بقية الخبر عن وزراء المقتدر
قد تقدم الكلام في وزارة حامد بن العباس و أن علي بن عيسى كان مستبدا عليه في وزارته و كان كثيرا ما يطرح جانبه و يسيء في توقعاته على عماله و إذا اشتكى إليه أحد من نوابه يوقع على القصة : إنما عقد الضمان على الحقوق الواجبة فليكف الظلم عن الرعية فأنف حامد من ذلك و استأذن في المسير إلى واسط للنظر في ضمانه فأذن له ثم كثرت إستغاثة الخدم و الحاشية من تأخر أرزاقهم و فسادها فإن علي بن عيسى كان يؤخرها و إذا اجتمعت عدة شهور أسقطوا بعضها و كثرت السعاية و استغاث العمال و جميع أصحاب الأرزاق بأنه حط من أرزاقهم شهرين من كل سنة فكثرت الفتنة على حامد و كان الحسن ابن الوزير ابن الفرات متعلقا بمفلح الأسود خالصة الخليفة المقتدر و كان شقيقه لأبيه و جرى بينه و بين حامد يوما كلام فأساء عليه حامد و حقد له و كتب ابن الفرات إلى المقتدر و ضمن له أموالا فأطلقه و استوزره و قبض على علي بن عيسى و حبسه في مكانه و ذلك سنة إحدى عشرة و جاء حامد من واسط فبعث ابن الفرات من يقبض عليه فهرب من طريقه و اختفى ببغداد ثم مضى إلى نصر بن الحاجب سرا و سأل إيصاله إلى المقتدر و أن يحبسه بدار الخلافة و لا يمكن ابن الفرات منه فاستدعى نصر الحاجب مفلحا الخادم حتى وقفه على أمره و شفع له في رفع المؤاخذة بما كان منه فمضى إلى المقتدر و فاوضه بما أحب و أمر المقتدر بإسلامه لابن الفرات فحبسه مدة ثم أحضره و أحضر له القضاة و العمال و ناظره فيما وصل إليه من الجهات فأقر بنحو ألف ألف دينار و ضمنه المحسن بن الفرات بخمسمائة ألف دينار فسلم إليه و عذبه أنواعا من العذاب و بعثه إلى واسط ليبيع أمواله هناك فهلك في طريقه بإسهال أصابه ثم صودر علي بن عيسى على ثلثمائة ألف دينار و عذبه المحسن بعد ذلك عليها فلم يستخرج منه شيئا و سيره ابن الفرات أيام عطلته و حبسه بعد أن كان رباه و أحسن إليه فقبض عليه مدة ثم أطلقه و قبض على ابن الجوزي و سلمه إلى ابنه المحسن فعذبه ثم بعثه إلى الأهواز لاستخراج الأموال فضربه الموكل به حتى مات و قبض أيضا على الحسين بن أحمد و كان تولى مصر و الشام و على محمد بن علي المارداني و صادرهما على ألف ألف و سبعمائة ألف دينار و صادر جماعة من الكتاب سواهم و نكبهم و جاء مؤنس من غزاته فأنهى إليه أفعال ابن الفرات و ما هو يعتمد من المصادرات و النكايات و تعذيب ابنه للناس فخافه ابن الفرات و خوف المقتدر منه و أشار بسيره إلى الشام ليقيم هنالك بالثغر فبعثه المقتدر و أبعده ثم سعى ابن الفرات بنصر الحاجب و أغراه به و أطمعه في ماله و كان مكثرا و استجار نصر بأم المقتدر ثم كثر الارجاف بابن الفرات فخاف و انهى إلى المقتدر بأن الناس عادوه لنصحه للسلطان و استيفاء حقوقه و ركب هو و ابنه المحسن إلى المقتدر فأوصلهما إليه و أسهمهما و خرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب و دخل مفلح على المقتدر و أشار إليه بعزله فأسر إليه وفاقه على ذلك و أمر بتخلية سبيلهما و اختفى المحسن من يومه و جاء نازوك و بليق من الغد في جماعة من الجند إلى دار ابن الفرات فأخرجوه حافيا حاسرا و حمل إلى مؤنس المظفر و معه هلال بن بدر ثم سلم إلى شفيع اللؤلؤي فحبس عنده و صودر على ألف ألف دينار و ذلك سنة اثنتي عشرة و كان عبد الله أبو القاسم بن علي بن محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان لما تغير حال ابن الفرات سعى في الوزارة و ضمن في ابن الفرات و أصحابه ألفي ألف دينار على يد مؤنس الخادم و هرون بن غريب الحال و نصر الحاجب فاستوزره المقتدر على كراهية فيه و مات أبوه علي على وزارته و شفع إليه مؤنس الخادم في إعادة علي بن عيسى من صنعاء فكتب له في العود و بمشارفة أعمال مصر الشام و أقام المحسن بن الفرات مختفيا مدة ثم جاءت إمرأة إلى دار المقتدر تنادي بالنصيحة فأحضرها نصر الحاجب فدلت على المحسن فأحضر نازوك صاحب الشرطة فسلم للوزير و عذب بأنواع العذاب فلم يستخرج منه شيء فأمر المقتدر بحمله إلى أبيه بدار الخلافة و جاء الوزير أبو القاسم الخاقاني إلى مؤنس و هرون و نصر فحذرهم شأن ابن الفرات و غائلته بدار الخلافة و أغراهم به فوضعوا القواد و الجند و قالوا : لابد من قتل ابن الفرات و ولده و وافق هؤلاء على ذلك فأمر نازوك بقتلهما فذبحهما و جاء هرون إلى الوزير الخاقاني يهنئه بذلك فأغمي عليه ثم أفاق و أخذ منه ألفي دينار و شفع مؤنس المظفر في ابنيه عبد الله و أبي نصر فأطلقهما و وصلهما بعشرين ألف دينار ثم عزل الخاقاني سنة ثلاث عشرة لأنه أصابه المرض و طال به و شغب الجند في طلب أرزاقهم فوقفت به الأحوال و عزله المقتدر و ولى مكانه أبا العباس الخصي و كان كاتبا لأمه فقام بالأمر و أقر علي عيسى على أعمال مصر و الشام فكان يتردد إليهما من مكة ثم أن الخصي اضطربت أموره و ضاقت الجباية و كان مدمنا للسكر مهملا للأمور و وكل من يقوم عنه فآثروا مصالحم و أضاعوا مصلحته و أشار مؤنس المظفر بعزله و ولاية ابن عيسى فعزل لسنة و شهرين و استقدم علي بن عيسى من دمشق و أبو القاسم عبد الله بن محمد الكواذي بالنيابة عنه إلى أن يحضر فحضر أول سنة خمس عشرة و استقل بأمر الوزارة و طلب كفالات المصادرين و العمال و ما ضمن من الأموال بالسواد و الأهواز و فارس و المغرب فاستحضرها شيئا بعد شيء و أدر الأرزاق و بسط العطاء و أسقط أرزاق المغنين و المسامرة و الندمان و الصفاعنة و أسقط من الجند أصاغر الأولاد و من ليس له سلاح و الهرمي و الزمنى و باشر الأمور بنفسه و استعمل الكفاة و طلب أبا العباس الخصي في المناظرة و أحضر له الفقهاء و القضاة و الكتاب و سأله عن أمواله الخوارج و النواحي و المصادرات و كفالاتها و ما حصل من ذلك و ما الواصل و البواقي فقال لا أعلم فسأله عن المال الذي سلمه لابن أبي الساج كيف سلمه بلا مصرف و لا منفق و كيف سلم إليه أعمال المشرق و كيف بعثه لبلاد الصحراء بهجرهو و أصحابه من أهل الغلول و الخصب فقال : ظننت منهم القدرة على ذلك و امتنع ابن أبي الساج من المنفق فقال : و كيف استجزت ضرب حرم المصادرين ؟ فسكت ثم سئل عن الخراج فخلط فقال : أنت غررت أمير المؤمنين من نفسك فهلا استعذرت بعدم المعرفة ثم أعيد إلى محبسه و استمر علي بن عيسى في ولايته ثم اضطربت عليه الأحوال و اختلفت الأعمال و نقص الإرتياع نقصا فاحشا وزادت النفقات و زاد المقتدر تلك الأيام في نفقات الخدم والحرم ما لا يحصى و عاد الجند من الأنبار فزادهم في أرزاقهم مائتين و أربعين ألف دينار فلما رأى ذلك علي بن عيسى و يئس من إنقطاعه أو توقفه و خشى من نصر الحاجب فقد كان انحرف عنه لميل مؤنس إليه و ما بينهما من المنافرة في الدولة فاستعفى من الوزارة و ألح في ذلك و سكنه مؤنس فقال له : أنت سائر إلى الرقة و أخشى على نفسي بعدك ثم فاوض المقتدر نصر الحاجب بعد مسير مؤنس فأشار بوزارة أبي علي ابن مقلة فاستوزره المقتدر سنة ست عشرة و قبض على علي بن عيسى و أخيه عبد الرحمن و أقام ابن مقلة بالوزارة و أعانه فيها أبو عبد الله البريدي لمودة كانت بينهما و استمرت حاله على ذلك ثم عزله المقتدر و نكبه بعد سنتين و أربعة أشهر حين استوحش من مؤنس كما نذكره و كان ابن مقلة متهما بالميل إليه فأتفق مغيبه في بعض الوجوه فيقبض عليه المقتدر فلما جاء مؤنس سأل في إعادته فلم يجبه المقتدر و أراد قتله فمنعه و استوزر المقتدر سليمان بن الحسن و أمر علي بن عيسى بمشاركته في الإطلاع على الدواوين و صودر ابن مقلة على مائتي ألف دينار و أقام سليمان في وزارته سنة و شهرين و علي بن عيسى يشاركه في الدواوين و ضاقت عليه الأحوال إضاقة شديدة و كثرت المطالبات و وقفت وظائف السلطان ثم أفرد السواد بالولاية فانقطعت مواد الوزير لأنه كان يقيم من قبله من يشتري توقعات الأرزاق ممن لا يقدر على السعي في تحصيلها من العمال و الفقهاء و أرباب البيوت فيشتريها بنصف المبلغ فتعرض بعض من كان ينتمى لمفلح الخادم لتحصيل ذلك للخليفة و توسط له مفلح فدافع لذلك و جاهر في تحصله من العمال فاختلت الأحوال بذلك و فضح الديوان و دفعت الأحوال لقطع منافع الوزراء و العمال التي كانوا يرتفقون بها و إهمالهم أمور الناس بسبب ذلك و عاد الخلل على الدولة و تحرك المرشحون للوزارة في السعاية و ضمان القيام بالوظائف و أرزاق الجند و أشار مؤنس بوزارة أبي القاسم الكلواذي فاستوزره المقتدر في رجب من سنة تسع عشرة و أقام في وزارته شهرين و كان ببغداد رجل من المخرفين يسمى الدانيالي و كان وراقا ذكيا محتالا يكتب الخطوط في الورق و يداويها حتى تتم بالبلى و قد أودعها ذكر من يراه من أهل الدوله برموز و إشارات و يقسم له فيها من حظوظ الملك و الجاه و التمكين قسمة من عالم الغيب يوهم أنها من الحدثان القديم المأثور عن دانيال و غيره و أنها من الملاحم المتوارثة عن آبائه ففعل مثل ذلك بمفلح و كتب له في الأوراق م م م بأن يكون له كذا و كذا و سأله مفلح عن الميم فقال : هو كناية عنك لأنك مفلح مولى المقتدر و ناسب بينه و بين علامات مذكورة في تلك الأوراق حتى طبقها عليه فشغف به مؤنس و أغناه و كان يداخل الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب فرمز اسمه في كتاب و ذكر بعض علاماته المنطبقة عليه و ذكر أنه يستوزره الخليفة الثامن عشر من بني العباس و تستقيم الأمور على يديه و يقهر الأعادي و تعمر الدنيا في أيامه و خلط ذلك في الكتاب بحدثان كثير وقع بعضه و لم يقع الآخر و قرأ الكتاب على مفلح فأعجبه و جاء بالكتاب إلى المقتدر فأعجب به الآخر و قال لمفلح : من تعلم بهذه القصة ؟ فقال لا أراه إلا الحسين بن القاسم قال : صدقت و إني لأميل إليه و قد كان المقتدر أراد ولايته قبل ابن مقلة و قبل الكلواذي فامتنع مؤنس ثم قال المقتدر لمفلح : إن جاءتك رقعة منه بالسعي في الوزارة فأعرضها علي ثم سأل مفلح الدانيالي من أين لك الكتاب ؟ قال : وراثة من آبائي و هو من ملاحم دانيال فأنهى ذلك إلى المقتدر و اغتبطوا بالحسين و بلغ الخبر إليه فكتب إلى مفلح بالسعي في الوزارة فعرض كتابه على المقتدر فأمره بإصلاح مؤنس و اتفق أن الكلواذي عمل حسابا بما يحتاج إليه من النفقات الزائدة على الحاصل فكاتب سبعمائة ألف دينار و كتب عليه أهل الديوان خطوطهم و قال ليس لهذه جهة إلا ما يطلقه أمير المؤمنين فعظم ذلك على المقتدر و أمر الحسين بن القاسم أن يضمن جميع النفقات و زيادة ألف ألف دينار لبيت المال و عرض كتابه على الكلواذي فاستقال و أذن للكلواذي لشهرين من وزارته و ولى الحسين بن القاسم و اشترط أن لا يشاركه علي بن عيسى في شيء من أموره و إخراجه الصافية و اختص به الحسين بن اليزيدي و ابن الفرات و لما ولي و اطلع على نقصان الارتياع و كثرة الإنفاق و ضاق عليه الأمر فتعجل الجباية المستقبلة و صرفها في الماضية و بلغ ذلك هرون بن غريب الحال فأنهاه إلى المقتدر فرتب معه الخصي و اطلع على حسابه فألقى له حسبه ليس فيها رمزه فأظهر ذلك للمقتدر و جميع الكتاب و اطلعوا عليها قابلوا الوزير بتصديق الخصي فيما قاله و قبض على الحسين ابن القاسم في شهر ربيع من سنة عشرين لسبعة أشهر من ولايته و استوزر أبا الفتح الفضل بن جعفر و سلم إليه الحسين فلم يؤاخذه بإساءته و لم يزل على وزارته (3/464)
أخبار القرامطة في البصرة و الكوفة
كان القرامطة قد استبد طائفة منهم بالبحرين و عليهم أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجناني ورث ذلك عن أبيه و اقتطعوا ذلك العمل بأسره عن الدولة كما يذكر في أخبار دولتهم عند إفرادها بالذكر فقصد أبو طاهر البصرة سنة إحدى عشرة و مائتين و بها سبط مفلح فكبسها ليلا في ألفين و سبعمائة و تسنمو الأسوار بالجبال و ركب سبك فقتلوه و وضعوا السيف في الناس فأفحشوا في القتل و غرق كثير في الماء و أقام أبو طاهر بها سبعة عشر يوما و حمل ما قدر عليه من الأموال و الأمتعة و النساء و الصبيان و عاد إلى هجر و ولى المقتدر على البصرة محمد بن عبد الله الفارقي فانحدر إليها بعد انصرافهم عنها ثم سار أبو طاهر القرمطي سنة اثنتين عشرة معترضا للحاج في رجوعهم من مكة فاعترض أوائلهم و نهبهم و جاء الخبر إلى الحاج و هم بعيد و قد فنيت أزوادهم و كان معهم أبو الهيجاء بن حمدان صاحب طريق الكوفة ثم أغار عليهم أبو طاهر فأوقع بهم و أسر أبا الهيجاء أحمد بن بدر من أخوال المقتدر و نهب الأمتعة و سبى النساء و الصبيان و رجع إلى هجر و بقي الحجاج ضاحين في الفقر إلى أن هلكوا و رجع كثير من الحرم إلى بغداد و أشغبوا و اجتمع معهم حرم المنكوبين أيام ابن الفرات فكان ذلك من أسباب نكبته ثم أطلق أبو طاهر الأسرى الذين عنده ابن حمدان و أصحابه و أرسل إلى المقتدر يطلب البصرة و الأهواز فلم يجبه و سار من هجر لاعتراض الحاج و قد سار بين أيديهم جعفر بن ورقاء الشيباني في ألف رجل من قومه و كان صاحب أعمال الكوفة و على الحاج بمثل صاحب البحر و جنا الصفواني و طريف اليشكري و غيرهم في ستة آلاف رجل فقاتل جعفر الشيباني أولا و هزمه ثم اتبع الحاج إلى الكوفة فهزم عسكرهم و فتك فيهم و أسرجنا الصفواني و هرب الباقون و ملك الكوفة و أقام بظاهرها ستة أيام يقيم في المسجد إلى الليل و يبيت في عسكره و حمل ما قدر من الأموال و المتاع و رجع إلى هجر و وصل المنهزمون إلى بغداد فتقدم المقتدر إلى مؤنس بالخروج إلى الكوفة فسار إليها بعد خروجهم عنها و استخلف عليها ياقوتا و مضى إلى واسط ليمانع أبا طاهر دونها و لم يحج أحد هذه السنة و بعث المقتدر سنة أربع عشرة و عن يوسف بن أبي الساج من أذربيجان و سيره إلى واسط لحرب أبي طاهر و رجع مؤنس إلى بغداد و خرج أبو طاهر سنة خمس عشرة و قصد الكوفة و جاء الخبر إلى ابن أبي الساج فخرج من واسط آخر رمضان يسابق أبا طاهر إليها فسبقه أبو طاهر و هرب العمال عنها و استولى على الأتراك و العلوفات التي أعدت بها و وصل ابن أبي الساج ثامن شوال بعد وصول أبي طاهر بيوم و بعث يدعوه إلى الطاعة للمقتدر فقال لا طاعة إلالله فآذنه بالحرب و تزاحفوا يوما إلى الليل ثم انهزم أصحاب ابن أبي الساج و أسروا و وكل أبو طاهر طبيبا يعالج جراحته و وصل المنهزمون ببغداد فأرجفوا بالهرب و برز مؤنس المظفر لقصد الكوفة و قد سار القرامطة إلى عين التمر فبعث مؤنس من بغداد خمسمائة سرية ليمنعهم من عبور الفرات ثم قصد القرامطة الأنبار و نزلوا غربي الفرات و جاؤا بالسفن من الحديثة فأجاز فيها ثلثمائة منهم و قاتلوا عسكر الخليفة فهزموهم و استولوا على مدينة الأنبار و جاء الخبر إلى بغداد فخرج الحاجب في العساكر و لحق بمؤنس المظفر و اجتمعوا في نيف و أربعين ألف مقاتل إلى عسكر القرامطة ليخلصوا ابن أبي الساج فقاتلهم القرامطة و هزموهم و كان أبو طاهر قد نظر إلى ابن أبي الساج و هو يستشرف إلى الخلاص و أصحابه يشيرونه فأحضره و قتله و قتل جميع الأسرى من أصحابه و كثر الهرج ببغداد و اتخذوا السفن بالإنحدار إلى واسط و منهم من نقل متاعه إلى حلوان و كان نازوك صاحب الشرطة فأكثر التطوف بالليل و النهر و قتل بعض الدعار فأقصروا عن ثم سار القرامطة عن الأنبار فاتحة سنة ست عشرة و رجع مؤنس إلى بغداد و سار أبو طاهر إلى الرحبة فملكها و استباحها و استأمن إليه أهل قرقيسيا فأمنهم و بعث السرايا إلى الأعراب بالجزيرة فنهبوهم و هربوا بين يديه و قدر إليهم الأتاوة في كل سنة يحملونها إلى هجر ثم سار أبو طاهر إلى الرقة و قاتلها ثلاثا و بعث السرايا إلى رأس عين و كفر توثا و سنجار فاستأمنوا إليهم و خرج مؤنس المظفر من بغداد في العسكر و قصد الرقة فسار أبو طاهر عنها إلى الرحبة و وصلها مؤنس و سار القرامطة إلى هيت فامتنعت عليهم فساروا إلى الكوفة و خرج من بغداد نصر الحاجب و هرون بن غريب و بني بن قيس في العساكر إليها و وصلت جند القرامطة إلى قصر ابن هبيرة ثم مرض نصر الحاجب و استخلف على عسكره أحمد بن كيغلغ و عاد فمات في طريقه و ولى مكانه على عسكره هرون بن غريب و ولى مكانه في الحجة ابنه أحمد ثم انصرف القرامطة إلى بلادهم و رجع هرون إلى بغداد في شوال من السنة ثم اجتمع بالسواد جماعات من أهل هذا المذهب بواسط و عين التمر و ولى كل جماعة عليهم رجلا منهم فولى جماعة واسط حريث بن مسعود و جماعة عين التمر عيسى بن موسى و سار إلى الكوفة و نزل بظاهر و صرف العمال عن السواد و جبى الخراج و سار حريث إلى أعمال الموفق و بنى بها دارا سماها دار الهجرة و استولى على تلك الناحية و كان صاحب الحرب بواسط بني بن قيس فهزموه فبعث إليه المقتدر هرون بن غريب في العساكر و إلى قرامطة الكوفة صافيا البصري فهزموهم من كل جانب و جاؤا بأعلامهم بيضاء عليها مكتوب : و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض الآية و أدخلت إلى بغداد منكوسة و اضمحل أمر القرامطة بالسواد (3/469)
استيلاء القرامطة على مكة و قلعهم الحجر الأسود
ثم سار أبو طاهر القرمطي سنة تسع عشرة إلى مكة و حج بالناس منصور الديلمي فلما كان يوم التروية و نهب أبو طاهر أموال الحجاج و فتك فيهم بالقتل حتى في المسجد و الكعبة و اقتلع الحجر الأسود و حمله إلى هجر و خرج إليه أبو مخلب أمير مكة في جماعة من الأشراف و سألوه فلم يسعفهم و قاتلوا فقتلهم و قلع باب البيت و أصعد رجلا يقتلع الميزاب فسقط فمات و طرح القتلى في زمزم و دفن الباقين في المسجد حيث قتلوا و لم يغسلوا و لا صلى عليهم و لا كفنوا و قسم كسوة البيت على أصحابه و نهب بيوت أهل مكة و بلغ الخبر إلى المهدي عبيد الله بأفريقية و كانوا يظهرون الدعاء له فكتب إليه بالنكير و اللعن و يتهدده على الحجر الأسود فرده و ما أمكنه من أموال الناس و اعتذر عن بقية ما أخذوه بافتراقه في الناس (3/472)
خلع المقتدر و عوده
كان من أول الأسباب الداعية لذلك أن فتنة وقعت بين ما جورية هرون الحال و نازوك صاحب الشرطة في بعض مذاهب الفواحش فحبس نازوك ما جوريه هرون و جاء أصحاب إلى محبس الشرطة و وثبوا بنائبه و أخذوا أصحابهم من الحبس و رفع نازوك الأمر إلى المقتدر فلم يعد أحدا منهما لمكانهما منه فعاد الأمر بينهما إلى المقاتلة و بعث المقتدر إليهما بالنكير فأقصرا و استوحش هرون و خرج بأصحابه و نزل البستان النجمي و بعث إليه المقتدر بسترضيه فأرجف الناس أن المقتدر جعله أمير الأمراء فشق ذلك على أصحاب مؤنس و كان بالرقة فكتبوا إليه فأسرع العود إلى بغداد و نزل بالشماسية مستوحشا من المقتدر و لم يلقه و بعث ابنه أبا العباس و وزبره ابن مقلة لتلقيه و إيناسه فلم يقبل و تمكنت الوحشة و أسكن المقتدر ابن خاله هرون معه في داره فازداد نفور مؤنس و جاء أبو العباس بن حمدان من بلاده في عسكر كبير فنزل عند مؤنس و تردد الأمراء بين المقتدر و مؤنس و سار إليه نازوك صاحب الشرطة و جاءه بني بن قيس و كان المقتدر قد أخذ منه الدينور و أعادها إليه مؤنس و اشتمل عليه و جمع المقتدر في داره هرون بن غريب و أحمد بن كيغلغ و الغلمان الحجرية و الرجال المصافية ثم انتقض أصحاب المقتدر و جاؤا إلى مؤنس و ذلك في فتح سنة سبع عشرة فكتب مؤنس إلى المقتدر بأن الناس ينكرون سرفه فيما أقطع الحرم و الخدم من الأموال و الضياع و رجوعه إليهم في تدبير ملكه و يطالبه بإخراجهم من الدار و إخراج هرون بن غريب معهم و انتزع ما في أيديهم من الأموال والأملاك فأجاب المقتدر إلى ذلك و كتب يستعطفه و يذكره البيعة و يخوفه عاقبة النكث و أخرج هرون إلى الثغور الشامية و الجزرية فسكن مؤنس و دخل إلى بغداد و معه ابن حمدان و نازوك و الناس يرجفون بأنه خلع المقتدر فلما كان عشر محرم من هذه السنة ركب مؤنس إلى باب الشماسية و تشاور مع أصحابه قليلا ثم رجعوا إلى دار الخليفة بأسرهم و كان المقتدر قد صرف أحمد بن نصر القسوري عن الحجابة و قلدها ياقوتا و كان على حرب فارس فاستخلف مكانه ابنه أبا الفتح المظفر فلما جاء مؤنس إلى الدار هرب ابن ياقوت و سائر الحجبة و الخدم و الوزير و كل من بالدار و دخل مؤنس فأخرج المقتدر و أمه و ولده و خواص جواريه فنقلهم إلى داره و اعتقلهم بها و بلغ الخبر هرون بن غريب بقطريل فدخل إلى بغداد و استتر و مضى ابن حمدان إلى دار ابن طاهر فأحضر محمد بن المعتضد وبايعوه و لقبوه القاهر بالله و أحضروا القاضي أبا عمر المالكي عند المقتدر للشهادة عليه بالخلع و قام ابن حمدان يتأسف له و يبكي و يقول : كنت أخشى عليك مثل هذا و نصحتك فلم تقبل و آثرت قول الخدم و النساء على قولي و مع هذا فنحن عبيدك و خدمك و أودع كتاب الخلع عند القاضي أبي عمر و لم يظهر عليه أحدا حتى سلمه إلى المقتدر بعد عوده فحسن موقع ذلك منه و ولاه القضاء و لما تم الخلع عمد مؤنس إلى دار الخليفة فنهبها و مضى ابن نفيس إلى تربة أم المقتدر فاستخرج من بعض قبورها ستمائة ألف دينار و حملها إلى القاهر و أخرج مؤنس علي ابن عيسى الوزير من الحبس و ولى علي بن مقلة الوزارة و أضاف إلى نازوك الحجابة مع الشرطة و أقطع ابن حمدان حلوان و الدينور و همذان و كرمان و الصيمرة و نهوند و شيراز و ما سبذان مضافا إلى ما بيده من أعمال طريق خراسان و كان ذلك منتصف المحرم و لما تقلد نازوك الحجابة أمر الرجالة بتقويش خيامهم من الدار و أدالهم ابن جالة من أصحابه فأسفهم بذلك و تقدموا إلى خلفاء الحجاب بأن يمنعوا الناس من الدخول إلا أصحاب المراتب فاضطربت الحجرية لذلك فلما كان سابع عشر المحرم و هو يوم الاثنين بكر الناس إلى الخليفة لحضور الموكب و امتلأت الرحاب و شاطئ دجلة بالناس و جاء الرجالة المصافية شاكي السلاح يطالبون بحق البيعة و رزق سنة و قد بلغ منهم الحنق على نازوك مبالغة و قعد مؤنس عن الحضور ذلك اليوم و زعق الرجالة المصافية فنهى نازوك أصحابه أن يعرضوا بهم فزاد شغبهم و هجموا على الصحن المنيعي و دخل معهم من كان على الشط من العامة بالسلاح و القاهر جالس و عنده علي بن مقلة الوزير و نازوك فقال لنزوك أخرج إليهم فسكنهم ! فخرج و هو متحامل من الخمار فتقدم إلى الرجالة للشكوى بحالهم و رأى السيوف في أيديهم فهرب فحدث لهم الطمع فيه و في الدولة و اتبعوه فقتلوه و خادمه عجيفا و نادوا بشعار المقتدر و هرب كل من في الديار من سائر الطبقات و صلبوا نازوك و عجيفا على شاطئ دجلة ثم ساروا إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر و أغلق الخادم أبواب دار الخليفة و كانوا كلهم صنائغ المقتدر و قصد أبو الهيجاء حمدان الفرات فتعلق به القاهر و استقدم به فقال له : أخرج معي إلى عشيرتي أقتل دونك ! فوجد الأبواب مغلقة فقال له ابن حمدان : قف حتى أعود إليك و نزع ثيابه و لبس بعض الخلقان و جاء إلى الباب فوجده مغلقا و الناس من ورائه فرجع إلى القاهر و تمالأ بعض الخدم على قتله فقاتلهم حتى كشفهم و دخل في بعض مسارب البستان فجاؤه إليهم فقتلوه و حملوا رأسه و انتهى الرجالة إلى دار مؤنس يطلبون المقتدر فسلمه إليهم و حملوه على رقابهم إلى دار الخلافة فلما توسط الصحن المنيعي إطمأن و سأل عن أخيه القاهر و ابن حمدان و كتب لهما الأمان بخطه و بعث فيهما فقتل له إن ابن حمدان قد قتل فعظم عليه و قال : و الله ما كان أحمد بسيف في هذه الأيام غيره و أحضر القاهر فاستدناه و قبل رأسه و قال له : لا ذنب لك و لو لقبوك المقهور لكان أولى من القاهر ! و هو يبكي و يتطارح عليه حتى حلف له على الأمان فانبسط و سكن و طيف برأس نازوك و ابن حمدان و خرج أبو نفيس هاربا من مكان استتاره إلى الموصل ثم إلى أرمينية و لحق بالقسطنطينية فتنصر و هرب أبو السرايا أخو أبي الهيجاء إلى الموصل و أعاد المقتدر أبا علي بن مقلة إلى الوزارة و أطلق للجند أرزاقهم و زادهم و بيع ما في الخزائن بأرخص الأثمان و أذن في بيع الأملاك لتتمة الأعطيات و أعاد مؤنسا إلى محله من تدبير الدولة و التعويل عليه في أموره و يقال إنه كان مقاطعا للمقتدر و إنه الذي دس إلى المصافية و الحجرية بما فعلوه و لذلك قعد عن الحضور إلى القاهر ثم إن المقتدر حبس أخاه القاهر عند أمه فبالغت في الإحسان إليه و التوسعة عليه في النفقة و السراري (3/472)
أخبار قواد الديلم و تغلبهم على أعمال الخليفة
قد تقدم لنا الخبر عن الديلم في غير موضع من الكتاب و خبر افتتاح بلادهم بالجبال و الأمصار التي تليها مثل طبرستان و جرجان و سارية و آمد و استراباذ و خبر إسلامهم على يد الأطروش و أنه جمعهم و ملك بهم بلاد طبرستان سنة إحدى و ثلثمائة و ملك من بعده أولاده و الحسن بن القاسم الداعي صهره و استعمل منهم القواد على ثغورها فكان منهم ليلى بن النعمان كانت إليه ولاية جرجان عن الحسن ابن القاسم الداعي سنة ثمان ثلاثين و كانت بين بني سامان و بين بني الأطروش و الحسن بن القاسم الداعي و قواد الديلم حروب هلك فيها ليلى بن النعمان سنة تسع و ثلثمائة لأن أمر الخلفاء كان قد انقطع عن خراسان و ولوها ابني سامان فكانت بسبب ذلك بينهم و بين أهل طبرستان من الحروب ما أشرنا إليه ثم كانت بعد ذلك حرب مع بني سامان فولاها من قواد الديلم شرخاب بن بهبودان و هو ابن عم ما كان ابن كالي و صاحب جيش أبي الحسن الأطروش و قاتله سيمجور صاحب جيش بني سامان فهزمه و هلك شرخاب و ولى ابن الأطروش ما كان بن كالي على استراباذ فاجتمع إليه الديلم و قدموه على أنفسهم و استولى على جرجان كما يذكر ذلك كله في أخبار العلوية و كان من أصحاب ماكان هذا أسفار ابن شيرويه من قواد الديلم عن ما كان إلى قواد بني سامان فاتصل ببكر بن محمد بن أليسع بنيسابور و بعثه في الجنود لافتتاح جرجان و بها أبو الحسن بن كالي نائبا عن أخيه ما كان و هو بطبرستان فقتل أبو الحسن و قام بأمر جرجان علي بن خرشيد و دعا أسفار بن شيرويه إلى حماتيها من ما كان فزحف إليهم من طبرستان فهزموه و غلبوه عليها و نصبوا أبا الحسن و علي بن خرشيد فزحف ما كان إلى أسفار و هزمه و غلبه على طبرستان و رجع إلى بكر بن محمد بن أليسع بجرجان ثم توفي بكر سنة خمس عشرة فولى نصر بن أحمد بن سامان أسفار بن شيروية مكانه على جرجان و بعث أسفار عن مرداويج بن زيار الجبلي و قدمه على جيشه و قصدوا طبرستان فملكوها و كان الحسن بن القاسم الداعي قد استولى على الري و أعمالها من يد نصر بن سامان و معه قائده ما كان بن كالي فلما غلب أسفار على طبرستان زحف إليه الداعي و قائده ما كان فانهزما و قتل الداعي و رجع ما كان إلى الري و استولى أسفار ابن شيرويه على طبرستان و جرجان و دعا النصر بن أحمد بن سامان و نزل سارية و استعمل على آمد هرون بن بهرام ثم سار أسفار إلى الري فأخذها من يد ما كان ابن كالي و سار ما كان إلى طبرستان و استولى أسفار على سائر أعمال الري و قزوين و زنجان و أبهر و قم و الكرخ و عظمت جيوشه و حدثته نفسه بالملك فانتقض على نصر بن سامان صاحب خراسان و اعتزم على حربه و حرب الخليفة و بعث المقتدر هرون بن غريب الحال في عسكر إلى قزوين فحاربه أسفار و هزمه و قتل كثيرا من أصحابه ثم زحف إليه نصر بن سامان من بخارى فراسله في الصلح و ضمان أموال الجباية فأجابه و ولاه و رجع إلى بخارى فعظم أمر أسفار و كثر عيثه و عسف جنده و كان قائده مرداويج من أكبر قواده قد بعث أسفار إلى سلار صاحب سميرم و الطرم يدعوه إلى طاعته فاتفق مع سلار على الوثوب بأسفار و قد باطن في ذلك جماعة من قواد أسفار و وزيره محمد بن مطرف الجرجاني و نمي الخبر إلى أسفار و ثار به الجند فهرب إلى بيهق و جاء مرداويج من قزوين إلى الري و كتب إلى ما كان بن كالي يستدعيه من طبرستان ليظاهره على أسفار فقصد ما كان أسفار فهرب أسفار إلى الري ليتصل يأهله و ماله و قد كان أنزلهم بقلعة المرت و ركب المفازة إليها و نمي الخبر إلى مرداويج فسار لاعتراضه و قدم بعض قواده أمامه فلحقه القائد و جاء به إلى مرداويج فقتله و رجع إلى الري ثم قزوين و تمكن في الملك و افتتح البلاد و أخذ همذان و الدينور و قم و قاشان و أصبهان و أساء السيرة في أهل أصبهان و صنع سريرا من ذهب لجلوسه فلما قوي أمره نازع ما كان في طبرستان فغلبه عليها ثم سار إلى جرجان فملكها و عاد إلى أصبهان ظافرا و سار ما كان على الديلم مستنجدا بأبي الفضل الثائر بها و سار معه إلى طبرستان فقاتلهم عاملها من قبل مرداويج بالقسم بن بايحين و هزمهم و رجع الثائر إلى الديلم و سار ما كان إلى نيسابور ثم سار إلى الدامغان فصده عنها القسم فعاد إلى خراسان و عظم أمر مرداويج و استولى على بلد الري و الجبل و اجتمع إليه الديلم و كثرت جموعه و عظم خرجه فلم يكف ما في يده من الأعمال فسما إلى التغلب على النواحي فبعث إلى همذان الجيوش مع ابن أخته و كانت بها عساكر الخليفة مع محمد بن خلف فحاربهم و هزمهم و قتل ابن أخت مرداويج فسار من الري إلى همذان عسكر الخليفة عنها و ملكها مرداويج عنوة و استباحها ثم أمن بقيتهم و أنفذ المقتدر هرون بن غريب الحال في العساكر فلقيه مرداويج و هزمهم و استولى على بلاد الجبل و ما وراء همذان و بعث قائده إلى الدينور ففتحها عنوة و انتهت عساكره إلى حلوان فقتل و سبى و سار هرون إلى قرقيسيا فأقام بها و استمد المقتدر و كان معه اليشكري من قواد أسفار و كان قد استأمن بعد أسفار إلى الخليفة و سار في جملته و جاء مع هرون في هذه الغزاة إلى نهاوند لحمل المال إليه منها فلما دخلها استمدت عينه إلى ثروة أهلها فصادرهم على ثلاثة آلاف ألف دينار و استخرجها في مدة أسبوع و جند بها جندا و مضى إلى أصبهان و بها يومئذ ابن كيغلغ قبل استيلاء مرداويج عليها فقاتله أحمد و انهزم و ملك اليشكري أصبهان و دخل إليها أصحابه و قام بظاهر و سار أحمد بن كيغلغ في ثلاثين فارسا إلى بعض قرى أصبهان و ركب اليشكري ليتطوف على السور فنظر إليهم فسار نحوهم فقاتلوه و ضربه أحمد بن كيغلغ على رأسه بالسيف فقد المغفر و تجاوزه إلى دماغه فسقط ميتا و قصد أحمد المدينة ففر أصحاب اليشكري و دخل أحمد إلى أصبهان و ذلك قبل استيلاء عسكر مرداويج عليها فاستولى عليها و جددوا له فيها مساكن أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي و بساتينه و جاء مرداويج في أربعين أو خمسين ألفا فنزلها و بعث جمعا إلى الأهواز فاستولوا عليها و على خوزستان كذلك و جبى أموالها و قسم الكثير منها في أصحابه و ادخر الباقي و بعث إلى المقتدر يطلب ولاية هذه الأعمال و إضافة همذان و ماه الكوفة إليها على مائتي ألف دينار في كل سنة فأجابه و قاطعه و ولاه و ذلك سنة تسع عشرة ثم دعا مرداويج سنة عشرين أخاه و شكمير من بلاد كيلان فجاء إليه بدويا حافيا بما كان يعاني من أحوال البداوة و التبذل في المعاش ينكر كل ما يراه من أحوال الترف ورقة العيش ثم صار إلى ترف الملك و أحوال الرياسة فرقت حاشيته و عظم ترفهه و أصبح من عظماء الملوك و أعرفهم بالتدبير و السياسة (3/475)
ابتداء حال أبي عبد الله البريدي
كان بداية أمره عاملا على الأهواز و ضبط ابن ماكر لأن هذا الاسم بالموحدة و الراء المهملة نسبة إلى البريد و ضبطه ابن مسكوية بالياء المثناة التحتانية و الزاي نسبة إلى يزيد بن عبد الله بن المنصور الحميري كان جده يخدمه و لما ولي علي بن عيسى الوزارة و استعمل العمال و كان أبو عبد الله قد ضمن الخاصة بالأهواز و أخوه أبو يوسف على سوق فائق من الإقتصارية و أخوه علي هذا فلما وزر أبو علي بن مقلة بذل له عشرين ألف دينار على أن يقلده أعمالا فائقة فقلده الأهواز جميعها غير السوس و جنا سابور و قلد أخاه أبا الحسن القرانية و أخاهما أبا يوسف الخاصة و الأسافل و ضمن المال أبا يوسف السمسار و جعل الحسين بن محمد المارداني مشرفا على أبي عبد الله فلم يلتفت إليه و كتب إليه الوزير بن مقلة بالقبض على بعض العمال و مصادرته فأخذ منه عشرة آلاف دينار و استأثر بها على الوزير فلما نكب اين مقلة كتب المقتدر بخطه إلى الحاجب أحمد بن نصر القسوري بالقبض على أولاد البريدي و أن لا يطلقهم إلا بكتابه فقبض عليهم و جاء أبو عبد الله بكتاب المقتدر بخطه بإطلاقهم و ظهر تزويره فأحضرهم إلى بغداد و صودروا على أربعمائة ألف دينار فأعطوها (3/478)
الصوائف أيام المقتدر
ساره مؤنس المظفر سنة ست و تسعين في العساكر من بغداد إلى الفرات و دخل من ناحية ملطية و معه أبو الأغر السلمي فظفر و غنم و أسر جماعة و في سنة سبع و تسعين بعث المقتدر أبا القاسم بن سيما لغزو الصائفة سنة ثمان و تسعين و في سنة تسع و تسعين غزا بالصائفة رستم أميرالثغور و دخل من ناحية طرسوس و معه دميانة و حاصر حصن مليح الأرمني ففتحه و أحرقه و في سنة ثلثمائة مات إسكندروس بن لاور ملك الروم و ملك بعده ابنه قسطنطين ابن اثنتي عشرة سنة و في سنة اثنتين و ثلثمائة سار علي بن عيسى الوزير في ألف فارس لغزو الصائفة مددا لبسر الخادم عامل طرسوس و لم يتيسر لهم الدخول في المصيف فدخلوا شاتية في كلب البرد و شدته غنموا و سبوا و في سنة اثنتين و ثلثمائة غزا بسر الخادم والي طرسوس بلاد الروم ففتح و غنم و سبى و أسر مائة و خمسين و كان السبي نحوا من ألفي رأس و في سنة ثلاث و ثلثمائة أغارت الروم على ثغور الجزيرة و نهبوا حصن منصور و سبوا أهله بتشاغل عسكر الجزيرة بطلب الحسين بن حمدان مع مؤنس حتى قبض عليه كما مر و في هذه السنة خرج الروم إلى ناحية طرسوس و الفرات فقاتلوا و قتلوا نحوا من ستمائة فارس و جاء مليح الأرمني إلى مرعش فعاث في نواحيها و لم يكن للمسلمين في هذه السنة صائفة و في سنة أربع بعدها سار مؤنس المظفر بالصائفة و مر بالموصل فقلد سبكا المفلحي باريدي و قردي من أعمال الفرات و قلد عثمان العبودي مدينة بلد و سنجار و وصيفا البكتمري باقي بلاد ربيعة و سار إلى ملطية فدخل منها و كتب إلى أبي القاسم علي بن أحمد بن بسطام أن يدخل من طرسوس في أهلها ففتح مؤنس حصونا كثيرة و غنم و سبى و رجع إلى بغداد فأكرمه المعتضد و خلع عليه و في سنة خمس و ثلثمائة وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر في المهادنة و الفداء فتلقيا بالإكرام و جلس لهما الوزير في الابهة و صف الأجناد بالسلاح العظيم الشأن و الزينة الكاملة فأديا إليه الرسلة و أدخلهما من الغد على المقتدر و قد احتفل في الأبهة ما شاء فأجابهما إلى ما طلب ملكهم و بعث مؤنسا الخادم للفداء و جعله أميرا على بلد يدخله إلى أن ينصرف و أطلق الأرزاق الواسعة لمن سار معه من الجنود و أنفذ معه مائة و عشرين ألف دينار للفدية و فيها غزا الصائفة جنا الصفواني فغنم و غزا و سير نمالي الخادم في الأسطول فغنم و في السنة بعدها غزا نمالي في البحر كذلك و جنا الصفواني فظفر و فتح و عاد و غزا بشر الأفشين بلاد الروم ففتح عدة حصون و غنم و سبى و في سنة سبع غزا نمالي في البحر فلقي مراكب المهدي صاحب أفريقية فغلبهم و قتل جماعة منهم و أسر خادما للمهدي و في سنة عشرة و ثلثمائة غزا محمد بن نصر الحاجب من الموصل على قاليقلا فأصاب من الروم و سار أهل طرسوس من ملطية فظفروا و استباحوا و عادوا و في سنة إحدى عشرة غزا مؤنس المظفر بلاد الروم فغنم و فتح حصونا و غزا نمالي في البحر فغنم ألف رأس من السبي و ثمانية آلاف من الظهر و مائة ألف من الغنم و شيئا كثيرا من الذهب و الفضة و في سنة اثني عشرة جاء رسول ملك الروم بالهدايا و معه أبو عمر بن عبد الباقي يطلبان الهدنة و تقرير الفداء فأجيبا إلى ذلك ثم غدروا بالصائفة فدخل المسلمون بلاد الروم فأثخنوا و رجعوا و في سنة أربع عشرة خرجت الروم إلى ملطية و نواحيها مع الدمستق و مليح الأرمني صاحب الدروب و حاصروا ملطية و هربوا إلى بغداد و استغاثوا فلم يغاثوا و غزا أهل طرسوس بالصائفة فغنموا و رجعوا و في سنة خمس عشرة دخلت سرية من طرسوس إلى بلاد الروم فأوقع بهم الروم و قتلوا أربعمائة رجل صبرا و جاء الدمستق في عساكر من الروم إلى مدينة دبيل و بها نصر السبكي فحاصرهم و ضيق مخنقها و اشتد في قتالها حتى نقب سورها و دخل الروم إليها و دفعهم المسلمون فأخرجوهم و قتلوا منهم بعد أن غنموا ما لا يحصى و عاثوا في أنعامهم فغنموا من الغنم ثلثمائة ألف رأس فأكلوها و كان من رؤساء الأكراد يعرف بالضحاك في حصن له يعرف بالجعبري فتنصر و خدم ملك الروم فلقيه المسلمون في سنة الغزاة فأسروه و قتلوا من معه و في سنة ست عشرة و ثلثمائة خرج الدمستق في عساكر الروم فحاصر خلاط و ملكها صلحا و جعل الصليب في جامعها و رحل إلى تدنيس ففعل بها كذلك و هرب أهل أردن إلى بغداد و استغاثوا فلم يغاثوا و فيها ظهر أهل ملطية على سبعمائة رجل من الروم و الأرمن دخلوا بلدهم خفية و قدمهم مليح الأرمني ليكونوا لهم عونا إذا حاصروها فقتلهم أهل ملطية عن آخرهم و في سنة عشرة أهل الثغور الجزرية مثل ملطية و فارقين و آمد و أرزا يستمدون الممقتدر في العساكر و إلا فيعطوا الأتاوة للروم فلم يمدهم فصالحوا الروم و ملكوا البلاد و فيها دخل مفلح الساجي بلاد الروم و في سنة عشرين غزا نمالي بلاد الروم من طرسوس و لقي الروم فهزمهم و قتل منهم ثلثمائة و أسر ثلاثة آلاف و غنم من الفضة و الذهب شيئا كثيرا و عاد بالصائفة في سنته في حشد كثيرا و بلغ عمورية فهرب عنها من كان تجمع إليها من الروم و دخلها المسلمون فوجدوا من الأمتعة و الأطعمة كثيرا فغنموا و أحرقوا و توغلوا في بلاد الروم يقتلون و يكتسحون و يخربون حتى بلغوا انكمورية التي مصرها أهده و عادوا سالمين و بلغت قيمة السبي مائة ألف و ستة و ثلاثين ألف دينار و في هذه السنة راسل ابن الزيداني و غيره من الأرمن في نواحي أرمينية و حثوا الروم على قصد بلاد الإسلام فساروا و خربوا نواحي خلاط و قتلوا و أسروا فسار إليهم مفلح غلام يوسف بن أبي الساج من أذربيجان في جموع من الجند و المتطوعة فأثخن في بلاد الروم حتى يقال إن القتلى بلغوا مائة ألف و خرب بلاد ابن الزايدني و من وافقه و قتل و نهب ثم جاءت الروم إلى سميساط فحصروها و أمدهم سعيد بن حمدان و كان المقتدر ولاه الموصل و ديار ربيعة على أن يسترجع ملطية من الروم فلما جاء رسول أهل سميساط إليهم فأجفل الروم عنها فسار إلى ملطيةو بها عساكر الروم و مليح الأرمني صاحب الثغور الرومية و بني بن قيس صاحب المقتدر الذي تنصر فلما أحسوا باقبال سعيد هربوا و تركوها خشية أن يثب بهم أهلها و ملكها سعيد فاستخلف عليها و عاد إلى الموصل (3/478)
الولايات على النواحي أيام المقتدر
كان بأصبهان عبد الله بن إبراهيم المسمعي عاملا عليها خالف لأول ولاية المقتدر و جمع من الأكراد عشرة آلاف و أمر المقتدر بدرا الحمامي عامل أصبهان بالمسير إليه فسار إليه في خمسة آلاف من الجند و أرسل من يخوفه عاقبة المعصية فراجع الطاعة و سار إلى بغداد و استخلف على أصبهان و كان على اليمن المظفر بن هاج ففتح ما كان غلب عليه الحرثي باليمن و أخذ الحلتمي من أصحابه و كان على الموصل أبو الهيجاء بن حمدان و سار أخوه الحسين بن حمدان و أوقع بأعراب كلب وطيء و أسر سنة أربع و تسعين ثم سار إلى الأكراد المتغلبين على نواحى الموصل سنة خمس و تسعين فاستباحهم و هربوا إلى رؤوس الجبال و خرج بالحاج في سنة أربع و تسعين وصيف بن سوارتكين فحصره أعراب طيء بالقتال و أوقعهم فهزمهم و مضى إلى وجهه ثم أوقع بهم هنالك الحسن بن موسى فأثخن فيهم و كان على فارس سنة ست و تسعين اليشكري غلام عمرو بن الليث فلما تغلب و كان على الثغور الشامية أحمد بن كيغلغ في سنة سبع و تسعين ملك الليث فارس من يد اليشكرى ثم جاءه مؤنس فغلبه و أسره و رجع اليشكري إلى عمله كما مر في خبره و في سنة ست و تسعين وصل ناسر موسى بن سامان و قلد ديار ربيعة و قد مر ذكره و فيها رجع الحسين بن حمدان من الخلاف و عقد له على قم و قاشان فسار إليها و نزل عنها العباس بن عمر الغنوي و في سنة سبع و تسعين توفي عيسى النوشري عامل مصر و ولى تكين الخادم و في سنة ثمان و تسعين توفي منيح خادم الأفشين و هو عامل فارس و كان معه محمد بن جعفر الفريابي فماتا معا و ولى على فارس عبد الله بن إبراهيم المسمعي و أضيفت إليه كرمان و فيها وليت أم موسى الهاشمية قهرمة دار المقتدر و كانت تؤدي الرسائل عن المقتدر و أمه إلى الوزراء و عن الوزراء إليهما و في سنة تسع و تسعين كان على البصرة محمد بن إسحق بن كنداج و جاء إليه القرامطة فقاتلهم فهربوا و في سنة ثلثمائة عزل عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن فارس و كرمان و نقل إليها بدر الحمامي عامل أصبهان و ولي على أصبهان علي بن و هشودان و فيها ولي بشير الأفشين طرسوس و فيها قلد أبو العباس بن المقتدر مصر و المغرب و هو ابن أربع سنين و استخلف له على مصر مؤنس المظفر و قلد معين الطولوني العونة بالموصل ثم عزل و استعمل مكانه نحرير الصغير و فيها خالف أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان بالموصل فسار إليه مؤنس و جاء به على الأمان ثم قلد الموصل سنة اثنتين و ثلثمائة فاستخلف عليها و هو ببغداد ثم خالف أخوه الحسين سنة ثلثمائة و سار إليه مؤنس و جاء به أسيرا فحبس المقتدر على أبي الهيجاء و أخوته جميعا فحبسوا و فيها ولي الحسين بن محمد بن عينونة عامل الخراج و الضياع بديار ربيعة بعد وفاة أبيه محمد بن أبي بكر و في سنة أربع عزل علي بن وهشودان صاحب الحرب بأصبهان بمنافرة وقعت بينه و بين أحمد بن شاه صاحب الخراج و ولى مكانه أحمد ابن مسرور البلخي و أقام ابن وهشودان بنواحي الجبل ثم تغلب يوسف بن أبي الساج عليها كما مر و سار إليه مؤنس سنة سبع فهزمه و أسره و ولى على أصبهان و قم و قاشان و ساوة أحمد بن علي بن صعلوك و على الري ودنباوند و قزوين و أبهر و زنجان علي بن وهشودان إستدعاه من الجبل فولاه و وثب به عمه أحمد بن مسافر صاحب الكرم فقتله بقزوين فاستعمل مكانه علىالحرب وصيفا البكتمري و على الخراج محمد بن سليمان ثم سار أحمد بن صعلوك إليها فقتل محمد بن سليمان و طرد وصيفا ثم قاطع على الأعمال بمال معلوم كما مر و كان على أعمال سجستان كثير بن أحمد مهقور متغلبا عليها فسار إليه أبو الحمامي عامل فارس فخافه كثير و قاطع على البلاد و عقد له عليها و كان على كرمان سنة أربع و ثلثمائة أبو زيد خالد بن محمد المارداني فانتقض و سار شيراز فقاتله بدر الحمامي و قتله و في هذه السنة قلد مؤنس المظفر عند مسيره إلى الصائفة و انتهائه إلى الموصل فولوا على بلد باريدى و قردى سبكا المفلحي و على مدينة بلد و سنجار و باكرى عثمان العبودي صاحب الحرب بديار مصر فولى مكانه وصيف البكتمري فعجز عن القيام بها فعزل و ولى مكانه جنا الصفواني و كان على البصرة في هذه السنة الحسن بن الخليل تولاها منذ سنين و وقعت فتن بينه و بين العامة من مضر و ربيعة و اتصلت و قتل منهم خلق ثم اضطروه إلى الإلتحاق بواسط فاستعمل عليها أبا دلف هاشم بن محمد الخزاعي ثم عزل لسنة و ولى سبكا المفلحي نيابة عن شفيع المقتدري و في سنة ست و ثلثمائة عزل عن الشرطة نزار و جعل فيها نجيح الطولوني فأقام في الأرباع فقهاء يعمل أهل الشرطة بفتواهم فضعف الهبية بذلك و كثر اللصوص و العيارون و كسبت درو التجار و اختطفت ثياب الناس و في سنة سبع و ثلثمائة ولي إبراهيم بن حمدان ديار ربيعة و ولي بني بن قيس بلاد شهرزور و اتسعت عليه فاستمد المقتدر و حاصرها ثم قلد الحرب بالموصل و أعمالها و كان على الموصل قبله محمد بن إسحق بن كنداج و كان قد سار لإصلاح البلاد فوقعت فتنة بالموصل فرجع إليها فمنعوه الدخول فحاصرهم و عزله المقتدر سنة ثلاث و ثلثمائة و ولى مكانه عبد الله بن محمد الغساني و في سنة ثمان و ثلثمائة ولى المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان على طريق خراسان و الدرنور و فيها ولي على دقوقا و عكبرا و طريق الموصل بدرا الشرابي و في سنة تسع ولي المقتدر على حرب المصول و معونتها محمد بن نصر الحاجب فسار إليها و أوقع بالمخالفين من الأكراد المادرانية و فيها ولى داود بن حمدان على ديار ربيعة و في سنة عشر عقد ليوسف بن أبي الساج على الري و قزوين و أبهر و زنجان و أذربيجان على تقدير العلوية كما مر و فيها قبض المقتدر على أم موسى القهرمانة لأنها كانت كثيرة المال و زوجت بنت أختها من بعض ولد المتوكل كان مرشحا للخلافة و كان محسنا فلما صاهرته أوسعت في الشوار و اليسار و العرس و سعى بها إلى المقتدر أنه استخلصت القواد فقبض عليها و صادرها على أموال عظيمة و جواهر نفيسة و فيها قتل خليفة نصر بن محمد الحاجب بالموصل قتله العامة فجهز العساكر من بغداد و سار إليها و في سنة إحدى عشرة ملك يوسف بن أبي الساج الري من يد أحمد بن علي صعلوك و قتله المقتدر و قد مر خبره و فيها ولى المقتدر بني بن قيس على حرب أصبهان و ولى محمد بن بدر المعتضدي على فارس مكان ابنه بدر عندما هلك و في سنة اثنتي عشرة ولى على أصبهان يحيى الطولوني و على المعاون و الحرب بنهاوند سعيد بن حمدان و فيها توفي محمد بن نصر الحاجب صاحب الموصل و توفي شفيع اللؤلؤي صاحب البريد فولي مكانه شفيع المقتدري و في سنة ثلاث عشرة فتح إبراهيم المسمعي عامل فارس ناحية القفص من حدود كرمان و أسر منهم خمسة آلاف و كان في هذه السنة ولي على الموصل أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان و ابنه ناصر الدولة خليفة فيها فأفسد الأكراد و العرب بأرض الموصل و طريق خراسان و كانت إليه فكتب إليه ابنه ناصر الدولة سنة أربع عشرة بالإنحدار إلى تكريت للقائه فجاءه في الحشد و أوقع بالعرب و الأكراد الخلالية و حسم علتهم و فيها قلد المقتدر يوسف بن أبي الساج أعمال الشرق و عزل عن أذربيجان و ولاه واسط و أمده بالسير إليها لحرب القرامطة و أقطعه همذان و ساوة و قم و قاشان و ماه البصرة و ماه الكوفة و ما سبذان للنفقة في الحرب و جعل على الري من أعماله نصر بن سامان فوليها و صار من عماله كما مر و فيها ولي أعمال الجزيرة و الضياع بالموصل أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان و أضيف إليه باريدى و قردى و ما إليهما و فيها قتل ابن أبي الساج كما مر و في سنة خمس عشرة مات إبراهيم المسمعي بالنوبندجان و ولى المقتدر على مكانه ياقوت و على كرمان أبا طاهر محمد بن عبد الصمد و في سنة ست عشرة عزل أحمد بن نصر القسوري عن حجبة الخليفة و وليها ياقوت و هو على الحرب بفارس و استخلف عليها ابنه أبا الفتح المظفر و فيها ولي على الموصل و أعمالها يونس المؤنسي و كان على الحرب بالموصل ابن عبد الله بن حمدان و هو ناصر الدولة فغضب و عاد إلى الخلافة و قتل في تلك الفتنة نازوك و أقر على أعمال قردى و باريدى التي كانت بيد أبي الهيجاء ابنه ناصر الدولة الحسن و على أعمال الموصل نحريرا الصغير ثم ولى عليها سعيدا و نصرا ابني حمدان و هما أخوا أبي الهيجاء و ولى ناصر الدولة على ديار ربيعة و نصيبين و سنجار و الخابور و رأس عين و ميافارقين من ديار بكر و أرزن على مقاطعة معلومة و في سنة ثمان عشرة صرف ابنا رائق عن الشرطة و وليها أبو بكر محمد بن ياقوت عن الحجبة و قلد أعمال فارس و كرمان و قلد ابنه المظفر أصبهان و ابنه أبا بكر محمدا سجستان و جعل مكان ياقوت و ولده في الحجبة و الشرطة إبراهيم و محمد ابنا واثق فأقام ياقوت بشيراز و كان علي بن خلف بن طيان على الخوارج فتعاقدا على قطع الحمل عن المقتدر إلى أن ملك علي بن بويه بلاد فارس سنة ثلاث و عشرين و في هذه السنة غلب مرداويج على أصبهان و همذان و الري و حلوان و قاطع عليها بمال معلوم و صارت في ولايته (3/481)
استيحاش مؤنس من المقتدر الثانية و مسيره إلى الموصل
كان الحسين بن القاسم بن عبد الله بن وهب وزيرا للمقتدر و كان مؤنس منحرفا عنه قبل الوزارة حتى أصلح بليق حاله عند مؤنس فوزر و اختص به بنو البريدي و ابن الفرات ثم بلغ مؤنسا أن الحسين قد واطأ جماعة من القواد في التدبير عليه فتنكر له مؤنس و ضاقت الدنيا على الحسين و بلغه أن مؤنسا يكبسه فانتقل إلى الخلافة و كتب الحسين إلى هرون بن غريب الحال يستقدمه و كان مقيما بدير العاقول بعد انهزامه من مرداويج و كتب إلى محمد بن ياقوت يستقدمه من الأهواز فاستوحش مؤنس ثم جمع الحسين الرجال و الغلمان الحجرية في دار الخلافة و أنفق فيهم فعظمت نفرة مؤنس و قدم هرون من الأهواز فخرج مؤنس مغاضبا للمقتدر و قصد الموصل و كتب الحسين إلى القواد الذين معه بالرجوع فرجع منهم جماعة و سار مؤنس في أصحابه و مواليه و معه من الساجية ثمانمائة من رجالهم و تقدم الوزير بقبض أملاكه و أملاك من معه و أقطاعهم فحصل منه مال كثير و اغتبط المقتدر به لذلك و لقبه عميد الدولة و رسم اسمه في السكة و أطلق يده في الولاية و العزل فولى على البصرة و أعمالها أبا يوسف يعقوب بن محمد البريدي على مبلغ ضمنه و كتب إلى سعيد وداود ابني حمدان و ابن أخيهما ناصر الدولة الحسين بن عبد الله بمحاربة مؤنس فاجتمعوا على حربه إلا داود فإنه توقف لإحسان مؤنس إليه و تربيته إياه ثم غلبوا عليه فوافقهم على حربه و جمع مؤنس في طريقه رؤوساء العرب و أوهمهم أن الخليفة ولاه الموصل و ديار ربيعة فنفر معه بعضهم و اجتمع له من العسكر ثمانمائة و زحف إليه بنو حمدان في ثلاثين ألفا فهزمهم و ملك مؤنس الموصل في صفر من سنة عشرين و جاءته العساكر من بغداد و الشام و مصر رغبة في إحسانه و عاد ناصر الدولة بن حمدان إلى خدمته و أقام معه بالموصل و لحق سعيد ببغداد (3/485)
مقتل المقتدر و بيعة القاهر
و لما ملك مؤنس الموصل أقام بها تسعة و اجتمعت العساكر فإنحدر إلى بغداد لقتال المقتدر و بعث المقتدر الجنود مع أبي محمد بن ياقوت و سعيد بن حمدان فرجع عنهم العسكر إلى بغداد و رجعوا و جاء مؤنس فنزل بباب الشماسية و القواد قبالته و ندب المقتدر ابن خاله هرون بن غريب إلى الخوارج لقتاله فاعتذر ثم خرج و طالبوا المقتدر بالمال لنفقات الجند فاعتذر و أراد أن ينحدر إلى واسط و يستدعى العساكر من البصرة و الأهواز و فارس و كرمان فرده ابن ياقوت عن ذلك و أخرجه للحرب و بين يديه الفقهاء و القواد و المصاحف مشهورة و عليه البردة و الناس يحدقون به فانهزم أصحابه و لقيه علي بن بليق من أصحاب مؤنس فعظمه و أشار عليه بالرجوع و لحقه من المغاربة و البربر فقتلوه و حملوا رأسه و تركوه بالعراء فدفن هنالك و يقال إن علي بن بليق أشار إليهم بقتله و لما رأى مؤنس ذلك ندم و سقط في يده و قال : و الله لنقتلن جميعا و تقدم إلى الشماسية و بعث من يحتاط على دار الخلافة و كان ذلك لخمس و عشرين سنة من خلافة المقتدر فاتسع الخرق و طمع أهل القاصية في الاستبداد و كان مهملا لأمور خلافته محكما للنساء و الخدم في دولته مبذرا لأمواله و لما قتل لحق ابنه عبد الواحد بالمدائن و معه هرون بن غريب الحال و محمد بن ياقوت و إبراهيم بن راثق ثم اعتزم مؤنس على البيعة لولده أبي العباس و كان صغيرا فعذله وزيره أبو يعقوب إسمعيل النويحي في ولاية صغير في حجر أمه و أشار بأخيه أبي منصور محمد بن المعتضد فأجاب مؤنس إلى ذلك على كره و أحضر و بويع آخر شوال من سنة عشرين و لقبوه القاهر بالله و استخلفه مؤنس لنفسه و لحاجبه بليق و ابنه علي و استقدم أبا علي بن مقلة من فارس فاستوزره و استحجب علي بن بليق ثم قبض على أم المقتدر و ضربها على الأموال فحلفت فأمرها بحل أوقافها فامتنعت فأحضر هو القضاة و أشهد بحل أوقافها و وكل في بيعها فاشتراها الجند من أرزاقهم و صادر جميع حاشية المقتدر و اشتد في البحث عن ولده و كبس عليهم المنازل إلى أن ظفر بأبي العباس الراضي و جماعة من أخوته و صادرهم و سلمهم علي بن بليق إلى كاتبه الحسين بن هرون فأحسن صحبتهم و قبض الوزير ابن مقلة على البريدي و أخوته و أصحابه و صادرهم على جملة من المال (3/486)
خبر ابن المقتدر و أصحابه
قد ذكرنا أن عبد الواحد بن المقتدر لحق بعد مقتل أبيه بالمدائن و معه هرون بن غريب الحال و مفلح و محمد بن ياقوت و ابنا رائق ثم انحدروا منها إلى واسط و أقاموا بها و خشيهم القاهر على أمره و استأمن هرون بن غريب على أن يبذل ثلثمائة ألف دينار و تطلق له أملاكه فأمنه القاهر و مؤنس و كتب له بذلك و عقد له على أعمال ماه الكوفة و ما سبذان و مهروبان و سار إلى بغداد و سار عبد الواحد بن المقتدر فيمن معه من واسط ثم إلى السوس و سوق الأهواز و طردوا العمال و جبوا الأموال و بعث مؤنس إليهم بليقا في العساكر وبذل أبو عبد الله البريدي في ولاية الأهواز خمسين ألف دينار فأنفقت في العساكر و سار معهم و انتهوا إلى واسط ثم إلى السوس فجاز عبد الواحد و من معه من الأهواز إلى تستر ثم فارقه جميع القواد و استأمنوا إلى بليق إلا ابن ياقوت و مفلحا و مسرورا الخادم و كان محمد بن ياقوت مستبدا على جميعهم في الأموال و التصرف فنفروا لذلك و استأمنوا لأنفسهم و لابن المقتدر إلى بليق فأمنهم بعد أن استأمنوا محمد بن ياقوت و أذن لهم ثم استأمن هو على بليق إلى أمان القاهر و مؤنس و ساروا إلى بغداد جميعهم فوفى لهم القاهر و أطلق لعبد الواحد أملاكه و ترك لأمه المصادرة التي صادرها و استولى أبو عبد الله البريدي على أعمال فارس و أعاد أخوته إلى أعمالهم (3/487)
مقتل مؤنس و بليق و ابنه
لما رجع محمد بن ياقوت من الأهواز و استخلصه القاهر و اختصه لخلواته و شوراه و كانت بينه و بين الوزير ابن علي بن مقلة عداوة فاستوحش لذلك و دس إلى مؤنس أن محمد بن ياقوت يسعى به عند القاهر و أن عيسى الطبيب سفيره في ذلك فبعث مؤنس علي بن بليق لإحضار عيسى و تقدم علي بن بليق بالإحتياط على القاهر فوكل به أحمد بن زيرك و ضيق على القاهر و كشف وجوه النساء المختلفات إلى القصر خشية إيصالهم الرقاع إلى القاهر حتى كشفت أواني الطعام و نقل بليق المحابيس من دار الخلافة إلى داره و فيهم أم المقتدر فأكرمها علي بن بليق و أنزلهم عند أمه فماتت في جمادى من سنة إحدى و عشرين و علم القاهر أن ذلك من مؤنس و ابن مقلة فشرع في التدبير عليهم و كان طريف السبكرى و نشرى من خدم مؤنس قد استوحشا من مؤنس لتقدم بليق و ابنه عليهما و كان اعتماد مؤنس على الساجية و قد جاؤا معه من الموصل و لم يوف لهم فاستوحشوا لذلك فداخلهم القاهر جميعا و أغراهم بمؤنس و بليق و بعث إلى أبي جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله و كان مختصا بابن مقلة و صاحب رأيه فوعده بالوزارة فكان يطالعه بالأخبار و شعر ابن مقلة بذلك فأبلغوا إلى مؤنس و بليق و أجمعوا على خلع القاهر و اتفق بليق و ابنه علي و ابن مقلة و الحسن بن هرون على البيعة لأبي أحمد بن المكتفي فبايعوه و حلفوا له و أطلعوا مؤنسا على ذلك فأشار بالمهل و تأنيس القاهر حتى يعوفوا من واطأه من القواد و الساجية و الحجرية فأبوا و هونوا عليه الأمر في استعجال خلفه فأذن لهم فأشاعوا أن أبا طاهر القرمطي و رد الكوفة و ندبوا علي بن بليق للمسير إليه ليدخل للوداع و يقبض على القاهر و ابن مقلة كان نائما فلما استقيظ أعاد الكتاب إلى القاهر فاستراب ثم جاءه طريف السيكري غلام مؤنس في زي إمرأة مستنصحا فأحضره و أطلعه على تدبيرهم و بيعتهم لأبي أحمد بن المكتفي فأخذ القاهر حذره و أكمن الساجية في دهاليز القصر و ممراته و جاء علي بن بليق في خف من أصحابه و استأذن فلم يؤذن له و كان ذا خمار فغضب و أفحش في القول فأخرج الساجية في السلاح و شتموه و ردوه و فر عنه أصحابه و ألقي بنفسه في الطيار و عبر إلى الجانب الغربي و اختفى الوزير ابن مقلة و الحسن بن هرون و ركب طريف إلى دار القاهر فأنكر بليق ما جرى لابنه و شتم الساجية و قال : لابد أن أستعدي الخليفة عليهم و جاء إلى القاهر و معه قواد مؤنس فلم يأذن له و قبض عليه و حبسه و على أحمد بن زيرك صاحب الشرطة و جاء العسكر منكرين لذلك فاسترضاهم و وعدهم بالزيارة و بإطلاق هؤلاء المحبوسين فافترقوا و بعث إلى مؤنس بالحضور عنده ليطالعه برأيه فأبى فعزله وولى طريف السيكرى مكانه و أعطاه خاتمه و قال : قد فوضت إلى ابني عبد الصمد ما كان المقتدر فوضه إلى ابنه محمد و قلدتك خلافته و رياسة الجيش و إمارة الأمراء و بيوت الأموال كما كان مؤنس و أمض إليه و أحمله إلى دار الخلافة مرفها عليه لئلا يجتمع إليه أهل الشر و يفسد ما بيننا و بينه فسار طريف إلى مؤنس و أخبره بأمان القاهر له و لأصحابه و حمله على الحضور عنده و هون عليه أمره و أن القاهر لا يقدر على مكروهة فركب و حضر فقبض عليه القاهر و حبسه قبل أن يراه و ندم طريف على ما فعل و استوحش و استوزر القاهر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله و وكل بدور مؤنس و بليق و ابنه علي و ابن مقلة و ابن زيرك و ابن هرون و نقل ما فيها و أحرقت دار ابن مقلة و جاء محمد بن ياقوت و قام بالحجبة فتنكر له طريف السيكري و الساجية فاختفى و لحق بابنه بفارس و كتب إليه القاهر بالعتب على ذلك و ولاه الأهواز و كان الذي دعا طريفا السيكري إلى الإنحراف عن مؤنس و بليق أن مؤنسا رفع رتبه بليق و ابنه عليه بعد أن كانا يخدمانه فأهملا جانبه ثم اعتزم بليق على أن يوليه مصر و فاوض في ذلك الوزير ابن مقلة فوافق عليه ثم أراد علي بن بليق عمل مصر لنفسه و منع من إرسال طريف فتربص بهم و أما الساجية فكانوا مع مؤنس بالموصل و كان يعدهم و يمنيهم و لما ولي القاهر و استبد بأمره لم يف لهم و كان من أعيانهم الخادم صندل و كان له بدار القاهر خادم اسمه مؤتمن باعه و اتصل بالقاهر قبل الخلافة فاستخلفه فلما شرع في التدبير على مؤنس و بليق بعث مؤنسا هذا إلى صندل يمت إليه تقديمه و يدخله في أمر القاهر و إزالة الحجر عنه فقصد إلى صندل و زوجته و تلطف و وصف القاهر بما شاء من محاسن الأخلاق و حمل زوجته على الدخول إلى دار القاهر حتىشافهها بما أراد أبلاغه إلى صندل و داخل صندل في ذلك سيما من قواد الساجية و اتفقوا على مداخلة طريف السيكرى في ذلك لعلمهم باستيحاشه من مؤنس فأجابهم على شريطة الإبقاء على مؤنس و بليق و ابنه و أن لا يزال مؤنس من مرتبته و تحالفوا على ذلك من الجانبين و طلب طريف عهد القاهر بخطه فكتب و زاد فيه أنه يصلي بالناس و يخطب لهم و يحج بهم و يغزو معهم و يتئد لكشف المظالم و غير ذلك من حسن السيرة و كان جماعة من الحجرية قد أبعدهم ابن بليق و أدال منهم بأصحابه فداخلهم طريف في أمر القاهر فأجابوه و نمي الخبر بذلك إلى ابن مقلة و إلى بليق و أرادوا القبض على قواد الساجية و الحجرية ثم خشوا الفتنة و دبروا على القاهر فلم يصلوا إليه لاحتجابه عنهم بالمرض فوضعوا أخبار القرامطة كما قدمناه و لما قبض القاهر على مؤنس ولى الحجابة سلامة الطولوني و على الشرطة أحمد بن خاقان و استوزر أبا جعفر محمد بن القاسم بن عبد الله مكان ابن مقلة و أمر بالنداء على المتسترين و الوعيد لمن أخفى و طلب أبا أحمد بن المكتفي فظفر به و بنى عليه حائطا فمات ثم ظفر بعلي فقتله ثم شغب الجند في شعبان و معهم أصحاب مؤنس و ثاروا و نادوا بشعاره و طلبوا إطلاقه و أحرقوا روشن دار الوزير أبي جعفر فعمد القاهر إلى بليق في محبسه و أمر به فذبح و حمل الرأسين إلى مؤنس فلما رآهما مؤنس استرجع و لعن قاتلهما فأمر به فذبح و طيف بالرؤوس ثم أودعت بالخزانة و قيل إن قتل علي بن بليق تأخر عن قتل أبيه و مؤنس لأنه كان مختفيا فلما ظفر به بعدهما قتله ثم بعث القاهر إلى أبي يعقوب إسحق بن إسمعيل اليوصحي فأخذ من محبس الوزير محمد بن القاسم و حبسه و ارتاب الناس من شدة القاهر و ندم الساجية و الحجرية على مداخلته في ذلك الأمر ثم قبض القاهر على وزيره أبي جعفر و أولاده و أخيه عبيد الله و خدمة لثلاثة أشهر و نصف من ولايته و مات لثمان عشرة ليلة من حبسه و استوزر مكانه أبا العباس أحمد بن عبيد الله بن سليمان الحصيبي ثم استبد القاهر على طريف السيكري و استخف به فخافه و تنكر ثم أحضره بعد أن قبض على الوزير أبي جعفر فقبض عليه و أودعه السجن ألى أن خلع القاهر (3/487)
ابتداء دولة بني بوية
كان أبوهم أبو شجاع بوية من رجالات الديلم و كان له أولاد : علي و الحسن و أحمد فعلي أبو الحسن عماد الدولة و الحسن أبو علي ركن الدولة و أحمد أبو الحسن معز الدولة و نسبهم ابن ماكولا في الساسانية إلى بهرام جور بن يزدجرد و ابن مسكوية إلى يزدجرد بن شهريار و هو نسب مدخول لأن الرياسة على قوم لا تكون في غير أهل بلدهم كما ذكرنا في مقدمة الكتاب و لما أسلم الديلم على يد الأطروش و ملك بهم طبرستان و جرجان و كان من قواده ماكان بن كالي و ليلى بن النعمان و أسفار بن شيروية و مرداويج بن وزيار و كانوا ملوكا عظاما و ازدحموا في طبرستان فساروا لملك الأرض عند اختلاط الدولة العباسية و ضعفها و قصدوا الإستيلاء على الأعمال و الأطراف و كان بنو بويه من جملة قواد ما كان بن كالي فلما وقع بينه و بين مرداويج من الفتنة و الخلاف ما تقدم و غلبه مرداويج على طبرستان و جرجان عادوا إلى مرداويخ لتخف عنه مؤنتهم على أن يرجعوا إليه إذا صلح أمره فساروا إلى مرداويج فقبلهم و أكرمهم و استأمن إليه جماعة و من قواد ما كان فقتلهم و أولادهم و ولى علي بن بويه على الكرج و كان أكبر أخوته و سار جميعهم إلى الري و عليها و شمكير بن وزيار أخو مرداويج و معه وزيره الحسين بن محمد الملقب بالعميد فاتصل به علي بن بويه و أهدى إليه بغلة كانت عنده و متاعا ندم مرداويج على ولاية هؤلاء المستأمنة من قواد ما كان فكتب إلى أخيه و شمكير بالقبض على الباقين و أراد أن يبعث في أثر علي بن بويه فخشي الفتنة تركه و لما وصل علي بن بويه إلى الكرج استقام أمره و فتح قلاعا للخرمية ظفر منها بذخائر كثيرة و استمال الرجال و عظم أمره و أحبه الناس و مرداويج يومئذ بطبرستان ثم عاد إلى الري و أطلق مالا لجماعة من القواد على الكرج فوصلوا إلى علي ابن بوية فأحسن إليهم و استمالهم و بعث إليهم مرداويج فدافعه فندم على إطلاقهم و بعث فيهم مرداويج أمراء الكرج فاستأمن إليه شيرزاد من أعيان قواد الديلم فقويت نفسه و سار إلى أصبهان و بها المظفر بن ياقوت على الحرب في عشرة آلاف مقاتل و أبو علي بن رستم على الخوارج فأرسل علي بن بويه يستعطفهما في الإنحياز إلى طاعة الخليفة و خدمته و المسير إلى الحضرة فلم يجيباه و كان أبو علي أشد كراهة له فمات تلك الأيام و سار ابن ياقوت ثلاثة فراسخ عن أصبهان و كان في أصحابه حسل و ديلم و استأمنوا إلى ابن بويه ثم اقتتلوا فانهزم ابن ياقوت و استولى علي بن بويه على أصبهان و هو عماد الدولة و كان عسكره نحوا من تسعمائة و عسكر ابن ياقوت نحوا من عشرة آلاف و بلغ ذلك القاهر فاستعظمه و بلغ مرداويج فأقلقه و خاف على ما بيده و بعث إلى عماد الدولة يخادعه يطلب الطاعة منه ليطمئن للرسالة و يخالفه أخوه و شمكير في العساكر و شعر ابن بويه بذلك فرحل عن أصبهان و قصد أرجان و بها أبو بكر بن ياقوت فانهزم أبو بكر من غير قتال و لحق رامهرمز و استولى ابن بويه على أرجان و خالفه و شمكير أخو مرداويخ إلى أصبهان فملكها و أرسل القاهر إلى مرداويخ بأن يسلم أصبهان لمحمد بن ياقوت ففعل و كتب أبو طالب يستدعيه و يهون عليه أمر ابن ياقوت و يغريه به فخشي ابن بويه من كثرة عساكر ياقوت و أمواله و أن يحصل بينه و بين ابنه تأهبات فتوقف فأعاد عليه أبو طالب و أراه أن مرداويج طلب الصلح من ابن ياقوت و خوفه اجتماعهما عليه فسار ابن بويه إلى أرجان في ربيع سنة إحدى و عشرين و لقيتهم هنالك مقدمة ابن ياقوت فانهزمت فزحف ابن ياقوت إليهم و بعث عماد الدولة أخاه ركن الدولة الحسن إلى كازرون و غيرها من أعمال فارس فجبى أموالها ولقي عسكر ابن ياقوت هنالك فهزمهم و رجع إلى أخيه و خشي عماد الدولة من اتفاق مرداويج مع ابن ياقوت فسار إلى أصطخر و اتبعه ابن ياقوت و شيعه إلى قنطرة بطريق كرمان اضطروا إلى الحرب عليها فتزاحفوا هنالك و استأمن بعض قواده إلي ابن ياقوت فقتلهم فاستأمن أصحابه و انهزم ابن ياقوت و اتبعه ابن بويه و استباح معسكره و ذلك في جمادي سنة اثنتين و عشرين و أبلى أخوه معز الدولة أحمد في ذلك اليوم بلاء حسنا و لحق ابن ياقوت بواسط و سار عماد الدولة إلى شيراز فملكها و أمن الناس و استولى على بلاد فارس و طلب الجند أرزاقهم فعجز عنها و عثر على صناديق من مخلف ابن ياقوت و ذخائر بني الصفار فيها خمسمائة ألف دينار فامتلأت خزائنه و ثبت ملكه و استقر ابن ياقوت بواسط و كاتبه أبو عبد الله اليزيدي حتى قتل مرداويج عاد إلى الأهواز و وصل عسكر مكرم و كانت عساكر ابن بويه سبقته فالتقوا بنواحي أرجان و انهزم ابن ياقوت فأرسل أبو عبد الله اليزيدي في الصلح فأجابه ابن بويه و استقر ابن ياقوت بالأهواز و معه ابن اليزيدي و ابن بويه ببلاد فارس ثم زحف مرداويج إلى الأهواز و ملكها من يد ابن ياقوت و رجع إلى واسط و كتب إلى الراضي و كان بعد القاهر كما نذكره و إلى وزيره أبي على بن مقلة بالطاعة و المقاطعة فيما بيده من البلاد بأعمال فارس على ألف ألف درهم فأجيب إلى ذلك و بعث إليه باللواء و الخلع و عظم شأنه في فارس و بلغ مرداويج شأنه فخاف عائلته و كان أخوه و شمكير قد رجع إلى أصبهان بعد خلع القاهر و صرف محمد بن ياقوت عنها فسار إليها مرداويج للتدبير على عماد الدولة و بعث أخاه و شمكير على الري و أعمالها (3/490)
خلع القاهر و بيعة الراضى
و لما قتل مؤنسا و أصحابه أقام يتطلب الوزير أبا علي بن مقلة و الحسن بن هرون و هما مستتران و كانا يراسلان قواد الساجية و الحجرية و يغريانهم بالقاهر فإنهم غروه كما فعل بأصحابه قبلهم و كان ابن مقلة يجتمع بالقواد و يراسلهم و يجيء إليهم متنكرا و يغريهم و وضعوا على سيما أن منجما أخباره أنه ينكب القاهر و يقتله و دسوا إلى معبر كان عنده أموالا على أن يحذره من القاهر فنفر و استوحش و حفر القاهر مطامير في داره فقيل لسيما و القواد إنما صنعت لكم فازدادوا نفرة و كان سيما رئيس الساجية فارتاب بالقاهر و جمع أصحابه و أعطاهم السلاح و بعث إلى الحجرية فجمعهم عنده و تحالفوا على خلع القاهر و زحفوا إلى الدور و هجموا عليه فقام من النوم و وجد الأبواب مشحونة بالرجال فهرب إلى السطح و دلهم عليه خادم فجاؤه و استدعوه للنزول فأبى فتهددوه بالرشق بالسهام فنزل و جاؤا به إلى محبس طريف السيكري فحبسوه مكانه و أطلقوه حتى سمل بعد ذلك و ذلك لسنة و نصف من خلافته و هرب الحصيبي و زيره و سلامة حاجبه و قد قيل خلعه غير هذا و هو أن القاهر لما تمكن من الخلافة اشتد على الساجية و الحجرية و استهان بهم فتشاكوا ثم خافه حاجبه سلامة لأنه كان يطالبه بالأموال و وزيره الخصيبي كذلك و حفر المطامير في داره فارتابوا به كما ذكرنا و أسر جماعة من القرامطة فحبسهم بتلك المطامير و أراد أن يستظهر بهم على الحجرية و الساجية فتنكروا ذلك و قالوا فيه للوزير و للحاجب فأخرجهم من الدار و سلمهم لمحمد بن ياقوت صاحب الشرطة و أوصاه إليهم فازاد الساجية و الحجرية ريبة ثم تنكر لهم القاهر و صار يعلن بذمهم و كراهتهم فاجتمعوا لخلعه كما ذكرنا و لما قبض القاهر بحثوا عن أبي العباس بن المقتدر و كان محبوسا مع أمه فأخرجوه و بايعوه في جمادى سنة اثنتين و عشرين و بايعه القواد و الناس و أحضر علي بن عيسى و أخاه عبد الرحمن و صدر عن رأيهما و أراد علي ابن عيسى على الوزارة فامتنع و اعتذر بالنكير و أشار بابن مقلة فأمنه و استوزره و بعث القضاة إلى القاهر ليخلع نفسه فأبى فسمل و أمن ابن مقلة الخصيبي و ولاه و ولى الفضل بن جعفر بن الفرات نائبا عنه عن أعمال الموصل و قردى و باريدى و ماردين و ديار الجزيرة و ديار بكر و طريق الفرات و الثغور الجزرية و الشامية و أجناد الشام و ديار مصر يعزل و يولي من يراه في الخراج و المعادن و النفقات و البريد و غير ذلك و ولى الراضي على الشرطة بدرا الحمامي و أرسل إلى محمد بن رائق يستدعيه و كان قد استولى على الأهواز و دفع عنها ابن ياقوت من تلك الولاية إلى السوس و جندي سابور و قد ولى على أصبهان و هو يروم المسير إليها فلما ولي الراضي استدعاه للحجابة فسار إلى واسط و طلب محمد بن ياقوت الحجابة فأجيب إليها فسار في أثر ابن رائق و بلغ ابن رائق الخبر فسار من واسط مسبقا لابن ياقوت بالمدائن توقيع الراضي بالحرب و المعادن في واسط مضافا إلى ما بيده من البصرة و المعادن فعاد منحدرا في دجلة و ليقه ابن ياقوت مصعدا و دخل بغداد و ولى الحجبة و صارت إليه رياسة الجيش و نظر في أمر الدواوين و أمرهم بحضور مجلسه و أن لا ينفذوا توقيعا في ولاية أو عزل أو اطلاق إلا بخطه و صار نظر الوزير في الحقيقة له و اين مقلة مكابر مجلسه مع جملتهم و متميز عنهم في الإيثار و المجلس فقط (3/492)
مقتل هرون
كان هرون بن غريب الحال على ماه الكوفة و الدينور و ما سبذان الأعمال التي ولاها القاهر إياه فلما خلع القاهر و استخلف الراضي رأى هرون أنه أحق بالدولة من غيره لأنه ابن خال المقتدر فكاتب القواد و وعدهم و سار من الدينور إلى خافقين و شكا ابن مقلة و ابن ياقوت و الحجرية و الساجية إلى الراضي فأذن لهم في منعه فراسلوه أولا بالمممانعة و الزيادة على ما في يده من الأعمال فلم يلتفت إليهم و شرع في الجباية فقويت شوكته فسار إليه محمد بن ياقوت في العساكر و هرب عنه بعض أصحابه إلى هرون و كتب إلى هرون يستميله فلم يجب و قال : لابد من دخول بغداد ثم تزاحفوا لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين و عشرين فانهزم أولا أصحاب ابن ياقوت و نهب سوادهم و سار محمد حتى قطع قنطرة تبريز و سار هرون منفردا لاعتراضه فدخل في بعض المياه و سقط عن فرسه و لحقه غلام لمحمد بن ياقوت فقطع رأسه و انهزم أصحابه و قتل قواده و أسر بعضهم و رجع ابن ياقوت إلى بغداد ظافرا (3/494)
نكبة ابن ياقوت
قد ذكرنا أنه نظر في أمر الدواوين و صير ابن مقلة كالعاطل فسعى به عند القاضي و أوهمه خلافه حتى أجمع القبض عليه في جمادى سنة ثلاث و عشرين فجلس الخليفة على عادته و حضر الوزير و سائر الناس على طبقاتهم يريد تقليد جماعة من القواد للأعمال و استدعى ابن ياقوت للخدمة في الحجبة على عادته فبادر و عدل به إلى حجرة فحبس فيها و خمار و بعث الوزير ابن مقلة إلى دار محمد من يحفظها من النهب و أطله يده في أمور الدولة و استبد بها و كان ياقوت مقيما بواسط فلما بلغه القبض على ابنه انحدار إلى فارس لمحاربة ابن بوية و كتب يستعطف الراضي و يسأله إبقاء ابنه ليساعده على شأنه و لم يزل محمد محبوسا إلى أن هلك سنة أربع عشرة في محبسه (3/494)
خبر البريدى
كان أبو عبد الله البريدي أيام ابن ياقوت ضامنا للأهواز فلما استولى عليها مرداويج و انهزم ابن ياقوت كما مر رجع البريدي إلى البصرة و صار يتصرف في أسافل الأهواز مع كنانة ياقوت ثم سار إلى ياقوت فأقام معه بواسط فلما قبض على ابن ياقوت و كتب ابن مقلة إليه و إلى ياقوت يعتذر عن قبض ابن ياقوت و يأمرهما بالمسير لفتح فارس فسار ياقوت على السوس و البريدي على طريق الماء حتى انتهيا إلى الأهواز و كان إلى أخوته أبي الحسن و أبي يوسف ضمان السوس و جندي سابور و ادعيا أن دخل البلاد أخذه مرداويج و بعث ابن مقلة ثانيا لتحقق ذلك فوافاهم و كتب بصدقهم فاستولى ابن البريدي ما بين ذلك على أربعة آلاف ألف دينار ثم أشار أبو عبد الله علي بن ياقوت بالمسير لفتح فارس و أقام هو لجباية الأموال فحصل منها بغيته و سار ياقوت فلقيه ابن بويه على أرجان فهزمه و سار إلى عسكر مكرم و اتبعه ابن بويه إلى رامهرمز و أقام بها إلى أن اصطلحا (3/495)
مقتل ياقوت
قد تقدم لنا انهزم ياقوت من فارس أمام عماد الدولة ابن بويه إلى عسكر مكرم و استيلاء ابن بويه على فارس و كان أبو عبد الله البريدي بالأهواز ضامنا كما تقدم و كان مع ذلك كاتبا لياقوت و كان ياقوت يستنيم إليه و يثق به و كان مغفلا ضعيف السياسة فخادعه أبو عبد الله البريدي و أشار عليه بالمقام بعسكر مكرم و أن يبعث إليه بعض جنده الواصلين من بغداد تخفيفا للمؤنة و تحذيرا من شغبهم و بعث إليه أخاه بذلك أبا يوسف و دفع له من مال الأهواز خمسين ألف دينار ثم قطع عنه فضاق الحال عليه و على جنده و كان قد نزع إليه من أصحاب ابن بويه طاهر الحمل و كاتبه أبو جعفر الصهيري ثم انصرف عنه لضيق حاله إلى غربي تستر ليتغلب على ماه البصرة فكبسه ابن بويه و غنم معسكره و أسر الصهيري فشفع فيه وزيره و أطلقه فلحق بكرمان و اتصل بعد ذلك بمعز الدولة ابن بويه و استكتبه و لما انصرف طاهر عن ياقوت كتب إلى البريدي يشكو ضعفه و استطالة أصحابه فأشار عليه بإرسالهم إلى الأهواز متعرفين لقومهم فلما وصلوا إليه انتقى خيارهم و رد الباقين و أحسن إلى من عنده و بعث ياقوت إليه في طلب المعز فلم يبعث إليه فجاءه بنفسه فتلقاه و ترجل إليه و قبل يده و أنزله بداره و قام في خدمته أحسن مقام و وضع الجند على الباب يشغبون و يرمون قتله فأشار إليه بالنجاة فعاد إلى عسكر مكرم فكتب إليه يحذره اتباعهم و أن عسكر مكرم على ثمانية فراسخ من الأهواز و أرى أن تتأخر بتستر فتتحصن بها و كتب له على عامل تستر بخمسين ألف دينار و عذله خادمه مؤنس في شأن ابن البريدي و أراه خديعته و أشار عليه باللحاق ببغداد و أنه شيخ الحجرية و قد كاتبوك فسر إلى رياسة بغداد و إلا فتعاجل إلى البريدي و تخريجه عن الأهواز فصم عن نصيحته و أبى من قبول السعاية فيه و تسايل أصحابه إلى ابن البريدي حتى لم يبق معه إلا نحو الثانمائة و جاءه ابنه المظفر ناجيا من حبس الراضي بعد أسبوع فأطلقه و بعثه إلى أبيه فأشار عليه بالمسير إلى بغداد فإن حصل على ما يريد و إلا فإلى الموصل و ديار ربيعة و يتملكها فأبى عليه أبوه ففارقه إلى ابن البريدي فأكرمه و وكل به ثم حذر ابن البريدي غائله ياقوت فبعث إليه بأن الخليفة أمره بإزعاجه من البلاد أما إلى بغداد و إما إلى بلاد الجبل ليوليه بعض أعمالها فكتب يستمهله فأبى من المهلة و بعث العساكر من الأهواز و سار ياقوت إلى عسكر مكرم ليكبس ابن البريدي هنالك فصبح البلد و لم يجده و جاءت عساكر ابن البريدي مع قائد أبي جعفر الجمال فقاتله من أمامه و أكمن آخرين من خلفه فانهزم و افترق أصحابه و حسا إلى حائط متنكرا فمر به قوم ابن البريدي فكشفوا وجهه و عرفوه فقتلوه و حملوا رأسه إلى العسكر فدفنه الجمال و بعث البريدي إلى تستر فحمل ما كان لياقوت هنالك و قبض على ابنه المظفر و بعثه إلى بغداد و استبد بتلك الأعمال و ذلك سنة أربع و عشرين (3/495)
مسير ابن مقلة إلى الموصل و استقرارها لابن حمدان
كان ناصر الدولة أبو محمد الحسن بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان عاملا على الموصل فجاء عمه أبو العلاء سعيد فضمن الموصل و ديار ربيعة سرا و سار إليها فظهر أنه في طلب المال من ابن أخيه و شعر ناصر الدولة بذلك فخرج لتلقيه فخالفه إلى بيته فبعث من قبله و اهتم الراضي بذلك و أمر الوزير أبا علي بن مقلة بالمسير إلى الموصل فسار في العساكر من شعبان سنة ثلاث و عشرين فرحل عنها ناصر الدولة و دخل الزوران و اتبعه الوزير إلى حمل السن ثم عاد عنها إلى الموصل و أقام في جبايتها وبعث ناصر الدولة إلى بغداد بعشرة آلاف دينار لابن الوزير ليستحث أباه في القدوم فكتب إليه بما أزعجه فسار من الموصل و استخلف عليها علي بن خلف بن طباب و ما ترد الديلمي من الساجية و دخل بغداد منتصف شوال و جمع ناصر الدولة و لقي ما ترد الديلمي على نصبين فهزمه إلى الرقة و انحدار منها إلى بغداد و لحقه ابن طباب و استولى ناصر الدولة حمدان على الموصل و كتب في الرضا و ضمان البلاد فأجيب و تعذرت عليه (3/497)
نكبة ابن مقلة و خبر الوزارة
كان الوزير بن مقلة قد بعث سنة ثلاث و عشرين إلى محمد بن رائق بواسط يطالبه بارتفاع أعمال واسط و البصرة و كان قد قطع الجبل فلما جاءه كتاب ابن مقلة كتب إليه جوابه يغالطه و كتب إلى الرضي بالسعي في الوزارة و أنه يقوم بنفقات الدار و أرزاق الجند فجهز الوزير ابنه سنة أربع و عشرين لقصده و ورى بالأهواز و أنفد رسوله إلى ابن رائق بهذه التورية يؤنسه بها و باكر القصر لانفاد الرسول فقبض عليه المظفر بن ياقوت و الحجرية و كان المظفر قد أطلق من محبسه و أعيد إلى الحجبة فاستحسن الراضي فعلهم و اختفى أبو الحسين ابن الوزير و سائر أولاده و حرمه و أصحابه و أشار إلى الحجرية و الساجية بوزارة علي بن عيسى فامتنع و سار بأخيه عبد الرحمن فاستوزره الراضي و صادر ابن مقلة ثم عجز عن تمشية الأمور و ضاقت عليه الجباية فاستعفى من الوزارة فقبض عليه الراضي و على أخيه على ثلاثة أشهر من وزارته و استوزر أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي فصادر علي بن عيسى على مائة ألف دينار ثم عجز عن الوزارة و ضاقت الأموال و انقطعت و طمع أهل الأعمال فيما بأيديهم فقطع ابن رائق حمل واسط و البصرة و قطع ابن البريدي حمل الأهواز و أعمالها و انقطع حمل فارس لغلب ابن بويه عليها و لم يبق غير هذه الأعمال و نطاق الدولة قد تضايق إلى الغاية و أهل الدولة مستبدون على الخلافة و الأحوال متلاشية فتحير أبو جعفر و كثرت عليه المطالبات و ذهبت هيبته فاختفى لثلاثة أشهر و نصف من وزارته و استوزر الراضي مكانه أبا القاسم سليمان بن الحسن فكان حاله مثل حال من قبله في قلة المال و وقوف الحال (3/497)
استيلاء ابن رائق على الخليفة
و لما رأى الراضي و قوف الحال من الوزراء استدعى أبا بكر محمد بن رائق من واسط و كاتبه بأنه قد أجابه إلى ما عرض من السعي في الوزارة على القيام بالنفقات و أرزاق الجند فسر ابن رائق بذلك و شرع يتجهز للمسير ثم أنفذ إليه الراضي الساجية و قلده إمارة الجيش و جعله أمير الأمراء و فوض إليه الخراج و الدواوين و المعادن في جميع البلاد و أمر بالخطبة له على المنابر و انحدر إليه الدواوين و الكتاب و الحجاب و لما جاءه الساجية قبض عليهم بواسط في ذي الحجة من سنة أربع و عشرين و نهب رجالهم و دوابهم و متاعهم ليوفر أرزاقهم على الحجرية فاستوحشوا لذلك و خيموا بدار الخلافة و أصعد ابن رائق إلى بغداد و فوض الخليفة إليه أمرهم و أمر الحجرية بتقويض خيامهم و الرجوع إلى منازلهم و أبطل الدواوين و صير النظر إليه فلم يكن الوزير ينظر في شيء من الأمور و بقي ابن رائق و كتابه ينظرون في جميع الأموار فبطلت الدواوين و بيوت الأموال من يومئذ و صارت لأمير الأمراء و الأموال تحمل إلى خزانته و يتصرف فيها كما يريد و يطلب من الخليفة ما يريد و تغلب أصحاب الأطراف و زال عنهم الطاعة و لم يبق للخليفة إلا بغداد و أعمالها و ابن رائق مستبد عليه و أما باقي الأعمال فكانت البصرة في يد ابن رائق و خوزستان و الأهواز في يد ابن البريدى و فارس في يد عماد الدولة ابن بويه و كرمان في يد علي بن الياس و الري و أصبهان في يد ركن الدولة ابن بويه و وشمكير أخو مرداويج ينازعه في هذه الأعمال و الموصل و ديار بكر و مضر و ربيعة في يد حمدان و مصر و الشام في يد ابن طغج و المغرب و أفريقية في يد العبيدين و الأندلس في يد عبد الرحمن بن الناصر من ولد عبد الرحمن الداخل و ما وراء النهر في يد بني سامان و طبرستان في يد الديلم و البحرين و اليمامة في يد أبي الطاهر القرمطي و لم يبق لنا من الأخبار إلا ما يتعلق بالخلافة فقط في نطاقها المتضايق أخيرا و إن كانت مغلبة و هي أخبار ابن رائق و البريدي و أما غير ذلك من الأعمال التي اقتطعت كما ذكرناه فنذكر أخبار منفردة و نسوق المستبدين دولا كما شرطناه أول الكتاب ثم كتب ابن رائق عن الراضي إلى أبي الفضل بن جعفر بن الفرات و كان على الخراج بمصر و الشام و ظن أنه يوزارته تكون له تلك الجباية فوصل إلى بغداد و ولي وزارة الراضي و ابن رائق جميعا (3/498)
وصول يحكم مع ابن رائق
كان يحكم هذا من جملة مرداويج قائد الديلم ببلاد الجبل و كان قبله في جملة ما كان بن كالي و من مواليه و هبه له وزيره أبو علي الفارض ثم فارق ما كان مع من فارقه إلى مرداويج و كان مرداويج قد ملك الري و أصبهان و الأهواز و ضخم ملكه و صنع كراسي من ذهب و فضة للجلوس عليها هو و قواده و وضع على رأسه تاجا تظنه تاج كسرى و أمر أن يخاطب بشاهنشاه و اعتزم على قصد العراق و الاستيلاء عليه و تجديد قصور كسرى بالمدائن و كان في خدمته جماعة من الترك و منهم يحكم فأساء ملكهم و عسكرهم فقتلوه سنة ثلاث و عشرين بظاهر أصبهان كما نذكره في أخبارهم و اجتمع الديلم و الجبل بعده على أخيه و شكمير بن وزيار و هو والد قابوس و لما قتل مرداويج افترق الأتراك فرقتين ففرقة و سارت إلى عماد الدولة بن بويه بفارس و الأخرى و هي الأكثر سارت نحو الجبل عند يحكم فجبوا خراج الدينور و غيرها ثم ساروا إلى النهروان و كاتبوا الراضي في المسير إليه فأذن لهم و ارتاب الحجرية بهم فأمرهم الوزير بالرجوع إلى بلد الجبل فغضبوا و استدعاهم ابن رائق صاحب واسط و البصرة فمضوا إليه و قدم عليهم يحكم و كان الأتراك و الديلم من أصحاب مرداويج فجاءته جماعة منهم فأحس إليهم و إلى يحكم و سماه الرائقي نسبة إليه و أذن له أن يكتبه في مخاطباته (3/499)
مسير الراضي و ابن رائق لحرب ابن البريدي
ثم اعتزم ابن رائق سنة خمس و عشرين على الراضي في المسير إلى واسط لطلب ابن البريدي في المال ليكون أقرب لمناجزته فانحدر في شهر محرم و ارتاب الحجرية بفعله مع الساجية فتخلفوا ثم تبعوه فاعترضهم و أسقط أكثرهم من الديوان فاضطربوا و ثاروا فقاتلهم و هزمهم و قتل منهم جماعة و لجأ فلهم إلى بغداد فأوقع بهم لؤلؤ صاحب الشرطة و نهبت دروهم و قطعت أرزاقهم و قبضت أملاكهم و قتل ابن رائق من كان في حبسه من الساجية و سار هو و الراضي نحو الأهواز لإجلاء ابن البريدي منها و قدم إليه في طلب الاستقامة و توعده فجدد ضمان الأهواز بألف دينار في كل شهر و يحمل في كل يوم قسطه و أجابه إلى تسليم الجيش لمن يسير إلى قتال ابن بويه لنفرتهم عن بغداد و عرض ذلك على الراضي فأشار الحسين بن علي القونجي وزير ابن رائق بأن لا تقبل لأنه خداع و مكر و أشار أبو بكر بن مقاتل بإجابته و عقد الضمان على ابن البريدي عاد ابن رائق و الراضي إلى بغداد فدخلاها أول صفر و لم يف ابن البريدي بحمل المال و أنفذ ابن رائق جعفر بن ورقاء ليسير بالجيش إلى فارس و دس إليهم ابن البريدي أن يطلبوا منه المال ليتجهزوا به فاعتذر فشتموه و تهددوه بالقتل و أتى ابن البريدي فأشار عليه بالنجاء ثم سعى ابن مقاتل لابن البريدي في وزارة ابن رائق عوضا عن الحسين القونجي و بذل عنه ثلاثين ألف دينار فاعتذر له بسوابق القونجي عنده و سعيه له و كان مريضا فقال له ابن مقاتل : إنه هالك ! فقال ابن رائق : قد أعلمني الطبيب أنه ناقه فقال : الطبيب يراجيك فيه لقربة منك و لكن سل ابن أخيه علي بن حمدان و كان القونجي قد استناب ابن أخيه في مرضه فأشار عليه ابن مقاتل أن يعرف الأمير إذا سأله بمهلكه و أشار عليه أن يستوزره فلما سأله ابن رائق أيأسه منه فقال ابن رائق : عند ذلك لابن مقاتل : أكتب لابن البريدي يرسل من ينوب عنه في الوزارة فبعث أحمد بن الكوفي و استولى مع ابن مقاتل على ابن رائق و سعوا لابن البريدي أبي يوسف في ضمان البصرة و كان عامل البصرة من قبل ابن رائق محمد بن يزداد و كان شديد الظالم و العسف بهم فخادعه ابن البريدي و أنفذ أبو عبد الله مولاه إقبالا في ألقي رجل و أقاموا في حصن مهدي قريبا فعلم ابن يزداد أنه يروم التغلب على البصرة و أقاما على ذلك و أقام ابن رائق شأن هذا العسكر في حصن مهدي و بلغه أيضا أنه استخدم الحجريين الذين أذن لهم في الانسياح في الأرض و أنهم اتفقوا مع عسكره على قطع الحمل و كاتبه يطردهم عنه فلم يفعل فأمر ابن الكوفي أن يكتب إلى ابن البريدي بالكتاب على ذلك و يأمر بإعادة العسكر من حصن مهدي فأجاب باعدادهم للقرامطة و ابن يزداد عاجز عن الحماية و كان القرامطة قد وصلوا إلى الكوفة في ربيع الآخر و خرج ابن رائق في العساكر إلى حصن ابن هبيرة و لم يستقر بينهم أمر و عاد القرمطي إلى بلده ابن رائق إلى واسط فكتب ابن البريدي إلى عسكره بحصن مهدي أن يدخلوا البصرة و يملكوها من يد ابن يزداد و أمدهم جماعة من الحجرية فقصدوا البصرة و قاتلوا ابن يزداد فهزموه و لحق بالكوفة و ملك إقبال مولى ابن البريدي و أصحابه البصرة و كتب ابن رائق إلى البريدي يتهدده و يأمره بإخراج أصحابه من البصرة فلم يفعل (3/500)
استيلاء يحكم على الأهواز
و لما امتنع ابن البريدي من الإفراج عن البصرة بعث ابن رائق العساكر مع بدر الحريشي و يحكم مولاه و أمرهم بالمقام بالجامدة فتقدم يحكم عن بدر و سار إلى السوس و جاءته عساكر البريدي مع غلامه محمد الجمال في ثلاثة آلاف و مع يحكم مائتان و سبعون من الترك فهزمهم يحكم و رجع محمد بن الجمال إلى ابن البريدي فعاقبه على انهزامه و حشد له العسكر فسار في ستة آلاف و لقيهم يحكم عند نهر تستر فانهزموا من غير قتال و ركب ابن البريدي السفن و معه ثلثمائة ألف دينار ففرق أصحابه و ماله و نجا إلى البصرة و أقام بالأبلة و بعث غلامه إقبالا فلقي جماعة من أصحاب ابن رائق فهزمهم و بعث ابن رائق مع جماعة من أهل البصرة يستعطفه فأبى فطلبوا البصرة فحلف ليحرقنها و يقتل كل من فيها فرجعوا مستبصرين في قتاله و أقام ابن البريدي بالبصرة و استولى يحكم على الهواز ثم بعث ابن رائق جيشه في البحر و البر فانهزم عسكر البر و استولى عسكر الماء على الكلا فهرب ابن البريدي في السفن إلى جزيرة أوال و ترك أخاه أبا الحسن في عسكر بالبصرة فدفع عسكر ابن رائق عن الكلا فسار ابن رائق من واسط و استولى يحكم على الأهواز و قاتلوا البصرة فامتنعت عليهم و سار أبو عبد الله بن البريدي من أوال إلى عماد الدولة بن بويه بفارس فأطمعه في العراق و بعث معه أخاه معز الدولة إلى الأهواز فسير إليها ابن رائق مولاه يحكم على أن يكون له الحرب و الخراج و أقام ابن البريدي على البصرة و زحفت إليه عساكرهم فأعجلوه عن تقويض خيامه فأحرقها و سار إلى الأهواز مجردا و سبقه عساكره إلى واسط و أقام عند يحكم أياما و أشير عليه بحبسه فلم يفعل و رجع ابن رائق إلى واسط (3/501)
استيلاء معز الدولة على الأهواز
لما سار أبو عبد الله بن البريدي من جزيرة أوال إلى عماد الدولة ابن بويه بفارس مستجيرا به من ابن رائق و يحكم و مستنجدا عليهم طمع عماد الدولة في الإستيلاء على العراق فسير معه أخاه معز الدولة أحمد بن بويه في العسكر و رهن ابن البريدي عنده ولديه أبا الحسين محمدا و أبا جعفر الفياض و سار يحكم للقائهم فلقيهم بأرجان فانهزم أمامهم و عاد إلى الأهواز و خلف جيشا بعسكر مكرم فقاتلهم معز الدولة ثلاثة عشر يوما ثم انفضوا و لحقوا بتستر و ملك معز الدولة عسكر مكرم و ذلك سنة ست و عشرين و سار يحكم من الأهواز إلى تستر و بلغ الخبر إلى ابن رائق بواسط فسار إلى بغداد و جاء يحكم من تستر إلى واسط و لما استولى معز الدولة و ابن البريدي على عسكر مكرم و لقيهم أهل الأهواز و ساروا معهم إليها فأقاموا شهرا ثم طلب معز الدولة من ابن البريدي عسكره الذي بالبصرة ليسير بهم إلى أخيه ركن الدولة بأصبهان لحرب و شمكير فأحضر منهم أربعة آلاف ثم طلب من عسكره الذين بحصن مهدي ليسير بهم في الماء إلى واسط فارتاب ابن البريدي و هرب إلى البصرة و بعث إلى عسكرها الذين ساروا إلى أصبهان و كانوا متوقفين بالسوس فرجعوا إليه ثم كتب إلى معز الدولة أن يفرج له عن الأهواز ليتمكن من الجباية و الوفاء بها لأخيه عماد الدولة و كان قد ضمن له الهواز و البصرة بثمانية عشر ألف ألف درهم فرحل معز الدولة إلى عسكر مكرم و أنفذ ابن البريدي عامله الأهواز ثم بعث إلى معز الدولة بأن يتأخر إلى السوس فأبى و علم يحكم بحالهم فبعث جيشا استولوا على السوس و جندي سابور و بقيت الأهواز بيد ابن البريدي و معز الدولة بعسكر مكرم و قد ضاقت أحوال جنده ثم بعث إليه أخوه عماد الدولة بالمدد فسار إلى الأهواز و ملكها و رجع ابن البريدي إلى البصرة و يحكم في ذلك مقيم بواسط و قد صرف همه إلى الاستيلاء على رتبة ابن رائق ببغداد و قد أنفذ له ابن رائق علي بن خلف بن طباب ليسيروا إلى الأهواز و يخرجوا ابن بويه و يكون يحكم على الحرب و ابن خلف على الخراج فلم يلتفت يحكم لذلك و استوزر علي بن خلف و يحكم في أحوال واسط و لما رأى أبو الفتح الوزير ببغداد إدبار الأحوال أطمع ابن رائق في مصر و الشام و قال : أنا أجبيهما لك و عقد بينه و بين ابن طغج صهرا و سار أبو الفتح إلى الشام في ربيع الآخر و شعر ابن رائق بمحاولة يحكم عليه فبعث إلى ابن البريدي بالإتفاق على يحكم على أن يضمن ابن البريدي واسط بستمائة ألف فنهض يحكم إلى ابن البريدي قبل ابن رائق و سار إلى البصرة فبعث إليه ابن البريدي أبا جعفر الجمال في عشرة آلاف فهزمهم يحكم و ارتاع ابن البريدي لذلك ولم يكن قصد يحكم إلا الإلفة فقط و التضرع لابن رائق فبعث إليه بالمسالمة و أن يقلده واسط إذا تم أمره فاتفقا على ذلك و صرف نظره إلى أمر بغداد (3/502)
وزارة ابن مقلة و نكبته
و لما انصرف أبو الفتح بن الفرات إلى الشام استوزره الراضي أبا علي بن مقلة على سنن من قبلة و الأمر لابن رائق و ابن مقلة كالعارية و كتب له في أمواله و أملاكه فلم يردها فشرع في التدبير عليه فكتب إلى ابن رائق بواسط و وشمكير بالري يطمع كلا منهما في مكانه و كتب الراضي يشير بالقبض على ابن رائق و أصحابه و استدعى يحكم لمكانه و أنه يستخرج منهم ثلاثة آلاف ألف دينار فأطعمه الراضي على كره فكتب هو إلى يحكم يستحثه و طلب من الراضي أن ينتقل إلى دار الخلافة حتى يتم الأمر فأذن له و حضر متنكرا آخر ليلة من رمضان سنة ست و عشرين فأمر الراضي باعتقال و أطلع ابن رائق من الغد على كتبه فشكر ذلك له ابن رائق و أمر بابن مقلة في منتصف شوال فقطع ثم عولج و برئ و عاد إلى السعي في الوزارة و التظلم من ابن رائق و الدعاء عليه فأمر بقطع لسانه و حبسه إلى أن مات (3/503)
استيلاء يحكم على بغداد
لم يزل يحكم يظهر التبعية لابن رائق و يكتب على أعلامه و تراسه يحكم الرائقي إلى أن وصلته كتب ابن مقلة بأن الراضي قلده إمره الأمراء فطمع و كاشف ابن رائق و محانسبه إليه من أعلامه و سلاحه و سار من واسط إلى بغداد في ذي القعدة سنة ست و عشرين و كتب إليه الراضي بالرجوع فأبى و وصل إلى نهر دبالي و أصاب ابن رائق في غربيه فانهزموا و عبروا النهر سبحا و سار ابن رائق إلى عكبرا و دخل يحكم بغداد منتصف ذي القعدة ولقي الراضي من الغد و ولاه أمير الأمراء و كتب عن الراضي إلى القواد الذين مع ابن رائق بالرجوع عنه فرجعوا و عاد ابن رائق إلى بغداد فاختفى بها لسنة و أحد عشرة شهرا من إمارته و نزل يحكم بدار مؤنس و استقر ببغداد متحكما في الدولة مستبدا على الخليفة (3/504)
دخول أذربيجان في طاعة و شمكير
كان من عمال و شمكير على أعمال الجبل السيكري بن مردى و كان مجاورا لأعمال أذربيجان و عليها يومئذ ديسم بن إبراهيم الكردي من أصحاب ابن أبي الساج فحدثت السيكري نفسه بالتغلب عليها فجمع و سار إليها يزيد و خرج إليه ديسم فانهزم فاستولى على سائر بلاده إلا أردبيل و هي كرسي أذربيجان فحاصرها السيكري و ضيق حصارها فراسلوا ديسم بالمثنى لقتال السيكري من ورائه ففعل و جاءه يوم قتالهم من خلف فانهزم السيكري إلى موقان أصبهبذها ابن دوالة و سار معه نحو ديسم فانهزم ديسم و قصد و شمكير بالري و استمده على أن يدخل في طاعته و يضمن له مالا في كل سنة فأجابه و بعث معه العسكر و بعث أصحاب السيكري إلى و شمكير بأنهم على الطاعة و شعر بذلك السيكري فسار في خاصته إلى أرمينية و اكتسح في نواحيها ثم سار إلى الزوزان من بلاد الأرمن فاعترضوه و قتلوه و من معه و رجع فلهم و قد ولوا عليهم سان بن السيكري و قصدوا بلد طرم الأرمني ليثأروا منهم بأصحابهم فقاتلهم طرم و أثخن فيهم و ساروا إلى ناصر الدولة بن حمدان وانحد بعضهم إلى بغداد و كان على المعادن بأذربيجان الحسين بن سعيد بن حمدان من قبل ابن عمه ناصر الدولة فلما جاء إلى الموصل أصحاب السيكري مع ابنه بعثهم ابن عمه بأذربيجان لقتال ديسم فلم تكن له به طاقة و رجع إلى الموصل و استولى ديسم على أذربيجان في طاعة و شمكير (3/504)
ظهور ابن رائق و مسيره إلى الشام
و في سنة سبع و عشرين و ثلثمائة سار يحكم إلى الموصل و ديار ربيعة بسبب أن ناصر الدولة بن حمدان أخر المال الذي عليه من ضمان البلاد فأقام الراضي بتكريت و سار يحكم و لقيه ناصر الدولة على ستة فراسخ من الموصل فانهزم و اتبعه يحكم إلى نصبين ثم إلى آمد و كتب إلى الراضي بالفتح فسار من تكريت في الماء إلى الموصل و فارقه جماعة من القرامطة كانوا في عسكره و كان ابن رائق يكاتبهم من مكان إكتفائه فلما وصلوا بغداد خرج ابن رائق إليهم و استولى و طار الخبر الراضي فأصعد من الماء و سار إلى الموصل و كتب إلى يحكم بذلك فرجع عن نصيبين بعد أن استولى عليها و شرع أهل العسكر يتسللون إلى بغداد فأهم ذلك يحكم ثم جاءت رسالة ابن حمدان في الصلح و تعجيل خمسمائة ألف درهم فأجابوه و قرره و رجعوا إلى بغداد و لقيهم أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرازاد رسولا عن ابن رائق في الصلح على أن يقلده الراضي طريق القرات و ديار مضر حران و الرها و ما جاورها جندي قنسرين و العواصم فأجابه الراضي و قلده و سار إلى ولايته في ربيع الآخر و كان يحكم قد استناب بعض قواد الأتراك على الأنبار و اسمه بالبان و طلب تقليد طريق الفرات فقلد و سار إلى الرحبة ثم انتقض و عاد لابن رائق و عصى على يحكم فسار إليه غازيا بالرحبة على حين غفلة لخمسة أيام من مسيره فظفر به و أدخله بغداد على جمل و حبسه و كان آخر العهد به (3/505)
وزارة ابن البريدي
قد تقدم لنا مسير الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات إلى الشام و لما سار استناب بالحضرة عبد الله بن علي البصري و كان يحكم قد قبض على وزيره خلف ابن طباب و استوزر أبا جعفر محمد بن يحيى بن شيرازاد فسعى في وزارة ابن البريدي ليحكم حتى تم ذلك ثم ضمن ابن البريدي أعمال واسط بستمائة ألف دينار كل سنة ثم جاء الخبر بموت أبي الفتح بن الفرات بالرملة فسعى أبو جعفر ابن شيرزاد في وزارة أبي عبد الله للخليفة فعقد له الراضي بذلك و استخلف بالحضرة عبد الله بن علي البصري كما كان مع أبي الفتح (3/505)
مسير يحكم إلى بلد الجبل و عوده إلى واسط و استيلاؤه عليها
كان يحكم قد أرسل ابن البريدي و صاهره و اتفقا على أن يسير يحكم إلى بلاد الجبل لفتحها من يد و شمكير و أبو عبد الله بن البريدي إلى الأهواز لأخذها من يد معز الدولة ابن بويه فسار يحكم إلى حلوان و بعث إليه ابن البريدي بخمسمائة رجل مددا و بعث يحكم بعض أصحابه إلى ابن البريدي يستحثه إلى السوس و الأهواز فأقام يماطله و يدافعه و يبين له أنه يريد مخالفة يحكم إلى بغداد فكتب إليه بذلك فرجع عن قصده إلى بغداد و عزل ابن البريدي من الوزارة و ولى مكانه أبا القاسم بن سليمان بن الحسين بن مخلد و قبض على ابن شيرزاد الذي كان ساعيا له و تجهز إلى واسط و انحدر في الماء آخر ذي الحجة سنة ثمان و عشرين و بعث عسكرا في البر و بلغ الخبر ابن البريدي فسار عن واسط إلى البصرة و استولى عليها يحكم و ملكها (3/506)
مسير ركن الدولة إلى واسط و رجوعه عنها
لما استقر ابن البريدي بواسط بعث جيشا إلى السوس و بها أبو جعفر الظهيري وزير معز الدولة أحمد بن بويه و معز الدولة بالأهواز فتحصن أبو جعفر بقلعة السوس و عاث الجيش في نواحيها و كتب معز الدولة إلى أخيه ركن الدولة و هو على أصطخر قد جاء من أصبهان لما غلبه و شمكير عليها فلما جاء كتاب أخيه معز الدولة سار محمد إلى السوس و قد رجع عنه جيش ابن البريدي ثم سار إلى واسط يحاول ملكها فنزل في جانبها الشرقي و ابن البريدي في الجانب الغربي و اضطرب عسكر ابن بويه و استأمن جماعة منهم إلى ابن البريدي ثم سار الراضي و يحكم من بغداد إلى واسط للإمداد فرجع ركن الدولة إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز و بلغه أن و شمكير قد أنفذ عسكره مددا لما كان كالي و أن أصبهان خالية فسار إليها من رامهرمز و أخرج منبقي منها من أصحاب و شمكير و ملكها فاستقر بها (3/506)
استيلاء ابن رائق على الشام
قد تقدم لنا مسير ابن رائق إلى ديار مضر و ثغور قنسرين و العواصم فلما استقر بها حدثته نفسه بملك الشام فسار إلى حمص فملكها ثم سار إلى دمشق و بها بدر بن عبد الله الأخشيدي و يلقب بدير فملكها من يده ثم سار إلى الرملة و منها إلى عريش مصر يريد ملك الديار المصرية و لقيه الأخشيد محمد بن طغج و انهزم أولا و ملك أصحاب ابن رائق خيامه ثم خرج كمين الأخشيد فانهزم ابن رائق إلى دمشق و بعث الأخشيد في أثره أخاه أبا نصر بن طغج و سار إليهم ابن رائق من دمشق فهزمهم و قتل أبو نصر فكفنه ابن رائق و حمله مع ابنه مزاحم إلى أخيه الأخشيد بمصر و كتب يعزيه و يعتذر فأكرم الأخشيد مزاحما و اصطلح مع أبيه على أن يكون مصر للأخشيد من حد الرملة و ما وراءها من الشام لابن رائق و يعطى الأخشيد عن الرملة في كل سنة مائة و أربعين ألف دينار (3/507)
الصوئف أيام الراضي
و في سنة اثنتين و عشرين سار الدمستق إلى سميساط في خمسين ألفا من الروم و نازل ملطية و حاصرها مدة طويلة حتى فتحها بالأمان و بعثهم إلى مأمنهم مع بطريق من بطارقته و تنصر الكثير منهم محبة في أهليهم و أموالهم ثم افتتحوا سميساط و خربوا أعمالها و أفحشوا في أسطوله في البحر ففحتوا بلد جنوة و مروا بسردانية فأوقعوا بأهلها ثم مروا بقرقيسيا من ساحل الشام فأحرقوا مراكبها و عادوا سالمين و في سنة ست و عشرين كان الفداء بين المسلمين و الروم في ذي القعدة على يد ابن ورقاء الشيباني البريدي ستة آلاف و ثلثمائة أسير (3/507)
الولايات أيام الراضي و القاهر قبله
قد تقدم لنا أنه لم يبق من العمال في تصريف الخلافة لهذا العهد إلا أعمال الأهواز و البصرة و واسط و الجزيرة و ذكرنا استيلاء بني بويه على فارس و أصبهان و وشمكير على بلاد الجبل و ابن البريدي على البصرة و ابن رائق على واسط و أن عماد الدولة بن بويه على فارس و ركن الدولة أخوه يتنازع مع و شمكير على أصبهان و همذان و قم و قاشان و الكرج و الري و قزوين و استولى معز الدولة أخوهما على الأهواز و على كرمان و استولى ابن البريدي على واسط و سار ابن رائق إلى الشام فاستولى عليها و في سنة ثلاث و عشرين قلد الراضي ابنيه أبا جعفر و أبا الفضل ناحية المشرق و المغرب و في سنة إحدى و عشرين و رد الخبر بوفاة تكين الخاصكي بمصر و كان أميرا عليها و ولى القاهر مكانه ابنه محمدا و ثار به الجند فظفر بهم و فيها وقعت الفتنة بين بني ثعلب و بني أسد و معهم طيء و ركب ناصر الدولة الحسن بن عبد الله ابن حمدان و معه أبو الأعز بن سعيد بن حمدان ليصلح بينهم فوقعت ملاحاة قتل فيها أبو الأعز على يد رجل من ثعلب فحمل عليهم ناصر الدولة و استباحهم إلى الحديثة فلقيهم يانس غلام مؤنس واليا غلام مؤنس واليا على الموصل فانضم إليه بنو ثعلب و بنو أسد و عادوا إلى ديار ربيعة و في سنة أربع و عشرين قلد الراضي محمد بن طغج أعمال مصر مضافا إلى ما بيده من الشام و عزل عنها أحمد بن كيغلغ (3/507)
وفاة الراضي و بيعة المتقي
و في سنة تسع و عشرين و ثلثمائة توفي الراضي أبو العباس أحمد بن المقتدر في ربيع الأول منها لسبع سنين غير شهر من خلافته و لما مات أحضر يحكم ندماءه و جلساءه لينتفع بما عندهم من الحكمة فلم يفهم عنهم لعجمته و كان آخر خليفة خطب على المنبر و أن خطب غيره فنادر و آخر خليفة جالس السمر و واصل الندماء و دولته آخر دول الخلفاء في ترتيب النفقات و الجوائز و الجرايات و المطابخ و الخدم و الحجاب و كان يحكم يوم وفاته غائبا بواسط حين ملكها من يد ابن البريدي فانتظر في الأمور وصول مراسمه فورد كتابه أبي عبد الله الكوفي يأمر فيه باجتماع الوزراء و أصحاب الدواوين و القضاة و العلويين و العباسيين و وجوه البلد عند الوزير أبي القاسم سليمان بن الحسن و يشاورهم الكوفي فيمن ينصب للخلافة ممن يرتضي مذهبه و طريقه فاجتمعوا و ذكروا إبراهيم بن المقتدر و اتفقوا عليه و أحضروه من الغد و بايعوا له آخر ربيع الأول من سنة تسع و عشرين و عرضت عليه الألقاب فاختار المتقي لله و أقر سليمان على وزارته كما كان و التدبير كله للكوفي كاتب يحكم و ولى سلامة الطولوني على الحجبة (3/508)
مقتل يحكم
كان أبو عبد الله البريدي بعد هربه إلى البصرة من واسط أنفذ جيشا إلى المدار فبعث إلى لقائهم جيشا من واسط عليهم توزون انتخب له الكرة فظفر بجيش ابن البريدي و لقي يحكم خبره في الطريق فسر بذلك و ذهب يتصيد فبلغ نهر جور و عثر في طريقة ببعض الأكراد فشره لغزوهم و قصدهم في خف من أصحابه و هربوا بين يديه و هو يرشقهم بسهامه و جاءه غلام منهم من خلفه فطعنه فقتله و اختلف عسكره فمضى الديلم فكانوا ألفا و خمسمائة إلى ابن البريدي و قد كان عزم على الهرب من البصرة فبعث لقدومهم و ضاعف لقدو مهم و ضاعف أرزاقهم و أدرها عليهم و ذهب الأتراك إلى واسط و أطلقوا بكتيك من حبسه و ولوه عليهم فسار بهم إلى بغداد في خدمة المتقي و حصر ما كان في دار يحكم من الأموال و الدواوين فكانت ألف ألف و مائة ألف دينار و مدة و إمارته سنتان و ثمانية أشهر (3/509)
إمارة البريدي ببغداد و عوده إلى واسط
لما قتل قدم الديلم عليهم بكشوار بن ملك بن مسافر و مسافر هو ابن سلا و صاحب الطرم الذي ملك ولده بعده أذربيجان و قاتلهم الأتراك فقتلوه فقدم الديلم عليهم مكانه كورتين منهم و قدم الأتراك عليهم بكتيك مولى يحكم و انحدر الديلم إلى أبي عبد الله بن البريدي فقوي بهم و أصعدوا إلى واسط و أرسل المتقي إليهم مائة و خمسين ألف دينار على أن يرجعوا عنها ثم قسم في الأتراك في أجناد بغداد أربعمائة ألف دينار من مال يحكم و قدم عليهم سلامة الطولوني و برز بهم المتقي إلى نهر دبالي آخر شعبان سنة ست و عشرين و سار ابن البريدي من واسط فأشفق أتراك يحكم و لحق بعضهم بابن البريدي و سار آخرون إلى الموصل منهم توزون و جحجح و اختفى سلامة الطولوني و أبو عبد الله الكوفي و دخل أبو عبد الله البريدي بغداد أول رمضان و نزل بالشفيعي و لقيه الوزير أبو الحسن بن ميمون و الكتاب و القضاة و أعيان الناس و بعث إليه المتقي بالتهنئة و الطعام و كان يخاطب بالوزير ثم قبض على الوزير أبي الحسين لشهرين من وزارته و حبسه بالبصرة و طلب من المتقي خمسمائة ألف دينار للجند و هدده بما وقع للمعتز و المستعين و المهتدي فبعث بها إليه و لم يلقه مدة مقامه ببغداد و لما وصله المال من المتقي شغب الجند عليه في طلبه و جاء الديلم إلى دار لأخيه أبي الحسين ثم انضم إليهم الترك و قصدوا دار أبي عبد الله فقطع الجسر و وثب العامة على أصحابه و هرب هو و أخوه و ابنه أبو القاسم و أصحابهم وانحدروا إلى واسط و ذلك سلخ رمضان لأربعة و عشرين يوما من قدومه (3/509)
إمارة كوزتكين الديلمي
و لما هرب ابن البريدي استولى كورتكين على الأمور ببغداد و دخل إلى المتقي فقلده إمارة الأمراء و أحضر علي بن عيسى و أخاه عبد الرحمن فدبر الأمور و لم يسمهما بوزارة و استوزر أبا إسحق محمد بن أحمد الإسكافي القراريطي و ولى على الحجبة بدار الجواشيني ثم قبض كورتكين على بكتيك مقدم الأتراك خامس شوال و غرقه و اقتتل الأتراك و الديلم و قتل بينهما خلق و انفراد كورتكين بالأمر و قبض على الوزير أبي إسحق القراريطي لشهر و نصف من وزارته و ولى مكانه أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي (3/510)
عواد ابن رائق إلى بغداد
قد تقدم لنا أن جماعة من أتراك يحكم لما أنقضوا عن المتقي ساروا إلى الموصل ثم ساروا منها إلى ابن رائق بالشام و كان من قوادهم توزون و جحجح و كورتكين و صيقوان فأطعموه في بغداد ثم جاءته كتب المتقي يستدعيه فسار آخر رمضان و استخلف بالشام أبا الحسن أحمد بن علي بن مقاتل و تنحى ناصر الدولة بن حمدان على طريقه ثم حمل إليه مائة ألف دينار و صالحه و بلغ الخبر إلى أبي عبد الله بن البريدي فبعث إخوته إلى واسط و أخرج الديلم عنها و خطبوا له بها و خرج كورتكين عن بغداد إلى عكبرا فقاتله ابن رائق أياما ثم أسرى له ليلة عرفة فأصبح ببغداد من الجانب الغربي و لقي الخليفة وركب معه في دجلة و وصل كورتكين آخر النهار فركب ابن رائق لقتاله و هو مرجل و اعتزم على العود إلى الشام ثم طائفة من عسكره ليعبروا دجلة و يأتوا من ورائهم و صاحت العامة مع ابن رائق بكورتكين و أصحابه و رجموهم فانهزموا و استأمن منهم نحو أربعمائة فقتلوا و قتل قواده و خلع المتقي على ابن رائق أمير الأمراء و عزل الوزير أبا جعفر الكرخي لشهر من ولايته و ولى مكانه أحمد الكوفي و ظفر بكورتكين فحبسه بدار الخلافة (3/510)
وزارة ابن البريدي و استيلاؤه على بغداد و فرار المتقي إلى الموصل
لما استقر ابن رائق في إمارة الأمراء بدمشق ببغداد أخر ابن البريدي حمل المال من واسط فانحدر إليه في العساكر في عاشوراء من سنة ثلاثين و هرب بنو البريدي إلى البصرة ثم سعى أبو عبد الله الكوفي بينهم و بين ابن رائق و ضمن واسط بستمائة ألف دينار و بقاياها بمائتي ألف و رجع ابن رائق إلى بغداد فشغبت عليه الجند و فيهم تورون و أصحابه ثم انفضوا آخر ربيع إلى أبي عبد الله بواسط فقوي بهم و ذهب ابن رائق إلى مداراته فكاتبه بالوزارة و استخلف عليها أبا عبد الله بن شيرزاد ثم انتقض و اعتزم على المسير إلى بغداد في جميع الأتراك و الديلم و عزم ابن رائق على التحصن بدار الخلافة و نصب عليها المجانيق و العرادات و جند العامة فوقع الهرج و خرج بالمتقي إلى نهر دبالي منتصف جمادى الآخرة و أتاهم أبو الحسين في الماء و البر فهزمهم و دخل دار الخلافة و هرب المتقي و ابنه أبو منصور و ابن رائق إلى الموصل لستة أشهر من إمارته و اختفى الوزير القراريطي و نهبت دار الخليفة و دور الحرم و عظم الهرج و أخذ كورتكين من محبسه فأنفذ إلى واسط و لم يتعرضوا للقاهر و كان نزل أبو الحسن بدار الخلافة و جعل توزون على الشرطة بالجانب الغربي و أخذ رهائن القواد توزون و غيره و بعث بنسائهم و أولادهم إلى أخيه عبد الله بواسط و عظم النهب ببغداد و ترك دورهم و فرضت المكوس في الأسواق خمسة دنانير على الكر فغلت الأسعار و انتهى إلى ثلثمائة دينار الكر و جاءت ميرة من الكوفة و أخذت فقيل إنها لعامل الكوفة و أخذها عامل بغداد و كان معه جماعة من القرامطة فقاتلهم الأتراك و هزموهم و وقعت الحرب بين العامة و الديلم فقتل خلق من العامة و اختفى العمال لمطاولة الجند إلى الضواحي ينتهبون الزرع بسنبلة عند حصاده و ساءت أحوال بغداد و كثرت نقمات الله فيهم (3/511)
مقتل ابن رائق و ولاية ابن حمدان مكانه
كان المتقي قد بعث إلى ناصر الدولة بن حمدان يستمده على ابن البريدي عندها قصد بغداد فأمده بعسكر مع أخيه سيف الدولة فليقه بتكريت منهزما و رجع معه إلى الموصل و خرج ناصر الدولة عن الموصل حتى حلف له ابن رائق واتفقا فجاء و تركه شرقي دجلة و عبر إليه أبو منصور المتقي و ابن رائق فبالغ في تكرمتهما فلما ركب ابن المتقي قال لابن رائق : أقم نتحدث في رأنيا فذهبا إلى الإعتذار و ألح عليه ناصر الدولة فاستراب و جذب يده و قصد الركوب فسقط فأمر ناصر الدولة بقتله و إلقائه في دجلة و بعث إلى المتقي بالعذر و أحسن القول و ركب إليه فولاه أمير الأمراء و لقبه ناصر الدولة و ذلك مستهل شعبان من سنة ثلاثين و خلع على أخيه أبي الحسن و لقبه بسيف الدولة فلما قتل ابن رائق سار الأخشيد من مصر إلى دمشق و بها محمد بن يزداد من قبل ابن رائق فاستأمن إليه و ملك الأخشيد دمشق و أقر ابن يزداد عليها ثم نقله إلى شرطة مصر (3/512)
عود المتقي إلى بغداد و فرار البريدي
لما استولى أبو الحسين البريدي على بغداد و أساء السيرة كما مر و إمتلأت القلوب منه نفرة فلما قتل ابن رائق أخذ الجند في الفرار عنه و الانتقاض عليه ففر جحجح إلى المتقي و اعتزم توزون و أنوش تكين و الأتراك على كبس أبي الحسين البريدي و زحف توزون لذلك في الديلم فخالفه أنوش تكين في الأتراك فذهب توزون إلى الموصل فقوي بهم ابن حمدان و المتقي و انحدروا إلى بغداد و ولى ابن حمدان على أعمال الخراج و الضياع بديار مضر و هي الرها و حران و لقيا أبا الحسن أحمد بن علي بن مقاتل فاقتتلوا و قتل ابن مقاتل و استولى ابن طباب عليها و لما وصل المتقي و ابن حمدان إلى بغداد هرب أبو الحسين ابن البريدي منها إلى واسط لثلاثة أشهر و عشرين يوما من دخوله و اضطربت العامة و كثر النهب و دخل المتقي و ابن حمدان في العساكر في شوال من السنة و أعاد أبا إسحق القراريطي إلى الوزارة و ولى توزون على الشرطة ثم سار إليهم أبو الحسين البريدي فخرج بنو حمدان للقائهم و انتهوا إلى المدائن فأقام بها ناصر الدولة و بعث أخاه سيف الدولة و ابن عمه أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فاقتتلوا عنده أياما و انهزم سيف الدولة أولا ثم أمدهم ناصر الدولة بالقواد الذين كانوا معه و جحجح بالأتراك و عادوا القتال فانهزم أبو الحسين إلى واسط و أقصر سيف الدولة عن اتباعه لما أصاب أصحابه من الوهن و الجراح و عاد ناصر الدولة إلى بغداد منتصف ذي الحجة ثم سار سيف الدولة إلى واسط و هرب بنو البريدي عنها إلى البصرة فملكها و أقام بها (3/512)
استيلاء الديلم على أذربيجان
كانت أذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي من أصحاب يوسف بن أبي الساج و كان أبوه من أصحاب هرون الشاري من الخوارج و لما قتل هرون لحق بأذربيجان و شرد في الأكراد فولد له ديسم هذا فكبر و خدم ابن أبي الساج و تقدم عنده إلى أن ملك بعدهم أذربيجان و جاء السيكري خليفة و شمكير في الجبل سنة ست و عشرين و غلبه على أذربيجان ثم سار هو إلى شمكير و ضمن له طاعة و مالا و استمده فأمده بعسكر من الديلم و ساروا معه فغلب السيكري و طرده و ملك البلاد و كان معظم جيشه الأكراد فتغلبوا على بعض قلاعه فاستكثر من الديلم و فيهم صعلوك بن محمد بن مسافر بن الفضل و غيرهما فاستظهر بهم و انتزع من الأكراد ما تغلبوا عليه و قبض على جماعة من رؤسائهم و كان وزيره أبو القاسم علي ابن جعفر قد ارتاب منه فهرب إلى الطرم و بها محمد بن مسافر من أمراء الديلم و قد انتقض عليه و ابناه و هشودان و المرزبان و استوليا على بعض قلاعه ثم قبض على أبيهما محمد و انتزعا أمواله و ذخائره و تركاه في حصنه سلبيا فريدا فقصد علي بن جعفر المزبان و أطعمه في أذربيجان فقلده و زارته و كانت نحلتهما في التشيع واحدة لأن علي بن جعفر كان من الباطنية و المرزيان من الديلم و هم شيعة و كاتب علي بن جعفر أصحاب ديسم و استمالهم و استفسدهم عليه و خصوصا الديلم ثم التفتوا للحرب و جاء الديلم إلى المرزبان واستأمن معهم كثير من الأكراد و هرب ديسم في فل من أصحابه إلى أرمينية و استجار بجاحق بن الديواني فأجاره و أكرمه و ندم على ما فرط في إبعاد الأكراد و هم على مذهبه في الخارجية و ملك المرزبان أذربيجان و استولى عليها ثم استوحش منه علي بن جعفر وزير ديسم و تنكر له أصحاب المرزبان فأطعمه المرزبان فأخذ أموالهم و حملهم على طاعة ديسم و قتل الديلم عندهم من جند المرزبان ففعلوا و جاء ديسم فملكها و فر إليه من كان عند المرزبان حتى اشتد عليه الحصار و استصلح أثناء ذلك الوزير علي بن جعفر ثم خرجوا من توزير و لحق ديسم بأردبيل و جاء علي بن جعفر إلى المرزبان ثم حاصر المرزبان أردبيل حتى نزل له ديسم على الأمان و ملكها صلحا و ملك توزير كذلك و وفى له ثم طلب ديسم أن يبعثه إلى قلعته بالطرم فبعثه بأهله و ولده و أقام هنالك (3/513)
خبر سيف الدولة بواسط
لما فر بنو البريدي عن واسط إلى البصرة و نزل بها سيف الدولة أراد الإنحدار خلفهم لانتزاع البصرة منهم و استمد أخاه ناصر الدولة فأمده بمال مع أبي عبد الله الكوفي و كان توزون و جحجح يستطيلان عليه فأراد الاستئثار بالمال فرده سيف الدولة مع الكوفي إلى أخيه و أذن لتوزون في مال الجامدة و لجحجح في مال المدار و كان من قبل يراسل الأتراك و ملك الشام ومصر معه يجيبونه ثم ثاروا عليه في شعبان من سنة إحدى و ثلاثين فهرب من معسكر و نهب سواده و قتل جماعة من أصحابه و كان ناصر الدولة لما أخبره أبو عبد الله الكوفي بخبر أخيه في واسط برز يسير إلى الموصل و ركب إليه المتقي يستمهله فوقف حتى عاد و أغذ السير لثلاثة عشر شهرا من إمارته فثار الديلم و نهبوا داره و دبر الأمور أبو إسحق القراريطي من غير لقب الوزارة و عزل أبو العباس الأصبهاني لأحد و خمسين يوما من وزارته ثم تنازع الإمارة بواسط بعد سيف الدولة تورون و جحجح و استقر الحال أن يكون توزون أميرا و جحجح صاحب الجيش ثم طمع ابن البريدي في واسط و أصعد إليها و طلب من توزون أن يضمنه إياها فرده ردا جميلا و كان قد سار جحجح لمدافعته فمر به الرسول في طريقه و حادثه طويلا و سعى إلى توزون بأنه لحق بابن البريدي فأسرى إليه و كبسه منتصف رمضان فقبض عليه و جاء به إلى واسط فسمله و بلغ الخبر إلى سيف الدولة و كان لحق بأخيه فعاد إلى بغداد منتصف رمضان و طلب المال من المتقي لمدافعة توزون فبعث أربعمائة ألف درهم و فرقها في أصحابه و ظهر له من كان مستخفيا ببغداد و جاء توزون من واسط بعد أن خلف بها كيغلغ فلما أحسن به يوسف الدولة رحل فيمن انضم إليه من أجناد واسط و فيهم الحسن بن هرون و سار إلى الموصل و لم يعاود بنو حمدان بعدها بغداد (3/514)
إمارة تورون ثم وحشته مع المتقي
لما سار سيف الدولة عن بغداد دخلها تورون آخر رمضان سنة إحدى و ثلاثين فولاه المتقي أمير الأمراء و جعل النظر في الوزارة لأبي جعفر الكرخي كما كان الكوفي و لما سار تورون عن واسط خالفه إليها البريدي فملكها ثم انحدر تورون أول ذي القعدة لقتل البريدي و قد كان يوسف بن وجيه صاحب عمان سار في المراكب إلى البصرة و حارب ابن البريدي حتى أشرفوا على الهلاك ثم احترقت مراكب عمان بحيلة دبرها بعض الملاحين ونهب منها مال عظيم و رجع يوسف بن وجيه مهزوما في المحرم سنة اثنتين و ثلاثين و هرب في هذه الفتنة أبو جعفر بن شيرزاد من تورون فاشتمل عليه و كان تورون عند إصعاده من بغداد استخلف مكانه محمد بن ينال الترجمان ثم تنكر فارتاب محمد و ارتاب الوزير أبو الحسن بن مقلة بمكان ابن شيرزاد من تورون و خافا عائلته و خوفا المتقي كذلك و أوهماه أن البريدي ضمنه من تورون بخمسمائة ألف دينار التي أخذها من تركه يحكم و أن ابن شيرزاد جاء عن البريدي ليخلفه و يسلمه فانزعج لذلك و عزم على المسير إلى ابن حمدان و كتبوا إليه ان ينفذ عسكرا يسير صحبته (3/515)
مسير المتقي إلى الموصل
و لما تمت سعاية ابن مقلة و ابن ينال بتورون مع المتقي اتفق وصول ابن شيرزاد إلى بغداد أول اثنتين و ثلاثين في ثلمائة فارس و أقام بدست الأمر و النهي لا يعرج على المتقي في شيء و كان المتقي قد طلب من ناصر الدولة بن حمدان عسكرا يصحبه إلى الموصل فبعثهم ابن عمه أبو عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فلما وصلوا بغداد اختفى ابن شيرزاد و خرج المتقي إليهم في حرمه و ولده و معه و زيره و أعيان دولته مثل سلامة الطولوني و أبي زكريا يحيى بن سعيد السوسي و أبي محمد المارداني و أبي إسحق القراريطي و أبي عبد الله الموسوي و ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الطبيب و أبي نصر بن محمد بن ينال الترجمان و ساروا إلى تكريت و ظهر ابن شيرزاد في بغداد و ظلم الناس و صادرهم و بعث إلى تورون في واسط بخبر المتقي فعقد ضمان واسط على ابن البريدي و زوجه ابنته و سار إلى بغداد و جاء سيف الدولة إلى المتقي بتكريت ثم بعث المتقي إلى ناصر الدولة يستحثه فوصل إليه في ربيع الآخر و ركب المتقي من تكريت إلى الموصل و أقام هو بتكريت و سار تورون لحرب فتقدم إليه أخوه سيف الدولة فاقتتلوا أياما ثم انهزم سيف الدولة و غنم تورون سواده و سواد أخيه و لحقوا بالموصل تورون في اتباعهم ثم ساروا عنها مع المتقي إلى نصيبين و دخل تورون الموصل و لحق المتقي بالرقة و راسل تورون بأن وحشته لأجل ابن البريدي و ان رضاه في إصلاح بني حمدان فصالحهما تورون و عقد الضمان لناصر الدولة على ما بيده من البلاد لثلاث سنين بثلاثة آلاف و ستمائة ألف درهم لكل سنة و عاد و تورون إلى بغداد و أقام المتقي و بنو حمدان بالرقة (3/515)
مسير ابن بويه إلى واسط و عوده عنها ثم استيلاؤه عليها
كان معز الدولة بن بويه بالأهواز و كان ابن البريدي يطمعه في كل وقت في ملك العراق و كان قد وعده أن يمده واسط فلما أصعد تورون إلى الموصل خالفه معز الدولة إلى واسط و أخلف ابن البريدي و عده في المدد و عاد تورون من الموصل إلى بغداد و انحدر منها للقاء معز الدولة منتصف ذي القعدة من سنة اثنتين و ثلاثين و اقتتلوا بقباب حميد بضعة عشر يوما ثم تأخر تورون إلى نهر ديالي فعبره و منع الديلم من عبوره بمن كان معه من المقاتلة في الماء و ذهب ابن بويه ليصعد و يتمكن من الماء فبعث تورون بعض أصحابه فعبروا ديالي و كمنوا له حتى إذا صار مصعدا خرجوا عليه على غير أهبة فانهزم هو و وزيره الصهيري و أسر منهم أربعة عشر قائدا و استأمن كثير من الديلم إلى تورون و لحق ابن بويه و الصهيري بالسوس ثم عاد إلى واسط ثانية فملكها و لحق أصحاب بني البريدي بالبصرة (3/516)
قتل ابن البريدي أخاه ثم وفاته
كان أبو عبد الله بن البريدي قد استهلك أمواله في هذه النوائب التي تنويه و استقرض من أخيه أبي يوسف مرة بعد مرة و كان أثرى منه و مال الجند إليه لثروته و كان يعيب على أخيه تبذيره و سوء تدبيره ثم نمي الخبر إليه أنه يريد المكر به و الاستبداد بالأمر و تنكر كل واحد منهما للآخر ثم أكمن أبو عبد الله غلمانه في طريق أبي يوسف فقتلوه و شغب الجند لذلك فأراهم شلوه فافترقوا و دخل دار أخيه و أخذ ما فيها من الأموال و جواهر نفيسة كان باعها له بخمسين ألف درهم و كان أصلها ليحكم و هبها لبنته حين زوجها له و أخذ يحكم من دار الخلافة فاحتاج إليه أبو عبد الله بعد فباعها له و بخسه أبو يوسف في قيمتها و كان ذلك من دواعي العداوة بينهما ثم هلك أبو عبد الله بعد مهلك أخيه بثمانية أشهر و قام بالأمر بعده بالبصرة أخوهما أبو الحسن فأساء السيرة في الجند فثاروا به ليقتلوه فهرب منهم إلى هجر مستجيرا بالقرامطة و ولوا عليهم بالبصرة أبا القاسم ابن أخيه أبي عبد الله و أمد أبو طاهر القرمطي أبا الحسن و بعث معه أخويه لحصار البصرة فامتنعت عليهم و أصلحوا بين أبي القاسم و عمه و دخل البصرة و سار منها إلى تورون ببغداد ثم طمع يأنس مولى أبي عبد الله في الرياسة و داخل بعض قواد الديلم في الثورة بأبي القاسم و اجتمع الديلم إلى القائد و بعث أبو القاسم و ليه يأنس فهم به ليفرد بالأمر فهرب يأنس واختفى و تفرق الديلم و اختفى القائد ثم قبض عليه و نفاه و قبض على يأنس بعد أيام و صادره على مائة ألف دينار و قتله و لما قدم أبو الحسين البريدي إلى بغداد مستأمنا إلىتورون فأمنه و طلب الإمداد على ابن أخيه و بذل في ذلك أموالا ثم بعث ابن أخيه من البصرة بالأموال فأقره على عمله و شعر أبو الحسن بذلك فسعى عند ابن تورون في ابن شيرزاد إلى أن قبض عليه و ضرب و استظهر أبو عبد الله بن أبي موسى الهاشمي بفتاوى الفقهاء و القضاة بإباحة دم أبي الحسين كانت عنده من أيام ناصر الدولة و أحضروا بدار المتقي و سئلوا عن فتاويهم فاعترفوا بأنهم أفتوا بها فقتل و صلب ثم أحرق و نهب داره و كان ذلك منتصف ذي الحجة من السنة و كان ذلك آخر أمر البريديين (3/517)
الصوائف أيام المتقي
خرج الروم سنة ثلاثين أيام المتقي و انتهوا إلى قرب حلب فعاثوا في البلاد و بلغ سبيهم خمسة آلاف و فيها دخل ثمل من ناحية طرسوس فعاث في بلاد الروم و امتلأت أيدي عسكره من الغنائم و أسر عدة من بطارقتهم و في سنة إحدى و ثلاثين بعث ملك الروم إلى المتقي يطلب منه منديلا في بيعة الرها زعموا أن المسيح مسح به وجهه فارتسمت فيه صورته و أنه يطلق فيه عددا كثيرا من أسرى المسلمين و اختلف الفقهاء و القضاة في إسعافه بذلك و فيه غضاضة أو منعه و يبقى المسلمون بحال الأسر فأشار عليه علي ابن عيسىبإسعافه لخلاص المسلمين فأمر المتقي بتسلميه إليه و بعث إلى ملك الروم من يقوم بتسليم الأسرى و في سنة اثنتين و ثلاثين خرجت طوارق من الروس في البحر إلى نواحي أذربيجان و دخلوا في نهر اللكز إلى بردعه و بها نائب المرزبان ابن محمد بن مسافر ملك الديلم بأذربيجان فخرج في جموع الديلم و المطوعة فقتلوهم و قاتلوهم فهزموهم الروس و ملكوا البلد و جاءت العساكر الإسلامية من كل ناحية لقتالهم فامتنعوا بها و رماهم بعض العامة بالحجارة فأخرجوهم من البلد و قاتلوا من بقي و غنموا أموالهم و استبدوا بأولادهم و نسائهم و استنفر المرزبان الناس و زحف إليهم في ثلاثين ألفا فقاتلوهم فامتنعوا عليه فأكمن لهم بعض الأيام فهزمهم و قتل أميرهم و نجا الباقون إلى حصن البلد و حاصرهم المرزبان و صابرهم ثم جاءه الخبر بأن أبا عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان بلغ سلماس موجها إلى أذربيجان بعثه إليها ابن عمه ناصر الدولة ليتملكها فجهز عسكرا لحصار الروس في بردعة و سار إلى قتال ابن حمدان فارتحل ابن حمدان راجعا إلى ابن عمه باستدعائه بالإنحدار إلى بغداد لما مات تورون و أقام العسكر على حصار الروس ببردعة حتى هربوا من البلد و حملوا ما قدروا عليه و طهر الله البلد منهم و فيها ملك الروم رأس عين و استباحوها ثلاثا و قاتلهم الأعراب ففارقوها (3/518)
الولايات أيام المتقي
قد تقدم لنا أنه لم يكن بقي في تصريف الخليفة إلا أعمال الأهواز و البصرة و واسط و الجزيرة و الموصل لبني حمدان و استولى معز الدولة على الأهواز ثم على واسط و بقيت البصرة بيد أبي عبد الله بن البريدي و استولى على بغداد مع المتقي يحكم ثم ابن البريدي ثم تورتكين الديلمي ثم ابن رائق ثانية ثم ابن البريدي ثانية ثم حمدان ثم تورون يختلفون على المتقي واحدا بعد واحد وهو مغلب لهم و الحل و العقد و الإبرام و النقض بأيديهم و وزير الخليفة عامل من عمالهم متصرف تحت أحكامهم و آخر من دبر الأمور أبو عبد الله الكوفي كاتب تورون و كان قبله كاتب ابن رائق و كان الحجبة بدر بن الجرسي فعزل عنها سنة ثلاثين و جعل مكانه سلامة الطولوني و ولي بدر طريق الفرات ففرع إلى الاخشيد و استأمن إليه فولاه دمشق و كان من المستبدين في النواحي يوسف بن وجيه و كان صاحب الشرطة ببغداد أبا العباس الديلمي (3/519)
خلع المتقي و ولاية المستكفي
لم يزل المتقي عند بني حمدان من شهر ربيع الآخر سنة اثنتين و ثلاثين إلى آخر السنة ثم آنس منهم الضجر و اضطر لمراجعة تورون فأرسل إليه الحسن بن هرون و أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشمي في الصلح و كتب إلى الأخشيد محمد بن طغج صاحب مصر يستقدمه فجاءه و انتهى إلى حلب و بها أبو عبد الله بن سعيد بن حمدان من قبل ابن عمه ناصر الدولة فارتحل عنها و تخلف عنه ابن مقاتل و قد كان صادره ناصر الدولة على خمسين ألف دينار فاستقدم الأخشيد و ولاه خراج مصر و سار الأخشيد من حلب و لقي المتقي بالرقة و أهدى إليه والي الوزير بن الحسين بن مقلة و سائر الحاشية و اجتهد به أن يسير معه إلى مصر ليقيم خلافته هنالك فأبى فخوفه من تورون فلم يقبل و أشار على ابن مقلة أن يسير معه إلى مصر فيحكمه في البلاد فأبى و كانوا ينتظرون عود رسلهم من تورون فبعثوا إليهم بيمين تورون و الوزير ابن شيرزاد بمحضر القضاة و العدول و العباسيين و العلويين و غيرهم من طبقات الناس و جاء الكتاب بخطوطهم بذلزك و تأكيد اليمين ففارق المتقي الأخشيد و انحدر من الوقت في الفرات آخر المحرم سنة ثلاث و ثلاثين و لقيه تورون بالسندية فقبل الأرض و قال : قد وفيت بيميني ! و وكل به و بأصحابه و أنزله في خيمته ثم سمله لثلاث سنين و نصف من خلافته و أحضر أبا القاسم عبد الله بن المكتفي فبايعه الناس على طبقاتهم و لقب المستكفي و جيء بالمتقي فبايعه و أخذت منه البردة و القضيب و استوزر أبا الفرج محمد بن علي السامري فكان له اسم الوزارة على سنن من قبله و الأمور راجعة لابن شيرزاد كاتب تورون ثم خلع المستكفي على تورون و توجه و حبس المتقي و طلب أبا القاسم الفضل بن المقتدر الذي لقب فيما بعد بالمطيع فاختفى سائر أيامه و هدمت داره (3/519)
وفاة توزون و إمارة ابن شيرزاد
و في المحرم من سنة أربع و ثلاثين وثلثمائة مات توزون ببغداد لست سنين و خمسة أشهر من إمارته و كان ابن شيرزاد كاتبه أيامه كلها و بعثه قبل موته لاستخلاص الأموال من هيت فلما بلغه خبر الوفاة عزم على عقد الإمارة لناصر الدولة بن حمدان فأبى الجند من ذلك و اضطربوا و عقدوا له الرياسة عليهم و اجتمعوا عليه و حلفوا و بعث إلى المستكفي ليحلف له فأجابه و حلف له بحضرة القضاة و العدول و دخل إليه ابن شيرزاد فولاه أمير الأمراء و زاد في الأرزاق زيادة متسعة فضاقت عليه الأموال فبعث أبا عبد الله بن أبي موسى الهاشمي إلى ابن حمدان يطالبه بالمال و يعده بإمارة الأمراء فأنفذ إليه خمسمائة ألف درهم و طعاما و فرقها في الجند فلم تكف ففرض الأموال على العمال و الكتاب و التجار لأرزاق الجند و مدت الأيدي إلى أموال الناس و فشا الظلم وظهرت اللصوص و كبسوا المنازل و أخذ الناس في الخلاص من بغداد ثم استعمل على واسط ينال كوشه و على تكريت الفتح السيكري فسار إلى ابن حمدان و دعا له شكرا فولاه عليها من قبله (3/520)
استلاء معز الدولة بن بويه على بغداد و اندراج أحكام الخلافة في سلطانهم
قد تقدم لنا استبداد أهل النواحي على الخلافة منذ أيام المتوكل و لم يزل نطاق الدولة العباسية يتضايق شيئا فشيئا و أهل الدولة يستبدون واحدا بعد واحد إلى أن أحاطوا ببغداد و صاروا ولاة متعددة يفرد كل واحد بالذكر و سياقة الخبر إلى آخرها و كان من أقرب المستبدين إلى مقر الخلافة بنوبويه بأصبهان و فارس و معز الدولة منهم بالأهواز و قد تغلب على واسط ثم انتزعت منه و بنو حمدان بالموصل و الجزيرة و قد تغلب على هيت و صارت تحت ملكهم و لم يبق للخلفاء إلا بغداد و نواحيها ما بين دجلة و الفرات و أمراؤهم مع ذلك مستبدون عليهم و يسمون القائم بدولتهم أمير الأمراء كما مر في أخبارهم إلى أن انتهى ذلك إلى دولة المتقي و القائم بها ابن شيرزاد و ولي على واسط ينال كوشه كما قلنا فانحرف عن ابن شيرزاد و كاتب معز الدولة و قام بدعوته في واسط و استدعاه لملك بغداد فزحف في عساكر الديلم إليها و لقبه ابن شيرزاد و الأتراك و هربوا إلى ابن حمدان بالموصل و اختفى المستكفي و قدم معز الدولة كاتبه الحسن بن محمد المهلبي إلى بغداد فدخلها و ظهر الخليفة فظهر عنده المهلبي و جدد له البيعة عن معز الدولة أحمد بن بويه و عن أخويه عماد الدولة علي و ركن الدولة الحسن و ولاهم المستكفي على أعمالهم و لقبهم بهذه الألقاب و رسمها على سكته ثم جاءه معز الدولة إلى بغداد و ملكها و صرف الخليفة في حكمه و اختص باسم السلطان فبقيت أخبار الدولة إنما تؤئر عنهم و إن كان منها ما يختص بالخليفة فقليل فلذلك صارت أخبار هؤلاء الخلفاء منذ المستكفي إلى المتقي مندرجة في أخبار بني بويه و السلجوقية من بعدهم لعطلهم من التصرف إلا قليلا يختص بالخلفاء نحن ذاكروه و نرجئ بقية أخبارهم إلى أخبار الديلم و السلجوقية الغالبين على الدولة عندما نفرد دولتهم كما شرطناه (3/520)
الخبر عن الخلفاء من بني العباس المغلبين لدولة بني بويه من السلجوقية من بعدهم من لدن المستكفي إلى المتقي و ما لهم من الأحوال الخاصة بهم ببغداد و نواحيها
لما دخل معز الدولة بن بويه إلى بغداد غلب على المستكفي و بقي في كفالته و كان المستكفي في سنة ثلاث و ثلاثين قبلها قبض على كاتبه أبي عبد الله بن أبي سليمان و على أخيه و استكتب أبا أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي في خاص أمره و كان قبله كاتبا لابن حمدان و كان يكتب للمستكفي قبل الخلافة فلما نصب للخلافة قدم من الموصل فاستكتبه المستكفي في هذه السنة على وزيره أبي الفرج لاثنتين و أربعين من وزارته و صادره على ثلثمائة ألف درهم و لما استولى معز الدولة ببغداد على الأمر و بعث أبو القاسم البريدي صاحب البصرة ضمن واسط و أعمالها و عقد له عليها (3/521)
خلع المستكفي و بيعة المطيع
و أقام المستكفي بعد استيلاء مع الدولة على الأمر أشهرا قلائل ثم بلغ معز الدولة أن المستكفي يسعى في إقامة غيره فتنكر له ثم أجلسه في يوم مشهود لحضور رسول من صاحب خراسان و حضر هو في قومه و عشيرته و أمر رجلين من نقباء الديلم جاءا ليقبلا يد المستكفي ثم جذباه عن سريره و ساقاه ماشيا و ركب معز الدولة و جاء به إلى داره فاعتقله بها و اضطرب الناس و عظم النهب و نهب دار الخلافة و قبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المستكفي و كان ذلك في جمادى الآخرة لسنة و أربعة أشهر من خلافته ثم بويع أبو القاسم الفضل بن المقتدر و قد كان المستكفي طلبه حين ولي لإطلاعه على شأنه في طلب الخلافة فلم يظفر به و اختفى فلما جاء معز الدولة تحول إلى داره و اختفى عنده فلما قبض على المستكفي بويع له و لقب المطيع لله ثم أحضر المستكفي عنده فأشهد على نفسه بالخلع و سلم عليه بالخلافة و لم يبق للخليفة من الأمر شيء البتة منذ أيام معز الدولة و نظر وزير الخليفة مقصور على أقطاعه و نفقات داره و الوزارة منسوبة إلى معز الدولة و قومه من الديلم شيعة للعلوية منذ إسلامهم على يد الأطروش فلم يكونوا من شيعة العباسية في شيء و لقد يقال بأن معز الدولة اعتزم على نقل الخلافة منهم إلى العلوية فقال له بعض أصحابه : لا تول أحدا يشركك قومك كلهم في محبته و الاشتمال عليه و ربما يصير لهم دونك فأعرض عن ذلك و سلبهم الأمر و النهي و تسلم عماله و جنده من الديلم و غيرهم أعمال العراق و سائر أراضيه و صار الخليفة إنما يتناول منه ما يقطعه معز الدولة و من بعده فما يسد بعض حاجاته نعم إنهم كانوا يفردونهم بالسرير و المنبر و السكة و الختم على الرسائل و الصكوك و الجلوس للوفد و إجلالهم في التحية و الخطاب و كل ذلك طوع القائم على الدولة و كان يفرد في كل دولة بني بويه و السلجوقية بلقب السلطان مما لا يشاركه فيه أحد و معنى الملك من تصريف القدرة و إظهار الأبهة و العز حاصل له دون الخليفة و غيره و كانت الخلافة حاصلة للعباسي المنصوب لفظا مسلوبة معنى و الله المدبر للأمور لا إله غيره (3/522)
انقلاب حال الدولة بما تجدد في الجباية و الأقطاع
لما استوى معز الدولة طلب الجند أرزاقهم على عادتهم و أكثر لسبب ما تجدد من الاستيلاء الذي لم يكن له فاضطر إلى ضرب المكوس و أخذ أموال الناس من غير وجهها و أقطع قواده و أصحابه من أهل عصيبته و غير المساهمين له في الأمر جميع القرى التي بجانب السلطان فارتفعت عنها أيدي العمال و بطلت الدواوين و اختلف حال القرى في العمارة عما كان في أيدي القواد و الرؤساء حصل بهم لأهلها الرفق فزادت عمارتها و توفر دخلها و لم تكن مناظرتهم في ذلك و لا تقديره عليهم و ما كان بأيدي العامة و الأتباع عظم خرابه لما كان يعدم من الغلاء و النهب و اختلاف الأيدي و ما يزيد الآن من الظلم و مصادرات الرعايا و الحيف في الجباية و إهمال النظر في تعديل القناطر و المشارب و قسم المياه على الأرضين فإذا خربت قراهم ردوها و طلبوا العوض عنها فيصير الآخر منها لما صار إليه الأول ثم أمر معز الدولة قواده و أصحابه بحماية الأقطاع و الضياع و ولاتها و صارت الجبايات لنظرهم و التعويل في المرتفع على أخبارهم فلا يقدر أهل الدواوين و الحسابات على تحقيق ذلك عليهم و لم يقف عند ذلك على غاية فبطلت الأموال و صار جمعها من المكوس و الظلامات و عجز معز الدولة عن ذخيرة يعدها لنوائب سلطانه ثم استكثر من الموالي الأتراك ليجدع بهم من أنوف قومه و فرض لهم الأرزاق و زاد لهم الأقطاع فعظمت غيرة قومه من ذلك و آل الأمر إلى المنافرة كما هو الشأن في طبيعة الدول (3/523)
دولة بني حمدان ـ مسير ابن حمدان إلى بغداد
و لما استولى معز الدولة على بغداد و خلع المستكفي بلغ الخبر إلى ناصر الدولة بن حمدان فشق ذلك عليه و سار من الموصل إلى بغداد و انتهى إلى سامرا في شعبان سنة أربع و كان معز الدولة حين سمع قدوم عساكره مع ينال كوشه و قائد آخر فقتل القائد و لحق بناصر الدولة و جاء ناصر الدولة إلى بغداد فأقام بها و خالفه معز الدولة إلى تكريت فنهبها لأنها من أعماله ثم عاد معز الدولة و المطيع فنزلوا بالجانب الغربي من بغداد و قاتلوا ناصر الدولة بالجانب الشرقي و تقدم ناصر الدولة إلى الأعراب بالجانب الغربي بقطع الميرة عن معز الدولة فغلت الأسعار و عزت الأقوات و منع ناصر الدولة من الخطبة للمطيع و المعاملة بسكته و دعا للمتقي و بيت معز الدولة مرارا و ضاق الأمر به و اعتزم على ترك بغداد و العود إلى الأهواز ثم أظهر الرحيل ذات ليلة و أمر وزيره أبا جعفر الصهيري بالعبور في أكثر العساكر و أقام بالكينة مكانه و جاء ينال كوشه لقتاله فانهزم و اضطرب عسكر ناصر الدولة و أجفلوا و غنم الديلم أموالهم و أظهرهم ثم أمن معز الدولة الناس و عاد المطيع إلى داره في محرم سنة خمس و ثلاثين و قام التورونية عليه فلما شعروا به نكروه و هموا بقتله فأسرى هاربا و معه ابن شيرزاد وفر إلى الجانب الغربي ثم لحق بالقرامطة فأجاروه و بعثوه إلى الموصل ثم استقر الصلح بينه و بين الدولة كما طلب و لما وفر عن الأترام اتفقوا على تكين الشيرازي فولوه عليهم و قبضوا على من تخلف من كتابه و أصحابه و ساروا في أتباعه إلى نصيبين ثم إلى سنجار ثم إلى الحديثة ثم إلى السن و لحق هنالك عسكر معز الدولة مع وزيره أبي جعفر الصهيري و قد كان استمده ناصر الدولة و سار ناصر الدولة و ابن الصهيري إلى الموصل فنزلوا عليها و أخذ الصهيري من ناصر الدولة ابن شيرزاد و حمله إلى معز الدولة و ذلك سنة خمس و ثلاثين (3/523)
استيلاء معز الدولة على البصرة
و في هذه السنة انتقض أبو القاسم البريدي بالبصرة فجهز معز الدولة الجيش جماعة أعيانهم إلى واسط و لقيهم جيش ابن البريدي في الماء على الظهر فانهزموا إلى البصرة و أسروا من أعيانهم جماعة ثم سار معز الدولة سنة ست و ثلاثين إلى البصرة و معه المطيع لاستنقاذها من يد أبي القاسم بن البريدي و سلكوا إلى البرية فبعث القرامطة يعذلون في ذلك معز الدولة فكتب يهددهم و لما قارب البصرة استأمنت إليه عساكر أبي القاسم و هرب هو إلى القرامطة فأجاروه و ملك معز الدولة البصرة ثم سار منها إلى الأهواز لتلقي أخاه عماد الدولة و ترك المطيع و أبا جعفر الصهيري بالبصرة و لقي أخاه بأرجان ثم عاد إلى بغداد و المطيع معه و أراد السير إلى الموصل فأرسل إليه ناصر الدولة في الصلح و حمل المال فتركه ثم انتفض سنة سبع و ثلاثين فسار إليه معز الدولة و ملك الموصل و لحق ناصر الدولة بنصيبين و أخذ معز الدولة في ظلم الرعايا و عسفهم ثم بعث إليه أخوه ركن الدولة بأصبهان بأن عسكر خراسان قصدت جرجان و الري و استمده فاضطر معز الدولة إلى صلح ناصر الدولة عن الموصل و الجزيرة و ما ملكه سيف الدولة من الشام و دمشق و حلب على ثمانية آلاف ألف ألف درهم و يخطب لعماد الدولة و ركن الدولة و معز الدولة بني بويه فاستقر الصلح على ذلك و عاد إلى بغداد (3/524)
ابتداء أمر بني شاهين بالبطيحة
كان عمران بن شاهين من أهل الجامدة و حصلت عنده جبايات فهرب إلى البطيحة خوفا من الحكام و أقام بين القصب و الآجام يقتات بصيد السمك و الطير و كشف سابلة البطيحة و اجتمع عليه جماعة من الصيادين و اللصوص ثم اشتد خوفه فاستأمن إلى أبي القاسم بن البريدي صاحب البصرة نقله جماعة الجامدة و نواحي البطائح و جمع السلاح و اتخذ مقاتل على تلال البطيحة و غلب على نواحيها و سرح معز الدولة وزيره أبا جعفر الصهيري سنة ثمان و ثلاثين فقاتله و هرب و استأمن أهله و عياله ثم جاء الخبر إلى معز الدولة بموت أخيه عماد الدولة بفارس و اضطراب أحواله بها فكتب إلى الصهيري بالفرار إلى شيرزاد لإصلاح الأمور فسار إليها و عاد عمران بن شاهين إلى البطيحة و اجتمع إليه أصحابه و قوي أمره و بعث معز الدولة إلى قتاله روزبهان من أعيان عسكره فأطال حصاره في مضايق البطيحة ثم ناجزه الحرب فهزمه عمران و هرب عسكره و صار أصحابه يطلبون البذرقة و الخفارة من جند السلطان في السابلة و انقطع طريق البصرة إلا على الظهر و كان الصهيري قد هلك و ولى مكانه المهلبي فكتب معز الدولة إلى المهلبي و هو بالبصرة فصعد إلى واسط و أمده بالقواد و السلاح و أطلق يده في الإنفاق فزحف إلى البطيحة و ضيق على عمران فانتهى إلى مضايق خفية و أشار عليه روزبهان بمعالجة القوم و كتب إلى معز الدولة يشكو المطاولة من المهلبي فكتب إليه معز الدولة بالاستبطاء فبادر إلى المناجزة و توغل في تلك المضايق فانهزم و قتل من أصحابه و أسر و نجا هو سباحة في الماء و أسر عمران أكابر القواد حتى صالحه معز الدولة و قلده البطائح و أطلق له أهله على أن يطلق القواد الذين في أسره فأطلقهم (3/525)
موت الصهيري و وزارة المهلبي
كان أبو جعفر محمد بن أحمد الصهيري وزيرا لمعز الدولة و كان قد سار لقتال عمران و استخلف مكانه أبا محمد الحسن بن محمد المهلبي فعرفت كفايته وإصلاحه و أمانته و توفي أبو جعفر الصهيري محاصرا لعمران فولى معز الدولة مكانه أبا محمد المهلبي فأحسن السيرة و أزال المظالم و خصوصا عن البصرة فكان فيها شعب كثيرة من المظالم من أيام أبي البريدي و تنقل في البلاد لكشف المظالم و تخليص الحقوق فحسن أثره و نقم عليه معز الدولة بعض الأمور فنكبه سنة إحدى و أربعين و حبسه في داره و لم يعزله (3/526)
حصار البصرة
قد تقدم لنا أن القرامطة أنكروا على معز الدولة مسيره إلى البصرة على بلادهم و ذكرنا ما دار بينهم في ذلك و لما علم يوسف بن وجيه استيحاشهم بعث إليهم يطمعهم في النصرة و استمدهم فأمدوه و سار في البحر سنة إحدى و أربعين و بلغ الخبر إلى الوزير المهلبي و قد قدم من شأن الأهواز فسار إلى البصرة و سبق إليها ابن وجيه و قاتله فهزمه و ظفر بمراكبه (3/526)
استيلاء معز الدولة على الموصل و عوده
قد تقدم لنا صلح معز الدولة مع ناصر الدولة على ألفي ألف درهم كل سنة فلما كانت سنة سبع و أربعين أخرج حمل المال فسار معز الدولة إلى الموصل في جمادى و معه وزيره المهلبي فاستولى على الموصل و لحق ناصر الدولة بنصيبين و معه كتابه و جميع أصحابه و حاشيته و من يعرف وجوه المنافع و أنزلهم في قلعة كواشي و غيرها و أمر الأعراب بقطع الميرة عن الموصل فضاقت الأبواب على عسكر معز الدولة فسار عن الموصل إلى نصيبين و استخلف عليها سبكتكين الحاجب الكبير و بلغه في طريقه أن أولاد ناصر الدولة بسنجار في عسكر فبعث عسكرا فكبسوهم و اشتغلوا بالنهب فعاد إليهم أولاد ناصر الدولة و هم غازون فاستلحموهم و سار ناصر الدولة عن نصيبين إلى ميافارقين و رجع أصحابه إلى معز الدولة مستأمنين فسار هو إلى أخيه سيف الدولة بحلب فتلقاه و أكرمه و تراسلوه في الصلح على ألفي ألف درهم و تسعمائة ألف درهم و إطلاق من أسر بسنجار و أن يكون ذلك في ضمان سيف الدولة فتم بينهما و عاد معز الدولة إلى العراق في محرم سنة ثمان و أربعين (3/526)
بناء معز الدولة ببغداد
أصاب معزل الدولة سنة خمسين مرض أشفي منه حتى وصى و استوخم بغداد فارتحل إلى كلواذا ليسير إلى الأهواز و أسف أصحابه لمفارقة بغداد فأشاروا عليه أن يبني لسكناه في أعاليها فبنى دارا أنفق عليها ألف ألف دينار و صادر فيها جماعة من الناس (3/527)
ظهور الكتابة على المساجد
كان الديلم كما تقدم لنا شيعة لإسلامهم على يد الأطروش و قد ذكرنا ما منع بقي بويه من تحويل الخلافة على العباسية إليهم فلما كان سنة إحدى و خمسين و ثلثمائة أصبح مكتوبا على باب الجامع ببغداد : لعن صريح في معاوية و من غصب فاطمة فدك و من منع من دفن الحسن عند جده و من نفى أباذر و من أخرج العباس من الشورى و نسب ذلك إلى معز الدولة ثم محى من الليلة القابلة فأراد معز الدولة إعادته فأشار المهلبي بأن يكتب مكان المحو : لعن معاوية فقط و الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه و سلم و في ثامن عشر ذي الحجة من هذه السنة أمر الناس بإظهار الزينة و الفرح لعبد العزيز من أعيان الشيعة و في السنة بعدها أمر الناس في يوم عاشوراء أن يغلقوا دكاكينهم و يقعدوا عن البيع و الشراء و يلبسوا المسوح و يعلنوا بالنياحة و تخرج النساء مسبلات الشعور مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن و لطمن خدودهن حزنا على الحسين ففعل الناس ذلك و لم يقدر أهل السنة على منعه لأن السلطان للشيعة و أعيد ذلك سنة ثلاث و خمسين فوقعت فتنة بين أهل السنة و الشيعة و نهب الأموال (3/527)
استيلاء معز الدولة على عمان و حصاره البطائح
انحدر معز الدولة سنة خمس و خمسين إلى واسط لقتال عمران بن شاهين بالبطائح فأنفذ الجيش من هنالك مع أبي الفضل العباس بن الحسن و سار إلى الأبلة فأنفذ الجيش إلى عمان و كان القرامطة قد استولوا عليها و هرب عنها صاحبها نافع و بقي أمرها فوضى فاتفق قاضيها و أهل البلد أن ينصبوا عليهم رجلا منهم فنصبوه ثم قتله بعضهم فولوا آخر من قرابة القاضي يعرف بعبد الرحمن بن أحمد بن مروان و استكتب علي بن أحمد الذي كان وصل مع القرامطة كاتبا و حضر وقت العطاء فاختلف الزنج و البيض في الرضا بالمساواة و بعدمها و اقتتلوا فغلب الزنج و أخرجوا عبد الوهاب و استقر علي بن أحمد أميرا فلما جاء معز الدولة إلى واسط هذه السنة قدم عليه نافع الأسود صاحب عمان مستنجدا به فانحدر به من الأبلة و جهز له المراكب لحمل العساكر و عليهم أبو الفرج محمد بن العباس بن فساغس و هي مائة قطعة فساروا إلى عمان و ملكوها تاسع ذي الحجة من سنة خمس و خمسين و قتلوا من أهلها و أحرقوا مراكبها و كانت تسعة و ثمانين و عاد معز الدولة إلى واسط و حاصر عمران و أقام هنالك فاعتل و صالح عمران و انصرف عنه (3/528)
وفاة الوزير المهلبي
سار الوزير المهلبي في جمادى سنة اثنتين و خمسين إلى عمان ليفتحها فاعتل في طريقه و رجع إلى بغداد فمات في شعبان قبل وصوله و حمل فدفن بها لثلاث عشرة سنة و ثلاثة أشهر من وزارته و قبض معز الدولة أمواله و ذخائره و صارت إليه و حواشيه و نظر في الأمور بعده أبو الفضل العباس بن الحسين الشيرازي و أبو الفرج محمد بن العباس بن فساغس و لم يلقب أحد منهما بوزارة (3/528)
وفاة معز الدولة و ولاية ابنه بختيار
و لما رجع معز الدولة إلى بغداد اشتد مرضه فعهد بالسلطنة إلى ابنه عز الدولة و تصدق و أعتق و توفي في ربيع من سنة ست و خمسين لاثنتين و عشرين سنة من سلطنته و ولى ابنه عز الدولة بختيار و قد كان أوصاه بطاعة عمه ركن الدولة و بطاعة ابنه عضد الدولة لأنه كان أكبر سنا و أخبر بالسياسة و وصاه بحاجبه سبكتكين و بكاتبيه أبي الفضل العباس و أبي الفرج فخالف وصاياه و عكف على اللهو و أوحش هؤلاء و نفى كبار الديلم شرها في أقطاعاتهم و شغب عليه الأصاعد فذاداهم و اقتدى بهم الأتراك و جاء أبو الفرج محمد بن العباس من عمان بعد أن سلمها إلى نواب عضد الدولة الذين كانوا في أمداده و خشي أن يؤمر بالمقام بها و ينفرد أبو الفضل صاحبه بالوزارة ببغداد فكان كما ظن ثم انتقض بالبصرة حبشي بن معز الدولة على أخيه بختيار سنة ست و خمسين فبعث الوزير أبو الفضل العباس فسار موريا بالأهواز و نزل واسط و كتب إلى حبشي بأنه جاء ليسلمه البصرة و طلب منه المعونة على أمره فأنفذ إليه مائتي ألف درهم و أرسل الوزير خلال ذلك إلى عسكر الأهواز أن يوافوه بالأبلة لموعد ضربه لهم فوافوه و كبسوا حبشيا بالبصرة و حبسوه برامهرمز و نهبوا أمواله و كان من جملة ما أخذ له عشرة آلاف مجلد من الكتب و بعث ركن الدولة بتخليص حبشي ابن أخيه و جعله عند عضد الدولة فأقطعه إلى أن مات سنة سبع و ستين (3/528)
عزل أبي الفضل و وزارة ابن بقية
لما ولى أبو الفضل وزارة بختيار كثر ظلمه و عسفه و كان محمد بن بقية من حاشية بختيار و كان يتولى له المطبخ فلما كثر شغب الناس من أبي الفضل عزله بختيار سنة اثنتين و ستين و ولى مكانه محمد بن بقية فانتشر الظلم أكثر و خربت النواحي و ظهرت العيارون و وقعت الفتن بين الأتراك و بختيار فأصلح ابن بقية بينهم و ركب سبكتكين بالأتراك إلى بختيار ثم أفسد بينهم و تحرك الديلم على سبكتكين و أصحابه فأرضاهم بختيار بالمال و رجعوا عن ذلك كان ناصر الدولة بن حمدان قد قبض عليه ابنه أبو ثعلب و حبسه سنة ست و خمسين و طمع في المسير إلى بغداد و جاء أخوه حمدان و إبراهيم فارغين إلى بختيار و مستنجدين به فشغل عنهما بما كان فيه من شأن البطيحة و عمان حتى إذا قضى وطره من ذلك و عزل أبا الفضل الوزير و استوزر ابن بقية حمله على ذلك و أغراه به فسار إلى الموصل و نزلها في ربيع الآخر وسنة ثلاث و ستين و لحق أبو ثعلب بسنجار بأصحابه و كتابه و دواوينه ثم سار إلى بغداد و بعث بختيار في أثره الوزير ابن بقية و سبكتكين فدخل ابن بقية بغداد و أقام سبكتكين يحاربه في ظاهرها و وقعت الفتنة داخل بغداد في الجانب الغربي بين أهل السنة و الشيعة و اتفق سبكتكين و أبو ثعلب على أن يقبضا على الخليفة و الوزير و أهل بختيار و يعود سبكتكين إلى بغداد مستوليا و أبو ثعلب إلى الموصل ثم أقصر سبكتكين عن ذلك و توقف و جاءه الوزير ابن بقية و أرسلوه إلى أبي ثعلب في الصلح و أن يضمن البلاد و برد على أخيه حمدان أقطاعه و أملاكه إلا ماردين و عاد أبو ثعلب إلى الموصل و رجل بختيار و سار سبكتكين للقائه و اجتمع بختيار و أبو ثعلب على الموصل و طلب أبو ثعلب زوجته ابنة بختيار و أن يحط عنه من الضمان و يلقب لقبا سطانيا فأجيب إلى ذلك خشية منه و رحل بختيار إلى بغداد و سر أهل الموصل برحيله لما نالهم منه و بلغه في طريقه أن أبا ثعلب قتل قوما من أصحابه وكانوا استأمنوا البختيار و زحفوا لنقل أهلهم و أموالهم فاشتد ذلك عليه و كتب إلى الوزير أبي طاهر بن بقية و الحاجب ابن سبكتكين يستقدمهما في العساكر فجاؤا و عادوا إلى الموصل و عزم على طلبه حيث سار فأرسل أبو ثعلب في الصلح و جاء الشريف أبو أحمد الموسوي والد الشريف الرضي و حلف على العلم في قتل أولئك المستأمنة و عاد الصلح و الاتفاق كما كان و رجع بختيار إلى بغداد و بعث ابنته إلى زوجها أبي ثعلب (3/529)
الفتنة بين بختيار و سبكتكين و الأتراك
كان بختيار قد قلت عنده الأموال و كثرت مطالب الجند و شغبهم فكان يحاول على جمع الأموال فتوجه إلى الموصل لذلك ثم رجع فتوجه إلى الأهواز ليجدد ريعه إلى مصادرة عاملها و تخلف عنه سبكتكين و الأتراك الذين معه و وقعت فتنة بين الأتراك و الديلم بالأهواز و اقتتلوا ولج الأتراك في طلب ثأرهم و أشار عليه أصحاب الديلم بقبض رؤساء الأتراك و قوادهم ففعل و كان من جملتهم عامل الأهواز و كاتبه و نهبت أموالهم و بيوتهم و نودي في البلد باستباحتهم و بلغ الخبر إلى سبكتكين و هو ببغداد فنقض طاعة بختيار و ركب في الأتراك و حاصر داره يومين و أحرقها و أخذ أخويه و أمهما فبعثهم إلى واسط في ذي القعدة سنة ثلاث و ستين و انحدر المطيع معهم فرده و ترك الأتراك في دور الديلم و نهبوها و ثارت العامة مع سبكتكين لأن الديلم كانوا شيعة و سفكت الدماء و أحرق الكرخ و ظهر أهل السنة (3/530)
خلع المطيع و ولاية الطائع
كان المطيع قد أصابه الفالج و عجز عن الحركة و كان يتستر به و انكشف حاله بسبكتكين في هذه الواقعة فدعاه إلى أن يخلع نفسه و يسلم الخلافة عبد الكريم ففعل ذلك منتصف ذي القعدة سنة ثلاث و ستين لست و عشرين سنة و نصف من خلافته و بويع ابنه عبد الكريم و لقب الطائع (3/531)
الصوائف
و عادت الصوائف منذ استبد ناصر الدولة بن حمدان بالموصل و أعمالها و ملك سيف الدولة أخوه مدينتي حلب و حمص سنة ثلاث و ثلاثين فصار أمر الطوائف إليه فنذكرها في أخبار دولتهم فقد كان لسيف الدولة فيها آثار و كان للروم في أيامه جولات حسنت فيها مدافعته و أما الولايات فانقطعت منذ استيلاء معز الدولة على العراق و انقسمت الدولة الإسلامية دولا نذكر ولايات كل منها في أخبارها عند انفرادها على ما شرطناه (3/531)
فتنة سبكتكين و موته و إمارة افتكين
لما وقع بختيار في الأتراك بالأهواز ما وقع و انتقض سبكتكين ببغداد عمد بختيار إلى من حبسه من الأتراك فأطلقهم و ولى منهم على الأتراك زادويه الذي كان عامل الأهواز و سار إلى واسط للقائه و أخويه و كتب إلى عمه ركن الدولة و ابن عمه عضد الدولة يستنجدهما و إلى أبي ثعلب بن حمدان في المدد بنفسه و يسقط عنه مال الأقطاع و إلى عمران بن شاهين بالبطيحة كذلك فجهز إليه عمه ركن الدولة العسكر مع وزيره أبي الفتح بن العميد و كتب إلى ابن عمه عضد الدولة بالمسير معه فتثاقل و تربص بختيار طمعا في ملك العراق و أما عمران بن شاهين فدافع و اعتذر بأن عسكره لا يفتكون في الديلم لما كان بينهم و أما أبو ثعلب فبعث أخاه أبا عبد الله الحسين في عسكر إلى تكريت فلما سار الأتراك عن بغداد إلى واسط لقتال بختيار و جاء هو إليها ليقيم الحجة في سقوط الأقطاع عنه و وجد الفتنة حامية بين العيارين فكف القسامة و انتظر ما يقع ببختيار فيدخل بغداد و يملكها و لما سار الأتراك إلى واسط حملوا معهم خليفتهم الطائع لله و أباه المطيع المخلوع و انتهوا إلى دير العاقول فهلك المطيع و سبكتكين معا و ولى الأتراك عليهم أفتكين من أكابر قوادهم و مولى معز الدولة فانتظم أمرهم و ساروا إلى واسط و حاصروا بها بختيار خمسين يوما حتى اشتد عليه الحصار و هو يستحث عضد الدولة (3/531)
نكبة بختيار على يد عضد الدولة ثم عوده إلى ملكه
لما تتابعت كتب بختيار إلى عضد الدولة باستحثاثه سار في عساكر فارس و جاءه أبو القاسم بن العميد وزير أبيه إلى الأهواز في عساكر الري و ساروا إلى واسط و أجفل عنها أفتكين و الأتراك إلى بغداد و رجع أبو ثعلب إلى الموصل و لما جاء عضد الدولة إلى واسط سار إلى بغداد في الجانب الشرقي و سار بختيار في الجانب الغربي و حاصروا الأتراك ببغداد من جميع الجهات و أرسل بختيار إلى ضبة بن محمد الأسدي من أهل عين النمر و إلى أبي سنان و أبي ثعلب بن حمدان بقطع الميرة و الإغارة على النواحي فغلا السعر ببغداد و ثار العيارون و وقع النهب و كبس أفتكين المنازل في طلب الطعام فعظم الهرج و خرج أفتكين و الأتراك للحرب فلقيهم عضد الدولة فهزمهم و قتل أكثرهم و استباحهم و لحقوا بتكريت و حملوا الخليفة معهم و دخل عضد الدولة إلى بغداد في جمادى سنة أربع و ستين و حاول في رد الخليفة الطائع فرده و أنزله بداره و ركب للقائه الماء في يوم مشهود ثم وضع الجند على بختيار فشغبوا عليه في طلب أرزاقهم و أشار عليه بالغلظة عليهم و الاستعفاء من الإمارة و أنه عند ذلك يتوسط في الإصلاح فأظهر بختيار التخلي و صرف الكتاب و الحجاب ثقة بعضد الدولة و تردد السفراء بينهم ثلاثا ثم قبض عضد الدولة على بختيار و إخوته و وكل بهم و جمع الناس و أعلمهم بعجز بختيار و وعدهم بحسن النظر و قام بواجبات الخلافة و كان المرزبان بن بختيار أميرا بالبصرة فامتنع فيها على عضد الدولة و كتب إلى ركن الدولة يشكو ما جرى على أبيه بختيار من ابنه عضد الدولة و وزيره ابن العميد فأصابه من ذلك المقيم المقعد حتى لقد طرقه المرض الذي لم يستقل منه وكان ابن بقية وزير بختيار قد سار إلى عضد الدولة و ضمنه واسط و أعمالها فانتقض عليه بها و داخل عمران بن شاهين في الخلافة فأجابه و كتب إلى مهل بن بشر وزير أفتكين بالأهواز و قد كان عضد الدولة ضمنه إياها و بعثه إليها مع جيش بختيار فاستماله ابن بقية وخرجت إليه جيوش عضد الدولة فهزمهم و كاتب أباه ركن الدولة بالأحوال و أوعز ركن الدولة إليه وإلى المرزبان بالبصرة على المسير بالعراق لإعادة بختيار و اضطربت النواحي على عضد الدولة لإنكار أبيه و انقطع عن مدد فارس و طمع فيه الأعداء فبعث أبا الفتح بن العميد إلى أبيه يعتذر عما وقع و أن بختيار عجز و لايقدر على المملكة و أنه يضمن أعمال العراق بثلاثين ألف ألف درهم و يبعث بختيار و إخوته إليه لينزله بأي الأعمال أحب و يخير أباه في نزوله العراق لتدبير الخلافة و يعود هو إلى فارس و تهدد أباه بقتل بختيار و إخوته و جميع شيعهم إن لم يوافق على واحدة من هذه فخاف ابن العميد غائلة هذه الرسالة و أشار بإرسال غيره و أن يمضي هو بعدها كالمصلح فبعث عضد الدولة غيره فلما ألقى الرسالة غضب ركن الدولة و وثب إلى الرسول ليقتله ثم رده بعد أن سكن غضبه و حمله إلى عضد الدولة من الشتم و التقريع على ما فعله و على ما يطلب منه من كل صعب من القول و جاء ابن العميد على أثر ذلك فحجبه و تهدده ثم لم يزل يسترضيه بجهده و اعتذر بأن قبوله لهذه الرسالة حيلة على الوصول إليه و الخلاص من عضد الدولة و ضمن له إعادة عضد الدولة إلى فارس و تقرير بختيار بالعراق فأجاب عضد الدولة إلى ذلك و أفرج عن بختيار و رده إلى السلطنة على أن يكون نائبا عنه و يخطب عنه و يجعل أخاه أبا إسحق أمير الجيش لعجز بختيار و رد عليهم ما أخذ لهم و سار إلى فارس و أمر ابن العميد أن يلحق به بعد ثلاث فتشاغل مع بختيار باللذات و وعده أن يصير إلى وزارته بعد ركن الدولة و أرسل بختيار عن ابن بقية فقام بأمر الدولة و احتجن الأموال فإذا طولب بها دس للجند فشغبوا حتى تنكر له بختيار و استوحش هو (3/532)
خبر أفتكين
و لما انهزم أفتكين من عضد الدولة بالمدائن لحق بالشام و نزل قريبا من حمص و قصد ظالم بن موهوب أمير بني عقيل العلوية بالشام فلم يتمكن منه و سار أفتكين إلى دمشق و أميرها ريان خادم المعز لدين الله العلوي و قد غلب عليه الأحداث فخرج إليه مشيخة البلد و سألوه أن يملكهم و يكف عنهم سر الأحداث و ظلم العمال و اعتقاد الرافضة فاستحلفهم على ذلك و دخل دمشق و خطب فيها للطائع في شعبان سنة أربع و ستين و رجع أيدي العرب من ضواحيها و فتك فيهم و كثرت جموعه و أمواله و كاتب المعز بمصر يداريه بالإنقياد فكتب يشكره و يستدعيه ليوليه من جهته فلم يثق إليه فتجهز لقصده و مات في طريقه سنة خمس و ستين كما نذكر بقية خبره في دولتهم (3/533)
ملك عضد الدولة بغداد و قتل بختيار
و لما انصرف عضد الدولة إلى فارس كما ذكرناه أقام بها قليلا ثم مات أبوه ركن الدولة سنة ست و ستين بعد أن رضي عنه و عهد له بالملك كما نذكره في خبره فلما مات شرع بختيار و وزيره ابن بقية في استمالة أهل أعماله مثل أخيه فخر الدولة و حسنويه الكردي و طلب ابن حمدان و عمران بن شاهين في عدوانه فسار عضد الدولة لطلب العراق و استمد حسنويه و ابن حمدان فواعداه و لم يبعداه فسار إلى الأهواز ثم سار إلى بغداد ولقيه بختيار فهزمه عضد الدولة و استولى على أمواله و أثقاله و لحق بواسط و حمل إليه ابن شاهين أموالا و هدايا و دخل إليه مؤكدا للاستجارة به ثم صعد إلى واسط و بعث عضد الدولة عسكرا إلى البصرة فملكوها و كانت مصر شيعة له دون ربيعة و جمع بختيار ما كان له ببغداد والبصرة في واسط و قبض على ابن بقية و أرسل عضد الدولة في الصلح و اختلفت الرسائل و جاءه عبد الرزاق و بدر ابنا حسنويه في ألف فارس مددا فانتقض و سار إلى بغداد و سار عضد الدولة إلى واسط ثم إلى البصرة فأصلح بين ربيعة و مضر بعد اختلافهم مائة و عشرين سنة ثم دخلت سنة سبع و ستين فقبض عضد الدولة على أبي الفتح بن العميدي وزير أبيه و جدع أنفه و سمل إحدى عينيه لما بلغه عنه في مقامه بالفرات عند بختيار و لما اطلع عليه من مكاتبته إياه فبعث إلى أخيه فخر الدولة بالري بالقبض عليه و على أهله فقبض عليه و أخذ داره بما فيها ثم سار عضد الدولة إلى بغداد سنة سبع و ستين و بعث إلى بختيار بخيره في الأعمال فأجاب إلى طاعته و أمره بانفاذ ابن بقية إليه ففقأ عينيه و أنفذه و خرج عن بغداد بقصد الشام ودخل عضد الدولة بغداد و خطب له بها و ضرب على بابه ثلاث توتات و لم يكن شيء من ذلك لمن قبله و أمر بابن بقية فرمى بين الفيلة فقتلته و لما سار بختيار إلى الشام و معه حمدان أخو أبي ثعلب و انتهوا إلى عكبرا أحسن له حمدان و قصد الموصل و كان عضد الدولة قد استحلفه أن لا يدخل ولاية أبي ثعلب فنكث و قصدها و جاءته رسل أبي ثعلب بتكريت في إسلام أخيه حمدان إليه فيمده بنفسه و بعيده إلى ملكه فقبض على حمدان و بعثه مع نوابه فحبسه و سار أبو ثعلب إليه في عشرين ألف مقاتل و زحفوا إلى بغداد و لقيهما عضد الدولة فهزمهما و أمر ببختيار فقتل صبرا في عدة من أصحابه لإحدى عشرة سنة من ملكه (3/534)
استيلاء عضد الدولة على ملك بني حمدان
ثم سار عضد الدولة بعد الهزيمة و مقتل بختيار إلى الموصل فملكها منتصف ذي القعدة من سنة سبع و ستين و كان حمل معه الميرة و العلوفات فأقام في رغد و بث السراة في طلب أبي ثعلب و راسله في ضمان البلاد على عادته فلم يجبه فسار إلى نصيبين و معه المرزبان بن بختيار و أبو إسحق و طاهر أخو بختيار و أمهم فبعث عضد الدولة عسكرا إلى جزيرة ابن عمر مع حاجبه أبي عمر لحرب طغان و عسكرا إلى نصيبين مع أبي الوفاء طاهر بن محمد ففارقها أبو ثعلب إلى ميافارقين و ابتعه أبو الوفاء إليها فامتنعت عليه و لحق أبو ثعلب بأردن الروم ثم بالحسنية من أعمال الجزيرة و تتبع أبو ثعلب قلاعه و أخذ أمواله في كواشي و غيرها و عاد إلى ميافارقين ثم سار عضد الدولة إليه بنفسه و استأمن إليه كثير من أصحابه و رجع إلى الموصل و بعث العسكر في اتباعه فدخل بلاده فصاهره ورد الرومي المملك عليهم في غير بيت الملك ليستعين به على أمره و اتبعه عسكر عضد الدولة فهزمهم و نجا إلى بلاد الروم لمساعدة ورد على شأنه لما يؤمل من نصرته إياه و اتفق أن وردا انهزم فيئس منه أبو ثعلب و عاد إلى بلاد الإسلام و نزل بآمد شهرين حتى فتح عضد الدولة جميع بلاده كما يذكر في أخبار دولتهم و استخلف أبا الوفاء على الموصل و عاد إلى بغداد و انقطع ملك بني حمدان عن الموصل حينا من الدهر (3/535)
وفاة عضد الدولة و ولاية ابنه صمصام الدولة
ثم توفي عضد الدولة في شوال سنة اثنتين و سبعين لخمس سنين و نصف من ملكه و اجتمع القواد و الأمراء عل ولاية ابنه كاليجار المرزبان و بايعوه و لقبوه صمصام الدولة و جاءه الطائع معزيا في أبيه و بعث أخويه أبا الحسين أحمد و أبا طاهر فيروز شاه فانتفض أخوهم شرف الدولة بكرمان في فارس وسبق إليها أخويه و ملكها و أقاما بالأهواز و قطع خطبة صمصام الدولة أخيه و خطب لنفسه و تلقب تاج الدولة و بعث إليه صمام الدولة عسكرا صحبة علي بن دنقش حاجب أبيه و بعث شرف الدولة عسكره مع الأمير أبي الأغر دفليس بن عفيف الأسدي و التقيا عند قرقوب فانهزم ابن دنقش في ربيع سنة ثلاث و سبعين و أسر و استولى أبو الحسن على الأهواز و رامهرمز و طمع في الملك ثم إن أسفار بن كردويه من أكابر الديلم قام بدعوة شرف الدولة ببغداد سنة خمس و سبعين و استمال كثيرا من العسكر و اتفقوا على ولاية أبي نصر بن عضد الدولة نائبا عن أخيه شرف الدولة و راسلهم صمصام الدولة في الرجوع عن ذلك فلم يزدهم إلا تماديا و أجابه فولاد بن مابدرار أنفة من متابعة أسفار و قاتله فهزمه و أخذ أبا مضل أسيرا و أحضره عند أخيه صمصام الدولة و اتهم وزيره ابن سعدان بمداخلتهم فقتله و مضى أسفار إلى أبي الحسين بن عضد الدولة و باقي الديلم إلى شرف الدولة و سار شرف الدولة إلى الأهواز فملكها من يد أخيه الحسين ثم ملك البصرة من يد أخيه أبي طاهر و راسله صمصام الدولة في الصلح فاتفقوا على الخطبة لشرف الدولة بالعراق و بعث إليه بالخلع و الألقاب من الطائع (3/536)
نكبة صمصام الدولة و ولاية أخيه شرف الدولة
لما ملك شرف الدولة من يد أخيه أبي طاهر سار إلى واسط فملكها و عمد صمصام الدولة إلى أخيه أبي نصر و كان محبوسا عنده فأطلقه و بعثه إلى أخيه شرف الدولة بواسط يستعطفه به فلم يلتفت إليه و جزع صمصام الدولة و استشار أصحابه في طاعة أخيه شرف الدولة فخوفوه عاقبته و أشار بعضهم بالصعود إلى عكبرا ثم منها إلى الموصل و بلاد الجبل حتى يحدث من أمر الله في فتنة بين الأتراك و الديلم أو غير ذلك ما يسهل العود و أشار بعضهم بمكاتبة عمه فخر الدولة و المسير على طريق أصبهان فيخالف شرف الدولة إلى فارس فربما يقع الصلح على ذلك فأعرض صمصام الدولة عن ذلك كله و ركب البحر إلى أخيه شرف الدولة فتلقاه و أكرمه ثم قبض عليه لأربع سنين من إمارته و سار إلى بغداد في شهر رمضان من سنة ست و سبعين فوصلها و أخوه صمصام الدولة في اعتقاله و استفحل ملكه و استطال الديلم على الأتراك بكثرتهم فإنهم بلغوا خمسة عشر ألفا و الأتراك ثلاثة آلاف ثم كثرت المنازعات بينهم و عض الديلم و قتلوا منهم و غنموا أموالهم و سار بعضهم فذهب في الأرض و دخل الآخرون مع شرف الدولة إلى بغداد و خرج الطائع لتلقيه و هنأه و أصلح شرف الدولة بين الفريقين و بعث صمصام الدولة إلى فارس فاعتقل بها و استوزر شرف الدولة أبا منصور بن صالحان (3/536)
ابتداء دولة باد و بني مروان بالموصل
قد تقدم لنا أن عضد الدولة استولى على ملك بني حمدان بالموصل سنة سبع و ستين ثم استولى على ميافارقين و آمد و سائر ديار بكر من أعمالهم و على ديار مضر أيضا من أعمالهم سنة ثمان و ستين و ولى عليها أبا الوفاء من قواده وذهب ملك بني حمدان من هذه النواحي و كان في ثغور ديار بكر جماعة من الأكراد الحميدية مقدمهم أبو عبد الله الحسين بن دوشتك و لقبه باد و كان كثير الغزو بتلك البلاد و إخافة سبلها و قال ابن الأثير حدثني بعض أصدقائنا من الأكراد الحميدية أن اسمه باد و كنيته أبو شجاع و أن الحسين هو أخوه و أن أول أمره أنه ملك أرجيش من بلاد أرمينية فقوي و لما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده و هم بقبضه ثم سأل عنه فافتقده و كف عن طلبه فلما مات عضد الدولة استفحل أمره و استولى على ميافارقين و كثير من ديار بكر ثم على نصيبين و قال ابن الأثير : سار من أرمينية إلى ديار بكر فملك ثم ميافارقين و بعث صمصام الدولة إليه العساكر مع أبي سعيد بهرام بن أردشير فهزمهم و أسر جماعة منهم فبعث عساكر أخرى مع أبي القاسم سعيد بن الحاجب فلقيهم في بلد كواشى و هزمهم و قتل منهم و أسر ثم قتل الأسرى صبرا و نجا سعيد إلى الموصل و باد في اتباعه فثاربه أهل الموصل نفورا من سوء سيرة الديلم فهرب منها و دخل باد و ملك الموصل و حدث نفسه بالمسير إلى صمصام الدولة ببغداد و انتزاع بغداد من يد الديلم و احتفل فيه و لقيهم باد في صفر من سنة أربع و سبعين فهزموه و ملكوا الموصل و لحق باد بديار بكر و جمع عليه عساكر و كان بنو سيف الدولة بن حمدان بحلب قد ملكها معهم سعد الدولة ابنه بعد مهلكه فبعث إليه صمصام الدولة أن يكفيه أمر باد على أن يسلم إليه ديار بكر فبعث سعد الدولة إليه جيشا فلم يكن لهم طاقة و زحفوا إلى حلب فبعث سعد الدولة من اغتاله في مرقده بخيمته من البادية و ضربه فاعتل و أشفى على الموت و بعث إلى سعد و زياد الأميرين بالموصل فصالحهما على أن تكون ديار بكر و النصف من طور عبدين لباد و رجع زياد إلى بغداد و هو الذي جاء بعساكر الديلم و انهزم باد أمامه ثم توفي سعد الحاجب بالموصل سنة سبع و تسعين فتجدد لباد الطمع في ملكها و بعث شرف الدولة على الموصل أبا نصر خواشاذه فدخل الموصل و استمد العساكر و الأموال فأبطأت عنه فدعا العرب من بني عقيل و بني نمير و أقطعهم البلاد ليدافعوا عنها و استولى باد على طور عبدين و أقام بالجبل وبعث أخاه في عسكر لقتال العرب فانهزم و قتل و بينما خواشاذه يتجهز لقتال باد جاءه الجند بموت شرف الدولة ثم جاء أبو إبراهيم و أبو الحسين ابنا ناصر الدولة بن حمدان أميرين على الموصل من قبل بهاء الدولة و بقيت في ملكهما إلى سنة إحدى و ثمانين فبعث بهاء الدولة عسكرا مع أبي جعفر الحجاج بن هرمز فمكلها و زحف إليه أبو الرواد محمد بن المسيب أمير بني عقيل فقاتله و بالغ في مدافعته و استمد بهاء الدولة فبعث إليه الوزير أبا القاسم علي بن أحمد و سار أول سنة اثنتين و ثمانين و كتب إلى أبي جعفر بالقبض عليه بسعاية ابن المعلم و شعر الوزير بذلك فصالح أبا الرواد و رجع و وجد بهاء الدولة قد قبض على ابن المعلم و قتله (3/537)
وفاة شرف الدولة و ملك بهاء الدولة
ثم توفي شرف الدولة أبو الفوارس شرزيك بن عضد الدولة في جمادى سنة تسع و سبعين لسنتين و ثمانية أشهر من إمارته و دفن بمشهد على بعد أن طالت علته بالإستسقاء و بعث و هو عليل إلى أخيه صمصام الدولة بفارس فشمله و بعث ابنه أبا علي إلى بلاد فارس و معه الخزائن و العدد و جملة من الأتراك و سئل شرف الدولة في العهد فملكه و أبى أن يعهد و استخلف أخاه بهاء الدولة لحفظ الأمور في حياته فلما مات قعد في المملكة و جاء الطائع للعزاء و خلع عليه للسلطنة فأقر أبا منصور بن صالحان على وزارته و بعث أبا طاهر إبراهيم و أبا عبد الله الحسين ابني ناصر الدولة بن حمدان إلى الموصل و كان في خدمته شرف الدولة فاستأذنا بهاء الدولة بعد موته في الإصعاد إلى الموصل فأذن لهما ثم ندم على ما فرط في أمرهما و كتب إلى خواشاذه بمدافعتهما فامتنعا و جاآ و نزلا بظاهر الموصل و ثار أهل الموصل بالديلم و الأتراك و خرجوا إلى بني حمدان و قاتلوا الديلم فهزموهم و قتل الديلم كثيرا منهم و اعتصم الباقون بدار الإمارة فأخرجوهم على الأمان و لحقوا ببغداد و ملك بنو حمدان الموصل و كان أبو علي بن شرف الدولة لما انصرف إلى فارس بلغه موت ابنه بالبصرة فبعث العيال و الأموال في البحر إلى أرجان و سار هو إليها ثم سار إلى شيراز فوافاه بها عمه صمصام الدولة و أخوه أبو طاهر قد أطلقهما الموكلون بهما و معهما قولاد و جاؤا إلى شيراز و اجتمع عليهم الديلم و خرج أبو علي إلى الأتراك فاجتمعوا عليه و قاتل صمصام الدولة و الديلم أياما ثم سار إلى نسا فملكها و قتل الديلم بها ثم سار إلى أرجان و بعث الأتراك إلى شيراز لقتال صمصام الدولة فنهبوا البلد و عادوا إليه بأرجان ثم بعث بهاء الدولة إلى علي ابن أخيه يستقدمه و استمال الأتراك سرا فحملوا أبا علي على المسير إليه فسار في جمادى سنة ثمانين فأكرمه ثم قبض عليه و قتله ثم وقعت الفتنة ببغداد بين الأتراك و الديلم و اقتتلوا خمسة أيام ثم راسلهم بهاء الدولة في الصلح فلم يجيبوا و قتلوا رسله فظاهر الأتراك عليهم فغلبوهم و اشتدت شوكة الأتراك من يومئذ و ضعف أمر الديلم و صالح بينهم على ذلك و قبض على بعض الديلم و افترقوا (3/538)
خروج القادر إلى البطيحة
كان إسحق بن المقتدر لما توفي ترك ابنه أبا العباس أحمد الذي لقب بالقادر فجرت بينه و بين أخت له منازعة في ضيعة و مرض الطائع مرضا مخوفا ثم أبل فسعت تلك الأخت بأخيها و أنه طلب الخلافة في مرض الطائع فأنفذ أبا الحسين بن حاجب النعمان في جماعة للقبض عليه و كان بالحريم الظاهري فغلبهم النساء عليه و خرج من داره متسترا ثم لحق بالبطيحة و نزل على مهذب الدولة فبالغ في خدمته إلى أن أتاه بشير الخلافة (3/540)
فتنة صمصام الدولة
لما تغلب صمصام الدولة على بلاد فارس و جاء أبو علي شرف الدولة إلى عمه بهاء الدولة فقتله كما ذكرنا سار بهاء الدولة من بغداد إلى خوزستان سنة ثمانين و ثلثمائة قاصدا بلاد فارس و استخلف أبا نصر خواشاذه على بغداد و لما بلغ خوزستان أتاه نعي أخيه أبي طاهر فجلس للعزاء به ثم سار إلى أرجان فملكها و أخذ ما فيها من الأموال و كان ألف ألف دينار و ثمانية آلاف درهم و كثيرا من الثياب و الجواهر و شغب الجند لذلك فأطلق تلك الأموال كلها لهم ثم سارت مقدمته و عليها أبو العلاء بن الفضل إلى النوبندجان و بها عسكر صمصام الدولة فانهزموا و ثبت أبو العلاء بن الفضل في نواحي فارس ثم بعث صمصام الدولة عسكره و عليهم قولاد بن مابدان فهزموا أبا العلاء و عاد إلى أرجان و جاءه صمصام الدولة من شيراز إلى قولاد ثم وقع الصلح على أن يكون لصمصام الدولة بلاد فارس و أرجان و لبهاء الدولة خوزستان و ما وراءها من ملك العراق و أن يكون لكل واحد منهما أقطاع في بلد صاحبه و تعاقدا على ذلك و رجع بهاء الدولة إلى بغداد فوجد الفتنة بين أهل السنة و الشيعة بجانب بغداد و قد كثر القتل و النهب و التخريب فأصلح ذلك و كان قبل سيره إلى خوزستان قبض على وزيره أبي منصور بن صالحان و استوزر أبا نصر سابور بن أردشير و كان الحكم و التدبير في دولته لأبي الحسين بن المعلم (3/540)
خلع الطائع و بيعة القادر
ثم إن بهاء الدولة قلت عنده الأموال و كثر شغب الجند و مطالباتهم و قبض على وزيره سابور فلم يغن عنه و امتدت عيناه إلى أموال الطائع و هم بالقبض عليه و حسن له ذلك أبو الحسين بن المعلم الغالب على هواه فتقدم إلى الطائع بالجيوش لحضوره في خدمته فجلس و جلس بهاء الدولة على كرسي ثم جاء بعض الديلم يقبل يد الطائع فجذ به عن سريره و أخرجه و نهب قصور الخلافة و فشا النهب في الناس و حمل الطائع إلى دار بهاء الدولة فأشهد عليه بالخلع سنة إحدى و ثمانين لسبع عشرة سنة و ثمانية أشهر من خلافته و أرسل بهاء الدولة خواض أصحابه إلى البطيحة ليحضروا القادر بالله أبا العباس أحمد بن إسحق بن المقتدر ليبايعوه فجاؤا به بعد أن بايع مهذب الدولة صاحب البطيحة في خدمته و سار بهاء الدولة و أعيان الناس لتلقيه فتلقوه برحيل و دخل دار الخلافة لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان و خطب له صبيحتها و كانت مدة إقامته بالبطيحة ثلاث سنين غير شهر و لم يخطب له بخراسان و أقاموا على بيعة الطائع فأنزله بحجرة من قصره و وكل عليه من يقوم بخدمته على أتم الوجوه و أجرى أحواله على ما كان عليه في الخلافة إلى أن توفي سنة ثلاث و تسعين فصلى عليه و دفنه (3/540)
ملك صمصام الدولة الأهواز و عودها لبهاء الدولة ثم استيلاؤه ثانيا عليها
قد تقدم لنا ما وقع بين بهاء الدولة و صمصام الدولة من الصلح على أن يكون له فارس و لبهاء الدولة خورستان و ما وراءها و ذلك سنة ثمان و لما كانت سنة ثلاث و ثمانين تحيل بهاء الدولة فبعث أبا العلاء عبد الله بن الفضل إلى الأهواز على أن يبعث إليه الجيوش مفترقة فإذا اجتمعت كبس بلاد فارس على حين غفلة و شعر صمصام الدولة بذلك قبل اجتماع العساكر فبعث عساكره إلى خورستان ثم جاءت عساكر العراق و التقوا فانهزم أبو العلاء و حمل إلى صمصام الدولة أسيرا فاعتقله و بعث بهاء الدولة وزيره أبا نصر بن سابور إلى واسط يحاول له جمع المال فهرب إلى مهذب الدولة صاحب البطيحة ثم كثر شغب الديلم على بهاء الدولة و نهبوا دار الوزير نصر بن سابور و استعفى و استوزر أبا القاسم علي بن أحمد ثم هرب و عاد سابور إلى الوزارة و أصلح الديلم ثم أنفذ بهاء الدولة عسكره إلى الأهواز سنة أربع و ثمانين و عليهم طغان التركي و انتهوا إلى السوس فارتحل عنها أصحاب صمصام الدولة و ملكها طغان و كان أكثر أصحابه الترك و أكثر أصحاب صمصام الدولة الديلم و معه تميم و أسد فزحف إلى طغان بالأهواز و أسرى من تستر ليكبس الأتراك الذين مع طغان فقتل في طريقه و أصبح دونهم بمرأى منهم فركبوا لقتاله و أكمنوا له ثم قاتلوه فهزموه و فتكوا في الديلم بالقتل حربا و صبرا و جاء الخبر إلى بهاء الدولة بواسط فسار إلى الأهواز فترك بها طغان و رجع و لحق صمصام الدولة بفارس فاستلحم من وجد بها من الأتراك و هرب فلهم إلى كرمان و استأذنوا ملك السند في اللحاق بأرضه فأذن لهم ثم ركب لتلقيهم فقتلهم عن آخرهم ثم جهز صمصام الدولة عساكره إلى الأهواز مع العلاء بن الحسن و كان أفتكين برامهرمز من قبل بهاء الدولة مكان أبي كاليجار المرزبان بن سفهيعون و جاء بهاء الدولة إلى خورستان للعلاء قائد صمصام الدولة و كاتبه و كاتب أفتكين و ابن مكرم إلى أن قرب منهم و ملك البلد من أيديهم و أقاموا بظاهرها و استمدوا بهاء الدولة فأمدهم بثمانين من الأتراك فقتلوهم عن آخرهم و سار بهاء الدولة نحو الأهواز ثم عاد إلى البصرة و عاد ابن مكرم إلى عسكر مكرم و العلاء و الديلم في اتباعه إلى أن جاوزوا تستر إليه فاقتتلوا طويلا و أصحاب بهاء الدولة من تستر إلى رامهرمز و هم الأتراك و أصحاب صمصام لدولة من تستر إلى أرجان فاقتتلوا ستة أشهر و رجعوا إلى الأهواز ثم رحل الأتراك إلى واسط و اتبعهم العلاء قليلا ثم رجع و أقام بعسكر مكرم (3/541)
ملك صمصام الدولة البصرة
لما رحل بهاء الدولة إلى البصرة استأمن كثير من الديلم الذين معه إلى العلاء نحو من أربعمائة فبعثهم مع قائده السكرستان إلى البصرة و قاتلوا أصحاب بهاء الدولة و مال إليهم أهل البلد و مقدمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي و ارتاب بهم بهاء الدولة فهرب الكثير منهم إلى السكرستان و حملوه في السفن فأدخلوه البصرة و خرج بهاء الدولة و أصحابه فكتب إلى مهذب الدولة صاحب البطيحة يغريه بالبصرة فبعث إليها جيشا مع قائده عبد الله بن مرزوق فغلب عليها السكرستان و ملكها المهذب الدولة ثم عاد السكرستان و قاتلها و كاتب مهذب الدولة بالصلح و الطاعة و الخطبة له بالبصرة و أعطى ابنه رهينة على ذلك فأجابه و ملك البصرة و عسف بهم و كان يظهر طاعة صمصام الدولة و بهاء الدولة و مهذب الدولة ثم إن العلاء ابن الحسن نائب صمصام الدولة بخورستان توفي بعسكر مكرم فبعث مكانه أبا علي إسمعيل بن أستاذهرمز و سار إلى جند يسابور فدفع عنها أصحاب بهاء الدولة و أزاح الأتراك عن ثغر خراسان جملة و عادوا إلى واسط و كاتب جماعة منهم ففزعوا إليه ثم زحف إليهم أبو محمد مكرم و الأتراك و جرت بينهم وقائع ثم انتفض أبا علي إسمعيل بن أستاذهرمز و رجع إلى طاعة بهاء الدولة و هو بواسط سنة ثمان و ثمانين فاستوزره و دبر أمره و استدعاه إلى مظاهرة قائده ابن مكرم بعسكر مكرم فسار إليه و كانت من إسمعيل خديعة تورط فيها بهاء الدولة و استمد بدر بن حسنويه فأمده بعض الشيء و كاد يهلك ثم جاءه الفرج بقتل صمصام الدولة (3/542)
مقتل صمصام الدولة
كان صمصام الدولة بن عضد الدولة مستوليا على فارس كما ذكرناه و كان أبو القاسم و أبو نصر ابنا بختيار محبوسين ببعض قلاع فارس فجرد الموكلين بهما في القلعة و أخرجوا عنها و اجتمع إليهما من الأكراد و كان جماعة من الديلم استوحشوا من صمصام الدولة لما أسقطهم من الديوان فلحقوا بابني بختيار و قصدوا أرجان و تجهز صمصام الدولة إليهم و كان أبو علي بن استاذهرمز مقيما بنسا فثاره الجند و حبسه ابنا بختيار ثم نجا و قصد صمصام الدولة القلعة التي على شيراز ليتمنع فيها إلى أن يأتيه المدد فلم يمكنه أن يأتيها من ذلك و أشار عليه باللحاق بأبي علي بن أستاذهرمز أو بالأكراد و جاءته منهم طائفة فخرج معهم بأمواله فنهبوه و سار بعض الرودمان على مرحلتين من شيراز و جاء أبو النصر بن بختيار إلى شيراز فقبض صاحب الرودمان على صمصام الدولة و أخذه منه أبو نصر و قتله في ذي الحجة سنة ثمان و ثمانين لتسع سنين من إمارته على فارس (3/543)
استيلاء بهاء الدولة على فارس
و لما قتل صمصام الدولة و ملك ابنا بختيار بلاد فارس كتبا إلى أبي علي بن أستاذهرمز في الأهواز بأخذ الطاعة لهما من الديلم و محاربة بهاء الدولة فخافهما أبو علي بما كان من قتله أخويهما و أغرى الديلم بطاعة بهاء الدولة و راسله و استحلفه لهم فحلف و ضمن لهم غائلة الأتراك الذين معه و أغراهم بثأر أخيه من ابني بختيار فدخلوا في طاعته و جاءه وفد من أعيانهم فاستوثقوا منه و كتبوا إلى من كان بالسوس منهم بذلك و ركب بهاء الدولة إلى نائب السوس فقاتلوه أولا ثم اجتمعوا عليه و ساروا إلى الأهواز ثم إلى رامهرمز و أرجان و ملكوا سائر بلاد خوزستان و سار أبو علي ابن إسمعيل إلى شيراز و قاتلهم و تسرب إليه أصحاب ابني بختيار فاستولى على شيراز سنة تسع و ثمانين و لحق أبو نصر بن بختيار ببلاد الديلم و أبو القاسم ببدر بن حسنويه ثم بالبطيحة و كتب أبو علي إلى بهاء الدولة بالفتح فجاءه و ترك شيراز و أحرق قرية الرودمان حيث قتل أخوه صمصام الدولة و استأصل أهلها و بعث عسكرا مع أبي الفتح إلى جعفر بن أستأذهرمز إلى كرمان فملكها و لما لحق أبو القاسم بن بختيار ببلاد الديلم كاتب من هنالك الديلم الذين بكرمان و فارس تسلمهم فأجابوه و سار إلى بلاد فارس و اجتمع عليه كثير من الزط و الديلم و الأتراك ثم سار إلى كرمان و بها أبو جعفر بن أستاذهرمز فهزمه إلى السرجان و مضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها و أكثر كرمان و بعث بهاء الدولة الموفق بن علي بن إسمعيل في العساكر إلى جيرفت فاستأمن إليه من كان بها من أصحاب بختيار و ملكها و تجرد في جماعة من شجعان أصحابه لاتباع ابن بختيار فلحقه بدارين و قاتله فغدر به بعض أصحابه فقتله و حمل رأسه إلى الموفق و استولى على بلاد كرمان و إسمعيل عليها و عاد إلى بهاء الدولة فتلقاه و عظمه و استعفى الموفق من الخدمة فلم يعفه و لج الموفق في ذلك فقبض عليه بهاء الدولة و كتب إلى وزيره سابور بالقبض على ذويه ثم قتله سنة أربع و تسعين و استعمل بهاء الدولة أبا محمد مكرما على عمان (3/544)
الخبر عن وزراء بهاء الدولة
قد ذكرنا أن بهاء الدولة كان استوزر أبا نصر بن سابور بن أردشير ببغداد و قبض على وزيره أبي منصور بن صالحان قبل مسيره إلى خوزستان و أن أبا الحسين بن المعلم كان يدبر دولته و ذلك منذ سنة ثمانين فاستولى ابن المعلم على الأمور و انصرفت إليه الوجوه فأساء السيرة و سعى في أبي نصر خواشاده و أبي عبد الله بن طاهر فقبضهما بهاء الدولة مرجعه من خوزستان و شغب الجند و طلبوا تسليمه إليهم و لاطفهم فلم يرجعوا فقبض عليه و سلمه إليهم فقتلوه و ذلك سنة اثنتين و ثمانين ثم قبض على وزيره أبي نصر بالأهواز سنة إحدى و ثمانين و استوزر أبا القاسم عبد العزيز بن يوسف ثم استوزر بعده أبا القاسم علي بن أحمد و قبض عليه سنة اثنتين و ثمانين لاتهامه بمداخلة الجند في أمر ابن المعلم و استوزر أبا نصر بن سابور و أبا منصور بن صالحان جميعا و شغب الجند على أبي نصر و نهبوا داره سنة ثلاث و ثمانين فاستعفى رفيقه ابن صالحان فاستوزر أبا القاسم علي بن أحمد ثم هرب و عاد أبو نصر إلى الوزارة بعد أن أصلح أمور الديلم فاستولى مكانه الفاضل و قبض عليه سنة ست و ثمانين و استوزر أبا نصر سابور بن أردشير فبقي شهرين و فرق أموال بهاء الدولة في القواد ثم هرب إلى البطيحة فاستوزر بهاء الدولة مكانه عيسى بن ماسرخس (3/544)
ولاية العراق
كان بهاء الدولة منذ استولى على فارس سنة تسع و ثمانين أقام بها و ولى على خورستان و العراق أبا جعفر الحجاج بن هرمز فنزل بغداد و لقيه عميد الدولة فساءت سيرته و فسدت أموال البلاد و عظمت الفتنة ببغداد بين الشيعة و أهل السنة و تطاول الدعار و العيارون فعزله بهاء الدولة سنة تسعين و ولى مكانه أبا علي الحسن بن أستاذهرمز و لقيه عميد الجيوش فأحسن السيرة و حسم الفتنة و حمل إلى بهاء الدولة أموالا جليلة ثم ولى مكانه سنة إحدى و تسعين أبا نصر سابور و ثار به الأتراك ببغداد فهرب منهم و وقعت الفتنة بين أهل الكرخ و الأتراك و كان أهل السنة مع الأتراك ثم مشى الأعلام بينهم في الصلح فتهادنوا (3/545)
انقراض دول و ابتداء أخرى في النواحي
و في سنة ثمانين ابتدأت دولة بني مروان بديار بكر بعد مقتل خالهم باد و قد مر ذكره و في سنة اثنتين و ثمانين انقرضت دولة بني حمدان بالموصل و ابتدئت دولة بني المسيب من عقيب كما نذكرها و في سنة أربع و ثمانين انقرضت دولة بني سامان من خراسان و ابتدئت دولة بني سبكتكين فيها و في سنة تسع و ثمانين انقرضت دولة بني سامان مما وراء النهر و انقسمت بنو سبكتكين و ملك الخاقان ملك الترك و في سنة ثمان و ثمانين ابتدئت دولة بني حسنويه الأكراد بخراسان و في سنة تسع و تسعين كان ابتداء دولة بني صالح بن مرداس من بني كلاب بحلب كما نستوفي سياقة أخبارهم في دولهم منفردة كما شرطناه (3/545)
ظهور بني مزيد
و في سنة سبع و ثمانين خرج أبو الحسن علي بن مزيد في قومه بني أسد و نقض طاعة بهاء الدولة فبعث إليه العساكر فهرب أمامهم و أبعد حتى امتنع عليهم ثم بعث في الصلح و الاستقامة و راجع الطاعة ثم رجع إلى انتقاضه سنة اثنتين و تسعين و اجتمع مع قرواش بن المقلد صاحب الموصل و قومه بني عقيل فحاصروا المدائن ثم بعث إليهم أبو جعفر الحجاج و هو نائب بغداد العساكر فدفعوهم عنها و خرج الحجاج و استنجد خفاجة فجاء من الشام و قاتل بني عقيل و بني أسد فهزموه ثم خرج إليهم و لقيهم بنواحي الكوفة فهزمهم و أثخن فيهم بالقتل و الأسر و استباح ملك بني مزيد و ظهر في بغداد في مغيب أبي جعفر من الفتنة و الفساد و القتل و النهب مالا يحصى فكان ذلك السبب في أن بعث بهاء الدولة أبا علي بن جعفر أستاذهرمز كما مر و لقيه عميد الجيوش فسكن الفتنة و أمن الناس و لما عزل أبو جعفر أقام بنواحي الكوفة و ارتاب به أبو علي فجمع الديلم و الأتراك و خفاجة و سار إليه و اقتتلوا بالنعمانية و ذلك سنة ثلاث و تسعين فانهزم أبو جعفر و سار أبو علي إلى خوزستان ثم إلى السوس فعاد أبو جعفر إلى الكوفة و رجع أبو علي في اتباعه فلم تزل الفتنة بينهما و كل واحد منهما يستنجد ببني عقيل و بني أسد و خفاجة حتى أرسل بهاء الدولة عن أبي علي و بعثه إلى البطيحة لفتنة بني واصل كما نذكره في دولتهم و لما كانت سنة سبع و تسعين جمع أبو جعفر و سار لحصار بغداد و أمده ابن حسنويه أمير الأكراد و ذلك أن عميد الجيوش ولى على طريق خراسان أبا الفضل بن عنان وكان عدوا لبدر بن حسنويه فارتاب لذلك و استدعى أبا جعفر و جمع له جموعا من أمراء الأكراد منهم هندي بن سعد و أبو عيسى شادي بن محمد و رزام بن محمد و كان أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي انصرف عن بهاء الدولة مغاضبا له فسار معهم و كانوا عشرة آلاف و حاصروا بغداد و بها أبو الفتح بن عنان شهرا ثم جاءهم الخبر بانهزام ابن واصل بالبطيحة الذي سار عميد الجيوش إليه فافترقوا و عاد ابن مزيد إلى بلده و سار أبو جعفر إلى حلوان و أرسل بهاء الدولة في الطاعة عنده بتستر فأعرض عنه رغبا لعميد الجيوش (3/546)
فتنة بني مزيد و بني دبيس
كان أبو الغنائم محمد بن مزيد مقيما عند أصهاره بني دبيس في جزيرتهم بخوزستان فقتل أبو الغنائم بعض رجالاتهم و لحق بأخيه أبي الحسن فانحدر أبو الحسن إليهم في ألفي فارس و استمد عميد الجيوش فأمده بعسكر من الديلم و لقيهم فانهزم أبو الحسن و قتل أخوه أبو الغنائم (3/547)
ظهور دعوة العلوية بالكوفة و الموصل
و في أول المائة الخامسة خطب قرواش بن المقلد أمير بني عقيل لصاحب مصر الحاكم العلوي في جميع أعماله : و هي الموصل و الأنبار و المدائن و الكوفة فبعث القادر القاضي أبا بكر الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرفه فأكرمه و كتب إلى عميد الجيوش بمحاورة قرواش و أطلق له مائة ألف دينار يستعين بها و سار عميد الجيوش لذلك فراجع قراوش الطاعة و قطع خطبة القلويين و كان ذلك داعيا في كتابه المحضر بالطعن في نسب العلوية بمصر شهد فيه الرضي و المرتضى و ابن البطحاوي و ابن الأزرق و الزكي و أبو يعلى عمر بن محمد و من العلماء و القضاة ابن الأكفاني و ابن الجزري و أبو العباس الأبي وردي و أبو حامد الأسفرايني و الكستلي و القدوري و الصهيري و أبو عبد الله البيضاوي و أبو الفضل النسوي و أبو عبد الله النعمان فقيه الشيعة ثم كتب ببغداد محضر آخر بمثل ذلك سنة أربع و أربعين و زيد فيه انتسابهم إلى الديصانية من المجوس و بنو القداح من اليهود و كتب فيه العلوية و العباسية و الفقهاء و القضاة و عملت به نسخ و بعث بها إلى البلاد (3/547)
وفاة عميد الجيوش و ولاية فخر الملك
كان عميد الجيوش أبو علي بن أبي جعفر أستاذهرمز و كان أبو جعفر هذا من حجاب عضد الدولة و جعل ابنه أبا علي في خدمة ابن صمصام الدولة فلما قتل رجع إلى خدمة بهاء الدولة و لما استولى الخراب على بغداد و ظهر العيارون بعثه بهاء الدولة عليها فأصلحها وقمع المفسدين ومات لثمان سنين و نصف من ولايته إلى أول المائة الخامسة و ولى بهاء الدولة مكانه بالعراق فخر الملك أبا غالب فوصل بغداد و أحسن السياسة و استقامت الأمور به و اتفق لأول قدومه وفاة أبي الفتح محمد بن عنان صاحب طريق خراسان بحلوان لعشرين سنة من إمارته و كان كثير الأجلاب على بغداد فلما توفي ولى ابنه أبو الشوك و قام مقامه فبعث فخر الملك العساكر لقتاله فهزموه إلى حلوان ثم راجع الطاعة و أصلح حاله (3/547)
مقتل فخر الملك و ولاية ابن سهلان
كان فخر الملك أبو غالب من أعظم وزراء بني بويه و ولى نيابة بغداد لسلطان الدولة خمس سنين و أربعة أشهر ثم قبض عليه و قتله في ربيع سنة ست و أربعمائة و ولى مكانه أبا محمد الحسن بن سهلان و لقبه عميد أصحاب الجيوش و سار سنة تسع إلى بغداد و جرد من الطريق مع طراد بن دشير الأسدي في طلب مهارش و مضر ابني دشير و كان مضر قد قبض عليه قديما بأمر فخر الملك فأراد أن يأخذ جزيرة بني أسد منه و يوليها طرادا فساروا عن المدار و اتبعهم و لحق الحسن بن دبيس آخرهم فأوقع به و استباحه ثم استأمن له مضر و مهارش فأمنهما و أشرك معهما طرادا في الجزيرة و رجع و أنكر عليه سلطان الدولة فعله و وصل إلى واسط و الفتنة قائمة فأصلحها ثم بلغه اشتداد الفتن ببغداد فسار و أصلحها و كان أمر الديلم قد ضعف ببغداد و خرجوا إلى واسط (3/548)
الفتنة بين سلطان الدولة و أخيه أبي الفوارس
قد ذكرنا أن سلطان الدولة لما ملك بعد أبيه بهاء الدولة ولى أخاه أبا الفوارس على كرمان فلما سار إليها اجتمع إليه الديلم و حملوه على الانتقاض و انتزاع الملك من يد أخيه فسار سنة ثمان إلى شيراز ثم سار منها و لقيه سلطان الدولة فهزمه و عاد إلى كرمان و ابتعه سلطان الدولة فخرج هاربا من كرمان و
لحق محمود بن سبكتكين مستنجدا به فأكرمه و أمده بالعساكر و عليهم أبو سعيد الطائي من أعيان قواده فسار إلى كرمان و ملكها ثم إلى شيراز كذلك و عاد سلطان الدولة لحربه فهوزمه و أخرجه من بلاد فارس إلى كرمان و بعث الجيوش في أثره فانتزعوا كرمان منه و لحق بشمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه صاحب همذان و ترك ابن سبكتكين لأنه أساء معاملة قائده أبي سعيد الطائي ثم فارق شمس الدولة إلى مهذب الدولة صاحب البطيحة فأكرمه و بعث إليه أخوه جلال الدولة من البصرة مالا و ثيابا و عرض عليه المسير إليه فأبى و أرسل أخاه سلطان الدولة في المراجعة و أعاده إلى ولاية كرمان و قبض سلطان الدولة سنة تسع على وزير بن فانجس و إخوته و ولى مكانه أبا غالب الحسن بن منصور (3/548)
خروج الترك من الصين
و في سنة ثمان و أربعين خرجت من المفازة التي بين الصين و ما وراء النهر أمم عظيمة من الترك تزيد على ثلثمائة ألف خيمة و يسمون الخيمة [ جذ كان ] و يتخذونها من الجلود و كان معظمهم من الخطا قد ظهروا في ملك تركستان فمرض ملكها طغان فساروا إليها و عاثوا فيها ثم أبل طغان و استنفر المسلمين من جميع النواحي و سار إليهم في مائة و عشرين ألفا فهزموا أمامه و اتبعهم مسيرة ثلاثة أشهر ثم كبسهم فقتل منهم نحوا من مائتي ألف و أسر مائة ألف و غنم من الدواب و البيوت و أواني الذهب و الفضة من معمول الصين ما لا يعبر عنه (3/549)
ملك مشرف الدولة و غلبه على سلطان الدولة
لم يزل سلطان الدولة ثابت القدم في ملكه بالعراق إلى سنة إحدى عشرة و أربعمائة فشغب عليه الجند و نادوا بشعار أخيه مشرف الدولة فأشير عليه يحبسه فعف عن ذلك و أراد الإنحدار إلى واسط فطلبه الجند في الاستخلاف فاستخلف أخاه مشرف الدولة على العراق و سار إلى الأهواز فلما بلغ تستر استوزر سهلان و قد كان اتفق مع أخيه مشرف الدولة الوزير ابن سهلان أن لا يستوزره فاستوحش لذلك مشرف الدولة و بعث سلطان الدولة الوزير ابن سهلان ليخرجه من العراق فجمع أتراك واسط و أبا الأغر دبيس بن علي بن مزيد و لقي ابن سهلان عند واسط فهزمه و حاصره بها حتى اشتد حصاره و جهده الحصار فصالحه و نزل عن واسط فملكها في ذي الحجة من سنة إحدى عشرة و سار الديلم الذين بواسط في خدمته و سار أخوه جلال الدولة أبو طاهر صاحب البصرة إلى وفاقه و خطب له ببغداد و قبض على ابن سهلان و كحله و سار سلطان الدولة إلى أرجان ثم رجع إلى الأهواز و ثار عليه الأتراك الذين هنالك و دعوا بشعار مشرف الدولة و خرجوا إلى السابلة فأفسدوها و عاد مشرف الدولة إلى بغداد فخطب لها بها سنة اثنتي عشرة و طلب منه الديلم أن ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان فبعث معهم وزيره أبا غالب فلما وصلوا إلى الأهواز انتفضوا و نادوا بشعار سلطان الدولة و قتلوا أبا غالب لسنة و نصف من وزارته و لحق الأتراك الذين كانوا معه بطراد بن دبيس بالجزيرة و بلغ سلطان الدولة قتل أبي غالب و افتراق الديلم فأنفذ ابنه أبا كاليجار إلى الأهواز و ملكها ثم وقع الصلح بينهما على يد أبي محمد بن أبي مكرم و مؤيد الملك الرخجي على أن تكون العراق لمشرف الدولة و فارس و كرمان لسلطان الدولة و استوزر مشرف الدولة أبا الحسين بن الحسن الرخجي و لقبه مؤيد الملك بعد قتل أبي غالب و مصادرة ابنه أبي العباس ثم قبض عليه سنة أربع عشرة بعد حول من وزارته بسعاية الأثير الخادم فيه و استوزر مكانه أبا القاسم الحسين بن علي بن الحسين المغربي كان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان و هرب إلى مصر و خدم الحاكم فقتله و هرب ابنه أبو القاسم هذا إلى الشام و حمل حسان بن الفرج الجراح الطائي على نقض طاعة الحاكم و البيعة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي أمير مكة فاستقدمه إلى الرملة و بايعه ثم خلفه و عاد إلى مكة و قصد أبو القاسم العراق و اتصل بالوزير فخر الملك و أمره القادر بإبعاده فلحق بقرواش أمير الموصل و كتب له ثم عاد إلى العراق و تنقلت به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرخجي و كان خبيثا محتالا حسودا ثم قدم مشرف الدولة إلى بغداد سنة أربع عشرة و لقيه القادر و لم يلق أحدا قبله (3/549)
الخبر عن وحشة الأكراد و فتنة الكوفة
كان الأثير عنبر الخادم مستوليا في دولة مشرف الدولة الوزير أبي القاسم المغربي عديله في حملها فنقم الأتراك عليهما و طلب من مشرف الدولة الخراج من بغداد خوفا على أنفسهما فخرج معهما غضبا على الأتراك و نزلوا على قرواش بالسندية و استعظم الأتراك ذلك و بعثوا بالإعتذار و الرغبة و قال أبو القاسم المغربي دخل بغداد إنما هو و أربعمائة ألف و خرجها ستمائة فاتركوا مائة و أحتمل مائة فأجابوه إلى ذلك خداعا و شعر بوصولهم فهرب لعشرة أشهر من وزارته ثم كانت فتنة الكوفة بين العلوية و العباسية و كان لأبي القاسم المغربي صهر و صداقة في العلوية فاستعدى العباسيون المغربي عليهم فلم يعدهم لمكان المغربي و أمرهم بالصلح فرجعوا إلى الكوفة و استمد كل واحد منهم خفاجة فأمدوهم و افترقوا عليهم و اقتتل العلوية و العباسية فغلبهم العلوية و لحقوا ببغداد و منعوا الخطبة يوم الجمعة و قتلوا بعض قرابة العلوية الذين بالكوفة فعهد القادر للمرتضى أن يصرف أبا الحسن علي بن أبي طالب ابن عمر عن نقابة الكوفة و يردها إلى المختار صاحب العباسية و بلغ ذلك المغريبي عند قرواش بسر من رأى فشرع في إرغام القادر و بعث القادر إلى قرواش بطرده فلحق بابن مروان في ديار بكر (3/550)
وفاة مشرف الدولة و ولاية أخيه جلال الدولة
ثم توفي مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة سنة ست عشرة في ربيع لخمس سنين من ملكه و ولى مكانه بالعراق أخوه أبو طاهر جلال الدولة صاحب البصرة و خطب له ببغداد و استقدم فبلغ واسط ثم عاد إلى البصرة فقطعت خطبته و خطب ببغداد في شوال لابن أخيه كاليجار بن سلطان الدولة و هو بخوزستان يحارب عمه أبا الفوارس صاحب كرمان و سمع جلال الدولة بذلك فبادر إلى بغداد و معه وزيره أبو سعد ابن ماكولا و لقيه عسكرها فردوه أقبح رد و نهبوا خزائنه فعاد إلى البصرة و استحثوا أبا كاليجار فتباطأ لشغله بحرب عمه و سار إلى كرمان لقتال عمه فملكها و اعتصم عمه بالجبال ثم تراسلا و اصطلحا على أن تبقى كرمان لأبي الفوارس و تكون بلاد فارس لأبي كاليجار (3/551)
قدوم جلال الدولة إلى بغداد
و لما رأى الأتراك اختلال الأحوال و ضعف الدولة بفتنة العامة و تسلط العرب و الأكراد بحصار بغداد و طمعهم فيها و أنهم بقوا فوضى و ندموا على ما كان منهم في رد جلال الدولة اجتمعوا إلى الخليفة يرغبون إلى أن يحضر جلال الدولة من البصرة ليقيم أمر الدولة فبعث إليه القاضي أبا جعفر السمناني بالعهد عليه و على القواد فسار جلال الدولة إلى بغداد في جمادى من سنة ثمان عشرة و ركب الخليفة في الطيار لتلقيه فدخل و نزل التجيبي و أمر بضرب الطبل في أوقات الصلوات و منعه الخليفة من ذلك فقطعه مغاضبا ثم أذن له الخليفة فيه فأعاده و أرسل مؤيد الملك أبا علي الرخجي إلى الأثير عنبر الخادم عند قرواش يستدعيه يعتذر عن الأتراك ثم شغب الأتراك عليه سنة تسع عشرة و حاصروه بداره و طلبوا من الوزير أبي علي بن ماكولا أرزاقهم و نهبوا دوره و دور الكتاب و الحواشي و بعث القادر من أصلح بينهم و بينه فسكن شغبهم ثم خالفوا أبا كاليجار بن سلطان الدولة إلى البصرة فملكها ثم ملك كرمان بعد وفاة صاحبها قوام الدولة أبي الفوارس بن بهاء الدولة كما نذكر في أخبارهم في دولتهم عند إفرادها بالذكر فنستوفي أخبارهم و دول سائر بني بويه و بني و شمكير و بني المرزبان و غيرهم من الديلم في النواحي (3/551)
مسير جلال الدولة إلى الأهواز
كان نور الدولة دبيس بن علي بن مزيد صاحب الحلة و لم تكن الحلة يومئذ بمدينة قد خطب لأبي كاليجار لمضايقة المقلد بن أبي الأغر الحسن بن مزيد و جمع عليه منيعا أمير بني خفاجة و عساكر بغداد فخطب هو لأبي كاليجار و استدعاه لملك واسط و بها الملك العزيز ابن جلال الدولة فلحق بالنعمانية و تركها و ضيق عليه نور الدولة من كل جهة فتفرق ناس من أصحابه و هلك الكثير من أثقاله و استولى أبو كاليجار على واسط ثم خطب له في البطيحة و أرسل إلى قرواش صاحب الموصل و عنده الأثير عنبر يستدعيهما إلى بغداد فانحدر عنبر إلى الكحيل و مات به و قعد قرواش و جمع جلال الدولة عساكره ببغداد و استمد أبا الشوك و غيره و انحدر إلى واسط و أقام هنالك من غير قتال و ضاقت عليه الأحوال و اعتزم أبو كاليجار على مخالفته إلى بغداد و جاءه كتاب أبي الشوك بزحف عساكر محمود بن سبكتكين إلى العراق و يشير بالصلح و الاجتماع لمدافعتهم فأنفذ أبو كاليجار الكتاب لجلال الدولة فلم ينته عن قصده و دخل الأهواز فنهبها و أخذ من دار الإمارة مائتي ألف دينار و استباح العرب و الأكراد سائر البلد و حمل حريم كاليجار إلى بغداد سبيا فماتت أمه في الطريق و سار أبو كاليجار لاعتراض جلال الدولة و تخلف عنه دبيس لدفع خفاجة عن أصحابه و اقتتلوا في ربيع سنة إحدى و عشرين ثلاثة أيام فانهزم أبو كاليجار و قتل من أصحابه ألفان و دبيس لما فارق أبا كاليجار وصل إلى بلده و جمع إليه جماعة من قومه و كانوا منتقضين عليه بالجامعين فأوقع بهم و حبس منهم و ردهم إلى وفاقه ثم لقي المقلد بن أبي الأغر و عساكر جلال الدولة فانهزم أمامهم و أسر جماعة من أصحابه و سار منهزما إلى أبي سنان غريب بن مكين فأصلح حاله مع جلال الدولة و أعاده إلى ولايته على ضمان عشرة آلاف دينار و سمع بذلك المقلد فجمع خفاجة و نهبوا النيل و سورا و أحرقوا منازلها ثم عبر المقلد إلى أبي الشوك فأصلح أمره مع جلال الدولة ثم بعث جلال الدولة سنة إحدى و عشرين عسكره إلى المدار فملكها من يد أصحاب أبي كاليجار و استباحوها و بعث أبو كاليجار عسكره لمدافعتهم فهزموهم و ثار أهل البلد بهم فقتلوهم و لحق من نجا منهم بواسط و عادت المدار إلى أبي كاليجار (3/552)
استيلاء جلال الدولة على البصرة ثانيا و انتزاعها منه
لما استولى جلال الدولة على واسط نزل بها ولده و بعث وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح فملكها ثم بعثه إلى البصرة و بها أبو منصور بختيار بن علي من قبل أبي كاليجار فسار في السفن و عليهم أبو عبد الله الشرابي صاحب البطيحة فلقى بختيار و هزمه ثم سار الوزير أبو على في أثره في السفن فهزمه بختيار و سيق إليه أسيرا فأكرمه و بعثه إلى أبي كاليجار فأقام عنده و قتله غلمانه خوفا منه لقبيح منهم اطلع عليه و كان قد أحدث في ولايته رسوما جائرة و مكوسا فاضحة و لما أصيب الوزير أبو علي بعث جلال الدولة من كان عنده من جند البصرة فقاتلوا عسكر أبي كاليجار و هزموهم و ملكوا البصرة و نجا من كان بها إلى أبي منصور بختيار بالأبلة و بعث السفن لقتال من البصرة فظفر بهم أصحاب جلال الدولة فسار بختيار بنفسه و قاتلهم و انهزم و قتل و أخذ كثير من السفهاء و عزم الأتراك بالبصرة على المسير إلى الأبلة و طلبوا المال من العامل فاختلفوا و تنازعوا و افترقوا و رجع صاحب البطيحة و استأمن آخرون إلى أبي الفرج ابن مسافجس وزير أبي كليجار و جاء إلى البصرة فملكها ثم توفي بختيار نائب الملك أبي كاليجار في البصرة و قام بعده صهره أبو القاسم بطاعة أبي كاليجار في البصرة ثم استوحش و انتقض و بعث بالطاعة لجلال الدولة و خطب له و بعث إلى ابنه العزيز بواسط يستدعيه فسار إليه و أخرج عساكر أبي كاليجار و أقام معه إلى سنة خمس و عشرين و الحكم لأبي القاسم ثم أغراه الديلم به و أنه يتغلب عليهم فأخرجه العزيز و امتنع بالأبلة و حاربهم أياما و أخرج العزيز عن البصرة و لحق بواسط و عاد أبو القاسم إلى طاعة أبي كاليجار (3/553)
وفاة القادر و نصب القائم
ثم توفي القادر بالله سنة اثنتين و عشرين و أربعمائة لإحدى و عشرين سنة و أربعة أشهر من خلافته و كانت الخلافة قبلها قد ذهب رونقها بجسارة الديلم و الأتراك عليها فأعاد إليها أبهتها و جدد ناموسها و كان له في قلوب الناس هيبة و لما توفي نصب للخلافة ابنه أبو جعفر عبد الله و قد كان أبوه بايع له بالعهد في السنة قبلها لمرض طرقه و أرجف الناس بموته فبويع الآن و استقرت له الخلافة و لقب القائم بأمر الله و أول من بايعه الشريف المرتضى و بعث القاضي أبا الحسن الماوردي إلى أبي كاليجار ليأخذ عليه البيعة و يخطب له في بلاده فأجاب و بعث بالهدايا و وقعت لأول بيعته فتنة بين أهل السنة و الشيعة و عظم الهرج و النهب و القتل و خربت فيها أسواق و قتل كثير من جباة المكوس و أصيب أهل الكرخ و تطرق الدعار إلى كبس المنازل ليلا و تنادى الجند بكراهية جلال الدولة و قطع خطبته و لم يجبهم القائم إلى ذلك و فرق جلال الدولة فيهم الأموال فسكنوا و قعد في بيته و أخرج دوابه من الأصطبل و أطلقها بغير سائس و لا حافظ لقلة العلف و طلب الأتراك منه أن يحملهم في كل وقت فأطلقها و كانت خمسة عشر و فقد الجاري فطرد الطواشي و الحواشي و الأتباع و أغلق باب داره و الفتنة تتزايد إلى آخر السنة (3/554)
وثوب الجند بجلال الدولة و خروجه من بغداد
ثم جاء الأتراك سنة ست و عشرين إلى جلال الدولة فنهبوا داره و كتبه و دواوينه و طلبوا الوزير أبا إسحق السهيلي فهرب إلى حلة غريب بن مكين و خرج جلال الدولة إلى عكبرا و خطبوا ببغداد لأبي كاليجار و هو بالأهواز و استقدموه فأشار عليه بعض أصحابه بالامتناع فاعتذر إليهم فأعادوا لجلال الدولة و ساروا إليه معتذرين و أعادوه بعد ثلاثة و أربعين يوما و استوزر أبا القاسم بن ماكولا ثم عزله و استوزر عميد الملك أبا سعيد عبد الرحيم ثم أمره بمصادرة أبي المعمر بن الحسين البساسيري فاعتقله في داره و جاء الأتراك لمنعه فضربوا الوزير و مزقوا ثيابه و أدموه و ركب جلال الدولة فأطفأ الفتنة و أخذ من البساسيري ألف دينار و أطلقه و اختفى الوزير ثم شغب الجند ثانيا في رمضان و أنكروا تقديم الوزير أبي القاسم من غير علمهم و أنه يرد التعرض لأموالهم فوثبوا به و نهبوا داره و أخرجوه إلى مسجد هنالك فوكلوا به فوثب العامة مع بعض القواد من أصحابه فأطلقوه و أعادوه إلى داره و ذهب هو في الليل إلى الكرخ بحرمه و وزيره أبو القاسم معه و اختلف الجند في أمره و أرسلوا إليه بأن يملكوا بعض أولاده الأصاغر و ينحدر هو إلى واسط و هو في خلال ذلك يستميلهم حتى فرق جماعتهم و جاء الكثير إليه فأعادوه إلى داره و استخلف البساسيري في جماعة للجانب الغربي سنة خمس و عشرين لاشتداد أمر العيارين ببغداد و كثر الهرج و كفايته هو و نهضته ثم عاد أمر الخلافة و السلطنة إلى أن اضمحل و تلاشى و خرج بعض الجند إلى قرية فلقيهم أكراد و أخذوا دوابهم و جاؤا إلى بستان القائم فتعللوا على أعماله بأنهم لم يدفعوا عنهم و نهبوا ثمرة البستان و عجز جلال الدولة عن عتاب الأكراد و عقاب الجند و سخط القائم أمره و تقدم إلى القضاة و الشهود و الفقهاء بتعطيل المراتب الدينية فرغب جلال الدولة من الجند أن يحملهم إلى ديوان الخلافة فحملوا و أطلقوا و عظم أمر العيارين و صاروا في حماية الجند و انتشر العرب في النواحي فنهبوها و أفسدوا السابلة و بلغوا جامع المنصور من البلد و سلبوا النساء في المقبرة
و لحق الوزير أبو سعيد وزير جلال الدولة بأبي الشوك مفارقا للوزارة و وزر بعده أبا القاسم فكثرت مطالبات الجند عليه فهرب و أخذه الجند و جاؤوا به إلى دار الملك حاسرا عاريا إلا من قميص خلق و ذلك لشهرين من وزارته و عاد سعيد بن عبد الرحيم إلى الوزارة ثم ثار الجند سنة سبع و عشرين بجلال الدولة و أخرجوه من بغداد بعد أن استمهلهم ثلاثا فأبوا و رموه بالحجارة فأصابوه و مضى إلى دار المرتضى بالكرخ و سار منها إلى رافع بن الحسين بن مكن بتكريت و نهب الأتراك داره و قلعوا أبوابها ثم أصلح القائم شأنه مع الجند و أعاده و قبض على وزيره أبي سعيد ابن عبد الرحيم و هي وزارته السادسة و في هذه السنة نهى القائم عن التعامل بالدنانير المعزية و تقدم إلى الشهود أن لا يذكروها في كتب التعامل (3/554)
الصلح بين جلال الدولة و أبي كاليجار
ترددت الرسل سنة ثمان و عشرين بين جلال الدولة و ابن أخيه كاليجار حتى انعقد بينهما الصلح على يد القاضي أبي الحسن الماوردي و أبي عبد الله المردوسي و استحلف كل واحد منهما للآخر و أظهر جلال الدولة سنة تسع و عشرين من القائم الخطاب بملك الملوك فرد ذلك إلى الفتيا و أجازه القاضي أبو الطيب الطبري و القاضي أبو عبد الله الصهيري و القاضي ابن البيضاوي و أبو القاسم الكرخي و منع منه القاضي أبو الحسن الماوردي و رد عليهم فأخذ بفتواهم و خطب له بملك الملوك و كان الماوردي من أخص الناس بجلال الدولة و كان يتردد إليه ثم انقطع عنه بهذه الفتيا و لزم بيته من رمضان إلى النحر فاستدعيه جلال الدولة و حضر خائفا و شكره على القول بالحق و عدم المحاباة و قد عدت إلى ما تحب فشكره و دعا له و أذن للحاضرين بالانصراف معه و كان الأذن لهم تبعا له (3/556)
استيلاء أبي كاليجار على البصرة
و في سنة إحدى و ثلاثين بعث أبو كاليجار عساكره إلى البصرة مع العادل أبي منصور ابن مافنة و كانت في ولايته الظهير أبي القاسم بن وليها بعد بختيار انتقض عليه مرة ثم عاد و كان يحمل إلى أبي كاليجار كل سنة سبعين ألف دينار و كثرت أمواله و دامت دولته ثم تعرض ملا الحسين بن أبي القاسم بن مكرم صاحب عمان فكاتب أبا كاليجار و ضمن البصرة بزيادة ثلاثين ألف دينار و بعث أبو كاليجار العساكر مع ابن مسافيه كما ذكرنا و جاء المدد من عمان إلى البصرة و ملكوها و قبض على الظهير أبي القاسم و أخذت أمواله و صودر على مائتي ألف دينار فأعطاها و جاء الملك أبو كاليجار البصرة فأقام بها أياما و ولى فيها ابنه عز الملوك و معه الوزير أبو الفرج بن فسانجس ثم عاد إلى الأهواز و حمل معه الظهير (3/556)
شغب الأتراك على جلال الدولة
ثم شغب الأتراك على جلال الدولة سنة إثنتين و ثلاثين و خيموا بظاهر البلد و نهبوا منها مواضع و خيم جلال الدولة بالجانب الغربي و أراد الرحيل عن بغداد فمنعه أصحابه فاستمد دبيس بن مزيد و قرواشا صاحب الموصل فأمدوه بالعساكر ثم صلحت الأحوال بينهم و عاد إلى داره و طمع الأتراك و كثر نهبهم و تعديهم و فسدت الأمور بالكلية (3/557)
ابتداء دولة السلجوقية
قد تقدم لنا أن أمم الترك في الربع الشرقي الشمالي من المعمور ما بين الصين إلى تركستان إلى خوارزم و الشاش و فرغانة و ما وراء النهر بخارى و سمرقند و ترمذ و أن المسلمين أزاحوهم أول الملة عن بلاد ما وراء النهر و غلبوهم عليها و بقيت تركستان و كاشغر و الشاش و فرغانة بأيديهم يؤدون عليها الجزاء ثم أسلموا عليها فكان لهم بتركستان ملك و دولة نذكرها فيما بعد فإن استفحالها كان في دولة بني سامان جيرانهم فيما وراء النهر و كان في المفازة بين تركستان و بلاد الصين أمم من الترك لا يحصيهم إلا خالقهم لاتساع هذه المفازة و بعد أقطارها فإنها فيما يقال مسيرة شهر من كل جهة فكان هنالك أحياء بادون منتجعون رجالة غذاؤهم اللحوم و الألبان و الذرة في بعض الأحيان و مراكبهم الخيل و منها كسبهم و عليها قيامهم و على الشاء و البقر من بين الأنعام فلم يزالوا بتلك القفار مذودين عن العمران بالحامية المالكين له في كل جهة و كان من أممهم الغز و الخطا و التتر و قد تقدم ذكر هؤلاء الشعوب فلما انتهت دولة ملوك تركستان و كان شغر إلى غايتها و أخذت في الاضمحلال و التلاشي كما هو شأن الدول و طبيعتها تقدم هؤلاء إلى بلاد تركستان فأجلبوا عليها بما كان غالب معاشهم في تخطف الناس من السبل و تناول الرزق بالرماح شأن أهل القفر البادين و أقاموا بمفازة بخارى ثم انقرضت دولة بني سامان و دولة أهل تركستان و استولى محمود بن سبكتكين من قواد بني سامان و صنائعهم على ذلك كله و عبر بعض الأيام إلى بخارى فحضر عنده أرسلان بن سلجوق فقبض عليه و بعث به إلى بلاد الهند
فحبسه و سار إلى أحيائه فاستباحها ولحق بخراسان و سارت العساكر في اتباعهم فلحقوا بأصبهان و هم صاحبها علاء الدولة بن كالويه بالغدر بهم و شعروا بذلك فقاتلوه بأصبهان فغلبهم فانصرفوا إلى أذربيجان فقاتلهم صاحبهم و هشودان من بني المرزبان و كانوا لما قصدوا أصبهان بقي فلهم بنواحي خوارزم فعاثوا في البلاد و خرج إليهم صاحب طوس و قاتلهم و جاء محمود بن سبكتكين فسار في اتباعهم من رستاق إلى جرجان و رجع عنهم ثم استأمنوا فاستخدمهم و تقدمهم يغمر و أنزل ابنه بالري ثم مات محمود و ولي أخوه مسعود شغل بحروب الهند فانتفضوا و بعث إليهم قائدا في العساكر و كانوا يسمون العراقية و أمراؤهم يومئذ كوكاش و مرقا و كول و يغمر و باصعكي و وصلوا إلى الدامغان فاستباحوها ثم سمنان ثم عاثوا في أعمال الري و اجتمع صاحب طبرستان و صاحب الري مع قائد مسعود و قاتلوهم فهزمهم الغز و فتكوا فيهم و قصدوا الري فملكوه و هرب صاحبه إلى بعض قلاعه فتحصن بها و ذلك سنة ست و عشرين و أربعمائة و استألفهم علاء الدولة بن كالويه ليدافع بهم ابن سبكتكين فأجابوه أولا ثم انتقضوا و أما الذين قصدوا أذربيجان منهم و مقدموهم بوقاوكوكباش و منصور و دانا فاستألفهم و هشودان ليستظهر بهم فلم يحصل على بغيته من ذلك و ساروا إلى مراغة سنة تسع و عشرين فاستباحوها و نالوا من الأكراد الهديانية فحاربوهم و غلبوهم و افترقوا فرقتين فرجع بوقا إلى أصحابهم الذين بالري و سار منصور و كوكباش إلى همذان و بها أبو كاليجار بن علاء الدولة بن كالويه فظاهرهم على حصاره متى خسرو بن مجد الدولة فلما جهده الحصار لحق بأصبهان و ترك البلد فدخلوها و استباحوها و فعلوا في الكرخ مثل ذلك و حاصروا قزوين حتى أطاعوهم و بذلوا لهم سبعة آلاف دينار و سار طائفة منهم إلى بلد الأرمن فاستباحوها و أثخنوا فيها و رجعوا إلى أرمينية ثم رجعوا من الري إلى حصار همذان فتركها أبو كاليجار و ملكوها سنة ثلاثين و معهم متى خسرو المذكور فاستباحوا تلك النواحي إلى أستراباذ و قاتلهم أبو الفتح بن أبي الشوك صاحب الدينور فهزمهم و أسر منهم و صالحوه على إطلاق أسراهم ثم مكروا بأبي كاليجار أن يكون معهم و يدبر أمرهم و غدروا به و نهبوه و خرج علاء الدولة من أصبهان فلقي طائفة منهم فأوقع بهم و أثخن فيهم و أوقع و هشودان بمن كان منهم في أذربيجان و ظفر بهم الأكراد و أثخنوا فيهم و فرقوا جماعتهم ثم توفي كول أمير الفرق الذين بالري و كانوا لما أجازوا من وراء النهر إلى خراسان بقي بمواطنهم الأولى هنالك طغرلبك بن ميكاييل بن سلجوق و إخوته داود و سعدان و ينال و همغري فخرجوا إلى خراسان من بعدهم و كانوا أشد منهم شوكة و أقوى عليهم سلطانا فسار ينال أخو طغرلبك إلى الري فهربوا إلى أذربيجان ثم إلى جزيرة ابن عمر و ديار بكر و مكر سليمان بن نصير الدولة بن مروان صاحب الجزيرة بمنصور بن غز علي منه فحبسه و افترق أصحابه و بعث قرواش صاحب الموصل إليهم جيشه فطردهم و افترقت جموعهم و لحق الغز بديار بكر و أثخنوا فيها و أطلق نصير الدولة أميرهم منصورا من يد ابنه فلم ينتفع منهم بذلك و قاتلهم صاحب الموصل فحاصروه ثم ركب في السفين و نجا إلى السند و ملكوا البلد و عاثوا فيها و بعث قرواش إلى الملك جلال الدولة يستنجده و إلى دبيس بن مزيد و أمراء العرب و فرض الغز على أهل الموصل عشرين ألف دينار فثار الناس بهم و كان كوكباش قد فارق الموصل فرجع و دخلها عنوة في رجب سنة خمس و ثلاثين و أفحش في القتل و النهب و كانوا يخطبون للخليفة و لطغرلبك بعده فكتب الملك جلال الدولة إلى طغرلبك يشكو له بأحوالهم فكتب إليه أن هؤلاء الغز كانوا في خدمتنا و طاعتنا حتى حدث بيننا و بين محمود بن سبكتكين ما علمتم و نهضنا إليه و ساروا في خدمتنا في نواحي خراسان فتجاوزوا حدود الطاعة و ملكة الهيبة و لا بد من إنزال العقوبة بهم و بعث إلى نصير الدولة بعده يكفهم عنه و سار دبيس بن مزيد و بنو عقيل إلى قرواش حاجب الموصل و قعد جلال الدولة عن إنجاده لما نزل به من الأتراك و سمع الغز بجموع قرواش فبعثوا إلى من كان بديار بكر منهم و اجتمعوا إليهم و اقتتل الفريقان فانهزم العرب أول النهار ثم أتيحت لهم الكرة على الغز فهزموهم و استباحوهم و أثخنوا فيهم قتلا و أسرا و اتبعهم قرواش إلى نصيبين و رجع عنهم فساروا إلى ديار بكر و بلاد الأرمن و الروم و كثر عيثهم فيها و كان طغرلبك و إخوته لما جاؤا إلى خراسان طالت الحروب بينهم و بين عساكر بني سبكتكين حتى غلبوهم و حصل لهم الظفر و هزموا سياوشي حاجب مسعود آخر هزائمهم و ملكوا هراة فهرب عنها سياوشي الحاجب و لحق بغزنة و زحف إليهم مسعود و دخلوا البرية و لم يزل في اتباعهم ثلاث سنين ثم انتهزوا فيه الفرصة باختلاف عسكره يوما على الماء فانهزموا و غنموا عسكره و سار طغرلبك إلى نيسابور سنة إحدى و ثلاثين فملكها و سكن السادياج و خطب له بالسلطان الإعظم العمال في النواحي و كان الدعار قد اشتد ضررهم بنيسابور فسد أمرهم و حسم عللهم و استولى السلجوقية على جميع البلاد و سار بيقو إلى هراة فملكها و سار داود إلى بلخ و بها القوتباق حاجب مسعود فحاصره و عجز مسعود عن إمداده فسلم البلد لداود و استقل السلجوقية بملك البلاد أجمع ثم ملك طغرلبك طبرستان و جرجان من يد أنوشروان بن متوجهر قابوس و ضمنها أنوشروان بثلاثين ألف دينار و ولى على جرجان مرداويج من أصحابه بخمسين ألف دينار و بعث القائم القاضي الحسن الماوردي إلى طغرلبك فقرر الصلح بينه و بين جلال الدولة القائم بدولته و رجع بطاعته (3/557)
فتنة قرواش مع جلال الدولة
كان قرواش قد أنفذ عسكره سنة إحدى و ثلاثين لحصار خميس بن ثعلب بتكريت و استغاث بجلال الدولة و أمر قرواشا بالكف عنه فلم يفعل و سار لحصاره بنفسه و بعث إلى الأتراك ببغداد يستفسدهم على جلال الدولة فاطلع على ذلك فبعث أبا الحرث أرسلان البساسيري في صفر سنة إثنتين وثلاثين للقبض على نائب قرواش بالسندسية و اعترضه العرب فمنعوه و رجع و أقاموا بين صرصر و بغداد يفسدون السابلة و جمع جلال الدولة العساكر و خرج إلى الأنبار و بها قرواش فحاصروها ثم اختلفت عقيل على قرواش فرجع إلى مصالحة جلال الدولة (3/560)
وفاة جلال الدولة و ملك أبي كاليجار
لما قلت الجبايات ببغداد مد جلال الدولة يده إلى الجوالي فأخذها و كانت خاصة بالخليفة ثم توفي جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة في شعبان سنة خمس و ثلاثين و أربعمائة لسبع عشرة من ملكه و لما مات خاف حاشيته من الأتراك و العامة فانتقل الوزير كمال الملك بن عبد الرحيم و أصحابه الأكابر إلى حرم دار الخلافة و اجتمع القواد للمدافعة عنهم و كاتبوا الملك العزيز أبا منصور بن جلال الدولة في واسط بالطاعة و استقدموه و طلبوا حتى البيعة فراوضهم فيها فكاتبهم أبو كاليجار عنها فعدلوا إليه و جاء العزيز من واسط و انتهى إلى النعمانية فغدر به عسكره و رجعوا إلى واسط و خطبوا لأبي كاليجار و سار العزيز إلى دبيس بن مزيد ثم إلى قرواش بن المقلد ثم فارقه إلى أبي الشوك فغدر به فسار إلى ينال أخي طغرلبك فأقام عنده مدة ثم قصد بغداد مختفيا فظهر على بعض أصحابه فقتله و لحق هو بنصير الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين سنة إحدى و أربعين و أما أبو كاليجار فخطب له ببغداد في صفر سنة ست و ثلاثين و بعث إلى الخليفة بعشرة آلاف دينار و بأموال أخرى فرقت إلى الجند و لقبه القائم بمحي الدين و خطب له أبو الشوك و دبيس بن مزيد و نصير الدولة بن مروان بأعمالهم و سار إلى بغداد و معه وزيره أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس و هم القائم لاستقباله فاستعفى من ذلك و خلع على أرباب الجيوش و هم البساسيري و النساوري و الهمام أبو اللقاء و أخرج عميد الدولة أبا سعيد من بغداد فمضى إلى تكريت و عاد أبو منصور بن علاء الدولة بن كالويه صاحب أصبهان إلى طاعته و خطب له على منبره انحرافا عن طغرلبك ثم راجعه بعد الحصار و اصطلحا على مال يحمله و بعث أبو كاليجار إلى السلطان طغرلبك في الصلح و زوجه ابنته فأجاب و تم بينهما سنة تسع و ثلاثين (3/560)
وفاة أبي كاليجار و ملك ابنه الملك الرحيم
كان أبو كاليجار و المرزبان بن سلطان الدولة قد سارا سنة أربعين إلى نواحي كرمان و كان صاحبها بهرام بن لشكرستان من وجوه الديلم قد منع الحمل فتنكر له أبوه كاليجار و بعث إلى أبي كاليجار يحتمي به و هو بقلعة برد شير فملكها من يده و قتل بهرام بعض الجند الذين ظهر منهم على الميل لأبي كاليجار فسار إليه و مرض في طريقه و مات بمدينة جنايا في سنة أربعين لأربع سنين و ثلاثة أشهر من ملكه و لما توفي نهب الأتراك معسكره و انتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور و أرادوا نهبه فمنعهم الديلم و ساروا إلى شيراز فملكها أبو منصور و استوحش الوزير منه فلحق ببعض قلاعه و امتنع بها و وصل خبر وفاة أبي كاليجار إلى بغداد و بها ولده الملك الرحيم أبو نصر خسر و فيروز فبايع له الجند و بعث إلى الخليفة في الخطبة و التلقب بالملك الرحيم فأجابه إلى ما سأل إلا اللقب بالرحيم للمانع الشرعي من ذلك و استقر ملكه بالعراق و خوزستان و البصرة و كان بها أخوه أبو علي و استولى أخوه أبو منصور كما ذكرنا على شيراز فبعث الملك الرحيم أخاه أبا سعد في العساكر فملكها و قبض على أخيه أبي منصور و سار العزيز جلال الدولة من عند قرواش إلى البصرة فدافعه أبو علي بن كاليجار عنها ثم سار الملك الرحيم إلى خوزستان و أطاعه من بها من الجند و كثرت الفتنة ببغداد بين أهل السنة و الشيعة (3/561)
مسير الملك الرحيم إلى فارس
ثم سار الملك الرحيم من الأهواز إلى فارس سنة إحدى و أربعين و خيم بظاهر شيراز و وقعت فتنة بين أتراك شيراز و بغداد فرحل أتراك بغداد إلى العراق و تبعهم الملك الرحيم لانحرافه عن أتراك شيراز و كان أيضا منحرفا عن الديلم بفارس لميلهم إلى أخيه فلاستون بأصطخر و انتهى إلى الأهواز فأقام بها و استخلف بأرجان أخويه أبا سعد و أبا طالب فزحف إليهما أخوهما فلاستون و خرج الملك الرحيم من الأهواز إلى رامهرمز للقائهم فلقيهم و انهزم إلى البصرة ثم إلى واسط و سارت عساكر فارس إلى الأهواز فملكوها و خيموا بظاهرها ثم شغبوا على أبي منصور و جاء بعضهم إلى الملك الرحيم فبعث إلى بغداد و استقر الجند الذين بها و سار إلى الأهواز فملكها و أقام ينتظر عسكر بغداد ثم سار إلى عسكر مكرم فملكها سنة إثنتين و أربعين ثم تقدم سنة ثلاث و أربعين و معه دبيس بن مزيد و البساسيري و غيرهما و سار هزار شب بن تنكير و منصور بن الحسين الأسدي فيمن معهما من الديلم و الأكراد من أرجان إلى تستر فسبقهم الملك الرحيم إليها و غلبهم عليها ثم زحف في عسكر هزارشب فوافاه أميره أبو منصور بمدينة شيراز فاضطربوا و رجعوا و لحق منهم جماعة بالملك الرحيم فبعث عساكر إلى رامهرمز و بها أصحاب أبي منصور فحاصرها و ملكها في ربيع سنة ثلاث و أربعين ثم بعث أخاه أبا سعد في العساكر إلى بلاد فارس لأن أخاه أبا نصر خسرو كان بأصطخر ضجر من تغلب هزارشب بن تنكير صاحب أخيه أبي منصور فكتب إلى أخيه الملك الرحيم بالطاعة فبعث إليه أخاه أبا سعد فأدخله أصطخر و ملكه ثم اجتمع أبو منصور فلا ستون و هزارشب و منصور بن الحسين الأسدي و ساروا للقاء الملك الرحيم بالأهواز و استمدوا السلطان طغرلبك و أبوا طاعته فبعث إليهم عسكرا و كان قد ملك أصبهان و استطال و افترق كثير من أصحاب الملك الرحيم عنه مثل البساسيري و دبيس بن مزيد و العرب و الأكراد و بقي في الديلم الأهوازية و بعض الأتراك من بغداد و رأى أن يعود من عسكر مكرم إلى الأهواز ليتحصن بها و ينتظر عسكر بغداد ثم بعث أخاه أبا سعد إلى فارس كما ذكرنا ليشغل أبا منصور و هزارشب و من معهما عن قصده فلم يعرجوا على ذلك و ساروا إليه بالأهواز و قاتلهم فانهزم إلى واسط و نهب الأهواز و فقد في الواقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي عبد الرحيم فلم يوقف له على خبر و سار أبو منصور و أصحابه إلى شيراز لأجل أبي سعد و أصحابه فلقيهم قريبا منها و هزمهم مرات و استأمن إليه الكثير منهم و اعتصم أبو منصور ببعض القلاع و اعيدت الخطبة بالأهواز للملك الرحيم و استدعاه الجند بها و عظمت الفتنة ببغداد بين أهل السنة و الشيعة في غيبة الملك الرحيم و اقتتلوا و بعث القائم نقيب العلويين و نقيب العباسيين لكشف الأمر بينهما فلم يوقف على يقين في ذلك و زاد الأمر و أحرقت مشاهد العظماء من أهل البيت و بلغ الخبر إلى دبيس ابن مزيد فاتهم القائم بالمداهنة في ذلك فقطع الخطبة له ثم عوتب فاستعتب و عاد إلى حاله (3/562)
مهادنة طغرلبك للقائم
قد تقدم لنا شأن الغز و استيلائهم على خراسان من يد بني سبكتكين عاد إثنتين و ثلاثين ثم استيلاء طغرلبك على أصبهان من يد ابن كالويه سنة إثنتين و أربعين ثم بعث السلطان طغرلبك أرسلان بن أخيه داود إلى بلاد فارس فافتتحها سنة إثنتين و أربعين و استلحم من كان بها من الديلم و نزل مدينة نسا و بعث إليه القائم بأمر الله بالخلع و الألقاب و ولاه على ما غلب عليه فبعث إليه طغرلبك بعشرة آلاف دينار و أعلاق نفيسة من الجواهر و الثياب و الطيب و إلى الحاشية بخمسة آلاف دينار و للوزير رئيس الرؤساء بألفين و حضروا العيد في سنة ثلاث و أربعين ببغداد فأمر الخليفة بالاحتفال في الزينة و المراكب و السلاح ثم سار الغز سنة أربع و أربعين إلى شيراز و بها الأمير أبو سعد أخو الملك الرحيم فقاتلهم و هزمهم كما نذكر في أخبارهم (3/563)
استيلاء الملك الرحيم على البصرة من يد أخيه
بعث الملك الرحيم سنة أربع و أربعين جيوشه إلى البصرة مع بصيرة البساسيري فحاصروا بها أخاه أبا علي و قاتلوا عسكره في السفن فهزموهم و ملكوا عليهم دجلة و الأنهر و جاء الملك الرحيم بالعسكر في البر و استأمن إليه قبائل ربيعة و مضر فأمهنم و ملك البصرة و جاءته رسل الديلم بخوزستان بطاعتهم و مضى أخوه أبو علي إلى شط عمان و تحصن به فسار إليه الملك الرحيم و ملك عليه شط عمان و لحق بعبادان و سار منها إلى أرجان ثم لحق بالسلطان طغرلبك بأصبهان فأكرمه و أصهر إليه و أقطع له و أنزله بقلعة من أعمال جرباذقان و ولى الملك الرحيم وزيره البساسيري على البصرة و سار إلى الأهواز و أرسل منصور بن الحسين و هزارشب في تسليم أرجان و تستر فتسلمها و اصطلحا و كان المقدم على أرجان فولاذ بن خسرو من الديلم فرجع إلى طاعة الملك الرحيم سنة خمس و أربعين (3/563)
فتنة ابن أبي الشوك ثم طاعته
كان سعدي بن أبي الشوك قد أعطى طاعته للسلطان طغرلبك بنواحي الري و سار في خدمته و بعثه سنة أربع و أربعين في العساكر إلى نواحي العراق فبلغ النعمانية و كثر عيثه و راسله ملد من بني عقيل قرابة قريش بن بدران في الاستظهار له على قريش و مهلهل أخي أبي الشوك فوعدهم فسار إليهم مهلهل و أوقع بهم على عكبرا فساروا إلى سعدى و شكوا إليه و هو على سامرا فسار و أوقع بعمه مهلهل و أسره و عاد إلى حلوان و هم الملك الرحيم بتجهيز العساكر إليه بحلوان و استقدم دبيس بن مزيد لذلك ثم عظمت الفتنة سنة خمس و أربعين ببغداد من أهل الكرخ و أهل السنة و دخلها طوائف من الأتراك و عم الشر و اطرحت مراقبة السلطان و ركب القواد لحسم العلة فقتلوا علويا من أهل الكرخ فنادت نساؤه بالويل فقاتلهم العامة و أضرم النار في الكرخ بعض الأتراك فاحترق جميعه ثم بعث القائم و سكن الأمر و كان مهلهل لما أسر سار ابنه بدر إلى طغرلبك و ابن سعدي كان عنده رهينة و بعث إلى سعدي بإطلاق مهلهل عند ذلك فامتنع سعدي من ذلك و انتفض على طغرلبك و سار من همذان إلى حلوان و قاتلها فامتنعت عليه فكاتب الملك الرحيم بالطاعة و لحقه عساكر طغرلبك فهزموه و لحق ببعض القلاع هنالك و سار بدر في اتباعه إلى شهرزور ثم جاءه الخبر بأن جمعا من الأكراد و الأتراك قد أفسدوا السابلة و أكثروا العيث فخرج إليهم البساسيري و اتبعهم إلى البواريج و أوقع بالطوائف منهم و استباحهم و عبروا الزاب فلم يمكنه العود إليهم و نجوا (3/564)
فتنة الأتراك
و في سنة ست و أربعين شغب الأتراك على وزير الملك الرحيم في مطالبة أرزاقهم و استعدوه عليه فلم يعدهم فشكوا من الديوان و انصرفوا مغضبين و باكروا من الغد لحصار دار الخليفة و حضر البساسيري و استكشف حال الوزير فلم يقف على خبر و كبست الدور في طلبه فكان ذلك وسيلة للأتراك في نهب دور الناس و اجتمع أهل المحال لمنعهم و نهاهم الخليفة فلم ينتهوا فهم بالرحلة عن بغداد ثم ظهر الوزير و أنصفهم في أرزقهم فتمادوا على بغيهم عسفهم و اشتد عيث الأكراد و الأعراب في النواحي فخربت البلاد و تفرق أهلها و أغار أصحاب ابن بدران بالبرد و كبسوا حلل كامل بن محمد بن المسيب و نهبوها و نهبوا في جملتها ظهرا و أنعاما للبساسيري و انحل أمر الملك و السلطنة بالكلية (3/565)
استيلاء طغرلبك على أذربيجان و على أرمينية و الموصل
سار طغرلبك سنة أربعين إلى أذربيجان فأطاعه صاحب قبرير أبو منصور و شهودان ابن محمد و خطب له و رهن ولده عنده ثم أطاعه صاحب جنده أبو الأسوار ثم تبايع سائر النواحي على الطاعة و أخذ رهنهم و سار إلى أرمينية فحاصر ملاذكرد و امتنعت عليه فخرب ما جاورها من البلاد و بعث إليه نصير الدولة بن مروان بالهدايا و قد كان دخل في طاعته من قبل و سار السلطان طغرلبك لغزو بلاد الروم و اكتسحها إلى أن أردن الروم و رجع إلى أذربيجان ثم إلى الري و خطب له قريش بن بدران صاحب الموصل في جميع أعماله و زحف إلى الأنبار ففتحها و نهب ما فيها البساسيري فانتفض لذلك و سار في العساكر إلى الأنبار فاستعاده من يده (3/565)
وحشة البساسيري
كان أبو الغنائم و أبو سعد أبا المجلبان صاحبي قريش بن بدران و بعثهما إلى القائم سرا من البساسيري بما فعل بالأنبار فانتقض البساسيري لذلك و استوحش من القائم و من رئيس الرؤساء و أسقط مشاهراتهم و مشاهرة حواشيهم و هم يهدم منازل بني الجلبان ثم أقسر و سار إلى الأنبار و بها أبو القاسم بن المجلبان و جاءه دبيس بن مزيد ممدا له فحاصر الأنبار و فتحها عنوة و نهبها و أسر من أهلها خمسمائة و مائة من بني خفاجة و أسر أبا الغنائم و جاء به إلى بغداد فأدخله على جمل و شفع دبيس بن مزيد في قتله و جاء إلى مقابل التاج من دار الخليفة فقبل الأرض و عاد إلى منزله (3/566)
وصول الغز إلى الدسكرة و نواحي بغداد
و في شوال من سنة ست و أربعين وصل صاحب حلوان من الغز و هو إبراهيم بن إسحق إلى الدسكرة فافتتحها و نهبها و صادر النساء ثم سار إلى رسغباد و قلعة البردان و هي لسعدي ابن أبي الشوك و بها أمواله فامتنعت عليه فخرب ما حولها من القرى و نهبها و قوى طمع الغز في البلاد و ضعف أمر الديلم و الأتراك ثم بعث طغرلبك أبا علي بن أبي كاليجار الذي كان بالبصرة في جيش من الغز إلى خوزستان فاستولى على الأهواز و ملكها و نهب الغز الذين معه أموال الناس و لقوا منهم عناء (3/566)
استيلاء الملك الرحيم على شيراز
و في سنة سبع و أربعين سار فولاذ الذي كان بقلعة أصطخر من الديلم وقد ذكرناه إلى شيراز فملكها من يد أبي منصور فولاستون بن أبي كاليجار وكان خطب بها للسلطان طغرلبك فخطب فولاذ بها للملك الرحيم و لأخيه أبي سعد يخادعهما بذلك و كان أبو سعد بأرجان فاجتمع هو و أخوه أبو منصور على حصار شيراز في طاعة أخيهما الملك و اشتد الحصار على فولاذ و عدمت الأقوات فهرب عنها إلى قلعة أصطخر و ملك الأخوان شيراز و خطبا لأخيهما الملك الرحيم (3/566)
وثوب الأتراك ببغداد بالبساسيري
قد ذكرنا تأكد الوحشة بين البساسيري و رئيس الرؤساء ثم تأكدت سنة سبع و أربعين و عظمت الفتنة بالجانب الشرقي بين العامة و بين أهل السنة للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و حضروا الديوان حتى أذن لهم في ذلك و تعرضوا لبعض سفن البساسيري منحدرة إليه بواسط و كشفوا فيها عن جرار خمر فجاؤا إلى أصحاب الديوان الذين أمروا بمساعدتهم و استدعوهم لكسرها فكسروها و استوحش لذلك البساسيري و نسبه إلى رئيس الرؤساء و استفتى الفقهاء في أن ذلك تعد على سفينته فأفتاه الحنفية بذلك و وضع رئيس الرؤساء الأعيان على البساسيري بإذن من دار الخلافة و أظهر معايبه و بالغوا في ذلك ثم قصدوا في رمضان دور البساسيري بإذن من دار الخلافة فنهبوها و أحرقوها و وكلوا بحرمه و حاشيته و أعلن رئيس الرؤساء بذم البساسيري و أنه يكاتب المستنصر صاحب مصر فبعث القائم إلى الملك الرحيم فأمره بإبعاده فأبعده (3/567)
استيلاء السلطان طغرلبك على بغداد و الخلعة و الخطبة له
قد ذكرنا من قبل رجوع السلطان طغرلبك من غزو الروم إلى الري ثم رجع إلى همذان ثم سار إلى حلوان عازما على الحج و الاجتياز بالشام لإزالته من يد العلوية و أجفل الناس إلى غربي بغداد و عظم الأرجاف ببغداد و نواحيها و خيم الأتراك بظاهر البلد و جاء الملك الرحيم من واسط بعد أن طرد البساسيري عنه كما أمره القائم فسار إلى بلد دبيس بن مزيد لصهر بينهما و بعث طغرلبك إلى لقائهما بالطاعة و إلى الأتراك بالمقاربة و الوعد فلم يقبلوا و طلبوا من القائم إعادة البساسيري لأنه كبيرهم و لما وصل الملك الرحيم سأل من الخليفة إصلاح أمره مع السلطان طغرلبك فأشار القائم بأن يقوض الأجناد خيامهم و يخيموا بالحريم الخلافي و يبعثوا جميعا إلى طغرلبك بالطاعة فقبلوا إشارته و بعثوا إلى طغرلبك بذلك فأجاب بالقبول و الإحسان و أمر القائم بالخطبة لطغرلبك على منابر بغداد فخطب آخر رمضان من سنة سبع و أربعين و استأذن في لقاء الخليفة و خرج إليه رؤساء الناس في موكب من القضاة و الفقهاء و الأشراف و أعيان الديلم و بعث طغرلبك للقائم وزيره أبا نصر الكندري و أبلغه رسالة القائم و استخلفه له و للملك الرحيم و أمراء الأجناد و دخل طغرلبك بغداد و نزل بباب الشماسية لخمس بقين من رمضان و جاء هنالك قريش بن بدران صاحب الموصل و كان من قبل في طاعته (3/567)
القبض على الملك الرحيم و انقراض دولة بني بويه
و لما نزل طغرلبك بغداد و افترق أهل عسكره في البلد يقضون بعض حاجاتهم فوقعت بينهم و بين بعض العامة منازعة فصاحوا بهم و رجموهم و ظن الناس أن الملك الرحيم قد اعتزم على قتال طغرلبك فتواثبوا بالغز من كل جهة إلا أهل الكرخ فإنهم سألوا من وقع إليهم من الغز و أرسل عميد الملك وزير طغرلبك عن عدنان ابن الرضي نقيب العلويين و كان مسكنه بالكرخ فشكره عن السلطان طغرلبك و دخل أعيان الديلم و أصحاب الملك الرحيم إلى دار الخلافة نفيا للتهمة عنهم و ركب أصحاب طغرلبك فقاتلوا العامة و هزموهم و قتلوا منهم خلقا و نهبوا سائر الدروب و دور رئيس الرؤساء و أصحابه و الرصافة و دور الخلفاء و كان بها أموال الناس نقلت إليها للحرمة فنهب الجميع و اشتد البلاء و عظم الخوف و أرسل طغرلبك إلى القائم بالعتاب و نسبة ما وقع إلى الملك الرحيم و الديلم و أنهم انحرفوا و كانوا برآء من ذلك و تقدم إليهم الخليفة بالحضور عند طغرلبك مع رسوله فلما وصلوا إلى الخيام نهبها الغز و نهبوا رسل القائم معهم ثم قبض طغرلبك على الملك الرحيم و من معه و بعث بالملك الرحيم إلى قلعة السيروان فحبس بها و كان ذلك لست سنين من ملكه و نهب في تلك الهيعة قريش بن بدران صاحب الموصل و من معه من العرب و نجا سليبا إلى خيمة بدر بن المهلهل و اتصل بطغرلبك خبره فأرسل إليه و خلع عليه و أعاده إلى مخيمه و بعث القائم إلى طغرلبك بإنكار ما وقع في إخفار ذمته في الملك الرحيم و أصحابه وأنه يتحول عن بغداد فأطلق له بعضهم بلكسكسالربه و أنزع الاقطاعات من يد أصحابه الملك الرحيم فلحقوا بالبساسيري و كثر جمعه و بعث طغرلبك إلى دبيس بالطاعة و إنفاذ البساسيري فخطب له في بلاده و طرد البساسيري فسار إلى رحبة ملك و كاتب المستنصر العلوي صاحب مصر و أمر طغرلبك بأخذ أموال الأتراك الجند و أهملهم و انتشر الغز السلجوقية في سواد بغداد فنهبوا الجانب الغربي من تكريت إلى النيل و الجانب الشرقي إلى النهر و أنات و خرب السواد و انجلى أهله و ضمن السلطان طغرلبك البصرة و الأهواز من هزارشب بن شكر بن عياض بثلثمائة و ستين ألف دينار و أقطعه أرجان و أمره أن يخطب لنفسه بالأهواز دون ما سواها و أقطع أبا علي بن كاليجار و يسين و أعمالها و أمر أهل الكرخ بزيادة الصلاة خير من النوم في نداء الصبح و أمر بعمارة دار المملكة و انتقل إليها في شوال و توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد بن القائم بالله في ذي القعدة من هذه السنة ثم انكح السلطان طغرلبك من القائم بالله خديجة بنت أخيه داود و إسمها أرسلان خاتون و حضر للعقد عميد الملك الكندي وزير طغرلبك وأبو علي بن أبي كاليجار و هزارشب بن شكر بن عياض الكردي و ابن أبي الشوك و غيرهم من أمراء الأتراك من عسكر طغرلبك و خطب رئيس الرؤساء و ولي العقد و قبل الخليفة بنفسه و حضر نقيب النقباء أبو علي بن أبي تمام و نقيب العلويين عدنان ابن الرضي و القاضي أبو الحسن الماوردي و غيرهم (3/568)
انتقاض أبي الغنائم بواسط
كان رئيس الرؤساء سعى لأبي الغنائم بن المجلبان في ولاية واسط و أعمالها فوليها و صادر أعيانها و جند جماعة و تقوى بأهل البطيحة و خندق على واسط و خطب للمستنصر العلوي بمصر فسار أبو نصر عميد العراق لحربه فهزمه و أسر من أصحابه و وصل إلى السور فحاصره حتى تسلم البلد و مر أبو الغنائم و معه الوزير بن فساجس و رجع عميد العراق إلى بغداد بعد أن ولى واسط منصور بن الحسين فعاد ابن فسانجس إلى واسط و أعاد خطبة العلوي و قتل من وجده من الغز و مضى منصور بن الحسين إلى المدار و بعث يطلب المدد فكتب إليه عميد العراق و رئيس الرؤساء بحصار واسط فحاصرها و قاتله ابن فسانجس فهزمه و ضيق حصاره و استأمن إليه جماعة من أهل واسط فملكها و هرب فسانجس و اتبعوه فأدركه و حمل إلى بغداد في صفر سنة ست و أربعين فشهر و قتل (3/569)
الوقعة بين البساسيري و قطلمش
و في سلخ شوال من سنة ثمان و أربعين سار قطلمش و هو ابن عم السلطان طغرلبك وجد بني قليج أرسلان ملوك بلاد الروم فسار و معه قريش بن بدران صاحب الموصل لقتال البساسيري و دبيس و سار بهم إلى الموصل و خطبوا بها للمستنصر العلوي صاحب مصر و بعث إليهم بالخلع و كان معهم جابر بن ناشب و أبو الحسن و عبد الرحيم و أبو الفتح ابن ورائر و نصر بن عمر و محمد بن حماد (3/570)
مسير طغرلبك إلى الموصل
لما كان السلطان طغرلبك قد ثقلت وطأته على العامة ببغداد و فشا الضرر و الأذى فيهم من معسكره فكاتبه القائم يعظه و يذكره ويصف له ما الناس فيه فأجابه السلطان بالاعتذار بكثرة العساكر ثم رأى رؤيا في ليلته كان النبي صلى الله عليه و سلم يوبخه على ذلك فبعث وزيره عميد الملك إلى القائم بطاعة أمره فيما أمر و أخرج الجند من وراء العامة و رفع المصادرات ثم بلغه خبر وقعة قطلمش مع البساسيري و انحراف قريش صاحب الموصل إلى العلوية فتجهز و سار عن بغداد ثلاثة عشر شهرا من نزوله عليها و نهبت عساكره أوانا و عكبرا و حاصر تكريت حتى رجع صاحبها نصر بن عيسى إلى الدعوة العباسية و قتله السلطان و رجع عنه إلى البواريج فتوفي نصر و خافت أمه غريبة بنت غريب بن حكن أن يملك البلد أخوه أبو الغشام فاستخلفت أبا الغنائم بن المجلبان و لحقت بالموصل و نزلت على دبيس بن مزيد و أرسل أبو الغنائم رئيس الرؤساء فأصلح حاله و رجع إلى بغداد و سلم له تكريت و أقام السلطان بالبواريخ إلى سنة تسع و أربعين و جاء أخوه ياقوتي في العساكر فسار إلى الموصل و أقطع مدينة بلد هزارشب بن شكر الكردي و أراد العسكر نهبها فمنعهم السلطان ثم أذن لهم في اللحاق إلى الموصل و توجه إلى نصيبين و بعث هزارشب إلى البرية في ألف فارس ليصيب من العرب فسار حتى قارب رحالهم و أكمن الكمائن و قاتلهم ساعة ثم استطرهم و اتبعوه فخرجت عليهم الكمائن فانهزموا و أثخن فيهم الغز بالقتل و الأسر و كان فيهم جماعة من بني نمير أصحاب حران و الرقة و حمل الأسرى إلى السلطان فقتلهم أجمعين ثم بعث دبيس و قريش إلى هزارشب يستعطف لهم السلطان فقبل السلطان ذلك منهما و ورد أمر البساسيري إلى الخليفة و معه الأتراك البغداديون و قتل ابن المقلد وجماعة من عقيل إلى الرحبة و أرسل السلطان إليهما أبا الفتح بن ورام يستخبرهما فجاء بطاعتهما و بمسير هزارشب إليهما فأذن له السلطان في المسير و جاء إليهما و استحلفهما و حثهما على الحضور فخافا و أرسل قريش أبا السيد هبة الله بن جعفر و دبيس ابنه منصورا فأكرمهما السلطان و كتب لهما بأعمالهما و كان لقريش نهر الملك و باذروبا و الأنبار و هيت و دجيل و نهر بيطر و عكبرا و أوانا و تكريت و الموصل و نصيبين ثم سار السلطان إلى ديار بكر فحاصر جزيرة ابن عمر و بعث إليه يستعطفه و يبذل له المال و جاء إبراهيم ينال أخو السلطان و هو محاصر و لقيه الأمراء و الناس و بعث هزارشب إلى دبيس و قريش يحذرهما فانحدر دبيس إلى بلده بالعراق و أقام قريش عند البساسيري بالرحبة و معه ابنه مسلم و شكا قطلمش ما أصاب أهل سنجار منه عند هزيمته أمام قريش و دبيس فبعث العساكر إليها و حاصرها ففتحها عنوة و استباحها و قتل أميرها علي ابن مرجى و شفع إبراهيم في البارقين فتركها و سلمها الله و سلم معها الموصل و أعمالها و رجع إلى بغداد في سنة تسع و أربعين فخرج رئيس الرؤساء للقائه عن القائم و بلغه سلامه و هديته وهي جام من ذهب فيه جواهر و ألبسه لباس الخليفة و عمامته فقبل السلطان ذلك بالشكر و الخضوع و الدعاء و طلب لقاء الخليفة فأسعف و جلس له جلوسا فخما و جاء السلطان في البحر فقرب له لما نزل من السهيرية من مراكب الخليفة و القائم على سرير علوه سبعة أذرع متوشحا البردة و بيده القضيب و قبالته كرسي لجلوس السلطان فقبل الأرض و جلس على الكرسي و قال له رئيس الرؤساء عن القائم : أمير المؤمنين شاكر لسعيك حامد لفعلك مستأنس بقربك و ولاك ما ولاه الله من بلاده و رد إليه مراعاة عباده فاتق الله فيما ولاك و اعرف نعمته عليك و اجتهد في نشر العدل و كف الظلم و إصلاح الرعية فقبل الأرض و أفيضت عليه الخلع و خوطب بملك الشرق و المغرب و قبل يد الخليفة و وضعها على عينيه و دفع إليه كتاب العهد و خرج فبعث إلى القائم خمسين ألف دينار و خمسين مملوكا من الأتراك منتقين بخيولهم و سلاحهم إلى ما في ما في معنى ذلك من الثياب و الطيب و غيرهما (3/570)
فتنة ينال مع أخيه طغرلبك و مقتله
كان إبراهيم ينال قد ملك بلاد الجبل و همذان و استولى على الجهات من نواحيها إلى حلوان أعوام سنة سبع و ثلاثين ثم استوحش من السلطان طغرلبك بما طلب منه أن يسلم إليه مدينة همذان و القلاع فأبى من ذلك ينال و جمع جموعا و تلاقيا فانهزم ينال و تحصن بقلعة سرماج فملكها عليه بعد الحصار و استنزله منها و ذلك سنة إحدى و أربعين و أحسن إليه طغرلبك و خيره بين المقام معه أو اقطاع الأعمال فاختار المقام ثم لما ملك طغرلبك بغداد و خطب له بها سنة سبع و أربعين أخرج إليه البساسيري مع قريش بن بدران صاحب الموصل و دبيس بن مزيد صاحب الحلة و سار طغرلبك إليهم من بغداد و لحقه أخوه إبراهيم ينال فلما ملك الموصل سلمها إليه و جعلها لنظره مع سنجار و الرحبة و سائر تلك الأعمال التي لقريش و رجع إلى بغداد سنة تسع و أربعين ثم بلغه سنة خمسين بعدها أنه سار إلى بلاد الجبل فاستراب به و بعث إليه يستقدمه بكتابه و كتاب القائم مع العهد الكندي فقدم معه و في خلال ذلك قصد البساسيري و قريش بن بدران الموصل فملكاها جفلوا عنها فاتبعهم إلى نصيبين و خالفه أخوه إبراهيم ينال إلى همذان في رمضان سنة خمسين يقال إن العلوي صاحب مصر و البساسيري كاتبوه و استمالوه و أطمعوه في السلطنة فسار السلطان في اتباعه من نصيبين و رد وزيره عميد الملك الكندي و زوجته خاتون إلى بغداد و وصل إلى همذان و لحق به من كان ببغداد من الأتراك فحاصر همذان في قلعة من العسكر و اجتمع لأخيه خلق كثير من الترك و حلف لهم أن لا يصالح طغرلبك و لا يدخل بهم العراق لكثرة نفقاته و جاءه محمد و أحمد ابنا أخيه أرباش بأمداد من الغز فقوي بهم و وهن طغرلبك فأفرج عنه إلى الري و كاتب إلى أرسلان ابن أخيه داود و قد كان ملك خراسان بعد أبيه سنة إحدى و خمسين كما يذكر في أخبارهم فزحف إليه في العساكر و معه أخوه ياقوت و قاروت بك و لقيهم إبراهيم فيمن معه فانهزم و جيء به و بابني أخيه محمد و أحمد أسرى إلى طغرلبك فقتلهم جميعا و رجع إلى بغداد لاسترجاع القائم (3/572)
دخول السباسيري بغداد و خلع القائم ثم عوده
قد ذكرنا أن طغرلبك سار إلى همذان لقتال أخيه و ترك وزيره عميد الملك الكندي ببغداد مع الخليفة و كان البساسيري و قريش بن بدران فارقا الموصل عند زحف السلطان طغرلبك إليهما فلما سار عن بغداد لقتال أخيه بهمذان خلفه البساسيري و قريش إلى بغداد فكثر الأرجاف بذلك و بعث عن دبيس بن مزيد حاجبه ببغداد و نزلوا بالجانب الشرقي و طلب من القائم الخروج معه إلى إحيائه و استدعى هزارشب من واسط للمدافعة و استمهل في ذلك فقال العرب : لا نشير فأشيروا بنظركم و جاء البساسيري ثامن ذي القعدة سنة خمسين في أربعمائة غلام على غاية من سوء الحال و معه أبو الحسن بن عبد الرحيم و جاء حسين بن بدران في مائة فارس و خيموا مفترقين عن البلد و اجتمع العسكر و القوم إلى عميد العراق و أقاموا ازاء البساسيري و خطب البساسيري ببغداد للمستنصر العلوي صاحب مصر بجامع المنصور ثم بالرصافة و أمر بالأذان بحي على خير العمل و خيم بالزاهر و كان هوى البساسيري لمذاهب الشيعة و ترك أهل السنة للإنحراف عن الأتراك فرأى الكندي المطاولة لانتظار السلطان و رأى رئيس الرؤساء المناجزة و كان غير بصير بالحرب فخرج لقتالهم في غفلة من الكندي فانهزم و قتل من أصحابه خلق و نهب باب الأزج و هو باب الخلافة
و هرب أهل الحريم الخلافي فاستدعى القائم العميد الكندي للمدافعة عن دار الخلافة فلم يرعهم إلا اقتحام العدو عليهم من الباب النوبي فركب الخليفة و لبس السواد والنهب قد وصل باب الغردوس و العميد الكندي قد استأمن إلى قريش فرجع و نادى بقريش من السور فاستأمن إليه على لسان رئيس الرؤساء و استأمن هو أيضا معه و خرجا إليه و سارا معه و نكر البساسيري على قريش نقضه لما تعاهدا عليه فقال : إنما تعاهدنا على الشركة فيما يستولي عليه و هذا رئيس الرؤساء لك و الخليفة لي
و لما حضر رئيس الرؤساء عند البساسيري وبخه و سأله العفو فأبى منه و حمل قريش القائم إلى معسكره على هيئته و وضع خاتون بنت أخي السلطان طغرلبك في بلد بعض الثقات من خواصه و أمره بخدمتها و بعث القائم ابن عمه مهارش فسار به إلى بلده حديثة خان و انزله بها و أقام البساسيري ببغداد و صلى عيد النحر بالألوية المصرية و أحسن إلى الناس و أجرى أرزاق الفقهاء و لم يتعصب المذهب و أنزل أم القائم بدارها و سهل جرايتها و ولى محمود بن الأقزم على الكوفة و سعى الفرات و أخرج رئيس الرؤساء من محبسه آخر ذي الحجة فصلبه عند التجيبي لخمسين سنة من تردده في الوزارة و كان ابن ماكولا قد قبل شهادته سنة أربع عشرة و بعث البساسيري إلى المستنصر العلوي بالفتح و الخطبة له بالعراق و كان هنالك أبو الغرج ابن أخي أبي القائم المغربي فاستهان بفعله و خوفه عاقبته و أبطأت أجوبته مدة ثم جاءت بغير ما أمل و سار البساسيري من بغداد إلى واسط و البصرة فملكها و أراد قصر الأهواز فبعث صاحبها هزارشب بن شكر فأصلح أمره على مال يحمله و رجع البساسيري إلى واسط في شعبان سنة إحدى و خمسين و فارقه صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي إلى هزارشب و قد كان ولى بغداد أباه على ما يذكر ثم جاء الخبر إلى البساسيري بظفر طغرلبك بأخيه و بعث إليه والي قريش في إعادة الخليفة إلى داره و يقيم طغرلبك و تكون الخطبة و السكة له فأبى البساسيري من ذلك فسار طغرلبك إلى العراق و انتهى إلى قصر شيرين و أجفل الناس بين يديه و رحل أهل الكرخ بأهليهم و أولادهم برا و بحرا و كثر عيث بني شيبان في الناس و ارتحل البساسيري بأهله و ولده ساوس ذي القعدة سنة إحدى و خمسين لحول كامل
من دخوله و كثر الهرج في المدينة و النهب و الإحراق و رحل طغرلبك إلى بغداد بعد أن أرسل من طريقه الأستاذ أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابن فورك إلى قريش بن بدران بالشكر على فعله في القائم و في خاتون بنت أخيه زوجة القائم و أن أبا بكر بن فورك جاء بإحضارهما و القيام بخدمتهما و قد كان قريش بعث إلى مهارش بأن يدخل معهم إلى البرية بالخليفة ليصد ذلك طغرلبك عن العراق و يتحكم عليه بما يريد فأبى مهارش لنقض البساسيري عهوده و اعتذر بأنه قد عاهد الخليفة القائم بما لا يمكن نقضه و رحل بالخليفة إلى العراق و جعل طريقه على بدران بن مهلهل و جاء أبو فورك إلى بدر فحمله معه إلى الخليفة و أبلغه رسالة طغرلبك و هداياه و بعث طغرلبك للقائه وزيره الكندي و الأمراء و الحجاب بالخيام و السرادقات و المقربات بالمراكب الذهبية فلقوه في بلد بدر ثم خرج السلطان فلقيه بالنهروان و اعتذر عن تأخره بوفاة أخيه داود بخرسان و عصيان إبراهيم بهمذان و أنه قتله على عصيان و أقام حتى رتب أولاد داود في مملكته و قال إنه يسير إلى الشام في اتباع البساسيري و طال صاحب مصر فقلده القائم سيفه إذ لم يجد سواه و أبدى وجهه للأمراء فحيوه و انصرفوا و تقدم طغرلبك إلى بغداد فجلس في الباب النوبي مكان الحاجب و جاء القائم فأخذ طغرلبك بلجام بغلته إلى باب داره و ذلك لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى و خمسين و سار السلطان إلى معسكره و أخذ في تدبير أموره (3/573)
مقتل البساسيري
ثم أرسل السلطان طغرلبك خمارتكين في ألفين إلى الكوفة و استقر معه سرايا بن منيع في بني خفاجة وسار السلطان طغرلبك في أثرهم فلم يشعر دبيس و قريش و البساسيري ـ و قد كانوا نهبوا الكوفة ـ إلا و العساكر قد طلعت عليهم من طريق الكوفة فأجفلوا نحو البطيحة و سار دبيس ليرد العرب إلى القتال فلم يرجعوا و مضى معهم و وقف البساسيري و قريش فقتل من أصحابهما جماعة و أسر أبو الفتح ابن ورام و منصور بن بدران و حماد بن دبيس و أصاب البساسيري سهم فسقط عن فرسه و أخذ رأسه لمتنكيرز و أتى العميد الكندري و حمله إلى السلطان و غنم العسكر جميع أموالهم و أهليهم و حمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة فعلق قبالة النوبي في منتصف ذي الحجة و لحق دبيس بالبطيحة و معه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم و كان هذا البساسيري من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة اسمه أرسلان و كنيته أبو الحرث و نسبه في الترك و هذه النسبة المعروفة له نسبة إلى مدينة بفارس حرفها الأول متوسط بين الفاء و الباء و النسبة إليه فسوي و منها أبو علي الفارسي صاحب الإيضاح و كان أولا ينسب إليها فلذلك قيل فيه هو بساسيري (3/575)
مسير السلطان إلى واسط و طاعة دبيس
ثم انحدر السلطان إلى واسط أول سنة اثنتين و خمسين و حضر عنده هزارشب بن شكر من الأهواز و أصلح حال دبيس بن مزيد و صدقة بن منصور بن الحسين أحضرهما عند السلطان و ضمن واسط أبو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار و ضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفر و أصعد السلطان إلى بغداد و اجتمع بالخليفة ثم سار إلى بلد الجبل في ربيع سنة إثنتين و خمسين و أنزل ببغداد الأمير برسو شحنة و ضمن أبو الفتح المظفر بن الحسين في ثلاث سنين بأربعمائة ألف دينار و رد إلى محمود الأخرم إمارة بني خفاجة و ولاه الكوفة و سقى الفرات و خواص السلطان بأربعة آلاف دينار في كل سنة (3/576)
وزارة القائم
و لما عاد القائم إلى بغداد ولى أبا تراب الأشيري على الأنهار و حضور المراكب و لقبه حاجب الحجاب و كان خدمه بالحديثة ثم سعى الشيخ أبو منصور في وزارة أبي الفتح بن أحمد بن دارست على أن يحمل مالا فأجيب و أحضر من الأهواز في منتصف ربيع من سنة ثلاث و خمسين فاستوزره و كان من قبل تاجرا لأبي كاليجار ثم ظهر عجزه في استيفاء الأموال فعزله و عاد إلى الأهواز و قدم أثر ذلك أبو نصر بن جهير وزير نصير الدولة بن مروان نازعا منه إلى الخليفة القائم فقبله و استوزره و لقبه فخر الدولة (3/576)
عقد طغرلبك على ابنه الخليفة
كان السلطان طغرلبك قد خطب من القائم ابنته على يد أبي سعد قاضي الري سنة ثلاث و خمسين فاستنكف من ذلك ثم بعث أبا محمد التميمي في الاستعفاء من ذلك و إلا فيشترط ثلثمائة ألف دينار و واسط و أعمالها فلما ذكر التميمي ذلك للوزير عميد الملك بني الأمر على الإجابة قال : و لا يحسن الاستعفاء و لا يليق بالخليفة طلب المال و أخبر السلطان بذلك فسر به و أشاعه في الناس و لقب وزيره عميد الملك و أتى أرسلان خاتون زوجة القائم و معه مائة ألف ألف دينار و ما يناسبها من الجواهر و الجوار و بعث معهم قرامرد بن كاكويه و غيره من أمراء الري فلما وصلوا إلى القائم استشاط و هم بالخروج من بغداد و قال له العميد : ما جمع لك في الأول بين الامتناع و الاقتراح و خرج مغضبا إلى النهروان فاستوقفه قاضي القضاة و الشيخ أبو منصور بن يوسف و كتب من الديوان إلى خمارتكين من أصحاب السلطان بالشكوى من عميد الملك و جاءه الجواب بالرفق و لم يزل عميد الملك يريض الخليفة و هو يتمنع إلى أن رحل في جمادى من سنة أربع و خمسين و رجع إلى السلطان و عرفه بالحال و نسب القضية إلى خمارتكين فتنكر له السلطان و هرب و اتبعه أولاد ينال فقتلوه بثأر أبيهم و جعل مكانه سارتكين و بعث للوزير بشأنه و كتب السلطان إلى قاضي القضاة و الشيخ أبي منصور بن يوسف بالعتب و طلب بنت أخي زوجة القائم فأجاب الخليفة حينئذ إلى الإصهار و فوض إلى الوزير عميد الكندري عقد النكاح على ابنته للسلطان و كتب بذلك إلى أبي الغنائم المجلبان فعقد عليها في شعبان من تلك السنة بظاهر تبريز و حمل السلطان للخليفة أموالا كثيرة و جواهر لولي العهد و للمخطوبة و أقطع ما كان بالعراق لزوجته خاتون المتوفاة للسيدة بنت الخليفة و توجه السلطان في المحرم سنة خمس و خمسين من أرمينية إلى بغداد و معه من الأمراء أبو علي بن أبي كاليجار و سرخاب بن بدر و هزار و أبو منصور بن قرامرد بن كاكويه و خرج الوزير ابن جهير فتلقاه و ترك عسكره بالجانب الغربي و نادى الناس بهم و جاء الوزير ابن العميد لطلب المخطوبة فأفرد له القائم دورا لسكناه و سكنى حاشيته و انتقلت المخطوبة إليها و جلست على سرير ملبس بالذهب و دخل السلطان فقبل الأرض و حمل لها مالا كثيرا من الجواهر و أولم أياما و خلع على جميع أمرائه و أصحابه و عقد ضمان بغداد على أبي سعد الفارسي بمائة و خمسين ألف دينار و أعاد ما كان أطلقه رئيس العراقين من المواريث و المكوس و قبض على الأعرابي سعد ضامن البصرة و عقد ضمان واسط على أبي جعفر بن فضلان بمائتي ألف (3/577)
وفاة السلطان طغرلبك و ملك ابن أخيه داود
ثم سار السلطان طغرلبك من بغداد في ربيع الآخر إلى بلد الجبل فلما وصل الري أصابه المرض و توفي ثامن رمضان من سنة خمس و خمسين و بلغ خبر وفاته إلى بغداد فاضطربت و استقدم القائم مسلم بن قريش صاحب الموصل و دبيس بن مزيد و هزارشب صاحب الأهواز و بني ورام و بدر بن مهلهل فقدموا و أقام أبو سعد الفارسي ضامن بغداد سورا على قصر عيسى و جمع الغلال و خرج مسلم بن قريش من بغداد فنهب النواحي و سار دبيس بن مزيد و بنو خفاجة و بنو ورام و الأكراد لقتاله ثم استتيب و رجع إلى الطاعة و توفي أبو الفتح بن ورام مقدم الأكراد و الجاوانية و حمل العامة السلاح لقتال الأعراب فكانت سببا لكثرة الذعار و لما مات طغرلبك بايع عميد الدولة الكندري بالسلطنة لسليمان بن داود و جعفر بك و كان ربيب السلطان طغرلبك خلف أخاه جعفر بك داود على أمه و عهد إليه بالملك فلما خطب له اختلف عليه الأمر و سار باغي سيان و أرذم إلى قزوين فخطب لأخيه ألب أرسلان و هو محمد بن داود و هو يومئذ صاحب خراسان و وزيره نظام الملك سار إلى المذكور و سأل الناس إليه و شعر الكندري باختلال أمره فخطب بالري للسلطان ألب أرسلان و بعده لأخيه سليمان و زحف ألب أرسلان في العساكر من خراسان إلى الري فلقيه الناس جميعا و دخلوا في طاعته و جاء عميد الملك الكندري إلى وزيره نظام الملك فخدمه و هاداه فلم يغن عنه و خشي السلطان غائلته فقبض عليه سنة ست و خمسين و حبسه بمرو الروذ ثم بعث بعد سنة من محبسه بقتله في ذي الحجة من سنة سبع و خمسين و كان من أهل نيسابور كاتبا بليغا فلما ملك طغرلبك نيسابور و طلب كاتبا فدله عليه الموفق والد أبي سهل فاستكتبه و استخلصه و كان خصيا يقال إن طغرلبك خصاه لأنه تزوج بامرأة خطبها له و غطى عليه فظفر به فحاصره و أقره على خدمته و قيل أشاع عند أعدائه أنه تزوجها و لم يكن ذلك فخصى نفسه ليأمن من غائلته و كان شديد التعصب على الشافعية و الأشعرية و استأذن السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان ثم أضاف إليهم الأشعرية فاستعظم ذلك أئمة السنة و فارق خراسان أبو القاسم القشيري ثم ابو المعالي إلى مكة فأقام أربعة سنين يتردد بين الحرمين يدرس و يفتي حتى لقب إمام الحرمين فلما جاء دولة ألب أرسلان أحضرهم نظام الملك وزيره فأحسن إليهم و أعاد السطان ألب أرسلان السيدة بنت الخليفة التي كانت زوجة طغرلبك إلى بغداد و بعث في خدمتها الأمير أيتكين السليماني و ولاه شحنة ببغداد و بعث معها أيضا أبا سهل محمد بن هبة الله المعروف بابن الموفق لطلب الخطبة ببغداد فمات في طريقه و كان من رؤساء الشافعية بنيسابور و بعث السلطان مكانه العميد أبا الفتح المظفر بن الحسين فمات أيضا في طريقه فبعث وزيره نظام الملك و خرج عميد الملك ابن الوزير فخر الدولة بن جهير لتلقيهم و جلس لهم القائم جلوسا فخما في جمادى الأولى من سنة ست و خمسين و ساق الرسل بتقليد ألب أرسلان السلطنة و سلمت إليهم الخلع بمشهد من الناس و لقب ضياء الدولة و أمر بالخطبة له على منابر بغداد و أن يخاطب بالولد المؤيد حسب اقتراحه فأرسل إلى الديوان لأخذ البيعة النقيب طراد الزينبي فأرسل إليه بنقجوان من أذربيجان و بايع و انتقض على السلطان ألب أرسلان من السلجوقية صاحب هراة و صغانيان فسار إليهم و ظفر بهم كما نذكر في أخبارهم و دولتهم عند إفرادها بالذكر انتهى (3/578)
فتنة قطلمش و الجهاد بعدها
كان قطلمش هذا من كبار السلجوقية و أقربهم نسبا إلى السلطان طغرلبك و من أهل بيته و كان قد استولى على قومة واقصراي و ملطية و هو الذي بعثه السلطان طغرلبك أول ما ملك بغداد سنة تسع و أربعين لقتال البساسيري و قريش بن بدران صاحب الموصل و لقيهم على سنجار الري فجهز ألب أرسلان العساكر من نيسابور في المحرم من سنة سبع و خمسين و ساروا على المفارقة فسبقوا قطلمش إلى الري و جاء كتاب السلطان إليه و لقيه فلم يثبت و مضى منهزما و استباح السلطان عسكره قتلا و أسرا و أجلت الواقعة عنه قتيلا فحزن له السلطان و دفنه ثم سار إلى بلاد الروم معتزما على الجهاد و مر بأذربيجان و لقيه طغرتكين من أمراء التركمان في عشيرة و كان ممارسا للجهاد فحثه على قصده و سلك دليلا بين يديه فوصل إلى نجران على نهر أرس و أمر بعمل السفن لعبوره و بعث عساكر لقتال خوي و سلماس من حصون أذربيجان وسار هو في العساكر فدخل بلاد الكرخ و فتح قلاعها واحدة بعد واحدة كما نذكر في أخبارهم و دوخ بلادهم و أحرق مدنهم و حصونهم و سار إلى مدينة آي من بلاد الديلم فافتتحها و أثخن فيها و بعث بالبشائر إلى بغداد و صالحه ملك الكرخ على الجزية و رجع إلى أصبهان ثم سار منها إلى كرمان فأطاعه أخوه قاروت بن داود جعفر بك ثم سار إلى مرو و أصهر إليه خاقان ملك ما وراء النهر بابنته لابنه ملكشاه و صاحب غزنة بابنته لابنه الآخر انتهى (3/579)
العهد بالسلطنة لملكشاه بن ألب أرسلان
و في سنة ثمان و خمسين عهد ألب أرسلان بالسلطنة لابنه ملكشاه و استخلف له الأمراء و خلع عليهم و أمر بالخطبة له في سائر أعماله و أقطع بلخ لأخيه سليمان و خوارزم لأخيه ازعزا و مرو لابنه أرسلان شاه و صغانيان و طخارستان لأخيه إلياس و مازنداران للأمير ابتايخ و بيغوا و جعل ولاية نقشوان و نواحيها لمسعود بن ازناس و كان وزيره نظام الملك قد ابتدأ سنة سبع و خمسين بناء المدرسة النظامية ببغداد و تمت عمارتها في ذي القعدة سنة تسع و خمسين و عين للتدريس بها الشيخ إسحق الشيرازي و اجتمع الناس لحضور درسه و تخلف لأنه سمع أن في مكانها غصبا و بقي الناس في انتظاره حتى يئسوا منه فقال الشيخ أبو منصور : لا ينفصل هذا الجمع إلا عن تدريس و كان أبو منصور الصباغ حاضرا فدرس و أقام مدرسا عشرين يوما حتى سمع أبو إسحق الشيرازي بالتدريس فاستقر بها (3/580)
وزراء الخليفة
كان فخر الدولة بن جهير وزير القائم كما ذكرناه ثم عزله سنة ستين و أربعمائة فلحق بنور الدولة دبيس بن مزيد بالقلوجة و بعث القائم عن أبي يعلى والد الوزير أبي شجاع و كان يكتب لهزارشب بن عوض صاحب الأهواز فاستقدمه ليوليه الوزارة فقدم و مات في طريقه و نفع دبيس بن مزيد في فخر الدولة بن جهير فأعيد إلى وزارته سنة إحدى و ستين في صفر (3/581)
الخطبة بمكة
و في سنة إثنتين و ستين خطب محمد بن أبي هاشم بمكة للقائم و للسلطان ألب أرسلان و أسقط خطبة العلوي صاحب مصر و ترك حي على خير العمل من الأذان و بعث ابنه وافدا على السلطان بذلك فأعطاه ثلاثين ألف دينار و خلعا نفيسة و رتب كل سنة عشرة آلاف دينار (3/581)
طاعة دبيس و مسلم بن قريش
كان مسلم بن قريش منتقضا على السلطان و كان هزارشب بن شكر بن عوض قد أغرى السلطان بدبيس بن مزيد ليأخذ بلاده فانتقض ثم هلك هزارشب سنة إثنتين و ستين بأصبهان منصرفا من وفادته على السلطان بخراسان فوفد دبيس على السلطان و معه مشرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل و خرج نظام الملك لتلقيهما و أكرمهما السلطان و رجعا إلى الطاعة (3/581)
الخطبة العباسية بحلب و استيلاء السلطان عليها
كان محمود بن صالح بن مراد قد استولى هو و قومه على مدينة حلب و كانت للعلوي صاحب مصر فلما رأى إقبال دولة ألب أرسلان و قوتها خافه على بلده فحملهم على الدخول في دعوة القائم و خطب له على منابر حلب سنة ثلاث و ستين و كتب بذلك إلى القائم فبعث إليه نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي بالخلع ثم سار السلطان ألب أرسلان إلى حلب و مر بديار بكر فخرج إليه صاحبها ابن مروان و خدمه بمائة ألف دينار و مر بآمد فامتنعت عليه و بالرها كذلك ثم نزل على حلب و بعث إليه صاحبها محمود مع نقيب النقباء طراد بالاستعفاء من الحضور فألح في ذلك و حاصره فلما اشتد عليه الحصار خرج ليلا إلى السلطان و معه أمه منيعة بنت رتاب النميري ملقيا بنفسه فأكرمه السلطان و خلع عليه و أعاده إلى بلده فقام بطاعته (3/581)
واقعة السلطان مع ملك الروم و أسره
كان ملك الروم في القسطنطينية و هو أرمانوس قد خرج سنة إثنتين و ستين إلى بلاد الشام في عساكر كثيفة و نزل على منبج و نهبها و قتل أهلها و زحف إليه محمود بن صالح بن مرداس و ابن حسان الطائي في بني كلاب وطيء و من إليهم من جموع العرب فهزمهم و طال عليه المقام على منبج و عزت الأقوات فرجع إلى بلاده و احتشد و سار في مائتي ألف من الزنج و الروم و الروس و الكرخ وخرج في احتفال إلى أعمال خلاط و وصل إلى ملازجرد و كان السلطان ألب أرسلان بمدينة خوي من أذريبجان عند عوده من حلب فتشوق إلى الجهاد و لم يتمكن من الاحتشاد فبعث أثقاله و زوجته مع نظام الملك إلى همذان و سار فيمن حضره من العساكر و كانوا خمسة عشر ألفا و وطن نفسه على الاستماتة فلقيت مقدمته عند خلاط جموع الروسية في عشرة آلاف فانهزموا و جيء بملكهم إلى السلطان فحبسه و بعث بالأسلاب إلى نظام الملك ليرسلها إلى بغداد ثم تقارب العسكران و جنح السلطان للمهادنة فأبى ملك الروم فاعتزم السلطان و زحف و أكثر من الدعاء و البكاء و عفر وجهه بالتراب ثم حمل عليهم فهزمهم و امتلأت الأرض بأشلائهم و أسر الملك أرمانوس جاء به بعض الغلمان أسيرا فضربه السلطان على رأسه ثلاثا و وبخه ثم فاداه بألف ألف دينار و خمسمائة ألف دينار و على أن يطلق كل أسير عنده و أن تكون عساكر الروم مددا للسلطان متى يطلبها و تم الصلح على ذلك لمدة خمسين سنة و أعطاه السلطان عشرة آلاف دينار و خلع عليه و أطلقه و وثب ميخائيل على الروم فملك عليهم مكان أرمانوس فجمع ما عنده من الأموال فكان مائتي ألف دينار و جيء بطبق مملوء بجواهر قيمته تسعون ألف ثم استولى أرمانوس بعد ذلك على أعمال الأرمن و بلادهم (3/582)
شحنة بغداد
قد ذكرنا أن السلطان ألب أرسلان ولى لأول ملكه إيتكين السليماني شحنة ببغداد سنة ست و خمسين فأقام فيها مدة ثم سار إلى السلطان في بعض مهماته و استحلف ابنه مكانه فأساء السيرة و قتل بعض المماليك الدارية فأنفذ قميصه من الديوان إلى السلطان و خوطب بعزله و كان نظام الملك يعنى به فكتب فيه بالشفاعة و ورد سنة أربع و ستين فقصد دار الخلافة و سأل العفو فلم يجب و بعث إلى تكريت ليسوغها بإقطاع السلطان فبرز المرسوم من ديوان الخلافة بمنع ذلك و لما رأى السلطان و نظام الملك إصرار القائم على عزله بعث السلطان مكانه سعد الدولة كوهرابين اتباعا لمرضاة الخليفة و لما ورد بغداد خرج الناس للقائه و جلس له القائم و استقر شحنة (3/583)
مقتل السلطان ألب أرسلان و ملك ابنه ملكشاه
سار السلطان ألب أرسلان محمد إلى ما وراء النهر و صاحبه شمس الملك تكين و ذلك سنة خمس و ستين و عبر على جسر عقده على جيحون في نيف و عشرين يوما و عسكره تزيد على مائتي ألف و جيء له بمستحفظ القلاع و يعرف بيوسف الخوارزمي فأمر بعقابه على ارتكابه فأفحش في سب السلطان فغضب و أمر بإطلاقه و رماه بسهم فأخطأه فسير إليه يوسف و قام السلطان عن سريره فعثر و وقع فضربه بسكينة و ضرب سعد الدولة و دخل السلطان خيمته جريحا و قتل الأتراك يوسف هذا و مات السلطان من جراحته عاشر ربيع سنة خمس و ستين لتسع سنين و نصف من ملكه و دفن بمرو عند أبيه و كان كريما عادلا كثير الشكر لنعمة الله و الصدقة و اتسع ملكه حتى قيل فيه سلطان العالم و لما مات و قد أوصى بالملك لابنه ملكشاه فجلس للملك و أخذ له البيعة وزيره نظام الملك و أرسل إلى بغداد فخطب له على منابرها و كان ألب أرسلان أوصى أن يعطي أخوه قاروت بك أعمال فارس و كرمان و شيئا عينه من المال و كان بكرمان و أن يعطي ابنه أياس بن ألب أرسلان ما كان لأبيه داود و هو خمسمائة ألف دينار و عهد بقتال من لم يقض بوصيته و عاد ملكشاه من بلاد ما وراء النهر فعبر الجسر في ثلاثة أيام و زاد الجند في أرزاقهم سبعمائة ألف دينار و نزل نيسابور و أرسل إلى ملوك الأطراف بالطاعة و الخطبة فأجابوا و أنزل أخاه أياس بن ألب أرسلان ببلخ و سار إلى الري ثم فوض إلى نظام الملك و أقطعه مدينة طوس التي هي منشؤه و غيرها و لقبه ألقابا منها أتابك و معناها الأمير الوالد فحمل الدولة بصرامة و كفاية و حسن سيرة و بعث كوهرابين الشحنة إلى بغداد سنة ست و ستين لاقتضاء العهد فجلس له القائم و على رأسه حافده و ولي عهده المقتدي بأمر الله و سلم إلى سعد الدولة كوهرابين عهد السلطان ملكشاه بعد أن قرأ الوزير أوله في المحفل و عقد له اللواء بيده و دفعه إليه (3/583)
وفاة القائم و نصب المقتدي للخلافة
ثم توفي القائم بأمر الله أبو جعفر بن القادر افتصد منتصف شعبان من سنة سبع و ستين و نام فانفجر فصاده و سقطت قوته و لما أيقن بالموت أحضر حافده أبا القاسم عبد الله ابن ابنه ذخيرة الدين محمد و أحضر الوزير ابن جهير و النقباء و القضاة و غيرهم و عهد له بالخلافة ثم مات لخمس و أربعين سنة من خلافته و صلى عليه المقتدي و بويع بعهد جده و حضر بيعته مؤيد الملك بن نظام الملك و الوزير فخر الدولة بن جهير و ابنه عميد الدولة و أبو إسحق الشيرازي و أبو نصر بن الصباغ و نقيب النقباء طراد و النقيب الطاهر المعمر بن محمد و قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني و غيرهم من الأعيان و الأماثل و لما فرغوا من البيعة صلى بهم العصر و لم يكن للقائم عقب ذكر غيره لأن ابنه ذخيرة الدين أبا العباس محمدا توفي في حياته و لم يكن له غيره فاعتمد القائم لذلك ثم جاءت جاريته أرجوان بعد موته لستة أشهر بولد ذكر فعظم سرور القائم به و لما كانت حادثة البساسيري حمله أبو الغنائم بن المجلبان إلى حران و هو ابن أربع سنين و أعاده عند عود القائم إلى داره فلما بلغ الحلم عهد له القائم بالخلافة و لما تمت بيعته لقب المقتدي و أقر فخر الدولة بن جهير على وزارته بوصية جده القائم بذلك و بعث ابن عميد الدولة إلى السلطان ملكشاه لأخذ البيعة في رمضان من سنة سبع و ستين و بعث معه من الهدايا ما يجل عن الوصف و قدم سعد الدولة كوهرابين سنة ثمان و ستين إلى بغداد شحنة و معه العميد أبو نصر ناظرا في أعمال بغداد و قدم مؤيد الملك بن نظام الملك سنة سبعين للإقامة ببغداد و نزل بالدار التي بجوار مدرستهم (3/584)
عزل الوزير ابن جهير و وزارة أبي شجاع
كان أبو نصر بن الأستاذ أبي القاسم القشيري قد حج سنة تسع و ستين فورد بغداد منصرفا من الحج و وعظ الناس بالنظامية و في رباط شيخ الشيوخ و نصر مذهب الأشعري فأنكر عليه الحنابلة و كثر التعصب من الجانبين و حدثت الفتنة و النهب عند المدرسة النظامية فأرسل مؤيد الملك إلى العميد و الشحنة فحضروا في الجند و عظمت الفتنة و نسب ذلك إلى الوزير فخر الدولة بن جهير و عظم ذلك على عضد الدولة فأعاد كوهرابين إلى الشحنة ببغداد و أوصاه المقتدي بعزل فخر الدولة من الوزارة و أمر كوهرابين بالقبض على أصحابه و نمي الخبر إلى بني جهير فبادر عميد الدولة ابن الوزير إلى نظام الملك يستعطفه و لما بلغ كوهرابين رسالة الملك إلى المفتدي أمر فخر الدولة بلزوم منزله ثم جاء ابنه عميد الدولة و قد استصلح نظام الملك في الشفاعة لهم فأعيد عميد الملك إلى الوزارة دون أبيه فخر الدولة و ذلك صفر سنة إثنتين و سبعين (3/585)
استيلاء تتش بن ألب أرسلان على دمشق و ابتداء دولته و دولة نفيه فيها
كان أتسز بهمزة و سين و زاي بن أبق الخوارزمي من أمراء السلطان ملك شاه و قد سار سنة ثلاث و ستين إلى فلسطين من الشام ففتح مدينة الرملة ثم حاصر بيت المقدس و فتحها من يد العلويين أصحاب مصر و ملك ما يجاورها ما عدا عسقلان ثم حاصر دمشق حتى جهدها الحصار فرجع و بقي يردد الغزوات إليها كل سنة ثم حاصرها سنة سبع و ستين و بها المعلى بن حمدرة من قبل المنتصر العبيدي فأقام عليها شهرا ثم أقلع ديار أهل دمشق بالمعلى لسوء سيرته فهرب إلى بانياس ثم إلى صور ثم أخذ إلى مصر و جلس بها و مات محبوسا و اجتمع المصامدة بعد هربه من دمشق و ولوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودي و لقبوه زين الدولة ثم اختلفوا عليه و وقعت الفتنة و غلت الأسعار و رجع أتسز إلى حصارها فنزل له عنها انتصار على الأمان و عوضه عنها بقلعة بانياس و مدينة يافا من الساحل و خطب فيها أتسز للمقتدي العباسي في ذي القعدة سنة ثمان و ستين و تغلب على أكثر الشام و منع من الأذان بحي على خير العمل ثم سار سنة تسع و ستين إلى مصر و حاصرها حتى أشرف على أخذها ثم انهزم من غير قتال و رجع إلى دمشق و قد انتقض عليه أكثر بلاد الشام فشكر لأهل دمشق صونهم لمخلفه و أمواله و رفع عنهم خراج سنة و بلغه أن أهل القدس و ثبوا بأصحابه و مخلفه و حصروهم في محراب داود عليه السلام فسار إليهم و قاتلهم فملكهم عنوة و قتلهم في كل مكان إلا من كان عند الصخرة ثم إن السلطان ملك شاه أقطع أخاه تاج الدولة تتش سنة سبعين و أربعمائة بلاد الشام و ما يفتحه من نواحيها فسار إلى حلب سنة إحدى و سبعين و حاصرها و ضيق عليها و كانت معه جموع كثيرة من التركمان و كان صاحب مصر قد بعث عساكره مع قائده نصير الدولة لحصار دمشق فأحاطوا بها و بعث أتسز إلى تتش و هو على حلب يستمده فسار إليه و أجفلت العساكر المصرية عن دمشق و جاء إليها تتش فخرج أتسز للقائه بظاهر البلد فتجنى عليه حيث لم يستعد للقائه و قبض عليه و قتله لوقته و ملك البلد و أحسن السيرة فيها و ذلك سنة إحدى و سبعين فيما قال الهمذاني و قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر إن ذلك كان سنة اثنتين و سبعين و قال ابن الأثير و الشاميون في هذا الاسم افسلس و الصحيح أنه أتسز و هو اسم تركي (3/585)
سفارة الشيخ أبي إسحق الشيرازي عن الخليفة
كان عميد العراق أبو الفتح بن أبي الليث قد أساء السيرة و أساء إلى الرعية و عسفهم و اطرح جانب الخليفة المقتدي و حواشيه فاستدعى المقتدي الشيخ أبا إسحق الشيرازي و بعثه إلى السلطان ملك شاه و الوزير نظام الملك بالشكوى من ابن العميد فسار لذلك و معه جماعة من أعيان الشافعية منهم أبو بكر الشاشي و غيره و ذلك سنة خمس و خمسين و تنافس أهل البلاد في لقائه و التمسح بأطرافه و التماس البركة في ملبوسه و مركوبه و كان أهل البلاد إذا مر بهم يتسايلون إليه و يزدحمون على ركابه و ينشدون على موكبه كل أحد ما يناسب ذلك و صدر الأمر بإهانة ابن العميد و رفع يده عما يتعلق بحواشي المقتدي و جرى بينه و بين إمام الحرمين مناظرة بحضرة نظام الملك ذكرها الناس في كتبهم انتهى (3/587)
عزل ابن جهير عن الوزارة و إمارته على ديار بكر
ثم إن عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير عزله الخليفة المقتدي عن الوزارة و وصل يوم عزل رسول من قبل السلطان و نظام الملك يطلب بني جهير فأذن لهم و ساروا بأهلهم إلى السلطان فلقاهم كرامة و برا و عقد لفخر الدولة على ديار بكر و كان بني مروان و بعث معه العساكر سنة و أعطاه الآلة و أذن له أن يخطب فيها لنفسه و يكتب اسمه في السكة فسار لذلك سنة ست و سبعين ثم بعث إليه السلطان سنة سبع و سبعين بمدد العساكر مع الأمير أرتق بن اكسب جل أصحاب ماردين لهذا العهد و كان ابن مروان قد استمد فخر الدولة بن جهير بنواحيها و كان معه جماعة من التركمان فتقدموا إلى قتل مشرف الدولة و انهزم أمامهم و غنم التركمان من كان معه من أحياء العرب و دخل آمد فحصره بها فخر الدولة و أرتق فراسل أرتق و بذل له مالا على الخروج من ناحيته فأذن له و خرج و رجع ابن جهير إلى ميافارقين و معه بهاء الدولة منصور بن مزيد صاحب الحلة و النيل و الجامعين و ابنه سيف الدولة صدقة ففارقوه إلى العراق و سار هو إلى خلاط و كان السلطان لما بلغه انهزام مشرف الدولة و حصاره بآمد بعث عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير في عسكره إلى الموصل و معه قسيم الدولة أقسنقر جد نور الدين العادل و كاتب أمراء التركمان بطاعته و ساروا إلى الموصل فملكوها و سار السلطان بنفسه إليها و قارن ذلك خلوص مشرف الدولة من حصار آمد فراسل مؤيد الدولة بن نظام الملك و هو على الرحبة و أهدى له فسعى له عند السلطان و أحضره و أهدى للسلطان سوابق خيله و صالحه و أقره على بلاده و عاد إلى خراسان و لم يزل فخر الدولة بن جهير في طلب ديار بكر حتى ملكها فأنفذ إليه زعيم الرؤساء القاسم سنة ثمان و سبعين و حاصرها و ضيق عليها حتى غدر بها بعض أهل العسكر من خارج و ملكها و عمد أهل البلد إلى بيوت النصارى بينهم فنهبوها بما كانوا عمال بني مروان و كان لهم جور على الناس و كان فخر الدولة مقيما على ميافارقين محاصرا لها و جاءه سعد الدولة كوهرابين في العسكر مددا من عند السلطان فخرج في حصارهما و سقط بعض الأيام جانب من سورها فدهش أهل البلد و تنادوا بشعار السلطان ملك شاه و اقتحم فخر الدولة البلد و استولى على ما كان لبني مروان و بعث بأموالهم إلى السلطان مع ابنه زعيم الرؤساء فلحقه بأصبهان سنة ثمان و سبعين ثم بعث فخر الدولة أيضا عسكرا إلى جزيرة ابن عمر و حاصروها حتى جهدهم الحصار فوثب طائفة من أهل البلد بعاملها و فتحوا الباب و دخل مقدم العسكر فملك البلد و دخل سنة ثمان و سبعين و انقرضت دولة بني مروان من ديار بكر و استولى عليها فخر الدولة بن جهير ثم أخذها السلطان من يده و سار إلى الموصل فتوفي بها و كان مولده بها و استخدم لبرلة بن مقلة و سفر عنه إلى ملك الروم ثم سار إلى حلب و وزر لمعز الدولة أبي هال بن صالح ثم مضى إلى ملطية ثم إلى مروان بديار بكر فوزر له و لولده ثم سار إلى بغداد و وزر للخليفة كما مر في آخر ما ذكرنا و توفي سنة ثلاث و ثمانين انتهى (3/587)
خبر الوزارة
لما عزل الخليفة المقتدي عميد الدولة عن الوزارة سنة ست و سبعين رتب في الديوان أبا الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء ثم استوزر أبا شجاع محمد بن الحسين فلم يزل في الوزارة إلى سنة أربع و ثمانين فتعرض لأبي سعد بن سمحاء اليهودي كان وكيلا للسلطان و نظام الملك و سار كوهرابين الشحنة إلى السلطان بأصبهان فمضى اليهودي في ركابه و سمع المقتدي بذلك فخرج توقيعه بإلزام أهل الذمة بالغيار فأسلم بعضهم و هرب بعضهم و كان ممن أسلم أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب و قرابته و لما وصل كوهرابين و أبو سعد إلى السلطان و عظمت سعايتهما في الوزير أبي شجاع فكتب السلطان و نظام الملك إلى المقتدي في عزله فعزله و أمره بلزوم بيته و ولى مكانه أبا سعد بن موصلايا الكاتب و بعث المقتدي إليهما في عميد الدولة بن جهير فبعثا به إليه و استوزره سنة أربع و ثمانين و ركب إليه نظام الدولة فهنأه بالوزارة في بيته و توفي الوزير أبو شجاع سنة ثمان و ثمانين (3/588)
استيلاء السلطان على حلب
قد ذكرنا من قبل استيلاء السلطان ألب أرسلان على حلب و خطبة صاحبها محمود ابن صالح بن مرداس على منابره باسمه سنة ثلاث و ستين ثم عاد بعد ذلك إلى طاعة العلوية بمصر ثم انتقضت دولة بني مرداس بها و عادت رياستها شورى في مشيختها و طاعتهم لمسلم بن قريش صاحب الموصل و كبيرهم ابن الحثيثي و استقر ملك سليمان بن قطلمش ببلاد الروم و ملك أنطاكية سنة سبع و سبعين و تنازع مع مشرف الدولة ابن قريش ملك حلب و تزاحفا فقتل سليمان بن قطلمش مسلم بن قريش سنة تسع و سبعين و كتب إلى أهل حلب يستدعيهم إلى طاعته فاستمهلوه إلى أن يكاتبوا السلطان ملك شاه فإن الكل كانوا في طاعته و كتبوا إلى تتش أخي السلطان و هو بدمشق أن يملكوه فسار إليهم و معه أرتق بن أكسب كان قد لحق به عندما جاء السلطان إلى الموصل و فتحها خشية مما فعله في خلاص مسلم بن قريش من حصار آمد فأقطعه تتش بيت المقدس فلما جاء تتش إلى حلب و حاصر القلعة و بها سالم بن مالك بن بدران ابن عم مشرف الدولة مسلم بن قريش و كان ابن الحثيثي و أهل حلب قد كاتبوا السلطان ملك شاه أن يسلموا إليه البلد فسار من أصبهان في جمادى سنة تسع و ستين و مر بالموصل ثم بحران فتسلمها و أقطعها محمد بن مسلم بن قريش ثم بالرها فملكها من يد الروم ثم بقلعة جعفر فحاصرها و ملكها من يد بعض بني قشير ثم بمنبج فملكها ثم عبر الفرات إلى حلب فأجفل أخوه تتش إلى البرية و معه أرتق ثم عاد إلى دمشق و كان سالم بن مالك ممتنعا بالقلعة فاستنزله منها و أقطعه قلعة جعبر فلم تزل بيده و يد بنيه حتى ملكها منهم نور الدين العادل و بعث إلى السلطان بالطاعة على شيراز و ولى السلطان على حلب قسيم الدولة صاحب شيراز نصر بن علي بن منقذ الكناني و سلم إليه اللاذقية و كفرطاب و فامية فأقر شيراز و ولى السلطان على حلب قسيم الدولة أقسنقر جد نور الدين العادل و رحل إلى العراق و طلب أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فحمله معه و أنزله بديار بكر فتوفي فيها بحلل أملاق و دخل السلطان بغداد في ذي الحجة من سنة تسع و سبعين و أهدى إلى المقتدي و خلع عليه الخليفة و قد جلس له في مجلس حفل و نظام الملك قائم يقدم أمراء السلطان واحدا بعد واحد آخر للسلام للخليفة و يعرف بأسمائهم و أنسابهم و مراتبهم ثم فوض الخليفة المقتدي إلى السلطان أمور الدولة و قبل يده و انصرف و دخل نظام الملك إلى مدرسته فجلس في خزانة الكتب و أسمع جزء حديث و أملى آخر و أقام السلطان ببغداد شهرا و رحل في صفر من سنة ثمانين إلى أصبهان و جاء إلى بغداد مرة أخرى في رمضان من سنة أربع و ثمانين و نزل بدار الملك و قدم عليه أخوه تاج الدولة تتش و قسيم الدولة أقسنقر من حلب و غيرهما من أمراء النواحي و عمل ليلة الميعاد من سنة خمس و ثمانين و لم ير أهل بغداد مثله و أخذ الأمراء في بناء الدور ببغداد لسكناهم عند قدومهم فلم تمهلهم الأيام لذلك (3/589)
فتنة بغداد
كانت مدينة بغداد قد احتفلت في كثرة العمران بما لم تنته إليه مدينة في العالم منذ مبدء الخليفة فيما علمناه و اضطربت آخر الدولة العباسية بالفتن و كثر فيها المفسدون و الدعار و العيارون من الرها و أعيا على الحكام أمرهم و ربما أركبوا العساكر لقتالهم و يثخنون فيهم فلم يحسم ذلك من عللهم شيئا و ربما حدثت الفتن من أهل المذاهب و من أهل السنة و الشيعة من الخلاف في الإمامة و مذاهبها و بين الحنابلة و الشافعية و غيرهم من تصريح الحنابلة بالتشبية في الذات و الصفات و نسبتهم ذلك إلى الإمام أحمد و حاشاه منه فيقع الجدال و النكير ثم يفضي إلى الفتنة بين العوام و تكرر ذلك منذ حجر الخلفاء و لم يقدر بنو بويه و لا السلجوقية على حسم ذلك منها لسكنى أولئك بفارس و هؤلاء بأصبهان و بعدهم عن بغداد و الشوكة التي تكون بها حسم العلل لاتفاقهم و إنما تكون ببغداد شحنة تحسم ما خف من العلل ما لم ينته إلى عموم الفتنة و لم يحصل من ملوكهم إهتمام لحسم ذلك لاشتغالهم بما هو أعظم منه في الدولة و النواحي و عامة بغداد أهون عليهم من أن يصرفوا همتهم عن العظائم إليهم فاستمرت هذه العلة ببغداد ولم يقلع عنها إلى أن اختلفت جدتها و تلاشى عمرانها و بقي طراز في ردائها لم تذهبه الأيام (3/590)
مقتل نظام الملك و أخباره
كان من أبناء الدهاقين بطوس أبو علي الحسين بن علي بن إسحق فشب و قرأ بها و سمع الحديث الكبير و تعلق بالأحكام السلطانية و ظهرت فيها كفايته و كان يعرف بحسن الطوسي و كان أميره الذي يستخدمه يصادره كل سنة فهرب منه إلى داود و حفري بك و طلبه مخدومه الأمير فمنعه و خدم أبا علي بن شادان متولي الأعمال ببلخ لحفري بك أخي السلطان طغرلبك و هو والد السلطان ألب أرسلان و لما مات أبو علي و قد عرف نظام الملك هذا بالكفاية و الأمانة أوصى به ألب أرسلان فأقام بأمور دولته و دولة ابنه ملك شاه من بعده و بلغ المبالغ كما مر و استولى على الدولة و ولى أولاده الأعمال و كان فيمن ولاه منهم ابن ابنه عثمان جمال و ولى على مرو و بعث السلطان إليها شحنة من أعظم أمرائه وقع بينه و بين عثمان نزاع فحملته الحداثة و الإدلال بجاهه على أن قبض على الأمير و عاقبه فانطلق إلى السلطان مستغيثا و امتعض لها السلطان و بعث إلى نظام الملك بالنكير مع خواصه و ثقاته فحملته الدالة على تحقيق تعديد حقوقه على السلطان و إطلاق القول في العتاب و التهديد بطوارق الزمن و أرادوا طي ذلك عن السلطان فوشى به بعضهم فلما كان رمضان من سنة خمس و ثمانين و السلطان على نهاوند عائدا من أصبهان إلى بغداد و قد انصرف الملك يومه ذلك من خيمة السلطان إلى خيمته فاعترضه صبي قيل إنه من الباطنة في صورة مستغيث فطعنه بسكينة فمات و هرب الصبي فأدرك و قتل و جاء السلطان إلى خيمة نظام الملك يومه و سكن أصحابه و عسكره و ذلك لثلاثين سنة من وزارته سوى ما وزر لأبيه ألب أرسلان أيام إمارته بخراسان (3/591)
وفاة السلطان ملك شاه و ملك ابنه محمود
لما قتل نظام الملك على نهاوند كما ذكرناه سار السلطان لوجهه و دخل بغداد آخر رمضان من سنته و لقيه الوزير عميد الدولة بن جهير و اعتزم السلطان أن يولي وزارته تاج الملك و هو الذي سعى بنظام الملك و كانت قد ظهرت كفايته فلما صلى السلطان العيد عاد إلى بيته و قد طرقه المرض و توفي منتصف شوال فكتمت زوجته تركمان خاتون موته و أنزلت أموالها و أموال أهل الدولة بحريم دار الخلافة و ارتحلت إلى أصبهان و سلوا السلطان معها في تابوته و قد بذلت الأموال للأمراء على طاعة ابنها محمود و البيعة له فبايعوه و قدمت من طريق قوام الدولة كربوقا الذي ملك الموصل من بعد ذلك فسار بخاتم السلطان لنائب القلعة و تسلمها و لما بايعت لولدها محمود و عمره يومئذ أربع سنين بعثت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة له فأجابها على شرط أن يكون أنز من أمراء أبيه هو القائم بتدبير الملك و أن يصدر عن رأى الوزير تاج الملك و يكون له ترتيب العمال و جباية الأموال فأبت أولا من قبول هذا الشرط حتى جاءها الإمام أبو حامد الغزالي و أخبرها أن الشرع لا يجير تصرفاته فأذعنت لذلك فخطب لابنها آخر شوال من السنة و لقب ناصر الدولة و الدين و كتب إلى الحرمين الشريفين فخطب له بهما (3/591)
ثورة بركيارق بملك شاه
كانت تركمان خاتون عند موت السلطان ملك شاه قد كتمت موته و بايعت لابنها محمود كما قلناه و بعثت إلى أصبهان سرا في القبض على بركيارق ابن السلطان ملك شاه خوفا من أن ينازع ابنها محمودا فحبس فلما ظهر موت ملك شاه وثب مماليك بركيارق و نظام الملك على سلاح كان له بأصبهان و ثاروا في البلد و أخرجوا بركيارق في محبسه و بايعوه و خطبوا له بأصبهان و كانت أمه زبيدة بنت عم ملك شاه و هو ياقولي خائفة على ولدها من خاتون أم محمود و كان تاج الملك قد تقدم إلى أصبهان و طالبه العسكر بالأموال فطلع إلى بعض القلاع لينزل منها المال و امتنع منها خوفا من مماليك نظام الملك و لما وصلت تركمان خاتون إلى أصبهان جاءها فقبلت عذره و كان بركيارق لما أقامت خاتون ابنها محمودا بأصبهان خرج فيمن معه من النظامية إلى الري و اجتمع معه بعض أمراء أبيه و بعثت خاتون العساكر إلى قتاله و فيهم أمراء ملك شاه فلما تراءى الجمعان هرب كثير من الأمراء إلى بركيارق و اشتد القتال فانهزم عسكر محمود و خاتون و عادوا إلى أصبهان وسار بركيارق في أثرهم فحاصرهم بها (3/592)
مقتل تاج الملك
كان الوزير تاج الملك قد حضر مع عسكر خاتون و شهد وقعة بركيارق فلما انهزموا سار إلى قلعة يزدجرد فحبس في طريقه و حمل إلى بركيارق و هو محاصر أصبهان و كان يعرف كفايته فأجمع أن يستوزره و أصلح هو النظامية و بذل لهم مائتي ألف دينار و استرضاهم بها و نمي ذلك إلى عثمان نائب نظام الملك فوضع الغلمان الأصاغر عليه الطالبين ثأر سيدهم و أغراهم فقتلوه و قطعوه قطعا و ذلك في المحرم سنة ست و ثمانين ثم خرج إلى بركيارق من أصبهان و هو محاصر لها عز الملك أبو عبد الله بن الحسين بن نظام الملك و كان على خوارزم و وفد على السلطان ملك شاه قبل مقتل أبيه ثم كان ملكهما فأقام هو بأصبهان و خرج إلى بركيارق و هو يحاصرها فاستوزره و فوض إليه أمر دولته انتهى (3/593)
الخطبة لبركيارق ببغداد
ثم قدم بركيارق بغداد سنة ست و ثمانين و طلب من المقتدي الخطبة فخطب له على منابرها و لقب ركن الدين و حمل الوزير عميد الدولة بن جهير إليه الخلع فلبسها و توفي المقتدي و هو مقيم ببغداد (3/593)
وفاة المقتدي و نصب المستظهر للخلافة
ثم توفي المقتدر بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله في منتصف محرم سنة سبع و ثمانين و كان موته فجأة أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم عليه فقرأه و وضعه ثم قدم إليه طعام فأكل منه ثم غشي عليه فمات و حضر الوزير فجهزوا جنازته و صلى عليه ابنه أبو العباس أحمد و دفن و ذلك لتسع عشرة سنة و ثمانية أشهر من خلافته و كانت له قوة و همة لولا أنه كان مغلبا و عظمت عمارة بغداد في أيامه و أظن ذلك لاستفحال دولة بني طغرلبك و لما توفي المقتدي و حضر الوزير أحضر ابنه أبا العباس أحمد الحاشية فبايعوه و لقبوه المستظهر و ركب الوزير إلى بركيارق و أخذ بيعته للمستظهر ثم حضر بركيارق لثالثة من وفاته و معه وزيره عز الملك بن نظام الملك و أخوه بهاء الملك و أمر السلطان بأرباب المناصب فجمعوا و حضر النقيبان طراد العباسي و المعمر العلوي و قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني و الغزالي و الشاشي و غيرهم فحسبوا في العراء و بايعوا (3/593)
أخبار تتش و انتقاضه و حروبه و مقتله
قد ذكرنا فيما تقدم أن تتش بن السلطان ألب أرسلان استقل بملك دمشق و أعمالها و أنه وفد على السلطان ملك شاه ببغداد قبل موته و انصرف و بلغه خبر وفاته بهيت فملكها و سار إلى دمشق فجمع العساكر و زحف إلى حلب فأطاعه صاحبها قسيم الدولة أقسنقر و سار معه و كتب إلى ناعيسان صاحب أنطاكية و إلى برار صاحب الرها و حران يشير عليهما بطاعة تتش حتى يصلح حال أولاد ملك شاه فقبلوا منه و خطبوا له في بلادهم و ساروا معه فحضر الرحبة و ملكها في المحرم سنة ست و ثمانين و خطب فيها لنفسه ثم فتح نصيبين عنوة و عاث فيها و سلمها لمحمد بن مشرف الدولة و سار يريد الموصل و لقيه الكافي فخر الدولة بن جهير و كان في جزيرة ابن عمر فاستوزره و بعث إلى إبراهيم بن مشرف الدولة مسلم بن قريش و هو يومئذ ملك الموصل يأمره بالخطبة له و تسهيل طريقه إلى بغداد فأبى من ذلك و زحف إليه تتش و هو في عشرة آلاف و أقسنقر على ميمنته و توزران على ميسرته و إبراهيم في ستين ألفا و التقوا فانهزم إبراهيم و أخذ أسيرا و قتل جماعة من أمراء العرب صبرا و ملك تاج الدولة تتش الموصل و ولى عليها علي بن مشرف الدولة و فوض إليه أمر صفية عمة تتش و بعث إلى بغداد يطلب مساعدة كوهرابين الشحنة فجاء العذر بانتظار الرسل من العسكر فسار إلى ديار بكر و ملكها ثم إلى أذربيجان و بلغ خبره إلى بركيارق و قد استولى على همذان و الري فسار لمدافعته فلما التقى العسكران جنح أقسنقر إلى بركيارق و فاوض توران في ذلك و أنهما إنما اتبعا تتش حتى يظهر أمر أولاد ملكشاه فوافقه على ذلك و سارا معا إلى بركيارق فانهزم تتش و عاد إلى دمشق و استفحل بركيارق و جاءه كوهرابين يعتذر من مساعدته لتتش في الخطبة فلم يقبله و عزله و ولى الأمير نكبرد شحنة بغداد مكانه ثم خطب لبركيارق ببغداد كما قدمناه و مات المقتدي و نصب المستظهر و لما عاد تتش من أذربيجان إلى الشام جمع العساكر و سار إلى حلب لقتال أقسنقر بعث بركيارق كربوقا الذي صار أمير الموصل مددا لأقسنقر و لقيهم تتش قريبا من حلب فهزمهم و أسر أقسنقر فقتله صبرا و لحق توران و كربوقا بحلب و حاصرهما تتش فملكها و أخذهما أسيرين و بعث إلى حران و الرها في الطاعة و كانتا لتوران فامتنعوا فبعث برأسه إليهم و أطاعوه و حبس كربوق في حمص إلى أن أطاعه رضوان بعد قتل أبيه تتش ثم سار تتش إلى الجزيرة فملكها ثم ديار بكر ثم خلاط و أرمينية ثم أذربيجان ثم سار إلى همذان فملكها و كان بها فخر الدولة نظام الملك سار من حران لخدمة بركيارق فلقيه الأمير تاج من عسكر محمود بن ملكشاه بأصبهان فنهب ماله و نجا بنفسه إلى همذان و صادف بها تتش و شفع فيه باغسيان و أشار بوزارته فاستوزره و أرسل إلى بغداد يطلب الخطبة من المستظهر و بعث يوسف بن أبق التركماني شحنته إلى بغداد في جمع من التركمان فمنع من دخولها و كان بركيارق قد سار إلى نصيبين و عبر دجلة فوق الموصل إلى أربل ثم إلى بلد سرخاب بن بدر حتى إذا كان بينه و بين عمه تسعة فراسخ و هو في ألف رجل و عمه في خمسين ألفا فبيته بعض الأمراء من عسكر عمه فانهزم إلى أصبهان و بها محمود ابن أخيه و قد ماتت أمه تركمان خاتون فأدخله أمراء محمود و احتاطوا عليه ثم مات محمود سلخ شوال من سنة سبع و ثمانين و استولى بركيارق على الأمر و قصده مؤيد الملك بن نظام الملك فاستوزره في ذي الحجة و استمال الأمراء فرجعوا إليه و كثر جمعه و كان تتش بعد هزيمة بركيارق قد اختلف عليه الأمراء و راسل أمراء أصبهان يدعوهم إلى طاعته فواعدوه انتظار بركيارق و كان قد أصابه الجدري فلما أبل نبذوا إليه عهده و ساروا مع بركيارق من أصبهان و أقبلت إليهم العساكر من كل مكان و انتهوا إلى ثلاثين ألفا و التقوا قريبا من الري فانهزم تتش و قتله بعض أصحاب أقسنقر و كان قد حبس وزيره فخر الملك بن نظام الملك فأطلق ذلك اليوم و استفحل أمر بركيارق و خطب له ببغداد (3/594)
ظهور السلطان ملكشاه و الخطبة له ببغداد
كان السلطان بركيارق قد ولى على خراسان و أعمالها أخاه لأبيه سنجر فاستقل بأعمال خراسان كما يذكر في أخبار دولتهم عند انفرادها بالذكر و إنما نذكر هنا من أخبارهم ما يتعلق بالخلافة و الخطبة لهم ببغداد لأن مساق الكلام هنا إنما هو عن أخبار دولة بني العباس و من وزر لهم أو تغلب خاصة و كان لسنجر بن ملكشاه أخ شقيق اسمه محمد و لما هلك السلطان ملكشاه سار مع أخيه محمود و تركمان خاتون إلى أصبهان فلما حاصرهم بركيارق لحق به أخوه محمد هذا و سار معه إلى بغداد سنة ست و ثمانين و أقطعه دجلة و أعمالها و بعث معه قطلغ تكين أتابك فلما استوى على أمره قتله أنفة من حجره ثم لحق به مؤيد الملك بن عبيد الله بن نظام الملك كان مع الأمير أنز و داخله في الخلاف على السلطان بركيارق فلما قتل أنز كما نذكر في أخبارهم لحق مؤيد الملك بمحمد بن السلطان ملك شاه و أشار عليه ففعل و خطب لنفسه و استوزر مؤيد الملك و قارن ذلك أن السلطان بركياق قتل خاله مجد الملك البارسلاني فاستوحش منه أمراؤه و لحقوا بأخيه محمد و سار بركيارق إلى الري و اجتمع له بها عساكر و جاء عز الملك منصور بن نظام الملك في عساكر و بينما هو في الري إذ بلغه مسير أخيه محمد إليه فأجفل راجعا إلى أصبهان فمنعه أهلها الدخول فسار إلى خوزستان و جاء السلطان محمد إلى الري أول ذي القعدة من سنة اثنتين و تسعين و وجد أم بركيارق بها و هي زبيدة خاتون فحبسها مؤيد الملك و قتلها و استفحل ملك محمد و جاءه سعد الدولة كوهرابين شحنة بغداد و كان مستوحشا من بركيارق و جاء معه كربوقا صاحب الموصل و جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر و سرخاب ابن بدر صاحب كركور فلقوه جميعا بقم و سار كربوقا و جكرمش معه إلى أصبهان ورد كوهرابين إلى بغداد في طلب الخطبة من الخليفة و أن يكون شحنة بها فأجابه المستظهر إلى ذلك و خطب له منتصف ذي الحجة سنة اثنتين و تسعين و لقب غياث الدنيا و الدين (3/595)
اعادة الخطبة لبركيارق
لما سار بركيارق مجفلا من الري إلى خوزستان أمام أخيه محمد و أمير عسكره يومئذ ينال بن أنوش تكين الحسامي و معه جماعة من الأمراء أجمع المسير إلى العراق فسار إلى واسط و جاءه صدقة بن مزيد صاحب الحلة ثم سار إلى بغداد فخطب له بها منتصف صفر من سنة ثلاث و تسعين و لحق سعد الدولة كوهرابين ببعض الحصون هنالك و معه أبو الغازي بن أرتق و غيره من الأمراء و أرسل إلى السلطان محمد و وزيره مؤيد الملك يستحثهما في الوصول فبعث إليه كربوقا صاحب الموصل و جكرمش صاحب الجزيرة فلم يرضه و طلب جكرمش العود إلى بلده فأطلقه ثم نزع كوهرابين و من معه من الأمراء إلى بركيارق باغزاء كربوقا صاحب الموصل و كاتبوه فخرج إليهم و دخلوا معه بغداد و استوزره الأغر أبو المحاسن عبد الجليل بن علي بن محمد الدهستاني و قبض على عميد الدولة ابن جهير وزير الخليفة و طالبه بأموال ديار بكر و الموصل في ولايته و ولاية أبيه و صادره على مائة و ستين ألف دينار فحملها إليه و خلع المستظهر على السلطان بركيارق و استقر أمره (3/596)
المصاف الأول بين بركيارق و محمد و قتل كوهرابين و الخطبة لمحمد
ثم سار بركيارق من بغداد إلى شهرزور لقتال أخيه محمد و اجتمع إليه عسكر عظيم من التركمان و كاتبه رئيس همذان بالمسير إليه فعدا عنه و لقي أخاه محمدا على فراسخ من همذان و محمد في عشرين ألف مقاتل و معه الأمير سرخو شحنة أصبهان و على ميمنته أمير آخر و ابنه أياز و على ميسرته مؤيد الملك و النظامية و مع بركيارق في لقلب وزيره أبو المحاسن و في ميمنته كوهرابين و صدقة بن مزيد و سرخاب بن بدر و في ميسرته كربوقا و غيره من الأمراء فحمل كوهرابين من ميمنة بركيارق على ميسرة محمد فانهزموا حتى نهبت خيامهم ثم حملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق فانهزمت و حمل محمد معهم فانهزم بركيارق و رجع كوهرابين للمنهزمين فكبا به فرسه و قتل وافترقت عساكر بركيارق و أسر وزيره أبو المحاسن فأكرمه مؤيد الملك و أنزله و أعاده إلى بغداد ليخاطب المستظهر في إعادة الخطبة للسلطان محمد ففعل و خطب له ببغداد منتصف رجب سنة ثلاث و تسعين و ابتداء أمر كوهرابين أنه كان لامرأة بخوزستان و صار خادما للملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة و حظي عنده و كان يستعرض حوائج تلك المرأة و أصاب أهلها منه خيرا و أرسله أبو كاليجار مع ولده أبي نصر إلى بغداد فلما قبض عليه السلطان طغرلبك مضى معه إلى محبسه بقلعة طبرك و لما مات أبو نصر سار إلى خدمة السلطان ألب أرسلان فحظي عنده و أقطعه واسط و جعله شحنة بغداد وكان حاضرا معه يوم قتله يوسف الخوارزمي و وقاه بنفسه ثم بعثه ابنه ملك شاه إلى بغداد لإحضار الخلع و التقليد و استقر شحنة ببغداد إلى أن قتل و رأى ما لم يره خادم قبله من نفوذ الكلمة و كمال القدرة و خدمة الأمراء و الأعيان و طاعتهم انتهى (3/597)
مصاف بركيارق مع أخيه سنجر
و لما انهزم السلطان بركيارق من أخيه محمد لحق بالري و استدعى شيعته و أنصاره من الأمراء فلحقوا به ثم ساروا إلى أسفراين و كاتب الأمير داود حبشر بن التونطاق يستدعيه و هو صاحب خراسان و طبرستان و منزله بالدامغان فأشار عليه باللحاق بنيسابور حتى يأتيه فدخل نيسابور و قبض على رؤسائها ثم أطلقهم و أساء التصرف ثم أعاد الكتاب إلى داود حبشي بالاستدعاء فاعتذر بأن السلطان سنجر زحف إليه في عساكر بلخ ثم سأل منه المدد فسار بركيارق إليه في ألف فارس و هو في عشرين ألفا والتقوا بسنجر عند النوشجان و في ميمنة سنجر الأمير برغش و في ميسرته كوكر و معه في القلب رستم فحمل بركيارق على رستم فقتله و انهزم أصحابه و نهب عسكرهم و كادت الهزيمة تتم عليهم ثم حمل برغش و كوكر على عسكر بركيارق و هم مشتغلون بالنهب فانهزموا و انهزم بركيارق و جاء بعض التركمان بالأمير داود حبشي أسيرا إلى برغش فقتله و لحق بركيارق بجرجان ثم بالدامغان و قطع البرية إلى أصبهان بمراسلة أهلها فسبقه أخوه محمد إليها فعاد أسيرهم انتهى (3/598)
عزل الوزير عميد الدولة بن جهير و وفاته
لقد ذكرنا أن وزير السلطان بركيارق و هو الأغر أبو المحاسن أسر في المصاف الأول بين بركيارق و محمد و أن مؤيد الملك بن نظام الملك وزير محمد أطلقه و اصطنعه و ضمنه عمارة بغداد و حمله طلب الخطبة لمحمد ببغداد من المستظهر فخطب له و كان فيما حمله للمستظهر عزل وزيره عميد الدولة بن جهير و بلغ ذلك عميد الدولة فأرسل من يعترض الأغر و يقتله فامتنع بعقر باب ثم صالحه ذلك الذي اعترضه و طلب لقاءه فلقيه و دس الأغر إلى أبي الغازي بن أرتق و كان وصل معه و سبقه إلى بغداد فرجع إليه ليلا و يئس منه ذلك الذي اعترضه و وصل الأغر بغداد و بلغ إلى المستظهر رسالة مؤيد الدولة في عزل عميد الدولة فقبض عليه في رمضان من سنة ثلاث و تسعين و على إخوته وصودر على خمسة و عشرين ألف دينار و بقي محبوسا بدار الخلافة إلى أن هلك في محبسه (3/598)
المصاف الثاني بين بركيارق و أخيه محمد و مقتل مؤيد الملك و الخطبة لبركيارق
قد ذكرنا أن بركيارق لما انهزم أمام أخيه محمد في المصاف الأول سار إلى أصبهان و لم يدخلها فمضى إلى عسكر مكرم إلى خوزستان و جاءه الأميران زنكي و ألبكي ابنا برسق ثم سار إلى همذان فكاتبه أياز من كبار أمراء محمد بما كان استوحش منه فجاءه في خمسة آلاف فارس و أغراه باللقاء فارتحل لذلك ثم استأمن إليه سرخاب ابن كنخسرو صاحب آوة فاجتمع له خمسون ألفا من المقاتلة و بقي أخوه في خمسة عشر ألفا ثم اقتتلوا أول جمادى الآخرة سنة أربع و تسعين و أصحاب محمد يغدون على محمد شيئا فشيئا مستأمنين ثم انهزم آخر النهار و أسر وزيره مؤيد الملك و أحضره عند بركيارق غلام لمجد الملك البارسلاني ثار منه مولاه فلما حضر وبخه بركيارق و قتله و بعث الوزير أبو المحاسن من يسلم إليه أمواله و صادر عليها قرابته في بغداد و في غير بغداد من بلاد العجم و يقال كان فيما أخذ له قطعة من البلخش زنة إحدى و أربعين مثقالا ثم سار بركيارق إلى الري و لقيه هناك كربوقا صاحب الموصل و نور الدولة دبيس بن صدقة بن مزيد و اجتمعت إليه نحو من مائة ألف فارس حتى ضاقت بهم البلاد ففرق العساكر و عاد دبيس إلى أبيه و سار كربوقا إلى أذربيجان لقتال مودود بن إسمعيل بن ياقوتا كان خرج على السلطان هنالك و سار أياز إلى همذان ليقضي الصوم عند أهله و يعود فبقي بركيارق في خف من الجنود و كان محمد أخوه لما انهزم لجهات همذان سار إلى شقيقه بخراسان فانتهى إلى جرجان و بعث يطلب منه المدد فأمده بالمال أولا ثم سار إليه بنفسه إلى جرجان و سار معه إلى الدامغان و خرب عسكر خراسان ما مروا به من البلاد و انتهوا إلى الري و اجتمعت إليهم النظامية و بلغهم افتراق العساكر عن بركيارق فأغذوا إليه السير فرحل إلى همذان فبلغه أن أياز راسل محمدا فقصد خوزستان و انتهى إلى تستر و استدعى بني برسق فقعدوا عنه لما بلغهم مراسلة أياز للسلطان فسار بركيارق نحو العراق و كان أياز راسل محمدا في الكون معه فلم يقبله فسار من همذان و لحق بركيارق إلى حلوان و سارو جميعا إلى بغداد و استولى محمد على مخلف أياز بهمذان و حلوان و كان شيئا مما لا يعبر عنه و صادر جماعة من أصحاب أياز من أهل همذان و وصل بركيارق إلى بغداد منتصف ذي القعدة سنة أربع و تسعين و بعث المستظهر لتلقيه أمين الدولة بن موصلايا في المراكب و كان بركيارق مريضا فلزم بيته و بعث المستظهر في عيد الأضحى إلى داره منبرا خطب عليه باسمه و تخلف بركيارق عن شهود العيد لمرضه و ضاقت عليه الأموال فطلب الإعانة من المستظهر و حمل إليه خمسين ألف دينار بعد المراجعات و مد يده إلى أموال الناس و صادرهم فضجوا و ارتكب خطيئة شنعاء في قاضي جبلة و هو أبو محمد عبد الله بن منصور و كان من خبره أن أباه منصورا كان قاضيا بجبلة في ملكة الروم فلما ملكها المسلمون و صارت في يد أبي الحسن علي بن عمار صاحب طرابلس أقره على القضاء بها و توفي فقام ابنه أبو محمد هذا مقامه و لبس شعار الجندية و كان شهما فهم ابن عمار بالقبض عليه و شعر فانتقض و خطب للخلفاء العباسية و كان ابن عمار يخطب للعلوية بمصر و طالت منازلة الفرنج بحصن جبلة إلى أن ضجر أبو محمد هذا و بعث إلى صاحب دمشق و هو يومئذ طغتكين الأتابك أن يسلم إليه البلد فبعث ابنه تاج الملوك موري و تسلم منه البلد و جاء به إلى دمشق و بذل لهم فيه ابن عمار ثلاثين ألف دينار دون أمواله فلم يرضوا بإخفار ذمتهم و سار عنهم إلى بغداد و لقي بها بركيارق فأحضره الوزير أبو المحاسن و طلبه في ثلاثين ألف دينار فأجاب و أحالهم على منزلة بالأنبار فبعث الوزير من أتاه بجميع ما فيه و كان لا يعبر فكانت من المنكرات التي أتاها بركيارق ثم بعث الوزير إلى صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد صاحب حلب يطلب منه ألف ألف دينار متخلفة من مال الجباية و تهدده عليها فغضب و انتقض و خطب لمحمد و بعث إليه بركيارق الأمير أياز يستقدمه فلم يجب و بعث إلى الكوفة و طرد عنها نائب بركيارق و استضافها إليه (3/599)
استيلاء محمد على بغداد
قد ذكرنا استيلاء محمد على همذان في آخر ذي الحجة من سنة أربع و تسعين و معه أخوه سنجر و ذهب بركيارق إلى بغداد فاستولى عليها و أساء السيرة بها و بلغ الخبر إلى محمد فسار من همذان في عشرة آلاف فارس و لقيه بحلوان أبو الغازي بن أرتق شحنته ببغداد في عساكره و أتباعه و كان بركيارق في شدة من المرض قد أشرف على الهلاك فاضطرب أصحابه و عبروا به إلى الجانب الغربي حتى إذا وصل محمد بغداد و ترآى الجمعان من عدوتي دجلة ذهب بركيارق و أصحابه إلى واسط و دخل محمد بغداد و جاءه توقيع المستظهر بالانتقاض مما وقع به بركيارق و خطب له على منابر بغداد و جاءه صدقة بن منصور صاحب الحلة فأخرج الناس للقائه و نزل سنجر بدار كوهرابين و استوزر محمد بعد مؤيد الملك خطيب الملك أبا منصور محمد بن الحسين فقدم إليه في المحرم سنة خمس و تسعين انتهى (3/600)
المصاف الثالث و الرابع و ما تخلل بينهما من الصلح و لم يتم
ثم ارتحل السلطان و أخوه سنجر عن بغداد منتصف المحرم من سنة خمس و تسعين و قصد سنجر خراسان و محمد همذان فاعترض بركيارق خاص الخليفة المستظهر و أبلغه القبيح فاستدعى المستظهر محمدا لقتال بركيارق فجاء إليه و قال : أنا أكفيكه و رتب أبا المعالي شحنة ببغداد و كان بركيارق بواسط كما قلنا فلما أبل من مرضه عبر إلى الجانب الشرقي بعد جهد و صعوبة لفرار الناس من واسط لسوء سيرتهم ثم سار إلى بلاد بني برسق حتى أطاعوا و استقاموا و ساروا معه فاتبع أخاه محمدا إلى نهاوند و تصافوا يومين و منعهما شدة البرد من القتال ثم اجتمع أياز و الوزير الأغر من عسكر بركيارق و بلد أجى و غيرهم من الأمراء من عسكر محمد تفاوضوا في شكوى ما نزل بهم من هذه الفتنة ثم اتفقوا على أن تكون السلطنة بالعراق لبركيارق و يكون لمحمد من البلاد الحيرة و أعمالها و أذربيجان و ديار بكر و الجزيرة و الموصل على أن يمده بركيارق بالعسكر متى احتاج إليه على من يمتنع عليه منها و تحالفا على ذلك و افترقا في ربيع الأول سنة خمس و تسعين ثم سار بركيارق إلى ساوة و محمد إلى قزوين و بدا له في الصلح و اتهم الأمراء الذين سعوا فيه و أسر إلى رئيس قزوين أن يدعوهم إلى صنيع عنده و غدر بهم محمد فقتل بعضا و سمل بعضا و أظهر الفتنة و كان الأمير ينال بن أنوش تكين قد فارق بركيارق و أقام مجاهدا للباطنية في الجبال و القلاع فلقي محمدا و سار معه إلى الري و بلغ الخبر إلى بركيارق فأغذ إليه السير في ثمان ليال و اصطفوا في التاسع و كلا الفريقين في عشرة آلاف مقاتل و حمل سرخاب بن كنجسر و الديلمي صاحب آوة و من أصحاب بركيارق على ينال بن أنوش تكين فهزمه و انهزم معه عسكر محمد و افترقوا فلحق فريق بطبرستان و آخر بقزوين و لحق بأصبهان في سبعين فارسا و اتبعه أياز و ألبكي بن برسق فنجا إلى البلد و بها نوابه فلم ما تشعث من السور و كان من بناء علاء الدين بن كاكويه سنة تسع و عشرين لقتال طغرلبك و حفر الخنادق و أبعد مهواها و أجرى فيها المياه و نصب المجانيق و استعد للحصار و جاء بركيارق في جمادى و معه خمسة عشر ألف فارس و مائة ألف من الرجل و الأتباع فحاصرها حتى جهدهم الحصار و عدمت الأقوات و العلوفة فخرج محمد عن البلد في عيد الأضحى من سنته في مائة و خمسين فارسا و معه ينال و نزل في الأمراء و بعث بركيارق في اتباعه الأمير أياز و كانت خيل محمد ضامرة من الجوع فالتفت إلى أياز يذكره العهود فرجع عنه بعد أن نهب منه خيلا و مالا و أخذ علمه و جنده و عاد إلى بركيارق ثم شد بركيارق في حصار أصبهان و زحف بالسلاليم و الذبابات و جمع الأيدي على الخندق فطمه و تعلق الناس بالسور فاستمات أهل البلد و دفعوهم و علم بركيارق امتناعها فرحل عنها ثامن عشر ذي الحجة و جمر عسكرا مع ابنه ملكشاه و ترشك الصوالي على البلد القديم الذي يسمى شهرستان و سار إلى همذان بعد أن كان قتل على أصبهان وزيره الأغر أبو المحاسن عبد الجليل الدهستاني اعترضه في ركوبه من خيمته إلى خدمة السلطان متظلم فطعنه و أشواه و رجع إلى خيمته فمات و ذهب للتجار الذين كانوا يعاملونه أموال عظيمة لأن الجباية كانت ضاقت بالفتن فاحتاج إلى الاستدانة و نفر منه التجار لذلك ثم عامله بعضهم فذهب ما لهم بموته و كان أخوه العميد المهذب أبو محمد قد سار إلى بغداد لينوب عنه حين عقد الأمراء الصلح بن بركيارق و محمد فقبض عليه الشحنة ببغداد أبو الغازي بن أرتق و كان على طاعة محمد (3/601)
الشحنة ببغداد و الخطبة لبركيارق
كان أبو الغازي بن أرتق شحنة ببغداد و ولاه عليها السلطان محمد عند استيلائه في المصاف الأول و كان طريق خراسان إليه فعاد بعض الأيام منها إلى بغداد و ضرب فارس من أصحابه بعض الملاحين بسهم في ملاحاة وقعت بينهم عند العبور فقتله فثارت بهم العامة و أمسكوا القاتل و جاؤا به إلى باب النوبة في دار الخلافة و لقيهم ولد أبي الغازي فاستنفذه من أيديهم فرجموه و جاء إلى أبيه مستغيثا و ركب إلى محلة الملاحين فنهبها و عطف عليه العيارون فقتلوا من أصحابه و ركبوا السفين للنجاة فهرب الملاحون و تركوهم فغرقوا و جمع أبو الغازي التركماني لنهب الجانب الغربي فبعث إليه المستظهر قاضي القضاة و الكيا الهراسي مدرس النظامية بالامتناع من ذلك فاقتصر أبو الغازي أثناء ذلك متمسكا بطاعة السلطان محمد فلما انهزم محمد و انطلق من حصار أصبهان و استولى بركيارق على الري بعث في منتصف ربيع الأول من سنة ست و تسعين من همذان كمستكين القيصراني شحنة إلى بغداد فلما سمع أبو الغازي بعث إلى أخيه سقمان بحصن كيفا يستدعيه للدفاع و جاءه سقمان و مر بتكريت فنهبها و وصل كمستكين و لقيه شيعة بركيارق و أشاروا عليه بالمعاجلة و وصل إلى بغداد منتصف ربيع و خرج أبو الغازي و أخوه سقمان إلى دجيل و نهبا بعض قراها و اتبعهما طائفة من عسكر كمستكين ثم رجعوا عنهما و خطب للسلطان بركيارق ببغداد و بعث كمستكين إلى سيف الدولة صدقة بالحلة عنه و عن المستظهر بطاعة بركيارق فلم يجب و كشف القناع و سار إلى جسر صرصر فقطعت الخطبة على منابر بغداد فلم يذكر أحد عليها من السلاطين و اقتصر على الخليفة فقط و بعث سيف الدولة صدقة إلى أبي الغازي و سقمان بأنه جاء لنصرتهما فعادوا إلى دجيل و عاثوا في البلاد و اجتمع لذلك حشد العرب و الأكراد مع سيف الدولة و بعث إليه المستظهر في الإصلاح و خيموا جميعا بالرملة و قاتلهم العامة و بعث الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني و تاج رؤساء الرياسة ابن الموصلايا إلى سيف الدولة بكف الأيدي عن الفساد فاشترطوا خروج كمستكين القيصراني شحنة بركيارق و إعادة الخطبة للسلطان محمد فتم الأمر على ذلك و عاد سيف الدولة إلى الحلة و عاد القيصراني إلى واسط و خطب بها لبركيارق فسار إليه صدقة و أبو الغازي و فارقها القيصراني فاتبعه سيف الدولة ثم استأمن و رجع إليه فأكرمه و خطب للسلطان محمد بواسط و بعده لسيف الدولة و أبي الغازي و استناب كل واحد ولده و رجع أبو الغازي إلى بغداد و سيف الدولة إلى الحلة و بعث ولده منصورا إلى المستظهر يخطب رضاه بما كان منه في هذه الحادثة فأجيب إلى ذلك (3/602)
استيلاء ينال على الري بدعوة السلطان محمد و مسيره إلى العراق
كانت الخطبة بالري للسلطان بركيارق فلما خرج السلطان محمد من الحصار بأصبهان بعث ينال بن أنوش تكين الحسامي إلى الري ليقيم الخطبة له بها فسار و معه أخوه علي و عسف الرعايا ثم بعث السلطان بركيارق إليه برسق بن برسق في العساكر فقاتله على الري و انهزم ينال و أخوه منتصف ربيع من سنة ست و تسعين و ذهب علي إلى قزوين و سلك ينال على الجبال إلى بغداد و تقطع أصحابه في الأوغار و قتلوا و وصل إلى بغداد في سبعمائة رجل و أكرمه المستظهر و اجتمع هو أبو الغازي و سقمان ابنا أرتق بمشهد أبي حنيفة فاستحلفوه على طاعة السلطان محمد وساروا إلى سيف الدولة صدقة و استحلفوه على ذلك و استقر ينال ببغداد في طاعة السلطان محمد و تزوج أخت أبي الغازي كانت تحت تاج الدولة تتش و عسف بالناس و صادر العمال و استطال أصحابه على العامة بالضرب و القتل و بعث إليه المستظهر مع القاضي الدامغاني بالنهي عن ذلك و تقبيح فعله ثم مع إيلغازي فأجاب و حلف على كف أصحابه و منعهم و استمر على قبح السيرة فبعث المستظهر إلى سيف الدولة صداقة يستدعيه لكف عدوانه فجاء إلى بغداد في شوال من سنة ست و تسعين و خيم بالمنجمي و دعا ينالا للرحلة عن العراق على أن يدفع إليه و عاد إلى الحلة و سار ينال مستهل ذي القعدة إلى أوانا ففعل من النهب و العسف أقبح مما فعل ببغداد فبعث المستظهر إلى صدقة في ذلك فأرسل ألف فارس و ساروا إليه مع جماعة من أصحاب المستظهر و أبي الغازي الشحنة و ذهب ينال أمامهم إلى أذربيجان قاصدا إلى السلطان محمد و رجع أبو الغازي و العساكر عنه (3/604)
المصاف الخامس بين السلطانين
كانت كنجة و بلاد أرزن للسلطان محمد و عسكره مقيم بها مع الأمير عزعلي فلما طال حصاره و بأصبهان جاؤوا لنصرته و معهم منصور بن نظام الملك و محمد بن أخيه مؤيد الملك و وصلوا إلى الري آخر ذي الحجة سنة خمس و تسعين و فارقه عسكر بركيارق ثم خرج محمد من أصبهان فساروا إليه و لقوه بهمذان و معه ينال و علي ابنا أنوش تكين فاجتمعوا في ستة آلاف فارس و سار ينال و أخوه على الري و أزعجتهم عنها عساكر بركيارق كما مر ثم جاءهم الخبر في همذان بزحف بركيارق إليهم فسار محمد إلى بلاد شروان و لما انتهى إلى أردبيل بعث إليه مودود بن إسمعيل ابن ياقوتي و كان أميرا على بيلقان من أذربيجان و كان أبوه إسمعيل خال بركيارق و انتقض عليه أول أمره فقتله فكان مودود يطالبه بثأر أبيه و كانت أخته تحت محمد فبعث إليه و جاءه إلى بيلقان و توفي مودود أثر قدومه منتصف ربيع من سنة ست و تسعين فاجتمع عسكره على الطاعة لمحمد و فيهم سقمان القطبي صاحب خلاط و أرمينية و محمد بن غاغيسا كان أبوه صاحب أنطاكية و كان ألب أرسلان ابن السبع الأحمر و لما بلغ بركيارق إجتماعهم لحربه أغذ السير إليهم فوصل و قاتلهم على باب خوي من أذربيجان من المغرب إلى العشاء ثم حمل أياز من أصحاب بركيارق على عسكر محمد فانهزموا و سار إلى خلاط و معه سقمان القطبي و لقيه الأمير علي صاحب أرزن الروم ثم سار إلى و بها منوجهر أخو فضلون الروادي ثم سار إلى تبريز و لحق محمد بن مؤيد الملك بديار بكر و سار منها إلى بغداد و كان من خبره أنه كان مقيما ببغداد مجاورا للمدرسة النظامية فشكا الجيران منه إلى أبيه فكتب إلى كوهرابين بالقبض عليه فاستجار بدار الخلافة ثم سار سنة اثنتين و تسعين إلى محمد الملك الباسلاني و أبوه حينئذ بكنجة عند السلطان محمد قبل أن يدعو لنفسه ثم سار بعد أن قتل محمد الملك إلى والده مؤيد الملك و هو وزير السلطان محمد ثم قتل أبوه و اتصل هو بالسلطان و حضر هذه الحروب كما ذكرنا و أما السلطان بركيارق بعد هزيمة محمد فإنه نزل جبلا بين مراغة و تبريز و أقام به حولا و كان خليفة المستظهر سديد الملك أبو المعالي كما ذكرناه ثم قبض عليه منتصف رجب سنة ست و تسعين و حبس بدار الخليفة مع أهله كانوا قد وردوا عليه من أصبهان و سبب عزله جهله بقواعد ديوان الخلافة لأنه كان يتصرف في أعمال السلاطين و ليست فيها هذه القوانين و لما قبض عاد أمين الدولة أبو سعد ابن الموصلايا إلى النظر في الديوان و بعث المستظهر عن زعيم الرؤساء أبي القاسم بن جهير من الحلة و كان ذهب إليها في السنة قبلها مستجيرا بسيف الدولة صدقة لأن خاله أمين الدولة أبا سعد بن الموصلايا كان الوزير الأعز وزير بركيارق يشيع عنه أنه الذي يحمل المستظهر على موالاة السلطان محمد و الخطبة له دون بركيارق فاعتزل أمين الدولة الديوان و سار ابن أخته هذا أبو القاسم بن جهير مستجيرا بصاحب الحلة فاستقدمه الخليفة الآن و خرج أرباب الدولة لاستقباله و خلع عليه للوزارة و لقيه قوام الدولة ثم عزله على رأس المائة الخامسة و استجار سيف الدولة صدقة بن منصور ببغداد فأجاره وبعث عنه إلى الحلة و ذلك لثلاث سنين و نصف من وزارته و ناب في مكانه القاضي أبو الحسن بن الدامغاني أياما ثم استوزر مكانه أبا المعالي بن محمد بن المطلب في المحرم سنة إحدى و خمسمائة ثم عزله سنة اثنتين بإشارة السلطان محمد و أعاده بإذنه على شرطيه العدل و حسن السيرة و أن لا يستعمل أحدا من أهل الذمة ثم عزل في رجب من سنة اثنتين و خمسين و استوزر أبا القاسم بن جهير سنة تسع و خمسين و استوزر بعده الربيع أبا منصور بن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير السلطان (3/604)
الصلح بين السلطانين بركيارق و محمد
و لما تطاولت الفتنة بين السلطانين و كثر النهب و الهرج و خربت القرى و استطال الأمر عليهم و كان السلطان بركيارق بالري و الخطبة له بها و بالجبل و طبرستان و خوزستان و فارس و ديار بكر و الجزيرة و الحرمين و كان السلطان محمد بأذربيجان و الخطبة له بها و ببلاد أران و أرمينية و أصبهان و العراق جميعه إلا تكريت و أما البطائح فبعضها لهذا و بعضها لهذا و الخطبة بالبصرة لهما جميعا و أما خراسان من جرجان إلى ما وراء النهر فكان يخطب فيها لسنجر بعد أخيه السلطان محمد فلما استبصر بركيارق في ذلك و رأى تحكم الأمراء عليه و قلة المال جنح إلى الصلح و بعث القاضي أبا المظفر الجرجاني الحنفي و أبا الفرج أحمد بن عبد الغفار الهمذاني المعروف بصاحب قراتكين إلى أخيه محمد في الصلح فوصلا إليه بمراغة و ذكراه و وعظاه فأجاب إلى الصلح على أن السلطان لبركيارق و لا يمنع محمدا من اتخاذ الآلة و لا يذكر أحد منهما مع صاحبه في الخطبة في البلاد التي صارت إليه و تكون المكاتبة من وزيريهما في الشؤن لا يكاتب أحدهما الآخر و لا يعارض أحد من العسكر في الذهاب إلى أيهما شاء و يكون للسلطان محمد من نهر استبدرو إلى الأبواب و ديار بكر و الجزيرة و الموصل و الشام و أن يدخل سيف الدولة صدقة بأعماله في خلفه و بلاده و السلطنة كلها و بقية الأعمال و البلاد كلها للسلطان بركيارق و بعث محمد إلى أصحابه بأصبهان بالإفراج عنها لأصحاب أخيه و جاؤا بحريم محمد إليه بعد أن دعاهم السلطان بركيارق إلى خدمته فامتنعوا فأكرمهم و حمل حريم أخيه و زودهم بالأموال و بعث العساكر في خدمتهم ثم بعث السلطان بركيارق إلى المستظهر بما استقر عليه الحال في الصلح بينهم و حضر أبو الغازي بالديوان و هو شحنة محمد و شيعته إلا أنه وقف مع الصلح فسأل الخطبة لبركيارق فأمر بها المستظهر و خطب له على منابر بغداد و واسط في جمادى سنة سبع و تسعين و نكر الأمير صدقة صاحب الحلة الخطبة لبركيارق و كان شيعة لمحمد و كتب إلى الخليفة بالنكير على أبي الغازي و أنه سائر لإخراجه عن بغداد فجمع أبو الغازي التركمان و فارق بغداد إلى عقرقوبا و جاء سيف الدولة صدقة و نزل مقابل التاج و قبل الأرض و خيم بالجانب الغربي و أرسل إليه أبو الغازي يعتذر عن طاعة بركيارق بالصلح الواقع و أن إقطاعه بحلوان في جملة بلاده التي وقع الصلح عليها و بغداد التي هو شحنه فيها قد صارت له فقبل و رضي و عاد إلى الحلة و بعث المستظهر في ذي القعدة من سنة سبع و تسعين الخلع للسلطان بركيارق و الأمير أياز و الخطير وزير بركيارق و بعث معهما العهد له بالسلطنة و استحلفه الرسل على طاعة المستظهر و رجعوا (3/606)
وفاة السلطان بركيارق و ملك ابنه ملك شاه
كان السلطان بركيارق بعد الصلح و انعقاده أقام بأصبهان أشهرا و طرقه المرض فسار إلى بغداد فلما بلغ بلد يزدجرد اشتد مرضه و أقام بها أربعين يوما حتى أشفى على الموت فأحضر ولده ملك شاه و جماعة الأمراء و ولاه عهده في السلطنة و هو ابن خمس سنين و جعل الأمير أياز أتابكه و أوصاهم بالطاعة لهما و استحلفهم على ذلك و أمرهم بالمسير إلى بغداد و تخلف عنهم ليعود إلى أصبهان فتوفي في شهر ربيع الآخر سنة ثمان و تسعين و بلغ الخبر إلى ابنه ملك شاه و الأمير أياز على إثني عشر فرسخا من بلد يزدجرد فرجعوا و حضروا لتجهيزه و بعثوا به إلى أصبهان للدفن بها في تربة أعدها و أحضر أياز السرادقات و الخيام و الخفر و الشمسة و جميع آلات السلطنة فجعلها الملك شاه و كان أبو الغازي شحنة ببغداد و قد حضر عند السلطان بركيارق بأصبهان في المحرم و حثه على المسير إلى بغداد فلما مات بركيارق سار مع ابنه ملك شاه و الأمير أياز و وصلوا بغداد منتصف ربيع الآخر في خمسة آلاف فارس و ركب الوزير أبو القاسم علي بن جهير لتلقيهم فلقيهم بديالى و أحضر أبو الغازي و الأمير طما يدل بالديوان و طلبوا الخطبة لملك شاه بن بركيارق فأجاب المستظهر إلى ذلك و خطب له ولقب بألقاب جده ملك شاه و نثرت الدنانير عند الخطبة (3/607)
وصول السلطان محمد إلى بغداد و استبداده بالسلطنة و الخطبة و مقتل أياز
كان محمد بعد صلحه مع أخيه بركيارق قد اعتزم على المسير إلى الموصل ليتناولها من يد جكرمش لما كانت من البلاد التي عقد عليها و كان بتبريز ينتظر وصول أصحابه من أذربيجان فلما وصلوا استوزر سعد الملك أبا المحاسن لحسن أثره في حفظ أصبهان ثم رحل في صفر سنة ثمان و تسعين يريد الموصل و سمع جكرمش فاستعد للحصار و أمر أهل السواد بدخول البلد و جاء محمد فحاصره و بعث إليه كتب أخيه بأن الموصل و الجزيرة من قسمته و أراه إيمانه بذلك و وعده بأن يقره على ولايتها فقال جكرمش : قد جاءتني كتب بركيارق بعد الصلح بخلاف هذا فاشتد محمد في حصاره و قتل بين الفريقين خلق و نقب السور ليلة فأصبحوا و أعادوه و وصل الخبر إلى جكرمش بوفاة بركيارق عاشر جمادى فاستشار أصحابه و رأى المصلحة في طاعة السلطان محمد فأرسل إليه بالطاعة و أن يدخل إليه وزيره بعد الملك فدخل و أشار عليه بالحضور عند السلطان فحضر و أقبل السلطان عليه و رده لجيشه لما توقع من ارتياب أهل البلد بخروجه و أكثر من الهدايا و التحف للسلطان و لوزيره و لما بلغ وفاة أخيه بركيارق سار إلى بغداد و معه سقمان القطبي نسبة إلى قطب الدولة إسمعيل بن ياقوتا بن داود و داود هو حقربيك و أبو ألب أرسلان و سار معه جكرمش و صاحب الموصل و غيرهما من الأمراء و كان سيف الدولة صاحب الحلة قد جمع عسكرا خمسة عشر ألفا من الفرسان و عشرة آلاف رجل و بعث ولديه بدران و دبيس إلى السلطان محمد يستحثه على بغداد و لما سمع الأمير أياز بقدومه خرج هو و عسكره و خيموا خارج بغداد و استشار أصحابه فصمموا على الحرب و أشار وزيره أبو المحاسن بطاعة السلطان محمد و خوفه عاقبة خلافه و سفه آراءهم في حربه و أطمعه في زيادة الأقطاع و تردد أياز في أمره و جمع السفن عنده و ضبط المثار و وصل السلطان محمد آخر جمادى من سنة ثمان و تسعين و نزل بالجانب الغربي و خطب له هنالك و لملك شاه بالجانب الشرقي و اقتصر خطيب جامع المنصور على الدعاء للمستظهر و لسلطان العالم فقط و جمع أياز أصحابه لليمين فأبوا من المعاودة و قالوا لا فائدة فيها و الوفاء إنما يكون بواحدة فارتاب أياز بهم و بعث وزيره المصفى أبا المحاسن إلى السلطان محمد في الصلح و تسليم الأمر فلقي أولا ويزره سعد الملك أبا المحاسن سعد بن محمد و أخبر فأحضره عند السلطان محمد و أدى رسالة أياز و العذر عما كان منه أيام بركيارق فقبله السلطان و أعتبه و أجابه إلى اليمين و حضر من الغد القاضي و النقيبان و استحلف الكيا الهراسي مدرس النظامية بمحضر القاضي وزير أياز بمحضرهم لملك شاه و لأياز و للأمراء الذين معه فقال : أما ملك شاه فهو ابني و أما أياز و الأمراء فأحلف لهم إلا ينال بن أنوش و سار و استحلفه الكيا الهراسي مدرس النظامية بمحضر القاضي و النقيبين ثم حضر أياز من الغد و وصل سيف الدولة صدقة و ركب السلطان للقائهما و أحسن إليهما و عمل أياز دعوة في داره و هي دار كوهرابين و حضر عنده السلطان و أتحفه بأشياء كثيرة منها حبل البلخش الذي كان أخذه من تركة مؤيد الملك بن نظام الملك و حضر مع السلطان سيف الدولة صدقة بن مزيد و كان أياز قد تقدم إلى غلمانه بلبس السلاح ليعرضهم على السلطان و حضر عندهم بعض الصفاعين فأخذوا معه في السخرية و ألبسوه درعا تحت قميصه و جعلوا يتناولونه بأيديهم فهرب منهم إلى خواص السلطان و رآه السلطان متسلحا فأمر بعض غلمانه فالتمسوه و قد وجدوا السلاح فارتاب و نهض من دار أياز ثم استدعاه بعد أيام و معه جكرمش و سائر الأمراء فلما حضر وقف عليهم بعض قواده و قال لهم أن قليج أرسلان ابن سليمان بن قطلمش قصد ديار بكر ليملكها فأشيروا بمن نسير لقتاله فأشاروا جميعا بالأمير أياز و طلب هو مسير سيف الدولة صدقة معه فاستدعى أياز و صدقة ليفاوضهم في ذلك فنهضوا إليه و قد أعد جماعة من خواصه لقتل أياز فلما دخلوا ضرب أياز فقطع رأسه و لف شلوه في مشلح و ألقي على الطريق و ركب عسكره فنهبوا داره و أرسل السلطان لحمايتها فافترقوا و اختفى وزيره ثم حمل إلى دار الوزير سعد الملك و قتل في رمضان من سنته و كان من بيت رياسة بهمذان و كان أياز من مماليك السلطان ملك شاه و صار بعد موته في جملة أمير آخر فاتخذه ولدا و كان شجاعا حسن الرأي في الحرب و استبد السلطان محمد بالسلطنة و أحسن السيرة و رفع الضرائب و كتب بها الألواح و نصبت في الأسواق و عظم فساد التركمان بطريق خراسان و هي من أعمال العراق فبعث أبو الغازي بن أرتق شحنة بغداد بدل ابن أخيه بهرام بن أرتق على ذلك البلد فحماه و كف الفساد منه و سار إلى حصن من أعمال سرخاب بن بدر فحصره و ملكه ثم ولى السلطان محمد سنقر البرسقي شحنة بالعراق و كان معه في حروبه و أقطع الأمير قاياز الكوفة و أمر صدقة صاحب الحلة أن يحمي أصحابه من خفاجة و لما كان شهر رمضان من سنة ثمانية و تسعين عاد السلطان محمد إلى أصبهان و أحسن فيهم السيرة و كف عنهم الأيدي العادية (3/608)
الشحنة ببغداد
كان السلطان قد قبض سنة اثنتين و خمسين على أبي القاسم الحسين بن عبد الواحد صاحب المخزن و علي بن الفرج ابن رئيس الرؤساء و اعتقلهما و صادرهما على مال يحملانه و أرسل مجاهد الدين لقبض المال و أمره بعمارة دار الملك فاضطلع بعمارتها وأحسن السيرة في الناس و قدم السلطان أثر ذلك إلى بغداد فشكر سيرته و ولاه شحنة بالعراق و عاد إلى أصبهان (3/610)
وفاة السلطان محمد و ملك ابنه محمود
ثم توفي السلطان محمد بن ملك شاه آخر ذي الحجة من سنة إحدى و خمسمائة و قد كان عهد لولده محمود و هو يومئذ غلام محتلم و أمره بالجلوس على التخت بالتاج و السوارين و ذلك لاثنتي عشرة سنة و نصف من استبداده بالملك و اجتماع الناس عليه بعد أخيه و ولي بعده ابنه محمود و بايعه أمراء السلجوقية و دبر دولته الوزير الرسب أبو منصور ابن الوزير أبي شجاع محمد بن الحسين وزير أبيه و بعث إلى المستظهر في الخطبة فخطب له على منابر بغداد منتصف المحرم سنة إثنتي عشرة و كان أقسنقر البرسقي مقيما بالرحبة استخلف بها ابنه مسعودا و سار إلى السلطان محمد يطلب الزيادة في الأقطاع و الولاية و لقيه خبر وفاته قريبا من بغداد فمنعه بهروز الشحنة من دخولهما و سار إلى أصبهان فلقيه بحلوان توقيع السلطان محمود بأن يكون شحنة بغداد لسعى الأمراء له في ذلك تعصبا على مجاهد الدين بهروز و غيره منه لمكانه عند السلطان محمد و لما رجع أقسنقر إلى بغداد هرب مجاهد الدين بهروز إلى تكريت و كانت من أعماله ثم عزل السلطان محمود أقسنقر و ولى شحنة بغداد الأمير منكبرس حاكما في دولته بأصبهان فبعث نائبا عنه ببغداد و العراق الأمير حسين بن أروبك أحد أمراء الأتراك و رغب البرسقي من المستظهر بالعدة فلم يتوقف فسار أقسنقر إليه و قاتله و انهزم الأمير حسين و قتل أخوه و عاد إلى عسكر السلطان و ذلك في ربيع الأول من سنة إثنتي عشرة (3/610)
وفاة المستظهر و خلافة المسترشد
ثم توفي المستظهر بالله أبو العباس أحمد بن المقتدي بالله أبو القاسم عبد الله بن القائم بالله في منتصف ربيع الآخر سنة إثنتي عشرة و خمسمائة لأربع و عشرين سنة و ثلاثة أشهر من خلافته و بويع بعده ابنه المسترشد بالله الفضل و كان ولي عهده منذ ثلاث و عشرين سنة و بايعه أخوه عبد الله محمد و هو المقتدي و أبو طالب العباس و عمومته بنو المقتدي و غيرهم من الأمراء و القضاة و الأئمة و الأعيان و تولى أخذ البيعة القاضي أبو الحسن الدامغاني و كان نائبا عن الوزارة فأقره المسترشد عليها و لم يأخذ البيعة قاض غير هذا للمسترشد و أحمد بن أبي داود للواثق و القاضي أبو علي إسمعيل بن إسحق للمعتضد ثم عزل المسترشد قاضي القضاة عن نيابة الوزارة و استوزر أبا شجاع محمد بن الرسب أبي منصور خاطبه أبوه وزير السلطان محمود و ابنه محمد في شأنه فاستوزره ثم عزله سنة عشر و استوزر مكانه جلال الدين عميد الدولة أبا علي بن صدقة و هم عم جلال الدين أبي الرضى بن صدقة وزير الراشد
و لما شغل الناس ببيعة المسترشد ركب أخوه الأمير أبو الحسن في السفن مع ثلاثة نفر و انحدر إلى المدائن و منها إلى الحلة فأكرمه دبيس و هم ذلك المسترشد و بعث إلى دبيس في إعادته مع النقيب علي بن طراد الرثيني فاعتذر بالذمام و أنه لا يكرهه فخطب النقيب أبا الحسن أخا الخليفة في الرجوع فاعتذر بالخوف و طلب الأمان ثم حدث من البرسقي و دبيس ما نذكره فتأخر ذلك إلى صفر من سنته و هي سنة ثلاث عشرة فسار أبو الحسن بن المستظهر إلى واسط و ملكها فبادر المسترشد إلى ولاية العهد لابنه جعفر المنصور ابن اثنتي عشر سنة فخطب له و كتب إلى البلاد بذلك و كتب إلى دبيس بمعاجلة أخيه أبي الحسن فإنه فارق ذمامه فبعث دبيس العساكر إلى واسط فهرب منها و صادفوه عند الصبح فنهبوا أثقاله و هرب الأكراد و الأتراك عنه و قبض عليه بعض الفرق و جاؤوا به إلى دبيس فأكرمه المسترشد و أمنه و أنزله أحسن نزل (3/611)
انتقاض الملك مسعود على أخيه السلطان محمود ثم مصالحته و استقرار جكرمش شحنة ببغداد
كان السلطان محمد قد أنزل ابنه مسعودا بالحلة و جعل معه حيوس بك أتابك فلما ملك السلطان محمود بعد وفاة أبيه ثم ولي المسترشد الخلافة بعد أبيه و كان دبيس صاحب الحلة ممرضا في طاعته و كان أقسنقر البرسقي شحنة بالعراق كما ذكرناه أراد قصة الحلة و أخلى دبيس عنها و جمع لذلك جموعا من العرب و الأكراد و برز من بغداد في جمادى سنة إثنتي عشرة و بلغ الخبر إلى الملك مسعود بالموصل و أن العراق خال من الحامية فأشار عليه أصحابه بقصد العراق للسلطنة فلا مانع دونها فسار في جيوش كثيرة و معه وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس و سيأتي خبره و قسيم الدولة زنكي بن أقسنقر ابن الملك العادل و صاحب سنجار و أبو الهيجاء صاحب اربل و كربادي بن خراسان التركماني صاحب البواريج و لما قربوا من العراق خافهم أقسنقر البرسقي بمكان حيوس بك من الملك المسعود و أما هو فقد كان أبوه محمد جعله أتابك لابنه مسعود فسار البرسقي لقتالهم و بعثوا إليه الأمير كربادي في الصلح و أنهم إنما جاؤا بحدة له على دبيس فقبل و تعاهدوا و رجعوا إلى بغداد كما مر خبره و سار البرسقي لقتاله فاجتمع مع دبيس بن صدقة و اتفقا على المعاضدة و سار الملك مسعود و من معه إلى المدائن للقاء دبيس و منكبرس ثم بلغهم كثرة جموعهما فعاد الملك مسعود و البرسقي و حيوس بك و عبروا نهر صرصر و حفظ المخاضات و أفحش الطائفتان في نهب السواد و استباحته بنهر الملك و نهر صرصر و نهر عيسى و دجيل و بعث المسترشد إلى الملك مسعود و البرسقي بالنكير عليهم فأنكر البرسقي و قوع شيء من ذلك و اعتزم على العود إلى بغداد و بلغه أن دبيس و منكبرس قد جهز العساكر إليها مع منصور أخي دبيس و حسن بن أوربك ربيب منكبرس فأغذ السير و خلف ابنه عز الدين مسعودا على العسكر بصرصر و استصحب عماد الدين زنكي بن أقسنقر و جاؤا بغداد ليلا فمنعوا عساكر منكبرس و دبيس من العبور ثم انعقد الصلح بين منكبرس و الملك مسعود و كان سببه أن حيوس بك كاتب السلطان محمود و هو بالموصل في طلب الزيادة له و للملك مسعود فجاء كتاب الرسول بأنه أقطعهم أذربيجان ثم بلغه قصدهم بغداد فاتهمهم بالانتقاض و جهز العساكر إلى الموصل و سقط الكتاب بيد منكبرس و كان على أم الملك مسعود فبعث به إلى حيوس بك و داخله في الصلح و الرجوع عما هم فيه فاصطلحوا و اتفقوا و بلغ الخبر إلى البرسقي فجاء إلى الملك مسعود و أخذ ماله و تركه و عاد إلى بغداد فخيم بجانب منها و جاء الملك مسعود و حيوس بك فخيما في جانب آخر و أصعد دبيس و منكبرس فخيما كذلك و تفرق على البرسقي أصحابه و جموعه و سار عن العراق إلى الملك مسعود فأقام معه و استقر منكبرس شحنة ببغداد و عاد دبيس إلى الحلة و أساء منكبرس السيرة في بغداد بالظلم و العسف و انطلاق أيدي أصحابه بالفساد حتى ضجر الناس و بعث عنه السلطان محمود فسار إليه و كفى الناس شره (3/612)
انتقاض الملك طغرل على أخيه السلطان محمود
كان الملك طغرل قد أقطعه أبوه السلطان محمد سنة أربع و خمسين و خمسمائة ساوة و آوة و زنجان و جعل أتابكه الأمير شركير و كان قد افتتح كثيرا من قلاع الإسماعيلية فاتسع ملك طغرل بها و لما مات السلطان محمد بعث السلطان محمود الأمير كتبغري أتابك طغرل و أمره أن يحمله إليه و حسن له المخالفة فانتقض سنة ثلاث عشرة فبعث إليه السلطان بثلاثين ألف دينار و تحف و ودعه بإقطاع كثيرة و طلبه في الوصول فمنعه كتبغري و أجاب بأننا في الطاعة و معنا العساكر و إلى أي جهة أراد السلطان قصدنا فاعتزم السلطان على السير إليهم و سار من همذان في جمادى سنة ثلاث عشرة في عشرة آلاف غازيا و جاء النذير إلى كتبغري بمسيره فأجفل هو و طغرل إلى قلعة سرجهان و جاء السلطان إلى العسكر بزنجان فنهبه و أخذ من خزانة طغرل ثلثمائة ألف دينار و أقام بزنجان و توجه منها إلى الري و كتبغري من سرجهان بكنجة و قصده أصحابه و قويت شوكته و تأكدت الوحشة بينه و بين أخيه السلطان محمود (3/613)
الفتنة بين السلطان محمود و عمه سنجر صاحب خراسان و الخطبة ببغداد لسنجر
كان الملك سنجر أميرا على خراسان و ما وراء النهر منذ أيام شقيقة السلطان محمد الأولى مع بركيارق و لما توفي السلطان محمد جزع له جزعا شديدا حتى أغلق البلد للعزاء و تقدم للخطبة بذكر آثاره و محاسن سيره من قتال الباطنية و إطلاق المكوس و غير ذلك و بلغه ملك ابنه محمود مكانه و تغلب الأمراء عليه فنكر ذلك و اعتزم على قصد بلد الجبل و العراق و أتى له محمود ابن أخيه و كان يلقب بناصر الدين فتلقب بمعز الدين لقب أبيه ملك شاه و بعث إليه السلطان محمود بالهدايا و التحف مع شرف الدولة أنوشروان بن خالد و فخر الدولة طغايرك بن أكفر بن وبذل عن مازندان مائتي ألف دينار كل سنة فتجهز لذلك و نكر على محمود تغلب وزيره أبي منصور و أمير حاجب علي بن عمر عليه و سار و على مقدمته الأمير أنز و جهز السلطان محمود علي بن عمر حاجبه و حاجب أبيه في عشرة آلاف فارس و أقام هو بالري فلما قارب الحاجب مقدمة سنجر مع الأمير أنز بجرجان راسله باللين و الخشونة و أن السلطان محمد أوصانا بتعظيم أخيه سنجر و استحلفنا على ذلك إلا أنا لا نقضي على زوال ملكنا ثم تهدده بكثرة العساكر و قوتها فرجع أنز عن جرجان و اتبعه بعض العساكر فنالوا منه و عاد علي بن عمر إلى السلطان محمود فشكره و أشار عليه أصحابه بالمقام بالري فلم يقبل ثم ضجر و سار إلى حرقان و توافت إليه الأمداد من العراق منكبرس شحنة بغداد في عشرة آلاف فارس و منصور أخو دبيس و أمراء البلخية و غيرهم و سار إلى همذان فأقام بها و توفي بها وزيره الربيب و استوزر مكانه أبا طالب السميري ثم جاء السلطان سنجر إلى الري في عشرين ألفا و ثمانية عشر فيلا و معه ابن الأمير أبي الفضل صاحب سجستان و خوارزم شاه محمد و الأمير أنز و الأمير قماج و اتصل به علاء الدولة كرساسفا بن قرامرد بن كاكويه صاحب يزد و كان صهر محمد و سنجر على أختهما و اختص بمحمد و دعاه محمود فتأخر عنه فأقطع بلده لقراجا الساقي الذي ولي بعد ذلك فارس و سار علاء الدولة إلى سنجر و عرفه حال السلطان محمود و اختلاف أصحابه و فساد بلاد فزحف إليه السلطان محمود من همذان في ثلاثين ألفا و معه علي بن عمر أمير حاجب و منكبرس و أتابكه غزغلي و بنو برسق و سنجق البخاري و قراجا الساقي و معه تسعمائة حمل من السلاح و التقيا على ساوة في جمادى سنة ثلاث عشرة فانهزمت عساكر السلطان سنجر أولا و ثبت هو بين الفيلة و السلطان محمود و اجتمع أصحابه إليه و بلغ الخبر إلى بغداد فأرسل دبيس بن صدقة إلى المسترشد في الخطبة للسلطان سنجر فخطب له آخر جمادى و قطعت خطبة محمود بعد الهزيمة إلى أصبهان و معه وزيره أبو طالب السميري و الأمير علي بن عمر و قراجا و اجتمعت عليه العساكر و قوي أمره و سار السلطان سنجر من همذان و رأى قلة عساكره فراسل ابن أخيه في الصلح و كانت والدته و هي جدة محمود تحرضه على ذلك فأجاب إليه ثم وصل إليه أقنسقر البرسقي الذي كان شحنة ببغداد و كان عند الملك مسعود من يوم انصرافه عنها و جاء رسوله من عند السلطان محمود بأن الصلح إنما يوافق عليه الأمراء بعد عود السلطان سنجر إلى خراسان فأنف من ذلك و سار من همذان إلى الكرج و أعاد مراسلة السلطان محمود في الصلح و أن يكون ولي عهده فأجاب إلى ذلك و تحالفا عليه و جاء السلطان محمود إلى عمه سنجر و نزل في بيت والدته و هي جدة محمود و حمل إليه هدية حفلة و كتب السلطان سنجر إلى أعماله بخراسان و غزنة و ما وراء النهر و غيرها من الولايات بأن يخطب للسلطان محمود و كتب إلى بغداد بمثل ذلك و أعاد عليه جميع البلاد سوى الري لئلا تحدث محمودا نفسه بالانتقاض ثم قتل السلطان محمود الأمير منكبرس شحنة بغداد لأنه لما انهزم محمود و سار إلى بغداد ليدخلها منعه دبيس فعاد في البلاد و رجع و قد استقر في الصلح فقصد السلطان مستجيرا به فأبى من اجارته و مؤاخذته و بعثه إلى السلطان محمود فقتله صبرا لما كان يستبد عليه الأمور و سار شحنة إلى بغداد على زعمه فحقد له ذلك و أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الدين بهر و زشحنة بالعراق و كان بها نائب دبيس بن صدقة فعزل به ثم قتل السلطان محمود حاجبه علي بن عمر و كان قد استحلفه و رفع منزلته فكثرت السعاية فيه فهرب إلى قلعة عند الكرج كان بها أهله و ماله ثم لحق بخوزستان و كان بيد بني برسق فاقتضى عهودهم و سار إليهم فلما كان على تستر بعثوا من يقبض عليه فقاتلهم فلم يقر عنه و أسروه و استأذنوه السلطان محمودا في أمره فأمر بقتله و حمل رأسه إليه (3/614)
انتقاض الملك مسعود على أخيه السلطان محمود و الفتنة بينهما
كان الملك مسعود قد استقر بالموصل و أذربيجان منذ صالحه السلطان محمود عليها بأول ملكه و كان أقسنقر البرسقي مع الملك مسعود منذ فارق شحنة بغداد و أقطعه مراغة مضافة إلى الرحبة و كان دبيس يكاتب حيوس بك الأتابك في القبض عليه و بعثه إلى مولاه السلطان محمود و يبذل لهم المال على ذلك و شعر البرسقي ففارقه السلطان محمود و عاد إلى جميل رأيه فيه و كان دبيس مع ذلك يغري الأتابك حيوس بك بالخلافة على السلطان محمود و يعدهم من نفسه المناصرة لينال باختلافهم في تمهيد سلطانه ما ناله أبوه باختلاف بركيارق و محمد و كان أبو المؤيد محمد بن أبي إسمعيل الحسين بن علي الأصبهاني يكتب للملك محمود و يرسم الطغري و هي العلامة على مراسيمه و منها هباته و جاء والده أبو إسمعيل من أصبهان فعزل الملك مسعود وزيره أبا علي بن عمار صاحب طرابلس و استوزره مكانه سنة ثلاث عشرة فحسن له الخلاف الذي كان دبيس يكاتبهم فيه و يحسنه لهم و بلغ السلطان محمودا خبرهم فكتب يحذرهم فلم يقبلوا و خلعوا و خطبوا للملك مسعود بالسلطنة و ضربوا له النوب الخمس و ذلك سنة أربع عشرة و كانت عساكر السلطان محمود مفترقة فبادروا إليه و التقوا في عقبة استراباذ منتصف ربيع الأول و البرسقي في مقدمة محمود و أبلى يومئذ و اقتتلوا يوما كاملا و انهزمت عساكر مسعود في عشيته و أسر جماعة منهم و فيهم الوزير الأستاذ أبو إسمعيل الطغرائي فأمر السلطان بقتله لسنة من وزارته و قال هو فاسد العقيدة و كان حسن الكتابة و الشعر و له تصانيف في الكيمياء و قصد الملك مسعود بعد الهزيمة جبلا على إثني عشر فرسخا من مكان الوقعة فاختفى فيه و بعث يطلب الأمان من أخيه فبعث إليه البرسقي يؤمنه و يحضره و كان بعض الأمراء قد لحق به في الجبل و أشار عليه باللحاق بالموصل و استمد دبيسا فسار لذلك و أدركه البرسقي على ثلاثين فرسخا من مكانه و أمنه على أخيه و أعاده إليه فأريب العساكر للقائه و بالغ في إكرامه و خلطه بنفسه و أما أتابكه حيوس بك فلما افتقد السلطان مسعود سار إلى الموصل و جمع العساكر و بلغه فعل السلطان مع أخيه فسار إلى الزاب ثم جاء السلطان بهمذان فأمنه و أحسن إليه و أما دبيس فلما بلغه خبر الهزيمة عاث في البلاد و أخربها و بعث إليه المسترشد بالنكير فلم يقبل فكتب بشأنه إلى السلطان محمود و خاطبه السلطان في ذلك فلم يقبل و سار إلى بغداد و خيم إزاء المسترشد و أظهر أنه يثأر منهم بأبيه ثم عاد عن بغداد و وصل السلطان في رجب فبعث دبيس إليه زوجته بنت عميد الدولة بن جهير بمال و هدايا نفيسة و أجيب إلى الصلح على شروط امتنع منها فسار إليه السلطان في شوال و معه ألف سفينة ثم استأمن إلى السلطان فأمنه و أرسل نساءه إلى البطيحة و سار إلى أبي الغازي مستجيرا به و دخل السلطان الحلة و عاد عنها و لم يزل دبيس عند أبي الغازي و بعث أخاه منصورا إلى أصحابه من أمراء النواحي ليصلح حاله مع السلطان فلم يتم ذلك و بعث إليه أخوه منصور يستدعيه إلى العراق فسار من قلعة جعبر إلى الحلة سنة خمس عشرة و ملكها و أرسل إلى الخليفة و السلطان بالاعتذار و الوعد بالطاعة فلم يقبل منه و سارت إليه العساكر مع سعد الدولة بن تتش ففارق الحلة و دخلها سعد و أنزل بالحلة عسكرا و بالكوفة آخر ثم راجع دبيس الطاعة على أن يرسل أخاه منصورا رهينة فقبل و رجع العسكر إلى بغداد سنة ست عشرة (3/616)
اقطاع الموصل للبرسقي و ميافارقين لأبي الغازي
ثم أقطع السلطان محمود الموصل و أعمالها و الجزيرة و سنجار و ما يضاف إلى ذلك للأمير أقسنقر البرسقي شحنة بغداد و ذلك أنه كان ملازما للسلطان في حروبه ناصحا له و هو الذي حمل السلطان مسعودا على طاعة أخيه محمود و أحضره عنده فلما حضر حيوس بك وزيره عند السلطان محمود من الموصل بقيت بدون أمير فولى عليها البرسقي سنة خمس عشرة و خمسمائة و أمره بمجاهدة الفرنج فأقام في إمارتها دهرا هو و بنوه كما يأتي في أخبارهم ثم بعث الأمير أبو الغازي بن أرتق ابنه حسام الدين تمرتاش شافعا في دبيس بن صدقة و أن يضمن الحلة بألف دينار و فرس في كل يوم و لم يتم ذلك فلما انصرف عن السلطان أقطع أباه أبا الغازي مدينة ميافارقين و تسلمها من يد سقمان صاحب خلاط سنة خمس عشرة و بقيت في يده و يد بنيه إلى أن ملكها منهم صلاح الدين بن أيوب سنة ثمانين و خمسمائة كما يذكر في أخبارهم (3/618)
طاعة طغرل لأخيه السلطان محمود
قد تقدم ذكر انتقاض الملك طغرل بساوة و زنجان على أخيه السلطان محمود بمداخلة أتابكه كتبغري و أن السلطان محمود المشار إليه أزعجه إلى كنجة و سار إلى أذربيجان يحاول ملكها ثم توفي أتابكه كتبغري في شوال سنة خمس عشرة و كان أقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة فطمع في رتبة كتبغري و سار إلى طغرل و استدعاه إلى مراغة و قصدوا أردبيل فامتنعت عليهم فجاؤا إلى تبريز و بلغهم أن السلطان أقطع أذربيجان لحيوس بك و بعثه في العساكر و أنه سبقهم إلى مراغة فعدلوا عنها و كافؤا صاحب زنجان فأجابهم و سار معهم إلى أبهر فلم يتم لهم مرادهم و راسلوا السلطان في الطاعة و استقر حالهم و أما حيوس بك فوقعت بينه و بين الأمراء من عسكره منافرة فسعوا به عند السلطان فقتله بتبريز في رمضان في سنته و كان تركيا من مماليك السلطان محمد و كان حسن السيرة مضطلعا بالولاية و لما ولي الموصل و الجزيرة كان الأكراد قد عاثوا في نواحيها و أخافوا سبلها فأوقع بهم و حصر قلاعهم و فتح الكثير منها ببلد الهكارية و بلد الزوزان و بلد النسوية و بلد النحسة حتى خاف الأكراد و اطمأن الناس و أمنت السبل (3/618)
أخبار دبيس مع المسترشد
قد ذكرنا مسير العساكر إلى دبيس مع برسق الكركوي سنة أربع عشرة و كيف وقع الاتفاق و بعث دبيس أخاه منصورا رهينة فجاء برتقش به بغداد سنة ست عشرة و لم يرض المسترشد ذلك وكتب إلى السلطان محمود بأن دبيس لا يصلحه شيء لأنه مطالب بثأر أبيه و أشار بأن يبعث عن البرسقي من الموصل لتشديد دبيس و يكون شحنة ببغداد فبعث إليه السلطان و أنزله شحنة ببغداد و أمره بقتال دبيس فأقام عشرين شهرا و دبيس معمل في الخلافة ثم أمره المسترشد بالمسير إليه و إخراجه من الحلة فاستقدم البرسقي عساكره من الموصل و سار إلى الحلة و لقيه دبيس فهزم عساكره و رجع إلى بغداد في ربيع من سنة ست عشرة و كان معه في العسكر مضر بن النفيس بن مهذب الدولة أحمد بن أبي الخير عامل البطيحة فغدا عليه عمه المظفر بن عماد بن أبي الخير فقتله في انهزامهم و سار إلى البطيحة فتغلب عليها و كاتب دبيس في الطاعة و أرسل دبيس إلى المسترشد بطاعته و أن يبعث عماله لقرى الخاص يقبضون دخلها على أن يقبض المسترشد على وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة فتم بينهما ذلك و قبض المسترشد على وزيره و هرب ابن أخيه جلال الدين أبو الرضي إلى الموصل و بلغ الخبر بالهزيمة إلى السلطان محمود فقبض على منصور أخي دبيس و حبسه و أذن دبيس لأصحاب الإقطاع بواسط في المسير إلى إقطاعهم فمنعهم الأتراك بها فجهز إليهم عسكرا مع مهلهل بن أبي العسكر و أمر مظفر بن أبي الخير عامل البطيحة بمساعدته و بعث البرسقي المدد إلى أهل واسط فلقيهم مهلهل بن أبي المظفر فهزموه و أسروه و جماعة من عسكره و استلحموا كثيرا منهم و جاء المظفر أبو الخير على أثره و أكثر النهب و العيث وبلغه خبر الهزيمة فرجع و بعث أهل واسط بتذكرة وجدوها مع مهلهل بخط دبيس فأمره بالقبض على المظفر فمال إليهم و انحرف عن دبيس ثم بلغ دبيس أن السلطان محمودا سمل أخاه منصورا فانتقض و نهب ما كان للخليفة بأعماله و سار أهل واسط إلى النعمانية فأجلوا عنها أصحاب دبيس و تقدم المسترشد إلى البرسقي بالمسير لحرب دبيس فسار لذلك كما نذكر ثم أقطع السلطان محمود مدينة واسط للبرسقي مضافة إلى ولاية الموصل فبعث عماد الدين زنكي بن أقسنقر ولد نور الدين العادل (3/619)
نكبة الوزير ابن صدقة و ولاية نظام الملك
قد ذكرنا آنفا أن دبيس اشترط على المسترشد في صلحه معه القبض على وزيره جلال الدين أبي علي بن صدقة فقبض عليه في جمادى سنة ست عشرة و أقام في نيابة الوزارة شرف الدين علي بن طراد الزينبي و هرب جلال الدين أبو الرضي ابن أخي الوزير إلى الموصل و بعث السلطان محمود إلى المسترشد في أن يستوزر نظام الدولة أبا نصر أحمد بن نظام الملك و كان السلطان محمود قد استوزر أخاه شمس الملك عثمان عندما قل الباطنية بهمذان وزيره الكمال أبا طالب السميري فقبل المسترشد إشارته و استوزر نظام الملك و قد كان وزر للسلطان محمد سنة خمسمائة ثم عزل و لزم داره ببغداد فلما وزر و علم ابن صدقة أنه يخرجه طلب من المسترشد أن يسير إلى سليمان بن مهارش بحديثة غانة فأذن له فسار و نهب في طريقه و أسر ثم خلص إلى مأمنه في واقعة عجيبة ثم قتل السلطان محمود وزيره شمس الملك فعزل المسترشد أخاه نظام الدين أحمد عن وزارته و أعاد جلال الدين أبا علي بن صدقة إلى مكانه (3/620)
واقعة المسترشد مع دبيس
كان دبيس في واقعته مع البرسقي قد أسر عفيفا الخادم ثم أطلقه سنة سبع عشرة و حمله إلى المسترشد رسالة بخروج البرسقي للقتال يتهدده بذلك على ما بلغه من سمل أخيه و حلف لينهبن بغداد فاستطار المسترشد غضبا و أمر البرسقي بالمسير لحربه فسار في رمضان من سننه ثم تجهز للخليفة و برز من بغداد و استدعى العساكر فجاءه سليمان بن مهارش صاحب الحديثة في بني عقيل و قرواش بن مسلم و غيرهما و نهب دبيس نهر الملك من خاص الخليفة و نودي في بغداد بالنفير فلم يتخلف أحد و فرقت فيههم أموال و السلاح و عسكر المسترشد خارج بغداد في عشر ذي الحجة و برز لأربع بعدها و عبر دجلة و عليه قباء أسود و عمامة سوداء و على كتفه البردة و في يده القضيب و في وسطه منطقة حديد صيني و وزيره معه نظام الدين و نقيب الطالبيين و نقيب النقباء علي بن طراد و شيخ الشيوخ صدر الدين إسمعيل و غيرهم فنزل بخيمة و بلغ البرسقي خروجه فعاد بعسكره إليه و نزل المسترشد بالحديثة بنهر الملك و استحلف البرسقي و الأمراء على المناصحة و سار فنزل المباركة وعبى البرسقي أصحابه للحرب و وقف المسترشد وراء العسكر في خاصته و عبى دبيس أصحابه صفا واحدا و بين يديهم الإماء تعزف و أصحاب الملاهي و عسكر الخليفة تتجاذب القراءة و التسبيح مع جنباته و مع أعلامه كرباوي بن خراسان و في الساقة سليمان بن مهارش و في ميمنة البرسقي أبو بكر بن إلياس مع الأمراء البلخية فحمل عنتر بن أبي العسكر من عسكر دبيس على ميمنة البرسقي فدحرجها و قتل ابن أخي أبي بكر ثم حمل ثانية كذلك فحمل عماد الدين زنكي بن أقسنقر في عسكر واسط على عنتر بن أبي العسكر فأسره و من معه و كان من عسكر المسترشد كمين متوار فلما التحم الناس خرج الكمين و اشتد الحرب و جرد المسترشد سيفه و كبر و تقدم فانهزمت عساكر دبيس و جيء بالأسرى فقتلوا بين يدي الخليفة و سبى نساؤهم و رجع الخليفة إلى بغداد في عاشوراء من سنة سبع عشرة و ذهب دبيس و خفي أثره قصد غزية من العرب فأبوا من ذلك إيثارا لرضا المسترشد و السلطان فسار إلى المشقر من البحرين فأجابوه و سار بهم إلى البصرة فنهبوها و قتلوا أميرها و تقدم المسترشد للبرسقي بالانحدار إليه بعد أن عنفه على غفلته عنه و سمع دبيس ففارق البصرة و بعث البرسقي عليها زنكي بن أقسنقر فأحسن حمايتها و طرد العرب عن نواحيها و لحق دبيس بالفرنج في جعبر و حاصر معهم حلب فلم يظفروا و أقلعوا عنها سنة ثمان عشرة فلحق دبيس بطغرل ابن السلطان محمد و أغراه بالمسترشد و بملك العراق كما نذكر (3/620)
ولاية برتقش شحنة بغداد
ثم إن المسترشد وقعت بينه و بين البرسقي منافرة فكتب إلى السلطان محمود في عزله عن العراق و إبعاده إلى الموصل فأجابه إلى ذلك و أرسل إلى البرسقي بالمسير إلى الموصل لجهاد الإفرنج و بعث إليه بابن صغير من أولاده يكون معه و ولى على شحنة بغداد برتقش الزكوي و جاء نائبه إلى بغداد فسلم إليه البرسقي العمل و سار إلى الموصل بابن السلطان و بعث إلى عماد الدين زنكي أن يلحق به فسار إلى السلطان و قدم عليه بالموصل فأكرمه و أقطعه البصرة و أعاده إليها (3/621)
وصول الملك طغرل و دبيس إلى العراق
قد ذكرنا مسير دبيس بن صدقة من الشام إلى الملك طغرل فأحسن إليه و رتبه في خاص أمرائه و جعل دبيس يغريه بالعراق و يضمن له ملكه فسار لذلك سنة تسع عشرة و وصلوا مدقوقا فكتب مجاهد الدين مهروز من تكريت إلى المسترشد بخبرهما فتجهز إلى دفاعهما و سار إليهما و أمر برتقس الزكوي الشحنة أن يستنفر و يستعبد فبلغت عدة العسكر اثني عشر ألفا سوى أهل بغداد و برز خامس صفر سنة تسع عشرة و سار فنزل الخالص و عدل طغرل إلى طريق خراسان و أكثرت عساكره النهب و نزل رباط جلولاء و سار إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في العساكر فنزل الدسكرة و جاء المسترشد فنزل معه و توجه طغرل و دبيس فنزلا الهارونية و اتفقا أن يقطعا جسر النهروان فيقيم دبيس على المعابر و يخالفهم طغرل إلى بغداد ثم عاقتهم جميعا عوائق المطر و أصابت طغرل الحمى و جاء دبيس إلى النهروان ليعبر و قد لحقهم الجوع فصادف أحمالا من البر و الأطعمة جاءت من بغداد للمسترشد فنهبها و أرجف في معسكر المسترشد أن دبيس ملك بغداد فأجفلوا من الدسكرة إلى النهروان و تركوا أثقالهم و لما حلوا بالنهروان وجدوا دبيس و أصحابه نياما فاستيقظ و قبل الأرض بين يدي المسترشد و تذلل فهم بصلحه و وصل الوزير ابن صدقة فثناه عن ذلك ثم مد المسترشد الجسر و عبر و دخل بغداد لفتنة خمسة و عشرين يوما و سار دبيس إلى طغرل ثم اعتزموا على المسير إلى السلطان سنجر و مروا بهمذان فعاثوا في أعمالها و صادروا و اتبعهم السلطان فانهزموا بين يديه و لحقوا بالسلطان سنجر شاكين من المسترشد و الشحنة برتقش (3/622)
الفتنة بين المسترشد و السلطان محمود
ثم وقعت بين برتقش الزكوي و بين نواب المسترشد نبوة فبعث إليه المسترشد يتهدده فخافه على نفسه و سار إلى السلطان محمود في رجب سنة عشرين فحذر منه و أنه ثاور العساكر و لقي الحروب و قويت نفسه و أشار بمعاجلته قبل أن يستفحل أمره و يمتنع عليه فسار السلطان نحو العراق فبعث إليه المسترشد بالرجوع عن البلاد لما فيها من الغلاء من فتنة دبيس و بذل له المال و أن يسير إلى العراق مرة أخرى فارتاب السلطان و صدق ما ظنه برتقش و أغذ السير فعبر المسترشد إلى الجانب الغربي مغضبا يظهر الرحيل عن بغداد إذ قصدها السلطان و صانعه السلطان بالاستعطاف و سؤاله في العود فأبى فغضب السلطان و دخل نحو بغداد و أقام المسترشد بالجانب الغربي و بعث عفيفا الخادم من خواصه في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن أقسنقر و كان على البصرة كما ذكرناه فسار إليه و هزمه و قتل من عسكره و نجا عفيف إلى المسترشد برأسه فجمع المسترشد السفن و سد أبواب دار الخلافة إلا باب النوبى و وصل السلطان في عشر ذي الحجة من سنة عشرين و نزل باب الشماسية و منع العسكر عن دور الناس و راسل المسترشد في العود و الصلح فأبى و نجا جماعة من عسكر السلطان فنهبوا التاج في أول المحرم سنة إحدى و عشرين فضج العامة لذلك و اجتمعوا و خرج المسترشد و الشماسية على رأسه و الوزير بين يديه و أمر بضرب الطبول و نفخ الأبواق و نادى بأعلى صوته يالهاشم ! و نصب الجسر و عبر الناس دفعة واحدة و كان في الدار رجال مختفون في السراديب فخرجوا على العسكر و هم مشتغلون في نهب الدار فأسروا جماعة منهم و نهب العامة دور أصحاب السلطان و عبر المسترشد إلى الجانب الشرقي في ثلاثين ألف مقاتل من أهل بغداد و السواد و أمر بحفر الخنادق فحفرت ليلا و منعوا بغداد عنهم و اعتزموا على كبس السلطان محمود و جاء عماد الدين زنكي من البصرة في حشود عظيمة ملأت البر و البحر فاعتزم السلطان على قتال بغداد و أذعن المسترشد إلى الصلح فاصطلحوا و أقام السلطان ببغداد إلى ربيع الآخر سنة إحدى و عشرين و مرض فأشير عليه بمفارقة بغداد فارتحل إلى همذان و نظر فيمن يوليه شحنة العراق مضافا إلى ما بيده و يثق به في سد تلك الخلة و حمل إليه الخليفة عند رحيله الهدايا و التحف و الألطاف فقبل جميعها و لما أبعد السلطان عن بغداد قبض على وزيره أبي القاسم علي بن الناصر النشاباذي لاتهامه بممالأة المسترشد و استوزر مكانه شرف الدين أنوشروان بن خالد و كان مقيما ببغداد فاستدعاه و أهدى إليه الناس حتى الخليفة و سار من بغداد في شعبان فوصل إلى السلطان بأصبهان و خلع عليه ثم استعفى لعشرة أشهر و عاد إلى بغداد و لم يزل الوزير أبو القاسم محبوسا إلى أن جاء السلطان سنجر إلى الري في السنة بعدها فأطلقه و أعاده إلى وزارة السلطان (3/623)
أخبار دبيس مع السلطان سنجر
لما وصل دبيس إلى السلطان سنجر و معه طغرل أغرباه بالمسترشد و السلطان محمود و أنهما عاصيان عليه و سهلا عليه أمر العراق فسار إلى الري و استدعى السلطان محمودا يختبر طاعته بذلك فبادر للقائه و لما وصل أمر سنجر العساكر فتلقوه و أجلسه معه على سريره و أقام عنده مدة و أوصاه بدبيس أن يعيده إلى بلده و رجع سنجر إلى خراسان منتصف ذي الحجة و رجع محمود إلى همذان و دبيس معه ثم سار إلى بغداد فقدمها في تاسوعاء سنة ثلاث و عشرين و استرضى المسترشد لدبيس فرضى عنه على شريطة أن يوليه غير الحلة فبذل في الموصل مائة ألف دينار و شعر بذلك زنكي فجاء بنفسه إلى السلطان و هجم على الستر متذمما و حمل الهدايا و بذل مائة ألف فأعاده السلطان إلى الموصل و أعاد بهروز شحنة على بغداد و جعلت الحلة لنظره وسار السلطان إلى همذان في جمادى سنة ثلاث و عشرين ثم مرض السلطان فلحق دبيس بالعراق و حشد المسترشد لمدافعته و هرب بهروز من الحلة فدخلها دبيس في رمضان من سنة ثلاث و عشرين و بعث السلطان في أثره الأميرين اللذين ضمناه له و هما كزل و الأحمديلي فلما سمع دبيس بهما أرسل إلى المسترشد يستعطفه و تردد الرسل و هو يجمع الأموال و الرجال حتى بلغ عسكره عشرة آلاف و وصل الأحمديلي بغداد في شوال و سار في أثر دبيس ثم جاء السلطان إلى العراق فبعث إليه دبيس بالهدايا و بذل الأموال على الرضا فأبى و وصل إلى بغداد و دخل دبيس البرية و قصد البصرة فأخذ ما كان فيها للخليفة و السلطان و جاءت العساكر في اتباعه فدخل البرية انتهى (3/624)
وفاة السلطان محمود و ملك ابنه داود ثم منازعته عمومه و استقلال مسعود
ثم توفي السلطان محمود في شوال من سنة خمس و عشرين لثلاث عشرة سنة من ملكه و اتفق وزيره أبو القاسم النشاباذي و أتابكه أقسنقر الأحمديلي على ولاية ابنه داود مكانه و خطب له في جميع بلاد الجبل و أذربيجان و وقعت الفتنة بهمذان و نواحيها ثم سكنت فسار الوزير بأمواله إلى الري ليأمن في إيالة السلطان سنجر ثم إن الملك داود سار في ذي القعدة من سنة خمس و عشرين من همذان إلى ربكان و بعث إلى المسترشد ببغداد في الخطبة و أتاه الخبر بأن عمه مسعودا سار من جرجان إلى تبريز و ملكها فسار إليه و حصره في تبريز إلى سلخ المحرم من سنة ست و عشرين ثم اصطلحا و أفرج داود عن تبريز و خرج السلطان مسعود منها و اجتمعت عليه العساكر فانتقض و سار إلى همذان و أرسل إلى المسترشد في الخطبة فأجابهم جميعا بأن الخطبة للسلطان سنجر صاحب خراسان و يعين بعده من يراه و بعث إلى سنجر بأن الخطبة للسلطان سنجر صاحب خراسان و يعين بعده من يراه و بعث إلى سنجر بأن الخطبة إنما ينبغي أن تكون لك وحدك فوقع ذلك منه أحسن موقع و كاتب السلطان مسعود عماد الدين زنكي صاحب الموصل فأجابه و سار إليه و انتهى إلى المعشوق و بينما هم في ذلك إذ سار قراجا الساقي صاحب فارس و خوزستان بالملك سلجوق شاه ابن السلطان محمد و كان أتابكه فدخل بغداد في عسكر كبير و نزل دار السلطان و استخلفه المسترشد لنفسه و وصل مسعود إلى عباسة فبرزوا للقائه و جاءهم خبر عماد الدين زنكي فعبر قراجا إلى الجانب الغربي للقائه و واقعه فهزمه و سار منهزما إلى تكريت و بها يومئذ نجم الدين أيوب أبو السلطان صلاح الدين فهيأ له الجسر للعبور و عبر فأمن و سار لوجهه و جاء السلطان مسعود من العباسة للقاء أخيه سلجوق و من معه مدلا بمكان زنكي و عسكره من ورائهم و بلغه خبر انهزامهم فنكص على عقبه و راسل المسترشد بأن السلطان سنجر وصل إلي و طلب الاتفاق من المسترشد و أخيه سلجوق شاه و قراجا على قتال سنجر على أن يكون العراق للمسترشد يتصرف فيه نوابه والسلطنة لمسعود و سلجوق شاه ولي عهده فأجابوه إلى ذلك و جاء بغداد في جمادى الأولى سنة ست و عشرين و تعاهدوا على ذلك (3/625)
واقعة مسعود مع سنجر و هزيمته و سلطنة طغرل
لما توفي السلطان محمود و ولي ابنه داود مكانه نكر ذلك عمه السلطان سنجر عليهم و سار إلى بلاد الجبل و معه طغرل ابن أخيه السلطان محمد كان عنده منذ وصوله مع دبيس فوصل إلى الري ثم إلى همذان و سار السلطان مسعود و أخوه سلجوق و قراجا الساقي أتابك سلجوق للقائه وكان المسترشد قد عاهدهم على الخروج و ألزموه ذلك ثم إن السلطان سنجر بعث إلى دبيس و أقطعه الحلة و أمره بالمسير إلى بغداد و بعث إلى عماد الدين زنكي بولاية شحنكية بغداد و السير إليها فبلغ المسترشد خبر مسيرهما فرجع لمدافعتهما و سار السلطان مسعود و أصحابه للقاء السلطان سنجر و نزل استراباذ في مائة ألف من العسكر فخاموا عن لقائه و رجعوا أربع مراحل فاتبعهم سنجر و تراءى الجمعان عند الدينور ثامن رجب فاقتتلوا و على ميمنة مسعود قراجا الساقي و كزل و على ميسرته برتقش باردار و يوسف حاروس فحمل قراجا الساقي في عشرة آلاف على السلطان سنجر حتى تورط في مصافه فانعطفوا عيله من الجانبين و أخذ أسيرا بعد جراحات و انهزم مسعود و أصحابه و قتل بعضهم و فيهم يومئذ يوسف حاروس و أسر آخرون فيهم قراجا فأحضر عند السلطان سنجر فوبخه ثم أمر بقتله و جاء السلطان مسعود إليه فأكرمه و عاتبه على مخالفته و أعاده أميرا إلى كنجة و ولى الملك طغرل ابن أخيه محمدا في السلطنة و جعل وزيره أبا القاسم النشاباذي وزير السلطان محمود و عاد إلى خراسان و وصل نيسابور في عاشر رمضان من سنته و أما الخليفة فرجع إلى بغداد كما قلناه لمدافعة دبيس و زنكي و بلغه الخبر بهزيمة السلطان مسعود فعبر إلى الجانب الغربي و سار إلى العباسية و لقيهما بحصن البرامكة آخر رجب و كان في ميمنته جمال الدولة إقبال و في ميسرته مطر الخادم فانهزم اقبال لحملة زنكي و حمل الخليفة و مطر على دبيس فانهزم و تبعه زنكي فاستمرت الهزيمة عليهم و افترقوا و مضى دبيس إلى الحلة و كانت بيد إقبال و جاءه
المدد من بغداد فلقي دبيس و هزمه ثم تخلص بعد الجهد و قصد واسط و أطاعه عسكرها إلى أن خلت سنة سبع و عشرين فجاءهم إقبال و برتقش باردار و زحفوا في العساكر برا و بحرا فانهزمت أهل واسط و لما استقر طغرل بالسلطنة و عاد عمه سنجر إلى خراسان لخلاف أحمد خان صاحب ما وراء النهر عليه و كان داود ببلاد أذربيجان و كنجة فانتقض و جمع العساكر و سار إلى همذان و برز إليه طغرل و في ميمنته ابن برسق و في ميسرته كزل و في مقدمته أقسنقر و سار إليه داود في ميمنته برتقش الزكوي و التقيا في رمضان سنة ست و عشرين فأمسك برتقش عن القتال و استراب التركمان منه فنهبوا خيمته و اضطرب عسكر داود لذلك فهرب أتابكه أقسنقر الأحمديلي و استمرت الهزيمة عليهم و أسر برتقش الزكوي و مضى داود ثم قدم بغداد و معه أتابكه أقسنقر الأحمديلي فأنزله الخليفة بدار السلطان و أكرمه و لما بلغ السلطان مسعودا هزيمة داود و وصوله إلى بغداد قدم إليها و خرج داود لتلقيه و ترجل له عن فرسه و نزل مسعود بدار السلطنة في صفر سنة سبع و عشرين و خطب له على منابر بغداد و لداود بعده و اتفقا مع المسترشد بالسير إلى أذبيجان و أن يمدهما و سارا لذلك و ملك مسعود سائر بلاد أذربيجان و حاصر جماعة من الأمراء بأردبيل ثم هزمهم و قتل منهم و سار إلى همذان و برز أخو طغرل للقائه فانهزم و استولى مسعود على همذان و قتل أقسنقر قتله الباطنية و يقال بدسيسة السلطان محمود و لما انهزم طغرل قصد الري و بلغ قم ثم عاد إلى أصبهان ليمتنع بها و سار أخوه مسعود للحصار فارتاب طغرل بأهل أصبهان و سار إلى بلاد فارس فاتبعه مسعود و استأمن إليه بعض أمراء طغرل فارتاب بالباقين و انهزم إلى الري في رمضان من سنته و اتبعه مسعود فلحقه بالري و قاتله فانهزم طغرل و أسر جماعة من أمرائه و عاد مسعود إلى همذان ظافرا و عندما قصد طغرل الري من فارس قتل في طريقه وزيره أبا القاسم النشاباذي في شوال من سنته لموجدة وجدها عليه (3/626)
مسير المسترشد لحصار الموصل
لما انهزم عماد الدين زنكي أمام المسترشد كما قلنا لحق بالموصل و شغل سلاطين السلجوقية في همذان بالخلف الواقع بينهم و جماعة من أمراء السلجوقية إلى بغداد فرارا من الفتنة فقوي بهم المسترشد و بعث إلى عماد الدين زنكي بعض شيوخ الصوفية من حضرته فأغلظ له في الموعظة فأهانه زنكي و حبسه فاعتزم المسترشد على حصار الموصل و بعث بذلك إلى السلطان مسعود و سار من بغداد منتصف شعبان سنة سبع و عشرين في ثلاثين ألف مقاتل و لما قارب الموصل فارقها زنكي و نزل بها نائبه نصير الدين حقر و لحق بسنجر و أقام يقطع المدد و الميرة عن عسكر المسترشد حتى ضاقت بهم الأمور و حاصرها المسترشد ثلاثة أشهر فامتنعت عليه و رحل عائدا إلى بغداد فوصل يوم عرفة من سننه يقال إن مطرا الخادم جاء من عسكر السلطان مسعود لأنه قاصد العراق فارتحل لذلك (3/627)
مصاف طغرل و مسعود و انهزام مسعود
و لما عاد مسعود إلى همذان بعد انهزام أخيه طغرل بلغه انتقاض داود ابن أخيه محمود بأذربيجان فسار إليه و حصره ببعض قلاعها فخالفه طغرل إلى بلاد الجبل و اجتمعت عليه العساكر ففتح كثيرا من البلاد و قصد مسعودا و انتهى إلى قزوين فسار مسعود للقائه و هرب من عسكره جماعة كان طغرل قد داخلهم و استمالهم فولى مسعود منهزما آخر رمضان سنة ثمان و عشرين و استأذن المسترشد في دخول بغداد و كان نائبه بأصبهان البقش السلامي و معه أخوه سلجوق شاه فلما بلغهم خبر الهزيمة لحقوا ببغداد و نزل سلجوق بدار السلطان و بعث إليه الخليفة بعشرة آلاف دينار ثم قدم مسعود بعدهم و لقي في طريقه شدة و أصحابه بين راجلين و ركاب فبعث إليهم المسترشد بالمقام و الخيام و الأموال و الثياب و الآلات و قرب إليهم المنازل و نزل مسعود بدار السلطنة ببغداد منتصف شوال سنة ثمان و أقام طغرل بهمذان (3/628)
وفاة طغرل و استيلاء السلطان مسعود
و لما وصل مسعود إلى بغداد أكرمه المسترشد و وعده بالمسير معه لقتال أخيه طغرل و أزاح علل عسكره و استحثه لذلك و كان جماعة من أمراء السلجوقية قد ضجروا من الفتنة و لحقوا بالمسترشد فساروا معه و دس إليهم طغرل بالمواعيد فارتاب المسترشد ببعضهم و اطلع على كتاب طغرل إليه و قبض عليه ونهب ماله فلحق الباقون بالسلطان و بعث فيهم المسترشد فمنعهم السلطان فحدثت بينهم الوحشة لذلك و بعث السلطان إلى الخليفة يلزمه المسير معه و بيناهما على ذلك إذ جاءه الخبر بوفاة طغرل في المحرم من سنة تسع و عشرين فسار السلطان مسعود إلى همذان و أقبلت إليه العساكر فاستولى عليها و أطاعه أهل البلاد و استوزر شرف الدين أنوشروان خالدا و كان قد سار معه بأهله (3/628)
فتنة السلطان مسعود مع المسترشد
لما استولى السلطان مسعود على همذان استوحش منه جماعة من أعيان الأمراء منهم برتقش و كزل و سنقر والي همذان و عبد الرحمن بن طغرلبك ففارقوه و دبيس بن صدقة معهم و استأمنوا إلى الخليفة و لحقوا بخوزستان و تعاهدوا مع برسق على طاعة المسترشد و حذر المسترشد من دبيس و بعث شديد الدولة ابن الأنباري بالأمان للأمراء دون دبيس و رجع دبيس إلى السلطان مسعود و سار الأمراء إلى بغداد فأكرمهم المسترشد و اشتدت وحشة السلطان مسعود لذلك و منافرته للمسترشد فاعتزم المسترشد على قتاله و برز من بغداد في عاشر رجب و أقام بالشفيع و عصي عليه صاحب البصرة فلم يجبه و أمراء السلجوقية الذين بقوا معه يحرضونه على المسير فبعث مقدمته إلى حلوان ثم سار من شعبان و استخلف على العراق إقبالا خادمه في ثلاث آلاف فارس و لحقه برسق بن برسق فبلغ عسكره سبعة آلاف فارس و كان أصحاب الأعراب يكاتبون المسترشد بالطاعة فاستصلحهم مسعود و لحقوا به و بلغ عسكره خمسة عشر ألفا و تسلل إليه كثير من عسكر المسترشد حتى بقي في خمسة آلاف و بعث إليه داود ابن السلطان محمود من أذربيجان بأن يقصد الدينور ليلقاه بها بعسكره فجفل للقاء السلطان مسعود و سار و في ميمنته برتقش باردار و كور الدولة سنقر و كزول و برسق بن برسق و في ميسرته جاولي برسقي و سراب سلار و أغلبك الذي كان قبض عليه من أمراء السلجوقية بموافقتهم السلطان و كان ذلك عاشر رمضان سنة تسع و عشرين و انحازت ميسرة المسترشد إليه و انطبقت عساكره عليه و انهزم أصحاب المسترشد و أخذ هو أسيرا بموكبه و فيهم الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي و قاضي القضاة و الخطباء و الفقهاء و الشهود و غيرهم و أنزل المسترشد في خيمة و حبس الباقون بقلعة سرحاب و عاد السلطان إلى همذان و بعث الأمير بك آي المحمدي إلى بغداد شحنة فوصل سلخ رمضان و معه عميد فقبضوا أملاك الخليفة و أخذوا غلاته و ضج الناس ببغداد و بكوا على خليفتهم و أعول النساء ثم عمد العامة إلى المنبر فكسروه و منعوا من الخطبة و تعاقبوا في الأسواق يحثون التراب على رؤسهم و قاتلوا أصحاب الشحنة فأثخن فيهم بالقتل و هرب الوالي و الحاجب و عظمت الفتنة ثم بلغ السلطان في شوال أن داود ابن أخيه محمود عصي عليه بالمراغة فسار لقتاله و المسترشد معه و تردد الرسل بينهما في الصلح (3/629)
مقتل المسترشد و خلافة الراشد
قد ذكرنا مسير المسترشد مع السلطان مسعود إلى مراغة و هو في خيمة موكل به و ترددت الرسل بينهما و تقرر الصلح على أن يحمل مالا للسلطان و لا يجمع العساكر لحرب و لا فتنة و لا يخرج من داره فانعقد على ذلك بينهما و ركب المسترشد و حملت الغاشية بين يديه على العود إلى بغداد فوصل الخبر بموافاة رسول من السلطان سنجر فتأخر مسيره لذلك و ركب السلطان مسعود للقاء الرسول و كانت خيمة المسترشد منفردة العسكر فدخل عليه عشرون رجلا أو يزيدون من الباطنية فقتلوه و جدعوه و صلبوه و ذلك سابع عشر ذي القعدة من سنة تسع و عشرين لسبع عشرة و نصف من خلافته و قتل الرجال الذين قتلوه و بويع ابنه أبو جعفر بعهد أبيه إليه بذلك فجددت له البيعة ببغداد في ملأ من الناس وكان إقبال خادم المسترشد في بغداد فلما وقعت هذه الحادثة عبر إلى الجانب الغربي و أصعد إلى تكريت و نزل على مجاهد الدين بهروز ثم بعد مقتل المسترشد بأيام قتل دبيس بن صدقة على باب سرادقه بظاهر مدينة خوي أمر السلطان مسعود غلاما أرمنيا فوقف على رأسه فضربه و أسقط رأسه و اجتمع إلى أبيه صدقة بالحلة عساكره و مماليكه و استأمن إليه قطلغ تكين و أمر السلطان مسعود بك آي شحنة بغداد فأخذ الحلة من يد صدقة فبعث بعض عسكره إلى المدائن و خام عن لقائه حتى قدم السلطان إلى بغداد سنة إحدى و ثلاثين فقصده و صالحه و لزم بابه (3/630)
الفتنة بين الراشد و السلطان مسعود و لحاقه بالموصل و خلعه
و بعد بيعة الراشد و استقراره في الخلافة وصل برتقش الزكوي من عند السلطان محمود يطلب من الراشد ما استقر على أبيه من المال أيام كونه عندهم و هو أربعمائة ألف دينار فأجابه بأنه لم يخلف شيئا و أن ماله كان معه فنهب ثم نمي إلى الراشد أن برتقش تهجم على دار الخلافة و فتش المال فجمع الراشد العساكر و أصلح السور ثم ركب برتقش و معه الأمراء البلخية و جاؤا لهجم الدار و قاتلهم عسكر الخليفة العامة فساروا إلى طريق خراسان و انحدر بك آي إلى خراسان و سار برتقش إلى البند هجين و نهبت العامة دار السلطان و اشتدت الوحشة بين السلطان و الراشد و انحرف الناس عن طاعة السلطان إلى الخليفة و سار داود بن السلطان في عسكر أذربيجان إلى بغداد و نزل بدار السلطان في صفر من سنة ثلاثين و وصل عماد الدين زنكي من الموصل و وصل برتقش باردار صاحب قزوين و البقش الكبير صاحب أصبهان و صدقة بن دبيس صاحب الحلة و ابن برسق و ابن الأحمديلي و جفل الملك داود برتقش باردار شحنة ببغداد و قبض الراشد على ناصح الدولة أبي عبد الله الحسن بن جهير استادار و على جمال الدين إقبال و كان قدم إليه من تكريت فتنكر له أصحابه و خانوه و شفع زنكي في إقبال الخادم فأطلقه و صار عنده و خرج الوزير جلال الدين أبو الرضا بن صدقة لتلقي زنكي فأقام عنده ثم شفع فيه و أعاده إلى وزارته و لحق قاضي القضاة الزينبي بزنكي أيضا و سار معه إلى الموصل و وصل سلجوق شاه إلى واسط و قبض بها بك آي و نهب ماله فانحدر زنكي إليه و صالحه و رجع إلى بغداد ثم سار السلطان داود نحو طريق خراسان و معه زنكي لقتال السلطان مسعود و برز الراشد أول رمضان و سار إلى طريق خراسان و رجع بعد ثلاث و أرسل إلى داود و الأمراء بالعود و قتال مسعود من وراء السور و راسلهم مسعود بالطاعة و الموافقة فأبوا و تبعهم الخليفة في ذلك و جاء مسعود فنزل على بغداد و حصرهم فيها و ثار العيارون و كثر الهرج و أقاموا كذلك نيفا و خمسين و امتنعوا و أقلع السلطان عنهم ثم وصله طرنطاني صاحب واسط بالسفن فعاد و عبر إلى الجانب الغربي فاضطرب الراشد و أصحابه و عاد داود إلى بلاده و كان زنكي بالجانب الغربي فعبر إليه الراشد و سار معه إلى الموصل و دخل السلطان مسعود بغداد منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين و أمن الناس و استدعى القضاة و الفقهاء و الشهود و عرض عليهم يمين الراشد بخطه : إني متى جندت جندا و خرجت و لقيت أحدا من أصحاب السلطان بالسيف فقد خلعت نفسي من الأمر فأفتوا بخلعه و وافقهم على ذلك أصحاب المناصب و الولايات و اتفقوا على ذمه فتقدم السلطان لخلعه و قطعت خطبته ببغداد و سائر البلاد في ذي القعدة من سنة ثلاثين لسنة من خلافته (3/631)
خلافة المقتفي
و لما قطعت خطبة الراشد استشار السلطان مسعود أعيان بغداد فيمن يوليه فأشاروا بمحمد بن المستظهر فقدم إليهم بعمل محضر في خلع الراشد و ذكروا ما ارتكبه من أخذ الأموال و من الأفعال القادحة في الإمامة و ختموا آخر المحضر بأن من هذه صفته لا يصلح أن يكون إماما و حضر القاضي أبو طاهر بن الكرخي فشهدوا عنده بذلك و حكم بخلعه و نفذه القضاة الآخرون و كان قاضي القضاة غائبا عند زنكي بالموصل و حضر السلطان دار الخلافة و معه الوزير شرف الدين الزينبي و صاحب المخزن ابن العسقلاني و أحضر أبو عبد الله بن المستظهر فدخل إليه السلطان و الوزير و استخلفاه ثم أدخلوا الأمراء و أرباب المناصب و القضاة و الفقهاء فبايعوه ثامن عشر ذي الحجة و لقبوه المقتفي و استوزر شرف الدين علي بن طراد الزينبي و بعث كتاب الحكم بخلع الراشد إلى الآفاق و أحضر قاضي القضاة أبا القاسم علي بن الحسين فأعاده إلى منصبه و كمال الدين حمزة بن طلحة صاحب المخزن كذلك (3/632)
فتنة السلطان مسعود مع داود و اجتماع داود للراشد للحرب و مقتل الراشد
و لما بويع للمقتفي و السلطان مسعود ببغداد و بعث عساكره بطلب الملك داود فلقيه عند مراغة فانهزم داود و ملك قراسنقر أذربيجان ثم قصد داود خوزستان و اجتمع عليه من عساكر التركمان و غيرهم نحو عشرة آلاف مقاتل و حاصر تستر و كان السلطان سلجوق شاه بواسط بعث إلى أخيه مسعود يستنجده فأنجده بالعساكر و سار إلى تستر فقاتله داود و هزمه و السلطان مسعود مقيما ببغداد مخافة أن يقصد الراشد العراق من الموصل و كان قد بعث لزنكي فخطب للمقتفي في رجب سنة إحدى و ثلاثين و سار الراشد من الموصل فلما بلغ خبر مسيره إلى السلطان مسعود أذن للعسكر في العود إلى بلادهم و انصرف صدقة بن دبيس صاحب الحلة بعد أن زوجه ابنته ثم قدم على السلطان مسعود جماعة الأمراء الذين كانوا مع الملك داود مثل البقش السلامي و برسق بن برسق صاحب تستر و سنقر خمارتكين شحنة همذان فرضي عنهم و ولي البقش شحنة ببغداد فظلم الناس و عسفهم و لما فارق الراشد زنكي من الموصل سار إلى أذربيجان و انتهى إلى مراغة و كان بوزابة و عبد الرحمن طغرلبك صاحب خلخال و الملك داود ابن السلطان محمود خائفين من السلطان مسعود فاجتمعوا إلى منكبرس صاحب فارس و تعاهدوا على بيعة داود و أن يردوا الراشد إلى الخلافة فأجابهم الراشد إلى ذلك و بلغ الخبر إلى السلطان فسار من بغداد في شعبان سنة إثنتين و ثلاثين و بلغهم قبل وصوله وصول الراشد إليهم فقاتلهم بخوزستان فانهزموا و أسر منكبرس صاحب فارس فقتله السلطان مسعود صبرا و افترقت عساكره للنهب و في طلب المنهزمين و رآه بوزابة و عبد الرحمن طغرلبك في قل من الجنود فحملوا عليه و قتل بوزابة جماعة من الأمراء منهم صدقة بن دبيس و ابن قراسنقر الأتابك صاحب أذربيجان و عنتر بن أبي العسكر و غيرهم كان قبض عليهم لأول الهزيمة و أمسكهم عنده فلما بلغه قتل منكبرس قتلهم جميعا و انصرف العسكران منهزمين و قصد مسعود أذربيجان و داود همذان و جاء إليه الراشد بعد الواقعة و أشار بوزابة و كان كبير القوم بمسيرهم فسار بهم إلى فارس فملكها و أضافها إلى خوزستان و سار سلجوق شاه ابن السلطان مسعود ليملكها فدافعه عنها البقش الشحنة و مطر الخادم أمير الحاج و ثار العيارون أيام تلك الحرب و عظم الهرج ببغداد و رحل الناس عنها إلى البلاد فلما انصرف سلجوق شاه و استقر البقش الشحنة فتك فيهم بالقتل و الصلب و لما قتل صدقة بن دبيس ولى السلطان على الحلة محمدا أخاه و جعل معه مهلهلا أخا عنتر بن أبي العسكر يدبره و لما وصل الراشد و الملك داود إلى خوزستان مع الأمراء على ما ذكرناه و ملكوا فارس ساروا إلى العراق و معهم خوارزم شاه فلما قاربوا الجزيرة خرج السلطان مسعود لمدافعتهم فافترقوا و مضى الملك داود إلى فارس و خوارزم شاه إلى بلاده و بقي الراشد وحده فسار إلى أصبهان فوثب عليه في طريقه نفر من الخراسانية الذين كانوا في خدمته فقتلوه في القيلولة خامس عشر رمضان سنة إثنتين و ثلاثين و دفن بشهرستان ظاهر أصبهان و عظم أمر هذه الفتنة و اختلفت الأحوال و المواسم و انقطعت كسوة الكعبة في هذه السنة من دار الخلافة من قبل السلاطين حتى قام بكسوتها تاجر فارسي من المترددين إلى الهند أنفق فيها ثمانية عشر ألف دينار مصرية و كثر الهرج من العيارين حتى ركب زعماؤهم الخيول و جمعوا الجموع و تستر الوالي ببغداد بلباس ابن أخيه سراويل الفتوة عن زعيمهم ليدخل في جملتهم و حتى هم زعيمهم بنقش اسمه في سكة بانبار فحاول الشحنة و الوزير على قتله فقتل و نسب أمر العيارين إلى البقش الشحنة لما أحدث من الظلم و العسف فقبض عليه السلطان مسعود و حبسه بتكريت عند مجاهد الدين بهروز ثم أمر بقتله فقتل ثم قدم السلطان مسعود في ربيع سنة ثلاث و ثلاثين في الشتاء و كان يشتي بالعراق و يصيف بالجبال فلما قدم أزال المكوس و كتب بذلك في الألواح فنصبت في الأسواق و على أبواب الجامع و رفع عن العامة نزول الجند عليهم فكثر الدعاء له و الثناء عليه (3/633)
وزارة الخليفة
و في سنة أربع و ثلاثين وقع بين المقتفي و وزيره علي بن طراد الزينبي وحشة بما كان يعترض على المقتفي في أمره فخاف و استجار بالسلطان مسعود فأجاره و شفع المقتفي في إعادته فامتنع و أسقط اسمه من الكتب و استناب المقتفي ابن عمه قاضي القضاة و الزينبي ثم عزله و استناب شديد الدولة الأنباري ثم وصل السلطان إلى بغداد سنة ست و ثلاثين فوجد الوزير شرف الدين الزينبي في داره فبعث وزيره إلى المقتفي شفيعا في إطلاق سبيله إلى بيته فأذن له انتهى (3/634)
الشحنة ببغداد
و في سنة ست و ثلاثين عزل مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد و ولى كزل أمير آخر من مماليك السلطان محمود فكان على البصرة فأضيف إليه شحنكية بغداد و لما وصل السلطان مسعود إلى بغداد و رأى تبسط العيارين و فسادهم أعاد بهروز شحنة و لم ينتفع الناس بذلك لأن العيارين كانوا يتمسكون بالجاه من أهل الدول فلا يقدر بهروز على منعهم و كان ابن الوزير و ابن قاروت صهر السلطان يقاسمانهم فيما يأخوذن من النهب و اتفق سنة ثمان و ثمانين أن السلطان أرسل نائب الشحنكية و وبخه على فساد العيارين فأخبره بشأن صهره و ابن وزيره فأقسم ليصلبنه إن لم يصلبهما فأخذ خاتمه على ذلك و قبض على صهره ابن قاروت فصلبه و هرب ابن الوزير و قبض على أكثر العيارين و افترقوا و كفى الناس شرهم (3/635)
انتفاض الأعياص و استبداد الأمراء على الأمير مسعود و قتله إياهم
و في سنة أربعين سار بوزابة صاحب فارس و خوزستان و عساكره إلى قاشان و معه الملك محمد ابن السلطان محمود و اتصل بهم الملك سليمان شاه ابن السلطان محمد ولقي بوزابة الأمير عباس صاحب الري و تآمرا في الانتفاض على السلطان مسعود و ملكا كثيرا من بلاده فسار السلطان مسعود عن بغداد و نزل بها الأمير مهلهل و الخادم مطر و جماعة من غلمان بهروز و سار معه الأمير عبد الرحمن طغرلبك وكان حاجبه و متحكما في دولته و كان هواه مع ذينك الملكين فسار السلطان و عبد الرحمن حتى تقارب العسكران فلقي سليمان شاه أخاه مسعودا فحنق عليه و جرى عبد الرحمن في الصلح بين الفريقين و أضيفت وظيفة أذربيجان و أرمينية إلى ما بيده و سار أبو الفتح ابن هزارشب وزير السلطان مسعود و معه وزير بوزابة فاستبدوا على السلطان و حجروه عن التصرف فيما يريده و كان بك أرسلان بن بلنكري المعروف بخاص بك خالصة صاحب خلخال و بعض أذربيجان فلما عظم تحكمه أسر السلطان إلى خاص بك بقتل عبد الرحمن فدس ذلك إلى جماعة من الأمراء و قتلوه في موكبه ضربه بعضهم بمقرعة فسقط إلى الأرض ميتا و بلغ إلى السلطان مسعود ببغداد و معه عباس صاحب الري في عسكر أكثر من عسكره فامتعض لذلك فتلطف له السلطان و استدعاه إلى داره فلما انفرد عن غلمانه أمر به فقتل و كان عباس من غلمان السلطان محمود و ولي الري و جاهد الباطنية و حسنت آثاره فيهم و كان مقتله في ذي القعدة سنة إحدى و أربعين ثم حبس السلطان مسعود أخاه سليمان شاه بقلعة تكريت و بلغ مقتل عباس إلى بوزابة فجمع عساكره من فارس و خوزستان : و سار إلى أصبهان فحاصرها ثم سار إلى السلطان مسعود و التقيا بمرج قراتكين فقتل بوزابة قيل بسهم أصابه و قيل أخذ أسيرا و قتل صبرا و انهزمت عساكره إلى همذان و خراسان (3/635)
انتقاض الأمراء ثانية على السلطان
و لما قتل السلطان من قتل من أمرائه استخلص الأمير خاص بك و أنفذ كلمته في الدولة و رفع منزلته فحسده كثير من الأمراء و خافوا غائلته و ساروا نحو العراق و هم : إيلدكر المسعودي صاحب كنجة و أرانية و قيصر و البقش كون صاحب أعمال الجبل و قتل الحاجب و طرنطاي المحمودي شحنة واسط و ابن طغابرك و لما بلغوا حلوان خاف الناس بأعمال العراق و عني المقتفي بإصلاح السور و بعث إليهم بالنهي عن القدوم فلم ينتهوا و وصلوا في ربيع الآخر سنة ثلاث و أربعين و الملك محمد ابن السلطان محمود معهم و نزلوا بالجانب الشرقي و فارق مسعود جلال الشحنة ببغداد إلى تكريت و وصل إليهم علي بن دبيس صاحب الحلة و نزل بالجانب الغربي و جند المقتفي أجنادا و قتلوهم مع العامة فكانوا يستطردون للعامة و الجند حتى يبعدوا ثم يكرون عليهم فيثخنوا فيهم ثم كثر عيثهم و نهبهم ثم اجتمعوا مقابل التاج و قبلوا الأرض و اعتذروا و ترددت الرسل و رحلوا إلى النهروان و عاد مسعود جلال الشحنة من تكريت إلى بغداد و افترق هؤلاء الأمراء و فارقوا العراق و السلطان مع ذلك مقيم ببلد الجبل و أرسل عمه سنجر إلى الري سنة أربع و أربعين فبادر إليه مسعود و ترضاه فأعتبه و قبل عذره ثم جاءت سنة أربع و أربعين جماعة أخرى من الأمراء و هم البقش كون و الطرنطاي و ابن دبيس و ملك شاه ابن السلطان محمود فراسلوا المقتفي في الخطبة لملك شاه فلم يجبهم و جمع العساكر و حصن بغداد و كاتب السلطان مسعودا بالوصول إلى بغداد فشغله عمه سنجر إلى الري و لما علم البقش مراسلة المقتفي إلى مسعود نهب النهروان و قبض على علي بن دبيس و هرب الطرنطاي إلى النعمانية و وصل السلطان مسعود إلى بغداد منتصف شوال و رحل البقش كون من النهروان و أطلق ابن دبيس (3/636)
وزارة المقتفي
و في سنة أربع و أربعين استوزر المقتفي يحيى بن هبيرة و كان صاحب ديوان الزمام و ظهرت منه كفاية في حصار بغداد فاستوزره المقتفي (3/637)
وفاة السلطان مسعود و ملك ملك شاه ابن أخيه محمود
ثم توفي السلطان مسعود أول رجب سنة سبع و أربعين و خمسمائة لإحدى و عشرين سنة من بيعته و عشرين من عوده بعد منازعة إخوته و كان خاص بك بن سلمكري متغلبا على دولته فبايع لملك شاه ابن أخيه السلطان محمود و خطب له بالسلطنة في همذان و كان هذا السلطان مسعود آخر ملوك السلجوقية عن بغداد و بعث السلطان ملك شاه الأمير شكاركرد في عسكر إلى الحلة فدخلها و سار إليه مسعود جلال الشحنة و أظهر له الاتفاق ثم قبض عليه و غرقه و استبد بالحلة و أظهر المقتفي إليه العساكر مع الوزير عون الدولة و الدين بن هبيرة فعبر الشحنة إليهم الفرات و قاتلهم فانهزموا و ثار أهل الحلة بدعوة المقتفي و منعوا الشحنة من الدخول فعاد إلى تكريت و دخل ابن هبيرة الحلة و بعث العساكر إلى الكوفة و واسط فملكوها و جاءت عساكر السلطان إلى واسط فغلبوا عليها عسكر المقتفي فتجهز بنفسه و انتزعها من أيديهم و سار منها إلى الحلة ثم عاد إلى بغداد في عشر ذي القعدة ثم إن خاص بك المتغلب على السلطان ملك شاه استوحش و تنكر و أراد الاستبداد فبعث عن الملك محمد ابن السلطان محمد بخوزستان سنة ثمان و أربعين فبايعه أول صفر و أهدى إليه و هو مضمر الفتك فسبقه السلطان محمد لذلك و قتله ثاني يوم البيعة إيد غدي التركماني المعروف بشملة من أصحاب خاص بك و نهاه عن الدخوله إلى السلطان محمد فلم يقبل فلما قتل خاص بك نهب شملة عسكره و لحق بخوزستان و كان خاص بك صبيا من التركمان اتصل بالسلطان مسعود و استخلصه و قدمه على سائر الأمراء (3/637)
حروب المقتفي مع أهل الخلاف و حصار البلاد
ثم بعث المقتفي عساكره لحصار تكريت مع ابن الوزير عون الدين و الأمير ترشك من خواصه و غيرهما و وقع بينه و بين ابن الوزير منافرة خشي لها ترشك على نفسه فصالح الشحنة صاحب تكريت و قبض على ابن الوزير و الأمراء و حبسهم صاحب تكريت و غرق كثير منهم و سار ترشك و الشحنة إلى طريق خراسان فعاثوا فيها و خرج المقتفي في اتباعهم فهربا بين يديه و وصل تكريت و حاصرها أياما ثم رجع إلى بغداد و بعث سنة تسع و أربعين بتكريت في ابن الوزير و غيره من المأسورين فقبض على الرسول فبعث إليهم عسكرا فامتنعوا عليه فسار المقتفي بنفسه في صفر من سنته و ملك تكريت و امتنعت عليه القلعة فحاصرها و رجع في ربيع ثم بعث الوزير عون الدين في العساكر لحصارها و استكثر من الآلات و ضيق عليها ثم بلغه الخبر بأن شحنة مسعود و ترشك و صلا في العساكر و معهم الأمير البقش كون و أنهما استحثا الملك محمدا لقصد العراق فلم يتهيأ له فبعث هذا العسكر معهم و انضاف إليهم خلق كثير من التركمان فسار المقتفي للقائهم و بعث الشحنة مسعود عن أرسلان ابن السلطان طغرل بن محمد و كان محبوسا بتكريت فأحضره عنده ليقاتل به المقتفي و التقوا عند عقر بابل فتنازلوا ثمانية عشر يوما ثم تناجزوا آخر رجب فانهزمت ميمنة المقتفي إلى بغداد و نهبت خزائنه و ثبت هو و اشتد القتال و انهزمت عساكر العجم و ظفر المقتفي بهم و غنم أموال التركمان و سبى نساءهم و أولادهم و لحق البقش كون ببلد المحلو و قلعة المهاكين و أرسلان بن طغرل و رجع المقتفي إلى بغداد أول شعبان و قصد مسعود الشحنة و ترشك بلد واسط للعيث فيها فبعث المقتفي الوزير ابن هبيرة في العساكر فهزمهم ثم عاد فلقيه المقتفي سلطان العراق و أرسلان بن طغرل و بعث إليه السلطان محمد في إحضاره عنده و مات البقش في رمضان من سنته و بقى أرسلان مع ابن البقش و حسن الخازندار فحملاه إلى الجبل ثم سارا به إلى الركن زوج أمه و هو أبو البهلوان و أرسلان و طغرل الذي قتله خوارزم شاه و كان آخر السلجوقية ثلاثتهم إخوة لأم ثم سار المقتفي سنة خمسين إلى دقوقا فحاصرها أياما ثم رجع عنها لأنه بلغه أن عسكر الموصل تجهز لمدافعته عنها فرحل (3/638)
استيلاء شمله على خوزستان
قد ذكرنا من قبل شأن شملة و أنه من التركمان و اسمه إيد غدي و أنه كان من أصحاب خاص بك التركماني و هرب يوم قتل السلطان محمد صاحبه خاص بك بعد أن حذره منه فلم يقبل و نجا من الواقعة فجمع جموعا و سار يريد خوزستان و صاحبها يومئذ ملك شاه ابن السلطان محمود بن محمد و بعث المقتفي عساكره لذلك فلقيهم شملة في رجب و هزمهم و أسر وجوههم ثم أطلقهم و بعث إلى الخليفة يعتذر فقبل عذره و سار إلى خوزستان فمكلها من يد ملك شاه ابن السلطان محمود (3/639)
إشارة إلى بعض أخبار السلطان سنجر بخوزستان و مبدأ دولة بني خوارزم شاه
كان السلطان سنجر من ولد السلطان ملك شاه لصلبه و لما استولى بركيارق بن ملك شاه على خوزستان سنة تسعين و أربعمائة من يد عمه أرسلان أرغون كما نذكر في أخبارهم عند تفردها مستوفى ولى عليها أخاه سنجر وولى على خوارزم محمد بن أنوش تكين من قبل الأمير داود حبشي بن أليوساق ثم لما ظهر السلطان محمد و نازع بركيارق و تعاقبا في الملك و كان سنجر شقيقا لمحمد فولاه على خراسان و لم يزل عليها و لما اختلف أولاد محمد من بعده كان عقيد أمرهم و صاحب شوراهم إذا خلف له ببغداد مقدما اسمه على اسم سلطان العراق منهم سنة ثم خرجت أمم الخطا من الترك من مفازة الصين و ملكوا ما وراء النهر من يد الجابية ملوك تركستان سنة ست و ثلاثين كما نذكر في أخبارهم و سار سنجر لمدافعتهم فهزموه فوهن لذلك فاستبد عليه خوارزم شاه بعض الشىء و كان الخلفاء لما ملكوا بلاد تركستان أزعجوا الغز عنها إلى خراسان و هم بقية السلجوقية هناك و أجاز السلجوقية لأول دولتهم إلى خراسان فملكوها و بقي هؤلاء الغز بنواحي تركستان فأجازوا أمام الخطا إلى خراسان و أقاموا السلطان بها حتى عتوا و نموا ثم كثر عيثهم و فسادهم و سار إليهم السلطان سنجر سنة ثمان و أربعين فهزموه و استولوا عليه و أسروا و ملكوا بلاد خراسان و افترق أمراؤه على النواحي ثم ملكوه و هو أسير في أيديهم ذريعة لنهب البلاد و استولوا به على كثير منها و هرب من أيديهم سنة إحدى و خمسين و لم يقدر على مدافعتهم ثم توفي سنة إثنتين و خمسين و افترقت بلاد خراسان على أمرائه كما يذكر في أخبارهم ثم تغلب بنو خوارزم شاه عليها كلها و على أصبهان و الري من ورائها و على أعمال غزنة من يد بني سبكتكين و شاركهم فيها النور بعض الشيعة و قام بنو خوارزم شاه مقام السلجوقية إلى أن انقرضت دولتهم على يد جنكزخان ملك التتر من أمم الترك في أوائل المائة السابعة كما يذكر ذلك كله في أخبار كل منهم عندما نفردها بالذكر إن شاء الله تعالى (3/639)
الخطبة ببغداد لسليمان شاه ابن السلطان محمد و حروبه مع السلطان محمد بن محمد
كان سليمان بن محمد عند عمه سنجر بخراسان منذ أعوام و قد جعله ولي عهده و خطب له بخراسان فلما غلب الغز على سنجر و أسروه تقدم سليمان شاه على العساكر ثم غلبتهم الغز فلحق بخورازم شاه فصاهره أولا بابنة أخيه ثم تنكر فسار إلى أصبهان فمنعه شحنتها من الدخول فسار إلى قاشان فبعث إليه السلطان محمد شاه بن محمود فقصد اللحف و نزل على السيد محسن و بعث إلى المقتفي ليستأذنه في القدوم و بعث زوجته و ولده رهنا على الطاعة و المناصحة فأذن له و قدم في خف من العساكر ثلثمائة أو نحوها و أخرج الوزير عون الدين بن هبيرة ولده لتلقيه و معه قاضي القضاة و النقباء و دخل و على رأسه الشمسية و خلع عليه و لما كان المحرم من سنة إحدى و خمسين حضر عند المقتفي بمحضر قاضي القضاة و أعيان العباسيين و استحلفه على الطاعة و أن لا يتعرض للعراق ثم خطب له ببغداد و بلقب أبيه السلطان محمد و بعث عسكرا نحو ثلاثة آلاف و استقدم داود صاحب الحلة فجعل له أمر الحجابة و سار نحو الجبل في ربيع و سار المقتفي إلى حلوان و سار إلى ملك شاه بن محمود أخي سليمان صاحب خوزستان فاستحلفه لسليمان شاه و جعله ولي عهده و أمدهما بالمال و الأسلحة و ساروا إلى همذان و أصبهان و جاءهم المذكر صاحب بلاد أران فكثر جمعهم و بلغ خبرهم السلطان محمد بن محمود فبعث إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل و نائبه زين الدين ليستنجدهما فأجاباه و سار للقاء سليمان شاه و أصحابه فالتقوا في جمادى و انهزم سليمان شاه و افترقت عساكره و سار المذكر إلى بلاده و سار سليمان شاه إلى بغداد و سلك على شهرزور فاعترضه زين الدين علي كوجك نائب قطب الدين بالموصل و كان مقطع شهرزور الأمير بران من جهة زين الدين فاعترضاه و أخذاه أسيرا و حمل زين الدين إلى الموصل فحبسه بقلعتها و بعث إلى السلطان محمد بالخبر (3/640)
حصار السلطان محمد بغداد
كان السلطان محمد قد بعث إلى المقتفي في الخطبة له ببغداد فامتنع من إجابته ثم بايع لعمه سليمان و خطب له و كان ما قدمناه من أمره معه ثم سار السلطان محمد من همذان في العساكر نحو العراق فقدم في ذي الحجة سنة إحدى و خمسين و جاءته عساكر الموصل مددا من قبل قطب الدين و نائبه زين الدين و اضطربت الناس ببغداد و أرسل المقتفي عن فضلو بواش صاحب واسط فجاء عسكره و ملك مهلهل الحلة فاهتم ابن هبيرة بأمر الحصار و جمع السفن تحت الناجي و قطع الجسر و أجفل الناس من الجانب الغربي و نقلت الأموال إلى حريم دار الخلافة و فرق المقتفي السلاح في الجند و العامة و مكثوا أياما يقتتلون و مد السلطان جسرا على دجلة فعبر على الجانب الشرقي حتى كان القتال في الجانبين و نفدت الأقوات في العسكر و اشتد القتال و الحصار على أهل بغداد لانقطاع الميرة و الظهر من عسكر الموصل لأن نور الدين محمود بن زنكي و هو أخو قطب الدين الأكبر بعث إلى زين الدين يلومه على قتال الخليفة ثم بلغ السلطان محمدا أن أخاه ملك شاه و المذكر صاحب بلاد أران و أرسلان ابن الملك طغرل بن محمد ساروا إلى همذان و ملكوها فارتحل عن بغداد في آخر ربيع سنة اثنتين و خمسين و سار إلى همذان و عاد زين الدين كوجك إلى الموصل و لما قصد السلطان محمد همذان صار ملك شاه و المذكر و من معهما إلى الري فقاتلهم شحنتها آبنايخ و هزموه و أمده السلطان محمد بالأمير سقمان بن قيمار فسار لذلك و لقيهما منصرفين عن الري قاصدين بغداد فقاتلهما و انهزم أمامهما فسار السلطان في أثرهما إلى خوزستان فلما انتهى إلى حلوان جاءه الخبر بأن المذكر بالدينور و بعث إليه آبنايخ بأنه استولى على همذان و أعاد خطبته فيها فافترقت جموع ملك شاه و المذكر و فارقهم شملة صاحب خوزستان فعادوا هاربين إلى بلادهم و عاد السلطان محمد إلى همذان (3/641)
حروب المقتفي مع أهل النواحي
كان سنقر الهمذاني صاحب اللحف و كان في هذه الفتنة قد نهب سواد بغداد و طريق خراسان فسار المقتفي لحربه في جمادى سنة ثلاث و خمسين و ضمن له الأمير خلطوا براس إصلاحه فسار إليه خاله على أن يشرط المقتفي معه في بلد اللحف الأمير أزغش المسترشدي فأقطعهما لهما جميعا و رجع ثم عاد سنقر على أزغش و أخرجه و انفرد ببلده و خطب للسلطان محمد فسار إليه خلطوا براس من بغداد في العساكر و هزمه و ملك اللحف و سار سنقر إلى قلعة الماهكي للأمير قايماز العميدي و نزلها في أربعمائة ألف فارس ثم سار إليه سنقر سنة أربع و خمسين فهزمه و رجع إلى بغداد فخرج المقتفي إلى النعمانية و بعث العساكر مع ترشك فهرب سنقر في الجبال و نهب ترشك مخلفه و حاصر قلعة الماهكي ثم عاد إلى البندنجين و بعث بالخبر إلى بغداد و لحق سنقر بملك شاه فأمده بخمسمائة فارس و بعث ترشك إلى المقتفي في المدد فأمده و بعث إليه سنقر في الإصلاح فحبس رسوله و سار إليه فهزمه و استباح عسكره و نجا سنقر جريحا إلى بلاد العجم فأقام بها ثم جاء بها سنة أربع و خمسين إلى بغداد و ألقى نفسه تحت التاج فرضي عنه المقتفي و أذن له في دخول دار الخلافة ثم زحف إلى قايماز السلطان في ناحية بادرايا سنة ثلاث و خمسين فهزمه و قتله و بعث المقتفي عساكره لقتال شملة فلحق بملك شاه (3/642)
وفاة السلطان محمد بن محمود و ملك عمه سليمان شاه ثم أرسلان بن طغرل
ثم إن السلطان محمد بن محمود بن ملك شاه لما رجع عن حصار بغداد أصابه مرض السل و طال به و توفي بهمذان في ذي الحجة سنة أربع و خمسين لسبع سنين و نصف من ملكه و كان له والد فيئس من طاعة الناس له و دفعه لأقسنقر الأحمديلي و أوصاه عليه فرحل به إلى مراغة و لما مات السلطان محمد اختلف الأمر فيمن يولونه و مال الأكثر إلى سليمان شاه عمه و طائفة إلى ملك شاه أخيه و طائفة إلى أرسلان بن السلطان طغرل الذي مع إلدكز ببلاد أران و بادر ملكشاه أخوه فسار من خوزستان و معه شملة التركماني و دكلا صاحب فارس و رحل إلى أصبهان فأطاعه ابن الخجندي و أنفق عليه الأموال و بعث إلى عساكر همذان في الطاعة فلم يجيبوه و أرسل أكابر الأمراء من همذان إلى قطب الدين مودود بن زنكي صاحب الموصل في سليمان شاه المحبوس عنده ليولوه عليهم و ذلك أول سنة خمس و خمسين فأطلقه على أن يكون أتابكا له و جمال الدين وزيره وزيرا و جهزه بجهاز السلطنة و بعث معه نائبه زين الدين علي كوجك في عسكر الموصل فلما قاربوا بلاد الجبل و أقبلت العساكر من كل جهة على السلطان سليمان فارتاب كوجك لذلك وعاد إلى الموصل فلم ينتظم أمر سليمان و دخل همذان و بايعوا له و خطب له ببغداد و كثرت جموع ملك شاه بأصبهان و بعث إلى بغداد في الخطبة و أن يقطع خطبة عمه و يراجع القواعد بالعراق إلى ما كانت فوضع عليه الوزير عون الدين بن هبيرة جارية بعث بها إليه فسمته فمات سنة خمس و خمسين فأخرج أهل أصبهان أصحابه و خطبوا لسليمان شاه و عاد شملة إلى خراسان فملك كل ما كان ملك شاه تغلب عليه منها و استقر سليمان شاه بتلك البلاد و شغل باللهو و السكر و منادمة الصفاعين و فوض الأمور إلى شرف الدين دوا داره من مشايخ السلجوقية كان ذا دين و عقل و حسن تربية فشكا الأمراء إليه فدخل عليه و عذله و هو سكران فأمر الصفاعين بالرد عليه و خرج مغضبا و صحا سليمان فاستدرك أمره بالاعتذار فأظهر القبول و اجتنب الحضور عنده و بعث سليمان إلى ابنايخ صاحب الري يستقدمه فاعتذر بالمرض إلى أن يفيق و نمي الخبر إلى كربازه الخادم فعمل دعوة عظيمة حضرها السلطان و الأمراء و قبض عليه و على وزيره أبي القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي و على أصحابه في شوال من سنة ست و خمسين فقتل وزيره و خواصه و حبسه أياما و خرج ابنايخ صاحب الري و نهب البلاد و حاصر همذان و بعث كردباز إلى إلدكز يستدعيه ليبايع لربيبه أرسلان شاه بن طغرل فسار في عشرين ألف فارس و دخل همذان و خطب لربيبه أرسلان شاه بن طغرل بالسلطنة و جعل إلدكز أتابكا له و أخاه من أمه البهلول بن إلدكز حاجبا و بعث إلى المقتفي في الخطبة و أن تعاد الأمور إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود فطرد رسوله و عاد إليه على أقبح حالة و بعث إلى ابنايخ صاحب الري فحالفه على الاتفاق و صاهره في ابنته على البهلول و جاءت إليه بهمذان و كان إلدكز من مماليك السلطان مسعود و أقطعه أران و بعض أذربيجان و لم يحضر شيئا من الفتنة و تزوج أم أرسلان شاه و زوجه طغرل فولدت له محمدا البهلوان و عثمان كزل أرسلان ثم بعث إلدكز إلى آقسنقر الأحمديلي صاحب مراغة في الطاعة لأرسلان شاه ربيبه فامتنع و هددهم بالبيعة للطفل الذي عنده محمود بن ملك شاه و قد كان الوزير ابن هبيرة أطمعه في الخطبة لذلك الطفل فيما بينهم فجهز إلدكز العساكر مع ابنه البهلوان و سار إلى مراغة و استمد آقسنقر ساهرمز صاحب خلاط فأمده بالعساكر و التقى آقسنقر و البهلوان فانهزم البهلوان و عاد إلى همذان و عاد آقسنقر إلى مراغة ظافرا و كان ملك شاه بن محمود لما مات بأصبهان مسموما كما ذكرنا لحق طائفة من أصحابه ببلاد فارس و معه ابنه محمود فقبض عليه صاحب فارس زنكي بن دكلا السلعري بقلعة إصطخر و لما بعث إلدكز إلى بغداد في الخطبة لربيبه أرسلان و شرع الوزير عون الدين أبو المظفر يحيى بن هبيرة في التصريف بينهم بعث ابن دكلا و أطمعه في الخطبة لمحمود بن ملك شاه الذي عنده إن ظفر بإلدكز فأطلقه ابن دكلا و بايع له و ضرب الطبل على بابه خمس نوب و بعث إلى ابنايخ صاحب الري فوافقه و سار إليه في عشرة آلاف و بعث إليه آقسنقر الأحمديلي و جمع إلدكز العساكر و سار إلى أصبهان يريد بلاد فارس و بعث إلى صاحبها زنكي بن دكلا في الطاعة لربيبه أرسلان فأبى و قال : إن المقتفي أقطعني بلاده و أنا سائر إليه و استمد المقتفي و ابن هبيرة فواعدوه و كاتبوا الأمراء الذين مع إلدكز بالتوبيخ على طاعته و الانحراف عنه إلى زنكي بن دكلا صاحب فارس و ابنايخ صاحب الري و بدأ إلدكز بقصد ابنايخ ثم بلغه أن زنكي بن دكلا نهب سميرم و نواحيها فبعث عسكرا نحوا من عشرة آلاف فارس لحفظها فلقيهم زنكي فهزمهم فبعث إلدكز إلى عساكر أذربيجان فجاء بها ابنه كزل إرسلان و بعث زنكي بن دكلا العساكر إلى ابنايخ و لم يحضر بنفسه خوفا على بلاد شملة صاحب خوزستان ثم التقى إلدكز و ابنايخ في شعبان سنة ست و خمسين فانهزم ابنايخ و استبيح عسكره و حاصره إلدكز ثم صالحه و رجع إلى همذان (3/643)
وفاة المقتفي و خلافة المستنجد و هو أول الخلفاء المستبدين على أمرهم من بني العباس عند تراجع الدولة و ضيق نطاقها ما بين الموصل و واسط و البصرة و حلوان
ثم توفي المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر في ربيع الأول سنة خمس و خمسين لأربع و عشرين سنة و أربعة أشهر من خلافته و هو أول من استبد بالعراق منفردا عن سلطان يكون معه من أول أيام الديلم فحكم على عسكره و أصحابه فيما بقي لمملكتهم من البلدان بعد استبداد الملوك في الأعمال و النواحي و لما اشتد مرضه تطاول كل من أم ولده إلى ولاية ابنها و كانت أم المستنجد تخاف عليه و أم أخيه علي تروم ولاية ابنها و اعتزمت على قتل المستنجد و استدعته لزيارة أبيه و قد جمعت جواريها و آتت كل واحدة منهن سكينا لقتله و أمسكت هي و ابنها سيفين و بلغ الخبر إلى يوسف المستنجد فأحضر أستاذ دار أبيه و جماعة من الفراشين و أفرغ السلاح و دخل معهم الدار و ثار به الجواري فضرب إحداهن و أمكنها فهربوا و قبض على أخيه علي و أمه فحبسهما و قسم الجواري بين القتل و التغريق حتى إذا توفي المقتفي جلس للبيعة فبايعه أقاربه و أولهم عمه أبو طالب ثم الوزير عون الدين بن هبيرة و قاضي القضاة و أرباب الدولة و العلماء و خطب له و أقر ابن هبيرة على الوزارة و أصحاب الولايات على ولايتهم و أزال المكوس و الضرائب و قرب رئيس الرؤساء و كان أستاذ دار فرفع منزلته عبد الواحد المقتفي و بعث عن الأمير ترشك سنة ست و خمسين من بلد اللحف و كان مقتطعا بها فاستدعاه لقتال جمع من التركمان أفسدوا في نواحي البندنيجين فامتنع من المجيء و قال : يأتيني العسكر و أنا أقاتل بهم فبعث إليه المستنجد العساكر مع جماعة من الأمراء فقتلوه و بعثوا برأسه إلى بغداد ثم استولى بعد ذلك على قلعة الماهكي من يد مولى سنقر الهمذاني ولاه عليها سنقر و ضعف عن مقاومة التركمان و الأكراد حولها فاستنز له المستنجد عنها بخمسة عشر ألف دينار و أقام ببغداد و كانت هذه القلعة أيام المقتدر بأيدي التركمان و الأكراد (3/645)
فنتة خفاجة
اجتمعت خفاجة سنة ستة و خمسين إلى الحلة و الكوفة و طالبوا برسومهم من الطعام و التمر و كان مقطع الكوفة أرغش و شحنة الحلة قيصر و هما من مماليك المستنجد فمنعوهما فعاثوا في تلك البلاد و النواحي فخرجوا إليهم في أثرهم و اتبعوهم إلى الرحبة فطلبوا الصلح فلم يجبهم أرغش و لا قيصر فقاتلوهم فانهزمت العساكر و قتل قيصر و خرج أرغش و دخل الرحبة فاستأمن له شحنتها و بعثوه إلى بغداد و مات أكثر الناس عطشا في البرية و تجهز عون الدين بن هبيرة في العساكر لطلب خفاجة فدخلوا البرية و رجع و انتهت خفاجة إلى البصرة و بعثوا بالعدو و سألوا الصلح فأجيبوا (3/646)
إجلاء بني أسد من العراق
كان في نفس المستنجد بالله من بني أسد أهل الحلة لفسادهم و مساعدتهم السلطان محمد في الحصار فأمر يزدن بن قماج بإجلائهم من البلاد و كانوا منبسطين في البطائح فجمع العساكر و أرسل إلى ابن معروف فقدم السفن و هو بأرض البصرة فجاءه في جموع و حاصرهم و طاولهم فبعث المستنجد يعاتبه و يتهمه بالتشيع فجهز هو و ابن معروف في قتالهم و سد مسالكهم في الماء فاستسلموا و قتل منهم أربعة آلاف و نودي عليهم بالملا من الحلة فتفرقوا في البلاد و لم يبق بالعراق منهم أحد و سلمت بطائحهم و بلادهم إلى ابن معروف (3/646)
الفتنة بواسط و ما جرت إليه
كان مقطع البصرة منكبرس من موالي المستنجد و قتله سنة تسع و خمسين و و ولى مكانه كمستكين و كان ابن سنكاه ابن أخي شملة صاحب خوزستان فانتهز الفرصة من البصرة و نهب قراها و أمر كمستكين بقتاله فعجز عن إقامة العسكر و أصعد ابن سنكاه إلى واسط و نهب سوادها و كان مقتطعها خلطوا برس فجمع الجموع و خرج لقتاله و استمال ابن سنكاه الأمراء الذين معه فخذلوه و انهزم و قتله ابن سنكاه سنة إحدى و ستين ثم قصد البصرة سنة اثنتين و ستين و نهب جهتها الشرقية و خرج إليه كمستكين و واقعه و سار ابن سنكاه إلى واسط و خافه الناس و لم يصل إليها (3/647)
مسير شملة إلى العراق
سار شملة صاحب خوزستان إلى العراق سنة اثنتين و ستين و انتهى إلى قلعة الماهكي و طلب من المستنجد إقطاع البلاد و اشتط في الطلب فبعث المستنجد العساكر لمنعه و كتب إليه يحذره عاقبة الخلاف فاعتذر بأن إلدكز و ربيبه السلطان أرسلان شاه أقطعا الملك الذي عنده و هو ابن ملك شاه بلاده البصرة و واسط و الحلة و عرض التوقيع بذلك و قال أنا أقنع بالثلث منه فأمر المستنجد حينئذ بلعنه و أنه من الخوارج و تعبت العساكر إلى أرغمش المسترشدي بالنعمانية و إلى شرف الدين أبي جعفر البلدي ناظر واسط ليجتمعا على قتال شملة و كان شملة أرسل مليح ابن أخيه في عسكر لقتال بعض الأكراد فركب إليه أرغمش و أسره و بعض أصحابه و بعث إلى بغداد و طلب شملة الصلح فلم يجب إليه ثم مات أرعمش من سقطة سقطها عن فرسه و بقي العسكر مقيما و رجع شملة إلى بلاده لأربعة أشهر من سفره (3/647)
وفاة الوزير يحيى
ثم توفي الوزير عون الدين يحيى بن محمد بن المظفر بن هبيرة سنة ستين و خمسمائة في جمادى الأولى و قبض المستنجد على أولاده و أهله و أقامت الوزارة بالنيابة ثم استوزر المستنجد سنة ثلاث و ستين شرف الدين أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن البلدي ناظر واسط و كان عضد الدين أبو الفرج بن دبيس قد تحكم في الدولة فأمره المستنجد بكف يده و أيدي أصحابه و طالب الوزير أخاه تاج الدين بحساب عمله بنهر الملك من أيام المقتفي و كذلك فعل بغيره فخافه العمال و أهل الدولة و حصل بذلك أموالا جمة (3/647)
وفاة المستنجد و خلافة المستضيء
كان الخليفة المستنجد قد غلب على دولته أستاذ دار عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء و كان أكبر الأمراء ببغداد و كان يرادفه قطب الدين قايماز المظفري و لما ولى المستنجد أبا جعفر البلدي على وزارته غض من أستاذ دار و عارضه في أحكامه فاستحكمت بينهما العداوة و تنكر المستنجد لأستاذ دار و صاحبه قطب الدين فكانا يتهمان بأن ذلك بسعاية الوزير و مرض المستنجد سنة ست و ستين و خمسمائة و اشتد مرضه فتحيلا في إهلاكه يقال إنهما واضعا عليه الطبيب و علم أن هلاكه في الحمام فأشار عليه بدخول فدخله و أغلقوا عليه باب فمات و قيل كتب المستنجد إلى الوزير ابن البلدي بالقبض على أستاذ دار و قايماز و قتلهما و أطلعهما الوزير على كتابه فاستدعيا يزدن و أخاه يتماش و فاوضاهما و عرضا عليهما كتابه و اتفقوا على قتله فحملوه إلى الحمام و أغلقوا عليه الباب و هو يصيح إلى أن مات تاسع ربيع من سنة ست و ستين لإحدى عشرة سنة من خلافته و لما أرجف بموته قبل أن يقبض ركب الأمراء و الأجناد متسلحين و غشيتهم العامة و احتفت بهم و بعث إليه أستاذ دار بأنه إنما كان غشيا عرضا و قد أفاق أمير المؤمنين و خف ما به فخشي الوزير من دخول الجند إلى دار الخلافة فعاد إلى داره و افترق الناس فعند ذلك أغلق أستاذ دار و قايماز أبواب الدار و أحضرا ابن المستنجد أبا محمد الحسن و بايعاه بالخلافة و لقباه المستضيء بأمر الله و شرطا عليه أن يكون عضد الدين وزيرا و ابنه كمال الدين أستاذ دار و قطب الدين قايماز أمير العسكر فأجابهم إلى ذلك و بايعه أهل بيته البيعة الخاصة ثم توفي المستنجد و بايعه الناس من الغد في التاج البيعة العامة و أظهر العدل و بذل الأموال و سقط في يد الوزير و ندم على ما فرط و استدعي للبيعة فلما دخل قتلوه و قبض المستضيء على القاضي ابن مزاحم و كان ظلوما جائرا و استصفاه و رد الظلامات منه على أربابها و ولى أبا بكر بن نصر بن العطار صاحب المخزن و لقبه ظهير الدين (3/648)
انقراض الدولة العلوية بمصر و عود الدعوة العباسية إليها
و لأول خلافة المستضيء كان انقراض الدولة العلوية بمصر و الخطبة بها للمستضيء من بني العباس في شهر المحرم فاتح سنة سبع و ستين و خمسمائة قبل عاشوراء و كان آخر الخلفاء العبيديين بها العاضد لدين الله من أعقاب الحافظ لدين الله عبد المجيد و خافوا المستضيء معه ثامن خلفائهم و كان مغلبا لوزارته و استولى شاور منهم و ثقلت وطأته عليهم فاستقدم ابن شوار من أهل الدولة من الإسكندرية و فر شاور إلى الشام مستنجدا بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي من أقسنقر و كان من مماليك السلجوقية و أمرائهم المقيمين للدعوة العباسية و كان صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب بن الكردي هو و أبوه نجم الدين أيوب و عمه أسد الدين شيركوه في جماعة من الأكراد في خدمة نور الدين محمود بالشام فلما جاء شاور مستنجدا بعث معه هؤلاء الأمراء الأيوبية و كبيرهم أسد فأعاده إلى وزارته و قتل الضرغام و لم يوف له شاور بما ضمن له عند مسيره من الشام في نجدته و كان الفرنج قد ملكوا سواحل مصر و الشام و زاحموا ما يليها من الأعمال و ضيقوا على مصر والقاهرة إلى أن ملكوا بلبيس و أيلة عند العقبة و استولوا على الدولة العلوية في
الضرائب و الطلبات و أصبحوا مأوى لمن ينحني عن الدولة و داخلهم شاور في مثل ذلك فارتاب به العاضد و بعث عز الدين مستصرخا به على الفرنج في ظاهر أمره و يسرحون في ارتعاء من إبادة شاور و التمكن منه فوصل لذلك و ولاه العاضد وزارته و قلده ما وراء بابه فقتل الوزير شاور و حسم داءه و كان مهلكه قريبا من وزارته يقال لسنة و يقال لخمسين يوما فاستوزر العاضد مكانه صلاح الدين ابن أخيه نجم الدين فقام بالأمر و أخذ في إصلاح الأحوال و هو يعد نفسه و عمه من قبله نائبا عن نور الدين محمود بن زنكي الذي بعثه و عمه للقيام بذلك و لما ثبت قدمه بمصر و أزال المخالفين ضعف أمر العاضد و تحكم صلاح الدين في أموره و أقام خادمه قراقوش للولاية عليه في قصره و التحكم عليه فبعث إليه نور الدين محمود الملك العادل بالشام أن يقطع الخطبة للعاضد و يخطب للمتستضيء ففعل ذلك على توقع النكير من أهل مصر فلما وقع ذلك ظهر منه الاغتباط و انمحت آثار الدولة العلوية و تمكنت الدولة العباسية فكان ذلك مبدأ الدولة لبني أيوب بمصر ثم ملكوا من بعدها أعمال نور الدين بالشام و استضافوا اليمن و طرابلس الغرب و اتسع ملكهم كما يذكر في أخبارهم و لما خطب للمستضيء بمصر كتب له نور الدين محمود من دمشق مبشرا بذلك فضربت البشائر ببغداد و بعث بالخلع إلى نور الدين و صلاح الدين مع عماد الدين صندل من خواص المقتفوية و هو أستاذ دار المستضيء فجاء إلى نور الدين بدمشق و بعث الخلع إلى صلاح الدين و للخطباء بمصر و بإسلام السواد و استقرت الدعوة العباسية بمصر إلى هذا العهد و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين ثم بعث نور الدين محمود إلى المستضيء رسوله القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري قاضي بلاده يطلب التقليد لما بيده من الأعمال و هي مصر و الشام و الجزيرة و الموصل و بما هو في طاعته كديار بكر و خلاط و بلاد الروم التي لقليج أرسلان و أن يقطع صريعين و درب هارون من بلاد سواد العراق كما كانتا لأبيه فأكرمه الرسول و زاد في الإحسان إليه و كتب له بذلك (3/649)
خبر يزدن من أمراء المستضيء
كان يزدن قد ولاه المستضيء فكانت في أعماله و كانت حمايتها لخفاجة و بني حزن منهم فجعلها يزدن لبني كعب منهم و أمرهم الغضبان فغضب بنو حزن و أغاروا عليهم على السواد و خرج يزدن في العسكر لقتالهم و معه الغضبان و عشيرة بنو كعب فبينما هم ليلة يسيرون رمي الغضبان بسهم فمات فعادت العساكر إلى بغداد و أعيدت حفاظة السواد إلى بني حزن ثم مات يزدن سنة ثمان و ستين و كانت واسط من أقطاعه فاقتطعت لأخيه إيتامش و لقب علاء الدين (3/650)
مقتل سنكاه بن أحمد أخي شملة
قد ذكرنا في دولة المستنجد فتنة سنكاه هذا و عمه شملة صاحب خوزستان ثم جاء ابن سنكاه إلى قلعة الماهكي فبنى بإزائها قلعة ليتمكن بها من تلك الأعمال فبعث المستضيء العسكر من بغداد لمنعه فقاتلهم و اشتد قتاله ثم انهزم و قتل و علق رأسه ببغداد و هدمت القلعة (3/651)
وفاة قايماز و هربه
قد ذكرنا شأن قطب الدين قايماز و أنه الذي بايع للمستضيء و جعله أمير العسكر و جعله عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء وزيرا ثم استفحل أمر قايماز و غلب على الدولة و حمل المستضيء على عزل عضد الدين أبي الفرج من الوزارة فلم يمكنه مخالفته و عزله سنة سبع و ستين فأقام معزولا و أراد الخليفة سنة تسع و تسعين أن يعيده إلى الوزارة فمنعه قطب الدين من ذلك و ركب فأغلق المستضيء أبواب داره مما يلي بغداد و بعث إلى قايماز و لاطفه بالرجوع فيما هم به من وزارة عضد الدين فقال : لا بد من إخراجه من بغداد ! فاستجار برباط شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسمعيل فأجاره و استطال قايماز على الدولة و أصهر على علاء الدين يتامش في أخته فزوجها منه و حملوا الدولة جميعا ثم سخط قايماز ظهير الدين ابن العطار صاحب المخزن و كان خاصا بالخليفة و طلبه فهرب فأحرق داره و جمع الأمراء فاستحلفهم على المظاهرة و أن يقصدوا دار المستضيء ليخرجوا منها ابن العطار فقصد المستضيء على سطح داره و خدامه يستغيثون و نادى ليخرجوا منها ابن العطار فقصد المستضيء على سطح داره و خدامه يستغيثون و نادى في العامة بطلب قايماز و نهب داره فهرب من ظهر بيته و نهبت داره و أخذ منها ما لا يحصى من الأموال و اقتتل العام على و لحق قايماز بالحلة و تبعه الأمراء و بعث إليه المستضيء شيخ الشيوخ عبد الرحيم ليسير عن الحلة إلى الموصل تخوفا من عوده إلى بغداد فيعود استيلاؤه لمحبة العامة فيه و طاعتهم له فسار إلى الموصل و أصابه و من معه في الطريق عطش فهلك الكثير منهم و ذلك في ذي الحجة و من سنة سبعين و أقام صهره علاء الدين يتامش بالموصل ثم استأذن الخليفة في القدوم إلى بغداد فقدم و أقام بها عاطلا بغير إقطاع و هو الذي حمل قايماز على ما كان منه و ولى الخليفة أستاذ داره سنجر المقتفوي ثم عزله سنة إحدى و سبعين و ولى مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي ابن الصاحب (3/651)
فتنة صاحب خوزستان
قد ذكرنا أن ملك شاه بن محمود ابن السلطان محمد إستقر بخوزستان و ذكرنا فتنة شملة مع الخلفاء ثم مات شملة سنة سبعين و ملك ابنه مكانه ثم مات ملك شاه ابن محمود و بقي ابنه بخوزستان فجاء سنة اثنتين و سبعين إلى العراق و خرج إلى البندنجين و عاث في الناس و خرج الوزير عضد الدين أبو الفرج في العساكر و وصل عسكر الحلة و واسط مع طاش تكين أمير الحاج و غز علي و ساروا للقاء العدو و كان معه جموع من التركمان فأجفلوا و نهبتهم عساكر بغداد ثم ردهم الملك ابن ملك شاه و أوقعوا بالعسكر أياما ثم مضى الملك إلى مكانه و عادت العساكر إلى بغداد (3/652)
مقتل الوزير
قد ذكرنا أخبار الوزير عضد الدين أبي الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة كان أبوه أستاذ دار المقتفي و لما مات ولي ابنه مكانه و لما مات المقتفي أقره المستنجد و رفع قدره ثم استوزره المستضيء و كان بينه و بين قايماز ما قدمناه و أعاده المستضيء للوزارة فلما كانت سنة ثلاث و سبعين إستأذن المستضيء في الحج فأذن له و عبر دجلة فسافر في موكب عظيم من أرباب المناصب و اعترضه متظلم ينادي بظلامته ثم طعنه فسقط و جاء ابن المعوز صاحب الباب ليكشف خبره فطعن الآخر و حملا إلى بيتهما فماتا و ولي الوزير ظهير الدين أبو منصور بن نصر و يعرف بابن العطار فاستولى على الدولة و تحكم فيها (3/652)
وفاة المستضيء و خلافة الناصر
ثم توفي المستضيء بأمر الله أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد في ذي القعدة سنة خمس و سبعين لتسع سنين و نصف من خلافته و قام ظهير الدين العطار في البيعة لابنه أبي العباس أحمد و لقبه الناصر لدين الله فقام بخلافته و قبض على ظهير الدين بن العطار و حبسه و استصفاه ثم أخرجه من عشر ذي القعدة من محبسه ميتا و فطن به العامة فتناوله العامة و بعثوا به و تحكم في الدولة أستاذ دار مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب و كان تولى أخذ البيعة للناصر مع ابن العطار و بعث الرسل إلى الآفاق لأخذ البيعة و سار صدر الدين شيخ الشيوخ إلى البهلوان صاحب همذان و أصبهان و الري فامتنع من البيعة فأغلظ له صدر الدين في القول و حرض أصحابه على نقض طاعته إن لم يبايع ! فاضطر إلى البيعة و الخطبة ثم قبض سنة ثلاث و ثمانين على أستاذ دار أبي الفضل ابن الصاحب و قتله من أجل تحكمه و أخذ له أموالا عظيمة و كان الساعي فيه عند الناصر عبيد الله بن يونس من أصحابه و صنائعه فلم يزل يسعى فيه عبد الناصر حتى أمر بقتله و استوزر ابن يونس هذا و لقبه جلال الدين و كنيته أبو المظفر و مشى أرباب الدولة في خدمته حتى قاضي القضاة (3/652)
هدم دار السلطنة ببغداد و انقراض ملوك السلجوقية
قد ذكرنا فيما تقدم ملك أرسلان شاه بن طغرل ربيب إلدكز و استيلاء إلدكز عليه و حروبه مع ابنايخ صاحب الري ثم قتله سنة أربع و ستين و استولى على الري ثم توفي إلدكز الأتابك بهمذان سنة ثمان و ستين و قام مكانه ابنه محمد البهلوان و بقي أخوه السلطان أرسلان بن طغرل في كفالته ثم مات سنة ثلاث و ستين و نصب البهلوان مكانه ابنه طغرل ثم توفي البهلوان سنة اثنتين و ثمانين و في مملكته همذان و الري و أصبهان و أذربيجان و أرانيه و غيرها و في كفالته السلطان طغرل بن أرسلان و لما مات البهلوان قام مكانه أخوه كزل أرسلان و يسمى عثمان فاستبد طغرل و خرج عن الكفالة و لحق به جماعة من الأمراء و الجند و استولى على بعض البلاد و وقعت بينه و بين كزل حروب ثم قوي أمر طغرل و كثر جمعه و بعث كزل إلى الناصر يحذره من طغرل و يستنجده و يبذل الطاعة على ما يختاره المستضيء رسوله فأمر بعمارة دار السلطنة ليسكنها و كانت ولايتهم ببغداد و العراق قد انقطعت منذ أيام المقتفي فأكرم رسول كزل و وعده بالنجدة و انصرف رسول طغرل بغير حراب و أمر الناصر بهدم دار السلطنة ببغداد فمحى أثرها ثم بعث الناصر وزيره جلال الدين أبا المظفر عبيد الله بن يونس في العساكر لإنجاد كزل و مدافعة طغرل عن البلاد فسار لذلك في صفر لسنة أربع و ثمانين و اعترضهم طغرل على همذان قبل اجتماعهم بكزل و اقتتلوا ثامن ربيع و انهزمت عساكر بغداد و أسروا الوزير ثم استولى كزل على طغرل و حبسه ببعض القلاع و دانت له البلاد و خطب لنفسه بالسلطنة و ضرب النوب الخمس ثم قتل على فراشه سنة سبع و ثمانين و لم يعلم قاتله (3/653)
استيلاء الناصر على النواحي
توفي الأمير عيسى صاحب تكريت سنة خمس و ثمانين قتله إخوته فبعث الناصر العساكر فحصروها حتى فتحوها على الأمان و جاؤا بإخوة عيسى إلى بغداد فسكنوها و أقطع لهم السلطان ثم بعث سنة خمس و ثمانين عساكره إلى مدينة غانة فحاصروها مدة و قاتلوها طويلا ثم جهدهم الحصار فنزلوا عنها على الأمان و إقطاع عيونها و وفى لهم الناصر بذلك (3/654)
نهب العرب البصرة
كانت البصرة في ولاية طغرل مملوك الناصر كان مقطعها و استناب بها محمد بن إسمعيل و اجتمع بنو عامر بن صعصعة سنة ثمان و ثمانين و أميرهم عميرة و قصدوا البصرة للنهب و العيث و خرج إليهم محمد بن إسمعيل في صفر فقاتلهم سائر يومه ثم ثلموا في الليل ثلما في السور و دخلوا البلد و عاثوا فيها قتلا و نهبا ثم بلغ بني عامر أن خفاجة و المشفق ساروا لقتالهم فرحلوا إليهم و قاتلوهم فهزموهم و غنموا أموالهم و عادوا إلى البصرة و قد جمع الأمير أهل السواد فلم يقوموا للعرب و انهزموا و دخل العرب البصرة فنهبوها و رحلوا عنها (3/654)
استيلاء الناصر على خوزستان ثم أصبهان و الري و همذان
كان الناصر قد استناب في الوزاة بعد أسر ابن يونس مؤيد الدين أبا عبد الله محمد بن علي المعروف بابن القصاب و كان قد ولي الأعمال في خوزستان و غيرها و له فيها الأصحاب و لما توفي صاحبها شملة و اختلف أولاده راسله بعضهم في ذلك فطلب من الناصر أن يرسل معه العساكر ليملكها فأجابه و خرج في العساكر سنة إحدى و تسعين و حارب أهل خوزستان فملك أولا مدينة تستر ثم ملك سائر الحصون و القلاع و أخذ بني شملة ملوكها فبعث بهم إلى بغداد و ولى الناصر على خوزستان طاش تكين مجير الدين أمير الحاج ثم سار الوزير إلى جهات الري سنة إحدى و تسعين و جاءه قطلغ ابنايخ بن البهلوان و قد غلبه خوارزم شاه و هزمه عند زنجان و ملك الري من يده و جاء قطلغ إلى الوزير مؤيد و رحل معه إلى همذان و بها ابن خوارزم شاه في العساكر فأجفل عنها إلى الري و ملك الوزير همذان و رحل في اتباعهم و ملك كل بلد مروا بها إلى الري و أجفل عسكر خوارزم إلى دامغان و بسطام و جرجان و رجع الوزير إلى الري فأقام بها ثم انتقض قطلغ بن البهلوان و طمع في الملك فامتنع بالري و حاصره الوزير فخرج عنها إلى مدينة آوه فمنعهم الوزير منها و رحل الوزير في أثرهم من الري إلى همذان و بلغه أن قطلغ قصد مدينة الكرج فسار إليه و قاتله و هزمه و رجع إلى همذان فجاءه رسول خوارزم شاه محمد تكش بالنكير على الوزير في أخذ البلاد و يطلب إعادتها فلم يجبه الوزير إلى ذلك فسار خوارزم شاه إلى همذان و قد توفي الوزير ابن القصاب خلال ذلك في شعبان سنة اثنتين و تسعين فقاتل العساكر التي كانت معه بهمذان و هزمهم و ملك همذان و ترك ولده بأصبهان و كانوا يبغضون الخوارزمية فبعث صدر الدين الخجندي رئيس الشافعية إلى الديوان ببغداد يستدعي العساكر لملكها فجهز الناصر العساكر مع سيف الدين طغرل يقطع بلد اللحف من العراق و سار فوصل أصبهان و نزل ظاهر البلد و فارقها عسكر الخوارزمية فملكها طغرل و أقام فيها الناصر و كان من مماليك البهلوان و لما رجع خوارزم شاه إلى خراسان و اجتمعوا و استولوا على الري و قدموا عليهم كركجه من أعيانهم و ساروا إلى أصبهان فوجدوا بها عسكر الناصر و قد فارقها عسكر الخوارزمية فملكوا أصبهان و بعث كركجه إلى بغداد بالطاعة و أن يكون له الري و ساوة و قم و قاشان و يكون للناصر أصبهان و همذان و زنجان و قزوين فكتب له بما طلب و قوي أمره ثم وصل إلى بغداد أبو الهيجاء السمين من أكابر أمراء بني أيوب و كان في إقطاعه بيت المقدس و أعماله فلما ملك العزيز و العادل مدينة دمشق من الأفضل بن صلاح الدين عزلوا أبا الهيجاء عن القدس فسار إلى بغداد فأكرمه الناصر و بعثه بالعساكر إلى همذان سنة ثلاث و تسعين فلقي بها أزبك بن البهلوان و أمير علم و ابنه قطلمش و قد كاتبوا الناصر بالطاعة فداخل أمير علم و قبض على أزبك و ابن قطلمش بموافقته و أنكر الناصر ذلك على أبي الهيجاء و أمره بإطلاقهم و بعث إليهم بالخلع فلم يأمنوا و فارقوا أبا الهيجاء فخشي من الناصر و دخل إلى إربل لأنه كان من أكرادها و مات قبل وصوله إليها و أقام كركجه ببلاد الجبل و اصطنع رفيقه إيدغمش و استخلصه و وثق به فاصطنع إيدغمش المماليك و انتقض عليه آخر المائة السادسة و حاربه فقتله و استولى على البلاد و نصب أزبك بن البهلوان للملك و كفله ثم توفي طاش تكين أمير خوزستان سنة اثنتين و ستمائة و ولى الناصر مكانه صهره سنجر و هو من مواليه و سار سنجر سنة ثلاث و ستمائة إلى جبال تركستان جبال منيعة بين فارس و عمان و أصبهان و خوزستان و كان صاحب هذه الجبال يعرف بأبي طاهر و كان للناصر مولى اسمه قشتمر من أكابر مواليه ساءه وزير الدولة ببعض الأحوال فلحق بأبي طاهر صاحب تركستان فأكرمه و زوجه بابنته ثم مات أبو طاهر فأطاع أهل تلك الولاية قشتمر و ملك عليهم و بعث الناصر إلى سنجر صاحب خوزستان يعضده في العساكر فسار إليه و بذل له الطاعة على البعد فلم يقبل منه فلقيه و قاتله فانهزم سنجر و قوي قشتمر على أمره و أرسل إلى ابن دكلا صاحب فارس و إلى إيدغمش صاحب الجبل فاتفق معهما على الامتناع على الناصر و استمر حاله (3/654)
عزل الوزير نصير الدين
كان نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي من أهل الري من بيت إمارة و قدم إلى بغداد عندما ملك الوزير ابن القصاب الري فأقبل عليه الخليفة و جعله نائب الوزارة ثم استوزره و جعل ابنه صاحب المخزن فتحكم في الدولة و أساء إلى أكابر موالي الناصر فلما حج مظفر الدين سنقر المعروف بوجه السبع سنة ثلاث و ستمائة و كان أميرا ففارق الحاج و مضى إلى الشام و بعث إلى الناصر أن الوزير ينفي عليك مواليك و يريد أن يدعي الخلافة فعزله الناصر و ألزمه بيته و بعث من كل شيء ملكه و يطلب الإقامة بالمشهد فأجابه الناصر بالأمان و الاتفاق و إن المعزلة لم تكن لذنب و إنما أكثر الأعداء المقالات فوقع ذلك و احتز لنفسه موضعا ينتقل إليه موقرا محترما فاختار أيالة الناصر خوفا أن يذهب الأعداء بنفسه و لما عزل عاد سنقر أمير الحاج و عاد أيضا قشتمر و أقيم نائبا في الوزارة فخر الدين أبو البدر محمد بن أحمد بن اسمينا الواسطي و لم يكن له ذلك التحكم و قارن ذلك وفاة صاحب المخزن ببغداد أبو فراس نصر بن ناصر بن مكي المدائني فولى مكانه أبو الفتوح المبارك بن عضد الدين أبي الفرج ابن رئيس الرؤساء و أعلى محله و ذلك في المحرم سنة خمس و ستمائة ثم عزل آخر السنة لعجزه ثم عزل في ربيع من سنة ست و ستمائة فخر الدين بن اسمينا و نقل إلى المخزن و ولى نيابة الوزارة مكانه مكين الدين محمد ابن محمد بن محمد بن بدر القمر كاتب الإنشاء و لقب مؤيد الدين (3/656)
انتقاض سنجر بخوزستان
قد ذكرنا ولاية سنجر مولى الناصر على خوزستان بعد طاش تكين أمير الحاج ثم استوحش سنة ست و ستمائة و استقدمه الناصر فاعتذر فبعث إليه العساكر مع مؤيد الدين نائب الوزارة و عز الدين بن نجاح الشرابي من خواص الخليفة فلما قاربته العساكر لحق بصاحب فارس أتابك سعد بن دكلا فأكرمه و منعه و وصلت عساكر الخليفة خوزستان في ربيع من سنته و بعثوا إلى سنجر في الرجوع إلى الطاعة فأبى و ساروا إلى أرجان لقصد ابن دكلا بشيراز و الرسل تتردد بينهم ثم رحلوا في شوال يريدون شيراز فبعث ابن دكلا إلى الوزير و الشرابي بالشفاعة في سنجر و اقتضاء الأمان له فأجابوه إلى ذلك و أعادوا سنجر إلى بغداد في المحرم سنة ثمان و ستمائة و دخلوا به مقيدا و ولى الناصر مولاه ياقوتا أمير الحاج على خوزستان ثم أطلق الناصر سنجر في صفر من سنة ثمان و ستمائة و خلع عليه (3/657)
استيلاء منكلى على بلاد الجبل و أصبهان و هرب ايدغمش ثم مقتله و مقتل منكلى و ولاية اغلمش
قد ذكرنا استيلاء ايدغمش من أمراء البهلوانية على بلاد الجبل همذان و أصبهان و الري و ما إليها فاستفحل فيها و عظم شأنه و تخطى إلى أذربيجان و أرانيه فحاصر صاحبها أزبك بن البهلوان ثم خرج سنة ثمان و ستمائة منكلى من البهلوانية و نازعه الملك و أطاعه البهلوانية فاستولى على سائر تلك الأعمال و هرب شمس الدين ايدغمش إلى بغداد و أمر الناصر بتلقيه فكان يوما مشهودا و خشي منكلى من اتصاله فأوفد ابنه محمدا في جماعة من العسكر و تلقاه الناس على طبقاتهم و قد كان الناصر شرع في إمداد ايدغمش فأمده و سار إلى همذان في جمادى من سنة عشر و وصل إلى بلاد ابن برجم من التركمان الأيوبية و كان الناصر عزله عن إمارة قومه و ولى أخاه الأصغر فبعث إلى منكلى بخبر ايدغمش فبعث العساكر بطلبه فقتلوه و افترق جمعه و بعث الناصر إلى أزبك بن البهلوان صاحب أذربيجان و أرانية يغريه به و كان مستوحشا منه و أرسل أيضا إلى جلال الدين صاحب قلعة الموت و غيرها من قلاع الإسماعيلية من بلاد العجم بمعاضدة أزبك على أن يقتسموا بلاد الجبل و جمع الخليفة العساكر من الموصل و الجزيرة و بغداد و قدم على عسكر بغداد مملوكه مظفر الدين وجه السبع و استقدم مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كوجك و هو على إربل و شهرزور و أعمالها و جعله مقدم العساكر جميعا و ساروا إلى همذان فهرب منكلى إلى جبل قريب الكرج و أقاموا عليه يحاصرونه و نزل منكلي في بعض الأيام فقاتل أزبك و هزمه إلى مخيمه ثم جاء من الغد و قد طمع فيهم فاشتدوا في قتاله و هزموه فهرب عن البلاد أجمع و افترقت عساكره و استولت العساكر على البلاد و أخذ جلال الدين ملك الإسماعيلية منها ما عينته القسمة و ولى أزبك بن البهلوان على بقية البلاد أغلمش مملوك أخيه و عادت العساكر إلى بلادها و مضى منكلى منهزما إلى مدينة ساوة فقبض عليه الشحنة بها و قتله و بعث أزبك برأسه إلى بغداد و ذلك في جمادى سنة اثنتي عشرة (3/657)
ولاية حافد الناصر على خوزستان
كان للناصر ولد صغير اسمه علي و كنيته أبو الحسن قد رشحه لولاية العهد و عزل عنها ابنه الأكبر و كان هذا أحب ولده إليه فمات في ذي القعدة سنة عشر فتفجع له و حزن عليه حزنا لم يسمع بمثله و شمل الأسف عليه الخاص و العام و كان ترك ولدين لقبهما المؤيد و الموفق فبعثهما الناصر إلى تستر من خوزستان بالعساكر في المحرم سنة ثلاث عشرة و بعث معهما مؤيد الدين نائب الوزارة و عزل مؤيد الدين الشرابي فأقاما بها أياما ثم أعاد الموفق مع الوزير و الشرابي إلى بغداد في شهر ربيع و أقام المؤيد بتستر (3/658)
استيلاء خوارزم شاه على بلاد الجبل و طلب الخطبة له ببغداد
كان أغلمش قد استولى على بلاد الجبل كما ذكرناه و استفحل أمره و قوي ملكه فيها ثم قتله الباطنية سنة أربع عشرة و ستمائة و كان علاء الدين محمد بن تكش خوارزم شاه وارث ملك السلجوقية قد استولى على خراسان و ما وراء النهر فطمع في إضافة هذه البلاد إليه فسار في عساكره و اعترضه صاحب بلاد فارس أتابك سعد بن دكلا على أصبهان و قد ساقه من الطمع في البلاد مثل الذي ساقه فقاتله و هزمه خوارزم و أخذه أسيرا ثم سار إلى ساوة فملكها ثم قزوين و زنجان و أبهر ثم همذان ثم أصبهان و قم و قاشان و خطب له صاحب أذربيجان و أرانية و كان يبعث في الخطبة إلى بغداد و لايجاب فاعتزم الآن على المسير إليها و قدم أميرا في خمسة عشر ألف فارس و أقطعه حلوان فنزلها ثم أتبعه بأمير آخر فلما سار عن همذان سقط عليهم الثلج و كادوا يهلكون و تخطف بقيتهم بنو برجم من التركمان و بنو عكا من الأكراد و اعتزم خوارزم شاه على الرجوع إلى خراسان و ولى على همذان طابسين و جعل إمارة البلاد كلها لابنه ركن الدين و أنزل معه عماد الملك المساوي متوليا أمور دولته و عاد إلى خراسان سنة خمس عشرة و أزال الخطبة للناصر من جميع أعماله (3/659)
إجلاء بني معروف عن البطائح
كان بنو معروف هؤلاء من ربيعة و مقدمهم معلى و كانت رحالهم غربي الفرات قرب البطائح فكثر عيثهم و إفسادهم السابلة و ارتفعت شكوى أهل البلاد إلى الديوان منهم فرسم للشريف سعد متولي واسط و أعمالها أن يسير إلى قتالهم و إجلائهم فجمع العساكر من تكريت و هيت و الحديثة و الأنبار و الحلة و الكوفة و واسط و البصرة فهزمهم و استباحهم و تقسموا بين القتل و الأسر و الغرق و حملت الرؤوس إلى بغداد في ذي القعدة سنة عشر (3/659)
ظهور التتر
ظهرت هذه الأمة من أجناس الترك سنة ست عشرة و ستمائة و كانت جبال طمغاج من أرض الصين بينها و بين بلاد تركستان ما يزيد على ستة أشهر و كان ملكهم يسمى جنكزخان من قبيلة يعرفون نوحى فسار إلى بلاد تركستان و ما وراء النهر و ملكها من أيدي الخطا ثم حارب خوارزم شاه إلى أن غلبه على ما في يده من خراسان و بلاد الجبل ثم تخطى أرانيه فملكها ثم ساروا إلى بلاد شروان و بلد اللان و اللكز فاستولوا على الأمم المختلفة بتلك الأصقاع ثم ملكوا بلاد قفجاق و سارت طائفة أخرى إلى غزنة و ما يجاورها من بلاد الهند و سجستان و كرمان فملكوا ذلك كله في سنة أو نحوها و فعلوا من العيث و القتل و النهب ما لم يسمع بمثله في غابر الأزمان و هزموا خوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش فلحق بجزيرة في بحر طبرستان فامتنع بها إلى أن مات سنة سبع عشر و ستمائة لإحدى إحدى و عشرين سنة من ملكه ثم هزموا ابنه جلال الدين بغزنة و اتبعه جنكزخان إلى نهر السند فعبر إلى بلاد الهند و خلص منهم و أقام هنالك مدة ثم رجع سنة اثنتين و عشرين إلى خوزستان و العراق ثم ملك أذربيجان و أرمينية إلى أن قتله المظفر حسبما نذكر ذلك كله مقسما بين دولتهم و دولة بني خوارزم شاه أو مكررا فيهما فهناك تفصيل هذا المحل من أخبارهم و الله الموفق بمنه و كرمه (3/659)
وفاة الناصر و خلافة الظاهر ابنه
ثم توفي أبو العباس أحمد الناصر بن المستضيء في آخر شهر رمضان سنة اثنتين و عشرين سنة و ستمائة لسبع و أربعين سنة من خلافته بعد أن عجز عن الحركة ثلاث سنين من آخر عمره و ذهبت إحدى عينيه و ضعف بصر الأخرى و كانت حاله مختلفة في الجد و اللعب و كان متفننا في العلوم و له تآليف في فنون منها متعددة و يقال إنه الذي أطمع التتر في ملك العراق لما كانت بينه و بين خوارزم شاه من الفتنة و كان مع ذلك كثيرا ما يشتغل برمي البندق و اللعب بالحمام المناسيب و يلبس سراويل الفتوة شأن العيارين من أهل بغداد و كان له فيها سند إلى زعمائها يقتصه على من يلبسه إياها و كان ذلك كله دليلا على هرم الدولة و ذهاب الملك عن أهلها بذهاب ملاكها منهم و لما توفي بويع ابنه أبو نصر محمد و لقب الظاهر و كان ولي عهده عهد له أولا سنة خمس و ثمانين و خمسمائة ثم خلعه من العهد و عهد لأخيه الصغير علي إليه و توفي سنة اثنتي عشرة فاضطر إلى إعادة هذا فلما بويع بعد أبيه أظهر من العدل و الإحسان ما حمد منه و يقال إنه فرق في العلماء ليلة الفطر التي بويع فيها مائة ألف دينار (3/660)
وفاة الظاهر و ولاية ابنه المستنصر
ثم توفي الظاهر أبو نصر محمد في منتصف رجب سنة ثلاث و عشرين و ستمائة لتسعة أشهر و نصف من ولايته و كانت طريقته مستقيمة و أخباره في العدل مأثورة و يقال إنه قبل وفاة كتب بخطه إلى الوزير توقيعا يقرؤه على أهل الدولة فجاء الرسول به و قال : أمير المؤمنين يقول ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم و أنفذ مثال ثم لا يتبين له أثر بل أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال ثم تناولوا الكتاب و قرأوه فإذا فيه بعد البسملة أنه ليس إمهالنا إهمالا و لا إغضاؤنا إغفالا و لكن لنبلوكم أيكم أحسن عملا و قد غفرنا لكم ما سلف من إخراب البلاد و تشريد الرعايا و تقبيح السنة و إظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة و مكيدة و تسمية الإستئصال و الإجتياح إستيفاء و استدراكا للأغراض انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن ليث باسل و أنياب أسد مهيب تنطقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد و أنتم أمناؤه و ثقاته فتميلون رأيه إلى هواكم ما طلتم بحقه فيطيعكم و أنتم له عاصون و يوافقكم و أنتم له مخالفون و الآن فقد بدل الله سبحانه بخوفكم أمنا و فقركم غنى و باطلكم حقا و رزقكم سلطانا يقيل العثرة و لا يؤاخذ إلا من أصر و لا ينتقم إلا ممن استمر يأمركم بالعدل و هو يريده منكم و ينهاكم عن الجور و هو يكرهه يخاف الله فيخوفكم مكره و يرجو الله تعالى و يرغبكم في طاعته فإن سلكتم مسالك نواب خلفاء الله في أرضه و أمنائه على خلقع و إلا هلكتم و السلام و لما توفي بويع ابنه أبو جعفر المستنصر و سلك مسالك أبيه إلا أنه وجد الدولة اختلفت و الأعمال قد انتقضت و الجباية قد انتقصت أو عدمت فضاقت عن أرزاق الجند و أعطياتهم فأسقط كثيرا من الجند و اختلفت الأحوال و هو الذي أعاد له محمد بن يوسف بن هود دعوة العباسية بالأندلس آخر دولة الموحدين بالمغرب فولاه عليها و ذلك سنة تسع و عشرين و ستمائة كما يذكر في أخبارهم و لآخر دولته ملك التتر بلاد الروم من يد غياث الدين كنجسر و آخر ملوك بني قليج أرسلان ثم تخطوها إلى بلاد أرمينية فملكوها ثم استأمن إليهم غياث الدين فولوه من قبلهم و في طاعتهم كما يذكر في أخبارهم إن شاء الله تعالى انتهى (3/661)
وفاة المستنصر و خلافة المستعصم آخر بني العباس ببغداد
لم يزل هذا الخليفة المستنصر ببغداد في النطاق الذي بقي لهم بعد استبداد أهل النواحي كما قدمنا ثم انحل أمرهم من هذا النطاق عروة و تملك التتر سائر البلاد و تغلبوا على ملوك النواحي و دولهم أجمعين ثم زاحموهم في هذا النطاق و ملكوا أكثره ثم توفي المستنصر سنة إحدى و أربعين لست سنة من خلافته و بويع بالخلافة ابنه عبد الله و لقب المستعصم و كان فقيها محدثا و كان وزيره ابن العلقمي رافضيا و كانت الفتنة ببغداد لا تزال متصلة بين الشيعة و أهل السنة و بين الحنابلة و سائر أهل المذاهب و بين العيارين و الدعار و المفسدين مبدأ الأمراء الأول فلا تتجدد فتنة بين الملوك و أهل الدول إلا و يحدث فيها بين هؤلاء ما يعني أهل الدولة خاصة زيادة لما يحدث منهم أيام سكون الدول و استقامتها و ضاقت الأحوال على المستعصم فأسقط أهل الجند و فرض أرزاق الباقين على البياعات و الأسواق و في المعايش فاضطرب الناس و ضاقت الأحوال و عظم الهرج ببغداد و وقعت الفتن بين الشيعة و أهل السنة و كان مسكن الشيعة بالكرخ في الجانب الغربي و كان الوزير ابن العلقمي منهم فسطوا بأهل السنة و أنفذ المستعصم ابنه أبا بكر و ركن الدين الدوادار و أمرهم بنهب بيوتهم بالكرخ و لم يراع فيه ذمة الوزير فآسفه ذلك و تربص بالدولة و أسقط معظم الجند يموه بأن يدافع التتر بما يتوفر من أرزاقهم في الدولة و زحف هلاكو ملك التتر سنة اثنتين و خمسين إلى العراق و قد فتح الري و أصبهان و همذان و تتبع قلاع الإسماعيلية ثم قصد قلعة الموت سنة خمس و خمسين فبلغه في طريقه كتاب ابن الموصلايا صاحب إربل و فيه وصية من ابن العلقمي وزير المستعصم إلى هلاكو يستحثه لقصد بغداد و يهون عليه أمرها فرجع عن بلاد الإسماعيلية و سار إلى بغداد و استدعى أمراء التتر فجاءه بنحو مقدم العسكر ببلاد الروم و قد كانوا ملكوها و لما قاربوا بغداد برز لقائهم أبيك الدوادار في العساكر فانكشف التتر أولا و تذامروا فانهزم المسلمون و اعترضتهم دون بغداد أو حال مياه من بثوق انتفثت من دجلة فتبعهم التتر دونها و قتل الدوادار و أسر الأمراء الذين معه و نزل هلاكو بغداد و خرج إليه الوزير مؤيد الدين بن العلقمي فاستأمن لنفسه و رجع بالأمان إلى المستعصم و أنه يبقيه على خلافته كما فعل بملك بلاد الروم فخرج المستعصم و معه الفقهاء و الأعيان فقبض عليه لوقته و قتل جميع من كان معه ثم قتل المستعصم شدخا بالعمد و وطأ بالأقدام لتجافيه بزعمه عن دماء أهل البيت و ذلك سنة ست و خمسين و ركب إلى بغداد فاستباحها و اتصل العيث بها أياما و خرج النساء و الصبيان و على رؤسهم المصاحف و الألواح فداستهم العساكر و ماتوا أجمعين و يقال إن الذي أحصى ذلك اليوم من القتلى ألف ألف و ستمائة ألف و استولوا من قصور الخلافة و ذخائرها على ما لا يبلغه الوصف و لا يحصره الضبط و العد و ألقيت كتب العلم التي كانت بخزائنهم جميعها في دجلة و كانت شيئا لا يعبر عنه مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون لأول الفتح في كتب الفرس و علومهم و اعتزم هلاكو على إضرام بيوتها نارا فلم يوافقه أهل مملكته ثم بعث العساكر إلى ميافارقين فحاصروها سنين ثم جهدهم الحصار و اقتحموها عنوة و قتل حاميتها جميعا و أميرهم من بني أيوب و هو الملك ناصر الدين محمد بن شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب و بايع له صاحب الموصل و بعث بالهدية و الطاعة و ولاه على عمله ثم بعث بالعساكر إلى إربل فحاصرها و امتنعت فرحل العساكر عنها ثم وصل إليه صاحبها ابن الموصلايا فقتله و استولى على الجزيرة و ديار بكر و ديار ربيعة كلها و تاخم الشام جميع جهاته حتى زحف إليه بعد كما يذكر و انقرض أمر الخلافة الإسلامية لبني العباس ببغداد و أعادلها ملوك الترك رسما جديدا في خلفاء نصبوهم هنالك من أعقاب الخلفاء الأولين و لم يزل متصلا لها العهد على ما نذكر الآن و من العجب ان يعقوب بن إسحق الكندي فيلسوف العرب في ذكر ملاحمه و كلامه على القرآن الذي دل على ظهور الملة الإسلامية العربية أن انقراض أمر العرب يكون أعوام الستين و الستمائة فكان كذلك و كانت دولة بني العباس من يوم بويع للسفاح سنة اثنتين و ثلاثين و مائة إلى أن قتل المستعصم سنة خمس و ستمائة و خمسمائة سنة و أربعا و عشرين و عدد خلفائهم ببغداد سبعة و ثلاثون خليفة و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (3/662)
الخبر عن الخلفاء العباسيين المنصوبين بمصر من بعد انقراض الخلافة ببغداد و مبادى أمورهم و تصاريف أحوالهم
لما هلك المستعصم ببغداد و استولى التتر على سائر الممالك الإسلامية فافترق شمل الجماعة و انتثر سلك الخلافة و هرب القرابة المرشحون و غير المرشحين من قصور بغداد فذهبوا في الأرض طولا و عرضا و لحق بمصر كبيرهم يومئذ أحمد ابن الخليفة الظاهر و هو عم المستعصم و أخو المستنصر و كان سلطانها يومئذ الملك الظاهر بيبرس ثالث ملوك الترك بعد بني أيوب بمصر و القاهرة فقام على قدم التعظيم و ركب لتلقيه و سر بقدومه و كان وصوله له سنة تسع و خمسين فجمع الناس على طبقاتهم بمجلس الملك بالقلعة و حضر القاضي يومئذ تاج ابن بنت الأعز فأثبت نسبه في بيت الخلفاء بشهادة العرب الواصلين معه بالاستفاضة و لم يكن شخصه خفيا و بايع له الظاهر و سائر الناس و نصبه للخلافة الإسلامية و لقبوه المستنصر و خطب له على المنابر و رسم اسمه في السكة و صدرت المراسم السلطانية بأخذ البيعة له في سائر أعمال السلطان و فوض هو للسلطان الملك الظاهر سائر أعماله و كتب تقليده بذلك و ركب السلطان ثاني يومه إلى خارج البلد و نصب خيمة يجتمع الناس فيها فاجتمعوا و قرأ كتاب التقليد و قام السلطان بأمر هذا الخليفة و رتب له أرباب الوظائف و المناصب الخلافية من كل طبقة و أجرى الأرزاق السنية و أقام له الفسطاط و الآلة و يقال أنفق عليه معسكره ذلك ألف ألف دينار من الذهب العين و اعتزم على بعثه إلى بلاد العراق لاسترجاعه ممالك الإسلام من يد أهل الكفر و قد كان وصل على أثر الخليفة صاحب الموصل و هو إسمعيل الصالح بن لؤلؤ أخرجه التتر من ملكه بعد مهلك أبيه فأمتعض له الملك الظاهر و وعده باسترجاع ملكه و خرج آخر هذه السنة مشيعا للخليفة و لصالح بن لؤلؤ و وصل بهما إلى دمشق فبالغ هناك في تكرمتهما و بعث معهما أميرين من أمرائه مددا لهما و أمرهما أن ينتهيا معهما إلى الفرات فلما وصلوا الفرات بادر الخليفة بالعبور و قصد الصالح بن لؤلؤ الموصل و اتصل الخبر بالتتر فجردوا العساكر للقائه و التقى الجمعان بعانة و صدموه هنالك فصادمهم قليلا ثم تكاثروا عليه فلم يكن له بهم طاقة و أبلى في جهادهم طويلا ثم استشهد رحمه الله و سارت عساكر التتر إلى الموصل فحاصروا الصالح إسمعيل سبعة أشهر و ملكوها عليه عنوة و قتل رحمه الله و تطلب السلطان بمصر الملك الظاهر بعده آخر من أهل هذا البيت يقيم برسم الخلافة الإسلامية و بينما هو يسائل الركبان عن ذلك إذ وصل رجل من بغداد ينسب إلى الراشد بن المسترشد قال صاحب حماة في تاريخه عن نسابة مصر : إنه أحمد بن حسن بن أبي بكر ابن الأمير أبي علي ابن الأمير حسن بن الراشد و عند العباسيين السليمانيين في درج نسبهم الثابت أنه أحمد بن أبي بكر بن علي بن أحمد بن الإمام المسترشد انتهى كلام صاحب حماة و لم يكن في آبائه خليفة فيما بينه و بين الراشد و بايع له بالخلافة الإسلامية و لقبه الحاكم و فوض هو إليه الأمور العامة و الخاصة و خرج هو له عن العهدة و قام حافظا لسياج الدين بإقامة رسم الخلافة و عمرت بذكره المنابر و زينت باسمه السكة و لم يزل على هذا الحال أيام الظاهر بيبرس و ولديه بعده ثم أيام الصالح قلاون و ابنه الأشرف و طائفة من دولة ابنه الملك الناصر محمد بن قلاون إلى أن هلك سنة إحدى و سبعمائة و نصب ابنه أبو الربيع سليمان للخلافة بعده و لقبه المستكفي وحفظ به الرسم و حضر مع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون للقاء التتر في النوبتين اللتين لقيهم فيها فاستوحش منه السلطان بعض أيامه و أنزله بالقلعة و قطعه عن لقاء الناس عاما أو نحوه ثم أذن له في النزول إلى بيته و لقائه الناس إذا شاء و كان ذلك سنة ست و ثلاثين ثم تجددت له الوحشة و غربه إلى قوص سنة ثمان و ثلاثين ثم هلك الخليفة أبو الربيع سنة أربعين قبل مهلك الملك الناصر رحمهما الله تعالى و كان عهد بالخلافة لابنه أحمد فبويع له و لقب الحاكم ثم بدا للسلطان في إمضاء عهد أبيه بذلك فعزله و استبدل منه بأخيه إبراهيم و لقبه الواثق و كان مهلك الناصر لأشهر قريبة من ذلك فأعادوا أحمد الحاكم ولي عهد أبيه سنة إحدى و أربعين و أقام في الخلافة إلى سنة ثلاث و خمسين و هلك رحمه الله فولي من بعده أخوه بكر و لقب المعتضد و لم يزل مقيما لرسم الخلافة إلى أن هلك لعشرة أعوام من خلافته سنة ثلاث و ستين و نصب بعده ابنه محمد و لقب المتوكل فأقام برسم الخلافة و حضر مع السلطان الأشرف شعبان بن حسين بن الملك الناصر عام انتقض عليه الترك في طريقه إلى الحج و فسد أمره و رجع الفل إلى مصر و طلبه أمراء الترك في البيعة له بالسلطنة مع الخلافة فامتنع من ذلك ثم خلع أيبك من أمراء الترك المستبدين أيام سلطانه بالقاهرة سنة تسع و تسعين لمغاضبة وقعت بينهما و نصب للخلافة زكريا ابن عمه إبراهيم الواثق فلم يطل ذلك و عزل زكريا لأيام قليلة و أعاده إلى منصبه إلى أن كانت واقعة قرط التركماني من أمراء العساكر بمصر و مداخلته للمفسدين في الثورة بالسلطان الملك الظاهر أبي سعيد برقوق سنة خمس و ثمانين و سعى عند السلطان بأنه ممن داخله قرط هذا فاستراب به و حبسه بالقلعة سنة ستين و أدال منه بعمر ابن عمه الواثق إبراهيم و لقبه فأقام ثلاثا أو نحوها ثم هلك رحمه الله آخر عام ثمانية و ثلاثين و نصب السلطان عوضه آخاه زكريا الذي كان آيبك نصبه كما قدمنا ذكره ثم حدثت فتنة بلقيا الناصري صاحب حلب سنة إحدى و تسعين و سبعمائة و تعالى على السلطان بحبسه الخليفة و أطال النكير في ذلك فأطلق السلطان الخليفة محمد المتوكل من محبسه بالقلعة و أعاده إلى الخلافة على رسمه الأول و بالغ في تكرمته و جرت فيما بين ذلك خطوب نذكر أخبارها مستوفاة في دولة الترك المقيمين لرسم هؤلاء الخلفاء بمصر و إنما ذكرنا هنا من أخبارهم ما يتعلق بالخلافة فقط دون أخبار الدولة و السلطان و هذا الخلفاء المتوكل المنصوب الآن لرسم الخلافة و المعين لإقامة المناصب الدينية على مقتضى الشريعة و المبرك بذكره على منابر هذه الإيالة تعظيما لأبيهم الظاهر و جريا على سنن التبرك بسلفهم و لكمال الإيمان في محبتهم و توفية لشروط الإمامة بينهم و ما زال ملوك الهند و غيرهم من ملوك الإسلام بالنواحي يطلبون التقليد منه و من سلفه بمصر و يكاتبون في ذلك ملوك الترك بها من بني قلاون و غيره فيجيبونهم إلى ذلك و يبعثون إليهم بالتقليد و الخلع و الأبهة و يمدون القائمين بأمورهم بمواد التأييد و الإعانة بمن الله و فضله
تم الجزء الثالث و يليه الجزء الرابع أوله أخبار الدولة العلوية (3/664)
بسم الله الرحمن الرحيم ـ أخبار الدولة العلوية المزاحمة لدولة بني العباس
ونبدأ منهم بدولة الأدارسة بالمغرب الأقصى قد تقدم لنا ذكر شيعة أهل البيت لعلي ابن أبي طالب و بنيه رضي الله عنهم و ما كان من شأنهم بالكوفة و موجدتهم على الحسن في تسليم الأمر لغيره و اضطراب الأمر على زياد بالكوفة من أجلهم حتى قتل المتولون كبر ذلك منهم حجر بن عدي و أصحابه ثم استدعوا الحسين بعد وفاة معاوية فكان من قتله بكربلاء ما هو معروف ثم ندم الشيعة على قعودهم عن مناصرته فخرجوا بعد وفاة يزيد و بيعة مروان و خرج عبيد الله بن زياد عن الكوفة وسموا أنفسهم التوابين وولوا عليه سليمان بن صرد و لقيتهم جيوش ابن زياد بأطراف الشام فاستلحموهم ثم خرج المختار بن أبي عبيد بالكوفة طالبا بدم الحسين رضي الله عنه و داعيا لمحمد بن الحنفية و تبعه على ذلك جموعه من الشيعة و سماهم شرطة الله و زحف إليه عبيد الله بن زياد فهزمه المختار وقتله و بلغ محمد بن الحنفية من أحوال المختار ما نقمه عليه فكتب بليه بالبراءة منه فصار إلى الدعاء لعبد الله بن الزبير ثم استدعى الشيعة من بعد ذلك زيد بن علي بن الحسين إلى الكوفة أيام هشام بن عبد الملك فقتله صاحب للكوفة يوسف بن عمر وصلبه و خرج إليه ابنه يحيى بالجوزجان من خراسان فقتل و صلب كذلك و طلت دماء أهل البيت في كل ناحية و قد تقدم ذلك كله في أخبار الدولتين ثم اختلف الشيعة و افترقت مذاهبهم في مصير الإمامة إلى العلوية و ذهبوا طرائق قددا فمنهم الإمامية القائلون بوصية النبي صلى الله عليه و سلم لعلى بالإمامة و يسمونه الوصي بذلك و يتبرؤن من الشيخين لما منعوه حقه بزعمهم و خاصموا زيدا بذلك حين دعا بالكوفة و من لم يتبرأ من الشيخين رفضوه فسموا بذلك رافضة و منهم الزيدية القائلون بإمامة بني فاطمة لفضل علي و بنيه على سائر الصحابة و على شروط يشترطونها و إمامة الشيخين عندهم صحيحة و إن كان علي أفضل و هذا مذهب زيد و اتباعه و هم جمهور الشيعة و أبعدهم عن الانحراف و الغلو و منهم الكيسانية نسبة إلى كيسان يذهبون إلى إمامة محمد بن الحنفية و بنيه من بعد الحسن و الحسين و من هؤلاء كانت شيعة بني العباس القائلون بوصية أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالإمامة و انتشرت هذه المذاهب بين الشيعة و افترق كل مذهب منها إلى طوائف بحسب اختلافهم و كان الكيسانية شيعة بني الحنفية أكثرهم بالعراق وخراسان و لما صار أمر بني أمية إلى اختلال أجمع أهل البيت بالمدينة و بايعوا بالخلافة سرا لمحمد بن عبد الله بن حسن المثنى بن الحسن بن علي و سلم له جميعهم و حضر هذا العقد أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس و هو المنصور و بايع فيمن بايع له من أهل البيت و أجمعوا على ذلك لتقدمه فيهم لما علموا له من الفضل علهم و لهذا كان مالك و أبو حنيفة رحمهما الله يحتجان إليه حين خرج من الحجاز و يريدون أن إمامته أصح من إمامة أبي جعفر لانعقاد هذه البيعة من قبل و ربما صار إليه الأمر من عند الشيعة بانتقال الوصية من زيد بن علي و كان أبو حنيفة يقول بفضله و يحتج إلى حقه فتأدت إليهما المحنة بسبب أيام أبي جعفر المنصور حتى ضرب مالك على الفتيا في طلاق المكره وحبس أبو حنيفة على القضاء و لما انقرضت دولة بني أمية و جاءت دولة بني العباس و صار الأمر لأبي جعفر المنصور سعى عنده ببني حسن و أن محمد بن عبد الله يروم الخروج و أن دعاته ظهروا بخراسان فحبس المنصور لذلك بني حسن وأخوته حسن و إبراهيم و جعفر و علي القائم و ابنه موسى بن عبد الله و سليمان و عبد الله ابن أخيه داود و محمد و إسماعيل و إسحاق بنو عمه إبراهيم بن الحسن في خمسة وأربعين من أكابرهم و حبسوا بقصر ابن هبيرة ظاهر الكوفة حتى هلكوا في حبسهم وأرهبوا الطلب محمد بن عبد الله فخرج بالمدينة سنة خمس و أربعين و بعث أخاه إبراهيم إلى البصرة فغلب عليها و على الأهواز وفارس و بعث الحسن بن معاوية إلى مكة فملكها و بعث عاملا إلى اليمن و دعا لنفسه و خطب على منبر النبي صلى الله عليه و سلم و تسمى بالمهدي و كان يدعى النفس الزكية و حبس رباح بن عثمان المري عامل المدينة فبلغ الخبر إلى أبي جعفر المنصور فأشفقوا من أمره وكتب إليه كتابه المشهور و نصه بعد البسملة : من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله أما بعد { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم * إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } و أن لك ذمة الله و عهده و ميثاقه إن تبت من قبل أن نقدر عليك أن نؤمنك على نفسك و ولدك و أخوتك و من تابعك و جميع شيعتك و أن أعطيك ألف ألف سرهم و أنزلك من البلاد حي شئت و أقضي لك ما شئت من الحاجات و أن أطلق من سجن من أهل بيتك و شيعتك و أنصارك ثم لا أتبع أحدا منكم بمكروه و إن شئت أن تتوثق لنفسك فوجه إلي من يأخذ لك من الميثاق والعهد و الأمان ما أحببت و السلام فأجابه محمد بن عبد الله بكتاب نصه بعد البسملة : من عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين ابن عبد الله محمد أما بعد { طسم * تلك آيات الكتاب المبين * نتلوا عليك من نبإ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون * إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين * ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } و أنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني فقد تعلم أن الحق حقنا و أنكم إنما أعطيتموه بنا و نهضتم فيه بسعينا و حزتموه بفضلنا وأن أبانا عليا عليه السلام كان الوصي و الإمام فكيف ورثتموه دوننا و نحن أحياء ! و قد علمتم أنه ليس أحد من بني هاشم يشد بمثل فضلنا و لا يفخر بمثل قديمنا وحديثنا و نسبنا و نسيبنا و إنا بنو بنته قاطمة في الإسلام من بينكم فإنا أوسط بني هاشم نسبا و خيرهم أما و أبا لم تلدني العجم و لم تعرف في أمهات الأولاد و أن الله عز و جل لم يزل يختار لنا فولدين من النبيين أفضلهم محمد صلى الله عليه و سلم ومن أصحابه أقسمهم إسلاما و أوسعهم علما و أكثرهم جهادا علي بن أبي طالب ومن نسائه أفضلهن خديجة بنت خويلد أول من آمن بالله و صلى إلى القبلة و من بناته أفضلهن و سيدة نساء أهل الجنة و من المتولدين في الإسلام سيدا شباب أهل الجنة ثم قد علمت أن هاشما ولد عليا مرتين من قبل جدي الحسن و الحسين فما زال الله يختار لي حتى اختار لي في معنى النار فولدني أرفع الناس درجة في الجنة و أهون أهل النار عذابا يوم القيامة فأنا ابن خير الأخيار و ابن خير الأشرار و ابن خير أهل الجنة و ابن خير أهل النار و لك عهد الله إن دخلت في بيعتي أن أؤمنك على نفسك وولدك وكل ما أصبته إلا حدا من حدود الله أو حقا لمسلم أو معاهد فقد علمت ما يلزمك في ذلك فأنا أوفى بالعهد منك و أحرى بقبول الأمان منك فأما أمانك الذي عرضت علي فهو أي الأمانات هي ؟ أ أمان ابن هبيرة أم أمان عمك عبد الله بن علي أم أمان أبي مسلم ؟ و السلام فأجابه المنصور بعد البسملة : من عبد الله أمير المؤمنين إلى محمد بن عبد الله ! فقد أتاني كتابك و بلغني كلامك فإذا جل فخرك بالنساء لتضل به الحفاة و الغوغاء و لم يجعل الله النساء كالعمومة و لا الآباء كالعصبة و الأولياء و قد جعل الله العم أبا و بدأ به على الولد فقال جل ثناؤه عن نبيه عليه السلام : و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و لقد علمت أن الله تبارك و تعالى بعث محمدا صلى الله عليه و سلم و عمومته أربعة فأجابه اثنان أحدهما أبي وكفر به اثنان أحدهما أبوك و أما ما ذكرت من النساء و قراباتهن فلو أعطى على قرب الأنساب و حق الأحساب لكان الخير كله لآمنة بنت وهب و لكن الله يختار لدينه من يشاء من خلقه و أما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب فإن الله لم يهد أحدا من ولدها إلى الإسلام و لو فعل لكان عبد الله بن عبد المطلب أولاهم بكل خير في الآخرة و الأولى و أسعدهم بدخول الجنة غدا و لكن الله أبى ذلك فقال : إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء و أما ما ذكرت من فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب و فاطمة أم الحسين و أن هاشما ولد عليا مرتين و أن عبد المطلب ولد الحسن مرتين فخير الأولين رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يلده هاشم إلا مرة واحدة و لم يلده عبد المطلب إلا مرة واحدة و أما ما ذكرت من أنك ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن الله عز و جل قد أبى ذلك فقال : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم و لكن رسول الله و خاتم النبيين و لكنكم قرابة ابنته و أنها لقرابة قريبة غير أنها امرأة لا تحوز الميراث و لا يجوز أن تؤم فكيف تورث الإمامة من قبلها و لقد طلب بها أبوك من كل وجه و أخرجها تخاصم ومرضها سرا و دفنها ليلا و أبى الناس إلا تقديم الشيخين ولقد حضر أبوك وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمر بالصلاة غيره ثم أخذ الناس رجلا رجلا فلا يأخذوا أباك فيهم ثم كان في أصحاب الشورى فكل دفعه عنها بايع عبد الرحمن عثمان و قبلها عثمان و حارب أباك طلحة و الزبير و دعا سعدا إلى بيعته فأغلق بابه دونه ثم بايع معاوية بعده و أفضى أمر جدك إلى أبيك الحسن فسلمه إلى معاوية بخزف و دراهم و أسلم في يديه شيعته و خرج إلى المدينة فدفع الأمر إلى غير أهله و أخذ مالا من غير حله فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه فأما قولك إن الله اختار لك في الكفر فجعل أباك أهون أهل النار عذابا فليس في الشر خيار ولا من عذاب الله هين و لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يفتخر بالنار سترد فتعلم و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون و أما قولك لم تلدك العجم و لم تعرف فيك أمهات الأولاد وأنك أوسط بني هاشم نسبا و خيرهم أما و أبا فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طرا و قدمت نفسك على من هو خير منك أولا و آخرا وأصلا و فصلا فخرت على إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه و سلم و على والد والده فانظر ويحك أين تكون من الله غدا و ما ولد قبلكم مولود بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم أفضل من علي بن الحسين و هو لأم ولد و لقد كان خيرا من جدك حسن بن حسن ثم ابنه محمد خير من أبيك و جدته أم ولد ثم ابنه جعفر وهو خير و لقد علمت أن جدك عليا حكم الحكمين و أعطاهما عهده و ميثاقه على الرضا بما حكما به فأجمعا على خلعه ثم خرج عمك الحسين بن علي بن مرجانة فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه ثم أتوا بكم على الأقتاب كالسبي المجلوب إلى الشام ثم خرج منكم غير واحد فقتلكم بنو أمية و حرقوكم بالنار و صلبوكم على جذوع النخل حتى خرجنا عليهم فأدركنا يسيركم إذ لم تدركوه و رفعنا أقداركم و أورثناكم أرضهم و ديارهم بعد أن كانوا يلعنون أباك في أدبار كل صلاة مكتوبة كما يلعن الكفرة فسفهناهم وكفرناهم و بينا فضله و أشدنا بذكره فاتخذت ذلك علينا حجة و ظننت أنا بما ذكرنا من فضل علي قدمناه على حمزة و العباس و جعفر كل أولئك مضوا سالمين مسلما منهم و ابتلى أبوك بالدماء و لقد علمت أن مآثرنا في الجاهلية سقاية الحجيج الأعظم و ولاية زمزم و كانت للعباس من دون أخوته فنازعنا فيها أبوك إلى عمر فقضى لنا عمر بها و توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس من عمومته أحد حيا إلا العباس و كان وارثه دون عبد المطلب و طلب الخلافة غير واحد من بني هاشم فلم ينلها إلا ولده فاجتمع للعباس أنه أبو رسول الله صلى الله عليه و سلم خاتم الأنبياء و بنوه القادة الخلفاء فقد ذهب يفضل القديم و الحديث و لولا أن العباس أخرج إلى بدر كرها لمات عماك طالب و عقيل جوعا أو يلحسان جفان عتبة وشيبة فأذهب عنهما العار والشنار و لقد جاء الإسلام و العباس يمون به طالب للأزمة التي أصابتهم ثم فدى عقيلا يوم بدر فعززناكم في الكفر و فديناكم من الأسر و ورثناه دونكم خاتم الأنبياء و أدركنا بثأركم إذ عجزتم عنه و وضعناكم بحيث لم تضعوا أنفسكم و السلام ثم عقد أبو جعفر على حربه لعيسى ابن عمه موسى بن علي فزحف إليه في العساكر و قاتله بالمدينة فهزمه و قتله في منتصف رمضان سنة خمس و أربعين و لحق ابنه علي بالسند إلى أن هلك هناك و اختفى ابنه الآخر عبد الله الأشتر إلى أن هلك في أخبار طويلة قد استوفيناها كلها في أخبار أبي جعفر المنصور و رجع عيسى إلى المنصور فجهزه لحرب إبراهيم أخي محمد بالعيرة فقاتل آخر ذي القعدة من تلك السنة فهزمه و قتله حسبما مر ذكره هنالك و قتل معه عيسى بن زيد بن علي فيمن قتل من أصحابه و زعم ابن قتيبة أن عيسى بن زيد ابن علي ثار على المنصور بعد قتل أبي مسلم و لقيه في مائة و عشرين ألفا و قاتله أياما إلى أن هم المنصور بالفرار ثم أتيح له الظفر فانهزم عيسى و لحق بإبراهيم بن عبد الله بالبصرة فكان معه هنالك إلى أن لقيه عيسى بن موسى بن علي و قتلهما كما مر
ثم خرج بالمدينة أيام المهدي سنة تسع و ستين من بني حسن الحسين بن علي بن حسن المثلث و هو أخو عبد الله بن حسن المثنى و عم المهدي و بويع للرضا من آل محمد وسار إلى مكة وكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بن علي و قد كان قدم حاجا من البصرة فولاه حربه يوم التروية فقاتله بفجة على ثلاثة أميال من مكة و هزمه و قتله و افترق أصحابه و كان فيهم عمه إدريس بن عبد الله فأفلت من الهزيمة مع من أفلت منهم يومئذ و لحق بمصر نازعا إلى المغرب و على بريد مصر يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور و يعرف بالمسكين و كان يتشيع فعلم بشأن إدريس و أتاه إلى المكان الذي كان به مستخفيا و حمله على البريد إلى المغرب و معه راشد مولاه فنزل أبو ليلى سنة ست و سبعين وبها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أوربه من قبائل البربر وكبيرهم لعهده فأجاره و أكرمه و جمع البربر على القيام بدعوته و خلع الطاعة العباسية و كشف القناع و اجتمع عليه البرابرة بالمغرب فبايعوه و قاموا بأمره و كان فيهم مجوس فقاتلهم إلى أن أسلموا و ملك المغرب الأقصى ثم ملك تلمسان سنة ثلاث و سبعين و دخلت ملوك زناتة أجمع في طاعته و استفحل ملكه و خاطب إبراهيم بن الأغلب صاحب القيروان وخاطب الرشيد بذلك فشد إليه الرشيد مولى من موالي المهدي إسمه سليمان بن حريز و يعرف بالشماخ و أنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب فأجازه و لحق بإدريس مظهرا للنزوع إليه فيمن نزع من وحدان المغرب متبرئا الدعوة العباسية و منتحلا للطالبين و اختصه الإمام إدريس و حلي بعينه و كان قد تأبط سما في سنون فناوله إياه عند شكايته من وجع أسنانه فكان فيها فيما زعموا حتفه و دفن ببو ليلى سنة خمس و سبعين و فر الشماخ و لحقه راشد بوادي ملوية فاختلفا بينهما ضربتين قطع فيها راشد يده و أجاز الشماخ الوادي فأعجزه و بايع البرابرة بعد ملكه ابنه إدريس سنة ثمان و ثمانين و اجتمعوا على القيام فأمره و لحق به كثير من العرب من أفريقية والأندلس و عجز بنو الأغلب أمراء أفريقية عنه فاستفحلت له و لبنيه بالمغرب الأقصى دولة إلى أن انقرضت على يد أبي العافية و قومه مكناسة أولياء العبيديين أعوام ثلاثة عشر وثلاثمائة حسبما نذكر ذلك في أخبار البربر و نعدد ملوكهم هناك واحدا واحدا و انقراض دولتهم و عودها و نستوعب ذلك كله لأنه أمس بالبربر فإنهم كانوا القائمين بدعوتهم ثم خرج يحيى أخو محمد بن عبد الله بن حسن وإدريس في الديلم سنة ست و سبعين أيام الرشيد و اشتدت شوكتهم و سرح الرشيد لحربه الفضل بن يحيى فبلغ الطالقان و تلطف في استنزاله من بلاد الديلم على أن يشترط ما أحب و يكتب له الرشيد بذلك خطه فتم بينهما و جاء به الفضل فوفى له الرشيد بكل ما أحب و أجرى له أرزاقا سنية ثم حبسه بعد ذلك لسعاية كانت فيه من آل الزبير فيقال أطلقه بعدها و وصله بمال و يقال سمه لشهر من اعتقاله و يقال أطلقه جعفر بن يحيى افتياتا فكان بسببه نكبة البرامكة و انقرض شأن بني حسن و خفيت دعوة الزيدية حينا من الدهر حتى كان منهم بعد ذلك باليمين والديلم ما نذكره و الله غالب على أمره (4/5)
الخبر عن خروج الفاطميين بعد فتنة بغداد
كانت الدولة العباسية قد تمهدت من لدن أبي جعفر المنصور منهم و سكن أمر الخوارج و الدعاة من الشيعة من كل جهة حتى إذا هلك الرشيد ووقع بين بنيه من الفتنة ما وقع و قتل الأمين بيد طاهر بن الحسين و وقع في حصار بغداد من الحرب والعبث ما وقع و بقي المأمون مقيما بخراسان تسكينا لأهلها عن ثائرة الفتن و ولي على العراق الحسن بن سهل اتسع الخرق حينئذ بالعراق و أشيع عن المأمون أن الفضل بن سهل غلب عليه و حجره فامتعض الشيعة لذلك و تكلموا و طمع العلوية في التوثب على الأمر فكان في العراق أعقاب إبراهيم بن محمد بن حسن المثنى المقتول بالبصرة أيام المنصور و كان منهم محمد بن إسماعيل بن إبراهيم و لقبه أبوه طباطبا للكنة كانت في لسانه أيام مرباه بين داياته فلقب بها و كان شيعته من الزيدية و غيرهم يدعون إلى إمامته لأنها كانت متوار في آبائه من إبراهيم الإمام جده على ما قلناه في خبره فخرج سنة تسع و تسعين و دعا لنفسه و وافاه أبو السرايا السري بن منصور كبير بني شيبان فبايعه و قام بتدبير حربه و ملك الكوفة كثر تابعوه من الأعراب و غيرهم و صرح الحسن بن سهل زهير بن المسيب لقتاله فهزمه طباطبا واستباح معسكره ثم مات محمد في صبيحة ذلك اليوم فجأة و يقال إن أبا السرايا سمه لما منعه من الغنائم فبايع أبو السرايا يومه ذلك لمحمد بن محمد بن زيد بن علي زين العابدين و استبد عليه و زحفت عليه جيوش المأمون فهزمهم أبو السرايا وملك البصرة و واسط و المدائن و سرح الحسن بن سهل لحربه هرثمة بن أعين و كان مغضبا فاسترضاه وجهز له الجيوش وزحف إلى أبي السرايا و أصحابه فغلبهم على المدائن و هزمهم و قتل منهم خلقا و وجه أبو السرايا إلى مكة الحسين الأفطس بن الحسن بن علي زين العابدين وإلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن حسن المثنى بن الحسن وإلى البصرة زيد بن موسى بن جعفر الصادق وكان يقال له زيد النار لكثرة من أحرق من الناس بالبصرة فملكوا مكة والمدينة والبصرة وكان بمكة مسرور الخادم الأكبر وسليمان بن داود بن عيسى فلما أحسوا بقدوم الحسين فروا عنها وبقي الناس في الموقف فوضى ودخلها الحسن من الغد فعاث بأهل في أهل الموسم ما شاء الله واستخرج الكنز الذي كان في الكعبة من عهد الجاهلية وأقره النبي صلى الله عليه و سلم والخلفاء بعده وقدره فيما قيل مائتا قنطار اثنتان من الذهب فأنفقه وفرقه في أصحابه ما شاء الله ثم إن هرثمة واقع أبا السرايا فهزمه ثم بحث عن منصور ابن المهدي فكان أميرا معه واتبع أبا السرايا فغلبه على الكوفة وخرج إلى القادسية ثم إلى واسط ولقيه عاملها وهزمه ولحق بجلولا مغلولا جريحا فقبض عليه عاملها وقدمع إلى الحسن بن سهل بالنهروان وضرب عنقه وذلك سنة مائتين وبلغ الخبر الطالبيين بمكة فاجتمعوا وبايعوا محمد بن جعفر الصادق وسموه أمير المؤمنين وغلب عليه ابناه علي وحسين فلم يكن يملك معهما من الأمر شيئا ولحق إبراهيم ابن أخيه موسى الكاظم بن جعفر الصادق باليمن من أهل بيته فدعا لنفسه هنالك وتغلب على الكثير من بلاد اليمن وسمي بالجزار لكثرة من قتل من الناس وخلص عامل اليمن وهو إسحاق بن موسى بن عيسى إلى المأمون فجهزه لحرب هؤلاء الطالبيين فتوجه إلى مكة وغلبهم عليها وخرج جعفر بن محمد الصادق إلى الأعراب بالساحل فاتبعهم إسحاق وهزمهم ثم طلبهم وطلب محمد الأمان فأمنه ودخل مكة وبايع للمأمون وخطب على المنبر بدعوته وسابقته الجيوش إلى اليمن فشردوا عنه الطالبيين وأقاموا فيه الدعوة العباسية ثم خرج الحسين الأفطس ودعا لنفسه بمكة وقتله المأمون وقتل ابنيه عليا ومحمد ثم إن المأمون لما رأى كثرة الشيعة واختلاف دعاتهم وكان يرى مثل رأيهم أو قريبا منه في شأن علي والسبطين فعهد بالعهد من بعده لعلي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق سنة إحدى ومائتين وكتب بذلك إلى الآفاق وتقدم إلى الناس فنزع السواد ولبس الخضرة فحقد بنو العباس ذلك من أمره وبايعوا بالعراق لعمه إبراهيم بن المهدي سنة اثنتين ومائتين وخطب له ببغداد و عظمت الفتنة و شخص المأمون من خراسان متلافيا أمر العراق و هلك علي بن موسى في طريقه فجأة و دفن بطوس سنة ثلاث و مائتين ووصل المأمون إلى بغداد سنة أربع و قبض على عمه إبراهيم و عفا عنه و سكن الفتنة و في سنة تسع بعدها خرج باليمن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب يدعو للرضا من آل محمد و بايعه أهل اليمن و سرح إليه المأمون مولاه دينارا و استأمن له فأمنه و راجع الطاعة ثم كثر خروج الزيدية من بعد ذلك بالحجاز و العراق و الجبال و الديلم و هرب إلى مصر خلق و أخذ منهم خلق و تتابع دعاتهم فأول من خرج منهم بعد ذلك محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين هرب خوفا من المعتصم سنة تسع عشرة و مائتين و كان بمكان من العبادة و الزهد فلحق بخراسان ثم مضى إلى الطالقان و دعا بها لنفسه و اتبعته أمم الزيدية كلهم ثم حاربه عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فغلبه و قبض عليه وحمله إلى المعتصم فحبسه حتى مات و بقال إنه مات مسموما ثم خرج من بعده بالكوفة أيضا الحسين بن محمد بن حمزة بن عبد الله بن الحسين الأعرج بن علي ابن زين العابدين و اجتمع إليه الناس من بني أسد و غيرهم من جموعه و أشياعه وذلك سنة إحدى و خمسين و مائتين وزحف إليه ابن شيكال من أمراء الدولة فهزمه و لحق بصاحب الزنج فكان معه و كاتبه أهل الكوفة في العود إليه و ظهر عليه صاحب الزنج فقتله و كان خروج صاحب الزنج بالبصرة قبله بقليل واجتمعت له جموع العبيد من زنج البصرة و أعمالها و كان يقول في لفظة من أعلمه أنه من و لد عيسى بن زيد الشهيد و أنه علي بن محمد بن زيد بن عيسى ثم انتسب إلى يحيى بن زيد الشهيد و الحق أنه دعي في أهل البيت كما نذكره في أخباره وزحف إليه الموفق أخو المعتمد و دارت بينه و بينهم حروب إلى أن قتله و محا أثر تلك الدعوة كما قدمناه في أخبار الموفق و نذكره في أخباره ثم خرج في الديلم من ولده الحسن بن زيد بن الحسن السبط الداعي المعروف بالعلوي و هو الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن خرج لخمس و خمسين فملك طبرستان و جرجان وسائر أعمالها و كانت له و لشيعته الزيدية دولة هناك ثم انقرضت آخر المائة الثالثة وورثها من ولد الحسن السبط ثم من ولد عمر بن علي بن زين العابدين الناصر الأطروش و هو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر و هو ابن عم صاحب الطالقان أسلم الديلم على يد هذا الأطروش و ملك بهم طبرستان و سائر أعمال الداعي و كانت له و لبنيه هنالك دولة و كانوا سببا لملك الديلم البلاد و تغلبهم على الخلفاء كما نذكر ذلك في أخبار دولتهم ثم خرج باليمن من الزيدية من ولد القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا أخي محمد صاحب أبي السرايا أعوام ثمانية و ثمانين ومائتين يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي فاستولى على صعدة و أورث عقبه فيها ملكا باقيا لهذا العهد و هي مركز الزيدية كما نذكر في أخبارهم و في خلال ذلك خرج بالمدينة الأخوان محمد و علي ابنا الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم و عاثا في المدينة عيثا شديدا و تعطلت الصلاة بمسجد النبي صلى الله عليه و سلم نحوا من شهر و ذلك سنة إحدى و سبعين ثم ظهر بالمغرب من دعاة الرافضة أبو عبد الله الشيعي في كتامة من قبائل البربر أعوام ستة و ثمانين و مائتين داعيا لعبيد الله المهدي محمد بن جعفر ابن محمد بن إسماعيل الإمام بن جعفر الصادق فظهر على الأغالبة بالقيروان و بايع لعبيد الله المهدي سنة ست و تسعين فتم أمره و ملك المغربين و استفحلت له دولة بالمغرب ورثها بنوه ثم استولوا بعد ذلك على مصر سنة ثمان و خمسين و ثلثمائة فملكها منهم المعز لدين الله معد بن إسماعيل بن أبي القاسم بن عبيد الله المهدي و شيد القاهرة ثم ملك الشام و استفحل ملكه إلى أن انقرضت دولتهم على العاضد منهم على يد صلاح الدين بن أيوب سنة خمس و ستين و خمسمائة ثم ظهر في سواد الكوفة سنة ثمان و خمسين و مائتين من دعاة الرافضة رجل اسمه الفرج بن يحيى ويدعى قرمط بكتاب زعم أنه من عند أحمد بن محمد بن الحنفية فيه كثير من كلمات الكفر و التحليل و التحريم و ادعى أن أحمد بن الحنفية هو المهدي المنتظر و عاث في بلاد السواد ثم في بلاد الشام و تلقب و كرويه بن مهرويه و استبد طائفة منهم بالبحرين و نواحيها و رئيسهم أبو سعيد الجناجي و كان له هناك ملك و دولة أورثها بنيه من بعده إلى أن انقرضت أعوامهم كما يذكر في أخبار دولتهم و كان أهل البحرين هؤلاء يرجعون إلى دعوة العبيديين بالمغرب و طاعتهم ثم كان بالعراق من دعاة الإسماعيلية و هؤلاء الرافضة طوائف آخرون و استبدوا بكثير من النواحي و نسب إليهم فيها القلاع قلعة الموت و غيرها و ينسبون تارة إلى القرامطة و تارة إلى العبيديين و كان من رجالاتهم الحسن بن الصباح في قلعة الموت و غيرها إلى أن انقرض أمرهم آخر الدولة للسلجوقية و كان باليمامة و مكة و المدينة من بعد ذلك دول للزيدية و الرافضة فكان باليمامة دولة لبني الأخضر و هو محمد بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون بن عبد الله بن حسن المثنى خرج أخوه إسماعيل بن يوسف في بادية الحجاز سنة اثنتين و خمسين و مائتين و ملك مكة ثم مات فمضى أخوه محمد إلى اليمامة فملكها و أورثها لبنيه إلى أن غلبهم القرامطة و كان بمكة دولة لبني سليمان ابن داود بن حسن المثنى خرج محمد بن سليمان أيام المأمون و تسمى بالناهض و ملك مكة و استقرت إمارته في بنيه إلى أن غلبهم عليها الهواشم وكبيرهم محمد بن جعفر ابن أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون فلكها من إبراهيم سنة أربع و خمسين و أربعمائة و غلب بني حسن على المدينة وداول الخطبة بمكة بين العباسيين و العبيديين و استفحل ملكه في بنيه إلى أن انقرضوا آخر المائة السادسة و غلب على مكة بنو أبي قمي أمراؤها لهذا العهد ملك أولهم أبو عزيز قتادة بن إدريس مطاعن بن عبد للكريم بن موسى بن عيسى بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن موسى الجون وورث دولة الهواشم و ملكهم و أورثها بنيه إلى هذا العهد كما نذكر في أخبارهم و هؤلاء كلهم زيدية و بالمدينة دولة للرافضة لولد الهناء قال المسبحي : اسمه الحسن بن طاهر بن مسلم و في كتاب العتبي مؤرخ دولة ابن سبكتكين أن مسلما اسمه محمد بن طاهر و كان صديقا لكافور و يدبر أمره وهو من و لد الحسن بن علي زين العابدين و استوف طاهر بن مسلم على المدينة أعوام ستين وثلثمائة و أورثها بنيه لهذا العهد كما نذكر في أخبارهم و الله وارث الأرض و من عليها (4/12)
الخبر عن الأدارسة ملوك المغرب الأقصى و مبدأ دولتهم و انقراضها ثم تجددها مفترقة في نواحي المغرب
لما خرج حسين ين علف بن حسن المثلث بن حسن المثنى بن الحسن السبط بمكة في ذي القعدة سنة ست و تسعين و مائة أيام المهدى و اجتمع عليه قرابته و فيهم عماه إدريس و يحيى و قاتلهم محمد بن سليمان بن علي بعجة على ثلاثة أميال بمكة فقتل الحسين في جماعة من أهل بيته و انهزموا و أسر كثير منهم و نجا يحيى بن إدريس وسليمان و ظهر يحيى بعد ذلك في الديلم و قد ذكرنا خبره من قبل وكيف استنزله الرشيد و حبسه و أما إدريس ففر و لحق بمصر و على بريدها يومئذ واضح مولى صالح بن المنصور و يعرف بالمسكين و كان واضح يتشيع فعلم شأن إدريس وأتاه إلى الموضع الذي كان به مستخفيا و لم ير شيئا أخلص من أن يحمله على البريد إلى المغرب ففعل ولحق إدريس بالمغرب الأقصى هو و مولاه راشد ونزل بولية سنة اثنتي و سبعين و بها يومئذ إسحاق بن محمد بن عبد الحميد أمير أوربة كبيرهم لعهده فأجاره و أجمع البرابر على القيام بدعوته وكشف القناع في ذلك و اجتمعت عليه زواغة و لواتة و سدراتة و غياثة و نفرة و مكناسة و غمارة و كافة للبرابر بالمغرب فبايعوه وقاموا بأمره و خطب الناس يوم بويع فقال بعد حمد الله و الصلاة على نبيه لا تمدن الأعناق إلى غيرنا فإن الذي تجدونه عندنا من الحق لا تجدونه عند غيرنا و لحق به من أخوته سليمان و نزل بأرض زناته من تلمسان و نواحيها و نذكر خبره فيما بعد و لما استوثق أمر إدريس و تمت دعوته زحف إلى البرابرة الذين كانوا بالمغرب على دين المجوسية و اليهودية و النصرانية مثل قندلاوه و بهلوانه و مديونة و ما زار و فتح تامستا ومدينة شاله و تادلا و كان أكثرهم على دين اليهودية و النصرانية فأسلموا على يديه طوعا و كرها و هدم معاقلهم و حصونهم ثم زحف إلى تلمسان و بها من قبائل بني يعرب و مغراوه سنة ثلاث و سبعين و لقيه أميرها محمد بن حرز بن جزلان فأعطاه الطاعة و بذل له إدريس الأمان و لسائر زناتة فأمكنه من قياد البلد و بنى مسجدها وأمر بعمل منبره وكتب اسمه فيه حسبما هو مخطوط في صفح المنبر لهذا العهد ورجع إلى مدينة و ليلى ثم دس إليه الرشيد مولى من موالي المهدى اسمه سليمان بن حريز ويعرف بالشماخ أنفذه بكتابه إلى ابن الأغلب فأجازه و لحق بإدريس مظهرا النزوع إليه فيمن نزع من وهران المغرب متبرئا من الدعوة العباسية و منتحلا للطلب و اختصه الإمام إدريس و حلا بعينه و كان قد تأبط سما في سنون فناوله إياه عند شكايته من وجع أسنانه فكان فيه كما زعموا حتفه و دفن بوليلى سنة خمس و سبعين و فر الشماخ و لحقه فيما زعموا راشد بوادي ملوية فاختلفا ضربتين قطع فيها راشد يد الشماخ و أجاز الوادي فأعجزه و اعتلق بالبرابر من أوربة و غيرهم فجمل من دعوته في ابنه إدريس الأصغر من جاريته كنزه بايعوه حملا ثم رضيعا ثم فصيلا إلى أن شب و استنم فبايعوه بجامع و ليلى سنة ثمان و ثمانين ابن إحدى عشرة سنة و كان ابن الأغلب دس إليهم الأموال و استمالهم حتى قتلوا راشدا مولاه سنة ست و ثمانين وقام بكفالة إدريس من بعده أبو خالد بن يزيد بن الياس العبدي و لم يزل كذلك إلى أن بايعوا لإدريس فقاموا بأمره و جردوا لأنفسهم رسوم الملك بتجديد طاعته وافتتحوا بلاد المغرب كلها و استوثق لهم الملك بها و استوزر إدريس مصعب بن عيسى الأزدي المسمى بالملجوم من ضربة في بعض حروبهم و سمته على الخرطوم وكأنها خطام و نزع إليه كثير من قبائل العرب و الأندلس حتى اجتمع إليه منهم زهاء خمسمائة فاختصهم دون البربر و كانوا له بطانة و حاشية و استفحل بهم سلطانه ثم قتل كبير أوربة إسحاق بن محمود سنة اثنتين و تسعين لما أحس منه بموالاة إبراهيم بن الأغلب وكثرت حاشية الدولة و أنصارها و ضاقت وليلى بهم فاعتام موضعا لبناء مدينة لهم و كانت فاس موضعا لبني بوغش و بني الخير من وزاغة و كان في بني بوغش مجوس و يهود و نصارى و كان موضع شيبوبة منها بيت نار لمجوسهم و أسلموا كلهم على يده و كانت بينهم فتن فبعث للإصلاح بينهم كاتبه أبا الحسن عبد الملك بن مالك الخزرجي ثم جاء إلى فاس و ضرب أبنيته بكزواوه وشرع في بنائها فاختط عدوة الأندلس سنة اثنتين و تسعين و في سنة ثلاث بعدها اختط عدوة القرويين و بنى مساكنه و انتقل إلها و أسس جامع الشرفاء و كانت عدوة القرويين من لدن باب السلسلة إلى غدير الجوزاء و الجرف و استقام له أمر الخلافة و أمر القائمين بدعوته و أمر العز و الملك ثم خرج غازيا المصامدة سنة سبع و تسعين فافتتح بلادهم و دانوا بدعوته ثم غزا تلمسان و جدد بناء مسجدها و إصلاح منبرها و أقام بها ثلاث سنين و انتظمت كلمة البرابرة و زناتة و محوا دعوة الخوارج منهم و اقتطع الغربيين عن دعوة العباسيين من لدن الشموس الأقصى إلى شلف و دافع إبراهيم بن الأغلب عن حماه بعدما ضايقه بالمكاد و استقاد الأولياء و استمال بهلول بن عبد الواحد المظفري بمن معه من قومه عن طاعة إدريس إلى طاعة هارون الرشيد و وفد عليه بالقيروان و استراب إدريس بالبرابرة فصالح إبراهيم بن الأغلب و سكن من غربه و عجز الأغالبة من بعد ذلك عن مدافعة هؤلاء الأدارسة و دافعوا خلفاء بني العباس بالمعاذير بالغض من إدريس و القدح في نسبه إلى أبيه إدريس بما هو أوهن من خيوط العناكب و هلك إدريس سنة ثلاث عشرة و قام بالأمر من بعده ابنه محمد بعهده إليه فأجمع أمره بوفاة جدته كنزة أم إدريس على أن يشرك أخوته في سلطانه و يقاسم ممالك أبيه فقسم المغرب بينهم أعمالا اختص منها القاسم بطنجة وبسكرة و سبته و تيطاوين و قلعة حجر النسر وما إلى ذلك من البلاد و القبائل و اختص عمر بتيكيسان و ترغة و ما بينهما من قبائل صنهاجة و غمارة و اختص داود ببلاد هوارة وتسول و تازي و ما بينهما من القبائل : مكناسة و غياثة و اختص عبد الله باغمات و بلد نفيس و جبال المصامدة و بلاد لمطة و السوس الأقصى و اختص يحيى بأصيلا والعرائش و بلاد زوغة و ما إلى ذلك و اختص عيسى بشالة و سلا و ازمور وتامسنا و ما إلى ذلك من القبائل و اختص حمزة بوليلى و أعمالها و أبقى الباقين في كفالتهم و كفالة جدتهم كنزة لصغرهم و بقيت تلمسان لولد سليمان بن عبد الله و خرج عيسى بازمور على أخيه محمد طالبا الأمر لنفسه فبعث لحربه أخاه عمر بعد أن دعا القاسم لذلك فامتنع و لما أوقع عمر بعيسى و غلب على ما في يده استنابه إلى أعماله بإذن أخيه محمد ثم أمره أخوه محمد بالنهوض إلى حرب القاسم لقعوده عن إجابته في محاربة عيسى فزحف إليه و أوقع به و استناب عليه إلى ما في يده فصار الريف البحري كله من عمل عمر هذا من تيكيشاش و بلاد غمارة إلى سبته ثم إلى طنجة و هذا ساحل البحر الرومي ثم ينعطف إلى أصيلا ثم سلا ثم أزمور و بلاد تامستا و هذا ساحل البحر الكبير و تزهد القاسم و بنى رباط بساحل أميلا للعبادة إلى أن هلك و اتسعت ولاية عمر بعمل عيسى و القاسم و خلصت طويته لأخيه محمد الأمير و هلك في إمارة أخيه محمد ببلد صنهاجة بموضع يقال له : فج الفرص سنة عشرين و مائتين و دفن بفاس و عمر هذا هو جد المحموديين الدائلين بالأندلس من بني أمية كما نذكره و عقد الأمر محمد علي عمله لولده علي بن عمر ثم كان مهلك الأمير محمد لسبعة أشهر من مهلك أخيه عمر سنة إحدى و عشرين و مائتين بعد أن استخلف ولده عليا في مرضه و هو ابن تسع سني فقام بأمره الأولياء و الحاشية من العرب و أوربة و سائر البربر و صنائع الدولة و بايعوه غلاما مترعرعا و قاموا بأمره وأحسنوا كف الله و طاعته فكانت أيامه خير أيام و هلك سنة أربع و ثلاثين لثلاث عشرة سنة من ولايته و عهد لأخيه يحيى بن محمد فقام بالأمر و امتد سلطانه وعظمت دولته و حسنت آثار أيامه و استجدت فاس في العمران و بنيت بها الحمامات و الفنادق للتجار و بنيت الأرباض و رحل إليها للناس من الثغور القاصية واتفق أن نزلتها امرأة من أهل القيروان تسمى أم البنين بنت محمد الفهري و قال ابن أبي ذرع اسمها فاطمة و أنها من هوارة و كانت مثرية بموروث أفادته من ذويها واعتزمت على صرفه في وجوه الخير فاختطت المسجد الجامع بعدوة القرويين أصغر ما كان سنة خمس و أربعين في أرض بيضاء كان أقطعها الإمام إدريس و أنبطت بصحنها بئرا شرابا للناس فكأنما نبهت بذلك عزائم الملوك من بعدها و نقلت إليه الخطبة من جامع إدريس لضيق محلته و جوار بيته و اختط بعد ذلك أحمد بن سعيد بن أبي بكر اليغرني صومعته سنة خمس و أربعين و ثلثمائة على رأس مائة سنة من اختطاط الجامع حسبما هو منقوش في الحجارة بالركن الشرقي منها ثم أوسع في خطته المنصور بن أبي عامر و جلب إليه الماء و أعد له السقاية و السلسلة بباب الحفاة منه ثم أوسع في خطته آخر ملوك لمتونة من الموحدين و بني مرين و استمرت العمارة به وانصرفت هممهم إلى تشييده و المنافسات في الاحتفال به فبلغ الاحتفال فيه ما شاء الله حسبما هو مذكور فما تواريخ المغرب و هلك يحيى هذا سنة و ولى ابنه يحيى بن يحيى فأساء السيرة وكثر عبثه في الحرم و ثارت به العامة لمركب شنيع أتاه وتولى كبر الثورة عبد الرحمن بن أبي سهل الحزامي و أخرجوه من عدوة القرويين إلى عدوة الأندلسيين فتوارى ليلتين و مات أسفا لليلته و انقطع الملك من عقب محمد ابن إدريس و بلغ الخبر بشأن يحيى إلى ابن عمه على بن عمر صاحب الريف واستدعاه أهل للدولة من العرب و البربر و الموالى فجاء إلى فاس و دخلها و بايعوه واستولى على أعمال المغرب إلى أن ثار عليه عبد الرزاق الخارجي خرج بجبال لمتونه وكان على رأي الصفرية فزحف إلى فاس و غلب عليها ففر إلى أروبة و ملك عبد الرزاق عدوة الأندلس و امتنعت منه عدوة القرويين و ولوا على أنفسهم يحيى بن القاسم بن إدريس و كان يعرف بالصرام بعثوا إليه فجاءهم في جموعه و كانت بينه و بين الخارجي حروب و يقال إنه أخرجه من عدوة الأندلس و استعمل عليها ثعلبة بن محارب بن عبد الله كان من أهل الربض بقرطبة من ولد المهلب بن أبي صفرة ثم استعمل ابنه عبد الله المعروف بعبود من بعده ثم ابنه محارب بن عبود بن ثعلبة إلى أن اغتاله الربيع بن سليمان سنة اثنتين و تسعين ومائتين وقام بالأمر مكانه يحيى بن إدريس بن عمر صاحب الريف و هو ابن أخي علي بن عمر فملك جميع أعمال الأدارسة و خطب له على سائر أعمال المغرب و كان أعلى بنى إدريس ملكا وأعظمهم سلطانا و كان فقيها عارفا بالحديث و لم يبلغ أحد من الأدارسة مبلغه في السلطان و الدولة و في أثناء ذلك كله خلط الملك للشيعة بأفريقية و تغلبوا على الإسكندرية و اختطوا المهدية كما نذكره في دولة كتامة ثم طمحوا إلى ملك المغرب وعقدوا لمضالة بن حبوس كبير مكناسة و صاحب تاهرت على محاربة ملوكه سنة خمس و ثلثمائة فزحف إليه في عساكر مكناسة و كتامة و برز لمدافعته يحيى بن إدريس صاحب المغرب بجموعه من المغرب و أولياء للدولة من أوربة وسائل البرابرة والموالي و التقوا على مكناسة و كانت الدبرة على يحيى و قومه و رجع إلى فاس مغلولا و أجاز له بها معاملة إلى أن صالحه على مال يؤديه إليه و طاعة معروفة لعبيد الله الشيعي سلطانه يؤديها فقبل الشرط و خرج عن الأمر و خلع نفسه و أنفذ بيعته إلى عبيد الله المهدي و أبقى عليه مصالحه في سكنى فاس و عقد له على عملي خاصة و عقد لابن عمه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة يومئذ و صاحب سنور وتازير على سائر أعمال البربر كما نذكره في أخبار مكناسة و دولة موسى و كان بين موسى بن أبي العافية و بين يحيى بن إدريس شحناء و عداوة يضطغنها كل واحد لصاحبه حتى إذا عاد مضالة إلى المغرب في غزاته الثانية سنة تسع أغزاه موسى بن أبي العافية بطلحة بن يحيى بن إدريس صاحب فاس فقبض عليه مضالة واستصفى أمواله و ذخائره و غربه إلى أصيلا و الريف عمل ذي قرباه و رحمه و ولى على فاس ريحان الكتامي ثم خرج يحيى يريد إفريقية فاعترضه ابن أبي العافية وسجنه سنتين و أطلقه و لحق بالمهدية منه إحدى و ثلاثين و هلك في حصار أبي يزيد سنة و استبد ابن أبي العافية بملك المغرب و ثار على ريحان الكتامي بفاس سنة ثلاثة عشرة و ثلثمائة الحسن بن محمد بن القاسم بن إدريس الملقب بالحجام ونفى ريحان عنها و ملكها عامين و زحف للقاء موسى بن أبي العافية و كانت بينهما حروب شديدة هلك فيها ابنه منهال بن موسى و انجلت المعركة على أكثر من ألف قتيل و خلص الحسن إلى فاس منهزما و غدر به حامد بن حمدان الأوربي واعتقله و بعث إلى موسى فوصل إلى فاس و ملكها و طالبه بإحضار الحسن فدافعه عن ذلك و أطلق الحسن متنكرا فتدلى من السور فسقط و مات من ليلته و فر حامد ابن حمدان إلى المهدية و قتل موسى بن أبي العافية عبد الله بن ثعلبة بن محارب وابنيه محمدا و يوسف و ذهب ملك الأدارسة و استولى ابن أبي العافية على جميع المغرب و أجلى بني محمد بن القاسم بن إدريس و أخاه الحسن إلى الريف فنزلوا البصرة و اجتمعوا إلى كبيرهم إبراهيم بن محمد بن القاسم أخي الحسن و ولوه عليهم واختط لهم الحصن المعروف بهم هنالك و هو حجر النسر سنة سبع عشرة و ثلثمائة و نزلوه و بنو عمر بن إدريس يومئذ بغمارة من لدن تيجساس إلى سبتة و طنجة و بقي إبراهيم كذلك و شمر الناصر المرواني لطلب المغرب و ملك سبتة علي بن إدريس سنة تسع عشرة وكبيرهم يومئذ أبو العيش بن إدريس بن عمر فانجابوا له عنها و أنزل بها حاميته و هلك إبراهيم بن محمد كبير بني محمد فتولى عليهم من بعده أخوه القاسم الملقب بكانون و هو أخو الحسن الحجام و اسمه القاسم بن محمد بن القاسم و قام بدعوة الشيعة انحرافا عن أبي العافية و مذاهبه و اتصل الأمر في ولده و غمارة أولياؤهم والقائمون بأمرهم كما نذكره في أخبار غمارة و دخلت دعوة المروانيين خلفاء قرطبة إلى المغرب و تغلبت زناتة على الضواحي ثم ملك بنو يعرب فاس و بعدهم مغراوة و أقام الأدارسة بالريف مع غمارة و تجدد لهم به ملك في يني محمد و بني عمر بمدينة البصرة وقلعة حجر النسر و مدينة سبتة و أصيلا ثم تغلب علهم المروانيون و أخذوهم إلى الأندلس ثم أجازوهم إلى الإسكندرية و بعث العزيز العبيدي بن كانون منهم لطلب ملكهم بالمغرب فغلبه عليه المنصور بن أبي عامر و قتله و عليه كان انقراض أمرهم و انقراض سلطان أوربة من المغرب و كان من أعقاب الأدارسة الذين أووا إلى غمارة فكانوا الدائلين من ملوك الأموية بالأندلس و ذلك أن الأدارسة لما انقرض سلطانهم و صاروا إلى بلاد غمارة و استجدوا بها رياسة و استمرت في بني محمد و بني عمر من ولد إدريس بن إدريس و كانت للبربر إليهم بسبب ذلك طاعة و خلطة وكان بنو حمود هؤلاء من غمارة فأجازوا مع البربر حين أجازوا في مظاهرة المستعين ثم غلبوه بعد ذلك على الأمر و صار لهم ملك الأندلس حسبما نذكر في أخبارهم و أما سليمان أخو إدريس أخبر فإنه فر إلى المغرب أيام العباسين فلحق بجهات تاهرت بعد مهلك أخيه إدريس و طلب الأمر هناك فاستنكره البرابرة و طلبه ولاة الأغالبة فكان في طلبهم تصحيح نسبه و لحق بتلمسان فملكها و أذعنت له زناتة وسائر قبائل البربر هنالك سور ملكه ابنه محمد بن سليمان على سننه ثم افترق بنوه على ثغور المغرب الأوسط و اقتسموا ممالكه و نواحيه فكانت تلمسان من بعده لابنه محمد بن أحمد بن القاسم بن محمد بن أحمد و أظن هذا القاسم هو الذي يدعي بنو عبد الواد نسبه فإن هذا أشبه من القاسم بن إدريس بمثل هذه الدعوى وكانت أرشكول لعيسى بن محمد بن سليمان و كان منقطعا إلى الشيعة و كانت جراوة لإدريس بن محمد بن سليمان ثم لابنه عيسى وكنيته أبو العيش و لم تزل إمارتها في ولده ووليها بعده ابنه إبراهيم بن عيسى ثم ابنه يحيى بن إبراهيم ثم أخوه إدريس بن إبراهيم و كان إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول منقطعا إلى عبد الرحمن الناصر و أخوه يحيى كذلك و ارتاب من قبله ميسور قائد للشيعة فقبض عليه سنة ثلاثة و عشرين و ثلاثمائة ثم انحرف عنهم فما أخذ ابن أبي العافية بدعوة العلوية نابذ أولياء للشيعة فحاصر صاحب جراوة الحسن بن أبي للعيش و غلبه على جراوة فلحق بابن عمه إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكول ثم حاصرها البوري بن موسى ابن أبي العافية و غلب عليهما و بعث بهما إلى الناصر فأسكنهما قرطبة و كانت تنس لإبراهيم بن محمد بن سليمان ثم لابنه محمد من بعده ثم لابنه يحيى بن محمد ثم ابنه علي بن يحيى و تغلب عليه زيري بن مناد سنة اثنتين و أربعين و ثلثمائة ففر إلى الجبر بن محمد بن خزر و جاز ابناه حمزة و يحيى إن الناصر فتلقاهما رحبا و تكرمة ورجع يحيى منهما إلى طلب تنس فلم يظفر بها و كان من ولد إبراهيم هذا أحمد بن عيسى بن إبراهيم صاحب سوق إبراهيم و سليمان بن محمد بن إبراهيم من رؤساء المغرب الأوسط و كان من بني محمد بن سليمان هؤلاء و بطوش بن حناتش بن الحسن ابن محمد بن سليمان قال ابن حزم : و هم بالمغرب كثير جدا و كان لهم بها ممالك وقد بطل جميعها و لم يبق منهم بها رئيس بنواحي بجاية و حمل بني حمزة هؤلاء جوهر إلى القيروان و بقيت منهم بقايا في الجبال و الأطراف معروفون هنالك عند البربر و الله وارث الأرض و من عليها (4/16)
الخبر عن صاحب الزنج و تصاريف أمره واضمحلال دعوته
هذه الدعوة فيها اضطراب منذ أولها فلم يتم لصاحبها دولة و ذلك أن دعاة العلوية منذ زمان المعتصم من الزيدية كما شرحناه و كان من أعظمهم الذين دعا لهم شيعهتم بالنواحي علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهيد و لما اشتهر أمره فر وقتل ابن عمه علي بن محمد بن الحسن بن علي بن عيسى و بقي هو متغيبا فادعى صاحب الزنج هذا سنة خمس و خمسين و مائتين أيام المهدي أنه هو فلما ملك البصرة ظهر هذا المطلوب و لقيه صاحب الزنج حيا معروفا بين الناس فرجع عن دعوى نسبه و انتسب إلى يحيى بن يزيد قتيل الجون و نسبه المسعودي إلى طاهر بن الحسين بن علي و قال فيه علي بن محمد بن جعفر بن الحسين بن طاهر ويشكل ذلك بأن الحسين بن فاطمة لم يكن له عقب إلا من زبن العابدين قاله ابن حزم و غيره فإن أراد بطاهر طاهر بن يحيى المحدث بن الحسن بن عبيد الله بن الحسن الأصغر بن زين العابدين فتطول سلسلة نسبه و تشتمل على اثني عشر إلى الحسين بن فاطمة و يبعد ذلك إلى العصر الذي ظهر فيه و الذي عليه المحققون الطبري و ابن حزم و غيرهما أنه رجل من عبد القيس من قرية تسمى و دريفن من قرى الري و اسمه علي بن عبد الرحيم حدثته نفسه بالتوثب و رأى كثرة خروج الزيدية من الفاطميين فانتحل هذا النسب و ادعاه و ليس من أهله و يصدق هذا أنه كان خارجيا على رأي الأزارقة يلعن الطائفتين من أهل الجمل و صفين وكيف يكون هذا من علوي صحيح النسب ؟ و لأجل انتحاله هذا النسب و بطلانه في دعاويه فسد أمره فقتل و لم تقم له دولة بعد أن فعل الأفاعيل و عاث في جهات البصرة و استباح الأمصار و خربها و هزم العساكر و قتل الأمراء الأكابر و اتخذ لنفسه حصونا قتل فيها من جاوبه لمكره سنة الله في عباده و سياق الخبر عنه أنه شخص من الذين حجبوا ببغداد مع جماعة من حاشية المنتصر ثم سار إلى البحرين سنة تسع و أربعين ومائتين فادعى أنه علوي من ولد الحسين بن عبيد الله بن العباس بن علي و دعا الناس إلى طاعته فاتبعه كثير من أهل هجر ئم تحول إلى الاحساء و نزل على بعض بني تميم و معه قوارة يحيى بن محمد الأزرق و سليمان بن جامع و قاتل أهل البحرين فهزموه و افترقت العرب عنه و لحق بالبصرة و الفتنة فيها بين البلالية و السعدية و بلغ خبره محمد بن رجاء العامل فطلبه فهرب و حبس ابنه و زوجته و بعض أصحابه ولحق هو ببغداد فانتسب إلى عيسى بن زيد الشهيد كما قلناه و أقام بها حولا ثم بلغه أن البلالية و السعدية أخرجوا محمد بن رجاء من البصرة و أن أهله خلصوا فرجع إلى البصرة في رمضان سنة خمس و خمسين و معه يحيى بن محمد و سليمان بن جامع و من أهل بغداد الذين استمالهم جعفر بن محمد الصمدحاني و علي بن أبان و عبدان غير من سمينا فنزل بظاهر البصرة و وجه دعوته إلى العبيد من الزنوج وأفسدهم على مواليهم و رغبهم في العتق ثم في الملك و اتخذ راية رسم فيها أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم الآية و جاءه موالي العبيد في طلبهم فأمرهم بضربهم و حسبهم ثم أطلقهم و تسايل إليه الزنوج و اتبعوه و هزم عساكر البصرة و الأبلة وذهب إلى القادسية و جاءت العساكر من بغداد فهزمهم و نهب النواحي و جاء المدد إلى البصرة مع جعلان من قواد الترك و قاتلوه فهزمهم ثم ملك الأبلة واستباحها و سار إلى الأهواز و بها إبراهيم بن المدير على الخوارج فافتتحها و أسر ابن المدير سنة ست و خمسين إلى أن فر من محبسهم فبعث المعتمد سعيد بن صالح الحاجب لحربهم سنة سبع و خمسين و هو يومئذ عامل البصرة و سار من واسط فهزمه علي بن أبان من قواد الزنج لحربهم هزمه إلى البحرين فتحصن بالبصرة و زحف علي بن أبان لحصاره حتى نزل على أمانه و دخلها و أحرق جامعها و نكب عليه صاحب الزنج فصرفه و ولى على البصرة مكانه يحيى بن محمد البحراني و بعث المعتمد محمد بن المولد إلى البصرة فأخرج عنه الزنج ثم بيتوا محمد بن المولد فهزموه ثم ساروا إلى الأهواز وعليها منصور الخياط فواقع الزنج فغلبوه و كان المعتمد قد استقدم أخاه أبا أحمد الموفق من مكة و عقد له على الكوفة و الحرمين و طريق مكة واليمن ثم عقد له على بغداد و السواد و واسط و كور دجلة و البصرة و الأهواز و أمره أن يعقد ليارجوج على البصرة و كور دجلة و اليمامة و البحرين مكان سعيد بن صالح ثم انهزم سعيد بن صالح فعقد يارجوج لمنصور بن جعفر مكانه ثم قتله الزنج كما قلناه فأمر المعتمد أخاه الموفق بالمسير إليهم في ربيع سنة ثمان و خمسين و على مقدمته مفلح فأجفل الزنج عن البصرة و سار قائدهم علي بن أبان فلقي مفلحا فقتل مفلح وانهزم أصحابه و رجع الموفق إلى سامرا و كان اصطيخور ولي الأهواز بعد منصور الخياط و جاءه يحيى بن محمد البحراني من قواد الزنج و بلغهم مسير الموفق فانهزم يحيى البحراني و رجع في السفن فأخذ و حمل إلى سامرا فقتل و بعث صاحب الزنج مكانه علي بن أبان و سليمان الشعراني فلكوا الأهواز من يد اصطيخور سنة تسع و خمسين بعد أن هزموه و هرب في السفن فغرق و سرح المعتمد لحربهم موسى بن بغا بعد أن عقد له على تلك الأعمال فبعث إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح و إلى البصرة إسحاق بن كيداجق و إلى باداورد إبراهيم بن سليمان وأقاموا في حروبهم مدة سنة و نصفها ثم استعفى موسى بن بغا و ولى على تلك الأعمال مكانه مسرور البلخي و جهز المعتمد أخاه أبا أحمد الموفق لحربهم بعد أن عهد له بالخلافة و لقبه الناصر لدين الله الموفق و ولي على أعمال المشرق كلها إلى آخر أصفهان و على الحجاز فسار لذلك سنة اثنتين و ستين و اعترضه يعقوب الصفار يريد بغداد فشغل بحربه و انهزم الصفار و انتزع من يده ما كان ملكه من الأهواز وكان مسرور البلخي قد سار إلى المعتمد و حضر معه حرب الصفار فاغتنم صاحب الزنج خلو تلك النواحي من العسكر و بث سراياه للنهب و التخريب في القادسية وجاءت العساكر من بغداد مع أغرتمش و خشتش فهزمهم الزنج وقائدهم سليمان ابن جامع و قتل خشتش و كان علي بن أبان من قوادهم قد سار إلى الأهواز وأميرها يومئذ محمد بن هزارمرد الكردي فبعث مسرور البلخي أحمد بن الينونة للقائهم فغلب أولا على الأهواز علي بن أبان ثم ظاهره محمد بن هزارمرد و الأكراد فرجع إلى السوس و أقام علي بن أبان و صاحبه بتستر و طمع أنه يخطب لصاحب الزنج فخطب هو للصفار فاقتتلا و انهزم علي بن أبان و خرج و اضطربت فارس بالفتنة ثم ملك الصفار الأهواز و واعد الزنج و سار سليمان بن جامع من قواد الزنج وولى الموفق على مدينة واسط أحمد بن المولد فزحف إليه الخليل بن أبان فهزمه و اقتحم واسطا و استباحها سنة أربع و ستين و ضربت خيولهم في نواحي السواد إلى النعمانية إلى جرجرايا فاستباحوها و سار علي بن أبان إلى الأهواز فحاصرها و استعمل الموفق عليها مسرورا البلخي فبعث تكيد البخاري إلى تستر فهزمهم علي بن أبان و جماعة الزنج و سألوه الموادعة فوادعهم و اتهمه مسرور فقبض عليه و بعث مكانه أغرتمش فهزم الزنج أولا ثم هزموه ثانيا فوادعهم ثم سار علي بن أبان إلى محمد بن هزارمرد الكردي فغلبه على رامهرمز حتى صالحه عليها على مائتي ألف درهم و على الخطبة له في أعماله ثم سار ابن أبان لحصار بعض القلاع بالأهواز فزحف إليه مسرور البلخي فهزمه و استباح معسكره و كان الموفق لما اقتحم الزنج مدينة واسط بعث ابنه أبا العباس سنة ست و ستين في عشرة آلاف من المقاتلة و معه السفن في النهر عليها أبو حمزة نصير فكتب إليه نصير بأن سليمان بن جامع أقبل في المقاتلة و السفن برا و بحرا و على مقدمته الجناني و لحقهم سليمان بن موسى الشعراني بالعساكر و نزلوا من الطفح إلى أسفل واسط فسار إليهم أبو العباس فهزمهم فتأخروا وراءهم و أقام على واسط يردد عليهم الحروب و الهزائم مرة بعد أخرى ثم أمر صاحب الزنج قائده ابن أبان و ابن جامع أن يجتمعا لحرب أبي العباس بن الموفق و بلغ ذلك الموفق فسار من بغداد في ربيع سنة سبع و ستين فانتهى إلى المنيعة و قاتل الزنج فانهزموا أمامه و اتبعهم أصحاب أبي العباس ابنه فاقتحموا عليهم المنيعة و قتلوا و أسروا و هدم سور المنيعة و طمس خندقها و هرب الشعراني و ابن جامع و سار أبو العباس إلى المنصورة بطهشا فنازلها و غلب عليها و أفلت ابن جامع إلى واسط و غلب على ما فيها من الذخائر و الأموال و هدم سورها و طم خنادقها و رجع إلى واسط ثم سار الموفق إلى الزنج بالأهواز و استخلف ابنه هرون على جنده بواسط وجاءه الخبر برجوع الزنج إلى طهشا و المنصورة فرد إليهم من يوقع بهم ومضى لوجهه فانتهى إلى السوس و علي بن أبان بالأهواز فسار إلى صاحبه و استأمن المخلفون هنالك إلى الموفق فأمنهم و سار إلى تستر و أمن محمد بن عبد الله الكردي ثم وافى الأهواز وكتب إلى ابنه هرون أن يوافيه بالجند بنهر المبارك من فرات البصرة وبعث ابنه أبا العباس لحرب الخبيث بنهر أبي الخصيب واستأمن إليه جماعة من قواده فأمنهم وكتب إليه بالدعوة و الأعذار و زحف إليه في مدينته المختارة له وأطلق السفن في البحر و عبى عساكره و هي نحو من خمسين ألفا و الزنج في نحو من ثلثمائة ألف مقاتل و نصب الآلات و رتب المنازل للحصار و بنى المقاعد للقتال واختط مدينه الموفقية لنزوله وكتب بحمل إلأموال و الميرة إليها فحملت و قطع الميرة عن المختارة وكتب إلى البلاد بإنشاء السفن و الاستكثار منها و قام يحاصرها من شعبان سنة سبع و ستين إلى صفر من سنة سبعين ثم اقتحم علهم المختارة فملكها و فر الخبيث و ابنه انكلاي و ابن جامع إلى معقل أعده و اتبعه طائفة من الجند فانقطعوا عنه و أمرهم من الغد باتباعه فانهزم و قتل من أصحابه و أمر ابن جامع ثم قتل صاحب الزنج و جيء برأسه و لحق أنكلاي بالديناري في خمسة آلاف و لحقهم أصحاب الموفق فظفروا بهم و أسروهم أجمعين و كان درمونة من قواده قد لحق بالبطيحة و اعتصم بالمغايض و الآجام ليقطع الميرة عن أصحاب الموفق فلما علم بقتل صاحبه استأمن إلى الموفق فأمنه ثم أقام الموفق بمدينته قليلا و ولى على البصرة والأبلة و كور دجلة و رجع إلى بغداد فدخلها في جمادى سنة سبعين و كان لصاحب الزنج من الولد محمد و لقبه انكلاي و معناه بالزنجية ابن الملك ثم يحيى وسليمان و الفضل حبسوا في المطبق إلى أن هلكوا و الله وارث الأرض و من عليها (4/24)
الخبرعن دعاة الديلم و الجيل من العلوية و ما كان لهم من الدولة بطبرستان للداعي و أخيه أولا ثم الأطروش و بنيه وتصاريف ذلك إلى إنقضائه
كان أبو جعفر المنصور قد اختص من العلوية من بني الحسن السبط حافده الحسن ابن زيد بن الحسن و ولاه المدينة و هو الذي امتحن الإمام مالكا رحمه الله كما هو معروف و هو الذي أغرى المنصور من قبل ببني حسن و أخبره بدسيسة محمد المهدي وابنه عبد الله في شأن الدعاء لهم حتى قبض علهم و حملهم إلى العراق كما قدمناه وكان له عقب بالري منهم : الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن والي المدينة و لما حدث بين عامل طبرستان محمد بن أوس الكافل بها لسليمان بن عبد الله ابن طاهر نائبا عن محمد بن طاهر صاحب خراسان و بين محمد و جعفر من بنى رستم من أهل نواحي طبرستان حادث فتنة و قد تقدم ذكرها أغروا به أهل تلك النواحي و بعثوا إلى الديلم ليستنجدوا بهم عليه و كانوا على المجوسية يومئذ و هم حرب لمحمد بن أوس لدخوله بلادهم و قتله و سبيه منهم أيام المسالمة و ملكهم يومئذ و هشوذار بن حسان فأجابوا ابني رستم إلى حربه و بعث ابنا رستم إلى محمد بن إبراهيم بطبرستان لكون الدعوة له فامتنع و دلهم على الحسن بن زيد بالري فاستدعوه بكتاب محمد بن إبراهيم فشخص إليهم و قد اتفق الديلم و ابنا رستم و أهل ناحيتهم على ببعته فبايعوه و انضم إليهم أهل جبال طبرستان و زحف إلى آمد فقاتله ابن أوس دونه و خالفه الحسن بن زيد في جماعة إلى آمد فملكها و نجا ابن أوس إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر بسارية و زحف إليهم الحسن فخرجوا للقائه فناشبهم الحرب و بعث بعض قواده إلى سارية فملكها و انهزم سلمان إلى جرجان و استولى الحسن على معسكره بما فيه و على حرمه و أولاده فبعثهم إليه في السفن و يقال إن سليمان انهزم له لدسيسة التشيع التي كانت في بني طاهر ثم أقبل الحسن بن زيد إلى طبرستان فملكها و هرب عنها سليمان ثم بعث الحسن دعاته إلى النواحي و كان يعرف بالداعي العلوي فبعث إلى الري القاسم ابن عمه علي بن إسماعيل و بها القاسم بن علي بن زين العابدين السمري فملكها و استخلف بها محمد بن جعفر بن أحمد بن عيسى بن حسين الصغير ابن زين العابدين و بعث إلى قزوين الحسين المعروف بالكوكبي بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن جعفر و هزمه و أسره فبعث الحسن بن زيد قائده دواجن إلى محمد بن ميكال فهزمه و قتله و ملك الري من يده و ذلك سنة خمسين و مائتين ثم زحف سليمان بن عبد الله بن طاهر من جرجان في العساكر فأجفل الحسن بن زيد عن طبرستان إلى الديلم و دخلها سليمان ثم قصد سارية و أتاه ابنا قاران بن شهرزاد من الديلم و أتاه أهل آمد و غيرهم طائعين فصفح عنهم ثم سار محمد بن طاهر إلى لقاء الحسن فهزمه و قتل من أعيان أصحابه ثلثمائة وأربعين رجلا ثم زحف موسى بن بغا لحربهم سنة ثلاث و خمسين فلقيه الحسن الكوبي على قزوين و انهزم إلى الديلم و استولى موسى بن بغا على قزوين ثم رجع الكوكبي سنة ست و خمسين فاستولى على الري و استولى القاسم بن علي بعدها على الكرخ سنة سبع ثم زحف الحسن بن زيد إلى جرجان و بعث إليهما محمد بن طاهر صاحب خراسان العساكر فهزمهم الحسن و غلبهم عليها و انتقض أمر ابن طاهر بخراسان من يومئذ و اختلف المغلبون عليه و كان ذلك داعيا إلى انتزاع يعقوب الصفار خراسان من يده ثم غلبه الحسن سنة تسع و خمسين على قومس (4/29)
استيلاء الصفار على طبرستان
كان عبد الله السخري ينازعه يعقوب بن الليث الصفار الرياسة بسجستان فلما استولى يعقوب على الأمر هرب عبد الله إلى نيسابور مستجيرا بابن طاهر فأجاره فلما هلك يعقوب الصفار بنيسابور هرب عبد الله إلى الحسن بن زيد و نزل سارية و بعث فيه يعقوب الصفار فلم يسلمه الحسن بن زيد فسار إليه يعقوب سنة ستين و هزمه فلحق بأرض الديلم و لحق عبد الله بالري و ملك يعقوب سارية و آمد و جبى خراجها و سار في طلب الحسن فتعلق بجبال طبرستان و اعترضه الأمطار و الأوحال فلم يخلص إلا بمشقة وكتب إلى الخليفة بخبر الحسن و ما فعله معه و سار إلى الري في طلب عبد الله السخري فأمكنه منه و إلى الري فقتله ثم رجع الحسن بن زيد إلى طبرستان سنة إحدى و ستين و غلب عليها أصحاب الصفار و اقطتعها عنهم ثم انتقض السجستاني على يعقوب بن الليث بخراسان و ملكها من يده كما ذكرناه فسار وحاربه أبو طلحة بن شركب و أمره الحسن بن زيد فسار السجستاني إلى محاربته بسبب ذلك سنة خمس و ستين و انتزع جرجان من يده ثم خرج عنها لقتال عمرو بن الليث بعد موت أخيه يعقوب كما نذكر في أخبارهم فملكها الحسن بن زيد ثم أوقع السجستاني بالحسن بن زيد سنة ست و ستين كبسه بجرجان و هو غاز فهزمه ولحق بآمد و ملك سارية و استخلف عليها الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله الشيعي بن الحسين الأصغر بن زين العابدين و انصرف فأظهر الحسن بسارية قتل الحسن بن زيد و دعا لنفسه فبايعه جماعة ثم وافاه الحسن بن زيد فظفر به وقتله (4/30)
و فاة الحسن بن زيد و ولاية أخيه
ثم توفي الحسن بن زيد صاحب طبرستان في رجب سنة سبعين و ولي مكانه أخوه محمد و كان قيامهم أولا على ابن طاهر كما ذكرناه ثم غلب يعقوب الصفار على خراسان و انتقض عليه أحمد السجستاني و ملكها من يده ثم مات يعقوب سنة خمس و ستين و ولي مكانه أخوه عمرو و زحف إلى خراسان و قاسم السجستاني فيها و كانت بينهما حروب و كان الحسن داعي طبرستان يقابلهما جميعا إلى أن هلك و ولى مكانه أخوه كما ذكرناه و كانت قزوين تغلب عليها أثناء ذلك عساكر الموفق و وليها أذكوتكين من مواليهم فزحف إلى الري سنة اثنتين و سبعين و زحف إليه محمد بن زيد في عالم كبير من الديلم و أهل طبرستان و خراسان فانهزم و قتل من عسكره ستة آلاف و أسر ألفان و غنم أذكوتكين عسكره جميعا و ملك الري و فرق عماله في نواحيها ثم مات السجستاني و قام بأمره في خراسان رافع بن الليث من قواد الظاهرية فغلب محمد بن زيد على طبرستان و جرجان فلحق بالديلم ثم صالحه سنة إحدى وثمانين و خطب له فيها سنة اثنتين و ثمانين على أن ينجده على عمرو بن الليث و كتب له عمرو بن الليث يعذله عن ذلك فأقصر عنه فلما غلب عمرو على رافع رعى لمحمد ابن زيد خذلانه لرافع فخلى له عن طبرستان و ملكها (4/31)
مقتل محمد بن زيد
كان عمرو بن الليث لما ملك خراسان و قتل رافع بن هرثمة طلب من المعتضد ولاية ما وراء النهر فولاه و اتصل الخبر بإسماعيل بن أحمد الساماني ملك تلك الناحية فعبر جيحون و هزم جيوش عمرو بن الليث و رجع إلى بخارى فزحف عمرو بن الليث من نيسابور إلى بلخ و أعوزه العبور وجاء إسماعيل فعبر النهر و أخذ عليه الجهات بكثرة جموعه فأصبح كالمحاصر ثم اقتتلوا فانهزم عمرو و أسره إسماعيل و بعث به إلى المعتضد سنة ثمان و ثمانين فحبسه إلى أن قتل و عقد لإسماعيل على ما كان بيد عمرو و لما اتصل بمحمد بن زيد واقعة عمرو و أمره سار من طبرستان لا يرى أن إسماعيل يقصدها فلما انتهى إن جرجان بعث إليه إسماعيل يصده عن ذلك فأبى فسرح إليه محمد بن هرون و كان من قواد رافع بن هرثمة و صار من قواد إسماعيل ابن سامان فلقي محمد بن زيد على جرجان و اقتتلوا فانهزم محمد بن هرون أولا ثم رجعت الكرة على محمد بن زيد و افترقت عساكره و قتل من عسكره عالم و أسر ابنه زيد و أصابته هو جراحات هلك منها لأيام قلائل و غنم ابن هرون عسكره بما فيه و سار إلى طبرستان فملكها و بعث يزيد إلى إسماعيل فأنزله ببخارى و وسع عليه الأنفاق و اشتدت عليه شوكه الديلم و حار بهم إسماعيل سنة تسع و ثمانين و ملكهم يومئذ ابن حسان فهزمهم و صارت طبرستان و جرجان في ملك بني سامان مع خراسان إلى أن ظهر بها الأطروش كما نذكر بعد و يقال إن زيد بن محمد بن زيد ملك طبرستان من بعد ذلك إلى أن توفي و ملكها من بعده ابنه الحسن بن زيد (4/32)
ظهور الأطروش العلوي و ملكه طبرستان
الأطروش هذا من ولد عمر بن زين العابدين الذي كان منهم داعي الطالقان أيام المعتصم وقد مر ذلك و إسم الأطروش الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر دخل إلى الديلم بعد مقتل محمد بن زيد و أقام فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام و يأخذ منهم العشر و يدافع عنهم ملكهم ابن حسان فأسلم منهم خلق كثير و اجتمعوا عليه و بنى في بلادهم المساجد و حملهم على رأي الزيدية فدانوا به ثم دعاهم إلى المسير معه إلى طبرستان و كان عاملها محمد بن نوح من قبل أحمد بن إسماعيل بن سامان و كان كثير الإحسان إليهم فلم يجيبوا الأطروش إلى البغي عليه ثم عزل ابن سامان عن طبرستان ابن نوح و ولى عليها غيره فأساء السيرة فأعاد إليها ابن نوح ثم مات فاستعمل عليها أبا العباس محمد بن إبراهيم صعلوكا فأساء السيرة و تنكر لرؤساء الديلم فدعاهم الحسن الأطروش للخروج فعه فأجابوه فسار إليهم صعلوك ولقيهم بشاطئ البحر على مرحلة من سالوس فانهزم و قتل من أصحابه نحو من أربعة آلاف و حصر الأطروش بقيتهم في سالوس حتى استأمنوا إليه فأمنهم و نزل آمد و جاء صهره الحسن بن قاسم بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد البطحاني بن القاسم بن الحسن بن زيد والي المدينة و قد مر ذكره فلم يحضر قتل أولئك المستأمنين و استولى الأطروش على طبرستان و تسمى الناصر و ذلك سنة إحدى وثلثمائة و لحق صعلوك بالري و سار منها إلى بغداد ثم زحف الناصر سنة اثنتين وثلثمائة فخرج عن آمد و لحق بسالوس و بث إليه صعلوك العساكر فهزمهم الحسن الداعي و هو الحسن بن زيد ثم زحفت إليه عساكر خراسان و هي للسعيد نصر بن أحمد فقتلوه سنة أربع و ثلثمائة و ولي صهره و بنوه و كانت بينهم حروب بالديلم كما نذكره و كان له من الولد أبو القاسم و أبو الحسن و كان قواده من الديلم جماعة منهم ليلى بن النعمان و ولاه صهره الحسن بعد ذلك جرجان و ماكان بن كالي و كانت له ولاية استراباذ و يقرأ من كتاب الديلم و كان من قواده من الديلم جماعة أخرى منهم أسفار بن شيرويه من أصحاب ماكان و مرداويج من أصحاب اسفار و السيكري من أصحابه أيضا و مولويه من أصحاب مرداويح و يأتي الخبر عن جميعهم و كان الحسن بن قاسم صهر الأطروش و كان رديفه في الأمر حتى كان يعرف بالداعي الصغير و استعمل على جرجان سنة ثمان و ثلثمائة ليلى بن النعمان من كبار الديلم و كان له مكان في قومه و كان الأطروش و أولاده يلقبونه المزيد لدين الله المنتصر لآل رسول الله و كانت خراسان يومئذ لنصر بن أحمد من بني سامان و كان الدامغان ثغرها من ناحية طبرستان و كان بها فراتكين من موالي ابن سامان فوقعت بينه و بين ليلى حروب و هزمه ليلى و استفحل أمره و نزع إليه فارس مولى فراتكين فأكرمه و أصهر إليه بأخته و استأمن إليه أبو القاسم بن حفص و هو ابن أخت أحمد بن سهل قائد السامانية عندما نكب خاله أحمد فأمنه و أجاره ثم حرضه الحسن بن قاسم الداعي الصغير على المسير إلى نيسابور فسار إليها و معه أبو القاسم بن حفص فملكها من يفراتكين سنة ثمان و ثلثمائة و خطب بها للداعي و أنفذ السعيد نصر عساكره إليه من بخارى مع قائده حمويه بن علي و معه محمد بن عبيد الله البلعي و أبو جعفر صعلوك و خوارزم شاه و سيجور الدواني و يقراخان فلقيهم ليلى بطوس و قاتلوه فانهزم إلى آمد و لم يقدر على الحصار و لحقه يقراخان فقبض عليه و بعث حمويه من قتله و استأمن الديلم إليهم فأمنوهم و أشار حمويه بقتلهم فاستجار بالقواد و بعث برأس ليلى إلى بغداد و ذلك في ربيع من سنة تسع و بقي فارس مولى فراتكين بجرجان (4/33)
إمارة العلوية بطبرستان بعد الأطروش
ولما قتل الحسن الأطروش سنة أربع و ثلثمائة كما قدمناه ولى مكانه بطبرستان صهره و هو الحسن بن القاسم و قد مر ذكره و يسمى بالداعي الصغير و تلقب بالناصر و بعض الناس يقولون هو الحسن بن محمد أخي الأطروش هكذا قال ابن حزم و غيره و ليس بصحيح و إنما هو صهره الحسن بن القاسم من عقب الحسين بن زيد والي المدينة ثم من عقب حافده محمد البطحاني بن القاسم بن الحسن و كان أبو الحسن بن الأطروش باستراباذ فبايع له ماكان بن كالي و قام بأمره فلما قتل ليلى بن النعمان صاحب جرجان و عاد فراتكين إليها ثم انصرف عنها و جاءه أبو الحسن بن الأطروش باستراباذ فبايع له فملكها فبعث السعيد بن سامان صاجا خراسان قائده سيجور الدواني في أربعة آلاف فارس لحصاره بجرجان فحاصره شهرا و مع الحسن صاحب جيشه سرخاب بن وهشوداب و هو ابن عم ماكان بن كالي فلما اشتد بهم الحصار خرج أبو الحسن و سرخاب في ثمانية آلاف من الديلم و الجند فانهزم سيجور أولا فأتبعوه و قد أكمن لهم الكمائن فخرجت عليهم و قتل من الديلم و الجند نحو أربعة آلاف و خلص أبو الحسن في البحر إلى استراباذ و لحقه سرخاب فخلفه و أقام سيجور بجرجان ثم هلك سرخاب و سار أبو الحسن إلى سارية و استخلف ماكان بن كالي على استراباذ فاجتمع إليه الديلم و ولوه على أنفسهم و زحف إليه عساكر السعيد بن سامان فحاصروه مدة ثم خرج عن استراباذ إلى سارية فملكوها و ولوا عليها يقراخان و عادوا إلى جرجان ثم إلى نيسابور ثم سار ماكان بن كالي إلى استراباذ و ملكها من يد يقراخان ثم ملك جرجان و أقام بها و ذلك سنة عشر و ثلثمائة ثم استولى اسفار بن شيرويه على جرجان و استقل بها و كان سبب ذلك أنه كان من أصحاب ماكان بن كالي ونكره لبعض أحواله فطرده من عسكره و سار إلى أبي بكر بن محمد بن اليسع من السامانية بنيسابور فخدمه و بعثه في عسكر إلى جرجان ليفتحها له و قد كان ماكان سار إلى طبرستان و ولى على جرجان مكانه أخاه أبا الحسن عليا و كان أبو الحسن بن الأطروش معتقلا عنده و هم ليلة بقتله و قصده في محبسه فظفر به أبو علي و قتله و خرج من الدار و اختفى و بعث من الغد الى القواد فبايعوا له و ولوا على جيشه علي بن خرشيد و رضوا به و استقدموا اسفار بن شيرويه فأستأذن بكر بن محمد و قدم عليهم و سارإليهم ماكان بن كالي فحاربوه و غلبوه على طبرستان و أنزلوا بها أبا علي بن الأطروش فأقام بها أياما و مات على أثره علي بن خرشيد صاحب جيشه و جاء ماكان بن كالي لحرب اسفار بطبرستان فانهزم اسفار و لحق ببكر بن محمد بجرجان و أقام إلى أن توفي سنة خمس عشرة و ثلثمائة فولاه السعيد على جرجان و أرسل إلى مردوايح بن دينار الجبلي و جعله أمير جيشه و زحفوا إلى طبرستان فملكوها و كان الحسن بن القاسم الداعي قد استولى على الري و قزوين وزنجار و أبهر و قم و قائده ماكان بن كالي الديلمي فسار إلى طبرستان و قاتله اسفار فانهزم ماكان و الحسن بن القاسم الداعي و قتل بخذلان أصحابه إياه لأنه كان يشتد عليهم في تغيير المنكرات فتشاوروا في أن يستقدموا هذرسيدان من رؤساء الجبل و كان خال مرداويح و وشكين فيقدموه عليهم و يحبسوا الحسن الداعي وينصبوا أبا الحسن بن الأطروش و نما الخبر بذلك إلى الداعي و قدم هذرسيدان فلقيه الداعي مع القواد و أدخلهم إلى قصره بجرجان ليأكلوا من مائدته فدخلوا و قتلهم عن آخرهم فعظمت نفرتهم عنه فخذلوه في هذا الموطن و قتل و استولى اسفار على طبرستان و الري و جرجان و قزوين و زنجار و أبهر و قم و الكرج و دعا للسعيد بن سامان صاحب خراسان و أقام بسارية و استعمل على آمد هرون بن بهرام و قصد بذلك استخلاصه لنفسه لأنه كان يخطب لأبي جعفر من و لد الناصر الأطروش فولاه آمد و زوجه بإحدى نسائه الأعيان بها و حضر عرسه أبو جعفر و غيره من العلويين وهجم عليه اسفار يوم عرسه بآمد فقبض على أبي جعفر و غيره من أعيان العلويين و حملهم إلى بخارى فاعتقلوا بها إلى أن خلصوا من بعد ذلك و من تاريخ بعض المتأخرين أن الحسن بن القاسم الداعي صهر الأطروش بويع بعد موته و لقب الناصر و ملك جرجان و كان الديلم قد اشتملوا على جعفر بن الأطروش و تابعوه فصار الداعي إلى طبرستان و ملكها و لحق جعفر بدنباوند فقبض عليه علي بن أحمد بن نصر و بعث به إلى علي بن وهشودان بن حسان ملك الديلم و هو عامله فحبسه علي بن وهشودان بن حسان ملك الديلم فلما قتل أطلقه من بعده حسرة فيروز فاستجاش جعفر بالديلم و عاد إلى طبرستان فملكها و هرب الحسن ثم مات جعفر فبويع أبو الحسن ابن أخيه الحسن فلما ظهر ماكان بن كالي بايع للحسن الداعي و أخرجه إليه و قبض على الحسن بن أحمد و هو ابن أخي جعفر وحبسه بجرجان عند أخيه أبي علي ليقتله فقتله الحسن و نجا و بايعه القواد بجرجان ثم حاربه ماكان فانهزم الحسن إلى آمد و مات بها و بويع أخوه أبو جعفر بن محمد بن أحمد و قصده ماكان من الري فهرب من آمد إلى سارية و بها اسفار بن شيرويه فقاتل دونه و انهزم اسفار إلى جرجان و استأمن إلى أبي بكر بن محمد بن الياس ثم بايع ماكان لأبي القاسم الداعي و خرج الحسن إلى الري و طلب مرداويح بثأر خاله سيداب بن بندار و كان الداعي يرجان سنة إحدى و عشرين و ثلثماثة و انصرف ماكان إلى الديلم ثم ملك طبرستان و بايع بها لأبي علي الناصر بن إسماعيل بن جعفر بن الأطروش و هلك بعد مدة و مضى أبو جعفر محمد بن أبي الحسن أحمد بن الأطروش إلى الديلم إلى أن غلب مرداويح على الري فكتب إليه وأخرجه عن الديلم و أحسن إليه فلما غلب على طبرستان و أخرج ماكان عنها بايع لأبي جعفر هذا و سمي صاحب القلنسوة إلى أن مات و بويع أخوه و لقب الثائر و أقام مع الديلم و زحف سنة ست و ثلاثين إلى جرجان و بها ركن الدولة بن بويه فسرح إليه ابن العميد فانهزم الثائر و تعلق بالجبال و أقام مع الديلم و ملوك العجم يخطبون له إلى أن هلك سنة خمس و خمسين و ثلثمائة لثلاثين سنة من ملكه و بايعوا لأخيه الحسين بن جعفر و تلقب بالناصر و تقبض عليه ليكو بن وشكس ملك الجبل و سلمه و انقرض ملك الفاطميين أجمع بتلك الجبال و البقاء لله وحده (4/34)
الخبر عن دولة الاسماعيلية و نبدأ منهم بالعبيديين الخلفاء بالقيروان و القاهرة و ما كان لهم من الدولة من المشرق و المغرب
أصل هؤلاء العبيديين من الشيعة الإمامية و قد تقدم لنا حكاية مذهبهم و البراءة من الشيخين و من سائرالصحابة لعدولهم عن بيعة علي إلى غيره مع وصية النبي صلى الله عليه و سلم له بالإمامة بزعمهم و بهذا امتازوا عن سائر الشيعة و إلا فالشيعة كلهم مطبقون على تفضيل علي و لم يقدح ذلك عند الزيدية في إمامة أبي بكر لقولهم بجواز إمامة المفضول مع الأفضل و لا عند الكيسانية لأنهم لم يدعوا هذه الوصية فلم يكن عندهم قادح فيمن خالفها و هذه الوصية لم تعرف لأحد من أهل النقل و هي من موضوعات الإمامية و أكاذيبهم و قد يسمون رافضة قالوا لأنه لما خرج زيد الشهيد بالكوفة و اختلف عليه الشيعة ناظروه في أمر الشيخين و أنهم ظلموا عليا فنكر ذلك عليهم فقالوا له : و أنت أيضا فلم يظلمك أحد و لا حق لك في الأمر و انصرفوا عنه و رفضوه فسموا رافضة و سمي أتباعه زيدية ثم صارت الإمامة من علي إلى الحسن ثم الحسين ثم ابنه علي زين العابدين ثم ابنه محمد الباقر ثم ابنه جعفر الصادق كل هؤلاء بالوصية و هم ستة أئمة لم يخالف أحد من الرافضة في إمامتهم ثم افترقوا من ههنا فرقتين و هم الاثنا عشرية و الإسماعيلية واختص الاثنا عشرية باسم الإمامية لهذا العهد و مذهبهم أن الإمامة انتقلت من جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم و خرج دعاته بعد موت أبيه فحمله هرون من المدينة و حبسه عند عيسى بن جعفر ثم أشخصه إلى بغداد و حبسه عند ابن شاهك و يقال إن يحيى بن خالد سمه في رطب فقتله و توفي سنة ثلاث و ثمانين و مائة و زعم شيعتهم أن الإمام بعده ابنه علي الرضا و كان عظيما في بني هاشم و كانت له مع المأمون صحبة و عهد له بالأمر من بعده سنة إحدى و مائتين عند ظهور الدعاة للطالبيين و خروجهم في كل ناحية و كان المأمون يومئذ بخراسان لم يدخل العراق بعد مقتل أخيه الأمين فنكر ذلك عليه شيعة العباسيين و بايعوا لعمه ابراهيم بن المهدي ببغداد فارتحل المأمون إلى العراق و علي الرضا معه فهلك علي في طريقه سنة ثلاث و مائتين و دفن بطوس و يقال إن المأمون سمه و يحكى أنه دخل عليه يعوده في مرضه فقال له : أوصني ! فقال له : علي إياك أن تعطي شيئا و تندم عليه و لا يصح ذلك لنزاهة المأمون من إراقة الدماء بالباطل سيما دماء أهل البيت ثم زعم شيعتهم أن الأمر من بعد علي الرضا لابنه محمد التقي و كان له من المأمون مكان وأصهر إليه في ابنته فأنكحه المأمون إياها سنة خمس و مائتين ثم هلك سنة عشرين و مائتين و دفن بمقابر قريش و تزعم الاثنا عشرية أن الإمام بعده ابنه علي و يلقبونه الهادي و يقال الجواد و مات سنة أربع و خمسين و مائتين و قبره بقم و زعم ابن سعيد أن المقتدر سمه و يزعمون أن الإمام بعده ابنه الحسن و يلقب العسكري لأنه ولد بسر من رأى و كانت تسمى العسكر و حبس بها بعد أبيه إلى أن هلك سنة ستين و مائتين و دفن إلى جنب أبيه في المشهد و ترك حملا ولد منه ابنه محمد فاعتقل و يقال دخل مع أمه في السرداب بدار أبيه و فقد فزعمت شيعتهم أنه الإمام بعد أبيه و لقبوه المهدي و الحجة و زعموا أنه حي لم يمت و هم الآن ينتظرونه و وقفوا عند هذا الانتظار و هو الثاني عشر من ولد على و لذلك سقيت شيعته الاثني عشرية و هذا المذهب في المدينة و الكرخ و الشام و الحلة و العراق و هم حتى الآن على ما بلغنا يصلون المغرب فاذا قضوا الصلاة قدموا مركبا إلى دار السرداب بجهازه و حليته و نادوا بأصوات متوسطة : أيها الإمام أخرج إلينا فإن الناس منتظرون و الخلق حائرون و الظلم عام و الحق مفقود ! فأخرج إلينا فتقرب الرحمة من الله في آثارك ! و يكررون ذلك إلى أن تبدو النجوم ثم ينصرفون إلى الليلة القابلة هكذا دأبهم و هؤلاء من الجهل بحيث ينتظرون من يقطع بموته مع طول الأمد لكن التعصب حملهم على ذلك و ربما يحتجون لذلك بقصة الخضر و الأخرى أيضا باطلة و الصحيح أن الخضر قد مات و أما الإسماعيلية فزعموا أن الإمام بعد جعفر الصادق ابنه إسماعيل و توفي قبل أبيه و كان أبو جعفر المنصور طلبه فشهد له عامل المدينة بأنه مات و فائدة النص عندهم على إسماعيل و إلى كان مات قبل أبيه بقاء الإمامة في ولده كما نص موسى على هرون صلوات الله علهما و مات قبله و النص عندهم لا مرجع وراءه لأن البداء على الله محال و يقولون في ابنه محمد أنه السابع التام من الأئمة الظاهرين و هو أول الأئمة المستورين عندهم الذين يستترون و يظهرون الدعاة و عددهم ثلاثة و لن تخلوا الأرض منهم عن إمام إما ظاهر بذاته أو مستور فلا بد من ظهور حجته و دعاته و الأئمة يدور عددها عندهم على سبعة عدد الأسبوع و السموات و الكواكب و النقباء تدور عندهم على اثني عشر و هم يغلطون الأئمة حيث جعلوا عدد النقباء للأئمة و أول الأئمة المستورين عندهم محمد بن إسماعيل و هو محمد المكتوم ثم ابنه جعفر المصدق ثم ابنه محمد الحبيب ثم ابنه عبد الله المهدي صاحب الدولة بأفريقية و المغرب التي قام بها أبو عبد الله الشيعي بكتامة و كان من هؤلاء الإسماعيلية القرامطة و استقرت لهم دولة بالبحرين في أبي سعيد الجنابي و بنيه أبي القاسم الحسين بن فروخ بن حوشب الكوفي داعي اليمن لمحمد الحبيب ثم ابنه عبد الله و يسمى بالمنصور و كان من الاثني عشرية أولا فلما بطل ما في أيديهم رجع إلى رأي الإسماعيلية و بعث محمد الحبيب أبو عبد الله إلى اليمن داعية له فلما بلغه عن محمد بن بعفر ملك صنعاء أنه أظهر التوبة و النسك و تخلى عن الملك فقدم اليمن و وجد بها شيعة يعرفون ببني موسى في عدن لاعة و كان علي بن الفضل من أهل اليمن و من كبار الشيعة و طاهر بن حوشب على أمره وكتب له الإمام محمد بالعهد لعبد الله ابنه و أذن له في الحرب فقام بدعوته و بثها في اليمن و جيش الجيوش و فتح المدائن و ملك صنعاء وأخرج منها بني يبعن و فرق الدعاة في اليمن و اليمامة و البحرين و السند و الهند و مصر والمغرب و كان يظهر الدعوة للرضا من آل محمد و يبطن محمدا الحبيب تسترا إلى أن استولى على اليمن و كان من دعاته أبو عبد الله الشيعي صاحب كتامة و من عنده سار إلى أفريقية فوجد في كتامة من الباطنية خلقا كثيرا و كان هذا المذهب هنالك من لدن الدعاة الذين بعثهم جعفر الصادق إلى المغرب أقاموا بأفريقية و بثوا فيها الدعوة و تناقله من البرابرة أمم و كان أكثرهم من كتامة فلما جاء أبو عبد الله الشيعي داعية المهدي و وجد هذا المذهب في كتامة فقام على تعليمه و بثه و إحيائه حتى تم الأمر و بويع لعبد الله كما نذكر الآن في أخبارهم (4/37)
ابتداء دولة العبيديين
و أولهم عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق بن محمد المكتوم بن جعفر الصادق و لا عبرة بمن أنكر هذا النسب من أهل القيروان و غيرهم و بالمحضر الذي ثبت ببغداد أيام القادر بالطعن في نسبهم و شهد فيه أعلام الأئمة و قد مر ذكرهم فإن كتاب المعتضد إلى ابن الأغلب بالقيروان و ابن مدرار بسجلماسة يغريهم بالقبض عليه لما سار إلى المغرب شاهد بصحة نسبهم و شعر الشريف الرضي مسجل بذلك و الذين شهدوا في المحضر فشهادتهم على السماع و هي ما علمت و قد كان نسبهم ببغداد منكرا عند أعدائهم شيعة بني العباس منذ مائة سنة فتلون الناس بمذهب أهل الدولة و جاءت شهادة عليه مع أنها شهادة على النفي مع أن طبيعة الوجود في الانقياد إليهم و ظهور كلمتهم حتى في مكة و المدينة أدل شيء على صحة نسبهم و أما من يجعل نسبهم في اليهودية و النصرانية ليعمون القدح و غيره فكفاه ذلك إثما و سفسفة و كان شيعة هؤلاء العبيديين بالمشرق و اليمن و أفريقية و كان أصل ظهورهم بأفريقية دخول الحلواني و أبي سفيان من شيعتهم إليها أنفذهما جعفر الصادق و قال لهما بالمغرب أرض بور فاذهبا و احرثاها حتى يجيء صاحب البذر فنزل أحدهما ببلد مراغة و الآخر ببلد سوف جمار و كلاهما من أرض كتامة ففشت هذه الدعوة في تلك النواحي و كان محمد الحبيب ينزل سلمية من أرض حمص و كان شيعتهم يتعاهدونه بالزيارة إذا زاروا قبر الحسين فجاء محمد بن الفضل من عدن لاعة من اليمن لزيارة محمد الحبيب فبعث معه رستم بن الحسن بن حوشب من أصحابه لإقامة دعوته باليمن و أن المهدي خارج في هذا الوقت فسار و أظهر الدعوة للمهدي من آل محمد بنعوته المعروفة عندهم و استولى على أكثر اليمن و تسمى بالمنصور و ابتنى حصنا بجبل لاعة و ملك صنعاء من بني يعفر و فرق الدعاة في اليمن واليمامة و البحرين و السند و الهند و مصر و المغرب و كان أبو عبد الله الحسين بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب و كان محتسبا بالبصرة و قيل إنما المحتسب أخوه أبو العباس المخطوم و أبو عبد الله هذا يعرف بالمعلم لأنه كان يعلم مذهب الإمامية فاتصل أبو عبد الله بمحمد الحبيب و رأى ما فيه من الأهلية فأرسله الى ابن حوشب باليمن ليأخذ عنه ثم يذهب إلى المغرب و يقصد بلد كتامة فيظهر بينهم الدعوة فجاء أبو عبد الله إلى ابن حوشب و لزمه و شهد مجالسه و أفاد علمه ثم خرج مع حاج اليمن إلى مكة فلقي بالموسم رجالات كتامة و رؤساءهم و فيهم من لقي الحلواني و ابن بكار و أخذوا عنهما فقصدهم أبو عبد الله في رحالهم و كان منهم موسى بن حريث كبير بني سكتان من جملة أحد شعوبهم و أبو القاسم الورنجومي من أحلافهم و مسعود بن عيسى بن ملال المساكتي و موسى بن تكاد فجلس إليهم و سمعوا منه مذاهبهم و رأوا ما هو عليه من العبادة و الزهد فعلق بقلويهم و صار يتعهدهم في رحالهم فاغتبطوا به و اغتبط بهم و لما أرادوا الرحلة إلى بلادهم سألوه الصحبة فوافقهم طاويا وجه مذهبه عنهم بعد أن سألهم عن قومهم و عصابتهم و بلادهم و ملكة السلطان فيهم فكشفوا له علم ذلك و أنهم إنما يعطون السلطان طاعة معروفة فاستيقن تمام أمره فيهم و خرج معهم إلى المغرب و سلكوا طريق الصحراء و عدلوا عن القيروان إلى أن وصلوا بلد سوماثة و بها محمد بن حمدون بن سماك الأندلسي من بجاية الأندلس نزيلا عندهم و كان قد أدرك الحلواني و أخذ عنه فنزل أبو عبد الله الشيعي عليه فأكرمه و فاوضه و تفرس ابن حمدون فيه أنه صاحب الدولة ثم ارتحلوا و صحبهم ابن حمدون و دخلوا بلد كتامة منتصف ربيع سنة ثمان و ثمانين و مائتين فنزل على موسى بن حريث ببلده أنكجان في بلد بني سكتان من جبيلة و عين له مكان منزله بفج الأخيار و أن النص عنده من المهدي بذلك و بهجرة المهدي و أن أنصار الأخيار من أهل زمانه و أن اسمهم مشتق من الكتمان و اجتمع إليه الكثير من أهل كتامة و لقي علماءهم و اشتمل عليه الكثير من أهوائهم فجاهر مذهبه و أعلن بإمامة أهل البيت و دعا للرضا من آل محمد و اتبعه أكثر كتامة و كانوا يسمونه بأبي عبد الله الشيعي و المشرقي و بلغ خبره إلى أمير أفريقية إبراهيم بن أحمد بن الأغلب فبعث إليه بالتهديد و الوعيد فأساء الرد عليه و خاف رؤساء كتامة عادية ابن الأغلب و أغراهم عمال بلادهم بالشيعي مثل موسى بن عياش صاحت مسيلة و علي بن حفص بن عسلوجة صاحب سريف و جاء ابن تميم صاحب يلزمة فاجتمعوا و تفاوضوا في شأنه و حضر يحيى المساكتي و كان يدعى بالأمير و مهدي بن أبي كمارة رئيس لهيعة و فرج بن حيران رئيس إجانة و ثمل بن بجل رئيس لطانة و راسلوا بيان بن صفلان رئيس بني سكتان و أبو عبد الله الشيعي عندهم بجبل ايكجان في أن يسلمه إليهم أو يخرجه من بلدهم و حذروه عاقبة أمره فرد أمره إلى أهل العلم فجاؤوا بالعلماء و هموا باغتياله فلم يتم لهم ذلك و أطبقت بجيلة على مظاهرته فهزموا هؤلاء المثيرين عليه و ردوهم خائبين ثم رجعوا بيان بن صقلاب في أمره و لاطفوه حتى صفا إليهم و شعر بذلك أبو عبد الله الشيعي و أصحابه فبعثوا إلى الحسن بن هرون الغساني يسألونه الهجرة إليهم فأجابهم و لحق ببلدة تازروت من بلادهم و اجتمعت غسان لنصرته مع بطون كتامة الذين بايعوه من قبل فاعتز و امتنع و عظم أمره ثم انتقض على الحسن بن هرون أخوه محمد منافسة له في الرياسة و كان صديقا لمهدي بن أبي كمارة فداخله في التثريب على أبي عبد الله و عظمت الفتنة بين لهيعة و غسان و ولى أبو عبد الله الشيعي الحسن بن هرون على حروبه و ظهر بعد أن كان مختفيا و كان لمهدي بن أبي كمارة شيخ لهيعة أخ اسمه أبو مديني و كان من أحباب أبي عبد الله فقتل أخاه مهديا و رأس على لهيعة مكانه فصاروا جميعا إلى ولاية أبي عبد الله و أبي مديني شيخهم ثم تجمعت كتامة لحرب الشيعي و أصحابه و نازلوه بمكانه من تازروت و بعث الشيعي سهل بن فوكاش إلى فحل بن نوح رئيس لطانة و كان صهره لينجد له عن حربهم في السلم فمشى إلى كتامة و أبوا إلا أن يناجزوهم الحرب فغلبهم أبو عبد الله و أصحابه و انهزمت كتامة و أبلى عروبة بن يوسف الملوشي في ذلك اليوم بلاء حسنا و اجتمعت إلى أبي عبد الله غسان كلها و يلزمة و لهيعة و عامة بجاجية و رئيسهم يومئذ ماكنون بن ضبارة و أبو زاكي تمام بن معارك و لحق بحيلة من بجاجية فرج بن خيران و يوسف بن محمد من لطانة و فحل بن نوح واستقام أمر الباقي للشيعي و جمع فتح بن يحيى من أطاعه من قومه مسالمة لحرب الشيعي فسار إليهم و أوقع بهم و لحق فلهم بسطيف ثم استأمنوا إليه فأمنهم و دخلوا في أمره و ولى منهم هرون بن يونس على حروبه و لحق رئيسهم فتح بن يحيى بعجيسة و جمع ثانية لحرب الشيعي فسار إليه و معه جموع كتامة و تحصن منه فتح ببعض قلاعهم فحاصره الشيعي و فتحها واجتمعت إليه عجيسة و زواوة و جميع قبائل كتامة و رجع إلى تازروت و بث دعاته في كل ناحية فدخل الناس في أمره طوعا و كرها و لحق فتح بن يحيى بالأمير إبراهيم بن أحمد بتونس و استحثه لحرب الشيعي ثم فتح أبو عبد الله مساكتة بمداخلة بعض أهلها و قتل صاحبها موسى بن عياش و ولى عليها ماكنون بن ضبارة الجايي و هو أبو يوسف و لحق إبراهيم بن موسى بن عياش بأبي العباس إبراهيم بن الأغلب بتونس بعد خروج أبيه إلى صقلية و كان فتح بن يحيى المساكتي قد نزع إليه من قبل ذلك و وعده المظاهرة فجهز العساكر و عقد عليها لابنه أبي خوال و زحف من تونس سنة تسع و ثمانين فدوخ كتامة ثم صمد إلى تازروت فلقيه أبو عبد الله الشيعي في جموعه ببلد ملوسة فهزمهم أبو خوال و فر الشيعي من قصر تازروت إلى ايكجان فامتنع بها فهدم أبو خوال القصر و اتبعه و توغل أبو خوال في بلاد كتامة فاضطرب أمره و توقع البيات و سار إبراهيم بن موسى بن عياش من عسكر أبي خوال إلى نواحي مسيلة يتجسس الأخبار فتواقع مع طائفة من أصحاب الشيعي فهزموه و اتبعوه إلى المعسكر فاضطرب و أجفل أبو خوال و خرج من بلاد كتامة و استوطن أبو عبد الله إيكجان و بنى بها بلدا و سماها دار الهجرة و استبصر الناس في أمره و دخلوا في دعوته ثم هلك الحسن بن هرون و جهز أبو العباس العساكر ثانية مع ابنه أبي خوال و رده لحرب الشيعي و كتامة فسار في بلادهم ورجع منهزما و أقام قريبا منهم يدافعهم و يمنعهم من التقدم و في خلال ذلك هلك إبراهيم بن أحمد بن الأغلب و قتل ابنه أبو العباس و قام بالأمر ابنه زيادة الله فاستدعى أخاه أبا خوال و قتله و انتقل من تونس إلى وقادة و انهمك في لذاته و انتشرت جيوش الشيعي في البلاد و علا أمره و بشرهم بأن المهدي قرب ظهوره فكان كما قال (4/40)
وصول المهدي الى المغرب و اعتقاله بسجلماسة ثم خروجه من الاعتقال و بيعته
و لما توفي محمد الحبيب بن جعفر بن محمد بن إسماعيل الإمام عهد إلى ابنه عبيدالله و قال له : أنت المهدي و تهاجر بعدي هجرة بعيدة و تلقى محنا شديدة و اتصل خبره بسائر دعاته في أفريقية و اليمن و بعث إليه أبو عبد الله رجالا من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليهم و أنهم في انتظاره و شاع خبره و اتصل بالعباسيين فطلبه المكتفي ففر من أرض الشام الى العراق ثم لحق بمصر و معه ابنه أبو القاسم غلاما حدثا و خاصته و مواليه بعد أن كان أراد قصد اليمن فبلغه ما أحدث بها علي بن الفضل من بعد ابن حوشب و أنه أساء السيرة فأنثنى عن ذلك و اعتزم على اللحاق بأبي عبد الله الشيعي بالمغرب فارتحل من مصر إلى الإسكندرية ثم خرج من الإسكندرية في زي التجار و جاء كتاب المكتفي إلى عامل مصر و هو يومئذ عيسى النوشري بخبرهم و القعود لهم بالمراصد وكتب نعته و حليته فسرح في طلبهم حتى وقف عليهم و امتحن أحوالهم فلم يقف على اليقين في شيء منها فخلى سبيلهم و جد المهدي في السير و كان له كتب في الملاحم منقولة عن آبائه سرقت من رحله في طريقه فيقال إن ابنه أبا القاسم استردها من برقة حين زحف إلى مصر و لما انتهى إلى طرابلس و فارقه التجار أهل الرفقة بعث معهم أبا العباس أخا أبي عبد الله الشيعي إلى أخيه بكتامة و مر بالقيروان و قد سبق خبرهم إلى زيادة الله و هو يسأل عنهم فقبض على أبي العباس و ساء له فأنكر فحبسه و كتب إلى عامل طرابلس بالقبض على المهدي ففاته و سار إلى قسنطينة ثم عدل عنها خشية على أبي العباس أخي الشيعي المعتقل بالقيروان فذهب إن سجلماسة و بها اليسع بن مدرار فأكرمه ثم جاء كتاب زيادة الله و يقال كتاب المكتفي بأنه المهدي الذي داعيته في كتامة فحبسه اليسع ثم أن أبا عبد الله الشيعي بعد مهلك أبي خوال الذي كان مضايقا لهم اجتمعت إليه سائر كتامة و زحف إلى سطيف فحاصرها مدة و كان بها علي بن جعفر بن عسكوجة صاحبها و أخوه أبو حبيب فملكها و كان بها أيضا داود بن جاثة من كبار لهيعة لحق بها فيمن لحق من وجوه كتامة فقام بها من بعد علي و أخيه و استأمن أهل سطيف فأمنهم أبو عبد الله و دخلها فهدمها و جهز زيادة الله العساكر إلى كتامة مع قريبه إبراهيم بن حشيش و كانوا أربعين ألفا فانتهى إلى قسنطينة فأقام بها و هم متحصنون بجبلهم ثم زحف إليهم و واقعهم عند مدينة يلزمة فانهزم إلى باغاية و لحق بالقيروان وكتب الشيعي بالفتح إلى المهدي مع رجال من كتامة أخفوا أنفسهم حتى وصلوا إليه و عرفوه بالخبر ثم زحف الشيعي إلى طبنة فحاصرها و قتل فتح بن يحيى المساكتي ثم افتتحها على الأمان ثم زحف إلى يلزمة فملكها عنوة و جهز زيادة الله العساكر مع هرون الطبني عامل باغاية فانتهوا إلى مدينة أزمول و كانوا في طاعة الشيعي فهدمها هرون و قتل أهلها و زحف إليه عروبة بن يوسف من أصحاب الشيعي فهزمه و قتله ثم فتح الشيعي مدينة ينجبت كلها على يد يوسف الغساني و لحق عسكرها بالقيروان و شاع عن الشيعي و فاؤه بالأمان فأمنه الناس و كثر الأرجاف بزيادة الله فجهز العساكر و أزاح العلل و أنفق ما في خزائنه و ذخائره و خرج بنفسه سنة خمس و تسعين و نزل الأريس ثم حاد عن اللقاء و أشار عليه أصحابه بالرجوع إلى القيروان ليكون ردأ للعساكر فرجع و قدم على العساكر إبراهيم بن أبي الأغلب من قرابته و أمره بالمقام هنالك ثم زحف الشيعي إلى باغاية فهرب عاملها و ملكها صلحا و بعث إلى مدينة قرطاجنة فافتتحها عنوة و قتل عاملها و سرح عساكره في أفريقية فرددوا فيها الغارات على قبائل البربر من نفزة و غيرهم ثم استأمن إليه أهل تيفاش فأمنهم و استعمل عليهم صواب بن أبي القاسم السكتاني فجاء إبراهيم بن أبي الأغلب و اقتحمها عليه ثم نهض الشيعي في احتفال من العساكر الى باغاية ثم إلى سكانة ثم إلى تبسة ففتحها كلها على الأمان ثم إلى القصرين من قمودة فأمن أهلها و أطاعوه و سار يريد رقادة فخشي إبراهيم بن أبي الأغلب على زيادة الله لقلة عسكره فنهض إلى الشيعي و اعترضه في عساكره و اقتتلوا ثم تحاجزوا و رجع الشيعي إلى إيكجان و إبراهيم إلى الأريس ثم سار الشيعي ثانية بعساكره إلى قسنطينة فحاصرها و اقتحمها على الأمان ثم إلى قفصة كذلك ثم رجع إلى باغاية فأنزل بها عسكرا مع أبي مكدولة الجيلي ثم سار إلى إيكجان و خالفه إبراهيم إلى باغاية و بلغ الخبر إلى الشيعي فسرح لقتاله أبا مديني بن فروخ اللهيمي و معه عروبة بن يوسف الملوشي و رجاء بن أبي قنة فى إثني عشر ألفا فقاتلوا ابن أبي الأغلب و منعوه من باغاية فرحل عنها و اتبعوه إلى فج العرعر و رجعوا عنه ثم زحف أبو عبد الله الشيعي سنة ست و تسعين في مائتي ألف من العساكر إلى إبراهيم بن أبي الأغلب بالأريس ثم اقتتلوا أياما ثم انهزم إبراهيم و استبيح معسكره و فر إلى القيروان و دخل الشيعي الأريس فاستباحها ثم سار فنزل قمودة و اتصل الخبر بزيادة الله و هو برقادة ففر إلى المشرق و نهبت قصوره و افترق أهل رقادة إلى القيروان و سوسة و لما وصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القيروان نزل قصر الإمارة و جمع الناس و أرادهم على البيعة له على أن يعينوه بالأموال فاعتدوا و تصايحت به العامة ففر عنها و لحق بصاحبه و بلغ أبا عبد الله الشيعي خبر فرارهم بسبيبة فقدم إلى رقادة و قدم بين يديه عروبة بن يوسف و حسن بن أبي خنزير فساروا و أمنوا الناس و جاء على أثرهم و خرج أهل رقادة و القيروان للقائه فأمنهم و أكرمهم و دخل رقادة في رجب سنة ست و تسعين و نزل قصرها و أطلق أخاه أبا العباس من الاعتقال و نادى بالأمان فتراجع الناس و فر العمال فى النواحي و طلب أهل القيروان فهربوا و قسم دور البلد على كتامة فسكنوها و جمع أموال زيادة الله و سلاحه فأمر بحفظها و حفظ جواريه و استأذنه الخطباء لمن يخطبون فلم يعين أحد و نقش على السكة من أحد الوجهين بلغت حجة الله و من الآخر تفرق أعداء الله و على السلاح عدة في سبيل الله و في وسم الخيل الملك لله ثم ارتحل إلى سجلماسة في طلب المهدي و استخلف على أفريقية أخاه أبا العباس و ترك معه أبا زاكي تمام بن معارك الألجائي و اهتز المغرب لخروجه و فرت زناتة من طريقه ثم بعثوا إليه بالطاعة فقبلهم و أرسل إلى اليسع بن مدرار صاحب سجلماسة يتلطفه فقتل الرسل : و خرج للقائه فلما تراءى الجمعان انفض معسكره و هرب هو و أصحابه و خرج أهل البلد من الغد للشيعي و جاؤوا معه إلى محبس المهدي و ابنه فأخرجهما و بايع للمهدي و مشي مع رؤساء القبائل بين أيديهما و هو يبكي من الفرح و يقول : هذا مولاكم حتى أنزله بالمخيم و بعث في طلب اليسع فأدرك و جيء به فقتل و أقاموا بسجلماسة أربعين يوما ثم ارتحلوا إلى أفريقية و مروا بأيكجان فسلم الشيعي ما كان بها من الأموال للمهدي ثم نزلوا رقادة في ربيع سنة سبع و تسعين و حضر أهل القيروان و بويع للمهدي البيعة العامة و استقام أمره و بث دعاته في الناس فأجابوا إلا قليلا عرض عليهم السيف و قسم الأموال و الجواري في رجال كتامة و أقطعهم الأعمال و دون الدواوين و جبى الأموال و بعث العمال على البلاد فبعث على طرابلس ماكنون بن ضبارة الألجائي و على صقلية الحسن بن أحمد بن أبي خنزير فسار إليها و نزل البحر و نزل مازر في عيد الأضحى من سنة سبع و تسعين فاستقضى إسحق بن المنهال و ولى أخاه على كريت ثم أجاز البحر سنة ثمان و تسعين إلى العدوة الشمالية و نزل بسيط قلورية من بلاد الإفرنج فأثخن فيها و رجع إلى صقلية فأساء السيرة في أهلها فثاروا به و حبسوه وكتبوا إلى المهدي فقبل عذرهم و ولى عليهم مكانه علي بن عمر البلوي فوصل خاتم تسع و تسعين (4/44)
مقتل أبي عبد الله الشيعي و أخيه
لما استقام سلطان عبيد الله المهدي بأفريقية استبد بأمره وكفح أبا عبد الله الشيعي و أخاه أبا العباس عن الاستبداد عليه و التحكم فى أمره فعظم ذلك عليهما و صرح أبو العباس بما في نفسه فنهاه أخوه أبو عبد الله عن ذلك فلم يصغ إليه ثم استماله أبو العباس لمثل رأيه فأجابه و بلغ ذلك إلى المهدي فلم يصدقه ثم نهى أبا عبد الله عن مباشرة الناس و قال إنه مفسد للهيبة فتلطف في رده و لم يجبه إليه ففسدت النية بينهما و استفسدوا كتامة و أغروهم به و ذكروهم بما أخذه من أموال أيكجان و استأثر به دونهم و ألقوا إليهم أن هذا ليس هو الإمام المعصوم الذي دعونا إليه حتى بعث إلى المهدي رجل كان في كتامة يعرف بشيخ المشايخ و قال له : جئنا بآية على أمرك فقد شككنا فيك فقتله المهدي ثم عظمت استرابتهم و اتفقوا على قتل المهدي و داخلهم في ذلك أبو زاكي تمام بن معارك و غيره من قبائل كتامة و نمي الخبر إلى المهدي فتلطف في أمرهم و ولى من داخلهم من قواد كتامة على البلاد فبعث تمام بن معارك على طرابلس و بعث إلى عاملها ماكنون بقتله فقتله عند وصوله ثم إتهم المهدي ابن الغريم بمداخلتهم و كان من أصحاب زيادة الله فأمر بقتله و استصفاء أمواله و كان أكثرها لزيادة الله ثم إن المهدي استدعى عروبة بن يوسف و أخاه حباسة و أمرهما بقتل الشيعي و أخيه فوقفا لهما عند القصر و حمل عروبة على أبي عبد الله فقال له : لا تفعل ! فقال : الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك ! ثم أجهز عليهما في نصف جمادى سنة ثمان و تسعين و يقال إن المهدي صلى على أبي عبد الله و ترحم عليه و علام أن الذي حمله على ذلك إغراء أبي العباس أخيه و ثارت فتنة بسبب قتلهما من أصحابهما فركب المهدي و سكنها ثم ثارت فتنة أخرى بين كتامة و أهل القيروان و فشا القتل فيهم فركب المهدي و سكنها وكف الدعاة عن طلب التشيع من العامة و قتل جماعة من بني الأغلب برقادة لما رجعوا إليها بعد زيادة الله (4/47)
بقية أخبار المهدي بعد الشيعي
و لما استقام أمر المهدي بعد الشيعي جعل ولاية عهده لابنه أبي القاسم نزار و ولى على برقة و ما إليها حباسة بن يوسف و على المغرب أخاه عروبة و أنزله باغاية فسار إلى تاهرت فاقتحمها و ولى عليها دواس بن صولات اللهيص ثم انتقضت عليه كتامة بقتله أبا عبد الله الشيعي و نصبوا طفلا لقبوه المهدي و زعموا أنه نبي و أن أبا عبد الله الشيعي لم يمت فجهز ابنه أبا القاسم لحربهم فقاتلهم و هزمهم و قتل الطفل الذي نصبوه و أثخن فيهم و رجع ثم انتقض أهل طرابلس سنة ثلثمائة وأخرجوا عاملهم ماكنون فبعث إليهم ابنه أبا القاسبم فحاصرها طويلا ثم فتحها و أثخن فيهم و أغرمهم ثلثمائة ألف دينار ثم أغزى ابنه أبا القاسم و جموعه كتامة سنة إحدى و ثلثمائة إلى الإسكندرية و مصر و بعث أسطوله في البحر في مائتين من المراكب و شحنها بالإمداد و عقد عليها لحباسة بن يوسف و سارت العساكر فملكوا برقة ثم الإسكندرية و الفيوم و بعث المقتدر العساكر من بغداد مع سبكتكين و مؤنس الخادم فتواقعوا مرات و أجلاهم عن مصر فرجعوا إلى المغرب ثم عاد حباسة في العساكر فى البحر سنة اثنتين و ثلثماثة إلى الإسكندرية فملكها وسار يريد مصر فجاء مؤنس الخادم من بغداد لمحاربته فتواقعوا مرات و كان الظهور آخرا للمؤنس و قتل من أصحابه نحو من سبعة آلاف و انصرف إلى المغرب فقتله المهدي و انتقض لذلك أخوه عروبة بالمغرب و اجتمع إليه خلق كثير من كتامة و البربر و سرح إليهم المهدي مولاه غالبا في العساكر فهزمهم و قتل عروبة و بني عمه في أمم لا تحصى ثم نتقض أهل صقلية و تقبضوا على عاملهم علف بن عمرو و ولوا عليهم أحمد بن قهرب فدعا للمقتدر العباسي و ذلك سنة أربع و ثلثمائة و خلع طاعة المهدي و جهز إليه الأسطول مع الحسن بن أبي خنزير فلقيه أسطول ابن قهرب فغلبه و قتل ابن أبي خنزير ثم راجع أهل صقلية أمرهم و كاتبوا المهدي و ثاروا بابن قهرب فخلعوه و بعثوا به إلى المهدي فقتله على قبر ابن أبي خنزير و ولى على صقلية علي بن موسى بن أحمد و بعث معه عساكر كتامة ثم اعتزم المهدي على بناء مدينة على ساحل البحر يتخذها معصما لأهل بيته لما كان يتوقعه على الدولة من الخوارج و يحكى عنه أنه قال بنيتها لتعتصم بها الفواطم ساعة من نهار و أراهم موقف صاحب الحمار بساحتها فخرج بنفسه يرتاد موضعا لبنائها و مر بتونس و قرطاجنة حتى وقف على مكانها جزيرة متصلة بالبر كصورة كف اتصلت بزند فاختط المهدية بها و جعلها دار ملكه و أدار بها سورا محكما و جعل لها أبوابا من الحديد وزن كل مصراع مائة قنطار و ابتدأ ببنائها آخر سنة ثلاث و لما ارتفع السور رمى من فوقه بسهم إلى ناحية المغرب و نظر إلى منتهاه و قال : إلى هذا الموضع يصل صاحب الحمار يعني أبا يزيد ثم أمر أن يبحث في الجبل دار لإنشاء السفن تسع مائة سفين و بحث في أرضها أهراء للطعام و مصانع للماء و بنى فيها القصور و الدور فكملت سنة ست ولما فرغ منها قال : اليوم أمنت على الفواطم ثم جهز ابنه أبا القاسم بالعساكر إلى مصر مرة ثانية سنة سبع و ثلئمائة فملك الاسكندرية ثم سار فملك الجيزة و الأشمونين وكثيرا من الصعيد و كتب إلى أهل مكة بطلب للطاعة فلم يجيبوا إليها و بعث المقتدر مؤنسا الخادم في العساكر و كانت بينه و بين أبي القاسم عدة وقعات ظهر فيها مؤنس و أصاب عسكر أبي القاسم الجهد من الغلاء و الوباء فرجع إلى أفريقية و كانت مراكبهم قد وصلت من المهدية إلى الإسكندرية في ثمانين أسطولا مددا لأبي القاسم و عليها سليمان الخادم و يعقوب الكتامي و كانا شجاعين و سار الأسطول من طرسوس للقائهم في خمسة و عشرين مركبا و التقوا على رشيد و ظفرت مراكب طرسوس و أحرقوا و أسروا سليمان و يعقوب فمات سليمان في حبس مصر و هرب يعقوب من حبس بغداد إلى أفريقية ثم اغزى المهدي سنة ثمان و ثلثمائة مضالة بن حبوس في رجالات مكناسة إلى بلاد المغرب فأوقع بملك فاس من الأدارسة و هو يحيى بن إدريس بن إدريس بن عمرو و استنزله عن سلطانه إلى طاعة المهدي فأعطى بها صفقته و عقد لموسى بن أبي العافية المكناسي من رجالات قومه على أعمال المغرب و رجع ثم عاود غزو المغرب سنة تسع فدوخه و مهد جوانبه و أغراه قريبه عامل المغرب موسى بن أبي العافية بيحيى بن إدريس صاحب فاس فتقبض عليه و ضم فاس إلى أعمال موسى و محا دعوة الإدريسية من المغرب و أجهضهم عن أعماله فتحيزوا إلى بلاد الريف و غمارة و استجدوا بها ولاية كما نذكره في أخبار غمارة و منهم كان بنو حمود العلويون المستولون على قرطبة عند انقراض ملك الأمويين في سنة ثلاث و أربعمائة كما نذكر هنالك ثم صمد مضالة إلى بلاد سجلماسة فقتل أميرها من آل مدرار المكناسيين المنحرف عن طاعة الشيعة و عقد لابن عمه كما نذكر في أخبارهم و سار في أتباعه زناتة في نواحي المغرب فكانت بينه و بينهم حروب هلك مضالة فى بعضها على يد محمد بن خزر و اضطرب المغرب فبعث المهدي ابنه أبا القاسم غازيا إلى المغرب في عساكر كتامة و أولياء الشيعة سنة خمس عشرة و ثلثمائة ففر محمد بن خزر و أصحابه إلى الرمال و فتح أبو القاسم بلد مزاتة و مطماطة و هوارة و سائر الأباضية و الصفرية و نواحي تاهرت قاعدة المغرب الأوسط إلى ما وراءها ثم عاج إلى الريف فافتتح بلد لكور من ساحل المغرب الأوسط و نازل صاحب جراوة من آل إدريس و هو الحسن بن أبي العيش و ضيق عليه و دوخ أقطار المغرب و رجع و لم يلق كيدا و مر بمكان بلد المسيلة و بها بنو كملان من هوارة و كان يتوقع منهم الفتنة فنقلهم إلى فج القيروان و قضى الله أن يكونوا أولياء لصاحب الحمار عند خروجه و لما نقلهم أمر ببناء المسيلة في بلدهم و سماها المحمدية و دفع علي بن حمدون الأندلسي من صنائع دولتهم إلى بنائها و عقد له عليها و على الزاب بعد اختطاطها فبناها و حصنها و شحنها بالأقوات فكانت مددا للمنصور في حصار صاحب الحمار كما يذكر ثم انتقض موسى بن أبي العافية عامل فاس و المغرب و خلع طاعة الشيعة و انحرف إلى الأموية من وراء البحر و بث دعوتهم في أقطار المغرب فنهض إليه أحمد بن بصلين المكناسي قائد المهدي و سار في العساكر فلقيه ميسور و هزمه و أوقع به و بقومه بمكناسة و أزعجه عن الغرب إلى الصحاري و أطراف البلاد و دوخ المغرب و ثقف أطرافه و رجع ظافرا (4/48)
وفاة عبيد الله المهدي و ولاية ابنه أبي القاسم
ثم توفي عبيد الله المهدي في ربيع سنة اثنتي و عشرين لأربع و عشرين سنة من خلافته و ولى ابنه أبو القاسم محمد و يقال نزار بعده و لقب القائم بأمر الله فعظم حزنه على أبيه حتى يقال إنه لم يركب سائرأيامه إلا مرتين و كثر عليه الثوار و ثار بجهات طرابلس ابن طالوت القرشي و زعم أنه ابن المهدي و حاصر طرابلس ثم ظهر للبربر كذبه فقتلوه ثم أغزى المغرب و ملكه و ولى على فاس أحمد بن بكر ابن أبي سهل الجذابي و حاصر الأدارسة ملوك الريف و غوارة فنهض ميسور الخصي من القيروان في العساكر و دخل المغرب و حاصر فاس و استنزل عاملها أحمد بن بكر ثم نهض في اتباع موسى فكانت بينهما حروب و أخذ الثورى بن موسى في بعضها أسيرا و أجلاه ميسور عن المغرب و ظاهره عليه الأدارسة للذين بالريف و انقلب ميسور إلى القيروان سنة أربع و عشرين و عقد للقاسم بن محمد كبير أدارسة الريف من ولد محمد بن إدريس على أعمال ابن أبي العافية و ما يفتحه من البلاد فملك المغرب كلها ما عدا فاس و أقام دعوة الشيعة بسائر أعماله ثم جهز أبو القاسم أسطولا ضخما لغزو ساحل الإفرنجة و عقد عليه ليقرب ابن اسحاق فأثخن في بلاد الإفرنجة و سبى و نازل بلد جنوة و افتتحها و عظم صنع الله في شأنها و مروا بسردانية من جزرالفرنج فأثخنوا فيها ثم مروا بقرقيسا من سواحل الشام فأحرقوا مراكبها ثم بعث عسكرا إلى مصر مع خادمه زيران فملكو الإسكندرية و جاءت عساكر الأخشيد من مصر فأزعجوهم عنها و رجعوا إلى المغرب (4/51)
أخبار أبي يزيد الخارجي
و هوأبو يزيد مخلد بن كيراد و كان أبوه كيراد من أهل قسطيلة من مدائن بلد توزر وكان يختلف إلى بلاد السودان بالتجارة و بها ولد ولده أبو يزيد و نشأ بتوزر و تعلم القران و خالط النكارية من الخوارج و هم الصفرية فمال إلى مذهبهم و أخذ به ثم سافر إلى تاهرت و أقام فيها يعلم الصبيان و لم صار الشيعي إلى سجلماسة في طلب المهدي انتقل هو إلى تقيوس و أقام يعلم فيها و كان يذهب إلى تكبير أهل ملته و استباحة الأموال و الدماء و الخروج على السلطان ثم أخذ نفسه بالحسبة على الناس و تغيير المنكر سنة ست عشرة و ثلثمائة فكثر أتباعه و لما مات المهدي خرج بناحية جبل أوراس و ركب الحمار و تلقب بشيخ المؤمنين و دعا للناصر صاحب الأندلس من بني أمية فاتبعه أمم من البربر و زحف إليه عامل باغاية فلقيه في جموع البربر و هزمه و زحف إلى باغاية فحاصرها ثم انهزم عنها و كتب إلى بني واسى من قبائل زناتة بضواحي قسنطينة يأمرهم بحصارها فحاصروها سنة ثلاث و ثلاثين ثم فتح تبسة صلحا و مجانة كذلك و أهدى له رجل من أهل مرماجنة حمارا أشهب فكان يركبه و به لقب و كان يلبس جبة صوف قصيرة ضيقة الكمين و كان عسكر الكتاميين على الأريس فانفضوا و ملكها أبو يزيد و أحرقها و نهبها و قتل في الجامع من لجأ إليه و بعث عسكرا إلى سبيبة ففتحها و قتل عاملها و بلغ الخبر إلى القاسم فقال لابد أن يبلغ المصلي من المهدية ثم جهز العساكر و بعثها إلى رقادة و القيروان و بعث خادمه ميسورا الخصي لحربه و بعث عسكرا مع خادمه بشري إلى باجة فنهض إليه أبو يزيد و هزمه إلى تونس و دخل أبو يزيد باجة فنهبها و أحرقها و قتل الأطفال و سبى النساء و اجتمع إليه قبائل البربر و اتخذ الأبنية و البيوت و آلات الحرب و بعث إليه بشري عسكرا من تونس و بعث أبو يزيد للقائهم عسكرا آخر فانهزم أصحاب أبي يزيد و ظفر أصحاب بشري ثم ثار أهل تونس ببشري فهرب فاستأمنوا لأبي يزيد فأمنهم و ولى عليهم و سار إلى القيروان و بعث القائم خديمه بشري للقائه و أمره أن يبعث من يتجسس عن أخباره فبعث طائفة و بعث أبو يزيد طائفة أخرى فانهزم عسكر أبي يزيد و قتل منهم أربعة آلاف و جيء بأسراهم إلى المهدئة فقتلوا فسار أبو يزيد إلى قتال الكتاميين فهزم طلائعهم و أتبعهم إلى القيروان و نزل على رقادة في مائتي ألف مقاتل و عاملها يومئذ خليل بن إسحاق و هو ينتظر وصول ميسور بالعساكر ثم ضايقه أبو يزيد و أغراه الناس بالخروج فخرج و هزمه أبو يزيد فمضى إلى القيروان و دخل أبو يزيد رقادة فعاث فيها و بعث أيوب الزويلي في عسكر إلى القيروان فملكها في صفر سنة ثلاث و ثلاثين و نهبها و أمن خليلا فقتله أبو يزيد وخرج إليه شيوخ أهل القيروان فأمنهم و رفع النهب عنهم و زحف ميسور إلى أبي يزيد و كان معه أبو كملان فكاتبوا أبا يزيد و داخلوه في الغدر بميسور و كتب إليه القائم بذلك فحذرهم فطردهم عنه و لحقوا بأبي يزيد و ساروا معه إلى ميسور فانهزم ميسور و قتله بنو كملان و جاؤوا برأسه فأطافه بالقيروان و بعث بالبشري إلى البلاد و بلغت هزيمة ميسور إلى القائم بالمهدية فاستعد للحصار و أمر بحفر الخنادق و أقام أبو يزيد سبعين يوما في مخيم ميسور و بث السرايا في كل ناحية يغنمون و يعودون و أرسل سرية إلى سوسة ففتحوها عنوة و استباحوها و خرب عمران أفريقية من سائر الضواحي و لحق فلهم بالقيروان حفاة عراة و مات أكثرهم جوعا و عطشا ثم بعث القائم إلى رؤساء كتامة و القبائل و إلى زيري بن مناد ملك صنهاجة بالمسي رإلى المهدية فتأهبوا لذلك و سمع أبو يزيد بخبرهم فنزل على خمسة فراسخ من المهدية و بث السرايا في جهاتها و سمع كتامة بافتراق عسكره في الغارة فخرجوا لبياته آخر جمادى الأولى و كان ابنه فضل قد جاء بالمدد من القيروان فبعثه للقاء كتامة و ركب في أثرهم و لقي أصحابه منهزمين و لما رآه الكتاميون انهزموا بغير قتال و أتبعهم أبو يزيد إلى باب المهدية و رجع ثم جاء بعد أيام لقتالهم فوقف على الخندق المحدث و عليه جماعة من العبيد فقاتلهم ساعة و هزمهم و جاوز السور إلى البحر و وصل المصلى على رمية سهم من البلد و البربر يقاتلون من الجانب الآخر ثم حمل الكتاميون عليهم فهزموهم و بلغ ذلك أبا يزيد و سمع بوصول زيري بن مناد فاعتزم أن يمر بباب المهدية و يأتي زيري و كتامة من ورائهم فقاتلوا أهل الأرباض و مالوا عليه لما عرفوه ليقتلوه و تخلص بعد الجهد و وصل إلى منزله فوجدهم يقاتلون العبيد كما تركهم فقوي أصحابه و انهزم العبيد ثم رحل و تأخر قليلا و حفر على معسكره خندقا و اجتمع عليه خلق عظيم من البربر و نفوسة و الزاب و أقاصى المغرب و ضيق على أهل المرية ثم زحف إليها آخر جمادى فقاتلهم و تورط في قتالها يومه ذلك ثم خلص و كتب إلى عامل القيروان أن يبعث إليه مقاتلتها فجاؤوا و زحف بهم آخر رجب فانهزم و قتل من أصحابه ثم زحف الزحف الرابع آخر شوال و لم يظفر و رجع إلى معسكره و اشتد الحصار على أهل المهدية حتى أكلوا الميتات و الدواب و افترق أهلها في النواحي و لم يبق بها إلا الجند و فتح القائم أهراء الزرع التي أعدها المهدي و فرقها فيهم ثم اجتمعت كتامة و عسكروا بقسنطينة فبعث إليهم أبو يزيد بعثا من وربجومة و غيرهم فهزموا كتامة و وافت أبا يزيد حشود الربر من كل ناحية و أحاط بسوسة و ضيق عليها ثم انتقض البربر عليه بما كان منه من المجاهرة بالمحرمات و المنافسة بينهم فانفضوا عنه و رجع إلى القيروان سنة أربع و ثلاثين و غنم أهل المهدية معسكره و كثر عبث البربر في أمصار أفريقيه و ضواحيها و ثار أهل القيروان بهم و راجعوا طاعة القائم و جاء على بن حمدون من المسيلة بالعساكر فبيته أيوب بن أبي يزيد و هزمه و سارإلى تونس و جاءت عساكر القائم فواقعوه مرات و انهزم إلى القيروان في ربيع سنة أربع و ثلاثين فبعث أيوب ثانية لقتال على بن حمدون ببلطة و كانت حروبه معه سجالا إلى أن اقتحم عليه البلد بمداخلة بعض أهلها و لحق ابن حمدون ببلاد كتامة و اجتمعت قبائل كتامة و نفزة و مزاتة و عسكروا بقسنطينة و بعث ابن حمدون العساكر إلى هوارة فأوقعوا بهم و جاءهم مدد أبي يزيد فلم يغن عنهم و ملك ابن حمدون مدينة يتجست و باغاية ثم زحف أبو يزيد إلى سوسة في جمادي الآخرة من سنته و بها عسكر القائم و توفي القائم و هو بمكانه من حصارها (4/52)
وفاة القائم و ولاية ابنه المنصور
ثم توفي القائم أبوالقاسم محمد بن عبيد الله المهدي صاحب أفريقية بعد أن عهد إلى ولده إسماعيل بعده و تلقب بالمنصور و كتم موت أبيه حذرا أن يطلع عليه أبو يزيد و هو بمكانه من حصار سوسة فلم يسم بالخليفة و لا غيرالسكة و لا الخطبة و لا البنود إلى أن فرغ من أمر أبي يزيد كما يذكر (4/55)
بقية أخبار أبي يزيد و مقتله
و لما مات القائم كان أبو يزيد محاصرا لسوسة كما تقدم و قد جهد أهلها الحصار فلما ولي إسماعيل المنصور و كان أول عمله أن بعث الأساطيل من المهدية إلى سوسة مشحونة بالمدد من المقاتلة و الأمتعة و الميرة مع رشيق الكاتب و يعقوب بن إسحاق و خرج بنفسه في أثرهم و أشار أصحابه بالرجوع فرجع و وصل الأسطول إلى سوسة و خرجوا لقتال أبي يزيد و عساكر سوسة معهم فانهزم أبو يزيد و استبيح معسكره نهبا و إحراقا و لحق بالقيروان فمنعه أهلها من الدخول و ثاروا بعامله فخرج إليه و رحل إلى سبيبة و ذلك أواخر شوال سنه أربع و جاء المنصور إلى القيروان و أمن أهلها و أبقى على حرم أبي يزيد و أولاده و أجرى عليهم الرزق و خرجت سرية من عسكر المنصور لاستكشاف خبر أبي يزيد و جاءت أخرى من عسكر أبي يزيد لمثل ذلك فالتقوا و انهزمت سرية المنصور فقوي أبو يزيد بذلك و كثر جمعه و عاد فقاتل القيروان و خندق المنصور على عسكره و قاتلهم أبو يزيد فكان الظفر أول يوم للمنصور ثم قاتلهم ثانيا فانهزموا و ثبت المنصور و راجع أصحابه من طريق المهدية و سوسة ولما رأى أبو يزيد امتناعهم عليه رحل أواخر ذي القعدة ثم رجع فقاتلهم و كانت الحرب سجالا و بعث السرايا إلى طريق المهدية و سوسة نكاية فيهم و بعث إلى المنصور في حرمه و أولاده فبعثهم إليه بعد أن وصلهم و قد كان أقسم على الرحيل فلما وصلوا إليه نكث و قاتلهم خامس المحرم سنة خمس و ثلاثين فهزمهم ثم عبى المنصور عساكره منتصف المحرم و جعل البرابر في الميمنة و كتامة في الميسرة و هو وأصحابه في القلب و حمل أبو يزيد على الميمنة فهزمها ثم على القلب فلقيه المنصور و اشتد القتال ثم حملوا عليه حملة رجل واحد فانهزم و أسلم أثقاله و عسكره و قتل خلق من أصحابه و بلغت رؤوس القتلى الذي في أيدي صبيان القيروان عشرة آلاف و مضى أبو يزيد لوجهه و مر بباغاية فمنعه أهلها من الدخول فأقام يحاصرها و رحل المنصور في ربيع الأول لاتباعه و استخلف على المهدية مراما الصقلي و أدركه على باغاية فأجفل المنصور في إتباعه و كلما قصد حصنا سبقه المنصور إليه إلى أن نزل المنصور طبنة فجاءته رسل محمد بن خزر أمير مغراوة من أصحاب أبي يزيد و مواطئه بالغرب الأوسط فاستأمن للمنصور فأمنه و أمره بطلب أبي يزيد و وصل أبو يزيد إلى بني برزال و كانوا نكارية و بلغه خبر المنصور في اتباعه فسلك الرملة ثم عاد إلى نواحي غمرت فصادف المنصور و قاتله فانهزم أبو يزيد إلى جبل سالات و المنصور في أثره في جبال و أوعار و مضايق تفضي إلى القفر و أصابهم الجهد و علم أنه ليس أمامه إلا المفازة إلى بلاد السودان فرجع إلى غمرت من بلاد صنهاجة و وفد عليه هنالك زيري بن مناد أمير صنهاجة فأكرمه و وصله كما يجب له و جاء كتاب محمد بن خزر بالمكان الذي فيه أبو يزيد من المفازة و أقام المنصور هنالك لمرض أصابه فرجع أبو يزيد إلى المسيلة و حاصرها فلما عوفي المنصور رحل أول رجب سنة خمس و ثلاثين و قصده فأفرج عن المسيلة و قصد المفازة يريد بلاد السودان فأبى عليه بنو كملان أصحابه فرجعوا إلى جبال كتامة و عجيسة فتحصنوا بها و جاء المنصور فنزل بساحتهم عاشر شعبان و نزل أبو يزيد فقاتلهم فانهزم و أسلم عسكره و أولاده و طعنه بعض الفرسان فأكبه و حامى عنه أصحابه فقتل في الحومة ما يزيد على عشرة آلاف و تخلص ثم سار المنصور في أثره أول رمضان و لم يقدر أحد من الفريقين على الهزيمة لضيق المكان و صعوبته ثم انهزم أبو يزيد لما ضرسه الحرب و ترك أثقاله و ساروا إلى رؤوس الجبال يرمون بالصخر و تزاحفوا حتى تعانقوا بالأيدي و كثر القتل ثم تحاجزوا و تحصن أبو يزيد بقلعة كتامة و استأمن الذين معه من هوارة فأمنهم المنصور و حصر أبا يزيد في القلعة و قاتلها غير مرة حتى افتتحها عنوة و أضرمها نارا و قتل أصحاب أبي يزيد في كل ناحية و جمع أهله و أولاده في القصر و أظلم الليل فأمر المنصور بإشعال النيران في الشعراء المحيطة بالقصر حتى أضاء الليل لتكون أحواله بمرأى منهم حذرا من فراره حتى خرج الليل و حمل في أصحاب المنصور حملة منكرة فأفرجوا له و أمر المنصور بطلبه فألفوه و قد حمله ثلاثة من أصحابه لأنه كان جريحا فسقط من الوعر و ارتث فحملوه إلى المنصور فسجد سجدة الشكر و أقام عنده إلى سلخ المحرم من سنة ست و ثلاثين ثم هلك من الجراحة التي به فأمر بسلخ جلده و حشوه تبنا و اتخذ له قفصا فأدخل فيه مع قردين يلاعبانه بعثاله و رحل إلى القيروان و المهدية و لحق ابنه فضل بمعبد بن خزر و زحف به إلى طبنة و بسكرة و قصد المنصور فانهزم معبد و صعد إلى كتامة فبعث إليه العساكر مع مولييه شفيع و قيصر و معهما زيري بن مناد في صنهاجة فانهزم فضل و معبد و افترق جمعهم و رجع المنصور إلى القيروان فدخلها (4/55)
بقية أخبار المنصور
ثم انتقض حميد بن يضلبتن عامل المغرب و انحرف عن طاعة الشيعة و دعا للأموية من وراء البحر و زحف إلى تاهرت فحاصرها فنهض إليه المنصور في صفر سنة ست و ثلاثين و جاء إلى سوق حمزة فأقام به و حشد زيري بن مناد جموع صنهاجة من كل ناحية و رحل مع المنصور فأفرج حميد عن تاهرت و عقد عليها ليعلى بن محمد اليفرني و عقد لزيري بن مناد على قومه و على سائر بلادهم ثم رحل لقتال لواتة فهربوا إلى الرمال و أقام هو على واد ميناس و كان هنالك ثلاثة جبال كل منهم عليه قصر مبني بالحجر المنحوت فوجد في وجه أحد هذه القصور كتابة على حجر فسيح فأمر المنصور التراجمة بقراءته و إذا فيه أنا سليمان السردغوس خالف أهل هذا البلد على الملك فبعثني إليهم ففتح الله عليهم و بنيت هذا البناء لأذكر به ذكر هذه الغريبة ابن الرقيق في تاريخه ثم رحل المنصور إلى القيروان بعد أن خلع على زيري بن مناد و حمله و دخل المنصورية في جمادى سنة ست و ثلاثين فبلغه أن فضل بن أبي يزيد جاء إلى جبل أوراس و داخل البربر في الثورة فخرج إليه المنصور فدخل الرمل و رجع المنصور إلى القيروان ثم إلى المهدية و رجع فضل بن أبي يزيد إلى باغاية و أقام محاصرها فغدر به باطيط و بعث برأسه الى المنصور ثم عقد سنة تسع و ثلاثين للحسين بن علي بن أبي الحسين الكلبي على صقلية و أعمالها و كانت لخليل بن إسحاق فصرفه الحسين و استقل بولايتها فكان له فيها و لبنيه ملك سنذكره و بلغ المنصور أن ملك إفرنجة يريد غزو المسلمين فأخرج أسطوله و شحنه بالعساكر لنظر مولاه فرج الصقلي و أمر الحسين بن علي عامل صقلية بالخروج معه فأجازوا البحر إلى عدوة الإفرنجة و نزلوا قلورية و لقيهم رجاء ملك الفرنجة فهزموه و كان فتحا لا كفاء له و ذلك سنة أربعين و ثلثمائة و رجع فرج بالغنائم إلى المهدية سنة اثنتين و أربعين و كان معبد بن خزر بعد مظاهرته لفضل بن أبي يزيد لم يزل منتقضا و أولياء المنصور في طلبه حتى أخذ في بعض الوقائع و سيق مع ابنه إلى المنصور فطيف بهما في أسواق المنصورية ثم قتلا سنة إحدى و أربعين و ثلثمائة (4/57)
وفاة المنصور و ولاية ابنه المعز
ثم توفي المنصور إسماعيل بن القاسم سلخ رمضان سنة إحدى و أربعين لسبع سنين من خلافته أصابه الجهد من مطر و ثلج تجلد على ملاقاته و دخل على أثره الحمام فعيت حرارته و لازمه السهر فمات و كان طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلى قد نهاه عن الحمام فلم يقبل و ولي الأمر بعده ابنه معد و لقب المعز لدين الله فاستقام أمره و خرج لجبل أوراس سنة اثنتين و أربعين و جالت فيه عساكره و استأمن إليه بنو كملان و مليلة من هوارة و دخلوا في طاعته فأمنهم و أحسن إليهم و استأمن إليه محمد بن خزر بعد قتل أخيه معبد فأمنه و رجع إلى القيروان و ترك مولاه قيصر في العساكر و عقد له على باغاية فدوخ البلاد و أحسن إلى الناس و ألف من كان شاردا من البربر و رجع بهم إلى القيروان فأكرمهم المعز و وصلهم ثم وفد بعدهم محمد بن خزر أمير مغراوة فلقاه مبرة و تكريما و أقام عنده بالقيروان إلى أن هلك سنة ثمان و أربعين و استقدم المعز زيري بن مناد سنة ثلاث و أربعين أمير صنهاجة فقدم من أشير فأجزل صلته و رده إلى عمله و بعث إلى الحسين بن علي عامل صقلية سنة أربع و أربعين أن يخرجه بأسطوله إلى ساحل المرية من بلاد الأندلس فعاث فيه و غنم و سبى و رجع فأخرج الناصر صاحب الأندلس أسطوله إلى سواحل أفريقية مع غالب مولاه فمنعتهم العساكر و أقلعوا ثم عاودوا سنة خمس و أربعين فى سبعين مركبا فأحرقوا مرسى الخزر و عاثوا في جهات سوسة ثم في نواحي طبرنة و رجعوا و استقام أمر المعز في بلاد أفريقية و المغرب و اتسعت إيالته و كانت أعماله من ايفكان خلف تاهرت بثلاثة مراحل إلى زناتة التي دون مصر و على تاهرت و ايفكان يعلى بن محمد اليفرني و على أشير و أعمالها زيري بن مناد الصنهاجي و على المسيلة و أعمالها جعفر بن علي الأندلسي و على باغاية و أعمالها قيصر الصقلي و كان على فاس أحمد بن بكر بن أبي سهل الجذامي و على سجلماسة محمد بن واسول المكناسي ثم بلغه سنة سبع و أربعين أن يعلى بن محمد اليفرني داخل الأموية من وراء البحر و أن أهل المغرب الأقصى نقضوا طاعة الشيعة فأغزى جوهر الصقلي الكاتب إلى المغرب بالعساكر و كان على وزارته و خرج معه جعفر بن علي صاحب المسيلة و زيري بن مناد صاحب أشير و تلقاهم يعلى بن محمد صاحب المغرب الأوسط و لما ارتحل عن ايفكان وقعت هيعة في أصحاب صيلة و قيل له إن بني يعرب أوقعوها فتقبض على يعلى و ناشته سيوف كتامة لحينه و خرب ايفكان و أسر ابنه يدو بن يعلى و تمادوا إلى فاس ثم تجاوزوها إلى سجلماسه فأخذها و تقبض على الشاكر لله محمد بن الفتح الذي تلقب بأمير المؤمنين من بني واسول و ولى ابن المعتز من بني عمه مكانه و دوخ المغرب إلى البحر ثم رجع إلى فاس و حاصرها و واليها يومئذ أحمد بن بكر بن أبي سهل الجذامي و قاتلها مدة فامتنعت عليه و جاءته هدايا الأمراء الأدكرنية من السوس ثم رحل الى سجلماسة و بها محمد بن واسول من مكناسة و قد تلقب بأمير المؤمنين الشاكر لله و ضرب السكة باسمه تقدست عزة الله فلما سمع بجوهر هرب ثم أخذ أسيرا و جيء به إلى جوهر و سار عن سجلماسة و افتتح البلاد في طريقه ثم عاد إلى فاس و أقام في حصارها إلى أن افتتحها عنوة على يد زيري بن مناد تسنم أسوارها ليلا و دخلها و تقبض على أحمد بن بكر و ذلك سنة ثمان و أربعين و ولى عليها من قبله و طرد عمال بني أمية من سائر المغرب و انقلب إلى القيروان ظافرا عزيزا و ضم تاهرت إلى زيري بن مناد و قدم بالفاطميين و بأحمد بن بكر و بمحمد بن واسول أسيربن في قفصين و دخل بهما إلى المنصورية في يوم مشهود و كانت ولاية المغرب و المشرق منقسمة بين مولييه قيصر و مظفر و كانا متغلبين على دولته فقبض عليهما سنة تسع و أربعين و قتلهما و في سنة خمسين كان تغلب للنصارى على جزيرة أقريطش و كان بها أهل الأندلس من جالية الحكم بن هشام بسبب ثورة الرفض ففر بهم إن الإسكندرية فثاروا بها و عبد الله بن طاهر يومئذ عامل مصر فحاصرهم بالإسكندرية حتى نزلوا على الأمان و أن يجيزوا البحر إلى جزيرة أقريطش فعمروها و نزلوها منذ تلك الأيام و أميرها أبو حفص البلوطي منهم و استبد بها و ورث بنوه رياسة فيها إلى أن نازلهم النصارى في هذه السنة في سبعمائة مركب و اقتحموها عليهم عنوة و قتلوا منهم و أسروا و بقيت في أيدي النصارى لهذا العهد و الله غالب على أمره و افتتح صاحب صقلية سنة إحدى و خمسين قلعة طرمين من حصون صقلية بعد حصار طويل أجهدهم فنزلوا على حكم صاحب صقلية بعد تسعة أشهر و نصف للحصار و أسكن المسلمين بالقلعة و سماها المعزية نسبة إلى المعز صاحب أفريقية ثم سار صاحب صقلية بعدها و هو أحمد بن الحسن بن علي بن أبي الحسن إلى حصار رمطة من قلاع صقلية فاستمدوا ملكهم صاحب القسطنطينية فجهز لهم العساكر برا و بحرا و استمد صاحب صقلية المعز فأمده بالعساكر مع ابنه الحسن و وصل مدده إلى مدينة ميسنى و ساروا بجموعهم إلى رمطة و كان على حصارها الحسن بن عمار فحمل عسكرا على رمطة و زحف إلى عسكر الروم مستميتا فقاتلهم فقتل أمير الروم و جماعة من البطارقة و هزموا أقبح هزيمة واعترضهم خندق فسقطوا فيه و أثخن المسلمون فيهم و غنموا عسكرهم و اشتد الحصار على أهل رمطة و عدموا الأقوات فاقتحمها المسلمون عنوة و ركب فل الروم البحر يطلبون النجاة فأتبعهم الأمير أحمد بن الحسن في أسطوله فأدركهم و سبح بعض السلمين في الماء فخرق مراكبهم و انهزموا و بث أحمد سرايا المسلمين في مدائن الروم فغنموا منها و عاثوا فها حتى صالحوهم على الجزية و كانت هذه الواقعة سنة أربع و خمسين و تسمى وقعة المجاز (4/58)
فتح مصر
ثم إن المعز لدين الله بلغه اضطراب أحوال مصر بعد موت كافور الأخشيدي و عظم فيها الغلاء و كثرت الفتن و شغل بغداد عنهم بما كان من الفتن بين بختيار بن معز الدولة و عضد الدولة ابن عمه فاعتزم المعز على المسير إلى مصر و أخرج جوهرا الكاتب إلى المغرب لحشد كتامة و أوعز إلى عمال برقة لحفر الآبار في طريقها و ذلك سنة خمس و خمسين فسيره إلى مصر و خرج لتوديعه و أقام أياما في معسكره و سار جوهر و بلغ خبره إلى عساكر الأخشيدية بمصر فافترقوا و كان ما يذكر في أخبارهم و قدم جوهر منتصف شعبان من سنة ثمان و خمسي فدخلها و خطب في الجامع العتيق منه باسم المعز و أقيمت الدعوة العلوية و في جمادى من سنة تسع و خمسين دخل جوهر جامع ابن طولون فصلى فيه و أمر بزيادة حي على خير العمل في الأذان فكان أول أذان أذن به في مصر ثم بعث إلى المعز بالهدايا و بأعيان دولة الأخشيدية فحبسهم المعز بالمهدية و أحسن إلى القضاة و العلم من وفدهم و ردهم إلى مصر و شرع جوهر في بناء القاهرة و استحث المعز للقدوم على مصر (4/61)
فتح دمشق
و لما فتحت مصر و أخذ بنو طفج هرب منهم الحسن بن عبد الله بن طفج إلى مكة و معه جماعة من قوادهم فلما استشعر جوهر به بعث جعفر بن فلاح الكتامي في العساكر إليه فقاتله مرارا ثم أسره و من كان معه من القواد و بعث بهم إلى جوهر فبعث بهم جوهر إلى المعز بأفريقية و دخل جعفر الرملة عنوة فاستباحها ثم أمن من بقي و جبى الخراج و سارإلى طبرية و يها ابن ملهم و قد أقام الدعوة للمعز فتجافى عنه و سار إلى دمشق فافتتحها عنوة و أقام بها الخطبة للمعز لأيام من المحرم سنة تسع و خمسين و كان بدمشق الشريف أبو القاسم بن أبي يعلى الهاشمي و كان مطاعا فهم فجمع الأوباش و الذعار و ثار بهم في الجمعة الثانية و لبس السواد و أعاد الخطبة للمطيع فقاتلهم جعفر بن فلاح أياما و أولى عليهم الهزائم و عاثت جيوش المغاربة في أهل دمشق فهرب ابن أبي يعلى ليلا من البلد و أصبحوا حيارى و كانوا قد بعثوا الشريف الجعفري إلى جعفر في الصلح فأعاده إليهم بتسكين الناس و الوعد الجميل و أن يدخل البلد فيطوف فيه و يرجع إلى معسكره فدخل و عاث المغاربة في البلد بالنهب فثار الناس بهم و حملوا عليهم و قتلوا منم و شرعوا في حفر الخنادق و تحصين البلد و مشى الشريف أبو القاسم في الصلح بينهم و بين جعفر بن فلاح فتم ذلك منتصف ذي الحجة من سنة تسع و خمسين و دخل صاحب شرطة جعفر فسكن الناس و فبض على جماعة من الأحداث و قتل منهم و حبس ثم قبض على الشريف أبي القاسم بن أبي يعلى في المحرم من سنة ستين و بعث به إلى مصر و استقام ملك دمشق لجعفر بن فلاح و كان خرج بأفريقية في سنة ثمان و خمسين أبو جعفر الزناتي و اجتمعت إليه جموع من البربر و النكارية و خرج إليه المعز بنفسه و انتهى إلى باغاية و افترقت جموع أبي خزر و سلك الأوعار فعاد المعز و أمر بلكين بن زيري بالمسير في طلبه فسار لذلك حتى انقطع عنه خبره ثم جاء أبو جعفر مستأمنا سنة تسع و خمسين فقبله و أجرى عليه الرزق و على أثر ذلك وصلت كتب جوهر بإقامة دعوته بمصر و الشام و باستدعائه إليها فاشتد سرور المعز بذلك و أظهره في الناس و نطق الشعراء بامتداحه ثم زحف القرامطة إلى دمشق و عليهم ملكهم الأعصم و لقيهم جعفر بن فلاح فظفر بهم و قتلهم ثم رجعوا إليه سنة إحدى و ستين و برز إليهم جعفر فهزموه و قتلوه و ملك الأعصم دمشق و سار إلى مصر و كاتب جوهر بذلك المعز فاعتزم على الرحلة إليها (4/61)
مسير المعز الى مصر و نزوله بالقاهرة
و لما انتهت هذه الأخبار إلى المعز اعتزم على المسير إلى مصر و بدأ بالنظر في تمهيد المغرب و قطع شواغله و كان محمد بن الحسن بن خزر المغراوي مخالفا عليه بالمغرب الأوسط و قد كثرت جموعه من زنانة و البربر و كان جبارا طاغيا قأهم المعز أمره وخشي على أفريقية عائلته فأمر بلكين بن زيري بن مناد بغزوه فغزاه فى بلاده وكانت بينهما حروب عظيمة ثم انهزم محمد بن خزر و جموعه ولما أحس بالهزيمة تحامل على سيفه فقتل نفسه و قتل في المعركه سبعة عشر من أمراء زناتة و أسر منهم كثير و ذلك سنة ستين وسر المعز ذلك وقعد للهناء به واستقدم بلكين بن زيري ستخلفه على أفريقية والمغرب وأنزله القيروان و سماه يوسف وكناه أبا الفتوح و ولى على طرابلس عبد الله بن يخلف الكتامي ولم يجعل لبلكين ولاية عليه و لا على صاحب صقلية وجعل على جباية الأموال زيادة الله بن الغريم وعلى الخراج عبد الجبار الخراساني و حسين بن خلف المرصدي بنظر بلكين وعسكر ظاهر المنصورية آخر شوال من سنة إحدى وستين وأقام على سردانية قريبا من القيروان حتى فرغ من أعماله ولحقته عساكره وأهل بيته وعماله وحمل له ما كان في قصره من الأموال والأمتعة و ارتحل بعد أربعة أشهر من مقامه و سار معه بلكين قليلا ثم ودعه و رده إلى عمله و سار هو إلى طرابلس في عساكره و هرب بعضهم إلى جبل نفوسة قامتنعوا بها و سار إلى برقة فقتل بها شاعره محمد بن هانيء الأندلسي وجد قتيلا بجانب البحر في آخر رجب من سنة اثنتين وستين ثم سار إلى الإسكندرية وبلغها في شعبان من هذه السنة ولقيه بها أعيان مصر فأكرمهم و وصلهم و سار فدخل القاهرة لخمس من رمضان من هذه السنة فكانت منزله و منزل الخلفاء بعده إلى آخر دولتهم (4/62)
حروب المعز مع القرامطة واستيلاؤه على دمشق
كان للقرامطة على بني طفج بدمشق ضريبة يؤدونها إليهم فلما ملك ابن فلاح بدعوة المعز قطع تلك الضريبة و آسفهم بذلك فرجعوا إلى دمشق و عليهم الأعصم ملكهم فبرز إليهم جعفر بن فلاح فهزموه وقتلوه و ملكوا دمشق و ما بعدها إلى الرملة وهرب من كان بالرملة و تحصنوا بيافا وملك القرامطة الرملة و جهزوا العساكر على يافا و ساروا إلى مصر ونزلوا عين شمس و هي المعروفة لهذا العهد بالمطرية و اجتمع إليهم خلق كثير من العرب و أولياء بني طفج و حاصروا المغاربة بالقاهرة و قاتلوهم أياما فكان الظفر بهم ثم خرج المغاربة واستماتوا وهزمهم فرحلوا إلى الرملة و ضيقوا حصار يافا و بعث إليهم جعفر بالمدد في البحر فأخذه القرامطة و انتهى الخبر إلى المعز بالقيروان و جاء إلى مصر و دخلها كما ذكرناه و سمع أنهم يريدون المسير إلى مصر فكتب إلى الأعصم يذكره فضل بنيه و أنهم إنما دعوا له و لآبائه و بالغ في وعظه و تهدده فأساء في جوابه و كتب إليه : وصل كتابك الذي قل تحصيله و كثر تفصيله و نحن سائرون إليك و السلام و سار من الأحساء إلى مصر و نزل عين شمس في عساكره واجتمع إليه الناس من العرب وغيرهم وجاء حسان بن الجراح في جموع عظيمة من طيء و بث سراياه في البلاد فعاثوا فيها وأهم المعز شأنه فراسل ابن الجراح واستماله بمائة ألف دينار على أن ينهزم على القرامطة و استحلفوه على ذلك وخرج المعز ليوم عينوه لذلك فانهزم ابن الجراح بالعرب و ثبت القرامطة قليلا ثم انهزموا و أخذ منهم نحو ألف و خمسمائة أسير و قتلوا صبرا و نهب معسكرهم و جرد المعز القائد أبا محمود في عشرة آلاف فارس و ساروا في اتباعهم و لحق القرامطة باذرعات و ساروا منها إلى الأحساء و بعث المعز القائد ظالم بن موهوب العقيلي واليا على دمشق فدخلها و كان العامل بها من قبل القرامطة أبو اللجاء و ابنه في جماعة منهم فحبسهم ظالم و أخذ أموالهم و رجع القائد أبو محمود من اتباع القرامطة إلى دمشق فتلقاه ظالم و سر بقدومه و سأله المقام بظاهر دمشق حذرا من القرامطة ففعل و دفع أبا اللجاء و ابنه فبعث بهم إلى مصر فحبسوا بها و عاث أصحاب أبي محمود في دمشق فاضطرب الناس و قتل صاحب الشرطة بعضهم فثاروا به و قتلوا أصحابه و ركب ظالم بذراريهم و أجفل أهل الضواحي إلى البلد من عيث المغاربة ثم وقعت في منتصف شوال من سنة ثلاث و ستين فتنة بين العامة وبين عسكر أبي محمود و قاتلوه أياما ثم هزمهم و تبعهم إلى البلد و كان ظالم بن موهوب يداري العامة فأشفق في هذا اليوم على نفسه وخرج من دار الإمارة و أحرق المغاربة ناحية باب الفراديس و مات فيها خلق و اتصلت الفتنة إلى ربيع الآخر من سنة أربع و ستين ثم وقع الصلح بينهم على إخراج ظالم من البلد و ولاية جيش بن الصمصامة بن أخت أبي محمود فسكن الناس إليه ثم رجع المغاربة إلى العيث و عاد العامة إلى الثورة و قصدوا القصر الذي فيه جيش فهرب و لحق بالعسكر و زحف إلى البلد فقاتلهم و أحرق ما كان بقي و قطع الماء عن البلد فضاقت الأحوال و بطلت الأسواق و بلغ الخبر إلى المعز فنكر ذلك على أبي محمود و استعظمه وبعث إلى زياد الخادم في طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لاستكشاف حالها و أن يصرف القائد أبا محمود عنها فصرفه إلى الرملة و بعث إلى المعز بالخبر و أقام بدمشق إلى أن وصل أفتكين واليا على دمشق و كان أفتكين هذا من موالي عز الدولة بن بويه و لما ثار الأتراك على ابنه بختيار مع سبكتكين و مات سبكتكين قدمه الأتراك عليهم و حاصروا بختيار بواسط وجاء عضد الدولة لإنجاده فاجفلوا عن واسط فتركوه ببغداد و سار أفتكين في طائفة من الجند إلى حمص فنزل قريبا منها و قصده ظالم بن موهوب العقيلي ليقبضه فعجز عنه و سار أفتكين فنزل بظاهر دمشق و بها زياد خادم المعز و قد غلب عليه وعلى أعيان البلد الأحداث و الذعار فلم يملكوا معهم أمر أنفسهم فخرج الأعيان إلى أفتكين و سألوا منه الدخول إليهم ليولوه و شكوا إليه حال المغاربة و ما يحملونهم عليه من عقائد بعض الرفض و ما أنزل بهم عمالهم من الظلم و العسف فأجابهم واستحلفهم و حلف لهم و ملك البلد و خرج منها زياد الخادم و قطع خطبة المعز العلوي و خطب للطائع العباسي و قمع أهل الفساد و دفع العرب عما كانوا استولوا عليه من الضواحي و استقل ملك دمشق و كاتب المعز بطلب طاعته و ولايتها من قبله فلم يثق إليه و رده و تجهز لقصده و جهز العساكر فتوفي بعسكره ببلبيس كما يذكر (4/63)
وفاة المعز و ولاية ابنه العزيز
ثم توفي المعز بمصر في منتصف ربيع الآخر سنة خمس و ستين لثلاث و عشرين سنة من خلافته و ولي ابنه نزار بعهده إليه و وصيته و لقب العزيز بالله و كتم موت أبيه إلى عيد النحر من السنة فصلى بالناس و خطبهم و دعا لنفسه و عزى بأبيه و أقر يعقوب بن كلس على الوزارة كما كان أيام أبيه و أقر بلكين بن زيري على ولاية أفريقية و أضاف إليه ولاية عبد الله بن يخلف الكتامي و هي طرابلس و سرت وجرابيه و كان أهل مكة والمدينة قد خطبوا للمعز أبيه في الموسم فتركوا الخطبة للعزيز فبعث جيوشه إلى الحجاز فحاصروا مكة والمدينة وضيقوا عليهم حتى رجعوا إلى دعوتهم و خطب العزيز بمكة و كان أمير مكة عيسى بن جعفر و المدينة طاهر بن مسلم و مات في هذه السنة فولى ابنه الحسن وابن أخيه مكانه (4/65)
بقية أخبار أفتكين
و لما توفي المعز و ولي العزيز قام أفتكين و قصد البلاد التي لهم بساحل الشام فبدأ بصيدا فحاصرها و بها ابن الشيخ في رؤوس المغاربة و ظالم بن موهوب العقيلي فبرزوا إليه و قاتلوه فاستنجد لهم ثم كر عليهم و أوقع بهم و قتل منهم أربعة آلاف و سار إلى عكة فحاصرها و قصد طبرية و فعل فيها مثل صيدا و رجع و استشار العزيز و زيره يعقوب بن كلس فأشار بإرسال جوهر الكاتب إليه فجهزه العزيز و بعثه و أقبل أفتكين على أهل دمشق يريهم التحول عنهم و يذكرهم بذلك ليختبرهم فتطارحوا إليه و استماتوا و استحلفهم على ذلك و وصل جوهر في ذي القعدة سنة خمس و ستين فحاصر دمشق شهرين و ضيق حصارها و كتب أفتكين إلى الأعصم ملك القرامطة يستنجده فسار إليه من الأحساء و اجتمع إليهم من رجال الشام و العرب نحو من خمسين ألفا و أدركوا جوهرا بالرملة و قطعوا عنه الماء فارتحل إلى عسقلان فحاصروه بها حتى بلغ الجهد و أرسل جوهر إلى أفتكين بالمغاربة و الوعد والقرمطي يمنعه ثم سأله في الاجتماع فجاءه أفتكين و لم يزل جوهر يعتل له في الدروة و الغارب و أفتكين يعتذر بالقرمطي و يقول أنت حملتني على مداراته فلما أيس منه كشف لهم عماهم فيه من الضيق و سأله الصنيعة و أنها يتخذها عند العزيز فحلف له على ذلك و عزله القرمطي و أراه جوهر أن يحمل العزيز على المسر بنفسه فصم من عزله و أبى إلا الوفاء و انطلق جوهر إلى مصر و أغرى العزيز بالمسير إليهم فتجهز في العسا كر و سار و جوهر في مقدمته و رجع أفتكين و القرمطي إلى الرملة و احتشدوا و وصل العزيز فاصطفوا للحرب بظاهر الرملة في محرم سنة سبع و ستين و بعث العزيز إلى أفتكين يدعوه إلى الطاعة و يرغبه و يعده بالتقدم في دولته و يدعوه إلى الحضور عنده فتقدم بين ا لصفين و ترجل و قبل الأرض و قال : قل لأمير المؤمنين لو كان قبل هذه لسارعت و أما الآن فلا يمكنني وحمل على الميسرة فهزمهم و قتل الكثير منهم فامتعض العزيز و حمل هو و الميمنة جميعا فهزمهم و وضع المغاربة السيف فقتلوا نحوا من عشرين ألفا ثم نزل في خيامه و جيء بالأسرى فخلع على من جاء بهم و بذل لمن جاء بأفتكين مائة ألف دينار فلقيه المفرج بن دغفل الطائي و قد جهده العطش فاستسقاه فسقاه و تركه بعرشه مكرما و جاء إلى العزيز فأخبره بمكانه وأخذ المائة ألف التي بذلها فيه و أمكنه من قياده و لما حضر عند العزيز و هو لا يشك أنه مقتول أكرمه العزيز و وصله و نصب له الخيام و أعاد إليه ما نهب له و رجع به إلى مصر فجعله أخص خدمه و حجابه و بعث إلى الأعصم القرمطي من يرده إليه ليصله كما فعل بأفتكين فأدرك بطبرية و امتنع من الرجوع فبعث إليه بعشرين ألف دينار و فرضها له ضريبة و سار القرمطي إلى الأحساء و عاد العزيز إلى مصر و رقى رتبة أفتكين و خص به الوزير يعقوب بن كلس فسمه و سمع العزيز بأنه سمه فحبسه أربعين يوما و صادره على خمسمائة ألف دينار ثم خلع عليه و أعاده إلى وزارته و توفي جوهر الكاتب في ذي القعدة من سنة إحدى و ثمانين وقام ابنه الحسن مقامه و لقب قائد القواد و كان أفتكين قد استخلص أيام وزارته بدمشق رجلا اسمه قسام فعلا صيته و كثر تابعه و استولى على البلد و لما انهزم أفتكين و القرامطة بعث العزيز القائد أبا محمود بن إبراهيم واليا على دمشق كما كان لأبيه المعز فوجد فيها قساما قد ضبط البلد و هو يدعو للعزيز فلم يتم له معه ولاية و بقي قسام مستبدا عليه إلى أن مات أبو محمود سنة سبعين ثم جاء أبو ثعلب بن حمدان صاحب الموصل إلى دمشق عند انهزامه أمام عضد الدولة فمنعه قسام من الدخول و خاف أن يغلبه على البلد بنفسه أو بأمر العزيز و استوحش أبو ثعلب لذلك فقاتله قليلا ثم رحل إلى طبرية و جاءت عساكر العزيز مع قائده الفضل فحاصروا قساما بدمشق و لم يظفروا به و رجعوا ثم بعث العزيز سنة تسع و ستين سليمان بن جعفر بن فلاح فنزل بظاهرها و لم يمكنه قسام من دخولها و دس إلى الناس فقاتلوه و أزعجوه عن مكانه وكان مفرج بن الجراح أمير بني طيء و سائر العرب بأرض فلسطين قد كثرت جموعه و قويت شوكته و عاث في البلاد و خربها فجهز العزيز العساكر لحربه مع قائدة بلتكين التركي فسار إلى الرملة واجتمع إليه العرب من قيس و غيرهم و لقي ابن الجراح و قد أكمن لهم بلتكين من ورائهم فانهزم و مضى إلى أنطاكية فأجاره صاحبها و صادف خروج ملك الروم من القسطنطينية إلى بلاد الشام فخاف ابن الجراح و كاتب بكجور مولى سيف الدولة و عامله على حمص و لجأ إليه فأجاره ثم زحف بلتكين إلى دمشق و أظهر لقسام أنه جاء لإصلاح البلد و كان مع قسام جيش ابن الصمصامة ابن أخت أبي محمود قد قام بعده في ولايته فخرج إلى بلتكين فأمره بالنزول معه بظاهر البلد هو و أصحابه و استوحش قسام و تجهز للحرب ثم قاتل و انهزم أصحابه و دخل بلتكين أطراف البلد فنهبوا و أحرقوا و اعتزم أهل البلد على الإستئمان إلى بلتكين و شافهوه بذلك فأذن لهم و سمع قسام فاضطرب و ألقى ما بيده و استأمن الناس إلى بلتكين لأنفسهم و لقسام فأمن الجميع و ولى على البلد أميرا اسمه خطلج فدخل البلد و ذلك في المحرم سنة اثنتين و سبعين ثم اختفى قسام بعد يومين فنهبت دوره و دور أصحابه و جاء ملقيا بنفسه على بلتكين فقبله و حمله إلى مصر فأمنه العزيز و كان بكجور فى غوية من غلمان سيف الدولة و عامله على حمص و كان يمد دمشق أيام هذه الفتنة و الغلاء و يحمل الأقوات من حمص إليها و يكاتب العزيز بهذه الخدم ثم استوحش سنة ثلاث و سبعين من مولاه أبي المعالي فاستنجز من العزيز وعده إياه بولاية دمشق و صادف ذلك أن المغاربة بمصر أجمعوا على التوثب بالوزير ابن كلس و دعت الضرورة إلى استقدام بلتكين من دمشق فأمره العزيز بالقدوم و ولاية بكجور على دمشق ففعل و دخلها بكجور في رجب من سنة ثلاث و سبعين و عاث في أصحاب ابن كلس و حاشيته بدمشق لما كان يبلغه عنه من صد العزيز عن ولايته ثم أساء السيرة في أهل دمشق فسعى ابن كلس في عزله عند العزيز و جهز العساكر سنة ثمان و سبعين مع منير الخادم و كتب إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته و جمع بكجور العرب و خرج للقائه فانهزم ثم خاف من وصول نزال فاستأمن لهم و توجه إلى الرقة فاستولى عليها و دخل منير دمشق و استقر في ولايتها و ارتفعت منزلته عند العز يز و جهزه لحصار سعد الدولة بحلب و كان بكجور بعد انصرافه من دمشق إلى الرقة سأل من سعد الدولة العود إلى ولاية حمص فمنعه فأجلب عليه و استنجد العزيز لحربه و بعث إلى نزال عامل طرابلس بمظاهرته فسار إليه بالعساكر و خرج سعد الدولة بن حلب للقائهم و قد أضمر نزال الغدر ببكجور و تقدم إليه بذلك عيسى بن نسطورس وزير العزيز بعد ابن كلس و جاء سعد الدولة للقائهم و قد استمد عامل أنطاكية للروم فأمده بجيش كثير و داخل العرب الذين مع بكجور في الإنهزام عنه و وعدوه بذلك من أنفسهم فلما تراءى الجمعان و شعر بكجور بخديعة العرب فاستمات و حمل على الصف بقصد سعد الدولة فقتل لؤلؤ الكبير مولاه بطعنه إياه ثم حمل عليه سعد الدولة فهزمه فسار إلى بعض العرب و حمل إلى سعد الدولة فقتله و سار إلى الرقة فملكها و قبض جميع أمواله و كانت شيئا لا يعبر عنه و كتب أولاده إلى العزيز يستشفعون به فشفع إلى سعد الدولة فيهم أن يبعثهم إلى مصر و يتهدده على ذلك فأساء سعد الدولة الرد و جهز لحصار حلب الجيوش مع منجوتكين فنزل عليها و حاصرها و بها أبو الفضائل بن سعد الدولة و مولاه لؤلؤ الصغير و أرسلا إلى بسيل ملك الروم يستنجدانه و هو في قتال بلغار فبع إن عامل أنطاكية أن يمدها فسار في خمسين ألفا حتى نزل حبس العاصي وبلغ خبره إلى منجوتكين فارتحل عن حلب و لقي الروم فهزمهم و أثخن فيهم قتلا و أسرا و سار إلى أنطاكية و عاث في نواحيها و خرج أبو الفضائل في مغيب منجوتكين إلى ضواحي حلب فنقل ما فيها من الغلال و أحرق بقيتها لتفقد عساكر منجوتكين الأقوات فلما عاد منجوتكين إلى الحصار جهز عسكره و أرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي في الصلح فعقد له ذلك و رحل منجوتكين إلى دمشق و بلغ الخبر إلى العزيز فغضب و كتب إلى منجوتكين بالعود إلى حصار حلب و إبعاد الوزير المغربي و أنفذ الأقوات للعسكر في البحر إلى طرابلس وأقام منجوتكين في حصار حلب و أعادوا مراسلة ملك الروم فاستنجدوه و أغروه و كان قد توسط بلاد البلغار فعاد مجدا في السير و بعث لؤلؤ إلى منجوتكين بالخبر حذرا على المسلمين و جاءته جواسيسه بذلك قأجفل بعد أن خرب ما كان اتخذه في الحصار من الأسواق و القصور و الحمامات و وصل ملك الروم إلى حلب و لقي أبا الفضائل و لؤلؤا ثم سار في الشام و افتتح حمص و شيزر و نهبها و حاصر طرابلس أربعين يوما فامتنعت عليه و عاد إلى بلاده و بلغ الخبر إلى للعزيز فعظم عليه واستنفر الناس للجهاد وبرز من القاهرة ذلك سنة إحدى و ثمانين ثم انتقض منير في دمشق فزحف إليه منجوتكين إلى دمشق (4/66)
أخبا ر الوزراء
كان وزير المعز لدين الله يعقوب بن يوسف بن كلس أصله من اليهود و أسلم و كان يدبر الأحوال الأخشيدية بمصر و عزله أبو الفضائل بن الفرات سنة سبع و خمسين و صادره فاستتر بمصر ثم فر إلى المغرب و لقي المعز لدين الله و جاء في ركابه إلى مصر فاستوزره و عظم مقامه عنده و استوزره بعده ابنه العزيز إلى أن توفي سنة ثمانين و صلى عليه العزيز و حضر دفنه و قضى عنه دينه و قسم عمله فرد النظر في الظلامات إلى الحسن بن عقار كبير كتامة و رد النظر في الأموال إلى عيسى بن نسطورس و لم تزل الوزارة سائر دولتهم في أرباب الأقلام و كانوا بمكان و كان منهم البارزي و كان مع الوزارة قاضي القضاة و داعي الدعاة و سأل أن يرسم اسمه على السكة فغرب و منع و مات قتيلا بتنيس و أبو سعيد النسري و كان يهوديا و أسلم قبل و زارته و الجرجاني و قطع الجرجاني في أمر منع من الكتب فيه فكتب و حلف الحاكم بيمين لا تكفر ليقطعنه ثم رده بعد ثلاث و خلع عليه و ابن أبي كدينة ثلاثة عشر شهرا ثم صرف و قتل و أبو الطاهر بن ياشاد و كان من أهل الدين و استعفى فا عفي و أقام معتكفا في جامع مصر و سقط ليلة من السطح فمات و كان آخرهم الوزير أبو القاسم بن المغربي و كان بعده بدر الجيالي أيام المستنصر وزير سيف الدولة و استبد له على الدولة ومن بعده منهم كما يأتي في أخبارهم (4/70)
أخبار القضاة
كان النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيون في خطة القضاء للمعز بالقيروان و لما جاء إلى مصر أقام بها في خطة القضاء إلى أن توفي و ولي ابنه علي ثم توفي سنة أربع و سبعين و ثلثمائة فولى العزيز أخاه أبا عبد الله محمدا خلع عليه و قلده سيفا و كان المعز قد وعد أباه بقضاء ابنه محمد هذا بمصر و تم في سنة تسع و ثمانين أيام الحاكم و كان كبير الصيت كثير الإحسان شديد الاحتياط في العدالة فكانت أيامه شريفة و ولي بعده ابن عمه أبو عبد الله الحسين بن علي بن النعمان أيام الحاكم ثم عزل سنة أربع و تسعين و قتل و أحرق بالنار و ولي مكانه ملكة بن سعيد الفارقي إلى أن قتله الحاكم سنة خمس و أربعمائة بنواحي القصور و كان عالي المنزلة عند الحاكم و مداخلا له في أمور الدولة و خالصة له في خلواته و ولى بعده أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي العوام و اتصل في آخرين إلى آخر دولتهم كان كثيرا ما يجمعون للقاضي المظالم و الدعوة فيكون داعي الدعاة و ربما يفردون كلا منهما و كان القاضي عندهم يصعد مع الخليفة المنبر مع من يصعده من أهل دولته عندما يخطب الخلفاء في الجمع والأعياد (4/70)
وفاة المعز و ولاية ابنه الحاكم
قد تقدم لنا أن العزيز استنفر الناس للجهاد سنة إحدى و ثمانين و برز في العساكر لغزو الروم و نزل بلبيس فاعتورته الأمراض و اتصلت به إلى أن هلك آخر رمضان سنة ست و ثمانين لإحدى عشرة سنة و نصف من خلافته و لقب الحاكم بأمر الله و استولى برجوان الخادم على دولته كما كان لأبيه العزيز بوصيته بذلك و كان مدبر دولته و كان رديفه في ذلك أبو محمد الحسن بن عمار و يلقب بأمين الدولة و تغلب على ابن عمار و انبسطت أيدي كتامة في أموال الناس و حرمهم ونكر منجوتكين تقديم ابن عمار في الدولة و كاتب برجوان بالموافقة على ذلك فأظهر الانتقاض و جهز العساكر لقتاله مع سليمان بن جعفر بن فلاح فلقيهم بعسقلان و انهزم منجوتكين و أصحابه و قتل منهم ألفين و سيق أسيرا إلى مصر فأبقى عليه ابن عمار و استماله للمشارقة و عقد على الشام لسليمان بن فلاح و يكنى أبا تميم فبعث من طبرية أخاه عليا إلى دمشق فامتنع أهلها فكاتبهم أبو تميم و تهددهم و أذعنوا و دخل على البلد ففتك فيهم ثم قدم أبو تميم فأمن و أحسن و بعث أخاه عليا إلى طرابلس و عزل عنها جيش بن الصمصامة فسار إلى مصر و داخل برجوان في الفتك بالحسن بن عمار و أعيان كتامة و كان معهما في ذلك شكر خادم عضد الدولة نزع إلى مصر بعد مهلك عضد الدولة و نكبة أخيه شرف الدولة إياه فخلص إلى العزيز فقربه و حظي عنده فكان مع برجوان و جيش بن الصمصامة و ثارت الفتنة و اقتتل المشارقة و المغاربة فانهزمت المغاربة و اختفى ابن عمار و أظهر برجوان الحاكم و جدد له البيعة و كتب إلى دمشق بالقبض على أبي تميم بن فلاح فنهب ونهبت خزائنه و استمر القتل في كتامة و اضطربت الفتنة بدمشق و استولى الأحداث ثم أذن برجوان لابن عمار في الخروج من أستاره و أجرى له أرزاقه على أن يقيم بداره و اضطرب الشام فانتقض أهل صور و قام بها رجل ملاح اسمه العلاقة و انتقض مفرج بن دغفل بن الجراح و نزل على الرملة و عاث في البلاد و زحف الدوقش ملك الروم إلى حصن أفامية محاصرا لها و جهز برجوان العساكر مع جيش بن الصمصامة فسار إلى عبد الله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدون و أسطولا في البحر و استنجد العلاقة ملك الروم فأنجده بالمقاتلة في المراكب فظفر بهم أسطول المسلمين و اضطرب أهل صور و ملكها ابن حمدان و أسر العلاقة و بعث به إلى مصر فسلخ و صلب و سار جيش بن الصمصامة إلى المفرج بن دغفل فهرب أمامه و وصل إلى دمشق و تلقاه أهلها مذعنين و أحسن إليهم و سكنهم و رفع أيدي العدوان عنهم ثم سار إلى أفامية و صاف الروم عندها فانهزم أولا هو و أصحابه و ثبت بشارة أخشيدي بن قرارة في خمس عشرة فارسا و وقف الدوقش ملك الروم على رابية في ولده و عدة من غلمانه ينظر فعل الروم في المسلمين فقصد كردي من مصاف الأخشيدي و بيده عصا من حديد يسمى الخشت و ظنه الملك مستأمنا فلما دنا منه ضربه بالخشت فقتله و انهزم الروم و أتبعهم جيش بن الصمصامة إلى أنطاكية يغنم ويسبي و يحرق ثم عاد مظفرا إلى دمشق فنزل بظاهرها و لم يدخل و استخلص رؤساء الأحداث و استحجبهم و أقيم له الطعام في كل يوم و أقام على ذلك برهة ثم أمر أصحابه إذا دخلوا للطعام أن يغلق باب الحجرة عليهم و يوضع السيف في سائرهم فقتل منهم ثلاثة آلاف و دخل دمشق و طاف بها و أحضر الأشراف فقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم و بعث بهم إلى مصر و أمن الناس ثم إنه توفي و ولى محمود بن جيش و بعث برجوان إلى بسيل ملك الروم فصالحه لعشر سنين و في جيشا إلى برقة و طرابلس المغرب ففتحها و ولى عليها يانسا الصقلي ثم ثقل مكان برجوان على الحاكم فقتله سنة تسع و ثمانين و كان خصيا أبيض و كان له وزير نصراني استوزره الحاكم من بعده ثم قتل الحسين بن عنار ثم الحسين بن جوهر القائد ثم جهز العساكر مع يارخنكين إلى حلب و قصد حسان بن فرج الطائي لما بلغ من عيثه و فساده فلما رحل من غزوه إلى عسقلان لقيه حسان و أبوه مفرج فانهزم و قتل و نهبت النواحي و كثرت جموع بني الجراح و ملكوا الرملة و استقدموا الشريف أبا الفتوح الحسن بن جعفر أمير مكة فبايعوه بالخلافة ثم استمالهما الحاكم و رغبهما فرداه إلى مكة و راجعا طاعة الحاكم و راجع هو كذلك و خطب له بمكة ثم جهز الحاكم العساكر إلى الشام مع علي بن جعفر بن فلاح و قصد الرملة فانهزم حسان بن مفرج و قومه و غلبهم على تلك البلاد و استولى على أموالهم و ذخائرهم و أخذ ما كان لهم من الحصون بجبل السراة و وصل إلى دمشق في شوال سنة تسعين فملكها و استولى عليها و أقام مفرج و ابنه حسان شريدين بالقفر نحوا من سنتين ثم هلك مفرج و بعث حسان ابنه إلى الحاكم فأمنه وأقطعه ثم وفد عليه بمصر فأكرمه و وصله (4/71)
خروج أبي ركوة ببرقة و الظفر به
كان أبو ركوة هذا يزعم أنه الوليد بن هشام بن عبد الملك بن عبد الرحمن الداخل و أنه هرب من المنصور بن أبي عامر حين تتبعهم بالقتل و هو ابن عشرين سنة و قصد القيروان فأقام بها يعلم الصبيان ثم قصد مصر و كتب الحديث ثم سارإلى مكة و اليمن و الشام و كان يدعو للقائم من ولد أبيه هشام و اسمه الوليد و إنما لقبه أبا ركوة لأنه كان يحملها لوضوئه على عادة الصوفية ثم عاد إلى نواحي مصر و نزل على بني قرة من بادية هلال بن عامر و أقام يعلم الصبيان و يؤمهم في صلاتهم ثم أظهر ما في نفسه و دعا للقائم و كان الحاكم قد أسرف في القتل في أصناف الناس و طبقاتهم و الناس معه على خطر و كان قتل جماعة من بني قرة و أحرقهم بالنار لفسادهم فبادر بنو قرة و كانوا في أعمال برقة فأجابوه و انقادوا له و بايعوا و كان بينهم و بين لواتة و مزاتة و زناتة جيرانهم في الأصل حروب و دماء فوضعوها و اتفقوا على بيعته و كتب عامل برقة أنيال الطويل بخبرهم إلى الحاكم فأمره بالكف عنهم ثم اجتمعوا و ساروا إلى برقة فهزموا العامل برمادة و ملكوا برقة و غنموا الأموال و السلاح و قتلوه و أظهر أبو ركوة العدل و بلغ الخبر إلى الحاكم فاطمأنت نفسه و كف عن الأذى و القتل و جهز خمسة آلاف فارس مع القائد أبي الفتوح الفضل بن صالح فبلغ ذات الحمام و بينها و بين برقة مفازة صعبة معطشة و أمر أبو ركوة من غور المياه التي فيها على قلبها ثم سار للقائهم بعد خروجهم من المفازة على جهد العطش فقاتلهم و نال منهم و ثبت أبو ركوة و استأمن إليه جماعة من كتامة لما نالهم من أذى الحاكم و قتله فأمنهم و لحقوا به و انهزمت عساكر الحاكم و قتل خلق كثير منهم و رجع أبو ركوة إلى برقة ظافرا و ردد البعوث و السرايا إلى الصعيد و أرض مصر و أهم الحاكم أمره و ندم على ما فرط و جهز علي بن فلاح العساكر لحربهم و كاتب الناس أبا ركوة يستدعونه و ممن كتب إليه الحسن بن جوهر قائد القواد و بعثهم في ستة عشر ألف مقاتل سوى العرب و بعث أخاه في سرية فواقع بني قرة و هزمهم و قتل من شيوخهم عبد العزيز بن مصعب و رافع بن طراد و محمد بن أبي بكر و استمال الفضل بني قرة فأجابه ماضي بن مقرب من أمرائهم و كان يطالعه بأخبارهم و بعث علي بن فلاح عسكرا إلى الفيوم فكبسه بنو قرة و هزموه و نزل أبو ركوة بالهرمين و رجع من يومه ثم رحل الفضل إلى الفيوم لقتالهم فواقعهم برأس البركة و هزمهم و استأمن بنو كلاب و غيرهم و رجع علي بن فلاح و تقدم الفضل لطلب أبي ركوة و خذل ماضي بن مقرب بني قرة عن أبي ركوة فقالوا له أنج بنفسك إلى بلد النوبة و وصل إلى تخومهم و قال : أنا رسول الحاكم فقالوا لابد من استئذان الملك فوكلوا به و طالعوا الملك بحقيقة الحال و كان صغيرا قد ولي بعد سرقة أبيه و بعث إليه الفضل بشأنه و طلبه فكتب إلى شجرة بن منيا قائد الخيل بالثغر بأن يسلمه إلى نائب الحاكم فجاء به رسول الفضل و أنزله الفضل في خيمة و حمله إلى مصر فطيف به على جمل لابسا طرطورا و خلفه قرد يصفعه ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل فمات قبل وصوله و قطع رأسه و صلب و بالغ الحاكم في إكرام الفضل و رفع مرتبته ثم قتله بعد ذلك و كان ظفر الحاكم بأبي ركوة سنة سبع وتسعين (4/73)
بقية أخبار الحاكم
كان الحسن بن عمار زعيم كتامة مدبر دولته كما ذكرناه و كان برجوان خادمه و كافله و كان بين الموالي و الكتاميين في الدولة منافسة و كان كثيرا ما يفضى إلى القتال و اقتتلوا سنة سبع و ثمانين و أركب المغاربة ابن عمار و الموالي برجوان و كانت بينهم حروب شديدة ثم تحاجزوا و اعتزل ابن عمار الأمور و تخلى بداره عن رسومه و جراياته و تقدم برجوان بتدبير الدولة و كان كاتب بن فهر بن إبراهيم يربع و ينظر في الظلامات و يطالعه و ولى على برقة يانس صاحب الشرطة مكان صندل ثم قتل برجوان سنة تسع و ثمانين و رجع التدبير إلى القائد أبي عبد الله الحسين بن جوهر و بقي ابن فهر على حاله و في سنة تسعين انقطعت طرابلس عن منصور بن بلكين بن زيري صاحب أفريقية و ولى عليها يانس العزيزي من موالي العزيز فوصل إليها و أمكنه عامل المنصور منها و هو عصولة بن بكار و جاء إلى الحاكم بأهله و ولده و ماله و أطلق يد يانس على مخلفه بطرابلس يقال كان له من الولد نيف و ستون بين ذكر و أنثى و من السراري خمس و ثلاثون فتلقي بالمبرة و هيىء له القصور و رتب له الجراية و قلده دمشق و أعمالها فهلك بها لسنة من ولايته و في سنة اثنتين و تسعن وصل الصريخ من جهة فلفول بن خزرون المغراوي في ارتجاع طرابلس إلى منصور بن بلكين فجهزت العساكر مع يحيى بن علي الأندلسي الذي كان جعفر أخوه عامل الزاب للعبيديين و نزع ابني أمية وراء البحر و لم يزل هو و أخوه في تصريفهم إلى أن قتل المنصور بن أبي عامر جعفرا منهما و نزع أخوه يحيى إلى العزيز بمصر فنزل عليه و تصرف في خدمته و بعثه الآن الحاكم في العساكر لما قدمناه فاعترضه بنو قرة ببرقة ففضوا جموعه و رجع إلى مصر و سار يانس من برقة إلى طرابلس فكان من شأنه مع عصولة ما ذكرناه و بعد وفاة عصولة ولي على دمشق مفلح الخادم و بعده علي بن فلاح سنة ثمان و تسعين و بعد مسير يانس ولي على برقة صندل الأسود و في سنة ثمان و تسعين عزل الحسين بن جوهر القائد وقام بتدبير الدولة صالح بن علي بن صالح الروباذي ثم نكب حسين القائد بعد ذلك و قتل ثم قتل صالح بعد ذلك و قام بتدبير الدولة الكافي بن نصر بن عبدون و بعده زرعة بن عيسى بن نسطورس ثم أبو عبد الله الحسن بن طاهر الوزان و كثر عيث الحاكم في أهل دولته و قتله إياهم مثل الجرجراي و قطعه أيديهم حتى أن كثيرا منهم كانوا يهربون من سطوته و آخرون يطلبون الأمان فيكتب لهم به السجلات و كان حاله مضطربا في الجور و العدل و الإخافة و الأمن و النسك و البدعة و أما ما يرمي به من الكفر و صدور السجلات بإسقاط الصلوات فغير صحيح و لا يقوله ذو عقل و لو صدر من الحاكم بعض ذلك لقتل لوقته و أما مذهبه في الرافضة فمعروف و لقد كان مضطربا فيه مع ذلك فكان يأذن في صلاة التراويح ثم ينهي عنها و كان يرى بعلم النجوم و يؤثره و ينقل عنه أنه منع النساء من التصرف في الأسواق و منع من أكل الملوخيا و رفع إليه أن جماعة من الروافض تعرضوا لأهل السنة في التراويح بالرجم و في الجنائز فكتب في ذلك سجلا قرىء على المنبر بمصر كان فيه : أما بعد فإن أمير المؤمنين يتلوا عليكم آية من كتاب الله المبين { لا إكراه في الدين } الآية مضى أمس بما فيه و أتى اليوم بما يقتضيه معاشر المسلمين نحن الأئمة وأنتم الأمة لا يحل قتل من شهد الشهادتين و لا يحل عروة بين اثنين تجمعها هذه الأخوة عصم الله بها من عصم و حرم لها ما حرم من كل محرم من دم و مال و منكح الصلاح والأصلح بين الناس أصلح و الفساد و الإفساد من العباد يستقبح يطوى ما كان فيما مضى فلا ينشر و يعرض عما انقضى فلا يذكر و لا يقبل على ما مر و أدبر من إجراء الأمور على ما كانت عليه في الأيام الخالية أيام آبائنا الأئمة المهتدين سلام الله عليهم أجمعين مهديهم بالله و قائمهم بأمر الله و منصورهم بالله و معزهم لدين الله و هو إذ ذاك بالمهدية و المنصورية و أحوال القيروان تجري فيها ظاهرة في خفية ليست بمستورة عنهم و لا مطوية يصوم الصائمون على حسابهم و يفطرون و لا يعارض أهل الرؤية فيما هم عليه صائمون و مفطرون صلاة الخمس للدين بها جاءهم فيها يصلون و صلاة الضحى و صلاة التراويح لا مانع لهم منها و لا هم عنها يدفعون يخمس في التكبر على الجنائز المخمسون و لا يمنع من التكبير عليها المربعون يؤذن بحي على خير العمل المؤذنون و لا يؤذى من بها لا يؤذنون لا يسب أحد من السلف و لا يحتسب على الواصف فيهم بما يوصف و الخالف فيهم بما خلف لكل مسلم مجتهد في دينه اجتهاده و إلى الله ربه ميعاده عنده كتابه و عليه حسابه ليكن عباد الله على مثل هذا عملكم منذ اليوم لا يستعلى مسلم على مسلم بما اعتقده و لا يعترض معترض على صاحبه فيما اعتمده من جميع ما نصه أمير المؤمنين في سجله هذا و بعده قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون } و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته كتب في رمضان سنة ثلاث و تسعين و ثلثمائة (4/75)
وفاة الحاكم و ولاية الظاهر
ثم توفي الحاكم بأمر الله منصور بن العزيز نزار قتيلا ببركة الحبش بمصر و كان يركب الحمار و يطوف بالليل و يخلو بدار في جبل المقطم للعبادة و يقال لاستنزال روحانية الكواكب فصعد ليلة من ليالي لثلاث بقين من شوال سنة إحدى عشرة ركب على عادته و مشى معه راكبان فردهما واحدا بعد آخر في تصاريف أموره ثم افتقد و لم يرجع و أقاموا أياما في انتظاره ثم خرج مظفر الصقلي و القاضي و بعض الخواص إلى الجبل فوجدوا حماره مقطوع اليدين و اتبعوا أثره إلى بركة الحبش فوجدوا ثيابه مزررة و فيها عدة ضربات بالسكاكين فأيقنوا بقتله و يقال إن أخته بلغه أن الرجال يتناوبون بها فتوعدها فأرسلت إلى ابن دواس من قواد كتامة و كان يخاف الحاكم فأغرته بقتله و هونته عليه لما يرميه به الناس من سوء العقيدة فقد يهلك الناس و نهلك معه و وعدته بالمنزلة و الاقطاع فبعث إليه رجلين فقتلاه في خلوته و لما أيقنوا بقتله اجتمعوا إلى أخته ست الملك فأحضرت علي بن دواس و أجلس علي بن الحاكم صبيا لم يناهز الحلم و بايع له الناس و لقب الظاهر لإعزاز دين الله و نفذت الكتب إلى البلاد بأخذ البيعة له ثم حضر ابن دواس من الغد و حضر معه القواد فأمرت ست الملك خادمها فعلاه بالسيف أمامهم حتى قتله و هو ينادي بثأر الحاكم فلم يختلف فيه اثنان و قامت بتدبير الدولة أربع سنين ثم ماتت و قام بتدبير الدولة الخادم معضاد و تافر بن الوزان و ولي وزارته أبو القاسم علي بن أحمد الجرجراي و كان متغلبا على دولته و انتقض الشام خلال ذلك و تغلب صالح بن مرداس من بني كلاب على حلب و عاث بنو الجراح في نواحيه فبعث الظاهر سنة عشرين قائده الزريري والي فلسطين في العساكر و أوقع بصالح بن الجراح و قتل صالح و ابنه و ملك دمشق و ملك حلب من يد شبل الدولة نصر بن صالح و قتله و كان بينه و بين بني الجراح قبل ذلك و هو بفلسطين حروب حتى هرب من الرملة إلى قيسارية فاعتصم بها و أخرب ابن الجراح الرملة و أحرقها و بعث السرايا فانتهت إلى العريش و خشي أهل بلبيس و أهل القرافة على أنفسهم فانتقلوا إلى مصر و زحف صالح بن مرداس في جموع العرب لحصار دمشق و عليها يومئذ ذو القرنين ناصر الدولة بن الحسين و بعث حسان بن الجراح إليهم بالمدد ثم صالحوا صالح بن مرداس و انتقل إلى حصار حلب و ملكها من يد شعبان الكتامي و جردت العساكر من الشام مع الوزيري و كان ما تقدم و ملك دمشق و أقام بها (4/77)
وفاة الظاهر و ولاية ابنه المستنصر
ثم توفي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن علي بن الحاكم منتصف شعبان سنة سبع و عشرين لست عشرة سنة من خلافته فولي ابنه أبو تميم معد و لقب المستنصر بأمر الله و قام بأمره وزير أبيه أبو القاسم علي بن أحمد الجرجراي و كان بدمشق الوزيري و اسمه أقوش تكين و كانت البلاد صلحت على يديه لعدله و رفقه و ضبطه و كان الوزير الجرجراي يحسده و يبغضه و كتب إليه بإبعاد كاتبه أبي سعيد فأنفذ إليه أنه يحمل الوزيري على الانتقاض فلم يجب الوزيري إلى ذلك و استوحش و جاء جماعة من الجند إلى مصر في بعض حاجاتهم فداخلهم الجرجراي في التوثب به و دس معهم بذلك إلى بقية الجند بدمشق فتعللوا عليه فخرج إلى بعلبك سنة ثلاث و ثلاثين فمنعه عاملها من الدخول فسارإلى حماة فمنع أيضا فقوتل و هو خلال ذلك ينهب فاستدعى بعض أوليائه من كفرطاب فوصل إليه في ألفي رجل و سار إلى حلب فدخلها و توفي بها في جمادى الآخرة من السنة و فسد بعده أمر الشام و طمع العرب في نواحيه و ولى الجرجراي على دمشق الحسين بن حمدان فكان قصارى أمره منع الشام و ملك حسان بن مفرج فلسطين و زحف معز الدولة بن صالح الكلابي إلى حلب فملك المدينة و امتنع عليه أصحاب القلعة و بعثوا إلى مصر للنجدة فلم ينجدهم فسلموا القلعة لمعز الدولة بن صالح فملكها (4/78)
مسير العرب إلى أفريقية
كان المعز بن باديس قد انتقض دعوة العبييديين بأفريقية و خطب للقائم العباسي و قطع الخطبة للمستنصر العلوي سنة أربعين و أربعمائة فكتب إليه المستنصر يتهدده ثم إنه استوزر الحسين بن علي التازوري بعد الجرجراي و لم يكن في رتبته فخاطبه المعز دون ما كان يخاطب من قبله كان يقول في كتابه إليهم عبده و يقول في كتاب التازوري صنيعته فحقد ذلك و أغرى به المستنصر و أصلح بين رغبة و رياح من بطون هلال و بعثهم إلى أفريقية و ملكهم كل ما يفتحونه و بعث إلى المعز : أما بعد فقد أرسلنا إليك خيولا و حملنا عليها رجالا فحولا ليقضي الله أمرا كان مفعولا فساروا إلى برقة فوجدوها خالية لأن المعز كان أباد أهلها من زنانة فاستوطن العرب برقة و احتقر المعز شأنهم و اشترى العبيد و استكثر منهم حتى اجتمع له منهم ثلاثون ألفا و زحف بنو زغبة إلى طرابلس فملكوها سنة ست و أربعين و جازت رياح الأثبج و بنو عدي إلى أفريقية فأضرموها نارا ثم سار أمراؤهم إلى المعز و كبيرهم مؤنس بن يحيى من بني مرداس من زياد فأكرمهم المعز و أجزل لهم عطاياه فلم يغن شيئا و خرجوا إلى ما كانوا عليه من الفساد و نزل بأفريقية بلاء لم ينزل بها مثله فخرج إليهم المعز في جموعه من صنهاجة و السودان نحوا من ثلاثين ألفا و العرب في ثلاثة آلاف فهزموه و أثخنوا في صنهاجة بالقتل واستباحوهم و دخل المعز القيروان مهزوما ثم بيتهم يوم النحر و هم في الصلاة فهزموه أعظم من الأولى ثم سار إليهم بعد أن احتشد زناتة معه فانهزم ثالثة و قتل من عسكره نحو من ثلاثة آلاف و نزل العرب بمصلى القيروان و والوا عليهم الهزائم و قتلت منهم أمم ثم أباح لهم المعز دخول القيروان للميرة فاستطالت عليهم العامة فقتلوا منهم خلقا و أدار المعز السور على القيروان سنة ست و أربعين ثم ملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة سنة ست و أربعين و أمر المعز أهل القيروان بالانتقال إلى المهدية للتحصن بها و ولى عليها ابنه تيما سنة خمس و أربعين ثم انتقل إليها سنة تسع و أربعين و انطلقت أيدي العرب على القيروان بالنهب و التخريب و على سائر الحصون و القرى كما يذكر في أخبارهم ثم كانت الخطبة للمستنصر ببغداد على يد البساسيري من مماليك بني بويه عند انقراض دولتهم و استيلاء السلجوقية كما نذكره في أخبارهم (4/79)
مقتل ناصرالدولة بن حمدان بمصر
كانت أم المستنصر متغلبة على دولته و كانت تصطنع الوزراء و توليهم و كانوا يتخذون الموالي من الأتراك للتغلب على للدولة فمن استوحشت منه أغرت به المستنصر فقتله فاستوزرت أولا أبا الفتح الفلاحي ثم استوحشت منه فقبض عليه المستنصر و قتله و وزر بعده أبا البركات حسن بن محمد و عزله ثم ولى الوزارة أبا محمد التازوري من قرية بالرملة تسمى تازور فقام بالدولة إلى أن قتل و وزر بعده أبو عبد الله الحسين ابن البابلي و كان في الدولة من موالي السودان ناصر الدولة بن حمدان و استمالوا معهم كتامة و المصامدة و خرج العبيد إلى الضياغ و اجتمعوا في خمسين ألف مقاتل و كان الأتراك ستة آلاف و شكوا إلى المستنصر فلم يشكهم فخرجوا إلى غرمائهم و التقوا بكوم الريش و أكمن الأتراك للعبيد و لقوهم فانهزموا و خرج كمينهم على العبيد و ضربوا البوقات و الكاسات فارتاب العبيد و ظنوه المستنصر فانهزموا و قتل منهم و غرق نحو أربعين ألفا و فدى الأتراك و تغلبوا و عظم الإفتراء فيهم فخلت الخزائن و اضطربت الأمور و تجمع باقي العسكر من الشام و غيره إلى الصعيد و اجتمعوا مع العبيد و كانوا خمسة عشر ألفا و ساروا إلى الجيزة فلقيهم الأتراك و عليهم ناصر الدولة بن حمدان فهزموهم إلى الصعيد و عاد ناصر الدولة و الأتراك ظافرين و اجتمع العبيد في الصعيد و حضر الأتراك بدار المستنصر فأمرت أمه العبيد بالدار أن يفتكوا بمقدمي الأتراك ففعلوا و هربوا إلى ظاهر البلد و معهم ناصرالدولة و قاتل أولياء المستنصر فهزمهم و ملك الإسكندرية و دمياط و قطع الخطبة منهما و من سائر الريف للمستنصر و راسل الخليفة العباسي ببغداد و افترق الناس من القاهرة ثم صالح المستنصر و دخل القاهرة و استبد عليه و صادر أمه على خمسين ألف دينار و افترق عنه أولاده و كثير من أهله في البلاد و دس المستنصر لقواد الأتراك بأنه يحول الدعوة فامتعضوا لذلك و قصدوه في بيته و هو آمن منهم فلما خرج إليهم تناولوه بسيوفهم حتى قتلوه و جاؤا برأسه و مروا على أخيه في بيته فقطعوا رأسه و أتوا بهما جميعا إلى المستنصر و ذلك سنة خمس و ستين و ولى عليهم الذكر منهم و قام بأمر الدولة (4/80)
استيلاء بدر الجمالي على الدولة
أصل بدر هذا من الأرمن من صنائع الدولة بمصر و مواليها و كان حاجبا لصاحب دمشق و استكفاه فيما وراء بابه ثم مات صاحب دمشق فقام بالأمور إلى أن وصل الأمير على دمشق و هو ابن منير فسار هو إلى مصر و ترقى في الولايات إلى أن ولي عكا و ظهر منه كفاية و اضطلاع و لما وقع بالمستنصر ما وقع من استيلاء الترك عليه و الفساد و التضييق استقدم بدر الجمالي لولاية الأمور بالحضرة فاستأذن في الاستكثار من الجند لقهر من تغلب من جند مصر فأذن له في ذلك و ركب البحر من عكا في عشرة مراكب و معه جند كثيف من الأرمن و غيرهم فوصل إلى مصر و حضر عند الخليفة فولاه ما وراء بابه و خلع عليه بالعقد المنظوم بالجوهر مكان الطوق و لقبه بالسيد الأجل أمير الجيوش مثل والي دمشق و أضيف إلى ذلك كافل قضاة المسلمين و داعي دعاة المؤمنين و رتب الوزارة و زاده سيفه و رد الأمور كلها إليه و منه إلى الخليفة و عاهده الخليفة على ذلك و جعل إليه ولاية الدعاة و القضاء و كان مبالغا في مذهب الإمامية فقام بالأمور و استرد ما كان تغلب عليه أهل النواحي مثل ابن عمار بطرابلس و ابن معرف بعسقلان و بني عقيل بصور ثم استرد من القواد و الأمراء بمصر جميع ما أخذوه أيام الفتنة من المستنصر من الأموال و الأمتعة و سار إلى دمياط و قد تغلب عليها جماعة من المفسدين من العرب و غيرهم فأثخن في لواتة بالقتل و النهب في الرجال و النساء و سبى نساءهم و غنم خيولهم ثم سار إلى جهينة و قد ثاروا و معهم قوم من بني جعفر فلقيهم على طرخ العليا سنة تسع و ستين فهزمهم و أثخن فيهم و غنم أموالهم ثم سار إلى أسوان و قد تغلب عليها كنز الدولة محمد فقتله و ملكها و أحسن إلى الرعايا و نظم حالهم و أسقط عنهم الخراج ثلاث سنين و عادت الدولة إلى أحسن ما كانت عليه (4/81)
وصول الغز إلى الشام و استيلاؤهم عليه و حصارهم مصر
كان السلجوقية و عساكرهم من الغز قد استولوا في هذا العصر على خراسان و العراقين و بغداد و ملكهم طغرلبك و انتشرت عساكرهم في سائر الأقطار وزحف اتسز بن افق من أمراء السلطان ملك شاه و سموه الشاميون أفسفس و الصحيح هذا و هواسم تركي هكذا قال ابن الأثير فزحف سنة ثلاث و ثلاثين بل و ستين ففتح الرملة ثم بيت المقدس و حصر دمشق و عاث في نواحيها و بها المعلى بن حيدرة و لم يزل يوالي عليها البعوث إلى سنة ثمان و ستين و كثر عسف المعلى بأهلها مع ما هم فيه من شدة الحصار فثاروا به و هرب إلى بلسيس ثم لحق بمصر فحبس إلى أن مات و لما هرب من دمشق اجتمعت المصامدة و ولوا عليهم انتصار بن يحيى منهم و لقبوه وزير الدولة ثم اضطربوا مما هم فيه من الغلاء و جاء أمير من القدس فحاصرهم حتى نزلوا على أمانه و أنزل وزير الدولة بقلعة بانياس و دخل دمشق في ذي القعدة و خطب فيها للمقتدي العباسي ثم سار إلى مصر سنة تسع و ستين فحاصرها و جمع بدر الجمالي العساكر من العرب و غيرهم و قاتله فهزمه و قتل أكثر أصحابه و رجع أتسز منهزما إلى الشام فأتى دمشق و قد صانوا مخلفه فشكرهم و رفع عنهم خراج سنة تسع و ستين و جاء إلى بيت المقدس فوجدهم قد عاثوا في مخلفه و حصروا أهله و أصحابه في مسجد داود عليه السلام فحاصرهم و دخل البلد عنوة و قتل أكثر أهله حتى قتل كثيرا في المسجد الأقصى ثم جهز أمير الجيوش بدر الجمالي العساكر من مصر مع قائده نصير الدولة فحاصر دمشق و ضيق عليها و كان ملك السلجوقية السلطان ملك شاه قد أقطع أخاه تتش سنة سبعين و أربعمائة بلاد الشام و ما يفتحه منها فزحف إلى حلب و حاصرها و ضيق عليها و معه جموع كثيرة من التركمان فبعث إليه أتسز من دمشق يستصرخه فسار إليه و أجفلت عساكر مصر عن دمشق و خرج أتسز من دمشق للقائه فقتله و ملك البلد و ذلك سنة إحدى و سبعين و ملك ملك شاه بعد ذلك حلب و استولى السلجوقية على الشام أجمع و زحف أمير الجيوش بدر الجمالي من مصر في العساكر إلى دمشق و بها تاج الدولة تتش فحاصره و ضيق عليه و امتنع عليه و رجع و زحفت عساكر مصر سنة اثنتين و ثمانين إلى الشام فاسترجعوا مدينة صور من يد أولاد القاضي عين الدولة بن أبي عقيل كان أبوهم قد انتزى عليها ثم فتحوا مدينة صيدا ثم مدينة جميل و ضبط أمير الجيوش البلاد و ولى عليها العمال و في سنة أربع و ثمانين استولى الفرنج على جزيرة صقلية و كان أمير الجيوش قد ولى على مدينة صور منير الدولة الجيوشي من طائفته فانتقض سنة ست و ثمانين و بعث إليه أمير الجيوش العساكر فثار به أهل المدينة و اقتحمت عليهم العساكر و بعث منير الدولة إلى مصر في جماعة من أصحابه فقتلوا كلهم ثم توفي أمير الجيوش بدر الجمالي سنة سبع و ثمانين في ربيع الأول لثمانين سنة من عمره و كان له موليان أمين الدولة لاويز و نصر الدولة أفتكين فحذرهم بأنه يروم الاستبداد و رغبه في ولد مولاه بدر فما قضى بدر نحبه استدعى المستنصر لاويز ليقلده فأنكر ذلك أفتكين و ركب في الجند و شغبوا على المستنصر و اقتحموا القصر و أسمعوه خشن الكلام فرجع إلى ولاية ولد بدر و قدم للوزارة ابنه محمد الملك أبا القاسم شاه و لقبه بالأفضل مثل لقب أبيه و كان أبو القاسم بن المقري رديفا لبدر في وزارته بما كان اختصه لذلك فولى بعد موته الوزارة المقري و كانت عندهم عبارة عن التوقيع بالقلم الغليظ و قام الأفضل أبو القاسم بالدولة و جرى على سنن أبيه في الاستبداد و كانت وفاة المستنصر قريبا من ولايته (4/82)
وفاة المستنصر و ولاية ابنه المستعلي
ثم توفي المستنصر معد بن الظاهر يوم التروية سنة سبع و ثمانين لستين سنة من خلافته و يقال لخمس و ستين بعد أن لقي أهوالا و شدائد وانفتقت عليه فتوق استهلك فيها أمواله و ذخائره حتى لم يكن له إلا بساطه الذي يجلس عليه و صار إلى حد العزل والخلع حتى تدارك أمره باستقدام بدر الجمالي من عكا فتقوم أمره و مكنه في خلافته و لما مات خلف من الولد أحمد و نزار و أبا القاسم و كان المستنصر فيما يقال قد عهد لنزار و كانت بينه و بين أبي القاسم الأفضل عداوة فخشي بادرته و داخل عمته في ولاية أبي القاسم على أن تكون لها كفالة الدولة فشهدت بأن المستنصر عهد له بمحضر القاضي و الداعي فبويع ابن ست و لقب المستعلي بالله و أكره أخوه الأكبر على بيعته ففر إلى الإسكندرية بعد ثلاث و بها نصير الدولة أفتكين مولى بدر الجمالي الذي سعى للأفضل قانتقض و بايع لنزار بعهده و لقب المصطفى لدين الله و سار الأفضل بالعساكر و حاصرهم بالإسكندرية و استنزلهم على الأمان و أعطاهم اليمن على ذلك و أركب نزارا السفن إلى القاهرة و قتل بالقصر و جاء الأفضل و معه أفتكين أسيرا فأحضره يوما و وبخه فهم بالرد عليه فقتل بالضرب بالعصي و قال : لا يتناول اليمن هذه للقتلة و يقال إن الحسين بن الصباح رئيس الإسماعيلية بالعراق قصد المستنصر في زي تاجر و سأله إقامة الدعوة له ببلاد العجم فأذن له في ذلك و قال له الحسين من إمامي بعدك ؟ فقال : ابني نزار فسار ابن الصباح و دعا الناس ببلاد العجم إليه سرا ثم أظهر أمره و ملك القلاع هنالك مثل قلعة الموت و غيرها كما نذكره في أخبار الإسماعيلية و هم من أجل هذا الخبر يقولون بإمامة نزار و لما ولي المستعلي خرج ثغر عن طاعته و ولى عليه واليه كشيلة و بعث المستعلي العساكر فحاصره ثم اقتحموا عليه و حملوه إلى مصر فقتل بها سنة إحدى و تسعين و أربعمائة و كان تتش صاحب الشام قد مات و اختلف بعده ابناه رضوان و دقاق و كان دقاق بدمشق و رضوان بحلب فخطب رضوان في أعماله للمستعلي بالله أياما قلائل ثم عاود الخطبة للعباسيين (4/84)
استيلاء الفرنج على بيت المقدس
كان بيت المقدس قد أقطعه تاج الدولة تتش للأمير سليمان بن أرتق التركماني و قارن ذلك استفحال الفرنج و استطالتهم على الشام و خروجهم سنة تسعين و أربعمائة و مروا بالقسطنطينية و عبروا خليجها و خلى صاحب القسطنطينية سبيلهم ليحولوا بينه و بين صاحب الشام من السلجوقية و الغز فنازلوا أولا أنطاكية فأخذوها من يد باغيسيان من قواد السلجوقية و خرج منها هاربا فقتله بعض الأرمن في طريقه و جاء برأسه إلى الفرنج بأنطاكية و عظم الخطب على عساكر الشام و سار كربوقا صاحب الموصل فنزل مرج دابق و اجتمع إليه دقاق بن تتش و سليمان بن أرتق و طفتكين أتابك صاحب حمص و صاحب سنجار و جمعوا من كان هنالك من الترك و العرب و بادروا إلى أنطاكية لثلاثة عشر يوما من حلول الفرنج بها و قد اجتمع ملوك الفرنج و مقدمهم بنميد و خرج الفرنج و تصادموا مع المسلمين فانهزم المسلمون و قتل الفرنج مهنم ألوفا و استولوا على معسكرهم و ساروا إلى معرة النعمان و حاصروها أياما و هربت حاميتها و قتلوا منها نحوا من مائة ألف و صالحهم ابن منقذ على بلده شيزر و حاصروا حمص فصالحهم عليها جناح الدولة ثم حاصروا عكة فامتنعت عليهم و أدرك عساكر الغز من الوهن ما لا يعبر عنه فطمع أهل مصر فيهم و سار الأفضل بن بدر بالعساكر لاسترجاع بيت المقدس فحاصرها و بها سقمان و أبو الغازي ابنا أرتق و ابن أخيهما ياقوتي و ابن عمهما سوتج و نصبوا عليها نيفا و أربعين منجنيقا و أقاموا عليها نيفا و أربعين يوما ثم ملكوها بالأمان في سنة تسعين و أحسن الأفضل إلى سقمان و أبي الغازي و من معهما و خلى سبيلهم فسار سقمان إلى بلد الرها و أبو الغازي إلى بلد العراق و ولى الأفضل على بيت المقدس و رجع إلى مصر ثم سارت الفرنج إلى بيت المقدس و حاصروه نيفا و أربعين يوما و نصبوا عليه برجين ثم اقتحموها من الجانب الشمالي لسبع بقين من شعبان و استباحوها أسبوعا و لجأ المسلمون إلى محراب داود عليه السلام و اعتصموا به إلى أن استنزلهم الفرنج بالأمان و خرجوا إلى عسقلان و قتل بالمسجد عند الشجرة سبعون ألفا و أخذوا من المسجد نيفا و أربعين قنديلا من الفضة يزن كل واحد منها ثلاثة آلاف و ستمائة و تنورا من الفضة يزن أربعين رطلا بالشامي و مائة و خمسين قنديلا من الصفر و غير ذلك مما لا يحصى و أجفل أهل بيت المقدس و غيرهم من أهل الشام إلى بغداد باكين على ما أصاب الإسلام ببيت المقدس من القتل و السبي و النهب و بعث الخليفة أعيان العلماء إلى السلطان بركيارق و أخوته محمد و سنجر بالمسير إلى الجهاد فلم يتمكنوا من ذلك للخلاف الذي كان بينهم و رجع الوفد مؤيسين من نصرهم و جمع الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر و سار إلى الفرنج فساروا إليهم و كبسوهم على غير أهبة فهزموهم و افترق عسكر مصر و قد لاذوا بخم الشعراء هناك فاضرموها عليهم نارا فاحترقوا و قتل من ظهر و رجع الفرنج إلى عسقلان فحاصروها حتى أنزلوا لهم عشرين ألف دينار فارتحلوا (4/85)
وفاة المستعلي و ولاية ابنه الآمر
ثم توفي المستعلي أبو القاسم أحمد بن المستنصر منتصف صفر سنة خمس و تسعين لسبع سنين من خلافته فبويع ابنه أبو علي ابن خمس سنين و لقب الآمر بأحكام الله و لم يل الخلافة فيهم أصغر منه و من المستنصر فكان هذا لا يقدر على ركوب الفرس وحده (4/87)
هزيمة الفرنج لعساكر مصر
ثم بعث الأفضل أمير الجيوش بمصر العساكر لقتال الفرنج مع سعد الدولة الفراسي أميرا مملوك أبيه فلقي الفرنج بين الرملة و يافا و مقدمهم بغدوين فقاتلهم و انهزم و قتل و استولى الفرنج على معسكره فبعث الأفضل ابنه شرف المعالي في العساكر فبارزوهم قرب الرملة و هزمهم و اختفى بغدوين في الشجر و نجا إلى الرملة مع جماعة من زعماء الفرنج فحاصرهم شرف المعالي خمسة عشر يوما حتى أخذهم فقتل منهم أربعمائة صبرا و بعث ثلثمائة إلى مصر و نجى بغدوين إلى يافا و وصل في البحر جموع من الفرنج للزيارة فندبهم بغدوين للغزو و سار بهم إلى عسقلان فهرب شرف المعالى و عاد إلى أبيه و ملك الفرنج عسقلان و بعث العساكر في البرمع تاج العجم مولى أبيه إلى عسقلان و بعث الأسطول في البحر إلى يافا مع القاضي ابن قادوس فبلغ إلى يافا و استدعى تاج العجم و حبسه و بعث جمال الملك من مواليه إلى عسقلان مقدم العساكر الشامية ثم بعث الأفضل سنة ثمان و تسعين ابنه سنا الملك حسين و أمر جمال الملك بالسير معه لقتال الفرنج فساروا في خمسة آلاف و استمدوا طفتكين أتابك دمشق فأمدهم بألف و ثلثمائة و لقوا الفرنج بين عسقلان و يافا فتفانوا بالقتل و تحاجزوا و افترق المسلمون إلى عسقلان و دمشق و كان مع الفرنج بكتاش بن تتش عدل عنه طفتكين بالملك إلى ابن أخيه دقاق بن تتش فلحق بالإفرنج مغاضبا (4/87)
استيلاء الفرنج على طرابلس و بيروت
كانت طرابلس رجعت إلى صاحب مصر و كان يحاصرها من الفرنج ابن المرداني صاحب صيحيل و المدد يأتيهم من مصر فلما كانت سنة ثلاث و خمسين وصل أسطول من الفرنج مع ويمتدين إلى صيحيل من قمامصتهم فنزل على طرابلس و تشاجر مع المرداني فبادر بغدوين صاحب القدس و أصلح بينهم و نزلوا جميعا على طرابلس و ألصقوا أبراجهم بسورها و تأخرت الميرة عنهم من مصر في البحر لركود البحر فاقتحمها الفرنج عنوة ثاني الأضحى من سنة ثلاث و خمسين و قتلوا و نهبوا و أسروا و غنموا و كان واليها قد استأمن قبل فتحها في جماعة من الجند فلحقوا بدمشق و وصل الأسطول بالمدد و كفاية سنة من الأقوات بعد فتحها ففرقوه في صور و صيدا و بيروت و استولى الفرنج على معظم سواحل الشام و إنما خصصنا هذه بالذكر في الدولة العلوية لأنها كانت من أعمالهم و سنذكر البقية في أخبار الفرنج إن شاء الله تعالى (4/88)
استرجاع أهل مصر بعسقلان
كان الآمر قد استولى على عسقلان من قواد شمس الخلافة فداخل بغدوين صاحب بيت المقدس من الفرنج و هاداه ليمتنع به على أهل مصر و جهز أمير الجيوش عسكرا من مصر للقبض عليه إذا حضر و شعر بذلك و انتقض و أخرج من عنده من أهل مصر و خاف الأفضل أن يسلم عسقلان إلى الفرنج فأقره على عمله و ارتاب شمس الخلافة بأهل عسقلان و اتخذ بطانة من الأرمن فاستوحش أهل البلد فثاروا به و قتلوه و بعثوا إلى الآمر و الأفضل بذلك فأرسل إليهم الوالى من مصر و أحسن إليهم و استقامت أحوالهم و حاصر بغدوين بعد ذلك مدينة صور و فيها عساكر الأرمن و اشتد في حصارها بكل نوع و كان بها عز الملك الأعز من أولياء الأمر فاستمد طفتكين أتابك دمشق فأمده بنفسه و طال الحصار و حضر أوان الغلال فخشي الفرنج أن يفسد طفتكين غلال بلدهم فأفرجوا عنها إلى عكا و كفى الله شرهم ثم زحف بغدوين ملك الفرنج من القدس إلى مصر و بلغ سنتين و سبح في النيل فانتقض عليه جرح كان به و عاد إلى القدس و مات و عهد بملك القدس للقمص صاحب الرها و لو لا ما نزل بملوك السلجوقية من الفتنة لكانوا قد استرجعوا من الفرنج جميع ما ملكوه من الشام و لكن الله خبأ ذلك لصلاح الدين بن أيوب حتى فاز بذكره (4/88)
مقتل الأفضل
قد قدمنا أن الآمر ولاه الأفضل صغيرا ابن خمس فلما استجمع و اشتد تنكر للأفضل و ثقلت وطأته عليه فانتقل الأفضل إلى مصر و بنى بها دارا و نزلها و خطب منه الأفضل ابنته فزوجها على كره منه و شاور الآمر أصحابه في قتله فقال له ابن عمه عبد المجيد و كان ولي عهده : لا تفعل و حذره سوء الأحدوثة لما اشتهر بين الناس من نصحه و نصح أبيه و حسن ولايتهما للدولة و لابد من إقامة غيره و الاعتماد عليه فيتعرض للحذر من مثلها إلى الإمتناع منه ثم أشار عليه من مداخلة ثقته أبي عبد الله ابن البطائحي في مثل ذلك فإنه يحسن تدبيره و يضع عليه من يغتاله و يقتل به فيسلم عرضك و كان ابن البطائحي فراشا بالقصر و استخلصه الأفضل و رقاه و استحجبه فاستدعاه الآمر و داخله في ذلك و وعده بمكانه فوضع عليه رجلان فقتلاه بمصر و هو سائر في موكبه من القاهرة منقلبا من خزانة السلاح في سنة خمس عشرة و خمسمائة كان يفرق السلاح على العادة في الأعياد و ثار الغبار في طريقه فانفرد عن الموكب فبدره الرجلان و طعناه فسقط و قتلا و حمل إلى داره و به رمق فجاءه الآمر متوجعا و سأله عن ماله فقال أما الظاهر فأبو الحسن بن أبي أسامة يعرفه و كان أبوه قاضيا بالقاهرة و أصله من حلب و أما الباطن فإن البطائحي يعرفه ثم قضى الأفضل نحبه لثمان و عشرين سنة من وزارته و احتاط الآمر على داره فوجد له ستة آلاف كيس من الذهب العين و خمسين أردبا من الورق و من الديباج الملون و المتاع البغدادي و الإسكندري و ظرف الهند وأنواع الطيوب و العنبر و المسك ما لا يحصى حتى لقد كان من ذخائره دكة عاج و أبنوس محلاة بالفضة عليها عرم مثمن من العنبر زنته ألف رطل و على العرم مثل طائر من الذهب برجلين مرجانا و منقار زمرذا و عينان ياقوتتان كان ينصبها في بيته و يضوع عرفها فيعم القصر و صارت إلى صلاح الدين (4/89)
ولاية ابن البطائحي
قال ابن الأثير كان أبوه من جواسيس الأفضل بالعراق و مات لم يخلف شيئا ثم ماتت أمه و تركته معلقا فتعلم البناء أولا ثم صار يحمل الأمتعة بالأسواق و يدخل بها على الأفضل فخف عليه و استخدمه مع الفراشين و تقدم عنده و استحجبه و لما قتل الأفضل ولاه الآمر مكانه و كان يعرف بابن فاتت و ابن القائد فدعاه الآمر جلال الإسلام ثم خالع عليه بعد سنتين من ولايته للوزارة و لقبه المأمون فجرى على سنن الأفضل في الاستبداد و نكر ذلك الآمر و تنكر له و استوحش المأمون و كان له أخ يلقب المؤتمن فاستأذن الآمر في بعثه إلى الإسكندرية لحمايتها ليكون له ردءا هنالك فأذن له و سار معه القواد و فيهم علي بن السلار و تاج الملوك قائمين و سنا الملك الجمل و دري الحروب و أمثالهم و أقام المأمون على استيحاش من الآمر و كثرت السعاية فيه وأنه يدعي أنه ولد نزار من جارية خرجت من القصر حاملا به و أنه بعث ابن نجيب الدولة إلى اليمن يدعو له فبعث الآمر إلى اليمن في استكشاف ذلك (4/90)
مقتل البطائحي
و لما كثرت السعاية فيه عند الآمر و توغر صدره عليه كتب إلى القواد الذين كانوا مع أخيه بثغر الإسكندرية بالوصول إلى دار الخلافة فهم لذلك علي بن سلار فحضروا و استأذن المؤتمن بعدهم في الوصول فأذن له و حضر رمضان من سنة تسع عشرة فجاؤوا إلى القصر للإفطار على العادة و دخل المأمون و المؤتمن فقبض عليهما و حبسهما داخل القصر و جلس الآمر من الغد في إيوانه و قرأ عليه و على الناس كتابا بتعديد ذنوبهم و ترك الآمر رتبة الوزارة خلوا و أقام رجلين من أصحاب الدواوين يستخرجان الأموال من الخراج و الزكاة و المكس ثم عزلهما لظلمهما ثم حضر الرسول الذي بعثه إلى اليمن ليكشف خبر المأمون و حضر ابن نجيب و داعيته فقتل و قتل المأمون و أخوه المؤتمن (4/90)
مقتل الآمر و خلافة الحافظ
كان الآمر مؤثرا للذاته طموحا إلى المعالي و قاعدا عنها و كان يحدث نفسه بالنهوض إلى العراق في كل وقت ثم يقصر عنه و كان يقرض الشعر قليلا و من قوله :
( أصبحت لا أرجو و لا ألقى ... إلا إلهي و له الفضل )
( جدي نبي و إمامي أبي ... و مذهبي التوحيد و العدل )
و كانت الفداوية تحاول قتله فيتحرز منهم و اتفق أن عشرة منهم اجتمعوا في بيت و ركب بعض الأيام إلى الروضة و مر على الجسر بين الجزيرة و مصر فسبقوه فوقفوا في طريقه فلما توسط الجسر انفرد عن الموكب لضيقه فوثبوا عليه و طعنوه و قتلوا لحينهم و مات هو قبل الوصول إلى منزله سنة أربع و عشرين و خمسمائة لتسع و عشرين سنة و نصف من خلافته و كان قد استخلص مملوكين و هما برغش العادل و برعوارد هزير الملوك و كان يؤثر العادل منهما فلما مات الآمر تحيلوا في قيام المأمون عبد الحميد بالأمر و كان أقرب القرابة سنا و أبوه أبو القاسم بن المستضيء معه و قالوا إن الآمر أوصى بأن فلانة حامل فدلته الرؤيا بأنها تلد ذكرا فهو الخليفة بعدي و كفالته لعبد الحميد فأقاموه كافلا و لقبوه الحافظ لدين الله و ذكروا من الوصية أن يكون هزير الملوك وزيرا و السعيد باس من موالي الأفضل صاحب الباب و قرأوا السجل بذلك في دار الخلافة (4/91)
ولاية أبي علي بن الأفضل الوزارة و مقتله
و لما تقرر الأمر على وزارة هزير الملوك و خلع عليه أنكر ذلك الجند و تولى كبر ذلك رضوان بن ونحش كبيرهم و كان أبو علي بن الأفضل حاضرا بالقصر فحثه برغش العادل على الخروج حسدا لصاحبه و أوجد له السبيل إلى ذلك فخرج و تعلق به الجند و قالوا : هذا الوزير ابن الوزير و تنصل فلم يقبلوا و ضربوا له خيمة بين القصرين و أحدقوا به و أغلقت أبواب القصر فتسوروه و ولجوا من طيقانه و اضطر الحافظ إلى عزل هزير الملوك ثم قتله و ولى أبو علي أحمد بن الأفضل الوزارة و جلس بدست أبيه و رد الناس أموال الوزارة المقضية و استبد على الحافظ و منعه من التصرف و نقل الأموال من الذخائر و القصر إلى داره و كان إماميا متشددا فأشار عليه الإمامية بإقامة الدعوة للقائم المنتظر و ضرب الدراهم باسمه دون الدنانير و نقش عليها : الله الصمد الإمام محمد و هو الإمام المنتظر و أسقط ذكر إسماعيل من الدعاء على المنابر و ذكر الحافظ و أسقط من الأذان حي على خير العمل و نعت نفسه بنعوت أمر الخطباء بذكرها على المنابر و أراد قتل الحافظ بمن قتله الآمر من أخوته فإن الآمر أجحفهم عند نكبة الأفضل و قتلهم فلم يقدر أبو علي على قتله فخلعه و اعتقله و ركب بنفسه في المواسم و خطب للقائم مموها فتنكر له أولياء الشيعة و مماليك الخلفاء و داخل يانس الجند من كتامة و غيرهم في شأنه و اتفقوا على قتله و ترصد له قوم من الجند فاعترضوه خارج البلد و هو في موكبه و هم يتلاعبون على الخيل ثم اعتمدوه فطعنوه و قتلوه و أخرجوا الحافظ من معتقله و جددوا له البيعة بالخلافة و نهب دار أبي علي و ركب الحافظ و حمل ما بقي فيها إلى القصر و استوزر أبا الفتح يانسا الحافظي و لقبه أمير الجيوش و كان عظيم الهيبة بعيد الغور و استبد عليه فاستوحش كل منهما بصاحبه و يقال إن الحاكم وضع له سما في المستراح هلك به و ذلك آخر ذي الحجة سنة ست وعشرين (4/92)
قيام حسن بن الحافظ بأمر الدولة و مكره بأبيه و مهلكه
و لما هلك يانس أراد الحافظ أن يخلى دست الوزارة ليستريح من التعب الذي عرض منهم للدولة و أجمع أن يفوض الأمور إلى ولده و فوض إلى ابنه سليمان و مات لشهرين فأقام ابنه الآخر حسنا فحدثته نفسه بالخلافة و عزم على اعتقال أبيه و داخل الأجناد في ذلك فأطاعوه و أطلع أبوه على أمره ففتك بهم يقال : إنه قتل منهم في ليلة أربعين و بعث أبوه خادما من القصر لقتله فهزمه حسن و بقي الحافظ محجورا و فسد أمره و بعث حسن بهرام الأرمني لحشد الأرمن ليستظهر بهم على الجند و ثاروا بحسن و طلبوه من أبيه و وقفوا بين القصرين و جمعوا الحطب لإحراق القصر و استبشع الحافظ قتله بالحديد فأمر طبيبه ابن فرقة عنه في ذلك سنة تسع و عشرين (4/93)
وزارة بهرام و رضوان بعده
و لما مات حسن بن الحافظ و رحل بهرام لحشد الأرمن اجتمع الجند و كان بهرام كبيرهم و راودوا الحافظ على وزارته فوافقهم و خلج عليه و فوض إليه الأمور السلطانية و استثنى عليه الشرعية و تبعه تاج الدولة أفتكين في الدولة و استعمل الأرمن و أهانوا المسلمين و كان رضوان بن ولحيس صاحب الباب و هو الشجاع الكاتب من أولياء الدولة و كان ينكر على بهرام و يهزأ به فولاه بهرام الغربية ثم جمع رضوان و أتى إلى القاهرة ففر بهرام و قصد قوص في ألفين من الأرمن و وجد أخاه قتيلا فلم يعرض لأهل قوص و باء بحق الخلافة و صعد إلى أسوان فامتنعت عليه بكنز الدولة ثم بعث رضوان العساكر في طلبه مع أخيه الأكبر و هو إبراهيم الأوحد فاستنزله على الأمان له و للأرمن الذين معه و جاء به فأنزله الحافظ في القصر إلى أن مات على دينه و استقر رضوان في الوزارة و لقب بالأفضل و كان سنيا و كان أخوه إبراهيم إماميا فأراد الاستبداد و أخذ في تقديم معارفه سيفا و قلما وأسقط المكوس و عاقب من تصدى لها فتغير له الخليفة فأراد خلعه و شاور في ذلك داعي الدعاة و فقهاء الإمامية فلم يعينوه في ذلك بشيء و فطن له الحافظ فدس خمسين فارسا ينادون في الطرقات بالثورة عليه و ينهضون باسم الحافظ فركب لوقته هاربا منتصف شوال سنة ثلاث و ثلاثين و نهبت داره و ركب الحافظ و سكن الناس و نقل ما فيها إلى قصره و سار رضوان يريد الشام ليستنجد الترك و كان في جملته شاور و هو من مصطفيه و أرسل الحافظ الأمير بن مضيال ليرده على الأمان فرجع و حبس في القصر و قيل وصل إلى سرخد فأكرمه صاحبها أمين الدولة كمستكين و أقام عنده ثم رجع إلى مصر سنة أربع و ثلاثين فقاتلهم عند باب القصر و هزمهم ثم افترق عنه أصحابه و أرادوا العود إلى الشام فبعث عنه الحافظ بن مضيال و حبسه بالقصر إلى سنة ثلاث و أربعين فنقب الحبس وهرب إلى الجيزة و جمع المغاربة و غيرهم و رجع إلى القاهرة فقاتلهم عند جامع ابن طيلون و هزمهم ثم دخل القاهرة و نزل عند جامع الأقمر و أرسل إلى الحافظ في المال ليفرقه فبعث عشرين ألفا على عادتهم مع الوزير ثم استزاد عشرين و عشرين و في خلال ذلك وضع الحافظ عليه جمعا كثيرا من السودان فحملوا عليه و قتلوه و جاؤا برأسه إلى الحافظ و استمر الحافظ في دولته مباشرا لأموره و أخلى رتبة الوزارة فلم يول أحدا بعده (4/93)
وفاة الحافظ و ولاية ابنه الظافر
ثم توفي الحافظ لدين الله عبد الحميد بن الأمير أبي القاسم أحمد بن المستنصر سنة أربع و أربعين لتسع عشرة سنة و نصف من خلافته و عن أبي العالية يقال بلغ عمره سبعا و سبعين سنة و لم يزل في خلافته محجور الوزارة و لما مات ولي بعده إبنه أبو منصور إسماعيل بعهده إليه بذلك و لقب الظافر بأمر الله (4/95)
وزارة ابن مضيال ثم ابن السلار
كان الحافظ لما عهد لابنه الظافر أوصاه بوزارة ابن مضيال فاستوزره أربعين يوما و كان علي بن السلار واليا على الإسكندرية و معه بلارة بنت عمه القاسم و ابنه منها عباس و تزوجت بعده بابن السلار و شب عباس و تقدم عند الحافظ حتى ولي الغربية فلم يرض ابن السلار وزارة ابن مضيال و اتفق مع عباس على عزله و بلغ الخبر إلى ابن مضيال فشكا إلى الظافر فلم يشكه فقال ذوو الحروب : ليس هنا من يقاتل ابن السلار فغضب الظافر و دس عليه من بني علي مصلحيه فخرج إلى الصعيد و قدم ابن السلار إلى القاهرة فاستوزره الظافر و هو منكر له و لقبه العادل و بعث العساكر مع العباس ربيبه في اتباغ ابن مضيال فخرج في طلبه و كان جماعة من لواتة السودان فتحضنوا من عباس في جامع دولام فأحرقه عليهم و قتل ابن مضيال و جاء برأسه و قام ابن سلار بالدولة و حفظ النواميس و شد من مذاهبه أهله و كان الخليفة مستوحشا منه منكرا له و هو مباك في النصيحة و الخدمة و استخدم الرجالة لحراسته فارتاب له صبيان الخاص من حاشية الخليفة فاعتزموا على قتله و نمي ذلك إليه فقبض على رؤوسهم فحبسهم و قتل جماعة منهم و افترقوا و لم يقدر الظافر على إنكار ذلك و احتفل ابن السلار بأمر عسقلان و منعها من الفرنج و بعث إليها بالمدد كل حين من الأقوات و الأسلحة فلم يغن ذلك عنها و ملكها الفرنج و كان لذلك من الوهن على الدوله ما تحذث به الناس
و لما قتل العادل بن السلار صبيان الخاص تأكد نكر الخليفة له و اشتد قلقه و كان عباس بن أبي الفتوح صديقا ملاطفا له فكان يسكنه و يهديه و كان لعباس ولد إسمه نصير استخصه الظافر و استدناه و يقال كان يهواه ففاوض العادل عباسا في شأن ابنه عن مخالطة إبنه للظافر فلم ينته ابنه فنهى العادل جدته أن يدخل إلى بيته فشق ذلك على نصير و على أبيه و تنكر للعادل و زحف الفرنج إن عسقلان فجهز العادل الجيوش و العساكر إليها مددا مع ما كان يمدها به و بعثهم مع عباس بن أبي الفتوح فارتاب لذلك و فاوض للظافر في قتل العادل و حضر معهم مؤيدا لدولة الأمر أسامة بن منقذ أحد أمراء شيزر و كان مقربا عند الظافر و صديقا لعباس فاستصوب ذلك و حث عليه و خرج عباس بالعساكر إلى بلبيس و أوصى إبنه نصير بقتله فجاء في جماعة إلى بيت جدته و العادل نائم فدخل إليه و ضربه فلم يجهز عليه و خرج إلى أصحابه ثم دخلوا جميعا فقتلوه و جاؤا برأسه إلى الظافر و رجع عباس من بلبيس بالعساكر فاستوزره الظافر و قام بالدولة و أحسن إلى الناس و أيس أهل عسقلان من المدد فأسلموا أنفسهم و بلدهم بعد حصار طويل وكان ذلك كله سنة ثمان و أربعين (4/95)
مقتل الظافر و أخويه و ولاية ابنه الفائز
و لما وزر عباس للظافر و قام بالدولة كان ولده نصير من ندمان الظاف و كان يهواه كما تقدم و كان أسامة بن منقذ من خلصاء عباس و أصدقائه فقبح عليه سوء المقالة في ابنه و أشارعليه بقتل الظافر فاستدعى ابنه نصيرا و قبح عليه في شناعة الأحدوثة فيه بين الناس و أغراه باغتيال الظافر ليمحو عنه ما يتحدث به الناس فسأل نصير من الظافر أن يأتي إلى بيته في دعوة فركب من القصر إليه فقتله نصير و من جاء معه و دفنهم في داره و ذلك في محرم سنة تسع و أربعين و باكر إلى القصر و لم ير الظافر و سأل خدام القصر فأحسن العذر و رجع إلى أخوي الظافر يوسف و جبريل فخبرهما بركوب الظافر إلى دار نصير فقالا له : خبر الوزير فلما جاء عباس من الغد أخبره بأنه ركب إلى بيت نصير إبنه و لم يعد فاستشاط غيظا عليه و رماه بأنه داخل أخويه في قتله ثم استدعاهما فقتلهما و قتل معهما ابنا هنالك لحسن بن الحافظ ثم أخرج إبنه أبا القاسم عيسى ابن خمس سنين و حمله على كتفه و أجلسه على سرير الملك و بايع له بالخلافة و لقبه الفائز بالله و نقل عباس بسبب ذلك ما في القصر من الأموال و الذخائر ما لا حد له و عند خروجه بأخويه رأى القتلى فاضطرب و فزع و بقي سائر أيامه يعتاده الصرع (4/97)
وزارة الصالح بن رزيك
و لما قتل الظافر و أخواه كما ذكرناه كتب النساء من القصر إلى طلائع بن رزيك وكان واليا على الأشموتين و البهنسة و جاء الخب ربأن الناس اختلفوا على عباس بسبب ذلك فجمع و قصد القاهرة و لبس السواد حزنا و رفع على الرماح الشعور التي بعث بها النساء حزنا و لما عبر البحر خرج عباس و ولده و دفعوا ما قدروا عليه من مال و سلاح من حاصل الدولة و معهما صديقهما أسامة بن منقذ فاعترضهم الفرنج و قاتلوا فقتل عباس و أسر ولده و نجا أسامة إلى الشام و دخل طلائع القاهرة في ربيع سنة تسع و خمسين و جاء إلى القصر راجلا ثم مضى إلى دار عباس و معه الخادم الذي حضر لقتله فاستخرجه من التراب و دفنه عند آبائه و خلع الفائز عليه الوزارة و لقبه الصالح و كان إماميا كاتبا أديبا فقام بأمر الدولة و شرع في جمع الأموال و النظر في الولايات و كان الأوحد بن تميم من قرابة عباس واليا على تنيس و كان لما سمع بفعلة قريبه عباس جمع و قصد القاهرة فسبقه طلائع فلما استقل بالوزارة أعاده إلى عمله بدمياط و تنيس ثم بعث في فداء نصير بن عباس من الفرنج فجيء به و قتله و صلبه بباب زويلة ثم نظر في المزاحمين من أهل الدولة و لم يكن أرفع رتبة من تاج الملوك قايماز و ابن غالب فوضع عليهما الجند فطلبوهما فهربا و نهب دورهما و تتبع كبراء الأمراء بمثل ذلك حتى خلا الجو و وضع الرقباء و الحجاب على القصر و ثقلت وطأته على الحرم و دبرت عمة الفائز في قتل الصالح و فرقت الأموال في ذلك و نمي الخبر إليه فجاء إلى القصر و أمر الاستاذين و الصقالبة بقتلها فقتلوها سرا و صار الفائز في كفالة عمته الصغرى و عظم اشتداد الفائز و استفحل أمره و أعطى الولايات للأمراء و اتخذ مجلسا لأهل الأدب يسامرون فيه و كان يقرض الشعر و لا يجيده و ولى شاور السعدي على قرضه و أشار عليه حجابه بصرفه و استقدمه فامتنع و قال : إن عزلني دخلت بلاد النوبة و على عهده كان استيلاء نور الدين محمود الملك العادل على دمشق من يد بني طغتكين أتابك تتش سنة تسع و أربعين و خمسمائة (4/97)
وفاة الفائز و ولاية العاضد
ثم توفي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر إسمعيل سنة خمس و خمسين لست سنين من خلافته فجاء الصالح بن رزيك إلى القصر و طلب الخدام بإحضار أبناء الخلفاء ليختار منهم و عدل عن كبرائهم إلى صغرائهم لمكان استبداده فوقع اختياره على أبي محمد عبد الله بن يوسف قتيل عباس فبايع له بالخلافة و هو غلام و لقبه العاضد لدين الله و زوجه إبنته و جهزها بما لم يسمع مثله (4/98)
مقتل الصالح بن رزيك و ولاية ابنه رزيك
و لما استفحل أمر الصالح و عظم استبداده بجباية الأموال و التصرف و حجر العاضد تنكر له الحرم و دس إلى الأمراء بقتله و تولت كبر ذلك عمة العاضد الصغرى التي كانت كافلة الفائز بعد أختها و اجتمع قوم من القواد و السودان منهم الريفي الخادم وابن الداعي و الأمير بن قوام الدولة و كان صاحب الباب و تواطؤا على قتله و وقفوا في دهليز القصر و أخرج ابن قوام الدولة الناس أمامه و هو خارج من القصر واستوقفه عنبر الريفي يحادثه و تقدم إبنه رزيك فوثب عليه جماعة منهم و جرحوه و ضرب ابن الداعي الصالح فأثبته و حمل إلى داره فبقي يجود بنفسه يومه ذلك و إذا أفاق يقول رحمك الله يا عباس و مات من الغد و بعث إلى العاضد يعاتبه على ذلك فحلف على البراءة من ذلك و نسبه إن العمة و أحضر ابنه رزيك و ولاه الوزارة مكان أبيه و لقبه العادل فأذن له في الأخذ بثأره فقتل العمة و ابن قوام الدولة و الأستاذ عنبر الريفي و قام بحمل الدولة و أشير عليه بصرف شاور من قوص و قد كان أبوه أوصاه ببقائه و قال له : قد ندمت على و لايته و لم يمكني عزله فصرفه و ولى مكانه الأمير بن الرفعة فاضطرب شاور و خرج إن طريق الواحات و جمع و قصد القاهرة و جاء الخبر إلى رزيك فعجز عن لقائه و خرج في جماعة من غلمانه بعدة أحمال من المال و الثياب و الجوهر و انتهى إلى طفيحة و اعترضه ابن النضر و قبض عليه و جاء به إلى شاور فاعتقله و اعتقل معه أخاه فأراد الهرب من محبسه فوشى به أخوه فقتل لسنة من ولايته و لتسع سنين من ولاية أبيه (4/99)
وزارة شاور ثم الضرغام من بعده
و دخل شاور القاهرة سنة ثمان و خمسين و نزل بدار سعيد السعداء و معه ولده طين و شجاع و الطازي و ولاه العاضد الوزارة و لقبه أمير الجيوش و أمكنه من أموال بني رزيك فاستصفى معظمها و زاد أهل الرواتب و الجرايات عشرة أمثالها و احتجب عن الناس و كان الصالح بن رزيك قد أنشأ في لواته أمراء يسمون البرقية و كان مقدمهم الضرغام و كان صاحب الباب فنازع شاور في الوزارة لتسعة أشهر من ولايته و ثار عليه و أخرجه من القاهرة فلحق بالشام و قتل ولده عليا و كثيرا من أمراء المصريين حتى ضعفت الدولة و خلت من الأعيان و أدى ذلك إلى خرابها (4/99)
مسير شيركوه و عساكر نور الدين إلى مصر مع شاور
و لما لحق شاور إلى الشام نزل على الملك العادل نور الدين بدمشق صريخا و شرط له ثلث الجباية على أن يقيم له العساكر و جهز نور الدين شيركوه و كان مقدما في دولته و يذكر سبب اتصاله به في موضعه فساروا في جمادى الآخرة سنة تسع و خمسين و قد تقدم نور الدين إلى أسد الدين شيركوه بأن يعيد شاور إلى وزارته و ينتقم له ممن نازعه و سار نور الدين بعساكره إلى طرف بلاد الفرنج ليمنعهم من اعتراض أسد الدين إن هموا به و لما وصل أسد الدين و شاور إلى بلبيس لقيهم ناصر الدين همام و فخر الدين همام أخو الضرغام في عساكر مصر فهزموه و رجع إلى القاهرة و قتل رفقاؤه الأمراء البرقية الذين أغروه بشاور و دخل أسد الدين القاهرة و معه أخو الضرغام أسيرا و فر الضرغام فقتل بالجسر عند مشهد السيدة نفيسة و قتل أخواه و عاد شاور إلى وزارته و تمكن منها ثم نكث عهده مع أسد الدين و سلطانه و صرفه إن الشام (4/100)
فتنة أسد الدين مع شاور و حصاره
و لما رجع أسد الدين من مصر إلى الشام أقام بها في خدمة نور الدين ثم استأذن نور الدين العادل سنة إثنتين و ستين في العود إلى مصر فأذن له و جهزه في العساكر و سار إلى مصر و نازل بلاد الفرنج في طريقه ثم وصل إلى أطفيح من ديار مصر و عبر النيل إلى الجانب الغربي و نزل الجيزة و تصرف في البلاد الغربية نيفا و خمسين و استمد شاور الفرنج و جاء بهم إلى مصر وخرج معهم للقاء أسد الدين شيركوه فأدركوه بالصعيد فرجع للقائهم على رهب لكثرة عددهم و صدقهم القتال فهزمهم على قلة من معه فإنهم لم يبلغوا ألفي فارس ثم سار إلى الإسكندرية و هو يجبي الأموال في طريقه إلى أن وصلها فاستأمن أهلها و ملكها و ولى عليها صلاح الدين يوسف بن أخيه نجم الدين أيوب و رجع إلى جباية الصعيد و اجتمعت عساكر مصر و الفرنج على القاهرة و أزاحوا عليهم و ساروا إن الإسكندرية و حاصروا بها صلاح الدين فسار أسد الدين إليهم من الصعيد ثم خذله بعض من معه من التركمان بمداخلة شاور و بعثوا له إثر ذلك في الصلح فصالحهم و رد إليهم الإسكندرية و رجع إلى دمشق فدخلها آخر ذي القعدة من سنة إثنتين و ستين و استطال الفرنج على أهل مصر و شرطوا عليهم أن ينزلوا بالقاهرة و شحنة و أن تكون أبوابها بأيديهم لئلا تدخل عساكر نور الدين و قرر ضريبة يحملها كل سنة فأجابه إلى ذلك (4/100)
رجوع أسد الدين إلى مصر و مقتل شاور و وزارته
ثم طمع الإفرنج في مصر و استطالوا على أهلها و ملكوا بلبيس و اعتزموا على قصد القاهرة و أمر شاور بتخريب مصر خشية عليها منهم فحرقت و نهب أهلها و نزل الفرنج على القاهرة و أرسل العاضد إلى نور الدين يستنجده و خشي شاور من اتفاق العاضد و نور الدين فداخل الفرنج في الصلح على ألفي ألف دينار مصرية معجلة و عشرة آلاف أردب من الزرع و حذرهم أمر القهر إلى ذلك و كان فيه السفير الجليس بن عبد القوي و كان الشيخ الموفق كاتب السر و كان العاضد قد أمرهم بالرجوع إلى رأيه و قال : هو رب الحرمة علينا و على آبائنا و أهل النصيحة لنا فأمر الكامل شجاع بن شاور القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني أن يأتيه و يشاوره فقال له : قل لمولانا يعني العاضد إن تقرير الجزية للفرنج خير من دخول الغز للبلاد و اطلاعهم على الأحوال ثم بعث نور الدين العساكر مع أسد الدين شيركوه مددا للعاضد كما سأل و بعث معه صلاح الدين ابن أخيه و جماعة الأمراء فلما سمع الفرنج بوصولهم أفرجوا على القاهرة و رجعوا إلى بلادهم و قال ابن الطويل مؤرخ دولة العبيديين : إنه هزمهم على القاهرة و نهب معسكرهم و دخل أسد الدين إلى القاهرة في جمادى سنة أربع و ستين و خلع عليه العاضد و رجع إلى معسكره و فرضت له الجرايات و بقي شاور على ريبة و خوف و هو يماطله فما يعين له من الأموال و دس العاضد إلى أسد الدين بقتل شاور و قال : هذا غلامنا و لا خير لك في بقائه و لا لنا فبعث عليه صلاح الدين ابن أخيه و عز الدين خرديك وجاء شاور إلى أسد الدين على عادته فوجده عند قبر الإمام الشافعي فسار إليه هنالك فاعترضه صلاح الدين و خرديك فقتلاه و بعثا برأسه إلى العاضد و نهبت العامة دوره و اعتقل إبناه شجاع و الطازي و جماعة من أصحابه بالقصر و خلع عليه للوزارة و لقب المنصور أمير الجيوش و جلس في دست الوزارة و استقر في الأمر وغلب على الدولة و أقطع البلاد لعساكره و استعد أصحابه في ولايتها و رد أهل مصر إلى بلدهم و أنكر ما فعلوه في تخريبها ثم اجتمع بالعاضد مرة أخرى و قال له جوهر الاستاذ : يقول لك مولانا لقد تيقنا أن الله ادخرك نصرة لنا على أعدائنا فحلف له أسد للدين على النصيحة فقال له : الأمل فيك أعظم و خلع عليه وحسن عنده موقع الجليس بن عبد القوي و كان داعي الدعاة و قاضي القضاة فأبقاه على مراتبه (4/101)
وفاة أسد الدين و ولاية صلاح الدين الوزارة
ثم توفي أسد الدين رحمه الله تعالى لشهرين في أيام قلائل من وزارته و قيل لأحد عشر شهرا و أوصى أصحابه أن لا يفارقوا القاهرة و لما نوفي كان معه جماعة من الأمراء النورية منهم عين الدولة الفاروقي و قطب الدين يسال و عين الدين المشطوب الهكاوي و شهاب الدين محمود الحازمي فتنازعوا في طلب الرياسة و في الوزارة و جمع كل أصحابه للمغالبة و مال العاضد إلى صلاح الدين لصغره و ضعفه عنهم ووافقه أهل دولته على ذلك بعد أن ذهب كثير منهم إن دفع الغز وعساكرهم إلى الشرقية و يولي عليهم قراقوش و مال آخرون إلى وزارة صلاح الدين و مال العاضد إلى ذلك لمكافأته عن خدمته السالفة فاستدعاه وولاه الوزارة و اضطرب أصحابه و كان الفقيه عيسى الهكاري من خلصاء صلاح الدين فاستمالهم إليه إلا عين الدولة الفاروقي فإنه سار إلى الشام و قام صلاح الدين بوزارة مصر نائبا عن نور الدين يكاتبه بالأمير الأصفهان و يشركه في الكتاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية ثم استبد صلاح الدين بالأمور و ضعف أمر العاضد و هدم دار المعرفة بمصر و كانت حبسا و بناها مدرسة للشافعية و بني دار الغزل كذلك للمالكية و عزل قضاة الشيعة و أقام قاضيا شافعيا في مصر و استناب في جميع البلاد (4/103)
حصار الفرنج دمياط
و لما جاء أسد الدين و أصحابه إلى مصر و ملكوها و دفعوهم عنها ندموا على ما فرطوا فيها و انقطع عنهم ماكان يصل إليهم و خشوا غائلة الغز على بيت المقدس و كاتبوا الفرنج بصقلية و الأندلس و استنجدوهم و جاءهم المدد من كل ناحية فنازلوا دمياط سنة خمس و ستين و بها شمس الخواص منكوريين فأمدها صلاح الدين بالعساكر و الأموال مع بهاء الدين قراقوش و أمراء الغز و استمد نور الدين و اعتذر عن المسير إلها بشأن مصر و الشيعة فبعث نور الدين العساكر إليها شيئا فشيئا و سار بنفسه إلى بلاد الفرنج بسواحل الشام فضيق عليها فأقلع الفرنج عن دمياط لخمسين يوما من نزولها فوجدوا بلادهم خرابا و أثنى العاضد على صلاح الدين في ذلك ثم بعث صلاح الدين غرابيه نجم الدبن و أصحابه إلى مصر و ركب للعاضد للقائه تكرمة له (4/103)
واقعة الخصيان و عمارة
و لما استقام الأمر لصلاح الدين بمصر غص به الشيعة و أولياؤهم و اجتمع منهم العوريش و قاضي القضاة ابن كامل و الأمير المعروف و الكاتب عبد الصمد و كان فصيحا و عمارة اليمني الشاعر الزبيدي و كان متولي كبرها فاتفقوا على استدعاء الفرنج لإخراج الغز من مصر و جعلوا لهم نصيبا وافرا من ارتفاعها و عمدوا إلى شيعي من خصيان القصر إسمه نجاح و لقبه مؤتمن الدولة و كان قد ربى العاضد و صهره فأغروه بذلك و رغبوا على أن يجمع رسول الفرنج بالعاضد فجمعه معه في بيته ملبسا بذلك و لم يكن العاضد الذي حضر و أوهموه أنه عقد معه ثم اتصل الخبر بنجم الدين بن مضيال من أولياء الشيعة و كان نجم الدين قد اختصه صلاح الدين و ولاه الإسكندرية و استغضبه بهاء الدين قراقوش ببعض النزغات فظنوا أنه غضب فأطلعوه على شأنهم و أن يكون وزيرا و عمارة كاتب الدست و صاحب ديوان الإنشاء و المكاتبات مكان الفاضل بن كامل قاضي القضاة داعي الدعاة و عبد الصمد جابي الأموال و العوريش ناظرا عليه فوافقهم ابن مضيال و وشى بهم إلى صلاح الدين فقبض عليهم و على رسول الفرنج و قررهم في عدة مجالس و أحضر زمام القصر و هو مختص بالغز و نكر عليه خروج العاضد إلى بيت نجاح فحلف على نفسه و على العاضد أن هذا لم يقع و أخبر العاضد بطلب حضور نجاح مع مختص فحضر واعترف بالحق أن العاضد لم يحضر فتحقق صلاح الدين براءته و كان عمارة يجالس شمس الدولة تورنشاه فنقل لأخيه صلاح الدين أنه امتدحه بقصيدة يغر به فيها بالمضي إلى اليمن و يحمله على الاستبداد و أنه تعرض فيها للجانب النبوي يوجب استباحة دمه و هو قوله :
( فاخلق لنفسك ملكا لا تضاف به ... إلى سواك و أور النار في العلم )
( هذا ابن تومرت قد كانت ولايته ... كما يقول الورى لحما على وضم )
( و كان أول هذا الدين من رجل ... سعى إلى أن دعوه سيد الأمم )
فجمعهم صلاح الدين و شنقهم في يوم واحد بين القصرين و أخر ابن كامل عنهم عشرين يوما ثم شنقه و مر عمارة بباب القاضي الفاضل فطلب لقاءه فمنع فقال و هو سائر إلى المشنقة :
( عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص هو العجب )
و في كتاب ابن الأثير أن صلاح الدين إنما اطلع على أمرهم من كتابهم الذي كتبوه إلى الفرنجة عثر على حامله و قرىء الكتاب و جيء به إلى صلاح الدين فقتل مؤتمن الخلافة لقرينة و عزل جميع الخدام و استعمل على القصر بهاء الدين قراقوش وكان خصيا أبيض و غضب السودان لقتل مؤتمن الخلافة و اجتمعوا في خمسين ألفا و قاتلوا أجناد صلاح الدين بين القصرين و خالفهم إلى بيوتهم فأضرمها نارا و أحرق أموالهم و أولادهم فانهزموا و ركبهم السيف ثم استأمنوا و نزلوا الجيزة و عبر إليهم شمس الدولة تورنشاه فاستلحمهم (4/104)
قطع الخطبة للعاضد و انقراض الدولة العلوية بمصر
كان نور الدين العادل يوم استقل صلاح الدين بملك مصر و ضعف أمر العاضد بها و تحكم في قصره يخاطبه في قطع دعوتهم من مصر و الخطبة بها للمستضيء العباسي و هو يماطل بذلك حذرا من استيلاء نور الدين عليه و يعتذر بتوقع المخالفة من أهل مصر في ذلك فلا يقبل ثم ألزمه ذلك فاستأذن فيه أصحابه فأشاروا به و أنه لا يمكن مخالفة نور الدين و وفد عليه من علماء العجم الفقيه الخيشاني و كان يدعى بالأمير العالم فلما رأى إحجامهم عن هذه الخطبة قال : أنا أخطبها ! فلما كان أول جمعة من المحرم سنة سبع و ستين و خمسمائة صعد المنبر قبل الخطيب و دعا للمستنصر فلم ينكر أحد عليه فأمر صلاح الدين في الجمعة الثانية الخطباء بمصر و القاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد و يخطبوا للمستضيء ففعلوا و كتب بذلك إلى سائر أعمال مصر و كان العاضد في شدة من المرض فلم يعلمه أحد بذلك و توفي في عاشوراء من السنة و جلس صلاح الدين للعزاء فيه و احتوى على قصر الخلافة بما فيه فحمله بهاء الدين قراقوش إليه و كان في خزائنهم من الذخيرة ما لم يسمع بمثله من أصناف الجواهر و اليواقيت و الزمرد و حلي الذهب و آنية الفضة و الذهب و وجد ماعون القصر من الموائد و الطسوت و الأباريق و القدور والصحاف و الخوان و البواقيل و المناير و الطيافر و القباقب و الأسورة كل ذلك من الذهب و وجد من أنواع الطيوب و اللباس و المذهبات و القرقبيات المعلقات و الوشي ما لا تقله الأوقار و من الكتب ما يناهز مائة و عشرين ألف سفر أعطاها للفاضل عبد الرحيم البيساني كاتبه و قاضيه و من الظهر و الكراع و السلاح و من الخدم و الوصائف خمسين ألفا و من المال ما يملأ مائة بيت ثم حبس رجالهم و نساءهم حتى ماتوا وكانت بالدولة عند عهد العزيز و الحاكم قد خلا جوها من رجالات كتامة و تفرقوا في المشرق في سبيل ذلك الملك و انقرضوا بانقراض أمر الشيعة و موت العاضد آخر خلفائهم و أكلتهم الأقطار و الوقائع شأن الدول كما ذكرناه من قبل و لما هلك العاضد و حول صلاح الدين الدعوة إلى العباسية اجتمع قوم من الشيعة بمصر و بايعوا لداود بن العاضد و نمي خبرهم إلى صلاح الدين فقبض عليهم و قتلهم وأخرج داود من القصر و ذلك سنة تسع و ستين و خمسمائة ثم خرج بعد حين إبنه سليمان بن داود رضي الله تعالى عنه بالصعيد و حبس إلى أن هلك و ظهر بعد حين بجهة فاس بالمغرب محمد بن عبد الله بن العاضد و دعا هنالك و تسمى بالمهدي فقتل و صلب و لم يبق للعبيديين ذكر إلا في بلاد الحثيثية من العراق و هم دعاة الفداوية و في بلاد الإسماعيلية التي كانت فيها دعوتهم بالعراق و قام بها ابن الصباح في قلعة الموت و غيرها كما يذكر في أخبارهم إلى أن انقرضت تلك الدعوة أجمع بانقطاع دعوة العباسيين ببغداد على يد هولاكو من و لد جنكزخان ملوك التتر سنة خمس وخمسين و ستمائة و الأمر لله وحده هذه أخبار الفاطميين ملخصة من كتاب ابن الأثير و من تاريخ دولتهم لابن الطوير و قليل من ابن المسبحي جمعت ما أمكنني منها ملخصا و الله ولي العون (4/105)
الخبر عن بني حمدون ملوك المسيلة و الزاب بدعوة العبيديين و مآل أمرهم
كان علي بن حمدون أبوهم من أهل الأندلس و هو علي بن حمدون بن سماك بن مسعود بن منصور و الجذامي يعرف بابن الأندلسي و اتصل بعبيد الله و أبي القاسم بالمشرق قبل شأن الدعوة و بعثوه من طرابلس إلى عبد الله الشيعي فأحسن اللقاء و الانصراف و لزمهم أيام اعتقالهم بسجماسة فلما استفحل ملكهم جذبوا أبا ضبيعة و رقوه إلى الرتب و لما رجع أبو القاسم من حركته إلى المغرب سنة خمس عشرة و ثلثمائة و اختط مدينة المسيلة استعمل علي بن حمدون على بنائها و سماها المحمدية و لما تم بناؤها عقد له على الزاب و أنزله بها و شحنها بالأقوات التي كانت ميرة للعساكر عند محاصرة المنصور لأبي يزيد صاحب الحمار بجبل كتامة و لم يزل واليا على الزاب و ربى إبنيه جعفرا و يحيى بدار أبي القاسم و كان جعفر سار إلى المعز و لما كانت فتنة أبي يزيد و أضرمت أفريقية نارا و فتنة و أهاب القائم بالأولياء من كل ناحية كتب إلى ابن حمدون أن يجند قبائل البربر و يوافيه فنهض إلى المهدية في عسكر ضخم بقسنطينة و هو يحتشد كل من مر به في طريقه حتى وصل إلى شق بنارية ثم قارب باجة و كان بها أيوب بن أبي يزيد في عسكر كبير من النكارية و البربر فزحف إليهم و تناور الفريقان ثم بيته أيوب فاستباح معسكره و تردى علي ابن حمدون من بعض الشواهق فهلك سنة أربع و ثلاثين و ثلثمائة و لما انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على المسيلة و الزاب لجعفر بن علي بن حمدون و أنزله بها و أخاه يحيى و استجدوا بها سلطانا و دولة و بنوا القصور و المنتزهات و استفحل بها ملكهم و قصدهم بها العلماء و الشعراء و كان فيمن قصدهم ابن هانيء شاعر الأندلس و أمداحه فيهم معروفة مذكورة و كان بين جعفر هذا و بين زيري بن مناد عداوة جرتها المنافسة و المساماة في الدولة فساء أثر زيري فيه عند صدمته للمغرب و فتكه بزناتة و سعوا به إلى الخليفة و ألقح له في جوانحه العداوة فكانت داعيته إلى زناتة و تولى محمد بن خزر أمير مغراوة ثم إن المعز لما اعتزم على الرحيل إلى القاهرة سنة إثنتين و ثلثمائة استقدم جعفرا فاستراب جعفر و مال بعسكره إلى زناتة قبل قدومه و انقطعت الرسائل بينه و بين صنهاجة و الخليفة المعز و شملت عليه زناتة قبل قدومه و اجتمعوا عليه و دعا إلى نقض طاعة المعز و الدعاء للحاكم المستنصر فوجدهم أقدم إجابة لها و ناهضهم زيري الحرب قبل استكمال التعبية فكانت عليه من أمراء زناتة فكبا بزيري فرسه فطاح فقصوا رأسه و بعثوا به مع جماعة من زناتة إلى الحاكم المستنصر فكرم الحاكم وفادتهم و نصب رأس زيري بسوق قرطبة و أسنى جوائز الوفد و رفع منزلة يحيى بن علي و أذن لجعفر في اللحاق بسدته و لما علمث زناتة أن يوسف بن زيري يطالبهم بدم أبيه أظهروا العذر به و رأى أن يتجنب مجابهتهم لضيق ذات يده و عجز رؤساؤهم عن الذب و الدفاع عنها و قبض الأيدي عن تناوله لدنو الفتنة و مراس العصبية فأوجس الخيفة في نفسه و ألطف الحيلة في الفرار رغبة بحيلته و شحن السفن بما معه من المال و المتاع و الرقيق و الحشم و ذخيرة السلطان و أجاز البحر ولحق بسدة الخلافة من قرطبة و أجاز معه عظماء الزناتيين معطين الصفقة على القيام بدعوته و الاحتطاب في جبل طاعته فكرم مثواه و أجمل وفادتهم و أحسن منصرفهم و انقلبوا لمحبته و التشيع له و مناغاة الادارسة للقيام في خدمته بالمغرب الأقصى و بث دعوته و تخلف عنهم أولاد علي بن حمدون بالحضرة و أقاموا بسدة الخلافة و نظموا في طبقات الوزارة و أجريت عليهم سنيات الأرزاق و التحقوا على حديث عهدهم بالقوم من أولياء الدولة ثم كان بعد ذلك شأن اعتقالهم على طريق التأديب لمرتكب من نازعهم خرقوا به حدود الآداب مع الخلافة فاستدعوا إلى القصر و اعتقلوا ثم أطلقوا لأيام قلائل لما انغمس الحكم في علة الفالج و ركدت ريح المروانية بالمغرب و احتاجت الدولة إلى رجالهم لسد الثغور و دفع العدو و استدعي يحيى بن هاشم من العدوة و كان واليا على قاس و المغرب و أدا له الحاجب المصفحي لجعفر بن على بن حمدون و جمعوا بين الانتفاع في مقارعة زناتة بالعدوة و الراحة مما يتوقع منه على الدولة عند من ولي الخلافة لما كانوا صاروا إليه من النكبة و طروق المحنة فعقدوا له و لأخيه يحيى على المغرب و خلعوا عليهما و أمكنوهما من مال و كسا فاخرة للخلع على ملوك العدوة فنهض جعفر إلى المغرب سنة خمس و ستين و ضبطه و اجتمع إليه ملوك زناتة من بني يفرن و مغراوة و سجلماسة و لما هلك الحكم و ولي هشام و قام بأمره المنصور بن أبي عامر اقتصر لأول قيامه على سبتة من بلاد العدوة فضبطها جند السلطان و رجال الدولة و قلدها أرباب السيوف و الأقلام من الأولياء و الحاشية و عدل في ضبطه على ما وراء ذلك على ملوك زناتة و نقدهم بالجوائز و الخلع و صار إلى إكرام وفودهم و إثبات من رغب الإثبات في ديوان السلطان منهم فجدوا في ولاية الدولة و بث الدعوة و فسد ما بين هذين الأميرين جعفر و أخيه و اقتطع يحيى مدينة البصرة لنفسه و ذهب بأكثر الرجال ثم كانت على جعفر النكبة التي نكبته بنو غواطة في غزاتة إياهم ثم استدعاه محمد بن أبي عامر لأول أمره لما رأى من الاستكانة إليه وشد أزره به و نقم عليه كراهته لما لقيه بالأندلس من الحكم ثم أصحبه و تخلى لأخيه عن عمل المغرب و أجاز البحر إلى ابن أبي عامر فحل منه بالمكان الأثير و لما زحف بلكين إلى المغرب سنة تسع و ستين زحفته المشهورة خرج محمد بن أبي عامر من قرطبة إلى الجزيرة لمدافعته بنفسه و أجاز جعفر بن علي إلى سبتة و عقد له على حرب بلكين و أمده بمائة حمل من المال و انضمت إليه ملوك زناتة و رجع عنهم بلكين كما نذكره و لما رجع إلى ابن أبي عامر فاغتاله في بعض ليالي معاقرتهم و أعد له رجالا في طريقه من سمره إلى داره فقتلوه سنة و لحق يحيى بن علي بمصر و نزل بدار العزيز و تلقاه بالمبرة و التكريم و طال به ثواؤه و استكفى به العظائم و لما استصرخ فلفول بن خزرون بالحاكم في استرجاع طرابلس من يد صنهاجة المتغلبين عليه دفع إليه العساكر و عقد عليها ليحيى بن علي و اعترضه بنو قرة من الهلاليين ببرقة ففلوه و فضوا جموعه و رجع إلى مصر و لم يزل بمصر إلى أن هلك هنالك و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير للوارثين (4/107)
الخبر عن القرامطة و استبداد أمرهم و ما استقر لهم من الدولة بالبحرين و أخبارها إلى حين انقراضها
هذه الدعوة لم يظهرها أحد من أهل نسب العلوية و لا الطالبيين و إنما قام بها دعاة المهدي من أهل البيت على اختلاف منهم في تعيين هذا المهدي كما نذكره و كان مدار دعوتهم على رجلين أحدهما يسمى الفرج بن عثمان القاشاني من دعاة المهدي و يسمى أيضا كرويه بن مهدويه و هو الذي انتهى إليه دعاتهم بسواد الكوفة ثم بالعراق و الشام و لم يتم لهؤلاء دولة و الآخر يسمى أبا سعيد الحسن بن بهرام الجنابي كانت دعوته بالبحرين و استقرت له هنالك دولة و لبنيه و انتسب بعض مزاعمهم إلى دعاة الإسماعيلية الذين كانوا بالقيروان كما نذكره و دعوى هؤلاء القرامطة في غاية الاضطراب مختلة العقائد و القواعد منافية للشرائع و الإسلام في الكثير من مزاعمهم و أول من قام بها بسواد الكوفة سنة ثمان و سبعين و مائتين رجل أظهر الزهد و التقشف و زعم أنه يدعو إلى المهدي و أن الصلوات المفروضة خمسون كل يوم و استجاب له جمع كثير و لقب قرمط و أصلها بالكاف و كان يأخذ من كل من يجيب دعوته دينارا للإمام و جعل عليهم نقباء و سماهم الحواريين و شغل الناس بذلك عن شؤنهم و حبسه عامل الناحية ففر من محبسه و لم يوقف له على خبر فازداد أتباعه فتنة فيه ثم زعم أنه الذي بشر به أحمد بن محمد بن الحنفية و أن أحمد نبي و فشا هذا المذهب في السواد و قرئ بينهم كتاب زعموا أنه جاءهم من داعيه المهدي نصه بعد البسملة يقول الفرج بن عثمان : الحمد لله بكلمته و تعالى باسمه المنجد لأوليائه بأوليائه قل إن الأهلة مواقيت للناس ظاهرها لتعلم عدد السنين و الحساب و الشهور و الأيام و باطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب و أنا الذي لا أسأل عما أفعل و أنا العليم الحكيم و أنا الذي أبلو عبادي و أستخبر خلقي فمن صبر على بلائي و محنتي و اختباري ألقيته في جنتي و أخلدته في نعمتي و من زال عن أمري و كذب رسلي أخلدته مهانا في عذابي و أتممت أجلي و أظهرت على ألسنة رسلي فأنا الذي لا يتكبر علي جبار إلا وضعته و لا عزيز إلا ذللته فليس الذي أصر على أمره و دام على جهالته و قال لن نبرح عليه عاكفين و به مؤمنين أولئك هم الكافرون ثم يركع و يقول في ركوعه مرتين سبحان ربي و رب العزة تعالى عما يصف الظالمون و في سجوده الله أعلى مرتين الله أعظم مرة و الصوم مشروع يوم المهرجان و النيروز و النبيذ حرام و الخمر حلال و الغسل من الجنابة كالوضوء و لا يوكل ذو ناب و لا ذو مخلب و من خالف و حارب وجب قتله و من لم يحارب أخذت منه الجزية انتهى إلى غير ذلك من دعاوي شنيعة متعارضة يهدم بعضها بعضا و شاهد عليهم بالكذب و الذي حملهم على ذلك إنما هو ما اشتهر بين الشيعة من أمر المهدي مستندين فيه إلى الأحاديث التي خرجها بعضهم و قد أريناك عللها في مقدمة الكتاب في باب الفاطمي فلهجوا به و بالدعوة إليه فمن الصادق فيمن يعينه و إن كان كاذبا في استحقاقه و منهم من بنى أمره على الكذب و الانتحال عساه يستولي بذلك على حظ من الدنيا ينال بها صففة و قد يقال إن ظهور هذا الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج و إنه سار على الأمان و قال له : إن ورائي مائة ألف سيف فناظرني لعلنا نتفق و نتعاون ثم اختلفا و انصرف قرمط عنه وكان يسمي نفسه القائم بالحق و زعم بعض الناس أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج ثم زحف إليه أحمد بن محمد الطائي صاحب الكوفة في العساكر فأوقع بهم و فتك بهم و تتابعت للعساكر في السواد في طلبهم و أبادوهم و فر هو إلى أحياء العرب فلم يجبه أحد منهم فاختفى في القفر في جب بناه و اتخذه لذلك و جعل عليه باب حديد و اتخذ بجانبه تنورا سحرا إن أرهقه الطلب فلا يفطن له ولما اختفى في الجب بعث أولاده في كاب بن دبرة بأنهم من و لد إسمعيل الإمام مستجيرون بهم ثم دعوا إلى دعوتهم أثناء ذلك و كانوا ثلاثة يحيى و حسين و علي فلم يجبهم أحد إلى ذلك إلا بنو القليص بن ضمضم بن علي بن جناب فبايعوا ليحيى على أنه يحيى ابن عبد الله بن محمد بن إسمعيل الإمام و كنوه أبا القاسم و لقبوه الشيخ ثم حول اسمه وادعى أنه محمد بن عبد الله و أنه كان يكتم هنا الاسم و أن ناقته التي يركبها مأمورة و من تبعها منصور فزحف إليه سبك مولى المعتضد في العساكر فهزمها وقتل فسار إليه محمد بن أحمد الطائي في العساكر فانهزمت القرامطة و جيء ببعضهم أسيرا فاحتضره المعتضد و قال : هل تزعمون أن روح الله و أنبيائه تحل فيكم فتعصمكم من الزلل وتوفقكم لصالح العمل فقال له : يا هذا أرأيت لو حلت روح إبليس فما ينفعك فاترك مالا يعنيك إن ما يعنيك فقال له : قل فيما يعنيني ! فقال له : قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبوكم العباس حي نم يطلب هذا الأمر و لا بايعه أحد ثم قبض أبو بكر واستخلف عمر و هو يرى العباس و لم يعهد إليه عمر و لا جعله من أهل الشورى و كانوا ستة و فيهم الأقرب و الأبعد و هذا إجماع منهم على دفع جدك عنها فبماذا تستحقون أنتم الخلافة ؟ فأمر المعتضد به فعذب وخلعت عظامه ثم قطع مرتين ثم قتل ثم زحف القرامطة إلى دمشق و عليها طفج مولى ابن طولون سنة تسعين و استصرخ بابن سيده بمصر فجاءت العساكر لإمداده فقاتلهم مرارا و قتل يحيى بن ذكرويه المسمى بالشيخ في خلق من أصحابه و اجتمع فأمهم على أخيه الحسين و تسمى أحمد أبا العباس و كانت في وجهه شامة يزعم أنها مقدسة فلقب صاحب الشامة المهدي أمير المؤمنين و أتاه ابن عمه عيسى بن مهدي و هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسمعيل الإمام و لقبه المدثر و عهد إليه وزعم أنه المذكور في القرآن و لقب غلاما من أهله المطوق ثم دعا الناس فأجابه كثير من أهل البوادي و سار إلى دمشق فحاصرها حتى صالحوه على مال و دفعوه له ثم سارا إلى حمص و حماة و المعرة و بعلبك فخطب له بها و استباحها جميعا ثم إلى سلمية و بها جماعة من بني هاشم فاستلحمهم حتى الصبيان بالمكاتب و البهائم ثم خرج المكتفي إليه و قدم عساكره فكبسهم و نجا فلهم إن حلب و انتهى المكتفي إلى الرقة و قد سار بدر مولى ابن طولون في اتباع القرامطة فهزمهم و أثخن فيهم و بعث المكتفي العساكر مع يحيى بن سليمان الكاتب و فيهم الحسين بن حمدان من بني تغلب و معهم بنو شيبان فواقعوا القرامطة سنة إحدى و تسعين فهزموهم و قتل منهم خلق من أصحاب القرمطي و نجا ابنه أبو القاسم ببعض ذخيرته و سار هو مستخفيا إلى ناحية الكوفة و معه المدثر و المطوق و غلام له و انتهوا إلى الرحبة فوشى بهم إلى العامل فقبض عليهم و بعث بهم إلى المكتفي بالرقة و رجع إلى بغداد فقطعهم بعد أن ضرب صاحب الشامة مائتي سوط و أما علي بن ذكرويه ففر بعد مقتل أخيه يحيى على دمشق إلى ناحية الفرات و اجتمع إليه فل من القرامطة فاستباح طبربة ثم لما اتبعهم الحسين بن حمدان فر إلى اليمن و اجتمع إليه دعاتهم هنالك و تغلب على كثير من مدنه و قصد صنعاء فهرب عنها ابن يعفر فاستباحها و تجافى عن صعدة لذمة العلوية بينه و بين بني الرسى و نازل بني زياد بن بيد و مات في نواحي اليمن و في خلال ذلك بعث أبوه ذكرويه إلى بني القليص بعد أن كانوا استكانوا و أقاموا بالسماوة فبعث إليهم من أصحابه عبد الله بن سعيد و يسمى أبا غانم فجاءهم بكتابه سنة ثلاث و تسعين بأنه أوحى إليه بأن صاحب الشامة و أخاه الشيخ مقبلان و أن إمامه يظهر من بعدهما و يملأ الأرض عدلا و يظهر و طاب أبو غانم على إحياء كلب فاجتمع إليه جماعة منهم و قصد الشام فاستباح بصرى و أذرعات و نازل دمشق وعاملها يومئذ أحمد بن كيغلع و هو غائب بمصر في محاربة الجليجي الثائر من شيعة بني طولون على عساكر المكتفي و قابله خلفاؤه فهزمهم و قتل بعضهم و سار إلى الأردن فقتل عاملها و نهب طبرية و بعث المكتفي الحسين بن حمدان في العساكر ففر أبو غانم إلى السماوة و غور مياهها و اتبعته العساكر إلى أن جهدهم العطش ثم رجع الحسين بهم إلى الرحبة و قيل إنهم تقبضوا على أبي غانم و قتلوه و افترق جمعهم وذلك سنة ثلاث و تسعين (4/110)
ظهور ذكرويه و مقتله
ثم اجتمع القرامطة إلى ذكرويه و أخرجوه من الجب الذي كان مختفيا فيه منذ عشرين سنة و حضر عنده دعاتهم فاستخلف عليهم أحمد بن القاسم بن أحمد و عرفهم بما له عليهم من المنة و أن رشادهم في امتثال أمره و رمز لهم في ذلك بآيات من القرآن حرف تأويلها و سار و هو محتجب يدعونه السيد و لا يرونه و القاسم يباشر الأمور و يتولاها و بعث المكتفي عساكره فهزمهم القرامطة بالسواد و غنموا معسكرهم و ساروا لاعتراض الحاج و مروا بالصوان و حاصروا الواقصة فامتنعت عليهم و طموا الآبار و المياه في تلك النواحي و بعث المكتفي محمد بن إسحق بن كنداج الصهال و رجعوا و نهب القرامطة الحاج و قتلوهم بعد أن قاتلوهم ثلاثا على غير ماء فاستسلموا و غنم أموالهم و أموال التجار و أموال بني طولون كانوا نقلوها من مصر إلى مكة ثم من مكة إلى بغداد عندما أجمعوا النقل إليها ثم حاصر القرامطة بقية الحاج في حمص قيل فامتنعوا و جهز المكتفي العساكر مع و صيف بن صوارتكين و جماعة من القواد فساروا على طر يق خفان و أدركوا القرامطة فقاتلوهم يومين ثم هزموهم و ضرب ذكرويه على رأسه فانهشم و جيء به أسيرا و بخليفة القاسم و ابنه و كاتبه و زوجته و مات لخمس ليال فسيق شلوه إلى بغداد و صلب وبعث برأسه إلى خراسان من أجل الحاج الذين نهبهم من أهلها و نجا الفل من أصحابه إلى الشام فأوقع بهم الحسين بن حمدان و استلحمهم و تتبعوا بالقتل في نواحي الشام و العراق و ذلك سنة أربعين و تسعين و ثلثمائة (4/113)
خبر قرامطة البحرين و دولة بني الجنابي منها
و في سنة إحدى و ثمانين و مائتين جاء إلى القطيعي من البحرين رجل تسمى بيحيى بن المهدي و زعم أنه رسول من المهدي و أنه قد قرب خروجه و قصد من أهل القطيف علي بن المعلى بن أحمد الدبادي و كان متغاليا في التشيع فجمع الشيعة وأقرأهم كتاب المهدي و شنع الخبر في سائر قرى البحرين فأجابوا كلهم و فيهم أبو سعيد الجنابي و إسمه الحسن بن بهرام و كان من عظمائهم ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدة و رجع بكتاب المهدي يشكرهم على إجابتهم و يأمرهم أن يدفعوا ليحيى ستة دنانير و ثلاثين عن كل رجل تدفعوها ثم غاب و جاء بكتاب آخر يدفعوا إليه خمس أموالهم فدفعوا و قام يتردد في قبائل قيس ثم أظهر أبو سعيد الجنابي للدعوة بالبحرين سنة ثلاث و ثمانين و اجتمع إليه القرامطة و الأعراب وسار إلى القطيف طالبا البصرة و كان عليها أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي فأدار السور على البصرة و بعث المعتمد علي بن عمر الغنوي و كان على فارس فاقطعه اليمامة والبحرين و ضم إليه ألفين من المقاتلة و سيره إلى البصرة فاحتشد و خرج للقاء الجنابي و من معه و رجع عنه عند اللقاء بنوضبة فانهزم و أسره الجنابي و احتوى على معسكره و حرق الأسرى بالنار ثم من عليه و أطلقه فسار إلى الأبلة و منها إلى بغداد وسار أبو سعيد إلى هجر فملكها و أمنها و اضطربت البصرة للهزيمة و هم أهلها بالارتحال فمنعهم الواثقي و من كتاب ابن سعيد في خبر قرامطة البحرين ملخصا من كلام الطبري فلعله كما ذكره قال : كان ابتداء أمر القرامطة سنة ثمان و ثلثمائة فنقل الكلام و كان أبو سعيد يمهد لابنه الأكبر سعيد فلم به و ثار به أخوه الأصغر الظاهر سليمان فقتله و قام بأمرهم و بايعه العقدانية و جاءه كتاب عبيد الله المهدي بالولاية و في سنة ست و ثمانين و صل أبو القاسم القائم إلى مصر و استدعى أبا طاهر القرمطي و انتظره فأعجله مؤنس الخادم عن انتظاره و سار من قبل المقتدر فهزمه و رجع إلى المهدية ثم سار أبو الطاهر سنة سبع إلى البصرة فاستباحها و رجع واضطربت بغداد و أمر المقتدر بإصلاح ما تثلم من سورها ثم زحف إليها أبو الطاهر سنة إحدى عشرة فاستباحها و خرب الجامع و تركها خربة ثم خرج سنة إثنتي عشرة لاعتراض الحاج فأوقع بهم و هزم قواد السلطان الذين كانوا معهم و أسر أميرهم أبا النجاء بن حمدون و استصفى النساء و الصبيان و ترك الباقي بالبرية فهلكوا ثم خرج سنة أرج عشرة إلى العراق فعاث في السواد و دخل الكوفة و فعل فيها أشد من البصرة و في سنة أربع عشرة وقع بين العقدانية و أهل البحرين خلاف فخرج أبو الطاهر و بني مدينة الأحساء و سماها المؤمنية فلم تعرف إلا به و بنى قصره و أصحابه حوله و في سنة خمس عشرة استولى على عمان و هرب واليها في البحر إلى فارس وزحف سنة ست عشرة إلى الفرات و عاث في بلاده و بعث المقتدر عن يوسف بن أبي الساج من أذربيجان وولاه و اسط و بعثه لحربه فالتقوا بظاهر الكوفة و هزمه أبو طاهر و أسره و أرجف أهل بغداد وسار أبو طاهر إلى الأنبار و خرجت العساكر من بغداد لدفاعه مع مؤنس المظفر و هرون بن غريب الحال فلم يطيقوا دفاعه و توافقوا ثم تحاجزوا و عاد مؤنس إلى بغداد و سار هو إلى الرحبة و استباحها و دوخ بلاد الجزيرة بسراياه وسار إلى هشت و الكوفة و قاتل الرقة فامتنعت عليه وفرض الأتاوة على أعراب الجزيرة يحملونها إلى هجر و دخل في دعوته جماعة من بنى سليم بن منصور وبني عامر بن صعصعة و خرج إليه هرون بن غريب الحال فانصرف أبو طاهر إلى البرية و ظفر هرون بفريق منهم فقتلهم و عاد إلى بغداد و في سنة سبع عشرة هجم على مكة و قتل كثيرا من الحاج و من أهلها و نهب أموالهم جميعا و قلع باب البيت و الميزاب و قسم كسوة البيت في أصحابه و اقتلع الحجر الأسود و انصرف به و أراد أن يجعل الحج عنده وكتب إليه عبيد الله المهدي من القروان يوبخه على ذلك ويتهدده فكتب إليه بالعجز عن رده من الناس ووعد برد الحجر فرده سنة تسع وثلاثين بعد أن خاطبه منصور إسمعيل من القيروان في رده فردوه و قد كان الحكم المتغلب على الدولة ببغداد أيام المستكفي بذل لهم خمسين ألفا من الذهب على أن يردوه فأبوا و زعموا أنهم إنما حملوه بأمر إمامهم عبيد الله و إنما يردونه بأمره و أمر خليفته و أقام أبو طاهر بالبحرين و هو يتعاهد العراق و الشام بالغزو حتى ضربت له الأتاوة ببغداد و بدمشق على بني طفج ثم هلك أبو طاهر سنة إثنتين و ثلاثين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه و مات عن عشرة من الولد كبيرهم سابور و ولى أخوه الأكبر أحمد بن الحسن و اختلف بعض العقدانية عليه و مالوا إلى ولاية سابور بن أبي طاهر و كاتبو القائم في ذلك فجاء جوابه بولاية الأخ أحمد و أن يكون الولد سابور ولي عهده فاستقر أحمد في الولاية عليهم كنوه أبا منصور و هو الذي رد الحجر الأسود إلى مكانه كما قلناه ثم قبض سابور على عمه أبي منصور فاعتقله بموافقة إخوته له على ذلك و ذلك سنة ثمان و خمسين ثم ثار بهم أخوه فأخرجه من الاعتقال و قتل سابور و نفى إخوته و أشياعهم إلى جزيرة أوال ثم هلك أبو منصور سنة تسع و خمسين يقال مسموما على يد شيعة سابور و ولي إبنه أبو علي الحسن بن أحمد و يلقب الأعصم و قيل الأغنم فطالت مدته و عظمت و قائعه و نفى جمعا كثيرا من و لد أبي طاهر يقال اجتمع منهم بجزيرة أوال نحو من ثلثمائة و حج هذا الأعصم بنفسه و لم يتعرض للحاج و لا أنكر الخطبة للمطيع (4/114)
فتنة القرامطة مع المعز العلوي
ولما استولى جوهر قائد المعز لدين الله على مصر و جعفر بن فلاح الكتامي على دمشق طالب الحسن بالضريبة التي كانت له على دمشق فمنعوه و نابذوه وكتب له المعز وأغلظ عليه و دس لشيعة أبي طاهر و بنيه أن الأمر لولده و أطلع الحسن على ذلك فخلع المعز سنة إثنتين و ثلاثماية و خطب للمطيع العباسي في منابره و لبس السواد ثم زحف إلى دمشق و خرج جعفر بن فلاح لحربه فهزمه الأعصم و قتله و ملك دمشق و سار إلى مصر فحاصر جوهرا بها و ضيق عليه ثم غدر به العرب و اجفلوا فأجفل معهم و عاد إلى الشام و نزل الرملة وكتب إليه المعز سنة إحدى و ستين بالنفي والتوبيخ و عزله عن القرامطة و ولى بني أبي طاهر فخرجوا من أوال و نهبوا الأحساء في غيبته وكتب إليهم الطائع العباسي بالتزام الطاعة و أن يصالحوا ابن عمهم ويقيموا بجزيرة أوال و بعث من أحكم بينهم الصلح ثم سار الأعصم إلى الشام وتخطاها دون صور فقاتلوه و راء الخنادق و بذل جوهر المال للعرب فافترقوا عنه وانهزم و نهب معسكره و جاء المعز من أفريقية و دخل القاهرة سنة ثلاث و ستين وسرح العساكر إلى الشام فاستولوا عليه فنهض الأعصم إليهم فأوقع بهم و أثخن فيهم و انتزع ما ملكوه من الشام سار إلى مصر و بعث المعز لدين الله إبنه عبد الله فلقيهم على بلبيس و انهزم الأعصم و فشا القتل و الأسر في أصحابه فكانوا نحوا من ثلاثة آلاف و رجع الأعصم إلى الأحساء و استخلص المعز بني الجراح أمراء الشام من طيء حتى استرجع بهم ما غلب عليه القرامطة من الشام بعد حروب و حصار ثم مات المعز سنة خمس و ستين و طمع الأعصم في بلاد الشام و كان أفتكين التركي مولى معز الدولة بن بويه لما انتقض على أبيه بختيار وهزمه ببغداد سار أفتكين منهزما إلى دمشق و كانوا مضطرين فخرجوا إليه و ولوه عليهم و صالح المعز إلى أن توفي فنابذ العزيز و بعث إليه جوهر في العساكر فحاصره فكتب أفتكين إلى الأعصم واستدعاه فجاء إلى الشام سنة ست و ستين و خرج معه أفتكين و نازلوا الرملة فملكوها من يد جوهر و زحف إليهم العزيز و هزمهم و تقبض على أفتكين و لحق الأعصم بطبرية منهزما ثم ارتحل منها إلى الأحساء و أنكروا ما فعله الأعصم من البيعة لبني العباس و اتفقوا على إخراج الأمر عن و لد أبي سعيد الجنابي و قدموا رجلين منهم و هما جعفر و إسحق و سار بنو أبي سعيد إلى جزيرة أوال و كان بنو أبي طاهر قبلهم فقتلوا كل من دخل إليهم من و لد أحمد بن أبي سعيد و أشياعه ثم قام بأمر القرامطة جعفر و إسحق هذان و رجعوا إلى دعوة العلوية و محاربة بني بويه ورجعوا سنة أربع و ستين إلى الكوفة فملكوها و بعث صمصام الدولة بن بويه العساكر إليهم فهزمهم على الفرات و قتل منهم خلق و اتبعوهم إلى القادسية ثم اختلف جعفر و إسحق و طمع كل منهما في الرياسة على صاحبه و افترق أمرهم و تلاشت دعوتهم إلى أن استولى الأصغر بن أبي الحسن الثعلبي سنة ثمان و تسعين عليهم و ملك الأحساء من أيديهم و أذهب دولتهم و خطب للطائع و استقرت الدولة له و لبنيه (4/116)
ذكر المتغلبين بالبحرين من العرب بعد القرامطة
كان بأعمال البحرين خلق من العرب و كان القرامطة يستنجدونهم على أعدائهم ويستعينون بهم في حروبهم و ربما يحاربونهم و يقاطعونهم في بعض الأوقات و كان أعظم قبائلهم هنالك بنو ثعلب و بنو عقيل و بنو سليم و أظهرهم في الكثرة و العزة بنو ثعلب و لما فشلت دولة القرامطة بالبحرين و استحكمت العداوة بينهم و بين بني بوبه بعد انقراض ملك بني الجنابي و عظم اختلافهم عند القائم بدعوة العباسية و كان خالصة للقرامطة و دعاه إلى إذهاب دولتهم فأجابه و داخل بني مكرم رؤساء عمان في مثل ذلك فأجابوه و استولى الأصغر على البحرين و أورثها بنيه و استولى بنو مكرم على عمان ثم غص بنو ثعلب بسليم و استعانوا عليهم ببني عقيل و طردوهم من البحرين فساروا إلى مصر و منها كان دخولهم إلى أفريقية كما يأتي ثم اختلف بنو ثعلب و بنو عقيل بعد مدة و طردهم بنو ثعلب إلى العراق فملكوا الكوفة و البلاد العراقية و امتد ملك الأصغر و طالت أيامه و تغلب على الجزيرة و الموصل و حارب بني عقيل سنة ثمان و ثلاثين و أربعمائة برأس عين من بلاد الجزيرة وغص بشأنه نصير الدولة بن مروان صاحب ميافارقين و ديار بكر فقام له و جمع له الملوك من كل ناحية فهزمه و اعتقله ثم أطلقه و مات و بقي الملك متوارثا في بنيه بالبحرين إلى أن ضعفوا و تلاشوا و انقرضت دولة بني عقيل بالجزيرة و غلبهم عليها و على تلك البلاد أولياء الدولة السلجوقية فتحولوا عنها إلى البحرين مواطنهم الأولى و وجدوا بني ثعلب قد أدركهم الهرم فغلبوا عليهم قال ابن سعيد : سألت أهل البحرين حين لقيتهم بالمدينة النبوية سنة إحدى و خمسين و ستمائة عن البحرين فقالوا : الملك فيها لبني عامر بن عوف بن عامر بن عقيل و بنو ثعلب من جملة رعاياهم و بنو عصفور منهم أصحاب الأحساء و ( لنذكر ) هنا نبذة في التعريف بكاتب القرامطة و أمصار البحرين و عمان لما أن ذلك من توابع أخبارهم
( الكاتب ) : كان كاتبهم أبو الفتح الحسين بن محمود و يعرف بكشاجم كان من أعلام الشعراء و ذكره الثعالبي في اليتيمة و الحصري في زهر الآداب و هو بغدادي المولد و أشهر بخدمة القرامطة فيما ذكره البيهقي و كتب لهم بعده إبنه أبو الفتح نصر و لقبه كشاجم مثل أبيه وكان كاتبا للأعصم
( البحرين ) : إقليم يسمى بإسم مدينته و يقال هجر باسم مدينة أخرى منه كان حضرية فخربها القرامطة و بنو الأحساء و صارت حاضرة و هذا الإقليم مسافة شهر على بحر فارس بين البصرة و عمان شرقيها في فارس و غربيها متصل باليمامة و شمالها البصرة و جنوبها بعمان كثيرة المياه ببطونها على القامة و القامتين كثيرة البقل و الفواكه مفرطة الحر منهالة الكثبان يغلب الرمل عليهم في منازلهم و هي من الإقليم الثاني و بعضها في الثالث كانت في الجاهلية لعبد القيس و بكر بن وائل من ربيعة و ملكها للفرس و عاملها من قبلهم المنذر بن ساوي التميمي ثم صارت رياستها صدر الإسلام لبني الجارودي و لم يكن ولاة بني العباس ينزلون هجر إلى أن ملكها أبو سعيد القرمطي بعد حصار ثلاث سنين و استباحها قتلا و إحراقا و تخريبا ثم بنى أبو طاهر مدينة الأحساء و توالت دولة القرامطة و غلب على البحرين بنو أبي الحسن بن ثعلب و بعدهم بنو عامر بن عقيل قال ابن سعيد و الملك الآن فيهم في بني عصفور
( الأحساء ) بناها أبو طاهر القرمطي في المائة الثالثة و سميت بذلك لما فيها من أحساء المياه في الرمال و مراعي الإبل و كانت للقرامطة بها دولة و جالوا فى أقطار الشام و العراق و مصر و الحجاز و ملكوا الشام و عمان
( دارين ) هي من بلاد البحرين ينسب إليها الطيب كما تنسب الرماح إلى الخط بجانبها فيقال مسك دارين و الرماح الخطية
( عمان ) و هي من ممالك جزيرة العرب المشتملة على اليمن و الحجاز و الشحر و حضرموت و عمان و هي خامسها إقليم سلطاني منفرد على بحر فارس من غربيه مسافة شهر شرقيها بحر فارس و جنوبيها بحر الهند و غربيها بلاد حضرموت و شماليها البحرين كثيرة النخل و الفواكه و بها مغاص اللؤلؤ سميت بعمان بن قحطان أول من نزلها بولاية أخيه يعرب و صارت بعد سيل العرم للأزد و جاء الإسلام و ملوكها بنو الجلندي و الخوارج بها كثيرة و كانت لهم حروب مع عمال بني بويه و قاعدتهم تروى و ملك عمان من البحر ملوك فارس غير مرة و هي في الإقليم الثاني و بها مياه و بساتين و أسواق و شجرها النخل و كانت بها في الإسلام دولة لبني شامة بن لؤي بن غالب و كثير من نسابة قريش يدفعونهم عن هذا النسب أولهم بها محمد بن القاسم الشامي بعثه المعتضد أعانه ففتحها و طرد الخوارج إلى تروى قاعدة الجبال و أقام الخطبة لبني العباس و توارث ذلك بنوه و أظهروا شعار السنة ثم اختلفوا سنة خمس و ثلثمائة و تحاربوا و لحق بعضهم بالقرامطة و أقاموا في فتنة إلى أن تغلب عليهم أبو طاهر القرمطي سنة سبع عشرة عند اقتلاعه الحجر و خطب بها لعبيد الله المهدي و ترددت ولاة القرامطة عليها من سنة سبع عشرة إلى سنة خمس و سبعين فترهب واليها منهم و زهد و ملكها أهل تروى الخوارج و قتلوا من كان بها من القرامطة و الروافض و بقيت في أيديهم و رياستها للأزد منهم ثم سار بنو مكرم من وجوه عمان إلى بغداد و استخدموا لبني بويه و أعانوهم بالمراكب من فارس فملكوا مدينة عمان و طردوا الخوارج إلى جبالهم و خطبوا لبني العباس ثم ضعفت دولة بني بويه ببغداد فاستبد بنو مكرم بعمان و توارثوا ملكها و كان منهم مؤيد الدولة أبو القاسم علي بن ناصر الدولة الحسين بن مكرم و كان ملكا جوادا ممدوحا قاله البيهقي و مدحه مهيار الديلمي و غيره و مات سنة ثمان و عشرين و أربعمائة بعد مدة طويلة في الملك و في سنة إثنتين و أربعين ضعف ملك بني مكرم و تغلب عليهم النساء و العبيد فزحف إليها الخوارج و ملكوها و قتلوا بقيتهم و انقطع منها رسم الملك و صار في حجار من مدر هذا الإقليم قلهاة هي عرصة عمان على بحر فارس من الإقليم الثاني و مما يلى الشحر و حجار في شماليها إلى البحرين بينهما سبع مراحل و هي في جبال منيعة فلم تحتج إلى سور و كان ملكها سنة ثمان و أربعين زكريا بن عبد الملك الأزدي من ذرية رياسة و كان الخوارج بتروى مدينة الشراة يدينون لهم و يرون أنهم من ولد الجلندي (4/118)
الخبر عن الإسماعيلية أهل الحصون بالعراق و فارس و الشام و سائر أمورهم و مصايرها
هذا المذهب هو مذهب القرامطة و هم غلاة الرافضة و هو على ما رأيته من الاضطراب و الاختلاف و لم يزل متناقلا في أهله بأنحاء العراق و خراسان و فارس و الشام و اختلف بعضهم باختلاف الأعصار و الأمصار و كانوا يدعون أولا قرامطة ثم قيل لهم بالعراق باطنية ثم الإسماعيلية ثم النزارية لما حدث من عهد المستضيء العلوي لإبنه نزار و قتله شيعتهم بمصر و لم يبايعوا له و كان عنده ابن الصباح من هؤلاء الإسماعيلية و نفى الإمامة بعده عن أئمتهم بمصر فسموا أصحابه لذلك نزارية و كان هذا المذهب بعد موت ذكرويه و انحلال عقدتهم بقي منبثا في الأقطار و يتناوله أهله و يدعون إليه و يكتمونه و لذلك سمو الباطنية و فشت أذيتهم بالأمصار بما كانوا يعتقدونه من استباحة الدماء فكانوا يقاتلون الناس و يجتمع لذلك جموع منهم يكمنون في البيوت و يتوصلون إلى مقاصدهم من ذلك ثم عظمت أمورهم أيام السلطان ملك شاه عندما استمر الملك للعجم من الديلم و السلجوقية و عقل الخلفاء و عجزوا عن النظر في تحصين إمامتهم و كف الغوائل عنها فانتشروا في هذه العصور و ربما اجتمع منهم جماعة بساوة بأنحاء همذان فصلوا صلاة العيد بأنحائهم فحبسهم الشحنة ثم أطلقهم ثم استولوا بعد ذلك على الحصون و القلاع فأول قلعة غلبوا عليها قلعة عند فارس كان صاحبها على مذهبهم فأووا إليه و اجتمعوا عنده و صاروا يخطفون الناس من السابلة و عظم ضررهم بتلك النواحي ثم استولوا على قلعة أصفهان و إسمها شاه در كان السلطان شاه بناها و أنزل بها عامله فاتصل به أحمد بن غطاش كان أبوه من مقدمي الباطنية و عنه أخذ ابن الصباح و غيره منهم و كان أحمد هذا عظيما فيهم لمكان أبيه و رسوخه في العلم بينهم فعظموه لذلك و توجوه و جمعوا له مالا و قدموه عليهم و اتصل بصاحب القلعة فآثر مكانه و قلده الأمور حتى إذا توفي استولى أحمد بن غطاش على قلعة شاه در و أطلق أيدي أصحابه في نواحيها يخيفون السابلة من كل ناحية ثم استولوا على قلعة الموت من نواحي قزوين و هي من بنيان الديلم و معنى هذا الإسم عندهم تميل العقاب و يقال لتلك الناحية طالقان و كانت في ضمان الجعفري فاستناب بها علويا و كان بالري أبو مسلم صهر نظام الملك و اتصل به الحسن بن الصباح و كان بينهم عالما بالتعاليم و النجوم و السحر و كان من جملة تلامذة ابن غطاش صاحب قلعة أصفهان ثم اتهمه أبو مسلم بجماعة من دعاة المصريين عنده فهرب منه و جال في البلاد و انتهى إلى مصر فأكرمه المستنصر و أمره بدعاء الناس إلى إمامته و قال له الحسن من الإمام بعدك فأشار إلى إبنه نزار و عاد من مصر إلى الشام و الجزيرة و ديار بكر و بلاد للروم و رجع إلى خراسان بقلعة الموت فنزل على العلوي فأكرمه و اعتقد البركة فيه و أقام بها و هو يحاول إحكام أمره في تملكها فلما تم له من ذلك ما أراد أخرج العلوي منها و ملكها و اتصل الخبر بنظام الملك فبعث العسكر لحصارها فجهده الحصار و بعث جماعة من الباطنية فقتلوا نظام الملك و رجعت العساكر و استولوا أيضا على قلعة طبس و ما جاورها من قلاع قوهستان و هي زرون و قائد و كان رئيس قوهستان المنور من أعقاب بني سيجور أمراء خراسان للسامانية فطلبه عامل قوهستان و أراد اغتصاب أخته فاستدعى الإسماعيلية و ملكهم هذه القلاع و استولوا على قلعة خالنجان على خمسة فراسخ من أصفهان كانت لمؤيد الملك بن نظام الملك و انتقلت إلى جاولي سقاور من أمراء الغز و ولى عليها بعض الترك فاتصل به بعض الباطنية و خدمه و أهدى له حتى صارت مفاتيح القلعة في يده فدس لابن غطاش في قلعة شاه در فجاء في جمع من أصحابه ليلا و هرب التركي فملكها و قتل من كان بها و قوي بها على أهل أصفهان و فرض عليهم القطائع و من قلاعهم أسويا و ندبين الرمل و آمد ملكوها بعد ملك شاه غدرا و منها أزدهر ملكها أبو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصباح و منها كردكوه و منها قلعة الناظر بخوزستان و قلعة الطنبور قرب أرجان ملكها أبو حمزة الإسكاف من أهل ارجان و قد كان سافر إلى مصر فأخذ بمذهبهم و رجع داعية لهم و منها قلعة ملاوخان بين فارس و خوزستان امتنع بها المفسدون نحوا من مائتي سنة لقطع الطريق حتى فتحها عضد الدولة بن بويه و قتل من بها فلما ملك ملك شاه أقطعها للأمير أنز فولى عليها من قبله و داخله الباطنية الذين من أرجان في بيعها منهم فأبى فقالوا نرسل إليك من يناظرك حتى نرى الحق في مذهبنا و بعثوا إليهم رجالا منهم فاعتقلوا مملوكه حتى سلم لهم مفاتيح القلعة و قبضوا على صاحبها و قويت شوكتهم و امتدت أيدي الناس إلى قتلهم و اعتقدوا جهادهم و ثاروا بهم في كل وجهة فقتلوهم و قتلتهم العامة بأصفهان و كانوا قد ظهروا بها عند محاصرة السلطان بركيارق أصفهان و بها أخوه محمد و أمه خاتون الجلالية و فشت فيها دعوتهم و كثر فيها الاغتيال من أتباعهم فثاروا بهم و قتلوهم و حفروا الأخاديد و أوقدوها بالنيران و جعلوا يأتون بالباطنية فيلقونهم فيها و تجرد جاولي سقاور و كان واليا بفارس للجهاد فيهم و تحيل عليهم بجماعة من أصحابه أظهروا الهروب إليهم فأوثقوا بهم و سار هو من بعد ذلك إلى همذان فأغزاهم ثم صار الباطنية من بعد ذلك إلى همذان لقتل أمراء السلجوقية غدرا فكان يقصد أحدهم أميرا من هؤلاء و قد استبطن خنجرا و استمات حملهم على ذلك السلطان بركيارق و استعان بهم على أمر أخيه فكان أحدهم يعرض نفسه بين يدي الأمير حتى يتمكن من طعنه فيطعنه و يهلك غالبا و يقتل الباطني لوقته فقتلوا منهم كذلك جماعة و لما ظهر بركيارق على أخيه محمد انتشروا في عسكره و استعانوا بطائفة منهم و تهددوا بالقتل على ذلك حتى ارتاب أمراء العسكر بأنفسهم و خافوا عاديتهم و لازموا حمل السلاح و شكوا إلى بركيارق بذلك و بما يلقونه منهم و من عسكر أخيه فيما يرمونهم به من الاتحاد بهؤلاء الباطنية فأذن في قتلهم و ركب و العسكر معه فتتبعوهم بالقتل حتى أن الأمير محمدا من أعقاب علاء الدولة بن كاكويه و كان صاحب مدينة يزد أتهم برأيهم فهرب و قتل و كتب إلى بغداد في أبي إبراهيم الاستراباذي و كان بركيارق بعثه رسولا فأخذ هنالك و قتل و استلحموا في كل جهة و استلحم المتهمون و انطلقت عليهم الأيدي في كل ناحية و ذلك سنة ست و ثمانين و لما استفحل أمر السلطان محمد بعد أخيه بركيارق زحف إلى قلعة شاه در التي بها أحمد بن غطاش لقربها من أصفهان سرير ملكه فجمع العساكر و الأمم و خرج في رجب من أول المائة السادسة و أحاط بجبل القلعة و دوره أربعة فراسخ و رتب الأمراء لقتالها نوبا و لما اشتد الأمر بهم سألوا فتوى الفقهاء في أمرهم و كتبوا ما نصه : ما يقول السادة الفقهاء أئمة للدين في قوم يؤمنون بالله و اليوم الاخر و كتبه و رسله و أن ما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم حق و صدق و إنما يخالفون في الإمام هل يجوز للسلطان مساعدتهم و مراعاتهم و أن يقبل طاعتهم و يحرسهم من كل أذى أم لا ؟ فأجاب أكثر الفقهاء بجواز ذلك و توقف بعضهم و جمعوا للمناظرة فقال السمنجاني من كبار الشافعية : يجب قتالهم و لا يجوز إقرارهم بمكانهم و لا ينفعهم التلفظ بالشهادتين فإنهم لا يرون مخالفة إمامهم إذا خالف أحكام الشرع و بذلك تباح دماؤهم إجماعا و طالت المناظرة في ذلك ثم سألوا أن يأتيهم من العلماء من يناظرهم و عينوا أعيانا من أصفهان و قصدوا بذلك المطاولة و التعلل فبعثهم السلطان إليهم فعادوا من غير شيء فاشتد السلطان إليهم في حصارهم و استأمنوا على أن يعوضوا عن قلعتهم بقلعة خالنجان على سبعة فراسخ من أصفهان و أن يؤجلوا في الرحيل شهرا فأجابهم و أقاموا في تلك المدة يجمعون ما يقدرون عليه من الأطعمة و وثبوا على بعض الأمراء و سلم منهم فجدد السلطان حصارهم و طلبوا أن ينتقلوا إلى قلعة الناظر و طبس و يبعث السلطان معهم من يوصلهم و يقيم الباقون بضرس من القلعة إلى أن يصل الأولون ثم يبعث مع الآخرين من يوصلهم إلى ابن الصباح بقلعة الموت فأجابهم إلى ذلك و خرج الأولون إلى الناظر و طبس و خرب السلطان القلعة و تمسك ابن غطاش بالضرس الذي هو فيه و عزم على الاعتصام به و زحف إليه الناس عامة و هرب بعضهم إلى السلطان فدله على عورة المكان فصعدوا إليه و قتلوا من وجدوا فيه و كانوا ثمانين و أخذا ابن غطاش أسيرا فسلخ و حشي جلده تبنا و قتل ابنه و بعث برأسهما إلى بغداد و ألقت زوجه نفسها من الشاهق فهلكت (4/121)
خبر الاسماعيلية بالشام
لما قتل أبو إبراهيم الاستراباذي ببغداد كما تقدم هرب بهرام ابن أخيه إلى الشام و أقام هنالك داعية متخفيا و استجاب له من الشام خلق و كان الناس يتبعونهم لكثرة ما اتصفوا به من القتل غدرا و كان أبو الغازي بن أرتق بحلب يتوصل بهم إلى غرضه في أعدائه و أشار أبو الغازي على ابن طغتكين الأتابك بدمشق بمثل ذلك فقبل رأيه و نقل إليه فأظهر حينئذ شخصه و أعلن بدعوته و أعانه الوزير أبو علي ظاهر بن سعد المزدغاني لمصلحتهم فيه فاستفحل أمره و كثر تابعوه و خاف من عامة دمشق فطلب من ابن طغتكين و وزيره أبي علي حصنا يأوي إليه فأعطوه قلعة بانياس سنة عشرين و خمسمائة و ترك بدمشق خليفة له يدعو الناس إلى مذهبة فكثروا و انتشروا و ملك هو عدة حصون في الجبال منها القدموس وغيره و كان بوادي التيم من أعمال بعلبك طوائف من المجوس و النصرانية و الدرزية و أميرهم يسمى الضحاك فسار بهرام لقتالهم سنة سنة إثنتين و عشرين و استحلف على بانياس إسمعيل من أصحابه و لقيهم الضحاك في ألف رجل و كبس عسكره فهزمهم و قتله و عاد فلهم إلى بانياس فأقام بأمرهم إسمعيل و جمع شملهم و بث دعاته في البلاد و عاضده المزدغاني وزير دمشق و انتصر لهذه الطائفة و أقام بدمشق خليفة لبهرام إسمه أبو الوفاء فقوي أمره و كثر أتباعه و استبد على صاحبها تاج الملوك بن طغتكين ثم أن المزدغاني راسل الفرنج أن يملكهم دمشق على أن يعطوه صور و تواعدوا ليوم عينوه و دس للإسماعيلية أن يكونوا ذلك اليوم على أهبة و نمي الخبر إلى إسمعيل فخاف أن يثور به الناس فأعطى بانياس للفرنج و انتقل إليهم و مات سنة أربع و عشرين و كان للإسماعيلية قلاع في تلك الجهات تتصل بعضها ببعض أعظمها قلعة مصيات فسار صلاح الدين لما ملك الشام سنة إثنتين و سبعين إليها و حاصر مصيات و ضيق حصارها و بعث سنان مقدم الإسماعيلية إلى خال صلاح الدين بحماة و هو شهاب الدين الحمادي أن يسأل صلاح الدين في الصلح معهم و يتهددونه على ذلك سرا فسار إلى صلاح الدين و أصلح أمرهم عنده و رحل عنهم (4/124)
بقية الخبر عن قلاع الاسماعيلية بالعراق
و لم تزل قلاع هؤلاء الإسماعيلية بالعراق عشا لهذه الغواية و سفطا لهؤلاء الخباث منذ ثار بها أحمد بن غطاش و الحسن بن الصباح و كان لهذا الحسن مقالات في مذاهب الرافضة غريقة في الغلو داخلة من باب الكفر و تسميها الرافضة المقالات الجديدة و لا يدين بقبولها إلا الغلاة منهم و قد ذكرها الشهرستاني في كتاب الملل و النحل فعليك به إن أردت معرفتها و بقي الملوك يقصدونهم بالجهاد لما اشتهر عنهم من الضرر بالاغتيال و لما افترق أمر السلجوقية و استبد ايتغمس بالري و همذان سار إليهم سنة ثلاث و ستمائة إلى قلاعهم المجاورة لقزوين فحاصرها و فتح منها خمس قلاع و اعتزم على حصار قلعة الموت فعرض له ما شغله عن ذلك ثم زحف إليهم جلال الدين منكبرتي بن علاء الدين خوارزم شاه عندما رجع من الهند و ملك بلاد أذربيجان و أرمينية فقتلوا بعض أمرائه بمثل قتلهم فسار إلى بلادهم و دوخ نواحي الموت و قد مر ذكره و قلاعهم التي بخراسان خربها و استباحها قتلا و نهبا و كانوا منذ ظهر التتر قد شرهوا على الجهات فأوقع بهم جلال الدين هذه الواقعة سنة أربع و عشرين و ستمائة و كفحهم عما سموا إليه من ذلك و لما استفحل أمر التتر سار هولاكو أعوام الخمسين و الستمائة من بغداد و خرب قلاعهم و زحف الظاهر بعد ذلك إلى قلاعهم التي بالشام فخرب كثيرا منها و طوع ما بقي منها و صارت مصيات و غيرها في طاعته و انقرض أمرهم إلا مغتالين يستعملهم الملوك في قتل أعدائهم على البعد غدرا و يسمون الفداوية أي الذين يأخذون فدية أنفسهم على الإستماتة في مقاصد من يستعملهم و الله وارث الأرض و من عليها (4/125)
الخبر عن دولة بني الأخيضر باليمامة من بني حسن
كان موسى الجون بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط لما اختفى أخواه محمد و إبراهيم طالبه أبو جعفر المنصور بإحضارهما فضمن له ذلك ثم اختفى و عثر عليه المنصور فضربه ألف سوط فلما قتل أخوه محمد المهدي بالمدينة اختفى موسى الجون إلى أن هلك و كان من عقبه إسماعيل و أخوه محمد الأخيضر إبنا يوسف بن إبراهيم بن موسى فخرج إسمعيل في أعراب الحجاز و تسمى السفاك سنة إحدى و خمسين و مائتين ثم قصد مكة فهرب عاملها جعفر بسباسات و انتهب منزله و منازل أصحاب السلطان و قتل جماعة من الجند و أهل مكة و أخذ ما كان حمل للإصلاح من المال و ما في الكعبة و خزائنها من الذهب و الفضة و أخذ كسوة الكعبة و أخذ من الناس نحوا من مائتي ألف دينار ثم نهبها و أخرق بعضها بعضا و أقام في ذلك خمسين يوما ثم سار إلى المدينة فتوارى عاملها و حاصرها حتى مات أهلها جوعا و لم يصل أحد في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و وصل عساكر المعتز إلى المدينة فأفرج عنها و رجع إلى مكة و حاصرها حتى جهدها الحصار و رحل بعد مقامة شهرين إلى جدة فاخذ أموال التجار و نهب ما في مراكبهم و رجع إلى مكة و قد وصل إليها محمد بن عيسى بن المنصور و عيسى بن محمد المخزومي بعثهما المعتز لقتاله فتواقعوا بعرفة و اقتتلوا و قتل من الحاج نحو ألف و سلبوا الناس و هربوا إلى مكة و بطل الموقف إلا إسماعيل و أصحابه و خطب لنفسه ثم رجع إلى جدة و استباحوها ثانية ثم هلك لسنة من خروجه بالجدري آخر سنة اثنتين و خمسين أيام حرب المستعين و المعتز و كان يتردد بالحجاز مند اثنتي و عشرين سنة و مات و لم يعقب و ولي مكانه أخوه محمد الأخيضر و كان أسن منه بعشرين سنة و نهض إلى اليمامة فملكها و اتخذ قلعة الحصرمية و كان له من الولد محمد و إبراهيم و عبد الله و يوسف و هلك فولي بعده ابنه يوسف و أشرك ابنه إسماعيل معه في الأمر مدة حياته ثم هلك و انفرد إسمعيل بملك اليمامة و كان له من الأخوة الحسن و صالح و محمد بنو يوسف فلما هلك إسماعيل ولي من بعده أخوه الحسن و بعده ابنه أحمد بن الحسن و لم يزل ملكها فيهم إلى أن غلب عليهم القرامطة و انقرض أمرهم و البقاء لله و كان بمدينة غانة من بلاد السودان بالمغرب مما يلي البحر المحيط ملك بني صالح ذكرهم صاحب كتاب زجار في الجغرافيا و لم نقف على نسب صالح هذا من خبر يعول عليه و قال بعض المؤرخين أنه صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله الملقب أبا الكرام بن موسى الجون و أنه خرج أيام المأمون بخراسان و حمل إليه و حبسه و ابنه محمد من بعده و لحق بنوه بالمغرب فكان لهم ملك في بلد غانة و لم يذكر ابن حزم في أعقاب موسى الجون صالحا هذا بهذا النسب و لعله صالح الذي ذكرناه آنفا في ولد يوسف بن محمد الأخيضر و الله أعلم (4/126)
الخبرعن دولة السيمانيين من بني الحسن بمكة ثم بعدها باليمن و مبادي أمورهم و تصاريف أحوالهم
مكة هذه أشهر من أن نعرف بها أو نصفها إلا أنه لما انقرض سكانها من قريش بعد المائة الثانية بالفتن الواقعة بالحجاز من العلوية مرة بعد أخرى فأقفرت من قريش و لم يبق بها إلا أتباع بني حسن أخلاط من الناس و معظمهم موال سود من الحبشة و الديلم و لم يزل العمال عليها من قبل بني العباس و شيعتهم و الخطبة لهم إلى أن اشتغلوا بالفتن أيام المستعين و المعتز و ما بعدهما فحدثت الرياسة فيها لبني سليمان بن داود بن حسن المثنى بن الحسن السبط و كان كبيرهم أخر المائة الثانية محمد بن سليمان و ليس هو سليمان بن داود لأن ذلك ذكره ابن حزم أنه قام بالمدينة أيام المأمون و بين العصرين نحو من مائة سنة سنة إحدى و ثلثمائة أيام المقتدر و خلع طاعة العباسية و خطب في الموسم فقال : الحمد لله الذي أعاد الحق إلى نظامه و أبرز زهر الإيمان من أكمامه و كمل دعوة خير الرسل بأسباطه لا بني أعمامه صلى الله عليه و على آله الطاهرين و كف عنا ببركته أسباب المعتدين و جعلها كلمة باقية في عقبه إلى يوم الدين ثم أنشد :
( لأطلبن بسيفي * ما كان للحق دينا * و أسطون بقوم * بغوا و جاروا علينا ... يعدون كل بلاد * من العراق علينا )
و كان يلقب بالزبيدي نسبة إلى نحلته من مذاهب الإمامية و بقي ركب العراق يتعاهد مكة إلى أن اعترضه أبو طاهر القرمطي سنة اثنتي عشرة و أسر أبا الهيجاء بن حمدان والد سيف الدولة و جماعة معه و قتل الحجاج و ترك النساء و الصبيان بالقفر فهلكوا و انقطع الحاج من العراق بسبب القرامطة ثم أنفذ المقتدر سنة سبع عشرة منصور الديلي من مواليه فوافاه يوم التروية بمكة أبو طاهر القرمطي فنهب الحاج و قتلهم حتى في الكعبة و الحرم و امتلأ زمزم بالقتل و الحجاج يصيحون : كيف يقتل جيران الله ؟ فيقول : ليس بجار من خالف أوامر الله و نواهيه و يتلو : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله } الآية و كان يخطب لعبيد الله المهدي صاحب أفريقية ثم قلع الحجر الأسود و حمله إلى الأحساء و قلع باب البيت و حمله و طلع رجل يقلع الميزاب فسقط و مات فقال : اتركوه فإنه محروس حتى يأتي صاحبه يعني المهدي فكتب إليه ما نصه : و العجب من كتبك إلينا ممتنا علينا بما ارتكبته و اجترمته باسمنا من حرم الله و جيرانه بالأماكن التي لم تزل الجاهلية تحرم إراقة الدماء فيها و إهانة أهلها ثم تعديت ذلك و قلعت الحجر الذي هو يمين الله في الأرض يصافح بها عباده و حملته إلى أرضك و رجوت أن نشكرك فلعنك الله ثم لعنك و السلام على من سلم المسلمون من لسانه و يده و فعل في يومه ما عمل فيه حساب غده انتهى فانحرفت القرامطة عن طاعة العبيديين لذلك ثم قتل المقتدر على يد مؤنس سنة عشرين و ثلثمائة و ولي أخوه القاهر و حج بالناس أميره تلك السنة و انقطع الحج من العراق بعدها إلى أن كاتب أبو علي يحيى الفاطمي سنة سبع و عشرين من العراق أبا طاهر القرمطي أن يطلق السبيل للحجاج على مكس يأخذه منهم و كان أبو طاهر بعظمه لدينه و يؤمله فأجابه إلى ذلك و أخذ المكس من الحجاج و لم يعهد مثله في الإسلام و خطب فى هذه السنة بمكة للراضي بن المقتدر و في سنة تسع و عشرين لأخيه المقتفي من بعده و لم يصل ركب العراق في هذه السنين من القرامطة ثم ولي المستكفي بن المكتفي سنة ثلاث و ثلاثين على يد توروز أمير الأمراء ببغداد فخرج الحاج في هذه السنة لمهادنة القرامطة بعد أبي طاهر ثم خطب للمطيع بن المقتدر بمكة مع معز الدولة سنة أربع و ثلاثين عندما استولى معز الدولة ببغداد و قلع عين المستكفي و اعتقله ثم تعطل الحاج بسبب القرامطة و ردوا الحجر الأسود سنة تسع و ثلاثين بأمر المنصور العلوي صاحب أفريقية و خطابه في ذلك لأمرهم أحمد بن أبي سعيد ثم جاء الحاج إلى مكة سنة اثنتين و أربعين مع أمير من العراق و أمير من مصر فوقعت الحرب بينهما على الخطبة لابن بوبه ملك العراق أو ابن الأخشيد صاحب مصر فانهزم المصريون و خطب لابن بويه و اتصل ورود الحاج من يومئذ فلما كانت سنة ثمان و أربعين و جاء الحاج من بغداد و مصر كان أمير الحاج من العراق و محمد بن عبيد الله فأجابه إلى ذلك ثم جاء إلى المنبر مستعدا و أمر بالخطبة لابن بويه فوجم الآخر و تمت عليه الحيلة و عاقبه أميره كافور و يقال قتله و وقع ابن بويه لمحمد بن عبيد الله باتصال إمارته على الحاج و لما كانت سنة ست و خمسين وصل بركب العراق أبو أحمد الموسوي نقيب الطالبيين و هو والد الشريف الرضي ليحج بالناس و نهب بنو سليم حاج مصر و قتل أميرهم و في سنة ست و خمسين حج بالناس أبو أحمد المذكور و خطب بمكة لبختيار بعد موت أبيه معز الدولة و الخليفة يومئذ المطيع و اتصل حج أبي أحمد بركب العراق و في سنة ثلاث و خمسين خطب للقرمطي بمكة فلما قتل أحمد وقعت الفتنة بين أبي الحسن القرمطي و خلع طاعة العبيديين و خطب للمطيع و بعث إليه بالرايات السود و نهض إلى دمشق فقتل جعفر بن فلاح قائد العلويين و خطب للمطيع ثم وقعت الفتنة بين أبي الحسن و بين جعفر و حصلت بينهم دماء و بعث المعز العلوي من أصلح بينهم و جعل دية القتلى الفاضلة في مال المعز و هلك بمصر أبو الحسن فولي أخوه عيسى ثم ولي بعده أبو الفتوح الحسن بن جعفر سنة أربع و ثمانين ثم جاءت عساكر عضد الدولة ففر الحسن بن جعفر إلى المدينة و لما مات العزيز بالرملة و عاد بنو أبي طاهر و بنو أحمد بن أبي سعيد إلى الفتنة فجاء من قبل الطائع أمير علوي إلى مكة و أقام له بها خطبة و في سنة سبع و ستين بعث العزيز من مصر باديس بن زيري الصنهاجي و هو آخو بلكين صاحب أفريقية أميرا على الحاج فاستولى على الحرمين و أقام له الخطبة و شغل عضد الدولة في العراق بفتنة بختيار ابن عمه فبطل ركب العراق ثم عاد في السنة بعدها و خطب لعضده الدولة أبو أحمد الموسوي و انقطعت بعدها خطبة العباسين عن مكة و عادت لخلفاء مصر العبيديين إلى حين من الدهر و عظم شأن أبي الفتوح و اتصلت إمارته في مكة و كتب إليه القادر سنة ست و تسعين في الإذن لحاج العراق فأجابه على أن الخطبة للحاكم صاحب مصر و بعث الحاكم إلى ابن الجراح أمير طيء باعتراضهم و كان على الحاج الشريف الرضي و أخوه المرتضى فلاطفهم ابن الجراح و خلى سبيلهم على أن لا يعودوا ثم اعترض حاج العراق سنة أربع و تسعين الأصيغر الثعلبي عندما ملك الجزيرة فوعظه قارئان كانا في الركب ثم اعترضهم في السنة بعدها أعراب خفاجة و نهبوهم و سار في طلبهم علي بن يزيد أمير بني أسد فأوقع بهم سنة اثنتين و أربعمائة ثم عادوا إلى مثل ذلك من السنة بعدها فعاد علي بن يزيد و أوقع بهم و سماله بذلك ذكر و كان سببا لملكه و ملك قومه ثم كتب الحاكم سنة اثنتين و أربعين إلى عماله بالبراءة من أبي بكر و عمر و نكر ذلك أبو الفتوح أمير مكة و انتقض له و حمل الوزير أبو القاسم المغربي على طلب الأمر لنفسه و كان الحاكم قتل أباه و أعمامه فخطب أبو الفتوح لنفسه و تلقب الراشد بالله و سار إلى مدينة الرملة لاستدعاء ابن الجراح أمير طيء لمغاضبة بينه و بين الحاكم ثم سرب الحاكم أمواله في بني الجراح فانتقضوا على أبي الفتوح و أسلموه و فر الوزير المغربي إلى ديار بكر من أرض الموصل و معه ابن سبابة و فر التهامي إلى الري و كان معه و قطع الحاكم الميرة عن الحرمين ثم راجع أبو الفتوح الطاعة فعفى عنه الحاكم و أعاده إلى إمارته بمكة و لم يحج من العراق في هذه السنين أحد و في سنة اثنتي عشرة حج بأهل العراق أبو الحسن محمد بن الحسن الأفساسي فقيه الطالبيين و اعترضهم بنو نبهان من طيء و أميرهم حسان بن عدي و قاتلوهم فهزموهم و قتل أميرهم حسان و خطب في هذه السنة للظاهر بن الحاكم بمكة و لما كان الموسم سنة ثلاث عشرة و أربعمائة ضرب رجل من قوم مصر الحجر الأسود بدبوس فصدعه و ثلمه و هو يقول : كم تعبد كم تقبل فتبادر إليه الناس فقتلوه و ثار أهل العراق بأهل مصر فنهبوهم و فتكوا فيهم ثم حج بركب العراق سنة أربع عشرة النقيب بن الأفساسي و خشي من العرب فعاد إلى دمشق الشام و حج في السنة التي بعدها و بطل حج العراق و لما بويع القائم العباسي سنة اثنتين و عشرين رام أن يجهز الحاج فلم يقدر لاستيلاء العرب و انحلال أمر بني بويه ثم خطب بمكة للمستنصر بن الظاهر ثم توفي الأمير أبو الفتوح الحسن بن جعفر بن محمد ابن سليمان رئيس مكة و بني سلمان سنة ثلاثين و أربعمائة لأربعين سنة من إمارته و ولي بعده إمارة مكة ابنه شكر و جرت له مع أهل المدينة خطوب ملك في أثنائها المدينة و جمع بين الحرمين و عليه انقرض دولة بني سليمان سنة ثلاثين بمكة و جاءت دولة الهواشم كما يذكر و شكر هذا هو الذي يزعم بنو هلال بن عامر أنه تزوج الجازية بنت سرحان من أمراء الأثبج منهم و هو خبر مشهور بينهم في أقاصيصهم و حكايات يتناقلونها و يطرزونها بأشعار من جنس لغتهم و يسمونه الشريف بن هاشم و قال ابن حزم غلب جعفر بن أبي هاشم على مكة أيام الأخشيديين و ولي بنوه من بعده عيسى بن جعفر و أبو الفتوح و ابنه شكر بن أبي الفتوح و قد انقرض لأن شكرا لم يولد له و صار أمر مكة إلى عبد كان له انتهى كلام ابن حزم و ليس أبو هاشم الذي نسب جعفر إليه أبا الهواشم الذي يأتي ذكرهم لأن هذا كان أيام الأخشيديين و ذلك أيام المستضيء العبيدي و بينهما نحو من مائة سنة (4/128)
الخبرعن دولة الهواشم بمكة من بني الحسن و تصاريف أحوالهم إلى انقراضها
هؤلاء الهواشم من ولد أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله أبي الكرام بن موسى الجون و نسبه معروف و قد مر و كانت بين هؤلاء الهواشم و بين السليمانيين فتن متصلة و لما مات شكر ذهبت الرياسة من بنى سليمان لأنه لم يعقب و تقدم فيهم طراد بن أحمد و لم يكن من بيت الإمارة و إنما كانوا يؤملونه لإقدامه و شجاعته و كان رئيس الهواشم يومئذ محمد بن جعفر بن محمد و هو أبو هاشم المذكور و قد ساد في الهواشم و عظم ذكره فاقتتلوا سنة أربع و خمسين بعد موت شكر فهزم الهواشم بني سليمان و طردوهم عن الحجاز فساروا إلى اليمن و كان لهم بها ملك كما يذكر و استقل بإمارة مكة الأمير محمد بن جعفر و خطب للمستنصر العبيدي ثم ابتدأ الحاج من العراق سنة ست و خمسين بنظر السلطان ألب أرسلان ابن داود ملك السلجوقية حين استولى على بغداد و الخلافة طلب منه القائم ذلك فبذل المال و أخذ رهائن العرب و حج بالناس أبو الغنائم نور الدين المهدي الزيني نقيب الطالبيين ثم جاور في السنة بعدها و استمال الأمير محمد بن جعفر عن طاعة العبيديين فخطب لبني العباس سنة ثمان و خمسين و انقطعت ميرة مصر عن مكة فعذله أهله على ما فعل فرد الخطبة للعبيديين ثم خاطبه القائم و عاتبه و بذل له أموالا فخطب له سنة اثنتين و ستين بالموسم فقط و كتب إلى المستنصر بمصر معتذرا ثم بعث القائم أبا الغنائم الزيني سنة ثلاث و ستين أميرا على الركب العراقي و معه عسكر ضخم و لأمير مكة من عند ألب أرسلان ثلاثون دينارا و توقيعا بعشرة آلاف دينار و اجتمعوا بالموسم و خطب الأمير محمد بن جعفر و قال : الحمد لله الذي هدانا إلى أهل بيته بالرأي المصيب و عوض بيته بلبسة الشباب بعد لبسة المشيب و أمال قلوبنا إلى الطاعة و متابعة إمام الجماعة فانحرف المستنصر عن الهواشم و مال إلى السليمانيين و كتب إلى علي بن محمد الصبيحي صاحب دعوتهم باليمن أن يعينهم على استرجاع ملكهم و ينهض معهم إلى مكة فنهض و انتهى إلى المهجم و كان سعيد بن نجاح الأحوال موثور بني الصبيحي قد جاء من الهند و دخل صنعاء فثار بها و اتبع الصبيحي في سبعين رجلا و هو في خمسة آلاف فبيته بالمهجم و قتله ثم جمع محمد بن جعفر أجنادا من الترك و زحف بها إلى المدينة فأخرج منها بني حسن و ملكها و جمع بين الحرمين ثم مات القائم العباسي و انقطع ما كان يصل إلى مكة فقطع محمد بن جعفر الخطبة للعباسيين ثم جاء الزيني من قابل بالأموال فأعادها ثم بعث المقتدي سنة سبعين منبرا إلى مكة صنيعا استجيد خشبه و نقش عليه بالذهب اسمه و بعث على الحاج ختلع التركي و هو أول تركي تأمر على الحاج و كان واليا بالكوفة وقهر العرب مع جماعته فبعثه المقتدي أميرا على الحاج فوقعت الفتنة بين الشيعة و أهل السنة و كسر المنبر و أحرق و تم الحج ثم عاودوا الفتنة سنة ثلاث و سبعين و قطعت الخطبة للمستنصر و أعيدت للمقتدي و اتصلت إمارة ختلع على الحاج و بعده خمار تكين إلى أن مات ملك شاه و وزيره نظام الملك فانقطعت الخطبة للعباسيين و بطل الحاج من العراق باختلاف السلجوقية و تغلب العرب و مات المقتدي خليفة بغداد و بويع ابنه المستظهر و مات المستنصر خليفة مصر و بويع ابنه المستعلي من إمارته و هو الذي أظهر الخطبة العباسية بمكة و بها ابتدىء أمره و كان يسقطها بعض الأحيان و ولي بعده ابنه قاسم فكثر اضطرابه و مهد بنو مزيد أصحاب الحلة طريق الحاج من العراق فاتصل حجهم و حج سنة اثنتي عشرة و خمسمائة نظر الخادم من قبل المسترشد بركب العراق و أوصل الخلع و الأموال إلى مكة ثم توفي قاسم بن محمد سنة ثمان عشرة و خمسمائة لثلاثين سنة من إمارته و كانت في اضطراب و تغلب و ولي بعده ابنه أبو قليبة بمكة فافتتح بالخطبة العباسية و أحسن الثناء عليه بالعدل و وصل نظر الخادم أميرا على الركب و معه الأموال و الخلع ثم مات أبو قليبة سنة سبع و عشرين لعشر سنين من إمارته و الخطبة للعباسيين و إمارة الحاج لنظر الخادم ثم كانت واقعة المسترشد مع السلطان مسعود و مقتله و تعطل ركب الحاج ثم حج نظر الخادم في السنة بعدها ثم بعثت أسماء الصبيحية صاحبة اليمن لأمر مكة قاسم بن أبي قليبة فتوعدته على قطع خطبة الحافظ و ماتت فكفاه الله شرها و انقطع الركب العراقي في هذه السنين للفتن و الغلاء ثم حج سنة أربع وأربعين نظر الخادم و مات في طريقه فولي مولاه قيماز و اعترضه رهط من الأعراب فنهب الركب و اتصل حج قيماز و الخطبة لبني العباس إلى سنة خمس و خمسين قبله و بويع المستنجد فخطب له كما كان لأبيه المقتفي ثم قتل قاسم بن أبي قليبة سنة ست و ستين و بعث المستضيء بالركب طاتغكين التركي و انقضت دولة العبيديين بمصر و وليها صلاح الدين بن أيوب و استولى على مكة و اليمن و خطب له بالحرمين ثم مات المستضيء سنة خمس و سبعين و بويع ابنه الناصر و خطب له بالحرمين و حجت أمه بنفسها سنة خمس و ثلاثين و كانت له آثار عظيمة و رجعت فانهت إلى الناصر بن عيسى بن قاسم ما اطلعت عليه من أحواله فعزله عن إمارة مكة و ولى أخاه مكثر بن قاسم و كان جليل القدر و مات سنة تسع و ثمانين السنة التي مات فيها صلاح الدين و ضعف أمر الهواشم و كان أبو عزيز بن قتادة يناسبهم من جهة النساء فورث أمرهم و ملك مكة من أيديهم و انقرضت دولتهم و البقاء لله (4/132)
الخبرعن بني قتادة أمراء مكة بعد الهواشم ثم عن بني أبي نمير منهم أمرائها لهذا العهد
كان من ولد موسى الجون الذي مر ذكره في بني حسن عبد الله أبي الكرام و كان له على ما نقل نسابتهم ثلاثة من الولد سلمان و زيد و أحمد و منه تشعبت ولده فأما زيد فولده اليوم بالصحراء بنر الحسنية و أما أحمد فولده بالدهناء و أما سليمان فكان من ولده مطاعن بن عبد الكريم بن يوسف بن عيسى بن سليمان و كان لمطاعن إدريس و ثعلب بالثعالبة بالحجاز فكان لإدريس ولدان قتادة النابغة و صرخة فأما صرخة فولده شيع يعرفون بالشكرة و أما قتادة النابغة فكان يكنى أبا عزيز و كان من ولده علي الأكبر و شقيقه حسن فمن ولد حسن إدريس و أحمد و محمد و جمان و إمارة ينبع في أعقابهم و منهم لهذا العهد أميران يتداولان إمارتها من ولد إدريس بن حسن بن إدريس و أما أبو عزيز قتادة النابغة فمن ولده موالي عز أمراء مكة لهذا العهد و كان بنو حسن بن الحسن كلهم موطنين بنهر العلقمية من وادي ينبع لعهد إمارة الهواشم بمكة و كانوا ظواعن بادية و لما نشأ فيهم قتادة هذا جمع قومه ذوي مطاعن و أركبهم و استبد بإمارتهم و كان بوادي ينبع بنو خراب من ولد عبد الله بن حسن بن الحسن و بنو عيسى بن سليمان بن موسى الجون فحاربهم بنو مطاعن هؤلاء و أميرهم أبو عزيز قتادة و أخرجهم و ملك ينبع و الصفراء و استكثر من الجند و المماليك و كان على عهد المستنصر العباسي في أواسط المائة السادسة و كان الأمراء يومئذ بمكة الهواشم من ولد جعفر بن هاشم بن الحسن بن محمد بن موسى بن أبي الكرام عبد الله و قد مر ذكرهم و كان أخرجهم مكثر بن عيسى بن قاسم الذي بنى القلعة على جبل أبي قبيس و مات سنة تسع و ثمانين و خمسماثة فسار قتادة إلى مكة و انتزعها من أيديهم و ملكها و خطب للناصر العباسي و أقام في إمارتها نحوا من أربعين سنة و استفحل ملكه و اتسع إلى نواحي اليمن و كان لقبه أبا عزيز و في سنة ثلاث و ستمائة حج بالركب وجه السبع التركي من مماليك الناصر و فر من طريقه إلى مصر فنهب الركب و في سنة ثمان و ستمائة وثب شخص من حاج العراق على شريف من قرابة قتادة فقتله فاتهم الشرفاء به أمراء الركب فثاروا بهم و قتلوا منهم خلقا ثم بعث إليهم بالأموال من بغداد و بعث قتادة بعض أولاده يستعتب فأعتب و في سنة خمس عشرة خطب بمكة للعادل بن أيوب بعد الناصر الخليفة و للكامل بن العادل بعدهما و في سنة ست عشرة كان خروج التتر و كان قتادة عادلا و أمن الناس في أيامه و لم يعد قط على أحد من الخلفاء و لا من الملوك و كان يقول أنا أحق بالخلافة و كانت الأموال و الخلع تحمل إليه و استدعاه الناصر في بعض السنين فكتب إليه
( ولي كف ضرغام أذل ببسطها ... و أشري بها عز الورى و أبيع )
( تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها ... و في بطنها للمجد بين ربيع )
( أأجعلها تحت الرجا ثم ابتغي ... خلاصا لها إني إذا لوضيع )
( وما أنا إلا المسك في كل بقعة ... يضوع و أما عندكم فيضيع ) واتسعت دولته فملك ملك مكة و الينبع و أطراف اليمن و بعض أعمال المدينة و بلاد نجد و كان يستكثر من المماليك و توفي سنة سبع عشرة و ستمائة و يقال سمه ابنه حسن و يقال داخل ابنه حسن جاريته فأدخلته ليلا فخنق أباه ثم قتلها و ملك مكة و امتعض لذلك ابنه راجح بن أبي عزيز قتادة و شكاه إلى أمير حاج أقباش التركي عند و صوله فأشكاه و وعده بالإنصاف منه فأغلق حسن أبواب مكة و خرج بعض أصحابه إلى الأمير أقباش فلقوه عند باب المعلى فقتلوه و علقوه بالمسعى ثم جاء المسعود بن الكامل سنة عشرين من اليمن إلى مكة فحج و قاتله حسن ببطن المسعى فغلبه المسعود و ملك مكة و نصب رايته و أزال راية أمير الركب و كتب الخليفة من بغداد يعاتب أباه على ذلك و على ما فعله في مكة و التخلف فكتب إليه أبوه : برئت يا أقسى من ظهر العادل إن لم أقطع يمينك فقد نبذت وراء ظهرك دنياك و دينك و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم فغرم ديات الشرفاء و أصابه شلل في يده و مض حسن بن قتادة إلى بغداد صريخا بعد أن بقي طريدا بالشام و الجزيرة و العراق ثم جاء إلى بغداد دخيلا و هم الترك بقتله بأقباش أمير الركب فمنعوا منه و مات ببغداد سنة اثنتين و عشرين و دفن بمشهد الكاظم ثم مات المسعود بن الكامل بمكة سنة ست و عشرين و دفن بالمعلى و بقي على مكة قائده فخر الدين بن الشيخ و على اليمن أمير الجيوش عمر بن علي بن رسول و قصد راجح بن قتادة مكة سنة تسع و عشرين مع عساكر عمر بن رسول فملكها سنة ثلاثين من يد فخر الدين بن الشيخ و لحق فخر الدين بمصر ثم جاءت عساكر مصر سنة اثنتين و ثلاثين مع الأمير جبريل و ملكوا مكة و هرب راجح إلى اليمن ثم جاء عمر بن رسول معه بنفسه فهربت عساكر مصر و ملك راجح مكة و خطب لعمر بن رسول بعد المستنصر و ما ملك التتر العراق سنه أربع و ثلاثين و عظم أمرهم و انتهوا إلى إربل أبطل المستنصر الحج من أمر الجهاد و أفتاه العلماء بذلك ثم جهز المعتصم الحاج مع أمه سنة ثلاث و أربعين و شيعها إلى الكوفة و لما حجت ضرب تركي في الموسم شريفا و كتب راجح فيه إلى الخليفة فقطعت يده و بطل الحج بعد ذلك ثم قوي أمر الموطيء إمام الزيدية باليمن و اعتزم على قطع الخطبة لبني العباس فضاق به المظفر بن عمر بن رسول و كاتب المعتصم يحرضه على تجهيز الحاج بسبب ذلك ثم قوي أمر الموطيء إمام الزيدية باليمن و سار جماز بن حسن بن قتادة سنة إحدى و خمسين إلى الناصر بن العزيز بن الظاهر بن أيوب بدمشق مستجيشا على أبي سعيد على أن يقطع ذكر صاحب اليمن من مكة فجهز له عسكرا و سار إلى مكة فقتل أبا سعيد في الحرم و نقض عهد الناصر و خطب لصاحب اليمن قال ابن سعيد و في سنة ثلاث و خمسين بلغني و أنا بالمغرب أن راجح بن قتادة جاء إلى مكة و هو شيخ كبير السن و كان يسكن اليدين على نحو اليمن فوصل إلى مكة و أخرج منها جماز بن أبي عزيز فلحق بالينبع قال : و في سنة اثنتين و ستين وصل الخبر إلى المغرب بأن أمر مكة دائر بين أبي نمي بن أبي سعيد الذي قتل جماز به على إمارة مكة و بين غالب بن راجح الذي أخرجه أبوه جماز إلى الينبع ثم استبد أبو نمي على أمر مكة و نفى قتلة أبيه أبي سعيد إلى الينبع و هم إدريس و جماز و محمد و قد كان إدريس منهم والى أمر مكة قليلا فانطلقوا إلى الينبع و ملكوه و أعقابهم أمراوه لهذا العهد و أقام أبو نمي أميرا بمكة نحوا من خمسين سنة و هلك على رأس المائة السابعة أو بعدها بسنتين و خلف ثلاثين ولدا (4/134)
إمارة بني أبي نمي بمكة
و لما هلك أبو نمي قام من بعده بأمر مكة ابناه رميثة و حميضة و نازعهما عطيفة و أبو الليث فاعتقلاهما و وافق ذلك وصول بيبرس الجاشنكير كافل الملك الناصر بمصر لأول ولايته فأطلقهما و ولاهما و بعث برميثة و حميضة إلى مصر ثم ردهما السلطان إلى إمارتهما بمكة مع عسكره و بعث إليه بعطيفة و أبي الغيث ثم طال تنازعهم و تعاقبهم في إمارة مكة مرة بعد أخرى و هلك أبوالغيث في بعض حروبهم ببطن مر ثم تنازع حميضة و رميثة و سار رميثة إلى الملك الناصر سنة خمس عشرة و استمد بأمرائه و عساكره و هب حميضة بعد أن استصفى أموال أهل مكة ثم رجع بعد رجوع العساكر إلى مكة ثم اصطلحوا و توافقوا ثم خالف عطيفة سنة ثمان عشرة و وصل إلى السلطان و جاء بالعسكر فملك مكة و تقبض على رميثة فسجن أياما ثم أطلق سنة عشرين عند مقدم السلطان من حجه و أقام بمصر و بقي حميضة مشردا إلى أن استأمن السلطان فأمنه و كان معه جماعة من المماليك فروا إليه من مصر انتقاضه فشعروا بطاعته فخافوا على أنفسهم أن يحضروا معه فقتلوه و جاؤا إلى السلطان يعتقدون ذلك وسيلة عنده فأقاد رميثة منهم بأخيه فقتل المباشر للقتل و عفا عن الباقين و أطلق رميثة إلى مكة مشاركا لأخيه عطيفة في إمارتها ثم هلك عطيفة سنة و أقام أخوه رميثة بعده مستقلا بإمارة مكة إلى أن كبر و هرم ثم هلك و كان ابناه ثقبة و عجلان قد اقتسما معه إمارة مكة برضاه ثم أراد الرجوع عن ذلك فلم يجيباه إلى شيء مما أراد و استمرا على ولايتهما معه ثم تنازعا و خرج ثقبة و بقي عجلان بمكة ثم غلبه عليها ثقبة ثم اجتمعا بمصر سنة ست و خمسين فولي صاحب الأمر بمصر عجلان منهما و فر ثقبة إلى بلاد الحجاز فأقام هنالك و عاقبه إلى مكة مرارا و جاء عجلان سنة اثنتين و ستين بالمدد من عسكر القاهرة فكبسه ثقبه و قتل أخاه و بعضا من العسكر و لم يزل عجلان على إمارته سالكا سبيل العدل و الإنصاف في الرعية متجافيا عن الظلم عما كان عليه قومه من التعرض للتجار و المجاورين و سعى في أيام إمارته في قطع ما كان لعبيدهم على الحاج من المكس و ثبت لهم في ديوان السلطان عليها عطاء يتعاهدهم أيام الموسم و كانت من حسنات سلطان مصر و سعى هذا الأمير عجلان جزاه الله خيرا و أقام على ذلك إلى أن هلك سنة سبع و سبعين و ولي ابنه أحمد بعده و قد كان فوض إليه في حياته و قاسمه في أمره فقام أحمد بأمر مكة و جرى على سنن أبيه في إثبات مراسم العهد و إحياء معالمه حتى شاع عنه ذلك في الآفاق كل ألسنة الحاج و المجاورين و ولاه صاحب مصر لعهده الملك الظاهر أبو سعيد برقوق على ما كان أبوه و سير إليه بالخلع و التفويض على عادتهم في ذلك و كان في محبس أحمد جماعة من قرابته منهم أخوه محمد و محمد بن أخيه ثقبة و عنان ابن عمه مغامس في آخرين فلما مات أحمد هربوا من محبسهم و لحقوا بهم فردوهم و أجلوا محمد بن عجلان منهم إلا عنانا فإنه لحق بمصر مستجيشا على محمد و كبيش فأنجده السلطان و بعثه مع أمير الركب ليطالع أحوالهم و استصحب معه جماعة من الباطنية فتكوا بمحمد عند لقائه المحمل الذي عليه كسوة الكعبة بشارة الخليفة و تقبيله الخف الذي يحمله على العادة في ذلك و تركوه صريعا في مكانه و دخلوا إلى مكة فولي أمير الحاج عنان بن مغامس و لحق كبيش و شيعته بجدة فلما انقضى الموسم و رجع الحاج جاء كبيش و أصحابه و حاصروا مكة و كان بينهم و بين عنان حروب قتل كبيش في بعضها ثم لحق علي بن عجلان و أخوه حسن بالملك الظاهر صاحب مصر فرأى أن يحسم المادة بولايته فولاه سنة تسع و ثمانين مشاركا لعنان بن مغامس في الإمارة و سار مع أمير الركب فلما وصلوا لكومرد بكروا إلى مكة على العادة و خرج عنان للقائهم ثم نكص من بعض الطريق هاربا و دخل على مكة و استقل بإمارتها و لما انفض الموسم و رجع الحاج جاء عنان و معه بنو عمه مبارك و جماعة الشرفاء فحاصروا مكة على علي و نازعوه الإمارة ثم أفرجوا ثم رجعوا و حالهم على ذلك متصل لهذا العهد و وفدوا على السلطان بمصر سنة أربع و تسعين فأفرد عليا بالإمارة و أفاض عليه العطاء و أكثف له الجند و المستخدمين و أبقى عنان بن مغامس عنده و أجرى عليه الرزق و نظمه في أهل دولته ثم نمي إلى السلطان أنه يروم الفرار إلى الحجاز لينازع أمير مكة علي بن عجلان فقبض عليه و حبسه و قبض علي بن عجلان على الأشراف الذين كانوا هنالك شيعة له ثم من عليهم و أطلقهم فعادوا إلى منازعته و الفتنة معه لهذا العهد و الله متولي الأمور لا رب غيره (4/137)
الخبر عن بني مهنى أمراء المدينة النبوية من بني الحسين و ذكر أوليتهم و مفتتح إمارتهم
كانت المدينة بلد الأنصار من الأوس و الخزرج كما هو معروف ثم افترقوا على أقطار الأرض في الفتوحات و انقرضوا و لم يبق بها أحد إلا بقايا من الطالبيين قال ابن الحصين في ذيله على الطبري : دخلت المائة الرابعة و الخطبة بالمدينة للمقتدر قال : و ترددت ولاية بني العباس عليها و الرياسة فيها بين بني حسين و بني جعفر إلى أن أخرجهم بنو حسين فسكنوا بين مكة و المدينة ثم أجلاهم بنو حرب من زبيد إلى القرى و الحصون و أجازوهم إلى الصعيد فهم هنالك إلى اليوم و بقي بنو حسين بالمدينة إلى أن جاءهم ظاهر بن مسلم من مصر فملكوه عليهم و في الخبر عن وصول ظاهر هذا أن مسلما أباه اسمه محمد بن عبيد الله بن ظاهر بن يحيى المحدث بن الحسن بن جعفر و يسمى عند الشيعة حجة الله بن عبيد الله بن الحسين الأصغر بن زين العابدين و كان مسلم هذا صديقا لكافور المتغلب على الأخشيدية بمصر و كان يدبر أمره و لم يكن بمصر لعصره أوجه منه و لما ملك العبيديون مصر و جاء المعز لدين الله و نزل بالقاهرة التي اختطها و ذلك سنة خمس و ستين و ثلثمائة خطب يومئذ من مسلم هذا كريمته لبعض بنيه فرده مسلم فسخطه المعز و نكبه و استصفى أمواله و أقام في اعتقاله إلى أن هلك و يقال فر من محبسه فهلك في مفره و لحق ابنه ظاهر بن محمد بعد ذلك بالمدينة فقدمه بنو حسين على أنفسهم و استقل بإمارتها سنين ثم مات سنة إحدى و ثمانين و ثلثمائة و ولي مكانه ابنه الحسن و في كتاب العتبي مؤرخ دولة ابن سبكتكين أن الذي ولي بعده هو صهره و ابن عمه داود بن القاسم بن عبيد الله بن ظاهر و كنيته أبو علي و استقل بها دون ابنه الحسن إلى أن هلك و ولي بعده ابنه هاني ثم ابنه مهنى و لحق الحسن بمحمود بن سبكتكين فأقام عنده بخراسان و هذا غلط لأن المسبحي مؤرخ العبيديين ذكر وفاة ظاهر بن مسلم في سنتها كما قلناه و ولاية الحسن ابنه و قال في سنة ثلاث و ثمانين و عامل المدينة الحسن بن ظاهر و يلقب مهنى و المسبحي أقعد بأخبار المدينة و مصر من العتبي إلا أن أمراء المدينة لهذا العهد ينتسبون إلى داود و يقولون : جاء من العراق فلعلهم لقنوا ذلك عمن لا يعرفه و مؤرخ حماة متى ينسب أحدا من أوليهم إنما ينسبه إلى أبي داود و الله أعلم و قال أبو سعيد : و في سنة تسعين و ثلثمائة ملكها أبو الفتوح حسن بن جعفر أمير مكة من بني سليمان بأمر الحاكم العبيدي و أزال عنها إمارة بني مهنى من بني الحسين و حاول نقل الجسد النبوي إلى مصر ليلا فأصابتهم ريح عاصفة أظلم لها الجو و كادت تقتلع البناء من أصله فردهم أبو الفتوح عن ذلك و رجع إلى مكة و عاد بنو مهنى إلى المدينة و ذكر مؤرخ حماة من أمرائهم منصور بن عمارة و لم ينسبه و قال مات سنة سبع و تسعين و أربعمائة و ولي بعده ابنه قال : و هم من ولد مهنى و ذكر منهم أيضا القاسم بن مهنى بن حسين بن مهنى بن داود و كنيته أبو قليتة و أنه حضر مع صلاح الدين بن أيوب غزاة أنطاكية و فتحها سنة أربع و ثماني و خمسمائة و قال الزنجازي مؤرخ الحجار فيما ذكر عنه ابن سعيد حين ذكر ملوك المدينة من ولد الحسين فقال : و أحقهم بالذكر لجلالة قدره قاسم بن جماز بن قاسم بن مهنى ولاه المستضيء فأقام خمسا و عشرين سنة و مات سنة ثلاث و ثمانين و خمسمائة و ولي ابنه سالم بن قاسم و كان شاعرا و هو الذي كانت بينه و بين أبي عزيز قتادة صاحب مكة وقعة المصارع ببدر سنة إحدى و ستمائة زحف أبو عزيز من مكة و حاصره بالمدينة و اشتد في حصاره ثم ارتحل و جاء المدد إلى سالم من بني لام إحدى بطون همذان فأدرك أبا عزيز ببدر و اقتتلوا و هلك من الفريقين خلق و انهزم أبو عزيز إلى مكة و في سنة إحدى و ستمائة جاء المعظم عيسى بن العادل فجدد المصانع و البرك و كان معه سالم ابن قاسم أمير المدينة جاء يشكو من قتادة فرجع معه و مات في الطريق قبل وصوله إلى المدينة و ولي بعده ابنه شيخة و كان سالم قد استخدم عسكرا من التركمان فمضى بهم جماز بن شيخة إلى قتادة و غلبه و فر إلى الينبع و تحصن بها و في سنة سبع و أربعين قتل صاحب المدينة شيخة و ولي ابنه عيسى ثم قبض عليه أخوه جماز سنة تسع و أربعين و ملك مكانه قال ابن سعيد : و في سنة تسع و خمسين كان بالمدينة أبو الحسن بن شيخة بن سالم و قال غيره : كان بالمدينة سنة ثلاث و خمسين أبو مالك منيف بن شيخة و مات سنة سبع و خمسين و ولي أخوه جماز و طال عمره و مات سنة أربع و سبعمائة و ولي ابنه منصور و لحق أخوه مقبل بالشام و وفد على بيبرس بمصر فأقطعه نصف أقطاع منصور ثم أقبل إلى المدينة على حين غفلة من أخيه منصور و بها ابنه أبو كبيشة فملكها عليه و لحق أبو كبيشة بأحياء العرب ثم استجاشهم و رجع إلى المدينة سنة تسع فقتل عمه مقبلا و جاء منصور إلى محل إمارته و كان لمقبل ابن اسمه ماجد فأقطع بعض أقطاع أبيه فأقام مع العرب يجلب على المدينة و يخالف منصورا عمه إليها متى خرج عنها و وقع بين منصور و بين قتادة صاحب الينبع حرب سنة إحدى عشرة من أجله ثم جاء ماجد بن مقبل بالمدينة سنة سبع عشرة لقتال عمه منصور و استنجد منصور بالسلطان فبعث إليه العساكر و حاصر ماجد بن مقبل بالمدينة ثم قاتلهم و انهزم و بقي منصور على إمارته و توفي سنة خمس و عشرين و ولى ابنه كبيش بن منصور على إمارته و طالت أيامه و نازعه ودي بن جماز و حاصره و ولي بعده طفيل و قبض عليه جماز سنة إحدى و خمسين و ولي عطية ثم توفي عطية سنة ثلاث و ثمانين و ولي بعده طفيل و قبض عليه فامتنع و ولي جماز بن هبة بن جماز بن منصور و ملوك الترك بمصر يختارون لولايتها من هذين البيتين لا يعدلون عنهما إلى سواهما و وليتها اليوم لجماز بن هبة بن جماز و ابن عمه عطية بن محمد بن عطية ينازعه لما بينهما من المنازعة و المنافسة قديما و حديثا شأن العجليين في التثور و هما جميعا على مذهب الإمامية من الرافضة ويقولن بالأئمة الاثني عشر وبما يناسب ذلك من الاعتقادات الإمامية و الله يخلق ما يشاء و يختار هذا آخر الخبر عن أمراء المدينة و لم أقف على أكثر منه و الله المقدر لجميع الأمور سبحانه لا إله إلا هو (4/139)
الخبر عن دولة بني الرسى أئمة الزيدية بصعدة و ذكر أوليتهم و مصاير أحوالهم
قد ذكرنا فيما تقدم خبر محمد بن إبراهيم الملقب أبوه طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن الدعي و ظهوره أيام المأمون و قيام أبي السرايا ببيعته و شأنه كله و لما هلك و هلك أبو السرايا و انقرض أمرهم طلب المأمون أخاه القاسم الرسي بن إبراهيم طباطبا ففر إلى السند و لم يزل به إلى أن هلك سنة خمس و أربعين و مائتين و رجع ابنه الحسن إلى اليمن و كان من عقبه الأئمة بصعدة من بلاد اليمن و كان من عقبه أقاموا للزيدية بها دولة اتصلت آخر الأيام و صعدة جبل في الشرق عن صنعاء و فيه حصون كثيرة أشهرها صعدة و حمص تلا و جبل مطابة و تعرف كلها ببني الرسي وأول من خرج بها منهم يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي دعا لنفسه بصعدة و تسمى بالهادي و بويع بها سنة ثمان و ثمانين في حياة أبيه الحسين و جمع الجموع من شيعتهم و غيرها و حارب إبراهيم بن يعفر و كان أسعد بن يعفر السادس من أعقابه التبابعة لصنعاء و كملا فغلبه على صنعاء و نجران فملكها و ضرب السكة ثم انتزعها بنو يعفر منه و رجع إلى صعدة و توفي سنة ثمان و تسعين لعشر سنين من ولايته هكذا قال ابن الحارث قال : و له مصنفات في الحلال و الحرام و قال غيره كان مجتهدا في الأحكام الشرعية و له في الفقه آراء غريبة و تواليف بين الشيعة معروفة قال الصولي : و ولي بعده ابنه محمد المرتضى و اضطرب الناس عليه و هلك سنة عشرين و ثلثمائة لست و عشرين سنة من ولايته و ولي بعده أخوه الناصر أحمد واستقام ملكه و اطرد في بنيه بعده فولي بعده ابنه حسين المنتخب ومات سنة أربع و عشرين و ولي بعده أخوه القاسم المختار إلى أن قتله أبو القاسم الضحاك الهمداني سنة أربع و أربعين و قال الصولي : من بني الناصر الرشيد و المنتخب و مات سنة أربع و عشرين و قال ابن حزم : لما ذكر ولد أبي القاسم الرسي فقال : و منهم القائمون بصعدة من أرض اليمن أولهم يحيى الهادي له رأي في الفقه و قد رأيته و لم يبعد فيه عن الجماعة كل البعد كان لأبيه أحمد الناصر بنون ولي منهم صعدة بعده جعفر الرشيد و بعده أخوه القاسم المختار ثم الحسن المنتخب و محمد المهدي قال : و كان اليماني القائم بماردة سنة ثلاث و أربعين و ثلثمائة يذكر أنه عبد الله بن أحمد الناصر أخو الرشيد و المختار و المنتخب و المهدي و قال ابن الحاجب : و لم تزل إمامتهبم بصعدة مطردة إلى أن وقع الخلاف بينهم و جاء السليمانيون من مكة عندما أخرجهم الهواشم فغلبوا عليهم بصعدة و انقرضت دولتهم بها في المائة السادسة قال ابن سعيد و كان من بني سليمان حين خرجوا من مكة إلى اليمن أحمد بن حمزة بن سليمان فاستدعاهم أهل زبيد لينصرهم على علي بن مهدي الخارجي حين حاصرهم و بها فاتك بن محمد من بني نجاح فأجابهم على أن يقتلوا فاتكا فقتلوه سنة ثلاث و خمسمائة و ملكوا عليهم أحمد بن حمزة فلم يطق مقاومة علي بن مهدي ففر عن زبيد و ملكها ابن مهدي قال : و كان عيسى بن حمزة أخو أحمد في عشرة باليمن و منهم غانم بن يحيى ثم ذهب ملك بني سلمان من جميع التهائم و الجبال و اليمن على يد بني مهدى ثم ملكهم بنو أيوب و قهروهم و استقر ملكهم آخرا في المنصور عبد الله بن أحمد بن حمزة قال ابن العديم أخذ الملك بصعدة عن أبيه و اشتدت يده مع الناصر العباسي و كان يناظره و يبعث دعاته إلى الديلم و جيلان حتى خطب له هنالك و صار له فيها ولاة و أنفق الناصر عليه أموالا في العرب باليمن و لم يظفر به قال ابن الأثير : جمع المنصور عبد الله بن حمزة أيام الزيدية بصعدة سنة اثنتين و خمسمائة و زحف إلى اليمن فخاف منه المعز بن سيف الإسلام طغتكين بن أيوب ثم زحف إليه المعز فهزمه ثم جمع ثانية سنة اثنتي عشرة و ستمائة جموعا من همذان و خولان و ارتجت له المجن و خاف المسعود بن الكامل و هو يومئذ صاحب اليمن و معه الكرد و الترك و أشار أمير الجيوش عمر بن رسول بمعاجلته قبل أن يملك الحصون ثم اختلف أصحاب المنصور و لقيه المسعود فهزمه و توفي المنصور سنة ثلاثين و ستمائة عن عمر مديد و ترك ابنا اسمه أحمد ولاه الزيدية و لم يخطبوا له بالإمامة يتنظرون علو سنه و استكمال شروطه و لما كانت سنة خمس و أربعين بايع قوم من الزيدية لأحمد الموطىء من بقية الرسي و هو أحمد بن الحسين من بني الهادي لأنهم لما أخرجهم بنو سليمان من كرسي إمامتهم بصعدة آووا إلى جبل قطابة بشرقي صعدة فلم يزالوا هنالك و في كل عصر منهم إمام شائع بأن الأمر إليهم إلى أن بايع الزيدية الموطىء و كان فقيها أديبا عالما بمذهبهم قواما صواما بويع سنة خمس و أربعين و ستمائة و أهم نور الدين عمر بن رسول شأنه فحاصره بحصن تلا سنة و امتنع عليه فأفرج عنه و حمل العساكر من الحصون المجاورة لحصاره ثم قتل عمر بن رسول و شغل ابنه المظفر بحصن الدملوة فتمكن الموطىء و ملك عشرين حصنا و زحف إلى صعدة فغلب السليمانيين عليها و قد كانوا بايعوا لأحمد ابن إمامهم عبد الله المنصور و لقبوه المتوكل عندما بويع للموطىء بالإمامة في تلا لأنهم كانوا ينتظرون استكمال سنه فلما بويع الموطىء بايعوه و لما غلبهم على صعدة نزل أحمد المتوكل إمامهم و بايع له و أمنه و ذلك سنة تسع وأربعين ثم حج سنة خمسين و بقي أمر الزيدية بصعدة في عقب الموطىء هذا و سمعت بصعدة أن الإمام بصعدة كان قبل الثمانين و السبعمائة علي بن محمد في أعقابهم و توفي قبل الثمانين و السبعمائة علي بن محمد من أعقابهم و ولي ابنه صلاح و بايعه الزيدية و كان بعضهم يقول ليس هو بإمام لعدم شروط الإمامة فيقول : هو أنا لكم ما شئتم إمام أو سلطان ثم مات صلاح آخر سنة ثلاث و تسعين و قام بعده ابنه نجاح و امتنع الزيدية من بيعته فقال : أنا محتسب لله هذا ما بلغنا عنهم بمصر أيام المقام فيها و الله وارث الأرض و من عليها (4/142)
الخبر عن نسب الطالبيين و ذكر المشاهير من أعقابهم
و أما نسب هؤلاء الطالبيين فأكثرها راجع إلى الحسن و الحسين ابني علي بن أبي طالب و من فاطمة رضي الله عنها و هما سبطا الرسول صلى الله عليه و سلم و إلى أخيهما محمد بن الحنفية و إن كان لعلي رضي الله عنه غيرهم من الولد إلا أن الذين طلبوا الحق في الخلافة و تعصبت لهم الشيعة و دعوا لهم في الجهات إنما هم الثلاثة لا غيرهم فأما الحسن فمن ولده الحسن المثنى و زيد و منهما العقب المشهود له في الدعوة و الإمامة و من ولد حسن المثنى عبد الله الكامل و حسن المثلث و إبراهيم العمر و عباس و داود فأما عبد الله الكامل و بنوه فقد مر ذكرهم و أنسابهم عند ذكر ابنه محمد المهدي و أخبارهم مع أبي جعفر المنصور و كان منهم الملوك الأدارسة بالمغرب الأقصى بنو إدريس بن إدريس بن عبد الله الكامل و من عقبهم بنو حمود ملوك الأندلس الدائلون بها من بني أمية آخر دولتهم و منهم بنو حمود بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر بن إدريس و سيأتي ذكر أخبارهم و منهم بنو سليمان بن عبد الله الكامل كان من عقبه ملوك اليمامة بنو محمد الأخيضر بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجون و منهم بنو صالح بن موسى بن عبد الله الساقي و يلقب بأبي الكرام بن موسى الجون و هم الذين كانوا ملوكا بغانة من بلاد السودان بالمغرب الأقصى و عقبهم هنالك معروفون و من عقبه أيضا الهواشم بنو أبي هاشم محمد بن الحسن بن محمد الأكبر بن موسى الثاني بن عبد الله أبي الكرام كانوا أمراء مكة لعهد العبيديين و قد مر ذكرهم و من أعقابهم بنو قتادة بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن موسى بن عيسى بن سليمان بن موسى الجون و ملكوا مكة بعد الهواشم على يد قتادة أبيهم هذا فمنهم بنو نمى بن سعد بن علي بن قتادة أمراء مكة لعهدنا و من عقب داود بن حسن المثنى السليمانيون الذين كانوا بمكة و هم بنو سليمان بن داود و غلبهم عليها الهواشم آخرا و صاروا إلى اليمن فقامت الزيدية بدعوتهم كما مر في أخبارهم و من عقب حسن المثلث بن حسن المثنى حسين بن علي بن حسن المثلث الخارج على الهادي و قد مر ذكره و من عقب إبراهيم العمر بن حسن المثنى بن طباطبا و اسمه إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم كان منهم محمد بن طباطبا أبو الأئمة بصعدة الذين غلبهم عليها بنو سليمان بن داود بن حسن المثنى حين جاؤوا من مكة ثم غلبهم بنو الرسي عليها و رجعوا إلى إمامهم بصعدة و هم بها لهذا العهد و منهم بنو سليمان بن داود بن حسن المثنى و ابنه محمد بن سليمان القائم بالمدينة أيام المأمون قال ابن حزم : و عقبه بالمدينة لأبي جعفر المنصور و لا عقب لزيد إلا منه و كان من عقبه محمد بن الحسن بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن زيد قام بالمدينة أيام المعتمد و جاهر بالمنكرات و القتل إلى أن تعطلت الجماعات و من عقبه أيضا القائم بطبرستان الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن الحسن بن زيد و أخوه محمد القائم من بعده و قد مر خبرهما و منهم الداعي الصغير بالري و طبرستان و هو الحسن بن القاسم بن علي بن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد الطحاني بن القاسم بن الحسن ابن زيد و كانت بين هذا الداعي الصغير و بين الأطروش حروب و قتل هذا الداعي سنة تسع عشرة و ثلثمائة و من عقبه أيضا القاسم بن علي بن إسماعيل أحد قواد الحسن بن زيد و هم غيروا نعم أهل تلك الآفاق و أذهبوا بمهجتهم و كانوا سببا لتورد الديلم ببلاد الإسلام لما يستجيشونهم و خرج معهم و مع الأطروش الحسني ماكان بن كالي ملك الديلم و كان مرداويح و بنو بويه من بعض رجاله و كان لهم من عشيرهم قواد و رجال تسموا باسم الديلم من أجل مرباهم بينهم و الله يخلق ما يشاء وأما الحسين و هو القتيل بالطعن أيام يزيد بن معاوية فمن ولده علي بن زين العابدين بن زيد الشهيد و محمد الباقر و عبد الله الأرقط و عمر و الحسن الأعرج فمن ولد الأرقط الحسين الكويكي ابن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن أحمد بن عبد الله الأرقط كان من قواد الحسن الأطروش بن الحسن بن علي القائم بن علي بن عمر قام بأرض الطالقان أيام المعتصم ثم هرب من سفك الدماء و استتر إلى أن مات و كان معتزليا و مهنهم الأطروش أسلم على يديه الديلم و هو الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر و كان فاضلا حسن المذهب عدلا ولي طبرستان و قتل سنة أربع و ثلثمائة و قام بعده أخوه محمد و مات و قام الحسين ابن أخيه محمد بن على و قتل بها سنة ست عشرة و ثلثمائة قتله جيوش نصر بن أحمد بن إسماعيل بن أحمد بن نوح بن أسد الساماني صاحب خراسان و من ولد الحسين الهمرج بن زين العابدين بن عبد الله العقيقي بن الحسين كان من ولده الحسين بن محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي قتله الحسن بن زيد صاحب طبرستان و منهم جعفر بن عبيد الله بن الحسين الأعرج كان شيعته يسمونه حجة الله و كان من عقبه الملقب بمسلم الذي دبر أمر مصر أيام كافور و هو محمد بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى المحدث بن الحسين بن يعفر حجة الله و ابنه طاهر بن مسلم و من عقب طاهر هذا أمراء المدينة لهذا العهد بنو جماز بن هبة بن جماز بن منصور بن جماز بن شيخة بن هاشم بن القاسم بن مهنى و مهنى بن مهنى بن داود بن القاسم أخي مسلم و عمر و طاهر و زعم ابن سعيد أن بني جماز بن شيخة أمراء المدينة هؤلاء من ولد عيسى بن زيد الشهيد و فيه نظر و من ولد الحسين الحسن الأعرج و زيد هو القائم بالكوفة على هشام بن عبد الملك سنة إحدى و عشرين و مائة و قتل و خرج ابنه يحيى سنة خمس و عشرين بخراسان و قتل و قد انتمى صاحب الزنج في بعض أوقاته إليه و أخوه عيسى بن زيد الذي حارب المنصور أول خلافته من ولد الحسين الذي كان من عقبه يحى بن عمر بن يحيى القائم بالكوفة أيام المستعين و كان حسن المذهب في الصحابة و إليه ينسب العمريون الذين استولوا على الكوفة أيام الديلم من قبل السلطان ببغداد و علي بن زيد بن الحسين بن زيد قام بالكوفة ثم هرب إلى صاحب الزنج بالبصرة فقتله و أخذ جارية له كان سباها من البصرة و من ولد محمد الباقر بن زين العابدين عبد الله الأفطح و جعفر الصادق فكانت لعبد الله الأفطح شيعة يدعون إمامته : منهم زرارة بن أعين الكوفي ثم قام بالمدينة و سأله عن مسائل من الفقه فألفاه جاهلا فرجع عن القول بإمامته فانقطعت الأفطحية و زعم ابن حزم أن بني عبيد ملوك مصر ينسبون إليه و ليس ذلك بصحيح و من ولد جعفر الصادق إسماعيل الإمام و موسى الكاظم و محمد الديباجة فأما محمد الديباجة فخرج بمكة أيام المأمون و بايع له أهل الحجاز بالخلافة و حمله المعتصم لما حج و جاء به إلى المأمون فعفا عنه و مات سنة ثلاث و مائتين و أما إسماعيل الإمام و موسى الكاظم فعليهما وعلى بنيهما مدار اختلاف الشيعة و كان الكاظم على زي الأعراب مائلا إلى السواد و كان الرشيد يؤثره و يتجافى عن السعاية فيه كما مر ثم حبسه و من عقبه بقية الأئمة الاثني عشر عند الإمامية من لدن علي بن أبي طالب الوصي و وفاته سنة خمس و ثلاثين ثم ابنه الحسن و وفاته سنة خمس و أربعين ثم أخوه الحسين و مقتله سنة إحدى و ستين ثم ابنه زين العابدين و وفاته ثم ابنه محمد الباقر و وفاته سنة إحدى و ثمانين و مائة ثم ابنه جعفر الصادق و وفاته سنة ثلاث و أربعين و مائة ثم ابنه موسى الكاظم و وفاته سنة ثلاث و ثمانين و مائة و هو سابع الأئمة عندهم ثم ابنه علي الرضا و وفاته سنة ثلاث و مائتين ثم ابنه محمد المقتفي و وفاته سنة عشرين و مائتين ثم ابنه علي الهادي و وفاته سنة أربع و خمسين و مائتين ثم ابنه حسن العسكري و وفاته سنة ستين و مائتين ثم ابنه محمد المهدي و هو الثاني عشر و هو عندهم حي منتظر و أخبارهم معروفة و من عقب موسى الكاظم من غير الأئمة ابنه إبراهيم المرتضى ولاه محمد بن طباطبا و أبو السرايا على اليمن فذهب إليها و لم يزل بها أيام المأمون يسفك الدماء حتى لقبه الناس بالجزار و أظهر الإمامة عندما عهد المأمون لأخيه الرضا ثم أتهم المأمون بقتله فجاهر و طلب لنفسه ثم عقد المأمون على حرب الفاطميين باليمن لمحمد بن زياد بن أبي سفيان لما بينهم من البغضاء فأوقع بهم مرارا و قتل شيعتهم و فرق جماعتهم و من عقبه موسى بن إبراهيم جد الشريف الرضي و المرتضى و اسم كل منهما علي بن الحسين بن محمد بن موسى بن إبراهيم و من عقب موسى الكاظم ابنه زيد ولاه أبو السرايا على الأهواز فسار إلى البصرة و ملكها و أحرق دور العباسيين بها فسمي زيد النار و من عقبه زيد الجنة بن محمد بن زيد بن الحسن بن زيد النار من أفاضل هذا البيت و صلحائهم حمل إلى بغداد في محنة الفاطميين أيام المتوكل و دفع إلى ابن أبي داود يمتحنه فشهد له و أطلقه و من عقب موسى الكاظم ابنه إسماعيل ولاه أبو السرايا على فارس و من عقب جعفر الصادق من غير الأئمة محمد و علي ابنا الحسين بن جعفر قاما بالمدينة سنة إحدى و سبعين و مائتين و سفكا الدماء و انتهبا الأموال و استلحما آل جعفر بن أبي طالب و أقامت المدينة شهرا لا تقام فها جمعة و لا جماعة و من عقب إسماعيل الإمام العبيديون خلائف القيران و مصر بنو عبيد الله الجهدي بن محمد بن جعفر بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسماعيل و قد مر ذكرهم و ما للناس من الخلاف في نسبهم و هو مطروح كله و هذا أصح ما فيه و قال ابن حزم : إنهم من بني حسن البغيض و هو عم المهدي و عنده أنها دعوى منهم وأما محمد بن الحنفية فكان من ولده عبد الله بن عباس و أخوه علي بن محمد و ابنه الحسن بن علي بن محمد و كل ادعت الشيعة إمامته و خرج باليمن على المأمون ولد علي من غير هؤلاء عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب و من ولد جعفر بن أبي طالب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب القائم بفارس و بويع بالكوفة و أراد بعض شيعة العباسية تحويل الدعوة إليه فمنع أبو مسلم من ذلك و كانت له شيعة ينتظرونه و ساقوا الخلافة إليه من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية بالوصية و كان فاسقا و كان معاوية ابنه نظير أبيه في الشر انتهى الكلام فى أنساب الطالبيين و أخبارهم فلنرجع الآن إلى أخبار بني أمية بالأندلس المنازعين للدعوة العباسية ثم نرجع إلى دول القائمين بالدعوة العباسية المستبدين عليهم من العرب و الترك و اليمن و الجزيرة و الشام و العراق و المغرب و الله المستعان (4/144)
الخبر عن دولة بني أمية بالأندلس من هذه الطبقة المنازعين للدعوة العباسية و بداية أمرهم و أخبار ملوك الطوائف من بعدهم
كان هذا القطر الأندلسي من العدوة الشمالية عن عدوة البحر الرومي و بالجانب الغربي منها يسمى عند العرب أندلوش و تسكنه أمم من إفرنجة المغرب أشدهم و أكثرهم الجلالقة و كان القوط قد تملكوه و غلبوا على أمره لمئين من السنين قبل الإسلام بعد حروب كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها رومة ثم عقدوا معهم السلم على أن تنصرف القوط إلى الأندلس فساروا إليها و ملكوها و لما أخذ الروم و اللطينيون لبسلة النصرانية حملوا من و راءهم بالمغرب من أهل إفرنجة و القوط عليها فدانوا بها و كان ملوك القوط ينزلون طليطلة و كانت دار ملكهم و ربما انتقلوا ما بينها و بين قرطبة و ماردة و أشبيلية و أقاموا كذلك نحو أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام و الفتح و كان ملكهم لذلك العهد يسمى لزريق و هو سمة لملوكهم كجرجير سمة ملوك صقلية و نسب القوط و خبر دولتهم قد تقدم و كانت له حظوة وراء البحر فى هذه العدوة الجنوبية حظوها من فرضة المجاز بطنجة و من زقاق البحر إلى بلاد البرير و استعبدوهم و كان ملك البرابرة بذلك القطر الذي هو اليوم جبال غمارة يسمى بليان و كان يدين بطاعتهم و بملتهم و موسى بن نصير أمير العرب إذ ذاك عامل على أفريقية من قبل الوليد بن عبد الملك و منزله بالقيروان و كان قد أغزى لذلك العهد عساكر المسلمين بلاد المغرب الأقصى و دوخ أقطاره و أوغل في جبال طنجة هذه حتى وصل خليج الزقاق و استزل بليان لطاعة الإسلام و خلف مولاه طارق بن زياد الليثي واليا بطنجة و كان بليان ينقم على لزريق ملك القوط لعهده بالأندلس لفعله بابنته في داره كما زعموا على عادتهم في بنات بطارقتهم فغضب لذلك و أجاز إلى لزريق فأخذ ابنته منه ثم لحق بطارق فكشف للعرب عورة القوط و دلهم على غرة فيهم أمكنت طارقا الفرصة فانتهزها لوقته و أجاز البحر سنة اثنتين و تسعين من الهجرة بإذن أميره موسى بن نصير في نحو ثلثمائة من العرب و انتهب معهم من البربر زهاء عشرة آلاف فصيرهم عسكرا و نزل بهم جبل الفتح فسمى جبل طارق به و الآخر على طريف بن مالك النخعي و نزل بمكان مدينة طريف فسمي به و أداروا الأسوار على أنفسهم للتحصين و بلغ الخبر لزريق فنهض إليهم يجر أمم الأعاجم و أهل ملة النصرانية في زهاء أربعين ألفا فالتقوا بفحص شريش فهزمه إليه و نفلهم أموال أهل الكفر و رقابهم و كتب طارق إلى موسى بن نصير بالفتح و بالغنائم فحركته الغيرة و كتب إلى طارق يتوعده بأنه يتوغل بغير إذنه و يأمره أن لا يتجاوز مكانه حتى يلحق به و استخلف على القيروان ولده عبد الله و خرج معه حسين بن أبي عبد الله المهدي الفهري و نهض من القيروان سنة ثلاث و تسعين من الهجرة في عسكر ضخم من وجوه العرب و الموالي و عرفاء البربر و وافى خليج الزقاق ما بين طنجة و الجزيرة الضراء فأجاز إلى الأندلس و تلقاه طارق و انقاد و اتبع و تمم موسى الفتح و توغل في الأندلس إلى برشلونة في جهة الشرق و أربونة في الجوف و صنم قادس في الغرب و دوخ أقطارها و جمع غنائمها و جمع أن يأتي المشرق على القسطنطينية و بتجاوز إلى الشام و دروب الأندلس و يخوض ما بينها من بلاد الأعاجم أمم النصرانية مجاهدا فيهم مستلحما لهم إلى أن يلحق بدار الخلافة و نمي الخبر إلى الوليد فاشتد قلقه بمكان المسلمين من دار الحرب و رأى أن ما هم به موسى غرر بالمسلمين فبعث إليه بالتوبيخ و الانصراف و أسر إلى سفيره أن يرجع بالمسلمين إن لم يرجع هو و يكتب له بذلك عهده ففت ذلك في عزم موسى و قفل عن الأندلس بعد أن أنزل الرابطة و الحامية بثغورها و استعمل ابنه عبد العزيز لغزوها و جهاد أعدائها و أنزله بقرطبة فاتخذها دار إمارة و احتل موسى بالقيروان سنة خمس و تسعين و ارتحل إلى الشرق سنة ست بعدها بما كان معه من الغنائم و الذخائر و الأموال على العجل و الظهر يقال : كان من جملتها ثلاثون ألف فارس من السبي و ولى على أفريقية ابنه عبد الله و قدم على سليمان فسخطه و نكبه و سارت عساكر الأندلس بابنه عبد العزيز بإغراء سليمان فقتلوه لسنتين من ولايته و كان خيرا فاضلا و افتتح في ولايته مدائن كثيرة و ولي من بعده أيوب بن حبيب اللخمي و هو ابن أخت موسى بن نصير فتولى عليها ستة أشهر ثم تتابعت ولاة العرب على الأندلس فتارة من قبل الخليفة و تارة من قبل عامله على القيروان و أثخنوا في أمم الكفر و افتتحوا برشلونة من جهة الشرق و حصون بشتالة و بسائطها من جهة الجوف و انقرضت أمم القوط وأرز الجلالقة و من بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة و أربونة و أفواه الدروب فتحصنوا بها و أجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلوا بسائط وراءها و توغلوا في بلاد الفرنجة و عصف ريح الإسلام بأم الكفر من كل جهة و ربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف و تنازع أوجب للعدو بعض الكرة فرجع الفرنج ما كانوا غلبوهم عليه و كان محمد بن يزيد عامل أفريقية لسليمان بن عبد الملك لما بلغه ملك عبد العزيز بن موسى بن نصير بعث إلى الأندلس الحرب بن عبد الرحمن بن عثمان فقدم الأندلس و عزل أيوب بن حبيب و ولي سنتين و ثمانية أشهر ثم بعث عمر بن عبد العزيز على الأندلس السنخم بن مالك الخولاني على رأس المائة من الهجرة و أمره أن يخمس أرض الأندلس فخمسها و بنى قنطرة قرطبة و استشهد غازيا بأرض الفرنجة سنة اثنتين و مائة فقدم أهل الأندلس عليهم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي إلى أن قدم عنبسة بن شحيم الكلبي من قبل يزيد بن مسلم عامل أفريقية و كان أولهم يحيى بن سلمة الكلبي أنفذه حنظلة بن صفوان الكلبي والي أفريقية لما استدعى منه أهل الأندلس واليا بعد مقتل عنبسة فقدمها آخر سنة سبع و أقام في ولايتها سنتين و نصفا و لم يغز ثم قدم إليها عثمان بن أبي واليا من قبل عبيدة بن عبد الرحمن السلمي صاحب أفريقية و عزله لخمسة أشهر بحذيفة بن الأحوص العتبي فوافاها سنة عشر و عزل قريبا يقال لسنة من ولايته و اختلف هل تقدمه عثمان أم هو تقدم عثمان ثم ولي بعده الهيثم بن عبيد الكلابي من قبل عبيدة بن عبد الرحمن أيضا قدم في المحرم سنة إحدى عشرة و غزا أرض مقرشة فافتتحها و أقام عشرة أشهر و توفي سنة ثلاث عشرة لسنتين من ولايته و قدم بعده محمد بن عبيد الله بن الحجاب صاحب أفريقية فدخلها سنة ثلاث عشرة و غزا إفرنجة و كانت له فيهم وقائع و أجب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة فوق سنتين و قال الواقدي : أربع سنين و كان ظلوما جائرا في حكومته و غزا أرض البشكنس سنة خمس عشرة و مائة و أوقع بهم و غنم ثم عزل في رمضان سنة ست عشرة و ولي عتبة بن الحاج السلولي من قبل عبيد الله بن الحجاب فقدم سنة سبع عشرة و أقام خمس سنين محمود السيرة مجاهدا مظفرا حتى بلغ سكنى المسلمين أرمونة و صار مساكنهم على نهر ودونة ثم قام عليه عبد الملك بن قطن الفهري سنة إحدى و عشرين فخلعه و قتله و يقال أخرجه من الأندلس و ولى مكانه إلى أن دخل بلخ بن بشر بأهل الشام سنة أربع و عشرين كما مر فغلب عليه و ولي الأندلس سنة أو نحوها و قال الرازي : ثار أهل الأندلس بعقبة بن الحجاج أميرهم في صفر من سنة ثلاث و عشرين في خلافة هشام بن عبد الملك و ولوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية فكانت ولاية عقبة ستة أعوام و أربعة أشهر و توفي بسرقوسة في صفر سنة ثلاث و عشرين و استقام الأمر لعبد الملك ثم دخل بلخ بن بشر من أهل الشام ناجيا من وقعة كلثوم بن عياض مع البربر فثار على عبد الملك و قتله و انحاز الفهريون إلى جانب فامتنعوا عليه و كاشفوه و اجتمع عليهم من نكر فعلته بابن قطن و قام بأمرهم قطن و أمية ابنا عبد الملك بن قطن و التقوا فكانت الدبرة على الفهريين و هلك بلخ من الجراح التي أصابته في حربهم و ذلك سنة أربع و عشرين لسنة أو نحوها من إمارته ثم ولي ثعلبة بن سلامة الجذامي غلب على إمارة الأندلس بعد مهلك بلخ و انحاز عنه الفهريون فلم يطيعوه و ولي سنين أظهر فيها العدل و دانت له الأندلس عشرة أشهر إلى أن ثار به العصبة اليمانية فعسر أمره و هاجت الفتنة و قدم أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي من قبل حنظلة بن صفوان عامل أفريقية و ركب إليها البحر من تونس سنة خمس و عشرين فدانت له أهل الأندلس و أقبل إليه ثعلبة و ابن أبي سعد و ابنا عبد الملك فلقيهم و أحسن إليهم و استقام أمره و كان شجاعا كريما ذا رأي و حزم و كثر أهل الشام عنده ولم تحملهم قرطبة ففرقهم في البلاد و أنزل أهل دمشق البيرة لشبهها بها و سماها دمشق و أنزل أهل حمص أشبيلية و سماها حمص لشبهها بها و أهل قنسرين حسان و سماها قنسرين و أهل الأردن ريه و هي مالقة و سماها الأردن و أهل فلسطين شدونة و هي شريش و سماها فلسطين و أهل مصر تدمير و سماها مصر و قفل ثعلبة إلى الشرق و لحق بمروان بن محمد و حضر حروبه و كان أبو الخطاب أعرابيا عصبيا أفرط عند ولايته في التعصب لقومه من اليمانية و تحامل على المصرية و أسخط قيسا و أمر في بعض الأيام بالضميل بن حاكم كبير القيسية و كان من طوالع بلخ و هو الضميل بن حاكم بن شمر بن ذي الجوشن و رأس على الحصرية فأمر به يوما فأقيم من مجلسه و تقنع فقال له بعض الحجاب و هو خارج من القصر : أقم عمامتك يا أبا الجوشن فقال : إن كان لي قوم فسيقيمونها فسار الضميل بن حاكم زعيمهم يومئذ و ألب عليه قومه و استعان بالمنحرفين عنه من اليمنية فخلع أبا الخطاب سنة ثمان و عشرين لأربع سنين و تسعة أشهر من ولايته و قدم مكانه ثوابة بن سلامة الجذامي و هاجت الحرب المشهورة و خاطبوا بذلك عبد الرحمن بن حبيب صاحب أفريقية فكتب إلى ثوابة بعهده على الأندلس منسلخ رجب سنة تسع و عشرين فضبط الأندلس و قام بأمره الضميل و اجتمع عليه الفريقان و هلك لسنتين من ولايته و وقع الخلاف بأفريقية و تلاشت أمور بني أمية بالمشرق و شغلوا عن قاصية المغرب بكثرة الخوارج و عظم أمر المسودة فبقي أهل الأندلس فوض و نصبوا للأحكام خاصة عبد الرحمن بن كثير ثم اتفق جند الأندلس على اقتسام الإمارة بين المضرية و اليمنية و ادالتها بين الجندين سنة لكل دولة و قدم المضرية على أنفسهم يوسف بن عبد الرحمن الفهري سنة تسع و عشرين و استقر سنة ولايته بقرطبة دار الإمارة ثم وافقتهم اليمنية لميعاد ادالتهم واثقين بمكان عهدهم و تراضيهم و اتفاقهم فبيتهم يوسف بمكان نزلهم من شقندة من قرى قرطبة من الضميل بن حاتم و القيسية و المضرية فاستلحموهم و استبد يوسف بما وراء البحرين عدوة الأندلس و غلب اليمنية على أمرهم فاستكانوا للغلبة و تربصوا بالدوائر إلى أن جاء عبد الرحمن الداخل فكان يوسف بن عبد الرحمن قد ولى الضميل بن حاتم سرقسطه فلما ظهر أمر المسودة بالمشرق ثار الحباب بن رواحة الزهري بالأندلس داعيا لهم و حاصر الضميل بسرقسطة و استمد يوسف فلم يمده رجاء هلاكه بما كان يغص به و أمدته القيسية فأخرج عنه الحباب و فارق الضميل سرقسطة فملكها الحباب و ولى يوسف الضميل على طليطلة إلى أن كان من أمر عبد الرحمن الداخل ما نذكره (4/149)
مسير عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس و تجديده الدولة بها
لما نزل ما نزل ببني أمية بالمشرق و غلبهم بنو العباس على الخلافة و أزالوهم عن كرسيها و قتل عبد الله بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة اثنتين و ثلاثين و مائة و تتبع بنو مروان بالقتل فطلبوا من بعدها بطن الأرض و كان ممن أفلت منهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك و كان قومه يتحينون له ملكا بالمغرب و يرون فيه علامات لذلك يؤثرونها عن مسلمة بن عبد الملك و كان هو قد سمعها منه مشافهة فكان يحدث نفسه بذلك فخلص إلى المغرب و نزل على أخواله نفرة من برابرة طرابلس و شعر به عبد الرحمن بن حبيب و كان قتل ابني الوليد بن عبد الملك لما دخلا أفريقية من قبله فلحق عبد الرحمن بمغيلة و يقال بمكناسة و يقال : نزل على قوم من زناتة فأحسنوا قبوله و اطمأن فيهم ثم لحق بمليلة و بعث بدرا مولاه إلى من بالأندلس من موالي المروانيين و أشياعهم فاجتمع بهم و بثوا له بالأندلس دعوة و نشروا له ذكرا و وافق ذلك ما قدمناه من الفتنة بين اليمنية و المضرية فاجتمعت اليمنية على أمره و رجع إليه بدر مولاه بالخبر فأجاز البحر سنة ثمان و ثلاثين في خلافة أبي جعفر المنصور و نزل بساحل السند و أتاه قوم من أهل أشبيلية فبايعوه ثم انتقل إلى كورة رحب فبايعه عاملها عيسى بن مسور ثم رجع إلى شدونة فبايعه عتاب بن علقمة اللخمي ثم أتى مورور فبايعه ابن الصباح و نهز إلى قرطبة و اجتمعت عليه اليمنية و نمي خبره إلى والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري و كان غازيا بجليقة فانفض عسكره و سار إلى قرطبة و أشار عليه وزيره الضميل بن حاتم بالتلطف له و المكر به فلم يتم له مراده و ارتحل عبد الرحمن من المنكب فاحتل بمالقة فبايعه جندها ثم برندة فبايعه جندها ثم بشريش كذلك ثم بأشبيلية فتوافت عليه الأمداد و الأمصار و تسايلت المضرية إليه حتى إذا لم يبق مع يوسف بن عبد الرحمن غير الفهرية و القيسية لمكان الضميل منه زحف إليه حينئذ عبد الرحمن بن معاوية و ناجزهم الحرب بظاهر قرطبة فانكشف و رجع إلى غرناطة فتحصن بها و أتبعه الأمير عبد الرحمن فنازله ثم رغب إليه يوسف في الصلح فعقد له على أن يسكن قرطبة و أقفله معه ثم نقض يوسف عهده و خرج سنة إحدى و أربعين و لحق بطليطلة و اجتمع إليه زهاء عشرين ألفا من البربر و قدم الأمير عبد الرحمن للقائه عبد الملك بن عمر المرواني كان وفد عليه من المشرق و كان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بمصر فلما هلك سنة خمس عشرة بقي عبد الملك بمصر فلما دخلت المسودة أرض مصر خرج عبد الملك يوم الأندلس في عشرة رجال من بيته مشهورين بالبأس و النجدة حتى نزل على عبد الرحمن سنة إحدى و أربعين فعقد له على أشبيلية و لإبنه عمر بن عبد الملك على مورور و سار يوسف إليهما و خرجا إليه فلقياه و تناجز الفريقان فكانت الدبرة على يوسف و أبعد الغر و اغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة و احتز رأسه و تقدم به إلى الأمير عبد الرحمن فاستقام أمره و استقر بقرطبة و بنى القصر و المسجد الجامع أنفق ثمانين ألف دينار و مات قبل تمامه و بنى مساجد و وفد عليه جماعة من أهل بيته من المشرق و كان يدعو للمنصور ثم قطعها لما تم له الملك بالأندلس و مهد أمرها و خلد لبني مروان السلطان بها و جدد ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة و آثارها و استلحم الثوار في نواحيها و قطع دعوة العباسيين من منابرها و سد المذاهب منهم دونها و هلك سنة اثنتين و سبعين و مائة و كان يعرف بعبد الرحمن الداخل لأن أول داخل من ملوك بني مروان هو و كان أبو جعفر المنصور يسميه صقر بني أمية لما رأى ما فعل بالأندلس و ما ركب إليها من الأخطار و أنه صمد إليها من أنأى ديار المشرق من غير عصابة و لا قوة و لا أنصار فغلب على أهلها و على أميرهم و تناول الملك من أيديهم بقوة شكيمة و أمضاء عزم ثم تحلى و أطيع و أورثه عقبه و كان عبد الرحمن هذا يلقب بالأمير و عليه جرى بنوه من بعده فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين إذ بايع الخلافة بمقر الإسلام و مبتدأ العرب حتى كان عبد الرحمن الناصر و هو الثامن منهم على ما نذكره فتسمى بأمير المؤمنين و توارث ذلك بنوه واحدا بعد واحد و كان لبني عبد الرحمن الداخل بهذه العدوة الأندلسية ملك ضخم و دولة ممتعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة كما نذكر و عندما شغل المسلمون بعبد الرحمن و تمهيد أمره قوي أمر الخلافة و استفحل سلطانه و تجهز فرويلة بن الأدفونش ملكهم سار إلى ثغور البلاد فأخرج المسلمين منها و ملكها من أيديهم و رد مديزلك و بريعال و سمورة و سلمنقة و قشتالة و سقونية و صارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور بن أبي عامر رئيس الدولة كما نذكر في أخباره ثم استعادوها بعده من بلاد الأندلس و استولوا على جميعها و كان عبد الرحمن عندما تمهد له الأمر بالأندلس و دعا للسفاح ثم خلعه و استبد بأمره كما ذكرناه وجد هشام بن عبد ربه الفهري مخالفا بطليطلة على يوسف من قبله و بقي على خلافه ثم أغزاه عبد الرحمن سنة تسع و أربعين بدرا مولاه و تمام بن علقمة فحاصراه و معه حيوة بن الوليد الحصبي و حمزة بن عبد الله بن عمر حتى غلباه و جاء بهم إلى قرطبة فصلبوا و سار من أفريقية سنة تسع و أربعين العلاء بن مغيث اليحصبي و نزل باجة من بلاد الأندلس داعيا لأبي جعفر المنصور و اجتمع إليه خلق فسار عبد الرحمن إليه و لقيه بنواحي أشبيلية فقاتله أياما ثم انهزم العلاء و قتل في سبعة آلاف من أصحابه و بعث عبد الرحمن برؤوس كثيرة منهم إلى القيروان و مكة فألقيت في أسواقها سرا و معها اللواء الأسود و كاتب المنصور للعلاء ثم ثار سعيد اليحصبي المعروف بالمطري بمدينة لبلة طالبا بثأر من قتل من اليمنية مع العلاء و ملك أشبيلية و سار إليه عبد الرحمن فامتنع ببعض الحصون فحاصره و كان عتاب بن علقمة اللخمي بمدينة شدونة فأمد المطري و بعث عبد الرحمن بدرا مولاه فحال دون المدد و دون المطري ثم طال عليه الحصار و قتل في بعض أيامه و ولي مكانه بالقلعة خليفة بن مروان ثم استأمن من بالقلعة إلى عبد الرحمن و أسلموا إليه الحصن فخربه و قتل عبد الرحمن خليفة و من معه ثم سار إلى غياث فحاصره بشدونة حتى استأمنوا فأمنهم و عاد إلى قرطبة فخرج عليه عبد الرحمن بن خراشة الأسدي بكورة جيان و بعث إليه العساكر فافترق جمعه و استأمن فأمنه ثم خرج عليه سنة خمس غياث بن المستبد الأسدي فجمع عامل باجة العساكر و سار إليه فهزمه و قتله و بعث برأسه إلى عبد الرحمن بقرطبة و في هذه السنة شرع عبد الرحمن في بناء السور على قرطبة ثم ثار رجل بشرق الأندلس من بربر مكناسة يعرف بشقنا بن عبد الواحد كان يعلم الصبيان و ادعى أنه من ولد الحسين الشهيد و تسمى بعبد الله بن محمد و سكن شنة برية و اجتمع إليه خلق من البربر فسار إليه عبد الرحمن فهرب في الجبال و اعتصم بها فرجع و ولى على طليطلة حبيب بن عبد الملك فولى حبيب شنة برية سليمان بن عثمان بن مروان بن عثمان بن أبان بن عثمان بن عفان فسار إليه سليمان و قتله و غلب على ناحية فورية فسار إليه عبد الرحمن سنة اثنتين و خمسين و مائة و أعياه أمره و صار ينتقل في البلاد و يهزم العساكر و كان سكن بحصن شيطران من جبال بلنسية فسار إليه عبد الرحمن سنة ست و خمسين و استخلف على قرطبة ابنه سلمان فأتاه الخبر بعصيان أهل أشبيلية و ثورة عبد الغفار و حيوة بن قلاقس مع اليمانية فرجع عن شقنا و هاله أمر أشبيلية و قدم عبد الملك بن عمر لقتالهم فساروا إليه و لقيهم مستميتا فهزمهم و أثخن فيهم و لحق بعبد الرحمن فشكرها له و جزاه خيرا و وصله بالصهر و ولاه الوزارة و نجا عبد الغفار و حيوة بن قلاقس إلى أشبيلية فسار عبد الرحمن سنة سبع و خمسين إليها فقتلهم و قتل خلقا ممن كان معهم و استراب من يومئذ بالعرب فرجع إلى اصطناع القبائل من سواهم و اتخاذ الموالي و لما كانت سنة إحدى و ستين غدر بشقنا رجلان من أصحابه و جاء برأسه إلى عبد الرحمن ثم سار عبد الرحمن بن حبيب الفهري المعروف بالقلعي من أفريقية إلى الأندلس مظهرا للدعوة العباسية و نزل بتدمير و اجتمع إليه البربر و كان سليمان بن يقظان عاملا على برشلونة فكتب إليه يدعوه إلى أمره فلم يجبه فسار إليه في البربر و لقيه سليمان فهزمهم و عاد إلى تدمير و زحف إليه عبد الرحمن من قرطبة فاعتصم بجبل بلنسية فبذل عبد الرحمن فيه الأموال فاغتاله رجل من أصحابه البربر و حمل رأسه إلى عبد الرحمن و ذلك سنة اثنتين و ستين و رجع عبد الرحمن إلى قرطبة ثم خرج دحية الغساني في بعض حصون البيرة فبعث إليه شهيد بن عيسر فقتله و خالف البربر و عليهم بحرة بن البرانس فبعث بدرا مولاه فقتله و فرق جموعهم و فر القائد السلمي من قرطبة إلى طليطلة و عصى بها فبعث حبيب بن عبد الملك و حاصره فهلك فى الحصار و زحف عبد الرحمن سنة أربع و ستين إلى سرقسطة و بها سليمان بن يقظان و الحسين بن عاصي و قد حاصرهما ثعلبة بن عبيد من قواده فامتنعت عليه و قبض سليمان على ثعلبة و بعث إلى ملك الفرنج فجاء و قد تنفس عنه الحصار فدفع إليه ثعلبة ثم غلب الحسين على سلمان و قتله و انفرد فحاصره عبد الرحمن حتى صالحه و سار إلى بلاد الفرنج و البشكنس و من وراءهم من الملوك و رجع إلى وطنه و غدر الحسين بسرقسطة فسار إليه عامله ابن علقمة فأسر أصحابه ثم سار إليه عبد الرحمن سنة ست و ستين و ملكها عنوة و قتل الحسين و قتل أهل سرقسطة ثم خرج سنة ثمان و ستين أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن فلقيه بقسطلونة و هزمه و أثخن في أصحابه ثم لقيه ثانية سنة تسع و ستين فهزمه ثم هلك سنة سبعين في أعمال طليطلة و قام مكانه أخوه قاسم و غزاه عبد الرحمن فحاصره فجاء بغير أمان فقتله ثم توفي عبد الرحمن سنة اثنتين و سبعين و مائة لثلاثة و ثلاثين سنة من إمارته (4/154)
وفاة عبد الرحمن الداخل و ولاية ابنه هشام
و لما هلك عبد الرحمن كان ابنه الأكبر سليمان واليا على طليطلة و كان ابنه هشام على ماردة و كان قد عهد له بالأمر و كان ابنه عبد الله المسكين حاضرا بقرطبة فأخذ البيعة لأخيه هشام و بعث إليه بالخبر فسار إلى قرطبة و قام بالدولة و غص بذلك أخوه سليمان فأظهر الخلاف بطليطلة و لحق به أخوه عبد الله و بعث هشام في أثره فلم يلحق و سار هشام في العساكر فحاصرهم بطليطلة و خالفه سليمان إلى قرطبة فلم يظفر بشيء منها و بعث هشام بن عبد الملك في أثره فقصد ماردة فحاربه عامله و هزمه الله بغير أمان و دخل في طاعته فأكرمه ثم بعث سنة أربع و سبعين ابنه معاوية لحصار أخيه سليمان بتدمير فدوخ نواحيها و هرب سليمان إلى جبال بلنسية فاعتصم بها و رجع معاوية إلى أبيه بقرطبة ثم طلب سليمان العبور إلى عدوة البربر بأهله و ولده فأجازه هشام و أعطاه ستين ألف دينار صلحا على تركة أبيه و أقام بعدوة المغرب و سار معه أخوه عبد الله ثم خرج على هشام سعيد بن الحسين بن يحيى الأنصاري بطرسوسة من شرق الأندلس و كان قد التجأ إليها حين قتل أبوه و دعي إلى اليمانية فملكها و أخرج عاملها يوسف العبسي فعارضه موسى بن فرقوق في المضرية بدعوة هشام و خرج أيضا مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة و ملك مدينة سرقسطة و واشقة و كان هشام في شغل بأمر أخويه فلما فرغ منهما بعث أبا عثمان عبيد الله بن عثمان بالعساكر إلى مطروح فحاصره بسرقسطة أياما ثم أفرج عنه و نزل بطرسوسة قريبا و أقام بتحيفة ثم غدر بمطروح بعض أصحابه و جاء برأسه إلى أبي عثمان فبعث به إلى هشام و سار إلى سرقسطة فملكها ثم دخل إلى دار الحرب غازيا و قصد ألبة و القلاع فلقي العدو و ظفر بهم و فتح الله عليه و ذلك سنة خمس و سبعين و بعث هشام العساكر مع يوسف بن نحية إن جليقة فلقي ملكها ابن مند و هزمه و أثخن في العدو و في هذه السنة دخل أهل طليطلة في طاعة الأمير هشام بعد منصرف أخويه عنهم فقبلهم و أمنهم و بعث عليها ابنه الحكم واليا فضبطها و أقام بها و في سنة ست و سبعين و مائة بعث هشام وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث لغزاة العدو فبلغ ألبة و القلاع و أثخن في نواحيها ثم بعثه في العساكر إلى أربونة و جرندة فأثخن فيهما و وطىء أرض سلطانية و توغل في بلادهم و رجع بالغنائم التي لا تحصى و استمد الطاغية بالبشكنس و جيرانه من الملوك فهزمهم عبد الملك ثم بعث بالعساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى بلاد جليقة فأثخنوا في بلاد العدو و غنموا و رجعوا و في هذه السنة هاجت فتنة بتاكدنا و هي بلاد رندة من الأندلس و خلع البربر هنالك الطاعة فبعث إليهم هشام بن عبد القادر بن أبان بن عبد الله مولى معاوية بن أبي سفيان فأبادهم و خرب بلادهم و فر من بقي منهم فدخلوا في القبائل و بقيت تاكدنا قفراء خالية سبع سنين و في سنة تسع و سبعين بعث هشام الحاجب عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث في العساكر إلى جليقة فانتهى إلى ميورقة فجمع ملك الجلالقة و استمد بالملوك ثم خام عن اللقاء و رجع أدراجه و أتبعه عبد الملك و توغل في بلادهم و كان هشام قد بعث الجيوش من ناحية أخرى فالتقوا بعبد الملك و أثخنوا في البلاد و اعترضهم عسكر الإفرنج فنالوا منهم بعض الشيء ثم خرجوا ظافرين سالمين (4/159)
وفاة هشام و ولاية ابنه الحكم
ثم توفي هشام بن عبد الرحمن سنة ثمانين و مائة لسبع سنين من إمارته و قيل ثمان سنين و كان من أهل الخير و الصلاح و كان كثير الغزو و الجهاد و هو الذي أكمل بناء الجامع بقرطبة الذي كان أبوه شرع فيه و أخرج المصرف لآخذي الصدقة على الكتاب و السنة و لما مات ولي ابنه الحكم بعده فاستكثر من المماليك و ارتباط الخيل واستفحل ملكه و باشر الأمور بنفسه و لأول ولايته أجاز ابنه عبد الله البلنسي من عدوة المغرب فملك بلنسية ثم أخوه سليمان من طنجة فحاربهما الحكم سنة ثم ظفر بعمه سليمان فقتله سنة أربع و ثمانين و أقام عبد الله ببلنسية و كف عن الفتنة و أرسل الحكم في الصلح على يد يحيى بن يحيى الفقيه و غيره فصالحه سنة ست و ثمانين و في خلال الفتنة مع عميه سليمان و عبد الله اغتنم الفرنج الفرصة و اجتمعوا و قصدوا برشلونة فملكوها سنة خمس و ثمانين و تأخرت عساكر المسلمين إلى ما دونها و بعث الحكم العساكر إلى برشلونة مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الجلالقة فأثخن فيها و خالفهم العدو إلى المضايق فرجع إلى التعبية و ظفر بهم و رجع إلى بلاد الإسلام ظافرا و في سنة إحدى و ثمانين ثارالبهلول بن مرزوق بناحية الثغر و ملك سرقسطة و فيها جاء عبد الله البلنسي عم الحكم كما ذكرناه و في هذه السنة خالف عبيدة بن عمير بطليطلة و كان القائد عمرو بن يوسف من قواد الحكم بطلبيرة فكتب إلى هشام بحصارهم فحاصرهم ثم استمال بني مخشي من أهل طليلطلة فقتلوا عبيدة و بعثوا برأسه إلى عمروس فبعث به إلى الحكم و أنزل بني مخشي عنده فقتلهم البربر بطلبيرة بثأر كاتب لهم و قتل عمروس و الباقين و استقامت تلك الناحية و استعمل عمروس ابنه يوسف على مدينة طليطلة و لحق بالفرنج سنة تسع و ثمانين بعض أهل الحرابة و أطمعوا الفرنج في ملك طليطلة فزحفوا إليها و ملكوها و أسروا أميرها يوسف و حبسوه بصخرة قيسر و سار عمروس من فوره إلى سرقسطة ليحميها من العدو و بعث العساكر مع ابن عمه فلقي العدو و هزمهم و سار إلى صخرة قيسر و قد وهن الفرنج من الهزيمة فافتتحها و بعث عمروس نائبه و خلص يوسف و عظم صيته (4/160)
وقعة الربض
كان الحكم في صدر ولايته قد انهمك في لذاته و اجتمع أهل العلم و الورع بقرطبة مثل يحيى بن يحيى الليثي و طالوت الفقيه و غيرهما فثاروا به و امتنع فخلعوه و بايعوا محمد بن القاسم من عمومة هشام و كان بالربض الغربي من قرطبة محلة متصلة بقصره و حصروه سنة تسعين و مائة و قاتلهم فغلبهم و افترقوا و هدم دورهم و مساجدهم و لحقوا بفاس من أرض العدوة و لحقوا بالإسكندرية و نزل بها منهم جمع و ثاروا بها فزحف إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصروافتتحها و أجازهم إلى جزيرة أقريطش كما مر و كان مقدمهم أبا حفص عمر البلوطي فلم يزل رئيسا عليهم و ولده من بعده إلى أن ملكها الفرنج من أيديهم (4/161)
وقعة الحفرة بطليطلة
كان أهل طليطلة يكثرون الخلاف و نفوسهم قوية لحصانة بلدهم فكانت طاعتهم ملتانة فأعيا الحكم أمرهم و استقدم عمروس بن يوسف من الثغر و كان أصله من أهل مدينة وشقة من المولدين و كان عاملا عليها فداخله في التدبير على أهل طليطلة و كتب له بولايتها فأنسوا به و اطمأنوا إليه ثم داخلهم في الخلع و أشار عليهم ببناء مدينة يعتزل فيها مع أصحاب السلطان فوافقوه و أمضى رأيه في ذلك ثم بعث صاحب الأعلى إلى الحكم يستنجده على العدو فبعث العساكر مع ابنه عبد الرحمن و الوزراء و مروا بطليطلة و لم يعرض عبد الرحمن لدخولها ثم رجع العدو و كفى الله شره فاعتزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة فأشار عمروس عند ذلك على أهل طليطلة بالخروج إلى عبد الرحمن فخرج إليه الوجوه و أكرمهم و دس خادم الحكم كتابه إلى عمروس بالحيلة على أهل طليطلة فأشار عليهم عمروس بأن يدخلوا عبد الرحمن البلد و أنزله بداره و اتخذ صنيعا للناس و استعد له على موعد لذلك فكان يدخلهم من باب و يخرجهم من آخر خشية الزحام فيدخلون إلى حفرة في القصر و تضرب رقابهم عليها إلى أن قتل معظمهم و فطن الباقون فنفروا و حسنت طاعتهم من بعد ذلك إلى أيام الفتنة كما نذكر ثم عصى أصبغ بن عبد الله بماردة و أخرج عامل الحكم فسار إليه الحكم و حاصره و جاءه الخبر بعصيان أهل قرطبة فرجع و قتلهم ثم استنزل أصبغ من بعد ذلك و أنزله قرطبة و في سنة اثنتين و تسعين جمع لزريق بن قار له ملك الفرنج و سار لحصار طرسوسة فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر فهزمه و فتح الله على المسلمين ثم عاود أهل ماردة الخلاف عن الحكم سنة أربع و تسعين فسار إليهم و قاتلهم ثلاث سنين و كثر عيث الفرنج في الثغور فسار إليهم سنة ست و تسعين فافتتح الحصون و خرب النواحي و أثخن في القتل و السبي و النهب و عاد إلى قرطبة ظافرا و في سنة مائتين بعث الحكم العساكر مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج فسار فيها و خربها و نهبها و هدم عدة من حصونها و أقبل إليه ملك الجلالقة في جموع عظيمة و تنازلوا على نهر و اقتتلوا عليه أياما و نال المسلمون منهم أعظم النيل و أقاموا على ذلك ثلاث عشرة ليلة ثم كثرت الأمطار و مد النهر و قفل المسلمون ظافرين (4/162)
وفاة الحكم و ولاية ابنه عبد الرحمن الأوسط
ثم توفي الحكم بن هشام آخر سنة ست و مائتين لسبع و عشرين سنة من ولايته و هو أول من جند بالأندلس الأجناد و المرتزقة و جمع الأسلحة و العدد و استكثر من الحشم و الحواشي و ارتبط الخيول على بابه و اتخذ المماليك و كان يسميهم الخرس لعجمتهم و بلغت عدتهم خمسة آلاف و كان يباشر الأمور بنفسه و كانت له عيون يطالعونه بأحوال الناس و كان يقرب الفقهاء و العلماء و الصالحين و هو الذي وطأ الملك لعقبه بالأندلس و لما مات قام بأمره من بعده ابنه عبد الرحمن فخرج عليه لأول إمارته عبد الله البلنسي عم أبيه و سار إلى تدمير يريد قرطبة فتجهز له عبد الرحمن فحام عن اللقاء و رجع إلى بلنسية و مات أثر ذلك فنقل عبد الرحمن ولده و أهله إلى قرطبة ثم غزا لأول ولايته إلى جليقة فأبعد و أطال الغيبة و أثخن في أمم النصرانية هنالك و رجع و قدم عليه سنة ست و مائتين من العراق زرآب المغني مولى المهدي و معه معلم إبراهيم الموصلي و اسمه علي بن نافع فركب لتلقيه و بالغ في إكرامه و أقام عنده بخير حال و أورث صناعة الغناء بالأندلس و خلف ولده مخلفة كبيرهم عبد الرحمن في صناعته و حظوته و في سنة سبع كانت وقعة بالثغر كان الحكم قد قبض على عاملها ربيع و صلبه حيا لما بلغه من ظلمه و هلك الحكم أثر ذلك فتوافى المتظلمون من ربيع إلى قرطبة يطلبون ظلاماتهم و معظمهم جند البيرة و وقفوا بباب القصر و شغبوا و بعث عبد الرحمن من يسكتهم فلم يقبلوا فركبت العساكر إليهم و أوقعوا بهم و نجا الفل منهم إلى البيرة و بالشر و تتبعهم عبد الرحمن و في هذه السنة نشأت الفتنة بين المضرية و اليمانية و اقتتلوا فهلك منهم نحو من ثلاثة آلاف و بعث عبد الرحمن إليهم يحيى بن عبد الله بن خالد في جيش كثيف ليكفهم عن الفتنة فكفوا عن القتال لما أحسوا بوصوله ثم عاودوا الحرب عند مغيبه و أقاموا على ذلك سبع سنين و في سنة ثمان و مائتين أغزا حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى ألبة و القلاع فخرب كثيرا من البلاد و انتسفها و فتح كثيرا من حصونهم و صالح بعضا على الجزية و إطلاق أسرى المسلمين و انصرف ظافرا و في سنة ثلاث عشرة انتقض عليه أهل ماردة و قتلوا عامله فبعث إليهم العساكر فافتتحوها و عاودوا الطاعة و أخذوا رهائنهم و خربوا سورها و رجعوا عنهم ثم أمر عبد الرحمن بنقل حجارة السور إلى النهر فعاودوا الخلاف و أسروا العامل و أصلحوا سورهم فسار إليهم عبد الرحمن سنة أربع عشرة و مائتين و حاصرهم فامتنعوا عليه ثم بعث العساكر سنة سبع عشرة فحاصرها فامتنعوا ثم حاصرها سنة عشرين و افتتحها و نجا فلهم مع محمود بن عبد الجبار منهم إلى ملت شلوط فاعتصم بها سنة عشرين و مائتين فبعث عبد الرحمن العساكر لحصاره فلحق بدار الحرب و استولى على حصن من حصونهم أقام به خمسة أعوام حتى حاصره أدفونش ملك الجلالقة و افتتح الحصن و قتل محمودا و جميع أصحابه سنة خمس و عشرين و في سنة خمس عشرة خرج بمدينة طليطلة هاشم الضراب من أهل واقعة الربض و اشتدت شوكته و اجتمعت له الخلق و أوقع بأهل شنت برية فبعث عبد الرحمن العساكر لقتاله فلم يصيبوا منه ثم بعث عساكر أخرى فقاتلوه بنواحي دورقة فهزموه و قتل هو و كثير من أصحابه و استمر أهل طليطلة على الخلاف و بعث عبد الرحمن ابنه أمية لحصارها فحاصرها مدة ثم أفرج عنها و نزل قلعة رياح و بعث عسكرا للاغارة عليها و كان أهل طليطلة قد خرجوا في اتباعه إلى قلعة رياح فكمن لهم فأوقعوا به فاغتم لذلك و هلك لأيام قليلة و بعث عبد الرحمن العساكر لحصارها ثانيا فلم يظفروا و كمن المغيرون علها بقلعة رياح يعاودونها بالحصار كل حين ثم بعث عبد الرحمن أخاه الوليد في العساكر سنة اثنتين و عشرين لحصارها و قد أشرفوا على الهلكة و ضعفوا عن المدافعة فاقتحمها عنوة و سكن أهلها و أقام إلى آخر ثلاث و عشرين و رجع و في سنة أربع و عشرين بعث عبد الرحمن قريبه عبيد الله بن البلنسي في العساكر لغزو بلاد ألبة و القلاع و لقي العدو فهزمهم و كثر السبي و القتل ثم خرج لزريق ملك الجلالقة و أغار على مدينة سالم بالثغر فسار إليه فرنون بن موسى و قاتله فهزمه و أكثر القتل في العدو و الأسر ثم سار إلى الحصن الذي بناه أهل ألبة بالثغر نكاية للمسلمين فافتتحه و هدمه ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جليقة فدوخها و افتتح عدة حصون منها و جال في أرضهم و رجع بعد طول المقام بالسبي و الغنائم و في سنة ست و عشرين و مائتين بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة و انتهوا إلى أرض سلطانية و كان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى عامل تطيلة و لقيهم العدو فصبروا حتى هزم الله عدوهم و كان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود و وقعت بينه و بين بعض قواد عبد الرحمن ملاحاة و أغلظ له القائد فكان ذلك سببا لانتقاضه فعصى على عبد الرحمن و بعث إليه الجيوش مع الحرث بن بزيغ فقاتله موسى و انهزم و قتل ابن عمه و رجع الحرث إلى سرقسطة ثم زحف إلى تطيلة و حاصر بها موسى حتى نزل عنها على الصلح إلى أربط و أقام الحرب بتطيلة أياما ثم سار لحصار موسى في أربط فاستنصر موسى بغرسية من ملوك الكفر فجاءه و زحف الحرث و أكمنوا له فلقيهم على نهر بلبة فخرجت عليه الكمائن بعد أن أجاز النهر و أوقعوا به و أسروه و قد فقئت عينه و استشاط عبد الرحمن لهذه الواقعة و بعث ابنه محمدا في العساكر سنة تسع و عشرين و حاصر موسى بتطيلة حتى صالحه و تقدم إلى ينبلونة فأوقع بالمشركين عندها و قتل غرسية صاحبها الذي أنجد موسى على الحرث ثم عاود موسى الخلاف فزحفت إليه العساكر فرجع إلى المسالمة و رهن ابنه عبد الرحمن على الطاعة و قبله عبد الرحمن و ولاه تطيلة فسار إليها و استقرت في عمالته ثم كان في هذه السنة خروج المجوس في أطراف بلاد الأندلس ظهروا سنة ست و عشرين بساحل أشبونة فكانت بينهم و بين أهلها الحرب ثلاثة عشر يوما ثم تقدموا إلى قادس ثم إلى أشدونة و كانت بينهم و بين المسلمين بها وقعة ثم قصدوا أشبيلية و نزلوا قريبا منها و قاتلوا أهلها منتصف المحرم من سنة ثمان و عشرين فهزمهم المسلمون و غنموا ثم مضوا إلى باجة ثم إلى مدينة أشبونة ثم أقلعوا من هنالك و انقطع خبرهم و سكنت البلاد و ذلك سنة ثلاثين و تقدم عبد الرحمن الأوسط بإصلاح ما خربوه من البلاد و أكثف الحامية بها و ذكر بعض المؤرخين حادثة المجوس هذه سنة ست و أربعين و مائتين و لعلها غيرها و الله أعلم و في سنة إحدى و ثلاثين بعث عبد الرحمن العساكر إلى جليقة فدوخوها و حاصروا مدينة ليون و رموا سوارها فلم يقدروا عليه لأن عرضه سبعة عشر ذراعا فثلموا فيه ثلمة و رجعوا ثم أغزى عبد الرحمن حاجبه عبد الكريم بن مغيث في العساكر إلى بلاد برشلونة فجاز في نواحيها و أجاز الدروب التي تسمى السرب إلى بلاد الفرنجة فدوخها قتلا و أسرا و سبيا و حاصر مدينتهم العظمى و عاث في نواحيها و قفل و قد كان ملك القسطنطينية توفلس بن نوفلس بن نوفيل بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة خمس و عشرين بهدية و يطلب مواصلته فكافأه عبد الرحمن عن هديته و بعث إليه يحيى العزال من كبار الدولة و كان مشهورا في الشعر و الحكمة فأحكم بينهما المواصلة و ارتفع لعبد الرحمن ذكر عند منازعيه من بني العباس و في سنة ست و ثلاثين هلك نصر الحفي القائم بدولة الأمير عبد الرحمن و كان يضغن على مولاه و يمالىء ابنه عبد الرحمن على ابنه الآخر ولي عهده بما كانت أم عبد الله قد اصطنعته و كانت حظية عند السلطان و منحرفة عن ابنه محمد ولي العهد فداخلت نصرا هذا في أمرها و داخل هو طبيب الدار في أن يسم محمدا ولي العهد و دس الطبيب بذلك إلى الأمير مع قهرمانة داره و أن نصرا أكرهه على إذابة السم فيه و باكر نصر القصر و دخل على السلطان يستفهمه عن شرب الدواء فوجده بين يديه و قال له إن نفسي قد بشعته فاشربه أنت فوجم فأقسم عليه فلم يسعه خلافه فشربه و ركب مسرعا إلى داره فهلك لحينه و حسم السلطان علة ابنه عبد الله و كان من بعدها مهلكه (4/163)
وفاة عبد الرحمن الأوسط و ولاية ابنه محمد
ثم توفي عبد الرحمن الأوسط بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل في ربيع الآخر سنة ثمان و ثلاثين و مائتين لإحدي و ثلاثين سنة من إمارته و كان عالما بعلوم الشريعة و الفلسفة و كانت أيامه أيام هدوء و سكون و كثرت الأموال عنده و اتخذ القصور و المنتزهات و جلب إليها الماء و جعل له مصنعا اتخذه الناس شريعة و زاد في جامع قرطبة رواقين و مات قبل أن يستتمه فأتمه ابنه محمد بعده و بني بالأندلس جوامع كثيرة و رتب رسوم المملكة و احتجب عن العامة و لما مات ولي مكانه ابنه محمد فبعث لأول ولايته العساكر مع أخيه الحكم إلى قلعة رباح لإصلاح أسوارها و كان أهل طليطلة خربوها فرمها و أصلح حالها و تقدم إلى طليطلة فعاث في نواحها ثم بعث الجيوش مع موسى بن موسى صاحب تطيلة فعاث في نواحي ألبة و القلاع و فتح بعض حصونها و رجع و بعث عساكر أخرى إلى نواحي برشلونة و ما وراءها فعاثوا فيها و فتحوا حصون برشلونة و رجعوا ثم سار محمد سنة أربعين في جيوشه إلى طليطلة فاستمدوا ملك جليقة و ملك البشكنس فساروا لإنجادهم مع أهل طليطلة فلقيهم الأمير محمد على وادي سليط و قد أكمن لهم فأوقع بهم و بلغ عدة القتلى من أهل طليطلة و المشركين عشرين ألفا ثم سار إليهم سنة ثلاث و أربعين فأوقع بهم ثانية و أثخن فيهم و خرب ضياعهم فصالحوه ثم نكثوا وفي سنة خمس و أربعين ظهرت مراكب المجوس و نزلوا بأشبيلية و الجزيرة و أحرقوا مسجدها ثم عادوا إلى تدمير و دخلوا قصر أريولة و ساروا إلى سواحل الفرنجة و عاثوا فيها و انصرفوا فلقيهم مراكب الأمير محمد فقاتلوهم و غنموا منهم مركبين و استشهد جماعة من المسلمين و مضت مراكب المشركين إلى ينبلونة و أسروا صاحبها غرسيه و فدي نفسه منهم بسبعين ألف دينار و في سنة سبع و أربعين حاصر طليطلة ثلاثين يوما ثم بعث الأمير محمد سنة إحدى و خمسين أخاه المنذر في العساكر إلى نواحي ألبة و القلاع فعاثوا فيها و جمع لزريق للقائهم فلقيهم و انهزم و أثخن المسلمون في المشركين بالقتل و الأسر و كان فتحا لا كفاء له ثم غزا الأمير محمد بنفسه سنة إحدى و خمسين بلاد الجلالقة فأثخن و خرب و انتقض عليه عبد الرحمن بن مروان الجليقي فيمن معه من المولدين و ساروا إلى التخم و وصل يده باذفونش ملك جليقة فسار إلى الوزير هاشم بن عبد الرحمن في عساكر الأندلس سنة ثلاث و ستين فهزمه عبد الرحمن و حصل هاشم في أسره ثم وقعت المراودة في الصلح على أن ينزل عبد الرحمن بطليوس و يطلق الوزير هاشما فتم ذلك سنة خمس و ستين و نزل عبد الرحمن بطليوس و كانت خربة فشيدها و أطلق هاشما بعد سنتين و نصف من أمره ثم تغير أذفونش لعبد الرحمن بن مروان و فارقه و خرج من دار الحرب بعد أن قاتله و نزل مدينة أنطانية بجهات ماردة و هي خراب فحصنها و ملك ما إليها من بلاد أليون و غيرها من بلاد الجلالقة و استضافها إلى بطليوس و كان مظفر بن موسى بن ذي النون الهواري عاملا بشنت برية فانتقض و أغار على أهل طليطلة فخرجوا إليه في عشرين ألفا و لقيهم فهزمهم و انهزم معهم مطرف بن عبد الرحمن و قتل من أهل طليطلة خلق و كان مطرف بن موسى فردا في الشجاعة و محلا من النسب و لقي شنجة صاحب ينبلونة أمير البشكنس فهزمه شنجة و أسره و فر من الأسر و رجع إلى شنت برية فلم يزل بها قويم الطاعة إلى أن مات آخر دولة الأمير محمد و في سنة إحدى و ستين انتقض أسد بن الحرث بن بديع بتاكرتا و هي رندة فبعث إليهم الأمير محمد العساكر و حاصروهم حتى استقاموا على الطاعة و في سنة ئلاث و ستين أغزى الأمير محمد ابنه المنذر إلى دار الحرب و جعل طريقه على ماردة و كان بها ابن مروان الجليقي و مرت طائفة من عسكر المنذر بماردة فخرج عليهم ابن مروان و معه جمع من المشركين استظهر بهم فقتل تلك الطائفة عن آخرهم و في سنة أربع و ستين بعث ابنه المنذر ثانية إلى بلد ينبلونة و مر بسرقسطة فقاتل أهلها ثم تقدم إلى تطيلة و عاث في نواحيها و خرب بلاد بني موسى ثم مضى لوجهه إلى ينبلونة فدوخها و رجع و في سنة ست و ستين أمر الأمير محمد بإنشاء المراكب بنهر قرطبة ليدخل بها إلى البحر المحيط و يأتي جليقة من ورائها فلما تم إنشاؤها و جرت في البحر أصابها الريح و تقطعت فلم يسلم منها إلا القليل و فى سنة سبع و ستين و مائتين انتقض عمر بن حفصون بحصن يشتر من جبال مالقة و زحف إليه عساكر تلك الناحية فهزمهم و قوى أمره و جاءت عساكر الأمير محمد فصالحهم ابن حفصون و استقام أمر الناحية و في سنة ثمان و ستين بعث الأمير محمد ابنه المنذر لقتال أهل الخلاف فقصد سرقسطة و حاصرها وعاث في نواحيها وفتح حصر ريطة ثم تقدم إلى دير بروجة و فيه محمد بن لب بن موسى ثم قصد مدينة لادرة و قرطاجنة ثم دخل دار الحرب و عاث في نواحي ألبة و القلاع و فتح منها حصونا و رجع و في سنة سبعين سار هاشم بن عبد العزيز بالعساكر لحصار عمر بن حفصون بحصن يشتر و استنزله إلى قرطبة فأقام بها وفيها شرع إسماعيل بن موسى ببناء مدينة لاردة فجمع صاحب برشلونة لمنعه من ذلك و سار إليه فهزمه إسماعيل و قتل أكثر رجاله و في سنة إحدى و سبعين سار هاشم بن عبد العزيز في العساكر إلى سرقسطة فحاصرها هاشم و افتتحها و نزلوا جميعا على حكمه و كان في عسكره عمر بن حفصون و استدعاه من الثغر و حضر معه هذه الغزاة فهرب و لحق بيشتر فامتنع به و سار هاشم إلى عبد الرحمن بن مروان الجليقي و حاصره بحصن منت مولن ثم رجع عنه فأغار ابن مروان على أشبيلية و لقبت ثم نزل منت شلوط فامتنع فيه و صالح عليه الأمير محمدا واستقام على طاعته إلى أن هلك الأمير محمد و كان ملك رومة و الفرنجة لعهده اسمه فرلبيب بن لوزنيق (4/167)
وفاة الأمير محمد و ولاية ابنه المنذر
ثم توفي الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل في شهر صفر من سنة ثلاث و سبعين و مائتين لخمس و ثلاثين سنة من إمارته و ولي بعده ابنه المنذر فقتل لأول ولايته هاشم بن عبد العزيز وزير أبيه و سار في العساكر لحصار ابن حفصون فحاصره بحصن يشتر سنة أربع و سبعين و افتتح جميع قلاعه وحصونه و كان منها رية و هم مالقة و قبض على واليها من قبله عيشون فقتله ولما اشتد الحصار على ابن حفصون سأل الصلح فأجابه و أفرج عنه فنكث فرجع لحصاره و صالح ثم نكث مرتين فأقام المنذر على حصاره و هلك قريبا فانفرج عن ابن حفصون (4/169)
وفاة المنذر و ولاية أخيه عبدالله ابن الامير محمد
ثم توفي المنذر محاصرا لابن حفصون بجبل يشتر سنة خمس و سبعين و مائتين لسنتين من إمارته فولي مكانه أخوه عبد الله ابن الأمير محمد و قفل بالعساكر إلى قرطبة و قد اضطربت نواحي الأندلس بالثوار و لما كثر الثوار قل الخراج لامتناع أهل النواحي من الأداء و كان خراج الأندلس قبله ثلثمائة ألف دينار مائة ألف منها للجيوش و مائة ألف للنفقة في النوائب و ما يعرض و مائة ألف ذخيرة و وفرا فأنفقوا الوفر في تلك السنين و قل الخراج (4/170)
أخباو الثوار و أولهم ابن مروان ببطليوس و اشبونة
قد تقدم لنا أن عبد الرحمن بن مروان انتقض على الأمير محمد بن عبد الرحمن سنة خمس و خمسين في غزاته إلى بلاد الجلالقة و اجتمع إليه المولدون و صار إلى تخم و وصل يده بأذفونش ملك الجلالقة فعرف لذلك بالجليقي و ذكرنا كيف سار إليه هاشم بن عبد العزيز سنة ثلاث و ستين في عساكر الأندلس فهزمه ابن مروان و أسره ثم وقع الصلح على إطلاق هاشم و أن ينزل ابن مروان بطليوس فتم ذلك سنة خمس و ثلاثماية و نزل عبد الرحمن بطليوس فشيدها و ترس بالدولتين ثم تغير به أذفونش و قاتله ففارق دار الحرب و نزل مدينة أنطانية بجهات ماردة فحصنها و هي خراب و ملك ما إليها من بلد أليون و غيرها من بلاد الجلالقة و استضافها إلى بطليوس و استعجل له الأمير عبد الله على بطليوس و كان معه بدار الحرب سعدون السرساقي و كان من الأبطال الشجعان و كان دليلا للغزو و هو من الخارجين معه فلما نزل عبد الرحمن بطليوس انتزى سعدون ببعض الحصون ما بين قلنيرة و باجة ثم ملك قلنيرة و ترس بأهل الدولتين إلى أن قتله أذفونش في بعض حروبه معه (4/170)
ابن تاكيت بماردة
كان محمد بن تاكيت من مصمودة و ثار بناحية الثغر أيام الأمير محمد و زحف إلى ماردة و بها يومئذ جند من العرب و كتمامة فأعمل الحيلة في إخراجهم منها و نزلها هو و قومه مصمودة (4/171)
بقية خبر ابن مروان
و لما ملك ابن تاكيت ماردة زحفت إليه العساكر من قرطبة و جاء عبد الرحمن بن مروان من بطليوس مددا له فحاصروهم أشهرا ثم أقلعوا و كان بماردة جموع من العرب و مصمودة و كتامة فتحيل محمد بن تاكيت على العرب و كتامة و أقاربهم فأخرجهم و استقل بماردة هو و قومه و عظمت الفتنة بينه و بين عبد الرحمن بن مروان صاجب بطليوس بسبب مظاهرته عليه و حاربه فهزمه ابن مروان مرارا كانت إحداها على لقنت استلحم فيها مصمودة فقصت من جناح ابن تاكيت و استجاش بسعدون السرساقي صاحب قلنيرة فلم يغنه و علا كعب بن مروان عليهم و توثق أمره و طلبه ابن حفصون في الولاية فامتنع ثم هلك إثر ذلك سنة أيام الأمير عبد الله و ولي ابنه عبد الرحمن بن مروان و أثخن في البرابرة المجاورين له و هلك لشهرين من ولايته فعقد الأمير عبد الله على بطليوس لأميرين من العرب و لحق من بقي من ولد عبد الرحمن بحصن شونة و كانا إثنين من أعقابه و هما مروان و عبد الله إبنا إبنه محمد و عمهما مروان ثم خرجا من حصن شونة و لحقا بآخر من أصحاب جدهما عبد الرحمن ثم اضطرب الأميران ببطليوس و تنازعا و قتل أحدهما الآخر و استقل ببطليوس ثم تسور عبد الله منها سنة ست و ثماني فقتله و ملك بطليوس و استفحل أمره و المعجل له الأمير عبد الله عليها و نازل حصون البرابرة حتى طاعوا له و حارب ابن تاكيت صاحب ماردة ثم اصطلحوا و أقاموا جميعا طاعة الأمير عبد الله ثم تحاربوا فاتصلت حروبهم إلى آخر دولته (4/171)
ثورة لب بن محمد بسرقسطة و تطيلة
ثم ثار لب بن محمد بن لب بن موسى بسرقسطة سنة ثمان و خمسين و مائتين أيام الأمير محمد فترددت إليه الغزوات حتى استقام و أسجل له الأمير محمد على سرقسطة و تطيلة و طرسونة فأحسن حمايتها و استفحلت إمارته فيها و نازله ملك الجلالقة أذفونش في بعض الأيام بطرسونة فنزل إليه و رده على عقبه منهزما و قتل نحوا من ثلاثة آلاف من قومه و انتقض على الأمير عبد الله و حاصر تطيلة (4/172)
ثورة مطرف بن موسى بن ذي النون الهواري بشنت برية
كان لمطرف صيت من الشجاعة و محل من النسب و العصبية فثار في شنت برية و كانت بينه و بين صاحب ينبلونة سلطان البشكنس من الجلالقة حروب أسره العدو في بعضها ففر من الأسر و رجع إلى شنت برية و استقامت طاعته إلى آخر دولة الأمير محمد (4/172)
ثورة الأمير ابن حفصون في يشتر و مالقة و رندة واليس
و هو عمر بن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش بن أذفونش القس هكذا نسبه ابن حيان أول ثائر كان بالأندلس و هو الذي افتتح الخلاف بها و فارق الجماعة أيام محمد بن عبد الرحمن في سني السبعين و المائتين خرج بجبل يشتر من ناحية رية و مالقة و انضم إليه الكثير من جند الأندلس ممن في قلبه مرض في الطاعة و ابتنى قلعته المعروفة به هنالك و استولى على غرب الأندلس إلى رندة و على السواحل من الثجة إلى البيرة و زحف إليه هاشم بن عبد العزيز الوزير فحاصره و استنزله إلى قرطبة سنة سبعين ثم هرب و رجع إلى حصن يشتر و لما توفي الأمير محمد تغلب على حصن الحامة و رية و رندة و الثجة و غزاه المنذر سنة أربع و سبعين فافتتح جميع قلاعه و قتل عامله برية ثم سأل الصلح فعقد له المنذر ثم نكث ابن حفصون و عاد إلى الخلاف فحاصره المنذر إلى أن هلك محاصرا له فرجع عنه الأمير عبد الله و استفحل أمر بن حفصون و الثوار و توالت عليه الغزوات و الحصار و كاتب ابن الأغلب صاحب أفريقية و هاداه و أظهر دعوة العباسية بالأندلس فيما إليه و تثاقل ابن الأغلب على إجابته لاضطراب أفريقية فأمسك و أكثر الأجلاب على قرطبة و بنى حصن بلاية قريبا منها و غزاه عبد الله و افتتح بلاية و الثجة ثم قصده في حصنه فحاصره أياما و انصرف عنه فاتبعه ابن حفصون فكر عليه الأمير عبد الله و هزمه و أثخن فيه و افتتح البيرة من أعماله و والى عليه الحصار في كل سنة فلما كانت و ثمانين عمر بن حفصون و خالص ملك الجلالقة فنبذ إليه أمراؤه بالحصون عهده و سار الوزير أحمد بن أبي عبيدة لحصاره في العساكر فاستنجد بإبراهيم بن حجاج الثائر بأشبيلية و لقياه فهزمهما و راجع ابن حجاج الطاعة و عقد له الأمير عبد الله على أشبيلية و بعث ابن حفصون بطاعته للشيعة عندما تغلبوا على القيروان من يد الأغالبة و أظهر بالأندلس دعوة عبيد الله ثم راجع طاعة بني أمية عندما هيأ الله للناصر ما هيأه من استفحال الملك و استنزال الثوار و استقام إلى أن هلك سنة ست و ثلثمائة لسبع و ثلاثين سنة من ثورته و قام مكانه ابنه جعفر أقره الناصر على أعماله ثم دس إليه أخوه سليمان بن عمر بعض رجالاتهم فقتله لسنتين أو ثلاثة من ولايته و كان مع الناصر فسار إلى أهل يشتر و ملكوه مكان أخيه و ذلك سنة ثمان و ثلثمائة و خاطب الناصر فعقد له كما كان أخوه ثم نكث و تحرر إنكاثه و رجوعه ثم بعث إليه الناصر وزيره عبد الحميد بن سبيل بالعساكر و لقيه فهزمه و قتله و جيء برأسه إلى قرطبة و قدم المولدون أخاه حفص بن عمر فانتكث و مضى على العصيان و غزاه الناصر و جهز العساكر لحصاره حتى استأمن له و نزل إلى قرطبة بعد سنة من ولايته و خرج الناصر إلى يشتر فدخله و جال في أقطاره و رفع أشلاء عمرو ابنه جعفر و سليمان فصلبهم بقرطبة و خرب جميع الكنائس التي كانت في الحصون التي بنواحي رية و أعمال مالقة ثلاثين حصنا فأكثر و انقرض أمر بني حفصون و ذلك سنة خمس عشرة و ثلثماثة و البقاء لله (4/172)
ثوار أشبيلية المتعاقبون
ابن أبي عبيدة و ابن خلدون و ابن حجاج و ابن مسلمة و أول الثواركان بإشبيلية أمية ابن عبد الله المغافر بن أبي عبيدة و كان جده أبو عبدة عاملا عليها من قبل عبد الرحمن الداخل قال ابن سعيد و نقله عن مؤرخي الأندلس : الحجازي و محمد بن الأشعث و ابن حيان قال : لما اضطربت الأندلس بالفتن أيام الأمير عبد الله و سما رؤساء البلاد إلى التغلب و كان رؤساء أشبيلية المرشحون لهذا الشأن أمية بن عبد الغافر وكليب بن خلدون الحضرمي و أخوه خالد و عبد الله بن حجاج و كان الأمير عبد الله قد بعث على إشبيلية إبنه محمدا و هو أبو الناصر و النفر المذكورون يحومون على الاستبداد فثاروا بمحمد ابن الأمير عبد الله و حصروه في القصر مع أمه وانصرف ناجيا إلى أبيه ثم استبد أمية بولايتها على مداراتهم و دس على عبد الله بن حجاج من قتله فقام أخوه إبراهيم مكانه فثاروا به و حاصروه في القصر و لما أحيط به خرج إليهم مستميتا بعد أن قتل أهله و أتلف موجوده فقتل و عاثت العامة برأسه وذلك أعوام الثمانين و الثلثماثة و كتب ابن خلدون و أصحابه بذلك إلى الأمير عبد الله و أن أمية خلع و قتل فتقبل منهم للضرورة وبعث عليهم عمه هشام بن عبد الرحمن و استبدوا عليه و تولى كبر ذلك كريب بن خلدون و استبد عليهم بالرياسة قال ابن حيان : و نسبهم في حضرموت و هم بأشبيلية نهاية في النباهة مقتسمين الرياسة السلطانية و العلمية و قال ابن حزم : إنهم من ولد وائل بن حجر و نسبهم في كتاب الجمهرة و كذلك قال ابن حيان في بني حجاج قال الحجازي : و لما قتل عبد الله بن حجاج قام أخوه إبراهيم مقامه و ظاهر بني خلدون على قتل أمية و أنزل نفسه منهم منزلة الخديم و استبد كريب و عسف أهل إشبيلية فنفر عنه الناس و تمكن لابراهيم الغرض و صار يظهر الرفق كما أظهر كريب الغلظة و ينزل نفسه منزلة الشفيع و الملاطف ثم دس للأمير عبد الله بطلب الولاية ليشتد بكتابه على كريب بن خلدون و كتب له بذلك عهده فأظهره للعامة و ثاروا جميعا بكريب فقتلوه و استقام إبراهيم بن حجاج على الطاعة للأمير عبد الله و حصن مدينة قرمونة و جعل فيها مرتبط خيوله و كان يتردد ما بينها و بين إشبيلية و هلك ابن حجاج و استبد ابن مسلمة بمكانه ثم استقرت إشبيلية آخرا بيد الحجاج بن مسلمة و قرمونة بيد محمد بن إبراهيم بن حجاج و عقد له الناصر ثم انتقض و بعث له الناصر بالعساكر و جاء ابن حفصون لمظاهرة ابن مسلمة فهزمته العساكر و بعث له إبنه شفيعا فلم يشفعه فبعث ابن مسلمة بعض أصحابه سرا فداخل الناصر في المكربه و عقد له و جاء بالعساكر وخرج ابن مسلمة للحديث معه فغدروا به و ملكوا عليه أمره و حملوه إلى قرطبة و نزل عامل السلطان إشبيلية و كان من الثوار على الأمير عبد الله قريبه و غدر به أصحابه فقتل (4/174)
مقتل الأمير محمد ابن الأمير عبد الله ثم مقتل أخيه المطرف
كان المطرف قد أكثر السعاية في أخيه محمد عند أبيهما حتى إذا تمكنت سعايته و ظهر سخطه على ابنه محمد لحق حينئذ ببلد ابن حفصون ثم استأمن و رجع و بالغ المطرف في السعاية إلى أن حسه أبوه ببعض حجر القصر و خرج لبعض غزواته و استخلف ابنه المطرف على قصره فقتل أخاه في محبسه مفتاتا بذلك على أبيه و حزن الأمير عبد الله على ابنه محمد و ضم إبنه عبد الرحمن إلى قصره و هو ابن يوم فربي مع ولده ثم بعث الأمير عبد الله ابنه المطرف بالصائفة سنة ثلاث و ثمانين و مائتين و معه الوزير عبد الملك بن أمية ففتك المطرف بالوزير لعداوة بينهما وسطا به أبوه الأمير عبد الله و قتله أشر قتلة ثأر فيها منه بأخيه محمد و بالوزير و عقد مكان الوزير لابنه أمية فسنح على الفقراء بأنفه و ترفع على الوزراء فمقتوه و سعوا فيه عند الأمير عبد الله بأنه بايع جماعة من سماسرة الشر لأخيه هشام بن محمد و لفقت بذلك شهادات اعتمد القاضي حينئذ قبولها للساعين أن يجعلوا في الجماعة للمشهود عليهم بالبيعة بعض أعدائه فتمت الحيلة و قتل هشام أمية الوزير و ذلك سنة أربع و ثمانين (4/175)
وفاة الأمير عبد الله بن محمد و ولاية حافده عبد الرحمن الناصر بن محمد
ثم توفي الأمير عبد الله في شهر ربيع الأول فمن آخر المائة الثالثة لست و عشرين سنة من إمارته و ولي حافده عبد الرحمن ابن ابنه محمد قتيل أخيه المطرف و كانت ولايته من الغريب لأنه كان شابا و أعمامه و أعمام أبيه حاضرون فتصدى إليها و حازها دونهم و وجد الأندلس مضطربة فسكنها و قاتل المخالفين حتى أذعنوا و استنزل الثوار و محا أثر ابن حفصون كبيرهم و حمل أهل طليطلة على الطاعة و كانوا معروفين بالخلاف و الانتقاض و استقامت الأندلس و سائر جهاتها في نيف و عشرين سنة من أيامه و دامت أيامه نحوا من خمسين سنة استفحل فيها ملك بني أمية بتلك النواحي و هو أول من تسمى بأمير المؤمنين عندما تلاشى أمر الخلافة بالمشرق و استبد موالي الترك على بني العباس و بلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر مولاه سنة سبع و عشرين و ثلثمائة فتلقب بألقاب الخلفاء و كان كثير الجهاد بنفسه و الغزو إلى دار الحرب إلى أن انهزم عام الخندق سنة ثلاث و عشرين و ثلثماية و محص الله المسلمين فقعد عن الغزو بنفسه و صار يردد الصوائف في كل سنة فأوطأ عساكر المسلمين من بلاد الفرنج ما لم يطأه قبل في أيام سلفه و مدت إليه أمم النصرانية من وراء الدروب يد الإذعان و أوفدوا إليه رسلهم و هداياهم من رومة و القسطنطينية في سبيل المهادنة و السلم و الاحتمال فيما يعن من مرضاته و وصل إلى سدنة ملوك الجلالقة من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين كجهات قشتالة و ينبلونة و ما إليها من الثغور الجوفية فقبلوا يده و التمسوا رضاه و احتقبوا جوائزه و امتطوا مركبه ثم سما إلى ملك العدوة فتناول سبتة من أيدي أهلها سنة سبع عشرة و أطاعه بنو إدريس أمراء العدوة و ملوك زناتة البربر و أجاز إليه الكثير منهم كما نذكر في أخباره و بدء أمره لأول ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا و استحجب موسى بن محمد بن يحيى و استوزر عبد الملك بن جهور بن عبد الملك بن جوهر و أحمد بن عبد الملك بن سعد و أهدى له هديته المشهورة المتعددة الأصناف ذكرها ابن حيان و غيره و هي مما نقل من ضخامة الدولة الأموية و اتساع أحوالها و هي خمسمائة ألف مثقال من الذهب العين و أربعمائة رطل من التبر و مصارفه خمسة و أربعون ألف دينار و من سبائك الفضة مائتا بدرة و اثنا عشر رطلا من العود الهندي يختم عليه كالشمع و مائة و ثمانون رطلا من العود الصمغي المتخير و مائة رطل من العود الشبه المنقي و مائة أوقية من المسك الذكي المفضل في جنسه و خمسمائة أوقية من العنبر الأشهب المفضل في جنسه على خليقته من غير صناعة و منها قطعة ململمة عجيبة الشكل وزن مائة أوقية و ثلثمائة أوقية من الكافور المترفع الذكاء و من اللباس ثلاثون شقة من الحرير المختم المرقوم بالذهب للباس الخلفاء مختلفة الألوان و الصنائع و عشرة أفرية من عالي جلود الفنك الخراسانية و ستة من السرادقات العراقية و ثمان و أربعون من الملاحف البغدادية لزينة الخيل من الحرير و الذهب و ثلاثون شقة الغريون من الملاحف لسروج الهبات و عشرة قناطير من السمور فيها مائة جلد و أربعة آلاف رطل من الحرير المغزول و ألف رطل من الحرير المنتقى للاستغزال و ثلاثون بساطا من الصوف و عشر مائة منقاة مختلفة و مائة قطعة مصليات من وجوه الفرش المختلفة و خمسة عشر من نخاخ الخز المقطوع شطرها و من السلاح و العدة ثمانمائة من تخافيف الزينة أيام البروز و المواكب و ألف ترس سلطانية و مائة ألف سهم من النبال البارعة الصنعة و من الظهر خمسة عشر فرسا من الخيل العراب المتخيرة لركاب السلطان فائقة النعوت و عشرون من بغال الركاب مسرجة ملجمة بمراكب خلافية و لجم بغال مجالس سروجها خز جعفري عراقي و مائة فرس من عتاق الخيل التي تصلح للركوب في التصرف و الغزوات و من الرقيق أربعون وصيفا و عشرون جارية متخيرات بكسوتهن و زينتهن و من سائر الأصناف و من الصخر سيات ما أنفق عليه في عام واحد ثمانون ألف دينار و عشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب و أصلبه و أقدمه قيمته خمسون ألف دينار و عرضت الهدية على الناصر سنة سبع و عشرين فشكرها و حسن لديه موقعها (4/176)
سطوة الناصر بأخيه القاضي ابن محمد
كان محمد بن عبد الجبار ابن الأمير محمد و عبد الجبار هو عم أبي الناصر قد سعى عنده في أخيه القاضي ابن محمد و أنه يريد الخلاف و البيعة لنفسه و سعى القاضي في محمد بن عبد الجبار و أنه يروم الانتقاض و استطلع على الجلي من أمرهما و تحقق نقضهما فقتلهما سنة ثمان و ثلثمائة (4/178)
سطوة الناصر ببني إسحاق المروانيين
و هوإسحاق بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن الوليد بن ابراهيم بن عبد الملك بن مروان دخل جدهم أول الدولة و لن يزالو في إكرام و عز و استقرت الرياسة في إسحاق و سكن إشبيلية أيام الفتنة عند ابن حجاج ثم هلك ابن حجاج و ولي ابن مسلمة فاتهمه و قبض عليه و على ولده و صهره يحيى بن حكم بن هشام بن خالد بن أبان بن خالد بن عبد الله بن عبد الملك بن الحرث بن مروان فقتل الولد و الصهر و كان عنده سفير لابن حفصون فشفع في الشيخ إسحاق و ولده أحمد ثم ملك الناصر إشبيلية من يد ابن مسلمة فرحل إسحاق إلى قرطبة و استوزره الناصر و استوزر بنيه أحمد و ابنه و محمد و عبد الله ففتحوا الفتوحات و كفوا المهمات و علت مقاديرهم في الدولة و توفي أبوهم إسحاق فورثوا مكانه في كل رفيعة ثم هلك كبيرهم عبد الله و كان مقدمهم عند الناصر و استوزره ثم اتهمه الناصر بالخلاف و كثرت فيهم السعايات و صاروا في مجال الظنون فسطا بهم الناصر و غربهم في النواحي فانزوى أمية منهم في تسترين سنة خمس و عشربن و ثلاثمائة و خلع الطاعة و قصده الناصر في العساكر فدخل دار الحرب و أجاره رزمير ملك الجلالقة ثم تغير له فجاء إلى الناصر من غير عهد و عفا عنه و بقي في غمار الناس إلى أن هلك و أما أحمد فعزل عن سرقسطة لما نكب أبوه و بقي خاملا مغضيا ثم تكاثرت السعاية فيه فقتل و أما أحمد فبقي في جملة الناصر حتى إذا تحرك إلى سرقسطة نمي عنه ففر و لقي في مفره جماعة من أهل سرقسطة فقتلوه (4/178)
أخبار الناصر مع الثوار
كان أول فتحه أبيح له أسجه بعث إليها بدرا مولاه و حاجبه فافتتحها من يد ابن حفصون سنة ثلثمائة و غزا في أثرها بنفسه فافتتح أكثرمن ثلاثين حصنا من يد ابن حفصون منها البيرة و دوخ سائر أقطاره و ضيق مخنقه بالحصار و استنزل سعيد بن مزيل من حصن المنتلون و حصن سمنان و في سنة إحدى و ثلثمائة ملك إشبيلية من يد أحمد بن مسلمة كما ذكرناه ثم سار سنة اثنتين و ثلثمائة في العساكر فنازل حصون ابن حفصون و انتهى إلى الجزيرة الخضراء و ضبط البحر و نظر في أساطيله و استكثر منها و منع ابن حفصون من البحر و سأله في الصلح على لسان يحيى بن إسحاق المرواني فعقد له ثم أغزى إسحاق بن محمد القرشي إلى الثوار بمرسية و بلنسية فأثخن في نواحيها و فتح أريولة و أغزى بدرا مولاه إلى مدينة ليلة فاستنزل منها عثمان بن نصر الثائر بها و ساقه مقيدا إلى قرطبة ثم أغزى إسحاق بن محمد سنة خمس و ثلثمائة مدينة قرمونة فملكها من يد حبيب بن سواره كان ثائرا بها و فتح حصن ستمرية سنة ست و حصن طرش سنة تسع و أطاعه أحمد بن أضحى الهمداني الثائر بحصن الجامة و رهن ابنه على الطاعة و غزا ابن حفصون سنة أربع عشرة فردته العساكر المجمرة لحصاره و رجع و بعث إليه حفص يستأمنه فأمنه و جاء إلى قرطبة و ملك الناصر يشتر كما مر ثم انتقض سنة خمس و عشرين أمية بن إسحاق في تسترين و قد مر ذكر أوليته و محمد بن هشام التجيبي في سرقسطة و مطرف بن مندف التجيبي في قلعة أيوب فغزاهم الناصر بنفسه و بدأ بقلعة أيوب فحاصرها و قتل مطرف في أول جولة عليها و قتل معه يونس بن عبد العزيز و لجأ أخوه إلى القصبة حتى استأمن و عفا عنه و قتل من كان معهم من النصرانية أهل ألبة و افتتح ثلاثين من حصونهم و بلغه انتقاض طوطة ملكة البشكنس فغزاها في ينبلونة و دوخ أرضها واستباحها و رجع ثم غزا سنة سبع و عشرين و ثلثمائة غزوة الخندق إلى جليقة فانهزم و أصيبت فيها المسلمون و أسر محمد بن هاشم التجيبي و حاول الناصر إطلاقه فأطلق بعد سنتين و ثلاثة أشهر و قعد الناصر بعدها عن الغزو بنفسه و صار يردد البعوث و الصوائف و ثار سنة ثلاث و أربعين بجهات ماردة ثائر و توجهت إليه العساكر فجاؤا به و بأصحابه و مثل بهم و قتلوا (4/179)
أخبار طليطلة و رجوعها إلى الطاعة
قال ابن حيان اختطها دير نيقيوش الجبار و كان قواد رومة ينزلونها دارملك ثم ثار بها برباط من نجدانية فملكها و اختلف قواد رومة على حصاره ثم وثب به بعض أصحابه فقتله و ملكها ثم قتل و رجعت إلى قواد رومة ثم انتقض أهلها و ولوا أميرا منهم اسمه أنيش ثم قتل و رجعت إلى قواد رومة و قام أولهم شنتيلة و أطاعه أهل الأندلس و امتنع على ملوك رومة ثم غزاهم و حاصر رومة و فتح كثيرا من بلادها و رجع إلى طليطلة و ثار عليه البشكنس فظهر عليهم و أوقع بهم و لحقوا بالجبال و هلك شنتيلة بعد تسع و ملك مكانه على الغوط بسيلة ست سنين و لم يغن فيها ثم ولي منهم حندس و غزا أفريقية و ولي بعده قتبان و بنى الكنائس و بلغه خبر المبعث فقال له بليان و كان من أكابر الغوط و أعاظمهم : و جدت في كتاب مطريوس العالم عن دانيال النبي أنهم يملكون الأندلس ثم هلك فتبادر و ملك ابنه ست عشرة سنة و كان سيء السيرة و ولي بعده لزريق ثم لم تزل طليطلة دار فتنة و عصبية و منعة أتعبت عبد الرحمن الداخل سبع سنين و انتقضت على هشام و الحكم و على عبد الرحمن الأوسط إلى أن جاء الناصر فأدخلهم في الطاعة كرها لما أكمل فتح ماردة و بطليوس و تسترين سار إليهم في العساكر و حاصرهم و جاء الطاغية يظاهرهم فدافعه الناصر و جثم عليها فخرج أميرهم ثعلبة بن محمد بن عبد الوارث إلى الناصر فاستقال و استأمن فأمنه و عفا عنه و دخلها الناصر و جال في أقطارها و رجع عنها فلم يزالوا مستقيمين على الطاعة بعد (4/180)
أخبار الناصر مع أهل العدوة
ثم سما للناصر أمل في ملك عدوة البربر من بلاد المغرب فافتتح أمره بملك سبتة من بني عصام ولاتها و استدعى أمراه البربر بالعدوة و بلغ الخبر إبراهيم بن محمد أمير بني إدريس فبادر إلى سبتة و حاصرها أنفة من عبور الناصر إليهم ثم استقال و كاتب الناصر بالولاية و أما إدريس بن إبراهيم صاحب أرشكوك من الأدارسة فبادر بولاية الناصر و كاتبه و أهدى إليه و تقبل أثره في ذلك محمد بن خزر أمير مغراوة و موسى بن أبي العافية أمير مكناسة و هو يومئذ صاحب المغرب بعد أن ملك قواعد المغرب الأوسط و هي تنس و وهران و شرشال و البطحاء و أهدوا إلى الناصر فقبل و كافأهم و أحكم ولايتهم و بادر جماعة من الأدارسة إلى مثل ذلك منهم : القاسم بن إبراهيم و الحسن بن عيسى و أهدى صاحب فاس هدية عظيمة و عقد له الناصر على أهل بيته و لما فشت دعوة الناصر في المغرب الأقصى بعث عبيد الله المهدي قائده أن يصل أمير مكناسة و عامل تاهرت فزحف في العساكر إلى المغرب سنة إحدى و عشرين و كتب موسى بن أبي العافية إلى الناصر يستنجده فأخرج إليه قاسم بن طملس في العساكر و معه الأسطول فوصل إلى سبتة و بلغه الخبر بأن موسى بن أبي العافية هزم عساكر حميد فأقصر و رجع حسبما هو مذكور في أخبارهم (4/181)
أخبار الناصر مع الفرنجة و الجلالقة
و كان في أول المائة الرابعة ملك على الجلالقة أردون بن رذمير بن برمنذ بن قريولة بن اذفونش بن بيطر و خرج سنة اثنتين و ثلثماثة إلى الثغر الجوفي لأول ولاية الناصر و عاث في جهات ماردة و أخذ حصن الحنش و بعث الناصر وزيره أحمد بن عبدة في العساكر إلى بلاده فدوخها ثم أغزاه ثانية سنة خمس فنكث و قتل ثم أغزى بدرا مولاه فدوخ و رجع ثم غزا بنفسه بلاد جليقة سنة ثمان و استنصر أردون بشانجة بن غرسية ملك البشكنس و صاحب بنبولة فهزمهم الناصر و وطىء بلادهم و خربها و فتح حصونهم و هدمها و ردد الغزو بعد ذلك في بلد غرسية إلى أن هلك أدفونش و ولي بعده ابنه فرويلة قال ابن حيان لما ملك فروبلة بن أردون بن رذمير ملك الجلالقة سنة ثلاث عشرة و ثلثمائة ملك أخوه أدفونش و نازعه أخوه شانجة و استقل غرسية بليون من قواعد ملكهم و ظاهر أدفونش على أمره ابن أخيه و هو أدفونش بن فرويلة و صهره شانجة فانهزموا و افترقت كلمتهم ثم اجتمعوا ثانية و خلعوا شانجة و أخرجوه عن مدينة ليون ففر إلى قاصية جليقة و ولى أخاه رذمير بن أردون على ملكه بغربي جليقة إلى قلنسرية و هلك شانجة إثر ذلك و لم يعقب واستقل أدفونش و خرج على أخيه رذمير و ملك مدينة سنت ماذكش ثم أكثروا عليه العذل في نزوعه عن الرهبانية فرجع إلى رهبانيته ثم خرج ثانيا و ملك مدينة ليون و كان رذمير أخوه غازيا إلى سمورة فرجع إليه و حاصره بها حتى اقتحمها عليه عنوة سنة عشرين و ثلثمائة فحسبه ثم سمله في جماعة من ولد أبيه أردون خافهم على أمره و كان غرسية بن شانجة ملك البشكنس لما هلك قام بأمرهم بعده أخته طوطة و كفلت ولده ثم انتقضت سنة خمس و عشرين فغزا الناصر بلادها و خرب نواحي بليونة و ردد عليها الغزوات و في أثناء هذه الغزوات نازل محمد بن هشام التجيبي سرقسطة حتى أطاع كما مر و كذا أمية بن إسحاق في تسترين و كان الناصر سنة اثنتين و عشرين قد غزا إلى وخشمة و استدعى محمد بن هشام من سرقسطة فامتنع و رجع إليه و افتتح حصونه و أخذ أخاه يحيى من حصن روطة ثم رحل إلى ينبلونة فجاءته طوطة بنت أنثير بطاعتها و عقد لابنها غرسية بن شانجة على ينبلونة ثم عدل إلى البلة و بسائطها فدوخها و خرب حصونها ثم اقتحم جليقة و ملكها يومئذ رذمير بن أردون فخام عن اللقاء و دخل هو و حشمه فنازله الناصر فيها و هدم برغث و كثيرا من معاقلهم و هزمهم مرارا و رجع ثم كانت بعدها غزوة الخندق و لم يغز الناصر بعدها بنفسه و كان يردد الصوائف و هابته أمم النصرانية و وفدت عليه سنة ست و ثلاثين رسل صاحب القسطنطينية و هديته و هو يومئذ قسنطين بن ليون بن شل و احتفل الناصر للقائهم في يوم مشهود و كتب فيه العساكر بالسلاح في أكمل هيئة و زي و زين القصر الخلافي بأنواع الزينة و أصناف الستور و جمل السرير الخلافي بمقاعد الأبناء و الأخوة و الأعمام و القرابة و رتب الوزراء و الخدمة في مواقفهم و دخل الرسل فهالهم ما رأوا و قربوا حتى أدوا رسالتهم و أمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك المحفل و يعظموا أمر الإسلام و الخلافة و يشكروا نعمة الله على ظهور دينه و إعزازه و ذلة عدوه فاستعدوا لذلك ثم بهرهم هول المجلس فرجعوا و شرعوا في الغزل فارتج عليهم و كان فيهم أبو علي القالي وافد العراق كان في جملة الحكم ولي العهد و ندبه لذلك استئثارا لفخره فلما و جموا كلهم قام منذر بن سعيد البلوطي من غير استعداد و لا روية و لا تقدم له أحد في ذلك بشيء فخطب و استخفر و جلا في ذلك القصد و أنشد آخره شعرا طويلا ارتجله في ذلك الغرض ففاز بفخر ذلك المجلس و عجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع و أعجب الناصر به و ولاه القضاء بعدها و أصبح من رجالات العالم و أخباره مشهورة و خطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيان و غيره ثم انصرف هؤلاء الرسل و بعث الناصر معهم هشام بن كليب إلى الجاثليق ليجدد الهدنة و يؤكد المودة و يحسن الإجابة و رجع بعد سنتين و قد أحكم من ذلك ما شاء و جاءت معه رسل قسنطين ثم جاء رسل ملك الصقالبة و هو يومئذ هوتو و آخر من ملك اللمان و آخر من ملك الفرنجة وراء المغرب و هو يومئذ أفوه و آخر من ملك الفرنجة بقاصية المشرق و هو يومئذ كلدة و احتفل السلطان لقدومهم و بعث مع رسل الصقالبة ريفا الأسقف إلى ملكهم هوتو و رجعوا بعد سنتين و في سنة أربع و أربعين جاء رسول أردون بن رذمير و أبوه رذمير و هو الذي سمل أخاه أدفونش و قد مر ذكره بعث بخطب السلم فعقد له ثم بعث في سنة خمس و أربعين يطلب إدخال فردلند بن عبد شلب قومس قشتيلية فردلند و قد مر ذكره و مال إلى أردون بن رذمير كما ذكرناه و كان غرسية بن شانجة حافد الطوطة بنت أسنين ملكة البشكنس فامتعضت لحل حافدها غرسية و وفدت على الناصر سنة سبع و أربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها و لولدها شانجة بن رذمير الملك و أعانه حافدها غرسية بن شانجة على ملكه و نصره من عدوه و جاء ملك جليقة فرد عليه ملكه و خلع الجلالقة طاعة أردون و بعث إلى الناصر يشكوه على فعلته و كتب إلى الأمم في النواحي بذلك و بما ارتكبه فردلند قومس قشتيلة و عظيم قوامسه في نكثه و وثوبه و نفر بذلك عند الأمم و لم يزل الناصر على موالاته و إعانته إلى أن هلك و لما وصل رسول كلدة ملك الإفرنجة بالمشرق كما تقدم وصل معه رسول مغيرة بن شبير ملك برشلونة و طركونة راغبا في الصلح فأجابه الناصر و وصل بعده رسول صاحب رومة يطلب المودة فأجيب (4/186)
سطوة الناصر بابنه عبد الله
كان الناصر قد وشحه ابنه الحكم و جعله ولي عهده و آثره على جميع ولده و دفع إليه كثيرا من التصرف في دولته و كان أخوه عبد الله يساميه في الرتبة فغص لذلك و أغراه الحسد بالنكثة فنكث و داخل من في قلبه مرض من أهل الدولة فأجابوه و كان منهم ياسر الفتى و غيره و نمي الخبر بذلك إلى الناصر فاستكشف أمرهم حتى وقف على الجلي فيه و قبض على ابنه عبد الله و على ياسر الفتى و على جميع من داخلهم و قتلهم أجميعين سنة ثلاث و تسعين (4/184)
مباني الناصر
و لما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييد المباني و القصور و كان جده الأمير محمد و أبوه عبد الرحمن الأوسط و جده الحكم قد اختلفوا في ذلك و بنوا قصورهم على أكمل الاتفاق و الضخامة و كان منها المجلس الزاهر و البهو الكامل و القصر المنيف فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم و سماه دار الروضة و جلب الماء إلى قصورهم من الجبل و استدعى عرفاء المهندسين و البنائين من كل قطر فوفدوا عليه حتى من بغداد و القسطنطينية ثم أخذ في بنا المنتزهات فاتخذ مينا الناعورة خارج القصور و ساق لها الماء من أعلى الجبل على بعد المسافة ثم اختط مدينة الزهراء و اتخذها منزله و كرسيا لملكه فأنشأ فيها من المباني و القصور و البساتين ما علا على مبانيهم الأولى و اتخذ فيها مجالات للوحش فسيحة الفناء متباعدة السياح و مسارح الطيور و مظللة بالشباك و اتخذ فيها دارا لصناعة آلات من آلات السلاح للحرب و الحلى للزينة و غير ذلك من المهن و أمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس (4/184)
وفاة الناصر و ولاية ابنه الحكم المستنصر
ثم توفي الناصر سنة خمسين و ثلثمائة أعظم ما كان سلطانه و أعز ما كان الإسلام بملكه و كان له قضاة أربعة : مسلم بن عبد العزيز و أحمد بن بقي بن مخلد و محمد بن عبد الله بن أبي عيسى و منذر بن سعيد البلوطي و لما توفي الناصر ولي ابنه الحكم و تلقب المستنصر بالله و ولى على حجابته جعفر المصحفي و أهدى له يوم ولايته هدية كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيان في المقتبس و هي مائة مملوك من الفرنج ناشئة على خيول صافنة كاملو الشيكة و الأسلحة من السيوف و الرماح والدرق و التراس و القلانس الهندوية و ثلثمائة و نيف و عشرون درعا مختلفة الأجناس و ثلثمائة خوذة كذلك و مائة بيضة هندية و خمسون خوذة حبشية من حبشيات الإفرنجة غير الحبش التي يسمونها الطاشانية و ثلثمائة حربة إفرنجية و مائة ترس سلطانية الجنس و عشرة جواشن نقية مذهبة و خمسة و عشرون قرنا مذهبة من قرون الجاموس و لأول وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور فغزا الحكم بنفسه واستباحها و قفل فبادروا إلى عقد السلم معه و انقبضوا عما كانوا فيه ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جليقة و سار إلى مدينة سالم قبل الدخول لدار الحرب فجمع له الجلالقة و لقيهم على أشتة فهزمهم و استباحهم و أوطأ العساكر بلاد فردلند القومس و دوخها و كان شانجة بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض فأغزاه الحكم يحيى بن محمد التجيبي صاحب سرقسطة في العساكر و جاء ملك الجلالقة لنصره فهزمهم و امتنعوا في حصونها و عاث في نواحيها و أغزى الهذيل بن هاشم و مولاه غالبا فعاثا فيها و قفلا و عظمت فتوحات الحكم و قواد الثغور في كل ناحية و كان من أعظمها فتح قلهرة من بلاد البشكنس على يد غالب فعمرها الحكم و اعتنى بها ثم فتح قطريبة على يد قائد وشقة و غنم ما فيها من الأموال و السلاح و الآلات و الأقوات و في بسيطة من الغنم و البقر و الرمك و الأطعمة و السبي ما لا يحصى و في سنة أربع و خمسين سار غالب إلى بلاد ألبة و معه يحيى بن محمد التجيبي و قاسم بن مطرف بن ذي النون فأخذ حصن غرماج و دوخ بلادهم و انصرف و ظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير و أفسدوا بسايط أحشبونة و ناشبهم الناس القتال فرجعوا إلى مراكبهم و أخرج الحكم القواد لاحتراس السواحل و أمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماجس بتعجيل حركة الأسطول ثم وردت الأخبار بأن العساكر نالت منهم من كل جهة من السواحل ثم كانت وفادة أردون بن أدفونش ملك الجلالقة و ذلك أن الناصر لما أعان عليه شانجة بن رذمير و هو ابن عمه و هو الملك من قبل أردون و حمل النصرانية و استظهر أردون بصهره فردلند قومس قشتيلية ثم توقع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر فبادر بالوفادة على الحكم مستجيرا به فاحتفل لقدومه و كان يوما مشهودا وصفه ابن حيان كما وصف أيام الوفادات قبله و وصل إلى الحكم و أجلسه و وعده بالنصر على عدوه و خلع عليه لما جاء ملقيا بنفسه و عاقده على موالاة الإسلام و مقاطعة فردلند القومس و أعطى على ذلك صفقة يمينه و رهن ولده غرسية و دفعت الصلات و الحملات له و لأصحابه و انصرف معه وجوه نصارى الذمة بقرطبة وليد بن مغيث القاضي و أصبغ بن عبد الله بن نبيل الجاثليق و عبد الله بن قاسم مطران طليطلة ليوطؤا له الطاعة عند رسميته و يقبضوا رهنه و ذلك سنة إحدى و خمسين و عند ذلك بعث ابن عمه شانجة بن رذمير ببيعته و طاعته مع قولب من أهل جليقة و سمورة و أساقفهم يرغب في قبوله و يبقى بما فعل أبوه الناصر معه فتقبل بيعتهم على شروط شرطها كان منها هدم الحصون و الأبراج القريبة من ثغور المسلمين ثم بعث قومس الفرنجة برسل و منيرة أثناء سير ملك برشلونة و طركونة و غيرها يسألان تجديد العهد وإقرارهما على ما كانا عليه و بعثا بهدية و هي عشرون صبيا من الخصيان الصقالبة و عشرون قنطارا من الصوف السمور و خمسة قناطير من الفرصدس و عشرة أذراع صقلبية و مائتا سيف إفرنجية فقبل هديتهم و عقد لهم على أن يهدما الحصون التي بقرب الثغور و على أن لا يظاهروا عليه أهل ملتهم و أن ينذروه بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة و القواميس يسألون الصلح بعد أن كان توقف فعقد لهم الحكم و رجعوا و في سنة خمس و ستين وردت أم لزريق بن بلاكش القومس بالقرب من جليقة و هو القومس الأكبر فأخرج الحكم لتلقيها و احتفل لقدومها في يوم مشهود فوصلها و أسعفها و عقد السلم لابنها كما رغبت و أحبت و دفع لها مالا تقسمه بين وفدها و حملت على بغلة فارهة بسرج و لجام مثقلين بالذهب و ملحفة ديباج ثم عاودت مجلس الحكم للوداع فعاودها بالصلات لسفرها و انطلقت ثم أوطأ عساكره من أرض العدوة من المغرب الأقصى و الأوسط و تلقى دعوته ملوك زناتة من مغراوة و مكناسة فبثوها في أعمالهم و خطبوا بها على منابرهم و زاحموا بها دعوة الشيعة فيما بينهم و وفد عليه ملوكهم من آل خزر و بني أبي العافية فأجزل صلتهم و أكرم وفادتهم و أحسن منصرفهم و استنزل بني إدريس من ملكهم بالعدوة في ناحية الريف و أجازهم البحر إلى قرطبة ثم أجلاهم إلى الإسكندرية حسبما نشير إلى ذلك كله بعد و كان محبا للعلوم مكرما لأهلها جماعة للكتب في أنواعها ما لم يجمعه أحد من الملوك قبله قال ابن حزم : أخبرني بكية الخصي و كان على خزانة العلوم و الكتب بدار بني مروان أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربعة و أربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير فأقام للعلم و العلماء سلطانا نفقت فيها بضائعه من كل قطر و وفد عليه أبو علي الغالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه و حسنت منزلته عنده و أورث أهل الأندلس علمه و اختص بالحكم المستنصر و استفاد علمه و كان يبعث في الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار و يسرب إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه و بعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني و كان نسبه في بني أمية و أرسل إليه فيه ألف دينار من الذهب العين فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه بالعراق و كذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم و أمثال ذلك و جمع بداره الحذاق في صناعة النسخ و المهرة في الضبط و الإجادة في التجليد فأوعى من ذلك كله و اجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله و لا من بعده إلا مما يذكر عن الناصر العباسي ابن المستضيء و لم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر أمر بإخراجها و بيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر و نهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة و اقتحامهم إياها عنوة كما نشير إليه بعد و اتصلت أيام الحكم المستنصر و أوطأ العساكر أرض العدوة من المغرب الأقصى و الأوسط و تلقى دعوته ملوك زناتة و مغراوة و مكناسة فبثها في أعمالهم و خطبوا بها على منابرهم و زاحموا بها دعوة الشيعة فيما يليهم و وفد عليه ملوكهم من آل خزر و بني أبي العافية فأجزل صلتهم و أكرم و فادتهم (4/185)
وفاة الحكم المستنصر و بيعة ابنه هشام المؤيد
ثم أصابت الحكم العلة فلزم الفراش إلى أن هلك سنة ست و ستين و ثلثمائة لست عشرة سنة من خلافته و ولي من بعده ابنه هشام صغيرا مناهز الحلم و كان الحكم قد استوزر له محمد بن أبي عامر نقله من خطة القضاء إلى وزارته و فوض إليه في أموره فاستقل و حسنت حاله عند الحكم فما توفي الحكم بويع هشام و لقب المؤيد بعد أن قتل ليلتئذ أخو الحكم المرشح لأمره تناول الفتك به محمد بن أبي عامر هذا بممالأة جعفر بن عثمان المصحفي حاجب أبيه و غالب مولى الحكم صاحب مدينة سالم و من خصيان القصر و رؤسائهم فائق و جودر فقتل محمد بن أبي عامر المغيرة و بايع لهشام (4/188)
أخبار المنصور بن أبي عامر
ثم سما محمد بن أبي عامر المتغلب على هشام لمكانه في السن و ثاب له رأي في الاستبداد فمكر بأهل الدولة و ضرب بين رجالها و قتل بعضها ببعض و كان من رجال اليمنية من مغافر واسمه محمد بن عبد الله بن أبي عامر بن محمد بن عبدالله بن عامر بن محمد بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المغافري دخل جده عبد الملك مع طارق و كان عظيما في قومه و كان له في الفتح أثر فاستوزره الحكم لابنه هشام كما ذكرناه فلما مات الحكم حجبه محمد و غلب عليه و منع الوزراء من الوصول إليه إلا في النادر من الأيام يسلمون و ينصرفون و أرخص للجند في العطاء و أعلى مراتب العلماء و قمع أهل البدع و كان ذا عقل و رأي و شجاعة و بصر بالحروب و دين متين ثم تجرد لرؤساء الدولة ممن عانده و زاحمه فمال عليهم و حطهم عن مراتبهم و قتل بعضها ببعض كل ذلك عن أمر هشام و خطه و توقيعه حتى استأصل بهم و فرق جموعهم و أول ما بدأ بالصقالبة الخصيان الخدام بالقصر فحمل الحاجب المصحفي على نكبتهم فنكبهم و أخرجهم من القصر و كانوا ثمانمائة أو يزيدون ثم أصهر إلى غالب مولى الحكم و بالغ في خدمته و التنصح له و استعان به على المصحفي فنكبه و محا أثره من الدولة ثم استعان على غالب بجعفر بن على بن حمدون صاحب المسيلة الفازع إلى الحكم أول الدولة بمن كان معه من زناتة و البربر ثم قتل جعفر عماله ابن عبد الودود و ابن جوهر وابن ذي النون و أمثالهم من أولياء الدولة من العرب و غيرهم ثم لما خلا الجو من أولياء الخلافة و المرشحين للرياسة رجع إلى الجند فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة و البرابرة فرتب منهم جندا و اصطنع أولياء و عرف عرفاء من صنهاجة و مغراوة و بني يفرن و بني برزال و مكناسة و غيرهم فتغلب على هشام و حجره و استولى على الدولة و ملأ الدنيا و هو في جوف بيته مع تعظيم الخلافة و الخضوع لها و رد الأمور إليها و ترديد الغزو و الجهاد و قدم رجال البرابرة زناتة و أخر رجال العرب و أسقطهم عن مراتبهم فتم له ما أراد من الاستقلال بالملك و الاستبداد بالأمر و ابتنى لنفسه مدينة فنزلها و سماها الزاهرة و نقل إليها خزائن الأموال و الأسلحة و قعد على سرير الملك و أمر أن يحيا بتحية الملوك و تسمى بالحاجب المنصور و نفذت الكتب و الأوامر و المخاطبات باسمه و أمر بالدعاء له على المنابر و كتب اسمه في السكة و الطرز و عمر ديوانه بما سوى ذلك و جند البرابرة و المماليك و استكثر من العبيد و العلوج للاستيلاء على تلك الرغبة و قهر من يطاول إليها من الغلبة فظفر من ذلك بما أراد و ردد الغزو بنفسه إلى دار الحرب فغزا اثنتين و خمسين غزوة في سائر أيام ملكه لم ينكسر له فيها راية و لا فل له جيش و لا أصيب له بعث و لا هلكت سرية و أجاز عساكره إلى العدوة و ضرب بين ملوك البرابرة بعضهم في بعض فاستوثق ملكه بالمغرب و أذعنت له ملوك زناتة و انقادوا لحكمه و أطاعوا لسلطانه و أجاز ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من الخزر لما سخط زيري بن عطية ملكهم لما بلغه من إعلانه بالنيل منه و الغض من ملكهم والتأنف لحجر الخليفة هشام فأوقع به عبد الملك سنة ست و ثمانين و نزل بفاس و ملكها و عقد لملوك زناتة على المغرب و أعماله من سجلماسة و غيرها على ما نشير إليه بعد و شرد زيري بن عطية إلى تاهرت و أبعد المفر و هلك في مفره ثم قفل عبد الملك إلى قرطبة و استعمل واضحا على المغرب و هلك المنصور أعظم ما كان ملكا وأشد استيلاء سنة أربع و سبعبن و ثلثمائة بمدينة سالم منصرفه من بعض غزواته و دفن هنالك و ذلك لسبع و عشرين سنة من ملكه (4/189)
المظفر بن المنصور
و لما هلك المظفر قام بالأمر من بعده أخوه عبد الرحمن و تلقب بالناصر لدين الله و جرى على سنن أبيه و أخيه في حجر الخليفة هشام و الاستبداد عليه و الاستغلال بالملك دونه ثم ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده فأجابه و أحضر لذلك الملأ من أرباب الشورى و أهل الحل و العقد فكان يوما مشهودا و كتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصه : هذا ما عهد هشام المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامة و عاهد الذي عليه من نفسه خاصة و أعطى به صفقة يمينه بيعة تامة بعد أن أمعن النظر و أطال الإستخارة و أهمه ما جعل الله إليه من الإمامة و نصب إليه من أمر المؤمنين و اتقى حلول القدر بما لا يؤمن و خاف نزول القضاء بما لا يصرف و خشي أن هجم محتوم ذلك عليه و نزل مقدوره به و لم يرفع لهذه الأمة علما تأوي إليه و ملجأ تنعطف إليه أن يلقى ربه تبارك و تعالى مفرطا ساهيا عن أداء الحق إليها و اعتبر عند ذلك من أحياء قريش و غيرها من يستحق أن يستند هذا الأمر إليه و يعول في القيام به عليه ممن يستوجبه بدينه و أمانته و هديه و صيانته بعد اطراح الهوى و التحري للحق و التزلف إلى الله عز و جل بما يرضيه و بعد أن قطع الأقاصي و أسخط الأقارب فلم يجد أحدا يوليه عهده و يفوض إليه الخلافة بعده غيره لفضل نسبه و كرم خيمه و شرف مرتبته و علو منصبه مع تقاه و عفافه و معرفته و حزمه و تفاوته المأمون العيب الناصح الحبيب أبي المظفر عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر وفقه الله تعالى إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه و اختبره و نظر في شأنه و اعتبره فراه مسارعا في الخيرات سابقا إلى الجليات مستوليا علي الغايات جامعا للماثرات و من كان المنصور أباه و المظفر أخاه فلا غرو أن يبلغ من سبل البر مداه و يحوي من خلال الخير ما حواه مع أن أمير المؤمنين أيده الله بما طالع من مكنون العلم و وعاه من مخزون الغيب رأى أن يكون و لي عهده القحطاني الذي حدث عنه [ عبد الله بن عمرو بن العاص و أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه ] فلما استوى له الاختيار و تقابلت عنده الآثار و لم يجد عنه مذهبا و لا إلى غيره معدلا خرج إليه من تدبير الأمور في حياته و فوض إليه الخلافة بعد وفاته طائعا راضيا مجتهدا و أمضى أمير المؤمنين هذا و أجازه و أنفذه و لم يشترط فيه ثنيا و لا خيارا و أعطى علي الوفاء به في سره و جهره و قوله و فعله عهد الله و ميثاقه و ذمة نبيه صلى الله عليه و سلم و ذمة الخلفاء الراشدين من آبائه و ذمة نفسه أن لا يبدل و لا يغير و لا يحول و لا يزول و أشهد علي ذلك الله و الملائكة و كفى بالله شهيدا و أشهد من أوقع إسمه في هذا و هو جائز الأمر ماضي القول و الفعل بمحضر من و لي عهده المأمون أبي المظفر عبد الرحمن بن المنصور وفقه الله تعالى و قيد له ما قلده و ألزمه نفسه ما في الذمة و ذلك في شهر ربيع الأول سنة ثمان و تسعين و ثلاثمائة و كتب الوزراء و القضاة و سائر الناس شهادتهم بخطوط أيديهم و تسمى بعدها بولي العهد و نقم أهل الدولة عليه ذلك فكان فيه حتفه و انقراض دولته و دولة قومه و الله وارث الأرض و من عليها (4/190)
ثورة المهدي و مقتل عبد الرحمن المنصور و انقراض دولتهم
و لما حصل عبد الرحمن المنصور على ولاية العهد و نقم ذلك الأمويون و القرشيون و غصوا بأمره و اتفقوا علي تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية فاجتمعوا لشأنهم و تمشت من بعض إلى بعض رجالاتهم و أجمعوا أمرهم في غيبة من الحاجب الناصر ببلاد الجلالقة في غزاه من صوائف و وثبوا بصاحب الشرطة ففتكوا به بمقعده من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع و تسعين و ثلاثمائة و خلعوا هشاما المؤيد و بايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعياص الملك و أعقاب الخلفاء و لقبوه المهدي و طار الخبر إلى الحاجب بمكانه من الثغر فانفض جمعه و قفل إلى الحضرة مدلا بمكانه زعيما بنفسه حتى إذا قرب من الحضرة تسلل عنه الجند و وجوه البربر و لحقوا بقرطبة و بايعوا المهدي القائم بالأمر و أغروه بالناصر و اعترضه منهم من تقبض عليه و احتز رأسه و حمله إلى المهدي و إلى الجماعة و ذهبت دولة العامريين (4/192)
ثورة البربر و بيعة المستعين و فرار المهدي
كان الجند من البرابرة و زناتة قد ظاهروا المنصور علي أمره و أصبحوا شيعة لبنيه من بعده و رؤساؤهم يومئذ زاوى بن مناد الصنهاجي و بنو ماكير ابن أخيه زيري و محمد بن عبد الله البرزالي و نصيل بن حميد المكناسي الفازع أبوه عن العبيديين إلى الناصر و زيري بن غزانة المتيطي و أبو زيد بن دوناس اليفرني و عبد الرحمن بن عطاف اليفرني و أبو نوربن أبي قرة اليفرني و أبو الفتوح بن ناصر و حزرون بن محصن المغراوي و بكساس بن سيد الناس و محمد بن ليلى المغراوي فيمن إليهم من عشائرهم فلحقوا بمحمد بن هشام لما رأوا من انتقاض أمر عبد الرحمن و سوء تدبيره و كانت الأموية تعتد عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريين و تنسب إليهم تغلب المنصور و بنيه علي أمرهم فسخطتهم القلوب و خزرتهم العيون و تنفست بذلك صدور الغوغاء من أذيال الدولة و لفظت به ألسنة الدهماء من المدينة و أمر محمد بن هشام أن لا يركبوا و لا يتسلحوا و ردوا في بعض الأيام من باب القصر و انتهب العامة يومئذ دورهم و دخل زاوى و ابن أخيه حساسة و أبو الفتوح بن الناصر علي المهدي شاكين بما أصابهم فاعتذر إليهم و قتل من آذاهم من العامة في أمرهم و كان مع ذلك مظهرا لبغضهم مجاهرا بسوء الثناء عليهم و بلغهم أنه سره الفتك بهم فتمشت رجالاتهم و أسروا نجواهم و اتفقوا علي بيعة هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله و فشا في الخاصة حديثهم فعوجلوا عن أمرهم ذلك و أغرى بهم السواد الأعظم فثاروا بهم و أزعجوهم عن المدينة و تقبض علي هشام و أخيه أبي بكر و أحضرا بين يدي المهدي فضرب أعناقهما و لحق سليمان ابن أخيهما الحكم بجنود البربر و زناتة و قد اجتمعوا بظاهر قرطبة و تآمروا فبايعوه و لقبوه المستعين بالله و نهضوا به إلى ثغر طليطلة فاستجاش بابن أدفونش ثم نهض في جموع البرابرة و النصرانية إلى قرطبة و برز إليهم المهدي في كافة أهل البلد و خاصة الدولة و كانت الدبرة عليهم و استلحم منهم ما يزيد علي عشرين ألفا و هلك من خيار الناس و أئمة المساجد و سدنتها و مؤذنيها عالم و دخل المستعين قرطبة خاتم المائة الرابعة و لحق ابن عبد الجبار بطليطلة (4/192)
رجوع المهدي إلى ملكه بقرطبة
و لما استولى المستعين علي قرطبة خالفه محمد بن هشام المهدي إلى طليطلة و استجاش بابن أدفونش ثانية فنهض معه إلى قرطبة و هزم المستعين و البرابرة بعقبة البقر من ظاهرها في اخر باب سبتة و دخل المهدي قرطبة و ملكها (4/193)
هزيمة المهدي و بيعته للمؤيد هشام و مقتله
و لما دخل المهدي إلى قرطبة خرج المستعين إلى البرابرة و تفرقوا فى البسائط و القرى فينهبون و يقتلون و لا يبقون علي احد ثم ارتحلوا إلى الجزيرة الخضراء فخرج المهدي و ابن أدفونش و اتبعهم المستعين و البرابرة أثناء ذلك يحاصرونهم حتى خشي الناس من اقتحام البرابرة عليهم فأغروا أهل القصر و حاجبه المدبر بالمهدي و أن الفتنة إنما جاءت من قبله و تولى كبر ذلك واضح العامري فقتلوا المهدي محمد بن هشام و اجتمعت الكافة علي تجديد البيعة لهشام المؤيد ليعتصموا به من معرة البرابرة و ما يسومونهم به ملوكهم من سوء العذاب و عاد هشام إلى خلافته و أقام واضح العامري لحجابته و هو من موالي المنصور بن أبي عامر (4/193)
حصار قرطبة و اقتحامها عنوة و مقتل هشام
و استمر البرابرة علي حصار قرطبة و المستعين بينهم و لم يفر عن أهل قرطبة تبعه هشام المؤيد و البرابرة يترددون إليها ذاهبين و جائين بأنواع النهب و الفتك إلى أن هلكت القرى و البسائط و عدمت المرافق و صافت أحوال أهل قرطبة و جهدهم الحصار و بعث المستعين و البرابرة إلى ابن أدفونش يستقدمونه لمظاهرتهم فبعث إليه هشام المؤيد و حاجبه واضحا يكفونه عن ذلك بأن نزلوا له عن ثغور قشتالة التي كان المنصور اقتحمها فسكن عزمه و سكن عن مظاهرتهم ثم اتصل الحصار بمخنق البلد و صدق البرابرة القتال فاقتحموها عنوة سنة ثلاث و أربعمائة و فتكوا بهشام المؤيد و دخل المستعين و لحق بأهل قرطبة من البرابرة في نسائهم و رجالهم وبناتهم و أبنائهم و منازلهم و ظن المستعين أن قد استحكم أمره و توثبت البرابرة و العبيد علي الأعمال فولوا المدن العظيمة و تقلدوا الأعمال الواسعة مثل باديس بن حبوس في غرناطة و محمد بن عبد الله البرزالي في قرمونة و أبو ثور بن أبي شبل بالأندلس و صار الملك طوائف في آخرين من أهل الدولة مثل ابن عباد بإشبيلية و ابن الأفطس ببطليوس و ابن ذي النون بطليطلة و ابن أبى عامر ببلنسية و مرسية و ابن هود بسرقسطة و محاهد العامري بدانية و الجزائر منذ عهد هذه الفتنة كما نذكر في أخبارهم (4/194)
ثورة ابن حمود و استيلاؤه و قومه علي ملك قرطبة
و لما افترق شمل جماعة قرطبة و تغلب البرابرة علي الأمر و كان علي بن حمود و أخوه قاسم من عقب إدريس قد أجازوا معهم من العدوة فدعوا لأنفسهم و تعصب معهم الكثير من البربر و ملكوا قرطبة سنة سبع و أربعمائة و قتلوا المستعين و محوا ملك بني أمية و اتصل ذلك في خلق منهم سبع سنين ثم رجع الملك في بني أمية و في ولد الناصر نحوا من سبع سنين ثم خرج عنهم و افترق الأمر في رؤساء الدولة من العرب و الموالي و البربر و اقتسموا الأندلس ممالك و دولا و تلقبوا بألقاب الخلفاء كما نذكر ذلك كله مستوفى في أخبارهم (4/195)
عود الملك إلى بني أمية و أولاد المستظهر
لما قطع أهل قرطبة دعوة المحموديين بعد سبع من ملكهم و زحف إليهم قاسم بن حمود في جموع من البربر فهزمهم أهل قرطبة ثم اجتمعوا و اتفقوا علي رد الأمر إلى بني أمية و اختاروا لذلك عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار أخا المهدي و بايعوه في رمضان سنة أربع عشرة و أربعمائة و لقبوه المستظهر و قام بأمره المستكفي ثم ثار على المستظهر لشهرين من خلافته محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن الناصر أمير المؤمنين كان المنصور بن أبي عامر قتل أباه عبد الرحمن لسعيه في الخلاف فثار الآن محمد هذا و تبعه الغوغاء و فتك بالمستظهر و استقل بأمر قرطبة و تلقب بالمستكفي (4/195)
عود الأمر إلى بني حمود
و بعد ستة عشر شهرا من بيعة المستكفي رجع الأمر إلى يحيى بن علي بن حمود و هو المعتلي كما يذكر في أخبارهم و فر المستكفي إلى ناحية الثغر و مات في مفره (4/195)
المعتمد من بني أمية
ثم خلع أهل قرطبة المعتلي بن حمود ثانيا سنة سبع عشرة وبايع الوزير أبو محمد جهور بن محمد بن جهور عميد الجماعة و كبير قرطبة لهشام بن محمد أخي المرتضى و كان بالثغر في لاردة عند ابن هود و لما بلغه خبر البيعة له انتقل إلى البرنث و استقر عند التغلب عليها محمد بن عبد الله بن قاسم و كانت البيعة له انتقل سنة ثمان عشرة و أربعمائة و تلقب المعتمد بالله و أقام مترددا في الثغر ثلاثة أعوام و اشتدت الفتن بين رؤساء الطوائف و اتفقوا علي أن ينزل دار الخلافة بقرطبة فاستقدمه ابن جهور و الجماعة و نزلها آخر سنة عشرين و أقام يسيرا ثم خلعه الجند سنة إثنتين و عشرين و فر إلى لاردة فهلك بها سنة ثمان و عشرين و انقطعت دولة الأموية و الله غالب على أمره (4/196)
الخبر عن دولة بني حمود التي أدالت من دولة بني أمية بالأندلس و أولية ملكهم و تصاريف أمورهم إلى آخرها
كان في جملة المستعين مع البربر و المغاربة أخوان من ولد عمر بن إدريس و هما القاسم و علي إبنا حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبيد الله بن عمر كانوا في لفيف البرابرة في بلاد غمارة و استجدوا بها رياسة استمرت في بني محمد و بني عمر من ولد إدريس فكانت للبربر إليهم صاغية بسبب ذلك و خلطة و بقي الفخر منهم بتازغدره من غمارة فأجازوا مع البربر و صاروا في جملة المستعين مع أمراء العدوة من البربر فعقد لهما المستعين فيمن عقد له من المغاربة عقد لعلي منهما علي طنجة و عملها و للقاسم و كان الأسن علي الجزيرة الخضراء و كان في نفوس المغاربة و البرابرة تشيع لأولاد إدريس متوارث من دولتهم بالعدوة كما ذكرناه و استقام أمر علي بن حمود و تمكن سلطانه و اتصلت دولته عامين إلى أن قتله صقالبته بالحمام سنة ثمان و أربعمائة فولي مكانه أخوه القاسم بن حمود و تلقب بالمأمون و نازعه في الأمر بعد أربع سنين من خلافته يحيى ابن أخيه على بسبتة و كان أمير الغرب و ولي عهد أبيه فبعث إليه أشياعهم من البربر مالا مع جند الأندلس سنة عشر و احتل بمالقة و كان أخوه إدريس بها منذ عهد أبيهما فبعث إلى سبتة و وصل إلى يحيى بن علي زاوي بن زيري من غرناطة و هو عميد البرابرة ثانية يومئذ فزحف إلى قرطبة فملكها سنة إثنتي عشرة و تلقب المعتلي و استوزر أبا بكر بن ذكوان و فر المأمون إلى إشبيلية و بايع له القاضي محمد بن إسماعيل ابن عباد و استمال بعضا من البرابرة ثانية و استجاشهم على ابن أخيه و رجع إلى قرطبة سنة ثلاث عشرة و لحق المعتلي بمكانه من مالقة و تغلب على الجزيرة الخضراء عمل المأمون من لدن عهد المستعين و تغلب أخوه إدريس على طنجة من وراء البحر و كان المأمون يعتدها حصنا لنفسه و بنيه و يستودع بها ذخيرته و بلغ الخبر إلى قرطبة بتغلبه على قواعده و حصونه مع ما كان يتشدد على بني أمية فاضطرب أمر المأمون و ثار عليه أهل قرطبة و نقضوا طاعته و بايعوا للمستظهر ثم للمستكفي من بني أمية كما ذكرناه و تحيز المأمون و برابرته إلى الأرباض فاعتصموا به و قاتلوا دونه و حاصروا المدينة خمسين يوما ثم صمم أهل قرطبة لمدافعتهم فأفرجوا عن الأرباض و انفضت جموعهم سنة أربع عشرة و لحق المأمون بإشبيلية و بها ابنه محمد و محمد بن زيري من رجالات البربر فأطمعه القاضي محمد ابن إسماعيل بن عباد في الملك و أن يمتنعوا من القاسم فمنعوه و أخرجوا إليه إبنه و ضبطوا بلدهم ثم اشتد ابن عباد و أخرج محمد بن زيري و لحق المأمون بشريش و رجع عنه البربر إلى يحيى المعتلي ابن أخيه فبايعوه سنة خمس عشرة و زحف إلى عمه المأمون بشريش فتغلب عليه و لم يزل عنده أسيرا و عند أخيه إدريس من بعده بمالقة إلى أن هلك في محبسه سنة سبع و عشرين و أربعمائة و استقل يحيى المعتلي بالأمور و اعتقل محمدا و الحسن ابني عمه القاسم المأمون بالجزيرة و وكل بهما أبا الحجاج من المغاربة و أقاما كذلك ثم خلع أهل قرطبة المستكفي و صاروا إلى طاعة المعتلي و استعمل عليهم عبد الرحمن بن عطاف اليفرني من رجالات البربر و فر المستكفي إلى ناحية الثغر فهلك بمدينة سالم ثم نقض أهل قرطبة طاعة المعتلى سنة سبع عشرة و أربعمائة و صرفوا عامله عليهم ابن عطاف بايعوا للمعتمد أخي المرتضي ثم خلعوه كما ذكرنا في خبره و استبد بأمر قرطبة الوزير ابن جهور بن محمد كما نذكره في أخبار ملوك الطوائف و أقام يحيى بن المعتلي يتخيفهم و يردد العساكر لحصارهم إلى أن اتفقت الكافة علي إسلام المدائن و الحصون له فعلا سلطانه و اشتد أمره و ظاهره محمد بن عبد الله البرزالي على أمره فنزل عنده بقرمونة يحاصرها ابن عباد بإشبيلية إلى أن هلك سنة ست و عشرين بمداخلة ابن عباد للبرزالي في اغتياله فركب المعتلي لخيل أغارت علي معسكره بقرمونة من جند ابن عباد و قد أكمنوا له فكبا به فرسه و قتل و تولى قتله محمد بن عبد الله البرزالي و انقطعت دولة بني حمود بقرطبة و كان أحمد بن موسى بن بقية و الخادم نجى الصقلي و زيري دولة الحموديين عند أولها فرجعا إلى مالقة دار ملكهم و استدعوا أخاه إدريس بن علي بن حمود من سبتة و طنجة و بايعوه علي أن يولي سبتة حسن ابن أخيه يحيى فتم أمره بمالقة و تلقب المتأيد بالله و بايعه المرية و أعمالها و رندة و الجزيرة و عقد لحسن ابن أخيه يحيى علي سبتة و نهض معه في الخادم و كان له ظهور علي ملوك الطوائف و كان أبوه القاسم بن عباد قد استفحل ملكه لذلك العهد و مد يده إلى انتزاع البلاد من أيدي الثوار و ملك أشبونة و استجة من يد محمد بن عبد الله البرزالي و بعث العساكر مع ابنه إسماعيل لحصار قرمونة فاستصرخ محمد بن عبد الله بالقائد هذا و بزاوي فجاء زاوي بنفسه و بعث القائد هذا عساكره مع ابن بقية فكانت بينهم و بين ابن عباد حروب شديدة هزم فيها ابن عباد و قتل و حمل رأسه إلى إدريس المتأيد و هلك ليومين بعدها سنة إحدى و ثلاثين و أربعمائة و اعتزم ابن بقية علي بيعة إبنه يحيى الملقب حبون فأعجله عن ذلك نجي الخادم و بادر إليه من سبتة و معه حسن بن يحيى المعتلي فبايعه البربر و لقب المستنصر و قتل ابن بقية و فر يحيى بن إدريس إلى قمارش فهلك بها سنة أربع و ثلاثين و يقال بل قتله نجى و رجع نجى إلى سبتة ليحفظ ثغرها و معه ولد حسن بن يحيى صبيا و ترك السطيفي علي وزارة حسن لثقته به و بايعته غرناطة و جملة من بلاد الأندلس و هلك حسن مسموما بيد إبنة عمه إدريس ثأرت بأخيها حسن سنة ثمان و ثلاثين فاعتقل السطيفي أخاه إدريس بن يحيى و كتب إلى نجى و ابن حسن المستنصر الذي كان عنده بسبتة ليعقد له و اغتاله نجى و أجاز إلى مالقة و دعى لنفسه و وافقه البربر و الجند ثم نهض إلى الجزيرة ليستأصل حسنا و محمدا ابني قاسم بن حمود و رجع خاسئا فاغتاله في طريقه بعض عبيد القاسم و قتلوه و بلغ الخبر إلى مالقة فثارت العامة بالسطيفي و قتل و أخرج إدريس بن يحيى المعتلي من معتقله و بويع له سنة أربع و ثلاثين و أطاعته غرناطة و قرمونة و ما بينهما و لقب العالي و ولى علي سبتة سكوت و رزق الله من عبيد أبيه ثم قتل محمدا و حسنا ابني عمه إدريس فثار السودان بدعوة أخيهما محمد بمالقة و امتنعوا بالقصبة و كانت العامة مع إدريس ثم أسلموه و بويع محمد بمالقة سنة ثمان و ثلاثين و تلقب المهدي و ولى أخاه عهده و لقبه الساني ثم نكر منه بعض النزعات و نفاه إلى العدوة فأقام بين غمارة و لحق العالي بقمارش فامتنع بها و أقام يحاصر مالقة و زحف باديس من غرناطة منكرا على المهدي فعله فامتنع عليه فبايع له و انصرف و أقام المهدي في ملكه بمالقة و أطاعته غرناطة و حيان و أعمالها إلى أن مات بمالقة سنة أربع و أربعين و بويع إدربس المخلوع ابن يحيى المعتلي من مكانه بقمارش و بويع له بمالقة و أطلق أيدي عبيده عليها لحقده عليهم ففر كثير منهم إلى أن هلك سنة سبع و أربعين و بويع محمد الأصغر ابن إدريس المتأيد و تلقبه و خطب له بمالقة و المرية و رندة ثم سار إليه باديس فتغلب على مالقة سنه تسع و أربعين و أربعمائة و سار محمد المستعلي إلى المرية مخلوعا و استدعاه أهل مليلة فأجاز إليهم و بايعوه سنة تسع و خمسين و بايعه بنو ورقدي و قلوع جارة و نواحيها و هلك سنة و أربعمائة و أما محمد بن القاسم المعتقل بمالقة ففر هو من ذلك الاعتقال سنة أربع عشرة و لحق بالجزيرة الخضراء فملكها و تلقب المعتصم إلى أن مات سنة أربعين ثم ملكها بعده إبنه القاسم الواثق إلى أن هلك سنة خمسين و صارت الجزيرة للمعتضد بن عباد و كان سكوت البرغواطي الحاجب مولى القاسم الواثق محمد بن المعتصم و يقال مولى يحيى المعتلي واليا على سبتة من قبلهم فلما غلب ابن عباد على الجزيرة طلبه في الطاعة و طلب هو ملك الجزيرة فامتنعت عليه و اتصلت الفتنة بينهما إلى أن كان من أمر المرابطين و تغلبهم على سبتة على الأندلس ما سنذكره و البقاء لله وحده سبحانه وتعالى (4/196)
الخبر عن ملوك الطوائف بالأندلس بعد الدولة الأموية
كان ابتداء أمرهم و تصاريف أحوالهم لما انتثر ملك الخلافة العربية بالأندلس و افترق الجماعة بالجهات و صار ملكها في طوائف من الموالي و الوزراء و أعياص الخلافة و كبار العرب و البربر و اقتسموا خططها و قام كل واحد بأمر ناحية منها وتغلب بعض على بعض استقل أخيرا بأمرها ملوك منهم استفحل شأنهم و لاذوا بالجزيرة للطاغية أو يظاهرون عليهم أو ينتزعونهم ملكهم حتى أجاز إليهم يوسف بن تاشفين أمير المرابطين و غلبهم جميعا على أمرهم فلنذكر أخبارهم واحدا بعد واحد (4/200)
الخبر عن بني عباد ملوك إشبيلية و غربي الأندلس و عمن تغلبوا عليه من أمراء الطوائف
كان أولهم القاضي أبو القاسم محمد بن ذي الوزارتين أبي الوليد إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمر بن أسلم بن عمر بن عطاف بن نعيم اللخمي و عطاف هو الداخل إلى الأندلس في طوالع لخم و أصلهم من جند حمص و نزل عطاف إلى قرية طشانة بشرق إشبيلية و نسل بنيه بها و كان محمد بن إسماعيل بن قريش صاحب الصلاة بطشانة ثم ولي ابنه إسماعيل الوزارة بإشبيلية سنة ثلاث عشرة و أربعمائة و ولي ابنه أبو القاسم القضاء بها و الوزارة من سنة أربع عشرة و أربعمائة إلى أن هلك سنة ثلاث و ثلاثين و كان أصل رياسته أنه كان له اختصاص بالقاسم بن حمود و هو الذي أحكم عقد ولايته و كان محمد بن زيري من أقيال البرابرة واليا على إشبيلية فلما فر القاسم من قرطبة و قصده داخل ابن عباد محمد بن زيري في غرناطة ففعل و طردوا القاسم و طردوا بعده ابن زيري و صار الأمر شورى بينه و بين أبي بكر الزبيدي معلم هشام و صاحب مختصر العين في اللغة و محمد بن برمخ الألهاني ثم استبد عليهم و جند الجند و لم يزل على القضاء و لما منع القاسم من إشبيلية عدل عنها إلى قرمونة و نزل على محمد بن عبد الله البرزالي و كان ولي قرمونة أيام هشام و المهدي من بعده ثم استبد بها سنة أربع و أربعمائة أزمان الفتنة فداخله ابن عباد في خلع القاسم و الاستبداد بها ثم تنصح للقاسم فتحول إلى شريش و استبد محمد بن البرزالي بقرمونة و استبد أبو القاسم إلى أن هلك سنة ثلاث و ثلاثين كما قلناه و قام بأمره ابنه عباد و تلقب المعتضد و استولى على سلطانه و اشتدت حروبه وأيامه و تناول طائفة من الممالك بعد بالأندلس و انفسح أمده و أول ما افتتح أمره بمداخلة محمد بن عبد الله البرزالي صاحب قرمونة في إفساد ما بينه و بين القاسم بن حمود حتى تحول عنه إلى شريش ثم تحارب مع عبد الله بن الأفطس صاحب بطليوس و غزاه ابنه إسماعيل في عساكره و معه محمد بن عبد الله البرزالي فلقيه المظفر بن الأفطس فهزمهما و أسر المظفر بن البرزالي إلى أن أطلقه بعد حين ثم فسد ما بينه و بين البرزالي و اتصلت الفتنة بينهما إلى أن قتله ابنه إسماعيل خرج إليه في سرية فأغار على قرمونة و أكمن الكمائن فركب محمد البرزالي في أصحابه و استطرد له إسماعيل إلى أن بلغ به الكمين فخرجوا عليه فقتلوه و ذلك سنة أربع و ثلاثين ثم خالف عليه ابنه إسماعيل و أغراه العبيد و البرابرة بالملك فأخذ ما قدر عليه من المال و الذخيرة و فر إلى جهة الجزيرة للتوثب بها و كان أبوه ليلتئذ بحصن الفرج فأنفذ الخيالة في طلبه فمال إلى قلعة الورد فتقبض واليها عليه و أنفذه إلى أبيه فقتله و قتل كاتبه و كل من كان معه ثم رجع إلى مطالبة البربر المنتزين بالثغور و أول من نذكر منهم صاحب قرمونة و كان بها المستظهر العزيز بن محمد بن عبد الله البرزالي وليها بعد أبيه كما ذكرناه و كانت له معها استجة و المروز و كان نموز و رواركش للوزير نوح الرموي من برابرة العدوة شيعة المنصور و استبد بها سنة أربع و مات سنة ثلاث و ثلاثين و ولي ابنه عز الدولة الحاجب أبو مياد محمد بن نوح و مات سنة و كان يزيد أبو ثور بن أبي قرة اليفرني استبد بها أيام الفتنة سنة خمسين من يد عامر بن فتوح من صنائع العلويين و لم يزل المعتضد يضايقه و استدعاه بعض الأيام لولاية فحبسه و كاده في ابنه بكتاب على لسان جاريته برندة أنه ارتكب منها محرما ثم أطلقه فقتل ابنه و شعر بالمكيدة فمات أسفا سنة خمسين و ولي ابنه أبو نصر إلى أن غدر به في الحصن بعض أجناده فسقط من السور و مات سنة تسع و خمسين و كان بشريش خزرون بن عبدون ثار بها سنة إثنتين و أربعمائة فتقبض عليه ابن عباد و طالبهم و طاف على حصونهم و صار يهاديهم و أسجل لهم بالبلاد التي بأيديهم فأسجل لابن نوح بأركش و لابن خزرون بشريش و لابن أبي قرة برندة و صاروا في حزبه و وثقوا به ثم استدعاهم لوليمة و غدر بهم في حمام استعمله لهم على سبيل الكرامة و أطبقه عليهم فهلكوا جميعا إلا ابن نوح فإنه سالمه من بينهم لليد التي كانت له عنده في مثلها ثم بعث من تسلم معاقلهم و صارت في أعماله
و خرج باديس لطلب ثأرهم منه و اجتمعت إليه عشائرهم فنازلوه مدة ثم انصرفوا و أجازوا إلى العدوة فاحتلوا بسبتة و طردهم سكوت فهلكوا في المجاعة التي صادفوا و أحلوا بالمغرب لذلك العهد و استقل ابن عباد و كان بأونية و شلطليش عبد العزيز البكري و كانت عساكر المعتضد ابن عباد تحاصره فشفع فيه ابن جهور للمعتضد فسالمه مدة ثم هلك ابن جهور فعاد إلى مطالبته إلى أن تخلى له عنها سنة ثلاث و أربعين فولى عليها ابنه المعتمد ثم سار إلى شلب و بها المظفر أبو الأصبغ عيسى بن القاضي أبي بكر محمد بن سعد بن مزين ثار بها سنة تسع عشرة و مات سنة إثنتين و أربعين فسار إليها المعتضد و ملكها من يد ابنه و نقل إليها المعتمد فنزلها و اتخذها دار إمارة ثم سار إلى شنت برية و بها المعتصم محمد بن سعيد بن هرون فانخلع له عنها سنة تسع و ثلاثين و أضافها للمعتمد و كان بلبلة تاج الدين أبو العباس أحمد بن يحيى التحصيني ثار بها سنة أربع عشرة و خطب له بأونية و شلطليش و مات سنة ثلاث و ثلاثين و أوصى إلى أخيه محمد و ضايقه المعتضد فهرب إلى قرطبة و استبد بها ابن أخيه فتح بن خلف بن يحيى و انخلع للمعتضد سنة خمس و أربعين و صارت هذه كلها من ممالك بني عباد و تملك المعتضد أيضا مرسية و ثار بها عليه ابن رشيق البناء و تسمى خاصة الدولة و بقي ثمان سنين ثم ثاروا عليه سنة خمس و خمسين و رجعوا لابن عباد و تملك المعتضد مرثلة من يد ابن طيفور سنة ست و ثلاثين و كان تملكها من يد عيسى بن نسب الجيش الثائر بها و صارت هذه الممالك كلها في ملك ابن عباد و كانت بينه و بين باديس بن حبوس صاحب غرناطة حروب إلى أن هلك سنة إحدى و ستين و ولى من بعده ابنه المعتمد بن المعتضد بن إسماعيل أبو القاسم بن عباد و جرى على سنن أبيه و استولى على دار الخلافة قرطبة من يد ابن جهور و فرق أبناءه على قواعد الملك و أنزلهم بها و استفحل ملكه بغرب الأندلس و علت يده علي من كان هنالك من ملوك الطوائف مثل ابن باديس ابن حبوس بغرناطة و ابن الأفطس ببطليوس و ابن صمادح بالمرية و غيرهم و كانوا يطلبون سلمه و يعملون في مرضاته و كلهم يدارون الطاغية و يتقونه بالجزى إلى أن ظهر بالعدوة ملك المرابطين و استفحل أمر يوسف بن تاشفين و تعلقت آمال المسلمين في الأندلس بإعانته و ضايقهم الطاغية في طلب الجزية فقتل ابن عباد ثقته اليهودي الذي كان يتردد إليه لأخذ الجزية بسبب كلمة أسف بها ثم أجاز البحر صريخا إلى يوسف بن تاشفين و كان من إجازته إليه و مظاهرته إياه ما يأتي ذكره في أخباره ثم طلب الفقهاء بالأندلس من يوسف بن تاشفين رفع المكوس و الظلامات عنهم فتقدم بذلك إلى ملوك الطوائف فأجازوه بالامتساك حتى إذا رجع من بلادهم رجعوا إلى حالهم و هو خلال ذلك يردد العساكر للجهاد ثم أجاز إليهم و خلع جميعهم و نقلهم إلى العدوة و استولى على الأندلس كما يأتي ذكره في أخباره و صار ابن عباد في قبضة حكمه بعد حروب نذكرها و نقله إلى أغمات قرية مراكش سنة أربع و ثمانين و أربعمائة و اعتقله هنالك إلى أن هلك سنة ثمان و ثمانين و كانت بالأندلس ثغور أخرى دون هذه و لم يستول عليها ابن عباد فمنها بلد السهلة استبد بها هذيل بن خلف بن رزين أول المائة الخامسة بدعوة هشام و تسمى مؤلد الدولة و هلك شهيدا سنة خمسين و أربعمائة و ملك بعده أخوه حسام الدولة عبد الملك بن خلف و لم يزل أميرا عليها إلى أن ملكها المرابطون من يده عند تغلبهم علي الأندلس و منها بلد البونت و اللج تغلب عليها عبد الله بن قاسم الفهري أزمان الفتنة و تسمى نظام الدولة و هو الذي كان المعتمد عنده عندما ولاه الجماعة بقرطبة و من عنده جاء إليها و هلك سنة إحدى و عشرين و ولي ابنه محمد يمين الدولة و كانت بينه و بين مجاهد حروب و ملك بعده ابنه أحمد عقد الدولة و هلك سنة أربعين و ملك أخوه عبد الله جناح الدولة إلى أن خلعه المرابطون سنة خمس و ثمانين و لنرجع إلى ذكر بقية الملوك الأكابر من الطوائف و الله سبحانه و تعالى أعلم بالصواب (4/200)
أخبار ابن جهور
كان رئيس الجماعة أيام الفتنة بقرطبة أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبد الله ابن محمد بن المعمر بن يحيى بن أبي المغافر بن أبي عبيدة الكلبي هكذا نسبه ابن بشكوال و أبو عبيدة هو الداخل إلى الأندلس و كانت لهم وزارة الدولة العامرية بقرطبة و استبد جهور هذا سنة اثنتين و عشرين و أربعمائة لما خلع الجند المعز آخر خلفاء بني أمية و لم يدخل في أمور الفتنة فاستولى على المملكة و رتب الأمور و لم يتحول عن داره إلى قصر الخلافة و كان علي سنن أهل الفضل يعود المرضى و يشهد الجنائز و يؤذن عند مسجدهم بالربض الشرقي و يصلي التراويح و لا يحتجب عن الناس فأسندوا أمرهم إليه إلى أن يوجد خليفة إلى أن خاطبهم محمد بن إسماعيل بن عباد يعرفهم أن هشاما المؤيد عنده بإشبيلية و أكثر في ذلك فخطب له بقرطبة بعد مراوضات ثم أتي به إلى قرطبة فمنعوه الدخول و أضربوا عن ذكره في الخطبة و انفرد ابن جهور بأمرهم إلى أن هلك في محرم سنة خمس و ثلاثين و أربعمائة و دفن بداره و ولي ابنه أبو الوليد محمد بن جهور باتفاق من الكافة فجرى علي سنن أبيه و كان قد قرأ على مكي بن أبي طالب المكي و غيره فكان مكرما لأهله و استوزر ثقته إبراهيم بن يحيى فكفاه و هلك كما هو معروف ففوض التدبير إلى ابنه عبد الملك فأساء السيرة و تكره إلى الناس و حاصره ابن ذي النون بقرطبة فاستغاث بمحمد بن عباد فأمده بالجيش و وصى عسكره بذلك فداخلوا أهل قرطبة و خلعوه سنة إحدى و ستين و أخرجوه عن قرطبة و اعتقل بشلطليش إلى أن هلك سنة إثنتين و سبعين و ولى ابن عباد على قرطبة ابنه سراج الدولة و قدمها من بلنسية و دخلها إلى أن قتل بها مسموما و حمل إلى طليطلة فدفن بها و زحف المعتمد بن عباد بعد مهلكه إلى قرطبة فملكها سنة تسع و ستين و قتل ابن عكاشة و استخلف ابنه المأمون الفتح بن محمد و صار غرب الأندلس كله في ملكه إلى أن دخل المرابطون الأندلس و غلبوا عليهم سنة أربع و ثمانين و أربعمائة فقتل الفتح و حمل أباه المعتمد إلى آغمات كما ذكرناه و نذكره و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (4/204)
أخبار ابن الأفطس صاحب بطليوس من غرب الاندلس و مصاير أمره
ملك بطليوس من غرب الأندلس عند الفتنة و اهتياجها أبو محمد عبد الله بن مسلمة التجيبي المعروف بابن الأفطس و استبد بها سنة إحدى و ستين و أربعمائة فهلك و ولي من بعده ابنه المظفر أبو بكر و استفحل ملكه و كان من أعاظم ملوك الطوائف و كانت بينه و بين ابن ذي النون حروب مذكورة و كذا مع ابن عباد بسبب ابن يحيى صاحب مليلة أعانه ابن عباد عليه فاستولى بسبب ذلك على كثير من ثغوره و معاقله و اعتصم المظفر ببطليوس بعد هزيمتين هلك فيهما خلق كثيروذلك سنة ثلاث و أربعين ثم أصلح بينهما ابن جهور و هلك المظفر سنة ستين و أربعمائة وتولى بعده ابنه المتوكل أبو حفص عمر بن محمد المعروف بساجة و لم يزل سلطانا بها إلى أن قتله يوسف بن تاشفين أمير المرابطين سنة تسع و ثمانين و أربعمائة و قتل معه أولاده أغراه به ابن عباد فلما تمكنت الاسترابة من المتوكل خاطب الطاغية و استراح إليه مما دهمه و شعر به ابن عباد فكاتب يوسف بن تاشفين و استحثه لمعاجلته قبل أن يتصل بالطاغية و يتصل بالثغر فاغذ إليه السير و وافاه سنة فقبض عليه و على بنيه و قتلهم يوم الأضحى حسبما نذكر في أخبارهم و رثاه ابن عبدون بقصيدته المشهورة و هي :
( الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح و الصور )
عدد فيها أهل النكبات و من عثر به الزمان بما يبكي الجماد و سنذكر قصتهم في أخبار لمتونة و فتحهم الأندلس و الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد (4/205)
أخبار باديس بن حسون ملك غرناطة و البيرة
كان عميد صنهاجة في الفتنة البربرية زاوى بن زيري بن مناد أجاز إلى الأندلس على عهد المنصور فلما هاجت الفتنة البربرية و انحل نظام الخلافة كان فحل ذلك الشول و كبش تلك الكتائب و عمد إلى البيرة و نزل غرناطة و اتخذها دارا لملكه و لما بايع الموالي العامريون للمرتضى المرواني و تولى كبر ذلك مجاهد العامري و منذر بن يحيى بن هاشم التجيبي و عمد إلى غرناطة فلقيهم زاوي بن زيري في جموع صنهاجة و هزمهم سنة عشرين و أربعمائة و قتل المرتضى و أصاب زاوي من ذخائرهم و أموالهم و عددهم ما لم يقتنه ملك ثم وقع في نفسه سوء آثار البربر بالأندلس أيام هذه الفتنة و حذر مغبة ذلك فارتحل إن سلطان قومه بالقيروان و استخلف على غرناطة ابنه فدبر القبض على ابن رصين و مشيخة غرناطة إذا رجعوا عن أبيه و شعروا بذلك فبعثوا إلى ابن أخيه ماكس بن زيري من بعض الحصون فوصل و ملك غرناطة و استبد بها إلى أن هلك سنة تسع و عشرين و أربعمائة و ولي ابنه باديس و كانت بينه و بين ذي النون و ابن عباد حروب و استولى على سلطانه كاتبه و كاتب أبيه إسماعيل بن نغزلة الذمي ثم نكبه و قتله سنة تسع و خمسين و قتل معه خلقا من اليهود و توفي سنة سبع و ستين و أربعمائة و ولي حافده المظفر أبو محمد عبد الله بن بلكين بن باديس و ولى أخاه تميما بمالقة بعهد جده و خلعهما المرابطون سنة ثلاث و ثمانين و أربعمائة و حملا إلى أغمات و وريكة و استقرا هنالك حسبما يذكر بعد في أخبارهم مع يوسف بن تاشفين و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (4/206)
الخبر عن بني ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي و تصاريف أمورهم و مصاير أحوالهم
جدهم إسماعيل الظافر بن عبد الرحمن بن سليمان بن ذي النون أصله من قبائل هوارة و رأس سلفه في الدولة المروانية و كانت لهم رياسة في شنترية ثم تغلب على حصن أفلنتين أزمان الفتنة سنة تسع و أربعمائة و كانت طليطلة ليعيش بن محمد بن يعيش واليها منذ أول الفتنة فلما هلك سنة سبع و عشرين استدعاه إسماعيل الظافر من حصن أفلنتين بعض أجناد طليطلة فمضى إليها و ملكها و امتد ملكه إلى جنجالة من عمل مرسية و لم يزل أميرا بها إلى أن هلك سنة تسع و عشرين و ولي ابنه المأمون أبو الحسن يحيى و استفحل ملكه و عظم بين ملوك الطوائف سلطانه و كانت بينه و بين الطاغية مواقف مشهورة و في سنة خمس و ثلاثين غزى بلنسية و غلب على صاحبها المظفر ذي السابقين من ولد المنصور بن أبي عامر ثم غلب على قرطبة و ملكها من يد ابن عباد و قتل ابنه أبا عمر بعد أن كان ملكها و هلك الظافر بها مسموما سنة سبع و ستين كما ذكرناه و ولي بعده على طليطلة حافده القادر يحيى بن إسماعيل بن المأمون يحيى بن ذي النون و كان الطاغية بن أدفونش قد استفحل أمره لما خلا الجو من مكان الدولة الخلافية و خف ما كان على كاهله من أمر العرب فآلتهم البسائط و ضايق ابن ذي النون حتى غلب على طليطلة فخرج له الغادر عنها سنة ثمان و سبعين و أربعمائة و شرط عليه أن يظاهره على أخذ بلنسية و عليها عثمان القاضي ابن أبي بكر بن عبد العزيز من وزراء ابن أبي عامر فخلعه أهلها خوفا من القادر أن يمكن منهم ألفنش فدخلها القادر و أقام بها سنتين و قتل سنة إحدى و ثمانين على ما نذكر بعد إن شاء الله تعالى (4/206)
الخبر عن ابن أبي عامر صاحب شرق الأندلس من بني ملوك الطوائف و أخبار الموالي العامريين الذين كانوا قبله و ابن صمادح قائده بالمرية و تصاربف أحوالهم و مصايرها
بويع للمنصور عبد العزيز بن عبد الرحمن الناصر بن أبي عامر بشاطبة سنة إحدى عشرة و أربعمائة أقامه الموالي العامريون عند الفتنة البربرية فاستبد بها ثم ثار عليه أهل شاطبة فأفلت و لحق ببلنسيه فملكها و فوض أمره للموالي و كان من وزرائه ابن عبد العزيز و كان خيران العامري من مواليهم تغلب من قبل ذلك علي أربولة سنة أربع ثم ملك مرسية سنة سبع ثم حيان ثم المرية سنة تسع و بايعوا جميعا للمنصور عبد العزيز ثم انتقض خيران على المنصور و سار من المرية إلى مرسية و أقام بها ابن عمه أبا عامر محمد بن المظفر بن المنصور بن أبي عامر خرج إليه من قرطبة من حجر القاسم بن حمود و خلص إلى خيران بأموال جليلة فجمع الموالي فأخذوا ماله و طردوه ثم ولاه خيران و سماه المؤتمن ثم المعتصم ثم تنكر عليه و أخرجه من مرسية و لحق بالمرية و أغرى به الموالي فأخذوا ماله و طردوه و لحق بغرب الأندلس إلى أن مات ثم هلك خيران بالمرية سنة تسع عشرة و قام بالأمر بعده الأمير عميد الدولة أبو القاسم زهير العامري و زحف إلى غرناطة فبرز إليه باديس بن حبوس و هزمه و قتل بظاهرها سنة تسع و عشرين فصار ملكه للمنصور عبد العزيز صاحب بلنسية و ملكها من يده سنة سبع و خمسين و لما هلك المأمون بن ذي النون و ولي حافده القادر ولى على بلنسية أبا بكر بن عبد العزيز بقية وزراء ابن أبي عامر فداخله ابن هود في الانتقاض على القدر ففعل و استبد بها و ضبطها سنة ثمان و ستين حين تغلب المقتدر على دانية ثم هلك سنة ثمان و سبعين لعشر سنين من ولايته وولي ابنه القاضي عثمان فلما سلم القادر بن ذي النون طليطلة زحف إلى بلنسية و معه ألفنش كما قلناه و خلع أهل بلنسية عثمان بن أبي بكر و أمكنوا منها القادر خوفا من استيلاء النصراني و ذلك سنة ثمان و سبعين و أربعمائة ثم ثار على القادر سنة ثلاث و ثمانين القاضي جعفر بن عبد الله بن حجاب و قتله و استبد بها ثم تغلب النصارى عليها سنة تسع و ثمانين و قتلوه ثم تغلب المرابطون على الأندلس و زحف ابن ذي النون قائدهم إلى بلنسية فاسترجعها من أيديهم سنة خمس و تسعين و أربعمائة و أما معن بن صالح قائد الوزير ابن أبي عامر فأقام بالمرية لما ولاه المنصور سنة ثمان و ثمانين و تسمى ذا الوزارتين ثم خلعه و ولى ابنه المعتصم أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح و استبد بها أربعا و أربعين سنة و ثار عليه صاحب لورقة ابن شبيب و كان أبوه معزولا عليها فجهز إليه المعتصم جيشا و استمد ابن شبيب المنصور بن أبي عامر صاحب بلنسية و مرسية بالعدو و استمد المعتصم بباديس و نهض عمه صمادح بن باديس بن صادح فقاتلوا حصونا من حصون لورقة و استولوا عليها و رجعوا لم يزل المعتصم أميرا بالمرية إلى أن هلك سنة ثمانين و ولي ابنه و خلعه يوسف بن تاشفين أمير المرابطين سنة أربع و ثمانين و أجاز إلى العدوة و نزل على آل حماد بالقلعة و بها مات ولده و الله وارث الأرض و من عليها (4/207)
الخبر عن بني هود ملوك سرقسطة من الطوائف صارت إليهم من بني هاشم و ما كان من أوليتهم و مصاير أمورهم
كان منذر بن مطرف بن يحيى بن عبد الرحمن بن محمد بن هاشم التجيبي صاحب الثغر الأعلى و كان بين المنصور و عبد الرحمن منافسة على الإمارة و الرياسة و كانت دار إمارته سرقسطة و لما بويع المهدي بن عبد الجبار و انقرض أمر العامريين و جاءت فتنة البربر كان مع المستعين حتى قتل هشام مولاه فامتعض لذلك و فارقه و بايع المرواني للمرتضى مع مجاهد و من اجتمع إليه من الموالي و العامريين و زحفوا إلى غرناطة فلقيهم زاوي بن زيري و هزمهم ثم ارتابوا بالمرتضى و وضعوا عليه من قتله مع خيران بالمرية و استبد منذر هذا بسرقسطة و الثغر و تلقب بالمنصور و عقد ما بين طاغية جليقة و برشلونة و بنيه و هلك سنة أربع عشرة و ولي ابنه و تلقب المظفر و كان أبو أيوب سليمان بن محمد بن هود الجذامي من أهل نسبهم مستبدا بمدينة تطيلة ولاها منذ أول الفتنة و جدهم هود هو الداخل للأندلس و نسبه الأزد إلى سالم مولى أبي حذيفة قال هود بن عبد الله بن موسى بن سالم : و قيل هود من ولد روح بن زنباع فتغلب سليمان على المظفر يحيى بن المنذر و قتله سنة إحدى و ثلاثين و ملك سرقسطة و الثغر الأعلى و ابنه يوسف المظفر لاردة ثم نشأت الفتنة بينهما و انتصر المقتدر بالإفرنج و البشكنس فجاؤا لميعاده فوقعت الفتنة بين المسلمين و بينهم ثائره و انصرفوا إلى يوسف صاحب لاردة فحاصرهم بسرقسطة و ذلك سنة ثلاث و أربعين و هلك أحمد المقتدر سنة أربع و سبعين لتسع و ثلاثين سنة من ملكه فولى بعده ابنه يوسف المؤتمن و كان قائما على العلوم الرياضية و له فها تآليف مثل الاستهلال و المناظر و مات سنة ثمان و سبعين و هي السنة التي استولى فيها النصارى على طليطلة من يد القادر بن ذي النون و ولي بعده المستعين و على يده كانت وقعة وشقه زحف سنة تسع و ثمانين في آلاف لا تحصى من المسلمين و هلك فيها خلق نحو عشرة آلاف و لم يزل أميرا بسرقسطة إلى أن هلك شهيدا سنة ثلاث و خمسمائة بظاهر سرقسطة في زحف الطاغية إليها و ولي بعده ابنه عبد الملك و تلقب عماد الدولة و أخرجه الطاغية من سرقسطة سنة إثنتي عشرة فنزل روطة من حصونها و أقام بها إلى أن هلك سنة ثلاث عشرة و ولي ابنه أحمد و تلقب سيف الدولة و المستنصر و بالغ النكاية في الطاغية ثم سلم له روطة على أن يملكه بلاد الأندلس فانتقل معه إلى طليطلة بحشمه و آلته و هنالك هلك سنة ست و ثلاثين و خمسمائة و كان من ممالك بني هود هؤلاء مدينة طرطوشة و قد كان بقايا من الموالي العامريين فملكها سنة ثلاث و ثلاثين و أربعمائة ثم هلك سنة خمس و أربعين و ملكها بعده يعلى العامري و لم تطل مدته و ملكها بعده شبيل إلى أن نزل عنها لعماد الدولة أحمد بن المستعين سنة ثلاث و خمسين نم تزل في يده و في يد بنيه من بعده إلى أن غلب عليها العدو فيما غلب عليه من شرق الأندلس و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (4/209)
الخبر عن مجاهد العامري صاحب دانية و الجزائر الشرقية و أخبار بنيه و مواليهم من بعدهم و مصاير أمورهم
كان فتح ميورقة سنة تسعين و مائتين على يد عصام الخولاني و ذلك أنه خرج حاجا في سفينة اتخذها لنفسه فعصفت بهم الريح فأرسوا بجزيرة ميورقة و طال مقامهم هنالك و اختبروا من أحوالهم ما أطمعهم في فتحها فلما رجع بعد فرضه أخبر الأمير بما رأى فيها و كان من أهل الغناء عنده في مثلها فبعث معه القطائع في البحر و نفر الناس معه إلى الجهاد فحاصرها أياما و فتحوها حصنا حصنا إلى أن كمل فتحها و كتب عصام بالفتح إلى الأمير عبد الله فكتب له بولايتها فوليها عشر سنين و بنى فيها المساجد و الفنادق و الحمامات و لما هلك قدم أهل الجزيرة عليهم ابنه عبد الله و كتب له الأمير بالولاية ثم زهد و ترهب و ركب إلى الشرق حاجا و انقطع خبره و ذلك سنة خمسين و ثلاثمائة و بعث الناصر المرواني إليها الموفق من الموالي فأنشأ الأساطيل و غزا بلاد الإفرنج و هلك سنة تسع و خمسين أيام الحكم المستنصر و ولي بعده كوثر من مواليه فجرى على سنن الموفق في جهاده و هلك سنة تسع و ثمانين أيام المنصور فولى عليها مقاتل من مواليه و كان كثير الغزو و الجهاد و كان المنصور و ابنه المؤيد يمدانه في جهاده و هلك سنة ثلاث و أربعمائة أزمان الفتنة و كان مجاهد بن يوسف بن علي من فحول الموالي العامريين و كان المنصور قد رباه و علمه مع مواليه القراآت و الحديث و العربية فكان مجيدا في ذلك و خرج من قرطبة يوم قتل المهدي سنة أربعمائة و بايع هو و الموالي العامريين و كثير من جند الأندلس للمرتضى كما قدمناه و لقيهم زاوي بفحص غرناطة فهزمهم و بدد شملهم ثم قتل المرتضى كما تقدم و سار مجاهد إلى طرطوشة فملكها ثم تركها و انتقل إلى دانية و استقل بها و ملك ميورقة و منورقة و يابسة و استبد سنة ثلاث عشرة و نصب العيطي كما مر فأراد الاستبداد و منع طاعة مجاهد و منعه أهل ميورقة من ذلك فبعث عنه مجاهد و قدم على ميورقة عبد الله ابن أخيه فولي خمس عشرة سنة ثم هلك و كان غزا سردانية في الأساطيل فاقتحمها و أخرج النصارى منها و تقبضوا على ابنه أسيرا ففداه بعد حين و ولى مجاهد على ميورقة بعد ابن أخيه مولاه الأغلب سنة ثمان و عشرين و كان بين مجاهد صاحب دانية و بين خيران صاحب مرسية و ابن أبي عامر صاحب بلنسية حروب إلى أن هلك مجاهد سنة ست و ثلاثين و ولي ابنه علي و تسمى إقبال الدولة و أصهر إلى المقتدر بن هود و أخرجه من دانية سنة ثمان و ستين و نقله إلى سرقسطة و لحق ابنه سراج الدولة بالإفرنجة و أمدوه على شروط شرطها لهم فتغلب على بعض حصونه ثم مات فيما زعموا مسموما بحيلة من المقتدر سنة تسع و مات علي قريبا من وفاة المقتدر سنة أربع و سبعين و يقال بل فر أمام المقتدر إلى بجاية و نزل على صاحبها يحيى بن حماد و مات هنالك و أما الأغلب مولى مجاهد صاحب ميورقة فكان صاحب غزو و جهاد في البحر و لما هلك مجاهد استأذن ابنه عليا في الزيارة فأذن له و قدم على الجزيرة صهره ابن سليمان بن مشكيان نائبا عنه و بعث على آل الأغلب فاستعفاه و أقام سليمان خمس سنين ثم مات فولى علي مكانه مبشرا و تسمى ناصر الدولة و كان أصله من شرق الأندلس أسر صغيرا وجبه العدو و أقام بدانية محبوبا يجاهد في أسرى دانية و سردانية و اصطفاه فولاه بعد مهلك سليمان فولي خمس سنين و انقرض ملك علي و تغلب عليه المقتدر بن هود فاستبد مبشر بميورقة و الفتنة يومئذ تموج بين ملوك الطوائف و بعث إلى دانية في تسليم أهل سيده فبعثوا إليه بهم و أولاهم جميلا و لم يزل يردد الغزو إلى أرض العدو إلى أن جمع طاغية برشلونة الجموع و نازله بميورقة عشرة أشهر ثم افتتحها واستباحها سنة من ولايته و كان بعث بالصريخ إلى علي بن يوسف صاحب المغرب من لمتونة فلم يوافهم الأسطول بالمدد إلا بعد استيلاء العدو فما وصل الأسطول دفعوا العدو عنها و ولى علي بن يوسف من قبله أنور بن أبي بكر اللمتوني فعسف بهم و أرادهم على بناء مدينة أخرى بعيدة من البحر فثاروا به و صغدوه و بعثوا إلى علي بن يوسف فردهم إلى ولاية محمد بن علي بن إسحاق بن غانية المستولي صاحب غرب الأندلس فبعث إليها أخاه محمد بن علي من قرطبة كان واليا عليها فوصل إلى ميورقة فصغد أنور و بعث به إلى مراكش و أقام في ولايتها عشر سنين إلى أن هلك أخوه يحيى و سلطانهم علي بن يوسف و استقرت ميورقة في ملك بني غانية هؤلاء و سلطانهم و كانت لهم في زمن علي بن يوسف بها دولة و خرج منها علي و يحيى إلى بجاية و ملكوها من الموحدين و كانت لهم معهم حروب بأفريقية كما نذكر في أخبارهم بعد أخبار لمتونة و ملك الإفرنج ميورقة من أيدي الموحدين آخر دولتهم و البقاء لله و الملك يؤتيه من يشاء و هو العزيز الحكيم (4/210)
الخبر عن ثوار الأندلس آخر الدولة اللمتونية و استبداد بني مردنيش ببلنسية و مزاحمتهم لدولة بني عبد المؤمن من أولها إلى آخرها و مصاير أحوالهم و تصاريفها
لما شغل لمتونة بالعدو و بحرب الموحدين بعد عليهم الأندلس و عادت إلى الفرقة بعض الشيء فثار ببلنسية سنة سبع و ثلاثين و خمسمائة القاضي مروان بن عبد الله بن مروان بن حضاب و خلعوه لثلاثة أشهر من ملكه و نزل بالمرية ثم حمل إلى ابن غانية بميورقة فسجن بها و ثار بمرسية أبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن بن ظاهر ثم خلع و قتل لأربعة أشهر من ولايته و ولي حافد المستعين بن هود شهرين ثم ولي ابن عياض و بايع أهل بلنسية بعد ابن حضاب للأمير أبي محمد عبد الله بن سعيد بن مردنيش الجذامي و أقام مجاهدا إلى أن استشهد في بعض أيامه مع النصارى سنة أربعين و خمسمائة فبويع لعبد الله بن عياض كان ثائرا بمرسية كما قدمناه و هلك سنة إثنتين و أربعين فبويع إلى ابن أخيه محمد بن أحمد بن سعيد بن مردنيش و ملك شاطبة و مدينة شقر و مرسية و كان إبراهيم بن همشك من قواده فعبث في أقطار الأندلس و أغار على قرطبة و تملك بها ثم استرجعت منه ثم غدر بغرناطة و ملكها من أيدي الموحدين و حصرهم بالقصبة هو و ابن مردنيش ثم استخلصها عبد المؤمن من أيديهم بعد حروب شديدة دارت بينهم بفحص غرناطة لقيه فيها ابن همشك و ابن مردنيش و جيوش من أم النصرانية استعانوا بهم في المدافعة عن غرناطة فهزمهم عبد المؤمن و قتلهم أبرح قتل و حاصر يوسف بلنسية فخطب للخليفة العباسي المستنجد و كاتبه فكتب له بالعهد و الولاية ثم بايع للموحدين سنة ست و ستين و كان المظفر عيسى بن المنصور بن عبد العزيز الناصر بن أبي عامر عندما انصرف إلى ملك شاطبة و مرسية تغلب على بلنسية مدة ثم هلك سنة خمس و خمسين و خمسمائة و رجعت إلى ابن مردنيش و كان أحمد بن عيسى تغلب على حصن مزيلة ثائرا بالمرابطين من أتباعه فغلب منذر بن أبي وزير عليه فأجاز سنة أربعين و خمسمائة إلى عبد المؤمن و رغبه في ملك الأندلس فبعث معه البعوث و تغلبوا على بني غانية أمراء المرابطين بالأندلس و كان بميورقة أيضا منذ اضطراب أمر لمتونة محمد بن علي بن غانية المستوفي وليها سنة عشرين و خمسمائة و استشهد بها و رحل عنها سنة سبع و ثلاثين إلى زيارة أخيه يحيى ببلنسية و استخلف على ميورقة عبد الله بن تيما فلما مكث ثار عليه ثوار فرجع محمد بن غانية و أصلح شأنها إلى أن هلك سنة سبع و ستين و ولي ابنه إبراهيم أبو إسحاق و توفي سنة ثمانين و خمسمائة و ولي بعده أخوه طلحة و بايع للموحدين سنة إحدى و ثمانين و أوفد عليهم أهل ميورقة فبعثوا معهم علي بن الربرتبر فما و صل إلى ميورقة ثار على طلحة بنو أخيه أبي إسحاق و هم علي و يحيى و يعفر بن الربرتبر و خلعوا طلحة ثم بلغهم موت يوسف بن عبد المؤمن فخرجوا إلى أفريقية حسبما نذكر في أخبار دولتهم فانقرضت دولة المرابطين بالمغرب و الأندلس و أدال الله منهم بالموحدين و قتلوهم في كل وجه و استفحل أمرهم بالأندلس و استعملوا فيها القرابة من بني عبد المؤمن و كانوا يسمونهم السادة و اقتسموا ولايتها بينهم و أجاز يعقوب المنصور منهم غازيا بعد أن استقر أهل العدوة كافة من زناتة فأوقع العرب بابن أدفونش ملك الجلالقة بالأركه من نواحي بطليوس الوقعة المذكورة سنة إحدى و سبعين و خمسمائة و أجاز ابنه الناصر من بعده سنة تسع فمحص الله المسلمين و استشهد منهم عدة ثم تلاشت أمراء الموحدين من بعده و انتزى بالسادة بنواحي الأندلس في كل عمله و ضعف بمراكش فصاروا إلى الاستجاشة بالطاغية بقص و استسلام حصون المسلمين إليه في ذلك فسمت رجالات الأندلس و أعقاب العرب من دولة الأموية و أجمعوا إخراجهم فثاروا بهم لحين و أخرجوهم و تولى كبر ذلك محمد بن يوسف بن هود الجذامي الثائر بالأندلس و قام ببلنسية زيان بن أبي الحملات مدافع بن يوسف بن سعد من أعقاب دولة بني مردنيش و ثوار آخرون ثم خرج علي بن هود في دولته من أعقاب دولة العرب أيضا و أهل نسبهم محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر و تلقب محمد هذا بالشيخ فحاربه أهل الجبل و كانت لكل منهما دولة أورثها بنيه فأما زيد بن مردنيش فكان مع عشرة من بني مردنيش رؤساء بلنسية و استظهر الموحدون على إمارتها و لما وليها السيد أبو زيد بن محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن بعد مهلك المستنصر كما نذكر في أخبارهم و ذلك سنة عشرين و ستمائة كان زيان هذا بطانته و صاحب أمره ثم انتقض عليه سنة ست و عشرين عندما بويع ابن هود بمرسية و خرج إلى أبده فخشيه السيد أبو زيد و بعث إليه يلاطفه في الرجوع فامتنع و لحق السيد أبو زيد بطاغية برشلونة و دخل في دين النصرانية أعاذنا الله من ذلك و ملك زيان بلنسية و اتصلت الفتنة بينه و بين ابن هود و خالف عليه بنو عمه عزيز بن يوسف بن سعد في جزيرة شقر و صاروا إلى طاعة ابن هود و زحف زيان للقائه على شريش فانهزم و تبعه ابن هود و نازله في بلنسية أياما و امتنعت عليه فأقلع و تكالب الطاغية على ثغور المسلمين و نازل صاحب برشلونة أنيشة و ملكها و زحف زيان إليها بجميع من معه من المسلمين سنة أربع و ثلاثين و نفر معه أهل شاطبة و جزيرة شقر فكانت عليهم الواقعة العظيمة التي استشهد فيها أبو الربيع سليمان و أخذ الناس في الانتقال عن بلنسية فبعث إليهم يحيى بن أبي زكريا صاحب أفريقية بالمدد من الأموال و الأسلحة و الطعام مع قريبه يحيى عندما نبذ دعوة بني عبد المؤمن و أوفد عليه أعيان بلنسية و هي محصورة فرجع إلى دانية ثم أخذ الطاغية بلنسية سنة ست و ثلاثين و خرج زيان إلى جزيرة شقر و أقام بدعوة الأمير أبي زكريا و بعث إليه بيعتها مع كاتبه الحافظ أبي عبد الله محمد بن الأنباري فوصل إلى تونس و أنشده قصيدته المشهورة على روي السين بلغ فيها من الإجادة حيث شاء و هي معروفة و سيأتي ذكرها في دولة بني حفص بأفريقية من الموحدين ثم هلك ابن هود و انتقض أهل مرسية على ابنه أبي بكر الواثق و كان واليه بها أبو بكر بن خطاب فبعثوا إلى زيان و استدعوه فدخلها و انتهب قصرها و حملهم على البيعة للأمير أبي زكريا على ولاية شرق الأندلس كله و ذلك سنة سبع و ثلاثين ثم انتقض عليه ابن عصام بأريولة و لحق به قرابة زيان بمدينة لقنت فلم يزل بها إلى أن أخذها منه طاغية برشلونة سنة أربع و أربعين فأجاز إلى تونس و بها مات سنة ثمان و ستين و أما ابن هود فسيأتي الخبر عن دولته و أما ابن الأحمر فلم تزل الدولة في أعقابه لهذا العهد و نحن ذاكرون أخبارهم لأنهم من بقايا دولة العرب و الله خير الوارثين (4/212)
الخبر عن ثورة ابن هود على الموحدين بالأندلس و دولته و أولية أمره و تصاريف أحواله
هو محمد بن يوسف بن محمد بن عبد العظيم بن أحمد بن سليمان المستعين بن محمد بن هود ثار بالصخيرات من عمل مرسية مما يلي وقوط عند فشل دولة الموحدين و اختلاف السادة الذين كانوا أمراء ببلنسية و ذلك عندما هلك المستنصر سنة عشرين و بايع الموحدون بمراكش لعمه المخلوع عبد الواحد بن أمير المؤمنين يوسف ثار العادل ابن أخيه المنصور بمرسية و دخل في طاعة صاحب حيان أبو محمد عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن و خالفهما في ذلك السيد أبو زيد أخوه ابن محمد بن أبي حفص و تفاقمت الفتنة و استظهر كل على أمره بالطاغية و نزلوا له عن كثير من الثغور و قلقت من ذلك ضمائر أهل الأندلس فتصدر ابن هود هذا للثورة و هو من أعقاب بني هود من ملوك الطوائف و كان يؤمل لها و ربما امتحنه الموحدون لذلك مرات فخرج في نفر من الأجناد سنة خمس و عشرين و جهز إليه والي مرسية يومئذ السيد أبو العباس بن أبي عمران موسى بن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن عسكرا فهزمهم و زحف إلى مرسية فدخلها و اعتقل السيد و خطب للمستنصر صاحب بغداد لذلك العهد من بني العباس و زحف إليه السيد أبو زيد بن محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن من شاطبة و كان واليه بها فهزمه ابن هود و رجع إلى شاطبة و استجاش بالمأمون و هو يومئذ بإشبيلية بعد أخيه العادل فخرج في العساكر و لقيه ابن هود فانهزم و اتبعه إلى مرسية فحاصره مدة و امتنعت عليه فأقلع عنه و رجع إلى إشبيلية ثم انتقض على السيد أبي زيد ببلنسية زيان بن أبي الحملات مدافع بن حجاج بن سعد بن مردنيش و خرج عنه إلى أبدة و ذلك سنة ست و عشرين و كان بنو مردنيش هؤلاء أهل عصابة و أولي بأس و قوة فتوقع أبو زيد اختلال أمره و بعث إليه و لاطفه في الرجوع فامتنع فخرج أبو زيد من بلنسية و لحق بطاغية برشلونة و دخل في دين النصرانية نعوذ بالله و بايعت أهل شاطبة لابن هود ثم تابعه أهل جزيرة شقر حملهم عليها ولاتهم بنو عزيز بن يوسف عم زيان بن مردنيش ثم بايعه أهل خبيان و أهل قرطبة و تسمى بأمير المسلمين و بايعه أهل إشبيلية عند رحيل المأمون عنها إلى مراكش و ولى عليهم أخاه و نازعه زيان بن مردنيش و كانت بينهما ملاقاة انهزم فيها زيان سنة تسع و عشرين و حاصره ابن هود ببلنسية ثم أقلع و لقي الطاغية على ماردة فانهزم و محص الله المسلمين و انهزم بعدها أخرى على الكوس و لم تزل غزواته مترددة في بلاد العدو كل سنة و حربه معهم سجالا و الطاغية يلتقم الثغور و القواعد ثم استولى ابن هود على الجزيرة الخضراء و جبل الفتح فرضتي المجاز على سبتة من يد السيد أبي عمران موسى لما انتقض على أخيه المأمون و نازله بسبتة فبايع هو لابن هود و أمكنه منها ثم ثار بها اليناشتي على ما يذكر ثم بويع للسلطان محمد بن يوسف بن نصر سنة تسع و عشرين بأرجونة و دخلت قرطبة في طاعته ثم قرمونة ثم انتقض أهل إشبيلية و أخرجوا سالم بن هود و بايعوا لابن مروان أحمد بن محمد الباجي و جهز عسكرا للقاء ابن الأحمر فانهزموا و أسر قائده ثم أصفق الباجي مع ابن الأحمر على فتنة ابن هود و صالح ابن هود ألفنش على فعلتهم على ألف دينار كل يوم ثم صارت قرطبة إلى ابن هود و زحف إلى الباجي و ابن الأحمر فانهزم و نزل ابن الأحمر ظاهر إشبيلية ثم غدر الباجي فقتله و تولى ذلك صهره أشقيلولة و زحف سالم بن هود إلى إشبيلية فنازلها و امتنعت عليه و وصل خطاب الخليفة المستنصر العباسي إلى ابن هود من بغداد سنة إحدى و ثلاثين وفد به أبو علي حسن بن علي بن حسن بن الحسين الكردي الملقب بالكمال و جاء بالراية و الخلع و العهد و لقبه المتوكل و قدم عليه بذلك في غرناطة في يوم مشهود و بايع له ابن الأحمر و عندما غدر ابن الأحمر بالباجي فر من إشبيلية شعيب بن محمد إلى البلد فاعتصم بها و تسمى المعتصم فحاصره ابن هود و أخذها من يده ثم خرج العدو من كل جهة و نازلوا ثغور المسلمين وأحاطوا بهم و انتهت محلاتهم على الثغور إلى سبع ثم حاصر الطاغية مدينة قرطبة و غلب عليها سنة ثلاث و ثلاثين و بايع أهل إشبيلية للرشيد من بني عبد المؤمن ثم زحف ابن الأحمر إلى غرناطة و ملكها كما يذكر و بويع للرشيد سنة سبع و ثلاثين و كان عبد الله أبو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الملك الأموي الرميمي وزير ابن هود و كان يدعوه ذا الوزارتين ولاه المرية من عمله فلم يزل بها و قدم عليه المتوكل سنة خمس و ثلاثين و ستمائة فهلك بالحمام و دفن بمرسية و يقال إنه قتله ثم استبد من بعده المؤيد و استنزله عنها ابن الأحمر سنة ثلاث و أربعين و لما هلك المتوكل ولي من بعده بمرسية ابنه أبو بكر محمد بعهده إليه و تلقب بالواثق و ثار عليه عزيز بن عبد الملك بن خطاب سنة ست و ثلاثين لأشهر من ولايته فاعتقله و كان يلقب ضياء الدولة ثم تغلب زيان بن مردنيش على مرسية و قتل ابن خطاب لأشهر من ولايته و أطلق الواثق بن هود من اعتقاله ثم ثار عليه بمدينة مرسية محمد بن هود عم المتوكل سنة ثمان و ثلاثين و أخرج منها زيان بن مردنيش و تلقب بهاء الدولة و هلك سنة سبع و خمسين و ستمائة و ولي ابنه الأمير أبو جعفر ثم ثار عليه سنة اثنتين و ستين أبو بكر الواثق الذي كان ابن خطاب خلعه و هو المتوكل أمير المسلمين و بقي بها أميرا إلى أن ضايقه الفنش و البرشلوني فبعث إليه عبد الله بن علي بن أشقيلولة و تسلم مرسية منه و خطب بها لابن الأحمر ثم خرج منها راجعا إلى ابن الأحمر فأوقع به البصري في طريقه و رجع الواثق إلى مرسية ثالثة فلم يزل بها إلى أن ملكها العدو من يده سنة ثمان و ستين و عوضه منها حصنا من عملها يسمى يس إلى أن هلك و الله خير الوارثين (4/215)
الخبر عن دولة بني الأحمر ملوك الأندلس لهذا العهد و مبدأ أمورهم و تصاريف أحوالهم
أصلهم من أرجونة من حصون قرطبة و لهم فيها سلف في أبناء الجند و يعرفون ببني نصر و ينسبون إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج و كان كبيرهم لآخر دولة الموحدين محمد ابن يوسف بن نصر و يعرف بالشيخ و أخوه إسماعيل و كانت لهم وجاهة في ناحيتهم و لما فشل ريح الموحدين و ضعف أمرهم كثر الثوار بالأندلس و أعطى حصونها للطاغية و استقل بأمر الجماعة محمد بن يوسف بن هود الثائر بمرسية فأقام بدعوته العباسية و تغلب على شرق الأندلس أجمع فتصدى محمد بن يوسف هذا للثورة على ابن هود و بويع له سنة تسع و عشرين و ستمائة على الدعاء للأمير أبي زكريا صاحب أفريقية و أطاعته حيان و شريش سنة ثلاثين بعدها و كان يعرف بالشيخ و يلقب بأبي دبوس و استظهر على أمره أولا بقرابته من بني نصر و أصهاره بني أشقيلولة عبد الله و علي ثم بايع لابن هود سنة إحدى و ثلاثين عندما وصله خطاب الخليفة من بغداد ثم ثار بإشبيلية أبو مروان الباجي عند خروج ابن هود عنها و رجوعه إلى مرسية فداخله محمد بن الأحمر في الصلح على أن يزوجه ابنته فأطاعه و دخل إشبيلية سنة اثنتين و ثلاثين ثم فتك بابن الباجي و قتله و تناول الفتك به علي بن أشقيلولة ثم راجع أهل إشبيلية بعدها لشهر دعوة ابن هود و أخرجوا ابن الأحمر ثم تغلب على غرناطة سنة خمس و ثلاثين بمداخلة أهلها ثم ثار ابن أبي خالد بدعوته في لحيان و وصلته بيعتها فقدم إليها أبا الحسن بن أشقيلولة ثم جاء على أثره و نزلها و استقر بها بعد مهلك ابن هود و بايع للرشيد سنة تسع و ثلاثين ثم تناول المؤيد من يد محمد بن الرميمي فخلعه أهل البلد سنة ثلاث و ستين و بايعوا لابن الأحمر ثم ثار أبو عمرو بن الجد و اسمه يحيى بن عبد الملك بن محمد الحافظ أبي بكر و ملك إشبيلية و بايع للأمير أبي زكريا بن حفص صاحب أفريقية سنة ثلاث و أربعين و ولي عليهم أبو زكريا أميرا و قام بأمرهم القائد شغاف و العدو أثناء ذلك يلتقم بلاد المسلمين و حصونهم من لدن عام عشرين أو قبله و صاحب برشلونة من ولد البطريق الذي استعمله الإفرنجة عليها الأول استرجاعهم لها من أيدي العرب فتغلب عليها و بعد عن الفرنجة و ضعف لعهده سلطانهم و وصلوا وراء الدروب و عجزوا فكانوا عن برشلونة و جماعتها أعجز فسما أهل طاغيتها منهم لذلك العهد و اسمه حاقمة إلى التغلب على ثغور المسلمين و استولى على ماردة سنة ست و عشرين و ستمائة ثم ميورقة سنة سبع و عشرين وستمائة ثم أجاز إلى سرقسطة و شاطبة كان تملكها منذ مائة و خمسين من السنين قبلها ثم بلنسية سنة ست و ثلاثين و ستمائة بعد حصار طويل و طوى ما بين ذلك من الحصون و القرى حتى انتهى إلى المرية و حصونها و ابن أدفونش أيضا ملك الجلالقة هو ابن الادفونش الملقب بالحكيم و آباؤه من قبله يتقرى الفرستيرة حصنا حصنا و مدينة مدينة إلى أن طواها و استعبد ابن الأحمر هذا لأول أمره بما كان بينه و بين الثوار بالأندلس من المنازعة فوصل يده بالطاغية في سبيل الاستظهار على أمره فوصله و شد عضده و صار ابن الأحمر في جملته و أعطاه ابن هود ثلاثين من الحصون أو نحوها في كف غربه عن ابن الأحمر و أن يعينه على ملك قرطبة فتسلمها ثم تغلب على قرطبة سنة ثلاث و ثلاثين و أعاد إليها خيرة الله كلمة الكفر ثم نازل إشبيلية سنة ست و أربعين و ابن الأحمر معه مظهر الامتعاض لابن الجد وحاصرها سنتين ثم دخلها صلحا و انتظم معها حصونها و ثغورها و أخذ طليطلة من يد ابن كماشة و غلب بعد ذلك ابن محفوظ على شلب و طليبرة سنة تسع و خمسين ثم ملك مرسية سنة خمس و ستين و لم يزل الطاغية يقتطع ممالك الأندلس كورة كورة و ثغرا ثغرا إلى أن ألجأ المسلمين إلى سيف البحر ما بين رندة من الغرب و البيرة من شرق الأندلس نحو عشر مراحل من الغرب إلى الشرق و في مقدار مرحلة أو ما دونها في العرض ما بين البحر و الجوف ثم سخط بعد ذلك الشيخ ابن الأحمر و طمع في الاستيلاء على كافة الجزيرة فامتنعت عليه و تلاحق بالأندلس غزاة من زناتة الثائرين يومئذ من بني عبد الواد و توجين و مغراوة و بني مرين و كان أعلاهم كعبا في ذلك و أكثرهم غزي بنو مرين فأجاز أولا أولاد إدريس بن عبد الحق و أولاد رحو بن عبد الله بن عبد الحق أعياص الملك منهم سنة ستين أو نحوها فتقبل ابن الأحمر إجازتهم و دفع بهم في نحر عدوه و رجعوا ثم تهايلوا إليه من بعد ذلك من كل بيت من بيوت بني مرين و معظمهم الأعياص من بني عبد الحق لما تزاحمهم مناكب السلطان في قومهم و تغص بهم الدولة فينزعون إلى الأندلس مغنين بها من بأسهم و شوكتهم في المدافعة عن المسلمين و يخلصون من ذلك على حظ من الدولة بمكان و لم يزل الشأن هذا إلى أن هلك محمد بن يوسف بن الأحمر سنة إحدى وسبعين و ستمائة و قام بأمره من بعده ابنه محمد و كان يعرف بالفقيه لما كان يقرأ الكتاب من بين أهل بيته و يطالع كتب العلم و كان أبوه الشيخ أوصاه باستصراخ ملوك زناتة من بني مرين الدائلين بالمغرب من الموحدين و أن يوثق عهده بهم و يحكم أراضي سلطانه بمداخلتهم فأجاز محمد الفقيه ابن الأحمر إلى يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين سنة اثنتين و سبعين و ستمائة عندما تم استيلاؤه على بلاد المغرب و تغلبه على مراكش و افتقاده سرير ملك الموحدين بها فأجاب صريخه و أجاز عساكر المسلمين من بني مرين و غيرهم إلى الجهاد مع ابنه منديل ثم جاء على أثرهم و أمكنه ابن هشام من الجزيرة الخضراء كان ثائرا بها فتسلمها منه و نزل بها و جعلها ركابا لجهاده و ينزل بها جيش الغزو و لما أجاز سنة اثنتين و سبعين كما قلناه هزم زعيم النصرانية ثم حذره ابن الأحمر على ملكه فداخل الطاغية ثم حذر الطاغية فراجعه و هو مع ذلك يده في نحره بشوكة الأعياص الذين نزعوا إليه من بني مرين بما شاركوا صاحب المغرب من نسب ملكه و قاسموه في يعسوبية قبيلته فكان له بذلك مدفع عن نفسه و مرض في طاعة قرابته من بني أشقيلولة كان عبد الله منهم بمالقة و على بوادي آش و إبراهيم بحصن قمارش فالتاثوا عليه و داخلوا يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين في المظاهرة عليه فكان له معهم فتنة و أمكنوا يعقوب من الثغور التي بأيديهم مالقة و وادي آش حتى استخلصها هذا السلطان الفقيه من بعد ذلك كما نذكره في أخبار بني مري مع بني الأحمر و صار بنو أشقيلولة آخرا و قرابتهم بني الزرقاء إلى المغرب و نزلوا على يعقوب بن عبد الحق و أكرم مثواهم و أقطعهم و استعملهم في كبير الخطط للدولة حسبما يذكر و استبد السلطان الفقيه ابن الأحمر بملك ما بقي من الأندلس و أورثه عقبه من غير قبيل و لا كثير عصبة و لا استكثار من الحامية إلا من يأخذه الجلاء من فحول زناتة و أعياص الملك فينزلون بهم غزى و لهم عليهم عزة و تغلب و سبب ذلك ما قدمناه في الكتاب الأول من إفقاد القبائل و العصائب بأرض الأندلس جملة فلا تحتاج الدولة هنالك إلى كبير عصبية و كان للسلطان ابن الأحمر في أول أمره عصبية من قرابته بني نصر و أصهارهم بني أشقيلولة و بني المولى و من تبعهم من الموالى و المصطنعين كانت كافية في الأمر من أوله مع معاضدة الطاغية على ابن هود و ثوار الأندلس و معاضدة ملك المغرب على الطاغية و الاستظهار بالأعياص على ملك المغرب فكان لهم بذلك كله اقتدار على بلوغ أمرهم و تمهيده و ربما يفهم في مدافعة الطاغية اجتماع الخاصة و العامة في عداوته و الرهب منه بما هو عدو للدين فتستوي القلوب في مدافعته و مخافته فينزل ذلك بعض الشيء منزلة العصبية و كانت إجازة السلطان يعقوب بن عبد الحق إليه أربع مرات و أجاز ابنه يوسف إليهم بعد أبيه ثم شغلته الفتنة مع بني يغمراسن إلى أن هلك السلطان الفقيه سنة إحدى و سبعمائة و هو الذي أعان الطاغية على منازلة طريف و أخذها و كان يمير عسكره مدة حصاره إياها إلى أن فتحها سنة لما كانت ركابا لصاحب المغرب متى هم بالجواز لقرب مسافة الزقاق فلما ملكها الطاغية صارت عينا على من يروم الجواز من الغزاة فغضب أمره عليهم و ولي من بعده ابنه محمد المخلوع و استبد عليه وزيره محمد بن محمد بن الحكم اللخمي من مشيخة رندة و وزرائها فحجره و استولى على أمره إلى أن ثار به أخوه أبو الجيوش نصر بن محمد فقتل الوزير و اعتقل أخاه سنة ثمان و سبعمائة و كان أبوهما السلطان الفقيه استعمل على مالقة الرئيس أبا سعيد ابن عمه إسماعيل بن نصر و طالت فيها إمارته و هو الذي تملك سبتة و غدر بني الغرفي بها على عهد المخلوع و بدعوته كما يذكر في أخبار سبتة و دولة بني مرين و كان أصهر إليه في ابنته و كان له منها ابنه أبو الوليد إسماعيل فلما تملك الجيوش نصر غرناطة و استولى على سلطانهم بها ساءت سيرته و سيرة وزيره ابن الحاج و أحقد الأعياص من بني مرين و استظهر الرعية بالقهر و العسف و كان بنو إدريس بن عبد الله بن عبد الحق أمراء على الغزاة بمالقة و كان كبيرهم عثمان بن أبي المعلى فداخل أبا الوليد في الخروج على السلطان نصر و تناول الأمر من يده لضعفه و سعفه بطانته و أقربائه فاعتزموا على ذلك و لم يتم لهم إلا باعتقال أبيه أبي الجيوش فاعتقلوه و بايعوا أبا الوليد و ثار بمالقة سنة سبع عشرة الرئيس أبو سعيد و زحفوا إلى غرناطة فهزموا عساكر أبي الجيوش و ثارت به الدهماء من أهل المدينة و أحيط به و صالحهم على الخروج إلى وادي آش فلحق بها و جدد بها ملكا إلى أن مات سنة اثنتين و عشرين و دخل أبو الوليد إلى غرناطة فاضل بها لنفسه و بنيه ملكا جديدا و سلطانا فسيحا و نازله ملك النصارى ألفنش بغرناطة سنة ثمان عشرة و أبلى فيها بني أبي العلا ثم كان من تكييف الله تعالى في قتله و قتل رديفه و استلحام جيوش النصرانية بظاهر غرناطة ما ظهرت فيه معجزة من معجزات الله و تردد إلى أرض النصرانية بنفسه غازيا مرات مع عساكر المسلمين من زناتة و الأندلس و كانت زناتة أعظم غناء في ذلك لقرب عهدهم بالتقشف و البداوة التي ليست للناس و بلغ أبو الوليد من العز و الشوكة إلى أن غدر به بعض قرابته من بني نصر سنة سبع و عشرين و سبعمائة طعنه غدرا عندما انفض مجلسه بباب داره فأنفذه و حمل إلى فراشه و لحق القادر بدار عثمان بن أبي العلى فقتله لحينه و قتل الموالي المجاهدين فخرج عليهم و لحق بانديس فتملكها و استدعى محمد ابن الرئيس أبي سعيد في معتقله بسلوباشة و نصبه للملك فلم يتم له مراده من ذلك و رجعوا آخرا للمهادنة و قتل السلطان محمد وزيره ابن المحروق بداره غدرا سنة تسع و عشرين و استدعاه للحديث على لسان عمته المتغلبة عليه مع ابن المحروق و تناوله مع علوجه طعنا بالخناجر إلى أن مات و قام السلطان بأعباء ملكه و رجع عثمان ابن أبي العلى إلى مكانه من يعسوبية الغزاة و زناتة حتى إذا هلك قدم عليهم مكانه ابنه أبا ثابت و أجاز السلطان محمد إلى المغرب صريخا للسلطان أبي الحسن على الطاغية فوجده مشغولا بفتنة أخيه محمد و مع ذلك جهز له العساكر و عقد عليها سنة ثلاث و ثلاثين و استراب بنو أبي العلى بمداخلة السلطان أبي الحسن فتشاوروا في أمره و غدروا به يوم رحيله عن الجبل إلى غرناطة فتقاصفوه بالرماح و قدموا أخاه أبا الحجاج يوسف فقام بالأمر و شمر عن ساعده في الأخذ بثأر أخيه فنكب بني العلى و غربهم إلى تونس و قدم على الغزاة مكان أبي ثابت بن عثمان قرثية من بني رحو بن عبد الله بن عبد الحق و هو يحيى بن عمر بن رحو فقام بأمرهم و طال أمر رياسته و استدعى السلطان أبو الحجاج السلطان أبا الحسن صاحب المغرب فأجاز ابنه عندما تم له الفتح بتلمسان و عقد له على عساكر جمة من زناتة و المطوعة فغزاهم و غنم و قفل راجعا و تلاحقت به جموع النصارى و بيتوه على حدود أرضهم فاستشهد كثير من الغزاة و أجاز السلطان أبو الحسن سنة إحدى و أربعين بكافة أهل المغرب من زناتة و مغراوة و المرتزقة و المتطوعة فنازل طريف و زحف إليه الطاغية فلقيه بظاهرها فانكشف المسلمون و استشهد الكثير منهم و هلك فيها نساء السلطان و حريمه و فسطاطه من معسكره و كان يوم ابتلاء و تمحيص و تغلب الطاغية أثرها على القلعة ثغر غرناطة و نازل الجزيرة الخضراء و أخذها صلحا سنة ثلاث و أربعين و لم يزل أبو الحجاج في سلطانه إلى أن هلك يوم الفطر سنة خمس و خمسين طعنه في سجوده من صلاة العيد وغد من صفاعفة البلد كان مجتمعا و تولى ابنه و استبد عليه مولاهم رضوان حاجب أبيه و عمه فقام بأمره و غلبه عليه و حجبه و كان إسماعيل أخوه ببعض قصور الحمراء قلعة الملك و كانت له ذمة و صهر من محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن محمد ابن الرئيس أبي سعيد بما كان أبوه أنكحه شقيقة إسماعيل هذا و كان أبو يحيى هذا يدعى بالرئيس و جده محمد هذا هو الذي قدمنا أن عثمان بن أبي العلى دعاه من مكان اعتقاله للملك فداخل محمد هذا الرئيس بعض الزعالقة من الغوغاء و بيت حصن الحمراء و تسوره و ولج على الحاجب رضوان في داره فقتله و أخرج صهره إسماعيل ونصبه للملك ليلة سبع و عشرين من رمضان سنة ستين و سبعمائة
و كان السلطان محمد هذا المخلوع بروضة خارج الحمراء فلحق بوادي آش و أجاز منها إلى العدوة و نزل على ملك المغرب السلطان أبي سالم ابن السلطان أبي الحسن فرعى له ذمته و أحمد نزوله و ارتاب شيخ الغزاة يحيى بن عمرو بالدولة ففر إلى دار الحرب و لحق منها بالمغرب و نزل على السلطان أبي سالم فأحمد نزوله و ولي مكانه على الغزاة بغرناطة من جهة إدريس بن عثمان بن أبي العلى و قام الرئيس بأمر إسماعيل أخيه و دبر ملكه ثم ترددت السعايات و نذر الرئيس بالنكبة فغدر بإسماعيل و قتله و إخوته جميعا سنة إحدى و ستين و قام بملك الأندلس و نبذ إلى الطاغية عهده و منعه ما كان سلفه يعطونه من الجزية على بلاد المسلمين فشمر الطاغية لحربه و جهز العساكر إليه فأوقع المسلمون بهم بوادي آش و عليهم بعض الرؤساء من قرابة السلطان فعظمت النكاية و أرسل ملك المغرب إلى الطاغية في شأن محمد المخلوع و رده إلى ملكه فأركب الأساطيل و أجازه إلى الطاغية فلقيه و وعده المظاهرة على أمره وشرط له الاستئثار بما يفتح من حصون المسلمين ثم نقض فيما افتتح منها ففارقه السلطان و أوى إلى الثغر المغربي في ملكة بني مرين و أمكن من ثغور رندة فزحف منها إلى مالقة سنة خمس و ستين فافتتحها و فر الرئيس محمد بن إسماعيل من غرناطة و لحق بالطاغية و كان معه إدريس بن عثمان شيخ الغزاة بحبسه إلى أن فر من محبسه بعد حين كما يذكر في أخبارهم و زحف السلطان محمد فيمن معه و أتوه بحاجب الرئيس و قتله و استلحم معه الرجال من الزعالقة الذين قتلوا الحاجب و تسوروا قصور الملك و دخل السلطان محمد غرناطة و استولى على ملكه و قدم على الغزاة شيخهم يحيى بن عمر و اختص ابنه عثمان ثم نكبهما لسنة و حبسهما بالمطبق بالمرية ثم غربهما بعد أعوام و قدم على الغزاة قريبهما علي بن بدر الدين بن محمد بن رحو ثم مات فقدم مكانه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن و ترفع على السلطان أبي علي بن محمد ملك المغرب و تملأ هذا السلطان محمد المخلوع أريكة ملكه بالحمراء ممتنعا بالظهور و الترف و العزة على الطاغية و الجلالقة و على ملوك المغرب بالعدوة بما نال دولتهم جميعا من الهرم الذي يلحق الدول و أما الجلالقة فانتقضوا على ملكهم بطرة بن أدفونش سنة ثمان و ستين من لدن مهلك أبيهما و وقعت بين بطرة و بين ملك برشلونة بسبب إجارته عليه فتن و حروب حجر منها الجلالقة و كانت سببا لانتقاضهم على بطرة و استدعائهم لأخيه ألفنش فجاء و بايعوه و انحرفوا إليه جميعا عن بطرة فتحيز إلى ناحية بلاد المسلمين و استدعى هذا السلطان محمدا صاحب غرناطة لنصره من عدوه و أغزاه ببلاد ألفتش ففتح كثيرا من معاقلها و خربها مثل حيان و أبدة و أثر وغيرها و عاث في بسائطها و نزل قرطبة و خرب نواحيها و رجع ظافرا غانما و لحق ببطرة سلطان الإفرنجة الأعظم في ناحية الشمال من وراء جزيرة الأندلس و هو صاحب جزيرة أركبلطرة تسمى بنسرغالس وفد عليه صريخا و زوجه بنته فبعث ابنه لنصره في أمم الإفرنج و انهزم ألفنش أمامهم و ارتجع بطرة البلاد حتى إذا رجعت عساكر الإفرنجة رجع ألفنش فارتجع البلاد ثانيا و حاصر أخاه بطرة في بعض حصون جليقة حتى أخذه و قتله و استولى على ملكهم و اغتنم السلطان صاحب غرناطة شغلهم بهذه الفتنة فاعتز عليهم و منع الجزية التي كانوا يأخذونها من المسلمين منذ عهد سلفه فأقاموا من لدن سنة اثنين و سبعين لا يعطونهم شيئا و استمر على ذلك و سما إلى مطالبتهم بنسرغالس ملك الفرنجة من ورائهم الذي جاء لنصر بطرة و أنكحه بطرة إبنته و ولدت له ولدا فزعم أبوه هذا الملك أنه أحق بالملك من ألفنش و غيره على عادة العجم في تمليك الأسباط من ولد البطن و طالت الحرب بينهما و نزل بالجلالقة من ذلك شغل شاغل و اقتطع الكثير من ثغورهم و بلادهم فمنعهم ابن الأحمر الجزية و اعتز عليهم كما ذكرناه و الحال على ذلك لهذا العهد و أما ملوك المغرب فإن السلطان عبد العزيز بن السلطان أبي الحسن لما استبد بملكه و استفحل أمره و كان عبد الرحمن بن أبي يغلوسن مقدما على الغزاة بالأندلس كما قلناه و هو قسيمه في النسب و مرادفه في الترشيح للملك فعثر السلطان عبد العزيز على مكاتبة بينه و بين أهل دولته فارتاب و بعث إلى ابن الأحمر في حبسه فحبسه و حبس معه الأمير مسعود بن ماسي لكثرة خوضه في الفتنة و مكاتبته لأهل الدولة فلما توفي السلطان عبد العزيز سنة أربع و سبعين و بويع ابنه محمد السعيد يافعا و كفله وزير أبيه أبو بكر بن غازي الثائر أطلق ابن الأحمر عبد الرحمن بن أبي يغلوسن من محبسه فنقم ذلك عليه الوزير أبو بكر كافل الدولة بالمغرب و اعتزم على بعث الرؤساء من قرابة ابن الأحمر إلى الاندلس لمنازعته و مده بالمال و الجيش و بلغ ذلك ابن الأحمر فعاجله عنه و سار في العساكر إلى فرضة المجاز و نازل جبل الفتح و معه ابن يغلوسن و ابن ماسي و أركبهما السفن فنزلوا ببلاد بطرة فاضطرب المغرب و اشتد الحصار على أهل جبل الفتح و استأمنوا لابن الأحمر و أطاعوه و كان بسبتة محمد بن عثمان بن الكاس صهر أبي بكر بن غازي و قريبه بعثه لضبط المراسي عندما نزل ابن الأحمر على الجبل و بطنجة يومئذ جماعة من ولد السلطان أبي الحسن المرشحين محبوسون منذ عهد عبد العزيز فوقعت المراسلة من السلطان ابن الأحمر و محمد بن عثمان و نكر عليه مبايعتهم لولد صغير لم يراهق و أشار ببيعة واحد من أولئك المرشحين المحبوسين بطنجة و وعده بالمظاهرة و المدد بالمال و الجيش و وقع اختيار محمد بن عثمان على السلطان أبي العباس أحمد فأخرجه و بايع له و قد كان أولئك الفتية تعاهدوا في محبسهم أن من استولى منهم على الملك أطلق الباقين منهم فوفى لهم السلطان أبو العباس لأول بيعته و أطلقهم من المحبس و بعثهم إلى الأندلس و نزلوا على السلطان ابن الأحمر فأكرمهم و جعلهم لنظره و بعث بالأموال و العساكر للسلطان أبي العباس و لوزيره محمد بن عثمان و كتب إلى عبد الرحمن بن أبي يغلوسن بموافقتهما و اجتماعهما على الأمر فساروا جميعا و نازلوا دار الملك بفاس حتى استأمن أبو بكر بن غازي للسلطان أبي العباس و أمكنه من البلد الجديد دار الملك فدخلها في محرم سنة ست و سبعين و شيع عبد الرحمن بن أبي يغلوسن إلى مراكش و أعمالها و سوغ له ملكها كما كان الوفاق بينهما من قبل و بعث بالسعيد بن عبد العزيز المنصوب و اتصلت الموالاة و المهاداة بينه و بين ابن الأحمر و انتقض ما بينه و بين عبد الرحمن صاحب مراكش و نهض مرارا و حاصره و ابن الأحمر يمده تارة و يسعى بينهما في الصلح أخرى إلى أن نهض إليه سنة أربع و ثمانين و حاصره شهرا و اقتحم عليه حصنه عنوة و قتله و رجع إلى فاس ثم نهض إلى تلمسان و هرب صاحبها أبو أحمد سلطان بني عبد الواد و دخل السلطان أبو العباس تلمسان و كان جماعة من سماسرة الفتن قد سعوا ما بينه و بين السلطان ابن الأحمر بالفساد حتى أوغروا صدره و حملوه على نقض دولة السلطان أبي العباس ببعض الأعياص الذين عنده فاختار من أولئك الفتية الذين نزلوا عليه من طنجة موسى ابن السلطان أبي عنان و استوزر له مسعود بن ماسي و ركب السفن معه إلى سبتة فبادر أهلها بطاعة موسى و أتوه ببيعتهم و ارتحل عنهم إلى فاس و ملك السلطان ابن الأحمر سبتة و صارت في دعوته و عمد السلطان موسى إلى دار الملك بفاس فوقف عليها يوما و استأمنوا له آخر النهار فدخلها سنة ست و ثمانين و أصبح جالسا سرير ملكه و طار الخبر إلى السلطان أبي العباس و قد ارتحل من تلمسان لقصد أبي حبو و بني عبد الواد بمكانهم من دار الملك فكر راجعا و أغذ السير إلى فاس فلما تجاوز تازي و توسط ما بينهما و بين فاس افترق عنه بنو مرين و سائر عساكره و ساروا على راياتهم إلى السلطان موسى و نهب معسكره و رجع هو إلى تازي فتوثق منه عاملها حتى جاء يريد السلطان من فاس فتقبض عليه و حمله إلى فاس و أزعجه السلطان موسى إلى الأندلس و نزل على ابن الأحمر كما كان هو و استولى السلطان موسى على المغرب و استبد عليه وزيره مسعود و طالب ابن الأحمر بالنزول على سبتة فامتنع و نشأت بينهما الفتنة و دس ابن ماسي لأهل بيته بالثورة على حامية السلطان ابن الأحمر عندهم فثاروا عليهم و امتنعوا بالفصبة حتى جاءهم المدد في أساطيل ابن الأحمر فسكن أهل بيتة و اطمأنت الحال و نزع إلى السلطان ابن الأحمر جماعة من أهل الدولة و سألوه أن يبعث لهم ملكا من الأعياص الذين عنده فبعث إليهم الواثق محمد بن الأمير أبي الفضل ابن السلطان أبي الحسن و شيعه في الإسطول إلى سبتة و خرج إلى غمارة و بلغ الخبر إلى مسعود بن ماسي فخرج إليه في العسكر وحاصره بتلك الجبال ثم جاءه الخبر بموت سلطانه موسى ابن السلطان أبي عنان بفاس فارتحل راجعا و لما و صل إلى دار الملك نصب على الكرسي صبيا من ولد السلطان أبي العباس كان تركه بفاس و جاء السلطان أبو عنان ابن الأمير أبي الفضل و نزل بجبل زرهون قبالة فاس و خرج ابن ماسي في العساكر فنزل قبالته و كان متولي أمره أحمد بن يعقوب الصبيحي و قد غص به أصحابه فذبوا عليه و قتلوه أمام خيمة السلطان و امتعض السلطان لذلك و وقعت المراسلة بينه و بين ابن ماسي على أن يبايع بشرط الاستبداد عليه و اتفقا على ذلك و لحق السلطان بابن ماسي و رجع به إلى دار الملك فبايع له و أخذ له البيعة من الناس و كانت معه حصة من جند السلطان ابن الأحمر مع مولى من مواليه فحبسهم جميعا و امتعض لذلك السلطان فأركب أبا العباس البحر و جاء معه بنفسه إلى سبتة فدخلها و عساكر ابن ماسي عليها يحاصرونها فبايعوا جميعا للسلطان أبي العباس و رجع ابن الأحمر إلى غرناطة و سار السلطان أبو العباس إلى فاس و اعترضه ابن ماسي في العساكر فحاصره بالصفيحة من جبل غمارة و تحدث أهل عسكره في اللحاق بالسلطان أبي العباس ففزعوا إليه و هرب ابن ماسي و حاصره السلطان شهرا حتى نزلوا على حكمه فقطع ابن ماسي بعد أن قتله و مثل به و قتل سلطانه و استلحم سائر بني ماسي بالنكيل و القتل و العذاب و استولى على المغرب و استبد بملكه و أفرج السلطان ابن الأحمر على سبتة و أعادها إليه و اتصلت الموالاة بينهما و أقام ابن الأحمر في اعتزازه و لم تطرقه نكبة و لا حادثة سائر أيامه إلا ما بلغنا أنه نمي له عن ابنه ولي عهده أبي الحجاج يوسف أنه يروم التوثب به و كان على سفر في بعض نواحي الأندلس فقبض على ولده لحينه و رجع إلى غرناطة ثم استكشف حاله فظهرت براءته فأطلقه و أعاده إلى أحسن أحواله و إلا ما بلغنا أيضا أنه لما سار من غرناطة إلى جبل الفتح شاريا لأحوال السلطان أبي العباس و هو بالصفيحة من جبال غمارة و ابن ماسي يحاصره فنمي إليه أن بعض حاشيته من أولاد الوزراء و هو ابن مسعود البلنسي ابن الوزير أبي القاسم بن حكيم قد اتفقوا على اغتياله و أن ابن ماسي دس إليهم بذلك و نصبت له على ذلك العلامات التي عرفها فقبض عليهم لحينه و لم يمهلهم و قتلهم و جميع من داخلهم في ذلك و رجع إلى غرناطة و أقام ممتنعا بملكه إلى أن هلك سنة ثلاث و تسعين فولي مكانه ابنه أبو الحجاج و بايعه الناس و قام بأمره خالد مولى أبيه و تقبض على إخوته سعد و محمد و نصر فهلكوا في محبسهم و لم يوقف لهم على خبر ثم سعى عنده في خالد القائم بدولته أنه أعد السم لقتله و أن يحيى بن الصائغ اليهودي طبيب دارهم داخله في ذلك ففتك بخالد و قتل بين يديه صبرا بالسيوف لسنة أو نحوها من ملكه و حبس الطبيب فذبح في محبسه ثم هلك سنة أربع و تسعين لسنتين أو نحوها من ملكه و بويع ابنه محمد و قام بأمره محمد الخصاصي القائد من صنائع أبيه و الحال على ذلك لهذا العهد و الله غالب على أمره و قد انقضى ذكر الدولة الأموية المنازعين لبني العباس و من تبعهم من الملوك بالأندلس فلنذكر الآن شيئا من أخبار ملوك النصرانية الذين يجاورون المسلمين بجزيرة الأندلس من سائر نواحيهم و نلم بطرف من أنسابهم و دولهم (4/218)
الخبر عن ملوك بني أدفونش من الجلالقة ملوك الاندلس بعد الغوط و لعهد المسلمين و أخبار من جاورهم من الفرنجة و البشكنس و البرتغال و الالمام ببعض أخبارهم
و الملوك لهذا العهد من النصرانية أربعة في أربعة من العمالات محيطة بعمالة المسلمين قد ظهر إعجاز الملة في مقامهم معهم و راء البحر بعدما استرجعوا من أيديهم ما نظمه الفتح الإسلامي أول الأمر و أعظم هؤلاء الملوك الأربعة : قشتالة و عمالاته عظيمة متسعة مشتملة على أعمال جليقية كلها مثل قشتالة و غليسية و القرنتيرة و هي بسيط قرطبة و إشبيلية و طليطلة و جيان آخذة في جوف الجزيرة من المغرب إلى المشرق و يليه من جانب الغرب ملك البرتغال و عمالته صغيرة و هي أشبونة و لا أدري نسبه فيمن هو من الأمم و يغلب على الظن أنه من أعقاب القواميس الذين تغلبوا على عمالات بني أدفونش في العصور الماضية كما نذكر بعد و لعله من أسباطهم و أولي نسبهم و الله أعلم و يلي ملك قشتالة هذا من جهة الشرق ملك نبرة و هو ملك البشكنس وعمالته صغيرة فاصلة بين عمالات قشتالة و عمالة ملك برشلونة و قاعدة ملك نبرة و هي مدينة ينبلونة و ملك برشلونة و ما وراءها و نحن الان نذكر أخبار هذه الأمم من عهد الفتح بما يظهر لك منه تفصيل أخبارهم و ذلك أن النصرانية لما تغلب عليهم المسلمون عند الفتح سنة تسعين من الهجرة و قتلوا لزريق ملك الغوط و انساحوا في نواحي جزيرة الأندلس و أجفلت أم النصرانية كلها أمامهم إلى سيف البحر من الجوف وتجاوزوا الدروب وراء قشتالة و اجتمعوا بجليقية و ملكوا عليهم ثلاثة : ابن ناقله فأقام ملكا تسع عشرة سنة و هلك سنة ثلاث و ثلاثين و مائة و ولي ابنه قافلة سنتين ثم هلك فولوا عليهم بعدهما أدفونش بن بطرة و هو الذي اتصل ملكه في عقبه لهذا العهد و نسبهم في الجلالقة من العجم كما تقدم و يزعم ابن حيان أنهم من أعقاب الغوط و عندي أن ذلك ليس بصحيح فإن أمة الغوط قد دثرت و غبرت و هلكت و قل أن يرجع أمر بعد إدباره و إنما هو ملك مستجد في أمة أخرى و الله أعلم فجمعهم أدفونش بن بطرة على حماية ما بقي من أرضهم بعد أن ملك المسلمون عامتها و انتهوا إلى جليقية و أقصروا عن الفتح بعدها حتى فشلت الدولة الإسلامية بالأندلس و ارتجع النصارى الكثير مما غلبوا عليه و كان مهلك أدفونش بن بطرة سنة اثنتين و أربعين و مائة لثمان عشرة سنة من ملكه و ولي بعده ابنه فرويلة إحدى عشرة سنة قوى فيها سلطانه و قارنه فيها شغل عبد الرحمن الداخل بتمهيد أمره فاسترجع مدينة بك و برتغال و سمورة و سلمنقة و شقرنية و قشتالة بعد أن كانت انتظمت للمسلمين في الفتح و هلك سنة ثمان و خمسين و ولي ابنه شيلون عشر سنين و هلك سنة ثمان و ستين فولوا مكانه أدفونش منهم و وثب عليه سمول ماط فقتله و ملك مكانه سبع سنين و على عقب ذلك استفحل ملك عبد الرحمن بالأندلس و أغزى جيوشه أرض جليقية ففتح و غنم و أسر ثم ولي منهم أدفونش آخر سنة اثنتين و خمسين و هلك سنة ثمان و ستين فولوا مكانه أدفونش منهم و وثب أحد ملوكهم المستبدين بأمرهم قال ابن حيان كانت ولاية رذمير هذا عند ترهب أخيه أدفونش الملك قبله و ذلك سنة تسع عشرة و ثلاثمائة على عهد الناصر و تهيأ للناصر الظهور عليه إلى أن كان التمحيص على المسلمين في غزوة الخندق و ذلك سنة سبع و عشرين و ثلاثمائة و كانت الواقعة بالخندق و قريبا من مدينة شنت ماكس كما ذكر في أخباره ثم هلك رذمير سنة تسع و ثلاثين و ولي أخوه شانجة و كان تياها معجبا بطالا فانتقض سلطانه و وهن ملك قومه و انتزى عليه قوامس دولته فلم يتم لبني أدفونش بعدها ملك مستبد في الجلالقة إلا من بعد أزمان الطوائف و ملوكهم كما ذكرناه و كان اضطراب ملكهم كما نقل ابن حيان على يد فردلند بن عبد شلب قومس ألبة و القلاع فكان أعظم القوامس و هم ولاة الأعمال من قبل الملك الأعظم فانتقض على شانجة ألبة و ظاهرهم ملك البشكنس على شانجة و ورد شانجة على الناصر بقرطبة صريخا فأمده و استولى بذلك الإمداد على كورة فملكها و أنزل المسلمين بها و اتصلت الحرب بين شانجة و بين فردلند إلى أن أسر فردلند في بعض أيام حروبهم و حصل في أسر ملك البشكنس على أن ينفذ إليه أسيره فردلند بن عبد شلب قومس ألبة و القلاع فأبى من ذلك و أطلقه و وفد على المستنصر أرذون بن أدفونش المقارع لشانجة صريخا إحدى و خمسين فأجابه و أنفذ غالبا مولاه في مدده ثم هلك شانجة ملك بني أدفونش ببطليوس و قام بأمرهم بعده ابنه رذمير و هلك أيضا فردلند بن عبد شلب قومس ألبة و ولي بعده ابنه غرسية و لقي رذمير المسلمين بالثغر في بعض صوائفهم و عظمت نكايته بعد مهلك الحكم المستنصر إلى أن قيض الله لهم المنصور بن أبي عامر حاجب ابنه هشام فأثخن في عمل رذمير و غزاه مرارا و حاصره في كورة ثم في ليون بعد أن زحف إلى غرسية بن فردلند صاحب ألبة و ظاهر معه ملك البشكنس فغلبهما ثم ظاهروا مع رذمير و زحفوا جميعا للقائه بشنت ماكس فهزمهم و اقتحمها عليهم و خربها و تشاءم الجلالقة برذمير و خرج عليهم عمه بزمند بن أرذون و افترق أمرهم ثم رجع رذمير إلى طاعة المنصور سنة أربع و سبعين و هلك على أثرها فأطاعت أمه و اتفقت الجلالقة على بزمند بن أرذون و عقد له المنصور على كورة و العيون و ما اتصل بهما من أعمال غليسية إلى البحر الأخضر و اشترط عليه فقبل ثم امتعض بزمند لما نزل بالجلالقة عيث المنصور سنة ثمان و سبعين فافتتح حيون و حاصره في كورة ففر عنها و أسلمها أهلها إلى المنصور فاستباحها و لم يبق لملك الجلالقة الإحصون يسيرة بالجبل الحاجز بين بلدهم و بين البحر الأخضر ثم اختلف حال بزمند في الطاعة و الانتقاض و المنصور يردد إليه الغزو حتى أذعن و أخفر ذمته الخارج على المنصور فأسلمه إليه سنة خمس و ثمانين و ضرب عليه الجزية و أوطن المسلمين مدينة سمورة سنة تسع و ثمانين و ولى عليها أبا الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي ثم سار إلى غرسية بن فردلند صاحب ألبة و كان أعان المخالفين على المنصور و كان فيمن أعان عليه حين خرج عليه فنازل المنصور مدينة أشبونة قاعدة غليسية فملكها و خربها و هلك غرسية هذا فولي ابنه شانجة و ضرب المنصور عليهم الجزية و صار أهل جليقية جميعا في طاعته و كانوا كالعمال له إلا بزمند بن أرذون و مسد بن عبد شلب قومس غليسية فإنهماكانا أملك لأمرهما على أن مسدا بعث بنته للمنصور سنة ثلاث و ثمانين و صيرها جارية له فأعتقها و تزوجها ثم انتقض بزمند و غزاه المنصور فبلغ شنت ياقب موضع حج النصرانية و مدفن يعقوب الحواري من أقصى غليسية و أصابها خالية فهدمها و نقل أبوابها إلى قرطبة فجعلها في سمت الزيادة التي أضافها إلى المسجد الأعظم ثم تطارح بزمند بن أرذون في السلم و أنفذ ابنه يلانة مع معن بن عبد العزيز صاحب جليقية فوصل به إلى قرطبة و عقد له السلم و انصرف إلى أبيه و ألح المنصور على أرغومس من القوامس و كانوا في طرف جليقية بين سمورة و قشتالة و قاعدتهم شنت برية فافتتحها سنة خمس و ثمانين ثم هلك بزمند بن أرذون ملك بني أدفونش و ولي ابنه أدفونش و هو صاحب بسيط غرسية و احتكما إلى عبد الملك بن المنصور فخرج أصبغ بن سلمة قاضي النصارى للفصل بينهما فقضى به لمسد بن عبد شلب فلم يزل أدفونش بزمند فى كفالته إلى أن قتل غيلة سنة ثمان فاستبد أدفونش بأمره و طلب القواميس المقتدرين على أبيه و على من سلف من قومه برسوم الملك فحاز ذلك منهم لنفسه و بعث على نواحيهم من عنده و أذعنوا له و سقط ذكرهم فى و قته مثل بني أرغومس و بني فردلند الذين قدمنا ذكرهم و قد كان قيامهم أيام شانجة بن رذمير من بني أدفونش كما قدمناه جمعهم أدفونش للقاء عبد الملك المظفر بن المنصور فظاهرهم ملك البشكنس و لقيهم بظاهر فلونية فهزمهم و افتتح الحصن صلحا ثم انقرض أمر المنصور و بنيه و جاءت الفتنة البربرية على رأس المائة الرابعة فانتهز الفرصة في المسلمين صاحب ألبة و هو شانجة بن غرسية و صار يظاهر الفرقة الخارجة على الأخرى إلى أن أدرك بعض الأمل و قتله ملك البشكنس سنة ست و أربعمائة و تغلب النصارى على ما كان غلب عليه بقشتالة و جليقية و لم يزل أدفونش ملكا على جليقية و أعمالها و اتصل الملك في عقبه إلى أن كان شأن الطوائف و تغلب المرابطون ملوك المغرب من لمتونة على ملوك الطوائف و استولوا على الأندلس و انقرض منها ملك العرب أجمع و في تواريخ لمتونة و أخبارهم أن ملك قشتالة الذي ضرب الجزية على ملوك الطوائف سنة خمسين و أربعمائة هو البيطبيين و يظهر أنه كان متغلبا على شانجة بن أبرك الملك يومئذ من بني أدفونش و هو مذكور في أخبارهم و أنه لما هلك قام بأمره بنوه فردلند و غرسية و رذمير و ولى أمرهم فردلند و احتوى على شنت برية و على كثير من عمل ابن الأفطس ثم هلك و خلف شانجة و غرسية و ألفنش فتنازعوا ثم خلص الملك لألفنش و على عهده مات الظاهر إسماعيل بن ذي النون سنة سبع و ستين و أربعمائة و هو المستولي على طليطلة سنة ثمان و سبعين و هو يومئذ اعتزاز النصرانية بجزيرة الأندلس و كان من بطارقته و قواميس دولته البرهانس فكان يلقب الأنبنذور و معناه ملك الملوك و هو الذي لقي يوسف بن تاشفين بالزلاقة و كانت الدائرة عليه و ذلك سنة إحدى و ثمانين و حاصر ابن هود في سرقسطة و كان ابن عمه رذمير منازعا له فزحف إلى طليطلة و حاصرها فامتنعت عليه و حاصر القسريلية و غرسية و المرية و البرهانس مرسية و قسطون شاطبة و سرقسطة ثم استولى على بلنسية سنة تسع و ثمانين وارتجعها المرابطون من يده بعد أن غلبوا ملوك الطوائف على أمرهم ثم مات ألفنش سنة إحدى و خمسمائة و قام بأمر الجلالقة زوجته و تزوجت رذمير ثم فارقته و تزوجت بعده قمطا من أقماطها و جاءت منه بولد كانوا يسمونه السليطين و أوقع ابن رذمير بابن هود سنة ثلاث و خمسمائة الواقعة المشهورة التي استشهد فيها و ملك ابن رذمير سرقسطة و فر عماد الدولة و ابنه إلى روطة فأقام إلى أن استنزله السليطين و نقله إلى قشتالة ثم كانت بين رذمير و أهل قشتالة حرب هلك فيها البرهانس سنة سبع و خمسمائة و ذلك لآخر أيام المرابطين بلمتونة ثم انقرض أمرهم على يد الموحدين و كان أمر النصارى لعهد المنصور يعقوب ابن أمير المؤمنين يوسف بن عبد المؤمن كان دائرا بين ثلاثة من ملوكهم ألفنش و البيبوح و ابن الرند و كبيرهم ألفنش و هو أميرهم يوم الأرك الذي كان للمنصور عليهم سنة إحدى و تسعين و خمسمائة و البيبوح صاحب ليون هو الذي مكر بالناصر عام العقاب فداخله و قدم عليه و أظهر له التنصيح فبذل له أموالا ثم غدر به و كر عليه الهزيمة يوم العقاب ثم هلك الناصر و ولي ابنه المستنصر و فشل ريح بني عبد المؤمن و استولى ألفنش على جميع ما افتتحه المسلمون من معاقل الأندلس و ارتجعها ثم هلك ألفنش و ولي ابنه هراندة و كان أحول و كان يلقب بذلك و هو الذي ارتجع قرطبة و إشبيلية من أيدي بني هود و على عهده زحف ملك أرغون فارتجع شرق الأندلس كله شاطبة و دانية و بلنسية و سرقسطة و سائر الثغور و القواعد الشرقية و انحاز المسلمون إلى سيف البحر و ملكوا عليهم ابن الأحمر بعد ولاية ابن هود ثم هلك هراندة و ولي ابنه ثم هلك ابنه و ولي ابنه هراندة و أجاز بنو مرين إلى الأندلس صريخا لابن الأحمر و سلطانهم يومئذ يعقوب بن عبد الحق فلقيته جموع النصرانية بوادلك و علهم ذنبة من أقماط بني أدفونش و زعمائهم فهزمهم يعقوب بن عبد الحق و بقيت فتن متصلة و لم يلقه يعقوب و إنما كان يغزو بلادهم و يكثر فيها العبث إلى أن ألقوه بالسلم و خالف على هراندة ملك قشتالة هذا ابنه شانجة فوفد هراندة على يعقوب بن عبد الحق صريخا و قبل يده فقبل و فادته و أمده بالمال و الجيش و رهن في المال التاج المعروف من ذخائر سلفهم فلم يزل بدار بني عبد الحق من بني مرين لهذا العهد ثم هلك هراندة سنة ثلاث و ثمانين و استقل ابنه شانجة بالملك و وفد على يوسف بن يعقوب بالجزيرة الخضراء بعد مهلك أبيه يعقوب و عقد معه السلم ثم انتقض و حاصر طريف و ملكها و هلك سنة ثلاث و تسعين فولي ابنه هراندة ثم هلك سنة اثنتي عشرة و سبعمائة فولي ابنه بطرة صغيرا و كفله عمه جران و كان نزلهما جميعا على غرناطة عند زحفهما إليها سنة ثمان عشرة و سبعمائة فولي ابنه الهنشة بن بطرة صغيرا و كفله زعماء دولتهم ثم استبد بأمره و زحف إلى السلطان أبي الحسن و هو محاصر لطريف سنة إحدى و خمسين و سبعمائة فهلك في الطاعون الجارف و ملك ابنه بطرة و قرابته القمط برشلونة فأجاره ملكها و زحف إليه بطرة مرارا و تغلب على كثير من أعماله و حاصر بلنسية مرارا ثم اتيح الغلب للقمط سنة ثمان و سبعين و سبعمائة فاستولى على بلاد قشتالة و زحف إليه أم النصرانية لما كانوا سئموا من عنف بطرة و سوء ملكته و لحق بطرة بأمم الفرنجة الذين وراء قشتالة في الجوف بجهات الليمانية و فرطانية إلى سيف البحر الأخضر و جزيرة قدوج شنت مزين ملكهم الأعظم و هو البلنس غالس و جاء معه مددا بأمم لا تحصى حتى ملك قشتالة و القرنتيرة و رجعوا عنه إلى بلادهم بعد أن أصابهم و باء هلك الكثير منهم ثم اتصلت الحرب بين بطرة و أخيه القمط إلى أن غلبه القمط و اعتصم منه بطرة ببعض الحصون و نازله القمط حتى إذا أشرف على أخذه بعث بطرة إلى بعض الزعماء سرا لنيل النزول في جواره فأجابه و وشى به لأخيه القمط فكبسه في بيت ذلك الزعيم و قتله سنة اثنتين و سبعين و سبعمائة و استولى القمط على ملك بني أدفونش أجمع و استنزل ابن أخيه بطرة من قرمونة و قد كان اعتصم بها بعد مهلك أبيه مع وزيره مرتين لبس هو و استقام له ملك قشتالة و نازعه البلنس غالس ملك الإفرنجة بالابن الذي هو من بنت بطرة على عادة العجم في تمليك ابن البنت محتجا بأن القمط لم يكن لرشدة و اتصلت الحرب بينهما و شغله
ذلك عن المسلمين فامتنعوا من الجزية التي كانت عليهم لمن قبله و هلك هذا القمط سنة إحدى و ثمانين و سبعمائة فملك ابنه شانجة و فر ابنه الآخر غرمس إلى غرناطة ثم رجع إلى نواحي قشتالة و الأمر على ذلك لهذا العهد و فتنتهم مع ألفنش ملك الفرنج موصولة و عاديتهم لذلك عن المسلمين مرفوعة و الله من ورائهم محيط و أما ملك البرتغال بجهة أشبونة غرب الأندلس و مملكته صغيرة و هي من أعمال جليقية و صاحبها لهذا العهد متميز بسمته و ملكه مشارك لابن أدفونش في نسبه و لا أدري كيف يتصل نسبه معهم و أما ملك برشلونة بجهة شرق الأندلس فعمالتهم واسعة و مملكتهم كبيرة تشتمل على برشلونة بجهة و ارغون و شاطبة و سرقسطة و بلنسية و جزيرة دانية و ميورقة و بنورقة و نسبهم في الفرنج و سياق الخبر عن ملكهم ما نقل ابن حيان أن الغوط الذين كانوا بالأندلس كانوا قديما في ملك الفرنج ثم اعتزوا عليهم و امتنعوا و نبذوا إليهم عهدهم و كانت برشلونة من ممالك الفرنج و عمالاتهم فلما جاء الله بالإسلام و كان الفتح قعد الفرنج عن نصر الغوط لتلك العداوة فلما انقضى أمر الغوط زحف المسلمون إلى الفرنج فأزعجوهم عن برشلونة و ملكوها ثم تجاوزوا الدروب من ورائها إلى البسائط بالبر الكبير فملكوا من قواعدها جزيرة أربونة و ما إليها من تلك البسائط ثم كانت فترة عند انقراض الدولة الأموية بالمشرق و بداية الدولة العباسية افتتن فيها العرب بالأندلس و انتهز الفرنج فرصتهم فارتجعوا بلادهم إلى برشلونة فملكوها لهذا العهد مائتين من الهجرة و ولوا عليهم من قبلهم و صار أمرها راجعا إلى ملك رومة من الفرنجة و هو قارله الأكبر و كان من الجبابرة ثم ركبهم من الخلاف و المنافسة في أوقات ضعفهم و اختل إلى ملوكهم كالذي ركبه المسلمون من ضعفت يده من الملوك فاقتطع الأمراء نواحيهم بكل جهة فكان ملوك برشلونة هؤلاء ممن اقتطع عمله و كان ملوك بني أمية لأول دولتهم يتراضون بمهادنة هؤلاء الملوك أهل برشلونة حذرا من مدد صاحب رومة ثم صاحب القسطنطينية من ورائه فما كانت دولة المنصور بن أبي عامر بين اقطاع برشلونة عن ملك الفرنج شمر المنصور لغزوهم و استباح بلادهم و أثخن في أعمالهم و افتتح برشلونة و خربها و أنزل بهم النقمات و ملكهم لعهده بردويل بن سير و كانت حالة الظهور عليه كحاله مع سائر الملوك النصارى و لما هلك بردويل ترك من الولد فلبة و ريند و أومنقود ثم انتقض أومنقود على عبد الملك بن المنصور فغزاه و أخذه في بعض ثغوره صلحا ثم كانت الفتنة البربرية و حضرها أومنقود فهلك في الوقعة مع البربر سنة أربعمائة و انفرد بيمند بملك برشلونة إلى أن هلك بعد عشر و أربعمائة و ملك ابنه يلتنفير و كفلته أمه و حاربت يحيى بن منذر من ملوك الطوائف و هي التي تغلبت على ثغر طرشوشة و اتصل الملك في عقب بيمند و كان الملك منهم لآخر دولة الموحدين جامعة بن بطرة بن أدفونش بن ربند و هو الذي ارتجع بلنسية و ملكهم بهذا العهد اسمه بطرة و لم يبلغني كيف اتصال نسبه بقومه و ملك بعد العشرين من هذه المائة و هو حي لهذا العهد و ابنه غالب عليه لكبر سنه و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (4/229)
أخبار القائمين بالدولة العباسية من العرب المستبدين بالنواحي و نبدأ منهم ببني الأغلب ولاة أفريقية و أولية أمرهم و مصاير أحوالهم
قد ذكرنا في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه شأن فتح أفريقية على يد عبد الله ابن أبي سرح و كيف زحف إليها في عشرين ألفا من الصحابة و كبار العرب ففض جموع النصرانية الذين كانوا بها من الفرنجة و الروم و البربر و هدم سبيطلة قاعدة ملكهم و خربها و استبيحت أموالهم و سبيت نساؤهم و بناتهم و افترق أمرهم و ساخت خيول العرب في جهات أفريقية و أثخنوا بها في أهل الكفر قتلا و أسرا حتى لقد طلب أهل أفريقية من ابن أبي سرح أن يرحل عنهم بالعرب إلى بلادهم و يعطوه ثلاثمائة قنطار من الذهب ففعل و قفل إلى مصر سنة سبع و عشرين (4/236)
معاوية بن خديج
ثم أغزى معاوية بن أبي سفيان معاوية بن خديج السكوني أفريقية سنة أربع و ثلاثين و كان عاملا على مصر فغزاها و نازل جلولاء و قاتل مدد الروم الذي جاءها
من قسطنطينية لقيهم بقصر الأحمر فغلبهم و أقلعوا إلى بلادهم و افتتح جلولاء و غنم و أثخن و قفل (4/236)
عقبة بن نافع
ثم ولى معاوية سنة خمس و أربعين عقبة بن نافع بن عبد الله بن قيس الفهري على أفريقية و اقتطعها عن معاوية بن خديج فبنى القيروان و قاتل البربر و توغل في
أرضهم (4/237)
أبو المهاجر
ثم استعمل معاوية على مصر و أفريقية مسلمة بن مخلد فعزل عقبة عن أفريقية و ولى مولاه أبا المهاجر دينارا سنة خمس و خمسين فغزا المغرب و بلغ إلى تلمسان و خرب قيروان عقبة و أساء عزله و أسلم على يديه كسيلة الأوربي بعد حرب ظفر به فيها (4/237)
عقبة بن نافع ثانيا
و لما استقل يزيد بن معاوية بالخلافة رجع عقبة بن نافع إلى أفريقية سنة اثنتين و ستين فدخل أفريقية و قد نشأت الردة في البرابرة فزحف إليهم و جعل مقدمته زهير بن قيس البلوي و فر منه الروم و الفرنجة فقاتلهم و فتح حصونهم مثل لميس و باغاية و فتح أذنه قاعدة الزاب بعد أن قاتله ملوكها من البربر فهزمهم و أصاب من غنائمهم و حبس أبا المهاجر فلم يزل في اعتقاله ثم رحل إلى طنجة فأطاعه بلبان ملك غمارة و صاحب طنجة و هاداه و أتحفه و دله على بلاد البربر وراءه بالمغرب مثل وليلى عند زرهون و بلاد المصامدة و بلاد السوس و كانوا على دين المجوسية و لم يدينوا بالنصرانية فسار عقبة و فتح و غنم و سبى و أثخن فيهم و انتهى إلى السوس و قاتل مسوفة من أهل اللثام و راء السوس و وقف على البحر المحيط و قفل راجعا و أذن لجيوشه في اللحاق بالقيروان و كان كسيلة ملك أروبة و البرانس من البربر قد اضطغن عليه بما كان يعامله به من الاحتصار يقال : إنه كان يحاصره في كل يوم و يأمره بسلخ الغنم إذا ذبحت لمطبخه فانتهز فيه الفرصة و أرسل البربر فاعترضوا له في تهودا و قتلوه في ثلاثمائة من كبار الصحابة و التابعين و استشهدوا كلهم و أسر في تلك الوقعة محمد بن أوس الأنصاري في نفر فخلصهم صاحب قفصة و بعث بهم إلى القيروان مع من كان بها من المخلفين و الذراري و رجع زهير بن قيس إلى القيروان و اعتزم على القتال و خالفه حنش بن عبد الله الصنعاني و ارتحل إلى مصر و اتبعه الناس فاضطر زهير إلى الخروج معهم و انتهى إلى برقة فأقام بها مرابطا و استأمن من كان بالقيروان إلى كسيلة فأمنهم و دخل القروان و أقاموا في عهده (4/237)
زهير بن قيس البلوي
و لما ولي عبد الملك بن مروان بعث إلى زهير بن قيس بمكانه من برقة بالمدد و ولاه حرب البرابرة فزحف سنة سبع و ستين و دخل أفريقية و لقيه كسيلة على ميس من نواحي القيروان فهزمه زهير بعد حروب صعبة و قتله و استلحم فى الوقعة كثير من أشراف البربر و رجالاتهم ثم قفل زهير إلى المشرق زاهدا في الملك و قال : إنما جئت للجهاد و أخاف أن نفسي تميل إلى الدنيا و سار إلى مصر و اعترضه بسواحل برقة أسطول صاحب قسطنطينية جاؤا لقتاله فقاتلهم و استشهد رحمه الله تعالى (4/238)
حسان بن النعمان الغساني
ثم إن عبد الملك بن مروان بعد أن قتل عبد الله بن الزبير و صفا له الأمر أمر حسان ابن النعمان الغساني بغزو أفريقية و أمده بالعساكر و دخل القيروان و افتتح قرطاجنة عنوة و خربها و فر من كان بها من الروم و الفرنجة إلى صقلية و الأندلس ثم اجتمعوا في صطفورة و بنزرت و هزمهم ثانية و انحاز الفل إلى باجة و بونة فتحصنوا بها ثم سار حسان إلى الكاهنة ملكة جرارة بجبل أوراس و هي يومئذ أعظم ملوك البربر فحاربها و انهزم المسلمون و أسر منهم جماعة و أطلقتهم الكاهنة سوى خالد بن يزيد القيسي فإنها أمسكته و أرضعته مع ولديها و صيرته أخا لهما و أخرجت العرب من أفريقية و انتهى حسان إلى برقة و جاءه كتاب عبد الملك بالمقام حتى يأتيه المدد ثم بعث إليه المدد سنة أربع و سبعين فسار إلى أفريقية و دس إلى خالد بن يزيد يستعمله فأطلعه على خبرهم و استحثه فلقي الكاهنة و قتلها و ملك جبل أوراس و ما إليه و دوخ نواحيه و انصرف إلى القيروان و أمن البربر و كتب الخراج عليهم و على من معهم من الروم و الفرنج على أن يكون معه إثنا عشر ألفا من البربر لا يفارقونه في مواطن جهاده و رجع إلى عبد الملك و استخلف على أفريقية رجلا اسمه صالح من جنده (4/238)
موسى بن نصير
و لما ولي الوليد بن عبد الملك كتب إلى عمه عبد الله و هو على مصر و يقال عبد العزيز أن يبعث بموسى بن نصير إلى أفريقية و كان أبوه نصير من حرس معاوية فبعثه عبد الله و قدم القيروان و بها صالح خليفة حسان فعقد له و رأى البربر قد طمعوا في البلاد فوجه البعوث في النواحي و بعث ابنه عبد الله في البحر إلى جزيرة ميورقة فغنم منها و سبى و عاد ثم بعثه إلى ناحبة أخرى و ابنه مروان كذلك و توجه هو إلى ناحية فغنم منها و سبى و عاد و بلغ الخمس من المغنم سبعين ألف رأس من السبي ثم غزا طنجة و افتتح درعه و صحراء تافيلالت و أرسل ابنه إلى السوس و أذعن البربر لسلطانه و دولته و أخذ رهائن المصامدة و أنزلهم بطنجة و ذلك سنة ثمان و ثمانين و ولى عليها طارق بن زياد الليثي ثم أجاز طارق إلى الأندلس دعاه إليها بلبان ملك غمارة فكان فتح الأندلس سنة تسعين و أجاز موسى بن نصير على أثره فكمل فتحها كما ذكرناه ثم قفل موسى إلى الشرق و استخلف على أفريقية ابنه عبد الله و على الأندلس عبد العزيز و هلك الوليد و ولي سليمان سنة ست و تسعين فسخط موسى و حبسه (4/239)
محمد بن يزيد
لما ولي سليمان و حبس موسى بن نصير عن ابنه عبد الله عن أفريقية ولى مكانه محمد بن يزيد مولى قريش فلم يزل عليها حتى مات سليمان (4/240)
إسماعيل بن أبي المهاجر
و لما مات سليمان استعمل عمر بن عبد العزيز على أفريقية إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر و كان حسن السيرة و أسلم جميع البربر في أيامه (4/240)
يزيد بن أبي مسلم
و لما تولى يزيد بن عبد الملك ولى على أفريقية يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج و كاتبه فقدم سنة إحدى و مائة و أساء السيرة في البربر و وضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة منهم تأسيا بما فعله الحجاج بالعراق فقتله البربر لشهر من ولايته و رجعوا إلى محمد بن يزيد مولى من الأنصار الذين كان عليهم قبل إسماعيل و كتبوا إلى يزيد بالطاعة و العذر عن قتل ابن أبي مسلم فأجابهم بالرضا و أقر محمد بن يزيد على عمله (4/240)
بشر بن صفوان الكلبي
ثم ولى يزيد على أفريقية بشر بن صفوان اللأكلبي فقدمها سنة ثلاث و مائة فمهدها و سكن أرجاءها و غزا بنفسه صقلية سنة تسع و مائة و هلك مرجعه عنها (4/240)
عبيدة بن عبد الرحمن
ثم عزل هشام بن عبد الملك بشر بن صفوان عن أفريقية و ولى مكانه عبيدة بن عبد الرحمن السلمي و هو ابن أخي أبي الأعور فقدمها سنة عشر و مائة (4/241)
عبيد الله بن الحجاب
ثم عزل هشام عبيدة بن عبد الرحمن و ولى مكانه عبيد الله بن الحجاب مولى بني سلول و كان واليا على مصر فأمره أن يمضي إلى أفريقية و استخلف على مصر ابنه أبا القاسم و سار إلى أفريقية فقدمها سنة أربع عشرة و بنى جامع تونس و اتخذ لها دار الصناعة لإنشاء المراكب البحرية و بعث إلى طنجة ابنه إسماعيل و جعل معه عمر بن عبيد الله المرادي و بعث على الأندلس عقبة بن حجاج القيسي و بعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا إلى المغرب فبلغ السوس الأقصى و أرض السودان و أصاب من مغانم الذهب و الفضة و السبي كثيرا و دوخ بلاد المغرب و قبائل البربر و رجع ثم أغزاه ثانية في البحر إلى صقلية سنة اثنتين و عشرين و معه عبد الرحمن بن حبيب فنازل سرقوسة أعظم مدائن صقلية و ضرب عليهم الجزية و أثخن في سائر الجزيرة و كان محمد بن عبيد الله بطنجة قد أساء السيرة فى البربر و أراد أن يخمس من أسلم منهم و زعم أنه الفيء فاجمعوا الانتقاض و بلغهم مسير العساكر مع حبيب بن أبي عبيدة إلى صقلية فسار ميسرة المظفري بدعوة الصفرية من الخوارج و زحف إلى طنجة فقتل عمر بن عبيد الله و ملكها و اتبعه البربر و بايعوه بالخلافة و خاطبوه بأمير المؤمنين و فشت مقالته فى سائر القبائل بأفريقية و بعث ابن الحجاب إليه خالد بن حبيب الفهري فيمن بقي معه من العساكر و استقدم حبيب بن أبي عبيدة من صقلية و من معه من العساكر و بعثه في أثر خالد و لقيهم ميسرة و البربر بناحية طنجة فاقتتلا قتالا شديدا ثم تحاجزوا و رجع ميسرة إلى طنجة فكره البربر سوء سيرته فقتلوه و ولوا عليهم مكانه خالد بن حبيب الزناتي و اجتمع إليه البربر و لقيه خالد بن حبيب في العرب و عساكر هشام فانهزموا و قتل خالد بن حبيب و جماعة من العرب و سميت غزوة الأشراف و انتقضت أفريقية على ابن الحجاب و بلغ الخبر إلى الأندلس فعزلوا عامله عقبة بن الحجاج و ولوا عبد الملك بن قطن كما مر (4/241)
كلثوم بن عياض
و لما انتهى الخبر إلى هشام بن عبد الملك بهزيمة العساكر بالمغرب استنقص ابن الحجاب و كتب إليه يستقدمه و ولى على أفريقية سنة ثلاث و عشرين و مائة كلثوم بن عياض و على مقدمته بلخ بن بشر القشيري فأساء إلى أهل القيروان فشكوا إلى حبيب بن أبي عبيدة و هو بتلمسان موافق للبربر فكتب إلى كلثوم بن عياض ينهاه و يتهدده فاعتذر و أغضى له عنها ثم سار و استخلف على القيروان عبد الرحمن بن عقبة و مر على طريق سبيبة وانتهى إلى تلمسان و لقي حبيب بن أبي عبيدة و اقتتلا ثم اتفقا و رجعا جميعا و زحف البرابرة إليهم على وادي طنجة و هو وادي سوا فانهزم بلخ في الطلائع و انتهوا إلى كلثوم فانكشف و اشتد القتال و قتل كلثوم و حبيب بن أبي عبيدة و كثير من الجند و تحيز أهل الشام إلى سبتة مع بلخ بن بشر فحاصرهم البرابرة و أرسلوا إلى عبد الملك بن قطن أمير الأندلس في أن يجيزوا إليه فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يقيموا سنة واحدة وأخذ رهنهم على ذلك وانقضت السنة و طالبهم بالشرط فقتلوه و ملك بلخ الأندلس وكان عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع لما قتل أبوه حبيب مع كلثوم بن عياض و أجاز بلخ إلى الأندلس فملكها فأجاز عبد الرحمن إلى الأندلس يحاول ملكها فلما جاء أبو الخطار إلى الأندلس من قبل حنظلة أيس عبد الرحمن من أمرها و رجع إلى تونس سنة ست و عشرين و مائة و قد توفي هشام و ولي الوليد بن يزيد فدعا لنفسه و سار إلى القيروان و منع حنظلة من قتاله و بعث إليه وجوه الجند فانتهز عبد الرحمن الفرصة فيهم و أوثقهم لئلا يقاتله أصحابهم و أغذ السير إلى القيروان فرحل حنظلة من أفريقية و قفل إلى المشرق سنة سبع و عشرين و استقل عبد الرحمن بملك أفريقية و ولى مروان بن محمد فكتب له بولايتها ثم ثارت عليه الخوارج في كل جهة فكان عمر بن عطاب الأزدي بطبنياش و عروة بن الوليد الصغري بتونس و ثابت الصنهاجي بباجة و عبد الجبار بن الحرث بطرابلس على رأي الإباضية فزحف عبد الرحمن إليهما سنة إحدى و ثلاثين فظفر بهما و قتلهما و سرح أخاه الياس لابن عطاب فهزمه و قتله ثم زحف إلى عروة بتونس فقتله و انقطع أمر الخوارج و زحف سنة خمس و ثلاثين إلى جموع من البربر بنواحي تلمسان فظفر بهم و قفل ثم بعث جيشا في البحر إلى صقلية و آخر إلى سردانية فاثخنوا في أمم الفرنج حتى استقروا بالجزاء ثم دالت دولة بني العباس و بعث عبد الرحمن بطاعته إلى السفاح ثم إلى أبي جعفر من بعده
و لحق كثير من بني أمية إلى أفريقية و كان ممن قدم عليه القاضي و عبد المؤمن إبنا الوليد بن يزيد و معهما ابنة عم لهما فزوجها عبد الرحمن من أخيه الياس ثم بلغ عبد الرحمن عنهما السعي في الخلافة فقتلهما و امتعضت لذلك ابنة عمهما فأغرت زوجها بأخيه عبد الرحمن و استفسدته و كان عبد الرحمن قد أرسل إلى أبي جعفر بهدية قليلة و ذهب يعتذر عنها فلم يحسن العذر و أفحش في الخطاب فكتب إليه المنصور يتهدده و بعث إليه بالخلعة فانتقض هو و مزق خلعته على المنبر فوجد أخوه الياس بذلك السبيل إلى ما كان يحاول عليه و داخل وجوها من الجند في الفتك بعبد الرحمن و إعادة الدعوة للمنصور و مالأه في ذلك أخوه عبد الوارث و فطن عبد الرحمن لهما فأمر الياس بالمسير إلى تونس و جاء ليودعه و معه أخوه عبد الوارث فقتلاه في آخر سبع و ثلاثين لعشر سنين من إمارته (4/242)
حبيب بن عبد الرحمن
و لما قتل عبد الرحمن نجا ابنه حبيب إلى تونس فلحق به بعد أن طلبوه و ضبطوا أبواب القصر ليأخذوه فلم يظفروا به و كان عمه عمران بن حبيب بتونس فلحق به و اتبعه الياس فاقتتلوا مليا ثم اصطلحوا على أن يكون لحبيب قفصة و قصطيلة و نفزاوة و لعمران تونس و صطفورة و هي تبرزو و الجزيرة و لالياس سائر أفريقية و تم هذا الصلح سنة ثمان و ثلاثين و سار حبيب إلى عمله ببلاد الجريد و سار الياس مع أخيه عمران إلى تونس فغدر بعمران و قتله و جماعة من الأشراف معه و عاد إلى القيروان و بعث بطاعته إلى أبي جعفر المنصور مع عبد الرحمن بن زياد بن أنعم قاضي أفريقية ثم سار حبيب إلى تونس فملكها و جاءه عمه الياس فقاتله و خالفه حبيب إلى القيروان فدخلها و فتق السجون فرجع الياس في طلبه و فارقه أكثر أصحابه إلى حبيب فلما تواقفا دعاه حبيب إلى البراز فتبارزا و قتله حبيب و دخل القيروان و ملكها آخر سنة ثمان و ثلاثين و نجا عمه الآخر عبد الوارث إلى وربجومة من قبائل البربر و كبيرهم يومئذ عاصم بن جميل و كان كاهنا و يدعي النبوة فأجار عبد الوارث و قاتلهم حبيب فهزموه إلى قابس و استفحل أمرهم و كتب من كان بالقيروان من العرب إلى عاصم بن جميل يدعونه للولاية عليهم و استخلفوه على الحماية و الدعاء للمنصور فلم يجب إلى ذلك و قاتلهم فهزمهم و استباح القيروان و خرب المساجد و استهانها ثم سار إلى حبيب بن عبد الرحمن بقابس فقاتله و هزمه و لحق حبيب بجبل أوراس فأجاره أهله و جاء عاصم فقاتلهم فهزموه و قتل جماعة من أصحابه و قام بأمر وربجومة و القيروان من بعده عبد الملك و قتله سنة أربعين و مائة و كانت إمارة الياس على أفريقية سنة و نصفا و إمارة حبيب ثلاث سنين (4/243)
عبد الملك بن أبي الجعد الوربجومي
و لما قتل عبد الملك بن أبي الجعد حبيب بن عبد الرحمن رجع في قبائل وربجومة إلى القيروان و ملكها و استولت و ربجومة على أفريقية و ساروا في أهل القيروان بالعسف و الظلم كما كان عاصم و أسوأ منه و افترق أهل القيروان بالنواحي فرارا بأنفسهم و شاع خبرهم في الآفاق فخرج بنواحي طرابلس عبد الأعلى بن السمح المغافري الإباضي منكرا لذلك و قصد طرابلس و ملكها (4/244)
عبد الأعلى بن السمح المغافري
و لما ملك عبد الأعلى مدينة طرابلس بعث عبد الملك بن أبي الجعد العساكر لقتاله سنة إحدى و أربعين فلقيهم أبو الخطاب و هزمهم و أثخن فهم و اتبعهم إلى القيروان فملكها و أخرج وربجومة منها و استخلف عليها عبد الرحمن بن رستم و سار إلى طرابلس للقاء العساكر القادمة من ناحية أبي جعفر (4/244)
محمد بن الأشعث الخزاعي
كان أبو جعفر المنصور لما وقع بأفريقية ما وقع من الفتنة و ملك قبائل وربجومة القيروان وفد عليه رجالات من جند أفريقية يشكون ما نزل بهم من وربجومة و يستصرخونه فولى على مصر و أفريقية محمد بن الأشعث الخزاعي فنزل مصر و بعث على أفريقية أبا الأحوص عمرو بن الأحوص العجلي و سار في مقدمته فلقيه أبو الخطاب عبد الأعلى بسرت و دهمه بالعساكر و معهم الأغلب بن سالم بن عقال ابن خفاجة بن سوادة التميمي فسار لذلك و لقي أبا الخطاب بسرت ثانية فانهزم أبو الخطاب و قتل عامة أصحابه و ذلك سنة أربع و أربعين و بلغ الخبر إلى عبد الرحمن بن رستم بالقيروان ففر عنها إلى تاهرت و بنى هنالك مدينة و نزلها و قام ابن الأشعث فافتتح طرابلس و استعمل عليها المخارق غفارا الطائي و قام بأمر أفريقية و ضبطها و ولى على طبنة و الزاب الأغلب بن سالم ثم ثارت عليه المضرية و أخرجوه سنة ثمان و أربعين فقفل إلى المشرق الأغلب بن سالم و لما قفل ابن الأشعث إلى المشرق ولى على المضرية عيسى بن موسى الخراساني فبعث أبو جعفر المنصور الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي بعده على أفريقية و كان من أصحاب أبي مسلم بخراسان و قدم مع ابن الأشعث فولاه على الزاب و طبنة فقدم القيروان و سكن الناس ثم خرج عليه أبو قرة اليفرني في جموع البربر فهرب و سكن أبو قرة اليفرني فأبى عليه الجند و خلعوه و كان الحسن بن حرب الكندي بقابس فكاتب الجند و ثبطهم عن الأغلب فلحقوا به و أقبل بهم إلى القيروان فملكها و لحق الأغلب بقابس ثم رجع إلى إقبال الحسن بن حرب سنة خمسين فهزمه و سار إلى القيروان فكر عليه الحسن دونها و اقتتلوا و أصاب الأغلب سهم فقتله و قدم أصحابه وليهم المغافر بن غفار الطائي الذي كان على طرابلس و حملوا على الحسن فانهزم أمامهم إلى تونس ثم لحق بكتامة و خيل المخارق في اتباعه ثم رجع إلى تونس بعد شهرين فقتله الجند و قيل أصحاب الأغلب قتلوه في الموقف الذي قتل فيه الأغلب و قام بأمر أفريقية المخارق بن غفار إلى أن كان ما نذكره (4/245)
عمر بن حفص هزارمرد
و لما بلغ أبا جعفر المنصور قتل الأغلب بن سالم بعث على أفريقية مكانه عمر بن حفص هزارمرد من ولد قبيصة بن أبي هفرة أخي المهلب فقدمها سنة إحدى و خمسين فاستقامت أموره ثلاث سنين ثم سار لبناء السور على مدينة طبنة و استخلف على القيروان أبا حازم حبيب بن حبيب المهلبي فلما توجه لذلك ثار البربر بأفريقية و غلبوا على من كان بها و زحفوا إلى القيروان و قاتلوا أبا حازم فقتلوه و اجتمع البربر الإباضية بطرابلس و ولوا عليهم أبا حاتم يعقوب بن حبيب الإباضي مولى كندة و كان على طرابلس الجنيد بن بشار الأسدي من قبل عمر بن حفص فأمده بالعساكر و قاتلوا أبا حازم فهزمهم و حصرهم بقابس و انقضت أفريقية من كل ناحية ثم ساروا في عسكر إلى طبنة و حاصروا بها عمر بن حفص فيهم أبو قرة اليعقوبي في أربعين ألفا من الصفرية و عبد الرحمن بن رستم في خمسة عشرألفا من الإباضية جاؤا معه و المسور الزناتي في عشرة آلاف من الإباضية و أمم من الخوارج من صنهاجة و زناتة و هوارة ما لا يحصى فدافعهم عمر بن حفص بالأموال و فرق كلمتهم و بذل لأصحاب أبي قرة مالا فانصرفوا و اضطر أبو قرة لاتباعهم فبعث عمر جيشا إلى ابن رستم و هو بتهودا فانهزم إلى تاهرت و ضعف الإباضية عن حصار طبنة فافرجوا عنها و سار أبو حاتم إلى القيروان و حاصرها ثمانية أشهر و اشتد حصارها و سار عمر بن حفص و جهز العساكر لطبنة فخالفه أبو قرة إلى طبنة فهزموه و بلغ أبا حاتم و أصحابه و هو على القيروان مسير عمر بن حفص إليهم فساروا للقائه فمال هو من الأربس إلى تونس ثم جاء إلى القيروان فدخلها و استعد للحصار و اتبعه أبو حاتم و البربر فحاصروه إلى أن جهده الحصار و خرج لقتالهم مستميتا فقتل آخر سنة أربع و خمسين و ولى مكانه أخوه لأمه حميد بن صخر فوادع أبا حاتم على أن يقيم دعوة العباسية بالقيروان و خرج أكثر الجند إلى طبنة و أحرق أبو حاتم أبواب القيروان و ثلم سورها (4/246)
يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب
و لما بلغ المنصور انتقاض أفريقية على عمر بن حفص و حصاره بطبنة ثم بالقيروان بعث إليه يزيد بن أبي حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة في ستين ألف مقاتل و بلغ خبره عمر بن حفص فحمله ذلك على الاستماتة حتى قتل و سار يزيد بن حاتم فقدم عليها و أبو حاتم يعقوب بن حبيب مستول عليها فسار إلى طرابلس للقائه و استخلف على القيروان عمر بن عثمان الفهري فانتقض و قتل أصحابه و خرج المخارق بن غفار فرجع إليهما أبو حاتم ففرا من القيروان و لحقا بجيجل من سواحل كتامة فتركهما و استخلف على القيروان عبد العزيز بن السبع المنافري و سار للقاء يزيد و سار يزيد إلى طرابلس فلحق أبو حاتم بجبال نفوسة و اتبعته عساكر يزيد فهزمهم فسار إليه يزيد بنفسه و قاتله قتالا شديدا فانهزم البربر و قتل أبو حاتم في ثلاثين ألفا من أصحابه و تتبعهم يزيد بالقتل بثأر عمر بن حفص ثم ارتحل إلى القيروان فدخلها منتصف سنة خمس و خمسين و كان عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن الفهري مع أبي حاتم فلحق بكتامة و بعث يزيد في طلبه فحاصروهم ثم ظفروا بهم و هرب عبد الرحمن و قتل جميع من كان معه و بعث يزيد المخارق ابن غفار على الزاب و نزل طبنة و أثخن في البربر في و قائع كثيرة مع وربجومة و غيرهم إلى أن هلك يزيد سنة سبعين و مائة في خلافة هرون الرشيد و قام بأمره ابنه داود فخرج عليه البربر و أوقع بهم و رجع إلى القيروان إلى أن كان من أمره ما نذكره (4/247)
أخوه روح بن حاتم
و لما بلغ الرشيد و فاة يزيد بن حاتم وكان أخوه روح على فلسطين استقدمه و عزاه فى أخيه و ولاه على أفريقية فقدمها منتصف إحدى و سبعين و سار داود ابن أخيه يزيد إلى الرشيد و كان يزيد قد أذل الخوارج و مهد البلاد فكانت ساكنة أيام روح و رغب في موادعة عبد الوهاب بن رستم و كان من الوهبية فوادعه ثم هلك روح في رمضان سنة أربع و سبعين و كان الرشيد قد بعث بعهده سرا إلى نصر بن حبيب من قرابتهم فقام بالأمر بعد روح إلى أن ولي الفضل (4/247)
ابنه الفضل بن روح
و لما توفي روح بن حاتم قام حبيب بن نصر مكانه و سار ابنه الفضل إلى الرشيد فولاه على أفريقية مكان أبيه فعاد إلى القيروان في محرم سنة سبع و سبعين و استعمل على تونس المغيرة ابن أخيه بشر بن روح و كان غلاما غرا فاستخف بالجند و استوحشوا من الفضل لما أساء فيهم السيرة و أخذهم بموالاة حبيب بن نصر فاستعفى أهل تونس من المغيرة فلم يعفهم فانتقضوا و قدموا عليهم عبد الله بن الجارود و يعرف بعبد ربه الأنباري و بايعوه على الطاعة و أخرجوا المغيرة و كتبوا إلى الفضل أن يولي عليهم من أراد فولى عليهم ابن عمه عبد الله بن يزيد بن أبى حاتم و سار إلى تونس و لما قاربها بعث ابن الجارود جماعة لتلقيه و استفهامه في أي شيء جاء فعدوا عليه و قتلوه افتئاتا بذلك على ابن الجارود و اضطر إلى إظهار الخلاف و تولى كبر ذلك محمد بن الفارسي من قواد الخراسانية و كتب إلى القواد و العمال فى النواحي و استفسدهم على الفضل و كثر جموع ابن الجارود و خرج الفضل فانهزم و اتبعه ابن الجارود و اقتحم عليه القيروان و وكل به و بأهله من يوصلهم إلى قابس ثم رده من طريقه و قتله منتصف ثمان و سبعين و رجع ابن الجارود إلى تونس و امتعض لقتل الفضل جماعة من الجند و في مقدمهم مالك بن المنذر و وثبوا بالقيروان فملكوها و سار إليهم ابن الجارود من تونس فقتلهم و قتل مالك بن المنذر و جماعة من أعيانهم و لحق فلهم بالأندلس فقدموا عليهم الصلت بن سعيد و عادوا إلى القروان و اضطربات أفريقية (4/248)
خزيمة بن أعين
و لما بلغ الرشيد مقتل الفضل بن روح و ما وقع بأفريقية من الاضطراب ولى مكانه خزيمة بن أعين و بعث إلى ابن الجارود يحيى بن موسى لمحله عند أهل خراسان و يقال يقطين يرغبه في الطاعة فأجابه بشرط الفراغ من العلاء بن سعيد و علم يقطين أنه يغالطه فداخل صاحبه محمد بن الفارسي و استماله فنزع عن ابن الجارود و خرج ابن الجارود من القيروان فرارا من العلاء في محرم سنة تسع و سبعين لسبعة أشهر من ولايته و سار للقاء ابن الفارسي من القيروان و تزاحفا للقتال فدعا ابن الجارود ابن الفارسي إلى خلوة و قد دس رجلا من أصحابه يغتاله في خلوتهما فقتله و انهزم أصحابه و سابق العلاء بن سعيد و يقطين إلى القيروان فسبق إليها العلاء و ملكها و فتك في أصحابه ابن الجارود و لحق ابن الجارود بهرثمة فبعث به إلى الرشيد و كتب إليه أن العلاء بن سعيد هو الذي أخرجه من القيروان فأمره بأن يبعث بالعلاء فبعث به مع يقطين فاعتقل ابن الجارود و أحسن إلى العلاء إلى أن توفي بمصر و سار هرثمة إلى القيروان فقدمها سنة سبع و سبعين فأمن الناس و سكنهم و بنى القصر الكبير بالمنستير لسنة من قدومه و بنى السور على طرابلس مما يلي البحر و كان إبراهيم بن الأغلب عاملا على الزاب و طبنة فهاداه و لاطفه فعقد له على عمله فقام بأمره و حسن أثره ثم خرج عليه عياض بن وهب الهواري و كليب بن جميع الكلبي و جمعا الجموع فسرح هرثمة إليهما يحيى بن موسى من قواد الخراسانية ففرق جموعهما و قتل كثرا من أصحابهما و رجع إلى القيروان و لما رأى هرثمة كثرة الثوار و الخلاف بأفريقية استعفى الرشيد من ولايتها فأعفاه و رجع إلى العراق لسنتين و نصف من ولايته (4/248)
محمد بن مقاتل الكعبي
ثم بعث الرشيد على أفريقية محمد بن مقاتل الكعبي و كان صنيعه فقدم القيروان في رمضان سنة إحدى و ثمانين فكان مسيء السيرة فاختلف عليه الجند و قدموا مخلد بن مرة الأزدي فبعث إليه العساكر فهزم و قتل ثم خرج عليه بتونس تمام ابن تميم التميمي سنة ثلاث و ثمانين و اجتمع إليه الناس و سار إلى القيروان فخرج إليه محمد بن مقاتل و لقيه فانهزم أمامه و رجع إلى القيروان و تمام في اتباعه إلى أن دخل عليه القيروان و أمنه تمام على أن يخرج عن أفريقية فسار محمد إلى طرابلس و بلغ الخبر إلى ابراهيم بن الأغلب بمكانه من الزاب فانتقض لمحمد و سار بجموعه إلى القيروان و هرب تمام بين يديه إلى تونس و ملك القيروان و استقدم محمد بن مقاتل من طرابلس و أعاده إلى إمارته بالقيروان آخر ثلاث و ثمانين و زحف تمام لقتالهم فخرج إليه إبراهيم بن الأغلب بأصحابه فهزمه و سار في اتباعه إلى تونس و استأمن له تمام فأمنه و جاء به إلى القيروان و بعث به إلى بغداد فاعتقله الرشيد (4/249)
إبراهيم بن الأغلب
و لما استوثق الأمر لمحمد بن مقاتل كره أهل البلاد ولايته و داخلوا إبراهيم بن الأغلب في أن يطلب من الرشيد الولاية عليهم فكتب إبراهيم إلى الرشيد في ذلك على أن يترك المائة ألف دينار التي كانت من مصر إلى أفريقية و على أن يحمل هو من أفريقية أربعين ألفا و بلغ الرشيد غناؤه في ذلك و استشار فيه أصحابه فأشار هرثمة بولايته فكتب له بالعهد إلى أفريقية منتصف أربع و ثمانين فقام إبراهيم بالولاية و ضبط الأمور و قفل ابن مقاتل إلى المشرق و سكنت البلاد بولاية ابن الأغلب و ابتنى مدينة العباسية قرب القيروان و انتقل إليها بجملته و خرج عليه سنة ست و ثمانين بتونس حمديس من رجالات العرب و نزع السواد فسرح إليه ابن الأغلب عمران بن مجالد في العساكر فقاتله و انهزم حمديس و قتل من أصحابه نحو عشرة آلاف ثم صرف همه إلى تمهيد المغرب الأقصى و قد ظهر فيه دعوة العلوية بإدريس بن عبد الله و توفي و نصب البرابرة ابنه الأصغر و قام مولاه راشد بكفالته و كبر إدريس و استفحل أمره براشد فلم يزل إبراهيم يدس إلى البربر و يسرب فيهم الأموال حتى قتل راشد و سيق رأسه إليه ثم قام بأمر إدريس بعده بهلول بن عبد الرحمن المظفر من رؤوس البربر فاستفحل أمره فلم يزل إبراهيم يتلطفه و يستميله بالكتب و الهدايا إلى أن انحرف عن دعوة الأدارسة إلى دعوة العباسية فصالحه إدريس و كتب إليه يستعطفه بقرابته من رسول الله صلى الله عليه و سلم فكف عنه ثم خالف أهل طرابلس على ابراهيم بن الأغلب سنة تسع و ثمانين و ثاروا بعاملهم سفيان بن المهاجر و أخرجوه من داره إلى المسجد و قتلوا عامة أصحابه ثم أمنوه على أن يخرج من طرابلس فخرج سفيان لشهر من ولايته و استعملوا عليهم إبراهيم بن سفيان التميمي فبعث إليهم إبراهيم بن الأغلب العساكر و هزمهم ودخل طرابلس عسكره ثم استحضر إبراهيم الذين تولوا كبر ذلك فحضروا في ذي الحجة آخر السنة و عفا عنهم و أعادهم إلى بلدهم ثم انتقض عمران بن مجالد الربعي سنة خمس و تسعين على ابن الأغلب و كان بتونس و اجتمع معه على ذلك قريش بن التونسي و كثرت جموعهما و سار عمران إلى القيروان فملكها و قدم عليه قريش من تونس و خندق إبراهيم على نفسه بالعباسية فحاصروه سنة كاملة كانت بينه و بينهم حروب كان الظفر في آخرها لابن الأغلب و كان عمران يبعث إلى أسد بن الفرات القاضي في الخروج إليهم و امتنع ثم بعث الرشيد إلى إبراهيم بالمال فنادى في الناس بالعطاء و لحق به أصحاب عمران و انتقض أمره و لحق بالزاب فأقام به إلى أن توفي ابن الأغلب ثم بعث إبراهيم على طرابلس ابنه عبد الله سنة ست و تسعين فثار عليه الجند و حاصروه بداره ثم أمنوه على أن يخرج عنهم فخرج و اجتمع إليه الناس و بذل العطاء و أتاه البربر من كل ناحية و زحف إلى طرابلس فهزم جندها و دخل المدينة ثم عزلة أبوه وولى سفيان بن المضاء فثارت هوارة بطرابلس و هجموا الجند فلحقوا بإبراهيم بن الأغلب و أعاد معهم ابنه عبد الله في ثلاثة عشر ألفا من العساكر ففتك بهوارة و أثخن فيهم و جدد سور طرابلس و بلغ الخبر إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم فجمع البربر و جاء إلى طرابلس فحاصرها و سد عبد الوهاب باب زناتة و كان يقاتل من باب هوارة ثم جاءه الخبر بوفاة أبيه فصالحهم على أن يكون البلد و البحر لعبد الله و أعمالها لعبد الوهاب و سار إلى القيروان و كانت وفاة إبراهيم في شوال سنة ست و تسعين (4/250)
ابنه أبو العباس عبد الله
و لما توفي ابراهيم بن الأغلب عهد لابنه عبد الله و كان غائبا بطرابلس و البربر يحاصرونه كما ذكرناه و أوصى ابنه الآخر زيادة الله أن يبايع له بالإمارة ففعل و أخذ له البيعه على الناس بالقيروان و كتب إليه بذلك فقدم أبو العباس عبد الله في صفر سنة سبع و تسعين و لم يرع حق أخيه فيما فعله و كان ينتقصه و لم يكن في أيامه فتنة بما مهد له أبوه الأمر و كان جائرا حتى قيل : إن مهلكه كان بدعوة حفص بن حميد من الأولياء الصالحين من أهل حمود و مهريك و فد عليه في جماعة من الصالحين يشكو ظلامة فلم يصغ إليهم فخرج حفص يدعو عليه و هم يؤمنون فأصابته قرحة في أذنه عن قريب هلك منها في ذي الحجة سنة إحدى و مائتين لخمس سنين من ولايته (4/251)
أخوه زيادة الله
و لما توفي أبو العباس ولي مكانه أخوه زيادة الله و جاءه التقليد من قبل المأمون و كتب إليه يأمره بالدعاء لعبد الله بن طاهر على منابره فغضب من ذلك و بعث مع الرسول بدنانير من سكة الأدارسة يعرض له بتحويل الدعوة ثم استأذنه قرابته في الحج و هم أخوه الأغلب و أبناء أخيه أبي العباس محمد و أبو محمد بهر و إبراهيم أبو الأغلب فأذن لهم و انطلقوا لقضاء فرضهم فقضوه و أقاموا بمصر حتى وقعت بين زيادة الله و بين الجند الحروب فاستقدمهم و استوزر أخاه الأغلب و هاجت الفتن و استولى كل رئيس بناحية فملكوها عليه كلها و زحفوا إلى القيروان فحصروه و كان فاتحة الخلاف زياد بن سهل بن الصقلية خرج سنة سبع و مائتين و جمع و حاصر مدينة باجة فسرح إليه العساكر فهزموه و قتلوا أصحابه ثم انتقض منصور الترمذي بطبنة و سار إلى تونس فملكها و كان العامل عليها إسماعيل بن سفيان و سفيان أخو الأغلب فقتله لتستخلص له طاعة الجند و سرح زيادة الله العساكر من القيروان مع غلبون ابن عمه و وزيره اسمه الأغلب بن عبد الله بن الأغلب و تهددهم بالقتل إن انهزموا فهزمهم منصور و خشوا على أنفسهم ففارقوا الوزير غلبون و افترقوا على أفريقية و استولوا على باجة و الجزيرة و صطفورة و الأربس و غيرها و اضطربت أفريقية ثم اجتمعوا إلى منصور و سار بهم إلى القيروان فملكها و حاصره في العباسية أربعين يوما و عمروا سور القيروان الذي خربه إبراهيم بن الأغلب ثم خرج إليه زيادة الله فقاتله فهزمه و لحق بتونس و خرب زيادة الله سور القيروان و لحق قواد الجند بالبلاد التي تغلبوا عليها فلحق منهم عامر بن نافع الأزرق بسبيه و سرح زيادة الله سنة تسع و مائتين عسكرا مع محمد بن عبد الله بن الأغلب فهزمهم عامر و عادوا و رجع منصور إلى التونس ولم يبق على طاعة زيادة الله من أفريقية إلا تونس و الساحل طرابلس و نفزاوة و بعث الجند إلى زيادة الله بالأمان و أن يرتحل عن إفريقية و بلغه أن عامر بن نافع يريد نفزاوة و أن برابرتها دعوه فسرح إليهم مائتي مقاتل لمنع عامر بن نافع فرجع عامرا عنها وهزمه إلى قسطيلة ورجع ثم هرب عنها و استولى سفيان على قسطيلة و ضبطها و ذلك سنة تسع و مائتين واسترجع زيادة الله قسطيلة والزاب وطرابلس و استقام أمره ثم وقعت الفتنة بين منصور الطبندي وبين عامر بن نافع لأن منصورا كان يحسده ويضغن عليه فاستمال عامرا الجند وحاصره بقصره بطبندة حتى استأمن إليه على أن يركب إلى الشرق وأجابه إلى ذلك و خرج منصور من طبندة منهزما ثم رجع و حاصره عامر حتى استأمن إليه ثانية على يد عبد السلام بن المفرج من قواد الجند و أخذ له الأمان من عامر على أن يركب البحر إلى المشرق فأجابه عمر و بعثه مع ثقاته إلى تونس و أوصى ابنه و كان يغريه أن يقتله إذا مر به أن فقتله وبعث برأسه و رأس ابنه و أقام عامر بن نافع بمدينة تونس إلى أن توفي سنة أربع عشرة و رجع عبد السلام بن المفرج إلى باجة و أقام بها إلى أن انتقض فضل بن أبي العين بجزيرة شريك ثمان عشرة و مائتين فسار إليه عبد السلام بن المفرج الربعي و جاءت عساكر زيادة الله فقاتلوهما و قتل عبد السلام و انهزم فضل إلى مدينة تونس و امتنع بها و حاصرته العساكر حتى اقتحموها عليه و قتلوا كثيرا من أهلها و هرب آخرون حتى أمنهم زيادة الله و عادوا و في سنة تسع عشرة و مائتين فتح أسد بن الفرات صقلية كانت صقلية من عمالات الروم و أمرها راجع إلى صاحب قسطنطينية و ولى عليها سنة إحدى عشرة و مائتين بطريقا اسمه قسنطيل و استعمل على الإسطول قائدا من الروم حازما شجاعا فغزا سواحل إفريقية و نهبها ثم بعد كتب ملك الروم إلى قسنطيل يأمره بالقبض على مقدم الأسطول و قتله و نمى الخبر إليه بذلك فانتقض و تعصب له أصحابه و سار إلى مدينة سرقوسة من بلاد صقلية فملكها و قاتله قسنطيل فهزمه القائد و دخل مدينة تطانية فأتبعه جيشا أخذوه و قتلوه و استولى القائد على صقلية فملكها و خوطب بالملك و ولى على ناحية من الجزيرة رجلا إسمه بلاطة و كان ميخاييل ابن عم بلاطة على مدينة بليرم فانتقض هو و ابن عمه على القائد و استولى بلاطة على مدينة سرقوسة و ركب القائد في أساطيله إلى أفريقية مستنجدا بزيادة الله فبعث معهم العساكر و استعمل عليهم أسد بن الفرات قاضي القيروان فخرجوا في ربيع سنة اثنتي عشرة فنزلوا بمدينة مأزر و ساروا إلى بلاطة و لقيهم القائد و جميع الروم الذين بها استمدهم فهزموا بلاطة و الروم الذين معه و غنموا أموالهم و هرب بلاطة إلى فلونرة فقتل و استولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة و وصلوا إلى قلعة الكرات و قد اجتمع بها خلق كثير فخادعوا القاضي أسد بن الفرات في المراودة على الصلح و أداء الجزية حتى استعدوا للحصار ثم امتنعوا عليه فحاصرهم و بعث السرايا في كل ناحية و كثرت الغنائم و حاصروا سرقوسة برا و بحرا و جاءه المدد من أفريقية و حاصروا بليرم و زحف الروم إلى المسلمين و هم يحاصرون سرقوسة قد بعثوهم و اشتد حصار المسلمين بسرقوسة ثم أصاب معسكرهم الفناء و هلك كثير منهم و مات أسد بن الفرات أميرهم و دفن بمدينة قصريانة و معهم القائد الذي جاء يستنجدهم فخادعه أهل قصريانة و قتلوه و جاء المدد من القسطنطينية فتصافوا مع المسلمين و هزموهم و دخل فلهم إلى قصريانة ثم توفي محمد بن الحواري أمير المسلمين و ولي بعده زهير بن عوف ثم محص الله المسلمين فهزمهم الروم مرات و حصروهم في معسكرهم حتى جهدهم الحصار و خرج من كان في كبركيب من المسلمين بعد أن هدموها و ساروا إلى مأزر و تعذر عليهم الوصول إلى إخوانهم و أقاموا كذلك إلى سنة أربع عشرة إلى أن أشرفوا على الهلاك فوصلت مراكب أفريقية مددا و أسطول من الأندلس خرجوا للجهاد و اجتمع منهم ثلاثمائة مركب فنزلوا الجزيرة و أفرج الروم عن حصار المسلمين و فتح المسلمون مدينة بليرم بالأمان سنة سبع عشرة و مائتين ثم ساروا سنة تسع عشرة إلى مدينة قصريانة و هزموا الروم عليها سنة عشرين و مائتين ثم بعثوا إلى طرميس ثم بعث زيادة الله الفضل بن يعقوب في سرية إن سرقوسة فغنموا ثم سارت سرية أخرى و اعترضها بطريق صقلية فامتنعوا منه في وعر و خمل من الشعراء حتى يئس منهم و انصرف على غير طائل فحمل عليهم أهل السرية وانهزموا و سقط البطريق عن فرسه فطعن و جرح و غنم المسلمون ما معهم من سلاح و دواب و متاع ثم جهز زيادة الله إلى صقلية إبراهيم بن عبد الله بن الأغلب في العساكر و ولاه أميرا عليها فخرج منتصف رمضان و بعث أسطولا فلقي أسطولا للروم فغنمه و قتل من كان فيه و بعث أسطولا آخر إلى قصوره فلقي أسطولا فغنمه و سارت سرية إلى جبل النار و الحصون التي في نواحيها و كثر السبي بأيدي المسلمين و بعث الأغلب سنة إحدى و عشرين أسطولا نحو الجزائر فغنموا و عادوا و بعث سرية إلى قطلبانة و أخرى إلى قصريانة كان فيهما التمحيص على المسلمين ثم كانت وقعة أخرى كان فيها الظفر للمسلمين و غنم المسلمون من أسطولهم تسع مراكب ثم عثر بعض المسلمين على عورة من قصريانة فدل المسلمين عليها و دخلوا منها البلد و تحصن المشركون بحصنه حتى استأمنوا و فتحه الله و غنم المسلمون غنائمه و عادوا إلى بليرم إلى أن و صلهم الخبر بوفاة زيادة الله فوهنوا أولا ثم انشطوا و عادوا إلى الصبر و الجهاد و كانت وفاة زيادة الله منتصف سنة ثلاث و عشرين و مائتين لإحدى و عشرين سنة و نصف من ولايته (4/252)
أخوهما أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب
و لما توفي زيادة الله بن إبراهيم تولى أخوه الأغلب و يكنى أبا عقال فأحسن إلى الجند و أزال المظالم و زاد العمال في أرزاقهم و كفهم عن الرعية ! و خرج عليه بقسطيلة خوارج زواغة و لواته و بسكاسة و قتلوا عاملها بها و بعث إليهم العساكر فقتلهم و استأصلهم و بعث سنة أربع و عشرين سرية إلى صقلية فغنموا و عادوا ظافرين و في سنة خمس و عشرين استأمن للمسلمين عدة حصون من صقلية فأمنوهم و فتحوها صلحا و سار أسطول المسلمين إلى قلورية ففتحوها و لقوا أسطول القسطنطينية فهزموهم و في سنة ست و عشرين سارت سرايا المسلمين بصقلية إلى قصريانة ثم حصن القيروان و أثخنوا في نواحيها كما نذكره ثم توفي الأغلب بن إبراهيم في ربيع من سنة ست و عشرين و مائتين لسنتين و سبعة أشهر من إمارته (4/255)
ابنه أبو العباس محمد بن الأغلب بن ابراهيم
و لما توفي أبو عقال الأغلب و لي بعده ابنه أبو العباس و دانت له إفريقية و شيد مدينة بقرب تاهرت و سماها العباسية و ذلك سنة سبع و عشرين و أحرقها أفلح بن عبد الوهاب بن رستم و كتب إلى صاحب الأندلس يتقرب إليه بذلك فبعث إليه بمائة ألف درهم و في أيامه ولي سحنون القضاء سنة أربع و ثلاثين و مائتين بعد عزل ابن الجواد و ضربه سحنون فمات و مات سحنون سنة أربعين و مائتين و ثار عليه أخوه أبو جعفر و غلبه ثم إتفقا على أن يستوزره فاستبد عليه و قتل وزراءه و مكث على ذلك ثم أقام أبو العباس محمد بأمره و استبد سنة ثلاث و أربعين بعد أن استعد لذلك رجالا و حارب أخوه أبو جعفر فغلبه محمد و انتقض عليه و أخرجه من أفريقية إلى مصر سنة ست و أربعين و مائتين لستة عشر شهرا من ولايته (4/256)
ابنه أبو إبراهيم أحمد بن أبي العباس محمد
لما توفي أبو العباس محمد بن أبي عقال سنة اثنتين و أربعين ولي مكانه ابنه أبو ابراهيم أحمد فأحسن السيرة و أكثر العطاء للجند و كان مولعا بالعمارة فبنى بأفريقية نحوا من عشرة آلاف حصن بالحجارة و الكلس و أبواب الحديد و اتخذ العبيد جندا و خرج عليه بناحية طرابلس خوارج من البربر فغلبهم عاملها و هو يومئذ أخوه عبد الله بن محمد بن الأغلب سرح إليهم أخاهما زيادة الله يحاربهم و استلحمهم و كتب إلى أخيه أبي إبراهيم بالفتح و في أيامه افتتحت قصريانة من مدن صقلية في شوال سنة أربع و أربعين و بعث بفتحها إلى المتوكل و أهدى له من سبيها ثم توفي إبراهيم هذا سنة تسع و أربعين لثمان سنين من ولايته (4/256)
ابنه زيادة الله الأصغر بن أبي إبراهيم بن أحمد
و لما توفي أبو إبراهيم ولي مكانه ابنه زيادة الله و يعرف بزيادة الله الأصغر فجرى على سنن سلفه و لم تطل أيامه و توفي سنة خمسين لحول من ولايته (4/257)
أخوه أبو الغرانيق بن أبي إبراهيم بن أحمد
و لما توفي زيادة الله كما قدمناه ولي مكانه أخوه محمد و يلقب بأبي الغرانيق فغلب عليه اللهو و الشراب و كانت في أيامه حروب و فتن و فتح جزيرة مالطة سنة خمس و خمسين و تغلب الروم على مواضع من جزيرة صقلية و بنى محمد حصونا و محارس على ساحل البحر بالمغرب على مسيرة خمسة عشر يوما من برقة إلى جهة المغرب و هي الآن معروفة ثم توفي أبو الغرانيق منتصف إحدى و ستين لإحدى عشرة سنة من ولايته (4/257)
بقية أخبار صقلية
و في سنة ثمان و عشرين سار الفضل بن جعفر الهمداني في البحر و نزل مرسى مسينة و حاصرها فامتنعت عليه و بث السرايا في نواحها فغنموا ثم بعث طائفة من عسكره و جاؤا إلى البلد من وراء جبل مطل عليه و هم مشغولون بقتاله فانهزموا و أعطوا باليد ففتحها ثم حاصر سنة اثنتين و ثلاثين مدينة لسى و كاتب أهلها بطريق صقلية يستمدونه فأجابهم و أعطاهم العلامة بإيقاد النار على الجبل و بلغ ذلك الفضل بن جعفر فأوقد النار على الجبل و أكمن لهم من ناحيته فخرجوا و استطرد لهم حتى جاوزوا الكمين فخرجوا عليهم فلم ينج منهم إلا القليل و سلموا البلد على الأمان و في سنة ثلاث و ثلاثين أجاز المسلمون إلى أرض أنكبردة من البر الكبير و ملكوا منها مدينة و سكنوها و في سنة أربع و ثلاثين صالح أهل رغوس و سلموا المدينة للمسلمين فهدموها بعد أن حملوا جميع ما فيها و في سنة ثلاث و ثلاثين توفي أمير صقلية محمد بن عبد الله بن الأغلب و اجتمع المسلمون بعده على ولاية العباس بن الفضل بن يعقوب بعد موت أميرهم و كتب له محمد بن الأغلب بعهده على صقلية و كان من قبل يغزو و يبعث السرايا و تأتيه الغنائم و لما جاءه كتاب الولاية خرج بنفسه و على مقدمته عمه رياح فعاث في نواحي صقلية و ردد البعوث و السرايا إلى قطانية و سرقوسة و بوطيف و رغوس فغنموا و خربوا و حرقوا و افتتح حصونا جمة و هزم أهل قصريانة و هي مدينة ملك صقلية و كان الملك قبله يسكن سرقوسة فلما فتحها المسلمون كما ذكرناه انتقل الملك إلى قصريانة و خبر فتحها إلى العباس كان يردد الغزو إلى نواحي سرقوسة و قصريانة شاتية و صائفة فيصيب منهم و يرجع بالغنائم و الأسارى فلما كان في شاتية منها أصاب منهم أسارى و قدمهم للقتل فقال له بعضهم : و كان له قدر و هيبة استبقني و أنا أملكك قصريانة و دلهم على عورة البلد فجاؤها ليلا و وقفهم على باب صغير فدخلوا منه فلما توسطوا البلد و ضعوا السيف و فتحوا الأبواب و دخل العباس في العسكر فقتل المقاتلة و سبى بنات البطارقة و أصاب فيها ما يعجز الوصف عنه و ذل الروم بصقلية من يومئذ و بعث ملك الروم عسكرا عظيما مع بعض بطارقته و ركبوا البحر إلى مرسى سرقوسة فجاءهم العباس من بليرم فقاتلهم و هزمهم و أقلع فلهم إلى بلادهم بعد أن غنم المسلمون من أسطولهم ثلاثة أو أكثر و ذلك سنة سبع و ثلاثين و افتتح بعدها كثيرا من قلاع صقلية و جاء مدد الروم من القسطنطينية و هو يحاصر قلعة الروم فنزلوا سرقوسة و زحف إليهم العباس من مكانه و هزمهم و رجع إلى قصريانة فحصنها و أنزل بها الحامية ثم سار سنة سبع و أربعين إلى سرقوسة فغنم و رجع و اعتل في طريقه فهلك منتصف سنته و دفن في نواحي سرقوسة و أحرق النصارى شلوه و ذلك لإحدى عشرة سنة من إمارته و اتصل الجهاد بصقلية و الفتح و أجاز المسلمون إلى عدوة الروم في الشمال و غزوا أرض قلورية و انكبرده و فتحوا فيها حصونا و سكن بها المسلمون و لما توفي العباس اجتمع الناس على ابنه عبد الله و كتبوا إلى صاحب أفريقية و بعث عبد الله السرايا ففتح القلاع و بعد خمسة أشهر من ولايته وصل خفاجة بن سفيان من أفريقية على صقلية في منتصف ثمان و أربعين و أخرج ابنه محمودا في سرية إلى سرقوسة فعاث في نواحيها و خرج إليهم الروم فقاتلهم و ظفر و رجع ثم فتح مدينة نوطوس سنة خمس و خمسين إلى سرقوسة و جبل النار و استأمن إليه أهل طرميس ثم غدروا فسرح ابنه محمدا في العساكر و سبى أهلها ثم سار خفاجة إلى رغوس و افتتحها و أصابه المرض فعاد إلى بليرم ثم سار سنة ثلاث و خمسين إلى سرقوسة و قطانية فخرب نواحيها و أفسد زرعها و بعث سراياه في أرض صقلية فامتلأت أيديهم من الغنائم و في سنة أربع و خمسين وصل بطريق من القسطنطينية لأهل صقلية فقاتله جمع من المسلمين و هزموه و عاث خفاجة في نواحي سرقوسة و رجع إلى بليرم و بعث سنة خمس و خمسين ابنه محمدا في العساكر إلى طرميس و قد دله بعض العيون على بعض عوراتها فدخلوها و شرعوا في النهب و جاء محمد بن خفاجة من ناحية أخرى فظنوه مددا للعدو فأجفلوا و رآهم محمد مجفلين فرجع ثم سار خفاجة إلى سرقوسة فحاصرها و عاث في نواحيها و رجع فاغتاله بعض عسكره في طريقه و قتله و ذلك سنة خمس و خمسين و ولى الناس عليهم ابنه محمدا و كتبوا إلى محمد بن أحمد أمير أفريقية فأقره على الولاية و بعث إليه بعهده (4/257)
ابراهيم بن أحمد أخو أبي الغرانيق
و لما توفي أبو الغرانيق ولي أخوه ابراهيم و قد كان عهد لابنه أبي عقال و استحلف أخاه ابراهيم أن لا ينازعه و لا يعرض له بل يكون نائبا عنه إلى أن يكبر فلما مات عدا عليه أهل القيروان و حملوه على الولاية عليهم لحسن سيرته وعد له فامتنع ثم أجاب و ترك وصية أبي الغرانيق في ولده أبي عقال و انتقل إلى قصر الإمارة و قام بالأمر أحسن قيام و كان عادلا حازما فقطع البغي و الفساد و جلس لسماع شكوى المتظلمين فأمنت البلاد و بنى الحصون و المحارس بسواحل البحر حتى كانت النار توقد في ساحل سبتة للنذير بالعدو فيتصل إيقادها بالإسكندرية في الليلة الواحدة و بنى سور سوسة و في أيامه كان مسير العباس بن أحمد بن طولون مخالفا على أبيه صاحب مصر سنة خمس و ستين و مائتين فملك برقة من يد محمد بن قهرب قائد ابن الأغلب ثم ملك لبدة ثم حاصر طرابلس و استمد ابن قهرب بقوسة فأمدوه و لقي العباس بن طولون بقصر حاتم سنة سبع و ستين فهزمه و رجع إلى مصر ثم خالفت وزداجة و منعوا الرهن و فعلت مثل ذلك هوارة ثم لواتة و قتل ابن قهرب في حروبهم فسرح إبراهيم ابنه أبا العباس عبد الله إليهم في العساكر سنة تسع و ستين فأثخن فيهم و في سنة ثمانين كثر الخوارج و فرق العساكر إليهم فاستقاموا و استركب العبيد السودان و استكثر منهم فبلغوا ثلاثة آلاف و في سنة إحدى و ثمانين انتقل إلى سكنى تونس و اتخذ بها القصور ثم تحرك إلى مصر سنة ثلاث و ثمانين لمحاربة ابن طولون و اعترضته نفوسة فهزمهم و أثخن فيهم ثم انتهى إلى سرت فانفضت عنه الحشود فرجع و بعث ابنه أبا العباس عبد الله على صقلية سنة سبع و ثمانين فوصل إليها في مائة و ستين مركبا و حصر طرابة و انتقض عليه بليرم و أهل كبركيت و كانت بينهم فتنة فأغراه كل واحد منهم بالآخرين ثم اجتمعوا لحربه و زحف إليه أهل بليرم في البحر فهزمهم و استباحهم و بعث جماعة من وجوهها إلى أبيه و فر آخرون من أعيانهم إلى القسطنطينية و آخرون إلى طرميس فاتبعهم و عاث في نواحيها ثم حاصر أهل قطانية فامتنعوا عليه فأعرض عن قتال المسلمين و تجهز سنة ثمان و ثمانين للغزو فغزا دمقش ثم مسيني ثم جاء في البحر إلى ربو ففتحها عنوة و شحن مراكبه بغنائمها و رجع إلى مسيني فهدم سورها و جاء مدد القسطنطينية في المراكب فهزمهم و أخذ لهم ثلاثين مركبا ثم أجاز إلى عدوة الروم و أوقع بأمم الفرنجة من وراء البحر و رجع إلى صقلية و جاء فى هذه السنة رسول المعتضد بعزل الأمير إبراهيم لشكوى أهل تونس به فاستقدم ابنه أبا العباس من صقلية و ارتحل هو إليها مظهرا لغربة الانتجاع هكذا قال ابن الرقيق و ذكر أنه كان جائرا ظلوما سفاكا للدماء و أنه أصابه آخر عمره ماليخوليا أسرف بسببها في القتل فقتل من خدمه و نسائه و بناته ما لا يحصى و قتل ابنه أبا الأغلب لظن ظنه به و افتقد ذات يوم منديلا لشرابه فقتل بسببه ثلاثمائة خادم و أما ابن الأثير فأثنى عليه بالعقل و العدل و حسن السيرة و ذكر أن فتح سرقوسة كان في أيامه على يد جعفر بن محمد أمير صقلية و أنه حاصرها تسعة أشهر و جاءهم المدد من قسطنطينية في البحر فهزمهم ثم فتح البلد و استباحها و اتفقوا كلهم على أنه ركب البحر من أفريقية إلى صقلية فزل طرابنة ثم تحول عنها إلى بليرم و نزل على دمقش و حاصرها سبعة عشر يوما ثم فتح مسيني و هدم سورها ثم فتح طرميس آخر شعبان من سنة تسع و ثمانين و وصل ملك الروم بالقسطنطينية ففتحها ثم بعث حافده زيادة الله ابن ابنه أبي العباس عبد الله إلى قلعة بيقش فافتتحها و ابنه أبو محرز إلى رمطة فأعطوه الجزية ثم عبر إلى عدوة البحر و سار في بر الفرنج و دخل قلورية عنوة فقتل و سبى و رهب منه الفرنجة ثم رجع إلى صقلية و رغب منه النصارى في قبول الجزية فلم يجب إلى ذلك ثم سار إلى كنسة فحاصرها و استأمنوا إليه فلم يقبل ثم هلك و هو محاصر لها آخر تسع و ثمانين لثمان و عشرين سنة من إمارته فولى أهل العسكر عليهم حافده أبا مضر ليحفظ العساكر و الأمور إلى أن يصل ابنه أبو العباس و هو يومئذ بأفريقية فأمن أهل كنسة قبل أن يعملوا بموت جده و قبل منهم الجزية و أقام قليلا حتى تلاحقت به السرايا من النواحي ثم ارتحل و حمل جده إبراهيم فدفنه في بليرم و قال ابن الأثير : حمله إلى القيروان فدفنه بها (4/259)
ظهور الشيعى بكتامة
و في أيامه ظهر أبو عبد الله الشيعي بكتامة يدعو للرضا من آل محمد و يبطن الدعوة لعبيد الله المهدى من أبناء إسماعيل الإمام و اتبعه كتامة و هو من الأسباب التي دعته للتوبة و الإقلاع و الخروج إلى صقلية و بعث إليه موسى بن عياش صاحب صلة بالخبر و بعث إبراهيم رسوله إلى الشيعي بأنكجان يهدده و يحذره فلم يقبل و أجابه بما يكره فلما قربت أمور أبي عبد الله و جاء كتاب المعتضد لإبراهيم كما قدمناه أظهر التوبة و مضى إلى صقلية و كانت بعده بأفريقية حروب أبي عبد الله الشيعي مع قبائل كتامة حتى استولى عليهم و اتبعوه و كان إبراهيم قد أسر لابنه أبي العباس في شأن الشيعي و نهاه عن محاربته و أن يلحق به إلى صقلية إن ظهر عليه (4/261)
ابنه أبو العباس عبد الله بن إبراهيم أخي محمد أبي الغرانيق
و لما هلك إبراهيم سنة تسع و ثمانين كما قدمناه قدم حافده زيادة الله بالجيوش على أبيه أبي العباس عبد الله فقام بأمر أفريقية و عظم غناؤه و كتب إلى العمال كتابا يقرأ على الناس بالوعد الجميل و العدل و الرفق و الجهاد و اعتقل ابنه زيادة الله هذا لما بلغه عنه من اعتكافه على اللذات و اللهو و أنه يروم التوثب عليه و ولى على صقلية مكانه محمد بن السرقوسي و كان أبو العباس حسن السيرة عادلا بصيرا بالحروب و كانت أيامه صالحة و كان نزوله بتونس و لما توفي استولى أبو عبد الله الشيعي على كتامة و دخلوا في أمره كافة و زحف إلى ميلة فافتتحها و قتل موسى بن عياش و كان فتح بن يحيى أمير مسالة من كتامة حارب أبا عبد الله طويلا ثم غلبه و استولى على قومه فنزع فتح إلى أبي العباس و حرضه على قتال يكزاخول و إنما كان يكر على جفنة إذا نظر و زحف إليه من تونس سنة تسع و ثمانين و مائتين و دخل سطيف ثم بلزمه و قتل من دخل في دعوتهم و لقيه أبو عبد الله الشيعي فانهزم و هرب من تاوزرت إن أنكجان و هدم أبو خول قصر الشيعي ثم قاتلهم يوما إلى الليل فانهزم عسكر أبي خول و لحق بتونس و رجع بكتامة إلى مواضعهم و لما دخل أبو خول بأبيه جدد له العسكر و أعاده ثانية و انتظمت إليه القبائل و سار حتى نزل سطيف ثم ارتحل منها إلى لقائهم و زحف إليه أبو عبد الله فهزمه و رجع إلى سطيف ثم ارتحل منها إلى لقائهم و في أثناء ذلك صانع زيادة الله بعض الخدم على قتل أبيه أبي العباس فقتل نائما في شعبان سنة تسعين و مائتين و أطلق زيادة الله من اعتقاله (4/262)
ابنه أبو مضر زيادة الله
و لما أطلق زيادة الله من الاعتقال اجتمع أهل الدولة و بايعوا له فقتل الخصيان
الذين قتلوا أباه و أقبل على اللذات و اللهو و معاشرة المضحكين و الصفاعين و أهمل أمور الملك و استقل و كتب إلى أخيه أبي خول على لسان أبيه يستقدمه و قدم فقتله و قتل عمومته و إخوته و قوي أمر الشيعي و انتقل زيادة الله إلى رقادة ليلا لئلا يخالفه الشيعي إليها و فتح الشيعي مدينة سطيف فسرح زيادة الله العساكر لحربه و عقد عليها لإبراهيم بن حبيش من صنائعه فخرج في أربعين ألفا و أقام بقسطيلة ستة أشهر فاجتمعت إليه مائة ألف و زحف إلى كتامة و تلقوه بأجانة فاخترمت عساكره و ولت الهزيمة عليه و انتهى إلى باغاية ثم انتقل إلى القيروان و افتتح أبو عبد الله مدينة طبنة و قتل فتح بن يحيى المسالتي و كان بها ثم فتح بلزمة و هدم سورها ثم و صل عروبة بن يوسف من أمراء كتامة إلى باغاية و أوقع بالعساكر التي كانت بها مجمرة لحربهم بنظر هرون بن الطبني و أرسل أبو عبد الله الشيعي إلى تيحيسن فحاصرها ثم افتتحها صلحا و كثر الأرجاف بالقيروان ففتح زيادة الله ديوان العطاء و استلحق و استركب و أجمع الخروج فخرج إلى الأربس سنة خمس و تسعين فلما انتهى إليها تخوف غائلة الشيعي و أشار عليه أهل بيته بالرجوع فرجع إلى رقادة و قدم على العساكر إبراهيم بن أبي الأغلب من وجوه أهل بيته ثم زحف أبو عبد الله إلى باغاية ففتحها صلحا و هرب عاملها ثم سرب أبو عبد الله الجيوش فبلغت مجانة و أوقعوا بقبائل نفزة و استولوا على تيفاش و زحف ابن أبي الأغلب إلى تيفاش فمنعه أهلها و هزموا طلائعه فافتتحها و قتل من كان بها ثم خرج أبو عبد الله الشيعي في عساكر كتامة إلى باغاية ثم إلى سكاية ثم إلى سبيبة ثم إلى حمودة فاستولى على جميعها و أمن أهلها و رحل ابن أبي الأغلب من الأربس ثم سار أبو عبد الله إلى قسطيلة و قفصة فأمنهم و دخلوا في دعوته و انصرف إلى باغاية ثم إلى أنكجان و زحف ابن أبي الأغلب إلى باغاية فقاتلها و امتنعت عليه و رجع إلى الأربس ثم زحف أبو عبد الله إلى الأربس سنة ست و تسعين في جمادى و مر بشق بناربة و أمن أهلها إلى قمودة (4/263)
خروج زيادة الله إلى المشرق
و لما وصل الخبر إلى زيادة الله بوصول الشيعي إلى قمودة حمل أمواله و أثقاله و لحق بطرابلس معتزما على الشرق و أقبل الشيعي إلى أفريقية و في مقدمته عروبة بن يوسف و حسن بن أبي خنزير و وصل إلى رقادة في رجب سنة ست و تسعين و مائتين و تلقاه أهل القيروان و بايعوا لعبيد الله المهدي كما ذكرناه في أخبارهم و دولتهم و أقام زيادة الله بطرابلس سبعة عشر يوما وانصرف ومعه إبراهيم بن الأغلب و كان نمي عنه أنه أراد الاستبداد لنفسه بالقيروان بعد خروج زيادة الله فأعرض عنه و أطرحه و بلغ مصر فمنعه عاملها عيسى البرشدي من الدخول إلا عن أمر الخليفة و أنزله بظاهر البلد ثمانية أيام و انصرف إلى ابن الفرات وزير المقتدر يستأذن له في الدخول فأتاه كتابه بالمقام في الرقة حتى يأتيه رأي المقتدر فأقام بها سنة ثم جاءه كتاب المقتدر بالرجوع إلى أفريقية و أمر النوشزي بإمداده بالرجال و المال لاسترجاع الدعوة بأفريقية و وصل إلى مصر فأصابته بها علة مزمنة و سقط شعره و يقال إنه سم و خرج إلى بيت المقدس و مات بها و تفرق بنو الأغلب و انقطعت أيامهم و البقاء لله وحده و الله سبحانه و تعالى أعلم (4/264)
بقية أخبار صقلية و دولة بني أبي الحسن الكلبيين بها من العرب المستبدين بدعوة العبيديين و بداية أمرهم و تصاريف أحوالهم
و لما استولى عبيد الله المهدي على إفريقية و دانت له و بعث العمال فى نواحيها بعث على جزيرة صقلية الحسن بن محمد بن أبي خنزير من رجالات كتامة فوصل إلى مأزر سنة سبع و تسعين و مائتين في العساكر فولى أخاه على كبركيت و ولى على القضاء بصقلية إسحق بن المنهال ثم سار سنة ثمان و تسعين و مائتين فى العساكر إلى ومش فعاث فى نواحيها و رجع ثم شكى أهل صقلية سوء سيرته و ثاروا به و حبسوه و كتبوا إلى المهدي معتذرين فقبل عذرهم و ولى عليهم أحمد بن قهرب و بعث سرية إلى أرض قلورية فدوخوها و رجعوا بالغنائم و السبي ثم أرسل سنة ثلاثمائة ابنه عليا إلى قلعة طرمين المحدثة ليتخذها حصنا لحاشيته و أمواله حذرا من ثورة أهل صقلية فحصرها ابنه ستة أشهر ثم اختلف عليه العسكر فأحرقوا خيامة و أرادوا قتله فمنعه العرب و دعا هو الناس إلى طاعة المقتدر فأجابوه و قطع خطبة المهدي و بعث الأسطول إلى أفريقية و لقوا أسطول المهدي و قائده الحسن بن أبي خنزير فقتلوه و أحرقوا الأسطول و سار أسطول ابن قهرب إلى صفاقس فخربوها و انتهوا إلى طرابلس و انتهى الخبر إلى القائم بن المهدي ثم وصلت الخلع و الألوية من المقتدر إلى ابن قهرب ثم بعث الجيش في الأسطول إلى قلورية فعاثوا في نواحيها و رجعوا ثم بعث ثانية أسطولا إلى أفريقية فظفر به أسطول المهدي فانتقض أمره و عصى عليه أهل كبركيت و كاتبوا المهدي ثم ثار الناس بابن قهرب آخر الثلاثمائة و حبسوه و أرسلوه إلى المهدي فأمر بقتله على قبر ابن خنزير في جماعة من خاصته و ولى على صقلية أبا سعيد بن أحمد و بعث معه العساكر من كتامة فركب إليها البحر فنزل في طرابنة و عصى عليه أهل صقلية بمن معه من العساكر فامتنعوا عليه و قاتله أهل كبركيت و أهل طرابنة فهزمهم و قتلهم ثم استأمن إليه أهل طرابنة فأمنهم و هدم أبوابها و أمره المهدي بالعفو عنهم ثم ولى المهدي على صقلية سالم بن راشد و أمده سنة ثلاث عشرة بالعساكر فعبر البحر إلى أرض إنكبردة فدوخها و فتحوا فيها حصونا و رجعوا ثم عادوا إليها ثانية و حاصروا مدينة أدرنت أياما و رحلوا عنها و لم يزل أهل صقلية يغيرون على ما بأيدي الروم من جزيرة صقلية و قلورية و يعيثون في نواحيها و بعث المهدي سنة اثنتين و عشرين جيشا في البحر مع يعقوب بن إسحق فعاث في نواحي جنوة و رجعوا ثم بعث جيشه من قابل ففتحوا مدينة جنوة و مروا بسردانية فأحرقوا فيها مراكب و إنصرفوا و لما كانت سنة خمس و عشرين و ثلاثمائة انتقض أهل كبركيت على أميرهم سالم بن راشد و قاتلوا جيشه و خرج إليهم سالم بنفسه فهزمهم و حصرهم ببلدهم و استمد القائم فأمده بالعساكر مع خليل بن إسحق فلما وصل إلى صقلية شكا إليه أهلها من سالم بن راشد و استرحمته النساء و الصبيان و جاءه أهل كبركيت و غيرها من أهل صقلية بمثل ذلك فرق لشكواهم و دس إليهم سالم بأن خليلا إنما جاء للانتقام منهم بمن قتلوا من العسكر فعاودوا الخلاف و اختط خليل مدينة على مرسى المدينة و سماها الخالصة و تحقق بذلك أهل كبركيت ما قال لهم سالم و استعدوا للحرب فسار إليهم خليل منتصف ست و عشرين و حصرهم ثمانية أشهر يغاديهم بالقتال و يراوحهم حتى إذا جاء الشتاء رجع إلى الخالصة و اجتمع أهل صقلية على الخلاف و استمدوا ملك القسطنطينية فأمدهم بالمقاتلة و الطعام و استمد خليل القائم فأمده بالجيش فافتتح قلعة أبي ثور و قلعة البلوط و حاصر قلعة بلاطنو إلى أن انقضت سنة سبع و عشرين فارتحل عنها و حاصر كبركيت ثم حبس عليها عسكر للحصار مع أبي خلف بن هرون و رحل عنها و طال حصارها إلى سنة تسع و عشرين فهرب كثير من أهل البلد إلى بلد الروم و استأمن الباقون فأمنهم على النزول عن القلعة ثم غدر بهم فارتاع لذلك سائر القلاع و أطاعوا و رجع خليل إلى أفريقية آخر سنة تسع و عشرين و حمل معه وجوه أهل كبركيت في سفينة و أمر بخرقها في لجة البحر فغرقوا أجمعين ثم ولى على صقلية عطاف الأزدي ثم كانت فتنة أبي يزيد و شغل القائم و المنصور بأمره فلما انقضت فتنة أبي يزيد عقد المنصور على صقلية للحسن بن أبي الحسن الكلبي من صنائعهم و وجوه قواده و كنيته أبو الغنائم و كان له في الدولة محل كبير و في مدافعة أبي يزيد غناء عظيم و كان سبب ولايته أن أهل بليرم كانوا قد استضعفوا عطافا و استضعفهم العدو لعجزه فوثب به أهل المدينة يوم الفطر من سنة خمس و ثلاثين و تولى كبر ذلك بنو الطير منهم و نجا عطاف إلى الحصن و بعث للمنصور يعلمه و يستمده فولى الحسن بن علي على صقلية و ركب البحر إلى مأزر و أرسى بها فلم يلقه أحد منهم و أتاه في الليل جماعة من كتامة و اعتذروا إليه عن الناس بالخوف من بني الطير و بعث بنو الطير عيونهم عليه و استضعفوه و واعدوه أن يعودوا إليه فسبق ميعادهم و دخل المدينة و لقيه حاكم البلد و أصحاب الدواوين و اضطر بنو الطير إلى لقائه و خرج إليهم كبيرهم إسماعيل و لحق به من انحرف عن بني الطير فكثر جمعه و دس إسماعيل بعض غلمانه فاستغاث بالحسن من بعض عبيده أنه أكره امرأته على الفاحشة يعتقد أن الحسن لا يعاقب مملوكه فتخشن قلوب أهل البلد عليه و فطن الحسن لذلك فدعا الرجل و استحلفه على دعواه و قتل عبده فسر الناس بذلك و مالوا عن الطيري و أصحابه و افترق جمعهم و ضبط الحسن أمره و خشي الروم بادرته فدفعوا إليه جزية ثلاث سنين و بعث ملك الروم بطريقا في البحر في عسكر كبير إلى صقلية و اجتمع هو و السردغرس و استمد الحسن بن علي المنصور فأمده بسبعة الآف فارس و ثلاثة الآف و خمسمائة راجل و جمع الحسن من كان عنده و سار برا و بحرا و بعث السرايا في أرض قلورية و نزل على أبراجه فحاصرها و زحف إليه الروم فصالحه على مال أخذه و زحف إلى الروم ففروا من غير حرب و نزل الحسن على قلعة قيشانة فحاصرها شهرا و صالحهم على مال و رجع بالأسطول إلى مسينى فشتى بها و جاءه أمر المنصور بالرجوع إلى قلورية فعبر إلى خراجة فلقي الروم و السردغرس فهزمهم و امتلأ من غنائمهم و ذلك يوم عرفة سنة أربعين و ثلاثمائة ثم سار إلى خراجة فحاصرها حتى هادنه ملك الروم قسطنطين ثم عاد إلى ربو و بنى بها مسجدا وسط المدينة و شرط على الروم أن لا يعرضوا له و أن من دخله من الأسرى أمن و لما توفي المنصور و ملك ابنه المعز سار إليه الحسن و استخلف على صقلية ابنه أحمد و أمره المعز بفتح القلاع التي بقيت للروم بصقلية فغزاها و فتح طرمين و غيرها سنة إحدى و خمسين و أعيته رمطة فحاصرها فجاءها من القسطنطينية أربعون ألفا مددا و بعث أحمد يستمد المعز فبعث إليه المدد بالعساكر و الأموال مع أبيه الحسن و جاء مدد الروم فنزلوا بمرسى مسينة و زحفوا إلى رومطة و مقدم الجيوش على حصارها الحسن بن عمار و ابن أخي الحسن بن علي فأحاط الروم بهم و خرج أهل البلد إليهم و عظم الأمر على المسلمين فاستماتوا و حملوا على الروم و عقروا فرس قائدهم منويل فسقط عن فرسه و قتل جماعة من البطارقة معه و انهزم الروم وتتبعهم المسلمون بالقتل وامتلأت أيديهم من الغنائم و الأسرى و السبي ثم فتحوا رمطة عنوة و غنموا ما فيها و ركب فل الروم من صقلية و جزيرة رفق في الأسطول ناجين بأنفسهم فأتبعهم الأمير أحمد في المراكب فحرقوا مراكبهم و قتل كثير منهم و تعرف هذه الوقعة بوقعة المجاز و كانت سنة أربع و خمسين و أسر فيها ألف من عظمائهم و مائة بطريق و جاءت الغنائم و الأسارى إلى مدينة بليرم حاضرة صقلية و خرج الحسن للقائهم فأصابته الحمى من الفرح فمات و حزن الناس عليه و ولي ابنه أحمد باتفاق أهل صقلية بعد أن ولى المعز عليهم يعيش مولى الحسن فلم ينهض بالأمر و وقعت الفتنة بين كتامة و القبائل و عجز عن تسكينها و بلغ الخبر إن المعز فولى عليها أبا القاسم علي بن الحسن نيابة عن أخيه أحمد ثم توفي أحمد بطرابلس سنة تسع و خمسين و استبد بالأمارة أخوه أبو القاسم علي و كان مدلا محبا و سار إليه سنة إحدى و سبعين و ثلاثمائة ملك الفرنج في جموع عظيمة و حصر قلعة رمطة و ملكها و أصاب سرايا المسلمين و سار الأمير أبو القاسم في العساكر من بليرم يريدهم فلما قاربهم خاف من اللقاء و رجع و كان الأفرنج في الأسطول يعاينونه فبعثوا بذلك للملك بردويل فسار في اتباعه و أدركه فاقتتلوا و قتل أبو القاسم في الحرب و أهم المسلمين أمرهم فاستماتوا و قاتلوا الفرنج فهزموهم أقبح هزيمة و نجا بردويل إلى خيامه برأسه و ركب البحر إلى رومة و ولى المسلمون عليهم بعد الأمير أبي القاسم إبنه جابر فرحل بالمسلمين لوقته راجعا و لم يعرج على الغنائم و كانت ولاية الأمير أبي القاسم اثنتي عشرة سنة و نصفا و كان عادلا حسن السيرة و لما ولي ابن عمه جعفر بن محمد بن علي بن أبي الحسن و كان من وزراء العزيز و ندمائه استقامت الأمور و حسنت الأحوال و كان يحب أهل العلم و يجزل الهبات لهم و توفي سنة خمس و سبعين و ثلاثمائة و ولي أخوه عبد الله فاتبع سيرة أخيه إلى أن توفي سنة تسع و سبعين و ثلاثمائة و ولي إبنه ثقة الدولة أبو الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي الحسن فأنسى بجلائله و فضائله من كان قبله منهم إلى أن أصابه الفالج و عطل نصفه الأيسر سنة ثمان و ثمانين و ثلاثمائة و ولي ابنه تاج الدولة جعفر بن ثقة الدولة يوسف فضبط الأمور و قام بأحسن قيام و خالف عليه أخوه علي سنة خمس و أربعمائة مع البربر و العبيد فزحف إليه جعفر فظفر به و قتله و نفى البربر و العبيد و استقامت أحواله ثم انقلبت حاله و اختلت على يد كاتبه و وزيره حسن بن محمد الباغاني فثار عليه الناس بسببها و جاؤا حول القصر و أخرج إليهم أبو الفتوح في محفة فتلطف بالناس و سلم إليهم الباغاني فقتلوه و قتلوا حافده أبا رافع و خلع ابنه ابن جفعر و رحل إلى مصر و ولى ابنه ابن جعفر سنة عشرة و أربعمائة و لقبه بأسد الدولة بن تاج الدولة و يعرف بالأكحل فسكن الاضطراب و استقامت الأحوال و فوض الأمور إلى ابنه ابن جعفر و جعل مقاليد الأمور بيده فأساء ابن جعفر السيرة و تحامل على صقلية و مال إلى أهل أفريقية و ضج الناس و شكوا أمرهم إلى المعز صاحب القيروان و أظهروا دعوته فبعث الأسطول فيه ثلاثمائة فارس مع ولديه عبد الله و أيوب و اجتمع أهل صقلية و حصروا أميرهم الأكحل و قتل و حمل رأسه إلى المعز سنة سبع عشرة و أربعمائة ثم ندم أهل صقلية على ما فعلوه و ثاروا بأهل أفريقية و قتلوا منهم نحوا من ثلاثمائة و أخرجوهم و ولوا الصمصام أخا الأكحل فاضطربت الأمور و غلب السفلة على الأشراف ثم ثار أهل بليرم على الصمصام و أخرجوه و قدموا عليهم ابن الثمنة من رؤس الأجناد و تلقب القادر بالله و استبد بمازر ابنه عبد الله قبل الصمصام و غلب ابن الثمنة على ابن الأكحل فقتله و استقل بملك الجزيرة إلى أن أخذت من يده و لما استبد ابن الثمنة بصقلية تزوج ميمونة بنت الجراس فتخيل له منها شيء فسقاها السم ثم تلافاها و أحضر الأطباء فأنعشوها و أفاقت فندم و اعتذر فأظهرت له القبول و استأذنته في زيارة أخيها بقصريانة و أخبرت أخاها فحلف أن لا يردها و وقعت الفتنة و حشد ابن الثمنة فهزمه ابن جراس فانتصر ابن الثمنة بالروم و جاء القمص و جاز ابن ينقر بن خبرة و معه سبعة من إخوته و جمع من الإفرنج و وعدهم بملك صقلية فداخل في بيع مية و قصد قصريانة و حكموا على مروا من المنازل و خرج ابن جراس فهزمه و رجع إلى أفريقية عمر بن خلف بن مكي فنزل و ولى قضاءها و لم يزل الروم يملكونها حتى لم يبق إلا المعاقل و خرج ابن الجراس بأهله و ماله صلحا سنة أربع و ستين و أربعمائة و تملكها رجار كلها و انقطعت كلمة الإسلام منها و دولة الكلبيين و هم عشرة و مدتهم خمس و تسعون سنة و مات رجار في قلعة مليطو من أرض قلورية سنة أربع و تسعين و ولي ابنه رجار الثاني و طالت أيامه و له ألف الشريف أبو عبد الله الإدريسي كتاب نزهة المشارق في أخبار الآفاق و سماه قصار رجار علما عليه معروفا به في الشهرة و الله مقدر الليل و النهار (4/264)
الخبر عن جزيرة إقريطش و ما كان بها للمسلمين من الملك على يد بني البلوطي إلى أن استرجعها العدو
هذه الجزيرة من جزر البحر الرومي ما بين صقلية و قبرس في مقابلة الإسكندرية على يد الجالية أهل الربض و ذلك أن أهل الربض الغربي من قرطبة و كان محلة متصلة بقصر الحكم بن هشام فنقموا عليه و ثاروا به سنة اثنتين و مائتين فأوقع بهم الوقعة المشهورة و استلحمهم و هدم ديارهم و مساجدهم و أجلى الفل منهم إلى العدوة و نزلوا بفاس و غيرها و غرب آخرين إلى الإسكندرية فنزلوا و افترقوا في جوانبها و تلاحى رجل منهم مع جزار من سوقة الإسكندرية فنادوا بالثأر و استلحموا كثيرا من أهل البلد و أخرجوا بقيتهم و امتنعوا بها و ولوا عليهم أبا حفص عمر بن شعيب البلوطي و يعرف بأبي الفيض من أهل قرية مطروح من عمل فحص البلوط المجاور لقرطبة فقام برياستهم و كان على مصر يومئذ عبد الله بن طاهر فزحف إليهم و حصرهم بالإسكندرية فاستأمنوا له فأمنهم و بعثهم إلى جزيرة أقريطش فعمروها و أميرهم أبو حفص البلوطي و تداولها بنوه من بعده مدة من مائة و أربعين سنة إلى أن ملكها أريانوس بن قسطنطين ملك القسطنطينية من يد عبد العزيز بن شعيب من أعقابه سنة خمس و ثلاثمائة و أخرجوا المسلمين منها و الله يعيد الكرة و يذهب آثار الكفرة و الله سبحانه و تعالى أعلم بالصواب (4/270)
أخبار اليمن و الدول الاسلامية التي كانت فيه للعباسيين و العبيديين و سائر ملوك العرب و ابتداء ذلك و تصاريفه على الجملة ثم تفصيل ذلك على مدنه و ممالكه واحدة بعد واحدة
قد كنا قدمنا في أخبار السير النبوية كيف صار اليمن في ملكة الإسلام بدخول عامله في الدعوة الإسلامية و هو باذان عامل كسرى و أسلم معه أهل اليمن و أمره النبي صلى الله عليه و سلم على جميع مخاليفها و كان منزله صنعاء كرسي التبابعة و لما مات بعد حجة الوداع قسم النبي صلى الله عليه و سلم اليمن على عمال من قبله و جعل صنعاء لابنه شهربان بن باذان و ذكرنا خبر الأسود العنسي و كيف أخرج عمال النبي صلى الله عليه و سلم من اليمن و زحف إلى صنعاء فملكها و قتل شهربان بن باذان و تزوج إمرأته و استولى على أكثر اليمن و ارتد أكثر أهله و كتب النبي صلى الله عليه و سلم إلى أصحابه و عماله و إلى من ثبت على إسلامه فداخلوا زوجة شهربان بن باذان التي تزوجها في أمره على يد ابن عمها فيروز و تولى كبر ذلك قيس بن عبد يغوث المرادي فبيته هو و فيروز و ذاذويه بإذن زوجته فقتلوه و رجع عمال النبي صلى الله عليه و سلم إلى أعمالهم و ذلك قبيل الوفاة و استبد قيس بصنعاء و جمع الفل من جند الأسود فولى أبو بكر على اليمن فيروز فيمن إليه من الأبناء و أمر الناس بطاعته فقاتل قيس بن مكشوح و هزمه ثم ولى أبو بكر المهاجر بن أبي أمية فقاتل أهل الردة باليمن و كذلك عكرمة بن أبي جهل و أمره أن يبدأ بالمرتده فسار معها و حضر حرب الجمل و ولي على اليمن عبيد الله بن عباس ثم أخاه عبد الله ثم ولى معاوية على صنعاء فيروز الديلمي و مات سنة ثلاث و خمسين ثم جعل عبد الملك اليمن في ولاية الحجاج لما بعثه لحرب ابن الزبير سنة اثنتين و سبعين و لما جاءت دولة بني العباس ولى السفاح على اليمن عمه داود بن علي حتى إذا توفي سنة ثلاث و ثلاثين و مائة ولى مكانه محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد الملك عبد الدار ثم تعاقب الولاة على اليمن و كانوا ينزلون صنعاء حتى انتهت الخلافة إلى المأمون و ظهرت دعاة الطالبيين بالنواحي و بايع أبو السرايا من بني شيبان بالعراق لمحمد بن إبراهيم طباطبا بن إسماعيل بن ابراهيم أخو المهدي النفس الزكية محمد بن عبد الله بن حسن و كثر الهرج و فرق العمال في الجهات ثم قتل و بويع محمد بن جعفر الصادق بالحجاز و ظهر باليمن إبراهيم بن موسى الكاظم سنة مائتين و لم يتم أمره و كان يعرف بالجزار لسفكه الدماء و بعث المأمون عساكره إلى اليمن فدوخوا نواحيه و حملوا كثيرا من وجوه الناس فاستقام أمر اليمن كما نذكره (4/270)
دعوة زياد بالدعوة العباسية
و لما وفد وجوه أهل اليمن على المأمون كان فيهم محمد زياد ولد عبد الله بن زياد بن أبي سفيان فاستعطف المأمون و ضمن له حياطة اليمن من العلويين فوصله و ولاه على اليمن و قدمها سنة ثلاث و مائتين و فتح تهامة اليمن و هي البلد التي على ساحل البحر الغربي و اختط بها مدينة زبيد و نزلها و أصارها كرسيا لتلك المملكة و ولى على الجبال مولاه جعفرا و فتح تهامة بعد حروب من العرب و اشترط على عرب تهامة أن لا يركبوا الخيل و استولى على اليمن أجمع و دخلت في طاعته أعمال حضرموت و الشحر و دياركندة و صار في مرتبة التبابعة و كان في صنعاء قاعدة اليمن بنو جعفر من حمير بقية الملوك التبابعة استبدوا بها مقيمين بالدعوة العباسية و لهم مع صنعاء سبحان و نجران و جرش و كان أخوهم أسعد بن يعفر ثم أخوه قد دخلوا في طاعة ابن زياد و ولي بعده ابنه ابراهيم ثم ابنه زياد بن ابراهيم ثم أخوه أبو الجيش إسحق بن ابراهيم و طالت مدته إلى أن أسن و بلغ الثمانين و قال عمارة ملك ثمانين سنة باليمن و حضرموت و الجزائر البحرية و لما بلغه قتل المتوكل و خلع المستعين و استبداد الموالي على الخلفاء مع ارتفاع اليمن ركب بالمظلة شأن سلاطين العجم المستبدين و في أيامه خرج باليمن يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي ابن ابراهيم بن طباطبا بدعوة الزيدية جاء بها من السند و كان جده القاسم قد فر إلى السند بعد خروج أخيه محمد مع أبي السرايا و مهلكه كما مر فلحق القاسم بالسند و أعقب بها الحسين ثم ابنه يحيى باليمن سنة ثمان و ثمانين و نزل صعدة و أظهر دعوة الزيدية و زحف إلى صنعاء فملكها من يد أسعد بن يعفر ثم استردها منه بنو أسعد و رجع إلى صعدة و كان شيعته يسمونه الإمام و عقبه الآن بها و قد تقدم خبرهم و في أيام أبي الجيش بن زياد أيضا ظهرت دعوة العبيديين باليمن فأقام بها محمد بن الفضل بعدن لاعة و جبال اليمن إلى جبال المديحرة سنة أربعين و ثلاثمائة و بقي له باليمن من السرجة إلى عدن عشرون مرحلة ومن مخلافة إلى صنعاء خمس مراحل و لما غلبه محمد بن الفضل بهذه الدعوة امتنع أصحاب الأطراف عليه مثل بني أسعد بن يعفر بصنعاء و سليمان بن طرف بعثر و الإمام الرسي بصعدة فسلك معهم طريق المهادنة ثم هلك أبو الجيش سنة إحدى و سبعين و ثلاثمائة بعد أن اتسعت جبايته و عظم ملكه قال ابن سعيد : رأيت مبلغ جبايته و هو ألف ألف مكررة مرتين و ثلاثمائة ألف و ستة و ستون ألفا من الدنانير العشرية ما عدا ضرابية على مراكب السند و على العنبر الواصل بباب المندب و عدن أبين و على مغائص اللؤلؤ و على جزيرة دهلك و من بعضها وصائف و كانت ملوك الحبشة من وراء البحر يهادونه و يخطبون مواصلته و لما مات خلف صبيا صغيرا إسمه عبد الله و قيل ابراهيم و قيل زياد و كفلته أخته و مولاه رشيد الحبشي و استبد عليهم إلى أن انقرضت دولتهم سنة سبع و أربعمائة ثم هلك هذا الطفل فولوا طفلا آخر من بني زياد أصغر منه و قال ابن سعيد : لم يعرف عمارة إسمه لتوالي الحجبة عليه و يعني عمارة مؤرخ اليمن و قيل هذا الطفل الأخير اسمه إبراهيم و كفلته عمته و مرجان من موالي الحسن بن سلامة و استبد بأمرهم و دولتهم و كان له موليان اسم أحدهما قيس و الآخر نجاح فجعل الطفل المملك في كفالته و أنزله معه بزبيد و ولى نجاحا على سائر الأعمال خارج زبيد و منها الكرارة و اللجم كان يؤثر قيسا على نجاح و وقع بينهما تنافر و رفع لقيس أن عمة الطفل تميل إلى نجاح و تكاتبه دونه فقبض عليها بإذن مولاه مرجان و دفنها حية و استبد وركب بالمظلة و ضرب السكة و انتقض نجاح لذلك فزحف في العساكر و برز قيس للقائه فكانت بينهما حروب و وقائع انهزم قيس في آخرها و قتل في خمسة آلاف من عسكره و ملك نجاح زبيد سنة عشرة و أربعمائة و دفن قيسا و مولاه مرجانا مكان الطفل و العمة و استبد و ضرب السكة بإسمه و كاتب ديوان الخلافة ببغداد فعقد له على اليمن و لم يزل مالكا لتهامة قاهرا لأهل الجبال و انتزع الجبال كلها من مولاه الحسن بن سلامة و لم تزل الملوك تتقي صولته إلى أن قتله علي الصليحي القائم بدعوة العبيديين على يد جارية بعث بها إليه سنة اثنتين و خمسين و أربعمائة فقام بالأمر بعده بزبيد مولاه كهلان ثم استولى الصليحي على زبيد و ملكها من يده كما يذكر (4/271)
الخبر عن بني الصليحي القائمين بدعوة العبيديين باليمن
كان القاضي محمد بن علي الهمداني ثم الصليحي رئيس حران من بلاد همذان وينتسب في بني يام و نشأ له ولد إسمه علي و كان صاحب الدعوة يومئذ عامر بن عبد الله الزوايي نسبة إلى زواية من قرى حران و يقال إنه كان عنده كتاب لجعفر من ذخائر أبيهم بزعمهم فزعموا أن علي ابن القاضي محمد مذكور فيه فقرأ على علي عامل الداعي و أخذ عنه و لما توسم فيه الأهلية أراه مكان إسمه في الجفر و أوصافه و قال لأبيه القاضي احتفظ بابنك فيملك جميع اليمن و نشأ فقيها صالحا و جعل يحج بالناس على طريق الطائف و السروات خمس عشرة سنة فطار ذكره و عظمت شهرته و ألقى على ألسنة الناس أنه سلطان اليمن و مات الداعي عامر الزوايي فأوصى له بكتبه و عهد إليه بالدعوة ثم حج بالناس سنة ثمان و عشرين و أربعمائة على عادته و اجتمع بجماعة من قومه همذان كانوا معه فدعاهم إلى النصرة و القيام معه فأجابوه و بايعوه و كانوا ستين رجلا من رجالات قومهم فلما عادوا قام في مسار و هو حصن بذروة جبل حمام و حصن ذلك الحصن و لم يزل أمره ينمى و كتب إلى المستنصر صاحب مصر يسأله الإذن في إظهار الدعوة فأذن له و أظهرها و ملك اليمن كله و نزل صنعاء و اختط بها القصور و أسكن عنده ملوك اليمن الذين غلب عليهم و هزم بني طرف ملوك عثرة و تهامة و أعمل الحيلة في قتل نجاح مولى بني زياد ملك زبيد حتى تم له ذلك على يد جارية أهداها إليه كما ذكرناه سنة اثنتين و خمسين ثم سار إلى مكة بأمر المستنصر صاحب مصر ليمحو منها الدعوة العباسية و الأمارة الحسنية و استخلف على صنعاء ابنه المكرم أحمد و حمل معه زوجته أسماء بنت شهاب قد سباها سعيد بن نجاح ليلة البيات فكتبت إلى ابنها المكرم أني حبلى من العبد الأحول فأدركني قبل أن أضع و إلا فهو العار الذي لا يمحوه الدهر فسار المكرم من صنعاء سنة خمس و سبعين في ثلاثة آلاف و لقي الحبشة في عشرين ألفا فهزمهم و لحق سعيد بن نجاح بجزيرة دهلك و دخل المكرم إلى أمه و هي جالسة بالطاق الذي عنده رأس الصليحي و أخيه فأنزلهما و دفنهما و رفع السيف و ولى خاله أسعد بن شهاب على أعمال تهامة كما كان و أنزله بزبيد منها و ارتحل بأمه إلى صنعاء و كانت تدبر ملكه ثم جمع أسعد بن شهاب أموال تهامة و بعث بها مع وزيره أحمد بن سالم ففرقتها أسماء على وفود العرب ثم هلكت أسماء سنة سبع و سبعين و أربعمائة و خرجت زبيد من يد المكرم و استردها سعيد بن نجاح سنة تسع و سبعين و أربعمائة ثم انتقل المكرم إلى ذي جبلة سنة ثمانين و أربعمائة و ولى على صنعاء عمران بن الفضل الهمداني فاستبد بها و توارثها عقبه و تسمى إبنه أحمد باسم السلطان و اشتهر به و بعده ابنه حاتم ابن أحمد و ليس بعده بصنعاء من له ذكر حتى ملكها بنو سليمان لما غلبهم الهواشم على مكة كما مر في أخبارهم و لما انتقل المكرم إلى ذي جبلة و هي مدينة اختطها عبد الله بن محمد الصليحي سنة ثمان و خمسين و أربعمائة و كان انتقاله بإشارة زوجه سيدة بنت أحمد التي صار إليها تدبير ملكه بعد أمه أسماء فنزلها و بنى فيها دار العز و تحيل على قتل سعيد بن نجاح فتم له كما نذكر في أخبار ابن نجاح و كان مشغولا بلذاته محجوبا بزوجته و لما حضرته الوفاة سنة أربع و ثمانين عهد إلى ابن عمه المنصور بن أحمد المظفر بن علي الصليحي صاحب معقل أشيح و أقام بمعقله و سيدة بنت أحمد بذي جبلة و خطبها المنصور سبا و امتنعت منه فحاصرها بذي جبلة و جاءها أخوها لأمها سليمان بن عامر و أخبرها أن المستنصر زوجك منه و أبلغها أمره بذلك و تلا عليها : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } و أن أمير المؤمنين زوجك من الداعي المنصور أبي حمير سبا بن أحمد بن المظفر على مائة ألف دينار و خمسين ألفا من أصناف التحف و اللطائف فانعقد النكاح و سار إليها من معقل أشيح إلى ذي جبلة و دخل إليها بدار العز و يقال إنها شبهت بجارية من جواريها فقامت على رأسه ليلها كله و هو لا يرفع الطرف إليها حتى أصبح فرجع إلى معقله و أقامت هي بذي جبلة و كان المتولي عليها المفضل بن أبي البركات من بني تام رهط الصليحي و استدعى عشيرته جنيا و أنزلهم عنده بذي جبلة فكان يسطو بهم و كانت سيدة تأتي التعكر في الصيف و به ذخائرها و خزائنها فإذا جاء الشتاء رجعت إلى ذي جبلة ثم انفرد المفضل لقتال نجاح فرتب في حصن التعكر فقيها يلقب بالجمل مع جماعة من الفقهاء أحدهم إبراهيم بن زيد بن عمر عمارة الشاعر فبايعوا الجمل على أن يمحو الدعوة الإمامية فرجع المفضل من طريقه و حاصرهم و جاءت خولان لنصرتهم و ضايقهم المفضل و هلك في حصارهم سنة أربع و خمسمائة فجاءت بعده الحرة سيدة و أنزلتهم على عهد فنزلوا و وفت لهم به و كفلت عقب المفضل و ولده و صار معقل التعكر في يد عمران بن الذر الخولاني و أخيه سليمان و استولى عمران على الحرة سيدة مكان المفضل و لما ماتت استبد عمران و أخوه بحصن التعكر و استولى منصور بن المفضل بن أبي البركات على ذي جبلة حتى باعه من الداعي الذريعي صاحب عدن كما يأتي و اعتصم بمعقل أشيح الذي كان للداعي المنصور سبابن أحمد و ذلك أن المنصور توفى سنة ست و ثمانين و أربعمائة و اختلف أولاده من بعده و غلب ابنه علي منهم على المعقل و كان ينازع المفضل بن أبي البركات و الحرة سيدة و أعياهما أمره فتحيل المفضل بسم أودعه سفرجلا أهداه إليه فات منه و استولى بنو أبي البركات على بني المظفر في أشيح و حصونه ثم باع حصن ذي جبلة من الداعي الزريعي صاحب عدن بمائة ألف دينار و لم يزل يبيع معاقله حصنا حصنا حتى لم يبق له غير معقل تعز أخذه منه علي بن مهدي بعد أن ملك ثمانين سنة و بلغ من العمر مائة سنة و الله سبحانه و تعالى أعلم بالصواب (4/273)
الخبرعن دولة بني نجاح بزبيد موالي بني زياد و مبادىء أمورهم و تصاريف أحوالهم
و لما استولى الصليحي على زبيد من يد كهلان بعد أن أهلكه بالسم على يد الجارية التي بعثها إليه سنة اثنتين و خمسين و أربعمائة كما مر و كان لنجاح ثلاثة من الولد معارك و سعيد و جياش فقتل معارك نفسه و لحق سعيد و جياش بجزيرة دهلك و أقاما هنالك يتعلمان القرآن و الآداب ثم رجع سعيد إلى زبيد مغاضبا لأخيه جياش و اختفى بها في نفق احتفره تحت الأرض ثم استقدم أخاه جياشا فقدم و أقاما هنالك في الاختفاء ثم إن المستنصر العبيدي الخليفة بمصر قطع دعوته بمكة محمد بن جعفر أميرها من الهواشم فكتب إلى الصليحي يأمره بقتاله و حمله على إقامة الدعوة العلوية بمكة فسار علي الصليحي لذلك من صنعاء و ظهر سعيد و أخوه من الاختفاء و بلغ خبرهم الصليحي فبعث عسكرا نحوا من خمسة آلاف فارس و أمرهم بقتلهما و قد كان سعيد و جياش خالفا العسكر و سارا في اتباع الصليحي و هو في عساكره فبيتوه في اللجم و هو متوجه إلى مكة فانتقض عسكره و قتل و تولى قتله جياش بيده سنة ثلاث و سبعين و أربعمائة ثم قتل عبد الله الصليحي أخا علي في مائة وسبعين من بني الصليحي و أسر زوجته أسماء بنت عمه شهاب في مائة و خمس و ثلاثين من ملوك القحطانيين الذين غلبوا باليمن و بعث إلى العسكر الذين ساروا لقتل سعيد و جياش فأمنهم و استخدمهم و رحل إلى زبيد و عليها أسعد بن شهاب أخو زوجة الصليحي ففر أسعد إلى صنعاء و دخل سعيد إلى زبيد و أسماء زوجة الصليحي أمامه في هودج و رأس الصليحي و أخيه عند هودجها و أنزلها بدارها و نصب الرأسين قبالة طاقها في الدار و امتلأت القلوب منه رعبا و تلقب نصير الدولة و تغلب ولاة الحصون على ما بأيديهم و دس المكرم بن الصليحي بن سعيد بن نجاح بصنعاء على لسان بعض أهل الثغور و ضمن له الظفر فجاء سعيد لذلك في عشرين ألفا من الحبشة و سار إليه المكرم من صنعاء و هزمه و حال بينه و بين زبيد فهرب إلى جزيرة دهلك و دخل المكرم زبيد و جاء إلى أمه و هي جالسة بالطاق و عندها رأس الصليحي و أخيه فأنزلهما و دفنهما و ولى على زبيد خاله أسعد سنة سبع و تسعين و أربعمائة و كتب المكرم إلى عبد الله بن يعفر صاحب حصن الشعر بأن يغري سعيدا بالمكرم و انتزاع ذي جبلة من يده لاشتغاله بلذاته و استيلاء زوجه سيدة بنت أحمد عليه و أنه بلخ فتمت الحيلة فسار سعيد في ثلاثين ألفا من الحبشة و أكمن له المكرم تحت حصن الشعر فثاروا به هنالك و انهزمت عساكره و قتل و نصب رأسه عند الطاق الذي كان فيها رأس الصليحي بزبيد و استولى عليها المكرم و انقطع منها ملك الحبشة و هرب جياش و معه وزير أخيه خلف بن أبي الظاهر المرواني و دخلا عدن متنكرين ثم لحقا بالهند و أقاما بها ستة أشهر و لقيا هنالك كاهنا جاء من سمرقند فبشرهما بما يكون لهما فرجعا إلى اليمن و تقدم خلف الوزير إلى زبيد و أشاع موت جياش و استأمن لنفسه و لحق جياش فأقاما هنالك مختفيين و على زبيد يومئذ أسعد بن شهاب خال المكرم و معه علي بن القم وزير المكرم و كان حنقا على المكرم و دولته فداخله الوزير خلف و لاعب ابنه الحسين الشطرنج ثم انتقل إلى ملاعبة أبيه فاغتبط به و أطلعه على رأيه في الدولة و كان يتشيع لآل نجاح و انتمى بعض الأيام و هو يلاعب فسمعه علي بن القم و استكشف أمره فكشف له القناع و استحلفه و جياش أثناء ذلك يجمع أشياعه من الحبشة و ينفق فيهم الأموال حتى اجتمع له خمسة آلاف فثار بهم في زبيد سنة اثنتين و ثمانين و أربعمائة و نزل دار الإمارة و من على أسعد بن شهاب و أطلقه لزمانة و كانت به وبقي ملكا على زبيد يخطب للعباسيين و الصليحيون يخطبون للعبيديين و المكرم يبعث العرب للغارة على زبيد كل حين إلى أن هلك جياش على رأس المائة الخامسة و كانت كنيته ابن القطاي و كان موصوفا بالعدل و ولي بعده ابنه الفاتك صبيا لم يحتلم و دبروا ملكه و جاء عمه إبراهيم لقتاله و برزوا له فثار عبد الواحد بالبلد و بعث منصور إلى الفضل بن أبي البركات صاحب التعكر فجاء لنصره مضمرا للغدر به ثم بلغه انتقاض أهل التعكر عليه فرجع و لم يزل منصور في ملكه بزبيد إلى أن وزر له أبو منصور عبيد الله فقتله مسموما سنة سبع عشرة و خمسمائة و نصب فاتكا ابنه طفلا صغيرا و استبد عليه و قام بضبط الملك و هان عليه التعرض لآل نجاح حتى هربت منه أم فاتك هذا و سكنت خارج المدينة و كان قرما شجاعا و له وقائع مع الأعداء و حاربه ابن نجيب داعي العلوية فامتنع عليه و هو الذي شيد المدارس للفقهاء بزبيد و اعتنى بالحاج ثم راود مفارك بنت جياش و لم تجد بدا من إسعافه فأمكنته حتى إذا قضى و طره مسحت ذكره بمنديل مسموم فنثر لحمه و ذلك سنة أربع و عشرين و خمسمائة و قام بأمر فاتك بعده زريق من موالي نجاح قال عمارة : كان شجاعا فاتكا قرما و كان من موالي أم فاتك المخصين بها
قال عمارة : و في سنة إحدى و ثلاثين و خمسمائة توفي فاتك بن المنصور و ولي بعده ابن عمه و سميه فاتك بن محمد بن فاتك و سرور قائم بوزارته و تدبير دولته و محاربة أعدائه و كان يلازم المسجد إلى أن دس عليه علي بن مهدي الخارجي من قتله في المسجد و هو يصلي العصر يوم الجمعة ثاني عشر صفر سنة إحدى و خمسين و خمسمائة و ثار السلطان بالقاتل فقتل جماعة من أهل المسجد ثم قتل و اضطرب موالي نجاح بالدولة و ثار عليهم ابن مهدي الخارجي و حاربهم مرارا و حاصرهم طويلا و استعانوا بالشريف المنصور أحمد بن حمزة السليماني كان يملك صعدة فأغاثهم على أن يملكوه و يقتلوا سيدهم فاتك بن محمد فقتلوه سنة ثلاث و خمسين و ملكوا عليهم الشريف أحمد فعجز عن مقاومة ابن مهدي و فر تحت الليل و ملكها علي بن مهدي سنة أربع و خمسين و خمسمائة و انقرض أمر آل نجاح و الملك لله (4/276)
الخبر عن دولة بني الزريع بعدن من دعاة العبيديين باليمن و أولية أمرهم و مصايره
و عدن هذه من أمنع مدائن اليمن و هي على ضفة البحر الهندي و ما زالت بلد تجارة من عهد التبابعة و أكثر بنائهم بالأخصاص و لذلك يطرقها تجار الحرير كثيرا و كانت صدر الإسلام دار ملك لبني معن ينتسبون إلى معن بن زائدة ملكوها من أيام المأمون و امتتعوا على بني زياد قنعوا منهم بالخطبة و السكة و لما استولى الداعي علي بن محمد الصليحي رعى لهم ذمام العروبية و قرر عليهم ضريبة يعطونها ثم أخرجهم منها ابنه أحمد المكرم و ولى عليها بني المكرم من عشيرة جسم بن يام من همذان و كانوا أقرب عشائره إليه فأقامت في ولايتهم زمنا ثم حدثت بينهم الفتنة و انقسموا إلى فئتين بني مسعود بن المكرم و بني الزريع بن العباس بن المكرم وغلب بنو الزريع بعد حروب عظيمة قال ابن سعيد : و أول مذكور منهم الداعي بن أبي السعود بن الزريع أول من اجتمع له الملك بعد بني الصليحي و ورثه عنه بنوه و حاربه ابن عمه علي بن أبي الغارات بن مسعود بن المكرم صاحب الزعازع فاستولى على عدن من يده بعد مقاساة و نفقات فى الأعراب و مات بعد فتحها بسبعة أشهر سنة ثلاث و ثلاثين و خمسمائة و ولي ابنه الأغر و كان مقيما بحصن الدملوة المعقل الذي لا يرام و امتنع عليه بعده ابن بلال بن الزريع من مواليه و خشي محمد بن سبا على نفسه ففر إلى منصور بن المفضل من ملوك الجبال الصليحيين بذي جبلة ثم مات الأغر قريبا فبعث بلال بن محمد بن سبا فوصل إلى عدن و كان التقليد جاء من مصر باسم الأغر فكتب مكانه محمد بن سبا و كان نعوته الداعي المعظم المتوج المكنى بسيف أمير المؤمنين فوقعت كلها عليها و زوجه بلال بنته و مكنه من الأموال التي كانت في خزائنه ثم مات بلال عن مال عظيم و ورثه محمد بن سبا و أنفقه في سبيل الكرم المرؤات و اشترى حصن ذي جبلة من منصور بن المفضل بن أبي البركات كما ذكرناه و استولى عليه و هو دار ملك الصليحيين و تزوج سيدة بنت عبد الله الصليحي و توفي سنة ثمان و أربعين و ولي ابنه عمران بن محمد بن سبا و كان ياسر بن بلال يدبر دولته و توفي سنة ستين و خمسمائة و ترك ولدين صغيرين و هما محمد و أبو السعود فحبسهما ياسر بن بلال في القصر و استبد بالأمر و كان ياسر محمد كثير العطية للشعراء و من وفد عليه و مدحه ابن قلاقس شاعر الإسكندربة و من قصائده في مدحه :
( سافر إذا حاولت قدرا ... سار الهلال فصار بدرا )
و هو آخر ملوك الزريعيين و لما دخل سيف الدولة أخو صلاح الدين إلى اليمن سنة ست و ستين و ستمائة و استولى عليها جاء إلى عدن فملكها و قبض على ياسر بن بلال و انقطعت دولة بنى زريع و صار اليمن للمعز و فيه ولاتهم بنو أيوب كما نذكر في أخبارهم و كانت مدينة الجدة قرب عدن اختطها ملوك الزريعيين فلما جاءت دولة بني أيوب تركوها و نزلوا تعز من الجبال كما يأتي ذكره (4/278)
أخبار ابن مهدي الخارجي و بنيه و ذكر دولتهم باليمن و بدايتها و انقراضها
هذا الرجل من أهل العثرة من سواحل زبيد و هو علي بن مهدي الحميري كان أبوه مهدي معروفا بالصلاح و الدين و نشأ ابنه على طريقته فاعتزل و نسك ثم حج ولقي علماء العراق و أخذ الوعظ من وعاظهم و عاد إلى اليمن و اعتزل و لزم الوعظ و كان حافظا فصيحا و يخبر بحوادث أحواله فيصدق فمال إليه الناس و اغتبطوا به و صار يتردد للحج سنة إحدى و ستين و يعظ الناس في البوادي فإذا حضر الموسم ركب على نجيب له و وعظ الناس و لما استولت أم فاتك على بني جياش أيام ابنها فاتك بن منصور أحسنت فيه المعتقد و أطلقت له و لقرابته و أصهاره خرجهم فحسنت أحوالهم و آثروا و ركبوا الخيول وكان يقول في وعظه : دنا الوقت ! يشير إلى وقت ظهوره و اشتهر ذلك عنه و كانت أم فاتك تصل أهل الدولة عنه فلما ماتت سنة خمس و أربعين جاءه أهل الجبال و حالفوه على النصرة و خرج من تهامة سنة ثمان و ثلاثين و قصد الكودا فانهزم و عاد إلى الجبال و أقام إلى سنة إحدى و أربعين ثم أعادته الحرة أم فاتك إلى وطنه و ماتت سنة خمس و أربعين فخرج إلى هوازن و نزل ببطن منهم يقال له حيوان في حصن يسمى الشرف و هو حصن صعب ليس يرتقي على مسيرة يوم من سفح الجبل في طريقه أوعار في واد ضيق عقبة كؤد و أصحابه سماهم الأنصار و سمى كل من صعد معه من تهامة المهاجرين و أمر للأنصار رجلا إسمه سبا و للمهاجرين آخر إسمه شيخ الإسلام و إسمه النوبة و احتجب عمن سواهما و جعل يشن الغارات على أرض تهامة و أعانه على ذلك خراب النواحي بزبيد فأخرب سابلتها و نواحيها و انتهى إلى حصن الداثر على نصف مرحلة من زبيد و أعمل الحيل في قتل مسرور مدبر الدولة فقتل كما مر و أقام يخيف زبيد بالزحوف قال عمارة : زاحفها سبعين زحفا و حاصرها طويلا و استمدوا الشريف أحمد بن حمزة السليماني صاحب صعدة فأمدهم و شرط علهم قتل سيدهم فاتك فقتلوه سنة ثلاث و خمسين و ملك عليهم الشريف ثم عجز و هرب عنهم و استولى علي بن مهدي عليها في رجب سنة أربع و خمسين و مات لثلاثة أشهر من ولايته و كان يخطب له بالإمام المهدي أمير المؤمنين و قامع الكفرة و الملحدين و كان على رأي الخوارج يتبرأ من علي و عثمان و يكفر بالذنوب و له قواعد و قواميس في مذهبه يطول ذكرها و كان يقتل على شرب الخمر قال عمارة : كان يقتل من خالفه من أهل القبلة و يبيح نساءهم و أولادهم و كانوا يعتقدون فيه العصمة و كانت أموالهم تحت يده ينفقها عليهم في مؤنهم و لا يملكون معه مالا و لا فرسا و لا سلاحا و كان يقتل المنهزم من أصحابه و يقتل الزاني و شارب الخمر و سامع الغناء و يقتل من تأخر عن صلاة الجماعة و من تأخر عن وعظه يوم الإثنين و الخميس و كان حنفيا في الفروع و لما توفي تولى بعده ابنه عبد النبي و خرج من زبيد و استولى على اليمن أجمع و به يومئذ خمس و عشرون دولة فاستولى على جميعها و لم يبق له سوى عدن ففرض عليها الجزية و لما دخل شمس الدولة تورشاه بن أيوب أخو صلاح الدين سنة ست و ستين و خمسمائة و استولى على الدولة التي كانت باليمن فقبض على عبد النبي و امتحنه و أخذ منه أموالا عظيمة و حمله إلى عدن فاستولى عليها ثم نزل زبيد و اتخذها كرسيا لملكه ثم استوخمها و سار في الخيال و معه الأطباء يتخير مكانا صحيح الهواء ليتخذ فيه سكناه فوقع اختيارهم على مكان تعز فاختط به المدينة و نزلها و بقيت كرسيا لملكه و بنيه و مواليهم بني رسول كما نذكر في أخبارهم و بانقراض دولة بني المهدي انقرض ملك العرب من اليمن و صار للغز و مواليهم (4/280)
قواعد اليمن
و لنذكر الآن طرفا من الكلام على قواعد اليمن و مدته واحدة واحدة كما أشار إليه ابن سعيد اليمن من جزيرة العرب يشتمل على كراسي سبعة للملك تهامة و الجبال و في تهامة مملكتان : مملكة زبيد و مملكة عدن و معنى تهامة ما انخفض من بلاد اليمن مع ساحل البحر من البرين من جهة الحجاز إلى آخر أعمال عدن دورة البحر الهندي قال ابن سعيد : و جزيرة العرب في الإقليم الأول و يحيط بها البحر الهندي من جنوبها و بحر السويس من غربها و بحر فارس من شرقها و كانت اليمن قديما للتبابعة و هي أخصب من الحجاز و أكثر أهلها القحطانية و فيها من عرب وائل و ملكها لهذا العهد لبني رسول موالي بني أيوب و دار ملكهم تعز بعد أن نزلوا الحرة أولا و بصعدة من اليمن أئمة الزيدية و بزبيد و هي مملكة اليمن لشمالها الحجاز و جنوبها البحر الهندي و غربها بحر السويس اختطها محمد بن زياد أيام المأمون سنة أربع و مائتين و هي مدينة مسورة تدخلها عين جارية تحلها الملوك و عليها غيطان يسكنونها أيام الغلة و هي الآن من ممالك بني رسول و بها كان ملك بني زياد و مواليهم ثم غلب عليها بنو الصليحي و قد مر خبرهم ( عثر و حلى و السرجة ) من أعمال زبيد في شمالها و تعرف بأعمال ابن طرف مسيرة سبعة أيام في يومين من السرجة إلى حلى و مكة ثمانية أيام و عثر هي منبر الملك و هي على البحر و كان سليمان بن طرف ممتنعا بها على أبي الجيش بن زياد و كان مبلغ ارتفاعه خمسمائة ألف دينار ثم دخل في طاعته و خطب له و حمل المال ثم صارت هذه المملكة للسليمانيين من بني الحسن من أمراء مكة حين طردهم الهواشم عن مكة و كان غالب بن يحيى منهم يؤدي الأتاوة لصاحب زبيد و به استعان محمد مفلح الفاتكي من سرور ثم هلك بعدها ثم عيسى بن حمزة من بنيه و لما ملك الغز اليمن أخذ يحيى أخو عيسى أسيرا و سيق إلى العراق فحاول عليه عيسى فتخلصه من الأسر و رجع إلى اليمن فقتل أخاه عيسى و ولى مكانه المهجم من أعمال زبيد على ثلاثة مراحل عليها و عربها من العسيرة من حكم و جعفر قبيلتين منهم و يجلب منها الزنجبيل ( السرير ) آخر أعمال تهامة من اليمن و هي على البحر دون سور و بيوتها أخصاص و ملكها راجح بن قتادة سلطان مكة أعوام الخمسين و ستمائة و له قلعة على نصف مرحلة منها ( الزرائب ) من الأعمال الشمالية من زبيد و كانت لابن طرف و اجتمع له فيها عشرون ألفا من الحبشة الذين معه جميعا و قال ابن سعيد في أعمال زبيد و الأعمال التي في الطريق الوسطى بين البحر و الجبال و هي في خط زبيد في شمالها و هي الجادة إلى مكة قال عمارة : هي الجادة السلطانية منها إلى البحر يوم أو دونه و كذلك إلى الجبال و يجتمع الطريقان الوسطى و الساحلية في السرير و يفترقان ( عدن ) من ممالك اليمن في جوف زبيد و هي كرسي عملها و هي على ضفة البحر الهندي و كانت بلد تجارة منذ أيام التبابعة و بعدها عن خط الاستواء ثلاث عشرة درجة و لا تنبت زرعا و لا شجرا و معاشهم السمك و هي ركاب الهند من اليمن و أول ملكها لبني معن بن زائدة استقاموا لبني زياد و أعطوهم الأتاوة و لما ملك الصليحيون أقرهم الداعي ثم أخرجهم ابنه أحمد المكرم و ولاها بني المكرك من جشم بن يام رهطه بهمدان و صفا الملك فيها لبني الزريع منهم و قنع منهم بالأتاوة حتى ملكها من أيديهم شمس الدولة بن أيوب كما تقدم ( عدن أبين ) من بينات المدن و هي إلى جهة الشحر ( الزعزاع ) باودية ابن أيوب عدن و كانت لبني مسعود بن المكرم المقارعين لبني الزريع ( الجوة ) اختطها ملوك الزريعيين قرب عدن و نزلها بنو أيوب ثم انتقلوا إلى تعز ( حصن ذي جبلة ) من حصون مخلاف جعفر اختطه عبد الله الصليحي أخو الداعي سنة ثمان و خمسين و أربعمائة و انتقل إليه ابنه المكرم من حصن صنعاء و زوجه سيدة بنت أحمد المستبدة عليه و هي التي تحكمت سنة ثمانين و مات المكرم و قد فوض الأمر في الملك و الدعوة إلى سبا بن أحمد بن المظفر الصليحي و كان في معقل أشيح و كانت تستظهر بقبيل جنب و كانوا خاملين في الجاهلية فظهروا بمخلاف جعفر ثم و صل من مصر ابن نجيب الدولة داعيا و نزل مدينة جند و اعتضد بهمذان فحاربته السيدة بجنب و خولان إلى أن ركب البحر و غرق و كان يتولى أمورها المفضل بن أبي البركات بعد زوجها المكرم و استولى عليها ( التعكر ) من مخلاف جعفر كان لبني الصليحي ثم لسيدة من بعدهم ثم طلبه منها المفضل بن أبي البركات فسلمته إليه و أقام فيه إلى أن سار إلى زبيد و حاصر فيها بني نجاح و طالت غيبته فثار بالتعكر جماعة من الفقهاء و قتلوا نائبه و بايعوا لإبراهيم بن زيدان منهم و هو عمارة الشاعر و استظهروا بخولان فرجع المفضل و حاصرهم كما ذكرنا ذلك من قبل ( حصن خدد ) كان لعبد الله بن يعلي الصليحي و هو من مخلاف جعفر و كان المفضل قد أدخل من خولان في حصون المخلاف عددا كثيرا في بني بحر و بني منبه و رواح و شعب فلما مات المفضل و في كفالته سيدة كما مر وثب مسلم بن الذر من خولان في حصن خدد و ملكه من يد عبد الله بن يعلى الصليحي و لحق عبد الله بحصن مصدود و رشحته سيدة لمكان المفضل و استخلصته الدولة من مدينة الجند و من اليمن بأمرها ( حصن مصدود ) : من حصون مخلاف جعفر و هي خمسة : ذو جبلة و التعكر و حصن خدد و لما غلبت خولان على حصن خدد من يد عبد الله الصليحي و لحق بحصن مصدود و استولى عليه منهم زكريا بن شكير البحري و كان بنو الكردي من حمير ملوكا قبل بني الصليحي باليمن و انتزع بنو الصليحي ملكهم و كان لهم مخلاف بحصونه و مخلاف مغافر و مخلاف الجند و حصن سمندان ثم استقرت لمنصور بن المفضل بن أبي البركات و باعها من بني الزريع كما مر ( صنعاء ) قاعدة التبابعة قبل الإسلام و أول مدينة اختطت باليمن و بنتها فيما يقال عاد و كانت تسمى أوال من الأولية بلغتهم و قصر غمدان قريب منها أحد البيوت السبعة بناه الضحاك بإسم الزهرة و حجت إليه الأمم و هدمه عثمان وصنعاء أشهر حواضر اليمن و هي فيما يقال معتدلة وكان فيها أول المائة الرابعة بنو يعفر من التبابعة و دار ملكهم كحلان و لم يكن لها نباهة في الملك إلى أن سكنها بنو الصليحي و غلب عليها الزيدية ثم السليمانيون من بعد بني الصليحي ( قلعة كحلان ) من أعمال صنعاء لبني يعفر من التبابعة بناها قرب صنعاء إبراهيم و كانت له صعدة و نجران و اعتصم بنو يعفر بقلعة كحلان و قال البيهقي : سيد قلعة كحلان أسعد بن يعفر و حارب بني الرسي و بني زياد أيام أبي الجيش ( حصن الصمدان ) من أعمال صنعاء كانت فيه خزائن بني الكردي الحميريين إلى أن ملكه علي الصليحي و رد عليهم المكرم بعض حصونهم إلى أن انقرض أمرهم على يد علي بن مهدي و كان لهم مخلاف جعفر الذي منه مدينة ذي جبلة و معقل التعكر و هو مخلافي الجند و مخلاف معافر مقر ملكهم السمدان و هو أحصن من الدولة ( قلعة منهاب ) من قلاع صنعاء بالجبال ملكها بنو زريع و استبد بها منهم الفضل بن علي بن راضي بن الداعي محمد بن سبا بن زريع نعته صاحب الجزيرة بالسلطان و قال : كانت له قلعة منهاب و كان حيا سنة ست و ثمانين و خمسمائة و صارت بعده لأخيه الأغر أبي علي ( جبل الدبجرة ) و هو بقرب صنعاء و قد اختط جعفر مولى بني زياد سلطان اليمن مخلاف جعفر فنسب إليه ( عدن لاعة ) بجانب الدبجرة أول موضع ظهرت فيه دعوة الشيعة باليمن و منها محمد بن المفضل الداعي و وصل إليها أبو عبد الله الشيعي صاحب الدعوة بالمغرب و فيها قرأ على علي بن محمد الصليحي صبيا و هي دار دعوة اليمن كان محمد بن المفضل داعيا على عهد أبي الجيش بن زياد و أسعد بن يعفر ( بيجان ) ذكرها عمارة في المخاليف الجبلية و ملكها نستوان بن سعيد القحطاني ( تعمر ) من أجل معاقل الجبال المطلة على تهامة مازال حصنا للملوك و هو اليوم كرسي لبني رسول و معدود في الأمصار و كان به من ملوك اليمن منصور بن المفضل بن أبي البركات و بنو المظفر و ورثها عنه ابنه منصور ثم باعها حصنا حصنا من الداعي بن المظفر و الداعي الزريعي إلى أن بقي بيده حصن تعمر فأخذه منه ابن مهدي ( معقل أشيح ) من أعظم حصون الجبال و فيه خزائن بني المظفر من الصليحيين صارت له بعهد المكرم ابن عمه صاحب ذي جبلة و قلده المستنصر الدعوة و توفي سنة ست و ثمانين و أربعمائة و غلب إبنه علي على معقل الملك أشيح و أعيا المفضل أمره إلى أن تحيل عليه و قتله بالسم و صارت حصون بني المظفر إلى بني أبي البركات ثم مات المفضل و خلف ابنه منصورا و استقل بملك أبيه بعد حين و باع جميع الحصون تباع ذا جبلة من الداعي الزريعي صاحب عدن بمائة ألف دينار و حصن صنبر بعد أن كان حلف بالطلاق من زوجته أنه يستبقيه و طلق زوجته الحرة و تزوجها الزريعي و طال عمره ملك ابن عشرين و بقي في الملك ثمانين و أخذ منه معقل علي بن مهدي ( صعدة ) مملكتها تلو مملكة صنعاء و هي في شرقيها و في هذه المملكة ثلاثة قواعد صعدة و جبل قطابة و حصن تلا و حصون أخرى و تعرف كلها ببني الرمي و قد تقدم ذكر خبره و أما حصن تلا فمنه كان ظهور الموطىء الذي أعاد إمامة الزيدية لبني الرضا بعد أن استولى عليها بنو سليمان فأوى إلى جبل قطابة ثم بايعوا لأحمد الموطىء سنة خمس و أربعين و ستمائة و كان فقيها عابدا و حاصره نور الدين بن رسول في هذا الحصن سنة جمر عليه عسكرا للحصار ثم مات ابن رسول سنة ثمان و أربعين و اشتغل ابنه المظفر بحصار حصن الدمولة فتمكن الموطىء و ملك حصون اليمن و زحف إلى صعدة و بايعه السليمانيون و إمامهم أحمد المتوكل كما مر في أخبار بني الرسي و أما قطابة فهو جبل شاهق مشرف على صعدة إلى أن كان ما ذكرناه ( حران و مسار ) أما حران فهو إقليم من بلاد همذان و حران بطن من بطونهم كان منهم الصليحي و حصن مسار هو الذي ظهر فيه الصليحي و هو من إقليم حران قال البيهقي : بلادهم شرقية بجبال اليمن و تفرقوا في الإسلام و لم يبق لهم قبيلة و فرقة إلا في اليمن و هو أعظم قبائل اليمن و بهم قام الموطىء و ملكوا جملة من حصون الجبال و لهم بها إقليم بكيل و إقليم حاشد و هما إبنا جشم بن حيوان أنوق بن همذان قال ابن حزم : و من بكيل و حاشد افترقت قبائل همذان انتهى و من همذان بنو الزريع أصحاب السلطنة و الدعوة في عدن و الجوة و منهم بنو يام من قبائل همذان انتهى و من همذان بنو الزريع سبعة و هم الآن في نهاية من التشيع ببلادهم و أكثرهم زيدية ( بلاد خولان ) قال البيهقي : هي شرقية من جبال اليمن و متصلة ببلاد همذان و هي حصون خدد و التعكر و غيرهما و هم أعظم قبائل اليمن مع همذان و لهم بطون كثيرة و افترقوا على بلاد الإسلام و لم يبق منهم و برية إلا باليمن ( مخلاف بني أصح ) هو بوادي سحول و ذو أصح الذي ينسبون إليه قد تقدم ذكره في أنساب حمير من التبابعة و الأقيال و مخلاف يحصب مجاور له و هو أخو أصبح ( مخلاف بني و ائل ) مدينة هذا المخلاف شاحط و صاحبها أسعد بن وائل و بنو وائل بطن من ذي الكلاع و ذو الكلاع من سبا تغلبوا على هذه البلاد عند مهلك الحسن بن سلامة حتى عادوا إلى الطاعة و اختط مدينة الكدد على مخلاف سهام و مدينة المعقل على وادي دوال و مات سنة اثنتين و أربعمائة ( بلاد كندة ) و هي من جبال اليمن مما يلي حضرموت و جبال الرمل و كان لهم بها ملوك و قاعدتهم دمون ذكرها أمرؤ القيس في شعره ( بلاد مذحج ) موالي جهات الجند من الجبال و ينزلها من مذحج عنس و زبيد و مراد و من عنس بأفريقية فرقة و برية مع ظواعن أهلها و من زبيد بالحجاز بنو حرب بين مكة و المدينة و بنو زبيد الذين بالشام و الجزيرة فهم من طيء و ليسوا من هؤلاء ( بلاد بني نهد ) في أجواف السروات و تبالة و السروات بين تهامة و الجبال و نجد من اليمن و الحجاز كسوأة الفرس و بنو نهد من قضاعة سكنوا اليمن جوار خثعم و هم كالوحوش والعامة تسميهم السرو و أكثرهم أخلاط من جبلة و خثعم و من بلادهم تبالة يسكنها قوم من نهير وائل و لهم بها صولة و هي التي وليها الحجاج و استحقرها فتركها ( البلاد المضافة إلى اليمن ) أولها الثمامة قال البيهقي : هو بلد منقطع بعمله و التحقيق أنه من الحجاز كما هي نجران من اليمن و كذا قال ابن حوقل و هي دونها في المملكة و أرضها تسمى العروض لاعتراضها بين الحجاز و البحرين و في شرقها البحرين و غربيها أطراف اليمن و الحجاز و جنوبها نجران و شمالها نجد من الحجاز و في أطرافها عشرون مرحلة و هي على أربعة أميال من مكة و قاعدتها حجر بالفتح و بلد اليمامة كانت مقرا لملوك بني حنيفة ثم اتخذ بنو حنيفة حجرا و بينهما يوم و ليلة و بظواهرها أحياء من بني يربوع من تميم و أحياء من بني عجل قال البكري : و إسمها جو و سميت باسم زرقاء اليمامة سمها بذلك تبع الآخر و هي في الإقليم الثاني مع مكة و بعدهما عن خط الاستواء واحد منازلها توضيح و قرقرا و قال الطبري : إن رمل عالج من اليمامة و الشحر و هي من أرض و بار و كانت اليمامة و الطائف لبني مزان بن يعفر و السكسك و غلبتهم عليها طسم و جديس ثم غلبتهم بنو مزان اخرا و ملكوا اليمامة و طسم و جديس في تبعهم و آخر ملوك بني طسم عمليق ثم غلبت جديس و منهم باليمامة التي سميت مدينة جو بها و أخبارها معروفة ثم استولى على اليمامة بعد طسم و جديس بنو حنيفة و كان منهم هودة بن علي ملك اليمامة و تتوج و يقال : إنما كانت خرزات هودة بن علي ملك اليمامة على عهد النبوة و أسر و أسلم و ثبت عند الردة و كان منهم مسيلمة و أخباره معروفة قال ابن سعيد : و سألت عرب البحرين و بعض مذحج لمن اليمامة اليوم ؟ فقالوا العرب من قيس عيلان و ليس لبني حنيفة بها ذكر ( بلاد حضرموت ) قال ابن حوقل : هي في شرقي عدن في بالبحر و مدينتها صغيرة و لها أعمال عريضة و بينها و بين عمان من الجهة الأخرى رمال كثيرة تعرف بالأحقاف و كانت مواطن لعاد و بها قبر هود عليه السلام و في وسطها جبل بشام و هي في الإقليم الأول و بعدها عن خط الاستواء اثنتا عشرة درجة و هي معدودة من اليمن بلد نخل و شجر و مزارع و أكثر أهلها يحكمون بأحكام علي و فاطمة و يبغضون عليا للتحكيم و أكبر مدينة بها الآن قلعة بشام فها خيل الملك و كانت لعاد مع الشحر و عمان و غلبهم عليها بنو يعرب بن قحطان و يقال إن الذي دل عادا على جزيرة العرب هو رقيم بن إرم كان سبق إليها مع يني هود فرجع إلى عاد و دلهم عليها و على دخولها بالجوار فلما دخلوا غلبوا على من فيها ثم غلبهم بنو يعرب بن قحطان بعد ذلك و ولى على البلاد فكانت ولاية ابنه حضرموت على هذه البلاد و له سميت الشحر من ممالك جزيرة العرب مثل الحجاز و اليمن و كان معقلا عن حضرموت و عمان و الذي يسمى الشحر قصبته و لا زرع فيه و لا نخل إنما أموالهم الإبل و المعز و معاشهم من اللحوم و الألبان و من السمك الصغار ويعلفونها للدواب و تسمى هذه البلاد أيضا بلاد مهرة و بها الإبل المهرية و قد يضاف الشحر إلى عمان و هو ملاصق لحضرموت و قيل هو بسائطها و في هذه البلاد يوجد اللبان و في ساحله العنبر الشحري و هو متصل في جهة الشرق و من غربها ساحل البحر الهندي الذي عليه عدن و في شرقها بلاد عمان و جنوبها بحر الهند مستطيلة عليه و شمالها حضرموت كأنها ساحل لها و يكونان معا لملك واحد و هي في الإقليم الأول و أشد حرا من حضرموت و كانت في القديم لعاد و سكنها بعدهم مهرة من حضرموت أو من قضاعة و هم كالوحوش في تلك الرمال و دينهم الخارجية على رأي الإباضية منهم و أول من نزل بالشحر من القحطانية مالك بن حمير خرج على أخيه مالك و هو ملك بقصر غمدان فحاربه طويلا و مات مالك فولي بعده ابنه قضاعة بن مالك فلم يزل السكسك يحاربه إلى أن قهره و اقتصر قضاعة على بلاد مهرة و ملك بعده ابنه أطاب ثم مالك بن الحاف و انتقل إلى عمان و بها كان سلطانه و قال البيهقي : و ملك مهرة ابن حيدان بن الحاف بلاد قضاعة و حارب عمه مالك بن الحاف صاحب عمان حتى غلبهم عليها و ليس لهم اليوم في غير بلادهم ذكر و ببلاد الشحر مدينة مرياط و ضفان على وزن نزال و ضفان دار ملك التبابعة و مرياط بساحل الشحر و قد خربت هاتان المدينتان و كان أحمد بن محمد بن محمود الحميري و لقبه الناخودة و كان تاجرا كثير المال يعبر إلى صاحب مرياط بالتجارة ثم استوزره ثم هلك فملك أحمد الناخودة ثم خربها و خرب ضفان سنة تسع عشرة و ستمائة و بنى على الساحل مدينة ضفان بضم الضاد المعجمة و سماها الأحمدية باسمه و خرب القديمة لأنها لم يكن لها مرسى ( نجران ) قال صاحب الكمائم : هي صقع منفرد عن اليمن و قال غيره هي من اليمن قال البيهقي مسافتها عشرون مرحلة و هي شرقي صنعاء و شماليها و توالي الحجاز و فيها مدينتان نجران و جرش متقاربتان في القدر و العادية غالبة عليها و سكانها كالأعراب و بها كعبة نجران بنيت على هيئة عمدان كعبة اليمن و كانت طائفة من العرب تحج إليها و تنهر عندها و تسمى الدير و بها قس بن ساعدة كان يتعبد فيها و نزلها من القحطانية طائفة من جرهم ثم غلبهم عيها حمير و صاروا ولاة للتبابعة و كان كل ملك منهم يسمى الأفعى و كان منهم أفعى نجران و إسمه القلمس بن عمرو بن همذان بن مالك بن شهاب بن زيد بن وائل بن حمير و كان كاهنا و هو الذي حكم بين أولاد نزار لما أتوه حسبما هو مذكور و كان واليا على نجران لبلقيس فبعثته إلى سليمان عليه السلام و آمن و بث دين اليهودية فى قومه و طال عمره و يقال إن البحرين و المسلل كانتا له قال البيهقي : ثم نزل نجران بنو مذحج و استولوا عليها و منهم الحرث بنو كعب و قال غيره : لما خربت اليمانية في سيل العرم مروا بنجران فحاربهتم مذحج و منها افترقوا قال ابن حزم : و نزل فى جوار مذحج بالصلح الحرث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد ثم غلبوا عليها مذحجا و صارت لهم رياستها و دخلت النصرانية نجران من قيمون و خبره معروف في كتب السير و انتهت رياسة بني الحرث فيها إلى بني الريان ثم صارت إلى بني عبد المدان و كان يزيد منهم على عهد النبى صلى الله عليه و سلم و أسلم على يد خالد بن الوليد و وفد مع قومه و لم يذكره ابن عبد المؤمن و هو مستدرك عليه و ابن أخيه زياد بن عبد الرحمن بن عبد المدان خال السفاح ولاه نجران و اليمامة و خلف ابنيه محمدا و يحيى و دخلت المائة الرابعة و الملك بها لبني أبي الجود بن عبد المدان و اتصل فيهم و كان بينهم و بين الفاطميين حروب و ربما يغلبونهم بعض الأحيان على نجران و كان آخرهم عبد القيس الذي أخذ علي بن مهدي الملك من يده ذكره عمارة و أثنى عليه و الله سبحانه و تعالى أعلم بالصواب (4/281)
الخبر عن دولة بني حمدان المستبدين بالدعوة العباسية من العرب بالموصل و الجزيرة و الشام و مبادىء أمورهم و تصاريف أحوالهم
كان بنو ثعلب بن وائل من أعظم بطون ربيعة بن نزار و لهم محل في الكثرة و العدد و كانت مواطنهم بالجزيرة في ديار ربيعة و كانوا على دين النصرانية في الجاهلية و صاغيتهم مع قيصر و حاربوا المسلمين مع غسان و هرقل أيام الفتوحات في نصارى العرب يومئذ من غسان و إياد و قضاعة و زابلة و سائر نصارى العرب ثم ارتحلوا مع هرقل إلى بلاد الروم ثم رجعوا إلى بلادهم و فرض عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجزية فقالوا يا أمير المؤمنين لا تذلنا بين العرب باسم الجزية و اجعلها صدقة مضاعفة ففعل و كان قائدهم يومئذ حنظلة بن قيس بن هرير من بني مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن ثعلب و كان من رهطه عمرو بن بسطام صاحب السند أيام بني أمية ثم كان منهم بعد ذلك في الإسلام ثلاثة بيوت : آل عمر بن الخطاب العدوي و آل هرون المغمر و آل حمدان ابن حمدون بن الحرث بن لقمان بن أسد و لم يذكر ابن حزم هؤلاء البيوت الثلاثة في بطون بني ثعلب في كتاب الجمهرة و وقفت على حشية في هذا الموضع من كتابه فيها ذكر هؤلاء الثلاثة كالاستلحاق عليه و قال في بني حمدان : و قيل إنهم موالي بني أسد ثم قال آخر الحاشية إنه من خط المصنف يعني ابن حزم و لما فشا دين الخارجية بالجزيرة أيام مروان بن الحكم و فرق جموعه و محا آثار تلك الدعوة ثم ظهر في الجزيرة بعد حين أثر من تلك الدعوة و خرج مساور بن عبد الله بن مساور البجلي من السرات أيام الفتنة بعد مقتل المتوكل و استولى على أكثر أعمال الموصل و جعل دار هجرته الحديثة و كان على الموصل يومئذ عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي الذي ولى المنصور جده محمدا على أفريقية و عليه خرج مساور ثم ولي على الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب الثعلبي سنة أربع و خمسين و استخلف عليه ابنه الحسن فسار إلى مساور في جميع قومه و فيهم حمدون بن الحرث فهزموا الخوارج و فرقوا جمعهم ثم ولي أيام المهتدي عبد الله بن سليمان بن عمران الأزدي فغلبه الخوارج و ملك مساور الموصل و رجع إلى الحديثة ثم انتقض أهل الموصل أيام المعتمد سنة تسع و خمسين و أخرجوا العامل و هو ابن أساتكين الهيثم بن عبد الله بن المعتمد العدوي من بني ثعلب فامتنعوا عليه و ولوا مكانه إسحق بن أيوب من آل الخطاب فزحف و معه حمدان بن حمدون و حاصرها مدة ثم كانت فتنة إسحق بن كنداجق و انتقاضه على المعتمد و اجتمع لمدافعته علي بن داود صاحب الموصل و حمدان بن حمدون و إسحق بن أيوب فهزمهم إسحق بن كنداجق و افترقوا فاتبع إسحق بن أيوب إلى نصيبين ثم إلى آمد و استجار فيها بعيسى بن الشيخ الشيباني و بعث إلى المعز موسى بن زرارة صاحب أرزن فامتنع بإنجادهما ثم ولى المعتمد بن كنداجق على الموصل سنة سبع و ستين فاجتمع لحربه إسحق بن أيوب و عيسى بن الشيخ و أبو العز بن زرارة و حمدان بن حمدون في ربيعة و ثعلب فهزمهم ابن كنداجق و حاصره هو و لجأوا إلى آمد عند عيسى بن الشيخ الشيباني و حاصرهم بها و توالت عليهم الحروب و هلك مساور الخارجي أثناء هذه الفتن في حربه مع العساكر سنة ثلاث و ستين و اجتمع الخوارج بعده على هرون بن عبد الله البجلي و استولى على الموصل و كثر تابعه و خرج عليه محمد بن خردان من أصحابه فغلبه على الموصل فقصد حمدان بن حمدون مستنجدا به فسار معه و رده إلى الموصل و لحق محمد بالحديثة و رجع أصحابه إلى هرون ثم سار هرون من الموصل إلى محمد فأوقع به و قتله و عاث في الأكراد الجلالية أصحابه و غلب على القرى و الرساتيق و جعل رجله يأخذ الزكاة و العشر ثم زحف بنو شيبان لقتاله سنة إثنتين و سبعين فاستنجد بحمدان بن حمدون و انهزم قبل وصوله إليه ثم كانت الفتنة بين إسحق بن كنداجق و يوسف بن أبي الساج و أخذ ابن أبي الساج بدعوة ابن طولون و غلب على الجزيرة و الموصل ثم عاد و ملكها لابن كنداجق و ولى عليها هرون بن سيما سنة تسع و سبعين و مائتين فطرده أهلها و استنجد ببني شيبان فساروا معه إلى الموصل و استمد أهلها الخوارج و بني ثعلب فسار لإمدادهم هرون الساري و حمدان فهزمهم بنو شيبان و خاف أهل الموصل من ابن سيما فبعثوا إلى بغداد و ولى عليهم المعتمد علي بن داود الأزدي و لما بلغ المعتضد ممالأة حمدان بن حمدون لهرون الساري و ما فعله بنو شيبان و قد كان خرج لإصلاح الجزيرة و أعطاه بنو شيبان رهنهم على الطاعة زحف إلى حمدان و هزمه فلحق بماردين و ترك بها ابنه الحسين و هرب فسار مع وصيف و نصر القسوري و مروا بدير الزعفران و به الحسين بن حمدان فاستأمن لهم و بعثوا به إلى المعتضد و أمر بهدم القلعة و لقي وصيف حمدان فهزمه و عبر إلى الجانب الغربي ثم سار إلى معسكر المعتضد و كان إسحق بن أيوب الثعلبي قد سبق إلى طاعة السلطان و هو في معسكره فقصد خيمته ملقيا بنفسه عليه فأحضره عند المعتضد فحبسه ثم سار نصر القسوري في اتباع هرون فهزم الخوارج و لحق بأذربيجان و استأمن آخرون إلى المعتضد و دخل هرون البرية ثم سار المعتضد سنة ثلاث و ثمانين في طلب هرون و بعث في مقدمته وصيفا و سرح معه الحسين بن حمدان بن يكرين و اشترط له إطلاق ابنه إن جاء بهرون فاتبعه و أسره و جاء به إلى المعتضد فخلع عليه و على إخوته و طوقه و فك القيود عن حمدان و وعده بإطلاقه و مات إسحق بن أيوب العدوي و كان على ديار ربيعة فولى المعتضد مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعتمد (4/290)
مبدأ لدولة و ولاية أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل
و لما ولي المكتفي عقد لأبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل و أعمالها و كان الأكراد الهدبانية قد عاثوا في نواحيها و مقدمهم محمد بن سلال فقاتلهم و عبر وراءهم إلى الجانب الشرقي و قاتلهم على الخازر و قتل مولاه سيما و رجع ثم أمده الخليفة فسار في أثرهم سنة أربع و تسعين و قاتلهم على أذربيجان و هزم محمد بن سلال بأهله و ولده و استباحهم ابن حمدان ثم استأمن محمد و جاءه إلى الموصل و استأمن سائر الأكراد الحميدية و استقام أمر أبي الهيجاء ثم كانت فتنة الخلع ببغداد سنة ست و تسعين و قتل الوزير العباس بن الحسن و خلع المقتدر و بويع عبد الله بن المعز يوما أو بعض يوم و عاد المقتدر كما مر ذلك كله في أخبار الدولة العباسية و كان الحسين بن حمدان على ديار ربيعة و كان ممن تولى كبر هذه الفتنة مع القواد و باشر قتل الوزير مع من قتله فهرب و طلبه المقتدر و بعث في طلبه القاسم بن سيما و جماعة من القواد فلم يظفروا به فكتب إلى أبي الهيجاء و هو على الموصل فسار مع القاسم و لقيهم الحسين عند تكريت فانهزم و استأمن فأمنه المقتدر و خلع عليه و ولاه أعمال قم و قاشان ثم رده بعد ذلك إلى ديار ربيعة (4/292)
انتقاض أبي الهيجاء ثم الحسين بن حمدان
و لماكانت سنة تسع و تسعين و مائتين خالف أبو الهيجاء بالموصل إلى سنة اثنتين و ثلاثمائة و كان الحسين بن حمدان على ديار ربيعة كما قدمناه فطالبه الوزير عيسى بن عيسى بحمل المال فدافعه فأمره بتسليم البلاد إلى العمال فامتنع فجهز إليه الجيش فهزمهم فكتب إلى مؤنس العجلي و هو بمصر يقاتل عساكر العلوية بأن يسير إلى قتال الحسين بعد فراغه من أمره فسار إليه سنة ثلاث و ثلاثمائة فارتحل بأهله إلى أرمينية و ترك البلاد و بعث مؤنس العساكر في أثره فأدركوه و قاتلوه فهزموه و أسر و ابنه عبد الوهاب و أهله و أصحابه و عاد به إلى بغداد فأدخل على جمل و قبض المقتدر ليومئذ على أبي الهيجاء و جميع بني حمدان فحبسهم جميعا ثم أطلق أبا الهيجاء سنة خمس و ثلاثمائة بعدها و قتل الحسين سنة ست و ولى إبراهيم بن حمدان سنة سبع على ديار ربيعة و ولى مكانه داود بن حمدان (4/293)
ولاية أبي الهيجاء ثانية على الموصل ثم مقتله
ثم ولى المقتدر أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل سنة أربع عشرة و ثلاثماثة فبعث ابنه ناصر الدولة الحسين عليها و أقام هو ببغداد ثم بلغه إفساد العرب و الأكراد في نواحيها و في نواحي عمله الآخر بخراسان فبعث إلى أبيه ناصر الدولة فأوقع بالعرب في الجزيرة و نكل بهم و جاءه في العساكر إلى تكريت فخرج و رحل بهم إلى شهرزور و أوقع بالأكراد الجلالية حتى استقاموا على الطاعة ثم كان خلع المقتدر سنة سبع عشرة و ثلاثمائة بأخيه القاهر ثم عاد ثاني يوم و أحيط بالقاهر في قصره فتذمم بأبي الهيجاء و كان عنده يومئذ و أطال المقام يحاول على النجاة به فلم يتمكن من ذلك و انقض الناس على القاهر و مضى أبو الهيجاء يفتش عن بعض المنافق في القصر يتخلص منه فاتبعه جماعة و فتكوا به و قتلوه منتصف المحرم من السنة و ولى المقتدر مولاه تحريرا على الموصل (4/293)
ولاية سعيد و نصر ابني حمدان على الموصل
ثم ان أبا العلاء سعيد بن حمدان ضمن الموصل و ديار ربيعة و ما بيد ناصر الدولة فولاه الراضي سنة ثلاث و عشرين و ثلاثمائة و سار إلى الموصل فخرج ناصر الدولة لتلقيه و خالفه أبو العلاء إلى بيته و قعد ينتظره فأنفذ ناصر الدولة جماعة من غلمانه فقتلوه و بلغ الخبر إلى الراضي فأعظم ذلك و أمر الوزير ابن مقلة بالمسير إلى الموصل فسار إليها و ارتحل ناصر الدولة و اتبعه الوزير إلى جبل السن و رجع عنه و أقام بالموصل و احتال بعض أصحاب ابن حمدان ببغداد على ابن الوزير و بذل له عشرة آلاف دينار على أن يستحث أباه ففعل و كتب إليه بأمور أزعجته فاستعمل على الموصل من وثق به من أهل الدولة و رجع إلى بغداد في منتصف شوال و رجع ناصر الدولة إلى الموصل فاستولى عليها و كتب إلى الراضي في الصفح و أن يضمن البلاد فأجيب إلى ذلك و استقر في و لايته (4/294)
مسير الراضي إلي الموصل
و في سنة سبع و عشرين و ثلاثمائة تأخر ضمان البلاد من ناصر الدولة فغضب الراضي و سار و مدبر دولته تحكم و سار إلى الموصل و تقدم تحكم إلى تكريت فخرج إليه ناصر الدولة فانهزم أصحابه و سار إلى نصيبين و اتبعه تحكم فلحق به و كتب تحكم إلى الراضي بالفتح فسار في السفن يريد الموصل و كان ابن رائق مختفيا ببغداد منذ غلبه ابن البريدي على الدولة فظهر عند ذلك و استولى على بغداد و بلغ الخبر إلى الراضي فأصعد من الماء إلى البر و استقدم تحكم من نصيبين و استعاد ناصر الدولة ديار ربيعة و هو يعلم بخبر ابن رائق و بعث في الصلح على تعجيل خمسمائة ألف درهم فأجابه إلى ذلك و سار الراضي و تحكم إلى بغداد و لقيهم أبو جعفر محمد بن يحيى بن سريق رسولا من ابن رائق في الصلح على أن يولي ديار مضر و هي حران و الرها و الرقة و تضاف إليها قنسرين و العواصم فأجيب إلى ذلك و سار عن بغداد إلى ولايته و دخل الراضي و تحكم بغداد و رجع ناصر الدولة بن حمدان إلى الموصل (4/294)
مسير المتقى إلى الموصل و ولاية ناصر الدولة إمارة الأمراء
كان ابن رائق بعد مسيره إلى ديار مضر و العواصم سار إلى الشام و ملك دمشق من يد الأخشيد ثم الرملة ثم لقيه الأخشيد على عريش مصر و هزمه و رجع إلى دمشق ثم اصطلحا على أن يجعلا الرملة تخما بين الشام و مصر و ذلك سنة ثمان و عشرين و ثلاثمائة ثم توفي الراضي سنة تسع و عشرين و ولى المتقي و قتل تحكم و جاء البريدي إلى بغداد و هرب الأتراك التحكمية إلى الموصل و فيهم توزون و جحجح ثم لحقوا بأبي بكر محمد بن رائق و استحثوه إلى العراق و غلب بعدهم على الخلافة الأتراك الديلمية و جاء أبو الحسن البريدي من واسط فأقام ببغداد أربعة و عشرين يوما أمير الأمراء ثم شغب عليه الجند فرجع إلى واسط و غلب كورتكين ثم حجر المتقي و كتب إلى ابن رائق يستدعيه فسار من دمشق في رمضان سنة تسع و عشرين و استخلف عليها أبا الحسن أحمد بن علي بن حمدان على أن يحمل إليه مائة ألف دينار و سار ابن رائق إلى بغداد و غلب كورتكين و الديلمية و حبس كورتكين بدار الخلافة ثم شغب عليه الجند و بعث أبو عبد الله البريدي أخاه أبا الحسن إلى بغداد في العساكر فغلبوا عليها و هرب المتقي و ابنه أبو منصور و زاد في المبرة فنثر الدراهم على ابن الخليفة و بالغ في مبرته حتى ركب للإنصراف و أمسك ابن رائق للحديث معه فاستدعاه المتقي و خلع عليه و لقبه ناصر الدولة و جعله أمير الأمراء و خلع على أخيه أبي الحسن و لقبه سيف الدولة و كان قتل ابن رائق لتسع بقين من رجب و ولاية ناصر الدولة مستهل شعبان من سنة ثمانين ثم سار الأخشيدي من مصر إلى دمشق فملكها من يد عامل ابن رائق و سار ناصر الدولة مع المتقي إلى بغداد (4/295)
أخبار بني حمدان ببغداد
و لما قتل ابن رائق و أبو الحسن البريدي على بغداد و قد سخطه العامة و الخاصة فهرب جحجح إلى المتقي و أجمع توزون و أصحابه إلى الموصل و استحثوا المتقي و ناصر الدولة فأنجدوهم إلى بغداد و ولى على الخراج و الضياع بديار مضر و هي الرها و حران و الرقة أبا الحسن علي بن خلف بن طياب و كان عليها أبو الحسن علي بن أحمد بن مقاتل من قبل ابن رائق فقاتله ابن طياب و قتله و لما قرب المتقي و ناصر الدولة من بغداد هرب أبو الحسن بن البربدي إلى واسط بعد مقامه مائة يوم و عشرة أيام و دخل المتقي بغداد و معه بنو حمدان و قلد توزون شرطة جانبي بغداد و ذلك في شوال من السنة ثم سار بنو حمدان إلى واسط فنزل ناصر الدولة بالمدائن و بعث أخاه سيف الدولة إلى قتال البربدي و قد سار من واسط إليهم فقاتلوه تحت المدائن و معهم توزون و جحجح و الأتراك فانهزموا أولا ثم أمدهم ناصر الدولة بمن كان معه من المدائن فانهزم البريدي إلى واسط و عاد ناصر الدولة إلى بغداد منتصف ذي الحجة و بين يديه الأسرى من أصحاب البريدي و أقام سيف الدولة بموضع المعركة حتى اندملت جراحه و ذهب وهنه ثم سار إلى واسط فلحق البريدي بالبصرة و استولى على واسط فأقام بها معتزما على اتباع البربدي إلى البصرة و استمد أخاه ناصر الدولة في المال فلم يمده و كان للأتراك عليه استطالة و خصوصا توزون و جحجح ثم جاء أبو عبد الله الكوفي بالمال من قبل ناصر الدولة ليفرقه في الأتراك فاعترضه توزون و جحجح و أراد البطش به فأخفاه سيف الدولة عنهما و رده إلى أخيه ثم ثار الأتراك بسيف الدولة سلخ شعبان فهرب من معسكره إلى بغداد و نهب سواده قتل جماعة من أصحابه و كان أبو عبد الله الكوفي لما و صل إلى ناصر الدولة و أخبره خبر أخيه أراد أن يسير إلى الموصل فركب المتقي إليه و استمهله و عاد إلى قصره فأغذ السير إلى الموصل بعد ثلاثة عشر شهرا من إمارته و ثار الديلم و الأتراك و نهبوا داره و لما هرب سيف الدولة من معسكره بواسط عاد الأتراك إلى معسكرهم و ولوا توزون أميرا و جحجح صاحب جيش و لحق سيف الدولة ببغداد منتصف رمضان بعد مسير أخيه و بلغه خبر توزون ثم اختلف الأتراك و قبض توزون على جحجح و سمله و سار سيف الدولة و لحق بأخيه بالموصل و ولى توزون إمارة الأمراء ببغداد (4/296)
خبر عدل التحكمي بالرحبة
كان عدل هذا مولى تحكم ثم صارمع ابن رائق و اصعد معه إلى الموصل و لما قتل ابن رائق صار في جملة ناصر الدولة بن حمدان فبعثه مع علي بن خلف بن طياب إلى ديار مضر فاستولى ابن طياب عليها و قتل نائب ابن رائق و كان بالرحبة من ديار مضر رجل من قبل ابن رائق يقال له مسافر بن الحسين فامتنع بها و جبى خراجها و استولى على تلك الناحية فأرسل إليه ابن طباب عدلا التحكمي فاستولى عليها وفر مسافر عنها و اجتمع التحكمية إلى عدل و استولى على طريق الفرات و بعض الخابور ثم استنصر مسافر بجمع من بني نمير و سار إلى قرقيسيا و ملكها و ارتجعها عدل من يده ثم اعتزم عدل على ملك الخابور و انتصر أهله ببني نمير فأعرض عدل عن ذلك حينا حتى أمنوا ثم أسرى إلى فسيح سمصاب و هي من أعظم قرى خابور فقاتلها و نقب السور و ملكها ثم ملك غيرها و أقام في الخابور ستة أشهر و جبى الأموال و قوي جمعه و اتسعت حاله ثم طمع في ملك بني حمدان فسار يريد نصيبين لغيبة سيف الدولة عن الموصل و بلاد الجزيرة و نكب عن الرحبة و حران لأن يأنس المؤنسي كان بها في عسكر و معه جمع من بني نمير فحاد عنها إلى رأس عين و منها إلى نصيبين و بلغ الخبر إلى أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان فجمع و سار إليه فلما التقى الجمعان استأمن أصحاب عدل إلى ابن حمدان و لم يبقى معه إلا القليل فقبض عليه و سمله و بعث به مع ابنه إلى بغداد في آخر شعبان سنة إحدى و ثلاثين و مائتين (4/297)
مسير المتقي إلى الموصل و عوده
و لما انصرف ناصر الدولة و سيف الدولة عن المتقي من بغداد جاء توزون من واسط و استولى على الدولة ثم رجع إلى واسط و وقعت بينه و بين ابن البريدي بالبصرة مواصلة و صهر استوحش لها المتقي و كان بعض أصحاب توزون منافرا له فأكثر فيه السعاية عند المتقي و الوزير ابن مقلة و خوفهما اتصال يده بابن البريدي و قارن ذلك اتصال ابن شيرزاده بتوزون و مسيره إليه بواسط فذكروا الخليفة بما فعل ابن البريدي معه في المرة الأخرى و خوفوه عاقبة أمرهم فكتب إلى ابن حمدان أن ينفذ إليه عسكرا يسير صحبته إليهم فأنفذ مع ابن عمه الحسين بن سعيد بن حمدان و وصلوا إلى بغداد سنة إثنتين و ثلاثين و خرج المتقي معهم بأهله و أعيان دولته و معه الوزير ابن مقلة و انتهى إلى تكريت فلقيه سيف الدولة هنالك و جاء ناصر الدولة فأصعد المتقي إلى الموصل و لما بلغ الخبر إلى توزون سار نحو تكريت فلقيه سيف الدولة عندها فقاتله ثلاثة أيام ثم هزمه توزون و نهب سواده و سواد أخيه و سار سيف الدولة إلى الموصل و توزون في اتباعه فخرج ناصر الدولة و المتقي و جملته إلى نصيبين ثم إلى الرقة و لحقهم سيف الدولة إليها و ملك توزون الموصل و بعث إليه المتقي يعاتبه على اتصاله بابن البريدي و أنه إنما استوحش من ذلك فإن آثر رضاه واصل ابن حمدان فأجاب توزون إلى ذلك و عقد الضمان لناصر الدولة على ما بيده من البلاد لثلاث سنين كل سنة بثلاثة آلاف ألف و ستمائة ألف و عاد توزون إلى بغداد و أقام المتقي بالرقة ثم أحس من ابن حمدان ضجرا به و بلغ سيف الدولة أن محمد بن نيال الترجمان أغرى المتقي بسيف الدولة و هو الذي كان أفسد بين المتقي و توزون فقبض عليه سيف الدولة و قتله و ارتاب المتقي بذلك فكتب إلى توزون يستصلحه و كتب إلى الأخشيد محمد بن طغج صاحب مصر يستقدمه فسار إليه الأخشيد و لما وصل إلى حلب و عليها من قبل سيف الدولة ابن عمهم أبو عبد الله سعيد بن حمدان فرحل عنها و تخلف عنه ابن مقاتل الذي كان بدمشق مع ابن رائق و لما وصل الأخشيد إلى حلب لقيه ابن مقاتل فأكرمه و استعمله على خراج مصر ثم سار إلى المتقي بالرقة فلقيه منتصف ثلاث و ثلاثين فبالغ المتقي في إكرامه و بالغ هو في الأدب معه و حمل إليه الهدايا و إلى وزيره و حاشيته و سأله المسير إلى مصر أو الشام فأبى فأشار عليه أن لا يرجع إلى توزون فأبى و أشار على ابن مقلة أن يسير معه إلى مصر ليحكمه في دولته و خوفه من توزون فلم يعمل و جاءهم رسل توزون في الصلح و أنهم استحلفوه للخليفة و الوزير فانحدر المتقي إلى بغداد آخر المحرم و عاد الأخشيد إلى مصر و لما وصل المتقي إلى هيت لقيه توزون فقبل الأرض و رأى أنه تحلل عن يمينه بتلك الطاعة ثم وكل به و سمل المتقي و رجع إلى بغداد فبايع للمستكفي و لما ارتحل المتقي عن الرقة ولى عليها ناصر الدولة ابن عمه أبا عبد الله بن سعيد بن حمدان و على طريق الفرات و ديار مضر و قنسرين و جند و العواصم و حمص فلما وصل إلى الرقة طمع أهلها فيه فقاتلهم و ظفر بهم و رجع إلى حلب و قد كان ولى على هذه البلاد قبله أبا بكر محمد بن علي بن مقاتل (4/298)
استيلاء سيف الدولة على حلب و حمص
و لما ارتحل المتقي من الرقة و انصرف الأخشيد إلى الشام بقي يأنس المؤنسي بحلب فقصد سيف الدولة و ملكها من يده ثم سار إلى حمص فلقيه بها كافور مولى الأخشيد فهزمه سيف الدولة و سار إلى دمشق فامتنعوا عليه فرجع و جاء الأخشيد من مصر إلى الشام و سار في اتباع سيف الدولة فاصطفا بقنسرين ثم تحاجزوا و رجع سيف الدولة إلى الجزيرة و الأخشيد إلى دمشق ثم سار سيف الدولة إلى حلب فملكها و سارت عساكر الروم إليها فقاتلهم و ظفر بهم ثم بلغ ناصر الدولة بن حمدان ما فعله توزون من سمل المتقي و بيعة المستكفي فامتنع من حمل المال و هرب إليه غلمان توزون فاستخدمهم و نقض الشرط في ذلك و خرج توزون و المستكفي قاصدين الموصل و ترددت الرسل بينهما في الصلح فتم ذلك اخر سنة ثلاث و ثلاثين و ثلاثمائة و عاد المستكفي و توزون إلى بغداد فتوفى توزون إثر عوده و ولي الأمور بعده ابن شيرزاده و استعمل على واسط قائدا و على تكريت آخر فأما الذي على واسط فكاتب معز الدولة ابن بويه و استقدمه فقدم بغداد و استولى على الدولة فخلع المستكفي و بايع للمطيع و أما الذي على تكريت فسار إلى ناصر الدولة بن حمدان بالموصل و سار معه و ولاه عليها من قبله (4/299)
الفتنة بين ابن حمدان و ابن بويه
و لما خلع معز الدولة بن بويه المستكفي عند استيلائه على بغداد امتعض ناصر الدولة ابن حمدان لذلك و سار من الموصل إلى العراق و بعث معز الدولة بن بويه قواده فالتقى الجمعان بعكبرا و اقتتلوا و خرج معز الدولة مع المطيع إلى عكبرا و كان ابن شيرزاده ببغداد و أقام بها و لحق بناصر الدولة بن حمدان و جاء بعساكره إلى بغداد فنزلوا بالجانب الغربي و ناصر الدولة بالجانب الشرقي و وقع الغلاء في معسكر معز الدولة و الخليفة لانقطاع الميرة و بقي عسكر ابن حمدان في رخاء من العيش لاتصال الميرة من الموصل و استعان ابن شيرزاده بالعامة و العمارين على حرب معز الدولة و الديلم و ضاق الأمر بمعز الدولة حتى اعتزم على الرجوع إلى الاهواز ثم أمر أصحابه بالعبور من قطربال بأعلى دجله و تسابق أصحاب ناصر الدولة إلى مدافعتهم و منعهم و بقي في خف من الناس فأجاز إليه شجعان الديلم من أقرب الأماكن فهزموه و ملك معز الدولة الجانب الشرقي و أعاد المطيع إلى داره في محرم سنة خمس و ثلاثين و ثلاثمائة و رجع ناصر الدولة إلى عكبرا و أرسل في الصلح فوقف الأتراك التورونية الذين معه على خبر رسالته فهموا بقتله فأغذ السير إلى الموصل و معه ابن شيرزاده و أحكم الصلح مع معز الدولة (4/300)
استيلاء سيف الدولة على دمشق
و في سنة خمس و ثلاثين و ثلاثمائة توفي الأخشيد أبو بكر محمد بن طغج صاحب مصر و الشام فنصب للأمر بعده ابنه أبو القاسم أنوجور و استولى عليه كافور الأسود و خادم أبيه و سار بهما إلى مصر و جاء سيف الدولة إلى دمشق فملكها و ارتاب به أهلها فاستدعوا كافورا فجاءهم و خرج سيف الدولة إلى حلب ثم اتبعوه فعبر إلى الجزيرة و أقام أنوجور على حلب ثم اتفقوا و اصطلحوا و عاد أنوجور إلى مصر و سيف الدولة إلى حلب و أقام كافور بدمشق قليلا ثم عاد إلى مصر و استعمل على دمشق بدرا الأخشيد و يعرف ببدير ثم عزله بعد سنة و ولى أبا المظفر طغج (4/301)
الفتنة بين ناصر الدولة بن حمدان و بين تكين والأتراك
كان مع ناصر الدولة جماعة من الأتراك أصحاب توزون فروا إليه كما قدمنا فلما وقعت المراسلة بينه و بين معز الدولة في الصلح ثاروا به و هرب منهم و عبر إلى الجانب الغربي و نزل الموصل و استجار القرامطة فأجاروه و بعثوا معه إلى مأمنه في جملته ابن شيرزاده فقبض ناصر الدولة عليه و اجتمع الأتراك بعده فقدموا عليهم تكين الشيرازي و قبضوا على من تخلف من أصحاب ناصر الدولة و اتبعوه إلى الموصل فسار عنها إلى نصيبين و دخل الأتراك الموصل و بعث ناصر الدولة إلى معز الدوله يستصرخه فبعث إليهما الجيوش مع وزيره أبي جعفر الصيمري و خرج الأتراك من الموصل في اتباع ناصر الدولة إلى نصيبين فمضى إلى سنجار ثم إلى الحديثة إلى السن و هم في اتباعه و بقي هنالك العساكر فقاتلوا الأتراك و هزموهم و سيق قائدهم تكين إلى ناصر الدولة فسمله لوقته ثم حبسه و سار مع الصيمري إلى الموصل فأعطاه ابن شيرزاده و ارتحل به إلى بغداد (4/301)
انتقاض جمان بالرحبة و مهلكه
كان جمان هذا من أصحاب توزون و سار إلى ناصر الدولة بن حمدان فلما كان في محاربة معز الدولة ببغداد استراب بمن معه من الديلم و جمعهم على جمان هذا
و أخرجه إلى الرحبة واليا فعظم أمره و انتقض سنة ست و ثلاثين و ثلاثمائة على ناصر الدولة و حدثته نفسه بالتغلب على ديار مضر فسار إلى الرقة و حاصرها سبعة عشر يوما و انهزم عنها و وثب أهل الرحبة بأصحابه و عماله فقتلوهم لسوء سيرتهم و جاء من الرقة فأثخن فيهم و بعث ناصر الدولة بن حمدان حاجبه باروخ مع عسكر فاقتتلوا على الفرات و انهزم جمان فغرق في الفرات و استأمن أصحابه إلى باروخ فأمنهم و رجع إلى ناصر الدولة (4/302)
فتنة ناصر الدولة مع معز الدولة
ثم وقعت الفتنة بين ناصر الدولة بن حمدان و معز الدولة ابن بويه و سار إليه معز الدولة من بغداد سنة سبع و ثلاثين و ثلاثمائة فسار هو من الموصل إلى نصيبين و ملك معز الدولة الموصل فظلم الرعايا و أخذ أموالهم و أجمع الاستيلاء على بلاد ابن حمدان كلها فجاءه الخبر بأن عساكر خراسان قصدت جرجان و الري و بعث أخوه ركن الدولة يستمده فصالح ناصر الدولة عن الموصل و الجزيرة و الشام على ثمانية آلاف ألف درهم كل سنة و على أن يخطب له و لأخويه عماد الدولة و ركن الدولة و عاد إلى بغداد في ذي الحجة آخر سبع و ثلاثين و ثلاثمائة (4/302)
غزوات سيف الدولة
كان أمر الثغور راجعا إلى سيف الدولة بن حمدان و وقع الفداء سنة خمس و ثلاثين و ثلاثمائة في ألفين من الأسرى على يد نصر النملي و دخل الروم سنة اثنتين و ثلاثين مدينة و اسرغين و نهبوها و سبوها و أقاموا بها ثلاثا و هم في ثمانين ألفا مع الدمشق ثم سار سيف الدولة سنة سبع و ثلاثين غازيا إلى بلاد الروم فقاتلوه و هزموه و نزل الروم على مرعش فأخذوها و أوقعوا بأهل طرسوس ثم دخل سنة ثمان و ثلاثين و توغل في بلاد الروم و فتح حصونا كثيرة و غنم و سبا و لما قفل أخذت الروم عليه المضايق و أثخنوا في المسلمين قتلا و أسرا و استردوا ما غنموه و نجا سيف الدولة في فل قليل ثم ملك الروم سنة إحدى و أربعين مدينة سروج و استباحوها ثم دخل سيف الدولة سنة ثلاث و أربعين إلى بلاد الروم فأثخن فيها و غنم و قتل قسطنطين بن الدمشق فيمن قتل فجمع الدمشق عساكر الروم و الروس و بلغار و قصد الثغور فسار إليه سيف الدولة بن حمدان و التقوا عند الحرث فانهزم الروم و استباحهم المسلمون قتلا و أسرا و أسر صهر الدمشق و بعض أسباطه و كثير من بطارقته و رجع سيف الدولة بالظفر و الغنيمة ثم دخل بلاد الروم النصرانية ثم رجع إلى أذنة و أقام بها حتى جاءه نائبه على طرسوس فخلع عليه و عاد إلى حلب و امتعض الروم لذلك فرجعوا إلى بلادهم ثم غزا الروم طرسوس و الرها و عاثوا في نواحيها سبيا و أسرا و رجعوا ثم غزا سيف الدولة بلاد الروم سنة ست و أربعين و أثخن فيها و فتح عدة حصون و امتلأت أيدي عسكره من الغنائم و السبي و انتهى إلى خرسنة و رجع و قد أخذت الروم عليه المضايق فقال له أهل طرسوس : ارجع معنا فإن الدروب التي دخلت منها قد ملكها الروم عليك فلم يرجع إليهم و كان معجبا برأيه فظهر الروم عليه في الدرب و استردوا ما أخذوا منهم و نجا في فل قليل يناهزون الثلاثمائة ثم دخل سنة خمسين قائد من موالي سيف الدولة إلى بلاد الروم من ناحية ميافارقين فغنم و سبا و خرج سالما (4/302)
الفتنة بين ناصر الدولة و معز الدولة بن بويه
قد تقدم لنا ما وقع من الصلح بين ناصر الدولة و بين معز الدولة بن بويه و طالبه في المال فانتقض و سار إليه معز الدولة إلى الموصل منتصف السنة و ملكها و فارقها ناصر الدولة إلى نصيبين و حمل نوابه و من يعرف وجوه المال و حمايته و أنزلهم في قلاعه مثل الزعفراني و كواشي و دس إلى العرب بقطع الميرة عن عسكر معز الدولة فضاقت عليهم الأقوات فرحل معز الدولة إلى نصيبين لما بها من الغلات السلطانية و استخلف سبكتكين الحاجب الكبير على الموصل و بلغه في طريقه أن أبا الرجاء و عبد الله إبني ناصر الدولة مقيمان بسنجار فقصدهما فهربا و خلفا أثقالهما و انتهب العسكر خيامهما ثم عادا إلى معسكر معزالدولة و هم غازون فنالوا منهم و رجعوا إلى سنجار و سار معز الدولة إلى نصيبين ففارقها ناصر الدولة إلى ميافارقين و استأمن كثير من أصحابه إلى معز الدولة فسار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدولة بحلب فقام بخدمته و باشرها بنفسه و أرسل إلى معز الدولة في الصلح بينه و بين أخيه فامتنع معز الدولة من قبول ناصر الدولة لانتقاضه و إخلافه فضمن سيف الدولة البلاد بألفي ألف و تسعمائة ألف درهم و أطلق معز الدولة أسرى أصحابهم و تم ذلك في محرم سنة ثمان و أربعين و رجع معز الدولة إلى العراق و ناصر الدولة إلى الموصل (4/304)
استيلاء الروم على عين زربة ثم على مدينة حلب
و في المحرم من سنة إحدى و خمسين نزل الدمستق في جموع الروم على عين زربة و ملك الجبل المطل عليها و ضيق عليها حصارها و نصب عليها المنجنيقات و شرع في النقب فاستأمنوا و دخل المدينة ثم ندم على تأمينهم لما رأى من اختلال أحوالهم فنادى فيهم أن يخرجوا بجميع أهاليهم إلى المسجد فمات منهم في الأبواب بكض الزحام خلق و مات آخرون في الطرقات و قتل من وجدوا آخر النهار و استولى الروم على أموالهم و أمتعتهم و هدموا سور المدينة و فتحوا في نواحي عين زربة أربعة و خمسين حصنا و رحل الدمستق بعد عشرين يوما بنية العود و خلف جيشه بقيسارية و كان ابن الزيات صاحب طرسوس قد قطع الخطبة لسيف الدولة بن حمدان و اعترضه الدمستق في بعض مذاهبه فأوقع به و قتل أخاه و أعاد أهل البلد الخطبة لسيف الدولة و ألقى ابن الزيات نفسه في النهر فغرق ثم رجع الدمستق إلى بلاد الثغور و أغذ السير إلى مدينة حلب و أعجل سيف الدولة عن الاحتشاد فقاتله في خف من أصحابه فانهزم سيف الدولة و استلحم آل حمدان و استولى الدمستق على ما في داره خارج حلب من خزائن الأموال و السلاح و خرب الدار و حصر المدينة و أحس أهل حلب مدافعته فتأخر إلى جبل حيوش ثم انطلقت أيدي الدعار بالبلد على النهب و قاتلهم الناس على متاعهم و خربت الأسوار من الحامية فجاء الروم و دخلوها عليهم و بادر الأسرى الذين كانوا في حلب و أثخنوا في الناس و سبي من البلد بضعة عشر ألفا ما بين صبي و صبية و احتمل الروم ما قدروا عليه و أحرقوا الباقي ولجأ المسلمون إلى قصبة البلد فامتنعوا بها و تقدم ابن أخت الملك إلى القلعة يحاصرها فرماه حجر منجنيق فمات و قتل الدمستق به من كان معه من أسرى المسلمين و كانوا ألفا و مائتين و ارتحل الدمستق عنهم و لم يعرض لسواد حلب و أمرهم بالعمارة على أنه يعود ابن عمه عن قريب فخيب الله ظنه و أعاد سيف الدولة عين زربة و أصلح أسوارها و غزا حاجبه مع أهل طرسوس إلى بلاد الروم فأثخنوا فيها و رجعوا فجاء الروم إلى حصن سبة فملكوه و ملكوا أيضا حصن دلوكة و ثلاثة حصون مجاورة لهم ثم سار نجا غلام سيف الدولة إلى حصن زياد فلقيهم جمع من الروم فانهزم الروم و أسر منهم خمسمائة رجل و في هذه السنة أسر أبو فراس بن سعيد بن حمدان و كان عاملا على منبج و فيها سار جيش من الروم في البحر إلى جزيرة إقريطش و بعث إليهم المعز بالمدد فأسر الروم و انهزم من بقي منهم ثم ثار الروم في اثنتين و خمسين بعدها بملكهم فقتلوه و ملكوا غيره و صار ابن السميسرة دمستقا (4/304)
انتقاض أهل حران
كان سيف الدولة قد ولى هبة الله ابن أخيه ناصر الدولة غيرها من ديار مضر فساء أثره فيهم و طرح الأمتعة على التجار و بالغ في الظلم فانتظروا به غيبته عند عمه سيف الدولة و ثاروا بعماله و نوابه فطردوهم فسار هبة الله إليهم و حاصرهم شهرين و أفحش في القتل فيهم ثم سار سيف الدولة فراجعوا الطاعة و أدخلوا هبة الله و أفحش في القتل و استقاموا (4/306)
انتقاض هبة الله
و في هذه السنة بعث سيف الدولة الصوائف إلى بلاد الروم فدخل أهل طرسوس من درب و مولاه نجا من درب و أقام هو ببعض الدروب لأنه كان أصابه الفالج قبل ذلك بسنتين فكان يعالج منه شدة إذا عاوده وجعه و توغل أهل طرسوس في غزوتهم و بلغوا قونية و عادوا فعاد سيف الدولة إلى حلب و اشتد و جعه فأرجف الناس بموته فوثب عبد الله ابن أخيه و قتل ابن نجا النصراني من غلمان سيف الدولة و لما تيقن حياة عمه رحل إلى حران و امتنع بها و بعث سيف الدولة غلامه فجاء إلى حران في طلبه فلحق هبة الله بأبيه بالموصل و نزل نجا على حران آخر شوال من سنة اثنتين و خمسين و صادر أهلها على ألف ألف درهم و أخذها منهم في خمسة أيام بالضرب و النكال و باعوا فيها ذخائرهم حتى أملقوا و صاروا إلى ميافارقين و نزلها شاغرة فتسلط العيارون على أهلها (4/306)
انتقاض نجا بميافارقين و أرمينية و استيلاء سيف الدولة عليها
و لما فعل نجا بأهل حران ما فعل و استولى على أموالهم فقوي بها و بطر و سار إلى ميافارقين و قصد بلاد أرمينية و كان قد استولى على أكثرها رجل من العراق يعرف بأبي الورد فغلبه نجا على ما ملك منها و أخذ قلاعه و بلاده فملك خلاط و ملاذكرد و أخذ كثيرا من أموال أبي الورد و قتله ثم انتقض على سيف الدولة و اتفق أن معز الدولة بن بويه استولى على الموصل و نصيبين فكاتبه نجا يعده المساعدة على بني حمدان ثم صالحه ناصرالدولة و رجع إلى بغداد فسار سيف الدولة إلى نجا فهرب منه بين يديه و استولى على جميع البلاد التي ملكها من أبي الورد و استأمن إليه نجا و أخوه و أصحابه فأمنهم و أعاد نجا إلى مرتبته ثم وثب عليه غلمانه و قتلوه في داره بميافارقين في ربيع سنة ثلاث و خمسين (4/306)
مسير معز الدولة إلى الموصل و حروبه مع ناصر الدولة
كان الصلح قد استقر بين ناصر الدولة و معز الدولة على ألف ألف درهم في كل سنة ثم طلب ناصر الدولة دخول ولده أبي ثعلب المظفر في اليمن على زيادة بذلها و امتنع سيف الدولة من ذلك و سار إلى الموصل منتصف سنة ثلاث و خمسين و ثلاثمائة و لحق ناصر الدولة بنصيبين و ملك معز الدولة الموصل و سار عنها في أتباع ناصر الدولة بعد أن استخلف على الموصل في الجباية و الحرب فلم يثبت ناصر الدولة و فارق نصيبين و ملكها معز الدولة و خالفه أبو ثعلب إلى الموصل و عاث في نواحيها و هزمه قواد معز الدولة بالموصل فسكنت نفس معز الدولة و أقام ببر قعيد يترقب أخباره و خالف ناصر الدولة إلى الموصل فأوقع بأصحابه و قتلهم و أسر قواده و استولى على مخلفه من المال و السلاح و حمل ذلك كله إلى قلعة كواشي و بلغ الخبر إلى معز الدولة فلحق بالنواب و أعيا معز الدولة أمرهم ثم أرسلوا إليه في الصلح فأجاب و عقد لناصر الدولة على الموصل و ديار ربيعة و جميع أعماله بمقرها المعلوم و على أن يطلق الأسرى الذين عنده من أصحاب معز الدولة و رجع معز الدولة إلى بغداد (4/307)
حصار المصيصة و طرسوس و استيلاء الروم عليها
و في سنة ثلاث و خمسين و ثلاثمائة خرج الدمشق في جموع الروم فنازل المصيصة و شد حصارها و أحرق رساتيقها و بلغ إلى نقب السور فدافعه أهلها أشد مدافعتهم ثم رحل إلى أذنة و طرسوس و طال عيثه في نواحيها و أكثر القتل في المسلمين و غلت الأسعار في البلاد و قلت الأقوات و عاود مرض سيف الدولة فمنعه من النهوض إليهم و جاء من خراسان خمسة آلاف رجل غزاة فبلغوا إلى سيف الدولة فارتحل بسببهم للمدافعة فوجد الروم انصرفوا ففرق هؤلاء الغزاة في الثغور من أجل الغلاء و كان الروم قد انصرفوا بعد خمسة عشر يوما و بعث الدمشق إلى أهل المصيصة و أذنه و طرسوس يتهددهم بالعود و يأمرهم بالرحيل من البلاد ثم عاد إليهم و حاصر طرسوس فقاتلهم أشد قتال و أسروا بطريقا من بطارقته و سقط الدمشق إلى أهل المصيصة و رجعوا إلى بلادهم ثم سار يعفور ملك الروم من القسطنطينية سنة أربع و خمسين إلى الثغور و بنى بقيسارية مدينة و نزلها و جهز عليها العساكر و بعث أهل المصيصة و طرسوس في الصلح فامتنع و سار بنفسه إلى المصيصة فدخلها عنوة و استباحها و نقل أهلها إلى بلاد الروم و كانوا نحوا من مائتي ألف ثم سار إلى طرسوس و استنزل أهلها على الأمان و على أن يحملوا من أموالهم و سلاحهم ما قدروا عليه و بعث حامية من الروم يبلغونهم أنطاكية و أخذ في عمارة طرسوس و تحصينها و جلب الميرة إليها ثم عاد إلى القسطنطينية و أراد الدمشق بن شمسيق أن يقصد سيف الدولة في ميافارقين و منعه الملك من ذلك (4/308)
انتقاض أهل انطاكية و حمص
و لما استولى الروم على طرسوس لحق الرشيق النعيي من قوادهم و أولي الرأي فيهم بأنطاكية في عدد و قوة فاتصل به ابن أبي الأهوازي من الجباة بأنطاكية و حسن له العصيان و أراه أن سيف الدولة بميافارقين عاجز عن العود إلى الشام بما هو فيه من الزمانة و أعانه بما كان من مال الجباة فأجمع رشيق الانتقاض و ملك أنطاكية و سار إلى حلب و بها عرقوبة و جاء الخبر إلى سيف الدولة بأن رشيقا أجمع الانتقاض و نجا ابن الأهوازي إلى أنطاكية فأقام في إمارتها رجلا من الديلم اسمه وزير و لقبه الأمير و أوهم أنه علوي و تسمى هو بالأشاد و أساء السيرة في أهل أنطاكية و قصدهم عرقوبة من حلب فهزموه ثم جاء سيف الدولة من ميافارقين إلى حلب و خرج إلى أنطاكية و قاتل وزير و ابن الأهوازي أياما و جيء بهما إليه أسيرين فقتل وزير و حبس ابن الأهوازي أياما و قتله و صلح أمر أنطاكية ثم ثار بحمص مروان القرمطي كان من متابعة القرامطة و كان يتقلد السواحل لسيف الدولة فلما تمكن ثار بحمص فملكها و ملك غيرها في غيبة سيف الدولة بميافارقين و بعث إليه عرقوبة مولاه بدرا بالعساكر فكانت بينهما عدة حروب أصيب فيها مروان بسهم فأثبت و بقي أياما يجود بنفسه و القتال بين أصحابه و بين بدر و أسر بدر في بعض تلك الحروب فقتله مروان و عاش بعده أياما ثم مات و صلح أمرهم (4/308)
خروج الروم إلى الثغور و استيلاؤهم على دارا
و في سنة خمس و خمسين و ثلاثمائة خرجت جموع الروم إلى الثغور فحاصروا آمد و نالوا من أهلها قتلا و أسرا فامتنعت عليهم فانصرفوا إلى دارا قريبا من ميافارقين فأخذوها و هرب الناس إلى نصيبين و سيف الدولة يومئذ بها فهم بالهروب و بعث عن العرب ليخرج معهم ثم انصرف الروم و أقام هو بمكانه ساروا إلى أنطاكية فحاصروها مدة و عاثوا في جهاتها فامتنعت فعاد الروم إلى طرسوس (4/309)
وفاة سيف الدولة و محبس أخيه ناصر الدولة
و في صفر من سنة خمس و خمسين و ثلاثمائة توفي سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان بحلب و حمل إلى ميافارقين فدفن بها و ولي مكانه بعده ابنه أبو المعالي شريف ثم في جمادى الأولى منها حبس ناصر الدولة أخوه بقلعة الموصل حبسه ابنه أبو ثعلب فضل الله الغضنفر و كان كبير ولده و كان سبب ذلك أنه كبر و ساءت أخلاقه و خالف أولاده و أصحابه في المصالح و ضيق عليهم فضجروا منه و لما بلغهم معز الدولة بن بويه اعتزم أولاده على قصد العراق فنهاهم ناصر الدولة و قال لهم اصبروا حتى ينفق بختيار ما خلف أبوه معز الدولة من الذخيرة فتظفروا به و إلا استظهر عليكم و ظفر بكم فلجوا في ذلك و وثب به أبو ثعلب بموافقة البطانة و حبسه بالقلعة و وكل بخدمته و خالفه بعض إخوته في ذلك و اضطرب أمره و اضطر إلى مداراة بختيار بن معز الدولة و أرسل له في تجديد الضمان ليحتج به على إخوته فضمنه بألفي ألف درهم في كل سنة (4/310)
ولاية أبي المعالي بن سيف الدولة بحلب و مقتل أبي فراس
و لما مات سيف الدولة كما ذكرناه ولي بعده ابنة أبو المعالي شريف و كان سيف الدولة قد ولى أبا فراس بن أبي العلاء سعد بن حمدان عندما خلصه من الأسر الذي أسره الروم في منبج فاستفداه في الفداء الذي بينه و بين الروم سنة خمس و خمسين و ثلاثمائة و ولاه على حمص فلما مات سيف الدولة استوحش من أبي المعالي بعده ففارق حمص و نزل في صدد قرية في طرف البرية قريبا من حمص فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب و غيرهم و بعثهم مع عرقوبة في طلبه فجاء إلى صدد و استأمن له أصحاب أبي فراس و كان في جملتهم فأمر به عرقوبة فقتل و احتمل رأسه إلى أبي المعالي و كان أبو فراس خاله (4/310)
أخبار أبي ثعلب مع إخوته بالموصل
كان لناصر الدولة بن حمدان زوجة تسمى فاطمة بنت أحمد الكردية و هي أم أبي ثعلب و هي التي دبرت مع ابنها أبي ثعلب على أبيه فلما حبس ناصر الدولة كاتب ابنه حمدان يستدعيه ليخلصه مما هو فيه و ظفر أبو ثعلب بالكتاب فنقل أباه إلى قلعة كواشي و اتصل ذلك بحمدان و كان قد سار عند وفاة عمه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقة فملكها و لما اتصل به شأن الكتاب سار إلى نصيبين و جمع الجموع و بعث إلى إخوته في الإفراج عن أبيهم فسار أبو ثعلب لحربه و انهزم حمدان قبل اللقاء للرقة فحاصره أبو ثعلب أشهرا ثم اصطلحا و عاد كل منهما إلى مكانه ثم مات ناصر الدولة في محبسه سنة ثمان و خمسين و ثلاثمائة و دفن بالموصل و بعث أبو ثعلب أخاه أبا البركات إلى حمدان بالرحبة فافترق عنه أصحابه و قصد العراق مستجيرا ببختيار فدخل بغداد في شهر رمضان من سنته و حمل إليه الهدايا و بعث بختيار إلى أبي ثعلب النقيب أبا أحمد و الد الشريف الرضي في الصلح مع أخيه حمدان فصالحه و عاد إلى الرحبة منتصف سنة تسع و خمسين و ثلاثمائة و فارقه أبو البركات ثم استقدمه أبو ثعلب فامتنع من القدوم عليه فبعث إليه أخاه أبا البركات ثانيا في العساكر فخرج حمدان إلى البرية و ترك الرحبة فملكها أبو البركات و استعمل عليها و سار إلى الرقة ثم إلى عرابان و خالفه حمدان إلى الرحبة فملكها و قتل أصحاب أبي ثعلب بها فرجع إليه أبو البركات و تقاتلا فضرب أبا البركات على رأسه فشجه ثم ألقاه إلى الأرض و أسره و مات من يومه و حمل إلى الموصل فدفن بها عند أبيه و جهز أبو ثعلب إلى حمدان و قدم أخاه أبا فراس محمدا إلى نصيبين ثم عزله عنها لأنه داخل حمدان و مالأه عليه فاستدعاه و قبض عليه و حبسه بقلعة ملاشي من بلاد الموصل فاستوحش أخوه إبراهيم و الحسن و لحقا بأخيهما حمدان في شهر رمضان و ساروا جميعا إلى سنجار و سار أبو ثعلب من الموصل في أثرهم في شهر رمضان سنة ستين و ثلاثمائة فخاموا عن لقائه و استأمن إليه أخوه إبراهيم و الحسن خديعة و مكرا فأمنهما و لم يعلم و تبعهما كثير من أصحاب حمدان و عاد حمدان من سنجار إلى عرابان و اطلع أبو ثعلب على خديعة أخويه فهربا منه ثم استأمن الحسن و رجع إليه و كان حمدان أقام نائبا بالرحبة غلامه نجا فاستولى على أمواله و هرب بها إلى حران و بها سلامة البرقعيدي من قبل أبي ثعلب فرجع حمدان إلى الرحبة و سار أبو ثعلب إلى قرقيسيا و بعث العساكر إلى الرحبة فعبروا الفرات و استولوا عليها و نجا حمدان بنفسه و لحق بسنجار مستجيرا به و معه أخوه إبراهيم فأكرمهما و وصلهما و أقاما عنده و رجع أبو ثعلب إلى الموصل وذلك كله آخر سنة ستين و ثلاثمائة (4/311)
خروج الروم إلى الجزيرة و الشام
و في سنة خمس و ثمانين و ثلاثمائة دخل ملك الروم الشام فسار في نواحيها و لم يجد من يدافعه فعاث في نواحي طرابلس و كان أهلها قد أخرجوا عاملهم إلى عرقة لسوء سيرته فنهب الروم أمواله ثم حاصر الروم عرقة فملكوها و نهبوها ثم قصدوا حمص و قد انتقل أهلها عنها فأحرقوها و رجعوا إلى بلاد السواحل و ملكوا منها ثمانية عشر بلدا و استباحوا عامة القرى و ساروا في جميع نواحي الشام و لا مدافع لهم إلا أن بعض العرب كانوا يغيرون على أطرافهم ثم رجع ملك الروم مجمعا حصار حلب و أنطاكية و بلغه استعدادهم فرحل عنهم إلى بلاده و معه من السبي مائة ألف رأس و كان بحلب قرعوية مولى سيف الدولة فمانعهم و بعث ملك الروم سراياه إلى الجزيرة فبلغوا كفرثوثا و عاثوا في نواحيها و لم يكن من أبي ثعلب مدافعة لهم (4/312)
استبداد قرعوية بحلب
كان قرعوية غلام سيف الدولة و هو الذي أخذ البيعة لابنه أبي المعالي بعد موته فلماكان سنة ثمان و خمسين و ثلاثمائة انتقض على أبي المعالي و أخرجه من حلب و استبد بملكها و سار أبو المعالي إلى حران فمنعه أهلها فسار إلى والدته بميافارقين و هي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس و لحق أصحابه بأبي ثعلب و بلغ أمه بميافارقين و هي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس أنه يريد القبض عليها فمنعته أياما من الدخول حتى استوثقت لنفسها و أذنت له و لمن رضيته و أطلقت لهم الأرزاق و منعت الباقين و سار أبو المعالي لقتال قرعوية بحلب فامتنع عليه ثم لحق أبو المعالي بحماة و أقام بها و بقيت الخطبة بحران له و لا والي عليهم من قبله فقدموا عليهم من يحكم بينهم (4/312)
مسير أبي ثعلب من الموصل إلى ميافارقين
و لما سمع أبو ثعلب بخروج أبي المعالي من ميافارقين إلى حلب لقتال قرعوية سار إليها و امتنعت زوجة سيف الدولة منه و استقر الأمر بينهما على أن تحمل إليه مائتي ألف درهم ثم نمي إليها أنه يحاول على ملك البلد فكبسته ليلا و نالت من معسكره فبعث إليها يلاطفها فأعادت إليه بعض ما نهب و حملت إليه مائة ألف درهم و أطلقت الأسارى فرجع عنها (4/313)
استيلاء الروم على انطاكية ثم حلب ثم ملاذكرد
و في سنة تسع و خمسين خرج الروم إلى أنطاكية فمروا بحصن الوفاء بقربها و هم نصارى فحاصروهم و اتفقوا على أن يرحلوا إلى أنطاكية فإذا نزل الروم عليها ثاروا من داخل و انتقل أهل الوفاء و نزلوا بجبل أنطاكية و جاء بعد شهرين أخو يعفور ملك الروم في أربعين ألفا من جموع الروم و نازل أنطاكية فأخلى له أهل الوفاء السور من ناحيتهم و ملكوا البلد و سبوا منها عشرين ألفا ثم أنفذ ملك الروم جيشا كثيفا إلى حلب و أبو المعالي بن سيف الدولة عليها يحاصرها ففارقها أبو المعالي و قصد البرية و ملك الروم حلب و تحصن قرعوية و أهل البلد بالقلعة فحاصروها مدة ثم ضربوا الهدنة بينهم على مال يحمله قرعوية و على أن الروم إذا أرادوا الميرة من قرى الفرات لا يمنعونهم منها و دخل في هذه الهدنة حمص و كفرطاب و المعرة و أفامية و شيزر و ما بين ذلك من الحصون و القرى و أعطاهم رهنهم على ذلك الروم و أفرج الروم عن حلب و كان ملك الروم قد بعث جيشا إلى ملاذكرد من أعمال أرمينية فحاصروها و فتحوها عنوة و رعب أهل الثغور منهم في كل ناحية (4/313)
مقتل يعفور ملك الروم
كان يعفور ملكا بالقسطنطينية و هي البلاد التي بيد بني عثمان لهذا العهد و كان من يليها يسمى الدمشق و كان يعفور هذا شديدا على المسلمين و هو الذي أخذ حلب أيام سيف الدولة و ملك طرسوس و المسينة و عين زربة و كان قتل الملك قبله و تزوج امرأته و كان له منها إبنان فكفلهما يعفور و كان كثيرا ما يطرق بلاد المسلمين و يدوخها في ثغور الشام و الجزيرة حتى هابه المسلمون و خافوه على بلادهم ثم أراد أن يجب ربيبيه ليقطع نسلهما فغرقت أمهما من ذلك و أرسلت إلى الدمشق بن الشمشيق و داخلته في قتله و كان شديد الخوفت من يعفور و هذا كان أبوه مسلما من أهل طرسوس يعرف بابن العفاش تنصر و لحق بالقسطنطينية و لم يزل يترقى في الأطوار إلى أن نال من الملك ما ناله و هذه غلطة ينبغي للعقلاء أن يتنزهوا عنها و لا ينال الملك من كان عريقا في السوقة و فقيدا للعصابة بالكلية و بعيدا عن نسب أهل الدولة فقد تقدم من ذلك في مقدمة الكتاب ما فيه كفاية (4/314)
استيلاء أبي ثعلب على حران
و في منتصف سنة تسع و خمسين و ثلاثمائة سار أبو ثعلب إلى حران و حاصرها نحوا من شهر ثم جنح أهلها إلى مصالحته و اضطربوا في ذلك ثم توافقوا عليه و خرجوا إلى أبي ثعلب و أعطوه الطاعة و دخل في إخوانه و أصحابه فصلى الجمعة و رجع إلى معسكره و استعمل عليهم سلامة البرقعيدي و كان من أكابر أصحاب بني حمدان و بلغه الخبر بأن نميرا عاثوا في بلاد الموصل و قتلوا العامل ببرقعيد فأسرع العود (4/315)
مصالحة قرعوية لأبي المعالي
قد تقدم لنا استبداد قرعوية بحلب سنة ثمان و خمسين و ثلاثمائة و خروج أبي المعالي ابن سيف الدولة منها و أنه لحق بأمه بميافارقين ثم رجع لحصار قرعوية بحلب ثم رجع إلى حمص و نزل بها ثم وقع الاتفاق بينه و بين قرعوية على أن يخطب له بحلب و يخطبان جميعا للمعز العلوي صاحب مصر (4/315)
مسير الروم إلى بلاد الجزيرة
و في سنة إحدى و ستين سار الدمشق في جموع الروم إلى الجزيرة فأغار على الرها و نواحيها ثم تنقل في نواحي الجزيرة ثم بلغ نصيبين و استباحها و دوخها ثم سار في ديار بكر ففعل فيها مثل ذلك و لم يكن لأبي ثعلب في مدافعتهم أكثر من حمل المال إليهم و سار جماعة من أهل تلك البلاد إلى بغداد مستنفرين و جلسوا إلى الناس في المساجد و المشاهد يصفون ما جرى على المسلمين و خوفوهم عاقبة أمرهم فتقدمهم أهل بغداد إلى دار الطائع الخليفة فأرادوا الهجوم عليه فأغلقت دونهم الأبواب فأعلنوا بشتمه و لحق آخرون من أهل بغداد ببختيار و هو بنواحي الكوفة يستغيثونه من الروم فوعدهم بالجهاد و أرسل إلى الحاجب سبكتكين يأمره بالتجهيز للغزو و أن يستنفر العامة و كتب إلى أبي ثعلب بن حمدان بإعداد الميرة و العلوفات و التجهيز و أنه عازم على الغزو و وقعت بسبب ذلك فتنة في بغداد من قبل اشتغال العامة بذلك أدت إلى القتل و النهب بين عصائب الفتيان و العيارين (4/315)
أسر الدمشق و موته
و لما فعل الدمشق في ديار مضر و الجزيرة ما فعل قوي طمعه في فتح آمد فسار إليه أبو ثعلب و قدم أخاه أبا القاسم هبة الله و اجتمعا على حرب الدمشق و لقياه في رمضان سنة اثنتين و ستين و كانت الجولة في مضيق لا تتحرك فيه الخيل و كان الروم على غير أهبة فانهزموا و أخذ الدمشق أسيرا فلم يزل محبوسا عند أبي ثعلب إلى أن مرض سنة ثلاث و ستين و بالغ في علاجه و جمع له الأطباء فلم ينتفع بذلك و مات (4/316)
استيلاء بختيار بن معز الدولة على الموصل و ماكان بينه و بين أبي ثعلب
قد تقدم لنا ماكان بين أبي ثعلب و أخويه حمدان و إبراهيم من الحروب و أنهما سارا إلى بختيار بن معز الدولة صريخين فوعدهما بالنصرة و شغل عن ذلك بما كان فيه فأبطأ عليهما أمره و هرب إبراهيم و رجع إلى أخيه أبي ثعلب فتحرك عزم بختيار على قصد الموصل و أغراه وزيره ابن بقية لتقصيره في خطابه فسار و وصل إلى الموصل في ربيع سنة ثلاث و ستين و ثلاثمائة و لحق أبو ثعلب بسنجار و أخلى الموصل من الميرة و من الدواوين و خالف بختيار إلى بغداد و لم يحدث فيها حدثا من نهب و لا غيره و إنما قاتل أهل بغداد فحدثت فيها الفتنة بسبب ذلك بين عامتها و اضطرب أمرهم و خصوصا الجانب الغربي و سمع بختيار بذلك فبعث في أثره وزيره ابن بقية و سبكتكين فدخل ابن بقية بغداد و أقام سبكتكين في الضاحية و تأخر أبو ثعلب عن بغداد و حاربه يسيرا ثم داخله في الانتقاض و استيلاء سبكتكين على الأمر ثم أقصر سبكتكين عن ذلك و خرج إليه ابن بقية و راسلوا أبا ثعلب في الصلح على مال يضمنه و يرد على أخيه حمدان إقطاعه ما سوى ماردين و كتبوا بذلك إلى بختيار و ارتحل أبو ثعلب إلى الموصل و أشار ابن بقية على سبكتكين باللحاق ببختيار فتقاعد ثم سار و ارتحل بختيار عن الموصل بعد أن جهد منه أهل البلد بما نالهم من ظلمة و عسفه و طلب منه أبو ثعلب الإذن في لقب سلطاني و أن يحط عنه من الضمان فأجابه و سار ثم بلغه في طريقه أن أبا ثعلب نقض و قتل بعضا من أصحاب بختيار عادوا إلى الموصل لنقل أهاليهم فاستشاط بختيار و استدعى ابن بقية و سبكتكين فى العساكر و عادوا جميعا إلى الموصل و فارقها أبو ثعلب و بعث أصحابه بالاعتذار و الحلف على إنكار ما بلغه فقبل و بعث الشريف أبا أحمد الموسوي لاستحلافه و تم الصلح و رجع بختيار إلى بغداد فجهز ابنته إلى أبي ثعلب و قد كان عقد له عليها من قبل (4/316)
عود أبي المعالي بن سيف الدولة إلى حلب
قد تقدم لنا أن قرعوية مولى أبيه سيف الدولة كان تغلب عليه و أخرجه من حلب سنة سبع و خمسين و ثلاثمائة فسار إلى والدته بميافارقين ثم إلى حماة فنزلها و كانت الروم قد أمنت حمص و كثر أهلها و كان قرعوية قد استناب بحلب مولاه بكجور فقوي عليه و حبسه في قلعة حلب و ملكها سنين فكتب أصحاب قرعوية إلى أبي المعالي و استدعوه فسار و حاصرها أربعة أشهر و ملكها و أصلح أحوالها و ازدادت عمارتها حتى انتقل إلى ولاية دمشق كما يذكر (4/317)
استيلاء عضد الدولة بن بويه على الموصل و سائر ملوك بني حمدان
و لما ملك عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بغداد و هزم بختيار ابن عمه معز الدولة سار بختيار في الفل إلى الشام و معه حمدان بن ناصر الدولة أخو أبي ثعلب فحسن له قصد الموصل على الشام و قد كان عضد الدولة عاهده أن لا يتعرض لأبي ثعلب لمودة بينهما فنكث و قصدها و لما انتهى إلى تكريت أتته رسل أبي ثعلب بالصلح و أن يسير إليه بنفسه و عساكره و يعيده على ملك بغداد على أن يسلم إليه أخاه حمدان فسلمه إلى رسل أبي ثعلب فحبسه و سار بختيار إلى الحديثة و لقي أبا ثعلب و سار معه إلى العراق في عشرين ألف مقاتل و زحف نحوهما عضد الدولة و التقوا بنواحي تكريت في شوال سنة ست و ستين فهزمهما عضد الدولة و قتل بختيار و نجا أبو ثعلب إلى الموصل فاتبعه عضد الدولة و ملك الموصل في ذي القعدة و حمل معه الميرة و العلوفات للإقامة و بث السرايا في طلب أبي ثعلب و معه المرزبان ابن بختيار و أخواله أبو إسحق و ظاهر إبنا معز الدولة و والدتهم و سار لذلك أبو الوفاء ظاهر بن إسماعيل من أصحابه و سار حاجبه أبو ظاهر طغان إلى جزيرة ابن عمر و لحق أبو ثعلب بنصيبين ثم انتقل إلى ميافارقين فأقام بها و بلغه مسير أبي الوفاء إليه ففارقها إلى تدليس و جاء أبو الوفاء إلى ميافارقين فامتنعت عليه فتركها و طلب أبا ثعلب فخرج من أرزن الروم إلى الحسينية من أعمال الجزيرة و صعد إلى قلعة كواشي و غيرها من قلاعه و نقل منها ذخيرته و عاد فعاد أبو الوفاء إلى ميافارقين و حاصرها و اتصل بعضد الدولة مجيئه إلى القلاع فسار إليه و لم يدركه و استأمن إليه كثير من أصحابه و عاد إلى الموصل و بعث قائده طغان إلى تدليس فهرب منها أبو ثعلب و اتصل بملكهم المعروف بورد الرومي و كان منازعا لملكهم الأعظم في الملك فوصل ورد يده بيد أبي ثعلب و صاهره ليستعين به و اتبعه في مسيره عسكر عضد الدولة و أدركوه فهزمهم و أثخن فيهم و نجا فلهم إلى حصن زياد و يسمى خرت برت و أرسل إلى ورد يستمده فاعتذر بما هو فيه و وعده بالنصر ثم انهزم ورد أمام ملك الروم فأيس أبو ثعلب من نصره و عاد إلى بلاد الإسلام و نزل بآمد حتى جاء خبر ميافارقين و كان أبو الوفاء لما رجع من طلب أبي ثعلب حاصر ميافارقين و الوالي عليها هزارمرد فضبط البلد و دافع أبا الوفاء ثلاثة أشهر ثم مات و ولى أبوثعلب مكانه مؤنسا من موالي الحمدانية و دس أبو الوفاء إلى بعض أعيان البلد فاستماله فبعث له في الناس رغبة و شعر بذلك مؤنس فلم يطق مخالفتهم فانقاد و استأمن و ملك أبو الوفاء البلد و كان في أيام حصاره قد افتتح سائر حصونه فاستولى على سائر ديار بكر و أمن أصحاب أبي ثعلب و أحسن إليهم و رجع إلى الموصل و بلغ الخبر إلى أبي ثعلب منقلبة من دار الحرب فقصد الرحبة و بعث إلى عضد الدولة يستعطفه فشرط عليه المسير إليه فامتنع ثم استولى عضد الدولة على ديار مضر و كان عليها من قبل أبي ثعلب سلامة البرقعيدي من كبار أصحاب بني حمدان و كان أبو المعالي بن سيف الدولة بعث إليها جيشا من حلب فحاربوها و امتنعت عليهم و بعث أبو المعالي إلى عضد الدولة و عرض بنفسه عليه فبعث عضد الدولة النقيب أبا أحمد الموسوي إلى سلامة البرقعيدي و تسلمها بعد حروب و أخذ لنفسه منها الرقة و رد باقيها على سعد الدولة فصارت له ثم استوف عضد الدولة على الرحبة و تفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه و حصونه و استولى على جميع أعماله و استخلف أبا الوفاء على الموصل و رجع إلى بغداد في ذي القعدة سنة ثمان و ستين ثم بعث عضد الدولة جيشا إلى الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فحاصروهم حتى استقاموا و سلموا قلاعهم و نزلوا إلى الموصل فحال الثلج بينهم و بين بلادهم فقتلهم قائد الجيش و صلبهم على جانبي طريق الموصل (4/317)
مقتل أبي ثعلب بن حمدان
و لما يأس أبو ثعلب بن حمدان من إصلاح عضد الدولة و الرجوع إلى ملكه بالموصل سار إلى الشام و كان على دمشق قسام داعية العزيز العلوي غلب علها بعد أفتكين و قد تقدم ذلك وكيف ولي أفتكين على دمشق فخاف قسام من أبي ثعلب و منعه من دخول البلد فأقام بظاهرها و كاتب العزيز و جاءه الخبر بأنه يستقدمه فرحل إلى طبرية بعد مناوشة حرب بينه و بين قسام و جاء الفضل قائد العزيز لحصار قسام بدمشق و مر بأبي ثعلب و وعده عن العزيز بكل جميل ثم حدثت الفتنة بين دغفل و قسام و أخرجهم و انتصروا بأبي ثعلب فنزل بجوارهم مخافة دغفل و القائد الذي يحاصر دمشق ثم ثار أبو ثعلب في بني عقيل إلى الرملة فى محرم سنة تسع و تسعين فاستراب به الفضل و دغفل و جمعوا الحربة ففر بنو عقيل عنه و بقي في سبعمائة من غلمانه و غلمان أبيه و ولى منهزما فلحقه الطلب فوقف يقاتل فضرب و أسر و حمل إلى دغفل و أراد الفضل حمله إلى العزيز فخاف دغفل أن يصطنعه كما فعل بأفتكين فقتله و بعث الفضل بالرأس إلى مصر و حمل بنو عقيل أخته جميلة و زوجته بنت سيف الدولة إلى أبي المعالي بحلب فبعث بجميلة إلى الموصل و بعث بها أبو الوفاء إلى عضد الدولة ببغداد فاعتقلها (4/319)
وصول ورد المنازع لملك الروم إلى ديار بكر مستجيرا
كان ملك الروم أرمانوس لما توفي خلف ولدين صغيرين و هما بسيل و قسطنطين و نصب أحدهما للملك و عاد حينئذ الدمشق يعفور من بلاد الإسلام بعد أن عاث في نواحيها و بالغ في النكاية فاجتمع إليه الروم و نصبوه للنيابة عن ابني أرمانوس فداخلت أمهما ابن الشميشق على الدمشقية و قبض على لاوون أخي دمشق و على ابنه ورديس بن لاوون و اعتقلهما في بعض القلاع و سار إلى يلاد الشام و أعظم فيها النكاية و مر بطرابلس فحاصرها و كان لوالده الملك أخ خصي و هو يومئذ وزير فوضع على ابن الشميشق من سقاه السم و أحس به من نقسه فأغذ السير إلى القسطنطينية فمات في طريقه و كان ورد بن منير من عظماء البطارقة في الأمر و صاهر أبا ثعلب بن حمدان و استجاش بالمسلمين من الثغور و قصد الروم و والى عليهم الهزائم فخافه المكان و أطلقا ورديس بن لاوون و بعثاه على الجيوش لقتال الورد فقاتله فانهزم إلى ديار بكر سنة تسع و ستين و ثلاثمائة و نزل بظاهر ميافارقين و بعث أخاه إلى عضد الدولة مستنصرا به و بعث ملكا الروم بالقسطنطينية إلى عضد الدولة فاستمالاه فرجح جانبهما و أمر بالقبض على ورد و أصحابه فقبض عليه أبو علي التميمي عامل ديار بكر و على ولده و أخيه و أصحابه و أودعهم السجن بميافارقين ثم بعثهم إلى بغداد فحبسوا بها إلى أن أطلقهم بهاء الدولة بن عضد الدولة سنة خمس و سبعين و ثلاثمائة و شرط عليه إطلاق عدد من المسلمين و إسلام سبعة من الحصون برساتيقها و أن لا يتعرض لبلاد المسلمين ما عاش و جهزه فسار و ملك في طريقه ملطية و قوي بما فيه و صالحه ورديس بن لاوون على أن يكون قسطنطينية و جانب الشمال من الخليج له و حاصر قسطنطينية و بها الملكان ابنا أرمانوس و هما بسيل و قسطنطين في ملكها و أقرا وردا على ما بيده قليلا ثم مات و تقدم بسيل في الملك و دام عليه ملكه و حارب البلغار خمسا و ثلاثين سنة و ظفر بهم و أجلاهما عن بلادهم و أسكنها الروم (4/320)
ولاية بكجور على دمشق
قد قدمنا ولاية بكجور على حمص لأبي المعالي بن سيف الدولة و أنه عمرها و كان أهل دمشق ينتقلون إليها لما نالهم من جور قسام و ما وقع بها من الغلاء و الوباء و كان بكجور يحمل الأقوات من حمص تقربا إلى العزيز صاحب مصر و كاتبه في ولايتها فوعده بذلك ثم استوحش من أبي المعالي سنة ثلاث و سبعين و أرسل إلى العزيز يستنجز وعده في ولاية دمشق فمنع الوزير بن كلس من ولايته ريبة به و كان بدمشق من قبل العزيز القائد بلكين بعثه فمنع الوزير بعد قسام و ساء أثر ابن كلس في الدولة و اجتمع الكتاميون بمصر على التوثب بابن كلس و دعته الضرورة لاستقدام بلكين من دمشق فأمر العزيز باستقدامه و ولى بكجور مكانه فدخلها في رجب سنة ثلاث و سبعين و ثلاثمائة و أساء السيرة فيها و عاث في أصحاب الوزير بن كلس و أقام على ذلك ستا و عجز أهل دمشق منه و جهزت العساكر من مصر مع القائد منير الخادم و كوتب نزال والي طرابلس بمعاضدته فسار في العساكر و جمع بكجور عسكرا من العرب و غيرهم و خرج للقائه فهزمه منير و استأمن إليه بكجور على أن يرحل عن دمشق فأمنه و رحل إلى الرقة و استولى عليها و تسلم منير دمشق و أقام بكجور بالرقة و استولى على الرحبة و ما يجاور الرقة و راسل بهاء الدولة بن عضد الدولة بالطاعة و باد الكردي المتغلب على ديار بكر و الموصل بالمسير إليه و أبا المعالي سعد الدولة صاحب حلب بالعود إلى طاعته على أن يقطعه حمص فلم يحبه أحد إلى شيء فأقام بالرقة يراسل موالي سعد الدولة أبي المعالي و يستميلهم في الغدر به فأجابوه و أخبروه أن أبا المعالي مشغول بلذاته فاستمد حينئذ العزيز فكتب إلى نزال بطرابلس و غيره من ولاة الشام أن يمدوه و يكونوا في تصرفه و دس إليهم عيسى بن نسطورس النصراني وزير العزيز في المباعدة عنه لعداوته مع ابن كلس الوزير قبله و تجديدها مع ابن منصور هذا فكتب نزال إلى بكجور يواعده بذلك في يوم معلوم و أخلفه و سار بكجور من الرقة و بلغ خبر مسيره إلى أبي المعالي فسار من حلب و معه لؤلؤ الكبير مولى أبيه و كتب إلى بكجور يستميله و يذكره الحقوق و أن يقطعه من الرقة إلى حمص فلم يقبل و كتب أبو المعالي إلى صاحب إنطاكية يستمده فأمده بجيش الروم و كتب إلى العرب الذين مع بكجور يرغبهم في الأموال والإقطاع فوعدوه خذلان بكجور عند اللقاء فلما التقى العسكران و شغل الناس بالحرب عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه و لحقوا بأبي المعالي فاستمات بكجور وحمل على موقف أبي المعالي يريده و قد أزاله لؤلؤ عن موقفه و وقف مكانه خشية عليه و حمل ذلك فما انتهى بكجور لحملته برز إليه لؤلؤ و ضربه فأثبته و أحاط به أصحابه فولى منهزما و جاء بعضهم إلى أبي المعالي فشارطه على تسليمه إليه فقبل شرطه و أحضر فقتله و سار إلى الرقة و بها سلامة الرشقي مولى بكجور و أولاده و أبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزيره فاستأمنوا إليه فأمنهم و نزلوا عن الرقة فملكها و استكثر ما مع أولاد بكجور فقال له القاضي ابن أبي الحصين هو مالك و بكجور لا يملك شيئا و لا حنث عليك فاستصفى مالهم أجمع و شفع فيهم العزيز فأساء عليه الرد و هرب الوزير المغربي إلى مشهد علي (4/321)
خبر باد الكردي و مقتله على الموصل
كان من الأكراد الحميدية بنواحي الموصل و من رؤسائهم رجل يعرف بباد و قيل باد لقب له و أسمه أبو عبد الله الحسين بن ذوشتك و قيل باد أسمه و كنيته أبو شجاع ابن ذوشتك و إنما أبو عبد الله الحسين أخوه و كان له بأس و شدة و كان يخيف السابلة و يبذل ما تجمع له من النهب في عشائره فكثرت جموعه ثم سار إلى مدينة أرمينية فملك مدينة أرجيش ثم رجع إلى ديار بكر فما ملك عضد الدولة الموصل حضر عنده في جملة الوفود و خافه على نفسه فعدا و أبعد في مذهبه و بلغ عضد الدولة أمره فطلبه فلم يظفر به و لما هلك عضد الدولة سار باد إلى ديار بكر فملك آمد و ميافارقين ثم ملك نصيبين فجهز صمصام الدولة العساكر إليه مع الحاجب أبي القاسم سعيد ابن محمد فلقيه على خابور الحسينية من بلاد كواشي فانهزم الحاجب و عساكره و قتل كثير من الديلم و لحق الحاجب سعيد بالموصل و باد في اتباعه و ثارت عامة الموصل بالحاجب لسوء سيرته فأخرجوه و دخل باد الموصل سنة ثلاث و سبعين و قوي أمره و سما إلى طلب بغداد و أهم صمصام الدولة أمره و نظر مع وزيره ابن سعدان في توجيه العساكر إليه و أنفذ كبير القواد زياد بن شهرا كونه فتجهز لحربه و بالغوا في مدده و إزاحة علله فلقيهم في صفر سنة أربع و سبعين و انهزم باد و قتل كثير من أصحابه و أسر آخرون و طيف بهم في بغداد و استولى الديلم على الموصل و أرسل زياد القائد عسكرا إلى نصيبين فاختلفوا على مقدمهم كتب ابن سعدان وزير صمصام الدولة إلى أبي المعالي بن حمدان صاحب حلب يومئذ بولاية ديار بكر و إدخالها في عمله فسير إليه أبو المعالي عسكره إلى ديار بكر فلم يكن لهم طاقة بأصحاب باد فحاصروا ميافارقين أياما و رجعوا إلى حلب و بعث سعد الحاجب من يتولى غدر باد فدخل عليه رجل في خيمته و ضربه بالسيف على ساقه يظنها رأسه فنجا من الهلكة
ثم بعث باد إلى زياد القائد و سعد الحاجب بالموصل بطلب الصلح فأتمروا بينهم على أن تكون ديار بكر لباد و النصف من طور عبدين فخلصت ديار بكر لباد من يومئذ و انحدر زياد القائد إلى بغداد و أقام سعد الحاجب بالموصل إلى أن توفي سنة سبع و سبعين فطمع باد في الموصل و بعث إليها شرف الدولة بن بويه أبا نصر خواشاده في العساكر فزحف إليه باد و تأخر المدد عن أبي نصر فبعث عن العرب من بني عقيل و بني نمير لمدافعة باد و أقطعهم البلاد و استولى باد على طور عبدين آخر الجبال و لم يضجر و أرسل أخاه في عسكر لقتال العرب فقتل و انهزم عسكره و أقام باد قبالة خواشاده حتى جاء الخبر بموت شرف الدولة بن بويه فزحف خواشاده إلى الموصل و قامت العرب بالصحراء و باد بالجبال (4/322)
عود بني حمدان إلى الموصل و مقتل باد
كان أبو طاهر إبراهيم و أبو عبد الله الحسن إبنا ناصر الدولة بن حمدان قد لحقا بعد مهلك أخيهما أبي ثعلب بالعراق و كانا ببغداد و استقرا في خدمة شرف الدولة بن عضد الدولة فلما تولى شرف الدولة و خواشاده في الموصل بعثهما إليها ثم أنكر ذلك عليه أصحابه فكتب إلى خواشاده عامل الموصل فمنعهما فكتب إليهما بالرجوع عنه فلم يجيبا و أغذا السير إلى الموصل حتى نزلا بظاهرها و ثار أهل الموصل بالديلم و الأتراك الذين عندهم و خرجوا إلى بني حمدان و زحف الديلم لقتالهم فانهزموا و قتل منهم خلق و امتنع باقيهم بدار الإمارة و من معه على الأمان إلى بغداد و ملكوا الموصل و تسايل إليهم العرب من كل ناحية و أراد أهل الموصل استلحامهم فمنعهم بنو حمدان و أخرجوا خواشاده و بلغ الخبر إلى باد و هو بديار بكر بملك الموصل و جمع فاجتمع إليه الأكراد البثنوية أصحاب قلعة فسك و كان جمعهم كثيرا و استمال أهل الموصل بكتبه فأجابه بعضهم فسار و نزل على الموصل و بعث أبو طاهر و أبو عبد الله ابنا حمدان إلى أبي عبد الله محمد بن المسيب أمير بنى عقيل يستنصرانه و شرط عليهما جزيرة ابن عمر و نصيبين فقبلا شرطه و سار أبو عبد الله صريخا و أقام أخوه أبو طاهر بالموصل و باد يحاصره و زحف أبو الراود في قومه مع أبي عبد الله بن حمدان و عبروا دجلة عند بدر و جاؤا إلى باد من خلفه و خرج أبو طاهر و الحمدانية من أمامه و التحم القتال و نكب بباد فرسه فوقع طريحا و لم يطق الركوب و جهض العدو عنه أصحابه فتركوه فقتله بعض العرب و حمل رأسه إلى بني حمدان و رجعوا ظافرين إلى الموصل و ذلك سنة ثمانين و ثلاثمائة (4/323)
مهلك أبي طاهر بن حمدان و استيلاء بني عقيل على الموصل
لما هلك باد طمع أبو طاهر و أبو عبد الله ابنا حمدان في استرجاع ديار بكر و كان أبو علي بن مروان الكردي و هو ابن أخت باد قد خلص من المعركة و لحق كيفا و به أهل باد و ماله و هو من أمنع المعاقل فتزوج امرأة خاله و استولى على ماله و على الحصن و سار في ديار بكر فملك ما كان لخاله فيها تليدا و بينما هو يحاصر ميافارقين زحف إليه أبو طاهر و أبو عبد الله إبنا حمدان يحاربانه فهزمهما و أسر عبد الله منهما ثم أطلقه و لحق بأخيه أبي طاهر و هو يحاصر آمد فزحفا لقتال ابن مروان فهزمهما و أسر أبا عبد الله ثانية إلى أن شفع فيه خليفة مصر فأطلقه و استعمله الخليفة على حلب إلى أن هلك و أما أبو طاهر فلحق بنصيبين في فل من أصحابه و بها أبو الدرداء محمد ابن المسيب أمير بني عقيل و سار إلى الموصل فملكها و أعمالها و بعث إلى بهاء الدولة أن ينفذ إليه عاملا من قبله فبعث إليها قائدا كان تصرفه عن أبي الدرداء و لم يكن له من الأمر شيء إلى أن استبد أبو الدرداء و استغنى عن العامل و انقرض ملك بنى حمدان من الموصل و البقاء لله (4/324)
ملك سعد الدولة بن حمدان بحلب و ولاية ابنه أبي الفضائل و استبداد لؤلؤ عليه
و لما هزم سعد الدولة مولاه بكجور و قتله حين سار إليه من الرقة رجع إلى حلب فأصابه فالج و هلك سنة إحدى و ثمانين و ثلاثمائة و كان مولاه لؤلؤ كبير دولته فنصب ابنه أبا الفضائل و أخذ له العهد على الأجناد و تراجعت إليهم العساكر و بلغ الخبر أبا الحسن المغربي و هو بمشهد علي فسار إلى العزيز بمصر و أغراه بملك حلب فبعث إليها قائده منجوتكين في العساكر و حاصرها ثم ملك البلد و اعتصم أبو الفضائل و لؤلؤ بالقلعة و بعث أبو الفضائل و لؤلؤ إلى ملك الروم يستنجدانه و كان مشغولا بمقاتلة البلغار فأرسل إلى نائبه بأنطاكية أن يسير إليهم فسار في خمسين ألفا و نزل جسر الحديد على وادي العاصي فنفر إليه منجوتكين في عساكر المسلمين و هزم الروم إلى أنطاكية و أتبعهم فنهب بلادها و قراها و أحرقها و نزل أبو الفضائل و لؤلؤ من القلعة إلى مدينة حلب فقتل ما فيها من الغلال و أحرق الباقي و عاد منجوتكين إلى حصارهم بحلب و بعث لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربي في الوساطة لهم في الصلح فصالحهم منجوتكين و رحل إلى دمشق حجرا من الحرب و تعذر الأقوات و لم يراجع العزيز في ذلك فغضب العزيز و كتب إليه يوبخه و يأمره بالعودة لحصار حلب فعاد و أقام عليها ثلاثة عشر شهرا فبعث أبو الفضائل و لؤلؤ مراسلة لملك الروم و حرضوه على إنطاكية و كان قد توسط بلاد البلغار فرجع عنها و أجفل في الحشد و رجع إلى حلب و بلغ إلى منجوتكين فأجفل عنها بعد أن أحرق خيامه و هدم مبانيه و جاء ملك الروم و خرج إليه أبو الفضائل و لؤلؤ فشكرا له و رجعا و رحل ملك الروم إلى الشام ففتح حمص و شيزر و نهبهما و حاصر طرابلس فامتنعت عليه فأقام بها أربعين ليلة ثم رحل عائدا إلى بلده (4/325)
انقراض بني حمدان بحلب و استيلاء بني كلاب عليها
ثم إن أبا نصر لؤلؤا مولى سيف الدولة عزل أبا الفضائل مولاه بحلب و أخذ البلد منه ومحا دعوة العباسية و خطب للحاكم العلوي بمصر و لقبه مرتضى الدولة ثم فسد حاله معه فطمع فيه بنو كلاب بن ربيعة و أميرهم يومئذ صالح بن مرداس و تقبض لؤلؤ على جماعة منهم دخلوا إلى حلب كان فيهم صالح فاعتقله مدة و ضيق عليه ثم فر من محبسه و نجا إلى أهله و زحف إلى حلب و لؤلؤ فيها و كانت بينه و بينهم حروب هزمه صالح آخرها و أسره سنة ستين و أربعمائة و خلص أخوه نجا إلى حلب فحفظها و بعث إلى صالح في فدية أخيه و شرط له ما شاء فأطلقه و رجع إلى حلب و اتهم مولاه فتحا و كان نائبه على القلعة بالمداخلة في هزيمته فأجمع نكبته و نمي إليه الخبر فكاتب الحاكم العلوي و أظهر دعوته و انتقض على لؤلؤ فأقطعه الحاكم صيدا و بيروت و لحق لؤلؤ بالروم في أنطاكية فأقام عندهم و لحق فتح بصيدا و استعمل الحاكم على حلب من قبله و انقرض أمر بني حمدان من الشام و الجزيرة أجمع و بقيت حلب في ملك العبيديين ثم غلب عليها صالح بن مرداس الكلابي و كانت بها دولة له و لقومه و ورثها عنه بنوه كما يذكر في أخبارهم (4/326)
الخبر عن دولة بني عقيل بالموصل و ابتداء أمرهم بأبي الدرداء و تصاريف أحوالهم
كان بنو عقيل و بنو كلاب و بنو نمير و بنو خفاجه كلهم من عامر بن صعصعة و بنو طيء من كهلان قد انتشروا ما بين الجزيرة و الشام في عدوة الفرات و كانوا كالرعايا لبني حمدان يؤدون إليهم الأتاوات و ينفرون معهم في الحروب ثم استفحل أمرهم عند فشل دولة بني حمدان و ساروا إلى ملك البلاد و لما انهزم أبو طاهر بن حمدان أمام علي بن مروان بديار بكر كما قدمناه سنة ثمانين و ثلاثمائة و لحق بنصيبين و قد استولى عليها أبو الدرداء محمد بن المسيب بن رافع بن المقلد بن جعفر بن عمر بن مهند أمير بني عقيل بن كعب بن ربيعه بن عامر فقتل أبا طاهر و أصحابه و سار إلى الموصل فملكها و بعث إلى بهاء الدولة بن بويه المستبد على الخليفة بالعراق في أن يبعث عاملا على الموصل فبعث عاملا من قبله و الحكم راجع لأبي الدرداء و أقام على ذلك سنتين و بعث بهاء الدولة سنة اثنتين و ثمانين عساكره إلى الموصل مع أبي جعفر الحجاج بن هرمز فغلب عليها أبا الدرداء و ملكها و زحف لحربه أبو الدرداء في قومه و من اجتمع إليه من العرب فكانت بينهم حروب و وقائع و كان الظفر فيها للديلم (4/326)
مهلك أبي الدرداء و ولاية أخيه المقلد
ثم مات أبو الدرداء سنة ست و ثمانين و ولي إمارة بني عقيل مكانه أخوه علي بعد أن تطاول إليها أخوهما المقلد بن المسيب و امتنع بنو عقيل لأن عليا كان أسن منه فصرف المقلد وجهه إلى ملك الموصل و استمال الديلم الذين فيها مع أبي جعفر بن هرمز فمالوا إليه و كتب إلى بهاء الدولة أن يضمنه الموصل بألفي ألف درهم كل سنة ثم أظهر لأخيه علي و قومه أن بهاء الدولة قد ولاه و استمدهم فساروا معه و نزلوا على الموصل و خرج إلى المقلد من كان استماله من الديلم و استأمن إليهم أبو جعفر قائد الديلم فأمنوه و ركب السفن إلى بغداد و اتبعوه فلم يظفروا منه بشيء و تملك المقلد ملك الموصل (4/327)
فتنة المقلد مع بهاء الدولة بن بوبه
كان المقلد يتولى حماية غربي الفرات و كان له ببغداد نائب فيه تهور و جرى بينه و بين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة و كان بهاء الدولة مشغولا بفتنة أخيه فكتب نائب المقلد إليه يشكو من أصحاب بهاء الدولة فجاء في العساكر و أوقع بهم و مد يده إلى جباية الأموال و خرج نائب بهاء الدولة ببغداد و هو أبو علي بن إسماعيل عن ضمان القصر و غيره فغالط بهاء الدولة و أنفذ أبا جعفر الحجاج بن هرمز للقبض على أبي علي بن إسماعيل و مصالحة المقلد بن المسيب فصالحه على أن يحمل إلى بهاء الدولة عشرة آلف دينار و يخطب له و لأبي جعفر بعده و يأخذ من البلاد رسم الحماية و أن يخلع على المقلد الخلع السلطانية و يلقب حسام الدولة و يقطع الموصل و الكوفة و القصر و الجامعين و جلس له و لأبي جعفر القادر بالله فاستولى على البلاد و قصده الأعيان و الأماثل و عظم قدره و قبض أبو جعفر على أبي علي بن إسماعيل ثم هرب و لحق بمهذب الدولة (4/327)
القبض على علي بن المسيب
كان المقلد بن المسيب قد وقعت المشاجرة بين أصحابه و أصحاب أخيه في الموصل قبل مسيره إلى العراق فلما عاد إلى الموصل أجمع الانتقام من أصحاب أخيه ثم نوى أنه لا يمكنه ذلك مع أخيه فأعمل الحيلة في قبض أخيه و أحضر عسكره من الديلم و الأكراد و ورى بقصر دقوقا و استحلفهم على الطاعة ثم نقب دار أخيه و كانت ملاصقة له و دخل إليه فقبض عليه و حبسه و بعث زوجته و ولديه قراوش و بدران إلى تكريت و استدعى رؤساء العرب و خلع عليهم و أقام فيهم العطاء فاجتمعت له زهاء ألفي فارس و خرجت زوجة أخيه بولديها إلى أخيها الحسن ابن المسيب و كانت أحياؤه قريبا من تكريت فاستجاش العرب على المقلد و سار إليه في عشرة آلاف فخرج المقلد عن الموصل و استشار الناس في محاربة أخيه فأشار رافع بن محمد بن مغز بالحرب و أشار أخوه غريب بن محمد بالموادعة و صلة الرحم و بينما هو في ذلك إذ جاءت أخته رميلة بنت المسيب شافعة في أخيها علي فأطلقه و رد عليه ماله و توادع الناس و عاد المقلد إلى الموصل و تجهز لقتال علي بن مزيد الأسدي بواسط لأنه كان مغضبا لأخيه الحسن فلما قصد الحلة خالفه علي إلى الموصل فدخلها و عاد إليه المقلد و تقدمه أخوه الحسن مشفقا عليه من كثرة جموع المقلد فأصلح ما بينهما و دخل المقلد إلى الموصل و أخواه معه ثم خاف علي فهرب ثم وقع الصلح بينهما على أن يكون أحدهما بالبلد ثم هرب علي فقصده المقلد و معه بنو خفاجة فهرب إلى العراق و اتبعه المقلد فلم يدركه و رجع عنه ثم سار المقلد إلى بلد علي بن مزيد فدخله ثانية و لحق ابن مزيد مهذب الدولة صاحب البطيحة فأصلح ما بينهما (4/328)
استيلاء المقلد على دقوقا
و لما فرغ المقلد من شان أخويه و ابن مزيد سار إلى دقوقا فملكها و كانت لنصرانيين قد استعبدا أهلها و ملكها من أيديهما جبريل بن محمد من شجعان بغداد أعانه عليها مهذب الدولة صاحب البطيحة و كان مجاهدا يحب الغزو فملكها و قبض على النصرانيين و عدل في البلد ثم ملكها المقلد من يده و ملكها بعده محمد بن نحبان ثم بعده قراوش بن المقلد ثم انتقلت إلى فخر الملك أبي غالب فعاد جبريل و استجاش بموشك بن حكويه من أمراء الأكراد و غلب عليها عمال فخر الدولة ثم جاء بدران بن المقلد فغلب جبريل و موشك عليها و ملكها (4/329)
مقتل المقلد و ولاية ابنه قراوش
كان للمقلد موال من الأتراك فهربوا منه و اتبعهم فظفر بهم واتبعهم و قطع و أفحش في المثلة فخاف إخوانهم منه و اغتنموا غفلته فقتلوه فيها بالأنبار سنة إحدى و سبعين و ثلاثمائة و كان قد عظم شأنه و طمع في ملك بغداد و لما قتل كان ولده الأكبر قراوش غائبا و كانت أمواله بالأنبار فخاف نائبه فيها عبد الله بن إبراهيم بن شارويه بادرة عمه الحسن و راسل أبا منصور بن قراد و كان بالسندية و قاسمه في مخلف المقلد على أن يدافع الحسن إن قصده فأجابه إلى ذلك و أرسل عبد الله إلى قراوش يستحثه فوصل و وفى لابن قراد بما عاهده عليه نائبه عبد الله و أقام ابن قراد عنده ثم إن الحسن بن المسيب جاء إلى مشايخ بني عقيل شاكيا مما فعله قراوش و ابن قراد عنده فسعوا بينهم في الصلح و اتفق الحسن و قراوش على الغدر بابن قراد و أن يسير أحدهما إلى الآخر متحاربين فإذا تلاقيا قبضا على ابن قراد ففعلا ذلك فلما تراءى الجمعان نمي الخبر إلى ابن قراد فهرب و اتبعه قراوش و الحسن و لم يدركاه و رجع قراوش إلى بيوته فأخذها بما فيها من الأموال فوجه الأموال إلى أن أخذها أبو جعفر الحجاج بن هرمز (4/329)
فتنة قراوش مع بهاء الدولة بن بويه
و لما كانت سنة اثنتين و تسعين و ثلاثمائة بعث قراوش بن المقلد جمعا من بني عقيل إلى المدائن فحصروها فبعث أبو جعفر بن الحجاج بن هرمز نائب بهاء الدولة ببغداد عسكرا إليهم فدفعوهم عنها فاجتمعت عقيل و بنو أسد و أميرهم علي بن مزيد و خرج أبو جعفر إليهم و استجاش بخفاجة و أحضرهم من الشام فانهزم و استبيح عسكره و قتل و أسر من الأتراك و الديلم كثير ثم جمع العساكر ثانيا و لقيهم بنواحي الكوفة فهزمهم و قتل و أسر و سار إلى أحياء بني مزيد و نهب منها ما لا يقدر قدره ثم سار قراوش إلى الكوفة سنة سبع و تسعين و كانت لأبي علي بن تمال الخفاجي و كان غائبا عنها فدخل قراوش الكوفة و صادرهم ثم قتل أبو علي سنة تسع و تسعين و ثلاثمائة و كان الحاكم صاحب مصر قد ولاه الرحبة فسار إليها و خرج إليه عيسى ابن خلاط العقيلي فقتله و ملكها ثم ملكها بعده غيره إلى أن ولي أمرها صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب (4/330)
قبض قراوش على وزرائه
كان معتمد الدولة قراوش بن المقلد قد استوزر أبا القاسم الحسين بن علي بن الحسين المغربي و كان من خبره أن أباه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان فذهب عنه إلى مصر و ولي بها الأعمال و ولد ابنه أبا القاسم و نشأ هنالك ثم قتله الحاكم فلحق أبو القاسم بحسان بن مفرج بن الجراح الطائي بالشام و أغراه بالانتقاض و البيعة لأبي الفتوح الحسن بن جعفر صاحب مكة ففعل ذلك و لم يتم أمر أبي الفتوح و رجع إلى مكة و لحق أبو القاسم المغربي بالعراق و اتصل بفخر الملك فارتاب به القادر لانتسابه إلى العلوية فأبعده فخر الملك فقصد قراوش بالموصل فاستوزره ثم قبض عليه سنة إحدى عشرة و أربعمائة و صادره على مال زعم أنه ببغداد و الكوفة فأحضره و ترك سبيله فعاد إلى بغداد و وزر لشرف الدولة بن بويه بعد وزيره مؤيد الملك الرجيحي و كان مداخلا لعنبر الخادم الملقب بالأثير المستولي على الدولة يومئذ ثم سخطه الأتراك و سخطوا الأبهر فأشار عليه بالخروج عن بغداد فخرج الوزير و أبو القاسم معه إلى السندية و بها قراوش فأنزلهم و ساروا إلى أوانا و بعث الأتراك إلى الأثير عنبر بالاستعتاب فاستعتب و رجع و هرب أبو القاسم المغربي إلى قراوش سنة خمس عشرة و أربعمائة لعشرة أشهر من وزارته ثم وقعت فتنة بالكوفة كان منشؤها من صهره ابن أبي طالب فأرسل الخليفة إلى قراوش في إبعاده عنه فأبعده و سار إلى ابن مروان إلى ديار بكر و هنالك يذكر بقية خبره ثم قبض معتمد الدولة قراوش على أبي القاسم سليمان بن فهر عامل الموصل له و لأبيه و كان من خبره أنه كان يكتب في حداثته بين يدي أبي إسحاق الصابي ثم اتصل بالمقلد بن المسيب و أصعد معه إلى الموصل و اقتنى بها الضياع ثم استعمله قراوش على الجبايات فظلم أهلها و صادرهم فحبسه و طالبه بالمال فعجز و قتل (4/330)
حروب قراوش مع العرب و عساكر بغداد
و في سنة إحدى عشرة و أربعمائة اجتمع العرب على فتن قراوش و سار إليه دبيس ابن علي بن مزيد الأسدي و غريب بن معن و جاءهم العسكر من بغداد فقاتلوه عند سر من رأى و معه رافع بن الحسين فانهزم و نهبت أثقاله و خزائنه و حصل في أسرهم و فتحوا تكريت عنوة من أعماله و رجعت عساكر بغداد إليها و استجار قراوش بغريب بن معن فأطلقه و لحق بسلطان بن الحسن من عمال أمير خفاجه و اتبعه عسكر من الترك و قاتلهم غربي الفرات و انهزم هو و سلطان و عاث العسكر في أعماله فبعث إلى بغداد بمراجعة الطاعة و قبل ثم كانت الفتنة بينه و بين أبي أسد و خفاجه سنة سبع عشرة و أربعمائة لأن خفاجه تعرضوا لأعماله بالسواد فسار إليهم من الموصل و أميرهم أبو الفتيان منيع بن حسان فاستجاش بدبيس بن علي بن مزيد فجاءه في قومه بني أسد و عسكر من بغداد و التقوا بظاهر الكوفة و هو يومئذ لقراو ش فخاف قراوش عن لقائهم و أجفل ليلا للأنبار و اتبعوه فرحل عنها إلى حلله و استولى القوم على الأنبار و ملكوها ثم فارقوها و افترقوا فاستعادها قراوش ثم كانت الحرب بينه و بين بني عقيل في هذه السنة و كان سببها أن الأثير عنبر الخادم حاكم دولة بني بويه انتقض عليه الجند و خافهم على نفسه فلحق بقراوش فجاء قراوش و أخذ له أقطاعه و أملاكه بالقيروان فجمع مجد الدولة بن قراد و رافع بن الحسين جمعا كبيرا من بني عقيل و انضم إليهم بدران أخو قراوش و ساروا لحربه و قد اجتمع هو و غريب بن معن و الأثير عنبر و أمدهم ابن مروان فكانوا في ثلاثة عشر ألفا و التقوا عند بلدهم فلما تصافوا و التحم القتال خرج بدران بن المقلد إلى أخيه قراوش فصالحه وسط المصاف و فعل ثوران بن قراد كذلك مع غريب بن معن فتوادعوا جميعا و اصطلحوا و أعاد قراوش إلى أخيه بدران مدينة الموصل ثم وقعت الحرب بين قراوش و بين خفاجه ثانيا و كان سببها أن منيع بن حسان أمير خفاجه و صاحب الكوفة سار إلى الجامعين بلد دبيس و نهبها فخرج دبيس في طلبه إلى الكوفة فقصد الأنبار و نهبها هو وقومه فسار قراوش إليهم و معه غريب بن معن الأنبار ثم مضى في اتباعهم إلى القصر فخالفوه إلى الأنبار و نهبوها و أحرقوها و اجتمع قراوش و دبيس في عشرة آلاف و خاموا عن لقاء خفاجه فلم يكن من قراوش إلا بناء السور على الأنبار ثم سار منيع بن حسان الخفاجي إلى الملك كيجار و التزم الطاعة و خطب له بالكوفة و أزال حكم بني عقيل عن سقي الفرات ثم سار بدران بن المقلد في جموع من العرب إلى نصيبين و حاصرها و هي لنصير الدولة بن مروان فجهز لهم الجند و بعثهم إليها فقاتلوا بدران فانهزم أولا ثم عطف عليهم فانهزموا و أثخن فيهم و بلغه الخبر أن أخاه قراوش قد و صل إلى الموصل فأجفل خوفا منه (4/331)
استيلاء الغز على الموصل
كان هؤلاء الغز من شعوب الترك بمفازة بخارى و كثر فسادهم في جهاتها فأجاز إليهم محمود بن سبكتكين و هرب صاحب بخارى و حضر عنده أميرهم أرسلان بن سلجوق فقبض عليه و حبسه بالهند و نهب أحياءهم و قتل كثيرا منهم فهربوا إلى خراسان و أفسدوا و نهبوا فبعث إليهم العساكر فأثخنوا فيهم و أجلوهم عن خراسان و لحق كثير منهم بأصبهان و قاتلوا صاحبها و ذلك سنة عشرين و أربعمائة ثم افترقوا فسارت طائفة منهم إلى جبل بكجار عند خوارزم و لحقت طائفة أخرى بأذربيجان و أميرها يومئذ وهشوذان فأكرمهم و وصلهم ليكفوا عن فسادهم فلم يفعلوا و كان مقدموهم أربعة : توقا و كوكناش و منصور ودانا فدخلوا مراغة سنة تسع و عشرين و أربعمائة و نهبوها و أثخنوا في الأكراد الهدبانية و سارت طائفة منهم إلى الري فحاصروها و أميرها علاء الدين بن كاكويه و اقتحموا عليه البلد و أفحشوا في النهب و القتل و فعلوا كذلك في الكرخ و قزوين ثم ساروا إلى أرمينية و عاثوا في نواحيها و في أكرادها ثم عاثوا في الدينور سنة ثلاثين ثم أوقع وهشوذان صاحب تبريز لجماعة منهم في بلده و كانوا ثالثين و مقدمهم فضعف الباقون و أكثر فيهم القتل و اجتمع الغز الذين بأرمينية و ساروا نحو بلاد الأكراد الهكارية من أعمال الموصل فأثخنوا فهم و عاثوا في البلاد ثم كر عليهم الأكراد فنالوا منهم و افترقوا ا الجبال و تمزقوا و بلغهم مسير نيال أخي السلطان طغرلبك و هم في الري و كانوا شاردين منه فأجفلوا من الري و قصدوا ديار بكر و الموصل سنة ثلاث و ثلاثين و أربعمائة و نزلوا جزيرة ابن عمر و نهبوا باقردي و بازندي و الحسنية و غدر سليمان بن نصير الدولة بن مروان بأمير منهم و هو منصور بن عزعنيل فقبض عليه و حبسه و افترق أصحابه في كل جهة و بعث نصير الدولة بن مروان عسكرا في اتباعهم و أمدهم قراوش صاحب الموصل بعسكر آخر و انضم إليهم الأكراد البثنوية أصحاب فتك فأدركوهم فاستمات الغز و قاتلوهم ثم تحاجزوا و توجهت العرب إلى العراق للمشتى و أخربت الغز ديار بكر و دخل قراوش الموصل ليدفعهم عنها لما بلغه أن طائفة منهم قصدوا بلده فلما نزلوا برقعيد عزم على الإغارة عليهم فتقدموا إليه فرجع إلى مصانعتهم بالمال على ما شرطوه و بينما هو يجمع لهم المال و صلوا إلى الموصل فخرج قراوش في عسكره و قاتلهم عامة يومه و عادوا للقتال من الغد فانهزمت العرب و أهل البلد و ركب قراوش سفينة في الفرات و خلف جميع ماله و دخل الغز البلد و نهبوا ما لا يحصى من المال و الجوهر و الحلي و الأثاث و نجا قراوش إلى السند وبعث إلى الملك جلال الدولة يستنجده و إلى دبيس بن علي بن مزيد و أمراء العرب و الأكراد يستمدهم و أفحش الغز في أهل الموصل قتلا و نهبا و عيثا في الحرم و صانع بعض الدروب و المحال منها عن أنفسهم بمال ضمنوه فكفوا عنهم و سلموا و فرضوا على أهل المدينة عشرين ألف دينار فقبضوها ثم فرضوا أربعة آلاف أخر و شرعوا في تحصيلها فثار بهم أهل الموصل و قتلوا من و جدوا منهم في البلد و لما سمع إخوانهم اجتمعوا و دخلوا البلد عنوة منتصف سنة خمس و ثلاثين و أربعمائة و وضعوا السيف في الناس و استباحوها اثني عشر يوما و انسدت الطرق من كثرة القتلى حتى واروهم جماعات في الحفائر و طلبوا الخطبة للخليفة ثم لطغرلبك و طال مقامهم بالبلد فكتب الملك جلال الدولة بن بويه و نصير الدولة بن مروان إلى السلطان طغرلبك يشكون منهم فكتب إلى جلال الدولة معتذرا بأنهم كانوا عبيدا و خدما لنا فأفسدوا في جهات الري فخافوا على أنفسهم و شردوا و يعده بأنه يبعث العساكر إليهم و كتب إلى نصير الدولة بن مروان يقول له : بلغني أن عبيدنا قصدوا بلادك فصانعتهم بالمال و أنت صاحب ثغور ينبغي أن تعطي ما تستعين به على الجهاد و يعده أنه يرسل من يدفعهم عن بلاده ثم سار دبيس بن مزيد إلى قراوش مددا و اجتمعت إليه بنو عقيل و ساروا من السن إلى الموصل فتأخر الغز إلى تل أعفر و أرسلوا إلى أصحابهم بديار بكر و مقدمهم ناصفلي و بوقا فوصلوا إليهم و تزاحفوا مع قراوش في رمضان سنة خمس و ثلاثين و أربعمائة فقاتلوهم إلى الظهر و كشفوا العرب عن حللهم ثم استماتت العرب فانهزمت الغز و أخذهم السيف و نهب العرب أحياءهم و بعثوا برؤوس القتلى إلى بغداد و اتبعهم قراوش إلى نصيبين و رجع عنهم و قصدوا ديار بكر فنهبوها ثم أرزن الروم كذلك ثم أذربيجان و رجع قراوش إلى الموصل (4/333)
استيلاء بدران بن المقلد على نصيبين
قد تقدم لنا محاصرة بدران نصيبين و رحيله عنها من أخيه قراوش ثم اصطلحا بعد ذلك و اتفقا و تزوج نصير الدولة ابنة قراوش فلم يعدل بينها و بين نسائه و شكت إلى أبيه فبعث عنها ثم هرب بعض عمال ابن مروان إلى قراوش و أطمعه في الجزيرة فتعلل عليه قراوش بصداق ابنته و هو عشرون ألف دينار و طلب الجزيرة و نصيبين لأخيه بدران فامتنع ابن مروان من ذلك فبعث قراوش جيشا لحصار الجزيرة و آخر مع أخيه بدران لحصار نصيبين ثم جاء بنفسه و حاصرها مع أخيه و امتنعت عليه و تسللت العرب و الأكراد إلى نصير الدولة بن مروان بميافارقين و طلب منه نصيبين فسلمها إليه و أعطى قراوش من صداق ابنته خمسة عشر ألف دينار و كان ملك ابن مروان في دقوقا فزحف إليه أبو الشوك من أمراء الأكراد فحاصره بها و أخذها من يده عنوة و عفا عن أصحابه ثم توفي بدران سنة خمس و عشرين و أربعمائة و جاء ابنه عمر إلى قراوش فأقره على ولاية نصيبين و كان بنو نمير قد طمعوا فيها و حاصروه فسار إليهم و دافعهم عنها (4/335)
الفتنة بين قراوش و غريب بن معن
كانت تكريت لأبي المسيب رافع بن الحسين من بني عقيل فجمع غريب جمعا من العرب و الأكراد و أمده جلال الدولة بعسكر و سار إلى تكريت فحاصرها و كان رافع بن الحسين عند قراوش بالموصل فسار لنصره بالعساكر و لقيه غريب في نواحي تكريت فانهزم و اتبعه قراوش و رافع و لم يتعرضوا لمحلته و ماله ثم تراسلوا و اصطلحوا (4/335)
فتنة قراوش و جلال الدولة و صلحهما
كان قراوش قد بعث عسكره سنة إحدى و ثلاثين لحصار خميس بن ثعلب بتكريت و استجار خميس بجلال الدولة فبعث إليه بالكف عنه فلم يفعل فسار بنفسه يحاصره و كتب إلى الأتراك ببغداد يستفسدهم عن جلال الدولة و سار جلال الدولة إلى الأنبار فامتنعت عليه و سار قراوش للقائه و أعوزت عساكر جلال الدولة الأقوات ثم اختلفت عقيل على قراوش و بعث إلى جلال الدولة بمعاودة الطاعة فتحالفا و عاد كل إلى بلده (4/336)
أخبار ملوك القسطنطينية لهذه العصور
كان بسيل و قسطنطين قد تزوج أبوهما أمهما في يوم عيد ركب إلى الكنيسة فرآها في النظارة فشغف بها و كان أبوها من أكابر الروم فخطبها منه و تزوجها و ولدت الولدين و مات أبوهما و هما صغيران و تزوجت بعده بمدة نقفور و ملك و تصرف و أراد أن يجب ولديها و أغرت الدمشق بقتله فقتله و تزوجت به و أقامت معه سنة ثم خافها و أخرجها بولديها إلى دير بعيد فأقامت فيه سنة أخرى ثم دست إلى بعض الرهبان ليقتل الدمشق فأقام بكنيسة الملك يتحيل لذلك حتى جاء الملك و استطعمه القربان في العيد من يده فدس له معه سما و مات و جاءت هي قبل العيد بليال إلى القسطنطينية فملك ولدها بسيل و استمدت عليه لصغره فما كبر سار لقتال البلغار في بلادهم و بلغه و هو هنالك وفاتها فأمر خادما له بتدبير الأمر في غيبته بالقسطنطينية و أقام في قتال البلغار أربعين سنة ثم انهزم و عاد إلى القسطنطينية و تجهز ثانية و عاد إليهم فظفر بهم و قتل ملكهم و ملك بلادهم و نقل أهلها إلى بلاد الروم قال ابن الأثير : و هؤلاء البلغار الذين ملك بلادهم بسيل غير الطائفة المسلمة منهم و هؤلاء أقرب من أولئك إلى بلاد الروم بشهرين و كلاهما بلغار انتهى و كانت بسيل عادلا حسن السيرة و ملك على الروم نيفا و سبعين سنة و لما مات ملك أخوه قسطنطين ثم مات و خلف بناتا ثلاثا فملكت الكبرى و تزوجت بأرمانوس من بيت ملكهم و هو الذي ملك الرها من المسلمين و كان له من قبل الملك رجل يخدمه من السوقة الصيارفة اسمه ميخاييل فاستخلصه و حكمه في دولته فمالت زوجة أرمانوس إليه و أعملا الحيلة في قتل الملك أرمانوس فقتلاه خنقا و تزوجته على كره من الروم ثم عرض لميخاييل هذا مرض شوه خلقته فعهد بالملك إلى ابن أخيه واسمه ميخاييل فملك بعده و قبض على أخواله و اخوتهم و ضرب الدنانير باسمه سنة ثلاث و ثلاثين و أربعمائة ثم أحضر زوجته بنت الملك و حملها على الرهبانية و الخروج له عن الملك و ضربها و نفاها إلى جزيرة في البحر ثم اعتزم على قتل البطرك للراحة من تحكمه فأمره بالخروج إلى الدير لعمل وليمة يحضرها عنده و أرسل جماعة من الروم و بلغار لقتله فبذل لهم البطرك مالا على الإبقاء و رجع إلى بيعته و حمل الروم على عزل ميخاييل فأرسل إلى زوجته الملكة من الجزيرة التي نفاها إليها فلم تفعل و أقبلت على ربهانيتها فخلعها البطرك من الملك و ملكت أختها الصغيرة بدرونة و أقاموا من خدم أبيه من يدبر ملكها و خلعوا ميخاييل و قاتل أشياعه أشياع بدرونة فظفر بهم أشياع بدرونة و نهبوهم و فزع الروم إلى التماس ملك يدبرهم و قارعوا بين المرشحين فخرجت القرعة على قسطنطين فملكوه و تزوجته الملكة الكبرى و نزلت لها الصغيرة عن الملك سنة أربع و ثلاثين و أربعمائة ثم خرج خارجي من الروم اسمه ميناس و كثر جمعه و بلغ عشرين ألفا و جهز قسطنطين إليه العساكر فتلوه و سيق رأسه إليه و افترق أصحابه ثم ورد على القسطنطينية سنة خمس و ثلاثين مراكب للروم و وقعت منها محاورات نكرها الروم فحاربوهم و كانوا قد فارقوا مراكبهم إلى البر فأحرقوها و قتلوا الباقين (4/336)
الوحشة بين قراوش و الأكراد
كان للأكراد عدة حصون تجاور الموصل فمنها للحميدية قلعة العقر و ما إليها و صاحبها أبو الحسن بن عكشان و للهدبانية قلعة إربل و أعمالها و صاحبها أبو الحسن ابن موشك و نازعه أخوه أبو علي بن أربل فأخذها منه بإعانة ابن عكشان و أسر أخاه أبا الحسن و كان قراوش و أخوه زعيم الدولة أبو كامل مشغولين بالعراق فنكرا ذلك لما بلغهما و رجعا إلى الموصل فطلب قراوش من الحميدي و الهدباني النجدة على نصير الدولة بن مروان فجاء الحميدي بنفسه و بعث الهدباني أخاه و أصلح قراوش و نصير الدولة ثم قبض على عكشان و صالحه على إطلاق أبي الحسن ابن موشك و امتنع أخوه أبو علي و كان عكشان عونا عليه فأجاب و رهن في ذلك ولده ثم أرسل أبا علي في ذلك الأمر و حضر بالموصل ليسلم أربل إلى أخيه أبي الحسن و سلم قراوش إليه قلاعه و خرج ابن عكشان و أبو علي ليسلما إربل إلى أبي الحسن بن موشك فغدرا به و قبضا على أصحابه و هرب هو إلى الموصل و تأكدت الوحشة بينهما و بين قراوش (4/337)
خلع قراوش بأخيه أبي كامل ثم عوده
ثم وقعت الفتنة بين معتمد الدولة قراوش و أخيه زعيم الدولة أبي كامل و كان سببها أن قريشا ابن أخيهما بدران فتن عمه أبا كامل و جمع عليه الجموع و أعانه عمه الآخر و استمد قراوش بنصير الدولة بن مروان فبعث إليه بابنه سليمان و أمده الحسن ابن عكشان و غيرهما من الأكراد و ساروا إلى معلابا فنهبوها و أحرقوها ثم اقتتلوا في المحرم سنة إحدى و أربعين يوما و ثانيا و وقفت الأكراد ناحية عن المصاف و لم يغشوا المجال و تسلل عن قراوش بعض جموعه من العرب إلى أخيه و بلغه أن شيعة أخيه أبي كامل بالأنبار و وثبوا فيها و ملكوها فضعف أمره و أحس من نفسه الظهور عليه و لم يبرح فركب أخوه أبو كامل و قصد حلته فركب قراوش للقائه و جاء به أبو كامل لحلته ثم بعث به إلى الموصل و وكل به و ملك أبو كامل الموصل و اشتط عليه العرب فخاف العجز و الفضيحة أن يراجعوا طاعة أخيه فسبقهم إليها و أعاده إلى ملكه و بايعه على الطاعة و رجع قراوش إلى ملكه و كان أبو كامل قد أحدث الفتنة بين البساسيري كافل الخلافة ببغداد و ملك الأمراء بها لما فعله بنو عقيل في عراق العجم من التعرض لإقطاعه فسار إليهم البساسيري و جمع أبو كامل بني عقيل و لقيه فاقتتلوا قتالا شديدا ثم تحاجزوا فلما رجع قراوش إلى ملكه نزع جماعة من أهل الأنبار إلى البساسيري شاكرين شاكين سيرة قراوش و طلبوا أن يبعث معهم عسكرا و عاملا إلى بلدهم ففعل ذلك و ملكها من يد قراوش و أظهر فيهم العدل (4/338)
خلع قراوش ثانية و اعتقاله
كان قراوش لما أطاعه أخوه أبو كامل بقي معه كالوزير يتصرف إلا أن قراوش أنف من ذلك و أعمل الحيلة في التخلص منه فخرج من الموصل سائرا إلى بغداد و شق ذلك على أخيه أبي كامل فأرسل إليه أعيان قومه ليردوه طوعا أو كرها فلاطفوه أولا و شعر منهم بالدخيلة فأجاب إلى العود و شرط سكنى دار الإمارة فلما جاء إلى أبي كامل قام بمبرته و إكرامه و وكل به من يمنعه التصرف (4/339)
وفاة أبي كامل و ولاية قريش بن بدران
لما ملك قريش بن بدران و حبس عمه بقلعة الجراحية ارتحل يطلب العراق سنة أربع و أربعين و أربعمائة فانتقض عليه أخوه المقلد و سار إلى نور الدولة دبيس بن مزيد فنهب قريش حلله و عاد إلى الموصل و اختلف العرب عليه و نهب عمال الملك الرحيم ما كان لقريش بنواحي العراق ثم استمال قريش العرب عليه و نهب عمال الملك الرحيم ما كان لقريش بن المسيب صاحب الحظيرة مخالفا عليه و بعث قريش بعض أصحابه فلقيهم و أوقع بهم فسار إليه قريش و لقيه فهزمهم و اتبعه إلى حلل بلاد ابن غريب و نهبها و دخل العراق و بعث إلى عمال الملك الرحيم بالطاعة و ضمان ما كان عليه في أعماله فأجابوه إلى ذلك لشغل الملك الرحيم بخوزستان فاستقر أمره و قوي ( وفاة قراوش ) و في سنة أربع و أربعين و أربعمائة هذه توفي معتمد الدولة أبو منيع قراوش بن المقلد بمحبسه في قلعة الجراحية و حمل إلى الموصل و دفن بها ببلد نينوى شرقيها و كان من رجال العرب (4/339)
استيلاء قريش على الأنبار
و في سنة ست و أربعين و أربعمائة زحف قريش بن بدران من الموصل ففتح مدينة الأنبار و ملكها من يد عمال البساسيري إلى الأنبار فاستعادها (4/340)
حرب قريش بن بدران و البساسيري ثم اتفاقهما و خطبة قريش لصاحب مصر
كان قريش بن بدران قد بعث بطاعته إلى طغرلبك و هو بالري و خطب له بجميع أعماله و قبض على الملك الرحيم و كان قريش معه فنهب معسكره و اختفى و سمع به السلطان فأمنه و وصل إليه فأكرمه و رده إلى عمله و كان البساسيري قد فارق الملك الرحيم عند مسيره من واسط إلى بغداد و مسير طغرلبك من حلوان و قصد نور الدولة دبيس بن مزيد للمصاهرة بينهما و كان سبب مفارقة البساسيري للملك الرحيم كتاب القائم له بإبعاده لإطلاعه على كتابه إلى خليفة مصر فلما وصل قريش بن بدران إلى بغداد و عظم استيلاء السلطان طغرلبك على الدولة بعث جيشا و زحف البساسيري للقائهم و معه نور الدولة دبيس فالتقوا بسنجار فانهزم قريش و قطلمش و أصحابهما و قتل كثير منهم و عاث أهل سنجار فيهم و سار بهم إلى الموصول و خطب بها للمستنصر خليفة مصر و قد كانوا بعثوا إليه بطاعتهم من قبل فبعث إليهم بالخلع و لقريش جملتهم (4/340)
استيلاء طغرلبك على الموصل و ولاية أخيه نيال عليها و معاودة قريش الطاعة
كان السلطان طغرلبك لما طال مقامه ببغداد ساء أثر عساكره في الرعايا فبعث القائم وزيره رئيس الرؤساء أن يحضر عميد الملك المكندري وزير طغرلبك و يعظه في ذلك و يهدده برحيل القائم عن بغداد فبلغه خلال ذلك شأن الموصل فرحل إليها و حاصر تكريت و فتحها و قبل من صاحبها نصر بن عيسى من بني عقيل ما لا بد له منه و رحل عنه فمات نصر و ولي بعده أبو الغنائم البحلبان فأصلح حاله مع رئيس الرؤساء و رحل السلطان من البواريج و كان في انتظار أخيه ياقوتي بن تنكير ثم توجه السلطان إلى نصيبين و بعث هزارسب إلى البرية لقتال العرب و فيهم قريش و دبيس و أصحاب حران و الرقة من نمير فأوقع بهم و نال منهم و أسر جماعة فقتلهم و عاد إلى السلطان طغرلبك فبعث إليه قريش و دبيس بطاعتهما و أن يتوسط لهما عند السلطان فعفا السلطان عنهما و قال للبساسيري : ردهما إلى الخليفة فيرى ما عندهما فرحل البساسيري عند ذلك إلى الرحبة و تبعه إنزال بغداد و مقبل بن المقلد و جماعة من بني عقيل و بعث السلطان إلى قريش و دبيس هزارسب بن تنكير ليقضي ما عندهما و يحضرهما و كان ذلك يطليهما ثم خافا على أنفسهما فبعث قريش أبا السيد هبة الله بن جعفر و دبيس ابنه بهاء الدولة منصورا فقبلهما السلطان و كتب لهما بأعمالهما و كان لقريش من الأعمال : الموصل و نصيبين و تكريت و أوانا و نهر بيطر وهيت و الأنبار و بادرون و نهر الملك ثم قصد السلطان ديار بكر و وصل إليه أخوه إبراهيم نيال و أرسل هزارسب إلى قريش و دييس يحذرهما منه و سار لسنجار لأجل واقعته مع قريش و دبيس فبعث العساكر إليها و استباحوها و قتل أميرها علي بن مرحا و خلق كثير من أهلها رجالا و نساء و شفع إبراهيم نيال في الباقين فكف عنهم و أقطع سنجار و الموصل و تلك الأعمال كلها لأخيه إبراهيم نيال و عاد إلى بغداد فدخلها في ذي القعدة سنة تسع و أربعين و أربعمائة (4/341)
مفارقة نيال الموصل و ما كان لقريش فيها و في بغداد مع البساسيري و حبسهما القائم
و في سنة خمسين و أربعمائة خرج إبراهيم نيال من الموصل إلى بلاد الروم فخشي طغرلبك أن يكون منتقضا و بادر بكتابه و كتاب الخليفة إليه فرجع و خرج الوزير الكندري للقائه و خالفه البساسيري و قريش إلى الموصل فملكها و حاصر القلعة حتى استأمن أهلها على يد ابن موسك و صاحب أربد فأمناهم و هدما القلعة و سار السلطان طغرلبك من وقته إلى الموصل ففارقها و اتبعهما إلى نصيبين ففارقه أخوه نيال في رمضان سنة خمسين و أربعمائة و سار السلطان طغرلبك في أثره و حاصره بهمذان و جاء البساسيري إلى بغداد و كان هزارسب بواسط و دبيس ببغداد قد استدعاه الخليفة للدفاع فسئم المقام و رجع إلى بلده و جاء البساسيري و قريش و وزير بني بويه أبو الحسن بن عبد الرحيم و نزلوا بجوانب بغداد و نزل عميد العراق بالعسكر قبالة البساسيري و رئيس الرؤساء وزير الخليفة قبالة الآخرين و خطب البساسيري للمستنصر صاحب مصر بجوامع بغداد و أذن بحي على خير العمل ثم استعجل رئيس الرؤساء الحرب فاستجده القوم ثم كروا عليه فهزموه و اقتحموا حريم الخلافة و ملكوا القصور بما فها و نهب الخليفة فوجد عميد العراق قد استأمن إلى قريش بن بدران فاستأمن هو كذلك و أمنهما قريش و أعادهما و عذله البساسيري في الانفراد بذلك دونه و قد تعاهدا على خلاف ذلك فاستعتب له بالوزير رئيس الرؤساء و دفعه إليه و أقام الخليفة و العميد عنه فقتل البساسيري الوزير ابن عبد الرحيم و بعث قريش بالخليفة القائم مع ابن عمه مهارش بن نجلى إلى حديثة عانة فأنزله بها مع أهله و حرمه و حاشيته حتى إذا فرغ السلطان طغرلبك من أمر أخيه نيال و قتله و رجع إلى بغداد بعث البساسيري و قريش في إعادة القائم إلى داره فامتنع و أجفل عن بغداد في ذي القعدة سنة إحدى و خمسين و أربعمائة و شمل اللهب مدينة بغداد و ضواحيها من بني شيبان و غيرهم و بعث السلطان طغرلبك الإمام أبا بكر محمد بن فورك إلى قريش بن بدران يشكره على فعله بالخليفة و بابنة أخيه زوجة الخليفة أرسلان خاتون و أنه بعث ابن فورك لإحضارهما و كتب قريش إلى مهارش ابن عمه بأن يلحق به هو و الخليفة في البرية فأبى و سار بالخليفة إلى العراق و جعل طريقه على الرقي و مر ببدر بن مهلهل فخدم القائم و خرج السلطان للقاء الخليفة و قدم إليه الأموال و الآلات و عرضه أرباب الوظائف و لقيه بالنهروان و جاء معه إلى قصره كما تقدم في أخباره و بعث السلطان خبارتكين الطغرائي في العساكر لاتباع البساسيري و العرب و جاء إلى الكوفة و استصحب سرايا ابن منيع ببني خفاجة و سار السلطان في أثرهم و صبحت السرية البساسيري في حلة دبيس بن مزيد من الكوفة فنهبوها و فر دبيس و قاتل البساسيري و أصحابه فقتل في المعركة (4/342)
وفاة قريش بن بدران و ولاية ابنه مسلم
ثم توفي قريش بن بدران سنة ثلاث و خمسين و أربعمائة و دفن بنصيبين و جاء فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير من دارا و جمع بني عقيل على ابنه أبي المكارم مسلم بن قريش قولوه عليهم و استقام أمره و أقطعه السلطان سنة ثمان و خمسين الأنبار و هيت و حريم و السنن و البواريح و وصل إلى بغداد فركب الوزير ابن جهير في المركب للقائه ثم سار سنة ستين و أربعمائة إلى الرحبة فقاتل بها بني كلاب و هم في طاعة المستنصر العلوي فهزمهم و أخذ أسلابهم و بعث بأشلائهم و عليها سمات العلوية فطيف بها منكسة ببغداد (4/343)
استيلاء مسلم بن قريش على حلب
و في سنة اثنتين و سبعين و أربعمائة سار شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل إلى مدينة حلب فحاصرها ثم أفرج عنها فحاصرها تتش بن ألبارسلان و قد كان ملك الشام سنة إحدى و سبعين قبلها فأقام عليها أياما ثم أفرج عنها و ملك بزاغة و البيرة و بعث أهل حلب إلى مسلم بن قريش بأن يمكنوه من بلدهم و رئيسها يومئذ ابن الحسين العباسي فلما قرب منهم امتنعوا من ذلك فترصد لهم بعض التركمان و هو صاحب حصن بنواحها و أقام كذلك أياما حتى صادف ابن الحسين يتصيد في ضيعته فأسره و بعث به إلى مسلم بن قريش فأطلقه على أن يسلموا له البلد فلما عاد إلى البلد تمم له ذلك و سلم له البلد فدخله سنة ثلاث و سبعين و حصر القلعة و استنزل منها سابغا و وثابا ابني محمد بن مرداس و بعث ابنه إبراهيم و هو ابن عمة السلطان إلى السلطان يخبره بملك حلب و سأل أن يقدر عليه ضمانه فأجابه السلطان إلى ذلك و أقطع ابنه محمدا مدينة بالس ثم ساره مسلم إلى حران و أخذها من بني وثاب النميريين و أطاعه صاحب الرها و نقش السكة باسمه (4/343)
حصار مسلم بن قريش دمشق و عصيان أهل حران عليه
و في سنة ست و سبعين و أربعمائة سار شرف الدولة إلى دمشق فحاصرها و صاحبها تتش فخرج في عسكره و هزم مسلم بن قريش فارتحل عنها راجعا إلى بلاده و قد كان استمد أهل مصر فلم يمدوه و بلغه الخبر بأن أهل حران نقضوا الطاعة و أن ابن عطية و قاضها ابن حلية عازمون على تسليم البلد للترك فبادر إلى حران و صالح في طريقه ابن ملاعب صاحب حمص و أعطاه سليمة ورفسة و حاصر حران و خرب أسوارها و اقتحمها عنوة و قتل القاضي و ابنه (4/344)
حرب ابن جهير مع مسلم بن قريش و استيلاؤه على الموصل ثم عودها إليه
كان فخر الدولة أبو نصر محمد بن أحمد بن جهير من أهل الموصل و اتصل بخدمة بني المقلد ثم استوحش من قريش بن بدران و استجار ببعض رؤساء بني عقيل فأجاروه منه و مضى إلى حلب فاستوزره معز الدولة أبو ثمال بن صالح ثم فارقه إلى نصير الدولة بن مروان بديار بكر فاستوزره و لما عزل القائم وزيره أبا الفتح محمد بن منصور بن دارس استدعاه للوزارة فتحيل في المسير إلى بغداد و اتبعه ابن مروان فلم يدركه و لما و صل إلى بغداد استوزره القائم سنة أربع و خمسين و أربعمائة و طغرلبك يومئذ هو السلطان المستبد على الخلفاء و استمرت وزارته و تخللها العزل في بعض المرات إلى أن مات القائم و ولي المقتدي و صارت السلطنة إلى ملك شاه فعزله المقتدي سنة إحدى و سبعين و أربعمائة بشكوى نظام الملك إلى الخليفة به و سؤاله عزله فعزله و سار ابنه عميد الدولة إلى نظام الملك بأصفهان و استصلحه و شفع فيه إلى المقتدي فأعاد ابنه عميد الدولة ثم عزله سنة ست و سبعين و أربعمائة فبعث السلطان ملك شاه و نظام الملك إلى المقتدي بتخلية سبيل بني جهير إليه فوفدوا عليه بأصفهان و لقوا منه مبرة و تكرمة و عقد السلطان ملك شاه لفخر الدولة على ديار بكر و بعث معه العساكر و أمره أن يأخذ البلاد من ابن مروان و أن يخطب لنفسه بعد السلطان و ينقش اسمه على السكة كذلك فسار لذلك و توسط ديار بكر ثم أردفه السلطان سنة سبع و سبعين و أربعمائة بالعساكر مع الأمير أرتق جد الملوك بماردين لهذا العهد و كان ابن مروان عندما أحس بمسير العساكر إليه بعث إلى شرف الدولة مسلم بن قريش يستنجده على أن يعطيه آمد من أعماله فجاء إلى آمد و فخر الدولة بنواحيها و قد ارتاب من اجتماع العرب على نصرة ابن مروان ففتر عزمه عن لقائهم و سارت عساكر الترك الذين معه فصبحوا العرب في أحيائهم فانهزموا و غنموا أموالهم و مواشيهم و نجا شرف الدولة إلى آمد و حاصره فخر الدولة فيمن معه من العساكر و بعث مسلم بن قريش إلى الأمير أرتق يقضي عنه في الخروج من آمد على مال بذله له فأغضى له و خرج إلى الرقة و سار أحمد بن جهير إلى ميافارقين بلد ابن مروان لحصارها ففارقه بهاء الدولة منصور بن مزيد و ابنه سيف الدولة صدقة إلى العراق و سار ابن جهير إلى خلاط و كان السلطان ملك شاه لما بلغه انحصار مسلم بن قريش بآمد بعث عميد الدولة آقسنقر جد الملك العادل محمود في عساكر الترك و لقيم الأمير أرتق في طريقهم سائرا إلى العراق فعاد معهم و جاؤا إلى الموصل فملكوها و سار السلطان في عساكره إلى بلاد مسلم بن قريش و انتهى إلى البواريح و قد خلص مسلم بن قريش من الحصار بآمد و وصل إلى الرحبة و قد ملكت عليه الموصل و ذهبت أمواله فراسل مؤيد الملك بن نظام الملك فتوسل به فتقبل وسيلته و أذن له في الوصول إلى السلطان بعد أن أعطاه من العهد ما رضي به و سار مسلم بن قريش من الرحبة فأحضره مؤيد الملك عند السلطان و قدم هدية فاخرة من الخيل و غيرها و من جملتها فرسه الذي نجا عليه و كان لا يجارى فوقع من السلطان موقعا و صالحه و أقره على بلاده فرجع إلى الموصل و عاد السلطان إلى ما كان بسبيله (4/345)
مقتل مسلم بن قريش و ولاية ابنه إبراهيم
قد قدمنا ذكر قطلمش قريب السلطان طغرلبك و كان سار إلى بلاد الروم فملكها و استولى على قونية و أقصراي و مات فملك مكانه ابنه سليمان و سار إلى أنطاكية سنة سبع و سبعين و أربعمائة و أخذها من يد الروم كما نذكر في أخباره و كان لشرف الدولة مسلم بن قريش بأنطاكية جزية يؤديها إليه صاحبها القردروس من زعماء الروم فلما ملكها سليمان بن قطلمش بعث إليه يطالبه بتلك الجزية و يخوفه معصية السلطان فأجابه بأني على طاعة السلطان و أمري فيها غير خفي و أما الجزية فكانت مضروبة على قوم كفار يعطونها عن رؤوسهم و قد أدال الله منهم بالمسلمين و لا جزية عليهم فسار شرف الدولة و نهب جهات أنطاكية و سار سليمان فنهب جهات حلب و شكت إليه الرعايا فرد عليهم ثم جمع شرف الدولة جموع العرب و جموع التركمان مع أميرهم جق و سار إلى أنطاكية فسار سليمان للقائه و التقيا في أعمال أنطاكية في صفر سنة ثمان و سبعين و أربعمائة و لما التقوا مال الأمير جق بمن معه من التركمان إلى سليمان فاختل مصاف مسلم بن قريش و انهزمت العرب عنه و ثبت فقتل في أربعمائة من أصحابه و كان ملكه قد اتسع من نهر عيسى و جميع ما كان لأبيه و عمه قراوش من البلاد و كانت أعماله في غاية الخصب و الأمن و كان حسن السياسة كثير العدل و لما قتل مسلم اجتمع بنو عقيل و أخرجوا أخاه إبراهيم من محبسه بعد أن مكث فيه سنين مقيدا حتى أفسد القيد مشيته فأطلقوه و ولوه على أنفسهم مكان أخيه مسلم و لما قتل مسلم سار سليمان بن قطلمش إلى أنطاكية و حاصرها شهرين فامتنعت عليه و رجع و في سنة تسع و سبعين و أربعمائة بعدها بعث عميد العراق عسكرا إلى الأنبار فملكها من يد بني عقيل و فيها أقطع السلطان ملك شاه مدينة الرحبة و أعمالها و حران و سروج و الرقة و الخابور لمحمد بن شرف الدولة مسلم ابن قريش و زوجه بأخته خاتون زليخة فتسلم جميع هذه البلاد و امتنع محمد بن المشاطر من تسليم حران فأكرهه السلطان على تسليمها (4/346)
نكبة إبراهيم و تنازع محمد و علي ابني مسلم بعده على ملك الموصل ثم استيلاء علي عليها
لم يزل إبراهيم بن قريش ملكا بالموصل و أميرا على قومه بني عقيل حتى استدعاه السلطان ملك شاه سنة اثنتين و ثمانين فلما حضر اعتقله و بعث فخر الدولة ابن جهر على البلاد فملك الموصل و غيرها و أقطع السلطان عمته صفية مدينة بلد و كانت زوجا لمسلم بن قريش و لها منه ابنه علي و تزوجت بعده بأخيه إبراهيم فما مات ملك شاه ارتحلت صفية إلى الموصل و معها ابنها علي بن مسلم و جاءه أخوه محمد بن مسلم و تنازعا في ملك الموصل و انقسمت العرب عليهما و اقتتلوا على الموصل فانهزم محمد و ملك علي و دخل الموصل و انتزعها من يد ابن جهير (4/347)
عود إبراهيم إلى ملك الموصل و مقتله
لما مات ملك شاه و استبدت تركمان خاتون بعده بالأمور و أطلقت إبراهيم من الاعتقال فبادر إلى الموصل فلما صار بها سمع أن علي ابن أخيه مسلم قد ملكها و معه أمه صفية عمة ملك شاه فبعث إليها و تلطف بها فدفعت إليه ملك الموصل فدخلها و كان تتش صاحب الشام أخو ملك شاه قد طمع في ملك العراق و اجتمع إليه الأمراء بالشام و جاء أقسنقر صاحب حلب و سار إلى نصيبين فملكها و بعث إلى إبراهيم أن يخطب له و يسهل طريقه إلى بغداد فامتنع إبراهيم من ذلك فسار لشق و معه أقسنقر و جموع الترك و خرج إبراهيم للقائه في ثلاثين ألفا و التقى الفريقان بالمغيم فانهزم إبراهيم و قتل و غنم الترك حلهم و قتل كثير من نساء العرب أنفسهن خوفا من الفضيحة و استولى تتش على الموصل (4/347)
ولاية علي بن مسلم على الموصل ثم استيلاء كربوقا و انتزاعه إياها من يده و انقراض أمر بني المسيب من الموصل
و لما قتل إبراهيم و ملك تتش الموصل ولى عليها علي بن أخيه مسلم بن قريش فدخلها مع أمه صفية عند ملك شاه و استقرت هي و أعمالها في ولايته و سار تتش إلى ديار بكر فملكها ثم إلى أذربيجان فاستولى عليها و زحف إليه بركيارق و ابن أخيه ملك شاه و تقاتلا فانهزم تتش و قام بمكانه ابنه رضوان و ملك حلب و أمره السلطان بركيارق بإطلاق كربوقا فأطلقه و اجتمعت عليه رجال و جاء إلى حران فملكها و كاتبه محمد بن مسلم بن قريش و هو بنصيبين و معه ثوران بن و هيب و أبو الهيجاء الكردي يستنصرونه على علي بن مسلم بن قريش بالموصل فسار إليهم و قبض على محمد بن مسلم و سار به إلى نصيبين فملكها ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه و رجع إلى مدينة بلد و قتل بها محمد بن مسلم غريقا و عاد إلى حصار الموصل و استنجد علي بن مسلم بالأمير جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر فسار إليه منجدا له و بعث كربوقا إليه عسكرا مع أخيه التوتناش فرده مهزوما إلى الجزيرة فتمسك بطاعة كربوقا و جاء مددا له على حصار الموصل و اشتد الحصار بعلي بن مسلم فخرج من الموصل و لحق بصدقة بن مزيد بالحلة و ملك كربوقا بلد الموصل بعد حصار تسعة أشهر و انقرض ملك بني المسيب من الموصل و أعمالها و استولى عليها ملوك الغز من السلجوقية أمراؤهم و البقاء لله و حده (4/348)
الخبر عن دولة بني صالح بن مرداس بحلب و ابتداء أمرهم و تصاريف أحوالهم
كان ابتداء أمر صالح بن مرداس ملك الرحبة و هو من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة و مجالاتهم بضواحي حلب و قال ابن حزم أنه من ولد عمرو بن كلاب و كانت مدينة الرحبة لأبي علي بن ثمال الخفاجي فقتله عيسى بن خلاط العقيلي و ملكها من يده و بقيت له مدة ثم أخذها منه بدران بن المقلد و زحف لؤلؤ الساري نائب الحاكم بدمشق فملك الرقة ثم الرحبة من يد بدران و عاد إلى دمشق و كان رئيس الرحبة ابن مجلكان فاستبد بها و بعث إلى صالح بن مرداس يستعين به على أمره فأقام عنده مدة ثم فسد ما بينهما و قاتله صالح ثم اصطلحا و زوجه ابن مجلكان ابنته و دخل البلد ثم انتقل ابن مجلكان إلى عانة بأهله و ماله بعد أن أطاعوه و أخذ رهنهم ثم نقضوا و أخذوا ماله و سار إلى ابن مجلكان مع صالح فوضع عليه صالح من قتله و سار إلى الرحبة فملكها و استولى على أموال ابن مجلكان و أقام دعوة العلويين بمصر (4/349)
ابتداء أمر صالح في ملك حلب
قد قدمنا أن لؤلؤا مولى أبي المعالي بن سيف الدولة استبد بحلب على ابنه أبي الفضائل و أخذ البلد منه و محا دعوة العباسية و خطب للحاكم العلوي بمصر ثم فسد حاله معه و طمع صالح بن مرداس في ملك حلب و ذكرنا هنالك ما كان بين صالح و لؤلؤ من الحروب و أنه كان له مولى اسمه فتح و ضعه في قلعة حلب حافظا لها فاستوحش و انتقض على لؤلؤ بممالأة صالح بن مرداس و بايع للحاكم على أن يقطعه صيدا و بيروت و سوغه ما كان في حلب من الأموال و لحق لؤلؤ بأنطاكية و أقام عند الروم و خرج فتح بحرم لؤلؤ و أمه و تركهن في منبج و ترك حلب و قلعتها إلى نواب الحاكم و تداولت في أيديهم حتى وليها بعض بني حمدان من قبل الحاكم يعرف بعزيز الملك اصطنعه الحاكم و ولاه حلب ثم عصى على ابنه الظاهر و كانت عمته بنت الملك مدبرة لدولته فوضعت على عزيز الملك من قتله و ولوا على حلب عبد الله بن علي بن جعفر الكتامي و يعرف بابن شعبان الكتامي و على القلعة صفي الدولة موصوفا الخادم (4/349)
استيلاء صالح بن مرداس على حلب
و لما ضعف أمر العبيديين بمصر من بعد المائة الرابعة و انقرض أمر بني حمدان من الشام و الجزيرة تطاولت العرب إلى الاستيلاء على البلاد فاستولى بنو عقيل على الجزيرة و اجتمع عرب الشام فتقاسموا البلاد على أن يكون لحسان بن مفرج بن دغفل و قومه طيىء من الرملة إلى مصر و لصالح بن مرداس و قومه بني كلاب من حلب إلى عانة و لحسان بن عليان و قومه دمشق و أعمالها و كان العامل على هذه البلاد من قبل الظاهر خليفة مصر أنوشتكين إلى عسقلان و ملكها و نهبها حسان و سار صالح بن مرداس إلى حلب فملكها من يد ابن شعبان و سلم له أهل البلد و دخلها و صعد ابن شعبان إلى القلعة فحصرهم صالح بالقلعة حتى جهدهم الحصار و استأمنوا و ملك القلعة و ذلك سنة أربع و عشرين و أربعمائة و اتسع ملكه ما بين بعلبك و عانة (4/350)
مقتل صالح و ولاية ابنه أبي كامل
و لم يزل صالح مالكا لحلب إلى سنة عشرين و أربعمائة فجهز الظاهر العساكر من مصر إلى الشام لقتال صالح و حسان و عليهم أنوشتكين الدريدي فسار لذلك و لقيهما على الأردن بطبرية و قاتلهما فانهزما و قتل صالح و ولده الأصغر و نجا ولده الأكبر أبو كامل نصر بن صالح إلى حلب و كان يلقب شبل الدولة و لما وقعت هذه الواقعة طمع الروم أهل أنطاكية في حلب فزحفوا إليها في عدد كثير (4/350)
مسير الروم إلى حلب و هزيمتهم
ثم سار ملك الروم إلى حلب قي ثلاثمائة ألف مقاتل و نزل قريبا من حلب و معه ابن الدوقس من أكابر الروم و كان منافرا له فخالفه و فارقه في عشرة آلاف مقاتل و نمي إليه أنه يروم الفتك به و أنه دس عليه فكر راجعا و قبض على ابن الدوقس و اضطرب الروم و اتبعهم العرب و أهل السواد الأرمن و نهبوا أثقال الملك أربعمائة حمل و هلك أكثر عسكره عطشا ثم أشرف بعض العرب على معسكره فهربوا و تركوا سوادهم و أموالهم و أكرم الله المسلمين بالفتح (4/351)
مقتل نصر بن صالح و استيلاء الوزيري على حلب
و في سنة تسع و عشرين و أربعمائة زحف الوزيري من مصرفي العساكر إلى حلب و خليفتهم يومئذ المستنصر و برز إليه نصر فالتقوا عند حماة و انهزم نصر و قتل و ملك الوزيري حلب في رمضان من هذه السنة (4/351)
مهلك الوزيري و ولاية ثمال بن صالح
و لما ملك الوزيري حلب و استولى على الشام عظم أمره و استكثر من الأتراك في الجند و نمي عنه إلى المستنصر بمصر و وزيره الجرجاي أنه يروم الخلاف فدس الجرجاي إلى جانب الوزيري و الجند بدمشق في الثورة به و كشف لهم عن سوء رأي المستنصر فثاروا به و عجز عن مدافعتهم فاحتمل أثقاله و سار إلى حلب ثم إلى حماة فمنع من دخولها فكاتب صاحب كفرطاب فسار إليه و تبعه إلى حلب و دخلها و توفي سنة ثلاث و ثلاثين و أربعمائة و لما توفي فسد أمر الشام و انحل النظام و تزايد طمع العرب و كان معز الدولة ثمال بن صالح بالرحبة منذ مهلك أبيه و أخيه فقصد حلب و حاصرها فملك المدينة و امتنع أصحاب الوزيري بالقلعة و استمدوا أهل مصر و شغل الوالي بدمشق بعد الوزيري و هو الحسين بن حمدان الحرب حسان بن مفرج صاحب فلسطين فاستأمن أصحاب الوزيري إلى ثمال بن صالح بعد حصاره إياها حولا فأمنهم و ملكها في صفر سنة أربع و ثلاثين و أربعمائة فلم يزل مملكا عليها إلى أن زحفت إليه العساكر من مصر مع أبي عبيداض بن ناصر الدولة بن حمدان و بلغت جموعهم خمسة آلاف مقاتل فخرج إليهم ثمال و قاتلهم و أحسن دفاعهم و أصابهم سيل كاد يذهب بهم فأفرجوا عن حلب و عادوا إلى مصر ثم عادت العساكر ثانية من مصر سنة إحدى و أربعين مع رفق الخادم فقاتلهم ثمال و هزمهم و أسر الخادم رفقا و مات عنده (4/351)
رغبة ثمال عن حلب و رجوعها لصاحب مصر و ولاية ابن ملهم عليها
لم تزل العساكر تتردد من مصر إلى حلب و تضيق عليها حتى سئم ثمال بن صالح إمارتها و عجز عن القيام بها فبعث إلى المستنصر بمصر و صالحه على أن ينزل له عن حلب فبعث عليها مكين الدولة أبا علي الحسن بن ملهم فتسلمها آخر سنة تسع و أربعين و سار ثمال إلى مصر و لحق أخوه عطية بن صالح بالرحبة و استولى ابن ملهم عليها (4/352)
ثورة أهل حلب بابن ملهم و ولاية محمود بن نصر بن صالح
و أقام ابن ملهم بحلب سنتين أو نحوها بلغه عن أهل حلب انهم كاتبوا محمود بن نصر بن صالح فقبض عليه فثار به أهل حلب و حصروه بالقلعة و بعثوا إلى محمود فجاء منتصف اثنتين و خمسين و أربعمائة و حاصره معهم بالقلعة و اجتمعت معه جموع العرب و استمد ابن ملهم المستنصر فكتب إلى أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان أن يسير إليه في العساكر فسار إلى حلب و أجفل محمود عنها و نزل ابن ملهم إلى البلد و دخلها ناصر الدولة و نهبتها عساكره و ابن ملهم ثم تواقع محمود و ناصر الدولة بظاهر حلب فانهزم ناصر الدولة بن حمدان و أسر فرجع به محمود إلى البلد و ملكها و ملك القلعة في شعبان من هذه السنة و أطلق أحمد بن حمدان و ابن ملهم فعاد إلى مصر (4/352)
رجوع ثمال بن صالح إلى ملك حلب و فرار محمود بن نصر عنها
لما هزم محمود بن حمدان و أخذ القلعة من يد ابن ملهم و كان معز الدولة ثمال بن صالح بمصر منذ سلمها للمستنصر سنة تسع و أربعين فسرحه المستنصر الآن و أذن له في ملك حلب من ابن أخيه فحاصره في ذي الحجة من سنة اثنتين و خمسين و أربعمائة و استنجد محمود بخاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري صاحب حران فأمده بنفسه و جاء لنصره فأفرج ثمال عن حلب و سار إلى البرية في محرم سنة ثلاث و خمسين ثم عاد منيع إلى حران و ملك ثمال حلب في ربيع سنة ثلاث و خمسين و غزا بلاد الروم فظفر و غنم (4/353)
وفاة ثمال و ولاية أخيه عطية
ثم توفي ثمال بحلب قريبا من استيلائه و ذلك في ذي القعدة سنة أربع و خمسين و أربعمائة و عهد بحلب لأخيه عطية بن صالح و كان بالرحبة من لدن مسير ثمال إلى مصر فسار و ملكها (4/353)
عود محمود إلى حلب و ملكه إياها من يد عطية
و لما ملك عطية حلب و كان ذلك عند استيلاء السلجوقية على ممالك العراق و الشام و افتراقهم على العمالات و نزل به قوم منهم فاستخدمهم و قوي بهم ثم خشي أصحابه غائلتهم فأشاروا بقتلهم فسلط أهل البلد عليهم فقتلوا منهم جماعة و نجا الباقون فقصدوا محمود بن نصر بحران فاستنهضوه لملك حلب و جاءهم فحاصرها و ملكها في رمضان سنة خمس و خمسين و أربعمائة و استقام أمره و لحق عطية عمه بالرقة فملكها إلى أن أخذها منه شرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث و ستين و أربعمائة فسار إلى بلد الروم سنة خمس و ستين و أربعمائة و استقام أمر محمود ابن نصر في حلب و بعث الترك الذين جاؤا في خدمته مع أميرهم ابن خان سنة ستين و أربعمائة إلى بعض قلاع الروم فحاصروها و ملكها و سار محمود إلى طرابلس فحاصرها و صالحوه على مال فأفرج عنهم ثم سار إليه السلطان البارسلان بعد فراغه من حصار ديار بكر و آمد و الرها و لم يظفر بشي منها كما نذكر في أخبارهم و جاء إلى حلب و حاصرها و بها محمود بن نصر و جاءت رسالة الخليفة القائم بالرجوع إلى الدعوة العباسية فأعادها و سأل من الرسول أزهر أبو الفراس طراد الزيني أن يعفيه السلطان من الحضور عنده فأبى السلطان من ذلك و اشتد الحصار على محمود و أضربهم حجارة المجانيق فخرج ليلا و معه والدته منيعة بنت و ثاب متطارحين على السلطان فخلع على محمود في حلب آخر ثمان و ستين و أربعمائة و عهد لابنه شبيب إلى الترك الذين ملكوا أباه و هم بالحاضر و قد بلغه عنهم العيث و الفساد فما دنا من حللهم تلقوه فلم يجبهم و قاتلهم و أصيب بسهم في تلك الجولة و مات (4/354)
مهلك نصر بن محمود و ولاية أخيه سابق
و لما هلك نصر ملك أخوه سابق قال ابن الأثير : و هو الذي أوصى له أبوه بالملك فلم ينفذ عهده لصغره فما ولي استدعى أحمد شاه مقدم التركمان الذين قتلوا أباه فخلع عليه و أحسن إليه و بقي فيها ملكا (4/354)
استيلاء مسلم بن قريش على حلب من يد سابق و انقراض دولة بني صالح بن مرداس
و لما كانت سنة اثنتين و سبعين و أربعمائة زحف تتش بعد أن ملك دمشق إلى حلب فحاصرها أياما و وجل أهل حلب من ولاية الترك فبعثوا إلى مسلم بن قريش ليملكوه ثم بدا لهم في أمره و رجع من طريقه و كان مقدمهم يعرف بابن الحسين العباسي و خرج ولده متصيدا في ضيعة له فأرسل له بعض أهل القلاع بنواحي حلب من التركمان و أسره و أرسله إلى مسلم بن قريش فعاهده على تمكينه من البلد و عاد إلى أبيه فسلم البلد إلى مسلم بن قريش و ملكها سنة ثلاث و سبعين و أربعمائة و لحق سابق بن محمود و أخوه وثاب إلى القلعة و استنزلهما بعد أيام على الأمان و استولى على نواحيها و بعث إلى السلطان ملك شاه بالفتح و أن يضمن البلد على العادة فأجابه إلى ذلك و صارت في ولاية مسلم بن قريش إلى أن ملكها السلطان من بعده (4/355)
استيلاء السلطان ملك شاه على حلب و ولاية أقسنقر عليها
قد تقدم لنا أن مسلم بن قريش قتله سليمان بن قطلمش كما مر في أخبار مسلم فلما قتله أرسل إليه ابن الحسين العباسي مقدم أهل حلب يطلب تسليمها إليه و كان تتش أيضا قد حاصرها و ضيق عليها يطلب ملكها فوعد كلا منهما و نمي الخبر إلى تتش فسار إلى حلب و جاءه سليمان بن قطلمس فاقتتلا و قتل سليمان سنة تسع و سبعين و أربعمائة و بعث برأسه إلى ابن الحسين فكتب أنه يشاور السلطان ملك شاه في ذلك فغضب تتش و حاصره و داخله بعض أهل البلد فغدر به و أدخله ليلا فملك تتش مدينة حلب و شفع الأمير أرتق بن أكسك من أمراء تتش في ابن الحثيثي و امتنع بالقلعة سالم بن مالك بن بدران ابن المقلد فحاصره تتش و كان ابن الحثيثي قد كاتب السلطان ملك شاه و استدعاه لملك حلب عندما خاف من أخيه تاج الدولة تتش فسار إليها من أصفهان سنة تسع و أربعين و أربعمائة و مر بالموصل ثم تسلم حران من يد ابن الشاطر و أقطعها لمحمد بن قريش ثم سار إلى الرها فملكها من يد الروم و كانوا اشتروها من ابن عطية و سار إلى قلعة جعفر فملكها و قتل من بها من بني قشير و أخذ صاحبها جعفرا شيخا أعمى و ولدين له و كانوا يفسدون السابلة و يرجعون إليها ثم سار إلى منبج فملكها و سار إلى حلب و أخوه تتش يحاصر القلعة سبعة عشر يوما من حصارها و عاد إلى دمشق و ملك السلطان مدينة حلب و قاتل القلعة ساعة من نهار رشقا بالسهام فأذعن سالم بن مالك بن بدران بالطاعة و النزول عنها على أن يقطعه قلعة جعفر فأقطعها له السلطان فلم تزل بيده و يد بنيه إلى أن ملكها منهم نور الله بن الشهيد و بعث نصر بن علي بن منقذ الكتاني صاحب شيزر بالطاعة و ولى على حلب قسيم الدولة أقسنقر جد العادل نور الدين الشهيد و ارتحل عائدا إلى العراق و سأله أهل حلب أن يعفيهم من ابن الحثيثي فاستصلحه و أرسله إلى ديار بكر فنزلها إلى أن توفي على حال شديدة من الفقر و الإملاق و الله مالك الأمور لا رب غيره (4/355)
الخبر عن دولة بني مزيد ملوك الحلة و ابتداء أمرهم و تصاريف أحوالهم
كان بنو مزيد هؤلاء من بني أسد و كانت محلاتهم من بغداد إلى البصرة إلى نجد و هي معروفة و كانت لهم النعمانية و كانت بنو دبيس من عشائرهم في نواحي خوزستان في جزائر معروفة بهم و كان كبير بني مزيد أبو الحسن علي بن مزيد و أخوه أبو الغنائم و سار أبو الغنائم إلى بني دبيس فأقام عندهم و فر فلم يدركوه و لحق بناحية أبي الحسن فسار إليهم أبو الحسن و استمد عميد الجيوش فأمده بعسكر من الديلم في البحر و لقيهم فانهزم أبو الحسن و قتل أبو الغنائم و ذلك سنة إحدى و أربعمائة فما كانت سنة خمس و أربعمائة جمع أبو الحسن و سار إليهم لإدراك الثأر بأخيه و جمع بني دبيس و هم مضر و حسان و نبهان و طراد فاجتمع إليهم العرب و من في نواحيهم من الأكراد الشاهجان و الحادانية و تزاحفوا ثم انهزم بنو دبيس و قتل حسان و نبهان و استولى أبو الحسن بن مزيد على أموالهم و حللهم و لحق الفل منهم بالجزيرة و قلده فخر الدولة أمر الجزيرة الدبيسية و استثنى منها الطيب و قرقوب و أقام أبو الحسن هناك ثم جمع مضر بن دبيس جمعا و كبسه فنجا في فل يسير و لحق ببلد النيل منهزما و استولى مضر على أمواله و على الجزيرة و ملكها (4/356)
وفاة علي بن مزيد و ولاية ابنه دبيس
ثم توفي أبو الحسن بن مزيد سنة ثمان و أربعمائة و قام بالأمر مكانه ابنه نور الدولة أبو الأغر دبيس و قد كان أبوه عهد لأخيه في حياته و خلع عليه سلطان الدولة و أذن في ولايته فلما ولي بعد أبيه نزع أخوه المقلد إلى بني عقيل فأقام بينهم و كانت بسبب ذلك بين دبيس و قراوش أميري بني عقيل فتن و حروب و جمع دبيس عليه بني خفاجة و ملك الأنبار من يده سنة سبع عشر و أربعمائة ثم انتقض خفاجة على دبيس و أميرهم منيع بن حسان و سار إلى الجامعين فنهبها و ملك الكوفة و صار أمر دبيس و قراوش إلى الوفاق و استوى الأمر على ذلك و منعت خفاجة بني عقيل من سقي الفرات (4/357)
استيلاء منصور بن الحسين على الجزيرة الدبيسية
كانت الجزيرة الدبيسية قد استقرت لطراد بن دبيس و كان منصور بن الحسين من شعوب بني أسد تغلب عليها و أخرج طراد بن دبيس عنها سنة ثمان عشرة و أربعمائة ثم مات طراد فسار ابنه أبو الحسن إلى جلال الدولة ببغداد و كان منصور بن الحسين قد خطب للملك أبي كليجار و قطع الخطبة لجلال الدولة فسأل منه على بن طراد أن يبعث معه عسكرا ليخرج منصورا من الجزيرة فأنفذ معه العسكر و سار إلى واسط ثم أغذ السير و كان منصور جمع للقائه و أعانه بعض أمراء الترك و هو أبو صالح كركبر و كان قد هرب من جلال الدولة إلى أبي كليجار فأعان منصورا على شأنه و لقوا علي بن طراد فهزموه و قتلوه و جماعة من الترك الذين بعثهم جلال الدولة لنصرته و استقر ملك الجزيرة الدبيسية لمنصور بن الحسين (4/357)
فتنة دبيس مع جلال الدولة و حروبه مع قومه
كان المقلد أخو دبيس بن مزيد قد لحق ببني عقيل كما ذكرناه و كانت بينه و بين نور الدولة دبيس عداوة فسار إلى منيع بن حسان أمير خفاجة و اجتمعا على قتال دبيس على خلافة جلال الدين و خطب لأبي كليجار و استقدمه للعراق فجاء إلى واسط و بها ابن جلال الدولة ففارقها و قصد النعمانية ففجر عليه البثوق من بلده و أرسل أبو كليجار إلى قراوش صاحب الموصل و الأثير عنبر الخادم أن ينحدروا إلى العراق فانحدروا إلى الكحيل و مات بها الأثير عنبر و جمع جلال الدولة عساكره و استنجد أبا الشوك صاحب بلاد الأكراد فأنجده و انحدر إلى واسط و أقام بها و تتابعت الأمطار و الأوحال فسار جلال الدولة إلى الأهواز بلد أبي كليجار لينهبها و بعث أبو كليجار إليه بأن عساكر محمود بن سبكتكين قد قصدت العراق ليرده عن الأهواز فلم يلتفت إلى ذلك و سار و نهب الأهواز و بلغ الخبر إلى أبي كليجار فسار إلى مدافعته و تخلف عنه دبيس خوفا على حله من خفاجة و التقى أبو كليجار و جلال الدولة فانهزم أبو كليجار و قتل من أصحابه كثير و استولى جلال الدولة على واسط و أعاد إليها ابنه عبد العزيز كما كان و لما فارق دبيس أبا كليجار وجد جماعة من عشيرته قد خالفوا عليه و عاثوا في نواحي الجامعين فقاتلهم و ظفر بهم و أسر منهم جماعة منهم : أبو عبد الله الحسين ابن عمه أبي الغنائم و شبيب و سرايا و وهب بنو عمه حماد بن مزيد و حبسهم بالجوسق ثم جمع المقلد أخوه جموعا من العرب و استمد جلال الدولة فأمده بعسكر و قصدوا دبيس فانهزم و أسر جماعة من أصحابه و نزل المعتقلون بالجوسق فنهبوا حلله و لحق دبيس بالشريد منهزما فسار به إلى مجد الدولة و ضمن عنه المال المقرر في ولايته فأجيب إلى ذلك و خلع عليه و استقام حاله و ذهب المقلد مع جماعة من خفاجة فنهبوا مطير أباد و النيل أقبح نهب و عاثوا في منازلها و لم تكن الحلة بنيت يومئذ و عبر المقلد دجلة إلى أبي الشوك فأقام عنده حتى أصلح أمره (4/358)
الفتنة بين دبيس و أخيه ثابت
كان أبو قوام ثابت بن علي بن مزيد متصلا بالبساسيري سنة أربع و عشرين و أربعمائة و تزحزح لهم دبيس عن البلاد و ملك ثابت النيل و أعمال دبيس و بعث دبيس طائفة من أصحابه لقتال ثابت فانهزموا فسار دبيس عن البلاد و تركها لثابت حتى رجع البساسيري إلى بغداد فسار في جموع بني أسد و خفاجة و معه أبو كامل منصور بن قراد و تركوا حللهم بين حصني و جرى و ساروا جريدة و لقيهم ثابت عند جرجرا فاقتتلوا مليا ثم تحاجزوا و اصطلحوا على أن يعود دبيس إلى أعماله و يقطع أخاه ثابتا بعض تلك الأعمال و تحالفوا على ذلك و افترقوا و جاء البساسيري منجدا لثابت فبلغه الخبر بالنعمانية فرجع (4/359)
الفتنة بين دبيس و عسكر واسط
كان الملك الرحيم قد أقطع دبيس بن مزيد سنة إحدى و أربعين و أربعمائة حماية نهر الصلة و نهر الفضل و هي من إقطاع جند واسط فسخطوا ذلك و اجتمعوا و بعثوا إليه بالتهديد فراجعهم إلى حكم الملك الرحيم فغضبوا و زحفوا إليه فلقيهم و أكمن لهم فهزمهم و أثخن فيهم و غنم أموالهم و دوابهم و رجعوا إلى واسط يستنجدون جند بغداد و يرغبون من البساسيري في المدافعة و يعطه نهر الصلة و نهر الفضل (4/359)
إيقاع دبيس بخفاجه
و في سنة ست و أربعين و أربعمائة قصد بنو خفاجة الجامعين من أعمال دبيس فعاثوا فيها من غربي الفرات و كان دبيس في شرقيه فاستنجد البساسيري فجاء بنفسه و عبر دبيس الفرات معه و قاتل خفاجة و أجلاهم عن الجامعين فسلكوا البرية و رجع عنهم ثم عادوا للفساد فعاد إليهم فدخلوا البرية فاتبعهم إلى حصن خفان فأوقع بهم و أثخن فيهم و حاصر خفان ثم اقتحمه و أخرجهم و رجع إلى بغداد و معه أسارى من خفاجة فصلبوا ثم سار إلى جرى فحاصرها و وضع عليهم سبعة آلاف دينار فالتزموها و أمنهم (4/359)
حرب دبيس مع الغز و خطبته للعلوي صاحب مصر و معاودته الطاعة
و لما انقرض أمر بني بويه و غلب علي الغز و صارت الدولة للسلطان طغرلبك سلطان السلجوقية و جاء السلطان طغرلبك إلى بغداد و استولى على الخليفة و خطب له على منابر الإسلام و قبض على الملك الرحيم آخر ملوك بني بويه حسما ذلك كله مذكور في أخبارهم و كان البساسيري قد فارق الملك الرحيم قبل مسيره من واسط إلى بغداد للقاء طغرلبك مجمعا على الخلاف على الغز مع قطلمش ابن عم طغرلبك جد الملوك ببلاد الروم أولاد قليج أرسلان و معه متمم الدولة أبو الفتح عمر و سار معهم قريش بن بدران صاحب الموصل فلقيهم دبيس و البساسيري على سنجار و هزمهم و رجع قريش إلى دبيس جريحا فخلع عليه و سار معهم و ذهب بهم إلى الموصل و خرج دبيس و قريش و البساسيري إلى البرية و معهم جماعة من بني نمير أصحاب حران و الرقة و اتبعهم عساكر السلطان مع هزارسب من أمراء السلجوقية فأوقع بهم و رجع بالغنائم و الأسرى و أرسل دبيس و قريش إلى هزارسب أن يستعطف بهم السلطان ففعل و بعث دبيس ابنه بهاء الدولة مع وافد قريش فأكرمهما السلطان طغرلبك ثم انتقض عليه أخوه نيال بهمذان فسار لحربه و ترك بغداد و خالفه البساسيري إليها و بعث الخليفة القائم عن دبيس ليقيم عنده ببغداد فاعتذر بأن العرب لا تقيم و طلب الخليفة في الخروج إليه حتى يجتمع عليه هو و هزارسب و يدافعوا عن بغداد و جاء البساسيري و دخل بغداد و معه قريش بن بدران فملكها سنة خمسين و أربعمائة و خطب فيها للعلويين و استذم الخليفة القائم بقريش بن بدران فأذمه و بعثه إلى عانة عند مهاوش العقيلي من بني عمه و فعل البساسيري و جموعه في بغداد الأفاعيل و أطاعه دبيس بن علي بن مزيد و صدقة بن منصور بن الحسين صاحب الجزيرة الدبيسية و كان ولي بعد أبيه و قد تقدم ذكر هذا كله ثم رجع السلطان من همذان بعد قتل أخيه و قضى أشغاله فأجفل البساسيري و أصحابه من بغداد و لحق ببلاد دبيس و فارقه صدقة بن منصور إلى هزارسب بواسط و أعاد طغرلبك الخليفة إلى داره و سار السلطان في اتباعه و في مقدمته خمارتكين الطغرائي في ألفي فارس و معه سرايا بن منيع الخفاجي فصبحت المقدمة دبيس بن مزيد و البساسيري فهرب دبيس و وقف البساسيري فقتل و ذلك سنة إحدى و خمسين و أربعمائة و رجع السلطان إلى بغداد ثم انحدر إلى واسط و جاءه هزارسب بن تنكين فأصلح عنده حال دبيس بن مزيد و صدقة بن منصور بن الحسين و حضرا عند السلطان و جاء في ركابه إلى بغداد فخلع عليهما و ردهما إلى عمالتهما (4/360)
وفاة دبيس و أمارة ابنه منصور
و لم يزل دبيس على أعماله إلى أن توفي سنة أربع و سبعين و أربعمائة لسبع و خمسين سنة من إمارته و كان ممدوحا و رثاه الشعراء بعد وفاته بأكثر مما مدحوه في حياته و لما مات ولي في أعماله و على بني أسد ابنه أبو كامل منصور و لقب بهاء الدولة و سار إلى السلطان ملك شاه فأقره على أعماله و عاد في صفر سنة خمس و سبعين و أربعمائة فأحسن السيرة (4/361)
وفاة منصور بن دبيس و ولاية ابنه صدقة
ثم توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مزيد صاحب الحلة و النيل و غيرهما في ربيع الأول سنة تسع و سبعين فأرسل الخليفة نقيب العلويين أبا الغنائم إلى ابنه سيف الدولة صدقة يعزيه و سار صدقة إلى السلطان ملك شاه فخلع عليه و ولاه مكان أبيه (4/361)
انتقاض صدقة بن منصور بن دبيس على السلطان بركيارق
و كان السلطان بركيارق قد خرج عليه أخوه محمود بن ملك شاه ينازعه في الملك و كانت بينهما عدة وقعات و لم يزل صدقة بن منصور على طاعته و يحضر حروبه تارة بنفسه و تارة يبعث إليه العساكر جمع ابنه إلى سنة أربع و تسعين و أربعمائة فبعث إليه وزير السلطان بركيارق و هو الأغر أبو المحاسن الدهستاني يطلبه فيما تخلف عنده من المال و هو ألف ألف دينار و يتهدده عليه فقطع صدقة الخطبة لبركيارق و عاد إلى بغداد في هذه السنة منهزما أمام أخويه محمد و سنجر فبعث الأمر أياز من أكبر أصحابه و طرد نائب السلطان عن الكوفة و استضافها إليه (4/362)
استيلاء صدقة على واسط وهيت
كان السلطان محمد في سنة ست و تسعين و أربعمائة مستوليا على بغداد و الخطبة بها و شحنته فيها أبو الغازي بن أرتق و صدقة بن دبيس على طاعته و مظاهرته ثم ظهر في هذه السنة بركيارق على محمد و حاصره بأصفهان فامتنع عليه فأفرج عنه إلى همذان و بعث كمستكين القصيري شحنة إلى بغداد فاستدعى أبو الغازي أخاه سقمان بن أرتق من حصن كيفا يستعين به في مدافعة كمستكين و جاء كمستكين إلى بغداد و خطب بها لبركيارق و خرج أبو الغازي و سقمان إلى دجيل فأقاما به بجرى و جاء صدقة بن مزيد إلى صرصر بعد أن جاءه رسول الخليفة في طاعة أبي الغازي و سقمان فعادا و عاثت عساكرهما في نواحي دجيل و تقدما إلى بغداد و بعث معهما صدقة ابنه دبيسا فخيموا بالرملة و قاتلهم العامة و كثر الهرج و بعث الخليفة إلى صدقة يعظم عليه الأمر فأشار بإخراج كمستكين القيصري من بغداد لتصلح الأحوال فأخرج إلى النهروان في ربيع سنة ست و تسعين و أربعمائة و عاد صدقة إلى الحلة و أعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد و لحق القيصري بواسط و خطب بها لمحمد فسار إليه صدقة و أخرجه و جاء أبو الغازي و اتبعوا القيصري و استأمن إلى صدقة فأكرمه و أعيدت خطبة السلطان محمد بواسط و بعده لصدقة و أبي الغازي و ولى كل واحد منهما ولده على واسط و ذهب أبو الغازي إلى بغداد و عاد صدقة إلى الحلة و أرسل ابنه منصورا مع أبا الغازي إلى المستنصر ليستظهر رضاه فرضي عنه ثم استولى صدقة على هيت و كان بركيارق أقطعها لبهاء الدولة توارن بن تهيبة و كان مقيما في جماعة من بني عقيل عند صدقة ثم تشاجرا و مال بنو عقيل إلى صدقة و حج عقب ذلك و رجع فوكل به صدقة و بعث ابنه دبيس ليتسلم هيت فمنعه نائب توران بها و هو محمد بن رافع بن رفاع بن منيعة بن مالك بن المقلد فما أخذ صدقة واسطا سار إلى هيت و بها منصور بن كثير نائبا عن عمه توران فلقي صدقة و حاربه ثم انتقض جماعة من أهل البلد و فتحوا لصدقة فملكها و خلع على منصور و أصحابه و عاد إلى الحلة و استخلف على هيت ابن عمه ثابت بن كامل ثم اصطلح السلطان محمد و بركيارق و سار صدقة في شوال إلى واسط فملكها و أخرج الترك الذين كانوا بها و أحضر مهذب الدولة بن أبي الخير فضمنه البلد لثلاثة أشهر بقيت من السنة بخمسين ألف دينار و عاد إلى الحلة (4/362)
استيلاء صدقة بن مزيد على البصرة
كانت البصرة منذ سنين في ولاية إسمعيل بن أرسلان جق من السلجوقية أقام فيها عشر سنين و عظم تمكنه للخلافة الواقع بين بركيارق و محمد و كان يظهر طاعة صدقة و موافقته فلما صفا الأمر لمحمد رغب إليه صدقة في إبقائه فأبقاه و بعث السلطان محمد عاملا على خاصة البصرة فمنعه إسمعيل فأمر السلطان صدقة بأخذ البصرة منه و أظهر منكبرس الخلاف فشغلوا عن البصرة و بعث إليه صدقة بتسليم الشرطة إلى مهذب الدولة بن أبي الخير فمنع من ذلك فسار صدقة إليه و حصن إسمعيل القلاع التي استجدها حوالي البصرة و اعتقل وجوه البلد من العباسيين و العلويين و القاضي و المدرس و الأعيان و حاصرها صدقة و خرج إسمعيل لقتاله و خالفه طائفة من أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد فاقتحموها و انهزم إسمعيل إلى قلعة الجزيرة فامتنع بها و نهبت البلد و انحدر المهذب بن أبي الخير في السفن فأخذ القلعة التي كانت لإسمعيل بمطارا ثم استأمن إسمعيل إلى صدقة فأمنه و جاه صدقة فأمن أهل البصرة و رتب عندهم شحنة و عاد إلى الحلة منتصف تسع و تسعين و أربعمائة لستة عشر يوما من مقامه بالبصرة و سار إسمعيل نحو فارس فطرقه المرض في رام هرمز و مات و كان صدقة قد استعمل على البصرة مملوك جده دبيس اسمه اليونشاش و رتب معه مائة و عشرين فارسا فاجتمعت ربيعة و المتقن و قصدوا البصرة فدخلوها بالسيف و أسروا اليونشاش و أقاموا بها شهرا ينهبون و يخربون وبعث صدقة عسكرا فوصل بعد خروجهم من البلد فانتزع السلطان البصرة من صدقة و بعث إليها شحنة و عميدا و استقام أمرها (4/363)
استيلاء صدقة على تكريت
كانت تكريت لبني معن من بني عقيل و كانت إلى آخر سبع و عشرين و أربعمائة بيد رافع بن الحسين بن معن فلما مات وليها ابن أخيه أبو منعة بن ثعلب بن حماد و وجد بها خمسمائة ألف دينار و توفي سنة خمس و ثلاثين و وليها ابنه أبو غشام إلى سنة أربع و أربعين فوثب عليه أخوه عيسى فحبسه و ملك القلعة و الأموال فما اجتاز به طغرلبك سنة ثمان و أربعين صالحه على بعض المال فرحل عنه و مات عيسى إثر ذلك و خافت زوجته من عود أخيه أبي غشام إلى الملك فقتله في محبسه و ولت على القلعة أبا الغنائم بن المجلبان فسلمها إلى أصحاب طغرلبك و سارت هي إلى الموصل فقتلها ابن أبي غشام بأبيه و أخذ مسلم بن قريش مالها و ولى طغرلبك على قلعة تكريت أبا العباس الرازي فمات لستة أشهر فولي عليها المهرباط و هو أبو جعفر محمد بن غشام من بلد الثغر فأقام بها إحدى و عشرين سنة و مات فوليها ابنه سنتين و أخذتها من تركمان خاتون و ولت عليها كوهوايين الشحنة ثم مات ملك شاه فملكها قسيم الدولة آقسنقر صاحب حلب فلما قتل صارت للأمير كمستكين الجاندار فولى عليها رجلا يعرف بأبي نصر المصارع ثم عادت إلى كوهوايين إقطاعا ثم أخذها منه محمد الملك الباسلاني فولى عليها لمقا بن هزارشب الديلمي و أقام بها اثنتي عشرة سنة فظلم أهلها و أساء السيرة فلما أجاز به سقمان بن ارتق سنة ست و تسعين و أربعمائة فنهبها و كان كيقباد ينهبها ليلا و سقمان ينهبها نهارا فلما استقر السلطان محمد بعد أخيه بركيارق أقطعها للأمير آقسنقر البرسقي شحنة بغداد فسار إليها و حصرها مدة تزيد على سبعة أشهر حتى ضاق على كيقباد الأمر فراسل صدقة بن مزيد ليسلمها إليه فسار إليها في صفر من هذه السنة و تسلمها منه و انحدر البرسقي و لم يملكها و مات كيقباد بعد نزوله من القلعة بثمانية أيام و كان عمره ستين سنة و استناب صدقة و رام بن أبي قريش بن ورام و كان كيقباد ينسب إلى البطانية (4/364)
الخلف بين صدقة و صاحب البطيحة
قد كنا قدمنا أن السلطان محمدا أقطع صدقة بن مزيد مدينة واسط فضمنها صدقة لمهذب الدولة بن أبي الخير و ولى في أعمالها أولاده فبذروا الأموال و طالبه صدقة عند انقضاء السنة بالمال و حبسه و سعى في خلاصه بدران بن صدقة و كان صهرا لمهذب الدولة و أعاده إلى البطيحة و ضمن حماد و المختم محمد والد مهذب الدولة كانا أخوين و هما ابنا أبي الخير و كانت لهما رياسة قومهما و هلك المصطنع و قام ابنه أبو السيد المظفر والد حماد مقامه و هلك المختم محمد و قام ابنه مهذب الدولة مقامه و نازعا إبراهيم صاحب البطيحة حتى غلبه مهذب الدولة و قبض عليه و سلمه إلى كوهوايين فحمله إلى أصفهان فهلك في الطريق و عظم أمر مهذب الدولة و صير كوهوايين أمير البطيحة و صارت جماعته لحكمه و كان حماد شابا و كان مهذب الدولة يداريه بجهده و هو يضمر نقضه فلما مات كوهوايين انتقض حماد عن مهذب الدولة و أظهر ما في نفسه و اجتهد مهذب الدولة في استصلاحه فلم يقدر و جمع ابنه القيسر و قصد حمادا فهرب إلى صدقة بالحلة و بعث معه مددا من العسكر و حشد مهذب الدولة و سار في العساكر برا و بحرا و أكمن حماد لهم و أصحابه و استطردوا بين أيديهم ثم خرجت عليهم الكمائن فانهزموا و أرسل حماد يستمد صدقة فبعث إليه مقدم جيشه و جمعوا السفن و كان مهذب الدولة جوادا فبعث إلى مقدم الجيش بالإنعامات و الصلات فمال إليه و أشار عليه أن يبعث ابن النفيس إلى صدقة فرضي عنه و أصلح بينه و بين حماد ابن عمه و ذلك آخر المائة الخامسة (4/365)
مقتل صدقة و ولاية ابنه دبيس
كان صدقة بن منصور بن مزيد شيعة للسلطان محمد بن ملك شاه على أخيه بركيارق و من أعظم أنصاره و لما هلك بركيارق و استبد السلطان محمد بالملك رعى و سائله في ذلك و أقطعه واسطا و أذن له في ملك البصرة و أنزله منزل المصافاة حتى كان يجبر عليه و سخط مرة على سرخاب بن كيخس صاحب سارة فلجأ إليه مستجيرا به فأجاره و طلبه السلطان فمنعه و كان العميد أبو جعفر يستبدله السلطان لكثرة السعاية و يغريه به و ينكر دالته و تسبطه فتعين السلطان و سار إلى العراق و أرسل إلى صدقة فاستشار صدقة أصحابه فأشار ابنه دبيس بملاطفته و استعطافه بالهدايا و أشار سعيد بن حميد صاحب جيشه بالمحاربة فجنح إلى رأيه و استطال في الخطاب و جمع الجند و أفاض فيهم العطاء و اعترضهم فكانوا عشرين ألف فارس و ثلاثين ألف راجل و بعث إليه المستظهر مع علي بن طراد الزيني نقيب النقباء يعظه في المخالفة و يحضه على لقاء السلطان فاعتذر بالخوف منه ثم بعث إليه السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي ليؤمنه و يستنفره لجهاد الفرنج في جملته فامتنع و وصل السلطان إلى بغداد في ربيع من سنة إحدى و خمسمائة و معه وزيره نظام الملك أحمد بن نظام الملك فقدم البرسقي شحنة بغداد في جماعة من الأمراء فزلوا بصرصر مسلحة لقلة عسكر السلطان و إنه إنما جاء في ألفي فارس للإصلاح و الاستئلاف فلما تبين له لجاج صدقة أرسل إلى الأمراء بأصفهان بأن يستجيشوا و يقدموا فكتب صدقة إلى الخليفة بالمقاربة و موافقة السلطان ثم رجع صدقة عن رأيه و قال : إذا رحل السلطان عن بغداد مددته بالأموال و الرجال لجهاده و أما الآن عساكره متصلة فلا وفاق عندي و قد أرسل إلى جاولي سكاو و صاحب الموصل و أيلغازي بن أرتق صاحب ماردين بالانتقاض على السلطان و أيس السلطان من استقامته و وصل إليه ببغداد قراوش شرف الدولة و كروباوى بن خراسان التركماني و أبو عمران فضل بن ربيعة بن خادم بن الجرج الطائي و كان آباؤه أصحاب البلقاء و بيت المقدس و منهم حسان بن مفرج و طرده كفرتكين أتابك دمشق لما كان عليه من الأجلاب تارة مع الفرنج و تارة مع أهل مصر فلجأ إلى صدقة و قبله و أكرمه و أجزل له العطاء سبعة آلاف دينار فلما كانت هذه الحادثة رغب عن صدقة و سار في طلائعه فهرب إلى السلطان فخلع عليه و على أصحابه و سوغه دار صدقة عن الهروب و أذن له فعبر من الأنبار و كان آخر العهد به ثم أنفذ السلطان في جمادى الأول إلى واسط الأمير محمد بن بوقا التركماني فملكها و أخرج منها أصحاب صدقة و أنفذ خيله إلى بلد قوسان من أعمال صدقة فنهبه و أقام أياما حتى بعث صدقة ابن عمه ثابت بن سلطان في عسكر فخرج منها الأمير محمد و ملكها ثابت و أقاموا على دجلة و خرج ثابت لقتالهم فهزموه و اقتحموا البلد و منعهم الأمير محمد من النهب و نادى بالأمان و أمر السلطان الأمير محمدا بنهب بلاد صدقة فسار إليها و أقطع مدينة واسط لقسيم الدولة البرسقي ثم سار السلطان من بغداد آخر رجب و لقيه صدقة و اشتد القتال و تخاذلت عنه عبادة و خفاجة و رفع صوته بالابتهال بالناشرة بالعرب و رغب الأكراد بالمواعد ثم غشيه الترك فحمل عليهم و هو ينادي : أنا ملك العرب أنا صدقة فأصابه سهم أثبته و تعلق به غلام تركي يسمى برغش فجذبه إلى الأرض فقال : يا برغش : إرفق فقتله و حمل رأسه إلى السلطان فأنفذه إلى بغداد و أمر بدفن شلوه و قتل من أصحابه ثلاثة آلاف أو يزيدون و من بني شيبان نحو مائة و أسر ابنه دبيس و نجا ابنه بدران إلى الحلة و منها إلى البطيحة عند صهره مهذب الدولة و أسر سرجان بن كيخسر و المستجير بصدقة على السلطان و سعيد بن حميد العمدي صاحب الجيش و كان مقتل صدقة لإحدى و عشرين سنة من إمارته و هو الذي بنى الحلة بالعراق و كان قد عظم شأنه و علا قدره بين الملوك و كان جوادا حليما صدوقا عادلا في رعيته و كان يقرأ و لا يكتب و كانت له خزانة كتب منسوبة الخط ألوف مجلدات و رجع السلطان إلى بغداد من دون الحلة و أرسل أمانا لزوج صدقة فجاءت إلى بغداد و أمر السلطان الأمراء بتلقيها و أطلق لها ولدها دبيسا و اعتذر لها من قتل صدقة و استحلف دبيسا على الطاعة و أن لا يحدث حدثا و أقام في ظله و أقطعه السلطان إقطاعا كثيرا و لم يزل دبيس مقيما عند السلطان محمد إلى أن توفي و ملك ابنه محمود سنة إحدى عشرة و خمسمائة فرغب دبيس من السلطان محمود أن يسرحه إلى بلده فسرحه و عاد إليها فملكها و اجتمع عليه خلق كثير من العرب و الأكراد و استقام أمره (4/366)
خبر دبيس مع البرسقي و مع الملك مسعود
لما توفي الخليفة المستظهر سنة اثنتي عشرة و خمسمائة و بويع ابنه المسترشد خاف ابنه الآخر من غائلة أخيه و انحدر في البحر إلى المدائن و سار منها إلى الحلة فأبى أن يكرهه فتلطف علي بن طراد لأخي الخليفة فأجاب و تكفل دبيس بما يطلبه و بينما هو في خلال ذلك برز البرسقي من بغداد مجلبا على دبيس الجموع و سار أخو الخليفة إلى واسط فملكها في صفر سنة ثلاث عشرة و خمسمائة و قوي أمره كثرت جموعه فبعث الخليفة إلى دبيس في شأنه و أنه خرج عن جواره فلقي أمره بالطاعة و بعث إليه و هو بواسط عسكرا من قبله فتلقاه و قبض عليه و بعثه إلى أخيه المسترشد و كان مسعود أخو السلطان محمد بالموصل و معه أتابكه حيوس بك فاعتزما على قصد العراق لغيبة السلطان محمود عنه فسار لذلك و معه وزيره فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس و قسم الدولة زنكي بن أقسنقر أبو المعالي أبو الملك العادل و كروباوي بن خراسان التركماني صاحب البواريح و أبو الهيجاء صاحب إربل و صاحب سنجار فلما قاربوا بغداد خاف البرسقي شأنهم و بعث إليه الملك مسعود وحيوس بك أنهم إنما جاؤا نجدة على دبيس و كان البرسقي إنما ارتاب من حيوس بك فصالحهم و دخل مسعود بغداد و نزل دار المملكة و جاء منكبرس في العساكر فسار البرسقي عن بغداد لمحاربته و دفاعه فمال إلى النعمانية و عبر دجلة و اجتمع مع دبيس بن صدقة و كان دبيس قد صانع مسعودا و صاحبه بالهدايا و الألطاف مدافعة عن نفسه فلما لقيه منكبرس اعتضد به و سار الملك مسعود و البرسقي و حيوس بك إلى المدائن للقائهما ثم خاموا عن لقائهما لكثرة جموعهما و نكبوا عن المدائن و عبروا نهر صرصر و أكثروا النهب في تلك النواحي من الطائفتين و بعث إليهم المسترشد بالموعظة و يأمرهم بالموادعة و المصالحة فأجابو إلى ذلك ثم بلغهم أن دبيسا و منكبرس قد بعثا العساكر مع منصور أخي دبيس و حسين بن أوزبك ربيب منكبرس ليخالفوهم إلى بغداد فخلوها من الحامية فأغذ البرسقي السير إلى بغداد و ترك ابنه عز الدين مسعود على العسكر و صحبه عماد الدين زنكي بن أقسنقر و انتهى إلى ديالى و منع العسكر من العبور ثم جاءه الخبر ليومين بصلح الفريقين كما أشار الخليفة ففتر نشاطه و عبر إلى الجانب الغربي من بغداد و جاء في أثره منصور أخو دبيس و حسين ربيب منكبرس فنزلا في الجانب الشرقي من بغداد و أغار البرسقي على نعم الملك مسعود فأخذها و عاد فخيم بجانب آخر من بغداد و خيم مسعود و حيوس بك من جانب آخر و دبيس و منكبرس من جانب و معهما عز الدولة بن البرسقي منفردا عن أبيه و كان حيوس بك قد بعث إلى السلطان محمود بطلب الزيادة له و للملك مسعود فجاء كتاب مع رسوله يذكر أن السلطان كان أقطعهم أذربيجان حتى إذا بلغه مسيرهم إلى بغداد تثاقل عن ذلك و قد جهز العساكر إلى الموصل و وقع الكتاب بيد منكبرس فبعث إلى حيوس بك و ضمن له إصلاح الحال و كان يؤثر مصلحته إذ كان متزوجا بأمه فتم الصلح و افترق عن البرسقي أصحابه و بطل ما كان يحدث به نفسه من الاستبداد بالعراق و صار مع الملك مسعود و استقر منكبرس شحنة ببغداد و رجع دبيس إلى الحلة (4/369)
فتنة دبيس مع السلطان محمود و إجلاؤه عن بغداد ثم معاودته الطاعة
كان دبيس بن صدقة كثيرا ما يكاتب حيوس بك أتابك الملك مسعود و يعريهم بطلب السلطنة و يعدهم بالمساعدة ليحصل له بذلك علو اليد كما كان لأبيه مع بركيارق و محمد ابني ملك شاه و كان قسيم الدولة البرسقي شحنة بغداد قد سار للملك مسعود و أقطعه مراغة مع الرحبة و كانت بينه و بين دبيس عداوة مستحكمة فأغراهم دبيس بالقبض عليه ففارقهم البرسقي إلى السلطان محمود فأكرمه ثم اتصل الأستاذ أبو إسمعيل الحسين بن علي الأصفهاني الطغرائي بالملك مسعود و كان ولده أبو المؤيد محمد يكاتب الطغرائي عن الملك مسعود فلما و صل أبوه عزل أبا علي بن عمار صاحب طرابلس و استوزره و حسن لهم ما أشار به دبيس فعزموا عليه و نمي الخبر إلى السلطان محمود فكاتبهم بالوعيد فأظهروا أمرهم و خطبوا للملك مسعود بالسلطنة و ضربوا له النوب الخمس و بلغهم أن عساكر محمود متفرقة فأغذوا السير لمحاربته و التقوا عند عقبة استراباد في ربيع سنة أربع عشرة و أبلى البرسقي و كان في مقدمته ثم انهزم مسعود و أمر كثير من أصحابه و جيء بالوزير أبي إسمعيل الطغرائي فأمر بقتله لسنة من ولايته و كان حسن الكتابة و الشعر و له تصانيف في صنعة الكيمياء و سار مسعود يطلب الموصل بعد أن استأمن البرسقي و أدركه فرده إلى أخيه و عفا عنه و عطف عليه و لحق حيوس بك بالموصل ثم بلغه فعل السلطان محمود و معه ألف سفينة لعبوره فبادر دبيس لطلب الأمان بعد أن أرسل حرمه إلى البطيحة و سار بأمواله عن الحلة و أمر بنهبها و لحق بأبا الغازي بن أرتق بماردين و وصل السلطان إلى الحلة فوجدها خاوية على عروشها فرجع عنها و أرسل دبيس أخاه منصورا من قلعة صفد في عسكر إلى العراق فمر بالحلة و الكوفة و انحدر إلى البصرة و بعث إلى برتقش الزكوي في صلاح حالهما مع السلطان محمود فقبض على منصور أخي دبيس و ولده و حبسهما ببعض القلاع حذاء الكرخ ثم أذن دبيس لجماعة من أصحابه بالمسير إلى أقطاعهم بواسط فمنعهم أتراك واسط فبعث إليهم عسكرا مع مهلهل بن أبي العسكر و أمر مظفر بن أبي الخير فساعده و استمد أهل واسط البرسقي فأمدهم بعسكر و سار مهلهل للقائهم قبل مجيء المظفر فهزم و أخذ أسيرا في جماعة من أصحابه و أصعد المظفر من البطيحة ينهب و يفسد حتى قارب واسط و سمع بالهزيمة فأسرع منحدرا و وقع على كتاب بخط دبيس إلى مهلهل يأمره بالقبض على مظفر بن أبي الخير و مطالبته بالأموال فبعثوا به إلى المظفر و سار معهم و بلغ دبيسا أن السلطان كحل أخاه فلبس السواد و نهب البلاد و أخذ للمسترشد بنهر الملك و أجفل الناس إلى بغداد و سار عسكر واسط إلى النعمانية فأوقعوا بمن هنالك من عساكر دبيس و أجلوهم عنها و كان دبيس قد أسر في واقعة البرسقي عفيفا خادم الخليفة فأطلقه و حمله إلى المسترشد عقابا و وعيدا على كحل أخيه فغضب الخليفة و تقدم إلى البرسقي بالخروج لحرب دبيس و خرج بنفسه في رمضان سنة عشرة و خمسمائة و أتاه سليمان ابن مهارش من الحديثة في جماعة من بني عقيل و قريش بن مسلم صاحب الموصل في كافة بني عقيل و أمر المسترشد باستنفار الجند كافة و فرق فيهم الأموال و السلاح و جاء دبيسا ما لم يكن يحتسبه فرجع إلى الاستعطاف و برز الخليفة آخر ذي الحجة و عبر دجلة و هو في أكمل زيه و معه وزيره نظام الدين أحمد بن نظام الملك و نقيب الطالبيين و نقيب النقباء علي بن طراد و شيخ الشيوخ صدر الدين إسمعيل و بلغ البرسقي مسير المسترشد فعاد إلى خدمته و نزل معه بالحديثة ثم سار إلى الموصل على سبيل التعبية و البرسقي في المقدمة و عبى دبيس أصحابه صفا واحدا و جعل الرجالة بين يدي الخيالة و قد كان و عد أصحابه بنهب بغداد و سبي حريمها فالتقى الفريقان فانهزم عسكر دبيس و أسر جماعة من أصحابه فقتلوا صبرا و سبيت حرمه و رجع المسترشد إلى بغداد يوم عاشوراء من سنة سبع عشرة و خمسمائة و نجا دبيس و عبر الفرات و قصد غزنة من عرب نجد مستنصرا بهم فأبو ا عليه فسار إلى المنتقى و حالفهم على أخذ البصرة فدخلوا و نهبوا أهلها و قتل مقدم عسكرها و بعث المسترشد إلى البرسقي بالعتاب على إهمال أمر البصرة فتجهز البرسقي للانحدار إليها ففارقها دبيس و لحق بقلعة جعبر و صار مع الفرنج و أطمعهم في حلب و سار معهم لحصارها سنة ثمان عشرة و خمسمائة فامتنعت عليهم فعادوا عنها و لحق هو بالملك طغرلبك ابن السلطان بن محمد فأغراه بالمسير إلى العراق كما نذكر (4/370)
مسير دبيس إلى الملك طغرل
لما سار دبيس من الشام إلى الملك طغرل بأذربيجان تلقاه بالمبرة و التكرمة و أنظمه في خواصه و وزرائه و أغراه دبيس بالعراق و ضمن له ملكه فسار معه لذلك و انتهوا إلى دقوقا في عسكر كثيرة و كتب مجاهد الدين مهروز صاحب تكريت إلى المسترشد بالخبر فتجهز لمدافعتهم و جمع العساكر فبلغوا اثني عشر ألف فارس و برز من بغداد في صفر سنة تسع عشرة و خمسمائة و في مقدمته برتقش الذكوي و نزل الخالص و انتهى إلى طغرل خروج المسترشد فعدل إلى طريق خراسان و نزل جلولاء و تفرق أصحابه للنهب و برز إليه الوزير جلال الدين بن صدقة في عسكر كبير فنزل الدسكرة و لحقه المسترشد و كان معه و رحل طغرل و دبيس إلى الهارونية ثم سارا إلى تامرا ليقطعا جسر النهروان فحفظ دبيس المعابر و تقدم طغرل إلى بغداد و تملكها و نهبها ثم رحل دبيس من تامرا و أقام طغرل لحمى أصابته و حالت بينهما الأمطار و السيول ثم أخذ دبيس ثقلا جاء للخليفة فيه ملبوس و طعام كثير و كان لحقه الجوع و التعب و البرد فأخذ من ذلك الملبوس و لبسه و أكل من الطعام كثيرا و استقبل الشمس فأخذه النوم و رقد و أما الخليفة لما بلغه الخبر بأخذ الثقل رجع إلى بغداد ففي حال سيره عثر على دبيس و هو نائم فوقف و أيقظه فحل عينيه و رأى الخليفة فبادر بتقبيل الأرض على العادة و سأل العفو فرق له الخليفة و ثناه الوزير ابن صدقة عن ذلك و وقف دبيس أزاء عسكر برتقش يحادثهم ثم مدوا الجسر آخر النهار للعبور فتسلل دبيس عنهم و لحق بالملك طغرل و سار معه إلى عمه الملك سنجر و عاثوا في أعمال همذان و اتبعهم السلطان محمود فلم يظفر بهم (4/372)
مسير دبيس إلى السلطان سنجر
لما أيس طغرل من ملك العراق عندما سار إليه مع دبيس عاد منه و سار هو و دبيس إلى السلطان سنجر و هو يومئذ صاحب خراسان و المتقدم على بني ملك شاه فشكى إليه طغرل و دبيس من المسترشد و برتقش الشحنة و وعدهم النصفة منهم ثم داخله دبيس و أطمعه في ملك العراق و خيل له أن المسترشد و السلطان محمود متفقان على مباعدته و لم يزل يفتل له في الذروة و الغارب حتى حرك حفيظته لذلك و سار إلى العراق سنة اثنتين و عشرين و خمسمائة فوصل إلى الري و استدعى السلطان محمودا من همذان يختبر ما خيل له دبيس فجاء محمود مبادرا و أكذب دبيسا فيما خيل و أمر السلطان سنجر العساكر بتلقي السلطان محمود و أجلسه معه على التخت و أقام عنده إلى آخر سنة اثنتين و عشرين ثم عاد إلى خراسان و أوصاه بإعادة دبيس إلى بلده فرجع السلطان محمود إلى همذان و دبيس معه ثم سار إلى بغداد في محرم سنة ثلاث و عشرين و خمسمائة و أنزل دبيس بداره و استرضى له الخليفة فرضي عنه و امتنع من ولايته و بذل دبيس مائة ألف دينار لذلك فلم يقبله و عاد السلطان محمود إلى همذان منتصف السنة (4/373)
فتنة دبيس مع محمود و أسره
كانت زوجة السلطان محمود و هي ابنة عمه سنجر تعين بأمر دبيس فماتت عند رحيل السلطان إلى همذان فانحل أمره ثم مرض السلطان فأخذ دبيس ابنه الصغير و قصد العراق فجمع المسترشد لمدافعته و كان بهروز شحنة بغداد بالحلة فهرب عنها و ملكها دبيس في رمضان سنة ثلاث و عشرين وخمسمائة و بلغ الخبر إلى السلطان محمود فأحضر الأمير ابن قزل و الأحمديلي و كانا ضمنا دبيس فطالبهما بالضمان فسار الأحمديلي في أثره و جاء السلطان إلى العراق فبعث إليه دبيس بهدايا عظيمة كان فيها مائتا ألف دينار و ثلاثمائة فرس بسروج مثقلة بالذهب ثم جاء إلى البصرة و نهبها و أخذ ما في بيوت الأموال و بعث السلطان في أثره العساكر فدخل البرية و جاءه عند مفارقته البصرة قاصدا من صرصر يستدعيه و كان صاحبها خصيا فتوفي في هذه السنة و خلف سرية له فاستولت على القلعة و أرادت أن تتم أمرها برجل له قوة و نجدة فوصف لها دبيس و حاله في العراق و كثرة عشيرته فكتبت تستدعيه لتتزوج به و تملكه القلعة بما فها فلحقه الكتاب بعد مفارقته البصرة و قفل من العراق إلى الشام و معه الأدلاء و مر بدمشق فحبسه واليها عنده و بعث فيه عماد الدين زنكي و كان عدوه و كان عنده ابن تاج الملوك مأسورا في واقعة كانت بينهما فطلب أن يبعث إليه دبيس و يفادي به ابنه و الأمراء الذين معه ففعل ذلك تاج الملوك و حصل دبيس في يد زنكي و قد أيقن بالهلاك فأطلقه زنكي و حمل له الأموال و الدواب و السلاح و خزائن الأمتعة كما يفعل مع أكابر الملوك و بلغ المسترشد خبره فبعث سديد الدين بن الأنبار يطلبه من تاج الملوك فسار لذلك من جزيرة ابن عمر و بلغه في طريقه أنه بعثه إلى زنكي و أنه فاته القصد منه (4/374)
مسير دبيس إلى بغداد مع زنكي و انهزامهما
لما توفي السلطان محمود سنة خمس و عشرين و خمسمائة و ولي بعده داود و نازعه عمومته مسعود و سلجوق ثم استقرت السلطة لمسعود و كان أخوهما طغرل عند عمه سنجر بخراسان و كان كبير بيت أهل السلجوقية و له الحكم على ملوكهم فنكر على السلطان محمود لقتاله سلجوق و طغرل و سار به إلى العراق و انتهى إلى همذان و بعث إلى عماد الدين زنكي فولاه شحنة بغداد و إلى دبيس بن صدقة و هو عند زنكي فأقطعه الحلة و تجهز السلطان محمود لقتال سنجر و طغرل و استدعى الخليفة للحضور معه فخرج من بغداد و عاجلهم و رجع المسترشد إلى بغداد و قد سمع بوصول زنكي و دبيس إليها و لقيهم بالعباسية فهزمهم و قتل من عسكرهم و دخل بغداد و سار دبيس إلى بلاد الحلة و كانت بيد أقيال خادم المسترشد فبعث إليها بالمدد فهزموا دبيس و نجا من المعركة ثم جمع جمعا و قصدوا واسط و انضم إليه عسكرها و ابن أبي الخير صاحب البطيحة و ملكها إلى سنة سبع و عشرين و خمسمائة فبعث أقيال الخادم و برتقش الشحنة العساكر إلى دبيس فلقيهم في عسكر واسط و انهزم و سار إلى السلطان مسعود فأقام عنده (4/375)
مقتل دبيس و ولاية ابنه صدقة
لم يزل دبيس مقيما عند السلطان مسعود إلى أن حدثت الفتنة بينه و بين المسترشد و مات أخوه طغرل كما هو مذكور في أخبارهم و سار مسعود إلى همذان بعد موت أخيه طغرل فملكها و فارقه جماعة من أعيان أمرائه و معهم دبيس بن صدقة مستوحشين منه و استأمنوا للخليفة فحذر من دبيس و لم يقبلهم فمضوا إلى خوزستان و اتفقوا مع برسق بن برسق ثم تدارك الخليفة رأيه و بعث إلى الأمراء الذين مع دبيس بالأمان و كانوا لما ردهم الخليفة بسبب دبيس أجمعوا القبض عليه و خدمة الخليفة به و شعر بهم و هرب إلى السلطان مسعود و برز الخليفة من بغداد في رجب من سنة تسع و عشرين و خمسمائة لقتال مسعود و كتب إليه أكثر أهل الأعمال بالطاعة و أرسل إليه داود ابن السلطان محمود من أذربيجان بأن يقصد المسترشد الدينور ليحضر داود حربه فأبى و سار على التعبية حتى بلغ و اعرج فالتقوا هنالك و انهزمت عساكر المسترشد و أخذ أسيرا و معه وزيره شرف الدين علي بن طراد و قاضي القضاة و ابن الأنباري و جماعة من أعيان الدولة و غنم ما في عسكره و عاد السلطان إلى بغداد و بعث الأمير بكاية شحنة إلى بغداد و كثر العويل و البكاء و الضجيج ببغداد على الخليفة و جعل الخليفة في خيمة و وكل به و راسله السلطان مسعود في الصلح و شرط عليه مالا يؤديه و لا يجمع العساكر و لا يخرج من داره ما بقي و انعقد ذلك بينهما و بينما هما في ذلك و صل رسول السلطان سنجر فركب السلطان مسعود للقائه و افترق المتوكلون بالمسترشد فدخل عليه خيمته آخر ذي القعدة من سنة تسع و عشرين و خمسمائة جماعة الباطنية و قتلوه و قتلوا معه جماعة من أصحابه و لما قتل المسترشد اتهم السلطان مسعود أن دبيس بن صدقة دس أولئك النفر عليه فأمر بقتله و قصده غلام فوقف على رأسه عند باب خيمته و هو ينكث الأرض بأصبعه فأطار رأسه و هو لا يشعر و بلغ الخبر إلى ابنه صدقة و هو بالحلة فاجتمعت إليه عساكر أبيه و مماليكه و استأمن إليه الأمير قطلغ تكين و أمر السلطان مسعود الشحنة بك آيه بمعاجلته و أخذ الحلة من يده إلى أن قدم السلطان بغداد سنة إحدى و ثلاثين و خمسمائة فقصده صدقة و أصلح حاله معه و لزم بابه (4/375)
مقتل صدقة و ولاية ابنه محمد
و لما قتل المسترشد ولي ابنه الراشد بإشارة السلطان مسعود ثم حدثت الفتنة بينه و بين السلطان مسعود و أغراه بها عماد الدين زنكي صاحب الموصل و معه الراشد و بايع السلطان مسعود للمقتفي سنة ثلاثين و خمسمائة و خلع الراشد ففارق الموصل و سار الأمراء الذين كانوا مع داود إلى السلطان مسعود و رضي عنهم و رجع إلى همذان و أذن للعساكر في العود إلى بلادهم و تمسك بصدقة بن دبيس و زوجه ابنته و سار الراشد من الموصل إلى أذربيجان قاصدا الملك و اجتمع إليه صاحب فارس و خوزستان و جماعة الأمراء فسار إليهم السلطان مسعود و هزمهم و أخذه صاحب فارس الأمير منكبرس فقتله صبرا و تسلل صاحب خوزستان و عبد الرحمن طغايرك صاحب خلخال إلى السلطان مسعود و هو في خف من الناس فحملوا عليه و هزموه و قبضوا على جماعة من الأمراء الذين معه فقتلهم منكبرس فيهم صدقة بن دبيس و عنبر بن أبي العسكر و ذهب داود إلى همذان فملكها و استقال السلطان مسعود من عثرته و ولى على الحلة محمد بن دبيس و جعل معه مهلهل بن أبي العسكر أحا نمير بربره و استقام أمره بالحلة و كان من شأن الراشد و السلجوقية ما نذكره في أخبارهم (4/376)
تغلب علي بن دبيس على الحلة و ملكه إياها من أخيه محمد
ثم خرج على السلطان مسعود سنة ست و أربعين و خمسمائة بوزابة صاحب فارس و خوزستان و بايع للسلطان محمد ابن السلطان محمود و سار معهم عباس صاحب الري و ملكوا كثيرا من البلاد فسار السلطان مسعود إليهم من بغداد و استخلف بها الأمير مهلهل ابن أبي العسكر و نظر الخادم و أشار مهلهل على السلطان مسعود عند رحيله من بغداد أن يحبس علي بن دبيس بقلعة تكريت و نمي إليه الخبر فهرب في نفر قليل و مضى إلى بني أسد فجمعهم فسار إلى الحلة فبرز إليه محمد أخوه فهزمه علي و ملك الحلة و استهان السلطان أمره أولا فاستفحل و ضم إليه جمعا من غلمانه و غلمان أبيه و أهل بيته و عساكرهم وكثر جمعهم فسار إليه مهلهل فيمن معه في بغداد من العسكر و ضربوا عليه مصافا و كسرهم و عادوا منهزمين إلى بغداد و كان أهلها يتعصبون لعلي بن دبيس فكانوا يعيطون إذا ركب مهلهل أو بعض أصحابه يا علي كله فكثر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل من الركوب و يد علي فوق كل يد في أوضاع الأمراء بالحلة و تصرف فيها و صار شحنة بغداد و من فيها على وجل منه و وضع الخليفة الحامية على الأسوار و أرسل إلى علي يحضه على الاستقامة فأجاب بالآمال و الطاعة فسكن الناس (4/377)
أخذ السلطان الحلة من يد علي و عوده إليها
كان علي بن دبيس كثير العسف بالرعية و الظلم لهم و ارتفعت شكوى الرعية به إلى السلطان مسعود سنة اثنتين و أربعين و خمسمائة فأشكاهم و أقطع الحلة سلاركرد فسار إليها من همذان و جمع عسكرا من بغداد و قصد الحلة و احتاط على أهل علي و أقام بالحلة في مماليكه و أصحابه و رجعت عنه العساكر و لحق علي بن دبيس بالتقشكنجر و كان في أقطاعه باللحف متجنيا على السلطان مسعود فاستنجده علي فأنجده و سار معه إلى واسط و سار معهما الطرنطاي صاحب واسط فانتزعوا الحلة من سلاركرد و رجع إلى بغداد آخر اثنتين و أربعين و استولى علي على الحلة (4/378)
نكبة علي بن دبيس
ثم انتقض على السلطان مسعود سنة أربع و أربعين و خمسمائة جماعة من الأمراء منهم التقشكنجر و الطرنطاي و علي بن دبيس و بايعوا ملك شاه ابن السلطان محمود و ساروا به إلى العراق و راسلوا المقتني في الخطبة له فامتنع و جمع العساكر و حصن بغداد و أرسل إلى السلطان مسعود بالخبر فشغل عنهم بلقاء عمه السلطان سنجر كان سار إليه بالري و لما علم التقشكنجر بذلك نهب النهروان و قبض على علي بن دبيس و هرب الطرنطاي إلى النعمانية ثم و صل السلطان مسعود إلى بغداد فرحل التقشكنجر من النهروان و أطلق علي بن دبيس فسار إلى السلطان مسعود فلقيه ببغداد و استعطفه فرضي عنه (4/378)
وفاة علي بن دبيس و انقراض بني مزيد
ثم توفي علي بن دبيس صاحب الحلة عليلا بسعدأباد و اتهم طبيبه محمد بن صالح بالادهان فيه فمات بعده بقليل ثم مات السلطان مسعود آخر ملوك السلجوقية الأعاظم و بويع ملك شاه ابن أخيه محمود بعهده و استبد المقتفي على ملوك السلجوقية بعده و بعث السلطان ملك شاه سلاركرد إلى الحلة فملكها و لحق به مسعود بلاك شحنة بغداد و هرب معها عند موت السلطان مسعود و أظهر لسلاركرد الوفاق ثم قبض عليه و غرقه و استبد بالحلة و بعث المقتفي إليه العساكر مع الوزير عون الدين بن هبيرة فبرز مسعود بلاك للقائهم فانهزم و عاد إلى الحلة فمنعه أهلها من الدخول فسار إلى تكريت و ملك ابن هبيرة الحلة و بعث العساكر إلى الكوفة و واسط فملكوها ثم جاءت عساكر السلطان ملك شاه إلى واسط و خرجت منها عساكر المقتفي إلى واسط فملكها ثم إلى الحلة كذلك ثم عاد إلى بغداد آخر ذي القعدة سنة سبع و أربعين و خمسمائة ثم قبض الأمراء على ملك شاه سنة ثمان و أربعين و خمسمائة و بايعوا لأخيه محمد و طلب الخطبة من المقتفي فمنع منها فسار السلطان محمد بن محمود إلى العراق سنة إحدى و خمسين و خمسمائة و اضطرب الناس ببغداد و اهتم المقتفي بالاحتشاد و جاءته عساكر واسط و بعث السلطان مهلهل بن أبي العسكر إلى الحلة فملكها و حاصر السلطان محمد بغداد سنة اثنتين و خمسين و خمسمائة و امتنعت عليه فرجع و توفي المقتفي سنة خمس و خمسين و خمسمائة و بويع ابنه المستنجد و استبد بأمره كما كان أبوه و منع خطبة السلجوقية من بغداد و كان في نفسه شيء من بني أسد لاجلابهم على بغداد مع مهلهل بن أبي العسكر أيام حصار السلطان محمد لها فأمر بردن بن قاج بقتالهم و إجلائهم و كانوا منتشرين في البطائح و لا يقدر عليهم و جمع عساكره و بعث عن ابن معروف مقدم المنتفق من أرض البصرة فجاءه في جمع كبير و حاصرهم حتى انحسر الماء عنهم و أبطأ أمرهم على المستنجد فبعث إلى بردن يعاتبه و ينسبه إلى موافقتهم في التشيع فجهد هو و ابن معروف في قتالهم و سد مسالكهم في الماء و استسلموا فقتل منهم أربعة آلاف و نودي عليهم بالجلاء من الحلة فافترقوا في البلاد و لم يبق منهم بالعراق من يعرف و سلمت بطائحهم و بلادهم إلى ابن معروف و المنتفق و انقرضت دوله بني مزيد و البقاء لله (4/379)
الخبر عن ملوك العجم القائمين بالدعوة العباسية في ممالك الإسلام و المستبدين على الخلفاء و نبدأ منهم أولا بدولة ابن طولون بمصر و بداية أمرهم و مصاير أحوالهم
قد تقدم لنا عند ذكر الفتوحات فتح مصر على يد عمرو بن العاص سنة عشرين من الهجرة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بإذنه و ولاه عليها و افتتح ما وراءها في المغرب إلى طرابلس و ودان و غذامس حسبما ذلك مذكور هنالك و أقام عمرو في ولايتها أيام عمر كلها و ولى عثمان على الصعيد عبد الله بن أبي سرح و أفردها بالولاية و كان يعدو على عمرو فغضب عمرو و أبى من الرجوع إلى ولاية مصر فضمها عثمان لعبد الله بن أبي سرح و ولاه عليها و كانت في أيامه غزوة الصواري جاءت مراكب الروم من القسطنطينية في ألف مركب و نزلوا بسواحل الإسكندرية و انتقض أهل القرى و رغب أهل الإسكندرية من عثمان أن يمدهم بعمرو بن العاص فبعثه و زحف إليهم في العرب و معه المقوقس في القبط و خرجوا من البحر و معهم من انتقض من أهل القرى ففتح الله على المسلمين و هزموا الروم إلى الإسكندرية و أمضى عمرو في قتلهم و رد على أهل القرى ما غنم المسلمون منهم و عذرهم بالإكراه و رجع إلى المدينة و أقام عبد الله في ولايتهم و غزا أفريقية و افتتحها ثم غزا بلد النوبة و وضع عليهم الجزية المعروفة الباقية على الأيام و ذلك سنة إحدى و ثلاثين ثم كان من بعد ذلك يبعث معاوية بن خديج فيفتح و يثخن إلى أن استملك فتح أفريقية و وفد على عثمان آخر أيامه عندما اهتاجت الفتنة و كثر الطعن عليه من جماعة جند مصر يتعللون بالشكوى من ابن أبي سرح مع وفد من الجند شاكين من عمالهم بالأمصار و عزله عثمان يسترضيهم به فكانت قضية الكتاب المنسوب إلى مروان و حصارهم عثمان بداره و خرج عبد الله من مصر مددا لعثمان فخالفه محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة إلى مصر و انتزى بها و رجع عبد الله من طريقه فمنعه الدخول فسار إلى عسقلان و أقام بها حتى قتل عثمان ثم سار إلى الرملة و كانت من مهماته فأقام بها هربا من الفتنة حتى مات و لم يبايع عليا و لا معاوية ثم قتل عمرو بن العاص محمد بن أبي حذيفة و في كيفية قتله إياه اضطراب ثم ولى علي على مصر قيس بن سعد بن عبادة و كان ناصحا له شديدا على عدوه و استماله معاوية فأساء في الرد عليه و أشاع معاوية خلاف ذلك عنه فعزله علي من أجل ذلك و ولي ذلك الأشتر النخعي و اسمه مالك بن الحرث بن يغوث بن سلمة بن ربيعة بن الحرث بن خزيمة بن سعد بن مالك بن النخع و سار إلها فمات بالقلزم قريبها منها سنة سبع و ثلاثين فولى علي مكانه محمد ابن أبي بكر و كان نشأ في حجره ثم بعث معاوية إلى عمرو بن العاص و هو بفلسطين قد اعتزل الناس بعد مقتل عثمان و استماله و اجتمع معه على قتال علي و ولاه مصر فسار إليها بعد انقضاء أمر صفين و أمر الحكمين و طلب معاوية الخلافة وقد اضطرب الأمر على محمد بن أبي بكر و خرج عليه معاوية بن خديج السكوني مع جماعة من العثمانية بنواحي مصر فكاتب عمرو العثمانية و سرح الكتائب إلى مصر و في مقدمتها معاوية بن خديج فهزموا عساكر محمد و افترق عنه أصحابه وقتل كما هو معروف في أخباره و دخل عمرو بن العاص الفسطاط و ملك مصر إلى سنة ثلاث و أربعين و مائة فتوفي و ملك مكانه ابنه عبد الله ثم عزله معاوية و ولى أخاه عتبة بن أبي سفيان و توفي سنة أربع و أربعين و ولى مكانه عقبة بن عامر الجهني ثم عزله سنة سبع و أربعين و مائة و ولى مكانه معاوية بن خديج ثم اقتطع عنه أفريقية سنة خمسين و ولى عليها عقبة بن نافع ثم جمع مصر و أفريقية لمسلمة بن مخلد الأنصاري فبعث مسلمة على أفريقية مولاه أبا المهاجر و أساء عزل عقبة كما هو معروف ثم مات معاوية و ولي ابنه يزيد و اضطربت الأمور و بويع عبد الله بن الزبير بمكة و انتشرت دعوته في الممالك الإسلامية فبعث على مصر عبد الرحمن بن جحدم القرشي و هو عبد الرحمن بن عقبة بن أياس بن الحرث بن عبد بن أسد بن جحدم الفهري ثم بويع مروان و انتقض ابن الزبير و سار مروان إلى مصر فأخرج منها عبد الرحمن بن جحدم و ولى عليها عمر بن سعيد الأشدق ثم بعثه للقاء مصعب بالشام و ولى مكانه على مصر ابنه عبد العزيز بن مروان ثم هلك سنة خمس و كان مروان قد مات فولي مكانه ابنه عبد الله ابن عبد الملك ثم عزله الوليد سنة تسع و ثمانين و ولى عليها مرة بن شريك بن مرثد بن الحرث العبسي و مات سنة خمس و تسعين فولى الوليد مكانه عبد الملك بن رفاعة سنة تسع و تسعين و كان قد استخلفه عند موته و يقال بل ولي قبله أسامة بن زيد التنوخي ثم عزل عمر بن عبد العزيز عبد الملك بن رفاعة سنة تسع و تسعين و ولى مكانه أيوب بن شرحبيل بن أكرم بن أبرهة بن الصباح الأصبحي ثم عزله يزيد بن عبد الملك و ولى مكانه بشر بن صفوان و أقره يزيد ثم عزله هشام بن عبد الملك و ولى بن رفاعة و توفي بعد خمس عشرة ليلة و استخلف أخاه الوليد بن رفاعة و أمره هشام فأقام سبعة أشهر ثم عزله و مد حنظلة بن صفوان في المحرم سنة أربع و عشرين و مائة و أقره هشام ثم استعفى مروان بن محمد حين ولى فأعفاه و ولى مكانه حسان بن عتامة بن عبد الرحمن السجيني و كان بالشام فاستخلف حمير بن نعيم الحصري بمصر ثم قدم و رفض ولايتها فولى مكانه حفص بن الوليد لستة عشر يوما من ولايته و بقي حفص شهرين ثم ولى مروان الحوثرة بن سهل بن العجلان الباهلي في محرم سنة ثمان و عشرين و مائة ثم صرف عنها في رجب سنة إحدى و ثلاثين و مائة و ولي المغيرة بن عبد الله بن مسعود الفزاري ثم مات في جمادى سنة ست و ثلاثين و استخلف ابنه الويد و ولى مروان بن عبد الملك موسى بن نصير فأمر باتخاذ المقابر في الكور و إنما كانوا يخطبون على العصي ثم قدم مروان بن محمد إلى مصر و كان فيها مهلكه كما هو معروف ثم جاءت الدولة العباسية فولى السفاح على مصر عمه صالح بن علي سنة أربع و ثلاثين و مائة و بقيت في ولايته يستخلف عليها فاستخلف أولا محصن بن فإني الكندي ثمانية أشهر ثم أبا عون عبد الملك بن يزيد مولى مناه ثمانية أشهر و ولى داود بن يزيد بن حاتم بن قبيصة في محرم سنة أربع و سبعين ثم عزله في محرم سنة خمس و سبعين لسنة من ولايته و أعاد إليها موسى بن عيسى ثم صرفه في ربيع سنة ست و سبعين و ولى ابن عمه إبراهيم بن صالح و توفي لثلاثة أشهر من ولايته و قام بالأمر بعده ابنه صالح فولى الرشيد عبد الله ابن المسيب بن زهير الضبي في رمضان سنة ستة و سبعين و مائة ثم عزله بعد الحول و ولى هرثمة بن أعين ثم أمره بالمسير إلى أفريقية لثلاثة أشهر من ولايته سلخ ثمان و سبعين و مائة و ولى أخاه عبيد الله بن المسيب ثم أعاد موسى بن عيسى في رمضان سنة تسع و سبعين و مائة فاستخلف ابنه يحيى ثم صرف موسى في منتصف سنة ثمانين لعشرة أشهر من ولايته و أعيد عبيد الله بن المهدي ثم صرفه في رمضان سنة إحدى و ثمانين و مائة و أعيد إسمعيل بن صالح بن علي من العمومة فاستخلف ثم صرف في منتصف اثنتين و ثمانين و مائة و أعيد لعشرة أشهر من ولايته و ولى الليث بن الفضل من أهل أسبورد فوليها أربع سنين و نصفا و عزل ثم ولى الرشيد من قرابته أحمد بن إسمعيل بن علي منتصف سبع و ثمانين و مائة فبقي عليها سنتين و شهرين ثم ولى مكانه عبد الله بن محمد بن الإمام إبراهيم بن محمد و يعرف بابن زينب و صرفه عنها آخر شعبان من سنة تسعين و مائة لسنة و شهرين من ولايته و ولى حاتم بن هرثمة بن أعين فقدم في شوال سنة أربع و تسعين و مائة ثم صرفه الأمير ثم منتصف خمس و تسعين و مائة لسنة و ثلاثة أشهر من ولايته و ولى جابر بن الأشعث بن يحيى بن النعمان الطائي منتصف خمس و تسعين و مائة فأخرجه الجند منها سنة و ست و تسعين و مائة لسنة من ولايته ثم ولى المأمون عليها عباد بن محمد بن حيان البلخي مولى كندة و يكنى أبا نصر ثم عزله لسنة و نصف من ولايته في صفر سنة ثمان و تسعين و مائة و ولى المطلب بن عبد الله بن مالك ابن الهيثم الخزاعي و قدمها من مكة في منتصف ربيع الأول ثم صرفه في شوال لثمانية أشهر من ولايته و ولى من عمومته العباس بن موسى بن عيسى فبعث عليها ابنه عبد الله و معه الإمام محمد بن إدريس الشافع رضي الله تعالى عنه فأقام عليها شهرين و نصفا فقتله الجند يوم النحر سنة ثمان و تسعين و مائة و ولوا عليهم المطلب بن عبد الله ثم جرت بينه و بين السدي و بين الحكم بن يوسف مولى بني ضبة من أهل بلخ من قوم يقال لهم الزط و جرت بينه و بين أهل المطلب حروب و خرج هاربا إلى مكة بعد سنة و ثمانية أشهر من ولايتها و وليها السري بإجماع الجند في رمضان سنة مائتين ثم و ثب به الجند بعد ستة أشهر و ولوا سليمان بن غالب بن جبريل بن يحيى بن قرة العجلي في ربيع الأول سنة إحدى عشرة و مائتين و ولى عبد الله بن طاهر بن الحسين مولى خزاعة فأقام عشرة ثم ولى المأمون عليها أخاه أبا إسحاق الملقب في خلافته بالمعتصم فأقر عيسى الجلودي و بعده عمير بن الوليد التميمي في صفر سنة أربع عشرة و مائتين ثم قتل بعد شهرين و استخلف ابنه محمد بن عمير شهرا ثم أعاد عيسى الجلودي ثم جاء أبو إسحاق المعتصم إلى الفسطاط و عاد إلى الشام و استخلف عبدويه بن جبلة في المحرم فاتح خمس عشرة فأقام سنة و ولى عيسى بن منصور بن موسى الخراساني الرافعي مولى بني نصر بن معاوية ثم قدم المأمون مصر لسنة من ولايته فسخط على عيسى بن منصور و عمر المقياس و جسرا آخر بالفسطاط و ولى كندر بن عبد الله ابن نصر الصفدى و يكنى أبا مالك و رجع إلى العراق و مات كندر في ربيع سنة تسع عشرة و مائتين و استخلف ابنه المظفر و لما صارت الخلافة للمعتصم ولى على مصر مولاه أشناس و يكنى أبا جعفر في رجب سنة ثمان عشرة فاستخلف عليها موسى بن أبي العباس ثابت من بني حنيفة من أهل الشاش في رمضان سنة تسع عشرة و مائتين و استخلف ابنه المظفر فأقام مستلخفا لأشناس أربع سنين و نصفا ثم عزله بعد سنتين و استخلف مالك ابن كيد بن عبد الله الصفدي فقدم في ربيع سنة أربع و عشرين و مائتين ثم عزله بعد سنتين و استخلف علي بن يحيى الأرمني و قدم في ربيع سنة ست و عشرين و مائة ثم عزله بعد سنتين و ثمانية أشهر و استخلف عيسى بن منصور الذي كان مستخلفا لمعتصم أيام المأمون و سخطه المأمون عند قدومه مصر فقدم عيسى في محرم سنة تسع و عشرين و مائتين ثم مات أشناس بعد الثلاثين و قد استخلف على مصر إتياخ مولى المعتصم و أقيم إتياخ مكان أشناس فأقر الواثق إتياخ على مصر فأقر إتياخ عيسى بن منصور في ربيع سنة ست و ثلاثين و مائتين فبقي أربعة أشهر ثم استخلف إتياخ هرثمة بن النضر الجبلي فقدم منتصف سنة ثلاث و ثلاثين و مائتين و أقام سنة ثم مات سنة أربع و ثلاثين و مائتين و قام بأمره ابنه حاتم رضي الله تعالى عنه فاستخلف إتياخ على بني يحيى الأرمني في رمضان سنة أربع و ثلاثين و مائتين ثم صرف إتياخ عن ولاية مصرفي محرم سنة خمس و ثلاثين و مائتين بعد وفاة المعتصم و ولى المتوكل على مصر ابنه المستنصر فاستخلف عليها إسحاق بن يحيى بن معاذ الختلي و قدم في ذي القعدة من سنته و في أيامه أخرج ولد علي من مصر إلى العراق ثم صرف في ذي القعدة من سنة ست و ثلاثين و مائتين و استخلف المستنصر عليها عبد الرحمن بن يحيى بن منصور بن طلحة وريق و هو ابن عم طاهر بن الحسين و قدم في ذي القعدة سنة ست و ثلاثين و مائتين ثم اصرفه و استخلف عنبسة بن إسحاق بن عبس بن عبسة من أهل هراة و يكنى أبا حاتم في صفر سنة ثمان و ثلاثين و مائتين و في ولايته كبس الروم دمياط يوم عرفة من سنة ثمان و ثلاثين و مائتين و استخلف يزيد بن عبد الله بن دينار من موالهم و يكنى أبا خالد و في أيامه منع العلويون من ركوب الخيل و اقتناء العبيد ثم و لي المستنصر الخلافة في شوال سنة سبع و أربعين و مائتين فأقر يزيد على ولاية مصر ثم صرف عنها في ربيع سنة ثلاث و خمسين لعشر سنين من ولايته و ولى المعتز مكانه مزاحم بن خاقان ابن عزطوج التركي في ربيع سنة أربع و خمسين و عهد إلى أزجور بن أولغ طرخان التركي فأقام خمسة أشهر و خرج حاجا في رمضان سنة أربع و خمسين و ولي أحمد بن طولون و استفحل بها أمره و كانت له و لبنيه بها دولة كما نذكر الآن أخبارها (4/380)