الخبر عن دولة أحمد بن طولون بمصر و بنيه و مواليه بني طغج و ابتداء أمرهم و تصاريف أحوالهم
قال ابن سعيد و نقله من كتاب ابن الداية في أخبار بني طولون : كان طولون أبو أحمد من الطغز غزوهم التتر حمله نوح بن أسد عامل بخارى إلى المأمون في وظيفته من المال و الرقيق و البراذين و ولد له أحمد سنة عشرين و مائتين من جارية اسمها ناسم و توفي طولون سنة أربعين و مائتين و كفله رفقاء أبيه بدار الملك حتى ثبتت مرتبته و تصرف في خدمة السلطان و انتشر له ذكر عند الأولياء فاق به على أهل طبقته و شاع بين الترك صونه و دينه و أمانته على الأسرار و الأموال و الفروج و كان يستصغر عقول الأتراك و يرى أنهم ليسوا بأهل للرتب و كان يحب الجهاد و طلب من محمد بن أحمد بن خاقان أن يسأل من عبد الله الوزير أن يكتب لهما بأرزاقهما إلى الثغر و يقيما هنالك مجاهدين و سار إلى طرسوس و أعجبه ما عليه أهل الحق من تغيير المنكر و إقامة الحق فأنس و عكف على طلب الحديث ثم رجع إلى بغداد و قد امتلأ علما و دينا و سياسة و لما تنكر الأتراك للمستعين و بايعوا المعتز و آل أمر المستعين إلى الخلع و التغريب إلى واسط وكلوا به أحمد بن طولون فأحسن عشرته و وسع عليه و ألزمه أحمد بن محمد الواسطي يومه و كان حسن العشرة فكه المجالسة و لما اعتزموا على قتله بعثوا إلى أحمد بن طولون أن يمضي ذلك فتفادى منه فبعثوا سعيدا الحاجب فسمله ثم قتله و دفنه ابن طولون و عظم محله بذلك عند أهل الدولة انتهى كلام ابن سعيد و قال ابن عبد الظاهر : و قفت على سيرة للأخشيذ قديمة عليها خط الفرغاني و فيها أن أحمد هو ابن النج من الأتراك كان طولون صديق أبيه و من طبقته فلما مات النج رباه طولون و كفله فلما بلغ من الحداثة مشى مع الحشوية و غزا و تنقلت به الأحوال إلى أن صار معدودا في الثقات و ولي مصر و استقر بها قال صدر الدين بن عبد الظاهر : و لم أر ذلك لغيره من المؤرخين انتهى و لما و قع اضطراب الترك ببغداد و قتل المستعين و ولي المعتز و استبد عليه الأتراك و زعيمهم يومئذ باك باك و ولاه المعتز مصر و نظر فيمن يستخلفه عليها فوقع اختياره على أحمد بن طولون فبعثه عليها و سار معه أحمد بن محمد الواسطي و يعقوب بن إسحاق و دخلها في رمضان سنة أربع و خمسين و مائتين و على الخوارج بها أحمد بن المدبر و على البريد سفير مولى قبيجة فأهدى له ابن المدبر ثم استوحش منه و كاتب المعتز بأن ابن طولون يروم العصيان و كاتب صاحب البريد بمثل ذلك فسطا بسفير صاحب البريد و مات من غده ثم قتل المعتز و ولي المهتدي فقتل باك باك و رتب مكانه يارجوج و ولاه مصر و كانت بينه و بين أحمد بن طولون مودة أكيدة فاستخلفه على مصر و أطلق يده على الإسكندرية و الصعيد بعد أن كان مقتصرا على مصر فقط و جعل إليه الخراج فسقطت رتبة ابن المدبر ثم أعاده المعتمد فلم ينهض إلى مساماة ابن طولون و لا منازعته ثم كتب إليه المعتمد بضبط عيسى بن شيخ الشيباني و كان يتقلد فلسطين و الأردن و تغلب على دمشق و طمع في مصر و منع الحمل و اعترض حمل ابن المدبر و كان خمسة و سبعين حملا من الذهب فأخذها فكتب إليه المعتمد يومئذ بولاية أعماله فادعى العجز و أنكر مال الحمل و نزع السواد و أنفذ أناجور من الحضرة في العساكر إلى دمشق سنة سبع و خمسين ثم خرج أحمد بن طولون إلى الإسكندرية و معه أخوه موسى و كان يتجنى عليه و يرى أنه لم يوف بحقه و ظهر ذلك منه في خطابه فأوقع به و نفاه و حبس كاتبه إسحاق بن يعقوب و اتهمه بأنه أفضى بسره إلى أخيه و خرج أخوه حاجا و سار من هنالك إلى العراق و وصف أخاه بالجميل فحظى بذلك عند الموفق و استفحل أمر أحمد و استكثر من الجند و خافه أناجور بالشام و كتب الموفق يغريه بشأنه و أنه يخشى على الشام منه فكتب الموفق إلى ابن طولون بالشخوص إلى العراق لتدبير أمر السلطان و أن يستخلف على مصر فشعر ابن طولون بالمكيدة في ذلك فبعث كاتبه أحمد بن محمد الواسطي إلى يارجوج و إلى الوزير و حمل إليهما الأموال و الهدايا و كان يارجوج متمكنا في الدولة فسعى في أمره و أعفاه من الشخوص و أطلق ولده و حرمه و اشتدت وطأة ابن طولون و خافه أحمد بن المدبر فكتب إلى أخيه إبراهيم أن يتلطف له في الانصراف عن مصر فورد الكتاب بتقليده خراج دمشق و فلسطين و الأردن و صانع ابن طولون بضياعه التي ملكها و سار إلى عمله بمصر و شيعه ابن طولون و رضي عنه و ذلك سنة ثمان و خمسين و مائتين و ولي الوزير على الخراج من قبله و تقدم لابن طولون باستحثاثه فتتابع حمل الأموال إلى المعتمد ثم كتب ابن طولون بأن تكون جباية الخراج له فأسعف بذلك و أنفذ المعتمد نفيسا الخادم بتقليده خراج مصر و ضريبتها و خراج الشام و بعث إليه نفيس الخادم و معه صالح بن أحمد بن حنبل قاضي الثغور و محمد بن أحمد الجزوعي قاضي واسط شاهدين بإعفائه ما زاد على الرسم من المال و الطراز و مات يارجوج في رمضان سنة تسع و خمسين و كان صاحب مصر و من أقطاعه و يدعى له قبل ابن طولون فلما مات استقل أحمد بمصر (4/385)
فتنة ابن طولون مع الموفق
لما استأمن الزنج و تغلبوا على نواحي البصرة و هزموا العساكر بعث المعتمد إلى الموفق و كان المهتدي نفاه إلى مكة فعهد له المعتمد بعد ابنه المفوض و قسم ممالك الإسلام بينهما و جعل الشرق للموفق و دفعه لحرب الزنج و جعل الغرب للمفوض و استخلف عليه موسى بن بغا و استكتب موسى بن عبيد الله بن سليمان بن وهب و أودع كتاب عهدهما في الكعبة و سار الموفق لحرب الزنج و اضطرب الشرق و قعد الولاة عن الحمل و شكا الموفق الحاجة إلى المال و كان ابن طولون ببعث الأموال إلى المعتمد يصطنعه بذلك فأنفذ الموفق نحريرا خادم المتوكل إلى أحمد بن طولون يستحثه لحمل الأموال و الطراز و الرقيق و الخيل و دس إليه أن يعتقله و اطلع على الكتب و قتل بعض القواد و عاتب آخرين و بعث مع نحرير ألفي ألف و مائتي ألف دينار و رقيقا و طرزا و جمع الرسم و بعث معه من أسلمه إلى ثقة أناجور صاحب الشام و لما فعل ابن طولون بنحرير ما فعل كتب الموفق إلى موسى بن بغا بصرف أحمد بن طولون عن مصر و تقليدها أناجور فكتب إلى أناجور بتقليدها فعجز عن مناهضة أحمد فسار موسى بن بغا ليسلم إليه مصر و بلغ الرقة و استحث أحمد في الأموال فتهيأ أحمد لحربه و حصن الجزيرة معقلا لحربه و ذخيرته و أقام موسى بالرقة عشرة أشهر و اضطرب عليه الجند و شغبوا و طالبوه بالأرزاق و اختفى كاتبه موسى بن عبيد الله بن وهب فرجع و توفي سنة أربع و ستين و مائتين ثم كتب الموفق إلى ابن طولون باستقلال ما حمله من المال و عنفه و هدده فأساء ابن طولون جوابه و أن العمل لجعفر بن المعتمد ليس لك فأحفظ ذلك الموفق و سأل من المعتمد أن يولي على الثغور من يحفظها و أن ابن طولون لا يؤمن عليها لقلة اهتمامه بأمرها فبعث محمد بن هرون التغلبي عامل الموصل و ركب السفن فألقته الريح بشاطئ دجلة فقتله الخوارج أصحاب مسا و الساري (4/388)
ولاية أحمد بن طولون على الثغور
و كانت أمهات الثغور يومئذ أنطاكية و طرسوس و المصيصة و ملطية و كان على أنطاكية محمد بن علي بن يحيى الأرمني و على طرسوس سيما الطويل و إليه أمر الثغور و جاء في بعض أيامه إلى أنطاكية فمنعه الأرمني من الدخول فدس إلى أهل البلد بقتله فقتلوه و أحفظ ذلك الموفق فولى على الثغور أرجون بن أولغ طرخان التركي و أمره بالقبض على سيما الطويل فقام بالثغور و أساء التصرف و حبس الأرزاق عن أهلها و كانت قلعة لؤلؤة من قلاع طرسوس في نحر العدو و أهم أهل طرسوس أمرها فبعثوا إلى حاميتها خمسة آلاف دينار رزقا من عندهم فأخذها أرجون لنفسه و ضاعت حاميتها و افترقوا و كتب الموفق إلى أحمد بن طولون بتقليد الثغور و أن يبعث عليها من قبله فبعث من قبله و كتب الموفق إلى أحمد بن طولون بتقليد الثغور و أن يبعث عليها من قبله فبعث من قبله طحشي بن بكروان و حسنت حالهم و طلب منه ملك الروم الهدنة و استأذن في ذلك ابن طولون فمنعه و قال : إنما حملهم على ذلك تخريبكم لقلاعهم و حصونهم فيكون في الصلح راحة لهم فحاش لله منه و أمره برم الثغور و أرزاق الغزاة (4/389)
استيلاء أحمد بن طولون على الشام
قد تقدم لنا ولاية أناجور على دمشق سنة سبع و خمسين و مائتين و ما وقع بينه و بين أحمد بن طولون ثم توفي أناجور في شعبان سنة أربع و ستين و مائتين و نصب ابنه في مكانه و قام يدبر أمره أحمد بن بغا و عبيد الله بن يحيى بن وهب و سار إلى الشام موريا بمشارفة الثغور و استخلف ابنه العباس على مصر و ضم إليه أحمد بن محمد الواسطي و عسكر في مينة الإصبع و كتب إلى علي بن أناجور بإقامة الميرة للعساكر فأجاب الآمال و سار ابن طولون إلى الرملة و بها محمد بن أبي رافع من قبل أناجور و مدبر دولته أحمد بن هنالك منذ نفاه المهتدي فأكرمه ثم سار عن دمشق و استخلف عليها أحمد بن دوغياش و رحل إلى حمص و بها أكبر قواد أناجور فشكت الرعية منه فعزله و ولى يمتا التركي ثم سار إلى أنطاكية و قد امتنع بها سيما الطويل بعد أن كتب بالطاعة و أن ينصرف عنه فأبى و حاصرها و شد حصارها و ضجر أهلها من سيما فداخل بعضهم أحمد بن طولون و دلوه على بعض المسارب فدخلها منه في فاتحة خمس و ستين و قتل سيما الطويل و قبض على أمرائه و كاتبه ثم سار إلى طرسوس فملكها و دخلها في خلق كثير و شرع في الدخول إلى بلاد الروم للغزو و بينما هو يروم ذلك جاءه الخبر بانتقاض ابنه العباس الذي استخلفه بمصر فرجع و بعث عسكرا إلى الرقة و عسكرا إلى حران و كانت لمحمد بن أناشر فأخرجوه عنها و هزموه و بلغ الخبر إلى أخيه موسى فسار إلى حران و كان شجاعا و كان مقدم العسكر بحران ابن جيعونه فأهمه أمرهم فقال له أبو الأغر من العرب : أنا آتيك بموسى و اختار عشرين فارسا من الشجعان و سار إلى معسكر موسى فأكمن بعضهم و دخل بالباقين بعض الخيام فعقدت و اهتاج العسكر و هرب أبو الأغر و اتبعوه فخرج عليهم الكمين فهزموهم و أسر موسى و جاء به أبو الأغر إلى ابن جيعونة قائد ابن طولون فاعتقله و عاد إلى مصر سنة ست و ستين و مائتين (4/389)
الخبر عن انتقاض العباس بن أحمد بن طولون على أبيه
لما رحل أحمد بن طولون إلى الشام و استخلف ابنه العباس و كان أحمد بن الواسطي محكما في الدولة و كان للعباس بطانة يدارسونه الأدب و النحو و أراد أن يولي بعضهم الوظائف و لم يكونوا يصلحون لها فمنع الواسطي من ذلك خشية الخلل في الأعمال فحمل هؤلاء البطانة عليه عند العباس و أغروه به و كتب هو إلى أحمد يشكوهم فأجابه بمداراة الأمور إلى حين وصوله و كان محمد بن رجاء كاتب أحمد مداخلا لابنه العباس فكان يبعث إليه بكتب الواسطي يتنزل له فاطلع على جواب أبيه عن كتبه بالمداراة فازداد خوفا و حمل ما كان هنالك من المال و السلاح و هو ألف ألف دينار و تسلف من التجار مائتي ألف أخرى و احتمل أحمد بن محمد الواسطي و أيمن الأسود مقيدين و سار إلى برقة و رجع أحمد إلى مصر و بعث له جماعة فيهم القاضي أبو بكرة بكار بن قتيبة و الصابوني القاضي و زياد المري مولى أشهب فتلطفوا به بالموعظة حتى لان ثم منعه بطانته و خوفوه فقال لبكار : ناشدتك الله هل تأمنه علي ؟ فقال : هو قد حلف و أنا لا أعلم فمضى على ريبته و رجع القوم إلى أبيه و سار هو إلى أفريقية يطلب ملكها و سهل عليه أصحابه أمر إبراهيم بن أحمد بن الأغلب صاحبها و كتب إليه بأن المعتمد قلده أفريقية و أنه أقره عليها و انتهى إلى مدينة لبدة فخرج عليه عامل ابن الأغلب فقبض عليه و نهب البلد و قتل أهله و فضح نساءهم فاستغاثوا بالياس بن منصور كبير نفوسة و رئيس الأباضية و قد كان خاطبه يتهدده على الطاعة و بلغ الخبر إلى ابن الأغلب فبعث العساكر مع خادمه بلاغ و كتب إلى محمد بن قهرب عامل طرابلس بأن يظاهر معه على قتال العباس فسار ابن قهرب و ناوشه القتال من غير مسارعة ثم صحبهم الياس في اثني عشر ألفا من قومه و جاء بلاغ الخادم من خلفه فأجفل و استبيح أمواله و ذخائره و قتل أكثر من كان معه و أفلت بحاشيته و انطلق أيمن الأسود من القيد و رجع إلى مصر و جاء العباس إلى برقة مهزوما و كان قد أطلق أحمد الواسطي بعد أن ضمن حزب برقة إحضاره فلما رجع أعاده إلى محبسه فهرب من المحبس و لحق بالفسطاط و وجد أحمد بن طولون قد سار إلى الإسكندرية عازما على الرحيل إلى برقة فهون أمره و منعه من الرحيل بنفسه و خرج طبارجي و أحمد الواسطي فجاؤا به مقيدا على بغل و ذلك سنة سبع و ستين و مائتين و قبض على كاتبه محمد بن رجاء و حبسه لما كان يطلع ابنه العباس على كتبه ثم ضرب ابنه و هو باك عليه و حبسه (4/390)
خروج الصوفي و العمري بمصر
كان أبو عبد الرحمن العمري بمصر و هو عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر مقيما بالقاصية من الصعيد و كان البجاة يغيرون في تلك الأعمال و يعيثون فيها و جاؤا يوم عيد فنهبوا و قتلوا فخرج هذا العمري غضبا لله و أكمن لهم في طريقهم ففتك بهم و سار في بلادهم حتى أعطوه الجزية و اشتدت شوكته و زحف العلوي للقائه فهزمه العمري و ذلك سنة ستين و مائتين و كان من خبر هذا العلوي أنه ظهر بالصعيد سنة سبع و خمسين و مائتين و ذكر أن اسمه إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب و يعرف بالصوفي فملك مدينة أسنا و نهبها و عاث في تلك الناحية و بعث إليه ابن طولون جيشا فهزمهم و أسر مقدم الجيش فقطعه فأعاد إليه جيشا آخر و انهزم إلى الواحات ثم عاد إلى الصيد سنة تسع و خمسين و مائتين و سار إلى الأشمونين ثم سار للقاء العمري و انهزم إلى أسوان و عاث في جهاتها و بعث إليه ابن طولون العسكر فهرب إلى عيذاب و عبر البحر إلى مكة فقبض عليه الوالي بمكة و بعث به إلى ابن طولون فحبسه مدة ثم أطلقه و مات بالمدينة ثم بعث ابن طولون العسكر إلى العمري فلقي قائدهم و قال : إني لم أخرج بالفساد و لا يؤذى مسلم و لا ذمي و إنما خرجت للجهاد فشاور أميرك في فأبى و ناجزه الحرب فانهزم العسكر و رجعوا إلى ابن طولون فأخبروه بشأنه فقال : هلا كنتم شاورتموني فيه ؟ فقد نصره الله عليكم ببغيكم ثم وثب عليه بعد مدة غلامان له فقتلاه و جاءا برأسه إلى أحمد بن طولون فقتلهما (4/392)
انتقاض برقة
و في سنة إحدى و ستين و مائتين وثب أهل برقة بعاملهم محمد بن فرج الفرغاني فأخرجوه و نقضوا طاعة ابن طولون فبعث إليهم العساكر مع غلامه لؤلؤ و أمره بالملاينة فحاصرهم أياما و هو يلين لهم حتى طمعوا فيه و نالوا من عسكره فبعث إلى أحمد بخبره فأمره بالاشتداد فشد حصارهم و نصب عليهم المجانيق فاستأمنوا و دخل البلد و قبض على جماعة من أعيانهم فضربهم و قطعهم و رجع إلى مصر و استعمل عليهم مولى من مواليه و ذلك قبل خلاف العباس على أبيه (4/392)
انتقاض لؤلؤ على ابن طولون
كان ابن طولون قد ولى مولاه لؤلؤا على حلب و حمص و قنسرين و ديار مضر من الجزيرة و أنزله الرقة و كان يتصرف عن أمره و متى و قع في مخالفته عاقب ابن سليمان كاتب لؤلؤ فسقط لؤلؤ في المال و قطع الحمل عن أحمد بن طولون و خاف الكاتب مغبة ذلك فحمل لؤلؤا على الخلاف و أرسل إلى الموفق بعد أن شرط على المعتمد شروطا أجابه الموفق إليها و سار إلى الرقة و بها ابن صفوان العقيلي فحاربه و ملكها منه و سلمها إلى أحمد بن مالك بن طوق و سار إلى الموفق فوصل إليه بمكانه من حصار صاحب الزنج و أقبل عليه و استعان به في تلك الحروب و ولاه على الموصل ثم قبض عليه سنة ثلاث و سبعين و مائتين و صادره على أربعمائة ألف دينار فافتقر و عاد إلى مصر آخر أيام هرون بن خماروي فقيرا فريدا (4/393)
مسير المعتمد إلى ابن طولون و عوده عنه من الشام
كان ابن طولون يداخل المعتمد في السر و يكاتبه و يشكو إليه المعتمد ما هو فيه من الحجر و التضييق عليه من أخيه الموفق و الموفق بسبب ذلك ينافر ابن طولون و يسعى في إزالته عن مصر و لما و قع خلاف إلى لؤلؤ على ابن طولون خاطب المعتمد و خوفه الموفق و استدعاه إلى مصر و أن الجيوش عنده لقتال الفرنج فأجابه المعتمد إلى ذلك و أراد لقاءه بجميع عساكره فمنعه أهل الرأي من أصحابه و أشاروا عليه بالعدول عن المعتمد جملة و أن أمره يؤل معه إلى أكثر من أمر الموفق من أجل بطانته التي يؤثرها على كل أحد و اتصلت الأخبار بأن الموفق شارف القبض على صاحب الزنج فبعث ابن طولون بعض عساكره إلى الرقة لانتظار المعتمد و اغتنم المعتمد غيبة الموفق و سار في جمادي سنة ثمان و ستين و مائتين و معه جماعة من القواد الذين معه فقبض عليهم و قيدهم و قد كان ساعد بن مخلد وزير الموفق خاطبه في ذلك عن الموفق فأظهر طاعتهم حين صاروا إلى عمله و سار معهم إلى أول عمل أحمد بن طولون فلم يرحل معهم حين رحلوا ثم جلس معهم بين يدي المعتمد و عذلهم في المسير إلى ابن طولون و دخولهم تحت حكمه و حجره ثم قام بهم عند المعتمد ليناظرهم في خلوة فلما دخلوا خيمته قبض عليهم ثم رجع إلى المعتمد فعذله في الخروج عن دار خلافته و فراق أخيه و هو في قتال عدوه ثم رجع بالمعتمد و الذين معه حتى أدخلهم سر من رأى و بلغ الخبر إلى ابن طولون فقطع خطبة الموفق و محا اسمه من الطرز فتقدم الموفق إلى المعتمد بلعن ابن طولون في دار العامة فأمر بلعنه على المنابر و عزله عن مصر و فوض إليه من باب الشاتية إلى أفريقية و بعث إلى مكة بلعنه في المواسم فوقعت بين أصحاب ابن طولون و عامل مكة حرب و وصل عسكر الموفق مع جعفر الباعردي فانهزم فيها أصحاب ابن طولون و سلبوا و أمر جعفر المصريين و قرؤا الكتاب في المسجد بلعن ابن طولون (4/393)
اضطراب الثغور و وصول أحمد بن طولون إليها و وفاته
كان عامل أحمد بن طولون على الثغور طلخشى بن بلذدان و اسمه خلف و كان نازلا بطرسوس و كان مازيار الخادم مولى فتح بن خاقان معه بطرسوس و ارتاب به طلخشى فحبسه فوثب جماعة من أهل طرسوس و استقدموا مازيار من يده و ولوه و هرب خلف و تركوا الدعاء لابن طولون فسار ابن طولون من مصر و انتهى إلى أذنة و كاتب مازيار و استماله فامتنع و اعتصم بطرسوس فرجع ابن طولون إلى حمص ثم إلى دمشق فأقام بها ثم رجع و حاصره في فصل الشتاء بعد أن بعث إليه يدعوه و انساح على معسكر أحمد و خيمه و كادوا يهلكون فتأخر ابن طولون إلى أذنة و خرج أهل طرسوس فنهبوا العسكر و طال مقام أحمد بأذنة في طلب البرد ثم سار إلى المصيصة فأقام بها و مرض هناك ثم تماسك إلى أنطاكية فاشتد وجعه و نهاه الطبيب عن كثرة الغذاء فتناوله سرا فكثر عليه الاختلاف لأن أصل علته هيضة من لبن الجواميس و ثقل عليه الركوب فحملوه على العجلة فبلغ الفرمار و ركب من ساحل الفسطاط إلى داره و حضره طبيبه فسهل عليه الأمر و أشار بالحمية فلم يداوم عليها و كثر الإسهال و حميت كبده من سوء الفكر فساءت أفعاله و ضرب بكار بن قتيبة القاضي و أقامه للناس في الميدان و خرق سواده و أوقع بابن هرثمة و أخذ ماله و حبسه و قتل سعيد بن نوفل مضروبا بالسياط ثم جمع أولياءه و غلمانه و عهد إلى ابنه أبي الجيش خمارويه و أوصاهم بانظاره و حسن النظر فسكنوا إلى ذلك لخوفهم من ابنه العباس المعتقل ثم مات سنة ست و سبعين و مائتين لست و عشرين سنة من إمارته و كان حازما سائسا و بنى جامعه بمصر و أنفق فيه مائة و عشرين ألف دينار و بنى قلعة يافا و كان يميل إلى مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه و خلف من المال عشرة آلاف إلى ألف دينار و من الموالي سبعة آلاف و من الغلمان أربعة آلاف و من الخيل المرتبطة مائة و من الدواب لركابه مائتين و ثلاثين و كان خراج مصر لأيامه مع ما ينضاف إليها أبيه من ضياع الأمراء لحضرة السلطان أربعة آلاف إلى ألف دينار و ثلاثمائة ألف دينار و على المارستان و أوقافه ستين ألف دينار و على حصن الجزيرة و الجزيرة و هي المسماة لهذا العهد بقلعة الروضة ثمانين ألف دينار و خربت بعد موته و جددها الصالح نجم الدين بن أيوب ثم خربت ثانية و لم يبق منها إلا أطلال دائرة و كان يتصدق في كل شهر بألف دينار و يجري على المسجونين خمسمائة دينار في كل شهر و كانت نفقة مطابخه و علوفته ألف دينار في كل يوم (4/395)
ولاية خمارويه بن أحمد بن طولون
و لما توفي أحمد بن طولون اجتمع أهل الدولة و خواص الأولياء و كبيرهم أحمد بن محمد الواسطي و الغالب على الدولة الحسن بن مهاجر فاتفقوا على بيعة ابنه أبي الجيش خمارويه و أحضروا ابنه العباس من محبسه و عزاه الواسطي و هم يبكون ثم قال بايع لأخيك فأبى فقام طبارجي و سعد الآيس من الموالي و سحبوه إلى حجرة في القصر فاعتقلوه بها و أخرج من الغد ميتا و أخرجوا أحمد إلى مدفنه و صلى عليه ابنه أبو الجيش و واراه و رجع إلى القصر مقيما لأمر سلطانه (4/396)
مسير خمارويه إلى الشام و واقعته مع ابن الموفق
و لما توفي أحمد بن طولون كان إسحاق بن كنداج عاملا على الجزيرة و الموصل و ابن أبي الساج على الكوفة و قد ملك الرحبة من يد أحمد بن مالك فطمعا في ملك الشام و استأذنا الموفق فأذن لهما و وعدهما بالمدد و سار إسحاق إلى الرقة و الثغور و العواصم فملكها من يد ابن دعاس عامل ابن طولون و استولى إسحاق على حمص و حلب و أنطاكية ثم على دمشق و بعث خمارويه العساكر إلى الشام فملكوا دمشق و هرب العامل الذي انتقض بها ثم سار العسكر إلى شيزر فأقام عليها قبالة إسحاق و ابن أبي الساج و هما ينتظران المدد من العراق ثم هجم الشتاء فتفرق عسكر خمارويه في دور شيزر و وصل العسكر من العراق مع أبي العباس أحمد بن الموفق الذي صارت إليه الخلافة و لقب المعتضد فكبسوا عسكر خمارويه في دور شيزر و فتكوا فيهم و نجا الفل إلى دمشق و المعتضد في اتباعهم فارتحلوا عنها و ملكها المعتضد في شعبان سنة إحدى و سبعين و مائتين و لحق عسكر خمارويه بالرملة فأقاموا بها و كتبوا إلى خمارويه بالخبر و سار المعتضد نحوهم من دمشق و بلغه وصول خمارويه و كثرة عساكره فهم بالعود و معه أصحاب خمارويه الذين خالفوا عليه و لحقوا به و كان ابن كنداج و ابن أبي الساج متوحشين من المعتضد لسوء معاملته لهما و التقى العسكران على الماء الذي عليه الطواحين بالرملة فولى خمارويه منهزما مع عصابة معه ليس لهم دربة بالحرب و مضى إلى مصر بعد أن أكمن مولاه سعدا الآيس في عسكر و جاء المعتضد فملك خيام خمارويه و سواده و هو يظن الظفر فخرج سعد الآيس من كمينه و قصد الخيام و ظن المعتضد أن خمارويه قد رجع فركب و انهزم لا يلوي على شيء و جاء إلى دمشق فمنعوه الدخول فمضى إلى طرسوس و لما افتقد سعد الآيس خمارويه نصب أخاه أبا العشائر لقيادة العساكر و وضع العطاء و وصلت البشائر إلى مصر فسر خمارويه بالظفر و خجل من الهزيمة و أكثر الصدقة و أكرم الأسرى و أطلقهم و سارت عساكره إلى الشام فارتجعوه كله من أصحابه فأخرجوهم و لحقوا بالعراق و غزا بالصائفة هذه السنة مازيار صاحب الثغر و غنم و عاد ثم غزا كذلك سنة ثلاث و سبعين و مائتين (4/396)
فتنة ابن كنداج و ابن أبي الساج و الخطبة لابن طولون بالجزيرة
كان ابن أبي الساج عاملا على قنسرين و إسحاق على الجزيرة و الموصل فتنافسوا في الأعمال و استظهر ابن أبي الساج بخمارويه و خطب له بأعماله و بعث ابنه رهينة إليه فسار في عساكره بعد أن بعث إليه الأموال و انتهى إلى السن و عبر ابن أبي الساج الفرات و لقي إسحق بن كنداج على الرقة فهزمه و جاز خمارويه من بعده فعبر الفرات إلى الرافقية و نجا إسحاق إلى ماردين و حصره ابن أبي الساج ثم خرج و سار إلى الموصل فصده ابن أبي الساج عنها و هزمه فعاد إلى ماردين و استولى ابن أبي الساج على الجزيرة و الموصل و خطب في أعمالها لخمارويه ثم لنفسه بعده و بعث العساكر مع غلامه فتح لجباية نواحي الموصل فأوقع بالشراة اليعقوبية و مكر بهم و على أصحابهم بما فعل معهم فجاؤا إليه و هزموه و استلحموا أصحابه و نجا ابن أبي الساج في فل قليل ثم انتقض ابن أبي الساج على خمارويه سنة خمس و سبعين و مائتين و ذلك أن إسحاق بن كنداج سار إلى خمارويه بمصر و صار في جملته فانتقض ابن أبي الساج و سار خمارويه إليه فلقيه على دمشق في المحرم فانهزم ابن أبي الساج و استبيح معسكره و كان و ضع بحمص خزائنه فبعث خمارويه عسكرا إلى حمص فمنعوه من دخولها و استولوا على خزائنه و مضى ابن أبي الساج إلى حلب ثم إلى الرقة و خمارويه في اتباعه ثم فارق الرقة إلى الموصل و عبر خمارويه الفرات و احتل مدينة بلد و أقام بها و سار ابن أبي الساج إلى الحديثة و بعث خمارويه عساكره و قواده مع إسحق بن كنداج في طلب ابن أبي الساج فعبر دجلة و أقام بتكريت و إسحق في عشرين ألفا و ابن أبي الساج في ألفين و أقاموا يترامون في العدوتين ثم جمع ابن كنداج السفن ليمد الجسر للعبور فخالفهم ابن أبي الساج إلى الموصل و نزل بظاهرها فرحلوا في اتباعه فسار لقتالهم فانهزم إسحق إلى الرقة و تبعه ابن أبي الساج وكتب إلى الموفق يستأذنه في عبور الفرات إلى الشام و أعمال خماوريه فأجابه بالتربص و انتظار المدد و لما انهزم إسحق سار إلى خمارويه و بعث معه العسكر و رجع فنزل على حد الفرات من أرض الشام و ابن أبي الساج قبالته على حدود الرقة فعبرت طائفة من عسكر ابن كنداج لم يشعروا بهم و أوقعوا بجمع من عسكر ابن أبي الساج فلما رأى أن لا مانع لهم من العبور سار إلى الرقة إلى بغداد و قدم على الموفق سنة ست و سبعين و ثمانين فأقام عنده إلى أن ولاه أذربيجان في سنته و استولى ابن كنداج على ديار ربيعة و ديار مضر و أقام الخطبة فيها لخمارويه (4/397)
عود طرسوس إلى ايالة خمارويه
قد كنا قدمنا أن مازيار الخادم ثار بطرسوس سنة سبعين و مائتين و حاصره أحمد بن طولون فامتنع عليه فلما ولي خمارويه و فرغ من شواغله أنفذ إلى مازيار سنة سبع و سبعين و مائتين ثلاثين ألف دينار و خمسمائة ثوب و خمسمائة مطرف و اصطنعه فرجع إلى طاعته و خطب له بالثغور ثم دخل بالصائفة سنة ثمان و سبعين و مائتين و حاصروا أسكند فأصابه منها حجر منجنيق رثه و رجع إلى طرسوس فمات بها و قام بأمر طرسوس ابن عجيف و كتب إلى خمارويه فأقره على ولايتها ثم عزله و استعمل مكانه محمد ابن عمه موسى بن طولون و كان من خبره أن أباه موسى لما ملك أحمد أخوه مصر تبسط عليه بدلالة القرابة و ذوي الأرحام فلم يحتمله له أحمد و رده عليه و كسر جاهه فانحرف موسى و سخط دولته ثم خاطبه في بعض مجالسه بما لا يحتمله السلطان فضربه و نفاه إلى طرسوس و بعث إليه بمال يتزوده فأبى من قبوله و سار إلى العراق و رجع إلى طرسوس فأقام بها إلى أن مات و ترك ابنه محمدا و ولاه خمارويه و بعث إلى أميرهم راغب فأكرمه خمارويه و أنس به و طالت مقامته عنده و شاع بطرسوس أن خمارويه حبسه فاستعظم الناس ذلك و ثاروا بأميرهم محمد بن موسى و سجنوه رهينة في راغب و بلغ الخبر إلى خمارويه فسرحه إلى طرسوس فلما وصلها أطلقوا أميرهم محمد بن موسى و قد سخطهم فسار عنهم إلى بيت المقدس و عاد ابن عجيف إلى ولايته بدعوة خمارويه و غزا سنة ثمانين و مائتين بالصائفة و دخل معه بدر الحمامي فظفروا و غنموا و رجعوا ثم دخل بالصائفة سنة إحدى و ثمانين و مائتين من طرسوس طغج بن جف الفرغاني من قبل خمارويه في عساكره طرابزون و فتح مكودية (4/399)
صهر المعتضد مع خمارويه
و لما و لي المعتضد الخلافة بعث إلى خمارويه خاطبا قطر الندى ابنته و كانت أكمل نساء عصرها في الجمال و الآداب و كان متولي خطبتها أمينه الخصي ابن عبد الله ابن الجصاص فزوجه خمارويه بها و بعثها مع ابن الجصاص و بعث معها من الهدايا ما لا يوصف و قدمت سنة تسع و سبعين و مائتين فدخل بها و تمتع بجمالها و آدابها و تمكن سلطانه في مصر و الشام و الجزيرة إلى أن هلك (4/399)
مقتل خمارويه و ولاية ابنه جيش
كان خمارويه قد سار سنة اثنتين و ثمانين و مائتين إلى دمشق فأقام بها أياما و سعى إليه بعض أهل بيته بأن جواريه يتخذون الخصيان يفترشوهن و أراد استعلام ذلك من بعضهن فكتب إلى نائبه بمصر أن يقرر بعضهن فما وصله الكتاب قرر بعض الجواري و ضربهن و خاف الخصيان و رجع خمارويه من الشام و بات في مخدعه فأتاه بعضهم و ذبحه على فراشه في ذي الحجة سنة اثنتين و ثمانين و هرب الذين تولوا ذلك فاجتمع القواد صبيحة ذلك اليوم و أجلسوا ابنه جيش بن خمارويه على كرسي سلطانه و أفيض العطاء فيهم و سيق الخدم الذين تولوا قتل خمارويه فقتل منهم نيف و عشرون (4/400)
مقتل جيش بن خمارويه و ولاية أخيه هرون
و لما ولي جيش كان صبيا غرا فعكف على لذاته و قرب الأحداث و السفلة و تنكر لكبار الدولة و بسط فيهم القول و صرح لهم بالوعيد فأجمعوا على خلعه و كان طغج بن جف مولى أبيه كبار الدولة و كان عاملا لهم على دمشق فانتقض و خلع طاعته و سار آخرون من القواد إلى بغداد منهم إسحاق بن كنداج و خاقان المعلجي و بدر بن جف أبو طغج و قدموا على المعتضد فخلع عليهم و أقام سائر القواد بمصر على انتقاضهم و قتل قائدا منهم ثم و ثبوا بجيش فقتلوه و نهبوا داره و نهبوا مصر و حرقوه و بايعوا لأخيه هرون و ذلك لتسعة أشهر من ولايته (4/400)
فتنة طرسوس و انتقاضها
قد تقدم لنا أن راغبا مولى الموفق نزل طرسوس للجهاد فأقام بها ثم غلب عليها بعد ابن عجيف و لما ولي هرون بن خمارويه سنة ثلاث و ثمانين و مائتين ترك الدعاء له و دعا لبدر مولى المعتضد و قطع طرسوس و الثغور من عمالة بني طولون ثم بعث هرون بن خمارويه إلى المعتضد أن يقاطعه على أعماله بمصر و الشام بأربعمائة ألف و خمسين ألف دينار و يسلم قنسرين و العواصم و هي الثغور للمعتضد فأجابه إلى ذلك و سار من آمد و كان قد ملكها من يد محمد بن أحمد بن الشيخ فاستخلف ابنه المكتفي عليها و سار سنة ست و ثمانين و مائتين فتسلم قنسرين و الثغور من يد أصحاب هرون و جعلها مع الجزيرة في ولاية ابنه المكتفي (4/400)
ولاية طغج بن جف على دمشق
و لما ولي هرون بعد أخيه جيش على ما ولي عليه من اختلاف إلى القواد و قوة أيديهم خشي أهل الدولة من افتراق الكلمة ففوضوا أمرها إلى أبي جعفر بن إيام كان مقدما عند أحمد و خمارويه فأصلح ما استطاع و بقي يرتق الفتق و يجبر الصدع ثم نظر إلى الجند الذين كانوا خالفوا بدمشق مع طغج بن جف فبعث إليهم بدرا الحمامي و الحسين بن أحمد المارداني فأصلحا مورد الشام و أفرد الطغج بن جف بولاية دمشق و استعملا في سائر الأعمال و رجعا إلى مصر و الأمور مضطربة و القواد طوائف لا ينقاد منهم أحد إلى أحد إلى أن وقع ما نذكر (4/401)
زحف القرامطة إلى دمشق
قد تقدم لنا ابتداء أمر القرامطة و ما كان منهم بالعراق و الشام و أن ذكرويه بن مهداويه داعية القرامطة لما هزم بسواد الكوفة و أفنى أصحابه القتل لحق ببني القليص بن كلب بن وبرة في السماوة فبايعوه و لقبوه الشيخ و سموه يحيى و كنوه أبا القاسم و زعم أنه محمد بن عبد الله بن المكتوم بن إسمعيل الإمام فلقبوه المدثر و زعم أنه المشار إليه في القرآن و لقب غلاما من أهله المطوق و سار من حمص إلى حماة و معرة النعمان إلى بعلبك ثم إلى سلمية فقتل جميع من فيها حتى النساء و الصبيان و البهائم و نهب سائر القرى من كل النواحي و عجز طغج بن جف و سائر جيشه و صاحبه هرون عن دفاعهم و توجه أهل الشام و مصر إلى المكتفي مستغيثين فسار إلى أهل الشام سنة تسعين و مائتين و مر بالموصل و قدم بين يديه أبا الأغر من بني حمدان في عشرة آلاف رجل و نزل قريبا من حلب و كبسه القرمطي صاحب الشامة فقتل منهم جماعة و نجا أبو الأغر إلى حلب في فل من أصحابه و حاصره القرمطي ثم أفرج عنه و انتهى المكتفي إلى الرقة و بعث محمد بن سليمان الكاتب في العساكر و معه الحسين من بني حمدان و بنو شيبان فناهضه في المحرم سنة إحدى و تسعين و مائتين على حماة و انهزم القرامطة و أخذ صاحب الشامة أسيرا فبعث به إلى الرقة و بين يديه المدثر و المطوق و تقدم المكتفي إلى بغداد و لحقه محمد ابن سليمان بهم فأمر المكتفي بضربهم و قطعهم و ضرب أعناقهم و حسم دائهم حتى ظهر منهم من ظهر بالبحرين (4/401)
استيلاء المكتفي على الشام و مصر و قتل هرون و شيبان ابني خمارويه و انقراض دولة بني طولون
و نبدأ أولا بخبر محمد بن سليمان المتولي بتحويل دولة بني طولون كان أصله من ديار مضر من الرقة اصطنعه أحمد بن طولون و خدمه في مصر ثم تنكر له و عامله في جاهه و أقاربه بما أحفظه و خشي على نفسه فلحق ببغداد و لقي بها مبرة و تكرمة و استخدمه الخلفاء و جعلوه كاتبا للجيش فما زال يغريهم بملك مصر إلى أن ولي هرون بن خمارويه و فشلت دولة بني طولون بالشام و عاث القرامطة في نواحيه و عجز هرون عن مدافعتهم و وصل صريخ أهل الشام إلى المكتفي فقام لدفع ضررهم عن المسلمين و دفع محمد بن سليمان لذلك و هو يومئذ من أعظم قواده فسار بالعساكر في مقدمته ثم أمره المكتفي باتباع القرامطة و أقام بالرقة فسار حتى لقيهم و قاتلهم حتى هزمهم و استلحمهم و دفع عن الشام ضررهم و رجع بالقرمطي صاحب الشامة و أصحابه أسرى إلى المكتفي بالرقة فرجع إلى بغداد و قتلهم هنالك و شفى نفسه و نفس المسلمين منهم و كان محمد بن سليمان لما تخلف عن المكتفي عند وصوله إلى بغداد فأمره بالعود و بعث معه جماعة من القواد و أمده بالأموال و بعث دميانة غلام مازيار في الأسطول و أمره بالمسير إلى سواحل مصر و دخول نهر النيل و القطع عن أهل مصر ففعل و ضيق عليهم و سار محمد بن سليمان و العساكر و استولى على الشام و ما و راءه فلما قارب مصر كاتب القواد يستميلهم فجاء إليه بدر الحمامي و كان رئيسهم فكسر ذلك من شوكتهم و تتابع إليه القواد يستميلهم فجاء إليه بدر الحمامي و كان رئيسهم فكسر ذلك من شوكتهم و تتابع إليه القواد مستأمنين فبرز هرون لقتالهم فيمن معه من العساكر و أقام قبالتهم و اضطرب عسكره في بعض الأيام من فتنة وقعت بينهم و اقتتلوا فركب هرون ليسكنهم فأصابته حربة من بعض المغاربة كان فيه حتفه فقام عمه شيبان بن أحمد بن طولون بعده بالأمر و بذل الأموال للجند من غير حسبان و لا تقدير ثم أباح نهب ما بقي منه يصطنعهم بذلك فنهبوه في ساعة واحدة و تشوف إلى جمع المال فعجز عنه و اضطرب و فسد تدبيره و تسايل إلى محمد بن سليمان جنده و فاوض أعيان دولته في أمره فاتفقوا على الاستئمان إلى محمد بن سليمان فبعث إليه مستأمنا فسار إليه ثم تبعه قواده و أصحابه فركب محمد إلى مصر و استولى عليها و قيد بني طولون و حبسهم و كانوا سبعة عشر رجلا و كتب بالفتح فأمره المكتفي بإشخاص بني طولون جميعا من مصر و الشام إلى بغداد فبعث بهم ثم أمر بإحراق القطائع التي بناها أحمد بن طولون على شرقي مصر و كانت ميلا في ميل فأحرقت و نهب الفسطاط (4/402)
ولاية عيسى النوشزي على مصر و ثورة الخليجي
و لما اعتزم محمد بن سليمان على الرجوع إلى بغداد و كان المكتفي قد ولاه على مصر فولى المكتفي عيسى بن محمد النوشزي و قدم في منتصف سنة اثنتين و تسعين و مائتين ثم ثار بنواحي مصر إبراهيم الخليجي و كان من قواد بني طولون و تخلف عن محمد ابن سليمان و كتب إلى المكتفي عيسى النوشزي بالخبر و كثرت جموع الخليجي و زحف إلى مصر فخرج النوشزي هاربا إلى الإسكندرية و ملك الخليجي مصر و بعث المكتفي العساكر مع فاتك مولى أبيه المعتضد و بدر الحمامي و على مقدمتهم أحمد بن كيغلغ في جماعة من القواد و لقيهم الخليجي على العريش في صفر سنة ثلاث و تسعين و مائتين فهزمهم ثم تراجعوا و زحفوا إليه و كانت بينهم حروب فني فيها أكثر أصحاب الخليجي و انهزم الباقون فظفر عسكر بغداد و نجا الخليجي إلى الفسطاط و اختفى به و دخل قواد المكتفي المدينة و أخذوا الخليجي و حبسوه و كان المكتفي عندما بلغته هزيمة ابن كيغلغ و سار ابن كيغلغ في ربيع و برز المكتفي من ورائهم يسير إلى مصر فجاءه كتاب فاتك بالخبر و بحبس الخليجي فكتب المكتفي بحمله و من معه إلى بغداد و برز من تكريت فبعث فاتك بهم و حبسوا ببغداد و رجع عيسى النوشزي إلى مصر في منتصف ثلاث و تسعين و مائتين فلم يزل واليا عليها إلى أن توفي في شعبان سنة سبع و تسعين و مائتين لخمس سنين من ولايته و شهرين وقام بأمره ابنه محمد و ولى المقتدر على مصر أبا منصور تكين الخزري فقدمها آخر شوال من سنة سبع و تسعين و مائتين و قام واليا عليها و استفحلت دولة العلويين بالمغرب و جهز عبيد الله المهدي العساكر مع ابنه أبي القاسم سنة إحدى و ثلاثمائة فملك برقة في ذي الحجة آخرها ثم سار إلى مصر و ملك الإسكندربة و الفيوم و بلغ الخبر إلى المقتدر فقلد ابنه أبا العباس مصر و المغرب و عمره يومئذ أربع سنين و هو الذي ولى الخلافة بعد ذلك و لقت الراضي و لما قلده مصر استخلف له عليها مؤنسا الخادم و بعثه في العساكر إلى بصر و حاربهم فهزمهم و رجعوا إلى المغرب فأعاد عبيد الله العساكر سنة اثنتين مع قائده حامسة الكتامي و جاء في الأسطول فملك الإسكندرية و سار منها إلى مصر و جاءه مؤنس الخادم في العساكر فقاتله و هزمه ثم كانت بينهم وقعات و انهزم أصحاب المهدي آخرا في منتصف اثنتين و ثلاثمائة و قتل منهم نحوا من سبعة آلاف و رجعوا إلى المغرب فقتل المهدي حامسة و عاد مؤنس إلى بغداد (4/403)
ولاية ذكاء الأعور
لم يزل تكين الخزري واليا على مصر استخلافا إلى أن صرف آخر اثنتين و ثلاثمائة فولى المقتدر مكانه أبا الحسن ذكاء الأعور و قدم منتصف صفر من سنة ثلاث فلم يزل واليا عليها إلى أن توفي سنة سبع و ثلاثمائة لأربع سنين من ولايته (4/404)
ولاية تكين الخزري ثانية
لما صرف المقتدر ذكاء ولى مكانه أبا منصور تكين الخزري ولاية ثانية فقدم في شعبان سنة سبع و ثلاثمائة و كان عبيد الله المهدي قد جهز العساكر مع ابنه أبي القاسم و وصل إلى الإسكندرية في ربيع من سنة سبع و ثلاثمائة و ملكها ثم سار إلى مصر و ملك الجزيرة و الأشمونين من الصعيد و ما إليه و كتب أهل مكة بطاعته و بعث المقتدر من بغداد مؤنسا الخادم في العساكر فواقع أبا القاسم عدة وقعات و جاء الأسطول من أفريقية إلى الإسكندرية في ثمانين مركبا مددا لأبي القاسم و عليه سلمان بن الخادم و يعقوب الكتامي فسار إليهم في أسطول طرسوس في خمسة و عشرين مركبا و فيها النفط و المدد و عليها أبو اليمن فالتقت العساكر في الأساطيل في مرسى رشيد فظفر أسطول طرسوس بأسطول أفريقية و أسر كثير منهم و قتل بعضهم و أطلق البعض و أسر سليمان الخادم فهلك في محبسه بمصر و أسر يعقوب الكتامي و حمل إلى بغداد فهرب منها إلى أفريقية و اتصل الحرب بين أبي القاسم و مؤنس و كان الظفر لمؤنس و وقع الغلاء و الوباء في عسكر أبي القاسم ففني كثير منهم بالموت و وقع الموتان في الخيل فعاد العسكر إلى المغرب و اتبعهم عساكر مصر حتى أبعدوا فرجعوا عنهم و وصل أبو القاسم إلى القروان منتصف السنة و رجع مؤنس إلى بغداد و قدم تكين إلى مصر كما مر و لم يزل واليا عليها إلى أن صرف في ربيع من سنة تسع و ثلاثمائة (4/405)
ولاية أحمد بن كيغلغ
ولاه المقتدر بعد هلال بن بدر فقدم في جمادي و صرف لخمسة أشهر من ولايته و أعيد تكين المرة الثالثة فقدم في عاشوراء سنة ثلاث عشرة و ثلاثمائة و أقام واليا عليها تسع سنين إلى أن توفي في منتصف ربيع الأول سنة إحدى و عشرين و ثلاثمائة و في أيامه جدد المقتدر عهده لابنه أبي العباس على بلاد المغرب و مصر و الشام و استخلف له مؤنسا و ذلك سنة ثمان عشرة و ثلاثمائة و قال ابن الأثير : و في سنة إحدى و عشرين توفي تكين الخزري بمصر فولي عليها مكانه ابنه محمد و بعث له القاهر بالخلع و ثار به الجند فظفر بهم انتهى (4/405)
ولاية أحمد بن كيغلغ الثانية
ولاه القاهر في شوال سنة إحدى و عشرين و ثلاثمائة بعد أن كان ولى محمد بن طغج و هو عامل دمشق و صرفه لشهر من ولايته قبل أن يتسلم العمل و رده إلى أحمد بن كيغلغ كما قلناه فقدم مصرفي رجب سنة اثنتين و عشرين و ثلاثمائة ثم عزل آخر رمضان من سنة ثلاث و عشرين و ثلاثمائة و ولي الراضي الخليفة بأن يدعى على المنبر باسمه و يزاد في القابه الأخشيد فقام بولاية مصر أحسن قيام ثم انتزع الشام من يده كما يذكر (4/406)
استيلاء ابن رائق على الشام من يد الأخشيد
كان محمد بن رائق أمير الأمراء ببغداد و قد مر ذكره ثم نازعه مولاه تحكم و ولي مكانه سنة ست و عشرين و ثلاثمائة و هرب ابن رائق ثم استتر ببغداد و استولى عليها و رجع الخليفة من تكريت بعد أن كان قدم تحكم ثم كتب إليه و استرده و قد عقد الصلح مع ناصر الدولة بن حمدان من قبل أن يسمع بخبر بن رائق ثم عادوا جميعا إلى بغداد و راسلهم ابن رائق مع أبي جعفر محمد بن يحيى بن شرزاد في الصلح فأجيب و قلده الراضي طريق الفرات و ديار مضر التي هي حران و الرها و ما جاورها و جند قنسرين و العواصم فسار إليها و استقر بها ثم طمحت نفسه سنة ثمان و عشرين و ثلاثمائة إلى ملك الشام فسار إلى مدينة حمص فملكها و كان على دمشق بدر بن عبد الله مولى الأخشيد و يلقب بتدبير فملكها ابن رائق من يده و سار إلى الرملة يريد مصر و برز الأخشيد من مصر فالتقوا بالعريش و أكمن له الأخشيد ثم التقيا فانهزم الأخشيد أولا و ملك أصحاب ابن رائق سواده و نزلوا في خيامهم ثم خرج عليهم كمين الأخشيد فانهزموا و نجا ابن رائق إلى دمشق في فل من أصحابه فبعث إليه الأخشيد أخاه أبا نصر بن طغج في العسكر فبرز إليهم ابن رائق و هزمهم و قتل أبو نصر في المعركة فبعث ابن رائق شلوه إلى مصر مع ابنه مزاحم بن محمد بن رائق و كتب إليه بالعزاء و الاعتذار و أن مزاحما في فدائه فخلع عليه و رده إلى أبيه و تم الصلح بينهما على أن تكون الشام لابن رائق و مصر للأخشيد و التخم بينهما للرملة و حمل الأخشيد عنها مائة و أربعين ألفا كل سنة و خرج الشام عن حكم الأخشيد و بقي في عمالة ابن رائق إلى أن قتل تحكم و البريدي و عاد ابن رائق من الشام إلى بغداد فاستدعاه المتقي و صار أمير الأمراء بها فاستخلف على الشام أبا الحسن علي بن أحمد بن مقاتل و لما و صل إلى بغداد قاتله كورتكين القائم بالدولة فظفر به و حبسه و قاتل عامة أصحابه من الديلم و زحف إليهم البريدي من واسط سنة ثلاثين و ثلاثمائة فانهزم المتقي و ابن رائق و سار إلى الموصل و كان المتقي قد استنجد ناصر الدولة بن حمدان فبعث إليه أخاه سيف الدولة و لقيه المتقي بتكريت و رجع معه إلى الموصل و قتل ناصر الدولة بن حمدان محمد بن رائق و ولي إمارة الأمراء للمتقي فلما سمع الأخشيد بمقتل ابن رائق سار إلى دمشق ثم استولى يوسف بعد ذلك عليها سنة اثنتين و ثلاثين و ثلاثمائة و ولى ناصر الدولة بن حمدان في ربيع سنة اثنتين و ثلاثين و ثلاثمائة على أعمال ابن رائق كلها و هي طريق الفرات و ديار مضر و جند قنسرين و العواصم و حمص أبا بكر محمد بن علي بن مقاتل و أنفذه إليها من الموصل في جماعة من القواد ثم ولى بعده في رجب ابن عمه أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان على تلك الأعمال و امتنع أهل الكوفة من طاعته فظفر بهم و ملكها و سار إلى حلب و كان المتقي قد سار إلى الموصل سنة إحدى و ثلاثين و ثلاثمائة مغاضبا الأمراء توزون فأقام بالموصل عند بني حمدان ثم سار إلى الرقة فأقام بها وكتب إلى الأخشيد يشكو إليه و يستقدمه فأتاه من مصر و مر بحلب فخرج عنها الحسين بن سعيد بن حمدان و تخلف عنه أبو بكر بن مقاتل للقاء الأخشيد فأكرمه و استعمله على خراج مصر و ولى على حلب يانس المؤنسي و سار الأخشيد من حلب إلى الرقة في محرم سنة ثلاث و ثلاثين و ثلاثمائة و أهدى له و لوزيره الحسين بن مقلة و حاشيته و أشار عليه بالمسير إلى مصر و الشام ليقوم بخدمته فأبى فخوفه من تورون و أن يلزم الرقة و كان قد أنفذ رسله إلى تورون في الصلح و جاؤه بالاجابة فلم يعرج على شيء من إشارته و سار إلى بغداد و انصرف الأخشيد إلى مصر و كان سيف الدولة بالرقة معهم فسار إلى حلب و ملكها ثم سار إلى حمص و بعث الأخشيد عساكره إليها مع كافور مولاه فلقيهم سيف الدولة إلى قنسرين و التقيا هنالك و تحاربا ثم افترقا على منعة و عاد الأخشيد إلى دمشق و سيف الدولة إلى حلب و ذلك سنة ثلاث و ثلاثين و ثلاثمائة و سارت الروم إلى حلب و قاتلهم سيف الدولة فظفر بهم (4/406)
وفاة الأخشيد و ولاية ابنه أنوجور و استبداد كافور عليه و استيلاء سيف الدولة على دمشق
ثم توفي الأخشيد أبو بكر بن طغج بدمشق سنة أربع و ثلاثين و ثلاثمائة و قيل خمس و ولى مكانه أبو القاسم أنوجور و كان صغيرا فاستبد عليه كافور و سار من دمشق إلى مصر فخالفه سيف الدولة فسار إلى حلب و زحف أنوجور في العساكر إليه فعبر سيف الدولة إلى الجزيرة و حاصر أنوجور حلب أياما ثم وقع الصلح بينهما و عاد سيف الدولة إلى حلب و أنوجور إلى مصر و مضى كافور إلى دمشق و ولى عليها بدرا الأخشيدي المعروف بتدبير فرجع إلى مصر فأقام يدبر بها سنة ثم عزل عنها و ولي أبو المظفر طغج و قبض على تدبير (4/408)
وفاة أنوجور و وفاة أخيه علي و استبداد كافور عليه
ثم علت سن أبي القاسم أنوجور و رام الاستبداد بأمره و إزالة كافور فشعر به و قتله فيما قيل مسموما سنة و نصب أخاه عليا للأمر في كفالته و تحت استبداده إلى أن هلك (4/408)
وفاة علي بن الأخشيد و ولاية كافور
ثم توفي علي بن الأخشيد سنة خمس و خمسين و ثلاثمائة فأعلن كافور بالاستبداد بالأمر دون بني الأخشيد و ركب بالمظلة و كتب له المطيع بعهده على مصر و الشام و الحرمين و كناه العالي بالله فلم يقبل الكنية و استوزر أبا الفضل جعفر بن الفرات و كان من أعاظم الملوك جوادا ممدوحا سيوسا كثير الخشية لله و الخوف منه و كان يداري المعز صاحب المغرب و يهاديه و صاحب بغداد و صاحب اليمن و كان يجلس للمظالم في كل سبت إلى أن هلك (4/409)
وفاة كافور و ولاية أحمد بن علي بن الأخشيد
ثم توفي كافور منتصف سبع و خمسين و ثلاثمائة لعشرة سنين و ثلاثة أشهر من استبداده منها سنتان و أربعة أشهر مستقلا من قبل المطيع و كان أسود شديد السواد و اشتراه الأخشيد بثمانية عشر دينارا و لما هلك اجتمع أهل الدولة
وولوا أحمد بن علي بن الأخشيد و كنيته أبو الفوارس و قام بتدبير أمره الحسن ابن عمه عبد الله بن طغج و على العساكر شمول مولى جده و على الأموال جعفر بن الفضل و استوزر كاتبه جابر الرياحي لم أطلق ابن الفرات بشفاعة ابن مسلم الشريف و فوض أمر مصر إلى ابن الرياحي (4/409)
مسير جوهر إلى مصر و انقراض دولة بني طغج
و لما فرغ المعز لدين الله من شواغل المغرب بعث قائده جوهر الصقلي الكاتب إلى مصر و جهزه في العساكر و أزاح عليها و سار جوهر من القيروان إلى مصر و مر ببرقة و بها أفلح مولى المعز فلقيه و ترجل له فملك الإسكندرية ثم الجيزة ثم أجاز إلى مضر و حاصرها و بها أحمد بن علي بن الأخشيد و أهل دولته ثم افتتحها سنة ثمان و خمسين و ثلاثمائة و قتل أبا الفوارس و بعث بضائعهم و أموالهم إلى القيروان صحبة الوفد من مشيخة مصر وقضاتها و علمائها و انقرضت دولة بن طغج و أذن سنة تسع و خمسين في جامع ابن طولون بحي على خير العمل و تحولت الدعوة بمصر للعلوية و اختط جوهر مدينة القاهرة في موضع العسكر و سير جعفر بن فلاح الكتامي إلى الشام فغلب القرامطة عليه كما تقدم ذلك في أخبارهم (4/409)
الخبر عن دولة بني مروان بديار بكر بعد بني حمدان و مبادي أمورهم و تصاريف أحوالهم
كان حق هذه الدولة أن نصل ذكرها بدولة بني حمدان كما فعلنا في دولة بني المقلد بالموصل و بني صالح بن مرداس بحلب لأن هذه الدول الثلاث إنما نشأت و تفرعت عن دولتهم إلا أن بني مروان هؤلاء ليسوا من العرب و إنما هم من الأكراد فأخرنا دولتهم حتى ننسقها مع العجم ثم أخرناها عن دولة بني طولون لأن دولة بني طولون متقدمة عنها في الزمن بكثير فلنشرع الآن في الخبر عن دولة بني مروان و قد كان تقدم لنا خبر باد الكردي و اسمه الحسين بن دوشك و كنيته أبو عبد الله و قيل كنيته أبو شجاع و أنه خال أبي علي بن مروان الكردي و أنه تغلب على الموصل و على ديار بكر و نازع فيها الديلم ثم غلبوه عليها و أقام بجبال الأكراد ثم مات عضد الدولة و شرف الدولة ثم جاه أبو طاهر إبراهيم و أبو عبد الله الحسن إلى الموصل فملكاها ثم حدثت الفتنة بينهما و بين الديلم و طمع باد في ملك الموصل و هو بديار بكر فسار إلى الموصل فغلبه ابنا ناصر الدولة و قتل في المعركة و قد مر الخبر عن ذلك كله فلما قتل خلص ابن أخته أبو علي بن مروان من المعركة و لحق بحصن كيفا و به أهل باد و ذخيرته و هو من أمنع المعاقل فتحيل في دخوله بأن خاله أرسله و استولى عليه و تزوج امرأة خاله ثم سار في ديار بكر فملك جميع ما كان لخاله باد و زحف إليه ابنا حمدان و هو يحاصر ميافارقين فهزمهما ثم رجعا إليه و هو يحاصر آمد فهزمهما ثانيا و انقرض أمرهما من الموصل و ملك أبو علي بن مروان ديار بكر و ضبطها و استطال عليه أهل ميافارقين و كان شيخها أبو الأصغر فتركهم يوم العيد حتى اصحروا و كبسهم بالصحراء و أخذ أبا الأصغر فألقاه من السور و نهب الأكراد عامة البلد و أغلق أبو علي الأبواب دونهم و منعهم من الدخول فذهبوا كل مذهب و ذلك كله سنة ثمانين و ثلاثمائة (4/410)
مقتل أبي علي بن مروان و ولاية أخيه أبي منصور
كان أبو علي بن مروان قد تزوج بنت سعد الدولة بن سيف الدولة و زفت إليه من حلب و أراد البناء بها بآمد فخاف شيخها أن يفعل به و بهم ما فعل في ميافارقين فحذر أصحابه منه و أشار عليهم أن ينثروا الدنانير و الدراهم إذا دخل و يقصدوا بها وجهه فيضربوه فكان كذلك ثم أغفله و ضرب رأسه و اختلط أصحابه فرمى برأسه إليهم و كر الأكراد راجعين إلى ميافارقين فاستراب بهم مستحفظها أن يملكوها عليه و منعهم من الدخول ثم وصل مهد الدولة أبو منصور بن مروان ثم أخو أبي علي إلى ميافارقين فأمكنه المستحفظ من الدخول فملكه و لم يكن له فيه إلا السكة و الخطبة و نازعه أخوه أبو نصر فأقام بها مضيقا عليه فغلبه أبو منصور و بعثه إلى قلعة أسعرد فأقام بها مضيقا عليه و أما آمد فتغلب عليها عبد الله شيخهم أياما و زوج بنته من ابن دمنة الذي تولى قتل أبي علي بن مروان فقتله ابن دمنة و ملك آمد و بنى لنفسه قصرا ملاصقا للسور و أصلح أمره مع مهد الدولة بالطاعة و هادى ملك الروم و صاحب مصر و غيرهما من الملوك و انتشر ذكره (4/411)
مقتل مهد الدولة بن مروان و ولاية أخيه أبي نصر
ثم إن مهد الدولة أقام بميافارقين و كان قائده شروة متحكما في دولته و كان له مولى قد ولاه الشرطة و كان مهد الدولة يبغضه و يهم بقتله مرارا ثم يتركه من أجل شروة فاستفسد مولاه شروة على مهد الدولة لحضوره فلما حضر عنده قتله و ذلك سنة اثنتين و أربعمائة ثم خرج على أصحابه و قرابته يقبض عليهم كأنه بأمر مهد الدولة ثم مضى إلى ميافارقين ففتحوا له يظنونه مهد الدولة فملكها و كتب إلى أصحاب القلاع يستدعيهم على لسان مهد الدولة و فيهم خواجا أبو القاسم صاحب أرزن الروم فسار إلى ميافارقين و لم يسلم القلعة لأحد و سمع في طريقه بقتل مهد الدولة فرجع من الطريق إلى أرزن الروم و أحضر أبا نصر بن مروان من أسعرد و جاء به إلى أبيهم مروان و كان قد أضر و لزم قبر ابنه أبي علي بأرزن هو و زوجته فأحضره خواجا عنده و استحلفه عند أبيه و قبر أخيه و ملك أرزن و بعث شروة من ميافارقين إلى أسعرد عن أبي نصر بن مروان ففاته إلى أرزن فأيقن بانتقاض أمره ثم ملك أبو نصر سائر ديار بكر و لقب نصير الدولة و دامت أيامه و أحسن السيرة و قصده العلماء من سائر الآفاق و كثروا عنده و كان ممن قصده أبو عبد الله الكازروني و عنه انتشر مذهب الشافعي بديار بكر و قصده الشعراء و مدحوه و أجزل جوائزهم و أقامت الثغور معه آمنة و الرعية في أحسن ملكة إلى أن توفي (4/411)
استيلاء نصير الدولة بن مروان على الرها
كانت مدينة الرها بيد عطير و كاتبوا أبا نصر بن مروان أن يملكوه فبعث نائبه بآمد و يسمى زنك فملكها و استشفع عطير بصالح بن مرداس صاحب حلب إلى ابن مروان فأعطاه نصف البلد و دخل إلى نصير الدولة بميافارقين فأكرمه و مضى إلى الرها فأقام بها مع زنك و حضر بعض الأيام مع زنك في صنيع و حضر ابن النائب الذي قتله فحمله زنك على الأخذ بثأره فاتبعه لما خرج و نادى بالثأر و استنفر أهل السوق فقتلوه في ثلاثة نفر و كمن له بنو نمير خارج البلد و بعثوا من يغير منهم عليها فخرج زنك في العسكر و لما جاوز الكمين خرجوا عليه و قاتلوه و أصابه حجر فمات من ذلك فاتح ثمان عشرة و أربعمائة و خلصت الرها لنصير الدولة ثم شفع صالح بن مرداس في ابن عطير و ابن شبل فرد إليهما البلد إلى أن باعه ابن عطير من الروم كما يأتي (4/412)
حصار بدران بن مقلد نصيبين
كانت نصيبين لنصير الدولة بن نصر بن مروان فسار إليها بدران بن المقلد في جموع بني عقيل و حاصرها فظهر على العساكر الذين بها و أمدهم نصير الدولة بعسكر آخر فبعث بدران من اعترضهم في طريقهم و هزمهم فاحتفل ابن مروان في الاحتشاد و بعث العساكر إلى نصيبين فخرجوا عليه فهزموه أولا ثم كر عليهم ففتك فيهم و أقام يقاتلهم حتى سمع بأن أخاه قرواش و صل إلى الموصل فخشي منه و ارتحل عنها (4/412)
دخول الغز إلى ديار بكر
هؤلاء الغز من طوائف الترك و هم الشعب الذين منهم السلجوقية و قد تقدم لنا كيف أجازوا إلى خراسان لما قبض محمد بن سبكتكين على أرسلان بن سلجق منهم فحبسه و ما ظهر من فسادهم في خراسان و كيف أوقع بهم مسعود بن سبكتكين من بعد أبيه محمود ففروا إلى الذين يريدون أذربيجان و اللحاق بمن تقدم منهم هنالك و يسمون العراقية بعد أن عاثوا في همذان و قزوين و أرمينية و عاث الآخرون في أذربيجان و قتل و هشوذان صاحب تبريز منهم جماعة ثم عاثوا في الأكراد و استباحوهم ثم جاءهم الخبر بأن نيال إبراهيم أخا السلطان طغرلبك سار إلى الري فأجفلوا منها سنة ثلاث و ثلاثين و أربعمائة و وصلوا أذربيجان و اتصلت الأخبار بأن نيال في أثرهم فأجفلوا ثانيا خوفا منه لأنهم كانوا له و لإخوته رعية و لما أجفلوا سلك بهم الدليل في الجبال على الزوزان و أسهلوا إلى جزيرة ابن عمر فسار بعضهم إلى ديار بكر و نهبوا قزوين و يازيدي و الحسنية و بقي آخرون بالجانب الشرقي من الجزيرة و سار آخرون إلى الموصل و كان سليمان بن نصير الدولة قيما بها فراسلهم في الصلح على أن يسير معهم إلى الشام فقبلوا ثم صنع سليمان صنيعا و دعا إليه ابن غرغلي و قبض عليه و حبسه و أجفل الغز في كل ناحية و اتبعهم عساكر نصير الدولة و قرواش و الأكراد البثنوية ثم قصدت العرب العراق للمشتى و عاد الغز إلى جزيرة ابن عمر فحصروها و خربوا ديار بكر نهبا و قتلا و صانعهم نصير الدولة بإطلاق منصور بن غرغلي الذي حبسه سليمان فلم يكف إطلاقه من فسادهم و ساروا إلى نصيبين و سنجار و الخابور و دخل قرواش الموصل كما نبهنا و اتبعه طائفة منهم فكان من خبره معهم ما قدمناه في أخباره (4/413)
مسير الروم إلى بلد ابن مروان ثم فتح الرها
و لما كانت الدعوة العلوية قد انتشرت في الشام و الجزيرة و كان سبب ذلك أن وثابا النميري صاحب حران و الرقة يخطب لهم فلما ولي الوزيري للعلويين على الشام بعث إلى ابن مروان بالتهديد و أنه يسير إلى بلاده فاستمد ابن مروان قرواش صاحب الموصل و شبيب بن وثاب صاحب الرقة و دعاهما إلى الموافقة و قطع الدعوة العلوية فأجابوه و خطبوا للقائم و قطعوا الخطبة للمستنصر و ذلك سنة ثلاثين و أربعمائة فقام الوزيري في ركائبه و تهددهم و أعاد ابن وثاب خطبة العلوية بحران في ذي الحجة آخر السنة (4/414)
مقتل سليمان بن نصير الدولة
كان نصير الدولة قد ولى ابنه سليمان ويكنى أبا حرب الأمور و كان يحاوره في الجزيرة بشرموشك بن المحلي زعيم الأكراد في حصون له هنالك منيعة و وقعت بينهما منافرة ثم استماله سليمان و مكر به و كان الأمير أبو طاهر البثنوي صاحب قلعة فنك و غيرها و هو ابن أخت نصير الدولة و كان صديقا لسليمان فكان مما استماله به موشك أن زوجه بابنة أبي طاهر فاطمأن موشك إلى سليمان و سار إلى غزو الروم بأرمينية و أمده نصير الدولة ابن مروان بالعساكر و الهدايا و قد كان خطب له من قبل ذلك و أطاعه فشفع عنده في موشك فقتله سليمان و قال لطغرلبك أنه مات و شكر له أبو طاهر حيث كان صهره و اتخذها ذريعة إلى قتله فخافه سليمان و تبرأ إليه مما وقع فأظهر القبول و طلب الاجتماع من حصنه فنك لذلك و خرج سليمان إليه في قلة من أصحابه فقتله عبيد الله و أدرك من ثأر أبيه و بلغ الخبر إلى نصير الدولة فبادر بابنه نصير و بعث معه العساكر لحماية الجزيرة و سمع قريش بن بدران صاحب الموصل فطمع في ملك جزيرة ابن عمر فسار إليها و استمال الأكراد الحسنية و البثنوية و اجتمعوا على قتال نصير بن مروان فأحسن المدافعة عن بلده و قاتلهم و جرح قريش جراحا عديدة و رجع إلى الموصل و أقام نصير بن مروان بالجزيرة و الأكراد على خلافه (4/414)
مسير طغرلبك إلى ديار بكر
و لما انصرف طغرلبك من الموصل و ملكها و فر قريش عنها ثم عاود الطاعة و ذلك سنة ثمان و أربعين و أربعمائة فسار طغرلبك بعدها إلى ديار بكر و حاصر جزيرة ابن عمر و كان ابن مروان في خدمته و هداياه مترادفة عليه في مسيره إلى الموصل و عوده فبعث إليه بالمال مفاداة عن الجزيرة و يذكر ما هو بصدده من الجهاد و حماية الثغر فأفرج عنه طغرلبك و سار إلى سنجار كما ذكرناه في أخبار قريش (4/415)
وفاة نصير الدولة بن مروان و ولاية ابنه نصر
و في سنة ثلاث و خمسين و أربعمائة توفي نصير الدولة أحمد بن مروان الكردي صاحب ديار بكر و كان لقبه القادر بالله و مات لاثنتين و خمسين سنة من ولايته و كان قد عظم استيلاؤه و توفرت أمواله و حسن في عمارة الثغور و ضبطها أثره و كان يهادي السلطان طغرلبك بالهدايا العظيمة و منها حبل الياقوت الذي كان لبني بويه اشتراه من أبي منصور بن جلال الدولة و أرسل معه مائة ألف دينار فحسنت حاله عنده و كان يناغي عظماء الملوك في الترف فيشتري الجارية بخمسمائة دينار و أكثر و اجتمع عنده منهن للافتراش و الاستخدام أزيد من ألف و اقتنى من الأواني و الآلات ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار و جمع في عصمته بنات الملوك و أرسل طباخين إلى الديار المصرية و أنفق عليهم جملة حتى تعلموا الطبخ هنالك و وفد عليه أبو القاسم بن المغربي من أهل الدولة العلوية بمصر و فخر الدولة بن جهير من الدولة العباسية فأقبل عليهما و استوزرها و وفد عليه الشعراء فوصلهم و قصده العلماء فحمدوا عنده مقامهم و لما توفي في كان الظفر فيها لنصر و استقر بميافارقين و مضى أخوه سعيد إلى آمد فملكها و استقر الحال بينهما على ذلك (4/415)
وفاة نصر بن نصير الدولة و ولاية ابنه منصور
ثم توفي نظام الدين نصر بن نصير الدولة في ذي الحجة سنة اثنتين و سبعين و أربعمائة و ولي ابنه منصور و دبر دولته ابن الأنباري و لم يزل في ملكه إلى أن قدم ابن جهير و ملك البلاد من يده (4/416)
مسير ابن جهير إلى ديار بكر
كان فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير من أهل الموصل و استخدم لجارية قرواش ثم لأخيه بركة و سار عنه بالعوائد إلى ملك الروم ثم استخدم لقريش بن بدران و أراد حبسه فاستجار ببعض بني عقيل و مضى إلى حلب فوزر لمعز الدولة أبي ثمال بن صالح ثم مضى إلى عطية و لحق منها بنصير الدولة بن مروان و استوزره و أصلح حال دولته و لما توفي سنة ثلاث و خمسين و أربعمائة دبر أمر ابنه نصر القائم بعده ثم هرب إلى بغداد سنة أربع و خمسين و أربعمائة استدعى منها للوزارة فوزر بعد محمد بن منصور بن دؤاد ثم تداول العزل و الولاية مرات هو و ابنه عميد الملك و استخدم لنظام الملك و السلطان طغرلبك و كان شفع عند الخليفة فلما عزل ابنه آخرا بعث عنه السلطان و نظام الملك و عن ابنه و جميع أقاربه و سار إليه بأصفهان و لقاه مبرة و تكريما و بعثه في العساكر لفتح ديار بكر و أخذها من يد بني مروان و أعطاه الآلات و أذن له أن يخطب لنفسه بعد السلطان و ينقش اسمه على السكة فسار لذلك سنة ست و سبعين و أربعمائة (4/416)
استيلاء ابن جهير على آمد
قد ذكرنا مسير فخر الدولة بن جهير في العساكر إلى ديار بكر ثم أمده السلطان سنة سبع و سبعين و أربعمائة بأرتق بن أكسك في العساكر و استنجد نصر بن مروان شرف الدولة مسلم بن قريش على أن يعطيه آمد فأنجده و سار لمظاهرته فأقصر فخر الدولة بن جهير عن حربهم عصبة للعرب و خالفه أرتق و سار في الترك إليهم و هزمهم و لحق مسلم بآمد و حاصره بها فبذل المال لأرتق و خلص من أمره و لحق بالرقة و سار ابن جهير إلى ميافارقين فرجع عنه منصور بن مزيد و ابنه صدقة و من معهما من العرب و سار فخر الدولة المعروف بالقرم فنزل عليها و شد حصارها و نزل يوما بعض الحامية من السور و أخلى مكانه فوقف فيه بعض العامة و نادى بشعار السلطان و اتبعه سائر الحامية بالسور و بعثوا إلى زعيم الرؤساء ابن جهير فركب إليهم و ملك البلد و ذلك سنة ثمان و سبعين و أربعمائة و نصب أهل البلد بيوت النصارى الذين كانوا يستخدمون لبني مروان في الجبايات و انتقموا منهم و الله أعلم (4/417)
استيلاء ابن جهير على ميافارقين و جزيرة ابن عمر و انقراض دولة بني مروان
كان فخر الدولة بن جهير لما بعث ابنه إلى آمد سار هو إلى ميافارقين و أقام على حصارها منذ سنة سبع و سبعين و أربعمائة و جاءه سعد الدولة كوهرايين مددا و اشتد الحصار و انثلم السور في بعض الأيام فنادى أهلها بشعار ملك شاه و دخل فخر الدولة و ملك البلد و استولى على أموال بني مروان و ذخائرهم و بعثها إلى السلطان ملك شاه مع ابنه زعم الرؤساء فوصل أصفهان في شوال سنة ثمان و سبعين و أربعمائة و سار فخر الدولة كوهرايين إلى بغداد و كان قد بعث عسكرا لحصار جزيرة ابن عمر فحصروها و ثار بها أهل بيت من أعيانها يعرفون ببني رهان و فتحوا بابا صغيرا للبلد كان منفذا للرجالة و أدخلوا العسكر منه و ملكوه بدعوة السلطان ملك شاه و انقرضت دولة بني مروان و لحق منصور بن نظام الدين نصر بن نصير الدولة بالجزيرة و أقام في إيالة الغز ثم قبض عليه جكرمش و حبسه بدار يهودي فمات بها سنة تسع و ثمانين و أربعمائة و البقاء لله و حده (4/417)
الخبر عن دولة بني الصفار ملوك سجستان المتغلبين على خراسان و مبادي أمورهم و تصاريف أحوالهم
كان أهل هذه الدولة قوما اجتمعوا بنواحي سجستان و نصبوا لقتال الخوارج الشراة بتلك الناحية عندما اضطربت الدولة ببغداد لقتل المتوكل و سموا أنفسهم المتطوعة و كان اجتماعهم على صالح بن نصر الكناني و يقال له صالح المتطوعي و صحبه جماعة منهم درهم بن الحسن و يعقوب بن الليث الصفار و غلبوا على سجستان و ملكوها ثم سار إليهم طاهر بن عبد الله أمير خراسان و غلبهم عليها و أخرجهم منها ثم هلك صالح أثر ذلك و قام بأمره في المتطوعة درهم بن الحسن فكثر أتباعه و كان يعقوب بن الليث قائده و كان درهم مضعفا فتحيل صاحب خراسان عليه حتى ظفر به و بعثه إلى بغداد فحبس بها و اجتمع المتطوعة على يعقوب بن الليث قائده و كان درهم يكاتب المعتز يسأله ولايتها و أن يقلده حرب الخوارج فكتب له بذلك و أحسن الغناء في حرب الشراة و تجاوزه إلى سائر أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم سار من سجستان إلى خراسان سنة ثلاث و خمسين و مائتين و على الأنبار ابن أوس فجمع لمحاربة يعقوب و سار إليهم في التعبية فاقتتلوا و انهزم ابن أوس و ملك يعقوب هراة و بوشنج و عظم أمره و هابه صاحب خراسان و غيرها من الأطراف (4/418)
استيلاء يعقوب الصفار على كرمان ثم على فارس و عودها
كان على فارس علي بن الحسين بن شبل و كتب إلى المعتز يطلب كرمان و يذكر عجز ابن طاهر عنها و كان قد أبطأ عن حرب الخوارج فكتب له المعتز بولاية كرمان و كتب ليعقوب الصفار أيضا بولايتها بقصد التضريب بينهما لتتمحص طاعتهما أو طاعة أحدهما فأرسل علي بن الحسين من فارس على كرمان طوق بن المفلس من أصحابه فسبق إليه يعقوب و ملكها و جاء يعقوب فأقام قريبا منها شهرين يترقب خروج طوق إليه ثم ارتحل إلى سجستان و وضع طوق أوزار الحرب و أقبل على اللهو و اتصل ذلك بيعقوب في طريقه فكر راجعا و أغذ السير و دخل كرمان و حبس طوقا و بلغ الخبر إلى علي بن الحسين و هو على شيراز فجمع عسكره و نزل مضيق شيراز و أقبل يعقوب حتى نزل قبالته و المضيق متوعر بين جبل و نهر ضيق المسلك بينهما فاقتحم يعقوب النهر بأصحابه و أجاز إلى علي بن الحسين و أصحابه فانهزموا و أخذ علي بن الحسين أسيرا و استولى على سواده و دخل شيراز و ملكها و جبى الخراج و ذلك سنة خمس و خمسين و مائتين و قيل قد وقع بينهما بعد عبور النهر حروب شديدة و انهزم آخرها علي و كان عسكره نحوا من خمسة عشر ألفا من الموالي و الأكراد فرجعوا منهزمين إلى شيراز آخر يومهم و ازدحموا في الأبواب و بلغ القتلى منهم خمسة آلاف ثم افترقوا في نواحي فارس و انتهبوا الأموال و لما دخل يعقوب شيراز و ملك فارس امتحن عليا و أخذ منه ألف بدرة و من الفرش و السلاح و الآلة ما لا يحصى و كتب للخليفة بطاعته و أهدى هدية جليلة منها عشرة بازات بيض و باز أبلق صيني و مائة نافجة من المسك و غير ذلك من الطرف و رجع إلى سجستان و معه علي و طوق في اعتقاله و لما فارق فارس بعث المعتز عماله إليها (4/419)
ولاية يعقوب الصفار على بلخ و هراة
و لما انصرف يعقوب عن فارس ولى عليها المعتز من قبله و الخلفاء بعده وليها الحرث بن سيما فوثب به محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي من رجال العرب و أحمد بن الليث من الأكراد الذين بنواحيها فقتلاه و استولى ابن واصل على فارس سنة ست و خمسين و مائتين و أظهر دعوة المعتمد و بعث عليها المعتمد الحسين بن الفياض فسار إليه يعقوب بن الليث سنة سبع و خمسين و مائتين و كتب إليه المعتمد بالنكير على ذلك و بعث إليه الموفق بولاية بلخ و طخارستان فملكها و خرب المباني التي بناها داود بن العباس بظاهر بلخ و تسمى بأساديانج ثم سار إلى كابل و استولى عليها و قبض على رتبيل و بعث بالأصنام التي أخذها من كابل و ملك البلاد إلى المعتمد و أهدى إليه هدية جليلة المقدار و عاد إلى بست معتزما على العود إلى سجستان فاحفظه بعض قواده بالرحيل قبله فغضب و أقام منه إلى سجستان ثم سار إلى خراسان و ملك هراة ثم إلى بوشنج فملكها و قبض على عاملها الحسين بن علي بن طاهر الكبير و كان كبير بيتهم و شفع له فيه محمد بن طاهر صاحب خراسان فأبى من إسعافه و بقي في قلبه و ولى على هراة و بوشنج و باذغيس و رجع إلى سجستان (4/419)
استيلاء الصفار على خراسان و انقراض أمر بني طاهر
كان بسجستان عبد الله السجزي ينازع يعقوب بن الليث فلما قوي يعقوب و استفحل سار عبد الله إلى خراسان و طمع في ملكها و حاصر محمد بن طاهر في كرسي ولايته نيسابور ثم تردد الفقهاء بينهم في الصلح حتى تم بينهما و ولاه محمد الطبسين و قهستان ثم بعث يعقوب إلى محمد في طلبه فأجاره و أحفظ ذلك يعقوب فسار إلى محمد بنيسابور فخام محمد عن لقائه و نزل يعقوب بظاهر نيسابور و خرج إليه قرابة محمد و عمومته و أهل بيته و دخل نيسابور و استعمل عليها و ذلك سنة تسع و خمسين و مائتين و كتب إلى المعتمد بأن أهل خراسان استدعوه لعجز ابن طاهر و تفريطه في أمره و غلبه العلوي على طبرستان فكتب إليه المعتمد بالنكير و الاقتصار على ما بيده و إلا سلك به سبيل المخالفين و قيل في ملكه نيسابور غير ذلك و هو أن محمد بن طاهر لما أصاب دولته العجز و الإدبار كاتب بعض قرابته يعقوب بن الليث الصفار و استدعوه فكتب يعقوب إلى محمد بن طاهر بمجيئه إلى ناحيته موريا بقصد الحسن بن زيد في طبرستان و أن المعتمد أمره بذلك و أنه لا يعرض لشيء من أمر خراسان و بعث بعض قواده عينا عليه و عنفه على الإهمال و العجز و قبض على جميع أهل بيته نحوا من مائة و ستين رجلا و حملهم جميعا إلى سجستان و ذلك لإحدى عشرة سنة من ولاية محمد و استولى يعقوب على خراسان و هرب منازعه عبد الله السجزي إلى الحسين بن يزيد صاحب طبرستان و قد كان ملكها من لدن سنة إحدى و خمسين و مائتين فأجاره الحسين و سار إليه يعقوب سنة ستين و مائتين و حاربه فانهزم الحسين إلى أرض الديلم و اعتصم بجبار طبرستان و ملك يعقوب سارية و آمد و رجع في طلب السجزي إلى الري و تهدد العامل على دفعه إليه فبعث به و قتله يعقوب (4/420)
استيلاء الصفار على فارس
تقدم لنا تغلب محمد بن واصل على فارس سنة ست و خمسين و مائتين و مسير الصفار إليه سنة سبع و ثلاثمائة و رجوعه عنها و أنه أعاضه عنها ببلخ و طخارستان ثم إن المعتمد أضاف فارس إلى موسى بن بغا مع الأهواز و البصرة و البحرين و اليمامة و ما بيده من الأعمال فولي موسى على فارس من قبله عبد الرحمن بن مفلح و بعثه إلى الأهواز و امده بطاشتمر و زحفوا إلى ابن و اصل و سار لحرب موسى بن بغا بواسط فولى على الأهواز مكانه أبا الساج و أمره بمحاربة الزنج فبعث صهره عبد الرحمن لذلك فلقيه علي بن أياز قائد الزنج و هزمه و قتل و ملك الزنج الأهواز و عاثوا فيها و أديل من أبي الساج بإبراهيم بن سيما و سار لحرب ابن و اصل و اضطربت الناحية على موسى بن بغا فاستعفى من ولايتها و أعفاه المعتمد و طمع يعقوب الصفار في ملك فارس فسار من سجستان ممدا و رجع ابن و اصل من الأهواز إليه و ترك محاربة ابن سيما و أغذ السير ليفجأه على بغتة ففطن له الصفار و سار إليهم و قد أعيوا و تعبوا من شدة السير و العطش و لما تراءى الجمعان تخاذل أصحاب ابن واصل و انهزموا من غير قتال و غنم الصفار في معسكره و ما كانوا أصابوا لابن مفلح و استولى على بلاد فارس و رتب بها العمال و أوقع بأهل ذم لإعانتهم ابن واصل و طمع في الاستيلاء على الأهواز و غيرها (4/421)
حروب الصفار مع الموفق
و لما ملك الصفار خراسان من يد ابن طاهر و قبض عليه و ملك فارس من يد ابن واصل و كان المعتمد نهاه عن تلك فلم ينته صرح المعتمد بأنه لم يوله و لا فعل ما فعل بإذنه و أحضر حاج خراسان و طبرستان و الري و خاطبهم بذلك فسار الصفار إلى الأهواز سنة اثنتين أصحابه الذين أسروا بخراسان فأبى إلا العزم على الوصول إلى الخليفة و لقائه و بعث حاجبه درهما يطلب ولاية طبرستان و خراسان و جرجان و الري و جارس و الشرطة ببغداد فولاه المعتمد ذلك كله مضافا إلى سجستان و كرمان و أعاد حاجبه بذلك و معه عمرو بن سيما فكتب يقول : لا بد من الحضور بباب المعتمد و ارتحل من عسكر مكرم جائيا و خرج أبو الساج من الأهواز لتلقيه لدخول الأهواز في أعماله فأكرمه و وصله و سار إلى بغداد و نهض المعتمد من بغداد فعسكر بالزعفرانية و وافاه مسرور البلخي من مكانه من مواجهة الزنج و جاء يعقوب إلى واسط فملكها ثم سار منها إلى دير العاقول و بعث المعتمد أخاه الموفق لمحاربته و على ميمنته موسى بن بغا و على ميسرته موسى البلخي فقاتله منتصف رجب و انهزمت ميسرة الموفق و قتل فيها إبراهيم بن سيما و غيره من القواد ثم تزاحفوا و اشتدت الحرب و جاء للموفق محمد بن أوس و الدراني مددا من المعتمد و فشل أصحاب الصفار و لما رأوا مدد الخليفة انهزموا و خرج الصفار و اتبعهم أصحاب الموفق و غنموا من عسكره نحوا من عشرة آلاف من الظهر و من الأموال و المسك ما يؤد حمله و كان محمد بن طاهر معتقلا في العسكر منذ قبض عليه بخراسان فتخلص ذلك اليوم و جاء إلى الموفق و خلع عليه و ولاه الشرطة ببغداد و سار الصفار إلى خوزستان فنزل جند يسابور و راسله صاحب الزنج على الرجوع و يعده المساعدة فكتب له { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون } السورة و كان ابن و اصل قد خالف الصفار إلى فارس و ملكها فكتب إليه المعتمد بولايتها و بعث إليه الصفار جيشا مع عمر بن السري من قواده فأخرجه عنها و ولى على الأهواز محمد بن عبيد الله بن هزار مرد الكردي ثم رجع المعتمد إلى سافرا و الموفق إلى واسط و اعتزم الموفق على اتباع الصفار فقعد به المرض عن ذلك و عاد إلى بغداد و معه مسرور البلخي و أقطعه ما لأبي الساج من الضياع و المنازل و قدم معه محمد بن طاهر فقام بولاية الشرطة ببغداد (4/422)
انتقاض الخجستاني بخراسان على يعقوب الصفار و قيامه بدعوة بني طاهر
كان من أصحاب محمد بن طاهر و رجالاته أحمد بن عبد الله بن خجستان و كان متوليا على و هي من جبال سراة و أعمال باذغيس فلما استولى الصفار على نيسابور و خراسان انضم أحمد هذا إلى أخيه علي بن الليث و كان شركب الحمال قد تغلب على مرو و نواحيها سنة تسع و خمسين و مائتين و تغلب على نيسابور سنة ثلاث و ستين و مائتين و أخرج منها الحسين بن طاهر و كان لشركب ثلاثة من الولد : إبراهيم و هو أكبرهم و أبو حفص يعمر و أبو طلحة منصور و كان إبراهيم قد أبلى في واقعة المغار مع الحسن بن زيد بجرجان فقدمه الصفار و حسده أحمد الخجستاني فخوفه عادية الصفار و زين له الهرب و كان يعمر أخوه محاصرا لبعض بلاد بلخ فاتفق إبراهيم و أحمد الخجستاني في الخروج إلى يعمر و سبقه إبراهيم إلى الموعد و لم يلقه فسار إلى سرخس و لما عاد الصفار إلى سجستان سنة إحدى و ستين و مائتين ولى على هراة أخاه عمرو بن الليث فاستخلف عليها طاهر بن حفص الباذغيسي و جاء الخجستاني إلى علي بن الليث و زين له أن يقيم بخراسان نائبا عنه في أموره و أقطاعه فطلب ذلك من أخيه يعقوب فأذن له فلما ارتحلوا عن خراسان جمع أحمد الخجستاني و أخرج علي بن الليث من بلده سنة إحدى و ستين و مائتين و ملك تونس و أعاد دعوة بني طاهر و ملك نيسابور سنة اثنتين و ستين و استقدم رافع بن هرثمة من رجالات بني طاهر فجعله صاحب جيشه و سار إلى هراة فملكها من يد طاهر بن حفص و قتله ثم قتل يعمر بن شركب و استولى على خراسان و محا منها دعوة يعقوب بن الليث ثم جاء الحسن بن طاهر أخو محمد بأصفهان ليخطب له فأبى فخطب له أبو طلحة بن شركب بنيسابور و انتقض الخجستاني و اضطربت خراسان فتنة و زحف إليها الحسن بن زيد فقاتلوه و هزموه ثم ملك نيسابور من يد عمرو بن الليث و ترك الخطبة لمحمد بن طاهر و خطب للمعتمد و لنفسه من بعده كما هو مشروح في أخبار الخجستاني (4/423)
استيلاء الصفار على الأهواز
قد تقدم لنا استيلاء الصفار على فارس بعد خراسان ثم سار منها إلى الأهواز و كان أحمد بن لسوقة قائد مسرور البلخي على الأهواز قد نزل تستر فرحل عنها و نزل يعقوب جنديسابور و فرت عساكر السلطان من تلك النواحي و بعث يعقوب بالخضر ابن العين إلى الأهواز و علي بن أبان و الزنج يحاصرونها فتأخروا عنها إلى نهر السدرة و دخل الخضر الأهواز و ملكها بدعوة الصفار و كان عسكره و عسكر الزنج يغير بعضهم على بعض ثم أوقع الزنج بعسكره و لحق الخضر بعسكر مكرم و استخرج ابن أبان ما كان في الأهواز و رجع إلى نهر السدرة و بعث يعقوب الإمداد إلى الخضر و أمره بالكف عن قتال الزنج و المقام بالأهواز فوادع الزنج و شحن الأهواز بالأقوات و أقام (4/424)
وفاة يعقوب الصفار و ولاية عمرو أخيه
ثم توفي يعقوب الصفار في شوال سنة خمس و ستين بعد أن افتتح الزنج و قتل ملكها و أسلم أهلها على يده و كانت مملكة واسعة الحدود و افتتح زابلستان و هي غزنة و أعمالها و كان المعتمد قد استماله و ولاه على سجستان و السند ثم تغلب على كرمان و خراسان و فارس و ولاه المعتمد على جميعها و لما مات قام مكانه أخوه عمرو بن الليث و كتب إلى المعتمد بطاعته فولاه الموفق من قبل أعمال أخيه و هي خراسان و أصفهان و سجستان و السند و كرمان و الشرطة ببغداد و بعث إليه بالخلع فولى عمرو بن الليث على الشرطة ببغداد و سر من رأى من قبله عبيد الله بن عبد الله بن طاهر و خلع عليه الموفق و عمرو بن الليث و ولى على أصفهان من قبله أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف و ولى على طريق مكة و الحرمين محمد بن أبي الساج (4/425)
مسير عمرو بن الليث إلى خراسان لقتال الخجستاني
قد تقدم ذكر الخجستاني و تغلبه على نيسابور و هراة بدعوة بني طاهر سنة اثنتين و ستين و مائتين فلما توفي يعقوب سار عمرو إلى خراسان سنة خمس و ستين و مائتين و استولى على هراة و سار الخجستاني بنيسابور فقاتله فانهزم عمرو و رجع إلى هراة و كان الفقهاء بنيسابور يشيعون لعمور لولاية الخليفة إياه فأوقع الخجستاني الفتنة بينهم بالميل إلى بعضهم و تكرمتهم عن بعض ليشغلهم بها ثم سار إلى هراة سنة سبع و ستين و مائتين و حاصر عمرو بن الليث فلم يظفر بشيء فتركه و خالفه إلى سجستان و وثب أهل نيسابور بنائبه عليهم و أمدهم عمرو بن الليث بجنده فقبضوا على نائب الخجستاني و أقاموا بها و رجع الخجستاني من سجستان فأخرجهم و ملكها و كان أبو منصور طلحة بن شركب محاصرا لبلخ من قبل ابن طاهر و كاتبه عمرو بن الليث و استقدمه و أعطاه أموالا و استخلفه على خراسان و رجع إلى سجستان و بقي أبو طلحة بخراسان و الخجستاني يقاتله إلى أن قتل الخجستاني سنة ثماني و ستين و مائتين قتله بعض مواليه كما مر في أخباره مع رافع بخراسان كان رافع بن هرثمة من قواد بني طاهر بخراسان فلما ملكها يعقوب سار إليه و استقر في منزله بتامين من قرى باذغيس فلما قتل الخجستاني اجتمع الجيش على رافع و هو بهراة فأقروه عليهم و كان أبو طلحة بن شركب قد سار من جرجان إلى نيسابور فسار إليه رافع و حاصرها و خرج عنها أبو طلحة إلى مرو و خطب بها و بهراة لمحمد بن طاهر و ولى على هراة من قبله ثم زحف إليه عمرو بن الليث فغلبه عليها و ولى عليها محمد بن سهل بن هاشم و رجع و بعث أبو طلحة إلى إسمعيل بن أحمد يستنجده فأنجده بعسكر سار بهم إلى مرو و أخرج منها محمد بن سهل و خطب لعمرو بن الليث و ذلك في شعبان سنة إحدى و سبعين و مائتين ثم عزل المعتمد عمرو بن الليث عن سائر أعمال خراسان و قلدها الموفق محمد بن طاهر و هو مقيم ببغداد فاستخلف محمد عليها رافع بن هرثمة و أقر نصر بن محمد أحمد الساماني على ما وراء النهر فسار رافع إلى إسمعيل يستنجده على أبي طلحة فجاءه في أربعة آلاف إلى مددا و استقدم رافع أيضا علي بن الحسين المروروذي و ساروا جميعا إلى أبي طلحة و هو بمرو سنة اثنتين و سبعين و مائتين و غلبوه عليها و لحق بهراة و عاد إسمعيل إلى خوارزم فجبى أموالها و رجع إلى نيسابور (4/425)
حروب عمرو مع عساكر المعتمد و مع الموفق
و لما عزل المعتمد عمرو بن الليث عن خراسان أمر بلعنه على المنابر و أعلم حاج خراسان بذلك و قلد محمد بن طاهر أعمالها فاستخلف عليها رافع بن الليث و كتب المعتمد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بعزله عن أصفهان و الري و بعث إليه العساكر لقتاله سنة إحدى و سبعين و مائتين فزحف إليه عمرو في خمسة عشر ألفا من المقاتلة فهزمه أحمد بن عبد العزيز و العساكر و استباحوا معسكره و دفعوه عن أصفهان و الري و كان المعتمد لما عزله و لعنه بعث صاعد بن مخلد في العساكر إلى فارس لقتال عمرو بن الليث و إخراجه من فارس فسار لذلك و لم يظفر و رجع سنة اثنتين و سبعين و مائتين ثم سار الموفق سنة أربع و سبعين و مائتين إلى فارس لحرب عمرو ابن الليث فسير عمرو قائده عباس بن إسحاق إلى شيراز و ابنه محمد بن عمرو إلى أرجان و بعث على مقدمته أبا طلحة بن شركب صاحب جيشه فاستأمن أبو طلحة إلى الموفق و فت ذلك في عضد عمرو و خام عن لقائه و سار الموفق إلى شيراز و ارتاب بأبي طلحة فقبض عليه و ملك الموفق فارس و عاد عمرو إلى كرمان فسار الموفق في طلبه فلحق بسجستان على المفازة و توفي ابنه محمد بن عمرو بها و امتنعت كرمان و سجستان على الموفق فعاد إلى بغداد و ارتاب عمرو بن الليث بأخيه علي فحبسه بكرمان و حبس معه ابنه المعدل و الليث فهربوا من محبسهم و لحقوا برافع ابن الليث عندما ملك طبرستان و جرجان من محمد بن زيد العلوي سنة سبع و سبعين و مائتين فأقاموا عنده و هلك علي بن الليث و بقي ولداه عنده ثم رضي المعتمد عن عمرو بن الليث و ولاه الشرطة ببغداد و كتب اسمه على الأعلام و الترسة سنة ست و سبعين و مائتين و استخلف في الشرطة عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ثم سخطه لسنة و محا اسمه من الأعلام (4/426)
ولاية عمرو بن الليث على خراسان ثانيا و مقتل رافع بن الليث
ثم سخط المعتمد رافع بن الليث لامتناعه عن تخلية قرى السلطان بالري بعد أن أمره بذلك فكتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بمحاربة رافع و إخراجه عن الري و كتب إلى عمرو بن الليث بولاية خراسان و حارب أحمد بن عبد العزيز سنة ثمانين و مائتين فقاتل أخويه عمر و بكر ابني عبد العزيز فهزمهما إلى أصفهان و أقام بالري باقي سنته ثم سار إلى أصفهان فملكها سنة إحدى و ثمانين ومائتين و عاد إلى جرجان و وافى عمرو بن الليث خراسان واليا عليها بجموعه و تورط رافع بن ا لليث و رجع إلى مصالحة محمد بن زيد و يعيد إليه طبرستان فصالح محمد بن زيد و خطب له بطبرستان سنة اثنتين و ثمانين و مائتين على أن يمده بأربعة آلاف من الديلم و سار عن طبرستان إلى نيسابور سنة ثلاث و ثمانين و مائتين فحاربه عمرو و هزمه إلى أبيورد و أخذ منه المعدل و الليث ابني أخيه ثم أراد رافع المسير إلى هراة فأخذ عليه عمرو الطريق لسرخس و سرب رافع في المضايق و نكب عن جمهور الطريق فدخل نيسابور و حاصره فيها عمرو بن الليث ثم برز للقائه و استأمن بعض قواد رافع إلى عمرو فانهزم رافع و أصحابه و بعث إلى محمد بن وهب يستمده كما شرط له و كان عمرو قد حذر محمد بن زيد من إمداده فأقصر من ذلك و تفرق عن رافع أصحابه و غلمانه و كانوا أربعة آلاف غلام و فارقه محمد بن هرون إلى أحمد بن إسمعيل بن سمان ببخاري و خرج رافع منهزما إلى خوارزم في فل من العسكر و حمل بقية المال و الآلة و ذلك في رمضان سنة ثلاث و ثمانين و مائتين فلما رآه صاحب خوارزم أبو سعيد الغرغاني في قلة من العسكر غدر به و قتله في أول شوال و حمل رأسه إلى عمرو بن الليث بنيسابور فأنفذه عمرو إلى بغداد فكتب إليه المعتضد بولاية الري مضافة إلى خراسان و أنفذ له الألوية و الخلع سنة أربع و ثمانين و مائتين (4/427)
استيلاء بني سامان على خراسان و هزيمة عمرو بن الليث و حبسه ثم مقتله
لما بعث عمرو بن الليث برأس رافع بن هرثمة إلى المعتضد طلب ولاية ما و راء النهر فولاه و بعث إليه بالخلع و اللواء فسرح عمرو الجيوش من نيسابور مع قائده محمد بن بشير و غيره من قواده لمحاربة إسمعيل بن أحمد و انتهوا إلى آمد فعبر إسمعيل جيحون و هزمهم و قتل محمد بن بشير و غيره من قواده و رجع الفل إلى عمرو بنيسابور و عاد إسمعيل إلى بخاري و تجهز للسير إلى إسمعيل و سار إلى بلخ و بعث إليه إسمعيل : إنك قد حزت الدنيا العريضة فاتركني في هذا الثغر فأبى و عبر إسمعيل و أخذ عليه الجهات فصار محصورا و ندم و طلب المحاجزة فأبى إسمعيل و قاتله فانهزم عمرو و نكب عن طريق العسكر إلى مضيق ينفرد فيه و توارى في أجمة فوحلت به دابته و لم يتفطن له أصحابه فأخذ أسيرا و بعث به إسمعيل إلى المعتضد بعد أن خيره فاختار المسير إليه و وصل إلى بغداد سنة ثمان و ثمانين و مائتين و أدخل على جمل و حبس و بعث المعتضد إلى إسمعيل بولايته خراسان إلى أن توفي المعتضد وجاء المكتفي إلى بغداد و كان في نفسه إصطناعه و كره ذلك وزير القاسم بن عبيد الله فوضع عليه من قتله سنة تسع و ثمانين و مائتين (4/428)
ولاية طاهر بن محمد بن عمرو على سجستان و كرمان ثم على فارس
و لما أسر عمرو و سار إلى محبسه قام مكانه بسجستان و كرمان حافده طاهر بن محمد ابن عمرو و هو الذي مات أبوه محمد بمفازة سجستان عندما هرب عمرو أمام الموفق من فارس ثم سار طاهر إلى فارس و سار إليها في الجيوش سنة ثمان و ثمانين و مائتين و اعترضه بدر فعاد طاهر إلى سجستان و ملك بدر فارس و جبى أموالها ثم بعث طاهر بن محمد سنة تسع و ثمانين و مائتين يطلب المقاطعة على فارس بمال يحمله و كان المعتضد قد توفي فعقد له المكتفي عليها و تشاغل طاهر بالصيد و اللهو و مضى إلى سجستان فغلب على الأمر بفارس الليث ابن عمه علي بن الليث و سبكرى مولى جده عمرو و كان معهما أبو قابوس قائد طاهر فلحق بالخليفة المكتفي و كتب طاهر رده بما جباه من المال و يحتسب له من جملته فلم يجب إلى ذلك (4/429)
استيلاء الليث على فارس ثم مقتله و استيلاء سبكرى
و لما تغلب سبكرى على فارس لحق الليث بن علي بطاهر ابن عمه و زحف طاهر إلى فارس فهزمه السبكرى و أسره و بعث و بأخيه يعقوب إلى المقتدر سنة سبع و تسعين و مائتين و ضمن فارس بالحمل الذي كان قرره فولاه على فارس ثم زحف إليه الليث ابن علي بن الليث فملك فارس الليث للقائهم و جاءه الخبر بأن الحسين ابن حمدان صار من قم مددا لمؤنس فركب لاعتراضه و تاه الدليل عن الطريق فأصبح على معسكر مؤنس فثاروا و اقتتلوا و انهزم عسكر الليث و أخذ أسيرا و أشار أصحاب مؤنس بأن يقبض على سبكر معه و يملك بلاد فارس و يقره الخليفة فوعدهم بذلك و دس إلى سبكرى بأن يهرب إلى شيراز و أصبح يلوم أصحابه على ظهور الخبر من جهتهم و عاد بالليث إلى بغداد و استولى سبكر على فارس واستبد كاتبه عبد الرحمن بن جعفر على أموره فسعى فيه أصحابه عند سبكرى حتى قبض عليه و حملوه على العصيان فمنع الحمل فكتب هو من محبسه إلى الوزير ابن الفرات يعرفه بأمرهم و كتب ابن الفرات إلى مؤنس و هو بواسط يأمره بالعود إلى فارس و يعاتبه حيث لم يقبض على سبكرى فسار مؤنس إلى الأهواز و راسله سبكرى و هاداه و علم ابن الفرات بميل مؤنس إليه فأنفذ وصيفا و جماعة من القواد و معهم محمد بن جعفر و أمرهم بالتعويل عليه في فتح فارس و كتب إلى مؤنس باستصحاب الليث إلى بغداد ففعل و سار محمد بن جعفر إلى فارس و رافع سبكرى على شيراز فهزمه و حاصره بها و حاربه ثانية فهزمه و نهب أمواله و دخل سبكرى مفازة خراسان فظفرت به جيوش خراسان و أسروه و بعثوا به إلى بغداد و ولى على فارس فتح خادم الأفشين (4/429)
انقراض ملك بني الليث من سجستان و كرمان
و في سنة ثمان و تسعين و مائتين توفي فتح صاحب فارس فولى المقتدر مكانه عبد الله ابن إبراهيم المسمعي و أضاف إليه كرمان من أعمال بني الليث و سار أحمد بن إسمعيل ابن سامان إلى الري فبعث منها جيوشه إلى سجستان سنة ثمان و تسعين و مائتين مع جماعة من قواده و عليهم الحسن بن علي المروروذي و كانت سجستان لما أسر طاهر سنة سبع و تسعين و مائتين ولي بها بعده الليث بن علي بن الليث فلما أسر الليث كما تقدم ولي بعده أخوه المعدل بن علي بن الليث فلما بلغه مسير هذه العساكر إليه من قبل أحمد ابن إسمعيل بعث أخاه أبا علي بن الليث محمد بن علي بن الليث إلى بست و الرخج ليجبيهما و يبعث منهما إلى سجستان بالميرة فسار إليه أحمد بن إسمعيل بن سامان و على سجستان أبو صالح منصور ابن عمه إسحاق بن أحمد بن سامان لما بلغه مسير سبكر من فارس إلى سجستان في المفازة فبعث إليه جيشا فأخذه و كتب الأمير أحمد إلى المتقدر بالخبر و بالفتح فأمره بحمل سبكر و الليث فبعث بهما إلى بغداد و حبسهما (4/430)
ثورة أهل سجستان بأصحاب ابن سامان و دعوتهم إلى بني عمرو بن الليث بن الصفار ثم عودهم إلى طاعة أحمد بن إسمعيل بن سامان
كان محمد بن هرمز و يعرف بالمولى الصندلي خارجيا و هو من أهل سجستان خرج أيام بني سامان و أقام ببخاري و سخط بعض الأعيان بها فسار إلى سجستان و استمال جماعة من الخوارج رئيسهم ابن الحفار فخرجوا و قبضوا على منصور بن إسحاق عاملهم من بني سامان و حبسوه و ولوا عليهم عمرو بن يعقوب بن محمد بن الليث و خطبوا له فبعث أحمد بن إسمعيل الجيوش ثانيا مع الحسين بن علي سنة ثلثمائة و حاصرها ستة أشهر و مات الصندلي فاستأمن عمرو بن يعقوب الصفار و ابن الحفار إلى الحسين بن علي و خرج منصور بن إسحق من محبسه و استعمل أحمد ابن إسمعيل على سجستان سيمجور الدواني و رجع الحسين بالجيوش إلى الأمير أحمد و معه يعقوب و ابن الحفار في ذي الحجة سنة ثلثمائة (4/431)
استيلاء خلف بن أحمد بن علي على سجستان ثم انتقاضهم عليه
كان خلف بن أحمد من ذرية عمرو بن الليث الصفار و هو بسطة برسمه بانوا و لما فشل أمر بني سامان استولى على سجستان و كان من أهل العلم و يجالسهم ثم حج سنة ثلاث و خمسين و ثلثمائة و استخلف على أعماله طاهر بن الحسين من أصحابه فما عاد من الحج انتقض عليه طاهر بن الحسين من أصحابه فسار خلف إلى بخارى مستجيشا بالأمير منصور بن سامان فبعث معه العساكر و ملك سجستان و كثرت أمواله و جنوده و قطع ما كان يحمله إلى بخارى فسارت العساكر إليه و مقدمهم و حاصروا خلف بن أحمد في حصن أوال من أمنع الحصون و أعلاها و لما اشتد به الحصار و فنيت الأموال و الآلات كتب إلى نوح بن منصور صاحب بخارى بأن يستأمنه و يرجع إلى دفع الحمل فكتب نوح بن منصور إلى أبي الحسن بن سيمجور عامله على خراسان و قد عزل بالمسير إلى حصار خلف فسار من قهستان إلى سجستان و حاصر خلف و كانت بينهما مودة فأشار عليه سيمجور بتسليم حصن أوال للحسن لتتفرق الجيوش عنه إلى بخارى و يرجع هو إلى شأنه مع صاحبه فقبل خلف مشورته و دخل سيمجور إلى حصن أوال و خطب فيه للأمير نوح ثم سلمه للحسن بن طاهر و انصرف إلى بخارى و كان هذا أول وهن دخل على بني سامان من سوء طاعة أصحابهم (4/432)
استيلاء خلف بن أحمد على كرمان ثم انتزاع الديلم لها
و لما استفحل أمر خلف بسجستان حدث نفسه بملك كرمان و كانت في أيدي بني بويه و ملكهم يومئذ عضد الدولة فلما وهن أمرهم و وقع الخلف بين صمصام الدولة و بهاء الدولة ابني عضد الدولة جهز العساكر إلى كرمان و عليهم عمرو ابنه و قائدهم يومئذ تمرتاش من الديلم فلما قاربها عمرو هرب تمرتاش إلى بردشير و حمل ما أمكنه و غنم عمرو الباقي و ملك كرمان و جبى الأموال و كان صمصام الدولة صاحب فارس فبعث العساكر إلى تمرتاش مع أبي جعفر و أمره بالقبض عليه لاتهامه بالميل إلى أخيه بهاء الدولة فسار و قبض عليه و حمله إلى شيراز و سار بالعساكر إلى عمرو بن خلف فقاتله عمرو بدار زين و انهزم الديلم و عادوا على طريق جيرفت و بعث صمصام الدولة عسكرا آخر مع العباس بن أحمد من أصحابه فلقوا عمرو بن خلف بالسيرجان في المحرم سنة اثنتين و ثمانين و ثلثمائة فهزموه و عاد إلى أبيه بسجستان مهزوما و وبخه ثم قتله ثم عزل صمصام الدولة العباس عن كرمان فأشاع خلف بأن أستاذ هرمز سمه و استنفر الناس لغزو كرمان و بعثهم مع ابنه طاهر فانتهوا إلى برماشير و ملكوها من الديلم و لحق الديلم بجيرفت و اجتمعوا بها و بعثوا بها إلى بردشير حامية من العسكر و هو أصل بلاد كرمان و مصرها فحصرها طاهر ثلاثة أشهر و ضيق على أهلها و كتبوا إلى أستاذ هرمز يستمدونه قبل أن يغلبهم عليها طاهر فخاطر بنفسه و كتب إليهم المضايق و الأوعار حتى دخلها وعاد طاهر إلى سجستان و استنفر الناس لغزو الديلم بجيرفت و اجتمعوا بها و بعثوا إلى بردشير حامية من العسكر و هو أصل بلاد كرمان و ذلك سنة أربع و ثمانين و ثلثمائة (4/433)
استيلاء طاهر بن خلف على كرمان و عوده عنها و مقتله
كان طاهر بن خلف من العقوق لأبيه على عظيم و انتقض عليه و جرت بينهما وقائع كان الظفر بها لخلف ففارق طاهر سجستان و سار إلى كرمان و بها الديلم عسكر بهاء الدولة فصعد إلى جبالها و احتمى بقوم هنالك كانوا عصاة و نزل على جيرفت فملكها و لقيه الديلم فهزمهم و استوف على الكثير مما بأيديهم فبعث بهاء الدولة عسكرا مع أبي جعفر بن أستاذ هرمز فغلب طاهرا على كرمان فعاد إلى سجستان و قاتل أباه فهزمه و ملك البلاد و امتنع أبوه خلف ببعض حصونه و كان الناس قد سئموا منه لسوء سيرته فرجع إلى مخادعة ابنه فتواعد اللقاء تحت القلعة و أكمن له بالقرب كمينا فلما لقيه الكمين و استمكن منه أبوه خلف فقتله أبوه (4/434)
استيلاء محمود بن سبكتكين على سجستان و محو آثار بني الصفار منها
كان خلف بن أحمد قد بعث ابنه طاهرا إلى قهستان فملكها ثم إلى بوشنج كذلك و كانت هي و هراة لبغراجق عم محمود و كان محمود مشتغلا بالفتنة مع قراد بني سامان فلما فرغ منها استأذنه عمه في إخراج طاهر بن خلف فأذن له و سار إليه سنة تسعين و ثلثمائة و لقيه بنواحي بوشنج فهزمه ولج في طلبه فكر عليه طاهر و قتله فساء ذلك محمودا و جمع عساكره و سار إلى خلف بن أحمد و حاصره بحصن أصبهيل و ضيق عليه حتى بذل له أموالا جليلة و أعطاه الرهن عليها فأفرج عنه ثم عهد خلف بملكه إلى ابنه و عكف على العبادة و العلم خوفا من محمود بن سبكتكين فلما استولى طاهر على الملك عق أباه و كان من أمره ما تقدم و لما قتل طاهر تغيرت نيات عساكره و ساءت فيه ظنونهم و استدعوا محمود بن سبكتكين و ملكوه مدينتهم و قعد خلف في حصنه و هو حصن الطاق له سبعة أسوار محكمة و عليها خندق عتيق له جسر يرفع و يحط عند الحاجة فحاصره محمود سنة ثلاث و تسعين و ثلثمائة و طم الخندق بالأعواد و التراب في يوم واحد و زحف لقتاله بالفيول و تقدم عظيمها فاقتلع باب الحصن بنابه و ألقاه و ملك محمود السور الأول و دفع عنه أصحاب خلف إلى السور الثاني ثم إلى الثالث كذلك فخرج خلف و استأمن و حضر عنده محمود و خيره في المقام حيث شاء من البلاد فاختار الجوزجان و أقام بها أربع سنين ثم نقل عنه الخوض في الفتنة و أنه راسل أيلدخان يغريه بمحمود فنقله إلى جردين و حبسه هنالك إلى أن هلك سنة تسع و تسعين و ثلثمائة و ورثه ابنه أبو حفص و لما ملك محمود سجستان و استنزل خلف من حصن الطاق ولى على سجستان أحمد الفتحي من قواد أبيه ثم انتقض أهل سجستان فسار إليهم محمود سنة ثلاث و تسعين و ثلثمائة في ذي الحجة و حصرهم في حصن أوال و اقتحمه عليهم عنوة و قتل أكثرهم و سبى باقيه حتى خلت سجستان منهم و صفا ملكها له فأقطعها أخاه نصرا مضافة إلى نيسابور و انقرض ملك بني الصفار و ذويهم من سجستان و البقاء لله وحده (4/434)
الخبر عن دولة بني سامان ملوك ما وراء النهر المقيمين بها الدولة العباسية و أولية ذلك و مصائره
أصل بني سامان هؤلاء من العجم كان جدهم أسد بن سامان من أهل خراسان و بيوتها و ينتسبون في الفرس إلى بهرام حشيش الذي ولاه كسرى أنوشروان مرزبان أذربيجان و بهرام حشيش من أهل الري و نسبهم إليه هكذا أسد بن سامان خذاه بن جثمان بن طغان بن نوشردين بن بهرام نجرين بن بهرام حشيش و لا وثوق لنا بضبط هذه الأسماء و كان لأسد أربعة من الولد : نوح و أحمد و يحيى و الياس و أصل دولتهم هذه فيما وراء النهر أن المأمون لما ولي خراسان اصطنع بني أسد هؤلاء و عرف لهم حق سلفهم و استعملهم فلما انصرف إلى العراق ولى على خراسان غسان بن عباد من قرابة الفضل بن طاهر مكان ابنه إسحاق و محمد بن الياس ثم مات أحمد بن أسد بفرغانة سنة إحدى و ستين و كان له من الولد سبعة : نصر و يعقوب و يحيى و إسمعيل و إسحاق و أسد و كنيته أبو الأشعث و حميد و كنيته أبو غانم و لما توفي أحمد و كانت سمرقند من أعماله استخلف عليها ابنه نصرا و أقام في ولايتها أيام بني طاهر و بعدهم و كان يلي أعماله من قبل ولاة خراسان إلى حين انقراض أمر بني طاهر و استولى الصفار على خراسان (4/435)
ولاية نصر بن أحمد على ما وراء النهر
و لما استولى الصفار على خراسان و انقرض أمر بني طاهر عقد المعتمد لنصر بن أحمد على ما وراء النهر فبعث جيوشه إلى شط جيحون مسلحة من عبور الصفار فقتل مقدمهم و رجعوا إلى بخارى و خشيهم واليها على نفسه ففر عنها و ولوا عليهم ثم عزلوا ثم ولوا ثم عزلوا فبعث نصر أخاه إسمعيل على شط بخارى و كان يعظم محله و يقف في خدمته ثم ولى على غزنة أبا إسحاق بن التكين ثم ولى على خراسان من بعد ذلك رافع بن هرثمة بولاية بني طاهر و أخرج عنها الصفار و حصلت بينه و بين إسمعيل أعمال خوارزم فولاه إياها و فسد ما بين إسمعيل و أخيه نصر و زحف إليه سنة اثنتين و سبعين فأرسل قائده حمويه بن علي إلى رافع يستنجده فسار إليه بنفسه منها و أصلح بينهما و رجع إلى خراسان ثم انتقض ما بينهما و تحاربا سنة خمس و سبعين و ظفر إسمعيل بنصر و لما حضر عنده ترجل له إسمعيل و قبل يده و رده إلى كرسي إمارته بسمرقند و أقام نائبا عنه ببخارى و كان إسمعيل خيرا مكرما لأهل العلم و الدين (4/436)
وفاة نصر بن أحمد و ولاية أخيه إسمعيل على ما وراء النهر
ثم توفي نصر سنة تسع و سبعين و مائتين و قام مكانه في سلطان ما وراء النهر أخوه إسمعيل و ولاه المعتضد ثم ولاه خراسان سنة سبع و ثمانين و مائتين و كان سبب ولايته على خراسان أن عمرو بن الليث كان المعتضد ولاه خراسان و أمره بحرب رافع بن هرثمة فحاربه و قتله و بعث برأسه إلى المعتضد و طلب منه ولاية ما وراء النهر فولاه و سير العساكر لمحاربة إسمعيل بن أحمد مع محمد بن بشير من خواصه فانتهوا إلى آمد بشط جيحون و عبر إليهم إسمعيل فهزمهم و قتل محمد بن بشير و رجع إلى بخارى فسار عمرو بن الليث من نيبسابور إلى بلخ يريد العبور إلى ما وراء النهر فبعث إليه إسمعيل يستعطفه بأن الدنيا العريضة في يدك و إنما لي هذا الثغر فأبى و لج و عبر إسمعيل النهر و أحاط به و هو على نجد فصار محصورا و سأل المحاجزة فأبى إسمعيل و قاتله فهزمه و أخذه بعض العسكر أسيرا و بعث به إلى سمرقند ثم خيره في إنفاذه إلى المعتضد فاختاره فبعث به إليه و وصل إلى بغداد سنة ثمان و ثمانين و مائتين و أدخل على جمل و حبس و أرسل المعتضد إلى إسمعيل بولاية خراسان كما كانت لهم فاستولى عليها و صارت بيده و لما قتل عمرو بن الليث طمع محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان و الديلم في ملك خراسان فسار إليها و هو يظن أن إسمعيل بن أحمد لا يريدها و لا يتجاوز عمله فلما سار إلى جرجان و قد و صل كتاب المعتضد إلى إسمعيل بولاية خراسان فكتب إليه ينهاه عن المسير إليها فأبى فسرح إليه محمد بن هرون قائد رافع و كان قد فارقه عند هزيمته و مقتله و لحق بإسمعيل فسرحه في العساكر لقتل محمد بن زيد العلوي و لقيه على بخرجان فانهزم محمد بن زيد و غنم ابن هرون عسكره و أصابت محمد بن زيد جراحات هلك لأيام منها و أسر ابنه زيد فأنزله إسمعيل بخارى و أجرى عليه و سار محمد بن هرون إلى طبرستان فملكها و خطب فيها لإسمعيل و ولاه إسمعيل عليها (4/436)
استيلاء إسماعيل على الري
كان محمد بن هرون قد انتقض في طبرستان على إسمعيل و خلع دعوة العباسية و كان الوالي على أهل الري من قبل المكتفي أغرتمش التركي و كان سيء السيرة فيهم فاستدعوا محمد بن هرون من طبرستان فسار إليها و حارب أغرتمش فقتله و قتل ابنين له و أخاه كيغلغ من قواد المكتفي و استولى على الري فكتب المكتفي إلى إسمعيل بولاية الري و سار إليها فخرج محمد بن هرون عنها إلى قزوين و زنجان و عاد إلى طبرستان و استعمل إسمعيل بولاية الذين على جرجان فارس الكبير و ألزمه بإحضار محمد بن هرون فكاتبه فارس و ضمن له إصلاح حاله فقبل قوله و انصرف عن حسان الديلمي إلى بخارى في شعبان سنة تسعين و مائتين ثم قبض في طريقه و أدخل إلى بخارى مقيدا فحبس بها و مات لشهرين (4/437)
وفاة إسمعيل بن أحمد و ولاية ابنه أحمد
ثم توفي إسمعيل بن أحمد صاحب خراسان و ما وراء النهر في منتصف سنة خمس و تسعين و مائتين و كان يلقب بعد موته بالماضي و ولي بعده أبو نصر أحمد و بعث إليه المكتفي بالولاية و عقد له لواءه بيده و كان إسمعيل عادلا حسن السيرة حليما و خرجت الترك في أيامه سنة إحدى و تسعين و مائتين إلى ما وراء النهر في عدد لا يحصى يقال كان معهم سبعمائة قبة و هي لا تكون إلا للرؤساء فاستنفر لهم إسمعيل الناس و خرج من الجند و المتطوعة خلق كثير و خرجوا إلى الترك و هم غارون فكبسوهم مصبحين و قتلوا منهم ما لا يحصى و انهزم الباقون و استبيح عسكرهم و لما مات ولي ابنه أبو نصر أحمد و استوثق أمره ببخارى بعث عن عمه إسحاق بن أحمد من سمرقند فقبض عليه و حبسه ثم عبر إلى خراسان و نزل نيسابور و كان فارس الكبير مولى أبيه عاملا على جرجان و كان ظهر له أن أباه عزله عن جرجان بفارس هذا و كان فارس قد ولي الري و طبرستان و بعث إلى إسمعيل ابن أحمد بثمانين حملا من المال فما سمع بوفاة إسمعيل استردها من الطريق و حقد له أبو نصر ذلك كله فخافه فارس فما نزل أبو نصر نيسابور كتب فارس إلى المكتفي يستأذنه في المسير إليه و سار في أربعة آلاف إلى فارس و أتبعه أبو نصر فلم يدركه و تحصن منه عامل أبي نصر بالري و وصل إلى بغداد فوجد المقتدر قد ولي بعد المكتفي و قد وقعت حادثة ابن المعين فولاه المقتدر ديار ربيعة و بعثه في طلب بني حمدان و خشى أصحاب المقتدر أن يتقدم عليهم فوضعوا عليه غلاما له فسمه و مات بالموصل و تزوج الغلام امرأته (4/438)
استيلاء أحمد بن إسمعيل على سجستان
كانت سجستان في ولاية الليث بن علي بن الليث و خرج إلى طلب فارس فأسره مؤنس الخادم و حبس ببغداد و ولى على سجستان أخوه المعدل ثم سار أبو نصر أحمد بن إسمعيل سنة سبع و تسعين من بخارى إلى الري ثم إلى هراة و طمع في ملك سجستان فبعث إليه العسكر في محرم سنة ثمان و تسعين مع أعيان قواده : أحمد بن سهل و محمد بن المظفر و سيمجور الدواتي و الحسين بن علي المروروذي فلما بلغ الخبر إلى المعدل بعث أخاه محمد بن علي إلى بست و الزنج فحاصرته العساكر بسجستان و سار أحمد بن إسمعيل إلى بست فملكها و أسر محمد بن علي و بلغ الخبر إلى المعدل فاستأمن إلى الحسين فملكها و حمل المعدل معه إلى بخارى و ولى الأمير على سجستان أبا صالح منصور بن عمه إسحاق بن أحمد و كان قد قبض على إسحق لأول ولايته ثم أطلقه الآن و أعاده إلى سمرقند و فرغانة و قد كان سبكرى هزمته عساكر المقتدر بفارس و خرج إلى مفازة سجستان فبعث الحسين عسكرا لاعتراضه و أخذ أسيرا و بعثوا به و بمحمد بن علي إلى بغداد و بعث المقتدر إلى أحمد بالخلع و الهدايا ثم انتقض أهل سجستان على سيمجور الدواتي و ولوا منصور ابن عمه إسحاق على نيسابور (4/439)
مقتل أبي نصر أحمد بن إسمعيل و ولاية ابنه نصر
ثم قتل أبو نصر أحمد صاحب خراسان و ما وراء النهر آخر جمادى الآخرة سنة إحدى و ثلثمائة و كان مولعا بالصيد فخرج إلى بربر متصيدا و كان له أسد يربط كل ليلة على باب خيمته فأغفل ليلة فعدا عليه بعض غلمانه و ذبحوه على سريره و حمل إلى بخارى فدفن بها و لقب الشهيد و قتل من وجد من أولئك الغلمان و ولي الأمير مكانه ابنه أبا الحسن نصر بن أحمد و هو ابن ثمان سنين و لقب السعيد و تولى الأمور له أصحاب أبيه ببخارى و حمله على عاتقه أحمد بن الليث مستولي الأمور و انتقض عليه أهل سجستان و عم أبيه إسحاق بن أحمد بسمرقند و ابناه منصور و الياس و محمد بن الحسين و نصر بن محمد و أبو الحسين بن يوسف و الحسن بن علي المروروذي و أحمد بن سهل و ليلى بن النعمان من الديلم صاحب العلويين بطبرستان و معه سيمجور و أبو الحسين بن الناصر الأطروش و قراتكين و خرج عليه إخوته يحيى و منصور و إبراهيم بنو أبيه و جعفر بن داود و محمد بن الياس و مرداويج و وشمكير ابنا زياد من أمراء الديلم و كان السعيد نصر مظفرا على جميعهم (4/439)
انتقاض سجستان
و لما قتل أحمد بن إسمعيل انتقض أهل سجستان و بايعوا للمقتدر و بعثوا إليه و أخرجوا سيجور الدواتي فأضافها المقتدر إلى بدر الكبير و أنفذ إليها الفضل بن حميد و أبا يزيد من قبل السعيد نصر و سعيد الطالقاني بغزنة كذلك فقصدها الفضل و خالد و استوليا على غزنة و بسنة و قبضا على سعيد الطالقاني و بعثا به إلى بغداد و هرب عبيد الله الجهستاني ثم اعتل الفضل و انفرد خالد بالأمور ثم انتقض فأنفذ إليه المقتدر أخا نجح الطولوني فهزمه خالد و سار إلى كرمان فأنفذ إليه بدر الجيش فأخذ أسيرا و مات و حمل إلى بغداد (4/440)
انتقاض إسحق العم و ابنه الياس
كان إسحق بن أحمد عم الأمير أحمد بن إسمعيل واليا على سمرقند فما بلغه مقتل الأمير أحمد و ولاية ابنه السعيد نصر دعا لنفسه بسمرقند و تابعه ابنه الياس على ذلك و ساروا إلى بخارى فبرز إليهم القائد حمويه بن علي فهزمهم إلى سمرقند ثم جمعوا و عادوا فهزمهم ثانية و ملك سمرقند من أيديهم عنوة و اختفى إسحق و جد حمويه في طلبه فضاق به مكانه و استأمن إلى حمويه و حمله إلى بخارى و أقام بها إلى أن هلك و لحق الياس بفرغانة فأقام بها إلى أن خرج ثانية كما يأتي (4/441)
ظهور الأطروش و استيلاؤه على طبرستان
قد تقدم لنا في أخبار العلوية شأن دولة الأطروش و بنيه بطبرستان و هو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمرو بن علي بن الحسن السبط و أنه استعمل الأمير أحمد على طبرستان مكانه أبا العباس أحمد عبد الله بن محمد بن نوح فأحسن السيرة و عدل في الرعية و أكرم العلوية و بالغ في الإكرام و الإحسان إليهم و استمال رؤساء الديلم و هاداهم و كان الحسن الأطروش قد دخل إليهم بعد قتل محمد بن زيد و أقام فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام و يقتصر منهم على العشر و يدافع عنهم ملكهم ابن حسان فأسلم منهم خلق كثير و اجتمعوا إليه و بنى في بلادهم المساجد و دعاهم للمسير معه إلى طبرستان فلم يجيبوه إلى ذلك ثم عزل أبو العباس و تولى سلام فلم يحسن سياسة الديلم فخرجوا عليه و قاتلوه فهزمهم و استعان بالأمير أحمد السعيد فأعاد الأمير أحمد إليها ابن نوح فاستعمل عليها أبا العباس محمد بن إبراهيم صعلوك ففسد ما بينه و بين الديلم بإساءة السيرة و عدم السياسة فطلبهم الأطروش في الخروج معه فخرجوا و لقيهم ابن صعلوك على مرحلة من سالوس و هي ثغر طبرستان فانهزم و قتل من أصحابه أربعة آلاف و حصر الأطروش الباقين ثم أمنهم و عاد إلى آمد و سار إليهم الحسن بن القاسم العلوي الداعي صهر الأطروش فقتلهم متعللا عليهم فأنه لم يحضر لعهدهم و استولى الأطروش على طبرستان سنة إحدى و ثلثمائة أيام السعيد نصر و خرج صعلوك إلى الري متعللا عليهم و منها إلى بغداد و كان الذين أسلموا على يد الأطروش الديلم من وراء أسفيجاب إلى آمد فيهم شيعة زيدية و كان الأطروش زيديا و خرجت طبرستان يومئذ من ملك بني سامان (4/441)
انتقاض منصور بن إسحق العم و الحسين و المروروذي
كان الأمير أحمد بن إسمعيل لما افتتح سجستان ولى عليها منصور ابن عمه إسحق و كان الحسين بن علي هو الذي تولى فتحها و طمع في ولايتها ثم افتتحها ثانيا كما ذكرنا فوليا سيجور الدواتي فاستوحش الحسين لذلك و داخل منصور بن إسحق في الانتقاض على أن تكون إمارة خراسان لمنصور و الحسين بن علي خليفته على أعماله فلما قتل الأمير أحمد انتقض الحسين بهراة و سار إلى منصور بنيسابور فانتفض أيضا و خطب لنفسه سنة اثنتين و ثلثمائة و سار القائد حمويه بن علي من بخارى في العساكر لمحاربتهما و مات منصور قبل و صوله فلما قارب حمويه نيسابور سار الحسين عنها إلى هراة و أقام بها و كان محمد بن جند على شرطته من مدة طويلة و بعث من بخارى بالنكير فخشي على نفسه و عدل عن الطريق إلى هراة فسار الحسين بن علي من هراة إلى نيسابور بعد أن استخلف عليها أخاه منصورا فملك نيسابور فسار إلى محاربته من بخارى أحمد بن سهل فحاصر هراة و ملكها من منصور على الأمان ثم سار إلى نيسابور فحاصر بها الحسين و ملكها عنوة و أسر الحسين سنة اثنتين و ثلثمائة و أقام أحمد بن سهل بنيسابور و جاءه ابن جيد مزمر و قبض عليه و سيره و الحسين بن علي إلى بخارى فأما ابن جيد مزمر فسير إلى خوارزم و مات بها و أما الحسين فحبس ثم خلصه أبو عبد الله الجهاني مدبر الدولة و عاد إلى خدمة السعيد نصر (4/442)
انتقاض أحمد بن سهل بنيسابور و فتحها
كان الأمير أحمد بن سهل من قواد إسمعيل ثم ابنه أحمد ثم ابنه نصر بن أحمد قال ابن الأثير : و هو أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن جبلة بن كامكان بن يزدجرد بن شهربان الملك قال : و كان كامكان دهقان بنواحي مرو قال : و كان لأحمد إخوة ثلاثة و هم : محمد و الفضل و الحسين قتلوا في عصبية العرب و العجم و كان خليفة عمرو بن الليث على مرو فسخطه و حسبه بسجستان ثم فر من محبسه و لحق بمرو فملكها و استأمن إلى أحمد بن إسمعيل و قام بدعوته فاستدعاه إلى بخارى و أكرمه و رفع منزلته و نظمه في طبقة القواد و بقي في خدمته و خدمة بنيه فلما انتقض الحسين بن علي بنيسابور على السعيد نصر بن أحمد بن إسمعيل سنة اثنتين و ثلثمائة سار إليه أحمد بن سهل في العساكر و ظفر به كما مر و ولى السعيد نصر بن أحمد بن إسمعيل على نيسابور قراتكين مولاهم (4/443)
مقتل ليلى بن النعمان و مهلكه
كان ليلى بن النعمان من كبار الديلم و من قواد الأطروش و كان الحسن بن القاسم الداعي قد ولاه على جرجان سنة ثلاث و ثلثمائة و كان أولاد الأطروش يحلونه في كتابهم بالمؤيد لدين الله المنتصر لأولاد رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان كريما شجاعا و لما ولي جرجان سار إليه قراتكين و قاتله على عشرة فراسخ من جرجان فانهزم قراتكين و استأمن غلامه فارس إلى ليلى في ألف رجل من أصحابه فأمنه و أكرمه و زوجه أخته و استأمن إليه أبو القاسم بن حفص ابن أخت سهل و حرضه على المسير إلى نيسابور و بها قراتكين و كان أجناده قد كثروا و ضاقت عليهم الأموال فاستأذن الداعي في المسير إلى نيسابور فأذن له و سار إليها في ذي الحجة سنة ثمان و ثلثمائة فملكها و أقام بها الخطبة للداعي الحسين بن القاسم و أنفذ السعيد نصر العساكر من بخارى مع حمويه بن علي و محمد بن عبيد الله البلغمي و أبي جعفر صعلوك و خوارزم شاه و سيجور الدواتي فانهزم أكثر أصحاب حمويه و ثبت القواد و جالت العساكر جولة فانهزم ليلى و دخل آمد و لحقه بقراخان ملك الترك جاء مع العساكر مددا فقبض على ليلى في آمد و بعث إلى حمويه بذلك فبعث إليه من قطع رأس ليلى في ربيع سنة تسع و ثلثمائة و بعث به إلى بخارى و طلب قواد الديلم الذين كانوا مع ليلى الأمان فأمنوهم بعد أن أشار حمويه بقتلهم و الراحة منهم فلم يوافقوه و هؤلاء القواد هم الذين خرجوا بعد ذلك على الجهات و ملكوها مثل : أسفار و مرداويح و شبكين و بني بويه و ستأتي أخبارهم و بقي فارس غلام قراتكين بجرجان واليا عليها ثم جاءه قراتكين و استأمن إليه غلامه فارس فأمنه ثم قتله سنة ست عشرة و ثلثماثة و انصرف عن جرجان (4/443)
حرب سيجور مع ابن الأطروش
و لما قتل قراتكين غلامه سنة ست عشرة و ثلثمائة و انصرف عن جرجان سار إليها أبو الحسن بن ناصر الأطروش من استراباذ فملكها و أنفذ السعيد لحربه سيجور الدواتي في أربعة آلاف فارس فنزل على فرسخين من جرجان و خرج إليه أبو الحسن في ثمانية آلاف راجل من الديلم فاقتتلا و كان سيجور قد أكمن لهم و أبطأ عليه الكمين فانهزم و اتبعه سرخاب و شغل عسكر أبي الحسن بالنهب ثم خرج عليهم الكمين بعد ساعة فانهزم أبو الحسن و قتل من عسكره نحو من أربعة آلاف و ركب البحر إلى أستراباذ و اجتمع إليه فل من أصحابه و جاءه سرخاب بعد أن رجع عن سيجور و جمع عيال أصحابه و مخلفهم و قدم بهم و أقام سيجور بجرجان ثم مات سرخاب و رجع ابن الأطروش إلى سارية بعد أن استخلف ما كان بن كالي على أستراباذ و اجتمع إليه الديلم و أمروه ثم سار إلى أستراباذ و معه محمد ليظهر غناؤهم فخرج من سارية وولوا عليها بقراخان ووصلوا إلى جرجان ثم إلى نيسابور و رجع ماكان إلى استراباذ مع جرجان و لحق بقراخان بنيسابور و هذا كان مبتدأ أمر ما كان بن كالي و ستأتي أخباره (4/444)
خروج الياس بن إسحق
قد تقدم لنا انتقاض إسحق و ابنه الياس بسمرقند سنة إحدى و ثلثمائة و كيف غلبهم القائد حمويه و سار بإسحق إلى بخارى و مات بها و لحق ابنه الياس بفرغانة فأقام بها إلى سنة ست عشرة و ثلثمائة و أجمع المسير إلى سمرقند و استظهر بمحمد بن الحسين بن مت من قواد بني سامان و استمد أهل فرغانة من الترك فأمدوه و اجتمع إليه ثلاثون ألف فارس و قصد سمرقند و بعث السعيد للمدافعة عنها أبا عمرو و محمد بن أسد و غيره في ألفين و خمسمائة راجل فلما ورد الياس كمنوا له بين الشجر حتى إذا اشتغلت عساكره بضرب الأبنية خرجوا عليه فانهزم الحسن بن ست و لحق بأسفيجاب و منها إلى ناحية طراز و كريت فلقيه دهقان الناحية فقتله و أنفذ رأسه إلى بخارى ثم استمد الياس صاحب الشاش و هو أبو الفضل بن أبي يوسف فأمده بنفسه و بعث إليه أليسع بالمدد و عاود محاربة الوالي بسمرقند فانهزم إلى كاشغر و أسر أبو الفضل و حمل إلى بخارى فمات بها و سار الياس إلى كاشغر و صاحبها طغاتكين من ملوك الترك فصاهره بابنته و أقام معه (4/445)
استيلاء السعيد على الري
كان المقتدر قد عقد على الري ليوسف بن أبي الساج و سار إليه سنة إحدى عشرة و ثلثمائة فملكه من يد أحمد بن علي أخي صعلوك و قد كان فارق أخاه صعلوكا و سار إلى المقتدر فولاه على الري ثم انتقض على المقتدر و وصل يده بما كان بن كالي قائد الديلم و أولاد الأطروش و هم بطبرستان و جرجان و فارق طاعة المقتدر فسار إليه يوسف بن أبي الساج و حاربه فقتله و استولى على الري ثم استدعاه المقتدر سنة أربع عشرة و ثلثمائة إلى واسط لقتال القرامطة و كتب إلى السعيد نصر بن أحمد بولاية الري فاستخلف عليها و أمره بالمسير إليها و أخذها فاتك مولى يوسف بن أبي الساج فسار نصر السعيد لذلك أول سنة أربع عشرة و أربعمائة فلما وصل إلى جبل قارن منعه أبو نصر الطبري من الاجتياز به فبذل له ثلاثين ألف دينار و استرضاه و سار إلى الري فخرج عنها فاتك و استولى عليها السعيد منتصف السنة و أقام بها شهرين ثم عاد عنها إلى بخارى و استعمل عليها محمد بن علي الملقب صعلوك فأقام بها إلى شعبان سنة ست عشرة و مرض فكاتب الداعي و ما كان بن كالي في القدوم ليسلم لهم الري فقدموا و استولوا على الري و سار صعلوك عنها فمات في طريقه و أقام الحسن الداعي بالري مالكا لها و استولى معها على قزوين و زنجان و أبهر وقم و معه ما كان و كان أسفار قد استولى على طبرستان فسار الداعي و ما كان إليه و التقوا على سارية فانهزم و قتل الداعي كما مر في أخبار العلوية بطبرستان (4/446)
ولاية أسفار على جرجان و الري
كان أسفار بن شيرويه من أعيان الديلم و كان من أصحاب ماكان بن كالي و قد تقدم لنا أن أبا الحسن بن الأطروش ولى ما كان على استراباذ و أن الديلم اجتمعوا إليه و أمروه و أنه ملك جرجان و استولى بعدها على طبرستان و ولى أخاه أبا الحسن بن كالي على جرجان و كان أسفار بن شيرويه من قواده فانصرف مغاضبا عنه سنة خمس عشرة و ثلثمائة إلى بكر بن محمد بن أليسع بنيسابور فبعثه بكر إلى جرجان ليفتحها و اضطرب أمر جرجان لأن ما كان ابن كالي اعتقل بها أبا علي الأطروش بنظر أخيه ابن كالي فوثب الأطروش على أخيه أبي الحسن و قتله و ملك جرجان و استقدم أسفار بن شيرويه فقدم و ضبط أمره و سار إليهم ماكان من طبرستان في جيوشه فهزموه و اتبعوه إلى طبرستان فملكوها و أقاموا بها و هلك أبو علي ابن الأطروش بطبرستان فعاد ماكان بن كالي و أخرج أسفار بن شيرويه من طبرستان ثم زحف أسفار إلى الداعي و ما كان و التقوا على السيارية فانهزم الداعي و ماكان و قتل الداعي و استولى أسفار على طبرستان و جرجان و الري و قزوين و زنجان و أبهر و قم و الكرخ و دعا للسعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان و استعمل على آمد هرون ابن بهرام يريد استخلاصه لنفسه لأن هرون كان يخطب لأبي جعفر من ولد الأطروش فولاه آمد و زوجه ببعض نساء الأعيان بها و حضر عرسه أبو جعفر و غيره من العلويين فهجم عليه أسفار يوم العرس فقبض على أبي جعفر و العلويين و حملهم إلى بخارى فاعتقلوا بها و استفحل أمر أسفار و انتقض على السعيد صاحب خراسان و على الخليفة المقتدر و سار السعيد من بخارى إلى نيسابور لمحاربته و أشار عليه وزيره محمد بن مطرف الجرجاني بطاعة السعيد و خوفه منه فقبل إشارته و رجع إلى طاعة السعيد و قبل شروطه من حمل المال و غيره ثم انتقض عليه مرداويح و استدعى ماكان من طبرستان و هزم أسفار و قتله و ملك ما بيده من الأعمال كما يذكر في أخبار الديلم ثم ملك طبرستان و جرجان من يد ما كان فاستمد ماكان السعيد فأمده بأبي علي بن محمد المظفر فهزمها مرداويح و عاد أبو علي إلى نيسابور و ماكان إلى خراسان (4/447)
خروج أولاد الأمير أحمد بن إسمعيل على أخيهم السعيد
كان السعيد نصر بن أحمد لما ولي استراب بإخوته و كانوا ثلاثة أبو زكريا يحيى و أبو صالح منصور و أبو إسحق إبراهيم أولاد الأمير أحمد بن إسمعيل فحبسهم في القندهان ببخارى و وكل بهم فلما سار السعيد إلى نيسابور سنة خمس عشرة فتقوا السجن و خرجوا منه على يد رجل خباز من أصفهان يسمى أبا بكر داخلهم في محبسهم بتسهيل نفقتهم التي كانت على يده و جاء إلى القندهان قبل يوم الجمعة الذي كان ميقاتا لفتحه و أقام عندهم مظهرا للزهد و الدين و بذل للبواب دنانير على أن يخرجه ليلحق الصلاة في الجماعة ففتح له الباب و قد أعدهم جماعة للوثوب فحبسوا البواب و أخرجوا أولاد الأمير أحمد و من معهم في الحبس من العلويين و الديلم و العيارين و اجتمع إليهم من كان وافقهم من العسكر و القواد و رأسهم شيروين الجبلي و بايعوا يحيى ابن الأمير أحمد و نهبوا خزائن السعيد و قصوره و قدم يحيى أبا بكر الخباز و بلغ الخبر إلى السعيد فعاد من نيسابور إلى بخارى و كان أبو بكر محمد بن المظفر بن محتاج صاحب خراسان مقيما بجرجان فاستدعى ماكان بن كالي و صاهره و ولاه نيسابور فسار إليها و لما جاء السعيد إلى بخارى اعترضه أبو بكر الخباز عند النهر فهزمه السعيد و أسره و دخل بخارى فعذبه و أحرقه في تنوره الذي كان يخبز فيه و لحق يحيى بسمرقند ثم مر بنواحي الصغانيان و يها أبو علي بن أحمد بن أبي بمر بن المظفر بن محتاج صاحب خراسان مقيما بجرجان فاستدعى ماكان بن كالي إلى جرجان و لقوا بها محمد بن الياس و قوي أمره فلما جاء يحيى إلى نيسابور خطب له و أظهر دعوته ثم قصدهم السعيد فافترقوا و لحق ابن الياس بكرمان و لحق يحيى و قراتكين ببست و الرخج و وصل السعيد إلى نيسابور سنة عشرين و ثلثمائة و اصطلح قراتكين و أمنه و ولاه بلخ و ذهبت الفتنة و أقام السعيد بنيسابور إلى أن استأمن إليه أخواه يحيى و منصور و حضرا عنده وهلكا و فر إبراهيم إلى بغداد و منها إلى الموصل و هلك قراتكين ببست و صلحت أمور الدولة و كان جعفر بن أبي جعفر بن داود واليا لبني سامان على كل الختل فاستراب به السعيد و كتب إلى أبي علي احمد بن أبي بكر محمد بن المظفر و هو بالصغانيان أن يسير إليه فسار إليه و حاربه و كسره و جاء به إلى أبي بخارى فحبس بها فلما فتق السجن خرج مع يحيى و صحبهم ثم لما رأى تلاشى أموره استأذنه في المسير إلى الختل فأذن له فسار إليها و أقام بها و رجع إلى طاعة السعيد سنة ثمان عشرة و صلح حاله ( و الختل بخاء معجمة مضمومة و تاء مثناة فوقانية مشددة مفتوحة ) (4/448)
ولاية ابن المظفر على خراسان
كان أبو بكر محمد بن المظفر واليا للسعيد نصر على جرجان و لما استفحل أمر مرداويح بالري كما يأتي في أخبار الديلم خرج عنها ابن المظفر و لحق بالسعيد نصر في نيسابور و هو مقيم بها فسار السعيد في عساكره نحو جرجان و وقعت المكاتبة بين محمد بن عبيد الله البلغي مدبر دولته و بين مطرف بن محمد و استماله محمد فمال إليه مطرف و قتله سلطانه مرداويح ثم بعث محمد ينتصح لمرداويح و يذكره نعمة السعيد عنده في اصطناعه و توليته و تطوق العار في ذلك المطرف الوزير الهالك و يهول عليه أمر السعيد و يخوفه و يشير عليه بمسالمة جرجان إليه و صالحه السعيد عليها و لما فرغ السعيد من أمر جرجان و أحكمه استعمل محمد بن المظفر بن محتاج على جيوش خراسان سنة إحدى و عشرين و ثلثمائة و رد إليه تدبير الأمور بجميع نواحيها و سار إلى كرسي ملكه ببخارى و استقر بها (4/449)
استيلاء السعيد على كرمان
كان محمد بن الياس من أصحاب السعيد ثم سخطه و حبسه و شفع فيه محمد بن عبيد الله البلغي فأطلقه و سيره محمد بن المظفر إلى جرجان ثم سار إلى يحيى و اخوته عندما توثبوا ببخارى فكان معه في الفتنة و خطب له بنيسابور كما مر فلما زحف السعيد إليهم فارق يحيى و لحق بكرمان و استولى عليها ثم خرج إلى بلاد فارس و بها ياقوت مولى الخلفاء فوصل إليه بأصطخر يريد أن يستأمن له و أطلع ياقوت على مكره فرجع كرمان ثم بعث السعيد ما كان بن كالي في العساكر سنة إحدى و عشرين و ثلثمائة و قاتل ابن الياس و هزمه و ملك كرمان بدعوة السعيد نصر بن أحمد و سار الياس إلى الدينور ثم رجع ماكان عن كرمان على ما نذكره بعد فرجع إليها ابن الياس و سبب خروج ماكان أن السعيد بعد قتل مرداويح كتب إليه و إلى محمد بن المظفر صاحب خراسان أن يقصد جرجان و الري و بها و شمكير أخو مرداويح فجاء ماكان على المفازة و وصل إلى نيسابور بعد أن كان محمد بن المظفر قد استولى عليها بعث إليه مددا فهزمتهم عساكر و شمكين فأقصر ماكان عن حربهم و أقام بنيسابور و جعلت ولايتها له و ذلك أول سنة أربع و عشرين و ثلثمائة ثم صفت كرمان لمحمد بن الياس بعد حروب مع جيش نصر كان له الظفر فيها آخرا (4/450)
استيلاء ماكان على كرمان و انتقاضه
لما ملك مانحين جرجان و أقام ماكان بنيسابور و جعلت ولايتها له و هلك مانحين لأيام من دخوله جرجان استنفر محمد المظفر ماكان للمسير إلى جرجان فاعتل بالخروج بجميع أصحابه و سار إلى أسفراين فانفذ عسكرا إلى جرجان و استولى عليها ثم انتقض و سار إلى نيسابور و بها محمد بن المظفر و كان غير مستعد للحرب فسار نحو سرخس و دخل ماكان نيسابور سنة أربع و عشرين و ثلثمائة ثم رجع عنها خوفا من اجتماع العساكر (4/450)
ولاية علي بن محمد على خراسان و فتحه جرجان
كان أبو بكر محمد بن المظفر بن محتاج صاحب خراسان من ولاة السعيد عليها سنة إحدى و عشرين و ثلثمائة فلما كانت سنة سبع و عشرين و ثلثمائة اعتل أبو بكر و طال به مرضه و قصد السعيد راحته فاستقدم ابنه أبا علي من الصغانيان و بعثه أميرا على خراسان و استدعى أباه أبا بكر فلقي ابنه أبا علي على ثلاث مراحل من نيسابور فوصاه و حمله حملا من سياسته و سار إلى بخارى و دخل ابنه أبو علي نيسابور من السنة فأقام بها أياما ثم سار في محرم سنة ثمان و عشرين و ثلثمائة إلى جرجان و بها ماكان بن كالي مستنقضا على السعيد و قد غوروا المياه في طريقه فسلك إليهم غمرة حتى نزل على فرسخ من جرجان و حاصرها و ضيق عليها و قطع الميرة عنها حتى جهدهم الحصار و بعث ماكان بن كالي إلى و شمكير و هو بالري فأمده بقائد من قواده فلما وصل إلى جرجان شرع في الصلح بينهما لينجو فيه ماكان فتم ذلك و هرب ماكان إلى طبرستان و استولى أبو علي على جرجان سنة ثلاث و عشرين و ثلثمائة و استخلف عليها إبراهيم بن سيجور الدواتي (4/451)
استيلاء أبي علي على الري و قتل ماكان بن كالي
و لما ملك أبو علي جرجان أصلح أمورها ثم استخلف عليها إبراهيم بن سيجور و سار إلى الري في ربيع سنة ثمان و عشرين و ثلثمائة بها وشمكير بن زياد أخو مرداويح قد تغلب عليها من بعد أخيه و كان عماد الدولة و ركن الدولة ابنا بويه يكاتبان أبا علي صاحب خراسان و يستحثانه لقصد الري بأن أبا علي لا يقيم بها لسعة ولايته فتصفو لهما فلما سار أبو علي لذلك بعث وشمكير إلى ماكان بن كالي يستنجده فسار إليه من طبرستان و سار أبو علي و جاءه مدد ركن الدولة بن بويه و التقوا بنواحي الري فانهزم وشمكير و ماكان ثم ثبت ماكان و وقف مستميتا فأصابه سهم فقتله و هرب وشمكير إلى طبرستان فأقام بها و استولى أبو علي على الري سنة تسع و عشرين و ثلثمائة و أنفذ رأى ماكان و الأسرى معه إلى بخارى فأقاموا حتى دخل وشمكير في طاعة بني سامان و سار إلى خراسان سنة ثلاثين و ثلثمائة و استوهبهم الأسرى فأطلقوا له و بقي الرأس ببخارى و لم يحمل إلى بغداد (4/451)
استيلاء أبي علي على بلد الجبل
و لما ملك أبو علي بن محتاج صاحب خراسان بلد الري و الجبل من يد وشمكير و أقام بها دعوة السعيد نصر بعث العساكر إلى بلد الجبل ففتحها و استولى على زنجان و أبهر و قزوين و قم و كرخ و همذان و نهاوند و الدينور إلى حدود حلوان و رتب فيها العمال و جبى الأموال و كان الحسن بن الفيرزان بسارية و هو ابن عم ماكان بن كالي و كان وشمكير يطمع في طاعته له و هو يتمنع فقصده وشمكير و حاصره بسارية و ملكها عليه و استنجد الحسن أبا علي بن محتاج فسار معه لحصار وشمكير بسارية سنة ثلاثين و ثلثمائة و ضيق عليه حتى سأل الموادعة فصالحه أبو على علي طاعة السعيد نصر و أخذ رهنه و رحل عنه إلى جرجان سنة إحدى و ثلاثين و ثلثمائة ثم بلغه مرت السعيد فعاد أبو علي إلى خراسان فملكها و راسله الحسن بن الفيرزان يستميله و رد عليه ابنه سلار الرهينة ليستعين به على الخراسانية فوعده و أطمعه و لما ملك وشكمير الري طمع فيه بنو بوبه لأنه كان قد اختل أمره بحادثته مع أبي علي فسار الحسن بن الفيرزان إلى الري و قاتل وشمكير فهزمه و استأمن إليه الكثير من جنده و سار وشمكير إلى الري فاعترضه الحسن بن الفيرزان من جرجان و هزمه إلى خراسان و راسل الحسن ركن الدولة و تزوج بنته و اتصل ما بينهما (4/452)
وفاة السعيد نصر و ولاية ابنه نوح
ثم أصاب السعيد نصرا صاحب خراسان و ما وراء النهر مرض السل فاعتل ثلاثة عشرة شهرا و مات في شعبان سنة إحدى و ثلاثين و ثلثماثة لثلاثين سنة من ولايته و كان يؤثر عنه الكرم و الحلم و أخلص في مرضه التوبة إلى أن توفي و لما مات ولي مكانه ابنه نوح و كان يؤثر الكرم و الحلم عنه و بايعه الناس و لقب الحميد و قام بتدبير ملكه أبو الفضل أحمد بن حويه و هو من أكابر أصحاب أبيه كان أبوه السعيد ولى ابنه إسمعيل بخارى في كفالة أبي الفضل و ولايته فأساء السيرة مع نوح و حقد له ذلك و توفى إسمعيل في حياة أبيه و كان يؤثر أبا الفضل فحذره من ابنه نوح فلما ولي نوح سار أبو الفضل من بخارى و عبر جيحون إلى آمد و كان بينه و بين أبي علي بن محتاج صهر فبعث إليه يخبره بقدومه فنهاه عن القدوم عليه ثم كتب له نوح بالأمان و ولاه سمرقند و كان على الحاكم صاحب الدولة و لا يلتفت إليه و الآخر يحقد عليه و يعرض عنه ثم انتقض عبد الله بن أشكام بخوارزم على الأمير نوح فسار من بخارى إلى مرو سنة اثنتين و ثلاثين و ثلثمائة و بعث إليه جيشا مع إبراهيم بن فارس فمات في الطريق و استجار ابن أشكام بملك الترك و كان ابنه محبوسا ببخارى فبعث إليه نوح بإطلاق ابنه على أن يقبض على ابن أشكام و أجابه ملك الترك لذلك و لما علم بذلك ابن أشكام عاد إلى طاعة نوح و عفا عنه و أكرمه (4/452)
استيلاء أبي علي على الري و دخول جرجان في طاعة نوح
ثم إن الأمير نوحا سار إلى مرو و أمر أبا علي بن محتاج أن يسير بعساكر خراسان إلى الري و ينزعها من يد ركن الدولة بن بويه فسار لذلك و لقي في طريقه وشمكير وافدا على الأمير نوح فبعثه إليه و سار أبو علي إلى بسطام فاضطرب جنوده و عاد عنه منصور بن قراتكين من أكابر أصحاب نوح فقصدوا جرجان و صدهم الحسن بن الفرزان فانصرفوا إلى نيسابور و سار إلى الأمير نوح بمرو فأعاده و أمده بالعساكر و سار من نيسابور في منتصف ثلاث و ثلاثين و ثلثمائة و علم ركن الدولة بكثرة جموعه فخرج من الري و استولى أبو علي عليها و على سائر أعمال الجبال و أنفذ نوابه إلى الأعمال و ذلك في رمضان من سنته ثم سار الأمير نوح من مرو إلى نيسابور و أقام بها و وضع جماعة من الغوغاء و العامة يستغيثون من أبي علي و يشكون سوء السيرة منه و من نوابه فولى على نيسابور إبراهيم بن سيجور و عاد عنها و قصد أن يقيم أبو علي بالري لحسن دفاعه عنها و ينقطع طمعه عن خراسان فاستوحش أبو علي للعزل و شق عليه و بعث أخاه أبا العباس الفضل بن محمد إلى كور الجبال و ولاه همذان و خلافة العساكر فقصد الفضل نهاوند و الدينور و استولى عليها و استأمن إليه رؤساء الأكراد بتلك النواحي و أعطوا رهنهم على الطاعة و كان وشمكير لما وفد على الأمير نوح بمرو كما قدمناه استمده على جرجان فأمده بعسكر و بعث إلى أبي علي بمساعدته فلقي أبا علي منصرفه في المرة الأولى من الري إلى نيسابور فبعث معه جميع من بقي من العسكر و سار وشمكير إلى جرجان و قاتل الحسن بن الفيرزان فهزمه و استولى على جرجان بدعوة نوح بن السعيد و ذلك في صفر سنة ثلاث و ثلاثين و ثلثمائة (4/453)
انتقاض أبي علي و ولاية منصور بن قراتكين على خراسان
قد تقدم لنا أن الأمير نوحا عزل أبا علي بن محتاج عن خراسان و كان من قبلها عزله عن ديوان الجند و هو لنظره و بعث من يستعرض الجند فمحا و أثبت و زاد في العطاء و نقص فاستوحش لذلك كله و استوحش الجند من التعرض إليهم بالإسقاط و لأرزاقهم بالنقصان و خلص بعضهم إلى بعض بالشكوى و اتفقوا في سيرهم إلى الري و هم بهمذان على استقدام إبراهيم بن أحمد أخي السعيد الذي كان قد هرب أمامه إلى الموصل كما تقدم و ظهر أبو علي على شأنهم فنكر عليهم فتهددوه و كاتبوا إبراهيم و استدعوه و جاء إليهم بهمذان في رمضان سنة أربع و ثلاثين و ثلثمائة و كاتبه أبو علي و كتب أخوه الفضل سرا إلى الأمير نوح بذلك و نمي خبر كتابه إلى أخيه أبي علي فقبض عليه و على متولي الديوان و سار إلى نيسابور و استخلف على الري و الجبل و بلغ الخبر إلى الأمير نوح فنهض إلى مرو و اضطرب الناس عليه و شكوا من محمد بن أحمد الحاكم مدبر ملكه و رأوا أنه الذي أوحش أبا علي و أفسد الدولة فنقموا ذلك عليه و اعتلوا عليه فدفع إليهم الحاكم فقتلوه منتصف خمس و ثلاثين و ثلثمائة و وصل أبو علي إلى نيسابور و بها إبراهيم بن سيجور و منصور بن قراتكين و غيرهما من القواد فاستمالهم و ساروا معه و دخلها في محرم سنة ست و ثلاثين و ثلثمائة ثم ارتاب بمنصور بن قراتكين فحبسه و سار من نيسابور و معه العم إبراهيم إلى مرو و هرب أخوه الفضل في طريقه من محبسه و لحق بقهستان و لما قاربوا مرو اضطرب عسكر الأمير نوح و جاء إليهم أكثرهم و استولى عليها و على طخارستان و بعث نوح العساكر من بخارى مع الفضل أبي علي إلى الصغانيان فأقام بها و دس إليهم أبو عليه فقبضوا على الفضل و بعثوا به إلى بخارى و عاد أبو علي من طخارستان إلى الصغانيان فأقاموا بها في ربيع سنة سبع و ثلاثين و ثلثمائة و قاتل العساكر فغلبوه و رجع إلى الصغانيان ثم تجاوزها و أقام قريبا منها و دخلتها العساكر فخربوا تصوره و مساكنه و خرجوا في اتباعه فرجع و أخذ عليهم المسالك فضاقت أحوالهم و جنحوا إلى الصلح معه على أن يبعث بابنه أبي المظفر عبد الله إلى الأمير نوح رهينة فانعقد ذلك منتصف سنة سبع و ثلاثين و ثلثمائة و بعث بابنه إلى بخارى فأمر نوح بلقائه و خلع عليه و خلطه بندمائه و سكنت الفتنة قال ابن الأثير : هذا الذي ذكره مؤرخوا خراسان في هذه القصة و أما أهل العراق فقالوا : إن أبا علي لما سار نحو الري استمد ركن الدولة بن بويه أخاه عماد الدولة فكتب يشير عليه بالخروج عن الري و ملكها أبو علي و كتب عماد الدولة إلى نوح سرا يبذل له في الري في كل سنة مائة ألف دينار و زيادة على ضمان أبي علي و يعجل له ضمان سنة و سجله عليه ثم دس عماد الدولة إلى نوح في القبض على أبي علي و خوفه منه فأجاب الأمير نوح إلى ذلك و بعث تقرير الضمان و أخذ المال و دس ركن الدولة إلى أبي علي بهمذان و رجع به على خراسان و عاد ركن الدولة إلى الري و اضطربت خراسان و منع عماد الدولة مال الضمان خوفا عليه في طريقه من أبي علي و بعث إلى أبي على يحرضه على اللقاء و يعده بالمدد و فسد ما بينه و بين إبراهيم و انقبض عنه و أن الأمير نوحا سار إلى بخارى عند مفارقتها أبي علي و حارب إبراهيم العم ففارقه القواد إلى الأمير نوح فأخذ أسيرا و كله الأمير نوح و جماعة من أهل بيته و الله أعلم (4/454)
انتقاض ابن عبد الرزاق بخراسان
كان محمد ابن عبد الرزاق عاملا بطوس و أعمالها و كان أبو علي استخلفه بنيسابور عندما زحف منها إلى الأمير نوح فما راجع الأمير نوح ملكه انتقض ابن عبد الرزاق بخراسان و ولى الأمير نوح على خراسان محمد بن عبد الرزاق و اتفق وصول وشمكير منهزما من جرجان أمام الحسن الفيرزان و استمد الأمير نوحا فأخرج معه منصورا في العساكر و أمرهما بمعاجلة ابن عبد الرزاق فخرج سنة ست و ثلاثين و ثلثمائة إلى استراباذ و منصور في اتباعه فلحق بجرجان و استأمن إلى ركن الدولة بن بويه و مضى إلى الري و سار منصور بن قراتكين إلى طوس و حاصر رافع إلى قلعة أخرى فحاصره منصور بها حتى استأمن إليه و جمع ما معه فأنهبه أصحابه و خرج معم فافترقوا في الجبال و احتوى منصور على ما و جد بالحصن و حمل عيال محمد بن عبد الرزاق و أمه إلى بخارى فاعتقلوا بها و لما وصل محمد بن عبد الرزاق إلى ركن الدولة بن بويه أفاض عليه العطاء و سرحه إلى محاربة المرزبان بأذربيجان كما يأتي (4/456)
استيلاء ركن الدولة بن بويه على طبرستان و جرجان و مسير العساكر إلى جرجان و الصلح مع الحسن بن الفيرزان
و لما وقع من الاضطراب ما وقع بخراسان اجتمع ركن الدولة بن بويه والحسن بن الفيرزان و قصدوا بلاد وشمكير فهزموه و ملك ركن الدولة طبرستان و سار إلى جرجان فملكها و أقام بها الحسن بن الفرزان واستأمن قواد وشمكير إليهم فأمنوهم و سار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بصاحب خراسان فسار معه منصور بن قراتكين في عساكر خراسان إلى جرجان و بها الحسن بن الفيرزان و استرهن ابنه ثم أبلغه عن الأمير نوح ما أقلعه فأعاد على الحسن ابنه و عاد إلى نيسابور و أقام وشمكير باورن (4/457)
مسير ابن قراتكين إلى الري و عوده إليه
ثم سار منصور بن قراتكين سنة تسع و ثمانين و ثلثمائة إلى الري بأمر الأمير نوح لغيبة ركن الدولة بن بويه في نواحي فارس فوصل إلى الري و استولى عليها و على الجبل إلى قرميسين فكبس الذين بها من العسكر وهم غارون و أسروا مقدمهم محكما و حبس ببغداد و رجع الباقون إلى همذان فسار سبكتكين نحوهم و جاء ركن الدولة إثر الانهزام و شاور وزيره أبا الفضل بن العميد فأشار عليه بالثبات ثم أجفل عسكر خراسان إلى الري لانقطاع الميرة عنهم و كان ذلك سواء بين الفريقين إلا أن الديلم كانوا أقرب إلى البداوة فكانوا أصبر على الجوع و الشظف فركب ركن الدولة و احتوى على ما خلفه عسكر خراسان (4/457)
وفاة ابن قراتكين و رجوع أبي علي بن محتاج إلى ولاية خراسان
ثم توفي منصور بن قراتكين صاحب خراسان بالري بعد عوده من أصفهان في ربيع سنة أربعين و حملت جنازته إلى أسفيجاب فدفن بها عند والده فولى الأمير نوح على خراسان أبا علي بن محتاج و أعاده إلى نيسابور و قد كان منصور يستقيل من ولاية خراسان لما يلقى بها من جندها و يستعفي نوحا المرة بعد المرة وكان نوح يعد أبا علي بعوده إلى ولايته فلما توفي منصور بعث إليه بالخلع و اللواء و أمره بالمسير و أقطعه الري و أمره بالمسير إليها فسار عن الصغانيان في رمضان سنة أربع و ثلثمائة و استخلف مكانه ابنه أبى منصور و انتهى إلى مرو فأقام إلى أن أصلح أمر خوارزم و كانت شاغرة ثم سار إلى نيسابور فأقام بها و لما كانت سنة اثنتين و أربعين و ثلثمائة كتب وشمكير إلى الأمير نوح بأمر أبا علي ابن محتاج بالمسير معه في عساكر خراسان فساروا في ربيع من السنة و خام ركن الدولة عن لقائهم فامتنع بطزل و أقام عليه أبو علي عدة شهور يقاتله حتى سئم العسكر و عجفت دوابهم فمال إلى الصلح و سعى بينهما فيه محمد بن عبد الرزاق المقدم ذكره فتصالحا على مائتي ألف دينار ضريبة يعطها ركن الدولة في كل سنة و رجع أبو علي إلى خراسان و كتب وشمكير إلى الأمير نوح بأن أبا علي لم ينصح في الحرب و أن بينه و بين ركن الدولة مداخلة و سار ركن الدولة بعد انصر إلى أبي علي نحو وشمكير فانهزم إلى أسفراين و استولى ركن الدولة على طبرستان (4/458)
عزل الأمير أبي علي عن خراسان و مسيره إلى ركن الدولة و ولاية بكر بن مالك مكانه
و لما تمكنت سعاية وشمكير من أبي على عند الأمير نوح كتب إليه بالعزل عن خراسان سنة اثنتين و أربعين و ثلثمائة و كتب إلى القواد بمثل ذلك و استعمل على الجيوش مكانه أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني و بعث أبو علي يعتذر فلم يقبل و أرسل جماعة من أعيان نيسابور يسألون إبقاءه فلم يجيبوا فانتقض أبو علي و خطب لنفسه بنيسابور و كتب نوح إلى وشمكير و الحسن بن الفيرزان بأن يتفقا و يتعاضدا على أولياء ركن الدولة حيث كانوا ففعلا ذلك فارتاب أبو علي بأمره و لم يمكنه العود إلى الصغانيان و لا المقام بخراسان فصرف وجهه إلى ركن الدولة و استأذنه في المسير إليه فأذن و سار أبو علي إلى الري سنة ثلاث و أربعين و ثلثمائة فأكرمه ركن الدولة و أنزله معه و استولى بكر على خراسان (4/458)
وفاة الأمير نوح و ولاية ابنه عبد الملك
ثم توفي الأمير نوح بن نصر و لقبه الحميد في ربيع الآخر سنة ثلاث و أربعين و ثلثمائة لاثنتي عشرة سنة من ولايته و ولي بعده ابنه عبد الملك و قام بأمره بكر بن مالك الفرغاني فلما قرر أمر دولته و ثبت ملكه أمر بكرا بالمسير إلى خراسان فكان من شأنه مع أبي علي ما قدمناه (4/459)
مسير العساكر من خراسان إلى الري و أصفهان
ثم زحفت عساكر خراسان إلى الري سنة أربع و أربعين و ثلثمائة و بها ركن الدولة بن بويه قدم إليها من جرجان و استمد أخاه معز الدولة ببغداد فأمده بالحاجب سبكتكين و بعث بكر عسكرا آخر من خراسان مع محمد بن ماكان على طريق المفازة إلى أصفهان و كان بأصفهان أبو منصور علي بن بويه بن ركن الدولة فخرج عنها مجرم أبيه و في خزائنه و انتهى إلى خالنجان و دخل محمد بن ماكان أصفهان و خرج في اتباع ابن بويه و أدرك الخزائن فأخذها و سار فأدركه و وافق وصول أبي الفضل بن العميد وزير ركن الدولة في تلك الساعة فقاتله ابن ماكان و هزم أصحابه و ثبت ابن العميد و شغل عسكر ابن ماكان بالنهب فاجتمع على ابن العميد لمة من العسكر فاستمات و حمل على عسكر ابن ماكان فهزمهم و أسر ابن ماكان و سار ابن العميد إلى أصفهان فملكها و أعاد حرم ركن الدولة و أولاده إلى حيث كانوا من أصفهان ثم بعث ركن الدولة إلى بكر بن مالك صاحب الجيوش بخراسان و قرر معه الصلح على مال يحمله ركن الدولة إليه على الري و بلد الجيل فتقرر ذلك بينهما و بعث إليه من عند أخيه ببغداد بالخلع و اللواء بولاية خراسان فوصلت إليه في ذي القعدة سنة أربع و أربعين و ثلثمائة (4/459)
وفاة عبد الملك بن نوح صاحب ما و راء النهر و ولاية أخيه منصور
ثم توفي الأمير عبد الملك لإحدى عشرة خلت من شوال سنة خمس و ثلاثين و ثلثمائة لسبع سنين من ولايته و ولي بعده أخوه أبو الحرث منصور بن نوح و استولى ركن الدولة لأول أيامه على طبرستان و جرجان فملكهما و سار وشمكير عنها فدخل بلاد الجبل (4/460)
مسير العساكر من خراسان إلى الري و وفاة وشمكير
قد ذكرنا من قبل أن وشمكير كان يقدح في عمال بني سامان بأنهم لا ينصحون لهم و يداخلون عدوهم من الديلم و وفد أبو علي بن الياس صاحب كرمان على الأمير أبي الحرث منصور مستجيشا به علي بني بويه فحرضه على قصد الري و حذره من الاستمالة في ذلك إلى عماله كما أخبره وشمكير و بعث إلى الحسن بن الفرزان بالنفير مع عساكره ثم أمر صاحب جيوش خراسان أبا الحسن بن محمد بن سيجور الدواني بالمسير إلى الري و أوصاه بالرجوع إلى رأي وشمكير و بلغ الخبر إلى ركن الدولة فاضطرب و بعث بأهله و ولده إلى أصفهان و استمد ابنه عضد الدولة بفارس و بختيار ابن أخيه عز الدولة ببغداد فبادر عضد الدولة إلى إمداده و بعث العساكر على طريق خراسان يريد قصدها لخلوها من العسكر فأجحفت عساكر خراسان و انتهوا إلى الدامغان فأقاموا و برز ركن الدولة نحوهم في عساكره من الري و بينما هم في ذلك ركب وشمكير يوما ليتصيد فاعترضه خنزير فأجفل فرسه و سقط إلى الأرض و انهشم و مات و ذلك في المحرم سنة سبع و خمسين و ثلثمائة و انتقض ما كانوا فيه و قام يسنون بن وشمكير مقام أبيه و راسل ركن الدولة و صالحه فأمده ركن الدولة بالمال و الرجال (4/460)
خبر ابن الياس بكرمان
كان أبو علي بن الياس قد ملك كرمان بدعوة بني سامان و استبد بها و أصابه فالج و أزمن به و كان له ثلاثة من الولد : اليسع و الياس و سليمان فعهد إلى اليسع و بعده الياس و أمر سليمان بالعود إلى أرضهم ببلاد الصغد يقيم بها فما لهم هنالك من الأموال لعداوة كانت بين سليمان و اليسع فخرج سليمان لذلك و استولى على السيرجان فأنفذ إليه أبوه أبو علي ابنه الآخر في عسكر و أمره بإجلائه عن البلاد و لا يمكنه من قصد الصغد إلى طلبها فسار و حاصره و لما ضاق الحصار على سليمان جمع أمواله و لحق بخراسان و ملك اليسع السيرجان و سار إلى خراسان ثم لحق أبو علي ببخارى و معه ابنه سليمان فأكرمه الأمير أبو الحرث و قربه و أغزاه أبو علي بالري و تجهيز العساكر إليه كما ذكرناه و أقام عنده إلى أن توفى سنة ست و خمسين و ثلثمائة كما نذكر في أخباره و لحق اليسع ببخارى فأقام بها ثم سعى سلمان عند الأمير أبي الحرث منصور في المسير إلى كرمان و أطمعه في ملكها و أن أهلها في طاعته فبعث معه عسكرا و لما و صل أطاعه أهل نواحها من القمص و البولص و جميع المنتقضين على عضد الدولة و استفحل أمره فسار إليه كوركين عامل عضد الدولة بكرمان و حاربه و نزعت عساكره عنه فانهزم و قتل معه ابنا أخيه اليسع و هما بكر و الحسين و كثير من القواد و صارت كرمان للديلم (4/461)
انعقاد الصلح بين منصور بن نوح و بين بني بويه
ثم انعقد الصلح بين الأمير أبي الحرث منصور بن نوح صاحب خراسان و ما وراء النهر و بين ركن الدولة و زوجه ابنته و حمل إليه الهدايا و التحف ما لم يحمل مثله و كتب بينهم كتاب الصلح شهد فيه أعيان خراسان و فارس و العراق و تم ذلك على يد أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور صاحب الجيوش بخراسان من جهة الأمير أبي الحرث في سنة إحدى و ستين و ثلثمائة (4/462)
وفاة منصور بن نوح و ولاية ابنه نوح
ثم توفي الأمير أبو الحرث منصور ببخارى منتصف سنة ست و ستين و ثلثمائة و ولي بعده ابنه أبو القاسم نوح صبيا لم يبلغ الحلم فاستوزر أبا الحسن العتبي و جعل على حجابة بابه مولاه أبا العباس قاسما و كان من موالي أبي الحسن العتبي فأهداه إلى الأمير أبي صالح و شركهما في أمر الدولة أبو الحسن فائق و أقر على خراسان أبا الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور واطردت أمور الدولة على استقامتها (4/462)
عزل ابن سيجور عن خراسان و ولاية أبي العباس تاش
قد تقدم لنا شأن خلف بن أحمد الليثي صاحب سجستان و انتصاره بالأمير منصور ابن فرج على قريبه طاهر بن خلف بن أحمد بن الحسين المنتقض عليه لسنة أربع و خمسين و ثلثمائة و أنه مده بالعسكر و رده إلى ملكه ثم انتقض طاهر ثانيا بعد انصراف العسكر عن خلف و بعث مستجيشا فأمده ثانيا و قد هلك طاهر و ولي ابنه الحسين فحاصره خلف و أرهقه الحصار فنزل لخلف عن سجستان و لحق بالسعيد نوح بن منصور و أقام خلف دعوة نوح في سجستان و حمل المال متقررا عليه كل سنة ثم قصر في الطاعة و الخدمة و صار يتلقى الأوامر بالإعراض و الإهمال فرمي بالحسين بن طاهر في جيوش خراسان و حاصره بقلعة أرك و طال انحصاره و أمده العتبي الوزير بجماعة القواد كالحسن بن مالك و بكتاش فأقاموا عليه سبع سنين حتى فنيت الرجال و الأموال و كان ابن سيجور صاحبه فلم يغن عليه و عوتب في ذلك و عزل عن خراسان بأبي العباس تاش فكتب يتعذر و رحل إلى قهستان ينتظر جواب كتابه فجاءه كتاب الأمير نوح بالمسير إلى سجستان فسار و استنزل خلفا من معقله للحسين بن طاهر و سار خلف إلى حصن الطاق و داخله ابن سيجور و أقام خطبة لرضا نوح به و انصرف و لما ولى الأمير نوح الحاجب أبا العباس تاش قيادة خراسان سار إليها سنة إحدى و سبعين و ثلثمائة فلقي هنالك فخر الدولة ابن ركن الدولة و شمس المعالي قابوس بن وشمكير ناجين من جرجان و كان من خبرهما أن عضد الدولة لما استولى على بلاد أخيه فخر الدولة و هزمه و لحق فخر الدولة بقابوس و بعث عضد الدولة في طلبه ترغيبا و ترهيبا فأجاره قابوس و بعث عضد الدولة في طلبه أخاه مؤيد الدولة في العساكر إليهم و لقيهم قابوس فهزموه فسار إلى بعض قلاعه و احتمل منها ذخائره و لحق بنيسابور و لحق به فخر الدولة ناجيا من المعركة فأكرمهم أبو العباس تاش و أنزلهم خير منزل و أقاموا عنده و استولى مؤيد الدولة على جرجان و طبرستان (4/462)
مسير أبي العباس في عساكر خراسان إلى جرجان ثم مسيره إلى بخارى
و لما و صل قابوس بن وشمكير و فخر الدولة بن ركن الدولة إلى أبي العباس تاش مستجيرين بالأمير نوح على استرجاع جرجان و طبرستان من يد مؤيد الدولة كتب بذلك إلى الأمير نوح ببخارى فأمره بالمسير معهما و إعادتهما إلى ملكهما فسار معهما لذلك في العساكر و نازلوا جرجان شهرين حتى ضاق عليهم الحصار و داخل مؤيد الدولة فائقا من قواد خراسان و رغبه فوعده بالانهزام ثم خرج مؤيد الدولة من جرجان في عساكره مستميتا فهزمهم و رجعوا إلى نيسابور و كتبوا إلى بخارى بالخبر فأجابهم الأمير نوح بالوعد و استنفر العساكر من جميع الجهات إلى نيسابور للمسير مع قابوس و فخر الدولة فاجتمعوا هنالك ثم جاء الخبر بقتل الوزير أبي الحسن العتبي و كان زمام الدولة بيده فيقال إن أبا الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور وضع عليه من قتله و ذلك سنة اثنتين و سبعين و ثلثمائة و لما قتل كتب الأمير نوح بن منصور إلى الحاجب أبي العباس تاش يستدعيه لتدبر دولته ببخارى فسار عن نيسابور إليها و قتل من ظفر به من قتلة أبي الحسن (4/463)
رد أبي العباس إلى خراسان ثم عزله و ولاية ابن سيجور
و لما سار أبو العباس إلى بخارى و كان أبو الحسن بن سيجور من حين سار إلى سجستان كما مر مقيما بها ثم رجع آخرا إلى قهستان فما سار أبو العباس تاش إلى بخارى و كتب ابن سيجور إلى فائق يطلب مظاهرته على ملك خراسان أجابه إلى ذلك و اجتمعا بنيسابور و استوليا على خراسان و سار إليهما أبو العباس تاش في العساكر ثم تراسلوا كلهم و اتفقوا على أن يكون بنيسابور و قيادة العساكر لأبي العباس تاش و بلخ لفائق و هراة لأبي الحسن بن سيخور و انصرف كل واحد إلى ولايته و كان فخر الدولة بن بويه خلال ذلك معهما بنيسابور ينتظر النجدة إلى أن هلك أخوه مؤيد الدولة بجرجان في شعبان سنة ثلاث و سبعين و ثلثمائة و استدعاه أهل دولته للملك فكاتبه الصاحب ابن عباد و غيره فسار إليهم و استولى على ملك أخيه بجرجان و طبرستان و كان الأمير نوح لما سار أبو العباس من بخارى إلى نيسابور استوزر مكانه عبد الله بن عزيز و كانت بينه و بين أبي الحسن العتبي منافسة و عداوة ثم لما ولي الوزارة تقدم على عزل أبي العباس عن خراسان و كتب إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بخراسان بولاية نيسابور (4/464)
انتقاض أبي العباس و خروجه مع ابن سيجور و مهلكه
و لما غزل أبو العباس تاش عن خراسان كتب إلى الأمير نوح يستعطفه فلم يجبه فانتقض و كتب إلى فخر الدولة يستمده على ابن سيجور فأمده بالأموال و العسكر مع أبي محمد عبد الله بن عبد الرزاق و سار إلى نيسابور في عساكره و عساكر الديلم و تحصن ابن سيجور بنيسابور و جاءه مدد آخر من فخر الدولة و برز ابن سيجور للقائهم فهزموه و غنموا منه و استولى أبو العباس على نيسابور و كتب إلى الأمير نوح يستعطفه و لج ابن عزيز في عزله ثم ثاب لابن سيجور رأيه و عادت إليه قوته و جاءه الأمراء من بخارى مددا و كاتب شرف الدولة أبا الفوارس بن عضد الدولة بفار س يستمده فأمده بألفي فارس مراغمة لعمه فخر الدولة فلما كثف جمعه زحف إلى أبي العباس و قاتله فهزمه و لحق بفخر الدولة ابن بويه بجرجان فأكرمه و عظمه و ترك له جرجان و دهستان و استراباذ إقطاعا و سار عنها إلى الري و بعث إليه من الأموال و الآلات ما يخرج عن الحد و أقام أبو العباس بجرجان ثم جمع العساكر و سار إلى خراسان فلم يقدر على الوصول إليها و عاد إلى جرجان و أقام بها ثلاث سنين و مات سنة سبع و سبعين و ثلثمائة و قام أهل جرجان بأصحابه لما كانوا يحقدون عليهم من سوء السيرة فقاتلهم أصحابه و استباحوهم حتى استأمنوا و كفوا عنهم ثم افترق أصحابه و سار أكثرهم و هم كبار الخواص و الغلمان إلى خراسان و قد كان صاحبها أبو الحسن سيجور مات فجأة و قام بأمرها مكانه ابنه أبو علي و أطاعه إخوته و كبيرهم أبو القاسم و نازعه فائق الولاية فلحق به أصحاب أبي العباس و استكثر بهم لشأنه (4/464)
ولاية أبي علي بن سيجورعلى خراسان
قد تقدم اتفاق أبي الحسن بن سيجور و أبي العباس تاش و فائق على أن تكون نيسابور و قيادة خراسان لتاش و بلخ لفائق و هراة لأبي علي بن أبي الحسن سيجور ثم عزل تاش بسعاية الوزير ابن عزيز و ولي أبو الحسن و كانت بينهما الحرب التي مر ذكرها و انهزم تاش إلى جرجان فاستقر أبو علي بهراة و فائق ببلخ و كان ابن عزيز يستحث الحسن لقصد جرجان ثم عزل ابن عزيز و نفي إلى خوارزم و قام مكانه أبو علي محمد بن عيسى الدامغاني ثم عجز لما نزل بالدولة من قلة الخراج و كثرة المصاريف فصرف عن الوزارة بأبي نصر بن أحمد بن محمد بن أبي يزيد ثم عزل و أعيد أبو علي الدامغاني و هلك أبو الحسن بن سيجور خلال ذلك و قام ابنه أبو علي مقامه و كاتب الأمير نوح بن منصور يطلب أن يعقد له الولاية كما كانت لأبيه فأجيب إلى ذلك ظاهرا و كتب لفائق بولاية خراسان و بعث إليه بالخلع و الألوية و كان أبو علي يظن أنها له فلما بدا له من ذلك ما لم يحتسب جمع عسكره و أغذ السير و أوقع بفائق ما بين هراة و بوشنج فانهزم فائق إلى مرو الروذ و ملك أبو علي مرو و وصله عهد الأمير نوح بقيادة الجيوش و ولاية نيسابور و هراة و قهستان و لقبه عماد الدولة ثم رقاه الأمير نوح و استولى على سائر خراسان و استبد بها على السلطان حتى طلبه نوح في بعض أعمالها لنفقته فمنعه و أقام مظهرا لطاعته و خشي غائلة السلطان من طلبة نوح فكاتب بقراخان ملك الترك ببلاد كاشغر و شاغور يغريه و يستحثه لملك بخارى و ما وراء النهر على أن يستقر هو بخراسان (4/465)
خبر فائق
و أقام بعد انهزامه أمام أبي علي بمرو الروذ حتى اندملت جراحه و اجتمع إليه أصحابه و سار إلى بخارى قبل أن يستأذن فارتاب به الأمير نوح فسرح إليه العساكر مع أخي الحاجب و فكنزرون فانهزم و عبر النهر إلى بلخ فأقام بها أياما و سار إلى ترمذ و كاتب بقراخان يستحثه و كتب الأمير نوح إلى والي الجوزجان أبي الحرث أحمد بن محمد الفيرقوني بقصد فائق فقصده في جموعه و سرح فائق إليه بعض عسكره فهزمه و عاد إلى بلخ و كان طاهر بن الفضل قد ملك الصغانيان على أبي المظفر محمد بن أحمد و هو واحد خراسان فانقطع أبو المظفر إلى فائق صريخا فأمده و سار إلى طاهر بعسكر فائق و اقتتلوا فانهزم طاهر و قتل و صارت الصغانيان لفائق (4/466)
استيلاء الترك على بخارى
و لما خرج الأمير نوح عن بخارى عبر النهر و استقر بآمل الشط و كاتب أبا علي بن سيجور يستحثه للنصرة و كاتب فائقا أيضا يستصرخه فلم يصرخه أحد منهما و بلغه مسير بقراخان عن بخارى فأغذ السير إليها و عاود الجلوس على كرسي ملكه و تباشر الناس بقدومه ثم بلغه مهلك بقراخان فتزايد سرورهم و لما عاد الأمير نوح إلى بخارى ندم أبو علي على ما فرط فيه من نصرته و أجمع الاستظهار بفائق فأزاحوه عن ملكه و ملكوها و لحق فائق بأبي علي بن سيجور و تظاهرا على الأمير نوح و ذلك سنة أربع و ثمانين و ثلثمائة (4/467)
عزل أبي علي بن سيجور عن خراسان و ولاية سبكتكين
و لما اجتمع أبو علي بن سيجور و فائق على منافرة الأمير نوح و عصيانه كتب الأمير نوح إلى سبكتكين و كان أميرا على غزنة و نواحيها يستقدمه لنصره منهما و إنجاده عليهما و ولاه خراسان و كان سبكتكين في شغل عن أمرهم بما هو فيه من الجهاد مع كفار الهند فما جاءه كتاب نوح و رسوله بادر إليه و تلقى أمره في ذلك و عاد إلى غزنة فجمع العساكر و بلغ الخبر أبا علي و فائقا فبعثا إلى فخر الدولة بن بويه يستنجدانه و استعانا في ذلك بوزيره الصاحب بن عباد فبعث إليهما مددا من العساكر ثم سار سبكتكين و ابنه محمود نحو خراسان سنة أربع و ثمانين و ثلثمائة و سار الأمير نوح و اجتمعوا و لقوا أبا علي و فائقا بنواحي هراة و كان معهما دارا بن قابوس بن وشمكير فنزع إلى الأمير نوح و انهزم أصحاب أبي علي و فائق و فتك فيهم أصحاب سبكتكين و اتبعوهم إلى نيسابور فلحقا بجرجان و تلقاهما فجر الدولة بالهدايا و التحف و الأموال و أنزلهما بجرجان و استولى نوح على نيسابور و استعمل عليها و على جيوش خراسان محمود بن سبكتكين و لقبه سيف الدولة و لقب أباه سبكتكين ناصر الدولة و عاد نوح إلى بخارى و ترك سبكتكين بهراة و محمود بنيسابور (4/467)
عود ابن سيجور إلى خراسان
لما افترق نوح و سبكتكين طمع أبو علي و فائق في خراسان فسار عن جرجان إلى نيسابور في ربيع سنة خمس و ثمانين و ثلثمائة و برز محمود للقائهما بظاهر نيسابور و أعجلوه عن وصول المدد من أبيه سبكتكين و كان في قلة و انهزم إلى أبيه و غنموا اسواده و أقام أبو علي بنيسابور و كان الأمير نوح يستميله و يتلطف في العذر مما كان سبكتكين فلم يجيباه إلى ما طلب (4/468)
ظهور سبكتكين و ابنه محمود على أبي علي و فائق و مقتل أبي علي
و لما دخل أبو على نيسابور و انهزم عنها محمود جمع سبكتكين العساكر و سار إليه فالتقوا بطوس و جاء محمود على أثره مددا فانهزم هو و فائق إلى أبيورد فاتبعهما سبكتكين بعد أن استخلف ابنه محمودا بنيسابور فلحقا بمرو ثم آمل الشط و كتبا إلى الأمير نوح يستعطفانه فشرط على أبي علي أن ينزل بالجرجانية و يفارق فائقا ففعل و نزل قريبا من خوارزم بالجرجانية فأكرمه أبو عبد الله خوارزم شاه و سكن إليه و بعث من ليلته من جاء به و اعتقله و أعيان أصحابه و بلغ الخبر إلى مأمون بن محمد صاحب الجرجانية فاستعظم ذلك و سار بعساكره إلى خوارزم شاه و افتتح مدينته و تسمى كاش عنوة و خلص أبا علي من محبسه و عاد إلى الجرجانية و استخلف بعض أصحابه على بلاد خوارزم و لما عاد إلى الجرجانية أخرج خوارزم شاه و قتله بين يدي أبي علي بن سيجور و كتب إلى الأمير نوح يشفع في أبي علي فشفعه و استدعى أبا علي إلى بخارى فسار إليها و أمر الأمراء و العساكر بتلقيه فلما دخل عليه أمر بحبسه و شف سبكتكين فيه فهرب و لحق بفخر الدولة و أقام عنده و أما فائق فما فارقه أبو علي كما شرط عليه الأمير نوح سار إلى إيلك خان ملك الترك بكاشغر فأكرمه و كتب إلى نوح يشفع فيه فقبل شفاعته و ولاه عليها و أقام بها (4/468)
وفاة الأمير نوح و ولاية ابنه منصور و ولاية بكثرزون على خراسان
ثم توفي الأمير نوح بن منصور منتصف سبع و ثمانين و ثلثمائة لإحدى و عشرين سنة من ملكه و انتقض بموته ملك بني سامان و صار إلى الإنحلال و لما توفي قام بالملك بعده ابنه أبو الحرث منصور و تابعه أهل الدولة و اتفقوا على طاعته و قام بتدبير دولته بكثرزون و استوزر أبا طاهر محمد بن إبراهيم و بلغ خبر وفاة نوح إلى إيلك خان فطمع في ملكهم و سار إلى سمرقند و بعث من هنالك فائقا و الخاصة إلى بخارى فاضطرب منصور و هرب عن بخارى و قطع النهر و دخل فائق بخارى و أعلم الناس أنه إنما جاء لخدمة الأمير منصور فبعث مشايخ بخارى بذلك إلى منصور و دخل و استقدموه بعد أن أخذوا له مواثيق العهد من فائق فاطمأن و عاد إلى بخارى و أقام فائق بتدبير أمره و تحكم في دولته و أبعد بكثرزون إلى خراسان أميرا و قد كان سبكتكين توفي في شعبان من هذه السنة و وقعت الفتنة بين ابنيه إسمعيل و محمود فقدم بكثرزون أيام فتنتهما و استولى على خراسان (4/469)
عود أبي القاسم بن سيجور إلى خراسان و خيبته
قد ذكرنا مسير بكثرزون إلى خراسان عند مفره أيام محمود بن سبكتكين من خراسان و أقام عند فخر الدولة و عند أبيه مجد الدولة و اجتمع عنده أصحاب أبيه و كتب إليه فائق من بخارى يغريه ببكثرزون و يأمره بقصد خراسان و يخرج بكثرزون منها فسار عن جرجان إلى نيسابور و بعث جيشا إلى أسفراين فملكوها من يد أصحاب بكثرزون ثم تردد السفراء بينهما و وقع الصلح و الصهر و عاد بكثرزون إلى نيسابور (4/469)
انتقاض محمود بن سبكتكين و ملكه نيسابور ثم خروجه عنها
لما فرغ محمود بن سبكتكين من أمر الفتنة بينه و بين أخيه إسمعيل و استولى على ملك غزنة و عاد إلى بلخ وجد بكثرزون واليا على خراسان كما ذكرناه فبعث إلى الأمير منصور بن نوح يذكر و سائله في الطاعة و المحاباة و يطلب ولاية خراسان فاعتذر له عنها و ولاه ترمذ و بلخ و ما وراءهما من أعمال بست فلم يرض ذلك و أعاد الطلب فلم يجب فسار إلى نيسابور و هرب منها بكثرزون و ملكها محمود سنة ثمان و ثمانين و ثلثمائة فسار الأمير منصور من بخارى إليه فخرج عنها إلى مروالروذ و أقام بها (4/470)
خلع الأمير منصور و ولاية أخيه عبد الملك
و لما سار الأمير منصور عن بخارى إلى خراسان لمدافعة محمود بن سبكتكين عن نيسابور سار بكثرزون للقائه فلقيه بسرخس ثم لم يلق من قبوله ما كان يؤمله فشكا ذلك إلى فائق فألفاه واجدا مثل ذلك فخلصا في نجواهما و اتفقا على خلعه و إقامة أخيه عبد الملك مقامه و وافقهما على ذلك جماعة من أعيان العسكر ثم قبضوا عليه و سملوه أول سنة تسعين لعشرين شهرا من ولايته و ولي مكانه أخوه عبد الملك و بعث محمود إلى فائق و بكثرزون يقبح عليهما فعلهما و سار نحوهما طامعا في الاستيلاء على الملك (4/470)
استيلاء محمود بن سبكتكين على خراسان
ثم سار محمود بن سبكتكين إلى فائق و بكثرزون و معهما عبد الملك الصبي الذي نصبوه فساروا إليه و التقوا بمرو سنة تسعين و ثلثمائة و قاتلهم فهزمهم و افترقوا و لحق عبد الملك ببخارى و معه فائق و لحق بكثرزون بنيسابور و لحق أبو القاسم بن سيجور بقهستان و قصد محمود نيسابور و انتهى إلى طرسوس فقرب بكثرزون إلى جرجان و بعث في إثره أرسلان الحاجب إلى أن و صل جرجان و رجع فاستخلفه محمود على طرسوس و سار إلى هراة فخالفه بكثرزون إلى نيسابور و ملكها و رجع إليها محمود فأجفل عنها و مر بمرو فنهبها و لحق ببخارى و استقر محمود بخراسان و أزال عنها ملك بني سامان و خطب فيها للقادر العباسي و استدعى الولاية من قبله فبعث إليه بالعهد عليها و الخلع لبني سيجور و أنزله نيسابور و سار هو إلى بلخ كرسي أبيه فافتقده و اتفق أصحاب الأطراف بخراسان على طاعته مثل آل أفريقون بالجوزجان و الشاه صاحب غرسيان و بني مأمون بخوارزم (4/470)
استيلاء ايلك خان على بخارى و انقراض دولة بني سامان
و لما ملك محمود خراسان و لحق عبد الملك ببخارى اجتمع إليه فائق و بكثرزون و غيرهما من الأمراء و أخذوا في جمع العساكر لمناهضة محمود بخراسان ثم مات فائق في شعبان من هذه السنة فاضطربوا و وهنوا لأنه كان المقدم فيهم و كان خصيا من موالى نوح بن نصر فطمع ايلك خان في الاستيلاء على ملكهم كما ملكه بقراخان قبله فسار في جموع الترك يظهر المدافعة لعبد الملك عنه فاطمأنوا لذلك و خرج بكثرزون و غيره من الأمراء و القواد للقائه فقبض عليهم جميعا و دخل بخارى عاشر ذي القعدة و نزل دار الأمارة و اختفى عبد الملك فبعث العيون عليه حتى ظفر به و أودعه السجن في أرزكند فمات و حبس معه أخاه أبا الحرث منصور المخلوع و إخوته الآخرين أبا إبراهيم إسمعيل و أبا يعقوب و أعمامه أبا زكريا و أبا سليمان و أبا صالح القاري و غيرهم من بني سامان و انقرضت دولتهم بجد أن كانت انتشرت في الآفاق ما بين حلوان و بلاد الترك و وراء النهر و كانت من أعظم الدول و أحسنها سياسة (4/471)
خروج إسمعيل بن نوح بخراسان
ثم هرب أبو إبراهيم إسمعيل بن نوح من محبسه في زي امرأة كانت تتعاهد خدمته فاختفى ببخارى ثم لحق بخوارزم و تلقب المنتصر و اجتمع إليه بقايا القواد و الأجناد و بعث قابوس عسكرا مع ابنيه منوجهر و دارا و وصل إسمعيل إلى نيسابور في شوال سنة إحدى و تسعين و جبى أموالها و بعث إليه محمود مع الترتناش الحاجب الكبير صاحب هراة فلقيهم فافهزم المنتصر إلى أبيورد و قصد جرجان فمنعه قابوس منها فقصد سرخس و جبى أموالها و سكنها في ربيع سنة اثنتين و تسعين و ثلثمائة فأرسل إليها محمود العساكر مع منصور و التقوا فانهزم إسمعيل و أسر أبو القاسم بن سيجور في جماعة من أعيان العسكر فبعث بهم منصور إلى غزنة و سار إسمعيل حائرا فوافى أحياء الغز بنواحي بخارى فتعصبوا عليه و سار بهم إلى إيلك خان في شوال سنة ثلاث و تسعين و ثلثمائة فلقيه بنواحي سمرقند و انهزم إيلك و استولى الغز على سواده و أمواله و أسرى من قواده و رجعوا إلى أحيائهم و تفاوضوا في إطلاق الأسرى من أصحاب ايلك خان و شعر بهم إسمعيل فسار عنهم خائفا و عبر النهر إلى آمل الشط و بعث إلى مرو و نسا و خوارزم فلم يقبلوه و عاودوا العبور إلى بخارى و قاتله واليها فانهزم إلى دبوسية و جمع بها ثم عاد فانهزم من عساكر بخارى و قاتله واليها و جاءه جماعة من فتيان سمرقند فصاروا في جملته و بعث إليه أهله بأموال و سلاح و دواب و سار إليه ايلك خان بعد أن استوعب في الحشد و لقيه بنواحي سمرقند في شعبان سنة أربع و تسعين و ثلثمائة و ظاهر الغز إسمعيل فكانت الدبرة على ايلك خان و عاد إلى بلاد الترك فاحتشد و رجع إلى إسمعيل و قد افترقت عنه أحياء الغز إلى أوطانهم و خف جمعه فقاتلهم بنواحي مروسية فهزموه و فتك الترك في أصحابه و عبر إ سمعيل النهر إلى جوزجان فنهبها و سار إلى مرو و ركب المفازة إلى قنطرة راغول ثم إلى بسطام و عساكر محمود في اتباعه مع أرسلان الحاجب صاحب طوس و أرسل إليه قابوس عسكرا مع الأكراد الشاهجانية فأزعجوه عن بسطام فرجع إلى ما وراء النهر و أدرك أصحابه الكلل و الملال ففارقه الكثير منهم و أخبروا أصحاب ايلك خان و أعلموهم بمكانه فكبسه الجند فطاردهم ساعة ثم دخل في حي من أحياء العرب بالفلاة من طاعة محمود بن سبكتكين يعرف أميرهم بابن بهيج و قد تقدم إليهم محمود في طلبه فأنزله عندهم حتى إذا جن الليل وثبوا عليه و قتلوه و ذلك سنة خمس و تسعين و ثلثمائة و انقرض أمر بني سامان و انمحت آثار دولتهم و البقاء لله و حده (4/472)
الخبر عن دولة بني سبكتكين ملوك غزنة و ما ورثوه من الملك بخراسان و ما وراء النهر عن مواليهم و ما فتحوه من بلاد الهند و أول أمرهم و مصاير أحوالهم
هذه الدولة من فروع دولة بني سامان و ناشئة عنها و بلغت من الاستطالة و العز المبالغ العظيمة و استولت على ما كانت دولة بني سامان عليه في عدوتي جيحون و ما وراء النهر و خراسان و عراق العجم و بلاد الترك و زيادة بلاد الهند و كان مبدأ أمرهم عن غزنة و ذلك أن سبكتكين من موالي بني ألتيكين و كان ألتيكين من موالي بني سامان و كان في جملته و ولاه حجابته و ورد بخارى أيام السعيد منصور بن نوح و هو إذ ذاك حاجبه ثم تفوي ألتيكين هذا و عقد له السعيد منصور بن نوح سنة خمس و ستين و ثلثمائة و ولى ابنه نوح و يكنى أبا القاسم و استوزر أبا الحسن العتبي و ولى على نيسابور أبا الحسن محمد بن سيجور و كان سبكتكين شديد الطاعة له و القيام بحاجاته و طرقت دولة بني سامان النكبة من الترك و استولى بقراخان على بخارى من يد الأمير نوح ثم رجع إليها و مات أبو الحسن بن سيجور و ولي مكانه بخراسان ابنه أبو علي و استبد على الأمير نوح في الاستيلاء على خراسان عند نكبة الترك فلما عاد الأمير نوح إلى كرسيه و ثبت في الملك قدمه كاشفه أبو علي في خراسان بالانتقاض و استدعى أبا منصور سبكتكين يستمده على أبي علي و يستعين به في أحوال الدولة فبادر لذلك و كان له المقام المحمود فيه و ولاه الأمير نوح خراسان فدفع عنها أبا علي ثم استبد بعد ذلك على بني سامان بها ثم غلبهم على بخارى و ما وراء النهر و محا أثر دولتهم و خلفهم أحسن خلف و أورث ذلك بنيه و اتصلت دولتهم في تلك الأعمال إلى أن ظهر الغز و ملك الشرق و الغرب بنو سلجوق منهم فغلبوهم على أمرهم و ملكوا تلك الأعمال جميعا من أيديهم حسبما يذكر ذلك كله و لنبدأ الآن بسبكتكين من الجهاد في بلاد الهند قبل ولايته خراسان ثم نأتي بأخبارهم (4/473)
فتح بست
كانت بست هذه من أعمال سجستان و في ولايتها و لما فسد نظام تلك الولاية بانقراض دولة بني الصفار و اخترقت تلك العمالات طوائف فانفرد ببست أمير اسمه طغان ثم غلبه عليها آخر اسمه كان يكنى بأبي ثور فاستصرخ طغان سبكتكين على مال ضمنه على الطاعة و الخدمة فسار سبكتكين إلى بست و فتحها و أخذ الوزير أبا الفتح علي بن محمد البستي الشاعر المشهور فأحضره و استكتبه و كتب لابنه محمود من بعده ثم استخلف سبكتكين و سار إلى قصدار من ورائها فملكها و قبض على صاحبها ثم أعاده إلى ملكه على مال يؤديه و طاعة يبذلها له (4/474)
غزو الهند
ثم سار سبكتكين بعدما فتح بست و قصد غازيا بلاد الهند و توغل فيها حتى افتتح بلادا لم يدخلها أحد من بلاد الإسلام و لما سمع به ملك الهند سار إليه في جيوشه و قد عبى العساكر و الفيلة على عادتهم في ذلك بالتعبية المعروفة بينهم و انتهى إلى لمغان من ثغورة و تجاوزه و زحف إليه سبكتكين من غزنة في جموع المسلمين و التقى الجمعان و نصر الله المسلمين و أسر ملك الهند و فدى نفسه على ألف ألف درهم و خمسين فيلا و رهن في ذلك من قومه و بعث معه رجالا لقبض ذلك فغدر بهم في طريقه و تقبض عليهم فسار سبكتكين في تعبيته إلى الهند فقبض كل من لقيه من جموعهم و أثخن فيهم و فتح لمغان و هدمها و هي ثغر الهند مما يلي غزنة فاهتز لذلك جميال و احتشد و سار إلى سبكتكين فكانت بينهم حرب شديدة و انهزم جميال و جموع الكفر و خمدت شوكتهم و لم يقم لملوك الهند بعدها معه قائمة ثم صرف وجهه إلى إعانة سلطانه الأمير نوح كما نذكر (4/474)
ولاية سبكتكين على خراسان
قد قدمنا أن الأمير نوح بن منصور لما طرقته النكبة ببخارى من الترك و ملكها عليه بقراخان عبر النهر إلى آمل الشط و استصرخ ابن سيجور صاحب خراسان و فائقا صاحب بلخ فلم يصرخاه و بلغه مسير بقراخان عن بخارى فأغذ السير إليها و ارتجع ملكه كما كان و هلك بقراخان فثبت قدمه في سلطانه و ارتاب أبو علي و فائق بأمرهم عنده و غلط فائق بالمبادرة إلى بخارى للتهنئة و التقدم في الدولة من غير إذن في ذلك فسرح الأمير نوح غلمانه و مواليه فحاربوه و ملكوا بلخا من يده و لحق بأبي علي بن سيجور فاستظهر به على فتنة الأمير نوح و ذلك سنة أربع و ثمانين فكتب الأمير نوح عند ذلك إلى سبكتكين يستدعيه للنصرة عليهما و عقد له على خراسان و أعمالها و كان في شغل شاغل من الجهاد بالهند كما ذكرناه فبادر بذلك و سار إلى نوح فلقيه و اتفق معه ثم رجع إلى غزنة و احتشد و سار هو و ابنه محمود و لقيا الأمير نوحا بخراسان في الموضع الذي تواعد معه و لقيهم أبو علي بن سيجور و فائق فهزمهما و فتك فيهم أصحاب سبكتكين و اتبعوهم إلى نيسابور ثم صدوهم عنها إلى جرجان و استولى نوح على نيسابور و استعمل عليها و على جيوش خراسان محمود بن سبكتكين و أنزله بها و لقبه سيف الدولة و أنزل أباه سبكتكين بهراة و لقبه ناصر الدولة و رجع إلى بخارى (4/475)
الفتنة بين سيجور و فائق بخراسان و ظهور سبكتكين و ابنه محمود عليهم
و لما رجع نوح إلى بخارى و طمع أبو علي بن سيجور و فائق قي انتزاع خراسان من يد سبكتكين وابنه و بادروا إلى محمود بن سبكتكين بنيسابور سنة خمس و ثمانين و ثلثمائة و أعجلوه عن وصول المدد إليه من ابنه سبكتكين و كان في قلة فانهزم إلى أبيه بهراة و ملك أبو علي نيسابور و سار إليه سبكتكين في العساكر و التقوا بطوس فانهزم أبو علي و فائق حتى انتهيا إلى آمل الشط و استعطف أبو علي الأمير نوحا فاستدعاه و حبسه ثم بعث به إلى سبكتكين و حبسه عنده و لحق فائق بملك الترك ايلك خان في كاشغر و شفع فيه إلى الأمير نوح فولاه سمرقند كما مر ذلك كله في أخبارهم و كان أبو القاسم أخو أبي علي قد نزع إلى سبكتكين يوم اللقاء فأقام عنده مدة مديدة ثم انتقض و زحف إلى نيسابور فجاء محمود بن سبكتكين فهرب و لحق بفخر الدولة بن بويه فأقام عنده و استولى سبكتكين على خراسان (4/475)
مزاحفة سبكتكين و ايلك خان
كان ايلك خان ولي بعد بقراخان على كاشغر و شاغور و على أم الترك و طمع في أعمال الأمير نوح كما طمع أبوه و مد يده إليها شيئا فشيئا ثم اعتزم على الزحف إليه فكتب الأمير نوح إلى سبكتكين بخراسان يستجيشه على ايلك خان فاحتشد و عبر النهر و أقام بين نسف و كشف حتى لحقه ابنه محمود بالحشود من كل جهة و هنالك وصله أبو علي بن سيجور مقيدا بعث به إليه الأمير نوح فأبى من ذلك و جمع ايلك خان أمم الترك من سائر النواحي و بعث سبكتكين إلى الأمير نوح يستحثه فخام عن اللقاء و بعث قواده و جميع عساكره و جعلهم لنظره و في تصريفه فألح عليه سبكتكين و بعث أخاه بغراجق و ابنه محمودا لاستحثاثه فهرب الوزير بن عزيز خوفا منهم و تفادى نوح من اللقاء فتركوه وفت ذلك في عزم سبكتكين و بعث ايلك خان في الصلح فبادر سبكتكين و بعث أبا القاسم ثم ارتاب به عند عبوره إلى ايلك خان فحبسه مع أبي علي و أصحابه حتى رجع سبكتكين من طوس إلى بلخ فبلغ الخبر بمقتلهم و وصل نعي مأمون بن محمد صاحب الجرجانية بخوارزم غدر به صاحب جيشه في صنيع أعده له و قتله وصل خبر الأمير نوح أثرهما و أنه هلك منتصف رجب سنة سبع و ثمانين و ثلثمائة (4/476)
أخبار سبكتكين مع فخر الدولة بن بويه
كان أبو علي بن سيجور و فائق لما هزمهما سبكتكين لحقا بجرجان عند فخر الدولة بن بويه ثم لما أجلب أبو القاسم على خراسان و سار إليه محمود بن سبكتكين و عمه بغراجق و كان معه أبو نصر بن محمود الحاجب فهربا إلى فخر الدولة و أقاما في نزله و تحت حرابه بقومس و الدامغان و جرجان و أتاخ سبكتكين على طوس ثم وقعت المهاداة بينه و بين فخر الدولة بن بويه صاحب الري و كان آخر هدية من سبكتكين جاء بها عبد الله الكاتب من ثغابة و نمي إلى فخر الدولة أنه يتجسس عدد الجند و غوامض الطرق فبعث إلى سبكتكين بالعتاب في ذلك ثم ضعف الحال بينهما و اتصل ما بين فخر الدولة و الأمير نوح على يد سبكتكين (4/476)
وفاة سبكتكين و ولاية ابنه إسمعيل
و لما فرغ سبكتكين من أمر ايلك خان و رجع إلى بلخ و أقام بها قليلا طرقه المرض فبادر به إلى غزنة و هلك في طريقه في شعبان سنة سبع و ثمانين و ثلثمائة لعشرين سنة من ملكه في غزنة و خراسان و دفن بغزنة و كان عادلا خيرا حسن العهد محافظا على الوفاء كثير الجهاد و لما هلك بايع الجند لابنه إسمعيل بعهده إليه و كان أصغر من محمود فأفاض فيهم العطاء و انعقد أمره بغزنة (4/477)
استيلاء محمود بن سبكتكين على ملك أبيه و ظفره بأخيه إسمعيل
و لما ولي إسمعيل بغزنة استضعفه الجند و استولوا عليه و اشتطوا عليه في الطلب حتى أنفد خزائن أبيه و كان أخوه محمود بنيسابور فبعث إليه أن يكتب له بالأعمال التي لنظره مثل بلخ فأبى و سعى أبو الحرب والي الجوزجان في الإصلاح بينهما فامتنع إسمعيل فسار محمود إلى هراة معتزما عليه و تحيز معه عمه بغراجق ثم سار إلى بست و بها أخوه نصر فاستماله و ساروا جميعا إلى غزنة و قد كتب إليه الأمراء الذين مع إسمعيل و استدعوه و وعدوه بالطاعة و أغذ السير و لقيه إسمعيل بظاهر غزنة فاقتتلوا قتالا شديدا و انهزم إسمعيل و اعتصم بقلعة غزنة و استولى محمود على الملك و حاصر أخاه إسمعيل حتى استنزله على الأمان فأكرمه و أشركه في سلطانه و ذلك لسبعة أشهر من ولاية إسمعيل و استقامت الممالك لمحمود و لقب بالسلطان و لم يلقب به أحد قبله ثم سار إلى بلخ (4/477)
استيلاء محمود على خراسان
لما ولي أبو الحرث منصور بعد نوح استوزر محمد بن إبراهيم و فوض أمره إلى فائق كفالة و تدبيرا لصغره و كان عبد الله بن عزيز قد هرب من بخارى عند قدوم محمد إليها في استحثاث الأمير نوح للقاء ايلك خان كما مر فلما مات الأمير نوح و ولي ابنه منصور أطمع عزيز أبا منصور محمد بن الحسين الاسبيجابي في قيادة الجيش بخراسان و حمله على الانحدار به إلى بخارى مستغيثا بايلك خان على غرضه فنهض ايلك خان لمصاحبتهما و سار بهما كأنه يريد سمرقند ثم قبض على أبي منصور و ابن عزيز و حضر فائقا و أمره بالمسير على مقدمته إلى بخارى فهرب أبو الحرث و ملك فائق بخارى و رجع ايلك خان و استدعى فائق أبا الحرث فاطمأن و بعث من مكانه بكثرزون الحاجب الأكبر على خراسان و لقبه بستان الدولة و رجع إلى بخارى فتلقاه فائق و قام بتدبير دولته و كانت بينه و بين بكثرزون ضغن فأصلح أبو الحرث بينهما و أقام بكثرزون و جبى الأموال و زحف إليه أبو القاسم بن سيجور و كانت بينهما الفتنة التي مر ذكرها و جاء محمود إلى بلخ بعد فراغه من فتنة أخيه إسمعيل فبعث إلى أبي الحرث منصور رسله و هداياه فعقد له على بلخ و ترمذ و هراة و بست و اعتذر عن نيسابور فراجعه مع ثقته أبي الحسن الحمولي فاستخلصه أبو الحرث لوزارته و قعد عن رسالة صاحبه فأقبل محمود إلى نيسابور و هرب عنها بكثرزون فنهض أبو الحرث إلى نيسابور فخرج محمود عنها إلى مرو الورذ و جمع أبو الحرث و كحلة بكثرزون و بايعوا لأخيه عبد الملك بن نوح و بعث محمود إلى فائق و بكثزرون بالعتاب على صنيعهما بالسلطان و زحف إليهما فبرزا من مرو للقائه ثم سألوه الإبقاء فأجاب و ارتحل عنهم و بعض أوباشهم في أعقابه فرجع إليهم و حشدوا الناس للقائه فهزمهم و افترقوا فسار عبد الملك إلى بخارى و بكثرزون إلى نيسابور و كان معهم أبو القاسم بن سيجور و لحق بقهستان و استولى محمود على خراسان و ذلك سنة تسع و ثمانين و ثلثمائة ثم سار إلى طوس و هرب بكثرزون إلى جرجان و بعث محمود أرسلان الحاجب في أثره فأخرجه من نواحي خراسان فولى أرسلان على طوس و سار إلى هراة لمطالعة أحوالها فخالفه بكثرزون إلى نيسابور و ملكها و رجع فطرده عنها أبو القاسم بن سيجور و ملكها و ولى محمود أخاه نصر ابن سبكتكين قيادة الجيوش بخراسان و أنزله بنيسابور ثم سار إلى بلخ فأنزل بها سريره ثم استراب بأخيه إسمعيل فاعتقله ببعض القلاع موسعا عليه و كتب بالبيعة للقادر الخليفة من بني العباس فبعث إليه بالخلع و الألوية على العادة و قام بين يديه السماطان و استوثق له ملك خراسان و بقي يردد الغزو إلى الهند كل سنة (4/478)
استيلاء محمود على سجستان
كان خلف بن أحمد صاحب سجستان في طاعة بني سامان و لما شغل عنه بالفتن استفحل أمره و شغل للاستبداد فلما سار سبكتكين للقاء ملك الهند كما مر اغتنم الفرصة من بست و بعث إليها عسكرا فملكوها و جبوها و لما رجع سبكتكين من الهند ظافرا تلقاه بالمعاذير و التعزية و الهدايا و الطاعة فقبل و أعرض عنه و ارتهن عنده على طاعته و سار معه الحرث أبو علي بن سيجور بخراسان فملأ يده و يد عسكره بالعطاء و بتقدمه لقتال ايلك خان بما وراء النهر كما مر فدس إلى ايلك خان يغريه بسبكتكين و اعتزم سبكتكين على غزو سجستان ثم أدركه الموت فاغتنم خلف الفرصة و بعث طاهرا إلى قهستان و بوشنج فملكها و كاتب البغراجق أخا سبكتكين فلما فرغ محمود من شأن خراسان بعث لبغراجق عمه بانتزاع قهستان و بوشنج فسار إلى طاهر فهزمه و اتبعه
و كر عليه طاهر فقتله و انهزم الفريقان و زحف محمود إلى خلف سنة تسعين و ثلثمائة فامتنع في أحصن بلد و هي قلعة عالية منيعة و حاصره بها حتى لاذ بالطاعة و بذل مائة ألف دينار فأفرج عنه و سار إلى الهند فتوغل فيها و انتهى في اثني عشر ألف فارس و ثلاثين ألف راجل فاختار محمود من عساكره خمسة عشر ألفا و سار لقتال جميال فهزمه و أسره في بنيه و حفدته و كثير من قرابته و وجد في سلبه مقلد من فصوص يساوي مائة ألف دينار و أمثال ذلك فوزعها على أصحابه و كان الأسرى و السبي خمسمائة ألف رأس و ذلك سنة اثنتين و تسعين و ثلثمائة و فتح من بلاد الهند بلادا أوسع من بلاد خراسان ثم فادى جميال ملك الهند نفسه بخمسين رأسا من الفيلة ارتهن فيها ابنه و حافده و خرج إلى بلده فبعث إلى ابنه أندبال و شاهينة وراء سيجور فأعطوه تلك الفيلة و سار لا يعود له ملك و سار السلطان محمود إلى ويهند فحاصرها و افتتحها و بعث العساكر لتدويخ نواحيها فأثخنوا في القتل في أوباش كانوا مجتمعين للفساد مستترين بخمر الغياض فاستلحموهم و رجع السلطان محمود إلى غزنة و كان خلف بن أحمد عند منصرف السلطان عنه أظهر النسك و ولى ابنه طاهرا على سجستان فما طالت غيبة السلطان أراد الرجوع إلى ملكه فلم يمكنه ابنه فتمارض و بعث إليه بالحضور للوصية و الاطلاع على خبايا الذخيرة فلما حضر اعتقله ثم قتله كما مر و بلغت ضمائر قواده لذلك و خافوه و بعثوا للسلطان محمود بطاعتهم ما بقيت له الدعوة في سجستان سنة ثلاث و تسعين و ثلثمائة و سار السلطان محمود إلى خلف فامتنع منه في معقله بحصن الطاق و هو في رأس شاهق تحيط به سبعة أسوار عالية و يحيط به خندق بعيد المهوى و طريقه واحدة على جسر فجثم عليه أشهرا ثم فرض على أهل العسكر قطع الشجر التي تليه و طم بها الخندق و زحف إليه و قدم الفيول بين يديه على تعبيتها فحطم الفيل الأعظم على باب الحصن فقلعه و رمى به و فشا القتل في أصحاب خلف و تماسكوا داخل الباب يتناضلون بأحجار المجانيق و السهام والحراب فرأى خلف هول المطلع فأثاب و استأمن و خرج إلى السلطان و أعطاه كثيرا من الذخيرة فرفع من قدره و خيره في مقاماته فاختار الجوزجان فأذن له في المسير إليها على ما بينه و بين ايلك خان من المداخلة ثم هلك خلف سنة تسع و تسعين و ثلاثمائة و أبقى السلطان على ولده عمر و كان خلف كثير الغاشية من الوافدين و العلماء و كان محسنا لهم ألف تفسيرا جمع له العلماء من أهل إيالته و أنفق عليهم عشرين ألف دينار و وضعه في مدرسة الصابوني بنيسابور و نسخه يستغرق عمر الكاتب إلا أن يستغرق في النسخ و استخلف السلطان على سجستان أحمد الفتحي من قواد أبيه و رجع إلى غزنة ثم بلغه انتقاض أحمد بسجستان فسار إليهم في عشرة آلاف و معه أخوه صاحب الجيش أبي المظفر نصر و التوتناش الحاجب و زعيم العرب أبو عبد الله محمد بن ابراهيم الطائي فحاصرهم و فتحها ثانية و ولى عليها أخاه صاحب الجيش نصر بن سبكتكين مضافة إلى نيسابور فاستخلف عليها وزيره أبا منصور نصر بن إسحاق و عاد السلطان محمود إلى بلخ مضمرا غزو الهند هكذا مساق خبر السلطان محمود مع خلف بن أحمد و خبر سجستان عند العيني و أما عند ابن الأثير فعلى ما وقع في أخبار دولة بني الصفار (4/479)
غزوة بهاطية و الملتان و كوكبر
و لما فرغ السلطان محمود من سجستان اعتزم على غزو بهاطية من أعمال الهند و هي وراء الملتان مدينة حصينة عليها أنطاق من الأصبوان و آخر من الخنادق بعيدة المهوى و كانت مشحونة بالمقاتلة و العدة و اسم صاحبها بجير فعبر السلطان إليها جيحون و برز إليه بجير فاقتتلوا بظاهر جهاطية ثلاثة أيام ثم انهزم بجير و أصحابه في الرابع و تبعهم المسلمون إلى باب البلد فملكوه عليهم و أخذتهم السيوف من أمامهم و من ورائهم فبلغ القتل و السبي و السلب و النهب فيهم مبالغه و سار بجير في رؤوس الجبال فستر في شعابها و بعث السلطان سرية في طلبه فأحاطوا به و قتلوا من أصحابه و لما أيقن بالهلكة قتل نفسه بخنجر معه و أقام السلطان محمود في بهاطية حتى أصلح أمورها و استخلف عليها من يعلم أهلها قواعد الإسلام و رجع إلى غزنة فلقي في طريقه شدة من الأمطار في الوحل و زيادة المدد في الأنهار و غرق كثير من عسكره ثم بلغه عن أبي الفتوح والي الملتان أنه ملحد و أنه يدعو أهل ولايته إلى مذهبه فاعتزم على جهاده و سار كذلك و منعه سيجور من العبور لكثرة المدد فبعث السلطان إلى أندبال ملك الهند في أن يبيح له العبور إلى بلاده لغزو الملتان فأبى فبدأ بجهاده و سار في بلاده و دوخها و فر أندبال بين يديه و هو في طلبه إلى أن بلغ كشمير و نقل أبو الفتوح أمواله على الفيول إلى سرنديب و ترك الملتان فقصدها السلطان و امتنع أهلها فحاصرهم حتى افتتحها عنوة و أغرمهم عشرين ألف ألف درهم عقوبة لهم على عصيانهم ثم سار إلى كوكبر و اسم صاحبها بيدا و كان بها ستمائة صنم إلى افتتحها و أحرق أصنامها و هرب صاحبها إلى قلعته و هي كاليجار و هو حصن كبير يسع خمسمائة ألف إنسان و فيه خمسمائة و عشرون ألف راية و هو مشحون بالأقوات و المسالك إليه متعذرة بخمر الشجر و ملتف الغياض فأمر بقطع الأشجار حتى اتضحت المسالك و اعترضه دون الحصن واد بعيد المهوى فطم منه عشرين ذراعا بالأجربة المحشوة بالتراب و صيره جسرا و مضى منه إلى القلعة و حاصرها ثلاثة و أربعين يوما حتى جنح صاحبها إلى السلم
و بلغ السلطان أن ايلك خان مجمع غزو خراسان فصالح ملك الهند على خمسين فيلا و ثلاثة آلاف من الفضة و خلع عليه السلطان فلبس خلعته و شد منطقته ثم قطع خلعته و أنفذها إلى السلطان و تبعه بما عقد معه و عاد السلطان إلى خراسان بعد أن كان عازما على التوغل في بلاد الهند (4/481)
مسير ايلك خان إلى خراسان و هزيمته
كان السلطان محمود لما ملك ايلك خان بخارى كما مر و كتب إليه مهنيا و تردد السفراء بينهما في الوصلة و أوفد عليه سهل بن محمد بن سليمان الصعلوكي إمام الحديث و معه طغان جق والي سرخس في خطبة كريمته بهدية فاخرة من سبائك العقيان و اليواقيت و الدر و المرجان و الوشى و الحمر و صواني الذهب مملوأة بالعنبر والكافور و العود و النصول و أمامه الفيول تحت الخروج المغشاة فقوبلت الهدية بالقبول و الوافد بالتعظيم له و لمن أرسله و زفت المخطوبة بالهدايا و الألطاف و اتحدت الحال بين السلطانين و لم يزل السعاة يغرون ما بينهما حتى فسد ما بينهما فلما سار السلطان محمود إلى الملتان اغتنم ايلك خان الفرصة و بعث سباسي تكين قريبه وقائد جيشه إلى خراسان و بعث معه أخاه جعفرتكين و ذلك سنة تسعين و ثلاثمائة فملك بلخا و أنزل بها جعفر تكين و كان أرسلان الحاجب بهراة أنزله السلطان بها و أمره إذا دهمه أن ينحاز إلى غزنة و قصد سباسي هراة و سكنها و ندب الحسين بن نصر إلى نيسابور فملكها و رتب العمال و استخرج الأموال و طار الخبر إلى السلطان بالهند و قصد بلخ فهرب جعفر تكين إلى ترمذ و استقر السلطان ببلخ و سرح أرسلان الحاجب في عشرة آلاف من العساكر إلى سباسي تكين بهراة فسار سباسي إلى مرو و اعترضه التركمان و قاتلهم فهزمهم و أثخن فيهم ثم سار إلى أبيود ثم إلى نسا و أرسلان في اتباعه حتى انتهى إلى جرجان فصد عنها و ركب قلل الجبال و الغياض و تسلط الكراكلة على أثقاله و رجاله و استأمن طوائف من أصحابه إلى قابوس لعدم الظهر ثم عاد إلى نسا و أصدر ما معه إلى خوارزم شاه أبى الحسن علي ابن مأمون و ديعة لايلك خان و اقتحم المفازة إلى مرو فسار السلطان لاعتراضه و رماه محمد بن سبع بمائة من القواد حملوا إلى غزنة و نجا سباسي تكين في فل من أصحابه فعبر النهر إلى ايلك خان و قد كان ايلك خان بعث أخاه جعفر تكين في ستة آلاف راجل إلى بلخ ليفتر من عزيمة السلطان عن قصد سباسي تكين فلم يفتر ذلك من عزمه حتى أخرج سباسي من خراسان في تصدهم فانهزموا أمامه و تبعهم أخوه نصر بن سبكتكين صاحب جيش خراسان إلى ساحل جيحون فقطع دابرهم و لما بلغ الخبر إلى ايلك خان قام في ركائبه و بعث بالصريخ إلى ملك الختل و هو قدرخان بن بقراخان لقرابة بينهما و صهر فجاءه بنفسه و نفر معه و استجاش أحياء النزل و دهاقين ما وراء النهر و عبر النهر في خمسين ألفا و انتهى إلى السلطان خبره و هو بطخارستان فقدم إلى بلخ و استعد للحرب و استنفر جموع الترك و الجند و الخلنجية و الأفقانية و الفربوية و عسكر على أربعة فراسخ من بلخ و تزاحفوا على التعبية فجعل السلطان في القلب أخاه نصرا صاحب الجيش بخراسان و أبا نصر ابن أحمد الفريغوني صاحب الجوزجان و أبا عبد الله بن محمد بن ابراهيم الطائي في كماة الأكراد و العرب و الهنود و في الميمنة حاجبه الكبير أبا سعيد التمرتاشي و في الميسرة أرسلان الحاجب و حصن الصفوف بخمسمائة من الفيلة و جعل ايلك خان على ميمنته قدرخان ملك الختل و على ميسرته أخاه جعفرتكين و هو في القلب و طالت الحرب و استمات الفريقان و نزل السلطان و عفر خده بالأرض متضرعا ثم ركب و حمل في فيلته على القلب فأزاله عن مكانه و انهزم الترك و اتبعوهم يقتلون و يأسرون إلى أن عبروا بهم النهر و أكثر الشعراء تهنئة السلطان بهذا الفتح و ذلك سنة سبع و تسعين و ثلاثمائة و لما فرغ السلطان من هذه الحرب سار للهند للإيقاع بنواسه شاه أحد أولاد الملوك كان أسلم على يده و استخلفه على بعض المعاقل التي افتتحها فارتد و نبذ الإسلام فأغذ السير إليه ففر أمامه و احتوى على المعاقل التي كانت في يده من أصحابه و انقلب إلى غزنة ظافرا و ذلك سنة سبع و تسعين و ثلاثمائة (4/482)
فتح بهيم نقرا
ثم سار السلطان سنة ثمان و تسعين و ثلاثمائة في ربيع منها غازيا إلى الهند فانتهى إلى سبط و بهند فلقيه هنالك ابن هزبال ملك الهند في جيوش لا تحصى فصدقهم السلطان القتال فهزمهم و اتبعهم إلى قلعة بهيم نقرا و هي حصن على حصن عالية اتخذها أهل الهند خزانة للصنم و يودعون به أنواع الذخائر و الجواهر التي يتقرب بها للصنم فداخ عنه و عن خزنته أياما ثم استأمنوا و أمكنوا السلطان من القلعة فبعث عليه أبا نصر الفريغوني و حاجبه الكبير ابن التمرتاش و واسع تكين و كلفهما بنقل ما في الخزائن فكان مبلغ المنقول من الوزن سبعين ألف ألف شامية و من الذهبيات و الفضيات موزونة و الديباج السوسي ما لا عهد بمثله و وجد في جملتها بيت من الفضة الخالصة طوله ثلاثون ذراعا في خمسة عشر صفائح مضروبة و معالق للطهي و النشر و شراع من ديباج طوله أربعون ذراعا في عرض عشرين بقائمتين من ذهب و قائمتين من فضة فوكلهما بحفظ ذلك و مضوا إلى غزنة فأمر بساحة داره ففرشه بتلك الجواهر و اجتمعت وفود الأطراف لمشاهدتها و فيهم رسول طغان أخي ايلك خان (4/484)
خبرالفريغون و استيلاء السلطان على الجوزجان
و كان بنو فريغون هؤلاء ولاة على الجوزجان أيام بني سامان يتوارثونها و كان لهم شهرة مكارم و كان أبو الحرث أحمد بن محمد غرتهم و كان سبكتكين خطب كريمته لابنه محمود و أنكح كريمته أخت محمود لابنه أبي نصر فالتحم بينهما و هلك أبو الحرث فأقر السلطان محمود ابنه أبا نصر على ولايته إلى أن مات سنة إحدى و أربعمائة و كان أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني المعروف بالبديع يؤلف له التآليف و يجعلها باسمه و نال عنده بذلك فوق ما أمل (4/484)
غزوة بارين
ثم سار السلطان محمود على رأس المائة الرابعة لغزو بلاد الهند فدوخها و استباحها و أوقع بملكها و رجع إلى غزنة فبعث إليه ملك الهند في الصلح على جزية مفروضة و عسكر مقرر عليه و على تعجيل مال عظيم و هدية فيها خمسون فيلا و تقرر الصلح بينهما على ذلك (4/485)
غزوة الغور و قصران
بلاد الغور هذه تجاور بلاد غزنة و كانوا يفسدون السابلة و يمتنعون بجبالهم و هي وعرة و ضيقة و أقاموا على ذلك متمردين على كفرهم و فسادهم فامتعض السلطان محمود و سار لحسم عللهم سنة إحدى و أربعمائة و في مقدمته التمرتاش الحاجب والي هراة و أرسلان الحاجب والي طوس و انتهوا إلى مضيق الجبل و قد شحنوه بالمقاتلة فنازلتهم الحرب و دهمهم السلطان فارتدوا على أعقابهم و دخل عليهم لبلادهم و لملكها و دخل حصنا في عشرة آلاف و استطرد لهم السلطان إلى فسيح من الأرض ثم كر عليهم فهزمهم و أثخن فيهم و أسر ابن سوري و قرابته و خواصه و ملك قلعتهم و غنم جميع أموالهم و كانت لا يعبر عنها و أسف ابن سوري على نفسه فتناول سما كان معه و مات ثم سار السلطان سنة اثنتين و أربعمائة لغزو قصران و كان صاحبها يحمل ضمانه كل سنة فقطع الحمل و امتنع بموالاة ايلك خان و سار إليه فبادر
باللقاء و تنصل و اعتذر و أهدى عشرين فيلا و ألزمه السلطان خمسة عشر ألف درهم و وكل بقبضها و رجع إلى غزنة (4/485)
خبر اليشار و استيلاء السلطان على غرشتان
كان اسم أليشار عند الأعاجم لقبا على ملك غرشتان كما أن كسرى على ملك الفزس و قيصر على ملك الروم و معناه الملك الجليل و كان أليشار أبو نصر محمد بن إسماعيل بن أسد ملكها إلى أن بلغ ولده محمد سن النجابة فغلب على أبيه و انقطع أبو نصر للنظر في العلوم لشغفه بها و صاحب خراسان يومئذ أبوعلي بن سيجور و لما انتقض على الرضى نوح خطبهم لطاعته و ولايته فأبوا من ذلك لانتقاضه على سلطانه فبعث العساكر إليهم و حاصرهم زمانا ثم نهض سبكتكين إلى أبي علي بن سيجور و انضاف إلى أليشار إلى سبكتكين في تلك الفتنة كلها فلما ملك السلطان محمود خراسان و أذعن له ولاة الأطراف و الأعمال بعث إليهم في الخطبة فأجابوه ثم
استنفر محمد بن أبي نصر في بعض غزواته فقعد عن النفير فلما رجع السلطان من غزوته بعث حاجبه الكبير أبا سعيد الترنتاش في العساكر و أردفه بأرسلان الحاجب والي طوس لمناهضة أليشار ملك غرشتان و استصحبا معهما أبا الحسن المنيعي الزعيم بمرو و الروذ لعلمه بمخادع تلك البلاد فأما أبو نصر فاستأمن إلى الحاجب و جاء به إلى هراة مرفها محتاطا عليه و أما ابنه محمد فتحصن بالقلعة التي بناها أيام ابن سيجور فحاصروها طويلا و اقتحموها عنوة و أخذ أسيرا فبعث به إلى غزنة و استصفيت أمواله و صودرت حاشيته و استخلف الحاجب على الحصن و رجع إلى غزنة فامتحن الولد بالسياط و اعتقله مرفها و استقدم أباه أبا نصر من هراة فأقام عنده في كرامة إلى أن هلك سنة ست و أربعمائة (4/486)
وفاة ايلك خان و صلح أخيه طغان خان مع السلطان
كان ايلك خان بعد هزيمته بخراسان يواصل الأسف و كان أخوه طغان يكبر عليه على فعلته و ينقضه العهد مع السلطان و بعث إلى السلطان يتبرأ و يعتذر فنافره ايلك خان بسبب ذلك و زحف إليه ثم تصالحها ثم هلك ايلك خان سنة ثلاثة و أربعمائة و ولى مكانه أخوه طغان خان فراسل السلطان محمود و صالحه و قال له اشتغل أنت بغزو الهند و أنا بغزو الترك فأجابه إلى ذلك و انقطعت الفتنة بينهما وصلحت الأحوال ثم خرجت طوائف الترك فأجابه إلى ذلك و انقطعت الفتنة بينهما و صلحت الأحوال ثم خرجت طوائف الترك من جانب الصين في مائة ألف خركاة و قصدوا بلاد طغان فهال المسلمين أمرهم فاستنفر طغان من الترك أزيد من مائة ألف و استقبل جموع الكفرة فهزمهم و قتل نحوا من مائة ألف و أسر مثلها و رجع الباقون منهزمين و هلك طغان إثر ذلك و ملك بعده أخوه أرسلان خان سنة ثمان و أربعمائة و خلص ما بينه و بين السلطان محمود و خطب بعض كرائمه للسلطان مسعود ولده فأجابه و عقد السلطان لابنه على هراة فسار إليها سنة ثمان و أربعمائة (4/486)
فتح بارين
ثم سار السلطان سنة ثمان و أربعمائة عندما فصل الشتاء غازيا إلى الهند و توغل فيها مسيرة شهرين و امتنع عظيم الهند في جبل صعب المرتقى و منع القتال و استدعى الهنود و ملك عليهم الفيلة و فتح الله بارين و كثرت الأسرى و الغنائم و وجد به في بيت البدجي حجر منقوش قال التراجمة كتابته إنه مبني منذ أربعين ألف سنة ثم عاد إلى غزنة و بعث إلى القادر يطلب عهد خراسان و ما بيده من الممالك (4/487)
غزوة تنيشرة
كان صاحب تنيشرة عاليا في الكفر و الطغيان و انتهى الخبر إلى السلطان في ناحيته من الفيلة فيلة من الفيتلمان الموصوفة في الحروب فاعتزم السلطان على غزوه و سار إليه في مسالك صعبة وعرة بين أودية و قفارات حتى انتهى إلى نهر طام قليل المخاضة و قد استندوا من ورائه إلى سفح جبل فسرب إليهم جماعة من الكماة خاضوا النهر و شغلوهم بالقتال حتى تعدت بقية العسكر ثم قاتلوهم و انهزموا واستباحهم المسلمون و عادوا إلى غزنة ظافرين ظاهرين ثم غزا السلطان على عادته فضل الأدلاء طريقهم فوقع السلطان في مخاضات من المياه غرق فيها كثير من
العسكر و خاض الماء بنفسه أياما حتى تخلص و رجع إلى خراسان (4/488)
استيلاء السلطان على خوارزم
كان مأمون بن محمد صاحب الجرجانية من خوارزم و كان مخلصا فى طاعة الرضى نوح أيام مقامه في آمد كما مر فأضاف إلى نسا إلى عمله فلم يقبلها المودة بينه و بين أبي علي ابن سيجور و كان من خبره مع ابن سيجور و استنقاذه إياه من أسر خوارزم شاه سنة ست و ثمانين و ثلاثمائة ما مر ذكره و صارت خوارزم كلها له ثم هلك و ملك مكانه أبو الحسن علي ثم هلك و ملك مكانه ابنه مأمون و خطب إلى السلطان محمود بعض كرائمه فزوجه أخته و اتحد الحال بينهما إلى أن هلك و ولي مكانه أبو العباس مأمون و نكح أخته كما نكحها أخوه من قبله ثم دعاه إلى الدخول في
طاعته و الخطبة له كما دعا الناس فمنعه أصحابه و أتباعه و توجس الخيفة من السلطان في ذلك فرجعوا إلى الفتك به فقتلوه و بايعوا ابنه داود و ازداد خوفهم من السلطان في ذلك فتعاهدوا على الامتناع و مقدمهم التكين البخاري و سار إليهم السلطان في العساكر حتى أناخ عليهم و بيتوا محمد بن ابراهيم الطائي و كان في مقدمة السلطان فقاتلهم إلى أن وصل السلطان فهزمهم و أثخن فيهم بالقتل و الأسر و ركب التكين السفن ناجيا فغدره الملاحون و جاؤوا به إلى السلطان فقتله في جماعة من القواد الذين قتلوا مأمونا على قبره و بعث بالباقين إلى غزنة فاخرجوا في البعوث إلى الهند و أنزلوا هنالك في حامية الثغور و أجريت لهم الأرزاق و استخلف على خوارزم الحاجب الترنتاش و رجع إلى بلاده (4/488)
فتح قشمير و قنوج
و لما فرغ السلطان من أمر خوارزم و انضافت إلى مملكته عدل إلى بست و أصلح أحوالها و رجع إلى غزنة ثم اعتزم على غزو الهند سنة تسع و أربعمائة و كان قد دوخ بلادها كلها و لم يبق عليه إلا قشمير و من دونها الفيافي و المصاعب فاستنفر الناس من جميع الجهات من المرتزقة و المتطوعة و سار تسعين مرحلة و عبر نهر جيحون و حيلم وخيالا هو و امراؤه و بث عساكره في أودية لا يعبر عن شدة جريها و بعد أعماقها و انتهى إلى قشمير و كانت ملوك الهند في تلك الممالك تبعث إليه بالخدمة و الطاعة و جاءه صاحب درب قشمير و هو جنكي بن شاهي وشهي فأقر بالطاعة و ضمن دلالة الطريق و سار أمام العسكر إلى حصن مأمون لعشرين من رجب و هو خلال ذلك يفتتح القلاع إلى أن دخل في ولاية هردت أحد ملوك الهند فجاء طائعا مسلما ثم سار السلطان إلى قلعة كلنجد من أعيان ملوكهم فبرز للقائه
و انهزم و اعترضهم أنهار عميقة سقطوا فيها و هلكوا قتلا و غرقا يقال : هلك منهم خمسون ألفا و غنم السلطان منهم مائة فيل و خمسة إلى غير ذلك مما جل عن الوصف ثم عطف إلى سقط التقيذ و هو بيت مبني بالصخور الصم يشرع منها بابان إلى الماء المحيط موضوعة أبنيته فوق التلال و عن جنبتيه ألف قصر مشتملة على بيوت الأصنام و في صدر البلد بيت أصنام منها خمسة من الذهب الأحمر مضروبة على خمسة أذرع في الهواء قد جعلت عينا كل واحدة منهما ياقوتتان تساوين خمسين ألف دينار و عين الآخر قطعة ياقوت أزرق تزن أربعمائة و خمسين مثقالا و في وزن قدمي الصنم الواحد أربعة آلاف و أربعمائة مثقال و جملة ما في الأشخاص من الذهب ثمانية و تسعون ألف مثقال و زادت شخوص الفضة على شخوص الذهب في الوزن فهدمت تلك الأصنام كلها و خربت و سار السلطان طالبا قنوج و خرب سائر القلاع في طريقه و وصل إليها في شعبان سنة تسع و أربعمائة و قد فارقها نزوجبال حين سمع بقدومه و عبر نهر الغانج الذي تغرق الهنود فيه أنفسهم و يذرون فيه رماد المحرقين منهم و كان أهل الهند و واثقين بقنوج و هي سبع قلاع موضوعة على ذلك الماء فيها عشرة آلاف بيت للأصنام تزعم الهنود أن تاريخها منذ مائتي ألف سنة أو ثلاثمائة ألف سنة و أنها لم تزل متعبدا لهم فلما وصلها السلطان ألفاها خالية قد هرب أهلها ففتحها كلها في يوم واحد و استباحها أهل عسكره ثم أخذ في السير منها إلى قلعة لنج و تعرف بقلعة البراهمة فقاتلوا ساعة ثم تساقطوا من أعاليها على سنا الرماح و ضياء الصفاح ثم سار إلى قلعة أسا و ملكها جندبال فهرب و تركها و أمر السلطان بتخريبها ثم عطف على جندراي من أكابر الهنود في قلعة منيعة و كان جميال ملك الهند من قبل ذلك يطلبه للطاعة و الألفة فيمتنع عليه و لحق جميال بنهوجد أحد المغرورين بحصانة المعقل فنجا بنفسه و رام جندراي المدافعة و ثوقا بامتناع قلعته ثم تنصح له بهميال و منعه من ذلك فهرب إليه أمواله و أنصاره إلى جبال وراء القلعة و افتتحها السلطان و حصل منها على غنائم و سار في أتباع جندراي و أثخن فيهم قتلا و نهبا و غنم منهم أموالا و فيولا و بلغت الغنائم ثلاثة آلاف ألف درهم ذهبا و فضة و يواقيت و السبي كثير و بيع بدرهمين إلى عشرة و كانت الفيول تسمى عندهم جنداي داد ثم قضى السلطان جهاده و رجع إلى غزنة فابتنى مسجدها الجامع و جلب إليه جذوع الرخام من الهند و فرشه بالمرمر و أعالي جدرانه بالأصباغ و صباب الذهب المفرغة من تلك الأصنام واحتضر بناء المسجد بنفسه و نقل إليه الرخام من نيسابور و جعل أمام البيت مقصورة تسع ثلاثة آلاف غلام و بنى بأزاء المسجد مدرسة احتوت فيها الكتب من علوم الأولين و الآخرين و أجريت بها الأرزاق و اختصت لنفسه يفضي منه إليه في أمن من العيون و أمر القواد و الحجاب و سائر الخدام فبنوا بجانب المسجد من الدور ما لا يحصى و كانت غزنة تحتوي على مربط ألف فيل يحتاج كل واحد منها لسياسته و مائدته خطة واسعة (4/489)
غزوة الأفقانية
لما رجع السلطان إلى غزنة راسل بيدو والي قنوج و اسمه راجبان بدلحه و طال بينهما العتاب و آل إلى القتال فقتل والي قنوج و استلحمت جنوده و طغى بيدو و غلب على الملوك الذين معه و صاروا في جملته و وعدهم برد ما غلبهم عليه السلطان محمود و نمي الخبر بذلك إليه فامتعض و سار إلى بيدو فغلبه على ملكه و كان ابتداؤه في طريقه بالأفقانية طوائف من كفار الهند معتصمون بقلل الجبال و يفسدون السابلة فسار في بلادهم و دوخها و عبر نهر كنك و هو واد عميق و إذا جيبال من ورائه فعبر إليه على عسر العبور فانهزم جيبال و أسر كثير من أصحابه و خلص جريحا و استأمن إلى السلطان فلم يؤمنه إلا أن يسلم فسار ليلحق ببيدو فغدر به بعض الهنود و قتله فما رأى ملوك الهند ذلك تابعوا رسلهم إلى السلطان في الطاعة على الأتاوة و سار إلى مدينة باري من أحصن بلاد الهند فألفاها خالية فأمر بتخريبها و عشر قلاع مجاورة لها و قتل من أهلها خلقا و سار في طلب بيدو و قد تحصن بنهر أدار ماءه عليه من جميع جوانبه و معه ستة و خمسون ألف فارس و ثمانون ألف راجل و سبعمائة و خمسون فيلا فقاتلهم هنالك يوما و حجز بينهم الليل فأجفل بيدو و أصبحت دياره بلاقع و ترك خزائن الأموال و السلاح فغنمها المسلمون و تتبعوا آثارهم فوجدوهم في الغياض و الآكام فأكثروا فيهم القتل و الأسر و نجا بيدو بدماء نفسه و رجع السلطان إلى غزنة ظافرا (4/491)
فتح سومنات
كان للهند صنم يسمونه سومنات و هو أعظم أصنامهم في حصن حصين على ساحل البحر بحيث تلتقفه أمواجه و الصنم مبنى في بيته على ستة و خمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص و هو من حجر طوله خمسة أذرع منها ذراعان غائصان في البناء و ليس له صورة مشخصة و البيت مظلم يضيء بقناديل الجوهر الفائق و عنده سلسلة ذهب بجرس وزنها مائة من تحرك بأدوار معلومة من الليل فيقوم عباد البرهميين لعبادتهم بصوت الجرس و عنده خزانة فيها عدد كثير من الأصنام ذهبا و فضة عليها ستور معلقة بالجوهر منسوجة بالذهب تزيد قيمتها على عشرين ألف ألف دينار و كانوا يحجون إلى هذا الصنم ليلة خسوف القمر فتجتمع إليه عوالم لا تحصى و تزعم الهنود أن الأرواح بعد المفارقة تجتمع إليه فيبثها فيمن شاء بناء على التناسخ والمد و الجزر عندهم هو عبادة البحر و كانوا يقربون إليه كل نفيس و ذخائرهم كلها عنده و يعطون سدنته الأموال الجليلة و كان له أوقاف تزيد على عشرة آلاف ضيعة و كان نهرهم المسمى كنك الذي يزعمون أن مصبه في الجنة و يلقون فيه عظام الموتى من كبرائهم و بينه و بين سومنات مائتا فرسخ و كان يحمل من مائه كل يوم لغسل هذا الصنم و كان يقوم عند الصنم من عباد البرهميين ألف رجل في كل يوم للعبادة و ثلاثمائة لحلق رؤوس الزوار و لحاهم و ثلاثمائة رجل و خمسمائة امرأة يغنون و يرقصون و لهم على ذلك الجرايات الوافرة و كان كلما فتح محمود بن سبكتكين من الهند فتحا أو كسر صنما يقول أهل الهند : إن سومنات ساخط عليهم و لو كان راضيا عنهم لأهلك محمودا دونه فاعتزم محمود بن سبكتكين إلى غزوه و تكذيب دعاويهم في شأنه فسار من غزنة في شعبان سنة ست عشرة و أربعمائة في ثلاثين ألف فارس سوى المتطوعة و قطع القفر إلى الملتان و تزود له من القوت و الماء قدر الكفاية و زيادة
عشرين ألف حمل و خرج من المفازة إلى حصون مشحونة بالرجال قد غوروا آبارهم مخافة الحصار فقذف الله الرعب في قلوبهم و فتحها و قتل سكانها كسر أصنامها و استقى منها الماء و سار إلى أنهلوارن و أجفل عنها صاحبها بهيم و سار إلى بعض حصونه و ملك السلطان المدينة و مر إلى سومنات و وجد في طريقه حصونا كثيرة فيها أصنام وضعوها كالنقباء و الخدمة لسومنات ففتحها و خربها و كسر الأصنام ثم سار في قفر معطش و اجتمع من سكانه عشرون ألفا لدفاعه فقاتلهم سراياه و غنموا أموالهم و انتهوا إلى دبلواه على مرحلتين من سومنات فاستولى عليها و قتل رجالها و وصل إلى سومنات منتصف ذي القعدة فوجد أهلها مختفين في أسوارهم و أعلنوا بكلمة الإسلام فوقها فاشتد القتال حتى حجز بينهم الليل ثم أصبحوا إلى القتال و أثخنوا في الهنود و كانوا يدخلون إلى الصنم فيعنفونه و يبكون و يتضرعون إليه و يرجعون إلى القتال ثم انهزموا بعد أن أفناهم القتل و ركب فلهم السفن فأدركوا و انقسموا بين النهب و القتل و الغرق و قتل منهم نحو من خمسين ألفا و استولى السلطان على جميع ما في البيت ثم بلغه أن بهيم صاحب أنهلوارن اعتصم بقلعة له تسمى كندهة في جزيرة على أربعين فرسخا من البر فرام خوض البحر إليها ثم رجع عنها و قصد المنصورة و كان صاحبها ارتد عن الإسلام ففارقها و تسرب في غياض هناك فأحاطت عساكر السلطان بها و تتبعوهم بالقتل فأنهوهم ثم سار إلى بهاطية فدان أهلها بالطاعة و رجع إلى غزنة في صفر سنة سبع عشرة و أربعمائة (4/491)
دخول قابوس صاحب جرجان و طبرستان في ولاية السلطان محمود
قد قدمنا وفادة قابوس على الأمير نوح بن منصور بن سامان و عامله بخراسان أبي العباس تاس مستصرخا على بني بويه عندما ملكوا طبرستان و جرجان من يده سنة إحدى و سبعين و أقام بخراسان ثماني عشرة سنة و هم يعدونه بالنصرة و المدد حتى يئس منهم و لما جاء سبكتكين و وعده بمثل ذلك ثم شغله شغل بني سيجور ثم وعده السلطان محمود و شغلته فتنة أخيه و استولى أبو القاسم بن سيجور على جرجان بعد مهلك فخر الدولة بن بويه ثم مر من بخارى بالمسير إلى خراسان فسارإلى أسفراين و استمد قابوس رجال الديلم و الجبل فأمدوه و ظاهروه على أمره حتى غلب على طبرستان و جرجان و ملكها كما يذكر في أخبار الديلم و الجبل و كان نصر بن الحسن بن الفيرزان و هو ابن عم ما كان بن كالي ينازعه فيهما فآل الحال بنصر إلى أن اعتقله بنو بويه بالري و استقل قابوس بولاية جرجان و طبرستان و ديار الديلم كلها من ممالك محمود (4/493)
استيلاء السلطان محمود على الري و الجبل
كان مجد الدولة بن فخر الدولة صاحب الري و كان قد ضعف أمره و أدبرت دولته و كان يتشاغل بالنساء و الكتاب نسخا و مطالعة و كانت أمه تدبر ملكه فلما توفيت انتقضت أحواله و طمع فيه جنده و كتب إلى محمود يشكوا ذلك و يستدعي نصرته فبعث إليه جيشا عليهم حاجبه و أمره أن يقبض على مجد الدولة فقبض عليه و على ابنه أبي دلف عند و صوله و طير بالخبر إلى السلطان فسار في ربيع من سنة عشرين و أربعمائة و دخل لمري و أخذ أموال مجد الدولة و كانت ألف الف دينار و من الجواري قيمة خمسمائة ألف دينار و من الثياب ستة آلاف ثوب و من الآلات ما لا يحصى و وجد له خمسين زوجة ولدن نيفا و ثلاثين ولدا فسئل عن ذلك فقال : هذه عادة و أحضر مجد الدولة و عنفه و عرض له بتسفيه رأيه في الانتصار عن جندراي منه و بعثه إلى خراسان فحبس بها ثم ملك السلطان قزوين و قلاعها و مدينة ساوه و آوه و صلب أصحاب مجد الدولة من الباطنية و نفى المعتزلة إلى خراسان و أحرق كتب الفلسفة و الاعتزال و النجوم و أخذ مما سوى ذلك من الكتب مائة حمل و تحصن منه منوجهر بن قابوس ملك الجبل بالجبال الوعرة فقصده فيها و لم تصعب عليه فهرب منوجهر و تحصن بالغياض و بعث له بخمسمائة ألف دينارا استصلاحا فقبله و رجع عنه إلى نيسابور و توفي منوجهر عقب ذلك و ولي بعده ابنه أنوشروان فأقره السلطان على ولايته و قرر عليه مائة ألف دينار ضريبة و خطب للسلطان محمود في بلاد الجبل إلى أرمينية و افتتح ابنه مسعود زنجان و أبهر من يد ابراهيم السيلار بن المرزبان من عقب شوذان بن محمد بن مسافر الديلمي و جميع قلاعه و لم يبق بيده إلا شهرزان قرر عليه فيها ضريبة كما يأتي في أخبار الديلم ثم أطاعه علاء الدولة بن كاكويه بأصفهان و خطب له و عاد السلطان إلى خراسان و استخلف بالري ابنه مسعودا فقصد أصفهان و ملكها من علاء الدولة و استخلف مسعود عليها بعض أصحابه و عاد عنها فثار أهلها بعامله و قتلوه فرجع إليهم و استباحهم ثم عاد إلى الري فأقام بها (4/494)
استيلاء السلطان محمود على بخارى ثم عوده عنها
كان ايلك خان ملك الترك و صاحب تركستان لما ملك بخارى من يد بني سامان سنة تسعين و ثلاثمائة ولى عليها و رجع إلى بلاده كما مر و كان الغز أحياء بادية بضواحي بخارى و زعيمهم أرسلان بن سلجوق عم السلطان طغرليك و كان بينه و بين ايلك خان و أخيه بقراخان حروب و فتن بسبب استظهار بني سامان بهم فلما ملك ايلك خان بخارى عرف لأرسلان بن سيجور حقه و رفع محله و هو مع ذلك مستوحش و كان على تكين أخو ايلك خان و حبس أرسلان و لحق ببخارى فاستولى عليها و طلب موالاة أرسلان بن سيجور فوالاه و استفحل أمرهما و نهض إليهما ايلك خان و قاتلهما فهزماه و استوثق أمر تكين في بخارى و كان يسيء جوار السلطان محمود بن سبكتكين في أعماله و يعترض رسله المترددين إلى ملوك الترك فأحفظ ذلك السلطان و أجمع المسير إليه فنهض من بلخ سنة عشرين و أربعمائة و عبر النهر و قصد بخارى فهرب منها على تكين و لحق بايلك خان و دخل السلطان بخارى
و ملك سائر أعمالها و أخذ الجزية من سمرقند و أجفلت أحياء الغز و أرسلان بن سلجوق و تلطف في استدعائه فلما حضر عنده تقبض عليه و بعثه إلى بعض قلاع الهند و حبسه بها و سار إلى أحياء الغز فنهبهم و أثخن فيهم قتلا و أسرا و رجع إلى خراسان (4/495)
خبر السلطان محمود مع الغز بخراسان
لما حبس السلطان أرسلان بن سلجوق و نهب احياءهم أجلاهم عن ضواحي بخارى فعبروا نهر جيحون إلى خراسان و امتدت فيهم أيدي العمال بالظلم و التعدي في أموالهم و أولادهم فتفرقوا و جاءت منهم طائفة في أكثرمن ألفي خركاة إلى كرمان ثم إلى أصفهان و كان يسمون العراقية و طائفة إلى جبل بكجان عند خوارزم القديمة و عاث كل منهم فيما سار فيه من البلاد و بعث السلطان إلى علاء الدولة بأصفهان لرد الذين ساروا إليه إلى الري و قبلهم و حاول ذلك بالغدر فلم يستطع و حاربهم فهزموه و ساروا عنه إلى أذربيجان و أفسدوا ما ساروا عليه و صانعهم و هشوذان صاحب أذربيجان و آنسهم و كان مقدموهم : بوقا و كوكاش و منصور و دانا و أما الذين ساروا إلى خوارزم القديمة فكثر عيثهم في تلك النواحي و أمر السلطان محمود صاحب طوس أرسلان الحاجب أن يسير في طلبهم فاتبعهم سنتين ثم جاء السلطان على أثره فشردهم على نواحي خراسان و استخدم بعضهم و كان أمراؤهم : كوكاش و بوقا و قزل و يغمروتا صغلي
و لما مات السلطان محمود استخدمهم ابنه مسعود أيضا و ساروا معه من غزنة إلى خراسان فسألوه فيمن بقي منهم بجبل بكجان عند خوارزم فأذن لهم أن يسهلوا إلى البسائط على شرط الطاعة ثم انتقض أحمد نيال عامل الهند فسار مسعود إليه و ولى على خراسان تاش و كثرعيث هؤلاء الغز في البلاد فأوقع بهم تاش و قتل أميرهم يغمر و بعث السلطان مسعود من إجلائهم عن البلاد و مثل بهم بالقتل و القطع و الصلب فساروا إلى الري طالبين أذربيجان للحاق بالعراقية منهم كما مر ذكرهم فملكوا الدامغان و نهبوها ثم سمنان و نهبوا جوار الري و ايجاباذ و مشكوبة من
أعمال الري و خربوا كل ما مروا عليه من القرى و الضياع فاجتمع لحربهم تاش و أبو سهل الحمدوني صاحب الري و سار إليهم تاش في العساكر و الفيلة على التعبية و لقوه مستميتين و سبق إليه أحياؤهم فهزموه و قتلوه ثم ساروا الى الري فهزموا أبا سهل الحمدوني و عسكره و لحق بقلعة طبول و نهبوا الري و استباحوا أموالها و جاء عسكر من جرجان فاعترضوه و كبسوه و أثخنوا فيهم قتلا و أسرا و مضوا إلى أذربيجان ليجتمعوا بالعراقية ثم رجع علاء الدولة بن كاكويه إلى أصفهان بعد مسيرهم من الري و طلبوا مولاه أبا سهل على طاعة مسعود فلم يتم و عاث الغز في أذربيجان و أوقع بهم ففارقوها إشنفاقا من نيال و أخيه طغرلبك و افترقوا بين الموصل و ديار بكر فملكوها و نهبوها و عاثوا في نواحيها كما مر ذكره في أخبار قرواش صاحب الموصل و ابن مروان صاحب ديار بكر
هذه أخبار أرسلان بن سلجوق مفصلة إلا مفصلة إلا ما اختصر منها بالري و أذربيجان فإنه يأتي في مواضعه من دولة الديلم و أما طغرلبك و إخوته داود و بيقو و أخوه لأمه نيال المسمى بعد الإسلام ابراهيم فانهزموا و أقاموا بعد سلجوق ببلاد ما وراء النهر و كان بينهم و بين علي تكين صاحب بخارى حروب ظهر عليهم فيها فعبروا جيحون إلى خوارزم و خراسان و كان من أخبارهم فيها و ما آل أمرهم إلى الملك و الدولة ما يأتي ذكره (4/495)
افتتاح نرسى من الهند
كان السلطان محمود قد استخلف على الهند من مواليه أحمد نيال تكين فغزا سنة إحدى و عشرين مدينة نرسى من أعظم مدن الهند في مائة ألف مقاتل فنهب و خرب الأعمال و استباحها و جاء إلى المدينة فدخلها من أحد جوانبها و استباحها يوما و لم يستوعبها حتى خرجوا فباتوا بظاهرها خوفا على أنفسهم من أهل البلد
و قسموا الأموال كيلا و أرادوا العود من الغد فدافعهم أهلها و رجع أحمد نيال بعساكره إلى بلده (4/497)
خلع السطان محمد ابن السلطان محمود و ولاية ابنه الآخر مسعود الأكبر
لما توفي السلطان محمود كان ابنه مسعود بأصفهان فسار إلى خراسان و استخلف على أصفهان فثار أهلها بخليفته و عسكره فقتلوهم فعاد إليهم مسعود و حصرها و افتتحها عنوة و استباحها ثم استخلف عليها و سار إلى الري و منها إلى نيسابور و كتب
إلى أخيه محمد بالخبر و أنه لا ينازعه و يقتصر على فتحه من طبرستان و بلد الجبل و أصفهان و يطلب تقديمه على محمد في الخطبة فأحفظه ذلك و استحلف العساكر و سار إلى مسعود و كان أكثر العساكر يميلون إلى مسعود لقوته و شجاعته وعلو سنه و أرسل التوتناش صاحب خوارزم و كان من أصحاب السلطان محمود يشير على محمد بترك الخلاف فلم يسمع و سار فانتهى إلى بكياباد أول رمضان من سنته و أقام و كان مشتغلا باللعب عن تدبير الملك فتفاوض جنده في خلعه و الادالة منه بأخيه مسعود و تولى كبر ذلك عمه يوسف بن سبكتكين و على حشاوند صاحب أبيه و حبسوا محمدا بقلعة بكياباد و كتبوا بالخبر إلى مسعود و ارتحلوا إليه بالعساكر فلقوه بهراة فقبض على عمه و على صاحب أبيه و على جماعة من القواد و استقر في ملك أبيه شهر ذي القعدة من سنته و أخرج الوزير أبا القاسم أحمد بن الحسن السيمندي من محبسه و فوض إليه الوزارة و أمور المملكة و كان أبوه قبض عليه سنة ست عشرة و أربعمائة و صادره على خمسة آلاف دينار ثم سارإلى غزنة فوصلها منتصف اثنتين و عشرين و أربعمائة و وفدت عليه رسل جميع الملوك من جميع الآفاق و اجتمع له ملك خراسان و غزنة و الهند و السند و سجستان و كرمان و مكران و الري و أصفهان و الجبل و عظم سلطانه (4/497)
وفاة السلطان محمود و ولاية ابنهمحمد
ثم توفي السلطان محمود في ربيع سنة إحدى و عشرين و أربعمائة و كان ملكا عظيما استولى على كثير من الممالك الإسلامية و كان يعظم العلماء و يكرمهم و قصدوه من أقطارالبلاد و كان عادلا في رعيته رفيقا بهم محسنا إليهم و كان كثير النزو و الجهاد و فتوحاته مشهورة و لما حضرته الوفاة أوصى بالملك لابنه محمد و هو ببلخ و كان أصغر من مسعود إلا أنه كان مقبلا عليه و معرضا عن مسعود فلما توفي بعث أعيان الدولة إلى محمد بخبر الوصية و استحثوه و خطب له في أقاصي الهند إلى نيسابور و سار إلى غزنة فوصلها لأربعين يوما و اجتمعت العساكر على طاعته و قسم فيها الأعطيات (4/497)
عود أصفهان إلى علاء الدولة بن كاكويه ثم رجوعها للسلطان مسعود
كان قناخر مجد الدولة بن بويه صاحب أصفهان و ملكها السلطان محمود من يده فهرب عنها و امتنع بحصن قصران و أنزل السلطان محمود ابنه مسعود بأصفهان و أنزل معه علاء الدولة بن كاكويه فاستقل بها و سارعنه مسعود ثم زحف إليه و ملكها من يده و لحق علاء الدولة بخوزستان يستنجد أبا كليجار بن سلطان الدولة و سار عنه إلى تستر ليستمد له من أخيه جلال الدولة العساكر لمعاودة أصفهان و كان ذلك عقب فتنة و حرب بين أبي كليجار و أخيه جلال الدولة فوعده أبوه بذلك إذا اصطلحا و أقام عنده إلى أن توفي السلطان محمود و لما توفي السلطان محمود جمع قناجر جمعا من الديلم و الأكراد و قصد الري و قاتله نائبه مسعود فهزمه و دفعه عن الري و فتك في عسكره قتلا و أسرا و عاد قناجر إلى بلده و بلغ الخبر إلى علاء الدولة بموت السلطان محمود و هو عند أبي كليجار بخوزستان و قد أيس من النصر فبادر إلى أصفهان فملكها ثم همذان و قصد الري فقاتله نائب مسعود و رجع إلى أصفهان ثم اقتحموا عليه البلد عنوة و نجا علاء الدولة إلى قلعة قردخان على خمسة عشر فرسخا من همذان و خطب لمسعود بالري و جرجان و طبرستان (4/498)
فتح التيز و مكران و كرمان ثم عود كرمان لأبي كليجار
كان صاحب التيز و مكران لما توفي خلف ولدين أبا العساكر و عيسى و استبد عيسى منهما بالملك فسار أبو العساكر إلى خراسان مستنجدا بمسعود فبعث معه عسكرا و دعوا عيسى إلى الطاعة فامتنع و قاتلوه فاستأمن كثير من أصحابه إلى أبي العساكر فانهزم عيسى و قتل في المعركة و استولى أبو العساكر على البلاد و ملكها و خطب فيها للسلطان مسعود و ذلك سنة اثنتين و عشرين و أربعمائة و في هذه السنة ملك السلطان مسعود كرمان و كانت للملك أبي كليجار بن سلطان الدولة فبعث إليها السلطان مسعود عساكر خراسان فحاصروا مدينة بردسير و شدوا في حصارها و استبد إلى أطراف إلى البلاد ثم و صل عسكر أبي كليجار إلى جيرفت و اتبعوا الخراسانية بأطراف البلاد فعاود هزيمتهم و دخلوا المفازة إلى خراسان و عادت العساكر الى فارس (4/499)
فتنة عساكر السلطان مسعود مع علاء الدولة بن كاكويه و هزيمته
قد تقدم لنا هزيمة علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه من الري و نجاته إلى قلعة قردخان ثم سار منها إلى يزدجرد و معه فرهاد بن مرداويح مددا له و بعث صاحب الجيوش بخراسان عسكرا مع ابن عمران الديلي لاعتراضهما فلما قاربهما العسكر فر فرهاد إلى قلعة شكمين و مضى علاء الدولة إلى سابور خرات و ملك علي بن عمران يزدجرد ثم أرسل فرهاد إلى الأكراد الذين مع علي بن عمران و داخلهم في الفتك به و شعر بذلك فسار إلى همذان و لحقه فرهاد فاعتصم بقلعة في طريقه منيعة و كادوا يأخذونه لولا عوائق الثلج و المطر في ذلك اليوم و كانوا ضاحين من الخيام فتركوه و رجعوا عنه و بعث ابن عمران إلى تاش قرواش صاحب جيوش خراسان يستمده في العسكر إلى همذان و بعث علاء الدولة يستدعي أبا منصور ابن أخيه من أصفهان بالسلاح و الأموال ففعل و سار علي بن عمران من همذان لاعتراضه فكبسه بجر باذقان و غنم ما معه و قتل كثيرا من عسكره و أسره و بعث به إلى تاش قرواش صاحب جيوش خراسان و سار إلى همذان و زحف إليه علاء الدولة و فرهاد فانقسموا عليه و جاؤوه من ناحيتين فانهزم علاء الدولة و نجا إلى أصفهان و فر هاربا ان لقلعة شكين فتحصن بها (4/499)
مسير السلطان مسعود إلى غزنة و الفتن بالري و الجبل
لما استولى السلطان على أمره سار من غزنة إلى خراسان لتمهيد أمورها و كان عامله وعامل أبيه على الهند أحمد نيال تكين فد استفحل فيها أمره و حدثته نفسه بالاستبداد فمنع الحمل و أظهر الانتقاض فسار السلطان إلى الهند و رجع أحمد نيال إلى الطاعة و قام علاء الدولة بأصفهان و أظهر الانتقاض و معه فرهاد بن
مرادويح فزحف إليهم أبو سهل و هزمهم و قتل فرهاد و نجا علاء الدولة إلى جبال أصفهان و جرباذقان فامتنع بها و سار أبو سهل إلى أصفهان فملكها سنة خمس وعشرين و أربعمائة و نهب خزائن علاء الدولة و حمل كتبه إلى غزنة و أحرقها الحسين الغوري بعد ذلك (4/500)
عود أحمد نيال تكين إلى العصيان
و لما عاد السلطان إلى خراسان لقتال الغز عاد أحمد نيال تكين إلى العصيان بالهند و جمع الجموع فبعث السلطان سنة ست و عشرين و أربعمائة إليه جيشا كثيفا و كتب إلى ملوك الهند بأخذ المذاهب عليه فلما قاتله الجيوش انهزم و مضى هاربا إلى ملتان و قصد منها بهاطية و هو في جمع فلم يقدر ملك بهاطية على منعه و أراد عبور نهرالسند في السفن فهيأ له الملك ليعبرإلى جزيرة وسط النهر ظنها متصلة بالبر و أوصى الملك الملاحين أن ينزلوه بها و يرجعوا عنه و علموا أنها منقطعة فضعفت نفوسهم وأقاموا بها سبعة أيام ففنيت أزوادهم و أكلوا دوابهم و أوهنهم الجوع و أجاز إليهم ملك بهاطية فاستوعبهم بالقتل و الغرق و الأسر و قتل أحمد نفسه (4/501)
مسيرعلاء الدولة إلى أصفهان و هزيمته
كان أبو سهل الحمدوني قد أنزله السلطان بأصفهان و دلهم على الزاحي القريبة من علاء الدولة فأوقع بهم و غنم ما معهم و قوي طمعه بذلك في أصفهان فجمع الجموع و سار إليها فخرج إليهم أبو سهل و قاتلهم و تحيز من كان مع علاء الدولة من الأتراك إلى أبي سهل فانهزم علاء الدولة و نهب سواده و سار إلى بروجرد ثم إلى الطرم فلم يقبله ابن السلار صاحبها (4/501)
فتح جرجان و طبرستان
كانت جرجان و طبرستان و أعمالهما لدارا بن منوجهر بن قابوس و كان السلطان مسعود قد أقره عليها فلما سار السلطان إلى الهند و انتشر الغز في خراسان منع الحمل و داخل علاء الدولة بن كاكويه و فرهاد بن ماكان في العصيان فلما عاد مسعود من الهند و أجلى الغز عن خراسان سار إلى جرجان سنة ست و عشرين و أربعمائة فملكها ثم سار إلى آمد فملكها و فارقها أصحابها وافترقوا في الغياض فتبعهم و قتل منهم و أسر ثم راسله دارا في الصلح و تقرير البلاد عليه و حمل ما بقي عليه فأجابه السلطان إلى ذلك و رجع إلى خراسان (4/501)
استيلاء طغرلبك على خراسان
كان طغرلبك و أخواه بيقو و حقربيك و اسم طغرلبك محمد و لما أسر السلطان محمود أرسلان بن سلجوق و حبسه كما مر و أجاز أحياء من الغز إلى خراسان فكان من أخبارهم ما قدمناه و أقام طغرلبك و إخوته في أحيائهم بنواحي بخارى ثم حدثت الفتنة بينهم و بين علي تكين صاحب بخارى و كانت بينهم حروب و وقائع و أوقعوا بعساكره مرارا فجمع أهل البلاد عليهم و أوقع بهم و استلحمهم و استباحهم فانحازوا إلى خراسان سنة ست و عشرين و أربعمائة و استخدموا لصاحب خوارزم و هو هرون بن التوتناش و غدر بهم فساروا عنه إلى مفازة نسا ثم قصدوا مرو و طلبوا الأمان من السلطان مسعود على أن يضمنهم أمان السابلة فقبض على الرسل و لم يجبهم على ما سألوا و بعث العساكر فأوقعوا بهم على نسا ثم طار شررهم في البلاد وعم ضررهم و سار السلطان ألب أرسلان إلى نيسابور ففارقها أبو سهل الحمدوني فيمن معه و استولى عليها داود و جاء أخوه طغرلبك على أثره و لقيهم رسل الخليفة إليهم و إلى العراقية الذين قتلهم بالري و همذان يعنفهم و ينهاهم عن الفساد و يطمعهم فتلقوا الرسل بالإعظام و التكرمة ثم امتدت عين داود إلى نهب نيسابور فمنعه طغرلبك و عرض له بشهر رمضان و وصية الخليفة فلج فقوي طغرلبك في المنع و قال : و الله لئن نهبت لأقتلن نفسي فكف داود عن ذلك و قسطوا على أهل نيسابور ثلاثين ألف دينار فرقوها في أصحابهم و جلس طغرلبك على سرير ملك مسعود بدار الملك و صار يقعد للمظالم يومين في الأسبوع على عادة ولاة خراسان و كانوا يخطبون للملك مسعود مغالطة و إيهاما (4/502)
مسير السلطان مسعود من غزنة إلى خراسان واجلاء السلجوقية عنها
و لما بلغ الخبر إلى السلطان مسعود باستيلاء طغرلبك و السلجوقية على نيسابور جمع عساكره من غزنة و سار إلى خراسان فنزل بلخ في صفر سنة ثلاثين و أربعمائة و أصهر إلى بعض ملوك الخانية دفعا لشره و أقطع خوارزم و لحق إسماعيل بطغرلبك ثم أراح السلطان مسعود و فرغ من خوارزم و الخانية فبعث السلطان سباسي فسار إليهم في العساكر فلم يشف نفسه و نزل سرخس و عدلوا عن لقائه و دخلوا المفازة التي بين مرو و خوارزم و اتبعهم السلطان مسعود و واقعهم في شعبان من هذه السنة فهزمهم فما بعدوا حتى عادوا في نواحيه فأوقع بهم أخرى و كان القتلى فيها منهم ألفا وخمسمائة و هربوا إلى المفازة و ثار أهل نيسابور بمن عندهم و قتلوهم و لحق فلهم بأصحابهم في المفازة و عدل السلطان إلى هراة ليجهز العساكر ليطلبهم فبلغه الخبر بأن طغرلبك سار إلى أستراباذ و أقام بها في فصل الشتاء يظن أن الثلج يمنعهم عنه فسار السلطان إليه هنالك ففارقها طغرلبك و عدل عن طوس إلى جبال الري التي كان فيها طغرلبك و أصحابه و قد امتنعوا بحالهم خوفا من السلطان لما كان منهم من موالاة السلجوقية فاغذ إليهم السير و صبحهم فتركوا أهلهم و أموالهم و اعتصموا بوعر الجبل و غنمت عساكره جميع ما استولوا عليه ثم صعد إليهم بنفسه و عساكره و هلك كثير من العسكر بالثلج في شعاب الجبل ثم ظفروا بهم في قلة الجبل و استلحموهم و سار مسعود إلى نيسابور في جمادى سنة إحدى و ثلاثين و أربعمائة ليريح و يخرج في فصل الربيع لطلبهم في المفاوز ثم عاد طغرلبك و أصحابه من المفازة و بعث إليهم السلطان بالوعيد فيقال إن طغرلبك قال لكاتبه أكتب إليه : { قل اللهم مالك الملك } الآية و لا تزده عليها و لما ورد الكتاب على السلطان مسعود كتب إليه و آنسه بالمواعيد و بعث إليه بالخلع و أمره بالرحيل إلى آمل الشط على جيحون و أقطع نسا لطغرلبك و دهستان لداود و بدارة لبيقو و سمى كل واحد منهما بالدهقان فلم يقبلوا شيئا من ذلك و لا وثقوا به و أكثروا من العيث و الفساد ثم كفوا عن ذلك و بعثوا إلى السلطان مسعود يخادعونه بالطاعة ببلخ و رغبوه في أن يسرح إليهم أخاهم أرسلان المحبوس بالهند فبعث إليه السلطان مسعود و جاؤوا بأرسلان من الهند و لما لم يتم بينهم أمر بإعادته إلى محبسه (4/503)
هزيمة السلطان مسعود و استيلاء طغرلبك على مدائن خراسان و أعمالها
و لما تغلبت السلجوقية على نواحي خراسان و فضوا عساكر السلطان و هزموا الحاجب سباسي اهتز السلطان لذلك و أجمع لخراسان الحشد و بث العطاء و أزاح العلل و سار من غزنة في الجيوش الكثيفة و الفيلة العديدة على التعبية المألوفة و وصل إلى بلخ و نزل بظاهرها و جاء داود بأحيائه فنزل قريبا منه و أغار يوما على معسكره فساق من باب الملك مسعود عدة من الجنائب المقربات معها الفيل الأعظم و ارتاع الملك لذلك و ارتحل مسعود من بلخ في رمضان ستة تسع و عشرين و أربعمائة و معه مائة ألف مقاتل و مر بالجوزجان فصلب الوالي الذي كان بها
للسلجوقية و انتهى إلى مرو الشاهجان و مضى داود إلى سرخس و اجتمع معه أخوه طغرلبك و بيقو و بعث إليهم السلطان في الصلح فوفد عليه بيقو فأكرمه السلطان و خلع عليه و أجابه هو عن أصحابه بالامتناع من الصلح للخوف من السلطان و سار من عند السلطان فسقط في يده و سار في اتباعهم من هراة إلى نيسابور ثم سرخس كلما تبعهم إلى مكان هربوا منه إلى آخر حتى أظلهم فصل الشتاء فأقاموا بنيسابور ينتظرون انسلاخه فانسلخ و السلطان عاكف على لهوه غافل عن شأنه حتى انقضى زمن الربيع و اجتمع و زراؤه و أهل دولته و عذلوه في إهمال أمر عدوه فسار من نيسابور إلى مرو في طلبهم فدخلوا المفازة فدخل وراءهم مرحلتين و قد ضجر العسكر من طول السفر و عنائه و كانوا منذ ثلاث سنين منقلبين فيه منذ سفرهم مع سباسي فنزل بعض الأيام في منزلة على قليل من الماء و ازدحم الناس على الورود واستأثر به أهل الدولة و الحاشية فقاتلهم عليه الجمهور و وقعت في العساكر لذلك هيعة و خالفهم الدعرة إلى الخيام ينهبون و يتخطفون و كان داود و أحياؤه متابعا للعسكر على قرب يتخطف الناس من حولهم فشعر بتلك الهيعة فركب في قومه و صدم العساكر و هم في تلك الحال فولوا منهزمين و السلطان و الوزير ثابتان في موقفهما يحرضان الناس على الثبات فلم يثبت أحد فانصرفا مع المنهزمين في فل و أتبعهم داود و أثخن فيهم بالقتل ثم رجع إلى العسكر و قد غنمه أصحابه فآثرهم بالغنائم و قسم فيهم ما حصل له و قعد على كرسي السلطان و أقام عسكره ثلاثة أيام و لياليها على ظهر خشية من كر العسكر السلطانية عليهم و نجا السلطان إلى غزنة فدخلها في شوال سنة إحدى و ثلاثين و أربعمائة و قبض على سباسي و غيره من الأمراء و سار طغرلبك إلى نيسابور فملكها آخر إحدى و ثلاثين و أربعمائة و نهب عسكره أهلها و كان بها هرج عظيم من الدعرة و كانوا ينالون من الناس بالنهب و الزنا و القتل فارتدعوا لذلك لهيبة طغرلبك و سكن الناس و ملك السلجوقية البلاد فسار بيقو إلى هراة فملكها و سار داود إلى بلخ و بها الحاجب التوتناش فأستخلفه السلطان عليها فأرسل إليه داود في الطاعة فسجن الرسل و ناصره داود و بعث السلطان مسعود جيشا كثيفا لإمداده و دفع السلجوقية عن البلاد فسار فريق منهم إلى الرخج فدفعوا من كان بها من السلجوقية و هزموهم و افحشوا في قتلهم و أسرهم و سار فريق منهم إلى بيقو في هراة فقاتلوه و دفعوه عنها ثم بعث السلطان ابنه مودود بعساكر أخرى و جعل معه وزيره أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد يدبره فسار عن غزنة سنة اثنتين و ثلاثين و أربعمائة فلما قارب بلخ و داود يحاصرها بعث داود جماعة من عسكره فلقوا طلائع مودود فهزمهم فلما وصلت منهزمة تأخر مودود عن نهايته و أقام و سمع التوتناش بأحجام مودود عنه فأطاع داود و خرج إليه (4/504)
خلع السلطان مسعود و مقتله و ولاية أخيه محمد مكانه
و لما بعث السلطان ولده مودود إلى خراسان لمدافعة السلجوقية عنها وأقام بعده سبعة أيام و خرج من غزنة في ربيع سنة اثنتين و ثلاثين و أربعمائة يريد الهند للمشتى به على عادة أبيه و يستنفر الهنود لقتال السلجوقية و استصحب أخاه محمدا المسمول معه
و كان أهل الدولة قد ضجروا منه فتفاوضوا في خلعه و ولاية أخيه محمد و أجمعوا ذلك فلما عبروا نهر سيحون و تقدم بعض خزائن فتخلف أنوش تكين البلخي في جماعة من الغلمان الفداوية و نهبوا بقية الخزائن و بايعوا لمحمد المسمول و ذلك في منتصف ربيع الآخر من السنة و افترق العسكر و اقتتلوا و عظم الخطب و انهزم السلطان مسعود و حاصروه في رباط هناك ثم استنزلوه على الأمان و خيره أخوه محمد في السكنى فاختار مسعود قلعة كيدي فبعث إليها و أمر بإكرامه و رجع محمد بالعساكر إلى غزنة و فوض إلى ابنه أحمد أمر دولته و كان أهوج فاعتزم على قتل عمه مسعود و داخل في ذلك عمه يوسف و علي خشاوند فوافقوه عليه و حرضوه فطلب من أبيه خاتمه ليختم به بعض خزائنهم و بعث به إلى القلعة مع بعض خدمه ليؤدي رسالة مسعود و هو بخراسان يعتذر بأن أولاد أحمد نيال تكين قتلوا السلطان مسعود قصاصا بأبيهم فكتب إليه يتوعده ثم طمع الجند في السلطان محمد و مدوا أيديهم إلى الرعايا و نهبوها و خربت البلاد و ارتحل عنها محمد و كان السلطان مسعود شجاعا كريما غزير الفضل حسن الخط سخيا محبا للعلماء مقربا لهم محسنا إليهم و إلى غيرهم من ذوي الحاجات كثير الصلات و العطاء و الجوائز للشعراء حليت تصانيف العلوم باسمه وكثرت المساجد في البلاد بعمارته و كان ملكه فسيحا ملك أصفهان و همذان و الري و طبرستان و جرجان و خراسان و خوارزم و بلاد الدارون و كرمان و سجستان و السند و الرخج و غزنة و بلاد الغور و أطاعه أهل البر و البحر و قد صنف في أخباره و مناقبه (4/505)
مقتل السلطان محمد و ولاية مودود ابن أخيه مسعود
لما بلغ الخبر بمقتل السلطان مسعود إلى ابنه مودود بخراسان سار مجدا في عساكره إلى غزنة فلقيه عمه محمد في شعبان سنة اثنتين و ثلاثين و أربعمائة و انهزم محمد و قبض عليه و على أبيه أحمد و عبد الرحمن و على أنوش تكين البلخي الخصي و على علي خشاوند و قتلهم أجمعين إلا عبد الرحمن لرفقه بأبيه مسعود عند القبض عليه و قتل كل من داخل في قبض أبيه و خلعه و سار سيرة جده محمود و بلغ الخبر إلى أهل خراسان فثار أهل هراة بمن عندهم من السلجوقية فأخرجوهم و تشوف أهل خراسان للنصر على الغز من قبل مودود و كان أبوه السلطان مسعود قد بعث ابنه الآخر إلى الهند أميرا عليها سنة ست و عشرين و أربعمائة فلما بلغه موت أبيه بايع لنفسه و قفل إلى لهاور و الملتان فملكهما و أخذ الأموال و جمع العساكر و أظهر الخلاف على أخيه مودود و حضر عيد الأضحى فأصبح ثالثه ميتا بلهاور بعد أن كان مودود يجهز العساكر من غزنة لقتاله و هو في شغل شاغل من أمره ففرغ عن الشواغل و رسخت قدمه في ملكه و خالفه السلجوقية بخراسان و خاطبه خان الترك من وراء النهر بالانقياد و المتابعة (4/506)
استيلاء طغرلبك على خوارزم
كانت خوارزم من ممالك محمود بن سبكتكين و ابنه مسعود من بعده و كان عليها التوتناش حاجب محمود من أكابر أمرائه و وليها لهما معا و لما شغل مسعود بفتنة أخيه محمد عند مهلك أبيهما أغار على تكين صاحب بخارى من أطراف البلاد و غيرهما فلما فرغ مسعود من مراجعة محمد و استقل بالملك بعث إلى التوتناش بالمسير إلى أعمال علي و انتزاع بخارى و سمرقند منه و أمده بالعساكر فعبر جيحون سنة أربع و عشرين و أربعمائة و أخذ من بلاد تكين كثيرا فأقام بها و هرب تكين بين يديه ثم دعته الحاجة إلى الأموال للعساكر و لم يكن في جبايته تلك البلاد و جاء بها فاستأذن في العود إلى خوارزم و عاد و اتبعه علي تكين وكبسه على غرة فثبت و انهزم علي تكين ونجا إلى قلعة دبوسية و حاصره التوتناش و ضيق عليه فبعث إليه و استعطفه فأفرج عنه و عاد إلى خوارزم و كانت به جراحة من هذه الوقعة فانتقض عليه و مات و ترك من الولد ثلاثة و هم : هرون و رشيد و اسماعيل و ضبط وزيره أحمد بن عبد الصمد البلد و الخزائن حتى جاء هرون الأكبر من الولد من عند السلطان بعهده على خوارزم ثم توفي المتميدي وزير السلطان مسعود و بعث على أبي نصر لوزارته و استناب أبو نصر عند هرون بخوارزم ابنه عبد الجبار ثم استوحش من هرون و سخطه و أظهر العصيان في رمضان سنة خمس و عشرين و أربعمائة فاختفى عبد الجبار خوفا من عائلته و سعى عند السلطان مسعود و كتب مسعود إلى شاه ملك بن علي أحد ملوك الأطراف بنواحي خوارزم بالمسير لقتال اسماعيل فسار و ملك البلد فهزمها و هرب اسماعيل و شكر إلى طغرلبك و داود صريخين فسار داود إلى خوارزم فلقيهما شاه ملك و هزمهما ثم قتل مسعود و ملك ابنه مودود فدخل شاه ملك بأمواله و ذخائره في المفاوز إلى دهستان ثم إلى طبس ثم إلى نواحي كرمان ثم إلى أعمال البتر و مكران و قصد أرتاش أخا ابراهيم نيال و هو ابن عم طغرلبك في أربعة آلاف فارس فأسره و سلمه إلى داود و استأثر هو بما غنم من أمواله ثم أعاد أرتاش إلى باذغيس و أقام على محاصرة هراة على طاعة مودود بن مسعود فامتنعوا منه خوفا من
معرة هجومه عليهم (4/507)
مسير العساكر من غزنة إلى خراسان
و لما ملك الغز خراسان و استولوا على سائر أملاكها و أعمالها و استولى طغرلبك على جرجان و طبرستان و خوارزم و ابراهيم نيال على همذان و على الري و الجبل و ولى على خراسان و أعمالها داود بن ميكايل و بعث السلطان أبو الفتح مودود عساكره مع بعض حجابه إلى خراسان سنة خمس و ثلاثين فسرح إليهم داود ابنه ألبأرسلان في العساكر فاقتتلوا و كان الغلب لألب أرسلان و عاد عسكر غزنة مهزوما و سار عسكر من الغز إلى نواحي بست و عاثوا و أفسدوا فبعث أبو الفتح مودود إليهم عسكرا فقاتلهم و انهزموا و ظفر عسكر مودود بهم و أثخنوا فيهم (4/508)
مسير الهنود لحصار لهاور و امتناعها و فتح حصون أخرى من بلادهم
و في سنة خمس و ثلاثين اجتمع ثلاثة من ملوك الهند على لهاور فجمع مقدم العساكر الإسلامية هناك عسكره و بعثهم للدفاع عنها و بعث إلى السلطان مودود و حاصرها الثلاثة ملوك ثم أفرج الآخران و عادا إلى بلادهما و سارت عساكر الإسلام في اتباع أحدهما و هو دوبالي هربابة فانهزم منهم و امتنع بقلعة له هو و عساكره و كانوا خمسة آلاف فارس و سبعين ألف راجل و حاصرهم المسلمون حتى استأمنوا و سلموا ذلك الحصن و جميع الحصون التي من أعمال الملك و غنموا أموالهم و أطلقوا من كان في الحصون من أسرى المسلمين بعد أن أعطوهم خمسة آلاف ثم ساروا إلى ولاية الملك الآخر و اسمه باس الري فقاتلوه و هزموه و قتل في المعركة هو و خمسة آلاف من قومه و أسر الباقون و غنم المسلمون ما معهم و أذعن ملوك الهند بعدها بالطاعة و حملوا الأموال و طلبوا الأمان و الإقرار على بلادهم فأجيبوا (4/508)
وفاة مودود و ولاية عمه عبد الرشيد
ثم توفي أبو الفتح مودود بن مسعود بن محمود بغزنة لعشر سنين من ولايته في رجب سنة إحدى و أربعين و أربعمائة و قد كان كاتب فأجابوه و جمع كليجار صاحب أصفهان العساكر و سار في المفازة لنصره فمرض في طريقه و رجع و سار خاقان إلى ترمذ لنصره و طائفة أخرى مما وراء النهر إلى خوارزم و سار مودود من غزنة فعرض له بعد رحيله من غزنة مرض القولنج فعاد إلى غزنة و بعث إلى وزيره أبي الفتح عبد الرزاق بن أحمد المتميدي في العساكر إلى سجستان لانتزاعها من الغز ثم اشتد وجعه فمات و نصب ابنه للأمر خمسة أيام ثم عدل الناس عنه إلى عمه علي بن مسعود و كان مسعود لأول ولايته قبض على عمه عبد الرشيد أخي
محمود و حبسه بقلعة بطريق بست فلما قاربها الوزير أبو الفتح و بلغه وفاة مودود نزل عبد الرشيد إلى العسكر فبايعوا له و رجعوا به إلى غزنة فهرب علي بن مسعود و استقر الأمر لعبد الرشيد و لقب سيف الدولة و قيل جمال الدولة و استقام أمر السلجوقية بخراسان و اندفعت العوائق عنهم (4/509)
مقتل عبد الرشيد و ولاية فرخزاد
كان لمودود صاحب اسمه طغرل و جعله حاجبا ببابه و كان السلجوقية قد ملكوا سجستان و صارت في قسم بيقو أخي طغرلبك و ولى عليها أبا الفضل من قبله فأشار طغرلبك على عبد الرشيد بانتزاعها منهم و ألح عليهم في ذلك فبعث إليها طغرل في ألف فارس فحاصر حصن الطاق أربعين يوما و كتب أبو الفضل من سجستان يستنجده و سار طغرل و لما سمع أصوات البوقات و الدبادب و أخبر أنه بيقو فتحاجزوا و علم أنه تورط و لقيهم مستميا فهزمهم و سار إلى هراة و اتبعهم طغرل فرسخين و عاد إلى سجستان فملكها و كتب إلى عبد الرشيد بالخبر و استمده لغزو خراسان فأمده بالعساكر ثم حدثته نفسه بالملك فاغذ السير إلى غزنة حتى كان على خمسة فراسخ منها كتب إلى عبد الرشيد باستيجاش العسكر و طلبهم الزيادة في العطاء فشاور أصحابه فكشفوا له وجه المكيدة في ذلك و حذروه من طغرل فصعد إلى قلعة غزنة و تحصن بها و جاء طغرل من الغد فنزل في دار الإمارة و راسل أهل القلعة في عبد الرشيد فأسلموه إليه فقتله و استولى على ملكهم و تزوج ابنة السلطان عبد الرشيد و يحضهم على الأخذ بثأره فأجابوا و دخلوا عليه في مجلسه و قتلوه و جاء ذخير الحاجب لخمسة أيام من مقتله و جمع و جوه القواد و أعيان البلد و بايع ترخاد ابن السلطان مسعود و قام بتدبير دولته و قتل الساعين في إلى غزنة و لقي الغز و هزمهم و دخل غزنة فملكها من أيديهم ثم سار إلى كرمان و سنوران فملكها و كرمان هذه بين غزنة و الهند و ليست كرمان المعروفة ثم سار غياث الدين إلى نهر السند ليعبر إلى لهاور كرسي خسرو شاه بن بهرام شاه فبادر خسرو شاه و منعه العبور فرجع و ملك ما يليه من جبال الهند و أعمال الأنبار و ولى على غزنة أخاه شهاب الدين و رجع إلى فيروزكوه (4/510)
استيلاء الغورية على لهاور و مقتل خسرو شاه و انقراض دولة بني سبكتكين
و لما ولي شهاب الدين الغوري غزنة أحسن السيرة فيهم و افتتح جبال الهند مم يليه فاستفحل ملكه و تطاول إلى ملك لهاور قاعدة الهند من يد خسرو شاه فسار سنة تسع و سبعين و أربعمائة في عسكر غزنة و الغور و عبر إليها و حاصرها و بذل الأمان لخسرو شاه و أنكحه ابنته و سوغه ما يريد من الأقطاع على أن يخرج إليه و يخطب لأخيه فأبى من ذلك و أقام شهاب الدين يحاصره حتى ضاق مخنقه و خذله أهل البلد فبعث القاضي و الخطيب يستأمنان له فأمنه و دخل شهاب الدين و بقي خسرو شاه عنده مكرما و بقي شهرين ينتظر المعونة من يد غياث الدين فأنقذ خسرو شاه إليه فارتاب من ذلك و أمنه شهاب الدين و حلف له و بعث به و بأهله
و ولده مع جيش يحفظونهم فلما وصلوا بلد الغور حبسهم غياث الدين ببعض قلاعه فكان آخر العهد به و انقرضت دولة بني سبكتكين بموته و كان مبدؤها سنة ست و ستين و ثلاثمائة فتكون مدة الدولة مائتين و ثلاث عشرة سنة (4/511)
دولة الترك الخبر عن دولة الترك في كاشغر و أعمال تركستان و ما كان لهم من الملك في الملة الإسلامية بتلك البلاد و أولية أمرهم و مصاير أحوالهم
كان هؤلاء الترك ملوك تركستان و لا أدري أولية أمرهم بها إلا أن أول من أسلم منهم سبق قراخان و تسمى عبد الملك و كانت له تركستان و قاعدتها كاشغر و ساغون و خيمو و ما يتصل بها إلى أوان المفازة المتصلة بالصين في ناحية الشمال عنهم أعمال طراز و الشاش و هي للترك أيضا إلا أن ملوك تركستان أعظم ملكا منهم بكثير و في المغرب عنهم بلاد ما وراء النهر التي كان ملكها لبني سامان و كرسيهم بخارى و لما أسلم ملكهم عبد الكريم سبق أقام على ملكه بتلك الناحية و كان يطيع بني سامان هو وعقبه يستنفرونهم في حروبهم إلى أن ملك عهد الأمير نوح بن منصور في عشر التسعين و الثلثمائة على حين اضطراب دولة بني سامان و انتقاض عمالهم بخراسان و انتقض أبو علي بن سيجور فراسل بقراخان و أطمعه في ملك بخارى فطمع بقراخان في البلاد ثم قصد أعمال بني سامان و ملكها شيئا فشيئا و بعث الأمير نوح إليه العساكر مع قائده أنج فلقيهم بقراخان و هزمهم و أسر أنج و جماعة من القواد و سار فائق إلى قراخان و اختص به و صار في جملته و رجع الأمير نوح إلى بخارى كما مر من قبل و هلك بقراخان في طريقه (4/512)
وفاة بقراخان و ملك أخيه ايلك خان سليمان
و لما ارتحل بقراخان من بخارى و هو على ما به من المرض أدركه الموت فى طريقه فمات سنة ثلاث و ثمانين و أربعمائة و كان دينا عادلا حسن السيرة محبا للعلماء و أهل الدين مكرما لهم متشيعا سنيا و كان مواليا لآل رسول الله صلى الله عليه و سلم و لما مات ولي بعده أخوه ايلك خان سليمان و لقبه شهير الدولة و استوثق ملكه بتركستان و أعمالها و وفد عليه فائق بعد حروبه بخراسان مع جيوش الأمير نوح و سبكتكين و ابنه محمود و لحق به مستصرخا فأكرمه و وعده وكتب إلى الأمير نوح يشفع في فائق و أن يوليه سمرقند فولاه عليها و أقام بها (4/512)
استيلاء ايلك خان على ما وراء النهر
لما عاد بقراخان على بخارى و عاد إليها الأمير نوح و قد كان من أبي علي بن سيجور و إجلائه عن خراسان ما كان استدعى الأمير نوح مولاه سبكتكين بعد ذلك و اختلف ابناه بكثرزون و منصور كما تقدم ذلك سنة خمس و ثمانين و أربعمائة ثم هلك سبكتكين كما تقدم ذلك كله قبل ثم استوحش بكثرزون من منصور و اتفق مع فائق على خلعه فخلعه و سمله بخراسان سنة تسع و ثمانين و أربعمائة و كان فائق خصيا من موالي نوح بن منصور و هذه الأخبار كلها مستوفاة في دولة بني سامان ثم بلغ الخبر إلى أيلك خان فطمع في ملك بخارى و أعمالها و سار في جموع الترك إلى بخارى موريا بالمحامات عن عبد الملك و النصرة له وخرج بكثرزون و الأمراء و القواد للقائه فقبض عليهم و سار فدخل بخارى عاشر ذي القعدة من سنة تسع و ثمانين و أربعمائة و نزل دار الإمارة و ظفر بعبد الملك فحبسه فانكدر حتى مات و حبس معه أخاه المخلوع أبا الحرث منصور و أخويه الآخرين إسماعيل و يوسف ابني نوح و أعمامه محمودا و داود و غيرهم و انقرضت دولة بني سامان و البقاء لله (4/513)
ثورة إسمعيل إلى بخارى و رجوعه عنها
قد تقدم لنا أن إسمعيل فر من محبسه و لحق بخوارزم و اجتمع إليه قوادهم و بايعوه و لقبوه المستنصر و بعث قائدا من أصحابه إلى بخارى ففر من كان بها من عساكر ايلك خان فهزمهم و قتل منهم و حبس و كان النائب بها جعفر تكين أخي ايلك خان فحبسه و اتبع المنهزمين إلى سمرقند و لحق إسمعيل بأحياء الغز و جاء ايلك خان في جيوشه و التقوا فانهزم ايلك خان و أسروا قواده و غنموا سواده و رجعوا إلى بلادهم و تشاوروا في الأسرى فارتاب بهم اسمعيل و عبر النهر و انضمت إليه فتيان سمرقند و اتصل الخبر بايلك خان فجمع و التقى هو و اسمعيل و هزمه بنواحي أسروشنة و عبر النهر إلى نواحي الجوزجان ثم إلى مرو و بعث محمود العساكر في أثره من خراسان و كذلك قابوس من جرجان فعاد إلى ما وراء النهر و قد ضجر أصحابه و نزل بحي من العرب فأمهلوه الليل و قتلوه و استقرت بخارى في ملك إيلك خان و ولي عليها أخوه علي تكين (4/513)
عبور ايلك خان إلى خراسان
قد تقدم لنا ما كان انعقد بين ايلك خان و محمود من المواصلة ثم دبت عقارب السعاية بينهما و أكثر محمود من غزو بلاد الهند و لما سار إلى الملتان اغتنم ايلك خان الفرصة في خراسان و بعث سباسي تكين صاحب جيشه و أخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء و أرسلان الحاجب فسار أرسلان إلى غزنة و ملك سباسي هراة و أقام بها و بعث إلى نيسابور عسكرا فاستولى عليها و بادر محمود بالرجوع من الهند و فرق العطايا و أزاح العلل و استنفر الأتراك الخلنجية و سار إلى جعفر تكين ببلخ ففارقها إلى ترمذ و بعث العساكر إلى سباسي جهراة ففارقها إلى مرو ليعبر النهر فاعترضه التركمان فأوقع بهم و سار إلى أبيورد و العساكر في اتباعه ثم سار إلى خراسان فاعتضره محمود و هزمه و أسر أخاه و جماعة من قواده و عبر النهر إلى ايلك و أجلى عساكره و أصحابه عن خراسان فبعث ايلك خان إلى قراخان ملك الختل فاستنفر الترك الغزية و الخلنجية و الهنود و عسكر على فرسخين من بلخ و تقدم ايلك و قراخان في عساكرهما و نزلوا قبالته و اقتتلوا يوما إلى الليل و من الغد اشتدت الحرب و نزل الصبر ثم حمل محمود في الفيلة على ايلك خان في القلب فاختل المصاف و انهزم الترك و اتبعهم عساكر محمود و أثخنوا فيهم القتل و الأسر إلى أن عبر النهر و انقلب ظافرا غانما و ذلك سنة سبع و تسعين و ثلثمائة (4/514)
وفاة ايلك خان و ولاية أخيه طغان خان
ثم هلك ايلك خان سنة ثلاث و أربعمائة و كان مواليا للسلطان محمود و مظاهرا له على أخيه طغان خان فلما ولي تجدد ما بينه و بين السلطان من الولاية و صلحت الأحوال وانمحت آثار الفتنة في خراسان و ما وراء النهر (4/515)
انتقاض قراخان على أرسلان و صلحه
كان أرسلان خان قد ولى على سمرقند قراخان يوسف بن بقراخان هرون الذي ملك بخارى فانتقض عليه سنة تسع و أربعمائة و كاتب السلطان محمود صاحب خراسان يستظهر به على أرسلان خان فعقد السلطان على جيحون جسرا من السفن محكمة الربط بسلاسل الحديد و عبر إليه ثم خام عن لقائه فعاد إلى خراسان و انقطعت الموالاة بينه و بين أرسلان خان و تصالح مع قراخان و اتفقا على محاربة السلطان محمود و المسير إلى بلاده فسار إلى بلخ و قاتلهما السلطان قتالا شديدا حتى انهزم الترك و عبروا النهر إلى بلادهم و كان من غرق أكثر ممن نجا و عبر السلطان في أثرهم (4/515)
وفاة طغان خان و ولاية أخيه أرسلان خان
ثم توفي طغان خان ملك الترك سنة ثمان و أربعمائة بعد أن كان له جهاد خرجوا من الصين في زهاء ثلثمائة ألف و قصدوا بلاده في ساعون و هال المسلمين أمرهم فاستنفر طغان طوائف المسلمين و غيرهم و استقبلهم فهزمهم و قتل منهم نحو مائة ألف و أسر مثلها و رجع الباقون منهزمين و مات طغان إثر ذلك و ولي بعده أخوه أرسلان و كان من الغريب الدال على قصد إيمان طغان أنه كان عند خروج الترك إلى بلاد ساغون عليلا فلما بلغه الخبر تضرع لله أن يعافيه حتى ينتقم من هؤلاء الكفرة و يدفعهم عن البلاد فاستجاب الله دعاءه و كان محبا لأهل العلم و الدين و لما توفي واصل أرسلان خان الولاية مع السلطان محمود و أصهر إلى ابنه مسعود في بعض كرائمه فاستحكم الاتصال بينهما (4/515)
أخبار قراخان
الذي يظهر من كلام ابن الأثير : أن قراخان ولي بلاد الترك بتركستان و ساغون فإنه ذكره عقب هذا الخبر بالعدل و حسن السيرة و كثرة الجهاد ثم قال عقب كلامه : فمن فتوحاته ختن بين الصين و بهستان و هي كثيرة العلماء و الفضلاء ثم قال : و بقي كذلك إلى سنة ثلاث و عشرين و أربعمائة فتوفي فيها و لما توفي خلف ثلاثة بنين : أرسلان خان و كنيته أبو شجاع و لقبه شرف الدولة و بقراخان و لم يذكر الثالث
و الظاهر أنه شرف الدولة قال : و كان لأرسلان كاشغر و ختن و ساغون و خطب له على منابرها و كان عادلا مكرما للعلماء و أهل الدين محسنا لهم و قصده كثير منهم
فأكرمهم قال : و كان لبقراخان طراز و أسبيجاب و وقعت الفتنة بين بقراخان و أرسلان فغلبه بقراخان و حبسه و ملك بلاده و قال في موضع آخر : كان يقنع من إخوته و أقاربه بالطاعة فقسم البلاد بينهم و أعطى أخاه أرسلان تكين كثيرا من بلاد الترك و أعطى أخاه طراز و أسبيجاب و أعطى عمه طغان خان فرغانة بأسرها و أعطى ابنه علي تكين بخارى و سمرقند و غيرهما و قنع هو ببلاد ساغون و كاشغر
قال : و في سنة خمس و ثلاثين و أربعمائة أسلم كثير من كفار الترك الذين كانوا يطرقون بلاد الإسلام بنواحي ساغون و كاشغر و يعيثون فيها و يصيفون ببلاد بلغار فأسلموا و افترقوا في البلاد و بقي من لم يسلم التتر و الخطا في نواحي الصين انتهى و رجع إلى بقراخان الأول و قال فيه حبس أخاه أرسلان خان و ملك بلاده ثم عهد بالملك لولده الأكبر و اسمه حسين جعفر تكين و كان له ولد آخر أصغر من حسين اسمه إبراهيم فغارت أمه لذلك و قتلت بقراخان بالسم و خنقت أخاه أرسلان في محبسه ثم استلحمت و جوه أصحابه و أمرائه و ملكت ابنها إبراهيم سنة تسع و ثلاثين و أريعمائة و بعثتمه في العساكر إلى برسخان مدينة بنواحي تركستان و كان صاحبها يسمى نيال تكين فانهزم إبراهيم و ظفر به نيال تكين و قتله و اختلف أولاد بقراخان و فسد أمرهم و قصدهم طقفاج خان صاحب سمرقند و فرغانة فأخذ من أولاد بقراخان الملك من أيديهم (4/516)
الخبر عن طقفاج خان و ولده
كان بسمرقند و فرغانة أيام بني بقراخان و إخوته ملك من الترك الخانية اسمه نصرايلك و يلقب عماد الدولة و يكنى أبا المظفر ثم فلج سنة اثنين و أربعمائة و مات و قد عهد بملكه لابنه شمس الدولة نصر فقصده أخوه طغان خان ابن طقفاج و حاصره بسمرقند و بيته شمس الدولة فهزمه و ظفر به و كان ذلك في حياة أبيهما ثم جاء بعد مماته إلى محاربة شمس الدولة بقراخان هرون بن قدرخان يوسف و طغرك خان و كان طقفاج قد استولى على ممالكها و حاصره بسمرقند و لم يظفروا به و رجعوا عنه و صارت أعمال الخانية كلها في أيديهما و الأعمال المتاخمة لسيحون لشمس الدولة و التخم بينهما خجندة و كان السلطان ألبأرسلان قد تزوج بابنة قدرخان و كانت قبله زوجا لمسعود بن محمود بن سبكتكين و تزوج شمس الدولة بابنة ألبأرسلان شمس الملك و ذلك سنة خمس و ستين و أربعمائة و ملكها و نقل ذخائرها إلى سمرقند و خاف أهل بلخ منه فاستأمنوا إليه و خطبوا له فيها لأن أرباس ألبأرسلان سار إلى الجوزجان و جاء إليها التكين و ولى عليها و عاد إلى ترمذ فثار أهل بلخ بأصحابه و قتلوهم فرجع إليهم و أمر بإحراق المدينة ثم عفا عنهم و صادر التجار و بلغ الخبر إلى ألبارسلان فعاد من الجوزجان و سار في العساكر إلى ترمذ في منتصف سنة خمس و ستين و أربعمائة فلقيه التكين و هزمه و غرق كثير من أصحابه في النهر ثم استقامت الأمور للسلطان ملك شاه فسار إلى ترمذ سنة ست و ستين و أربعمائة و حاصرها و رماها بالمنجنيق و طم خندقها حتى استأمن أهلها و اعتصم بقلعتها أخو التكين ثم استأمن و أطلقه السلطان إلى أخيه ثم سار ملك شاه إلى سمرقند ففارقها و بعث أخوه السلطان في الصلح فأجابه و رده إلى سمرقند و رجع السلطان إلى خراسان انتهى قال ابن الأثير : ثم مات شمس الدولة و ولي بعده أخوه خضرخان ثم مات خضرخان فولي بعده ابنه أحمد خان و كان أحمد هذا أسره ملك شاه في سمرقند لما فتحها و وكل به جماعة من الديلم فلقن عنهم معتقدات الإباحة و الزندقة فلما ولي أظهر الإنحلال فاعتزم جنده على قتله و تفاوضوا في ذلك مع نائبه بقلعة قاشان فأظهر العصيان عليه فسار في العساكر وحاصر القلعة و تمكن جنده منه فقبضوا عليه و رجعوا به إلى سمرقند فدفعوه إلى القضاة و قتلوه بالزندقة و ولوا مكانه مسعود خان ابن عمه قال ابن الأثير : و كان جده من ملوكهم و كان أصم و قصده طغان خان بن قراخان صاحب طراز فقبله و استولى على الملك و ولى على سمرقند أبا المعالي محمد بن محمد بن زيد العلوي فوليها ثلاث سنين ثم عصى عليه فحاصره و أخذه فقتله ثم خرج طغان خان إلى ترمذ فلقيه السلطان سنجر و ظفر به و قتله و أخذها منه عمر خان و ملك سمرقند ثم هرب من جنده إلى خوارزم فظفر به السلطان أحمد و ولي سمرقند محمد خان و ولي بخارى محمد تكين و قال ابن الأثير في ذكر كاشغر و تركستان : إنها كانت لأرسلان خان بن يوسف قدرخان كما ذكرنا ثم صارت لمحمود نورا خان صاحب طراز والشاش فملكها سنة و ثلاثة أشهر ثم مات فولى بعده طغراخان بن يوسف قدرخان و ملك بلاد ساغون و أقام ست عشرة سنة ثم توفي فملك ابنه طغرل تكين شهرين ثم جاء هرون بقراخان بن طقفاج ثوراخان و هو أخو يوسف طغرل خان فملك كاشغر و قبض على هرون و استولى على ختن و ما يتصل به إلى ساغون و أقام عشرين سنة و توفي سنة ست و تسعين و أربعمائة فولي بعده أحمد بن أرسلان خان و بعث إليه المستظهر بالخلع و لقبه نور الدولة (4/517)
مقتل قدرخان صاحب سمرقند
قال ابن الأثير سنة خمس و تسعين و أربعمائة : و لما سار سنجر إلى بغداد مع أخيه السلطان محمد طمع قدرخان جبريل بن عمر صاحب سمرقند في خراسان فخالف إليها سنجر بعد رجوعه إليها و قد عظم الخلاف بين بركيارق و أخيه محمد و كان بعض أمراء سنجر اسمه كنذعري يكاتب قدرخان و يغريه و يستحثه إلى البلاد فسار قدرخان إلى بلخ سنة سبع و تسعين و أربعمائة في مائة ألفا و بادر سنجر إليها في ستة آلاف فلما تقاربا لحق كنذعري بقدرخان فبعثه إلى ترمذ و ملكها وجاء الخبر إلى سنجر بأن قدرخان نزل قريبا من بلخ و أنه خرج متصيدا في ثلثمائة فارس فجرد إليه عسكرا مع أميره برغش فهزمهم و جاء بكنذعري و قدرخان أسيرين و قيل إنه وقع بينهما مصاف و انهزم قدرخان و أسر فقتله سنجر و سار إلى ترمذ فحاصرها حتى استأمن إليه كنذعري فأمنه و لحق بغزنة و كان محمد أرسلان خان بن سليمان بن داود بقراخان نازلا بمرو فبعث عنه السلطان سنجر و ولاه على سمرقند و هو من نسل الخانية مما وراء النهر و أمه بنت السلطان سنجر و ولي ملك شاه دفع عن ملك آبائه فقصد مرو و أقام بها فلما قتل قدرخان ولاه سنجر أعماله و بعث معه العساكر الكثيرة فاستولى عليها و استفحل ملكه ثم انتقض عليه من أمراء الترك تيمورلنك و جمع و سار إلى محمد خان بسمرقند و غيرها فاستنجد محمد خان بالسلطان سنجر فأنجده بالعساكر و سار إلى تيمورلنك فهزمه و فض جموعه و رجعت العساكر إليه (4/519)
انتقاض محمد خان عن سنجر
ثم بلغ السلطان سنجر سوء سيره محمد في رعيته و إهماله لأوامر السلطان فسار إليه سنة سبع و خمسمائة فخاف محمد خان عائلته و بعث إلى الأمير قماج أعظم أمراء سنجر يعتذر و يسأله الصلح فشرط عليه الحضور عند السلطان فاعتذر بالخوف و أنه يقف من وراء جيحون و يقبل الأرض من هنالك فأجيب إلى ذلك و وقفوا بعدوة النهر حتى وافى محمد خان بشرطه و سكنت الفتنة (4/520)
استيلاء السلطان سنجر على سمرقند
كان السلطان سنجر لما ملك سمرقند ولى عليها أرسلان خان بن سليمان بقراخان داود فأصابه الفالج و استناب ابنه نصر خان فوثب به أهل سمرقند و قتلوه و تولى كبر ذلك اثنان منهم أحدهما علوي و كان أبوه محمد المفلوج غائبا فعظم عليه و بعث عن ابنه الآخر من تركستان فجاء و قتل العلوي و صاحبه و كان والد أرسلان خان قد بعث إلى السلطان سنجر يستحثه قبل قدوم ابنه الآخر فسار سنجر لذلك فلما قدم إلى أبيه أرسلان و قتل قاتلي أخيه بعث أرسلان إلى السلطان سنجر يعرفه و يسأله العود إلى بلده فغضب لذلك و أقام أياما ثم جيء إليه بأشخاص و اعترفوا بأن محمدا خان بعثهم لقتله فغضب و سار إلى سمرقند فملكها عنوة و تحصن محمد خان ببعض الحصون حتى استنزله سنجر بالأمان بعد مدة و أكرمه و كانت بنته تحبه فبعثه إليها وأقام عندها و ولي على سمرقند حسين تكين و رجع إلى خراسان و مات حسين تكين فولي بعده عليها محمود بن محمد خان أخا زوجته (4/520)
استيلاء الخطا على تركستان و بلاد ما وراء النهر و انقراض دولة الخانية
نقل ابن الأثير هذا الخبر عن اضطراب عنده فيه على أن أخبار هذه الدولة الخانية في كتابه ليست جلية و لا متضحة و أرجو إن مد الله في العمر أن أحقق أخبارها بالوقوف عليها في مظان الصحة و ألخصها مرتبة فإني لم أوفها حقها من الترتيب لعدم وضوحها في نقله و حاصل ما قرر في هذا الخبر من أحد طرقه أنه قال : إن بلاد تركستان و هي كاشغر و بلاد ساغون و ختن و طراز وغيرها مما بجوارها من بلاد ما وراء النهر كانت بيد الملوك الخانية من الترك و هم من نسل فراسياب ملكهم الأول المنازع لملوك الكينية من الفرس و أسلم جدهم الأول سبق قراخان و يقال سبب إسلامه أنه رأى في منامه رجلا نزل من السماء فقال له باللسان التركي ما معناه أسلم تسلم في الدنيا و الآخرة فأسلم في منامه و أصبح مظهرا لإسلامه و لما مات قام مقامه ابنه موسى و اتصل الملك في عقبه إلى أرسلان خان بن محمد بن سليمان سبق فخرج عليه قدرخان في ملكه سنة أربع و تسعين و أربعمائة و اجتمع الترك عليه و كانوا طوائف فكان منهم القار غلية و بقية الغز الذين عبروا إلى خراسان و نهبوها على ما مر و كان لأرسلان ابن اسمه نصرخان و في صحابته شريف علوي اسمه الشرف محمد بن أبي شجاع السمرقندي فحسن له طلب الملك من أبيه و أطمعه فيه فقتلهما أرسلان ثم و قعت بينه و بين القارغلية من الترك وحشة دعتهم إلى الانتقاض و العصيان و استنجد بالسلطان سنجر فعبر جيحون بعساكره سنة أربع و عشرين و خمسمائة و وصل إلى سمرقند و هرب القارغلية بين يديه ثم عثر على رجالة استراب بهم فقبض عليهم و تهددهم فذكروا أن أرسلان خان وضعهم على قتله فرجع إلى سمرقند و ملك القلعة و بعث أرسلان أميرا إلى بلخ فمات بها و قيل إنه اختراع منه و وضع هذه الحكاية و سيلة لذلك ثم ولي السلطان سنجر على سمرقند فلج طمغاج و هو أبو المعالي الحسن بن علي المعروف بحسين تكين كان من أعيان بيت الخانية فلم تطل أيامه و مات فولي سنجر مكانه محمود ابن أخته و هو ابن السلطان أرسلان فأقام ملكا عليها و كان ملك الصين كوخان قد وصل إلى كاشغر سنة اثنتين و عشرين و خمسمائة في جيوش كثيفة و معنى كوبلسان أهل الصين أعظم و خان سمة ملوك الترك و كان أعور و كان يلبس لبسة ملوك الترك و هو مانوي المذهب و لما خرج من الصين إلى تركستان انضاف إليه طوائف الخطا من الترك و كانوا قد خرجوا قبله من الصين و أقاموا في خدمة الخانية أصحاب تركستان فانضافوا إلى كوملك الصين و كثف جمعه بهم و زحف إليه صاحب كاشغر و هو الخان أحمد بن الحسين بجموعه فهزمه و أقامت طوائف الخطا معه في تلك البلاد و كان سبب خروجهم من الصين و نزولهم ساغون أن أرسلان محمد كان يستنجد بهم و يجري عليهم الأرزاق و الأقطاعات و ينزلهم مسالح في ثغوره ثم استوحشوا منه و نفروا و طلبوا الرحلة إلى غير بلده و ارتادوا البلاد و اختاروا منها بلد الساغون فساروا إليها و ردد عليهم أرسلان الغزو و لما جاء كوخان ملك الصين صاروا في جملته حتى إذا رجع زحفوا إلى بلاد تركستان فملكوها بلدا بلدا و كانوا إذا ملكوا المدينة يأخذون دينارا من كل بيت و لا يزيدون عليه و يكلفون من يطيعهم من الملوك أن يعلق في منطقته لوحا من فضة علامة على الطاعة ثم ساروا إلى بلاد ما رواء النهر سنة إحدى و ثلاثين و خمسمائة و لقيهم محمود خان بن أرسلان خان فهزموه إلى سمرقند و بخارى و استنجد بالسلطان سنجر و دعاه لنصر المسلمين فجمع العساكر و استنجد صاحب سجستان ابن خلف و الغوري صاحب غزنة و ملوك ما وراء النهر و غيرهم و سار للقائهم و عبر النهر في ذي الحجة سنة خمس و ثلاثين و خمسمائة و شكا إليه محمود من القارغلية فأراد أخذهم فهربوا إلى كوخان و سألوه أن يشفع لهم عند السلطان سنجر و كتب إليه يشفع لهم فلم يشفعه و كتب إليه يدعوه إلى الإسلام و يتهدده و لما بلغ الكتاب إلى كوخان عاقب الرسول و سار للقاء سنجر في أمم الترك و الخطا و القارغلية فلقيه السلطان سنجر أول صفر سنة ست و ثلاثين و خمسمائة و على ميمنته قماج و على ميسرته صاحب سجستان و أبلى ذلك اليوم و ساء أثر القارغلية في تلك الحرب و انهزم السلطان سنجر و المسلمون و استمر القتل فيهم و أسر صاحب سجستان و الأمير قاج و زوجة السلطان ابنة أرسلان خان محمد و أطلقهم الكفار و لم يكن في الإسلام وقعة أعظم من هذه و لا أفحش قتلا و استقرت الدولة فيما وراء النهر للخطا و الترك و هم يومئذ على دين الكفر و انقرضت دولة الخانية المسلمين الذين كانوا فيها ثم هلك كوخان منتصف سبع و ثلاثين و كان جميلا حسن الصوت و يلبس الحرير الصيني و كان له هيبة على أصحابه و لا يقطع أحدا منهم خوفا على الرعية من العسف و لا يقدم أميرا على فوق مائة فارس خشية أن تحدثه نفسه بالعصيان و ينهى عن الظلم و عن السكر و يعاقب عليه و لا ينهى عن الزنا و لا يقبحه و لما مات ملكت بعده ابنته و ماتت قريبا فملكت بعدها أمها زوجة كوخان و بقي ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن غلبهم عليه علاء الدين محمد بن خوارزم شاه صاحب دولة الخوارزمية سنة اثنتي عشرة و ستمائة على ما يأتي في أخبار دولتهم (4/520)
إجلاء القارغلية من وراء النهر
لما ملك ما وراء النهر سمرقند و بخارى جقري خان بن حسين تكين من بيت الخانية و أمره سنة تسع و خمسين و خمسمائة بإجلاء الترك القارغلية من أعمال بخارى و سمرقند إلى كاشغر و الزامهم الفلاحة و مجانبة حمل السلاح فامتنعوا من ذلك و ألح عليهم جقري خان فامتنعوا و اجتمعوا لحربه و سار إلى بخارى فبعث إليهم بالوعظ في ذلك والوعد الجميل بخلال ما جمع بقراخان و كبسهم على بخارى فانهزموا و أثخن فيهم و قطع دابرهم و أجلاهم عن نواحي سمرقند و صلحت تلك النواحي والله أعلم (4/523)
الخبر عن دولة الغورية القائمين بالدولة العباسية بعد بني سبكتكين و ما كان لهم من السلطان و الدولة و ابتداء أمرهم و مصاير أحوالهم
كان بنو الحسين أيام سبكتكين ملوكا على بلاد الغور لبني سبكتكين و كانت لهم شدة و شوكة و كان منهم لآخر دولة بني سبكتكين أربعة أمراء قد اشتهروا و استفحل ملكهم : و هم محمد و شوري و الحسين شاه و سام بنو الحسين و لا أدري إلى من ينسب الحسين و أظنهم إلى بهرام شاه آخر ملوك بني سبكتكين و التحم به فعظم شأنه ثم كانت الفتنة بين بهرام و أخيه أرسلان فمال محمد إلى أرسلان و ارتاب به بهرام لذلك ثم انقضى أمر أرسلان و سار محمد بن الحسين في جموعه إلى غزنة سنة ثلاث و أربعين و خمسماية موريا بالزيارة و هو يريد الغدر به و شعر بذلك بهرام فحبسه ثم قتله و استوحش الغورية لذلك (4/523)
مقتل محمد بن الحسين الغوري و ولاية أخيه الحسين شاه ثم أخيه شوري
و لما قتل محمد ولي من بعده أخوه شاه بن الحسين ثم كانت الوقعة و ملك بعده أخوه شوري بن الحسين و أجمع الأخذ بثأر أخيه من بهرام شاه فجمع له و سار إلى غزنة سنة ثلاث و أربعين و خمسمائة فملكها و فارقها بهرام شاه إلى بلاد الهند فجمع عسكره التي هناك و رجع إلى غزنة و على مقدمته السلار بن الحسين و أمير هندوخان إبراهيم العلوي و سار شوري للقائه فانفض عنه عسكر غزنة إلى بهرام شاه فانهزم و أسره بهرام و دخل غزنة في محرم سنة أربع و أربعين وخمسمائة و صلب شوري على باب غزنة و استقر في ملكه (4/524)
مقتل شوري بن الحسين و ولاية أخيه علاء الدين ابن الحسين و استيلاؤه على غزنة و انتزاعها منه
لما هلك شوري بن الحسين ملك الغورمن بعده أخوه الحسين و يلقب علاء الدولة و استولى على جبال الغور و مدينة بيروزكوه المجاورة لأعمال غزنة من بلاد الهند و هي تقارب في اتساعها بلاد خراسان فاستفحل ملكه و طمع في ملك خراسان و سار إلى هراة باستدعاء أهلها فحاصرها ثلاثا ثم ملكها بالأمان و خطب فيها للسلطان سنجر و سار إلى بلخ و بها الأمير قماج من قبل السلطان سنجر فغدر به أصحابه فملك علاء الدولة بلخ و سار إلى السلطان سنجر و قاتله و ظفر به فأسره ثم خلع عليه و رده إلى بيروزكوه ثم سار علاء الدين يريد غزنة سنة سبع و أربعين وخمسمائة ففارقها صاحبها بهرام شاه و ملكها علاء الدولة و أحسن السيرة واستخلف عليهم أخاه سيف الدولة و عاد إلى بلاد الغور فلما جاء فصل الشتاء سد الثلج المسالك كتب أهل غزنة إلى بهرام شاه و استدعوه فلما و صل و ثبوا بسيف الدولة و صلبوه و بايعوا لبهرام شاه و ملكوه عليهم كما كان (4/524)
انتقاض شهاب الدين و غياث الدين على عمهما علاء الدولة
لما استفحل أمر علاء الدولة و استفحل ملكه استعمل على البلاد العمال و كان فيمن ولاه بلاد الغور ابنا أخيه سالم بن الحسين و هما غياث الدين و شهاب الدين فأحسنا السيرة في عملهما و مال إليهما الناس وكثرت السعاية فيهما عند عمهما بأنهما يريدان الوثوب فبعث عنهما فامتنعا فجهز إليهما العساكر فهزماها و أظهرا عصيانه و قطعا خطبته فسار إليهما فقاتلاه قتالا شديدا حتى انهزم فاستأمن إليهما فأجلساه على التخت و قاما بخدمته و زوج بنته غياث الدين منهما و بقي مستبدا على عمه علاء الدولة ثم عهد إليه بالأمر من بعده و مات (4/525)
وفاة علاء الدولة و ولاية غياث الدين ابن أخيه من بعده و تغلب الغز على غزنة
ثم توفي علاء الدولة ملك الغورية سنة ست و خمسين و قام بالأمر من بعده ببيروزكوه غياث الدين أبو الفتح ابن أخيه سالم و طمع الغز بموته في ملك غزنة فملكوها من يده و بقي غياث الدين في كرسيه ببيروزكوه و أعمالها و ابنه سيف الدين محمد في بلاد الغور ثم أساء السيرة الغز في غزنة بعد مقامهم فيها خمس عشرة سنة و استفحل أمر غياث الدين فسار إلى غزنة سنة إحدى و سبعين و خمسمائة في عساكر الغورية و الخلخ و الخراسانية و لقي الغز فهزمهم و ملك غزنة من أيديهم و سار إلى كرمان و شنوران فملكهما و كرمان هذه بين غزنة و الهند ليست كرمان المعروفة ثم سار غياث الدين إلى لهاور ليملكها من يد خسرو شاه بن بهرام فبادر خسرو شاه إلى نهر المد و منعه العبور منه فرجع و ملك ما يليه من جبال الهند و أعماله الأثغار و ولى غزنة أخاه شهاب الدين و رجع إلى بيروزكوه (4/525)
استيلاء شهاب الدين الغوري على لهاور و مقتل خسروشاه صاحبها
و لما ولي شهاب الدين الغوري غزنة أحسن السيرة فيهم و افتتح جبال الهند مما يليه فاستفحل ملكه و تطاول إلى ملك لهاور قاعدة الهند من يد خسروشاه فسار سنة تسع و سبعين و خمسمائة في عساكر خراسان و الغور و عبر إليها و حاصرها و بذل الأمان لخسروشاه و أنكحه ابنته و سوغه ما يريد من الأقطاع على أن يخرج إليه و يخطب لأخيه فأبى من ذلك و بقي شهاب الدين يحاصره حتى ضاق مخنقه بالحصار و خذله أهل البلد فبعث بالقاضي و الخطيب يستأمنان له فأمنه و دخل شهاب الدين البلد و بقي خسروشاه عنده محرما و بعد شهرين وصل الأمر من غياث الدين بإنفاذ خسروشاه إليه فارتاب من ذلك فأمنه شهاب الدين و حلف له و بعث به و بأهله و ولده مع جيش يحفظونهم فلما و صلوا بلاد الغور حبسهم غياث الدين ببعض قلاعه فكان آخر العهد به و بابنه (4/526)
استيلاء غياث الدين على هوارة و غيرها من خراسان
و لما استقر ملك غياث الدين بلهاور كتب إلى أخيه شهاب الدين الذي تولى فتحها أن يقيم الخطبة له و يلقبه بألقاب السلطان فلقبه غياث الدنيا و الدين معين الإسلام و المسلمين قسيم أمير المؤمنين و لقب أخاه شهاب الدين بعز الدين ثم لما فرغ شهاب الدين من أمور لهاور و سار إلى أخيه غياث الدين ببيروزكوه و اتفق رأيهما على المسير إلى هراة من خراسان سار في العساكر فحاصرها و بها عسكر السلطان سنجر و أمراؤه فاستأمنوا إليهما و ملكا هراة و سار إلى بوشنج فملكها ثم إلى باذغيس كذلك و ولى غياث الدين على ذلك و عاد إلى بيروزكوه و شهاب الدين إلى غزنة ظافرين غانمين (4/526)
فتح أجرة على يد شهاب الدين
لما عاد شهاب الدين إلى غزنة راح بها أياما حتى استراحت عساكره ثم سار غازيا إلى بلاد الهند سنة سبع و أربعين و خمسماية و حاصر مدينة أجرة و بها ملك من ملوكهم فلم يظفر منه بطائل فراسل إمرأة الملك في أنه يتزوجها إذا ملك البلد فأجابت بالعذر و رغبت في ابنتها فأجاب فقتلت زوجها بالسم و ملكته البلد فأخذ الصبية و أسلمت و حملها إلى غزنة و وسع عليها الجراية و وكل بها من يعلمها القرآن حتى توفيت والدتها و توفيت هي من بعدها لعشر سنين و لما ملك البلد سار في نواحي الهند فدوخها و فتح الكثير منها و بلغ منها ما لم يبلغه أحد قبله (4/527)
حروب شهاب الدين مع الهنود و فتح دهلى و ولاية قطب الدين أيبك عليها
و لما اشتدت نكاية شهاب الدين في بلاد الهند تراسل ملوكهم و تلاوموا بينهم و تظاهروا على المسلمين و حشدوا عساكرهم من كل جهة و جاؤوا بقضهم وقضيضهم في حكم إمرأة ملكت عليهم و سار هو في عساكره من الغورية و الخلخ و الخلنجية و الخراسانية و غيرهم و التقوا فمحص الله المسلمين و أثخن فيهم الكفرة بالقتل و ضرب شهاب الدين في يده اليسرى فشلت و على رأسه فسقط عن فرسه و حجز بينهم الليل و حمله جماعة من غلمانه إلى منجاته ببلده و سمع الناس بنجاته فتباشروا و وفدوا عليه من كل جهة و بعث إليه أخوه غياث الدين بالعساكر و عذله في عجلته ثم ثارت الملكة ثانيا إن بلاد شهاب الدين بالعساكر و بعثت إلى شهاب الدين بالخروج عن أرض الهند إلى غزنة فأجاب إلى ذلك بعد أن يستأذن أخاه غياث الدين و ينظر جوابه و أقاموا على ذلك و قد حفظ الهنود مخاضات النهر بينهم و هو يحاول العبور فلا يجد و بينما هو كذلك جاءه بعض الهنود فدله على مخاضة فاستراب به حتى عرفه قوم من أهل أجرة و الملتان و بعث الأمير الحسن بن حرميد الغوري في عسكر كثيف و عبر تلك المخاضة و وضع السيف في الهنود فأجفل الموكلون بالمخاضات و عبر شهاب الدين و باقي العساكر و أحاطوا بالهنود و نادوا بشعار الإسلام فلم ينج منهم إلا الأقل و قتلت ملكتهم و أسروا منهم أمما و تمكن شهاب الدين بعدها من بلاد الهند و حملوا له الأموال و ضربت عليهم الجزية فصالحوه و أعطوه الرهن عليها و أقطع قطب الدين أيبك مدينة دلهي و هي كرسي الممالك التي فتحها و أرسل عسكرا من الخلخ مختارين ففتحوا من بلاد الهند ما لم يفتحه أحد حتى قاربوا حدود الصين من جهة الشرق و ذلك كله سنة ثمان و أربعين و خمسمائة (4/527)
مقتل ملك الغور محمد بن علاء الدين
قد تقدم لنا أن محمد بن علاء الدين ملك الغور بعد أبيه و أقام مملكا عليها ثم سار سنة ثمان و خمسين و خمسمائة بعد أن احتفل في الاحتشاد و جمع العساكر و قصد بلخ و هي يومئذ للغز فزحفوا إليه و جاءهم بعض العيون بأنه خرج من معسكره لبعض الوجوه في خف من الجند فركبوا لاعتراضه و لقوه فقتلوه في نفر من أصحابه و أسروا منهم آخرين و نجا الباقون إلى المعسكر فارتحلوا هاربين إلى بلادهم و تركوا معسكرهم بما فيه فغنمه الغز و انقلبوا إلى بلخ و مروا ظافرين غانمين (4/528)
الفتنة بين الغورية و بين خوارزم شاه على ما ملكوه من بلاد خراسان
قد تقدم لنا أن غياث الدين و شهاب الدين ابني أبي الفتح سام بن الحسين الغوري رجعا إلى خراسان سنة سبع و أربيعن و خمسماية فملكها هراة و بوشنج و باذغيس وغيرها و ذلك عند انهزام سنجر أمام الغز و افترق ملكه بين أمرائه و مواليه فصاروا طوائف و أظهرهم خوارزم شاه بن أنس بن محمد بن أنوشرتكين صاحب خوارزم فلما كان سنة خمس و سبعين و خمسماية قام بأمره ابنه سلطان شاه و نازعه أخوه علاء الدين تكين فغلبه على خوارزم و خرج سلطان شاه إلى مرو فملكها من يد الغز ثم أخرجوه منها فاستجاش بالخطا و أخرجهم من مرو و سرخس و نسا و أبيورد و ملكها جميعا و صرف الخطا إلى بلادهم و كتب إلى غياث الدين أن ينزل له عن هراة و بوشنج و باذغيس و ما ملكه من خراسان و هدده على ذلك فراجعه بإقامة الخطبة له بمرو و سرخس و ما ملكه من خراسان فامتعض لذلك سلطان شاه و سار إلى بوشنج فحاصرها و عاث في نواحيها و جهز غياث الدين عساكره مع صاحب سجستان و ابن أخته بهاء الدين سام بن باميان لغيبة أخيه شهاب الدين في الهند فساروا إلى خراسان و كان سلطان شاه يحاصر هراة فخام عن لقائهم و رجع إلى مرو و عاث في البلاد في طريقه و أعاد الكتاب إلى غياث الدين بالتهديد فاستقدم أخاه شهاب الدين من الهند فرجع مسرعا و ساروا إلى خراسان و جمع سلطان شاه جموعا ونزل الطالقان و ترددت الرسل بين سلطان شاه و غياث الدين حتى جنح إلى الصلح بالنزول له عن بوشنج و بادغيس و شهاب الدين يجنح إلى الحرب و غياث الدين يكفهم و جاء رسول سلطان شاه لإتمام العقد فقام شهاب الدين العلوي و قال : لا يكون هذا أبدا و لا تصالحوه و قام شهاب الدين و نادى في عسكره بالحرب و التقدم إلى مرو الروذ و تواقع الفريقان فانهزم سلطان شاه و دخل إلى مرو في عشرين فارسا و بلغ الخبر إلى أخيه فسار لتعرضه عن جيحون و سمع سلطان شاه بتعرض أخيه له فرجع عن جيحون و قصد غياث الدين فأكرمه و أكرم أصحابه و كتب أخوه علاء الدين في رده إليه و كتب إلى نائب هراة يتهدده فامتعض غياث الدين لذلك و كتب إلى خوارزم شاه بأنه مجير و شفيع له و يطلب بلاده و ميراثه من أبيه و يضمن له الصلح مع أخيه سلطان شاه و طلب منه مع ذلك أن يخطب له بخوارزم و يزوج أخته من شهاب الدين فامتعض علاء الدين لذلك و كتب بالتهديد فسرح غياث الدين جميع عساكره مع سلطان شاه إلى خوارزم شاه و كتب إلى المؤيد أبيه صاحب نيسابور يستنجده فجمع عساكره و قام في انتظارهم و سمع بذلك علاء الدين تكش و هو زاحف للقاء أخيه سلطان شاه و عساكر الغورية فخشي أن يخالفوه إلى خوارزم و كر إليها راجعا و احتمل أمواله و عبر إلى الخطا وقدم فقهاء خوارزم في الصلح و الصهر و وعظه الفقهاء و شكوا إليه بأن علاء الدين يستجيش بالخطا فإما أن تتخذ مرو كرسيا لك فتمنعنا منهم أو تصالحه فأجاب إلى الصلح و ترك معاوضة البلاد و رجع إلى كرسيه (4/528)
غزوة شهاب الدين إلى الهند و هزيمة المسلمين بعد الفتح ثم غزوته الثانية و هزيمة الهنود و قتل ملكهم و فتح أجمير
كان شهاب الدين قد سار سنة ثلاث و ثمانين و خمسمائة إلى الهند و قصد بلاد أجمير و تعرف بولاية السواك و اسم ملكهم كوكه فملك عليهم مدينة تبرندة و مدينة أسرستي و كهوه رام فامتعض الملك و سار للقاء المسلمين و معه أربعة عشر فيلا و لقيهم شهاب الدين في عساكر المسلمين فانهزمت ميمنته و ميسرته و حمل على الفيلة فطعن منها واحدا و رمي بحربة في ساعده فسقط عن فرسه و قاتل أصحابه عليه فخلصوه و انهزموا و وقف الهنود بمكانهم و لما أبعد شهاب الدين عن المعركة نزف من جرحه الدم فأصابه الغشي و حمله القوم على أكتافهم في محفة اتخذوها من اللبود و وصلوا به إلى لهاور ثم سار منها إلى غزنة فأقام إلى سنة ثمان و ثمانين و خمسمائة و خرج من غزنة غازيا لطلب الثأر من ملك الهند و وصل إلى برساور و كان وجوه عسكره في سخطة منه منذ انهزموا عنه في النوبة الأولى فحضروا عنده و اعتذروا و وعدوا من أنفسهم الثبات و تضرعوا في الصفح فقبل منهم و صفح عنهم و سار حتى انتهى إلى موضع المصاف الأول و تحاوزه بأربع مراحل و فتح في طريقه بلادا و جمع ملك الهند و سار للقائه فكر راجعا إلى أن قارب بلاد الإسلام بثلاث مراحل و لحقه الهنود قريبا من بربر فبعث شهاب الدين سبعين ألفا من عسكره ليأتوا العدو من ورائهم و واعدهم هو الصباح و أسرى هو ليلة فصابحهم فذهلوا و ركب الملك فرسه للهروب فتمسك به أصحابه فركب الفيل و استماتت قومه عنده و كثر فيهم القتل و خلص إليه المسلمون فأخذوه أسيرا و أحضروه عند شهاب الدين فوقف بين يديه و جذبوا بلحيته حتى قبل الأرض ثم أمر به فقتل و لم ينج من الهنود إلا الأقل و غنم المسلمون جميع ما معهم و كان في جملة الغنائم الفيول ثم سار شهاب الدين إلى حصنهم الأعظم و هو أجمير ففتحه عنوة و ملك جميع البلاد التي تقاربه و أقطعها كلها لملوكه أيبك نائبه في دلهي و عاد إلى غزنة (4/530)
غزوة بناوس و مقتل ملك الهند ثم فتح بهنكر
كان شهاب الدين ملك غزنة قد أمر مملوكه قطب الدين أيبك خليفته على دلهي أن يغزو بلاد الهند من ناحيته فسار فيها و دوخها و عاث في نواحيها و سمع ملك يناوس و هو أكبر ملوك الهند و ولايته من تخوم الصين إلى بالد ملاوا طولا و من البحر الأخضر إلى عشرة أيام من لهاور عرضا و أهل تلك البلاد من أيام السلطان محمود مقيمون على إسلامهم فاستنفر معه مسلمون كانوا في تلك البلاد فسار إلى شهاب الدين سنة تسعين و خمسمائة و التقوا على ماحون نهر كبير يقارب دجلة فاقتتلوا و نزل الصبر ثم نصر الله المسلمين و استلحم الهنود و قتل ملكهم و كثر السبي في جواريهم و الأسرى من أبنائهم و غنموا منهم تسعين فيلا و هرب بقية الفيول و قتل بعضها و دخل شهاب الدين بلاد بناوس و حمل من خزائنها ألفا و أربعمائة حمل و عاد إلى غزنة ثم سار سنة اثنتين و تسعين و خمسمائة إلى بلاد الهند و حاصر قلعة بهنكر حتى تسلمها على الأمان و رتب فيها الحامية و سار إلى قلعة كواكير و بينهما خمس مراحل يعترضها نهر كبير فحاصرها شهرا حتى صالحوه على مال يحملونه فحملوا إليه حمل فيل من الذهب فرحل عنهم إلى بلاد أبي رسود فأغار و نهب و سبى و أسر و عاد إلى غزنة ظافرا (4/531)
استيلاء الغورية على بلخ و فتنتهم مع الخطا بخراسان
كان الخطا قد غلبوا على مدينة بلخ و كان صاحبها تركيا اسمه ازبة يحمل إليهم الخراج كل سنة وراء النهر فتوفي أزبة سنة أربع و تسعين و خمسمائة و كان بهاء الدين سام بن محمد بن مسعود صاحب باميان من قبل خاله غياث الدين فسار إلى بلخ و قطع الحمل للخطا و خطب لغياث الدين و صارت من جملة بلاد الإسلام بعد أن كانت في طاعة الكفار فامتعض الخطا لذلك و اعتزموا على فتنة الغورية و اتفق أن علاء الدين تكش صاحب خوارزم بعث إليهم يغريهم ببلاد غياث الدين و كان سبب ذلك أنه ملك الري و همذان و أصفهان و ما بينهما و تعرض لعساكر الخليفة و طلب الخطبة و السلطنة ببغداد مكان ملوك السلجوقية فبعث الخليفة يشكوه إلى غياث الدين يقبح فعله و ينهاه عن قصد العراق و يتهدده بسلطان شاه و أخذ بلاده فأنف من ذلك و بعث إلى الخطا يغريهم ببلاده فجهز ملك الخطا جيشا كثيفا مع مقدم عساكره و عبروا النهر إلى بلاد الغور و سار علاء الدين تكش إلى طوس لحصارها لأن غياث الدين عاجز عن الحركة بعلة النقرس فعاثوا في بلاده ما شاء الله و حاصر الخطا بهاء الدين فاشتدت الحرب و ثبت المسلمون و جاء المدد من عند غياث الدين ثم حملوا جميعا على الخطا فهزموهم إلى جيحون و ألقى الكثير منهم أنفسهم في الماء فهلك منهم نحو اثني عشر ألفا و عظم الأمر على ملك الخطا و بعث إلى علاء الدين تكش صاحب خوارزم يطوقه الذنب و يطالبه بدية القتلى من أصحابه و ألزمه الحضور عنده فبعث علاء الدين تكش يشكو ذلك إلى غياث الدين فرد جوابه باللوم على عصيان الخليفة و دعا ذلك علاء الدين إلى الفتنة مع الخطا و انتزاعه بخارى من أيديهم كما يأتي في أخبارهم (4/531)
استيلاء الغورية على ملك خوارزم شاه بخراسان
ثم توفي علاء الدين تكش صاحب خوارزم و كان قد ملك بعض خراسان و بلاد الري و البلاد الجبالية فولي بعده ابنه قطب الدين و لقب علاء الدين بلقب أبيه و ولي علاء الدين أخاه علي شاه خراسان و أقطعه نيسابور و كان هندوخان ابن أخيهما ملك شاه فخاف عمه فلحق بمرو و جمع الجموع و بعث إليه عمه محمد العسكر مع جنقر التركي فهرب هندوخان و لحق بغياث الدين مستنجدا به على عمه فأكرمه و وعده و دخل جنقر إلى مرو و حمل منها ولد خان و أمه مكرمين إلى خوارزم و أرسل غياث الدين إلى صاحب الطالقان محمد بن خربك بأن يتهدد جنقر فسار من الطالقان و استولى على مرو الروذ و بعث إلى جنقر يأمره بالخطبة بمرو لغياث الدين أو يفارقها فأساء الجواب ظاهرا و استأمن إلى غياث الدين سرا و لما علم غياث الدين بذلك قوي طمعه في البلاد و كتب إلى أخيه شهاب الدين بالمسير إلى خراسان فسار من غزنة في عساكره في منتصف سنة ست و تسعين و خمسمائة و لما انتهى إلى الطالقان استحثه جنقر صاحب مرو للبلد و أخبره بطاعته حتى إذا وصل إليه خرج في العساكر فقاتله و هزمه شهاب الدين و زحف بالفيلة إلى السور فاستأمن جنقر و خرج إليه و ملك شهاب الدين مرو و بعث بالفتح إلى غياث الدين فجاء إلى مرو و بعث جنقر إلى هراة مكرما و سلم مرو إلى هندوخان ابن ملك شاه المستنجد به و أوصاه بالإحسان إلى أهلها و سار إلى سرخس فحاصرها ثلاثا و ملكها على الأمان و أرسل إلى علي شاه نائب علاء الدين محمد بن يسابور و ينذره الحرب إن امتنع من الطاعة فاستعد للحصار و خربوا العمائر بظاهرها و قطعوا الأشجار و حمل محمود بن غياث الدين فضايق البلد و ملك جانبها و رفع راية أبيه على السور و حمل شهاب الدين من الناحية الأخرى فسقط السور بين يديه و ملك البلد و نهب الجند عامتها ثم نادوا بالأمان و رفع النهب واعتصم الخوارزميون بالجامع فأخرجهم أهل البلد إلى غياث الدين ثم سار إلى قهستان فذكر له عن قرية في نواحها أن أهلها اسماعيلية فدخلها و قتل المقاتلة وسبى الذرية و خرب القرية ثم سار إلى مدينة أخرى ذكر له عنها مثل ذلك و أرسل صاحب قهستان إلى غياث الدين يستغيثون من شهاب الدين و يذكرونه العهد فأرسل غياث الدين إلى أخيه شهاب الدين بالرجوع عنهم طوعا أو كرها و وصل الرسول بذلك فامتنع فقطع طنب خيمته و رحل العسكر فرحل شهاب الدين كرها و رجع إلى غزنة (4/532)
فتح نهر واكد من الهند
لما رجع شهاب الدين من خراسان غاضبا من فعل أخيه لم يعرج على غزنة و دخل بلاد الهند غازيا سنة ثمان و تسعين و خمسمائة و بعث في مقدمته مملوكه قطب الدين أيبك و لقيه عساكر الهند دون نهر واكد فهزمهم أيبك و استباحهم و تقدم إلى نهر واكد فملكها عنوة و فارقها ملكها و جمع و رأى شهاب الدين أنه لا يقوم بحمايتها إلا مقامه فيها فصالح ملكها على مال يؤديه إليه عنها و رجع إلى غزنة (4/534)
إعادة علاء الدين محمد صاحب خوارزم ما أخذه الغورية من خراسان
لما فصل الغورية عن خراسان و ملكوا ما ملكوه منها و سار شهاب الدين إلى الهند غازيا بعث علاء الدين محمد صاحب خوارزم إلى غياث الدين يعاتبه على ما فعل في خراسان و يطلب إعادة بلده و يهدده باستدعاء عساكر الخطا فصانعه في الخطا حتى قدم شهاب الدين فطمع بالمصانعة و بعث إلى نائبهم بخراسان يأمره بالرحيل عن نيسابور و يتهدده فكتب إلى غياث الدين بذلك و بميل أهل نيسابور إلى عدوهم فوعده النصر و سار إليه علاء الدين صاحب خوارزم آخر سنة تسع و تسعين و خمسمائة فلما انتهى إلى نسا و أبيورد هرب هندوخان ابن أخيه و لحق بغياث الدين في فيروزكوه و ملك علاء الدين مدينة مرو و سار إلى نيسابور و حاصرها شهرين فلما أبطأ عن نائبها المدد من غياث الدين استأمن لصاحب خورازم و خرج إليه هو و أصحابه فأحسن إليهم و طلب علاء الدين أن يسعى في الصلح بينه و بين غياث الدين و أخيه فوعده بذلك و سار إلى هراة فأقام بها و لم يمض إلى غياث الدين سخطه لتأخر المدد عنه و اختص صاحب خوارزم الحسن بن حرميل من أعيان الغورية و استحلفه أن يكون معه عند غياث الدين ثم سار إلى سرخس و بها الأمير زنكي فحاصره أربعين يوما و تعددت بينهما حروب ثم بعث ابنه زنكي بأن يتأخر عن البلد قليلا حتى يخرج هو و أصحابه فتأخر بأصحابه و خرج زنكي فشحن البلد بالأقوات و الحطب و أخرج من ضاق به الحصار و تحصن فندم صاحب خوارزم على تأخره و جهز عسكرا لحصاره و رجع فلما بعد سار محمد بن خربك من الطالقان و أرسل إلى زنكي بأن يكبس العسكر الذي عليه و نذر بذلك أهل العسكر فأفرجوا عن سرخس و خرج زنكي و لقي محمد بن خربك في مرو و جبوا خراج تلك الناحية و بعث إليهم صاحب خورازم عسكرا من الثلاثة آلاف فارس فلقيهم محمد بن خربك في تسعمائة فهزمهم و غنم معسكرهم و عاد صاحب خوارزم إلى بلده و أرسل إلى غياث الدين في الصلح فأجابه مع أمير من أكابر الغورية اسمه الحسن بن محمد المرغني فقبض عليه صاحب خوارزم و حبسه و مرغن من قرى الغور (4/534)
حصار هراة
لما بعث صاحب خوارزم إلى غياث الدين في الصلح و جاء عند الحسن المرغني تبين عنه المغالطة فحبسه و سار إلى هراة و حاصرها و كان بها أخوان من خدمة السلطان شاه تكش فكتبا إلى صاحب خوارزم و وعداه بالثورة له في البلد و كانا يليان مفاتح الأبواب و أمور الحصار في داخل فأطلع الأمير الحسن المرغني المحبوس عند صاحب خوارزم على أمرهما فبعث إلى أخيه بذلك عمر صاحب هراة فاعتقلهما و بعث غياث الدين العساكر مددا لهراة مع ابن أخته ألب غازي فنزل على خمسة فراسخ منها و منع المسيرة عن عسكر صاحب خوارزم فبعث صاحب خوارزم عسكرا إلى الطالقان للغارة عليها فقاتلهم الحسن بن خربك فظفر بهم و لم يفلت منهم أحد ثم سار غياث الدين في عساكره و نزل قريبا من هراة فاعتزم صاحب خوارزم على الرحيل بعد حصار أربعين يوما لهزيمة أصحابه بالطالقان و مسير العساكر مع ألب غازي ثم مسير غياث الدين ثم توقعه عود شهاب الدين من الهند و كان قد وصل إلى غزنة منتصف ثمان و تسعين و خمسمائة فراسل أمير هراة و صالحه على مال حمله إليه و ارتحل عن البلد و بلغ الخبر شهاب الدين و جاء إلى طوس و شتى بها عازما على حصار خوارزم فجاء الخبر بوفاة أخيه غياث الدين فأثنى عزمه و سار إلى هراة (4/535)
وفاة غياث الدين و انفراد شهاب الدين بالملك
ثم توفي غياث الدين أبو الفتح محمد بن سام صاحب غزنة و بعض خراسان و فيروزكوه و لهاووز و دهلى من الهند و كان أخوه شهاب الدين بطوس كما ذكرنا فسار إلى هراة و أظهر وفاة أخيه و جلس للعزاء و خلف غياث الدين ابنا اسمه محمود فلقب غياث الدين و لما سار شهاب الدين عن طوس استخلف مرو الأمير محمد بن خربك و بعث إليه صاحب خوارزم العساكر فبيتهم و لم ينج منهم إلا القليل و أنفذ بالأساري و الرؤوس إلى هراة و أعاد إليه صاحب خوارزم الجيوش مع منصور التركي فلقيهم على عشرة فراسخ من مرو فهزموه و حاصروه خمسة عشر يوما حتى استأمن إليهم و خرج فقتلوه و ترددت الرسل بين شهاب الدين و صاحب خوارزم في الصلح فلم يتفق بينهما أمر و لما اعتزم شهاب الدين على العود إلى غزنة و لي على هراة ابن أخته ألب غازي و قلد علاء الدين محمد الغوري مدينة فيروزكوه و بلد الغور و جعل إليه حرب خراسان و أمور المملكة و جاءه محمود ابن أخيه غياث الدين فولاه على بست و اسفراين و تلك الناحية و بعده عن الملك جملة و كانت لغياث الدين زوجة مغنية شغف بها و تزوجها فقبض عليها شهاب الدين و ضربها ضربا مبرحا و ضرب ولدها غياث الدين و زوج أختها و استصفاهم و غربهم إلى بلاد الهند و كانت بنت مدرسة و دفنت فيها أباها فخربها و نبش قبورهم و رمى بعظامهم و كان غياث الدين ملكا عظيما مظفرا على قلة حروبه فإنه كان قليل المباشرة للحروب و كان ذا هيبة جوادا حسن العقيدة كثير الصدقة بنى بخراسان و غيرها المساجد و المدارس للشافعية و بنى الخوانك في الطرق و بنى على ذلك الأوقاف الكثيرة و أسقط المكوس و كان لا يتعرض إلى مال أحد و من مات و وارثه غائب دفعه إلى أمناء التجار من أهل بلده ليوصلوه إلى و رثته فإن لم يجد تاجرا ختم عليه القاضي إلى أن يصل مستحقه و إن كان لا وارث له تصدق عنه بماله و كان يحسن إلى أهل البلد إذا ملكها و يفرض الأعطيات للفقهاء كل سنة من خزائنه و يفرق الأموال على الفقراء و يصل العلوية و الشعراء و كان أديبا بليغا بارع الخط ينسخ المصاحف يفرقها في المدارس التي بناها و كان شافعي المذهب من غير تعصب لهم و يقول التعصب في المذاهب هلاك (4/536)
فتنة الغورية مع محمد بن تكش صاحب خوارزم و حصار هراة ثم حصارهم خوارزم و حروب شهاب الدين مع الخطا
لما هلك غياث الدين ملك أخوه شهاب الدين بعده فطمع محمد بن تكش صاحب خوارزم في ارتجاع هراة و كان قد راسل شهاب الدين في الصلح فلم يتم و سار شهاب الدين عن غزنة إلى لهاوز غازيا فسار حينئذ محمد بن تكش إلى هراة منتصف سنة ستمائة و حاصرها و كان بها ألب غازي ابن أخت شهاب الدين و طال حصارها إلى سلخ شعبان و قتل بين الفريقين خلق منهم رئيس خراسان المقيم يومئذ بمشهد طوس و كان الحسين بن حرميل من أعيان الغورية بجوربان و هو إقطاعة فمكر بصاحب خواززم و أظهر له الموالاة و أشار بأن يبعث إليه فوارس يعطيهم بعض الفيلة و قعد لهم هو و الحسين بن محمد المرغني بالمراصد فاستلحموهم ثم مات ألب غازي و ضجر صاحب خوارزم من الحصار فارتحل إلى سرخس و حاصرها وبلغت هذه الأخبار شهاب الدين ببلاد الهند فكر راجعا و قصد مدينة خوارزم فأغذ محمد بن تكش السير من سرخس و نزل أثقاله و سبقه إليها و قاتله الخوارزمية قتالا شديدا و فتكوا فيه و هلك من الغورية جماعة منهم الحسين بن محمد المرغني و أسر جماعة من الخوارزمية فأمر شهاب الدين بقتلهم ثم بعث خوارزم شاه إلى الخطا يستنجدهم أن يخالفوا شهاب الدين إلى بلاد الغورية فساروا إليها و لما سمع شهاب الدين كر راجعا إلى البلاد فلقي مقدمة عسكرهم بصحراء أيدخوي في صفر سنة إحدى و ستمائة فأوقع بهم و أثخن فيهم و جاءت ساقتهم على أثر ذلك فلم يكن له بهم قبل فانهزم و نهبت أثقاله و قتل الكثير من أصحابه و نجا في الفل إلى أيدخوي و حاصروه حتى أعطاهم بعض الفيلة و خلص و كثر الأرجاف في بلاد الغور بمهلكه و وصل إلى الطالقان في سبعة نفر و قد لحق بها نائبها الحسين بن حرميل ناجيا من الوقعة فاستكثر له من الزاد و العلوفة و كفاه مهمه و كان مستوحشا مع من استوحش من الأمراء بسبب انهزامهم عن شهاب الدين فحمله شهاب الدين إلى غزنة تأنيسا له و استحجبه و لما وقع الأرجاف بموت شهاب الدين جمع مولاه تاج الدين العسكر و جاء إلى قلعة غزنة طامعا في ملكها فمنعه مستحفظها فرجع إلى إقطاعه و أعلن بالفساد و أغرى بالخلخ من الترك فكثر عيثهم و كان له مولى آخر اسمه أيبك فلحق بالهند عند نجاته من المعركة و أرجف بموت السلطان و استولى على الملتان و أساء فيها السيرة فلما وصل خبر شهاب الدين جمع تاج الدين الذر و هو مملوك اشتراه شهاب الدين الناس من سائر النواحي ثم جمع شهاب الدين لغزو الخطا و الثأر منهم (4/537)
حروب شهاب الدين مع بني كوكر و التفراهية
كان بنو كوكر هؤلاء موطنين في الجبال بين لهاوز و الملتان معتصبين لمنعتها و كانوا في طاعة شهاب الدين يحملون إليه الخراج فلما وقع الأرجاف بموته انتقضوا و داخلوا صاحب جبل الجودي و غيره من أهل الجبال في ذلك و جاهروا بالعيث و الفساد و قطع السابلة ما بين غزنة و لهاوز و غيرها و بعث شهاب الدين إلى محمد بن أبي علي بلهاوز و الملتان يأمره بحمل المال بعد أن قتل مملوكه أيبك قال : و مهد البلاد فاعتذر بنوكوكر فبعث شهاب الدين مملوكه أيبك إلى بني كوكر يتهددهم على الطاعة فقال كبيرهم : لو كان شهاب الدين حيا لكان هو المرسل إلينا و استخفوا أمر أيبك فعاد الرسول بذلك فأمر شهاب الدين بتجهيز العساكر في قرى سابور ثم عاد إلى غزنة في شعبان سنة إحدى و ستمائة و نادى بالمسير إلى الخطا و رجع بنو كوكر إلى حالهم من إخافة السابلة و دخل معهم كثير من الهنود في ذلك و خشي على انتقاض البلاد فأثنى عزمه عن الخطا و سار إلى غزنة و زحف إلى جبال بني كوكر في ربيع الأول سنة اثنتين و ستمائة و لما انتهى إلى قرى سابور أغذ السير و كبس بني كوكر في محالهم و قد نزلوا من الجبال إلى البسيط يرومون اللقاء فقاتلوه يوما إلى الليل و إذا بقطب الدين أيبك في عساكره منادين بشعار الإسلام فحملوا عليهم و انهزموا و قتلوا بكل مكان و استنجوا بأجمة فأضرمت عليهم نارا و غنم المسلمون أهاليهم و أموالهم حتى بيع المماليك خمسة بدينار و قتل كبير بني كوكر الذي كان مملكا عليهم و قصد دانيال صاحب الجند الجودي و سار إليها فأقام بها منتصف رجب و هو يستنفر الناس ثم عاد نحو غزنة و أرسل بهاء الدين سام صاحب باميان بالنفير إلى سمرقند و أن يتخذ الجسر لعبور العساكر و كان أيضا ممن دعاه هذا الأرجاف إلى الانتقاض التتراهية و هم قوم من أهل الهند بنواحي قرى سابور دينهم المجوسية و يقتلون بناتهم بعد النداء عليهن للتزويج فإذا لم يتزوجها أحد قتلوها و تزوج المرأة عندهم بعدة أزواج و كانوا يفسدون في نواحي قرى سابور و يكثرون الغارة عليها و أسلم طائفة منهم آخر أيام شهاب الدين الغوري ثم انتقضوا عند هذا الأرجاف و خرجوا إلى حدود سوران و مكران و شنوا الغارة على المسلمين فسار إليهم الخلخي نائب تاج الدين الذي بتلك الجهة فأوقع بهم و أثخن فيهم و بعث برؤوس الأعيان منهم فعلقت ببلاد الإسلام و صلح أمر البلاد (4/538)
مقتل شهاب الدين الغوري و افتراق المملكة بعده
لما قضى شهاب الدين شأنه من بلاد الغور و أصلح ما كان بها من الفساد ارتحل من لهاور عائدا إلى غزنة عازما على قصد الخطا بعد أن استنفر أهل الهند و أهل خراسان فلما نزل بدميل قريبا من لهاور طرق خيمته جماعة من الدعار فقتلوا بعض الحرس و ثار بهم الناس و ذهل باقي الحرس بالهيعة فدخل منهم البعض على شهاب الدين و ضربوه في مصلاه و قتلوه ساجدا و قتلوا عن آخرهم أول شعبان سنة اثنتين و ستمائة فيقال إن هذه الجماعة من الكوكرية الذين أحفظهم ما فعل بهم و يقال من الإسماعيلية لأنهم كانوا غلوا منه و كانت عساكره تحاصر قلاعهم و لما قتل اجتمع الأمراء عند وزيره مؤيد الدين خواجاسحتا و اتفقوا على حفظ المال إلى أن يقوم بالأمر من يتولاه من أهله و تقدم الوزير إلى أمير العسكر بضبط العسكر و حملت جنازة شهاب الدين في المحفة و حملوا خزائنه و كانت ألفين و مائتي حمل و تطاول الموالي مثل صونج صهر الذر و غيره إلى نهب المال فمنعهم الأمراء الكبار و صرفوا الجند الذين أقطاعهم عند قطب الدين أيبك ببلاد الهند أن يعودوا إليه و ساروا إلى غزنة متوقعين البيعة على الملك بين غياث الدين محمود ابن السلطان غياث الدين و بين بهاء الدين سام صاحب باميان ابن أخت شهاب الدين فيملك الخزانة و الأتراك يريدون طريق سوران ليقربوا من فارس و كان هوى الوزير مؤيد الملك مع الأتراك فلم يزل بالغورية حتى إذا وصلوا طريق كرمان ساروا عليها و لقوا بها مشقة من غارات التتراهية واقعان و غيرهم و لما وصلوا إلى كرمان استقبلهم تاج الدين الذر ونزل عن فرسه و قبل الأرض بين يدي المحفة ثم كشف عن و جهه فمزق ثيابه و أجد بالبكاء حتى رحمه الناس و كان شهاب الدين شجاعا قرما عادلا كثير الجهاد و كان القاضي بغزنة يحضر داره أربعة أيام في كل أسبوع فيحكم بين الناس و أمراء الدولة ينفذون أحكامه و إن رافع أحد خصمه إلى السلطان سمع كلامه و رده إلى القاضي و كان شافعي المذهب (4/540)
قيام الذر بدعوة غياث الدين محمود ابن السلطان غياث الدين
كان تاج الدين الذر من موالي شهاب الدين و أخصهم به فلما قتل طمع في ملك غزنة و أظهر القيام بدعوة غياث الدين محمود ابن السلطان غياث الدين و أنه كتب إليه بالنيابة عنه بغزنة لشغله بأمر خراسان و تسلم الخزائن من الوزير و سار إلى غزنة فدفن شهاب الدين بتربته في المدرسة التي أنشأها و ذلك في شعبان من سنة اثنتين وستمائة و أقام بغزنة (4/541)
مسير بهاء الدين سام إلى غزنة و موته و ملك بهاء الدين ابنه بعده غزنة
كان بهاء الدين قد أقطع باميان ابن عمه شمس الدين محمد بن مسعود عندما ملكها و أنكحه أخته فولدت ابنا و هو سام و كان له ابن آخر من امرأة تركية اسمه عباس فلما مات ملك ابنه الأكبر عباس فغضب غياث الدين و شهاب الدين لابن أختهما و عزلوا عباسا و ولوه مكانه على باميان فعظم شأنه و جمع الأموال و ترشح للملك بعد أخواله لميل أمراء الغز إليه بعد أخواله فلما قتل شهاب الدين كان في قلعة غزنة نائب اسمه أمير دان فبعث ابنه إلى بهاء الدين محمود ابن السلطان غياث الدين و ابن حرميل عامل هراة بحفظ أعمالها و إقامة الخطبة له بها و الغورية و الأتراك على ما ذكرناه من الاختلاف فسار في عساكره إلى غزنة و معه ابنا علاء الدين و أمرهما جميعا بالمسير إلى غزنة و بلاد الهند فلما مات ثار ابناه في غزنة و خرج أمراء الغورية لغياث الدين و تلقوهما و الأتراك معهم مغلبين فملكوا البلد و نزلوا دار السلطنة مستهل رمضان من سنة اثنتين و ستمائة و اعتزم الأتراك على منعهم و عادلهم الأمير مؤيد الملك لاشتغال غياث الدين منهم بابن حرميل عامل هراة فلم يرجعوا و نبذوا إلى علاء الدين و أخيه العهد و آذنوهما بالحرب إن لم يرجعا فبعثا إلى تاج الدين الذر و هو بإقطاعه يستدعيانه و يرغبانه بالأموال و المراتب السلطانية و الترغيب في الدولة (4/541)
استيلاء الذر على غزنة
كان الذر بكرمان لما بلغه مقتل شهاب الدين تسلم الأموال و الخزائن من الوزير و أظهر دعوة غياث الدين ابن مولاه السلطان غياث الدين و سار بهاء الدين سام من باميان كما ذكرنا و مات في طريقه و ملك ابنه علاء الدين غزنة كما ذكرنا و استعطف الأتراك و بعث إلى الذر يرغبه و يسترضيه فأبى من طاعته و أساء الرد عليه و سار عن كرمان في عساكر كثيفة من الترك و الخلخ و الغز و غيرهم و بعث إلى علاء الدين و أخيه بالنذير فأرسل علاء الدين وزيره و وزير ابنه صلة إلى باميان و بلخ و ترمذ ليحشد العساكر و بعث الذر إلى الأتراك الذين بغزنة بأن مولاهم غياث الدين و اجتمعت جماعة الغورية و الأتراك فالتقوا في رمضان و نزع الأتراك إلى الذر فانهزم محمد بن حدورون و أسر و دخل عسكر الذر المدينة فنهبوا بيوت الغورية و الباميانية و اعتصم علاء الدين بالقلعة و خرج جلال الدين في عشرين فارسا إلى باميان و حاصر الذر القلعة حتى استأمن علاء الدين في المسير من غزنة إلى باميان و لما نزل من القلعة تعرض له بعض الأتراك فأرجلوه عن فرسه و سلبوه فبعث إليه الذر بالمال و المركب و الثياب فوصل إلى باميان فشرع في الاحتشاد و أقام الذر بغزنة يظهر طاعة غياث الدين و يترحم على شهاب الدين و لم يخطب له و لا لأحد و قبض على داود والي القلعة بغزنة و أحضر القضاة و الفقهاء و كان رسول الخليفة مجد الدين أبو علي بن الربيع الشافعي مدرس النظامية ببغداد وفد على شهاب الدين رسولا من قبل الخليفة و أحضره الذر ذلك اليوم و شاورهم بالجلوس على التخت و المخاطبة بالألقاب السلطانية و أمضى ذلك و استوحش الترك حتى بكى الكثير منهم و كان هناك جماعة من ولد ملوك الغور و سمرقند فأنفقوا من خدمته و انصرفوا إلى علاء الدين و أخيه في باميان و أرسل غياث الدين محمود أن يصهر إليه في بنته فأبى ذلك ثم جاء في عسكر من الغوريين من باميان و أرسل غياث الدين و فرق في أهلها الأموال و استوزر مؤيد الملك فوزر له على كره (4/542)
أخبار غياث الدين بعد مقتل عمه
لما قتل السلطان شهاب الدين كان غياث الدين محمود ابن أخيه السلطان غياث الدين في أقطاعه ببست و كان شهاب الدين قد ولى على بلاد الغور علاء الدين محمد بن أبي علي من أكابر بيوت الغورية و كان إماميا غاليا فسار إلى بيروزكوه يسابق إليها غياث الدين و كان الأمراء الغورية أميل إلى غياث الدين و كذا أهل بيروزكوه فلما دخل خوارزم دعا محمد المرغني و محمد بن عثمان من أكابر الغورية و استحلفهم على قتال محمد بن تكش صاحب خوارزم و أقام غياث الدين بمدينة بست ينتظر مآل الأمر لصاحب باميان لأنهما كان بينهما العهد من أيام شهاب الدين أن تكون خراسان لغياث الدين و غزنة و الهند لبهاء الدين صاحب باميان بعد موت شهاب الدين فلما بلغه موت شهاب الدين دعا لنفسه و جلس على الكرسي في رمضان سنة ثلاث و ستمائة و استخلف الأمراء الذين في أثره فأدركوه وجاؤوا به و ملك بيروزكوه و قبض على جماعة من أصحاب علاء الدين و لما دخل بيروزكوه جاء إلى الجامع فصلى فيه ثم ركب إلى دار أبيه فسكنها و أعاد الرسوم و قدم عليه عبد الجبار محمد بن العشير إلى وزير أبيه فاستوزره و اقتفى بأبيه في العدل و الإحسان ثم كاتب ابن حرميل بهراة و لاطفه في الطاعة و كان ابن حرميل لما بلغه مقتل السلطان بهراة خشي عادية خوارزم شاه فجمع أعيان البلد و غيرهم
واستحلفهم على الإنجاز و المساعدة و قال القاضي و ابن زياد : في كل الناس إلا ابن غيا ث الدين و ينتظر عسكر خوارزم شاه و شعر غياث الدين بذلك من بعض عيونه فاعتزم على المسير إلى هراة و استشار ابن حرميل القاضي و ابن زياد فأشارا عليه بطاعة غياث الدين على مكر ابن حرميل و ميله إلى خوارزم شاه و حثه على قصد هراة ليكون ذلك حجة عليه ففعل و بعث به مع ابن زياد ثم كاتب غياث الدين صاحب الطالقان و صاحب مرو يستدعيهما فتوقفوا عن إجابته فقال أهل مرو لصاحبها : إن لم تسلم البلد إلى غياث الدين و تتوجه و إلا سلمناك و قعدناك و أرسلنا إليه فاضطر إلى المجيء إلى فيروزكوه فخلع عليه غياث الدين و وفر له الأقطاع و أقطع الطالقان لسونج مولى أبيه المعروف بأمير شكار (4/543)
استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان
كان الحسن بن حرميل نائب الغورية بهراة منتقضا عليهم كما ذكرنا و مداخلا لخوارزم شاه في الباطن و استدعى العساكر من عنده و بعث ابن زياد يستوثق له من غياث الدين و أقام يقدم رجلا و يؤخر أخرى و وصل ابن زياد بالولاية والخلع فلم يثنه ذلك عما هو فيه من المكاذبة لهم ثم وصل عسكر خوارزم شاه فتلقاهم و أكرمهم و بلغه أن خوارزم شاه في أثرهم على أربع فراسخ من بلخ فندم في أمره و رد إليه عسكره و بلغ غياث الدين عسكر خوارزم شاه و وصولهم إلى هراة فاستدعى ابن حرميل فقبض على أملاكه و نكب أصحابه و رد أقطاعه فاعتزم أهل هراة على القبض عليه و كتب القاضي و ابن زياد بذلك إلى غياث الدين و نمي الخبر إلى ابن حرميل فخشي على نفسه منهم و أوهمهم أنه يكاتب غياث الدين و طلبهم في الكتاب مع رسوله و أوصى الرسول أن يعدل إلى طريق خوارزم شاه و لحق بهم فردهم و أصبحوا على البلد لرابعة يوم من سفر الرسول فأدخلهم ابن حرميل البلد و أمكنهم من أبوابها و قبض على ابن زياد و سمله و أخرج القاضي فلحق بغياث الدين في بيروزكوه و نمي الخبر بذلك إلى غياث الدين فاعتزم على المسير بنفسه فبلغه سير علاء الدين صاحب باميان إلى غزنة فاقتصر عن ذلك و أقام ينتظر شأنه مع الذر و أما بلخ فإن خوارزم شاه لما بلغه مقتل شهاب الدين أطلق أسرى الغوريين الذين كانوا عنده و خلع عليهم و استألفهم و بعث أخاه علي شاه في العساكر إلى بلخ فقاتله عمر بن الحسين الغوري نائبها و نزل منها على أربعة فراسخ و جاءه خوارزم شاه مددا بنفسه آخر سنة اثنتين و ستمائة فحاصرها فاستمد عمر بن الحسين علاء الدين و جلال الدين من باميان و شغلوا عنه بغزنة فأقام خوارزم شاه محاصرا له أربعين يوما و كان عنده محمد بن علي بن بشير و أطلقه في أسرى الغورية و أقطعه فبعثه إلى عمر بن الحسين صاحب بلخ في الطاعة فأبى من ذلك و اعتزم خوارزم شاه على المسير إلى هراة ثم بلغه ما وقع بين الذر و بين علاء الدين و جلال الدين و أن الذر أسرهما و أن عمر بن الحسين صاحب بلخ أبى ذلك فأعاد عليه ابن بشير فلم يزل يفتل له في الذروة و الغارب حتى أطاع صاحب خوارزم و خطب له و خرج إليه فخلع عليه و أعاده إلى بلده في سلخ ربيع سنة ثلاث و ستمائة ثم سار إلى جورقان ليحاصرها و بها علي بن أبي علي فوقعت المراوضة بينهما ثم انصرف عن جورقان و تركها لابن حرميل و استدعى عمر بن الحسين الغوري و صاحب بلخ فقبض عليه و بعثه إلى خوارزم و مضى إلى بلخ فملكها و ولى عليها جعفرا التركي و رجع إلى خوارزم (4/544)
استيلاء علاء الدين ثانيا على غزنة ثم انتزاع الذر إياها من يده
قد تقدم لنا استيلاء الذر على غزنة و إخراجه علاء الدين و جلال الدين منها إلى باميان فأقاما بها شهرين و لحق كثير من الجند بعلاء الدين صاحبهم و أقام الذر بغزنة متوقفا عن الخطبة لغياث الدين يروم الاستبداد و هو يعلل الأتراك برجوع رسوله من عند غياث الدين مخافة أن ينفضوا عنه فلما ظفر بعلاء الدين و ملك القلعة أظهر الاستبداد و جلس على الكرسي و جمع علاء الدين و جلال الدين العساكر و ساروا من باميان إلى غزنة و سرح الذر عساكره للقائهما فهزماها و أثخناها و هرب الذر إلى بلد كرمان و اتبعه بعض العسكر فقاتلهم و دفعهم و سار علاء الدين و أخوه إلى غزنة و ملكوها و أخذوا خزانة شهاب الدين التي كان الذر أخذها من يد الوزير مؤيد الدين عند مقدمه بجنازة شهاب الدين إلى كرمان كما مر ثم اعتزم علاء الدين و أخوه على العود إلى غزنة و أهلها متوقعون النهب من عسكرهم و الفيء
و كان بينهم رسول الخليفة مجد الدين بن الربيع مدرس النظامية جاء إلى شهاب الدين فقتل و هو عنده و أقام بغزنة فقصده أهل غزنة أن يشفع فيهم فشفع و سكن الناس و عاد علاء الدين و أخوه إلى غزنة ثم وقع بينهما تشاجر على اقتسام الخزانة و على وزارة مؤيد الملك فندم الناس على طاعتهما و سار جلال الدين و معه عباس إلى باميان و بقي علاء الدولة بغزنة و أساء وزيره السيرة في الجند و الرعية و نهب الأموال حتى باعوا أمهات أولادهم و يشكون فلا يشكيهم أحد فسار الذر في جموع الأتراك و الغز و الغورية فكبسهم إيدكز الشر في مولى شهاب الدين في ألفين و ملك كرمان و جاء الذر إثر ذلك و أنكر على إيدكز و ملك كرمان و أحسن إلى أهلها و بلغ الخبر إلى علاء الدين بغزنة فبعث وزيره إلى أخيه جلال الدين في باميان و كانت عساكر الغورية قد فارقوه و لحقوا بغياث الدين و وصل الذر آخر سنة اثنتين و ستمائة إلى غزنة فملكها و امتنع علاء الدين بالقلعة فسكن الذر الناس و أمنهم و حاصروا القلعة و جاء الخبر إلى الذر بأن جلال الدين قادم عليك بعساكره و لحق سليمان بن بشير بغياث الدين ببيروزكوه فأكرمه و جعله أمير داره و ذلك في صفر سنة ثلاث و ستمائة و سار الذر فلقي جلال الدين و هزمه و سيق أسيرا إليه و رجع إلى غزنة و تهدد علاء الدين بقتل الأسرى إن لم يسلم القلعة و قتل منهم أربعمائة أسير فبعث علاء الدين يستأمنه فأمنه و لما خرج قبض على وزيره عماد الملك و قتله و بعث إلى غياث الدين بالفتح (4/545)
انتقاض عباس في باميان ثم رجوعه إلى الطاعة
لما أسر علاء الدين و جلال الدين كما قلناه في غزنة وصل الخبر إلى عمهما عباس في باميان و معه وزير أبيهما و سار الوزير إلى خوارزم شاه يستنجده على الذر ليخلص صاحبيه فاغتنم عباس غيبته و ملك القلعة و كان مطاعا و أخرج أصحاب علاء الدين و جلال الدين فرجع الوزير من طريقه فحاصره بالقلعة و كان مطاعا في تلك الممالك من لدن بهاء الدين و من بعده فما خلص جلال الدين من أسر الذر وصل إلى مدينة باميان و اجتمع مع الوزير و بعثوا إلى عباس و لاطفوه حتى نزل عما كان استولى عليه من القلاع و قال : إنما أردت حفظها من خوارزم شاه (4/546)
استيلاء خوارزم شاه على ترمذ ثم الطالقان من يد الغورية
كان خوارزم شاه لما ملك بلخ من يد عمر بن الحسين الغوري سار منها إلى ترمذ و بها ابنه و قدم إليه محمد بن بشير بما كان من نزول أبيه عن بلخ و أنه انتظم في أهل دولته و بعثه إلى خوارزم مكرما و رغبه بالأقطاع و المواعيد و كان قد ضاق ذرعه من الخطا و وهن من أسر الذر أصحابه بغزنة فأطاع و استأمن و ملك خوارزم شاه ترمذ و رأى أن يسلمها للخطا ليتمكن بذلك من خراسان ثم يعود عليهم فينتزعها منهم و لما فرغ من ذلك سار إلى الطالقان و بها سونج نائبا عن غياث الدين محمود و أرسل من يستميله فلج و سار لحربه حتى إذا التقيا نزل عن فرسه و سأل العفو فذمه بذلك و أخذ ما كان بالطالقان بعض أصحابه و سار إلى قلاع كاكوير و سوار فخرج إليه حسام الدين علي بن أبي علي صاحب كالوين و قاتله و طالبه في تسليم البلاد فأبى و سار خوارزم شاه إلى هراة و نزل بظاهرها و ابن حرميل في طاعته فكف عساكره عن أهل هراة و لقيه هنالك رسول غياث الدين بالهدايا ثم سار ابن حرميل إلى اسفزار في صفر و قد كان صاحبها سار إلى غياث الدين فحاصرها حتى استأمن إليه و ملك البلد ثم أرسل إلى صاحب سجستان بطاعة خوارزم و الخطبة له فأجاب إلى ذلك بعد أن طلبه في ذلك غياث الدين فامتنع و عند مقام خوارزم شاه على هراة عاد إليها القاضي صاعد بن الفضل الذي كان ابن حرميل أخرجه منها فلحق بشهاب الدين ثم رجع من عنده إلى خوارزم شاه فسعى به ابن حرميل عنده حتى سجنه بقلعة زوزن و ولى على القضاء بهراة الصفي أبا بكر محمد بن السرخسي (4/547)
خبر غياث الدين مع الذر و أيبك مولى أبيه
لما ملك الذر غزنة و أسر علاء الدين و أخاه جلال الدين كتب إليه غياث الدين يأمره بالخطبة و طاول في ذلك فبعث إليه يستحثه بأمر الخطيب بالترحم على شهاب الدين و الخطبة لنفسه فاستراب الأتراك به و بعث هو يشترط على غياث الدين العتق فأجابه إلى ذلك بعد توقف و كان عزمه على أن يصالح خوارزم شاه و يستمده على الذر فلما طلب العتق أعتقه و أعتق قطب الدين أيبك مملوك عمه شهاب الدين و نائبه ببلاد الهند و أرسل إلى كل منهما هدية و رد الخبر و استمر الذر على مراوغته و أيبك على طاعته فاستمد غياث الدين خوارزم شاه على الذر فأمده على أن يرد ابن حرميل صاحب هراة إلى طاعته و أن يقسم الغنيمة أثلاثا بينهما و بين العسكر و بلغ الخبر إلى الذر فسار إلى بكتاباد فملكها ثم إلى بست و أعمالها كذلك و قطع خطبة غياث الدين منها و أرسل إلى صاحب سجستان بقطع خطبة خوارزم شاه و إلى ابن حرميل كذلك و يتهددهما و أطلق جلال الدين صاحب باميان و زوجه بنته و بعث معه خمسة آلاف فارس مع إيدكين مملوك شهاب الدين ليعيدوا جلال الدين إلى ملكه بباميان و ينزلوا ابن عمه فلما سار معه إيدكين أغراه بالعود إلى غزنة و أعلمه أن الأتراك مجمعون على خلاف الذر فلم يجبه جلال الدين إلى ذلك فرجع عنه إيدكين إلى إقطاعه بكابل و لقيه رسول من قطب الدين أيبك إلى الذر يتهدده على عصيانه على غياث الدين و يأمره بالخطبة له و وصل معه الهدايا و الألطاف إلى غياث الدين و أشار عليه أيبك بإجابة خوارزم إلى جميع ما طلب حتى يفرغ من أمر غزنة و كتب إلى أيبك يستأذنه في المسير إلى غزنة و محاربة الذر فأذن له بمحاربته و وصل إيدكين في رجب سنة ثلاث و ستمائة و خطب لغياث الدين بغزنة و امتنعت عليه القلعة فنهب البلد و وصل الخبر إلى الذر بشأن ايدكين في غزنة و مراسلة أيبك له ففت ذلك في عضده و خطب لغياث الدين في بكتاباد و أسقط اسمه و رحل إلى غزنة فرحل ايدكين عنها إلى بلد الغور و أقام في تمواز و كتب إلى غياث الدين بالخبر و أنفذ إليه أموالا فبعث إليه غياث الدين بالخلع و أعتقه و خاطبه بملك الأمراء و سار غياث الدين إلى بست و أعمالها فاستردها و أحسن إلى أهلها و أقام الذر بغزنة (4/548)
مقتل ابن حرميل و استيلاء خوارزم شاه على هراة
كان ابن حرميل كما قدمناه استدعى عسكر خوارزم شاه إلى هراة و أنزلهم معه بهراة فساء أمرهم في الناس و كثر عيثهم فحبسهم و بعث إلى خوارزم شاه بصنيعهم ويعدده و كان مشتغلا بقتال الخطا فكتب إليه يحسن فعله و يستدعي الجند الذين حبسهم و بعث إلى عز الدين خلدك أن يحتال في القبض على ابن حرميل فسار في ألفي فارس و كان خلدك أيام السلطان سنجر واليا على هراة فلما قدم خرج ابن حرميل لتلقيه فنزل كل واحد منهما إلى صاحبه و أمر خلدك أصحابه بالقبض على ابن حرميل فقبضوا عليه و انفض عنه أصحابه إلى المدينة فأمر الوزير خواجه الصاحب بغلق الأبواب و الاستعداد للحصار و نادى بشعار غياث الدين محمود فحاصره خلدك و بذل له الأمان و تهدده بقتل ابن حرميل و خاطبه بذلك ابن حرميل ففعل وكتب بالخبر إلى خوارزم شاه فبعث ولاته بخراسان يأمرهم بحصار هراة فسار في عشرة آلاف و امتنعت هراة عليهم و كان ابن حرميل قد حصنها بأربعة أسوار محكمة و خندق و شحنها بالميرة و صار يعدهم إلى حضور خوارزم شاه و أسروه أياما حتى فادى نفسه و رجع إلى خوارزم كما يذكر في أخبار دولته و أرجف بموته في خراسان فطمع أخوه علي في طبرستان و كزلك خا في نيسابور إلى الاستبداد بالملك فلما وصل خوارزم شاه هرب أخوه علي شاه و لحق بشهاب الدين في بيروزكوه فتلقاه و أكرمه و سار خوارزم شاه إلى نيسابور و أصلح أمرها و استعمل عليها و سار إلى هراة و عسكره على حصارها و قيل للوزير قد وصل خوارزم شاه لما وعدته و تحدث في ذلك جماعة من أهل البلد فقبض عليهم و وقعت بذلك هيعة و شعر بها خوارزم شاه فزحف إلى السور و خرب برجين منه و دخل البلد فملكه و قتل الوزير و ولى على هراة من قبله و ذلك سنة خمس و ستمائة و رجع إلى قتال الخطا (4/549)
مقتل غياث الدين محمود
لما ملك خوارزم شاه مدينة هراة و ولى عليها خاله أمير ملك و أمره أن يسير إلى بيروزكوه و يقبض على صاحبها غياث الدين محمود بن غياث الدين الغوري و على أخيه علي شاه بن خوارزم شاه فسار أمير ملك و استأمن له محمود فأمنه و خرج إليه هو و علي شاه فقبض عليهما أمير ملك و قتلهما و دخل بيروزكوه سنة خمس و ستمائة و صارت خراسان كلها لخوارزم شاه (4/550)
استيلاء خوارزم شاه على غزنة و أعمالها
و لما استولى خوارزم شاه على عامة خراسان و ملك باميان و غيرها أرسل إلى تاج الدين الذر صاحب غزنة في الخطبة و السكة و أن يقرر الصلح على غزنة بذلك فشاور أهل دولته و فيهم قطلوتكين من موالي شهاب الدين و هو النائب عن الذر بغزنة فأشار عليه بطاعته و أعاد الرسول بالإجابة و خطب له و سار عن غزنة متصديا و بعث قطلوتكين إلى خوارزم شاه سرا أن يبعث إليه من يسلمه غزنة فجاء بنفسه و ملك غزنة و هرب الذر إلى لهاور ثم أحضر خوارزم شاه قطلوتكين و قتله بعد أن استصفاه و حصل منه على أموال جمة و ولى على غزنة ابنه جلال الدين و ذلك سنة ثلاث عشرة و ستمائة و رجع إلى بلده (4/550)
استيلاء الذر على لهاور و مقتله
لما هرب الذر من غزنة أمام خوارزم شاه لحق بلهاور و كان صاحبها ناصر الدين قباجة من موالي شهاب الدين و له معها ملتان و آجر والدبيل إلى ساحل البحر و له من العسكر خمسة عشر ألف فارس و جاء الذر في ألف و خمسمائة فقاتله على التعبية و معه الفيلة فانهزم الذر أولا و أخذت فيوله ثم كانت له الكرة و حمل فيل له على علم قباجة بإغراء الفيال و صدق هو الحملة فانهزم قباجة و عسكره و ملك الذر مدينة لهاور ثم سار إلى الهند ليملك مدينة دهلي و غيرها من بلاد المسلمين و كان قطب الدين أيبك صاحبها قد مات و وليها بعده مولاه شمس الدين فسار إليه و التقيا عند مدينة سما و اقتتلا فانهزم الذر و عسكره و أسر فقتل و كان محمود السيرة في ولايته كثير العدل و الإحسان إلى الرعية لاسيما التجار و الغرباء و كان بملكه انقراض دولة الغورية و البقاء لله و حده (4/551)
الخبر عن دولة الديلم و ما كان لهم من الملك و السلطان في ملة الإسلام و دولة بني بويه منهم المتغلبين على الخلفاء على العباسيين ببغداد و أولية ذلك و مصايره
قد تقدم لنا نسب الديلم في أنساب الأم و أنهم من نسل ماذاي بن يافث و ماذاي معدود في التوراة من ولد يافث و ذكر ابن سعيد و لا أدري عمن نقله : أنهم من ولد همام بن باسل بن أشور بن سام و أشور مذكور في التوراة من ولد سام و قال : إن الموصل من جرموق بن أشور و الفرس و الكرد و الخزر من إيران بن أشور و النبط و السوريان من نبيط بن أشور هكذا ذكر ابن سعيد و الله أعلم
و الجيل عند كافة النسابين إخوانهم على كل قول من هذه الأقوال و هم أهل جيلان جميعا عصبية واحدة من سائر أحوالهم و مواطن هؤلاء الديلم و الجيل بجبال طبرستان و جرجان إلى جبال الري بهيلان و حفافي البحيرة المعروفة ببحيرة طبرستان من لدن أيام الفرس و ما قبلها و لم يكن لهم ملك فيما قبل الإسلام و لما جاء الله بالإسلام و انقرضت دولة الأكاسرة و استفحلت دولة العرب و افتتحوا الأقاليم بالمشرق و المغرب و الجنوب و الشمال كما مر في الفتوحات و كان من لم يدخل من الأمم في دينهم دان لهم بالجزية و كان هؤلاء الديلم و الجيل على دين المجوسية و لم تفتح أرضهم أيام الفتوحات و إنما كانوا يؤدون الجزية و كان سعيد بن العاص قد صالحهم على مائة ألف في السنة و كانوا يعطونها و ربما يمنعونها و لم يأت جرجان بعد سعيد أحد و كانوا يمنعون الطريق من العراق إلى خراسان على قومس و لما ولي يزيد بن المهلب خراسان سنة ست و ثمانين للهجرة و لم يفتح طبرستان و لا جرجان و كان يزيد بن المهلب يعيره بذلك إذا قصت عليه أخباره في فتوحات بلاد الترك و يقول : ليست هذه الفتوح بشيء و الشأن في جرجان التي قطعت الطريق و أفسدت قومس و نيسابور فلما أولاه سليمان بن عبد الملك خراسان سنة تسع و تسعين أجمع على غزوها و لم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال و محاصر يقوم الرجل على باب منها فيمنعه و كانت طبرستان مدينة و صاحبها الأصبهبذ ثم سار إلى جرجان مولاه فراسة و سار الهادي إليهما و حاصرهما حتى استقاما على الطاعة ثم بعث المهدي سنة ثمان و تسعين يحيى الحرسي في أربعين ألفا من العساكر فنزل طبرستان و أذعن الديلم ثم لحق بهم أيام الرشيد يحيى ابن عبد الله بن حسن المثنى فأجاروه و سرح الرشيد الفضل بن يحيى البرمكي لحربهم فسار إليهم سنة خمس و تسعين و مائة فأجابوه إلى التمكين منه على مال شرطوه و على أن يجيء بخط الرشيد و شهادة أهل الدولة من كبار الشيعة و غيرهم فبذل لهم المال و كتب الكتاب و جاء الفضل بيحيى فحبسه عند أخيه جعفر حسبما هو مذكور في أخباره و في سنة تسع و ثمانين و مائة كتب الرشيد و هو بالري كتاب الأمان لسروين بن أبي قارن و رنداهرمز بارخشان صاحب الديلم و بعث بالكتاب مع حسن الخادم إلى طبرستان فقدم بارخشان و رنداهرمز و أكرمهما الرشيد و أحسن إليهما و ضمن رنداهرمز الطاعة و الخراج عن سروين بن أبي قارن ثم مات سروين و قام مكانه ابنه شهريار ثم زحف سنة إحدى و ثمانين و مائة عبد الله بن أبي خرداذيه و هو عامل طبرستان إلى البلاد و السيزر من بلاد الديلم فافتتحها و افتتح سائر بلاد طبرستان و أنزل شهريار بن سروين عنها و أشخص مازيار بن قارن و رنداهرمز إلى المأمون و أسر أبا ليلى ثم مات شهريار بن سروين سنة عشر و مائتين و قام مكانه ابنه سابور فحاربه مازيار بن قارن بن رنداهرمز و أسره ثم قتله ثم انتقض مازيار على المعتصم و حمل الديلم و أهل تلك الأعمال على بيعته كرها و أخذ رهنهم و جبى خراجهم و خرب أسوار آمل و سارية و نقل أهلها إلى الجبال و بنى على حدود جرجان سورا من طميس إلى البحر مسافة ثلاثة أميال و حصنه بخندق و كانت الأكاسرة بنته سدا على طبرستان من الترك و قد نقل أهل جرجان إلى نيسابور و أملى له في انتقاضه الأفشين مولى المعتصم كبير دولته طمعه في ولاية خراسان بما كان يضطغن ابن طاهر صاحب خراسان فدس إليه بذلك كتابا و رسالة حتى امتعض و جهز عبد الله بن طاهر العساكر لحربه مع عمه الحسن و مولاه حيان بن جبلة و سرح المعتصم العساكر يردف بعضها بعضا حتى أحاطوا بجباله من كل ناحية و كان قارن بن شهريار أخو مازيار على سارية فدس إلى قواد ابن طاهر بالرجوع من كل ناحية و كان قارن قد أتى إلى الطاعة و النزول لهم عن سارية على أن يملكوه جبال آبائه و أسجل له ابن طاهر بذلك فقبض على عمه قارن في جماعة من قواد مازيار و بعث بهم فدخل قواد ابن طاهر جبال قارن و ملكوا سارية ثم استأمن إليهم قوهيار أخو مازيار و وعدهم بالقبض على أخيه على أن يولوه مكانه فأسجل له ابن طاهر بذلك فقبض على أخيه مازيار و بعث به إلى المعتصم ببغداد فصلبه و أطلع منه على دسيسة الأفشين مولاه فنكبه و قتله و وثب مماليك مازياز بقوهيار فثاروا منه بأخيه و فروا إلى الديلم فاعترضتهم العساكر و أخذوا جميعا و يقال إن الذي كان غدر بمازيار هو ابن عمه كان يضطغن عليه عزله عن بعض جبال طبرستان و كان مولاه و رأيه عن رأيه ثم تلاشت الدعوة العباسية بعد المتوكل و تقلص ظلها و استبد أهل الأطراف بأعمالهم و ظهرت دعاة العلوية في النواحي إلى أن ظهر بطبرستان أيام المستعين الحسن بن زيد الداعي العلوي من الزيدية و قد مر ذكره و كان على خراسان محمد بن طاهر بن عبد الله بن طاهر و قد ولى على طبرستان عمه سليمان بن عبد الله بن طاهر فكان محمد بن أوس ينوب عنه مستبدا عليه فأساء السيرة و انتقض لذلك بعض عمال أهل الأعمال و دعوا جيرانهم الديلم إلى الانتقاض و كان محمد بن أوس قد دخل بلادهم أيام السلم و أثخن فيها بالقتل و السبي فلما استنجدهم أولئك الثوار لحرب سليمان و نائبه محمد بن أوس نزعوا لإجابتهم و استدعوا الحسن بن زيد مكانه و بايعوه جميعا و زحفوا به إلى آمل فملكوها ثم ساروا إلى سارية فهزموا عليها سليمان و ملكوها ثم استولى الحسن الداعي على طبرستان و كانت له و لأخيه بعده الدولة المعروفة كما هو معروف في أخبارهم أقامت قريبا من أربعين سنة ثم انقرضت بقتل محمد بن زيد و دخل الديلم الحسن الأطروش من ولد عمر بن زين العابدين و كان زيدي المذهب فنزل فيما وراء السعيد دوى إلى آمل و لبث في الديلم ثلاث عشرة سنة و ملكهم يومئذ حسان بن وهشوذان و كان يدعوهم إلى الإسلام و يأخذ منهم العشر و يدافع عنهم ملكهم ما استطاع فأسلم على يديه منهم خلق كثير و بنى لهم المساجد و زحف بهم إلى قزوين فملكها و سالوس من ثغور المسلمين فأطاعوه و ملك آمل و دعاهم إلى غزو طبرستان و هي في طاعة ابن سامان فأجابوه و ساروا إليها سنة إحدى و ثلثمائة و برز إليها عاملها ابن صعلوك فهزمه الأطروش و استلحم سائر أصحابه و لحق ابن صعلوك بالري ثم إلى بغداد و استولى الأطروش على طبرستان و أعمالها و قد ذكرنا دولته و أخبارها في دول العلوية و كان استظهاره على أمره بالديلم و قواده في حروبه و ولاته على أعماله منهم ثم قتلته جيوش السعيد بن سامان سنة أربع و ثلثمائة و دال الأمر بين عقبه قواد الديلم كما هو مذكور في أخبارهم (4/551)
الخبر عن قواد الديلم و تغلبهم على أعمال الخلفاء بفارس و العراقين
كان للديلم جماعة من القواد بهم استظهر الأطروش و بنوه على أمرهم منهم : سرخاب بن وهشوذان أخو حسان و هو معدود في ملوكهم و كان صاحب جيش أبي الحسين بن الأطروش ثم أخوه علي ولاه المقتدر على أصفهان ثم ليلى بن النعمان من ملوكهم أيضا و كان قائدا للأطروش و ولاه بعده صهره الحسن المعروف بالداعي الصغير على جرجان ثم ماكان بن كالي و هو ابن عم سرخاب و حسان ابنى وهشوذان و ولاه أبو الحسين بن الأطروش مدينة استراباذ و أعمالها ثم كان دون هؤلاء جماعة أخرى من القواد فمنهم من أصحاب ماكان بن كالي أسفار بن شيرويه و مرداويج بن زيار بن بادر و أخوه و شمكير و لشكري و من أصحاب مرداويج بنو بويه الملوك الأعاظم ببغداد و العراقين و فارس و لما تلاشت دولة العلوية و استفحل هؤلاء القواد بالاستبداد على أعقابهم في طبرستان و جرجان و كانت خراسان عند تقلص الدولة العباسية على الأطراف قد غلب عليها الصفار و ملكها من يد بني طاهر ثم نازعه فيها بنو سامان و الداعي العلوي و أصبحت مشاعا بينهم ثم انفرد بها ابن سامان كل منهم يعطي طاعة معروفة للخلفاء و مركز ابن سامان وراء النهر و خراسان في أطراف مملكتهم و زاد تقلص الخلافة عما وراءها فتطاول ملوك الديلم هؤلاء قواد الدولة العلوية بطبرستان إلى ممالك البلاد و تجافوا عن أعمال ابن سامان لقوة سورته و استفحال ملكه و ساروا في الأرض يرومون الملك و انتشروا في النواحي و تغلب كل منهم على ما دفع إليه من البلاد و ربما تنازعوا بعضها فكانت لهم دون طبرستان و جرجان بلاد الري و ظفر بنو بويه منهم بملك فارس و العراقين و حجر الخلفاء ببغداد فذهبوا بفضل القديم و الحديث و كانت لهم الدولة العظيمة التي باهى الإسلام بها سائر الأمم حسبما نذكر ذلك كله في أخبار دولتهم (4/554)
أخبار ليلى بن النعمان و مقتله
كان ليلى بن النعمان من قواد الديلم و كان أولاد الأطروش ينعتونه في كتابهم إليه المؤيد لدين الله المنتصر لأولاد رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان كريما شجاعا قد ولاه الحسن بن القاسم الداعي الصغير على جرجان بعد الأطروش سنة ثمان و ثلثمائة فسار من جرجان إلى الدامغان و هي في طاعة ابن سامان و عليها مولاه قراتكين فبرزوا إليه و قاتلوه فهزمهم و أثخن فيهم و عاد إلى جرجان فابتنى أهل الدامغان حصنا يمتنعون به و سار قراتكين إلى ليلى فبرز إليه من جرجان و قاتله على عشرة فراسخ فانهزم قراتكين و أثخن في عسكره و سار إليه فارس مولى قراتكين فأكرمه و زوجه أخته و كثرت أجناده و ضاقت أمواله فأغراه أبو حفص القاسم بن حفص بنيسابور و أمره الحسن الداعي بالمسير إليها فسار و ملكها آخر ثمان و ثلثمائة و خطب بها للداعي و أنفذ السعيد نصر بن سامان عساكره من بخارى مع قواده حمويه بن علي و محمد ابن عبد الله البلغمي و أبو حفص بنيسابور و أبو الحسن صعلوك و سيجور الدواني فقاتلوا ليلى بن النعمان عن طوس و هزموه فلحق بآمل و اختفى فيها و جاءه بقراخان و أخرجه من الاختفاء و أنفذ بالخبر إلى حمويه فأمره بقتله و تأمين أصحابه فقتل و حمل رأسه إلى بغداد و ذلك في ربيع سنة تسع و ثلثمائة و بقي فارس غلام قراتكين بجرجان و عاد قراتكين إلى جرجان فاستأمن إليه مولاه فارس فقتله قراتكين و انصرف عن جرجان (4/555)
أخبار سرخاب بن وهشوذان و مهلكه و قيام ماكان بن كالي بمكانه
كان سرخاب بن وهشوذان الديلي من قواد الأطروش و بنيه و بايع لأبي الحسن بن الأطروش الناصر بعد مهلك أبيه بطبرستان و استراباذ و كان صاحب جيشه و لما انصرف قراتكين عن جرجان بعد مهلك ليلى بن النعمان سار إليها أبو الحسن بن الأطروش و سرخاب فملكوها و أنفذ السعيد نصر بن سامان سنة عشر سيجور الدواني في أربعة آلاف فارس لقتاله و نزل على فرسخين من جرجان و حاصرها أشهرا ثم برزوا إليه و أكمن لهم سيجور كمينا فتباطأ الكمين و انهزم سيجور و اتبعه سرخاب
ثم خرج الكمين بعد حين و انهزم أبو الحسن إلى استراباذ و ترك جرجان و اتبعه سرخاب في الفل بمخلفه و مخلف أصحابه و رجع سيجور إلى جرجان فملكها ثم مات سرخاب و لحق ابن الأطروش بسارية فأقام بها و استخلف ماكان بن كالي و هو ابن عم سرخاب فسار محمد بن عبيد الله البلغمي و سيجور لحصاره و أقاموا عليه طويلا ثم بذلوا له مالا على أن يخرج لهم عنها فتقوم لهم بذلك حجة عند ابن سامان ثم يعود ففعل ذلك و خرج إلى سارية ثم نزل إلى الشمانية عن استراباذ و ولوا عليها بقراخان فعاد إليها ماكان و ملكها و لحق بقراخان بأصحابه في نيسابور (4/556)
بداية أسفار بن شيرويه و تغلبه على جرجان ثم طبرستان
كان أسفار هذا من الديلم من أصحاب ماكان بن كالي و كان سيء الخلق صعب العشرة و أخرجه ماكان من عسكره فاتصل ببكر بن محمد بن أليسع في نيسابور و هو عامل عليها من قبل ابن سامان فأكرمه و اختصه في العساكر سنة خمس عشرة و ثلثمائة لفتح جرجان و كان ما كان بن كالي يومئذ بطبرستان و ولى على جرجان أبا الحسن بن كالي و استراب بأبي علي بن الأطروش فحبسه بجرجان فجعله عنده في البيت و قام ليلة إليه ليقتله فأظفر الله العلوي به و قتله و تسرب من الدار و أرسل من الغد إلى جماعة من القواد فجاؤوا إليه و بايعوه و ألبسوه القلنسوة و ولى على جيشه علي بن خرشية و كاتبوا أسفار بن شيرويه بذلك و هو في طريقه إليهم و استدعوه فاستأذن بكر بن محمد و سار إليهم و سار على ابن خرشية في القيام بأمر جرجان بدعوة العلوي الذي معهم و ضبط ناحيتها و سار إليهم ما كان بن كالي في العساكر من طبرستان و قاتلوه فهزموه و اتبعوه إلى طبرستان فملكوها من يده و قاموا بها ثم هلك أبو علي الأطروش و علي بن خرشية صاحب الجيش و انفرد أسفار بطبرستان و سار بكر بن محمد بن أليسع إلى جرجان فملكها و أقام فيها دعوة نصر بن سامان ثم رجع ماكان إلى طبرستان و بها أسفار فحاربه و غلبه و ملك طبرستان من يده و لحق أسفار بجرجان فأقام بها عند بكر بن أليسع إلى أن توفي بكر فولاه السعيد على جرجان سنة خمس عشرة و ثلثمائة ثم ملك نصر بن سامان الري بولاية المقتدر و ولى عليها محمد بن علي بن صعلوك فطرقه المرض في شعبان سنة ست عشرة و ثلثمائة و كاتب الحسن الداعي أسفار ملك جرجان بولاية نصر بن سامان فاستدعى مرداويج بن زيار من ملوك الجبل و جعله أمير جيشه و سار إلى طبرستان فملكها (4/557)
استيلاء أسفار على الري و استفحال أمره
لما استولى أسفار على طبرستان و مرداويج معه و كان يومئذ على الري و ملكها من يد صعلوك كما ذكرناه و استولى على قزوبن و زنجان و أبهر و قم و الكرخ و معه الحسن بن القاسم الداعي الصغير و هو قائم بدعوته فلما خالفه أسفار إلى طبرستان و ملكها و استضافها إلى جرجان سار إليه ماكان و الداعي و التقوا بسارية و اقتتلوا و انهزم ماكان و قتل الداعي و كانت هزيمته بتخاذل الديلم عنه فإن الحسن كان يشتد عليهم في النهي عن المنكر فنكروه و استقدموا خال مرداويج من الجبل و اسمه هزرسندان و كان مع أحمد الطويل بالدامغان فمكروا بالداعي و استقدامه للاستظهار به و هم يضمرون تقديمه عوض ماكان و نصب أبي الحسن بن الأطروش عوض الحسن الداعي و دس إليه بذلك أحمد الطويل صاحب الدامغان بعد موت صعلوك فحذرهم حتى إذا قدم هزرسندان أدخله مع قواد الديلم إلى قصره بجرجان ثم قبض عليهم و قتلهم جميعا و أمر أصحابه بنهب أموالهم فامتعض لذلك سائر الديلم و أقاموا على مضيض حتى إذا كان يوم لقائه أسفار خذلوه فقتل و فر ماكان و استولى أسفار على ما كان لهم من الري و قزوبن و زنجان و أبهر و قم و الكرخ و استضافها إلى طبرستان و جرجان و أقام فيها دعوة السعيد بن سامان و نزل سارية و استعمل على الري هرون بن بهرام صاحب جناح و كان يخطب فيها لأبي جعفر العلوي فاستدعاه إليه و زوجه من آمل و جاء أبو جعفر لوليمته مع جماعة من العلوبين فكبسهم أسفار و بعث بهم إلى بخارى فحبسهم بها إلى أن خلصوا مع يحيى أخي السعيد و كانوا في فتية حسبما ذكرناه و لما فرغ أسفار من الري تطاول إلى قلعة ألموت ليحصن بها عياله و ذخيرته و كانت لسياه جشم بن مالك الديلمي و معناه الأسود العين فاستقدمه أسفار و ولاه قزوين و سأله في ذلك فأجابه فنقل عياله إليها و سرب في الرجال إليهم لخدمتم حتى كملوا مائة ثم استدعاه فقبض عليه و ثار أولئك بالقلعة فملكوها و كان في طريقه إلى الري استأمن إليه صاحب جبلي نهاوند و قم ابن أمير كان فملكها و مر بسمنان فامتنع منه صاحبها محمد بن جعفر و بعث إليه من الري بعض أصحابه فاستأمن إليه و خدعه حتى قتله و تدلى من ظهر القلعة ثم استفحل أمر أسفار و انتقض على السعيد بن سامان و أراد أن يتتوج و بجلس على سرير الذهب و اعتزم على حرب ابن سامان و الخليفة فبعث المقتدر العساكر إلى قزوين مع هرون بن غريب الحال فقاتله أسفار و هزمه ثم سار بن سامان إلى نيسابور لحربه فأشار على أسفار وزيره مطرف بن محمد الجرجاني بمسالمته و طاعته و بذل الأموال له فقبل إشارته و بعث بذلك إلى ابن سامان و تلطف أصحابه في رجوعه إلى ذلك فرجع و شرط عليه الخطبة و الطاعة فقبل و انتظم الحال بينهما و رجع إلى السطوة بأهل الري و لما كانوا عابوا عليه عسكر القتال ففرض عليهم الأموال و عسف بهم و خص أهل قزوين بالنهب لما تولوا من ذلك و سلط عليهم الديلم فضاقت بهم الأرض (4/558)
مقتل أسفار و ملك مرداويج
كان مرداويج بن زيار من قواد أسفار و كان قد سئم عسفه و طغيانه كما سئمه الناس و بعثه أسفار إلى صاحب سميران الطر الذي ملك أذربيجان بعد ذلك يدعوه إلى طاعته ففاوضه في أمر أسفار و سوء سيرته في الناس و اتفقا على الوثوب عليه به فأجابوه و فيهم مطرف بن محمد وزيره فسار هو و سلار إليه و بلغه الخبر فثار به الجند فهرب إلى الري و كتب إلى ماكان بن كالي بطبرستان يستألفه على أسفار فسار إليه ماكان فهرب أسفار من بيهق إلى بست ثم دخل مفازة الري قاصدا قلعة ألموت التي حصن بها أهله و ذخيرته و تخلف عنه بعض أصحابه في المفازة و جاء إلى مرداويج يخبره فسار إليه و تقدم بين يديه بعض القواد فلقي أسفار و ساءله عن قواده فأخبره أن مرداويج قتلهم فسر بذلك ثم حمله القائد إلى مرداويج فأراد أن يحبسه بالري فحذره بعض أصحابه عائلته فأمر بقتله و رجع إلى الري و لما قتل أسفار تنقل مرداويج في البلاد يملكها فملك قزوين ثم الري ثم همذان ثم كنكور ثم الدينور ثم دجرد ثم قم ثم قاشان ثم أصفهان ثم جرباد و استفحل ملكه و عتا و تكبر و جلس على سرير الذهب و أجلس أكابر قواده على سرير الفضة و تقدم لعسكره بالوقوف على البعد منه و نودي بالخطاب بينهم و بين حاجبه (4/559)
استيلاء مرداويج على طبرستان و جرجان
قد ذكرنا أن الألفة الواقعة بين مرداويج و ماكان و تظاهرهما على أسفار حتى قتل و ثبت مرداويج في الملك و استفحل أمره فتطاول إلى ملك طبرستان و جرجان
و سار إليهما سنة ست عشرة و ثلثمائة فانهزم ماكان أمامه و استولى مرداويج على طبرستان و ولى عليها أسفهسلان و أمر على عسكره أبا القاسم و كان حازما شجاعا ثم سار إلى جرجان فهرب عامل ماكان عنها و ملكها مرداويج و ولى عليها صهره أبا القاسم المذكور خليفة عنه و رجع إلى أصفهان و لحق أبو القاسم و هزمه فرجع السائر إلى الديلم و لحق ماكان بنيسابور و استمد أبا علي بن المظفر صاحب جيوش ابن سامان فسار معه في عساكره إلى جرجان فهزمهما أبو القاسم و رجعا إلى نيسابور ثم سار ماكان إلى الدامغان فدفعه عنها أبو القاسم فعاد إلى خراسان (4/560)
استيلاء مرداويج على همذان و الجبل و حروبه مع عساكر المقتدر
لما ملك مرداويج بلاد الري أقبلت الديلم إليه فأفاض فيهم العطاء و عظمت عساكره فلم تكفه جباية أعماله و امتدت عينه إلى الأعمال التي تجاوره فبعث إلى همذان سنة تسع عشرة جيشا كثيفا مع ابن أخته و بها محمد بن خلف و عسكر المقتدر فاقتتلوا و أعان على همذان عسكر الخليفة فظفروا بعسكر مرداويج و قتلوا ابن أخته فسار إليهم مرداويج من الري و هرب عسكر الخليفة من همذان و دخلها عنوة فأثخن فيهم و استلحمهم و سباهم ثم أمنهم و زحفت إليه عساكر المقتدر مع هرون بن غريب الحال فهزمهم بنواحي همذان و ملك بلاد الجبل و ما وراء همذان و بعث قائدا من أصحابه إلى الدينور ففتحها عنوة و بلغت عساكره نحو حلوان و امتلأت أيديهم من الذهب و السبي و رجعوا (4/560)
خبر لشكري في أصفهان
كان لشكري من الديلم و من أصحاب أسفار و استأمن بعد قتله إلى المقتدر و صار في جند هرون بن غريب الحال و لما انهزم هرون أمام مرداويج سنة تسع عشرة و ثلثمائة أقام في قرقلنين ينتظر مدد المقتدر و بعث لشكري هذا إلى نهاوند يجيئه بمال منها فتغلب عليها و جمع بها جندا ثم مضى إلى أصفهان في منتصف السنة و بها أحمد بن كيغلغ فحاربه و هزمه و ملك أصفهان و دخل إليها عسكره و أقام هو بظاهرها فرأى لشكري فقصده يظنه من بعض جنده أي أحمد فلما تراءى دافع أحمد بن كيغلغ عن نفسه فقتل و هرب أصحابه و رجع ابن كيغلغ إلى أصفهان (4/561)
استيلاء مرداويج على أصفهان
ثم بعث مرداويج عسكرا آخر إلى أصفهان سنة تسع عشرة فملكوها و جددوا له مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف فنزلها و عكسره يومئذ أربعون أو خمسون ألفا ثم بعث عسكرا إلى الأهواز و خوزستان فملكوها و جبوا أعمالها و بعث إلى المقتدر و ضمن هذه البلاد بمائتي ألف دينار في كل سنة فقررت عليه و أقطعه المقتدر همذان و ماه الكوفة (4/562)
قدوم وشمكير على أخيه مرداويج
و في سنة ست عشرة و ثلثمائة بعث مرداويج رسوله من الجند ليأتيه بأخيه و شمكير فبعث إليه و أبلغه رسالة أخيه و أعلمه بمقامه في الملك فاستبعد ذلك ثم استغربه و نكر على أخيه مشايعته للمسودة لأن الديلم و الجيل كانوا شيعة للعلوية بطبرستان فلم يزل الرسول به حتى سار به إلى أخيه فخرج به إلى قزوين و ألبسه السواد بعد مراوضة و قدم على أخيه بدويا حافيا مستوحشا فلم يكن إلا أن رهف الملك أعطافه فأصبح أرق الناس حاشية و أكثر الناس معرفة بالسياسة (4/562)
خبر مرداويج مع ابن سامان على جرجان
كان أبو بكر المظفر صاحب جيوش ابن سامان بخراسان قد غلب على جرجان و انتزعها من ملكه مرداويج فلما فرغ مرداويج من أمر خوزستان و الأهواز رجع إلى الري و سار منها إلى جرجان فخرج ابن المظفر عن جرجان إلى نيسابور و بها يومئذ السعيد نصر بن سامان فسار لمدافعة مرداويج عن جرجان و كاتب محمد بن عبد الله البلغمي من قواد ابن سامان مطرف بن محمد وزير مرداويج و استماله و شعر بذلك فقتل وزيره و بعث إليه البلغمي يعذله في قصد جرجان و يطوق ذلك بالوزير مطرف و يذكره حقوق السعيد بن سامان قبله و قصور قدرته عنه و يشير عليه بالنزول له عن جرجان و تقرير المال عليه بالري فقبل مرداويج إشارته و عاد عن جرجان و انتظم الحال بينهما (4/562)
بداية أمر بني بويه
و كانوا إخوة ثلاثة أكبرهم عماد الدولة أبو الحسن علي و ركن الدولة الحسن و معز الدولة أبو الحسن أحمد لقبهم : بهذه الألقاب الخلفاء عندما ملكوا الأعمال و قلدوهم إياها على ما نذكر بعد و هم الذين تولوا حجر الخلفاء بعد ذلك ببغداد كما يأتي و أبوهم أبو شجاع بويه بن قناخس و للناس في نسبهم خلاف فأبو نصر بن ماكولا ينسبهم إلى كوهي بن شيرزيك الأصغر ابن شيركوه بن شيرزيك الأكبر ابن سران شاه بن سيرقند بن سيسانشاه بن سير بن فيروز بن شروزيل بن سنساد بن هراهم جور و بقية النسب مذكور في ملوك الفرس و ابن مسكويه قال : يزعمون أنهم من ولد يزدجرد بن شهريار آخر ملوك الفرس و الحق أن هذا النسب مصنوع تقرب إليهم به من لا يعرف طباخ الأنساب في الوجود و لو كان نسبهم ذا خلل في الديلم لم تكن لهم تلك الرياسة عليهم و إن كانت الأنساب قد تتغير و تخفى و تنتقل من شعب إلى شعب و من قوم إلى قوم فإنما هو بطول الأعصار و تناقل الأجيال و اندراس الأزمان و الأحقاب و أما هؤلاء فلم يكن بينهم و بين يزدجرد و انقطاع الملك بن الفرس إلا ثلثمائة سنة فيها سبعة أجيال أو ثمانية أجيال ميزت فيها أنسابهم و أحصيت أعقابهم فكيف يدرك مثل هذه الأنساب الخفاء في مثل هذه الإعصار و إن قلنا كان نسبهم إلى الفرس ظاهرا منع ذلك من رياستهم على الديلم فلا شك في هذه التقادير في ضعة هذا النسب و الله أعلم و أما بدايتهم فإنهم كانوا من أوسط الديلم نسبا و حالا و في أخبارهم أن أباهم أبا شجاع كان فقيرا و أنه رأى في منامه أنه يبول فخرج من ذكره نار عظيمة فاستضاءت الدنيا بها فاستطالت و ارتفعت إلى السماء ثم افترقت ثلاث شعب و من كل شعب عدة شعب فاستضاءت الدنيا بها و الناس خاضعون لتلك النيران و إن عابرا عبر له الرؤيا بأنه يكون له ثلاثة أولاد يملكون الأرض و يعلو ذكرهم في الآفاق كما علت النار و يولد لهم ملوك بقدر الشعب و أن أبا شجاع استبعد ذلك و استنكره لما كانوا عليه من توسط الحال في المعيشة فرجع المعبر إلى السؤال عن وقت مواليدهم فأخبروه بها و كان منجما فعدل طوالعهم و قضى لهم جميعا فوعدوه و انصرف و لما خرج قواد الديلم لملك البلاد و انتشروا في الأعمال مثل ليلى و ماكان و أسفار و مرداويج خرج مع كل واحد منهم جموع من الديلم رؤوس و أتباع و خرج بنو أبي شجاع هؤلاء في جملة قواد ماكان فلما اضطرب أمره و غلبه مرداويج عن طبرستان و جرجان مرة بعد مرة لحق آخرا بنيسابور مهزوما فاعتزم بنو بويه على فراقه و استأذنوه في ذلك و قالوا إنما نفارقك تخفيفا عليك فإذا صلح أمرك عدنا إليك و ساروا إلى مرداويج و تبعتهم جماعة من قواد ماكان فقبلهم مرداويج و قلد كل واحد منهم ناحية من نواحي الجبل و قلد علي بن بويه كرمس وكتب لهم العهود بذلك و ساروا إلى الري و بها يومئذ أخوه وشمكير و معه وزيره الحسين بن محمد العميد والد أبي الفضل ثم بدا لمرداويج في ولاية هؤلاء القواد المستأمنة فكتب إلى أخيه وشمكير و وزيره العميد بردهم عن تلك الأعمال و كان علي بن بويه قد أسلف عند العميد يدا في بغلة فارهة عرضها للبيع و استامها العميد فوهبها له فرعى له العميد هذه الوسيلة فلما قرأ كتاب مرداويج دس إلى ابن بويه بأن يغذ السير إلى عمله فسار من حينه و غدا وشمكير على بقية القواد فاستعاد العهود من أيديهم و أمر ابن بوبه فأشار عليه أصحابه بترك ذلك لما فيه من الفتنة فتركه (4/563)
ولاية عماد الدولة بن بوبه على كرج و أصفهان
و لما وصل عماد الدولة إلى كرج ضبط أمورها و أحسن السياسة في أهلها و أعمالها و قتل جماعة من الخرمية كانوا فيها و فتح قلاعهم و أصاب فيها ذخائر كثيرة فانفقها في جنده فشاع ذكره و حمدت سيرته و كتب أهل الناحية إلى مرداويج بالنبأ فغص و جاء من طبرستان إلى الري و أطلق مالا لجماعة من قواده على كرج فاستمالهم عماد الدولة و أحسن إليهم فأقاموا عنده و استراب مرداويج فكتب إلى عماد الدولة في استدعائهم فدافعه و حذرهم منه فحذروا ثم استأمن إليه سيراذ من أعيان قواد مرداويج فكثف به جمعه و سار إلى أصفهان و بها المظفر بن ياقوت من قبل القاهر في عشرة آلاف مقاتل و على خراجها أبو علي بن رستم فاستأذنهما في الانحياز إليهما و الدخول في طاعة الخليفة فأعرضا عنه و مات خلال ذلك ابن رستم و برز ابن ياقوت من أصفهان لمدافعته و استأمن إليه من كان مع ابن ياقوت من الجيل و الديلم ثم لقيه عماد الدولة في تسعمائة فهزمه و ملك أصفهان (4/564)
استيلاء ابن بويه على أرجان و أخواتها ثم على شيراز و بلاد فارس
و لما بلغ خبر أصفهان إلى مرداويج اضطرب و كتب إلى عماد الدولة بن بوبه يعاتبه و يستميله و يطلب منه إظهار طاعته و يمده بالعساكر في البلاد و الأعمال و يخطب له فيها و جهز له أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبسه و هو مطمئن إلى تلك الرسالة و شعر ابن بويه بالمكيدة فرحل عن أصفهان بعد أن جباها شهرين و سار إلى أرجان و كان أبو بكر بن ياقوت من أصفهان واليا عليها ففصل عنها و لما ملك ابن بويه أرجان كاتبه أهل شيراز يستدعونه إليهم و عليهم يومئذ ياقوت عامل الخليفة و ثقلت و طأته عليهم و كثر ظلمه فاستدعوا ابن بويه و خام عن المسير إليهم عادوا إليه الكتاب بالحث على ذلك و أن مرداويج طلب الصلح من ياقوت فعاجل الأمر قبل أن يجتمعا فسار إلى النوبندجان في ربيع سنة إحدى وعشرين و ثلثمائة و سبقته إليها مقدمة ياقوت في ألفين من شجعان قومه فلما وافاهم ابن بويه انهزموا إلى كرمان و جاءهم ياقوت هنالك في جميع أصحابه و أقام عماد الدولة بالنوبندجان و بعث أخاه بركن الدولة الحسن إلى كازرون و غيرها من أعمال فارس فلقي هنالك عسكرا لياقوت فهزمهم و جبى تلك الأعمال و رجع إلى أخيه بالأموال ثم و قعت المراسلة بين مرداويج و ياقوت في الصلح و سار وشمكير إليه عن أخيه فخشيهما عماد الدولة و سار من نوبندجان إلى اصطخر ثم إلى البيضاء و ياقوت في اتباعه و سبقه ياقوت إلى قنطرة على طريق كرمان فصده عن عبوره و اضطره للحرب فتحاربوا و استأمن جماعة من أصحاب ابن بويه إلى ياقوت فقتلهم فخشيه الباقون و استماتوا و قدم ياقوت أمام عسكره رجاله بقوار النفط فلما أشعلوها وقذفت أعادتها الريح عليهم فعلقت بهم فاضطربوا و خالطهم أصحاب ابن بويه في موقفهم و كانت الدبرة على ياقوت ثم صعد إلى ربوة و نادى في أصحابه بالرجوع فاجتمع إليه نحو أربعة آلاف فارس و أراد الحملة عليهم لاشتغالهم بالنهب ففطنوا له و تركوا النهب و قصدوه فانهزم و اتبعوهم فاثخنوا فيهم و كان معز الدولة أحمد بن بويه من أشد الناس بلاء في هذه الحرب ابن تسع عشرة سنة لم يطر شاربه ثم رجعوا إلى السواد فنهبوه و أسروا جماعة منهم فأطلقهم ابن بويه وخيرهم فاختاروا المقام عنده فأحسن إليهم ثم سار إلى شيراز فأمنها و نادى بالمنع من الظلم و استولى على سائر البلاد و عرفوه بذخائر في دار الإمارة و غيرها من و دائع ياقوت و ذخائر بني الصفار فنادى في الجند بالعطاء و أزاح عللهم و امتلأت خزائنه و كتب إلى الراضي و قد أفضت إليه الخلافة و إلى وزيره أبي علي بن مقلة تقرير البلاد عليه بألف ألف درهم فأجيب إلى ذلك و بعثوا إليه بالخلع و اللواء و كان محمد بن ياقوت قد فارق أصفهان عند خلع القاهر و ولاية الراضي و لقيت عشرين يوما دون أمير فجاء إليها و شمكير و ملكها فلما وصل الخبر إلى مرداويج باستيلاء ابن بويه على فارس سار إلى أصفهان للتدبير عليه و بعث أخاه وشمكير إلى الري (4/565)
استيلاء ماكان بن كالي على الري
قد ذكرنا في دولة بني سامان أن أبا علي محمد بن الياس كان سنة اثنتين و عشرين و ثلثمائة بكرمان منتقضا على السعيد فبعث إليه في هذه السنة جيشا كثيفا فاستولى على كرمان و أقام فيها الدعوة لابن سامان و كان أصل محمد بن الياس من أصحاب السعيد فسخطه و حبسه ثم أطلقه بشفاعة البلغمي و بعث مع صاحب خراسان محمد بن المظفر إلى جرجان حتى إذا خرج أخوه السعيد من محبسهم و بايعوا ليحيى منهم كان محمد بن الياس معهم حتى تلاشى أمرهم ففارقه ابن الياس من نيسابور إلى كرمان فاستولى عليها إلى هذه الغاية فأزاله عنها ماكان و لحق بالدينور و أقام ماكان واليا بكرمان بدعوة بني سامان (4/566)
مقتل مرداويج و ملك أخيه وشمكير من بعده
لما استفحل أمر مرداويج كما قلنا عتا و تجبر و تتوج بتاج مرصع على هيئة تاج كسرى و جلس على كرسي الذهب و أجلس أكابر قواده على كراسي الفضة و اعتزم على قصد العراق و بنى المدائن و قصور كسرى و أن يدعى بشاه و كان له جند من الأتراك كان كثير الإساءة إليهم و يسميهم الشياطين و المردة فثقلت وطأته على الناس و خرج ليلة الميلاد من سنة ثلاث و عشرين و ثلثمائة إلى جبال أصفهان و كانوا يسمونها ليلة الوقود لما يضرم فيها من النيران فأمر بجمع الحطب على الجبل من أوله إلى آخره أمثال الجبال و التلال و جمع ألفي طائر من الغربان و الحدآت و جعل النفط في أرجلها ليضرم الجبل نارا حتى يضيء الليل و استكثر من أمثال هذا اللعب ثم عمل سماطا للأكل بين يديه فيه مائة فرس و مائتا بقرة و ثلاثة آلاف كبش و عشرة آلاف من الدجاج و أنواع الطير و ما لا يحص من أنواع الحلوى و هيأ ذلك كله ليأكل الناس ثم يقوموا إلى مجلس الشرب و الندمان فتشعل النيران ثم ركب آخر النهار ليطوف على ذلك كله بنفسه فاحتقره و سخط من تولى ترتيبه و دخل خيمته مغضبا و نام فأرجف القواد بموته فدخل إليه وزيره العميد و أيقظه و عرفه بما الناس فيه فخرج و جلس على السماط و تناول لقمتين ثم ذهب و عاد إلى مكانه فقام في معسكره بظاهر أصفهان ثلاثا لا يظهر للناس ثم قام في اليوم الرابع ليعود إلى قصره بأصفهان فاجتمعت العساكر ببابه و كثر صهيل الخيل و مراحها فاستيقظ لكثرة الضجيج فازداد غضبه و سأل عن أصحاب الدواب فقيل إنها للأتراك نزلوا للخدمة و تركوها بين يدي الغلمان فأمر أن تحل عنها السروج و تجعل على ظهور الأتراك و يقودونهم إلى اصطبلات الخيل و من امتنع من ذلك ضرب فأمسكوا ذلك على أقبح الهيئات و اصطنعوا ا ذلك عليه و اتفقوا على الفتك به في الحمام و كان كورتكين يحرسه في خلواته و حمامه فسخطه ذلك اليوم و طرده فلم يتقدم إلى الحرس لمراعاته و داخلوا الخادم الذي يتولى خدمته في الحمام في أن يفقده سلاحه و كان يحمل خنجرا فكسر حديد الخنجر و ترك النصاب لمرداويج فلم يجد له حدا فأغلق باب الحمام و دعمه من و رائه بسرير الخشب الذي كان صاعدا عليه فصعدوا إلى السطح و كسروا الجامات و رموه بالسهام فانحجر في زوايا الحمام و كسروا الباب عليه و قتلوه و كان الذي تولى كبر ذلك جماعة من الأتراك و هم توزون الذي صار بعد ذلك أمير الأمراء ببغداد و يارق بن بقراخان و محمود بن نيال الترجمان و يحكم الذي ولي إمارة الأمراء قبل توزون و لما قتلوه خرجوا إلى أصحابهم فركبوا و نهبوا قصر مرداويج و هربوا و كان الديلم و الجيل بالمدينة فركبوا في أثرهم فلم يدركوا منهم إلا من وقفت دابته فقتلوهم و عادوا لنهب الخزائن فوجدوا العميد قد أضرمها نارا ثم اجتمع الديلم و الجيل و بايعوا أخاه وشمكير بن زيار و هم بالري و حملوا معهم جنازة مرداويج فخرج وشمكير و أصحابه لتلقيهما على أربع فراسخ حفاة و رجع العسكر الذي كان بالأهواز إلى وشمكير و اجتمعوا عليه و تركوا الأهواز لياقوت فملكها و قام وشمكير بملك أخيه مرداويج في الديلم و الجيل و أقام بالري و جرجان في ملكه و كتب السعيد بن سامان إلى محمد بن المظفر صاحب خراسان و إلى ماكان بن كالي صاحب كرمان بالمسير إلى جرجان و الري فسار ابن المظفر إلى قومس ثم إلى بسطام و سار ماكان على المفازة إلى الدامغان و اعترضه الديلم من أصحاب وشمكير في جيش كثيف فهزموهم و لحق بنيسابور آخر ثلاث و عشرين و ثلثمائة و جعلت ولايتها لماكان بن كالي فأقام بها و سار أبو علي بن الياس إلى كرمان بعد انصراف ماكان عنها فملكها و صفت له بعد حروب شديدة طويلة مع جيوش السعيد بن سامان و كان له الظفر آخرا و أما الأتراك الذين قتلوا مرداويج فافترقوا في هزيمتهم فرقتين فسارت فرقة إلى عماد الدولة بن بويه و هم الأقل و فرقة إلى الجيل مع يحكم و هم الأكثر فجبوا خراج الدينور و غيره ثم ساروا إلى النهروان و كاتبوا الراضي في المسير إلى بغداد فأذن لهم و استراب الحجرية بهم فردهم الوزير ابن مقلة إلى بلد الجيل و أطلق لهم مالا فلم يرضوا به فكاتبهم ابن رائق و هو يومئذ صاحب واسط و البصرة فلحقوا به و قدم عليهم يحكم فكاتب الأتراك من أصحاب مرداويج فقدم عليه منهم عدة وافرة و اختص يحكم و تولاه و نعته بالرائقي نسبة إليه و أمره أن يرسمها في كتابه (4/567)
مسير معز الدولة بن بويه إلى كرمان و هزيمته
لما ملك عماد الدولة بن بويه و أخوه ركن الدولة بلاد فارس و الجيل بعثا أخاهما الأصغر معز الدولة إلى كرمان خالصة له فسار في العسكر إليها سنة أربع و عشرين و ثلثمائة و استولى على السيرجان و كان إبراهيم بن سيجور الدواني قائد ابن سامان يحاصر محمد بن الياس ابن أليسع في قلعته هنالك فلما بلغه خبر معز الدولة سار من كرمان إلى خراسان و خرج محمد بن الياس من القلعة التي كان محاصرا بها إلى مدينة قم على طرف المفازة بين كرمان و سجستان فسار إلى جيرفت و هي قصبة كرمان
و جاء رسول علي بن أبي الزنجي المعروف بعلي بن كلونة أمير القفص و البلوص كان هو و سلفه متغلبين على تلك الناحية و يعطون طاعتهم للأمراء و الخلفاء على البعد يحملون إليهم المال فلما جاء رسوله بالمال امتنع معز الدولة من قبوله إلا بعد دخول جيرفت فلما دخل جيرفت صالحه و أخذ رهنه على الخطبة له و كان علي بن كلونة قد نزل بمكان صعب المسلك على عشرة فراسخ من جيرفت فأشار على معز الدولة بعض أصحابه أن يغدر به و يكبسه ففعل ذلك و أتى لعلي بن كلونة عيونه بالخبر فأرصد جماعة لمعز الدولة بمضيق في طريقه فلما مر بهم ساريا ثاروا به من جوانبه و قتلوا من أصحابه و أسروا و أصابته جراح كثيرة و قطعت يده اليسرى من نصف الذراع و أصابع يده اليمنى و سقط بين القتلى و بلغ الخبر إلى جيرفت فهرب أصحابه منها و جاء علي بن كلونة فحمله من بين القتلى إلى جيرفت و أحضر الأطباء لعلاجه و كتب إلى أخيه عماد الدولة يعتذر و يبذل الطاعة فأجابه و أصلحه و سار محمد بن الياس من سجستان إلى بلد خبابة فتوجه إليه معز الدولة و هزمه و عاد ظافرا و مر بابن كلونة فقاتله و هزمه و أثخن في أصحابه و كتب إلى أخيه عماد الدولة بخبره مع ابن الياس و ابن كلونة فبعث قائدا من قواده و استقدمه إليه بفارس فأقام عنده باصطخر إلى أن قدم عليهم أبو عبد الله البربدي منهزما من ابن رائق و يحكم المتغلبين على الخلافة ببغداد فبعث عماد الدولة أخاه معز الدولة و جعل له ملك العراق عوضا عن ملك كرمان كما يذكر بعد (4/569)
استيلاء ماكان على جرجان و انتقاضه على ابن سامان
قد ذكرنا انهزام ماكان على جرجان أيام بانجين الديلمي و رجوعه إلى نيسابور فأقام بها ثم بلغ الخبر بمهلك بانجين بجرجان فاستأذن ماكان محمد بن المظفر في الخروج لاتباع بعض أصحابه هرب عنه و طالبه به عارض الجيش فأذن له و سار إلى أسفراين و بعث معه جماعة من عسكره إلى جرجان فاستولى عليها ثم أظهر لوقته الانتقاض على ابن المظفر و سار إليه بنيسابور فتخاذل أصحابه و هرب عنها إلى سرخس و عاد عنها ماكان خوفا من اجتماع العساكر عليه و ذلك في رمضان سنة أربع و عشرين و ثلثمائة (4/570)
الخبر عن دولة بني بويه من الديلم المتغلبين على العراقين و فارس و المستبدين على الخلفاء ببغداد من خلافة المستكفي إلى أن صاروا في كفالتهم و تحت حجرهم إلى انقراض دولتهم و أولية ذلك و مصايره
قد تقدم لنا التعريف ببني بويه و ذكر نسبهم و هم من قواد الديلم الذين تطاولوا للاستيلاء على أعمال الخلفاء العباسيين و لما لم يروا عنها مدافعا و لا لها حامية فتنقلوا في نواحيها و ملك كل واحد منهم أعمالا منها و استولى بنو بويه على أصفهان و الري ثم انعطفوا على بلاد فارس فملكوا أرجان و ما إليها ثم استولوا على شيراز و أعمالها و أحاطوا بأعمال الخلافة بنواحي بغداد من شرقها و شمالها و كانت الخلافة قد طرقها الإعلال و غلب عليها الموالي و الصنائع و قد كان أبو بكر محمد بن رائق عاملا بواسط و اضطرب حال الراضي ببغداد فاستقدمه و قلده إمارة الجيوش و نعته أمير الأمراء و كان بنو البريدي في خوزستان و الأهواز فغصوا به و وقعت الوحشة بينه و بينهم فبعث ابن رائق بدرا الخرشني و يحكم الذي نزع إليه أتراك مرداويج فساروا في العسكر لقتال ابن البريدي و استولوا على الأهواز سنة خمس و عشرين و ثلثمائة و لحق ابن البريدي بعماد الدولة بن بويه لما ملك العراق و سهل عليه أمره و ذلك عند رجوع أخيه معز الدولة من كرمان و امتناعها عليه كما ذكرناه فبعث معه العساكر (4/571)
استيلاء معز الدولة بن بويه على الأهواز
لما لحق أبو عبد الله البريدي بعماد الدولة ناجيا من الأهواز مستنجدا له بعث أخاه معز الدولة في العساكر بعد أن أخذ منه ابنيه أبا الحسن محمدا و أبا جعفر الفياض رهنا و سار معز الدولة سنة ست و عشرين و ثلثمائة فانتهى إلى أرجان و يحكم جاء للقائهم و انهزم أمامهم إلى الأهواز فأقام بها و أنزل بها بعض عسكره في عسكر مكرم فقاتلوا معز الدولة ثلاثة عشر يوما ثم انهزموا إلى تستر فرحل معز الدولة إلى عسكر مكرم و أنفذ ابن البريدي خليفته إلى الأهواز ثم بعث إلى معز الدولة بأن ينتقل إلى السوس و يبعد عنه فيؤمن له الأهواز فعزله وزيره أبو جعفر الصيمري و غيره من أصحابه و أروه أن البريدي يخادعه فامتنع معز الدولة من ذلك و بلغ اختلافهم إلى يحكم فبعث عسكرا من قبله فاستولى على الناس و جند نيسابور و بقية الأهواز بيد ابن البريدي و عسكر مكرم بيد معز الدولة و ضاق حال جنده و تحدثوا في الرجوع إلى فارس فواعدهم لشهر و كتب إلى أخيه عماد الدولة بالخبر فبعث إليه مددا من العسكر فعادوا و استولوا على الأهواز و سار يحكم من واسط فاستولى على بغداد و قلده الراضي إمارة الأمراء و هرب ابن رائق فاختفى ببغداد (4/571)
انتزاع وشمكير أصفهان من يد ركن الدولة و مسيره إلى واسط ثم استرجاعه أصفهان
قد ذكرنا أن وشمكير المستولي بعد أخيه مرداويج على الري كان عماد الدولة استولى على أصفهان و دفعها إلى أخيه ركن الدولة فبعث إليها وشمكير سنة سبع و عشرين و ثلثمائة جيشا كثيفا من الري فملكوها من يده و خطبوا فيها لوشمكير ثم سار وشمكير إلى قلعة ألموت فملكها و رجع فلحق ركن الدولة باصطخر و جاءه هنالك رسول أخيه معز الدولة من الأهواز بأن ابن البريدي أنفذ جيشا إلى السوس و قتل قائدها من الديلم و أن الوزير أبا جعفر الصيمري كان على خراجها محتصرا بقلعة السوس فسار ركن الدولة إلى السوس و هرب عساكر ابن البريدي بين يديه ثم سار إلى واسط ليستولي عليها لأنه قد خرج عن أصفهان و ليس له ملك يستقل به فنزل بالجانب الشرقي و سار الراضي و يحكم من بغداد لحربه فاضطرب أصحابه و استأمن جماعة منهم لابن البريدي فخام ركن الدولة عن اللقاء و رجع إلى الأهواز فسار إلى أصفهان و هزم عسكر وشمكير بها و ملكها و كان هو و أخوه عماد الدولة بعثا لابن محتاج صاحب خراسان يحرضانه على ماكان و وشمكير و اتصلت بينهم مودة (4/572)
مسير معز الدولة إلى واسط و البصرة
كان ابن البريدي بالبصرة و واسط قد صالح يحكم أمير الأمراء ببغداد و حرضه على المسير إلى الجبل ليرجعها من يد ركن الدولة بن بويه و يسير هو إلى الأهواز فيرتجعها من يد معز الدولة و استمد يحكم فأمده بخمسمائة رجل و سار إلى حلوان في انتظاره و أقام ابن البريدي يتربص به و ينتظر أن يبعد عن بغداد فيهجم هو عليها و علم يحكم بذلك فرجع إلى بغداد ثم سار إلى واسط فانتزعها من يد ابن البريدي و ذلك لسنة ثمان و عشرين و ثلثمائة و ولي الخلافة المتقي و كان ظل الدولة العباسية قد تقلص حتى قارب التلاشي و الاضمحلال و تحكم على الدولة بعد مولاه ابن رائق و ابن البريدي الذي كان يزاحمه في التغلب على الدولة فبعث عساكره من البصرة إلى واسط فسرح إليه يحكم العساكر مع مولاه توزون فهزمهم و جاء يحكم على أثره و لقيه خبر هزيمتهم فاستقام أمره و طفق يتصدق في تلك النواحي إلى أن عرض له بعض الأكراد ممن له عنده ثأر و هو منفرد عن عسكره فقتله و افترق أصحابه فلحق جماعة من الأتراك بالشام و مقدمهم توزون و ولى الباقون عليهم يكسك مولى يحكم و كان الديلم عند مقتله قد ولوا عليهم باسوار بن ملك بن مسافر بن سلار و سلار جده صاحب شميران الطرم الذي داخل مرداويج في قتل أسفار و ملك ابنه محمد بن مسافر بن سلار أذربيجان فكانت له و لولده بها دولة و وقعت الفتنة بين الديلم و الأتراك فقتله الأتراك و ولى الديلم مكانه كورتكين و لحقوا بابن البريدي فزحف بهم إلى بغداد ثم تنكروا و اتفقوا مع الأتراك على طرده فلحقوا بواسط و استفحل الديلم و غلبوا الأتراك و قتل كورتكين كثيرا من الديلم و استبد بإمرة الأمراء ببغداد ثم جاء توزون من الشام بابن رائق و هزم كورتكين الديلم و قتل أكثرهم و انفرد ابن رائق بإمرة الأمراء ببغداد سنة اثنتين و ثلثمائة و كان ابن البريدي في هذه الفترة بعد يحكم قد استولى على واسط فبعث إليه ابن رائق و استوزره ففعل على أن يقيم بمكانه و يستخلف ابن شيرزاد ببغداد ثم سار إليهم إلى واسط فهرب ابن رائق و المقتني إلى الموصل و تخلف عنهم توزون وعاث أصحاب ابن البريدي في بغداد فشكا له الناس و لما وصل المقتفى ولى ابن حمدان إمرة الأمراء بمكانه و قصدوا بغداد فهرب و خالفه توزون إلى المقتفي و ابن حمدان و ملكوا بغداد و سار سيف الدولة أمام ابن البريدي و خرج ناصر الدولة في اتباعه فنزل المدائن و انكشف سيف الدولة أمام ابن البريدي حتى انتهوا إلى أخيه ناصر الدولة بالمدائن فأمده و رجع فهزم ابن البريدي و غلبه على واسط فملكها و لحق ابن البريدي بالبصرة و أقام سيف الدولة بواسط ينتظر المدد ليسير إلى البصرة
و جاءه أبو عبد الله الكوفي بالأموال فشغب عليه الأتراك في طلب المال و ثاروا به و مقدمهم توزون فهرب إلى بغداد و هم في اتباعه و كان أخوه قد انصرف إلى بغداد ثم إلى الموصل فلحق به و دخل توزون بغداد و ولي الأمر بها ثم استوحش من المقتفي و تربص مسيره إلى واسط لقتال ابن البريدي و سار إلى الموصل سنة إحدى و ثلاثين و ثلثمائة و معز الدولة بن بويه في أثناء هذا كله مقيم بالأهواز مطل على بغداد و أعمال الخليفة يروم التغلب عليها و أخوه عماد الدولة بفارس و ركن الدولة بأصفهان و الري فلما سار المقتفي من الرقة إلى توزون خلعه و سمله و نصب المكتفي
وقد قدمنا هذه الأخبار كلها مستوعبة في أخبار الدولة العباسية و إنما أعدناها توطئة لاستيلاء بني بويه على بغداد و استبدادهم على الجلالقة ثم عاد معز الدولة إلى واسط سنة ثلاث و ثلاثين فسار توزون و المستكفي لدفاعه ففارقها و عاد إلى الأهواز (4/573)
استيلاء معز الدولة بن بويه على بغداد و اندراج أحكام الخلافة في سلطانه
ثم إن توزون في فاتح سنة أربع و ثلاثين عقد الأتراك الرياسة عليهم لابن شرزاد و ولاه المستكفي إمرة الأمراء في الأرزاق فضاقت الجبايات على العمال و الكتاب و التجار و امتدت الأيدي إلى أموال الرعايا و فشا الظلم و ظهرت اللصوص و كبسوا المنازل و أخذ الناس في الجلاء عن بغداد ثم استعمل ابن شيرزاد على واصل نيال كوشه و على تكريت الفتح اليشكري فانتقضا و سار الفتح لابن حمدان فولاه على تكريت من قبله و بدعوته و بعث نيال كوشه إلى معز الدولة و قام بدعوته و استدعاه لملك بغداد فزحف إليها في عساكر الديلم و لقيه ابن شيرزاد و الأكراد فهزمهم و لحقوا بالموصل و أخفي المستكفي و قدم معز الدولة كاتبه الحسن بن محمد المهلبي إلى بغداد فدخلها و ظهر الخليفة من الاختفاء و حضر عند المهلبي فبايع له عن معز الدولة أحمد بن بويه و عن أخويه عماد الدولة و ركن الدولة الحسن و ولاهم المستكفي على أعمالهم و لقبهم بهذه الألقاب و رسمها على سكته ثم جاء معز الدولة إلى بغداد فملكها و صرف الخليفة في حكمه و اختض باسم السلطان و بعث إليه أبو القاسم البريدي صاحب البصرة فضمن واسط و أعمالها و عقد له عليها (4/574)
خلع المستكفي و بيعة المطيع و ما حدث في الجباية و الاقطاع
و بعد أشهر قلائل من استيلاء معز الدولة على بغداد نمي إليه أن المستكفي يريد الادالة منه فتنكر له و أجلسه في يوم مشهود للقاء وافد من أصحاب خراسان و حضر معز الدولة في قومه و عشيرته و أمر رجلين من نقباء الديلم بالفتك بالخليفة فتقدما و وصلاه ليقبلا يد المستكفي ثم جذباه عن سريره و قاداه ماشيا و اعتقلاه بداره و ذلك في منتصف أربع و ثلاثين و ثلثمائة فاضطرب الناس و عظم النهب و نهبت دار الخلافة و بايع معز الدولة للفضل بن المقتدر و لقبه المطيع لله و أحضر المستكفي فأشهد على نفسه بالخلع و سلم على المطيع بالخلافة و سلب الخليفة من معاني
الأمر و النهي و صيرت الوزارة إلى معز الدولة يولى فيها من يرى و صار وزير الخليفة مقصور النظر على إقطاعه و مقتات داره و تسلم عمال معز الدولة و جنده من الديلم و غيرهم أعمال العراق و أراضيه ولاية و إقطاعا حتى كان الخليفة يتناول الإقطاع بمراسم معز الدولة و إنما ينفرد بالسرير و المنبر و السكة و الختم على الرسائل و الصكوك و الجلوس للوفد و إجلال التحية و الخطاب و مع ذلك بأوضاع القائم على الدولة و ترتيبه و كان القائم منهم على الدولة تفرد في دولة بني بويه و السلجوقية بلقب السلطان و لا يشاركه فيه غيره و معاني الملك من القدرة و الأبهة و العز و تصريف الأمر و النهي حاصل للسلطان دون الخليفة و كانت الخلافة حاصلة للعباسي المنصوب لفظا مسلوبة عنه معنى ثم طلب الجند أرزاقهم بأكثر من العادة لتجدد الدولة فاضطر إلى ضرب المكوس و مد الأيدي إلى أموال الناس و أقطعت جميع القرى و الضياع للجند فارتفعت أيدي العمال و بطلت الدواوين لأن ما كان منها بأيدي الرؤساء لا يقدرون على النظر فيها و ما كان بأيدي الأتباع خرب بالظلم و المصادرات و الحيف في الجباية و إهمال النظر في إصلاح القناطر و تعديل المشارب و ما خرب منها عوض صاحبه عنه بآخر فيخربه كما يخرب الآخر ثم إن معز الدولة أفرد جمعها من المكوس و الظلامات و عجز السلطان عن ذخيرة يعدها لنوائبه ثم استكثر من الموالي ليعتز بهم على قومه و فرض لهم الأرزاق و الأقطاع فحدثت غيرة قومه من ذلك و آل الأمر إلى المنافرة كما هو الشأن في الدول (4/575)
مسير ابن حمدان إلى بغداد و انهزامه أمام معز الدولة
و لما بلغ استيلاء معز الدولة على بغداد و خلعه المستكفي إلى ناصر الدولة بن حمدان امتعض لذلك و سار من الموصل إلى بغداد في شعبان سنة أربع و ثلاثين و ثلثمائة فقدم معز الدولة عساكره فأوقع بها ابن حمدان بعكبرا ثم سار معز الدولة و معه المطيع إلى مدافعته و لحق به ابن شيرزاد فاستحثه إلى بغداد سنة أربع و ثلاثين و ثلثمائة و خالفه معز الدولة إلى تكريت و نهبها و تسابقوا جميعا إلى بغداد فنزل معز الدولة و المطيع بالجانب الشرقي و ابن حمدان بالجانب الغربي فقطع الميرة عن معسكر معز الدولة فغلت الأسعار و عزت الأقوات و نهب عسكره مرارا فضاق به الأمر و اعتزم على العود إلى الاهواز فأمر وزيره أبا جعفر الصيمري بالعبور في العساكر لقتال ابن حمدان فظفر به الصيمري و غنم الديلم أموالهم و ظهرهم ثم أمن معز الدولة الناس و أعاد المطيع إلى داره في محرم سنة خمس و ثلاثين و ثلثمائة و رجع ابن حمدان إلى عكبرا و أرسل في الصلح سرا فنكر عليه الأتراك التورونية و هموا بقتله وفر إلى الموصل و معه ابن شيرزاد ثم صالحه معز الدولة كما طلب و لما فر عن الأتراك التورونية أعلمهم تكين الشيرازي فقبضوا على من تخلف من أصحابه و ساروا في اتباعه وقبض هو في طريقه على ابن شيرزاد و تجاوز الموصل إلى نصيبين فملكها تكين و سار في اتباعه إلى السند فلحقه هنالك عسكر من معز الدولة كما طلب و أمده به مع وزيره أبي جعفر الصيمري و قاتل الأتراك فهزمهم و سار إلى الموصل هو و الصيمري فدفع ابن شيرزاد إلى الصيمري و حمله إلى معز الدولة و ذلك سنة خمس و ثلاثين و ثلثمائة (4/576)
استيلاء معز الدولة على البصرة و الموصل و صلحه مع ابن حمدان
و في سنة خمس وثلاثين و ثلثمائة انتقض أبو القاسم بن البريدي بالبصرة فجهز معز الدولة الجيش إلى واسط و لقيهم جيش ابن البريدي في الماء و على الظهر فانهزموا إلى البصرة و أسروا من أعيانهم جماعة ثم سار معز الدولة سنة ست و ثلاثين و ثلثمائة إلى البصرة و معه المطيع كارها من قتال أبي القاسم البريدي و سلكوا إليها البرية و بعث القرامطة يعزلون في ذلك معز الدولة فكتب يتهددهم و لما قارب البصرة استأمنت إليه عساكر أبي القاسم و هرب هو إلى القرامطة فأجاروه و ملك معز الدولة البصرة ثم سار هو منها إلى الأهواز ليلقى أخاه عماد الدولة و ترك المطيع و أبا جعفر الصيمري بالبصرة و انتقض على معز الدولة كوكير من أكابر الديلم فقاتله الصيمري و هزمه و أسره و حبسه معز الدولة بقلعة رامهرمز ثم لقي أخاه معز الدولة بأرجان في شعبان من السنة و سلك في تعظيمه و إجلاله من وراء الغاية و كان عماد الدولة يأمره بالجلوس في مجلسه فلا يفعل ثم عاد معز الدولة و المطيع إلى بغداد و نودي بالمسير إلى الموصل فترددت الرسل من ابن حمدان في الصلح و حمل المال ثم سار إليه سنة سبع و ثلاثين و ثلثمائة في شهر رمضان و استولى على الموصل و أراد الإثخان في بلاد ابن حمدان فجاءه الخبر عن أخيه ركن الدولة بأن عساكر خراسان قصدت جرجان و اضطر إلى الصلح و استقر الصلح بينهما على أن يعطي ابن حمدان عن الموصل و الجزيرة و الشام ثمانية آلاف ألف درهم كل سنة و يخطب لعماد الدولة و معز الدولة في بلاده و عاد إلى بغداد (4/577)
استيلاء ركن الدولة على الري ثم طبرستان و جرجان و مسير عساكر ابن سامان إليها
قد تقدم لنا استيلاء ركن الدولة على أصفهان من يد و شمكير حين بعث عساكره مددا لما كان بن كالي و كان ركن الدولة و أخوه عماد الدولة بعثا إلى أبي علي بن محتاج قائد بني سامان يحرضانه على ماكان و وشمكير و يعدانه المظاهرة عليهما فسار أبو علي إلى وشمكير بالري و لقيه ركن الدولة بنفسه و استمد وشمكير ما كان فجاءه في عساكره و التقوا فانهزم وشمكير و لحق بطبرستان ثم سار بعساكره إلى بلد الجيل فاقتحمها و استولى على زنجان و أبهر و قزوين و قم و كرج و همدان و نهاوند و الدينور إلى حدود حلوان و رتب فيها العمال و جبى أموالها ثم وقع خلاف بين وشمكير و الحسن بن الفيرزان ابن عم ماكان و استنجد الحسن بأبي علي بن محتاج فأنجده حتى وقع بينهما صلح و عاد أبو علي إلى خراسان و صحبه الحسن بن الفيرزان و لقيه في طريقه رسل السعيد بن سامان و أمر أبا علي بن محتاج سنة ثلاث و ثلاثين و ثلثمائة بغدر الحسن بأبي علي و نهب سواده و عاد إلى جرجان فملكها و ملك معها الدامغان و سمنان و سار وشمكير من طبرستان إلى الري فاستولى عليها أجمع و كان في فل من العسكر لفناء رجاله في حروبه مع أبي علي بن محتاج و الحسن بن الفيرزان فتطاول حينئذ ركن الدولة إلى الاستيلاء على الري و سار إلى الري و قاتل وشمكير فهزمه فلحق بطبرستان و استولى ركن الدولة على الري و أجمع مخالصة الحسن بن الفيرزان و زوجه ابنته و تمسك بمواصلته و مودته و استفحل بذلك ملك بني بويه و امتنع و صارت لهم أعمال الري و الجيل و فارس و الأهواز و العراق و يحمل إليهم ضمان الموصل و ديار بكر ثم سار ركن الدولة بن بويه إلى بلاد وشمكير سنة ست و ثلاثين و ثلثمائة و معه الحسن بن الفيرزان مددا و لقيهما وشمكير فانهزم أمامهما و لحق بخراسان مستنجدا بابن سامان و ملك ركن الدولة طبرستان و سار منها إلى جرجان فأطاعه الحسن بن الفيرزان و ولاه ركن الدولة عليها و استأمن إليه قواد وشمكير و رجع إلى أصفهان (4/578)
بداية بني شاهين ملوك البطيحة أيام بني بويه
كان عمران بن شاهين من أهل الجامدة و كان يتصرف في الجباية و حصل منها بيده مال فصرفه و هرب إلى البطيحة ممتنعا من الدولة و أقام هنالك بين القصب و الآجام يقتات بسمك الماء و طيره و يأخذ الرفاق التي تمر به و اجتمع إليه لصوص الصيادين فقوي و امتنع على السلطان و تمسك بطاعة أبي القاسم بن البريدي بالبصرة فقلده حماية الجامدة و حماية البطائح و نواحيها فعز جانبه و كثر جمعه و سلاحه و اتخذ معاقل على التلال بالبطيحة و غلب على تلك النواحي و أهم معز الدولة أمره و بعث وزيره أبا جعفر الصيمري في العساكر سنة ثمان و ثلاثين و ثلثمائة و حصره و أيقن بالهلاك و ما نفس عن مخنقه إلا وصول الخبر بوفاة عماد الدولة بن بويه و مبادرة الوزير الصيمري إلى شيراز فعاد عمران إلى حاله و قوي أمره كما يأتي في أخبار دولته (4/579)
وفاة عماد الدولة بن بويه و ولاية عضد الدولة ابن أخيه على بلاد فارس مكانه
ثم توفي عماد الدولة أبو الحسن علي بن بويه بمدينة شيراز كرسي مملكة فارس في منتصف سنة ثلاث و ثلاثين و ثلثمائة بعد أن كان طلب من أخيه ركن الدولة أن ينفذ إليه ابنه عضد الدولة فتأخر ليوليه عهده إذ لم يكن له ولد ذكر فأنفذه إليه ركن الدولة في جماعة من أصحابه لسنة بقيت من حياته و ركب عماد الدولة للقائه و دخل به إلى داره في يوم مشهود و أجلسه على السرير و أمر الناس أن يحيوه بتحية الملك و كان في قواد عماد الدولة جماعة أكابر لا يستكينون لعماد الدولة فضلا عن عضد الدولة مكانه بفارس و اختلف عليه أصحابه فجاء إليه ركن الدولة أبوه من الري بعد أن استخلف عليها علي بن كتامة و كتب معز الدولة إلى وزيره الصيمري بأن يترك محاربة ابن شاهين و يسير إلى شيراز مددا لعضد الدولة و أقام ركن الدولة في شيراز تسعة أشهر و بعث إلى أخيه معز الدولة بهدية من الأموال و السلاح و كان عماد الدولة هو أمير الأمراء و إنما كان معز الدولة نائبا عنه في كفالة الأموال و ولاية أعمال العراق فلما مات عماد الدولة و انقلبت إمرة الأمراء إلى ركن الدولة و بقي معز الدولة نائبا عنه كما كان عن عماد الدولة لأنه كان أصغر منهما (4/579)
وفاة الصيمري و وزارة المهلبي
كان أبو جعفر أحمد الصيمري وزير معز الدولة قد عاد من فارس إلى أعمال الجامدة و أقام يحاصر عمران بن شاهين إلى أن هلك منتصف تسع و ثلاثين و ثلثمائة و كان يستخلف بحضرة معز الدولة في وزارته أبا محمد الحسن بن محمد المهلبي فباشره معز الدولة و عرف كفايته و اضطلاعه فاستوزره مكان الصيمري فحسن أثره في جمع الأموال و كشف الظلامات و تقريب أهل العلم و الأدب و الإحسان إليهم (4/580)
مسير عساكر ابن سامان إلى الري و رجوعها
لما سار ركن الدولة إلى بلاد فارس بعث الأمير نوح بن سامان إلى منصور بن قراتكين صاحب جيوشه بخراسان أن يسير إلى الري فسار إليها سنة تسع و ثلاثين و ثلثمائة و كان بها علي بن كتامة خليفة ركن الدولة ففارقها إلى أصفهان و ملك منصور الري و بث العساكر في البلاد فملكوا الجيل إلى قرميس و استولوا على همذان و بعث ركن الدولة من فارس إلى أخيه معز الدولة بإنفاذ العساكر إلى مدافعتهم فبعث سبكتكين الحاجب في جيش كثيف من الديلم و غيرهم فكبسهم و أسر مقدمهم فأعادوا إلى همذان ثم سار إليهم ففارقوها و ملكها و ورد عليه ركن الدولة بهمذان فعدل منصور بن قراتكين إلى أصفهان فملكها و سار إليها ركن الدولة و سبكتكبن في مقدمته و شغب عليه بعض الأتراك فأوقع بهم و ترددوا في تلك الناحية و كتب معز الدولة إلى ابن أبي الشوك الكردي يتبعهم فقتل منهم و أسر و نجا بعض إلى الموصل و ترك ركن الدولة قريبا من أصفهان و جرت بينه و بين منصور حروب و ضاقت الميرة على الفريقين إلا أن الديلم كانوا أصبر على الجوع و شظف العيش من أهل خراسان لقرب عهدهم بالبداوة و مع ذلك فهم ركن الدولة بالفرار لولا وزيره ابن العميد كان يثبته ويريه أنه لا يغني عنه و أن الاستماتة أولى به فصبر و شغب على منصور بن قراتكين جنده و انفضوا جميعا إلى الري و تركوا مخلفهم بأصفهان فاحتوى عليه ركن الدولة و ذلك فاتح سنة أربعين و ثلثمائة و مات منصور بن قراتكين بالري في ربيع الأول من السنة و رجعت العساكر إلى نيسابور (4/580)
استيلاء ركن الدولة ثانيا على طبرستان و جرجان
قد كنا قدمنا استيلاء ركن الدولة على طبرستان و جرجان سنة ست و ثلاثين و ثلثمائة و أنه استخلف على جرجان الحسن بن الفيرزان و سار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بابن سامان فسار معه صاحب جيوش خراسان منصور بن قراتكين و حاصر جرجان فصالحه الحسن بن الفيرزان بغير رضا من وشمكير لانحرافه عنه و عن الأمير نوح و رجع إلى نيسابور و أقام وشمكير بجرجان و الحسن بزوزن ثم سار ركن الدولة سنة أربعين و ثلثمائة من الري إلى طبرستان و جرجان ففارقها وشمكير إلى نيسابور و استولى ركن الدولة عليها و استخلف بجرجان الحسن بن الفيرزان و علي بن كتامة و عاد إلى الري فقصدهما وشمكير و انهزما منه و استرد البلاد من ركن الدولة و كتب الأمير نوح يستنجده على ركن الدولة فأمر أبا علي بن محتاج بالمسير معه في جيوش خراسان فسار في ربيع سنة اثنتين و أربعين و ثلثمائة و امتنع ركن الدولة ببعض معاقله و حاربه أبو علي بن محتاج في جيوش خراسان حتى ضجرت عساكره و أظلهم فصل الشتاء فراسل ركن الدولة في الصلح على أن يعطيهم ركن الدولة مائتي ألف دينار في كل سنة و عاد إلى خراسان وكتب وشمكير إلى الأمير نوح بأن ابن محتاج لم ينصح في أمر ركن الدولة و أنه ممالئ فسخطه من أجل ذلك و عزله عن خراسان و لما عاد ابن محتاج عن ركن الدولة سار هو إلى وشمكير فانهزم وشمكير إلى أسفرا ين و استولى ركن الدولة على طبرستان (4/581)
إقامة الدعوة لبني بويه بخراسان
و لما عزل الأمير نوح أبا علي بن محتاج عن خراسان استعمل مكانه أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني فانتقض حينئذ و خطب لنفسه بنيسابور و تحيز عنه ابن الفيرزان مع وشمكير إلى الأمير نوح فخام ابن محتاج عن عداوتهم و استأذن ركن الدولة في المسير إليه ثم سار سنة ثلاث و أربعين و ثلثمائة فتلقاه بأنواع الكرامات و سأل منه ابن محتاج أن يقتضي له عهد الخليفة بولاية خراسان فبعث ركن الدولة في ذلك إلى أخيه معز الدولة ببغداد و جاءه العهد و المدد فسار إلى خراسان فخطب بها للخليفة و ركن الدولة ثم مات نوح خلال ذلك و ولي ابنه عبد الملك فبعث بكر بن مالك من بخارى إلى خراسان لإخراج ابن محتاج منها فسار إليه و هرب ابن محتاج إلى الري فآواه ركن الدولة و أقام عنده و استولى بكر بن مالك على خراسان ثم سار ركن الدولة إلى جرجان و معه ابن محتاج فتركها و ملكها و لحق وشمكير بخراسان (4/582)
مسير عساكر ابن سامان إلى الري و أصفهان
و لما فرغ بكر بن مالك من أمر خراسان و أخرج منها ابن محتاج سار منها سنة أربع وأربعين و ثلثمائة في أتباعه إلى الري و أصفهان و كان ركن الدولة غائبا بجرجان فملكها و رجع إلى الري في المحرم من السنة وكتب إلى أخيه معز الدولة يستمده فأمده بالعساكر مع ابن سبكتكين و جاء مقدمة العساكر من خراسان إلى أصفهان من طريق المفازة و بها الأمير منصور بن بويه بن ركن الدولة و مقدم العساكر محمد بن ماكان فملك أصفهان و خرج في طلب ابن بويه و اتفق وصول الوزير أبي الفضل بن العميد فلقيه محمد بن ماكان فهزمه و عاد أولاد ركن الدولة و حرمه إلى أصفهان و راسل ركن الدولة بكر بن مالك صاحب العساكر بخراسان في الصلح على مال يحمله إليه و تكون الري و بلد الجيل في ضمانه فأجابه بكر بن مالك إلى ذلك و صالحه عليه وكتب ركن الدولة إلى أخيه معز الدولة بأن يبعث إلى بكر بن مالك خلعا و لواء لولاية خراسان فبعث بها في ذي القعدة من السنة (4/582)
خروج روزبهان على معز الدولة و ميل الديلم إليه
كان روزبهان و نداد خرسية من كبار قواد الديلم و كان معز الدولة قد رفعه و نوه بذكره فخرج سنة خمس و أربعين بالأهواز و معه أخوه أسفار و خرج أخوه بلكابشيراز و لما خرج روزبهان زحف إليه الوزير المهلبي لقتاله فنزع الكثير من أصحابه إلى روزبهان فانحاز عنه و بعث بالخبر إلى معز الدولة فسار إليهم و اختلف عليه الديلم و مالوا مع روزبهان و فصل معز الدولة من بغداد خامس شعبان من السنة قاصدا لحربه و بلغ الخبر إلى ناصر الدولة بن حمدان فبعث ابنه أبا الرجال في العساكر للاستيلاء على بغداد فخرج الخليفة عنها منحدرا و أعاد معز الدولة سبكتكين الحاجب و غيره لمدافعة ابن حمدان عن بغداد و سار إلى أن قارب الأهواز و الديلم في شغب عليه و على عزم اللحاق بروزبهان إلا نفرا يسيرا من الديلم كانوا خالصة فكان يعتمد عليهم و على الأتراك و كان يفيض العطاء في الديلم فيمسكون عما يهمون به ثم ناجز روزبهان الحرب سلخ رمضان فانهزم و أخذ أسيرا و عاد إلى بغداد إلى أبي الرجال بن حمدان و كان بعكبرا فلم يجده لأنه بلغه خبر روزبهان فأسرع العود إلى الموصل و دخل معز الدولة بغداد و غرق روزبهان و كان أخوه بلكا الخارج بشيراز أزعج عنها عضد الدولة و سار إليه أبو الفضل بن العميد و قاتله فظفر به و عاد عضد الدولة إلى ملكه و انمحى أثر روزبهان و إخوته و قبض معز الدولة على جماعة منهم ممن ارتاب بهم و اصطنع الأتراك و قدمهم و أقطع لهم فاعتزوا و امتدت أيديهم (4/583)
استيلاء معز الدولة على الموصل ثم عودها
كان ناصر الدولة بن حمدان قد صالح معز الدولة على ألفي ألف درهم كل سنة ثم لم يحمل فسار إليه معز الدولة سبع و أربعين و ثلثمائة ففارق الموصل إلى نصيبين و حمل معه سائر أهل دولته من الوكلاء و الكتاب و من يعرف وجوه المال و أنزلهم في قلاعه كقلعة كواشي و الزعفران و غيرهما و قطع الميرة عن عسكر معز الدولة فضاقت عليهم الأقوات فسار معز الدولة إلى نصيبين للميرة و بلغه أن أبا الرجاء و هبة الله في عسكر سنجار فبعث إليهم بعض عساكره و كبسوهم فهربوا و استولى العسكر على مخلفهم و نزلوا في خيامهم و كر عليهم أولاد ناصر الدولة و هم غارون فأثخنوا فيهم و أقاموا بسنجار و سار معز الدولة إلى نصيبين فلحق ناصر الدولة بميافارقين و استأمن الكثير من أصحابه إلى معز الدولة فلحق بأخيه سيف الدولة بحلب فبالغ في تكرمته و خدمته و توسط في الصلح بينه و بين معز الدولة بثلاثة آلاف ألف فأجابه معز الدولة و تم ذلك بينهما و رجع معز الدولة العراق في محرم سنة ثمان و أربعين و ثلثمائة (4/584)
العهد لبختيار
و في سنة خمس و أربعين و ثلثمائة طرق معز الدولة مرض استكان له و خشي على نفسه فأراد العهد لابنه بختيار و عهد إليه بالأمر و سلم له الأموال و كان بين الحاجب سبكتكين و الوزير المهلبي منافرة فأصلح بينهما و وصاهما بابنه بختيار و عهد إليه بالأمور و اعتزم على العود إلى الأهواز مستوحشا هواء بغداد فلما بلغ كلواذا اجتمع به أصحابه و سفهوا رأيه في الانتقال من بغداد على ملكه و أشاروا عليه بالعود إليها و أن يستطيب الهواء في بعض جوانبها المرتفعة و يبني بها دورا لسكنه ففعل و أنفق فيها ألف ألف دينار و صادر فيها جماعة من أصحابه (4/585)
استيلاء ركن الدولة على طبرستان و جرجان
و في سنة إحدى و خمسين و ثلثمائة سار ركن الدولة إلى طبرستان و بها وشمكير فحاصره بمدينة سارية و ملكها و لحق وشمكير بجرجان و ترك طبرستان فلكها ركن الدولة و أصلح أمرها ثم سار إلى جرجان فخرج عنها وشمكير و استولى عليها ركن الدولة و استأمن إليه من عسكر وشمكير ثلاثة آلاف رجل فازداد بهم قوة و دخل وشمكير بلاد الجيل مسلوبا واهنا (4/585)
ظهور البدعة ببغداد
و في هذه السنة كتب الشيعة على المساجد بأمر معز الدولة لعن معاوية بن أبي سفيان صريحا و لعن من غصب فاطمة فدك و من منع أن يدفن الحسن عند جده و من نفى أبا ذر الغفاري و من أخرج العباس من الشورى و نسب ذلك كله لمعز الدولة لعجز الخليفة ثم أصبح ممحوا و أراد معز الدولة إعادته فأشار عليه الوزير المهلبي بأن يكتب مكانه لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا يذكر أحدا باللعن إلا معاوية رضي الله عنه (4/585)
وفاة الوزير المهلبي
و في ستة اثنتين و خمسين سار المهلبي وزير معز الدولة إلى عمان ليفتحها فلما ركب البحر طرقه المرض فعاد إلى بغداد و مات في طريقه في شعبان من السنة و دفن ببغداد و قبض معز الدولة أمواله و ذخائره و قبض على حواشيه و حبسهم و نظر في الأمور بعده أبو الفضل بن العباس بن الحسن الشيرازي و أبو الفرج محمد بن العباس بن نساقجر و لم يتسموا باسم الوزارة (4/586)
استيلاء معز الدولة ثالثا على الموصل
كان ناصر الدولة بن حمدان قد ضمن الموصل كما تقدم و أجابه معز الدولة إلى ضمانه فبذل له ناصر الدولة زيادة على أن يدخل معه في الضمان أبو ثعلب فضل الله الغضنفر و يحلف لهما معز الدولة فأبى من ذلك و سار إلى الموصل منتصف ثلاث و خمسين و ثلثمائة ففارقها ابن حمدان إلى نصيبين و ملكها معز الدولة ثم خرج إلى طلب ابن حمدان منتصف شعبان و استخلف على الموصل بكتورون و سبكتكين العجمي و سار ابن حمدان عن نصيبين و ملكها معز الدولة و خالفه ابن حمدان إلى الموصل و حارب عسكر معز الدولة فيها فهزموه و جاء الخبر إلى معز الدولة فظفر أصحابه بابن حمدان و سار و نزل جزيرة ابن عمر فسار في اتباعه فوصل سادس رمضان فوجده قد جمع أولاده و عساكره إلى الموصل فأوقع بأصحاب معز الدولة و أسر الأميرين اللذين خلفا بها و استولى على ما خلفوه من مال و سلاح و حمل الجميع مع الأسرى إلى قلعة كواشى فأعيا معز الدولة أمره و هو من مكان إلى مكان في اتباعه فأجابه إلى الصلح و عقد عليه ضمان الموصل و ديار ربيعة و الرحبة بمال قرره فاستقر الصلح على ذلك و أطلق ابن حمدان الأسرى و رجع معز الدولة إلى بغداد (4/586)
استيلاء معز الدولة على عمان
قد تقدم لنا أن عمان كانت ليوسف بن وجيه و أنه حارب بني البريدي بالبصرة حتى قارب أخذها حتى عملوا الحيلة في إضرام النار في سفنه فولى هاربا في محرم سنة اثنتين و ثلاثين و ثلثمائة و أنه ثار عليه مولاه في هذه السنة فغلبه على البلد و ملكها من يده و لما استوحش معز الدولة من القرامطة كتب إليهم ابن وجيه صاحب عمان يطمعهم في البصرة و استمدهم في البر و سار هو في البحر سنة إحدى و أربعين و سابقه الوزير المهلبي من الأهواز إليها و أمده معز الدولة بالعساكر و المال فاقتتلوا أياما ثم ظفر المهلبي بمراكبه و ما فيها من سلاح و عدة و لم يزل القرامطة يثاورونها حتى غلبوا عليها سنة أربع و خمسين و ثلثمائة و استولوا عليها و هرب رافع عنها و كان له كاتب يعرف بعلي بن أحمد ينظر في أمور البلد و القرامطة بمكانهم من هجر فاتفق قاضي البلد و كان ذا مشير و عصابة على أن ينصبوا للنظر في أمورهم أحد قوادهم فقدموا لذلك ابن طغان ففتك بجميع القواد الذين معه و ثأر منه بعض قرابتهم فقتلوه فاجتمع الناس على تقديم عبد الوهاب بن أحمد بن مروان من قرابة القاضي مكانه فولوه و استكتب علي بن أحمد كاتب القرامطة قبله من الجند فامتعضوا لذلك فدعاهم إلى بيعته فأجابوه و سواهم في العطاء مع البيض فسخط البيض ذلك و دارت بهم حرب سكنوا آخرها و اتفقوا و أخرجوا عبد الوهاب من البلد و استقر علي بن أحمد الكاتب أميرا فيها ثم سار معز الدولة إلى واسط سنة خمس و خمسين و ثلثمائة و قدم إليه نافع مولى ابن أخيه الذي كان ملكها بعد مولاه فأحسن إليه و أقام عنده حتى فرغ من أمر عمران بن شاهين و انحدر إلى الأبلة في رمضان من السنة و جهز المراكب إلى عمان مائة قطعة و بعث فيها الجيوش بنظر أبي الفتوح محمد بن العباس و تقدم إلى عضد الدولة بفارس أن يمدهم بالعساكر من عنده فوافاهم المدد بسيراف و ساروا إلى عمان فملكوها يوم الجمعة يوم عرفة من السنة و فتكوا فيها بالقتل و أحرقوا لهم تسعين مركبا و خطب لمعز الدولة و صارت من أعماله (4/587)
وفاة معز الدولة و ولاية ابنه بختيار
كان معز الدولة قد سار سنة خمس و خمسين و ثلثمائة إلى واسط لمحاربة عمران بن شاهين فطرقه المرض سنة ست و خمسين و ثلثمائة فسار إلى بغداد و خلف أصحابه بواسط على أن يعود إليهم فاشتد مرضه ببغداد و جدد العهد لابنه بختيار ثم مات منتصف ربيع الآخر من السنة فقام ابنه عز الدولة بختيار مكانه و كتب إلى العساكر بمصالحة عمران بن شاهين ففعلوا و عادوا و كان فيما أوصى به معز الدولة ابنه بختيار طاعة عمه ركن الدولة و الوقوف عند إشارته و ابن عمه عضد الدولة لعلو سنه عليه و تقدمه في معرفة السياسة و أن يحفظ كاتبيه أبا الفضل العباس بن الحسن و أبا الفرج بن العباس و الحاجب سبكتكين فخالف جميع وصاياه و عكف على اللهو و عشرة النساء و المغنين و الصفاعين فأوحش الكاتبين و الحاجب فانقطع الحاجب عن حضور داره ثم طرد كبار الديلم عن مملكته طمعا في أقطاعاتهم فشغب عليه الصغار و اقتدى بهم الأتراك في ذلك و طلبوا الزيادات و ركب الديلم إلى الصحراء و طلبوا إعادة من أسقط من كبارهم و لم يجد بدا من إجازتهم لانحراف سبكتكين عنه فاضطربت أموره و كان الكاتب أبو الفرج العباس في عمان منذ ملكها فلما بلغه موت معز الدولة خشي أن ينفرد عنه صاحبه أبو الفضل العباس بن الحسين بالدولة فسلم عمان لعضد الدولة و بادر إلى بغداد فوجد أبا الفضل قد انفرد بالوزارة و لم يحصل على شيء (4/588)
مسير عساكر ابن سامان إلى الري و مهلك وشمكير
كان أبو علي بن الياس قد سار من كرمان إلى بخارى مستنجدا بالأمير منصور بن نوح بن سامان فتلقاه بالتكرمة فأغراه ابن الياس بممالك بني بويه و أشار له قواده في أمرهم فصدق ذلك عندما كان يذكر وشمكير عنهم و تقدم إلى وشمكير و الحسن بن الفيرزان بالمسير مع عساكره إلى الري ثم جهز العساكر مع صاحب خراسان أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور الدواني و أمره بطاعة وشمكير و قبول إشارته فسار لذلك سنة ست و خمسين و ثلثمائة و أنزل ركن الدولة أهله بأصفهان و كتب إلى ابنه عضد الدولة بفارس و إلى ابن أخيه عز الدين بختيار ببغداد يستنجدهما فأنفذ عضد الدولة العساكر على طريق خراسان ليخالفهم إليها فأحجموا و توقفوا و ساروا إلى الدامغان و قصدهم ركن الدولة في عساكره من الري و بينما هم كذلك هلك وشمكير استعرض خيلا و اختار منها واحدا وركب للصيد و اعترضه خنزير فرماه بحربة و حمل الخنزير عليه فضرب الفرس فسقط إلى الأرض و سقط وشمكير ميتا و انتقض جميع ما كانوا فيه و رجعوا إلى خراسان (4/589)
استيلاء عضد الدولة على كرمان
كان أبو علي بن الياس قد ملك كرمان بدعوة من بني سامان و استبد بها كما مر في أخبارهم ثم أصابه فالج و أزمن به و عهد إلى ابنه أليسع ثم لالياس من بعده و أمرهما بإجلاء أخيهما سلمان إلى أرضهم ببلاد الروم يقيم لهم ما هنالك من الأموال لعداوة كانت بين سليمان و أليسع فلم يرض سليمان ذلك و خرج فوثب على السيرجان فملكها فسار إليه أخوه أليسع فحبسه و هرب من محبسه و اجتمع إليه العسكر و أطاعوه و مالوا إليه مع أبيه ثم إن أبا علي هم أن يلحق بخراسان فلحق ثم سار إلى الأمير أبي الحرث ببخارى و أغراه بالري كما مر و توفي سنة ست و خمسين و ثلثمائة وصفت كرمان لأليسع و كان عضد الدولة مزاحما لأليسع في بعض حدود عمله مدلا بجهل الشباب فاستحكمت القطيعة بينهما و هرب بعض أصحاب عضد الدولة إليه فزحف إليه و استأمن إليه أصحابه و بقي في قل من أصحابه فاحتمل أهله و أمواله و لحق ببخارى و سار عضد الدولة إلى كرمان فملكها و أقطعها ولده أبا الفوارس الذي ملك العراق بعد و لقب شرف الدولة و استخلف عليها كورتكين بن خشتان و عاد إلى فارس و بعث إليه صاحب سجستان الطاعة و خطب له و لما وصل أليسع إلى بخارى أنذر بني سامان على تقاعدهم عن نصره فوثبوا عليه فنفوه إلى خوارزم و كان قد خلف أثقاله بنواحي خراسان فاستولى عليها أبو علي بن سيجور و أصاب أليسع رمد اشتد به بخوارزم فضجر منه و قطع عرقه بيده و كان ذلك سبب هلاكه و لم يعد لبني إلياس بكرمان بعده ملك (4/589)
مسير ابن العميد إلى حسنويه و وفاته
كان حسنويه بن الحسن الكردي من رجالات الكرد و استولى على نواحي الدينور و استفحل أمره و كان يأخذ الخفارة من القفول التي تمر به و يخيف السابلة إلا أنه كان فئة للديلم على عساكر خراسان متى قصدتهم و كان ركن الدولة يرعى له ذلك و يغض عن إساءته ثم وقعت بينه و بين سلار بن مسافر بن سلار فتنة و حرب فهزمه حسنويه و حصره و أصحابه من الديلم في مكان ثم جمع الشوك و طرحه بقربهم وأضرمه نارا حتى نزلوا على حكمه فأخذهم و قتل كثيرا منهم فلحقت ركن الدولة النفرة لعصبية الديلم و أمر وزيره أبا الفضل بن العميد بالمسير إليه فسار في محرم سنة تسع و خمسين و ثلثمائة و قعد ابنه أبو الفتح و كان شابا مليحا قد أبطره العز و الدالة على أبيه و كان يتعرض كثيرا لما يغضبه و كانت بأبي الفضل علة النقرس فتزايدت عليه و أفحشت عليه و لما و صل إلى همذان توفي بها لأربع و عشرين سنة من وزارته و أقام ابنه أبا الفتح مقامه و صالح حسنويه على مال أخذه منه و عاد إلى الري إلى مكانه من خدمة ركن الدولة و كان أبو الفضل بن العميد كاتبا بليغا و عالما في عدة فنون مجيدا فيها و مطلعا على علوم الأوائل و قائما بسياسة الملك مع حسن الخلق و لين العشرة و الشجاعة المعروفة بتدبير الحروب و منه تعلم عضد الدولة السياسية و به تأدب (4/590)
انتقاض كرمان على عضد الدولة
و لما ملك عضد الدولة كرمان كما قلناه اجتمع القفص و البلوص و فيهم أبو سعيد و أولاده و اتفقوا على الانتقاض و الخلاف و استمد عضد الدولة كورتكين بن حسان بعابد بن علي فسارا في العساكر إلى جيرفت و حاربوا أولئك الخوارج فهزموهم و أثخنوا فيهم و قتلوا من شجعانهم و فيهم ابن لأبي سعيد ثم سار عابد بن علي في طلبهم و أوقع بهم عدة وقائع و أثخن فيهم و انتهى إلى هرمز فملكها و استولى على بلاد التيزومكران و أسر منهم ألف أسيرا حتى استقاموا على الطاعة و إقامة حدود الإسلام ثم سار عائدا إلى طائفة أخرى يعرفون بالحرومية و الجاسكية يخيفون السبيل برا و بحرا و كانت قد تقدمت لهم إعانة سليمان بن أبي علي بن إلياس فلما أوقع بهم أثخن فيهم حتى استقاموا على الطاعة و صلحت تلك البلاد مدة ثم عاد البلوص إلى ما كانوا عليه من إخافة السبيل بها فسار عضد الدولة إلى كرمان في القعدة اثنتين و انتهى إلى السيرجان و سرح عابد بن علي في العساكر لاتباعهم فأوغلوا في الهرب و دخلوا إلى مضايق يحسبونها تمنعهم فلما زاحمتهم العساكر كربها آخر ربيع الأول من سنة إحدى و ستين و ثلثمائة صابروا يوما ثم انهزموا آخره فقتلت مقاتلتهم وسبيت ذراريهم و نساؤهم و لم ينج منهم إلا القليل ثم استأمنوا فأمنوا و نقلوا من تلك الجبال و أنزل عضد الدولة في تلك البلاد أكرة و فلاحين ثم شملوا الأرض بالعمل و تتبع العابد أثر تلك الطوائف حتى بدد شملهم و محا ما كان من الفساد منهم (4/591)
عزل أبي الفضل و وزارة ابن بقية
كان أبو الفضل العباس بن الحسين وزيرا لمعز الدولة و لابنه بختيار من بعده و كان سيء التصرف و أحرق في بعض أيامه الكرخ ببغداد فاحترق فيه عشرون ألف انسان و ثلثمائة دكان و ثلاثة و ثلاثون مسجدا و من الأموال ما لا يحصى و كان الكرخ معروفا بسكنى الشيعة و كان هو يزعم أنه يتعصب لأهل السنة و كان كثير الظلم للرعية غصابا للأموال مفرطا في أمر دينه و كان محمد بن بقية وضيعا في نفسه من الفلاحين في أوانا من ضياع بغداد و اتصل ببختيار و كان يتولى الطعام بين يديه ويتولى الطبخ و منديل الخوان على كتفه فلما ضاقت الأحوال على الوزير أبى الفضل و كثرت مطالبته بالأرزاق و النفقات عزله بختيار و صادره و سائر أصحابه على أموال عظيمة أخذت منهم و استوزر محمد بن بقية فاستقامت أموره و نمت أحواله بتلك الأموال فلما نفدت عاد إلى الظلم ففسدت الأحوال و خربت تلك النواحي و ظهر العيارون و تزايد شرهم و فسادهم و عظم الاختلاف بين بختيار و الأتراك و مقدمهم يومئذ سبكتكين و تزيادت نفرته ثم سعى ابن بقية في إصلاحه و جاء به إلى بختيار و معه الأتراك فصالحه بختيار ثم قام غلام ديلمي فرمى وتينه بحربة في يده فأثبته فصاح سبكتكين بغلمانه فأخذوه يظن أنه وضع على قتله وقرره فلم يعترف فبعث إلى بختيار فأمر به فقتل فعظم ارتيابه و أنه إنما قتل حذرا من إفشاء سره فعظمت الفتنة و قصد الديلم قتل سبكتكين ثم أرضاهم بختيار بالمال فسكنوا (4/592)
استيلاء بختيار على الموصل ثم رجوعه عنها
فلما قبض أبو ثعلب بن ناصر الدولة بن حمدان على أبيه و حبسه و استقل بملك الموصل و عصى عليه إخوته من سائر النواحي غلبهم و لحق أخوه أحمد و إبراهيم ببختيار فاستصرخاه فوعدهما بالمسير معهما و أن يضمن حمدان البلاد ثم أبطأ عليهما فرجع إبراهيم إلى أخيه أبي ثعلب و قارن ذلك وزارة ابن بقية وقصر أبو ثعلب في خطابه فاغرى به بختيار فسار إليه و نزل الموصل و فارقها أبو ثعلب إلى سنجار و أخلاها من الميرة و الكتاب و الدواوين ثم سار من سنجار إلى بغداد فحاربها و لم يحدث في سوادها حدثا و بعث بختيار إثره العساكر مع ابن بقية و الحاجب سبكتكين فدخل ابن بقية بغداد و أقام سبكتكين بجدى و ثار العيارون و اضطربت الفتنة بين أهل السنة و الشيعة و ضربوا الأمثال لنشتد على الوزير بحرب الجمل و هذا كله في الجانب الغربي و نزل أبو ثعلب حذاء سبكتكين بجدى و اتفقا في سر على خلع الخليفة و نصب غيره و القبض على الوزير وعلى بختيار و تكون الدولة لسبكتكين و يعود أبو ثعلب إلى الموصل ليتمكن من بختيار ثم قصر سبكتكين عن ذلك و خشي سوء المغبة و اجتمع به الوزير ابن بقية و صالحوا أبا ثعلب على ضمان أعماله كما كانت و زيادة ثلاثة آلاف كر من الغلة لبختيار و أن يرد على أخيه حمدان أملاكه و أقطاعه إلا ماردين و أرسلوا إلى بختيار بذلك و دخل أبو ثعلب إلى الموصل فلما نزل الموصل و بختيار بالجانب الآخر فنضب أهل الموصل لأبي ثعلب لما نالهم من عسف بختيار فتراسلوا في الصلح ثانيا و سأل أبو ثعلب لقبا سلطانيا و تسليم زوجته ابنة بختيار فأبى ذلك و رحل عنه إلى بغداد و بلغه في طريقه إلى أبا ثعلب قتل مخلفين من أصحاب بختيار فأقام بالكحيل و بعث بالوزير و ابن بقية و سبكتكين فجاؤه في العساكر و رجع إلى الموصل و فارقها أبو ثعلب و بعث إلى الوزير كاتبه ابن عرس و صاحبه ابن حوقل معتذرا و حلفا عنه عن العلم بما وقع فاستحكم بينهم صلح آخر و انصرف كل منهم إلى بلده و بعث بختيار إليه زوجته و استقر أمرهما على ذلك (4/593)
الفتنة بين الديلم و الاتراك و انتقاض سبكتكين
كان جند بختيار و أبيه معز الدولة طائفتين من الديلم عشيرتهم و الأتراك المستنجدين عندهم و عظمت الدولة و كثرت عطاياها و أرزاق الجند حتى ضاقت عنها الجباية و كثر شغب الجند و ساروا إلى الموصل لسد ذلك فلم يقع لهم ما يسده فتوجهوا إلى الأهواز صحبة بختيار ليظفروا من ذلك بشيء و استخلف سبكتكين على بغداد فلما وصلوا إلى الأهواز صحبة بختيار حمل إليه حملين من الأموال و الهدايا ما ملأ عينه و هو مع ذلك يتجنى عليه ثم تلاحى خلال ذلك عاملان ديلمي و تركي و تضاربا و نادى كل منهما بقومه فركبوا في السلاح بعضهم على بعض و سالت بينهما الدماء و صاروا إلى النزاع و اجتهدوا في تسكين الناس فلم يقدروا و أشار عليه الديلم بالقبض على الأتراك فأحضر رؤساءهم و اعتقلهم و انطلقت أيدي الديلم على الأتراك فافترقوا و نودي في البصرة بإباحة دمائهم و استولى بختيار على أقطاع سبكتكين و دس بأن يرجفوا بموته فإذا جاء سبكتكين للعزاء قبضوا عليه و قيل كان وطأهم على ذلك قبل سفره و جعل موعده قبضه على الأتراك فلما أرجفوا بموته ارتاب سبكتكين بالخبر و علم أنها مكيدة و دعاه الأتراك للأمر عليهم فأبى و دعا ابن معز الدولة أبا إسحق إليها فمنعته أمه فركب سبكتكين في الأتراك و حاصروا بختيار يومين ثم أحرقها و بعث لأبي إسحق و أبي ظاهر ابني معز الدولة و سار بهما إلى واسط فاستولى عليها على ما كان لبختيار و أنزل الأتراك في دور الديلم و ثار العامة بنصر سبكتكين و أوقعوا بالشيعة و قتلوهم و أحرقوا الكرخ (4/594)
مسير بختيار لقتال سبكتكين و خروج سبكتكين إلى واسط و مقتله
و لما انتقض سبكتكين انتقض الأتراك في كل جهة حتى اضطرب على بختيار غلمانه الذين بداره و عاتبه مشايخ الأتراك على فعلته و عذله الديلم أصحابه و قالوا : لا بد لنا من الأتراك ينصحون عنا فأطلق المعتقلين عنهم و رجع و جعل أردويه صاحب الجيش مكان سبكتكين وكتب إلى عمه ركن الدولة و ابنه عضد الدولة يستنجدهما و إلى أبي ثعلب بن حمدان يستمده بنفسه و يسقط عنه مال الضمان و إلى عمران بن شاهين بأن يمده بعسكر فبعث عمه ركن الدولة العساكر مع وزيره أبي الفتح بن العميد و أمر ابنه عضد الدولة بالمسير معهم فتربص به ابن العميد و أنفذ أبو ثعلب بن حمدان أخاه أبا عبد الله الحسين بن حمدان إلى تكريت و أقام ينتظر خروج سبكتكين و الأتراك عن بغداد فيملكها و انحدر سبكتكين و معه الأتراك إلى واسط و حمل معه الخليفة الطائع الذي نصبه و أباه المطيع مكانه أفتمكين و ساروا إلى بختيار و نازلوه بواسط خمسين يوما و الحرب بينهم متصلة و الظفر للأتراك في كلها و هو يتابع الرسل إلى عضد الدولة و يستحثه (4/594)
استيلاء عضد الدولة على العراق و اعتقال بختيار ثم عوده إلى ملكه
و لما بلغ عضد الدولة ما فعله الأتراك مع بختيار اعتزم على المسير إليه بعد أن كان يتربص به فسار في عساكر فارس و سار معه أبو القاسم بن العميد وزير أبيه من الأهواز في عساكر الري و قصدوا واسط و رجع أفتكين و الأتراك إلى بغداد و كان أبو ثعلب عليها فأجفل وكتب بختيار إلى طبة الأسدي صاحب عين التمر و إلى بني شيبان بمنع الميرة عن بغداد و إفساد سابلتها فعدمت الأقوات و سار عضد الدولة إلى بغداد و نزل في الجانب الشرقي و بختيار في الجانب الغربي و خرج أفتكين و الأتراك لعضد الدولة فلقيهم بين دبانى و المدائن منتصف جمادى سنة أربع و ستين و ثلثمائة فهزمهم و غرق كثير منهم و ساروا إلى تكريت و دخل عضد الدولة بغداد ونزل دار الملك و استرد الخليفة الطائع من أفتكين و الأتراك و كانوا أكرهوه على الخروج معهم و خرج للقائه في دجلة و أنزله بدار الخلافة و حدثته نفسه بملك العراق و استضعف بختيار و وضع عليه الجند يطالبونه بأرزاقهم و لم يكن عنده في خزانته شيء و أشار عليه بالزهد في إمارتهم يتنصح له بذلك سرا و الرسل تتردد إلى بختيار و الجند فلا يقبل عضد الدولة تقربهم ثم تقبض عليه آخرا و وكل به و جمع الجند و وعدهم بالإحسان و النظر في أمورهم فسكنوا و بعث عضد الدولة عسكره إلى ابن بقية و معه عسكر ابن شاهين فهزموا عسكر عضد الدولة و كاتبوا ركن الدولة فكتب إليه بالثبات على شأنهم فلما علم أهل النواحي بأفعال عضد الدولة اضطربوا عليه و انقطعت عنه مواد فارس و طمع فيه الناس حتى عامة بغداد فحمل الوزير أبا الفتح بن العميد إلى أبيه ركن الدولة الرسالة بما و قع و بضعف بختيار و أنه إن عاد إلى الأمر خرجت المملكة و الخلافة عنه و أنه يضمن أعمال العراق بثلاثين ألف ألف درهم في كل سنة و يبعث إليه بختيار بالري و إلا قتلت بختيار و أخويه و جميع شيعتهم و أترك البلاد فخشي ابن العميد من هذه الرسالة و أشار بأن يبعث بها غيره و يمضي هو إلى ركن الدولة فيحاول على مقاصد عضد الدولة فمضى الرسول إلى ركن الدولة فحجبه أولا ثم أحضره و ذكر له الرسالة فهم بقتله ثم رده و حمله من الإساءة في الخطاب فوق ما أراد و جاء ابن العميد فحجبه ركن الدولة و أنفذ إليه بالوعيد و شفع إليه أصحابه و اعتذر بأنه إنما جعل رسالة عضد الدولة طريقا إلى الخلاص منه فأحضره و ضمن له ابن العميد إطلاق بختيار ثم سار إلى عضد الدولة و عرفه بغضب أبيه فأطلق بختيار من محبسه و رده إلى ملكه على أن يكون نائبا عنه و يخطب له و يجعل أخاه أبا إسحق أمير الجيش لضعفه عن الملك و خلف أبا الفتح بن العميد لقضاء شؤنه فتشاغل هو مع بختيار فيما كان فيه من اللذات عن ركن الدولة و جاء ابن بقية فأكد الوحشة بين بختيار و عضد الدولة و جبى الأموال و اختزنها و أساء التصرف و احترز من بختيار (4/595)
أخبار عضد الدولة في ملك عمان
لما توفي معز الدولة كان أبو الفرج بعمان فسار عنها لبغداد و بعث إلى عضد الدولة بأن يتسلمها فوليها عمر بن نبهان الطائي بدعوة عضد الدولة ثم قتلته الزنج و ملكوا البلد و بعث عضد الدولة إليها جيشا من كرمان مع قائده أبي حرب طغان و ساروا في البحر و أرسوا على صحار و هي قصبة عمان و نزلوا إلى البر فقاتلوا الزنج و ظفروا بهم و استولى طغان على صحار سنة اثنتين و ستين و ثلثمائة ثم اجتمع الزنج إلى مدين رستان على مرحلتين من صحار فأوقع بهم طغان و استلحمهم و سكنت البلاد ثم خرج بجبال عمان طوائف الشراة مع ورد بن زياد منهم و بايعوا لحفص بن راشد و اشتدت شوكتهم و بعث عضد الدولة المظفر بن عبد الله في البحر فنزل في أعمال عمان و أوقع بأهل خرخان ثم سار إلى دما على أربع مراحل و قاتل الشراة فهزمهم و هرب أميرهم ورد بن حفص إلى يزوا و هي حصن تلك الجبال و لحق حفص باليمن فصار فيه معلما و استقامت البلاد و دانت لطاعة عضد الدولة (4/597)
اضطراب كرمان على عضد الدولة
كان ظاهر بن الصنمد من الحرومية و هي البلاد الحارة قد ضمن من عضد الدولة ضمانات و اجتمعت عليه أموال و لما سار عضد الدولة إلى العراق و بعث وزيره المظهر بن عبد الله إلى عمان خلت كرمان من العساكر فطمع فيها ظاهر و جمع الرجال الحرومية و كان بعض موالي بني سامان من الأتراك و اسمه مؤتمر استوحش من ابن سيجور صاحب خراسان فكاتبه ظاهر و أطمعه في أعمال كرمان فسار إليه و جعله ظاهر أميرا ثم شغب عليه بعض أصحاب ظاهر فارتاب به مؤتمر و قاتله فظفر به و بأصحابه و بلغ الخبر إلى الحسين بن علي بن الياس بخراسان فطمع في البلاد و سار إليها و اجتمعت عليه جموع و كتب عضد الدولة إلى المظهر بن عبد الله و قد فرغ من أمر عمان بالمسير إلى كرمان فسار إليه سنة أربع و ستين و ثلثمائة و دوخ البلاد في طريقه وكبس مؤتمرا بنواحي مدينة قم فلحق بالمدينة و حصره فيها حتى استأمن و خرج إليه و معه ظاهر فقتله المظهر و حبس مؤتمرا ببعض القلاع و كان آخر العهد به ثم سار إلى ابن إلياس و قاتله على باب جيرفت و أخذه أسيرا و ضاع بعد ذلك خبره و رجع المظهر ظافرا و صلحت كرمان لعضد الدولة (4/597)
وفاة ركن الدولة و ملك ابنه عضد الدولة
كان ركن الدولة ساخطا على ابنه عضد الدولة كما قدمناه و كان ركن الدولة بالري فطرقه المرض سنة خمس و ستين و ثلثمائة فسار إلى أصفهان و تلطف الوزير أبو الفتح بن العميد إليه في الرضا عن ابنه عضد الدولة وأن يحضره و يعهد إليه فأحضره من فارس و جمع سائر ولده و كان ركن الدولة قد خف من مرضه فعمل الوزير ابن العميد بداره صنيعا و أحضرهم جميعا فلما قضوا شأن الطعام خاطب ركن الدولة بولاية أصفهان و أعمالها نيابة عن أخيه عضد الدولة و خلع عضد الدولة في ذلك اليوم على سائر الناس الأقبية و الأكسية بزي الديلم و حياه إخوته و القواد بتحية الملك المعتاد لهم و أوصاهم أبوهم بالاتفاق و خلع عليهم من الخاص و سار عن أصفهان في رجب من السنة ثم اشتد به المرض في الري فتوفي في محرم سنة ست و ستين و ثلثمائة لأربع و أربعين سنة من ولايته و كان حليما كريما واسع المعروف حسن السياسة لجنده و رعيته عادلا فيهم متحريا من الظلم عفيفا عن الدماء بعيد الهمة عظيم الجد و السعادة محسنا لأهل البيوتات معظما للمساجد متفقدا لها في المواسم متفقدا أهل البيت بالبر و الصلات عظيم الهيبة لين الجانب مقربا للعلماء محسنا إليهم معتقدا للصلحاء برا بهم رحمه الله تعالى (4/598)
مسير عضد الدولة إلى العراق و هزيمة بختيار
و لما توفى ركن الدولة ملك عضد الدولة بعده و كان بختيار و ابن بقية يكاتبان أصحاب القاصية مثل فخر الدولة أخيه و حسنويه الكردي و غيرهم للتظافر على عضد الدولة فحركه ذلك لطلب العراق فسار لذلك و انحدر بختيار إلى واسط لمدافعته و أشار عليه ابن بقية بالتقدم إلى الأهواز و اقتتلوا في ذي القعدة من سنة ست و ستين و ثلثمائة و نزع بعض عساكر بختيار إلى عضد الدولة فانهزم بختيار و لحق بواسط و نهب سواده و مخلفه و بعث إليه ابن شاهين بأموال و سلاح و هاداه و أتحفه فسار إليه إلى البطيحة و أصعد منها إلى واسط و اختلف أهل البصرة فمالت مضر إلى عضد الدولة و ربيعة مع بختيار صوبت مضر عند انهزامه و كاتبوا عضد الدولة فبعث إليهم عسكرا و استولوا على البصرة و أقام بختيار بواسط و قبض الوزير ابن بقية لاستبداده و احتجازه الأموال و ليرضى عضد الدولة بذلك و ترددت الرسل بينهم في الصلح و تردد بختيار في إمضائه ثم وصله ابنا حسنويه الكردي في ألف فارس مددا فاعتزم على محاربة عضد الدولة ثم بدا له و سار إلى بغداد فأقام بها و رجع ابنا حسنويه إلى أبيهما و سار عضد الدولة إلى البصرة فأصلح بين ربيعة و مضر بعد اختلافهما مائة و عشرين سنة (4/599)
نكبة أبي الفتح بن العميد
كان عضد الدولة يحقد على أبي الفتح بن العميد مقامه عند بختيار ببغداد و مخالطته له و ما عقده معه من وزارته بعد ركن الدولة و كان ابن العميد يكاتب بختيار بأحواله و أحوال أبيه و كان لعضد الدولة عين على بختيار يكاتبه بذلك و يغريه فلما ملك عضد الدولة بعد أبيه كتب إلى أخيه فخر الدولة بالري بالقبض على ابن العميد و على أهله و أصحابه و استصفيت أموالهم و محيت آثارهم و كان أبو الفضل بن العميد ينذرهم بذلك لما يرى من مخايل أبي الفتح و إنكاره عليه (4/599)
استيلاء عضد الدولة على العراق و مقتل بختيار و ابن بقية
و لما دخلت سنة سبع و ستين سار عضد الدولة إلى بغداد و أرسل إلى بختيار يدعوه إلى طاعته و أن يسير عن العراق إلى أي جهة أراد فيمده بما يحتاج إليه من مال و سلاح فضعفت نفسه فقلع عينه و بعثها إليه و خرج بختيار عن بغداد متوجها إلى الشام و دخل عضد الدولة بغداد و خطب له بها و لم يكن خطب لأحد قبله و ضرب على بابه ثلاث نوبات و لم يكن لمن تقدمه و أمر أن يلقى ابن بقية بين أرجل الفيلة فضربته حتى مات و صلب على رأس الجسر في شوال سنة سبع و ستين و ثلثمائة و لما انتهى بختيار إلى عكبرا و كان معه حمدان بن ناصر الدولة بن حمدان فزين له قصد الموصل و استماله إليه عن الشام و قد كان عقد معه عضد الدولة أن لا يقصد الموصل لموالاة بينه و بين أبي ثعلب فسار هو إلى الموصل و نقض عهده و انتهى إلى تكريت فبعث إليه أبو ثعلب يعده المسير معه لقتال عضد الدولة و إعادة ملكه على أن يسلم إليه أخاه حمدان فقبض بختيار عليه و سلمه إلى سفرائه و حبسه أبو ثعلب و سار بختيار إلى الحديثة و لقيه أبو ثعلب في عشرين ألف مقاتل و رجع معه إلى العراق و لقيهما عضد الدولة بنواحي تكريت فهزمهما و جيء ببختيار أسيرا فأشار أبو الوفاء طاهر بن إسمعيل كبير أصحاب عضد الدولة بقتله فقتل لاثنتي عشرة سنة من ملكه و استلحم كثير من أصحابه و انهزم أبو ثعلب بن حمدان إلى الموصل (4/600)
استيلاء عضد الدولة على أعمال بني حمدان
و لما انهزم أبو ثعلب سار عضد الدولة في أثره فملك الموصل منتصف ذي القعدة سنة ست و ستين و ثلثمائة و كان حمل معه الميرة و العلوفات خوفا أن يقع به مثل ما و قع بسلفه فأقام بالموصل مطمئنا و بث السرايا في طلب أبي ثعلب و لحق بنصيبين ثم بميافارقين فبعث عضد الدولة في أثره سرية عليها أبو ظاهر بن محمد إلى سنجار و أخرى عليها الحاجب أبو حرب طغان إلى جزيرة ابن عمر فترك أبو ثعلب أهله بميافارقين و سار إلى تدلس و وصل أبو الوفاء في العساكر إلى ميافارقين فامتنعت عليه فسار في اتباع أبي ثعلب إلى أرزن الروم ثم إلى الحسنية من أعمال الجزيرة و صعد أبو ثعلب إلى قلعة كواشى فأخذ أمواله منها و عاد أبو الوفاء و حاصره بميافارقين و سار عضد الدولة و قد افتتح سائر ديار بكر و سار أبو ثعلب إلى الرحبة و رجع أصحابه إلى أبي الوفاء فأمنهم و عاد إلى الموصل فتسلم ديار مضر من يده و كان سعد الدولة على الرحبة و تقرى أعمال أبي ثعلب و حصونه مثل هوا و الملاسي و فرقى و السفياني و كواشى بما فيها من خزائنه و أمواله و استخلف أبو الوفاء على الموصل و جميع أعمال بني ثعلب و عاد إلى بغداد و سار أبو ثعلب إلى الشام فكان فيه مهلكه كما مر في أخباره (4/600)
ايقاع العساكر ببني شيبان
كان بنو شيبان قد طال إفسادهم للسابلة و عجز الملوك عن طلبهم و كانوا يمتنعون بجبال شهرزور لما بينهم و بين أكرادها من المواصلة فبعث عضد الدولة العساكر سنة تسع و ستين و ثلثمائة فنازلوا شهرزور واستولوا عليها و على ملكها رئيس بني شيبان فذهبوا في البسيط و سار العسكر في طلبهم فأوقعوا بهم و استباحوا أموالهم و نساءهم و جيء منهم إلى بغداد بثلثمائة أسير ثم عاودوا الطاعة و انحسمت علتهم (4/601)
وصول ورد بن منير البطريق الخارج على ملك الروم إلى ديار بكر و القبض عليه
كان أرمانوس ملك الروم لما توفي خلف ولدين صغيرين ملكا بعده و كان نقفور و هو يومئذ الدمستق غائبا ببلاد الشام و كان نكاء فيها فلما عاد حمله الجند و أهل الدولة على النيابة عن الولدين فامتنع ثم أجاب و أقام بدولة الولدين و تزوج أمهما ولبس التاج ثم استوحشت منه فراسلت ابن الشمسيق في قتله و بيته في عشرة من أصحابه فقتلوا نقفور و استولى ابن الشمسيق على الأمر و استولى على الأولاد و على ابنه ورديس و اعتقلهم في بعض القلاع و سار في أعمال الشام فعاث فيها و حاصر طرابلس فامتنعت عليه و كان لوالد الملك أخ خصي و هو الوزير يومئذ فوضع عليه من سقاه السم و أحس به فأسرع العود إلى القسطنطينية و مات في طريقه و كان ورد بن منير من عظماء البطارقة فطمع في الملك و كاتب أبا ثعلب بن حمدان عند خروجه بين يدي عضد الدولة و ظاهره و استجاش بالمسلمين بالثغور و ساروا إليه و قصد القسطنطينية و برزت إليه عساكر الملكين فهزمهم مرة بعد أخرى فأطلق الملكان ورديس بن لاوون و بعثاه في العساكر لقتال ورد فهزمهم بعد حروب صعبة و لحق ورد ببلاد الإسلام و نزل ميافارقين و بعث أخاه إلى عضد الدولة ببذل الطاعة و بطلب النضرة و بعث إليه ملك الروم و استمالاه فجنح إليهما و كتب إلى عامله بميافارقين بالقبض على ورد و أصحابه فيئسوا منه و تسللوا عنه فبعث أبو علي الغنمي عنه إلى داره للحديث معه ثم قبض عليه و على ولده و أخيه و جماعة من أصحابه و اعتقلهم بميافارقين ثم بعث بهم إلى بغداد فحبسوا بها (4/602)
دخول بني حسنويه في الطاعة و بداية أمرهم
كان حسنويه بن حسن الكردي من جنس البرز فكان من الأكراد من طائفة منهم يسمون الذولنية و كان أميرا على البرزمكان خاله ونداد و كان ابنا أحمد بن علي من طائفة أخرى من البرز فكانوا يسمون العيشائية و غلبا على أطراف الدينور و همذان و نهاوند و الدامغان و بعض أطراف أذربيجان إلى حد شهرزور و بقيت في أيديهم خمسين سنة و كانت تجتمع عليها من الأكراد جموع عظيمة ثم توفي عام ست و خمسين و ثلثمائة و كانت له قلعة بسنان و غانم أبار و غيرها فملكها بعده إبنه أبو سالم غنم إلى أن غلبه الوزير أبو الفتح بن العميد و توفي ونداد سنة تسع و أربعين و ثلثمائة و قام ابنه عبد الوهاب أبو الغنائم مقامه و أراد الشاذنجان و أسلمه إلى حسنويه فاستولى على أملاكه و قلاعه و كان حسنويه عظيم السياسة حسن السيرة و بنى أصحابه حصن التلصص و هي قلعة سرماج بالصخور المهندسة و بنى بالدينور جامعا كذلك و كان كثير الصدقة بالحرمين ثم توفي سنة تسع و ستين و ثلثمائة و افترق أولاده من بعده فبعضهم صار إلى طاعة فخر الدولة صاحب همذان و أعمال الجيل و الآخرون صاروا إلى عضد الدولة و كان بختيار منهم بقلعة سرماج و معه الأموال و الذخائر فكاتب عضد الدولة بالطاعة ثم انتقض فبعث عضد الدولة عسكرا فحاصروه و ملكوا القلعة من يده و القلاع الأخرى من إخوته و استولى عضد الدولة على أعمالهم و اصطنع من بينهم أبا النجم بن حسنويه و أمده بالعسكر فضبط تلك النواحي وكف عادية الأكراد بها و استقام أمرها (4/603)
استيلاء عضد الدولة على همذان و الري من يد أخيه فخر الدولة و ولاية أخيهما مؤيد الدولة عليها
قد تقدم أن ركن الدولة عهد إلى ابنه فخر الدولة و كان يكاتب بختيار و علم بذلك عضد الدولة فأغضى فلما فرغ من شأن بختيار و ابن حمدان و حسنويه و عظم استيلاؤه أراد إصلاح الأمر بينه و بين أخيه و قابوس بن وشمكير فكاتب مؤيد الدولة و فخر الدولة يعاتبه و يستميله و كان الرسول خواشادة من أكبر أصحاب عضد الدولة فاستمال أصحاب فخر الدولة و ضمن لهم الإقطاعات و أخذ عليهم العهود و اعتزم عضد الدولة على المسير إلى الري و همذان و سرب العساكر إليها مسالمة فأبو الوفاء طاهر في عسكر و خواشادة في عسكر و أبو الفتح المظفر بن أحمد في عسكر ثم سار عضد الدولة في أثرهم من بغداد و لما أطلت عساكره استأمن قواد فخر الدولة و بنو حسنويه و وزيره أبو الحسن عبيد الله بن محمد بن حمدويه و لحق فخر الدولة ببلاد الديلم ثم بجرجان و نزل على شمس المعالي قابوس بن وشمكير مستجيرا فأمنه و آواه و حمل إليه فوق ما أمله و شاركه فيما بيده من الملك و غيره و ملك عضد الدولة همذان و الري و ما بينهما من الأعمال و أضافها إلى أخيه مؤيد الدولة بن بويه صاحب أصفهان و أعمالها ثم عطف على ولاية حسنويه الكردي و فتح نهاوند و الدينور و سرماج و أخذ ما كان فيها لبني حسنويه و فتح عدة من قلاعهم و خلع على بدر بن حسنويه و أحسن إليه و ولاه رعاية الأكراد و قبض على إخوته عبد الرزاق و أبي العلاء و أبي عدنان و لما لحق فخر الدولة بجرجان و أجاره قابوس بعث إليه أخوه عضد الدولة في طلبه فأجاره و امتنع من إسلامه فجهز إليه عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة صاحب أصفهان بالعساكر و الأموال و السلاح فسار إلى جرجان و برز قابوس للقائه و التقوا بنواحي استراباذ في منتصف إحدى و سبعين و ثلثمائة فانهزم قابوس و مر ببعض قلاعه فاحتمل منها ذخيرته و لحق بنيسابور و جاء فخر الدولة منهزما على أثره و كان ذلك لأول ولاية حسام الدولة تاش خراسان من قبل أبي القاسم بن منصور من بني سامان فكتب بخبرهما إلى الأمير نوح و وزيره العتبي أبي العباس تاش فجاءه الجواب بنصرهما فجمع عساكر خراسان و سار معهما إلى جرجان فحاصروا بها مؤيد الدولة شهرين حتى ضاقت أحوال مؤيد الدولة و اعتزم هو و أصحابه على الخروج و الاستماتة بعد أن كاتب فائقا الخاصة الساماني و رغبه فوعده بالانهزام عند اللقاء و خرج مؤيد الدولة و انهزم فائق و تبعه العسكر و ثبت تاش و فخر الدولة و قابوس إلى آخر النهار ثم انهزموا و لحقوا بنيسابور و بعثوا بالخبر إلى الأمير نوح فبعث إليهم بالعساكر ليعود إلى جرجان ثم قتل الوزير العتبي كما تقدم في أخبار دولتهم و انتقض ذلك الرأي (4/604)
استيلاء عضد الدولة على بلاد الهكارية و قلعة سندة
كان عضد الدولة قد بعث عساكره إلى بلاد الاكراد الهكارية من أعمال الموصل فحاصر قلاعهم و ضيق عليهم و كانوا يؤملون نزول الثلج فترحل عنهم العساكر و تأخر نزوله فاستأمنوا و نزلوا من قلاعهم إلى الموصل و استولت عليها العساكر و غدر بهم مقدم الجيش فقتلهم جميعا و كانت قلعة بنواحي الجبل لأبي عبد الله المري مع قلاع أخرى و له فيها مساكن نفيسة و كان من بيت قديم فقبض عليه عضد الدولة و على أولاده و اعتقلهم و ملك القلاع ثم أطلقهم الصاحب بن عباد فيما بعد و استخدم أبا طاهر من ولده و استكتبه و كان حسن الخط و اللفظ (4/605)
وفاة عضد الدولة و ولاية ابنه صمصام الدولة
ثم توفي عضد الدولة ثامن شوال سنة اثنتين و سبعين لخمس سنين و نصف من ولايته العراق و جلس ابنه صمصام الدولة أبو كليجار المرزبان للعزاء فجاءه الطائع معزيا و كان عضد الدولة بعيد الهمة شديد الهيبة حسن السياسة ثاقب الرأي محبا للفضائل و أهلها و كان كثير الصدقة و المعروف و يدفع المال لذلك إلى القضاة ليصرفوه في وجوهه و كان محبا للعلم و أهله مقربا لهم محسنا إليهم و يجلس معهم و يناظرهم في المسائل فقصده العلماء من كل بلد و صنفت الكتب بإسمه كالإيضاح في النحو و الحجة في القراآت و الملكي في الطب و التاجي في التواريخ و عمل البيمارستانات و بنى القناطر و في أيامه حدثت المكوس على المبيعات و منع من الاحتراف ببعضها و جعلت متجرا للدولة و لما توفي عضد الدولة اجتمع القواد و الأمراء على ابنه أبي كليجار المرزبان و ولوه الملك مكانه و لقبوه صمصام الدولة فخلع على أخيه الحسن أحمد و أبي ظاهر فيروز شاه و أقطعهما فارس و بعثهما إليها (4/605)
استيلاء شرف الدولة بن عضد الدولة على فارس و اقتطاعها من أخيه صمصام الدولة
كان شرف الدولة أبو الفوارس شرزيك قد ولاه أبوه عضد الدولة قبل موته كرمان و بعث إليه فلما بلغه وفاة أبيه سار إلى فارس فملكها و قتل نصر بن هرون النصراني وزير أبيه لأنه كان يسيء عشرته و أطلق الشريف أبا الحسن محمد بن عمر العلوي كان أبوه حبسه بما قال عنه وزيره المظهر بن عبد الله عند قتله نفسه على البطيحة و أطلق النقيب أبا أحمد والد الشريف الرضي و القاضي أبا محمد بن معروف و أبا نصر خواشادة و كان أبوه حبسهم و قطع خطبة أخيه صمصام الدولة و خطب لنفسه و تلقب بأخي الدولة و وصل أخوه أبو الحسن أحمد و أبو ظاهر فيروز شاه اللذان أقطعهما صمصام الدولة بشيراز فبلغهما خبر شرف الدولة بشيراز فعاد إلى الأهواز و جمع شرف الدولة و فرق الأموال و ملك البصرة و ولى عليها أخاه أبا الحسين ثم بعث صمصام الدولة العساكر مع ابن تتش حاجب أبيه و أنفذ مشرف الدولة مع أبي الأغر دبيس بن عفيف الأسدي و التقيا بظاهر قرقوب و انهزم عسكر صمصام الدولة و أسر ابن تتش الحاجب و استولى حينئذ الحسين بن عضد الدولة على الأهواز و رامهرمز وطمع في الملك (4/606)
وفاة مؤيد الدولة صاحب أصفهان و الري و جرجان و عود فخر الدولة إلى ملكه
ثم توفي مؤيد الدولة يوسف بن بويه بن بهن الدولة صاحب أصفهان و الري بجرجان سنة ثلاث و سبعين و ثلاثمائة و اجتمع أهله للشورى فيمن يولونه فأشار الصاحب إسمعيل بن عباد بإعادة فخر الدولة إلى ملكه لكبر سنه و تقدم إمارته بجرجان وطبرستان فاستدعوه من نيسابور و بعث ابن عباد من استخلفه لنفسه و تقدم إلى جرجان فتلقاه العسكر بالطاعة و جلس على كرسيه و تفادى ابن عباس من الوزارة فمنعه و استوزره و التزم الرجوع إلى إشارته في القليل و الكثير و أرسل صمصام الدولة وعاهده على الاتحاد و المظاهرة ثم عزل الأمير نوح أبا العباس تاش عن خراسان وولى عليها ابن سيجور فانتقض تاش و لقيه ابن سيجور فهزمه فلحق بجرجان فكافأه فخر الدولة و ترك له جرجان و دهستان و أستراباذ و سار عنها إلى الري و أمده بالأموال و الآلات و طلب خراسان فلم يظفر بها فأقام بجرجان ثلاث سنين ثم مات سنة سبع و تسعين و ثلاثمائة كما ذكرنا في أخبار بني سامان (4/607)
انتقاض محمد بن غانم على فخر الدولة
قد تقدم لنا ذكر غانم البرزنكاني خال حسنويه و أنهم كانوا رؤساء الأكراد و أنه مات سنة خمسين و ثلاثمائة و كان ابنه دلسيم مكانه في قلاعه قستتان و غانم أبا و ملكها منه أبو الفتح بن العميد و لما كانت سنة ثلاث و سبعين و ثلاثمائة انتقض محمد بن غانم بناحية كردون من أعمال قم على فخر الدولة و نهبت غلات السلطان و امتنع بحصن الفهجان و اجتمع إليه البرزنكان و سارت العساكر لقتاله في شوال فهزمها مرة بعد أخرى إلى أن بعث فخر الدولة إلى أبي النجم بدر بن حسنويه بالنكير في ذلك فصالحه أول أربع و سبعين و ثلاثمائة ثم سارت إليه العساكر سنة خمس و سبعين و ثلاثمائة فقاتلها و أصيب بطعنة ثم أخذ أسيرا و مات بطعنته (4/607)
تغلب باد الكردي على الموصل من يد الديلم ثم رجوعها إليهم
قد تقدم لنا استيلاء عضد الدولة على الموصل و أعمالها و تقدم لنا ذكر باد الكردي خال بني مروان وكيف خان عضد الدولة لما ملك الموصل و طلبه فصار يخيف ديار بكر و يغير عليها حتى استفحل أمره و ملك ميافارقين كما ذكرنا ذلك كله في أخبار بني مروان و أن صمصام الدولة جهز إليه العساكر مع أبي سعيد بهرام بن أردشير فهزمه باد و أسر أصحابه فأعاد صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعيد الحاجب و فتك باد في الديلم بالقتل و الأسر ثم اتبع سعيد خانور الحسينية من بلد كواشى فانهزم سعيد الحاجب إلى الموصل و ثارت العامة بالديلم و ملك باد سنة ثلاث و سبعين و ثلاثمائة الموصل و حدث نفسه بملك بغداد و أخرج الديلم عنها و اهتم صمصام الدولة بأمره و بعث زياد بن شهراكونه من أكبر قواد الديلم لقتاله و استكثر له من الرجال و العدد و المال و سار إلى باد فلقيه في صفر سنة أربع و سبعين و ثلاثمائة و انهزم باد و أسر أكثر أصحابه و دخل زياد بن شهراكونه الموصل و بعث سعيد الحاجب في طلب باد فقصد جزيرة ابن عمرو عسكر آخرا إلى نصيبين و جمع باد الجموع بديار بكر وكتب صمصام الدولة إلى سعد الدولة بن سيف الدولة بتسليم ديار بكر له فبعث إليها عساكره من حلب و حاصروا ميافارقين وخاموا عن لقاء باد فرجعوا عن حلب و وضع سعيد الحاجب رجلا لقتل باد فدخل عليه و ضربه في خيمته فأصابه و أشرف على الموت منها فطلب الصلح على أن يكون له ديار بكر و النصف من طور عبدين فأجابه الديلم إلى ذلك و انحدروا إلى بغداد و أقام سعيد الحاجب بالموصل إلى أن توفي سنة سبع و سبعين وثلاثمائة أيام مشرف الدولة فتجرد الكردي و طمع في الموصل و ولى مشرف الدولة عليها أبا نصر خواشاده و جهزه بالعساكر و لما زحف إليه باد الكردي كتب إلى مشرف الدولة يستمد العساكر و الأموال فأبطأ عليه المدد فاستدعى العرب من بني عقيل و بني نمير و أقطعهم البلاد ليدافعوا عنها و انحدر باد و استولى على طور عبدين و لم يقدر على النزول على الصحراء و بعث أخاه في عسكر لقتال العرب فهزموه و قتلوه ثم أتاهم الخبر بموت مشرف الدولة فعاد خواشاده إلى الموصل و أقامت العرب بالصحراء يمنعون باد من النزول و ينتظرون خروج خواشاده لمدافعة باد و حربه و بينما هم في ذلك جاء إبراهيم و أبو الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان فملكا الموصل كما ذكرنا في أخبار دولتهم (4/608)
استيلاء صمصام الدولة على عمان و رجوعها لمشرف الدولة
كان مشرف الدولة استولى على فارس و خطب له بعمان و ولى عليها أستاذ هرمز فانتقض عليه و صار مع صمصام الدولة و خطب له بعمان فبعث مشرف الدولة إليه عسكرا فهزموا أستاذ هرمز و أسروه و حبس ببعض القلاع و طولب بالأموال وعادت عمان إلى مشرف الدولة (4/609)
خروج نصر بن عضد الدولة على أخيه صمصام الدولة و انهزامه و أسره
كان أسفار بن كردويه من أكابر قواد الديلم و استوحش من صمصام الدولة فمال عن طاعته إلى أخيه مشرف الدولة و هو بفارس و داخل رجال الديلم في صمصام الدولة وأن ينصبوا بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة نائبا عن أخيه مشرف الدولة حتى يقدم من فارس و تمكن أسفار من الخوض في ذلك فمرض صمصام الدولة و تأخر عن حضور الدار و راسله صمصام الدولة أنه لا ذنب له لأنه كان صبيا فاعتقله مكرما و سعي إليه بابن سعدان وزيره ارهواه كان معهم فعزله وقتله و مضى أسفار إلى أبي الحسن بن عضد الدولة بالأهواز و مضى بقية العسكر إلى مشرف الدولة بفارس (4/609)
استيلاء القرامطة على الكوفة بدعوة مشرف الدولة ثم انتزاعها منهم
كان للقرامطة محل من البأس و الهيبة عند أهل الدول و كانوا يدافعونهم في أكثر الأوقات بالمال و أقطعهم معز الدولة و ابنه بختيار ببغداد و أعمالها و كان يأتيهم ببغداد أبو بكر بن ساهويه يحتكم بحكم الوزراء فقبض عليه صمصام الدولة وكان على القرامطة في هجر و نيسابور مشتركان في إمارتهما و هما إسحق و جعفر فلما بلغهما الخبر سارا إلى الكوفة فملكاها و خطبا لمشرف الدولة و كاتبهما صمصام الدولة بالعتب فذكرا أمرهما ببغداد و انتشر القرامطة في البلاد و جبوا الأموال و وصل أبو قيس الحسن بن المنذر من أكابرهم إلى الجامعين فسرح صمصام الدولة العسكر ومعهم العرب فعبروا الفرات و قاتلوه فهزموه و أسروه و قتلوا جماعة من قواد القرامطة ثم عاودوا عسكرا آخر و لقيتهم عساكر صمصام الدولة بالجامعين فانهزم القرامطة و قتل مقدمهم و غيره و أسروا منهم العساكر و ساروا في اتباعهم إلى القادسية فلم يدركوهم (4/610)
استيلاء مشرف الدولة على الأهواز ثم على بغداد و اعتقال صمصام الدولة
ثم سار مشرف الدولة أبو الفوارس بن عضد الدولة من فارس لطلب الأهواز و قد كان أخوه أبو الحسين تغلب عليها عند انهزام عساكر صمصام الدولة سنة اثنتين وسبعين و كان صمصام الدولة عندما ملك بعث أبا الحسين و أبا ظاهر أخويه على فارس كما قدمناه فوجدا أخاهما مشرف الدولة قد سبقهما إلى ملكها و عندما ملك فارس و البصرة ولاهما كل البصرة فلما انهزمت عساكر صمصام الدولة أمام عسكر مشرف الدولة بعث أبا الحسين على الأهواز فملكها و أقام بها و استخلف على البصرة أخاه أبا ظاهر فما سار مشرف الدولة هذه السنة إلى الأهواز قدم إليه الكتاب بأن يسير إلى العراق و أنه يقره على عمله فشق ذلك على أبي الحسين و تجهز للمدافعة فعاجله مشرف الدولة عن ذلك و أغذ السير إلى أرجان فملكها ثم رامهرمز و انتقض أجناده و نادوا بشعار مشرف الدولة فهرب إلى عمه فخر الدولة بالري و أنزلها بأصفهان و وعده بالنصر و أبطأ عليه فثار في أصفهان بدعوة أخيه مشرف الدولة فقبض عليه جندها و بعثوا به إلى الري فحبسه فخر الدولة إلى أن مرض و اشتد مرضه فأرسل من قتله في محبسه و لما هرب أبو الحسين من الأهواز سار إليها مشرف الدولة و أرسل إلى البصرة قائدا فملكها و قبض على أخيه أبي ظاهر وبعث إليه صمصام الدولة في الصلح و أن يخطب له ببغداد و سارت إليه الخلع والألقاب من الطائع و جاء من قبل صمصام الدولة من يستخلفه و كان معه الشريف أبو الحسن محمد بن عمر الكوفي فكان يستحثه إلى بغداد و في خلال ذلك جاءته كتب القواد من بغداد بالطاعة و بعث أهل واسط بطاعتهم فامتنع من إتمام الصلح و سار إلى واسط فملكها و أرسل صمصام الدولة أخاه أبا نصر يستعطفه بالسلافة فلم يعطف عليه و شغب الجند على صمصام الدولة فاستشار صمصام الدولة أصحابه في طاعة أخيه فنهوه و قال بعضهم : نصعد إلى عكبرا و نتبين الأمر و إن دهمنا ما لا نقوى عليه سرنا إلى الموصل و ننتصر بالديلم و قال آخرون : نقصد فخر الدولة بأصفهان ثم نخالفه إلى فارس فنحتوي على خزائن مشرف الدولة و ذخائره فيصالح كرها فأعرض عنهم و ركب صمصام الدولة إلى أخيه مشرف الدولة في خواصه فتلقاه بالمبرة ثم قبض عليه و سار إلى بغداد فدخلها في رمضان سنة ست وسبعين و ثلاثمائة و أخوه صمصام الدولة في اعتقاله بعد أربع سنين من إمارته بالعراق (4/611)
أخبار مشرف الدولة في بغداد مع جنده و وزرائه
لما دخل مشرف الدولة بغداد كان الديلم معه في قوة و عدد تنتهي عدتهم إلى خمسة عشر ألفا و الأتراك لا يزيدون على ثلاثة آلاف فاستطال الديلم بذلك و جرت بين اتباعهم لأول دخولهم بغداد مصاولة آلت إلى الحرب بين الفريقين فاستظهر الديلم على الترك و تنادوا بإعادة صمصام الدولة إلى ملكه فارتاب بهم مشرف الدولة و وكل بصمصام الدولة من يقتله إن هموا بذلك ثم أتيحت الكرة للأتراك على الديلم وفتكوا فيهم و افترقوا و اعتصم بعضهم بمشرف الدولة ثم دخل من الغد إلى بغداد فتقبله الطائع و هنأه بالسلامة ثم أصلح بين الطائفتين و استحلفهم جميعا وحمل صمصام الدولة إلى قلعة ورد بفارس فاعتقل بها و كان نحرير الخادم يشير بقتله فلا يجيبه أحد و اعتقل سنة تسع و سبعين و ثلاثمائة و أشرف على الهلاك ثم أشار نحرير في قتله أو سمله فبعث لذلك من يثق به فلم يقدم على سمله حتى استشار أبا القاسم بن الحسن الناظر هناك فأشار به فسمله و كان صمصام الدولة يقول : إنما أعماني العلاء لأنه في معنى حكم سلطان ميت و لما فرغ مشرف الدولة من فتنة الجند صرف نظره إلى تهذيب ملكه فرد على الشريف محمد بن عمر الكوفي جميع أملاكه و كانت تغل في كل سنة ألفي ألف و خمسمائة ألف درهم و رد على النقيب أبي أحمد والد الرضي جميع أملاكه و أقر الناس على مراتبهم و كان قبض على وزيره أبي محمد بن فسانجس و أفرج عن أبي منصور الصاحب و استوزره فأقره على وزارته ببغداد و كان قراتكين قد أفرط في الدولة و الضرب على أيدي الحكام فرأى أن يخرجه إلى بعض الوجوه و كان حنقا على بدر بن حسنويه لميله مع عمه فخر الدولة فبعثه إليه في العساكر سنة سبع و سبعين و ثلاثمائة فهزمهم بدر بوادي قرمسين بعد إلى هزمه قراتكين أولا و نزل العسكر فكر عليهم بدر فهزمهم و أثخن فيهم ونجا قراتكين في الفل إلى جسر النهروان حتى اجتمع إليه المنهزمون و دخل بغداد واستولى بدر على أعمال الجبل و لما رجع قراتكين أغرى الجند بالشغب على الوزير أبي منصور بن صالحان فأصلح مشرف الدولة بينه و بين قراتكين و حقدها له فقبض عليه بعد أيام و على جماعة من أصحابه و استصفى أموالهم و شغب الجند من أجله فقتله و قدم عليهم مكانه طغان الحاجب ثم قبض سنة ثمان و سبعين و ثلاثمائة على شكر الخادم خالصة أبيه عضد الدولة و خالصته و كان يحقد عليه من أيام أبيه من سعاياته فيه منها إخراجه من بغداد إلى كرمان تقربا إلى أخيه صمصام الدولة بإخراجه فلما ملك مشرف الدولة بغداد اختفى شكر فلم يعثر عليه و كان معه في اختفائه جارية حسناء فعلقت بغيره و فطن لها فضربها فخرجت مغاضبة له وجاءت إلى مشرف الدولة فدلت عليه فأحضره و هم بقتله و شفع فيه نحرير الخادم حتى و هبه له ثم استأذن في الحج و سار من مكة إلى مصر فاختصه خلفاء الشيعة وأنزلوه عندهم بالمنزلة الرفيعة (4/612)
وفاة مشرف الدولة و ولاية أخيه بهاء الدولة
ثم توفي مشرف الدولة أبو الفوارس سرديك بن عضد الدولة ملك العراق فى منتصف تسع و سبعين و ثلاثمائة لثمانية أشهر و سنتين من ملكه و دفن بمشهد علي عليه السلام و لما اشتدت علته بعث ابنه أبا علي إلى بلاد فارس بالخزائن و العدد مع أمه و جواريه في جماعة عظيمة من الأتراك و سأله أصحابه إن يعهد فقال : أنا في شغل عن ذلك فسألوه نيابة أخيه بهاء الدولة ليسكن الناس إلى أن يستفيق من مرضه فولاه نيابته ولما جلس بهاء الدولة في دست الملك ركب إليه الطائع فعزاه و خلع عليه خلع السلطنة و أقر بهاء الدولة أبا منصور بن صالحان على وزارته (4/613)
و ثوب صمصام الدولة بفارس و أخباره مع أبي علي ابن أخيه مشرف الدولة
قد تقدم لنا أن صمصام الدولة اعتقله أخوه مشرف الدولة بقلعة ورد قرب شيراز من أعمال فارس عندما ملك بغداد سنة ست و سبعين و ثلاثمائة فلما مات مشرف الدولة وكان قد بعث ابنه أبا علي إلى فارس و لحقه موت أبيه بالبصرة فبعث ما معه في البحر إلى أرجان و سار إليها في البر مخفا و التف عليه الجند الذين بها و كاتبه العلاء بن الحسن من شيراز بخبر صمصام الدولة فسار إلى شيراز و اختلف عليه الجند و هم الديلم بإسلامه إلى صمصام الدولة فتحرك الأتراك و قاتل الديلم أياما ثم سار إلى نسا و الأتراك معه فأخذوا ما بها من المال و قتلوا الديلم و نهبوا أموالهم وسلاحهم و سار أبو علي إلى أرجان و بعث الأتراك إلى شيراز فقاتلوا صمصام الدولة و الديلم و نهبوا البلد و عادوا إليه بارجان و جاءه رسول عمه بهاء الدولة من بغداد بالمواعيد الجميلة و دس مع رسوله إلى الأتراك و استمالهم فحسنوا لأبي علي المسير إلى عمه بهاء الدولة فسار إليه و لقيه بواسط منتصف ثمانين و ثلاثمائة وقد أعد له الكرامة و النزول ثم قبض عليه لأيام و قتله و تجهز للمسير إلى فارس (4/613)
مسير فخر الدولة صاحب الري و أصفهان و همذان إلى العراق و عوده
كان الصاحب أبو القاسم إسمعيل بن عباد وزير فخر الدولة بن ركن الدولة يحب العراق و يريد بغداد لما كان بها من الحضارة و استئثار الفضائل فلما توفي مشرف الدولة سلطان بغداد رأى أن الفرصة قد تمكنت فدس إلى فخر الدولة من يغريه بملك بغداد حتى استشاره في ذلك فتلطف في الجواب بأن أحاله على سعادته فقبل إشارته و سار إلى حمدان و وفد عليه بدر بن حسنويه و دبيس بن عفيف الأسدي و شاوروا في المسير فسار الصاحب بن عباد و بدر في المقدمة على الجادة و فخر الدولة على خوزستان ثم ارتاب فخر الدولة بالصاحب بن عباد خشية من ميله مع أولاد عضد الدولة فاستعاده و ساروا جميعا إلى الأهواز فملكها فخر الدولة و أساء السيرة في جندها و جنده و حبس عنهم العطاء فتخاذلوا و كان الصاحب منذ اتهمه ورده عن طريقه معرضا عن الأمور ساكتا فلم تستقم الأمور بإعراضه ثم بعث بهاء الدولة عساكره إلى الأهواز فقاتلوهم و زادت دجلة إلى الأهواز و انفتقت أنهارها فتوهم الجند و حسبوها مكيدة فانهزموا و أشار عليه الصاحب بإطلاق الأموال فلم يفعل فانفضت عنه عساكر الأهواز و عاد إلى الري و قبض في طريقه على جماعة من قواد الديلم و الري و عادت الأهواز إلى دعوة بهاء الدولة (4/614)
مسير بهاء الدولة إلى أخيه صمصام الدولة بفارس
ثم سار بهاء الدولة سنة ثمانين و ثلاثمائة إلى خوزستان عازما على قصد فارس و خلف ببغداد أبا نصر خواشاده من كبار قواد الديلم و مر بالبصرة فدخلها و سار منها إلى خوزستان و أتاه نعي أخيه أبي ظاهر فجلس لعزائه و دخل أرجان و أخذ جميع ما فيها من الأموال و كانت ألف ألف دينار و ثمانية آلاف ألف درهم و هرعت إليه الجنود ففرقت فيهم تلك الأموال كلها ثم بعث مقدمته أبا العلاء بن الفضل إلى النوبندجان فهزموا بها عسكر صمصام الدولة فأعاد صمصام الدولة العساكر مع فولاذ بن ماندان فهزموا أبا العلاء بمراسلة و خديعة من فولاذ كبسه في أثرها فعاد إلى أرجان مهزوما و لحق صمصام الدولة من شيراز بفولاذ ثم ترددت الرسل في الصلح على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس و أرجان و لبهاء الدولة خوزستان والعراق و يكون لكل منهما أقطاع في بلد صاحبه فتم ذلك بينهما و تحالفا عليه وعاد بهاء الدولة إلى الأهواز و بلغه ما وقع ببغداد من العيارين و بين الشيعة و أهل السنة وكيف نهبت الأموال و خرجت المساكين فأعاد السير إلى بغداد و صلحت الأحوال (4/615)
القبض على الطائع و نصب القادر للخلافة
قد ذكرنا أن بهاء الدولة قد شغب الجند عليه لقلة الأموال و قبض وزيره فلم يغن عنه وكان أبو الحسن بن المعلم غالبا على هواه فأطمعه في مال الطائع و زين له القبض عليه فأرسل إليه بهاء الدولة في الحضور عنده فجلس على العادة و دخل بهاء الدولة في جمع كبير و جلس على كرسيه و أهوى بعض الديلم إلى يد الطائع ليقبلها ثم جذبه عن سريره و هو يستغيث و يقول إنا لله و إنا إليه راجعون واستصفيت خزائن دار الخلافة فمشى بها الحال أياما و نهب الناس بعضهم بعضا ثم أشهد على الطائع بالخلع و نصبوا للخلافة عمه القادر أبا العباس أحمد المقتدر استدعوه من البطيحة و كان فر إليها أمام الطائع كما تقدم في أخبار الخلفاء و هذا كله سنة إحدى و ثمانين و ثلاثمائة (4/615)
رجوع الموصل إلى بهاء الدولة
كان أبو الرواد محمد بن المسيب أمير بني عقيل قتل أبا طاهر بن حمدان آخر ملوك بني حمدان بالموصل و غلب عليها و أقام بها طاعة معروفة لبهاء الدولة و ذلك سنة ثمانين وثلاثمائة كما مر في أخبار بني حمدان و بني المسيب ثم بعث بهاء الدولة أبا جعفر الحجاج بن هرمز من قواد الديلم في عسكر كبير إلى الموصل فملكها آخر إحدى و ثمانين فاجتمعت عقيل مع أبي الرواد على حربه و جرت بينهم عدة و قائع و حسن فيها بلاء أبي جعفر بالقبض عليه فخشي اختلاف أمره هناك و راجع في أمره و كان بإغراء ابن المعلم و سعايته و لما شعر الوزير بذلك صالح أبا الرواد و أخذ رهنه وأعاده إلى بغداد فوجد بهاء الدولة قد نكب ابن المعلم (4/616)
أخبار ابن المعلم
هو أبو الحسن بن المعلم قد غلب على هوى بهاء الدولة و تحكم في دولته و صدر كثير من عظائم الأمور بإشارته فمنها نكبة أبي الحسن محمد بن عمر العلوي و كان قد عظم شأنه مع مشرف الدولة وكثرت أملاكه فلما ولي بهاء الدولة سعى به عنده وأطمعه في ماله فقبض عليه و استصفى سائر أملاكه ثم حمله على نكبة وزيره أبي منصور بن صالحان سنة ثمان و استوزر أبا النصر سابور بن أردشير قبل مسيره إلى خوزستان ثم حمله على خلع الطائع و استصفى أمواله و حمل ذخائر الخلافة إلى داره ثم حمله على نكبة وزيره أبي نصر سابور و استوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف و بعد مرجعه من خوزستان قبض على أبي خواشاده و أبي عبد الله بن ظاهر سنة إحدى و ثمانين و ثلاثمائة لأنهما لم يوصلا لابن المعلم هداياهما فحمل بهاء الدولة على نكبتهما و لما استطال على الناس وكثر الضجر منه شغب الجند على بهاء الدولة و طالبوه بإسلامه إليهم و راجعهم فلم يقبلوا فقبض عليه و على سائر أصحابه ليسترضيهم بذلك فلم يرضوا إلا به فأسلمه إليهم و قتلوه ثم اتهم الوزير أبا القاسم بمداخلة الجند في الشغب على الوزير فقبض عليه و استوزر مكانه أبا نصر سابور وأبا نصر بن الوزير الأولين و أقاما شريكين في الوزارة (4/616)
خروج أولاد بختيار وقتلهم
كان عضد الدولة قد حبس أولاد بختيار فأقاموا معتقلين مدة أيامه و أيام صمصام الدولة من بعده ثم أطلقهم مشرف الدولة و أحسن إليهم و أنزلهم بشيراز و أقطعهم فلما مات مشرف الدولة حبسوا في قلعة ببلاد فارس فاستمالوا الموكل الذي عليهم والجند الذي معه من الديلم فأفرجوا عنهم و ذلك سنة ثلاث و ثمانين و ثلاثمائة
واجتمع إليهم أهل تلك النواحي و أكثرهم رجالة و بلغ الخبر إلى صمصام الدولة فبعث أبا علي بن أستاذ هرمز في عسكر فافترقت تلك الجموع و تحصن بنو بختيار ومن معهم من الديلم و حاصرهم أبو علي و أرسل أحد الديلم معهم فأصعدهم سرا وملكوا القلعة و قتلوا أولاد بختيار (4/617)
استيلاء صمصام الدولة على الأهواز ورجوعها منه
ثم انتقض الصلح سنة ثلاث و ثمانين و ثلاثمائة بين بهاء الدولة صاحب بغداد و أخيه صمصام الدولة صاحب خوزستان و ذلك أن بهاء الدولة بعث أبا العلاء عبد الله بن الفضل إلى الأهواز و أسر إليه أن يبعث العساكر متفرقة فإذا اجتمعوا عنده صدم بهم بلاد فارس فسار أبو العلاء و تشاغل بهاء الدولة عن ذلك و ظهر الخبر فجهز صمصام الدولة عسكر ه إلى خوزستان و استمد أبو العلاء بهاء الدولة فتوافت عساكره و التقى العسكران و انهزم أبو العلاء و أخذ أسيرا فأطلقته أم صمصام الدولة و قلق بهاء الدولة لذلك و افتقد الأموال فأرسل وزيره أبا نصر سابور إلى واسط و أعطاه جواهر و اعلاقا يسترهنها عند مهذب الدولة صاحب البطيحة فاسترهنها و لما هرب الوزير أبو نصر استعفى ابن الصالحان من الانفراد بالوزارة فأعفي و استوزر بهاء الدولة أبا القاسم علي بن أحمد ثم عجز و هرب و عاد أبو نصر سابور إلى الوزارة بعد أن أصلح الديلم ثم بعث بهاء الدولة طغان التركي إلى الأهواز في سبعمائة من المقاتلة فملكوا السوس و رحل أصحاب صمصام الدولة عن الأهواز و انتشرت عساكر طغان في أعمال خوزستان و كان أكثرهم من الترك فغص الديلم بهم الذين في عسكر طغان فضل الدليل و أصبح على بعد منهم ورآهم الأتراك فركبوا إليهم و أكمن الوفا و استأمن كثير منهم و أمنهم طغان حتى نزلوا
بأمر الأتراك فقتلوهم كلهم و انتهى الخبر إلى بهاء الدولة بواسط و سار إلى الأهواز و سار صمصام الدولة إلى شيراز وذلك سنة أربع و ثمانين و ثلاثمائة و أمر صمصام الدولة بقتل الأتراك في جميع بلاد فارس سنة خمس و ثمانين و ثلاثمائة فقتل منم جماعة وهرب الباقون فعاثوا في البلاد و لحقوا بكرمان ثم ببلاد السند حتى توسطهم الأتراك فأطبقوا عليهم و استلحموهم (4/617)
استيلاء صمصام الدولة على الأهواز ثم على البصرة
ثم بعث صمصام الدولة عساكره الديلم سنة خمس و ثمانين و ثلاثمائة إلى الأهواز و كان نائب بهاء الدولة قد توفي و عزم الأتراك على العود إلى بغداد فبعث بهاء الدولة مكانه أبا كاليجار المرزبان بن سفهيعون و أنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى رام هرمز مددا لنائبها لفتكين و قد انهزم إليها أمام عسكر صمصام الدولة فترك أبا محمد بن مكرم بها و مضى إلى الأهواز و سار إلى خوزستان فكاتبه العلاء بن الحسن يخادعه ثم سار إلى رامهرمز وحارب ابن مكرم و لفتكين و بعث بهاء الدولة ثمانين من الأتراك يأتون من خلف الديلم فشعروا بهم و قتلوهم أجمعين و خام بهاء الدولة عن اللقاء فرجع إلى الأهواز ثم سار إلى البصرة و نزل بها و انتهى خبره إلى ابن مكرم فعاد إلى عسكر مكرم و اتبعه العلاء و الديلم فأجلوه عنها إلى قرب تستر وتكررت الوقائع بين الفريقين فكان بيد الأتراك من تستر إلى رامهرمز و بيد الديلم من رامهرمز و رجع الأتراك و اتبعهم العلاء فوجدهم قد سلكوا طريق واسط فرجع عنهم و أقام بعسكر مكرم و رجع بهاء الدولة إلى بغداد و كان مع العلاء قائد من قواد الديلم إسمه شكراستان فاستأمن إليه من الديلم الذين مع بهاء الدولة نحو من أربعمائة رجل فاستكثر بهم و سار إلى البصرة و حاصرها و مال إليهم أبو الحسن بن جعفر العلوي من أهل البصرة و كانوا يحملون الميرة و علم بهاء الدولة فأنفذ من يقبض عليهم فهربوا إلى ذلك القائد و قوي بهم و جمعوا له السفن فركبها إلى البصرة و قاتل أصحاب بهاء الدولة و هزمهم و ملك البصرة و استباحها وكتب بهاء الدولة إلى مهذب الدولة صاحب البطيحة بأن يرتجعها من يد الديلم و يتولاها فأمده عبد الله بن مرزوق و أجلى الديلم عنها ثم رجع للقاء شكراستان و هجم عليها في السفن فملكها وكاتب بهاء الدولة بالطاعة و الضمان فأجابه و أخذ ابنه رهينة وكان يظهر طاعة بهاء الدولة و صمصام الدولة (4/619)
وفاة الصاحب بن عباد
وفي سنة خمس و ثمانين و ثلاثمائة توفي أبو القاسم إسمعيل بن عباد وزير فخر الدولة بالري و كان أوحد زمانه علما و فضلا و رياسة و رأيا و كرما و عرفا بأنواع العلوم عارفا بالكتابة و رسائله مشهورة مدونة و جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد حتى يقال : كانت تنقل في أربعمائة حمل و وزر بعده لفخر الدولة أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي الملقب بالكافي و لما توفي استصفى فخر الدولة أمواله بعد أن أوصاه عند الموت فلم ينفذ وصيته و كان الصاحب قد أحسن إلى القاضي عبد الجبار المعتزلي و قدمه و ولاه قضاء الري و أعمالها فلما مات قال عبد الجبار لا أرى الترحم عليه لأنه مات على غير توبة ظهرت منه فنسب إليه قلة الوفاء بهذه المقالة ثم صادر فخر الدولة عبد الجبار فباع في المصادرة ألف طيلسان و ألف ثوب من الصوف الرفيع ثم تتبع فخر الدولة آثار ابن عباد و أبطل ماكان عنده من المسامحات و قبض على أصحابه و البقاء لله و حده (4/620)
وفاة فخر الدولة صاحب الري و ملك ابنه مجد الدولة
ثم توفي فخر الدولة بن بهن الدولة بن بويه صاحب الري و أصفهان و همذان في شعبان سنة خمس و ثلاثين و أربعمائة بقلعة طبرك و نصب للملك من بعده ابنه مجد الدولة أبو طالب رستم و عمره أربع سنين نصبه الأمراء و جعلوا أخاه شمس الدولة بهمذان و قرميس إلى حدود العراق و كان زمام الدولة بيد أم رستم مجد الدولة و إليها تدبير ملكه و بين يديها في مباشرة الأعمال أبو ظاهر صاحب فخر الدولة و أبو العباس الضبي الكافي (4/620)
وفاة العلاء بن الحسن صاحب خوزستان
ثم توفي العلاء بن الحسن عامل خوزستان لصمصام الدولة بعسكر مكرم فبعث صمصام الدولة أبا علي بن أستاذ هرمز بالمال ففرقه في الديلم و دفع أصحاب بهاء الدولة عن جند نيسابور بعد و قائع كان الظفر فيها له ثم دفعهم عن خوزستان إلى واسط و استمال بعضهم فنزعوا إليه و رتب العمال في البلاد و جبى الأموال السنة سبع و ثمانين و ثلاثمائة ثم سار أبو محمد بن مكرم من واسط مع الأتراك فدافعهم و كانت بينه و بينهم و قائع ثم سار بهاء الدولة في أثرهم من واسط و كان لحق بهم في واسط أبو علي بن اسمعيل الذي كان نائبا ببغداد عند مسيره إلى الأهواز سنة ست و ثمانين و ثلاثمائة و جاء المقلد بن المسيب من الموصل للعبث في جهات بغداد فبرز أبو علي لقتاله فنكر ذلك بهاء الدولة مغالطة و بعث من يصالحه و يقبض على أبي علي فهرب أبو علي إلى البطيحة ثم لحق بهاء الدولة و هو بواسط فوزر له وزير أمره و أشار عليه بالمسير لإنجاد أبي محمد بن مكرم في قتال أبي علي بن أستاذ هرمز بخوزستان فسار بهاء الدولة و نزل القنطرة البيضاء و جرت بينه و بين أبي علي بن أستاذ هرمز وقائع و انقطعت الميرة عن عسكر بهاء الدولة فاستمد بدر بن حسنويه فأمده ببعض الشيء وكثرت سعاية الأعداء في أبي علي بن إسمعيل فكاد ينكبهم و بينما هم على ذلك بلغهم مقتك صمصام الدولة فصلحت الأحوال و اجتمعت الكلمة (4/621)
مقتل صمصام الدولة
كان أبو القاسم و أبو نصر ابنا بختيار محبوسين كما تقدم فخدعا المتوكلين بهما في القلعة و خرجا فاجتمع إليهما لفيف من الأكراد و كان صمصام الدولة قد عرض جنده و أسقط منهم نحوا من ألف لم يثبت عنده نسبهم في الديلم فبادروا إلى ابني بختيار و التقوا عليهما في أرجان و كان أبو جعفر أستاذ هرمز مقيما فثار به الجند و نهبوا داره فاختفى ثم انتقضوا على صمصام الدولة و نهبوه و هرب إلى الرودمان على مرحلتين من شيراز فقبض عليه صاحبها و جاء أبو نصر بن بختيار فأخذه منه و قتله في ذي الحجة سنة ثمان لتسع سنين من إمارته بفارس و أسلمت أمه إلى بعض قواد الديلم فقتلها و دفنها بداره حتى ملك بهاء الدولة فارس فنقلها إلى تربة بني بويه (4/621)
استيلاء بهاء الدولة على فارس و خوزستان
ولما قتل صمصام الدولة و ملك ابنا بختيار فارس بعثا إلى أبي علي بن أستاذ هرمز يستميلانه و يأمرانه بأخذ العهد لهما على الذين معه من الديلم و محاربة بهاء الدولة و كتب إليه بهاء الدولة يستميله و يؤمنه و يؤمن الديلم الذين معه و يرغبهم و اضطرب رأي أبي علي لخوفه من ابني بختيار لما أسلف من قتل إخوتهما و حبسهما فمال عنهما ومال الديلم عن بهاء الدولة خوفا من الأتراك الذين معه فما زال أبو علي بهم حتى بعثوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة و استوثقوا يمينه و نزلوا إلى خدمته و ساروا إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز و أرجان و استولى بهاء الدولة على سائر بلاد خوزستان وبعث زيره أبا علي بن إسمعيل إلى فارس فنزل بظاهر شيراز و بها ابنا بختيار فحاربهما و مال بعض أصحابهما إليه ثم انفضوا عنهما إلى أبي علي و أطاعوه و استولى على شيراز و لحق أبو نظر ابن بختيار ببلاد الديلم و أخوه أبو القاسم ببدر بن حسنويه ثم بالبطيحة وكتب الوزير أبو علي إلى بهاء الدولة بالفتح فسار إلى شيراز وأمر بنهب قرية الرودمان فملكها و أقام بهاء الدولة بالأهواز و استخلف ببغداد أبا علي بن جعفر المعروف بأستاذ هرمز و لقبه عميد العراق و بقي ملوك الديلم بعد ذلك يقيمون بفارس الأهواز و يستخلفون على العراق مدة طويلة (4/622)
مقتل ابن بختيار بكرمان و استيلاء بهاء الدولة عليها
لما استقر أبو نصر بن بختيار ببلاد الديلم كاتب جند الديلم بفارس و كرمان و استمالهم فاستدعوه إلى فارس فاجتمع إليه كثير من الربض و الديلم و الأكراد ثم سار إلى كرمان و بها أبو جعفر بن السيرجان و مضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها و ملك أكثر كرمان فبعث بهاء الدولة وزيره الموفق أبا علي بن إسمعيل في العساكر و لما وصل جيرفت استأمن إليه أهلها و ملكها و هرب ابن بختيار فاختار الوزير من أصحابه ثلاثمائة رجل و سار في أتباعه و ترك باقي العسكر بجيرفت و لما أدركه أوقع به و غدر بابن بختيار بعض أصحابه فقتله و جاء برأسه إلى الموفق و استلحم الباقين و ذلك سنة تسعين و ثلاثمائة واستولى الموفق على كرمان و ولى عليها أبا موسى سياه جشم و عاد إلى بهاء الدولة فقبض عليه و استصفاه و كتب إلى وزيره سابور بالقبض على أنسابه و أصحابه فدس إليهم سابور بذلك و هربوا ثم قتل بهاء الدولة الموفق سنة أربع و سبعين و ثلاثمائة ثم استعمل بهاء الدولة على خوزستان و أعمالها أبا علي الحسن بن أستاذ هرمز و لقبه عميد الجيوش و عزل عنها أبا جعفر الحجاج بن هرمز لسوء سيرته و فساد أحوالها بولايته بكثرة مصادراته فصلحت حالها بولاية أبي علي و حصل إلى بهاء الدولة منها الأموال مع كثرة العدل (4/622)
مسير ظاهر بن خلف إلى كرمان و استيلاؤه عليها ثم ارتجاعها
قد تقدم لنا أن ظاهر بن خلف خرج عن طاعة أبيه خلف بن أحمد السجستاني وحاربه فظفر به أبوه فسار إلى كرمان يروم التوثب عليها و تكاسل عاملها عن أمره فكثر جمعه و اجتمع إليه بحيالها كثير من المخالفين فنزل بهم إلى جيرف فملكها و ملك غيرها سنة إحدى و تسعين و ثلاثمائة و كان بكرمان أبو موسى سياه جشم فسار إليه بمن معه من الديلم فهزمه ظاهر و أخذ ما بقي بيده فبعث بهاء الدولة أبا جعفر أستاذ هرمز في العساكر إلى كرمان فهزم ظاهرا إلى سجستان و ملك كرمان و عادت الديلم (4/623)
حروب عساكر بهاء الدولة مع بني عقيل
كان قرواش بن المقلد قد بعث جمعا من بني عقيل سنة ثلاث و تسعين و ثلاثمائة حاصروا المدائن و بعث أبو جعفر الحجاج بن هرمز و هو ببغداد نائب لبهاء الدولة عساكره فدفعوهم عنها فاجتمع بنو عقيل و أبو الحسن بن مزيد من بني أسد و برز إليهم الحجاج و استدعى خفاجة من الشام و قاتلهم فانهزم و استبيح عسكره و انهزم ثانيا و برز إليهم فالتقوا بنواحي الكوفة فهزمهم و أثخن فيهم و نهب من حلل بني يزيد ما لا يعبر عنه من العين و المصاغ و الثياب (4/623)
الفتنة بين أبي علي و أبي جعفر
لما غاب أبو جعفر الحاج عن بغداد قام بها العيارون و اشتد فسادهم و كثر القتل و النهب فبعث بهاء الدولة أبا علي بن جعفر المعروف بأستاذ هرمز لحفظ العراق فانهزم أبو جعفر بنواحي الكوفة مغضبا ثم جمعوا الجموع من الديلم و الأتراك و العرب فانهزم أبو جعفر و أمن أبو علي جانبه فسار إلى خوزستان و بلغ السوس
فأتاه الخبر بأن أبا جعفر عاد إلى الكوفة فكر راجعا و عاد الحرب بينهم و بينما هم على ذلك أرسل بهاء الدولة إلى أبي علي يستدعيه سنة ثلاث و تسعين و ثلاثمائة لحرب ابن واصل بالبصرة فسار إليه و كانت الحرب بينه و بين ابن واصل كما يأتي في أخبار ملوك البطيحة و رجع إلى بغداد و نزل أبو جعفر على فلح حامى طر يق خراسان و أقام هنالك و كان فلح مباينا لعميد الجيوش أبي علي و توفي سلخ سنة سبع و تسعين و ثلاثمائة فولي أبو علي مكانه أبا الفضل بن عنان و كان بهاء الدولة في محاربة ابن واصل بالبصرة فأتاهم الخبر بظهور بهاء الدولة عليه فأوهن ذلك منهم و افترقوا و لحق ابن مزيد ببلده و سار أبو جعفر و ابن عيسى إلى حلوان و أرسل أبو جعفر في إصلاح حاله عند بهاء الدولة فأجابه إلى ذلك و حضر عنده بتستر فأعرض عنه خوفا أن يستوحش أبو علي و حقد بهاء الدولة لبدر بن حسنويه فسار إليه و بعث إليه بدرا في المصالحة فقبله و انصرف و توفي أبو جعفر الحجاج بن هرمز بالأهواز سنة إحدى و أربعمائة (4/624)
الفتنة بين مجد الدولة صاحب الري و بين أمه و استيلاء ابن خالها علاء الدين بن كاكويه كل أصفهان
قد تقدم لنا ولاية مجد الدولة أبي طالب رستم بن فخر الدولة على همذان و قرميس إلى حدود العراق و تدبير الدولتين لأمه و هي متحكمة عليهما فلما و زر لمجد الدولة الخطير أبو علي بن علي بن القاسم استمال الأمراء عنها و خوف مجد الدولة عنها فاسترابت و خرجت من الري إلى القلعة فوضع عليها من يحفظها فأعملت الحيلة حتى لحقت ببدر بن حسنويه مستنجدة به و جاءها ابنها شمس الدولة في عساكر همذان و سار معهما بدر و ذلك سنة سبع و تسعين و ثلاثمائة فحاصروا أصفهان و ملكوها عنوة و عاد إليها الأمر فاعتقلت مجد الدولة و نصبت شمس الدولة للملك و رجع بدر إلى بلده ثم بعد سنة استرابت بشمس الدولة فأعادت مجد الدولة إلى ملكه و سار شمس الدولة إلى همذان و انتقض بدر بن حسنويه لذلك و كان في شغل بفتنة ولده هلال و استمد شمس الدولة فأمده بعسكر و حاصر قم فاستصعبت عليه و كان علاء الدين أبو حفص بن كاكويه ابن خال هذه المرأة و كاكويه هو الخال بالفارسية فلذلك قيل له ابن كاكوي و كانت قد استعملته على أصفهان فلما فارق أمرها فسد حاله فسار هو إلى بهاء الدولة بالعراق و أقام عنده فلما عادت إلى حالها هرب أبو حفص إليها من العراق فأعادته إلى أصفهان و رسخ فيها ملكه و ملك بنيه كما يأتي في أخبارهم (4/625)
وفاة عميد العراق و ولاية فخر الملك
كان أبو جعفر أستاذ هرمز فن حجاب عضد الدولة و خواصه و صير ابنه أبا علي في خدمة ابنه صمصام الدولة فلما قتل صمصام الدولة رجع إلى بهاء الدولة و بلغه ما و قع ببغداد في مغيبه من الهرج و ظهور العيارين فبعث بهاء الدولة مكانه على العراق فخر الملك أبا غالب و أصعد إلى بغداد فلقيه الكتاب و القواد و الأعيان في ذي الحجة من السنة و بعث العساكر من بغداد لقتال أبي الشوك حتى استقام وكانت الفتنة قد وقعت بين بدر بن حسنويه و ابنه هلال و استنجد بدر ببهاء الدولة فأنجده من يده و أخذ ما فيها من الأموال و فتح دير العاقول و جاء سلطان و علوان و رجب بنو ثمال الخفاجي في أعيان قومهم و ضمنوا حماية سقي الفرات من بني عقيل و ساروا معه إلى بغداد فبعثهم مع ذي السعادتين الحسن بن منصور للأنبار فعاثوا في نواحيها و حبس ذو السعادتين نفرا منهم ثم أطلقهم فهموا بقبضه و شعر بهم فحاول عليهم حتى قبض على سلطان منهم و حبسهم ببغداد ثم
شفع فيهم أبو الحسن بن مزيد فأطلقهم فاعترضوا الحجاج سنة اثنتين و أربعمائة و نهبوهم فبعث فخر الملك إلى أبي الحسن بن مزيد بالانتقام منهم فلحقهم بالبصرة فأوقع بهم و أثخن فيهم و استرد من أموال الحاج ما وجد و بعث به و بالأسرى إلى فخر الملك ثم اعترضوا الحجاج مرة أخرى و نهبوا سواد الكوفة فأوقع بهم أبو الحسن بن مزيد مثل ذلك و بعث بأسراهم إلى بغداد (4/625)
وفاة بهاء الدولة و ولاية ابنه سلطان الدولة
ثم توفي بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة بن بويه هلك بالعراق منتصف ثلاث و أربعمائة بأرجان و حمل إلى تربة أبيه بمشهد علي فدفن بها لأربع و عشرين سنة من ملكه و ملك بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع و سار من أرجان إلى شيراز و ولى أخاه جلال الدولة أبا ظاهر على البصرة و أخاه أبا الفوارس على كرمان (4/627)
استيلاء شمس الدولة على الري من يد أخيه مجد الدولة ورجوعه عنها
قد تقدم لنا أن شمس الدولة بن فخر الدولة كان ملك همذان و أخوه مجد الدولة ملك الري بنظر أمه و كان بدر بن حسنويه أمير الأكراد و بينه و بين ولده هلال فتنة و حروب نذكرها في أخبارهم و استولى شمس الدولة على كثير من بلادهم و أخذ ما فيها من الأموال كما يذكر في أخبارهم ثم سار إلى الري يروم ملكها ففارقها أخوه مجد الدولة و معه أمه إلى دنباوند و استولى شمس الدولة على الري و سار في طلب أخيه و أمه فشغب الجند عليه و طالبوه بأرزاقهم فعاد إلى همذان و عاد أخوه مجد الدولة و أمه إلى الري (4/627)
مقتل فخر الملك و وزارة ابن سهلان
ثم قبض سلطان الدولة على نائبه بالعراق و وزيره فخر الملك أبي غالب و قتله في سلخ ربيع الأول سنة ست و أربعمائة لخمس سنين و نصف من ولايته و استصفى أمواله وكانت ألف ألف دينار سوى العروض و ما نهب و ولى مكانه بالعراق أبا محمد الحسن بن سهلان و لقبه عميد الجيوش و استوزر مكانه الرجحي بعد أن كان ابن سهلان هرب إلى قرواش فأقامه عنده بهيت و ولى سلطان الدولة مكانه في الوزارة أبا القاسم جعفر بن فسانجس ثم رجع ابن سهلان إلى سلطان الدولة فلما قتل فخر لملك ولاه مكانه فسار إلى العراق في محرم سنة تسع و أربعمائة و مر في طريقه ببني أسد فرأى أن يثأر منهم من مضر بن دبيس بما كان قد قبض عليه قديما بأمر فخر الملك فأسرى إليه و إلى أخيه مهارش و في جملته أخوهم طراد و اتبعهما حتى أدركهما و قاتله رجال الحي فقتل جماعة من الديلم و الأتراك ثم انهزموا و نهب ابن سهلان أموالهم و سبى حريمهم و بذل الأمان لمضر و مهارش و أشرك بينهما و بين طراد في الجزيرة و نكر عليه سلطان الدولة ذلك و رحل هو إلى واسط و الفتن بها فقتل جماعة منهم و أصلحها و بلغه ما ببغداد من الفتنة فسار إليها و دخلها في ربيع من السنة و هرب منه العيارون و نفى جماعة من العباسيين و أبا عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة و أنزل الديلم بأطراف البلد فكثر فسادهم و فساد الأتراك و ساروا إلى سلطان الدولة بواسط شاكين من ابن سهلان فوعدهم و أمسكهم و بعث عن ابن سهلان فارتاب و هرب إلى خفاجة ثم إلى الموصل ثم استقر بالبطيحة و بعث سلطان الدولة العساكر في طلبه فأجاره إليها الشرابي و هزم العساكر و كان ابن سهلان سار إلى جلال الدولة بالبصرة ثم أصلح الرجحي حاله مع سلطان الدولة و رجع إليه
وضعف أمر الديلم في هذه السنة ببغداد و واسط و ثارت لهم العامة فلم يطيقوا مدافعتهم
ثم قبض سلطان الدولة على وزيره فسانجس و أخويه و استوزر أبا غالب ذا السعادتين الحسن بن منصور و قبض جلال الدولة صاحب البصرة على وزيره أبي سعد عبد الواحد علي بن ماكولا (4/627)
انتقاض أبي الفوارس على أخيه سلطان لدولة
كان سلطان الدولة قد ولى أخاه أبا الفوارس على كرمان فاجتمع إليه بعض الديلم و داخلوه في الانتقاض فانتقض و سار إلى شيراز فملكها سنة سبع و أربعمائة و سار سلطان الدولة فهزمهم إلى كرمان و سار في اتباعه فلحق بمحمود بن سبكتكين ببست و وعده بالنصرة و بعث معه أبا سعيد الطائي في العساكر إلى كرمان و قد انصرف عنها سلطان الدولة إلى بغداد فملكها أبو الفوارس و سار إلى بلاد فارس فملكها و دخل إلى شيراز فسار سلطان الدولة إليه فهزمه فعاد إلى كرمان سنة ثمان و أربعمائة و بعث سلطان الدولة في أثره فملكوا عليه كرمان و لحق بشمس الدولة صاحب همذان لأنه كان أساء معاملة أبي سعيد الطائي فلم يرجع إلى محمود بن سبكتكين ثم فارق شمس الدولة إلى مهذب الدولة صاحب البطيحة فبالغ في تكرمته و أنزله بداره و أنفذ إليه أخوه جلال الدولة مالا و عرض عليه المسير إليه فأبى ثم ترددت الرسل بينه و بين أخيه سلطان الدولة فعاد إلى كرمان و بعث إليه التقليد و الخلع (4/628)
و ثوب مشرف الدولة على أخيه سلطان الدولة ببغداد و استبداده آخرا بالملك
ثم شغب الجند على سلطان الدولة ببغداد سنة إحدى عشرة و أربعمائة و نادوا بولاية مشرف الدولة أخيه فيهم بالقبض عليه فلم يتمكن من ذلك ثم أراد الإنحدار إلى واسط لبعض شؤون الدولة فطلب الجند أن يستخلف فهم أخاه مشرف الدولة فاستخلفه و رجع من واسط إلى بغداد ثم اعتزم على قصد الأهواز فاستخلف أخاه مشرف الدولة ثانيا على العراق بعد أن كانا تحالفا أن لا يستخلف أحد منهما ابن سهلان فلما بلغ سلطان الدولة تستر وزير ابن سهلان فاستوحش من مشرف الدولة
ثم بعث سلطان الدولة إلى الأهواز فنهبوها فدافعهم الأتراك الذين بها و أعلنوا بدعوة مشرف الدولة فانصرف سلطان الدولة عنهم ثم طلب الديلم من مشرف الدولة المسير إلى بيوتهم بخوزستان فأذن لهم و بعث معهم وزير أبا غالب و لحق الأتراك الذين كانوا معه بطراد بن دبيس الأسدي بجزيرة بني دبيس و ذلك لسنة و نصف من ولايته الوزارة و صودر ابنه أبو العباس على ثلاثة ألف دينار و سر سلطان الدولة بقتل أبي غالب و بعث أبا كاليجار إلى الأهواز فملكها ثم تراسل سلطان الدولة و مشرف الدولة في الصلح و سعى فيه بينهما أبو محمد بن مكرم صاحب سلطان الدولة و مؤيد الملك الرجحي وزير مشرف الدولة على أن يكون العراق لمشرف الدولة و فارس و كرمان لسلطان الدولة و تم ذلك بي بينهما سنة ثلاث عشرة و أربعمائة (4/629)
استيلاء ابن كاكويه على همذان
كان شمس الدولة بن بويه صاحب همذان قد توفي و ولي مكانه ابنه سماء الدولة وكان فرهاد بن مرداويج مقطع يزدجرد فسار إليها سماء الدولة و حاصره فاستنجد بعلاء الدولة بن كاكويه فانجده بالعساكر و دفع سماء الدولة عن فرهاد ثم سار علاء الدولة و فرهاد إلى همذان و حاصراها و خرجت عساكر همذان مع عساكر تاج الملك الفوهي قائد سماء الدولة فدفعهم و لحق علاء الدولة بجرباذقان فهلك الكثير من عسكر ه بالبرد و سار تاج الملك الفوهي إلى جرباذقان فحاصر بها علاء الدولة حتى استمال بها قوما من الأتراك الذين مع تاج الملك و خلص من الحصار و عاود المسير إلى همذان فهزم عساكرها و هرب القائد تاج الملك و استولى علاء الدولة على سماء الدولة فأبقى عليه رسم الملك و حمل إليه المال و سار فحاصر تاج الملك في حصنه حتى استأمن إليه فأمنه و سار به و بسماء الدولة إلى همذان فملكها و ملك سائر أعمالها و قبض على جماعة من أمراء الديلم فحبسهم و قتل آخرين و ضبط الملك و قصد أبا الشوك الكردي فشفع فيه مشرف الدولة فشفعه و عاد عنه و ذلك سنة أربع عشرة و أربعمائة (4/630)
وزارة أبي القاسم المغربي لمشرف الدولة ثم عزله
كان عنبر الخادم مستوليا على دولة مشرف الدولة بما كان حظى أبيه و جده و كان يلقب بالأثير و كان حاكما في دولة بني بويه مسموع الكلمة عند الجند و عقد الوزير مؤيد الملك الرجحي على بعض اليهود من حواشيه مائة ألف دينار فسعى الأثير الخادم و عزله في رمضان سنة أربع عشرة و أربعمائة و استوزر لناصر الدولة بن حمدان و نزع عنه إلى خلفاء العبيديين و ولاه الحاكم بمصر و ولد له بها ابنه أبو القاسم الحسين ثم قتله الحاكم فهرب ابنه أبو القاسم إلى مفرج بن الجراح أمير طيء بالشام و داخله في الانتقاض على العبيديين بأبي الفتوح أمير مكة فاستقدمه و بايع له بالرملة ثم صونع مع مصر بالمال فانحل ذلك الأمر و رجع أبو الفتوح إلى مكة و قصد أبو القاسم العراق و اتصل بالعميد فخر الملك أبي غالب فأمره القادر بإبعاده فقصد الموصل و استوزره صاحبها ثم نكبه و عاد إلى العراق و تقلب به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرجحي فساء تصرفه في الجند و شغب الأتراك عليه و على الأثير عنبر بسببه فخرجا إلى السندية و خرج معهما مشرف الدولة فأنزلهم قرواش ثم ساروا إلى أوانا و ندم الأتراك فبعثوا المرتضى و أبا الحسن الزينبي يسألون الإقالة و كتب إليهم أبو القاسم المغربي بأن أرزاقكم عند الوزير مكرا به وشعر بذلك فهرب إلى قرواش لعشرة أشهر من و زارته و جاء الأتراك إلى مشرف الدولة و الأثير عنبر فردهما إلى بغداد (4/630)
وفاة سلطان الدولة بفارس و ملك ابنه أبي كليجار وقتل ابن مكرم
ثم توفي سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة صاحب فارس بشيراز و كان محمد بن كرم صاحب دولته و كان هواه مع ابنه أبي كليجار و هو يومئذ أمير على الأهواز فاستقدمه للملك بعد أبيه و كان هوى الأتراك مع عمه أبي الفوارس صاحب كرمان فاستقدموه و خشي محمد بن مكرم جانبه و فر عنه أبو المكارم إلى البصرة و سار العادل أبو منصور بن مافنة إلى كرمان لاستقدام أبي الفوارس و كان صديقا لابن مكرم فحسن أمره عند أبي الفوارس و أحال الأجناد بحق البيعة على ابن مكرم فضجر و ماطلهم فقبض عليه أبو الفوارس و قتله و لحق ابنه القاسم بأبي كليجار بالأهواز فتجهز إلى فارس و قام بتربيته بابن مزاحم صندل الخادم
وسار في العساكر إلى فارس و لقيهم أبو منصور الحسن بن علي النسوي وزير أبي الفوارس فهزموه و غنموا معسكره و هرب أبو الفوارس إلى كرمان و ملك أبو كليجار شيراز واستولى على بلاد فارس و تنكر للديلم الذين بها فبعثوا إلى من كان منهم بمدينة نسا فتمسكوا بطاعة أبي الفوارس ثم شغب عسكر أبي كليجار عليه وطالبوه بالمال فظاهرهم الديلم فسار إلى النوبندجان ثم إلى شعب بوان و كاتب الديلم بشيراز أبا الفوارس يستحثونه ثم أصلحوا بينهما على أن تكون لأبي الفوارس كرمان و يعود أبو كليجار لفارس لما فارقه بها من نعمته و كان الديلم يطيعونه فساروا في العساكر و هزموا أبا الفوارس فلحق بدارابجرد و استولى أبو كليجار على فارس
ثم زحف إليه أبو الفوارس في عشرة آلاف من الأكراد فاقتتلوا بين البيضاء واصطخر فانهزم أبو الفوارس و لحق بكرمان و استولى أبو كليجار على فارس و استقر ملكه بها سنة سبع عشرة و أربعمائة (4/631)
وفاة مشرف الدولة و ملك أخيه جلال الدولة
ثم توفي مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة بن بويه سلطان بغداد في ربيع الأول سنة ست عشرة و أربعمائة لخمس سنين من ملكه و لما توفي خطب ببغداد لأخيه جلال الدولة و هو بالبصرة و استقدم فلم يقدم و انتهى إلى واسط فأقام بها يخطب لأبي كليجار ابن أخيه سلطان الدولة و هو يومئذ بخوزستان مشغول بحرب عمه أبي الفوارس كما قدمناه فحينئذ أسرع جلال الدولة من واسط إلى بغداد فسار الجند و لقوه بالنهروان و ردوه كرها بعد أن نهبوا بعض خزائنه و قبض على وزيره أبي سعيد بن ماكولا و استوزر ابن عمه أبا علي و استحث الجند أبا كليجار فعللهم بالوعد و شغل بالحرب وكثر الهرج ببغداد من العيارين و انطلقت أيديهم و أحرقوا الكرخ و نهاهم الأمير عنبر عن ذلك فلم ينتهوا فخافهم على نفسه فلحق بقرواش في الموصل و عظمت الفتن ببغداد (4/632)
استيلاء جلال الدولة على ملك بغداد
ولما عظم الهرج ببغداد و رأى الأتراك أن البلاد تخرب و أن العرب و الأكراد و العامة قد طمعوا فيهم ساروا جميعا إلى دار الخلافة مستعتبين و معتذرين عما صدر منهم من الانفراد باستقدام جلال الدولة ثم رده و استقدام أبي كليجار مع أن ذلك ليس لنا وإنما هو للخليفة و يرغبون في استدعاء جلال الدولة لتجتمع الكلمة و يسكن الهرج و يسألون أن يستخلف فأجابهم الخليفة القادر و بعث إلى جلال الدولة فسار من البصرة فبعث الخليفة القاضي أبا جعفر السمناني لتلقيه و يستخلفه لنفسه فسار ودخل بغداد سنة ثمان عشرة و أربعمائة و ركب الخليفة لتلقيه ثم سار إلى مشهد الكاظم و رجع و دخل دار الملك و أمر بضرب النوب الخمس فراسله القادر في قطعها فقطعها غصبا ثم أذن له في إعادتها وبعث جلال الدولة مؤيد الملك أبا علي الرجحي إلى الأثير عنبر الخادم عند قرواش بالتأنيس و المحبة و العذر عن فعل الجند (4/633)
أخبار ابن كاكويه صاحب أصفهان مع الأكراد و مع الأصبهبذ
كان علاء الدولة بن كاكويه قد استعمل أبا جعفر عليا ابن عمه على نيسابور خوست ونواحيها و ضم إليه الأكراد الجودرقان و مقدمهم أبو الفرج البابوني فجرت بين أبي جعفر و أبي الفرج البابوني مشاجرة و ترافعا إليه فأصلح بينهما علاء الدولة وأعادهما ثم قتل أبو جعفر أبا الفرج فانتقض الجودرقان و عظم فسادهم فبعث علاء الدولة عسكرا و أقاموا أربعة أيام ثم فقدوا الميرة و جاء علاء الدولة و أعطاهم المال فافترقوا و اتبعهم و جاء إليه بعض الجودرقان و انتهى في اتباعهم إلى وفد و قاتلوه عندها فهزمهم و قتل ابني ولكين في المعركة و نجا هو في الفل إلى جرجان و أسر الأصبهبذ و ابنان له و وزيره و هلك في الأسر منتصف سنة تسع عشرة و أربعمائة وتحصن علي بن عمران بقلعة كنكور فحاصره بهاء الدولة و صار ولكين إلى صهره منوجهر قابوس و أطمعه في الدخس و كان ابنه صهر علاء الدولة على ابنته وأقطعه مدينة قم فعصى عليه و بعث إلى أبيه ولكين فسار بعساكره و عساكر منوجهر ونازلوا مجد الدولة بن بويه بالري و جرت بينهم وقائع فصالح علاء الدولة علي بن عمران ليسير إليهم فارتحلوا عن الري و جاء علاء الدولة إليها و أرسل إلى منوجهر يوبخه و يتهدده فسار منوجهر و تحصن بكنكور و قتل الذين قتلوا أبا جعفر ابن عمه وقبل الشرط و خرج إلى علاء الدولة فأقطعه الدينور عوضا عن كنكور و أرسل منوجهر إلى علاء الدولة في الصلح فصالحه (4/633)
دخول خفاجة في طاعة أبي كليجار
كان هؤلاء خفاجة و هم من بني عمرو بن عقيل موطنين بضواحي العراق بين بغداد و الكوفة و واسط و البصرة و أميرهم بهذه العصور منيع بن حسان و كانت بينه و بين صاحب الموصل منافسات جرتها المناهضة و الجوار فترددت الرسل بين السلم والحرب و سار منيع بن حسان سنة سبع عشرة و أربعمائة إلى الجامعين من أعمال دبيس فنهبها و سار دبيس في طلبه ففارق الكوفة و قصد الأنبار من أعمال قرواش فحاصرها أيام ثم افتتحها و أحرقها و جاء قرواش لمدافعته و معه غريب بن معن فلم يجدوه فمضوا إلى القصر فخالفهم منيع إلى الأنبار فعاث فيها ثانية فسار قرواش إلى الجامعين و استنجد دبيس بن صدقة فسار معه في بني أسد ثم خاموا عن لقاء صنيع فافترقوا و رجع قرواش إلى الأنبار فأصلحها و رم أسوارها و كان دبيس و قرواش في طاعة جلال الدولة فسار منيع بن حسان إلى أبي كليجار بالأهواز فأطاعه و خلع عليه و رجع إلى بلده يخطب له بها (4/634)
شغب الأتراك على جلال الدولة
ولما استقل جلال الدولة بملك بغداد كثر جنده من الأتراك و اتسعت أرزاقهم من الديوان و كان الوزير أبو علي بن ماكولا فطالبوه بأرزاقهم فعجز عنها و أخرج جلال الدولة صياغات و باعها و فرقها في الجند ثم ثاروا عليه و طالبوه بأرزاقهم وحصروه في داره حتى فقد القوت و الماء و سأل الإنزال إلى البصرة و خرج بأهله ليركب السفن إلى البصرة و قد ضرب سرادقا على طريقهم ما بين داره و السفن فقصد الأتراك السرادق فامتعض جلال الدولة لحريمه ثم نادى في الناس و خرج الجند و نادوا بشعاره ثم شغبوا عليه بعد أيام قلائل في طلب أرزاقهم و اضطر جلال الدولة إلى بيع ملبوسه و فرشه و خيامه و فرق أثمانها فيهم و عزل جلال الدولة وزيره أبا علي و استوزر أبا طاهر ثم عزله بعد أربعين يوما و ولى سعيد بن عبد الرحيم و ذلك سنة تسع عشرة و أربعمائة (4/635)
استيلاء أبي كليجار على البصرة ثم على كرمان
ولما أصعد جلال الدولة إلى بغداد استخلف على البصرة ابنه الملك العزيز أبا منصور وكان بين الأتراك و بين الديلم من الفتنة ما ذكرناه فتجددت بينهم الفتنة فغلب الأتراك وأخرجوا الديلم إلى الأبلة مع بختيار بن علي فسار إليهم الملك العزيز ليرجعهم فحاربوه و نادوا بشعار أبي كليجار بن سلطان الدولة و هو بالأهواز فعاد منهزما و نهب الديلم الأبلة و نهب الأتراك البصرة
وبلغ الخبر إلى أبي كليجار فبعث من الأهواز عسكرا إلى بختيار و البصرة و الديلم فقاتلوا الملك العزيز و أخرجوه فلحق بواسط و ملكوا البصرة و نهبوا أسواقها سنة تسع عشرة و أربعمائة و هم جلال الدولة بالمسير إليهم و طلب المال للجند و شغل بمصادرة أرباب الأموال و بلغ خبر استيلاء أبي كليجار على البصرة إلى كرمان و كان بها عمه قوام الدولة أبو الفوارس و قد تجهز لقصد بلاد فارس فأدركه أجله فمات فنادى أصحابه بشعار أبي كليجار و استدعوه فسار ملك بلاد كرمان و كان أبو الفوارس سيئ السيرة في رعيته و أصحابه (4/635)
قيام بني دبيس بدعوة أبي كليجار
كانت جزيرة بني دبيس بنواحي خوزستان لطراد بن دبيس و غلب عليه فيها منصور و خطب فيها لأبي كاليجار و مات طراد فسار إلى منصور ابنه علي واستنجد جلال الدولة عليه فأمده بعسكر من الأتراك و سار عجلا و اتفق أن أبا صالح كوكين هرب من جلال الدولة إلى أبي كليجار فأراد أن يفتتح طاعته باعتراض أصحاب جلال الدولة فسار إلى منصور بالجزيرة و خرجوا لقتال علي بن طراد و لقوه بمبرود فهزموه وقتلوه و استقر منصور الجزيرة على طاعة أبي كليجار (4/636)
استيلاء أبي كليجار على واسط ثم انهزامه و عودها لجلال الدولة
ثم إن نور الدولة دبيس على صاحب حلب و النيل خطب لأبي كليجار في أعماله لما بلغه أن ابن عمه المقلد بن الحسن و منيع بن حسان أمير خفاجة سارا مع عساكر بغداد إليه فخطب هو لأبي كليجار و استدعاه فسار من الأهواز إلى واسط و قد كان لحق بها الملك العزيز بن جلال الدولة و معه جماعة من الأتراك فلما وصل أبو كليجار فارقها الملك العزيز إلى النعمانية و استولى أبو كليجار على واسط و وفد عليه دبيس و بعث إلى قرواش صاحب الموصل و الأثير عنبر عنده و أمرهما أن ينحدرا إلى العراق فانحدرا و مات الأثير عنبر بالكحيل و رجع قرواش وجمع جلال الدولة العساكر و استنجد أبا الشوك و غيره و سار إلى واسط و ضاقت عليه الأمور لقلة المال
وأشار عليه أصحابه بمخالفة أبي كليجار إلى الأهواز لأخذ أمواله و أشار أصحاب أبي كليجار بمخالفة جلال الدولة إلى العراق و بينما هم في ذلك جاءهم الخبر من أبي الشوك بمسير عساكر محمود بن سبكتكين إلى العراق و يشير باجماع الكلمة
وبعث أبو كليجار بكتابه إلى جلال الدولة فلم يعرج عليه و سار إلى الأهواز و نهبها وأخذ من دار الإمارة خاصة مائتي ألف دينار سوى أموال الناس و أخذت والدة أبي كليجار و بناته و عياله و حملن إلى بغداد و سار جلال الدولة لاعتراضه و تخلف عنه دبيس بن مزيد خشية على أحيائه من خفاجة و التق أبو كليجار و جلال الدولة في ربيع سنة إحدى و عشرين و أربعمائة فاقتتلوا ثلاثا ثم انهزم أبو كليجار و قتل من أصحابه نحو من ألفين و رجع إلى الأهواز و أتاه العادل بن مافنة بمال أنفقه في جنده و رجع جلال الدولة إلى واسط و استولى عليها و أنزل ابنه العزيز بها و رجع (4/636)
استيلاء محمود بن سبكتكين صاحب خراسان على بلاد الري و الجيل و أصفهان
كان مجد الدولة بن فخر الدولة متشاغلا بالنساء و العلم و تدبير ملكه لأمه و توفيت سنة تسع عشرة و أربعمائة فاختلفت أحواله و طمع فيه جنده فكتب إلى محمود بن سبكتكين يشكو إليه فبعث إليه عسكرا مع حاجبه و أمره بالقبض عليه فركب مجد الدولة لتلقيه فقبض عليه و على ابنه أبي دلف و طير بالخبر إلى محمود فجاء إلى الري و دخلها في ربيع الآخر سنة عشرين و أربعمائة و أخذ منها مال مجد الدولة ألف ألف دينار و من الجواهر قيمة خمسمائة ألف دينار و ستة آلاف ثوب و من الحرير والآلات مالا يحصى و بعث بمجد الدولة إلى خراسان فاعتقل بها ثم ملك قزوين وقلاعها و مدينة ساوة و آوة و يافت و قبض على صاحبها ولكين و بعث به إلى خراسان و قتل من الباطنية خلقا و نفى المعتزلة إلى خراسان و أحرق كتب الفلسفة و الاعتزال و النجامة و ملك حدود أرمينية و خطب له علاء الدولة بن كاكويه بأصفهان و استخلف على الري ابنه مسعودا فافتتح زنجان و أبهر ثم ملك أصفهان من يد علاء الدولة و استخلف عليها بعض أصحابه فثار به أهل أصفهان و قتلوه فسار إليها و فتك فيهم يقال قتل منهم خمسة آلاف قتيل و عاد إلى الري فأقام بها (4/637)
أخبار الغز بالري و أصفهان و أعمالها و عودهما إلى علاء الدولة
قد تقدم لنا في غير موضع بداية هؤلاء الغز و أنهم كانوا بمفازة بخاري و كانوا فريقين : أصحاب أرسلان بن سلجوق و أصحاب بني أخيه ميكائيل بن سلجوق وأن يمين الدولة محمود بن سبكتكين لما ملك بخاري و ما وراء النهر قبض على أرسلان بن سلجوق و سجنه بالهند و نهب أحياءه ثم نهض إلى خراسان و لحق بعضهم بأصفهان و بعث محمود في طلبهم إلى علاء الدولة بن كاكوبه فحاول على أخذهم وشعروا ففروا إلى نواحي خراسان وكثر عيثهم فأوقع بهم تاش الفوارس قائد مسعود ابن سبكتكين فساروا إلى الري قاصدين أذربيجان و كانوا يسمون العراقية وكان أمراء هذه الطائفة كوكتاش و يرفأ و قزل و بعمر و ناصفلي فلما انتهوا إلى الدامغان خرج إليهم عسكرها فلم يطيقوا دفاعهم فتحصنوا بالجبل
ودخل الغز البلد و نهبوه ثم فعلوا في سمنان مثل ذلك ثم في جوار الري و في إسحاقا باذ وما جاورها من القرى ثم ساروا إلى مسكوية من أعمال الري فنهبوها و كان تاش الفوارس قائد بني سبكتكين بخراسان و معه أبو سهل الحمدوني من قوادهم فاستنجدوا مسعود بن سبكتكين و صاحب جرجان و طبرستان فأنجداهم و قاتلا الغز فانهزما و قتل تاش الفوارس و سار إلى الري أبو سهل الحمدوني فهزموه و تحصن بقلعة طبرك ودخل الغز الري و نهبوه ثم قاتلوه ثانيا فأسر منهم ابن أخت لعمر من قوادهم فبذلوا فيه ثلاثين ألف دينار و إعادة ما أخذوا من عسكر تاش من المال و الأسرى فأبى أبو سهل من إطلاقه و خرج الغز من الرق و وصل عسكر جرجان و قاتلوا الغز عندما قاربوا الري و أسروا قائدهم و ألفين معه و ساروا إلى أذربيجان و ذلك سنة سبع وعشرين و أربعمائة
ولما سار الغز إلى أذربيجان صار على الدولة إلى الري فدخلها بدعوة مسعود بن سبكتكين و أرسل إلى أبي سهل الحمدوني أن يضمن على البلد مالا فأبى فأرسل علاء الدولة يستدعي الغز فرجع إليه بعضهم و أقام عنده ثم استوحشوا منه وعادوا إلى العيش بنواحي البلاد فكرر علاء الدولة مراسلة أبي سهل في الضمان ليكون في طاعة مسعود بن سبكتكين و كان أبو سهل بطبرستان فأجابه و سار إلى نيسابور و ملك علاء الدولة الري ثم اجتمع أهل أذربيجان لمدافعة الغز الذين طرقوا بلادهم و انتقموا من الغز فافترقوا فسارت طائفة إلى الري و مقدمهم يرقا و طائفة إلى همذان و مقدمهم منصور و كوكتاش فحاصروا بها أبا كليجار بن علاء الدولة و أنجده أهل البلاد على دفاعهم و طال حصارهم لهمذان حتى صالحهم أبو كليجار و صاهر كوكتاش و أما الذين قصدوا الري فحاصروا بها علاء الدولة بن كاكويه و انضم إليهم فناخسرو بن مجد الدولة و كامد صاحب ساوة فطال حصارهم و فارق البلد في رجب ليلا إلى أصفهان و أجفل أهل البلد و تمزقوا و دخلها الغز من الليل و استباحوها و اتبع علاء الدولة جماعة منهم فلم يدركوه فعدلوا إلى كرج و نهبوها و مضى ناصفلي منهم إلى قزوين فقاتلهم حتى صالحوه على سبعة آلاف دينار و صاروا إلى طاعته و لما ملكوا الري رجعوا إلى حصار همذان ففارقها أبو كليجار و صحبه الوجوه و الاعيان و تحضنوا بكنكون و ملك الغز همذان و مقدمهم كوكتاش و منصور و معهم فناخسرو بن مجد الدولة في عدد من الديلم فاستباحوها و بلغت سراياهم إلى استراباذ و قرى الدينور و قاتلهم صاحبها أبو الفتح ابن أبي الشوك فهزمهم و أسر منهم حتى صالحوه على إطلاقهم فأطلقهم ثم راسلوا أبا كليجار بن علاء الدولة في المتقدم عليهم يدبر ملكهم بهمذان فلما جاءهم و ثبوا به فنهبوا ماله و انهزم و خرج علاء الدولة من أصفهان فوقع في طريقه بطائفة من الغز فظفر بهم و رجع إلى أصفهان منصورا و لما أجاز الفريق الثاني من الغز السلجوقية من وراء النهر و هم أصحاب طغرلبك و داود وطغرلبك و بيقوا و أخوهم إبراهيم نيال في العسكر لاتباع هؤلاء الذين بالري و همذان و ساروا إلى أذربيجان و ديار بكر و الموصل و افترقوا عليها و فعلوا فيها الأفاعيل كما تقدم في أخبار قرواش صاحب الموصل و ابن مروان صاحب ديار بكر و كما يأتي في أخبار إبن وهشودان (4/638)
استيلاء مسعود بن سبكتكين على همذان و اصفهان و الري ثم عودها إلى علاء الدولة بن كاكويه
ولما فارق الغز همذان بعث إليها مسعود بن سبكتكين عسكرا فملكوها و سار هو إلى أصفهان فهرب عنها علاء الدولة و استوف على ما كان له بها من الذخائر و لحق علاء الدولة إلى أبي كاليجار بتستر يستنجده عقب انهزامه أمام جلال الدولة سنة إحدى و عشرين و أربعمائة كما قدمنا فوعده بالنصر إذا اصطلح مع عمه جلال الدولة ثم توفي محمود بن سبكتكين و رجع مسعود من خراسان و كان فناخسرو بن مجد الدولة معتصما بعمران فطمع في الري و جمع جمعا من الديلم و الأكراد و تصدها فهزمه نائب مسعود بها و قتل جماعة من عسكره و عاد إلى حصنه و عاد علاء الدولة من عند أبي كليجار و قد كان خائفا من مسعود أن يسير إليهم و لا طاقة لهم به فجاء بعد موت محمود و ملك أصفهان و همذان و الري و تجاوز إلى أعمال أنوشروان و سروا إليه بالري و اشتد القتال و غلبوه على الري و نهبوها و نجا علاء الدولة جريحا إلى قلعة فردخان على خمسة عشر فرسخا من همذان فاعتصم بها و خطب بالري و أعمال أنوشروان لمسعود بن سبكتكين و ولى عليها تاش الفوارس فأساء السيرة فولى علاء الدولة (4/640)
استيلاء جلال الدولة على البصرة ثم عودها لأبي كليجار
كنا قدمنا أن جلال الدولة خالف أبا كليجار إلى الأهواز و اتبعه أبوكليجار من واسط فهزمه جلال الدولة و رجع إلى واسط فارتجعها و بعث أبو منصور بختيار بن علي نائبا لأبي كليجار فبعث أربعمائة سفينة للقائهم مع عبد الله السرابي الزركازي صاحب البطيحة فانهزموا و عزم بختيار على الهرب ثم ثبت و أعاد السفن لقتالهم و العسكر في البر و جاء الوزير أبو علي لحربهم في سفينة فلما وصل نهر أبي الخصيب و به عساكر بختيار رجع مهزوما و تبعه أصحاب بختيار ثم ركب بختيار بنفسه و أخذوا سفن أبي علي كلها و أخذوه أسيرا و بعثه بختيار إلى أبي كاليجار فقتله بعض غلمانه اطلع له على ريبة و خشيه فقتله و كان قد أحدث في ولايته رسوما جائرة من المكوس و يعين فيها و لما بلغ خبره إلى جلال الدولة استوزر مكانه ابن عمه أبا سعيد عبد الرحيم و بعث الأجناد لنصرة الذين كانوا معه فملكوا البصرة في شعبان سنة إحدى و عشرين و أربعمائة و لحق بختيار بالأبلة في عساكره و استمد أبا كليجار فبعث إليه العساكر مع وزيره ذي السعادات أبي الفرج بن فسانجس فقاتلوا عساكر جلال الدولة بالبصرة فانهزم بختيار أولا و أخذ كثير من سفنه ثم اختلف أصحاب جلال الدولة بالبصرة و تنازعوا و افترقوا و استأمن بعضهم إلى ذي السعادات فركبوا إلى البصرة وملكوها و عادت لأبي كليجار كما كانت (4/641)
وفاة القادر و نصب القائم للخلافة
في ذي الحجة سنة اثنين و عشرين و أربعمائة توفى الخليفة القادر لإحدى و أربعين سنة من خلافته و كان مهيبا عند الديلم و الأتراك و لما مات نصب جلال الدولة للخلافة ابنه القائم بأمر الله أبا جعفر عبد الله بعد أبيه و لقبه القائم و بعث القاضي أبا الحسن الماوردي إلى أبي كاليجار في الطاعة فبايع و خطب له في بلاده و أرسل إليه بهدايا جليلة و أموال و وقعت الفتنة ببغداد في تلك الأيام بين السنة و الشيعة و نهب دور اليهود و أحرقت من بغداد أسواق و قتل بعض جباة المكس و ثار العيارون ثم هم الجند بالوثوب على جلال الدولة و قطع خطبته ففرق فيهم الأموال فسكتوا ثم عاودوا فلزم جلال الدولة الأصاغر فشكا من قواده الأكابر و هما بارسطعان و بلدوك و أنهما استأثرا بالأموال فاستوحشا لذلك و طالبهما الغلمان بعلوفتهم و جراياتهم فسارا إن المدائن و ندم الأتراك على ذلك و بعث جلال الدولة مؤيد الملك الرجحي فاسترضاهما و رجعا و زاد شغب الجند عليه و نهبوا دوابه و فرشه وركب إلى دار الخليفة متغضبا من ذلك و هو سكران فلاطفه و رده إلى بيته ثم زاد شغبهم و طالبوه في الدواب لركوبهم فضجر و أطلق ما كان في إسطبله من الدواب وكانت خمس عشرة و تركها عائرة و صرف حواشيه و أتباعه لانقطاع خزائنه فعوتب بتلك الفتنة و عزل وزيره عميد الملك و وزر بعده أبو الفتح محمد بن الفضل أياما و لم يستقم أمره فعزله و وزر بعده أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسين السهيلي وزير مأمون صاحب خوارزم و هرب لخمسة و عشرين يوما (4/641)
وثوب الأتراك ببغداد بجلال الدولة بدعوة أبي كاليجار ثم رجوعهم إلى جلال الدولة
ثم تجددت الفتنة بين الأتراك و جلال الدولة سنة ثلاث و عشرين و أربعمائة في ربيع الأول فأغلق بابه و نهب الأتراك داره و سلبوا الكتاب و أصحاب الدواوين و هرب الوزير أبو إسحاق السهيلي إلى حي غريب بن محمد بن معن و خرج جلال الدولة إلى عكبرا و خطبوا لأبي كاليجار و استدعوه من الأهواز فمنعه العادل بن ماقته إلى أن يحضره بين قوادهم فعادوا إلى جلال الدولة و تطارحوا عليه فعاد لثلاث و أربعين يوما من مغيبه و استوزر أبا القاسم بن ماكولا ثم عزله لفتنة الأتراك به و إطلاق بعض المصادرين من يده (4/642)
استيلاء جلال الدولة على البصرة ثانيا ثم عودها لأبي كاليجار
ثم توفي أبو منصور بختيار بن علي نائب أبي كاليجار بالبصرة منتصف أربع و عشرين وأربعمائة فقام مكانه صهره أبو القاسم لاضطلاعه و كفايته و استبد بها و نكر أبو كاليجار استبداده و بعث بعزله فامتنع و خطب لجلال الدولة و بعث لابنه يستدعيه من واسط فجاء و ملك البصرة و طرد عساكر أبي كاليجار ثم فسد ما بين أبي القاسم و العزيز و استجار منه بعض الديلم بالعزيز و شكوا منه فأخرجه العزيز عن البصرة وأقام بالأبلة ثم عاد إلى محاربة العزيز حتى أخرجه عن البصرة و رجع أبو القاسم إلى طاعة أبي كاليجار (4/643)
إخراج جلال الدولة من دار الملك ثم عوده
وفي رمضان من سنة أربع و عشرين و أربعمائة استقدم جلال الدولة الوزير أبا القاسم فاستوحش الجند و اتهموه بالتعرض لأموالهم فهجموا عليه في دار الملك و أخرجوه إلى مسجد في داره فاحتمل جلال الدولة الوزير أبا القاسم و انتقل إلى الكرخ وأرسل إليه الجند بأن ينحدر عنهم إلى واسط على رسمه و يقيم لإمارتهم بعض ولده الأصاغر فأجاب و بعث إليهم و استمالهم فرجعوا عن ذلك و استردوه إلى داره وحلفوا له على المناصحة
واستوزر عميد الدولة أبا سعد سنة خمس و عشرين و أربعمائة عوضا عن ابن ماكولا فاستوحش ابن ماكولا و سار إلى عكبرا فرده إلى وزارته و عزل أبا سعد فبقي أياما ثم فارقها إلى أوانا فأعاد أبا سعد عبد الرحيم إلى وزارته ثم خرج أبو سعد هاربا من الوزارة و لحق بأبي الشوك و وزر بعده أبو القاسم فكثرت مطالبات الجند له و هرب لشهرين فحمل إلى دار الخلافة مكشوف الرأس و أعيد أبو سعد إلى الوزارة و عظم فساد العيارين ببغداد و عجز عنهم النواب فولى جلال الدولة البساسيري من قواد الديلم حماية الجانب الغربي ببغداد فحسن فيه غناؤه و انحل أمر الخلافة و السلطنة ببغداد حتى أغار الأكراد و الجند على بستان الخليفة و نهبوا ثمرته و طلب أولئك الجند جلال الدولة فعجز عن الانتصاف منهم أو إسلامهم للخليفة فتقدم الخليفة إلى القضاة و الشهود و الفقهاء بتعطيل رسومهم فوجم جلال الدولة و حمل أولئك الجند بعد غيبتهم أياما إلى دار الخليفة فاعترضهم أصحابهم و أطلقوهم و عجز النواب عن إقامة الأحكام في العيارين ببغداد و انتشر العرب في نواحي بغداد و عاثوا فيها حتى سلبوا النساء في المقابر عند جامع المنصور و شغب الجند سنة سبع و عشرين و أربعمائة بجلال الدولة فخرج متنكرا في سيما بدوي إلى دار المرتضى بالكرخ و لحق منها برافع بن الحسين بن معن بتكريت و نهب الأتراك داره و خربوها ثم أصلح القائم أمر الجند و أعاده (4/643)
فتنة بادسطفان و مقتله
قد قدمنا ذكر بادسطفان هذا و أنه من أكابر قواد الديلم و يلقب حاجب الحجاب و كان جلال الدولة ينسبه لفساد الأتراك و الأتراك ينسبونه إلى إحجاز الأموال فاستوحش و استجار بالخليفة منتصف سبع و عشرين و أربعمائة فأجاره و كان يراسل أبا كاليجار و يستدعيه فبعث أبو كاليجار عسكرا إلى واسط و ثار معهم العسكر الذين بها و أخرجوا العزيز بن جلال الدولة إلى بغداد و كشف بادسطفان القناع في الدعاء لأبي كاليجار و حمل الخطباء على الخطبة لامتناع الخليفة منها وجرت بينه و بين جلال الدولة حرب و سار إلى الأنبار و فارقه قرواش إلى الموصل و قبض بادسطفان على ابن فسانجس فعاد منصور بن الحسين إلى بلده ثم جاء الخبر بأن أبا كاليجار سار إلى فارس فانتقض عن بادسطفان الديلم الذين كانوا معه و ترك ماله و خدمه و ما معه بدار الخليفة القائم و انحدر إلى واسط و عاد جلال الدولة إلى بغداد و بعث البساسيري و بني خفاجة في طلب بادسطفان و سار هو و دبيس في اتباعهم فلحقوه بالخزرانية فقاتلوه و هزموه و جاؤا به أسيرا إلى جلال الدولة ببغداد و طلب من القائم أن يخطب له ملك الملوك فوقف عن ذلك إلا أن يكون بفتوى الفقهاء فأفتاه القضاة أبو الطيب الطبري و أبو عبد الله الصيمري و أبو القاسم الكرخي بالجواز و منع أبو الحسن الماوردي و جرت بينهم مناظرات حتى رجحت
فتواهم و خطب له بملك الملوك و كان الماوردي من أخص الناس بجلال الدولة فخجل و انقطع عنه ثلاثة أشهر ثم استدعاه و شكر له إيثار الحق و أعاده إلى مقامه (4/644)
مصالحه جلال الدولة و أبي كاليجار
ثم ترددت الرسل بين جلال الدولة و أبي كاليجار ابن أخيه و تولى ذلك القاضي أبو الحسن الماوردي و أبو عبد الله المردوسي فانعقد بينهما الصلح و الصهر لأبي منصور بن أبي كاليجار على ابنه جلال الدولة و أرسل القائم إلى أبي كاليجار بالخلع النفيسة (4/645)
عزل الظهير أبي القاسم عن البصرة و استقلال أبي كاليجار بها
قد قدمنا حال الظهير أبي القاسم ملك البصرة بعد صهره أبي منصور بختيار وأنه عصى على أبي كاليجار بدعوة جلال الدولة ثم عاد إلى طاعته و استبد بالبصرة و كان ابن أبي القاسم بن مكرم صاحب عمان يكاتب أبا الجيش و أبا كاليجار بزيادة ثلاثين ألف دينار في ضمان البصرة فأجيب إلى ذلك و جهز له أبو كاليجار العساكر مع العادل أبي منصور بن ماقته و جاء أبا الجيش بعساكره في البحر من عمان و حاصروا البصرة برا و بحرا و ملكوها و قبض على الظهير و استصفيت أمواله و صودر على تسعين ألفا فحملها في عشرة أيام ثم على مائة ألف و عشرة آلاف فحملها كذلك و وصل الملك أبو كاليجار إلى البصرة سنة إحدى و ثلاثين و أربعمائة و أنزل بها ابنه عز الملوك و الأمير أبا الفرج فسانجس و عاد إلى الأهواز و معه الظهير أبو القاسم (4/645)
أخبار عمان و ابن مكرم
قد قدمنا خبر أبي محمد بن مكرم و أنه كان مدبر دولة بهاء الدولة و قبله ابنه أبو الفوارس و أن ابنه أبا القاسم كان أميرا بعمان منذ سنة خمس عشرة و أربعمائة ثم توفى سنة إحدى و ثلاثين و أربعمائة و خلف بنين أربعة و هم : أبو الجيش و المهذب و أبو محمد وآخر صغير لم يذكر إسمه و كان علي بن هطال صاحب جيش أبي القاسم فأقره أبو الجيش و بالغ في تعظيمه حتى كان يقوم له إذا دخل عليه في مجلسه فنكر ذلك المهذب على أخيه و حقدها له ابن هطال فعمل دعوة و استأذن أبا الجيش في إحضار أخيه المهذب لها و أحضره و بالغ في خدمته حتى إذا طعموا و شربوا و انتشوا فاوضه ابن هطال في التوثب بأخيه أبي الجيش و استكتبه بما يوليه من المراتب و يعطيه من الأقطاع على مناصحته في ذلك ثم وقف أبا الجيش على خطة أخبره أنه لم يوافقه ثم قال له : و بسبب ذلك كان نكيره عليك في شأني فقبض أبو الجيش على أخيه و اعتقله ثم خنقه ثم توفي أبو الجيش بعد ذلك بيسير وهم ابن هطال بتولية أخيه محمد فأخفته أمه حذرا عليه و رفعت الأمر إلى ابن هطال فولي عمان و أساء السيرة وصادر التجار و بلغ ذلك إلى أبي كاليجار فأمر العادل أبا منصور بن ماقته أن يكاتب المرتضى نائب أبي القاسم بن مكرم بجبال عمان و يأمره بقصد ابن هطال في عمان و بعث إليه العساكر من البصرة فسار إلى عمان و حاصرها و استولى على أكثر أعمالها ثم دس إلى خادم كان لابن مكرم و صار لابن هطال و أمره باغتياله فاغتاله و قتله و مات العادل أبو منصور بهرام بن ماقتة وزير أبي كاليجار سنة ثلاث و ثلاثين و أربعمائة و وزر بعده مهذب الدولة و بعث لمدافعتهم عنها و كانوا يحاصرون جيرفت فأجفلوا عنها و لم يزل في اتباعهم حتى دخلوا المفازة و رجع مهذب الدولة إلى كرمان فأصلح فسادهم (4/646)
وفاة جلال الدولة سلطان بغداد و ولاية أبي كاليجار
ثم توفي جلال الدولة ببغداد في شعبان سنة خمس و ثلاثين و أربعمائة لسبع عشرة سنة من ملكه و قد كان بلغ في الضعف و شغب الجند عليه و استبداد الأمراء و النواب فوق الغاية و لما توفي انخذل الوزير كمال الملك عبد الرحيم و أصحاب السلطان الأكابر إلى حريم دار الخلافة خوفا من الأتراك و العامة و اجتمع قواد العسكر فمنعوهم من النهب و كان ابنه الأكبر الملك العزيز أبو منصور بواسط فكاتبه الجند بالطاعة وشرطوا عليه تعجيل حق البيعة فأبطأ عنهم و بادر أبو كاليجار صاحب الأهواز فكاتبهم و رغبهم في المال و تعجيله فعدلوا عن الملك العزيز إليه و أصعد بعد ذلك من الأهواز فلما انتهى إلى النعمانية غدر به أصحابه فرجع إلى واسط و خطب الجند ببغداد لأبي كاليجار و سار العزيز إلى دبيس بن مزيد ثم إلى قرواش بن المقلد بالموصل ثم فارقه إلى أبي الشوك لصهر بينهما فغدر به و ألزمه على طلاق بنته فسار إلى إبراهيم نيال أخي طغرلبك ثم قدم بغداد مختفيا يروم الثورة بقتل بعض أصحابه ففر و لحق بنصير الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين و قدم أبو كاليجار بغداد في صفر سنة ست و ثلاثين و أربعمائة و خطب له بها و استقر سلطانه فيها بعد أن بعث بأموال فرقت على الجند ببغداد و بعشرة آلاف دينار و هدايا كثيرة للخليفة وخطب له فيها أبو الشوك و دبيس بن مزيد كل بأعماله و لقبه الخليفة بمحيي الدولة وجاء في قلة من عساكره خوفا أن يستريب به الأتراك فدخل بغداد في شهر رمضان ومعه وزيره أبو السعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن فسانجس و استعفى القائم من الركوب للقائه و تقدم بإخراج عميه من بغداد فمضيا إلى تكريت و خلع على
أصحاب الجيوش و هم البساسيري و الساري و الهمام أبو اللقاء و ثبت قدمه في الملك (4/647)
أخبار ابن كاكويه مع عساكر مسعود و ولايته على أصفهان ثم إرتجاعه منها
قد تقدم انهزام علاء الدولة بن كاكويه من الري و مسيره جريحا و معه فرهاد بن مرداويج جاءه إلى قلعة فردخان مددا و ساروا منها إلى يزدجرد و اتبعهم علي بن عمران قائد تاش قرواش و افترقوا من يزدجرد فمضى أبو جعفر إلى نيسابور عند الأكراد الجردقان و صعد فرهاد إلى قلعة سمكيس و استمال الأكراد الذين مع علي عمران و حملهم على الفتك به فشعر و سار إلى همذان و اتبعه فرهاد و الأكراد فحصروه في قرية بطريقه فامتنع عليهم بكثرة الأمطار ورجعوا عنه و بعث على بن عمران إلى الأمير تاش يستمده و علاء الدولة إلى ابن أخيه بأصفهان يستمد المال و السلاح فاعترضه علي بن عمران من همذان وكبسه بجردقان و غنم ما معه و أسره و خلفه علاء الدولة و إلىره على أصفهان على معلوم و كذلك قابوس في جرجان و طبرستان و ولى على الري أبا سهل الحمدوني وأمر تاش قرواش صاحب خراسان بطلب شهربوس بن ولكين صاحب ساوة و كان يفسد السابلة و يعترض الحاج و سار إلى الري و حاصرها بعد موت محمود فبعث تاش العساكر في أثره و حاصروه ببعض قلاع قم و أخذوه أسيرا فأمر بصلبه على ساوة ثم اجتمع علاء الدولة بن كاكويه و فرهاد بن مرداويج على قتال أبي سهل الحمدوني و قد زحف في العساكر من خراسان فقاتلاه و قتل فرهاد و انهزم علاء الدولة إلى جبل بين أصفهان و جرجان فاعتصم به ثم لحق بأيدج و هي للملك أبي كاليجار و استولى أبو سهل على أصفهان و فنهب خزائن علاء الدولة و حملت كتبه إلى غزنة إلى أن احرقها الحسين بن الحسين الغوري و ذلك سنة خمس و عشرين و أربعمائة ثم سار علاء الدولة سنة سبع و عشرين و أربعمائة و حاصر أبا سهل في أصفهان و غدرته الأتراك فخرج إلى يزدجرد و منها إلى الطرم فلم يقبله ابن السلار خوفا من ابن سبكتكين فسار عنه ثم غلبه طغربيك على خراسان سنة تسع و عشرين و أربعمائة و ارتجعها مسعود سنة ثلاثين و أربعمائة كما ذكرناه و نذكره (4/648)
وفاة علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه
ثم توفي علاء الدولة شهربان بن كاكويه في محرم سنة ثلاث و ثلاثين و أربعمائه و قد كان عاد إلى أصفهان عند شغل بن سبكتكين بفتنة طغرلبك فملكها و لما توفي قام مكانه أصفهان ابنه الأكبر ظهير الدين أبو منصور قرامرد و سار ولده الآخر أبو كاليجار كرساسف إلى نهاولد فملكها و ضبط البلد و أعمال الجبل و بعث أبو منصور قرامرد إلى مستحفظ قلعة نظير التي كان فها ذخائر أبيه و أمواله فامتنع بها و عصى وسار أبو منصور لحصاره و معه أخوه أبو حرب فلحق أبو حرب بالمستحفظ و رجع أبو منصور إلى أصفهان و بعث أبو حرب إلى السلجوقية بالري يستنجدهم فسار طائفتين منهم إلى جرجان فنهبوها و سلموها لأبي حرب فسير أبو منصور العساكر وارتجعها فجمع أبو حرب فهزموه و حاصروا أبا حرب بالقلعة فأسرى من القلعة و لحق بالملك أبي كاليجار صاحب فارس و استنجده على أخيه أبي منصور فأنجده بالعساكر و حاصروا أبا منصور وأوقعوه عدة و قائع ثم اصطلحوا آخرا على مال يحمله أبو منصور إلى أبي كاليجار و عاد أبو حرب إلى قلعة نظير و اشتد الحصار عليه ثم صالح أخاه أبى منصور على أن يعطيه بعض ما في القلعة و تبقى له فاتفقا على ذلك
ثم سار إبراهيم نيال إلى الري و طلب الموادعة من أبي منصور فلم يجبه فسار إلى همذان و يزدجرد فملكهما و سعى الحسن الكيافي اتفاقه مع أخيه أبي حرب فاتفقا و خطب أبوحرب لأخيه أبي منصور في بلاده و إقطاعه أبو منصور همذان ثم ملك طغرلبك البلاد من يد ابن سبكتكين و استولى على خوارزم و جرجان و طبرستان و كان إبراهيم نيال عندما استولى طغرلبك على خراسان و هو أخوه لأمه تقدم في عساكر السلجوقية إلى الري فاستولى عليها ثم ملك يزدجرد ثم قصد همذان سنة أربع و ثلاثين و أربعمائة ففارقها صاحبها ابن علاء الدولة إلى نيسابور و جاء إبراهيم إلى همذان بطلب طاعتهم فشرطوا عليه استيلاءه على عسكر كرشاسف فسار إليها و تحصن في سابور خواست و ملك عليه البلاد و عاث في نواحيها و تحصن هو بالقلعة و عاد هو إلى الري و قد صمم طغرلبك على قصدها فسار إليه و ترك همذان و رجع كرشاسف و ملك طغرلبك الري من يد إبراهيم
وبعث إلى سجستان و أمر بعمارة ما خرب من الري و وجد بدار الإمارة مراكب ذهب مرصعة بالجواهر و برنيتين من النحاس مملوأتين جواهر و ذخائر مما سوى ذلك وأموالا كثيرة ثم ملك قلعة طبرك من يد مجد الدولة بن بويه و أقام عنده مكرما و ملك قزوين فصالحه صاحبها بثمانين ألف دينار و صار في طاعته ثم بعث إلى كركتاش و موقا من الغز العرقية الذين تقدموا إلى الري و استدعاهم من نواحي جرجان فارتابوا و شردوا خوفا منه ثم بعث إلى ملك الديلم يدعوه إلى الطاعة و يطلب منه المال فأجاب و حمل و بعث إلى سلار الطرم بمثل ذلك فأجاب و حمل مائتي ألف دينار و قرر عليه معلوما ثم بعث السرايا إلى أصفهان و خرج من الري في اتباعها فصانعه قرامرد بالمال فرجع عنه و سار إلى همذان فملكها و قد كان سار إليه كرشاسف بن علاء الدولة و هو بالري فأطاعه و سار معه إلى ابروزنجان فملكهما و أخذ منه همذان و تفرق عنه أصحابه
و طلب منه طغرلبك قلعة كشكور فأرسل إلى مستحفظها بنزولهم عنها فامتنعوا و اتبعه طغرلبك إلى الري و استخلف على همذان ناصر الدين العلوي و كان كرشاسف قد قبض عليه فأخرجه طغرلبك و جعله رديفا للذي ولاه البلد من السلجوقية ثم نزل كرشاسف على كنكور سنة ست و ثلاثين و أربعمائة و جاء إلى همذان فلكها و طرد عنها عمال طغرلبك و خطب للملك أبي كاليجار فبعث طغرلبك أخاه إبراهيم نيال سنة سبع و ثلاثين و أربعمائة إلى همذان و لحق كرشاسف بشهاب الدولة أبي الفوارس منصور بن الحسين صاحب جزيرة بني دبيس و ارتاع الناس بالعراق لوصول إبراهيم نيال إلى حلوان و بلغ الخبر إلى أبي كاليجار فأزاد التجمع لإبراهيم نيال فمنعه قلة الظهر
وحدثت فتنة بين طغرلبك و أخيه إبراهيم نيال و أخذ الري و بلاد الجبل من يده ثم سار إلى أصفهان فحاصرها في محرم سنة اثنين و أربعين و بعث السرايا فبلغت البيضاء و أقام يحاصرها حولا كاملا حتى جهدهم الحصار و عدموا الأقوات وحرقوا السقف لقوادهم حتى سقف الجامع ثم استأمنوا و خرجوا إليه و ملك أصفهان سنة ثلاث و أربعين وأربعمائة و أقطع صاحبها أبا منصور و أجناده في بلاد الجبل و نقل أمواله و سلاحه من الري إليها و جعلها كرسيا لملكه و انقرضت دولة فخر الدولة بن بويه من الري و أصفهان و همذان و بقي منهم بالعراق و فارس أبو كاليجار والبقاء لله وحده (4/649)
موت أبي كاليجار
ولما رأى أبو كاليجار استيلاء طغرلبك على البلاد و أخذه الري و أصفهان و همذان والجيل من قومه و إزالة ملكهم راسله في الصهر و الصلح بأن يزوجه ابنته و زوج داود أخو طغرلبك ابنته من أبي منصور بن أبي كاليجار و انعقد ذلك بينهما في منتصف تسع و ثلاثين و أربعمائة وكتب طغرلبك إلى أخيه إبراهيم نيال عن العراق و أعماله ابن سكرستان من الديلم و قرر عليه مالا فطاول في حمله و رافع فشكر له أبو كاليجار و انتزع من يده قلعة يزدشير و هي تعلقه ثم استمال أجناده فقتلهم بهرام و استوحش فسار إليه أبو كاليجار و انتهى إلى قصر مجامع من خراسان فطرقه المرض و ضعف عن الركوب فرجعوا به إلى مدينة خبايا و توفي بها في جمادى الأول سنة أربعين و أربعمائة لأربع سنين و ثلاثة أشهر من ملكه العراق
ولما توفي نهب الأتراك خزائنه و سلاحه و دوابه و انتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور و كانت منفردة عن العسكر فأقام عنده و اختلف الأتراك و الديلم وأراد الأتراك نهب الأمير و الوزير فمنعهم الديلم و اختلفوا إلى شيراز فملكها الأمير أبو منصور و امتنع الوزير بقلعة حزقه و بلغ وفادة أبي كاليجار إلى بغداد و بها ابنه أبو نصر فاستخلف الجند و أمر القائم بالخطبة على عادة قومه و سأل أن يلقب بالرحيم فمنع الخليفة من ذلك أدبا و لقبه به أصحابه و استقر بالعراق و خوزستان و البصرة
وكان بالبصرة أخوه أبو علي فأقره عليها ثم بعث أخاه أبا سعد في العساكر في شوال من السنة إلى شيراز فملكها و خطبوا له بها و قبضوا على أخيه أبي منصور و أمه و جاؤا بهما إليه و كان الملك العزيز بن جلال الدولة عند إبراهيم نيال لحق به بعد مهلك أبيه فلما مات أبو كاليجار زحف إلى البصرة طامعا في ملكها فدافعه الجند الذين بها و بلغه استقامة الملك ببغداد للرحيم فأقطع و ذهب إلى ابن مروان فهلك عنده كما مر (4/651)
ملك الملك الرحيم بن أبي كاليجار ومواقعه
قد تقدم لنا أن أبا منصور فلاستون بن أبي كاليجار سار إلى فارس بعد موت أبيه فملكها و أنه بعث أخاه أبا سعيد بالعساكر فقبضوا عليه و على أمه ثم انطلق و لحق بقلعة إصطخر ببلاد فارس فسار الملك الرحيم من الأهواز في اتباعه سنة إحدى و أربعين و أطاعه أهل شيراز و جندها و نزل قريبا منها ثم وقع الخلاف بين جند شيراز و بين جند بغداد و عادوا إلى العراق فعاد معهم الملك الرحيم لارتيابه بجند شيراز و بعث الجند و الديلم جميعا ببلاد فارس إلى أخيه فلاستون و لما عاد استخلف العساكر و سار إلى أرجان عازما على قصد الأهواز و عاد الملك الرحيم للقائه من الأهواز في ذي القعدة من السنة و اقتتلوا و انهزم الملك الرحيم و عاد إلى واسط منهزما و سار بعض إلى الملك الرحيم يستجيشون به للرجوع إلى فارس فأرسل إلى بغداد و استنفر الجند و سار إلى الأهواز فبلغه طاعة أهل فارس و أنهم منتظرون قدومه فأقام بالأهواز ينتظر عساكر بغداد ثم سار إلى عسكر مكرم فملكها سنة ثلاث و أربعين و أربعمائة ثم اجتمع جمع من العرب و الأكراد مقدمهم طراد بن منصور مذكور بن نزار فقصدوا ارف فنهبوها و نهبوا درق و بعث الملك الرحيم بعساكره في محرم سنة ثلاث و أربعين فهزموا العرب و الأكراد و قتل مطارد و أسر ابنه واسترد النهب و بلغ الخبر إلى الملك الرحيم و هو بعسكر مكرم فتقدم إلى قنطرة أربق ومعه دبيس بن مزيد و البساسيري و غيرهما ثم سار هزار شب بن تنكر و منصور بن الحسين الأسدي بمن معهما من الديلم و الأتراك من أرجان إلى تستر فسابقهم الملك الرحيم فكان الظفر له ثم زحف في عسكر إلى رامهرمز و بها أصحاب هزار شب فهزموهم و أثخنوا فيهم و تحيزوا إلى رامهرمز في طاعة الملك الرحيم ثم قبض هزار شب عليهم و رسل إلى الملك الرحيم بطاعته فبعث أخاه أبا سعيد إليه فملك إصطخر وخدمه أبو نصر بعسكره و ماله و أطاعته جموع من عساكر فارس من الديلم و الترك
و العرب و الأكراد و حاصروا قلعة بهندر فخالفه هزارشب و منصور بن الحسين الأسدي إلى الملك الرحيم فهزموه
وفارق الأهواز إلى واسط و عاد إلى سعد بشيراز فقاتلهم و هزمهم ثم عاودوا القتال فهزمهم و أثخن فيهم و استأمن إليه كثير منهم و صعد فلاستون إلى قلعة بهندر فامتنع بهما و أعيدت الخطبة للملك الرحيم بالأهواز ثم مضى فلاستون و هزار شب إلى إيدج وبعثوا بطاعتهم إلى السلطان طغرلبك و استمدوه و بعث إليهم العساكر و الملك الرحيم
بعسكر مكرم و قد انصرف عنه البساسيري إلى العراق و دبيس بن مزيد و العرب والأكراد و بقي معه ديلم الأهواز و أنزل بغداد فسار من عسكر مكرم إلى الأهواز و حاصروه بها فبعث أخاه أبا سعد صاحب فارس حين طلبه صاحب إصطخر ليفت في عضد فلاستون و هزار شب و يرجعوا عنه فلم يهجهم ذلك و ساروا إلى الأهواز وقاتلوه فهزموه و لحق في الفل بواسط و نهبت الأهواز و فقد في الوقعة الوزير كمال
الملك أبو المعالي بن عبد الرحيم و كانت السلجوقية قد ساروا إلى فارس فاستولى ألب أرسلان ابن أخي طغرلبك على مدينة نسا و عاثوا فيها و ذلك سنة ثلاث و أربعين و أربعمائة ثم ساروا سنة أربع و أربعين و أربعمائة إلى شيراز و معهم العادل بن ماقته وزير فلاستون فقبضوا عليه و ملكوا منه ثلاث قلاع و سلموها إلى أبي سعد أخي الملك الرحيم و اجتمعت عساكر شيراز فهزموا الغز الذين ساروا إليها و أسروا بعض مقدمهم ثم ساروا إلى نسا و قد كان تغلب عليها بعض السلجوقية فأخرجوهم عنها و ملكوها (4/652)
الفتنة بين البساسيري و بني عقيل و استيلاؤه على الأنبار
لما سار الملك الرحيم إلى شيراز سنة إحدى و أربعين ثار بعض بني عقيل باردوقا فنهبوها و عاثوا فيها و كانت من أقطاع البساسيري فما عاد من فارس سار إليهم من بغداد فأوفي بأبي كامل بن المقلد و اقتتلوا قتالا شديدا ثم تحاجزوا و رفع إلى البساسيري إلى قرواش أساء السيرة في أهل الأنبار و جاء أهلها متظلمين منه فبعث معهم عسكرا فملكوها و جاء على أثرهم فاصلح أحوالها و زحف قريش إليها سنة ست و أربعين فملكها و خطب فيها لطغرلبك و نهب ما كان فيها للبساسيري و نهب حلل أصحابه بالخالص و جمع البساسيري و قصد الأنبار و جرى فاستعاد من يد قريش و رجع إلى بغداد (4/654)
استيلاء الخوارج على عمان
كان أبو المظفر بن أبي كاليجار أميرا على عمان و كان له خادم مستبد عليه فأساء السيرة في الناس و مد يده إلى الأموال فنفروا منه و علم بذلك الخوارج في جبالها فجمعهم ابن رشد منهم و سار إلى المدينة فبرز إليه أبو المظفر و ظفر بالخوارج ثم جمع ثانية و عاد لقتال أبي المظفر و الديلم و أعانه عليهم أهل البلد لسوء سيرتهم فهزمهم ابن رشد و ملك البلد و قتل الخادم وكثيرا من الديلم و العمال و أخرب دار الإمارة و أسقط المكوس و اقتصر على ربع العشر من أموال التجار و الواردين و أظهر العدل و لبس الصوف و بنى مسجدا لصلاته و خطب لنفسه و تلقب الراشد بالله و قد كان أبو القاسم بن مكرم بعث إليه قبل ذلك من حاصره في جبله و أزال طمعه (4/655)
الفتنة بين العامة ببغداد
وفي صفر من سنة ثلاث و أربعين و أربعمائة تجددت الفتنة ببغداد بين أهل السنة و الشيعة و عظمت و تظاهر الشيعة بمذاهبهم و كتبوا بعض عقائدهم في الأبواب وأنكر ذلك أهل السنة و اقتتلوا و أرسل القائم نقيبي العباسية و العلوية لكشف الحال فشهدوا للشيعة و دام القتال و قتل رجل من الهاشمية من أهل السنة فقصدوا مشهد باب النصر و نهبوا ما فيه و أحرقوا ضريح موسى الكاظم و حاقده محمد المتقي وضرائح بني بويه و بعض خلفاء بنى العباس و هموا بنقل شلوا الكاظم إلى مقبرة أحمد بن حنبل فحال دون ذلك جهلهم بعين الجدث و جاء نقيب العباسية فمنع من ذلك و قتل أهل الكرخ من الشيعة أبا سعيد السرخسي مدرس الحنفية و احرقوا محال الفقهاء و دورهم و تعدت الفتنة إلى الجانب الشرقي و بلغ إحراق المشهد إلى دبيس فعظم عليه و قطع خطبة القائم لأنه و أهل ناحيته كانوا شيعة و عوتب في ذلك فاعتذر بأن أهل الناحية تغري القائم بأهل السنة و أعاد الخطبة بحالها ثم عظمت الفتنة سنة خمس و أربعين و أربعمائة و اطرحوا مراقبة السلطان و دخل معهم طوائف من الأتراك و قتل بعض العلوية فصرخ النساء بثأره و اجتمع السواد الأعظم و ركب القواد لتسكين الفتنة فقاتلهم أهل الكرخ قتالا شديدا و حرقت أسواق الكرخ ثم منع الأتراك من الدخول بينهم فسكنوا قليلا (4/655)
استيلاء الملك الرحيم على البصرة
قد كنا قدمنا أن الملك الرحيم لما قدم بغداد بعد أبيه أقر أخاه أبا علي على إمارة البصرة ثم بدا منه العصيان فبعث إليه العساكر مع البساسيري القائم بدولته و زحف أخاه إلى البصرة و برزوا إليه في الماء فقاتلهم عدة أيام ثم هزمهم و ملك عليهم الأنهار و صارت العساكر في البر إلى البصرة و استأمنت ربيعة و مضر فأمنهم و ملك البصرة و جاءته رسل الديلم بخوزستان يعتذرون و مضى أبو علي فتحصن بشط عثمان و خندق عليه فمضى الملك الرحيم إليه و ملكه و مضى أبو علي و ابنه إلى عبادان و لحق منها إلى جرجان متوجها إلى السلطان طغرلبك فلما و صل إليه بأصفهان لاقاه بالتكرمة و أنزله بعض قلاع جرباذقان و أقطع له في أعمالها و أقام الملك الرحيم بالبصرة أياما و استبدل من أجناد أخيه أبي علي بها و استخلف عليها البساسيري و سار إلى الأهواز و ترددت الرسل بينه و بين منصور بن الحسين و هزارشب فدخلوا في طاعته وصارت تستر إليه و أنزل بارجان فولاذ بن خسرو الديلمي فسار في أعمالها و حمل المتغلبين هناك على طاعة الملك الرحيم حتى أذعنوا (4/656)
استيلاء فلاستون على شيراز بدعوة طغرلبك
قد قدمنا أنه كان بقلعة إصطخر أبو نصر بن خسرو مستوليا عليها و أنه أرسل بطاعته سنة ثلاث و أربعين و أربعمائة إلى الملك الرحيم عندما ملك رامهرمز و استدعى منه أخاه أبا سعيد ليملكه بلاد فارس فسار إليه في العساكر و ملك البلاد و نزل شيراز و كان معه عميد الدولة أبو نصر الظهير قد استبد في دولته و ساءت سيرته في جنده و أوحش أبا نصر مستدعيهم للملك فانتقض عليهم و داخل الجند في الانتقاض فشغبوا و قبضوا على عميد الدولة و نادوا بدعوة أبي منصور فلاستون واستدعوه و أخرجوا أبا سعيد عنهم إلى الأهواز و دخل أبو منصور إلى الأهواز فملكها و خطب لطغرلبك و للملك الرحيم ثم لنفسه بعدهما (4/656)
و قائع البساسيري مع الأعراب و الأكراد لطغرلبك
لما استولى طغرلبك على النواحي و أحاط بأعمال بغداد من جهاتها و أطاعه أكثر الأكراد إلى حلوان كثر فسادهم و عيثهم و التفت عليهم الأعراب و أهم الدولة شأنهم و سار إليهم البساسيري و اتبعهم إلى البوازيج فظفر بهم و قتل و غنم و عبروا الزاب و جاء الديلم فتمكن من العبور إليهم و ذلك سنة خمس و أربعين و أربعمائة ثم دعاه دبيس صاحب الحلة إلى قتال خفاجة و قد عاثوا في بلاده فاستنجد به و سار إليهم فأجلاهم عن الجامعين و دخلوا المفازة و اتبعهم فأدبههم بخفان فأوقع بهم و غنم أموالهم و أنعامهم و حاصر حصن خفان و فتحه و خربه و أراد تخريب القائم الذي به و هو بناء في غاية الارتفاع كالعلم يهتدى به قيل إنه و ضع لهداية السفن لما كان البحر إلى النجف فصانع عنه ربيعة بن مطاعم بالمال و ترك له و عاد إلى بغداد فصلب من كان معه من أسرى العرب ثم سار إلى خوي فحصرها و قرر عليها سبعة آلاف دينار (4/657)
فتنة الأتراك و استيلاء عساكر طغرلبك على النواحي
كان الأتراك من جند بغداد قد استفحل أمرهم على الدولة و اشتطوا و تطاولوا إلى الفتنة عندما هدأت ريحها بظهور طغرلبك و استيلائه على النواحي فطالبوا الوزير في محرم سنة ست و أربعين و أربعمائة بمبلغ كبير من أرزاقهم و رسومهم و أرهقوه و اختفى في دار الخلافة فاتبعوه و طلبوه من أهل الدار فجحدوه فشغبوا على الديوان و تعدوا
إلى الشكوى من الخليفة و ساء الخطاب بينهم و بين أهل الديوان و انصرفوا و شاع بين الناس أنهم محاصرون دار الخلافة فانزعجوا وركب البساسيري و هو النائب يومئذ ببغداد إلى دار الخلافة و طلب الوزير وكبس الدور من أجله فلم يوقف له على خبر و شغب الجند و نهبوا دار الروم و أحرقوا البيع وكبسوا دار ابن عبيد وزير البساسيري و وقف أهل الدروب لمنع بيوتهم من الأتراك فنهبوا الواردين و عدمت الأقوات و البساسيري في خلال ذلك مقيم بدار الخلافة إلى أن ظهر الوزير و قام بهم بما عليهم من ثمان دوابه و قماشه
واتصل الهرج و عاد الأعراب و الأكراد إلى العيث و الإغارة و النهب و القتل و جاءت أصحاب قريش صاحب الموصل فكبسوا حلل كامل ابن عمه بالبردوان و نهبوا منها دواب و جمالا من البخاتي كانت هناك للبساسيري فتضاعف الهرج و انحل نظام الملك و وصل عساكر الغز إلى الدسكرة مع إبراهيم بن إسحاق من أمراء طغرلبك و رستبارد فاستباحوها ثم تقدموا إلى قلعة البردوان و قد عصى صاحبها سعدي على طغرلبك فامتنعت عليهم فعاثوا في نواحيها و خربت تلك الأعمال و انجلى أهلها
و سارت طائفة أخرى إلى الأهواز فخربوا نواحيها و قوي طمع السلجوقية في البلاد وخافت الديلم و من معهم من الأتراك و ضعفت نفوسهم ثم بعث طغرلبك أبا علي بن أبي كاليجار الذي كان صاحب البصرة في عساكر السلجوقية إلى خوزستان فانتهى إلى سابور خواست و كاتب الديلم بالوعد و الوعيد فنزع إليه أكثرهم و استولى على الأهواز و نهبها عساكر السلجوقية و صادروا أهلها و هرب أهلها منهم (4/657)
الوحشة بين القائم و البساسيري
قد قدمنا ما وقع من قريش بن بدران في نهب حلل البساسيري أصحابه سنة ست و أربعين و أربعمائة ثم وصل إلى بغداد أبو الغنائم و أبو سعد ابنا المحلبان صاحب قريش و دخلا في خفية فهم البساسيري بأخذهما فأجارهما الوزير رئيس الرؤساء عليه فغضب و سار إلى جرى و الأنبار فملكهما و رجع و لم يعرج على دار الخلافة وأسقط مشاهرات القائم و الوزير و حواشي الدار من دار الضرب و نسب إلى الوزير مكاتبته طغرلبك ثم سار في ذي الحجة من سنة ست و أربعين و أربعمائة إلى الأنبار و بها أبو الغنائم بن المحلبان و نصب عليها المجانيق و دخلها عنوة و أسر أبا الغنائم في خمسمائة من أهلها و نهب البلاد و عاد إلى بغداد و قد شهر أبا الغنائم و هم بصلبه فشفع فيه دبيس بن صدقة و كان قد جاء مددا له على حصار الأنبار فشفعه و صلب جماعة من الأسرى (4/658)
و ثوب الأتراك بالبساسيري و نهب داره
كان هذا البساسيري مملوكا لبعض تجار بسا من مدائن فارس فنسب إليهم ثم صار لبهاء الدولة بن عضد الدولة و نشأ في دولته و أخذت النجابة بضبعه و تصرف في خدمة بيته إلى أن صار في خدمة الملك الرحيم و كان يبعثه في المهمات و مدافعة هذه الفتن فداخ الأكراد من جهة حلوان و داخ قريش بن بدران من الجانب الغربي و هما قائمان بدعوة طغرلبك ثم سار إلى الملك الرحيم بواسط و قد تأكدت الوحشة بينه و بين الوزير رئيس الرؤوساء كما تقدم و بعث إليه وزيره أبو سعد النصراني بجرار خمر فدس عليها الوزير قوما ببغداد كانوا يقومون في تغيير المنكر فكسروها و أراقوا خمرها فتأكدت الوحشة بذلك و استفتى البساسيري الفقهاء الحنفية في ذلك فأفتوه باحترام مال النصراني و لا يجوز كسرها عليه و يغرم من أتلفها و تأكدت الوحشة بين الوزير و بين البساسيري و كانت الوحشة بينه و بين الأتراك كما مر فدس الوزير بالشغب على البساسيري فشغبوا و استأذنوا في نهب دوره فأذن لهم من دار الخلافة فانطلقت أيدي النهب عليها و أشاع رئيس الرؤوساء أنه كاتب المستنصر العلوي صاحب مصر و اتسع الخرق و كاتب القائم الملك الرحيم بإبعاد البساسيري و أنه خلع الطاعة و كاتب المستنصر العلوي فأبعده الملك الرحيم (4/659)
استيلاء طغرلبك على بغداد و الخليفة و نكبة الملك الرحيم و انقراض دولة بني بويه
كان طغرلبك قد سار غازيا إلى بلاد الروم فأثخن فيها ثم رجع إلى الري فأصلح فسادها ثم وصل همذان في المحرم سنة سبع و أربعين و أربعمائة عاملا على الحج و أن يمر بالشام و يزيل دولة العلوية بمصر و تقدم إلى أهل الدينور و قرميس و غيرهما باعداد العلوفات و الزاد في طريقه و عظم الارجاف بذلك في بغداد و كثر شغب الأتراك و قصدوا ديوان الخلافة يطلبون القائم في الخروج معهم للمدافعة و عسكروا بظاهر البلد فوصل طغرلبك إلى حلوان و انتشر أصحابه في طريق خراسان و أجفل الناس في بغداد و أصعد الملك الرحيم من واسط بعد أن طرد عنه البساسيري بأمر القائم فلحق بدبيس بن صدقة صاحب الحلة لصهر بينهما وبعث طغرلبك إلى القائم بطاعته و إلى الأتراك بالمواعيد الجميلة فرد الأتراك كتابه و سأموا من القائم رده عنهم فأعرض و جاء الملك الرحيم يعرض نفسه فيما يختاره فأمر بتقويض الأتراك خيامهم و أن يبعثوا بالطاعة لطغرلبك ففعلوا و أمر القائم الخطباء بالخطبة لطغرلبك فبعث إلى طريقهم الوزير أبا نصر الكندري و أمر الأجناد ثم دخل طغرلبك بغداد يوم الخميس ليومين من رمضان و نزل بباب الشمناسية و وصل قريش صاحب الموصل و كان في طاعته قبل ذلك ثم انتشرت عساكر طغرلبك في البلد و أسواقها فوقعت الهيعة و ظن الناس أن الملك الرحيم أذن بقتال طغرلبك فأقبلوا من كل ناحية و قتلوا الغز في الطرقات إلا أهل الكرخ فانهم أمنوهم و أجاروهم و شكر الخليفة لهم ذلك و تمادى العامة في ثورتهم و خرجوا إلى معسكر طغرلبك و دخل الملك الرحيم بأعيان أصحابه إلى دار الخلافة تفاديا من الظنة به و كثرت عساكر طغرلبك فهزموا العامة و كبسوهم و نهبوا بعض الدروب و دورب الخلفاء و الرصافة و درب الدروب و كانت هذه الدروب قد نقل الناس إليها أموالهم ثقة باحترامها و فشا النهب و اتسع الخرق و أرسل طغرلبك من الغد إلى القائم بالعتب على ما وقع و نسبه إلى الملك الرحيم و يطلب حضوره و أعيان أصحابه فيكون براءة لهم فأمرهم الخليفة بالركوب إليه و بعث معهم رسوله ليبرثهم فساروا في ذمامه و أمر طغرلبك بالقبض عليهم ساعة و صولهم
ثم حمل الملك الرحيم إلى قلعة السيروان فحبس بها و ذلك لست سنين من ولايته وانقرض أمر بني بويه و نهب في الهيعة حلة قريش صاحب الموصل و نجا سليمان إلى خيمة بدر بن مهلهل فأجاره ثم خلع عليه طغرلبك و رده إلى حله و نقم القائم على طغرلبك ما وقع و بعث في إطلاق المحبوسين فاتهم في ذمامه و هدده بالرحيل عن بغداد فأطلق بعضهم و محا عسكر الرحيم من الدواوين و أذن لهم في السعي في معاشهم فلحق كثير منهم بالبساسيري فكثر جمعه و استصفى طغرلبك أموال الأتراك ببغداد من أجله و بعث إلى دبيس بابعاده فلحق بالرحبة و كاتب المستنصر صاحب مصر بالطاعة
و خطب دبيس لطغرلبك في بلاده و انتشر الغز في سواد بغداد فنهبوه و فشا الخراب فيه و انجلى أهله و ولى طغرلبك البصرة و الأهواز هزارشب فخطب لنفسه بالأهواز فقط و إقطاع الأمير أبا علي ابن الملك أبي كاليجار قرميس و أعمالها و أمر أهل الكرخ أن يؤذنوا في مساجدهم في نداء الصبح الصلاة خير من النوم و أمر بعمارة دار الملك فعمرت على ما اقترحه و انتقل إليها في شوال سنة سبع و أربعين و أربعمائة و استقرت قدمه في الملك و السلطان و كانت له الدولة التي و رثها بنوه و قومه السلجوقية و لم يكن للإسلام في العجم أعظم منها و الملك لله يؤتيه من يشاء (4/659)
الخبر عن دولة وشمكير و بنيه من الجيل اخوة الديلم و ما كان لهم من الملك و السلطان بجرجان و طبرستان و أولية ذلك و مصايره
قد تقدم لنا ذكر مرودايج بن زيار و أنه كان من قواد الديلم للأطروش و أنه من الجيل إخوة الديلم و كانت حالهم واحدة و كان منهم قواد للعلوية استظهروا بهم على أمرهم حتى إذا انقرضت دولة الأطروش و بنيه على حين فشل الدولة العباسية ومحي أعمالها من السلطان ساروا في النواحي لطلب الملك متفرقين فما فملكوا الري و أصفهان و جرجان و طبرستان و العراقين و فارس و كارمان كل منهم في ناحية و تغلب بنو بويه على الخليفة و حجروه إلى آخر أيامهم و ذكرنا أن مرداويج عندما استفحل ملكه بعث عن أخيه وشمكير من بلاد كيلان سنة عشرين و أربعمائة فاستظهر به على أمره و ولاه على الأعمال الجليلة و كان قد استولى على أصفهان و الري و أصبح من أعظم الملوك و كان له أموال من الأتراك تنكروا له لشدته عليهم فاغتالوه و قتلوه في محرم سنة ثلاث و عشرين و ثلثمائة فاجتمعت العساكر بعده على أخيه وشمكير بالري و بعث إلى ماكان بن كالي و هو بكرمان بعدما ملكها من أبي علي بن إلياس بالمسير إليه بالري مع ابن محتاج و سار ما كان على المفازة إلى الدمغان و بعث وشمكير قائده تاتجيز الديلمي مع جيش كثيف لاعتراضه و مع ما كان عسكر ابن مظفر مددا له فتقاتلوا و هزمهم تاتجيز فعادوا إلى نيسابور و جعلت ولايتها لما كان و قد مر ذكر ذلك كله ثم سار تاتجيز إلى جرجان و أقام بها ثم هلك آخر السنة من سقطة عن فرسه فاستولى عليها ماكان و حاصره ابن محتاج سنة ثمان و عشرين و ثلثمائة فملكها و سار ما كان إلى طبرستان فأقام بها و كان ركن الدولة بن بويه غلب على أصفهان فبعث وشمكير عساكره إلى ماكان مددا له في حروبه مع ابن محتاج فاغتنم ركن الدولة خلو وشمكير من العساكر فسار إلى أصفهان فملكها و اتصل ما بينه و بين صاحب خراسان و انفرد وشمكير بملك الري (4/661)
استيلاء عساكر خراسان على الري و الجيل و ملك وشمكير طبرستان
لما ملك ركن الدولة أصفهان وصل يده بأبي علي بن محتاج صاحب خراسان هو و أخوه عماد الدولة صاحب فارس و حرضاه على أخذ الري من وشمكير رجاء أن يكون طرفا لعمله فيتمكن به من ملكها فسار أبو علي لذلك و استمد وشمكير ما كان للمدافعة فجاء بنفسه و بعث ركن الدولة مددا لابن محتاج فلقوه بإسحاقأباد و تقاتلوا فانهزم وشمكير و لحق بطبرستان فملكها و قتل ماكان بالمعركة و استولى أبو علي على الري ثم بعث أبو علي العساكر إلى بلد الجيل فاستولى على زنكان و أبهر و قزوين و كرج و همذان و نهاوند و الدينور إلى حلوان (4/662)
استيلاء الحسن بن القيرزان على جرجان
كان الحسن بن القرزان ابن عم ماكان و كان مناهضه في الصرامة فلما قتل ماكان و ملك وشمكير طبرستان بعث إليه بالدخول في طاعته فأبى و نسبه إلى المواطأة على قتل ما كان فقصده وشمكير ففارق سارية و سار إلى ابن محتاج صاحب خراسان و استنجده فسار معه ابن محتاج و حاصر وشمكير بسارية حولا كاملا حتى رجع إلى طاعة ابن سامان و أعطى إبنه سلار رهينة بذلك و رجع هو و الحسن إلى خراسان و هو مكابده للصلح و لقيهما موت سعيد بن سامان فثار الحسن بأبي علي بن محتاج ونجا سواده و أخذ ابن وشمكير الذي كان عنده و رجع فملكها من يد إبراهيم بن سيجور الدواني و لحق ابن سيجور بنيسابور فعصى علي بن محتاج كما مر في أخبارهم (4/662)
رجوع الري لوشمكير واستيلاء ابن بويه عليها
لما انصرف أبو علي إلى خراسان و فعل به الحسن ما ذكرناه سار وشمكير إلى الري فملكها وراسله ابن القيرزان يستميله و رد عليه ابنه سلار فصانعه و لم يبالي محافظة على عهد ابن محتاج ثم طمع ركن الدولة بن بويه في ملك الري لخلو يده و قلة عسكره فسار إليه و هزمه و استأمن كثير من عسكره إليه و ملك الري و رجع وشمكير إلى طبرستان فاعترضه الحسن و هزمه فلحق بخراسان و راسل ابن القيرزان ركن الدولة بن بويه و واصله (4/663)
استيلاء وشمكير على جرجان
لما ملك ابن بويه الري من يد وشمكير و لحق طبرستان و اعترضه ابن القيرزان و هزمه و لحق بخراسان سار إلى نوح بن سامان مستنجدا به و بعث معه عسكرا و أرسل إلى ابن محتاج صاحب خراسان بمظاهرته فبعثه فيمن معه إلى جرجان و بها الحسن بن القيرزان فهزمه وشمكير و ملك جرجان (4/663)
استيلاء ركن الدولة على طبرستان و جرجان
لما ملك وشمكير جرجان من يد الحسن بن القيرزان سار إلى ركن الدولة بن بويه و أقام عنده بالري ثم سار سنة ست و ثلاثين و ثلاثمائة إلى بلاد وشمكير و لقيهم فهزموه و ملك ركن الدولة طبرستان و سار منها إلى جرجان و استأمن إليه قواد وشمكير و ولى الحسن بن القرزان على جرجان و رجع إلى الري و سار وشمكير إلى خراسان مستنجدا بابن سامان فأمر منصور بن قراتكين صاحب خراسان أن يستوفد العساكر
لإنجاده فسار معه و كان مصطنعا عليه وكتب وشمكير إلى ابن سامان يشكو من ابن قراتكين ثم كتب لأمير نوح إن أبي علي بن محتاج أن يسير معه إلى الري فسار معه و قاتلوا ركن الدولة فلم يظفروا به حتى صالحهم كما تقدم و رجع إلى وشمكير فانهزم أمامه إلى أسفراين و ملك ابن بويه طبرستان و حاصر سارية و ملكها و لحق وشمكير بجرجان و سار إلى جرجان في طلب وشمكير إلى بلد الجيل و استولى ابن بويه عليها (4/664)
وفاة وشمكير و ولاية ابنه بهستون
لما غلب بنو بويه على كرمان من يد أبي علي بن إلياس لحق وشمكير بالأمير منصور بن نوح ببخارى مستنصرا به و أطمعه في ممالك بني بويه و أسر إليه أن قواده بخراسان لا يناصحونه في شأنه فكتب إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيجور صاحب خراسان بالمسير إلى الري بطاعة وشمكير و التصرف عن رأيه و استعد ركن الدولة للقائهم و استنجد ابنه عضد الدولة و خالفهم إلى خراسان و بلغهم الخبر فتوقفوا بالدامغان يستطلعون الأخبار و ركب وشمكير للصيد فاعترضه خنزير فرماه بحربة من يده فحمل عليه الخنزير فشب الفرس و سقط وشمكير إلى الأرض ومات من سقطته في محرم سنة سبع و خمسين و أربعمائة و انتقض جميع ما كانوا فيه و لما مات وشمكير قام ابنه بهستون مقامه و راسل ركن الدولة و صالحه فأمده بالعساكر و الأموال (4/664)
وفاة بهستون و ولاية أخيه قابوس
ثم توفي بهستون بن وشمكير بجرجان سنة ست و ستين و ثلثمائة لسبع سنين من ولايته وكان أخوه قابوس عند خاله رستم بجبل شهريار و ترك بهستون ابنا صغيران بطبرستان في كفالة جده لأمه فطمع له جده في الملك و بادر به إلى جرجان و قبض على من كان عنده ميل إلى قابوس من القواد و في خلال ذلك وصل قابوس فخرج الجيش إليه واجتمعوا عليه و ملكوه و هرب أصحاب ابن منصور فكفله عمه قابوس و جعله إسوة بنيه و قام بملك جرجان و طبرستان (4/665)
استيلاء عضد الدولة على جرجان و طبرستان
لما توفي ركن الدولة سنة ست و ستين و ثلثمائة و عهد لابنه عضد الدولة و ولى ابنه فخر الدولة على همذان و أعمال الجبل و ابنه مؤيد الدولة على أصفهان و كان بختيار بن معز الدولة ببغداد فاستولى عليه ثم سار إلى أخيه فخر الدولة بهمذان فهرب إلى قابوس و نزل عضد الدولة الري و بعث إلى قابوس في طلب أخيه فخر الدولة فأبى فأمر أخاه مؤيد الدولة بخراسان أن يسير إليه و أمده بالأموال و العساكر و سار إلى جرجان سنة إحدى و سبعين و ثلثماثة و لقيه فخر الدولة بخراسان عندما و ليها حسام الدولة أبو العباس تاش من قبل الأمير أبي القاسم بن نوح وكتب إلى العباس تاش يأمره بإنجاد قابوس بن وشمكير و فخر الدولة على مؤيد الدولة و إعادة قابوس إلى بلده فزحف في العساكر إلى جرجان و حاصرها شهرين حتى ضاقت أحوالهم
و كاتب مؤيد الدولة فائقا الخاصة من قواد خراسان و استماله فوعده أن ينهزم بمن معه يوم اللقاء
وخرج مؤيد الدولة فقاتلهم و انهزم فائق بمن معه كما وعد و وقف حسام الدولة و فخر الدولة قليلا ثم اتبعوه منهزمين إلى خراسان ثم استدعى تاش لتدبير الدولة ببخارى بعد قتل الوزير العتبي فسار إليه سنة اثنتين و سبعين و ثلثمائة مؤيد الدولة و كان من خبر وفاته ما قدمناه وقعت الفتنة بين تاش و ابن سيجور و انهزم تاش إلى جرجان وقابله فخر الدولة من الكرامة و النصرة بما لم يعهد مثله حسبما مر في أخبارهم و لما ملك فخر الدولة جرجان و طبرستان و الري اعتزم على رد جرجان و طبرستان إلى قابوس رغبا لما كان بينهما كما بدار الغربة و أنه الذي جر على قابوس الخروج عن ملكه فشاور عن ذلك وزيره الصاحب بن عتاد فلم يوافقه و بقي مقيما بخراسان و أنجده بنو سامان بالعساكر المرة بعد المرة فلم يقدر له الظفر حتى كان استيلاء سبكتكين (4/665)
عود قابوس إلى جرجان و طبرستان
ولما ولي سبكتكين خراسان و عد قابوس برده إلى ملكه جرجان و طبرستان ثم مضى إلى بلخ فات سنة سبع و ثمانين و ثلثمائة فأقام قابوس إلى سنة ثمان و ثمانين و ثلثماثة فبعث الأصبهبذ إلى جبل شهريار وعليه رستم بن المرزنجان خال مجد الدولة و جمع له فقاتله و انهزم رستم و استولى أصبهبذ على الجيل و خطب فيه لشمس المعالي قابوس و كان نائب ابن سعيد بناحية الاستنداويه و كان يميل إلى شمس المعالي فسار إلى آمد و طرد عنها عسكر مجد الدولة و استولى عليها و خطب فيها القابوس وكتب إليه بذلك ثم كتب أهل جرجان إلى قابوس يستدعونه فسار إليهم من نيسابور و سار أصبهبذ وباتي بن سعيد إليها من مكانهما فخرج إليهما عساكر جرجان فقاتلوهما فانهزم العسكر و رجعوا إلى جرجان فلقوا مقدمة قابوس عندها فانهزموا ثانية إلى الري و دخل شمس المعالي قابوس جرجان في شعبان سنة ثمان و ثمانين و ثلثمائة و جاءت العساكر من الري لحصاره فأقاموا و دخل فصل الشتاء و توالت عليهم الأمطار و عدمت الأقوات فارتحلوا و تبعهم قابوس و قاتلهم في فهزمهم و أسر جماعة من أعيانهم و ملك ما بين جرجان و استراباذ ثم أن الأصبهبذ حدث نفسه بالملك و اغتر بما اجتمع له من الأموال و الذخائر فسارت إليه العساكر من الري مع المرزبان خال مجد الدولة فهزموه و أسروه و أظهروا دعوة شمس المعالي بالجيل لأن المرزبان كان مستوحشا من مجد الدولة فانضافت مملكة الجيل جميعا إلى مملكة جرجان و طبرستان و ولى عليها قابوس ابنه منوجهر ففتح الري و ايات و شالوش و قارن ذلك استيلاء محمود بن سبكتكين على خراسان فراسله قابوس و هاداه و صالحه على سائر أعماله (4/666)
مقتل قابوس و ولاية ابنه منوجهر
كان شمس المعالي قابوس قد استفحل ملكه و كان شديد السطوة مرهف الحد فعظمت هيبته على أصحابه و تزايدت حتى انقلبت إلى العتو فأجمعوا على خلعه وكان ببعض القلاع فساروا إليه ليمسكوه بها فامتنع عليهم فانبهوا موجوده و رجعوا إلى جرجان و جاهروا بالخلعان و استدعوا ابنه من طبرستان فأسرع إليهم مخافة أن يولوا غيره و اتفقوا على طاعته بأن يخلع أباه فأجاب إلى ذلك كرها و سار قابوس من حصنه إلى بسطام يقيم بها حتى تضمحل الفتنة فساروا إليه و أكرهوا منوجهر على المسير معهم و ينفرد هو للعبادة بقلعة ابخيا و أذن له أبوه بالقيام بالملك حذرا من خروجه عنهم و بقي المتولون لكبر تلك الفتنة من الجند مرتابين من قابوس و كتبوا من جرجان إلى منوجهر يستأذنونه في قتله و لم ينتظروا رد الجواب و ساروا إليه فدخلوا عليه البيت و جردوه من ثيابه فما زال يستغيث حتى مات من شدة البرد و ذلك سنة ثلاث و أربعمائة لخمس عشرة سنة من استيلائه و قام بالملك ابنه منوجهر و خطب له على منابره و لم يزل في التدبير على الرهط الذين قتلوا أباه حتى أباد كثيرا منهم و شرد الباقين (4/667)
وفاة منوجهر و ولاية ابنه أنوشروان
ولما سار محمود بن سبكتكين سنة عشرين و أربعمائة عندما قبض حاجبه على مجد الدولة و ملك الري بدعوة محمود و سار إليه محمود فهرب منوجهر بن قابوس من جرجان و بعث إليه بأربعمائة ألف دينار ليصلحه و تحصن منه بجبال وعرة ثم أبعد المذهب و دخل في الغياض الملتفة و أجابه محمود فبعث إليه منوجهر بالمال و نكب عنه في رجوعه إلى نيسابور ثم توفي منوجهر إثر ذلك سنة ست و عشرين و أربعمائة و ولي بعده ابنه أنوشروان فأقره محمود على ولايته و قرر عليه خمسمائة ألف أميري و خطب لمحمود في بلاد الجيل إلى حدود أرمينية ثم استولى مسعود بن محمود أعوام الثلاثين على جرجان و طبرستان و محا دولة بني قابوس كأن لم تكن و البقاء لله وحده (4/668)
الخبر عن دولة مسافر من الديلم باذربيجان و مصايره
كانت أذربيجان عند ظهور الديلم و انتشارهم في البلاد و استيلائهم على الأعمال أعوام الثلاثين و الثلثمائة بيد رستم بن إبراهيم الكردي من أصحاب يوسف بن أبي الساج
وكان من خبره أن أباه إبراهيم من الخوارج من أصحاب هرون الشادي الخارج بالموصل هرب بعد مقتله إلى أذربيجان و أصهر في الأكراد إلى بعض رؤسائهم فولد له ابنه رستم و نشأ في أذربيجان و لما كبر استضافه ابن أبي الساج و تنقل في الأطوار إلى أن استولى على أذربيجان بعد يوسف بن أبي الساج و كان معظم جيوشه الأكراد و لما استولى الديلم على البلاد و ملك وشمكير الري وولى أعمال الجيل لشكري و جمع الأموال و الرجال و سار لشكري إلى أذربيجان ليملكها سنة ست و عشرين و ثلثمائة و حاربه دسيم في بعض جهات أذربيجان و استولى لشكري على سائر بلاد أذربيجان إلا أردبيل فإن أهلها امتنعوا ثقة بحصن بلادهم وراسلهم فلم يجيبوه و حاصرها و شد حصارها و ثلم سورها و ملكها أياما يدخل نهارا ويخرج إلى عساكره ليلا ثم سدوا ثلم السور وامتنعوا و عادوا إلى الحصان و استدعوا دسيما فجاء لقتال لشكري من و رائه و ناشبته أهل أردبيل القتال من أمامه فافهزم
وقتل عامة أصحابه و تحيزوا إلى موقان و استنجد أصبهبذ بن دوالة فجمعوا و ساروا إلى دسيم فانهزم أمامهم و عبر نهر أرس و قصد وشمكير في الري و استنجده وضمن له مالا كل سنة فبعث معه عسكرا و استمال عسكر لشكري فداخلوه وكاتبوا وشمكير بالطاعة وعلم بذلك لشكري فتأخر إلى الزوزن عازما على الموصل أن يملكها و مر بأرمينية فنهب و سبى و لما انتهى إلى الزوزن لقيه بعض الرؤساء من الأرمن و صانعه بالمال على بلده حتى كف عنها و أكمن له في مضيق بطريقه و دس لبعض الأرمن أن ينهبوا شيئا من ثقله و يسلكوا المضيق وكتب لشكري في أثرهم فقتله الكمين و من معه و قدم أهل العسكر عليهم ابنه الشكرستان و رجعوا إلى بلد الطرم الأرميني ليثأروا من الأرمن بصاحبهم و كان أكثر بلده مضايق فقاتلهم الأرمن عليها و فتكوا فيهم و لحق العسكر و الشكرستان في الفل بالموصل فأقام بها عند ناصر الدولة بن حمدان و كانت له معادن أذربيجان و ولى عليها ابن عمه أبا عبد الله الحسين ابن سعيد بن حمدان و بعث الشكرستان و أصحابه فقاتلهم دسيم على المعادن و غلبهم عليها و رجعوا و استولى دسيم على أذربيجان (4/668)
استيلاء المرزبان بن محمد بن مسافر على اذربيجان
كان محمد بن مسافر من كبار الديلم و كان صاحب الطرم و كان له أولاد كثيرون منهم سلار ومنهم صعلوك و منهم و هشودان و المرزبان أمه بنت حسان و وهشودان ملك الديلم وقد مر خبره و كان دسيم بن إبراهيم الكردي بعد مدافعة لشكري و ابنه عن أذربيجان أقام عنده بعض الديلم من عسكر وشمكير الذين أنجدوه على شأنه ثم إن قومه من الأكراد استبدوا عليه بأطراف أعماله و ملكوا بعض القلاع فاستظهر عليهم بأولئك الديلم و غلبهم و استدعى صعلوك بن محمد من قلعة أبيه الطرم فجاء إليه جماعة من الديلم و سار بهم إلى التي تغلب عليها الأكراد فانتزعها منهم و قبض على جماعة منهم ثم استوحش منه وزيره أبو القاسم علي بن جعفر من أهل أذربيجان فهرب إلى الطرم و نزل على محمد بن مسافر عندما استوحش منه ابناه وهشودان والمرزبان و غلبا على بعض قلاعه
ثم قبضا عليه و انتزعا منه أمواله و ذخائره فتقرب الوزير علي بن جعفر إلى المرزبان وكان يشاركه في دين الباطنية و أطمعه في أذربيجان فاستوزره المرزبان و كانت الديلم الذين عند دسيم و غيره من جنده و استمالهم فأجابوه و سار المرزبان إلى أذربيجان و برز دسيم للقائه فنزع الديلم إلى المرزبان و استأمن إليه كثير من الأكراد و هرب دسيم إلى أرمينية و نزل على صاحبها حاجيق بن الديراني و ملك المرزبان أذربيجان سنة ثلاثين و ثلثمائة و أساء وزيره علي بن جعفر السيرة مع أصحابه فتظافروا عليه و شرعوا في السعاية فيه فأطمع المرزبان في أموال تبريز يضمنها له
وسار إليها في عسكر من الديلم و أسر لأهلها أنه جاء لمصادرتهم فوثبوا بمن معه من الديلم و قتلوهم و استدعوا دسيم بن إبراهيم فجاء إلى تبريز و ملكوه و لحق به الأكراد الذين استأمنوا إلى المرزبان فسار المرزبان في عساكره و حاصرهم دسيم بتبريز وكاتب علي بن جعفر وحلف له على الوفاء بما يرومه منه فطلب منه السلامة و ترك العمل و أجابه و اشتد الحصار على دسيم فهرب من تبريز إلى أردبيل و خرج الوزير إليه فوفى له المرزبان ثم طلب دسيم أن ينزله بأهله بقلعة من قلاع الطرم ففعل و أقام المرزبان فيها (4/669)
استيلاء الروس على مدينة بردعة و ظفر المرزبان بهم
هؤلاء الروس من طوائف الترك و يجاورون الروم في مواطنهم و أخذوا بدين النصرانية معهم منذ أزمان متطاولة و بلادهم تجاور بلاد أذربيجان فركبت طائفة منهم البحر سنة اثنتين و ثلاثين و ثلثمائة ثم صعدوا من البحر في نهر اللكنهر و انتهوا إلى مدينة بردعة من بلاد أذربيجان و بها المرزبان فخرج إليهم في نحو خمسة آلاف مقاتل من الديلم و غيرهم فهزمهم الروس و قتلوا الديلم و تبعوهم إلى البلد فملكوه و نادوا بالأمان و أحسنوا السيرة و جاءت العساكر الإسلامية من كل ناحية فلم يقدروا عليهم و ظاهرهم العوام و الرعاع فما انصرفت العساكر غدرت الروسية بهم فقتلوهم و نهبوا أموالهم و استعبدوهم
و أحزن المسلمين ذلك و استنفر المرزبان الناس و سار لهم و أكمن لهم كمينا و زحف إليهم و خرجوا إليه و استطرد لهم حتى جاوزوا موضع الكمين فاستمر أصحابه على الهزيمة و رجع هو مع أخيه و صاحب له مستميتين و خرج الكمين من ورائهم و استلحم الروسية و أميرهم و نجا فلهم إلى البلد فاعتصموا بحصنه و كانوا قد نقلوا إليه السبي و الأموال و حاصرهم المرزبان و صابروه ثم إلى ناصر الدولة بن حمدان صاحب الموصل بعث إلى ابن عمه الحسين بن سعد بن حمدان في هذه السنة إلى أذربيجان ليملكها فبلغ الخبر إلى المرزبان بأنه انتهى إلى سلماس فجهز عسكرا إلى الروس و سار لقتال ابن حمدان فقاتله أياما ثم استدعاه ابن عمه ناصر الدولة من الموصل و أخبره بموت توزون و أنه سائر إلى بغداد و أمره بالرجوع فرجع و أما الروس فحاصهرهم العسكر أياما و اشتد فيهم الوباء فانقضوا من الحصن ليلا و حملوا ما قدروا عليه من الأموال و لحقوا باللكن فركبوا سفنهم و مضوا إلى بلادهم و طهر الله البلاد منهم (4/670)
مسير المرزبان إلى الري و هزيمته و حبسه
و لما سارت عساكر خراسان إلى الري و ظن المرزبان إلى ذلك يشغل ركن الدولة بن بويه عنه و كان قد بعث رسوله إلى معز الدولة ببغداد فصرفه مذموما مدحورا فاعتزم على غزو الري و طمع في ملكه و استأمن إليه بعض قواد الري و أغراه بذلك و راسله ناصر الدولة بن حمدان يستحثه لذلك و يشير عليه ببغداد قبل الري و كتب ركن الدولة إلى أخويه عماد الدولة و معز الدولة يستنجدهما فبعثوا إليه بالعساكر و سار بها من بغداد سبكتكين الحاجب و لما انتهى إلى الدينور انتقض عليه الديلم و وثبوا به فركب في الأتراك فتخاذل الديلم و أعطوه الطاعة و كان المرزبان قبل وصول العساكر زحف إلى الري و هزمه ركن الدولة و حبسه و رجع الفل إلى أذربيجان و معهم محمد بن عبد الرزاق و اجتمع أصحاب المرزبان على أبيه محمد بن مسافر و أساء السيرة فهموا بقتله و كان ابنه وهشودان قد هرب منه و اعتصم بحصن له فلحق به أبوه محمد فقبض عليه وهشودان و ضيق عليه حتى مات ثم استدعى دسيم الكردي من مكانه بقلعة الطرم حيث أنزله المرزبان عند ظفره به و بعثه إلى محمد بن عبد الرزاق و أقام بنواحي أذربيجان ثم رجع إلى الري سنة ثمان و ثلاثين و ثلثمائة و استعتب إلى سلطانه نوح بن سامان فأعتبه و عاد إلى طوس
و استوف دسيم على أذربيجان لوالي القلعة حتى تمكنوا من قتله فقتله المرزبان و لحق بأخيه وهشوذان سنة اثنتين و أربعين و ثلثمائة و كان علي بن منسلى من قواد ركن الدولة قد لحق بوهشودان و أغراه بدسيم فبعثه وهشودان في العساكر و كاتب الديلم و استمالهم و سار إليه دسيم و خلف وزيره أبا عبد الله النعيمي بأردبيل فجمع مالا كان صادره عليه و هرب بما معه من المال إلى علي بن منسلى
و بلغ الخبر إلى دسيم عند أذربيجان فعاد إلى أردبيل و شغب عليه الديلم ففرق فيهم ما كان معه من المال و سار للقاء علي بن منسلى فالتقيا و هرب الديلم الذين معه إلى علي بن منكلى و انهزم هو إلى أرمينية ثم جاءه الخبر بأن المرزبان تخلص من محبسه بقلعة سيرم و ملك أردبيل و استولى على أذربيجان و أنفذ العساكر في طلبه فهزم دسيم إلى بغداد فأكرمه معز الدولة و أقام عنده ثم استدعاه شيعته بأذربيجان سنة ثلاث و أربعين و ثلثمائة فسار إليهم و طلب من معز الدولة المدد لأن أخاه ركن الدولة كان قد صالح المرزبان فسار دسيم إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل و استنجد به فلم ينجده فسار إلى سيف الدولة فأقام عنده بالشام فلما كان سنة أربع و أربعين خرج على المرزبان خارج باب الأبواب فسار إليه و خالفه دسيم إلى أذربيجان فاستدعاه مقدم من الأكراد و ملك سلماس فبعث إليه المرزبان قائدا من قواده فهزمه دسيم و لما فرغ المرزبان من أمر الخارج و عاد إلى أذربيجان هرب دسيم إلى أرمينية و استجاش بابن الديراني و كتب إليه المرزبان بحمل دسيم إليه فسلمه و حبسه حتى إذا توفي المرزبان قتله بعض أصحابه حذرا من فتنته (4/671)
وفاة المرزبان و ولاية ابنه خستان
ثم توفي المرزبان صاحب آذربيجان سنة خمس و أربعين و ثلثمائة و عهد بالملك إلى أخيه وهشودان و بعده لإبنه خستان و كان قد أوصى نوابه بالقلاع أن يسلموها لابنه خستان ثم لأخويه إبراهيم و ناصر ثم إلى أخيه وهشودان عندما عهد بالعهد الثاني إلى أخيه عرفه بإمارات بينه و بين نوابه يرجعون إليها في ذلك و بعث إلى النواب عبد الله النعيمي و هرب وهشودان من أردبيل فلحق بالطرم و جاء قواد المرزبان إلى خستان بن شرمول فإنه كان مقيما على أرمينية فانتقض بها (4/673)
مقتل خستان و إخوته و استيلاء عمهم وهشودان على اذربيجان
و لما ولي خستان بن المرزبان انغمس في لذانة و عكف على اللهو و قبض على وزيره أبي عبد الله النعيمي وكان خستان بن برسموه منتقضا بأرمينية و قد ملكها و كان وزيره أبو الحسن عبد الله بن محمد بن حمدويه صهرا للوزير النعيمي فاستوحش لنكبته و حمل صاحبه ابن سرمدن على مكاتبة إبراهيم بن المرزبان فأطمعه في الملك و سار به إلى مراغة فملكها فراسله أخوه خستان و سار إلى موقان و كان بأذربيجان رجل من ولد المكتفي متنكرا يدعو للرضا من آل محمد و يأمر بالعدل و يلقب بالمجير و كثرت جموعه فبعث إليه النعيمي من موقان و أطمعه في الخلافة و أن يملكه أذربيجان على أن يقصد بغداد و يترك لهم أذربيجان فسارا إليه خستان و إبراهيم ابنا المرزبان فهزماه و قتلاه فلما رأى وهشودان الخلاف بين بني أخيه المرزبان استمال إبراهيم و سار ناصر إلى موقان و طمع الجند في المال فساروا إلى ناصر و ملكوا بهم أردبيل
و طالبه الجند بالمال فعجز و قعد عمه وهشودان عن نصره و تبين له أنه كان يخادعه فاجتمع مع أخيه خستان و اضطربت عليهما الأمور و انتقضت أصحاب الأطراف فاضطرهما الحال إلى طاعة عمهما وهشودان و راسلاه في ذلك و استحلفاه و قدما عليه مع أمهما فغدر و قبض عليهم و عقد الإمارة على أذربيجان لابنه إسماعيل و سلم له أكثر قلاعه و لحق إبراهيم بن المرزبان بمراغة و جمع لاستنقاذ أخويه و منازعة إسمعيل فقتل وهشودان أخويه و أمهما و أمر خستان بن سرمدن بقتال إبراهيم بمراغة و بعث إليه بالمدد و انضم إبراهيم إلى نواحي أرمينية سنة تسع و أربعين فاستولى ابن سرمدن على مراغة و استضافها إلى أرمينية و جمع إبراهيم و كانت ملوك أرمينية من الأرمن و الأكراد و أصلح خستان بن سرمدن ثم جاء الخبر بوفاة إسمعيل ابن عمه فسار إلى أردبيل فملكها و انصرف ابن منسلى إلى وهشودان و زحف إليهما إبراهيم وهزمهما فلحقا ببلاد الديلم و استوف إبراهيم على أعمال وهشودان ثم جمع وهشودان و عاد إلى قلعته بالطرم و بعث أبو القاسم بن منسلى العساكر لقتال إبراهيم فهزموه و نجا إلى الري مستنجدا بركن الدولة لصهر بينهما (4/673)
استيلاء إبراهيم بن المرزبان ثانيا على أذربيجان
قد تقدم هزيمة إبراهيم بن المرزبان أمام عساكر ابن منسلى و أنه لحق بركن الدولة مستنجدا به فبعث معه الأستاذ أبا الفضل بن العميد في العساكر فاستولى على أذربيجان و حمل أهلها على طاعة إبراهيم و قاد له خستان بن سرمدن و طوائف الأكراد فتمكن من البلاد وكتب ابن العميد إلى ركن الدولة أن يعطيه ملكها و لعله يعوض إبراهيم عنها لكثرة جبايتها و قلة معرفة إبراهيم بالجباية و أن يشهد فيها بالخروج عن ملكه فأبى من ذلك و قال لا أفعل ذلك بمن استجار بي فسلم له ابن العميد البلاد و رجع
تنبيه : أخبار بني مسافر المعروفين ببني السلار ملوك أذربيجان نقلتها من كتاب ابن الأثير و إلى هنا انتهى في أخبارهم و أحال على ما بعده فقال بعد ذلك : و كان الأمير كما ذكر ابن العميد قد أخذ إبراهيم و حبسه على ما ذكره و لم نقف على ذكر شيء من أخبار إبراهيم بعد ذلك و لا من خبر قومه و ذكر أن محمود بن سبكتكين بعد خبر استيلائه على الري سنة عشرين و أربعمائة أنه بعث إلى المرزبان بن الحسين بن حرابيل من أولاد ملوك الديلم و التجأ إلى محمود فبعثه إلى بلاد السلار و هو إبراهيم بن المرزبان بن إسمعيل بن وهشودان بن محمد بن مسافر الديلمي و كان له من البلاد شهرخان و زنجان و شهرزور و غيرها فقصدها و استمال الديلم و عاد محمود إلى خراسان فسار السلار إبراهيم إلى قزوين فملكها و قتل من عساكر محمود الذين بها و تحصن بقلعة الري و كان بينهما وقائع ظهر فيها السلار ثم استمال مسعود بن محمود طوائف من عسكره و جاؤا إليه و دلوه على عورة الحصن الذي فيه السلار و سلكوا بعسكره من طرق غامضة و بعث إليه العسكر في رمضان سنة ست و عشرين و أربعمائة فانهزم و قبض عليه مسعود و حمله إلى سرجهار و بها ولده و طالب أن يسلم إليه القلعة فأبى و عاود عنه و تسلم بقية قلاعه و أخذ أمواله و قرر على ابنه بسرجهار مالا و على الأكراد الذين في جواره و عاد إلى الري و هذا السلار الذي ذكر غير السلار الأول و لم يتصل الخبر بالخبر المتقدم ثم ذكر أخبار الغز الذين تقدموا بين يدي السلجوقية و انتشروا في بلاد الري و ملكوها كثير من بلادها و وصلت طائفة منهم إلى أذربيجان الذين كان مقدمهم بوقا و كوكتاش و منصور و دانا (4/674)
دخول الغز أذربيجان
يقال دخل هؤلاء الغز إلى أذربيجان و سمر صاحبها يومئذ وهشودان بن غلاك فأكرمهم و صاهرهم يدافع شرهم بذلك و يستميلهم لنصرته نم يحصل من ذلك بطائل و عاثوا في البلاد أشد العيث و دخلوا مراغة سنة تسع و عشرين و أربعمائة فقتلوا أهلها و حرقوا مساجدها و فعلوا كذلك بالأكراد الهمذانية فاتفق أهل البلاد على مدافعتهم و أصلح أبو الهيجاء ابن ربيب الدولة و وهشوذان صاحبا أذربيجان و اتفقت كلمتهما و اجتمع معهما أهل همذان فانصرفت تلك الطائفة عن أذربيجان و افترقوا على الري كما تقدم في أخبارهم و بقي الغز الذين تقدموا قبلهم فقاسى منهم أهل أذربيجان شدة و فتك فيهم وهشوذان بتبريز سنة اثنتين و ثلاثين و أربعمائة فتكة أوهنت منهم و دعا منهم جمعا كثيرا إلى صنيع و قبض على ثلاثين من مقدميهم فقتلهم و فر الباقون من أرمينية إلى بلاد الهكارية من أعمال الموصل و كانت بينهم و بين الأكراد وقائع ذكرناها في أخبار الغز بالموصل و لم يعد ابن الأثير لبني المرزبان ملوك أذربيجان ذكرا إلى أن ذكر استيلاء طغرلبك على البلاد و المفهوم من فحوى الأخبار أن الأكراد استولوا عليها بعد بني المرزبان و الله أعلم (4/675)
استيلاء طغرلبك على أذربيجان
قال ابن الأثير و في سنة ست و أربعين و أربعمائة سار طغرلبك إلى أذربيجان و قصد تبريز و صاحبها الأمير منصور بن وهشوذان بن محمد الروادي فأطاعه و خطب له و حمل إليه و رهن عنده ولده فسار طغرلبك عنه إلى الأمير أبي الأسوار صاحب جنزة فأطاع و خطب و كذلك سائر النواحي أرسلوا إليه يبذلون الطاعة و الخطبة و انقاد العساكر إليه فأبقى عليهم بلادهم و أخذ رهنهم و سار إلى أرمينية كذلك و قصد ملاذكرد و هي للنصرانية فعاث في بلادها و خرب أعمالها و غزا من هنالك بلاد الروم و انتهى إلى أرزن الروم فأثخن في بلادهم و دوخها و عاد ابن السلار و ذكر ابن الأثير خلال هذا غزوة فضلون الكردي إلى الخزر من التركمان على مما مر أول الكتاب فقال : كان بيد فضلون الكردي قطعة كبيرة من أذربيجان فغزا إلى الخزر سنة إحدى و عشرين و أربعمائة و دوخ البلاد و قفل فجاؤا في أثره و كبسوه و قتلوا أيضا بخطط ملك الأنجاز إلى مدينة تفليس فقال : و في سنة تسع و عشرين و أربعمائة زحف ملك الأنجاز إلى أذربيجان ليتعرف المسلمين على حين وصول الغز إلى أذربيجان و ما فعلوه فيها و سمع الأنجاز بأخبارهم فأجفلوا عن مخلفهم و وصل وهشوذان صاحب أذربيجان و صرف نظره إلى ملاطفة الغز و مصاهرتهم ليستعين بهم كما مر هذا آخر ما وجدناه من أخبار ملوك أذربيجان و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (4/676)
الخبر عن بني شاهين ملوك البطيحة و من ملكها من بعدهم من قرابتهم و غيرهم و ابتداء ذلك و مصايره
كان عمران بن شاهين من الجامدة و كان يتصرف في الجباية و حصل بيده منها مال فتخوف و ألح عليه الطلب فهرب إلى البطيحة ممتنعا من الدولة و كان له نجدة و بأس و صبر على الشظف فأقام هنالك بين القصب و الآجام يقتات بسمك الماء و الطير و يتعرض للرفاق التي تمر بالطريق فيأخذها و اجتمع إليه لصوص الصيادين فقوي و امتنع على السلطان و تمسك بخدمة أبي القاسم بن البريدي صاحب البصرة فأمنه و وصل حبل الطاعة بيده و قلده حماية تلك النواحي إلى الجامدة دفعا لضرره عن السابلة فعز جانبه و كثر جمعه و سلاحه و اتخذ معاقل على التلال بالبطائح و غلب على تلك النواحي و لما استولى معز الدولة على بغداد و قام بكفالة الخلافة و النظر في أمورها أهمه شأن عمران هذا و امتناعه في معاقله في نواحي بغداد فجهز إليه وزيره أبا جعفر الصيمري في العساكر و سار إليه سنة ثمان و ثلاثين و ثلثمائة و تعددت بينهما الحروب و الوقائع ثم هزمه الصيمري ثم أتاه الخبر بمسيره إلى شيراز كما تقدم في أخبار دولتهم (4/677)
مسير العساكر إلى عمران بن شاهين و انهزامها
و لما انصرف الصيمري عن عمران عاد إلى حاله فبعث معز الدولة لقتاله روزبهان من أعيان الديلم في العساكر فتحصن منه في مضايق البطائح فطاوله فضجر روزبهان و استعجل قتاله فهزمه عمران و غنم ما معهم فاستفحل و قوي و أفسد السابلة و كان أصحابه يطلبون الخفارة من جند السلطان إذا مروا بهم إلى ضياعهم و معايشهم بالبصرة فبعث معز الدولة بالعساكر مع المهلبي و زحف إلى البطائح سنة أربعين و ثلثمائة و دخل عمران في مضايقه و أشاروا عليه بالهجوم فلم يفعل فكتب إليه معز الدولة بذلك بإشارة روزبهان فدخل المهلبي المضايق بجميع عسكره و قد أكمن لهم عمران فخرج عليهم الكمين و تقسموا بين القتل و الغرق و الأسر و نجا المهلبي سابحا في الماء و كان روزبهان متأخرا في الزحف فسلم و أسر عمران كثيرا من قوادهم الأكابر ففاداه معز الدولة بمن في أسره من أهله و أصحابه و قلده ولاية البطائح فاستفحل أمره
ثم انتقض سنة أربع و أربعين و ثلثمائة لخبر بلغه عن مرض طرق معز الدولة و أرجف أهل بغداد بموته و مر به مال من الأموال يحمل إلى معز الدولة و معه جماعة من التجار فكبسهم و أخذ جميع ما معهم ثم رد ذلك بعد إبلال معز الدولة من مرضه و فسد ما بينهما من الصلح ! ثم سار معز الدولة إلى واسط سنة خمس و خمسين و ثلثمائة فبعث العساكر من هنالك لقتال عمران مع أبي الفضل العباس بن الحسن و قدم عليه نافع مولى ابن وجيه صاحب عمان يستنجده عليها فانحدر إلى الأبلة و بعث معه المراكب إلى عمان و سارت عساكره إلى البطائح فنزلوا الجامدة و سدوا الأنهار التي تصب إليها
ثم رجع معز الدولة من الأبلة و طرقه المرض فجهز العساكر لقتال عمران و عاد إلى بغداد فهلك و ولي بعده ابنه عز الدولة بختيار فأعاد العساكر المجمرة على عمران و عقد معه الصلح فاستمر حاله ثم زحف بختيار إليه سنة تسع و خمسين و ثلثمائة و أقام بواسط يتصيد شهرا ثم بعث وزيره إلى الجامدة و طرق البطيحة فسد مجاري المياه و قلبها إلى أنهارها و هي الجسور إلى العراق ثم جاء المد من دجلة و خرب جميع ذلك ثم انتقل عمران إلى معقل آخر و نقل ماله إليه حتى إذا حسر المياه و انتهجت الطرق فقدوا عمران من مكانه و طال عليهم الأمر و شغب الجند على الوزير فأمر بختيار بمصالحته على ألف ألف درهم و لما رحل العسكر عنه ثار أصحابه في أطراف الناس فنهبوا كثيرا من العساكر و وصلوا إلى بغداد سنة إحدى و ستين و ثلثمائة (4/678)
وفاة عمران بن شاهين و قيام ابنه الحسن مقامه و محاربته عساكر عضد الدولة
ثم توفي عمران بن شاهين فجأة في محرم سنة تسع و ستين و ثلثمائة لأربعين سنة من ثورته بعد أن طلبه الملوك و الخلفاء و رددوا عليه العساكر فلم يقدروا عليه و لما هلك قام بعده ابنه الحسن فطمع عضد الدولة فيه و جهز العساكر مع وزيره و سدوا عليه المياه و أنفق فيها أموالا و جاء المد فأزالها و بقوا كلما سدوا فوهة فتق الحسن أخرى و فتح الماء أمثالا لها ثم وافقهم في الماء فاستظهر عسكر الحسن و كان معه المظفر أبو الحسن و محمد بن عمر العلوي الكوفي فاتهمه بمراسلة الحسن و إفشاء سره إليه و خاف أن تنقص منزلته عند عضد الدولة فطعن نفسه فمات و أدرك بآخر رمق فقال : محمد بن عمر حملني على هذا و حمل إلى ولده بكازرون فدفن هنالك و أرسل عضد الدولة إلى العسكر من رجعه إليه و صالح الحسن بن عمران على مال يحطه و أخذ رهنه بذلك (4/679)
مقتل الحسن بن عمران و ولاية أخيه أبي الفرج
كان الحسن بن عمران آسفا على أخيه أبي الفرج و حنقا عليه و لم يزل يتحيل عليه إلى أن دعاه إلى عيادة أخت لهما مرضت و أكمن في بيتها جماعة أعدها لقتله فدخل الحسن منفردا عن أصحابه فأغلقوا الباب دونهم و قتلوه و صعد أبو الفرج إلى السطح فأعلمهم بقتله و وعدهم فسكتوا ثم بذل لهم المال فأقروه و كتب إلى بغداد بالطاعة فكتب له بالولاية و ذلك لثلاث سنين من ولاية الحسن (4/679)
مقتل أبي الفرج و ولاية أبي المعالي بن الحسن
ثم إن أبا الفرج لما قتل أخاه الحسن قدم الجماعة الذين قتلوه على أكابر القواد و كان الحاجب المظفر بن علي كبير قواد عمران و الحسن فاجتمع إليه القواد و شكوا إليه فسكنهم فلم يرضوا و حملوه على قتل أبي الفرج فقتله و نصب أبا المعالي ابن أخيه الحسن مكانه لأشهر من ولايته ثم تولى تدبيره بنفسه لصغره و قتل من كان يخافه من القواد و استولى على أموره كلها (4/680)
استيلاء المظفر و خلع أبي المعالي
ثم إن المظفر بن علي الحاجب القائم بأمر أبي المعالي طمع في الاستقلال بأمر البطيحة فصنع كتابا على لسان صمصام الدولة سلطان بغداد بولايته و جاء به ركابي عليه أثر السفر و هو بدست إمارته فقرأه بحضرتهم و تلقاه بالطاعة و عزل أبا المعالي و أخرجه مع أمه إلى واسط و كان يصلهما بالنفقة و أحسن السيرة بالناس و انقرض بيت عمران بن شاهين ثم عهد إلى ابن أخته علي بن نصر و يكنى أبا الحسن و تلقب بالأمير المختار و بعده إلى ابن أخته الأخرى و يكني أبا الحسن و يسمى علي بن جعفر (4/680)
وفاة المظفر و ولاية مهذب الدولة
ثم توفي الحاجب المظفر صاحب البطيحة سنة ست و سبعين و ثلثمائة لثلاث سنين من ولايته و ولي بعده ابن أخيه أبو الحسن علي بن نصر بعهده إليه كما مر و كتب إلى شرف الدولة سلطان بغداد بالطاعة فقلده و لقبه مهذب الدولة فأحسن السيرة و بذل المعروف و أجار الخائف فقصده الناس و أصبحت البطيحة معقلا و اتخذها الأكابر وطنا و بنوا فيها الدور و القصور و كاتب ملوك الأطراف و صاهره بهاء الدولة بابنته و عظم شأنه و استجار به القادر عندما خاف من الطائع و هرب إليه فأجاره و لم يزل عنده بالبطيحة ثلاث سنين إلى أن استدعي منها للخلافة سنة إحدى و ثمانين و ثلثمائة (4/680)
بعث ابن واصل على البطيحة و عزل مهذب الدولة
كان من خبر أبي العباس بن واصل هذا أنه كان ينوب عن رزبوك الحاجب و ارتفع معه ثم استوحش منه ففارقه و سار إلى شيراز و اتصل بخدمة فولاد و تقدم عنده ثم قبض على فولاد فعاد إلى الأهواز ثم أصعد إلى بغداد ثم خرج منها و خدم أبا محمد ابن مكرم ثم انتقل إلى خدمة مهذب الدولة بالبطيحة و تقدم عنده و لما استولى السكرستان على البصرة بعثه مهذب الدولة في العساكر لحربه فقتله و غلبه و مضى إلى شيراز فأخذ سفن محمد بن مكرم و أمواله و رجع إلى أسافل دجلة فتغلب عليها و خلع طاعة مهذب الدولة فأرسل إليه مائة سميرية مشحونة بالمقاتلة فغرق بعضها و أخذ ابن واصل الباقي و عاد إلى الأبلة فبعث إليه أبا سعيد بن ماكولا فهزمه ثانية و استولى على ما معه و أصعد إلى البطيحة و خرج مهذب الدولة إلى شجاع بن مروان و ابنه صدقة فغدروا به و أخذوا أمواله و لحق بواسط و استولى ابن واصل على البطيحة و على أموال مهذب الدولة و جمع ما كان لزوج له ابنة بهاء الدولة و بعث به إلى أبيها و كانت قد لحقت ببغداد ثم اضطرب عليه أهل البطائح و بعث سبعمائة فارس إلى البلاد المجاورة فقاتلهم أهلها و ظفروا بهم و خشي ابن واصل على نفسه فعاد إلى البصرة و ترك البطائح فوضى و نزل البصرة في قوة و استفحال و خشي
أهل النواحي عاديته فسار بهاء الدولة من فارس إلى الأهواز ليتلافى أمره و استدعى عميد الجيوش من بغداد و سيره في العساكر إليه فجاء إلى واسط و استكثر من السفن و سار إلى البطائح و سار إليه ابن واصل من البصرة فهزمه و غنم ثقله و خيامه و رجع ابن واصل مفلولا (4/681)
عود مهذب الدولة إلى البطيحة
و لما انهزم عميد الجيوش أقام بواسط فجمع عساكره لمعاودة ابن واصل ثم بلغه إلى نائب بن واسط بالبطائح قد خرج منها مجفلا فبعث إلى بغداد و بعث بالعساكر و هم بالانتقاض فاستدعى عميد الجيوش مهذب الدولة من بغداد و بعثه بالعساكر في السفن إلى البطيحة سنة خمس و ستين و ثلثمائة فاستولى عليها و اجتمع عليه أهل الولايات و أطاعوه و قرر عليها بهاء الدولة خمسين ألف دينار في كل سنة و شغل عن ابن واصل بتجهيز العساكر إلى خوزستان و طمع في الملك و اجتمع عنده كثير من الديلم و أصناف الأجناد و سار إلى الأهواز و سير بهاء الدولة عسكرا للقائه فهزمهم و دخل دار الملك و أخذ ما كان فيها و بعث إلى بهاء الدولة في الصلح فصالحه و زاد في أقطاعه ثم بعث بهاء الدولة العساكر للقائه و سار إلى الأهواز و زحف إليها ابن واصل و معه بدر بن حسنوية فبعث بهاء الدولة الوزير بالبطيحة فهزمه الوزير ثانية فمضى مع حسان بن محال الخفاجي الكوفي و ملك إلى الكوفة و ملك البصرة و سار ابن واصل إلى دجلة قاصدا بدر بن حسنوية فبلغ جامعين فأنزله أصحاب بدر و كان أصحاب أبي الفتح بن عنان قريبا منه فكبسه و جاء به إلى بغداد فبعثه عميد الجيوش إلى بهاء الدولة فقتله سنة ست و تسعين و ثلثمائة كما مر في أخبار الدولة (4/682)
وفاة مهذب الدولة و ولاية ابن اخته عبد الله بن نسى
ثم توفي مهذب الدولة عبد الله بن علي بن نصر في جمادى سنة ثمان و أربعمائة و كان ابن أخته أبو عبد الله محمد بن نسى قائما بأموره و مرشحا للولاية مكانه و قد اجتمع عليه الجند و استحلفهم لنفسه و بلغه قبل وفاة خاله إلى ابنه أبا الحسن أحمد داخل بعض الجند في البيعة له بعد أبيه فاستدعاه و حمله إليه الجند فقبض عليه و دخلت إليه أمه فخبرته الخبر فلم يزد على الأسف له و توفي مهذب الدولة من الغد و ولي أبو محمد بن نسى مكانه و قتل أبو الحسين ابن خاله الثلاث من وفاة أبيه (4/683)
وفاة ابن نسى وولاية السراني
ثم توفي أبو عبد الله محمد بن نسى لثلاثة أشهر من ولايته و اتفق الجند على ولاية أبي محمد الحسين بن بكر السراني من خواص مهذب الدولة فولوه عليهم و بذل لسلطان الدولة ملك بغداد مالا فأقره على ولايته (4/683)
نكبة السراني و ولاية صدقة المازياري
و أقام أبو محمد السراني على البطيحة إلى سنة عشر و أربعمائة و بعث سلطان الدولة صدقة بن فارس المازياري فنكبه و ملك البطيحة و بقي عنده أسيرا إلى أن توفي صدقة و خلص على ما يذكر (4/683)
وفاة صدقة و ولاية سابور بن المرزبان
ثم توفي صدقة بن فارس المازياري في محرم لاثنتي عشرة سنة من ولايته و كان سابور بن المرزبان بن مردان قائد جيشه و كان أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين قد تنقل بعد موت أبيه في البلاد بمصر و عند بدر بن حسنويه حتى استقر عند الوزير أبي غالب و نفق عنده بما كان لديه من الأدب (4/684)
عزل سابور و ولاية أبي نصر
ثم إن أبا نصر بن مردان زاد في المقاطعة و لم يبلغها سابور و تخلى عن الولاية و فارق البطيحة إلى جزيرة بني دبيس و استقر أبو نصر في ولايهتما ثم عادت إلى أبي عبد الله الحسين بن بكر السراني (4/684)
عصيان أهل البطيحة على أبي كاليجار
و بعث أبو كاليجار سنة ثمان عشرة و أربعمائة وزيره أبا محمد بن نابهشاد إلى البطيحة و مقدمها يومئذ أبو عبد الله الحسين بن بكر السراني فعسف بالناس في أموالهم و قسط عليهم مقادير تؤخذ منهم فانجلوا إلى البلاد و عزم الباقون على قتل السراني و نما الخبر إلى السراني فجاء إليهم و اعتذر إليهم و أوعدهم بالمساعدة و أشار عليه الوزير بإصلاح السفن حتى زحزحها بحيث لا يتمكن منها ثم وثبوا به فأخرجوه و كان عندهم جماعة من عسكر جلال الدولة محبوسين فأخرجوهم و استعانوا بهم و عادوا إلى الامتناع الذي كانوا عليه أيام مهذب الدولة فتم لهم ذلك ثم جاء ابن المعبراني فغلب على البطيحة و أخرج منها السراني فلحق بيزيد بن مزيد و أقام بها ابن المعبراني سنة ثلاث و ثلاثين و أربعمائة فزحف إليه أبو نصر بن الهيثم فغلبه عليه و نهبها و استقر في ملكها على مال يؤديه لجلال الدولة (4/684)
استيلاء أبي كاليجار على البطيحة
و لما كانت سنة تسع و ثلاثين و أربعمائة بعث أبو كاليجار أبا الغنائم أبا السعادات الوزير في عسكر لحصار البطيحة فحاصرها و بها أبو منصور بن الهيثم حتى جنح إلى الصلح و استأمن نفر من أصحابه إلى أبي الغنائم و أخبروه بضعفه و عزمه على الهرب فحفظ عليه الطرق و لما كان شهر صفر من السنة واقعهم أبو الغنائم فظفر بهم و قتل من أهل البطيحة خلقا كثيرا و غرقت منهم سفن متعددة و تفرقوا في الآجام و ركب ابن الهيثم السفن ناجيا بنفسه و أحرقت داره و نهب ما فيها (4/685)
ولاية مهذب الدولة بن أبي الخير على البطيحة
ثم كان بعد ذلك لبني أبي الخير ولاية على البطيحة فيما قبل المائة الخامسة و ما بعدها و لا أدري ممن هؤلاء بنو أبي الخير إلا أن ابن الأثير قال : كان إسمعيل و لقبه المصطنع و محمد و لقبه المختص هما إبنا أبي الخير و لهما رياسة قومهما و هلك المختص و قام مكانه ابنه مهذب الدولة و نازع ابن الهيثم صاحب البطيحة إلى أن غلبه مهذب الدولة أيام كوهوايين الشحنة ببغداد و كان بنو عمه و عشيرته تحت حكمه و أقطع السلطان محمد سنة خمس و تسعين و خمسمائة مدينة واسط لصدقة بن مزيد صاحب البطيحة و الحلة فضمنها منه مهذب الدولة أحمد بن أبي الخير صاحب البطيحة و فرق أولاده في الأعمال و طالبه صدقة بالأموال و حبسه و ضمن حماد ابن عمه واسط و كان مهذب الدولة يصانع حماد ابن عمه إسمعيل و يداريه و حماد يطمح إلى رياسته فلما هلك كوهوايين نازع حماد مهذب الدولة ابن عمه و اجتهد مهذب الدولة في إصلاحه فلم يقدر فجمع النفيس بن مهذب الدولة فهرب حماد إلى صدقة مستجيشا به فعاد بالجيش و حاربه مهذب الدولة و زاده صدقة المدد فانهزم مهذب الدولة و هلك أكثر عسكره و قوي طمع حماد و استمد صدقة فأمده بالعساكر مع مقدم جيشه حميد بن سعيد و بعث مهذب الدولة لصاحب الجيش بالإقامات و الصلات فمال إليه و أصلح ما بينه و بين صدقة و بعث مهذب الدولة ابنه النفيس إلى صدقة فأصلح بينهم و بين حماد ابن عمهم و كان ذلك أعوام الثلاثين (4/685)
ولاية نصر بن النفيس و المظفر بن حماد من بعده على البطيحة
ثم كان انتقاض دبيس بن صدقة أيام المسترشد و السلطان محمود و كان البرسقي شحنة ببغداد فانتزع السلطان البطيحة من يد دبيس و أقطعها إلى سحان الخادم مولاه فولى عليها نصر بن النفيس بن مهذب الدولة أحمد بن محمد بن أبي الخير و أمر السلطان محمود البرسقي بالمسير لقتال دبيس فاحتشد و سار لذلك و معه نصر بن النفيس صاحب البطيحة و ابن عمه المظفر بن حماد بن إسمعيل بن أبي الخير و بينهما من العداوة المتوارثة ما كان بين سلفهما و التقى البرسقي و دبيس و هزمه دبيس و جاءت العساكر منهزمة و بقي نصر بن النفيس و ابن عمه حماد عند ساباط النهر فقتله و لحق بالبطيحة فملكها و بعث إلى دبيس بطاعته و بعث دبيس إلى الخليفة يصانعه بالطاعة على البعد و بلغ الخبر إلى السلطان محمود فقبض على منصور بن صدقة أخي دبيس و ولده فكحلهما فاستشاط دبيس و ساء أثره في البلاد و بعث إلى أحيائه بواسط فمنعهم الأتراك الذين بها فبعث مهلهل بن أبي العسكر مقدم عساكره في جيش و كتب إلى المظفر بن حماد صاحب البطيحة بمعاضدته على قتال واسط فتجهز و أصعد و عاجل مهلهل الحرب قبل وصوله فهزمه أهل واسط و غنموا ما معه و كان في جملتها بخط دبيس و صار معهم و ساءت آثار دبيس في البلاد و لم يزل حال البطيحة على ذلك ثم صار أمرها لبني معروف و أجلاهم الخلفاء عنها (4/686)
إجلاء بني معروف من البطيحة
كان بنو معروف هؤلاء أمراء بالبطيحة في آخر المائة السادسة و لا أدري ممن هم فلما استجمع للخلفاء أمرهم و خرجوا عن استبداد ملوك السلجوقية و اقتطعوا الأعمال من أيديهم شيئا فشيئا فصار لهم الحلة و الكوفة و واسط و البصرة و تكريت و هيت و الأنبار و الحديثة و جاءت دولة الناصر و بنو معروف على البطيحة و كبيرهم معلى قال ابن الأثير و هم قوم من ربيعة كانت بيوتهم غربي الفرات تحت سوراء و ما يتصل بها من البطائح و كثرت أذاياتهم و إفسادهم في النواحي و بلغت الشكوى بهم إلى الديوان فأمر الخليفة الناصر مغذا الشريف متولي بلاد واسط أن يسير إلى قتالهم فاستعد لذلك و جمع من سائر تلك الأعمال فسار إليهم سنة ست عشرة و ستمائة العير من بلاد البطيحة و فشا القتل بينهم ثم انهزم بنو معروف و تفرقوا بين القتل و الأسر و الغرق و استبيحت أموالهم و انتظمت البطيحة في أعمال الناصر و لم يبق بها ملك و لا دولة (4/687)
الخبر عن دولة بني حسنويه من الأكراد القائمين بالدعوة العباسية بالدينور و الصامغان و مبدأ أمورهم و تصاريف أحوالهم
كان حسنويه بن الحسين الكردي من طائفة الأكراد يعرفون بالريزنكاس و عشيرة منهم يسمون الدويلتية و كان مالكا قلعة سرياج و أميرا على البررفكان و ورث الملك عن خاليه ونداد و غانم ابني أحمد بن علي و كان صنفهما من الأكراد يسمون العبابية و غلبا على أطراف الدينور و همذان و نهاوند و الصامغان و بعض نواحي أذربيجان إلى حدود شهرزور فملكاها نحوا من خمسين سنة و لكل واحد منهما ألوف من العساكر و توفي ونداد بن أحمد سنة تسع و أربعين و ثلثمائة و قام مقامه ابنه أبو الغنائم عبد الوهاب إلى أن أسره الشاذنجان من طوائف الأكراد و سلموه إلى حسنويه فأخذ قلاعه و أملاكه
و توفي غانم سنة خمسين و ثلثمائة فقام ابنه أبو سالم دسيم مكانه بقلعة فتنان إلى أن أزاله أبو الفتح بن العميد و استصفى قلاعه المسماة بستان و غانم أفاق و غيرهما و كان حسنويه حسن السيرة ضابطا لأمره و بنى قلعة سرماج بالصخور المهندسة و بنى بالدينور جامعا كذلك و كان كثير الصدقة للحرمين و لما ملك بنو بويه البلاد و اختص ركن الدولة بالري و ما يليه كان شيعة و مددا على عدوه فكان يرعى ذلك و يغضي عن أموره إلى أن وقعت بين ابن مسافر من قواد الديلم و كبارهم وقعة هزمه فيها حسنويه و تحصن بمكان فحاصره فيه و أضرمه عليه نارا فكاد يهلك ثم استأمن له فغدر به و امتعض لذلك ركن الدولة و أدركته نغرة العصبية و بعث وزيره أبا الفضل بن العميد في العساكر سنة تسع و خمسين و ثلثمائة فنزل همذان و ضيق على حسنويه ثم مات أبو الفضل فصالحه ابنه أبو الفتح على مال و رجع عنه (4/687)
وفاة حسنويه و ولاية ابنه بدر
ثم توفي حسنوبه سنة تسع و ستين و ثلثمائة و افترق ولده على عضد الدولة لقتال أخيه محمد و فخر الدولة و كانوا جماعة أبو العلاء و عبد الرزاق و أبو النجم بدر و عاصم و أبو عدنان و بختيار و عبد الملك و كان بختيار بقلعة سرماج و معه الأموال و الذخائر فكاتب عضد الدولة و رغب في طاعته ثم رغب عنه فسير إليه عضد الدولة جيشا و ملك قلعته و غيرها من قلاعهم و لما سار عضد الدولة لقتال أخيه فخر الدولة و ملك همذان و الري و أضافهما إلى أخيه مؤيد الدولة و لحق فخر الدولة بقابوس بن وشمكير عرج عضد الدولة إلى ولاية حسنوبه الكردي فافتتح نهاوند و الدينور و سرماج و أخذ ما فيها من ذخائره و كانت جليلة المقدار و ملك معها عدة من قلاع حسنويه و وفد عليه أولاد حسنويه فقبض على عبد الرزاق و أبي العلاء و أبي عدنان و اصطنع من بينهم أبا النجم بدر بن حسنويه و خلع عليه و ولاه على الأكراد و قواه بالرجال فضبط ملك النواحي و كف عادية الأكراد بها و استقام أمره فحسده أخواه و أظهر عاصم و عبد الملك منهم العصيان و جمعا الأكراد المخالفين و بعث عضد الدولة العساكر فأوقعوا بعاصم و هزموه و جاؤا به أسيرا إلى همذان و لم يوقف له بعد ذلك على خبر و ذلك سنة سبعين و ثلثمائة و قتل جميع أولاد حسنويه و أقر بدرا على عمله (4/688)
حروب بدر بن حسنويه و عساكر مشرف الدولة
و لما توفي عضد الدولة و ملك ابنه صمصام الدولة ثار عليه أخوه مشرف الدولة بفارس ثم ملك بغداد و كان فخر الدولة بن ركن الدولة قد عاد من خراسان إلى مملكة أصفهان و الري بعد وفاة أخيه مؤيد الدولة و وقع بينه و بين مشرف الدولة فكان مشرف الدولة يحقد عليه فلما استقر ببغداد و انتزعها من يد صمصام الدولة و كان قائده قراتكين الجهشياري مدلا عليه متحكما في دولته و كان ذلك يثقل على مشرف الدولة جهزه في العساكر لقتال بدر بن حسنويه يروم إحدى الراحتين فسار إلى بدر سنة سبع و سبعين و ثلثمائة و لقيه على وادي قرميسين و انهزم بدر حتى توارى و لم يتلقوه و نزلوا في خيامه ثم كر بدر فأعجلهم عن الركوب و فتك فيهم و احتوى على ما معهم و نجا قراتكين في فل إلى جسر النهروان فلحق به المنهزمون و دخل بغداد و استولى بدر على أعمال الجيل و قويت شوكته و استفحل أمره و لم يزل ظاهرا عزيزا و قلد من ديوان الخلافة سنة ثمان و ثمانين و ثلثمائة أيام السلطان بهاء الدولة و لقب ناصر الدولة و كان كثير الصدقات بالحرمين كثير الطعام للعرب بالحجاز لخفارة الحاج و كف أصحابه من الأكراد عن إفساد السابلة فعظم محله و سار ذكره (4/689)
مسير ابن حسنويه لحصار بغداد مع أبي جعفر بن هرمز
كان أبو جعفر الحجاج بن هرمز نائبا بالعراق عن بهاء الدولة ثم عزله فدال منه بأبي علي بن أبي جعفر أستاذ هرمز و تلقب عميد الجيوش فأقام أبو جعفر بنواحي الكوفة و قاتل عميد الجيوش فهزمه العميد ثم جرت بينهما حروب سنة ثلاث و ثلاثمائة و أقاما على الفتنة و الاستنجاد بالعرب من بني عقيل و خفاجة و بني أسد و بهاء الدولة مشتغل بحرب ابن واصل في البصرة و اتصل ذلك إلى سنة سبع و تسعين و ثلثمائة و كان ابن واصل قد قصد صاحب طريق خراسان و هو قلج و نزل عليه و اجتمعا على فتنة عميد الجيوش و توفي قلج هذه السنة فولى عميد الجيوش مكانه أبا الفتح محمد بن عنان عدو بدر بن حسنويه و فحل الأكراد المسامي لبدر في الشؤون و هو من الشاذنجان من طوائف الأكراد و كانت حلوان له فغضب لذلك بدر و مال إلى أبي جعفر و جمع له الجموع من الأكراد مثل الأمير هندي بن سعدي و أبي عيسى سادي بن محمد و ورام بن محمد و غيرهم و اجتمع له معهم علي بن مزيد الأسدي و زحفوا جميعا إلى بغداد و نزلوا على فرسخ منها و لحق أبو الفتح بن عنان بعميد الجيوش و أقام معه ببغداد حاميا و مدافعا إلى أن وصل الخبر بهزيمة ابن واصل و ظهور بهاء الدولة عليه فأجفلوا عن بغداد و سار أبو جعفر إلى حلوان و معه أبو عيسى و راسل بهاء الدولة ثم سار ابن حسنويه إلى ولاية رافع بن معن من بني عقيل يجتمع مع بني المسيب في المقلد و عاث فيها لأنه كان آوى أبا الفتح بن عنان حين أخرجه بدر من حلوان و قرميسين و استولى عليها فأرسل بدر جيشا إلى أعمال رافع بالجناب و نهبوها و أحرقوها و سار أبو الفتح بن عنان إلى عميد الجيوش ببغداد فوعده النصر حتى إذا فرغ بهاء الدولة من شأن ابن واصل و قتله أمر عميد الجيوش بالمسير إلى بدر بن حسنويه لإعانته على بغداد و إمداده ابن واصل فسار لذلك و نزل جنديسابور و بعث إليه بدر في الصلح على أن يعطيه ما أنفق على العساكر فحمل إليه و رجع عنه (4/690)
انتقاض هلال بن بدر بن حسنويه على أبيه و حروبهما
كانت أم هلال هذا من الشاذنجان رهط أبي الفتح بن عنان و أبي الشوك بن مهلهل و اعتزلها أبوه لأول ولادته فنشأ مبعدا عن أبيه و اصطفى بدر ابنه الآخر أبا عيسى و أقطع هلالا الصامغان فأساء مجاورة ابن المضاضي صاحب شهرزور و كان صديقا لبدر فنهاه عن ذلك فلم ينته و بعث ابن المضاضي يتهدده فبعث إليه أبوه بالوعيد فجمع و قصد ابن المضاضي و حاصره في قلعة شهرزور حتى فتحها و قتل ابن المضاضي و استباح بيته فاتسع الخرق بينه و بين أبيه و استمال أصحاب أبيه بدر و كان بدر نسيكا فاجتمعوا إلى هلال و زحف لحرب أبيه و التقيا على الدينور و انهزم بدر و حمل أسيرا إلى ابنه هلال فرده في قلعته للعبادة و أعطاه كفايته بعد أن ملك الحصن الذي تملكه بما فيه فلما استقر بدر بالقلعة حصنها و أرسل إلى أبي الفتح بن عنان و إلى أبي عيسى سادى بن محمد بأستراباذ و أغراهما بأعمال هلال فسار أبو الفتح إلى قرميسين و ملكها
و أساء الديلم فاتبعه هلال إليها و وضع السيف في الديلم و أمكنه ابن رافع من أبي عيسى فعفا عنه و أخذه معه و أرسل بدر من قلعته يستنجد بهاء الدولة فبعث إليه الوزير فخر الملك في العساكر و انتهى إلى سابورخواست و استشار هلال أبا عيسى بن سادي فأشار عليه بطاعة بهاء الدولة و إلا فالمطاولة و عدم العجلة باللقاء فاتهمه و سار العسكر ليلا فكبسه و ركب فخر الملك في العسكر و ثبت فبعث إليه هلال بأني إنما جئت للطاعة و لما عاين بدر رسوله طرده و أخبر الوزير أنها خديعة فسر بذلك و انتفت عنه الظنة ببدر و أمر العساكر بالزحف فلم يكن بأسرع من مجيء هلال أسيرا فطلب منه تسليم القلعة لبدر فأجاب على أن لا يمكن أبوه منه و استأمنت أمه و من معها بالقلعة فأمنهم الوزير و ملك القلعة و أخذ ما فيها من الأموال يقال أربعون ألف بدرة دنانير و أربعمائة ألف بدرة دراهم سوى الجواهر و الثياب و السلاح و سلم الوزير فخر الملك القلعة لبدر و عاد إلى بغداد (4/691)
استيلاء ظاهر بن هلال على شهرزور
كان بدر بن حسنويه قد نزل عن شهرزور لعميد الجيوش ببغداد و أنزل بها نوبة فلما كانت سنة أربع و أربعمائة و كان هلال بن بدر معتقلا سار ابنه ظاهر إلى شهرزور و قاتل عساكر فخر الملك منتصف السنة و ملكها من أيديهم و أرسل إليه الوزير يعاتبه و يأمره بإطلاق من أسر من أصحابه ففعل و بقيت شهرزور بيده (4/692)
مقتل بدر بن حسنويه و ابنه هلال
ثم سار بدر بن حسنويه أمير الجيل إلى الحسن بن مسعود الكردي ليملك عليه بلاده و حاصره بحصن كوسجة و أطال حصاره فغدر أصحاب بدر و أجمعوا قتله و تولى ذلك الجورقان من طوائف الأكراد فقتلوه و أجفلوا فدخلوا في طاعة شمس الدولة بن فخر الدولة صاحب همذان و تولى الحسين بن مسعود تكفين بدر و مواراته في مشهد علي و لما بلغ ظاهر بن هلال مقتل جده و كان هاربا منه بنواحي شهرزور جاء لطلب ملكه فقاتله شمس الدولة فهزمه و أسره و حبسه بهمذان و استولى على بلاده و صار الكرية و الشاذنجان من الأكراد في طاعة أبي الشوك
و كان أبوه هلال بن بدر محبوسا عند سلطان الدولة ببغداد فأطلقه و جهز معه العساكر ليستعيد بلاده من شمس الدولة فسار ولقيه شمس الدولة فهزمه و أسره و قتله ورجعت العساكر منهزمة إلى بغداد و كان في ملك بدر سابورخواست و الدينور و بروجرد و نهاوند و أستراباذ و قطعة من أعمال الأهواز و ما بين ذلك من القلاع و الولايات و كان عادلا كثير المعروف عظيم الهمة و لما هلك هو و ابنه هلال بقي حافده ظاهر محبوسا عند شمس الدولة بهمذان (4/692)
مقتل ظاهر بن هلال و استيلاء أبي الشوك على بلادهم و رياستهم
كان أبو الفتح محمد بن عنان أمير الشاذنجان من الأكراد و كانت بيده حلوان و أقام عليها أميرا و على قومه عشرين سنة و كان يزاحم بدر بن حسنويه و بنيه في الولايات و الأعمال بالجيل و هلك سنة إحدى و أربعمائة و قام مكانه ابنه أبو الشوك و طلبته العساكر من بغداد فقاتلهم و هزموه فامتنع بحلوان إلى أن أصلح حاله مع الوزير فخر الملك لما قدم العراق بعد عميد الجيوش من قبل بهاء الدولة ثم إن شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه أطلق ظاهر بن هلال بن بدر من محبسه بعد أن استحلفه على الطاعة و ولاه على قومه و على بلاده بالجيل و أبو الشوك صاحب حلوان و السهل و بينهما المنافسة القديمة فجمع ظاهر و حارب أبا الشوك فهزمه و قتل سعدي بن محمد أخاه ثم جمع ثانية فانهزم أبو الشوك أيضا و امتنع بحلوان و ملك ظاهر عامة البسيط و أقام بالنهروان ثم تصالحا و تزوج ظاهر أخت أبي الشوك فلما أمنه ظاهر وثب عليه أبو الشوك فقتله بثأر أخيه سعدي و دفنه أصحابه بمقابر بغداد و ملك سائر الأعمال و نزل الدينور
و لما استولى علاء الدولة بن كاكويه على همذان سنة أربع عشرة و أربعمائة عندما هزم عساكر شمس الدولة بن بويه و استبد عليه سار إلى الدينور فملكها من يد أبي الشوك ثم إلى سابورخواست و سائر تلك الأعمال و سار في طلب أبي الشوك فأرسل إليه مشرف الدولة سلطان بغداد و شفع فيه فعاد عنه علاء الدولة و لما زحف الغز إلى بلاد الري سنة عشرين و أربعمائة و ملكوا همذان و عاثوا في نواحيها إلى أستراباذ و قرى الدينور خرج إليهم أبو الفتح بن أبي الشوك و قاتلهم فهزمهم و أسر منهم جماعة ثم عقد الصلح معهم على إطلاق أسراهم و رجعوا عنه ثم استولى أبو الشوك سنة ثلاثين و أربعمائة على قرميسين من أعمال الجيل و قبض على صاحبها من الأكراد الترهية و سار أخوه إلى قلعة أرمينية فاعتصم بها من أبي الشوك و كانت لهم مدينة خولنجان فبعث إليها عسكرا فلم يظفروا و عادوا عنها ثم جهز آخر و بعثهم ليومهم يسابقون جندهم و مروا بأرمينية فنهبوا ربضها و قاتلوا من ظفروا به و انتهوا إلى خولنجان فكبسوها على حين غفلة و استأمن إليهم أهلها و تحصن الحامية بقلعة وسط البلد فحاصروها و ملكوها عليهم في ذي القعدة من السنة (4/693)
الفتنة بين أبي الفتح بن أبي الشوك و عمه مهلهل
كان أبو الفتح بن أبي الشوك نائبا عن أبيه بالدينور و استفحل بها و ملك قلاعا عدة و حمى أعماله من الغز فأعجب بنفسه و رأى التفوق على أبيه و سار في شعبان سنة إحدى و ثلاثين و أريعمائة إلى قلعة بكورا من قلاع الأكراد و صاحبها غائب و بها زوجته فراسلت مهلهلا لتسلم له القلعة نكاية لأبي الفتح و كانت حالة مهلهل في نواحي الصامغان فانتظر حتى عاد أبو الفتح عن القلعة و جمعا العساكر لحصارها و سار إليها أبو الفتح فورى له عن قصده و رجع فأتبعه أبو الفتح فقاتله عمه مهلهل ثم ظفر به و أسره و حبسه و جمع أبو الشوك و قصد شهرزور و حاصرها ثم قصد بلاد مهلهل و طال الأمر و لج مهلهل في شأنه و أغرى علاء الدولة بن كاكويه ببلد أبي الفتح فملك عليه الدينور و قرميسين سنة اثنتين و ثلاثين
ثم سار أبو الشوك إلى دقوقا و قدم إليها ابنه سعدي فحاصرها و جاء على أثره فنقبوا سورها و ملكها عنوة و نهب بعض البلد و أخذت أسلحة الأكراد و ثيابهم و أقام أبو الشوك بها ليله ثم بلغه أن أخاه سرخاب بن محمد قد أغار على مواضع من ولايته فخاف على البندنجين و رجع و بعث إلى جلال الدولة سلطان بغداد يستنجده فبعث إليه العساكر و أقاموا عنده و سار مهلهل إلى علاء الدولة بن كاكويه يستصرخه على أخيه أبي الشوك على الاعتصام بقلعة السيروان ثم بعث إلى علاء الدولة يعرض له بالرجوع إلى جلال الدولة صاحب بغداد فصالحه على أن يكون الدينور لعلاء الدولة و رجع عنه ثم سار أبو الشوك إلى شهرزور فحاصرها و عاث في سوادها و حصر قلعة بيزازشاه فدافعه أبو القاسم بن عياض عنها و وعده بخلاص ابنه أبي الفتح من أخيه مهلهل فسار من شهرزور إلى نواحي سند من أعمال أبي الشوك و لما بعث إليه ابن عياض بالصلح مع أخيه أبي الشوك امتنع فسار أبو الشوك من حلوان إلى الصامغان و نهب ولاية مهلهل كلها و أجفل مهلهل بين يديه ثم تردد الناس بينهما في الصلح و عاد عنه أبو الشوك (4/694)
استيلاء نيال أخي طغرلبك على ولاية أبي الشوك
ثم سار إبراهيم نيال بأمر أخيه طغرلبك من كرمان إلى همذان فملكها و لحق كرساشف بن علاء الدولة بالأكراد الجورقان و كان أبو الشوك حينئذ بالدينور ففارقها إلى قرميسين و ملكها نيال و سار في اتباعه إلى قرميسين ففارقها إلى حلوان و ترك كل من في عسكره من الديلم و الأكراد الشاذنجان و سار إليها نيال و ملكها عليهم عنوة و استباحها و فتك في العسكر و لحق فلهم بأبي الشوك في حلوان فقدم أهله و ذخيرته إلى قلعة السيروان و أقام ثم سار نيال إلى الصيمرة فملكها و نهبها و أوقع بالأكراد المجاورين لها في الجورقان فانهزموا و كان عندهم كرساشف بن علاء الدولة فلحق ببلد شهاب الدولة و شرد أهلها في البلاد و وصل إليها نيال آخر شعبان فملكها و أحرقها و أحرق دار أبي الشوك و سارت طائفة من الغز في أثر جماعة منهم فأدركوهم بخانقين فغنموا ما معهم و انتشر الغز في تلك النواحي و تراسل أبو الشوك و أخوه مهلهل و كان ابنه أبو الفتح قد مات في سجن مهلهل فبعث مهلهل ابنه و حلف له أنه لم يقتله و إن ثبت فاقتل أبا الغنائم بثأره فقبل و رضي و اصطلحا على دفاع نيال عن أنفسهما و كان أبو الشوك قد أخذ سرخاب أخوه ما عدا قلعة دور بلونه و تقاطعا لذلك فسار سرخاب إلى البندنجين و بها سعدي بن أبي الشوك ففارقها سعدي إلى أبلة و نهبها سرخاب (4/695)
وفاة أبي الشوك و قيام أخيه مهلهل مقامه
ثم توفي أبو الشوك فارس بن محمد سنة سبع و ثلاثين و أربعمائة بقلعة السيروان من حلوان و قام مقامه أخوه مهلهل و اجتمع إليه الأكراد مائلين إليه عن ابن أخيه سعدي بن أبي الشوك فلحق سعدي بنيال أخي طغرلبك يستدعيه لملك البلاد و لما استولى مهلهل بعد موت أخيه أبي الشوك و كان نيال عندما غدا من حلوان ولى على قرميسين بدر بن ظاهر بن هلال بن بدر بن حسنويه فسار إليها مهلهل سنة ثمان و ثلاثين و أربعمائة فهرب بدر عنها و ملكها و بعث ابنه محمدا إلى الدينور و بها عساكر نيال فهزمهم و ملكها (4/696)
استيلاء سعدي بن أبي الشوك على أعمالهم بدعوة السلجوقية
و لما ملك مهلهل بعد أخيه أبي الشوك تزوج بأم سعدي و أهله و أساء معاملة الأكراد الشاذنجان فراسل سعدي نيال و سار إليه بالشاذنجان فبعث معهم عسكرا من الغز سنة تسع و ثلاثين و أربعمائة فملك حلوان و خطب فيها لإبراهيم نيال و رجع إلى مايدشت فخالفه عمه مهلهل إلى حلوان فملكها و قطع منها خطبة نيال فعاد سعدي إلى عمه سرخاب فكبسه و نهب حلله و سير إلى البندنجين جمعا فقبضوا على نائب سرخاب و نهبوها و صعد سرخاب إلى قلعة دوربلونة و عاد سعدي إلى قرميسين و بعث مهلهل ابنه بدرا إلى حلوان فملكها فجمع سعدي و أكثر من الغز و سار فملك حلوان و تقدم إلى عمه مهلهل فلحق بتيرازشاه من قلاع شهرزور و استباح الغز سائر تلك النواحي و حاصر سعدي تيرازشاه و معه أحمد بن ظاهر قائد نيال و نهب الغز حلوان و أراد مهلهل أن يسير إلى ابن أخيه فتكاسلوا ثم قطع سعدي البندنجين لأبي الفتح بن دارم على أن يحاصر معه عمه سرخاب بقلعة دوربلونة فساروا إليها و كانت ضيقة المسلك فدخلوا المضيق فلم يخلصوا و أسر سعدي و أبو الفتح و غيرهما من الأعيان و رجع الغز عن تلك النواحي بعد أن كانوا ملكوها (4/696)
نكبة سرخاب و استيلاء نيال على أعمالهم كلها
ثم إن سرخاب لما قبض سعدي ابن أخيه أبي الشوك غاضبه ابنه أبو العسكر و اعتزله و كان سرخاب قد أساء السيرة في الأكراد فاجتمعوا و قبضوا عليه و حملوه إلى نيال فاقتلع عينه و طالبه بإطلاق سعدي بن أبي الشوك فأطلقه أبو العسكر ابنه و استحلفه على السعي في خلاص أبيه سرخاب فانطلق سعدي و اجتمع عليه كثير من الأكراد و سار إلى نيال فاستوحش منه و سار إلى الدسكرة و كاتب أبا كاليجار بالطاعة ثم سار إبراهيم نيال إلى قلعة كلجان و امتنعت عليهم ثم حاصروا قلعة دوربلونة فتقدمت طائفة إلى البندنجين فنهبوها و سار إبراهيم فيها بالنهب و القتل و العقوبة في المصادرة حتى يموتوا و تقدمت طائفة إلى الفتح فهرب و ترك حله فعرجوا عليها و اتبعوه فقاتلهم و ظفر بهم و بعث مستنجدا فلم ينجدوه فعبر و أمر بنزول حله إلى جانب الغز و كان سعدي بن أبي الشوك نازلا على فرسخين من باجس فكبسه الغز فهرب و ترك حله و غنمها الغز و نهبوا تلك الأعمال و الدسكرة و الهارونية و قصر سابور و تقسم أهلها بين القتل و الغرق و الهلاك بالبرد و وصل سعدي إلى دبال و لحق منها بأبي الأغرد بيس بن مزيد فأقام عنده و حاصر نيال قلعة السيروان و ضيق عليها و ضربت سراياه في البلاد و انتهت إلى قرب تكريت ثم استأمن أهل قلعة السيروان إلى نيال فملكها و أخذ منها ذخيرة سعدي و ولى عليها من أصحابه ثم مات صاحب قلعة السيروان و بعث وزيره إلى شهرزور فملكها و هرب مهلهل و أبعد في الهرب و حاصر عسكر نيال قلعة هوازشاه
ثم راسل مهلهل أهل شهرزور بالتوثب بالغز الذين عندهم فقتلوهم و رجع قائد نيال ففتك فيهم ثم سار الغز المقيمون بالبندنجين إلى نهر سليلى و قاتلوا أبا دلف القاسم بن محمد الجاواني فهزمهم و ظفر بهم و غنم ما معهم و سار في ذي الحجة جمع من الغز إلى بلد علي بن القاسم فعاثوا فيها فأخذ عليهم المضيق فأوقع بهم و استرد ما غنموه و لم يزل أحمد بن ظاهر قائد نيال محاصرا قلعة تيرازشاه في شهرزور إلى أن دخلت سنة أربعين و أربعمائه و وقع الموتان في عسكره و استمد نيال فلم يمده فرحل عنها إلى مايدشير و بلغ ذلك مهلهلا فبعث أحد أولاده إلى شهرزور فملكها و أجفل الغز من السيروان و سارت عساكر بغداد إلى حلوان و حاصروا قلعتها و لم يظفروا فنهبوا مخلف الغز و خربوا الأعمال و سار مهلهل إلى بغداد فأنزل أهله و أمواله بها و أنزل حله على ستة فراسخ منها فسار عسكر من بغداد إلى البندنجين و قاتلوا الغز الذين بها فهزمهم الغز و قتلوهم جميعا (4/697)
بقية أخبار مهلهل و ابن أبي الشوك و انقراض أمرهم
ثم سار مهلهل أخو أبي الشوك إلى السلطان طغرلبك سنة ثلاث و أربعين و أربعمائة فأحسن إليه و أقره على أقطاعه السيروان و دقوقا و شهرزور و الصامغان و سعى في أخيه سرخاب و كان محبوسا عنده فأطلقه و سوغه قلعة الماهكي و كانت له فسار إليها و أقطع سعدي بن أبي الشوك الرادندبين ثم بعثه سنة ست و أربعين في عسكر من الغز إلى نواحي العراق فنزل بمايدشت و سار منها إلى أبي دلف الجاواني فهرب بين يديه و أدركه فنهب أمواله و فلت بنفسه و كان خالد ابن عمه مع الوزير و مطر ابني علي بن معن العقيلي فوفد أولادهم على سعدي يشكون مهلهلا فوعدهم النصر و رجعهم من عنده فاعترضهم أصحاب مهلهل فأسرهم بنو عقيل ففداهم مهلهل و أوقع بهم على تل عكبرا و نههبهم فساروا إلى سعدي و هو بسامرا و أتبع عمه مهلهلا و ظفر به و أسره و أسر مالكا ابنه و رد غنائم بني عقيل و رجع إلى حلوان
و اضطربت بغداد و اجتمعت عساكر الملك الرحيم و معهم أبو الأغر دبيس بن مزيد يسعى عند سعدي في أبيه و كان ابن سعدي عنه السلطان طغرلبك رهينة فرده على أبيه عوضا عن مهلهل و أمره بإطلاق مهلهل فامتعض لذلك سعدي و عصى على طغرلبك و سار إلى حلوان فامتنعت عليه و أقام يتردد بين رشقباد و البردان و أظهر مخالفة طغرلبك و رجع إلى طاعة الملك الرحيم فبعث طغرلبك العساكر مع بدران بن مهلهل إلى شهرزور و وجد إبراهيم بن إسحاق من قواده فأوقعوا به و مضى إلى قلعة رشقباد
و سار بدر بن مهلهل إلى شهرزور و رجع إبراهيم بن إسحاق إلى حلوان فأقام بها ثم نهض سنة ست و أربعين إلى الدسكرة فنهبها و استباحها و سار إلى رشقباد و هي قعلة سعدي و فيها ذخيرته و في القلعة البردان فامتنعت عليه فخرب أعماله و وهن الديلم في كل ناحية و بعث طغرلبك أبا علي بن أبي كاليجار صاحب البصرة في عسكر من الغز إلى الأهواز فملكها و نهبها الغز و لقي الناس منهم عيثا بالنهب و المصادرة و أحاطت دعوة طغرلبك ببغداد من كل ناحية و انقرض الأكراد من أعمالهم و اندرجوا في جملة السلطان طغرلبك و { وتلك الأيام نداولها بين الناس } و الله يؤتي ملكه من يشاء و الله يرث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين لا راد لأمره
تم طبع الجزء الرابع و يليه الجزء الخامس أوله الخبر عن دولة السلجوقية (4/689)
بسم الله الرحمن الرحيم ـ الخبر عن دولة السلجوقية من الترك المستولين على ممالك الاسلام و دوله بالمشرق كلها إلى حدود مصر مستبدين على الخليفة ببغداد من خلافة القائم إلى هذا الزمان و ما كان لهم من الملك و السلطان في أقطار العالم و كيف فعلوا بالعلماء و حجروهم و ما تفرع عن دولتهم من الدول
قد تقدم لنا ذكر أنساب الأمم و الكلام في أنساب الترك و أنهم من ولد كومر بن يافث أحد السبعة المذكورين من بني يافث في التوراة و هم ماواق و ماذاي و ماغوغ و قطوبال و ماشخ و طيراش و عد ابن اسحق منهم ستة و لم يذكر ماذي و في التوراة أيضا ان ولد كومر ثلاثة توغرما و اشكان و ريعات و وقع في الاسرائيليات أن الافرنج من ريعات و الصقالبة من أشكال و الخزر من توغرما و الصحيح عند نسابة الاسرائيليين أن الخزر هم التركمان و شعوب الترك كلهم من ولد كومر و لم يذكر من أي ولده الثلاثة و الظاهر أنهم من توغرما و زعم بعض النسابة أنهم من طيراش بن يافث و نسبهم ابن سعيد إلى ترك بن غامورين سويل و الظاهر أنه غلط و أن غامور تصحيف كما مر و أما سويل فلم يذكر أحد من بني يافث و قد مر ذكر ذلك كله ( و الترك أجناس ) كثيرة و شعوب فمنهم الروس و الإعلان و يقال إبلان و الخفشاخ و هم القفجق و الهياطلة و الخلج و الغز الذين منهم السلجوقية و الخطا و كانوا بأرض طمعاج و يمك و القوروتزكس و اركس و الططر و يقال الطغرغر و أنكر و هم مجاورون للروم و أعلم أن هؤلاء الترك أعظم أمم العالم و ليس في أجناس البشر أكثر منهم و من العرب في جنوب المعمور و هؤلاء في شماله قد ملكوا عامة الأقاليم الثلاثة من الخامس و السادس و السابع في نصف طوله مما يلي المشرق فأول موطنهم من الشرق على البحر بلاد الصين و ما فوقها جنوبا إلى الهنك و ما تحتها شمالا إلى سد يأجوج و قد قيل إنهم من شعوب الترك و آخر مواطنهم من جهة الغرب بلاد الصقالبة المجاورين للافرنج مما يلي رومة إلى خليج القسطنطينية و أول مواطنهم من جهة الجنوب بلاد القور المجاورة للنهر ثم خراسان و اذربيجان و خليج القسطنطينية و آخرها من الشمال بلاد فرغانة و الشاش و ما وراءها من البلاد الشمالية المجهولة لبعدها و ما بين هذه الحدود من بلاد غزنة و نهر جيحون و ما بحفافيه من البلاد و خوارزم و مفاوز الصين و بلاد القفجق و الروس حفافي خليج القسطنطينية من جهة الشمال الغربي قد اعتمر لهذه البسائط منهم أمم لا يحصيهم إلا خالقهم رحالة متنقلون فيها مستنجعين مساقط الغيث في نواحيه يسكنون الخيام المتخذة من اللبود لشدة البرد في بلادهم فقروا عليها و مر بديار بكر و خرج إليه صاحبها نصر بن مروان و حمل مائة ألف دينار لنفقته فلما سمع أنه قبضها من الرعايا ردها عليه ثم مر بناهرو و أمنها و أطاف على السور و جعل يمسحه بيده و يمر بها على خدوده تبركا بثغر المسلمين ثم مر بالرها و حاصرها فامتنعت عليه ثم سار إلى حلب فبعث إليه صاحبها محمود ريعول القائد الذي يخبر بطاعته و خطبته و يستعفيه من الخروج اليه منكرا منه الأذى و بحي على خير العمل فقال لابد من خروجه و اشتد الحصار فخرج محمود ليلا مع أمه بنت وثاى الهني متطارحا على السلطان فأكرم مقدمها و خلع عليه و أعاده الى بلده (5/3)
غزاة السلطان ألبارسلان الى خلاط و اسر ملك الروم
كان ملك الروم بالقسطنطينية لهذا العهد اسمه أرمانوس و كان كثيرا ما يخيف ثغور المسلمين و توجه في سنة اثنتين و ستين في عساكر كثيرة إلى الشام و نزل على مدينة منبج و استباحها و جمع له محمود بن صالح بن مرداس الكلابي و ابن حسان الطائي قومهما و من إليهم من العرب فهزمتهم الروم ثم رجع أرمانوس إلى القسطنطينية و احتشد الروم و الفرنج و الروس و الكرخ و من يليهم من العرب و الطوائف و خرج إلى بلاد كرد من أعمال خلاط و كان السلطان ألبارسلان بمدينة حوف من أذربيجان منقلبا من حلب فبعث بأهله و أثقاله إلى همدان مع وزير نظام الملك و سار هو في خمسة عشر ألف مقاتل و توجه نحوهم متهيأ و لقيت مقدمته الروس فهزموهم و جاؤا بملكهم أسيرا إلى السلطان فجدعه و بعث إسلابهم إلى نظام الملك ثم توجه الى سمرقند ففارقها ألتكير و أرسل في الصلح و يعتذر عن تومق فصالحه ملك شاه و أقطع بلخ و طخارستان لأخيه شهاب الدين مكين إلى خراسان ثم إلى الري (5/5)
فتنة قاروت بك صاحب كرمان و مقتله
كان بكرمان قاروت بك أخو السلطان البارسلان أميرا عليها فلما بلغه وفاة أخيه سار إلى الري لطلب الملك فسبقه إليها السلطان ملك شاه و نظام الملك و معهما مسلم بن قريش و منصور بن دبيس و أمراء الأكراد و التقوا على نهر مان فانهزم قاروت بك و جيء به إلى أمام سعد الدولة كوهراس فقتله خنقا و أمر كرمان بسير بنيه و بعث إليهم بالخلع و أقطع العرب و الأكراد مجازاة لما أبلوا في الحرب و د كان السلطان البارسلان شافعا فيه على الخليفة فلقيهم خبر وفاة البارسلان في طريقهم فروا إلى ملك شاه و سبق إليه مسلم بطاعته و أما بهاء الدولة منصور بن دبيس فان أباه أرسله بالمال إلى ملك شاه فلقيه سائرا للحرب فشهدها معه ثم توفي أياز أخو السلطان ملك شاه ببلخ سنة خمس و ستين فكفله ابنه ملك شاه إلى سنة سبع و ستين و توفي القائم منتصف شعبان منها لخمس و أربعين سنة من خلافته و لم يكن له يومئذ ولد و إنما كان له حافد و هو المقتدي عبد الله بن محمد و كان أبوه محمد بن القائم ولي عهده و كان يلقب ذخيرة الدين و يكنى أبا العباس و توفي سنة و عهد القائم فلما توفي اجتمع أهل الدولة و حضر مؤيد الملك بن نظام الملك و الوزير فخر الدولة بن جهير و ابنه عميد الدولة و الشيخ أبو اسحق الشيرازي و نقيب النقباء طراد و قاضي القضاة الدامغاني فبايعوه بالخلافة لعهد جده إليه بذلك و أقر فخر الدولة بن جهير على الوزارة و بعث ابنه عميد الدولة إلى السلطان ملك شاه لأخذ بيعته و الله الموفق للصواب (5/5)
استيلاء السلجوقية على دمشق و حصارهم مصر ثم استيلاء تتش ابن السلطان ألبارسلان على دمشق
قد تقدم لنا ملك انسز الرملة و بيت المقدس و حصاره دمشق سنة إحدى و ستين ثم عاد عنها و جعل يتعاهد نواحيها بالعيث و الافساد كل سنة ثم سار إليها في رمضان سنة سبع و ستين و حاصرها ثم عاد عنها و هرب منها أميرها من قبل المستنصر العلوي صاحب مصر المعلى بن حيدره لأنه كثر عسفه بالجند و الرعية و ظلمه فثاروا به فهرب إلى بانياس ثم إلى صور ثم إلى مصر فحبس و مات بها محبوسا و اجتمعت المصامدة بدمشق و ولي عليهم أنصار بن يحيى المصمودي و يلقب نصير الدولة و غلت الاقوات عندهم و اضطربوا فعاد اليها انسز في شعبان سنة ثمان و ستين فاستأمنوا إليه و عوض انتصارا منها بقلعة بانياس و مدينة يافا من الساحل و دخلها في ذي القعدة و خطب بها للمقتدي و منع من النداء بحي على خير العمل و تغلب على كثير من مدن الشام ثم سار سنة تسع و ستين إلى مصر و حاصرها و ضيق عليها و استنجد المنتصر بالبوادي من نواحيها فوعدوه بالنصر و خرج بدر الجمالي في العساكر التي كانت بالقاهرة و جاء أهل البلاد لميعادهم فإنهزم أنسز و عساكره و نجا إلى بيت المقدس فوجدهم قد بمخلفه فتحصنوا منه بالمعاقل فافتتحها عليهم عنوة و استباحها حتى قتلهم في المسجد و قد تقدم ضبط هذا الاسم و أنه عند أهل الشأم انسيس و الصحيح انسز و هو اسم تركي ثم إن السلطان ملك شاه أقطع أخاه تتش بن ألبارسلان بلاد الشأم و ما يفتحه من تلك النواحي سنة سبعين و أربعمائة فقصد حلب أولا و حاصرها و معه جموع من التركمان و كان بدر الجمالي المستولي على مصر قد بعث العساكر لحصار دمشق و بها أنسز فبعث إلى تتش و هو على حلب يستنجده فسار إليه و أخرت عساكر مصر عنه منهزمين و لما وصل إلى دمشق قعد انسز على لقائه و انتظر قدومه فلقيه عند السور و عاتبه على ذلك فتساهل في العذر فقتله لوقته و ملك البلد و استولى على الشام أجمع كما سيأتي و كان يلقب تاج الدولة ثم سار في سنة اثنتين و سبعين إلى حلب فحاصرها أياما و أفرج عنها و ملك مراغة و البيرة و عاد إلى دمشق و خالفه مسلم بن قريش إلى حلب فملكها كما تقدم في أخباره و ضمنها للسلطان ملك شاه فولاه إياها و سار مسلم بن قريش فحاصرها آخر سنة أربع و سبعين ثم أفرج عنها فخرج تتش و قصد طرسوس من الساحل فافتتحها و رجع ثم حاصرها مسلم ثانية سنة تسع و سبعين و بلغه أن تاج الدولة تتش سار إلى بلاد الروم غازيا فخالفه إلى دمشق و حاصرها معه العرب و الأكراد و بعث إليه العلوي صاحب مصر بعده بالمدد و بلغ الخبر إلى تتش فكر راجعا و سبقه إلى دمشق فحاصرها أياما ثم خرج إليه تتش في جموعه فهزمه و اضطرب أمره و وصله الخبر بانتقاض أهل حران فرحل من مرج الصفر راجعا إلى بلاده ثم سار أمير الجيوش من مصر في العساكر إلى دمشق سنة ثمان وسبعين و حاصرها فامتنعت عليه و رجع فلحقوا بأخيه تكش في فقوي به و أظهر العصيان و استولى على مروالروذ و مرو الساهجان و غيرهما و سار إلى نيسابور طامعا في ملك خراسان و بلغ الخبر إلى السلطان فسبقه إلى نيسابور فرجع تتش و تحصن بترمذ و حاصره السلطان حتى سأل الصلح و أطلق من كان في أسره من عسكر السلطان و نزل عن ترمذ و خرج إليه فأكرمه ثم عاود العصيان سنة سبع و سبعين و ملك مرو الروذ و وصل قريبا من سرخس و حاصر قلعة هناك لمسعود ابن الأمير فاخر و تحيل أبو الفتوح الطوسي صاحب نظام و هو بنيسابور على ملطفة وضعوها على شبه خط نظام الملك يخاطب فيها صاحب القلعة بأنه واصل في ركاب السلطان ملك شاه و أنه مصالح للقلعة و تعرض حاملها لأهل المعسكر حتى أخذوا كتابه بعد الضرب و العرض على القتل و حدثهم بمثل ما في الصحيفة و أن السلطان و عساكره في الري فأجفلوا لوقتهم إلى قلعة ربح و خرج أهل الحصن فأخذوا ما في العسكر و جاء السلطان بعد ثلاثة أشهر فحاصره في قلعته حتى افتتحها وحده و دفعه إلى ابنه أحمد فتسلمه و حبسه فخرجا من يمينه معه (5/6)
سفارة الشيخ أبي اسحق الشيرازي عن الخليفة
كان الخليفة المقتدي و كان عميد العراق أبو الفتح بن أبي الليث يسيء معاملة الخليفة فبعث المقتدي الشيخ أبا اسحق الشيرازي إلى السلطان ملك شاه وزيره نظام الملك باصفهان شاكيا من العميد فسار الشيخ لذلك و معه الإمام أبو بكر الشاشي و غيره من الأعيان و رأى الناس عجبا في البلاد التي يمر بها من اقبال الخلق عليه و ازدحامهم على محفته يتمسحون بها و يلثمون أذيالها و ينشرون موجودهم عليها من الدراهم و الدنانير لأهلها و المصنوعات لأهل الصنائع و البضائع للتجار و الشيخ في ذلك يبكي و ينتحب و لما حضر عند السلطان أظهر المحرمة و أجابه إلى جميع ما طلبه و رفعت يد العميد عن كل ما يتعلق بالخليفة و حضر الشيخ مجلس نظام الملك فجرت بينه و بين إمام الحرمين مناظرة خبرها معروف (5/8)
اتصال بني جهير بالسلطان ملك شاه و مسير فخر الدولة لفتح ديار بكر
كان فخر الدولة أبو نصر بن جهير وزير المقتدي قد عزل سنة إحدى و سبعين على يد نظام الملك و لحق به ابنه عميد الدولة و استرضاه فرضي نظام الملك و شفع إلى الخليفة فاعتمد عميد الدولة دون أبيه كما تقدم في أخبار الخلفاء ثم أرسل المقتدي سنة أربع و سبعين فخر الدولة إلى ملك شاه يخطب له ابنته فسار إليها اصبهان و عقد له نكاحها على خمسين ألف دينار معجلة و عاد إلى بغداد ثم عزل المقتدي ابنه عميد الدولة عن الوزارة سنة ست و سبعين و كانوا قد علقوا بخطة من نظام الملك فبعث عن نفسه و عن ملك شاه يطلب حضور بني جهير عندهم فساروا بأهليهم فعظمت حظوظهم عند السلطان و عقد لفخر الدولة على ديار بكر و بعث معه العساكر لفتحها من يد بني مروان و أذن له اتخاذ الآلة و أن يخطب لنفسه و يكتب اسمه على السكة فسار في العساكر السلطانية (5/8)
استيلاء ابن جهير على الموصل
و لما سار فخر الدولة ابن جهير لفتح ديار بكر استنجد ابن مروان مسلم بن قريش و شرط له أمرا و تحالفا على ذلك و اجتمعا لحرب ابن جهير و بعث السلطان الأمير ارتق بن أكسك في العساكر مددا لابن جهير فجنح ابن جهير الى الصلح و بادر أرتق إلى القتال فهزم العرب و الأكراد و غنم معسكرهم و نجا مسلم بن قريش إلى آمد و أحاطت به العسكر فلما اشتد مخنقه راسل الأمير أرتق في الرخوج على مال بذله له فقبله و كانت له حراسة الطريق فخرج إلى الرقة و سار ابن جهير إلى ميافارقين و فارقه منصور بن مزيد و ابنه صدقة فعاد منها إلى خلاط و لما بلغ السلطان انحصار مسلم في آمد بعث عميد الدولة في جيش كثيف إلى الموصل و معه آقسنقر قسيم الدولة الذي أقطعه بعد ذلك حلب و ساروا إلى الموصل فلقيهم أرتق و رجع معهم و لما نزلوا على الموصل بعث عميد الدولة إلى أهلها بالترغيب و الترهيب فأذعنوا و استولى عليها و جاء السلطان في عساكره إلى بلاد مسلم بن قريش و قد خلص من الحصار و هو مقيم قبالة الرحبة فبعث إليه مؤيد الكتاب و لاطف السلطان و استرضاه و وفد إليه بالقوارح و رده السلطان إلى أعماله و عاد لحرب أخيه تتش الذي ذكرناه آنفا (5/8)
فتح سليمان بن قطلمش انطاكية و الخبر عن مقتله و مقتل مسلم ابن قريش و استيلاء تتش على حلب
كان سليمان بن قطلمش بن اسرائيل بن سلجوق قد ملك قرسة و اقتصروا أعمالها من بلاد الروم إلى الشأم و كانت انطاكية بيد الروم من سنة ثمان و خمسين و ثلثمائة و كان ملكها لعهده الفردروس فأساء إلى جنده و رعاياه و تنكر لابنه و حبسه فداخل الشحنة في تمكين سلمان من البلد فاستدعوه سنة سبع و سبعين فركب إليها البحر و خرج إلى البر في أقرب السواحل إليها في ثلثمائة ألف فارس و رجل كثير و سار في جبال و اوعار فلما انتهى إلى السور و أمكنه الشحنة من تسلم السور دخل البلد و قاتل أهلها فهزمهم و قتل كثيرا منهم ثم عفا عنهم و ملك القلعة و غنم من أموالهم ما لا يحصى و أحسن إلى أهلها و أمر لهم بعمارة ما خرب و أرسل إلى السلطان ملك شاه بالفتح ثم بعث إليه مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمل إليه الفرد روس ملك انطاكية من المال و يخوفه معصية السلطان فأجابه بتقرير الطاعة للسلطان و بأن الجزية لا يعطيها مسلم و نهب نواحي انطاكية فنهب سليمان نواحي حلب ثم جمع سليمان العرب و التركمان و سار لنواحي انطاكية و معه جماهير التركمان و جمع سليمان كذلك و التقيا آخر صفر سنة ثمان و سبعين و انحاز إلى سليمان فانهزمت العرب و قتل مسلم و سار سليمان بن قطلمش إلى حلب و حاصرها فامتنعت عليه و أرسل إليه ابن الحثيثي العباسي كبير حلب بالأموال و طالبه أن يمهل حتى يكاتب السلطان ملك شاه و دس إلى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعيه لملكها فجاء لذلك و معه أرسوس أكسك و كان خائفا على نفسه من السلطان ملك شاه لفعلته في أمر فاستجار بتتش و أقطعه المورس و سار معه لهذه الحرب و بادر سلمان بن قطلمش إلى اعتراضهم و هم على تعبية و أبلى أرتق في هذه الحروب و انهزم سليمان و طعن نفسه بخنجر فمات و غنم تتش معسكره و بعث إلى ابن الحثيثي العباسي فيما استدعاه إليه فاستهمله إلى مشورة السلطان ملك شاه و أغلظ في القول فغضب تتش و داخله بعض أهل البلد فتسورها و ملكها و استجار ابن الحثيثي بالأمير أرتق فأجاره و سمع له (5/9)
استيلاء ابن جهير على ديار بكر
ثم بعث ابن جهير سنة ثمان و سبعين ابنه زعيم الرؤساء أبا القاسم إلى حصار أمد و معه جناح الدولة اسلار فحاصرها و اقتلع شجرها و ضيق عليها حتى جهدهم الجوع و غدر بعض العامة في ناحية من سورها و نادى بشعار السلطان و اجتمع إليه العامة لما كانوا يلقون من عسف العمال النصارى فبادر زعيم الرؤساء إلى البلد و ملكها و ذلك في المحرم و كان أبوه فخر الدولة محاصرا لميافارقين و وصل إليه سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد بمدد العساكر فاشتد الحصار و سقطت من السور ثلمه في سادس جمادي فنادوا بشعار السلطان و منعوا ابن جهير من البلد و استولى على أمرال بني مروان و بعثها مع ابنه زعيم الرؤساء إلى السلطان فسار مع كوهراس إلى بغداد ثم فارقه إلى السلطان باصبهان و لما انقضى أمر ميافارقين بعث فخر الدولة جيشا إلى جزيرة ابن عمر فحاصرها و قام بعض أهلها بدعوة السلطان و فتحوا مما يليهم بابا قريبا دخل منه العسكر فملكوا البلد و انقرضت دولة بني مروان من ديار بكر و البقاء لله ثم أخذ السلطان ديار بكر من فخر الدولة بن جهير و سار إلى الموصل فأقام بها إلى أن توفي سنة ثلاث و ثمانين (5/10)
استيلاء السلطان ملك شاه على حلب و ولاية اقسنقر عليها
لما ملك تاج تتش مدينة حلب و كان بها سالم بن ملك بن مروان ابن عم مسلم بن قريش و امتنع بالقلعة و حاصره تتش سبعة عشر يوما حتى وصل الخبر بمقدم أخيه السلطان ملك شاه وقد كان ابن الحثيثي كتب إليه يستدعيه لما خاف من تتش فسار من اصبهان منتصف تسع و سبعين و في مقدمته برسق و بدارن و غيرهما من الأمراء و مر بالموصل في رجب ثم سار إلى هراة و بها ابن الشاطي فملكها و أقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش و أقطعه معها مدينة الرحبة و أعمالها
حران و سروج و الرقة و خابور و زوجه أخته زليخا خاتون ثم سار إلى الرها و افتتحها من الروم و كانوا اشتروها من ابن عطية كما مر و سار إلى قلعة جعفر فملكها و قتل من كان بها من بني قشير و كان صاحبها جعفر أعمى و كان يخيف السابلة هو و ولده فأزال ضررهم ثم ملك منبج و عبر الفرات إلى حلب فأجفل تتش عن المدينة و دخل و معه الأمير أرتق و رجع إلى دمشق فلما وصل السلطان إلى حلب ملكها ثم إلى القلعة فملكها من سالم بن ملك على أن يعطيه قلعة جعفر فلم يزل بيد عقبة إلى أن ملكها منهم نور الدين الشهيد ثم بعث إليه نصر بن علي بن منقذ الكناني بالطاعة فأقره على شيراز و تسلم منه اللاذقية و بعرطاف و جامية و رجع ثم رجع السلطان بعد أن ولى على حلب قسيم الدولة أقسنقر و رغب إليه أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فأخرجه عنهم إلى ديار بكر ثم رجع السلطان إلى بغداد فدخلها في ذي الحجة من سنته و نزل بدار المملكة و أهدى للخليفة هدايا كثيرة و اجتمع بالخليفة ليلا ثم دخل إليه في مجلسه نهارا و أفيضت عليه الخلع و سلم أمراء السلجوقية على الخليفة و نظام الملك قائم يقر بهم واحدا و احدا و يعرف بهم ثم صرح المقتدي للسلطان ملك شاه بالتفويض و أوصاه بالعدل فقبل يده و وضعها على عينيه و خلع الخليفة على نظام الملك و جاء إلى مدرسته التي فيها الحديث و أملى (5/10)
خبر الزفاف
قد قدمنا أن السلطان ملك شاه زوج ابنته من الخليفة المقتدي سنة أربع و سبعين بخطبة الوزير ابن جهير فلما كان سنة ثمانين في المحرم نقل جهازها للزفاف إلى دار الخلافة على مائة و ثلاثين جملا مجللة بالديباج الرومي أكثرها ذهب و فضة و معه ثلاث عماريات و معها أربع و سبعون بغلا مجللة بأنواع الديباج المكي و قلائدها الذهب و على ستة منها اثنا عشر صندوقا من فضة مملوءة بالحلي و الجواهر و مهد عظيم من ذهب و سار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهراس و الأمير أرتق و غيرهما من الأمراء و الناس ينثرون عليهم الدنانير و الثياب و بعث الخليفة وزيره أبا شجاع إلى زوجة السلطان تركمان خاتون و معه خادمه ظفر بمحفة لم ير مثلها و معهم ثلثمائة من الشمع الموكف و مثلها مشاعل و أوقدت الشموع في دكاكين الحريم الخلافي و قال الوزير لخاتون سيدنا أمير المؤمنين يقول أن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و قد أذن في نقل الوديعة إلى داره فقالت سمعا و طاعة و مشى بين يديها أعيان الدولة مع كل و واحد الشمع و المشاعل يحملها الفرسان ثم جاءت المأمون من بعدهم في محفة مجللة عليها من الذهب و الجواهر ما لا يحد و يحيط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك على مراكب رائعة و أولم الخليفة و ليمة لم يسمع بمثلها ثم أطلع الناس من الغد سماط مائدة عليها أربعون ألفا من السكر و خلع على أعيان العسكر و على جميع الحواشي (5/11)
استيلاء السلطان ملك شاه على ما وراء النهر
كان صاحب سمرقند لهذا العهد من الخانية أحمد بن خضر خان أخى شمس الملك الذي كان أميرا عليها و عمته خاتون زوجة ملك شاه و كان رديء السيرة فبعثوا إلى السلطان يسألونه الرجوع إلى ابالته و جاء بذلك مفتي سمرقند أبو طاهر الشافعي قدم حاجا و أسر ذلك إلى السلطان فسار من اصبهان سنة اثنتين و ثمانين و معه رسول الروم بالخراج المقدر عليهم فاستعجم و أحضر للفتح و لما انتهى إلى خراسان جميع العساكر و عبر النهر بجيوش لا تحصى و أخذ ما في طريقه من البلاد ثم انتهى إلى بخارى فملكها و ما جاورها ثم سار إلى سمرقند فحاصرها و أخذ بهجتها ثم رماها بالمنجنيق و ثلم سورها و دخل من الثلمة و ملك البلد و اختفى أحمد خان ثم جيء به أسيرا فأطلقه و بعث به إلى اصبهان و ولى على سمرقند أبا طاهر عميد خوارزم و سار إلى كاشغر فبلغ إلى نور وكمن و بعث إلى كاشغر بالخطبة و ضرب السكة فأطاع و حضر عند السلطان فأكرمه و خلع عليه و أعاده إلى بلده و رجع السلطان إلى خراسان و كان بسمرقند عساكر يعرفون بالحكلية فأرادوا الوثوب نائب السلطان فلاطفهم و لحق ببلده خوارزم
( عصيان سمرقند و فتحها ثانيا )
كان مقدم الحكلية بسمرقند اسمه عين الدولة و خاف السلطان لهذه الحادثة فكاتب يعقوب تكين أخا ملك كاشغر و كانت مملكته تعرف بارياسي فاستحضره و ملكه ثم شكر له يعقوب و حمل أعداءه من الرعية على طلب الثأر منه وقتله بفتاوى الفقهاء و استبد بسمرقند و سار السلطان ملك شاه إليها سنة اثنتين و ثمانين لما انتهى إلى بخارى هرب يعقوب إلى فرغانة و لحق بولايته و جاء بعسكره مستأمنين إلى السلطان فلقوه بالطواويس من قرى بخارى و وصل السلطان إلى سمرقند و ولى عليها الأمير انز و أرسل العساكر في طلب يعقوب و أرسل إلى ملك كاشغر بالجد في طلبه و شعب على يعقوب عساكره و نهبوا خزائنه و دخل على أخيه كاشغر مستجيرا به و بعث السلطان في طلبه منه فتردد بين المخافة و الأنفة ثم غلب عليه الخوف فقبض على أخيه يعقوب و بعثه مع ابنه و أصحابه إلى السلطان و أمرهم أن يسملوه في طريقه فان قنع السلطان بذلك و إلا أسلموه إليه فلما قربوا على السلطان و عزموا على تسليمه بلغهم الخبر بأن طغرل بن نيال أسرى من ثمانين فرسخا بعساكر لا تحصى فكبس ملك كاشغر و أسره فأطلقوا يعقوب ثم خشي السلطان شأن طغرل بن نيال و كثرة عساكره فرجع على البلد و دس تاج الملك في استصلاح يعقوب فشفع له ورد إلى ماشغر ورد الطغرل و رجع إلى خراسان ثم قدم إلى بغداد سنة أربع و ثمانين العزمة الثانية و وجد عليه أخوه تاج الدولة تتش صاحب الشام و قسيم الدولة أقسنقر صاحب حلب و بوران صاحب الرها و عمال الطراف و أقام صنيع الميلاد ببغداد و تأنق بما لم يعهد مثله و أمر وزيره نظام الملك و أمراءه ببناء الدور ببغداد لنزلهم و رجع إلى اصبهان (5/12)
استيلاء تتش على حمص و غيرها من سواحل الشام
لما قدم السلطان سنة أربع و ثمانين وفد عليه أمراء الشام كما قدمنا فلما انصرفوا من عنده أمر أخاه تاج الدولة تتش أن يذهب دولة العلويين من ساحل الشام و يفتح بلادهم و أمر أقسنقر و بوران أن يسيرا لانجاده فلما رجعوا إلى دمشق سار إلى حمص و بها صاحبها ابن ملاعب و قد عظم ضرره و ضرر ولده على الناس فحاصرها و ملكها ثم سار إلى قلعة عرفة فملكها عنوة ثم إلى قلعة افامية فاستأمن إليه خادم كان بها فأرسل إلى أمراء تتش في اصلاح حاله فسدوا عليه المذاهب فأرسل إلى وزير اقسنقر يسعى له عند صاحبه و عمل له على ثلاثين ألف دينار و مثلها عروضا فجنح إلى مصالحته و اختلف مع تتش على ذلك و أغلظ كل منهما لصاحبه في القول فرحل أقسنقر مغاضبا و اضطر الباقون إلى الرحيل و انتقض أمرهم (5/13)
ملك اليمن
كان فيمن حضر عند السلطان ببغداد كما قدمناه عثمان حق أمير التركمان صاحب قرمسيس و غيرها فأمره السلطان أن يسير في جموع التركمان للحجاز و اليمن فيظهر أمرهم هناك و فوض إلى سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد فولى عليهم أمير اسمه ترشك و سار إلى الحجاز فاستولى عليه و أساء السيرة فيه حتى جاء أمير الحجاز محمد بن هاشم مستغيثا منهم ثم ساروا سنة خمس و ثمانين إلى اليمن و عاثوا في نواحيه و ملكوا عدن و أساؤا السيرة في أهلها و أهلكوا ترشك سابع دخولها و أعادوا أصحابه إلى بغداد فدفنوه بها (5/14)
مقتل الوزير نظام الملك
ثم ارتحل السلطان ملك شاه إلى بغداد سنة خمس و ثمانين فانتهى إلى اصهبان في رمضان وخرج نظام الملك من بيته بعد الافطار عائدا إلى خيمته فاعترضه بعض الباطنية في صورة متظلم فلما استدناه لسماع شكواه طعنه بخنجر فأشواه و عثر الباطني في أطناب الخيام و دخل نظام الملك الخيمة فمات لثلاثين سنة من وزارته و اهتاج عسكره فركب إليه السلطان و سكن الناس و يقال أن السلطان ملك شاه وضع الباطني على قتله لما وقع منه و من بنيه من الدالة و التحكم في الدولة و قد كان السلطان دس على ابنه جمال الدين من قتله سنة خمس و سبعين كان بعض حواشي السلطان سعى به فسطا به جمال الدين و قتله فأحقد السلطان بذلك و أخذ عميد خراسان فقتله خنقا فدس لخادم من خدم جمال الدين بذلك و أنهم اذا تولوا قتله بأنفسهم كان أحفظ لنعمتهم فسقاه الخادم سما و مات و جاء السلطان إلى نظام الملك و أغراه به و ما زال بطانة السلطان يغضون منه و يحاولون السعاية فيه إلى أن ولى حافده عثمان بن جمال الملك على مرو و بعث السلطان إليها كردن من أكابر المماليك و الأمراء شحنة و وقعت بينه و بين عثمان منازعة في بعض الأيام فأهانه و حبسه ثم أطلقه و جاء إلى السلطان شاكيا فاستشاط غضبا و بعث فخر الملك البارسلان إلى نظام الملك و أغراه به و ما زال يقول إن كنت تابعا فقف عند حدك و إن كنت شريكي في سلطاني فافعل ما بدا لك و قرر عليه فعل حافده و سائر بنيه في ولايتهم و أرسل معه نكبرذ من خواصه ثقة على ما يؤديه من القول و يجيبه الآخر فانبسط لسان نظام الملك يعدد الوسائل منه و المدافعة عن السلطان و جمع الكلمة و فتح الأمصار في كلام الملك يعدد الوسائل منه و المدافعة عن السلطان و جمع الكلمة و فتح الأمصار في كلام طويل حملته الدالة و قال في آخره إن شاء فله مؤيد مرو آتي و متى أطعت هذه زالت تلك فليأخذ حذره ثم زاد في انبساطه و قال قولوا عني ما أردتم فان توبيخكم نتأ في عضدي و مضى نكبرذ فصدق السلطان الخبر و جاء الآخرون و حاولوا الكتمان فلم يسعهم لما وشي نكبرذ بجلبة القول فصدقوه كما صدقه و مات نظام الملك بعدها بقليل و مات السلطان بعده بنحو شهر و كان أصل نظام الملك من طوس من أبناء الدهاقين اسمه أبو علي الحسن بن علي بن اسحق ذهبت نعمة آبائه و ماتوا فنشأ يتيما ثم تعلم و حذق في العلوم و الصنائع و علق بالخدم السلطانية في بلاد خراسان و غزنة و بلخ ثم لازم خدمة أبي علي بن شاذان وزير البارسلان و مات ابن شاذان فأوصى به السلطان البارسلان و عرفه كفايته فاستخدمه فقام بالأمور أحسن قيام فاستوزره ثم هلك السلطان البارسلان و هو في وزارته ثم استوزره ملك شاه بعد أبيه و كان عالما جوادا صفوحا مكرما للعلماء و أهل الدين ملازما لهم في مجلسه شيد المدارس و أجرى فيها الجرايات الكثيرة و كان يملي الحديث و كان ملازما للصلوات محافظا على أوقاتها و أسقط في أيامه كثيرا من المكوس و الضرائب و أزال لعن الاشعرية من المنابر بعد أن فعله الكندوي من قبله و حمل عليه السلطان طغرليك و أجراهم مجرى الرافضة و فارق امام الحرمين و أبو القاسم القشيري البلاد من أجل ذلك فلما ولى ألبارسلان حمله نظام على إزالة ذلك و رجع العلماء إلى أوطانهم و مناقبة كثيرة و حسبك من عكوف العلماء على مجلسه و تدوينهم الدواوين باسمه فعل ذلك أمام الحرمين و أشباهه و أما مدارسه فقد بنى النظامية ببغداد و ناهيك بها و رتب الشيخ أبا اسحق الشيرازي للتدريس بها و توفي سنة ست و سبعين فرتب ابنه مؤيد الملك مكانه أبا سعيد المتولي فلم يرضه نظام الملك و ولى فيها الإمام أبا نصر الصباغ صاحب الشامل و مات أبو نصر في شعبان من تلك السنة فولى أبو سعيد من سنة ثمان و سبعين و مات فدرس بعده الشريف العلوي أبو القاسم الدبوسي و توفي سنة اثتنين و ثمانين و ولى تدريسه بعدها أبو عبد الله الطبري و القاضي عبد الوهاب الشيرازي بالنوبة يوما بيوم ثم ولى تدريسها الإمام أبو حامد الغزالي سنة أربع و ثمانين و اتصل حكمها على ذلك و في أيامه عكف الناس على العلم و اعتنوا به لما كان من حسن أثره في ذلك و الله أعلم (5/14)
وفاة السلطان ملك شاه و ولاية ابنه محمود
ثم لما سار السلطان بعد مقتل نظام الملك إلى بغداد و دخلها آخر رمضان و كان معه في الدولة أبو الفضل الهروستماني وزير زوجته الخاتون الجلالية من الملوك الخانية فيما وراء النهر و كان أشد الناس سعاية في نظام الملك و عزم السلطان أن يستوزره لأول دخوله بغداد فعاقت المنية عن ذلك و طرقه المرض ثالث الفطر و هلك منتصف شوال سنة خمس و ثمانين و كانت زوجته تركمان خاتون الجلالية عنده في بغداد و ابنها محمود غائبا في اصبهان فكتمت موته و سارت بشلوه إلى اصبهان و تاج الملك في خدمتها و قدمت بين يديها قوام الدين كربوقا الذي ولى الموصل من بعد و أرسلته بخاتم السلطان إلى مستحفظ القلعة فملكها و جاءت على أثره و قد أفاضت الأموال في الأمراء و العساكر و دعتهم إلى بيعة ولدها محمود و هو ابن أربع سنين فأجابوا إلى ذلك و بايعوه و أرسلت إلى المقتدر في الخطبة له فأجابها على أن يكون الأمير أنز قائما بتدبير الملك و مجد الملك مشيرا و له النظر في الأعمال و الجباية فنكرت ذلك أمه خاتون و كان السفير أبا حامد الغزالي فقال لها أن الشرع لا يجيز ولاية ابنك فقبلت الشرط و خطب له آخر شوال سنة خمس و ثلاثين و أرسلت تركمان خاتون إلى اصبهان في القبض على بركيارق فحبس باصبهان و كان السلطان ملك شاه من أعظم ملوك السلجوقية ملك من الصين إلى الشام و من أقصى الشام إلى اليمن و حمل إليه ملوك الروم الجزية و مناقبه عظيمة مشهورة (5/15)
منازعة بركيارق لأخيه محمود و انتظام سلطانه
كان بركيارق أكبر أولاد السلطان ملك شاه و كانت أمه زبيدة بنت ياقوتي بن داود و ياقوتي عم ملك شاه و لما حبس بركيارق و خافت عليه أمه زبيدة دست لمماليك نظام الملك فتعصبوا له و كانت خاتون غائبة ببغداد مع ابنها محمود لفقد سلطانه فوثب الممالك النظامية على سلاح لنظام الملك باصبهان و أخرجوا بركيارق من محبسه و خطبوا له و بلغ الخبر إلى خاتون فسارت من بغداد و طلب العسكر تاج الملك في عطائهم فهرب إلى قلعة بوجين لينزل منها الأموال و امتنع فيها و نهب العسكر خزائنه و ساروا إلى اصبهان و قد سار بركيارق و النظامية إلى الري فأطاعه أرغش النظامي في عساكره و فتحوا قلعة طغر عنوة و بعثت خاتون العساكر لقتال بركيارق فنزغ إليه سبكرد و كمستكن الجاندار و غيرهما من أمراء عساكره و لقيهم بركيارق فهزمهم و سار في أثرهم إلى أصفهان فحاصرهم بها و كان عز الملك بن نظام الملك باصبهان و كان واليا على خوارزم فحضر عند السلطان قبل مقتل أبيه و بقي هناك بعد وفاة السلطان فخرج إلى بركيارق و معه جماعة من إخوانه فاستوزره بركيارق و فوض إليه الأمور كما كان أبوه
( مقتل تاج الملك ) و هو أبو الغنائم المرزبان بن خسر و فيروز كان وزيرا لخاتون و ابنها و لما هرب إلى قلعة بوجين خوفا من العسكر كما قدمنا و ملكت خاتون اصبهان عاد إليها و اعتذر بأن صاحب القلعة حبسه فقبلت عذره و بعثته مع العساكر لقتال بركيارق فلما انهزموا حل أسيرا عنده و كان يعرف كفاءته فأراد أن يستوزره و كان النظامية ينافرونه و يتهمونه بقتل نظام الملك و بذل فيهم أموالا فلم يغنه و وشوا به فقتلوه في المحرم سنة ست و ثمانين و كان كثير الفضائل جم المناقب و إنما غطى على محاسنه ممالاءته على قتل نظام الملك و هو الذي بنى تربة الشيخ أبي اسحق الشيرازي و المدرسة بإزائها و رتب بها أبا بكر الشاشي مدرسا
( مهلك محمود ) ثم هلك السلطان محمود و هو محاصر باصبهان لسنة من ولايته و استقل بركيارق بالملك (5/16)
منازعة تتش بن ألبارسلان و أخباره إلى حين انهزامه
كان تاج الدولة تتش أخو السلطان ملك شاه صاحب الشام و سار إلى لقاء أخيه ملك شاه ببغداد قبيل موته فلقيه خبر موته بهيت فاستولى عليها و عاد إلى دمشق فجمع العساكر و بذل الأموال و أخذ في طلب الملك فبدأ بحلب و رأى صاحبها قسيم الدولة أقسنقر اختلاف ولد ملك شاه و حقرهم فأطاع تاج الدولة تتش و تبعه في طاعته و بعث إلى باغي يسار صاحب انطاكية وإلى مران صاحب الرها وحران يشير عليهما بمثل ذلك فأجابا و خطبوا لتاج الدولة تتش في بلادهم و ساروا معه إلى الرحبة فملكها ثم إلى نصيبين فملكها و استباحها و سلمها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش و ساروا إلى الموصل و قدم عليه الكافي بن فخر الدولة ابن جهير من جزيرة ابن عمر فاستوزره و كانت الموصل قد ملكها علي بن شرف الدولة مسلم بن قريش و أمه صفية عمة ملك شاه و أطلقت تركمان خاتون عمه إبراهيم فجاء و ملك الموصل من يده كما تقدم في أخبار بني المقلد فبعث اليه تتش في الخطبة و أن يهيىء له الطريق إلى بغداد فامتنع و زحف لحربه فانهزم العرب و سيق إبراهيم أسيرا إلى تتش في جماعة من أمراء العرب فقتلوا صبرا و نهبت أموالهم و استولى تتش على الموصل و غيرها و استناب عليها علي بن مسلم و هو ابن صفية عمة أبيه و بعث إلى بغداد في الخطبة و وافقه كوهراس الشحنة و حزر الجواب بانتظار الرسل من العسكر فسار تتش إلى ديار بكر فملكها ثم سار إلى اذربيجان و زحف بركيارق يعتذر من سعيه مع تتش فعزله بركيارق بسعاية كمستكن الجاندار بقسيم الدولة و أقام عوضه شحنة ببغداد الأمير مكرد و أعطاه أقطاعه و سار إلى بغداد ثم رده من دقوقا لكلام بلغه عنه وقتله و ولى على شحنة بغداد فتكين حب (5/17)
مقتل اسمعيل بن ياقوتي
كان اسمعيل بن ياقوتي بن داود بن عم ملك شاه و خال بركيارق أميرا على أذربيجان فبعث تركمان خاتون إليه فأطمعته في الملك و أنها تتزوج به فجمع جموعا من التركمان و غيرهم و سار لحرب بركيارق فلقيه عند كرخ و نزع عنه مكرد إلى بركيارق فانهزم اسمعيل إلى اصبهان فخطبت له خاتون و ضربت اسمه على الدنانير بعد ابنها محمود و أرادت العقد معه فمنعها الأمير أنز مدير الدولة و صاحب العسكر و خوفهم و فارقهم ثم أرسل أخته زبيدة أم بركيارق فأصلحت حاله مع ابنها و قدم عليه فأكرمه و اجتمع به رجال الدولة كمستكن الجاندار و أقسنقر و بوزان و كشفوا سره في طلب الملك ثم قتلوه و أعلموا بركيارق فأهدر دمه (5/18)
مهلك توران شاه بن قاروت بك
كان توران شاه بن قاروت بك صاحب فارس و أرسلت خاتون الجلالية الأمير أنز لفتح فارس سنة سبع و ثمانين فهزمه أولا ثم أساء السيرة مع الجند فلحقوا بتوران شاه و زحف إلى أنز فهزمه و استرد البلد من يده و أصاب توران شاه في المعركة بسهم هلك معه بعد شهرين (5/18)
وفاة المقتدي و خلافة المستظهر و خطبته ليركيارق
ثم توفي المقتدي منتصف محرم سنة سبع و ثمانين و كان بركيارق قد قدم بغداد بعد هزيمة عمه تتش فخطب له و حملت إليه الخلع فلبسها و عرض التقليد على المقتدي فقرأه و تدبره و علم فيه و توفي فجأة و بويع لابنه المستظهر بالخلافة فأرسل الخلع والتقليد إلى بركيارق و أخذت عليه البيعة للمستظهر (5/18)
استيلاء تتش على البلاد بعد مقتل أقسنقر ثم هزيمة بركيارق
لما عاد تتش منهزما من أذربيجان جمع العساكر و احتشد الأمم و سار من دمشق إلى حلب سنة سبع و ثمانين و اجتمع قسيم الدولة أقنسقر و بوران و جاء كربوقا مددا من عند بركيارق و ساروا لحرب تتش و لقوه على ستة فراسخ من حلب فهزمهم و أخذ أقسنقر أسيرا فقتله و لحق كربوقا و بوران بحلب و اتبعهما تتش فحاصرهما و ملك حلب و أخذهما أسيرين و بعث إلى حران و الرها في الطاعة فامتنعوا فبعث إليهم برأس بوران و ملك البلدين و بعث بكربوقا إلى حمص فحبسه بها و سار إلى الجزيرة فملكها ثم إلى ديار بكر و خلاط فملكها ثم إلى أذربيجان ثم سار إلى همدان و وجد بها فخر الدولة ابن نظام الملك جاء من خراسان إلى بركيارق فلقيه الأمير قماج من عسكر محمود باصبهان فنهب ماله و نجا إلى همذان فصادف بها تتش فأراد قتله و شفع فيه باغي يسار و أشار بوزارته لميل الناس إلى بيته و استوزره و كان بركيارق قد سار إلى أقسيس فحالفه تتش إلى أذربيجان و همذان فسار بركيارق من نصيين و عبر دجلة من فوق الموصل إلى أربل فلما تقارب العسكران أشرف الأمير يعقوب بن أنق من عسكر تتش فكبس بركياق و هزمه و نهب سواده و لم يبق معه إلا برسق و كمستكن الجاندار و البارق من أكابر الأمراء فلجؤا إلى أصبهان و كانت خاتون أم محمود قد ماتت فمنعه محمود و أصحابه من الدخول ثم خرج إليه محمود و أدخله إلى أصبهان و احتاطوا عليه و أرادوا أن يسلموه فرفض محمود فأبقوه (5/18)
مقتل تتش و استقلال بركيارق بالسلطان
ثم مات محمود منسلخ شوال سنة سبع و ثمانين و استولى بركيارق على اصبهان و جاء مؤيد الملك بن نظام الملك فاستوزره عوض أخيه عز الملك و كان قد توفي بنصيين فكاتب مؤيد الملك الأمراء و استمالهم فرجعوا إلى بركيارق و كشف جمعه و بعث تاج الملك تتش بعد هزيمة بركيارق يوسف بن انق التركماني شحنةإلى بغداد في جمع التركمان فمنع من دخول بغداد و زحف إليه صدقة بن مزيد صاحب الحلة فقاتله في يعقوب و انهزم صدقة إلى الحله و دخل يوسف بن أنق بغداد و أقام بها و كان تتش لما هرم بركيارق سار إلى همذان و قد تحصن بها بعض الأمراء فاستأمن إليه و استولى على همذان و سار في نواحي اصبهان وإلى مرو و راسل الأمراء باصبهان يستميلهم بالمقاربة و الوعد و بركيارق مريض فلما أفاق من مرضه خرج إلى جرباذقان و اجتمع إليه من العسكر ثلاثون ألفا و لقيه تتش فهزمه بركيارق و قتله بعض أصحاب أقسنقر بثأر صاحبه و كان فخر الملك بن نظام الملك أسيرا عنده فانطلق عند هزيمته و استقامت أمور بركيارق و بلغ الخبر إلى يوسف (5/19)
استيلاء كربوقا على الموصل
قد كنا قدمنا أن تاج الدولة تتش أسر قوام أبا سعيد كربوقا و حبسه بعد قتل أقسنقر بوران فأقام محبوسا بحلب إلى أن قتل تتش و استولى رضوان ابنه على حلب فأمره السلطان بركيارق باطلاقه لأنه كان من جهة الأمير أنز فأطلقه رضوان و أطلق أخاه التوسطاش فاجتمعت عليهما العساكر و كان بالموصل علي بن شرف الدولة مسلم منذ ولاه عليها تتش بعد وقعة المضيع بنصيبين أخوه محمد بن مسلم و معه مروان بن وهب و أبو الهيجاء الكردي و هو يريد الزحف إلى الموصل فكاتب كربوقا و استدعاه للنصرة و لقيه على مرحلتين من نصيبين فقبض عليه كربوقا و سار إلى نصيبين و حاصرها أربعين يوما و ملكها ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه فتحول عنها إلى بلد و قتل بها محمد بن شرف الدولة تغريقا و عاد إلى حصار الموصل و نزل منها على فرسخ و استنجد علي بن مسلم بالامير مكرس صاحب جزيرة ابن عمر فجاء لانجاده و اعترضه التوسطاش فهزمه ثم سار إلى طاعة كربوقا و أعانه على حصار الموصل و لما اشتد بصاحبه علي بن مسلم الحصار بعد تسعة أشهر هرب عنها و لحق بصدقة بن مزيد و دخل كربوقا إلى الموصل و عاث التوسطاش في أهل البلد و مصادرتهم و استطال على كربوقا فأمر بقتله ثالثة دخوله سنة تسع و ثمانين و سار كربوقا إلى الرحبة فملكها و عاد فأحسن السيرة في أهل الموصل و رضوا عنه و استقامت أموره (5/20)
استيلاء أرسلان أرغون أخي السلطان ملك شاه على خراسان و مقتله
كان أرسلان أرغون مقيما عند أخيه ملك شاه ببغداد فلما مات و بويع ابنه محمود سار إلى خراسان في سبعة من مواليه و اجتمعت عليه جماعة و قصد نيسابور فامتنعت عليه فعاد إلى مرو و كان بها شحنة الأمير قودر من موالي السلطان ملك شاه و كان أحد الساعين في قتل نظام الملك فمال إلى طاعة أرغون و ملكه البلد و سار إلى بلخ و كان بها فخر الملك بن نظام الملك ففر عنها و وصل إلى همدان و وزر لتاج الدولة تتش كما مر و ملك ارسلان أرغون بلخ و ترمذ و نيسابور و سائر خراسان إلى السلطان بركيارق وزيره مؤيد الملك في تقرير خراسان عليه بالضمان كما كانت لجده داود ما عدا نيسابور فأعرض عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود و عمه تتش ثم عزل بركيارق مؤيد الملك عن الوزارة بأخيه فخر الملك و استولى فخر الملك البارسلان على الأمور فقطع ارسلان مراسلة بركيارق فبعث حينئذ عمه بورسوس في العساكر لقتاله فانهزم ارسلان إلى بلخ و أقام بورسوس و سار أرسلان إلى مرو و فتحها عنوة و خربها و استباحها و سار اليه بورسوس من هراة سنة ثمان و ثمانين و كان معه مسعود بن تاخر الذي كان أبوه مقدم عساكر داود و معه شاه أعاظم الأمراء فبعث اليه ارسلان و استمالة فمال إليه و وثب لمسعود بن تاخر و ابنه فقتلهما في خيمته فضعف أمر بورسوس و انفض الناس عنه و جيء به أسيرا إلى أخيه أرسلان أرغون فحبسه بترمذ ثم قتله في محبسه بعد سنة و قتل أكابر خراسان و خرب أسوارها مثل سودان و مرو الشاهجان و قلعة سرخس و نهاوند و نيسابور و صادر وزيره عماد الملك بن نظام الملك على ثلثمائة ألف دينار ثم قتله و استبد بخراسان و كان مرهف الحد كثير العقوبة لمواليه و أنكر على بعضهم يوما بعض فعلاته و هو خلوة و ضربه فطعنه الغلام بخنجر معه فقتله و ذلك في المحرم من سنة تسعين (5/20)
ولاية سنجر على خراسان
و لما قتل ارسلان أرغون ملك أصحابه من بعده صبيا صغيرا من ولده و كان السلطان بركيارق قد جهز العساكر لخراسان للقتال و معه الآتابك قماج و وزيره علي بن الحسن الطغرائي و انتهى إليه مقتل أرسلان بالدامغان فأقاموا حتى لحقهم السلطان بركيارق و ساروا إلى نيساور فملكها في جمادي سنة تسعين و أربعمائة و ملك سائر خراسان و سار إلى بلخ و كان أصحاب أرسلان قد هربوا بابنه الذي نصبوه للملك إلى جبل طخارستان و بعثوا يستأمنون له و لهم فأمنهم السلطان و جاؤا بالصبي في آلاف من العساكر فأكرمه السلطان و أقطعه ما كان لأبيه أيام شاه و انفض عنه العسكر الذين كانوا معه و افترقوا على أمراء السلطان و أفردوه فضمته أم السلطان إليها و أقامت من يتولى رتبته و سار السلطان إلى ترمذ فملكها و خطب له بسمرقند و دانت له البلاد و أقام على بلخ سبعة أشهر ثم رجع و ترك أخاه سنجر نائبا بخراسان (5/21)
ظهور المخالفين بخراسان
لما كان السلطان بخراسان خالف عليه محمود بن سليمان من قرابته و يعرف بأمير أميران وسار إلى بلخ و استمد صاحب غزنة من بني سبكتكين فأمده بالعساكر و الخيول على أن يخطب له فيما يفتحه من خراسان فقويت شكوكته فسار إليه الملك سنجر فانهزم و جيء به أسيرا فسلمه و لما انصرف السلطان عن خراسان سار نائب خوارزم و اسمه أكنجي في اتباعه و سبق إلى مرو فتشاغل بلذاته و كان بها الأمير تورد قد تشاغل عن السلطان و اعتذر بالمرض فداخل بارقطاش من الأمراء في قتل أكنجي صاحب خوارزم فكبسه في طائفة من أصحابه و قتلوه و ساروا إلى خوارزم فملكوها مظهرين أن السلطان ولاهما عليها و بلغ الخبر إلى السلطان و كان قد بلغه في طريقه خروج الأمير أنز بفارس عن طاعته فمضى إلى العراق و أعاد داود الحبشي ابن التونطاق في العساكر لقتالهما فسار إلى العراق من هراة و أقام في انتظار العسكر فعاجلاه فهرب أمامهما و هرب جيحون و تقدم بارقطاش قبل تودن و قاتله فهزمه داود و أسره و بلغ الخبر إلى تودن فثار به عسكره و نهبوا أثقاله و لحق بسنجار فقبض عليه صاحبها ثم أطلقه فلحق بالملك سنجر ببلخ فقتله و أفرغ هو طاعته في نظمه و جمع العساكر على طاعته ثم مات قريبا و بقي بارقطاش أسيرا عند داود إلى أن قتل (5/22)
بداية دولة بني خوارزم شاه
كان أبو شكين مملوكا لبعض أمراء السلجوقية و اشتراه من بعض أهل غرشفان فدعى أبا شكين غرشه و نشأ على حال مرضية و كان مقدما و ولد له ابنه محمد فأحسن تأديبه و تقدم هو بنفسه و لما سار الأمير داود الحبشي إلى خراسان كما مر سار محمد في جملته فلما مهد خراسان و أزال الخوارج نظر فيمن يوليه خوارزم و كان نائبها أكنجي قد قتله كما مر فوقع اختياره على محمد بن أبي شكين فولاه و لقبه خوارزم شاه فحسنت سيرته و ارتفع محله و أقره السلطان سنجر و زاده عناية بقدر كفايته و اضطلاعه و غاب في بعض الأيام عن خوارزم فقصدها بعض ملوك الأتراك و كان طغرلتكين محمد الذي كان أبوه أكنجي نائبا بخوارزم و بادر محمد بن أبي شكين إلى خوارزم بعد أن استمد السلطان سنجر و سار بالعساكر مددا له و تقدم محمد بن أبي شكين فتأخر الأتراك إلى منقشلاع و رحل طغرلتكين إلى جرجان و ازداد محمد عناية عند سنجر و لما توفي ولى ابنه بعده أقسز و أحسن السيرة و كان قد قاد الجيوش أيام أبيه و باشر الحروب فملك مدينة منقشلاع و لما توفي اختصه السلطان سنجر و كان يصاحبه في أسفاره و حروبه و اتصل الملك في بني محمد أبي شكين خوارزم شاه و كانت لهم الدولة و تمت دولة بني ملك شاه و عليهم كان ظهور الططر بعد المائة و منهم أخذوا الملك كما سيأتي في أخبارهم (5/22)
استيلاء الأفرنج على انطاكية و غيرها من سواحل الشام
كان الافرنج قد ظهر أمرهم في هذه السنين و تغلبوا على صقلية و اعتزموا على قصد الشام و ملك بيت المقدس و أرادوا المسير إليها في البر فراسلوا ملك الروم بالقسطنطينية أن يسهل لهم الطريق إلى الشام فأجابهم على أن يعطوه انطاكية فحاصروها تسعة أشهر و صاحبها يومئذ باغي سيان فأحسن الدفاع عنها ثم تبوؤا البلد بمداخلة بعض الحامية أصعدهم السور بعد أن رغبوه بالأموال و الاقطاع و جاؤا إلى السور فدلهم على بعض المخادع و دخلوا منه و نفخوا البوق فخرج باغي سيان هاربا حتى إذا كان على أربعة فراسخ راجع نفسه و ندم فسقط مغشيا عليه و مر به أرمني فحمل رأسه إلى انطاكية و ذلك سنة إحدى و تسعين و أربعمائة و اجتمعت عساكر المسلمين و زحفوا إلى انطاكية من كل ناحية ليرتجعوها من الافرنج و جاء قوام الدين كربوقا إلى الشام و اجتمعت عليه العساكر بمرج دابق فكان معه دقاق بن تتش و طغرلتكين أتابك و جناح الدولة صاحب حمص و ارسلان تاش صاحب سنجار و سقمان بن أرتق و غيرهم و ساروا إلى انطاكية فنازلوها و استوحش الأمراء من كربوقا و أنفوا من ترفعه عليهم و ضاق الحصار بالافرنج لعدم الاقوات لان المسلمين عاجلوهم عن الاستعداد فاستأمنوا كربوقا فمنغهم الامان و كان معهم من الملوك بردويل و صخبل و كمدمري و القمط صاحب الرها و سمند صاحب انطاكية و هو مقدم العساكر فخرجوا مستأمنين و ضربوا مصاف و تخاذل الناس لما في قلوبهم من الاضغان لكربوقا فتمت الهزيمة عليهم و آخر من انهزم سقمان بن أرتق و استشهد منهم العرب و غنم العو سوادهم بما فيه و ساروا إلى معرة النعمان فملكوها و أفحشوا في استباحتها ثم ساروا إلى غزة فحاصروها أربعة أشهر و امتنعت عليهم و صالحهم ابن منقذ على بلده شيراز و حاصروا حمص فصالحهم صاحبها جناح الدولة ثم ساروا إلى عكا فامتنعت عليهم و كان هذا بداية الافرنج بسواحل الشام و يقال أن المصريين استنابوا رجلا يعرف بافتخار الدولة من خلفاء العميد بن نصر لما خشوا من السلجوقية عند استيلائهم على الشام إلى غزة و زحف الاقسيس من أمرائهم إلى مصر و حاصرهم فراسلوا إلى الافرنج و استدعوهم لملك الشام لينشلوهم عن أنفسهم و يحولوا بينهم و بين مصر و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/23)
انتقاض الأمير انز و قتله
لما سار السلطان بركيارق إلى خراسان ولى على بلاد فارس الأمير انز و كانت قد تغلبت الشوانكار و استظهروا بايران شاه بن قاروت بك صاحب كرمان فلما سار إليهم انز قاتلوه فهزموه و رجع إلى أصهبان فاستأذن السلطان فأمره بالمقام هناك و ولاه إمارة العراق و كانت العساكر في جواره بطاعته و جاءه مؤيد الملك بن نظام الملك من بغداد على الحلة فأغراه بالخلاف و خوفه غائله بركيارق و أشار عليه بمكاتبة محمد بن ملك شاه و هو في كنجه و شاع عنه ذلك فازداد خوفه و جمع العساكر و سار من اصبهان إلى الري و جاهر السلطان بالخلاف و طلب منه أن يسلم إليه فخر الملك البارسلان و بينما هو في ذلك إذ هجم عليه ثلاثة نفر من الاتراك المولدين بخوارزم من جنده فطعنوه فقتلوه و اهتاج عسكره فنهبوا اخزائنه و حمل شلوه إلى اصبهان فدفن بها و أشهر خبر قتله إلى السلطان في أحواز الري و هو سائر لقتاله فسر بذلك هو و فخر الملك البارسلان و ذلك في سنة اثنتين و تسعين و كان محمود المذاهب كبير المناقب و لما قتل هرب اصهنر صبار إلى دمشق فأقام بها مدة ثم قدم على السلطان محمد سنة احدى و خمسمائة فأكرمه و أقطعه رحبة مالك بن طوق (5/24)
استيلاء الافرنج على بيت المقدس
كان بيت المقدس لتاج الدولة تتش و أقطعه الأمير سقمان بن أرتق التركماني و كان تتش ملكه من يد العلويين أهل مصر فلما وهن الاتراك بواقعة انطاكية طمع المصريون في ارتجاعه و سار صاحب دولتهم الأفضل بن بدر الجمالي و حاصر الأمير سقمان و أخاه ايلغاري و ابن أخيهما ياقوتي و ابن عمهما سونج و نصب المجانيق فثلموا سوره ثم ملكوه بالأمان لأربعين يوما من حصاره في شعبان سنة تسع و ثمانين و أحسن الافضل إلى سقمان و ايلغاري و من معهما و أطلقهم فأقام سقمان ببلد الرها و سار ايلغاري إلى العراق و ولى الافضل على بيت المقدس افتخار الدولة من أمرائهم و رجع إلى مصر فلما رجع الافرنج من عكا جاؤا إلى بيت المقدس فحاصروه أربعين يوما و اقتحموه من جهة الشمال آخر شعبان من سنة اثنتين و تسعين و عاثوا في أهله و اعتصم فلهم بمحراب داود عليه السلام ثلاثا حتى استأمنوا و خرجوا ليلا إلى عسقلان و قتل بالمسجد سبعون ألفا أو يزيدون من المجاورين فيهم العلماء و الزهاد و العباد و أخذوا نيفا و أربعين قنديلا من الفضة زنة كل واحد ثلاثة آلاف و ستمائة درهم و مائة و خمسين قنديلا من الصغار و تنورا من الفضة زنته أربعون رطلا بالشامي و غير ذلك مما لا يحصى و وصل الصريخ إلى بغداد مستغيثين فأمر المقتدي أن يسير إلى السلطان بركيارق أبو محمد الدامغاني و أبو بكر الشاشي و أبو القاسم الزنجاني و أبو الوفاء بن عقيد و أبو سعد الحلواني و أبو الحسيني بن السماك فساروا إلى بركيارق يستصرخونه للمسلمين فانتهوا إلى حلوان و بلغهم مقتل مجد الملك الباسلاني و فتنة بركيارق مع أخيه محمد فرجعوا و تمكن الافرنج من البلاد و نحن عازمون على افراد أخبارهم بالشام و ما كان لهم فيه من الدولة على حكم أخبار الدول في كتابنا (5/25)
ظهور السلطان محمد بن ملك شاه و الخطبة له ببغداد و حروبه مع أخيه بركيارق
كان محمد و سنجر شقيقين و كان بركيارق استعمل سنجر على خراسان ثم لحق به محمد باصبهان و هو يحاصرها سنة ثمان و ثمانين فأقطعه كنجة و أعمالها و أنزل معه الأمير قطلغ تكين أتابك و كانت كنجة من أعمال اران و كانت لقطعون فانتزعها ملك شاه و أقطعه استراباذ و ولى على اران سرهناسا و تكين الخادم ثم ضمن قطون بلاده و أعيد إليها فلما قوي رجع إلى العصيان فسرح إليه ملك شاه الأمير بوزان فغلبه على البلاد و أسره و مات ببغداد سنة أربع و ثمانين و أقطع ملك شاه بلاد اران لأصحاب باغي سيان صاحب انطاكية و لما مات باغي سيان رجع ابنه إلى ولاية أبيه ثم أقطع السلطان بركيارق كنجة و أعمالها لمحمد كما قلناه سنة ست و ثمانين و لما اشتد و استفحل قتل اتابك قطلغ تكين و استولى على بلاد اران كلها و لحق مؤيد الملك عبد الله بن نظام الملك بعد مقتل صاحبه أنز فاستخلصه و قربه و أشار عليه مؤيد الملك فطلب الامر لنفسه فخطب له بأعماله و استوزر مؤيد الملك و قارن ذلك مقتل مجد الملك الباسلاني المتغلب في دولة بركيارق فاستوحش أصحابه لذلك و نزعوا إلى محمد و ساروا جميعا إلى الري و كان بركيارق قد سبقهم إليها و اجتمع إليه الأمير نيال بن أبي شكين الحسامي من أكابر الأمراء و عز الملك بن نظام الملك و لما بلغه مسير أخيه محمد إليه رجع إلى اصبهان فمنعوه من الدخول فسار إلى خوزستان و ملك محمد الري في ذي القعدة سنة اثنتين و تسعين و وجد بهاز بيدة أم بركيارق قد تخلفت عن ابنها فحبسها مؤيد الملك و صادرها ثم قتلها خنقا بعد أن تنصح له أصحابه في شأنها فلم يقبل و كان سعد الدولة كوهراس شحنة بغداد قد استوحش من بركيارق فاتفق هو و كربوقا صاحب الموصل و جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر و سرخاب بن بدر صاحب كنكسون و ساروا إلى السلطان محمد بقم فخلع عليهم ورد كوهراس إلى بغداد في شأن الخطبة فخطب له بالخليفة و لقبه حياة الدين و الدنيا و سار كربوقا و جكرمش مع السلطان محمد إلى اصبهان و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/25)
مقتل الباسلاني
كان أبو الفضل سعد الباسلاني و يلقب مجد الملك متحكما عند السلطان بركيارق و متحكما في دولته و لما فشا القتل في أمرائه من الباطنية استوحشوا و نسبوا ذلك للباسلاني و كان من أعظم من قتل منهم الأمير برسق فأتهم ابنه زنكي و أقبورني الباسلاني في قتله و نزعوا عن بركيارق إلى السلطان محمد فاجتمع الامراء و مقدمهم أمير الحيرة لكابك و طغابرك من الزور و بعثوا إلى بني برسق يستدعونهم للطلب بثار أبيهم فجاؤا و اجتمعوا قريبا من همدان و وافقهم العسكر جميعا على ذلك و بعثوا إلى بركيارق يطلبون الباسلاني فامتنع و أشار عليه الباسلاني باجابتهم لئلا يفعلوا ذلك بغير رأي السلطان فيكون وهنا على الدولة فاستحلفهم السلطان فدفعه إليهم فقتله الغلمان قبل أن يتصل بهم و سكنت الفتنة و حمل رأسه إلى مؤيد الملك و استوحش الأمراء لذلك من بركيارق و أشاروا عليه بالعود إلى الري و يكفونه قتال أخيه محمد فعاد متشاغلا و نهبوا سرادقه و ساروا إلى أخيه محمد و لحق بركيارق باصبهان ثم لحق رستاق كما تقدم (5/26)
اعادة الخطبة ببغداد لبركيارق
و لما سار بركيارق إلى خوزستان و معه نيال بن أبي شكين الحسامي مع عسكره سار من هنالك إلى واسط و لقيه صدقة بن مزيد صاحب الجلة ثم سار إلى بغداد و كان سعد الدولة كوهراس الشحنة على طاعة محمد فخرج عن بغداد و معه أبو الغازي بن بن ارتق و غيره و خطب لبركيارق ببغداد منتصف صفر سنة ثلاث و تسعين بعد أن فارقهما كوهراس و أصحابه و بعثوا إلى السلطان محمد و مؤيد الملك يستحثونهما فأرسلا إليهم كربوقا صاحب الموصل و جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر يستكثرون بهم في المدافعة و طلب جكرمش من كوهراس السير لبلده خشية عليها فأذن له ثم يئس كوهراس و أصحابه من محمد فبعثوا إلى بركيارق بطاعتهم فخرج إليهم و استرضاهم و رجع إلى بغداد و قبض على عميد الدولة بن جهير وزير الخليفة و طالبه بما أخذ هو و أبوه من الموصل و ديار بكر أيام ولايتهم عليها فصادرهم على مائة و ستين ألف دينار و استوزر الأغر أبا المحاسن عند الجليل ابن علي بن محمد الدهستاني و خلع الخليفة على بركيارق (5/27)
المصاف الاول بين بركيارق و محمد و مقتل كوهراس و هزيمة بركيارق و الخطبة لمحمد
ثم سار بركيارق من بغداد لحرب أخيه محمد و مر بشهرزور فاجتمع إليه عسكر كثير من التركمان و كاتب رئيس همدان يستحثه فركب و سار للقاء أخيه على فراسخ من همذان في أول رجب من سنة ثلاث و تسعين و في ميمنته كوهراس و عز الدولة بن صدقة بن مزيد و سرحاب ابن بدر و في مسيرته كربوقا و في ميمنته محمد ابن اضر و ابنه ايار و في مسيرته مؤيد الملك و النظامية و معه في القلب أمير سرخو شحنة اصبهان فحمل كوهراس من الميمنة على مؤيد الملك و النظامية فهزمهم و انتهى إلى خيامهم فنهبها و حملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق فانهزموا و حمل محمد على بركيارق فهزمه و وقف محمد مكنه و عاد كوهراس من طلب المنهزمين فكبا به فرسه فقتل و جىء بالاغر أبي المحاسن يوسف وزير بركيارق أسيرا فأكرمه مؤيد الملك و نصب له خيمة و بعثه إلى بغداد في الخطبة لمحمد فخطب له منتصف رجب من السنة و كانت أولية سعد الدولة كوهراس أنه كان خادما للملك أبي كلينجار بن بويه و جعله في خدمة ابنه أبي نصر و لما حبسه طغرلبك مضى معه إلى قلعة طغرل فلما مات انتقل إلى خدمة السلطان البارسلان و ترقى عنده و أقطعه واسط و جعله شحنة بغداد و حضر يوم قتله فوقاه بنفسه ثم أرسله مالك شاه إلى بغداد في الخطبة و جاء بالخلع و التقليد و حصل له من نفوذ الأمر و اتباع الناس ما لم يحصل لغيره إلى أن قتل في هذه المعركة و ولى شحنة بغداد بعده ايلغازي بن أرتق (5/27)
مسير بركيارق خراسان و انهزامه من أخيه سنجر و مقتل الأمير داود حبشي أمير خراسان
لما انهزم بركيارق من أخيه محمد خلص في الفل إلى الري و اجتمع له جموع من شيعته فسار إلى خراسان و انتهى إلى اسفراين و كتب الأمير داود جبشي إلى التونطاق يستدعيه من الدامغان و كان أميرا على معظم خراسان و على طبرستان و جرجان فأشار بالمقام بنيسابور فقصدها و قبض على عميدها أبي محمد و أبي القاسم بن امام الحرمين و مات أبو القاسم في محبسه مسموما ثم زحف سنجر إلى الأمير داود فبعث إلى بركيارق يستدعيه لنجدته فسار إليه و التقى الفريقان بظاهر بوشنج و في ميمنة سنجر الأمير برغش و في ميسرته الأمير كوكر و معه في القلب الأمير رستم فحمل بركيارق على رسم فقتله و انقض الناس على سنجر وكاد ينهزم و أخذ بركيارق أم سنجر أسيرة و شغل أصحاب بركيارق بالنهب فحمل عليهم برغش و كوكر فانهزموا و استمرت الهزيمة على بركيارق و هرب الأمير داود فجىء به إلى برغش أسيرا فقتله و سار بركيارق إلى جرجان ثم إلى الدامغان و دخل البرية ثم استدعاه أهل اصبهان و جاءه جماعة من الأمراء منهم جاول سقاوو و سبقه محمد إلى اصبهان فعدل عنها إلى عسكر مكرم (5/28)
المصاف الثاني بين بركيارق و محمد و هزيمة محمد و قتل وزيره مؤيد الملك و الخطبة لبركيارق
لما انهزم بركيارق أمام سنجر سنة ثلاث و تسعين و سار إلى اصبهان فوجد أخاه محمدا قد سبقه إليها فعدل عنها إلى خوزستان و نزل إلى عسكر مكرم عليه هناك الأميران زنكي و البكي ابنا برسق سنة أربع و تسعين و ساروا معه إلى همذان و هرب إليه الأمير اياز في خمسة آلاف من عسكر محمد لان صاحب اميرا ضر مات في تلك الأيام و ظنوا أن مؤيد الملك دس عليه وزيره فسمه و كان اياز في جملة أمير اضر فقتل الوزير المتهم و لحق بركيارق ثم وصل إليه سرحاب بن كنجر و صاحباه فاجتمع له نحو من خمسين ألف فارس و لقبه محمد في خمسة عشر ألفا و استأمن أكثرهم إلى بركيارق يوم أول جمادي الأخيرة سنة أربع و تسعين و استولت الهزيمة على محمد و جىء بمؤيد الملك أسيرا فوبخه ثم قتله بيده لأنه كان سيء السيرة مع الأمراء كثير الحيل في تدبير الملك ثم بعث الاغر أبو المحاسن وزير بركيارق أبا إبراهيم الاستراباذي لاستقصاء أحوال مؤيد الملك و ذخائره ببغداد فحمل منها ما لا يسعه الوصف يقال إنه وجد في ذخائره ببلاد العجم قطعة بلخش زنتها أربعون مثقالا و استوزر محمد بعده خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين ثم سار السلطان بركيارق إلى الري و وفد عليه هنالك كربوقا صاحب الموصل و دبيس بن صدقة و أبوه يومئذ صاحب الحلة و سار السلطان قافلا إلى جرجان و بعث إلى أخيه سنجر يستجديه فبعث إليه ما أقامه ثم طلبه في المدد فسار إليه سنجر من خراسان ثم سارا جميعا إلى الدامغان فخرباها و سار إلى الري و اجتمعت عليه النظامية و غيرهم فكثرت جموعهم و كان بركيارق بعد الظفر قد فرق عساكره لضيق الميرة و رجع دبيس بن صدقة إلى أبيه و خرج باذربيجان داود بن اسمعيل ابن ياقوتي فبعث لقتاله قوام الدولة كربوقا في عشرة آلاف واستأذنه اياز في المسير إلى ولايته بهمدان و يعود بعد الفطر فبقي في قلة من العساكر فلما بلغه قرب أخيه محمد و سنجر اضطرب حاله و سار إلى همذان ليجتمع مع اياز فبلغه أنه قد راسل أخاه محمدا و أطاعه فعاد إلى خوزستان و لما انتهى إلى تستر استدعى ابن برسق و كان من جملة اياز فلم يحضر و تأخر فامنه فسار نحو العراق فلما بلغ حلوان لحق به اياز و كان راسل محمدا فلم يقبله و بعث عساكره إلى همدان فلحق بهمدان اياز و أخذ محمد محلة اياز بهمدان و كانت كثيرا من كل صنف و صودر أصحابه بهمدان بمائة ألف دينار و سار بركيارق و اياز إلى بغداد فدخلها منتصف ذي العقدة من سنة أربع و تسعين و طلب من الخليفة المال للنفقة فبعث إليه بعد المراجعة بخمسين ألف دينار و عاث أصحاب بركيارق في أموال الناس و ضجروا منه و وفد عليه أبو محمد عبد الله بن منصور المعروف بابن المصلحية قاضي جبلة من سواحل الشام منهزما من الافرنج بأموال جليلة المقدار فأخدها بركيارق منه و قد تقدم خبر ابن المصلحية في دولة العباسيين ثم بعث وزير بركيارق الاغر بالمحاسن إلى صدقة بن مزيد صاحب الحلة في ألف ألف دينار يزعم أنها تخلفت عنده من ضمان البلاد و تهدده عليها فخرج عن طاعة بركيارق و خطب لمحمد أخيه و بعث بركيارق في الحضور و التجاوز عن ذلك و ضمن له اياز جميع مطالبه فأبى إلا أن يدفع الوزير و استمر على عصيانه و طرد عامل بركيارق عن الكوفة و استضافها إليه (5/29)
مسير بركيارق عن بغداد و دخول محمد و سنجر إليها
و لما استولى السلطان محمد و أخوه سنجر على همذان سار في اتباع بركيارق إلى حلوان فقدم عليه هنالك أبو الغازي ابن ارتق في عساكره و خدمه و كثرة جموعه فسار إلى بغداد و بركيارق عليل بها فاضطرب أصحابه و عبروا به إلى الجانب الغربي و وصل محمد إلى بغداد آخر سنة أربع و تراءى الجمعان بشاطىء دجلة و جرت بينهم المراماة و النشاب و كان عسكر محمد ينادون عسكر بركيارق يا باطنية ثم سار إلى واسط و نهب عسكره جميع ما مروا عليه و دخل محمد إلى دار المملكة ببغداد و جاءه توقيع المستظهر بالاستبشار بقدومه و خطب له و نزل الملك سنجر بدار كوهراس و وفد على السلطان محمد ببغداد صدقة صاحب الحلة في محرم سنة خمس و سبعين (5/30)
قتل بركيارق الباطنية
كان هؤلاء الباطنية قد ظهروا بالعراق و فارس و خراسان و هم القرامطة و الدعوة بعينها دعوتهم إلا أنهم سموا في هذه الاجيال بالباطنية و الاسماعيلية و الملاحدة و الفداوية و كل اسم منها باعتبار فالباطنية لأنهم يبطنون دعوتهم و الاسماعيلية لانتساب دعوتهم في أصلها لاسمعيل الامام بن جعفر الصادق و الملاحدة لان بدعتهم كلها الحاد و الفداوية لأنهم يفادون أنفسهم بالمال على قتل من يسلطون و القرامطة نسبة إلى قرمط منشىء دعوتهم و كان أصلهم من البحرين في المائة الثالثة و ما بعدها ثم نشأ هؤلاء بالمشرق أيام ملك شاه فأول ما ظهروا باصبهان و اشتد في حصار بركيارق و أخيه محمود و أمه خاتون فيها ثم ثارت عامة اصبهان بهم باشارة القضاة و أهل الفتيا فقتلوهم في كل جهة و حرقوهم بالنار ثم انتشروا و استولوا على القلاع ببلاد العجم كما تقدم في أخبارهم ثم أخذ بمذهبهم نيران شاه بن بدران شاه بن قارت بك صاحب كرمان حمله عليه كاتب من أهل خوزستان يسمى أبا زرعة و كان بكرمان فقيه من الحنفية يسمى أحمد بن الحسين البلخي مطاع في الناس فخشي من نكيره فقتله فهرب عنه صاحب جيشه و كان شحنة البلد و لحق بالسلطان محمد و مؤيد الملك باصبهان و ثار الجنا بعده بنيران شاه إلى مدينة كرمان فمنعه أهلها و نهبوه فقصد قلعة سهدم و استجار بصاحبها محمد بهستون و بعث أرسلان شاه عساكر لحصارها فطرده بهستون و بعث مقدم العساكر في طلبه فجيء به أسيرا و بأبي زرعة الكاتب معه فقتلهما أرسلان شاه و استولى على بلاد كرمان و كان بركيارق كثيرا ما يسلطهم على من يريد قتله من الامراء مثل انز شحنة اصبهان و أرغش و غيرهم فامنوا جانبه و انتشروا في عسكره و اغروا الناس ببدعتهم و تجاوزوا إلى التهديد عليها حتى اعيان العسكر و صار بركيارق يصرفهم على أعدائه و الناس يتهمونه بالميل إليهم فاجتمع أهل الدولة و عذلوه بركيارق في ذلك فقبل نصيحتهم و أمر بقتل الباطنية حيث كانوا فقتلوا و شردوا كل مشرد و بعث إلى بغداد بقتل أبي إبراهيم الاستراباذي الذي بعثه أبو الاغر لاستقصاء أموال مؤيد الملك و كان يتهم بمذهبهم فقتل و قتل بالعسكر الأمير محمد من ولد علاء الدين بن كاكويه و هو صاحب مدينة تيرد و كان يتهم بمذهبهم و سعى بالكيا الهراسي مدرس النظامية أنه باطني فأمر السلطان محمد بالقبض عليه حتى شهد المستنظر ببراءته و علو درجته في العلم فأطلقه و حسمت علة الباطنية بين الجمهور و بقي امرهم في القلاع التي ملكوها إلى أن انقرضوا كما تقدم في أخبارهم مستوفي (5/31)
المصاف الثالث بين بركيارق و محمد و الصلح بينهما
و لما رحل بركيارق عن بغداد إلى واسط و دخل إليها السلطان محمد أقام بها إلى منتصف المحرم من سنة خمس و سبعين ثم رحل إلى همدان و صحبه السلطان سنجر لقصد خراسان موضع امارته و جاءت الأخبار إلى المستظهر باعتزام بركيارق على المسير إلى بغداد و نقل له عنه قبائح من أقواله و أفعاله فاستدعى السلطان محمدا من همدان و قال أنا أسير معك لقتاله فقال محمد أنا أكفيكه يا أمير المؤمنين و رجع و رتب ببغداد أبا المعالي شحنة و كان بركيارق لما سار إلى واسط هرب أهلها منه إلى الزبيدية و نزل هو بواسط عليلا فلما أفاق أراد العبود إلى الجانب الشرقي فلم يجد سفنا و لانوايتة و جاءه القاضي أبو علي الفارسي إلى العسكر و اجتمع بالأمير اياز و الوزير فاستعطفهما لأهل واسط و طلب إقامة الشحنة بينهم فبعثاه و طلبا من القاضي من يعبر فأحضرهم لهم رجالا عبروا بهم فلما صاروا في الجانب الشرقي نهب العسكر البلد فجاء القاضي و استعطفهم فمنعوا النهب و استأمن إليهم عسكر واسط فأمنوهم و سار بركيارق إلى بلاد بلخ و برسق في الاهواز و ساروا معه ثم بلغه مسير أخيه محمد عن بغداد فسار في اتباعه على نهاوند إلى أن أدركه و تصافوا و لم يقتتلوا لشدة البرد ثم عاودوا في اليوم الثاني كذلك و كان الرجل يخرج لقريبه من الصف الاخر فيتصافحان و يتساءلان و يفترقان ثم جاء الأمير بكراج و عبر من عسكر محمد إلى الأمير أياز و الوزير الأغر فاجتمعوا و عقدوا الصلح بين الفريقين على إن السلطان بركيارق و الملك محمد و يضرب له ثلاث نوب و يكون له من البلاد حرة و أعمالها و أذربيجان و ديار بكر و الجزيرة و الموصل و يمده بركيارق بالعساكر على من يمتنع عليه منها و تحالفا على ذلك و افترقا و كان العقد في ربيع الاول سنة خمس و تسعين و سار بركيارق إلى ساوة و محمد إلى استراباذ و كل أمير على أقطاعه و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/32)
انتقاض الصلح و المصاف الرابع بين السلطانين و حصار محمد باصبهان
لما انصرف السلطان محمد إلى استراباذ و كان اتهم الأمراء الذين سعوا في الصلح بالخديعة فسار إلى قزوين و دس إلى رئيسها لان يصنع صنيعا و يدعوه إليه مع الأمراء ففعل و جاء السلطان إلى الدعوة و قد تقدم إلى أصحابه بحمل السلاح و معه يشمك و افتكين من أمرائه فقبض عليهما و قتل يشمك افتكين و ورد عليه الأمير نيال بن أبي شكين الحسامي نازعا عن أخيه بركيارق
و لما التقى الفريقان حمل سرخاب بن كشمر الديلي صاحب ساوة على نيال الحسامي فهزمه و اتبعه عامة العسكر و استولت الهزيمة على عسكر محمد و مضى بعضهم إلى طبرستان و بعضهم إلى قزوين و ذلك في جمادي من سنة خمس و تسعين لأربعة أشهر من المصاف قبله و لحق محمد في الفل باصبهان و معه نيال الحسامي و اصبهان في حكمه فحصنها و سد ما ثلم من سورها و أعمق الخندق و فرق الأمراء في الاسوار و على الابواب و نصب المجانيق و جاء بركيارق في خمسة عشر ألف مقاتل فأقام محاصرا للبلد حتى اشتد الحصار و عدمت الاقوات و استقرض محمد المال للجند من أعيان البلد مرة بعد أخرى فلما جهده الحصار خرج من البلد و معه الامير نيال وترك باقي الامراء و بعث بركيارق الأمير أياز في عسكر لطلبه فلم يدركه و قيل بل أدركه و ذكره العهد فرجع عنه بعد أن أخذ رايته و جشره و ثلاثة أحمال من المال و لما خرج محمد عن أصبهان طمع المفسدون و السودية في نهبها فأجتمع منهم ما يزيد على مائة ألف و زحفوا بالسلالم والذبابات و طموا الخندق و صعدوا في السلالم باشارة أهل البلد و جدوا في دفاعهم و عادوا خائبين و رحل بركيارق آخر ذي القعدة من سنة خمس و تسعين و استخلف على البلاد القديم الذي يقال له شهر ستان مرشد الهراس في ألف فارس مع ابنه ملك شاه و سار إلى همدان و في الحصار قتل وزير بركيارق الاغر أبو المحاسن عبد الجليل الدهستاني عرض له يوما بعض الباطنية عندما ركب من خيمته لباب السلطان طعنه طعنات و تركه بآخر رمق و قتل غلام من غلمان بعض المكوس للوزير ثار فيه بمولاه و كان كريما واسع الصدر و ولى الوزارة على حين فساد القوانين و قلة الجباية فكان يضطر لأخذ أموال الناس بالاضافة فنفرت الصفوة منه و لما مات استوزر بركيارق بعده الخطير أبا منصور الميبذي كان وزيرا لمحمد و قد وكله في الحصار ببعض الأبواب فبعث إليه محمد نيال بن أبي شكين يطالبه بالاموال لاقامة العسكر فخرج من الباب ليلا و لحق ببلده و امتنع بقلعتها فأرسل السلطان بركيارق إليها عساكر و حاصروها حتى استأمن و جاء عند قتل وزيره الأغر فاستوزره بركيارق مكانه و الله تعالى أعلم بغيبه (5/33)
مسير صاحب البصرة إلى واسط
كان صاحب البصرة لهذا العهد اسمعيل بن ارسلان حين كان السلطان ملك شاه شحنة بالري و ولاه عليها عندما اضطر أهلها و عجز الولاة عنهم فحسنت كفايته و أثخن فيهم و أصلح أمورها ثم عزل عنها و أقطع السلطان بركيارق البصرة للأمير قماج و كان ممن لا يفارقه فاختار اسمعيل لولاية البصرة ثم نزع قماج عن بركيارق و انتقل إلى خراسان فحدثت اسمعيل نفسه بالاستبداد بالبصرة و انتقض و زحف إليه مهذب الدولة بن أبي الخير من البطيحة و معقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي من الجزيزة في العساكر و السفن فقاتلوه في مطاري و قتل معقل بسهم أصابه فعاد ابن أبي الخير إلى البطيحة فأخذ اسمعيل السفن و ذلك سنة احدى و تسعين و أسرهما و استفحل أمره بالبصرة و بنى قلعة بالايلة و قلعة بالشاطىء قبالة مطاري و أسقط كثيرا من المكوس و اتسعت امارته لشغل السلاطين بالفتنة و ملك المسبار و أضافها إلى ما بيده و لما كان سنة خمس و تسعين طمع في واسط و داخل بعض أهلها و ركب إليها السفن إلى نعماجار و خيم عليها بالجانب الشرقي أياما و دافعوه فارتحل راجعا حتى ظن خلاء البلد من الحامية فدس إليها من يضرم النار بها ليرجعوا عنهم فلما دخل أصحابه البلد فتك أهل البلد فيهم و عاد إلى البصرة منهزما فوجد الأمير أبا سعيد محمد بن نصر بن محمود صاحب الأعمال لعمان و جنايا و شيراز و جزيرة بني نفيس محاصرا للبصرة و كان أبو سعيد قد استبد بهذه الأعمال منذ سنين و طمع اسمعيل في الاستيلاء على أعماله و بعث إليها السفن في البحر فرجعوا خائبين فبعث أبو سعيد خمسين من سفنه في البحر فظفروا بأصحاب اسمعيل معهم إلى الصلح و لم يقع منه وفاء به فسار أبو سعيد بنفسه في مائة سفينة و أرس بفوهة نهر الابلة و وافق دخول اسمعيل من واسط فتزاحفوا برا و بحرا فلما رأى اسمعيل عجزه عن المقاومة كتب إلى ديوان الخليفة بضمان البلد ثم تصالحا و وقعت بينهما المهاداة و أقام اسمعيل مستبدا بالبصرة إلى أن ملكها من يده صدقة بن مزيد في المائة الخامسة كما مر في اخباره و هلك برامهرمز (5/34)
وفاة كربوقا صاحب الموصل و استيلاء جكرمش عليها و استيلاء سقمان بن ارتق على حصن كيفا
كان السلطان بركيارق أرسل كربوقا إلى أذربيجان لقتال مودود بن اسمعيل بن ياقوتي الخارج بها سنة أربع و تسعين فاستولى على أكثر أذربيجان من يده ثم توفي منتصف ذي القعدة سنة خمس و تسعين و كان معه أصهر صباوة بن خمار تكين و سنقرجه من بعده و أوصى الترك بطاعته فسار سنقرجه إلى الموصل و استولى عليها و كان أهل الموصل لما بلغهم وفاة كربوقا قد استدعوا موسى التركماني من موضع نيابته عن كربوقا بحصن كيفا للولاية عليهم فبادر إليهم و خرج سنقرجه للقائه فظن أنه جاء إليه و جرت بينهما محاورات ورد سنقرجه الامر إلى السلطان فآل الامر بينهما إلى المطاعنة و كان مع موسى منصور بن مروان بقية أمراء ديار بكر و ضرب سنقرجه فأبان رأسه و ملك موسى البلد ثم زحف جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر إلى نصيبين فملكها و خالفه موسى إلى الجزيرة فبادر إليه جكرمش و هزمه و اتبعه إلى الموصل فحاصره بها فبعث موسى إلى سقمان بن أرتق بديار بكر يستنجده على أن يعطيه حصن كيفا فسار سقمان اليه و أفرج عنه جكرمش و خرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه و رجع سقمان إلى كيفا و جاء جكرمش إلى الموصل فحاصرها و ملكها صلحا و استلحم قتلة موسى ثم استولى بعد ذلك على الخابور و أطاعه العرب و الاكراد و أما سقمان بن أرتق فسار بعد مقتل موسى إلى حصن كيفا و استمر بيده قال ابن الاثير و صاحبها الآن في سنة خمس و عشرين و ستمائة محمود بن الفراء ارسلان بن داود بن سقمان بن أرتق و الله تعالى أعلم
( أخبار نيال بالعراق ) كان نيال بن أبي شكين الحسامي مع السلطان محمد باصبهان لما حاصرها بركيارق بعد المصاف الرابع سنة خمس و تسعين فلما خرج محمد من الحصار إلى أذربيجان و معه نيال استأذنه في قصد الري ليقيم بها دعوتهم و سار هو و أخوه علي و عسف بأهل الري و صادرهم و بعث السلطان بركيارق الأمير برسق بن برسق في ربيع من سنة ست و تسعين فقاتله و هزمه و استولى برسق على الري و أعاده على ولاية بقزوين و سلك نيال على الجبال و هلك كثير من أصحابه و خلص إلى بغداد فأكرمه المستظهر و أظهر طاعة السلطان محمد و تحالف هو و أبو الغازي و سقمان بن أرتق على مناصحة السلطان محمد و ساروا إلى صدقة بن مزيد بالحلة فاستخلفوه على ذلك ثم أن نيال بن أبي شكين عسف بأهل بغداد و تسلط عليهم و صادر العمال فاجتمع الناس إلى أبي الغازي بن أرتق و كان نيال صهره على أخته التي كانت زوجا لتتش و طلبوا منه أن يشفع لهم عنده و بعث المستظهر إليه قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني بالنهي عما يرتكبه فأجاب و حلف ثم نكث فأرسل المستظهر إلى صدقة بن مزيد يستدعيه فوصل في شوال من السنة و اتفق مع نيال على الرحيل من بغداد و رجع إلى حلته و ترك ولده دبيسا يزعج نيال للخروج فسار نيال إلى اوان و عاث في السابلة و أقطع القرى لاصحابه و بعث إلى صدقة فأرسل إليه العساكر و خرج فيها أبو الغازي بن أرتق و أصحاب المستظهر فسار نيال إلى أذربيجان و رجعوا عنه (5/35)
ولاية كمستكين النصيري شحنة بغداد و فتنته مع أبي الغازي و حربه
كان أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد ولاه عليها السلطان محمد عند مقتل كوهراس و لما ظهر الآن بركيارق على محمد و حاصره بأصبهان و نزل بركيارق همذان و أرسل إلى بغداد كمستكين النصيري في ربيع سنة ست و تسعين و سمع أبو الغازي بمقدمة فاستدعى أخاه سقمان بن أرتق من حصن كبيعا يستنجده و سار إلى صدقة بن مزيد فحالفه على النصرة و المدافعة و رجع إلى بغداد و وصل إليه أخوه سقمان بعد أن نهب في طريقه و وصل كمستكين إلى قرقيسيا و لقيه شيعة بركيارق و خرج أبو الغازي و سقمان عن بغداد و نهب قرى دجيل و اتبعتهما العساكر ثم رفعت عنهما و أرسل كمستكين إلى صدقة صاحب الحلة فامتنع من طاعة بركيارق و سار من الحلة إلى صرصر و قطع خطبة بركيارق و عبر بغداد و اقتصر على الدعاء للخليفة و بعث صدقة إلى أبي الغازي و سقمان يعرفهما بوصوله و هما بالحرني و جاء إلى دجيل و نهب القرى و اشتد فسادهم و أضر ذلك بحال بغداد في غلاء الاسعار و جاء أبو الغازي و سقمان و معهما دبيس بن صدقة فخيموا بالرملة و قاتلهم العامة ففتكوا فيهم و بعث المستظهر قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني و تاج الرؤساء بن الرحلات إلى صدقة بن مزيد بمراجعة الطاعة فشرط خروج كمستكين عن بغداد فأخرجه المستظهر إلى النهروان و عاد صدقة إلى الحلة و أعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد ثم سار كمستكين النصيري إلى واسط و خطب فيها لبركيارق و نهب عسكره سوادها فسار صدقة و أبو الغازي إليه و أخرجاه من واسط و تحصن بدجلة فقصده صدقة فانفض عنه أصحابه و رجع إلى صدقة بالامان فأكرمه و عاد إلى بركيارق و أعيدت خطبة السلطان محمد بواسط و بعده لصدقة و أبي الغازي و ولى كل واحد فيها ولده و عاد أبو الغازي إلى بغداد و عاد صدقة إلى الحلة و بعث ابنه منصورا مع أبي الغازي يطلب الرضا من المستظهر لأنه كان سخطه من أجل هذه الحادثة (5/36)
المصاف الخامس بين بركيارق و محمد
كان السلطان محمد لما سار عن كنجة و بلاد اران استخلف بها الأمير غزغلي و أقام بها في طائفة من عسكره مقيما خطبة السلطان محمد في جميع أعماله إلى زنجان من آخر أذربيجان فلما انحصر محمد بأصبهان سار غزغلي لانجاده و معه منصور بن نظام الملك و محمد ابن أخيه مؤيد الملك فانتهوا إلى الري و ملكوها آخر خمس و تسعين و لقوا السلطان محمدا بهمدان عندما خرج من أصبهان و معه نيال بن أبي شكين و أخوه علي و أقاموا معه بهمدان ثم جاء الخبر بمسير بركيارق إليهم فتوجه السلطان محمد قاصدا شروان و انتهى إلى أذربيجان فبعث إليه مودود بن اسمعيل بن ياقوتي الذي كان بركيارق قتل أباه اسمعيل و كانت أخت مودود هذا تحت محمد و كان له طائفة من أعمال أذربيجان فاستدعى محمدا ليظاهره على بركيارق فسار إليه و انتهى إلى سقمان و توفي مودود في ربيع سنة ست و تسعين و اجتمع عساكره على السلطان محمد و فيهم سقمان القبطي و محمد بن باغي بركيارق و قاتلهم على خراسان و سار أياز من عسكر بركيارق و جاء من خلف السلطان محمد فانهزم محمد و أصحابه و لحق بارقيش من أعمال خلاط و لقيه الأمير علي صاحب ارزن الرومي فمضى إلى أصبهان و صاحبها منوجهر أخو فظون الروادي ثم سار إلى هرمز و أما محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك فنجا من الوقعة إلى ديار بكر ثم إلى جزيرة ابن عمر ثم إلى بغداد و كان أيام أبيه مقيما ببغداد في جوار المدرسة النظامية فشكى إلى أبيه و خاطب كوهراس بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة و لحق سنة اثنتين و تسعين بمجد الملك الياسلاني و أبوه بكنجة عند السلطان محمد فلما خطب السلطان محمد لنفسه و استوزر أباه مؤيد الملك لحق محمد هذا بأبيه ثم قتل أبوه و بقي في جملة السلطان محمد (5/37)
استيلاء ملك بن بهرام على مدينة غانة
كان ملك بن بهرام بن ارتق ابن أخي أبي الغازي بن ارتق مالكا مدينة سروج فملكها الفرنج من يده فسار عنها إلى غانة و غلب عليها بني العيش بن عيسى بن خلاط كانت لهم فقصدوا صدقة بن مزيد مستنجدين به فأنجدهم و جاء معهم فرحل ملك بن بهرام و التركمان عنها و دخلها بنو العيش و أخذ صدقة رهائنهم و عاد إلى الحلة فرجع ملك إليها في ألفي رجل من التركمان و حار بها قليلا ثم عبر المخاضة و ملكها و استباح أهلها و مضى إلى هيت و رجع عنها (5/38)
الصلح بين السلطان بركيارق و محمد
ثم استقر الأمر أخيرا بالسلطان بركيارق في الري و كان له الجبال و طبرستان و خوزستان و فارس و ديار بكر و الجزيرة و الحرمين و لمحمد اذربيجان و بلاد اران و ارمينية و اصبهان و العراق جميعا غير تكريت و البطائح بعضها و بعضها و البصرة لهما جميعا و خراسان لسنجر من جرجان إلى ما وراء النهر يخطب فيها لأخيه محمد و له من بعده و العساكر كلهم يتحكمون عليهم بسبب الفتنة بينها و قد تطاول الفساد و عم الضرر و اختلفت قواعد الملك فأرسل بركيارق إلى أخيه محمد في الصلح مع فقيهين من أماثل الناس و رغباه في ذلك و أعاد معهما رسلا آخرين و تقرر الأمر بينهما أن يستقر محمد على ما بيده سلطانا و لا يعارضه بركيارق في الطول و لا يذكر اسمه في أعمال محمد و أن المكاتبة تكون بين الوزيرين و العساكر بالخيار في خدمة من شاؤا منهما و يكون للسلطان محمد من النهر المعروف باسترد إلى باب الابواب و ديار بكر و الجزيرة و الموصل و الشام و العراق بلاد صدقة بن مزيد و بقية الممالك الاسلامية لبركيارق و تحالفا على ذلك و انتظم الامر و أرسل السلطان محمد إلى أصحابه باصبهان بالخروج عنها لاخيه بركيارق و استدعاهم إليه فأبوا و جنحوا إلى خدمة بركيارق و ساروا إليه بحريم السلطان محمد الذي كانوا معهم فأكرمهم بركيارق و دلهم إلى صاحبهم و حضر أبو الغازي بالديوان ببغداد و سار المستظهر في الخطبة لبركيارق فخطب له سنة سبع و تسعين و كذلك بواسط و كان أبو الغازي قبل ذلك في طاعة محمد فأرسل صدقة إلى المستظهر يعذله في شأنه و يخبره بالمسيرة لاخراجه من بغداد ثم سار صدقة ونزل عند الفجاج و خرج أبو الغازي إلى عقربا و بعث لصدقة بأنه إنما عدل عن طاعة محمد للصلح الوقع بينه و بين أخيه و أنهما تراضيا على أن بغداد لبركيارق و اناشحنة بها و اقطاعي حلوان فلا يمكنني التحول طاعة بركيارق فقبل منه و رجع إلى الحلة و بعث المستظهر في ذي القعدة سنة سبع و تسعين بالخلع للسلطان بركيارق و الامير أياز و الوزير الخطير و استخلفهم جميعا و عاد إلى بغداد و الله سبحانه ولى التوفيق (5/38)
حرب سقمان و جكرمس الافرنج
قد تقدم لنا استيلاء الافرنج على معظم بلاد الشام و شغل الناس عنهم بالفتنة و كانت حران لقراجا من مماليك ملك شاه و كان غشوما فخرج منها لبعض مذاهبه و ولى عليها الاصبهاني من أصحابه فعصى فيها و طرد أصحاب قراجا منها ما عدا غلاما تركيا اسمه جاولى جعله مقدم العسكر و أنس به فقرره و تركه و ملك حران و سار الافرنج إليها و حاصروها و كان بين جكرمس صاحب جزيرة ابن عمر و سقمان صاحب كيفا حروب و سقمان يطالبه بقتل ابن أخيه فانتدبا لنصر المسلمين و اجتمعا على الخابور و تحالفا و سار سقمان في سبعة آلاف من التركمان و جكرمس في ثلاثة آلف من الترك و العرب و الاكراد و التقوا بالافرنج على نهر بلخ فاستطرد لهم المسلمون نحو فرسخين ثم كروا عليهم فغنموا فيهم و قتلوا سوادهم و أخذ القمص بردويل صاحب الرها أسره تركماني من أصحاب سقمان في نهر بلخ و كان سمند صاحب انطاكية من الافرنج و نيكري صاحب الساحل منهم قد كمنا وراء الجبل ليأتيا المسلمين من ورائهم عند المعركة فلما عاينوا الهزيمة كمنوا يومهم ثم هربوا فاتبعهم المسلمون و استلحموهم و أسروا منهم كثيرا و فلت سمند و نيكري بدماء أنفسهم و لما حصل الظفر للمسلمين عصى أصحاب جكرمس باختصاص سقمان بالقمص و حملوه على أخذه لنفسه فأخذ جكرمس من خيام سقمان و شق ذلك عليه و أراد أصحابه فأبى حذرا من افتراق المسلمين و رحل و فتح في طريقه عدة حصون و سار جرمكس إلى حران ففتحها ثم سار إلى الرها فحاصرها خمس عشرة ليلة و عاد إلى الموصل و قاد من القمص بخمسة و ثلاثين ألف دينارا و مائة و ستين أسيرا من المسلمين (5/39)
وفاة بركيارق و ولاية ابنه ملك شاه
ثم توفي السلطان بركيارق بن ملك شاه بنردجرد في أوائل ربيع الآخر سنة ثمان و تسعين لاثنتين عشرة سنة و نصف من ملكه جاء إليها عليلا من اصبهان و اشتد مرضه بنردجرد فولى عهد لابنه ملك شاه و عمره نحو من خمس سنين و خلع عليه و جعل الامير اياز كافلة و أوصى أهل الدولة بالطاعة و المساعدة و بعثهم إلى بغداد فأدركهم خبر وفاته بالطريق و رجع اياز حتى دفنه باصبهان و جمع السرادقات و الخيام و الجثر و السمسمة لابنه ملك شاه و كان بركيارق قد لقى في ملكه من الرخاء و الشدة و السلم ما لم يلقه فلما استقر و استقامت سعادته أدركته المنية و لما توفي خطب لابنه ملك شاه ببغداد و كان أبو الغازي قد سار من بغداد إليه و هو باصبهان يستحثه إلى بغداد و جاء معه فلما مات سار مع ابنه ملك شاه و الأمير اياز إلى بغداد و ركب الوزير أبو القاسم علي بن جهير فلقيهم به مالى و حضر أبو الغازي و الأمير طغلبرك بالديوان و طلبا الخطبة لملك شاه فخطب له و لقب بألقاب جده ملك شاه (5/40)
حصار السلطان محمد الموصل
لما انعقد الصلح بين بركيارق و محمد و اختص كل منهما أعماله و كانت اذربيجان في قسمة محمد رجع محمد إلى أذربيجان و لحق به سعد الملك أبو المحاسن الذي كان نائبا بأصبهان بعد أن أبلى في المدافعة عنها ثم سلمها بعد الصلح إلى نواب بركيارق و استوزره فأقام محمد إلى صفر من سنة ثمان و تسعين ثم سار يريد الموصل على طريق مراغة و رحل و بلغ الخبر إلى جكرمس فاستعد للحصار و أدخل أهل الضاحية إلى البلد و حاصره محمد ثم بعث له يذكره ما استقر عليه بينه و بين أخيه و أن الموصل و الجزيرة له و عرض عليه خط بركيارق بذلك و بايمانه عليه و وعده أن يقرها في عمالته فقال له جكرمس أن السلطان كتب إلي بعد الصلح بخلاف ذلك فاشتد في حصاره و اشتد أهل البلد في المدافعة و نفس الله عنهم برخص الاسعار و كان عسكر جكرمس مجتمعين قريبا من الموصل و كانوا يغزون على أطراف العسكر و يمنعون عنهم الميرة ثم وصل الخبر عاشر جمادي الاولى بوفاة السلطان بركيارق فاستشار جكرمس أهل البلد فردوا النظر إليه و استشار الجند فأشاروا بطاعة السلطان محمد فأرسل إليه بذلك و استدعى وزيره سعد الملك فدخل عليه و أشار عليه بلقاء السلطان فخرج إليه على كره من أهل البلد فتلقاه السلطان بالكرامة و أعاده سريعا إلى البلد ليطمئن الناس (5/40)
استيلاء السلطان محمد على بغداد و خلع ملك شاه ابن أخيه و مقتل أياز
قد كنا قدمنا صلح بركيارق و أخيه محمد من أنه يستقل بركيارق بالسلطنة و ينفرد محمد بالاعمال التي ذكرنا و موت بركيارق أثر ذلك و تقديم إبنه ملك شاه ببغداد فوصل الخبر بذلك إلى محمد و هو يحاصر الموصل فأطاعه جكرمس و سار محمد إلى بغداد و معه جكرمس و سقمان القطبي مولى قطب الدولة اسمعيل بن ياقوتي بن داود و ياقوتي عم ملك شاه و محمد و غيرهما من الامراء و جمع صدقة صاحب الحلة العساكر و بعث إبنه بدران و دبيسا إلى محمد يستحثانه و جاء السلطان محمد الى بغداد فاعتزم الامير أياز أتابك ملك شاه على دفاعه و خيم خارج بغداد و أشار عليه بذلك أصحابه و خالفهم وزيره أبو المحاسن الضبعي و أبلغ في النصيحة له بطاعة السلطان فأقام مترددا و نزل محمد بالجانب الغربي و خطب له هنالك منفردا و لهما معا في بعض الجوامع و اقتصر على السلطان العالم في بعضها و رجع اياز إلى استحلاف الامراء ثانيا فوقف بعضهم و قال لا فائدة في إعادة اليمين و ارتاب أياز عندها و بعث وزيره الضبعي أبا المحاسن لعقد الصلح مع السلطان و استحلافه فقرأ على وزيره سعد الملك أبي المحاسن سعد بن محمد فدخل معه الى السلطان و أجابه الى ما طلب و جاء معه من الغد قاضي القضاة و الفتيان و استحلفاه لاياز و للامراء فحلف إلا أن ينال الحسامي و و قال أما ملك شاه فهو ابني و أنا أبوه و جاء اياز من الغد و قارن وصول صدقة بن مزيد فانزلهما و احتفى بهما و ذلك آخر جمادي الاولى من سنة ثمان و تسعين ثم احتفل اياز بعدها في عمل صنيع للسلطان في بيته و هي دار كوهراس و أهدى إليه تحفا من جملتها حبل البلخش الذي أخذه من تركة نظام الملك بن مؤيد الملك و اتفق ان اياز تقدم لمواليه بلبس السلاح ليعرضهم عل السلطان و كان عندهم مصفعان فألبسوه درعا تحت ثابه و تناوله بالنخس فهرب عنهم و دخل في حاشية السلطان مذعورا فلمسوه فاذا الدرع تحت ثيابه فارتابوا و نهض السلطان إلى داره ثم دعا الأمراء بعد ذلك بأيام فاستشارهم في بعث يبعثهم إلى ديار بكر ان ارسلان بن سليمان بن قطلمش قصدها فاتفقوا على الاشارة بمسير اياز و طلب هو أن يكون معه صدقة بن مزيد فأسعفه السلطان بذلك و استدعاهما لانفاذ ذلك و قد أرصد في بعض المخادع بطريقهم جماعة لقتل اياز فلما مر بهم تعاورته سيوفهم و قطع رأسه و هرب صدقة و أغمى على الوزير و هرب عسكر أياز فنهبوا داره و أرسل السلطان من دفعهم عنها و سار السلطان من بغداد الى اصبهان و هذا أياز من موالي السلطان ملك شاه ثم سار في جملة ملك آخر فساء و أما الضبعي وزير أياز فاختفى أشهرا ثم حمل إلى الوزير سعد الملك في رمضان فلما وصل كان ذل سبب رياسته بهمدان (5/41)
استيلاء سقمان بن أرتق على ماردين و موته
كان هذا الحصن في ديار بكر أقطعه السلطان بركيارق لمغن كان عنده و كان حواليها خلق كثير من الأكراد يغيرون عليها و يخيفون واتفق أن كربوقا خرج من الموصل لحصار آمد و كانت لبعض التركمان فاستنجد بسقمان فسار لانجاده و لقيه كربوقا و معه زنكي بن اقسنقر و أصحابه و أبلوا ذلك اليوم بلاء شديدا فانهزم و أسر إبن أخيه ياقوتي بن ارتق فحبسه بقلعة ماردين عند المغني فبقي مدة محبوسا و كثر خروج الاكراد بنواحي ماردين فبعث ياقوتي إلى المغني يسأله أن يطلقه و يقيم عنده بالريف لدفاع الأكراد ففعل و صار يغير عليهم في سائر النواحي إلى خلاط و صار بعض أجناد القلعة يخرجون للاغارة فلا يهيجهم ثم حدثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام بعد مرجعه من الاغارة و دنا من القلعة و عرضهم للقتل ان لم يفتحها أهلوهم ففتحوها و ملكها و جمع الجموع و سار إلى نصيبين و إلى جزيرة ابن عمر و هي لجكرمس فكبسه جكرمس و أصحابه في الحرب سهم فقتله و بكاه جكرمش و كانت تحت ياقوتي بنت عمه سقمان فمضت إلى أبيها و جمعت التركمان و جاء بهم إلى نصيبين لطلب الثأر فبعث إليه جكرمش ما أرضاه من المال في ديته
فرجع و أقام بماردين بعد ياقوتي أخوه على طاعة جكرمش و خرج منها لبعض المذاهب و كتب نائبه بها إلى عمه سقمان بأنه تملك ماردين على جكرمش فبادر إليها سقمان و استولى عليها و عوض عنها ابن أخيه جبل جور و أقامت ماردين في حكمه مع حصن كيفا و استضاف إليها نصيبين ثم بعث إليها فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس يستنجده على الافرنج و كان استبد بها على الخلفاء العبيد بين أهل مصر و ثار له الافرنج عندما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ إلى سقمان بن ارتق سنة ثمان و تسعين فأجابه و بينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغتكين صاحب دمشق المستبد بها موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفا على دمشق من الفرنج فأسرع السير معتزما على قصد طرابلس و بعدها دمشق فانتهى إلى القريتين و ندم طغتكين على استدعائه و جعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه و مات هو بالقريتين فكفاهم الله تعالى أمره و قد كان أصحابه عندما أيقن بالموت أشاروا عليه بالعود إلى كيفا فامتنع و قال هذا جهاد و إن مت كان لي ثواب شهيد (5/42)
خروج منكبرس على السلطان محمد و نكبته
كان منكبرس بن يورس بن البارسلان مقيما بأصبهان و انقطعت عنه المواد من السلطان فخرج إلى نهاوند و دعا لنفسه و كاتب الامراء بني برسق بخورستان يدعوهم إلى طاعته و كان أخوهم زنكين عند السلطان محمد فقبض عليه و كاتب إخوته في التدبير على منكبرس فأرسلوا إليه بالطاعة حتى جاءهم فقبضوا عليه بخوزستان و بعثوا به إلى أصبهان فاعتقل مع ابن عمه تتش و أطلق زنكين بن برسق و أعيد إلى مرتبته و كانت اقطاع بني برسق الاسير و سابور و خوزستان و غيرهما ما بين الاهواز و همدان فعوضهم عنها بالدينور و أخرجهم من تلك الناحية و الله تعالى أعلم (5/43)
مقتل فخر الملك بن نظام الملك
قد ذكرنا قبل أن فخر الملك بن نظام الملك كان وزيرا لتتش ثم حبسه و لما هزمه بركيارق و وجده في محبسه أطلقه و كان أخوه مؤيد الملك وزيرا له فمال إليه فخر الدولة بسعاية مجد الملك الباسلاني و استوزره سنة ثمان و ثمانين ثم فارق وزارته و لحق بسنجر بن ملك شاه بخراسان فاستوزره فلما كان في آخر المائة الخامسة جاء باطني يتظلم إلى باب داره فأدخله يسمع شكواه فطعنه بخنجر فقتله و أمر السلطان سنجر بضربه فأقر على جماعة من الناس و قتل (5/44)
ولاية جاولي سكاور على الموصل و موت جكرمش
كان جاولي سكاور قد استولى على ما بين خوزستان و فارس فعمر قلاعها و حصنها و أساء السيرة في أهلها فلما استقل السلطان محمد بالملك خافه جاولي و أرسل السلطان إليه الأمير مودود بن أنوتكين فتحصن منه جاولي و حاصره مودود ثمانية أشهر و دس جاولي إلى السلطان بطلب غيره فأرسل إليه خاتمه مع أمير آخر فسار إليه بأصبهان و جهزه في العساكر لجهاد الافرنج بالشام و استرجاع البلاد منهم و كان جكرمش صاحب الموصل قد قطع الحمل فأقطع السلطان الموصل و ديار بكر و الجزيرة لجاولي فسار إلى الموصل و جعل طريقه على بغداد على البواريخ فاسباحها أياما ثم سار إلى أربل و كان صاحبها أبو الهيجاء بن برشك الكردي الهرباني إلى جكرمش يستحثه فسار في عسكر الموصل و ألقوا قريبا من اريل فانهزم أصحاب جكرمش و كان يحمل في المحفة فقاتل عنده غلمانه و أحمد بن قاروت بك فخرج و إنهزم إلى الموصل و مات و جيء بجكرمش فحبسه و وصل من الغد إلى الموصل فولوا ازنكين بن جكرمش و أقام بالجزيرة و قام بأمره غزغلي مولى أبيه و فرق الاموال و الخيول و كتب إلى قلج أرسلان صاحب بلاد الروم ميتا و كان قد شيد الموصل و بنى أسوارها و حصنها بالخندق و بينما هو كذلك سار إليه قلج ارسلان من بلاد الروم باستدعاء غزغلي كما تقدم و انتهى إلى نصيبين فرحل جاولي عن الموصل ثم جاء البرسقي شحنة بغداد و نزل عن الموصل و خاطبهم فلم يجيبوه فرجع من يومه و سار قلج ارسلان من نصيبين إلى الموصل و تأخر عنها جاولي إلى سنجار و اجتمع أبو الغازي بن أرتق و جماعة من عسكر جكرمش و جاء جريح رضوان بن تتش من الشام على الافرنج فسار إلى الرحبة و بعث أهل الموصل و عسكر جكرمش إلى قلج أرسلان بنصيبين و استحلفوه فحلف و جاء إلى الموصل فملكها في منتصف ختام المائة الخامسة و خلع على ابن جكرمش و خطب لنفسه بعد الخليفة و قطع خطبة السلطان محمد و أحسن إلى العسكر و أخذ القلعة من غزغلي فولى جكرمش و أقر القاضي أبا محمد عبد الله بن القاسم الشهرزوري على القضاء و جعل الرياسة لأبي البركات محمد بن محمد بن خميس و كان في جملة فلهم أرسلان إبراهيم بن نيال التركماني صاحب آمد و محمد بن حموا صاحب خرتبرت كان إبراهيم ابن نيال ولاة تتش على آمد فبقيت بيده و كان ابن حموا ملك خرتبرت من يد القلادروس ترجمان الروم كانت له الرها و انطاكية فملك سليمان قطلمس انطاكية و بقيت له الرها و خرتبرت و أسلم القلادروس على القيام بأعماله فملك محمد بن حموا خرتبرت و أسلم القلادروس فلما ولى فخر الدولة بن جهير ديار بكر ضعف القلادروس عن الرها على يد ملك شاه و أمره عليها و لما سار جاولي إلى الرحبة قاصدا رضوان بن تتش نزل عليها آخر رمضان من السنة و حاصرها و بها محمد بن السباق من بني شيبان ولاه عليها دقاق فاستبد بها و خطب لقلج أرسلان فحاصره جاولي و كتب إلى رضوان يستدعيه و يعده بالمسير معه لدفاع فجاء رضوان و حاصر معه الرحبة ثم دس إلى جاولي جماعة من حامية الأسوار فوثبوا بها و أدخلوا و ملك البلد و أبقى على محمد الشيباني و سار معه ثم أن قلج أرسلان لما فرغ من أمر الموصل ولى عليها إبنه ملك شاه في عسكر و معه أمير يدبره و سار إلى قتال جاولي و رجع عنه إبراهيم بن نيال إلى بلده آمدمن الخابور فبعث إلى بلده في الحشد فعاجله جاولي و التقوا في آخر ذي القعدة من السنة و انهزم أصحاب قلج أرسلان على دفاعه و أعاد الخطبة للسلطان و استصفى أصحاب جكرمش ثم سار إلى الجزيزة و بها جيش بن جكرمش و معه غزغلي من موالي أبيه فحاصره مدة صالحه على سنة آلاف دينار و رجع إلى الموصل و أرسل ملك شاه من قلج أرسلان إلى السلطان محمد و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/44)
مقتل صدقة بن مزيد
و لما استوحش صدقة بن مزيد صاحب الحلة من السلطان محمد سار إليه السلطان و ملك أعماله و لقيه صدقة فهزمه السلطان و قتل في المعركة كما ذكرنا ذلك في أخبار صدقة في دولة ملوك الحلة و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/46)
قدوم ابن عمار صاحب طرابلس على السلطان محمد
كان فخر الدولة أبو علي بن عمار صاحب طرابلس استبد بها على العبيدين فلما ملك الافرنج سواحل الشام رددوا عليها الحصار فضافت أحوالها فلما انتظم الأمر للسلطان محمد و استقام ملكه قصده فخر الملك بن عمار صريخا للمسلمين بعد أن استخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب و فرق في الجند عطاءهم لستة أشهر و رتب الجامكية في مقاعدهم للقتال و سار إلى دمشق فلقيه طغتكين أتابك و خيم بظاهرها أياما و رحل إلى بغداد فأركب السلطان الأمراء لتلقيه و لم يدخر عنه برا و لا عرامة و كذلك الخليفة و أتحف السلطان بهدايا و ذخائر نفيسة و طلب النجدة و ضمن النفقة على العسكر فوعده بالنصر و أقام ثم لقي الأمير حسين بن أتابك طغتكين ليسير بالعساكر إلى الموصل مع الأمير مودود لقتال صدقة و جالوي ثم يسير حسين معه إلى الشام ثم رحل السلطان عن بغداد سنة إحدى و خمسمائة لقتال صدقة و استدعى ابن عمار و هو بالنهروان فودعه و سار معه الأمير حسين إلى دمشق و كان ابن عمار لما سار عن طرابلس استخلف عليها ابن عمه ذا المناقب فانتقض و اجتمع مع أهل طرابلس على إعادة الدولة العلوية و بعثوا إلى الأفضل ابن أمير الجيوش المستبد على الدولة بمصر بطاعتهم و يسألون الميرة فبعث إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب واليا معه الزاد من الأقوات و السلام فدخل البلد و قبض على أهل ابن عمار و أصحابه و استصفى ذخائرهم و حمل الجميع إلى مصر في البحر (5/46)
استيلاء مودود بن أبي شكين على الموصل من يد جاولي
قد تقدم لنا استيلاء جاولي على الموصل من يد قلج بن أرسلان و ابن جكرمش و هلاكهما على يده و استفحل ملكه بالموصل و جعل السلطان محمد ولاية ما يفتحه من البلاد له فقطع الحمل عن السلطان و استنفره لحرب صدقة فلم ينفر معه و داخل صدقة بأنه معه فلما فرغ السلطان من أمر صدقة بعث مودود بن أبي شكين في العساكر و ولاه الموصل و بعث معه الامراء ابن برسق و سقمان القبظي و أقسنقر البرسقي و نصر بن مهلهل بن أبي الشوك الكردي و أبو الهجاء صاحب أزبل مددا فوصلوا و خيموا عليها فوجدوا جاولي قد استعد للحصار و حبس الاعيان و خرج عن البلد و ترك بها زوجته هي و ابنه برسق في ألف و خمسمائة مقاتل فأحسن في مصادرة الناس و اشتد عليهم الحصار فلما كان المحرم سنة اثنتين خرج بعض الحامية من فرجة من السور و أدخلوا منها مودود و العساكر و أقامت زوجة جاولي بالقلعة ثمانية أيام ثم استأمنت و خرجت إلى أخيها يوسف بن برسق بأموالها و استولى مودود على الموصل و أعمالها و أما جاولي فلما سار عن الموصل حمل معه القمص الذي كان أسر بنعمان و أخذه منه جكرمش و سار به إلى نصيبين و سأل من صاحبها أبو الغازي بن أرتق المظاهر على السلطان فلم يجبه إلى ذلك و رحل عن نصيبين إلى ماردين بعد أن ترك ابنه مقيما مع الحامية فتبعه جاولي و دخل عليه وحده بالقلعة متطارحا عليه فأجابه و سار معه إلى نصيبين إلى سنجار و حاصراها فامتنعت عليهما ثم هرب أبو الغازي ليلا إلى نصيبين و تركه فسار جاولي إلى الرحبة و أطلق القمص بردويل لخمس سنين من الصرة على مال قرره عليه و أسرى من المسلمين يطلقهم و على النصرة مهما طلبه و أرسله إلى سالم بن مالك بقلعة جعفر حتى جاء ابن خالته جوسكر صاحب تل ناشز من زعماء الفرنج و كان أسر مع القمص فاقتدى بعشرين ألف دينار و أقام جوسكر رهينة و سار القمص إلى انطاكية ثم أطلق جاولي جوسكر و أخذ رهنا عنه صهره و صهر القمص و بعثه في إتمام ما ضمن و لما وصل إلى انطاكية أعطاه شكري صاحبها ثلاثين ألف دينار و خيلا و سلاحا و غير ذلك كانت الرها و مروج بيد القمص و لما أسر ملك جكرمش الرها من أصحابه طلبها منه الآن فلم يجبه فخرج القمص مغاضبا له و لحق بتل ناشز و قدم عليه جوسكر عندما أطلقه جاولي ثم سار إليهما شكري يعاجلهما قبل اجتماع أمرهما فحاصرهما أياما و رجع القمص و جوسكر على حصون شكري صاحب انطاكية و استمد أبو سيل الأرمني صاحب رعيان و كيسوم و القلاع شمالي حلب فأنجدهم بألف فارس و سار إليهم شكري و حضر البترك و شهد جماعة من القسيسين و البطارقة أن أسمند خال شكري قال له عند ما ركب البحر إلى بلاده أعد الرها إلى القمص إذا خلص من الاسر فحكم البترك بإعادتها فأعادها تاسع صفر من السنة و عبر القمص الفرات ليرفع إلى جاولي المال و الاسرى كما شرط له و كان جاولي لما أطلق القمص سار إلى الرحبة و لقيه أبو النجم بدران و أبو كامل منصور و كانا مقيمين بعد قتل أبيهما عند سالم بن مالك فاستنجداه و وعداه أن يسير معهما إلى الحلة و اتفقوا على تقديم أبي الغازي تكين ثم قدم عليهم أصبهبز صباوو و قد أقطعه السلطان الرحبة فأشار على جاولي بقصد الشام لخلوها عن العساكر و التجنب عن العراق و طريق السلطان فقبل إشارته و أحصر على الرحبة ثم وفد عليه صريخ سالم بن مالك صاحب قلعة جعفر يستغيث به من بني نمير و كان حيوش البصري قد نزل على ابن سالم بالرقة و ملكها و سار إليه رضوان من حلب فصالحه بنو نمير بالمال و رجع عليهم فاستنجد سالم الآن جاولي فجاء و حاصر بني نمير بالرقة سبعين يوما فأعطوه مالا و خيلا و رحل عنهم و اعتذر لسالم ثم وصل جاولي الى الأمير حسين بن أتابك قطلغ تكين كان أبوه أتابك السلطان محمد بكنجة فقتلته و تقدم ولده هذا عند السلطان و بعثه مع ابن عمار ليصلح أمر جاولي و تسير العساكر كلها إلى الجهاد مع ابن عمار فأجاب جاولي لذلك و قال لحسين سر إلى الموصل و رحل العساكر عنها و أنا أعطيك ولدي رهينة و تكون الجباية لوال من قبل السلطان فجاء حسين إلى العساكر قبل أن يفتحوها فكلهم أجاب إلا الأمير مودود فإنه إمتنع من الرحيل إلا بإذن من السلطان و أقام محاصرا لها حتى افتتحها و عاد ابن قطلغ إلى السلطان فأحسن الإعتذار عن جاولي و سار جاولي إلى بالس فملكها من أصحاب رضوان بن تتش و قتل جماعة من أهلها فيهم القاضي محمد بن عبد العزيز بن الياس و كان فقيها صالحا ثم سار رضوان بن دقاق لحرب جاولي و استمد شكري صاحب انطاكية فامده بنفسه و بعث جاولي إلى القمص بالرها يستمده و ترك له مال المفاداة فباء إليه بنفسه و لحقه بمنبج و جاء الخبر إلى جاولي باستيلاء مودود و عساكر السلطان على الموصل و على خزائنه فاضطرب أمره و انفض عنه كثير من أصحابه منهم زنكي بن أقسنقر و بكتاش و بقي معه أصبهبذ صباوو و بدران بن صدقة و ابن جكرمش و انضم إليه كثير من المتطوعة و نزل تل ناشر و أتى عسكر رضوان و شكري و كاد أن يهزمهم لولا أن أصحابه ساروا عنه و سار في أتباعهم فأبوا عليه فمضى منهزما و قصد أصبهبذ الشام و بدران بن صدقة قلعة جعفر و ابن جكرمش جزيرة ابن عمر و قتل من المسلمين خلق و نهب صاحب انطاكية سوادهم و هرب القمص و جوسكر إلى تل ناشر و كان المنهزمون من المسلمين يمرون بهم فيكرمونهم و يجيزونهم إلى بلادهم و لحق جاولي بالرحبة فلقي بها سرايا مودود صاحب الموصل و خفي عنهم فأرتاب في أمره و لم ير الخير له من قصد السلطان محمد ثقة بما ألقى إليه حسين بن قطلغ تكين في شأنه فأوغر في السير و لحق بالسلطان قريبا من أصبهان و نزل حسين بن قطلغ فدخل به إلى السلطان فأكرمه و طلب منه بكتاش ابن عمه تتش و اعتقله بأصبهان (5/46)
مقتل مودود بن توتكين صاحب الموصل في حرب الافرنج و ولاية البرسقي مكانه
كان السلطان محمد قد أمر مودودا صاحب الموصل سنة خمس و خمسمائة بالمسير لقتال الإفرنج و أمده بسمقان القبطي صاحب ديار بكر و أرمينية و اياكي و زنكي ابني برسق أمراء همدان و ما جاورها و الأمير أحمد بك أمير مراغة و أبو الهيجاء صاحب اربل و الأمير أبو الغازي صاحب ماردين و بعث إليه أياز مكانه فسار إلى سنجار و فتحوا حصونا للإفرنج و حاصروا مدينة الرها فامتنعت عليهم و أقام الإفرنج على الفرات بعد أن طرقوا أعمال حلب فعاثوا فيها ثم حاصر العساكر الإسلامية قلعة ناشر فامتنعت و دخلوا إلى حلب فامتنع رضوان من لقائهم فعادوا و مات سقمان القبطي في دلاس فحمله أصحابه في تابوت إلى بلاده و اعترضهم أبو الغازي بن أرتق ليأخذهم فهزموه ثم افترقت العساكر بمرض ابن برسق و مسير أحمد ابن صاحب مراغة إلى السلطان لطلب بلاد سقمان القبطي و اجتمع قطلغتكين صاحب دمشق بمودود و نزل معه على نهر القاضي و سمع الإفرنج بافتراق العساكر فساروا إلى افامية و جاء السلطان ابن منقذ صاحب شيراز إلى مودود و قطلغتكين و حصرهما على الجهاد و نزلوا جميعا على شيراز و نزل الفرنج قبالهم ثم رأوا قوة المسلمين فعادوا إلى أفامية ثم سار مودود سنة ست إلى الرها و سروج فعاث في نواحيها فكسبه جوسكر صاحب تل ناشر في الإفرنج و نال منه ثم اجتمع المسلمون سنة سبع للجهاد باستنجاد قطلغتكين صاحب دمشق لمودود فاجتمع معه بمنزل صاحب سنجار و أياز بن الغازي و عبروا الفرات إلى قطلغتكين و قصدوا القدس فسار إليهم صاحبها بقزوين و معه جوسكر صاحب تل ناشر على جيشه و نزلوا الاردن و اقتتلوا قريبا من طبرية فانهزم الافرنج و قتل كثير منهم و غرق كثير في بحيرة طبرية و نهر الأردن و غنم المسلمون سوادهم ثم لقيهم عسكر طرابلس و إنطاكية من الفرنج فاستعانوا بهم و عادوا الحرب و نزلوا في جبل طبرية فحاصروها فيه المسلمون ثم ساروا فعاثوا في بلاد الإفرنج ما بين عكا إلى القدس ثم نزلوا دمشق و فرق مودود عساكره و وعدهم العود من قابل للجهاد و دخل دمشق ليستريح عند قطلغتكين فصلى الجمعة في الجامع فطعنه باطني فأثواه و هلك لآخر يومه و اتهم قطلغتكين به و قتل الباطني من يومه و لما بلغ الخبر السلطان بقتل مودود ولي على الموصل و أعمالها أقسنقر البرسقي سنة ثماني و خمسمائة و بعث معه ابنه الملك مسعود في جيش كثيف و أمره بجهاد الإفرنج و كتب إلى الأمراء بطاعته فوصل إلى الموصل و اجتمعت إليه عساكر النواحي فيهم عماد الدين زنكي بن أقسنقر و نمير صاحب سنجار و سار البرسقي إلى جزيرة ابن عمر فأطاعه نائب مودود بها ثم إلى ماردين فأطاعه أبو الغازي صاحبها و بعث معه إبنه أياز فسار إلى الرها فحاصرها شهرين ثم ضاقت الميرة على عسكره ثم رحل إلى شميشاط بعد أن خرب نواحي الرها و سروج و شمشاط و كانت مرعش للإفرنج هي و كسوم و رعيان و كان صاحبها كراسك و اتفقت وفاته و ملكت زوجته بعده فراسلت البرسقي بالطاعة و بعث إليها رسوله فأكرمته و أرجعته إلى البرسقي بالهدايا و الطاعة و فر عنها كثير من الإفرنج إلى إنطاكية ثم قبض البرسقي على أياز بن أبي الغازي لإتهامه اياه في الطاعة فسار إليه أبو الغازي في العساكر و هزمه و استنقذ إبنه أياز من أسره كما ترى في أخبار دولة أبي الغازي و بنيه و بعث السلطان يهدده فوصل يده بقطلغتكين صاحب دمشق و الفرنج و تحالفوا على التظاهر و رجع أبو الغازي إلى ديار بكر فسار إليه قزجان بن مراجا صاحب حمص و قد تفرق عنه أصحابه فظفر به و أسره و جاء قطلغتكين في عساكره و بعث إلى قزجان في إطلاقه فامتنع و هم بقتله فعاد عنه قطلغتكين إلى دمشق و كان قزجان قد بعث إلى السلطان بخبره و انتظر من يصل في قتله فأبطأ عليه فأطلق أبا الغازي بعد أن توثق منه بالحلف و أعطاه ابنه أياز رهينة و لما خرج سار إلى حلب و جمع التركمان و حاصر قزجان في طلب ابنه إلى أن جاءت عساكر السلطان (5/49)
مسير العساكر لقتال أبي الغازي و قطلغتكين و الجهاد بعدهما
و لما كان ما ذكرناه من عصيان أبي الغازي و قطلغتكين على السلطان محمد و قوة الفرنج على المسلمين جهز السلطان جيشا كثيرا مقدمهم الأمير برسق صاحب همدان و معه الأمير حيوش بك و الأمير كشغرة و عساكر الموصل و الجزيرة و أمرهم بقتال أبي الغازي و قطلغتكين فإذا فرغوا منهما ساروا إلى الفرنج فارتجعوا البلاد من أيديهم فساروا لذلك في رمضان من سنة ثمان و عبروا الفرات عند الرقة و جاؤا إلى حلب و طلبوا من صاحبها لؤلؤ الخادم و من مقدم العسكر المعروف بشمس الخواص تسليم حاب بكتاب السلطان في ذلك فتعلل عليهم و بعث إلى أبي الغازي و قطلغتكين بالخبر و استنجدهما فسار إليه في ألفين و امتنعت حلب على عساكر السلطان فسار برسق بالعساكر إلى حماة و هي لقطلغتكين فملكها عنوة و سلمها إلى قزجان صاحب حمص بعهد السلطان له بذلك في كل ما يفتحونه من البلاد فثقل ذلك على الأمراء و تخاذلوا و تسلم قزجان حماة بن برسق و أعطاه ابن أبي الغازي إبنه رهينة عنده ثم سار أبو الغازي و قطلغتكين و شمس الخواص إلى انطاكية مستنجدين بصاحبها بردويل و جاءهم بعد ذلك بغدوين صاحب القدس و صاحب طرابلس و غيرهما من الإفرنج و اتفقوا على تأخير الحرب إلى إنصرام الشتاء و اجتمعوا بقلعة أفامية و أقاموا شهرين و انصرم الشتاء و المسلمون مقيمون فوهنت عزائم الإفرنج و عادوا إلى بلادهم و عاد أبو الغازي إلى ماردين و قطلغتكين إلى دمشق و سار المسلمون إلى كفر طاب من بلاد الإفرنج فحاصروه و ملكوه عنوة و أسروا صاحبه و استلحموا من فيه ثم ساروا إلى قلعة أفامية فامتنعت عليهم فعادوا إلى المعرة و فارقهم جيوش بك إلى مراغة فملكه و سارت إلى العساكر من المعرة إلى حلب و قدموا أثقالهم و خيامهم فصادفهم بردويل صاحب إنطاكية في خمسمائة فارس و ألفي راجل صريخا لأهل كفر طاب و صادف مخيم العسكر ففتك فيه و فعل الأفاعيل و هم متلاحقون و جاء الأمير برسق و عاين مصارعهم و أشار عليه إخوته بالنجاء بنفسه فنجا بنفسه و أتبعهم الإفرنج و رجعوا عنهم على فرسخ و عاثوا في المسلمين في كل ناحية و قتل أياز بن أبي الغازي قتله الموكلون به و جاء أهل حلب و غيرها من بلاد المسلمين ما لم يحتسبوه و يئسوا من النصرة و رجعت العساكر منهزمة إلى بلادها و توفي برسق زنكي سنة عشر بعدها (5/50)
ولاية حيوش و مسعود بن السلطان محمد علي الموصل
ثم أقطع السلطان الموصل و ما كان بيد أقسنقر البرسقي للأمير حيوش بك و بعث معه ابنه مسعود و أقام البرسقي بالرحبة و هي اقطاعه إلى أن توفي السلطان محمد (5/51)
ولاية جاولية سكاو على فارس و أخباره فيها و وفاته
كان جاولي سكا و لما رجع إلى السلطان محمد و رضي عنه ولاه فارسا و أعمالها و بعث معه ابنه جعفري بك طفلا كما فصل من الرضاع و عهد إليه بأصلاحها فسار إليها و مر بالأمير بلداجي في بلاده كليل و سرماة و قلعة اصطخر و كان من مماليك السلطان ملك شاه فاستدعاه للقاء جعفري بك و تقدم إليه بأن يأمر بالقبض عليه فقبض عليه و نهبت أمواله و كان أهله و ذخائره في قلعة اصطخر و قد استناب فيها وزيره الخيمي و لم يمكنه بعض أهله فلما وصل جاولي إلى فارس ملكها منه و جعل فيها ذخائره ثم أرسل إلى خسرو و هو الحسين بن مبارز صاحب نسا و أمير الشوا مكارمن الأكراد فاستدعاه للقاء جعفري بك من السلطان خشية مما وقع لبلداخي فأعرض عنه و أظهر الرجوع إلى السلطان و مضى رسول خبره فبشر بأنصافه عن فارس فما أدى إليه الخبر إلا و جاولي قد خالطهم رجع من طريقه و أوعز في السير إليهم ثم هرب خسرو إلى عمدالج و فتك جاولي في أصحابه و ماله ثم سار جاولي إلى مدينة نسا فملكها و نهب جهرم و غيرها و سار إلى خسرو فامتنع عليه بحصنه فرجع إلى شيراز و أقام بها ثم سار إلى كازرون فملكها و حاصر أبا سعيد بن محمد في قلعته مدة عامين و راسله في الصلح فقتل الرسل مرتين ثم اشتد عليه الحصار و استأمن فأمنه و ملك الحصن ثم استوحش من جاولي فهرب و قبض على ولده و جيء به أسيرا فقتل ثم سار جاولي إلى دار بكرد فهرب صاحبها إبراهيم إلى كرمان و صاحبها أرسلان شاه كرمان شاه ابن أرسلان بن قاروت بك فسار جاولي إلى حصار درابكرد فامتنعت عليه فخرج إلى البرية ثم جاءهم من طريق كرمان كاءنة مدد لهم من صاحب كرمان فأدخلوه فملك البلد و استلحم أهله ثم سار إلىكرمان و بعث إلى خسرو مقدم الشوذ كان يستدعيه للمسير معه فلم يجد من موافقته و جاء و صاحبه الى كرمان و بعث إلى ملك كرمان بإعادة الشواذ كان الذين عنده فبعث بالشفاعة فيهم فاستخلص السلطان الرسول بالإحسان و حثه على صاحبه و وعده بأن يرد العساكر عن وجهه و يخذلهم عنه ما استطاع و انقلب عنه إلى صاحبها فقي عساكر كرمان وزيره بالسيرجان فتراءى لهم أن جاولي عازم على مواصلتهم و أنه مستوحش من اجتماع العساكر بالسيرجان و أشار عليه بالرجوع فرجعوا و سار جاولي في أثر الرسول و حاصر حصنا بطرف كرمان فأرتاب ملك كرمان بخبر الرسول ثم أطلع عليه من غير جامعة فقتله و نهب أمواله و بعث العساكر لقتاله و اجتمع معهم صاحب الحصن المحاضر و سلك بهم غير الجادة و سمع جاولي بخبرهم فأرسل بعض الأمراء ليأتيه بالخبر فلم يجد أحدا فرجع و أخبره أن عسكر كرمان قد رجع فاطمأن و لم يكن إلا قليل حتى بيتته عساكر كرمان في شوال سنة ثمان و خمسمائة فانهزم و فتكوا فيه قتلا و أسرا و أدركه خسرو بن أبي سعد الذي كان قتل أباه فلما رآهما خاف منهما فآنساه و أبلغاه إلى مأمنه بمدينة نسا و لحقته عساكره و أطلق ملك كرمان الأسري و جهزهم إليه و بينما هو يجهز العساكر لكرمان لأخذ ثاره توفي جعفري بك ابن السلطان في ذي الحجة من سنة تسع لخمس سنين من عمره فقطعه ذلك عن معاداة كرمان ثم بعث ملك كرمان إلى السلطان ببغداد في منع جاولي عنه فقال له لابد أن تسلم الحصن إلى حاصره جاولي في أحد كرمان و إنهزم عليه و هو حصن فرح ثم توفي جاولي في ربيع سنة عشر فامنوا إعادته و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/51)
وفاة السلطان محمد و ملك ابنه محمود
ثم توفي السلطان محمد بن ملك شاه آخر ذي الحجة سنة اثنتي عشرة من ملكه بعد أن أجلس ولده محمودا على الكرسي قبل وفاته بعشر ليال و فوض إليه أمور الملك فلما توفي نفذت وصيته لابنه محمود فأمره فيها بالعدل و الإحسان و خطب له ببغداد و كان مناهز الحلم و كان السلطان محمد شجاعا عادلا حسن السيرة و له آثار جميلة في قتال الباطنية قد مر ذكرها في أخبارهم و لما ولي قام بتدبير دولته الوزير أبو منصور و أرسل إلى المستظهر في طلب الخطبة ببغداد له في منتصف المحرم من سنة اثنتي عشرة و أقر طهرون شحنة على بغداد و قد كان السلطان محمد ولاه عليها سنة اثنتين و خمسمائة ثم عاد البرسقي و قاتله و انهزم إلى عسكر السلطان محمود على الحلة دبيس بن صدقة و قد كان عند السلطان محمد منذ قتل أبوه صدقة و أحسن إليه و أقطعه و ولي على الحلة سعيد بن حميد العمري صاحب جيش صدقة فلما توفي رغب من ابنه السلطان محمود العود إلى الحلة فأعاده و اجتمع عليه العرب و الأكراد (5/53)
وفاة المستظهر و خلافة ابنه المسترشد
ثم توفي المستظهر بن المقتدي سنة اثنتي عشرة و خمسمائة منتصف ربيع الآخر و نصب للخلافة ابنه المسترشد و اسمه الفضل و قد تقدم ذلك في أخبار الخلفاء (5/53)
خروج مسعود ابن السلطان محمد على أخيه محمود
تقدم لنا أن السلطان ولى على الموصل ابنه مسعودا و معه حيوس بك و أن السلطان محمود اودبيس بن صدقة سارا إلى الحلة فلما توفي السلطان محمد و ولي ابنه محمود سار مسعود من الموصل مع اتابك حيوس بك و وزيره فخر الملك علي بن عمار و قسيم الدولة و زنكي بن اقسنقر صاحب سنجار و أبي الهيجاء صاحب أربل و كرباوي بن خراسان صاحب المواريح و قصدوا الحلة فدافعهم دبيس فرجعوا إلى بغداد و سار البرسقي إلى قتالهم فبعث إليه حيوس بك بأنهم إنما جاؤا لطلب الصريخ على دبيسن صاحب الحلة فاتفقوا و تعاهدوا و نزل مسعود بدار الملك ببغداد و جاء الخبر بوصول عماد الدين منكبرس الشحنة و قد كان البرسقي هزم ابنه حسينا كما مر فسار بالعساكر إلى البرسقي فلما علم بدخول مسعود إلى بغداد عبر دجلة من النعمانية إلى دبيس بن صدقة فاستنجده و خرج مسعود و حيوس بك و البرسقي و من معهم للقائهم و انتهوا إلى المدائن فأتتهم الأخبار بكثرة جموع منكبرس و دبيس فرجعوا و أجازوا نهر صرصر و نهبوا السواد من كل ناحية و بعث المسترشد إلى مسعود و البرسقي و الحث على الموادعة و الصلح و جاءهم الخبر بأن منكبرس و دبيس بعثا مع منصور أخي دبيس و حسين بن أرز و بني منكبرس عسكرا لحماية بغداد فرجع البرسقي إلى بغداد دليلا و معه زنكي بن أقسنقر و ترك ابنه عز الدين مسعودا على العسكر بصرصر فالتقى و منع عسكر منكبرس من العبور و أقام يومين ثم وافاه كتاب ابنه بأن الصلح تم بين الفريقين بعده ففشل و عبر إلى الجانب الغربي و منصور و حسين في أثره و نزلا عند جامع السلطان و خيم البرسقي عند القنطرة القبلية و خيم مسعود و حيوس بك عند المارستان و دبيس و منكبرس تحت الرقة و عز الدين مسعود بن البرسقي عند منكبرس منفردا عن أبيه و كان سبب انعقاد الصلح أن حيوس بك أرسل إلى السلطان محمود يطلب الزيارة له و للملك مسعود فأقطعهما أذربيجان ثم وصل الخبر بمسيرهما إلى بغداد فاستشعر منهما العصيان و جهز العساكر إلى الموصل فكتب إليه رسوله بذلك و وقع الكتاب بيد منكبرس الشحنة فبعث إليه و ضمن له إصلاح الحال له و للسلطان مسعود و كان منكبرس متزوجا بأم السلطان مسعود و إسمها سرجهان فكان يؤثر مصلحته فاستقر الصلح و اتفقوا على إخراج البرسقي من بغداد إلى الملك و أقام عنده و استقر منكبرس شحنة بغداد و ساء أثره في الرعية و تعرض لأموال الناس و حرمهم و بلغ الخبر إلى السلطان محمود فاستدعاه إليه فبقي يدافع ثم سار خوفا من عامة بغداد و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/53)
خروج الملك طغرل على أخيه السلطان محمود
كان الملك طغرل بن السلطان محمد عند وفاة أبيه مقيما بقلعة سرجهان و كان أبوه أقطعه سنة أربع سماوة و آوه و زنجان و جعل اتابك الأمير شيركير الذي حاصر قلاع الإسماعيلية كما مر في أخبارهم و كان عمره يومئذ عشرا فأرسل السلطان محمد الأمير كسعدي أتابكا له و أعجله إليه و كان كسعدي حاقدا عليه فحمل طغرل على العصيان و منعه من المجيء إلى أخيه و انتهى ذلك إلى محمود فأرسل إلى أخيه بتحف و خلع و ثلاثين ألف دينار و مواعد جميلة فلم يصيخوا إليها و أجابه كسعدي إننا في الطاعة و معترضون لمراسم الملك فسار إليهم السلطان مغذا ليكسبهم و جعل طريقه على قلعة شهران التي فيها ذخائر طغرل و أمواله و نما الخبر إلى طغرل و كسعدي فخرجا من العسكر في خفية قاصدين شهران و أخلى الطريق عنها لما سبق من اللطف فوقعا على قلعة سرجهان و جاء السلطان إلى العسكر فأخذ خزائن أخيه طغرل و فيها ثلثمائة ألف دينار ثم أقام بزنجان أياما و لحق منها بالري و لحق طغرل و كسعدي بكنجة و اجتمع إليه أصحابه و تمكنت الوحشة بينه و بين أخيه (5/55)
فتنة السلطان محمود مع عمه سنجر
و لما توفي السلطان محمد بلغ الخبر إلى أخيه سنجر بخراسان أظهر من الجزع و الحزن ما لم يسمع بمثله حتى جلس للغراء على الرماد وأغلق بابه سبعا ثم سمع بولاية ابنه محمود فنكر ذلك و عزم على قصد بلاد الجبل و العراق و طلب السلطنة لنفسه مكان أخيه و كان قد سار إلى غزتة سنة ثمان و خمسين و فتحها و تنكر لوزيره أبي جعفر محمد بن فخر الملك أبي المظفر ابن نظام الملك لما بلغه أنه أخذ عليه الرشوة من صاحب غزتة ليثنيه عن قصده إليه و فعل مثل ذلك بما وراء النهر و امتحن أهل غزتة بعد فتحها و أخذ منها أموالا عظيمة و شكا إليه الأمراء اهانته أياهم فلما عاد إلى بلخ قبض عليه و قتله و استصفى أمواله و كانت لا يعبر عنها كان فيها من العين وحده ألف دينار مرتين و استوزر بعده شهاب الإسلام عبد الرزاق ابن أخي نظام الملك و كان يعرف بابن الفقير فلما مات أخوه السلطان محمد عزم على طلب الأمر لنفسه و عاوده الندم على قتل وزيره أبي جعفر لما يعلم من اضطجاعه بمثلها ثم إن السلطان محمود أبعث إليه يصطنعه بالهدايا و التحف و ضمن له ما يزيد عن مائتي ألف دينار كل سنة و بعث في ذلك شرف الدين أنو شروان بن خالد و فخر الدين طغرل فقال لهما سنجر أن ابن أخي صغير و قد تحكم عليه وزيره و علي بن عمر الحاجب فلابد من المسير و بعث في مقدمته الأمير أنزوسار السلطان محمود و بعث في مقدمته الحاجب علي بن محمد و كان حاجب أبيه قبله فلما تقاربت المقدمتان بعث الحاجب علي بن عمر إلى الأمير أنز و هو بجرجان بالعتاب و نوع من الوعيد فتأخر عن جرجان فلحقته بعض العساكر و نالوا منه و رجع الحاجب إلى السلطان محمود بالري فشكر له فعله و أقاموا بالري ثم ساروا إلى كرمان و جاءته الإمداد من العراق مع منكبرس و منصور بن صدقة أخي دبيس و أمراء فسار إلى همدان و توفي وزيره الربيب فاستوزر أبا طالب الشهيري ثم سار السلطان في عشرين ألفا و ثمانية عشر فيلا و معه ابن الأمير أبي الفضل صاحب سجستان و خوارزم شاه محمد و الأمير أنز و الأمير قماج و كرشاسف بن ضرام بن كاكويه صاحب برد و هو صهره على أخته و كان خصيصا بالسلطان محمد فاستدعاه بعد موته سنجر و تأخر عنه و أقطع بلده لقراجا السامر فبادر إليه و تراجعوا بقرب ساوة في جمادي ثالث عشرة فسبقت عساكر السلطان محمود إلى الماء من أجل المسافة التي بين ساوة و خراسان و كانت عساكر السلطان ثلاثين ألفا و معه الحاجب علي بن عمر و منكبرس و أتابك غزغلي و بنو برسق و أقسنقر البحاري و قراجا الساني و معه سبعمائة حمل من السلاح فعندما اصطفوا إلى الحرب إنهزم عساكر السلطان سنجر ميمنة و ميسرة و ثبت هو في القلب و السلطان محمود قبالته و حمل السلطان سنجر في الفيلة فانهزمت عساكر السلطان محمود و اسر أتابك غزغلي و كان يكاتب السلطان سنجر بأنه يحمل إليه ابن أخيه فعاتبه على ذلك ثم قتله و نزل سنجر في خيام محمود و اجتمع إليه أصحابه و نجا محمود من الواقعة و أرسل دبيس ابن صدقة للمسترشد في الخطبة لسنجر فخطب له أواخر جمادى الأولى من السنة و قطعت خطبة محمود ثم أن السلطان سنجر رأى قلة أصحابه و كثرة أصحاب محمود فراسله في الصلح و كانت تحضه على ذلك فامتنع و لحق البرسقي بسنجر و كان عند الملك مسعود بأذربيجان من يوم خروجه من بغداد فسار سنجر من همدان إلى الكرخ و أعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح و وعده بولاية عهده فأجاب و تحالفا على ذلك و سار محمود إلى عمه سنجر في شعبان بهدية حافلة و نزل على جدته فتقبل منه سنجر و قدم له خمسة افراس عربية و كتب لعماله بالخطبة لمحمود بعده في جميع ولايته و إلى بغداد بمثل ذلك و أعاد عليه جميع ما أخذه من بلاده سوى الري و صار محمود في طاعة عمه سنجر ثم سار منكبرس عن السلطان محمود إلى بغداد و بعث دبيس بن صدقة من منعه من دخولها فعاد و وجه الصلح بين الملكين قد أسفر فقصد السلطان سنجر مستجيرا به من الإستبداد عليه و مسيره لشحنة بغداد من غير إذنه ثم أن الحاجب علي بن عمر ارتفعت منزلته في دولته و كثرت سعاية الأمراء فيه فأضمر السلطان نكبته فاستوحش و هرب إلى قلعة له كان ينزل بها أهله و أمواله و سار منها إلى خوزستان و كانت بنو برسق اسوري و ابن أخويه ارغوي بن ملتكى و هدد بن زنكي بعثوا عسكرا يصدونه عن بلادهم و لقوه قريبا من تستر فهزموه و جاؤا به أسيرا و كاتبوا السلطان محمودا بأمره فأمرهم بقتله و حمل رأسه إليه ثم أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الذين تهددوا إلى شحنة بغداد فعاد إليها و عزل نائب دبيس بن صدقة (5/55)
استبداد علي بن سكمان بالبصرة
كان السلطان محمد قد أقطع البصرة للأمير اقسنقر البخاري و استخلف عليها سنقر الشامي فأحسن السيرة فلما توفي السلطان محمد وثب عليه غزغلي مقدم الاتراك الاسماعيلية و كان يحج بالناس منذ سنين و سنقر ألبا و ملكا البصرة من يده و حبساه و ذلك سنة إحدى عشرة و هم سنقر البا بقتله فعارضه غزغلي فلم يرجع و قتله فقتله غزغلي به و سكن الناس و كان بالبلد أمير اسمه علي بن سكمان عن هذه الواقعة فغص به غزلي لتمام الحج على يده و خشي أن يثأر منهم بسنقر البا لتقدمه عليهم فأوغر إلى عرب البرية فنهب الحاج و انثنى علي بن سكمان في الدفاع عنهم إلى أن قارب البصرة و العرب يقاتلونه فبعث إليه غزغلي بالمنع من البصرة فقصد القرى أسفل دجلة و صدق الحملة على العرب فهزمهم ثم سار إليه غزغلي و قاتله فأصابه سهم فمات و سار علي بن سكمان إلى البصرة و ملكها و كاتبه اقسنقر البخاري صاحب عمان بالطاعة و أقترفوا به على أعماله و كان عند السلطان و طلبه أن يوليه البصرة فأبى و بقي ابن سكمان بالبصرة إلى أن بعث السلطان أقسنقر البخاري إلى البصرة سنة أربع عشرة فملكها علي بن سكمان (5/57)
استيلاء الكرج على تفليس
كان الكرج قديما يغيرون على أذربيجان و بلادران قال ابن الاثير و الكرج هم الخزر و قد بينا الصحيح من ذلك عند ذكر الأنساب و أن الخزر هم التركمان إلا أن يكون الكرج من بعض شعوبهم فيمكن و لما استفحل ملك السلجوقية أمسكوا عن الاغارة على البلاد المجاورة لهم فلما توفي السلطان محمد رجعوا إلى الغارة فكانت سراياهم و سرايا القفجاق تغير على البلاد ثم اجتمعوا و كانت بلد الملك طغرل و هي اران و نقجوان إلى أوس مجاورة لهم فكانوا يغيرون عليها إلى العراق لملك بغداد و نزل ابن صدقة فسار هو و أتابك كبغري و دبيس بن صدقة و أبي الغازي بن أرتق في ثلاثين ألفا إلى الكرج و القفجاق فاضطرب المسلمون و انهزموا و قتل منهم خلق و تبعهم الكفار عشرة فراسخ و عادوا عنهم و حاصروا مدينة تفليس و أقاموا عليها سنة و ملكوها عنوة سنة خمس عشرة ووصل صريخهم سنة ست عشرة إلى السلطان محمود بهمدان فسار لصريحهم و أقام بمدينة تبريز و انفد عساكره إلى الكرج فكان من أمرها ما يذكر إن شاء الله تعالى (5/58)
الحرب بين السلطان محمود و أخيه مسعود
قد تقدم مسير مسعود إلى العراق و موت أبيه السلطان محمد و ما تقرر بينهما من الصلح و رجوعه إلى الموصل بلده و أن السلطان محمودا زاده اذربيجان و لحق به قسيم الدولة البرسقي عندما طرده عن شحنة بغداد فأقطعه مسعود مراغة مضافة إلى الرحبة و كاتب دبيس حيوس بك أتابك مسعود يحرضه على بكبة البرسقي و أنه يباطن السلطان محمودا ووعده على ذلك بالاموال و حرضهم على الأمر لمسعود ليقع الاختلاف فيحصل له علو الكامة كما حصل لأبيه في فتنة بركيارق و محمد و شعر البرسقي بسعاية دبيس فخشي على نفسه و لحق بالسلطان محمود فقبله و أعلى محله ثم اتصل بالملك مسعود الاستاذ أبو اسمعيل الحسين بن علي الاصبهاني الطغرائي و كان ابنه أبو الوليد بن أبي اسمعيل يكتب الغري للملك مسعود فلما وصل أبوه استوزره مسعود و عزل أبا علي بن عمار صاحب صاحب طرابلس سنة ثلاث عشرة فأغري مسعودا بالخلاف على أخيه السلطان محمود فكتب إليهم السلطان بالترغيب و الترهيب و خاطبوا الملك مسعودا بالسلطان و ضربوا له النوب الخمس و اغزوا إليه السير وهو في خف من العسكر فسار إليهم في خمسة عشر ألفا و في مقدمته البرسقي و لقيهم بعقبة استراباذ ربيع الأول سنة عشرة فانهزم الملك مسعود و أصحابه و أسر جماعة من أعيانهم منهم الاستاذ أبو اسمعيل الطغرائي وزير الملك مسعود فأمر السلطان محمود بقتله و قال ثبت عندي فساد عقيدته لسنة من وزارته و كان كاتبا شاعرا يميل إلى صناعة الكيمياء و له فيها تصانيف معروفة و لما انهزم الملك مسعود لحق ببعض الجبال على اثني عشر فرسخا من المعركة فاختفى فيه مع غلمان صغار و بعث يستأمن من أخيه فأرسل إليه أقسنقر البرسقي يؤمنه و يجيء به إليه بعض الأمراء فحرضه على اللحاق بالموصل و اذربيجان و مكاتبة دبيس و معاودة الحرب فسار معه لذلك و جاء البرسقي إلى مكانه الأول فلم يجده فاتبعه إلى أن أدركه على ثلاثين فرسخا و أعلمه حال أخيه من الرضا عنه و أعاده فرجع و لقيه العساكر بأمر السلطان محمود و أنزله عند أمه ثم أحضره وهش له و بكى و خلطه بنفسه و ذلك لثمانية و عشرين يوما من الخطبة باذربيجان و أما حيوس بك الاتابك فافترق من السلطان من المعركة و سار إلى الموصل و جمع الغلال من سوادها و اجتمعت إليه العساكر و بلغه فعل السلطان مع أخيه فسار إلى الزاب موريا بالصيد ثم أجد السير إلى السلطان بهمدان فأمنه و أحسن إليه و بلغ الخبر بالهزيمة إلى دبيس و هو بالعراق فنهب البلاد و أخربها و بعث إليه السلطان فلم يصغ إلى كتابه (5/58)
ولاية اقسنقر البرسقي على الموصل ثم على واسط و شحنة العراق
و لما وصل حيوس بك إلى السلطان محمود بعثه إلى أخيه طغرل و أتابك كبغري فسار إلى كنجة و بقي أهل الموصل فوضى من غير وال و كان اقسنقر البرسقي قد أبلى في خدمة السلطان محمود ورد إليه أخاه مسعودا يوم الهزيمة فعرف له حق نصحه و حسن أثره فأقطعه الموصل و أعمالها و ما يضاف إليها كسنجار و الجزيرة فسار إليها سنة خمس عشرة و تقدم إلى سائر الامراء بطاعته و أمره بمجاهدة الافرنج و استرجاع البلاد منهم فوصل إلى الموصل و قام بتدبيرها و اصلاح أحوالها ثم أقطعه سنة ست عشرة بعدها مدينة واسط و أعمالها مضافة إلى الموصل و جعله شحنة بالعراق فاستخلف عماد الدين رنكي بن اقسنقر و بعثه إليها فسار إليها في شعبان من السنة (5/59)
مقتل حيوس بك و الوزير الشهيرمي
ثم إن السلطان بعد وصول حيوس بك بعثه لحرب أخيه طغرل كما قلناه و أقطعه أذربيجان فتنكر له الأمراء و أغروا به السلطان فقتله على باب هرمز في رمضان سنة عشر و أصله تركي من موالي السلطان محمد و كان عادلا حسن السيرة و لما ولى الموصل و الجزيرة و كان الأكراد بتلك الأعمال انتشروا و كثرت قلاعهم و عظم فسادهم فقصدهم و فتح كثيرا من قلاعهم كبلد البكاريه و بلد الزوزن و بلد النكوسة و بلد التخشيبة و هربوا منه في الجبال و الشعاب و المضايق و صلحت السابلة و أمن الناس و أما الوزير الكمال أبو طالب الشهيرمي فإنه برز مع السلطان دبيس إلى همدان و خرج في موكبه و ضاق الطريق فتقدم الموكب بين يديه فوثب عليه باطني و طعنه بسكين فأنفذه و اتبعه الغلمان فوثب عليه آخر جذبه عن سرجه و طعنه طعنات و شردهم الناس عنه فوثب آخر فجذيه و ذلك لأربع سنين من وزارته و كان سيء السيرة ظلوما غشوما كثير المصادر و لما قتل رفع السلطان ما كان أحدث من المكوس (5/60)
رجوع طغرل إلىطاعة أخيه السلطان محمود
قد ذكرنا عصيان طغرل على أخيه السلطان محمود بالري سنة ثلاث عشرة و أن السلطان محمود سار إليه و كبسه فلحق برجهان ثم لحق منها بكنجة و بلاد أران و معه أتابك كبغري فاشتدت شوكته و قصد التغلب على بلاد أذربيجان و هلك كبغري في شوال سنة خمس عشرة و لحق بأقسنقر الأرمني صاحب مراغة ليقيم له الأتابكية و حرضه على قتال السلطان محمود فسار معه إلى مراغة و مروا بأردبيل فامتنعت عليهم فساروا إلى هرمز و جاءهم الخبر هنالك بأن السلطان محمود بعث الأمير حيوس بك إلى أذربيجان و أقطعه البلاد و أنه وصل إلى مراغة في عسكر كثيف فساروا عن هرمز إلى خونج و انتقض عليهم و راسلوا الأمير بشيركين الذي كان أتابك طغرل أيام أبيه يستنجد به و كان كبغري الأتابك قبض عليه بعد السلطان محمد ثم أطلقه السلطان سنجر و عاد إلى أبهر و زنجان و كانت أقطاعه فأجاب داعيهم و سار أمامهم إلى أبهر و لم يتم أمرهم فراسلوا السلطان في الطاعة و عاد طغرل إلى أخيه و انتظم أمرهم (5/60)
مقتل وزير السلطان محمود
كان وزير السلطان محمود شمس الملك بن نظام الملك و كان حظيا عنده فكثرت سعاية أصحابه فيه و كان ابن عمه الشهاب أبو المحاسن وزير السلطان سنجر فتوفي و استوزر سنجر بعده أبا طاهر القمي عدوا لبني نظام الملك فأغرى السلطان سنجر حتى أمر السلطان محمود بنكبته فقبض عليه و دفعه الى طغرل فحبسه بقلعة جلجلال ثم قتله بعد ذلك و كان أخوه نظام الدين أحمد قد استوزره المسترشد و عزل به جلال الدين أبا علي بن صدقة فلما بلغه نكبة شمس الملك و مقتله عزل أخاه نظام الدين و أعاد ابن صدقة الى وزارته و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/61)
ظفر السلطان بالكرج
ثم وفد سنة سبع عشرة على السلطان محمود جماعة من أهل دنباوند و شروان يستصرخونه على الكرج و يشكون ما يلقون منهم فسار لصريخهم و لما تقارب الفئتان هم السلطان بالرجوع و أشار به وزيره شمس و تطارح عليه أهل شروان فأقام و باتوا على وجل ثم وقع الاختلاف بين الكرج و قفجاق و اقتتلوا ليلتهم و رحلوا منهزمين و عاد السلطان إلى همدان و الله تعالى أعلم (5/61)
عزل البرسقي عن شحنة العراق و ولاية برتقش الزكوي
كان الخليفة المسترشد قد وقعت بينه و بين دبيس بن صدقة حروب شديدة بنواحي المباركة من أطراف غانة و كان البرسقي معه و انهزم دبيس فيها هزيمة شنيعة كما مر في أخباره و قصد غزنة صريخا فلم يصرخوه فقصد المنتفق و سار بهم الى البصرة فدخلوها و استباحوها و قتلوا سلمان نائبها فأرسل الخليفة الى البرسقي بالنكير على إهمال أمر دبيس حتى فتك في البصرة فسار البرسقي إليه و هرب دبيس فلحق بالإفرنج و جاء معهم لحصار حلب فامتنعت فلحق بطغرل ابن السلطان محمد يستحثه لقصد العراق كما مر ذلك في أخبار دبيس و بقيت في نفس المسترشد عليه و لحق بها أمثالها فتنكر له و بعث إلى السلطان محمود في عزله فعزله و أمره بالعود إلى الموصل لجهاد الإفرنج و وصل نائب برتقش الى بغداد و أقام بها الشحنة و بعث السلطان ابنا صغيرا ليكون معه على الموصل و سار البرسقي به و وصل الموصل و قام بولايتها (5/62)
بداية أمر بني اقسنقر و ولاية عماد الدين زنكي على البصرة
كان عماد الدين زنكي في جملة البرسقي و لما أقطعه السلطان واسط بعث عليها زنكي فأقام فيها أياما ثم كان مسير البرسقي الى البصرة في أتباع دبيس فلما هرب دبيس عنها بعث البرسقي اليها عماد الدين زنكي فأقام بحمايتها و دفع العرب عنها ثم استدعاه البرسقي عندما سار إلى الموصل فضجر من تلون الأحوال عليه و اختار اللحاق بأصبهان فقدم عليه بأصبهان فأكرمه السلطان و أقطعه البصرة و عاد إليها سنة ثمان عشرة و الله تعالى أعلم (5/62)
استيلاء البرسقي على حلب
لما سار دبيس الى الإفرنج حرضه على حلب و أن ينوب فيها عنهم و وجدهم قد ملكوا مدين صور و طمعوا في بلاد المسلمين و ساروا مع دبيس فحاصروها حتى جهد أهلها الحصار و بها يومئذ تاس بن ابن أرتق فاستنجد بالبرسقي صاحب الموصل و شرط عليهم أن يمكنوه من القلعة و يسلموها الى نوابه و سار الى إنجادهم فأجفل عنهم الإفرنج و دخل إلى حلب فأصلح أمورها ثم سار الى كفر طاب فملكها من الإفرنج ثم سار إلى قلعة إعزاز من أعمال حلب و صاحبها جوسكين فحاصرها و سارت إليه عساكر الإفرنج فانهزم و عاد إلى حلب فخلف فيها ابنه مسعودا و عبر الفرات إلى الموصل (5/62)
مسير طغرل و دبيس إلى العراق
و لما ارتحل الإفرنج عن حلب فارقهم دبيس و لحق بالملك طغرل فتلقاه بالكرامة و الميرة و أغراه بالعراق و ضمن له ملكه فساروا لذلك سنة تسع عشرة و انتهوا الى دقوقا فكتب مجاهد الدين بهرام بن تكريت إلى المسترشد يخبرهم فتجهز للقائهم و أمر برتقش الزكوي أن يتجهز معه خامس صفر و انتهى إلى الخالص و عدل طغرل و دبيس إلى طريق خراسان ثم نزلوا رباط جلولاء و نزل الخليفة بالدسكرة و في مقدمته الوزير جلال الدين بن صدقة و سار دبيس الى جسر النهروان لحفظ المقابر و قد كان رأيه مع طغرل أن يسير طغرل إلى بغداد فيملكها و تقدم دبيس في انتظاره فقعد به المرض عن لحاقه و غشيتهم أمطار أثقلتهم عن الحركات و جاء دبيس الى النهروان طريحا من التعب و البرد و الجوع و اعترضوا ثلاثين حملا للخليفة جاءت من بغداد بالملبوس و المأكول فطعموا و أكلوا و ناموا في دفء الشمس و إذا بالمسترشد قد طلع عليهم في عساكره بلغه الخبر بأن دبيسا و طغرل خالفوه إلى بغداد فاضطرب عسكره و أجفلوا راجعين إلى بغداد فلقوا في طريقهم دبيسا كما ذكرنا على دبال غرب النهروان وقف الخليفة عليه فقبل دبيس الأرض و استعطف حتى هم الخليفة بالعفو عنه ثم وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن رأيه و وقف دبيس مع برتقش الزكوي يحادثه ثم شغل الوزير بمد الجسر للعبور فتسلل دبيس و لحق بطغرل و عاد المسترشد إلى بغداد و لحق طغرل و دبيس بهمدان فعاثوا في أعمالها و صادروا أهلها و خرج إليهم السلطان محمود فانهزموا بين يديه و لحقوا بالسلطان سنجر بخراسان شاكين من المسترشد برتقش الشحنة و الله أعلم بغيبه و أحكم (5/63)
مقتل البرسقي و ولاية ابنه عز الدين على الموصل
ثم إن المسترشد تنكر للشحنة برتقش و تهدده فلحق بالسلطان محمود في رجب سنة عشرين فأغراه بالمسترشد و خوفه غائلته و أنه تعود الحروب و ركب العيث و يوشك أن يمتنع عنك و يستصعب عليك فاعتزم السلطان على قصد العراق و بعث إليه الخليفة يلاطفه في الرد لغلاء البلاد و خرابها و يؤخره إلى حين صلاحها فصدق عنده حديث الزكوي و سار مجدا فعبر المسترشد بأهله و ولده و أولاد الخلفاء إلى الجانب الغربي في ذي القعدة راحلا عن بغداد و الناس باكون لفراقه و بلغ ذلك إلى السلطان فشق عليه و أرسل يستعطفه في العود إلى داره فشرط عليه الرجوع عن العراق في القوت كما شرط أولا فغضب السلطان و سار نحو بغداد و الخليفة بالجانب الغربي ثم أرسل خادمه عفيفا إلى واسط يمنع عنها نواب السلطان فسار إليه عماد الدين زنكي من البصرة و هزمه و فتك في عسكره قتلا و أسرا و جمع المسترشد السفن إليه و سد أبواب قصره و وكل حاجب الباب ابن الصاحب بدار الخلافة و وصل السلطان إلى بغداد في عشر من ذي الحجة و نزل باب الشماسية و أرسل المسترشد في العود و الصلح و هو يمتنع و جرت بين العسكرين مناوشة و دخل جماعة من عسكر السلطان إلى دار الخليفة و نهبوا التاج أول المحرم سنة إحدى و عشرين و خمسمائة فضج العامة لذلك و نادوا بالجهاد و خرج المسترشد من سرادقة ينادي بأعلى صوته و ضربت الطبول و نفخت البوقات و نصب الجسر و عبر الناس دفعة و عسكر السلطان مشتغلون بالنهب في دور الخلافة و الأمراء و كان في دار الخلافة ألف رجل كامنون في السرداب فخرجوا عند ذلك و نالوا من عسكر السلطان و أسروا جماعة من أمرائه و نهب العامة دور وزير السلطان و أمرائه و حاشيته و مثل منهم خلق و عبر المسترشد إلى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد و السواد و دفع السلطان و عسكره عن بغداد و حفر عليها الخنادق و اعتزموا على كبس السلطان فأخافهم أبو الهيجاء الكردي صاحب إربل ركب للقتال فلحق بالسلطان و وصل عماد الدين زنكي من البصرة في جيش عظيم في البر و البحر أذهل الناس برؤيته فحام المسترشد عن اللقاء و تردد الرسل بينهما فأجاب إلى الصلح و عفا السلطان عن أهل بغداد و أقام بها إلى عاشر ربيع الآخر و أهدى إليه المسترشد سلاحا و خيلا و أموالا و رحل إلى همدان و ولى زنكي بن اقسنقر شحنة بغداد ثقة بكفايته و استقامت أحواله مع الخليفة و أشار به أصحابه و رأوا أنه يرقع الخرق و يصلح الأمر فولاه على ذلك مضافا إلى ما بيده من البصرة و واسط و سار إلى همدان و قبض في طريقه على وزيره أبي القاسم علي بن الناصر الشادي اتهمه بممالأة المسترشد لكثرة سعيه قي الصلح فقبض عليه و استدعى شرف الدولة أنوشروان بن خالد من بغداد فلحقه بأصبهان في شعبان و استوزره عشرة أشهر ثم عزله و رجع إلى بغداد و بقي أبو القاسم محبوسا إلى أن جاء السلطان سنجر إلى الري فأطلقه و أعاده إلى وزارة السلطان محمود آخر اثنتين و عشرين (5/64)
وفاة عز الدين بن البرسقي و ولاية عماد الدين زنكي على الموصل و أعمالها ثم استيلاؤه على حلب
و لما استولى عز الدين على الموصل و أعمالها و استفحل أمره طمحت همته إلى الشام فاستأذن السلطان في المسير إليه و سار إلى دمشق و مر بالرحبة فحاصرها و ملكها ثم مات إثر ذلك و هو عليها و افترقت عساكره و شغلوا عن دفنه ثم دفن بعد ذلك و رجعت العساكر إلى الموصل و قام بالأمر مملوكه جاولي و نصب أخاه الأصغر و أرسل إلى السلطان يطلب تقرير الولاية له و كان الرسول في ذلك القاضي بهاء الدين أبو الحسن علي الشهرزوري و صلاح الدين محمد الباغسياني أمير حاجب البرسقي و اجتمعا بنصير الدين جعفر مولى عماد الدين زنكي و كان بينه و بين صلاح الدين سر فخوفهما جعفر ابن جاولي و حملهما على طلب عماد الدين زنكي و ضمن لهما عنه الولايات و الاقطاع فأجابوه و جاء بهما إلى الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد فقالا له إن الجزيرة و الشام قد تمكن منهما الإفرنج من حدود ماردين إلى عريش مصر و كان البرسقي يكفهم و قد قتل و ولده صغير و لابد للبلد ممن يضطلع بأمرها و يدفع عنها و قد خرجنا عن النصيحة إليكم فبلغ الوزير مقالتهما إلى السلطان فأحضرهما و استشارهما فذكر جماعة منهم عماد الدين زنكي و بذلا عنه مقربا إلى خزانة السلطان مالا جزيلا فولاه السلطان لما يعلم من كفايته و ولى مكانه شحنة العراق مجاهد الدين بهروز صاحب تكريت و سار عماد الدين زنكي فبدأ بالبوازيج و ملكها ثم سار إلى الموصل و تلقاه جاولي مطيعا و عاد إلى الموصل في خدمته فدخلها في رمضان و أقطع جاولي الرحبة و بعثه إليها و ولى نصير الدين جعفرا قلعة الموصل و سائر القلاع و جعل صلاح الدين محمد الباغسياني أمير صاحب و ولى بهاء الدين الشهرزوري قضاء بلاده جميعا و زاده أملاكا و أقطاعا و شركه في رأيه ثم سار إلى جزيرة ابن عمر و قد امتنع بها مماليك البرسقي فجد في قتالهم و كانت دجلة تحول بينه و بين البلد فعبر بعسكره الماء سبحا و استولى على المسافة التي بين دجلة و البلد و هزم من كان فيها من الحامية حتى أحجزهم بالبلد و ضيق حصارهم فاستأمنوا و أمنهم ثم سار إلى نصيبين و هي لحسام الدين تمرتاش ابن أبي الغازي صاحب ماردين فحاصرها و استنجد حسام الدين ابن عمه ركن الدولة داود بن سكمان بن أرتق صاحب كيفا فانجده بنفسه و أخذ في جمع العساكر و بعث تمرتاش ماردين إلى نصيبين يعرف العساكر بالخبر و أن العساكر واصلة إليهم عن خمسة أيام و كتبه في رقعة و علقها في جناح طائر فاعترضه عسكر زنجي و صادوه و قرأ زنكي الرفعة و عوض الخمسة أيام بعشرين يوما و أطلق الطائر بها إلى البلد فقرأوا الكتاب و سقط في أيديهم و استطالوا العشرين و استأمنوا لعماد الدين زنكي فأمنهم و ملك نصيبين و سار عنها إلى سنجار فملكها صلحا و بعث العساكر إلى الخابور فملكها ثم سار إلى حران و خرج إليه أهل البلد بطاعتهم و كانت الرها و سروج و الميرة و نواحيها للإفرنج و عليها جوسكين صاحب الرها فكاتب زنكي و هادنه ليتفرغ للجهاد بعد ثم عبر الفرات إلى حلب في المحرم سنة اثنتين و عشرين و قد كان عز الدين مسعود بن اقسنقر البرسقي لما سار عنها إلى الموصل بعد قتل أبيه استخلف عليها قرمان من أمرائه ثم عزله بآخر اسمه قطلغ ابه و كتب له إلى قرمان فمنعه إلا أن يرى العلامة التي بينه و بين عز الدين ابن البرسقي فعاد قطلغ إلى مسعود ليجيء بالعلامة فوجده قد مات بالرحبة فعاد إلى حلب و أطاعه رئيسها فضائل بن بديع و المقدمون بها و استنزلوا قرمان من القلعة على ألف دينار و أعطوه إياها و ملك قطلغ القلعة منتصف إحدى و عشرين ثم ساءت سيرته و ظهر ظلمه و جوره و كان بالمدينة بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار ابن أرتق و كان ملكها قبل و خلع عنها فدعاه الناس إلى البيعة و ثاروا بقطلغ فامتنع بالقلعة فحاصروه و جاء مهيار صاحب منبج و حسن صاحب مراغة لإصلاح أمرهم فلم يتفق و طمع الإفرنج في ملكها و تقدم جوسكين بعسكره إليها فدافعوه بالمال ثم وصل صاحب انطاكية فحاصرهم إلى آخر السنة و هم محاصرون القلعة فلما ملك عماد الدين زنكي الموصل و الجزيرة و الشام فأطاعوا و سار عبد الجبار و قطلغ إلى عماد الدين بالموصل و أقام أحد الأميرين بحلب حتى بعث عماد الدين زنكي صاحبه صلاح الدين محمد الباغسياني في عسكر فملك القلعة و رتب الأمور و ولى عليها و جاء عماد الدين بعساكره في أثره و ملك في طريقه منبج و مراغة ثم دخل حلب و أقطع أعمالها الأجناد و الأمراء و قبض على قطلغ ابه و سلمه لابن بديع فكحله فمات و استوحش ابن بديع فهرب إلى قلعة جعفر و أقام عماد الدين مكانه في رياسة حلب أبا الحسن علي بن عبد الرزاق (5/65)
قدوم السلطان سنجر إلى الري ثم قدوم السلطان محمود إلى بغداد
الموصل طغرل و دبيس إلى السلطان سنجر بخراسان حرضه دبيس على العراق و السلطان محمود قد اتفقا على الامتناع منه فسار سنجر و أخبر السلطان محمود باستدعائه فوافاه لأقرب وقت و أمر العساكر بتلقيه و أجلسه معه على التخت و أقام السلطان محمود عند إلى آخر اثنتين و عشرين ثم رجع سنجر إلى خراسان بعد أن أوصى محمود بدبيس و أعاده إلى بلده و رجع محمود إلى همذان ثم سار إلى العراق و خرج الوزير للقائه و دخل بغداد في تاسوعاء سنة ثلاث و عشرين ثم لحقه دبيس بمائة ألف دينار في ولاية الموصل و سمع بذلك زنكي و جاء إلى السلطان و حمل المائة ألف مع هدايا جليلة فخلع عليه و أعاده و سار منتصف السنة عن بغداد إلى همذان بعد أن ولى الحلة مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد (5/66)
وفاة السلطان محمود و ملك ابنه داود
ثم توفي السلطان محمود بهمذان في شوال سنة خمس و عشرين لثلاث عشرة سنة من ملكه بعد أن قبض على جماعة من أمرائه و أعيان دولته منهم عزيز الدولة أبو نصر أحمد بن حامد المستوفي و أبوشكين المعروف بشيركين بن حاجب و ابنه عمر فخافهم الوزير أبو القاسم الشابادي فأغرى بهم السلطان فنكبهم و قتلهم و لما توفي اجتمع الوزير أبو القاسم و الأتابك اقسنقر الإحمديلي و بايعوا لابنه داود و خطبوا له في جميع بلاد الجبل و أذربيجان و وقعت الفتنة بهمذان و سائر بلاد الجبل ثم سكنت و هرب الوزير إلى الري مستجيرا بالسلطان فأمر بها (5/67)
منازعة السلطان مسعود لداود ابن أخيه و استيلاؤه على السلطان بهمدان
لما هلك السلطان محمود سار مسعود بن جرجان إلى تبريز فملكها فسار داود من همذان في ذي القعدة سنة خمس و عشرين و حاصره بتبريز في محرم سنة ست و عشرين ثم اصطلحوا و تأخر داود عن الأمر لعمه مسعود من تبريز إلى همذان و كاتب عماد الدين زنكي صاحب الموصل يستنجده فوعده بالنصر و أرسل إلى المسترشد في طلب الخطبة ببغداد و كان داود قد أرسل في ذلك قبله ورد المسترشد الأمر في الخطبة إلى السلطان سنجر و دس إليه أن لا يأذن لواحد منهما و أن تكون الخطبة له فقط و حسن موقع ذلك عنده و سار السلطان مسعود إلى بغداد و سبقه إليها أخوه سلجوق شاه مع أتابك قراجا الساقي صاحب فارس و خوزستان و نزل في دار السلطان و استخلفه الخليفة لنفسه و لما سار السلطان مسعود أوعز إلى عماد الدين زنكي أن يسير إلى بغداد فسار من الموصل إليها و أنتهى السلطان مسعود إلى عباسة الخالص و برزت إليه عساكر المسترشد و سلجوق شاه و سار قراجا الساقي إلى مدافعة زنكي فدافعه على المعشوق فهزمه و أسر كثيرا من أصحابه و مر منهزما إلى تكريت و بها يومئذ نجم الدين أيوب أبو الأملاك الأيوبية فهيأ له المعابر و عبر دجلة إلى بلاده و سار السلطان مسعود من العباسة و قاتلت طلائعه طلائع أخيه سلجوق و بعث سلجوق يستحث قراجا بعد انهزام زنكي فعاد سريعا و تأخر السلطان مسعود بعد هزيمة زنكي و أرسل إلى المسترشد بأن عمه سنجر وصل إلى الري عازما على بغداد و يشير بمدافعته عن العراق و تكون العراق لوكيل الخليفة ثم تراسل القوم و اتفقوا على ذلك و تحالفوا عليه و أن يكون مسعود السلطان ولي العهد و دخلوا إلى بغداد فنزل مسعود ديار السلطان و سلجوق دار الشحنة و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق (5/67)
هزيمة السلطان مسعود و ملك طغرل أخيه
لما توفي السلطان محمود سار السلطان سنجر من خراسان إلى بلاد الجبل و معه طغرل ابن أخيه محمد و انتهى إلى الري ثم سار إلى همدان فسار مسعود لقتاله و معه قراجا الساقي و سلجوق شاه و قد كان الخليفة عزم أن لا يتجهز معهم فأبطأ فبعثوا إليه قراجا فسار إلى خانقين و أقام و قطعت خطبة سنجر من العراق و خالفهم إلى بغداد دبيس و زنكي و قد سمي إقطاعه لسنجر الحلة و زنكي ولاه شحنة بغداد فرجع المسترشد إلى بغداد لموافقتهما و سار السلطان و أخوه سلجوق شاه للقاء سنجر ثم سمعا بكثرة عساكره فتأخرا فسار في طلبهم يوما و ليلة ثم تراجعوا عند الدينور و كان مسعود يماطل باللقاء انتظارا للمسترشد فلم يجد بدا من اللقاء فالتقوا على النقيبة و حمل قراجا عليهم و تورط في المعركة و أصيب بجراحات ثم التفوا عليه و أسروه و انهزم من أصحاب مسعود قزل و قد كان واطأهم على الهزيمة فانهزم السلطان مسعود عند ذلك منتصف ستة و عشرين و قتل كثير من أكابر الأمراء و نزل سنجر في خيامهم و أحضر قراجا فقتله و جيء إليه بالسلطان مسعود فأكرمه و أعاده إلى كنجة و خطب للملك طغرل ابن أخيه في السلطنة و خطب له في جميع البلاد و استوزر له أبا القاسم الساباذي وزير السلطان محمود و عاد إلى نيسابور آخر رمضان سنة ست و عشرين و خمسمائة (5/68)
هزيمة السلطان داود و استيلاء طغرل بن محمد على الملك
لما ولى طغرل همذان و ولى عنه السلطان سنجر إلى خراسان و بلغه أن صاحب ما وراء النهر المرخان قد انتقض عليه فسار لإصلاحه و شغل بذلك فقام الملك داود بأذربيجان و بلاد كنجة و طلب الأمر لنفسه و جمع العساكر و سار إلى همذان و معه برتقش الزكوي و أتابك أقسنقر الأحمديلي و معه طغرل بن برسق و قد استقر ثم اضطرب عسكر داود و أحسوا من برتقش الزكوي بالفشل فنهب التركمان خيامه و هرب اقسنقر أتابك و انهزم في رمضان سنة ست و عشرين ثم قدم بغداد في ذي القعدة و معه أتابك اقسنقر فأكرمه الخليفة و أنزله بدار السلطان (5/69)
عود السلطان مسعود إلى الملك و هزيمة طغرل
قد تقدم لنا هزيمة السلطان مسعود من عمه سنجر و عوده إلى كنجة و ولاية طغرل السلطان ثم محاربة داود ابن أخيه له و انهزام داود ثم رجوع داود إلى بغداد فلما بلغ الخبر إلى مسعود جاء إلى بغداد و لقيه داود قريبا منها و ترجل له عن فرسه و دخلا بغداد في صفر سنة سبع و عشرين و نزل مسعود بدار السلطان و خطب له و لداود بعده و طلبا من السلطان عسكرا ليسير معهما إلى أذربيجان فبعث معهما العساكر إلى أذربيجان و لقيهم اقسنقر الاحمديلي في مراغة بالإقامة و الأموال و ملك مسعود بلاد أذربيجان و هرب بين يديه من كان بها من الأمراء و امتنعوا بمدينة أذربيجان فحاصرهم بها و ملكها عليهم و قتل منهم جماعة و هرب الباقون ثم سار إلى همذان لمحاربة أخيه طغرل فهزمه و ملك همذان في شعبان من السنة و لحق طغرل بالري و عاد إلى أصبهان ثم قتل اقسنقر الاحمديلي بهمذان غيلة و يقال إن السلطان مسعودا دس عليه من قتله ثم سار إلى حصار طغرل بأصبهان ففارقها طغرل إلى فارس و ملكها مسعود و سار في أثر طغرل إلى البيضاء فاستأمن إليه بعض أمراء طغرل فأمنه و خشي طغرل أن يستأمنوا إليه فقصد الري و قتل في طريقه وزيره أبا القاسم الساباذي في شوال من السنة و مثل به غلمان الأمير شيركين الذي سعى في قتله كما مر ثم سار الأمير مسعود يتبعه إلى أن تراجعا و دارت بينهما حرب شديدة و انهزم طغرل و أسر من أمرائه الحاجب تنكي و أتى بقرا و أطلقهما السلطان مسعود و عاد إلى همذان و الله تعالى أعلم (5/69)
عود الملك طغرل الى الجبل و هزيمة السلطان مسعود
و لما عاد مسعود من حرب أخيه طغرل بلغه انتقاض داود ابن أخيه محمود بأذربيجان فسار إليه و حاصره بقلعة فحصر جمع طغرل العساكر و تغلب على بلاده و سار إليه و استعمل بعض قواده فسار مسعود للقائه و لقيه عند قزوين و فارق مسعود الأمراء الذين استمالهم طغرل و لحقوا به فانهزم مسعود في رمضان سنة ثمان و عشرين و بعث إلى المسترشد يستأذنه في دخول بغداد فأذن له و كان أخوه سلجوق بأصبهان مع نائبه فيها البقش السلاحي فلما سمع بانهزامه سبقه إلى بغداد و أنزله المسترشد بدار السلطان و أحسن إليه بالأموال و وصل مسعود و أكثر أصحابه رجلا فوسع عليه الخليفة بالإنفاق و المراكب و الظهر و اللباس و الآلة و دخل دار السلطان منتصف شوال و أقام طغرل بهمذان (5/70)
وفاة طغرل و استيلاء مسعود على الملك
و لما وصل مسعود إلى بغداد حمل إليه المسترشد ما يحتاج إليه و أمره بالمسير إلى همذان لمدافعة طغرل و وعده بالمسير معه بنفسه فتباطأ مسعود عن المسير و اتصل جماعة من أمرائه بخدمة الخليفة ثم اطلع على مداخلة بعضهم لطغرل فقبض عليه و نهب ماله و ارتاب الآخرون فهربوا عن السلطان مسعود و بعث المسترشد في إعادتهم إليه فدافعه و وقعت لذلك بينهما وحشة فقعد المسترشد عن نصره بنفسه و بينما هم في ذلك وصل الخبر بوفاة أخيه طغرل في المحرم سنة تسع و عشرين فسار مسعود إلى همذان و استوزر شرف الدين أنوشروان بن خالد حمله من بغداد و أقبلت إليه العساكر فاستولى على همذان و بلاد الجبل اهـ (5/70)
فتنة المسترشد مع السلطان مسعود و مقتله و خلافة ابنه الراشد
قد تقدم لنا أن الوحشة وقعت عندما كان ببغداد بسبب أمرائه الذين اتصلوا بخدمة المسترشد ثم هربوا عنه إلى السلطان مسعود فلما سار السلطان مسعود إلى همذان بعد موت أخيه طغرل و ملكها استوحش منه جماعة من أعيان أمرائه منهم برتقش و قزل و قرا سنقر الخمارتكين والي همذان و عبد الرحمن بن طغرلبك و دبيس بن صدقة و ساروا إلى خوزستان ووافقهم صاحبها برسق بن برسق و استأمنوا إلى الخليفة فارتاب من دبيس و بعث إلى الآخرين بالأمان مع سديد الدولة بن الأنباري و ارتاب دبيس منهم أن يقبضوا عليه فرجع إلى السلطان مسعود و سار الآخرون إلى بغداد فاستحثوا المسترشد للمسير إلى قتال مسعود فأجابهم و بالغ في تكرمتهم و برز آخر رجب من سنة تسع و عشرين و هرب صاحب البصرة إليها و بعث إليه بالأمان فأبى فتكاسل عن المسير فاستحثوه و سهلوا له الأمر فسار في شعبان و لحق به برسق بن برسق و بلغ عدة عسكره سبعة آلاف و تخلف بالعراق مع خادمه إقبال ثلاثة آلاف و كاتبه أصحاب الاطراف بالطاعة و أبطأ في مسيره فاستعجلهم مسعود و أرسل إليه داود ابن محمود من أذربيجان يشير بقصد الدينور و المقام بها حتى يصل في عسكره فأبى و استمر في مسيره و بعث زنكي من الموصل عسكرا فلم يصل حتى تواقعوا و سار السلطان محمود إليهم مجدا فوافاهم عاشر رمضان و مالت مسيرة المسترشد إليه و انهزمت ميمنته و هو ثابت لم يتحرك حتى أخذ أسيرا و معه الوزير و القاضي و صاحب المحرر و ابن الأنباري و الخطباء و الفقهاء و الشهود فأنزل في خيمة و نهب مخيمه و حمل الجماعة أصحابه إلى قلعة ترجمان و رجع بقية الناس إلى بغداد و رجع السلطان إلى همذان و بعث الأمير بك ابه إلى بغداد شحنة فوصلها سلخ رمضان و معه عميد و قبضوا أملاك المسترشد و غلاتها و كانت بينهم و بين العامة فتنة قتل فيها من العامة و سار السلطان في شوال إلى مراغة و قد ترددت الرسل في الصلح على مال يؤديه المسترشد و أن لا يجمع العساكر و لا يخرج من داره لحرب ما عاش و أجابه السلطان و أذن له في الركوب و حمل الغاشية و فارق المسترشد بعض الموكلين به فهجم عليه جماعة من الباطنية فألحموه جراحا و قتلوه و مثلوا به جدعا و صلبا و تركوه سليبا في نفر من أصحابه قتلوهم معه و تبع الباطنية فقتلوا و كان ذلك منتصف ذي القعدة سنة ستة و عشرين لثمان عشرة سنة من خلافته و كان كاتبا بليغا شجاعا قرما و لما قتل بمراغة كتب السلطان مسعود إلى بك ابه شحنة بغداد بأن يبايع لابنه فبويع ابنه الراشد أبو جعفر منصور بعهده إليه لثمانية أيام من مقتله و حضر بيعته جماعة من أولاد الخلفاء و أبو النجيب الواعظ و أما إقبال خادم المسترشد فلما بلغه خبر الواقعة و كان مقيما ببغداد كما قدمناه عبر إلى الجانب الغربي و لحق بتكريت و نزل على مجاهد الدين بهروز (5/90)
فتنة الراشد مع السلطان مسعود
لما بويع الراشد بعث إليه السلطان مسعود برتقش الزكوي يطالبه بما استقر عليه الصلح مع أبيه المسترشد و هو أربعمائة ألف دينار فأنكر الراشد أن يكون له مال و إنما مال الخلافة كان مع المسترشد فنهب ثم جمع الراشد العساكر و قدم عليهم كجراية و شرع في عمارة السور و اتفق برتقش مع بك ايه على هجوم دار الخلافة و ركبوا لذلك في العساكر فقاتلهم عساكر الراشد و العامة و أخرجوهم عن البلد إلى طريق خراسان و سار بك ايه إلى واسط و برتقش إلى خرخس و لما علم داود بن محمود فتنة عمه مسعود الراشد سار من أذربيجان إلى بغداد في صفر سنة ثلاثين و نزل بدار السلطان و وصل بعده عماد الدين زنكي من الموصل و صدقة بن دبيس من الحلة و معه عش بن أبي العسكر يدبر أمره و يديره و كان أبوه دبيس قد قتل بعد مقتل المسترشد بأذربيجان و ملك هو الحلة ثم وصل جماعة من أمراء مسعود منهم برتقش بازدار صاحب فروق و البقش الكبير صاحب أصبهان و ابن برسق و ابن الاحمديلي و خرج للقائهم كجراية و الطرنطاي و كان إقبال خادم المسترشد قد قدم من تكريت فقبض عليه الراشد و على ناصر الدولة أبي عبد الله الحسن بن جهير فاستوحش أهل الدولة و ركب الوزير جلال الدين بن صدقة إلى لقاء عماد الدين زنكي فأقام عنده مستجيرا حتى أصلح حاله مع الراشد و استجار به قاضي القضاة الزينبي و لم يزل معه إلى الموصل و شفع في إقبال فأطلق و سار إليه ثم جد الراشد في عمارة السور و سار الملك داود لقتال مسعود استخلفه الراشد و استخلفه عماد الدين زنكي و قطعت خطبة مسعود من بغداد و ولى داود شحنة بغداد برتقش بازدار ثم وصل الخبر بأن سلجوق شاه أخا الأمير مسعود ملك واسط و قبض على الأمير بك ايه فسار الأمير زنكي لدفاعه فصالحه و رجع و عبر إلى طريق خراسان للحاق داود و احتشد العساكر ثم سار السلطان مسعود لقتالهم و فارق زنكي داود ليسير إلى مراغة و يخالف السلطان مسعود إلى همذان و برز الراشد من بغداد أول رمضان و سار إلى طريق خراسان و عاد بعد ثلاث و عزم على الحصار ببغداد و استدعى داود الأمراء ليكونوا معه عنده فجاءوا لذلك و وصلت رسل السلطان مسعود بطاعة الراشد و التعريض بالوعيد للأمراء المجتمعين عنده فلم يقبل طاعة من أجلهم و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/72)
حصار بغداد و مسير الراشد إلى الموصل و خلعه و خلافة المقتفى
ثم إن السلطان مسعودا أجمع المسير إلى بغداد و انتهى إلى الملكية فسار زين الدين علي من أصحاب زنكي حتى شارف معسكره و قاتلهم و رجع و نزل السلطان على بغداد و العيارون فأفسدوا سائر المحال ببغداد و انطلقت أيديهم و أيدي العساكر في النهب و دام الحصار نيفا و خمسين يوما و تأخر السلطان مسعود إلى النهروان عازما على العود إلى أصبهان فوصله طرنطاي صاحب واسط في سفن كثيرة فركب إلى غربي بغداد فاضطرب الأمراء و افترقوا و عادوا إلى أذربيجان و كان زنكي بالجانب الغربي فعبر إليه الراشد و سار معه إلى الموصل و دخل السلطان مسعود بغداد منتصف ذي القعدة فسكن الناس و جمع القضاة و الفقهاء و أوقفهم على يمين الراشد التي كتبها بخطه أني متى جمعت أو خرجت أو لقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر فأفتوا بخلعه و اتفق أرباب الدولة ممن كان ببغداد و من أسر مع المسترشد و بقي عند السلطان مسعود كلهم على ذمه و عدم أهليته على ما مر في أخباره بين أخبار الخلفاء وبويع محمد بن المستظهر ولقب المقتفي وقد قدمت هذه الأخبار بأوسع من ذلك ثم بعث السلطان العساكر مع قراسنقر لطلب داود فأدركته عند مراغة و قاتله فهزمه أذربيجان ومضى داود إلى خوزستان و اجتمع عساكر من التركمان و غيرهم فحاصر تستر و كان عمه سلجوق بواسط فسار إليه بعد أن أمره أخوه مسعود بالعساكر و لقي داود على تستر فهزمه داود ثم عزل السلطان وزيره شرف الدين أنوشروان بن خالد و استوزر كمال الدين أبا البركات بن سلامة من أهل خراسان ثم بلغه أن الراشد قد فارق الموصل فأذن للعساكر التي عنده ببغداد في العود إلى بلادهم و صرف فيهم صدقة بن دبيس صاحب الحلة بعد أن أصهر إليه في ابنته و قدم عليه جماعة من الأمراء الذين كانوا مع داود منهم البقش السلامي و برسق بن برسق صاحب تستر و سنقر الخمارتكين شحنة همذان فرضي عنهم و أمنهم و عاد إلى همذان سنة إحدى و ثلاثين (5/73)
الفتنة بين السلطان مسعود و بين داود و الراشد و هزيمة مسعود و مقتل الراشد
كان الأمير بوزابة صاحب خوزستان و الأمير عبد الرحمن طغرلبك صاحب خلخال و الملك داود ابن السلطان محمود خائفين من السلطان فاجتمعوا عند الأمير منكبرس صاحب فارس و بلغهم مسير الراشد من الموصل إلى مراغة فراسلوه في أن يجتمعوا عليه و يردوه إلى خلافته فأجابهم و بلغ الخبر إلى السلطان مسعود فسار إليهم في شعبان سنة اثنتين و ثلاثين و أوقع بهم و أخذ منكبرس أسيرا فقتله و افترقت عساكره للنهب فانفرد بوزابة و طغرلبك و صدقا الحملة عليه فانهزم و قبض على جماعة من الأمراء مثل صدقة بن دبيس صاحب الحلة و كافله غبتر ابن أبي العساكر و ابن أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان و حبسهم بوزابة حتى تحقق قتل منكبرس و لحق السلطان مسعود بأذربيجان منهزما و سار داود إلى همذان فملكها و وصل اليه الراشد هنالك و أشار بوزابة و كان كبير القوم بالمسير إلى فارس فساروا معه و استولى عليها و ملكها و لما علم سلجوق شاه و هو بواسط أن أخاه السلطان مسعود أمضى إلى أذربيجان سار هو إلى بغداد ليملكها و دافعه البقش الثحت و نظم الخادم أمير الحاج و ثار العيارون بالبلدان و أفحشوا في النهب فلما رجع الشحنة استأصل شأفتهم و أخذ المستورين بجنايتهم فجلا الناس عن بغداد إلى الموصل و غيرها و لما قتل صدقة بن دبيس أقر السلطان مسعود أخاه محمدا على الحلة و معه مهلهل بن أبي العساكر أخوعش المقتول كما مر في أخباره ثم لما ملك بوزابة فارس رجع مع الراشد و الملك داود و معهما خوارزم شاه إلى خوزستان و خربوا الجزيرة فسار إليهم مسعود ليمنعهم عن العراق فعاد الملك داود إلى فارس و خوارزم شاه إلى بلده و سار الراشد إلى أصبهان فثار به نفر من الخراسانية كانوا في خدمته فقتلوه عن القائلة في خامس عشر رمضان من السنة و دفن بظاهر أصبهان ثم قبض السلطان آخر السنة على وزيره أبي البركات بن سلامة الدركريني و استوزر بعده كمال الدين محمد بن الخازن و كان نبيها حسن السيرة فرفع المظالم و أزال المكوس و أقام وظائف السلطان و جمع له الأموال و ضرب على أيدي العمال و كشف خيانتهم فثقل عليهم و أوقعوا بينه و بين الأمراء فبالغوا في السعاية فيه عند السلطان و تولى كبرها قراسنقر صاحب أذربيجان فإنه بعث إلى السلطان يتهدده بالخروج عن طاعته فأشار على السلطان خواصه بقتله خشية الفتنة فقتله على كره برأسه إلى قراسنقر فرضي و كان قتله سنة ثلاث وثلاثين و خمسمائة لسبعة أشهر من وزارته و استوزر بعده أبا العز طاهر بن محمد اليزدجردي وزير قراسنقر و لقب عز الملك و ضاقت الأمور على السلطان و أقطع البلاد للأمراء ثم قتل السلطان البقش السلاحي الشحنة بما ظهر منه من الظلم و العسف فقبض عليه و حبسه بتكريت عند مجاهد الدين بهروز ثم أمر بقتله فلما قرب للقتل ألقى نفسه في دجلة فمات و بعث برأسه إلى السلطان فقدم مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد فحسن أثره ثم عزله السلطان سنة ست و ثلاثين و ولى فيها قرلي أميرا آخرا من موالي السلطان محمود و كانت له يزدجر و البصرة فأضيف له إليهما و الله سبحانه و تعالى أعلم بغيبه (5/73)
فتنة السلطان سنجر مع خوارزم شاه
و هو أول بداية بني خوارزم قد تقدم لنا ذكر أولية محمد خوارزم شاه و هو محمد بن أبي شنتكين و أن خوارزم شاه لقب له و أن الامير داود حبشي لما ولاه بركيارق خراسان و قتله إكنجي ولى محمد بن أبي شنتكين و ولى بعده ابنه أتسز فظهرت كفاءته و قربه السلطان سنجر و استخلصه و استظهر به في حروبه فزاده ذلك تقدما و رفعة و استفحل ملكه في خوارزم و نمي للسلطان سنجر أنه يريد الاستبداد فسار إليه سنة ثلاث و ثلاثين و برز أتسز و لقيه في التعبية فلم يثبت و انهزم و قتل من عسكره خلق و قتل له ابن فحزن عليه حزنا شديدا و ملك سنجر خوارزم و أقطعها غياث الدين سليمان شاه ابن أخيه محمد و رتب له وزيرا و أتابك و حاجبا و عاد إلى مرو منتصف السنة فخالفه أتسز إلى خوارزم و هرب سليمان شاه و من معه إلى سنجر و استولى أتسز على خوارزم و كان من أمره ما يذكر بعد إن شاء الله تعالى (5/75)
استيلاء قراسنقر صاحب أذربيجان على بلاد فارس
ثم جمع أتابك قراسنقر صاحب أذربيجان و برز طالبا ثأر أبيه الذي قتله بوزابة في المصاف كما مر و أرسل السلطان مسعود في قتل وزيره الكمال فقتله كما مر فانصرف عنه إلى بلاد فارس و تحصن عنه بوزابة في القلعة البيضاء و وطىء قراسنقر البلاد و ملكها و لم يمكنه مقام فسلمها لسجلوق شاه ابن السلطان محمود و هو أخو السلطان مسعود و عاد إلى أذربيجان فنزل بوزابة من القلعة سنة أربع و ثلاثين و هزم سلجوق شاه و أسره و حبسه ببعض قلاعه و استولى على البلاد ثم هلك قراسنقر صاحب أذربيجان واران بمدينة اردبيل و كان من مماليك طغرل و ولى مكانه جاولي الطغرلي و الله سبحانه ولى التوفيق
مسير جهان دانكي إلى فارس
ثم أمر السلطان سنة خمس و ثلاثين الأمير اسمعيل جعان دانكي فسار إليها و منعها مجاهد الدين بهروز من الوصول و استعد لذلك بخسف المعابر و تغريقها فقصد الحلة فمنعها أيضا فقصد واسط فقاتله طرنطاي و انهزم و دخل واسط و نهبها و نهب النعمانية و ما إليها و اتبعهم طرنطاي إلى البطيحة ثم فارقه عسكره إلى طرنطاي فلحق بتستر و كتب اسمعيل إلى السلطان فعفا عنه (5/75)
هزيمة السلطان سنجر إمام الخطا و استيلاؤهم على ما وراء النهر
و تلخيص هذا الخبر من كتاب ابن الأثير أن أتسز بن محمد ملك خوارزم و استقر بها فبعث إلى الخطا و هم أعظم الترك فيما وراء النهر و أغراهم بمملكة السلطان سنجر و استحثهم لها فساروا في ثلثمائة ألف فارس و سار سنجر في جميع عساكره و عبر إليهم النهر و لقيهم سنة ست و ثلاثين و اقتتلوا أشد قتال ثم انهزم سنجر و عساكره و قتل منهم مائة ألف فيهم أربعة آلاف امرأة و أسرت زوجة السلطان سنجر و لحق سنجر بترمذ و سار منها إلى بلخ و قصد أتسز مدينة مرو فدخلها مراغما للسلطان و فتك فيها و قبض على جماعة من الفقهاء و الأعيان و بعث السلطان سنجر إلى السلطان مسعود يأذن له في البصرة و في الري ليدعوه إن احتاج إليه فجاء عباس صاحب الري بذلك إلى بغداد و سار السلطان مسعود إلى الري امتثالا لأمر عمه سنجر قال ابن الأثير و قيل إن بلاد تركستان و هي كاشغر و بلاد سامسون و جبى و طراز و غيرها مما وراء النهر كانت بيد الخانية و هم مسلمون من نسل مراسيان ملك الترك المعروف خبره مع ملوك الكينية و أسلم جدهم الأول سبق قراخان لأنه رأى في منامه أن رجلا نزل من السماء و قال له بالتركية ما معناه أسلم تسلم في الدنيا و الآخرة و أسلم في منامه ثم أسلم في يقظته و لما مات ملك مكانه موسى بن سبق و لم يزل الملك في عقبه إلى أرسلان خان بن سليمان بن داود ابن يقرخان بن ابراهيم طغاج خان بن ايلك نصر بن أرسلان بن علي بن موسى بن سبق فخرج عليه قردخان و انتزع الملك منه ثم نصر سنجر قردخان و خرج بعد ذلك خوارزم و نصره السلطان سنجر منهم و أعاده إلى ملكه و كان في جنده نوع من الأتراك يقال لهم القارغلية و الأتراك الغزية الذين نهبوا خراسان على ما نذكره بعد و هم صنفان صنف يقال لهم حق و أميرهم طوطي بزداديك و صنف يقال لهم برق و أميرهم برغوث بن عبد الحميد
و كان لأرسلان نصر خان شريف يصحبه من أهل سمرقند و هو الأشرف بن محمد بن أبي شجاع العلوي فحمل ابن أرسلان نصر خان و طلبوا انتزاع الملك منه فاستصرخ السلطان سنجر فعبر إليه في عساكره سنة أربع و عشرين و خمسمائة و انتهى إلى سمرقند فهرب القارغلية أمامه و عاد إلى سمرقند فقبض على أرسلان خان و حبسه ببلخ فمات بها و ولى على سمرقند مكانه قلج طمقاج أبا المعالي الحسن بن علي بن عبد المؤمن و يعرف بحسن تكر من أعيان بيت الخانية إلا أن أرسلان خان أطرحه فولاه سنجر و لم تطل أيامه فولى بعده محمود بن أرسلان خان و أبوه هو الذي ملك سمرقند من يده و هو ابن أخت سنجر و كان في سنة اثنتين و عشرين و خمسمائة قد خرج كوهر خان من الصين إلى حدود كاشغر في جموع عظيمة و كوهر الأعظم بلسانهم و خان السلطان
فمنعاه أعظم ملك و لقيه صاحب كاشغر أحمد بن الحسن الخان فهزمه و قد كان خرج قبله من الصين أتراك الخطا و كانوا في خدمة الخانية أصحاب تركسان و كان أرسلان خان محمد بن سليمان ينزلهم على الدروب بينه و بين الصين مسالح و لهم على ذلك جرايات و إقطاعات و سخط عليهم بعض السنين و عاقبهم بما عظم عليهم فطلبوا فسيحا من البلاد يأمنون فيه من أرسلان خان لكثرة ما كان يغزوهم و وصفت لهم بلاد سامسون فساروا إليها و لما خرج كونان من الصين ساروا إليه و اجتمعوا عليه ثم ساروا جميعا إلى بلاد ما وراء النهر و لقيهم الخان محمود بن ارسلان خان محمد في حدود بلاده في رمضان سنة إحدى و ثلاثين فهزموه و عاد إلى سمرقند و عظم الخطب على أهلها و أهل بخارى و استمد محمود السلطان سنجر و ذكرنا ما لقي السلطان من العنت و اجتمع عنده ملوك خراسان و ملك سجستان من بني خلف و ملك غزنة من الغوريين و ملك مازندران و عبر النهر للقاء الترك في أكثر من مائة ألف و ذلك لآخر خمس و ثلاثين و خمسمائة و شكا إليه محمود خان من القارغلية فقصدهم و استجاروا بكوهر خان ملك الصين فكتب إلى سنجر بالشفاعة فيهم فلم يشفعه و كتب إليه يدعوه للاستلام و يتهدده بكثرة العساكر فأهان الرسول و زحف للقاء سنجر و التقى الجمعان بموضع يسمى قطران خامس قطران صفر سنة ست و ثلاثين و أبلى القارغلية من الترك و صاحب سجستان من المسلمين ثم انهزم المسلمون فقتل كثير منهم و أسر صاحب سجستان و الأمير قماج و زوجة السلطان سنجر فأطلقهم كوهرخان و مضى السلطان سنجر منهزما و ملك الترك الكفار و الخطا بلاد ما وراء النهر إلى أن مات كوهرخان ملكهم سنة سبع و ثلاثين و وليت بعده ابنته ثم ماتت قريبا و ملكت أمها من بعدها و هو زوجة كوهرخان و ابنه محمد و صار ما وراء النهر بيد الخطا إلى أن غلبهم عليه عماد الدين محمد خوارزم شاه سنة اثنتين عشرة و ستمائة (5/76)
أخبار خوارزم شاه بخراسان و صلحه مع سنجر
و لما عاد السلطان منهزما سار خوارزم شاه إلى سرخس في ربيع سنة ست و ثلاثين فأطاعه ثم إلى مرو الشاهجان فشفع فيهم الإمام أحمد الباخرزي و نزل بظاهرها و بينما هو قد استدعى أبا الفضل الكرماني و أعيان أهلها للشورى ثار عامة البلد و قتلوا من كان عندهم من جنده و امتنعوا فطاولها و دخلها عنوة و قتل كثيرا من علمائها ثم رجع في شوال من السنة إلى نيسابور و خرج إلى علماؤها و زهادها يسألون معافاتهم مما نزل بأهل مرو فأعفاهم و استصفى أصحاب السلطان و قطع خطبة سنجر و بعث عسكرا إلى أعمال صغد فقاتلوهم أياما و لم يطق سنجر مقاومته لمكان الخطا و جوارهم له سار السلطان سنجر سنة ثمان و ثلاثين لقتال خوارزم و حاصرها أياما و كاد يملكها و اقتحمها بعض أمرائه يوما فدافعه أتسز بعد حروب شديدة ثم أرسل أتسز إلى سنجر بالطاعة و العود إلى ما كان عليه فقبله و عاد سنة ثمان و ثلاثين (5/78)
صلح زنكي مع السلطان مسعود
ثم وصل السلطان مسعود سنة ثمان و ثلاثين إلى بغداد عادته فتجهز لقصد الموصل و كان يحمل لزنكي جميع ما وقع من الفتن فبعث إليه زنكي يستعطفه مع أبي عبد الله بن الأنباري و حمل معه عشرين ألف دينار و ضمن مائة ألف على أن يرجع عنه فرجع و انعقد الصلح بينهما و كان مما رغب السلطان في صلحه أن ابنه غازي بن زنكي هرب من عند السلطان خوفا من أبيه فرده إلى السلطان و لم يجتمع به فوقع ذلك من السلطان أحسن موقع و الله تعالى أعلم (5/78)
انتقاض صاحب فارس و صاحب الري
كان بوزابة صاحب فارس و خوزستان كما قدمنا فاستوحش من السلطان مسعود فانتقض سنة أربعين و خمسمائة و بايع لمحمد ابن محمود و هو ابن أخي السلطان مسعود و سار إلى مامشون و اجتمع بالأمير عباس الري و وافقه على شأنه و اتصل به سليمان شاه أخو السلطان مسعود و تغلبوا على كثير من بلاده فسار إليهم من بغداد في رمضان من السنة و معه الأمير طغابرك حاجبه له التحكم في الدولة و الميل إلى القوم و استخلفه على بغداد الأمير مهلهل و نصير أمير الحاج و جماعة من غلمان بهروز و سار فلما تقاربوا للحرب نزع السلطان شاه عنهم إلى أخيه مسعود و سعى عبد الرحمن في الصلح فانعقد بينهما ما أحبه القوم و أضيف إلى عبد الرحمن ولاية أذربجيان واران إلى خلخال عوضا من جاولي الطغرلي و استوزر أبا الفتح بن دارست وزير بوزابة و قد كان السلطان سنة تسع و ثلاثين قبض على وزيره اليزدجردي و استوزر مكانه المرزبان بن عبد الله بن نصر الأصبهاني و سلم إليه اليزدجردي و استصفى أمواله فلما كان هذه السنة و فعل بوزابة في صلح القوم ما فعل اعتضد بهم على مقامه عند السلطان و تحكم عليه و عزل وزيره و استوزر له أبا الفتح هذا (5/78)
مقتل طغابرك و عباس
قد قدمنا أن طغابرك و عبد الرحمن تحكما على السلطان و استبدا عليه ثم آل أمره إلى أن منعا بك أرسلان المعروف بابن خاص بك بن البتكري من مباشرة السلطان و كان تربيته و خاصا به و نجي خلوته و تجهز طغابرك لبعض الوجوه فحمله في جملته فأسر السلطان إلى بك ارسلان الفتك بطغابرك و داخل رجال العسكر في ذلك فأجاب منهم زنكي جاندار أن يباشر قتله بيده و وافق بك ارسلان جماعة من الأمراء و اعترضوا له في موكبه فضربه الجاندار فصرعه عن فرسه و أجهز عليه ابن خاص بك و وقف الأمراء الذين واطؤه على ذلك دون الجاندار فمنعوه و كان ذلك بظاهر صهوة و بلغ الخبر إلى السلطان مسعود ببغداد و معه عباس صاحب الري في جيش كثيف فامتعض لذلك و نكره فداراه السلطان حتى سكن و داخل بعض الأمراء في قتله فأجابوه و تولى كبر ذلك البقش حروسوس للحف و أحضر السلطان عباسا و أدخله في داره و هذان الأميران عنده و قد أكمنوا له في بعض المخادع رجالا و عدلوا به إلى مكانهم فقتلوه و نهبت خيامه و أصاخت البلاد لذلك ثم سكنت و كان عباس من موالي السلطان محمود و كان عادلا حسن السيرة و له مقامات حسان في جهاد الباطنية و قتل في ذي القعدة سنة إحدى و أربعين ثم حبس السلطان أخاه سليمان شاه في قلعة تكريت و سار عن بغداد إلى أصبهان و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق (5/79)
مقتل بوازبة صاحب فارس
قد تقدم لنا أن طغابرك كان مستظهرا على السلطان بعباس صاحب الري و بوزابة صاحب فارس و خوزستان فلما قتل طغابرك و امتعض له عباس قتل اثره و انتهى الخبر إلى بوزابة فجمع العساكر و سار إلى اصبهان سنة اثنتين و أربعين فحاصرها و بعث عسكرا آخر لحصار همذان و آخر إلى قلعة الماهكي من بلاد اللحف و كان بلاد اللحف من قلاع البقش كوزحر فسار إليها و دفعهم عنها ثم سار بوزابة عن اصبهان لطلب السلطان مسعود فامتنع و تراجفا بمرج مزاتكن و اشتد القتال بينهما و كبا الفرس ببوزابة و سيق إلى السلطان فقتل بين يديه و قيل أصابه سهم فسقط ميتا و انهزمت عساكره و كان هذا الحرب من أعظم الحروب بين السلجوقية (5/80)
انتقاض الأمراء على السلطان
و لما قتل طغابرك و عباس و بوزابة اختص بالسلطان ابن خاص بك لميله إليه و اطرح بقية الأمراء فاستوحشوا و ارتابوا بأنفسهم أن يقع بهم ما وقع بالآخرين ففارقوه و ساروا نحو العراق أبو ركن المسعودي صاحب كنجة واران و البقش كوزحر صاحب الجبل و الحاجب خريطاي المحمودي شحنة واسط و ابن طغابرك و الركن و قرقوب و معهم ابن أخي السلطان و هو محمد بن محمود و انتهوا إلى حران فاضطرب الناس ببغداد و غلت الأسعار و بعث إليهم المقتفي بالرجوع فلم يرجعوا و وصلوا إلى بغداد في ربيع الآخر من سنة ثلاث و أربعين و نزلوا بالجانب الشرقي و هرب أجناد مسعود شحنة بغداد إلى تكريت و وصل إليهم علي بن دبيس صاحب الجبلة و نزل بالجانب الغربي و جمع الخليفة العساكر ثم قاتل العامة عساكر الأمراء فاستطردوا لهم ثم كروا عليهم فملؤا الارض بالقتلى ثم جاست خيولهم خلال الديار فنهبوا و سبوا ثم جاؤا مقايل التاج يعتذرون و رددوا الرسل إلى الخليفة سائر يومهم ثم ارتحلوا من الغد إلى النهر وان فعاثوا و عاد مسعود من بلاد تكريت إلى بغداد ثم افترق الأمراء و فارقوا العراق ثم عاد البقش كوزحر و الطرنطاي و ابن دبيس سنة أربع و أربعين و معهم ملك شاه بن محمود و هو ابن أخي السلطان و طلبوا من الخليفة الخطبة لملك شاه فأبى و جمع العساكر و شغل بما كان فيه من أمر عم السلطان سنجر و ذلك أن السلطان سنجر بعث إليه يلومه في تقديم ابن خاص بك و يأمره بابعاده و تهدده فغالطه و لم يفعل فسار إلى الري فبادر إليه مسعود و ترضاه فرضي عنه و لما علم البقش كوزحر مراسلة المقتفي لمسعود نهب النهروان و قبض على علي بن دبيس و سار السلطان بعد لقاء عمه إلى بغداد فوصلها منتصف شوال سنة أربع و أربعين فهرب الطرنطاي إلى النعمانية و رحل البقش إلى النهروان بعد أن أطلق علي بن دبيس فجاء إلى السلطان و اعتذر فرضي عنه (5/80)
وفاة السلطان مسعود و ولاية ملك شاه بن أخيه محمود ثم أخيه محمد من بعده
ثم توفى السلطان مسعود بهمذان في رجب منتصف سبع و أربعين لأثنتين و عشرين سنة من طلبه الملك و به كمل استفحال ملك السلجوقية و ركب الخمول دولتهم بعده و كان عهد إلى ملك شاه بن أخيه محمود فلما توفى بايع له الأمير ابن خاص بك و أطاعه العسكر و انتهى خبر موته إلى بغداد فهرب الشحنة بلاك إلى تكريت و أمر المقتفى بالحوطة على داره و دور أصحاب السلطان مسعود ثم بعث السلطان ملك شاه عسكر إلى الجبلة مع سلادكرد من أمرائه فملكها و سار إليه بلاك الشحنة فخادعه حتى استمكن منه فقبض عليه و غرقه و استبد بلاد الشحنة بالجبلة و جهز المقتفي العساكر مع الوزير عون الدين بن عبيرة إلى الجبلة و بعث عساكرا إلى الكوفة و واسط فملكها و وصلت عساكر السلطان ملك شاه فملكوها و سار إليها الخليفة بنفسه فارتجعها منهم و سار منها إلى الجبلة ثم إلى بغداد آخر ذي القعدة من السنة ثم إن ابن خاص بك طمع في الانفراد بالأمر فاستدعى محمد بن محمود من خوزستان فأطعمه في الملك ليقبض عليه و على أخيه ملك شاه فقبض على ملك شاه أولا لستة أشهر من ولايته و وصل محمد في صفر من سنة ثمان و أربعين فأجلسه على التخت و خطب له بالسلطنة و حمل إليه الهدايا و قد سعى للسلطان محمد بما انطوى عليه ابن خاص بك فلما باكره صبيحة وصوله فتك به و قتله و قتل معه زنكي الجاندار قاتل طغابرك و أخذ من أموال ابن خاص بك كثيرا و كان صبيا كما بينا اتصل بالسلطان مسعود و تنصح له فقدمه على سائر العساكر و الأمراء و كان أنوغري التركي المعروف بشملة في جملة ابن خاص بك و من أصحابه و نهاه عن الدخول إلى السلطان محمد فلما قتل ابن خاص بك نجا شملة إلى خوزستان و كان له بها بعد ذلك ملك و تعالى أعلم بغيبه و أحكم (5/81)
تغلب الغز على خراسان و هزيمة السلطان سنجر و أسره
كان هؤلاء الغز فيما وراء النهر و هم شعب من شعوب الترك و منهم كان السلجوقية أصحاب هذه الدولة و بقوا هنالك بعد عبورهم و كانوا مسلمين فلما استولى الخطا على ملك الصين و على ما وراء النهر حجر هؤلاء الغز إلى خراسان و أقاموا بنواحي بلخ و كان لهم من الأمراء محمود و دينار و بختيار و طوطي و ارسلان و معز و كان صاحب بلخ الأمير قماج فتقدم إليهم أن يبعدوا عن بلخ فصانعوه فتركهم و كانوا يعطون الزكاة و يؤمنون السابلة ثم عاد إليهم في الانتقال فامتنعوا و جمعوا فخرج إليهم في العساكر و بذلوا له مالا فلم يقبل و قاتلوه فهزموه و قتلوا العسكر و الرعايا و الفقهاء و سبوا العيال و نجا قماج إلى مرو و بها السلطان سنجر فبعث إليهم يتهددهم و يأمرهم بمفارقة بلاده فلاطفوه و بذلوا له فلم يقبل و سار إليهم في مائة أل فهزموه و أثخنوا في عسكره و قتل علاء الدين قماج و أسروا السلطان سنجر و معه جماعة من الأمراء فقتلوا الأمراء و استبقوا السلطان سنجر و بايعوه و دخلوا معه إلى مرو فطلب منه بختيار اقطاعها فقال هي كرسي خراسان فسخروا منه ثم دخل سنجر خانقاه فقسط على الناس و أطرهم و عسفهم و علق في الاسواق ثلاث غرائر و طالبهم بملئها ذهبا فقتله العامة و دخل الغز نيسابور و دمروها تدميرا و قتلوا الكبار و الصغار و أحرقوها و قتلوا القضاة و العلماء في كل بلد و لم يسلم من خراسان غير هراة و سبستان لحصانتهما و قال ابن الاثير عن بعض مؤرخي العجم أن هؤلاء الغز انتقلوا من نواحي التغرغر من أقاصي الترك إلى ما وراء النهر أيام المقتفي و أسلموا و استظهر بهم المقنع الكندي على محارقه و شعوذته حتى تم أمره فلما سارت إليه العساكر خذلوه و أسلموه و فعلوا مثل ذلك مع الملوك الخانية ثم طردهم الأتراك القارغلية عن اقطاعهم فاستدعاهم المير زنكي بن خليفة الشيباني المستولي على حدود طخارستان و أنزلهم بلاده و استظهر بهم على قماج صاحب بلخ و سار بهم لمحاربته فخذلوه لأن قماج كان استمالهم فانهزم زنكي و أسر هو و ابنه و قتلهما قماج و أقطع الغز في بلاده فلما سار الحسين بن الحسين الغوري إلى بلخ برز إليه قماج و معه هؤلاء الغز فخذلوه و نزعوا عنه إلى الغوري حتى ملك بلخ فسار السلطان سنجر إلى بلخ و هزم الغوري و استردها و بقي الغز بنواحي طخارستان و في نفس قماج حقد عليهم فأمرهم بالانتقال عن بلاده فتألفوا و تجمعوا في طوائف من الترك و قدموا عليهم أرسلان بوقاء التركي و لقيهم قماج فهزموه و أسروه و ابنه أبا بكر و قتلوهما و استولوا على نواحي بلخ و عاثوا فيها و جمع السلطان سنجر و في مقدمته محمد بن أبي بكر بن قماج المقتول و المؤيد ابنه في محرم سنة ثمان و أربعين و جاء السلطان سنجر على أثرهم و بعثوا إليه بالطاعة و الأموال فلم يقبل منهم و قاتلهم فهزموه إلى بلخ ثم عاود قتالهم فهزموه إلى مرو و اتبعوه فهرب هو و عسكره من مرو رعبا منهم و دخلوا البلد و أفشحوا فيه قتلا و نهبا و قتلوا القضاة و الأئمة و العلماء و لما خرج سنجر من مرو و أسروه و أجلسوه على التخت على عادته و آتوه طاعتهم ثم عاودوا الغارة على مرو فمنعهم أهلها و قاتلوهم ثم عجزوا و استسلموا فاستباحوها أعظم من الاولى و لما أسر سنجر فارقه جميع أمراء خراسان و وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك و وصلوا إلى نيسابور و استدعوا سليمان شاه بن السلطان محمود و خطبوا له بالسلطان في منتصف السنة و اجتمعت عليه عساكر خراسان و ساروا لطلب الغز فبارزوهم على مرو و انهزمت العساكر رعبا منهم و قصدوا نيسابور و الغز في اتباعهم و مروا بطوس فاستباحوها و قتلوا حتى العلماء و الزهاد و خربوا حتى المساجد ثم ساروا إلى نيسابور في شوال سنة تسع و أربعين ففعلوا فيها أفحش من طوس حتى ملؤا البلاد من القتلى و تحصن طائفة بالجامع الأعظم من العلماء و الصالحين فقتلوهم عن آخرهم و أحرقوا خزائن الكتب و فعلوا مثل ذلك في جوين و اسفراين فحاصروهما و اقتحموهما مثل ما فعلوا في البلاد الأخرى و كانت أفعال الغز في هذه البلاد أعظم و أقبح من أفعال الغز في غيرها ثم أن السلطان سليمان شاه توفى وزيره طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك في شوال سنة ثمان و أربعين فاستوزر ابنه نظام الملك و انحل أمره و عجز عن القيام بالملك فعاد إلى جرجان في صفر سنة تسع و أربعين فاجتمع الامراء و خطبوا للخان محمود بن محمد بن بقراخان و هو ابن أخت سنجر و استدعوه فملكوه في شوال من السنة و ساروا معه لقتال الغز و هم محاصرون هراة فكانت حروبه معهم سجالا و أكثر الظفر للغز ثم رحلوا عن هراة إلى مرو منتصف خمسين و أعادوا مصادرة أهلها و سار الخان محمد إلى نيسابور و قد غلب عليها المؤيد كما يذكر فراسل الغز في الصلح فصالحوه في رجب (5/81)
استيلاء المؤيد على نيسابور و غيرها
هذا المؤيد من موالي سنجر و اسمه و كان من أكابر أوليائه و مطاعا فيهم و لما كانت هذه الفتنة و افترق أمر الناس بخراسان تقدم فاستولى على نيسابور و طوس و نسا و ان ورد و شهرستان و الدامغان و حصنها و دافع الغز عنها و دانت له الرعية لحسن سيرته فعظم شأنه و كثرت جموعه و استبد بهذه الناحية و طالبه الخان محمود عندما ملكوه بالحضور عنده و تسليم البلاد فامتنع و ترددت الرسل بينهما على مال يحمله للخان محمود فضمنه المؤيد و كف عنه محمود و استقر الحال على ذلك و الله سبحانه تعالى أعلم (5/83)
استيلاء ايتاخ على الري
كان ايتاخ من موالي السلطان سنجر و كانت الري أيضا من أعمال سنجر فلما كانت فتنة الغز لحق بالري و استولى عليها و صانع السلطان محمد شاه ابن محمود صاحب همذان و اصبهان و غيرهما و بذل له الطاعة فأقره فلما مات السلطان محمد مد يده إلى أعمال تجاوزته و ملكها فعظم أمره و بلغت عساكره عشرة آلاف فلما ملك سليمان شاه همذان على ما نذكره و قد كان أنس به عند ولاية سليمان على خراسان سار إليه و قام بخدمته و بقي مستبدا بتلك البلاد و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/84)
الخبر عن سليمان شاه و حبسه بالموصل
كان سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملك شاه عند عمه السلطان سنجر و جعله ولي عهده و خطب له على منابر خراسان فلما وقعت فتنة الغز و أسر سنجر قدمه أمراء خراسان على أنفسهم ثم عجز و مضى إلى خوارزم شاه فزوجه ابنة أخيه ثم سعى به عنده فأخرجه من بلده و جاء إلى اصبهان فمنعه الشحنة م الدخول فمضى إلى قاشان فبعث السلطان محمد شاه ابن أخيه محمود عسكرا ليدفعه عنها فسار إلى خوزستان فمنعه ملك شاه منها فقصد اللحف ونزل وأرسل المقتفي في أثره فطلبه في زوجته رهينة ببغداد فبعث بها مع جواريها و أتباعها فأكرمهم المقتفي و أذن له في القدوم و خرج الوزير ابن هبيرة و قاضي القضاة والفتيان لتلقيه و خلع عليه المقتفي و أقام ببغداد حتى إذا دخلت سنة إحدى و خمسين أحضر بدار الخلافة و حضر قاضي القضاة و الأعيان و استحلف على الطاعة و التجافي للخليفة عن العراق و خطب له ببغداد و لقب ألقاب أبيه و أمده بثلاثة آلاف من العسكر و جعل معه الأمير دوران أمير حاجب صاحب الجبلة و سار إلى بلاد الجبل في ربيع الأول من السنة و سار المقتفي إلى حلوان و بعث إلى ملك شاه بن السلطان محمود يدعوه إلى موافقة عمه سليمان شاه و أن يكون ولي عهده فقدم في ألفي فارس و تحالفا و أمدهما المقتفي بالمال و الأسلحة و اجتمع معهم ايلدكز صاحب كنجة و ارانية و ساروا لقتال السلطان محمد فلما بلغه خبرهم أرسل إلى قطب الدين مودود بن زنكي و نائبه زين الدين على كوجك في المساعدة و الارتفاق فاجاباه و سارا للقاء عمه سليمان شاه و من معه و اقتتلوا في جمادي الاولى فهزمهما السلطان محمد و افترقوا و توجه سليمان شاه إلى بغداد على شهرزور و كانت لصاحب الموصل و بها الامير بوران من جهة على كوجك نائب الموصل فاعترضه هنالك كوجك و بوران فاحتمله كوجك إلى الموصل فحبسه بها و بعث إلى السلطان محمد بالخبر و أنه على الطاعة و المساعدة فقبل منه و شكر له (5/84)
فرار سنجر من أسر الغز
قد تقدم لنا ما كان من أسر السلطان سنجر بيد الغز و افتراق خراسان و اجتماع الأمراء بنيسابور و ما إليها على الخان محمود بن محمد و امتنعوا من الغز و امتنع أتسز بن محمد أنوشكين بخوارزم و انقسمت خراسان بينهم و كانت الحرب بين الغز و بينهما سجالا ثم هرب سنجر من أسر الغز و جماعة من الأمراء كانوا معه في رمضان سنة إحدى و خمسين و لحق بترمذ ثم عبر جيحون إلى دار ملكه بمرو فكانت مدة أسره من جمادي سنة ثمان و أربعين ثلاث سنين و أربعة أشهر و لم يتفق فراره من الاسر إلا بعد موت علي بك مقدم القارغلية لأنه كان أشد شيء عليه فلما توفي انقطعت القارغلية إليه و غيرهم و وجد فسحة في أمره و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/85)
حصار السلطان محمد بغداد
كان السلطان محمد بن محمود لاول ولايته الملك بعد عمه مسعود بعث إلى المقتفي في الخطبة له ببغداد و العراق على عادتهم فمنعه لما رجا من ذهاب دولتهم استفحالهم و استبدادهم فسار السلطان من همذان في العساكر نحو العراق و وعده صاحب الموصل و نائبه بمدد العساكر فقدم آخر احدى و خمسين و بعث المقتفي في الحشد فجاء خطا و فرس في عسكر واسط و خالفهم مهلهل إلى الجبلة فملكها و اهتم المقتفي و ابن هبيرة بالحصار و قطع الجسر و جمع السفن تحت التاج و نودي في الجانب الغربي بالعبور فعبروا في محرم سنة اثنتين و خمسين و خرب المقتفي ما وراء الخرسة صلاحا في استبداده و كذلك السلطان محمد من الجهة الأخرى و نصبت المنجنيقات و العرادات و فرق المقتفي السلاح على الجند و العامة و جاء زين الدين كجك في عسكر الموصل و لقي السلطان علي أوانا و اتصلت الحرب و اشتد الحصار و فقدت الاقوات و انقطعت المواد عن أهل بغداد و فتر كجك و عسكره في القتال أدبا مع المقتفي و قيل أوصاه بذلك نور الدين محمود بن زنكي أخو قطب الدين الأكبر ثم جاء الخبر بأن ملك شاه أخا السلطان محمد و ايلدكز صاحب اران و ربيبه ارسلان بن طغرل قصدوا همذان فسار عن بغداد مسرعا إلى همذان آخر ربيع الأول و عاد زين الدين إلى الموصل و لما وصل ملك شاه و ايلدكز و ربيبه ارسلان إلى همذان أقاموا بها قليلا و سمعوا بمجيء السلطان فاجفلوا و ساروا إلى الري فقاتلهم الشحنة انبانج فهزموه و حاصروه و أمده السلطان محمد بعسكر بن سقمس بن قماز فوجدهم قد أفرجوا عنه و قصدوا بغداد فقاتلهم فهزموه و نهبوا عسكره فسار السلطان محمد ليسابقهم إلى بغداد فلما انتهى إلى حلوان بلغه أن ايلدكز بالدينور ثم وافاه رسول انبابج بأنه ملك همذان و خطب له فيها وان شملة صاحب خراسان هرب عن ايلدكز و ملك شاه إلى بلاده فعاد إلى اران و رجع السلطان إلى همذان قاصدا للتجهز إلى بلاد ايلدكز باران (5/85)
وفاة سنجر
ثم توفي السلطان صاحب خراسان في ربيع سنة اثنتين و خمسين و قد كان ولى خراسان منذ أيام أخيه بركيارق و عهد له أخوه محمد فلما مات محمد خوطب بالسلطنة و كان الملوك كلهم بعدها في طاعته نحو أربعين سنة و خطب له قبلها بالملك عشرين سنة و أسره الغز ثلاث سنين و نصف و مات بعد خلاصه من الاسر و قطعت خطبته ببغداد و العراق و لما احتضر استخلف على خراسان ابن أخته محمد بن محمود بن بقراخان فأقام بجرجان و ملك الغز مرو و خراسان و ملك به المؤيد نيسابور و ناحيته من خراسان و بقي الأمر على هذا الخلاف سنة أربع و خمسين و بعث الغز إلى محمود الخان ليحضر عندهم فيملكوه فخافهم على نفسه و بعث ابنه إليهم فاطاعوه مدة ثم لحق بهم كما نذكر بعد (5/86)
منازعة ايتاق للمؤيد
كان ايتاق هذا من موالي السلطان سنجر فلما كانت الفتنة و افترق الشمل و مات السلطان سنجر و ملك المؤيد نيسابور و حصل له التقدم بذلك على عساكر خراسان حسده جماعة من الأمراء و انحرف عنه إيتاق هذا فتارة يكون معه و تارة يكون في مازندان فلما كان سنة اثنتين و خمسين سار من مازندان في عشرة آلاف فارس من المنحرفين عن المؤيد و قصد نسا و ابيورد و أقام بها المؤيد ايتاق فسار إليه و كبسه و غنم معسكره و مضى ايتاق منهزما إلى مازندان و كان بين ملكها رستم و بين أخيه علي فتقرب ايتاق إلى رستم بقتال أخيه علي فوجد لذلك غلبة و دفعه عنه و سار يتردد في نواحي خراسان بالعيث و الفساد والح على اسفراين فخربها و راسله السلطان محمود الخان المؤيد في الطاعة و الاستقامة فامتنع فساروا إليه في العساكر في صفر سنة ثلاث و خمسين فهرب إلى طبرستان و بعث رستم شاه مازندان إلى محمود و المؤيد بطاعته و بأموال جليلة و هدية فقبلوا منه و بعث ايتاق ابنه رهنا على الطاعة فرجعوا عنه و استقر بجرجان و دستان و أعمالها (5/86)
منازعة سنقر العزيزي للمؤيد و مقتله
كان سنقر العزيزي من أمراء السلطان سنجر و كان في نفسه من المؤيد ما عند الباقين فلما شغل المؤيد بحرب ايتاق سار سنقر من عسكر السلطان محمود بن محمد إلى هراة فملكها و اشترط عليه أن يستظهر بملك الغورية الحسين فأبى و طمع في الاستبداد لما رأى من استبداد الأمراء على السلطان محمود بن محمد فحاصره المؤيد بهراة و استمال الاتراك الذين كانوا معه فأطاعوه و قتلوا سنقر العزيزي غيلة و ملك السلطان محمد هراة و لحق الفل من عسكر سنقر بإيتاق و تسلطوا على طوس و قراها و استولى الخراب على البلاد و الله تعالى أعلم (5/87)
فتنة الغز الثانية بخراسان و خراب نيسابور على يد المؤيد
كان الغز بعد فتنتهم الاولى أوطنوا بلخ و نزعوا عن النهب و القتل بخراسان و اتفقت الكلمة بها على طاعة السلطان محمود بن محمد الخان و كان القائم بدولته المؤيد أبوابه فلما كان سنة ثلاث و خمسين في شعبان سار الغز إلى مرو فزحف المؤيد و أوقع طائفة منهم و تبعهم إلى مرو و عاد إلى سرخس و خرج معه الخان محمود لحربهم فالتقوا خامس شوال و تواقعوا مرارا ثلاثا انهزم فيها الغز على مرو و أحسنوا السيرة و أكرموا العلماء و الأئمة ثم أغاروا على سرخس و طوس و استباحوهما و خربوهما و عادوا إلى مرو و أما الخان محمود بن محمد فسار إلى جرجان ينتظر مال أمرهم و بعثوا إليه الغز سنة أربع يستدعونه ليملكوه فاعتذر لهم خشية على نفسه فطلبوا منه جلال الدين عمر فتوثق منهم بالحلف و بعثه إليهم فعظموه و ملكوه في ربيع الآخر من سنة أربع ثم سار أبوه محمود إلى خراسان و تخلف عنه المؤيد أبوابه و انتهى إلى حدود نساوا بيورد فولى عليهم الأمير عمر بن حمزة النسوي فقام في حمايتها المقام المحمود بظاهر نسا ثم سار الغز من نيسابور إلى طوس لامتناع أهلها من طاعتهم فملكوها و استباحوها و عادوا إلى نيسابور فساروا مع جلال الدين عمر بن محمود الخان إلى حصار سارورا و بها النقيب عماد الدين محمد بن يحيى العلوي الحسيني فحاصروه و امتنعت عليهم فرجعوا إلى نسا و ابيورد للقاء الخان محمود بجرجان كما قدمناه فخرج منها سائر إلى خراسان و اعترضه الغز ببعض القرى في طريقه فهرب منه و أسر بعضهم ثم هرب منه و لحق بنيسابور فلما جاء الخان محمود إليها مع الغز فارقها منتصف شعبان و دخلها الغز و أحسنوا السيرة و ساروا إلى سرخس و مرو فعاد المؤيد في عساكره إلى نيسابور و امتنع أهلها عليه فحاصرها و افتتحها عنوة و خربها و رحل عنها إلى سبق في شوال سنة أربع و خمسين (5/87)
استيلاء ملك شاه بن محمود على خوزستان
و لما رجع السلطان ملك شاه محمد بن محمود من حصار بغداد و امتنع الخليفة من الخطبة له أقام بهمذان عليلا و سار أخوه ملك شاه إلى قم و قاشان فافحش في نهبها و مصادرة أهلها و راسله أخوه السلطان محمد في الكف عن ذلك فلم يفعل و سار إلى اصبهان و بعث إلى ابن الجمقري و أعيان البلد في طاعته فاعتذروا بطاعة أخيه فعاث في قراها و نواحيها فسار السلطان إليه من همذان و في مقدمته كرجان الخادم فافترقت جموع ملك شاه و لحق ببغداد فلما انتهى إلى قوس لقيه موبذان و سنقر الهمذاني فأشارا عليه بقصد خوزستان من بغداد فسار إلى واسط و نزل بالجانب الشرقي و ساء أثر عسكره في النواحي ففتحوا عليهم البثوق و غرق كثير منهم و رجع ملك شاه إلى خوزستان فمنعه شملة من العبور فطلب الجوار في بلده إلى أخيه السلطان فمنعه فنزل على الاكراد الذين هنالك فاجتمعوا عليه من الجبال و البسائط و حارب شملة و مع ملك شاه سنقر الهمذاني و موبذان و غيرهما من الأمراء فانهزم شملة و قتل عامة أصحابه و استولى ملك شاه على البلاد و سار إلى فارس و الله هو المؤيد بنصره (5/88)
وفاة السلطان محمد و ولاية عمه سليمان شاه
ثم توفي السلطان محمد بن محمود بن محمد بن ملك شاه آخر سنة أربع و خمسين و هو الذي حاصر بغداد يطلب الخطبة له من الخليفة و منعه فتوفي آخر هذه السنة لسبع سنين و نصف من ولايته و كان له ولد صغير فسلمه إلى سنقر الاحمديلي و قال هو وديعة عندك فأوصل به إلى بلادك فان العساكر لا تطيعه فوصل به إلى مراغة و اتفق معظم الجند على البيعة لعمه سليمان شاه و بعث أكابر الأمراء بهمذان إلى أتابك زين الدين مودود أتابك و وزير مودود وزيره فأطلقه مودود و جهزه بما يحتاج إليه في سلطانه و سار معه زين الدين على كجك في عساكر الموصل فلما انتهى إلى بلاد الجبل و أقبلت العساكر للقاء سليمان شاه ذكر معاملتهم مع السلطان و دالتهم عليه فخشي على نفسه و عاد إلى الموصل و دخل سليمان شاه همذان و بايعوا له و الله سبحانه تعالى أعلم (5/88)
وفاة المقتفي و خلافة المستنجد
ثم توفي المقتفي لامر الله في ربيع الأول سنة خمس و خمسين لأربع و عشرين سنة من خلافته و قد كان استبد في خلافته و خرج من حجر السلجوقية عند افتراق أمرهم بعد السلطان مسعود كما ذكرناه في أخبار الخلفاء و لما توفي بويع بعده بالخلافة ابنه المتسنجد فجرى على سنن أبيه في الاستبداد و استولى على بلاد الماهلي و نزل اللحف و ولى عليها من قبله كما كانت لابيه و قد تقدم ذكر ذلك في أخبارهما انتهى (5/89)
اتفاق المؤيد مع محمود الخان
قد كنا قدمنا أن الغز لما تغلبوا استدعوا محمود الخان ليملكوه فبعث إليهم بابنه عمر فملكوه ثم سار محمود من جرجان إلى نسا و جاء الغز فساروا به إلى نيسابور فهرب عنها المؤيد و دخلها محمود و الغز ثم ساروا عنها فعاد إليها المؤيد فحاصرها و ملكها عنوة و خربها في شوال سنة أربع و خمسين و رحل عنها إلى سرخس فعاد اليها المؤيد فحاصرها و ملكها عنوة و رحل عنها إلى بيهق ثم رجع إليها سنة خمس و خمسين و عمر خرابها و بالغ في الاحسان إليها ثم سار لاصلاح أعمالها و محو آثار المفسدين و الثوار من نواحيها ففتح حصن اشقيل و قتل الثوار الزيدية و خربه و فتح حصن خسر و جور من أعمال بيهق و هو من بناء كنجر و ملك الفرس أيام حربه مع جراسياق و ملكه و رتب فيه الحامية و عاد إلى نيسابور ثم قصد مدينة كندر من أعمال طرسا و فيها متغلب اسمه خرسده يفسد السابلة و يخرب الاعمال و يكثر الفتك و كان البلاء به عظيما في خراسان فحاصره ثم ملك عليه الحصن عنوة و قتله و أراح البلاد منه ثم قصد في رمضان من السنة مدينة بيهق و كانوا قد عصوا عليه فرجعوا الطاعة و قبلهم و استفحل أمره فأرسل إليه الخان محمود بن محمد و هو مع العز بالولاية على نيسابور و طوس و ما إليها فاتصلت يده به و استحكم الصلح بينه و بين الغز و ذهبت الفتن (5/89)
الحرب بين عسكر وارزم شاه و الاتراك البرزية
كان هؤلاء الأتراك البرزية من شعوب الترك بخراسان و أميرهم بقراخان بن داود فأغار عليهم جمع من عساكر خوارزم شاه و أوقعوا بهم و فتكوا فيهم و نجا بقراخان في الفل منهم إلى السلطان محمود بخراسان و من معه من الغز مستصرخا بهم و هو يظن أن أيتاق هو الذي هيج عليهم فسار الغز معه على طريق نسا و ابيورد و قصدوا فلم يكن له بهم قوة فاستنصر شاه مازندان فسار لنصره و احتشد في أعماله من الاكراد و الديلم و التركمان و قاتلوا الغز و البرزية بنواحي دهستان فهزمهم خمسا و كان ايتاق في ميمنة شاه مازندان و أفحش الغز في قتل عسكرهم و لحق شاه مازندان بسارية و ايتاق شهروز خوارزم ثم ساروا إلى دهستان فنهبوها و خربوها سنة ست و خمسين و خربوا جرجان كذلك و افترق أهلها في البلاد ثم سار ايتاق إلى بقراتكن المتغلب على أعمال قزوين فانهزم من بين يديه و لحق بالمؤيد و صار في جملته و اكتسح ايتاق سائر أعماله و نهب أمواله فقوى بها (5/90)
وفاة ملك شاه بن محمود
قد قدمنا أن ملك شاه بن محمود سار بعد أخيه السلطان محمد من خوزستان الى أصبهان و معه شملة التركماني و دكلا صاحب فارس فأطاعه ابن الخجندي رئيس اصبهان و سائر أهلها و جمع له الأموال و أرسل ملك شاه إلى أهل الدولة باصبهان يدعوهم إلى طاعته و كان هواهم مع عمه سليمان فلك يجيبوه إلى ذلك و بعثوا عن سليمان من الموصل و ملكوه و انفرد ملك شاه بأصبهان و استفحل أمره و بعث إلى المستنجد في الخطبة له ببغداد مكان عمه سليمان شاه و أن تعاد الأمور إلى ما كانت و يتهددهم فوعد الوزير عميد الدين بن هبيرة جارية جاعلها على سمه فسمته في الطعام و فطن المطيب بأنه مسموم و أخبر بذلك شملة و دكلا فاحضروا الجارية و أقرت و مات ملك شاه و أخرج أهل أصبهان أصحابه و خطبوا لسليمان شاه و عاد شملة إلى خراسان فارتجع ما كان ملك شاه تغلب عليه منها (5/90)
قتل سليمان شاه و الخطبة لإرسلان
كان سليمان لما ملك أقبل على اللهو و معاقرة الخمر حتى في نهار رمضان و كان يعاشر الصفاعين و المساخر و عكف على ذلك مع ما كان فيه من الخرق و التهور فقعد الامراء عن غشيان بابه و شكوا إلى شرف الدين كردبازه الخادم و كان مدبر مملكته و كان حسن التربية و الدين فدخل عليه يوما يعذله على شأنه و هو مع ندمائه بظاهر همذان فأشار إليهم أن يعبثوا بكردبازه فخرج مغضبا و اعتذر إليه عندما صحا فأظهر له القبول و قعد عن غشيان مجلسه و كتب سليمان شاه إلى انبانج صاحب الري يدعوه إلى الحضور فوعده بذلك إذا أفاق من مرضه و زاد كردبازه استيحاشا فاستحلف الأمراء على خلع سليمان و بدأ بقتل جميع الصفاعين الذين كانوا ينادمونه و قال إنما فعلته صونا لملكك ثم عمل دعوة في داره فحضر سليمان شاه و الأمراء و قبض على سليمان شاه و وزيره أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الحاقدي و على خواصه و ذلك في شوال سنة خمس و خمسين و قتل وزيره و خواصه و حبس سليمان شاه قليلا ثم قتله ثم أرسل إلى ايلدكز صاحب اران و أذربيجان يستقدم ربيبه أرسلان بن طغرل ليبايع له يالسلطنة و بلغ الخبر إلى انبانج صاحب الري فسار إلى همذان و لقيه كردبازه و خطب له بالسلطنة بجميع تلك البلاد و كان ايلدكز قد تزوج بأم أرسلان و ولدت له ابنه البهلوان محمد و مزدارسلان عثمان فكان ايلدكز أتابك و ابنه البهلوان حاجبا و هو أخو أرسلان لأمه و ايلدكز هذا من موالي السلطان مسعود و لما ملك أقطعه اران و بعض أذربيجان و حدثت الفتن و الحروب فاعتصم هو باران و لم يحضر عند أحد من ملوكهم و جاء إليه ارسلان شاه من تلك الفتن فأقام عنده إلى أن ملك و لما خطب له بهمذان بعث ايلدكز أتابك إلى انبانج صاحب الري و لاطفه و صاهره في ابنته لابنه البهلوان و تحالفا على الاتفاق و بعث إلى المستنجد بطلب الخطبة لارسلان في العراق و اعادة الامور إلى عادتها أيام السلطان مسعود فطرد رسوله بعد الاهانة ثم أرسل ايلدكز إلى اقسنقر الاحمديلي يدعوه إلى طاعة السلطان ارسلان فامتنع و كان عنده ابن السلطان شاه بن محمود المدني أسلمه إليه عند موته فتهدده بالبيعة له و كان الوزير ابن هبيرة يكاتبه من بغداد و يقمعه في الخطبة لذلك الصبي قصدا للنصر من بينهم فجهز ايلدكز العساكر مه البهلوان إلى اقسنقر و استمد اقسنقر شاهر بن سقمان القطبي صاحب خلاط و واصله فمده بالعساكر و سار نحو البهلوان و قاتله فظفر به و رجع البهلوان إلى همذان مهزوما و الله تعالى أعلم (5/91)
الحرب بين ايلدكز و انبانج
لما مات ملك شاه بن محمود باصبهان كما قلناه لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس و معهم ابنه محمود فانتزعه منهم صاحب فارس زنكي بن دكلا السلقدي و أنزله في قلعة اصطخر فلما ملك ايلدكز السلطان ارسلان و طلب الخطبة ببغداد و أخذ الوزير ابن هبيرة في استفساد الاطراف عليهم و بعث لابن اقسنقر في الخطبة لابن السلطان محمد شاه الذي عنده و كاتب صاحب فارس أيضا يشير عليه بالبيعة للسلطان محمد بن السلطان ملك شاه الذي عنده و يعده بالخطبة له إن ظفر بايلدكز فبايع له ابن دكلا و خطب له بفارس و ضرب النوب الخمس على بابه و جمع العساكر و بلغ إلى ايلدكز فجمع و سار في أربعين ألفا إلى أصبهان يريد فارس فأرسل إلى زنكي في الخطبة لارسلان شاه فأبى فقال له ايلدكز أن المستنجد اقطعني بلادك و أنا سائر إليها و تقدمت طائفة إلى نواحي ارجان فلقيتها سرية لارسلان بوقا صاحب ارجان فأوقعوا بطائفته و قتلوا منهم و بعثوا بالخبر إلى انبانج فنزل من الري في عشرة آلاف و أمده اقسنقر الاحمديلي بخمسة آلاف فقصد و هرب صاحب ابن البازدان و ابن طغابرك و غيرهما من أولياء ايلدكز للقاء انبانج ورد عسكر المدافعة زنكي عن شهبرم و غيرها من البلاد فهزمهم زنكي بن دكلا و رجعوا إليه فاستدعى عساكره من أذربيجان و جاء هبيس بن مزدارسلان و استمد انبانج و قتل أصحابه و نهب سواده و دخل الري و تحصن في قلعة طبرك ثم ترددت الرسل بينه و بين ايلدكز في الصلح و أقطعه حربادفان و غيرها و عاد ايلدكز إلى همذان و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/92)
الفتنة بنيسابور و تخريبها
و في ربيع سنة ست و خمسين قبض المؤيد على أحياء نيسابور و حبسهم و فيهم نقيب العلويين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني و آخذهم على فعله آباؤهم بأهل البلد من أهل البلد من النهب و الاعتداء على الناس في أموالهم و حرصهم فأخذ هؤلاء الأعيان ينهونهم كأنهم لم يضربوا على أيديهم و قتل جماعة من أهل الفساد فخرب البلد و امتدت الايدي إلى المساجد و المدارس و خزائن الكتب و أحرق بعضها و نهب بعضها و انتقل المؤيد إلى الشادباخ فأصلح سوره و سد ثلمة و سكنه و خرب نيسابور بالكليه و كان الذي اختط هذا الشادباخ عبد الله بن طاهر أيام ولايته على خراسان يتفرد بسكناه هو و حشمه عن البلد تجافيا عن مزاحمتهم ثم خربت و جددها البارسلان ثم خربت فجددها الآن المؤيد و خربت نيسابور بالكلية ثم زحف الغز و الخان محمود معهم و هو ملك خراسان لذلك العهد فحاصروا المؤيد بالشادباخ شهرين ثم هرب الخان عنهم إلى شهرستان كأنه يريد الحمام و أقام بها و بقي الغز إلى آخر شوال ثم رجعوا فنهبوا البلاد و نهبوا طوس و لما دخل الخان إلى نيسابور أمهله المؤيد إلى رمضان سنة سبع و خمسين ثم قبض عليه و سمله و أخذ ما كان معه من الذخائر و حبسه و حبس معه جلال محمد فماتا في محبسهما و خطب المؤيد لنفسه بعد المستنجد ثم زحف المؤيد إلى شهرستان و قرب نيسابور فحاصرها حتى نزلوا على حكمه في شعبان سنة تسع و خمسين و نهبها عسكره ثم رفع الأيدي عنها و استقامت في ملكه و الله أعلم (5/92)
فتح المؤيد طوس و غيرها
ثم زحف المؤيد إلى قلعة دسكره من طوس و كان بها أبو بكر جاندار ممتنعا فحاصره بها شهرا و أعانه أهل طوس لسوء سيرته فيهم ثم جهده الحصار فاستأمن و نزل فحبسه و سار إلى كرمان فأطاعوه و بعث عسكرا إلى اسفراين فتحصن بها رئيسها عبد الرحمن بن محمد بالقلعة فحاصره و استنزله و حمله مقيدا إلى الشابادخ فحبس ثم قتل في ربيع الآخر سنة ثمان و خمسين ثم ملك المؤيد قهندر و نيسابور و استفحل ملكه و عاد إلى ما كان عليه و عمر الشابادخ و خرب المدينة العتيقة ثم بعث عسكرا إلى بوشنج و هراة و هي في ولاية محمد بن لحسين ملك الغور فحاصرها و بعث الملك محمد عسكرا لمدافعته فافرجوا عنها و صفت ولاية هراة للغورية (5/93)
الحرب بين المسلمين و الكرج
كان الكرج قد ملكوا مدينة انى من بلاد اران في شعبان سنة ست و خمسين و استباحوها قتلا و أسرا و جمع لهم شاه ارمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط جموعا من الجند و المتطوعة و سار إليهم فقاتلوه و هزموه و أسر كثير من المسلمين ثم جمع الكرج في شعبان سنة سبع و خمسين ثلاثين ألف مقاتل و ملكوا دوس من أذربيجان و الجبل و اصبهان فسار إليهم ايلدكز و سار معه شاه ارمن بن إبراهيم بن سكمان صاحب خلاط و اقسنقر صاحب مراغة في خمسين ألفا و دخلوا بلاد الكرج في صفر سنة ثمان و خمسين فاستباحوها و أسروا الرجال و سبوا النساء و الولدان و أسلم بعض أمراء الكرج و دخل مع المسلمين و كمن بهم في بعض الشعاب حتى زحف الكرج و قاتلوا المسلمين شهرا أو نحوه ثم خرج الكمين من ورائهم فانهزموا و اتبعهم المسلمون يقتلون و يأسرون و عادوا ظافرين (5/94)
ملك المؤيد أعمال قومس و الخطبة للسلطان ارسلان بخراسان
ثم سار المؤيد الى انه صاحب نيسابور الى بلاد قومس فملك بسطام و دامغان و ولى بسطام مولاه تنكز فجرى بينه و بين شاه مازندان اختلاف أدى إلى الحرب و اقتتلوا في ذي الحجة سنة ثمان و خمسين و لما ملك المؤيد قومس بعث إليه السلطان ارسلان بن طغرل بالخلع و الاولية لما كان بين المؤيد و ايلدكز من المودة و أذن له في ولاية ما يفتحه من خراسان و يخطب له فيها فخطب له في أعمال قومس و طوس و سائر أعمال نيسابور و يخطب لنفسه بعد ارسلان و كانت الخطب في جرجان و دهستان لخوارزم شاه ارسلان بن اتسز و بعده للامير ايتاق و الخطبة في مرو و بلخ و سرخس و هي بيد الغز و هراة و هي بيد الاميراتيكين و هو مسالم للغز للسلطان سنجر يقولون اللهم اغفر للسلطان السعيد سنجر و بعده لأمير تلك المدينة و الله تعالى ولي التوفيق (5/94)
اجلاء القارغلية من وراء النهر
كان خان خاقان الصيني ولي على سمرقند و بخارى الخان جغرا بن حسين تكين و هو من بيت قديم في الملك ثم بعث إليه سنة سبعة و خمسين باجلاء القازغلية من أعماله إلى كاشغر و يشتغلون بالمعاش من الزراعة و غيرها فامتنعوا فألح عليهم فاجتمعوا و ساروا إلى بخارى فدس أهل بخارى إلى جغراخان و هو بسمرقند و وعدوا القارغلية بالمصانعة و طاوعوهم إلى أن صحبهم جغر في عساكره فأوقع بهم و قطع دابرهم و الله تعالى أعلم (5/94)
استيلاء سنقر على الطالقان و غرشتان
و في سنة تسع و خمسين استولى الأمير صلاح الدين سنقر من موالي السلطان سنجر على بلاد الطالقان و أغار على غرشتان حتى ملكها و صارت في حكمه بحصونها و قلاعها و صالح أمراء الغز و حمل لهم الاتاوة (5/95)
قتل صاحب هراة
كان صاحب هراة الأمير اتيكين و بينه و بين الغز مهادنة فلما قتل الغز ملك الغور محمد بن الحسين كما مر في أخباره طمع اتيكين في بلاده فجمع جموعه و سار إليها في رمضان سنة تسع و خمسين و توغل في بلاد الغور فقاتله أهلها و هزموه و قتل في المعركة و قصد الغز هراة و قد اجنمع أهلها على أثير الدين منهم فاتهموه بالميل للغز و قتلوه و اجتمعوا على أبي الفتوح بن علي ابن فضل الله الطغرائي ثم بعثوا إلى المؤيد بطاعتهم فبعث إليهم مملوكه سيف الدين تنكز فقام بأمرهم و بعث جيشا إلى سرخس و مرو و أغاروا على دواب الغز فأفرجوا عن هراة و رجعوا لطاعته و الله تعالى أعلم (5/95)
ملك شاه مازندران قومس و بسطام و وفاته
قد ذكرنا استيلاء المؤيد على قومس و بسطام و ولاية مولاه تنكز عليها ثم أن شاه مازندان و هو رستم بن علي بن هرباربن قاروت جهز إليها عسكرا مع سابق الدين القزويني من امرائه فملك دامغان و سار إليه تنكر ممن معه من العسكر فكبسهم القزويني و هزمهم و استولى على البلاد و عاد تنكر إلى المؤيد بنيسابور و جعل يغير على بسطام قومس ثم توفي شاه مازندان في ربيع سنة ستين فكتم ابنه علاء الدين موته حتى استولى على حصونه و بلاده ثم أظهره و ملك مكانه و نازعه اتياق صاحب جرجان و دهستان و لم يرع ما كان بينه و بين أبيه فلم يظفر بشيء و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/95)
حصر عسكر المؤيد نسا
ثم بعث المؤيد عساكره في جمادي سنة ستين لحصار مدينة نسا فبعث خوارزم شاه بك ارسلان بن اتسز في عساكره إليها فأجفلت عنها عساكر المؤيد و رجعوا إلى نيسابور و صارت نسا في طاعة خوارزم شاه و خطب له فيها ثم سار عسكر خوارزم إلى دهستان و غلبوه عليها و أقام فيها بطاعته و الله أعلم (5/96)
الحرب بين البهلوان و صاحب مراغة
ثم بعث اقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة سنة ثلاث و ستين إلى بغداد في الخطبة للملك الذي عنده و هو ابن السلطان محمد شاه على أن يتجافى عن العراق و لا يطلب الخطبة منه إلا إذا أسعف بها فاجيب بالوعد الجميل و بلغ الخبر إلى ايلدكز صاحب البلاد فبعث ابنه البهلوان في العساكر لحرب اقسنقر فحاربه و هزمه و تحصن بمراغة فنازله البهلوان و ضيق عليه و تردد بينهما الرسل و اصطلحوا و عاد البهلوان إلى أبيه بهمذان (5/96)
ملك شملة فارس و إخراجه عنها
كان زنكي بن دكلا قد أساء السيرة في جنده فأرسلوه إلى شملة صاحب خوزستان و استدعوه ليملكوه فسار و لقي زنكي و هزمه و نجا إلى الاكراد الشوابكار و ملك شملة بلاد فارس فأساء السيرة في أهلها و نهب ابن أخيه خرسنكا البلاد فنفر أهل فارس عنه و لحق بزنكي بعض عساكره فزحف إلى فارس و فارقها شملة إلى بلاده خوزستان و ذلك كله سنة أربع و ستين و خمسمائة (5/96)
ملك ايلدكز الري
كان إنبانج قد استولى على الري و استقر فيها بعد حروبه مع ايلدكز على جزية يؤديها إليه ثم منع الضريبة و اعتذر بنفقات الجند فسار إليه ايلدكز سنة أربع و ستين و حاربه إنبانج فهزمه ايلدكز و حاصره بقلعة طبرك و راسل بعض مماليكه و رغبهم فغدروا به و قتلوه و استولى أيلدكز على طبرك و على الري و ولي عليها علي بن عمر باغ و رجع إلى همذان و شكر لموالي إنبانج الذين قتلوه و لم يف لهم بالوعد فافترقوا عنه و سار الذي تولى قتله إلى خوارزم شاه فصلبه لما كان بينه و بين انبانج من الوصلة و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق بمنه و كرمه (5/96)
وفاة صاحب كرمان و الخلف بين أولاده
ثم توفي سنة خمس و ستين الملك طغرل بن قاروت بك صاحب كرمان و ولى ابنه أرسلان شاه مكانه و نازعه أخوه الأصغر بهرام شاه فحاربه أرسلان و هزمه فلحق في نيسابور فأنجده بالعساكر و سار إلى أخيه أرسلان فهزمه و ملك كرمان و لحق أرسلان بأصبهان مستنجدا بايلدكز فأنجده بالعساكر و ارتجع كرمان و لحق بهرام بالمؤيد و أقام عنده ثم هلك أرسلان فسار بهرام إلى كرمان ثم توفي المستنجد و ولي ابنه المستضيء و لم نترجم لوفاة الخلفاء ههنا لانها مذكورة في أخبارهم و إنما ذكرناها قبل هؤلاء لأنهم كانوا في كفالة السلجوقية و بني بويه قبلهم فوفاتهم من جملة أخبار الدولتين و هؤلاء من لدن المقتفي قد استبدوا بأمرهم و خلافتهم من بعد ضعف السلجوقية بوفاة السلطان مسعود و افترقت دولتهم في نواحي المشرق و المغرب و استبد منها الخلفاء ببغداد و نواحيها و نازعوا من قبلهم أنهم كانوا يخطبون لهم في أعمالهم و نازعهم فيها مع ذلك حرصا على الملك الذي سلبوه و أصبحوا في ملك منفرد عن أولئك المنفردين مضافا إلى الخلافة التي هي شعارهم و تداول أمرهم إلى أن انقرضوا بمهلك المستعصم على يد هلاكوا (5/97)
وفاة خوارزم شاه و ولاية ابنه سلطان شاه و منازعته مع أخيه الأكبر علاء الدين تكش
لما انهزم خوارزم شاه أرسلان أمام الخطا رجع إلى خوارزم فمات سنة ثمان و ستين و ولي ابنه سلطان شاه فنازعه أخوه الأكبر علاء الدين تكش و استنجد بالخطا و سار إلى خوارزم فملكها و لحق سلطان شاه بالمؤيد صريخا فسار معه بجيوشه و لقيهم تكش فانهزم المؤيد و جيء به أسيرا إلى تكش فقتل بين يديه صبرا و عاد أصحابه إلى نيسابور فولوا ابنه طغان شاه أبو بكر ابن المؤيد و كان من أخبار طغان شاه و تكش ما نذكره في أخبار دولتهم و في كيفية قتله خبر آخر نذكره هنالك ثم سار خوارزم شاه سنة تسع و ستين إلى نيسابور و حاصرها مرتين ثم هزم في الثانية طغان شاه بن المؤيد و أخذه أسيرا و حمله إلى خوارزم و ملك نيسابور و أعمالها و جميع ما كان لبني المؤيد بخراسان و انقرض أمرهم و البقاء لله و حده و الله تعالى أعلم (5/97)
وفاة الأتابك شمس الدين أيلديكز و ولاية ابنه محمد البهلوان
ثم توفي الاتابك شمس الدين أيلدكز أتابك أرسلان شاه بن طغرل صاحب همذان و أصبهان و الري و أذربيجان و كان أصله مملوك الكمال الشهير ابن وزير السلطان محمود و لما قتل الكمال صار السلطان و ترقى في كتب الولاية فلما ولي السلطان مسعود ولاه أرانية فاستولى عليها و بقيت طاعته للملوك على البعد و استولى على أكثر أذربيجان ثم ملك همذان و أصبهان و الري و خطب لربيبه أرسلان بن طغرل و بقي أتابك و بلغ عسكره خمسين ألفا و اتسع ملكه من تفليس إلى مكران و كان متحكما على أرسلان و ليس له من الدولة إلا جراية تصل إليه و لما هلك أيلدكز قام بالأمر بعده ابنه محمد البهلوان و هو أخو السلطان أرسلان لامه فسار أول ملكه لإصلاح أذربيجان و خالفه ابن سنكي و هو ابن أخي شملة صاحب خوزستان إلى بلد نهاوند فحاصرها ثم تأخر ابن سنكي من تستر و صحبهم من ناحية أذربيجان يوهمهم أنه مدد البهلوان ففتحوا له البلد و دخل فطلب القاضي و الأعيان و نصبهم و توجه نحو ما سندان قاصدا العراق و رجع إلى خوزستان ثم سار شملة سنة سبعين و قصد بعض التركمان فاستنجدوا البهلوان بن أيلدكز فأنجدهم و قاتلوه فهزموه و أسر شملة جريحا و ولده و ابن أخيه و توفي بعد يومين و هو من التركمان الأتسزية و ملك ابنه من بعده و سار البهلوان سنة سبعين إلى مدينة تبريز و كان صاحبها اقسنقر الأحمديلي قد هلك و عهد بالملك بعده لإبنه ملك الدين فسار إلى بلاده و حاصر مراغة و بعث أخاه فنزل و عاد عن مراغة إلى همذان و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/98)
وفاة السلطان أرسلان بن طغرل
ثم توفي السلطان أرسلان بن طغرل مكفول البهلوان بن أيلدكز و اخوه لامه بهمذان سنة ثلاث و سبعين و خمسمائة و خطب بعده لابنه طغرل (5/98)
وفاة البهلوان محمد بن أبلدكز و ملك أخيه قزل
ثم توفي البهلوان محمد بن أيلدكز أول سنة اثنتين و خمسمائة و كانت البلاد و الرعايا في غاية الطمأنينة فوقع عقب موته بأصبهان بين الحنفية و الشافعية و بالري بين أهل السنة و الشيعة فتن و حروب آلت إلى الخراب و ملك البلاد بعد البهلوان أخوه فنزل أرسلان و إسمه عثمان و كان البهلوان كافلا للسلطان طغرل و حاكما عليه و لما هلك قزل لم يرض طغرل بتحكمه عليه و فارق همذان و لحق به جماعة من الأمراء و الجند و جرت بينه و بين قزل حروب ثم غلبه طغرل إلى الخليفة فأمره بعمارة دار السلطان فطرد رسوله و هدمت دار السلطنة و ألحقت بالأرض و بعث الخليفة الناصر لدين الله سنة أربع و ثمانين عسكرا مع وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس لانجاده قزل على طغرل قبل همذان و هزمهم و نهب جميع ما معهم و أسر الوزير ابن يونس (5/99)
قتل قزل أرسلان قتلغ و ولاية أخيه
قد تقدم لنا ما كان بين السلطان طغرل و بين قزل بن أيلدكز من الحروب ثم أن قزل غلبه و اعتقله في بعض القلاع و دانت له البلاد و أطاعه ابن دكلا صاحب فارس و خوزستان و عادا إلى أصبهان و الفتن بها متصلة فأخذ جماعة من أعيان الشافعية و صلبهم و عاد إلى همذان و خطب لنفسه بالسلطنة سنة سبعة و ثمانين ثم قتل غلبة على فراشه و لم يعرف قاتله و أخذ جماعة من غلمانه بالظنة و كان كريما يحب العدل و يؤثره و لما هلك ولى من بعده قتلغ ابن أخيه البهلوان و استولى على الممالك التي كانت بيده (5/99)
قتل السلطان طغرل و ملك خوازم شاه الري و وفاة أخيه سلطان شاه
و لما توفي قزل و ولي قتلغ بن أخيه البهلوان كما قلناه أخرج السلطان طغرل من محبسه بالقلعة التي كان بها و اجتمع إليه العساكر و سار إلى همذان فلقيه قتلغ بن البهلوان فانهزم بين يديه و لحق بالري و بعث إلى خوارزم شاه علاء الدين تتش ليستنجده فسار إليه سنة ثمان و ثمانين و ندم قتلغ على استدعائه فتحصن ببعض قلاعه و ملك خوارزم شاه الري و ملك قلعة طبرك و صالح السلطان طغرل و ولى على الري و عاد إلى خوارزم سنة تسعين فأحدث أحدوثة السلطان شاه نذكره في أخبارهم و سار السلطان طغرل إلى الري فأغار عليها و فر منه قتلغ بن البهلوان و بعث إلى خوارزم شاه يستنجده و وافق ذلك وصول منشور من الخليفة إليه بإقطاعه البلاد فسار من نيسابور إلى الري و أطاعه قتلغ و سار معه إلى همذان و خرج طغرل للقائهم قبل أن يجمع العساكر و لقيهم قريبا من الري في ربيع الأول فحمل عليهم و تورط بينهم فصرع عن فرسه و قتل و ملك خوارزم شاه همذان و تلك البلاد جميعا و انقرضت مملكة بني ملك شاه و ولى خوارزم شاه على همذان و ملك الأعمال فبلغ انبانج بن البهلوان و أقطع كثيرا منها مماليكه و قدم عليهم مساحق منهم ثم استولى وزير الخليفة ابن العطاف على همذان و أصبهان و الري من يدمو إليه و انتزعها منهم خوارزم كما ذكرناه في أخبار الخلفاء و جاءت العساكر من قبل الخليفة إلى همذان مع أبي الهيجاء الشمس من أمراء الابوبية و كان أميرا على القدس فعزلوه عنها و سار إلى بغداد فبعثه الناصر سنة ثلاث و تسعين بالعساكر إلى همذان و لقي عندها أزبك بن البهلوان مطيعا فقبض عليه و أنكر الخليفة ذلك و بعث باطلاقه و خلع عليه و عاد إلى بلاد أذربيجان (5/99)
ملك الكرج الدوبرة
كان أزبك بن البهلوان قد استولى على أذربيجان بعد موته و كان مشغولا بلذاته فسار الكرج إلى مدينة دوير و حاصرها و بعث أهلها إليه بالصريخ فلم يصرخهم حتى ملكها الكرج عنوة و استباحوها و الله تعالى أعلم (5/100)
قتل كوجه ببلاد الجبل و ملك أيدغمش
كان كوجه من موالي البهلوان قد تغلب على الري و همذان و بلاد الجبل و اصطنع صاحبه أيدغمش و وثق به فنازعه الأمر و حاربه فقتله و استولى على البلاد و بقي أزبك بن البهلوان مغلبا ليس له من الحكم شيء (5/101)
قصد صاحب مراغة و صاحب أربل أذربيجان
قد ذكرنا أن أزبك كان مشغولا بلذاته مهملا لملكه ثم حدثت بينه و بين صاحب أربل و هو مظفر الدين كوكبري سنة اثنتين و ستمائة فتنة حملت مظفر الدين على قصده فسار إلى مراغة و استنجد صاحبها علاء الدين بن قراسنقر الأحمديلي فسار معه لحصار تبريز و بعث أربك الصريخ إلى أيدغمش بمكانه من بلاد الجبل فسار إليه و أرسل مظفر الدين بالفتن و التهديد فعاد إلى بلده علاء الدين بن قراسنقر إلى بلاد مراغة فسار أيدغمش و أزبك و حاصروه بمراغة حتى سلم قلعة من قلاعه و رجعوا عنه و الله تعالى أعلم (5/101)
وفاة صاحب مازندرن و الخلف بين أولاده
ثم توفي حسام الدين أزدشير صاحب مازندان و ولي ابنه الأكبر و أخرج أخاه الأوسط عن البلاد فلحق بجرجان و بها على شاه برتكش نائبا عن أخيه خوارزم فاستنجده على شرط الطاعة له و أمره أخوه تكش بالمسير معه فساروا من جرجان و بلغهم في طريقهم مهلك صاحب مازندان المتولي بعد أبيه و أن أخاه الأصغر استولى على الكراع و الأموال فساروا إليه و ملكوا البلاد و نهبوها مثل سارية و آمد و غيرها و خطب لخوارزم شاه فيها و عاد علي شاه إلى خراسان و أقام ابن صاحب مازندان و هو الأوسط الذي استصرخ به و قد إمتنع أخوه الأصغر بقلعة كوري و معه الأموال و الذخائر و أخوه الأوسط فراسله و استعطف و قد ملك البلاد جميعا و الله ولي التوفيق (5/101)
ملك ابن البهلوان مراغة
ثم توفي سنة أربع و ستمائة علاء الدين بن قراسنقر الأحمديلي مراغة و أقام بأمرها من بعد خادمه و نصب ابنه طفلا صغيرا و عصى عليه بعض الأمراء و بعث العسكر لقتاله فانهزموا أولا ثم استقر ملك الطفل ثم توفي سنة خمس و ستمائة و انقرض أهل بيته فسار أزبك ابن البهلوان من تبريز إلى مراغة و استولى على مملكة آل قراسنقر ما عدا القلعة التي اعتصم بها الخادم و عنده الخزائن و الذخائر (5/102)
استيلاء منكلي على بلاد الجبل و أصفهان و غيرها و هرب أيد غمش و قتله
لما تمكن أيدغمش في بلاد الجبل بهمذان و أصبهان و الري و ما إليها عظم شأنه حتى طلب الأمر لنفسه و سار لحصار أزبك ابن مولاه الذي نصبه للأمر و كان بأذربيجان فخرج عليه مولى من موالي البهلوان اسمه منكلي و كثر جمعه و استولى على البلاد و قدم أيد غمش إلى بغداد و إحتفل الخليفة لقدومه و تلقاه و ذلك سنة ثمان و أقام بها كان ايدغمش قد وفد سنة ثمان و ستمائة إلى بغداد و شرفه الخليفة بالخلع و الألوية و ولاه على ما كان بيده و رجع إلى همذان و وعده الخليفة بمسير العساكر فأقام ينتظرها عند سليمان بن مرحم أمير الايوانية من التركمان فدس إلى منكلي بخبره ثم قتل أيدغمش و حمل أصحابه إلى منكلي و افترق أصحابه و استولى منكلي و بعث إليه الخليفة بالنكير فلم يلتفت إليه فبعث إلى مولاه أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان يحرضه عليه و إلى جلال الدين الإسماعيلي صاحب قلعة الموت لمساعدته على أن يكون للخليفة بعض البلاد و لأزبك بعضها و لجلال الدين بعضها و بعث الخليفة العساكر مع مولاه سنقر و وجه السبع و أمره بطاعة مظفر الدين كوكبري بن زين الدين على كجك صاحب أربل و شهرزور و هو مقدم العساكر جميعا فسار لذلك و هرب منكلي و تعلق بالجبل و نزلوا بسفحه قريبا من كوج فناوشهم الحرب فانهزم أزبك ثم عاد ثم أسرى من ليلته منهزما و أصبحوا فاقتسموا البلاد على الشريطة و ولي أزبك فيما أخذ منها مولى أخيه فاستولى عليها و مضى منكلي إلى ساو و بها شحنة له فقتله و بعث برأسه إلى أزبك و استقر في بلاد الجبل حتى قتله الباطنية سنة أربع عشرة و ستمائة و جاء خوارزم شاه فملكها كما نذكر في أخباره و دخل أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان و أران في طاعته و خطب له على منابر أعماله و انقرض أمر بني ملك شاه و مواليهم من العراقين و خراسان و فارس و جميع ممالك المشرق و بقي أزبك ببلاد أذربيجان ثم استولى التتر على أعمال محمد بن تكش فيما وراء النهر و خراسان و عراق العجم سنة ثماني عشرة و ستمائة و موالي الهند و سار جنكزخان فأطاعه بن البهلوان سنة إحدى و عشرين و أمره بقتل من عنده من الخوارزمية ففعل و رجع إلى خراسان ثم جاء جلال الدين بن محمد بن تكش من الهند سنة اثنتين و عشرين فاستولى على عراق العجم و فارس و سار إلى أذربيجان فملكها و مر أزبك إلى كنجة من بلاد أران ثم ملك كنجة و بلاد أران و مد أزبك إلى بعض القلاع هنالك ثم هلك و ملك جلال الدين على جميع البلاد و انقرض أمر بني أزبك و استولى التتر على البلاد و قتلوا جلال الدين سنة ثمان و عشرين كما يأتي في أخبارهم جميعا و انتهى الكلام في دولة السلجوقية فلنرجع إلى أخبار الدول المتشعبة عنها واحدة بعد واحدة و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (5/102)
بنو أنوشتكين
كان أنوشتكين جدهم تركيا مملو كالرجل من غراشتان و لذلك يقال له أنوشتكين غرشه ثم صار لرجل من أمراء السلجوقية و عظمائهم اسمه ملكابك و كان مقدما عنده لنجابته و شجاعته و نشأ ابنه محمد على مثل حاله من النجابة و الشجاعة و تحل بالأدب و المعارف و اختلط بأمراء السلجوقية و ولي لهم الأعمال و اشتهر فيهم بالكفاية و حسن التدبير و لما ولي بركيارق ابن السلطان ملك شاه و انتقض عليه عمه أرسلان أرغون و استولى على خراسان بعث إليه العساكر سنة تسعين و أربعمائة مع أخيه سنجر و سار في أثره و لقيهم في طريقهم خبر مقتل أرغون عمهم و أن بعض مواليه خلفه فعدا عليه فقتله كما مر قبل فسار بركيارق في نواحي خراسان و ما وراء النهر حتى دوخها و ولي عليها أخاه سنجر و انتقض عليه أمير ميران من قرابته اسمه محمد بن سليمان فسار إليه سنجر و ظفر به و سمله و عاد بركيارق إلى العراق بعد أن ولى على خوارزم أكنجي شاه و معنى شاه بلسانهم السلطان فأضيف إلى خوارزم على عادتهم في تقديم المضاف إليه على المضاف و لما إنصرف بركيارق إلى العراق من قودز و بارقطاش و إنتقضا على السلطان و وثبا بالأمير اكنجي صاحب خوارزم و هو بمرو ذاهبا إلى السلطان شاه فقتلاه و بلغ الخبر إلى السلطان و قد إنتقض عليه بالعراق الأمير أنزو مؤيد الملك بن نظام الملك فمضى لحربهما و أعاد الأمير داود حبشي بن أيتاق في عسكر إلى خراسان لقتالهما فسار إلى هراة و عاجلاه قبل إجتماع عساكره فعبر جيحون و سبق إليه بارقطاش فهزمه داود و أسره و بلغ الخبر إلى قودز فثار به عسكره و فر إلى بخارى فقبض عليه نائبا ثم أطلقه و لحق بالملك سنجر فقبله و أقام برقطاش أسيرا عند الأمير داود وصفت خراسان من الفتنة و الثوار و استقام أمرها للأمير داود حبشي فاختار لولاية خوارزم محمد بن أنوشتكين فولاه و ظهرت كفايته و كان محبا لأهل الدين و العلم مقر بالهم عادلا في رعيته فحسن ذكره و ارتفع محله ثم استولى الملك سنجر على خراسان فأقر محمد بن أنوشتكين و زاده تقديما و جمع بعض ملوك الترك و قصد خوارزم و كان محمد غائبا عنها و لحق بالترك محمد بن اكنجي الذي كان أبوه أميرا على خوارزم و اسمه طغرل تكين محمد فحرض الترك على خوارزم و بلغ الخبر إلى محمد بن أنوشتكين فبعث إلى سنجر بنيسابور يستمده و سبق إلى خوارزم فافترق الترك و طغرل تكين محمد و سار كل منهما إلى ناحية و دخل محمد بن أنوشتكين إلى خوارزم فازداد بذلك عند سنجر ظهورا و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق لا رب سواه (5/105)
وفاة محمد بن أنوشتكين و ولاية ابنه أتسز
ثم هلك محمد بن أنوشتكين خوارزم و ولي بعده ابنه اتسز و سار أبيه و كان قد قاد الجيوش أيام أبيه و حارب الأعداء فلما ولي افتتح أمره بالاستيلاء على مدينة مقشلاع و ظهرت كفايته في شأنها فاستدعاه السلطان سنجر فاختصه و كان يصاحبه في أسفاره و حروبه و كلما مر يزيد تقدما عنده و الله تعالى أعلم بغيبه و أحكم (5/106)
الحرب بين السلطان سنجر و اتسز خوارزم شاه
ثم كثرت السعاية عند السلطان سنجر في اتسز خوارزم شاه و إنه يحدث نفسه بالامتناع فسار سنجر إليه لينتزع خوارزم من يده فتجهز اتسز للقائه و اقتتلوا فانهزم اتسز و قتل ابنه و خلق كثير من أصحابه و استولى سنجر على خوارزم و أقطعها غياث الدين سليمان شاه ابن أخيه محمدا و رتب له وزيرا و أتابك و حاجبا إلى مرو منتصف ثلاث و ثلاثين و كان أهل خوارزم يستغيثون لأتسز فعاد إليهم بعد سنجر فأدخلوه البلد و رجع سليمان شاه إلى عمه سنجر و استبد اتسز بخوارزم و الله أعلم (5/106)
انهزام السلطان سنجر من الأتراك الخطا و ملكهم ما وراء النهر
ثم سار سنجر سنة ست و ثلاثين لقتال الخطا من الترك فيما وراء النهر لما رجعوا لملك تلك البلاد فيقال أن اتسز أغراهم بذلك ليشغل السلطان سنجر عن بلده و أعماله و يقال أن محمود بن محمد سليمان بن داود بقراجان ملك الخانية في كاشغر و تركستان و هو ابن أخت سنجر زحفت إليه أمم الخطا من الترك ليتملكوا بلاده فسار إليهم و قاتلهم فهزموه و عاد إلى سمرقند و بعث بالصريخ إلى خاله سنجر فعبر النهر إليه في عساكر المسلمين و ملوك خراسان و التقوا في أول صفر سنة ست و ثلاثين فانهزم سنجر و المسلمون و فشا القتل فيهم يقال كان القتلى مائة ألف رجل و أربعة آلاف امرأة و أسرت زوجة السلطان سنجر و عاد منهزما و ملك الخطا ما وراء النهر و خرجت عن ملك الإسلام و قد تقدم ذكر هذه الواقعة مستوفي في أخبار السلطان سنجر و لما انهزم السلطان سنجر قصد اتسز خوارزم شاه خراسان فملك سرخس و لقي الإمام أبا محمد الزيادي و كان يجمع بين العلم و الزهد فأكرمه و قبل قوله ثم قصد مرو الشاهجان فخرج إليه الإمام أحمد الباخوري و شفع في أهل مرو و أن يدخل لهم أحد من العسكر فشفعه و أقام بظاهر البلد فثار عامة مرو و أخرجوا أصحابه و قتلوا بعضهم و امتنعوا فقاتلهم اتسز و ملكها عليهم غلابا أول ربيع من سنة ست و ثلاثين و قتل الكثير من أهلها و كان فيهم من أكابر العلماء و أخرج كثيرا من علمائها إلى خوارزم منهم أبو بكر الكرماني ثم سار في شوال إلى نيسابور و خرج إليه جماعة من العلماء و الفقهاء متطارحين أن يعفيهم مما وقع بأهل مرو فأعفاهم و استصفى أموال أصحاب السلطان و قطع الخطبة لسنجر و خطب لنفسه و لما صر باسمه على المنبر هم أهل نيسابور بالثورة ثم ردهم خوف العواقب فاقصروا و بعث جيشا إلى أعمال بيهق فحاصرها خمسا ثم ساروا في البلاد ينهبون و يكتسحون و السلطان سنجر خلال ذلك متغافل عنه فيما يفعله في خراسان لما وراءه من مدد الخطا و قوتهم ثم أوقع الغز سنة ثمان و أربعين بالسلطان سنجر و استولوا على خراسان و كان هؤلاء الغز مقيمين بما وراء النهر منذ فارقهم ملوك السلجوقية و كانوا يدينون بالإسلام فلما استولى الخطا على ما وراء النهر أخرجوهم منها فأقاموا بنواحي بلخ و أكثروا فيها العيث و الفساد و جمع لهم سنجر و قاتلهم فظفروا به و هزموه و أسروه و انتثر سلك دولته فلم يعد انتظامه و افترقت أعماله على جماعة من مواليه و استقل حينئذ اتسز بملك خوارزم و أعماله و أورثها بنيه ثم استولى على خراسان و العراق عندما ركدت ريح السلجوقية و كانت لهم بعد ذلك دولة عظيمة نذكر أخبارها مفصلة عند دول أهلها و الله تعالى ولي التوفيق بمنه و كرمه (5/106)
وفاة اتسز و ملك ولده أرسلان
ثم توفي اتسز بن محمد بن أنوشتكين في منتصف إحدى و خمسين و خمسمائة لستين سنة من ولايته و كان عادلا في رعيته حسن السيرة فيهم و لما توفي ملك بعده أرسلان بن اتسز فقتل جماعة من عماله و سمل أخاه ثم بعث بطاعته للسلطان سنجر عندما هرب من أسر الغز فكتب له بولاية خوارزم و قصد الخطا خوارزم و جمع أرسلان للقائهم و سار غير بعيد ثم طرقه المرض فرجع و أرسل الجيوش لنظر أمير من أمرائه فقاتله الخطا و هزموه و أسروه و رجع إلى ما وراء النهر و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/107)
وفاة خوارزم شاه أرسلان و ملك ولده سلطان شاه و بعده ولده الآخر تكش و ملك طغان شاه بن المؤيد ثم موته و ملك ابنه سنجر شاه
ثم توفي خوارزم شاه أرسلان بن أتسز من مرضه الذي قعد به عن لقاء الخطا و ملك بعده ابنه الأصغر سلطان شاه محمود في تدبير أمه و كان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيما في إقطاعه بالجند فاستنكف من ولاية أخيه الأصغر و سار إلى ملك الخطا مستنجدا و رغبه في أموال خوارزم و ذخائرها فأنجده بجيش كثيف و جاء إلى خوارزم و لحق سلطان شاه و أمه بالمؤيد أنه صاحب نيسابور و المتغلب عليها بعد سنجر و أهدى له و رغبه في الأموال و الذخائر فجمع و سار معه إذا كان على عشرين فرسخا من خوارزم سار إليه تكش و هزمه و جيء بالمؤيد أسيرا إلى تكش فأمر بقتله و قتل بين يديه صبرا و لحق أخوه سلطان شاه بدهستان و تبعه تكش فملكها عنوة و هرب سلطان شاه و أخذت أمه فقتلها تكش و عاد إلى خوارزم و لحق سلطان شاه بنيسابور و قد ملكوا طغان أبا بكر ابن ملكهم المؤيد ثم سار سلطان شاه من عنده إلى غياث الدين ملك الغورية فأقام عنده و عظم تحكم الخطا على علاء الدين تكش صاحب خوارزم و اشتطوا عليه و بعثوا يطلبونه في المال متفرقين على أهل خوارزم و دس إليهم فبيتوهم و لم ينج منهم أحد و نبذ إلى ملك الخطا عهده و سمع ذلك أخوه سلطان شاه فسار من غزتة إلى ملك الخطا يستنجده على أخيه تكش و ادعى أن أهل خوارزم يميلون إليه فبعث معه جيشا كثيفا من الخطا و حاصروا خوارزم فامتنعت و أمر تكش بإجراء ماء النهر عليهم فكادوا يغرقون و أفرجوا عن البلاد و لاموا سلطان شاه فيما غرهم فقال لقائدهم أبعث معي الجيش لمرو لانتزعها من دينار الغزي الذي استولى عليها من حين فتنتهم مع سنجر فبعث معه الجيش و سار إلى سرخس و اقتحمها على الغز الذين بها و أفحش في قتلهم و استباحهم و لجأ دينار إلى القلعة فتحصن بها ثم سار سلطان شاه إلى مرو و ملكها و أقام بها و رجع الخطا إلى ما وراء النهر و أقام سلطان شاه بخراسان يقاتل الغز فيصيب منهم كثيرا و عجز دينار ملك الغز عن سرخس فسلمها لطغان شاه بن المؤيد صاحب نيسابور فولى عليها مراموش من أمرائه و لحق دينار بنيسابور فحاصر دينار سلطان شاه و عاد إلى نيسابور و لحق به مراموش و ترك قلعة سرخس ثم هلك نطوش و التم و ضاقت الامور على طغان شاه بنيسابور إلى أن مات في محرم سنة اثنتين و ثمانين و ملك ابنه سنجر شاه و استبد عليه منكلي تكين مملوك جده المؤيد و أنف أهل الدولة من استبداده و تحكمه فلحق أكثرهم بسلطان شاه في سرخس و سار الملك دينار من نيسابور في جموع الغز إلى كرمان فملكها ثم أساء منكلي تكين السيرة بنيسابور في الرعية بالظلم و في أهل الدولة بالقتل فسار إليه خوارزم شاه علاء الدين تكش في ربيع سنة اثنتين و ثمانين فحاصره بنيسابور شهرين فامتنعت عليه فعاد إلى خوارزم ثم رجع سنة ثلاث و ثمانين فحاصرها و ملكها على الأمان و قتل منكلي تكين و حمل سنجر شاه إلى خوارزم فأنزله بها و أكرمه ثم بلغه أنه يكاتب أهل نيسابور فسلمه و بقي عنده إلى أن مات سنة خمس و تسعين قال ابن الأثير ذكر هذا أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي في كتاب مسارب التجارب و ذكر غيره أن تكش بن أرسلان لما أخرج أخاه سلطان شاه من خوارزم و قصد سلطان شاه إلى مرو فملكها من يد الغز ثم ارتجعوها منه و نالوا من عساكره فعبر إلى الخطا و استنجدهم و ضمن لهم المال و جاء بجيوشهم فملك مرو و سرخس و نسا و ابيورد من يد الغز و صرف الخطا فعادوا إلى بلادهم ثم كاتب غياث الدين الغوري و له هراة و بوشنج و باذغيس و أعمالها من خراسان يطلب الخطبة له يتوعده فأجابه غياث الدين بطلب الخطبة منه بمرو و سرخس و ما ملكه من بلاد خراسان ثم ساءت سيرة سلطان شاه في خراسان و صادر رعاياها فجهز غياث الدين العساكر مع صاحب سجتسان و أمر ابن أخته بهاء الدين صاحب باميان بالمسير معه فساروا إلى هراة و خاف سلطان شاه من لقائهم فرجع من هراة إلى مرو حتى أنصرم فصل الشتاء ثم أعاد مراسلة غياث الدين فامتعض و كتب إلى أخيه شهاب الدين بالخبر و كان بالهند فرجع مسرعا إليه و ساروا إلى خراسان و اجتمعوا بعسكرهم الأول على الطالقان و جمع سلطان شاه جموعه من الغز و أهل الفساد و نزل بجموع الطالقان و توافقوا كذلك شهرين و ترددت الرسل بين سلطان شاه و غياث الدين حتى جنح غياث الدين إلى النزول له عن بوشنج و بادغيس و شهاب الدين ابن أخته و صاحب سجستان بجنحان إلى الحرب و غياث الدين يكفهم حتى حضر رسول سلطان شاه عند غياث الدين لإتمام العقد و الملوك جميعا حاضرون فقام الدين العلوي الهودي و كان غياث الدين يختصه و هو يدل عليه فوقف في وسط المجمع و نادى بفساد الصلح و صرخ و مزق ثيابه و حثى التراب على رأسه و أفحش لرسول سلطان شاه و أقبل على غياث الدين و قال كيف تعمد إلى ما ملكناه بأسيافنا من الغز و الأتراك و السنجرية فتعطيه هذا الطريد اذ لا يقنع منا أخوه و هو الملك بخوارزم و لا بغزنة و الهند فأطرق غياث الدين ساكتا فنادى في عسكره بالحرب و التقدم إلى مرو الروذ و تواقع الفريقان فانهزم سلطان شاه و أخذ أكثر أصحابه أسرى و دخل إلى مرو في عشرين فارسا و لحق الفل من عسكره و بلغ الخبر إلى أخيه تكش فسار من خوارزم لاعتراضه و قدم العساكر إلى جيحون يمنعون إلى الخطا و سمع أخوه سلطان شاه بذلك فرجع عن جيحون و قصد غياث الدين و لما قدم عليه أمر يتلقيه و أنزله معه في بيته و أنزل أصحابه عند نظرائهم من أهل دولته و أقام إلى انصرام الشتاء و كتب أخوه علاء الدين خوارزم إلى غياث الدين في رده إليه و يعدد فعلاته في بلاده و كتب مع ذلك إلى نائب غياث الدين بهراة يتهدده فامتعض غياث الدين لذلك و كتب إلى خوارزم شاه بأنه مجير له و شفيع في التجافي عن بلاده و انصافه من وراثة أبيه و يطلب مع ذلك الخطبة له بخوارزم و الصهر مع أخيه شهاب الدين فامتعض خوارزم شاه و كتب إليه يتهدده ببعض بلاده فجهز غياث الدين إليه العساكر مع ابن أخته أبو غازي إلى بهاء الدين سامي صاحب سجستان و بعثهما مع سلطان شاه إلى خوارزم و كتب إلى المؤيد أبيه صاحب نيسابور يستنجده و كانت ابنته تحت غياث الدين فجمع المؤيد عساكره و خيم بظاهر نيسابور و كان خوارزم شاه عزم على لقاء أخيه و الغورية و سار عن خوارزم فلما سمع خبر المؤيد على إلى خوارزم و احتمل أمواله و ذخائره و عبر جيحون إلى الخطا و ترك خوارزم و سار أعيانها إلى أخيه سلطان شاه و البوغازي ابن اخت غياث الدين فآتوا طاعتهم و طلبوا الوالي عليهم و توفي سلطان شاه منسلخ رمضان سنة تسع و عاد البوغازي إلى خاله غياث الدين و معه أصحاب سلطان شاه فاستخدمهم غياث الدين و أقطعهم و بلغ وفاة سلطان شاه إلى أخيه خوارزم تكش فعاد إلى خوارزم و عاد الشحنة إلى بلاد سرخس و مرو فجهز إليهم نائب الغورية بمرو عمر المرغني عسكرا و منعهم منها حتى يستأذن غياث الدين و أرسل خوارزم شاه إلى غياث الدين في الصلح و الصهر في وفد من فقهاء خراسان و العلوية يعظمونه و يستجيرون به من خوارزم شاه أن يجير إليهم الخطا و يستحثهم و لا يحسم ذلك إلا صلحه أو سكاه بمرو فأجابهم إلى الصلح و عقدوه ورد على خوارزم تكش بلاد أخيه و طمع الغز فيها فعاثوا في نواحيها و جاء خوارزم شاه إليها و دخل مرو و سرخس فسار البورد و تطرق إلى طوس و هي للمؤيد ابنه فجمع و سار إليها و عاد خوارزم شاه إلى بلده و أفسد الماء في طريقه و أتبعه المؤيد فلم يجد ماء ثم كر عليه خوارزم شاه و قد جهد عسكره العطش فأوقع بهم و جيء إليه بالمؤيد أسيرا فقتله و عاد إلى خوارزم و قام بنيسابور بعد المؤيد ابنه طغان شاه و رجع إليه خوارزم شاه من قابل فحاصره بنيسابور و برز إليه فأسره و ملك نيسابور و احتمل طغان شاه و عياله و قرابته فأنزلهم بخوارزم قال ابن الأثير هذه الرواية مخالفة للأولى و إنما أوردتها ليتأمل الناظر و يستكشف أيهما فيعتمدها و الله تعالى أعلم (5/108)
وفاة أيلدكز و ملك ابنه محمد البهلوان
قد تقدم لنا في أخبار الدولة السلجوقية ولاية أرسلان شاه بن طغرل في كفالة أيلدكز و ابنه محمد البهلوان من بعده ثم أخيه أربك أرسلان بن أيلدكز و أنه إعتقل السلطان طغرل ثم توفي فولي مكانه قطلغ ابن أخيه البهلوان فخرج السلطان من محبسه و جمع لقتاله سنة ثمان و ثمانين فهزمه و لحق قطلغ بالري و بعث إلى خوارزم شاه علاء الدين تكش فسار إليه و ندم قطلغ على استدعائه فتحصن منه ببعض قلاعه و ملك خوارزم شاه الري و قلعة طبرك و رتب فيها الحامية و عاد إلى خوارزم لما بلغه أن أخاه سلطان شاه خالفه إليها و لما كان ببعض الطريق لقيه الخبر بأن أهل خوارزم منعوا سلطان شاه و عادى خائبا فتمادى إلى خوارزم و أقام إلى إنسلاخ فصل الشتاء ثم سار إلى أخيه سلطان شاه بمرو سنة تسع و ثمانين و ترددت الرسل بينهما في الصلح ثم استأمن إليه نائب أخيه بقلعة سرخس فسار إليها و مات أخوه سلطان شاه سنة تسع فسار خوارزم شاه إلى مرو و ملكها و ملك ابيورد و نسا و طوس و سائر مملكه أخيه و استولى على خزائنه و بعث على ابنه علاء الدين محمد فولاه مرو و ولي ابنه الكبير ملك شاه نيسابور و ذلك آخر تسع و ثمانين ثم بلغه أن السلطان طغرل أغار على أصحابه بالري قطلغ ابنانج فبعث إليه بابنه يستنجده و وصل إليه رسول الخليفة يشكو من طغرل و أقطعه أعماله فسار من نيسابور إلى الري و تلقاه قطلغ أبنانج بطاعته و سار معه و لقيهم السلطان طغرل قبل استكمال تعبيته و حمل عليهم بنفسه و أحيط به فقتل في ربيع سنة تسعين و بعث خوارزم شاه برأسه إلى بغداد و ملك همذان و بلاد الجبل أجمع و كان الوزير مؤيد الدين بن القصاب قد بعثه الخليفة الناصر مددا لخوارزم شاه في أمره فرحل إليه واستوحش ابن القصاب فامتنع ببعض الجبال هنالك و عاد خوارزم شاه إلى همذان و سلمها و أعمالها إلى قطلغ أبنانج و أقطع كثيرا منها مماليكه و قدم عليهم مناجي و أنزل معه ابنه و عاد إلى خوارزم ثم اختلف مناجي و قطلغ أبنانج و اقتتلوا سنة إحدى و تسعين فانهزم قطلغ و كان الوزير ابن القصاب قد سار إلى خوزستان فملكها و كثيرا من بلاد فارس و قبض على بني شملة أمرائها و بعث بهم إلى بغداد و أقام هو يمهد البلاد فلحق به قطلغ أبنانج هنالك مهزوما سليبا و استنجده على الري فأزاح علله و سار معه إلى همذان فخرج مناجي و ابن خوارزم شاه إلى الري و ملك ابن القصاب همذان همذان في سنة إحدى و تسعين و سار إلى الري فأجفل الخوارزميون أمامهم و بعث الوزير العساكر في أثرهم حتى لحقوهم بالدامغان و بسطام و جرجان و رجعوا عنهم و استولى الوزير على الري ثم انتقض قطلغ ابنانج على الوزير و امتنع بالري فحاصره الوزير و غلبه عليها و لحق أبنانج بمدينة ساوة و رحل الوزير في أتباعه حتى لحقه على دريندكرخ فهزمه و نجا أبنانج بنفسه و سار الوزير إلى همذان فأقام بظاهرها ثلاثة أشهر و بعث إليه خوارزم شاه بالنكير على ما فعل و يطلب إعادة البلاد فلم يجب إلى ذلك و سار خوارزم إليه و توفي قبل وصوله فقاتل العساكر بعده في شعبان سنة اثنتين و تسعين فهزمهم و أثخن فيهم و أخرج الوزير من قبره فقطع رأسه و بعث به إلى خوارزم لأنه كان قتل في المعركة و استولى على همذان و بعث عسكره إلى أصبهان فملكها و أنزل بها ابنه و عاد إلى خوارزم و جاءت عساكر الناصر أثر ذلك مع سيف الدين طغرل فقطع بلاد اللحف من العراق فاستدعاه أهل أصبهان فملكوا البلد و لحق عسكر خوارزم شاه بصاحبهم ثم اجتمع مماليك البهلوان و هم أصحاب قطلغ و قدموا على أنفسهم كركجة من أعيانهم و ساروا إلى الري فملكوها ثم إلى أصبهان كذلك و أرسل كركجة الى الديوان ببغداد يطلب أن يكون الري له مع جوار الري و ساوة و قم و قاشان و ما ينضاف إليها و تكون أصبهان و همذان و زنجان و مرو من الديوان فكتب له بذلك و الله أعلم (5/111)
وفاة ملك شاه بن خوارزم شاه تكش
قد تقدم لنا أن خوارزم شاه تكش ولي ابنه ملك شاه علي نيسابور سنة تسع و ثمانين و أضاف إليه خراسان و جعله ولي عهده في الملك فأقام بها إلى سنة ثلاث و تسعين ثم هلك في ربيع منها و خلف إبنا إسمه هندوخان و ولى خوارزم شاه على نيسابور ابنه الآخر فطلب الذي كان ولاه بمرو (5/112)
الخطا ـ إنهزام الخطا من الغورية
كان خوارزم شاه تكش لما ملك الري و همذان و أصبهان و هزم ابن القصاب و عساكر الخليفة بعث إلى الناصر يطلب الخطبة ببغداد فامتعض الناصر لذلك و أرسل إلى غياث الدين ملك غزنة و الغور فقصد بلاد خوارزم شاه فكتب إليه غياث الدين يتهدده بذلك فبعث خوارزم شاه إلى الخطا يستنجدهم على غياث الدين و يحذرهم أن يملك البلاد كما ملك بلخ فسار الخطا في عساكرهم و وصلوا بلاد الغور و راسلوا بهاء الدين سام ملك باميان و هو ببلخ يأمرونه بالخروج عنها و عاثوا في البلاد و خوارزم شاه قد قصد هراة و انتهى إلى طوس و اجتمع أمراء الغورية بخراسان مثل محمد بن بك مقطع الطالقان و الحسين بن مرميل و حروس و جمعوا عساكرهم و كبسوا الخطا و هزموهم و ألحقوهم بحيمون فتقسموا بين القتل و الغرق و بعث ملك الخطا إلى خوارزم شاه يتجنى عليه في ذلك و يطلب الدية على القتلى من قومه و يجعله السبب في قتلهم فراجع غياث الدين و استعطفه و وافقه على طاعة الخليفة و أعادة ما أخذه الخطا من بلاد الإسلام و أجاب ملك الخطا بأن قومه إنما جاؤا لإنتزاع بلخ من يد الغورية و لم يأتوا لنصرتي و أنا قد دخلت في طاعة غياث الدين فجهز ملك الخطا عساكره إليه و حاصروه فامتنع فرجعوا عنه بعد أن فني أكثرهم بالقتل و سار في أثرهم و حاصر بخارى وأخذ بمخنقها حتى ملكها سنة أربع و تسعين فأقام بها مدة و عاد إلى خوارزم و الله تعالى ولي التوفيق (5/113)
ملك خوارزم شاه تكين الري و بلاد الجبل
ثم سار خوارزم شاه تكين لإرتجاع الري و بلاد الجبل من يد مناجق و البهلوانية الذين انتقضوا عليه فهرب مناجق عن البلاد و تركها و ملكها خوارزم شاه و استدعاه فامتنع من الحضور و ابتعه فاستأمن أكثر أصحابه و رجعوا عنه و لحق بقلعة من أعمال مازندان فامتنع بها فبعث خوارزم شاه إلى الخليفة الناصر فبعث بالخلع له و لولده قطب الدين و كتب له تقليدا بالأعمال التي بيده ثم سار خوارزم شاه لقتال الملحدة فافتتح قلعة لهم قريبة من قزوين و انتقل إلى حصار قلعة الموت من قلاعهم فقتل عليها رئيس الشافعية بالري صدر الدين محمد بن الوزان و كان مقدما عنده و لازمه ثم عاد إلى خوارزم فوثب الملحدة على وزيره نظام الملك مسعود بن علي فقتلوه فجهز ابنه قطب الدين لقتالهم فسار إلى قلعة مرنسيس من قلاعهم فحاصرها حتى سألوه في الصلح على مائة ألف دينار يعطونها فامتنع أولا ثم بلغه مرض أبيه فأجابهم و أخذ منهم المال المذكور و عاد و الله أعلم (5/113)
وفاة خوارزم شاه
ثم توفي خوارزم شاه تكش بن البارسلان بن أتسز بن محمد أنوشتكين صاحب خوارزم بعد أن استولى على الكثير من خراسان و على الري و همذان و غيرها من بلاد الجبل و كان قد سار من خوارزم إلى نيسابور فمات في طريقه إليها في رمضان سنة ست و تسعين و خمسمائة و كان عندما اشتد مرضه بعث لأبنه قطب الدين محمد يخبره بحاله و يستدعيه فوصل بعد موته فبايع له أصحابه بالملك و لقبوه علاء الدين لقب أبيه و حمل شلو أبيه إلى خوارزم فدفنه بالمدرسة التي بناها هنالك و كان تكش عادلا عارفا بالأصول و الفقه على مذهب أبي حنيفة و لما توفي ابنه علاء الدين محمد كان ولده الآخر علي شاه بأصبهان فاستدعاه أخوه محمد فسار إليه و نهب أهل أصبهان فخلعه و ولاه أخوه على خراسان فقصد نيسابور و بها هندوخان ابن أخيهما ملك شاه منذ ولاه جده تكش عليها بعد أبيه ملك شاه و كان هندوخان يخاف عمه محمدا لعداوة بينه و بين أبيه ملكشاه و لما مات جده تكش نهب الكثير من خزائنه و لحق بمرو و بلغ و فات تكش إلى غياث الدين ملك غزنة فجلس للعزاء على ما بينهما من العداوة أعظاما لقدره ثم جمع هندوخان جموعا و سار إلى خراسان فبعث علاء الدين محمد بن تكش العساكر لدفاعه مع جنقر التركي فخام هندوخان عن لقائه و لحق بغياث الدين مستنجدا فأكرمه و وعده النصر و دخل جنقر مدينة مرو و بعث بام هندوخان و ولده إلى خوارزم مكرمين فأرسل غياث الدين صاحب غزنة إلى محمد بن ضربك نائبه بالطالقان أن ينبذ إلى جنقر العهد ففعل و سار من الطالقان إلى مرو الروذ فملكها و بعث إلى جنقر يأمره بالخطبة في مرو لغياث الدين أو يفارقها فبعث إليه جنقر يتهدده ظاهرا و يسأله سرا أن يستأمن له غياث الدين فقوي طعمه في البلاد بذلك و أمر أخاه شهاب الدين بالمسير إلى خراسان و الله أعلم (5/114)
ملوك الغورية ـ استيلاء ملوك الغورية على أعمال خوارزم شاه محمد تكش بخراسان و ارتجاعه اياها منهم ثم حصاره هراة من أعمالهم
و لما استأمن جنقر نائب مرو إلى غياث الدين طمع في أعمال خوارزم شاه بخراسان كما قلناه و استدعاه أخوه شهاب الدين للمسير إليها فسار إلى غزنة و استشار غياث الدين نائبه بهراة عمر بن محمد المرغني في المسير إلى خراسان فنهاه عن ذلك و وصل أخوه شهاب الدين في عساكر غزنة و الغوروسجستان و ساروا منتصف سبع و تسعين و وصل كتاب جنقر نائب مرو إلى شهاب الدين و هو بقرب الطالقان يحثه للوصول و أذن له غياث الدين فسار إلى مرو و قاتل العساكر الذين بها من الخوارزمية فغلبهم و أحجزهم بالبلد و سار بالفيلة إلى السور فاستأمن من أهل البلد و أطاعوا و خرج جنقر إلى شهاب الدين ثم جاء غياث الدين بعد الفتح إلى هراة مكرما و سلم مرو إلى هندوخان بن ملك شاه كما وعده ثم سار إلى سرخس فملكها صلحا و ولى عليها زنكي بن مسعود من بني عمه و أقطعه معها نسا و أبيورد ثم سار إلى طوس و حاصرها ثلاثا و استأمن إليه أهلها فملكها و بعث إلى علي شاه علاء الدين محمد بن تكش بنيسابور في الطاعة فامتنع فسار إليه و قاتل نيسابور من جانب و أخوه شهاب الدين من الجانب الآخر إليه سقوطه و دخلوا نيسابور و ملكوها و نادوا بالامان و جىء بعلي شاه من خوارزم إلى غياث الدين فأمنه و أكرمه و بعثه بالامراء الخوارزمية إلى هراة و ولى على خراسان ابن عمه و صهره على ابنته ضياء الدين محمد بن علي الغوري و لقبه علاء الدين و أنزله نيسابور في جمع من وجوه الغورية و أحسن إلى أهل نيسابور و سلم على شاه إلى أخيه شهاب الدين و رحل إلى هراة ثم سار شهاب الدين إلى قهستان و قيل له عن قرية من قراها انهم اسماعيلية فأمر بقتلهم و سبى ذراريهم و نهب أموالهم و خرب القرية ثم سار إلى حصن من أعمال قهستان و هم اسماعيلية فملكه بالامان بعد الحصار و ولى عليه بعض الغورية فأقام بها الصواب و شعار الاسلام و بعث صاحب قهستان إلى غياث الدين يشكو من أخيه شهاب الدين و يقول إن هذا نقض العهد الذي بيني و بينكم فما راعه إلا نزول أخيه شهاب الدين على حصن آخر للاسماعيلية من أعمال دهستان فحاصره فبعث بعض ثقاته إلى شهاب الدين يأمره بالرحيل فامتنع فقطع أطناب سرادقه و رحل مراغما و قصد الهند مغاضبا لاخيه و لما اتصل بعلاء الدين محمد بن تكش مسيرهما عن خراسان كتب إلى غياث الدين يعاتبه عن أخذه بلاده و يطلب اعادتها و يتوعده باستنجاد الخطا عليه فماطله بالجواب إلى خروج أخيه شهاب الدين من الهند لعجزه عن الحركة لاستيلاء مرض النقرس عليه فكتب خوارزم شاه إلى علاء الدين الغوري نائب غياث الدين بنيسابور يأمره بالخروج عنها فكتب بذلك إلى غياث الدين فأجابه يعده بالنصر و سار اليه خوارزم شاه محمد بن تكش آخر سنة سبع و تسعين و خمسمائة فلما قرب أبيورد هرب هندوخان من موالى غياث الدين و ملك محمد بن تكش مدينة مرو و نسا و ابيورد و سار إلى نيسابور و بها علاء الدين الغوري فحاصرها و أطال حصارها حتى استأمنوا إليه و استحلفوه و خربوا اليه فأحسن إليهم و سأل من علاء الدين الغوري السعي في الاصلاح بينه و بين غياث الدين فضمن ذلك و سار إلى هراة و بها أقطاعه و غضب على غياث الدين لقعوده عن انجاده فلم يسر إليه و بالغ محمد بن تكش في الاحسان إلى الحسن بن حرميل من أمراء الغورية ثم سار إلى سرخس و بها الأمير زنكي من قرابة غياث الدين فحاصرها أربعين يوما و ضيق مخنقها بالحرب و قطع الميرة ثم سأله زنكي الافراج ليخرج عن الامان فأفرج عنه يوما و ضيق مخنقها بالحرب و قطع الميرة ثم سأله زنكي الافراج ليخرج عن الامان فأفرج عنه قليلا ثم ملأ البلد من الميرة بما احتاج إليه و أخرج العاجزين عن الحصار و عاد إلى شأنه فندم محمد بن تكش و رحل عنها و جهز عسكرا لحصارها و جاء نائب الطالقان ممدا لمحمد بن خربك داحس بعد أن أرسل إليه بأنه عساكر الخوارزمية المجمرة عليه و أشاع ذلك فأفرجوا عنه و جاء إليه زنكي من الطالقان فخرج معه ابن خربك إلى مرو الروذ و جي خراجها و ما يجاورها و بعث إليه محمد بن تكش عسكرا نحوا من ثلاثة آلاف مع خاله فلقيهم محمد بن خربك في تسعمائة فارس فهزمهم و أثخن فيهم قتلا و أسرا و غنم سوادهم و عاد خوارزم شاه محمد بن تكش إلى خوارزم و أرسل إلى غياث الدين في الصلح فأجابه مع الحسن بن محمد المرغني من كبراء الغورية و غالطه في القول و لما وصل الحسن المرغني إلى خوارزم شاه و اطلع على أمره قبض على الحسن و سار إلى هراة فحاصرها و كتب الحسن إلى أخيه عمر بن محمد المرغني أمير هراة بالخبر فاستعد للحصار و قد كان لحق بغياب الدين أخوان من حاشية سلطان شاه عم محمد بن تكش المتوفي في سرخس فأكرمهما غياث الدين و أنزلهما بهراة فكاتبا محمد بن تكش و داخلاه في تمليكه هراة فسار لذلك و حاصر البلد و أميرها عمر المرغني مر إلى الاخوين و عندهما مفاتيح البلد و اطلع أخوه الحسن في محبسه على شأن الاخوين في مداخلة محمد بن تكش فبعث إلى أخيه عمر بذلك فلم يسعفه فبعث إليه بخط أحدهما فقبض عليهما و على أصحابهما و اعتقلهم و بعث محمد بن تكش عسكرا إلى الطالقان للغارة عليها فظفر بهم ابن خربك و لم يفلت منهم أحد ثم بعث غياث الدين ابن أخته البوغاني في عسكر من الغورية فنزلوا قريبا من عسكر خوارزم شاه محمد بن تكش و قطع عنهم الميرة ثم جاء غياث الدين في عسكر قليل لان أكثرها مع أخيه شهاب الدين بالهند و غزنة فنزل قريبا من هراة و لم يقدم على خوارزم فلما بلغ الحصار أربعين يوما و انهزم أصحاب خوارزم شاه بالطالقان و نزل غياث الدين و ابن أخته البوغاني قريبا منه و بلغه وصول أخيه شهاب الدين من الهند إلى غزنة أجمع الرحيل عن هراة و صالح عمر المرغني على مال حمله إليه و ارتحل إلى مرو منتصف ثمان و تسعين و سار شهاب الدين من غزنة إلى بلخ ثم إلى باميان معترفا على محاربة خوارزم شاه و التقت طلائعها فقتل بين الفريقين خلق ثم ارتحل خوارزم شاه عن مرو فجفلا إلى خوارزم و قتل الأمير سنجر صاحب نيسابور لاتهامه بالمخادعة و سار شهاب الدين إلى طوس و أقام بها إلى انسلاخ الشتاء معتزما على السير لحصار خوارزم فأتاه الخبر بوفاة أخيه غياث الدين فرجع إلى هراة و استخلف بمرو محمد بن خربك فسار إليه جماعة من أمراء خوارزم شاه سنة تسع و تسعين ابن خربك و لم ينج منهم إلا القليل فبعث خوارزم شاه الجيوش مع منصور التركي لقتال ابن خربك و لقيهم على عشرة فراسخ من مرو و قاتلهم فهزموه و دخل مرو منهزما فحاصروه خمسة عشر يوما ثم استأمن إليهم و خرج فقتلوه و أسف ذلك شهاب الدين و ترددت الرسل بينه و بين و خوارزم شاه في الصلح فلم يتم و أراد العود إلى غزنة فاستعمل على هراة ابن أخته البوغاني و ملك علاء الدن بن أبي على الغوري مدينة مرو و زكورة و بلد الغور و اعمال خراسان و فوض إليه في مملكته و عاد إلى غزنة سنة تسع و تسعين و خمسمائة ثم عاد خوارزم شاه إلى هراة منتصف سنة ستمائة و بها البوغاني ابن أخت شهاب الدين الغوري و كان شهاب الدين قد سار عن غزنة إلى لهاوون غازيا فحصر خوارزم شاه هراة إلى منسلخ شعبان و هلك في الحصار بين الفريقين خلق و كان الحسن بن حرميل مقيما بخوزستان و هي اقطاعه فأرسل إلى خوارزم شاه يخادعه و يطلب منه عسكرا يستلمون الفيلة و خزانة شهاب الدين فبعث إليه ألف فارس فاعترضهم هو و الحسن بن محمد المرغني فلم ينج منهم إلا القليل فندم خوارزم شاه على انفاذ العسكر و بعث إلى البوغاني أن يظهر بعض طاعته و يفرج عنه الحصار فامتنع ثم أدركه المرض فخشي أن يشغله المرض عن حماية البلد فيملكها عليه خوارزم شاه فرجع إلى اجابته و استحلفة و أهدى و خرج له ليلقاه و يعطيه بعض الخدمة فمات في طريقه و ارتحل خوارزم شاه عن البلد و أحرق المجانيق و سار إلى سرخس فأقام بها (5/115)
حصار شهاب الدين خوارزم شاه و انهزامه أمام الخطا
و لما بلغ شهاب الدين بغزنة ما فعل خوارزم شاه بهراة و موت نائبه بها البوغاني ابن أخته و كان غازيا إلى الهند فانثنى عزمه و سار إلى خوارزم و كان خوارزم شاه قد سار من سرخس و أقام بظاهر مرو فلما بلغه خبر مسيره أجفل راجعا إلى خوارزم فسبق الدين إليها و أجرى الماء في السبخة حواليها و جاء شهاب الدين فأقام أربعين يوما يطرق المسالك حتى أمكنه الوصول ثم التقوا و اقتتلوا و قتل بين الفريقين خلق كان منهم الحسن المرغني من الغورية و أسر جماعة من الخوارزمية فقتلهم شهاب الدين صبرا و بعث خوارزم شاه إلى الخطا فيما وراء النهر يستنجدهم على شهاب الدين فجمعوا و ساروا إلى بلاد الغور و بلغ ذلك شهاب الدين فسار اليهم فلقيهم بالمفازة فهزموه و حصروه في ايد حوى حتى صالحهم و خلص إلى الطالقان و قد كثر الارجاف بموته فتلقاه الحسن بن حرميل صاحب الطالقان و أزاح علله ثم سار إلى غزنة و احتمل ابن حرميل معه خشية من شدة جزعه أن يلحق بخوارزم شاه و يطيعه فولاه حجابته و سار معه و وجد الخلاف قد وقع بين أمرائه لما بلغهم من الارجاف بموته حسبما مر في أخبار الغورية فأصلح من غزتة و من الهند و تأهب للرجوع لخوارزم شاه و قد وقع في خبر هزيمته أمام الخطا بالمفازة وجه آخر ذكرناه هنالك و هو أنه فرق عساكره في المفازة لقلة الماء فأوقع بهم الخطا منفردين و جاء في الساقة فقاتلهم أربعة أيام مصابرا و بعث اليه صاحب سمرقند من عسكر الخطا و كان مسلما و أشار عليه بالتهويل عليهم فبعث عسكرا من الليل و جاؤا من الغد متسايلين و خوفهم صاحب سمرقند بوصول المدد لشهاب الدين فرجعوا إلى الصلح و خلص هو من تلك الواقعة و ذلك سنة احدى و ستمائة و مات شهاب الدين أثر ذلك (5/118)
استيلاء خوارزم شاه على بلاد الغورية بخراسان
كان نائب الغورية بهراة من خراسان الحسن بن حرميل و لما قتل شهاب الدين الغوري في رمضان سنة اثنتين و ستمائة قام بأمرهم غياث الدين محمود ابن أخيه غياث الدين و استولى على الغور من يد علاء الدين محمد بن أبي علي سروركاه و لما بلغ وفاة شهاب الدين إلى الحسن بن حرميل نائب هراة جمع أعيان البلد و قاضيهم و استحلفهم على الامتناع من خوارزم شاه ظاهرا و دس إلى خوارزم شاه بالطاعة و يطلب عسكرا يمتنع به من الغورية و بعث ابنه رهينة في ذلك فأنفذ إليه عسكرا من نيسابور و أمرهم بطاعة ابن حرميل و غياث الدين خلال ذلك يكاتب ابن حرميل و يطلبه في الطاعة فيراوغه بالمواعدة و بلغه خبره مع خوارزم شاه فاعتزم على النهوض إليه و استشار ابن حرميل بهراة أعيان البلد يختبر ما عندهم فقال له علي بن الخالق مدرس مية و ناظر الاوقاف الرأي صدق الطاعة لغياث الدين فقال إنما أخشاه فسر إليه و توثق لي منه ففعل و سار إلى غياث الدين فأطلعه على الجلي من أمر ابن حرميل و وعده الثورة به و كتب غياث الدين إلى نائبه بمرو يستدعيه فتوقف و حمله أهل مرو على المسير فسار فخلع عليه غياث الدين و أقطعه و استدعى غياث الدين أيضا نائبه بالطالقان أميران قطر فوقف فأقطع الطالقان سونج مملوك ابنه المعروف بأمير شكار و بعث إلى ابن حرميل مع ابن زياد بالخلع و وصل معه رسوله يستنجر خطبته له فمطله أياما حتى وصل عسكر خوارزم شاه من نيسابور و وصل في اثرهم خوارزم شاه و انتهى إلى بلخ على أربعة فراسخ فندم اين حرميل عندما عاين مصدوقة الطاعة و عرف عسكر خوارزم شاه بأن صاحبهم قد صالح غياث الدين و ترك له البلاد فانصرفوا إلى صاحبهم و بعث إليه معهم بالهدايا و لما سمع غياث الدين بوصول عسكر خوارزم شاه إلى هراة أخذ اقطاع ابن حرميل و قبض على أصحابه و استصفى أمواله و ما كان له من الذخيرة في حروبان و تبين ابن حرميل في أهل هراة الميل إلى غياث الدين و الانحراف عنه و خشي من ثورتهم به فأظهر طاعة غياث الدين و جمع أهل البلد على مكاتبته بذلك فكتبوا جميعا و أخرج الرسول بالكتاب و دس إليه بأن يلحق عسكر شاه فيردهم إليه فوصل الرسول بهم لرابع يومه و لقيهم ابن حرميل و أدخلهم البلد و سمل ابن زياد الفقيه و أخرج صاعدا القاضي و شيع الغورية فلحقوا بغياث الدين و سلم البلد لعسكر الطالقان و كان منحرفا عن غياث الدين بسبب عزله فدس إلى ابن حرميل بان يكبسه و واعده الهزيمة و حلف له على ذلك فكبسه ابن حرميل فانهزم عسكر غياث الدين و أسر كثير من أمرائه و شن ابن حرميل الغارة على بلاد باذغيس و غيرها من البلاد و اعتزم غياث الدين على المسير بنفسه إلى هراة ثم شغل عن ذلك بأمر غزنة و مسير صاحب باميان إلى الدوس فأقصر و استظهر خوارزم شاه إلى بلخ و قد كان عند مقتل شهاب الدين أطلق الغورية الذين كان أسرهم في المصاف على خوارزم و خيرهم في المقام عنده أو اللحاق بقومهم و استصفى من أكابرهم محمد بن بشير و أقطعه فلما قصد الآن بلخ قدم إليه أخوه علي شاه في العساكر و برز إليه عمر بن الحسن أميرها فدافعه عنها و نزل على أربعة فراسخ و أرسل إلى أخيه خوارزم شاه بذلك فسار إليه في ذي القعدة من السنة و نزل على بلخ و حاصرها و هم ينتظرون المدد من صاحبهم باميان بن بهاء الدين و قد شغلوا بغزنة فحاصروها خوارزم شاه أربعين يوما و لم يظفر فبعث محمد بن بشير الغوري إلى عماد الدين عمر بن الحسن نائبها يستنزله فامتنع فاعتزم خوارزم شاه على المسير إلى هراة ثم بلغه أن أولاد بهاء الدين أمراء باميان ساروا إلى غزانة و أسرهم تاج الدين الزر فاعاد محمد بن بشير إلى عمر بن الحسين فأجاب إلى طاعة خوارزم شاه و الخطبة له و خرج إليه فأعاده إلى بلده و ذلك في ربيع سنة ثلاث و ستمائة ثم سار خوارزم شاه إلى جوزجان و بها علي بن أبي علي فنزل له عنها و سلمها خوارزم شاه إلى ابن حرميل لانها كانت من أقطاعه و بعث إلى غياث الدين عمر بن الحسين من بلخ يستدعيه ثم قبض عليه و بعث به إلى خوارزم شاه و سار إلى بلخ فاستولى عليها و استخلف عليها جغري التركي و عاد إلى بلاده (5/119)
استيلاء خوارزم شاه على ترمذ و تسليمها للخطا
و لما أخذ خوارزم شاه بلخ سار عنها إلى ترمذ و بها عماد الدين عمر بن الحسين الذي كان صاحب بلخ و قدم إليه محمد بن بشير بالعذر عن شأن أبيه و أنه إنما بعثه لخوارزم مكرما و هو أعظم خواصه و يعده بالاطلاع فاتهم على صاحبها أمره و اجتمع عليه خوارزم شاه و الخطا من جميع جوانبه و أسر أصحابه ملوك باميان بغزنة فاستأمن إلى خوارزم شاه و ملك منه البلد ثم سلمها إلى الخطا و هم على كفرهم ليسالموه حتى يملك و ينتزعها منهم فكان كما قدره و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/120)
استيلاء خوارزم شاه على الطالقان
و لما ملك خوارزم شاه ترمذ سار إلى الطالقان و بها سونج و استناب على الطالقان أمير شكار نائب غياث الدين محمود و بعث إليه يستلميه فامتنع و برز للحرب حتى تراءى الجمعان فنزل عن فرسه و نبذ سلاحه و جاء متطارحا في العفو فأغرض عنه و ملك الطالقان و استولى على ما فيها و بعث إليه سونج و استناب على بعض أصحابه و سار إلى قلاع كالومين و مهوار و بها حسام الدين علي بن أبي فقاتله و دفعه على ناحيته و سار إلى هراة و خيم بظاهرها و جاء رسول غياث الدين بالهدايا و التحف ثم جاء ابن حرميل في جمع من عساكر خوارزم شاه إلى اسفراين فملكها على الامان في صفر من السنة و بعث إلى صاحب سجستان و هو حرب بن محمد بن إبراهيم من عقب خلف الذي كان ملكها منذ عهد ابن سبكتكين في الطاعة لخوارزم و الخطبة له فامتنع و قصد خوارزم شاه و هو على هراة القاضي صاعد بن الفضل الذي أخرجه ابن حرميل و لحق بغياث الدين فلما جاء إلى خوارزم شاه رماه ابن حرميل بالميل إلى الغورية فحبسه بقلعة زوزن و ولى القضاء بهراة الصفى أبا بكر بن محمد السرخسي و كان ينوب عن صاعد و ابنه في القضاة (5/121)
استيلاء خوارزم شاه على مازندان و أعمالها
ثم توفي صاحب مازندان حسام الدين ازدشير وولى ابنه الأكبر و طرد أخاه الأوسط فقصد جرجان و بها الملك على شاه ينوب عن أخيه خوارزم شاه محمد بن تكش و استنجده فستأذن أخاه و سار معه من جرجان سنة ثلاث و ستمائة و مات الأخ الذي ولى على مازندان و ولى مكانه أخوهما الأصغر و وصل على شاه و معه أخو صاحب مازندان فعاثوا في البلاد و امتنع الملك بالقلاع مثل سارية و آمد فملكوها من يده و خطب فيها لخوارزم شاه و عاد شاه إلى جرجان و ترك ابن صاحب مازندان الذي استجار به ملكا في تلك البلاد و أخوه بقلعة كوره (5/121)
استيلاء خوارزم شاه على ما وراء النهر و قتاله مع الخطا و أسره و خلاصه
قد تقدم لنا كيف تغلب الخطا على ما وراء النهر منذ هزموا سنجر بن ملك شاه و كانوا أمة بادية يسكنون الخيام التي يسمونها الخركاوات و هم على دين المجوسية كما كانوا موطنين بنواحي أوزكنده و بلاد ساغون و كاشغر و كان سلطان سمرقند و بخارى من ملوك الخانية الاقدمين عريقا في الإسلام و البيت و الملك و يلقب خان خاقان بمعنى سلطان السلاطين و كان الخطا وضعوا الجزية على بلاد المسلمين فيما وراء النهر و كثر عيثهم و ثقلت وطأتهم فأنف صاحب بخارى من تحكمهم و بعث إلى خوارزم شاه يستصرخه لحادتهم على أن يحمل اليه ما يحملونه للخطا و تكون له الخطبة و السكة و بعث في ذلك وجوه بخارى و سمرقند فحلفوا له و وضعوا رهائنهم عنده فتجهز لذلك و ولى أخاه على شاه على طبرستان مع جرجان و ولى على نيسابور الأمير كزلك خان من أخواله و أعيان دولته و ندب معه عسكرا و ولى على قلعة زوزن أمين الدين أبا بكر و كان أصله حمالا فارتفع و ترقي في الرتب إلى ملك كرمان و ولى على مدينة الجام الأمير جلدك و أقر على هراة الحسن بن حرميل و أنزل معه ألفا من المقاتلة و استناب في مرو و سرخس و غيرهما و صالح غياث الدين محمودا على ما بيده من بلاد الغور و كرمسين و جمع عساكر و سار إلى خوارزم فتجهز منها و عبر جيحون و اجتمع بسلطان بخارى و سمرقند و زحف إليه الخطا فتواقعوا معه مرات و بقيت الحرب بينهم سجالا ثم انهزم المسلمون و أسر خوارزم شاه و رجعت العساكر إلى خوارزم معلولة و قد أرجف بموت السلطان و كان كزلك خان نائب نيسابور محاصرا لهراة و معه صاحب زوزن فرجعوا إلى بلادهما و أصلح كزلك خان سور نيسابور و استكثر من الجند و الأقوات و حدثته نفسه بالاستبداد و بلغ الارجاف إلى أخيه علي شاه بطبرستان فدعا لنفسه و قطع خطبة أخيه و كان مع خوارزم شاه حين أسر أمير من امرائه يعرف بابن مسعود فتحيل للسلطان بان أظهر نفسه في صورته و اتفقا على دعائه باسم السلطان و أوهما صاحبهما الذي أسرهما أن ابن مسعود هو السلطان و أن خوارزم شاه خديمه فأوجب ذلك الخطائي حقه و عظمه لاعتقاده أنه السلطان و طلب منه بعد أيام أن يبعث ذلك الخديم لأهله و هو خوارزم شاه في الحقيقة ليعرف أهله بخبره و يأتيه بالمال فيدفعه إليه فأذن له الخطائي في ذلك و أطلقه بكتابه و لحق بخوارزم و دخل إليها في يوم مشهود و علم بما فعله أخوه علي شاه بطبرستان و كزلك خان بنيسابور و بلغهما خبر خلاصه فهرب كزلك خان إلى العراق و لحق علي شاه بغياث الدين محمود فأكرمه و أنزله و سار خوارزم شاه إلى نيسابور فأصلح أمورها و ولى عليها و سار إلى هراة فنزل عليها و عسكره محاصر دونها و ذلك سنة أربع و ستمائة و الله أعلم (5/122)
مقتل ابن حرميل ثم استيلاء خوارزم شاه على هراة
كان ابن حرميل قد تنكر لعسكر خوارزم شاه الذين كانوا عنده بهراة لسوء سيرتهم فلما عبر خوارزم شاه جيحون و اشتغل بقتال الخطا قبض ابن حرميل على العسكر و حبسهم و بعث إلى خوارزم شاه يعتذر و يشكو من فعلهم فكتب إليه يستحسن فعله و يأمره بانفاذ ذلك العسكر إليه ينتفع بهم في قتال الخطا و كتب إلى جلدك بن طغرل صاحب الجام أن يسير إليه بهراة ثقة بفعله و حسن سريرته و أعلم ابن حرميل بذلك و دس إلى جلدك بالتحيل على ابن حرميل بكل وجه و القبض عليه فسار في ألفى مقاتل و كان يهوي ولاية هراة لأن أباه طغرل كان واليا بها لسنجر فلما قارب هراة أمر ابن حرميل الناس بالخروج لتلقيه و خرج هو في اثرهم بعد أن أشار عليه وزيره خواجا الصاحب فلم يقبل فلما التقى جلدك و ابن حرميل ترجلا عن فرسيهما للسلام و أحاط أصحاب جلدك بابن حرميل و قبضوا عليه و انهزم أصحابه إلى المدينة فأغلق الوزير خواجا الابواب و استعد للحصار و أظهر دعوة غياث الدين محمود و جاء جلدك فناداه من السور و تهدده بقتل ابن حرميل و جاء بابن حرميل حتى أمره بتسليم البلد لجلدك فأبي و أساء الرد عليه و على جلدك فقتل ابن حرميل و كتب إلى خوارزم شاه بالخبر فبعث خوارزم شاه إلى كزلك خان نائب نيسابور و إلى أمين الدين أبي بكر نائب زوزن بالمسير إلى جلدك و حصار هراة معه فسار لذلك في عشرة آلاف فارس و حاصروها فامتنعت و كان خلال ذلك ما قدمناه من انهزام خوارزم شاه أمام الخطا و أسرهم إياه ثم تخلص و لحق بخوارزم ثم جاء إلى نيسابور و لحق بالعساكر الذين يحاصرون هراة فأحسن إلى أمرائهم لصبرهم و بعث إلى الوزير خواجا في تسليم البلد لأنه كان يعد عسكره بذلك حين وصوله فامتنع و أساء الرد فشد خوارزم في حصاره و ضجر أهل المدينة و جهدهم الحصار و تحدثوا في الثورة فبعث جماعة من الجند للقبض عليه فثاروا بالبلد و شعر جماعة العسكر من خارج بذلك فرجعوا إلى السور و اقتحموا و ملك البلد عنوة و جيء بالوزير أسيرا إلى خوارزم شاه فأمر بقتله فقتل و كان ذلك سنة خمس و ستمائة و ولى على هراة خاله أمير ملك و عاد و قد استقر له أمر خراسان (5/123)
استيلاء خوارزم شاه على بيروزكوه و سائر بلاد خراسان
لما ملك خوارزم شاه هراة و ولى عليها خاله أمير ملك و عاد إلى خوارزم بعث الى أمير ملك يأمره بيروزكوه و كان بها غياث الدين محمود بن غياث الدين و قد لحق به أخوه علي شاه و أقام عنده فسار أمير ملك و بعث إليه محمود بطاعته و نزل إليه فقبض عليه أمير ملك و على علي شاه أخي خوارزم شاه و قتلهما جميعا سنة خمس و ستمائة و صارت خراسان كلها لخوارزم شاه محمد بن تكش و انقرض أمر الغورية و كانت دولتهم من أعظم الدول و أحسنها و الله تعالى ولى التوفيق (5/124)
هزيمة الخطا
و لما استقر أمر خراسان لخوارزم شاه و استنغر و عبر نهر جيحون و سار إليه الخطا و قد احتفلوا للقائه و ملكهم يومئذ طانيكوه ابن مائة سنة و نحوها و كان مظفرا مجربا بصيرا بالحرب و اجتمع خوارزم شاه و صاحب سمرقند و بخارى و تراجعوا سنة ست و ستمائة و وقعت بينهم حروب لم يعهد مثلها ثم انهزم الخطا و أخذ فيهم القتل كل مأخذ و أسر ملكهم طانيكوه فأكرمه خوارزم شاه و أجلسه معه على سريره و بعث به إلى خوارزم و سار هو إلى وراء النهر و ملكها مدينة مدينة إلى أوركند و أنزل نوابه فيها و عاد إلى خوارزم و معه صاحب سمرقند فأصهر إليه خوارزم شاه بأخته ورده إلى سمرقند و بعث معه شحنة يكون بسمرقند على ما كان أيام الخطا و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء (5/124)
انتقاض صاحب سمرقند
و لما عاد صاحب سمرقند إلى بلده أقام شحنة خوارزم شاه و عسكره معه نحوا من سنة ثم استقبح سيرتهم و تنكر لهم و أمر أهل البلاد فثاروا بهم و قتلوهم في كل مذهب و هم بقتل زوجته أخت خوارزم شاه فغلقت الأبواب دونه و استرحمته فتركها و بعث إلى ملك الخطا بالطاعة و بلغ الخبر إلى خوارزم شاه فامتعض و هم بقتل من في بلده من أهل سمرقند ثم انثنى عن ذلك و أمر عساكره بالتوجه إلى ما وراء النهر فخرجوا أرسالا و هو في أثرهم و عبر بهم النهر و نزل على سمرقند و حاصرها و نصب عليها الآلات و ملكها عنوة و استباحها ثلاثا قتل فيها نحوا من مأتي ألف و اعتصم صاحبها بالقلعة ثم حاصرها و ملكها عنوة و قتل صاحبها صبرا في جماعة من أقرانه و محا آثار الخانية و أنزل في سائر البلاد وراء النهر نوابه و عاد إلى خوارزم و الله تعالى ولى النصر بمنه و فضله (5/124)
استلحام الخطا
قد تقدم لنا وصول طائفة من أمم الترك إلى بلاد تركستان و كاشغر و انتشارهم فيما وراء النهر و استخدموا للملوك الخانية أصحاب تركستان و كان أرسلان خان محمد بن سليمان ينزلهم مسالح على الريف فيما بينه و بين الصين و لهم على ذلك الاقطاعات و الجرايات و كان يعاقبهم على ما يقع منهم من الفساد و العيث في البلاد و يوقع بهم ففروا من بلاده و ابتغوا عنه فسيحا من الأرض و نزلوا بلاد ساغون ثم خرج كوخان ملك الترك الاعظم من الصين سنة اثنتين و عشرين و خمسمائة فسارت إليه أمم الخطا و لقيهم الخان محمود بن محمد بن سليمان بن داود بفراخان و هو ابن أخت السلطان سنجر فهزموه و بعث بالصريخ إلى خاله سنجر فاستنفر ملوك خراسان و عساكر المسلمين و عبر جيحون للقائهم في صفر سنة ست و ثلاثين و لقيه و أمم الترك و الخطا فهزموه و اثخنوا في المسلمين و أسرت زوجة السلطان سنجر ثم أطلقها كوخان بعد ذلك و ملك الترك بلاد ما وراء النهر ثم مات كوخان ملكهم سنة سبع و ثلاثين و وليت بعده ابنته و ماتت قريبا و ملكت من بعدها أمها زوجة كوخان و ابنه محمد ثم انقرض ملكهم و استولى الخطا على ما وراء النهر إلى آن غلبهم عليه خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش كما قدمنا و كانت قد خرجت قبل ذلك خارجة عظيمة من الترك يعرفون بالتتر و نزلوا في حدود الصين وراء تركستان و كان ملكهم كشلى خان و وقع بينه و بين الخطا من العداوة و الحروب ما يقع بين الأمم المتجاورة فلما بلغهم ما فعله خوارزم شاه بالخطا أرادوا الانتقام منهم و زحف كشلى في أمم التتر إلى الخطا لينتهز الفرصة فيهم فبعث الخطا إلى خوارزم شاه يتلطفون له و يسألونه النصر من عدوهم قبل أن يستحكم أمرهم و تضيق عنه قدرته و قدرتهم و بعث إليه كشلى يغريه بهم و أن يتركه و إياهم و يحلف له على مسالمة بلاده فسار خوارزم شاه يوهم كل واحد من الفريقين أنه له و أقام منتبذا عنهما حتى تواقعوا و انهزم الخطا فمال مع التتر عليهم و استلحموهم في كل وجه و لم ينج منهم إلا القليل فتحصنوا بين جبال في نواحي تركستان و قليل آخرون لحقوا بخوارزم شاه كانوا معه و بعث خوارزم شاه إلى كشلى خان ملك التتر يعتد عليه بهزيمة الخطا و أنها إنما كانت بمظاهرته فأظهر له الاعتراف و شكره ثم نازعه في بلادهم و أملاكهم و سار لحربهم ثم علم أنه لا طاقة له بهم فمكث يراوغهم على اللقاء كشلى خان يعذ له في ذلك و هو يغلطه و استولى كشلى خان خلال ذلك على كاشغر و بلاد تركستان و ساغون ثم عمد خوارزم شاه إلى الشاش و فرغانة و اسحان و كاشان و ما حولها من المدن التي لم يكن في بلاد الله انزه منها و لا أحسن عمارة فجلا أهلها إلى بلاد الإسلام و خرب جميعها خوفا أن يملكها التتر ثم اختلف التتر بعد ذلك و خرج على كشلى طائفة أخرى منهم يعرفون بالمغل و ملكهم جنكزخان فشغل كشلى خان بحر بهم عن خوارزم شاه فعبر النهر إلى خراسان و ترك خوارزم شاه إلى أن كان من أمره ما نذكره و الله تعالى أعلم (5/125)
استيلاء خوارزم شاه على كرمان و مكران و السند
قد تقدم لنا أنه كان من جملة أمراء خوارزم شاه تكش تاج الدين أبو بكر و أنه كان كريا للدواب ثم ترقت به الاحوال إلى أن صار سروان لتكش و السروان مقدم الجهاد ثم تقدم عنده لجلده و امانته و صار أمير و ولاه قلعة زوزن ثم تقدم عند علاء الدين محمد بن تكش و اختصه فأشار عليه بطلب بلاد كرمان لما كانت مجاورة لوطنه فبعث معه عسكرا و سار إلى كرمان سنة اثنتي عشرة و صاحبها يومئذ محمد بن حرب أبي الفضل الذي كان صاحب سجستان أيام السلطان سنجر فغلبه على بلاده و ملكها ثم سار إلى كرمان و ملكها كلها إلى السند من نواحي كابل و سار إلى هرمز من مدن فارس بساحل البحر و اسم صاحبها مكيك فأطاعه و خطب لخوارزم شاه و ضمن مالا يحمله و خطب له بقلعات و بعض عمان من وراء النهر لأنهم كانوا يتقربون إلى صاحب هرمز بالطاعة و تسير سفنهم بالتجار إلى هرمز لانه المرسى العظيم الذي تسافر إليه التجار من الهند و الصين و كان بين صاحب هرمز و صاحب كيش مغاورات و فتن و كل واحد منهما ينهى مراكب بلاده أن ترسي ببلاد الآخر و كان خوارزم شاه يطيف بنواحي سمرقند خشية أن يقصد التتر أصحاب كشلى خان بلاده (5/126)
استيلاء خوارزم شاه على غزنة و أعمالها
و لما استولى خوارزم شاه محمد بن تكش على بلاد خراسان و ملك باميان و غيرها و بعث تاج الدين المرز صاحب غزنة و قد تغلب عليها بعد ملوك الغورية و قد تقدم في أخبار دولتهم فبعث إليه في الخطبة له و أشار عليه كبير دولته قطلغ تكين مولى شهاب الدين الغوري و سائر أصحابه بالاجابة إلى ذلك فخطب له و نقش السكة باسمه و سار قنصيرا و ترك قطلغ تكين بغزنة نائبا عنه فبعث قطلغ تكين لخوارزم شاه يستدعيه فأغذ له السير و ملك غزنة و قلعتها و قتل الغورية الذين وجدوا بها خصوصا الاتراك و بلغ الخبر المرز فهرب إلى أساون ثم أحضر خوارزم شاه قطلغ و وبخه على قلة وفائه لصاحبه و صادره على ثلاثين حملا من أصناف الاموال و الامتعة و أربعمائة مملوك ثم قتله و عاد إلى خوارزم و ذلك سنة ثلاث عشرة و ستمائة و قيل سنة اثنتي عشرة بعد أن استخلف عليها ابنه جلال الدين منكبرس و الله أعلم بغيبه و أحكم (5/127)
استيلاء خوارزم شاه على بلاد الجبل
كان خوارزم شاه محمد بن تكش قد ملك الرها و همذان و بلاد الجبل كلها أعوام تسعين و خمسمائة من يد قطلغ آبنايخ بقية أمراء السلجوقية و نازعه فيها ابن القصاب وزير الخليفة الناصر فغلبه خوارزم شاه و قتله كما مر في أخباره ثم شغل عنها تكش إلى أن توفي و ذلك سنة سبع و تسعين و صار ملكه لابنه علاء الدين محمد بن تكش و تغلب موالى البهلوان على بلاد الجبل واحدا بعد واحد و نصبوا أزبك بن مولاهم البهلوان ثم انتقضوا عليه و خطبوا لخوارزم شاه و كان آخر من ولى منهم أغماش و أقام بها مدة يخطب لعلاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه ثم وثب بعض الباطنية و طمع أزبك بن محمد البهلوان بقية الدولة السلجوقية باذربيجان و اران في الاستيلاء على أعمال أصبهان و الري و همذان و سائر بلاد الجبل و طمع سعد بن زنكي صاحب فارس و يقال سعد بن دكلاء في الاستيلاء عليها أيضا كذلك و سار في العساكر فملك أزبك أصبهان بممالأة أهلها و ملك سعد الري و قزوين و سمنان و طار الخبر إلى خوارزم شاه بأصبهان بسمرقند فسار في العساكر سنة أربع عشرة و ستمائة في مائة ألف بعد أن جهز العساكر فيما وراء النهر و بثغور الترك و انتهى إلى قومس ففارق العساكر و سار متجردا في اثني عشر ألفا فلما ظفرت مقدمته بأهل الري و سعد مخيم بظاهرها ركب للقتال بظن أنه السلطان ثم تبين الآلة و المركب و استيقن أنه السلطان فولت عساكره منهزمة و حصل في أسر السلطان و بلغ الخبر إلى أزبك بأصبهان فسار إلى همذان ثم عدل عن الطريق في خواصه و ركب الاوعار إلى أذربيجان و بعث وزيره أبا القاسم بن علي بالاعتذار فبعث إليه في الطاعة فأجابه و حمله الضريبة فاعتذر بقتال الكرج و أما سعد صاحب فارس فبلغ الخبر بأسره إلى ابنه نصرة الدين أبي بكر فهاج بخلعان أبيه و أطلق السلطان سعدا على أن يعطيه قلعة اصطخر و يحمل إليه ثلث الخراج و زوجه بعض قرابته و بعث معه من رجال الدولة من يقبض اصطخر فلما وصل إلى شيراز وجد ابنه منتقضا فداخله بعض أمراء ابنه و فتح له باب شيراز و دخل على ابنه و استولى على ملكه و خطب لخوارزم شاه و استولى خوارزم شاه على شاورة و قزوين و جرجان و ابهر و همذان و أصبهان وقم و قاشان و سائر بلاد الجبل و استولى عليها كلها من أصحابها و اختص الامير طائيين بهمذان و ولى ابنه ركن الدولة ياورشاه عليهم جميعا و جعل معه جمال الدين محمد بن سابق الشاوي وزيرا (5/127)
طلب الخطبة و امتناع الخليفة منها
ثم بلغ ذلك بعث خوارزم شاه محمد بن تكش إلى بغداد يطلب الخطبة بها من الخليفة كما كانت لبني سلجوق و ذلك سنة أربع عشرة و ذلك لما رأي من استفحال أمره و اتساع ملكه فامتنع الخليفة من ذلك و بعث في الاعتذار عنه الشيخ شهاب الدين سهر وردي فأكبر السلطان مقدمه و قام لتلقيه و أول ما بدأ به الكلام على حديث الخطبة ببغداد و جلس على ركبتيه لاستماعه ثم تكلم و أطال و أجاد و عرض بالموعظة في معاملة النبي صلى الله عليه و سلم في بني العباس و غيرهم و التعرض لاذايتهم فقال السلطان حاش لله من ذلك و أنا ما آذيت أحدا منهم و أمير المؤمنين كان أولى مني بموعظة الشيخ فقد بلغني أن في محبسه جماعة من بني العباس مخلدين يتناسلون فقال الشيخ الخليفة إذا حبس أحدا للاصلاح لا يعترض عليه فيه فما بويع إلا للنظر في المصالح ثم ودعه السلطان و رجع إلى بغداد و كان ذلك قبل أن يسير إلى العراق فلما استولى على بلاد الجبل و فرغ من أمرها سار إلى بغداد و انتهى إلى عقبة سراباد و أصابه هنالك ثلج عظيم أهلك الحيوانات و عفن أيدي الرجال و أرجلهم حتى قطعوها و وصله هنالك شهاب الدين السهر وردي و وعظه فندم و رجع عن قصده فدخل إلى خوارزم سنة خمس عشرة و الله سبحانه و تعالى ولى التوفيق (5/128)
قسمة السلطان خوارزم شاه الملك بين ولده
و لما استكمل السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش ملكه بالاستيلاء على الري و بلاد الجبل قسم أعمال ملكه بين ولده فجعل خوارزم و خراسان و مازندان لولى عهده قطب الدين أولاغ شاه و إنما كان ولى عهده دون ابنه الأكبر جلال الدين منكبرس لان أم قطب الدين و أم السلطان و هي تركمان خاتون من قبيلة واحدة و هم فياروت من شعوب يمك إحدى بطون الخطا فكانت تركمان خاتون متحكمة في ابنها السلطان محمد بن تكش و جعل غزنة و باميان و الغور و بست و مكساماد و ما من الهند لابنه جلال الدين منكبرس و كرمان و كيس و مكرمان لابنه غياث الدين يترشاه و بلاد الجبل لابنه ركن الدين غور شاه كما قدمناه و أذن لهم في ضرب النوب الخمس له و هي دبادب ضغار تقرع عقب الصلوات الخمس و اختص هو بنوبة سماها نوبة ذي القرنين سبع و عشرين دبدبة كانت مصنوعة من الذهب و الفضة مرصعة بالجواهر هكذا ذكر الوزير محمد بن أحمد السنوي المنشى كاتب جلال الدين منكبرس في أخباره ابنه علاء الدين محمد بن تكش و على كتابه اعتمدت دون غيره لانه أعرف بأخبارهما و كانت كرمان و مكران و كيش لمؤيد الملك قوام الدين و هلك منصرف السلطان من العراق فأقطعها لابنه غياث الدين كما قلناه و كان الملك هذا سوقة فأصبح ملكا و أصل خبره أن أمه كانت داية في دار نصرة الدين محمد بن أبز صاحب زوزن و نشأ في بيته و استخدمه و سفر عنه للسلطان فسعى به أنه من الباطنية ثم رجع فخوفه من السلطان بذلك فانقطع نصرة الدين إلى الاسماعيلية و تحصن ببعض قلاع زوزن و كتب قوام الدين بذلك إلى السلطان فجعل إليه وزارة زوزن و ولاية جبايتها و لم يزل يخادع صاحبه نصرة الدين إلى أن راجع فتمكن من السلطان و سمله ثم طمع قوام الدين في ملك كرمان و كان بها أمير من بقية الملك دينار و أمده السلطان بعسكر من خراسان فملك كرمان و حسن موقع ذلك من السلطان فلقبه مؤيد الملك و جعلها في أقطاعه و لما رجع السلطان من العراق و قد نفقت جماله بعث إليه بأربعة آلاف بختي و توفي أثر ذلك فرد السلطان أعماله إلى ابنه غياث الدين كما قلناه و حمل من تركته إلى السلطان سبعون حملا من الذهب خلا الاصناف (5/129)
أخبار تركمان خاتون أم السلطان محمد بن تكش
كانت تركمان خاتون أم السلطان محمد بن تكش من قبيلة بياروت من شعوب الترك يمك من الخطا و هي بنت خان حبكش من ملوكهم تزوجها السلطان خوارزم شاه تكش فولدت له السلطان محمدا فلما ملك لحق بها طوائف يمك و من جاورهم من الترك و استظهرت بهم و تحكمت في الدولة فلم يملك السلطان معها أمره و كانت تولى في النواحي من جهتها كما يولي السلطان و تحكم بين الناس و تنحف من الظلامات و تقدم على الفتك و القتلى و تقيم معاهد الخير و الصدقة في البلاد و كان لها سبعة من الموقعين يكتبون عنها و إذا عارض توقيعها لتوقيع السلطان عمل بالمتأخر منهما و كان لقبها خداوند جهان أي العالم و توقيعها في الكتاب عصمة الدنيا و الدين اولاغ تركمان ملك نساء العالمين و علامتها اعتصمت بالله وحده تكتبها بقلم غليظ و تجود كتابتها أن ترور عليها و استورت للسلطان وزيره نظام الملك و كان مستخدما لها فلما عزل السلطان وزيره أشارت عليه بوزارة نظام الملك هذا فوزر له على كره من السلطان و تحكم في الدولة بتحكمها ثم تنكر له السلطان لامور بلغته عنه و عزله فاستمر على وزارتها و كان شأنه في الدولة أكبر و شكاه إليه بعض الولاة بنواحي خوارزم أنه صادره فأمر بعض خواصه بقتله فمنعه تركمان من ذلك و بقي على حاله و عجز السلطان عن انفاذ أمره فيه و الله يؤيد بنصره من يشاء (5/130)
التتر ـ خروج التتر و غلبهم على ما وراء النهر و فرار السلطان أمامهم من خراسان
و لما عاد السلطان من العراق سنة خمس عشرة كما قدمناه و استقر بنيسابور وفدت عليه رسل جنكزخان بهدية من المعدنين و نوافج المسك و حجر البشم و الثياب الطائية التي تنسج من وبر الابل البيض و بخبر أنه ملك الصين و ما يليها من بلاد الترك و يسأل الموادعة و الاذن للتجار من الجانبين في التردد في متاجرهم و كان في خطابه اطراء السلطان بأنه مثل أعز أولاده فاستنكف السلطان من ذلك و استدعى محمودا الخوارزمي من الرسل و اصطنعه ليكون عينا له على جنكزخان و استخبره على ما قاله في كتابه الصين و استيلائه على مدينة طوغاج فصدق ذلك و نكر عليه الخطاب بالولد و سأله عن مقدار العساكر فغشه و قللها و صرفهم السلطان بما طلبوه من الموادعة و الاذن للتجار فوصل بعض التجار من بلادهم إلى انزار و بها نيال خان ابن خال السلطان في عشرين ألفا من العساكر فشره إلى أموالهم و خاطب السلطان بأنهم عيون و ليسوا بتجار فأمره بالاحتياط عليهم فقتلهم خفية و أخذ أموالهم و فشا الخبر إلى جنكزخان فبعث بالنكير إلى السلطان في نقض العهد و إن كان فعل نيال افتياتا فبعث إليه يتهدده على ذلك فقتل السلطان الرسل و بلغ الخبر إلى جنكزخان فسار في العساكر و اعتزم السلطان أن يحصن سمرقند بالاسوار فجبي لذلك خراج سنتين و جبي ثالثة استخدم بها الفرسان و سار إلى أحياء جنكزخان فكبسهم و هو غائب عنها في محاربة كشلي خان فغنم و رجع و اتبعهم ابن جنكزخان فكانت بينهم واقعة عظيمة هلك فيها كثير من الفريقين و لجأ خوارزم شاه إلى جيحون فأقام عليه بنتظر شأن التتر ثم عاجله جنكزخان فأجفل و تركها و فرق عساكره في مدن ما وراء النهر انزار و بخارى و سمرقند و ترمذ و جند و أنزل آبنايخ من كبراء أمرائه و حجاب دولته في بخارى و جاء جنكزخان إلى انزار فحاصرها و ملكها غلابا و أسر أميرها نيال خان الذي قتل التجار و أذاب الفضة في أذنيه و عينيه ثم حاصر بخارى و ملكها على الامان و قاتلوا معه القلعة حتى ملكوها ثم غدر بهم و قتلهم و سلبهم و خربها و رحل جنكزخان إلى سمرقند ففعلوا فيها مثل ذلك سنة تسع عشرة و ستمائة ثم كتب كتبا على لسان الأمراء قرابة أم السلطان يستدعون جنكزخان و يعدها بزيادة خراسان إلى خوارزم و بعث من يستخلفه على ذلك و بعث الكتب مع من يتعرض بها للسلطان فلما قرأها ارتاب بأمه و بقرابتها (5/130)
اجفال السلطان خوارزم شاه إلى خراسان ثم إلى طبرستان و مهلكه
و لما بلغ السلطان استيلاء جنكزخان على انزار و بخارى و سمرقند و جاءه نائب بخارى ناجيا في الفل أجفل حينئذ و عبر جيحون و رجع عنه طوائف الخطا الذين كانوا معه و علاء الدين صاحب قيدر و تخاذل الناس و سرح جنكزخان العساكر في أثره نحوا من عشرين ألفا يسميهم التتر المغربة لسيرهم نحو غرب خراسان فتوغلوا في البلاد و انتهوا إلى بلاد بيجور و اكتسحوا كل ما مروا عليه و وصل السلطان إلى نيسابور فلم يثبت بها و دخل إلى ناحية العراق بعد أن أودع أمواله قال المنشي في كتابه حدثني الامير تاج الدين البسطامي قال لما انتهى خوارزم شاه في مسيره إلى العراق استحضرني و بين يديه عشرة صناديق مملوأة لآلىء لا تعرف قيمتها و قال في اثنين منها فيهما من الجواهر ما يساوي خراج الأرض بأسرها و أمرني بحملها إلى قلعة اردهز من أحصن قلاع الارض و أخذت خط يد الموالي بوصولها ثم أخذها التتر بعد ذلك حين ملكوا العراق انتهى و لما ارتحل خوارزم شاه من نيسابور قصد مازندران و التتر في أثره ثم انتهى إلى أعمال همذان فكسبوه هناك و نجا إلى بلاد الجبل و قتل وزيره عماد الملك محمد بن نظام الملك و أقام هو بساحل البحر بقرية عند الفريضة يصلي و يقرأ و يعاهد الله على حسن السيرة ثم كبسه التتر أخرى فركب البحر و خاضوا في أثره فغلبهم الماء و رجعوا و وصلوا إلى جزيرة في بحر طبرستان فأقام بها و طرقه المرض فكان جماعة من أهل مازندان يمرضونه و يحمل إليه كثيرا من حاجته فيوقع لحاملها بالولايات و الاقطاع و أمضى ابنه جلال الدين بعد ذلك جميعها ثم هلك سنة سبع عشرة و ستمائة و دفن بتلك الجزيرة لاحدى و عشرين سنة من ملكه بعد أن عهد لابنه جلال الدين منكبرس و خلع ابنه الاصغر قطب الدين أولاغ شاه و لما بلغ خبر اجفاله إلى أمه تركمان خاتون بخوارزم خرجت هاربة بعد أن قتلت نحوا من عشرين من الملوك و الاكابر المحبوسين هنالك و لحقت بقلعة ايلان من قلاع مازندان فلما رجع التتر المغربة عن السلطان خوارزم شاه بعد أن خاض بحر طبرستان إلى الجزيرة التي مات بها فقصدوا مازندان و ملكوا قلاعها على ما فيها من الامتناع و لقد كان فتحها بأخر إلى سنة تسعين أيام سليمان بن عبد الملك فملكوها واحدة واحدة و حاصروا تركمان خاتون في قلعة ايلان إلى أن ملكوا القلعة صلحا و أسروها و قال ابن الاثير إنهم لقوها في طريقها إلى مازندان فأحاطوا بها و أسروها و من كان معها من بنات السلطان و تزوجهن التتر و تزوج دوش خان بن جنكزخان باحداهن و بقيت تركمان خاتون أسيرة عندهن في خمول و ذل و كانت تحضر سماط جنكزخان كاحداهن و تحمل قوتها منه و كان نظام الملك وزير السلطان مع أمه تركمان خاتون فحصل في قبضة جنكزخان و كان عندهم معظما لما بلغهم من تنكر السلطان له و كانوا يشاورونه في أمر الجباية فلما استولى دوش خان على خوارزم و جاء بحرم السلطان الذين كانوا بها و فيهن مغنيات فوهب احداهن لبعض خدمه فمنعت نفسها منه و لجأت للوزير نظام الملك فشكاه ذلك الخادم لجنكزخان و رماه بالجارية فأحضره جنكزخان و عدد عليه خيانة استاذه و قتله (5/131)
مسير التتر بعد مهلك خوارزم شاه من العراق إلى أذربيجان و ما وراءها من البلاد هنالك
و لما وصل التتر إلى الري في طلب خوارزم شاه محمد بن تكش سنة سبع عشرة و ستمائة و لم يجدوه عادوا إلى همذان و اكتسحوا ما مروا عليه و أخرج إليهم أهل همذان ما حضرهم من الاموال و الثياب و الدواب فأمنوهم ثم ساروا إلى زنجان ففعلوا كذلك ثم إلى قزوين فامتنعوا منهم فحاصروها و ملكوها عنوة و استباحوها و يقال أن القتلى بقزوين زادوا على أربعين ألفا ثم هجم غلبهم الشتاء فساروا إلى أذربيجان على شأنهم من القتل و الاكتساح و صاحبها يومئذ أزبك بن البهلوان مقيم بتبريز عاكف على لذاته فراسلهم و صانعهم و انصرفوا إلى بوقان ليشتوا بالسواحل و مروا إلى بلاد الكرج فجمعوا لقتالهم فهزمهم التتر و أثخنوا فيهم فبعثوا إلى أزبك صاحب أذربيجان و إلى الاشرف بن العادل بن أيوب صاحب خلاط و الجزيرة بطلبون اتصال أيديهم على مدافعة التتر و انصاف إلى التتر اقرش من موالي أزبك و اليه جموع من التركمان و الاكراد و سار مع التتر إلى الكرج و اكتسحوا بلادهم و انتهوا إلى بلقين و سار إليهم الكرج فلقيهم اقرش أولا ثم لقيهم التتر فانهزم الكرج و قتل منهم ما لا يحصى و ذلك في ذي القعدة من سنة سبع عشرة ثم عاد التتر إلى مراغة و مروا بتبريز فصانعهم صاحبها كعادته وانتهوا إلى مراغة فقاتلوها أياما و بها امرأة تملكها ثم ملكوها في صفر سنة ثماني عشرة و استباحوها ثم رحلوا عنها إلى مدينة اربل و بها مظفر الدين بن فاستمد بدر الدين صاحب الموصل فأمده بالعساكر ثم هم بالخروج لحفظ الدروب على بلاده فجاءت كتب الخليفة الناصر إليهم جميعا بالمسير إلى دقوقا ليقيموا بها مع عساكره و يدافع عن العراق و بعث معهم بشتمر كبير امرائه و جعل المقدم على الجميع مظفر الدين صاحب اربل فخافوا عن لقاء التتر و خام التتر عن لقائهم و ساروا إلى همذان و كان لهم بها شحنة منذ ملكوها أولا فطالبوه بفرض المال على أهلها و كان رئيس همذان شريفا علويا قديم الرياسة بها فحضهم على ذلك فضجروا و أساؤا الرد عليه و أخرجوا الشحنة و قاتلوا التتر و غضب العلوي فتسلل عنهم إلى قلعة بقربها فامتنع و زحف التتر إلى البلد فملكوه عنوة و استباحوه و استحملوا أهله ثم عادوا إلى أذربيجان فملكوا أدربيل و استباحوها و خربوها و ساروا إلى تبريز و قد فارقها ازبك بن البهلوان صاحب أذربيجان و اران و قصد لقجوان و بعث بأهله و حرمه إلى حوى فرارا من التتر لعجزه و انهماكه فقام بأمر تبريز شمس الدين الطغرائي و جمع أهل البلد و استعد للحصار فأرسل اليه التتر في المصانعة فصانعهم و ساروا إلى مدينة سوا فاستباحوها و خربوها و ساروا إلى بيلقان فحاصروها و بعثوا إلى أهل البلد رجلا من أكابرهم يقرر معهم في المصانعة و الصلح فقتلوه فأسرى التتر في حصارهم و ملكوا البلد عنوة في رمضان سنة ثمان و عشرة و استلحموا أهلها و أفحشوا في القتل و المثلة حتى بقروا البطون على الأجنة و استباحوا جميع الضاحية قتلا و نهبا و تخريبا ثم ساروا إلى قاعدة اران و هي كنجة و رأوا امتناعها فطلبوا المصانعة من أهلها فصانعوهم و لما فرغوا من أعمال أذربيجان و اران ساروا إلى بلاد الكرج و كانوا قد جمعوا لهم و استعدوا و وقعوا في حدود بلادهم فقالتهم التتر فهزموهم إلى بلقين قاعدة ملكهم فجمعوا هنالك ثم خاموا عن لقائهم لما رأوا من اقتحامهم المضايق و الجبال فعادوا إلى بلقين و استولى التتر على نواحيها فخربوها كيف شاؤا و لم يقدروا على التوغل فيها لكثرة الاوعار و الدوسرات فعادوا عنها ثم قصدوا دونبر شروان و حاصروا مدينة سماهي و فتكوا في أهلها و وصلوا إلى السور فعالوه باشلاء القتلى حتى ساموه و اقتحموا البلد فأهلكوا كل من فيه ثم قصدوا الدرنبر فلم يطيقوا عبوره فأرسلوا إلى شروان في الصلح فبعث إليهم رجلا من أصحابه فقتلوا بعضهم و اتخذوا الباقين أذلاء فسلكوا بهم درنبر شروان و خرجوا إلى الأرض الفسيحة و بها أمم القفجاق و اللان و اللكن و طوائف من الترك مسلمون و كفار فأوقعوا بتلك الطوائف و اكتسحوا عامة البسائط و قاتلهم قفجاق و اللان و دافعوهم و لم يطق التتر مغالبتهم و رجعوا و بعثوا إلى القفجاق و هم واثقون بمسالمتهم فلأوقعوا بهم و جر من كان بعيدا منهم إلى بلاد الروس و اعتصم آخرون بالجبال و الغياض و استولى التتر على بلادهم و انتهوا إلى مدينتهم الكبرى سراي على بحر نيطش المتصل بخليج القسطنطينية و هي مادتهم و فيها تجارتهم فملكها التتر و افترق أهلها في الجبال و ركب بعضهم إلى بلاد الروم في ايالة بني قلج ارسلان ثم سار التتر سنة عشر و ستمائة من بلاد قفجاق إلى بلاد الروم المجاورة لها و هي بلاد فسيحة و أهلها يدينون بالنصرانية فساروا إلى مدافعهم في تخوم بلادهم و معهم جموع من القفجاق سافروا إليهم فاستطرد لهم التتر مراحل ثم ركوا عليه و هم غارون فطاردهم القفجاق و الروم أياما ثم انهزموا و أثخن التتر فيهم قتلا و سبيا و نهبا و ركبوا السفن هاربين إلى بلاد المسلمين و تركوا بلادهم فاكتسحها التتر ثم عادوا إليها و قصدوا بلغار أواخر السنة و اجتمع أهلها و ساروا للقائهم بعد أن أكمنوا لهم ثم استطردوا أمامهم و خرج عليهم الكمناء من خلفهم فلم ينج منهم إلا القليل و ارتحلوا عائدين إلى جنكزخان بأرض الطالقان و رجع القفجاق إلى بلادهم و استقروا فيها و الله تعالى مؤيد بنصره من يشاء (5/132)
أخبار خراسان بعد مهلك خوارزم شاه
قد كنا قدمنا مهلك خوارزم شاه و مسير هؤلاء التتر المغربة في طلبه ثم انتهائهم بعد مهلكه إلى النواحي التي ذكرناها و كان جنكزخان بعد اجفال خوارزم شاه من جيحون و هو بسمرقند قد بعث عسكرا إلى ترمذ فساروا منها إلى كلات من أحصن القلاع إلى جانب جيحون فاستولوا عليها و أوسعوها نهبا و سير عسكرا آخر إلى فرغانة و كذلك عسكرا آخر إلى خوارزم و عسكرا آخر إلى خوزستان فعبر عسكر خراسان إلى بلخ و ملكوها عل الامان سنة سبع و ستمائة و لم يعرضوا لها بعيث و انزلوا شحنتهم بها ثم ساروا إلى زوزن و ميمنة و ايدخوي و فارياب فملكوها و ولوا عليها و لم يعرضوا لاهلها بأذى و انما استنفروهم لقتال البلد معهم ثم ساروا إلى الطالقان و هي ولاية متسعة فقصدوا قلعة صوركوه من أمنع بلادها فحاصروها ستة أشهر و امتنعت عليهم فسار إليهم جنكزخان بنفسه و حاصرها أربعة أشهر أخرى حتى إذا رأى امتناعها أمر بنقل الخشب و التراب حتى اجتمع منه تل مشرف على البلد و اتسيقن أهل البلد الهلكة و اجتمعوا و فتحوا الباب و صدقوا الحملة فنجا الخيالة و تفرقوا في الجبال و الشعاب و قتل الرجالة و دخل التتر البلد فاستباحوها ثم بعث جنكزخان صهره قفجاق قوين إلى خراسان و مرواسا و قاتلوها فامتنعت عليهم و قتل قفجاق قوين فأقاموا على حصارها و ملكوها عنوة و استباحوها و خربوها و يقال قتل فيها أزيد من سبعين ألفا و جمع عددا من الجثث فكان كالتلال العظيمة و كان رؤساؤها بني حمزة بخوارزم منذ ملكها خوارزم شاه تكش فعاد إليها اختيار الدين جنكي بن عمر بن حمزة و بوعمه و ضبوطها ثم بعث جنكزخان ابنه في العساكر إلى مدينة مرو و استنفر أهل البلاد التي ملكوها قبل مثل بلخ و اخواتها و كان الناجون من هذه الوقائع كلها قد لحقوا بمرو و اجتمع بها ما يزيد على مائتي ألف و عسكروا بظاهرها لا يشكون في الغلب فلما قاتلهم التتر صابروهم فوجدوا في مصابرتهم ما لم يحتسبوه فولوا منهزمين و أثخن التتر فيهم ثم حاصروا البلد خمسة أيام و بعثوا إلى أميرها يستميلونه للنزول عنها فاستأمن إليهم و خرج فاكرموه أولا ثم أمروا باحضار جنده للعرض حتى استكملوا و قبضوا عليهم ثم استكتبوه رؤساء البلد و تجاره و صناعه على طبقاتهم و خرج أهل البلد جميعا و جلس لهم جنكزخان على كرسي من ذهب فقتل الجند في صعيد واحد و قسم العامة رجالا و أطفالا و نساء بين الجند فاقتسموهم و أخذوا أموالهم و امتحنوهم في طلب المال و نبشوا القبور في طلبه ثم أحرقوا البلد و تربة السلطان سنجر ثم استلحم في اليوم الرابع أهل البلد جميعا يقال كانوا سبعمائة ثم ساروا إلى نيسابور و حاصروها خمسا ثم اقتحموها عنوة و فعلوا فيها فعلهم في مرؤ و أشد ثم بعثوا عسكرا إلى طوس و فعلوا فيها مثل ذلك و خربوها و خربوا مشهد علي بن موسى الرضا ثم ساروا إلى هراة و هي من أمنع البلاد فحاصروها عشرا و ملكوها و أمنوا من بقي من أهلها و أنزلوا عندهم شحنة و ساروا لقتال جلال الدين بن خوارزم شاه كما يذكر بعد فوثب أهل هراة على الشحنة و قتلوه فلما رجع التتر منهزمين اقتحموا البلد و استباحوه و خربوه و أحرقوه و نهبوا نواحيه و عادوا إلى جنكزخان بالطالقان و هو يرسل السرايا في نواحي خراسان حتى أتوا عليها تخريبا و كان ذلك كله سنة سبع عشرة و بقيت خراسان خرابا و تراجع أهلها بعض الشيء فكانوا فوضى و استبد آخرون في بعض مدنها كما نذكر ذلك في أماكنه و الله أعلم (5/135)
أخبار السلطان جلال الدين منكبرس مع التتر بعد مهلك خوارزم شاه و استقراره بغزنة
و لما توفي السلطان خوارزم شاه محمد بن تكش بجزيرة بحر طبرستان ركب ولده البحر إلى خوارزم يقدمهم كبيرهم جلال الدين منكبرس و قد كان وثب بها بعد منصرف تركمان خاتون أم خوارزم شاه رجل من العيارين فضبطها و أساء السيرة و انطلقت إليها أيدي العيارين و وصل بعض نواب الديوان فأشاعوا موت السلطان ففر العيارون ثم جاء جلال الدين و اخوته و اجتمع الناس إليهم فكانوا معهم سبعة آلاف من العساكر أكثرهم اليارونية قرابه أم خوارزم شاه فمالوا إلى أولاغ شاه و كان ابن أختهم كما مر و شاوروا في الوثوب بجلال الدين و خلعه و نمى الخبر إليه فسار إلى خراسان في ثلثمائة فارس و سلك المفازة إلى بلد نسا فلقى هنالك رصدا من التتر فهزمهم و لجأ فلهم إلى نسا و كان بها الاسير اختيار زنكي بن محمد بن عمر بن حمزة قد رجع إليها من خوارزم كما قدمناه و ضبطها فاستلحم فل التتر و بلغ و بعث إلى جلال الدين بالمدد فسار إلى نيسابور ثم وصلت عساكر التتر إلى خوارزم بعد ثلاث من مسير جلال الدين فأجفل أولاغ و اخوته و ساروا في اتباعه و مروا بنسا معهم اختيار الدين صاحبها و اتبعتهم عساكر التتر فأدركوهم بنواحي خراسان و كبسوهم فقتل أولاغ شاه و أخوه انشاه و استولى التتر على ما كان معهم من الأموال و الذخائر و افترقت في أيدي الجند و الفلاحين فبيعت بأبخس الاثمان و رجع اختيار الدين زنكي إلى نسا فاستبد بها و لم يسم إلى مراسم الملك و كتب له جلال الدين بولايتها فراجع أحوال الملك ثم بلغ الخبر إلى جلال الدين بزحف التتر إلى نيسابور و أن جنكزخان بالطالقان فسار إلى نيسابور و من نيسابور إلى بست و اتبعه نائب هراة أمير ملك ابن خال السلطان خوارزم شاه في عشرة آلاف فارس هاربا أمام التتر و قصد سجستان فامتنعت عليه فرجع و استدعاه جلال الدين فسار إليه و اجتمعوا فكبسوا التتر و هم محاصرون قلعة قندهار فاستلحموهم و لم يفلت منهم أحد فرجع جلال الدين إلى غزنة و كانت قد استولى عليها اختيار الدين قربوشت صاحب الغور عندما ساروا إليها عن جلال الدين صريخا عن أمس ملك سجستان فخالفه قربوشت إليها و ملكها فثار به صلاح الدين النسائي وإلى قلعتها و ملك غزنة و كان بها رضا الملك شرف الدين بن أمور ففتلك به رضا الملك و استبد بغزنة فلما ظفر جلال الدين بالتتر على قندهار رجع إلى غزنة فقتله و أوطنها و ذلك سنة ثمان عشرة (5/136)
استيلاء التتر على مدينة خوارزم و تخريبها
قد كنا قدمنا أن جنكزخان بعدها أجفل خوارزم شاه من جيحون بعث عساكره إلى النواحي و بعث إلى مدينة خوارزم عسكرا عظيما لعظمها لانها كرسي الملك و موضع العساكر فسارت عساكر التتر إليها مع ابنه جنطاي و اركطاي فحاصروها خمسة أشهر و نصبوا عليها الآلات فامتنعت فاستمدوا عليها جنكزخان فأمدهم بالعساكر متلاحقة فزحفوا إليها و ملكوا جانبا منها و ما زالوا يملكونها ناحية ناحية إلى أن استوعبوها ثم فتحوا السد الذي يمنع ماء جيحون عنها فسار إليها جيحون فغرقها و انقسم أهلها بين السيف و الغرق هكذا قال ابن الأثير و قال النسائي الكاتب ان دوشن خان بن جنكزخان عرض عليهم الأمان فخرجوا إليه فقتلهم أجمعين و ذلك في محرم سنة سبع عشرة و لما فرغ التتر من خراسان و خورازم رجعوا إلى ملكهم جنكزخان بالطالقان (5/137)
خبر آبنايخ نائب بخارى و تغلبه على خراسان ثم فراره أمام التتر إلى الري
كان آبنايخ أمير الأمراء و الحجاب أيام خوارزم شاه و ولاه ثانيا بخارى فلما ملكها التتر عليه كما قلناه أجفل إلى المفازة و خرج منها إلى نواحي نسا و راسله اختيار الدين صاحبها يعرضها عليه للدخول عنده فأبى فوصله و أمده و كان رئيس بشخوان من قرى نسا أبو الفتح فداخل التتر فكتب إلى شحنة خوارزم بمكان آبنايخ فجرد إليهم عسكرا فهزمه آبنايخ و أثخن فيهم و ساروا إلى بشخوان فحاصروها و ملكوها عنوة و هلك أبو الفتح أيام الحصار ثم ارتحل آبنايخ إلى ابيورد و قد تغلب تاج الدين عمر بن مسعود على ابيورد و ما بينها و بين مرو فجى خراجها و اجتمع عليه جماعة من أكابر الأمراء و عاد إلى نسا و قد توفى نائبها اختيار الدين زنكي و ملك بعده ابن عمه عمدة الدين حمزة بن محمد بن حمزة فطلب منه آبنايخ خراج سنة ثمان عشرة و سار إلى شروان و قد تغلب عليها ايكجي بهلوان فهزمه و انتزعها من يده و لحق بهلوان بجلال الدين في الهند و استولى آبنايج خان على عامة خراسان و كان تكين بن بهلوان متغلبا بمرو فعبر جيحون و كبس شحنة التتر ببخارى فهزموه سنة سبع و رجع إلى شروان و هم باتباعه و لحقوا بآنبايخ خان على جرجان فهزموه و نجا إلى غياث الدين يتر شاه بن خوارزم شاه بالري فأقام عنده إلى أن هلك كما نذكر إن شاء الله تعالى (5/138)
خبر ركن الدين شاه صاحب العراق من ولد خوارزم شاه
قد كان تقدم لنا أن السلطان لما قسم ممالكه بين أولاده جعل العراق في قسمة غورشاه منهم و لما أجفل السلطان إلى ناحية الري لقيه ابنه غور شاه ثم سار إلى الري إلى كرمان فملكها تسعة أشهر ثم بلغه أن جلال الدين محمد بن آبه القزويني كان بهمذان أراد أن يملك العراق و اجتمع إليه بعض الأمراء و أن مسعود بن صاعد قاضي اصبهان مائل إليه فعاجله ركن الدولة و استولى على اصبهان و هرب القاضي إلى الاتابك سعد بن زنكي صاحب فارس فأجاره و بعث ركن الدين العساكر لقتال همذان فتخاذلوا و رجعوا دون قتال ثم مضى إلى الري و وجد بها قوما من الاسماعيلية يحاولون اظهار دعوتهم ثم زحف التتر إلى ركن الدولة فحاصروه بقلعة رواند و اقتحموها فقاتلوه و استأمن إليهم ابن آبه صاحب همذان فأمنوه و دخلوا همذان فولوا عليها علاء الدين الشريف الحسيني عوضا من ابن آبه (5/138)
خبر غياث الدين ثير شاه صاحب كرمان من ولد السلطان خوارزم شاه
قد كنا قدمنا أن السلطان خوارزم شاه ولى ابنه غياث الدين ثير شاه كرمان و كيش و لم ينفذ إليها أيام أبيه و لما كانت الكبسة على قزوين خلص إلى قلعة ماروت من نواحي أصبهان و أقام عند صاحبها ثم رجع إلى أصبهان و مر به التتر ذاهبين إلى أذربيجان فحاصروه و امتنع عليهم و أقام بها إلى آخر سنة عشرين و ستمائة فلما جاء أخوه ركن الدين غور شاه من كرمان إلى أصبهان لقيه هنالك و حرضه غياث الدين على كرمان فنهض إليها و ملكها فلما قتل ركن الدين كما قلناه سار غياث الدين إلى العراق و كان ركن الدين لما ولاه أبوه العراق جعل معه الأمير بقاطا بستي اتابكين فاستبد عليه فشكاه إلى أبيه و أذن له في حبسه فحبسه ركن الدين بقلعة سرجهان فلما قتل ركن الدين كما قلناه أطلقه نائب القلعة أسد الدين حولي فاجتمع عليه الناس و كثير من الأمراء و استماله غياث الدين و أصهر إليه بأخته و ماطله في الزفاف يستبرىء ذهاب الوحشة بينهما و كانت أصبهان بعد مقتل ركن الدين غلب عليها أزبك خان و اجتمعت عليه العساكر و زحف إليه الأمير بقاطا بستي فاستنجد ازبك غياث الدين فانجده بعسكر مع الأمير دولة ملك و عاجله بقاطا بستي فهزمه بظاهر أصبهان و قتله و ملكها و رجع دولة ملك إلى غياث الدين فزحف غيثا الدين إلى أصبهان و أطاعه القاضي و الرئيس صدر الدين و بادر بقاطا بستي إلى طاعته و رضي عنه غياث الدين و زف إليه أخته و استولى غياث الدين على العراق و مازندان و خراسان و أقطع مازندان و أعمالها دولة ملك و بقاطا بستي همذان و أعمالها ثم زحف غياث الدين إلى اذربيجان و شن الغارة على مراغة و ترددت رسل صاحب اذربيجان ازبك بن البهلوان في المهادنة و تزوج بأخته صاحب بقحوان و قويت شوكته و عظم فكان بقاطا بستي في دولته و تحكم فيها ثم حدثته نفسه بالاستبداد و انتقض و قصد اذربيجان و بها مملوكان منتقضان على ازبك بن البهلوان فاجتمعا معه و زحف إليهم غياث الدين فهزمهم و رجعوا مغلوبين إلى اذربيجان و يقال ان الخليفة دس بذلك إلى بقاطا بستي و أغراه بالخلاف على غياث الدين ثم لحق بغياث الدين آبنايخ خان نائب بخارى مفلتا من واقعته مع التتر بجرجان فأكرمه و قدمه و نافسه خال السلطان دولة ملك و أخوه و سعوا إليها فزجرهما عنه فذهبا مغاضبين و وقع دولة ملك في عساكر التتر بمرو و زنجان فقتل و هرب ابنه بركة خان إلى ازبك باذربيجان ثم أوقع عساكر التتر بقاطا بستي و هزموه و نجا إلى الكرم و خلص الفل إلى غياث الدين و عاد التتر إلى ما وراء جيحون ثم تذكر صاحب فارس سعد الدين بن زنكي و كاتبته أهل أصبهان حين كانوا منهزمين عنه فسار إليه و حاصره في قلعة اصطخر و ملكها ثم سار إلى شيراز و ملكها عليه عنوة ثم سار إلى قلعة حرة فحاصرها حتى استأمنوا و توفى عليها آبنايخ خان و دفن هنالك بشعب سلمان و بعث عسكرا إلى كازرون فملكها عنوة و استباحها ثم سار إلى ناحية بغداد و جمع الناس الجموع من اربل و بلاد الجزيرة ثم راسل غياث الدين في الصلح فصالحه و رجع إلى العراق (5/139)
أخبار السلطان جلال الدين منكبرس و هزيمته أمام التتر ثم عوده إلى الهند
قد كان تقدم لنا أن أباه خوارزم شاه لما قسم البلاد بين ولديه جعل في قسمه غزنة و باميان و الغور و بست و هكياباد و ما يليها من الهند و استناب عليها أمير ملك و أنزله غزنة فلما انهزم السلطان خوارزم شاه أمام التتر زحف إليه حربوشة والي الغور فملكها من يده و كان من أمره ما قدمناه إلى أن استقر بها رضا الملك شرف الدين و لما أجفل جلال الدين من نيسابور إلى غزنة و استولى التتر على خراسان و هرب أمراؤها فلحقوا بجلال الدين فقتل نائب هراة أمين الملك خال السلطان و قد قدمنا محاصرته بسجستان ثم مراجعته طاعة السلطان جلال الدين و لحق به أيض سيف الدين بقراف البلخي و أعظم ملك من بلخ و مظهر ملك و الحسن فزحف كل منهم في ثلاثين ألفا و مع جلال الدين من عسكره مثلها فاجتمعوا و كبسوا التتر المملوكة محاصرين قلعة قندهار كما قلناه و استلحموهم و لحق فلهم بجنكزخان فبعث ابنه طولى خان في العساكر فساروا إلى جلال الدين فلقيهم بشروان و هزمهم و قتل طولى خان بن جنكزخان في المعركة و ذهب التتر منهزمين و اختلف عسكر السلطان جلال الدين على الغنائم و تنازع سيف الدين بقراق مع أمين الملك نائب هراة و تحيز إلى العراق و أعظم ملك و مظهر ملك و قاتلوا أمين الملك فقتل أخ لبقراق و انصرف مغاضبا إلى الهند و تبعه أصحابه و لاطفهم جلال الدين و وعظهم فلم يرجعوا و بلغ خبر الهزيمة إلى جنكزخان فسار في أمم التتر و سار جلال الدين فلقى مقدمة عساكره فلم يفلت من التتر الا القليل و رجع فنزل على نهر السند و بعث بالصريخ إلى الأمراء المنحرفين عنه و عاجله جنكزخان قبل رجوعه فهزمه بعد القتال و المصابرة ثلاثا و قتل أمين الملك قريب أبيه و اعترض المنهزمين نهر السند فغرق أكثرهم و أسر ابن جلال الدين فقتل و هو ابن سبع سنين و لما وقف جلال الدين على النهر و التتر في اتباعه فقتل أهله و حرمه جميعا و اقتحم النهر بفرسه فخلص إلى عدوته و تخلص من عسكره ثلثمائة فارس و أربعة آلاف راجل و بعض أمرائه و لقوه بعد ثلاث و تخلص بعض خواصه بمركب مشحون بالاقوات و الملابس فسد من حاجتهم و تحصن أعظم ملك ببعض القلاع و حاصره جنكزخان و ملكها عنوة و قتله و من معه ثم عاد التتر إلى غزنة فملكوها و استباحوها و أحرقوها و خربوها و اكتسحوا سائر نواحيها و كان ذلك كله سنة تسع عشرة و لما سمع صاحب جبل جردي من بلاد الهند بجلال الدين جمع للقائه و خام جلال الدين و أصحابه عن اللقاء لما نهكتهم الحرب فرجعوا ادراجهم و أدركهم صاحب جلال الدين صوري فقاتلهم و هزموه و ملكوا أمرهم و بعث إليهم نائب ملك الهند فلاطفهم و هاداهم و الله تعالى ولي التوفيق (5/140)
أخبار جلال الدبن بالهند
كان جماعة من أصحاب جلال الدين و أهل عسكره لما عبروا إليهم حصلوا عند قباجة ملك الهند منهم بنت أمين الملك خلصت إلى مدينة ارجاء من عمله و منهم شمس الملك وزير جلال الدين حياة أبيه و منهم قزل خان بن أمين الملك خلص إلى مدينة كلور فقتله عاملها و قتل قباجة شمس الملك الوزير لخبر جلال الدين بأموره و بعث أمين الملك و لحق بجلال الدين جماعة من أمراء أخيه غياث الدين فقوى بهم و حاصر مدينة كلور و افتتحها مدينة ترنوخ كذلك فجمع قباجة للقائه و سار إليه جلال الدين فخام عن اللقاء و هرب و ترك معسكره فغنمه جلال الدين بما فيه و سار إلى لهاوون و فيها ابن قباجة ممتنعا عليه فصالحه على مال يحمله و رحل إلى تستشان و بها فخر الدين السلاوي نائب قباجة فتلقاه بالطاعة ثم سار إلى اوجا و حاصرها فصالحوه على المال ثم سار إلى جانس و هي لشمس الدين اليتمشي من ملوك الهند و من موالي شهاب الدين الغوري فأطاعه أهلها و أقام بها و زحف إليه ايتش في ثلاثين الف فارس و مائة ألف راجل و ثلثمائة فيل و زحف جلال الدين في عساكره و في مقدمته جرجان بهلوان ازبك و اختلفت المقدمتان فلم يمكن اللقاء و بعث ايتش في الصلح فجنح إليه جلال الدين ثم اجتمع قباجة و ايتش و سائر ملوك الهند فخام عن لقائهم و رجع لطلب العراق و استخلف جهان بهلوان الملك على ما ملك من الهند و عبر النهر إلى غزنة فولى عليها و على الغور الأمير و فا ملك و اسمه الحسن فزلف و سار إلى العراق و ذلك سنة إحدى و عشرين بعد مقدمه لها بسنتين (5/141)
أحوال العراق و خراسان في ايالة غياث الدين
كان غياث الدين بعد مسير جلال الدين إلى الهند اجتمع إليه شراد العساكر بكرمان و سار بهم إلى العراق فملك خراسان و مازندان كما تقدم و أقام منهمكا في لذاته و استبد الأمراء بالنواحي فاستولى قائم الدين على نيسابور و تغلب يقز بن ايلجي بهلوان على شروان تملك ينال خطا بهاتز و نظام الملك اسفراين و نصرة الدين بن محمد مستبد بنسا كما مر و استولى تاج ادين عمر بن مسعود التركماني على أبيورد و غياث الدين مع ذلك منهمك في لذاته و سارت إليه عساكر التتر فخرج لهم عن العراق إلى بلاد الجبل و اكتسحوا سائر جهاته و اشتط عليه الجند و زادهم في الاقطاع و الاحسان فلم يشبعهم و أظهروا الفساد و عاثوا في الرعايا و تحكمت أم السلطان غياث الدين في الدولة لاغفاله أمرها و اقتفت طريقة تركمان خاتون أم السلطان خوارزم شاه و تلقبت بلقبها خداوند جهان إلى أن جاء السلطان جلال الدين فغلب عليه كما قلناه (5/142)
وصول جلال الدين من الهند إلى كرمان و أخباره بفارس و العراق مع أخيه غياث الدين
و لما فارق جلال الدين الهند كما قلناه سنة إحدى و عشرين و سار إلى المفازة و خلص منها إلى كرمان بعد أن لقي بها من المتاعب و المشاق مالا يعبر عنه و خرج معه أربعة آلاف راكب على الحمير و البقر و وجد بكرمان براق الحاجب نائب غياث الدين و كان من خبر براق هذا أنه كان حاجبا لكوخان ملك الخطا و سفر عنه إلى خوارزم شاه فأقام عنده ثم ظفر خوارزم شاه بالخطا و ولاه حجابته ثم صار إلى خدمة ابنه غياث الدين ترشه بمكران فاكرمه و لما سار جلال الدين إلى الهند و رجع عنه التتر سار غياث الدين لطلب العراق فاستناب براق في كرمان فلما جاء جلال الدين من الهند اتهمه و هم بالقبض عليه فنهاه عن ذلك وزيره شرف الملك فخر الدين علي بن أبي القاسم الجندي خواجا جهان أن يستوحش الناس لذلك ثم سار جلال الدين إلى شيراز و أطاعه صاحبها برد الاتابك و أهدى له و كان أتابك فارس سعد بن زنكي قد استوحش من غياث الدين فاصطلحه جلال الدين و أصهر إليه في ابنته ثم سار إلى أصبهان فأطاعه القاضي ركن الدين مسعود يستعطفه و أهدى له سلب طولي خان بن جنكزخان الذي قتل في حرب بزوان كما مر و فرسه و سيفه و دس إلى الأمراء الذين معه بالاستمالة فمالوا إليه و وعدوه بالمظاهرة و نمى الخبر إلى غياث الدين فقبض على بعضهم و لحق الآخرون بجلال الدين فجاؤا به إلى المخيم فمال إليه أصحاب غياث الدين و عساكره و استولى على مخيمه و ذخائره و أمه و لحق غياث الدين بقلعة سلوقان و عاتب جلال الدين أمه في فراره فاستدعته و أصلحت بينهما و وقف غياث الدين موقف الخدمة لأخيه السلطان جلال الدين و جاء المتغلبون بخراسان و العراق و اذعنوا إلى الطاعة و كانوا من قبل مستبدين على غياث الدين فاختبر السلطان طاعتهم و عمل على شاكلتها و الله أعلم (5/142)
استيلاء ابن آبنايخ على نسا
كان نصرة الدين بن محمد قد استولى على نسا بعد ابن عمه اختيار الدين كما مر و استناب في أموره محمد بن أحمد النسائي المنشي صاحب التاريخ المعتمد عليه في نقل أخبار خوارزم شاه و بينه فأقام فيها تسع عشرة سنة مستندا على غياث الدين ثم انتقض عليه و قطع الخطبة له فسرح إليه غياث الدين العساكر مع طوطي بن آبنايخ و أنجده بارسلان و كاتب المتغلبين بمساعدته فراجع نصرة الدين محمد بن حمزة نفسه و بعث نائبه محمد بن أحمد المنشي إلى غياث الدين بمال صالحه عليه فبلغه الخبر في طريقه بوصول جلال الدين و استيلائه على غياث الدين فأقام بأصبهان ينتظر صلاح السابلة و زوال الثلج ثم سار إلى همذان فوجد السلطان غائبا في غزو الاتابك بقطا بستي و كان من خبره أنه صهر إلى غياث الدين على أخته كما قدمنا فهرب بعد خلعه إلى أذربيجان و اتفق هو و الاتابك سعد و سار إليهما جلال الدين فخالفه الأمير ايغان طائسي إلى همذان و سار إلى جلال الدين و كبسه هنالك فأخذه ثم أمنه و عاد إلى مخيمه و لقيه وافد نصرة الدين على بلاد نسا و ما يتاخمها و بعث إلى ابن آبنايخ بالافراج عن نسا ثم بلغ الخبر بعد يومين بهلاك نصرة الدين و استيلاء ابن آبنايخ على نسا (5/143)
مسير السلطان جلال الدين على خوزستان و نواحي بغداد
و لما استولى السلطان جلال الدين على أخيه غياث الدين و استقامت أموره سار إلى خوزستان شتيا و حاصر قاعدتها مظفر الدين وجه السبع مولى الخليفة الناصر و انتهت سراياه في الجهات إلى بادرايا و إلى البصرة فأوقع بهم تلكين نائب البصرة و جاءت عساكر الناصر مع مولاه جلال الدين قشتمر و خاموا عن اللقاء و أوفد ضياء الملك علاء الدين محمد بن مودود السوي العارض على الخليفة ببغداد عاتبا و كان في مقدمته جهان بهلوان فلقي في طريقه جمعا من العرب و عساكر الخليفة فرجع و أوقع بهم و رجعوا إلى بغداد و جيء بأسرى منهم إلى السلطان فأطلقهم و استعد أهل بغداد للحصار و سار السلطان إلى يعقوبا على سبع فراسخ من بغداد ثم إلى دقوقا فملكها عنوة و خربها و قاتلت بعوثه عسكر تكريت و ترددت الرسل بينه و بين مظفر الدين صاحب اربل حتى اصطلحوا و اضطربت البلد بسبب ذلك و أفسد العرب السابلة و أقام ضياء الملك ببغداد إلى أن ملك السلطان مراغة و الله تعالى أعلم (5/144)
أولية الوزير شرف الدين
هذا الوزير هو فخر الدين علي بن القاسم خواجة جهان و يلقب شرف الملك أصله من أصفهان و كان أول أمره ينوب عن صاحب الديوان بها و كان نجيب الدين الشهرستاني وزير السلطان و ابنه بهاء الملك وزير الجند و فخر الدين هذا يخدمه بها ثم تمكن من منصب الافتاء و طمع إلى مغالبة نجيب الدين على الوزارة و سعى عند السلطان بأنه تناول من جبايتها مائتي ألف دينار فسامحه بها السلطان و لم يعرض له ثم سعى بفخر الدين ثانية فولى وزارة الجند و أقام بها أربع سنين حتى عبر السلطان إلى بخارى فكثرت به الشكايات فأمر بالقبض عليه فاختفى و لحق بالطالقان إلى أن اتصل بجلال الدين حين كان بغزنة بعد مهلك ابنه فرتبه في الحجابة إلى أن أجاز بحر السند و كان وزيره شهاب الدين الهروي فقتله قباجة ملك الهند كما مر و استوزر جلال الدين مكانة فخر الدين هذا و لقبه شرف الملك و رفع رتبته على الوزراء و موقفه و سائر آدابه و أحواله (5/144)
عود التتر إلى الري و همذان و بلاد الجبل
و بعد رجوع التتر المغربة من أذربيجان و بلاد قفجاق و سروان كما قدمناه و خراسان يومئذ فوضى ليس بها ولاة الا متغلبون من بعض أهلها بعد الخراب الأول و النهب فعمروها فبعث جنكزخان عسكرا آخر من التتر إليها فنهبوها ثانيا و خربوها و فعلوا في ساوة و قاشان و قم مثل ذلك و لم يكن التتر أولا أصابوا منها ثم ساروا إلى همذان فاجفل أهلها و أوسعوها نهبا و تخريبا و ساروا في اتباع أهلها إلى أذربيجان و كبسوهم في حدودها فأجفلوا و بعضهم قصد تبريز فسار التتر في اتباعهم و راسلوا صاحبها ازبك بن البهلوان في اسلام من عنده فبعث بهم بعد أن قتل جماعة منهم وبعث برؤوسهم و صانعهم بما أرضاهم فرجعوا عن بلاده و الله تعالى أعلم (5/145)
وقائع أذربيجان قبل مسير جلال الدين إليها
لما رجع التتر من بلاد قفجاق و الروس و كانت طائفة من قفجاق لما افترقوا و فروا أمام التتر ساروا إلى درنبر شروان و اسم ملكه يومئذ رشيد و سألوه المقام في بلاده و أعطوه الرهن على الطاعة فلم يجبهم ريبة بهم فسألوه الميرة فأذن لهم فيها فكانوا يأتون إليها زرافات و تنصح له بعضهم بأنهم يرومون الغدر به و طلب منه الانجاد بعسكره و سار في أثرهم فأوقع بهم و هم باخلون بالطاعة فرجع ذلك القفجاقي بالعسكر ثم بلغه إنهم رحلوا من مواضعهم فاتبعهم ثانيا بالعساكر حتى أوقع بهم و رجع إلى رشيد ومعه جماعة منهم مستأمنين و قد اختفى فيهم كبير من مقدميهم و تلاحق به جماعة منهم فاعتزموا على الوثوب فهرب خائفا و لحق ببلاد شروان و استولت طائفة القفجاق على القلعة و على مخلف رشيد فيها من المال و السلاح و استدعوا أصحابهم فلحقوا بهم و اعتزموا و قصدوا قلعة الكرج فحاصروها و خالفهم رشيد إلى القلعة فملكها و قتل من وجد بها منهم فعادوا من حصار تلك المدينة إلى درنبر و امتنعت عليهم القلعة فرجعوا إلى تلك المدينة فاكتسحوا نواحيها و ساروا إلى كنجة من بلاد اران و فيها مولى لازبك صاحب أذربيجان فراسلوه بطاعة ازبك فلم يجبهم إليها و عدد عليهم ما بدر منهم في الغدر و نهب البلاد و اعتذروا بأنهم إنما غدروا شروان لانه منعهم الجواز إلى صاحب أذربيجان و عرضوا عليه الرهن فجاءهم بنفسه و لقوه في عدد قليل فعدا عن محال التهمة فبعث بطاعتهم إلى سلطانه و بعث بذلك إلى أزبك و جاء بهم إلى كنجة فأفاض فيهم الخلع و الأموال و أصهر إليهم و أنزلهم بجبل كيكلون و جمع لهم الكرج فآواهم إلى كنجة ثم سار إليهم أمير من أمراء قفجاق و نال منهم فرجعوا إلى جبل كيكلون و سار القفجاق الذين كبسوهم إلى بلاد الكرج فاكتسحوها و عادوا فاتبعهم الكرج و استنقذوا الغنائم منهم و قتلوا و نهبوا فرحل القفجاق إلى بردعة و بعثوا إلى أمير كنجة في المدد على الكرج فلم يجبهم فطلبوا رهنهم فلم يعظهم فمدوا أيديهم في المسلمين و استرهنوا أضعاف رهنهم و ثار بهم المسلمون من كل جانب فلحقوا بشروان و تخطفهم المسلمون و الكرج و غيرهم فافنوهم و بيع سبيهم و أسراهم بابخس ثمن و ذلك كله سنة تسع عشرة و كانت مدينة فيلقان من بلاد اران فأخر بها التتر كما قدمناه و ساروا عنها إلى بلاد قفجاق فعاد إليها أهلها و عمروها و سار الكرج في رمضان من هذه السنة إليها فملكوها و قتلوا أهلها و خربوها و استفحل الكرج ثم كانت بينهم و بين صاحب خلاط غازي بن العادل بن أيوب واقعة هزمهم فيها و أثخن فيهم كما يأتي في دولة بني أيوب ثم انتقض على شروان شاه ابنه و ملك البلاد من يده فسار إلى الكرج و استصرخ بهم و ساروا معه فبرز ابنه إليهم فهزمهم و اثخن فيهم فتشاءم الكرج بشروان شاه فطردوه عن بلادهم و استقر ابنه في الملك و اغتبط الناس بولايته و ذلك سنة اثنتين و عشرين ثم سار الكرج من تفليس إلى أذربيجان و أتوها من الاوغار و المضائق يظنون صعوبتها على المسلمين فسار المسلمون و ولجوا المضائق إليهم فركب بعضهم بعضا منهزمين و نال المسلمون منهم أعظم النيل و بينما هم يتجهزون لاخذهم الثأر من المسلمين وصلهم الخبر بوصول جلال الدين إلى مراغة فرجعوا إلى مراسلة أزبك صاحب أذربيجان في الاتفاق على مدافعته و عاجلهم جلال الدين عن ذلك كما نذكره إن شاء الله تعالى (5/145)
استيلاء جلال الدين على أذربيجان و غزو الكرج
قد تقدم لنا مسير جلال الدين في نواحي بغداد و ما ملك منها و ما وقع بينه و بين صاحب اربل من الموافقة و الصلح و لما فرغ من ذلك سار إلى أذربيجان سنة اثنتين و عشرين و قصد مراغة أولا فملكها و أقام بها و أخذ في غمارتها و كان بغان طابش حال أخيه غياث الدين مقيما بأذربيجان كما مر فجمع عساكره و نهب البلد و سار إلى ساحل اران فشتى هنالك و لما عاث جلال الدين في نواحي بغداد كما قدمناه بعث الخليفة الناصر إلى بغان طابش و أغراه بجلال الدين و أمره بقصد همذان و اقطعه اياما و ما يفتحه من البلاد فعاجله جلال الدين و صبحه بنواحي همذان على غرة و عاين الجند فسقط في يده و ارسل زوجته أخت السلطان جلال الدين فاستأمنه له فآمنه و جرد العساكر عنه و عاد إلى مراغة و كان ازبك بن البهلوان قد فارق تبريز كرسي ملكه إلى كنجة فأرسل جلال الدين إلى أهل تبريز يأمرهم بميرة عسكره فأجابوا إلى ذلك و ترددت عساكره إليها فتجمع الناس و شكا أهل تبريز إلى جلال الدين ذلك فأرسل إليهم شحنة يقيم عندهم للنصفة بين الناس و كانت زوجة ازبك بنت السلطان طغرلبك بن ارسلان و قد تقدم ذكرها في أخبار سلفها مقيمة بتبريز حاكمة في دولة زوجها ازبك ثم ضجر أهل تبريز من الشحنة فسار جلال الدين إليها و حاصرها خمسا و اشتد القتال و عابهم بما كان من اسلام أصحابه إلى التتر فاعتذروا بأن الأمر في ذلك لغيرهم و الذنب لهم ثم استامنوا فآمنهم و أمر ببنت السلطان طغرل و أبقى لها مدينة طغرل إلى خوي كما كانت و جمع ما كان لها من المال و الاقطاع و ملك تبريز منتصف رجب سنة اثنتين و عشرين و بعث بنت السلطان طغرل إلى خوي مع خادميه فليح و هلال و ولى على تبريز ربيبها نظام الدين ابن أخي شمس الدين الطغرائي وكان هو الذي داخله في فتحها و أفاض العدل في أهلها و أوصلهم إليها و بالغ في الاحسان إليهم ثم بلغه آثار الكرج في أذربيجان و اران و أرمينية و درنبر شروان و ما فعلوه بالمسلمين فاعتزم على غزوهم و بلغه اجتماعهم برون فسار إليهم و على مقدمته جهان بهلوان الكعبي فلما تراءى الجمعان و كان الكرج على جبل لم يستهلوه فتسنمت إليهم العساكر الاوعار فانهزموا و قتل منهم أربعة آلاف أو يزيدون و أسر بعض ملوكهم و اعتصم ملك آخر منهم ببعض قلاعهم فجهز جلال الدين عليها عسكرا لحصارها و بعث عساكره في البلاد فعاثوا فيها و استباحوها (5/146)
فتح السلطان مدينة كنجة و نكاحه زوجة ازبك
لما فرغ السلطان من أمر الكرج و استولى على بلادهم و كان قد ترك وزيره شرف الدين بتبريز للنظر في المسالح و ولى عليها نظام الملك الطغرائي فقصد الوزير به و كتب إلى السلطان بأنه و عمه شمس الدين داخلوا أهل البلد في الانتقاض و اعادة ازبك لشغل السلطان بالكرج فلما بلغ ذلك إلى السلطان أسره حتى فرغ من أمر الكرج و ترك أخاه غياث الدين نائبا على ما ملك منها و آمره بتدويخ بلادهم و تخريبها و عاد إلى تبريز فقبض على نظام الملك الطغرائي و أصحابه فقتلهم و صادر شمس الدين على مائة ألف و حبسه بمراغة ففر منها إلى ازبك ثم لحق ببغداد و حج سنة خمس و عشرين و بلغ السلطان تنصله في المطاف و دعاؤه على نفسه أن كان فعل شيئا من ذلك فأعاده إلى تبريز ورد عليه أملاكه ثم بعثت إليه زوجة ازبك في الخطبة و أن ازبك حنث فيها بالطلاق فحكم قاضي تبريز عز الدين القزويني بحلها للنكاح فتزوجها السلطان جلال الدين و سار إليها فدخل في خوي و مات ازبك لما لحقه من الغم بذلك ثم عاد السلطان إلى تبريز فأقام بها مدة ثم بعث العساكر مع ارخان إلى كنجة من أعمال نقجوان و كان بها ازبك ففارقها و ترك بها جلال الدين القمي نائبا فملكها عليه ارخان و استولى على أعمالها مثل وشمكورو بردعة و شنة و انطلقت أيدي عساكره في النهب فشكا ازبك إلى جلال الدين فكتب إلى ارخان بالمنع من ذلك و كان مع ارخان نائب الوزير إلى السلطان فعزل ارخان و ذهب مغاضبا إلى أن قتلته الاسماعيلية و في آخر رمضان من سنة اثنتين و عشرين توفي الخليفة الناصر لسبع و أربعين سنة من خلافته و استخلف بعده ابنه الظاهر أبو نصر محمد بعهده إليه بذلك كما مر في أخبار الخلفاء (5/147)
استيلاء جلال الدين على تفليس من الكرج بعد هزيمته اياهم
كان هؤلاء الكرج اخوة الارمن و قد تقدم نسبة الارمن إلى إبراهيم عليه السلام و كان لهم استطالة بعد الدولة السلجوقية و كانوا من أهل دين النصرانية فكان صاحب أرمن الروم يخشاهم و يدين لهم بعض الشيء حتى أن ملك الكرج كان يخلع فيلبس خلعته و كان شروان صاحب الدرنبر يخشاهم و كذلك ملكوا مدينة أرجيش من بلاد أرمينية و مدينة فارس و غيرها و حاصروا مدينة خلاط قاعدتها فأسر بها مقدمتهم ايواي و فادوه بالرحيل عنهم بعد أن اشترطوا عليه متابعته لهم في قلعة خلاط فبنوها و كذلك هزموا ركن الدولة فليحا ارسلان صاحب بلاد الروم لما زحف لاخيه طغرل شاه بارزن الروم استنجدهم طغرل فأنجدوه و حزموا ركن الدين أعظم ما كان ملكا و استفحالا و كانوا يجوسون خلال أذربيجان و يعيشون في نواحيها وكان ثغر تفليس من أعظم الثغور طرزا على من يحاوره منذ عهد الفرس و ملكه الكرج سنة خمس عشرة و خمسمائة أيام محمود بن ملك شاه و دولة السلجوقية يومئذ أفحل ما كانت و اوسع ايالة و أعمالا فلم يطق ارتجاعه من أيديهم و استولى ايلدكز بعد ذلك و ابنه البهلوان على بلاد الجبل و الري و أذربيجان و اران و ارمينية و خلاط و جاورهم بكرسيه و مع ذلك لم يطلق ارتجاعه منهم فلما جاء السلطان جلال الدين إلى أذربيجان و ملكها زحف إلى الكرج و هزمهم سنة اثنتين و عشرين و عاد إلى تبريز في مهمه كما قدمناه فرغ من مهمه ذلك و كان قد ترك العساكر ببلاد الكرج مع أخيه غياث الدين و وزيره شرف الدين فأغذ السير إليه غازيا من تبريز و قد جمع الكرج و احتشدوا و أمدهم القفجاق و اللكز و ساروا للقاء فلما التقى الفريقان انهزم الكرج و أخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب و لم يبقوا على أحد حتى استلحموهم و فنوهم ثم قصد جلال الدين تفليس في ربيع الاول سنة ثلاث و عشرين و نزل قريبا منها و ركب يوما لاستكشاف أموالها و ترتيب مقاعد القتال عليها و أكمن الكمائن حولها و اطلع عليهم في خف من العسكر فطمعوا فيه و خرجوا فاستطرد لهم حتى تورطوا و التفت عليهم الكمائن فهربوا إلى البلد و القوم في اتباعهم و نادى المسلمون من دخلها بشعار الاسلام و هتفوا باسم جلال الدين فالقى الكرج بأيديهم و ملك المسلمون البلد و قتلوا كل من فيها الامن اعتصم بالإسلام و استباحوا البلد و امتلأت أيديهم بالغنائم و الاسرى و السبايا و كان ذلك من أعظم الفتوحات هذه سياقة ابن الاثير في فتح تفليس و قال النسائي الكاتب أن السلطان جلال الدين سار نحو الكرج فلما وصل نهر ارس مرض و اشتد الثلج و مر بتفليس فبرز أهلها للقتال فهزمهم العساكر و أعجلوهم عن دخولها فملكوها و استباحوها و قتلوا من كان فيها من الكرج و الارمن و اعتصم أهلها بالقلعة حتى صالحوا على أموال عظيمة فحملوها و تركوهم (5/148)
انتقاض صاحب كرمان و مسير السلطان إليه
و لما اشتغل السلطان جلال الدين بشأن الكرج و تفليس طمع براق الحاجب في الانتقاض بكرمان و الاستيلاء على البلاد و قد كنا خبره و ان غياث الدين استخلفه على كرمان عند مسيره إلى العراق و إن جلال الدين لما رجع من الهند ارتاب به و هم بالقبض عليه ثم تركه و أقره على كرمان فلما انتقض الآن و بلغ خبره إلى السلطان و هو معتزم على قصد خلاط فتركها و أغذ السير إليه و استصحب أخاه غياث الدين و وعده بكرمان و ترك مخلفه بكيكلون و ترك وزيره شرف الدين بتفليس و أمره باكتساح بلاد الكرج و قدم إلى صاحب كرمان بالخلع و المقاربة و الوعد فارتاب بذلك و لم يطمئن و قصد بعض قلاعه فاعتصم بها و رجع الرسول إلى جلال الدين فلما علم أن المكيدة لم تتم عليه أقام بأصبهان و بعث إليه و أقره على ولايته و عاد و كان الوزير شرف الدين بتفليس كما قلناه و ضاق الحل به من الكرج و أرجف عند الأمراء بكيكلون أن الكرج حاصروه بنفليس فسار ارخان منهم في العساكر إلى تفليس ثم وصل البشير من نقجوان برجوع السلطان من العراق فأعطاه الوزير أربعة آلاف دينار ثم افترقت العساكر في بلاد الكرج و بها ايواني مقدمهم مع بعض أعيانهم و بعث عسكرا آخر إلى مدينة فرس و اشتد عليها الحصار ثم جمر العساكر عليها و عاد إلى تفليس (5/149)
مسير جلال الدين إلى حصار خلاط
كانت خلاط في ولاية الاشراف بن العادل بن أيوب و كان نائبه بها حسام الدين علي الموصلي و كان الوزير شرف الدين حين أقام بتفليس عند مسير جلال الدين إلى كرمان ضاقت على عساكره الميرة فبعث عسكرا منهم إلى أعمال أرزن الروم فاكتسحوا نواحيها و رجعوا فمروا بخلاط فخرج نائبها حسام الدين و اعترضهم و استنقذ ما معهم من الغنائم و كتب الوزير شرف الدين بذلك إلى جلال الدين و هو بكرمان فلما عاد جلال الدين من كرمان و حاصر مدينة اني استقر حسام الدين نائب خلاط للامتناع منه فارتحل هو إلى بلاد انحاز ليأتيه على غرة و رحل جلال الدين من انحاز فسار إلى خلاط و حاصر مدينة ملاذ كرد في ذي القعدة من السنة و انتقل منها إلى مدينة خلاط و حاصرها و ضيق مخنقها و قاتلها مرارا و اشتد أهل البلد في مدافعته لما يعملون من سيرة الخوارزمية الالوائية و كانوا متغلبين على الكثير من بسائط ارمينية و أذربيجان فبلغه أنهم أفسدوا البلاد و قطعوا السابلة و أخذوا الضريبة من أهل خوي و خربوا سائر النواحي و كتب إليه بذلك نوابه و بنت السلطان طغرل زوجته فلما رحل عن خلاط قصدهم على غرة قبل أن يصعدوا إلى حصونهم بجبالهم الشاهقة فأحاطت بهم العساكر و استباحوهم و اقتسموهم بين القتل و الغنيمة و عاد إلى تبريز (5/150)
دخول الكرج مدينة تفليس و احراقها
و لما عاد السلطان من خلاط و غزو التركمان فرق عساكره للمشتى و كان الأمراء أساؤا السيرة إلى تفليس و هرب العسكر الذين بها و استلحموا بقيتهم و خربوا البلاد و حرقوها لعجزهم عن حمايتها من جلال الدين و ذلك في ربيع سنة أربع و عشرين و ستمائة و عند النسائي الكاتب أن استيلاء الفرنج على تفليس و احراقهم اياها كان و السلطان جلال الدين على خلاط و أنه لما بلغه ذلك رجع و أغار على التركمان في طريقه لما بلغه من افسادهم فنهب أموالهم و ساق مواشيهم إلى موقان و كان خمسها ثلاثين ألفا ثم سار إلى خوي لملاقاة بنت طغرل ثم سار إلى كنجة فبلغه الخبر بانصراف الكرج على تفليس بعد احراقها قال و لما وصل كنجة قدم عليه هنالك خاموش بن الاتابك ازبك بن البهلوان مؤديا منطقة بلخش قدر الكف مصنوعا عليه منقوشا اسم كيكاوس و جماعة من ملوك الفرس فغير السلطان صناعتها و نقشها على اسمه و كان يلبس تلك المنطقة في الاعياد و أخذها التتر يوم كبسوه و حملت إلى الخان الاعظم ابن جنكزخان بقراقدوم و أقام خاموش في خدمة السلطان إلى أن صرعه الفقر و لحق بعلاء الملك ملك الاسماعيلية فتوفي عنده انتهى كلام النسائي (5/150)
أخبار السلطان جلال الدين مع الاسماعيلية
كان السلطان جلال الدين بعد وصوله من الهند ولى ارخان على نيسابور و أعمالها و كان وعده بذلك بالهند فاستخلف عليها و أقام مع السلطان و كان نائبه بها يتعرض لبلاد الاسماعيلية المتاخمة له بهستان و غيرها بالنهب و القتل فأوفدوا على السلطان و هو بخوي و قد أمنهم يشكون من نائب ارخان و أساء عليهم المجاورة و لما عاد السلطان إلى كنجة و كان قد أقطعها و أعمالها لارخان فلما خيم بظاهرها وثب ثلاثة من الباطنية و يسمون الفداوية لانهم يقتلون من أمرهم أميرهم بقتله و يأخذون فديتهم منه و قد فرغوا من أنفسهم فوثبوا به فقتلوه و قتلهم العامة و كانت الاسماعيلية قد استولوا على الدامغان أيام الفتنة و وصل رسولهم بعد هذه الواقعة إلى السلطان و هو ببيلقان فطالبهم بالنزول على الدامغان فطلبوا ضمانها بثلاثين ألف دينار و قررت عليهم و كان رسول الوافد في خدمة الوزير و هم راجعون إلى أذربيجان فاستخلفه الطرب ليلة و أحضر له خمسة من الفداوية معه بالعسكر و بلغ خبرهم السلطان فأمره باحراقهم انتهى كلام النسائي و قال ابن الاثير أن السلطان بعد مقتل ارخان سار في العساكر إلى بلاد الاسماعيلية من الموت إلى كردكوه فاكتسحها و خربها و انتقم منهم و كانوا بعد واقعته قد طمعوا في بلاد الإسلام فكف عاديتهم و قطع اطماعهم و عاد فبلغه أن طائفة من التتر بلغوا الدامغان قريبا من الري فسار إليهم و هزمهم و أثخن فيهم ثم جاء الخبر بأن جموع التتر متلاحقة لحربه فأقام في انتظارهم في الري انتهى (5/151)
استيلاء حسام الدين نائب خلاط على مدينة خوى
قد تقدم لنا أن بنت السلطان طغرل زوجة ازبك بن البهلوان لما ملك السلطان جلال الدين تبريز من يدها أقطعها مدينة خوى ثم تزوجها بعد ذلك كما قدمناه و تركها لما هو فيه من أشغال ملكه فوجدت لذلك ما فقدته من العز و التحكم قال النسائي الكاتب و أضاف لها السلطان مدينتي سلماس و ارمينية و عين رجلا لقبض أقطاعها فتنكر لها و أغرى بها الوزير فكاتب السلطان بأنها تداخل الاتابك ازبك و تكاتبه ثم وصل الوزير إلى خوى فنزل بدارها و استصفى و كانت مقيمة بقلعة طلع فحاصرها وسألت المضي إلى السلطان فأبى إلا نزولها على حكمه انتهى و كان أهل خوى مع ذلك قد ضجروا من ملكة جلال الدين و جوره و تسلط عساكره فاتفقت الملكة معهم و كاتبوا حسام الدين الحاجب النائب عن الاشرف بخلاط فسار إليهم في مغيب السلطان جلال الدين بالعراق و استولى على مدينة خوى و أعمالها و ما يجاورها من الحصون و كاتبه أهل نقجوان و سلموها له و عاد إلى خلاط و احتمل الملكة بنت طغرل زوجة جلال الدين إلى خلاط إلى أن كان ما نذكره (5/151)
واقعة السلطان مع التتر على أصبهان
ثم بلغ الخبر إلى السلطان بأن التتر زحفوا من بلادهم فيما وراء النهر إلى العراق فسار من تبريز للقائهم و جرد أربعة آلف فارس إلى الري و الدامغان طليعة فرجعوا و أخبروه بوصولهم إلى أصبهان فنهض للقائهم و استخلف العساكر على الاستماتة و أمر القاضي بأصبهان باستنفار العامة و بعث التتر عسكرا إلى الري فبعث السلطان عسكرا لاعتراضهم فأوقعوا بالتتر فنالوا منهم ثم التقي الفريقان في رمضان سنة خمس و عشرين لرابعة وصولهم إلى أصبهان و انتقض عنه أخوه غياث الدين و جهان بهلوان الكجي في طائفة من العسكر و انهزمت مسيرة التتر و السلطان في اتباعهم و كاناو قد أكمنوا له فخرجوا من ورائه و ثبت و استشهد جماعة من الأمراء و أسر آخرون و فيهم علاء الدولة صاحب يزد ثم صدق السلطان عليهم الحملة فافرجوا له و سار على وجهه و انهزمت العساكر فبلغوا فارس و كرمان و رجعت ميمنة السلطان من قاشان فوجدوه قد انهزم فتفرقوا أشتاتا و فقد السلطان ثمانية من فرقه و كان بقاطى بستي مقيما بأصبهان فاعتزم أهل أصبهان على بيعته ثم وصل السلطان فاقصروا عن ذلك و تراجع بعض العسكر و سار السلطان فيهم إلى الري و كان التتر قد حاصروا أصبهان بعد الهزيمة فلما وصل السلطان خرج معه أهل أصبهان فقاتلوا التتر و هزموهم و سار السلطان في اتباعهم إلى الري و بعث العساكر وراءهم إلى خراسان و عند ابن الاثير أن صاحب بلاد فارس و هو ابن الاتابك سعد الذي ملك بعد أبيه حضر مع السلطان في هذه الواقعة و أن التتر انهزموا أولا فاتبعهم صاحب فارس حتى إذا أبعدوا انفرد عن العسكر و رجع عنهم فوجد جلال الدين قد انهزم لانحراف أخيه غياث الدين و أمرائه عنه و مضى إلى شهرم تلك الأيام ثم عاد إلى أصبهان كما ذكرناه (5/152)
الوحشة بين السلطان جلال الدين و أخيه غياث الدين
كان ابتداؤها أن الحسن بن حرميل نائب الغوية بهراة لما قتله عساكر خوارزم شاه محمد بن تكش و حاصروا وزيره الممتنع بها حتى اقتحموها عليه عنوة و قتلوه و هرب محمد بن الحسن بن حرميل إلى بلاد الهند فلما سار السلطان جلال الدين وحظى لديه و أقامه شحنة بأصبهان فلما سار السلطان إلى أصبهان للقاء التتر انحرف جماعة من غلمان غياث الدين عنه فصاروا إلى نصرة الدين بن حرميل و استرجعهم منه غياث الدين في بيته و طعنه فأشواه و مات لليال و أحفظ ذلك السلطان و أقام غياث الدين مستوحشا فلما كان يوم اللقاء انحرف عن أخيه و لحق بخوزستان و خاطب الخليفة فبعث إليه بثلاثين ألف دينار و سار من هنالك إلى قلعة الموت عند صلاح الدين شيخ الاسماعيلية فلما رجع السلطان من وقعة التتر إلى الري سار إلى قلعة الموت و حاصرها فاستأ من علاء الدين إلى السلطان لغياث الدين فأمنه و بعث من يأتيه به فامتنع غياث الدين و فارق القلعة و اعترضه عساكر السلطان بنواحي همذان و أوقعوا به و أسروا جماعة من أصحابه و نجا إلى براق الحاجب بكرمان فتزوج بأمه كرها و نمي إليه أنها تحاول سمه فقتلها و قتل معها جهان بهلوان الكجي و حبس غياث الدين ببعض القلاع ثم قتله بمحبسه و يقال بل هرب من محبسه و لحق بأصبهان و قتل بأمر السلطان قال النسائي وقفت على كتاب براق الحاجب إلى الوزير شرف الملك و السلطان بتبريز و هو يعدد سوابقه فعد منها قتله أعدى عدو السلطان و الله تعالى ولى التوفيق (5/153)
انتقاض البهلوانية
لما ارتحل السلطان و الوزير شرف الملك معه و انتهى إلى همذان بلغه أن الأمراء البهلوانية اجتمعوا بظاهر تبريز يرومون الانتقاض و اتبعه خاموش بن الاتابك ازبك من قلعة قوطور و كان مقيما بها فرجع السلطان إليهم و قدم بين يديه الوزير شرف الملك فلقيهم قريبا من تبريز و هزمهم و قبض على الذين تولوا أكبر الفتنة منهم و دخل تبريز قصبتهم و قبض على القاضي المعزول فصادفه قوام الدين الحرادي ابن أخت الطغراني و صادره و سار السلطان للقاء التتر و أقام الوزير نائبا للبلاد (5/153)
ايقاع نائب خلاط بالوزير
و لما كان ما ذكرناه من مسير حسام الدين نائب خلاط إلى أذربيجان و احتماله زوجة السلطان جلال الدين إلى خلاط امتعض الوزير لذلك فسار إلى موقان من بلاد اران و جمع التركمان و فرق العمال للجبايه و طلب الحمل من شروان شاه و هو خمسون ألف دينار فتوقف و أغار على بلاده فلم يظفر بشيء و رجع إلى أذربيجان و كانت بنت الأتابك بهلوان في بقجان فارقها مولانا ايدغمش و جاء إلى الوزير فأطمعه فيها و صار الوزيز مضمرا الغدر بها و امتنعت عليه و نزل بالمرج فأكرمته و قربته و رحل إلى حورس من أعمالها و كانت للاشرف صاحب خلاط أيام أزبك فانتشرت أيدي العسكر في تلك الضياع و قاتلها الوزير و جاء الحاجب صاحب خلاط في عساكره فانهزم الوزير ترك أثقاله و ذلك سنة أربع و عشرين و كان مع الحاجب فخر الدين سام صاحب حلب و هشام الدين خضر صاحب تبريز برم و كان الوزير و تكاليفه فظهر الآن بمخلفه و خلص الوزير إلى اران و سار الحاجب على في اتباعه ثم عاد إلى تبريز و مر بخوى فنهبها ثم سار إلى بقجان فملكها ثم إلى تدمر كذلك و أقام الوزير بتبريز و كان بها الاتابك ازبك متنسكا منعه أهل تبريز من الدخول و حملوا إليه النفقة ثم جاء الخبر برجوع السلطان إلى أصبهان بعد الهزيمة كما مر فسار الوزير إلى أذربيجان و لقي ثلاثة من الأمراء جاؤا مددا له من عند السلطان و أمره بحصار خوى فسار إليها و بها نائب الحاجب حسام الدين صاحب خلاط و هو بدر الدين بن صرهنك و الحاجب حسام الدين على منوشهر فنهض إليه الوزير من خوى فتأخر إلى تركري و التقيا هنالك فانهزم الحاجب و دخل تركري فاعتصم بها و حاصره الوزير و طلب الصلح فلم يسعفه و رجع الأمراء الذين كانوا معه بعساكرهم إلى أذربيجان و أفرج الوزير عن حصار تركري و مر بخوى و قد فارقها ابن صرهنك إلى قلعة قوطور و استأمن للسلطان من بعد ذلك و دخل الوزير مدينة خوى و صادر أهلها و سار إلى ترمذ و نقجوان ففعل فيهما مثل ذلك و انقطعت ايالة الحاجب صاحب خلاط و الله أعلم (5/154)
فتوحات الوزير باذربيجان و اران
و لما تخلف الوزير عن السلطان صرف همته إلى تمهيد البلاد و مدافعة صاحب خلاط و ارتجاع البلاد التي ملك من اذربيجان و اران و فتح القلاع العاصية فكان بينه و بين الحاجب حسام الدين صاحب خلاط ما ذكرناه و هو خلال ذلك يستميل أصحاب القلاع و يفيض فيهم الاموال و الخلع حتى أجاب أكثرهم ثم قبض على ناصر الدين محمد من أمراء البهلوانية و كان معتزلا عند نصرة الدين محمد بن سبكتكين فصادره على مال و تسلم من نائبه قلعة كانت بيده ثم مات نائب السلطان بكنجة اقسنقر الاتابكي فنهض إليها و قبض على نائبه شمس الدين كرشاسف و صادره و تسلم منه قلعة هردوجاربرد من أعمال اران ثم جر العساكر لحصار قلعة زونين و بها زوجة السلطان خاموش فأطال حصارها و عرضت عليه نكاحها فأبى و لما رجع السلطان من العراق تزوجها و ولى خادمه سعد الدين على القلعة فآساء إليها و انتزع أملاكها فأخرجوه و عادوا إلى الانتقاض و لم خلص الوزير من واقعته مع الحاجب نائب خلاط قصد أران فجي الأموال و جمع و احتشد و قصد قلعة مردانقين و كانت لصهر الوزير ركبة الدين فصانعه بأربعة آلاف دينار حملها إليه ثم سار إلى قلعة حاجين و بها جلال الدولة ابن أخت أبواني أمير الكرج فصالحه على عشرين ألف دينار و سبعمائة أسير من المسلمين ثم كانت فتنة البهلوانية فسكنها و سرح الجند عنها و شرح الخبر عنها أن بعض مماليك اتابك ازبك كان قد أفحش في قتل الخوارزمية بأذربيجان عند زحفهم إليها أيام فرارهم من التتر فلما ملك السلطان جلال الدين أذربيجان و محا ملك البهلوانية منها لحق الأمير مقدي هذا بالاشرف بن العادل بن أيوب صاحب الشام و أقام عنده فلما بلغه انهزام الوزير شرف الملك أمام الحاجب حسام الدين نائب الاشرف بخلاط فر من الشام إلى اذربيجان ليقيم مع الاتابكية و مر بالحاجب في خوى فاتبعه و عبر النهر و خاطب من عدوته معتذرا فرجع عنه و دخل مقدي بلاد قبار قلاع استولى عليها المنتقضون و العصاة فراسالهم في اقامة الدعوة الاتابكية و البيعية لابن خاموش بن ازبك يستدعونه من قلعة قوطور و اتصل ذلك بالوزير فأقلقه ثم جاء خبر هزيمة السلطان بأصبهان فازداد قلقا و سار الأمير مقدي إلى نصرة الدين محمد بن سبكتكين يدعوه لذلك فلاطفه في القول و كتب للوزير بالخبر فأجابه بأن يضمن لمقدي ما أحب في مراجعة الطاعة ففعل و جاء به إلى الوزير فأكرمه و خلع عليه و على من جاء معه و عاهده على العفو عن دماء الخوارزمية و جاء الخبر برجوع السلطان من أصبهان فارتحل الوزير للقائه و معه الأمير مقدي و ابن سبكتكين و أكرمهما السلطان (5/155)
أخبار الوزير بخراسان
كان صفي الدين محمد الطغرائي وزيرا بخراسان و أصل خبره أنه كان قرية من كلاجرد و أبوه رئيسها و كان هو حسن الخط و رتبة الاطوار ثم لحق بالسلطان في الهند و خدم الوزير شرف الملك فلما عادوا إلى العراق ولاه الطغرائي و لما ملك السلطان تفليس من يد الكرج ولى عليها اقسنقر مملوك الاتابك ازبك و أقام صفي الدين في وزارتها فلما حاصرها الكرج هرب اقسنقر و أقام صفي الدين فحاصره أياما ثم أفرجوا و وقع ذلك من السلطان أحسن المواقع و ولاه وزارة خراسان فأقام بها سنة و ضجر منه أهلها فلما جاء السلطان إلى الري و أقام بها كثرت به الشكايات و نكبه السلطان و استصفى أمواله و قبض على مواليه و حاشيته و قيدت خيله إلى مرابط السلطان و كانت ثلثمائة و خلص من مواليه على الكرماني إلى قلعة كان حصنها فامتنع بها و استوزر السلطان مكانه تاج الدين البلخي المستوفي و سلم إليه الصفي ليستصفيه و يقلع القلعة من مولاه و شدد في امتحانه و كان عدوه فلم يظفر منه بشيء و كان لما نكب طالبه خاتون السلطان باختصار الجواهر و ما ساقه لخدمة الوزير و غيره فاحضر أربعة آلاف دينار و سبعين فصا من ياقوت و بلخش و استأثر الخازن بها الظنه أنه مقتول ثم كاتب الصفي أرباب الدولة و وعدهم بالاموال فشفعوا فيه و خلصوه و كتب السلطان بخطه بسراحه فجاء و استخلص ماله من الخازن الا الفصوص فأنه تعذر عليه ردها و ولى السلطان على وزارة نسا محمد بن مودود النسوي العارض من بيت رياسة بها و رمت به الحادثة إلى غزنة فلما جاء السلطان من الهند ولاه الانشاء و الحبس و عظم أمره و غص به الوزير شرف الملك فلما ورد أحمد بن محمد المنشي الكاتب رسولا عن نصرة الدين محمد بن حمزة صاحب نسا كما مر ولاه السلطان الانشاء فارتمض لذلك ضياء الدين و طلب وزارة نسا فولاه السلطان اياها و أقطع له عشرة آلاف دينار في السنة زيادة على أرزاق الوزارة و ذهب إليها لاقامة وظيفته و استناب في ديوان العرض مجد الملك النيسابوري ثم قطع الحمل فعزله السلطان و ولى مكانه الكاتب أحمد بن محمد المنشىء و تعرض للسعاية فيه فطرده السلطان و هلك في طرده (5/156)
خبر بلبان صاحب خلخال
كان من أتابكية ازبك و لما كانت فتنة التتر و خلاء خراسان و استيلاء السلطان جلال الدين على اذربيجان لحق بمدينة خلخال فاستولى عليها و على قلاعها و شغل عنه السلطان بأمر العراق و صاحب خلاط فلما انصرف المسلمون من واقعة التتر بالعراق حاصروه بقلعة فيروز اباد حتى استأ من و ملكها السلطان و ولى عليها حسام الدين بكتاش مولى سعد اتابك فارس ثم خلف السلطان أثقاله بموقان و تجرد لخلاط و عاقه البردبار جيش فنهب بعض قلاع و كان عز الدين الخلخالي في كفر طاب قريبا من أرجيش فلحق بخلاط و جهزه الحاجب إلى اذربيجان يشغلهم باثارة الفتنة فيها فلم يتم قصده من ذلك فلحق بجبال زنجان و أقام يخيف السابلة و كتب له السلطان بالامان و نزل إلى أصبهان فبعث نائبها شرف الدولة برأسه إلى السلطان ثم رجع السلطان من كفر طاب إلى خرت برت فنهبها و خربها و وصله خلال ذلك الخبر بوفاة الخليفة الظاهر منتصف ثلاث و عشرين و ولاية ابنه المنتصر و جاءه كتابه بأخذ البيعة و أن يبعث إليه بالخلع و الله تعالى ولى التوفيق لا رب غيره (5/156)
تنكر السلطان للوزير شرف الملك
لما رجعت العساكر إلى موقان و أقام السلطان بخوي شكا إليه أهلها بكثرة مصادرة الوزير لهم و اطلع على اساءته للملكة بنت طغرل و استصفائه مالها مع براءتها مما نسب إليها ثم جاء إلى تبريز فبلغه عنه أكثر من ذلك و هو بقربة كورتان من أعمالها فافتقد رئيسها و كان يخدمه فقيل أن الوزير صادره على ألف دينار لمملوكين له فلما وصل إلى تبريز حبس من أخذها حتى ردها على صاحبها و أسقط عن أهل تبريز خراج ثلاث سنين و كتب بذلك و كثرت الشناعات على الوزير بما فعله في مغيب السلطان هذا مع ما كان منه في محاربة الاسماعيلية بأن السلطان كاتبه من بغداد بأن يفتش فلول الشام من أجل رسول من عند التتر بعثوه إلى الشام و قصد بذلك معاتبة الخليفة إن عثر على الرسول فمر به فل الاسماعيلية فقتلهم و استولى على أموالهم فلما عاد السلطان إلى اذربيجان وصله رسول علاء الدين ملك الاسماعيلية يعاتبه على ذلك و يطلب المال فنكر السلطان على الوزير ما فعله و وكل به أميرين حتى رد ما أخذ من أموالهم و كانت ثلاثين ألف دينار و عشرة أفراس فانطوى السلطان للوزير من ذلك كله على سخط و أعرض عن خطابه و كان يكاتب فلا يجاب و عجزت تبريز عن علوفة السلطان فأمر بفتح اهراء الوزير و التصرف فيها و رجع السلطان إلى موقان فلم يغير عليه شيئا و وقع له بتناول عشر الخاص فكان يأخذ من عشر العراق سبعين ألف دينار في كل سنة و الله أعلم (5/157)
وصول القفجاق لخدمة السلطان
كان للقفجاق على قديم العهد هوى مع قوم هذا السلطان و أهل بيته و كانوا يصهرون إليهم غالبا ببناتهم و من أجل ذلك استأصلهم جنكزخان و اشتد في طلبهم فلما عاد السلطان من واقعة أصبهان و قد هاله أمر التتر رأى أن يستظهر عليهم بقبائل قفجاق و كان في جملته سبيرجنكش منهم فبعثه إليهم يدعوهم لذلك و يرغبهم فيه فأجابوا و جاءت قبائلهم ارسالا و ركب البحر كوركان من ملوكهم في ثلثمائة من قرابته و وصل إلى الوزير بموقان فشتى بها ثم جاء السلطان فخلع عليه ورده بوعد جميل في فتح دربند و هو باب الابواب ثم أرسل السلطان لصاحب درنبد و كان طفلا و أتابكه يلقب بالاسد يدبر أمره فقدم على السلطان فخلع عليه و أقطع له و ملكه العمل على أن يفتح له الدرنبد و جهز عساكر و أمراء فلما فصلوا من عنده قبضوا على الاسد و شنوا الغارة على نواحي الباب و اعمل الاسد الحيلة و تخلص من أيديهم و تعذر عليهم ما أرادوه (5/158)
استيلاء السلطان على أعمال كستاسفى
كان علم الوزير يشكر أن السلطان أراد أن ينتصح له ببعض مذاهب الخدمة فسار في العساكر و عبر نهر زاس فاستولى على أعمال كستاسفي من يد شروان شاه فلما عاد السلطان إلى موقان أقطعها لجلال الدين سلطان شاه بن شروان شاه و كان أسيرا عند الكرج أسلمه أبوه إليهم على أن يزوجوه بنت الملك رسودان بنت تاماد فلما فتح السلطان بلاد الكرج استخلصه من الاسر و رباه و بقي عنده و أقطعه الآن كستاسفي و كان أيضا عند الكرج ابن صاحب ارزن الروم و كان تنصر فزوجوه رسودان بنت تاماد فأخرجه السلطان لما فتح بلاد الكرج ثم رجع إلى ردنة و لحق بالكرج فوجد رسودان قد تزوجت (5/158)
قدوم شروان شاه
كان السلطان ملك شاه بن البارسلان لما ملك اران أطلق الغارة على بلاد شروان فوفد عليه ملكها افريدون بن فر تبريز و ضمن حمل مائة ألف دينار في السنة فلما ملك السلطان جلال الدين اران سنة اثنتين و عشرين و ستمائة و طلب شروان شاه افريدون بالحمل فاعتل بتغلب الكرج و ضعف البلاد فأسقط عنه نصف الحمل فلما عاد الان قدم شروان شاه و أهدى له خمسمائة فرس و للوزير خمسين فاستقلها و أشار على السلطان بحبسه فلم يقبل اشارته ورده بالخلع و التشريف و أسقط عنه من الحمل عشرين ألفا فبقي ثلاثون قال النسائي الكاتب و أعطاني في التوقيع ألف دينار و الله تعالى أعلم (5/212)
مسير السلطان إلى بلاد الكرج و حصاره قلاع بهرام
لما كان السلطان مقيما بموقان منصرفه من اذربيجان بعث عساكره مع ايلك خان فأغار على بلاد الكرج و اكتسحها و مر ببحيرة بتاج فكبسه الكرج و أوقعوا به و فقد اريطاني و امتعض السلطان لما وقع بعسكره و ارتحل لوقته و قد جمع له الكرج فهزمت مقدمته مقدمتهم و جىء بالاسرى منهم فقتلهم و سار في اتباعهم و نازل كوري و طالبهم باطلاق أسرى البحيرة فأطلقوهم و أخبر أن اريطاني خلص تلك الليلة إلى اذربيجان ثم وجده السلطان في نقجوان ثم سار إلى بهران الكرجي و قد كان أغار على نواحي كنجة فعاث في أعماله و حاصر قلعة سكان ففتحها عنوة و كذلك قلعة عليا ثم حاصر قلعة كاك و بعث الوزير لحصار كوزاني فحاصرها ثلاثة أشهر حتى طلبوا الصلح على مال حملوه فرحل عنهم إلى خلاط و الله أعلم (5/159)
مسير السلطان إلى خلاط و حصارها
و لما فرغ السلطان من شأن الكرج قدم أثقاله إلى خلاط على طريق قاقروان و سار هو إلى نقجوان و صبح الكرج و استاق مواشيهم ثم أقام اياما و قضى أشغال أهل خراسان و العراق ليفرغ لحصار خلاط قال النسائي الكاتب و حصل لي منهم تلك الأيام ألف دينار ثم ارتحل إلى خلاط و لحق بعساكره و لقيه رسول من عز الدين أيبك نائب الاشرف بخلاط و قد كان الاشرف بعثه و أمره بالقبض على نائبها حسام الدين علي بن حماد فقبض عليه ثم قتله غيلة و بعث إلى السلطان يستخدم إليه بذلك و إن سلطانه الاشرف أمره بطاعة السلطان جلال الدين و بالغ في الملاطفة فأبي السلطان الا امضاء ما عزم عليه و قال إن كان هذا حقا فابعث الي بالحاجب فلما سمع هذا الجواب قتله و سار السلطان إلى خلاط و نزل عليها بعد عيد الفطر من سنة ست و عشرين و جاءه ركن الدين جهان بن طغرل صاحب ارزن الروم فكان معه و حاصرها و نصب عليها المجانيق و أخذ بمخنقها حتى فر أهلها عنها من الجوع و تفرقوا في البلاد ثم داخله بعض أهلها في أن يمكنهم من بقيتها على أن يؤمنوه و يقطعوه في اذربيجان فأقطعه السلطان سلماس وعدة ضياع هنالك و أصعد الرجال ليلا إلى الاسوار فقاتلوا الجند بالمدينة و هزموهم و ملكوها و أسروا من كان بها و أسروا النصارى و أسد بن عبد الله و تحصن النائب عز الدين أيبك بالقلعة فامنه و حبسه بقلعة درقان فلما وقعت المراسلة في الصلح قفل لئلا يشترط و قال ابن الاثير ان مولى من موالي حسام الدين كان هرب إلى السلطان فلما ملك خلاط طلب أن يثأر منه بمولاه فدفعه إليه و قتله و نهب البلد ثلاثا و سرح السلطان صاحب ارزن و هرب القمهري من محبسه فقتل أسد بن عبد الله المهراني بجزيرته و أقطع السلطان خلاط للامراء و عاد و الله تعالى ولى التوفيق (5/159)
واقعة السلطان جلال الدين مع الأشرف و كيقباد و انهزامه أمامهما
و لما استولى السلطان جلال الدين على خلاط تجهز الاشرف من دمشق و قد كان ملكها و سار لقتال السلطان جلال الدين في عساكر الجزيرة و الشام و ذلك في سنة تسع و عشرين و لقيه علاء الدين كيقباد صاحب بلاد الروم على سيراس و كان كيقياد قد خشي من اتصال جهان شاه ابن عمه طغرل صاحب ارزن الروم بالسلطان جلال الدين لما بينهما من العداوة فسار الاشرف و كيقباد من سيراس و في مقدمة الاشرف عز الدين عمر بن علي من أمراء حلب من الاكراد الهكارية و له صيت في الشجاعة و جاء السلطان علاء الدين للقائهم فلما تراءى الجمعان حمل عز الدين صاحب المقدمة عليهم فهزمهم و عاد السلطان إلى خلاط و كان الوزير على ملاركرد يحاصرها فلحق به و ارتحلوا جميعا إلى اذربيجان و أسر ركن الدين جهان شاه بن طغرل و جيء به إلى ابن عمه علاء الدين كيقباد فجاء به إلى ارزن فسلمها و سائر أعمالها و وصل الاشرف إلى خلاط فوجدها خاوية و لما رجع السلطان إلى اذربيجان ترك العساكر مع الوزير سكمان و أقام بخوي و خلص الترك في الهزيمة إلى موقان و تردد شمس الدين التكريتي رسول الاشرف بينه و بين السلطان جلال الدين في الصلح بينهم و دخل فيه علاء الدين صاحب الروم و انعقد بينهم جميعا و سلم لهم السلطان سر من رأى مع خلاط و الله تعالى أعلم (5/160)
الحوادث أيام حصار خلاط
منها وفادة نصر الدين اصبهبد صاحب الجبل مع ارخا من أمراء السلطان يصهره على أخيه فقبض السلطان عليه إلى أن عاد من بلاد الروم منهزما فأقطعه و أعاده إلى بلاده و منها رسالة أخت السلطان و كانت عند دوشي خان أخذها من العيال الذين جاؤا معه و تركمان خاتون من خوارزم و أولدها و كانت تكاتب أخاها بالأخبار فبعثت إليه الآن في الصلح مع خاقان و المصاهرة و أن يسلم له فيما وراء جيحون فلم يجبها و منها وفادة ركن الدين شاه ابن طغرل صاحب ارزن الروم و كان في طاعة الاشرف و مظاهرا للحاجب نائب خلاط على عداوة السلطان منافرة لابن عمه علاء الدين كيقباد بن كنخسر و صاحب الروم و كان قتل رسول السلطان منقلبا من الروم و منع الميرة عن العسكر فلما طال حصار السلطان بخلاط استأمن و قدم عليه السلطان فاحتفل لقدومه و اركب الوزير للقائه ثم خلع عليه ورده إلى بلاده و استدعى منه آلات الحصار فبعث بها ثم حضر بعد ذلك واقعة الاشرف مع السلطان كما مر و منها وصول سعد الدين الحاجب برسالة الخليفة إلى السلطان بالخطبة في أعمالها و ان لا يتعرض لمظفر الدين كوكبرون صاحب اربل و لا للمولد صاحب الموصل و لا لشهاب الدين سليمان شاه ملك و لا لعماد الدين بهلوان بن هراست ملك الجبال و يعدهم في أولياء الديوان فامتثل مراسله و بعث نائب العراق شرف الدين على بأن ملك العراق لا يتم الا بطاعة ملك الجبال عماد الدين بهلوان و ملك سليمان شاه فبعث إليهما السلطان من لاطفهما حتى كانت طاعتهما اختيارا منهما و بعث السلطان الحاجب بدر الدين طوطو بن ابنايخ خان فأحسن في تأدية رسالته و جاء بهدية حافلة من عند الخليفة خلعتان للسلطان احداهما جبة و عمامة و سيف هندي مرصع الحلية و الاخرى قنع و كمة و فرجية و سيف محلي بالذهب و قلادة مرصعة ثمينة و فرسان رائعان بعدتين كاملتين و نعال لكل واحدة من أربعمائة دينار و ترس ذهب مرصع بالجواهر و فيه أحد و أربعون فصا من الياقوت و بندخستاني في وسطه فيروزجة كبيرة و ثلاثون فرسا عربية مجللة بالاطلس الرومي المبطن بالاطلس البغدادي بمقاود الحرير و نعال لكل واحدة منها ستون دينارا و عشرون مملوكا بالعدة و المركوب و عشرة فهود بجلال الاطلس و قلائد الذهب و عشرة صقور بالاكمام الملكة و مائة و خمسون بقجة في كل واحدة عشرة ثياب و خمس أكر من العنبر مضلعة بالذهب و شجرة من العود الهندي طولها خمسة أذرع و أربع عشرة خلعة نسوانية للخانات من خوالص الذهب و كنائس للخيل تفليسية و للامراء ثلثمائة خلعة لكل أمير خلعة قباء و كمة و للوزير عمامة سوداء و قباء و فرجية و سيف هندي و اكرتان من العنبر و خمسون ثوبا و بغلة و لاصحاب الديوان عشرون خلعة في كل خلعة جبة و عمامة و عشرون ثوبا أكثرها اطلس رومي و بغدادي و عشرون بغلة شهباء و رفعت للسلطان خباء قد خلها و لبس الخلعتين و شفع الرسول في أهل خلاط فاعتذر له السلطان و منها وصول هدية من صاحب الروم ثلاثون بغلا مجللة بثياب الاطلس الخطائي و فرو القندسي و السمور و ثلاثون مملوكا بالخيل و العدة و مائة فرس و خمسون بغلا و لما مروا باذربيجان اعترضهم ركن الدين جهان شاه بن طغرل صاحب ارزن و كان في طاعة الاشرف فأمسك الهدية عنده إلى أن وفد على السلطان بطاعته فأحضرها و منها اسار وزير المورخا جاء إلى الجبل المطل على قزوين لحصاد الحشيش على عادته و كان السلطان قد تغير على علاء الدين صاحبهم بسبب أخيه غياث الدين و لحاقه بهم في الموت فسار مقطع ساوة إلى ذلك الجبل و أكمن لهم و أسر الوزير و بعث به إلى السلطان و هو يحاصر خلاط فحبسه بقلعة رزمان و هلك لاشهر قلائل ثم بعث السلطان كاتبه محمد بن أحمد النسائي إلى علاء الدين صاحب قلعة الموت بطلب الخوارج و طلب الخطبة فامتنع منها أولا و احتج عليه بأن أباه جلال الدين الحسن خطب لخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش والد السلطان فأنكر و التزم أن يبعث إلى الديوان مائة ألف في كل سنة (5/161)
وصول جهان بهلوان ازبك من الهند
كان السلطان لما فصل من الهند بقصد العراق و استخلف على البلاد التي ملكها هنالك جهان بهلوان ازبك فأقام هنالك إلى أن قصده عسكر شمس الدين ايتماش صاحب لها وون ففارق مكانه و سار إلى بلاد قشمير فزاحموه و طردوه عن البلاد فقصد العراق و تخلف عنه أصحابه و عادوا إلى ايتماش و فيهم الحسن برلق الملقب رجا ملك و كاتب جهان عليها ملك العراق بوصوله في سبعمائة فارس فأجاب الحسن بن رأي السلطان فيه و بعث إليه بعشرة آلاف دينار للنفقة و وصل توقيع السلطان بأن تحمل إليه عشرون ألفا و أن يشتى بالعراق يستريح بها من التعب فصادف عود السلطان من بلاد الروم و زحف السلطان إلى اذربيجان فحال قدر الله بينه و بين مرامه و قتل هناك سنة ثمان و عشرين (5/162)
وصول التتر إلى اذربيجان
كان التتر عندما ملكوا ما وراء النهر و زحفوا إلى خراسان فضعضعوا ملك بني خوارزم شاه و انتهوا إلى قاصية البلاد و خربوا ما مروا عليه و اكتسحوا و نهبوا و قتلوا ثم استقر ملكهم بما وراء النهر و عمروا تلك البلاد و اختطوا قرب خوارزم مدينة عظيمة تعوض منها و بقيت خراسان خالية و استبد بالمدن فيها أمراء شبه الملوك يعطون الطاعة للسلطان جلال الدين لما جاء من الهند و انفرد جلال الدين بملك العراق و فارس و كرمان و اذربيجان و اران و ما وراء ذلك و بقيت خراسان مجالات لغارات التتر و حروبهم ثم سارت طائفة منهم سنة خمس و عشرين فكان بينهم و بين جلال الدين لما جاء من الهند المواقعة على أصبهان كما مر ثم كان بين جلال الدين و بين الاشرف صاحب الشام و علاء الدين كيقباد صاحب الروم المواقعة سنة سبع و عشرين كما مر و أوهنت من جلال الدين و حلت عرى ملكه و كان علاء الدين مقدم الاسماعيلية في قلعة الموت فعادى جلال الدين لما أثخن في بلاده و قرر عليه وظائف الاموال فبعث إلى التتر بخبرهم بالهزيمة الكائنة عليه و انها أوهنته و يحثهم على قصده فساروا إلى أذربيجان أول سنة ثمان و عشرين و بلغ الخبر إلى السلطان بمسيرهم فبعث بوغر من أمرائه طليعة لاستكشاف خبرهم فلقي مقدمتهم فانهزم و لم ينج من أصحابه غيره و جاء بالخبر فرحل من تبريز إلى موقان و خلف عياله بتبريز لنظر الوزير و أعجله الحال عن أن يبعثهم إلى بعض الحصون ثم ورد كتاب من حدود زنجان بأن المقدمة التي لقيها بوغر باهر اقاموا بمرج الخان و انهم سبعمائة فارس فظن السلطان أنهم لا يجاوزونهما فسرى عنه و رحل إلى موقان فأقام بها و بعث في احشاد العساكر الأميرين بغان شحنة خراسان و أوسمان بهلوان شحنة مازندان و شغل بالصيد و بينما هو كذلك كبسه التتر بمكانه و نهبوا معسكره و خلص إلى نهراوس ثم روي بقصد كنجة و عطف إلى أذربيجان فتنكر لماهان و كان عز الدين صاحب قلعة شاهن غاضبا منذ سنين لاغارة الوزير على بلده فلما نزل السلطان ماهان كان يخدمه بالميرة و باخبار التتر ثم أنذره آخر الشتاء بمسير التتر إليه من ارجان و أشار عليه بالعود إلى اران لكثرة ما فيها من العساكر و أجناد التركمان متحصنين بها فلما فارقها و كان الوزير فوق بيوت السلطان و خزائنه في قلاع حسام الدين منهم ارسلان كبير أمراء التركمان باران و كان قد عمر هنالك قلعة سنك سراخ من أحصن القلاع فأنزل عياله بها و كان مستوحشا من السلطان فجاهر بالعصيان و كانت وحشته من السلطان لامور منها تبذير أمواله في العطاء و النفقة و منها أنه ظن أن السلطان مجفل إلى الهند فكاتب الاشرف صاحب الشام و كيقباد صاحب الروم فوعدهم من نفسه الطاعة و هما عدوا السلطان و منها أنه كاتب قلج ارسلان التركماني فأمره بحفظ حرم السلطان و خزائنه و لا يسلمها إليه و بعث في الكتاب له و الكباس قبله ليغزو الروم فلما مر السلطان بقلعته بعث إليه يستدعيه فوصل و حمل كفنه في يده فلاطفه السلطان و كايده فظنها مخالصة فاطمأن و الله تعالى ولى التوفيق (5/163)
استيلاء التتر على تبريز و كنجة
و لما اجفل السلطان بعد الكبسة من موقان إلى اران بلغ الخبر إلى أهل يبريز فثاروا بالخوارزمية و أرادوا قتلهم و وافقهم بهاء الدين محمد بن بشير فاربك الوزير بعد الطغرياني و كان الطغرياني رئيس البلد كما مر فمنعهم من ذلك و عدوا على واحد من الخوارزمية و قتلوه فقتل به اثنين من العامة و اجتهد في تحصين تبريز و حراستها و شحنها بالرجال و لم تنقطع كتبه عن السلطان ثم هلك فسلمها العوام إلى التتر ثم ثار أهل كنجة و سلموا بلدهم للتتر و كذا أهل ببلغازة و الله أعلم (5/164)
نكبة الوزير و مقتله
لما وصل السلطان إلى قلعة جاربرد بلغه استيحاش الوزير و خشي أن يفر إلى بعض الجهات فركب إلى القلعة موريا بالنظر في أحوالها و الوزير معه و أسر إلى والي القلعة أن يمسك الوزير و يقيده هنالك ففعل و نزل السلطان فجمع مماليك الوزير و كبيرهم الناصر قشتمر وضمهم إلى اوترخان ثم نمي إلى والي القلعة أن السلطان مستبدل منه فاستوحش و بعث بخاتم الوزير إلى قشتمر كبير المماليك نحن و صاحبكم متوازرون فمن أحب خدمته فليأت القلعة فسقط في يد السلطان و كان ابن الوالي في جملته و حاشيته فأمره السلطان أن يكاتب أباه و يعاتبه ففعل و أجابه بالتنصل من ذلك فقال له السلطان فليبعث إلي برأس الوزير فبعث و كان الوزير مكرما للعلماء و الأدباء مواصلا لهم كثير الخشية و البكاء متواضعا منبسطا في العطاء حتى استغرق أموال الديوان لولا أن السلطان جذب من عنانه و كان فصيحا في لغة الترك و كانت عمالته على التواقيع السلطانية الحمد لله العظيم و على التواقيع الديوانية يعتمد ذلك و على تواقيعه إلى بلاده أبو المكارم على بن أبي القاسم خالصه أمير المؤمنين (5/164)
ارتجاع السلطان كنجة
لما ثار أهل كنجة بالخوارزمية كان القائم بأمرهم رجل منهم اسمه بندار و بعث السلطان إليهم رسوله يدعوهم إلى الطاعة فوصلوا قريبا منه و أقاموا و خرج إليهم الرئيس جمال الدين القمي بأولاده و امتنع الباقون ثم وصل السلطان و ردد إليهم فلم تغن و برزوا بعض الأيام للقتال و رموا على خيمته فركب و حمل عليهم فانهزموا و ازدحموا في الباب فمنعهم الزحام من اغلاقه فاقتحم السلطان المدينة و قبض على ثلاثين من أهل الفتنة فقتلهم و جيء ببندار و كان بالغا في الفساد و كسر سرير الملك الذي نصبه بها محمد بن ملك شاه فمثل به و فصل أعضاءه بين يديه و أقام السلطان بكنجة نحوا من شهر ثم سار إلى خلاط مستمدا للاشرف فارتحل الاشرف إلى مصر و علل بالمواعيد و وصل السلطان في وجهته إلى قلعة شمس و بها اراك بن ايوان الكرجي فخرج و قبل الأرض على البعد ثم بعث إلى السلطان ما أمري و بعث السلطان إلى جيرانه من الملوك مثل صاحب و آمد و ماردين يستنجدهم بعد يأسه من الاشرف و جرد عسكرا إلى خرت برت و ملطية و اذربيجان فأغاروا في تلك النواحي و استقاموا نعمها لما بين ملكها كيقباد و بين الاشرف من الموالاة فاستوحش جميعهم من ذلك و قعدوا عن نصرته و الله تعالى ولى التوفيق (5/165)
واقعة التتر على السلطان بآمد و مهلكه
كان السلطان بلغه و هو بخلاط أن التتر ساروا إليه فبعث السلطان الأمير أوترخان في أربعة آلاف فارس طليعة فرجع و أخبر أن التتر رجعوا من حدود ملازكرد و كان الأمراء أشاروا على السلطان الانتقال بديار بكر و ينجرون إلى أصبهان ثم جاءه رسول صاحب آمد و زين له قصد الروم وأطعمه في الاستيلاء عليها ليتصل بالقفجاق و يستظهر بهم على التتر و أنه يمده بنفسه في أربعة آلاف فارس و كان صاحب آمد يروم الانتقام من صاحب الروم بما ملك من قلاعه فجنح السلطان إلى كلامه و عدل عن أصبهان إلى آمد فنزل بها و بعث إليه التركمان بالنذير و انهم رأوا نيران التتر بالمنزل الذي كانوا به أمس فاتهم خبرهم و صبحه التتر على آمد و أحاطوا بخيمته قبل أن يركب فحمل عليهم اوترخان حتى كشفهم عن الحركات و ركب السلطان و ركض و أسلم زوجته بنت الاتابك سعد إلى أميرين يحملانها إلى حيث تنتهي الجفلة ثم رد اوترخان العساكر عنه ليتوارى بانفراده عن عين العدو و سار اوترخان في أربعة آلاف فارس فخلص إلى أصبهان و استولى عليها إلى أن ملكها التتر عليه سنة تسع و ثلاثين و ذهب السلطان مستخفيا إلى باشورة آمد و الناس يظنون أن عسكره غدروا به فوقفوا يردونهم فذهب إلى حدود الدربندات و قد ملئت المضايق بالمفسدين فأشار عليه أوترخان بالرجوع فرجع و انتهى إلى قرية من قرى ميافارقين فنزل في بيدرها و فارقه أترخان إلى شهاب الدين غازي صاحب حلب لمكاتبات كانت بينهما فحبسه ثم طلبه الكامل فبعث إليه محبوسا ثم سقط من سطح فمات و هجم التتر على السلطان بالبيدر فهرب و قتل الذين كانوا معه و أخبر التتر أنه السلطان فاتبعوه و أدركه اثنان منهم فقتلهما و يئس منه الباقون فرجعوا عنه و صعد جبل الاكراد فوجدهم مترصدين في الطرق للنهب فسلبوه و هموا بقتله و أسر إلى بعضهم أنه السلطان فمضى به إلى بيته ليخلصه إلى بعض النواحي و دخل البيت غيبه بعض سفلتهم و بيده حربة و هو يطلب الثأر من الخوارزمية بأخ له قتل بخلاط فقتله و لم يغن عنه البيت و كانت الوقعة منتصف شوال سنة ثمان و عشرين هذه سياقة الخبر من كتاب النسائي كاتب السلطان جلال الدين و أما ابن الاثير فذكر الواقعة و أنه فقد فيها و بقوا أياما في انتظار خبره و لم يذكر مقتله و انتهى به التأليف و لم يزد على ذلك قال النسائي و كان السلطان جلال الدين أسمر قصيرا تركيا شجاعا حليما و قورا لا يضحك إلا تبسما و لا يكثر الكلام مؤثرا للعدل إلا أنه مغلوب من أجل الفتنة و كان يكتب للخليفة و الوحشة قائمة بينهما كما كان أبوه يكتب خادمه المطواع فلان فلما بعث إليه بالخلع عن بلاطه كما مر كتب إليه عبده فلان و الخطاب بعد ذلك سيدنا و مولانا أمير المؤمنين و أمام المسلمين و خليفة رب العالمين قدوة المشارق و المغارب المنيف على الذروة العليا ابن لؤي بن غالب و يكتب لملوك الروم و مصر و الشام السلطان فلان ليس معها أخوه و لا محبه و علامته على تواقيعه النصرة من الله وحده و علامته لصاحب الموصل بأحسن خط و شق القلم شقين ليغلط و لما وصل من الهند كاتبه الخليفة الجناب الرفيع الخاقاني فطلب الخطاب بالسلطان فأجيب بأنه لم تجر به عادة مع أكابر الملوك فألح في ذلك حين حملت له الخلع له الخلع فخوطب بالجناب العالي الشاهستاني ثم انتشر التتر بعد هذه الواقعة في سواد آمد و أرزن و ميافارقين و سائر ديار بكر فاكتسحوها و خربوها و ملكوا مدينة اسعرد عنوة فاستباحوها بعد حصار خمسة أيام و مروا بماردين فامتنعت ثم وصلوا إلى نصيبين فاكتسحوا نواحيها ثم إلى سنجار و جبالها و الخابور ثم ساروا إلى تدليس فأحرقوها ثم إلى أعمال خلاط فاستباحوا أبا كري و ارتجيس و جاءت طائفة أخرى من أذربيجان إلى أعمال اربل و مروا في طريقهم بالتركمان الاموامية و الاكراد الجوزقان فنهبوا و قتلوا و خرج مظفر الدين صاحب اربل بعد ان استمد صاحب الموصل فلم يدركهم و عادوا و بقيت البلاد قاعا صفصفا و الله و ارث الارض و من عليها و هو خير الوارثين و افترق عسكر جلال الدين منكبرس و سارو إلى كيقباد ملك الروم فأثبتهم في ديوانه و استخدمهم ثم هلك سنة أربع و ثلاثين وولى ابنه غياث الدين كنخسرو فارتاب بهم و قبض على كبيرهم و فر الباقون و اكتسحوا ما مروا به و أقاموا مستبدين بأطراف البلاد ثم استمالهم الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل و كان نائبا لأبيه بالبلاد الشرقية حران و كيفا و آمد و استأذن أباه في استخدامهم فأذن له كما يأتي في أخباره و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق بمنه و فضله (5/165)
الخبر عن دولة بني تتش بن البارسلان ببلاد الشام دمشق و حلب و أعمالهما و كيف تناوبوا فيها القيام بالدعوة العباسية و الدعوة العلوية إلى حين انقراض أمرهم
قد تقدم لنا استيلاء السلجوقية على الشام لأول دولتهم و كيف سار أتسزبن ارتق الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه إلى فلسطين ففتح الرملة و بيت المقدس و أقام فيهما الدعوة العباسية و محا الدعوة العلوية ثم حاصر دمشق و ذلك سنة ثلاث و ستين و أربعمائة ثم أقام يردد الحصار على دمشق حتى ملكها سنة ثمان و ستين و سار إلى مصر سنة تسع و ستين و حاصروها و عاد منها و ولى السلطان ملك شاه بعد أبيه البارسلان سنة خمس و ستين فأقطع أخاه تتش بلاد الشام و ما يفتحه من تلك النواحي سنة سبعين و أربعمائة فسار إلى حلب و حاصروها و كان أمير الجيوش بدر الجمالي قد بعث العساكر لحصار دمشق و بها أتسز فبعث بالصريخ إلى تاج الدولة فسار لنصرته و أجفلت عساكر مصر و خرج أتسز لتلقيه فتعلل عليه ببطئه عن تلقيه و قتله و استولى على دمشق و قد تقدم ذلك كله ثم استولى سليمان بن قطلمش على انطاكية و قتل مسلم بن قريش و سار إلى حلب فملكها و سمع بذلك تتش فسار إليها و اقتتلا سنة تسع و سبعين و قتل سليمان بن قطلمش في الحرب و سار السلطان ملك شاه إلى حلب فملكها و ولى عليها قسيم الدولة اقسنر جد نور الدين العادل ثم جاء السلطان إلى بغداد سنة أربع و ثمانين و سار إليه أخوه تاج الدين تتش من دمشق و قسيم الدولة اقسنقر صاحب حلب و بوزان صاحب الرها و حضروا معه صنيع المولد النبوي ببغداد فلما وعدوه العود إلى بلادهم أمر قسيم الدولة و بوزان بأن يسيرا بعسكرهما مع تاج الدولة تتش لفتح البلاد بساحل الشام و فتح مصر من يد المستنصر العلوي و محو الدولة العلوية منها فساروا لذلك و ملك تتش حمص من يد ابن ملاعب و غزة عنوة و أماسية من يد خادم العلوي بالامان و حاصر طرابلس و بها جلال الدين بن عمار فداخل قسيم الدولة اقسنقر و صانعه بالمال في أن يشفع له عند تتش فلم يشفعه فرحل مغاضبا و أجفلوا إلى جبلة و انتقض أمرهم و هلك السلطان ملك شاه سنة خمس و ثمانين ببغداد و قد كان سار إلى بغداد و سار تتش أخوه من دمشق للقائه و بلغه في طريقه خبر وفاته و تنازع ولده محمود و بركيارق الملك فاعتزم على طلب الأمر لنفسه و رجع إلى دمشق فجمع العسكر و قسم العطاء و سار إلى حلب فأعطاه اقسنقر الطاعة لصغر أولاده ملك شاه و التنازع الذي بينهم و حمل صاحب انطاكية و بوزان صاحب الرها و حران على طاعته و ساروا جميعا في محرم سنة ست و ثمانين فحاصروا الرحبة و ملكوها و خطب فيها تتش لنفسه ثم ملك نصيبين عنوة و استباحها و أقطعها لمحمد بن مسلم بن قريش بن بدران و بعث إليه في الخطبة على منابرة فامتنع وبرز للقائه في ثلاثين ألفا و كان تتش في عشرة آلاف و التقوا بالمضيق من نواحي الموصل فانهزم إبراهيم و قتل و استبيحت أحياء العرب و قتل أمراؤهم و أرسل إلى بغداد في طلب الخطبة فلم يسعف إلا بالوعد ثم سار إلى ديار بكر فملكها في ربيع الآخر و سار منه إلى أذربيجان و كان بركيارق بن ملك شاه قد استولى على الري و همذان و كثير من بلاد الجبل فسار في العساكر لمدافعته فلما تقاربا نزع اقسنقر و بوزان إلى بركيارق و عاد تتش منهزما إلى الشام و جمع العساكر و استوعب في الحشد و سارا إلى اقسنقر في حلب فبرز إليه و معه بوزان صاحب الرها و كربوقا الذي ملك الموصل فيما بعد و لقيهم تتش على ستة فراسخ من حلب فانهزموا و جيء باقسنقر أسيرا فقتله صبرا و لحق كربوقا و بوزان بحلب فحاصرها تتش و ملكها و أخذها أسيرين و بعث إلى حران و الرها في الطاعة فامتنعوا فقتل بوزان و ملكها و حبس كربوقا بحمص ثم سار إلى الجزيرة فملكها جميعا ثم إلى ديار بكر و خلاط ثم اذربيجان ثم همذان و بعث إلى بغداد في الخطبة و كان بركيارق يومئذ بنصيبين فعبر دجلة إلى اربل ثم منها إلى بلد سرحاب بن بدر و سار الأمير يعقوب بن ارتق من عسكر تتش فكسبه و هزمه و نجا إلى أصبهان فكان من خبره ما تقدم و بعث تتش يوسف ابن ارتق التركماني شحنة إلى بغداد فمنع منها فعاث في نواحيها ثم بلغه مهلك تتش فعاد إلى حلب و هذه الاخبار كلها قد تقدمت في أول دولة السلجوقية و انما ذكرناها هنا توطئة بني تتش بدمشق و حلب و الله أعلم (5/168)
مقتل تتش
و لما انهزم بركيارق أمام عمه تتش لحق بأصبهان و بها محمود و أهل دواته و تشاوروا في قتله ثم أبقوه إلى ابلال محمود من مرضه فقدر هلاك محمود و بايعوا لبركيارق فبادر إلى أصبهان و قدم أميرا آخر بين يديه لاعداد الزاد و العلوفة و سار هو إلى أصبهان و سار هو إلى أصبهان و رجع تتش إلى الري و أرسل إلى الأمراء بأصبهان يدعوهم و يرغبهم فأجابوه باستبراء أمر بركيارق ثم ابل بركيارق من مرضه و سار في العساكر إلى الري فانهزم تتش و انهزم عسكره و ثبت هو فقتله بعض أصحاب اقسنقر بثأر صاحبه و استقام الأمر لبركيارق و الله تعالى أعلم (5/169)
استيلاء رضوان بن تتش على حلب
كان تتش لما انفصل من حلب استخلف عليها أبا القاسم الحسن بن علي الخوارزمي و أمكنه من القلعة ثم أوصى أصحابه قبل المصاف بطاعة ابنه رضوان و كتب إليه بالمسير إلى بغداد و نزول دار السلطنة فسار لذلك و سار معه أبو الغازي بن ارتق و كان أبوه تتش تركه عنده و سار معه و معه محمد بن صالح بن مرداس و غيرهما و بلغه مقتل أبيه عند هيت فعاد إلى حلب و معه الأميران الصغيران أبو طالب و بهرام و أمه و زوجها جناح الدولة الحسن بن افتكين لحق بهم من المعركة فلما انتهوا إلى حلب امتنع أبو القاسم بالقلعة و معه جماعة من المغاربة وهم أكثر جندها فاستمالهم جناح الدولة فثاروا بالقلعة من الليل و نادوا بشعار الملك رضوان و احتاطوا على أبي القاسم فبعث إليه رضوان بالامان و خطب له على منابر حلب و أعمالها أقام بتدبير دولته جناح الدولة و أحسن السيرة و خالف عليهم الأمير باغيسيان بن محمد بن ابه التركماني صاحب انطاكية ثم أطاع و أشار على رضوان بقصد ديار بكر و سار معه لذلك و جاءهم أمراء الاطراف الذين كان تتش رأسهم فيها و قصدوا سروح فسبقهم إليها سلمان بن ارتق و ملكها فساروا إلى الرها و بها الفارقليط من الروم كان يضمن البلاد من بوزان فتحصن بالقلعة و دافعهم ثم غلبوه عليها و ملكها رضوان و طلبها منه باغيسيان و خشي جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب و رجع رضوان و الأمراء على أثره فسار باغيسيان فأقطعها له ثم سار إلى حران و أميرها قراجا فدس إليهم بعض أهلها بالطاعة و اتهم قراجا بذلك ابن المعني من أعيانها كان تتش يعتمد عليه في حفظ البلد فقتله و قتل بني أخيه ثم فسد ما بين جناح الدولة و باغيسيان و خشي جناح الدولة على نفسه فلحق بحلب و رجع رضوان و الأمراء على أثره فسار باغيسيان إلى بلده انطاكية و سار معه أبو القاسم الخوارزمي و دخل رضوان إلى حلب دار ملكه و كان من أهل دولته يوسف ابن ارتق الخوارزمي الذي بعثه تتش إلى بغداد شحنة و كان من الفتيان بحلب و كان قنوعا و كان يعادي يوسف بن اتق فجاء إلى جناح الدولة القائم بأمر رضوان و رمى يوسف بن ارتق عنده بأنه يكاتب باغيسيان و يداخله في الثورة و استأذنه في قتله فأذن له و أمده بجماعة من الجند و كبس يوسف في داره فقتله ونهب فيها و استطال على الدولة و طمع في الاستبداد على رضوان و دس لجناح الدولة أن رضوان أمره بقتله فهرب إلى حمص و كانت اقطاعا له و استبد على رضوان ثم تنكر له سنة تسع و ثماني و أمر بالقبض عليه فاختفى و نهبت دوره و أمواله و دوابه ثم قبض عليه فامتحن و قتل هو و أولاده (5/170)
استيلاء دقاق بن تتش على دمشق
كان تتش قد بعث ابنه دقاقا إلى أخيه السلطان ملك شاه ببغداد فأقام هنالك إلى أن توفي ملك شاه فسار معه ابنه محمود و أمه خاتون الجلالية إلى أصبهان ثم ذهب عنهم سرا إلى بركيارق ثم لحق بأبيه و حضر معه الواقعة التي قتل فيها و لما قتل تتش أبوه سار به مولاه تكين إلى حلب فأقام عند أخيه رضوان و كان بقلعة من قلاعها ساوتكين الخادم من موالي تتش ولاه عليها قبل موته فبعث إلى دقاق يستدعيه للملك فسار إليه و بعث رضوان في طلبه فلم يدركه و وصل دمشق و كتب إليه باغيسيان صاحب انطاكية يشير عليه بالاستبداد بدمشق على أخيه رضوان و وصل معتمد الدولة طغتكين مع جماعة من خواص تتش و كان قد حضر المعركة و أسر فخلص الآن من الاسار و جاء إلى دمشق و جاء إلى دمشق فلقيه دقاق و مال إليه و حكمه في أمره و داخله في مثل ساوكتين الخادم فقتلوه و وفد عليهم باغيسيان من انطاكية و معه أبو القاسم الخوارزمي فأكرمهما و استوزر الخوارزمي و حكمه في دولته (5/171)
الفتنة بين دقاق و أخيه رضوان
ثم سار رضوان إلى دمشق سنة تسعين و أربعمائة قاصدا انتزاعها من يد دقاق فامتنعت عليه فعاد إلى مالس و قصد الورس فامتنعت عليه فعاد إلى حلب و فارقه باغيسيان صاحب انطاكية إلى أخيه دقاق و حض على المسير إلى أخيه بحلب فسار لذلك و استنجد رضوان سكمان من سروج في أمم من التركمان ثم كان اللقاء بقنسرين فانهزمت عساكر دقاق و نهب سوادهم و عاد رضوان إلى حلب ثم سعى بينهما في الصلح على أن يخطب لرضوان بدمشق و انطاكية قبل دقاق فانعقد ذلك بينهما ثم لحق جناح الدولة بحمص عندما عظمت فيه سعاية المجن كما ذكرناه و كان باغيسيان منافرا له فلما فصل من حلب جاء باغيسيان إلى رضوان و صالحه ثم بعث إلى رضوان المستعلي خليفة العلويين بمصر يعده بالامداد على أخيه على أن يخطب له على منابره و زين له بعض أصحابه صحة مذهبهم فخطب له في جميع أعماله سوى انطاكية و المعرة و قلعة حلب ثم وفد عليه بعد شهرين من هذه الخطبة سكمان بن ارتق صاحب سروج و باغيسيان صاحب انطاكية فلم يقم بها غير ثلاث حتى وصل الفرنج فحاصروها و غلبوه على انطاكية و قتلوه كما مر في خبره (5/171)
استيلاء دقاق على الرحبة
كانت الرحبة بيد كربوقا صاحب الموصل فلما قتل كما مر في خبره استولى عليها قانمار من موالي السلطان البارسلان فسار دقاق بن تتش ملك دمشق و أتابكه طغركين إليها سنة خمس و تسعين و حاصروها فامتنعت عليهم فعادوا عنها و توفى قانمار صاحبها في صفر سنة ست و تسعين و قام بأمرها حسن من موالي الاتراك فطمع في الاستبداد و قتل جماعة من أعيان البلد و حبس آخرين و استخدم جماعة من الجند و طرد آخرين و خطب لنفسه فسار دقاق إليه و حاصره في القلعة حتى استأمن و خرج إليه و أقطعه بالشام اقطاعات كثيرة و ملك الرحبة و أحسن إلى أهلها و ولى عليهم و رجع إلى دمشق و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق لا رب غيره (5/172)
وفاة دقاق و ولاية أخيه تلتاش ثم خلعه
ثم توفي دقاق صاحب دمشق سنة سبع و تسعين و استقل أتابكه طغركين بالملك و خطب لنفسه سنة ثم قطع خطبته و خطب لتلتاش أخي دقاق صبيا مراهقا و خوفته أمه من طغركين بزواجه أم دقاق و أنه يميل إلى دقاق من أجل جدته فاستوحش و فارق دمشق إلى بعلبك في صفر سنة ثمان و تسعين و لحقه ايتكين الحلبي صاحب بصرى و كان ممن حسن له لذلك فعاث في نواحي خوارزم و لحق به أهل الفساد و راسلا هدويل ملك الفرنج فأجابهما بالوعد و لم يوف لهما فسار إلى الرحبة و استولى عليها تلتاش و قيل أن تلتاش لما استوحش منه طغركين من دخول البلد مضى إلى حصون له و أقام بها و نصب طغركين الطفل ابن دقاق و خطب له و استبد عليه و أحسن إلى الناس و استقام أمره و الله تعالى ولي التوفيق و هو نعم الرفيق (5/172)
الحرب بين طغركين و الفرنج أشهرا
كان قمص من قمامصة الفرنج على مرحلتين من دمشق فلج بالغارات على دمشق فجمع طغركين العساكر و سار إليه و جاء معرون ملك القدس و عكا من الفرنج بانجاد القمص فأظهر الغنية عليه و عاد إلى عكا و قاتل طغركين القمص فهزمه و أحجزه بحصنه ثم حاصره حتى ملك الحصن عنوة و قتل أهله و أسر جماعته و عاد إلى دمشق ظافرا غانما ثم سار إلى حصن رمسة من حصون الشام و قد ملكه الفرنج و به ابن أخت سميل المقيم على طرابلس يحاصرها فحاصر طغركين حصن رمسة حتى ملكه و قتل أهله من الفرنج و خربه و الله أعلم (5/173)
مسير رضوان صاحب حلب لحصار نصيبين
ثم إن رضوان صاحب حلب اعتزم غزو الفرنج و استدعى الأمراء من النواحي لذلك فجاءه أبو الغازي بن ارتق الذي كان شحنة ببغداد و أصبهان و البي بن ارسلان ماش صاحب سنجار و هو صهر جكرمش صاحب الموصل و أشار أبو الغازي بالمسير إلى بلاد جكرمش للاستكثار بعسكرها و أموالها و وافقه البي و ساروا إلى نصيبين في رمضان سنة تسع و تسعين و أربعمائة فحاصروهما و فيها أميران من قبل جكرمش و اشتد الحصار و جرح البي بن ارسلان بسهم أصابه فعاد إلى سنجار و أجفل أهل السواد إلى الموصل و عسكر جكرمش بظاهرها معتزما على الحرب ثم كاتب أعيان العسكر و حثهم على رضوان و أمر أصحابه بنصيبين باظهار طاعته و طلب الصلح معه و بعث إلى رضوان بذلك و الامداد بما يشاؤه على أن يقبض على أبي الغازي فمال إلى ذلك و استدعى أبا الغازي أن المصلحة في صلح جكرمش ليستعينوا به في غزو الفرنج و جمع شمل المسلمين فجاوبه أبو الغازي بالمنع من ذلك ثم قبض عليه و قيده فانتقض التركمان و لجؤا إلى سور المدينة و قاتلوا رضوان و بعث رضوان بأبي الغازي إلى نصيبين فخرجت منها العساكر لامداده فافترق منها التركمان و نهبوا ما قدروا عليه و رحل رضوان من وقته إلى حلب و انتهى الخبر إلى جكرمش بتل أعفر و هو قاصد حرب القوم فرحل عند ذلك إلى سنجار و بعث إليه رضوان في الوفاء بما وعده من النجدة فلم يف له و نازل صهره البي بن ارسلان بسنجار و هو جريح من السهم الذي أصابه على نصيبين فخرج إليه البي محمولا و اعتذر إليه فأعتبه و أعاده إلى بلده فمات و امتنع أصحابه بسنجار رمضان و شوالا ثم خرج إليه عم البي و صالح و جكرمش و عاد إلى الموصل و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق بمنه (5/173)
استيلاء الفرنج على افامية
كان خلف بن ملاعب الكلابي في حمص و ملكها منه تاج الدولة تتش فسار إلى مصر و أقام بها ثم بعث صاحب افامية من جهة رضوان بن تتش بطاعته إلى صاحب مصر العلوي فبعث إليها ابن ملاعب و ملكها و خلع طاعة العلوية و أقام يخيف السبيل كما كان في حمص فلما ملك الافرنج سرمين لحق به قاضيها و كان على مذهب الرافضة فكتب إلى ابن الطاهر الصانع من أكابر الغلاة و من أصحاب رضوان و داخلهم في الفتك بابن ملاعب و نمى الخبر إليه من أولاده فحلف له القاضي بما اطمأن إليه و تحيل مع ابن الصانع في جند من قبلهم يستأمنون إلى ابن ملاعب ويعطونه خيلهم و سلاحهم و يقيمون للجهاد معه ففعلوا و أنزلهم بربض افامية ثم بيته القاضي ليلا بمن معه من أهل سرمين و رفع أولئك الجند من الربض بالحبال و قتلوا ابن ملاعب في بيته و قتلوا معه ابنه وفر الآخر إلى أبي الحسن بن منقذ صاحب شيزر و جاء الصانع من حلب إلى القاضي فطرده و استبد بافامية و كان بعض أولاد ابن ملاعب عند طغركين و ولاه حماية بعض الحصون فعظم ضرره فطلب طغركين فهرب إلى الافرنج و أغراهم بافامية و دلهم على عورتها و عدم الاقوات فيها فحاصروها شهرا و ملكوها عنوة و قتلوا القاضي و الصانع و ذلك سنة تسع و تسعين و قد ذكرنا قبل أن الصانع قتله ابن بديع أيام تتش صاحب حلب إثر مهلك رضوان فالله أعلم أيهما الصحيح ثم ملك صاحب انطاكية من الافرنج حصن الامارة بعد حصار طويل فملكه عنوة و استلحم أهله و فعل في ذريته مثل ذلك و رحل أهل منبج و بالس و تركوهما خاويين و ملكوا حيد بالامان و طلب الفرنج من أهل الحصون الإسلامية الجزية فأعطوهم ذلك على ضريبة فروها عليهم فكان على رضوان في حلب و أعمالها ثلاثون ألف دينار و على صور سبعة آلاف و على ابن منقذ في شيزر أربعة آلاف و على حماة ألفا دينار و ذلك سنة خمس و خمسمائة (5/174)
استيلاء طغركين على بصرى
قد تقدم لنا سنة سبع و تسعين حال تلتاش بن تتش و الخطبة له بعد أخيه دقاق و خروجه من دمشق و استنجاده الفرنج و ان الذي تولى كبر ذلك كله اسكين الحملي صاحب بصرى فسار طغركين سنة المائة الخامسة إلى بصرى و حاصرها حتى أذعنوا و ضربوا له أجلا للفرنج فعاد إلى دمشق حتى انقضى الأجل فآتوه طاعتهم و ملك البلد و أحسن إليهم و الله تعالى ولي التوفيق لا رب غيره (5/175)
غزو طغركين و هزيمته
ثم سار طغركين سنة اثنتين و خمسمائة إلى طبرية و وصل ابن أخت بغدوين ملك القدس من الفرنج فاقتتلوا فانهزم المسلمون أولا فنزل طغركين و نادى بالمسلمين فكروا و انهزم الفرنج و أسر ابن أخت بغدوين و عرض طغركين عليه الاسلام فامتنع فقتله بيده و بعث بالاسرى إلى بغداد ثم انعقد الصلح بين طغركين و بغدوين بعد أربع سنين و سار بعدها طغركين إلى حصن غزة في شعبان من السنة و كان ليدمولى القاضي فخر الملك بن علي ابن عمار صاحب طرابلس فعصى عليه و حاصره الافرنج و انقطعت عنه الميرة فأرسل طغركين صاحب دمشق أن يمكنه من الحصن فأرسل إليه اسرائيل من أصحابه فملك الحصن و قتل صاحبه مولى بن عمار غيلة ليستأثر بمخلفه فانتظر طغركين دخول الشتاء و سار إلى الحصن لينظر في أمره و كان السرداني من الافرنج يحاصر طرابلس فلما سمع بوصول طغركين حصن الاكمة أغذ السير إليه فهزمه سواده و لحق طغركين بحمص و نازل السرداني غرة فاستأمنوا إليه و ملكها و قبض على اسرائيل فادى به أسيرا كان لهم بدمشق منذ سبع سنين و وصل طغركين إلى دمشق ثم قصد ملك الافرنج رمسة من أعماله دمشق فملكها و شحنها بالاقوات و الحامية فقصدها طغركين بعد أن نمى إليه الخبر بضعف الحامية الذين بها فكبسها عنوة و أسر الافرنج الذين بها و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/175)
انتقاض طغركين على السلطان محمد
كان السلطان محمد بن ملك شاه قد أمر مودود بن بوشكين صاحب الموصل بالمسير لغزو الافرنج لأن ملك القدس تابع الغارات على دمشق سنة ست و خمسمائة و استصرخ طغركين بمودود فجمع العساكر و سار سنة تسع و لقيه طغركين بسهلة و قصدوا القدس و انتهوا إلى الانحوانة على الاردن و جاء بغدوين فنزل قبالتهما على النهر و معه جوسكين صاحب جيشه و اقتتلوا منتصف محرم سنة عشر على بحيرة طبرية فانهزم الافرنج و قتل منهم كثير و غرق كثير في بحيرة طبرية و نهر الاردن و لقيتهم عساكر طرابلس فاشتدوا و أقاموا بجبل قرب طبرية و حاصرهم المسلمون فيه ثم يئسوا من الظفر به فساحوا في بلادهم و اكتسحوها و خربوها و نزلوا مرج الصفر و أذن مودود للعساكر في العود و الراحة ليتهيأوا للغزو و سلخ الشتاء و دخل دمشق آخر ربيع من سنة ليقيم عند طغركين تلك المدة و صلى معه أول جمعة و وثب عليه باطني بعد الصلاة فطعنه و مات آخر يومه و اتهم طغركين بقتله و ولى السلطان مكانه على الموصل اقسنقر البرسقي فقبض على اياز بن أبي الغازي و أبيه صاحب حصن كيفا فسار بنو أرتق إلى البرسقي و هزموه و تخلص اياز من أسره فلحق أبو الغازي أبوه بطغركين صاحب دمشق و أقام عنده و كان مستوحشا من السلطان محمد لاتهامه بقتل مودود فبعث إلى صاحب انطاكية من الفرنج و تحالفوا على المظاهرة و قصد أبو الغازي ديار بكر فظفر به قيرجان بن قراجا صاحب حمص و أسره و جاء طغركين لاستنفاذه فحلف قيرجان ليقتلنه ان لم يرجع طغركين إلى بلاده و انتظر وصول العساكر من بغداد تحمله فأبطأت فأجاب طغركين إلى اطلاقه ثم بعث السلطان محمد بالعساكر لجهاد الافرنج و البداءة بقتال طغركين و أبي الغازي فساروا في رمضان سنة ثمان و خمسمائة و مقدمهم برسق بن برسق صاحب همذان و انتهوا إلى حلب و بعثوا إلى متوليها لؤلؤ الخادم و مقدم عسكرها شمس الخواص يأمرونهما بالنزول عنها و عرضوا عليهما كتب السلطان بذلك فدافعا بالوعد و استحثا طغركين و أبا الغازي في الوصول فوصلا في العساكر و امتنعت حلب على العساكر و أظهروا العصيان فسار برسق إلى حماة و هي لطغركين فملكها عنوة و نهبها ثلاثا و سألهما الأمير قيرجان صاحب حمص و كان جميع ما يفتحه من البلاد له بأمر السلطان فانتقض الأمراء من ذلك و كسلوا عن الغزو و سار أبو الغازي و طغركين و شمس الخواص إلى انطاكية يستنجدون صاحبها دجيل من الافرنج ثم توادعوا إلى انصرام الشتاء و رجع أبو الغازي إلى ماردين و طغركين إلى دمشق ثم كان في اثر ذلك هزيمة المسلمين و استشهد برسق و أخوه زنكي و قد تقدم خبر هذه الهزيمة في أخبار البرسقي ثم قدم السلطان محمد بغداد فوفد عليه اتابك طغركين صاحب دمشق في ذي القعدة من سنة تسع مستعينا فأعانه و أعاده إلى بلده و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/176)
وفاة رضوان بن تتش صاحب حلب و ولاية ابنه البارسلان
ثم توفي رضوان بن تتش صاحب حلب سنة تسع و خمسمائة و قد كان قتل أخويه أبا طالب و بهرام و كان يستعين بالباطنية في أموره و يداخلهم و لما توفي بايع مولاه لؤلؤ الخادم لابنه البارسلان صبيا مغتلما و كانت في لسانه حبسة فكان يلقب الاخرس و كان لؤلؤ مستبدا عليه لاول ملكه قتل أخويه و كل ملك شاه منهما شقيقه و كانت الباطنية كثيرا في حلب في أيام رضوان حتى خافهم ابن بديع و أعيانها فلما توفي أذن لهم البارسلان في الايقاع بهم فقبضوا على مقدمهم ابن طاهر الصابغ و جماعة من أصحابهم فقتلوهم و افترق الباقون (5/177)
مهلك لؤلؤ الخادم و استيلاء أبي الغازي ثم مقتل البارسلان و ولاية أخيه السلطان شاه
كان لؤلؤ الخادم قد استولى على قلعة حلب و ولى أتابكية البارسلان ابن مولاه رضوان ثم تنكر له فقتله لؤلؤ و نصب في الملك أخاه سلطان شاه و استبد عليه فلما كان سنة إحدى عشرة سار إلى قلعة جعفر للاجتماع بصاحبها سالم بن مالك فغدر به مماليكه الاتراك و قتلوه عند خربترت و أخذوا خزائنه و اعترضهم أهل حلب فاستعادوا منهم ما أخذوه و ولى أتابكية سلطان شاه بن رضوان شمس الخواص بارقياس و عزل لشهر و ولى بعده أبو المعالى بن الملحي الدمشقي ثم عزل و صودر و اضطربت الدولة و خاف أهل حلب من الافرنج فاستدعوا أبا الغازي بن ارتق و حكموه على أنفسهم و لم يجد فيها مالا فصادر جماعة الخدم و صانع بمالهم الافرنج حتى صار إلى ماردين بنية العود إلى حمايتها و استخلف عليها ابنه حسام الدين تمرتاش و انقرض ملك رضوان بن تتش من حلب و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/177)
هزيمة طغركين أمام الافرنج
كان ملك الافرنج بغدوين صاحب القدس قد توفي سنة اثنتي عشرة و قام بملكهم بعده القمص صاحب الرها الذي كان أسره جكرمس و أطلقه جاولى كما تقدم في أخبارهم و بعث إلى طغركين في المهادنة و كان قد سار من دمشق لغزوهم فأبى من اجابته و سار إلى طبرية فنهبها و اجتمع بقواد المصريين في عسقلان و قد أمرهم صاحبهم بالرجوع إلى رأي طغركين ثم عاد إلى دمشق و قصد الافرنج حصنا من أعماله فاستأمن إليهم أهله و ملكوه ثم قصدوا أذرعات فبعث طغركين ابنه بوري لمدافعتهم فتنحوا عن أذرعات إلى جبل هناك و حاصرهم بوري و جاء إليه أبو طغركين فراسلوه ليفرح عنهم طمعا في أخذهم فاستماتوا و حملوا على المسلمين حملة صادقة فهزموهم و نالوا منهم و رجع إلى دمشق و سار طغركين إلى أبي الغازي بحلب يستنجده فوعده بالنجدة و سار إلى ماردين للحشد و رجع طغركين إلى دمشق كذلك و تواعدوا للجبال وسبق الافرنج إلى حلب و كان بينه و بين أبي الغازي ما تذكره في موضعه من دولة بني ارتق و الله سبحانه و تعالى ولى التوفيق لا رب غيره (5/178)
منازلة الافرنج دمشق
ثم اجتمع الافرنج سنة عشرين و خمسمائة ملوكهم و قمامصتهم و ساروا إلى دمشق و نزلوا مرج الصفر و بعث أتابك طغركين بالصريخ إلى تركمان بديار بكر و غيرها و خيم قبالة الافرنج و استحلف ابنه بوري على دمشق ثم ناجزهم الحرب آخر السنة فاشتد القتال و صرع طغركين عن فرسه فانهزم المسلمون و ركب طغركين و اتبعهم و مضت خيالة الافرنج في اتباعهم و بقي رجالة التركمان في المعركة فلما خلص إليهم رجالة الافرنج اجتمعوا و استماتوا و حملوا على رجالة الافرنج فقتلوهم و نهبوا معسكرهم و عادوا غانمين ظافرين إلى دمشق و رجعت خيالة الافرنج من اتباعهم منهزمين فوجدوا معسكرهم منهوبا و رجالتهم قتلى و كان ذلك من الصنع الغريب (5/178)
وفاة طغركين و ولاية ابنه بوري
ثم توفي أتابك طغركين صاحب دمشق في صفر سنة اثنتين و عشرين و كان من موالي تاج الدولة تتش و كان حسن السيرة مؤثرا للعدل محبا في الجهاد و لقبه ظهير الدين و لما توفي ملك بعده ابنه تاج الدولة بوري أكبر أولاده بعهده إليه بذلك واقر وزير أبيه أبي علي ظاهر بن سعد المزدغاني على وزارته و كان المزدغاني يرى رأي الرافضية الاسماعيلية و كان بهرام ابن أخي ابراهيم الاستراباذي لما قتل عمه إبراهيم ببغداد على هذا المذهب لحق بالشام و ملك قلعة بانياس ثم سار إلى دمشق و أقام بها خليفة يدعو إلى مذهبه ثم فارقها و ملك القدموس و غيره من حصون الجبال و قابل البصرية و الدرزة بوادي من أعمال بعلبك من أعمال سنة اثنتين و عشرين و غلبهم الضحاك و قتل بهرام و كان المزدغاني قد أقام له خليفة بدمشق يسمى أبا الوفاء فكثر اتباعه و تحكم في البلد و جاء الخبر إلى بوري بأن وزيره المزدغاني و الاسماعيلية قد راسلوا الافرنج بأن يملكوهم دمشق فجاء إليها و قتل المزدغانيو نادى بقتل الاسماعيلية و بلغ الخبر إلى الافرنج فاجتمع صاحب القدس و صاحب انطاكية و صاحب طرابلس و سائر ملوك الافرنج و ساروا لحصار دمشق و استصرخ تاج الملك بالعرب و التركمان و جاء الافرنج في ذي الحجة من السنة و بثوا سراياهم للنهب و الاغارة و مضت منها سرية إلى خوارزم فبعث تاج الدولة بوري سرية من المسلمين مع شمس الخواص من أمرائه لمدافعتهم فلقوهم و ظفروا بهم و استلحموهم و بلغ الخبر إلى الافرنج فأجفلوا منهزمين و أحرقوا مخلفه و اتبعهم المسلمون يقتلون و يأسرون و الله تعالى ولى التوفيق (5/179)
أسر تاج الملك لدبيس بن صدقة و تمكين عماد الدين زنكي منه
كان بصرخد من أرض الشام أميرا عليها فتوفي سنة خمس و عشرين و خلف سريته و استولت على القلعة و عملت أنه لا يتم لها و استيلاؤها إلا بتزويج رجل من أهل العصابة فوصف لها دبيس فكتبت إليه تستدعيه و هو على البصرة منابذا للسلطان عندما رجع من عند سنجر فاتخذ الادلاء و سار إلى صرخد فضل به الدليل بنواحي دمشق و نزل على قوم من بني كلاب شرقي الغوطة فحملوه إلى تاج الملك فحبسه و بعث به إلى عماد الدين زنكي يستدعيه و يتهدده على منعه و أطلق سريج بن تاج الملك الملوك و الأمراء الذين كانوا مأسورين معه فبعث تاج الملك بدبيس إليه و أشفق على نفسه فلما وصل إلى زنكي خالف ظنه و أحسن إليه وسد خلته و بسط أمله ويعث فيه المسترشد أيضا و جاء فيه الانباري و سمع في طريقه باحسان زنكي إليه فرجع ثم أرسل المسترشد يشفع فيه فأطلق (5/179)
وفاة تاج الملوك بوري صاحب دمشق و ولاية ابنه شمس الملوك اسمعيل
كان تاج الملوك بوري قد ثار به جماعة من الباطنية سنة خمس و عشرين و طعنوه فأصابته جراحة و اندملت ثم انتقضت عليه في رجب من سنة ست و عشرين لاربع سنين و نصف من امارته و ولى بعده ابنه شمس الملوك اسمعيل بعهده إليه بذلك و كان عهد بمدينة بعلبك و أعمالها لابنه الآخر شمس الدولة و قام بتدبير أمره الحاجب يوسف بن فيروز شحنة دمشق و أحسن إلى الرعية و بسط العدل فيهم و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/180)
استيلاء شمس الملوك على الحصون
و لما توفى شمس الملوك اسمعيل و سار أخوه محمد إلى بعلبك خرج إليها و حاصر أخاه محمدا بها و ملك البلد و اعتصم محمد بالحصن و سأل الابقاء فأبقى عليه و رجع إلى دمشق ثم سار إلى باشاش و قد كان الافرنج الذين بها نقضوا الصلح و أخذوا جماعة من تجار دمشق في بيروت فسار إليها طاويا وجه مذهبه حتى وصلها في صفر سنة سبع و عشرين و قاتلها و نقب أسوارها و ملكها عنوة و مثل بالافرنج الذين بها و اعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا و ملكها و رجع إلى دمشق ثم بلغه أن المسترشد زحف إلى الموصل فطمع هو في حماة و سار آخر رمضان و ملكها يوم الفطر من غده فاستأمنوا و ملكها و استولى على ما فيها ثم سار إلى قلعة شيرز و بها صاحبها من بني منقذ فحاصرها و صانعه صاحبها بمال حمله إليه عنه و سار إلى دمشق في ذي القعدة من السنة ثم سار في محرم سنة ثمان و عشرين إلى حصن شقيق في الجبل المطل على بيروت و صيدا و به الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم قد تغلب عليه و امتنع به و تحاماه المسلمون و الافرنج يحتمي من كل طائفة بالاخرى فسار إليه و ملكه من وقته و عظم ذلك على الافرنج فساروا إلى جوران و عاثوا في نواحيها فاحتشد هو و استنجد بالتركمان و سار حتى نزل قبالتهم و جهز العسكر هنالك و خرج في البر و أناخ على طبرية و عكا فاكتسح نواحيها و امتلأت أيدي عسكره بالغنائم و السبي و انتهى الخبر إلى الافرنج بمكانهم من بلاد حوران فأجفلوا إلى بلادهم و عاد هو إلى دمشق و راسله الافرنج في تجديد الهدنة فهادنهم (5/180)
مقتل شمس الملوك و ولاية أخيه شهاب الدين محمود
كان شمس الملوك سيء السيرة كثير الظلم و العدوان على رعيته مرهف الحد لاهله و أصحابه حتى انه وثب عليه بعض مماليك جده سنة سبع و عشرين و علاه بالسيف ليقتله فأخذ و ضرب أقر على جماعة داخلوه فقتلهم و قتل معهم أخاه سونج فتنكر الناس له و أشيع عنه بأنه كاتب عماد الدين زنكي ليملكه دمشق و استحثه في الوصول لئلا يسلم البلد إلى الافرنج فسار زنكي فصدق الناس الاشاعة و انتقض أصحاب أبيه لذلك و شكو الامه فأشفقت ثم تقدمت إلى غلمانه بقتله في ربيع الآخر سنة تسع و عشرين و قيل أنه اتهم أمه بالحاجب يوسف بن فيروز فاعتزم على قتلها فهرب يوسف و قتله أمه و لما قتل ولى أخوه شهاب الدين محمود من بعده و وصل أتابك زنكي بعد مقتل فحاصر دمشق من ميدان الحصار و جدوا في مدافعته و الامتناع عليه و قام في ذلك معين الدين أنز مملوك جده طغراكين مقاما محمودا و جلا في المدافعة و الحصار ثم وصل رسول المسترشد أبو بكر بن بهثر الجزري إلى أتابك زنكي يأمره بمسالمة صاحب دمشق الملك البارسلان شهاب الدين محمود و صلحه معه فرحل عن دمشق منتصف السنة (5/181)
استيلاء شهاب الدين محمود على حمص
كانت حمص لقيرجان بن قراجا و لولده من بعده و الموالي بها من قبلهما و طالبهم عماد الدين زنكي في تسليمها و ضايقهم في نواحيها فراسلوا شهاب الدين صاحب دمشق في أن يملكها و يعوضهم عنها بتدمر فأجاب و استولى على حمص و سار إليها سنة ثلاثين و أقطعها لمملوك جده معين الدين أنز و أنزل معه حامية من عسكره و رجع إلى دمشق و استأذنه الحاجب يوسف بن فيروز في العود من تدمر إلى دمشق و قد كان هرب إليها كما قدمناه و كان جماعة من الموالى منحرفين عنه بسبب ما تقدم في مقتل سونج فنكروا ذلك فلاطفهم ابن فيروز و استرضاهم و حلف لهم انه لا يتولى شيئا من الامور و لما دخل رجع إلى حاله فوثبوا عليه و قتلوه و خيموا بظاهر دمشق و اشتطوا في الطلب فلم يسعفوا بكلمة فلحقوا بشمس الدولة محمد بن تاج الملوك في بعلبك و بثوا السرايا إلى دمشق فعاثت في نواحيها حتى أسعفهم شهاب الدين بكل ما طلبوه فرجعوا إلى ظاهر دمشق و خرج لهم شهاب الدين و تحالفوا و دخلوا إلى البلد و ولى مرواش كبيرهم على العساكر و جعل إليه الحل و العقد في دولته و الله أعلم (5/181)
استيلاء عماد الدين زنكي على حمص و غيرها من أعمال دمشق
ثم سار أتابك زنكي إلى حمص في شعبان سنة إحدى و ثلاثين و قدم إليه حاجبه صلاح الدين الباغيسياني و هو أكبر أمرائه مخاطيا واليها معين الدين انز في تسليهما فلم يفعل و حاصرها فامتنعت عليه فرحل عنها آخر شوال من السنة ثم سار سنة اثنتين و ثلاثين إلى نواحي بعلبك فملك المحولي على الأمان و هو لصاحب دمشق ثم سار إلى حمص و حاصرها و عاد ملك الروم إلى حلب فاستدعى الفرنج و ملك كثيرا من الحصون مثل عين زربة وتل حمدون و حصر إنطاكية ثم رجع و أفرج أتابك زنكي خلال ذلك عن حمص ثم عاود منازلتها بعد مسير الروم و بعث إلى شهاب الدين صاحب دمشق يخطب إليه أمه مرد خاتون ابنة جاولي طمعا في الاستيلاء على دمشق فزوجها له و لم يظفر بما أمله من دمشق و سلموا له حمص و قلعتها و حملت إليه خاتون في رمضان من السنة و الله أعلم (5/182)
مقتل شهاب الدين محمود و ولاية أخيه محمد
لما قتل شهاب الدين محمود في شوال سنة ثلاث و ثلاثين إغتاله ثلاثة من مواليه في مضجعه بخلوته و هربوا فنجا واحد منهم و أصيب الآخران كتب معين الدين أنز إلى أخيه شمس الدين محمد بن بوري صاحب بعلبك بالخبر فسارع و دخل دمشق و تبعه الجند و الأعيان و فوض أمر دولته إلى معين الدين أنز مملوك جده و أقطعه بعلبك و استقامت أموره (5/182)
استيلاء زنكي على بعلبك و حصاره دمشق
و لما قتل شهاب الدين محمود و بلغ خبره إلى أمه خاتون زوجة أتابك زنكي بحلب عظم جزعها و أرسلت إلى زنكي بالخبر و كان بالجزيرة و سألت منه الطلب بثأر إبنها فسار إلى دمشق و استعدوا للحصار فعدل إلى بعلبك و كانت لمعين الدين أنز كما قلناه و كان أتابك زنكي دس إليه الأموال ليمكنه من دمشق فلم يفعل فسار إلى بلده بعلبك وجد في حربها و نصب عليها المجانيق حتى استأمنوا إليه و ملكها في ذي الحجة آخر سنة ثلاث و ثلاثين و اعتصم جماعة من الجند بقلعتها ثم استأمنوا فقتلهم و أرهب الناس بهم ثم سار إلى دمشق و بعث إلى صاحبها في تسليمها و النزول عنها على أن يعوضه عنها فلم يجب إلى ذلك فزحف إليها و نزل داريا منتصف ربيع الأول سنة أربع و ثلاثين و برزت إليه عساكر دمشق فظفر بهم و هزمهم و نزل المصلي و قاتلهم فهزمهم ثانيا ثم أمسك عن قتالهم عشرة أيام و تابع الرسل إليه بأن يعوضه عن دمشق ببعلبك أو حمص أو ما يختاره فمنعه أصحابه فعاد زنكي إلى القتال و اشتد في الحصار و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق (5/183)
وفاة جمال الدين محمد بن بوري و ولاية إبنه مجير الدين أنز
ثم توفي جمال الدين محمد بن بوري صاحب دمشق رابع شعبان سنة أربع و ثلاثين و زنكي محاصر به و هو معه في مراوضة الصلح و جمع زنكي فيما عساه أن يقع بين الأمراء من الخلاف فاشتد في الزحف فما وهنوا لذلك و ولوا من بعد جمال الدين محمدا إبنه مجير الدين أنز و قام بتربيته و تدبير دولته معين الدين أنز مدبر دولته و أرسل إلى الإفرنج يستنجدهم على مدافعة زنكي على أن يحاصر قاشاش فإذا فتحها أعطاهم إياها فأجابوا إلى ذلك حذرا من استطالة زنكي بملك دمشق فسار زنكي للقائهم قبل إتصالهم بعسكر دمشق و نزل حوران في رمضان من السنة فخام الإفرنج عن لقائه و أقاموا ببلادهم فعاد زنكي إلى حصار دمشق في شوال من السنة ثم أحرق قرى المرج و الغوطة و رحل عائدا إلى بلده ثم وصل الإفرنج إلى دمشق بعد رحيله فسار معهم معين الدين أنز إلى قاشاش من ولاية زنكي ليفتحها و يعطيها للافرنج كما عاهدهم عليه و قد كان واليها أغار على مدينة صور و لقيه في طريقه صاحب إنطاكية و هو قاصد إلى دمشق لإنجاد صاحبها علي زنكي فقتل الوالي و من معه من العسكر و لجأ الباقون إلى قاشاش و جاء معين الدين أنز أثر ذلك في العساكر فملكها و سلمها للافرنج و بلغ الخبر إلى أتابك زنكي فسار إلى دمشق بعد أن فرق سراياه و بعوثه على حوران و أعمال دمشق و سار هو متجردا إليها فصبحها و خرج العسكر لقتاله فقاتلهم عامة يومه ثم تأخر إلى مرج راهط و انتظر بعوثه حتى وصلوا إليه و قد امتلأت أيديهم بالغنائم و رحل عائدا إلى بلده (5/183)
مسير الإفرنج لحصار دمشق
كان الإفرنج منذ ملكوا سواحل الشام و مدنه تسير إليهم أمم الإفرنج من كل ناحية من بلادهم مددا لهم على المسلمين لما يرونه من تفرد هؤلاء بالشام بين عدوهم و سار في سنة ثلاث و أربعين ملك الالمان من أمراء الإفرنج من بلاده في جموع عظيمة قاصدا بلاد الإسلام لا يشك في الغلب و الإستيلاء لكثرة عساكره و توفر عدده و أمواله فلما وصل الشام اجتمع عليه عساكر الإفرنج الذين له ممتثلين أمره فأمرهم بالمسير معه إلى دمشق فساروا لذلك سنة ثلاث و أربعين و حاصروها فقام معين الدن أنز في مدافعتهم المقام المحمود ثم قاتلهم الإفرنج سادس ربيع الاول من السنة فنالوا من المسلمين بعد الشدة و المصابرة و استشهد ذلك اليوم الفقيه حجة الدين يوسف العندلاوي المغربي و كان عالما زاهدا و سأله معين الدين يومئذ في الرجوع لضعفه و سنه فقال له قد بعت و اشترى مني فلا أقيل و لا أستقيل يشير إلى آية الجهاد و تقدم حتى استشهد عند أسرت على نصف فرسخ من دمشق و استشهد معه خلق و قوي الإفرنج و نزل ملك الألمان الميدان الأخضر و كان عماد الدين زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة إحدى و أربعين و ولي إبنه سيف الدين غازي الموصل و إبنه نور الدين محمود حلب فبعث معين الدين أنز إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل يستنجده فجاء لإنجاده و معه أخوه نور الدين و انتهوا إلى مدينة حمص و بعث إلى الإفرنج يتهددهم فاضطروا إلى قتاله و انقسمت مؤنتهم بين الفريقين و أرسل معين الدين إلى الألمان يتهددهم بتسليم البلد إلى ملك المشرق يعني صاحب الموصل و أرسل إلى فرنج الشام يحذرهم من إستيلاء ملك الإلمان على دمشق فإنه لا يبقى لكم معه مقام في الشام و وعدهم يحصن قاشاش فاجتمعوا إلى ملك الألمان و خوفوه من صاحب الموصل أن يملك دمشق فرحل عن البلد و أعطاهم معين الدين قلعة قاشاش و عاد ملك الألمان إلى بلاده على البحر المحيط في أقصى الشمال و المغرب ثم توفي معين الدين أنز مدبر دولة أرتق و المتغلب عليه سنة أربع و أربعين لسنة من حصار ملك الألمان و الله أعلم (5/184)
راستيلاء نور الدين محمود العادل على دمشق و إنقراض دولة بني تتش من الشام
كان سيف الدين غازي بن زنكي صاحب الموصل قد توفي سنة أربع و أربعين و ملك أخوه قطب الدين و انفرد أخوه الآخر نور الدين محمود بحلب و ما يليها و تجرد لطلب دمشق و لجهاد الإفرنج و اتفق أن الإفرنج سنة ثمان و أربعين ملكوا عسقلان من يد خلفاء العلوية لضعفهم كما مر في أخبار دولتهم و لم يجد نور الدين سبيلا إلى إرتجاعها منهم لاعتراض دمشق بينه و بينهم ثم طمعوا في ملك دمشق بعد عسقلان و كان أهل دمشق يؤدون إليهم الضريبة فيدخلون لقبضها و يتحكمون فيهم و يطلقون من أسرى الإفرنج الذين بها كل من أراد الرجوع إلى أهله فخشى نور الدين عليها من الافرنج و رأى أنه أن قصدها استنصر صاحبها عليه بالإفرنج فراسل صاحبها مجير الدين و استمالة بالهدايا حتى وثق به فكان يغريه بأمرائه الذين يجد بهم القوة على المدافعة واحدا واحدا و يقول له أن فلانا كاتبني بتسليم دمشق فيقتله مجير الدين حتى كان آخرهم عطاء بن حافظ السلمي الخادم و كان شديدا في مدافعة نور الدين فأرسل إلى مجير الدين بمثلها فيه فقبض عليه و قتله فسار حينئذ نور الدين إلى دمشق بعد أن كاتب الأحداث الذين بها و استمالهم فوعدوه و أرسل مجير الدين إلى الإفرنج يستنجده من نور الدين على أن يعطيهم بعلبك فأجابوه و شرعوا في الحشد و سبقهم نور الدين إلى دمشق فثار الأحداث الذين كاتبهم و فتحوا له الباب الشرقي فدخل منه و ملكها و اعتصم مجير الدين بالقلعة فراسله في النزول عنها و عوضه مدينة حمص فسار إليها ثم عوضه عن حمص بالس فلم يرضها و سار إلى بغداد و اختط بها دارا قرب النظامية و توفي بها و استولى نور الدين على دمشق و أعمالها و استضافها إلى ملكه فجلب و انقرض ملك بني تتش من الشام و البلاد الفارسية أجمع و البقاء لله وحده و الله مالك الملك لا رب غيره سبحانه و تعالى (5/185)
الخبر عن دولة قطلمش و بنيه ملوك قونية و بلاد الروم من السلجوقية و مبادىء أمورهم و تصاريف أحوالهم
كان قطلمش هذا من عظماء أهل هذا البيت و نسبه مختلف قطلمش بن بيقو و ابن الأثير تارة يقول قطلمش ابن عم طغرلبك و تارة يقول قطلمش بن اسرائيل من سلجوق و لعله بيان ذلك الاجمال و لما انتشر السلجوقية في البلاد طالبين للملك دخل قطلمش بهذا إلى بلاد الروم و ملك قونية و أقصرا و نواحيها و بعثه السلطان طغرلبك بالعساكر مع قريش بن بدران صاحب الموصل في طلب دبيس بن مزيد عندما أظهر الدولة العلوية في الحلة و أعمالها فهزمهم دبيس و البساسنيري كما تقدم في أخبارهم ثم عصى على السلطان البارسلان بعد طغرلبك و قصد الري ليملكه و قاتله البارسلان سنة ست و خمسين فانهزم عسكر قطلمش و وجد بين القتلى فتجمع له البارسلان و قعد للعزاء فيه كما تقدم في أخبارهم و قام بأمره إبنه سليمان و ملك قونية و أقصرا و غيرهما من الولاية التي كانت بيد أبيه و افتتح إنطاكية من يد الروم سنة سبع و سبعين و أربعمائة و قد كانوا ملكوها منذ خمس و خمسين و أربعمائة فأخذها منهم و أضافها إلى ملكه و قد تقدم خبر ملكه إياها في دولتهم و كان لمسلم بن قريش صاحب الموصل ضريبة على الروم بانطاكية فطالب بها سليمان بن قطلمش فامتعض لذلك و أنف منه فجمع مسلم العرب و التركمان لحصار إنطاكية و معه جق أمير التركمان و التقيا سنة ثمان و سبعين و انحاز جق إلى سليمان فانهزم العرب و سار سليمان بن قطلمش لحصار حلب فامتنعت عليه و سألوه الإمهال حتى يكاتب السلطان ملك شاه و دسوا إلى تاج الدولة تتش صاحب دمشق يستدعونه فأغذ السير و اعترضه سليمان بن قطلمش على تعبية فانهزم و طعن نفسه بخنجر فمات و غنم تتش معسكره و ملك بعده إبنه قلج أرسلان و أقام في سلطانه و لما زحف الإفرنج إلى سواحل الشام سنة تسعين و أربعمائة جعلوا طريقهم على القسطنطينية فمنعهم من ذلك ملك الروم حتى شرط عليهم أن يعطوه إنطاكية إذا ملكوها فأجابوا لذلك و عبروا خليج القسطنطينية و مروا ببلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قطلمش فلقيهم في جموعه قريبا من قونية فهزموه إلى بلاد ابن ليون الارمني فمروا منها إلى إنطاكية و بها باغيسيان من أمراء السلجوقية فاستعد للحصار و أمر بحفر الخندق فعمل فيه المسلمون يوما ثم عمل فيه النصارى الذين كانوا بالبلد من الغد فلما جاؤا للدخول منعهم و قال أنا لكم في محلفكم حتى ينصرف هؤلاء الإفرنج و زحفوا إليه فحاصروه تسعة أشهر ثم عدا بعض الحامية من سور البلد عليهم فادخلوهم من بعض مسارب الوادي و أصبحوا في البلد فاستباحوه و ركب بغيسيان للصلح فهرب و لقيه حطاب من الأرمن فجاء برأسه إلى الإفرنج و ولي عليها بمشد من زعماء الإفرنج و كان صاحب حلب و صاحب دمشق قد عزما على النفير إلى إنطاكية لمدافعتهم فكاتبهم بالمسالمة و أنهم لا يعرضون لغير إنطاكية لغير إنطاكية فأوهن ذلك من عزائمهم و أقصروا عن انجاد باغيسيان و كان التركمان قد انتشروا في نواحي العراق و كان كمشتكين بن طبلق المعروف أبوه بالوانشمند و معناه العلم عندهم قد ملك سيواس من بلاد الروم مما يلي إنطاكية و كان بملطية مما يجاورها متغلب آخر من التركمان و بينه و بين الوانشمند حروب فاستنجد صاحب ملطية عليه الإفرنج و جاء بيضل من إنطاكية سنة ثلاث و تسعين في خمسة آلاف فلقيه ابن الوانشمند و هزمه و أخذه أسيرا و جاء الإفرنج لتخليصه فنازلوا قلعة أنكورية و هي أنقرة فأخذوها عنوة ثم ساروا إلى أخرى فيها اسمعيل بن الوانشمند و حاصروها فجمع ابن الوانشمند و قاتلهم و أكمن لهم و كانوا في عدد كثير فلما قاتلهم استطرد لهم حتى خرج عليهم الكمين و كر عليهم فلم يفلت منهم أحد و سار إلى ملطية فملكها و أسر صاحبها و جاءه الإفرنج من إنطاكية فهزمهم (5/186)
استيلاء قليج أرسلان على الموصل
كانت الموصل و ديار بكر و الجزيرة بيد جكرمش من قواد السلجوقية فمنع الحمل و هم بالإنتقاض فأقطع السلطان الموصل و ما معها لجاولي سقاوو و الكل من قوادهم و أمرهم بالمسير لقتال الافرنج فسار جاولي و بلغ الخبر لجكرمش فسار من الموصل إلى أربل و تعاقد مع أبي الهيجاء بن موشك الكردي الهدباي صاحب أربل و انتهى إلى البوازيج فعبر إليه جكرمش دجلة و قاتله فانهزمت عساكر جكرمش و بقي جكرمش واقفا لفالج كان به فأسره جاولي و لحق الفل بالموصل فنصبوا مكانه إبنه زنكي صبيا صغيرا و أقام بأمره غزغلي مولى أبيه و كانت القلعة بيده و فرق الأموال و الخيول و استعد لمدافعة جاولي و كاتب صدقة بن مزيد و البرسقي شحنة بغداد و قلج أرسلان صاحب بلاد الروم يستنجدهم و يعد كلا منهم بملك الموصل إذا دافعوا عنه جاولي فأعرض صدقة عنه و لم يحتفل بذلك ثم سار جاولي إلى الموصل و حاصرها و عرض جكرمش للقتل أو يسلموا إليه فامتنعوا و أصبح جكرمش في أيام حصارها و سمع جاولي بأن قلج أرسلان سار في عساكره إلى نصيبين فأفرج عن الموصل و سار إلى سنجار و سبق البرسقي إليها بعد رحيل جاولي و أرسل إلى أهلها فلم يجيبوه بشيء و عاد إلى بغداد و استدعى رضوان صاحب دمشق جاولي سقاوو لمدافعة الإفرنج عنه فساروا إليه و خرج من الموصل عسكر جكرمش إلى قلج أرسلان بنصيبين فتحالفوا معه و جاؤا به إلى الموصل فملكها آخر رجب من سنة خمسمائة و خرج إليه ابن جكرمش و أصحابه و ملك القلعة من غزغلي و جلس على التخت و خطب لنفسه بعد الخليفة و أحسن إلى العسكر و سار في الناس بالعدل و كان في جملته إبراهيم بن ينال التركماني صاحب آمد و محمد بن جق التركماني صاخب حصن زياد و هو خرت برت و كان إبراهيم بن ينال قد ولى تتش على آمدحين ولي ديار بكر و كانت بيده و أما خرت برت فكانت بيد القلادروس ترجمان الروم و الرها و إنطاكية من أعماله فملك سليمان بن قطلمش إنطاكية و ملك فخر الدولة بن جهير ديار بكر فضعف القلادروس و ملك جق خرت برت من يده و أسلم القلادورس على يد السلطان ملك شاه و أمره على الرها فأقام بها حتى مات و ملكها جق هي و ما جاورها من الحصون و أورثها إبنه محمدا بعد موته و الله تعالى ولي التوفيق (5/188)
الحرب بن قليج أرسلان و بين الإفرنج
كان سمند صاحب إنطاكية من الإفرنج قد وقعت بينه و بين ملك الروم بالقسطنطينية وحشة و استحكمت و سار سمند فنهب بلاد الروم و عزم على قصد إنطاكية فاستنجد ملك الروم بقليج أرسلان فأمده بعساكره و سار مع ذلك الروم فهزموا الإفرنج و أسروهم و رجع الفل إلى بلادهم بالشام فاعتزموا على قصد قليج أرسلان بالجزيرة فآتاهم خبر مقتله فاقصروا و الله تعالى ولي التوفيق (5/189)
مقتل قليج أرسلان و ولاية إبنه مسعود
قد تقدم لنا استيلاء قليج أرسلان على الموصل و ديار بكر و أعمالها و جلوسه على التخت و إن جاولي سكاوو سار إلى سنجار ثم سار منها إلى الرحبة و كان قلج أرسلان خطب له بها صاحبها محمد بن السباق من بني شيبان بعد مهلك دقاق و انتقاضه على أبيه فلما حاصرها جاولي بعث إليه رضوان بن تتش صاحب حلب في النجدة على الإفرنج لما ساروا إلى بلاده فوعده لإنقضاء الحصار و جاء رضوان فحضر عنده و اشتد الحصار على أهل الرحبة و غدر بعضهم فأدخل أصحاب جاولي ليلا و نهبوها إلى الظهر و خرج إليه صاحبها محمد الشيباني فأطاعه و رجع عنه و بلغ الخبر إلى قلج أرسلان فسار من الموصل لحرب جاولي و استخلف عليها إبنه ملك شاه صبيا صغيرا مع أمير يدبره فلما إنتهى إلى الخابور هرب عنه إبراهيم بن نيال صاحب آمد و لحق ببلده و اعتزم قلج أرسلان على المطاولة و استدعى عسكره الذين أنجدهم ملك الروم على الإفرنج فجاؤا إليه و اغتنم جاولي قلة عسكره فلقيه آخر ذي القعدة من السنة و اشتدت الحرب و حمل قليج أرسلان على جاولي بنفسه و صرع صاحب الراية و ضرب جاولي بسيفه ثم حمل أصحاب جاولي عليه فهزموه و ألقى نفسه في الخابور فغرق و سار جاولي إلى الموصل فملكها و أعاد خطبة السلطان محمد و بعث إليه ملك شاه بن قلج أرسلان و ولي مكان قليج أرسلان في قونية و أقصرا و سائر بلاد الروم ابنه مسعود و استقام له ملكها (5/189)
استيلاء مسعود بن قليج أرسلان على ملطية و أعمالها
كانت ملطية و أعمالها و سيواس لابن الوانشمند من التركمان كما مر و كانت بينه و بينهم حروب و هلك كمستكين بن الوانشمند و ولي مكانه إبنه محمد و اتصلت حروبه مع الإفرنج كما كان أبوه معهم ثم هلك سنة سبع و ثلاثين فاستولى مسعود بن قليج أرسلان على الكثير منها و بقي الباقي بيد أخيه باغي أرسلان بن محمد (5/190)
وفاة مسعود بن قليج و ولاية إبنه قليج أرسلان
ثم توفي مسعود بن قليج أرسلان سنة إحدى و خمسين و خمسمائة و ملك مكانه ابنه قليج أرسلان فكانت بينه و بين باغي أرسلان ابن الوانشمند و صاحب ملطية و ما جاورها من ملك الروم و حروب بسبب أن قليج تزوج بنت الملك طليق بن علي بن أبي القاسم فزوجها إليه بجهاز عظيم و أغار عليه باغي أرسلان صاحب ملطية فأخذها بما معها و زوجها بابن أخيه ذي النون بن محمد بن الوانشمند بعد أن أشار عليها بالردة لينفسخ النكاح ثم عادت إلى الإسلام و زوجها بابن أخيه فجمع قليج أرسلان عساكره و سار إلى باغي أرسلان بن الوانشمند فهزمه باغي أرسلان و استنجد ملك الروم فأمده بعسكر و سار باغي أرسلان خلال ذلك و ولي إبراهيم ابن أخيه محمد و ملك قليج أرسلان بعض بلاده و استولى أخوه ذو النون بن محمد الوانشمند على قيسارية و انفرد شاه بن مسعود أخو قليج أرسلان بمدينة أنكوريه و هي انقرة و استقرت الحال على ذلك ثم وقعت الفتنة بين قليج أرسلان و بين نور الدين محمود بن زنكي و تراجعوا للحرب و كتب الصالح بن زربك المتغلب على العلوي بمصر إلى قليج أرسلان ينهاه عن ذلك ثم هلك إبراهيم بن محمد الوانشمند و ملك مكانه أخوه ذو النون و انتقض قليج أرسلان عليه و ملك ملطية من يده و الله تعالى أعلم (5/190)
مسير نور الدين العادل إلى بلاد قليج أرسلان
ثم سار نور الدين محمود بن زنكي سنة ثمان و ستين إلى ولاية أرسلان بن قليج بن مسعود ببلاد الروم و هي ملطية و سيواس و أقصرا فجاءه قليج أرسلان متنصلا معتذرا فأكرمه و ثني عزمه عن قصد بلاده ثم أرسل إليه شفيعا قي ذي بن النون بن الوانشمند يرد عليه بلاده فلم يشفعه فسار إليه و ملك مرعش و نهسنا و ما بينهما في ذي القعدة من السنة و بعث عسكرا إلى سيواس فملكوها فمال قليج إرسلان إلى الصلح و بعث إلى نور الدين يستعطفه و قد بلغه عن الفرنج ما أزعجه فأجابه على أن يمده بالعساكر للغزو و على أن يبقي سيواس بيد نواب نور الدين و هي لذي النون بن الوانشمند ثم جاءه كتاب الخليفة باقطاع البلاد و من جملتها بلاد قليج أرسلان و خلاط و ديار بكر و لما مات نور الدين عادت سيواس لقليج أرسلان و طرد عنها نواب ذي النون (5/190)
مسير صلاح الدين لحرب قليج أرسلان
كان قليج أرسلان بن مسعود صاحب بلاد الروم قد زوج بنته من نور الدين محمود بن قليج أرسلان بن داود بن سقمان صاحب حصن كيفا و غيره من ديار بكر و أعطاه عدة حصون فلم يحسن عشرتها و تزوج عليها و هجر مضجعها و امتعض أبوها قليج أرسلان لذلك و اعتزم على غزو نور الدين في ديار بكر و أخذ بلاده فاستجار نور الدين بصلاح بن أيوب و استشفع به فلم يشفعه و تعلل بطلب البلاد التي أعطاه عند المصاهرة فامتعض صلاح الدين لذلك و كان يحارب الإفرنج بالشام فصالحهم و سار في عسكره إلى بلاد الروم و كان الصالح إسمعيل بن نور الدين محمود بالشام فعدل عنه و مر على تل ناشر إلى زغبان و لقي بها نور الدين محمود صاحب كيفا و بعث إليه قليج أرسلان رسولا يقرر غدره بابنته فاغتاظ على الرسول و توعده بأخذ بلادهم فتلطف له الرسول و خلص معه نجيا فقبح له ما إرتكبه من أجل هذه المرأة من ترك الغزو و مصالحة العدو و جمع العساكر و خساره و أن بنت قليج أرسلان لو بعث إليه بعد وفاة أبيها تسأل منه النصفة بينها و بين زوجها لكان أحق ما تقصده فامتنعت و علم أن على نفسه الحق فأمر الرسول أن يصلح بينهم و يكون هو عونا له على ذلك فداخلهم ذلك الرسول في الصلح على أن يطلق هذه المرأة بعد سنة و يعقد بينهم ذلك و رجع كل إلى بلده و وفى نور الدين بما عقد على نفسه و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/191)
قسمة قليج أرسلان أعماله بين ولده و تغلبهم عليه
ثم قسم قليج أرسلان سنة سبع و ثمانين أعماله بين ولده فأعطى قونية بأعمالها لغياث الدين كسنجر و أقصرا و سيواس لقطب الدين و دوقاط لركن الدين سليمان و أنقرة و هي أنكورية لمحي الدين و ملطية لعز الدين قيصر شاه و لغيث الدين و قيسارية لنور الدين محمود و أعطى تكسار و أماسا لإبني أخيه و تغلب عليه إبنه قطب الدين و حمله على انتزاع ملطية من يد قيصر شاه فانتزعها و لحق قيصر شاه بصلاح الدين بن أيوب مستشفعا به فأكرمه و زوجه إبنة أخيه العادل و شفع له عند أبيه و أخيه فشفعوه و ردوا عليه ملطية ثم زاد تغلب ركن الدين و حجر عليه و قتل دائبة في مدينته و هو إختيار الدين حسن فخرج سائر بنيه عن طاعته و أخذ قطب الدين أباه و سار به إلى قيسارية ليملكها من أخيه فهرب قليج أرسلان و دخل قيسارية و عاد قطب الدين إلى قونية و أقصرا فملكها و بقي أرسلان ينتقل بين ولده من واحد إلى آخر و هم معرضون عنه حتى استنجد بغياث الدين كسنجر صاحب منهم فأنجده و سار معه إلى قونية فملكها ثم سار إلى أقصرا و حاصرها ثم مرض قليج أرسلان و عاد إلى قونية فتوفي فيها و قبل إنما إختلف ولده عليه لأنه ندم على قسمة أعماله بينهم و أراد ايثار ابنه قطب الدين بجميعها و انتقضوا عليه لذلك و خرجوا عن طاعته و بقي يتردد بينهم و قصد كسنجر و صاحب قونية فأطاعه و خرج معه بالعساكر لحصار محمود أخيه في قيسارية و توفي قليج أرسلان و هو محاصر لقيسارية و رجع غياث الدين إلى قونية (5/192)
وفاة قليج أرسلان و ولاية أبنه غياث الدين
ثم توفي قليج أرسلان بمدينة قونية أو على قيسارية كما مر من الخلاف منتصف ثمان و ثمانين لسبع و عشرين سنة من ملكه و كان مهيبا عادلا حسن السياسة كثير الجهاد و لما توفي و استقل ابنه غياث الدين كسنجر بقونية و ما إليها و كان قطب الدين أخوه صاحب أقصرا و سيواس و كان كلما سار من إحداهما إلى الأخرى يجعل طريقه على قيسارية و بها أخوه نور الدين محمود يتلقاه بظاهرها حتى استنام إليه مدة فغدر به و قتله و امتنع أصحابه بقيسارية كبيرهم حسن فقتله مع أخيه ثم أطاعوه و أمكنوه من البلد و مات قطب الدين أثر ذلك (5/192)
استيلاء ركن الدين سليمان على قونية و أكثر بلاد الروم و فرار غياث الدين
و لما توفي قليج أرسلان و ولي بعده في قونية إبنه غياث الدين كسنجر و ينوه يومئذ على حالتهم في ولايتهم التي قسمها بينهم أبوهم و ملك قطب الدين منهم قيسارية بعد أن غدر بأخيه محمود صاحبها و مات قطب الدين أثر ذلك فسار ركن الدين سليمان صاحب دوقاط إلى التغلب على أعمال سلفه ببلاد الروم فسار إلى سيواس و أقصرا و قيسارية أعمال قطب الدين فملكها ثم سار إلى قونية فحاصر بها غياث الدين و ملكها و لحق غياث الدين بالشام كما يأتي خبره ثم سار إلى نكسار و أماسا فملكها و سار إلى ملطية سنة سبع و تسعين فملكها من يد معز الدين قيصر شاه و لحق بالعادل أبي بكر بن أيوب ثم سار إلى أرزن الروم و كانت لولد الملك محمد بن حليق من بيت قديم و خرج إليه صاحبها ليقرر معه صلحا فقبض عليه و ملك البلد فاجتمع لركن الدين سائر أعمال إخوته ما عدا أنقرة لحصانتها فجمر عليها الكتائب و حاصرها ثلاثا ثم دس من قتل أخاه و ملك البلد سنة إحدى و ستمائة و توفي هو عقب ذلك و الله تعالى أعلم (5/193)
وفاة ركن الدين و ولاية ابنه قليج أرسلان
ثم توفي ركن الدين سليمان بن قليج أرسلان أوائل ذي القعدة من تمام سنة إحدى و ستمائة و ولي بعده ابنه قليج أرسلان فلم تطل مدته و كان شديدا على الإعداء إلا أنه ينسب إلى التزين بالفلسفة و الله تعالى أعلم (5/193)
استيلاء غياث الدين كسنجر على بلاد الروم من أخيه ركن الدين
كان غياث الدين كسنجر بن قليج أرسلان لما ملك أخوه ركن الدين قونية من يده لحق بحلب و فيها الظاهر غازي بن صلاح الدين فلم يجد عنده قبولا فسار إلى القسطنطينية و أكرمه ملك الروم و أصهر إليه بعض البطارقة في ابنته و كانت له قرية حصينة في أعمال قسطنطينية فلما استولى الإفرنج على القسطنطينية سنة ستمائة لحق غياث الدين بقلعة صهره البطريق و بلغ إليه خبر أخيه تلك السنة و بعث بعض الأمراء من قونية يستدعيه فسار إليه و اجتمعوا على حصار قونية و خرجت إليهم العساكر منها فهزموه و لحق ببعض البلاد فتحصن بها ثم قام أهل اقصرا بدعوته و طردوا وإليهم و بلغ الخبر إلى أهل قونية فثاروا بقليج أرسلان بن ركن الدين و قبضوا عليه و استدعوا غياث الدين فملكوه و أمكنوه من ابن أخيه و كان أخوه قيصر شاه قد لحق بصهره العادل أبي بكر بن أيوب فاستنصر به على أخيه ركن الدين عندما ملك ملطية من يده فأمر له بالرها و استفحل ملك غياث الدين و قصده علي بن يوسف صاحب شمشاط و نظام الدين بن أرسلان صاحب خرت برت و غيرهما و عظم شأنه إلى أن قتله أشكر صاحب قسطنطينية سنة سبع و ستمائة و الله تعالى ولي التوفيق (5/193)
مقتل غياث الدين كسنجر و ولاية ابنه كيكاوس
و لما قتل غياث الدين كسنجر و ولي بعده ابنه كيكاوس و لقبوه الغالب بالله و كان عمه طغرك شاه بن قليج أرسلان صاحب أرزن الروم طلب الأمر لنفسه و سار إلى قتال كيكاوس ابن أخيه و حاصره في سيواس و قصد أخوه كيغباد بن كسنجر بلدانكوريه من أعماله فاستولى عليها و بعث كيكاوس صريخه إلى الملك العادل صاحب دمشق فانفذ إليه العساكر و أفرج طغرك عن سيواس قبل وصلوهم فسار كيكاوس إلى أنكورية و ملكها من يد أخيه كيغباد و حبسه و قتل أمراءه و سار إلى عمه طغرك في أرزن الروم فظفر به سنة عشر و قتله و ملك بلاده (5/194)
مسير كيكاوس إلى حلب و استيلاؤه على بعض أعمالها ثم هزيمته و إرتجاع البلد من يده
كان الظاهر بن صلاح الدين صاحب حلب قد توفي و ملك بعده ابنه طفلا صغيرا و كان بعض أهل حلب قد لحق بكيكاوس فرارا من الظاهر و أغراه بملك حلب و هون عليه أمرها و ملك ما بعدها و لما مات الظاهر قوي عزمه و طعمه في ذلك و استدعى الأفضل بن صلاح الدين بن شمشاط للمسير معه على أن تكون الخطبة لكيكاوس و الولاية للأفضل في جميع ما يفتحونه من حلب و أعمالها فإذا افتحوا بلاد الجزيرة مثل حران و الرها من يد الاشرف تكون ولايتها لكيكاوس و تعاقدوا على ذلك و ساروا سنة خمس عشرة فملكوا قلعة رغبان و تسلمها الأفضل على الشرط ثم ملكوا قلعة تل ناشر فاستأثر بها كيكاوس و ارتاب الأفضل ثم بعث ابن الظاهر صاحب حلب إلى الأشرف بن العادل صاحب الجزيرة و خلاط يستنجده على أن يخطب له بحلب و ينقش إسمه على السكة فسار لإنجاده و معه أحياء طيء من العرب فنزل بظاهر حلب و سار كيكاوس و الأفضل إلى منبج و لقيت طليعتهم طليعة الظاهر فاقتتلوا و عاد عسكر كيكاوس منهزمين إليه فأجفل و سار الأشرف إلى رغبان و تل ناشر و بهما أصحاب كيكاوس فغلبهم عليهما و أطلقهم إلى صاحبهم فأحرقهم بالنار و سلم الأشرف الحصنين إلى شهاب الدين بن الظاهر صاحب حلب و بلغه الخبر بوفاة أبيه الملك العادل بمصر فرجع عن قصد بلاد الروم (5/194)
وفاة كيكاوس و ملك أخيه كيغباد
كان كيكاوس بعد الواقعة بينه و بين الأشرف قد اعتزم على قصد بلاد الأشرف بالجزيرة و اتفق مع صاحب آمد و صاحب أربل على ذلك و كانا يخطبان له ثم سار إلى ملطية يشغل الأشرف عن الموصل حتى ينال منها صاحب أربل و مرض في طريقه فعاد و مات سنة ست عشرة و خلف بنيه صغارا و كان أخوه كيغباد محبوسا منذ أخذه من أنكورية فأخرجه الجند من محبسه و ملكوه و قيل بل أخرجه هو من محبسه و عهد إليه و لما ملك خالف عليه عمه صاحب أرزن الروم فوصل يده بالأشرف و عقد معه صلحا (5/195)
الفتنة بين كيغباد و صاحب آمد من بني أرتق و فتح عدة من حصونه
كانت الفتنة قد حدثت بين الأشرف صاحب الجزيرة و المعظم صاحب دمشق و جاء جلال الدين خوارزم من الهند سنة ثلاث و عشرين بعد هروبه أمام التتر فملك أذربيجان و اعتضد به المعظم صاحب دمشق على الأشرف و ظاهرهما الملك مسعود صاحب آمد من بني أرتق فأرسل الأشرف إلى كيغباد ملك الروم يستنجده على صاحب آمد و الأشرف يومئذ محاصر لماردين فسار كيغباد و أقام على ملطية و جهز العساكر من هناك إلى آمد ففتح حصونا عدى و عاد صاحب آمد إلى موافقة الأشرف فكتب إلى كيغباد أن يرد عليه ما أخذه فامتنع فبعث عساكره إلى صاحب آمد مددا على كيغباد و كان محاصرا لقلعة الكحنا فلقيهم و هزمهم و أثخن فيهم و عاد ففتح القلعة و الله أعلم (5/195)
استيلاء كيغباد على مدينة أرزنكان
كان صاحب ارزنكان هذه بهرام شاه من بني الأحدب بيت قديم في الملك و ملكها ستين سنة و لم يزل في طاعة قليج أرسلان و ولده و توفي بعده ابنه علاء الدين داود شاه و أرسل عنه كيغباد سنة خمس و عشرين ليعسكر معه إليه و قبض عليه و ملك مدينة ارزنكان و كان من حصونه كماح فامتنع نائبه فيه و تهدد داود شاه فبعث إلى نائبه فسلم له الحصن ثم قصد ارزن الروم و بها ابن عمر طغرك شاه بن قليج أرسلان فبعث ابن طغرك شاه بطاعته إلى الأشرف و استنجد نائبه بخلاط حسام الدين علي فسار إليه فخام كيغباد عن لقائه و عاد من ارزنكان إلى بلاده فوجد العدو من الإفرنج قد ملك قلعة منها تسمى صنوبا مطلة على بحر الخزر فحاصرها برا و بحرا و ارتجعها المسلمون و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق (5/196)
فتنة كيغباد مع جلال الدين
كان صاحب أرزن الروم و هو ابن عم كيغباد صار إلى طاعة جلال الدين خوارزم شاه و حاصر معه خلاط و فيها أيبك مولى فملكها جلال الدين و قتل أيبك كما يأتي في أخباره فخافهما كيغباد صاحب الروم فاستنجد الملك الكامل و هو بحران فأمده بأخيه الأشرف من دمشق فجمع عساكر الجزيرة و الشام و سار إلى كيغباد فلقيه بسيواس و اجتمعوا في خمسة و عشرين ألفا و ساروا من سيواس إلى خلاط فلقيهم جلال الدين في نواحي ارزنكان فهاله منظرهم و مضى منهزما إلى خلاط ثم سار منها إلى أذربيجان فنزلوا عند خوي و سار الأشرف إلى خلاط فوجد جلال الدين قد خربها فعادوا إلى بلادهم و ترددت الرسل إلى الصلح فاصطلحوا (5/196)
مسير بني أيوب إلى كيغباد و هزيمتهم
كان علاء الدين كيغباد قد استفحل ملكه ببلاد الروم و مد يده إلى ما يجاوره من البلاد فملك خلاط بعد أن دافع عنها مع الأشرف بن العادل جلال الدين خوارزم شاه فنازعه الأشرف في ذلك و استصرخ بأخيه الكامل فسار في العساكر من مصر سنة إحدى و ثلاثين و سار معه الملوك من أهل بيته و انتهى إلى النهر الأزرق من تخوم الروم و بعث في مقدمته المظفر صاحب حماة من أهل بيته فلقيه كيغباد و هزمه و حصره في خرت برت و كانت لبني أرتق و رجع الكامل بالعساكر إلى مصر سنة اثنتين و ثلاثين و كيغباد في أتباعهم ثم سار إلى حران و الرها فملكها من يد نواب الكامل و ولى عليهما من قبله و سار الكامل سنة ثلاث و ثلاثين فارتجعهما (5/196)
وفاة كيغباد و ملك ابنه كنجسرو
ثم توفي علاء الدين كيغباد سنة أربع و ثلاثين و ستمائة و ملك بعده ابنه غياث الدين كنجسرو و قارن ذلك إنقراض الدولة السلجوقية من ممالك الإسلام و إختلال دولة بني خوارزم شاه و خروج التتر من مفازة الترك وراء النهر و استيلاء جنكزخان سلطانهم على الممالك و انتزاعها من يد بني خوارزم شاه و فر جلال الدين آخرهم إلى الهند ثم رجع و استولى على أذربيجان و عراق العجم و كان بنو أيوب يومئذ بممالك الشام و أرمينية كما نذكر ذلك كله في أماكنه إن شاء الله تعالى و انتشر التتر في سائر النواحي و عاثوا فيها و تغلبوا عليها و استفحل ملكهم فسارت منهم طوائف إلى بلاد الروم سنة إحدى و أربعين فبعث غياث الدين كنجسر و بالصريخ إلى بني أيوب و غيرهم من الترك في جواره و جاء المدد من كل جانب فسار للقائهم و لقيتهم المقدمة على قشمير زنجان فانهزمت المقدمة و وصلوا إليه و نجا بعياله و ذخيرته إلى مدينة على مسيرة شهر من المعترك و نهبوا سواده و مخلفه و انتشروا في نواحي بلاد الروم و عاثوا فيها و تحصن غياث الدين بهذه المدينة و استولى التتر على خلاط و آمد ثم استأمن لهم غياث الدين و دخل في طاعتهم و استقامت أموره معهم إلى أن مات قريبا من رجوعه و ملك التتر قيسارية و الله أعلم (5/197)
وفاة غياث الدين و ولاية ابنه كيغباد
ثم توفي غياث الدين كنجسرو سنة أربع و خمسين و ترك ثلاثا من الولد أكبرهم علاء الدين كيغباد و عز الدين كيكاوس و ركن الدين قليج أرسلان و ولى علاء الدين كيغباد بعهده إليه و كان يخطب لهم جميعا و أمرهم واحد و كان جنكزخان ملك التتر قد ملك و كان كرسي سلطانهم بقراقروم و ولي مكانه ابنه طلوخان و جلس على كرسيه و هو الخان الأعظم عندهم و حكمه ماض في ملوك الشمال و العراق من أهل بيته و سائر عشيرته ثم هلك طلوخان و ولي مكانه في كرسيه ابنه منكوخان فبعث أخاه هلاكو لفتح العراق و بلاد الإسماعيلية سنة خمسين و ستمائة فسار لذلك و ملك العراقين و بغداد ثم جرد الخان الأعظم منكوخان إلى بلاد الروم سنة أربع و خمسين أميرا من امرأء المغل اسمه بيكو في العساكر فسار إلى أرزن الروم و بها سنان الدين ياقوت موسى السلطان علاء الدين فحاصرها شهرين و نصب عليها المجانيق ثم ملكها عنوة و أسر ياقوت و استلحم الجند بأسرهم و استبقى الباعة و الصناع ثم سار إلى بلاد الروم فملك قيسارية و مسيرة شهر معها و رجع ثم عاد سنة خمس و خمسين و عاث في البلاد و استولى على أكثر من الأولى و الله تعالى أعلم (5/197)
وفاة كيغباد و ملك أخيه كيكاوس
و لما كثر عيث التتر الذين مع بيكو في مملكة علاء الدين كيغباد و اعتزم على المسير إلى الخان الأعظم منكوخان يؤكد الدخول في طاعته و يقتضي مراسمه إلى بيكو و من معه من المغل بالكف عن البلاد سار من قونية سنة خمس و خمسين و معه سيف الدين طرنطاي من موالي أبيه و احتمل معه الأموال و الهدايا و سار و وثب أخوه عز الدين كيكاوس على أخيه الآخر قليج أرسلان فاعتقله بقونية و استولى على الملك و كتب في أثر أخيه إلى سيف الدين طرنطاي مع بعض الأكابر من أصحابه أن يمكنوه من الهدايا التي معهم يتوجه بها إلى الخان و يردوا علاء الدين فلم يدركوه حتى دخل بلاد الخان و نزل على بعض امرائه فسعى ذلك الرسول في علاء الدين و طرنطاي بأن معهم سما فكبسهم الأمير فوجد شيئا من المحمودة فعرض عليهم أكلها فامتنعوا فتخيل تحقيق السعاية فسألوه احضار الأطباء فأزالوا عنه الشك و بعث بهم إلى الخان و مات علاء الدين أثناء طريقه و لما اجتمعوا عند الخان اتفقوا على ولاية عز الدين كيكاوس و أنه أكبر و عقدوا له الصلح مع الخان فكتب له و خلع عليهم ثم كتب بيكو إلى الخان بأن أهل بلاد الروم قاتلوه و منعوه العبور فأحضر الرسل و عرفهم الخبر فقالوا إذا بلغناهم كتاب السلطان أذعنوا فكتب الخان بتشريك الأميرين عز الدين كيكاوس و أخيه ركن الدين قليج أرسلان على أن تكون البلاد قسمة بينهما فمن سيواس إلى القسطنطينية غربا لعز الدين و من سيواس إلى أرزن الروم شرقا المتصلة ببلاد التتر ركن الدين و على الطاعة و حمل الإتارة لمنكوخان ملكهم صاحب الكرسي بقراقروم و رجعوا إلى بلاد الروم و حملوا معه شاه و كيغباد إلى أن دفنوه (5/198)
استيلاء التتر على قونية
ثم سار في عساكر المغل إلى بلاد الروم ثالثة فبعث عز الدين كيكاوس العساكر للقائه مع أرسلان أيدغمش من أمرائه فهزمه بيكو و جاء في إتباعه إلى قونية فهرب عز الدين كيكاوس إلى العلايا بساحل البحر فنزل بيكو على قونية و حاصرها حتى استأمنوا إليه على يد خطيبهم و لما حضر إليه أكرمه و رفع منزلته و أسلمت امرأته على يده و أمن أهل البلد ثم سار هلاكو إلى بغداد سنة خمس و ستين و بعث عن بيكو و عساكره من بلاد الروم بالحضور معه فاعتذر بالأكراد الذين في طريقه من الفراسلية و الياروقية فبعث إليهم هلاكو العساكر فأجفلوا و انتهت العساكر إلى أذربيجان و قد أجفل أهلها أمام الأكراد فاستولوا عليها و رجعوا صحبة بيكو إلى هلاكو فحضر معه فتح بغداد و قد مر خبرها في أخبار الخلفاء و يأتي في أخبار هلاكو و نيال أن بيكو لما بعث عنه هلاكو لم يحضر معه فتح بغاد و استمر على غدره فلما انقضى أمر بغداد بعث إليه هلاكو من سقاه السم فمات لأنه اتهمه بالإستبداد ثم سار هلاكو بعد فتح بغداد إلى الشام سنة ثمان و خمسين و حاصر حلب و بعث عن عز الدين كيكاوس و ركن الدين قليج أرسلان و عن معين الدين سليمان البرنواه صاحب دولتهم و كان من خبره أن أباه مهذب الدين علي من الديلم و طلب العلم و نبغ فيه ثم تعرض للوزير سعد الدين المستوفي أيام علاء الدين كيغباد يسأله إجراء رزقه و كان وصافا فاستحسنه وزوجه إبنته فولدت سليمان و نشأ في الدولة و مات سعد الدين المستوفي فرقي السلطان مهذب الدين إلى الوزارة و ألقى إليه بالمقاليد و توفي مهذب الدين و ترقي إبنه سليمان مهذب الدولة و كان يلقب معين الدين و ترقي في الرتب إلى أن ولي الحجابة و كان يدعي البرنواه و معناه الحاجب بلغتهم و كان مختصا بركن الدين فلما حضر معهما عند هلاكو كما قلناه حلا بعينه و قال لركن الدين لا يأتني في أموركم إلا هذا فرقت حاله إلى أن ملك بلاد الروم أجمع (5/199)
الفتنة بين عز الدين كيكاوس و أخيه قليج أرسلان و استيلاء قليج أرسلان على الملك
ثم وقعت الفتنة سنة تسع و خمسين بين عز الدين كيكاوس و أخيه ركن الدين قليج أرسلان و سار ركن الدين و معه البرنواه إلى هلاكو يستمده على أخيه فأمده بالعساكر و حارب أخاه فهزمه عز الدين أولا ثم أمده هلاكو فانهزم عز الدين و لحق بالقسطنطينية و استولى ركن الدين على سائر الأعمال و هرب التركمان إلى أطراف الجبال و الثغور و السواحل و بعثوا إلى هلاكو يطلبون الولاية منه على أحيائهم فولاهم و أذن لهم في اتخاذ الآلة فصاروا ملوكا من حينئذ و كان محمد بك أميرهم و أخوه علي بك رديفه فاستدعى علي هلاكو محمدا بك فلم يأته فأمر قليج أرسلان و عساكر التتر الذين معه بقتاله فساروا و قاتلوه فانهزم ثم استأمن إلى السلطان ركن الدين فأمنه و جاء به إلى قونية فقتله و استقر علي بك أميرا على التركمان و أورثها بنيه و استولى التتر على البلاد إلى (5/199)
خبر عز الدين كيكاوس
و لما انهزم عز الدين كيكاوس و لحق بالقسطنطينية أحسن إليه مخاييل الشكري صاحب قسطنطينية و أجرى عليه الروق و كان معه جماعة من الروم أخواله فحدثتهم أنفسهم بالثورة و تملك القسطنطينية و نمى ذلك عنهم فقبض الشكري عليه و على من معه و اعتقله ببعض القلاع ثم وقعت بين الشكري و بين منكوتمر بن طغان ملك الشمال من بني دوشي خان بن جنكزخان فتنة و غزا منكوتمر القسطنطينية و عاث في نواحيها فهرب إليه كيكاوس من محبسه فمضى معه إلى كرسيه بصراي فمات هنالك سنة سبع و سبعين و خلف ابنه مسعودا و خطب منكوتمر ملك صراي أمه فمنعها و هرب عنه و لحق بابق بن هلاكو ملك العراق فأحسن إليه و أقطعه سيواس و ارزن الروم و أرزنكان فاستقر بها (5/200)
مقتل ركن الدين قليج أرسلان و ولاية ابنه كنجسرو
كان معين الدين سليمان البرنواه قد استبد على ركن الدين قليج أرسلان ثم تنكر له ركن الدين فخاف سليمان البرنواه على مكان أخيه عز الدين كيكاوس بالقسطنطينية أن يحدث فيه أمرا فلما بلغه خبر كيكاوس و اعتقاله بالقسطنطينية أحكم تدبيره في ركن الدولة فقتله غيلة و نصب للملك ابنه غياث الدين في كفالته و تحت حجره و استقل بملك بلاد الروم و استقامت أموره و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/200)
استيلاء الظاهر ملك مصر على قيسارية و مقتل البرنواه
كان هلاكو قد زحف إلى الشام سنة ثمان و خمسين مرارا و زحف ابنه إبقا كذلك و قاتلهم الملك الظاهر صاحب مصر و الشام و كان كثيرا ما يخالفهم إلى بلادهم فدخل سنة خمس و سبعين إلى بلاد الروم و أميرها يومئذ من التتر طغا و أمده إبقا بأميرين من التتر و هما كداون و ترقو لحماية بلاد الروم من الظاهر فزحفوا إلى الشام و سار الظاهر من مصر في مقدمته سقر الأسقر فلقيت مقدمته مقدمتهم على كوكصو فانهزم التتر و تبعهم الظاهر و التقى الجمعان على إبليش فانهزموا ثانية و أثخن فيهم الظاهر بالقتل و الأسر إلى قيسارية فملكها و كان البرنواه قد دس إليه و استحثه للوصول إلى بلاده فأقام الظاهر على قيسارية ينتظره و بلغ ملك التتر إبقا خبر الواقعة فزحف في جموع المغل إلى قيسارية بعد منصرف الظاهر إلى بلاده فلما وقف على مصارع قومه وجد على البرنواه و صدقت عنه السعاية و أنه الذي استحث الظاهر لأنه لم ير في المعركة مصرع أحد من بلاد الروم و رجع إلى معسكره و معه سليمان البرنواه و استبد بملكه و الله تعالى ولي التوفيق و هو نعم الرفيق لا رب سواه و لا معبود إلا إياه سبحانه (5/200)
خلع كنجسرو ثم قتله و ولاية مسعود ابن عمه كيكاوس
كان قنطغرطاي بن هلاكو مقيما ببلاد الروم مع غياث الدين كنجسرو و ملك بلاد الروم و صار أمير المغل بها منذ عهد أبقا و لما ولي أحمد تكرار بن هلاكو بعد أخيه أبقا بعث عن أخيه قنطغرطاي فامتنع من الوصول إليه خشية على نفسه ثم حمله غياث الدين على إجابة أخيه و سار معه فقتل تكرار أخاه قنطغرطاي و اتهم المغل غياث الدين بأنه علم برأي تكرار فيه و اعتمد فلما ولي أرغون بن إبقا بعد تكرار عزل غياث الدين عن بلاد الروم و حبسه بارزنكاي و ولي مكانه على المغل ببلاد الروم أولاكو و ذلك سنة إثنتين و ثمانين و أقام مسعود ملكا ببلاد الروم سنة ثمان عشرة و سبعمائة و أصابه الفقر و انحل أمره و بقي الملك بها للتتر ثم فشل أمرهم و اضمحلت دولتهم لا بقايا بسيواس من بني أرثا مملوك دمرداش بن جومان و استولى التركمان على تلك البلاد أجمع و أصبح ملكها لهم و الله غالب على أمره يؤتي الملك من يشاء و هو العزيز الحكيم (5/201)
ملوك قونية من بلاد الروم و ملكها من أيديهم التتر (5/202)
الخبر عن بني سكمان موالي السلجوقية ملوك خلاط و بلاد أرمينية و مصير الملك الى مواليهم من بعدهم و مبادي أمرهم و تصاريف أحوالهم
كان صاحب مزيد من أذربيجان إسمعيل بن ياقوتي بن داود أخو البارسلان و داود أخو طغرلبك كما مر و لقب إسمعيل قطب الدولة و كان له مولى تركي اسمه سكمان بالكاف و القاف و كان ينسب إليه فيقال سكمان القطبي و كان شهما عادلا في أحكامه و كانت خلاط و أرمينية لبني مروان ملوك ديار بكر و كانوا في آخر دولتهم قد اشتد عسفهم و ظلمهم و ساء حال أهل البلد معهم فاجتمع أهل خلاط و كاتبوا سكمان و استدعوه ليملكوه عليهم فسار إليهم سنة اثنتين و خمسمائة الى ميافارقين من ديار بكر فحاصرها حتى استأمنوا إليه و ملكها ثم أمر السلطان محمد شاه بن ملك شاه الأمير مودود بن زيد بن صدقة صاحب الموصل بغزو الإفرنج و انتزاع البلاد من أيديهم و أمر أمراء الثغور بالمسير معه فسار معه برسق صاحب همذان و أحمد بك صاحب مراغة و أبو الهيجاء إربل و أبو الغازي صاحب ماردين و سقمان القطبي صاحب ديار بكر فساروا لذلك و فتحوا عدة حصون و حاصروا الرها فامتنعت عليهم ثم تل ناشر كذلك و استدعاهم رضوان بن تتش صاحب حلب فلما ساروا إليه امتنع من لقائهم و مرض سكمان القطبي هنالك فرجع عنهم و توفي في طريقه ببالس و افترقت العساكر و ملك خلاط و بلاد أرمينية بعد مهلكه ابنه ظهير الدين ابراهيم و سار فيهم بسيرة أبيه إلى أن هلك سنة إحدى و عشرين و ملك بعده أخوه أحمد بن سكمان عشرة أشهر ثم توفي فنصب أصحابه للملك بأرمينية و خلاط شاه أرمن سكمان ابن أخيه ابراهيم بن سكمان صبيا دارجا و استبدت عليه جدته أم إبراهيم ثم أزمعت قتله فقتلها أهل الدولة و عمد سنة ثمان و عشرين و استبد شاه أرمن و كانت بينه و بين الكرج وقائع و ساروا سنة ست و خمسمائة الى مدينة أني من أعمال أران فاستباحوها و سار إليهم في العساكر فهزموه و نالوا منه و كانت عنده أخت طليق بن علي صاحب ارزن الروم و وقعت بينه و بين الكرج حرب فانهزم طليق و أسر و بعث شاه أرمن الى ملك الكرج و فادى طليقا و رده إلى ملكه بارزن ثم استولى صلاح الدين بن أيوب على مصر و الشام و استفحل ملكه و كاتبه مظفر الدين كوكبري و أغراه بملك الجزيرة و وعده بخمسين ألف دينار و سار صلاح الدين إلى سنجار فحاصرها و هو مجمع المسير إلى الموصل و بها يومئذ عز الدين مودود بن زنكي فاستنجد بشاه ارمن صاحب خلاط فبعث شاه ارمن مولاه مكتمر الى صلاح الدين شفيعا في صاحب الموصل و وفد عليه و هو محاصر لسنجار و لم يشفعه صلاح الدين فرجع عنه مغاضبا و سار شاه ارمن لقتاله و استدعى قطب الدين نجم الدين إلى صاحب ماردين و هو ابن أخيه و ابن خال عز الدين و حضر معه دولة شاه بن طغرك شاه بن قليج أرسلان صاحب و سار سنة ثمان و سبعين و قد ملك صلاح الدين سنجار و افترقت العساكر فلما بلغه مسيرهم بعث عن تقي الدين ابن أخيه شاه من حماة فوافاه سريعا و رحل إلى رأس عين الموصل و افترقت جموعهم و سار صلاح الدين إلى ماردين فعاث في نواحيها و رجع ثم سار إلى الموصل آخر إحدى و ثلاثين و عبر إلى الجزيرة و انتهى إلى حران و لقيه مظفر الدين كوكبري بن زين الدين و لم يف له بالخمسين ألفا التي وعده بها و أخذ منه حران و الرها ثم أطلقه بما نفذه من مكاتبته و أعاد عليه بلدته و سار من حران فحضر عنده عساكر الحصن و دارا و لقيه سنجر شاه صاحب الجزيرة ابن أخي عز الدين مودود مفارقا لطاعة عمه و سار معه إلى الموصل و لما انتهى إلى مدينة بله بعث إليه عز الدين ابن عمه نور الدين محمود و جماعة من أعيان الدولة راغبين في الصلح فأكرمهم و استشار أصحابه من أعيان الدولة فأشار علي بن أحمد المشطوب كبير الهكارية بالامتناع من ذلك فردهم صلاح الدين و اعتذر و سار فنزل على فرسخين من الموصل و اشتدوا في مدافعته فامتنعوا عليه فندم على عدم الصلح و رجع على علي المشطوب و من وافقه باللائمة و خاطبه القاضي الفاضل البيساني من مصر و عزله في ذلك و جاء زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب إربل و أخوه مظفر الدين كوكبري فتلقاهما بالتكرمة و أنزلهما مع الحشود الوافدة بالجانب الشرقي و بعث علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجزيرة من بلاد الهكارية فحاصرها و اجتمع عليه الأكراد و لم يزل محاصرا لها حتى عاد صلاح الدين من الموصل و أقام صلاح الدين على حصارها مدة و بلغ عز الدين أن نائبه بالقلعة يكاتبه فمنعه من الصعود إليها و كان يقتدي برأي مجاهد الدين و بعثه في الصلح فسعى فيه إلى أن تحمله و وصل صلاح الدين الى ميافارقين (5/203)
وفاة شاه أرمن سكمان و ولاية مكتمر مولى أبيه
ثم توفي شاه أرمن سقمان بن ابراهيم بن سكمان صاحب خلاط سنة ست و سبعين و كان مكتمر مولى أبيه بمافارقين فأسرع الوصول بمن معه من المماليك و استولى على كرسي بني سكمان و ولى على ميافارقين أسد الدين برتقش من موالي شاه أرمن و كان البهلوان بن إيلدكز صاحب أذربيجان و همذان مر بقائد ملوك السلجوقية و قد زوج ابنته من شاه أرمن طمعا في ملك خلاط فلما توفي شاه أرمن سار إليها في عساكره فكاتب أهل خلاط صلاح الدين بن أيوب و دافعوا كلا منهما بالآخر و سار صلاح الدين في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه و مظفر الدين بن زين الدين و غيرهما و نزلوا قريبا من خلاط فتردد الرسل من صلاح الدين و من شمس الدين البهلوان إلى أهل خلاط و هم يدافعون الفريقين و كان قد بلغه صاحبها قطب الدين و أن برتقش نصب ابنه طفلا صغيرا و استبد عليه فسار صلاح الدين إليها و حاصرها حتى تسلمها على الأمان و أقام مكتمر أميرا بخلاط و طالت مدته و جرت بينه و بين صلاح الدين فتن و حروب إلى أن توفي صلاح الدين سنة تسع و ثمانين فأظهر الشماتة به و تسمى عبد العزيز و تلقب سيف الدين و توفى أثر ذلك و الله تعالى أعلم (5/205)
وفاة مكتمر و ولاية أقسنقر
كان مكتمر لأول ولايته قد اختص أقسنقر من موالي شاه أرمن و تلقب هزارد يناري و زوجه بنته و جعله أتابكه فأقام على ذلك مدة ثم استوحش من مكتمر و تربص به حتى إذا توفى صلاح الدين تجهز مكتمر من ميافارقين فأمكنته فيه الفرصة لعشر سنين من ولايته و ذلك بعد وفاة صلاح الدين بشهرين و استبد بملك خلاط و أرمينية و اعتقل ابن مكتمر و أمه في بعض القلاع و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/205)
وفاة أقسنقر و ولاية محمد بن مكتمر
ثم هلك أقسنقر صاحب خلاط و أرمينية سنة أربع و تسعين لخمس سنين من ملكه و قام بملك خلاط بعده حجر اشتد قطلغ الأرمني و لم يرضه خلاط فوثبوا به لسبعة أيام من ولايته و قتلوه و استدعوه محمد بن مكتمر من محبسه و ملكوه و لقبوه الملك المنصور و قام بدولته شجاع الدين قطلغ القفجاقي دوادار شاه أرمن و أقام تحت استبداده إلى سنة ثلاث و ستمائة ثم دبر الدوادار و قبض عليه و كان حسن السيرة فاستوحش لذلك الجند و العامة و عكف بعد نكبة الدوادار على لذاته فاجتمع أهل خلاط و الجند و كبيرهم بلبان مملوك شاه أرمن و كتبوا إلى أرتق بن أبي الغازي بن البي صاحب ماردين يستدعونه للملك بما كان ابن أخت شاه أرمن و جاهر بلبان بالعصيان إلى ملازكرد و اجتمع الجند عليه (5/205)
نكبة ابن مكتمر و استيلاء بلبان على خلاط و أعمالها
و لما ملك بلبان مدينة ملازكرد و أعمالها و اجتمع عليه الجند و سار يريد خلاط و وصل أرتق بن أبي الغازي صاحب ماردين لموعدهم و نزل قريبا من خلاط فبعث إليه بلبان أن الجند و الرعية اتهموني فيك فارجع و إذا ملكت البلد سلمته إليك فتنحى قليلا فبعث إليه يتوعده على مقالته و بطئه فعاد إلى ماردين و كان الأشرف موسى بن العادل بن أيوب صاحب الجزيرة و حران لما سمع بمسير ارتق إلى خلاط طمع فيها لنفسه و خشي أن يزداد بملكها قوة عليهم فخالفه إلى ماردين و أقام بتدليس و جيى ديار بكر حتى استوعبها و عاد إلى حران ثم جمع بلبان العساكر و سار إلى خلاط فحاصرها و برز ابن مكتمر فيمن عنده فانهزم بلبان و عاد إلى ولايته بملازكرد و ارجيش و غيرها ثم جمع و رجع إلى خلاط فحاصرها و ضيق عليها و ابن مكتمر عاكف على لذاته فلما جهدهم الحصار ثاروا به و قبضوه و مكنوا بلبان منه و دخل إلى خلاط و استولى عليها و على سائر أعمالها و حبس ابن مكتمر في قلعة هناك و استبد بملكها و كان الأوحد نجم الدين أيوب بن العادل بن أيوب قد ولى على ميافارقين من قبل أبيه إلى خلاط سنة أربع و ستمائة و قصد مدينة سيواس و حاصرها و ملك ما يجاورها و عجز بلبان عنه ثم ملك سوس و قصد خلاط فبرز له بلبان و هزمه فعاد إلى ميافارقين و جمع و استمد أباه العادل فأمده بالعساكر و نهض إلى خلاط فبرز له بلبان ثانية و هزمه الأوحد و حاصره في خلاط فبعث بلبان إلى طغرك يستنجده فانهزم الأوحد أمامهما و سار بلبان مع طغرك إلى مراش فحاصراها و غدر به طغرك هناك و قتله و سار إلى خلاط فمنعه أهلها فسار إلى ملازكرد فمنعوه كذلك فعاد إلى أرزن و أرسل أهل خلاط بطاعتهم إلى الأوحد نجم الدين فجاء و ملك خلاط و استولى على أعمالها و زحف الكرج فأغاروا على خلاط و عاثوا في نواحيها و الأوحد مقيم بخلاط لم يفارقها و انتقض عليه جماعة من العسكر بحصن رام و ساروا إلى مدينة أرجيش فملكوها و اجتمع إليهم المفسدون و بعث نجم الدين إلى أبيه العادل يستنجده فأمده بابنه الآخر شرف الدين موسى فحاصر حصن رام حتى استأمن إليه من كان به من الجند و رجع الأشرف إلى عمله بحران و الرها و استقر نجم الدين بخلاط ثم سار إلى ملازكرد ليطالع أمورها و يمهدها فثار أهل خلاط بعسكره فأخرجوهم و حصروا أصحاب نجم الدين بالقلعة و نادوا بشعار شاه أرمن و قومه فرجع الأوحد و لاقاه عسكر الجزيرة و حاصر خلاط ثم اختلف أهلها فدخلها عليهم عنوة و استباحها و نقل جماعة من أعيانها إلى ميافارقين و قتل كثيرا منهم هنالك و استكان أهل خلاط بعدها و انمحى منها حكم المماليك بعد أن كانوا مستحكمين فيها يولون ملوكها و يخلعونهم و انقرضت دولة بني سكمان من خلاط و صارت لبني أيوب و البقاء لله وحده و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين و إليه المرجع (5/206)
آخر دولة السلجوقية بخلاط و أرمينية و ملكها منهم بنو أيوب (5/208)
أخبار الإفرنج فيما ملكوه من سواحل الشام و ثغوره و كيف تغلبوا عليه و بداية أمرهم في ذلك و مصايره
قد تقدم لنا أول الكتاب الكلام في أنساب هذه الأمة عند ذكر أنساب الأمم و أنهم من ولد يافث بن نوح ثم من ولد ريفات بن كومر بن يافث أخوة الصقالبة و الخزر و الترك و قال هروشوش أنهم من عصر مابن غومر و أما مواطنهم من بلاد المعمور فإنهم في شمال البحر الرومي من خليج رومة إلى ما وراء النهر غربا و شمالا و كانوا يدينون لليونان و الروم بالطاعة عند استفحال أمرهم فلما انقرضت دولة أولئك استقل هؤلاء الإفرنج بملكهم و افترقوا دولا مثل دولة القوط بالأندلس و الجلالقة بعدهم و ملك اللمانين بالتفخيم من جزيرة إنكلطرة بالبحر المحيط الغربي الشمالي و ما يحاذيه و يقابله من المعمور و مثل ملوك إفرنسة و هو عندهم إسم إفرنجة بعينه و الجيم ينطقون بها سنا و هم ما وراء خليج رومة غربا إلى الثنايا المفضية إلى جزيرة الأندلس في الجبل المحيط بها من شرقيها و تسمى تلك الثنايا البردت و كانت دولة هؤلاء الإفرنس منهم من أعظم دولهم و استفحل أمرهم بعد الروم و صدرا من دولة الإسلام العربية فسموا إلى ملك بلاد المشرق من ناحيتها و تغلبوا على جزر البحر الرومي في آخر المائة الخامسة و كان ملكهم لذلك العهد بردويل فبعث رجالا من ملوكهم إلى صقلية و ملكها من يد المسلمين سنة ثمانين و أربعمائة ثم سموا إلى ملك ما وراء النهر من أفريقية و بلاد الشام و الإستيلاء على بيت المقدس و طال ترددهم في ذلك ثم استحثهم و حرضهم عليه فيما يقال خلفاء العبيدين بمصر لما استفحل ملك السلجوقية و انتزعوا الشام من أيديهم و حاصروهم في مصر فيقال أن المستنصر منهم دس إلى الإفرنج بالخروج و تسهيل أمرهم عليه ليحولوا بين السلجوقية و بين مرامهم فتجهز الإفرنج لذلك و جعلوا طريقهم في البر على القسطنطينية و منعهم ملك الروم من العبور عليه من الخليج حتى شرط عليهم أن يسلموا له إنطاكية لكون المسلمين كانوا أخذوها من مماليكهم فقبلوا شرطه و سهل العبور في خليجه فأجازوا سنة تسعين و أربعمائة في العدد و العدة و انتهوا إلى بلاد قليج أرسلان و جمع للقائهم فهزموه و فر بلاد ابن اليون الأرمني و وصلوا إنطاكية و بها باغيسيان من أمراء السلجوقية فحاصروه بها و خذلوا صاحب حلب و دمشق على صريخه بأن لا يقصوا غير إنطاكية فأسلموه حتى ضاق به الحصار و غدر به بعض الحامية فملك الإفرنج البلاد و هرب باغيسيان فقتل و حمل إليهم رأسه و كان ملوكهم الحاضرون لذلك خمسة بردويل و صنجيل و كبريري و القمص و إسمند و هو مقدم العساكر فردوا إليه إنطاكية و بلغ الخبر إلى المسلمين فسافروا إليهم شرقا و غربا و سار قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل و جمع عساكر الشام و سار إلى دمشق فخرج إليهم دقاق بن تتش و طغتكين أتابك و جناح الدولة صاحب حمص و أرسلان صاحب سنجار و سكمان أرتق و غيرهم من الأمراء و زحفوا إلى إنطاكية فحاصروها ثلاثة عشر يوما و وهن الإفرنج و اشتد عليهم الحصار لما جاءهم على غير استعداد و طلبوا الخروج على الأمان فلم يسعفوا ثم اضطرب أمر عساكر المسلمين و أساء كربوقا السيرة فيهم و أزمعوا من استكثاره عليهم فخرج الإفرنج إليهم و استماتوا فتخاذل المسلمون و انهزموا من غير قتال حتى ظنها الإفرنج مكيدة فتقاعدوا عن اتباعهم و استشهد من المسلمين ألوف و الله تعالى أعلم (5/209)
استيلاء الإفرنج على معرة النعمان ثم على بيت المقدس
و لما حصلت للإفرنج هذه النكاية في المسلمين طمعوا في البلدا و ساروا إلى معرة النعمان و حاصروها و اشتد القتال في أسوارها حتى داخل أهلها الجزع فتحصنوا بالدور و تركوا السور فملكه الإفرنج و دخلوا عليهم فاستباحوها ثلاثا و أقاموا بها أربعين يوما ثم ساروا إلى غزة و حاصروها أربعة أشهر و امتنعت عليهم فصالحهم ابن منقذ عليها و ساروا إلى حمص و حاصروها فصالحهم عليها جناح الدولة و ساروا إلى عكا فامتنعت عليهم و كان بيت المقدس قد ملكه السلجوقية و صار لتاج الدولة تتش و أقطعه لسكمان بن أرتق من التركمان فلما كانت واقعة الإفرنج بأنطاكية طمع أهل مصر فيهم و سار الأفضل بن بدر الجمال المستولى على العلويين بمصر إلى بيت المقدس و بها سكمان و أبو الغازي إبنا أرتق و ابن عمهما سوع و ابن أخيهما ياقوتي فحاصروه نيفا و أربعين يوما و نصبوا عليه نيفا و أربعين منجنيقا و ملكوه بالأمان سنة إحدى و تسعين و أربعمائة و أحسن الأفضل إلى سكمان و أبي الغازي و أصحابهما و سرحهم إلى دمشق و عبروا الفرات و أقام سكمان بالرها و سار أبو الغازي إلى العراق و استناب الأفضل عليها افتخار الدولة الذي كان بدمشق فقصده الإفرنج بعد أن حاصروا عكا و امتنعت عليهم فحاصروه أربعين ليلة و افترقوا على جوانب البلد فملكوها من الجانب الشمالي آخر شعبان من السنة و استباحوها و أقاموا فيها أسبوعا و اعتصم بعض المسلمين بمحراب داود و قاتلوا فيه ثلاثا حتى استأمنوا و لحقوا بعسقلان و أحصى القتلى من الأئمة و العلماء و العباد و الزهاد المجاورين بالمسجد فكانوا سبعين ألفا و يزيدون و أخذ من المناور المعلقة عند الصخرة أربعون قنديلا من الفضة كل واحد منها ثلاثة آلاف و ستمائة و ستون درهما من الفضة زنته أربعون رطلا بالشامي و مائة و خمسون قنديلا من الصغار و ما لا يحصى من غير ذلك و جاء الصريخ إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعيد الهروي و وصف في الديوان صورة الواقعة فكثر البكاء و الأسف و وسم الخليفة بمسير جماعة من الأعيان و العلماء فيهم القاضي أبو محمد الدامغاني و أبو بكر الشاشي و أبو الوفا بن عقيل إلى السلطان بركيارق يستصرخونه للإسلام فساروا إلى حلوان و بلغهم اضطراب الدولة السلجوقية و قتل محمد الملك البارسلان المتحكم في الدولة و اختلاف السلاطين فعادوا و تمكن الإفرنج من البلاد و ولوا على بيت المقدس كندفري من ملوكهم (5/210)
عساكر مصر و حرب الإفرنج ـ مسير العساكر من مصر لحرب الإفرنج
لما بلغ خبر الواقعة إلى مصر جمع الأفضل الجيوش و العساكر و احتشد و سار إلى عسقلان و أرسل إلى الإفرنج بالنكير و التهديد فأعادوا الجواب و رحلوا مسرعين فكبسوه بعسقلان على غير أهبة فهزموه و استلحموا المسلمين و نهبوا سوادهم و دخل الأفضل عسقلان و افترق المنهزمون و استبد وابخر الحمير و وصل الأفضل من عسقلان إلى مصر و نازلها الإفرنج حتى صانع أهلها الإفرنج بعشرين ألف دينار و عادوا إلى القدس (5/211)
إيقاع ابن الدانشمند بالإفرنج
كان كمستكين بن الدانشمند من التركمان و يعرف بطابوا و معنى الدانشمند المعلم كان أبوه يعلم التركمان و تقلبت به الأحوال حتى ملك سيواس و غيرها و كان صاحب ملطية يعاديه فاستنجد عليه إسمند صاحب إنطاكية فجاءه في خمسة آلاف و سار إليه ابن الدانشمند و أسره ثم جاء الإفرنج إلى قلعة أنكوريه فملكوها و قتلوا من بها من المسلمين ثم حاصروا إسمعيل بن الدانشمند فلقيهم كمستكين و هزمهم و استلحمهم و كانوا ثلثمائة ألف ثم ساروا إلى ملطية فملكوها و أسروا صاحبها و زحف إليه إسمند من إنطاكية في الإفرنج فهم بهم ابن الدانشمند فأتاح الله للمسلمين على يده هذا الظهور في مدد متقاربة حتى خلص إسمند من الأسر و جاء إلى إنطاكية و الإفرنج بها و بعث إلى قيس العواصم و ما جاورها يطلب الإمارة فامتعض المسلمون لذلك و قلدوه بعد العهد الذي التزمه (5/211)
حصار الإفرنج قلعة جبلة
كانت جبلة من أعمال طرابلس و كان الروم قد ملكوها و ولوا على المسلمين بها ابن رئيسهم منصور بن صليحة يحكم بينهم فلما صارت للمسلمين رجع أمرها لجمال الملك أبي الحسن علي بن عمار المستبد بطرابلس و بقي منصور بن صليحة على عادته فيها ثم توفي منصور فقام إليه أبو محمد عبد الله مقامه و أظهر الشماتة فارتاب به ابن عمار و أراد القبض عليه فعصى هو في جبلة و أقام بها الخطبة العباسية و استنجد عليه ابن عمار دقاق بن تتش فجاءه أتابك طغركين فامتنع عليهم و رجعوا ثم جاء الإفرنج فحاصروها فامتنعت عليهم أيضا و شاع أن بركيارق جاء إلى الشام فرحلوا ثم عادوا و أظهروا أن المصريين جاءوا لإنجاده فرحلوا ثم عادوا فتقدم للنصارى الذين عنده أن يدخلوا الإفرنج في نقب البلد من بعض أسواره فجهزوا إليهم ثلثمائة من أعيانهم فرفعهم بالحبال واحدا و هو قاعد على السور حتى قتلهم أجمعين فرحلوا عنه ثم عادوا إليه فهزمهم و أسر ملكهم كبرانيطل و فادى نفسه منه بمال عظيم ثم ابن صليحة و جهده الحصار فأرسل إلى طغركين صاحب دمشق و بعث ابن عمار في طلبه إلى الملك دقاق على أن يدفعه إليه بنفسه دون ماله و يعطيه ثلاثين ألف دينار فلم يفعل و سار ابن صليحة إلى بغداد فوعده إلى وصول رحلة من الأنبار فبعث الوزير من استولى عليها فوجد فيها ما لا يحصى من الملابس و العمائم و المتاع و انتزع ذلك كله و لما ملك تاج الملوك جبلة أساء فيها السيرة فراسلوا فخر الملك أبا علي بن عمار صاحب طرابلس و استدعوه لملكها فبعث إليهم عسكرا و قاتلوا تاج الملك و من معه فهزموه و أخذوه أسيرا و ملكوا جبلة بدعوة ابن عمار و حملوا تاج الملك إلى ابن عمار فأحسن إليه و بعث إلى أبيه بدمشق و اعتذر له بأنه خاف على جبلة من الإفرنج (5/212)
استيلاء الإفرنج على سروج و قيسارية و غيرهما
ثم سار كبر يرى ملك الإفرنج من بيت المقدس سنة أربع و تسعين لحصارها فأصابه منهم سهم فقتله فسار أخوه بغدوين في خمسمائة فارس إلى القدس و نهض دقاق صاحب دمشق و معه جناح الدولة صاح بحمص لاعتراضه فهزموا الإفرنج و أثخنوا فيهم ثم كاتب أهل مدينة الإفرنج و كان أكبرهم و دخل في طاعتهم و كان سقمان بن أرتو صاحب سروج جمع جموعه من التركمان و سار إلى الرها فلقيه الإفرنج و هزموه في ربيع سنة أربع و تسعين و ساروا إلى سروج فحاصروهم حتى ملكوها عنوة و استباحوها ثم ملكوا حصن كيفا بقرب عكا عنوة و ملكوا أرسوف بالأمان ثم ساروا في رحب إلى قيسارية فملكوها عنوة و استباحوها و الله تعالى ولي التوفيق بمنه و كرمه (5/213)
حصار الإفرنج طرابلس و غيرها
كان صنجيل من ملوك الإفرنج المذكورين قبل قد لازم حصار طرابلس و زحف إليه قليج أرسلان صاحب بلاد الروم فظفر به و عاد صنجيل مهزوما فأرسل الدولة بن عمار صاحب طرابلس إلى أمير آخر نائب جناح الدولة بحمص إلى دقاق بن تتش يدعوه إلى معالجته فجاء تاج الدولة بنفسه و جاء العسكر مددا من عند دقائق و اجتمعوا على طرابلس و فرق صنجيل الفل الذين معه على قتالهم فانهزموا كلهم و فتك هو في أهل طرابلس و شد حصارها و أعانه أهل الجبل و النصارى من أهل سوادها ثم صالحوه على مال و خيل و رحل عنهم إلى طرسوس من أعمال طرابلس فحاصرها و ملكها عنوة و استباحها إلى حصن الطومار و مقدمه ابن العريض فامتنع عليهم و قاتلهم صنجيل فهزموا عسكره و أسروا زعيما من زعماء الإفرنج بدل صنجيل فيه عشرة آلاف دينار و ألف أسير و لم يعاوده و ذلك كله سنة خمس و تسعين و أربعمائة ثم سار صنجيل إلى حصن الأكراد و حاصره جناح الدولة لغزوه فوثب عليه باطني بالمسجد و قتله و يقال أن رضوان بن تتش وضعه عليه فسار صنجيل إلى حمص و حاصرها و ملك أعمالها ثم نزل القمص على عكا في جمادي الأخيرة من السنة فنفر المسلمون من جميع السواحل لقتاله و هزموه و أحرقوا أهله و المنجنيقات التي نصبت للحرب ثم سار القمص صاحب الرها إلى السروج و حاصرها فامتنعت عليه و زحف عساكر مصر إلى عسقلان للمدافعة عن سواحلهم فزحف إليهم بردويل صاحب القدس فهزمه المسلمون و نجا إلى الرملة و هم في اتباعه فحاصروه و خلص إلى يافا و فشا القتل و الأسر في الإفرنج و الله تعالى ولي التوفيق (5/213)
حصار الإفرنج عسقلان و حروبهم مع عساكر مصر
لما طمع الإفرنج في عسقلان و استفحل أمرهم بالشام جهز الأفضل أمير الجيوش عساكره من مصر لحربهم سنة ست و تسعين مع سعد الدولة القواسي مولى أبيه و زحف بغدوين ملك الإفرنج من القدس فلقيهم بين الرملة و يافا و هزمهم و مات سعد الدولة مترديا عن فرسه و استولى الإفرنج على سواده و بعث الأفضل بعده ابنه شرف المعالي فلقيهم في العساكر على بازور قرب الرملة فهزمهم و نال منهم و نجا كثير من أعيانهم إلى بعض الحصون هنالك فحاصرهم شرف المعالي خمس عشرة ليلة و ملك الحصن فقتل و أسر و نجا بقدوين إلى يافا ثم إلى القدس فصادف وصول جمع كثير من الإفرنج لزيارة القدس فندبهم للغزو فساروا إلى عسقلان و بها شرف المعالي فامتنعت و رجعوا و بعث شرف المعالي إلى أبيه فبعث العساكر في البر مع تاج العجم مولى أبيه و الأسطول في البحر لحصار يافا مع القاضي ابن دقاوس فلما وصل الأسطول إلى يافا بعث عن تاج العجم ليأتيه بالعساكر فامتنع فأرسل الأفضل من قبض عليه و ولي العساكر و على عسقلان جمال الملك من مواليهم فانصرمت السنة و بيد الإفرنج بيت المقدس غير عسقلان و لهم أيضا من الشام يافا و أرسوف وقيسارية و صيفا و طبرية و الأردن و اللاذقية و أنطاكية و لهم بالجزيرة الرها و سروج و صنجيل محاصر فخر الملك بن عمار بمدينة طرابلس و هو يرسل أسطوله للإغارة على بلاد الإفرنج في كل ناحية ثم دخلت سنة سبع و تسعين فخرج الإفرنج الذين بالرها فأغاروا على الرقة و قلعة جعفر و اكتسحوا نواحيها و كانت لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد منذ ملكه السلطان ملك شاه إياها سنة تسع و سبعين كما مر و الله أعلم (5/214)
استيلاء الإفرنج على جبيل و عكا
و في سنة سبع و تسعين وصلت مراكب من بلاد الإفرنج تحمل خلقا كثيرا من التجار و الحجاج فاستعان بهم صنجيل على حصار طرابلس فحاصرها حتى يئسوا منها فارتحلوا إلى جبيل و ملكوها بالأمان ثم غدروا بأهلها و أفحشوا في استباحتها ثم استنجدهم بقدوين ملك القدس على حصار عكا فحاصروها برا و بحرا و فيها بهاء الدولة الجيوشي من قبل ملك الجيوش الأفضل صاحب مصر فدافعهم حتى عجزوا و هرب عنها إلى دمشق و ملك الإفرنج عكا عنوة و أفحشوا في استباحتها و الله تعالى أعلم (5/215)
غزو أمراء السلجوقية بالجزيرة الفرنج
كان المسلمون أيام تغلب الإفرنج على الشام في فتنة و اختلاف تمكن بها الإفرنج و استطالوا و كانت حران و حمص لمولى من موالي ملك شاه اسمه قراجا و الموصل لجكرمش و حصن كيفا لسقمان بن أرتق و عصى في حران على قراجا بامته فيها فاغتاله جاولي مولى من موالي الترك و قتله فطمع الإفرنج في حران و حاصروها و كان بين جكرمش و سقمان فتنة و حرب فوضعوا أوزارها لتلافي حران و اجتمعا على الخابور و تحالفا و مع سقمان سبعة آلاف من قومه التركمان ومع جكرمش ثلاثة آلاف من قومه الترك و من العرب و الأكراد و سار إليهم الإفرنج من حران فاقتتلوا و استطرد لهم المسلمون بعيدا ثم كروا عليهم فأثخنوا فيهم و استباحوا أموالهم و كان إسمند صاحب أنطاكية و شكري صاحب الساحل قد أكمنوا للمسلمين وراء الجبل فلم يظهر لهم أنهم أصحابهم و أقاموا هنالك إلى الليل ثم هربوا و شعر بهم المسلمون فاتبعوهم و أثخنوا فيهم و أسر في تلك الواقعة القمص بردويل صاحب الرها أسره بعض التركمان من أصحاب سقمان فشق ذلك على أصحاب جكرمش لكثرة ما امتاز به التركمان من الغنائم و حسنوا له أخذ القمص من سقمان فأخذه و أراد التركمان محاربة جكرمش و أصحابه عليه فمنعهم سقمان حذرا من اختلاف المسلمين و سار مفارقا لهم و كان يمر بحصون الإفرنج فيخرجون إليه ظنا بنصر أصحابهم فملكها عليهم و سار جكرمش إلى حران فملكها و ولي عليها من قبله ثم سار إلى الرها و حاصرها أياما و عاد إلى الموصل و فادى القمص بردويل بخمسة و ثلاثين ألف دينار و مائة و ستين أسيرا و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق بمنه و كرمه (5/215)
حرب الإفرنج مع رضوان بن تتش صاحب حلب
ثم سار شكري صاحب إنطاكية من الإفرنج سنة ثمان و تسعين إلى حصن أريام من حصون رضوان صاحب حلب فضاقت حالهم و استنجدوا برضوان فسار إليهم و خرج الإفرنج للقائه ثم طلب الصلح من رضوان فمنعه أصبهبد صباوو من أمراء السلجوقية كان نزع إليه بعد قتل صاحبه أياز و لقيهم الإفرنج فانهزموا أولا ثم استماتوا و كروا على المسلمين فهزموهم و أفحشوا في قتلهم و قتل الرجالة الذين دخلوا عسكرهم في الحملة الأولى و نجا رضوان و أصحابه إلى حلب و لحق صباوو بطغركين أتابك دمشق و رجع الإفرنج إلى حصار الحصن فهرب أهله إلى حلب و ملكه الإفرنج و الله تعالى ولي التوفيق (5/216)
حرب الإفرنج مع عساكر مصر
كان الأفضل صاحب مصر قد بعث بعد سنة ثمان و تسعين ابنه شرف المعالي في العساكر إلى الرملة فملكها و قهر الإفرنج ثم اختلف العسكر في إدعاء الظفر و كادوا يقتتلون و أغار عليهم الإفرنج فعاد شرف المعالي إلى مصر فبعث الأفضل ابنه الآخر سناء الملك حسينا مكانه في العساكر و خرج معه جمال الدين صاحب عسقلان و استمدوا طغركين أتابك دمشق فجهز إليهم أصبهبذ صباوو من أمراء السلجوقية و قصدهم بقدوين صاحب القدس و عكا فاقتتلوا و كثرت بينهم القتلى و استشهد جمال الملك نائب عسقلان و تحاجزوا و عاد كل إلى بلده و كان مع الإفرنج جماعة من المسلمين منهم بكباش بن تتش ذهب مغاضبا عن دمشق لما عدل عنه طغركين الأتابك بالملك إلى ابن أخيه دقاق و أقام عند الإفرنج و الله سبحانه و تعالى ولي التوفيق بمنه (5/216)
حرب الإفرنج مع طغركين
كان قمص من قمامصة الإفرنج من دمشق و كان كثيرا ما يغير عليها و يحارب عساكرها فسار إليه طغركين في العساكر و جاء بقدوين ملك القدس لإنجاده على المسلمين فرده ذلك القمص ثقة بكفائه فرجع إلى عكا و سار طغركين إلى الإفرنج فقاتلهم و حجزهم في حصنهم ثم خرب الحصن و ألقى حجارته في الوادي و أسر الحامية الذين به و قتل من سواهم من أهله و عاد إلى دمشق ظافرا ثم سار بعد أسبوع إلى و به ابن أخت صنجيل فملكه و قتل حاميته (5/216)
استيلاء الإفرنج على حصن أفامية
كان خلف بن ملاعب الكلابي متغلبا على حمص و ملكها منه تتش كما مر و انتقلت الأحوال إلى مصر ثم أن رضوان صاحب حلب انتقض عليه واليه بحصن أفامية و كان من الرافضة فبعث بطاعته إلى صاحب مصر و استدعى منهم واليا فبعثوا خلف بن ملاعب لإيثاره الجهاد و أخذوا رهنه فعبى في أفامية و استبد بها و اجتمع عليه المفسدون ثم ملك الإفرنج من أعمال حلب و أهله رافضة و لحق قاضيها بابن ملاعب في أفامية ثم أعمل التدبير عليه و بعث إلى ظاهر الصائغ من أصحاب رضوان و أعيان الرافضة و دعاتهم و داخله في الفتك بابن ملاعب و تسليم الحصن إلى رضوان و شعر بذلك إبنا ابن ملاعب و حذرا أباهما من تدبير القاضي عليه و جاء القاضي فحلف له على كذبه و صدقه و عاد القاضي إلى مداخله أبي طاهر و رضوان في ذلك التدبير و بعثوا جماعة من أهل سرمين بخيول و سلاح يقصدون الخدمة عند ابن ملاعب فأنزلهم بربض أفامية حتى تم التدبير و أصعدهم القاضي و أصحابه ليلا إلى القلعة فملكوها و قتلوا ابن ملاعب و هرب ابناه فلحق أحدهما بأبي الحسن بن منقذ صاحب شيرز و قتل الآخر و جاء أبو طاهر الصائغ إلى القاضي يعتقد أن الحصن له فلم يمكنه القاضي و أقام عنده و كان بعض بني خلف بن ملاعب عند طغركين بدمشق مغاضبا لأبيه فولاه حصنا من حصونه فأظهر الفساد و العيث فطلبه طغركين فهرب إلى الإفرنج و استحثهم لملك أفامية فحاصروه حتى جهد أهله الجوع و قتلوا القاضي المتغلب فيه و الصائغ و ذلك سنة تسع و تسعين و خمسمائة (5/217)
خبر الإفرنج في حصار طرابلس
كان صنجيل من ملوك الإفرنج ملازما لحصار طرابلس و ملك جبلة من يد ابن أبي صليحة و بنى على طرابلس حصنا و أقام عليها ثم هلك و حمل إلى القدس و دفن و أمر ملك الروم أهل اللاذقية أن يحملوه الميرة إلى الإفرنج المحاصرين طرابلس فحملوها في السفن و ظفر أصحاب ابن عمار ببعضها فقتلوا و أسروا و استمر الحصن خمس سنين فعدمت الأقوات و استنفد أهل الثروة مكسوبهم في الإنفاق و ضاقت أحوالهم و جاءتهم سنة خمسمائة ميرة في البحر من جزيرة قبرص و إنطاكية و جزائر البنادقة فحفظت أرماقهم ثم بلغ ابن عمار انتظام الأمر للسلطان محمد بن ملك شاه بعد أخيه بركيارق فارتحل إليه صريخا و استخلف على طرابلس ابن عمه ذا المناقب في طرابلس و خيم ابن عمار على دمشق و أكرمه طغركين ثم سار إلى بغداد فأكرمه السلطان محمد و أمر بتبليغه و الإحتفال لقدومه و وعده بالإنجاد و لما رحل عن بغداد أحضره عنده بالنهروان و أمر الأمير حسين بن أتابك قطلغتكين بالمسير معه و أن يستصحب العساكر التي بعثها مودود إلى الموصل لقتال جاولي سكاوو و أمره بإصلاح جاولي و المسير مع ابن عمار حسبما مر في أخبارهم ثم وقعت الحرب بين السلطان محمد و بين صدقة بن مزيد و اصطلحوا و ودعه ابن عمار بعد أن خلع و سار معه الأمير حسين فلم يصل إلى قصده من عساكر الموصل مودود و الإنتقاض فعاد فخر الدين بن عمار إلى دمشق في محرم سنة اثنتين و خمسمائة و سار منها إلى فملكها و بعث أهل طرابلس إلى الأفضل أمير الجيوش بمصر يستمدونه و يسألون الوالي عليهم فبعث إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب بالمدد و الأقوات و السلاح و عدة الحصار و استولى على ذخائر ابن عمار و قبض على جماعة من أهله و حمل الجميع في البحر إلى مصر (5/218)
خبر القمص صاحب الرها مع جاولي و مع صاحب إنطاكية
كان جاولي قد ملك الموصل من يد أصحاب جكرمش ثم انتقض فبعث السلطان إليه مودود في العساكر فسار جاولي عن الموصل و حمل معه القمص بردويل صاحب الرها الذي كان أسره سقمان و أخذه منه جكرمش و أصحابه و ترك الموصل ثم أطلق جاولي هذا القمص في سنة ثلاث و خمسمائة بعد خمس سنين من أسره على مال قرره عليه و أسرى من المسلمين عنده يطلقهم و على أن يمده بنفسه و عساكره و ماله متى أحتاج إلى ذلك و لما انبرم العقد بينهما بعث يوالي سالم بن مالك بقلعة جعفر حتى جاءه هناك ابن خاله جوسكين تل ناشر فأقام رهينة مكانه ثم أطلقه جاولي و رهن مكانه أخا زوجته و زوجة القمص فلما وصل جوسكين إلى منبج أغار عليها و نهبها و سبى جماعة من أصحاب جاولي إلى الغدر فاعتذر بأن هذه البلاد ليست لكم و لما أطلق القمص سار إلى إنطاكية ليسترد الرها من يد شكري لأنه أخذها بعد أسره فلم يردها و أعطاه ثلاثين ألف دينار ثم سار القمص إلى تل ناشر و قدم عليه أخوه جوسكين الذي وضعه رهينة عند جاولي و سار شكري صاحب إنطاكية لحربهما قبل أن يستفحل أمرهما و ينجدهما جاولي فقاتلوه و رجع إلى إنطاكية و أطلق القمص مائة و ستين من أسرى المسلمين ثم سار القمص و أخوه جوسكين و أغاروا على حصون إنطاكية و أمدهم صاحب زغبان و كيسوم و غيرهما من القلاع شمال حلب و هو من الأرمن بألف فارس و ألقى راجل و خرج إليهم شكري و تراجعوا للحرب ثم حملهم الترك على الصلح و حكم على شكري برد الرها على القمص صاحبها بعد أن شهد عنده جماعة من البطارقة و الأساقفة بأن اسمندخال شكري لما انصرف إلى بلاده أوصاه برد الرها على صاحبها إذا خلص من الأسر فردها شكري على القمص في صفر سنة ثلاث و وفى القمص لجاولي بما كان بينهما ثم قصد جاولي الشام ليملكه و تنقل في نواحيه كما مر في أخباره و كتب رضوان صاحب حلب إلى شكري صاحب إنطاكية يحذره من جاولي و يستنجده عليه فأجابه و برز من إنطاكية و بعث إليه رضوان بالعساكر و استنجد جاولي القمص صاحب الرها فأنجده بنفسه و لحق به على منبج و جاءه الخبر هنالك باستيلاء عسكر السلطان على بلده الموصل و على خزائنه بها و فارقه كثير من أصحابه منهم زنكي بن أقسنقر فنزل جاولي تل ناشر و تزاحف مع شكري هنالك و اشتد القتال و استمر أصحاب إنطاكية فتخاذل أصحاب جاولي و انهزموا و ذهب الإفرنج بسوادهم فجاء القمص و جوسكين إلى تل ناشر و الله تعالى أعلم (5/218)
حروب الإفرنج مع طغركين
كان طغركين قد سار إلى طبرية سنة اثنتين و خمسمائة فسار إليه ابن أخت بقدوين ملك القدس و اقتتلوا فانكشف المسلمون ثم استماتوا و هزموا الإفرنج و أسروا ابن أخت الملك فقتله طغركين بيده بعد أن فادى نفسه بثلاثين ألف دينار و خمسمائة أسير فلم يقبل منه إلا الإسلام أو القتل ثم اصطلح طغركين و بقدوين لمدة أربع سنين و كان حصن غزية من أعمال طرابلس بيد مولى ابن عمار فعصى عليه و انقطعت عنه الميرة بعيث الإفرنج في نواحيه فأرسل إلى طغركين بطاعته فبعث إسرائيل من أصحابه ليمتلك الحصن و نزل منه مولى ابن عمار فرماه إسرائيل في الزحام بسهم فقتله حذرا أن يطلع الأتابك على مخلفه و قصد طغركين الحصن لمشارفة أحواله فمنعه نزول الثلج حتى إذا انقشع و انجلى سار في أربعة آلاف فارس و فتح حصونا للإفرنج منها حصن الأكمة و كان السرداني من الإفرنج يحاصر طرابلس فسار للقائه فلما أشرف عليه انهزم طغركين و أصحابه إلى حمص و ملك السرداني حصن غزية بالأمان و وصل طغركين إلى دمشق فبعث إليه بقدوين من القدس بالبقاء على الصلح و ذلك في شعبان سنة اثنتين (5/220)
استيلاء الإفرنج على طرابلس و بيروت و صيدا و جبيل و بانياس
و لما عادت طرابلس إلى صاحب مصر من يد ابن عمار و ولي عليها نائبه و الإفرنج يحاصرونها و زعيمهم السرداني ابن أخت صنجيل فلما كانت سنة ثلاث و خمسمائة في شعبان و وصل القمص والد صنجيل و ليس صنجيل الأول و إنما هو قمص بمراكب عديدة مشحونة بالرجال و السلاح و الميرة و جرت بينه و بين السرداني فتنة و اقتتلوا و جاء شكري صاحب إنطاكية مددا للسرداني ثم جاء بقدوين ملك القدس و أصلح بينهم و حاصروا طرابلس و نصبوا عليها الأبراج فاشتد بهم الحصار و عدموا القوت لتأخر الأسطول المصري بالميرة ثم زحفوا إلى قتالها بالأبراج و ملكوها عنوة ثاني الأضحى و استباحوها و أثخنوا فيها و كان النائب بها قد استأمن إلى الإفرنج قبل ذلك بليال و ملكها بالأمان و نزل على مدينة جبيل و بها فخر الملك بن عمار فاستأمنوا إلى شكري و ملكها و لحق ابن عمار بشيزر فنزل على صاحبها سلطان بن علي بن منقذ الكناني و لحق منها بدمشق فأكرمه طغركين و أقطعه الزبداني من أعمال دمشق في محرم سنة أربع و وصل أسطول مصر بالميرة بعد أخذ طرابلس بثمانية أيام فأرسى بساحل صور و فرقت الغلال في جهاتها في صور و صيدا و بيروت ثم استولى الإفرنج على صيدا في ربيع الآخر سنة أربع و خمسمائة و ذلك أنه وصل أسطول للإفرنج من ستين مركبا مشحونة بالرجال و الذخائر و بها ملوكهم بقصد الحج و الغزو فاجتمع مع بقدوين صاحب القدس و نازلوا صيدا برا و بحرا و أسطول مصر يعجز عن إنجادهم ثم زحفوا إلى صور في أبراج الخشب المصفحة فضعفت نفوسهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل بيروت فاستأمنوا فأمنهم الإفرنج في جمادي الأولى و لحقوا بدمشق بعد سبعة و أربعين يوما من الحصار و أقام بالبلد خلق كثير تحت الأمان و عاد بقدوين إلى القدس (5/220)
استيلاء أهل مصر على عسقلان
كانت عسقلان لخلفاء العلوية بمصر و قد ذكرنا حروب الإفرنج مع عساكرهم عليها و آخر من استشهد منهم جمال الملك نائبها كما مر آنفا و ولي عليها شمس الخلافة فراسل بقدوين ملك القدس و هاداه ليمتنع به من الخليفة بمصر و بعث الأفضل ابن أمير الجيوش العساكر إليه سنة أربع و خمسمائة مع قائد من قوادهم موريا بالغزو و أسر إليه بالقبض على شمس الخلافة و الولاية مكانه بعسقلان و شعر شمس الخلافة بذلك فجاهر بالعصيان فخشي أن يملكها الإفرنج فراسله و أقره على عمله و عزل شمس الخلافة جند عسقلان و استنجد جماعة من الأرمن فاستوحش منه أهل البلد و وثبوا به فقتلوه و بعثوا إلى الأمير الأفضل صاحب مصر المستولي عليها بطاعتهم فجاءهم الوالي من قبله و استقامت أمورهم (5/221)
استيلاء الإفرنج على حصن الأثارب و غيره
ثم جمع شكري صاحب إنطاكية و احتشد و سار إلى حصن الأقارب على ثلاثة فراسخ من حلب فحاصره و ملكه عنوة و أثخن فيهم بالقتل و السبي ثم سار إلى حصن وزدناد ففعل فيه مثل ذلك و هرب أهله منه و مارس على بلديهما ثم سار عسكر من الإفرنج إلى مدينة صيدا فملكوها على الأمان و أشفق المسلمون من استيلاء الإفرنج على الشام و راسلوهم في الهدنة فامتنعوا إلا على الضريبة فصالحهم رضوان حلب على اثنين و ثلاثين ألف دينار و عدة من الخيول و الثياب و صاحب صور على سبعة آلاف دينار و ابن منقذ صاحب شيرز على أربعة آلاف دينار و علي الكردي صاحب حماة على ألفي دينار و مدة الهدنة إلى حصاد الشعير ثم اعترضت مراكب الإفرنج مراكب التجار من مصر فأخذوها و أسروهم و سار جماعة من أهل حلب إلى بغداد للنفير فدخلوها مستغيثين و معهم خلق من الفقهاء و الغوغاء و قصدوا جامع السلطان يوم الجمعة فمنعوا الناس من الصلاة بضجيجهم و كسروا المنبر فوعدهم السلطان بإنفاذ العساكر للجهاد و بعث من دار الخلافة منبرا للجامع ثم قصدوا في الجمعة الثانية جامع القصر في مثل جمعهم و منعهم صاحب الباب فدفعوا و دخلوا الجامع و كسروا شبابيك المقصورة و المنبر و بطلت الجمعة و أرسل الخليفة إلى السلطان في رفع هذا الحزن فأمر الأمراء بالتجهيز للجهاد و أرسل ابنه الملك مسعودا مع الأمير مودود صاحب الموصل ليلحق به الأمراء و يسيروا جميعا إلى قتال الإفرنج (5/221)
مسير الأمراء السلجوقية إلى قتال الإفرنج
و لما سار مسعود ابن السلطان مع الأمير مودود إلى الموصل اجتمع معهم الأمراء سقمان القطبي صاحب ديار بكر و ابنا برسق إبلتكي و زنكي أصحاب همذان و الأمير أحمد بك صاحب مراغة و أبو الهيجاء صاحب أربل و أياز بن أبي الغازي بعثه أخوه صاحب ماردين و ساروا جميعا إلى سنجار و فتحوا عدة حصون للإفرنج و نزلوا على مدينة الرها و حاصروا و اجتمعوا مع الإفرنج على الفرات و خام الطائفتان عن اللقاء و تأخر المسلمون إلى حران يستطردون للإفرنج لعلهم يعبرون الفرات فخالفهم الإفرنج إلى الرها و شحنوها أقواتا و عدة و أخرجوا الضعفاء منها ثم عبروا الفرات إلى نواحي حلب لأن الملك رضوان صاحبها لما عبروا إلى الجزيرة ارتجع بعض الحصون التي كان الإفرنج أخذوها بأعمال حلب فطرقوها الآن فاكتسحوا نواحيها و جاءت عساكر السلطان إلى الرها و قاتلوها فامتنعت عليهم فعبروا الفرات و حاصروا قلعة تل ناشر شهرا و نصفا فامتنعت فرحلوا إلى حلب فعقد الملك رضوان عن لقائهم و مرض هنالك سقمان القطبي و رجعوا فتوفي في بالس و حمل شلوه إلى بلده و نزلت العساكر السلطانية على معرة النعمان فخرج طغركين صاحب دمشق إلى مودود و نزل عليه ثم ارتاب لما رأى من الأمراء في حقه فدس للإفرنج بالمهادنة ثم افترقت العساكر كما ذكرنا في أخبارهم و بقي مودود مع طغركين على نهر العاصي و طمع الإفرنج بافتراقهم فساروا إلى أفامية و خرج سلطان بن منقذ صاحب شيرز إلى مودود طغركين فرحل بهم إلى شيرز و هون عليهم أمر الإفرنج و ضاقت الميرة على الإفرنج فرحلوا و أتبعهم المسلمون يتخطفون من أعقابهم أبعدوا و الله تعالى أعلم (5/222)
حصار الإفرنج مدينة صور
و لما افترقت العساكر السلطانية خرج بقدوين ملك القدس و جمع الإفرنج و نزلوا على مدينة صور في جمادي الأولى من سنة خمس و هي للأمير الأفضل صاحب مصر و نائبه بها عز الملك الأغر و نصبوا عليها الأبراج و المجانيق و انتدب بعض الشجعان من أهل طرابلس كان عندهم في ألف رجل و صدقوا الحملة حتى وصلوا البرج المتصل بالسور فأحرقوه و رموا الآخرين بالنفط فأحرقوهم و اشتد القتال بينهم و بعث أهل صور إلى طغركين صاحب دمشق يستنجدونه على أن يمكنوه من البلد فجاء إلى بانياس و بعث إليهم بمائتي فرس و اشتد القتال و بعث نائب البلد إلى طغركين بالاستحثاث للوصول ليمكنه من البلد و كان طغركين يغير على أعمال الإفرنج في نواحيها و ملك لهم حصنا من أعمال دمشق و قطع الميرة عنهم فساروا يحملونها في البحر ثم سار إلى صيدا و أغار عليها و نال منها ثم أزهت الثمرة و خشي الإفرنج من طغركين على بلادهم فأفرجوا عن صور إلى عكا و جاء طغركين إلى صور فأعطى الأموال و اشتغلوا بإصلاح سورهم و خندقهم و الله أعلم (5/223)
أخبار مودود مع الإفرنج و مقتله و وفاة صاحب إنطاكية
ثم سار الأمير مودود صاحب الموصل سنة ست إلى سروج و عاث في نواحيها فخرج جكرمش صاحب تل ناشر و أغار على دوابهم فاستاقها من راعيها و قتل كثيرا من العسكر و رجع ثم توفي الأمير الأرمني صاحب الدروب ببلاد ابن كاور فسار شكري صاحب إنطاكية من الإفرنج إلى بلاده ليملكها فمرض و عاد إلى إنطاكية و مات منتصف سنة ست و ملكها بعده ابن أخته سرجان و استقام أمره ثم جمع الأمير مودود صاحب الموصل العساكر و احتشد و جاءه تميرك صاحب سنجار و اياز بن أبي الغازي صاحب ماردين و طغركين صاحب دمشق و دخلوا في محرم سنة سبع إلى بلاد الإفرنج و خرج بقدوين ملك القدس و جوسكين صاحب القدس يغير على دمشق فعبروا الفرات و قصدوا القدس و نزلوا على الأردن و الإفرنج عدوتهم و اقتتلوا منتصف المحرم فانهزم الإفرنج و هلك منهم كثير في بحيرة طبرية و الأردن و غنم المسلمون سوادهم و ساروا منهزمين فلقيهم عسكر طرابلس و إنطاكية فشردوا معهم و أقاموا على جبل طبرية و حاصرهم المسلمون نحوا من شهور فلم يظفروا بهم فتركوهم و انساحوا في بلاد الإفرنج ما بين عكا و القدس و اكتسحوها ثم انقطعت المواد عنهم للبعد عن بلادهم فعادوا إلى مرج الصفر على نية العود للغزاة في فصل الربيع و أذنوا للعساكر في الانطلاق و دخل مودود إلى دمشق يقيم بها إلى أوان اجتماعهم فطعنه باطني في الجامع منصرفه من صلاة الجمعة آخر ربيع الأول من السنة و مات من يومه و اتهم طغركين بقتله و الله تعالى أعلم (5/223)
أخبار البرسقي مع الإفرنج
و لما قتل مودود بعث السلطان محمد مكانه اقسنقر البرسقي و معه ابنه السلطان مسعود في العساكر لقتال الإفرنج و بعث إلى الأمراء بطاعته فجاءه عماد الدين زنكي بن اقسنقر و تميرك صاحب سنجار و سار إلى جزيرة ابن عمر و ملكها من يد نائب مودود ثم سار إلى ماردين فحاصرها إلى أن أذعن أبو الغازي صاحبها و بعث معه ابنه ايازا في العساكر فساروا إلى الرها و حاصروها في ذي الحجة سنة ثمان مدة سبعين يوما فامتنعت و ضاقت الميرة على المسلمين فرحلوا إلى شمشاط و سروج و عاثوا في تلك النواحي و هلك في خلال ذلك بكواسيل صاحب مرعش و كيسوم و زغبان من الإفرنج و ملكت زوجته بعده و امتنعت من الإفرنج و أرسلت إلى البرسقي على الرها بطاعته فبعث إليها صاحب الخابور فردته بالأموال و الهدايا و بطاعتها فعاد من كان عندها من الإفرنج إلى إنطاكية و الله أعلم (5/224)
الحرب بين العساكر السلطانية و الفرنج
كان السلطان محمد قد تنكر لطغركين صاحب دمشق لاتهامه اياه بقتل مودود فعصى و أظهر الخلاف و تابعه أبو الغازي صاحب ماردين لما كان بينه و بين البرسقي فاهتم السلطان شأنهما و شأن الافرنج و قوتهم و جهز العساكر مع الأمير برسق صاحب همذان و بعث معه الأمير حيوس بك و الأمير كسقري و عساكر الموصل و الجزيرة و أمرهم بغزو الافرنج بعد الفراغ من شأن أبي الغازي و طغركين فساروا في رمضان سنة ثمان و عبروا الفرات عند الرميلة و جاؤا إلى حلب و بها لؤلؤ الخادم بعد رضوان و مقدم العساكر شمس الخواص و عرضوا عليهما كتب السلطان بتسليم البلد فدافعا بالجواب و استنجدا أبا الغازي و طغركين فوصلا إليهما في ألفي فارس و امتعا بها على العسكر فسار الأمير برسق إلى حماة من أعمال طغركين فملكها عنوة و نهبها ثلاثا و سلمها للأمير قرجان صاحب حمص بأمر السلطان بذلك في كل بلد يفتحونه فنفس عليه الأمراء ذلك و فسدت ضمائرهم و كان أبو الغازي و طغركين و شم الخواص قد ساروا إلى انطاكية مستنجدين بصاحبها روميل على مدافعتهم عن حماة فبلغهم فتحها و وصل إليهم بانطاكية بقدوين ملك القدس و طرابلس و غيره من شياطين الافرنج و اجتمعوا على افامية و اتفقوا على مطاولة المسلمين إلى فصل الشتاء ليتفرقوا فلما أظل الشتاء و المسلمون مقيمون عاد أبو الغازي إلى ماردين و طغركين إلى دمشق و الافرنج إلى بلادهم و قصد المسلمون كفر طاب و كانت هي و افامية للافرنج فملكوها عنوة و فتكوا بالافرنج فيها و أسروا صاحبها ثم ساروا إلى قلعة افامية فاستعصت عليهم فعادوا إلى المعرة و هي للافرنج و فارقهم الأمير حيوس بك إلى وادي مراغة فملكه و سارت العساكر من المعرة إلى حلب و أثقالهم و دوابهم و هم متلاصقون فوصلت مقدمتهم إلى الشام و خربوا الابنية و كان روميل صاحب انطاكية قد سار في خمسمائة فارس و ألفي راجل للمدافعة عن كفر طاب و أظل على خيام المسلمين قبل وصولهم فقتل من وجد بها من السوقة و الغلمان و أقام الارنج بين الخيام يقتلون كل من لحق بها حتى وصل الأمير برسق و أخوه زنكي فصعدا ربوة هناك و أحاط الفل من المسلمين به و عزم برسق على الاستمالة ثم غلبه اخوه زنكي على النجاة فنجا فيمن معه و اتبعهم الافرنج فرسخا و رجعوا عنه و افترقت العساكر الاسلامية منهزمة إلى بلادها و أشفق أهل حلب و غيرها من بلاد الشام من الافرنج بعد هذه الواقعة و سار الافرنج إلى رميلة من أعمال دمشق فملكوها و بالغوا في تحصينها و اعتزم طغركين على تخريب بلاد الافرنج ثم بلغه الخبر عن خلو رميلة من الحامية فبادر إليها سنة تسع و ملكها عنوة و قاتل و أسر و غنم و عاد إلى دمشق و لم تزل رميلة بين المسلمين إلى أن حاصرها الافرنج سنة عشرين و خمسمائة و ملكوها و الله أعلم (5/225)
وفاة ملك الافرنج و أخبارهم بعده مع المسلمين
ثم توفى بقدوين ملك الافرنج بالقدس آخر سنة إحدى عشرة و خمسمائة و كان قد زحف إلى ديار بكر طامعا في ملكها فانتهى إلى تنيس و شج في الليل فانتقض عليه جرحه و عاد إلى القدس فمات و عاد القمص صاحب الرها الذي كان أسره جكرمش و أطلقه جاولي و كان حاضرا عنده لزيارة قمامة و كان أتابك طغركين قد سار لقتال الافرنج و نزل اليرموك فبعث إليه قمص في المهادنة فاشترط طغركين ترك المناصفة من جبل عردة إلى الغور فلم يقبل القمص فسار طغركين إلى طبرية و نهب نواحيها و سار منها إلى عسقلان و لقي سبعة آلاف من عساكر مصر قد جاؤا في أثر بقدوين عندما ارتحل ديار بكر فاعلموا أن صاحبهم تقدم إليهم بالوقوف عند أمر طغركين فشكر لهم ذلك و عاد إلى دمشق و أتاه الخبر بأن الافرنج قصدوا أذرعات و نهبوها بعد أن ملكوا حصنا من أعماله فأرسل إليهم تاج الملك بوري في أثرهم فحاصرهم في جبل هناك حتى يئسوا من أنفسهم و صدقوا الحملة عليهم فهزموهم و أفحشوا في القتل و عاد الفل إلى دمشق و سار طغركين إلى حلب يستنجد أبا الغازي فوعده بالمسير معه ثم جاء الخبر بأن الافرنج قصدوا أعمال دمشق فنهبوا حوران و اكتسحوها فرجع طغركين إلى دمشق و أبو الغازي إلى ماردين إلى حشد العساكر و قصدوا الاجتماع على حرب الافرنج ثم سار الافرنج سنة ثلاثة عشر إلى نواحي حلب فملكوا مراغة و نازلوا المدينة فصانعهم أهلها بمقاسمهم أملاكهم و زحف أبو الغازي من ماردين في عشرين ألفا من العساكر و المتطوعة و معه أسامة بن مالك بن شيرز الكاني و الأمير طغان ارسلان بن افتكين ابن جناح صاحب ارزن و سار الافرنج إلى صنبيل عرمس قرب الاثارب فنزلوا به في موضع منقطع المسالك و عزموا على المطاولة فناجزهم أبو الغازى و سار إليهم و دخل عليهم في مجتمعهم و قاتلوه أشد القتال فلم يقاوموه و فتك فتكة شنعاء و قتل فيهم سرحان صاحب انطاكية و أسر سبعون من زعمائهم و ذلك منتصف ربيع من السنة ثم اجتمع فل الأفرنج و عاودوا الحرب فهزمهم أبو الغازي و ملك عليهم حصن آلات رب و زناد و جاء إلى حلب فأصلح أحوالها و عاد إلى ماردين ثم سار جوسكين صاحب تل ناشر في مائتين من الافرنج ليكبس حلة من احياء طيء يعرفون ببني خالد فأغار عليهم و غنم أموالهم و دلوه على بقية قومهم من بني ربيعة فيما بين دمشق و طبرية فبعث أصحابه إليهم و سار هو من طريق آخر فضل عن الطريق و وصل أصحابه إليهم و أميرهم مر من ربيعة فقاتلهم و غلبهم و قتل منهم سبعين و أسر اثنى ففاداهم بمال جزيل و أصناف عدتهم من الاسرى و بلغ إلى جوسكين في طريقه فعاد إلى طرابلس و جمع جمعا و أغار على عسقلان فهزمه المسلمون و عاد مفلولا و الله أعلم (5/226)
ارتجاع الرها من الافرنج
ثم سار بهرام أخو أبي الغازي إلى مدينة الرها و حاصرها مدة فلم يظفر بها فرحل عنها و لقيه النذير بأن جوسكين صاحب الرها و سروج قد سار لاعتراضه و قد تفرق عن مالك أصحابه فاستجاب لما وصل إليه الافرنج و دفعهم لأرض سنجة فوصلت فيها خيولهم فلم يفلت منهم أحد و أسر جوسكين و خاط عليه جلد جمل و فادى نفسه بأموال جليلة فأبى مالك من فديته إلا أن يسلم حصن الرها فلم يفعل و حبسه في خرت برت و معه كلمام ابن خالته و كان من شياطينهم و جماعة من زعمائهم و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق (5/227)
استيلاء الافرنج على خرت برت و ارتجاعها منهم
كان مالك بن بهرام صاحب خرت برت و كان في جواره الافرنج في قلعة كركر فحاصرهم بها و سار بقدوين إليه في جموعه فلقيه في صفر سنة سبعة عشر فهزم الافرنج و أسر ملكهم و جماعة من زعمائهم و حبسهم مالك في قلعة خرت برت مع جوسكين صاحب الرها و أصحابه و سار مالك إلى حران في ربيع الأول و ملكها و لما غاب من خرت برت تحيل الافرنج و خرجوا من محبسهم بمداخلة بعض الجند و سار بقدوين إلى بلده و ملك الآخرون القلعة فعاد مالك إليهم و حاصرها و ارتجعها من أيديهم و رتب فيها الحامية و الله تعالى ولي التوفيق (5/227)
استيلاء الإفرنج على مدينة صور
كانت مدينة صور لخلفاء العلوية بمصر و كان بها عز الملك من قبل الأفضل ابن أمير الجيوش المستبد على الأمر بمصر و تجهز الإفرنج لحصارها سنة ست فاستمدوا طغركين صاحب دمشق فأمدهم بعسكر و مال مع وال من قبله اسمه مسعود فجاء إليها و لم يغير دعوة العلوية بها في خطبة و لا سكة و كتب إلى الأفضل بذلك و سأله تردد الأسطول إليه بالمدد فأجابه و شكره ثم قتل الأفضل و جاء الأسطول إليها من مصر على عادته و قد أمر مقدمه أن يعمل الحيلة في القبض على مسعود الوالي بصور من قبل طغركين لشكوى أهل مصر منه فقبض عليه مقدم الأسطول و حمله إلى مصر و بعثوا به إلى دمشق و أقام الوالي من قبل أهل مصر في مدينة صور و كتب إلى طغركين بالعذر عن القبض على مسعود واليه و كان ذلك سنة ستة عشر و لما بلغ الإفرنج إنصراف مسعود عن صور قوى طمعهم فيها و تجهزوا لحصارها و بعث الوالي الأمير بذلك و بعجزه عن مقاومة حصارهم لها و سار طغركين إلى بانياس ليكون قريبا من صريخها و بعث إلى أهل مصر يستنجدهم فراسل الإفرنج في تسليم البلد و خروج من فيها فدخلها الإفرنج آخر جمادي الأولى من السنة بعد أن حمل أهلها ما أطاقوا و تركوا ما عجزوا عنه و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/228)
فتح البرسقي كفر طاب و إنهزامه من الإفرنج
ثم جمع البرسقي عساكره و سار سنة تسعة عشر إلى كفر طاب و حاصرها فملكها من الإفرنج ثم سار إلى قلعة أعزاز شمالي حلب و بها جوسكين فحاصرها و اجتمع الإفرنج و ساروا لمدافعته فلقيهم و قاتلهم شديدا فحص الله المسلمين و انهزموا و فتك النصارى فيهم و لحق البرسقي بحلب بها ابنه مسعودا و عبر الفرات إلى الموصل ليستمد العساكر و يعود لغزوهم فقضى الله بمقتله و ولى ابنه عز الدين بعده قليلا ثم مات سنة إحدى و عشرين و ولى السلطان محمود عماد الدين زنكي بن اقسنقر مكانه على الموصل و الجزيرة و ديار بكر كما مر في أخبار دولة السلجوقية ثم استولى منها على الشام و أورث ملكها بنيه فكانت لهم دولة عظيمة بهذه الأعمال نذكرها أن شاء الله تعالى و نشأت عن دولتهم بني أيوب و تفرعت منها كما نذكره و نحن الآن نترك من أخبار الإفرنج هنا جميع ما يتعلق بدولة بني زنكي و بني أيوب حتى نوردها في أخبار تينك الدولتين لئلا تتكرر الأخبار و نذكر في هذا الموضع من أخبار الإفرنج ما ليس له تعلق بالدولتين فإذا طالعه المتأمل علم كيف يرد كل خبر إلى مكانه بجودة قريحته و حسن تأنيه (5/228)
الحرب بين طغركين و الإفرنج
ثم إجتمعت الإفرنج سنة عشرين و خمسمائة و ساروا إلى دمشق و نزلوا مرج الصفر و استنجد طغركين صاحبها أمراء التركمان من ديار بكر و غيرها فجاؤا إليه و كان هو قد سار إلى جهة الإفرنج آخر سنة عشرين و قاتلهم و سقط في المعترك فظن أصحابه أنه قتل فانهزموا و ركب فرسه و سار معهم منهزما و الإفرنج في إتباعهم و قد أثخنوا في رجاله التركمان فلما أتبعوا المنهزمين خالف الرجالة إلى معسكرهم فنهبوا سوادهم و قتلوا من وجدوا فيه و لحقوا بدمشق و رجع الإفرنج عن المنهزمين فوجدوا خيامهم منهوبة فساروا منهزمين ثم كان سنة ثلاث و عشرين واقعة المزدغاني و الإسماعيلية بدمشق بعد أن طمع الإفرنج في ملكها فأسف ملوك الإفرنج على قتله و سار صاحب القدس و صاحب إنطاكية و صاحب طرابلس و غيرهم من القمامصة و من وصل في البحر للتجارة أو الزيارة و ساروا إلى دمشق في ألفي فارس و من الرجال ما لا يحصى و جمع طغركين من العرب و التركمان ثمانية آلاف فارس و جاء الإفرنج آخر السنة و نازلوا دمشق و بثوا سراياهم للإغارة بالنواحي و جمع الميرة و سمع تاج الملك بسرية في حوران فبعث شمس الخواص من أمرائه و لقوا سرية الإفرنج و ظفروا بهم و غنموا ما معهم و جاؤا إلى دمشق و بلغ الخبر إلى الإفرنج فأجفلوا عن دمشق بعد أن أحرقوا ما تعذر عليهم حمله و تبعهم المسلمون يقتلون و يأسرون ثم أن إسمند صاحب إنطاكية سار إلى حصن القدموس و ملكه و الله تعالى يؤيد من يشاء (5/229)
هزيمة صاحب طرابلس
ثم اجتمع سنة سبع و عشرين جمع كبير من تركمان الجزيرة و أغاروا على بلاد طرابلس و قتلوا و غنموا فخرج إليهم القمص صاحبها فاستطردوا له ثم كروا عليه فهزموه و نالوا منه و نجا إلى قلعة بقوين فتحصن بها و حاصره التركمان فيها فخرج من القلعة ليلا في عشرين من أعيان أصحابه و نجا إلى طرابلس و استصرخ الإفرنج من كل ناحية و سار بهم إلى بقوين لمدافعة التركمان فقاتلهم حتى أشرف الإفرنج على الهزيمة ثم تحيزوا إلى أرمينية و تعذر على التركمان أتباعهم فرجعوا عنهم إنتهى (5/229)
فتح صاحب دمشق بانياس
كان بوري بن طغركين صاحب دمشق لما توفي سنة ست و عشرين و خمسمائة و ولي مكانه ابنه شمس الملوك إسمعيل فاستضعفه الإفرنج و تعرضوا لنقض الهدنة و دخل بعض تجار المسلمين إلى سروب فأخذوا أموالهم و راسلهم شمس الملوك في ردها عليهم فلم يفعلوا فتجهز و سار إلى بانياس في صفر سنة سبع و عشرين فنازلها و شدد حصارها و نقب المسلمون سورها و ملكوها عنوة و استلحموا الإفرنج بها و اعتصم فلهم بالقلعة حتى استأمنوا بعد يومين و كان الإفرنج قد جمعوا لمدافعة شمس الملوك فجاءهم خبر فتحها فأقصروا (5/230)
استيلاء شمس الملوك على الشقيف
ثم سار شمس الملوك إسمعيل صاحب دمشق إلى شقيف بيروت و هو في الجبل المطل على بيروت و صيدا و كان بيد الضحاك بن جندل رئيس وادي التيم و هو ممتنع به و قد تحاماه المسلمون و الإفرنج و هو يحتمي من كل منهما بالآخر فسار إليه شمس الملوك و ملكه في المحرم سنة ثمان و عشرين و عظم ذلك على الإفرنج و خافوا شمس الملوك فساروا إلى بلد حوران و عاثوا في جهاتها و نهض شمس الملوك ببعض عساكره و جمر الباقي قبالة الإفرنج و قصد طبرية و الناصرة و عكا فاكتسح نواحيها و جاء الخبر إلى الإفرنج فاجفلوا إلى بلادهم و عظم عليهم خرابها و راسلوا شمس الملوك في تجديد الهدنة فجددها لهم انتهى و الله أعلم (5/230)
استيلاء الإفرنج على جزيرة جربة من أفريقية
كانت جزيرة جربة من أعمال أفريقية ما بين طرابلس و قابس و كان أهلها من قبائل البربر قد إستبدوا بجزيرتهم عندما دخل العرب الهلاليون أفريقية و مزقوا ملك صنهاجة بها و قارن ذلك استفحال ملك الإفرنج برومة و ما إليها من البلاد الشمالية و تطاولوا إلى ملك بلاد المسلمين فسار ملكهم بردويل فيمن معه من زعمائهم و أقماصهم إلى الشام فملكوا مدنه و حصونه كما ذكرناه آنفا و كان من ملوكهم القمص رجار بن نيغر بن خميرة و كان كرسيه مدينة ميلكوا مقابل جزيرة صقلية و لما ضعف أمر المسلمين بها و انقرضت دولة بني أبي الحسين الكلبي منها سما رجار هذا إلى ملكها و أغراه المتغلبون بها على بعض نواحيها فأجاز إليها عساكره في الأسطول في سبيل التضريب بينهم ثم ملكها من أيديهم معقلا معقلا إلى أن كان آخرها فتخاطر ابنه و ما زرعة من يد عبد الله بن الجواس أحد الثوار بها فملكها من يده صلحا سنة أربع و ستين و أربعمائة و انقطعت كلمة الإسلام بها ثم مات رجار سنة أربع و تسعين فولي ابنه رجار مكانه و طالت أيامه و استفحل ملكه و ذلك عندما هبت ريح الإفرنج بالشام و جاسوا خلالها و صاروا يتغلبون على ما يقدرون عليه من بلاد المسلمين و كان رجار يتعاهد سواحل أفريقية بالغزو فبعث سنة ثلاث و خمسين أسطول صقلية إلى جزيرة جربة و قد تقلص عنها ظل الدولة الصنهاجية فأحاطوا بها و إشتد القتال ثم اقتحموا الجزيرة عليهم عنوة و غنموا و سبوا و استأمن من الباقون و أقرهم الإفرنج في جزيرتهم على جزية و ملكوا عليهم أمرهم و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/230)
فتح صاحب دمشق بعض حصون الإفرنج
ثم بعث شمس الملوك إسمعيل صاحب دمشق عساكره مع الأمير خزواش سنة إحدى و ثلاثين إلى طرابلس الشام و معه جمع كثير من التركمان و المتطوعة و سار إليه القمص صاحب طرابلس فقاتلوه و هزموه و أثخنوا في عساكره و أحجزه بطرابلس و عاثوا في أعماله و فتحوا حصن وادي ابن الأحمر من حصونه عنوة و استباحوه و استحلموه من فيه من الإفرنج ثم سار الإفرنج سنة خمس و ثلاثين إلى عسقلان و أغاروا في نواحيها و خرج إليهم عسكر مصر الذين بها فهزموا الإفرنج و ظفروا بهم و عادوا منهزمين و كفى الله شرهم بمنه و كرمه (5/231)
استيلاء الإفرنج على طرابلس الغرب
كان أهل طرابلس الغرب لما أنحل نظام الدولة الصنهاجية بأفريقية و تقلص ظلها عنهم قد استبدوا بأنفسهم و كان بالمهدية آخر الملوك من بني باديس و هو الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز فاستبد لعهده في طرابلس أبو يحيى بن مطروح و رفضوا دعوة الحسن و قومه و ذلك عندما تكالب الإفرنج على الجهات فطمع رجار في ملكها و بعث أسطوله في البحر فنازلها آخر سنة سبع و ثلاثين و خمسمائة فنقبوا سورها و إستنجد أهلها بالعرب فأنجدوهم و خرجوا إلى الإفرنج فهزموهم و غنموا أسلحتهم و دوابهم و رجع الإفرنج إلى صقلية فتجهزوا إلى المغرب و طرقوا جيجيل من سواحل بجاية و هرب أهلها إلى الجبل و دخلوها فنهبوها و خربوا القصر الذي بناه يحيى بن العزيز بن حماد و يسمى النزهة و رجعوا إلى بلادهم ثم بعث رجار أسطوله إلى طرابلس سنة إحدى و أربعين فأرسى عليها و نزل المقاتلة و أحاطوا بها برا و بحرا و قاتلوها ثلاثا و كان أهل البلد قد اختلفوا قبل وصول الإفرنج و أخرجوا بني مطروح و ولوا عليهم رجلا من أمراء لمتونة قام حاجا في قومه فولوه أمرهم فلما شغل أهل البلد بقتال الإفرنج اجتمعت شيعة بني مطروح و أدخلوهم للبلد و وقع بينهم القتال فلما شعر الإفرنج بأمرهم بادروا إلى الأسوار فنصبوا عليها السلالم و تسنموها و فتحوا البلد عنوة و أفحشوا في القتل و السبي و النهب و نجا كثير من أهلها إلى البربر و العرب في نواحيها ثم رفعوا السيف و نادوا بالأمان فتراجع المسلمون إلى البلد و أقروهم على الجزية و أقاموا بها ستة أشهر حتى أصلحوا أسوارها و فنادقها و ولوا عليها ابن مطروح و أخذوا رهنه على الطاعة و نادوا في صقلية بالمسير إلى طرابلس فسار إليها الناس و حسنت عمارتها (5/232)
استيلاء الإفرنج على المهدية
كانت قابس إختل نظام الدولة الصنهاجية و استبد بها ابن كامل بن جامع من قبائل رياح إحدى بطون هلال الذين بعثهم الجرجرائي وزير المستنصر بمصر على المعز بن باديس و قومه فاضرعوا الدولة و أفسدوا نظامها و ملكوا بعض أعمالها و استبد آخرون من أهل البلاد بمواضعهم فكانت قابس هذه في قسمة بني دهمان هؤلاء و كان لهذا العهد رشيد أميرا بها كما ذكرنا ذلك في أخبار الدلوة الصنهاجية من أخبار البربر و توفي رشيد سنة اثنتين و أربعين و خمسمائة و نصب مولاه يوسف ابنه الصغير محمد بن رشيد و أخرج ابنه الكبير معمرا و إستبد على محمد و تعرض لحرمه سرا و كان فيهن امرأة رشيد و ساروا إلى التمحض بصاحب المهدية يشكون فعله و كاتبه الحسن في ذلك فلم يجبه و تهدده بإدخال الإفرنج إلى قابس كما ولي ابن مطروح على طرابلس و شعر أهل البلد بمداخلته للإفرنج فلما وصل عساكر الحسن ثاروا به معهم و تحصن يوسف بالقصر فملكوه عنوة و أخذ يوسف أسيرا و ملك معمر قابس مكان أخيه محمد و امتحن يوسف بأنواع العذاب إلى أن هلك و أخذ بنوقرة أختهم و لحق عيسى أخو يوسف و ولد يوسف برجار صاحب صقلية و استجاروا به و كان الغلاء قد اشتد بأفريقية سنة سبع و ثلاثين و لحق أكثر أهلها بصقلية و أكل بعضهم بعضا و كثر الموتان فاغتنم رجار الفرصة و نقض الصلح الذي كان بينه و بين الحسن بن علي صاحب المهدية لسنين و جهز أسطوله مائتين و خمسين من الشواني و شحنها بالمقاتلة و السلاح و مقدم الأسطول جرجي بن ميخائيل أصله من المنتصرة و قد ذكرنا خبره في أخبار صنهاجة و الموحدين فقصد قوصرة و صادف بها مركبا من المهدية فغنمه و وجد عندهم حمام البطاقة فبعث الخبر إلى المهدية على أجنحتها بأن أسطول الإفرنج أقلع إلى القسطنطينية ثم أقلع فأصبح قريبا من المرسى في ثامن صفر سنة ثلاث و أربعين و قد بعث الله الريح فعاقتهم عن دخول المرسى ففاته غرضه و كتب إلى الحسن بأنه باق على الصلح و إنما جاء طالبا بثأر محمد بن رشيد ورده إلى بلده قابس فجمع الحسن الناس و استشارهم فأشاروا بالقتال فخام عنه و إعتذر بقلة الأقوات و ارتحل من البلد و قد حمل ما خف حمله و خرج الناس بأهاليهم و ما خف من أموالهم و اختفى كثير من المسلمين في الكنائس ثم ساعد الريح أسطول الإفرنج و وصلوا إلى المرسى و نزلوا إلى البلد من غير مدافع و دخل جرجي القصر فوجده على حاله مملوءا بالذخائر النفسية التي يعز وجود مثلها و بعث بالأمان إلى كل من شرد أهلها فرجعوا و أقرهم على الجزية و سار الحسن بأهله و ولده إلى المعلقة و بها محرز بن زياد من أمراء الهلاليين و لقيه في طريقه حسن بن ثعلب من أمراء الهلاليين بمال إنكسر له في ديوانه فأخذ ابنه يحيى رهينة به و لما وصل محرز بن زياد أكرم لقاءه و بر مقدمه جزاء بما كان يؤثره على العرب و يرفع محله و أقام عنده شهرا ثم عزم على المسير إلى مصر و بها يومئذ الحافظ فأرصد له جرجي الشواني في البحر فرجع عن ذلك و إعتزم على قصد عبد المؤمن من ملوك الموحدين بالمغرب و في طريقه يحيى بن عبد العزيز ببجاية من بني عمه حماد فأرسل إليه أبناءه يحيى و تميما و عليا يستأذنه في الوصول فأذن له و بعث إليه من أوصله إلى جزائر بني مذغنة و وكل به و بولده حتى ملك عبد المؤمن بجاية سنة أربع و أربعين و خبرهم مشروع هنالك ثم جهز جرجي أسطولا آخر إلى صفاقس و جاء العرب لإنجادهم فلما توافوا للقتال إستطرد لهم الإفرنج غير بعيد فهزموهم و مضى العرب عنهم و ملك الإفرنج المدينة عنوة ثالث عشري صفر و فتكوا فيها ثم أمنوهم و فادوا و أسراهم و أقروهم على الجزية و كذا أهل سوسة و كتب رجار صاحب صقلية إلى أهل سواحل أفريقية بالأمان و المواعد ثم سار جرجي إلى إقليبية من سواحل تونس و اجتمع إليها العرب فقاتلوا الإفرنج و هزموهم و رجعوا خائبين إلى المهدية و حدثت الفتنة بين رجار صاحب صقلية و بين ملك الروم بالقسطنطينية فشغل رجار بها عن أفريقية و كان متولي كبرها جرجي بن ميخائيل صاحب المهدية ثم مات سنة ست و أربعين فسكنت تلك الفتنة و لم يقم لرجار بعده أحد مقامه و الله تعالى أعلم (5/232)
استيلاء الإفرنج على بونة و وفاة رجار صاحب صقلية و ملك ابنه غليالم
ثم سار أسطول رجار من صقلية سنة ثمان و أربعين إلى مدينة بونة و قائد الأسطول بها و قتات المهدوي فحاصرها و استعان عليها بالعرب فملكها و استباحها و أغضى عن جماعة من أهل العلم و الدين فخرجوا بأموالهم و أهاليهم إلى القرى و أقام بها عشرا و رجع إلى المهدية ثم إلى صقلية فنكر عليه رجار رفقه بالمسلمين في بونة و حبسه ثم إتهم في دينه فاجتمع الأساقفة و القسوس و أحرقوه و مات رجار آخر هذه السنة لعشرين سنة من ملكه و ولى ابنه غليالم مكانه و كان حسن السيرة و استوزر مائق البرقياني فأساء التدبير و اختلف عليه حصون من صقلية و بلاد قلورية و تعدى الأمراء على إفريقية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى و الله تعالى أعلم (5/235)
استيلاء الإفرنج على عسقلان
كانت عسقلان في طاعة الظافر العلوي و من جملة ممالكه و كان الإفرنج يتعاهدونها بالحصار مرة بعد مرة و كان الوزراء يمدونها بالأموال و الرجال و الأسلحة و كان لهم التحكم في الدولة على الخلفاء العلوية فلما قتل ابن السلار سنة ثمان و أربعين إضطرب الحال بمصر حتى ولي عباس الوزارة فسار الإفرنج خلال ذلك من بلادهم بالشام و حاصروا عسقلان و امتنعت عليهم ثم اختلف أهل البلد و آل أمرهم إلى القتال فاغتنم الإفرنج الفرصة و ملكوا البلد و عاثوا فيها و الله يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/327)
ثورة المسلمين بسواحل أفريقية على الإفرنج المتغلبين فيها
قد تقدم لنا وفاة رجار و ملك ابنه غليالم و إنه ساء تدبير وزيره فاختلف عليه الناس و بلغ ذلك المسلمين الذين تغلبوا عليهم بأفريقية و كان رجار قد ولى على المسلمين بمدينة صفاقس لما تغلب عليها أبو الحسين الفرياني منهم و كان من أهل العلم و الدين ثم عجز عن ذلك و طلب ولاية ابنه عمر فولاه رجار و حمل أبا الحسين إلى صقلية رهينة و أوصى ابنه عمرو قال يا بني أنا كبير السن و قد قرب أجلي فمتى أمكنتك الفرصة في إنقاذ المسلمين من ملكة العدو فأفعل و لا تخش علي و أحسبني قدمت فلما اختل أمر غليالم دعا عمر أهل صفاقس إلى الثورة بالإفرنج فثاروا بهم و قتلوهم سنة إحدى و خمسين و أتبعه أبو يحيى بن مطروح بطرابلس و محمد بن رشيد بقابس و سار عسكر عبد المؤمن إلى بونة فملكها و ذهب حكم الإفرنج عن أفريقية ما عدا المهدية و سوسة و أرسل عمر الفرياني إلى زويلة قريبا من المهدية يغريهم بالوثوب على الإفرنج الذين معهم فوثبوا و أعانهم أهل ضاحيتهم و قاتلوا الإفرنج بالمهدية و قطعوا الميرة عنهم و بلغ الخبر إلى غليالم فبعث إلى عمر الفرياني بصفاقس و أعذر إليه في أبيه فأظهر للرسول جنازة و دفنها و قال هذا دفنته فلما رجع الرسول بذلك صلب أبا الحسين و مات شهيدا رحمه الله تعالى و سار أهل صفاقس و العرب إلى زويلة و اجتمعوا مع أهلها على حصار المهدية و أمدهم غليالم بالأقوات و الأسلحة و صانعوا العرب بالمال على أن يخذلوا أصحابهم ثم خرجوا للقتال فانهزم العرب و ركب أهل صفاقس البحر إلى بلدهم أيضا و أتبعهم الإفرنج فعاجلوهم عن زويلة و قتلوهم ثم اقتحموا البلد فقتلوا مخلفهم بها و استباحوهم (5/237)
إرتجاع عبد المؤمن المهدية من يد الإفرنج
و لما وقع بأهل زويلة من الإفرنج ما وقع لحقوا بعبد المؤمن ملك المغرب يستصرخونه فاجاب صريخهم و وعدهم و أقاموا في نزله و كرامته و تجهز للمسير و تقدم إلى ولاته و عماله بتحصيل الغلات و حفر الآبار ثم سار في صفر سنة أربع و خمسين في مائة ألف مقاتل و في مقدمته الحسن بن علي صاحب المهدية و نازل تونس منتصف السنة و بها صاحبها أحمد بن خراسان من بقية دولة صنهاجة و جاء أسطول عبد المؤمن فحاصرها من البحر ثم نزل إليه من سورها عشرة رجال من أعيانها في السلالم مستأمنين لأهل البلد و لانفسهم فأمنهم على مقاسمتهم في أموالهم و على أن يخرج إليه ابن خراسان فتم ذلك كله و سار عنها إلى المهدية و أسطوله محاذية في البحر فوصلها منتصف رجب من السنة و بها أولاد الملوك و الزعماء من الإفرنج و قد أخلوا زويلة و هي على غلوة من المهدية فعمرها عبد المؤمن لوقتها و امتلأ فضاء المهدية بالعساكر و حاصرها أياما و ضاق موضع القتال من البر لاستدارة البحر عليها لأنها صورة يد في البحر و ذراعها في البر و آحاط الأسطول بها في البحر و ركب عبد المؤمن البحر في الشواني و معه الحسن بن علي فرأى حصانتها في البحر و أخذ في المطاولة و جمع الأقوات حتى كانت في ساحة معسكره كالتلال و بعث إليه أهل صفاقس و طرابلس و جبال نفوسة بطاعتهم و بعث عسكر إلى قابس فملكها عنوة و بعث ابنه عبد الله ففتح كثيرا من البلاد ثم وفد عليه يحيى بن تميم بن المقر بن الرند صاحب قفصة في جماعة من أعيانها فبذل طاعته و وصله عبد المؤمن بألف دينار و لما كان آخر شعبان وصل أسطول صقلية في مائة و خمسين من الشواني غير الطرائد كان في جزيرة يابسة فاستباحها و بعث إليه صاحب صقلية بقصد المهدية فلما أشرفوا على المرسى قذفت إليهم أساطيل عبد المؤمن و وقف عسكره على جانب البر و عبد المؤمن ساجد يعفر وجهه بالتراب و يجأر بالدعاء فانهزم أسطول الإفرنج و أقلعوا إلى بلادهم و عاد أسطول المسلمين ظافرا و أيس أهل المهدية من الأنجاد ثم صابروا إلى آخر السنة حتى جهدهم الحصار ثم استأمنوا إلى عبد المؤمن فعرض عليهم الإسلام فأبوا و لم يزالوا يخضعون له بالقول حتى أمنهم و أعطاهم السفن فركبوا فيها و كان فصل شتاء فمال عليهم البحر و غرقوا و لم يفلت منهم إلا الأقل و دخل عبد المؤمن المهدية في محرم سنة خمس و خمسين لثنتي عشرة سنة من ملك الإفرنج و أقام بها عشرين يوما فأصلح أمورها و شحنها بالحامية و الأقوات و إستعمل عليها بعض أصحابه و أنزل معه الحسن بن علي و أقطعه بأرضها له و لأولاده و أمر الوالي أن يقتدي برأيه و رجع إلى المغرب و الله أعلم (5/238)
حصار الإفرنج أسد الدين شيركوه في بلبيس
كان أسد الدين شيركوه بن شادي عم صلاح الدين قد بعثه نور الدين العادل سنة تسع و خمسمائة منجدا لشاور وزير العاضد صاحب مصر على قريعه الضرغام كما سيأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى و سار نور الدين من دمشق في عساكره إلى بلاد الإفرنج ليشغلهم عن أسد الدين شيركوه و خرج ناصر الدين أخو الضرغام في عساكر مصر فهزمه أسد الدين على تنبس و أتبعه إلى القاهرة و نزلها إلى منتصف السنة و أعاد شاور إلى الوزراة و نقض ما بينه و بين أسد الدين و تأخر إلى تنيس و خشى منه و دس إلى الإفرنج يغريهم به و بذل لهم المال فطمعوا بذلك في ملك الديار المصرية و سار ملك القدس في عساكر الإفرنج و اجتمعت معه عساكر المسلمين و ساروا إلى أسد الدين فحاصروه في بلبيس ثلاثة و لم يظفروا منه بشيء ثم جاءهم الخبر بأن نور الدين العادل هزم أصحابهم على خارد و فتحها ثم سار إلى بانياس فسقط في أيديهم و طلبوا الصلح من أسد الدين ليعودوا إلى بلادهم لذلك و خرج من بلبيس سائرا إلى الشام ثم عاد إلى مصر سنة اثنتين و ستين و عبر النيل من أطفح و نزل الجزيرة و استمد شاور الإفرنج فساروا إليه بجموعهم و كان أسد الدين قد سار إلى الصعيد و انتهى إلى فسار الإفرنج و العساكر المصرية في أثره فأدركوه منتصف السنة و إستشار أصحابه فاتفقوا على القتال و أدركته عساكر الإفرنج و مصر و هو تعبيته و قد أقام مقامه في القلب راشد حذرا من حملة الإفرنج و انحاز فيمن يثق به من شجعان أصحابه إلى الميمنة فحمل الإفرنج على القلب فهزموهم و أتبعوهم و خالفهم أسد الدين إلى من تركوا وراءهم من العساكر فهزمهم و أثخن فيهم و رجع الإفرنج من أثناء القلب فانهزموا و إنهزم أصحابهم و لحقوا بمصر و لحق أسد الدين بالإسكندرية فملكها صلحا و أنزل بها صلاح الدين ابن أخيه و حاصرته عساكر الإفرنج و مصر و زحف إليهم عمه أسد الدين من الصعيد فبعثوا إليه في الصلح فأجابهم على خمسين ألف دينار يعطونها إياه و لا يقيم في البلد أحد من الإفرنج و لا يملكون منها شيئا فقبلوا ذلك و عادوا إلى الشام وملك أهل مصر الإسكندرية و إستقر بينهم و بين الإفرنج أن ينزلوا بالقاهرة شحنة و أن يكون أبوابها في غلقها و فتحها بأيديهم و أن لهم من خراج مصر مائة ألف دينار في كل سنة و لم ذلك منه و عاد الإفرنج إلى بلادهم بالسواحل الشامية و الله تعالى أعلم (5/239)
حصار الإفرنج القاهرة
ثم كان مسير أسد الدين إلى مصر و قتله شاور سنة أربع و ستين باستدعاء العاضد لما رأى من تغلب الإفرنج كما نذكر في أخبار أسد الدين و أرسل إلى الإفرنج أصحابهم الذين بالقاهرة يستدعونهم لملكها و بهونونها عليهم و ملك الإفرنج يومئذ بالشام مرى و لم يكن ظهر فيهم مثله شجاعة و رأيا فأشار بأن جبايتها لنا خير من ملكها و قد يضطرون فيملكون نور الدين منها و أن ملكها قبلنا احتاج إلى مصانعتنا فأبوا عليه و قالوا إنما نزداد بها قوة فرجع إلى رأيهم و ساروا جميعا إلى مصر و انتهوا إلى تنيس في صفر سنة أربع و ستين فملكوها عنوة و استباحوها ثم ساروا إلى القاهرة و حاصروها و أمر شاور بإحراق مصر و انتقال أهلها إلى القاهرة فنهبت المدينة و نهب أموال أهلها و بغتهم قبل نزول الإفرنج عليهم بيوم فلم تخمد النار مدة شهرين و بعث العاضد بالصريخ إلى نور الدين و اشتد عليه الحصار و بعث شاور إلى ملك الإفرنج يشير بالصلح على ألف دينار مصرية و يهدده بعساكر نور الدين فأجابوا إلى ذلك و دفع إليهم مائة ألف دينار و تأخروا قريبا حتى يصل إليهم بقية المال و عجز عن تحصيله و الإفرنج يستحثونه فبعثوا خلال ذلك إلى نور الدين يستنجدونه على الإفرنج بأن يرسل إليهم أسد الدين شيركوه في عسكر يقيمون عندهم على أن لنور الدين ثلث بلاد مصر و لأسد الدين إقطاعه و عطاء العساكر فاستدعى أسد الدين من حمص و كانت إقطاعه و أمره بالتجهيز إلى مصر و أعطاه مائتي ألف دينار سوى الدواب و الأسلحة و حكمه في العساكر و الخزائن و ما يحتاج إليه و سار في ستة آلاف و أزاح علل جنده و أعانهم أسد الدين بعشرين دينارا لكل فارس و بعث معه جماعة من الأمراء منهم خرديك مولاه و عز الدين قليج و شرف الدين بن بخش و عين الدولة الياروقي و قطب الدين نيال بن حسان و صلاح الدين يوسف ابن أخيه أيوب و سار إلى مصر فلما قاربها ارتحل الإفرنج راجعين إلى بلادهم و دخل هو إليها منتصف السنة و خلع عليه العاضد و أجرى عليه و على عسكره الجرايات الوافرة ثم شرع شاور في مماطلة أسد الدين بما وقع إتفاقهم معه عليه و حدث نفسه بالقبض عليه و استخدام جنده لمدافعة الإفرنج و لم يتم له ذلك و شعر به أسد الدين فاعترضه صلاح الدين ابن أخيه و عز الدين خرديك مولاه عند قبر الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه و قتلاه و فوض العاضد أمور دولته إلى أسد الدين و تقاصر الإفرنج عنها و مات أسد الدين و استولى صلاح الدين بعد ذلك على البلاد و ارتجع البلاد الإسلامية من يد الإفرنج كما نذكر في أخبار دولته و الله أعلم (5/241)
حصار الافرنج دمياط
و لما ملك أسد الدين شيركوه مصر خشيه الافرنج على ما بايديهم من مدن الشام و سواحله و كاتبوا أهل ملتهم و نسبهم بصقلية و افرنسة يستنجدونهم على مصر ليملكوها و بعثوا الاقسة و الرهبان من بيت المقدس يستنفرونهم لحمايتها و واعدوهم بدمياط طمعا في أن يملكوها و يتخذوها ركابا للاستيلاء على مصر فاجتمعوا عليها و حاصروها لاول أيام صلاح الدين و أمدهم صلاح الدين بالعساكر و الاموال و جاء بنفسه و بعث إلى نور الدين يستنجده و يخوفه على مصر فتابع إليه الامداد و سار بنفسه إلى بلاد الافرنج بالشام و اكتسحها و خربها فعاد الفرنج إلى دمياط بعد حصار خمسين يوما نفس الله عليهم و من هذه القصة بقية أخبار الافرنج متعلقة بالدولتين دولة بني زنكى بالشام و دولة بني أيوب بمصر فأخرت بقية أخبارهم إلى أن نسردها في الدولتين على مواقعها في مواضعها حسما تراه و لم يبق إلا استيلاؤهم على القسطنطينية من يد الروم فأوردناه ههنا (5/244)
استيلاء الافرنج على القسطنطينية
كان هؤلاء الافرنج بعدها ملكوه من بلاد الشام اختلفت أحوالهم في الفتنة و المهادنة مع الروم بالقسطنطينية لاستيلائهم على الثغور من بلاد المسلمين التي تجاور الروم التي كانت بأيديهم من قبل و ظاهرهم الروم على المسلمين في بعض المرات ثم غلبوا عليهم آخرا و ملكوا القسطنطينية من أيديهم فأقامت في أيديهم مدة ثم ارتجعها الروم على يد شكري من بطارقتهم و كيفية الخبر عن ذلك أن ملوك الروم أصهروا إلى ملوك الافرنج و تزوجوا منهم بنتا لملك الروم فولدت ذكرا خاله الافرنسيس وثب عليه أخوه فانتزع الملك من يده و حبسه و لحق الولد بملك الافرنج خاله مستصرخا به فوصل إليه و قد تجهز الافرنج لاستنقاذ القدس من يد المسلمين و كان صلاح الدين قد ارتجعها منهم كما يأتي في أخباره إن شاء الله تعالى و انتدب لذلك ثلاثة من ملوكهم دموس البنادقة و هو صاحب الاسطول الذي ركبوا فيه و كان شيخا أعمى لا يركب و لا يمشي إلا بقائد و مقدم الفرنسيس و يسمى المركيش و الثالث يسمى كبداقليد و هو أكثرهم عددا فجعل الملك ابن أخته معهم و أوصاهم بمظاهرته على ملكه بالقسطنطينية و وصلوا إليه في ذي القعدة سنة تسع و تسعين و خمسمائة فخرج عم الصبي و قاتلهم و اضرم شيعة الصبي النار في نواحي البلاد فاضرب العسكر و رجعوا و فتح شيعة الصبي باب المدينة و أدخلوا الافرنج و خرج عمه هاربا و نصب الافرنج الصبي في الملك و أطلقوه أباه من السجن و استبدوا بالحكم و صادروا الناس و أخذوا مال البيع و ما على الصلبان من الذهب و ما على تماثيل المسيح و الحواريين و ما على الانجيل فعظم ذلك على الروم و وثبوا بالصبي فقتلوه و أخرجوا الافرنج من البلد و ذلك منتصف سنة ستمائة و أقام الافرنج بظاهرها محاصرين لهم و بعث الروم صريخا إلى صاحب قونية ركن الدين سليمان بن قليج ارسلان فلم ينهض لذلك و كان بالمدينة متخلفون من الافرنج يناهزون ثلاثين ألفا فثاروا بالبلد عند شغل الروم بقتال أصحابهم و أضرموا النار ثانيا فاقتحم الافرنج و أفحشوا في النهب و القتل و نجا كثير من الروم إلى الكنائس و أعظمها كنيسة سوميا فلم تغن عنهم و خرج القسيسون و الاساقفة في أيديهم الانجيل و الصلبان فقتلوهم ثم تنازع الملوك الثلاثة على الملك بها و تقارعوا فخرجت القرعة على كبداقليد فملكها على أن يكون لدموس البنادقة الجزائر البحرية اقريطش و رودس و غيرهما لمركيش الافرنسيس شرقي الخليج و لم يحصل أحد منهم شيأ إلا ملك القسطنطينية كبداقليد و تغلب على شرقي الخليج بطريق من بطارقة الروم اسمه شكري فلم يزل بيده إلى أن مات ثم غلب بعد ذلك على القسطنطينية و ملكها من يد الافرنج و الله غالب على أمره (5/245)
الخبر عن دولة بني ارتق و ملكهم لماردين و ديار بكر و مبادي أمورهم و تصاريف أحوالهم
كان ارتق بن اكسك و يقال اكست و الاول أصح كلمة أولها همزة ثم كافان الاولى ساكنة بينهما سين من مماليك السلطان ملك شاه بن البارسلان ملك السلجوقية و له مقام محمود في دولتهم و كان على حلوان و ما إليها من أعمال العراق و لما بعث السلطان ملك شاه عساكره إلى حصار الموصل مع فخر الدولة بن جهير سنة سبع و سبعين و أربعمائة أردفه بعسكر آخر مع أرتق فهزمه مسلم بن قريش فحاصره بآمد ثم داخلة في الخروج من هذا الحصار على مال اشترطه و نجا إلى الرقة ثم خشي ارتق من فعلته تلك فلحق بتتش حتى سار إلى حلب طامعا في ملكها فلقيه تتش و هزمه و كان لارتق في تلك الواقعة المقام المحمود ثم سار تتش إلى حلب و ملكها و استجار مقدمها ابن الحسين بارتق فأجاره من السلطان تتش ثم هلك ارتق سنة ثلاث و ثمانين بالقدس و ملكه من بعده ارتق ابناه أبو الغازي و سقمان و كان لهما معه الرها و سروج و لما ملك الافرنج انطاكية سنة احدى و تسعين و أربعمائة اجتمعت الأمراء بالشام و الجزيرة و ديار بكر و حاصروها و كان لسقمان في ذلك المقام المحمود ثم تخاذلوا و افترقوا و طمع أهل مصر في ارتجاع القدس منهم و سار إليها الملك الافضل المستولى على دولتهم فحاصرها أربعين يوما و ملكها بالامان و خرج سقمان و أبو الغازي ابنا ارتق و ابن أخيهما ياقوتي و ابن عمهما سونج و أحسن إليهم الافضل و ولى على بيت المقدس و رجع إلى مصر و جاء الافرنج فملكوها كما تقدم في أخبار الدولة السلجوقية و لحق أبو الغازي بالعراق فولى شحنة بغداد و سار سقمان إلى الرها فأقام بها و كان بينه و بين كربوقا صاحب الموصل فتن و حروب أسر في بعضها ياقوتي ابن أخيه ثم توفي كربوقا سنة خمس و تسعين و ولى الموصل بعده موسى التركماني و كان نائبا بحصن كيفا فزحف إليه جكرمس صاحب جزيرة ابن عمر و حاصره بالموصل و استنجد موسى سقمان على أن يعطيه حصن كيفا فأنجده و سار إليه و أفرج عنه جكرمس و خرج موسى للقاء سقمان فقتله مواليه غدرا و رجع سقمان إلى حصن كيفا فملكه ثم كانت الفتنة بين أبي الغازي و كمستكين القيصري لما بعثه بركيارق شحنة على بغداد و كان هو شحنة من قبل السلطان محمد فمنع القيصري من الدخول و استنجد أخاه سقمان فجاء إليه من حصن كيفا في عساكره و نهب تكريت و خرج إليه أبو الغازي و اجتمع معهم صدقة بن مزيد صاحب الحلة و عاثوا في نواحي بغداد و فتكوا بنفر من أهل البلد و بعث إليهم الخليفة في الصلح على أن يسير القيصري إلى واسط فسار إليها و دخل أبو الغازي بغداد و رجع سقمان إلى بلده و قد مر ذلك في أخبارهم ثم استولى مالك بن بهرام أخى سقمان على عامة الخرمية سنة سبع و تسعين و كان له مدينة سروج فملكها منه الافرنج و سار إلى غانة فملكها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط و استصرخوا بصدقة بن مزيد و ارتجعها لهم منه و عاد إلى الحلة فعاد مالك فملكها و استقرت في ملكه ثم اجتمع سقمان و جكرمس صاحب الموصل على جهاد الافرنج سنة سبع و تسعين وهم محاصرون حران فتركوا المنافسة بينهم و قصدوهم و سقمان في سبعة آلاف من التركمان فهزموا الافرنج و أسروا القمص بردويل صاحب الرها أسره أصحاب سقمان فتغلب عليهم أصحاب جكرمس و أخذوه و افترقوا بسبب ذلك و عادوا إلى ما كان بينهم من الفتن و الله أعلم (5/246)
استيلاء سقمان بن ارتق على ماردين
كان هذا الحصن ماردين من ديار بكر و أقطعه السلطان بركيارق بجميع أعماله لمغن كان عنده و كان في ولاية الموصل و كان ينجر إليه خلق كثير من الاكراد يفسدون السابلة و اتفق أن كربوقا صاحب الموصل سار لحصار آمد و هي لبعض التركمان فاستنجد صاحبها بسقمان فسار لانجاده و قاتل كربوقا قتالا شديدا ثم هزمه و أسر ابن أخيه ياقوتي بن ارتق و حبسه بقلعة ماردين عند المغنى فبقي محبوسا مدة طويلة و كثر ضرر الاكراد فبعث ياقوتي إلى المغنى صاحب الحصون في أن يطلقه و يقيم عنده بالربض لدفاع الاكراد ففعل و صار يغير عليهم في سائر النواح إلى خلاط و صار بعض أجناد القلعة يخرجون للاغارة معه فلا يهيجهم ثم حدثته نفسه بالتوثب على القلعة فقبض عليهم بعض الأيام مرجعه من الاغارة و دنا من القلعة و عرضهم على القتل إن لم يفتحوا له ففتحها أهلوهم و ملكها و جمع الجموع و سار إلى نصيبين و أغار على جزيرة ابن عمر و هي لجكرمس فكبسه جكرمس و أصحابه في الحرب بينهم فقتله و بكاه جكرمس و كان تحت ياقوتي ابنة عمه سقمان فمضت إلى أبيها و جمعت التركمان و جاء سقمان بهم إلى نصيبين فترك طلب الثار فبعث إليه جكرمس ما أرضاه من المال في ديته و رجع و قدم بماردين بعد ياقوتي أخوه على بطاعة جكرمس و خرج منها لبعض المذاهب و كتب نائبه بها إلى عمه سقمان بأنه يملك ماردين لجكرمس فسار إليها سقمان و عوض عليا ابن أخته جبل جور و أقامت ماردين في ملكه مع حصن كيفا و استضاف إليهما نصيبين و الله أعلم (5/248)
وفاة سقمان بن ارتق و ولاية أخيه أبي الغازي مكانه بماردين
ثم بعث فخر الدين بن عمار صاحب طرابلس يستنجد سقمانبن ارتق على الافرنج و كان استبد بها على الخلفاء العلويين أهل مصر و نازله الافرنج عندما ملكوا سواحل الشام فبعث بالصريخ إلى سقمان بن ارتق سنة ثمان و تسعين و أجابه و بينما هو يتجهز للمسير وافاه كتاب طغركين صاحب دمشق المستبد بها من موالي بني تتش يستدعيه لحضور وفاته خوفا على دمشق من الافرنج فأسرع المسير إليه معتزما على قصد طرابلس و بعدها دمشق فانتهى إلى القريتين و ندم طغركين على استدعائه و جعل يدبر الرأي مع أصحابه في صرفه و مات هو بالقدس فكفاهم الله أمره و قد كان أصحابه عندما أشقي على الموت أشاروا عليه بالرجوع إلى كيفا فامتنع و قال هذا جهاد و ان مت كان لي ثواب شهيد فلما مات حمله ابنه إبراهيم إلى حصن كيفا فدفنه بها و كان أبو الغازي بن ارتق شحنة بغداد كما قدمناه ولاه السلطان محمد أيام الفتنة بينه و بين أخيه بركيارق فلما اصطلح بركيارق و أخوه سنة تسع و تسعين على أن تكون بغداد له و ممالك أخرى من الممالك الإسلامية و من جملتها حلوان و هي أقطاع أبي الغازي فبادر و خطب لبركيارق ببغداد فنكر عليه ذلك صدقة بن مزيد و كان من شيعة السلطان محمد فجاء إلى بغداد ليزعج أبا الغازي عنها ففارقها إلى يعقوب و بعث إلى صدقة يعتذر بأنه صار في ولاية بركيارق و يحكم الصلح في اقطاعه و ولايته فلم يمكنه غير ذلك و مات بركيارق على اثر ذلك فخطب أبو الغازي لابنه ملك شاه فنكر ذلك السلطان محمد منه فلما استولى على الأمر عزله عن شحنة بغداد فلحق بالشام و حمل رضوان بن تتش صاحب حلب على حصار نصيبين من بلاد جكرمس فحاصروها و بعث جكرمس إلى رضوان و أغراه بأبي الغازي ففسد ما بينهما و رحلوا مفترقين على نصيبين و سار أبو الغازي إلى ماردين و قد مات أخوه سقمان كما قلناه فاستولى عليها و الله تعالى أعلم (5/249)
اضطراب أبي الغازي في طاعته و أسره ثم خلاصه
لما ولى السلطان محمد على الموصل و الجزيرة و ديار بكر سنة اثنتين و خمسمائة مودود بن افتكين مكان جاولي سكاوو الذي ملكها من يد جكرمس كما مر في أخبارهم فوصل مودود إلى الموصل و سار جاولي إلى نصيبين و هي يومئذ لابي الغازي و راسله في المظاهرة و الانجاد فوصل إليه بماردين على حين غفلة مستنجدا به فلم يسعه إلا اسعافه و سار إلى سنجار و الرحبة و حاصرهما و شق عليهما فلما نزل الخابور هرب أبو الغازي راجعا إلى نصيبين ثم إلى بلده و بقي مضطربا ثم بعث السلطان محمد سنة خمس و خمسمائة إلى الأمير مودود بالمسير إلى قتال الافرنج و أن يسير الأمراء معه من كل جهة مثل سقمان القطبي صاحب ديار بكر و أحمد بك صاحب مراغة و أبي الهيجاء صاحب اربل و أبي الغازي صاحب ماردين فحضروا كلهم إلا أبا الغازي فانه بعث ولده اياز في عسكر فسارت العساكر إلى الرها و حاصروها و امتنعت عليهم ثم ساروا سنة ست و خمسمائة إلى سروج كذلك ثم ساروا سنة سبع إلى بلاد الافرنج فهزموهم على طبرية و دوخوا بلادهم و عاد مودود إلى دمشق و افترقت العساكر و دخل دمشق ليشتي بها عند طغركين فقتل غيلة بها و اتهم طغركين في أمره و بعث السلطان مكانه على العساكر و الموصل اقسنقر البرسقي و أمره بقصد الافرنج و قتالهم و كتب إلى الأمراء بطاعته و بعث ابنه الملك مسعودا في عسكر كثيف ليكونوا معه فسار اقسنقر سنة ثمان و خمسمائة و فر أبو الغازي و حاصره بماردين حتى استقام و بعث معه ابنه اياز في عسكر فحاصروا الرها و عاثوا في نواحيها ثم سروج و شمشاط و أطاعه صاحب مرعش و كيسوم و رجع فقبض على اياز بن أبي الغازي و نهب سواد ماردين فسار أبو الغازي من وقته إلى ركن الدولة داود ابن أخيه سقمان و هو بحصن كيفا مستنجدا به فأنجده و ساروا إلى البرسقي آخر ثمان و خمسمائة فهزموهم و خلصوا ابنه اياز من الاسر و أرسل السلطان إلى أبي الغازي يتهدده فلحق بطغركين صاحب دمشق صريخا و كان طغركين مستوحشا لاتهامه بأمر مودود فاتفقا على الاستنجاد و بعثا بذلك إلى صاحب انطاكية فجاء إليهما قرب حمص و تحالفا و عاد انطاكية و سار أبو الغازي إلى ديار بكر في خف من أصحابه فاعترضه قيرجان صاحب حمص فظفر به و أسره و بعث إلى السلطان بخبره و أبطأ عليه وصول جوابه فيه و جاء طغركين إلى حمص فدخل على قيرجان و ألح عليه بقتل أبي الغازي ثم أطلقه قيرجان و أخذ عليه و سار أبو الغازي إلى حلب و بعث السلطان العساكر مع يوسف بن برسق صاحب همذان و غيره من الأمراء لقتال أبي الغازي و قتال الافرنج بعده فساروا إلى حلب و بها لؤلؤ الخادم مولى رضوان بن تتش كفل ابنه البارسلان بعد موته و معه مقدم العساكر شمس الخواص فطالبوهما بتسليم حلب بكتاب السلطان إليهما في ذلك و بادر أبو الغازي و طغركين فدخلا إليهما فامتنعت عليهما فساروا إلى حماة من أعمال طغركين و بها ذخائره ففتحوها عنوة و نهبوها و سلموها إلى الأمير قيرجان صاحب حمص فأعطاهم اياز بن أبي الغازي و كان أبو الغازي و طغركين و شمس الخواص ساروا إلى روجيل صاحب انطاكية يستنجدونه على حفظ حماة و جاءهم هنالك بقدوين صاحب القدس و القمص صاحب طرابلس و غيرهما و اتفقوا على مطاولة العساكر ليتفرقوا عند هجوم الشتاء و اجتمعوا عند قلعة افامية فلم تبرج العساكر مكانها فافترقوا و عاد إلى دمشق و أبو الغازي إلى ماردين و الافرنج إلى بلادهم ثم كان اثر ذلك فتح كفر طاب على المسلمين و اعتزموا على معاودة حلب فاعترضهم روجيل صاحب انطاكية و قد جاء في خمسمائة فارس مددا للافرنج في كفر طاب فانهزم المسلمون و كان تمحيصهم و رجع برسق أمير العساكر و أخوه منهزمين إلى بلادهم و كان اياز بن أبي الغازي أسيرا عندهم فقتله الموكلون به يوم المعركة سنة تسع و خمسمائة و الله تعالى أعلم (5/250)
استيلاء أبي الغازي على حلب
كان رضوان بن تتش صاحب حلب لما توفي سنة سبع و خمسمائة قام بأمر دولته لؤلؤ الخادم و نصب ابنه البارسلان في ملكه ثم استوحش منه و نصب مكانه أخاه سلطان شاه و استبد عليه ثم سار لؤلؤ الخادم إلى قلعة جعفر سنة إحدى عشرة بينه و بين مالك ابن سالم بن مالك بن بدران فغدر به مماليك الأتراك و قتلوه عند خرت برت و استولوا على خزائنه و اعترضهم أهل حلب و استنقذوا منهم ما أخذوه و ولى شمس الخواص أتابك مكان لؤلؤ ثم عزل لشهر و ولى أبو المعالي بن الملحي الدمشقي ثم عزل و صودر و اضطربت الدولة و خشي أهل حلب على بلدهم من الافرنج فاستدعوا أبا الغازي بن ارتق من ماردين و سلموا له البلد و انقرض ملك آل رضوان بن تتش منها فلم يملكها بعد واحد منهم و لما ملكها لم يجد فيها مالا فصادر جماعة من الخدم و صانع الافرنج بما لهم ثم سار إلى ماردين بنية العود إلى حمايتها و استخلف عليها ابنه حسام الدين تمرتاش (5/252)
واقعة أبي الغازي مع الافرنج
و لما استولى أبو الغازي على حلب و سار عنها طمع فيها الافرنج و ساروا إليها فملكوا مراغة و غيرها من أعمالها و حاصروها فلم يكن لاهلها بد من مدافعتهم بقتال أو بمال فقاسموهم أملاكهم التي بضاحيتها في سبيل المصانعة و بعثوا إلى بغداد يستغيثون فلم يغاثوا و جمع أبو الغازي من العساكر و المتطوعة نحوا من عشرين ألفا و سار بهم إلى الشام سنة ثلاث عشرة و معه أسامة بن مبارك بن منقذ الكناني و طغان ارسلان بن اسكين بن جناح صاحب ارزن الروم و نزل الافرنج قريبا من حصون الاماري في ثلاثة آلاف فارس و تسعة آلاف راجل ونزلوا في تل عفرين حيث كان مقتل مسلم بن قريش و تحصنوا بالجبال من كل جهة إلا ثلاث مسارب فقصدهم أبو الغازي و دخل عليهم من تلك المسارب و هم غارون فركبوا و صدقوا الحملة فلقوا عساكر المسلمين متتابعة فولوا منهزمين و أخذهم السيف من كل جهة فلم يفلت إلا القليل و أسر من زعمائهم سبعون فاداهم أهل حلب بثلثمائة ألف دينار و قتل سرجان صاحب انطاكية و نجا فلهم من المعركة فاجتمع جماعة من الافرنج و عاودوا اللقاء فهزمهم أبو الغازي و فتح حصن الاربات و رزدنا و عاد إلى حلب فأصلح أمورها و عبر الفرات إلى ماردين و ولى على حلب ابنه سليمان ثم وصل دبيس بن صدقة إلى أبي الغازي مستجيرا به فكتب إليه المسترشد مع سرير الدولة عبد أبي الغازي بابعاد دبيس ثم وقع بينه و بين السلطان محمود الاتفاق و رهن ولده على الطاعة و رجع و سار أبو الغازي إلى الافرنج عقب ذلك سنة أربع عشرة فقاتلهم بأعمال حلب و ظفر بهم ثم سار هو و طغركين صاحب دمشق فحاصروا الافرنج بالمثيرة و خشوا من استماتتهم فأفرج لهم أبو الغازي حتى خرجوا من الحصن و كان لا يطيل المقام بدار الحرب لان أكثر الغزاة معه التركمان يأتون بجراب دقيق و قديد شاه فيستعجل العودان فنبت ازوادهم و الله أعلم (5/252)
انتقاض سليمان بن أبي الغازي بحلب
كان أبو الغازي قد ولى على حلب ابنه سليمان فحمله بطاعته على الخلاف على أبيه و سار إليه أبوه تلقاه ابنه سليمان بالمعاذير فأمسك عنه و قبض على بطانته الذين داخلوه في ذلك و كان متولي كبرها أمير كان لقيطا لأبيه و نشأ في بيته فسمله و قطع لسانه و كان منهم آخر من أهل حماة قدمه أبو الغازي على أهل حلب فقطعه و سمله فمات و أراد قتل ابنه ثم ثنته الشفقة عليه و هرب إلى دمشق و شفع فيه طغركين فلم يشفعه ثم استخلف على حلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار و لقبه بدر الدولة و عاد إلى ماردين و ذلك سنة خمس عشرة ثم ابنه حسام الدين تمرتاش مع القاضي بهاء الدولة أبي الحسن الشهرزوري شافعا في دبيس و ضامنا في طاعته فلم يتم ذلك فلما انصرف تمرتاش إلى أبيه أقطع السلطان أباه أبا الغازي مدينة ميا فارقين و كانت لسقمان القطبي صاحب خلاط فتسلمها أبو الغازي و لم تزل في يده إلى أن ملكها صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين و خمسمائة و الله تعالى أعلم (5/253)
واقعة مالك بن بهرام مع جوسكين صاحب الرها
قد تقدم لنا أن جوسكين من الافرنج كان صاحب الرها و سروج و أن مالك بن بهرام كان قد ملك مدينة غانة فسار سنة خمس عشرة إلى الرها و حاصرها أياما فامتنعت عليه و سار جوسكين في اتباعه بعد أن جمع الافرنج و قد تفرق عن مالك أصحابه و لم يبق معه إلا أربعمائة فلحقوه في أرض رخوة قد نصب عنها الماء فوحلت فيها خيولهم و لم يقدروا على التخلص فظفر بهم أصحاب مالك و أسروهم و جعل جوسكين في اهاب جمل و خيط عليه و طلبوا منه تسليم الرها فلم يفعل و حبسه في خرت برت بعد أن بذل في فديته أموالا فلم يفادوه و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/253)
وفاة أبي الغازي و ملك بنيه من بعده
ثم توفي أبو الغازي بن ارتق صاحب ماردين في رمضان سنة ست عشرة و خمسمائة فولى بعده بماردين ابنه حسام الدين تمرتاش و ملك سليمان ميا فارقين و كان بحلب سليمان ابن أخيه عبد الجبار فاستولى عليها ثم سار مالك بن بهرام بن ارتق إلى مدينة حران فحاصرها و ملكها و بلغه أن سليمان ابن عمه عبد الجبار صاحب حلب قد عجز عن مدافعته الافرنج و أعطاهم حصن الاماري فطمع في ملك بلاده و سار إليها في ربيع سنة ست عشرة و ملكها من يده على الامان ثم سار سنة ثمان عشرة إلى منبج و حاصرها و ملك المدينة و حبس صاحبها حسان التغلببي وامتنع أهلها بالقلعة فحاصرها و سمع الافرنج بذلك فساروا إليه فترك على القلعة من يحاصرها و نهض إليهم فهزمهم و أثخن فيهم و عاد إلى منبج فحاصرها و أصابه بعض الايام سهم غرب فقتله فاضطرب العسكر و افترقوا و خلص حسان من محبسه و كان تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين معه على منبج فلما قتل حمل شلوه إلى حلب و دفنه بها و استولى عليها ثم استخلف عليها و عاد إلى ماردين و جاء الافرنج إلى مدينة صور فملكوها و طمعوا في غيرها من بلاد المسلمين و لحق بهم دبيس بن صدقة ناجيا من واقعته مع المسترشد فأطمعهم في ملك حلب و ساروا معه فحاصروها و بنوا عليها المساكن و طال الحصار و قلت الاقوات و اضطرب أهل البلد و ظهر لهم العجز من صاحبهم و لم يكن في الوقت أظهر من البرسقي صاحب الموصل و لا أكثر قوة و جمعا منه فاستدعوه ليدافع عنهم و يملكوه و شرط عليهم أن يمكنوه من القلعة قبل وصوله و نزل فيها بوابه و سار فلما أشرف على الافرنج ارتحلوا عائدين إلى بلادهم و خرج أهل حلب فتلقوا البرسقي فدخل و استولى على حلب و أعمالها و لم تزل بيده إلى أن هلك و ملكها ابنه عز الدين ثم هلك فولى السلطان محمود عليها أتابك زنكي حسبما يأتي في أخبار دولته و رجع تمرتاش إلى ماردين و استمر ملكه بها و كان مستوليا على كثير من قلاع ديار بكر ثم استولى سنة اثنتين و ثلاثين على قلعة الساج من ديار بكر ثم استولى سنة اثنتين و ثلاثين على قلعة الساج من ديار بكر و كانت بيد بعض بني مروان من بقايا ملوك الاولين و كان هذا آخرهم بهذه القلعة و كان ملك ميا فارقين قد سار لحسام الدين تمرتاش و ملكها من يد أخيه سليمان و لم يزل تمرتاش ملكا بماردين إلى أن هلك سنة سبع و أربعين و خمسمائة لإحدى و ثلاثين سنة من ملكه و الله تعالى ولى التوفيق (5/254)
وفاة تمرتاش و ولاية ابنه البي بعده
ثم توفي حسام الدين تمرتاش سنة سبع و أربعين و خمسمائة كما قلناه فملك بعده ابنه بماردين البي تمرتاش و بقي ملكا عليها إلى أن مات و ولى بعده ابنه أبو الغازي بن البي إلى أن مات و لم يذكر ابن الاثير تاريخ وفاتهما و قال مؤرخ لم يقع الي تاريخ وفاتهما (5/255)
ولاية حسام الدين بولق ارسلان بن أبي الغازي بن البي
و لما توفي أبو الغازي بن البي قام بأمر ملكه نظام الملك النقش و نصب للملك مكانه ابنه بولق ارسلان طفلا و استبد عليه و كان النقش غالبا على هواه حيث صار أمر الطفل في يده و لم تزل حالهم على ذلك إلى أن هلك حسام الدين في سنة خمس و تسعين و خمسمائة على عهد بولق و كناه ابن الاثير حسام الدين ناصر الملك قصد العادل أبو بكر ابن أيوب ماردين و خشيت ملوك الجزيرة و لم يقدروا على منعه ثم توفي العزيز بن صلاح الدين صاحب مصر و ولى أخوه الافضل فاستنفر العادل أهل مصر و دمشق و أهل سنجار و بعثهم مع ابنه الكامل و حاصروا ماردين فبعث إليه النقش المستولي على بولق بالطاعة و تسليم القلعة لاجل معلوم على أن يدخل إليهم الاقوات و وضع العادل ابنه على بابها أن لا يدخلها زائد على القوت فصانعوا الولد بالمال و شحنوها بالاقوات و بينما هم في ذلك جاء نور الدين صاحب الموصل لانجادهم و قاتلهم فانهزمت عساكر العادل و خرج أهل القلعة فأوقعوا بعسكر الكامل ابنه فرحلوا جميعا منهزمين و نزل حسام الدين بولق إلى نور الدين و لقيه و شكر و عاد و نزل نور الدين على دبيس ثم رحل عنها قاصدا حوران كما نذكره في أخبار دولته إن شاء الله تعالى و الله أعلم (5/255)
وفاة بولق و ولاية أخيه ارتق
و لما هلك بولق ارسلان نصب لؤلؤ الخادم بعده للملك أخاه الأصغر ناصر الدين ارتق ارسلان بن قطب الدين أبي الغازي و لم يذكر ابن الاثير خبر وفاته أيضا وبقي مملكا في كفالة النقش إلى سنة إحدى و ستمائة و الله أعلم (5/256)
مقتل النقش و استبداد ارتق المنصور و اتصال الملك في عقبه
ثم استنكف ارتق من المحر و مرض النقش سنة إحدى و ستمائة فجاء ارتق لعيادته و قتل لؤلؤا خادمه في بعض زوايا بيته و رجع إلى النقش فقتله في فراشه و استقل بملك ماردين و تلقب المنصور و توفي سنة ست و ثلاثين و ثلثمائة و ملك بعده ابنه السعيد نجم الدين غازي بن ارتق و توفي سنة ثمان أو ثلاث و خمسين و ملك بعده أخوه المظفر قرا ارسلان بن ارتق فأقام سنة أو بعضها ثم هلك سنة ثلاث و تسعين و ستمائة و ملك بعده أخوه المنصور نجم الدين غازي بن قرا ارسلان إلى أن توفي سنة اثنتين عشرة و سبعمائة لأربع و خمسين سنة من ولايته و ملك بعده ابنه المنصور أحمد إلى أن توفي سنة تسع و ستين لثلاث سنين من ولايته ثم ملك بعده ابنه الصالح محمود أربعة أشهر و خلعه عمه المظفر فخر الدين داود بن المنصور أحمد إلى أن توفي سنة ثمان و سبعين و سبعمائة و ملك بعده ابنه مجد الدين عيسى و هو السلطان بماردين لهذا العهد و الملك لله يؤتيه من يشاء من عباده ( و لما ) ملك هلاكوبن طلوخان بن جنكزخان مدينة بغداد و اعمالها أعطاه المظفر قرا ارسلان طاعته و خطب له في أعماله و لم يزالوا يدينون بطاعة بنيه إلى أن هلك أبو سعيد بن خربهرا آخر ملوك التتر ببغداد سنة سبع و ثلاثين فقطعوا الخطبة لهم و استبد أحمد المنصور منهم و هو الثاني عشر من لدن أبي الغازي جدهم الأول ( و أما ) داود بن سقمان فانه ملك حصن كيفا من بعد سقمان أبيه و إبراهيم أخيه و لم أقف على خبر وفاته ( و ملك بعده ) ابنه فخر الدين قرا ارسلان بن داود و ملك ديار بكر مع حصن كيفا و توفي سنة اثنتين و ستين و خمسمائة ( و ملك بعده ) ابنه نور الدين محمد بعهده إليه بذلك و كانت بينه و بين صلاح الدين مواصلة و مظاهرة ظاهر صلاح الدين على الموصل على أن يظاهره على آمد فظاهره صلاح الدين و حاصرها من صاحبها ابن سان سنة تسع و ستين و صارت من أعمال نور الدين كما نذكر في دولة صلاح الدين ثم توفي نور الدين محمد سنة احدى و ثمانين و خلف ولدين ( فملك الأكبر ) منهما قطب الدين سقمان و قام بتدبير دولته العوام بن سماق الاسعد وزير أبيه و كان عماد الدين أخو نور الدين هو المرشح للامارة إلا أنه سار في العساكر مددا لصلاح الدين على حصار الموصل فلما بلغه الخبر بوفاة أخيه سار لملك البلد لصغر أولاد أخيه نور الدين فلم يظفر و استولى على خرت برت فانتزعها منهم و ملكهم و أورثها بنيه فلما أفرج صلاح الدين عن الموصل لقيه قطب الدين سقمان و أقره على ملك أبيه بكيفا و أبقى بيده آمد التي كان ملكها لابيه و شرط عليه مراجعته في أحواله و الوقوف عند أوامره و أقام أميرا من أصحاب ابنه قرا ارسلان اسمه صلاح الدين فقام بأمور دولته و استقر ملكه بكيفا و آمد و ما إليهما إلى أن توفي سنة سبع و تسعين و خمسمائة تردى من جوسق له بحصن كيفا فمات و كان أخوه محمود مرشحا لمكانه إلا أن قطب الدين سقمان كان شديد البغضاء له و اشخصه إلى حصن منصور من آخر عملهم و اصطفي مملوكه اياسا و زوجه باخته و جعله ولى عهده ( و لما توفي ) ملك بعده مملوكه و شخص أهل الدولة فدسوا إلى محمود فسار إلى آمد و سبقه اياس إليها ليدافعه فلم يطق و ملك محمود آمد و استولى على البلد كلها و حبس اياسا إلى أن أطلقه بشفاعة صاحب بلاد الروم و لحق به و انتظم في امرائه و استقل محمود بملك كيفا و آمد و أعمالها و لقب ناصر الدين و كان ظالما قبيح السيرة و كان ينتحل العلوم الفلسفية و توفي سنة تسعة عشر و ستمائة و ولى مكانه المسعود و حدثت بينه و بين الافضل بن العادل فتنة و استنجد عليه أخاه الكامل فسار في العساكر من مصر و معه داود صاحب الكرك و المظفر صاحب حماة فحاصروه بآمد إلى أن نزل عنها و جاء إلى الكامل فاعتقله فلم يزل عنده حبيسا إلى أن مات الكامل فذهب إلى التتر فمات عندهم ( و أما ) عماد الدين بن قرا ارسلان الذي ملك خرت برت من يد قطب الدين سقمان ابن أخيه نور الدين فلم تزل في يده إلى أن توفي سنة إحدى و ستمائة لعشرين سنة من ملكه اياها ( و ملكها بعده ) ابنه نظام الدين أبو بكر و كانت بينه و بين ناصر الدين محمود ابن عمه نور الدين صابح آمد و كيفا عداوة و دخل محمود في طاعة العادل بن أيوب و حضر مع ابنه الاشرف في حصار الموصل على أن يسير معه بعدها إلى خرت برت فيملكها له و كان نظام الدين مستنجدا به الدين قليج ارسلان صاحب بلاد الروم فمات و سار الاشرف مع محمود بعساكره و حاضروا خرت برت في شعبان سن إحدى و ستين و ملكوا اربضها و بعثوا غياث الدين صاحب الروم إلى نظام الدين المدد بالعساكر مع الافضل بن صلاح الدين صاحب سميساط فلما انتهوا إلى ملطية أفرح الاشرف و محمود عن خرت برت إلى بعض حصون نظام الدين بالصحراء ببحيرة سهنين و فتحت في ذي الحجة سنة إحدى و ستين فلما وصل الافضل بعساكر غياث الدين و وصل الاشرف عن البحيرة راجعا جاء نظام الدين بالعساكر إلى الحصن فامتنع عليه و بقي لصاحب آمد ثم ملك كيقباد صاحب الروم حصن خرت برت من أيديهم سنة إحدى و ثلاثين و انقرض منها ملك بني سقمان و الله وارث الأرض و من عليها و إليه يرجعون (5/256)
دولة بني زنكي بن اقسنقر ـ الخبر عن دولة بني زنكي بن اقسنقر من موالي السلجوقية بالجزيرة و الشام و مبادي أمورهم و تصاريف أحوالهم
قد تقدم لنا ذكر اقسنقر مولى السلطان ملك شاه و أنه كان يلقب قسيم الدولة و أن السلطان ملك شاه لما بعث الوزير فخر الدولة بن جهير سنة سبع و سبعين و أربعمائة بفتح ديار بكر من يد ابن مروان صاحب الموصل شرف الدولة مسلم بن عقيل و هزمته العساكر و انحصر بآمد فبعث السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير ليخالف شرف الدولة إلى السلطان فلقيه في الرحبة و أهدى له فرضي عنه و رده إلى بلده الموصل و استولى بنو جهير بعد ذلك على ديار بكر كما مر في موضعه من دولة بني مروان ثم كان بعد ذلك شان حلب و استبد بها أهلها بعد انقراض دولة بني صالح بن مرداس الكلابي و طمع فيها شرف الدولة مسلم بن قريش و سليمان بن قطلمش صاحب بلاد الروم و تتش ابن السلطان البارسلان و قتل سليمان قطلمش مسلم بن قريش ثم قتل تتش سليمان بن قطلمش و جاء إلى حلب فملكها و امتنعت عليه القلعة فحاصرها و قد كانوا بعثوا إلى السلطان ملك شاه و استدعوا لملكها فوصل إليهم سنة تسع و سبعين و رحل تتش عن القلعة و دخل البرية و استولى السلطان على حلب و ولى عليها قسيم الدولة اقسنقر و عاد إلى العراق فعمرها اقسنقر و أحسن السيرة فيها و سار معه تتش حين عهد له أخوه السلطان ملك شاه بفتح بلاد العلوية بمصر و الشام ففتح الكثير منها و هو معه كما مر و زحف قبل ذلك سنة ثمانين إلى بني منقذ بشيرز فحاصره و ضيق عليه ثم رجع عنه عن صلح و أقام بحلب و لم يزل واليا عليها إلى أن هلك السلطان سنة خمس و ثمانين و اختلف ولده من بعده و كان أخوه تتش قد استولى على الشام منذ سنة إحدى و سبعين فلما هلك أخوه طمع في ملك السلجوقية من بعده فجمع العساكر و سار لاقتضاء الطاعة من الأمراء معه بالشام و قصد حلب فأطاعه قسيم الدولة اقسنقر و حمل باغيسيان صاحب انطاكية و تيران صاحب الرها و حران على طاعته حتى يظهر مال الأمر في ولد سيدهم ملك شاه و ساروا مع تتش إلى الرحبة فملكها و خطب لنفسه فيها ثم إلى نصيبين ففتحها عنوة إلى الموصل فهزم صاحبها إبراهيم بن قريش بن بدران و تولى كبر هزيمته اقسنقر و قتل قريش بن إبراهيم و ملك الموصل من يده و ولى تتش عليها ابن عمته علي بن مسلم بن قريش و سار إلى ديار بكر فملكها ثم إلى أذربيجان و كان بركيارق بن مالك شاه قد استولى على الري وهمذان و كثير من البلاد فسار لمدافعته و جنح قسيم الدولة اقسنقر و بوزان صاحب الرها إلى بركيارق ابن سيدهم فلحقوا به و تركوا تتش فانقلب عائدا إلى الشام ساخطا على اقسنقر و بوزان ما فعلوه فجمع العساكر و سار إلى حلب سنة سبع و ثمانين لقتال قسيم الدولة و أمده بركيارق بالأمير كربوقا في العساكر فبرزوا إلى لقائهم و التقوا على ست فراسخ من حلب و نزع بعض عساكر اقسنقر إلى تتش فاختل مصافه و تمت الهزيمة عليه و جيء به أسيرا إلى تتش فقتله صبرا و لحق كربوقا و بوزان بحلب و تبعهما فحاصرهما و ملكها و أخذهما أسيرين كما مر في أخبار الدولة و كان قسيم الدولة حسن السياسة كثير العدل و كانت بلاده آمنة و لما مات نشأ ولده في ظل الدولة السلجوقية و كان أكبرهم زنكى فنشأ مرموقا بعين التحلة و لما ولي كربوقا الموصل من قبل بركيارق أيام الفتنة بين بركيارق و أخيه محمد كان زنكي في جملته لأنه كان صاحب أبيه و سار كربوقا أيام ولايته لحصار آمد و صاحبها يومئذ بعض أمراء التركمان و أنجده سقمان بن ارتق و كان زنكي بن اقسنقر يومئذ صبيا و هو في جملة رجال كربوقا و معه جماعة من أصحاب أبيه فجلا في تلك الحرب و انهزم سقمان و ظهر كربوقا و في هذه الحرب أسر ابن ياقوتي بن ارتق و سجنه كربوقا بقلعة ماردين فكان ذلك سببا لملك بني ارتق فيها كما مر في أخبار دولتهم ثم تتابعت الولاة على الموصل فوليها جكرمس بعد كربوقا و بعده جاولى سكاوو و بعده مودود بن ايتكين و بعده بن اتيكين و بعده اقسنقر البرسقي كما تقدم في أخبار السلجوقية و ولاه السلطان محمد بن ملك شاه سنة ثمان و خمسين و بعث معه ابنه مسعودا و كتب إلى سائر الأمراء هناك بطاعته و منهم يومئذ عماد الدين زنكي بن اقسنقر فاختص به و لما ملك السلطان محمود بعد أبيه محمد سنة إحدى عشرة كان أخوه مسعود بالموصل كما تقدم أتابكه حيوس بك و نقل البرسقي من الموصل إلى شحنة بغداد و انتقض دبيس بن صدقة صاحب الحلة على المسترشد و السلطان محمود و جمع البرسقي العساكر و قصد الحلة فكاتب دبيس السلطان و أتابكه حيوس بك بالموصل و أغراهما بالمسير إلى بغداد فسار لذلك مع السلطان مسعود وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس و زنكي بن قسيم الدولة اقسنقر و جماعة من أمراء الجزيرة و وصلوا إلى بغداد و صالحهم البرسقي و سار معهم و دخل مسعود إلى بغداد و جاء منكبرس إلى بغداد و نزع إليه دبيس بن صدقة و وقعت الحرب بينهما على بغداد كما تقدم في أخبار الدولة و أقام منكبرس ببغداد ثم كان له في خدمة السلطان محمود عند حربه مع أخيه مسعود مقامات جليلة و غلب السلطان أخاه مسعودا و أخذه عنده و استنزل أتابكه حيوس بك من الموصل و أعاد إليها البرسقي سنة خمسة عشر فعاد زنكي إلى الاختصاص به كما مر ثم أضاف إليه السلطان محمود شحنة بغداد و ولاية واسط مضافة إلى ولاية الموصل سنة ستة عشر فولى عليها عماد الدين زنكي فحسن أثره في ولايتهما و لما كانت الحرب بين دبيس بن صدقة و بين الخليفة المسترشد و برز المسترشد لقتاله من بغداد و حضر البرسقي من الموصل و عماد الدين زنكي فانهزم دبيس عماد الدين في ذلك المقام ثم ذهب دبيس إلى البصرة و جمع المنتفق من بني عقيل فدخلوا البصرة و نهبوها و قتلوا أميرها و بعث المسترشد إلى البرسقي فعذله في اهماله أمر دبيس حتى فعل في البصرة ما فعل فبادر إلى قصره و هرب دبيس و استولى على البصرة و ولى عليها عماد الدين زنكي بن اقسنقر فأحسن حمايتها و الدفاع عنها و كبس العرب في حللهم بضواحيها و أجفلوا ثم عزل البرسقي سنة ثمان عشرة عن شحنة بغداد و عاد إلى الموصل فاستدعى عماد الدين زنكي من البصرة فضجر من ذلك و قال كل يوم للموصل جديد يستنجدنا و سار إلى السلطان ليكون في جملته فلما قدم عليه بأصبهان أقطعه البصرة و أعاده عليها من قبله ثم ملك البرسقي مدينة حلب سنة ثمان عشرة و قتل بها سنة تسع عشرة و كان ابنه عز الدين مسعود بحلب فبادر إلى الموصل و أقام ملك أبيه بها و وقع الخلاف بين المسترشد و السلطان محمود و بعث الخليفة عفيفا الخادم إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان محمود فسار إليه عماد الدين زنكي من البصرة و قاتله فهزمه و نمي عفيف إلى المسترشد و أقام عماد الدين في واسط و أمره أن يحضر بالعساكر في السفن و في البر فجمع السفن من البصرة و شحنها بالمقاتلة شاكي السلاح و أصعد في البر و قدم على السلطان و قد تسلحت العساكر فهاله منظرهم و وهن المسترشد لما رأى فأجابه إلى الصلح (5/260)
ولاية زنكي شحنة بغداد و العراق
و لما ظهر من عماد الدين زنكي من الكفاءة و الغناء في ولاية البصرة و واسط ما ظهر ثم كان له المقام المحمود مع السلطان محمود على بغداد كما مر ولاه شحنة بغداد و العراق لم رأى أنه يستقيم إليه في أمور الخليفة بعد أن شاور أصحابه فأشاروا به و ذلك سنة إحدى و عشرين و سار عن بغداد بعد أن ولاه على كرسي ملكه بأصبهان و الله تعالى أعلم (5/263)
ولاية عماد الدين زنكي على الموصل و اعمالها
قد قدمنا أن عز الدين مسعود بن البرسقي لما قتل الباطنية أباه بالموصل و كان نائبه بحلب فبادر إلى الموصل و ضبط أمورها و خاطب السلطان محمودا فولاه مكان أبيه و كان شجاعا قرما فطمع في ملك الشام فسار و بدأ بالرحبة فحاصرها حتى استأمن إليه أهل القلعة و طرقه مرض فمات و تفرقت عساكره و نهب بعضهم بعضا حتى شغلوا عن دفنه و كان جاولى مولى أبيه مقدم العساكر عنده فنصب مكانه أخاه الأصغر و كاتب السلطان في تقرير ولايته و أرسل في ذلك الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسياني و القاضي أبا الحسن علي بن القاسم الشهرزوري فأوصى صلاح الدين صهره جقري فيما جاء فيه و كان شيعة لعماد الدين زنكي فخوف الحاجب و حذره مغبة حاله معه و أشار عليه و على القاضي بطلب عماد الدين زنكي و ضمن لهما عنده الولايات و الاقطاع و ركب القاضي مع الحاجب إلى الوزير شرف الدين أنو شروان بن خالد و ذكر له حال الجزيرة و الشام و استيلاء الافرنج على أكثرها من ماردين إلى العريش و أنها تحتاج إلى من يكف طغيانهم و ابن البرسقي المنصوب بالموصل صغير لا يقوى على مدافعتهم و حماية البلاد منهم و نحن قد خرجنا عن العهدة و أنهينا الأمر إليكم فرفع الوزير قولهما إلى السلطان فشكرهما و استدعاهما و استشارهما فيمن يصلح للولاية فذكرا جماعة و أدرجا فيهم عماد الدين زنكي و بذلا عنه مالا جزيلا لخزانة السلطان فأجابهما إليه لما يعلم من كيفياته و ولاه البلاد كلها و كتب منشوره بها و شافهه بالولاية و سار إلى ولايته فبدأ بالفوارع و ملكها ثم سار إلى الموصل و خرج جاولى و العساكر للقائه و دخل الموصل في رمضان سنة إحدى و عشرين و بعث جاولى واليا على الرحبة و ولى على القلعة نصير الدين جقري و ولى على حجابته صلاح الدين الباغيسياني و على القضاء ببلاده جميعا بهاء الدين الشهرزوري و زاد في اقطاعه و كان لا يصدر إلا عن رأيه ثم خرج إلى جزيرة ابن عمر و به موالى البرسقي فامتنعوا عليه و حاصرهم و كان بينه و بين البلد دجلة فعبرها و بين دجلة و البلد فسيح من الأرض فعبر دجلة و قاتلهم في ذلك الفسيح و هزمهم فتحصنوا بالاسوار ثم استأمنوا فدخل البلد و ملكه و سار لنصيبين و كانت لحسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي صاحب ماردين فاستنجد عليه ابن عمه ركن الدولة داود بن سقمان صاحب كيفا فوعده بالنجدة و بعث حسام الدين بذلك إلى أهل نصيبين يأمرهم بالمصابرة عشرين يوما إلى حين وصوله فسقط في أيديهم لعجزهم عن ذلك و استأمنوا لعماد الدين فأمنهم و ملكها و سار عنها لسنجار فامتنعوا عليه أولا ثم استأمنوا و ملكها و بعث إلى الخابور فملك جميعه ثم سار إلى حران و كانت الرها و سروج البيرة في جوارها للافرنج و كانوا معهم في ضيقة فبادر أهل حران إلى طاعته و أرسل إلى جوسكين و هادنه حتى يتفرغ له فاستقر بينهما لصلح و الله تعالى أعلم (5/263)
استيلاء الاتابك زنكي على مدينة حلب
كان البرسقي قد ملك حلب و قلعتها سنة ثمانية عشر و استخلف عليها ابنه مسعودا ثم قتل الباطنية البرسقي بالموصل فبادر ابنه مسعود إلى الموصل و استخلف على حلب الأمير قزمان ثم عزله و بعث بولايتها إلى الأمير قطلغ آية فمنعه قزمان و قال بيني و بينه علامة لم أرها في التوقيع فرجع إلى مسعود فوجده قد الرحبة فعاد إلى حلب مسرعا و مال إليه أهل البلد و رئيسها مضايل بن ربيع و أدخلوه و ملكوه استنزلوا قزمان من القلعة و أعطوه ألف دينار و بلغوه مأمنه و ملك قطلغ القلعة و البلد منتصف إحدى و عشرين ثم ساءت سيرته و فحش ظلمه و اشتمل عليه الاشرار فاستوحش الناس منه و ثاروا به في عيد الفطر من السنة و قبضوا على أصحابه و ولوا عليهم بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن ارتق الذي كان ملكها من قبل و حاصروا قطلغ بالقلعة و وصل حسان صاحب منبج و حسن صاحب مراغة لاصلاح الأمر فلم يتم و زحف جوسكين صاحب الرها من الافرنج إلى حلب فصانعوه بالمال و رجع فزحف صاحب انطاكية و حاصر البلد و هم يحاصرون القلعة إلى منتصف ذي القعدة من آخر السنة و انتهى عماد الدين زنكي إلى صاحب حران كما ذكرناه فبعث إلى أهل حلب أميرين من أصحابه بتوقيع السلطان له بالموصل و الجزيرة و الشام فبادروا إلى الطاعة و سار إليه بدر الدولة ابن عبد الجبار و قطلغ آية و أقام أحد الأميرين بحلب و لما وصلا إلى عماد الدين أصلح بينهما و أقاما عنده و بعث الحاجب صلاح الدين محمد الباغيسياني في عسكر إليهما فملك القلعة و رتب الأمور و ولى ثم وصل عماد الدين بعده في محرم سنة اثنتين و عشرين و ملك في طريقه منبج من يد حسان و مراغة من يد حسن و تلقاه أهل حلب فاستولى و أقطع أعمالها للامراء و الاجناد ثم قبض على قطلغ آية و أسلمه إلى ابن بديع فكحله و مات و استوحش ابن بديع فلحق بقلعة جعفر مستنجدا بصاحبها و أقام عماد الدين مكانه في رياسة حلب علي بن عبد الرازق و عاد إلى الموصل و الله أعلم (5/264)
استيلاء الاتابك زنكي على مدينة حماة
ثم سار عماد الدين زنكي لجهاد الافرنج و عبر الفرات إلى الشام و استنجد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق فأنجده بعد التوثق باستحلافه و بعث عسكره من دمشق إلى ابنه سونج و أمره بالمسير إلى زنكي فلما وصلوا إليه أكرمهم ثم غدر بهم بعد أيام و قبض على سونج و الأمراء الذين معه فاعتقلهم بحلب و نهب خيامهم و بادر إلى حماة و هي خلو من الحامية ملكها و سار عنها إلى حمص و صاحبها قيرجان بن قراجا معه في عساكره و هو الذي أشار بحبس سونج و أصحابه فقبض عليه يظن أهل حمص يسلمون بلادهم إليه فامتنعوا و بعث إليهم قيرجان بذلك فلحق إليها فحاصرها مدة و امتنعت عليه فعاد إلى الموصل و معه سونج بن بوري و الله أعلم (5/265)
فتح عماد الدين حصن الاثارب و هزيمة الافرنج
و لما عاد عماد الدين إلى الموصل أراح عساكره أياما ثم تجهز سنة أربع و عشرين إلى الغزو و عاد إلى الشام فقصد حلب و اعتزم على قصد الاثارب و هو على ثلاثة فراسخ من حلب و كان الافرنج الذين به قد ضيقوا على حلب فسار إليه و حاصره و جاء الافرنج من انطاكية لدفاعه فاستغرغوا فتبعهم و ترك الحصن و سار إليهم و استماتت المسلمون فانهزم الافرنج و أسر كثير من زعمائهم و قتل كثير حتى بقيت عظامهم ماثلة بذلك الموضع أكثر من ستين سنة ثم عاد إلى حصن الاثارب فملكه عنوة و خربه و تقسم جميع من فيه بين القتل و الاسر و سار إلى قلعة حارم قرب انطاكية و هي للافرنج فحاصرها حتى صالحوه على نصف خراجها فرجع عنها و ملىء الافرنج رعبا منه و من استبداد المسلمين به و ذهب ما كان عندهم من الطمع (5/265)
واقعة عماد الدين مع بني ارتق
و لما فرغ عماد الدين من غزو الافرنج و فتح الاثارب و قلعة حارم عاد إلى الجزيرة و حاصر مدينة سرخس و هي لصاحب ماردين بينها و بين نصيبين فاجتمع حسام الدين صاحب ماردين و ركن الدولة صاحب آمد و هما لابي الغازي صاحب ماردين ابن حسام الدين تمرتاش بن أبي الغازي و صاحب كيفا ركن الدولة داود بن سقمان و تمرتاش بن ارتق و جمعوا من التركمان نحوا من عشرين ألفا و ساروا لمدافعة زنكي فهزمهم و ملك سرخس و سار ركن الدولة إلى جزيرة ابن عمر لينهبها فاتبعه عماد الدين فرجع إلى بلده فعاد عنه لضيق مسالكه و ملك من قلاعه همرد و رجع إلى الموصل إلى آخره (5/266)
حصول دبيس بن صدقة في أسر الاتابك زنكي
قد تقدم لنا أن دبيس بن صدقة لما فارق البصرة سار إلى سرخد من قلاع الشام سنة خمس و عشرين باستدعاء الجارية التي خلفها الحسن هنالك ليتزوج بها و أنه مر في الغوطة يجي من أحياء كلب فأسروه و حملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق و بلغ إلى الاتابك زنكي و كان عدوا له فبعث فيه إلى تاج الملوك بوري و فادى من ابنه سونج و الأمراء الذين معه عنده فأطلقهم و بعث بوري إليه بدبيس و هو مستيقن الهلاك فلما وصله أكرمه و أحسن إليه و أزاح علله و بعث المسترشد فيه إلى بوري بن طغركين صاحب دمشق فوجده قد فات بتسليمه إلى زنكي فذم الرسل زنكي فيما فعله فأرصد لهم في طريقهم و سيقوا إليه و هم سديد الدولة بن الانباري و أبو بكر بن نشر الجزري فحبسهما حتى شفع فيهما المسترشد و بقي دبيس عنده حتى انحدر معه إلى العراق (5/266)
مسير الاتابك زنكي إلى العراق لمظاهرة السلطان مسعود و انهزامه
و لما توفي السلطان محمود سنة خمس و عشرين و اختلف ولده داود و أخوه مسعود و سار داود إلى مسعود و حاصره بتبريز في محرم سنة ست و عشرين ثم صالحه و خرج مسعود من تبريز و اجتمعت عليه العساكر و سار إلى همذان و بعث يطلب الخطبة من المسترشد فمنعه و كتب الاتابك عماد الدين زنكي يستنجده و سار إلى بغداد فحاصرها و كان قد سبق إليها أخوه سلجوق شاه صاحب فارس و خوزستان مع أتابك قراجا الشامي في عسكر كثير و أنزله المسترشد بدار السلطان فلما جاء مسعود و نزل عباسة و برز عسكر المسترشد و عسكر سلجوق شاه و قراجا الشامي لمحاربة مسعود فأتاهم الخبر بوصول عماد الدين زنكي من ورائهم و أنه وصل إلى المعشوب فرجع قراجا الشامي إلى محاربته و سار سلجوق شاه بالعساكر إلى محاربة أخيه مسعود و أغذ قراجا السير و صبح عماد الدين بعد يوم و ليلة على المعشوب و قاتله و هزمه و أسر كثيرا من أصحابه و سار زنكي منهزما إلى و النائب بها نجم الدين أيوب بن شادي والد السلطان صلاح فتأخر ثم اصطلح مع الخليفة على أن يكون العراق له و السلطنة لمسعود و ولاية العهد لسلجوق شاه و ذلك منتصف سنة ست و عشرين (5/267)
مسير الاتابك عماد الدين إلى بغداد بابنه و انهزامه
قد قدمنا ما كان بعد وفاة السلطان محمود من الخلاف بين ابنه داود و أخويه مسعود و سلجوق شاه ثم استقر مسعود في السلطنة و صلحه مع أخيه سلجوق على أن يكون ولي عهده ثم أن السلطان سنجر سار من خراسان يطلب السلطنة لطغرل ابن أخيه السلطان محمود و كان عنده مقيما فبلغ همذان و خرج السلطان مسعود و سلجوق شاه للقائه و ساروا متباطئين ينتظرون لحاق المسترشد بهم و خرج المسترشد إلى فجاءته الأخبار بوصول الاتابك زنكي و دبيس بن صدقة إلى بغداد فذكر دبيس أن السلطان سنجر أقطعه الحلة و بعث يسترضي فلم يشفعه و ذكر الاتابك زنكي إن السلطان سنجر ولاه شحنة بغداد و استمر السلطان مسعود و أخوه سلجوق على المسير للقاء سنجر و كانت الهزيمة على مسعود كما مر فعاد المسترشد إلى بغداد و نزل العباسية من الجانب الغربي و لقي الاتابك زنكي و دبيس على حصن البرامكة فهزمهما آخر رجب سنة ست و عشرين و لحق الاتابك بالموصل (5/267)
واقعة الافرنج على أهل حلب
و في غيبة الاتابك زنكي سار ملك الافرنج من القدس إلى حلب فخرج نائبها عن الاتابك زنكي و هو الأمير اسوار و جمع التركمان مع عساكره و قاتل الافرنج عند قنسرين و صابرهم و محص الله المسلمين و انهزموا إلى حلب و سار ملك الافرنج في أعمال حلب ظافرا ثم سار بعض الافرنج من الرها للغارة في أعمال حلب فخرج إليهم الأمير أسوار و معه حسان التغلبي الذي كان صاحب منبج فأوقعوا بهم و استلحموهم و أسروا من بقي منهم و عادوا ظافرين (5/268)
حصار المسترشد الموصل
و لما وقع ما قدمناه من وصول زنكي إلى بغداد و انهزامه أمام المسترشد حقد عليه المسترشد ذلك و أقام يتربص ثم كثر الخلاف بين سلاطين السلجوقية و اعتزلهم جماعة من أمرائهم فرارا من الفتنة و لحقوا بالخليفة و أقاموا في ظله فأراد الخليفة المسترشد أن ينتصف بهم من الاتابك زنكي فقدم إليه بهاء الدين أبا الفتوح الاسقر ابن الواعظ و حمله عتابا أغلظ فيه و زاده الواعظ غلظة حفظا على ناموس الخلافة في معتقده فامتعض الاتابك لما شافهه به و أهانه و حبسه و أرسل المسترشد إلى السلطان مسعود على قصد الموصل و حاصرها لما وقع من زنكي ثم سار في شعبان سنة سبع و عشرين إلى الموصل في ثلاثين ألف مقاتل فلما قارب الموصل فارقها الاتابك زنكي إلى سنجار و ترك نائبه بها نصر الدين جقري و جاء المسترشد فحاصرها و الأتابك زنكي قد قطع الميرة عن معسكره فتعذرت الاقوات و ضاقت عليهم الأحوال و أرادت جماعة من أهل البلد الوثوب بها و سعي بهم فأخذوا و صلبوا و دام الحصار ثلاثة أشهر و امتنعت عليه فأفرج عنها و عاد إلى بغداد و قيل إن مطر الخادم جاءه من بغداد و أخبره أن السلطان مسعودا عازم على قصد العراق فعاد مسرعا (5/268)
ارتجاع صاحب دمشق مدينة حماة
قد كنا قدمنا أن الاتابك زنكي تغلب على حماة من يد تاج الملوك بوري بن طغركين صاحب دمشق سنة ثلاث و عشرين و أقامت في ملكه أربع سنين و توفي تاج الملوك بوري في رجب سنة ست و عشرين و ولى بعده ابنه شمس الملوك اسمعيل و ملك بانياس من الافرنج في صفر سنة سبع و عشرين ثم بلغه أن المسترشد بالله حاصر الموصل فسار هو إلى حماة و حاصرها و قاتلها يوم الفطر و يومين بعده فملكها عنة و استأمنوا فأمنهم ثم حصر الوالي و من معه بالقلعة فاستأمنوا أيضا و استولى على ما فيها من الذخائر و السلاح و سار منها إلى قلعة شيرز فحاصرها ابن منقذ فحمل إليه مالا صانعه به و عاد إلى دمشق في ذي الحجة من السنة (5/269)
حصار الاتابك زنكي قلعة آمد و استيلاؤه على قلعة النسور ثم حصار قلاع الحميدية
و في سنة ثمان و عشرين و خمسمائة اجتمع الاتابك زنكي صاحب الموصل و صاحب ماردين على حصار آمد و استنجد صاحبها بداود بن سقمان صاحب كيفا فجمع العساكر و سار إليهما ليدافعهما عنه و قاتلاه فهزماه و قتل كثير من عسكره و أطالا حصار آمد و قطعا شجرها و كرومها و امتنعت عليهما فرحلا عنها و سار زنكي إلى قلعة النسور من ديار بكر فحاصرها و ملكها منتصف رجب من السنة و وفد عليه ضياء الدين أبو سعيد بن الكفر توثي فاستوزره الاتابك و كان حسن الطريقة عظيم الرياسة و الكفاية محببا في الجند و توفي سنة ست و ثلاثين بعدها ثم استولى الاتابك على سائر قلاع الاكراد الحميدية مثل قلعة العقر و قلعة سوس و غيرهما و كان لما ملك الموصل أمر صاحب هذه القلاع الأمير عيسى الحميري على ولايتها فلما حاصر المسترشد الموصل قام في خدمته أحسن القيام و جمع له الأكراد فلما عاد المسترشد إلى بغداد من قتال الاتابك زنكي فحاصر قلاعهم و حاصرتها العساكر و قاتلوها قتالا شديدا حتى ملكوها في هذه السنة و رفع الله شرهم عن أهل السواد المحاربين لهم فقد كانوا منهم في ضيقة من كثرة عيثهم في البلاد و تخريبهم و الله تعالى أعلم (5/269)
استيلاء الاتابك على قلاع الهكارية و قلعة كواشي
حدث ابن الاثير عن الجنيبي أن الاتابك زنكي لما ملك قلاع الحميدية و أجلاهم عنها خاف أبو الهيجاء من عبد الله على قلعة أشب و الجزيرة و كواشي فاستأمن من الاتابك و استحلفه و حمل له مالا ثم وفد عليه بالموصل بعد أن اخرج ابنه أحمد من أشب خشية أن يغلب عليها و أعطاه قلعة كواشي و ولى على أشب رجلا من الكرد و اسمه باد الأرمني و ابنه أحمد هذا هو أبو علي بن أحمد المشطوب من أمراء السلطان صلاح الدين و لما مات أبو الهيجاء و اسمه موسى و سار أحمد إلى أشب ليملكها فامتنع عليه باد وأراد حفظها لعلي الصغير من بني أبي الهيجاء فسار الاتابك زنكي في عساكره و نزل على أشب و برز أهلها لقتاله و استجرهم حتى أبعدوا ثم كر عليهم فأفناهم و أسرا و ملك القلعة في الحال و سيق إليه باد في جماعة من مقدمي الاكراد و قتلهم و عاد إلى الموصل ثم سار غازيا في بعض مذاهبه فبعث نائبه نصر الدين جقري عسكرا و خلى كنجاورسى و قلعة العمادية و حاصروا قلعة الشغبان و فرح و كواشي و الزعفراني و ألغي و سرف و سفروه و هي حصون الهكارية فحصرها و ملكها جميعا و استقام أمر الجبل و الزوزن و أمنت الرعية من الاكراد و أما باقي قلاع الهكارية و هي حل و صورا و هزور و الملايسي و يامرما و مانرحا و باكرا و نسرفان قراجا صاحب العمادية فتحها بعد قتل زنكي بمدة طويلة كان أميرا على تلك الحصون الهكارية من قبل زين الدين علي على ما قال ابن الاثير و لم أعلم تاريخ فتح القلاع فلهذا ذكرته هنا قال و حدثني بخلاف هذا الحديث بعض فضلاء الأكراد أن أبا بكر زنكي لما فتح قلعة اسب و حرساني و قلعة العمادية و لم يبق في الهكارية إلا صاحب جبل صورا و صاحب هزور لم يكن لهما شوكة يخشى منهما ثم عاد إلى الموصل و خافه أهل القلاع الجليلة ثم توفي عبد الله بن عيسى بن إبراهيم صاحب الريبة و الغي و فرح و ملكها بعده ابنه علي و كانت أمه خديجة ابنة الحسن أخت إبراهيم و عيسى و هما من الأمراء مع زنكي بالموصل فأرسلها ابنها إلى أخويها المذكورين و هما خالاه ليستأمنا له من الاتابك فاستحلفاه و قدم عليه فأقره على قلاعه و استقل بفتح قلاع الهكارية و كان الشغبان هذا الأمير من المهرانية اسمه الحسن بن عمر فأخذه منه و خربه لكبره و قلة أعماله و كان نصر الدين جقري يكره عليا صاحب الريبة و الغي و فرح فسعى عند الاتابك في حبسه فأمره بحبسه ثم ندم و كتب إليه أن يطلقه فوجده قد مات فاتهم نصر الدين بقتله ثم بعث العساكر إلى قلعة الرحبية فنازلوها بغتة و ملكوها عنوة و أسروا ولد علي و اخوته و نجت أمه خديجة لمغيبها و جاء البشير إلى الاتابك بفتح الريبة فسره ذلك و بعث العساكر إلى ما بقي من قلاع علي فأبي إلا أن يزيدوه قلعة كواشي فمضت خديجة أم علي إلى صاحب كواشي من المهرانية و اسمه جرك راهروا و سألته النزول عن كواشي لاطلاق اسراهم ففعل ذلك و تسلم زنكي القلاع و أطلق الأسرى و استقامت له جبال الاكراد و الله تعالى أعلم (5/270)
حصار الاتابك زنكي مدينة دمشق
كان شمس الملوك اسمعيل بن بوري قد انحل أمره و ضعفت دولته و استطال عليه الافرنج و خشي عاقبه أمرهم فاستدعى الاتابك زنكي سرا ليملكه دمشق و يريح نفسه و شعر بذلك أهل دولته فشكوا إلى أمه فوعدتهم الراحة منه ثم اغتالته فقتلته و جاء الأتابك زنكي فقدم رسله من الفرات فألفوا شمس الملوك قد مات و ولي مكانه أخوه محمود و اشتمل أهل الدولة عليه و رجعوا الخبر إلى الاتابك فلم يحفل به و سار حتى نزل بظاهر دمشق و اشتد أهل الدولة على مدافعته و مقدمهم معين الدين أبربوه أتابك طغركين ثم بعث المسترشد أبا بكر بن بشر الجزري إلى الاتابك زنكي فأمره بصلح صاحب دمشق فصالحه و رحل عنه منتصف السنة و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/271)
فتنة الراشد مع السلطان مسعود و مسيره إلى الموصل و خلعه
كان كثير من أمراء السلجوقية قد اجتمعوا على الانتقاض على السلطان مسعود و الخروج عليه و لحق داود ابن السلطان محمود من أذربيجان ببغداد في صفر سنة اثنتين و ثلاثين فأنزل بدار السلطنة و راسله أولئك الأمراء و قدم عليه بعضهم مثل صاحب قزوين و صاحب أصبهان و صاحب الاهواز و صاحب الجبلة و صاحب الموصل الاتابك زنكي و خرجت إليهم العساكر من بغداد و ولى داود شحنية بغداد و خرج موكب الخليفة مع الوزير جلال الدين الرضي و كان الخليفة قد تغير عليه و على قاضي القضاة الزينبي فسمع بهم الاتابك ثم وقعت العزيمة من الراشد و السلطان داود و الاتابك زنكي و حلف كل منهم لصاحبه و بعث الراشد إلى الاتابك بمائتي ألف دينار و وصل سلجوق شاه إلى واسط و قبض على الأمير بك آبة و نهب ماله فانحدر الاتابك زنكي لمدافعته فاصطلحا و عاد زنكي إلى بغداد و مر على جميع العساكر لقتال السلطان مسعود وخرج على طريق خراسان و بلغهم أن السلطان مسعودا سار إلى بغداد فعاد إليها ثم عاد الملك داود و جاء السلطان مسعود فنزل على بغداد و حاصرهم نيفا و خمسين يوما و ارتحل إلى النهروان ثم قدم عليه طرنطاي صاحب واسط بالسفن فرجع إلى بغداد و عبر إلى الجانب الغربي ثم اختلف العسكر ببغداد و رجع الملك داود إلى ولايته بأذربيجان و افترق الأمراء الذين معه و لحق الراشد بالاتابك زنكي في نفر من أصحابه و هو بالجانب الغربي و سار معه إلى الموصل و دخل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين و استقر بها و سكن الناس و جمع القضاة و الفقهاء و عرض عليهم يمين الراشد بخطه بأنه متى جمع أو خرج لحرب السلطان فقد خلع نفسه فأفتوا بخلعه ثم وقعت الشهادات من أهل الدولة و غيرهم إلى الراشد بموجبات العزل و كتبت و أفتى الفقهاء عقبها باستحقاق العزل و حكم به القاضي المعين حينئذ لغيبة قاضي القضاة بالموصل مع الراشد و نصب للخلافة ابن المستظهر و جاء رسول الاتابك زنكي إلى بغداد و هو القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري و بايع بعد أن ثبت عنده الخلع و انصرف إلى الاتابك باقطاع من خاص الخليفة و لم يكن ذلك لاحد قبله و عاد كمال الدين إلى الاتابك و حمل كتب الخلع فحكم بها قاضي القضاة بالموصل و انصرف الراشد عن الموصل إلى أذربيجان كما مر في أخبار الخلفاء و السلجوقية و الله تعالى ولى التوفيق (5/271)
غزاة العساكر حلب إلى الافرنج
ثم اجتمعت عساكر حلب مع الأمير اسوار نائب الاتابك زنكي بحلب في شعبان سنة ثلاثين و ساروا غازين إلى بلاد الافرنج و قصدوا اللاذقية على غرة فنالوا منها و انساحوا في بسائطها و اكتسحوها و امتلات أيديهم من الغنائم و خربوا بلاد اللاذقية و ما جاورها و خرجوا على شيرز و ملؤا الشام بالاتراك و الظهر و وهن الافرنج لذلك و الله سبحانه و تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/272)
حصار الاتابك زنكي مدينة حمص و استيلاؤه على بعدوين و هزيمة الافرنج و استيلاؤه على حمص
ثم سار الاتابك في العساكر في شعبان سنة إحدى و ثلاثين إلى مدينة حمص و بها يومئذ معين الدين ابن القائم بدولة صاحب دمشق و حمص من أقطاعه فقدم إليه صاحبه صلاح الدين الباغيسياني في تسليمها فاعتذر بأن ذلك ليس من الاصابة فحاصرها و الرسل تردد بينهما و امتنعت عليه فرحل عنها إلى بغدوين من حصون الافرنج في شوال من السنة فجمع الافرنج و أوعبوا و زحفوا إليه و اشتد القتال بينهم ثم هزم الله العدو و نجا المسلمين منهم و دخل ملوكهم إلى حصن بغدوين فامتنعوا به و شد الاتابك حصاره و ذهب القسوس و الرهبان إلى بلاد النصرانية من الروم و الافرنج يستنجدونهم على المسلمين و يخوفونهم استيلاء الاتابك على قلعة بغدوين و ما يخشي بعد ذلك من ارتجاعهم بيت المقدس وجد الاتابك بعد ذلك في حصارها و التضيق عليها حتى جهدهم الحصار و منع عنهم الأخبار ثم استأمنوا على أن يحملوا إليه خمسين ألف دينار فأجابهم و ملك القلعة ثم سمعوا بمسير الروم و الافرنج لانجادهم و كان الاتابك خلال الحصار قد فتح المعرة و كفر طاب في الولايات التي بين حلب و حماة و وهن الافرنج ثم سار الاتابك زنكي في محرم سنة اثنتين و ثلاثين إلى بعلبك و ملك حصن الممدل من أعمال صاحب دمشق و بعث إليه نائب باساس بالطاعة كذلك ثم كانت حادثة ملك الروم و منازلته حلب كما نذكره فسار إلى سلمية و لما انجلت حادثة الروم رجع إلى حصار حمص و بعث إلى محمود صاحب دمشق في خطبة أمه مردخان بنت جاولي التي قتلت ابنها فتزوجها و ملك حمص و قلعتها و حملت الخاتون إليه في رمضان و ظن أنه يملك دمشق بزواجها فلم يحصل على شيء من ذلك و الله تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/273)
مسير الروم إلى الشام و ملكهم مراغة
و لما استنجد الافرنج ببغدوين ملك أمم النصرانية كما مر جمع ملك الروم بالقسطنطينية و ركب البحر سنة إحدى و ثلاثين و لحقته أساطيله و سار إلى مدينة قيقية فحاصرها و صالحوه بالمال و سار عنها إلى ادنة و المصيصة و هما لابن ليون الارمني صاحب قلاع الدروب فحاصرهما و ملكها و سار إلى عين زربة فملكها عنوة و ملك تل حمدون و نقل أهله إلى جزيرة قبرص ثم ملك مدينة انطاكية في ذي القعدة من السنة و بها رغيد من ملوك الافرنج فصالحه و رجع إلى بفراس و دخل منها إلى بلاد ابن لبون فصالحه بالأموال و دخل في طاعته ثم خرج إلى الشام أول سنة اثنتين و ثلاثين و حاصر مراغة على ستة فراسخ من حلب و بعثوا بالصريخ إلى الاتابك زنكي فبعث بالعساكر إلى حلب لحمايتها و قاتل ملك الروم مراغة فملكها بالامان منتصف السنة ثم غدر بهم و استباحهم و رحل إلى حلب فنزل بدابق و معه الافرنج و رجعوا من الغد إلى حلب و حاصروها ثلاثا فامتنعت عليهم و قتل عليها بطريق كبير منهم و رحل عنها إلى قلعة الاتاود في شعبان من السنة فهرب عنها أهلها و وضع الروم بها الاسرى و السبي و أنزلوا بها حامية و بعث إليهم أسوار نائب حلب عسكرا فقتلوا الحامية و خلصوا الاسرى و السبي و رحل الاتابك من حصن الاثارب بعد فتحه إلى سلمية و قطع الفرات إلى الرقة و اتبع الروم فقطع عنهم الميرة و قصد الروم قلعة شيزر و بها سلطان ابن علي مقلد بن نصر بن منقذ الكناني فحاضروها و نصبوا المجانيق عليها و استصرخ صاحبها بالاتابك زنكي فسار إليه و نزل نهر العاصي بين شيزر و حماة و بعث السرايا تختطف من حول معسكر الروم و بعث إلى الروم يدعوهم إلى المناجزة و النزول إلى البسيط فخافوا عن ذلك فرجع إلى التضريب بين الروم و الإفرنج يحذر أحد الفريقين من الآخر حتى استراب كل بصاحبه فرحل ملك الروم في رمضان من السنة بعد حصار شيرز أربعين يوما و أتبعه الاتابك فلحقهم و استلحمهم و استباحهم ثم أرسل القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري إلى السلطان مسعود يستنجده على العدو و يحذره الروم و استيلاءهم على حلب و ينحدرون من الفرات إلى بغداد فوضع القاضي كمال الدين في جامع القصر من ينادي بصريخ المسلمين و الخطيب على المنبر و كذا في جامع السلطان فعظم الصراخ و البكاء و تسايلت العوام من كل جانب و جاؤا إلى دار السلطان في تلك الحالة و قد وقع العويل و الصراخ فعظم الهول على السلطان مسعود و جهز عسكرا عظيما و خاف القاضي كمال الدين غائلته ثم وصل الخبر برحيل ملك الروم فأخبر القاضي السلطان مسعود بذلك و من مسير العساكر و الله تعالى أعلم (5/273)
استيلاء الاتابك زنكي على بعلبك
ثم قتل محمود صاحب دمشق سنة ثلاث و ثلاثين في شوال كما مر في أخبار دولتهم و كانت أمه زمرد خان متزوجة بالاتابك كما مر فبعث إليه و هو بالجزيرة تعرفه بالخبر و تطلب منه أن يسير إلى دمشق و يثأر بولدها من أهل دولته فسار لذلك و استعد أهل دمشق للحصار ثم قصد الاتابك مدينة بعلبك و نزلها و كان ابن القائم بالدولة قد نصب كمال الدين محمد بن بوري بدمشق و تزوج أمه و بعث بجاريته إلى بعلبك فلما سار الاتابك إلى دمشق قدم رسله إلى انز في تسليم البلد على أن يبذل له ما يريد فأبى من ذلك و سار الاتابك إلى بعلبك فنازلها آخر ذي الحجة من السنة و نصب عليها المجانيق و شد حصارها حتى استأمنوا فملكها و اعتصم الحامية بالقلعة حتى يئسوا من أنز فاستأمنوا إلى الاتابك فلما ملكها قبض عليهم و صلبهم و تزوج جارية انز و نقلها إلى حلب إلى أن بعثها ابنه نور الدين محمود إلى صاحبها بعد موت الاتابك و الله تعالى أعلم (5/275)
حصار الاتابك زنكي مدينة دمشق
ثم سار الاتابك زنكي إلى حصار دمشق في ربيع الأول من سنة أربع و ثلاثين بعد الفراغ من بعلبك فنزل بالبقاع و أرسل إلى جمال الدين محمد صاحبها في أن يسلمها إليه و يعوضه عنها بما شاء فلم يجب إلى ذلك فزحف إليه و نزل داريا و التقت الطلائع فكان الظفر لاصحاب الاتابك ثم تقدم إلى المصلي فنزل بها و قاتله أهل دمشق بالغوطة فظفر بهم و أثخن فيهم ثم أمسك عن القتال عشرا يراود فيها صاحب دمشق و بذل له بعلبك و حمص و ما يختاره من البلاد فجنح إلى ذلك و لم يوافقه أصحابه فعادت الحرب ثم توفي صاحب دمشق جمال الدين محمد في شعبان من السنة و نصب معين الدين انز مكانه ابنه محي الدين أمور و قام بأمره و طمع زنكي في ملك البلد فامتنعت عليه و بعث معز الدين انز إلى الافرنج يستدعيهم إلى النصر على الاتابك و يبذل لهم و يخوفهم غائلته و يشترط لهم اعانتهم على بانياس حتى يملكوها فأجاب الافرنج لذلك و أجفل زنكي إلى حوران خامس رمضان من السنة معتزما على لقائهم فلم يصلوا فعاد إلى حصار دمشق و أحرق قراها و ارتحل إلى بلاده ثم وصل الافرنج و ارتحل معين الدين انز في عساكر دمشق إلى بانياس و هي للاتابك زنكي ليوفي للافرنج بشرطه لهم فيها و قد كان نائبها سار للاغارة على مدينة صور و لقيه في طريقه صاحب انطاكية ذاهبا إلى دمشق منجدا فهزم عسكر بانياس و قتلوا و لحق فلهم بالبلد و قد وهنوا و حاصرهم معين الدين انز و الافرنج و ملكها عنوة و سلمها للافرنج و أحفظه ذلك و فرق العسكر في حوران و أعمال دمشق و سار هو فصابح دمشق و لم يعلموا بمكانه فبرزوا إليه و قاتلوه و قتل منهم جماعة ثم احجم عنهم لقلة من معه و ارتحل إلى مرج راهط في انتظار عساكره فلما توافوا عنده عاد إلى بلاده (5/275)
استيلاء الاتابك على شهرزور و أعمالها
كان شهرزور قفجاق بن أرسلان شاه أمير التركمان و صالحهم و كانت الملوك تتجافى عن أعماله لامتناعها و مضايقها فعظم شأنه و اشتمل عليه التركمان و سار إليه الاتابك زنكي سنة أربع و ثلاثين فجمع و لقيه فظفر به الاتابك و استباح معسكره و سار في اتباعه فحاضر قلاعه و حصونه و ملك جميعها و استأمن إليه قفجاق فأمنه و سار في خدمته و خدمة بنيه بعده إلى آخر المائة ثم كان في سنة خمس و ثلاثين بين الاتابك زنكي و بين داود بن سقمان صاحب كيفا فتنة و حروب و انهزم داود و ملك الاتابك من بلاده قلعة همرد و ادركه فعاد إلى الموصل ثم سار الاتابك إلى مدينة الحرمية فملكها سنة ست و ثلاثين و نقل آل مهارش الذين كانوا بها إلى الموصل و رتب أصحابه مكانهم ثم خطب له صاحب آمد و صار في طاعته بعد أن كان مع داود عليه ثم بعث الاتابك لسنة سبع و ثلاثين عسكرا إلى قلعة أشهب و هي أعظم من حصون الاكراد الهكارية و أمنعها و فيها أهلوهم و ذخائرهم فحاصرها و ملكها و أمره الاتابك بتخريبها و بنى قلعة العمادية عوضا عنها و كانت خربت قبل ذلك لاتساعها و عجزهم عن حمايتها فأعيدت الآن و كان نصير الدين نائب الموصل قد فتح أكثر القلاع الحربية و الله تعالى أعلم (5/276)
صلح الاتابك مع السلطان مسعود و استيلاؤه على أكثر ديار بكر
كان السلطان مسعود ملك السلجوقية قد حقد على الاتابك زنكي شأن الخارجين على طاعته من أهل الاطراف و ينسب ذلك إليه و كان يفعل ذلك مشغلة للسلطان عنه فلما فرغ السلطان مسعود من شواغله سنة ثمان و ثلاثين و خمسمائة سار إلى بغداد عازما على قصد الاتابك و حصار الموصل فأرسل الاتابك يستعطفه و يستميله على أن يدفع إليه مائة ألف دينار و يعود عنه فشرع في ذلك و حمل منها عشرين ألفا ثم حدثت الفتنة على السلطان فاحتاج إلى مداراته و ترك له الباقي و بالغ هو في مخالصة السلطان بحيث أن ابنه غازي كان عند السلطان فهرب إلى الموصل فبعث إلى نائبها نصير الدين جقري يمنعه من دخولها و بعث إلى ابنه بالرجوع إلى خدمة السلطان و كتب إلى السلطان بأن ابني هرب للخوف من تغيير السلطان عليه و قد أعدته إلى الخدمة و لم ألفه و أنا مملوكك و البلاد لك فوقع ذلك من السلطان أحسن المواقع ثم سار الاتابك إلى ديار بكر ففتح طره و اسعرد و حران و حصن الرزق و حصن تطليت و حصن ياسنه و حصن ذي القرنين و غير هذه و ملك أيضا من بلاد ماردين الافرنج حملين و المودن و تل موزر و غيرها من بلاد حصون سجستان و أنزل بها الحامية و قصد آمد فحصرها و سير عسكرا إلى مدينة غانة من أعمال الفرات فملكها و الله تعالى أعلم (5/276)
فتح الرها و غيرها من أعمال الافرنج
كان الافرنج بالرها و سروج و البيرة قد أضروا بالمسلمين جوارهم مثل آمد و نصيبين و رأس عين و الرقة و كان زعيمهم و مقدمهم بتلك البلاد جوسكين الزعيم و رأى الاتابك أنه يوري عن قصدهم بغيره لئلا يجمعوا له فوري بغزو ديار بكر كما قلناه و جوسكين و عبر الفرات من الرها إلى غزنة و جاء الخبر بذلك إلى الاتابك فارتحل منتصف جمادي الاخيرة سنة تسع و ثلاثين و حرض المسلمين و حثهم على عدوهم و وصل إلى الرها و جوسكين غائب عنها فانحجز الافرنج بالبلد و حاصرهم شهرا و شد في حصارهم و قتالهم و لج في ذلك قبل اجتماع الافرنج و مسيرهم إليه ثم ضعف سورها فسقطت ثلمة منه و ملك البلد عنوة ثم حاضر القلعة و ملكها كذلك ثم رد على أهل البلد ما أخذ منهم و أنزل فيه حامية و سار إلى سروج و جميع البلاد التي بيد الافرنج شرقيا فملكها جميعا إلا البيرة لامتناعها فأقام يحاصرها حتى امتنعت و رحل عنها و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/277)
مقتل نصير الدين جقري نائب الموصل و ولاية زين الدين على كجك مكانه بالقلعة
كان استقر عند الاتابك زنكي بالموصل الملك البارسلان ابن السلطان محمد و يلقب الخمفاجي و كان شبيها به و توهم السلطان أن البلاد له و أنه نائبه و ينتظر وفاة السلطان مسعود فيخطب له و يملك البلد باسمه و كان يتردد له و يسعى في خدمته فداخله بعض المفسدين في غيبة الاتابك و زين له قتل نصير الدين النائب و الاستيلاء على الموصل فلما دخل إليه أغرى به أجناد الاتابك و مواليه فوثبوا به و قتلوه في ذي القعدة سنة تسع و ثلاثين ثم ألقوا برأسه إلى أصحابه يحسبون أنهم يفترقون فاعصوصبوا و اقتحموا عليه الدار و دخل عليه القاضي تاج الدين يحي ابن الشهرزوري فأوهمه بطاعته و أشار عليه بالصعود إلى القلعة ليستولي على المال و السلاح فركب و صعد معه و تقدم إلى حافظ القلعة و أشار عليه بأن يمكنه من الدخول ثم يقبض عليه فدخل و دخل معه الذين قتلوا نصير الدين فحبسهم والي القلعة و عاد القاضي إلى البلد و طار الخبر إلى الاتابك زنكي بحصار البيرة فخشي اختلاف البلد و عاد إلى الموصل و قدم زين الدين على ابن كجك و ولاه القلعة مكان نصير الدين و أقام ينتظر الخبر و خاف الافرنج الذين بالبيرة من دعوته إليهم فبعثوا إلى نجم الدين صاحب ماردين و سلموها له فملكها المسلمون (5/278)
حصار زنكي حصن جعبر و فتك
ثم سار الاتابك زنكي سنة إحدى و أربعين في المحرم إلى حصن جعبر و يسمى دوس و هو مطل على الفرات و كان لسالم بن مالك العقيلي أقطعه السلطان ملك شاه لابيه حين أخذ منه حلب و بعث جيشا إلى قلعة فنك على فرسخين من جزيرة ابن عمر فحاصروها و صاحبها يومئذ حسام الدين الكردي فحاصر قلعة جعبر حتى توسط الحال بينهما حسان المنبجي و رغبه و رهبه و قال في كلامه من يمنعك منه فقال الذي منعك أنت من مالك بن بهرام و قد حاصر حسان منبج فأصابه في بعض الأيام سهم فقتله و أفرج عن حسان و قدر قتل الاتابك كذلك و الله تعالى أعلم (5/278)
مقتل الاتابك عماد الدين زنكي
كان الاتابك عماد الدين زنكي بن اقسنقر صاحب الموصل و الشام محاصرا لقلعة جعبر كما ذكرنا و اجتمع جماعة من مواليه اغتالوه ليلا و قتلوه على فراشه و لحقوا بجعبر و أخبروا أهلها فنادوا من السور بقتله فدخل أصحابه إليه و ألفوه بجود بنفسه و كان قتله لخمس من ربيع الآخر سنة إحدى و أربعين عن ستين سنة من عمره و دفن بالرقة و كان يوم قتل أبوه ابن سبع سنين و لما قتل دفن بالرقة و كان حسن السياسة كثير العدل مهيبا عند جنده عمر البلاد و أمنها و أنصف المظلوم من الظالم و كان شجاعا شديد الغيرة كثير الجهاد و لما قتل رحل العسكر عن قلعة فنك و صاحبها غفار قال ابن الاثير سمعتهم يزعمون أن لهم فيها نحو ثلثمائة سنة و فيهم رفادة و عصبية و يجيرون كل من يلجأ إليهم و الله أعلم (5/279)
استيلاء ابنه غازي على الموصل و ابنه الآخر محمود على حلب
و لما قتل الاتابك زنكي نزع ابنه نور الدين محمود خاتمه من يده و سار به إلى حلب فاستولى عليها و خرج الملك البارسلان ابن السلطان محمود و اجتمعت عليه العساكر و طمع في الاستقلال بملك الموصل و حضر ابنه جمال الدين محمد بن علي ابن متولي الديوان و صلاح الدين محمد بن الباغيسياني الحاجب و قد اتفقا فيما بينهما على حفظ الدولة لاصحابهما و حسنا لألبارسلان ما هو فيه من الاشتغال بلذاته و أدخلاه الرقة فانغمس بها و هما يأخذان العهود على الأمراء لسيف الدين غازي و يبعثانهم إلى الموصل و كان سيف الدين غازي في مدينة شهرزور و هي أقطاعه و بعث إليه زين الدين على كوجك نائب القلعة بالموصل يستدعيه ليحضر عنده و سار البارسلان إلى سنجار و الحاجب و صاحبه معه و دسوا إلى نائبها بأن يعتذر للملك البارسلان بتأخره حتى الموصل فساروا إلى الموصل و مروا بمدينة و قد وقف العسكر فأشاروا على البارسلان بعبور دجلة إلى الشرق و بعثوا إلى سيف الدين غازي بخبره و قلة عسكره فأرسل إليه عسكرا فقبضوا و جاؤا به فحبسه بقلعة الموصل و استولى سيف الدين غازي على الموصل و الجزيرة و أخوه نور الدين محمود على حلب و لحق به صلاح الدين الباغيسياني فقام بدولته و الله سبحانه و تعالى يؤيد بنصره من يشاء من عباده (5/279)
عصيان الرها
و لما قتل الأتابك زنكي ملك الرها جوسكين كان جوسكين مقيما في ولايته بتل باشر و ما جاورها فراسل أهل الرها و عامتهم من الارمن و حملهم على العصيان على المسلمين و تسليم البلد له فأجابوه و واعدوه ليوم عينوه فسار في عساكره و ملك البلد و امتنعت القلعة و بلغ الخبر إلى نور الدين محمود و هو بحلب فأغذ السير إليها و أجفل جوسكين إلى بلده و نهب نور الدين المدينة و سبا أهلها و ارتحلوا عنها و بعث سيف الدين غازي العساكر إليها فبلغهم في طريقهم ما فعله نور الدين فعادوا و ذلك سنة إحدى و أربعين ثم قصد صاحب دمشق بعد قتل الأتابك حصن بعلبك و به نجم الدين أيوب بن شادي نائب الأتابك فابطأ عليه انجاد بنيه فصالح صاحب دمشق و سلم له بعلبك على اقطاع و مال أعطاه اياه و عشر قرى من بلاد دمشق و انتقل معه إلى دمشق فسكنها و أقام بها ثم سار نور الدين محمود سنة اثنتين و أربعين من حلب إلى الافرنج ففتح مدينة ارتاج عنوة و حاصر حصونا أخرى و كان الافرنج بعد قتل الأتابك يظنون أنهم يستردون ما أخذه منهم فبدا لهم ما لم يكونوا يحتسبون و لما قتل الأتابك زنكي طمع صاحب ماردين و صاحب كيفا أن يستردوا ما أخذ من بلادهم فلما تمكن سيف الدين غازي سار إلى أعمال ديار بكر فملك دارا و غيرها و تقدم إلى ماردين و حاصرها و عاث في نواحيها حتى ترحم صاحبها حسام الدين تمرتاش على الأتابك مع عداوته ثم أرسل إلى سيف الدين غازي و صالحه و زوجه بنته فعاد إلى الموصل و زفت إليه و هو مريض فهلك قبل زفافها و تزوجها أخوه قطب الدين من بعده و الله أعلم (5/280)
مصاهرة سيف الدين غازي لصاحب دمشق و هزيمة نور الدين محمود للإفرنج
كان تقدم لنا في دولة بني طغركين موالى دقاق بن تتش أن ملك اللمان من الإفرنج سار سنة ثلاث و أربعين و حاصر دمشق بجموع الإفرنج و بها محي الدين ارتق بن بوري بن محمد بن كغركين في كفالة معين الدين أنز مولى فبعث معين الدين إلى سيف الدين غازي بن أتابك زنكي بالموصل يدعوه إلى نصرة المسلمين فجمع عساكره و سار إلى الشام و استدعى أخاه نور الدين من حلب و نزلوا على حمص فأخذوا بحجزة الإفرنج عن الحصار و قوي المسلمون بدمشق عليهم و بعث معين الدين إلى طائفتي الإفرنج من سكان الشام و اللمان الواردين فلم يزل يضرب بينهم و جعل لإفرنج الشام حصن بانياس طعمة على أن يرحلوا بملك اللمانيين ففتلوا له في الذروة و الغارب حتى رحل عن دمشق و رجع إلى بلاده وراء قسطنطينية بالشمال و حسن أمر سيف الدين غازي و أخيه في الدفاع عن المسلمين و كان مع ملك اللمان حين خرج إلى الشام ابن ادفونش ملك الجلالقة بالأندلس و كان جده هو الذي ملك طرابلس الشام من المسلمين حين خروج الإفرنج إلى الشأم فلما جاء الآن مع ملك اللمان ملك حصن العريمة و أخذ في منازلة طرابلس ليملكها من القمص فأرسل القمص إلى نور الدين محمود و معين الدين أنز و هم مجتمعان ببعلبك بعد رحيل ملك اللمانيين عن دمشق و أغراهما بابن ادفونش ملك الجلالقة و استخلاص حصن العريمة من يده فسارا لذلك سنة ثلاث و أربعين و خمسمائة و بعث إلى سيف الدين و هو بحمص فأمدهما بعسكر مع الأمير عز الدين أبي بكر الديسي صاحب جزيرة ابن عمر و حاصروا حصن العريمة أياما ثم نقضوا سوره و ملكوه على الإفرنج و أسروا من كان به من الإفرنج و معهم ابن ادفونش و عاد إلى سيف الدين عسكره ثم بلغ نور الدين إن الإفرنج تجمعوا في بيقو من أرض الشام للاغارة على أعمال حلب فسار إليهم و قتلهم و هزمهم و أثخن فيهم قتلا و أسرا و بعث من غنائمهم و أسراهم إلى أخيه سيف الدين غازي و إلى المقتفي الخليفة انتهى و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/280)
وفاة سيف الدين غازي و ملك أخيه قطب الدين مودود
ثم توفي سيف الدين غازي بن الأتابك زنكي صاحب الموصل منتصف أربع و أربعين و خمسمائة لثلاث سنين و شهرين من ولايته و خلف صغيرا ربي عند عمه نور الدين محمود و هلك صغيرا فانقرض عقبه و كان كريما شجاعا متسع المائدة يطعم بكرة و عشية مائة رأس من الغنم في كل نوبة و هو أول من حمل الصنجق على رأسه و أمر بتعليق السيوف بالمناطق و ترك التوشح بها و حمل الدبوس في حلقة السرج و بني المدارس للفقهاء و الربط للفقراء و لما أنشده حيص بيص الشاعر يمدحه
( الام يراك المجد في زي شاعر ... و قد نحلت شوقا إليك المنابر )
فوصله بألف مثقال سوى الخلع و غيرها و لما توفي سيف الدين غازي انتقض الوزير جمال الدين و أمير الجيوش زين الجيوس زين الدين علي و جاؤا بقطب الدين مودود و بادروا إلى تمليكه و استخلفوه و حلفوا له و ركب إلى دار السلطنة و زين في ركابه فبايعوا له و أطاعه جميع من في أعمال أخيه بالموصل و الجزيرة و تزوج الخاتون بنت حسام الدين تمرتاش صاحب ماردين التي هلك أخوه قبل زفافها فكان ولده كلهم منها و الله سبحانه و تعالى أعلم (5/281)