبة و ما تأدى إلينا من أخبارهم و لله الخلق و الأمر و هو رب العالمين (6/75)
الخبر عن المعقل من بطون هذه الطبقة الرابعة و أنسابهم و تصاريف أحوالهم
هذا القبيل لهذا العهد من أوفر قبائل العرب و مواطنهم بقفار المغرب الأقصى مجاورون لبني عامر من زغبة في مواطنهم بقبلة تلمسان و ينتهون إلى البحر المحيط من جانب الغرب و هم ثلاثة بطون :
ذوي عبيد الله و ذوي منصور و ذوي حسان فذوي عبيد الله منهم هم المجاورون لبني عامر و مواطنهم بين تلمسان و تاوريرت في التل و ما يواجهها من القبلة و مواطن ذوي منصور من تاوريرت إلى بلاد درعة فيستولون على ملوية كلها الى سجلماسة و على درعة و على ما يحاذيها من التل مثل تازي و غساسة و مكناسة و فاس و بلاد تادلا و المقدر و مواطن ذوي حسان من درعة إلى البحر المحيط و ينزل شيوخهم بلاد نول قاعدة السوس فيستولون على السوس الأقصى و ما إليه و ينتجعون كلهم في الرمال إلى مواطن الملثمين من كدالة مستوفة و لمتونة
و كان دخولهم إلى المغرب مع الهلاليين في عدد قليل يقال إنهم لم يبلغوا المائتين
و اعترضهم بنو سليم فأعجزوهم و تحيزوا إلى الهلاليين منذ عهد قديم و نزلوا بآخر مواطنهم مما يلي ملوية و مال تافيلالت و جاوروا زناتة في القفار و الغربية فعفوا و كثروا و أنبتوا في صحارى المغرب الأقصى فعمروا رماله و تغلبوا في فيافيه و كانوا هناك أحلافا لزناتة سائر أيامهم و بقي منهم بأفريقية جمع قليل اندرجوا في جملة بني كعب بن سليم و داخلوهم حتى كانوا وزراء لهم في الاستخدام للسلطان و استئلاف العرب
فلما ملكت زناتة بلاد المغرب و دخلوا إلى الأمصار و المدن قام هؤلاء المعقل في القفار و تفردوا في البيداء فنموا نموا لا كفاء له و ملكوا قصور الصحراء التي اختطها زناتة بالقفر مثل قصور السوس غربا ثم توات ثم جودة ثم تامنطيت ثم واركلان ثم تاسبيبت ثم تيكورارين شرقا و كل واحد من هذه وطن منفرد يشتمل على قصور عديدة ذات نخيل و أنهار و أكثر سكانها من زناتة و بينهم فتن و حروب على رياستها فجاز عرب المعقل هؤلاء الأوطان في مجالاتهم و وضعوا عليها الأتاوات و الضرائب و صارت لهم جباية يعتدون فيها ملكا و كانوا من تلك السالفة يعطون الصدقات لملوك زناتة و يأخذونهم بالدماء و الطوائل و يسمونها حمل الرحيل و كان لهم الخيار في تعيينها
و لم يكن هؤلاء العرب يستبيحون من أطراف المغرب و حلوله حمى و لا يعرضون لسابلة سجلماسة و لا غيرها من بلاد السودان بأذية و لا مكروه لما كان بالمغرب من اعتزاز الدين و سد الثغور و كثرة الحامية أيام الموحدين و زناتة بعدهم و كان لهم بإزاء ذلك اقطاع من الدول يمدون إلى أخذه اليد السفلى و فيهم من مسلم سعيد بن رياح و العمور من الأثبج و عددهم كما قلنا قليل و إنما كثروا بمن اجتمع إليهم من القبائل من غير نسبهم فإن فيهم من فزارة من أشجع أحياء كبيرة و فيهم الشظة من كرفة و المهاية من عياض والشعراء من حصين و الصباح من الأخضر و من بني سليم و غيرهم و أما أنسابهم عند الجمهور فخفية و مجهولة و سلافة العرب من هلال يعدونهم من بطون هلال و هو غير صحيح و هم يزعمون أن نسبهم في أهل البيت إلى جعفر بن أبي طالب و ليس ذلك بصحيح لأن الطالبيين و الهاشميين لم يكونوا أهل بادية و نجعة و الصحيح و الله أعلم من أمرهم أنهم من عرب اليمن فإن فيهم بطنين يسمى كل واحد منهما بالمعقل دكرهما ابن الكلبي و غيره فأحدهما من قضاعة بن مالك بن حمير و هو معقل بن كعب بن غليم بن خباب بن هبل بن عبد الله بن كنانة ابن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد بن اللات بن رفيدة بن ثور بن كعب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة و الآخر من بني الحرث بن كعب ابن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج و إسمه مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن غريب بن زير بن كهلان و هو معقل و إسمه ربيعة بن كعب بن ربيعة بن كعب بن الحرث
و الأنسب أن يكونوا من هذا البطن الآخر الذي من مذحج كان إسمه ربيعة و قد عده الأخباريون في بطون هلال الداخلين إلى أفريقية لأن مواطن بني الحرث بن كعب قريب من البحرين حيث كان هؤلاء العرب مع القرامطة قبل دخولهم إلى أفريقية و يؤيده أن ابن سعيد لما ذكر مذحج و أنهم بجهات الجبال من اليمن و ذكر من بطونهم زبيد و مراد ثم قال : و بأفريقية منهم فرقة و برية ترتحل و تنزل و هؤلاء الذين ذكر إنما هم المعقل الذين هم بأفريقية و هم فرقة من هؤلاء الذين بالمغرب الأقصى
و من إملاء نسابتهم أن معقل جدهم له من الولد سحير و محمد فولد سحير عبيد الله و ثعلب فمن عبيد الله ذوي عبيد الله البطن الكبير منهم و من ثعلب الثعالبة الذين كانوا ببسيط متيجة من نواحي الجزائر و ولد محمد : مختار و منصور و جلال و سالم و عثمان فولد مختار بن محمد : حسان و شبانة فمن حسان ذوي حسان البطن المذكور أهل السوس الأقصى و من شبانة الشبانات جيرانهم هنالك و منهم بطنان : بنو ثابت و موطنهم تحت جبل السكسيوي من جبال أدرن و شيخهم لهذا العهد أو ما قبله يعيش بن طلحة
و البطن الآخر علي و موطنهم في برية هنكيسة تحت جبل كزولة و شيخهم لهذا العهد أو ما قرب منه حريز بن علي و من جلال سالم و عثمان الرقيطات بادية لذوي حسان ينتجعون معهم و ولد منصور بن محمد حسن و أبو الحسين و عمران و شب يقال لهم جميعا ذوي منصور و هو أحد بطونهم الثلاثة المذكورة و الله سبحانه و تعالى أعلم بغيبه و أحكم (6/77)
ذوي عبيد الله
فأما ذوي عبيد الله فهم المجاورون لبني عامر بن زغبة من سلطان بني عبد الواد من زناتة فمواطنهم من بين تلمسان إلى وحدة إلى مصب وادي ملوية في البحر و منبعث وادي صامن القبلة و تنتهي رحلتهم في القفار إلى قصور توات و تمنطيت و ربما عاجوا إلى ذات الشمال إلى تاسابيت و توكرارين و هذه كلها رقاب القفر إلى بلد السودان و بينهم و بين بني عامر فتن و حروب موصولة و كان لهم مع بني عبد الواد مثلها قبل السلطان و الدولة فما كانوا أحلافا لبني مرين و كان المنبات من ذوي منصور أحلافا لبني عبد الواد فكان يغمراسن يوقع بهم أكثر أوقاته و ينال منهم إلى أن صحبوا بسبب الجوار و اعتزت عليهم الدولة فأعطوا الصدقة و الطوائل و عسكروا مع السلطان في حروبه
و لم يزل ذلك إلى أن لحق الدولة الهرم الذي يلحق مثلها فوطنوا التلول و تملكوا وجدة و ندرومة و بني يزناسن و مديونة و بني سنوس إقطاعا من السلطان إلى ما كان لهم عليها قبل من الأتاوات و الوضائع فصار معظم جبايتها لهم و ضربوا على بلد هنين بالساحل ضريبة الإجازة منها إلى تلمسان فلا يسير ما بينهما مسافر أيام حلولهم بساحتها إلا بإجازتهم و على ضريبة يؤديها إليهم و هم بطنان الهراج و الخراج فالخراج من ولد فراج بن مطرف بن عبيد الله و رياستهم في أولاد عبد الملك و فرج بن علي بن أبي الريش بن نهار بن عثمان بن خراج لأولاد عيسى بن عبد الملك و يعقوب بن عبد الملك و يغمور بن عبد الملك
و كان يعقوب بن يغمور شيخهم لعهد السلطان أبي الحسن و لما تغلب على تلمسان استخدم له عبيد الله هؤلاء و كان يحيى بن العز من رجالة بني يزناسن أهل الجبل المطل على وجدة و كان له قدم في خدمة الدول فاتصل بالسلطان أبي الحسن و رغبه في ملك قصور هذه الصحراء فبعثه مع هؤلاء العرب في عسكر و دخل معهم إلى الصحراء و ملك تلك القصور و استولى عليها و أسف عبيد الله بانتزاع أملاكهم و سوء المعاملة لهم فوثبوا به و قتلوه في خبائه و انتهبوا عسكر السلطان الذين معه و نقضوا الطاعة و فر يعقوب بن يغمور فلم يزل شريدا بالصحراء سائر أيامه و رجع بعد ذلك
ثم عادت دولة بني عبد الواد فصدوا في ولايتها فلم يزل على ذلك و خلفه إبنه طلحة و كان أيام خلاف يعقوب و انتقاضه رأس على الخراج من أهل بيته منصور ابن يعقوب بن عبد الملك و إبنه رحو من بعده و جاء أبو حمو فكان له في خدمته و مخالطته قدم فقدمه شيخا عليهم فرياستهم لهذا العهد منقسمة بين رحو بن منصور ابن يعقوب بن عبد الملك و بين طلحة بن يعقوب المذكور آنفا و ربما نازعه و لهم بطون كثيرة فمنهم الجعاونة من جعوان بن خراج و الغسل من غاسل بن خراج و المطارفة من مطرف بن خراج و المهايا من عثمان بن خراج و فيهم رياستهم كما قلناه و معه الناجعة يسمون بالمهايا ينسبون تارة إلى المهايا بن عياض و قدمنا ذكرهم وتارة إلى مهايا بن مطرف و أما الهرج فمن ولد الهراج بن مهدي بن محمد ابن عبيد الله و مواطنهم في ناحية المغرب عن الخراج فيجاورون بني منصور و لهم تاوريرت و ما إليها و خدمتهم في الغالب لبني مرين و أقطاعاتهم من أيديهم و مواطنهم تحتهم و رجوعهم إلى عبد الواد في الأقل و في بعض الأحايين و رياستهم في ولد يعقوب بن هبا بن هراج لأولاد مرين بن يعقوب و أولاد مناد بن رزق الله ابن يعقوب و أولاد فكرون بن محمد بن عبد الرحمن بن يعقوب من ولد حريز بن يحيى الصغير بن موسى بن يوسف بن حريز كان شيخا عليهم أيام السلطان عبد العزيز و هلك عقبه و رأس عليهم ابنه و من و لد متاد أبو يحيى الكبير بن مناد كان شيخا قبل أبي يحيى الصغير و بالإضافة إليه وصف بالصغير و منهم أبو حميدة محمد بن عيسى بن مناد و هو لهذا العصر رديف لشيخهم من ولد أبي يحيى الصغير و هو كثير التقلب في القفار و الغزو للقاصية و لأهل الرمال و الملثمين و الله مالك الملوك لا رب غيره و لا معبود سواه و هو نعم المولى و نعم النصير (6/80)
الثعالبة
و أما الثعالبة إخوتهم من ولد ثعلب بن علي بن بكر بن صغير أخي عبيد الله بن صغير فموطنهم لهذا العهد بمتيجة من بسيط الجزائر و كانوا قبلها بقطيري مواطن حصين لهذا العهد نزلوها منذ عصور قديمة و أقاموا بها حيا حلولا و يظهر أن نزولهم لها حين كان ذوي عبيد الله في مواطن بني عامر لهذا العهد وكان بنو عامر في مواطن بني سويد فكانت مواطنهم لذلك العهد متصلة بالتلول الشرقية فدخلوا من ناحية كزول و تدرجوا في المواطن إلى ضواحي المدينة و نزلوا جبل تيطري و هو جبل أشير الذي كانت فيه المدينة الكبيرة فلما تغلب بنو توجين على التلول و ملكوا وانشريش زحف محمد بن عبد القوى إلى المدينة فملكها و كانت بينهم و بينه حروب و سلم إلى أن وفدت عليه مشيختهم فتقبض عليهم و أغزى من وراءهم من بقية الثعالبة و استلحمهم و اكتسح أموالهم
و غلبهم بعدها على تيطري و أزاحهم عنها إلى متيجة و أنزل قبائل حصين بتيطري و كانوا معه في عداد الرعايا يؤدون إليه المغارم و الوظائف و يأخذون بالعسكرة معه و دخل الثعالبة هؤلاء في إيالة ملكيش من صنهاجة ببسيط متيجة و أوطنوا تحت ملكتهم و كان لهم عليهم سلطان كما نذكره حتى إذا غلب بنو مرين على المغرب الأوسط و أذهبوا ملك ملكيش منها استبد الثعالبة هؤلاء بذلك البسيط و ملكوه و كانت رياستهم في ولد سباع بن ثعلب بن علي بن مكر بن صغير و يزعمون أن سباعا هذا كان إذا وفد على الموحدين يجعلون من فوق عمامته دينارا يزن عددا من الدنانير سابقة في تكرمته و ترفيعه
و سمعت من بعض مشيختنا أن ذلك لما كان من كرامته للإمام المهدي حين أجاز بهم فإنه مر بهم ساعيا فحملوه و استقرت الرياسة في ولد سباع هذا في بني يعقوب بن سباع أولا فكانت لهم مددا ثم في عقب حنيش منهم ثم غلب السلطان أبو الحسن على ممالك بني عبد الواد و نقلهم إلى المغرب و صارت الولاية لهم لأبي الحملات بن عائد بن ثابت و هو ابن عم حنيش و هلك في الطاعون الجارف أواسط هذه المائة الثامنة لعهد نزول السلطان أبي الحسن بالجزائر من تونس فولى عليهم أواسط هذه المائة الثامنة لعهد نزول السلطان أبي الحسن بالجزائر من تونس فولى عليهم إبراهيم بن نصر
و لم تزل رياستهم إليه إلى أن هلك بعد استيلاء السلطان أبي عنان عن المغربين كما نذكره في أخباره و قام برياستهم إبنه سالم و كانوا أهل مغارم و وضيعه لمكيش و من بعدهم من ولاة الجزائر حتى إذا هبت ريح العرب أيام خروج أبي زيان و حصين على أبي حمو أعوام ستين و سبعمائة كما ذكرناه و كان شيخهم لذلك العهد سالم بن ابراهيم بن نصر بن حنيش بن أبي حميد بن ثابت بن محمد بن سباع فأخب في تلك الفتنة و أوضع و عاقد أبو حمو و انتقض عليه مرارا و غلب بنو مرين على تلمسان فتحيز إليهم و كانت رسله و وفده تقدموا إليهم بالمغرب
ثم هلك السلطان عبد العزيز و رجع أبو حمو إلى ملكه و نزلت الغوائل فخشيه سالم
و استدعى أبا زيان و نصبه بالجزائر و زحف إليه أبو حمو سنة تسع و سبعين و سبعمائة ففض جمعه و راجع سالم خدمته و فارق أبا زيان كما نذكره في أخباره ثم زحف إليه أبو حمو و حاصره بجبال متيجة أياما قلائل و استنزله على عهده ثم أخفره و تقبض عليه و قاده إلى تلمسان أسيرا و قتله قعصا بالرماح و ذهب أثره و ماكان له من الرياسة التي لم تكن الثعالبة لها بأهل ثم تتبع إخوانه و عشيره و قبيله بالقتل و السبي و النهب إلى أن دثروا و الله يخلق ما يشاء (6/84)
ذوي منصور
و أما أولاد منصور بن محمد فهم معظم هؤلاء المعقل و جمهورهم و مواطنهم تخوم المغرب الأقصى من قبلته ما بين ملوية و درعة و بطونهم أربعة : أولاد حسين و أولاد أبي الحسين و هما شقيقان و العمارنة أولاد عمران و المنبات أولاد منبا و هما شقيقان أيضا و يقال لهذين البطنين جميعا الأحلاف فأما أولاد أبي الحسن فعجزوا عن الظعن و نزلوا قصورا اتخذوها بالقفر ما بين تافييلات و تيكورارين
و أما أولاد حسين فهم جمهور ذوي منصور و لهم العزة عليهم و رياستهم أيام بني مرين في أولاد خالد ابن جرمون بن جرار بن عرفة بن فارس بن علي بن فارس بن حسين بن منصور كانت أيام السلطان أبي الحسن لعلي بن غانم و هلك إثر كائنة طريف و صارت لأخيه يحي ثم لابنه عبد الواحد بن يحيى ثم لأخيه زكريا ثم لابن عمه أحمد ابن رحو بن غانم ثم لأخيه يعيش ثم لابن عمه يوسف بن علي بن غانم لهذا العهد
و كنت لبني مرين فيهم وقائع أيام يعقوب بن عبد الحق و ابنه يوسف و سيأتي في أخبار بني مرين غزوة يوسف بن يعقوب من مراكش إليهم و كيف أوقع بهم بصحراء درعة و لما أقام بالشرق على تلمسان محاصرا لها أحلف هؤلاء العرب من المعقل على أطراف المغرب ما بين درعة و ملوية إلى تاوريرت و كان العامل يومئذ بدرعة عبد الوهاب بن صاعد من صنائع الدولة و كبار ولاتها فكانت بينه و بينهم حروب قتل في بعضها ثم هلك يوسف بن يعقوب و رجع بنو مرين إلى المغرب فأخذوا منهم بالثأر حتى استقاموا على الطاعة و كانوا يعطون الصدقة أطوع ما يكون إلى أن فشل ريح الدولة و اعتزت العرب فصاروا يمنعون الصدقة إلا في الأقل يغلبهم السلطان على إعطائها
و لما استولى السلطان أبو عنان على تلمسان أعوام خمسين و سبعمائة و فر صغير بن عامر إلى الصحراء و نزل عليهم و استجار بهم فأجاروه ونزل السلطان عليهم ذلك فأجمعوا نقض طاعته و أقاموا معه بالصحراء و صغير متولي كبر ذلك الخلاف حتى إذا هلك أبو عنان و كان من سلطان أبي حمو بتلمسان ما نحن ذاكروه و زحف بنو مرين إلى تلمسان ففر منها أبو حمو و صغير و نزلوا عليهم فأوقعوا بعسكر بني مرين بنواحي تلمسان و اتسع الخرق بينهم و بين بني مرين فانحازوا إلى أبي حمو و سلطانه و أقطعهم بضواحيه ثم رجعوا إلى أوطانهم بعد مهلك السلطان أبي سالم أعوام ثلاث و ستين و سبعمائة على حين اضطراب المغرب بفتنة أولاد السلطان أبي علي و نزولهم بسجلماسة فكان لهم في ذلك الفتنة آثار إلى أن انقشعت
ثم كان لأحمر بن رحو مع أبي حمو جولة و أجلب عليه بأبي زيان حافد أبي تاشفين فقتل في تلك الفتنة كما نذكره ثم اعتدوا على الدولة من بعد ذلك و أكثر مغارم درعة لهذا العهد و أقطع لهم ببلاد تادلا و المعرر من تلك الثنايا التي منها دخولهم إلى المغرب للمربع و المصيف و لميرات الأقوات و سجلماسة من مواطن إخوانهم الأحلاف كما نذكره و ليست من مواطنهم فأما درعة فهي من بلاد القبلة موضوعة حفا في الوداي الأعظم المنحدر من جبل درن من فوهة يخرج منها وادي أم ربيع و يتساهل إلى البسائط و التلول و وادي دريعة ينحدر إلى القبلة مغربا إلى أن يصب في الرمل ببلاد السوس و عليه قصور درعة و واد آخر كبير أيضا ينحدر إلى القبلة مشرقا بعض الشيء إلى أن يصيب في الرمل دون تيكورارين و في قبلتها
و عليه من جهة المغرب قصور توات ثم بعدها تمنطيت ثم بعدها و ركلان
و عندها يصب في الرمل و في الشمال عن ركان قصور تسابيت و في الشمال عنها إلى الشرق قصور تيكورارين و الكل وراء عرب الرمل و جبال درن هي الجبال العظمية الجاثمة سياجا على المغرب الأقصى من آسفي إلى تازي و في قبلتها جبل نكيسة لصنهاجة و آخره جبل ابن حميدي من طرف هسكورة ثم ينعطف من هنالك جبال أخرى متوازية حتى تنتهي إلى ساحل بادس من البحر الرومي و صار المغرب لذلك كالجزيرة أحاطت الجبال به من القبلة و الشرق و البحر و من المغرب و الجوف و اعتمر هذه الجبال و البسائط التي بينها أمم من البربر لا يحصيهم إلا خالقهم و المسالك بين هذه الجبال إلى المغرب منحصرة ثم معدودة و بأزاء القبائل المعتمرين لها كاظة و مصب وادي درعة هذا إلى الصحراء و الرمال ما بين سجلماسة وبلاد السوس و يمتد إلى أن يصب في البحر ما بين نون و وادان و حفافيه قصور لا تحصى شجرتها النخل و قاعدتها بلد تادنست بلد كبير يقصده التجر للسلم في النيلج و انتظار خروجه بالصناعة و لأولاد حسين هؤلاء استيلاء على هذا الوطن و من بإزائه في فسيح جبلة من قبائل البربر صناكة و غيرهم و لهم عليهم ضرائب و خفرات و وضائع و لهم في مجابي السلطان أقطاعات و يجاوروهم الشبانات من أولاد حسان من ناحية الغرب فلهم بسبب ذلك على درعة بعض الأتاوات
و أما الأحلاف من ذوي منصوروهم العمارنة و المنبات فمواطنهم مجاورة لأولاد حسين من ناحية الشرق و في مجالاتهم بالقفر تافيلات و صحراؤها و بالتل ملوية و قصور وطاط و تازي و بطوية و غساسة لهم على ذلك كله الآتاوات و الوضائع و فيها الأقطاعات السلطانية و بينهم و بين أولاد حسين فتنة و يجمعهم العصبية في فتنة من سواهم و رياسة العمارنة في أولاد مظفر بن ثابت بن مخلف بن عمران و كان شيخهم لعهد السلطان أبي عنان طلحة بن مظفر و ابنه الزبير و لهذا العهد محمد بن الزبير و أخوه موسى و يرادفهم في رياستهم أولاد عمارة بن قلان بن مخلف فكان منهم محمد العائد و منهم لهذا العهد سليمان بن ناجي بن عمارة ينتجع في القفر و يكثر الغزوا إلى اعتراض العير و قصور الصحراء
و رياسة المنبات لهذا العهد لمحمد بن عبد بن حسين بن يوسف بن فرج بن منبا و كانت أيام السلطان أبي عنان لأخيه علي من قبله و ترادفهم في رياستهم ابن عمهم عبد الله بن الحاج عامر بن أبي البركات بن منبا و المنبات و العمارنة اليوم إذا اجتمعوا جميعا يكثر أولاد حسين و كان للمنبات كثرة لأول دولة بني مرين و كان خلفهم مع بني عبد الواد و كان مقدمه يغمراسن بن زيان في افتتاح سجلماسة و تملكها من أيدي الموحدين ثم تغلب بنو مرين عليها و قتلوا من حاربها من مشيختهم مع بني عبد الواد ثم أوقعوا بالمنبات من بعد ذلك في مجالاتهم بالقفر و استلحموهم فنقص عددهم لذلك آخر الأيام و الله مالك الأمور لا رب سواه (6/87)
ذوي حسان عرب السوس
و أما بنو مختار بن محمد فهم كما قدمناه : ذوي حسان و الشبانات و الرقيطات و منهم أيضا الجياهنة و أولاد أبورية و كانت مواطنهم بنواحي ملوية إلى مصبه في البحر مع إخوانهم ذوي منصور و عبيد الله إلى أن استصرخهم علي بن يدر الزكندي صاحب السوس من بعد الموحدين و نسبه ابن عمه في عرب الفتح و كانت بينه و بين كزولة الظواعن ببسائط السوس و جبالة فتنة طويلة استصرخ لها بني مختار هؤلاء فصارخوه و ارتحلوا إليه بظعونهم و حمدوا مواطن السوس لعدم المزاحم من الظواعن فيها فأوطنوها و صارت مجالاتهم بقفرها و غلبوا كزولة و أصاروهم في جملتهم و من ظعونهم و غلبوا على القصور التي بتلك المواطن في سوس و نول و وضعوا عليها الأتاوات مثل تارودانت من سوس و هي ضفة وادي سوس حيث يهبط من الجبل و بين مصبه و مصب وادي ماسة حيث الرباط المشهور مرحلة إلى القبلة
و من هناك إلى زوايا أولاد بني نعمان مرحلة أخرى في القبلة على سائر البحر و تواصت على وادي نول حيث يدفع من جبل نكيسة غربا و بينها و بين إيفري مرحلة و العرب لا يغلبونها و إنما يغلبون على البسائط في نواحيها و كانت هذه المواطن لعهد الموحدين من جملة ممالكهم و أوسع عمالاتهم فلما انقرض أمر الموحدين حجبت عن ظل الدولة و خرجت عن إيالة السلطان إلا ما كان بها لبني يدر هؤلاء الذين قدمنا ذكرهم و كان علي بن يدر مالكا لقصورها و كان له من الجند نحو ألف فارس و ولي من بعده عبد الرحمن بن الحسن بن يدر و بعده أخوه علي بن الحسن
و كان لعبد الرحمن معهم حروب و فتن بعد استظهاره بهم وهزموه مرات متتابعة أعوام خمس و سبعمائة و ما بعده و غدر هو بمشيختهم و قتلهم بتارودانت سنة ثمان و سبعمائة من بعد ذلك و كان لبني مرين على هؤلاء المعقل السوس وقائع و أيام و ظهر يعقوب بن عبد الحق ببني مرين في بعضها الشبانات على بني حسان و استلحم منهم عددا و حاصرهم يوسف بن يعقوب بعدها فأمسكوها و أغرمهم ثمانية عشر ألفا و أثخن فيهم يوسف بن يعقوب ثانية سنة ست و ثمانين و سبعمائة و حاربتهم جيوشه أيضا أياما لحق بهم بنو كمي من بني عبد الواد و خالفوا على السلطان فترددت إليهم العساكر و اتصلت الحروب كما نذكر في أخباره
و لما استفحل أمر زناتة بالمغرب و ملك أبو علي ابن السلطان أبي سعيد سجلماسة و اقتطعها عن ملك أبيه بصلح وقع على ذلك انضوى إليه هؤلاء الأعراب أهل السوس من الشبانات و بني حسان و رغبوه في ملك هذه القصور فأغزاها من تخوم وطنه بدرعه و دخل القرى عنوة و فر علي بن الحسن و أمه إلى جبال نكسيه عند صنهاجة ثم رجع ثم غلب السلطان أبو الحسن و استولى على المغرب كله و رغبه العرب في مثلها من قصور السوس فبعث معهم عساكره و قائده حسون بن إبراهيم بن عيسى من بني يرينان فملكها و جبى بلاد السوس و أقطع فيه للحرب و ساسهم في الجباية فاستقامت حاله مدة
ثم أنقرض أمر السلطان أبي الحسن فانقرض ذلك و رجع السوس إلى حاله و هو اليوم ضاح من ظل الدولة و العرب يقتسمون جبايته و رعاياه من قبائل المصامدة و صنهاجه قبائل الجباية و الظواعن منهم يقتسمونهم خولا للعسكرة مثل كزولة مع بني حسان و زكرز و لخس من لمطة مع الشبانات هذه حالهم لهذا العهد و رياسة ذوي حسان في أولاد أبي الخليل بن عمر بن عفير بن حسن بن موسى بن حامد بن سعيد ابن حسان بن مختار لمخلوف بن أبي بكر بن سليمان بن الحسن بن زيان بن الخليل و لإخواته ولا أدري رياسة الشبانات لمن هي منهم إلا أنهم حرب لبني حسان آخر الأيام و الرقيطات في غالب أحوالهم أحلاف للشبانات و هم أقرب إلى بلاد المصامدة و جبال درن و ذوي حسان أبعد في القفر و الله تعالى يخلق ما يشاء لا إله إلا هو (6/91)
الخبر عن بني سليم بن منصور من هذه الطبقة الرابعة و تعديد بطونهم و ذكر أنسابهم و أولية أمرهم و تصاريف أحوالهم
و نبدأ أولا بذكر بني كعب و أخبارهم و أما بني سليم هؤلاء فبطن متسع من أوسع بطون مضر و أكثرهم جموعا و كانت منازلهم بنجد و هم بنو سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس و فيهم شعوب كثيرة و رياستهم في الجاهلية لبني الشريد ابن رياح بن ثعلبة بن عطية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهنة بن سليم و عمرو بن الشريد عظيم مضر و أبناؤه :
صخر و معاوية فصخر أبو الخنساء و زوجها العباس ابن مرداس صحابي حضرت معه القادسية
و من بطون سليم عطية و رعل و ذكوان اللذين دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم لما فتكوا بأصحابه فخمد ذكرهم و كان بنو سليم لعهد الخلافة العباسية شوكة بغي و فتنة حتى لقد أوصى بعض خلفائهم ابنه أن لا يتزوج فيهم و كانوا يغيرون على المدينة و تخرح الكتائب من بغداد إليهم وتوقع بهم و هم منتبذون بالقفر و لما كانت فتنة القرامطة صاروا حلفاء لأبي الطاهر و بنيه أمراء البحرين من القرامطة مع بني عقيل بن كعب
ثم لما انقرض أمر القرامطة غلب بنو سليم على البحرين بدعوة الشيعة لما أن القرامطة كانوا على دعوتهم ثم غلب بنو الأصفر بن تغلب على البحرين بدعوة العباسية أيام بني بويه و طردوا عنها بني سليم فلحقوا بصعيد مصر و أجازهم المستنصر على يد اليازوري وزيره إلى أفريقية لحرب المعز بن باديس عند خلافته عليهم كما ذكرنا ذلك أولا فأجازوا مع الهلاليين و أقاموا ببرقة و جهات طرابلس زمانا ثم صاروا إلى أفريقية كما يذكر في الخبر عنهم و بأفريقية و ما إليها من هذا العهد من بطونهم أربعة بطون زغب و ذياب و هبيب و عوف فأما زغب فقال ابن الكلبي في نسبته : زغب بن نصر بن خفاف بن امرىء القيس بن بهنة بن سليم و قال أبو محمد التجاني من مشيخة التونسيين في رحامة : أنه زغب بن ناصر بن خفاف بن جرير بن ملاك بن خفاف و زعم أنه أبو ذياب و زغب الأصغر الذين هم الآن من أحياء بني سليم بأفريقية و قال أبو الحسن بن سعيد : هو زغب بن مالك بن بهنة بن سليم كانوا بين الحرمين و هم الآن بأفريقية مع إخوانهم و نسب ذياب بن مالك بن بهنة فالله أعلم بالصحيح من ذلك
و نسب ابن سعيد و التجاني لهؤلاء قريب بعضه من بعض و لعله واحد و سقط لابن سعيد جد و أما هبيب فهو ابن بهنة بن سليم و مواطنهم من أول أرض برقة مما يلي أفريقية إلى العقبة الصغيرة من جهة الإسكندرية أقاموا هنالك بعد دخول إخوانهم إلى أفريقية و أول ما يلي الغرب منهم بنو حميد لهم أجرابية و جهاتها و هم عديد يرهبهم الحاج و يرجعون إلى شماخ لها عدد و لهم العز في هيت لكونها صارت خصب برقة الذي منه المرج و في شرقيهم إلى العقبة الكبيرة من قبائل هيب بنو لبيد و هم بطون عديدة وبين شماخ و لبيد فتن و حروب و في شرقيهم إلى العقبة الصغيرة شمال محارب و الرياسة في هاتين القبيلتين لبني عزاز و هم المعروفون بالعزة و جميع بطون هيب هذه استولت على إقليم طويل خربوا مدنه ولم يبق فيه مملكة ولا ولاية إلا لأشياخهم و في خدمتهم بربر و يهود يحترفون بالفلاحة و التجر و معهم من رواحة و فزارة أمم و اشتهر لهذا العهد ببرقة من شيوخ أعرابها أبو ذؤيب و لا أدري نسبه فيمن هو و هم يقولون من العزة و قوم يقولون من بني أحمد و قوم يجعلونه من فزارة هنالك قليل عددهم و الغلب لهيب فكيف تكون الرياسة لغيرهم ؟
و أما عوف فهو ابن بهنة بن سليم و مواطنهم من وادي قابس إلى أرض بونة و لهم حرمان عظيمان بمرداس و لعلاق بطنان بنو يحيى و حصن و في أشعار هؤلاء المتأخرين منهم مثل حمزة بن عمر شيخ الكعوب و غيره أن يحيى و علاقا أخوان و لبنى يحيى ثلاثة بطون : حمير و دلاج و لحمير بطنان : ترجم و كردم و من ترجم الكعوب بنو كعب بن أحمد بن ترجم و لحصن بطنان بنو علي و حكيم و نحن نأتي على الحكاية عن جميعهم بطنا بطنا و كانوا عند إجازتهم على أثر الهلاليين مقيمين ببرقة كما ذكرناه و هنالك نزل عليهم القاضي أبو بكر بن العربي و أبوه حين غرقت سفينتهم و نجوا إلى الساحل فوجدوا هنالك بني كعب فنزل عليهم فأكرمه شيخهم كما ذكر في رحلته
و لما كانت فتنة ابن غانية و قراقش الغزي بجهات طرابلس و قابس و ضواحيها كما نذكر في أخبارهم كان بنو سليم هؤلاء فيمن تجمع إليهم من ذؤبان العرب أو شاب القبائل فاعصوصبوا عليهم و كان لهم معهم حروب و قتل قراقش ثمانين من الكعوب و هربوا إلى برقة و استصرخوا برياح من بطون سليم و دبكل من حمير فصارخوهم إلى أن تجلت غمامة تلك الفتنة بمهلك قراقش و ابن غانية من بعده و كان رسوخ الدولة الحفصية بأفريقية و لما هلك قراقش و اتصلت فتنة ابن غانية مع أبي محمد بن أبي حفص و رجع بنو سليم إلى أبي محمد صاحب أفريقية و كان ابن غانية الزواودة من رياح و شيخهم مسعود البلط فر من المغرب و لحق به فكان معه هو و بنوه و بنو عوف هؤلاء من سليم مع الشيخ أبي محمد فلما استبد إبنه الأمير أبو زكريا بملك أفريقية رجعوا جميعا إليه و الشفوف للزواودة فلما انقطع دابر ابن غانية صرف عزمه إلى إخراج رياح من أفريقية لما كانوا عليه من العيث بها و الفساد فجاء بمرداس و علاق و هما بنو عوف بن سليم هؤلاء من بطونهم بنواحي السواحل و قابس و اصطنعهم
و رياسة مرداس يومئذ في أولاد جامع و بعده لإبنه يوسف و بعده هنان بن جابر بن جامع و رياسة علاق في الكعوب لأولاد شيخه ابن يعقوب بن كعب
و كانت رياسة علاق عند دخولهم أفريقية لعهد هذا المعز و بنيه لرافع بن حماد و عنده راية جده التي حضر بها مع النبي صلى الله عليه و سلم و هو جد بني كعب فيما يزعمون
فاستظهر بهم السلطان على شأنه و أنزلهم بساح القيروان و أجزل لهم الصلات و العوائد و زحموا الزواودة من رياح بمنكب بعد أن كانت لهم استطالة على جميع بلاد أفريقية
و كانت أبة أقطاعا لمحمد بن مسعود بن سلطان أيام الشيخ أبي محمد بن أبي حفص فأقبل إليه مرداس في بعض السنين عيرهم للكيل و نزلوا به فرأوا نعمة الزواودة في تلولهم تلك فشرهوا إليها و أجمعوا طلبها فحاربوهم فغلبوهم و قتلوا رزق بن سلطان و اتصلت الفتنة فلما حضرهم الأمير أبو زكريا صادف عندهم القبول لتحريضه فاعصوصبوا جميعا على فتنة الزواودة و تأهبوا لها
و تكررت بينهم و بين رياح الحروب و الوقائع حتى أزاحوهم عن أفريقية إلى مواطنهم لهذا العهد بتلول قسنطينة و بجاية إلى الزاب و ما إليه ثم وضعوا أوزار الحرب و أوطن كل حيث قسمت له قومه و ملك بنو عوف سائر ضواحي أفريقية و تغلبوا عليه و اصطنعهم السلطان و أثبتهم في ديوان العطاء
و لم يقطع شيئا من البلاد و اختص بالولاية منهم أولاد جامع و قومه فكانوا له خالصة و تم تدبيره في غلب الزواودة و رياح في ضواحي أفريقية و إزعاجهم عنها إلى ضواحي الزاب و بجاية و قسنطينة و طال بالدولة و اختلف حالهم في الاستقامة معها و النفرة و ضرب السلطان بينهم ابن علاق فنشأت الفتنة و سخط عنان بن جابر شيخ مرداس من أولاد جامع مكانه من الدولة فذهب مغاضبا عنها و أقام بناجعته من مرداس و من إليهم بنواحي المغرب في بلاد رياح من زاغر إلى ما يقاربها و خاطبه أبو عبد الله بن أبي الحسن خالصة السلطان أبي زكريا صاحب أفريقية يومئذ يؤنبه على فعلته في مراجعة السلطان بقصيدة منها قوله و هي طويلة :
( قدوا المهامه بالمهرية القود ... و اطووا فلاة بتصويب و تصعيد )
و منها قوله :
( سلوا دمنة بين الغضا و السواجر ... هل استن فيها واكفات المواطر )
فأجاب عن هذه عنان بقوله :
( خليلي عوجا بين سلع و حاجر ... بهوج عنا جيج نواج ضوامر )
يقيم عروة في النزوع عنهم و يستعطف السلطان بعض الشيء كما نذكره في أخبار الدولة الحفصية
ثم لحق بمراكش بالخليفة السعيد من بني عبد المؤمن محرضا له على أفريقية و آل أبي حفص و هلك في سبيله و قبر بسلا و لم يزل حال مرداس بين النفرة و الأصحاب إلى أن هلك الأمير أبو زكريا و استفحل ملك إبنه المستنصر من بعده و علا الكعوب بذمة قوية من السلطان و كان شيخهم لعهده عبد الله بن شيخة فسعى عند السلطان في مرداس و كان أبو جامع مبلغا سعايته و اعصوصبت عليه سائر علاق فحاربوا المرداسيين هؤلاء و غلبوهم على الأوطان و الحظ من السلطان و أخرجوهم عن أفريقية و صاروا إلى القفر و هم اليوم به من جهة بادية الأعراب أهل الفلاة ينزعون إلى الرمل و يمتارون من أطراف التلول تحت أحكام سليم أو رياح
و يختصمون بالتغلب على ضواحي قسنطينة أيام مرابع الكعوب و صائفهم بالتلول فإذا انحدروا إلى مشاتيهم بالقفر أجفلت أحياء مرداس إلى القفر البعيد و يخالطونهم على خلف و لهم على توزر و نفطة و بلاد قسطيلة أتاوة يؤدونها إليهم بما هي مواطنهم و مجالاتهم و تصرفهم و لأنها في الكثير من أعراضهم
و صاروا لهذا العهد إلى تملك القفار بها فاصطفوا منه كثيرا و أصبح منه عمران قسنطينة لهم مرتابا و استقام أمر بني كعب من علاق في رياسة عوف و سائر بطونهم من مرداس و حصين و رياح ودلاج و من بطون رياح حبيب و علا شأنهم عند الدولة و اعتزوا على سائر بني بن منصور و استقرت رياستهم في ولد يعقوب ابن كعب و هم بنو شيخة و بنو طاهر و بنو علي و كان التقدم لبني شيخة بن يعقوب لعبد الله أولا ثم لإبراهيم أخيه ثم لعبد الرحمن ثالثهما على ما يأتي و كان بنو علي يرادفونهم في الرياسة و كان منهم بنو كثير بن يزيد بن علي و كان كعب هذا يعرف بينهم بالحاج لما كان قضى فرضه و كانت له صحابة مع أبي سعيد العود الرطب شيخ الموحدين لعهد السلطان المستنصر أفادته جاها و ثروة و أقطع له السلطان أربعا من القرى أصارها لولده كان منها بناحية صفاقس و بأفريقية و بناحية الجريد و كان له من الولد سبعة أربعة لأم و هم أحمد و ماضي و علي و محمد و ثلاثة لأم و هم : بريد بركات و عبد الغني فنازع أحمد أولاد شيخة في رياستهم على الكعوب و اتصل بالسلطان أبي إسحق و أحفظهم ذلك فلحقوا بالدعي عند ظهوره و كان من شأنه ما قدمنا
و هلك أحمد و استقرت الرياسة في ولده و كان له من الولد جماعة فمن غزية إحدى نساء بني يزيد من صنهاجة : قاسم و مرا أبو الليل و أبو الفضل و من الحكمية قائد و عبيد و منديل و عبد الكريم و من السرية و جهد الملك و عبد العزيز و لما هلك أحمد قام بأمرهم بعده إبنه أبو الفضل ثم من بعده أخوه أبو الليل بن أحمد و غلب رياسة بني أحمد هؤلاء على قومهم و تألفوا ولد إخوتهم جميعا
و عرفوا ما بين أحيائهم بالأعشاش إلى هذا العهد و لما كان شأن الدعي بن أبي عمارة و يئس الفضل بن يحيى المخلوع و أوقع بالسلطان أبي إسحق و قتله وأكثر بنيه كما نذكره في موضعه لحق أبو حفص أخوه الأصغر بقلعة سنان من حصون أفريقية
و كان لأبي الليل بن أحمد في نجاته ثم في القيام بأمره أثر وقع منه أحسن المواقع فاصطنعه به و شيد من رياسته على قومه عندما أدال الله به من الدعي فاصطنع أبو الليل هذا بأمرهم
و زاحم أولاد شيخة بمنكب قوي و لحق آخرهم عبد الرحمن بن شيخة بجباية عندما اقتطعها الأمير أبو زكريا ابن السلطان أبي إسحاق على مالك عمه السلطان أبي حفص فوفد عليه مستجيشا به و مرغبا له في ملك تونس يرجو بذلك كثرة رياسته فهلك دون مرامه و قبر بجباية و انقرضت رياسة أولاد شيخة بمهلكه و استبد أبو الليل بالرياسة في الكعوب و وقع بينه و بين السلطان أبي حفص وحشة فقدم على الكعوب مكانه محمد بن عبد الرحمن بن شيخة فقد على الكعوب مكانه محمد ابن عبد الرحمن بن شيخة و زاحمه به أياما حتى استقام على الطاعة و لما هلك قام بأمرهم إبنه أحمد و اتصل أمر رياسته و نكبه السلطان أبو عصيدة فهلك في سجنه و ولي بعده أخوه عمر بن أبي الليل و زاحمه هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب إلى أن هلك هراج كما نذكره و لما هلك عمر قام بأمره في قومه أخوه محمد بن أبي الليل و كفل مولاهم و حمزة ابن أخيه عمر و كان عمر مضعفا عاجزا فنازعه أولاد مهلهل ابن عمه قاسم و هم : محمد و مسكيانه و مرغم و طالب و عون في آخرين لم يحضرني أسماؤهم فترشحوا اللاستبداد على قومهم و مجاذبة محمد ابن عمهم أبي الليل حبل الرياسة فيهم و لم يزالوا على ذلك سائر أيامهم
و لما ظهر هراج بن عبيد بن أحمد بن كعب و عظم ضغائنه و عتوه و إفساد الأعراب من أحيائه السابلة و ساء أثره في ذلك و أسف السلطان بالاعتزاز عليه و الاشتراط في ماله و توغلت له صدور الغوغاء و العامة فوفد على تونس عام خمسة و سبعمائة و دخل المسجد يوم الجمعة لابسا خفيه و نكر الناس عليه وطأة بين الله بخف لم ينزعه و ربما قال له في ذلك بعض المصلين إلى جنبه فقال : إني أدخل بها بساط السلطان فكيف الجامع ؟ فاستعظم الناس كلمته و ثاروا به لحينه فقتلوه في المسجد و أرضوا الدولة بفعلهم و كان أمره مذكورا
و قتل السلطان بعد ذلك أخاه كيسان و ابن عمه شبل بن منديل بن أحمد و قام بأمر الكعوب من بعد محمد بن أبي الليل و هراج بن عبيد مولاهم و حمزة أبناء عمر و استبد برياسة البدو من سليم بأفريقية على مزاحمة من بني عمهم مهلهل بن قاسم و أمثالهم و فحول سواهم و انتقض أحمد بن أبي الليل و ابن أخيه مولاهم بن عمر على السلطان سنة سبع و سبعمائة و استدعى عثمان بن أبي دبوس من مكانه بوطن ذباب فجاءه و أجلب له على تونس و نزل كدية الصعتر بظاهرها و برز إليهم الوزير أبو عبد الله بن يزريكن فهزمهم و استخدم أحمد بن أبي الليل
ثم تقبض عليه و اعتقل بتونس إلى أن هلك و وفد بعد ذلك مولاهم ابن عمر سنة ثمان و سبعمائة فاعتقل معه و لحق أخوه حمزة بالأمير أبي البقاء خالد ابن الأمير زكريا صاحب الثغر الغربي من أفريقية بين يدي مهلك السلطان أبي عصيدة و معه أبو علي بن كثير و يعقوب بن الفرس و شيوخ بني سليم هؤلاء و رغبوا الأمير أبا البقاء في ملك الحضرة و جاؤا في صحبته و أطلق أخاه مولاهم من الاعتقال منذ دخول السلطان تونس سنة عشر و سبعمائة كما نذكره في خبره
ثم لحق حمزة بالسلطان أبي يحيى زكريا ابن اللحياني و اتصلت به يده فرفعه على سائر العرب حتى لقد نفس ذلك عليه أخوه مولاهم و نزع إلى السلطان أبي يحيى الطويل أمر الخلافة ولي سبعا ببجاية و ثلاثين بعد استيلائه على الحضرة و سائر بلاد أفريقية فاستخلصه السلطان لدولته و نابذه حمزة فأجلب عليه بالقرابة واحدا بعد واحد كما نذكره و داهن أخوه مولاهم في مناصحة السلطان و مالا حمزة على شأنه و ربما نمي عنه الغدر فتقبض عليه السلطان و على إبنه منصور و علي ربيبه زغدان و مغزان بن محمد بن أبي الليل و كان الساعي بهم إلى السلطان ابن عمهم عون بن عبد الله بن أحمد و أحمد بن عبد الواحد أبو عبيد و أبو هلال بن محمود بن فائد و ناجي بن أبي علي بن كثير و محمد بن مسكين و أبو زيد بن عمر بن يعقوب و من هوارة فيصل بن زعزاع فقتلوا لحينهم سنة إثنتين و عشرين و سبعمائة و بعث أشلاؤهم إلى حمزة فاشتد حنقه و لحق صريخا بأبي تاشفين صاحب تلمسان لعهده من آل يغمراسن و معه محمد ابن السلطان اللحياني المعروف بأبي ضربة قد نصبه للملك و أمدهم أبو تاشفين بعساكر زناتة و زحفوا إلى أفريقية فخرج إليهم السلطان و هزمهم برغيش و لم يزل حمزة من بعدها مجلبا على السلطان أبي يحيى بالمرشحين من أعياص البيت الحفصي و أبو تاشفين صاحب تلمسان يمدهم بعساكره و تكررت بينهم الوقائع و الأيام سجالا كما نذكره في مواضعه حتى إذا استولى السلطان أبو الحسن و قومه من بني مرين على تلمسان و الغرب الأوسط سنة سبع و ثلاثين و سبعمائة و استتبعوا بني عبد الواد و سائر زناتة أقصي حمزة عن فتنته و انقطع حبلها في يده و لحق بالسلطان أبي الحسن مستشفعا به فتقبل السلطان أبو يحيى شفاعته و عفا له عن جرائمه و أحله محل الأصفاء و الخلوص
فشمر عن نصحه و اجتهاده و ظاهر قائده محمد بن الحكيم على تدويخ أفريقية و ظهر البدو من الأعراب فاستقام أمر الدولة و توثر مهادها و هلك حمزة سنة أربعين و سبعمائة بيد أبي عون نصر ابن أبي علي عبد السلام من ولد كثير بن زيد المتقدم الذكر في بني علي من بطون بني كعب طعنه في الحروب فأشواه و كان فيها مهلكه و قام بأمرهم من بعده إبنه عمر بمظاهرة شقيقه قتيبة و لكن أبا الليل تغلب على سائر الإخوة و القرابة و استبد برياسة بني كعب و سائر بني يحيى و أقتاله بنو مهلهل ينافسونه و يرتقبون الإدالة منه و كان مساهمه في أمره معن بن مطاعن من فزارة وزير أبيه و خرجوا على السلطان بعد مهلك حمزة أبيهم و اتهموا أن قتل أبي عون إياهم إنما كان بممالأة الدولة فنازلوا تونس و جمعوا لمحاصرتها أولاد مهلهل أمثالهم ثم اختلفوا و رحلوا عن البلد و انخذل طالب بن مهلهل و قومه إلى السلطان و نهض في أثرهم فأوقع بهم في القيروان و وفدت مشيختهم على إبنه الأمير أبي العباس بقصره يداخلونه في الخروج على إبنه و كان فيهم معن بن مطاعن وزيرهم فتقبض عليه و قتله و أفلت الباقون
و راجعوا الطاعة و أعطوا الرهن
( و لما هلك ) السلطان أبو يحيى و قام بالأمر إبنه عمر انحرفوا عنه و ظاهروا أخاه أبا العباس صاحب الجريد و ولي العهد و زحفوا معه بظواعنهم إلى تونس فدخلها و قتله أخوه عمر كما نذكره في موضعه و قتل معه أخاهم أبا الهول بن حمزة فأسعفهم بذلك
و وفد خالد على صاحب المغرب السلطان أبي الحسن فيمن وفد عليه من وجوه الدولة و كافة المشيخة من أفريقية و جاء في جملته حتى إذا استولى على البلاد قبض أيديهم عما كانت تمتد إليه من إفساد السابلة و أخذ الأتاوة و انتزع الأمصار التي كانت مقتطعة بأيديهم و ألحقهم بأمثالهم من أعراب بلاد المغرب الأقصى من المعقل و زغبة فثقلت وطأته عليهم و تنكروا له و ساء ظنه بهم و فشت غارات المفسدين من بداويهم بالأطراف فنسب ذلك إليهم و وفد عليه بتونس من رجالاتهم خالد بن حمزة و أخوه أحمد و خليفة بن عبد الله بن مسكين و خليفة بن أبي زيد من شيوخ حليم فسعى بهم عنده أنهم داخلوا بعض الأعياص من أولاد اللحياني من بني أبي حفص كما في رحلته كما نذكره في موضعه فتقبض عليهم و بلغ خبرهم إلى الحي فناشبوا بقسطيلة و الجريد فظفروا بزناتي من بقية آل عبد المؤمن من عقب أبي العباس إدريس الملقب بأبي إدريس آخر خلفائهم بمراكش و استيلاؤه على المغرب و هو أحمد بن عثمان بن إدريس فنصبوه و بايعوه و اجتمعوا عليه
و ناشبت معهم بنو عمهم مهلهل أقتالهم و كان طالب هلك و قام مكانه فيهم ابنه محمد فصرخهم بقومه و اتفقوا جميعا على حرب زناتة و نهض إليهم السلطان أبو الحسن من تونس فاتح تسع و أربعين و سبعمائة فأجفلوا أمامه حتى نزل القيروان ثم ناجزوه ففضوا جموعه و ملؤا حقائبهم بأسلابه و أسلابهم و خضدوا من شوكة السلطان و ألانوا من حد الملك و خفضوا من أمر زناتة و غلبهم الأمم و كان يوم له ما بعده في اعتزاز العرب على الدول آخر الأيام و هلك أبو الليل بن حمزة فعجز عمر عن مقاومة إخوته و استبد بالرياسة عليه أخوه خالد ثم من بعده أخوهما منصور و اعتز على السلطان أبي إسحق ابن السلطان أبي يحيى صاحب تونس لعهده اعتزازا لا كفاء له و انبسطت أيدي العرب على الضاحية و أقطعتهم الدولة حتى الأمصار و ألقاب الجباية و مختص الملك و انتفضت الأرض من أطرافها و وسطها و مازالوا يغالبون الدولة حتى غلبوا على الضاحية و قاسموهم في جبايات الأمصار بالأقطاع ريفا و صحراء و تلولا و جريدا
و يحرضون بين أعياص الدولة و يجلبون بهم على الحضرة لما يعطونه طعمة من الدولة و يرميهم السلطان بأقتالهم أولاد مهلهل بن قاسم بن أحمد يديل به منهم حتى أحفظوها و يحرش بينهم بقضاء أوطارها حتى إذا أراد الله انقاذ الأمة من هوة الخسف و تخليصهم من مكاره الجوع و الخوف و إدالتهم من ظلمات الموت بنور الاستقامة بعث همة السلطان أمير المؤمنين أبي العباس أحمد أيده الله لطلب إرثه من الخلافة فبعث من بالحضرة فانبعث لها من مكان إمارته بالثغر العربي ونزل إليه أمير البدو و منصور بن حمزة هذا و ذلك سنة إحدى و سبعين و سبعمائة على حين مهلك السلطان أبي إسحق مقتعد كرسي الحضرة و صاحب عصا الخلافة و الجماعة
و قام ابنه خالد بالأمر من بعده فنهض إلى أفريقية و دخل تونس عنوة و استولى على الحضرة سنة اثنتين و سبعين و سبعمائة بعدها و أرهف حده للعرب في الاعتزاز عليهم و قبض أيديهم عن المفاسد و ذويهم فحدثت لمنصور نفرة عن الدولة و نصب الأمير أبو يحيى زكريا ابن السلطان ابن أبي يحيى جدهم الأكبر كان في أحياء العرب منذ سنين كما نذكر ذلك كله في أخبار الدولة و أجلب به على تونس سنة ثلاث و سبعين فامتنعت عليهم و لم يظفروا بشيء و راجع منصور حاله عند السلطان وكشف عن وجه المناصحة و كان عشيرته قد ملوا منه حسدا و منافسة بسوء ملكته عليهم فغدا عليه محمد ابن أخيه أبي الليل وطعنه فأشواه و هلك ليومه سنة خمس و سبعين و افترق جمعهم
و قام بأمرهم من بعده صولة ابن أخيه خالد بن حمزة و يرادفه أولاد مولاهم بن عمر فجهد بعض الشيء في خدمة السلطان و مناصحته ثم رجع إلى العصيان و كشف القناع في الخلاف و اتصل حاله على ذلك ثلاثا و أدال السلطان منه و من قومه بقتالهم أولاد مهلهل و رياستهم لمحمد بن طالب فرجع إليهم رياسة البدو و جعل لهم المنع و الاعطاء فيهم و رفع رتبهم على العرب و تحيز إليه معهم أولاد مولاهم بن عمر بن أبي الليل و نقلت أولاد حمزة سائر هذه الأيام في الخلاف و نهض السلطان سنة ثمانين و سبعمائة إلى بلاد الجريد لتقديم رؤسائها عن المراوغة و حملهم على جادة الطاعة فتعرضوا لمدافعته عنها بإملاء هؤلاء الرؤساء و مشارطتهم لهم على ذلك وبعد أن جمعوا له الجموع من دومان العرب الأعراب و ذياب البدو فغلبهم عليها جميعا و أزاحهم عن ضواحيها و ظفر بفرائسة من أولئك الرؤساء و أصبحوا بين معتقل و مشرد و استولى على قصورهم و ذخائرهم و أبعد أولاد حمزة و أحلافهم من حكيم المفر و جاوزوا تخوم بلادهم من جهة المغرب و اعتزت عليهم الدولة اعتزازا لا كفاء له فنامت الرعايا في ظل الأمن و انطلقت منهم أيدي الاعتمار و المعاش و صلحت السابلة بعد الفساد و انفتحت أبواب الرحمة على العباد
و قد كان اعتزاز هؤلاء العرب على السلطان و الدولة لا ينتهي إليه اعتزاز و لهم عنهجية و إباية و خلق في التكبر الذي هو غريزة لما أنهم لم يعرفوا عهدا للذل و لا يسامون بإعطاء الصدقات لهذا العهد الأول و أما في دولة بني أمية فللعصبية التي كانت للعرب بعضها مع بعض يشهد بذلك أخبار الردة و الخلفاء معهم مع أمثالهم مع أن الصدقة كانت لذلك العهد تتحرى الحق بجانب الاعتزاز و الغلظة فليس في إعطائها كثير غمط و لا مذلة و أما أيام بني العباس حين استفحال الملك و حدوث الغلظة على أهل العصابة فلإبعادهم بالقفر من بلاد نجد و تهامة و ما وراءهما و أما أيام العبيديين فكانت الحاجة تدعو الدولة إلى استمالتهم للفتنة التي كانت بينهم و بين بني العباس و أما حين خرجوا بعد ذلك إلى قضاء برقة و أفريقية فكانوا ضاحين من ظل الملك و لما اصطنعهم بنو أبي حفص كانوا معهم بمكان من الذل و سوم الخسف حتى كنت واقعتهم بالسلطان أبي الحسن و قومه من زناتة بالقيروان فنهجوا سبيل الاعتزاز لغيرهم من العرب على الدول بالمغرب فتحامل المعقل و زغبة على ملوك زناتة و استطاعوا في طلابهم بعد أن كانوا مكبوحين بحكمة الغلب عن التطاول إلى مثلها و الله مالك الأمور (6/94)
الخبر عن قاسم بن مرا من الكعوب القائم بالسنة في سليم و مآل أمره و تصاريف أحواله
كان هذا الرجل من الكعوب من أولاد أحمد بن كعب منهم و هو قاسم بن مرا بن أحمد نشأ بينهم ناسكا منتحلا للعبادة و لقي بالقيروان شيخ الصلحاء بعصره أبا يوسف الدهماني و أخذ عنه و لزمه ثم خرج إلى قومه مقتفيا طريقة شيخه في التزام الورع و الأخذ بالسنة ما استطاع و رأى ما العرب عليه من إفساد السابلة و الخروج عن الجادة فأخذ نفسه بتغيير المنكر فيهم و إقامة السنة لهم و دعا إلى ذلك عشيره من أولاد أحمد و أن يقاتلوا معه على ذلك فأشار عليه أولاد أبي الليل منهم و كانوا عيبة له تنصح له أن ينكف عن طلب ذلك من قومه مخافة أن يلحوا في عدواته فيفسد أمره و دفعوه إلى مطالبة غيرهم من سليم و سائر الناس بذلك و أنهم منعة له ممن يرومه خاصة فجمع إليه أو باشا من البادية تبعوه على شأنه و التزموا طريقته و المرابطة معه و كأنه يسمون بالجنادة و بدا بالدعاء إلى إصلاح السابلة بالقيروان و ما إليها من بلاد الساحل و تتبع المحاربين بقتل من يعثر عليه منهم بالطرق و غزو المشاهير منهم في بيوتهم و استباحة أموالهم و دمائهم حتى شردهم كل مشرد و علت بذلك كلمته على آل حصن و صلحت السابلة بأفريقية ما بين تونس و القيروان و بلاد الجريد و طار له ذكر نفسه عليه قومه و أجمع عدواته و اغتياله بنو مهلهل قاسم بن أحمد و تنصحوا ببعض ذلك للسلطان بتونس الأمير أبي حفص و أن دعوة هذا الرجل قادحة في أمر الجماعة و الدولة فأغضى لهم عن ذلك و تركهم و شأنهم فخرجوا من عنده مجمعين قتله و دعوه في بعض أيامهم إلى المشاورة في شؤونهم معه على عادة العرب و وقفوا معه بساحة حيهم ثم خلصوا معه نجيا و طعنه من خلفه محمد بن مهلهل الملقب بأبي عذبتين فخر صريعا لليدين و الفم و امتعض له أولاد أبي الليل و طلبوا بدمه فافترقت أحياء بني كعب من يومئذ بعد أن كانت جميعا و قام بأمره من بعده ابنه رافع على مثل طريقته إلى أن هلك في طلب الأمر على يد بعض رجالات آل حصن سنة ست و سبعمائة
و لم يزل بنو أبي الليل على الطلب بثأر قاسم بن مرا إلى أن ظهر فيهم حمزة و مولاهم ابنا عمر بن أبي الليل و صارت إليهم الرياسة على أحيائهم و اتفق في بعض الأيام اجتماع أولاد مهلهل بن قاسم في سيدي حمزة و مولاهم في مشاتيهم بالقفر فأجمع اغتيالهم و قتلهم عن آخرهم بثأر ابن عمهم قاسم بن مرا و لم يفلت منهم إلا طالب بن مهلهل لم يحضر معهم و عظمت الفتنة من يومئذ بين هذين الحيين و انقسمت عليهم أحياء بني سليم و صاروا يتعاقبون في الخلاف و الطاعة على الدولة و هم على ذلك لهذا العهد و الرياسة في بني مهلهل اليوم لمحمد بن طالب بن مهلهل و أخيه يحيى و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (6/106)
بنو حصن بن علاق
بنو حصن هؤلاء من بطون علاق و حصن أخو يحيى بن علاق كما مر فهم بطنان أيضا :
بنو علي و حكيم و قد يقال إن حكيما ليس لحصن و إنما ربي في حجره فانتمى إليه و أما حكيم فلهم بطون بنو ظريف بن حكيم و هم أولاد عائر و الشراعبة و نعير و جوين المقدام بن ظريف و زياد بن ظريف
و منهم بنو وائل بن حكيم و منهم بنو طرود بن حكيم و قد يقال إن طرودا ليس لسليم و أنهم من منبس إحدى بطون هلال بن عامر ويقال إن منهم زيد العجاج بن فاضل المذكور في رجالات هلال و الصحيح في طرودانهم من بني فهم بن عمر بن قيس بن عيلان ابن عمدوان و في تعدادهم و كانت طرود أحلاف الدلاج ثم قاطعوهم وحالفوا آل ملاعب
و من بطون حكيم آل حسين و نوال و مقعد و الجمعيات و لا أدري كيف يتصل نسبهم و منهم بنو نمير بن حكيم و لنمير بطنان : ملاعب و أحمد فمن أحمد بنو محمد و البطين و من ملاعب بنو هيكل بن ملاعب و هم أولاد زمام و الفزيات و أولاد مياس و أولاد فائد و من أولاد فائد الصرح و المدافعة و أولاد يعقوب بن عبد الله بن كثير بن حرقوص بن فائد و إليهم رياسة حكيم و سائر بطونهم و مواطن حكيم هؤلاء لهذا العهد ما بين سوسة و الأجم و الناجعة منهم أحلاف لبني كعب تارة لأولاد أبي الليل و تارة لاقتالهم أولاد مهلهل و رياستهم في بني يعقوب بن عبد السلام بن يعقوب شيخا عليهم و انتقض أيام اللحياني
و وفد على السلطان أبي يحيى بالثغر الغربي من أفريقية في بجاية و قسنطينة و جاء في جملته فلما ملك الملك تونس عقد له على قومه و رفعه على أنظاره و غص به بنو كعب فحرض عليه حمزة من الأعشاش محمد بن حامد بن يزيد فقتله في موقف شوارهم و ولي الرياسة فيهم من بعده ابن عمه محمد بن مسكين بن عامر بن يعقوب ابن القوس و انتهت إليه رياستهم و كان يرادفه أو ينازعه جماعة من بني عمه فمنهم سحيم بن سليمان بن يعقوب و حضر واقعة طريف مع السلطان أبي الحسن و كان له فيها ذكر و منهم أبو الهول و أبو القاسم ابنا يعقوب بن عبد السلام و كان لأبي الهول مناصحة للسلطان أبي الحسن حين أحلف عليه بنو سليم بالقيروان و أدخله مع أولاد مهلهل في الخروج على القيروان فخرج معهم جميعا إلى سوسة
و منهم بنو يزيد بن عامر بن يعقوب و ابنه خليفة و لم يزل محمد بن مسكين على رياسته أيام السلطان أبي يحيى كلها و كان مخالطا له و متهالكا في نصيحته و الانحياش إليه
و لم هلك خلفه في رياسته ابن أخيه خليفة بن عبد الله بن مسكين و هو أحد الأشياخ الذين تقبض عليهم السلطان أبو الحسن بتونس بدعاء واقعة القيروان ثم أطلقه و هو محصور بالقيروان فكان له به اختصاص من بعد ذلك و لما تغلب العرب على النواحي بعد واقعة القيروان تغلب بنو مسكين هؤلاء على سوسة فأقطعها السلطان خليفة هذا و بقيت في ملكته و هلك خليفة فقام برياستهم في حكيم ابن عمه عامر ابن محمد بن مسكين ثم قتله محمد بن بثينة بن حامد من بني كعب قتله يعقوب بن عبد السلام ثم قتله محمد هذا غدرا بجهاد الجريد سنة خمس و خمسين و سبعمائة
ثم افترق أمرهم و استقرت رياستهم لهذا العهد بين أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسكين و تلقب أبا معنونة و هو ابن أخي خليفة المذكور و عبد الله بن محمد بن يعقوب و هو ابن أخي أبي الهول المذكور و لما تغلب السلطان أبو العباس على تونس و ملكها انتزع سوس من أيديهم فامتعض حمد لذلك و صار إلى ولاية صولة ابن خالد بن حمزة من أولاد أبي الليل و سلكوا سبيل الخلاف و الفتنة و أبعدوا في شأوها و هم لهذا العهد مشردون عن الضواحي و الأرياف منزاحون إلى القفر
و أما عبد الله بن محمد و يلقب الرواي فتحيزا إلى السلطان و أكد حلفه مع أولاد مهلهل على ولايته و مظاهرته فعظمت رياسته في قومه و هو على ذلك لهذا العهد ثم راجع أبو معنوية خدمة السلطان و انقسمت رياسة حكيم بينهما و هم على ذلك لهذا العهد و أما بنو علي إخوة حكيم فلهم بطون أولاد صورة و يجمعهما معا عوف بن محمد ابن علي بن حصن
ثم أولاد نمي و البدرانة و أولاد أم أحمد و الحضرة أو الرجلان و هو مقعد و الجمعيات و الحمر و المسابهة آل حسين و حجري و قد يقال أن حجري ليسوا لسليم و أنهم من بطون كندة صاروا معهم بالحلف فانتسبوا بنسبهم و رياسة بني علي في أولاد صورة و شيخهم لهذا العهد أبو الليل بن أحمد بن سالم بن عقبة بن شبل بن صورة بن مرعي بن حسن بن عوف و يرادفهم المراعية من أهل نسبهم أولاد مرعي بن حسن بن عوف و مواطنهم ما بين الأجم و المباركة من نواحي قابس و ناجعتهم أحلاف الكعوب أما لأولاد أبي الليل أولا ولاد مهلهل و غالب أحوالهم أولاد مهلهل و الله مقدر الأمور لا رب سواه (6/107)
ذباب بن سليم
قد ذكرنا الخلاف في نسبهم من أنهم من ذباب بن ربيعة بن زغب الأكبر و أن ربيعة أخو زعب الأصغر و ضبط هذه اللفظة لهذا العهد بضم الزاي و قد ضبطها الأجل أبي و الرشاطي بكسر الزاي كذا نقل أبو محمد التجاني في رحلته و مواطنهم ما بين قابس و طرابلس إلى برقة و لهم بطون فمنهم أولاد أحمد بن ذباب و مواطنهم غربي قابس و طرابلس إلى برقة عيون رجال مجاورون لحصن ومن عيون رجال بلاد زغب من بطون ذباب بنو يزيد مشاركون لأولاد أحمد في هذه المواطن و ليس هذا أبا لهم و لا إسم رجل و إنما هو إسم حلفهم انتسبوا به إلى مدلول الزيادة كذا قال التجاني و هم بطون أربعة :
الصهب بسكون الهاء بنو صهب بن جابر بن رافع ابن ذباب و إخوتهم الحمادية بنو حمدان بن جابر والخرجة بسكون الراء بطن من آل سليمان منهم
أخرجهم آل سليمان من موطنهم بمسلالة فحالفوا هؤلاء و نزلوا معهم و الأصابعة نسبة إلى رجل ذي إصبع زائدة و لم يذكر التجاني في أي بطن من ذباب ينتسبون
و منهم النوائل بنو نائل بن عامر بن جابر و إخوتهم أولاد سنان بن عامر و إخوتهم أولاد وشاح بن عامر و فيهم رياسة هذا القبيل من ذباب كلهم و هم بطنان عظيمان : المحاميد بنو محمود بن طوب بن بقية بن وشاح و مواطنهم ما بين قابس و نفوسة و ما إلى ذلك من الضواحي و الجبال و رياستهم لهذا العهد في بني رحاب بن محمود لأولاد سباع بن يعقوب بن عطية بن رحاب و البطن الآخر الجواري بنو حميد بن جارية بن وشاح و مواطنهم طرابلس و ما إليها مثل تاجورا و هزاعة و زنزور و ما إليها من ذلك لهذا العهد و رياستهم لهذا العهد في بني مرغم بن صابر بن عسكر بن علي بن مرغم و من أولاد وشاح بطنان آخران صغيران مندرجان مع الجواري و المحاميد و هما الجواربة بنو جراب بن وشاح و العمور بنو عمر بن وشاح هكذا زعم التجاني في العمور هؤلاء و في هلال بن عامر بطن العمور كما ذكرناه
و هم يزعمون أن عمور ذباب هؤلاء منهم و أنهم إنما جمعهم مع ذباب الموطن خاصة و ليسوا من سليم و الله أعلم بحقيقة ذلك
و كان من أولاد وشاح بنو حريز بن تميم بن عمر بن وشاح و كان منهم فائد بن حريز من فرسان العرب المشاهير و له شعر متداول بينهم لهذا العهد سمر الحي و فكاهة المجالس و يقال إنه من المحاميد فائد بن حريز حربي بن محمود بن طوب و كان بنو ذباب هؤلاء شيعة لقراقش الغزي و ابن غانية و لهما فيه أثر و قتل قراقش مشيخة الجواري في بعض أيامه ثم صاروا بعد مهلك ابن غانية إلى خدمة الأمير أبي زكريا و أهل بيته من بعده و هم الذين أقاموا أمر الداعي بن أبي عمارة و عليهم كان تلبسه لأن يصير أميرا بدل المخلوع و كان فر إليهم بعد مهلك مولاه و بنيه و نزل عليهم حتى إذا مر بهم ابن أبي عمارة فعرفه الخبر فاتفقوا على التلبيس و زينوا ذلك لهؤلاء العرب فقبلوه و تولى كبر ذلك مرغم بن صابر و تبعه قومه و داخلهم في الأمر أبو مروان عبد الملك بن مكي رئيس قابس فكان من قدر الله ما كان من تمام أمره و تلويث كرسي الخلافة بدمه حسبما يذكر في أخبار الدولة الحفصية
و كان السلطان أبو حفص يعتمد عليهم فغلبهم في دعوة عمارة فخالفوا عليه و سرح لحبهم قائده أبا عبد الله الفزاري و استصرخوا بالأمير أبي زكريا ابن أخيه و هو يومئذ صاحب بجاية و الثغر الغربي من أفريقية و وفد عليه منهم عبد الملك بن رحاب ابن محمود فنهض لصريخه سنة سبع و ثمانين و ستمائة و حاربوا أهل قابس و هزموهم و أثخنوا فيهم ثم غلبهم الفزاري و مانعهم عن وطن أفريقية و رجع الأمير أبو زكريا إلى ثغره و كان مرغم بن صابر بن عسكر شيخ الجواري قد أسره أهل صقلية من سواحل طرابلس سنة إثنتين و ثمانين و ستمائة و باعوه لأهل برشلونه فاشتراه ملكهم و بقي أسيرا عندهم إلى أن زعم إليه عثمان بن إدريس الملقب بأبي دبوس بقية الخلفاء من بني عبد المؤمن و أراد الإجازة إلى أفريقية لطلب حقه في الدعوة الموحدية فعقد ملك برشلونة بينه و بين مرغم حلفا و بعثهما و نزل بساحل طرابلس
و أقام مرغم الدعوة لأبي دبوس و حمل عليها قومه و حاصر طرابلس سنة ثمان و ثمانين و ستمائة أياما ثم تركوا عسكرا لحصارها و ارتحلوا لجباية الوطن فاستفرغوه و كان ذلك غاية أمرهم و بقي أبو دبوس يتقلب في أوطانهم مدة و استدعاه الكعوب لأول المائة الثامنة و أجلبوا به على تونس أيام السلطان أبي عصيدة من الحفصيين و حاصروها أياما فلم يظفروا و رجع إلى نواحي طرابلس و قام بها مدة ثم ارتحل إلى مصر و أقام بها إلى أن هلك كما يأتي ذكره في خبر إبنه مع السلطان أبي الحسن بالقيروان و لم يزل هذا شأن الجواري و المحاميد إلى أن تقلص ظل الدولة عن أوطان قابس و طرابلس فاستبد برياسة ضواحيها و استعبدوا سائر الرعاية المعتمرة في جبالها و بسائطها و استبد أهل الأمصار برياسة أمصارهم بنو مكي بقابس و بنو ثابت بطرابلس على ما يذكر في أخبارهم
و انقسمت رياسة أولاد وشاح بانقسام المصرين فتولى الجواري طرابلس و ضواحيها و زنزور و غريان و مغر و تولى المحاميد بلد قابس و بلاد نفوسة و حرب
و في ذباب هؤلاء بطون أخرى ناجعة في القفر و مواطنهم منزاحة إلى جانب الشرق عن مواطن هؤلاء الوشاحين فمنهم آل سليمان بن هبيب بن رابع بن ذباب و مواطنهم قبلة مغر و غريان و رياستهم في ولد نصر بن زائد بن سليمان و هي لهذا العهد لهائل بن حماد بن نصر و بينه و بين البطن الآخر إلى سالم بن وهب أخي سليمان و مواطنهم بلد مسراتة إلى لبدة و مسلاتة و شعوب آل سالم هؤلاء الأحامد و العمائم و العلاونة و أولاد مرزوق و رياستهم في أولاد ولد مرزوق و هو ابن معلى بن معراق بن قلينة بن قماص بن سالم و كانت في أول هذه المائة الثامنة لغلبون بن مرزوق و استقرت في بنيه و هي اليوم لحميد بن سنان بن عثمان بن غلبون و العلاونة منهم مجاورون للعنة من عرب برقة و المشابنة من هوارة المقيمين
و تجاذب ذباب هؤلاء في مواطنهم من جهة القبلة ناصرة و هم من بطون ناصرة بن خفاف بن امرىء القيس بن بهتة بن سليم فإن كان زعب أبو ذباب لملك بن خفاف كما زعم التجاني فهم إخوة ناصرة و يبعد أن يسمى قوم باسم إخوانهم و إن كانوا الناصرة كما زعم ابن الكلبي و هو أقرب فيكون هؤلاء اختصوا بإسم ناصرة دون ذباب و غيرهم من بنيه و هذا كثير من بطون القبائل و الله أعلم و مواطنهم بلاد فزان و ودان هذه أخبار ذباب هؤلاء
و أما العزة جيرانهم في الشرق الذين قدمنا ذكرهم فيهم موطنون من أرض برقة خلاء لاستيلاء الخراب على أمصارها و قرارها من دولة صنهاجة تمرنت بمرانها بادية العرب و ناجعتهم فتحيفوها غارة و نهبا إلى أن فسدت فيها مذاهب المعاش و انتقض العمران فخربت و صار معاش الأكثر من هؤلاء العرب الموطنين بها لهذا العهد من الفلح يثيرون له الأرض بالعوامل من الجمال و الحمير و بالنساء إذا ضاق كسبهم عن العوامل و ارتكبوا ضرورة المعاش
و ينجعون إلى بلاد النخل في جهة القبلة منهم من أوجله و شنترية و الواحات و ما وراء ذلك من الرمال و القفر إلى بلد السودان المجاورين لهم و تسمى بلادهم برنق و شيخ هؤلاء العرب ببرقة يعرف لهذا العهد بأبي ذئب من بني جعفر و ركاب الحج من المغرب يحمدون مساطتهم في مرهم و حسن نيتهم في التجافي عن جامع بيت الله و إرفادهم بجلب الأقوات لسربهم و حسن الظن بهم فمن يعمل مثال ذرة خيرا يره و أما نسبهم فما أدري فمن هو من العرب ؟ و حدثني الثقة من ذباب عن خريص ابن شيخهم أبي ذباب من بقايا الكعوب ببرقة و تزعم نسابة الهلاليين أنهم لربيعة ابن عامر إخوة هلال بن عامر و قد مر الكلام في ذلك في أول ذكر بني سليم و يزعم بعض النسابة أنهم و الكعوب من العزة و أن العزة من هيث و أن رياسة العزة لأولاد أحمد و شيخهم أبو ذئب و أن المسانية جيرانهم من هوارة
و ذكر لي سلام بن التركية شيخ أولاد مقدم جيرتهم بالعقبة أنهم من بطون مسراتة من بقية هوارة و هو الذي رأيت النسابة المحققين عليه بعد أن دخلت مصر و لقيت كثيرا من المترددين إليها من أهل برقة و هذه آخر الطبقة الرابعة من العرب و بانقضائه انقضى الكتاب الثاني في العرب و أجيالهم منذ بدء الخليفة فلنرجع إلى أحوال البربر في الكتاب الثالث و الله ولي العون (6/111)
بسم الله الرحمن الرحيم ـ و صلى الله على سيدنا و مولانا محمد و على آله و صحبه و سلم ـ الكتاب الثالث في أخبار البربر و الامة الثانية من أهل المغرب و ذكر أوليتهم و أجيالهم و دولتهم منذ بدء الخليقة لهذا العهد و نقل الخلاف الواقع بين الناس في أنسابهم
هذا الجيل من الآدميين هم سكان المغرب القديم ملؤا البسائط و الجبال من تلوله و أريافه و ضواحيه و أمصاره يتخذون البيوت من الحجارة و الطين و من الخوص و الشجر و من الشعر و الوبر و يظعن أهل العز منهم و الغلبة لانتجاع المراعي فيما قرب من الرحلة لا يجاوزون فيها الريف إلى الصحراء و القفار الأملس و مكاسبهم الشاء و البقر و الخيل في الغالب للركوب و النتاج و ربما كانت الإبل من مكاسب أهل النجعة منهم شأن العرب و معاش المستضعفين منهم بالفلح و دواجن السائمة و معاش المعتزين أهل الانتجاع و الأظعان في نتاج الإبل و ظلال الرماح و قطع السابلة و لباسهم و أكثر أثاثهم من الصوف يشتملون الصماء و بالأكسية المعلمة و يفرغون عليه البرانس الكحل و رؤسهم في الغالب حاسرة و ربما يتعاهدونها بالحلق و لغتهم من الرطانة الأعجمية متميزة بنوعها و هي التي اختصوا من أجلها بهذا الإسم
يقال : إن أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبابعة لما غزا المغرب و أفريقية و قتل الملك جرجيس و بنى المدن و الأمصار و باسمه زعموا سميت أفريقية لما رأى هذا الجيل من الأعاجم و سمع رطانتهم و وعى اختلافها و تنوعها تعجب من ذلك و قال : ما أكثر بربرتكم فسموا بالبربر و البربرة بلسان العرب هي اختلاط الأصوات غير مفهومة و منه يقال بربر الأسد إذا زأر بأصوات غير مفهومة
و أما شعوب هذا الجيل و بطونهم فإن علماء النسب متفقون على أنهم يجمعهم جذمان عظيمان و هما برنس و ماذغيس و يلقب ماذغيس بالأبتر فلذلك يقال لشعوبه البتر و يقال لشعوب برنس البرانس و هما معا إبنا برنس و بين النسابين خلاف هل هما لأب و احد ؟ فذكر ابن حزم عن أيوب بن أبي يزيد صاحب الحمار أنهما لأب واحد على ما حدثه عنه يوسف الوراق و قال سالم بن سليم المطماطي و صابى بن مسرور الكومي و كهلان بن أبي لوا و هم نسابة البربر : إن البرانس بتر و هم من نسل مازيغ بن كنعان و البتر بنو بر بن قيس بن عيلان و ربما نقل ذلك عن أيوب بن أبي يزيد إلا أن رواية ابن حزم أصح لأنه أوثق
( و أما ) شعوب البرانس فعند النسابين أنهم يجمعهم سبعة أجذام و هي ازداجة و مصمودة و أوربة و عجيسة و كتامة و صنهاجة و أوريغة و زاد سابق بن سليم و أصحابه : لمطة و هسكورة و كزولة و قال أبو محمد بن حزم : يقال إن صنهاج و لمط إنما هما إبنا امرأة يقال لها بصكي و لا يعرف لهما أب تزوجها أوريغ فولدت له هوار فلا يعرف لهما أكثر من أنهما أخوان لهوار من أمه قال : و زعم قوم من أوريغ أنه ابن خبوز بن المثنى بن السكاسك من كندة و ذلك باطل
و قال الكلبي : إن كتامة و صنهاجة ليستا من قبائل البربر و إنما هما من شعوب اليمانية تركهما أفريقش بن صيفي بأفريقية مع من نزل بها من الحامية هذه جماع مذاهب أهل التحقيق في شأنهم فمن ازداجة مسطاطه ومن مصمودة غمارة بنو غمار بن مصطاف بن مليل بن مصمود ومن أوريغة هوارة و ملك و مغد و قلدن فمن هوار بن أوريغ مليلة و بنو كهلان و من ملك بن أوريغ صطط و ورفل واسيل و مسراتة و يقال لجميعهم لهانة بنو لهان بن ملك و يقال إن مليلة منهم و من مغد بن أوريغ ماواس و زمور و كبا و مصراي ومن قلدن بن أوريغ ممصاتة و ورسطيف و بيانة و فل مليلة
( و أما شعوب البتر ) و هم بنو مادغيس الأبتر فيجمعهم أربعة أجذام أداسة و نفوسة و ضرية وبنو لوا الأكبر و كلهم بنو زحيك بن مادغيس فأما أداسة بنو أداس بن زحيك فبطونهم كلها في هوارة لأن أم أداس تزوجها بعد زحيك أوريغ ابن عمه برنس والد هوارة فكان أداس أخا لهوارة و دخل نسب بنيه كلهم في هوارة و هم سفارة و اندارة و هنزولة و ضرية و هداغة و أوطيطة و ترهتة هؤلاء كلهم بنو أداس بن زحيك بن باذغيس و هم اليوم في هوارة
و أما لو الأكبر فمنه بطنان عظيمان و هما نفزاوة بنو نفزا و ابن الأكبر و لواتة بنو لو الأصغر ابن لوا الأكبر فخلفه أبوه حملا فسمي به فمن لواته أكوزة و عتروزة و بنو فاصلة ابن لوا الأصغر و منهم مزاته بنو زاير بن لوا الأصغر و مغانة و جدانة بنو كطوف بن لوا الأصغر
و من لواتة سرداتة بنو نيطط بن لوا الأصفر و دخل نسب سرداتة في مغراوة قال أبو محمد بن حزم :
كان مغراوة تزوج أم سرداتة فسار سرداته أخا بني مغراوة لأمهم و اختلط نسبه بهم و من نفزاوة أيضا بطون كثيرة و هم و لهاصة و غساسة و زهلة و سوماتة و ورسيف و مرنيزة و زاتيمة و وركول و مرسينة و وردغروس و وردن كلهم بنو تطوفت من نفزاوة
و زاد ابن سابق و أصحابه مجر و مكلاتة و قال : و يقال إن مكلاتة ليس من البربر و أنه من حمير وقع إلى تطوفت صغيرا فتبناه و هو مكلا بن ريمان بن كلاع حاتم بن سعد بن حمير و لو لهاصة من نفزاوة بطون كثيرة من بيزغاش و دحية إبني ولهاص فمن بيزغاش بطون و رمجوسة و هم : رجال و طو وبورغيش و وانجذ و كرطيط و ما أنجول و سينتت بنو رفجوم بن بيزغاش بن ولهاص ابن تطوفت بن نغزاو
قال ابن سابق و أصحابه : و بنو بيزغاش من لواتة كلهم بجبال أوراس و من دحية و رترين و تريرو و رتبونت و مكرا و لقوس بنو دحية بن ولهاص بن تطوفت بن نغزاو و أما ضرية و هم بنو ضري بن زحيك بن مادغيس الأبتر فيجمعهم جذمان عظيمان : بنو تمصيت بن ضري و بنو يحيى بن ضري
و قال سابق و أصحابه أن بطون تمصيت كلها من فاتن بن تمصيت و أنهم اختصوا بنسب ضرية دون بطون يحيى فمن بطون تمصيت مطماطة و صطفورة و هم لحومية و للماية و مطغرة و مرينة و مغيلة و معزوزة و كشاتة و دونة و مديونة كلهم بنو فاتن بن تمصيت بن ضري و من بطون يحيى : زناتة كلهم و سمكان و ورصطف
فمن ورصطف : مكناسة و أوكتة و ورتناج بنو ورصطف بن يحيى فمن مكناسة و رثيفة و وربر و من معليت قنصارة و موالات و حرات و رفلابس و من ملزلولاين و لرتر و يصلتن و جرير و فرغان و من روتناج مكنسة و مطاسة و كرسطة و سردجة و هناطة و فولان بنو ورتناج بن صطف و من سمكان زواغة و زواوة بنو سمكان بن يحيى و عن ابن حزم بعد زواوة التي بالواو في كتامة و هو أظهر و يشهد له الوطن
فالغالب أن زواوة بنو سمكان بن يحيى و عن ابن حزم : بعد زواوة التي بالواو في بطون كتامة و التي تعد في سمكان هي التي بالزاي و هي قبيلة معروفة و من زواغة بنو ماجر و بنو واطيل و سمكين و سيأتي الكلام فيهم مستوفي عند ذكرهم إن شاء الله تعالى
هذا آخر الكلام في شعوب هذا الجيل مجملا و لا بد من تفصيل فيه عند تفصيل أخبارهم
و أما إلى من يرجع نسبهم من الأمم الماضية فقد اختلف النسابون في ذلك اختلافا كثيرا و بحثوا فيه طويلا فقال بعضهم : أنهم من ولد إبراهيم عليه السلام من نقشان إبنه و قد تقدم ذكره عند ذكر إبراهيم عليه السلام و قال آخرون :
البربر يمنيون و قالوا أوزاع من اليمن و قال المسعودي : من غسان و غيرهم تفرقوا عندما كان من سيل العرم و قيل : تخلفهم أبرهة ذو المنار بالمغرب و قيل من لخم و جذام كانت منازلهم بفلسطين و أخرجهم منها بعض ملوك فارس فلما وصلوا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول فعبروا النيل و انتشروا في البلاد و قال أبو عمر بن عبد البر : ادعت طوائف من البربر أنهم من ولد النعمان بن حمير بن سبأ قال :
و رأيت في كتاب الاسفنداد الحكيم : أن النعمان بن حمير بن سبأ كان ملك زمانه في الفترة و أنه استدعى أبناءه و قال لهم : أريد أن أبعث منكم للمغرب من يعمره فراجعوه في ذلك و زعم عليهم و أنه بعث منهم لمت أبا لمتونة و مسفو أبا مسوفة و مرطا أبا هسكورة و أصناك أبا صنهاجة و لمط أبا لمطة و إيلان أبا هيلانه فنزل بعضهم بجبل درن و بعضهم بالسوس و بعضهم بدرعه
و نزل لمط عند كزول و تزوج إبنته و نزل جانا و هو أبو زناتة بوادي شلف و نزل بنو ورتجين و مغراو بأطراف أفريقية من جهة المغرب و نزل مقرونك بمقربة من طنجة
و الحكاية أنكرها أبو عمرو بن عبد البر و أبو محمد بن حزم و قال آخرون إنهم كلهم من قوم جالوت و قال علي بن عبد العزيز الجرجاني النسابة في كتاب الأنساب له : لا أعلم قولا يؤدي إلى الصحة إلا قول من قال إنهم من ولد جالوت و لم ينسب جالوت ممن هو و عند ابن قتيبة أنه و نور بن هربيل بن حديلان بن جالود بن رديلان بن حظي بن زياد بن زحيك بن مادغيس الأبتر و نقل عنه أيضا أنه جالوت بن هريال بن جالود بن دنيال بن قحطان بن فارس قال : و فارس مشهور و سفك أبو البربر كلهم قالوا : و البربر قبائل كثيرة و شعوب جمة و هي هوارة و زناتة و ضرية و مغيلة و زيحوحة و نفزة و كتامة و لواتة و غمارة و مصمودة و صدينه و يزدران و دنجين و صنهاجة و مجكسة و واركلان و غيرهم و ذكر آخرون منهم الطبري و غيره أن البربر أخلاط من كنعان و العماليق فلما قتل جالوت تفرقوا في البلاد و أغزى أفريقش المغرب و نقلهم من سواحل الشام و أسكنهم أفريقية و سماهم بربر و قيل إن البربر من ولد حام بن نوح بن بربر بن تملا بن مازيغ بن كنعان بن حام و قال الصولي : هم من ولد بربر من كسلاجيم بن مسراييم بن حام و قيل من العمالقة من بربر بن تملا بن مارب بن قاران بن عمر بن عملاق بن لاود بن إرم بن سام و على هذا القول فهم عمالقة و قال مالك بن المرحل : البربر قبائل شتى من حمير و مضر و القبط و العمالقة و كنعان و قريش تلاقوا بالشام و لغطوا فسماهم أفريقش البربر لكثرة كلامهم و سبب خروجهم عند المسعودي و الطبري و السهيلي :
أن أفريقش استجاشهم لفتح أفريقية و سماهم البربر و ينشدون من شعره :
( بربرت كنعان لما سقتها ... من أراضي الضنك للعيش الخصيب )
و قال ابن الكلبي : اختلف الناس فيمن أخرج البربر من الشام فقيل داود بالوحي قيل : يا داود أخرج البربر من الشآم فانهم جذام الأرض و قيل يوشع بن نون و قيل أفريقش و قيل بعض الملوك التبابعة و عند البكري أن بني إسرائيل أخرجوهم عند قتل جالوت و للمسعودي و البكري أنهم فروا بعد موت جالوت إلى المغرب و أرادوا مصر فأجلتهم القبط فسكنوا برقة و أفريقية و المغرب على حرب الإفرنج و الأفارقة و أجازوهم على صقلية و سردانية و ميورقة و الأندلس ثم اصطلحوا على أن المدن للإفرنجة و سكنوا القفار عصورا في الخيام و انتجاع الأمصار من الإسكندرية إلى البحر و إلى طنجة و السوس حتى جاء الاسلام و كان منهم من تهود و من تنصر و آخرون مجوسا يعبدون الشمس و القمر و الأصنام و لهم ملوك و رؤساء و كان بينهم و بين المسلمين حروب مذكورة و قال الصولي البكري أن الشيطان نزغ بين بني حام و بني سام فانجلى بنو حام إلى المغرب و نسلوا به و قال أيضا إن حام لما اسود بدعوة أبيه فر إلى المغرب حياء و اتبعه بنوه و هلك عن أربعمائة سنة و كان من ولده بربر بن كسلاجيم فنسل بنوه بالمغرب قال : و انضاف إلى البربر حيان من المغرب يمنيان عند خروجهم من مأرب كتامة و صنهاجة قال : و هوارة و لمطة و لواتة بنو حمير بن سبأ و قال هانىء بن بكور الضريسي و سابق بن سليمان المطماطي و كهلان بن أبي لؤي و أيوب بن أبي يزيد و غيرهم من نسابة البربر أن البربر فرقتان كما قدمناه و هما :
البرانس و البتر فالبتر من ولد بر بن قيس بن عيلان و البرانس بنو بربر سحو بن أبزج بن جمواح بن ويل بن شراط بن ناح بن دويم بن داح بن ماريغ بن كنعان بن حام و هذا هو الذي يعتمده نسابة البربر قال الطبري : خرج بربر بن قيس ينشد ضالة بأحياء البربر و هي جارية و تزوجها فولدت و عند غيره من نسابة البربر أنه خرج فارا من أخيه عمر بن قيس و في ذلك تقول تماضر و هي أخته :
( لتبكي كل باكية أخاها ... كما أبكي على بر بن قيس )
( تحمل عن عشيرته فأضحى ... و دون لقائه أنضاء عيس )
و مما ينسب إلى تماضر أيضا
( و شطت ببر داره عن بلادنا ... و طوح بر نفسه حيث يمما )
( و ازرت ببر لكنة أعجمية ... و ما كان بر في الحجاز بأعجما )
( كأنا وبرا لم نقف بجيادنا ... بنجد و لم نقسم نهابا و مغنما )
و أنشد علماء البربر لعبيدة بن قيس العقيلي :
( ألا أيها الساعي لفرقة بيتنا ... توقف هداك الله سبل الأطايب )
( فاقسم أنا و البرابر إخوة ... نمانا و هم جد كريم المناضب )
( أبونا أبوهم قيس عيلان في الورى ... و في حومة يشفى غليل المحارب )
( فنحن و هم ركن منيع و إخوة ... على رغم أعداء لئام المغاقب )
( فإن لبر ما بقي الناس ناصرا ... و بر لنا ركن منيع المناكب )
( تعد لمن عادى شواذق حمرا ... و بيضا تقص الهام يوم التضارب )
( و بر بن قيس عصبة مضرية ... و في الفرع من أحسابها و الذوائب )
( و قيس قوام الدين في كل بلدة ... و خير معد عند حفظ المناسب )
( و قيس لها المجد الذي يقتدي به ... و قيس لها سيف حديد المضارب )
و ينشد أيضا أبيات ليزيد بن خالد يمدح البربر :
( أيها السائل عنا أصلنا ... قيس عيلان بنو العز الأول )
( نحن ما نحن بنو بر القوى ... عرف المجد و في المجد دخل )
( و ابتنى المجد فاورى زنده ... و كفانا كل خطب ذي جلل )
( إن قيسا يعتزي بر لها ... و لبر يعتزي قيس الأجل )
( و لنا الفخر بقيس أنه ... جدنا الأكبر فكاك الكبل )
( إن قيسا قيس عيلان هم ... معدن الحق على الخير دلل )
( حسبك البربر قومي أنهم ... ملكوا الأرض بأطراف الأسل )
( و ببيض نضرب الهام بها ... هام من كان عن الحق نكل )
( أبلغوا البربر عني مدحا ... حيك من جوهر شعر منتحل )
و عند نسابة البربر و حكاه البكري و غيره أنه كان لمضر ولدان إلياس و عيلان أمهما الرباب بنت جبده بن عمر بن معد بن عدنان فولد عيلان بن مضر قيسا و دهمان أما دهمان فولده قليل و هم أهل بيت من قيس يقال لهم بنو أمامة و كانت لهم بنت تسمى البهاء بنت دهمان و أما قيس بن عيلان فولد له أربعة بنين و هم سعد و عمر و أمهما مزنة بنت أسد بن ربيعة بن نزار و بر و تماضر و أمهما تمريغ بنت مجدل و مجدل بن عمار بن مصمود و كانت قبائل البربر يومئذ يسكنون الشام و يجاورون العرب في المساكن و يشاركونهم في المياه و المراعي و يصهرون إليهم فتزوج بر من قيس بنت عمه و هي البهاء بنت دهمان و حسده إخوته في ذلك و كانت أمه تمريغ من دهاة النساء فخشيت منهم عليه و بعثت بذلك إلى أخوالها سرا و رحلت معهم بولدها و زوجته إلى أرض البربر و هم إذ ذاك ساكنون بفلسطين وأكناف الشام فولدت البهاء لبر بن قيس ولدين : علوان و مادغيس فمات علوان صغيرا و بقي مادغيس فكان يلقب الأبتر و هو أبو البتر من البربر و من ولده جميع زناتة
قالوا و تزوج مادغيس من بر و هو الأبتر باحال بنت واطاس بن محمد بن مجدل بن عمار فولدت له زحيك بن مادغيس و قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب التمهيد في الأنساب : اختلف الناس في أنساب البربر اختلافا كثيرا و أنسب ما قيل فيهم أنهم من ولد قبط بن حام لما نزل مصر خرج ابنه يريد المغرب فسكنوا عند آخر عمالة مصر و ذلك ما وراء برقة إلى البحر الأخضر مع بحر الأندلس إلى منقطع الرمل متصلين بالسودان فمنهم لواتة بأرض طرابلس و نزل قوم بقربها و هم نفزة ثم امتدت بهم الطرق إلى القيروان و ما وراءها إلى تاهرت إلى طنجة و سجلماسة إلى السوس الأقصى و هم طوائف صنهاجة و كتامة و زكالة و ركلاوة و فطواكة من هسكورة و مزطاوة و ذكر بعض أهل الآثار أن الشيطان نزغ بين بني حام و بني سام فوقعت بينهم مناوشات كانت الدبرة فيها لسام و بنيه و خرج سام إلى المغرب و قدم مصر و تفرق بنوه و مضى على وجهه يؤم المغرب حتى بلغ السوس الأقصى و خرج بنوه في إثره يطلبونه فكل طائفة من ولده بلغت موضعا و انقطع عنهم خبره فأقاموا بذلك الموضع و تناسلوا فيه و وصلت إليهم طائفة فأقاموا معهم و تناسلوا هنالك
و كان عمر حام أربعمائة و ثلاثا و أربعين سنة فيما ذكره البكري و قال آخرون : كان عمره خمسمائة و إحدى و ثلاثين سنة و قال السهيلي فيمن هو يعرب بن قحطان
قال : و هو الذي أجلى سام إلى المغرب بعد أن كان الجرمي من ولد قرط بن يافث هذا آخر الخلاف في أنساب البربر
و أعلم الله هذه المذاهب كلها مرجوحة و بعيدة من الصواب فأما القول بأنهم من ولد إبراهيم فبعيد لأن داود الذي قتل جالوت و كان البربر معاصرين له ليس بينه و بين إسحق بن إبراهيم أخي نعشان الذي زعموا أنه أبو البربر إلا نحو عشرة آباء ذكرناهم أول الكتاب
و يبعد أن تشعب النسل فيهم هذا التشعب و أما القول بأنهم من ولد جالوت أو العماليق و أنهم نقلوا من ديار الشام و انتقلوا فقول ساقط
يكاد يكون من أحاديث خرافة إذ مثل هذه الأمة المشتملة على أمم و عوالم ملأت جانب الأرض لا تكون منتقلة من جانب آخر و قطر محصور و البربر معروفون في بلادهم و أقاليمهم متحيزون بشعارهم من الأمم منذ الأحقاب المتطاولة قبل الإسلام
فما الذي يحوجنا إلى التعليق بهذه الترهات في شأن أوليتهم و يحتاج إلى مثله في كل جيل و أمة من العجم و العرب و أفريقش الذي يزعمون أنه نقلهم قد ذكروا أنه وجدهم بها و أنه تعجب من كثرتهم و عجمتهم و قال : ما أكثر بربرتكم فكيف يكون هذا الذي نقلهم ؟ و ليس بينه و بين ذي المغار من يتشعبون فيه إلى مثل ذلك إن قالوا أنه الذي نقلهم ؟ و أما القول أيضا بأنهم من حمير من ولد النعمان أو من مضر من ولد قيس بن عيلان فمنكر من القول و قد أبطله إمام النسابين و العلماء أبو محمد بن حزم و قال في كتاب الجمهرة ادعت طوائف من البربر أنهم من اليمن و من حمير و بعضهم ينسب إلى بربر بن قيس و هذا كله باطل لا شك فيه
و ما علم النسابون لقيس بن عيلان إبنا إسمه بر أصلا و ما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن
و أما ما ذهب إليه ابن قتيبة أنهم من ولد جالوت و أن جالوت من ولد قيس بن عيلان فأبعد عن الصواب فإن قيس عيلان من ولد معد
و قد قدمنا أن معدا كان معاصرا لبختنصر و أن أرمياء النبي خلص به إلى الشام حذرا عليه من بختنصر حين سلط على العرب و بختنصر هو الذي خرب بيت المقدس بعد بناء داود و سليمان إياه بأربعمائة و خمسين سنة و نحوها فيكون معد بعد داود بمثل هذا الأمد فكيف يكون ابنه قيس أبا لجالوت المعاصر لداود ؟ هذا في غاية البعد و أظنها غفلة من ابن قتيبة و وهما
و الحق الذي لا ينبغي التعديل إلا على غيره في شأنهم أنهم من ولد كنعان بن حام بن نوح كما تقدم في أنساب الخليفة و أن اسم أبيهم مازيغ و إخوتهم أركيش و فلسطين إخوانهم بنو كسلوحيم بن مصرايم بن حام و ملكهم جالوت سمة معروفة له
و كانت بين فلسطين هؤلاء و بين بني إسرائيل بالشام حروب مذكورة و كان بنو كنعان و واكريكيش شيعا لفلسطين فلا يقعن في وهمك غير هذا فهو الصحيح الذي لا يعدل عنه و لا خلاف بين نسابة العرب أن شعوب البربر الذي قدمنا ذكرهم كلهم من البربر إلا صنهاجة و كتامة فإن بين نسابة العرب خلافا و المشهور أنهم من اليمنية و أن أفريقش لما غزا أفريقية أنزلهم بها و أما نسابة البربر فيزعمون في بعض شعوبهم أنهم من العرب مثل لواتة يزعمون أنهم من حمير و مثل هوارة يزعمون أنهم من كندة من السكاسك و مثل زناتة تزعم نسابتهم أنهم من العمالقة فروا أمام بني إسرائيل و ربما يزعمون فيهم أنهم من بقايا التبابعة و مثل عمارة أيضا و زواوة و مكلاتة يزعم في هؤلاء كلهم نسابتهم أنهم من حمير حسبما نذكره عند تفصيل شعوبهم في كل فرقة منهم و هذه كلها مزاعم و الحق الذي شهد به المواطن و العجمة أنهم بمعزل عن العرب إلا ما تزعمه نسابة العرب في صنهاجة و كتامة
و عندي أنهم من إخوانهم و الله أعلم
و قد انتهى بنا الكلام إلى أنسابهم و أوليتهم فلنرجع إلى تفصيل شعوبهم و ذكرهم أمة بعد أمة و نقتصر على ذكره من كانت له منهم دولة ملك أو سالف شهرة أو تشعب نسل في العالم و عدد لهذا العهد و ما قبله من صنفي البرانس و البتر منهم و ترتيبهم شعبا شعبا حسبما تأدى إلينا من ذلك و اشتمل عليه محفوظنا و الله المستعان (6/116)
الفصل الثاني في ذكر مواطن هؤلاء البربر بإفريقية و المغرب
اعلم أن لفظ المغرب في أصل وضعه إسم إضافي يدل على مكان من الأمكنة بإضافته إلى جهة المشرق و مشرق بالأضافة إلى جهة المغرب لأن العرف قد يخصص هذه الأسماء بجهات معينة و أقطار مخصوصة و عرف أهل الجغرافيا المعتنين بمعرفة هيئة الأرض و قسمتها بأقاليمها و معمورها و خرابها و جبالها و بحارها و مساكن أهلها مثل بطليموس و رجاوز و صاحب صقلية المنسوب له الكتاب المشهور بين الناس لهذا العهد في هيئة الارض و البلدان و أمثالهم : أن المغرب قطر واحد مميز بين الأقطار فحده من جهة المغرب بحر المحيط و هو عنصر الماء و سمي محيطا لإحاطته بما انكشف من الأرض كما قدمنا أول الكتاب
و يسمى أيضا بالبحر الأخضر لتلونه غالبا بالخضرة و يسمى بحر الظلمات لما أنه تقل فيه الأضواء من الأشعة المنعكسة على سطح الأرض من الشمس لبعده عن الأرض فيكون مظلما و لفقدان الأضواء تقل الحرارة المحللة للأبخرة فلا تزال السحب و الغيوم متكاثفة على سطحه منعقدة هناك متراكمة و تسمية الأعاجم : بحرا و قيانوس يعنون به و الله أعلم ما نعني نحن بالعنصر
و يسمونه أيضا بحر البلاية بتفخيم اللام الثانية و هو بحر كبير غير منحصر لا تبعد فيه السفن عن مرأى العين من السواحل للجهل بسموت الرياح هنالك و لنهايتها إذ لا غاية من العمران وراءه
و البحار المنحصرة إنما جرت فيها السفن بالرياح المعروفة الهوائية بكثرة تجاربهم فتبعث الريح من الأماكن و غاية مهبها في سمتها فكل ريح عندهم معروفة الغاية فإذا علة أن جريته بالريح المنبعثة من مكان كذا و ربما خرج من ريح إلى ريح بحسب مقصوده و جهته و هذا مفقود في البحر الكبير لأنه منحصر و منبعث الريح و إن كان معروفا فغايته غير معروفة لفقدان العمران وراءه فتضل السفن إذا جرت به و تذهب فتهلك و أيضا فإذا أوغل فيه فربما وقع في المتكاثف من الغيوم و الأبخرة كما قلناه فيهلك فلهذا كان راكبه على غرر و خطر فحد الغرب من جهة المغرب البحر المحيط كما قلناه و عليه كثير من مدنه مثل طنجة و سلا و أزمور و انفى و اسفى و هي من مدن الغرب و حواضره و عليه أيضا مسجد ماسة و بلدتا كاوصت و نول من بلاد السوس و هي كلها من مساكن البربر و حواضرهم و تنتهي المراكب إلى وراء ساحل نول و لا تجاوزه إلا على خطر كما قلناه و أما حده من جهة الشمال فالبحر الرومي و المتفرع من هذا البحر المحيط يخرج في خليج متضايق بين طنجة من بلاد المغرب و طريف من بلاد الأندلس و يسمى هذا الخليج الزقاق و عرضه ثمانية أميال فما فوقها و كانت عليه قنطرة ركبها ماء البحر
ثم يذهب هذا البحر الرومي في سمت الشرق إلى أن ينتهي إلى سواحل الشآم و ثغوره و ما إليها مثل :
أنطاكية و العلايا و طرسوس و المصيصة و طرابلس و صور و الإسكندرية
و لذلك سمي البحر الشامي و هو إذا خرج من الخليج ينفسخ في ذهابه عرضا و أكثر انفساخه إلى جهة الشمال ولا يزال أنفساخه ذلك متصاعدا إلى الشمال إلى أن ينتهي إلى غايته و طوله فيما يقال خمسة آلاف ميل أو ستة
و فيه جزائر ميورقة و مزقة و ياسة و صقلية و أقريطش و سردانية و قبرص
و أما عرضه من جهة الجنوب فإنه يخرج عن سمت واحد
ثم يختلف في ذهابه فتارة يبعد في الجنوب و تارة يرجع إلى الشمال
و اعتراض ذلك بعروض البلدان التي بساحله و ذلك أن عرض البلد هو ارتفاع قطبه الشمال على أفقه و هو أيضا بعدما بين سمت رؤس أهله و دائرة معدل النهار
و السبب في ذلك أن الأرض كرية الشكل و السماء من فوقها مثلها و أفق البلد هو فرق بين ما يرى و بين ما لا يرى من السماء و من الأرض و الفلك ذو قطبين إذا ارتفع أحدهما على رؤس معمور انخفض الآخر بقدره عنهم و العمارة في الأرض كلها هي إلى الجانب الشمال أكثر وليس في الجنوب عمران لما تقرر في موضعه فلهذا ارتفع القطب الشمالي على أهل العمران دون الجنوبي و المار على سطح الكرة كلما أبعد في جهة ظهر له من سطح الكرة و من السماء المقابل لها مالم يكن يظهر فيزيد بعد القطب على الأفق كما أبعد في الشمال و ينقص كلما رجع إلى الجنوب
فعرض سبتة و طنجة التي هي على زقاق هذا البحر و خليجه له و دقائق ثم يتصاعد البحر إلى الجنوب فيكون عرض تلمسان لد و نصف فتزيد في الجنوب فيكون عرض و هران لبد أبعد من فاس بيسير لأن عرض فاس لج و دقائق
و لهذا كان العمران في المغرب الأقصى أعرض في الشمال من عمران المغرب الأوسط بقدر ما بين فاس و سبتة و صار ذلك القطر كالجزيرة بين البحار لانعطاف البحر الرومي إلى الجنوب ثم يرجع البحر بعد وهران عن سمته ذلك فيكون عرض تونس و الجزائر ( له ) على مثل سمته الأول عند منبعثة من الزقاق ثم يزيد في الشمال فيكون عرض بجاية و تونس يوم على مثل سمت غرناطة و مريه و مالقة ثم يرجع إلى الجنوب فيكون عرض طرابلس و قابس له على مثل السمت الأول بطنجة و سبتة ثم يزيد في الجنوب فيكون عرض برقة لج على مثل سمت فاس و توزر فيكون عرض الإسكندرية لا على مثل مراكش و أغمات ثم يذهب في الشمال إلى القطافة إلى منتهى سمته بسواحل الشآم
و هكذا اختلافه في هذه العدوة الجنوبية و لسنا على علم من حاله في العدوة الشمالية و ينتهي بسواحل عرض هذا البحر في أنفساحه إلى سبعمائة ميل أو نحوها ما بين سواحل أفريقية و جنوة من العدوة الشمالية و البلاد الساحلية من المغرب الأقصى و الأوسط و أفريقية من لدن الخليج حيث منبعثه كلها عليه مثل طنجة و سبتة و بادس و غساسة و هنين و وهران و الجزائر و بجاية و بونة و تونس و سوسة و المهدية و صفاقس و قابس و طرابلس و سواحل برقة و الإسكندرية
هذا وصف هذا البحر الرومي الذي هو حد المغرب من جهة الشمال و أما حده من جهة القبلة و الجنوب فالجبال المتهيلة الماثلة حجزا بين بلاد السودان و بلاد البربر
و تعرف عند العرب الرحالة البادية بالعرق و هذا العرق سياج على المغرب من جهة الجنوب مبتديء من البحر المحيط و ذاهب في جهة الشرق على سمت واحد إلى أن يعترضه النيل الهابط من الجنوب إلى مصر فهنالك ينقطع و عرضه ثلاثة مراحل و أزيد و يعترضه في جهة المغرب الأوسط أرض محجرة تسمى عند العرب الحمادة من دوين مصاب إلى بلاد دريغ و وراءه من جهة الجنوب و بعض بلاد الجزيرة ذات نخيل و أنها معدودة في جملة بلاد المغرب مثل بلاد بودة و تمنطيت في قبلة المغرب الأقصى و تسابيت و تيكورارين في قبلة المغرب الأوسط و غذامس و فزان و ودان في قبلة طرابلس
كل واحد من هذه إقليم يشتمل على بلدان عامرة ذات قرى و نخيل و أنهار و ينتهي عدد كل واحد منها إلى المائة فأكثر
و إلى هذه العدوة الجنوبية من هذا العرق ينتهي في بعض السنين مجالات أهل الشآم من صنهاجة و متقلبهم الجائلون هناك إلى بلاد السودان و في العدوة الشمالية منه مجالات البادية من الأعراب الظواعن بالمغرب و كانت قبلهم مجالات للبربر كما نذكره بعد هذا حد المغرب من جهة الجنوب و من دون هذا العرق سياج آخر على المغرب مما يلي التلول منه و هي الجبال التي هي تخوم تلك التلول ممتدة من لدن البحر المحيط في القرب إلى برنيق من بلاد برقة و هنالك تنقطع هذه الجبال و يسمى مبدؤها من المغرب جبال درن و ما بين هذه الجبال المحيطة بالتلول و بين العرق الذي وصفناه آنفا بسائط و قفارا أكثر نباتها الشجر و فيما يلي التلول منها و يقاربها بلاد الجريد ذات نخل و أنهار
ففي أرض السوس قبلة مراكش ترودانت و القرى قوبان و غيرهما بلاد ذات نخل و أنهار و مزارع متعددة عامرة و في قبلة فاس سجلماسة و قراها بلد معروف و درعة أيضا و هي معروفة و في قبلة تلمسان قصور متعددة ذات نخل و أنهار و في قبلة تاهرت القصور أيضا بلاد متتالية على سطر من المشرق إلى المغرب أقرب ما إليها جبل راشد و هي ذات نخل و مزارع و أنهار
ثم قصور معينات تناهز المائة و أكثر قبلة الجزائر ذات نخل و أنهار ثم بلد واركلي قبلة بجاية بلد واحد مستجر العمران كثير النخل و في سمته إلى جهة التلول بلاد ريغ تناهز الثلثمائة منتظمة على حفافي واد ينحدر من المغرب إلى المشرق يناهز مائة من البلاد فأكثر قاعدتها بسكرة من كبار الأمصار بالمغرب و تشتمل كلها على النخل و الأنهار و الفدن و القرى و المزارع
ثم بلاد الجريد قبلة تونس و هي : نفطة و توزر و قفصة و بلاد نفزاوة و تسمى كلها بلاد قسطيلة مستجرة العمران مستحكمة الحضارة مشتملة على النخل و الأنهار ثم قابس قبلة سوسة حاضرة البحر أعظم أمصار أفريقية و كانت دار ملك لابن غانية كما نذكره بعد
و تشتمل على النخل و الأنهار و المزارع ثم فزان و ودان قبلة طرابلس قصور متعددة ذات نخل و أنهار و هي أول ما افتتح المسلمون من أرض أفريقية لما أغزاها عمر بن الخطاب و عمرو بن العاص ثم الواحات قبلة برقة ذكرها المسعودي في كتابة و ما وراء هذه كلها في جهة الجنوب فقفار و رمال لا تنبت زرعا و لا مرعى إلى أن تنتهي إلى العرق الذي ذكرناه
و من ورائه مجالات المتلثمين كما قلناه مفاوز معطشة إلى بلاد السودان و ما بين بلاد هذه و الجبال التي هي سياج التلول بسائط متلون مزاجها تارة بمزاج التلول و تارة بمزاج الصحراء بهوائها و مياهها و منابتها و فيها القيروان و جبل أوراس معترض وسطها و بلاد الحصنة حيث كانت طبنة ما بين الزاب و التل و فيها مغرة و المسيلة و فيها السرسو قبلة تلمسان حيث تاهرت فيها جبل ديرو و قبلة فاس معترض في تلك البسائط هذا حد المغرب من جهة القبلة و الجنوب
و أما من جهة الشرق فيختلف باختلاف الاصطلاحات فعرف أهل الجغرافيا أنه بحر أهل القلزم المنفجر من بحر اليمن هابط على سمت الشمال بانحراف يسير إلى المغرب حتى ينتهي إلى القلزم و السويس و يبقى بينهم من هنالك و بين سمته من البحر الرومي مسيرة يومين و ينقطع عند السويس و القلزم و بعده عن مصرفي جهة الشرق ثلاثة أيام هذا آخر المغرب عندهم و يدخل فيه إقليم مصر و برقة
و كان المغرب عندهم من جزيرة أحاطت بها البحار من ثلاث جهاتها كما تراه و أما العرف الجاري لهذا العهد بين سكان هذه الأقاليم فلا يدخل فيه إقليم مصر و لا برقة و إنما يختص بطرابلس و ما وراءها إلى جهة المغرب في هذا العرف لهذا العهد و هذا الذي كان في القديم ديار البربر و مواطنهم فأما المغرب الأقصى منه و هو ما بين وادي ملوية من جهة الشرق إلى أسفي حاضرة البحر المحيط و جبال درن من جهة الغرب فهي في الأغلب ديار المصامدة من أهل درن و برغواطة و غمارة و آخر بطوية مما يلي غساسة و معهم عوالم من صنهاجة و مضغرة و أوربة و غيرهم يحيط به البحر الكبير من غريبة و الرومي من شمالية و الجبال الصاعدة المتكاثفة مثل درن و جانب القبلة و جبال تازا من جهة الشرق لأن الجبال أكثر : ما هي و أكنف قرب البحار بما اقتضاه التكوين من ممانعة البحار بها فكانت جبال المغرب لذلك أكثر ساكنها من المصامدة في الأغلب و قيل من صنهاجة و بقيت البسائط من الغرب مثل أزغاو و تامستا و تادلاود كالة و اعتمرها الظواعن من البربر الطارئين عليه من جشم و رياح مفص المغرب بساكنه من الأمم لا يحصيهم إلا خالقهم و صار كله جزيرة و بلد واحد أحاطت به الجبال و البحار و قاعدته لهذا العهد فاس و هي دار ملكه و يمر فيه النهر العظيم المعروف بوادي أم ربيع و هو نهر عظيم يمتنع عبوره أيام الأمطار لاتساعه و يعظم مده إلي البحر فينتهي إلى سبعين ميلا أو ما يقاربها و مصبه في البحر الكبير عند أزبور و منبعه من جبال درن من فوهة كبيرة ينبع منها هذا النهر و يتساهل إلى بسيط المغرب و ينبع منها أيضا نهر آخر و ينحدر إلى القبلة و يمر ببلاد درعة ذات النخل المخصوصة بنبات النيلج و صناعة استخراجه من شجره و هي قصور ذات نخل موضوعة في سفح جبل درن من آخره و بها يسمى هذا النهر و يجاورها إلى أن يغوص في الرمل قبلة بلاد السوس
و أما نهر ملوية آخر المغرب الأقصى فهو نهر عظيم منبعه من فوهة في جبال قبلة تازى و يصب في البحر الرومي عند غساسة و عليه كانت ديار مكناسة المعروفة بهم في القديم و يسكنها لهذا العهد أمم أخرى من زناتة في قصور منتظمة إلى أعلى النهر يعرفون بوطاط و يجاورهم هنالك و في سائر نواحيه أمم من البربر أشهر من فيهم بطالسة أخوة مكناسة و ينبع مع هذا النهر من فوهته نهر كبير ينحدر ذاهبا إلى القبلة مشرقا بعض الشيء و يقطع العرق على سمته إلى أن ينتهي إلى البردة ثم بعدها إلى تمطيت و يسمى لهذا العهد كير و عليه قصورها ثم يمر إلى أن يصب في القفار و يروغ في قفارها و يغور في رمالها و هو موضع مقامه قصور ذات نخل تسمى وركن و في شرق بوده مما وراء العرق قصور تسايبت من قصور الصحراء و في شرقي تسابيت إلى ما يلي الجنوب قصور تيكورارين تنتهي إلى ثلثمائة أو أكثر في واد واحد فينحدر من المغرب إلى المشرق و فيها أمم من قبائل زناتة
و أما المغرب الأوسط فهو في الأغلب ديار زناتة كان لمغراوة و بني يفرن و كان معهم مديونة و مغيلة و كومية و مطغرة و مطماطة ثم صار من بعدهم لبني و ماتوا و بني يلومي
ثم صار لبني عبد الواد و توجين من بني مادين و قاعدته لهذا العهد تلمسان و هي دار ملكه و يجاوره من جهة المشرق بلاد صنهاجة من الجزائر و متيجة المرية و ما يليها إلى بجاية و قبائله كلهم لهذا العهد مغلوبون للعرب من زغبة و يمر في وادي شلف بني واطيل النهر الأعظم منبعه من بلد راشد في بلاد الصحراء و يدخل إلى التل من بلاد حصين لهذا العهد ثم يمر مغربا و يجتمع فيه سائر أودية المغرب الأوسط مثل مينا و غيره إلى أن يصب في البحر الرومي ما بين كلمتين و مستغانم و ينبع من فوهته نهر آخر يذهب مشرقا من جبل راشد و يمر بالزاب إلى أن يصب في سبخة ما بين توزر و نفزاوة معروفة هنالك و يسمى هذا النهر وادي شدي
و أما بلاد بجاية و قسنطينة فهي دار زواوة و كتامة و محيسة و هوارة و هي اليوم ديار للعرب إلا ممتنع الجبال و فيها بقاياهم و أما أفريقية كلها إلى طرابلس فبسائط فتح كانت ديارا لنفزاوة و بني يفرن و نفوسة و من لا يحصى من قبائل البربر و كانت قاعدتها القيروان و هي لهذا العهد مجالات للعرب من سليم و بني يفرن و هوارة و مغلوبون تحت أيديهم و قد تبدوا معهم و نسوا رطانة الأعاجم و تكلموا بلغات العرب و تحلوا بشعارهم في جميع أحوالهم و قاعدتها لهذا العهد تونس و هي دار ملكها و يمر فيها النهر الأعظم المعروف بوادي مجردة يجتمع فيه سائر الأودية بها و يصب في البحر الرومي على مرحلة من غربي تونس بموضع يعرف ببنزرت
و أما برقة فدرست معالمها و خربت أمصارها و انقرض أمرها و عادت مجالات للعرب بعد أن كانت دارا للواتة و هوارة و غيرهم من البربر و كانت بها الأمصار المستجرة مثل لبدة و زويلة و برقة و قصر حسان و أمثالها فعادت يبابا و مفاوز كان لم تكن و الله أعلم (6/128)
الفصل الثالث في ذكر ما كان لهذا الجيل قديما و حديثا من الفضائل الإنسانية و الخصائص الشريفة الراقية بهم إلى مراقي العز و معارج السلطان و الملك
قد ذكرنا ما كان من أمر هذا الجيل من البربر و وفور عدده و كثرة قبائلهم و أجيالهم و ما سواه من مغالبة الملوك و مزاحمة الدول عدة آلاف من السنين من لدن حروبهم مع بني إسرائيل بالشام و خروجهم عنه إلى أفريقية و المغرب و ما كان منهم لأول الفتح في محاربة الطوالع من المسلمين أولا ثم في مشايعتهم و مظاهرتهم على عدوهم ثانيا من المقامات الحميدة و الآثار الجميلة و ما كان لوهيا الكاهنة و قومها بجبل أوراس من الملك و العز و الكثرة قبل الإسلام و بعده حتى تغلب عليهم العرب و ما كان لمكناسة من مشايعة المسلمين أولا ثم ردتهم ثانيا و تحيزهم إلى المغرب الأقصى و فرارهم أمام عقبة بن نافع ثم غلبهم بعد ذلك طوالع هشام بأرض المغرب
قال ابن أبي زيد : إن البربر ارتدوا بأفريقية المغرب إثنتي عشرة مرة و زحفوا في كلها للمسلمين و لم يثبت إسلامهم إلا في أيام موسى بن نصير و قيل بعدها و تقدم ذكر ما كان لهم في الصحراء و القفر من البلاد و ما شيدوا من الحصون و الآطام و الأمصار من سجلماسة و قصور توات و تجورارين و فيجيج و مصاب و واركل و بلاد ريفة و الزاب و نفزاوة و الحمة و غذامس ثم ما كان لهم من الأيام و الوقائع و الدول و الممالك ثم ما كان بينهم و بين طوالع العرب من بني هلال في المائة الخامسة بأفريقية و ما كان لهم مع دولة آل حماد بالقلعة و مع لمتونة بتلمسان و تاهرت من الموالاة و الانحراف و ما استولى عليه بنو يادين آخرا بإسهام الموحدين و أقطاعهم من بلاد المغرب و ما كان لبني مرين في الاجلاب على عير عبد المؤمن من الآثار و ما تشهد أخباره كلها بأنه جيل عزيز على الأيام و أنهم قوم مرهوب جانبهم شديد بأسهم كثير جمعهم مظاهرون لأمم العالم و أجياله من العرب و الفرس و يونان و الروم
و لكنهم لما أصابهم الفناء و تلاشت عصابتهم بما حصل لهم من ترف الملك و الدول التي تكررت فيهم قلت جموعهم و فنيت عصابتهم و عشائرهم و أصبحوا خولا للدول و عبيدا للجباية و استنكف كثير من الناس عن النسب فيهم لأجل ذلك و إلا فقد كانت أوربة أميرهم كسيلة عند الفتح كما سمعت و زناتة أيضا حتى أسر أميرهم و زمار بن مولات و حمل إلى المدينة إلى عثمان بن عفان و من بعد ذلك هوارة و صنهاجة و بعدهم كتامة و ما أقاموا من الدولة التي ملكوا بها المغرب و المشرق و زاحموا بني العباس في ديارهم و غير ذلك منهم كثير و أما تخلقهم بالفضائل الإنسانية و تنافسهم في الخلال الحميدة و ما جبلوا عليه من الخلق الكريم مرقاة الشرف و الرفعة بين الأمم و مراعاة المدح و الثناء من الخلق من عز الجوار و حماية النزيل و رعي الأذمة و الوسائل و الوفاء بالقول و العهد و الصبر على المكارم و الثبات في الشدائد و حسن الملكة و الإغضاء عن العيوب و التجافي عن الانتقام و رحمة المسكين و بر الكبير و توفير أهل العلم و حمل الكل و كسب المعدوم و قرى الضيف و الإعانة على النوائب و علو الهمة و إباية الضيم و مشاقة الدول و مقارعة الخطوب و غلاب الملك و بيع النفوس من الله في نصر دينه فلهم في ذلك آثار نقلها الخلف عن السلف لو كانت مسطورة لحفظ منها ما يكون إسوة لمتبعيه من الأمم و حسبك ما اكتسبوه من حميدها و اتصفوا به من شريفها أن قادتهم إلى مراقي العز و أوفت بهم على ثنايا الملك حتى علت على الأيدي أيديهم و مضت في الخلق بالقبض و البسط أحكامهم و كان مشاهيرهم بذلك من أهل الطبقة الأولى بلكين بن زيري الصنهاجي عامل أفريقية للعبيدين و محمد بن خزر و الخير إبنه و عروبة بن يوسف الكتامي القائم بدعوة عبد الله الشيعي و يوسف بن تاشفين ملك لمتونة بالمغرب و عبد المؤمن بن علي شيخ الموحدين و صاحب الإمام المهدي و كان عظماؤهم من أهل الطبقة الثانية السابقون إلى الراية بين دولهم و المعاهدون لملكهم بالمغرب الأقصى و الأوسط كبيرهم يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين و يغمراسن بن زياد سلطان بني عبد الواد و محمد بن عبد القوي و وزمار كبير بني توجين و ثابت بن منديل أمير مغراوة أهل شلف و وزمار بن ابراهيم زعيم بني راشد المتعارضين في أزمانهم المتناغين في تأثيل عزهم و التمهيد لقومهم على شاكلته بقوة جمعه فكانوا من أرسخهم في تلك الخلال قدما و أطولهم فيها يدا و أكثرهم لها جمعا طارت عنهم في ذلك قبل المالك و بعده أخبار عني بنقلها الأثبات من البربر و غيرهم و بلغت في الصحة و الشهرة منتهى التواتر و أما إقامتهم لمراسم الشريعة و أخذهم بأحكام الملة و نصرهم لدين الله فقد نقل عنهم من اتخاذ المعلمين كتاب الله لصبيانهم و الاستفتاء في فروض أعيانهم و اقتفاء الأئمة للصلوات في بواديهم و تدارس القرآن بين أحيائهم و تحكيم حملة الفقه في نوازلهم و قضاياهم و صاغيتهم إلى أهل الخير و الدين من أهل مصرهم للبركة في آثارهم و سؤال الاعداد عن صالحيهم و إغشائهم البحر أفضل المرابطة و الجهاد و بيعهم النفوس من الله في سبيله و جهاد عدوه ما يدل على رسوخ إيمانهم و صحة معتقداتهم و متين ديانتهم التي كانت ملاكا لعزهم و مقادا إلى سلطانهم و ملكهم
و كان المبرز منهم في هذا المنتحل يوسف بن تاشفين و عبد المؤمن بن علي و بنوهم ثم يعقوب بن عبد الحق من بعدهم و بنوه فقد كان لهم في الاهتمام بالعلم و الجهاد و تشييد المدارس و اختطاط الزوايا و الربط و سد الثغور و بذل النفس في ذات الله و إنفاق الأموال في سبيل الخيرات ثم مخالطة أهل العلم و ترفيع مكانهم في مجالستهم و مفاوضتهم في الاقتداء بالشريعة و الانقياد لإشاراتهم في الوقائع و الأحكام و مطالعة سير الأنبياء و أخبار الأولياء و قراءتها بين أيديهم من دواوين ملكهم و مجالس أحكامهم و قصور عزهم
و التعرض بالمعاقل لسماع شكوى المتظلمين و إنصاف الرعايا من العمال و الضرب على يد أهل الجور و اتخاذ المساجد بصحن دورهم و شدة خلافهم و ملكهم يعمرونها بالصلوات و التسبيحات و القراء المرتبين لتلاوة كتاب الله أحزابا بالعشي و الإشراق على الأيام و تحصين ثغور المسلمين بالبنيان المشيد و الكتائب المجهزة و إنفاق الأموال العريضة شهدت لهم بذلك آثار تخلفوها بعدهم
و أما وقوع الخوارق فيهم و ظهور الكاملين في النوع الإنساني من أشخاصهم فقد كان فيهم من الالولياء المحدثين أهل النفوس القدسية و العلوم الموهوبة و من حملة العلم عن التابعين و من بعدهم من الأئمة و الكهان المفطورين على المطلع للأسرار المغيبة
و من الغرائب التي خرقت العادة و أوضحت أدلة القدرة ما يدل على عظيم عناية الله بذلك الجيل و كرامته لهم بما آتاهم من جماع الخير و آثرهم به من مذاهب الكمال وجمع لهم من متفرق خواص الإنسان ينقل ذلك في أخبار توهم عجائب فكان من مشاهير حملة العلم فيهم سعيد بن واسول جد بني مدرار ملوك سجلماسة أدرك التابعين وأخذ عن عكرمة مولى العباس ذكره عريب بن حميد في تاريخه و منهم أبو يزيد مخلد بن كيداد اليفرني صاحب الحمار الخارج على الشيعة سنة إثنتين و ثلثمائة الدائن بدين الخارجية أخذ العلم بتوزر عن مشيختها و رأس في الفتيا و قرأ مذاهب الإضافية من الخوارج و صدق فيه ثم لقي عمارا الأعمى الصفري النكار فتلقن عنه من مذاهبهم ما انسلخ من آية السعادة بانتحاله و هو مع ذلك من الشهرة في هذا الجيل بحيث لا يغفل
و منهم منذر بن سعيد قاضي الجماعة بقرطبة من ظواعن و لهاصة ثم من سوماتة منهم مولده عام عشرة و ثلثمائة و وفاته عام ثلاثة و ثمانين و ثلثمائة كان من البتر من ولد مادغيس هلك على عهد عبد الرحمن الناصر و منهم أيضا أبو محمد بن أبي زيد علم الملة و هو من نفزة أيضا و منهم علماء بالنسب و التاريخ و غير ذلك من فنون العلوم
و من مشاهير زناتة أيضا موسى بن صالح الغمري معروف عند كافتهم معرفة وضوح و شهرة و قد ذكرناه عند ذكر غمرة من شعوب زناتة و هو و إن لم توقفنا الأخبار الصحيحة على الجلي من أمره في دينه فهو من محاسن هذا الجيل الشاهدة بوجود الخواص الإنسانية فيهم من ولاية وكهانة و علم و سحر كل نوع من آثار الخليفة
و لقد تحدث أهل هذا الجيل فيما يتحدثون به أن أخت يعلى بن محمد اليفرني جاءت بولد من غير أب سموه كلمام و يذكر له أخبار في الشجاعة خرقت العوائد و دلت على أنه موهبة من الله استأثره بها لم يشاركه فيها غيره من أهل جلدته و ربما ضاقت حوامل الخواص منهم عن ملتقط هذه الكائنة و يجهلون ما يتسع لها و لأمثالها من نطاق القدرة و ينقلون أن حملها كان أثر استحمامها في عين حامية هنالك غب ما صدر عنها بعض السباع كانت ترد فيها على الناس و يردون عليها و يرون أنها علقت من فضل ولوغه و يسمون ذلك المولود ابن الأسد لظهور خلعة الشجاعة فيه و كثير من أمثال هذه الأخبار التي لو انصرفت إليها عناية الناقلين لملأت الدواوين و لم يزل هذا دأبهم و حالهم إلى أن مهدوا من الدول و أثلوا من الملك ما نحن في سبيل ذكره (6/135)
الفصل الرابع في ذكر أخبارهم على الجملة من قبل الفتح الإسلامي و من بعده الى ولاية بني الأغلب
هؤلاء البربر جيل و شعوب وقبائل أكثر من أن تحصى حسبما هو معروف في تاريخ الفتح بأفريقية و المغرب و في أخبار ردتهم و حروبهم فيها نقل ابن أبي الرقيق أن موسى ابن نصير لما فتح سقوما كتب إلى الوليد بن عبد الملك أنه صار لك من سبي سقوما مائة ألف رأس فكتب إليه الوليد بن عبد الملك و يحك إني أظنها من بعض كذباتك فإن كنت صادقا فهذا محشر الأمة و لم تزل بلاد المغرب إلى طرابلس بل و إلى الإسكندرية عامرة بهذا الجيل ما بين البحر الرومي و بلاد السودان منذ أزمنة لا يعرف أولها و لا ما قبلها و كان دينهم دين المجوسية شأن الأعاجم كلهم بالمشرق و المغرب إلا في بعض الأحايين يدينون بدين من غلب عليهم من الأمم فإن الأمم أهل الدول العظيمة كانوا يتغلبون عليهم فقد غزتهم ملوك اليمن من قرارهم مرارا على ما ذكر مؤرخوهم فاستكانوا لغلبهم و دانوا بدينهم
ذكر ابن الكلبي أن حمير أبا لقبائل اليمانية ملك المغرب مائة سنة و أنه الذي ابتني مدائنه مثل أفريقية و صقلية و اتفق المؤرخون على غزو أفريقش بن صيفي من التبايعة إلى المغرب كما ذكرنا في أخبار الروم و اختطوا بسبب البحر و ما يليه من الأرياف مدنا عظيمة الخطة وثيقة المباني شهيرة الذكر باقية المعالم و الآثار لهذا لعهد مثل :
سبيطلة و جلولاء و مزناق و طاقة و زانة و غيرها من المدن التي خربها المسلمون من العرب لأول الفتح عند استيلائهم عليها و قد كانوا دانوا العهد هم بما تعبدوهم به من دين النصرانية و أعطوهم المهادنة و أدوا إليهم الجباية طواعية
و كن للبربر في الضواحي وراء ملك الأمصار المرهوبة الحامية ما شاء من قوة و عدة و عدد و ملوك و رؤساء و أقيال و أمراؤها لا يرامون بذل و لا ينالهم الروم و الإفرنج في ضواحيهم تلك بمسخطة الإساءة و قد صبحهم الإسلام و هم في مملكة قد استولوا على رومة
و كانوا يؤدون الجباية لهرقل ملك القسطنطينية كما كان المقوقس صاحب الإسكندرية و برقة و مصر يؤدون الجباية له و كما كن صاحب طرابلس و لبدة و صبرة و صاحب صقلية و صاحب الأندلس من الغوط لما كان الروم غلبوا على هؤلاء الأمم أجمع و عنهم كلهم أخذوا دين النصرانية فكان الفرنجة هم الذين ولوا أمر أفريقية و لم يكن للروم فيها شيء من ولاية و إنما كان كل من كان منهم بها جندا للإفرنج و من حشودهم و ما يسمع في كتب الفتح من ذكر الروم في فتح أفريقية فمن باب التغليب لأن العرب يومئذ لم يكونوا يعرفون الفرنج و ما قاتلوا في الشام إلا الروم فظنوا أنهم هم الغالبون على أمم النصرانية فإن هرقل هو ملك النصرانية كلها فغلبوا إسم الروم على جميع أمم النصرانية
و نقلت الأخبار عن العرب كما هي فجرجير المقتول عند الفتح من الفرنج و ليس من الروم و كذا الأمة الذين كانوا بأفريقية غالبين على البربر و نازلين بمدنها و حصونها إنما كانوا من الفرنجة و كذلك ربما كان بعض هؤلاء البربر دانوا بدين اليهودية أخذوه عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم لقرب الشام و سلطانه منهم كما كان جراءة أهل جبل أوراس قبيلة الكاهنة مقتولة العرب لأول الفتح و كما كانت نفوسة من برابر أفريقية قندلاوة و مدينونة و بهلولة و غياتة و بنو بازاز من برابرة المغرب الأقصى حتى محا إدريس الأكبر الناجم بالمغرب من بني حسن بن الحسن جميع ما كان في نواحيه من بقايا الأديان و الملل فكان البربر بأفريقية و المغرب قبل الإسلام تحت ملك الفرنج و على دين النصرانية الذي اجتمعوا عليه مع الروم كما ذكرناه حتى إذا كان الفتح و زحف المسلمون إلى أفريقية زمان عمر رضي الله عنه سنة تسع و عشرين و غلبهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من بني عامر بن لؤي فجمع لهم جرير ملك الفرنجة يومئذ بأفريقية من كان بأمصارها من الفرنج و الروم و من بضواحيها من جموع البربر و ملوكهم
و كان ملك ما بين طرابلس و طنجة و كانت دار ملكه سبيطلة فلقوا المسلمين في زهاء مائة و عشرين ألفا و المسلمون يومئذ في عشرين ألفا فكان من هزيمة العرب لهم و فتحهم لسبيطلة و تخريبهم إياها و قتلهم جرجير ملكهم و ما نفلهم الله من أموالهم و بناتهم التي اختصت منهم إبنته بقاتله عبد الله بن الزبير لعهد المسلمين له بذلك بعد الهزيمة و خلوصه بخبر الفتح إلى الخليفة و الملأ من المسلمين بالمدينة ما هو كله مذكور مشهور ثم أزرىء الفرنجة و من معهم من الروم بعد الهزيمة و خلوصه بخبر الفتح إلى حصون أفريقية و انساح المسلمون في البسائط بالغارات و وقع بينهم و بين البربر أهل الضواحي زحوف و قتل و سبي حتى لقد حصل في أسرهم يومئذ من ملوكهم و زمار بن صقلاب جد بني خزر و هو يومئذ أمير مغراوة و سائر زناتة و رفعوه إلى عثمان بن عفان فأسلم على يده و من عليه و أطلقه و عقد له على قومه
و يقال إنما وصله وافدا و صن المسلمين عليهم ولاذ الفرنج بالسلم و شرطوا لابن أبي سرح ثلثمائة قنطار من الذهب على أن يرحل عنهم بالعرب و يخرج بهم من بلادهم ففعل و رجع المسلمون إلى المشرق و شغلوا بما كان من الفتن الإسلامية
ثم كان الاجتماع و الاتفاق على معاوية بن أبي سفيان و بعث معاوية بن خديج السكوني من مصر لافتتاح أفريقية سنة خمس و أربعين و بعث ملك الروم من القسطنطينية عساكره لمدافعتهم في البحر فلم تغن شيئا و هزمهم العرب ساحل أجم و حاصروا جلولاء و فتحوها و قفل معاوية بن خديج إلى مصر فولى معاوية بن أبي سفيان على أفريقية بعده عقبة بن نافع فاختط القيروان و افترق أمر الفرنجة و صاروا إلى الحصون و بقي البربر بضواحيهم إلى أن ولي يزيد بن معاوية و ولى على أفريقية أبا المهاجر مولى و كانت رياسة البربر يومئذ في أوربة لكسيلة بن لمزم و هو رأس البرانس و مرادفه سكرديد بن رومي بن مازرت من أوربة و كان على دين النصرانية فأسلما الأول الفتح ثم ارتدا عند ولاية أبي المهاجر و اجتمع إليهما البرانس و زحف إليهم حتى نزل عيون تلمسان فهزمهم و ظفر بكسيلة فأسلم و استبقاه ثم جاء عقبة بعد أبي المهاجر فنكبه غيظا على صحابته لأبي المهاجر ثم استفتح حصون الفرنجة مثل ماغانة و لميس و لقيه ملوك البربر بالزاب وتاهرت فغضهم جمعا بعد جمع و دخل المغرب الأقصى و أطاعته غمارة و أميرهم يومئذ بليان ثم جاز إلى وليلى ثم جبال درن و قتل المصامدة و كانت بينهم و بينه حروب و حاصروه بجبال درن و نهضت إليهم جموع زناتة و كانوا خالصة للمسلمين منذ إسلام مغراوة فأفرجت المصامدة عن عقبة و أثخن فيهم حتى حملهم على طاعة الإسلام و دوخ بلادهم ثم أجاز إلى بلاد السوس لقتال من بها من صنهاجة أهل اللثام و هو يومئذ على دين المجوسية ولم يدينوا بالنصرانية فأثخن فيهم و انتهى إلى تارودانت و هزم جموع البربر و قاتل مسوفة من وراء السوس و ساسهم و قفل راجعا و كسيلة أثناء هذا كله في اعتقاله بجمعه معه في عسكره سائر غزواته فلما قفل من السوس سرح العساكر إلى القيروان حتى بقي في خف من الجنود و تراسل كسيلة و قومه فأرسلوا له شهودا و انتهزوا الفرصة فيه و قتلوه و من معه و ملك كسيلة أفريقية خمس سنين و نزل القيروان و أعطى الأمان لمن بقي بها ممن تخلف من العرب أهل الذراري و الأثقال و عظم سلطانه على البربر
و زحف قيس بن زهير البلوي في ولاية عبد الملك للثأر بدم عقبة سنة سبع و ستين و جمع له كسيلة سائر البربر و لقيه بجيش من نواحي القيروان فاشتد القتال بين الفريقين ثم انهزم البربر و قتل كسيلة و من لا يحصى منهم و أتبعهم العرب إلى محنة ثم إلى ملوية و في هذه الواقعة ذل البربر و فنيت فرسانهم و رجالهم و خضت شوكتهم و اضمحل أمر الفرنجة فلم يعد و خاف البربر من زهير و من العرب خوفا شديدا فلجؤا إلى القلاع و الحصون
ثم ترك زهير بعدها و قفل إلى المشرق فاستشهد ببرقة كما ذكرناه و اضطرمت أفريقية نارا و افترق أمر البربر و تعدد سلطانهم في رؤسائهم و كان من أعظمهم شأنا يومئذ الكاهنة دهيا بنت ماتية بن تيفان ملكة جبل أوراس و قومها من جراوة ملوك البتر و زعمائهم فبعث عبد الملك إلى حسان بن النعمان الغساني عامله على مصر أن يخرج إلى جهاد أفريقية و بعث إليه بالمدد فزحف إليها سنة تسع وسبعين و دخل القيروان و غزا قرطاجنة و افتتحها عنوة و ذهب من كان بقي بها من الإفرنجة إلى صقلية و إلى الأندلس
ثم سأل عن أعظم ملوك البربر فدلوه على الكاهنة و قومها جراوة فمضى إليها حتى نزل وادي مسكيانة و زحف إليه فاقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزم المسلمون و قتل منهم خلق كثير و أسر خالد بن يزيد القيسي و لم تزل الكاهنة و البربر في اتباع حسان و العرب حتى أخرجوهم من عمل قابس و لحق حسان بعمل طرابلس و لقيه كتاب عبد الملك بالمقام فأقام و بنى قصوره و تعرف لهذا العهد به ثم رجعت الكاهنة إلى مكانها و اتخذت عهدا عند أسيرها خالد بالرضاع مع إبنتها و أقامت في سلطان أفريقية و البربر خمس سنين ثم بعث عبد الملك إلى حسان بالمدد فرجع إلى أفريقية سنة أربع و سبعين و خرجت الكاهنة جميع المدن و الضياع وكانت من طرابلس إلى طنجة ظلا و احدا في قرى متصلة
و شق ذلك على البربر فاستأمنوا لحسان فأمنهم و وجد السبيل إلى تفريق أمرها و زحف إليها و هي في جموعها من البربر فانهزموا و قتلت الكاهنة بمكان السر المعروف بها لهذا العهد بجبل أوراس و استأمن إليه البربر على الإسلام و الطاعة و على أن يكون منهم إثنا عشر ألفا مجاهدين معه فأجابوا و أسلموا و حسن إسلامهم و عقد للأكبر من ولد الكاهنة على قومهم من جراوة و على جبل أوراس فقالوا : لزمنا الطاعة له سبقناها إليها و بايعناه عليها و أشارت عليهم بذلك لإثارة من علم كانت لديها بذلك من شياطينها و انصرف حسان إلى القيروان فدون الدواوين و صالح من التقى بيده إلى البربر على الخراج و كتب الخراج على عجم أفريقية و من أقام معهم على النصرانية من البربر و البرانس و اختلفت أيدي البربر فيما بينهم على أفريقية و المغرب فخلت أكثر البلاد و قدم موسى بن نصير إلى القيروان واليا على أفريقية ورأى ما فيها من الخلاف و كان ينقل العجم من الأقاصي إلى الأداني و أثخن في البربر
و دوخ المغرب و أدى إليه البربر الطاعة و ولي على طنجة طارق بن زياد و أنزل معه سبعة و عشرين ألفا من العرب و اثني عشر ألفا من البربر و أمرهم أن يعلموا البربر القرآن و الفقه ثم أسلم بقية البربر على يد إسمعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر سنة إحدى و مائة
و ذكر أبو محمد بن أبي زيد : إن البربر ارتدوا إثنتي عشرة مرة من طرابلس إلى طنجة ولم يستقر إسلامهم حتى أجاز طارق و موسى بن نصير إلى الأندلس بعد أن دوخ المغرب و أجاز معه كثير من رجالات البربر أمرائهم برسم الجهاد فاستقروا و رسخت فيهم لدن الفتح فحينئذ استقر الإسلام بالمغرب و أذعن البربر لحكمه و رسخت فيهم كلمة الإسلام و تناسوا الردة ثم نبضت فيهم عروق الخارجية فدانوا بها و لقنوها من العرب الناقلة ممن سمعها بالعراق و تعددت طوائفهم و تشعبت طرقها من الإباضية و الصفرية كما ذكرنا في أخبار الخوارج
و فشت هذه البدعة و عقدها رؤس النفاق من العرب و جرت إليهم الفتنة من البربر ذريعة إلى الانتزاء على الأمر فاختلوا في كل جهة ودعوا إلى قائدهم طغام البربر تتلون عليهم مذاهب كفرها و يلبسون الحق بالباطل فيها إلى أن رسخت فيهم عروق من غرائسها
ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمراء العرب فقتلوا يزيد بن أبي مسلم سنة إثنتين و مائة لما نقموا عليه في بعض الفعلات ثم انتقض البربر بعد ذلك سنة إثنتين و عشرين و مائة في ولاية عبد الله بن الحجاب أيام هشام بن عبد الملك لما أوطأ عساكره بلاد السوس و أثخن في البربر و سبى و غنم و انتهى إلى مسوفة فقتل و سبى و داخل البربر منه رعب و بلغه أن البربر أحسوا بأنهم فيء للمسلمين فانتقضوا عليه
و ثار ميسرة المطغتي بطنجة على عمرو بن عبد الله فقتله و بايع لعبد الأعلى بن جريح الأفريقي رومي الأصل و مولى العرب كان مقدم الصفرية من الخوارج في انتحال مذهبهم فقام بأمرهم مدة و بايع ميسرة لنفسه بالخلافة داعيا إلى نحلته من الخارجية على مذهب الصفرية ثم ساءت سيرته فنقم عليه البربر ما جاء به فقتلوه و قدموا على أنفسهم خالد بن حميد الزناتي
قال ابن عبد الحكم هو من هتورة إحدى بطون زناتة فقام بأمرهم و زحف إلى العرب و سرح إليهم عبد الله بن الحجاب العساكر في مقدمته و معهم خالد بن أبي حبيب فالتقوا بوادي شلف و انهزم العرب و قتل خالد بن أبي حبيب و من معه و سميت وقعة الأسراب و انتقضت البلاد و مرج أمر الناس و بلغ الخبر هشام بن عبد الملك فعزل ابن حجاب و ولى كلثوم بن عياض القشيري سنة ثلاث و عشرين و سرحه في إثني عشر ألفا من أهل الشام و كتب إلى ثغور مصر و برقة و طرابلس أن يمدوه فخرج إلى أفريقية و المغرب حتى بلغ وادي طنجة و هو وادي سبس فزحف إليه خالد ابن حميد الزناتي فيمن معه من البربر و كانوا خلقا لا يحصى و لقوا كلثوم بن عياض من بعد أن هزموا مقدمته فاشتد القتال بينهم و قتل كلثوم و أضرمت العساكر فمضى أهل الشآم إلى الأندلس مع فلح بن بشر القشيري و مضى أهل مصر و أفريقية إلى القيروان
و بلغ الخبر إلى هشام بن عبد الملك فبعث حنظلة بن سفيان الكلبي فقدم القيروان سنة أربع و عشرين و أربعمائة و هوارة يومئذ خوارج على الدولة منهم عكاشة بن أيوب و عبد الواحد بن يزيد في قومهما فثارت هوارة و من تبعهم من البربر فهزمهم حنظلة بن المعز بظاهر القيروان بعد قتال شديد و قتل عبد الواحد الهواري و أخذ عكاشة أسيرا و أحصيت القتلى في هذه الوقيعة فكانوا مائة و ثمانين ألفا و كتب بذلك حنظلة إلى هشام و سمعها الليث بن سعد فقال :
ما غزوة كنت أحب أن أشهدها بعد غزوة بدر أحب إلي من غزوة القرن و الأصنام
ثم خفت صوت الخلافة بالمشرق و التاث أمرها لما كان من بني أمية من الفتنة و ما كان من أمر الشيعة و الخوارج مع مروان و أقضى الأمر إلى الإدالة ببني العباس من بني أمية و أجاز البحر عبد الرحمن بن حبيب من الأندلس إلى أفريقية فملكها و غلب حنظلة عليها سنة ست و عشرين و مائة فعادت هيف إلى أديانها و استشرى داء البربر و أعضل أمر الخارجية و رؤسها فانتقضوا من أطراف البقاع و تواثبوا على الأمر بكل ما كان داعين إلى بدعتهم و تولى كبر ذلك يومئذ صنهاجة و تغلب أميرهم ثابت بن وزيدون و قومه على باجة و ثار معه عبد الله بن سكرديد من أمرائهم فيمن تبعه
و ثار بطرابلس عبد الجبار و الحرث من هوارة و كانا يدينان برأي الإباضية فقتلوا عامل طرابلس بكر بن عيسى القيسي لما خرج إليهم يدعوهم إلى الصلح و بقي الأمر على ذلك مدة و ثار إسمعيل بن زياد في قتل البربر و أثخن فيهم و زحف إلى تلمسان سنة خمس و ثلاثين و مائة فظفر بها و دوخ المغرب و أذل من كان فيه من البربر ثم كانت بعد ذلك فتنة و ربجومة و سائر قبائل نفزاوة سنة أربعين و مائة و ذلك لما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر و قتله أخواه إلياس و عبد الوارث فولي مكانه ابنه حبيب و طالبهما بثأر أبيه فقتل إلياس و لحق عبد الوارث بوربجومة فأجاره أميرهم عاصم بن جميل و تبعه على شأنه يزيد بن سكوم أمير ولهاصه و اجتمعت لهم كلمة نفزاوة و دعوا لأبي جعفر المنصور و زحفوا إلى القيروان و دخلوها عنوة و فر حبيب بن قابس فأتبعه عاصم في نفزاوة و قبائلهم
و ولي على القيروان عبد الملك بن أبي الجعد النغزي ثم انهزم حبيب إلى أوراس و اتبعه عاصم فاعترضه عبد الملك بن أبي الجعد و جموع نفزاوة الذين كانوا بالقيروان و قتلوه و استولت و ربجومة على القيروان و سائر أفريقية و قتلوا من كان بها من قريش و ربطوا دوابهم بالمسجد الجامع و اشتد البلاء على أهل القيروان و أنكرت ذلك من فعل و ربجومة و من إليهم من نفزاوة برابرة طرابلس الإباضية من هوارة و زناتة فخرجوا و اجتمعوا إلى أبي الخطاب عليها و اجتمع إليه سائر البربر الذين كانوا هنالك من زناتة و هوراة و زحف بهم إلى القيروان فقتل عبد الملك بن أبي الجعد و سائر و ربجومة و نفزاوة و استولى على القيروان سنة إحدى و أربعين و مائة ثم ولي على القيروان عبد الرحمن بن رستم و هو من أبناء رستم أمير فارس بالقادسية كان من موالي العرب و من رؤس هذه البدعة
و رجع أبو الخطاب إلى طرابلس و اضطرم المغرب نارا و انتزى خوارج البربر على الجهات فملكوها و اجتمعت الصفرية من مكناسة بناحية المغرب منه أربعين و مائة و قدموا عليهم عيسى بن يزيد الأسود و أسسوا مدينة سجلماسة و نزلوها و قدم محمد بن الأشعث واليا على أفريقية من أبي جعفر المنصور فزحف إليه أبو الخطاب و لقيه بسرت فهزموا ابن الأشعث و قتل البربر ببلاد ريفا و فر عبد الرحمن بن رستم من القيروان إلى تاهرت بالمغرب الأوسط و اجتمعت إليه طوائف البربر الإباضية من لماية و رجالة و نفزاوة فنزل بها و اختط مدينتها سنة أربع و أربعين و مائة و ضبط ابن الأشعث أفريقية و خافه البربر
ثم انتقل بنو يفرن من زناتة و مغيلة من البربر بنواحي تلمسان و قدموا على أنفسهم أبا قرة من بني يفرن و يقال أنه من مغيلة و هو الأصح في شأنه و بويع له بالخلافة سنة ثمان و أربعين و مائة
و زحف إليه الأغلب بن سود التميمي عامل طبنة فلما قرب منه هرب أبو قرة فنزل الأغلب الزاب ثم اعتزم على تلسمان ثم طنجة و رجع إليه الجند فرجع ثم انتقض البربر من بعد ذلك أيام عمرو بن حفص من ولد قبيصة ابن أبي صفرة أخي المهلب
و كان تغلب هوارة منذ سنة إحدى و خمسين و مائة و اجتمعوا بطرابلس و قدموا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب بن مرين بن تطوفت من أمراء مغيلة و يسمى أبا قادم
و زحفت إليهم جنود عمر بن حفص فهزموها و ملكوا طرابلس و زحفوا إلى القيروان فحاصروها ثم زحف البرابرة من الجانب الآخر بجنود عمر بطبنة في إثني عشر معسكرا و كان منهم أبو قرة في أربعين ألفا من الصفرية و عبد الرحمن بن رستم في ستة آلاف من الإباضية و المسور بن هانيء في عشرة آلاف كذلك و جرير بن مسعود فيمن تبعه من مديونة و عبد الملك ابن سكرديد الصنهاجي في ألفين منهم من الصفرية
و اشتد الحصار على عمر بن حفص فأعمل الحيلة في الخلاف بين جماعتهم و كان بنو يفرن من زناتة أكثر البرابرة يومئذ جمعا و أشدهم قوة فصالح أبو قرة زعيمهم على أربعين ألفا و أعطى إبنه في اتمام ذلك أربعة آلاف و افترقوا و ارتحلوا عن طبنة ثم بعث بعثا إلى ابن رستم فهزمه و دخل تاهرت مفلولا و زحف عمر بن حفص إلى أبي حاتم و البربر الإياضية الذين معه و نهضوا إليه فخالفهم إلى القيروان و شحنها بالأقوات و الرجال
ثم لقي أبا حاتم و البربر و هزموه و رجع إلى القيروان و حاصروه و كانوا في ثلثمائة و خمسين ألفا الخيل منها خمسة و ثلاثون ألفا و كانوا كلهم إباضية و طال الحصار و قتل عمر بن حفص في بعض أيامه سنة أربع و خمسين و مائة و صالح أهل القيروان أبا حاتم على ما أحب و ارتحل و قدم يزيد بن قبيصة بن المهلب سنة أربع و خمسين و مائة واليا على أفريقية فزحف إليه أبو حاتم بعد أن خالف عليه عمر بن عثمان الفهري و افترق أمرهم فلقيه يزيد بن حاتم بطرابلس فقتل أبو حاتم و انهزم البربر و لحق عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن من أصحاب أبي حاتم بكتامة و بعث المخارق بن غفار الطائي فحاصره ثمانية أشهر ثم غلب عليه فقتله و من كان معه من البربر و هربوا إلى كل ناحية و كانت حروبهم مع الجند من لدن قتل عمر بن حفص بطبنه إلى انقضاء ثلثمائة و خمسة و سبعين حربا
و قدم يزيد أفريقية فزال فسادها و رتب القيروان و لم تزل البلاد هادئة و انتقض ورفجومة سنة سبع و خمسين و مائة و ولوا عليهم رجلا منهم إسمه أبو زرجونة فسرح إليه يزيد من عشيرة ابن محراة المهلبي فهزموه و استأذنه إبنه المهلب و كان على الزاب وطبنة وكتامة في الزحف إلى ورفجومة فأذن له و أمده بالعلاء بن سعيد ابن مراون المهلبي من عشيرتهم أيضا فأوقع بهم و قتلهم أبرح قتل و انتقض نفزاوة من بعد ذلك في سلطنة إبنه داود من بعد مهلكه سنة إحدى و ستين و مائة و ولوا عليهم صالح بن نصير النفزي و دعوا إلى رأيهم رأي الإباضية فسرح إليهم ابن عمه سليمان بن الصمة في عشرة آلاف فهزمهم و قتل البربر أبرح قتل
ثم تحيز إلى صالح بن نصير و لم يشهد الأولى من البربر الإباضية و اجتمعوا بشقبنارية فهزمهم إليها سليمان ثانية وانصرف إلى القيروان
و ركدت ريح الخوارج من البربر من أفريقية و تداعت بدعتهم إلى الاضمحلال و رغب عبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت سنة إحدى و سبعين و مائة في موادعة صاحب القيروان روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب فوادعه و انحصدت شوكة البربر و استكانوا للغلب و أطاعوا للدين فضرب الإسلام بجرانه و ألقت الدولةالضريبة على البربر بكلكلها و تقلد إبراهيم بن الأغلب التميمي أمر أفريقية و المغرب من قبل الرشيد هرون سنة خمس و ثمانين و مائة فاضطلع بأمر هذه الولاية و أحسن السيرة و قوم القتاد و رأب الصدع و جمع الكلمة و رضيت و استقل بولايتها غير منازع و لا متشوه و توارثها بنوه خالفا عن سالف
و كانت لهم بأفريقية و المغرب الدولة التي ذكرناها من قبل إلى أن انقرض أمر العرب بأفريقية على زيادة الله عاقبتهم الفار إلى المشرق أمام كتامة سنة ست و تسعين و مائتين كما نذكره
و خرج كتامة على بني الأغلب بدعوة الرافضية قام فيهم أبو عبد الله المحتسب الشيعي داعية عبيد الله المهدي فكان ذلك آخر عهد بالملك و الدولة بأفريقية و استقل كتامة بالأمر من يومئذ ثم من بعدهم من برابرة المغرب و ذهبت ريح العرب و دولتهم من المغرب و أفريقية فلم يكن لهم بعد دولة إلى هذا العهد
و صار الملك للبربر و قبائلهم يتداولونه طائفة بعد أخرى و جيلا بعد آخر تارة يدعون إلى الأمويين الخلفاء بالأندلس و تارة إلى الهاشمين من بني العباس و بني الحسن
ثم استقلوا بالدعوة لأنفسهم آخرا حسبما نذكر ذلك كله مفصلا عندما يعرض لنا من ذكر دول زناتة و البربر الذين نحن في سياقة أخبارهم (6/139)
البرابرة البتر ـ الخبر عن البرابرة البتر و شعوبهم و نبدأ منهم أولا بذكر نفوسة و تصاريف أحوالهم
كان مادغيس الأبتر جد البرابرة البتر و كان ابنه زحيك و منه تشعبت بطونهم فكان له من الولد فيما يذكر نسابة البربر أربعة نفوس و أداس و ضراولوا فأما أداس فصار في هوارة لما يقال إن هوارة خلف أباه زحيك على أمه قبل فصاله فانتسب إليه و اختلط بولده و اندرجت بطون أداس في هورة كما ذكرناه
و أما ضراولوا فسنأتي بذكر بطونهم واحدا واحدا
و أما نفوس فهم بطن واحد تنسب إليه نفوسة كلها و كانوا من أوسع قبائل البربر فيهم شعوب كثيرة مثل بني زمور و بني مكسور و ماطوسة
و كانت مواطن جمهورهم بجهات طرابلس و ما إليها و هناك الجبل المعروف بهم و هم على ثلاثة مراحل من قبلة طرابلس يسكنه اليوم بقاياهم و كانت مدينة صبرة قبل الفتح في مواطنهم و تعزى إليهم و هي كانت باكورة الفتح لأول الإسلام و خرب المغرب بعد استيلائهم عليها فلم يبق منهم إلا الأطلال و رسوم خافية و كان من رجالاتهم إسمعيل بن زياد المتغلب على قابس سنة إثنتين و ثلاثين و مائة لأول الدولة العباسية و منهم لهذا العهد أوزاع متفرقون في الأقطار بعمالات مصر و المغرب و الله وارث الأرض و من عليها و أمالوا فمن ولده نفزاوة و لواتة كما نذكر (6/149)
الخبر عن نفزاوة و بطونهم و تصاريف أحوالهم
و هم بنو تطوفت بن نفزاو بن لوا الأكبر بن زحيك و بطونهم كثيرة مثل غساسة و مرنيسة و زهيلة و سوماتة و زاتيمة و ولهاصة و مجره و ورسيف و من بطونهم مكلاتة
و يقال إن مكلاتة من عرب اليمن وقع إلى تطوفت صغيرا فتبناه و ليس من البربر
و لمكلاتة بطون متعددة مثل بني ورياغل و كزناية و بني يصلتن و بني ديمان و رمحوق و بني يزناسن و يقال إن غساسة منهم هكذا عند نسابة البربر مثل سابق المطماطي و غيره و من بطون ولهاصة و رتدين بن داحية بن ولهاصة و ورفجومة بن نيرغاس بن ولهاص
و من بطن ورفجومة زكو له رجالة لذكاك بن ورفجوم إلى بطون أخرى كثيرة
و كان ورفجومة هؤلاء أوسم بطون نفزاوة و أشدهم بأسا و قوة و لما انحرف عبد الرحمن بن حبيب عن طاعة أبي جعفر المنصور و قتله أخواه عبد الوارث و إلياس و طالبهما ابنه حبيب بالثأر فلحق عبد الوارث بورفجومة و نزل على أميرهم عاصم بن جميل بأوراس و كان كاهنا فأجاره و قام بدعوة أبي جعفر المنصور و اجتمعت إليه نفزاوة و كان من رجالاتهم عبد الملك صلى الله عليه و سلم أبي الجعد و يزيد بن سكوم و كانوا يدينون بدين الإباضية من الخوارج و زحفوا إلى القيروان سنة أربعين و مائة و فر عنها حبيب بن عبد الرحمن و دخلها عبد الملك بن أبي الجعد و قتل حبيبا و استولت نفزاوة على القيروان و قتلوا من كان بها من قريش و سائر العرب و ربطوا دوابهم بالمسجد و عظمت حوادثهم
و نكر ذلك عليهم الاباضية من برابرة طرابلس و تولى كبرها زناتة و هوارة فاجتمعوا إلى الخطاب بن السمح و رجالات العرب و استولوا على طرابلس ثم على القيروان سنة إحدى و أربعين و مائة و قتلوا عبد الملك بن أبي الجعد و أثخنوا في قومه من نفزاوة و ورفجومة و رجعوا إلى طرابلس بعد أن استعمل أبو الخطاب على القيروان عبد الرحمن بن رستم
و اضطرم المغرب نارا و عظمت فتنة ورفجومة هؤلاء إلى أن قدم محمد بن الأشعث سنة ست و أربعين و مائة من قبل المنصور فأثخن في البربر و أطفأ نار هذه الفتنة كما قدمناه و لما اختط عمر بن حفص مدينة طبنة سنة إحدى و خمسين و مائة أنزل ورفجومة هؤلاء بها بما كانوا شيعا له و عظم غناؤهم فيها عندما حاصره بها ابن رستم و بنو يفرن
ثم انتقضوا بعد مهلك عمر على يزيد بن حاتم عند قدومه على أفريقية سنة سبع و خمسين و مائة و ولوا عليهم أبا زرجونة منهم و سرح إليهم يزيد العساكر مع ابنه و قومه فأثخنوا فيهم ثم انتقضت نفزاوة على أبيه داود و دعوا إلى دين الاباضية و ولوا عليهم صالح بن نصر منهم فرجعت العساكر إليهم متراسلة و قتلوهم أبرح قتل
و عليها كان ركود ريح الخوارج بأفريقية و أذعار البربر و افترق بنو ورفجوم بعد ذلك و انقرض أمرهم و صاروا أوزاعا في القبائل وكان رجالة منهم بطنا متسعا و كان منهم رجالات مذكورون في أول العبيديين و بني أمية بالأندلس منهم الرجالي أحد الكتاب بقرطبة و بقي منهم لهذا العهد فرق بمرماجنه و هناك قرية ببسيطها تنسب إليهم
و أما سائر ولهاصة من ورفجومة و غيرهم فهم لهذا العهد أوزاع لذلك أشهرهم قبيلة بساحل تلمسان اندرجوا في كومية و عدوا منهم بالنسب و الخلط
و كان منهم في أواسط هذه المائة الثامنة ابن عبد المكلف استقل برياستهم و تملك بدعوة السلطان بعد استيلاء عبد الواد على تلمسان و نواحيها و تغلب على سلطانهم لذلك العهد كما نذكره عثمان بن عبد الرحمن و سجنه بالمطبق بتلمسان ثم قتله و من أشهر قبائل ولهاصة أيضا قبيلة أخرى ببسيط بونة يركبون الخيل و يأخذون بمذاهب العرب في زيهم و لغتهم و سائر شعارهم كما هو شأن هوراة
و هم في عداد القبائل الغارمة و رياستهم في بني عريف منهم و هي لهذا العهد في ولد حازم بن شداد بن حزام بن نصر بن مالك بن عريف و كانت قبلهم لعسكر بن بطنان منهم هذه أخبار ولهاصة فيما علمناه
و أما نهاية بطون نفزاوة فمنهم زاتيمة و بقية منهم لهذا العهد بساحل برشك و منهم غساسة و بقية منهم لهذا العهد بساحل بوطة حيث القرية التي هناك حاضرة البحر و مرسى لأساطيل المغرب و هي مشهورة باسمهم و أما زهيلة فبقيتهم لهذا العهد بنواحي بادس مندرجون في غمارة و كان منهم لعهد مشيختنا أبو يعقوب البادسي أكبر الأولياء و آخرهم بالمغرب و أما مرنيسة فلا يعلم لهم موطن و من أعقابهم أوزاع بين أحياء العرب بأفريقية و أما سوماتة فمنهم بقية فمن نواحي القيروان كان منهم منذر بن سعيد القاضي بقرطبة لعهد الناصر و الله أعلم
و أما بقايا بطون نفزاوة فلا يعرف لهم لهذا العهد حي و لا موطن إلا القرى الظاهرة المقدرة السير المنسوبة إليهم ببلاد قسطيلة و بها معاهدون من الفرنجة أوطنوهم على الجزية و اعتقاد الذمة عند عهد الفتح و أعقابهم بها لهذا العهد وقد نزل معهم كثير من بني سليم من الشريد و زغبة و أوطنوها و تملكوا بها القفار و الضياع
و كان أمر هذه القرى راجعا إلى عامل توزر أيام استبداد الخلافة فلما تقلص ظل الدولة عنهم و حدثت العصبة في الأمصار استبدت كل قرية بأمرها و صار مقدم توزر يحاول دخولهم في إيالته فمنهم من يعطيه ذلك و منهم من يأباه حتى أظلتهم دولة مولانا السلطان أبي العباس و أدرجوا كلهم في طاعته و اندرجوا في حبله و الله ولي الأمور لا رب غيره (6/150)
الخبر عن لواتة من البرابرة البتر و تصاريف أحوالهم
و هو بطن عظيم متسع من بطون البربر البتر ينتسبون إلى لوا الأصغر بن لوا الأكبر بن زحيك و لوا الأصغر هو نفزا و كما قلناه و لوا إسم أبيهم و البربر إذا أرادوا العموم في الجمع زادوا الألف و التاء فصار لوات فلما عربته العرب حملوه على الإفراد و ألحقوا به هاء الجمع و ذكر ابن حزم أن نسابة البربر يزعمون أن سدراتة و لواتة و مزاتة من القبط و ليس ذلك بصحيح
و ابن حزم لم يطلع على كتب علماء البربر في ذلك و في لواتة بطون كثيرة و فيهم قبائل كثيرة مثل سدراتة بن نيطط بن لوا و مثل عزوزة بن ما صلت بن لوا و عد سابق و أصحابه في بني ماصلت بطونا أخرى غير عزوزة و هم :
أكورة و جرمانة و نقاعة مثل بني زائد بن لوا و أكثر بطونهم مزاتة و نسابة البربر يعدون في مزاتة بطونا كثيرة مثل : ملايان و مرنه و محيحه و دكمه و حمره و مدونه
و كان لواتة هؤلاء ظواعن في مواطنهم بنواحي برقة كما ذكر المسعودي و كان لهم في فتنة أبي يزيد آثار
و كان منهم بجبل أوراس أمة عظمية ظاهروا أبا يزيد مع بني كملان على أمره و لم يزالوا بأوراس لهذا العهد مع من به من قبائل هوراة و كتامة و يدهم العالية عليهم تناهز خيالتهم ألفا و تجاوز رجالاتهم العدة و تستكفي بهم الدولة في جباية من تحت أيديهم بجبل أوراس من القبائل الغارمة فيحسنون الغناء و الكفاية
و كانت البعوث مضروبة عليهم ينفرون بها في معسكر السلطان
فلما تقلص ظل الدولة عنهم صار بنو سعادة منهم في أقطاع أولاد محمد من الزواودة فاستعملوهم في مثل ما كانت الدولة تستعملهم فيه فأصاروهم خولا للجباية و عسكرا للاستنفار و أصبحوا من جملة رعاياهم و قد كان بقي جانب منهم لم تستوفه الإقطاعات و هم بنو زنجان و بنو باديس فاستضافهم منصور بن مزني إلى عمله
فلما استبد مزني عن الدولة و استقلوا بالزاب صاروا يبعدونهم بالجبلية بعض السنين و يعسكرون عليهم لذلك بأفاريق الأعراب و هم لهذا العهد معتصمون بجبلهم لا يجاوزونه إلى البسيط خوفا من عادية الأعراب
و لبني باديس منهم أتاوات على بلد نقاوس المحيطة في فسيح الجبل بما تغلبوا على ضواحيها فاذا انحدر الأعراب إلى مشاتيهم اقتضوا منها أتاواتهم و خفارتهم و إذا أقبلوا إلى مصايفهم رجع لواتة إلى معاقلهم الممتنعة على الأعراب و كان من لواتة هؤلاء أمة عظيمة بضواحي تاهرت إلى ناحية القبلة و كانوا ظواعن هنالك على وادي ميناس ما بين جبل يعود من جهة الشرق و إلى وارصلف من جهة الغرب يقال إن بعض أمراء القيروان نقلهم معه في غزوة و أنزلهم هنالك و كان كبيرهم أورغ بن علي بن هشام قائدا لعبد الله الشيعي
و لما انتقض حميد بن مصل صاحب تاهرت على المنصور ثالث خلفاء الشيعة ظاهروه على خلافه و جاوروه في مذاهب ضلاله إلى أن غلبه المنصور و أجاز حميد إلى الأندلس سنة ست و ثلاثين و مائة و زحف المنصور يريد لواتة فهربوا أمامه إلى الرمال و هرب عنهم و نزل إلى وادي ميناس ثم انصرف إلى القيروان
و ذكر ابن الرقيق أن المنصور وقف هنالك على أثر من آثار الأقدمين بالقصور التي على الجبال الثلاثة مبنية بالحجر المنحوت يبدو للناظر على البعد كأنها أسنمة قبور و رأى كتابا في حجر فسره له أبو سليمان السردغوس : خالف أهل هذا البلد على الملك فأخرجني إليهم ففتح لي عليهم و بنيت هذا البناء لأذكر به و هكذا ذكر ابن الرقيق و كان بنو وجديجي من قبائل زناتة بمواطنهم من منداس جيرانا للواتة هؤلاء و التخم بينهما وادي ميناس و تاهرت
و حدثت بينهما فتنة بسبب امرأة أنكحها بنو وجديجي في لواتة فعيروا بالقفر فكتبت بذلك إلى قومها و رئيسهم يومئذ غسان فتذامروا و استمدوا من وراءهم من زناتة فأمدوهم بعلي بن محمد اليفرني
و زحفت مطماطة من الجانب الآخر في مظاهرتهم و عليهم غزانة أميرهم و زحفوا جميعا إلى لواتة فكانت بينهم وقائع و حروب هلك في بعضها علاق و أزاحو عن الجانب الغربي السرسو و ألجؤهم إلى الجبل الذي في قبلة تاهرت المسمى لهذا العهد كركيرة و كان به قوم من مغراوة فغدروا بهم و تظاهروا جميعا عليهم إلى أن أخرجوهم عن آخر مواطنهم في جهة الشرق بجبل يعود فنزلوا من وراء الجبل المسمى لهذا العهد دارك
و انتشرت عمائرها بتلوله و ما وراءه إلى الجبال المطلة على متيجة و هم لهذا العهد في عداد القبائل الغارمة و جبل دارك في أقطاع ولد يعقوب بن موسى مشيخة العطاف من ورغة و لواتة أيضا بطون بالجبل المعروفة بهم قبلة قابس و صفاقس و منهم بنو مكي رؤساء قابس لهذا العهد و منهم أيضا بواحات مصر فيما ذكره المسعودي أمة عظيمة بالجيزة التي بينها و بين مصر و كان لما قرب من هذه القصور شيخهم هنالك بدر بن سالم و انتقض على الترك و سرحوا إليه العساكر فاستلحموا كثيرا من قومه و فر إلى ناحية برقة و هو الآن في جوار العرب بها و من زناتة هؤلاء أحياء بنواحي تادلا قرب مراكش من الغرب الأقصى و لهم هنالك كثرة
و يزعم كثير من الناس أنهم بنواحي جابر من عرب جشم و اختلطوا بهم و صاروا في عدادهم و منهم أوزاع مفترقون بمصر و قرى الصعيد شاوية و فلاحين و منهم أيضا بضواحي بجاية قبيلة يعرفون بلواتة ينزلون بسيط تاكرارت من أعمالها و يعتمرونها فدنا لمزارعهم و مسارح لأنعامهم و مشيختهم لهذا العهد في ولد راجح بن صواب منهم و عليهم للسلطان جباية مفروضة و بعث مضروب هؤلاء المعروفون من بطون لواتة و لهم شعوب أخرى كثيرة اندرجوا في البطون و توزعوا بين القبائل و الله وارث الأرض ومن عليها (6/152)
الخبر عن بني فاتن من ضريسة إحدى بطون البرابرة البتر و تصاريف أحوالهم
و هم بطون مضغرة و لماية و صدينة و كومية و مديونة و مغيلة و مطماطة و ملزوزة و مكناسة و دونة و كلهم من ولد فاتن بن ممصيب بن حريس بن زحيك بن مادغيس الأبتر و لهم ظهور من البرابر و أخبار نسردها بطنا بطنا إلى آخرها
مضغرة : و هم من أوفر هذه الشعوب و كانوا خصاصين آهلين و كان جمهورهم بالمغرب منذ عهد الإسلام نشبوا في نشر الردة و ضرو بها و كان لهم فيها مقامات و لما استوسق الإسلام في البربر أجازوا إلى فتح الأندلس و أجازت منهم أمم و استقروا هنالك و لما سرى دين الخارجية أجازوا إلى فتح الأندلس و أجازت منهم أمم و استقروا هنالك
و لما سرى دين الخارجية في البربر أخذ مضغرة هؤلاء برأي الصفرية و كان شيخهم ميسرة و يعرف بالجفير مقدما فيه
و لما ولى عبيد الله بن الحبحاب على أفريقية من قبل هشام بن عبد الملك و أمره أن يمضي إليها من مصر فقدمها سنة أربع عشرة و مائة و استعمل عمر بن عبد الله المرادي على طنجة و المغرب الأقصى و ابنه اسمعيل على السوس و ما وراءه و اتصل أمر ولائهم و ساءت سيرتهم في البربر و نقموا عليهم أحوالهم و ما كانوا يطالبونهم به من الوصائف البربريات و الأردية العسلية الألوان و أنواع طرف المغرب فكانوا يتغالبون في جمعهم ذلك و انتحالة حتى كانت الصرمة من الغنم تهلك بالذبح لاتخاذ الجلود العسلية من سخالها و لا يوجد فيها مع ذلك إلا الواحد و ما قرب منه
فكثر عيثهم بذلك في أموال البربر و جورهم عليهم و امتعض لذلك ميسرة الحسن زعيم مضغرة الحسن و حمل البرابرة على الفتك بعمر بن عبد الله عامل طنجة فقتلوه سنة خمس و عشرين و مائة و ولى ميسرة مكانه عبد الأعلى بن خديم الأفريقي الرومي الأصل كان من موالي العرب و أهل خارجيتهم و كان يرى رأي الصفرية فولاه ميسرة على طنجة و تقدم إلى السوس فقتله عامله إسمعيل بن عبد الله و اضطرم المغرب نارا و انتقض أمره على خلفاء المشرق فلم يراجع طاعتهم بعد
و زحف بعض الحجاب إليه من القيروان في العساكر على مقدمة خالد بن أبي حبيب الفهري فلقيهم ميسرة في جموع البرابرة فهزم المقدمة و استلحمهم و قتل خالد
و تسامح البربر بالأندلس بهذا الخبر فثاروا يعاملهم عقبة بن الحجاج السلولي و عزلوه و ولوا عبد الملك بن قطن الفهري و بلغ الخبر بذلك إلى هشام بن عبد الملك فسرح كلثوم بن عياض المري في إثني عشر ألفا من جنود الشام و ولاه على أفريقية و أدال به من عبيد الله بن الحبحاب ( القسم الثاني المجلد السادس ) و زحف كلثوم إلى البرابرة سنة ثلاث و عشرين و مائة حتى انتهت مقدمته إلى اسبو من أعمال طنجة فلقيه البرابرة هنالك مع ميسرة و قد فحصوا عن أوساط رؤسهم و نادوا بشعار الخارجية فهزموا مقدمته ثم هزموه و قتلوه
و كان كيدهم في لقائهم إياه و ملؤا الشنان بالحجارة و ربطوها بأذناب الخيل تنادي بها فتقعقع الحجارة في شنانها و سربت بمصاف العساكر من العرب فنفرت خيولهم و اختل مصافهم و انجرب عليهم الهزيمة فافترقوا و ذهب بلج مع الطلائع من أهل الشام إلى سبتة كما ذكرناه في أخبارهم و رجع إلى القيروان أهل مصر و أفريقية و ظهرت الخوارج في كل جهة و اقتطع المغرب عن طاعة الخلفاء إلى أن هلك ميسرة و قام برياسة مضغرة من بعده يحيى بن حارث منهم و كان خلفا لمحمد بن خرز و مغراوة ثم كان من بعد ذلك ظهور إدريس بالمغرب فقدم بها البرابرة و تولى كبرها أوربة منهم كما ذكرناه و كان على مضغرة يومئذ شيخهم بهلول بن عبد الواحد فانحرف مالك عن إدريس إلى الطاعة هرون الرشيد بمداخله إبراهيم بن الأغلب عامل القيروان فصالحه إدريس و أنبأه بالسلم
ثم ركد ريح مضغرة من بعد ذلك و افترق جمعهم وجرت الدول عليهم أذيالها و اندرجوا في عمال البربر الغارمين لهذا العهد بتلول المغرب و صحرائه
فمنهم ما بين فاس و تلمسان أمم يتصلون بكومية و يدخلون حلفهم و اندرجوا من لدن الدعوة الموحدية منهم و رياستهم لولد خليفة كان شيخهم على عهد الموحدين و بنى لهم حصنا بمواطنهم على ساحل البحر سمى تاونت و لما انصرفت دولة بني عبد المؤمن و استولى بنو مرين على المغرب قام هرون بن موسى بن خليفة بدعوة يعقوب بن عبد الحق سلطانهم و تغلب على ندرومة و زحف إليه يغمراسن بن زيان فاسترجع ندرومة من يده و غلبه على تاونت ثم زحف يعقوب بن عبد الحق إليهم و أخذها من أيديهم و شحنها بالأقوات و استعمل هرون و رجع إلى المغرب فحدث هرون نفسه بالاستبداد فدعا لنفسه معتصما بذلك الحصن خمس سنين
ثم صاهره يغمراسن و استنزله على صلح سنة إثنتين و سبعين و ستمائة و لحق هرون بيعقوب بن عبد الحق ثم أجاز إلى الجهاد بإذنه و استشهد هنالك و قام بأمر مضغرة من بعده أخوه تاشفين إلى أن هلك سنة ثلاث و سبعمائة و اتصلت رياستهم على عقبه لهذا العهد
و من قبائل مضغرة أمة بجبل قبلة فاس معروف بهم و منهم أيضا قبائل كثيرون بنواحي سجلماسة و أكثر أهلها منهم و ربما حدثت بها عصبية من جراهم
و من قبائل مضغرة أيضا بصحراء المغرب كثيرون نزلوا بقصورها و اغترسوا شجرة النخل على طريقة العرب فمنهم بتوات قبلة سجلماسة إلى تمنطيت آخر عملها قوم كثيرون موطنون مع غيرهم من أصناف البربر
و منهم في قبلة تلمسان و على ستة مراحل منها و هي قصور متقاربة بعضها من بعض ائتلف منها مصر كبير مستبحر بالعمران البدوي معدود في آحاد الأمصار بالصحراء ضاح من ظل الملك و الدول لبعده في القفر و رياسته في بني سيد الملك منهم و في شرقيها و على مراحل منها قرى أخرى متتابعة على سمتها متصاعدة قليلا إلى الجوف آخرها على مرحلة من قبلة جبل راشد
و هي في مجالات بني عامر من زغبة و أوطانهم من القفر و قد تملكوها لحظ أبنائهم و قضاء حاجاتهم حتى نسبت إليهم في الشهرة و في جهة الشرق على هذه القصور و على خمس مراحل منها دامعة متوغلة في القفر تعرف بقليعة
الآن يعتمرها رهط من مضغرة هؤلاء و ينتهي إليها ظواعن عن الملثمين من أهل الصحراء بعض السنين إذا لفحهم الهجير يستبردون في تلوها لتوغلها في ناحيتهم و من مضغرة هؤلاء أوزاع في أعمال المغرب الأوسط و أفريقية و لله الخلق جميعا
لماية و هم بطون كما ذكرناه أخوه مضغرة و لهم بطون كثير عد منها سابق و أصحابه بنو زكرمار و مزيزة و مليزة بنو مدينين كلهم من لماية و كانوا ظواعن بأفريقية و المغرب و كان جمهورهم بالمغرب الأوسط موطنين بسحومة مما يلي الصحراء
و لما سرى دين الخارجية في البربر أخذوا برأي الاباضية و دانوا به و انتحلوه و انتحله جيرانهم من مواطنهم تلك من لواتة و هوارة و كانوا بأرض السرسو قبلة منداس و زواغة و كانوا في ناحية الغرب عنهم و كانت مطماطة و مكناسة و زناتة جميعا في ناحية الجوف و الشرق فكانوا جميعا على دين الخارجية و على رأي الاباضية منهم و كان عبد الرحمن بن رستم من مسلمة الفتح و هو من ولد رستم أمير الفرس بالقادسية و قدم إلى أفريقية مع طوالع الفتح فكان بها و أخذ بدين الخارجية و الاباضية منهم و كان صنيعة للمتة و حليفا لهم
و لما تحزب الاباضية بناحية طرابلس منكرين على ورفجومة فعلهم في القيروان كما مر و اجتمعوا إلى ابن الخطاب عبد الأعلى بن السمح المغافري إمام الاباضية فملكوا طرابلس ثم ملكوا القيروان و قتل واليها من ورفجومة عبد الملك بن أبي الجعد و أثخنوا في ورفجومة و سائر مغراوة سنة إحدى و أربعين و مائة و رجع أبو الخطاب و الاباضية الذين معه من زناتة و هوارة و غيرهم بعد أن استخلف على القيروان عبد الرحمن بن رستم
و بلغ الخبر بفتنة ورفجومة هذه و اضطراب الخوارج من البربر بأفريقية و المغرب و تسلقهم على الكرسي للإمارة بالقيروان إلى المنصور أبي جعفر فسرح محمد بن الأشعث الخزاعي في العساكر إلى أفريقية و قلده حرب الخوارج بها فقدمها سنة أربع و أربعين و مائة و لقيهم أبو الخطاب في جموعه قريبا من طرابلس فأوقع به ابن الأشعث و بقومه و قتل أبو الخطاب و طار الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن رستم بمكان إمارته في القيروان فاحتمل أهله و ولده و لحق باباضية المغرب الأوسط من البرابرة الذين ذكرناهم و نزل على لماية لقديم حلف بينه و بينهم فاجتمعوا إليه و بايعوا له بالخلافة و ائتمروا في بناء مدينة ينصبون بها كرسي لإمارتهم فشرعوا في بناء مدينة تاهرت في سفح جبل كزول السياح على تلول منداس و اختطوها على وادي ميناس النابعة منه عيون بالقبلة و تمر بها و بالبطحاء إلى أن تصب في وادي شلف فأسها عبد الرحمن بن رستم و اختطها سنة أربع و أربعين و مائة فتمدنت و اتسعت خطتها إلى أن هلك عبد الرحمن و ولي إبنه عبد الوهاب من بعده و كان رأس الاباضية
و زحف سنة ست و سبعين و مائة مع هوارة إلى طرابلس و بها عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب من قبل أبيه فحاصره في جموع الاباضية من البربر إلى أن هلك إبراهيم بن الأغلب و استقدم عبد الله بن الأغلب لإمارته بالقيروان فصالح عبد الوهاب على أن تكون الصباحية لهم و انصرف إلى مقوسة و لحق عبد الله بالقيروان و ولى عبد الوهاب إبنه ميمونا و كان رأس الاباضية و الصفرية و الواصلية و انصرف إلى مقوسة و الصفرية و الواصلة و كان يسلم عليه بالخلافة و كان أتباعه من الواصلية و حدهم ثلاثين ألفا ظواعن ساكنين بالخيام و لم يزل الملك في بني رستم هؤلاء بتاهرت و حازتهم جيرانهم من مغراوة و بني يفرن على الدخول في طاعة الأدارسة لما ملكوا تلمسان و أخذت بها زناتة من لدن ثلاث و سبعين و مائة فامتنعوا عليهم سائر أيامهم إلى أن كان استيلاء أبي عبد الله الشيعي على أفريقية و المغرب سنة ست و سبعين و مائة فغلبهم على مدينة تاهرت و أبتزهم ملكهم بها
و بث دعوة عبد الله في أقطار المغربين فانقرض أمرهم بظهور هذه الدولة و عهد عروبة بن يوسف الكتامي فاتح المغرب للشيعة على تاهرت لأبي حميد دواس بن صولان الهيصي فغدا إلى المغرب سنة ثمان و تسعين و مائة فأمحى في مؤامرتها الاباضية من لماية و ازداجة و لواتة و مكناسة و مطماطة و حملهم على دين الرافضة و شيخ بها دين الخارجية حتى استحكم في عقائدهم ثم وليها أيام اسمعيل المنصور ابن صلاص بن حبوس
ثم نزع إلى دعوة الأموية وراء البحر و لحق بالخير بن محمد بن خزر صاحب دعوتهم في زناتة و استعمل المنصور بعده على تاهرت ميسورا الحصني مولاه و أحمد بن الزجالي من صنائعه فزحف إليها حميد و الخير و انهزم ميسور و اقتحموا تاهرت عنده و تعصبوا على أحمد الزجالي و ميسور إلى أن أطلقوهما بعد حين
و لم تزل تاهرت هذه بعد لأعمال الشيعة و صنهاجة سائر أيامهم و تغلب عليها زناتة مرارا و نازلها عسكر بني أمية راجعة في أثر زيري بن عطية أمير المغرب من مغراوة أيام أجاز المظفر بن أبي عامر من العدوة إلى حربه و لم يزل الشأن هذا إلى أن انقرض أمر تلك الدول و صار أمر المغرب إلى لمتونة ثم صار إلى دولة الموحدين من بعدهم و ملكوا المغربين و خرج عليهم بنو غانية بناحية قابس و لم يزل يجيء منهم جلب على ثغور الموحدين و شن الغارات على بسائط أفريقية و المغرب الأوسط و تكرر دخوله إليها عنوة مرة بعد أخرى إلى أن احتمل سكانها و خلا جوها و عفا رسمها لما يناهز عشرون من المائة السابعة و الأرض لله
و أما قبائل لماية فانقرضوا و هلكوا بهلاك مصرهم الذي اختطوه و حازوه و ملكوه سنة الله في عباده و بقيت فرق منهم أوزاعا في القبائل و منهم جربة الذين سميت بهم الجزيرة البحرية تجاه ساحل قابس وهم بها لهذا العهد و قد كان النصرانية من أهل صقلية ملكوها على من بها من المسلمين و هي قبائل لماية و كتامة مثل : جربة و سدويكس و وضعوا عليهم الجزية و شيدوا على ساحل البحر بها معقلا كافيا لإمارتهم سموه القشتيل و طال تمرس العساكر به من حضرة الدولة الحفصية بتونس حتى كان افتتاحها أعوام ثمان و ثلاثين من المائة الثامنة في دولة مولانا السلطان أبي بكر و على يد مخلوف بن الكماد من صنائعه و استقرت بها الدعوة الإسلامية إلى هذه العهد إلا أن القبائل الذين بها من البربر لم يزالوا يدينون لدين الخارجية و يتدارسون مذاهبهم مجلدات تشتمل على تآليف لأئمتهم في قواعد ديانتهم و أصول عقائدهم و فروع مذاهبهم يتناقلونها و يعكفون على دراستها و قراءتها و الله خلقكم و ما تعملون
مطماطة : و هم إخوة مضغرة و لماية من ولد فاتن بن تمصيت الذين مر ذكرهم و هم شعوب كثيرة و عن سابق المطماطي و أصحابه من النسابة أن اسم مطماط مصكاب و مطماط لقب له و أن شعوبهم من لوا بن مطماط و أنه كان له ولد آخر اسمه و رنشيط ولم يذكروا له عقبا قالوا : و كان للوا أربعة من الولد : و رماس و مبلاغر و وريكول و يليص و لم يعقب يليص و أعقب الثلاثة الباقون و منهم افترقت شعوب مطماطة كلها فأما ورماس فمنه مصمود و يونس و يفرين و أما وريكول فكان له من الولد كلدام و سيده و قيدر و لم يعقب سيده و لا قيدر و كان لكدام عصفراص و سليايان فمن سليايان وريغني و وصدى و قسطايان و عمرو و يقال لهؤلاء الخمسة بنو وصطلودة سموا بأمهم و كان لعصفراص زهاص و نهراص فمن عصفراص و رهل و حامد و سكوم و يقال لهم بنو تليكشان سموا بأمهم و كان من زهاص بلست و بصلاتين فمن بلست و رسقلاسن و سكر و محمد و مكريل و دكوال
و من يصلاسن بان يولى و سمساسن و مسامر و ملوسن و يحمد و نافع و عبد الله و عردابين و أما يلاغف بن ولوا بن مطماط فكان له من الولد دحيا و تاينة فمن تاينة ماحرسكن و ريغ و عجلان و مقام و قرة وكان لدحيا و رتجى و محديل فمن ورتجى مغرين و بور و رسيكم و ممجيس و من محديل ماكور و أشكول و كفلان و مذكور و فطارة و أبورة هذه شعوب مطماطة كما ذكر نسابة البربر سابق و أصحابه و هم مفرقون في المواطن فمنهم من نواحي فاس من قبلتها في جبل هنالك معروف بهم ما بين فاس و صفروى و منهم بجهات قابس و البلد المختط على العين الحامية من جهة غربها منسوب إليهم و لهذا العهد يقال حمة مطماطة و يأتي ذكرها في الدولة الحفصية و ممالك أفريقية و بقاياهم أوزاع من القبائل و كانت مواطن جمهورهم بتلول منداس عند جبل وانشريس و جبل كزول من نواحي تاهرت و كان لهم بتلك المواطن عزم بدولة صنهاجة و استفحال وصولة و في فتنة حماد بن بلكين مع باديس المنصور مقامات و آثار و كان كبيرهم يومئذ عزانة و كانت له مع البرابرة المجاورين له من لواتة و غيرهم حروب و أيام
و لما هلك عزانة قام بأمره في مطماطة ابنه زيري فمكث فيهم أياما ثم غلبت صنهاجة على أمره فأجاز البحر إلى العدوة ونزل على المنصور بن أبي عامر فاصطنعه ونظمه في طبقة الأمراء من البربر الذين كانوا في جملته و استظهروا على أمره فكان من أوجه رجالهم عنده و أعظمهم قدرا لديه إلى أن هلك و أجراه إبنه المظفر من بعده و أخوه عبد الرحمن الناصر على سنن ابيهما في ترفيع مكانه و اخلاص ولايته و كان عند ثورة محمد بن هشام بن عبد الجبار غائبا مع أبي عامر في أعراب النعمان مع من كان معه من أمراء البربر و عرفائهم فلما رأوا انتقاض أمره و سوء تدبيره لحقوا بمحمد بن هشام المهدي فكانوا معه إلى أن كانت الفتنة البربرية بالأندلس إلى أن هلك هنالك و لا أدري أي السنين كان مهلكه و أجاز إلى الأندلس أيضا من فصالهم بهلا بهلا من أبي لواي يصلاص و نزل على الناصر و هو من أهل العلم بآنساب البربر و كان من مشاهيرهم أيضا النسابة سابق بن سليمان بن حراث بن مولات بن دوياسر و هو كبير نسابة البربر ممن علمناه
و كان منهم أيضا عبد الله بن إدريس كاتب الخراج لعبيد الله المهدي في آخرين يطول ذكرهم
و هذا ما تلقيناه من أخبار مطماطة و أما موطن منداس فزعم بعض الأخباريين من البربر و وقفت على كتابه في ذلك أنه سم بمنداس بن مغر بن أوريغ بن لهرر بن المساو و هو هوارة و كأنه و الله أعلم يشير إلى أداس بن زحيك الذي يقال إنه ربيب هوار كما يأتي في ذكرهم إلا أنه اختلط عليه الأمر و كان لمنداس من الولد شراوة و كلتوم و تبكم
قال : و لما استفحل أمر مطماطة و كان شيخهم لهذا العهد إهاص ابن عصفراص فأخرج منداس من الوطن و غلبه على أمره و اعتمر بنوه موطن منداس و لم يزالوا به كلامه و لقيه هؤلاء القوم لهذا العهد بجبل أوتبتيش لحقوا به لما غلبهم بنو توجين من زناتة على منداس و صاروا في عداد قبائل الغارمة و الله وارث الأرض و من عليها
مغيلة : و هم إخوة مطماطة و لماية كما قلناه و إخوتهم ملزوزة معدودون منهم و كذلك دونة و كشاتة و لهم افتراق في الوطن و كان منهم جمهوران : أحدهما بالمغرب الأوسط عند مصب شلف في البحر من صوادر ما دونه المصر لهذا العهد و من ساحلهم أجاز عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس و نزل بالمنكب فكان منهم أبو قرة المغيلي الدائن بدين الصفرية من الخوارج ملك أربعين سنة و كانت بينه و بين أمراء العرب بالقيروان لأول دولة بني العباس حروب و نازل طبنة و قد قيل إن أبا قرة هذا من بني مطماطة و هذا عندي صحيح فلذلك أخرت ذكر أخباره إلى أخبار بني يفرن من زناتة
وكان منهم أيضا أبو حسان ثار بإفريقية لأول الإسلام و أبو حاتم يعقوب بن لبيب بن مرين بن يطوفت من مازور الثائر مع أبي قرة سنة خمسين و مائة و تغلب على القيروان فيما ذكر خالد بن خراش و خليفة بن خياط من علمائهم و ذكروا من رؤسائهم أيضا موسى بن خليد و مليح بن علوان و حسان بن زروال الداخل مع عبد الرحمن و كان منهم أيضا دلول بن حماد أميرا في سلطان يعلى بن محمد اليفرني و هو الذي اختط بلد ايكري على اثني عشر ميلا من البحر و هي لهذا العهد خراب لم يبق منها إلا الأطلال ماثلة و لم يبق من مغيلة بذلك الوطن جمع و لا حي و كان جمهورهم الآخر بالمغرب الأقصى و هم الذين تولوا مع أوربة و صدينة القيام بدعوة إدريس بن عبد الله لما لحق بالمغرب و أجازه و حملوا قبائل البربر على طاعته و الدخول في أمره و لم يزالوا على ذلك إلى أن اضمحلت دولة الأدارسة و بقاياهم لهذا العهد بمواطنهم ما بين فاس و صفرون و مكناسة و الله وارث الأرض و من عليها
مديونة : و هم من إخوة مغيلة و مطماطة من ولد فاس كما قلناه و كانت مواطن جمهورهم بنواحي تلمسان ما بين جبل بني راشد لهذا العهد إلى الجبل المعروف بهم قبلة وجدة يتقلبون بظواعنهم في ضواحيه و جهاته و كان بنو يلومي و بنو يفرن من قبلهم يجاورونهم من ناحية المشرق و مكناسة من ناحية المغرب و كومية و ولهاصة من جهة الساحل
و كان من رجالاتهم المذكورين جرير بن مسعود كان أميرا عليهم و كان مع أبي حاتم و أبي قرة فتنتهم و أجاز إلى الأندلس في طوالع الفتح كثير منهم فكان لهم هنالك اسفحال و خرج هلال بن أبزيا منهم يشتد به على عبد الرحمن الداخل متبعا شقيا المكناسي في خروجه ثم راجع الطاعة فقتله و كتب له على قومه فكان بشرق الأندلس و شنتمرية ثم خلفه بها من قومه نابتة بن عامر و لما تغلب بنو توجين و بنو راشد من زناتة على ضواحي المغرب الأوسط و كان مديونة هؤلاء قد قل عددهم و فل حدهم فداخلتهم زناتة على الضواحي من مواطنهم و تملكوها و صارت مديونة إلى الحصون من بلاده بجبل ما ساله و جبل وجده المعروف بهم و ضربت عليهم المغارم و تمرست بهم الأيام فلم يبق منهم هنالك إلا صبابة محترفون بالفلح و منهم أيضا أوزاع في القبائل مندرجون فيهم و بنواحي فاس ما بينها و بين صفرون قبيلة منهم مجاورة لمغيلة و الله يرث الأرض و من عليها
كومية و هم المعروفون قديما بصطفورة أخوة مطاية و مضغرة و هم من ولد فاتن كما قدمنا و لهم ثلاث بطون منها تفرغت شعوبهم و قبائلهم و هي ندرومة و مغارة و بنو يلول فمن ندرومة مفوطة و حرسة و مردة و مصمانة و مراتة و من بني يلول مسيقة و رتيوة و هشبة و هيوارة و والغة و من مغارة ملتيلة و بنو حباسة و كان منهم النسابة المشهور ماني بن مصدور بن مريس بن نقوط هذا هو المعروف في كتبهم و كانت مواطن كومية بالمغرب الأوسط لسيف البحر من ناحية أرشكول و تلمسان و كان لهم كثرة موفورة و شوكة مرهوبة و صاروا من أعظم قبائل الموحدين لما ظاهروا المصامدة على أمر المهدي و كلمة توحيده
و ربما كانوا رهط عبد المؤمن صاحبه و خليفته فإنه كان من بني عابد أحد بيوتاتهم و هم عبد المؤمن بن علي بن مخلوف بن يعلي بن مروان بن نصر بن علي بن عامر بن المير بن موسى بن عبد الله بن يحيى بن وريغ بن صطفور و هكذا نسبه مؤرخو دولة الموحدين إلى صطفور ثم يقولون صطفور بن نفور بن مطماط بن هودج بن قيس عيلان بن مضر
و يذكر بعضهم أن في خط أبي عبد الواحد المخلوع ابن يوسف بن عبد المؤمن فأما انتسابهم في قيس عيلان فقد ذكرنا أنه غير صحيح و في أسماء هذا العمود من نسب عبد المؤمن ما يدل على أنه مصنوع إذ هذه الأسماء ليست من أسماء البربر و إنما هي كما تراه كلها عربية و القوم كانوا من البرابرة معروفون بينهم و انتساب صطفور إلى مطماط تخليط أيضا فإنهما أخوان عند نسابة البربر أجمع و عبد المؤمن بلا شك منهم و الله أعلم بما سوى ذلك
و كان عبد المؤمن هذا من بيوتاتهم و أشرافهم و موطنهم بتاكرارت و هو حصن في الجبل المطل على هنين من ناحية الشرق و لما نجح عبد المؤمن منهم وثب و ارتحل في طلب العلم فنزل بتلمسان و أخذ عن مشيختها مثل ابن صاحب الصلاة و عبد السلام البرنسي و كان فقيها صالحا و هو ضجيع الشيخ أبي مدين في تربته و لما هلك عبد السلام هذا و لم يحذق تلميذه بعد في فنونه و كان شيخ عصره في الفقه و الكلام تعطش التلميذ بعده إلى القراءة و بلغهم خبر الفقيه محمد بن تومرت المهدي ووصل إلى بجاية و كان يعرف إذ ذاك بالفقيه السوسي و نسبته إلى السوس و لم يكن لقب المهدي وضع عليه بعده
و كان في ارتحاله من المشرق إلى المغرب قد أخذ نفسه مع تغيير المنكر الذي شأنه و طريقته نشر العلم و تبين الفتاوى و تدريس الفقه و الكلام و كان له في طريقته الأشعرية إمامة و قدم راسخة و هو الذي أدخلها إلى المغرب كما ذكرناه و تشوق طلبة العلم بتلمسان إلى الأخذ عنه و تفاوضوا في ذلك و ندب بعضهم بعضا إلى الرحلة إليه لاستجلابه و أن يكون له السبق باتحاف القطر بعلومه فانتدب لها عبد المؤمن بن علي مكانه من صغر السن بنشاطه للسفر لبداوته فارتحل إلى بجاية للقائه و ترغيبه في نزوله تلمسان فلقيه بملالة و قد استحكمت بينه و بين العزيز النفرة و بنو و رياكل متعصبون على إجارته منهم و منعه من إذايته و الوصول إليه فألقى إليه عبد المؤمن ما عنده من الترغيب و أدى إليه رسالة طلبة العلم بتلمسان فوعاها و شأنه غير شأنهم
و عكف عبد المؤمن عن التعليم و الأخذ عنه ظعنه و مقامه و ارتحل إلى المغرب في صحابته و صدق في العلم و آثره الإمام بمزيد الخصوصية و القرب بما خصه الله به من الفهم و الوعي للتعليم حتى كأنه خالصة لإمام و كنز صحابته و كان يؤمله لخلافته لما ظهر عليه من الشواهد المدونة بذلك و لما اجتازوا في طريقهم إلى المغرب بالثعالبة من موطن العرب الذين ذكرناهم قبل في نواحي المدينة قربوا إليه حمارا فارها يتخذه له عطية لمركوبه فكان يؤثر به عبد المؤمن و يقول لأصحابه : إركبوه الحمار يركبكم الخيول المسومة و لما بويع له بهرغة سنة خمس عشرة و خمسمائة و اتفقت على دعوته كلمة المصامدة و حاربوا لمتونة نازلوا مراكش
و كانت بينهم في بعض أيام منازلتها حرب شديدة هلك فيها من الموحدين الألف فقيل للإمام إن الموحدين قد هلكوا فقال لهم : ما فعل عبد المؤمن ؟ قالوا هو على جواده الأدهم قد أحسن البلاء فقال ما بقي عبد المؤمن فلم يهلك أحد و لما احتضر الإمام سنة اثنتين و عشرين و خمسمائة عهد بخلافته في أمره لعبد المؤمن و استراب من العصبية بين المصامدة فكتم موت المهدي و أرجأ أمره حتى صرح الشيخ أبوحفص أمير هنتانة و كبير المصامدة لمصاهرته و أمضى عهد الإمام فيه فقام بالأمر و استبد بشياخة الموحدين و خلافة المسلمين و نهض سنة سبع و ثلاثين و خمسمائة إلى فتح المغرب فدانت له غمارة ثم ارتحل منها إلى الريف ثم إلى بطوية ثم إلى مطالة ثم إلى بني يزناسين ثم إلى مديونة ثم إلى كومية و جيرانهم ولهاصة و كانوا يلونهم في الكثرة فاشتد عضده بقومه و دخلوا في أمره و شايعوه على تمكين سلطانه بين الموحدين و خلافته و لما رجع إلى المغرب و افتتح أمصاره و استولى على مراكش استدعى قومه للرحلة إليها و العسكرة عليه بحب جمهورهم إلى المغرب و استوطن مراكش لحمل سرير الخلافة و القيام بأمر الدعوة و الذب عن ثغورهم و المدافعة فاعتضد بهم عبد المؤمن و بنوه سائر الدولة و كانوا بمكانتهم فاتحة الكتاب و تدراكه الجماعة و تقدموا في الفتوح و العساكر و أكلتهم الأقطار في تجهيز الكتائب تدويخ الممالك فانقرضوا و بقي بمواطنهم الأولى بقايا منهم : بنو عابدوهم في عداد القبائل الغارقة قد انقلب زمانهم فأمهلهم فحملوا المغرم و ألفوا نهوضهم بالتكاليف و نظموا مع جيرانهم ولهاصة في سوم الخسف و الذل و اقتضاء الخراج بالنكال و العذاب و الله مبدل الأمر و مالك الملك سبحانه (6/155)
الخبر عن زواوة و زواغة من بطون ضرسة من البرابر البتر و الالمام ببعض أحوالهم
هؤلاء البطون من بطون البرابرة البتر من ولد سمكان بن يحيى بن ضري بن زحيك ابن مادغيس الأبتر و أقرب ما يليهم من البرابر زناتة لأن أباهم أجانا هو أخو سمكان ابن أبيه فلذلك كانوا ذوي قربى لهم
زواوة فأما زواوة فهم من بطونهم و قد يقال إن زواوة من قبائل كتامة ذكر ذلك ابن حزم و نسابة البربر إنما يدونهم من ولد سمكان كما قلناه و الصحيح عندي ما ذكره ابن حزم و يشهد له الموطن و نحلة الشيع مع كتامة لعبد الله و عد نسابة البربر و لهم بطون كثيرة :
بنو مجسطة و بنو مليكش و بنو كوفي و مشداله و بنو زريقف و بنو كوزيت و كرسفينة و وزلجة و خوجة و زكلاوه و بنو مرانه و يقال إن بني مليكش من صنهاجة و الله أعلم
و من قبائل المشهور لهذا العهد بنو بحرو و بنو مابكلات و بنو مترون و بنو ماني و بنو بوعردان و بنو تورغ و بنو يوسف و بنو عبسي و بنو بو شعيب و بنو صدقة و بنو غبرين و بنو كشطولة و مواطن زواوة بنواحي بجاية ما بين مواطن كتامة و صنهاجة أوطنوا عنها جبالا شاهقة متوعرة تنذعر منها الأبصار و يضل في غمرها السالك مثل بني غبرين بجبل زيري و فيه شعراء من شجر الزان يشهد بها لهذا العهد
و مثل بني فرلوسن و بنى سرا و جبلهم ما بين بجاية و تدلس و هو أعظم معاقلهم و أمنع حصونهم فلهم به الاعتزار على الدول و الخيار عليها في إعطاء المغرم مع أن كلهم لهذا العهد قد امتنع لساهمه و اعتز على السلطان في أبناء طاعته و قانون مزاجه
و كانت لهم في دولة صنهاجة مقامات مذكورة في السلم و الحرب بما كانوا أولياء لكتامة و ظهر أولهم على أمرهم من أول الدولة وقتل بادس بن المنصور في إحدى وقائعه بهم و شيخهم زيري بن أجانا لاتهامه أباه في أمر حماد ثم و اختط بنو حماد بعد ذلك بجاية و تمرسوا بهم فانقادوا و أذعنوا لهم إلى آخر الدولة و اتصل أذعانهم إلى هذا العهد إلا تمريضا يحملهم عليه الموثقون بمنعة جبالهم و كانت رياسة بني يراثن منهم في بني عبد الصمد من بيوتاتهم و كاتب عبد ثعلب السلطان أبو الحسن على المغرب الأوسط شيخه عليهم من بني عبد الصمد هؤلاء اسمها شمسي و كان لها عشرة من الولد فاستفحل شأنها بهم و ملكت عليهم أمرهم
و لما تقبض السلطان أبو الحسن على إبنه يعقوب المكنى بأبي عبد الرحمن عندما فر من معسكره بمتيجة سنة ثمان أو سبع و ثلاثين و سرح في أثره الخيالة فرجعوه و اعتقله ثم قتله من بعد ذلك حسبما يذكر في أخبارهم لحق حينئذ بني يراثن هؤلاء خازن من مطبخه فموه عليهم باسمه و شبه بتمثاله و دعا إلى الخروج على ابنه بزعمه فشمرت شمس هذه عزائمها في إجازته و حملت قومها على طاعته و سرب السلطان أبو الحسن أمواله في مومها و هما على السلامة فأبته ثم نمي إليها الخبر بمكره و تمويهه فنبذت إليه عهده و خرج عنها إلى بلاد العرب كما نذكر بعض ذلك في أخبارهم
و قدمت على السلطان أبي الحسن في وفد من قومها و بعض بنيها فاستبلغ السلطان من تكرمها و أحسن صلتها و أجاز الوفد و رجعت بهم إلى موطنها ولم تزل الرياسة في هذا البيت (6/168)
زواغة
و أما زواغة فلم يتأد إلينا من أخبارهم و تصاريف أحوالهم ما نعمل فيه الأقلام و لهم ثلاثة بطون و هي : دمر بن زواغ و بنو واطيل بن زحيك بن زواغ و بنو ماخر بن تيغون من زواغة و من دمر بنو سمكان و هم أوزاع في القبائل و منهم بنواحي طرابلس مفترقون في براريها و لهم هنالك الجبل المعروف بدمر و في جهات قسنطينة أيضا رهط من زواغة و كذلك بجبال شلف بنو واطيل منهم و بنواحي فاس آخرون و لله الخلق و الأمر (6/170)
الخبر عن مكناسة و سائر بطون بني ورصطف و ما كان لمكناسة من الدول بالمغرب و أولية ذلك و تصاريفه
كان لورصطف بن يحيى و هو أخو أجانا بن يحيى و سمكان بن يحيى ثلاثة من البطون و هم : مكناسة و ورتناجية و أوكته و يقال مكنه و بنو ورتناجة أربعة بطون سدرجة و مكسة و بطالسة و كرنيطه
و زاد سابق و أصحابه في بطونهم هناطة و فولالة و كذلك عدوا في بطون مكنه : بني درطين و بني فولالين و بني يزين و بني جرين و بني بوعال و لمكناسة عندهم أيضا بطون كثيرة منها : صولات و بوحاب و بنو ورفلاس و بنو وردنوس و قيصارة و نبعة و ورقطنة و بطون ورصطف كلهم مندرجون في بطون مكناسة و كانت مواطنهم على وادي ملوية من لدن أعلاه سجلماسة إلى مصبه في البحر و ما بين ذلك من نواحي تازا و تسول و كانت رياستهم جميعا في بني ابايرون و إسمه مجدول بن تاقرسي بن فراديس بن ونيف بن مكناس و أجاز منهم إلى العدوة عضد الفتح أمم و كانت لهم بالأندلس رياسة و كثرة و خرج منهم على عبد الرحمن الداخل شيعا بن عبد الواحد سنة إحدى و خمسين و اعتصم بشنتمرية و دعا لنفسه منتسبا إلى الحسن بن علي و تسمى عبد الله ابن محمد و تلقب بالفاطمي و كانت بينه و بين عبد الرحمن حروب إلى أن غلبه و مما أثر ضلالته و كان من رجالتهم لعهد دولة الشيعة مصاله بن حبوس بن منازل إتصل بعبيد الله الشيعي و كان من أعظم قواده و أوليائه و ولاه تاهرت و افتتح له المغرب و فاس و سجلماسة
و لما هلك أقام أخاه يصلتين بن حبوس مقامه في ولاية تاهرت و المغرب ثم هلك و أقام إبنه حميدا مقامه فانحرف عن الشيعة و دعا لعبد الرحمن الناصر و اجتمع مع بني خزر أمراء جراوة على ولاية المروانية ثم أجاز إلى الأندلس و ولي الولايات أيام الناصر و ابنه الحكم و ولي في بعضها تلمسان بدعوتهم ثم هلك و أقام ابنه لرصل بن حميد و أخوه يباطن بن يصلتين و على ابن عمه من ماله في ظل الدولة الأموية إلى أن أجاز المظفر بن أبي عامر إلى المغرب فولي يصل بن حميد سجلماسة كما نذكره ثم أن رياسة مكناسة بالعدوة انقسمت في بني أبي نزول و انقسمت مسايل مكناسة بانقسامها و صارت رياسة مكناسة في مواطن سجلماسة و ما إليها من بني واسول بن مصلان بن أبي نزول و رياسة مكناسة بجهات تازا و توسول و ملوية و مليلة لبني أبي العافية بن أبي نائل بن أبي الضحاك بن أبي نزول و لكل واحد من هذين الفريقين في الإسلام دولة و سلطان صاروا به في عداد الملوك كما نذكره (6/170)
الخبر عن دولة بني واسول ملوك سجلماسة و أعمالها من مكناسة
كان أهل مواطن سجلماسة من مكناسة يدينون لأول الإسلام بدين الصفرية من الخوارج لقنوه عن أثمتهم و رؤوسهم من العرب لما لحقوا من المغرب و أسروا على الامتناع و ماجت أقطار المغرب لفتنة ميسرة فلما اجتمع على هذا المذهب زهاء أربعين من رجالاتهم نقضوا طاعة الخلفاء و ولوا عليهم عيسى بن يزيد الأسود من موالي العرب و رؤوس الخوارج و اختطوا مدينة سجلماسة لأربعين و مائة من الهجرة و دخل سائر مكناسة من أهل تلك الناحية في دينهم ثم سخطوا أميرهم عيسى و نقموا عليه كثيرا من أحواله فشدوه كتافا و وضعوه على قنة جبل إلى أن هلك سنة خمس و خمسين و مائة و اجتمعوا بعده على كبيرهم أبي القاسم سمكو بن واسول بن مصلان بن أبي نزول كان أبوه سمقو من حملة العلم ارتحل إلى المدينة فأدرك التابعين و أخذ عن عكرمة مولى ابن عباس ذكره عريب بن حميد في تاريخه و كان صاحب ماشية و هو الذي بايع لعيسى بن يزيد و حمل قومه على طاعته فبايعوه من بعده
و قاموا بأمره إلى أن هلك سنة سبع و ستين و مائة لمنتهى عشر سنين من ولايته و كان أباضيا صفريا و خطب في عمله للمنصور و المهدي من بني العباس و لما هلك و لوا عليهم ابنه إلياس و كان يدعى بالوزير ثم انتقضوا عليه سنة أربع و تسعين و مائة فخلعوه و ولوا مكانه أخاه إليسع بن أبي القاسم و كنيته أبو منصور فلم يزل أميرا عليهم و بنى سور سجلماسة لأربع و ثلاثين سنة من ولايته و كان أباضيا صفريا و على عهده استفحل ملكهم بسجلماسة و هو الذي أتم بناءها و تشييدها و اختط بها المصانع و القصور و انتقل إليها آخر المائة الثانية و دوخ بلاد الصحراء و أخذ الخمس من معادن درعة و أصهر لعبد الرحمن بن رستم صاحب تاهرت بابنه مدرار في إبنته أروى فأنكحه إياها
و لما هلك سنة ثمان و مائتين ولي بعده إبنه مدرار و لقبه المنتصر و طال أمر ولايته و كان له ولدان إسم كل واحد منهما ميمون أحدهما لأروى بنت عبد الرحمن بن رستم و قيل إن إسمه أيضا عبد الرحمن و الآخر لبغي و تنازع في الاستبداد على أبيه و دامت الحرب بينهما ثلاث سنين و كانت لأبيهما مدرار صاغية إلى ابن أروى فمال معه حتى غلب أخاه فأخذه و أخرجه عن سجلماسة و لم يلبث أن خلع أباه و استبد بأمره ثم ساءت سيرته في قومه و مدينته فخلعوه و صار الى درعة و أعادوا مدرارا الى أمره ثم حدث نفسه بإعادة إبنه ميمون ابن الرستمية إلى إمارته بصاغية إليه فخلعوه و رجعوا إبنه ميمونا بن التقي و كان يعرف بالأمير
و مات مدرار إثر ذلك سنة ثلاث و خمسين و مائتين لخمس و أربعين من ملكه وأقام إبنه ميمون في استبداده إلى أن هلك سنة ثلاث و ستين و مائتين و ولي إبنه محمد و كان أباضيا و توفي سنة سبعين و مائتين فولي إليسع بن المنتصر و قام بأمره و لحق عبيد الله الشيعي و إبنه و أبو القاسم بسلجماسة لعهده و أعد المعتضد إليه في شأنهما و كان على طاعته فاستراب بهما و حبسهما إلى أن غلب الشيعي بني الأغلب و ملك رقادة فزحف إليه لاستخراج عبيد الله و إبنه من محبسه و خرج إليه إليسع في قومه مكناسة فهزمه أبو عبيد الله الشيعي و اقتحم عليه سجلماسة و قتله سنة ست و تسعين و مائتين و استخرج عبيد الله و إبنه من محبسهما و بايع لهما و ولى عبيد الله المهدي على سجلماسة إبراهيم بن غالب المراسي من رجالات كتامة و انصرف إلى أفريقية
ثم انتقض أمراء سجلماسة على واليهم إبراهيم فقتلوه و من كان معه من كتامة سنة ثمان و تسعين و مائتين و بايعوا الفتح بن ميمون الأمير ابن مدرار و لقبه واسول و ميمون ليس هو ابن المتقي الذي تقدم ذكره و كان أباضيا و هلك قريبا من ولايته لرأس المائة الثالثة فولي أخوه أحمد و استقام أمره إلى أن زحف مصالة بن حبوس في جموع كتامة و مكناسة إلى المغرب سنة تسع و ثلثمائة فدوخ المغرب و أخذهم بدعوة صاحبه عبيد الله المهدي و افتتح سجلماسة و تقبض على صاحبها أحمد بن ميمون بن مدرار و ولى عليها ابن عمه المعتز بن محمد بن ساور بن مدرار فلم يلبث أن استبد و بلغها المعتز و هلك سنة إحدى و عشرين و ثلثمائة قبيل ملك المهدي و ولي من بعده إبنه أبو المنتصر محمد بن المعتز فمكث عشرا
ثم هلك و ولي من بعده إبنه المنتصر سمكو شهرين و كانت جدته تدبر أمره لصغره ثم ثار على ابن عمه محمد بن الفتح بن ميمون الأمير و تغلب عليه و شغب عليه بنو عبيد الله لفتنة ابن أبي العافية و تاهرت ثم نقلته إلى أبي يزيد بعدهما فدعا محمد ابن الفتح لنفسه مموها بالدعوة لبني العباس و أخذ بمذاهب أهل السنة و رفض الخارجية و لقب الشاكر بالله و اتخذ السكة بإسمه و لقبه
و كانت تسمى الدراهم الشاكرية كذا ذكره ابن حزم و قال فيه :
و كان في غاية العدل حتى إذا فزع له بنو عبيد و حمت الفتنة زحف جوهر الكاتب أيام المعز لدين الله في جموع كتامة و صنهاجة و أوليائهم إلى المغرب سنة سبع و أربعين و ثلثمائة فغلب على سجلماسة و ملكها
و فر محمد بن لفتح إلى حصن تاسكرات على أميال من سجلماسة و أقام به
ثم دخل سجلماسة متنكرا فعرفه رجل من مضغرة و أنذر به فتقبض عليه جوهر و قاده أسيرا إلى القيروان مع أحمد بن بكر صاحب فاس كما نذكره و قفل إلى القيروان فلما انتقض المغرب على الشيعة و فشت بدعة الأمية و أخذ زناتة بطاعة الحكم المنتصر ثار بسلجماسة قائم من ولد الشاكر و باهي المنتصر بالله ثم وثب عليه أخوه أبو محمد سنة إثنتين و خمسين و ثلثمائة فقتله و قام بالأمر مكانه و تلقب المعتز بالله
و أقام على ذلك مدة و أمر مكناسة يومئذ قد تداعى إلى الانحلال و أمر زناتة قد استفحل بالمغرب عليهم إلى أن زحف حرزون بن فلفول من ملوك مغراوة إلى سجلماسة سنة ست و ستين و ثلثمائة و أبرز إليه أبو محمد المعتز فهزمه حرزون و قتله و استولى على بلده و ذخيرته و بعث برأسه إلى قرطبة مع كتاب الفتح و كان ذلك لأول حجابة المنصور بن أبي عامر فنسب إليه و احتسب له لحدا بقبة و عقد لحرزون على سجلماسة فأقام دعوة هشام بأنحائها فكانت أول دعوة أقيمت لهم بالأمصار في المغرب الأقصى و انقرض أمر بني مدرار و مكناسة من المغرب أجمع و أدال منهم بمغراوة و بني يفرن حسبما يأتي ذكرهم في دولتهم و الأمر لله وحده و له البقاء سبحانه و تعالى (6/171)
الخبر عن دولة بني أبي العافية ملوك تسول من مكناسة و أولية أمرهم و تصاريف أحوالهم
كان مكناسة الظواعن من أهل مواطن ملوية و كرسيف و مليلة و ما إليها من التلول بنواحي تازا و تسول و الكل يرجعون في رياستهم إلى بني أبي باسل بن أبي الضحاك ابن أبي نزول و هم الذين اختطوا بلد كرسيف و رباط تازا و لم يزالوا على ذلك من أول الفتح
و كانت رياستهم في المائة الثالثة لمصالة بن حبوس و موسى بن أبي العافية ابن أبي باسل و استفحل أمرهم في أيامه و عظم سلطانهم و تغلبوا على قبائل البربر بأنحاء تازا إلى الكائي و كانت بينهم و بين الأدراسة ملوك المغرب لذلك العهد فتن و حروب و كانوا يقتلونهم على كثير من ضواحيها لما كان نزل بدولتهم من الهرم و لما استولى عبيد الله على المغرب و استفحل أمره كانوا من أعظم أوليائه و شيعه و كان مصالة بن حبوس من أكبر قواده لانحياشه إليه و ولاه على مدينة تاهرت و المغرب الأوسط
و لما زحف مصالة إلى المغرب الأقصى سنة خمس و ثلثمائة و استولى على فاس و على سجلماسة و فرغ من شأن المغرب و استنزل يحيى بن إدريس من إمارته بفاس إلى طاعة عبيد الله و أبقاه أميرا على فاس عقد حينئذ لابن عمه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة على سائر ضواحي المغرب و أمصاره مضافة إلى عمله من قبل تسول و تازا و كرسيف و قفل مصالة إلى القيروان و قام موسى بن أبي العافية بأمر المغرب و ناقضه يحيى بن إدريس صاحب فاس لما يظعن له من المظاهرة عليه
فلما عاود مصالة غرق المغرب سنة تسع و ثلثمائة أنزل ابن أبي العافية يحيى بن إدريس فقبض عليه و استصفاه و طرده عن عمله فلحق ببني عمه بالبصرة و الريف و ولى مصالة على فاس ريحان الكتامي و قفل إلى القيروان فهلك و عظم ملك ابن أبي العافية بالمغرب ثم ثار بفاس سنة ثلاث عشرة و ثلثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس و كان مقداما شجاعا و يلقب بالحجام لطعنه في المحاجم دخل فاس على حين غفلة من أهلها و قتل ريحان واليها و اجتمع الناس على بيعته ثم خرج لقتاله ابن أبي العافية فتزاحفوا بفحص أداز مادبين تازا و فاس و يعرف لهذا العهد بوادي المطاحن و اشتدت الحرب بينهم و هلك منهال بن موسى بن أبي العافية في الفتن بمكناسة
ثم كانت العاقبة لهم و انفض عسكر الحسن و رجع مفلولا إلى فاس فغدر به عامله على عدوة القرويين حامد بن حمدان الهمداني و استمكن من عاقله و استحث ابن أبي العافية للقدوم و أمكنه من البلد و زحف إلى عدوة الأندلس فملكها و قتل عاملها عبد الله بن ثعلة بن محارب بن محمود و ولى مكانه أخاه محمدا و طالب حامدا بصاحبه الحسن فدس إليه حامد بالفرار تجافيا عن دعاء أهل البيت و تدلى الحسن من السور فسقط و انكسر ساقه و مات مستخفيا بعدوة الأندلس لثلاث ليال منها
و حذر حامد من سطوة أبي العافية فلحق بالمهدية و استولى ابن أبي العافية على فاس و المغرب أجمع و أجلى الأدارسة عنهم و ألجأهم إلى حصنهم بقلعة حجر النسر مما يلي البصرة و حاصرهم بها مرارا ثم جمر عليهم العساكر و خلف فيهم قائده أبا الفتح فحاصرهم و نهض إلى تلمسان سنة تسع عشرة و ثلثمائة بعد أن استخلف على المغرب الأقصى إبنه مدين و أنزله بعدوة القرويين و استعمل على عدوة الأندلس طوال بن أبي يزيد و عزل به محمد بن ثعلبة و زحف إلى تلسمان فملكها و غلب عليها صاحب الحسن بن أبي العيش بن عسى بن إدريس بن محمد بن سليمان من عقب سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر الداخل إلى المغرب بعده فغلب موسى ابن أبي العافية الحسن على تلمسان و أزعجه عنها إلى مليلة من جزائر ملوية و جع إلى فاس و قد كان الخليفة الناصر لما فشت دعوته بالمغرب خاطبه بالمقاربة و الوعد فسارع إلى إجابته و نقض طاعة الشيعة و خطب للناصر على منابر عمله فسرح إليه عبد الله المهدي قائده ابن أخي مصالة و هو حميد بن يصلت المكناسي قائد تاهرت فزحف في العساكر إلى حرمه سنة إحدى و عشرين و ثلثمائة و لقيه موسى بن أبي العافية بفحص مسون فتزاحفوا أياما ثم لقيه حميد فهزمه و لحق ابن أبي العافية بتسول فامتنع بها و أفرج قائده أبو الفتح عن حصن الأدارسة فاتبعوه وهزموه و نهبوا معسكره
ثم نهض حميد إلى فاس ففر عنها أعزل بن موسى إلى إبنه و استعمل عليها حامد بن حمدان كان في جملته و قفل حميد إلى أفريقية و قد دوخ المغرب ثم انتقض أهل المغرب على الشيعة بعد مهلك عبيد الله و ثار أحمد بن بكر بن عبد الرحمن بن سهل الجزامي على حامد بن حمدان فقتله و بعث برأسه إلى ابن أبي العافية فأرسله إلى الناصر بقرطبة و استولى على المغرب و زحف ميسور الخصي قائد أبي القاسم الشيعي إلى المغرب سنة ثلاث و عشرين و ثلثمائة وخام ابن أبي العافية عن لقائه و اعتصم بحصن الكأي و نهض ميسور إلى فاس فحاصرها و استنزل أحمد بن بكر عاملها ثم تقبض عليه و أشخصه إلى المهدية و بدر أهل فاس بغدره فامتنعوا و قدموا على أنفسهم حسن بن قاسم اللواتي و حاصرهم ميسور مدة حتى رغبوا إلى السلم و اشترطوا على أنفسهم الطاعة و الأتاوة فتقبل ميسور و رضي و أقر حسن بن قاسم على ولايته بفاس و انحل إلى حرب ابن أبي العافية فكانت بينهما حروب إلى أن غلبه ميسور فتقبض على ابنه الغوري و غربه إلى المهدية و أجلى موسى بن أبي العافية عن أعمال المغرب إلى نواحي ملوية و وطاط و ما من بلاد الصحراء و قفل إلى القيروان
و لما مر بارشكول خرج إليه صاحبها ملاطفا له التحف و هو إدريس بن إبراهيم من ولد سليمان بن عبد الله أخي إدريس الأكبر فتقبض عليه و اصطلم نعمته و ولى مكانه أبا العيش بن عيسى منهم و أغذ السير إلى القيروان سنة أربع و عشرين و ثلثمائة و رجع موسى بن أبي العافية من الصحراء إلى أعماله بالمغرب فملكها و ولى على الأندلس أبا يوسف بن محارب الأزدي و هو الذي مدن عدوة الأندلس و كانت حصونا و احتل موسى بن أبي العافية قلعة كوماط و خاطب الناصر فبعث إليه مددا من أسطوله و زحف إلى تلمسان ففر عنها أبو العيش و اعتصم بارشكول فنازله و غلبه عليها سنة خمس و عشرين و ثلثمائة و لحق أبو العيش بنكور و اعتصم بالقلعة التي بناها هنالك لنفسه
ثم زحف ابن أبي العافية إلى مدينة نكور فحاصرها مدة ثم تغلب عليها و قتل صاحب عبد البديع بن صالح و خرب مدينتهم ثم سرح ابنه مدين في العساكر فحاصر أبا العباس بالقلعة حتى عقد له السلم عليها و استفحل أمر ابن أبي العافية في المغرب الأقصى و اتصل عمله بعمل محمد بن خزر ملك مغراوة و صاحب المغرب الأوسط و بثوا دعوة الأموية في أعمالها و بعث ابنه مدين بأمره في قومه و عقد له الناصر على أعمال ابنه بالمغرب و اتصلت يده بيده الخير بن محمد كما كان بين آبائهما
ثم فسد بينهما و تزاحفا للحرب و بعث الناصر قاضيه مقدر بن سعد لمشارفة أحوالهما و إصلاح ما بينهما فتم ذلك كما أراده و لحق به سنة خمس و ثلاثين و ثلثمائة أخوه البوري فارا من عسكر المنصور مع أحمد بن بكر الجذامي عامل فاس بعد أن لحقا بأبي يزيد فسار أحمد بن أبي بكر إلى فاس و أقام بها متنكرا إلى أن وثب بعاملها حسن بن قاسم اللواتي و تخلى له عن العمل و صار البوري إلى أخيه مدين و اقتسم أعمال ابنه معه و مع ابنه الآخر منقذ فكانوا ثلاث الأثافي و أثار الثوري إلى الناصر سنة خمس و أربعين و ثلثمائة فعقد الناصر لابنه منصور على عمله و كانت وفاته و هو محاصر لأخيه مدين بفاس و أجاز أبناه أبو العيش و منصور إلى الناصر فأجزل لهما الكرامة على سنن أبيهما
ثم هلك مدين فعقد الناصر لأخيه أبي منقذ على عمله سنة ثم غلب مغراوة على فاس و أعمالها و استفحل أمرهم بالمغرب و أزاحوا مكناسة عن ضواحيه و أعماله و ساروا إلى مواطنهم و أجاز اسمعيل بن الثوري و محمد بن عبد الله بن مرين إلى الأندلس فنزلوه بها إلى أن جازوا مع واضح أيام المنصور كما مر عندما نقض زيري ابن عطية طاغيتهم سنة ست و ثمانين و ثلثمائة فملك واضح المغرب و رجعهم إلى أعمالهم و تغلب بلكين بن زيري على المغرب على الأوسط و غلب عليه ملوكه بني خزر من مغراوة فاتصلت يد مكناسة و لم يزالوا في طاعة بني زيري و مظاهرتهم و هلك إسمعيل بن الثوري في حروب حماد مع باديس بشلف سنة خمس و أربعمائة و توارث ملكهم في أعقاب موسى إلى أن ظهرت دولة المرابطين و غلب يوسف بن تاشفين على أعمال المغرب فزحف إليهم القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن ابراهيم بن موسى بن أبي العافية فاستدعى أهل فاس و صريخ زناتة بعد مهلك معنصرة المغراوي فلقي عساكر المرابطين بوادي صفر فهزمهم و زحف إليه يوسف ابن تاشفين من مكانه فحاصر قلعة فازاز فهزم القاسم بن محمد و جموع مكناسة و زناتة و دخل فاس عنوة كما ذكرناه في أخباره
ثم زحف إلى أعمال مكناسة فاقتحم الحصن و قتل القاسم و في بعض تواريخ المغرب أن مهلك إبراهيم بن موسى كان سنة خمس و أربعمائة
و ولي ابنه عبد الله أبو عبد الرحمن و هلك سنة ثلاثين و أربعمائة و ولي ابنه محمد و هلك سنة ست و أربعين و أربعمائة و ولي إبنه القاسم و هلك سول عند اقتحام لمتونة عليه سنة ثلاث و ستين و أربعمائة و انفض ملك مكناسة من المغرب بانقراض ملك مغراوة و الأمر لله وحده
و هي من قبائل مكناسة لهذا العهد بهذه المواطن أفاريق في جبال تازا بعدما شرست بهم الدول و أناخت بساحتهم الأمم و هم موصوفون بوفور الجباية و قوة الشكيمة ولهم عناء في مظاهرة الدولة و حقوق عند الحشد و العسكرة و فيهم ميدان من الحمالية و من مكناسة غير هؤلاء أو زاع في القبائل لهذا العهد مفرقون في نواحي أفريقية و المغرب الأوسط { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز } و هذا آخر الكلام في بني ورصطيف فلنرجع إلى من بقي علينا من البربر و هم زناتة و الله ولي العون و به المستعان (6/176)
أخبار البرانس من البربر و لنبدأ أولا بالخبر عن هوارة من شعوبهم و ذكر بطونهم و تصاريف أحوالهم و افتراق شعوبهم في عمالات أفريقية و المغرب
و هوارة هؤلاء من بطون البرانس باتفاق من نسابه العرب و البربر ولد هوار بن أوريغ بن برنس إلا ما يزعم بعضهم أنهم من عرب اليمن تارة يقولون من عاملة إحدى بطون قضاعة و تارة يقولون من ولد المسور بن السكاسك بن وابل بن حمير و اذا تحروا الصواب المسور بن السكاسك بن أشريس بن كندة و ينسيونه هكذا : هوار بن أوريغ بن جنون بن المثنى بن المسور و عند هؤلاء أن هوارة و صنهاجة و لمطة و كزولة و هسكورة يعرف جميعهم بني ينهل و أن المسور جدهم جميعا و أنه وقع إلى البتر و نزل على بني زحيك بن مادغيس الأبتر و كانوا أربعة إخوة : لوا و ضرا و أداس و نفوس و أنهم زوجوه أختهم بصكي العرجاء بنت زحيك فولدت منه المثنى أبا هوارة و تزوجها بعد المسور بن عافيل بن زعزاع أبو صنهاجة و لمطة و كزولة و هسكورة كما يأتي فيما بعد أنهم إخوة المثنى لأمه و بها عرف جميعهم
قالوا : و ولد المثنى بن المسور خبوز و ولد خبوز بن المثنى ريغ الذي يقال فيه أوريغ بن برنس و منه عرفت قبائل هوارة قالوا : إنما سميت هوارة لأن المسور لما جال البلاد و وقع في المغرب قال : لقد تهورنا هكذا عند بعض نسابه البربر و عندي و الله أعلم أن هذا الخبر مصنوع و أن أثر الصنعة باد عليه و يعضد ذلم أن المحققين و نسابتهم مثل سابق و أصحابه قالوا : إن بطون أداس بن زحيك دخلت كلها في هوارة من أجل أن هوار خلف زحيك على أم أداس فربي أداس في حجره و زحيك على ما في الخبر الأول هو جد هوار لأن المثنى جده الأعلى هو ابن بصكي و هي بنت زحيك فهو الخامس من زحيك فكيف يخلفه على إمرأته هذا بعيد و الخبر الثاني أصح عند نسابتهم من الأول
و أما بطون هوارة فكثير و أكثرهم بنو نبه و أوريغ اشتهروا نسبة لشهرته و كبر سنه من بينهم فانتسبوا جميعا إليه و كان لأوريغ أربعة من الولد : هوار و هو أكبرهم و مغر و قلدن و مندر و لكل واحد منهم بطون كثيرة و كلهم ينسبون إلى هوار فمن بطون مغر ماوس و زمور و كياد و سواي ذكر هذه البطون الأربعة ابن حزم و زاد سابق المطماطي و أصحابه و رجين و منداسة و كركوده و من بطون قلدن : خماصه و ورصطيف و بيانة و بل ذكر هذه الأربعة ابن حزم و سابق و من بطون ملد مليلة و سطط و روفل و اسيل و مسارتة ذكرها ابن حزم و قال : جميعهم بنو لهال بن ملك و كذا عند سابق و يقال : إن ورنيفن أيضا من نهانه
و من بطون هوارة بنو كهلان و يقال : إن مليلة من بطونهم و عند نسابه البربر من بطونهم غريان و ورغة و زكاوة و مسلاتة و مجريس
و يقال إن ونيفن منهم و مجريس لهذا العهد ينتسبون إلى ونيفن و عند سابق و أصحابه أن بني كهلان و ريحن إحدى بطون مغر و أن من بطون بني كهلان بني كسى و رتاكط و لشوه و هيوارة و أما بطون أداس بن زحيك بن مادغيس الأمراء الذين دخلوا في هوارة فكثير فمنهم هزاعة و ترهوتة و شتاتة و أنداوة و هيزونة و أوطيعة و ضبرة هؤلاء باتفاق من ابن حزم و سابق و أصحابه
و كانت مواطن الجمهور من هوارة هؤلاء و من دخل في نسبهم من إخوانهم البرانس و الصمغر لأول الفتح بنواحي طرابلس و ما يليها من برقة كما ذكره المسعودي و البكري و كانوا ظواعن و آهلين و منهم من قطع الرمل إلى بلاد القفر و جاوزوا لمطة من قبائل الملثمين فيما يلي بلاد كوكو من السودان تجاه أفريقية و يعرفون بنسبهم هكارة قلبت العجمة واوه كافا أعجمية تخرج بين الكاف العربية و القاف و كان لهم في الردة و حروبها آثار و مقامات كان لهم في الخارجية و القيام بها ذكر و خصوصا بالاباضية منها و خرج على حنظلة منهم عبد الواحد بن يزيد مع عكاشة الفزاري فكانت بينهما و بين حنظلة حروب شديدة ثم هزمهما و قتلهما و ذلك سنة أربع و عشرين و مائة أيام هشام بن عبد الملك و خرج على يزيد بن حاتم سنة ست و خمسين و مائة يحيى بن فوناس منهم و اجتمع إليه كثير من قومه و غيرهم
و زحف إليه قائد طرابلس عبد الله بن السمط الكندي على شاطىء البحر بسواريه من سواحلهم فانهزم و قتل عامة هوارة و كان منهم مع عبد الرحمن بن حبيب مجاهد ابن مسلم من قواده ثم أجاز منهم إلى الأندلس مع طارق رجالات مذكورون و استقروا هنالك و كان من خلفهم بنو عامر بن وهب أمير رندة أيام لمتونة و بنو ذي النون الذين ملكوها من أيديهم و استضافوا معها طليلطة و بنو رزين أصحاب السهلة ثم ثارت هوراة من بعد ذلك ابراهيم بن الأغلب سنة ست و تسعين و مائة و حاصروا طرابلس و افتتحوها فخربوها و تولى كبر ذلك منهم عياض بن وهب و سرح إبراهيم إليهم ابنه أبا العباس فهزمهم و قتلهم وبنى طرابلس
و جأجأ هوارة بعبد الوهاب بن رستم من مكان إمارتهم بتاهرت فجاءهم و اجتعموا إليه و معهم قبائل نفوسة و حاصروا أبا العباس بن الأغلب بطرابلس إلى أن هلك أبوه ابراهيم بالقيروان و قد عهد إليه فصالحهم على أن يكون الصحراء لهم و انصرف عبد الوهاب إلى نفوسه ثم أصبحوا بعد ذلك و غزوا مع الجيوش صقلية وشهد فتحها منهم زواوة بن نعم الحلفاء ثم كان لهم مع أبي يزيد النكاري و في حروبه مقامات مذكورة اجتمعوا إليه من مواطنهم بجبل أوراس و مرماجنه لما غلب عليه و أخذ أهلها بدعوته فاغاشوا إلى ولايته و فعلوا الأفاعيل و كان من أظهرهم في تلك الفتنة بنو كهلان
و لما هلك أبو يزيد كما نذكره سطا اسمعيل المنصور بهم و أثخن فيهم و انقطع ذكر بني كهلان ثم جرت الدول عليهم أذيالها و أناخت بكلا كلها و أصبحوا في عداد القبائل الغارمة من كل ناحية فمنهم لهذا العهد بمصر أوزاع متفرقون أوطنوها أكره و عبارة و شاوية و آخرون موطنون ما بين برقة و الاسكندرية يعرفون بالمئانية و يظعنون مع الحرة من بطون هيث من سليم بأرض التلول من أفريقية ما بين تبسه إلى مرماجنة إلى باجة ظواعن صاروا في عداد الناجعة عرب بني سليم في اللغة و الزي و سكنى الخيام و ركوب الخيل و كسب الإبل و ممارسة الحروب و إيلاف الرحلتين في الشتاء والصيف في تلولهم قد نسوا رطانة البربر و استبدلوا منها بفصاحة العرب فلا يكاد يفرق بينهم فأولهم مما يلي تبسة قبيلة وينفن و رياستهم لهذا العهد في ولد يفرن بن حناش لأولاد سليم بن عبد الواحد بن عسكر بن محمد بن يفرن ثم لأولاد زيتون بن محمد بن يفرن و لأولاد دحمان بن فلان بعده و كانت الرياسة قبلهم لسارية من بطون ونيفن و مواطنهم ببسائط مزماحة و تبسة و ما إليهما
و بينهم قبيلة أخرى في الجانب الشرقي منهم يعرفون بقيصرون و رياستهم في بيت بني مرمن ما بين ولد زعازع و ولد حركات و مواطنهم بفحص آبه و ما إليها من نواحي الأربس و تليهم إلى جانب الشرق قبيلة أخرى منهم يعرفون بنصورة و رياستهم في بيت الرمامنة لولد سليمان بن جامع منهم و يراد بهم في رياسة نصرة قبيلة وربهامة و مواطنهم ما بين تبسة إلى حامة إلى جبل الزنجار إلى أطار على ساحل تونس و بسائطها و يجاورهم متساحلين إلى ضواحي باجة قبيلة أخرى من هوارة يعرفون ببني سليم و معهم بطن من عرب نصر من هذيل بن مدركة بن إلياس
جاؤا من مواطنهم بالحجاز مع العرب الهلاليين عند دخولهم إلى المغرب و أوطنوا بهذه الناحية من أفريقية و اختلطوا بهوارة و حملوا في عدادهم
و معهم أيضا بطن آخر من بطون رياح من هلال ينتمون إلى عتبة بن مالك بن رياح صاروا في عدادهم و جروا على مجراهم و الظعن و المغرم و معهم أيضا بطن من مرداس بني سليم يعرفون ببني حبيب و يقولون هو حبيب بن مالك و هم غارمة مثل سائر هوارة و ضواحي أفريقية من هذا العهد معهودة لهؤلاء الظواعن و معظمهم من هوارة و هم أهل بقروشاء و ركوب للخيل و للسلطان بأفريقية عليهم وظائف من الجباية وضعها عليهم دهاقين العمال بديوان الخراج قوانين مقررة و تضرب عليهم مع ذلك البعث في غزوات السلطان بعسكر مفروض يحضر بمعسكر السلطان متى استنفروا لذلك
و لرؤسائهم آراء ذلك قاطعات و مكان في الدول بين رجالات البدو و يربطون هوارة بمواطنهم الأولى من نواحي طرابلس ظواعن و آهلين توزعتهم العرب من دبان فيما توزعوه من الرعايا و غلبوهم على أمرهم منذ ضحا عملهم من ظل الدولة فتملكوهم تملك العبيد للجباية منهم و الاستكثار منهم في الانتجاع و الحرب مثل : ترهونه و ورقلة الظواعن و مجريس الموطنين بزر نزور من ونيفن و هي قرية من قرى طرابلس و من هوارة هؤلاء بآخر عمل طرابلس مما يلي بلد سرت و برقة قبيلة يعرفون بمسراتة لهم كثرة و اعتزار و وضائع العرب عليهم قليلة و يعطونها من عزة و كثيرا ما ينقلون في سبيل التجارة ببلاد مصر و الإسكندرية و في بلاد الجريد من أفريقية و بأرض السودان إلى هذه العهد
( و أعلم ) أن في قبلة قابس و طرابلس جبالا متصلا بعضها ببعض من المغرب إلى المشرق فأولها من جانب الغرب جبل دمر يسكنه أمم من لواتة و يتصلون في بسيطة إلى فاس و صفاقس من جانب الغرب و أمم أخرى من نفوسة من جانب الشرق و في سبع طوله سبع مراحل و يتصل به شرقا جبل نفوسة تسكنه أمة كبيرة من نفوسة و مغراوة و سدارته و هو قبلة طرابلس على ثلاث مراحل عنها و في طوله سبع مراحل و يتصل به من جانب الشرق جبل مسلاتة و يعتمره قبائل هوارة إلى بلد مسراتة و برقة و هو آخر جبال طرابلس و كانت هذه الجبال من مواطن هوارة و نفوسة و لواتة و كانت هنالك مدينة صغيرة بلد نفوسة قبل الفتح و كانت برقة من مواطن هوارة هؤلاء و منهم مكان بني خطاب ملوك زويلة إحدى أمصار برقة كانت قاعدة ملكهم حتى عرفت بهم فكان يقال زويلة بن خطاب
و لما خرجت انتقلوا منها إلى فزان من بلاد الصحراء و أوطنوها و كان لهم بها ملك و دولة حتى إذا جاء قراقوش الغزي الناصري مملوك تقي الدين ابن أخي صلاح الدين كما نذكره في مكانه عند ذكر الغوري ابن مسوفة و أخباره و افتتح زلة و أوجلة و افتتح فزان بعدها و تقبض على عاملها محمد بن خطاب بن يصلتن بن عبد الله بن صنفل بن خطاب آخر ملوكهم و امتحنه و طالبه بالأموال و بسط عليه العذاب إلى أن هلك و انقرض أمر بني خطاب هؤلاء الهواريين
( و من قبائل ) هوارة هؤلاء بالمغرب أمم كثيرة في مواطن من أعمال تعرف بهم و ظواعن شاوية تنتجع لمسرحها في نواحيها و قد صاروا عبيدا للمغارم في كل ناحية و ذهب ما كان لهم من الاعتزار و المنعة أيام الفتوحات بسبب الكثرة و صاروا إلى الافتراق في الأودية بسبب القلة و الله مالك الأمور و من أشهرهم بالمغرب الأوسط أهل الجبل المطل على البطحاء و هو مشهور باسم هوراة و فيه من مسراتة و غيرهم من بطونهم و يعرف رؤسائهم من بني إسحق و كان الجبل من قبلهم فيما زعموا لبني يلومين فلما انقرضوا صار إليه هوارة و أوطنوه و كانت رياستهم في بني عبد العزيز منهم ثم ظهر من بني عمهم رجل إسمه إسحق و استعمله ملوك القلعة و صارت رياستهم في عقبة بني إسحق و اختط كبيرهم محمد بن إسحق القلعة المنسوبة إليهم
و ورث رياسته فيهم أخوه حيون و صارت في عقبه و اتصلوا بالسلطان أيام ملك بني عبد الواد على المغرب الأوسط و انتظموا في شرائعهم و استعمل أبو تاشفين من ملوكهم يعقوب بن يوسف بن حيون قائدا على بني توجين عندما غلبهم على أمرهم و فرض المغارم عليهم فقام بها أحسن قيام و دوخ بلادهم و أذل من عزهم و بعد أن غلب بنو مرين بني عبد الواد على المغرب الأوسط استعمل السلطان أبو الحسن عبد الرحمن بن يعقوب على قبيلة هؤلاء ثم استعمل بعده عمه عبد الرحمن ثم ابنه محمد بن عبد الرحمن بن يوسف ثم تلاشى هذا القبيل و خف ساكن الجبل بما اضطرم بهم دولة بني عبد الواد و أجحفت بهم في الظلامات و انقرض بيت بني إسحق و الأمر على ذلك لهذا العهد و الله وارث الأرض و من عليها (6/182)
الخبر عن ازداجة و مسطاسه و عجيسة من بطون البرانس و وصف أحوالهم
أما أزداجة و يعرفون أيضا وزداجة فمن بطون البرانس و كثير من نسابة البربر يعدونهم في بطون زناتة و قد يقال إن أزداجة من زناتة و وزداجة من هوارة و أنهما بطنان مفترقان و كان لهم وفور و كثرة و كانت مواطنهم بالمغرب الأوسط بناحية وهران و كان لهم اعتزاز و آثار في الفتن و الحروب و مسطاسة مندرجون معهم فيقال إنهم من عداد بطونهم و يقال إنهم إخوة مسطاس أخي وزداج و الله أعلم
و كان من رجالتهم المذكورين شجرة بن عبد الكريم المسطاسي و أبو دليم بن خطاب و أجاز أبو دليم إلى الأندلس من ساحل تلمسان و كان لبنيه بها ذكر و في فقهاء قرطبة و كان من بطون ازداجة بنو مشفق و كانوا يجاورون وهران و نزل مرس وهران من رجال الدولة الأموية محمد بن أبي عون عبدون فداخلوا بني مسكن و ملكوا وهران سبع سنين مقيمين فيها للدعوة الأموية فلما ظهرت دعوة الشيعة و ملك عبيد الله المهدي تاهرت و ولى عليها داوس بن صولات اللهيصي من كتامة و أخذت البرابرة بدعوتهم أوعز دواس بحصار وهران فرجعوا إليها سنة سبع و تسعين و أدخلوا بني مسكن في ذلك فأجابوهم و فر محمد بن أبي عون فلحق بدواس بن صولات و استبيحت وهران و أضرمت نارا
ثم جدد بناءها دواس و أعاد محمد بن أبي عون إلى ولايتها فعادت أحسن ما كانت و أمراء تلمسان لذلك العهد من الأدراسة بنو أحمد بن محمد بن سليمان و سليمان أخو إدريس الأكبر كما ذكرناه و كانوا يقيمون دعوة الأموية لذلك العهد ثم ولي على تاهرت أيام أبي القاسم بن عبد الله أبا ملك يغمراسن بن أبي سمحة و انتقض عليه البربر فحاصروه عند زحف ابن أبي العافية إلى المغرب الأوسط بدعوة المروانية و كان ممن أخذ بها محمد بن أبي عون صاحب وهران و سرح أبو القاسم ميسورا فولاه إلى المغرب و أتاه محمد بن عون بطاعته فقبلها و أقره على عمله ثم نكث محمد بن عون عند منصرف ميسور من المغرب و راجع طاعته المروانية
ثم كان شأن أبي يزيد و انتقاض سائر البرابرة على العبيديين و استفحل أمر زناتة و أخذ بدعوة المروانيين و كان الناصر عقد ليعلى بن أبي محمد اليفرني على المغرب فخاطبه بمراوغة محمد بن أبي عون و قبائل ازداجة في الطاعة للعداوة و بين القبيلتين بالمجاورة و زحف إلى ازداجة فحصرهم بجبل كيدرة ثم تغلب عليهم و استأصلهم و فرق جماعتهم و ذلك لسنة ثلاث و أربعين و ثلثمائة ثم زحف إلى وهران و نازلها ثم افتتحها عنوة و أضرمها نارا و استلحم ازداجة و لحق رياستهم بالأندلس فكانوا بها و كان منهم خزرون بن محمد من كبار أصحاب المنصور بن أبي عامر و ابنه المظفر و أجاز إلى المغرب و بقي ازداجة بعد ذلك على حال من الهضمية و المذلة و انتظموا في عداد المغارم من القبائل
( و أما العجيسة ) و هم من بطون البرانس من ولد عجيسة من برنس و مدلول هذا الاسم البطن فإن البربر يسمون البطن بلغتهم عدس بالدال المشددة فلما عربتها العرب قلبت دالها جيما مخففة و كان لهم بين البربر كثرة و ظهور و كانوا مجاورين في بطونهم لصنهاجة و بقاياهم لهذا العهد في ضواحي تونس و الجبال المطلة على المسيلة و كانت منهم يسكنون جبل القلعة و كان لهم في فتنة أبي يزيد أثر و لما هزمهم المنصور لجأ إليهم و اعتصم يقلعة كتامة من حصونهم حتى اقتحم عليه ثم بادر حمد بن بلكين من بعد ذلك مكانا لبناء مدينة فاختطها بينهم و نزلها و وسع خطتها و استجر عمرانها و كانت حاضرة لملك آل حماد فأخلفت هذه المدينة من جدة عجيسة لم تمرست بهم و خضدت من شوكتهم و راموا كيد القلعة مرارا و أجلبوا على ملوكها بالأعياص منهم فاستلحمهم السيف ثم هلكوا و هلكت القلعة من بعدهم و ورثت مواطنهم بذلك الجبل عياض من أفاريق الرعب الهلاليين و سمي الجبل بهم و في القبائل بالمغرب كثير من عجيسة هؤلاء مفترقون فيهم و الله أعلم (6/190)
الخبر عن أوربة من بطون البرانس و ما كان لهم من الردة و الثورة و ما صار لهم من الدعاء لإدريس الأكبر
كانت البطون التي فيها الكثرة و الغلب من هؤلاء البربر البتر كلهم لعهد الفتح أوربة و هوارة و صنهاجة من البرانس و نفوسة و زناتة و مطغرة و نفراوة من البتر و كان التقدم لعهد الفتح لأوربة هؤلاء بما كانوا أكثر عددا و أشد بأسا و قوة وهم من ولد أورب بن برنس و هم بطون كثيرة فمنهم بجاية و نفاسة و نعجة و زهكوجة و مزياتة و رغيوتة و ديقوسة و كان أميرهم بين يدي الفتح ستردير بن رومي بن بارزت بن بزريات ولي عليهم مدة ثلاث و سبعين سنة و أدرك الفتح الإسلامي و مات سنة إحدى و سبعين و ولي عليهم من بعده كسيلة بن لزم الأوربي فكان أميرا على البرانس كلهم و لما نزل ابن المهاجر تلمسان سنة خمس و خمسين كان كسيلة بن لزم مرتادا بالمغرب الأقصى في جموعه من أوربة و غيرهم فظفر به أبو المهاجر و عرض عليه الإسلام فأسلم و استنقذه و أحسن إليه و صحبه
و قدم عقبة في الولاية الثانية أيام يزيد سنة إثنتين و ستين فاضطغن عليه صحابته لأبي المهاجر و تقدم أبو المهاجر في اصطناعه فلم يقبل و زحف إلى المغرب و على مقدمته زهير ابن قيس البلوي فدوخه و لقيه ملوك البربر و من انضم إليه من الفرنجة بالزاب و تاهرت فهزمهم و استباحهم و أذعن له بليان أمير غمارة و لاطفه و هاداه و دله على عورات البرابرة و ردأه بوليلة و السوس و ما والاهما من مجالات فغنم و سبى و انتهى إلى ساحل البحر و قفل ظافرا
و كان في غزاتة تلك يستهين كسيلة و يستخف به و هو في اعتقاله و أمره يوما بسلخ شاة بين يديه فدفعها إلى غلمانه و أراده عقبة على أن يتولاها بنفسه و انتهز فقام إليها كسيلة مغضبا و جعل كلما دس يده في الشاة مسح بلحيته و العرب يقولون ما هذا يا بربري ؟ فيقول : هو أجير فيقول لهم شيخ منهم : إن البربري يتوعدكم و بلغ ذلك أبا المهاجر فنهى عقبة عنه و قال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يستألف جبابرة العرب و أنت تعمد إلى رجل جبار في قومه بدار عزه قريب عهد بالشرك فتفسد قلبه و أشار عليه بأن يوثق منه و خوفه فتكه فتهاون عقبة بقوله
فلما قفل عن غزاتة و انتهى إلى طبنة صرف العساكر إلى القيروان أفواجا ثقة بما دوخ من البلاد و أذل من البربر حتى بقي في القليل و سار إلى تهودة أو بادس لينزل بها الحامية فلما نظر إليه الفرنجة طمعوا فيه و راسلوا كسيلة بن لزم و دلوه على الفرصة فيه فانتهزها و راسل بني عمه و من تبعهم من البربر و اتبعوا عقبة و أصحابه رضي الله عنه إذا غشوه بتهودة ترجل القوم و كسروا أجفان سيوفهم و نزل الصبر و استلحم عقبة و أصحابه رضي الله عنهم و لم يفلت منهم أحد و كانوا زهاء ثلثمائة من كبار الصحابة و التابعين استشهدوا في مصرع واحد و فيهم أبو المهاجر كان أصحبه في اعتقاله فأبلى رضي الله عنه في ذلك اليوم البلاء الحسن و أجداث الصحابة رضي الله عنهم أولئك الشهداء عقبة و أصحابه بمكانهم ذلك من أرض الزاب لهذا العهد و قد جعل على قبر عقبة أسنمة ثم جصص و اتخذ عليه مسجد عرف بإسمه و هو في عداد المزارات و مظان البركة بل هو أشرف مزور من الأجداث في بقاع الأرض لما توفر فيه من عدد الشهداء من الصحابة و التابعين الذين لا يبلغ أحد مد أحدهم و لا نصيفه و أسر من الصحابة يومئذ محمد بن أوس الأنصاري و يزيد بن خلف العبسي و نفر معهم ففداهم ابن مصاد صاحب قفصة و كان زهير بن قيس البلوي بالقيروان و بلغه الخبر فخرج هاربا و ارتحل بالمسلمين و نزل برقة و أقام بها ينتظر المدد من الخلفاء و اجتمع إلى كسيلة جميع أهل المغرب من البربر و الفرنجة وزحف الى القيروان فخرج العرب منها و لحق بزهير بن قيس و لحق بها أصحاب الذراري و الأثقال فأمنهم و دخل القيروان و أقام أميرا على أفريقية و من بقي بها من العرب خمس سنين و قارن ذلك مهلك يزيد بن معاوية و فتنة الضحاك بن قيس مع المروانية بمرج راهط و حروب آل الزبير فاضطراب أمر الخلافة بعض الشيء و اضطرم المغرب نارا و فشت الردة في زناتة و البرانس ثم استقل عبد الملك بن مروان من بعد ذلك و أذهب بالمشرق آثار الفتنة و كان زهير بن قيس مقيما ببرقة منذ مهلك عقبة فبعث إليه بالمدد و ولاه حرب البرابرة و الثأر بدم عقبة فزحف إليها في آلاف من العرب سنة سبع و ستين و جمع كسيلة البرانس وسائل البربر و لقيه بجيش من نواحي القيروان و اشتد القتال بين الفريقين ثم انهزم البربر و قتل كسيلة و من لا يحصى منهم و أتبعهم العرب إلى مرماجنة ثم إلى ملوية و ذل البربر و لجأوا إلى القلاع و الحصون و حدت شوكة أوربة بينهم و استقر جمهورهم بديار المغرب الأقصى فلم يكن بعدها لهم ذكر
و استولوا على مدينة وليلى بالمغرب كانت ما بين موضع فاس و مكناسة بجانب جبل زرهون و أقاموا على ذلك و الجيوش من القيروان تدوخ المغرب مرة بعد أخرى إلى أن خرج محمد بن عبد الله ابن حسن بن الحسن بن علي أيام المنصور و قتل بالمدينة سنة خمس و أربعين و مائة ثم خرج بعده ابن عمه حسين بن علي بن حسن المثلث بن حسن المثنى بن حسن السبط أيام الهادي و قتل بفخ على ثلاثة أميال من مكة سنة تسع و ستين و مائة و استلحم كثير من أهل بيته و فر إدريس بن عبد الله إلى المغرب و نزل على أوربة سنة إثنتين و سبعين و مائة و أميرهم يومئذ بو ليلى إسحق بن محمد بن عبد الحميد منهم فأجاره و جمع البرابر على دعوته
و اجتمعت عليه زواغة و لواتة و سراتة و غمات و نفرة و مكناسة و غمارة و كافة برابرة المغرب فبايعوه و ائتمروا بأمره و تم له الملك و السلطان بالمغرب و كانت له الدولة التي ورثها أعقابه إلى حين انقراضها كما ذكرنا في دولة الفاطميين و الله تعالى أعلم (6/192)
الخبر عن كتامة من بطون البرانس و ما كان لهم من العز و الظهور على القبائل و كيف تناولوا الملك من أيدي الاغالبة بدعوة الشيعة
هذا القبيل من القبائل البربر بالمغرب و أشدهم بأسا و قوة و أطولهم باعا في الملك عند نسابة البربر من ولد كتام بن برنس و يقال : كتم و نسابة العرب يقولون إنهم من حمير ذكر ذلك ابن الكلبي و الطبري وأول ملوكهم أفريقش بن قيس بن صيفي من ملوك التبايعة و هو الذي افتتح أفريقية و به سميت و قتل ملكها جرجير و سمى البربر بهذا الإسم كما ذكرناه و يقال أقام في البربر من حمير صنهاجة و كتامة فهم إلى اليوم فيهم و تشعبوا في المغرب و انبثوا في نواحيه إلا أن جمهورهم كانوا لأول الملة بعد تهييج الردة و طفئت تلك الفتن موطنين بأرياف قسنطينة إلى تخوم بجاية غربا إلى جبل أوراس من ناحية القبلة و كانت بتلك المواطن بلاد مذكورة أكثرها لهم و بين ديارهم و مجالات تقلبهم مثل أبكجان و سطيف و باغاية و بفاس و تلزمه و يتكسب و ميلة و قسنطينة و السيكرة و القل و جيجل من حدود جبل أوراس إلى سيف البحر ما بين بجاية و بونة
و كانت بطونهم كثيرة يجمعها كلها غرسن و يسودة إبنا كتم بن يوسف فمن يسودة فالسبد و دنهاجة و متوسة و رسين كلهم بنو يسودة بن كتم و إلى دنهاجة ينسب قصور كتامة بالمغرب لهذا العهد و من غرسن مصالة و قلان و ما وطن و معاذ بنو غرسن ابن كتم و لهيفة و جيملة و مسالته و بنو بناوة بن غرسن و ملوسة من إيان و لطاية و إجانة و غسمان و أورباست بنو تيطاسن بن غرسن و ملوسة من إيان غرسن بن غرسن و من ملوسة هؤلاء بنو زيدوي أهل الجبل المطل على قسنطينة لهذا العهد و بعد البرابرة من كتامة بنو يستيتن و هشتيوة و مصالة و بني قنسيلة و عد ابن حزم منهم زواوة بجميع بطونهم و هو الحق على ما تقدم
و كان من هذه البطون بالمغرب الأقصى كثير منتبذون عن مواطنهم و هم بها إلى اليوم و لم يزالوا بهذه المواطن و على هذه الحالة من لدن ظهور الملة و ملك المغرب إلى دولة الأغالبة و لم تكن الدولة تسومهم بهضيمة و لا ينالهم تعسف لاعتزازهم بكثرة جموعهم كما ذكره ابن الرقيق في تاريخه إلى أن كان من قيامهم في دعوة الشيعة ما ذكرناه في دولتهم عند ذكر دولة الفاطميين إثر دولة بني العباس فانظره هنالك و تصفحه تجد تفصيله
و لما صار لهم الملك بالمغرب زحفوا إلى المشرق فملكوا الإسكندرية و مصر و الشام و اختطوا القاهرة أعظم الأمصار بمصر و ارتحل المعز رابع خلفائهم فنزلها و ارتحل معه كتامة على قبائلهم و استفحلت الدولة هنالك و هلكوا في ترفها و بذخها
و بقي في مواطنهم الأولى بجبل أوراس و جوانبه من البسائط بقايا من قبائلهم على أسمائها و ألقابها و الآخرون بغير لقبهم و كلهم رعايا معبدون للمغارم إلا من اعتصم بقنة الجبل مثل بني زيدوي بجبلهم و أهل جبال جيجل و زواوة أيضا في جبالهم و أما البسائط فأشهر من فيها منهم سدويكش و رياستهم في أولاد سواد و لا أدري إلى من يرجعون في قبائل كتامة المسمين بهذه الإسم إلا أنهم باتفاق من أهل الأخبار و نحن الآن ذاكرون ما عرفناه من أخبارهم المتأخرة بعد دولة كتامة و الله تعالى ولي العون (6/195)
الخبر عن سدويكش و من إليهم من بقايا كتامة في مواطنهم
هذا الحي لهذا العهد و ما قبله من العصور يعرفون بسدويكش و ديارهم في مواطن كتامة ما بين قسنطينة و بجاية في البسائط منها و لهم بطون كثيرة مثل سيلين و طرسون و طرغيان و موليت و بني فتنة و بني لمائي و كايارة و بني زغلان و النورة و بني مزوان و وارمسكن و سكوال و بني عيار و فيهم من لماتة و مكلاتة و ريغة و الرياسة على جميعهم في بطن منهم يعرفون أولاد سواق لهم جمع و قوة و عدة و كان جميع هذه البطون و عيالهم غارمة فيمتطون الخيل و يسكنون الخيام و يظعنون على الإبل و البقر و لهم مع الدول في ذلك الوطن استقامة و هذا شأن القبائل الأعراب من العرب لهذا العهد
و هم ينتفون من نسب كتامة و يفرون منه لما وقع منذ أربعمائة سنة من النكير على كتامة بانتحال الرافضة و عداوة الدول بعدهم فيتفادون بالانتساب إليهم و ربما انتسبوا في سليم من قبائل مضر و ليس ذلك بصحيح و إنما هم من بطون كتامة و قد ذكرهم مؤرخو صنهاجة بهذا النسب و يشهد لذلك الموطن الذي استوطنوه من أفريقية
و يذكر نسابتهم و مؤرخوهم أن موطن أولاد سواق منهم كان في قلاع بني بو خصرة من نواحي قسنطينة و منه انتقلوا و انتشروا في سائر تلك الجهات و أولاد سواق بطنان و هم : أولاد علاوة بن سواق و أولاد يوسف بن حمو بن سواق فأما أولاد علاوة فكانت الرياسة على قبائل سدويكش لهم فيما سمعناه من مشيختنا و أن ذلك كان لعهد دولة الموحدين و كان منهم علي بن علاوة و بعده إبنه طلحة بن علي و بعده أخوه يحيى بن علي و بعده أخوهما منديل بن علي عزل تازير بن أخيه طلحة
لما بويع السلطان أبو يحيى بقسنطينة سنة عشر من هذه المائة وقع من تازير انحراف عن طاعته و اعتلوا بطاعة ابن الخلوف بجاية فقدم عوضا منه عمه منديل ثم استبدل منهم أجمعين بأولاد يوسف فشمروا في طاعته و أبلوا و غلب السلطان على بجاية و قتل ابن الخلوف فظهر أولاد يوسف و زحموا أولاد علاوة و أخرجوهم من الوطن فصاروا إلى عياض من أفاريق هلال و سكنوا في جوارهم بجبلهم الذي وطنوه المطل على المسيلة و اتصلت الرياسة على سدويكش في أولاد يوسف و هم لهذا العهد أربع قبائل : بنو محمد بن يوسف و بنو المهدي و بنو ابراهيم بن يوسف و العزيزيون و هم منديل و ظافر و جري و سيد الملوك و العباس و عيسى و الست أولاد يوسف و هم أشقاء و أمهم تاعزيزت فنسبوا إليها و أولاد محمد و العزيزيون يوطنون بنواحي بجاية و أولاد المهدي و إبراهيم بنواحي قسنطينة
و ما زالت الرياسة في هذه القبائل الأربع تجتمع تارة في بعضهم و تفترق أخرى إلى هذا العهد و كانت الأخرى دولة مولانا السلطان أبي يحيى اجتمعت رياستهم لعبد الكريم بن منديل بن عيسى من العزيزيين ثم افترقت و استقل كل بطن من هؤلاء الأربعة برياسة و أولاد علاوة في خلال هذا كله بجبل عياض و لما تغلب بنو مرين على أفريقية نكر السلطان أبو عنان أولاد يوسف و رماهم بالميل إلى الموحدين و صرف الرياسة على سدويكش إلى مهنا من تازير بن طلحة من أولاد علاوة فلم يتم له ذلك و قتله أولاد يوسف و رجع أولاد علاوة إلى مكانهم من جبل عياض
و كان رئيسهم لهذه العصور عدوان بن عبد العزيز بن زروق بن علي بن علاوة و هلك و لم تجتمع رياستهم بعده لأحد و في بطون سدويكش هؤلاء بطن مرادف أولاد سواق في الرياسة على بعض أحيائهم و هم بنو سكين و مواطنهم في جوار لواتة بجبل تابور و ما إليه من نواحي بجاية و رياستهم في بني موسى بن ثابر منهم أدركنا ابنه صخر بن موسى و اختصه السلطان أبو يحيى بالرياسة على قومه و كان له مقامات في خدمته ثم عرف بعده في الوفاء إبنه الأمير أبو حفص فلم يزل معه إلى أن وقع به بنو مرين بناحية قابس و جيء به مع أسرى الوقيعة فقطعه السلطان أبو الحسن من خلاف و هلك بعد ذلك و قام برياسته ابنه عبد الله و كان له فيها و في خدمة السلطان بجاية شأن إلى أن هلك لأعوام ثمانين و ولي ابنه محمد من بعده و الله وارث الأرض و من عليها (6/197)
الخبر عن بني ثابت أهل الجبل المطل على قسنطينة من بقايا كتامة
و من بطون كتامة و قبائلهم أهل الجبل المهول على القل ما بينه و بين قسنطينة المعروف برياسة أولاد ثابت بن حسن بن أبي بكر من بني تليلان و يقال إن أبا بكر هذا الجد هو الذي فرض المغرم على أهل هذا الجبل لأيام الموحدين و لم يكن قبل ذلك عليه مغرم فلما انقرض ملك صنهاجة و غلب الموحدون على أفريقية وفد أبو بكر هذا على الخليفة بمراكش و نجع بالطاعة و الانقياد و تقرب إليه بفرض المغرم على قبيلة بالجبل و كان لثابت هذا من الولد علي و حسن و سلطان و إبراهيم كلهم راسوا بالجبل و أما حسن منهم فحجب السلطان أبا يحيى لأول دولته و في عنيته و لابن عمر لدولة طرابلس أعوام إحدى عشر و سبعمائة كما نذكره فلما تملك السلطان بجاية و قتل ابن خلوف و رجع ابن عمر من تونس إلى حجابته وجد حسن بن ثابت معسكرا بفرحيرة لانقضاء مغارم الوطن فبعث إليه من قتله و كان آخرهم رئاسة بالجبل علي أدرك دولة بني مرين بأفريقية و ولي بعده ابن عبد الرحمن و وفد على السلطان أبي عنان بفاس
و لما استجد مولانا السلطان أبو العباس دولته بأفريقية استولى عليهم ومحا أثر مشيختهم و رياستهم و صيرهم من عداد جنده و حاشيته
و استعمل في الجبل عماله و هو جبل مطاوع و جبايته مؤداة لصولته و جواره للعسكر بقسنطينة و من بقايا كتامة أيضا قبائل أخرى بناحية تدلس في هضابة مكتنفة بها و هم في عداد القبائل الغارمة و بالمغرب الأقصى منهم قبيلة من بني سنس بجبل قبلة جبل يزناسن و قبيلة أخرى بناحية الهبط مجاورون لنصر بن عبد الكريم و قبائل أخرى بناحية مراكش نزلوا مع صنهاجة هنالك و نسب كتامة لهذا العهد بين القبائل المثل السائر في الدولة لما نكرتهم الدول من بعدهم أربعمائة سنة بانتحالهم الرافضة و مذاهبها الكفرية حتى صار كبيرهم من أهل نسبهم يفرون منه و ينتسبون فيمن سواهم من القبائل فرارا من هجنته و العزة لله وحده (6/199)
الالمام بذكر زواوة من بطون كتامة
هذا البطن من أكبر بطون البربر و مواطنهم كما تراه محتفة ببجاية إلى تدلس في جبال شاهقة و أوعار متسنمة و لهم بطون و شعوب كثيرة و مواطنهم متصلة بمواطن كتامة هؤلاء و أكثر الناس جاهلون بنسبهم و عامة نسابة البربر على أنهم من بني سمكان يحيى بن ضريس و أنهم إخوة زواغة المحققون من النسابة مثل ابن حزم و أنظاره إنما يعدونهم في بطون كتامة و هو الأصوب و المواطن أوضح دليل عليه و إلا فأين مواطن زواغة ؟ و هي طرابلس بالمغرب الأقصى من مواطن كتامة
و إنما حمل على الغلط في نسبهم إلى كتامة تصحيف اسم زوازه بالزاي بعد الواو و هم إخوة زواغة بلا شك فصحف هذا القارىء الزاي بالواو فعد زواوة إخوان زواغة ثم استمر التصحيف جمعا في نسب سمكان و الله أعلم و قد مر ذكرهم هنالك مع ذكر زواغة و تعديد بطونهم (6/200)
الخبر عن صنهاجة من بطون البرانس و ما كان لهم من الظهور و الدول في بلاد المغرب و الأندلس
هذا القبيل من أوفر قبائل البربر و هو أكثر أهل الغرب لهذا العهد و ما بعده لا يكاد قطر من أقطاره يخلو من بطن من بطونهم في جبل أو بسيط حتى لقد زعم كثير من الناس أنهم الثلث من أمم البربر و كان لهم في الردة ذكر و في الخروج على الأمراء شأن تقدم منه في صدر ذكر البرابر و نذكر منه هنا ما تيسر و أما ذكر نسبهم فإنهم من ولد صنهاج و هو صناك بالصاد المشمة بالزاي و الكاف القريبة من الجيم إلا أن العرب عربته و زادت فيه الهاء بين النون و الألف فصار صنهاج و هو عند نسابة البربر من بطون البرانس من ولد برنس بن بر و ذكر ابن الكلبي و الطبري أنهم وكتامة جميعا من حمير كما تقدم في كتامة و فيما نقل الطبري في تاريخه أنهم صنهاج بن بر بن صوكان بن منصور بن الفند بن أفريقش بن قيس و بعض النسابة يزعم أنه صنهاج بن المثنى بن المنصور بن مصباح بن يحصب بن مالك بن عامر بن حمير الأصغر بن سبأ كذا نقل ابن النحوي من مؤرخي دولتهم وجعله ليحصب و قد مر ذكره في أنساب حمير و ليس كما ذكر و الله أعلم و أما المحققون من نسابة البربر فيقولون هو صنهاج بن عاميل بن زعزاع بن قيمتا بن سدور بن مولان بن مصلين بن يبرين بن مكسيلة بن دقيوس بن حلحال بن شرو بن مصرايم بن حام و يزعمون أن جزول و اللمط و هسكور إخوة صنهاج و أن أمهم الأربعة بصكي و بها يعرفون و هي بنت زحيك بن مادغيس و يقال لها العرجاء فهذه القبائل الأربعة من القبائل أخوة لأم و الله أعلم
و أما بطون صنهاجة فكثيرة فمنهم بلكانة و أنجفة و شرطة و لمتونة و مسوقة و كدالة و مندلسة و بنو وارت و بنو يتين و من بطون أنجفة بنو مزوات و بنو تثليب و فشتالة و ملواقة هكذا يكاد نقل بعض نسابة البربر في كتبهم و ذكر آخرون من مؤرخي البربر أن بطونهم تنتهي إلى سبعين بطنا و ذكر ابن الكلبي و الطبري أن بلادهم بالصحراء مسيرة ستة أشهر و كان أعظم قبائل صنهاجة بلكانة و فيهم كان الملك الأول و كانت مواطنهم ما بين المغرب الأوسط و أفريقية و هم أهل مدر و مواطن مسوقة و لمتونة و كدالة و شرطة بالصحراء و هم أهل وبر
و أما أنجفة فبطونهم مفترقة و هم أكثر بطون صنهاجة و لصنهاجة ولاية لعلي بن أبي طالب كما أن لمغراوة ولاية لعثمان بن عفان رضي الله تعالى عنهما إلا أنا لا نعرف سبب هذه الولاية و لا أصلها و كان من مشاهيرهم في الدولة الإسلامية ثابت بن وزريون ثار بأفريقية أيام السفاح عند انقراض الأموية و عبد الله بن سكرديرلك و عباد بن صادق من قواد حماد بن بلكين و سليمان بن مطعمان بن غيلان أيام باديس بن بلكين و بني حمدون و ورا بني حماد و هو حمدون بن سليمان بن محمد بن علي بن علم منهم ميمون بن جبل ابن أخت طارق مولى عثمان بن عفان صاحب فتح الأندلس في آخرين يطول ذكرهم و كان الملك في صنهاجة في طبقتين الطبقة الأولى لملكانة ملوك أفريقية و الأندلس و الثانية مسوقة و لمتونة من الملثمين ملوك المغرب المسمون بالمرابطين و يأتي ذكرهم كلهم إن شاء الله تعالى و الله أعلم (6/201)
الطبقة الأولى من صنهاجة و ما كان لهم من الملك
كان أهل هذه الطبقة بنو ملكان بن كرت و كانت مواطنهم بالمسيلة إلى حمرة إلى الجزائر و لمدية و مليناتة من مواطن بني يزيد و حصين و العطاف من زغبة ومواطن الثعالبة لهذا العهد و كان معهم بطون كثيرة من صنهاجة أعقابهم هنالك من متنان و أنوغة و بنو مزغنه و بنو جعد و ملكانة و بطوية و بنو يفرن و بنو خليل و بعض أعقاب ملكانة بجهات بجاية و نواحيها و كان التقدم منهم جميعا لبلكانة و كان أكثرهم لعهده الأغالبة مناد بن منقوش بن صنهاج الأصغر و هو صناك بن واسفاق بن جريل بن يزيد بن واسلي بن سمليل بن جعفر بن إلياس بن عثمان بن سكاد بن ملكان بن كرت بن صنهاج الأكبر هكذا نسبه ابن النحوي من مؤرخي الأندلس و ذكر بعض مؤرخي المغرب أن مناد بن منقوش ملك جانبي أفريقية و المغرب الأوسط مقيما لدعوة ابن العباس و راجعا إلى أمر الأغالبة
و أقام أمره من بعده إبنه زيري بن مناد و كان من أعظم ملوك البربر و كانت بينه و بين مغراوة من زناتة المجاورين له من جهة المغرب الأوسط كما نذكر حروب و فتن طويلة
و لما استوسق الملك للشيعة بأفريقية تحيز إليهم للولاية التي لعلي رضي الله عنه فيهم و كان من أعظم أوليائهم و استطال بهم على عدوه من مغراوة فكانوا ظهرا له عليهم و انحرفت لذلك مغراوة و سائر زناتة عن الشيعة سائر أيامهم و تحيزوا عن المروانيين ملوك العدوة بالأندلس فأقاموا دعوتهم بالمغرب الأوسط و الأقصى كما نذكره بعد إن شاء الله تعالى
و لما كانت فتنة أبي يزيد و التاث أمر العبيديين بالقيروان و المهدية كان لزيري بن مناد منافرة إلى الخوارج أصحاب أبي يزيد و أعقابهم و شريف بالحشود إلى مناصرة العبيديين بالقيروان كما ستراه
و أحفظ مدينة واشين للتحصن بها سفح الجبل المسمى تيطرا لهذا العهد حيث مواطن حصين و حصنها بأمر المنصور و كانت من أعظم مدن المغرب و اتسعت بعد ذلك خطتها و استبحر عمرانها و رحل إليها العلماء و التجار من القاصية و حين نازل إسمعيل المنصور أبا يزيد لقلعة كتامة جاءه زيري في قومه و من انضم إليه من حشود البربر و عظمت نكايته في العدو و كان الفتح و صحبه المنصور إلى أن انصرف من المغرب و وصله صلات سنية و عقد له على قومه و أذن له في اتخاذ القصور و المنازل و الحمامات بمدينة أشير و عقد له على تاهرت و أعمالها
ثم اختط ابنه بلكين بأمره و على عهده مدينة الجزائر المنسوبة لبني مزغنة بساحل البحر و مدينة مليانة بالعدوة الشرقية من شلف و مدينة لمدونة و هم بطن من بطون صنهاجة و هذه المدن لهذا العهد من أعظم مدن المغرب الأوسط و لم يزل زيري على ذلك قائما بدعوة العبيديين منابذا لمغراوة و اتصلت الفتنة فيهم و لما نهض جوهر الكاتب إلى المغرب الأقصى أيام معد المعز لدين الله أمره أن يستصحب زيري بن مناد فصحبه إلى المغرب و ظاهره على أمره و لما ظهر يعلى بن محمد النفري اتهمه زناتة بالممالأة عليه و لما نزل جوهر فاس و بها أحمد بن بكر الجذامي و طال حصاره إياه كان لزيري في حصارها أعظم العياء و كان فتحها على يده سهر ذات ليلة و صعد سورها فكان الفتح
و لما استمرت الفتنة بين زيري بن مناد و مغراوة و وصلوا أيديهم بالحاكم المتسنصر و أقاموا دعوة المروانية بالمغرب الأوسط و شمر محمد بن الخير بن محمد بن خزر لذلك رماه معد لقريعة زيري في قومه و احتشد أهل وطنه و قد جمع له محمد بن الخير و زناتة فسرح إليهم ولده بلكين في مقدمة و عارضهم قبل استكمالهم التعبية فدارت بينهم حرب شديدة بعد العهد بمثلها يومئذ و اختل مصاف مغراوة و زناتة و لما أيقن محمد بن الخير بالمهلكة و علم أحيط به مال إلى ناحية من العسكر و تحامل على سيفه فذبح نفسه و انفض جموع زناتة و استمرت الهزيمة عليهم سائر يومهم فاستلحموا و مكثت عظامهم ماثلة بمصارعهم عصورا
و هلك فيما زعموا بضعة عشر أميرا منهم و بعث زيري برؤسهم إلى المعز بالقيروان فعظم سروره و هش لها الحكم المستنصر صاحب الدعوة بما أوهنوا من أمره و استطال زيري و صنهاجة على بوادي المغرب و غلب يده على جعفر بن علي صاحب المسيلة و الزاب و سما به في الرتب عند الخلافة و تاخمه في العمالة و استدعى معد جعفر بن علي من المسيلة لتولية أفريقية حين اعتزم على الرحيل إلى القاهرة فاستراب مما كانت السعاية كبرت فيه و بعث معد المعز بعض مواليه فخافه جعفر على نفسه و هرب من المسيلة و لحق بمغراوة فاشتملوا عليه و ألقوا بيده زمام أمرهم و قام فيهم بدعوة الحكم المستنصري و كانوا أقدم لها إجابة و فاوضهم زيري الحرب قبل استفحالهم فزحف إليهم و اقتتلوا قتالا شديدا
و كانت على زيري الدبرة و كبابه فرسه و أجلت الهزيمة عن مصرعه و مصارع حاميته من قومه فجزوا رأسه و بعثوا به الى الحكم المستنصر بقرطبة في وفد أوفدوه عليه من أمرائهم يؤدون الطاعة و يؤكدون البيعة و يجمعون لقومهم النصرة و كان مقدم وفدهم يحيى بن علي أخو جعفر هذا كما ذكرناه و هلك زيري هذا سنة ستين و ثلثمائة لست و عشرين سنة من ولايته و لما وصل خبره إلى ابنه بلكين و هو بأشير نهض إلى زناتة ودارت بينهم حرب شديدة فانهزمت زناتة و ثأر بلكين بأبيه و قومه و اتصل ذلك بالسلطان محمد أثره و عقد له على عمل أبيه بأشير و تيهرت و سائر أعمال المغرب و ضم إليه المسيلة و الزاب و سائر عمل جعفر فاستعتب و استفحل أمره و اتسعت ولايته و أثخن في البربر أهل الخصوص من أحرابه و هوارة و نفزة و توغل في المغرب في طلب زناتة فأثخن فيهم ثم رجع و استقدمه السلطان لولاية أفريقية فقدم سنة إحدى و ستين و ثلثمائة و استبلغ السلطان في تكريمه و نفس ذلك عليه كتامة ثم نهض السلطان إلى القاهرة و استخلفه كما نذكره و كان ذلك أول دولة آل زيري بأفريقية و الله تعالى أعلم (6/202)
الخبر عن دولة آل زيري بن مناد ولاة العبيديين من هذه الطبقة بإفريقية و تصاريف أحوالهم
لما أخذ المعز في الرحلة إلى المشرق و صرف اهتمامه إلى ما يتخلف وراء ظهره من الممالك و العمالات و نظر فيمن يوليه أمر أفريقية و المغرب ممن له الغناء و الاضطلاع و به الوثوق من صدق التشييع و رسوخ القدم في دارية الدولة فعثر اختياره على بلكين بن زيري بن مناد ولي الدولة منذ عهد أخذه ما بيده من أيدي زناتة و أموالها في سبيل الإباء على الدولة و المظاهرة للدولة (6/205)
دولة بلكين بن زيري
فبعث خلف بن بلكين بن زيري و كان متوغلا في المغرب في حروب زناتة و ولاه أمر أفريقية ما عدا أصهلية كانت لبني أبي الحسين الكلبي و طرابلس لعبد الله بن يخلف الكتامي و سماه يوسف بدلا من بلكين و كناه أبا الفتوح و لقبه سيف الدولة و وصله بالخلع و الأكسية الفاخرة و حمله على مقرباته بالمراكب الثقيلة و أنفذ أمره في الجيش و المال و أطلق يده في الأعمال و أوصاه بثلاث : أن لا يرفع السيف عن البربر و لا يرفع الجباية عن أهل البادية و لا يولي أحدا من أهل بيته
و عهد إليه أن يفتح أمره بغزو المغرب لحسم دائه و يقطع علائق الأموية منه و ارتحل يريد القاهرة سنة إثنتين و ستين و ثلثمائة و رجع عنه بلكين من نواحي صفاقس فنزل قصر معد بالقيروان و اضطلع بالولاية و أجمع غزو المغرب فغزاه في جموع صنهاجة و مخلف كتامة و ارتحل إلى المغرب و فر أمامه ابن خزر صاحب المغرب الأوسط إلى سجلماسة
و بلغه خلاف أهل تاهرت و إخراج عامله فرحل إليها و خربها ثم بلغه أن زناتة اجتمعوا إلى تلمسان فرحل إليهم فهربوا أمامه و نزل على تلمسان فحاصرها حتى نزل أهلها على حكمه و نقلهم إلى أشير و بلغه كتاب معد ينهاه عن التوغل في المغرب فرجع و لما كان سنة سبع و ستين و ثلثمائة رغب بلكين من الخليفة نزار بن المعز أن يضيف إليه عمل طرابلس و سرت و أجدابية فأجابه إلى ذلك و عقد له عليها و رحل عنها عبد الله بن يخلف الكتامي و ولى بلكين عليه من قبله ثم ارتحل بلكين إلى المغرب وفرت أمامه زناتة فملك فاس و سجلماسة و أرض الهبط و طرد منها عمال بني أمية ثم غزا جموع زناتة بسجلماسة و أوقع بهم و تقبض على ابن خزر أمير مغراوة فقتله و جعل ملوكهم أمامه مثل بني يعلى بن محمد النفزي و بني عطية بن عبد الله ابن خزر و بني فلفول بن خزر و يحيى بن علي بن حمدون صاحب البصرة
و برزوا جميعا بقياطينهم إلى سبتة و بعثوا الصريخ إلى المنصور بن أبي عامر فخرج بعساكره إلى الجزيرة الخضراء و أمرهم بمن كان في حضرته من ملوك زناتة و رؤسائهم النازعين إلى خلفاء الأموية بالأندلس بقرطبة بالمقام في سبيل الطاعة و اغتنام فضل الرباط بثغور المسلمين في إيالة الخلفاء و اجتمعت منهم وراء البحر أمم مع ما انضم إليهم من العساكر و الحشود و أجازهم البحر لقصر جعفر بن علي بن حمدون صاحب المسيلة و عقد له على حرب بلكين و أمده بمائة حمل من المال فتعاقد ملوك زناتة و اجتمعوا إليه و ضربوا مصاف القتال بظاهر سبتة و هرع إليهم المدد من الجزيرة من عساكر المنصور و كادوا يخوضون البحر من فرائض الزقاق إلى مظاهرة أوليائهم من زناتة و وصل بلكين إلى تيطاوير و تسنم هضابها و قطع شعوبها لنهج المسالك و الطرق لعسكره حتى أطل على معسكرهم بظاهر سبتة فأرى ما هاله و استيقن امتناعهم
و يقال إنه لما عاين سبتة من مستشرفه و رأى اتصال المدد من العدوة إلى معسكرهم بها قال : هذه أفعى فغرت إلينا فاها وكر راجعا على عقبه و كان موقفه ذلك أقصى أثره و رجع إلى البصرة فهدمها و كانت دار ملك ابن الأندلسي و بها عمارة عظيمة ثم انفتح له باب في جهاد برغواطة فارتحل إليهم و شغل بجهادهم و قتل ملكهم عيسى بن أبي الأنصار كما نذكره و أرسل بالسبى إلى القيروان و أذهب دعوة بني أمية من نواحي المغرب و زناتة مشردون بالصحراء إلى أن هلك سنة ثلاث و سبعين و ثلثمائة بواركش ما بين سجلماسة و تلمسان منصرفا من هذه الغارة الطويلة (6/206)
دولة منصور بن بلكين
و لما توفي بلكين بعث مولاه أبو زغبل بالخبر إلى إبنه المنصور و كان واليا بأشير و صاحب عهد أبيه فقام بأمر صنهاجة من بعده و نزل صيره و قلده العزيز نزار بن معد أمر أفريقية و المغرب و كان على سنن أبيه و عقد لأخيه أبي البهار على تاهرت و لأخيه يطوفت على أشير و سرحه بالعساكر إلى المغرب الأقصى سنة أربع و سبعين و ثلثمائة يسترجعه من أيدي زناتة و قد بلغه أنهم ملكوا سجلماسة و فاس فلقيه زيري بن عطية المغاوي الملقب بالقرطاس أمير فاس فهزمه و رجع إلى أشير و أقصى المنصور بعدها عن غزو المغرب و زناتة و استقل به ابن عطية و ابن خزرون و بدر بن يعلى كما نذكر بعد
ثم رحل بلكين إلى رقاده و فتك بعبد الله بن الكاتب عامله و عامل أبيه على القيروان لهنات كانت منه و سعايات انجحت فيه فهلك سنة تسع و سبعين و ثلثمائة و ولي مكانه يوسف بن أبي محمد و كثر الواتر بكتابه فقتلهم و أثخن فيهم حتى أذعنوا و أخرج إليهم العمال و عقد لأخيه حماد على أشير و طالت الفتنة مع زناتة و نزل إليه منهم سعيد بن خزرون و لم يزل سعيد يعطيه إلى أن هلك سنة إحدى و ثمانين و ثلثمائة و ولى إبنه فلفول بن سعيد و خالف أبو البهار بن زيري سنة تسع و سبعين و ثلثمائة فزحف إليه المنصور و فر بين يديه إلى المغرب و أمد المنصور أهل تاهرت و مضى في أتباع أبي البهار حتى نفد عسكره و أشير عليه بالرجوع فرجع و بعث أبو النهار إلى أبي عامر صاحب الأندلس في المظاهرة و المدد و استرهن ابنه في ذلك فكتب زيري بن عطية صاحب دعوة الأموية من زناتة بفاس أن يكون معه يدا واحدة فظاهره زيري و اتفق رأيهما مدة و حاربهما بدر بن يعلى فهزماه و ملكا فاس و ما حولها ثم اختلفت ذات بينهما سنة إثنتين و ثمانين و ثلثمائة و رجع أبو النهار إلى قومه و وفد على المنصور سنة إثنتين و ثمانين و ثلثمائة بالقيروان فأكرمه و وصله و أنزله أحسن نزل وعقد له على تاهرت ثم هلك المنصور سنة خمس و ثمانين و ثلثمائة (6/207)
دولة باديس بن المنصور
و لما هلك المنصور قام بأمره إبنه باديس و عقد لعمه يطوفت على تاهرت و سرح عساكره لحرب زناتة مع عميه يطوفت و حماد فولوا منهزمين أمام زناتة إلى أشير
و نهض بنفسه سنة تسع و ثمانين و ثلثمائة لحرب زيري بن عطية راجعا إلى المغرب فولى باديس أخاه يطوفت على تاهرت و أشير و خالف عليه عمومته ماكسن و زاوي و حلال و معتز و عزم و استباحوا عسكر يطوفت و أفلت منهم و وصل أبو البهار متبرئا من شأنهم و شغل السلطان باديس بحرب فلفول بن سعيد كما نذكره في أخبار بني خزرون و سرح عمه حمادا لحرب بني زيري إخوته و وصل بنو زيري أيديهم بفلفول ثم رجعوا إلى حماد فهزمهم و تقبض على ماكسن منهم فأطمة الكلاب و قتل أولاد الحسن و باديس كذا ذكر ابن حزم
و نجا فلهم إلى جبل سنوه فنازلهم حماد أياما و عقد هلم السلم على الإجازة إلى الأندلس فلحقوا بابن عامر سنة إحدى و تسعين و ثلثمائة
و هلك زيري بن عطية المغراوي لتسع أيام من مهلك ماكسن و أقفل باديس عمه حمادا على حضرته ليستعين به في حروف فلفول فاضطرب المغرب لقفوله و أظهرت زناتة الفساد و أضروا بالسابلة و حاصروا المسيلة و أشير فسرح إليهم باديس عمه حمادا و خرج على أثره سنة خمس و تسعين و ثلثمائة فنزل تيجست و دوخ حماد المغرب و أثخن في زناتة و اختط مدينة القلعة ثم طلب منه باديس أن ينزل على عمل تيجست و قسنطينة اختبارا للطاغية فأبى و أظهر الخلاف و بعث إليه أخاه إبراهيم فأقام معه و زحف إليهم باديس ثم رحل في طلبه إلى شلف و نزل إليه بعض العساكر و دخل في طاعته بنو توجين و حازوا في مدده و وصل أميرهم عطية بن دافلين و بدر بن أغمان بن المعتز فوصلها و كان حماد قتل دافلين ثم نزل باديس نهر واصل و السرسو و كزول و انثنى حماد راجعا إلى القلعة و اتبعه باديس
و نازله بها و هلك بمعسكره عليها سنة ست و أربعمائة فجأة و هو نائم بين أصحابه بمضربه فارتحلوا راجعين و احتملوا باديس على أعواده (6/208)
دولة المعز بن باديس
و لما بلغ الخبر بمهلك باديس بويع ابنه المعز ابن ثمان سنين و وصل العسكر فبايعوه البيعة العامة و دخل حماد المسيلة و أشير و استعد للحرب و حاصر باعانة و بلغ الخبر بذلك فزحف المعز إليه و أفرج عن باعانة و لقيه ولقيه فانهزمك حماد و أسلم معسكره و تقبض على أخيه إبراهيم و نجا إلى القلعة و رغب في الصلح فاستجيب على أن يبعث ولده
و انتهى المعز إلى سطيف و قصر الطين و قفل إلى حضرته و وصل إليه القائد بن حماد بعمل المسيلة و طبنة و الزاب و أشير و تاهرت و ما يفتح من بلاد المغرب و عقد للقائد ابن حماد على طبنة و المسيلة مقره و مرسى الدجاج و سوق حمزة و زواوة و انقلب بهدية ضخمة و رفعت الحرب أوزارها من يومئذ واقتسموا المظلة و التحموا بالأصهار و افترق ملك صنهاجة إلى دولتين : دولة إلى المنصور بن بلكين أصحاب القيروان و دولة إلى حماد بن بلكين أصحاب القلعة
و نهض المعز إلى حماد سنة اثنتين و ثلاثين فحاصره بالقلعة مدة سنين ثم أقلع عنها و انكفأ راجعا و لم يعاود فتنة بعد و وصل زاوي بن زيري من الأندلس سنة عشر و أربعمائة كما ذكرناه في خبره فتلقاه المعز أعظم لقاء و سلم عليه راجلا و فرشت القصور لنزله و وصله بأعظم الصلات و أرفعها و استمر ملك المعز بأفريقية و القيروان و كان أضخم ملك عرف للبربر بأفريقية و أترفه و أبذخه نقل ابن الرقيق من أحوالهم في الولائم و الهدايا و الجنائز و الأعطيات ما يشهد بذلك مثل ما ذكر أن هدية صندل عامل باعانة مائة حمل من المال و أن بعض توابيت الكبراء منهم كان العود الهندي بمسامير الذهب و أن باديس أعطى فلفول بن مسعود الزناتي ثلاثين حملا من المال و ثمانين تختا
و أن أعشار بعض أعمال الساحل بناحية صفاقس كان خمسين ألف قفيز و غير ذلك من أخبارهم
و كانت بينه و بين زناتة حروب و وقائع كان له الغلب في جميعها كما هو مذكور و كان المعز منحرفا عن مذاهب الرافضة و منتحلا للسنة فأعلن بمذهبه لأول ولايته و لعن الرافضة ثم صار إلى قتل من وجد منهم و كبا به فرسه ذات يوم فنادى مستغيثا باسم أبي بكر و عمر فسمعه العامة فثاروا لحينهم بالشيعة و قتلوهم أبرح قتل و قتل دعاة الرافضة يومئذ و امتعض لذلك خلفاء الشيعة بالقاهرة
و خاطبه وزيرهم أبو القاسم الجرجاني محذرا و هو يراجعه بالتعريض لخلفائه و المزج فيهم حتى أظلم الجو بينه و بينهم إلى أن انقطع الدعاء لهم سنة أربعين و أربعمائة على عهد المستنصر من خلفائهم و أحرق بنوده و محا اسمه من الطرز و السكة و دعا للقائم بن القادر من خلفاء بغداد و جاءه خطاب القائم و كتاب عهده صحبة داعيته أبي الفضل بن عبد الواحد التميمي فرماه المستنصر خليفة العبيديين بالمغرب من هلال الذين كانوا مع القرامطة و هم رياح و زغبة و الأثبج و ذلك بمشاركة من وزيره أبي محمد الحسن بن علي البازوري كما ذكرنا في أخبار العرب و دخولهم إلى أفريقية
و تقدموا إلى البلاد و أفسدوا السابلة والقرى و سرح إليهم المعز جيوشه فهزموهم فنهض إليهم و لقيهم بجبل حيدران فهزموه و اعتصم بالقيروان فحاصروه و تمرسوا به و طال عيثهم في البلاد و إضرارهم بالرعايا إلى أن خربت أفريقية و خرج ابن المعز من القيروان سنة تسع و أربعين و أربعمائة مع خفيره منهم و هو مؤنس بن يحيى الصبري أمير رياح فلحق في خفارته بالمهدية بعد أن أصهر إليه في ابنته فأنكحه إياها و نزل بالمهدية و قد كان قدم إليها ابنه تميما فنزل عليه و دخل العرب القيروان و انتهبوها
و أقام المعز بالمهدية و انتزى الثوار في البلاد فغلب حمد بن مليل البرغواطي على مدينة صفاقس و ملكها سنة إحدى و خمسين و أربعمائة و خالفت سوسة و صار أهلها إلى الشورى في أمرهم و صارت تونس آخرا إلى ولاية الناصر بن علناس بن حماد صاحب القلعة و ولى عليهم عبد الحق بن خراسان فاستبد بها و استقرت في ملكه و ملك بنيه و تغلب موسى بن يحيى على قابس و صار عاملها المعز بن محمد الصنهاجي إلى ولايته و أخوه إبراهيم من بعده كما يأتي ذكره و الثالث ملك آل باديس و انقسم في الثوار كما نذكر في أخبارهم بعد مهلك المعز سنة أربع و خمسين و أربعمائة و الله أعلم (6/210)
دولة تميم بن المعز
و لما هلك المعز قام بأمره ابنه تميم و غلبه العرب على أفريقية فلم يكن له ما ضمه السور خلا أنه كان يخالف بينهم و يسلط بعضهم على بعض و زحف إليه حمو بن مليل البرغواطي صاحب صفاقس فخرج تميم للقائه و انقسمت العرب عليهما فانهزم حمو و أصحابه ذلك سنة خمس و خمسين و أربعمائة و سار منها سوسة فافتتحها ثم بعث عساكره إلى تونس فحاصروا ابن خراسان حتى استقام على الطاعة لتميم ثم بعث عساكره أيضا إلى القيروان و كان بها قائد بن ميمون الصنهاجي من قبل المعز فأقام ثلاثا ثم غلبته عليها هوارة و خرج إلى المهدية ثم رده تميم إلى ولايته بها فخالف بعد ست من ولايته و كاتب الناصر بن علناس صاحب القلعة فبعث تميم إليه العساكر فلحق بالناصر و أسلم القيروان
ثم رجع بعد ست إلى حمو بن مليل البرغواطي بصفاقس و ابتاع له القيروان من مهنا ابن علي أمير زغبة فولاه عليها و حصنها سنة سبعين و أربعمائة و كانت بين تميم و الناصر صاحب القلعة أثناء ذلك فتن كان سماسرتها العرب يجأجؤن بالناصر من قلعته و يوطئون عساكره ببلاد أفريقية و ربما ملك بعض أمصارها ثم يردونه على عقبه إلى داره إلى أن اصطلحا سنة سبعين و أربعمائة و أصهر إليه تميم بابنته
و نهض تميم سنة أربع و سبعين و أربعمائة إلى قابس و بها ماضي بن محمد الصنهاجي وليها بعد أخيه إبراهيم فحاصرها ثم أفرج عنها و نازلته العرب سنة ست و سبعين و أربعمائة بالمهدية ثم أفرجوا عنه و هزمهم فقصدوا القيروان و دخلوها فأخرجهم عنها
و في أيامه كان تغلب نصارى جنده على المهدية سنة ثمانين و أربعمائة نزلوها في ثلثمائة مركب و ثلاثين ألف مقاتل و استولوا عليها و على زويلة فبذل لهم تميم في النزول عنها مائة ألف دينار بعد الله انتبهوا جميع ما كان بها فاستخلصها من أيديهم و رجع إليها ثم استولى على قابس سنة تسع و ثمانين و أربعمائة من يد أخيه عمر بن المعز بايع له أهلها بعد موت قاضي بن ابراهيم ثم استولى بعدها على صفاقس سنة ثلاث و تسعين و أربعمائة و خرج منها حمو بن مليل إلى قابس فأجاره مكن ابن كامل الدهماني إلى أن مات بها
و كانت رياح قد تغلبت على زغبة و على أفريقية من لدن سبع و ستين و أربعمائة و أخرجوه منها و في هذه المائة الخامسة غلب الأخضر من بطون رياح على مدينة باجة و ملكوها و هلك تميم إثر ذلك سنة إحدى و خمسمائة (6/212)
دولة يحيى بن تميم
و لما هلك تميم بن ولي ابنه يحيى و افتتح بافتتاح امكيسة و غلب عليها ابن محفوظ الثائر بها و ثار أهل صفاقس على ابنه أبي الفتوح فلطف الحيلة في تفريق كلمتهم و راجع طاعة العبيديين و وصلته المخاطبات و الهدايا
و كان قد صرف همه إلى غزو النصارى و الأساطيل البحرية فاستكثر منها و استبلغ في اقتنائها
و ردد البعوث إلى دار الحرب فيها حتى أتقته أمم النصرانية بالجزى من وراء البحر من بلاد أفريقية و جنوة و سردينية
و كان له في ذلك آثار ظاهرة عزيزة و هلك فجأة في قصره سنة تسع و خمسمائة و الله أعلم (6/213)
دولة علي بن يحي
و لما هلك يحيى بن تميم ولي علي ابنه استقدم لها من صفاقس فقدم في خفارة أبي بكر بن أبي جابر مع عسكر و نظرائه من أمراء العرب و كان أعظم أمراء عساكر صنهاجة محاصرين لقصر الأجم فاجتمعوا إليه و تمت بيعته و نهض إلى حصار تونس حتى استقام أحمد بن خرايان على الطاعة و فتح جبل وسلات و كان ممتنعا على من سلف من قومه فجرد إليه عسكرا مع ميمون بن زياد الصخري المعادي من أمراء العرب فافتتحوه و قتلوا من كان به و وصل رسول الخليفة من مصر بالمخاطبات و الهدايا على العادة ثم نهض إلى حصار رافع بن مكن بفاس سنة إحدى عشرة و خمسمائة و دون لها قبائل بادغ من بني علي إحدى بطون رياح كما نذكره في أخبار رافع ثم حدثت الفتنة بينه بين رجار صاحب صقلية بممالأة رجار لرافع بن كامل عليه و إمداده إياه بأسطوله يغير على ساحل علي بن يحيى و يرصد أساطيله فاستخدم علي بن يحيى الأساطيل و أخذ في الأهبة للحرب و هلك سنة خمس عشرة و خمسمائة و الله أعلم (6/213)
دولة الحسن بن علي
و لما هلك علي بن يحيى بن تميم ولي بعده ابنه الحسن بن علي غلاما يفعة ابن اثنتي عشرة سنة و قام بأمره مولاه صندل ثم مات صندل و قام بأمره مولاه موفق و كان أبوه أصدر المكاتبة إلى رجار عند الوحشة يهدده بالمرابطين ملوك المغرب و لما كان بينهما و بينهم من المكاتبة و اتفق أن غزا أحمد بن ميمون قائد أسطول المرابطين صقلية و افتتح قرية منها فسباها و قتل أهلها سنة ست عشر و خمسمائة فلم يشك رجار أن ذلك باملاء الحسن فنزلت أساطيله إلى المهدية و عليهم عبد الرحمن بن عبد العزيز و جرجي بن مخاييل الأنطاكي و كان جرجي هذا نصرانيا هاجر من المشرق و قد تعلم اللسان و برع في الحساب و تهذب في الشام بأنطاكية و غيرها فاصطنعه تميم و استولى عليه و كان يحيى يشاوره
فلما هلك تميم أعمل جرجي الحيلة في اللحاق برجار فلحق به و حظى عنده و استعمله على أسطوله فلما اعتزم على حصار المهدية بعثه لذلك فزحف في ثلثمائة مركب و بها عدد كثير من النصرانية فيهم ألف فارس و كان الحسن قد استعد لحربهم فافتتح جزيرة قوصرة و قصدوا إلى المهدية و نزلوا إلى الساحل و ضربوا الأبنية و ملكوا قصر الدهانين و جزيرة الأملس و تكرر القتال فيهم إلى أن غلبهم المسلمون و أقلعوا راجعين إلى صقلية بعد أن استمر القتل فيهم و وصل بأكثر ذلك محمد بن ميمون قائد المرابطين بأسطوله فعاث في نواحي صقلية و اعتزم رجار على إعادة الغزو إلى المهدية ثم وصل أسطول يحيى بن العزيز صاحب بجاية لحصار المهدية و وصلت عساكره في البر مع قائده مطرف بن علي بن حمدون الفقيه فصالح الحسن صاحب صقلية و وصل يده به و استمد منه أسطوله و استمد الحسن أسطول رجار فأمده و ارتحل مطرف إلى بلده
و أقام الحسن مملكا بالمهدية و انتقض عليه رجار و عاد إلى الفتنة معه و لم يزل يردد إليه الغزو إلى أن استولى على المهدية قائد أسطوله جرجي بن مناسل سنة ثلاث و أربعين و خمسمائة و وصلها بأسطوله في ثلثمائة مركب و خادعهم بأنهم إنما جاؤا مددا له و كان عسكر الحسن قد توجه صريخا لمحرز بن زياد الفادغي صاحب علي ابن خراسان صاحب تونس فلم يجد صريخا فجلا عن المهدية و رحل و اتبعه الناس و دخل العدو إلى المدينة و تملكوها دون دفاع و وجد جرجي القصر كما هو لم يرفع منه الحسن إلا ما خف و ترك الذخائر الملوكية فأمن الناس و أبقاهم تحت إيالته ورد الفارين منه إلى أماكنهم و بعث أسطولا إلى صفاقس فملكها و أجاز إلى سوسه فملكها أيضا و أجاز إلى طرابلس كذلك و استولى رجار صاحب صقلية على بلاد الساحل كلها و وضع على أهلها الجزي و ولى عليهم كما نذكره إلى أن استنقذهم من ملكة الكفر عبد المؤمن شيخ الموحدين و خليفة إمامهم المهدي
و لحق الحسن بن يحيى بعد استيلاء النصارى على المهدية بالعرب من رياح و كبيرهم محرز بن زياد الفادعي صاحب القلعة فلم يجد لديهم مصرخا و أراد الرحيل إلى مصر للحافظ عبد المجيد فأرصد له جرجي فارتحل إلى المغرب و أجاز إلى بونة و بها الحارث بن منصور و أخوه العزيز ثم توجه إلى قسنطينة و بها سبع بن العزيز أخو يحيى صاحب بجاية فبعث إليه من أجازه إلى الجزائر و نزل على ابن العزيز فأحسن نزله و جاوره إلى أن فتح الموحدون الجزائر سنة سبع و أربعين و خمسمائة بعد تملكهم المغرب و الأندلس فخرج إلى عبد المؤمن فلقاه تكرمة و قبولا
و لحق به و صحبه إلى أفريقية في غزاته الأولى ثم الثانية سنة سبع و خمسين و خمسمائة فنازل المهدية و حاصروها أشهرا ثم افتتحها سنة خمس و خمسين و خمسمائة و أسكن بها الحسن و أقطعه رحيش فأقام هنالك سنين ثم استدعاه يوسف بن عبد المؤمن فارتحل بأهله يريد مراكش و هلك بتامسنا في طريقه إلى بابا رولو سنة ست و ثلاثين و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين و رب الخلائق أجمعين (6/214)
الخبر عن بني خراسان من صنهاجة الثوار بتونس على آل باديس عند اضطراب افريقية بالعرب و مبدأ أمرهم و مصاير أحوالهم
لما تغلب العرب على القيروان و أسلم المعز و تحول إلى المهدية اضطرمت أفريقية نارا و اقتسمت العرب البلاد عمالات و امتنع كثير من البلاد على ملوك آل باديس مثل أهل سوسة و صفاقس و قابس و صارت صاغية أهل أفريقية إلى بني حماد ملوك القلعة و ملكو القيروان كما تقدم وانقطعت تونس عن ملك المعز و وفد مشيختها على الناصر بن علناس فولى عليهم عبد الحق بن عبد العزيز بن خراسان يقال إنه من أهل تونس و الأظهر أنه من قبائل صنهاجة فقام بأمرهم و شاركهم في أمرة و تودد إليهم و أحسن السيرة فيهم و صالح العرب أهل الضاحية على أتاوة معلومة لكف عاديتهم و زحف تميم بن المعز من المهدية إليه سنة ثمان و خمسين و أربعمائة في جموعه ومعه يبقى بن على أمير زغبة فحاصر تونس أربعة أشهر إلى أن صالحه ابن خراسان و استقام على طاعته فأفرج عنه
و لم بزل قائما بأمره إلى أن هلك سنة ثمان و ثمانين و أربعمائة فولي ابنه أحمد بن عبد العزيز بن عبد الحق فقتل عمه اسمعيل بن عبد الحق لمكان ترشه و غربه أبو بكر إلى أن برزت فأقام بها خوفا على نفسه و نزع أحمد إلى التخلق بسير الملك و الخروج عن سيرة المشيخة و اشتدت وطأته و كان من مشاهير رؤساء بني خراسان هؤلاء فاستبد بتونس لأول المائة السادسة و ضبطها و بنى أسوارها و عامل العرب على إصلاح سابلتها فصلحت حاله و بنى قصور بني خراسان و كان مجالسا للعلماء محبا فيهم و نازله علي بن يحيى بن العزيز بن تميم سنة عشر و خمسمائة و ضيق عليه و دافعه بأسعاف غرضه فأفرج عنه ثم نازله عساكر العزيز بن منصور صاحب بجاية فعاد إلى طاعته سنة أربعة عشر و خمسمائة و لم يزل واليا على تونس إلى أن نهض سنة اثنتين و عشرين و خمسمائة مطرف بن علي بن حمدون قائد يحيى بن العزيز من بجاية في العساكر إلى أفريقية و ملك عامة أمصارها فتغلب على تونس و خرج أحمد بن عبد العزيز صاحبها و نقله إلى بجاية بأهله و ولده
و ولى على تونس كرامة بن المنصور عم يحيى بن العزيز فبقي واليا عليها إلى أن مات و ولي عليها بعده أخوه أبو الفتوح بن المنصور إلى أن و ولي مكانه ابن ابنه محمد وساءت فعزل و ولي مكانه عمه بن المنصور إلى أن استولى النصارى على المهدية و سواحلها ما بين سوسة و صفاقس و طرابلس سنة ثلاث و أربعين و خمسمائة و صارت لصاحب صقلية و أخرج الحسن بن علي كما هو مذكور فأخذ أهل تونس في الاستعداد و الحذر و استأسدوا لذلك على واليهم و انتشر بغاتهم و ربما ثاروا بعض الأيام عليه فقتلوا عبيده بمرأى منه و اعتدوا عليه في خاصته فبعث عنه أخوه يحيى من بجاية فركب البحر في الأسطول و ترك نائبه العزيز بن دامال من وجوه صنهاجة فأقام بينهم و هم مستبدون عليه و كان بالمعلقة جوارهم محرز بن زياد أمير بني علي من بطون رياح قد تغلب عليها
و كانت الحرب بينه و بين أهل تونس سجالا و التحم بينهما المصاف و كان محرز يستمد عساكر صاحب المهدية على أهل تونس فتأتيه إلى أن غلب النصارى على المهدية و حدثت الفتنة بينهم بالبلد فكان المصاف بين أهل باب السويقة و أهل باب الجزيزة و كانوا يرجعون في أموهم إلى القاضي عبد المنعم ابن الإمام بي الحسن
و لما غلب عبد المؤمن على بجاية و قسنطينة و هم العرب بسطيف و رجع إلى مراكش
انتهت إليه شكوى الرعايا بأفريقية مما نزل بهم من العرب فبعث ابنه عبد الله من بجاية إلى أفريقية في عساكر الموحدين فنازل تونس سنة اثنتين و خمسين و خمسمائة و امتنعت و دخل معهم محرز بن زياد و قومه من العرب و اجتمع جندهم و برزوا للموحدين فأوقعوا بهم و أفرجوا عن تونس و هلك أميرها عبد الله بن خراسان خلال ذلك و ولي مكانة علي بن أحمد بن عبد العزيز خمسة أشهر و زحف عبد المؤمن إلى تونس و هو أميرها فانقادوا لطاعته كما نذكره في أخبار الموحدين و رحل علي بن أحمد بن خراسان إلى مراكش بأهله و ولده و هلك في طريقه سنة أربع و خمسين و خمسمائة و أفرج محرز بن زياد عن المعلقة و اجتمعت إليه قومه و تدامرت العرب عن مدافعة الموحدين و اجتمعوا بالقيروان و بلغ الخبر إلى عبد المؤمن و هو منصرف من غزاته إلى المغرب فبعث إليهم العساكر و أدركوهم بالقيروان فأوقعوا بهم و استلحموهم قتلا و سبيا و تقبض على محرز بن زياد أميرهم فقتل و صلب شلوه بالقيروان و الله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه و هو على كل شيء قدير (6/217)
الخبر عن بني الرند ملوك قفصة الثائرين بها عند التياث ملك آل باديس بالقيروان و اضطرابه بفتنة العرب و مبدأ دولتهم و مصاير أمورهم
لما تغلب العرب على أفريقية و انحل نظام الدولة الصنهاجية و ارتحل المعز من القيروان إلى المهدية و كان بقفصة عاملا لصنهاجة عبد الله بن محمد بن الرند و أصله من جرية من بني صدغيان وكان ابن نحيل هو من بني مرين من مغراوة و كان مسكنهم بالجوسين من نفراوة فضبط قفصة و قطع عنها عادية الفساد و صالح العرب على الأتاوة فصلحت السابلة و استقام الحال ثم استبد بأمره و خلع الامتثال من عنقه سنة خمس و أربعين و خمسمائة و استمر على ذلك و بايعته توزر و قفصة و سوس و الحامة و نفزاوة و سائر أعمال قسنطينة فاستفحل أمره و عظم سلطانه و وفد عليه الشعراء و القصاد و كان معظما لأهل الدين إلى أن هلك سنة خمس و ستين و خمسمائة
و ولي من بعده ابنه المعتز و كنيته أبو عمر و انقاد إليه الناس فضبط الأمور و جبى الأموال و اصطنع الرجال و تغلب على قموده و جبل هوارة و سائر قسطيلية و ما إليها و حسنت سيرته إلى أن عمي و هلك في حياته ابنه تميم فعهد لابنه يحيى بن تميم و قام بالأمر و استبد على حده و لم يزالوا بخير حال إلى أن نازلهم عبد المؤمن سنة أربع و خمسين و خمسمائة فمنعهم من الأمر و نقلهم إلى بجاية فمات المعتز بها سنة سبع و خمسين و خمسمائة لمائة و أربع عشرة من عمره و قيل لسبعين و مات بعده بيسير حافده يحيى بن تميم و ولى عبد المؤمن على قفصة نعمان بن عبد الحق الهنتاتي
ثم عزله بعد ثلاث بميمون بن أجانا الكنسيفي ثم عزله بعمران بن موسى الصنهاجي و أساء إلى الرعية فبعثوا عن علي بن العزيز بن المعتز من بجاية و كان بها في مضيعة يحترف بالخياطة فقدم عليهم و ثاروا بعمران بن موسى عامل الموحدين فقتلوه و قدموا علي بن العزيز فساس ملكه و حاط رعيته و أغزاه يوسف بن عبد المؤمن سنة ثلاث و ستين و خمسمائة أخاه السيد أبا زكريا فحاصره و ضيق عليه و أخذه و أشخصه إلى مراكش بأهله و ماله و استعمله على الأشغال بمدينة سلا إلى أن هلك و فنيت دولة بني الرند و البقاء لله وحده (6/220)
الخبر عن بني جامع الهلاليين أمراء قابس لعهد الصنهاجيين و ما كان لتميم بها من الملك و الدولة و ذلك عند فتنة العرب بأفريقية
و لما دخلت العرب إلى أفريقية و غلبوا المعز على الضواحي و نازلوه بالقيروان و كان الوالي بفاس المعز بن محمد بن لموية الصنهاجي و كان أخوه إبراهيم و ماضي بالقيروان قائدين للمعز على جيوشه فعزلهما و لحقا مغاضبين بمؤنس بن يحيى و كان أول تملك العرب
ثم أقام إبراهيم منهم واليا بقابس و لحق المعز بن محمد بمؤنس فكان معه إلى أن هلك إبراهيم و ولي مكانه أخوه ماضي وكان شيء السيرة فقتله أهل قابس و ذلك لعهد تميم بن المعز بن باديس و بعثوا إلى عمر أخي السلطان إلى طاعة العرب فوليها بكر بن كامل بن جامع أمير المناقشة من دهمان من بني علي إحدى بطون رياح فقام بأمرها و استبد على صنهاجة و لحق به مثنى بن تميم بن المعز نازعا عن أبيه فأجابه ونازل معه المهدية حتى امتنعت عليه و اطلع على قبائح شتى فأفرج عنها و لم يزل كذا على حاله في إجابة قابس و إمارة قومه دهمان إلى أن هلك
و قام بأمره بعده رافع و استفحل بها ملكه و هو الذي اختط بحر العروسيين من مصانع الملك بها و اسمه مكتوب لهذا العهد في جدرانها
و لما ولي علي بن يحيى بن تميم فسد ما بينه و بين رافع و أعان عليه رافع صاحب صقلية فغلب أسطول علي بن يحيى على أسطول النصارى ثم ذوى قبائل العرب و الأساطيل وزحف إلى قابس سنة إحدى عشر و أربعمائة قال ابن أبي الصلت :
دول الثلاثة الأخماس من قبائل العرب الذين هم : سعيد و محمد و نخبه و أضاف إليهم من الخمس الرابع أكابر بني مقدم موافى من كان منهم بفحص القيروان و فر رافع إلى القيروان و امتنع عليه أهلها ثم امتنع شيوخ دهمان و اقتسموا البلاد و عينوا القيروان لرفع و أمكنوه
و بعث علي بن يحيى عساكره و العرب المدونة على منازلة رافع بالقيروان و خرج إلى محارتهم فهلك بالطريق في بعض حروبه مع أشياع رافع
ثم أن ميمون بن زياد الصخري حمل رافع بن مكن على مسالمة السلطان و سعى في إصلاح ذات بينهما فانصلح و ارتفعت بينهما الفتنة و قام بقابس من ذلك رشيد بن كامل قال ابن بجيل : و هو الذي اختط قصر العروسيين و ضرب السكة الرشيدية
و ولي بعده ابنه محمد بن رشيد وغلب عليه مولاه يوسف ثم خرج محمد في بعض وجوهه و ترك ابنه مع يوسف فطرده يوسف و استبد و انتهى إلى طاعة رجار فثار به أهل قابس و دفعوه عنهم فخرج إلى أخيه و لحق أخوه عيسى بن رشيد و أخبره الخبر فحاصرهم رجار بسبب ذلك مدة من الأيام و كان آخر من ملكها من بني جامع أخوه مدافع بن رشيد بن كامل و لما استولى عبد المؤمن على المهدية و صفاقس و طرابلس بعث ابنه عبد الله بعسكر إلى قابس ففر مدافع بن رشيد عن قابس و أسلمها للموحدين و لحق بعرب طرابلس من عرب عوف فأجاروه سنتين ثم لحق بعبد المؤمن بقابس فأكرمه ورضي عنه و انقرض من بني جامع من يؤانس و البقاء لله وحده (6/221)
الخبر عن ثورة رافع بن مكن بن مطروح بطرابلس و العرامى بصفاقس على النصارى و إخراجهم و استبدادهم بأمر بلدهم في آخر دولة بني باديس
أما طرابلس فكان رجار صاحب صقلية لعنه الله قد استولى عليها سنة أربعين و خمسمائة على يد قائده جرجي بن ميخائيل الأنطاكي و أبقى المسلمين بها استعمل عليهم و بقيت في مملكة النصارى أياما ثم إن أبا يحيى بن مطروح من أعيان البلد مشى في وجوه الناس و أعيانهم و داخلهم في الفتك بالنصارى فاجتمعوا لذلك و ثاروا بهم و أحرقوهم بالنار و لما وصل عبد المؤمن إلى المهدية و افتتحها سنة خمس و خمسين و خمسمائة وفد عليه أبو يحيى بن مطروح و وجوه أهل طرابلس فأوسعهم برا و تكرمة و قدم ابن مطروح المذكور عليهم و ردهم إلى بلدهم فلم يزل عليهم إلى أن هرم و عجز بعهد يوسف بن عبد المؤمن و طلب الحج فسرحه السيد أبو زيري بن أبي حفص محمد بن عبد المؤمن عامل تونس فارتحل في البحر سنة ست و ثمانين و خمسمائة و استقر بالاسكندرية
و أما صفاقس فكانت ولاتها أيام بني باديس من صنهاجة قبيلتهم إلى أن ولى المعز بن باديس عليها منصور البرغواطي من صنائعه و كان فارسا مقداما فحدث نفسه بالثورة أيام تغلب العرب على أفريقية وخروج إلى المهدية ففتك به ابن عمه حمو بن مليل البرغواطي وقتله في الحمام غدرا و امتعض له حلفاؤه من العرب و حاصروا حمو حتى بذل لهم من المال ما رضوا به و استبد حمو بن مليل بأمر صفاقس حتى إذا هلك المعز حدثته نفسه بالتغلب على المهدية فزحف إليها في جموعه من العرب و لقيه تميم فانهزم حمو و أصحابه سنة خمس و خمسين و خمسمائة ثم بعث ابنه يحيى بن العرب لحصار صفاقس فحاصرها مدة و أقلع عنها و زحف إليه تميم بن المعز سنة ثلاث و تسعين فغلبه عليها و لحق حمو بمكن بن كامل أمير قابس فأجازه و صارت صفاقس إلى ملكة تميم و وليها ابنه
و لما تغلب النصارى على المهدية و ملكها جرجي بن ميخائيل قائد رجار سنة ثلاث و أربعين و خمسمائة فغلبوا بعدها على صفاقس و أبقوا أهلها و استعملوا عمر بن أبي الحسن القرباني لمكانه فيهم و حملوا أباه أبا الحسن معهم إلى صقلية رهنا و كان ذلك مذهب رجار و دينه فيما ملك من سواحل أفريقية يبقيهم و يستعمل عليهم منهم و يذهب إلى العدل فيهم فبقي عمر بن أبي الحسن عاملا لهم في أهل بلده و أبوه عندهم ثم أن النصارى الساكنين بصفاقس امتدت أيديهم إلى المسلمين و لحقوا بالضرر و بلغ الخبر أبا الحسن و هو بمكانه من صقلية فكتب إلى ابنه عمر و أمره بانتهاز الفرصة فيهم و الاستسلام إلى الله في حق المسلمين فثار بهم عمر لوقته سنة إحدى و خمسين و خمسمائة و قتلهم النصارى أباه أبا الحسن و انتقضت عليهم بسبب ذلك سائر السواحل و لما افتتح عبد المؤمن المهدية من يد رجار وصل إليه عمر و أدى طاعته فولاه صفاقس و لم يزل واليا عليها و ابنه عبد الرحمن من بعده إلى أن تغلب يحيى بن غانية فرغبه في الحج فسرحه و لم بعد (6/223)
الخبر عما كان بافريقية من الثوار على صنهاجة عند اضطرابها بفتنة العرب الى أن محا أثرهم الموحدون
لما كان أبو رجار الورد اللخمي عند اضطرام نار الفتنة بالعرب و تقويض المعز عن القيروان إلى المهدية و تغلبهم عليها قد ضم إليه جماعة من الدعار و كان ساكنا بقلعة قرسنية من جبل شعيب فكان يضرب على النواحي بجهة بنزرت و يفرض على أهل القرى الأتاوات بسبب ذلك فطال عليهم أمره و يئسوا من حسم دائه و كان ببلد بنزرت فريقان أحدهما من لخم و هم من قوم الورد و بقوا فوضى و اختلف أمرهم فبعثوا إلى الورد في أن يقوم بأمرهم فوصل إلى بلدهم فاجتمعوا عليه و أدخلوا حصن بنزرت و قدموه على أنفسهم فحاطهم من العرب و دافع عن نواحيهم و كان بنو مقدم من الأثبج و دهمان من بني علي إحدى بطون رياح هم المتغلبون على ضاحيتهم فهادنهم على الأتاوة و كف بها عاديتهم و استفحل أمرهم و تسمى بالأمير و شيد المصانع و المباني و كثر عمران بنزرت إلى أن هلك فقام بأمره ابنه طراد و كان شهما و كانت العرب تهابه
و هلك فولي من بعده ابنه محمد بن طراد و قتله أخوه مقرن لشهر من ولايته في مسامرة و قام بأمر بنزرت و سمى بالأمير و حمى حوزته من العرب و اصطنع الرجال و عظم سلطانه و قصده الشعراء و امتدحوه فوصلهم و هلك فولي من بعده ابنه عبد العزيز عشر سنين و جرى فيها على سنن أبيه وجده ثم ولى من بعده أخوه موسى على سننهم أربع سنين
ثم من بعده أخوهما عيسى و اقتفى أثرهم و لما نازل عبد الله بن عبد المؤمن تونس و أفرج عنه مر به في طريقه فاستفرغ جهده في قراه و تجمع بطاعته و طلب منه الحفاظ على بلده فأسعفه و ولى عليهم أبا الحسن الهرغى فلما قدم عبد المؤمن على أفريقية سنة أربع و خمسين و خمسمائة راعى له ذلك و أقطعه و اندرج في جملة الناس و كان بقلعة ورغة يدوكس بن أبي علي الصنهاجي من أولياء العزيز المنصور صاحب بجاية و القلعة قد شادها و حصنها
و كان مبدأ أمره أن العزيز تغير عليه في حروب وقعت بينه و بين العرب نسب فيها إلى نفسه الإقدام و إلى السلطان العجز فخافه على نفسه و لحق ببجاية فأكرمه شيخها محمود بن نزال الربغي و آواه و ترافع إلى محمود أهل ورغة من عمله و كانوا فئتين مختلفتين من زاتيمه إحدى قبائل البربر وهما أولاد مدين و أولاد لاحق فبعث عليهم بروكس بن أبي علي لينظر في أحوالهم و أقام معهم بالقلعة ثم استجلب بعض الدعار كانوا بناحيتها و أنزلهم بالقلعة معهم و اصطنعهم صاهر أولاد مدين و ظاهرهم على أولاد لاحق و أخرجهم من القلعة و استبد بها
و قصدته الرجال من كل جانب إلى أن اجتمعت له خمسمائة فارس و أثخن في نواحيه و حارب بني الورد ببنزرت و ابن علال بطبربة و قتل محمد بن سباع أمير بني سعيد من رياح و غصت القلعة بالساكن فاتخذ لها ربضا و جهز إليه العزيز عسكره من بجاية فبارز قائد العسكر و فتك به و اسمه غيلاس و هلك بعد مدة و قام بأمره ابنه منيع و نازله بنو سباع و سعيد طالبين بثأر أخيهما محمد و تمادى به الحصار و ضاقت أحواله فاقتحموا عليه القلعة و استلحم هو و أهل بيته قتلا و سبيا و الله مالك الأمور
و كان أيضا بطبربة مدافع بن علال القيسي شيخ من شيوخها فلما اضطربت أفريقية عند دخول العرب إليها امتنع بطبرية و حصن قلعتها و استبد بها في جملة من ولده و بني عمه و جماعته إلى أن ثار عليه ابن بيزون اللخمي في البحرين على وادي مجردة بازاء الرياحين و طالت بينهما الفتنة و الحرب و كان قهرون بن مخنوس بمنزل دحمون قد بنى حصنه و شيده و جمع إليه جيشا من أوباش القبائل و ذلك لما أخرجه أهل تونس بعد أن ولاه العامة عليهم ثم صرفوه عن ولايتهم لسوء سيرته فخرج من البلد و نزل دحمون و بني حصنا بنفسه مع الحنايا و ردد الغارة على تونس و عاث في جهاتها فرغبوا من محرز بن زياد أن يظاهرهم عليه ففعل
و بلغ خبره ابن علال صاحب طبرية فوصل ابن علال يده بصهر منه و نقله إلى بعض الحصون ببلده و هي قلعة غنوش و تظافروا على الإفساد و خلفهما بنوهما من بعدهما إلى أن وصل عبد المؤمن إلى أفريقية سنة أربع و خمسين و خمسمائة فمحا آثار الفساد من جانب أفريقية و كان أيضا حماد بن خليفة اللخمي بمنزل رقطون من إقليم زغوان على مثل حال ابن علال و ابن غنوش و ابن بيزون و خلفه ولده في مثل ذلك إلى أن انقطع ذلك على يد عبد المؤمن و كان عماد بن نصر الله الكلاعي بقلعة شقبنارية قد صار إليه جند من أهل الدعارة و أوباش القبائل فحملها من العرب و استغاث به ابن قليه شيخ الأريس من العرب و شكا إليه سوء ملكتهم فزحف إليهم و أخرجهم من الأريس و فرض عليهم مالا يؤدونه إليه إلى أن مات و ولي ابنه من بعده فجرى على سننه إلى أن دخل في طاعة عبد المؤمن سنة أربع و خمسين و خمسمائة و الله مالك الملك لا رب غيره و سبحانه (6/225)
الخبر عن دولة آل حماد بالقلعة من ملوك صنهاجة الداعين لخلافة العبيديين و ما كان لهم من الملك و السلطان بأفريقية و المغرب الأوسط إلى حين انقراضه بالموحدين
هذه الدولة شعبة من دولة آل زيري و كان المنصور بلكين قد عقد لأخيه حماد على أشير و المسيلة و كان يتداولها مع أخيه يطوفت و عمه أبي البهار ثم استقل بها سنة سبع و ثمانين و ثلثمائة أيام باديس من أخيه المنصور و دفعه لحرب زناتة سنة خمس و تسعين و ثلثمائة بالمغرب الأوسط من مغراوة و بنى يفرن و شرط له ولاية أشير و المغرب الأوسط و كل بلد يفتحه و أن لا يستقدمه
فعظم عناؤه فيها و أثخن في زناتة و كان مظفرا عليهم و اختط مدينة القلعة بحبل كتامة سنة ثمان و تسعين و ثلثمائة و هو جبل عجيسة و به لهذا العهد قبائل عياض من عرب هلال و نقل إليها أهل المسيلة و أهل حمزة و خربهما و نقل جراوة من المغرب و أنزلهم بها و تم بناؤها و تمصرها على رأس المائة الرابعة و شيد من بنيانها و أسوارها و استكثر فيها من المساجد و الفنادق فاستبحرت في العمارة و اتسعت في التمدن و رحل إليها من الثغور و القاصية و البلد البعيد طلاب العلوم و أرباب الصنائع لنفاق أسواق المعارف و الحرف و الصنائع بها
و لم يزل حماد أيام باديس هذا أميرا على الزاب و المغرب الأوسط و متوليا حروب زناتة
و كان نزوله ببلد أشير و القلعة متاخما لملوك زناتة أحيائهم البادية بضواحي تلمسان و تاهرت و حاربه بنو زيري عند خروجهم على باديس سني تسعين و ثلثمائة و هم زاوي و ماكسن و إخوانهما فقتل ماكسن و ابناه و ألجأ زاوي و إخوته إلى جبل شنون و أجازهم البحر إلى الأندلس ثم أن بطانة باديس و من إليه من الأعجام و القرابة نفسوا على حماد رتبته و سعوا في مكانه من باديس إلى أن فسد ذات بينهما
و طلب باديس أن يسلم تيجست و قسنطينة لولد المعز لما قلده الحاكم ولاية عهد ابنه فأبى حماد و خالف دعوة باديس و قتل الرافضة و أظهر السنة و رضي عن الشيخين و نبذ طاعة العبيديين جملة و راجع دعوة آل العباس و ذلك سنة خمس و أربعمائة
و زحف إلى باجة فدخلها بالسيف و دس إلى أهل تونس الثورة على المشارقة و الرافضة فثاروا بهم فناصبه باديس الحرب و عبى عساكره من القيروان و خرج إليه فنزع عن حماد أكثر أصحابه مثل : بني أبي واليل أصحاب معرة من زناتة و بني حسن كبار صنهاجة و بني يطوفت من زناتة و بني غمرة أيضا منهم وفر حماد و ملك باديس أشير
و لحق حماد بشلف بني واليل و باديس في اتباعه حتى نزل مواطين فحصر السرسو من بلاد زناتة
و نزل إليه عطية بن داقلتن في قومه من بني توجين لما كان حماد قتل أباه و جاء على أثره ابن عمه بدر بن لقمان بن المعتز فوصلهما باديس و استظهر بهما على حماد
ثم أجاز إلى باديس من وادي شلف و ناجزه الحرب و نزع إليه عامة أهل معسكره فانهزم و أغذ السير إلى القلعة و باديس في أثره نزل فحاصر المسيلة و انحجر حماد في القلعة و حاصره ثم هلك بمعسكره من ذلك الحصار فجأة بمضربه و هو نائم بين أصحابه ست و أربعمائة فباعت صنهاجة لابنه المعز صبيا ابن ثمان سنين
و تلاقوا من أشير و بعثوا كرامة بن منصور لسدها فلم يقدروا و اقتحمها عليه حماد
و احتملوا باديس على أعواده إلى مدفنهم بالقيروان و بايعوا المعز بالبيعة العامة و زحف إلى حماد بناحية قفصة و أشفق حماد فبعث ابنه القائد لإحكام الصلح بينه و بين المعز فوصل إلى القيروان سنة ثمان و أربعمائة بهدية جليلة و أمضى له المعز ما سأله من الصلح و رجع إلى أبيه
و هلك حماد سنة تسعة عشر و أربعمائة فقام بأمره ابنه القائد و كان جبارا فاختار أخاه يوسف على المغرب و ويغلان على حمزة في بلد اختطه حمزة بن إدريس و زحف إليه حمامة بن زيري بن عطية ملك فاس من مغراوة سنة ثلاثين و أربعمائة فخرج إليه القائد و سرب الموال في زناتة و أحس بذلك حمامة فصالحه و دخل في طاعته و رجع إلى فاس و زحف إليه المعز من القيروان سنة أربع و ثلاثين و أربعمائة و حاصره مدة طويلة ثم صالحه القائد و انصرف إلى أشير فحاصرها ثم أقلع عنها و انكفأ راجعا و راجع القائد طاعة العبيديين لما نقم عليه المعز و لقبوه شرف الدولة
و هلك سنة ست و أربعين و أربعمائة و ولي ابنه محسن و كان جبارا و خرج عليه عمه يوسف و لحق بالمغرب فقتل سائر أولاد حماد و بعث محسن في طلبه بلكين ابن عمه محمد بن حماد و أصحبه من العرب خليفة بن بكير و عطية الشريف و أمرهما بقتل بلكين في طريقهما فأخبرا بلكين بذلك و تعاهدوا جميعا على قتل محسن و أنذر بهم ففر إلى القلعة و أدركوه فقتله بلكين لتسعة أشهر من ولايته و ولي الأمر سنة سبع و ثلاثين و أربعمائة و كان شهما قرما حازما سفاكا للدماء و قتل وزير محسن الذي تولى قبله و في أيامه قتل جعفر بن أبي رمان مقدم بسكرة لما أحسن بنكثه فحالف أهل بسكرة بأثر ذلك حسبما نذكره ثم مات أخوه مقاتل بن محمد فاتهم به زوجته ناميرت بنت عمه علناس بن حماد فقتلها و أحفظ ذلك أخاها الناصر و طوى على التبييت و كان بلكين كثيرا ما يردد الغزو إلى المغرب و بلغه استيلاء يوسف بن تاشفين و المرابطين على المصامدة فنهض نحوهم سنة أربع و خمسين و أربعمائة و فر المرابطون إلى الصحراء و توغل بلكين في ديار المغرب و نزل بفاس و احتمل من أكابر أهلها و أشرافهم رهنا على الطاعة
و انكفأ راجعا إلى القلعة فانتهز منه الناصر ابن عمه الفرصة في الثأر بأخته و مالأه قومه من صنهاجة لما لحقهم من تكلف المشقة بابعاد الغزو و التوغل في أرض العدو فقتله بتساله سنة أربع و خمسين و أربعمائة
و قام بالأمر من بعده و استوزر أبا بكر بن أبي الفتوح و عقد على المغرب لأخيه كباب و أنزله مليانة و على حمزة لأخيه رومان و على نقاوس لأخيه خزر
و كان المعز قد هدم سورها فأصلحه الناصر و عقد على قسنطينة لأخيه بلباز و على الجزائر و سوس الدحاج لابنه عبد الله و على أشير لابنه يوسف و كتب إليه حمو بن مليك البرغواطي من صفاقس بالطاعة و بعث إليه بالهدية و وفد عليه أهل قسنطينة و مقدمهم يحيى بن واطاس فأعلنوا بطاعته و أجزل صلتهم و ردهم إلى أماكنهم و عقد عليها ليوسف بن خلوف من صنهاجة و دخل أهل القيروان أيضا في طاعته و كذلك أهل تونس
و كان أهل بسكرة لما قتل بلكين مقدمتهم جعفر بن أبي رمان خلعوا طاعة آل حماد و استبدوا بأمر بلدهم و عليهم بنو جعفر فسرح الناصر إليهم خلف بن أبي حيدرة وزيره و وزير بلكين قبله فنازلها و افتتحها عنوة و احتمل بني جعفر في جماعة من رؤسائها إلى القلعة فقتلهم الناصر و صلبهم ثم قتل خلف بن أبي حيدرة بسعاية رجالات صنهاجة فيه أنه لما بلغه خبر بلكين أراد تولية أخيه معمر و شاورهم في ذلك فقتله الناصر و ولى مكانه أحمد بن جعفر بن أفلح
ثم خرج الناصر ليتفقد المغرب فوثب علي بن ركان على تافر بوست دار ملكهم و كان لما قتل بلكين هرب إلى إخوانه من عجيسة و اهتبلوا الغرة في تافربوست لغيبة الناصر فطرقوها ليلا و ملكها علي فرجع الناصر من المسيلة و عاجلهم فسقط في أيديهم و افتتحها عليهم عنوة و ذبح علي بن ركان نفسه بيده
ثم وقعت بين العرب الهلاليين فتن و حروب و وفد عليه رجالات الأثبج صريخا به على رياح فأجابهم و نهض إلى مظاهرتهم في جموعه من صنهاجة و زناتة حتى نزل للأربس و تواقعوا بسببه فغدرت بهم وناتة و جروا عليه و على قومه الهزيمة بدسيسة ابن النعز بن زيري بن عطية و إغراء تميم بن المعز فانهزم الناصر و استباحوا خزائنه و مضاربه و قتل أخوه القاسم و كاتبه و نجا إلى قسنطينة في اتباعه
ثم لحق بالقلعة في فل من عسكره لم يبلغوا مايتين و بعث وزيره ابن أبي الفتوح للإصلاح فعقد بينهم و بينه صلحا و تممه الناصر ثم وفد عليه رسول تميم وسعى عنده بالوزير بن أبي الفتوح و أنه مائل إلى تميم فنكسه و قتله و كان المستنصر بن خزرون الزناتي خرج في أيام الفتنة بيت الترك و المغاربة بمصر و وصل إلى طرابلس فوجد بني عدي بها قد أخرجهم الأثبج و زغبة من أفريقية كما ذكرناه فرغبهم في بلاد المغرب و سار بهم حتى نزل المسيلة و دخلوا أشير و خرج إليه الناصر ففر إلى الصحراء و رجع فرجع إلى مكانه من الإفساد فراسله الناصر في الصلح فأسعفه و أقطعه ضواحي الزاب و ريغه و أوعز إلى عروس بن هندي رئيس بسكرة لعهده و ولي دولته أن يمكر به فوصل المنتصر إلى بسكرة و خرج إليه عروس ابن هندي و أحمد نزله و أشار على حشمه عند انكباب المنتصر و ذوية على الطعام فبادروا مكبين لطعنه و فر أتباعه و أخذوا رأسه و بعث به إلى الناصر فنصبه ببجاية و صلب شلوه بالقلعة و جعلوه عظة لغيره
و قتل كثير من رؤساء زناتة فمن مغراوة أبي الفتوح بن حبوس أمير بني سنجلس و كانت له بلد لمديه و المرية قبيل من بطون صنهاجة سميت البلد بهم و قتل معنصر بن حماد منهم أيضا و كان بناحية شلف فأجلب على عامل مليانة وقتل شيوخ بني و رسيفان من مغراوة فكاتبهم السلطان لما كان مشتغلا عنهم بشأن العرب فزحفوا إلى معنصر و قتلوه و بعثوا برأسه إلى الناصر فنصبه مع رأس المنتصر
و بعث إليه الزاب أن عمر و مغراوة ظاهروا الأثبج من العرب على بلادهم فبعث ابنه المنصور في العساكر و نزل وعلان بلد المنتصر بن خزرون و هدمها و بعث سراياه و جيوشه إلى بلد واركلا و ولى عليها و قفل بالغنائم و السبي و بلغه عن بني توجين من زناتة أنهم ظاهروا بني عدي من العرب على الفساد و قطع السبيل و أميرهم إذ ذاك مناد بن عبد الله فبعث ابنه المنصور إليهم بالعسكر و تقبض على أمير بني توجين و أخيه زيري و عمهما الأغلب و حمامة و أحضرهم فوبخهم و قدر عليهم فغلبه في إجارتهم من أولاد القاسم رؤساء بني عبد الواد و قتلهم جميعا على الخلاف
و في سنة ستين و أربعمائة افتتح جبل بجاية و كان له قبيل من البربر يسمون بهذا الاسم إلا أن الكاف فيهم بلغتهم ليست كافا بل هي بين الجيم و الكاف و على هذا القبيل من صنهاجة يأتون لهذا العهد أوزاعا في البربر فلما افتتح هذا الجبل اختط به المدينة و سماها الناصرية و تسمى عند الناس باسم القبيلة و هي بجاية و بنى بها قصر اللؤللؤة و كان من أعجب قصور الدنيا و نقل إليها الناس وأسقط الخراج عن ساكنيها وانتقل إليها سنة إحدى وستين وأربعمائة وفي أيام الناصر هذا كان استفحال ملكهم و شغوفه على ملك بني باديس إخوانهم بالمهدية و لما أضرع منه الدهر بفتنة العرب الهلاليين حتى اضطرب عليهم أمرهم و كثر الثوار عليهم و المنازعون من أهل دولتهم فاعتز آل حماد هؤلاء أيام الناصر هذا و عظم شأن أيامهم فبنى المباني العجيبة المؤنقة و شيد المدائن العظيمة و ردد الغزو إلى المغرب و توغل فيهم
ثم هلك سنة إحدى و ثمانين و أربعمائة و قام بالأمر من بعده ابنه المنصور بن الناصر
و نزل بجاية سنة ثلاث و ثمانين و أربعمائة و أوطنها بعساكر و خاصة بعراعر منازل العرب و ما كانوا يسومونهم بالقلعة من خطة الخسف و سوء العذاب بوطء ساحتها و العيث في نواحيها و تخطف الناس من حولها السهولة طرقها على رواحلهم و صعوبة المسالك عليها في الطريق إلى بجاية لمكان الأوعار فاتخذ بجاية هذه معقلا و صيرها دارا لملكه و جدد قصورها و شيد جامعها
و كان المنصور هذا جماعة مولعا بالبناء و هو الذي حضر ملك بني حماد و تأنق في اختطاط المباني و تشييد المصانع و اتخاذ القصور و إجراء المياه في الرياض و البساتين فبنى في القلعة قصر الملك و المنار و الكوكب و قصر السلام و في بجاية قصر اللؤلؤة و قصر أميميون
و كان أخوه يلباز على قسنطينة منذ عهد الناصر أبيهما و هم بالاستبداد لأول ولاية المنصور فسرح إليه أبا يكنى بن محصن بن العابد في العساكر و عقد له على قسنطينة و بونة فتقبض على يلباز و أشخصه إلى القلعة و أقام واليا على قسنطينة و كانه و ولى أخاه ويغلان على بونة
ثم بدا له في الخلاف على المنصور و ثار بقسنطينة سنة سبع و ثمانين و أربعمائة و بعث أخاه ابن موتة إلى تميم بن المعز بالمهدية و استدعاه لولاية بونة فبعث معه ابنه أبا الفتوح بن تميم و نزل بونة مع ويغلان و كاتبوا المرابطين بالمغرب الأقصى و جمعوا العرب على أمرهم
و سرح المنصور عساكره فحاصروا بونه سبعة أشهر ثم اقتحموها غلابا و تقبضوا على أبي الفتوح بن تميم و بعثوا به إلى المنصور فاعتقله بالقلعة
ثم نازلت عساكره قسنطينة و اضطرب أحوال ابن أبي يكنى فخرج إلى القلعة بجبل أوراس و تحصن بها و نزل بقسنطينة صليصل بن الأحمر من رجالات الأثبج و داخل صليصل المنصور في أن يمكنه من قسنطينة على مال يبذله ففعل و استولى عليها المنصور و أقام أبو يكنى بحصنه من أوراس و ردد الغارة على قسنطينة فتوجهت إليه العساكر و حاصروه بقلعته ثم اقتحموها عليه و قتلوه وكان بنو ومانو من زناتة حيا جميعا و قوما أعزة و كانت إليهم رياسة زناتة و كان رئيسهم لعهده ماخوخ و كان بينهم و بين آل حماد صهر فكانت إحدى بناتهم زوجة للناصر و كانت أخرى عند المنصور
و لما تجددت الفتنة بينه و بين قومهما أغزاهم المنصور بنفسه في جموع صنهاجة و حشوده و جمع له ما خوخ و لقيه في زناتة فانهزم المنصور إلى بجاية فقتل أخت ما خوخ التي كانت تحته و استحكمت النفرة بين ما خوخ و بينه و سار إلى ولاية أمراء تلمسان من لمتونة و حرضهم على بلاد صنهاجة فكان ذلك مما دعا المنصور إلى النهوض إلى تلمسان و ذلك أن يوسف بن تاشفين لما ملك المغرب و استفحل به أمره سما إلى ملك تلمسان فغلب عليها أولاد يعلى سنة أربع و سبعين و أربعمائة على ما يأتي ذكره و أنزلها محمد بن يغمر المسولى و صيرها لعز الملك فاضطلع بأمرها و نازل بلاد صنهاجة و ثغورهم فزحف إليه المنصور و أخرب ثغوره و حصون ماخوخ و ضيق عليه فبعث إليه يوسف بن تاشفين و صالحه
و قبض أيدي المرابطين عن بلاد صنهاجة ثم عاود المرابطون إلى شأنهم في بلاده فبعث ابنه الأمير عبد الله و سمع به المرابطون فانقبضوا عن بلاده و زحفوا إلى مراكش و احتل هو بالمغرب الأوسط فشن الغارة في بلاد بني و مانوا و حاصر الجعبات و فتحها ثم عاود ذلك مرات كذلك و عفا عن أهلها و رجع إلى أبيه
ثم وقعت الفتنة بينه و بين ماخوخ و قتل أخوه و لحق ابن ماخوخ بتلمسان و ظاهره ابن يغمر صاحب تلمسان على أمره و اجلبوا على الجزائر فنازلوها يومين فأعقبهما محمد بن يغمر صاحب تلمسان
و ولي يوسف بن تاشفين مكان أخيه تاشفين بن يغمر فنهض إلى أشير و افتتحها فقام المنصور في ركائبه و معه كافة صنهاجة و من العرب أحياء الأثبج و زغبة و ربيعة و هم العقل من زناتة أمما كثيرة و نهض إلى غزو تلمسان سنة ست و سبعين و أربعمائة في نحو عشرين ألفا
و لقي اسطقسه و بعث العسكر في مقدمته و جاء على أثرهم
و كان تاشفين قد أفرج عن تلمسان و خرج إلى تساله و لقيته عساكر المنصور فهزموه و لجأ إلى جبل الصخرة و عاثت عساكر المنصور في تلمسان فخرجت إليه حوا زوجة تاشفين أميرهم متذممة راغبة في الإبقاء متوسلة بوشائح الصنهاجة فأكبر قصدها إليه و أكرم موصلها و أفرج عنهم صبيحة يومه و انكفأ راجعا إلى حضرته بالقلعة و أثخن بعدها في زناتة و شردهم بنواحي الزاب و المغرب الأوسط
و رجع إلى بجاية و أثخن في نواحيها و دوخت عساكره قبائلها فساروا في جبالها المنيعة مثل بني عمران و بني تازروت و المنصورية و الصهريج و الناظور و حجر المعز و قد كان أسلافه يرومون كثيرا عنها فتمنع عليهم فاستقام أمره و استفحل ملكه
و قدم عليه معز الدولة بن صمادح من ألمرية فارا أمام المرابطين لما ملكوا الأندلس فنزل على المنصور و أقطعه تدلس و أنزله بها و هلك سنة ثمان و تسعين و أربعمائة فولي من بعده ابنه باديس فكان شديد البأس عظيم النظر فنكب عبد الكريم بن سليمان وزير أبيه لأول ولايته و خرج من القلعة إلى بجاية فنكب سهاما عامل بجاية
و هلك قبل أن يستكمل سنة و ولي من بعده أخوه العزيز و قد كان عزله عن الجزائر و غربه إلى جيجل فبعث عنه القائد علي بن حمدون فوصل وبايعوه و صالح زناتة و أصهر إلى ماخوخ فأنكحه ابنته و طال أمر ملكه و كانت أيامه هدنة و أمنا و كان العلماء يتناظرون في مجلسه
و نازلت أساطيله جربة فنزلوا على حكمه و أخذوا بطاعته و نازل تونس و صالحه صاحبها أحمد بن عبد العزيز و أخذ بطاعته و كبس العرب في أيامه القلعة و هم غارون فاكتسحوا جميع ما وجدوه بظواهرها و عظم عيثهم و قاتلتهم الحامية فغلبوهم و أخرجوهم من البلد ثم ارتحل العرب و بلغ الخبر إلى العزيز فبعث ابنه يحيى و قائده علي بن حمدون من بجاية في عسكر و تعبية فوصل إلى القلعة و سكن الأحوال و قد أمن العرب و استعتبوا فأعتبوا و انكفأ يحيى راجعا إلى بجاية في عسكره على عهد العزيز
و هكذا كان وصول مهدي الموحدين إلى بجاية قافلا إلى المشرق سنة اثنتي عشرة و خمسمائة و غير بها المنكر فسعى به عند العزيز و ائتمر به فخرج إلى بني وريا كل من صنهاجة كانوا ساكنين بوادي بجاية فأجاروه و نزل عليهم بملالة و أقام بها يدرس العلم و طلبه العزيز فمنعوه و قاتلوا دونه إلى أن رحل عنهم إلى المغرب
و هلك العزيز سنة خمس عشرة و أربعمائة فولي من بعده ابنه يحيى و طالت أيامه مستضعفا مغلبا للنساء مولعا بالصيد على حين انقراض الدولة و ذهاب الأيام بقبائل صنهاجة و استحدث السكة و لم يحدثها أحد من قومه أدبا مع خلفائهم العبيديين و نقل ابن حماد ان سكته في الدينار كانت ثلاثة سطور و دائرة في كل وجه فدائرة الوجه الواحد :
و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون
و السطور لا إله إلا الله و محمد رسول الله يعتصم بحبل الله يحيى بن العزيز بالله الأمير المنصور
و دائرة الوجه الآخر : بسم الله الرحمن الرحيم ضرب هذا الدينار بالناصرية سنة ثلاث و أربعين و خمسمائة و في سطوره الإمام أبو عبد الله المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين العباسي
و وصل سنة ثلاث و أربعين و خمسمائة إلى القلعة لافتقادها و نقل ما بقي بها و انتقض عليه بنو زرا بن مروان فجهز إليه الفقيه مطرف بن علي بن حمدون في العساكر فافتتحها عنوة و تقبض على ابن مروان و أوصله فسجنه بالجزائر إلى أن هلك في معتقله و قيل قتله و بعث مطرف بابنه إلى تونس فافتتحها و نازل في وجهته هذه المهدية فامتنعت عليه و رجع إلى بجاية و تغلب النصارى على المهدية و قصده الحسن صاحبها فأجازه إلى الجزائر و أنزله بها مع أخيه القائد حتى إذا زحف الموحدون إلى بجاية و فر القائد من الجزائر و أسلمها قدموا الحسن على أنفسهم و لقي عبد المؤمن و أخرج يحيى بن العزيز أخاه سبع للقاء الموحدين فانهزم و ملك الموحدون بجاية
و ركب يحيى البحر إلى صقلية يروم الاجازة منها إلى بغداد ثم عدل إلى بونة فنزل على أخيه الحارس و نكر عليه سوء صنيعه و إخراجه عن البلاد فارتحل عنه إلى قسنطينة فنزل على أخيه الحسن فتخلى له عن الأمر و في خلال ذلك دخل الموحدون القلعة عنوة و دخل حوشن بن العزيز و ابن الدحامس من الأثبج معه و خربت القلعة ثم بايع يحيى لعبد المؤمن سنة سبع و أربعين و خمسمائة و نزل قسنطينة و اشترط لنفسه فوفى له و نقله إلى مراكش فسكنها ثم انتقل إلى سلا سنة ثمان و خمسين و خمسمائة فسكن قصر بني عشيرة إلى أن هلك في سنته و أما الحارث صاحب بونة ففر إلى صقلية و استصرخ صاحبها فصارخه على أمره و رجع إلى بونة و ملكها ثم غلب عليها الموحدون و قتلوه صبرا
و انقرض ملك بني حماد و البقاء لله وحده و لم يبق من قبائل ماكسن إلا أوزاع بوادي بجاية ينسبون إليهم و هم لهذا العهد في عداد الجند و لهم أقطاع بنواحي البلد على العسكرة في جملة السلطنة مع قواده و الله وارث الأرض و من عليها (6/227)