فتح المدائن و جلولاء بعدها
و لما انهزم أهل فارس بالقادسية انتهوا إلى بابل و فيهم بقايا الرؤساء النخيزجان و مهران الأهوازي و الهرمزان و أشباههم و استعملوا عليهم الفيرزان و أقام سعد بعد الفتح شهرين و سار بأمر عمر إلى المدائن و خلف العيال بالعتيق في جند كثيف حامية لهم و قدم بين يديه زهرة بن حيوة و شرحبيل بن السمط و عبد الله بن المعتمر و لقيهم بعض عساكر الفرس برستن فهزمهم حتى لحقوا ببابل ثم جاء سعد و سار في التعبية و نزلوا على الفيرزان و من معه ببابل فخرجوا و قاتلوا المسلمين فانهزموا و افترقو فرقتين و لحق الهرمزان بالأهواز و الفيرزان بنهاوند و بها كنوز كسرى و سار النخيرجان و مهران إلى المدائن فتحصنوا و قطعوا الجسر ثم سار سعد من بابل على التعبية و زهرة في المقدمة و قدم بين يديه بكير بن عبد الله الليثي بن شهاب السبيعي حتى عبرا و لحقا بأخريات القوم فقتلا في طريقهما اسوارين من أساورتهم ثم تقدموا إلى كوثى و عليها شهريار فخرج لقتالهم فقتل و انهزم أصحابه فافترقوا في البلاد و جاء سعد فنفل قاتله سلبه
و تقدم زهرة إلى ساباط فصالحه أهلها على الجزية و هزم كتيبة كسرى ثم نزلوا جميعا نهرشير من المدائن و لما عاينوا الإيوان كبروا و قالوا : هذا أبيض كسرى هذا ما وعد الله و كان نزولهم عليها ذا الحجة سنة خمس عشرة فحاصروها ثلاثة أشهر ثم اقتحموها و كانت خيولهم تغير على النواحي و عهد إليهم عمر أن من أجاب من الفلاحين و لم يعن عليهم فذلك أمانة و من هرب فأدرك فشأنكم به و دخل الدهاقين من غربي دجلة و أهل السواد كلهم في أمان المسلمين و اغتبطوا بملكهم و اشتد الحصار على نهرشير و نصبوا عليها المجانيق و استلحموهم في المواطن و خرج بعض المرازبة يطلب البراز فقاتله زهرة بن حيوة فقتلا معا و يقال إن زهرة قتله شبيب الخارجي أيام الحجاج و لما ضاق بهم الحصار ركب إليهم بعض الأيام فلم يروا على الأسوار أحدا إلا رجلا يشير إليهم فقال : ما بقي بالمدينة أحدا و قد صاروا إلى المدينة القصوى التي فيها الإيوان فدخل سعد و المسلمون و أرادوا العبور إليهم فوجدوهم جمعوا المعابر عندهم فأقام أياما من صبر و دله بعض العلوج على مخاضة في دجلة فتردد فقال له أقدم فلا تأتي عليك ثلاثة إلا و يزدجرد قد ذهب بكل شيء فيها فعزم سعد على العبور و خطب الناس و ندبهم إلى العبور و رغبهم و ندب من يجيز أن لا يجيء الفراض حتى يجيز إليه الناس فانتدب عاصم بن عمر في ستمائة و اقتحموا دجلة فلقيهم أمثالهم من الفرس عند الفراض و شدوا عليهم فانهزموا و قتل أكثرهم و عوروا من الطعن في العيون و عاينهم المسلمون على الفراض فاقتحموا في أثرهم يصيحون نستعين بالله و نتوكل عليه حسبنا الله و نعم الوكيل و لا حول و قوة إلا بالله العي العظيم و ساروا في دجلة و قد طبقوا ما بين عدوتيها و خيلهم سابحة بهم و هم يهيمنون تارة و يتحادثون أخرى حتى أجازوا البحر و لم يفقدوا شيئا إلا قدحا لبعضهم غلبت صاحبه عليه جرية الماء و ألقته الريح إلى الشاطئ
و رأى الفرس عساكر المسلمين قد أجازوا فخرجوا هاربين إلى حلوان و كان يزدجرد قدم إليها قبل ذلك عياله و رفعوا ما قدروا عليه من عرض المتاع و خفيفه و من بيت المال و النساء و الذراري و تركوا بالمدائن من الثياب و الأمتعة و الآنية و الألطاف مالا تحصر قيمته و كان في بيت المال ثلاثة آلاف ألف ألف ألف مكررة ثلاث مرات تكون جملتها ثلاثة آلاف قنطار من الدنانير و كان رستم عند مسيره إلى القادسية حمل نصفها لنفقات العساكر و أبقى النصف و اقتحمت العساكر المدينة تجول في سككها لا يلقون بها أحدا و أرز سائر الناس إلى القصر الأبيض حتى توثقوا لأنفسهم على الجزية
و نزل سعد القصر الأبيض و اتخذ الإيوان به مصلى و لم يغير ما فيه من التماثيل و لما دخله قرأ { كم تركوا من جنات و عيون } الآية و صلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات لا يفصل بينهن و أتم الصلاة بنية الإقامة و سرح زهرة بن حيوة في آثار الأعاجم إلى النهروان و قراها من كل جهة و جعل على الأخماس عمرو بن عمرو بن مقرن و على القسم سلمان بن ربيعة الباهلي و جمع ما كان في القصر و الإيوان و الدور و ما نهبه أهل المدائن عند الهزيمة و وجدوا حلية كسرى حلية كسرى ثيابه و خرزاته و تاجه و درعه التي كان يجلس فيها للمباهاة أخذ ذلك من أيدي الهاربين على بغلين و أخذ منهم أيضا وقر بغل من السيوف و آخر من الدروع و المغافر منسوبة كلها : درع هرقل و خاقان ملك الترك و داهر ملك الهند و بهرام جور و سياوخش و النعمان بن المنذر و سيف كسرى و هرمز و قباذ و فيروز هرقل و خاقان و داهر و بهرام و سياوخش و النعمان بن المنذر و سيف كسرى و هرمز و قباذ و فيزور و هرقل و خاقان و داهر و بهرام و سياوخش و النعمان أحضرها القعقاع و خيره في الأسياف فاختار سيف هرقل و أعطاه درع بهرام و بعث إلى عمر سيف كسرى و النعمان و تاج كسرى و حليته و ثيابه ليراها الناس و قسم سعد الفيء بين المسلمين بعدما خمسه و كانوا ستين ألفا فصار للفارس اثنا عشر ألفا وكلهم كان فارسا ليس فيهم راجل و نفل من الأخماس في أهل البلاد و قسم في المنازل بين الناس و استدعى العيالات من العتيق فأنزلهم الدور و لم يزالوا بالمدائن حتى تم فتح جلولاء و حلوان و تكريت و الموصل و اختطت الكوفة فتحولوا إليها و أرسل في الخمس كل شيء يعجب العرب منهم أن يضع إليهم و حضر إليهم نهار كسرى و هو الغطف و هو بساط طوله ستون ذراعا في مثلها مقدار مزرعة جريت في أرضه و هي منسوجة بالذهب طرقا كالأنهار و تماثيل خلالها بصدف الدار و الياقوت و في حافاتها كالأرض المزدرعة و المقبلة بالنبات ورقها من الحرير على قبضان الذهب و زهرة حبات الذهب و الفضة و ثمره الجوهر و كانت الأكاسرة يبسطونه في الإيوان في فصل الشتاء عند فقدان الرياحين يشربون عليه فلما قدمت الأخماس على عمر قسمها في الناس ثم قال أشيروا في هذا القصب فاختلفوا و أشاروا على نفسه فقطعه بينهم فأصاب على قطعة منه باعها بعشرين ألفا و لم تكن بأجودها
و ولى عمر بن سعد بن أبي وقاص على الصلاة و الحرب فيما غلب عليه و ولى حذيفة بن اليمان على سقي الفرات و عثمان بن حنيف على سقي دجلة و لما انتهى الفرس بالهرب إلى جلواء و افترقت الطرق من هنالك بأهل أذربيجان و الباب و أهل الجبال و فارس وقفوا هنالك خشية الافتراق و اجتمعوا على مهران الرزاي و خندقوا على أنفسهم و أحاطوا الخندق بجسرة الحديد و تقدم يزدجرد إلى حلوان و بلغ ذلك سعدا فكاتب عمر بذلك يأمره أن يسرح بجلولاء هاشم ابن أخيه عتبة في اثني عشر ألفا و على مقدمته القعقاع بن عمرو و أن يولي القعقاع بعد الفتح ما بين السواد و الجبل فسار هاشم من المدائن لذلك في وجوه المسلمين و أعلام العرب حين قدم جلولاء فأحاط بهم و حاصرهم في خنادقهم و زاحفوهم ثمانين يوما ينصرون عليهم في كلها و المدد متصل من ههنا و ههنا ثم قاتلهم آخر الأيام فقتلوا منهم أكثر من ليلة الهرير و أرسل الله عليهم ريحا و ظلمة فسقط فرسانهم في الخندق و جعلوه طرقا مما يليهم ففسد حصنه و شعر المسلمون بذلك فجاء القعقاع إلى الخندق فوقف على بابه و شاع في الناس أنه أخذ في الخندق فحمل الناس حملة واحدة انهزم المشركون لها و افترقوا و مروا بالجسرة التي تحصنوا بها فعقرت دوابهم فترجلوا و لم يفلت منهم إلا القليل يقال إنه قتل منهم يومئذ مائة ألف و اتبعهم القعقاع بالطلب إلى خانقين و أجفل يزدجرد من حلوان إلى الري و استخلف عليها حشرشوم و جاء القعقاع إلى حلوان فبرز إليه حشرشوم و على مقدمته الرمى فقتله القعقاع و هرب حشرشوم من ورائه و ملك القعقاع حلوان و كتب إلى عمر في الفتح و استأذنوا في اتباعهم فأبى و قال : وددت أن بين السواد و الجبل سدا
حصينا من ريف السواد فقد آثرت سلامة المسلمين على الأنفال
و أحصيت الغنيمة فكانت ثلاثين ألف ألف فقسمها سلمان بن ربيعة يقال : إنه أصاب الفارس تسعة آلاف و تسعة من الدواب و بعثوا بالأخماس إلى عمر مع زياد ابن أبيه فلما قدم الخمس قال عمر : و الله لا يجنه سقف حتى أقسمه فجعله في المسجد و بات عبد الرحمن بن عوف و عبد الله بن أرقم يحرسانه و لما أصبح جاء في الناس و نظر إلى ياقوتة و جوهرة فبكى فقال عبد الرحمن بن عوف : ما يبكيك يا أمير المؤمنين و هذا موطن شكر ؟ قال : و الله ما أعطى الله هذا قوما إلا تحاسدوا و تباغضوا فيلقي الله بأسهم بينهم و منع عمر من قسمة السواد ما بين حلوان و القادسية فأقره حبسا و اشترى جرير بعضه بشاطئ الفرات فرد عمر الشراء
و لما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن بلغهم أن أدين بن الهرامون جمع جمعا و جاء بهم إلى السهل فبعث إليه ضرار بن الخطاب في جيش فلقيهم بما سبدان فهزمهم و أسر أدين فقتله و انتهى في طلبهم إلى النهروان و فتح ماسبدان عنوة و رد إليها أهلها و نزل به بها فكانت أحد فروج الكوفة و قيل كان فتحها بعد نهاوند و الله سبحانه أعلم (2/536)
ولاية عتبة بن غزوان على البصرة
كان عمر عندما بعث المثنى إلى الحيرة بعث قطبة بن قتادة السدوسي إلى البصرة فكان يغير بتلك الناحية ثم استمد عمر فبعث إليه شريح بن عامر بن سعد ابن بكر فأقبل إلى البصرة و مضى إلى الأهواز و لقيه مسلحة الأعاجم فقتلوه فبعث عمر عتبة بن غزوان واليا على تلك الناحية و كتب إلى العلاء بن الحضرمي أن يمده بعرفجة بن هرثمة و أمره أن يقيم بالتخوم بين أرض العرب و أرض العجم فانتهى إلى حيال الجسر و بلغ صاحب الفرات خبرهم فأقبل في أربعة آلاف و عتبة في خمسمائة و التقوا فقتلوا الأعاجم أجمعين و أسروا صاحب الفرات ثم نزل البصرة في ربيع سنة أربع عشرة و قيل إن البصرة بصرت سنة ست عشرة بعد جلولاء و تكريت أرسل سعد إليها عتبة فأقام بها شهرا و خرج إليه أهل الأبلة و كانت مرفأ للسفن من الصين فهزمهم عتبة و أحجرهم في المدينة و رجع إلى عسكره و رعب الفرس فخرجوا عن الأبلة و حملوا ما خف و أدخلوا المدينة و عبروا النهر و دخلها المسلمون فغنموا ما فيها و اقتسموه ثم اختط البصرة بالمسجد فبناه بالقصب و جمع لهم أهل دست ميان فلقيهم عتبة فهزمهم و أخذ مرزبانها أسيرا و أخذ قتادة منطقته فبعث بها إلى عمر و سأل عنهم فقيل له : انثالت عليهم الدنيا فهم يهيلون الذهب و الفضة فرغب الناس في البصرة و أتوها ثم سار عتبة إلى عمر بعد أن بعث مجاشع بن مسعود في جيش إلى الفرات و استخلف المغيرة بن شعبة على الصلاة إلى قدوم مجاشع و جاء ألف بيكان من عظماء الفرس إلى المسلمين و لقيهم المغيرة بن شعبة بالمرغاب و بينما هم في القتال إذ لحق بهم النساء وقد اتخذن خمرهن رايات فانهزم الأعاجم و كتبوا بالفتح إلى عمر فرد عتبة إلى عمله فمات في طريقه و قيل إن إمارة عتبة كانت سنة خمس عشرة و قيل ست عشرة فوليها ستة أشهر و استعمل عمر بعده المغيرة بن شعبة سنتين فلما رمى بما رمى به عزله و استعمل أبا موسى و قيل استعمل بعد عتبة أبا سبرة و بعده المغيرة (2/540)
وقعة مرج الروم و فتوح مدائن الشام بعدها
لما انهزم الروم بفحل سار أبو عبيدة و خالد إلى حمص و اجتمعوا بذي الكلاع في طريقهم و بعث هرقل توذر البطريق للقائهم فنزلوا جميعا بمرج الروم و كان توذر بإزاء خالد و شمس بطريق آخر بإزاء أبي عبيدة و أمسوا متباريين ثم أصبح فلم يجدوا توذر و سار إلى دمشق و اتبعه خالد و استقبله يزيد من دمشق فقاتله و جاء خالد من خلفه فلم يفلت منهم إلا القليل و غنموا ما معهم و قاتل شمس أبو عبيدة بعد خالد فانهزم الروم و قتلوا و اتبعهم أبو عبيدة إلى حمص و معه خالد فبلغ ذلك هرقل فبعث بطريق حمص إليها و سار هو في الرهاء فحاصر أبو عبيدة حمص حتى طلبوا الأمان فصالحهم و كان هرقل يعدهم في حصارهم المدد و أمر أهل الجزيرة بإمدادهم فساروا لذلك و بعث سعد بن أبي وقاص العساكر من العراق فحاصروا هبت و قرقيسيا فرجع أهل الجزيرة إلى بلادهم و يئس أهل حمص من المدد فصالحوا على صلح أهل دمشق و أنزل أبو عبيدة فيها السمط بن الأسود في بني معاوية من كندة الأشعث بن ميناس في السكون و المقداد في بلي و غيرهم و ولى عليهم أبو عبيدة عبادة بن الصامت و صار إلى حماة فصالحوه على الجزية عن رؤسهم و الخراج عن أرضهم ثم سار نحو شيزر فصالحوا كذلك ثم إلى المعرة كذلك و يقال معرة النعمان و هو النعمان بن بشير الأنصاري ثم سار إلى اللاذقية ففتحها عنوة ثم سليمة أيضا ثم أرسل أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى قنسرين فاعترضه ميناس عظيم الروم بعد هرقل فهزمهم خالد و أثخن فيهم و نازل قنسرين حتى افتتحها عنوة و خربها و أدرب إلى هرقل من ناحينه و أدرب عياض بن غنم لذلك و أدرب عمر بن مالك من الكوفة إلى قرقيسيا و أدرب عبد الله بن المعتمر من الموصل فارتحل هرقل إلى القسطنطينية من أمدها و أخذ أهل الحصون بين الإسكندرية و طرسوس و شعبها أن ينتفع المسلمون بعمارتها و لما بلغ عمر صنيع خالد قال : أمر خالد نفسه يرحم الله أبا بكر هو كان أعلم مني بالرجال و قد كان عزل خالدا و المثنى بن حارثة خشية أن يداخلهما كبر من تعظيم فوكلوا إليه ثم رجع عن رأيه في المثنى عند قيامه بعد أبي عبيد و في خالد بعد قنسرين فرجع خالد إلى إمارته و لما فرغ أبو عبيدة من قنسرين سار إلى حلب و بلغه أن أهل قنسرين غدروا فبعث إليهم السمط الكندي فحاصرهم و فتح و غنم و وصل أبو عبيدة إلى خناصر حلب و هو موضع قريب منها يجمع أصنافا من العرب فصالحوا على الجزية ثم أسلموا بعد ذلك ثم أتى حلب و كان على مقدمته عياض بن غنم الفهري فحاصرهم حتى صالحوه على الأمان و أجاز ذلك أبو عبيدة و قيل صولحوا على مقاسمة الدور و الكنائس و قيل إنتقلوا إلى إنطاكية حتى صالحوا و رجعوا إلى حلب
ثم سار أبو عبيدة من حلب إلى أنطاكية و بها جمع كبير من فل قنسرين و غيرهم و لقوه قريبا منها فهزمهم و أحجرهم و حاصرهم حتى صالحوه على الجلاء أو الجزية و رحل عنهم ثم نقضوا فبعث أبو عبيدة إليهم عياض بن غنم و حبيب بن مسلمة ففتحاها على الصلح الأول و كانت عظيمة الذكر فكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتب فيها حامية مرابطة و لا يؤخر عنهم العطاء ثم بلغ أبا عبيدة أن جمعا بالروم بين معرة مصرين و حلب فسار إليهم فهزمهم و قتل بطارقتهم و أمعن بل و أثخن فيهم و فتح معرة مصرين على صلح حلب و جالت خيوله فبلغت سرمين و تيري و غلبوا على جميع أرض قنسرين و أنطاكية ثم فتح حلب ثانية
و سار يريد قورس و على مقدمته عياض فصالحوه على صلح أنطاكية و بث خيله ففتح تل نزار و ما يليه ثم فتح منبج على يد سلمان بن ربيعة الباهلي ثم بعث عياضا إلى دلوك و عينتاب فصالهم على مثل منبج و اشترط عليهم أن يكونوا عونا للمسلمين و ولى أبو عبيدة على كل ما فتح من الكور عاملا و ضم إليه جماعة و شحن الثغور المخوفة بالحامية و استولى المسلمون على الشام من هذه الناحية إلى الفرات و عاد أبو عبيدة إلى فلسطين
و بعث أبو عبيدة جيشا مع ميسرة بن مسروق العبسي فسلكوا درب تفليس إلى بلاد الروم فلقي جمعا للروم و معهم عرب من غسان و تنوخ و إياد يريدون اللحاق بهرقل فأوقع بهم و أثحن فيهم و لحق به على أنطاكية مالك بن الأشتر النخعي مددا فرجعوا جميعا إلى أبي عبيدة و بعث أبو عبيدة جيشا آخر إلى مرعش مع خالد بن الوليد ففتحها على إجلاء أهلها بالأمان و خربها و بعث جيشا آخر مع حبيب بن مسلمة إلى حصن الحرث كذلك و في خلال ذلك فتحت قيسارية و بعث إليها يزيد بن أبي سفيان أخاه معاوية بأمر عمر فسار إليها و حاصرهم بعد أن هزمهم و بلغت قتلاهم في الهزائم ثمانين ألفا و فتحها آخرا و كان علقمة بن مجزز على غزة و فيها القبفار من بطارقة الروم (2/541)
وقعة أجنادين و فتح بيسان و الأردن و بيت المقدس
لما انصرف أبو عبيدة و خالد إلى حمص بعد واقة مرج الروم نزل عمرو و شرحيبل على أهل بيسان فافتتحها و صالح أهل الأردن و اجتمع عسكر الروم بأجنادين و غزة و بيسان و عليهم أرطبون من بطارقة الروم فسار عمرو و شرحبيل إليهم و استخلف على الأردن أبا الأعور السلمي و كان الأرطبون قد أنزل بالرملة جندا عظيما من الروم و بيت المقدس كذلك و بعث عمر و علقمة بن حكيم الفراسي و مسرور بن العكي لقتال أهل بيت المقدس و بعث أبا أيوب المالكي إلى قتال أهل الرملة و كان معاوية محاصرا لأهل قيسارية فشغل جميعهم عنه ثم زحف عمرو إلى الأرطبون و اقتتلوا كيوم اليرموك و أشد و انهزم أرطبون إلى بيت المقدس و أفرج له المسلمون الذين كانوا يحاصرونها حتى دخل
و رجعوا إلى عمرو و قد نزل أجنادين و قد تقدم لنا ذكر هذه الوقعة قبل اليرموك على قول من جعلها قبلها و هذا على قول من جعلها بعدها و لما دخل أرطبون بيت المقدس فتح عمرو غزة و قيل كان فتحها في خلافة أبي بكر ثم فتح سبسطية و فيها قبر يحيى بن زكريا و فتح نابلس على الجزية ثم فتح مدينة لد ثم عمواس و بيت حبرين و يافا و رفح و سائر مدائن الأردن و بعث إلى الأرطبون فطلب أن يصالح كأهل الشام و يتولى العقد عمر و كتبوا إليه بذلك فسار عن المدينة و استخلف علي بن أبي طالب بعد أن عذله في مسيره فأبى و قد كان واعد أمراء الأجناد هنالك فلقيه يزيد ثم أبو عبيدة ثم خالد على الخيول عليهم الديباج و الحرير فنزل و رماهم بالحجاز و قال : أتستقبلوني في هذا الزي ؟ و إنما شبعتم منذ سنتين و الله لو كان على رأس الماءين لاستبدلت بكم فقالوا : إنها بلا ثمن و إن علينا السلاح فسكت و دخل الجابية و جاءه أهل بيت المقدس وقد هرب أرطبون عنهم إلى مصر فصالحوه على الجزية و فتحوها له و كذلك أهل الرملة و ولى علقمة بن حكيم على نصف فلسطين و أسكنه الرملة و علقمة بن مجزز على النصف الآخر و أسكنه بيت المقدس و ضم عمرا و شرحبيل إليه فلقياه بالجابية و ركب عمر إلى بيت المقدس فدخلها و كشف عن الصخرة و أمر ببناء المسجد عليها و ذلك سنة خمس عشرة و قيل سنة ست عشرة و لحق أرطبون بمصر مع من أبى الصلح من الروم حتى هلك في فتح مصر و قيل إنما لحق بالروم و هلك في بعض الصوائف ثم فرق عمر المطاء و دون الدوادين سنة خمس عشرة و رتب ذلك على السابقة
و لما أعطى صفوان بن أمية و الحرث بن هشام و سهيل بن عمرو أقل من غيرهم قالوا : لا و الله لا يكون أحد أكرم منا : إنما أعطيت على سابقة الإسلام لا على الأحساب قالوا فنعم إذا و خرجوا إلى الشام فلم يزالوا مجاهدين حتى أصيبوا
و لما وضع عمر الدواوين قال له علي و عبد الرحمن إبدأ بنفسك قال لا بل بعم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم الأقرب فالأقرب و رتب ذلك على مراتب ففرض خمسة آلاف ثم أربعة ثم ثلاثة ثم ألفين و خمسمائة ثم ألفين ثم ألفا واحدا ثم خمسمائة ثم ثلثمائة ثم مائتين و خمسين ثم مائتين و أعطى نساء النبي صلى الله عليه و سلم عشرة آلاف لكل واحدة و فضل عائشة بألفين و جعل النساء على مراتب فلأهل بدر خمسمائة ثم أربعمائة ثم ثلثمائة ثم مائتين و الصبيان مائة مائة و المساكين جريبين في الشهر و لم يترك في بيت المال شيئا و سئل في ذلك فأبى و قال : هي فتنة لمن بعدي و سأل الصحابة في قوته من بيت المال فأذنوا له و سألوه في الزيادة على لسان حفصة ابنته متكتمين عنه فغضب و امتنع و سألها عن حال رسول الله صلى الله عليه و سلم في عيشه و ملبسه و فراشه فأخبرته بالكفاف من ذلك فقال و الله لأضعن الفضول مواضعها و لأتبلغن بالترجية و إنما مثلي و مثل صاحبي كثلاثة سلكوا طريقا و تزود الأول فبلغ المنزل و اتبعه الآخر مقتديا به كذلك ثم جاء الثالث بعدهما فإن اقتفى طريقهما و زادهما لحق بهما و إلا لم يبلغهما
و فتحت في جمادى من هذه السنة تكريت لأهل الجزيرة كانوا قد اجتمعوا إلى المرزبان الذي كان بها و هم من الروم و إياد و تغلب و النمر و معهم المشهارجة ليحموا أرض الجزيرة من ورائهم فسرح إليهم سعد بن أبي وقاص بأمر عمر كاتبه عبد الله بن المعتمر و على مقدمته ربعي بن الأفكل و على الخيل عرفجة بن هرثمة فحاصروهم أربعين يوما و داخلوا العرب الذين معهم فكانوا يطلعونهم على أحوال الروم ثم يئس الروم من أمرهم و اعتزموا على ركوب السفن في دجلة للنجاة فبعث العرب بذلك إلى المسلمين و سألوهم الأمان فأجابوهم على أن يسلموا فأسلموا و واعدهم الثبات و التكبير و أن يأخذوا على الروم أبواب البحر مما يلي دجلة ففعلوا و لما سمع الروم التكبير من جهة البحر ظنوا أن المسلمين استداروا من هناك فخرجوا إلى الناحية التي فيها المسلمون فأخذتهم السيوف من الجهتين و لم يفلت إلا من أسلم من قبائل ربيعة من تغلب و النمر و إياد و قسمت الغنائم فكان للفارس ثلاثة آلاف درهم و للراجل ألف و يقال إن عبد الله بن المعتمر بعث ربعي بن الأفكل بعهد عمر إلى الموصل و نينوى و هما حصنان على دجلة من شرقيها و غربيها فسار في تغلب و إياد و النمر و سبقوه إلى الحصنين فأجابوا إلى الصلح و صاروا ذمة و قيل بل الذي فتح الموصل عتبة بن فرقد سنة عشرين و أنه ملك نينوى و هو الشرقي عنوة و صالحوا أهل الموصل و هو الغربي على الجزية و فتح معها جبل الأكراد و جميع أعمال الموصل وقيل إنما بعث عتبة بن فرقد عياض بن غنم عندما فتح الجزيرة على ما نذكره و الله أعلم (2/543)
مسير هرقل إلى حمص و فتح الجزيرة و أرمينية
كان أهل الجزيرة قد راسلوا هرقل و أغروه بالشام و أن يبعث الجنود إلى حمص و واعدوه المدد و بعثوا الجنود إلى أهل هيت مما يلي العراق فأرسل سعد عمر بن مالك بن جبير بن مطعم في جند و على مقدمته الحرث بن يزيد العامري فسار إلى هيت و حاصرهم فلما رأى اعتصامهم بخندقهم حجر عليهم الحرث بن يزيد و خرج في نصف العسكر و جاء قرقيسيا على غرة فأجابوه إلى الجزية و كتب إلى الحرث أن يخندق على عسكر الجزيرة فبيت حتى سألوا المسألمة و العود إلى بلادهم فتركهم و لحق بعمر بن مالك
و لما اعتزم هرقل على قصد حمص و بلغ الخبر أبا عبيدة ضم إليه مسالحه و عسكر بفنائها و أقبل إليه خالد من قنسرين و كتبوا إلى عمر بخبر هرقل فكتب إلى سعد أن يذهب بل أن يندب الناس مع القعقاع بن عمرو و يسرحهم من يومهم فإن أبا عبيدة قد أحيط به و إن يسرح سهيل بن عدي إلى الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استدعوا الروم إلى حمص و أن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين ثم يقصد حران و الرها و أن يسرح الوليد بن عقبة إلى عرب الجزيرة من ربيعة و تنوخ و أن يكون عياض بن غنم على أمراء الجزيرة هؤلاء إن كانت حرب فمضى القعقاع من يومه في أربعة آلاف إلى حمص و سار عياض بن غنم و أمراء الجزيرة كل أمير إلى كورته و خرج عمر من المدينة فأتى الجابية يريد حمص مغيثا لأبي عبيدة و لما سمع أهل الجزيرة خبر الجنود فارقوا هرقل و رجعوا إلى بلادهم و زحف أبو عبيدة إلى الروم فانهزموا و قدم القعقاع من العراق بعد الوقعة بثلاث و كتبوا إلى عمر بالفتح فكتب إليهم أن أشركوا أهل العرب في الغنيمة و سار عياض بن غنم إلى الجزيرة و بعث سهيل بن عدي إلى الرقة عندما انقبضوا عن هرقل فنهضوا معه إلا إياد بن نزار فإنهم دخلوا أرض الروم ثم بعث عياض بن سهيل و عبد الله يضمهما إليه و سار بالناس إلى حران فأجابوه إلى الجزية ثم سرح سهيلا و عبد الله إلى الرها فأجابوا إلى الجزية و كمل فتح الجزيرة و كتب أبو عبيدة إلى عمر لما رجع من الجابية و انصرف معه خالد أن يضم إليه عياض بن غنم مكانه ففعل و ولى حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة و حربها و الوليد بن عقبة على عربها
و لما بلغ عمر دخول إياد إلى بلاد الروم كتب إلى هرقل بلغني أن حيا من أحياء العرب تركوا دارنا و أتوا دارك فو الله لتخرجنهم أو لنخرجن النصارى إليك فأخرجهم هرقل و تفرق منهم أربعة آلاف فيما يلي الشام و الجزيرة و أبى الوليد بن عقبة أن يقبل منهم إلا الإسلام فكتب إليه عمر إنما ذلك في جريرة العرب إلى تل التي فيها مكة و المدينة و اليمن فدعهم على أن لا ينصروا وليدا و لا يمنعوا أحدا منهم من الإسلام ثم وفدوا إلى عمر في أن يضع عنهم اسم الجزية فجعلها الصدقة مضاعفة ثم عزل الوليد عنهم لسطوته و عزتهم و أمر عليهم فرات بن حيان و هند بن عمر الجملي
و قال ابن إسحق : إن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة و إن سعدا بعث إليها الجند مع عياض بن غنم و فيهم ابنه عمر مع عياض بن غنم ففتح عمر مع عياض الرها و صالحت حران و افتتح أبو موسى نصيبين و بعث عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية فصالحوه على الجزية ثم كان فتح قيسارية من فلسطين فتكون الجزيرة على هذا من فتوح أهل العراق و الأكثر أنها من فتوح أهل الشام و أن أبا عبيدة سير عياض بن غنم إليها و قيل بل استخلفه لما توفي فولاه عمر على حمص و قنسرين و الجزيرة فسار إليها سنة ثمان عشرة في خمسة آلاف فانتهت طائفة إلى الرقة فحاصروها حتى صالحوه على الجزية و الخراج على الفلاحين ثم سار إلى حران فجهز عليها صفوان بن المعطل و حبيب بن مسلمة و سار هو إلى الرها فحاصرها حتى صالحوه ثم رجع إلى حران و صالحهم كذلك ثم فتح سميساط و سروج و رأس كيفا فصالحوه على منبج كذلك ثم آمد ثم ميافارقين ثم كفرتوثا ثم نصيبين ثم ماردين ثم الموصل و فتح أحد حصنيها ثم سار إلى أرزن الروم ففتحها و دخل الدرب إلى بدليس ثم خلاط فصالحوه و انتهى إلى أطراف أرمينية ثم عاد إلى الرقة و مضى إلى حمص فمات و استعمل عمر عمير بن سعد الأنصاري ففتح رأس عين و قيل إن عياضا هو الذي أرسله و قيل إن أبا موسى الأشعري هو الذي افتتح رأس عين بعد وفاة عياض بولاية عمر و قيل إن خالد حضر فتح الجزيرة مع عياض و دخل الحمام بآمد فأطلى بشيء فيه خمر و قيل لم يسر خالد تحت لواء أحد بعد أبي عبيدة
و لما فتح عياض سمساط بعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوة أيضا و رتب فيها الجند و ولى عليها و لما أدرب عياض بن غنم من الجابية فرجع عمر إلى المدينة سنة سبع عشرة و على حمص أبو عبيدة و على قنسرين خالد بن الوليد من تحته و على دمشق يزيد و على الأردن معاوية و على فلسطين علقمة بن مجزز و على السواحل عبد الله بن قيس و شاع في الناس ما أصاب خالد مع عياض بن غنم من الأموال فانتجعه رجال منهم الأشعث بن قيس و أجازه بعشرة آلاف و بلغ ذلك عمر مع ما بلغه في آمد من تدلكه بالخمر فكتب إلى أبي عبيدة أن يقيمه في المجلس و ينزع عنه قلنسوته و يعقله بعمامته و يسأله من أين أجاز الأشعث ؟ فإن كان من ماله فقد أسرف فاعزله و اضمم إليك عمله فاستدعاه أبو عبيدة و جمع الناس و جلس على المنبر و سأل البريد خالدا فلم يجبه فقام بلال و أنفذ فيه أمر عمر و سأله فقال : من مالي فأطلقه و أعاد قلنسوته و عمامته ثم استدعاه عمر فقال من أين هذا الثراء ؟ قال : من الأنفال و السهمان و ما زاد على ستين ألفا فهو لك فجمع ماله فزاد عشرين فجعلها في بيت المال ثم استصلحه
و في سنة سبع عشرة هذه اعتمر عمر و وسع في المسجد و أقام بمكة عشرين ليلة و هدم على من أبى البيع دورهم لذلك و كانت العمارة في رجب و تولاها : مخرمة بن نوفل و الأزهر بن عبد عوف و حويطب بن عبد العزى و سعيد بن يربوع و استأذنه أهل المياه أن يبنو المنازل بين مكة و المدينة فأذن لهم على شرط أن ابن السبيل أحق بالظل و الماء (2/545)
غزو فارس من البحرين و عزل العلاء عن البصرة ثم المغيرة و ولاية أبي موسى
كان العلاء بن الحضرمي على البحرين أيام أبي بكر ثم عزله عمر بقدامة بن مظعون ثم أعاده و كان العلاء يناوئ سعد بن أبي وقاص و وقع له في قتال أهل الردة ما وقع فلما ظفر سعد بالقادسية كانت أعظم من فعل العلاء فأراد أن يؤثر في الفرس شيئا فندب الناس إلى فارس و أجابوه و فرقهم أجنادا بين الجارود بن المعلى و السوار ابن همام و خليد بن المنذر و أمره على جميعهم و حمله في البحر إلى فارس بغير إذن من عمر لأنه كان ينهي عن ذلك و أبو بكر قبله خوف الغرق فخرجت الجنود إلى اصطخرو بإزائهم الهربذ في أهل فارس و حالوا بينهم و بين سفنهم فخاطبهم خليد و قال : إنما جئتم لمحاربتهم و السفن و الأرض لمن غلب ثم ناهدوهم و اقتتلوا بطاوس و قتل الجارود و السوار و أمر خليد أصحابه أن يقاتلوا رجالة و قتل من الفرس مقتلة عظيمة ثم خرج المسلمون نحو البصرة و أخذ الفرس عليهم الطرق فعسكروا و امتنعوا و بلغ ذلك عمر فأرسل إلى عتبة بالبصرة يأمره بإنفاذ جيش كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا و أمر العلاء بالإنصراف عن البحرين إلى سعد بمن معه فأرسل عتبة الجنود اثني عشر ألف مقاتل فيهم عاصم بن عمرو و عرفجة بن هرثمة و الأحنف بن قيس و أمثالهم و عليهم أبو سبرة بن أبي رهم من عامر بن لؤي فساحل بالناس حتى لقوا خليدا و العسكر و قد تداعى إليهم بعد وقعة طاوس أهل فارس من كل ناحية فاقتتلوا و انهزم المشركون و قتلوا ثم انكفؤا بما أصابوا من الغنائم و استحثهم عتبة بالرجوع فرجعوا إلى البصرة
ثم استأذن عتبة في الحج فأذن له عمر فحج ثم استعفاه فأبى و عزم عليه ليرجعن إلى عمله فانصرف و مات ببطن نخلة على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد و استخلف على عمله أبا سبرة بن أبي رهم فأقره عمر بقية السنة ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها و كان بينه و بين أبي بكرة منافرة و كانا متجاورين في مشربتين ينفذ البصر من إحداهما إلى الأخرى من كوتين فزعموا أن أبا بكرة و زياد بن أبيه و هو أخوه لأمه و آخرين معهما عاينوا المغيرة على حاله قذفوه بها و ادعوا الشهادة و منعه أبو بكرة من الصلاة و بعثوا إلى عمر فبعث أبا موسى أميرا في تسعة و عشرين من الصحابة فيهم أنس بن مالك و عمران بن حصين و هشام بن عامر و معهم كتاب عمر إلى المغيرة : أما بعد فقد بلغني عنك نبأ عظيم و بعثت أبا موسى أميرا فسلم إليه ما في يدك و العجل و لما استحضرهم عمر اختلفوا في الشهادة و لم يستكملها زياد فجلد الثلاثة ثم عزل أبا موسى عن البصرة بعمر بن سراقة ثم صرفه إلى الكوفة و رد أبا موسى فأقام عليه (2/548)
بناء البصرة و الكوفة
و في هذه السنة و هي أربع عشرة بلغ عمر أن العرب تغيرت ألوانهم و رأى ذلك في وجوه و فودهم فسألهم فقالوا وخومة البلاد غيرتنا و قيل إن حذيفة و كان مع سعد كتب بذلك إلى عمر فسأل عمر سعدا فقال : غيرتهم وخومة البلاد و العرب لا يوافقها من البلاد إلا ما وافق إبلها فكتب إليه أن يبعث سلمان و حذيفة شرقية فلم يرضيا إلا بقعة الكوفة فيها و دعيا أن تكون منزل بثبات و رجع إلى سعد فكتب إلى القعقاع و عبد الله بن المعتمر أن يستخلفا على جندهما و يحضرا و ارتحل من المدائن فنزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة لسنتين و شهرين من وقعة القادسية و لثلاث سنين و ثمانية أشهر من ولاية عمر و كتب عمر إني قد نزلت الكوفة بين الحيرة و الفرات بريا بحريا بين الجلاء و النصر و خيرت الناس بينهما و بين المدائن و من أعجبته تلك جعلته فيها مسلحة فلما استقروا بالكوفة ثاب إليهم ما فقدوه من حالهم و نزل أهل البصرة أيضا منازلهم في وقت واحد مع أهل الكوفة بعد ثلاث مرات نزلوها من قبل و استأذنوا جميعا في بنيان القصب فكتب عمر : إن العسكرة أشد لحربكم و أذكر لكم و ما أحب أن أخالفكم فابتنوا بالقصب ثم وقع الحريق في القصرين فاستأذنوا في البناء باللبن فقال : إفعلوا و لا يزيد أحد على ثلاثة بيوت و لا تطاولوا في البنيان و الزموا السنة تلزمكم الدولة و كان على تنزيل الكوفة أبو هياج بن مالك و على تنزيل البصرة أبو المحرب عاصم بن الدلف و كانت ثغور الكوفة أربعة : حلوان و عليها القعقاع و ماسبدان و عليها ضرار بن الخطاب و قرقيسيا و عليها عمر بن مالك و الموصل و عليها عبد الله بن المعتمر و يكون بها خلفاؤهم إذا غابوا (2/549)
فتح الأهواز و السوس بعدها
لما انهزم الهرمزان يوم القادسية قصد خوزستان و هي قاعدة الأهواز فملكها و ملك سائر الأهواز و كان أصله منهم من البيوتات السبعة في فارس و أقام يغير على أهل ميسان و دست ميسان من ثغور البصرة يأتي إليها من منادر و نهر تيري من ثغور الأهواز و استمد عتبة بن غزوان سعدا فأمده بنعيم بن مقرن و نعيم بن مسعود فنزلا بين ثغور البصرة و ثغور الأهواز و بعث عتبة بن غزوان سلمي بن القين و حرمله بن مريطة من بني العدوية بن حنظلة فنزلا على ثغور البصرة بميسان و دعوا بني العم بن مالك و كانوا ينزلون خراسان فأهل البلاد يأمنونهم فاستجابوا و جاء منهم غالب الوائلي و كليب بن وائل الكلبي فلقيا سلمي و حرملة و واعداهما الثورة بمنادر و نهرتيري و نهض سلمي و حرملة يوم الموعد في التعبية و أنهضا نعيما و التقوا هم و الهرمزان و سلمي على أهل البصرة و نعيم على أهل الكوفة و أقبل إليهما المدد من قبل غالب و كليب وقد ملك منادر و نهرتيري فانهزم و قتل المسلمون من أهل فارس مقتلة و انتهوا في اتباعهم إلى شاطئ دجيل و ملكوا ما دونها و عبر الهرمزان جسر سوق الأهواز و صار دجيل بينه و بين المسلمين ثم طلب الهرمزان الصلح فصالحوه على الأهواز كلها ما خلا نهر تيري و منادر و ما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا برد و بقيت المسالح على نهر تيري و منادر و فيهما غالب و كليب ثم وقع بينهما و بين الهرمزان اختلاف في التخم و وافقهما سلمي و حرملة فنقض الهرمزان و منع ما قبله و كثف جنوده بالأكراد و بعث عتبة بن غزوان حرقوص بن زهير السعدي لقتاله فانهزم و سار إلى رام هرمز و فتح حرقوص سوق الأهواز و نزل بها و اتسقت له البلاد إلى تستر و وضع الجزية و كتب بالفتح و بعث في أثر الهرمزان جزء بن معاوية فانتهى إلى قرية الشغر ثم إلى دورق فملكها و أقام بالبلاد و عمرها و طلب الهرمزان الصلح على ما بقي من البلاد و نزل حرقوص جبل الأهواز و كان يزدجر في خلال ذلك يمد و يحرض أهل فارس حتى اجتمعوا و تعاهدوا مع أهل الأهواز على النصرة و بلغت الأخبار حرقوصا و جزءا و سلمي و حرملة فكتبوا إلى عمر فكتب إلى سعد أن يبعث جندا كثيفا مع النعمان بن مقرن ينزلون منازل الهرمزان و كتب إلى أبي موسى أن يبعث كذلك جندا كثيفا مع سعد بن عدي أخي سهيل و يكون فيهم البراء بن مالك و مجزأة بن ثور و عرفجة بن هرثمة و غيرهم و على الجندين أبو سبرة بن أبي رهم
فخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة فخلف حرقوصا و سلمي و حرملة إلى الهرمزان و هو برام هرمز فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشده و لقيه فانهزم و لحق بتستر و جاء النعمان إلى رام هرمز فنزلها و جاء أهل البصرة من بعده فلحقهم خبر الواقعة بسوق الأهواز فساروا حتى أتوا تستر و لحقهم النعمان فاجتمعوا على تستر و بها الهرمزان و أمدهم عمر بأبي موسى جعله على أهل البصرة فحاصروهم أشهرا و أكثروا فيهم القتل و زاحفهم المشركون ثمانين زحفا سجالا ثم انهزموا في آخرها و اقتحم المسلمون خنادقهم و أحاطوا بها و ضاق عليهم الحصار فاستأمن بعضهم من داخل البلد بمكتوب في سهم على أن يدلهم على مدخل يدخلون منه فانتدب لهم طائفة و دخلوا المدينة من مدخل الماء و ملكوها و قتلوا المقاتلة و تحصن الهرمزان بالقلعة فأطافوا بها و استنزلوه على حكم عمرو و أوثقوه و اقتسموا الفيء فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف و الراجل ألف و قتل من المسلمين في تلك الليلة البراء بن مالك و مجزأة بن ثور قتلهما الهرمزان
ثم خرج أبو سبرة في أثر المنهزمين و معه النعمان و أبو موسى فنزلوا على السوس و سار زر ابن عبد الله الفقيمي إلى جند يسابور فنزل عليها و كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بالرجوع إلى البصرة و أمر مكانه الأسود بن ربيعة بن مالك صحابي يسمى المقترب و أرسل أبو سبرة بالهرمزان إلى عمر في وفد منهم أنس بن مالك و الأحنف بن قيس فقدموا به بالمدينة و ألبسوه كسوته من الديباج المذهب و تاجه مرصعا بالياقوت و حليته ليراه المسلمون فلما رآه عمر أمر بنزع ما عليه و قال يا هرمزان كيف رأيت أمر الله و عاقبة الغدر ؟ فقال : يا عمر إنا و إياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا و بينكم فغلبناكم فلما صار الآن معكم غلبتمونا قال : فما حجتك و ما عذرك في الانتفاض مرة بعد أخرى ؟ قال : أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك قال لا تخف ذلك ثم استقى فأتي بالماء فقال : أخاف أن أقتل و أنا أشرب فقال لا بأس عليك حتى تشربه فألقاه من يده و قال لا حاجة لي في الماء و قد أمنتني قال : كذبت قال أنس : صدق يا أمير المؤمنين فقد قلت له لا بأس عليك حتى تخبرني و حتى تشربه و صدق الناس فأقبل عمر على الهرمزان و قال خدعتني لا و الله إلا أن تسلم ! فأسلم ففرض له في ألفين و أنزله المدينة و استأذنه الأحنف بن قيس في الانسياح في بلاد فارس و قال : لا يزالون في الانتقاض حتى يهلك ملكهم فأذن له
و لما لحق أبو سبرة بالسوس و نزل عليها و بها شهريار أخو الهرمزان فأحاط بها و معه المقترب بن ربيعة في جند البصرة فسأل أهل السوس فأجابوهم و سار النعمان بن مقرن بأهل الكوفة إلى نهاوند وقد اجتمع بها الأعاجم و سار المقترب إلى زر بن عبد الله على جند يسابور فحاصروها مدة ثم رمى السهم بالأمان من خارج على الجزية فخرجوا لذلك فناكرهم المسلمون فإذا عبد فعل ذلك أصله منهم فأمضى عمر أمانه و قيل في فتح السوس إن يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء فنزل اصطخر و معه سباه في سبعين ألفا من فارس فبعثه إلى السوس و نزل الكلبانية و بعث الهرمزان إلى تستر ثم كانت واقعة أبي موسى فحاصرهم فصالحوه على الجزية و سار إلى هرمز ثم إلى تستر و نزل سباه بين رام هرمز و تستر و حمل أصحابه على صلح أبي موسى ثم على الإسلام على أن يقاتلوا الأعاجم و لا يقتلوا العرب و يمنعهم هو من العرب و يلحقوا بأشراف العطاء فأعطاهم ذلك عمر و أسلموا و شهدوا فتح تستر و مضى سباه إلى بعض الحصون في زي العجم فغدرهم و فتحه للمسلمين و كان فتح تستر و ما بعدها سنة سبع عشرة و قيل ست عشرة (2/550)
مسير المسلمين إلى الجهات للفتح
لما جاء الأحنف بن قيس بالهرمزان إلى عمر قال له : يا أمير المؤمنين لا يزال أهل فارس يقاتلون ما دام ملكهم فيهم فلو أذنت بالإنسياح في بلادهم فأزلنا ملكهم انقطع رجاؤهم فأمر أبا موسى أن يسير من البصرة غير بعيد و يقيم حتى يأتي أمره ثم بعث إليه مع سهيل بن عدي بألوية الأمراء الذين يسيرون في بلاد العجم : لواء خراسان للأحنف بن قيس و لواء أردشير خرة و سابور لمجاشع بن مسعود السلمي و لواء اصطخر لعثمان بن أبي العاص الثقفي و لواء فسا و دار ابجرد لسارية بن زنيم الكناني و لواء كرمان لسهيل بن عدي و لواء سجستان لعاصم بن عمرو و لواء مكران للحكم بن عمير التغلبي و لم يتهيأ مسيرهم إلى سنة ثمان عشرة و يقال سنة إحدى و عشرين أو إثنين و عشرين ثم ساروا في بلاد العجم و فتحوا كما يذكر بعد (2/553)
مجاعة عام الرمادة و طاعون عمواس
و أصاب الناس سنة ثمان عشرة قحط شديد و جدب أعقب جوعا بعد العهد بمثله مع طاعون أتى على جميع الناس و حلف عمر لا يذوق السمن و اللبن حتى يحيا الناس و كتب إلى الأمراء بالأمصار يستمدهم لأهل المدينة فجاء أبو عبيدة بأربعة آلاف راحلة من الطعام و أصلح عمرو بن العاص بحر القلزم و أرسل فيه الطعام من مصر فرخص السعر و استقى عمر بالناس فخطب الناس و صلى ثم قام و أخذ بيد العباس و توسل به ثم بكى و جثا على ركبتيه يدعو إلى أن مطر الناس و هلك بالطاعون أبو عبيدة و معاذ و يزيد بن أبي سفيان و الحرث بن هشام و سهيل بن عمرو و ابنه عتبة في آخرين أمثالهم و تفانى الناس بالشام و كتب عمر إلى أبي عبيدة أن يرتفع بالمسلمين من الأرض التي هو بها فدعا أبا موسى يرتاد له منزلا و مات قبل رحيله و سار عمر بالناس إلى الشام و انتهى إلى سرغ و لقيه أمراء الأجناد و أخبروه بشدة الوباء و اختلف الناس عليه في قدومه فقبل إشارة العود و رجع و أخبر عبد الرحمن بن عوف بما سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمر الوباء فقال : [ إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه و إذا وقع بأرض و أنتم فيها فلا تخربوا فرار منه ] أخرجاه في الصحيحين
و لما هلك يزيد ولى عمر على دمشق أخاه معاوية بن أبي سفيان و على الأرض شرحبيل بن حسنة و لما فحش أثر الطاعون بالشام أجمع عمر على المسير إليه ليقسم مواريث المسلمين و يتطوف على الثغور ففعل ذلك و رجع و استقضى في سنة ثمان عشرة على الكوفة شريح بن الحرث الكندي و على البصرة كعب بن سوار الأزدي و حج في هذه السنة و يقال إن فتح جلولاء و المدائن و الجزيرة كان في هذه السنة وقد تقدم ذكر ذلك و كذلك فتح قيسارية على يد معاوية و قيل سنة عشرين (2/553)
فتح مصر
و لما فتح عمر بيت المقدس استأذنه عمرو بن العاص في فتح مصر فأغزاه ثم اتبعه الزبير بن العوام فساروا سنة عشرين أو إحدى أو إثنين أو خمس فاقتحموا باب إليون ثم ساروا في قرى الريف إلى مصر و لقيهم الجاثليق أبو مريم و الأسقف قد بعثه المقرقس و جاء أبو مريم إلى عمرو فعرض الجزية و المنع و أخبره بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه و سلم في شأنهم و أجلهم ثلاثا و رجعوا إلى المقوس و أرطبون أمير الروم فأبى من ذلك أرطبون و عزم على الحرب و بيت المسلمين فهزموه و جنده و نازلوا عين شمس و هي المطرية و بعثوا لحصار الفرما أبرهه بن الصباح و لحصار الإسكندرية عوف ابن مالك و راسلهم أهل البلاد و انتظروا عين شمس فحاصرهم عمرو و الزبير مدة حتى صالحوهما على الجزية و أجروا ما أخذوا قبل ذلك عنوة فجرى الصلح و شرطوا رد السبايا فأمضاه لهم عمر بن الخطاب على أن يجيز السبايا في الإسلام و كتب العهد بينهم و نصه :
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى عمرو العاص أهل مصر من الأمان على أنفسهم و دمهم و أموالهم و كافتهم و صاعهم و مدهم و عددهم لا يزيد شيء في ذلك و لا ينقص و لا يساكنهم النوب و على أهل مصر أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح و انتهت زيارة نهرهم خمسين ألف ألف و عليه ممن جنى نصرتهم فإن أبى أحد منهم أن يجيب رفع عنهم من الجزى بقدرهم و ذمتنا ممن أبى برية و إن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى رفع عنهم بقدر ذلك و من دخل في صلحهم من الروم و النوب فله ما لهم و عليه ما عليهم و من أبى و اختار الذهاب فهو آمن حتى يبلغ مأمنه و يخرج من سلطاننا و عليهم ما عليهم أثلاثا في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم على ما في هذا الكتاب عهد الله و ذمته و ذمة رسوله و ذمة الخليفة أميرالمؤمنين و ذمم المؤمنين و على النوبة الذين استجابوا أن يعينوا بكذا و كذا رأسا و كذا و كذا فرسا على أن لا يغزوا و لا يمنعوا من تجارة صادرة و لا واردة و شهد الزبير و عبد الله و محمد إبناه و كتب وردان و حضر هذا نص الكتاب منقولا من الطبري
قال فدخل في ذلك أهل مصر كلهم و قبلوا الصلح و نزل المسلمون الفسطاط و جاء أبو مريم الجاثليق يطلب السبايا التي بعد المعركة في أيام الأجل فأبى عمرو من ردها و قال : أغاروا و قاتلوا و قسمتهم في الناس و بلغ الخبر إلى عمر فقال : من يقاتل في أيام الأجل فله الأمن و بعث بهم إلى الرباق فردهم عليهم ثم سار عمرو إلى الإسكندرية فاجتمع له من بينها و بين الفسطاط من الروم و القبط فهزمهم و أثخن فيهم و نازل الإسكندرية و بها المقوس و سأله الهدنة إلى مدة فلم يجبه و حاصرهم ثلاثة أشهر ثم فتحها عنوة و غنم ما فيها و جعلهم ذمة و قيل إن المقوقس صالح عمرا على إثني عشر ألف دينار على أن يخرج من يخرج و يقيم من يقيم باختيارهم و جعل عمرو فيها جندا
و لما فتح مصر و الإسكندرية أغزى عمرو العساكر إلى النوبة فلم يظفروا فلما كان أيام عثمان و عبد الله بن أبي سرح على مصر صالحهم على عدة رؤوس في كل سنة و يهدي إليهم المسلمون طعاما و كسوة فاستمر ذلك فيها (2/554)
وقعة نهاوند و ما كان بعدها من الفتوحات
لما فتحت الأهواز و يزدجرد بمرو كاتبوه و استجدوه فبعث إلى الملوك ما بين الباب و السند و خراسان و حلوان يستمدهم فأجابوه و اجتمعوا إلى نهاوند و على الفرس الفريرزان في مائة و خمسين ألف مقاتل و كان سعد بن أبي وقاص قد ألب أقوام عليه من عسكره و شكوا إلى عمر فبعث محمد بن مسلمة في الكشف عن أمره فلم يسمع إلا خيرا سوى مقالة من بني عبس فاستقدمه محمد إلى عمر و خبره الخبر و قال : كيف تصلي يا سعد ؟ قال : أطيل الأولتين و أحذف الأخيرتين قال : هكذا الظن بك ثم قال : من خليفتك على الكوفة ؟ قال : عبد الله بن عبد الله بن عتبان فأقره و شافهه بخبر الأعاجم و أشار بالانسياح ليكون أهيب على العدو فجمع عمر الناس و استشارهم بالمسير بنفسه فمن موافق و مخالف إلى أن اتفق رأيهم على أن يبعث الجنود و يقيم ردءا لهم و كان ذلك رأي علي و عثمان و طلحة و غيرهم فولى على حربهم النعمان بن مقرن المزني و كان على جند الكوفة بعد انصرافهم من حصار السوس و أمره أن يصير إلى ماء لتجتمع الجيوش عليه و يسير بهم إلى الفيرزان و من معه و كتب إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان أن يستنفر الناس مع النعمان فبعثهم مع حذيفة بن اليمان و معه نعيم بن مقرن و كتب إلى المقترب و حرملة و زر الذين كانوا بالأهواز و فتحوا السوس و جنديسابور أن يقيموا بتخوم أصبهان و فارس و يقطعوا المدد عن أهل نهاوند
و اجتمع الناس على النعمان و فيهم حذيفة و جرير و المغيرة و ابن عمر و أمثالهم و أرسل النعمان طليحة و عمرو بن معد يكرب طليعة و رجع عمرو من طريقه و انتهى طليحة إلى نهاوند و نفض الطرق فلم يلق بها أحدا و أخبر الناس فرحل النعمان و عبى المسلمين ثلاثين ألفا و جعل على مقدمته نعيم بن مقرن و على مجنبتيه حذيفة بن اليمان و سويد بن مقرن و على المجرد القعقاع و على الساقة مجاشع بن مسعود و مع الفيرزان كتائبه و على مجنبتيه الزردق و بهمن جادويه مكان ذي الحاجب وقد توافى إليهم بنهاوند كل من غاب من القادسية من أبطالهم
فلما تراءى الجمعان كبر المسلمون و حطت العرب الأثقال و تبادر أشراف الكوفة إلى فسطاط النعمان فبنوه حذيفة بن اليمان و المغيرة بن شعبة و عقبة بن عمرو و جرير بن عبد الله و حنظلة الكاتب و بشير بن الخصاصية و الأشعث بن قيس و وائل بن حجر و سعيد بن قيس الهمداني ثم تزاحفوا للقتال يوم الأربعاء و الخميس و الحرب سجال ثم أحجروهم في خنادقهم يوم الجمعة و حاصروهم أياما و سئم المسلمون إعتصامهم بالخنادق و تشاوروا و أشار طليحة باستخراجهم للمناجزة بالاستطراد فناشبهم القعقاع فبرزوا إليه كأنهم حبال حديد قد تواثقوا أن لا يفروا و ألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا فلما بارزوا استطرد لهم حتى فارقوا الخنادق وقد ثبت لهم المسلمون و نزل الصبر ثم وقف النعمان على الكتائب و حرض المسلمين و دعا لنفسه بالشهادة و قال : إذا كبرت الثالثة فاحملوا ثم كبر و حمل عند الزوال و تجاول الناس ساعة و ركدت الحرب ثم انفض الأعاجم و انهزموا و قتلوا ما بين الظهر و العتمة حتى سالت أرض المعركة دما تزلق فيه المشاة حتى زلق فيه النعمان و صرع و قيل بل أصابه سهم فسجاه أخوه نعيم بثوب و تناول الراية حذيفة بعهده و تواصوا بكتمان موته و ذهب الأعاجم ليلا و عميت عليهم المذاهب و عقرهم حسك الحديد و وقعوا في اللهب الذي أعدوه في عسكرهم فمات منهم اكثر من مائة ألف منها نحو ثلاثين ألفا في المعركة و هرب الفيرزان بعد أن صرع إلى همذان و اتبعه نعيم بن مقرن فأدركه بالثنية دونها وقد سدتها الأحمال و ترجل و صعد في الجبل و كان نعيم قد قدم القعقاع أمامه فاعترضه و قتله المسلمون على الثنية و دخل الفل همذان و بها خسرشنوم فنزل المسلمون عليها مع نعيم و القعقاع و دخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة و غنموا ما فيها و جمعوه إلى صاحب الأقباض السائب بن الأقرع
و ولي على أجند حذيفة بعهد النعمان إليه ثم جاء الهربذ صاحب بيت النار إلى حذيفة فأمنه و أخرج له سفطين مملوأين جوهرا نفيسا كانا من دخائر كسرى أودعهما عنده البخرجان فنقلهما المسلمون و بعث الخمس مع السائب إلى عمر و أخبره بالواقعة و بالفتح بمن استشهد فبكى و بالسفطين فقال ضعهما في بيت المال و ألحق بجندك قال السائب : ثم لحقني رسوله بالكوفة فردني إليه فلما رآني قال : ما لي و للسائب ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تسجني إلى السفطين يشعلان نارا يتوعدوني بالكي إن لم أقسمهما فخذهما عني و بعهما في أرزاق المسلمين فبعتهما بالكوفة من عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم و باعهما عمرو بأرض الأعاجم بضعفهما فكان له بالكوفة مال و كان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف و الراجل ألفين و لم يكن للفرس من بعدها إجتماع و كان أبو لؤلؤة قاتل عمر من أهل نهاوند حصل في أسر الروم و أسره الفرس منهم فكان إذا لقي سبي نهاوند بالمدينة يبكي و يقول : أكل عمر كبدي و كان أبو موسى الأشعري قد حضر نهاوند على أهل البصرة فلما انصرف مر بالدينور فحاصرها خمسة أيام ثم صالحوه على الجزية و سار إلى أهل شيروان فصالحوه كذلك و بعث السائب بن الأقرع إلى الصيمرة ففتحها صلحا
و لما اشتد الحصار بأهل همذان بعث خسرشنوم إلى نعيم و القعقاع في الصلح على قبول الجزية فأجابوه إلى ذلك ثم اقتدى أهل الماهين و هم الملوك الذين جاؤا لنصرة يزدجرد و أهل همذان و بعثوا إلى حذيفة فصالحوه و أمر عمر بالإنسياح في بلاد الأعاجم و عزل عبد الله بن عبد الله بن عتبان عن الكوفة و بعثه في وجه آخر و ولى مكانه زياد بن حنظلة حليف بني عبد قصي و استعفى فأعفاه و ولى عمار بن ياسر و استدعى ابن مسعود من حمص فبعثه معه معلما لأهل الكوفة و أمدهم بأبي موسى و أمد أهل البصرة مكانه بعبد الله بن عبد الله ثم بعثه إلى أصبهان مكان حذيفة و ولى على البصرة عمرو بن سراقة
ثم انتقض أهل همذان فبعث إلى نعيم بن مقرن فحاصرهم و صار بعد فتحها إلى خراسان و بعث عتبة بن فرقد و بكر بن عبد الله إلى أذربيجان يدخل أحدهما من حلوان و الآخر من الموصل و لما وصل عبد الله بن عبد الله بن عتبان إلى أصبهان و كان من الصحابة من وجوه الأنصار حليف بني الحبلى فأمده بأبي موسى وجعل على مجنبتيه عبد الله بن ورقاء الرياحي و عصمة بن عبد الله فسار إلى نهاوند و رجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة فسار عبد الله بمن معه و من تبعه من عند النعمان نحو أصبهان و على جندها الأسبيدان و على مقدمتة شهريار بن جادويه في جمع عظيم برستاق أصبهان فاقتتلوا و بارز عبد الله بن ورقاء شهريار فقتله و انهزم أهل أصبهان و صالحهم الأسبيدان على ذلك الرستاق ثم ساروا إلى أصبهان و تسمى جي و ملكها الفادوسفان فصالحهم على الجزية و الخيار بين المقام و الذهاب و قال : و لكم أرض من ذهب و قدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز فدخل معه أصبهان و كتبوا إلى عمر بالفتح فكتب إلى عبد الله أن يسير إلى سهيل بن عدي لقتال كرمان فاستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع و لحق بسهيل قبل أن يصل كرمان و قد قيل : إن النعمان بن مقرن حضر فتح أصبهان أرسله إليها عمر من المدينة و استجاش له أهل الكوفة فقتل في حرب أصبهان و الصحيح أن النعمان قتل بنهاوند و افتتح أبو موسى قم و قاشان ثم ولى عمر على الكوفة سنة إحدى و عشرين المغيرة بن شعبة و عزل عمارا (2/556)
فتح همذان
كان أهل همذان قد صالح عليهم خسرشنوم القعقاع و ضمنهما ثم انتقض فكتب عمر إلى نعيم أن يقصدها فودع حذيفة و رجع إليها من الطريف على تعبيته فاستولى على بلادها أجمع حتى صالحوا على الجزية و قيل إن فتحها كان سنة أربع و عشرين فبينما نعيم يجول في نواحي همذان إذ جاء الخبر بخروج الديلم و أهل الري و أسفنديار أخو رستم بأهل أذربيجان فاستخلف نعيم على همذان يزيد بن قيس الهمداني و سار إليهم فاقتتلوا و انهزم الفرس و كانت واقعتها مثل نهاوند و أعظم و كتبوا إلى عمر بالفتح فأمر نعيما فأمر بقصد الري و المقام بها بعد فتحها و قيل إن المغيرة بن شعبة أرسل من الكوفة جرير بن عبد الله إلى همذان ففتحها صلحا و غلب على أرضها و قيل تولاها بنفسه و جرير على مقدمته و لما فتح جرير همذان بعث البراء بن عازب إلى قزوين ففتح ما قبلها و سار إليها فاستنجدوا بالديلم فوعدوهم ثم جاء البراء في المسلمين فخرجوا لقتالهم و الديلم وقوف على الجبل ينظرون فيئس أهل قزوين منهم و صالحوا البراء على صلح أبهر قبلها ثم غزا البراء الديلم و جيلان (2/559)
فتح الري
و لما انصرف نعيم من واقعته سار إلى الري و خرج إليه أبو الفرخان من أهلها في الصلح و أبى ذلك ملكها سياوخش بن مهران بن بهرام جوبين و استمد أهل دنباوند و طبرستان و قومس و جرجان فأمدوه و التقوا مع نعيم فشغلوا به عن المدينة وقد كان خلفهم أبو فرخان و دخل المدينة من الليل و معه المنذر بن عمر و أخو نعيم فلم يشعروا و هو موافقون لنعيم إلا بالتكبير من روائهم فانهزموا و قتلوا و أفاء الله على المسلمين بالري مثل ما كان بالمدائن و صالحه أبو الفرخان الزبيني على البلاد فلم يزل شرفهم في عقبه و أخرب نعيم مدينتهم العتيقة و أمر ببناء أخرى و كتب إلى عمر بالفتح و صالحه أهل دنباوند على الجزية فقبل منهم
و لما بعث بالأخماس إلى عمر كتب إليه بإرسال أخيه سويد إلى قومس و معه هند بن عمرو الجملي فسار فلم يقم له أحد و أخذها سلما و عسكر بها و كاتبه الفل الذين بطبرستان و بالمفاوز فصالحوه على الجزية ثم سار إلى جرجان و عسكر فيها ببسطام و صالحه ملكها على الجزية و تلقاه مرزبان صول قبل جرجان فكان معه حتى جبى الخراج و أراه مروجها و سدها و قيل كان فتحها سنة ثلاثين أيام عثمان ثم أرسل سويد إلى الأصبهبذ صاحب طبرستان على الموادعة فقبل و عقد له بذلك (2/560)
فتح أذربيجان
و لما افتتح نعيم الري أمره عمر أن يبعث سماك بن خرشة الأنصاري إلى أذربيجان ممدا لبكير بن عبد الله و كان بكير بن عبد الله عندما سار إلى أذربيجان لقي بالجبال أسفنديار بن فرخزاد مهزوما من واقعة نعيم من ماح رود دون همذان و هو أخو رستم فهزمه بكير و أسره فقال له : أمسكني عندك فأصالح لك على البلاد و إلا فروا إلى الجبال و تركوها و تحصن من تحصن إلى يوم ما فأمسكه و سارت البلاد صلحا إلا الحصون و قدم عليه سماك و هو في مثل ذلك وقد افتتح ما يليه و افتتح عتبة بن فرقد ما يليه و كتب بكير إلى عمر يستأذنه في التقدم فأذن له أن يتقدم نحو الباب و أن يستخلف على ما افتتح فاستخلف عتبة بن فرقد و جمع له عمر أذربيجان كلها فولى عتبة سماك بن خرشة على ما افتتحه بكير و كان بهرام بن الفرخزاد قصد طريق عتبة و أقام به في عسكره مقتصدا معترضا له فلقيه عتبة و هزمه و بلغ خبر الأسفنديار و هو أسير عند بكير فصالحه و اتبعه أهل أذربيجان كلهم و كتب بكير و عتبة بذلك إلى عمر و بعثوا بالأخماس فكتب عمر لأهل أذربيجان كتاب الصلح ثم غزا عتبة بن فرقد شهر زور و الصامغان ففتحهما بعد قتال على الجزية و الخراج و قتل خلقا من الأكراد و كتب إلى عمر أن فتوحي بلغت أذربيجان فولاه إياها و ولى هرثمة بن عرفجة الموصل (2/561)
فتح الباب
و لما أمر عمر بكير بن عبد الله بغزو الباب و التقدم إليها بعث سراقة بن عمرو على حربها فسار من البصرة و جعل مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة و على إحدى مجنبتيه ابن أسيد الغفاري و على الأخرى بكير بن عبد الله المتقدم و على المقاسم سلمان بن ربيعة الباهلي و رد أبا موسى الأشعري إلى البصرة مكان سراقة ثم أمد سراقة بجبيب بن مسلمة من الجزيرة و جعل مكانه زياد بن حنظلة و سار سراقة من أذربيجان فلما وصل عبد الرحمن بن ربيعة في مقدمته على الباب و الملك بها يومئذ شهريار من ولد شهريرار الذي أفسد بني إسرائيل و أغزى الشام منهم فكاتبه شهريار و استأمنه على أن يأتي فحضر و طلب الصلح و الموادعة على أن تكون جزيته النصر و الطاعة للمسلمين قال : و لا تسومونا الجزية فتوهنونا لعدوكم فسيره عبد الرحمن إلى سراقة فقبل منه و قال : لا بد من الجزية على من يقيم و لا يحارب العدو فأجاب و كتبوا إلى عمر فأجاز ذلك (2/561)
فتح موقان و جبال أرمينية
و لما فرغ سراقة من الباب بعث أمراء إلى مايليه من الجبال المحيطة بأرمينية فأرسل بكير بن عبد الله إلى موقان و حبيب بن مسلمة إلى تفليس و حذيفة بن اليمان إلى جبال اللان و سلمان بن ربيعة إلى الوجه الآخر و كتب بالخبر إلى عمر فلم يرج تمام ذلك لأنه فرج عظيم ثم بلغه موت سراقة و استخلف عبد الرحمن بن ربيعة فأقره عمر على فرج الباب و أمره بغزو الترك و لم يفتح أحد من أولئك الأمراء إلا بكير بن عبد الله فإنه فتح موقان ثم تراجعوا على الجزية دينارا عن كل حالم (2/562)
غزو الترك
و لما أمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك سار حتى الباب و سار معه شهريار فغزا بلنجر و هم قوم من الترك ففروا منه و تحصنوا و بلغت خلية على مائتي فرسخ من بلنجر و عاد بالظفر و الغنائم و لم يزل يردد الغزو فيهم إلى أيام عثمان فتذامر الترك و كانوا يعتقدون أن المسلمين لا يقتلون لأن الملائكة معهم فأصابوا في هذه الغزاة رجلا من المسلمين على غزة فقتلوه و تجاسروا و قاتل عبد الرحمن فقتل و انكشف أصحابه و أخذ الراية أخوه سلمان فخرج بالناس و معه أبو هريرة الدوسي فسلكوا على جيلان إلى جرجان (2/562)
فتح خراسان
و لما عقدت الألوية للأمراء للإنسياح في بلاد فارس كان الأحنف بن قيس منهم بخراسان و قد تقدم أن يزدجرد سار بعد جلولاء إلى الري و بها أبان جادويه من مرازبته فأكرهه على خاتمه و كتب الضحاك بما اقترح من ذخائر يزدجرد و ختم عليها و بعث بها إلى سعد فردها عليه على حكم الصلح الذي عقد له ثم سار يزدجرد و الناس معه إلى أصبهان ثم إلى كرمان ثم رجع إلى مرو من خراسان فنزلها و أمن من العرب و كاتب الهرمزان و أهل فارس بالأهواز و الفيرزان و أهل الجبال فنكثوا جميعا و هزمهم الله و خذلهم و أذن عمر للمسلمين بالانسياح في بلادهم
و أمر الأمراء كما قدمناه و عقد لهم الألوية فسار الأحنف إلى خراسان سنة ثمان عشرة و قيل اثنتين و عشرين فدخلها من الطبسين و افتتح هراة عنوة و استخلف عليها صحار بن فلان العبدي ثم سار إلى مرو الشاهجان و أرسل إلى نيسابور مطرف بن عبد الله بن الشخير و إلى سرخس الحرث بن حسان و درج يزدجرد من مرو الشاهجان إلى مرو الروذ فملكها الأحنف و لحقه مدد أهل الكوفة هنالك فسار إلى مرو الروذ و استخلف على الشاهجان حارثة بن النعمان الباهلي و جعل مدد الكوفة في مقدمته و التقوا هم و يزدجرد على بلخ فهزموه و عبر النهر فلحقهم الأحنف و قد فتح الله عليهم و دخل أهل خراسان في الصلح ما بين نيسابور و طخارستان و ولى على طخارستان ربعي بن عامر و عاد إلى مرو الروذ فنزلها و كتب إلى عمر بالفتح فكتب إليه أن يقتصر على ما دون النهر
و كان يزدجرد و هو بمرو الروذ قد استنجد ملوك الأمم و كتب إلى ملك الصين و إلى خاقان ملك الترك و إلى ملك الصغد فلما عبر يزدجرد النهر مهزوما أنجده خاقان في الترك و أهل فرغانة و الصغد فرجع يزدجرد و خاقان إلى خراسان فنزلا بلخ و رجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمرو الروذ و نزل المشركون عليه ثم رحل و نزل سفح الجبل في عشرين ألفا من أهل البصرة و أهل الكوفة و تحصن العسكران بالخنادق و أقاموا يقاتلون أياما و صحبهم الأحنف ليلة و قد خرج فارس من الترك يضرب بطبله و يتلوه إثنان كذلك ثم يخرج العسكر بعدهم عادة لهم فقتل الأحنف الأول ثم الثاني ثم الثالث فلما مر بهم خاقان تشاءم و تطير و رجع أدراجه فارتحل و عاد إلى بلخ و بلغ الخبر إلى يزدجرد و كان على مرو الشاهجان محاصرا لحارثة بن النعمان و من معه فجمع خزائنه و أجمع اللحاق بخاقان على بلخ فمنعه أهل فارس و حملوه على صلح المسلمين و الركون إليهم و أمهم أوفى ذمة من الترك فأبى من ذلك و قاتلهم فهزموه و استولوا على الخزائن و لحق بخاقان و عبروا النهر إلى فرغانة و أقام يزدجرد ببلد الترك عمر كلها إلى أن كفر أهل خراسان أيام عثمان ثم جاء أهل فارس إلى الأحنف و دفعوا إليه الخزائن و الأموال و صالحوه و اغتبطوا بملكة المسلمين و قسم الأحنف الغنائم فأصاب الفارس ما أصابه يوم القادسية
ثم نزل الأحنف بلخ و أنزل أهل الكوفة في كورها الأربع و رجع إلى مرو الروذ فنزلها و كتب بالفتح إلى عمر و كان يزدجرد لما عبر النهر لقي رسوله الذي بعثه إلى ملك الصين قد رده إليه يسأله أن يصف له المسلمين الذين فعلوا به هذه الأفاعيل مع قلة عددهم و يسأل عن وفائهم و دعوتهم و طاعة أمرائهم و وقوفهم عند الحدود و مآكلهم و شرابهم و ملابسهم و مراكبهم فكتب إليه بذلك كله و كتب إليه ملك الصين أن يسالمهم فإنهم لا يقوم لهم شيء بما قام نردبل فأقام يزدجرد بفرغانة بعهد من خاقان و لما وصل الخبر إلى عمر خطب الناس و قال : ألا و إن ملك المجوسية قد ذهب فليسوا يملكون من بلادهم شبرا يضر بمسلم ألا و إن الله قد أورثكم أرضهم و ديارهم و أموالهم و أبناءهم لينظر كيف تعلمون فلا تبدلوا فيستبدل الله بكم غيركم فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم (2/563)
فتوح فارس
و لما خرج الأمراء الذين توجهوا إلى فارس من البصرة افترقوا و سار كل أمير إلى جهته و بلغ ذلك أهل فارس فافترقوا إلى بلدانهم و كانت تلك هزيمتهم و شتاتهم و قصد مجاشع بن مسعود من الأمراء سابور و أردشير خرة فاعترضه الفرس دونهما بتوج فقتلهم و أثخن فيهم و افتتح توج و استباحها و صالحهم على الجزية و أرسل بالفتح و الأخماس إلى عمر فكانت واقعة توج هذه ثانية لواقعة العلاء بن الحضرمي عليهم أيام طاوس ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا و أقروا بها
اصطخر : و قصد عثمان بن أبي العاص اصطخر فزحفوا إليه يجور فهزمهم و أثخن فيهم و فتح جور و اصطخر و وضع عليهم الجزية و أجابه الهربذ إليها و كان ناس منهم فروا فتراجعوا إليها و بعث بالفتح و الخمس إلى عمر ثم فتح كازرون و النوبندجان و غلب على أرضها و لحق به أبو موسى فافتتحا مدينة شيراز و أرجان على الجزية و الخراج و قصد عثمان جنابة ففتحها و لقي الفرس بناحية جهرم فهزمهم و فتحها ثم نقض شهرك في أول خلافة عثمان فبعث عثمان بن أبي العاص ابنه و أخاه الحكم و أتته الأمداد من البصرة و عليه عبيد الله بن معمر و شبل بن معبد و التقوا بأرض فارس فانهزم شهرك و قتله الحكم بن أبي العاصي و قيل سوار بن همام العبدي و قيل إن ابن شهرك حمل على سوار فقتله و يقال إن اصطخر كانت سنة ثمان و عشرين و قيل تسع و عشرين و قيل إن عثمان بن أبي العاص أرسل أخاه الحكم من البحرين إلى فارس في ألفين فسار إلى توج و على مجنبته الجارود و أبو صفرة والد المهلب و كان كسرى أرسل شهرك في الجنود إلى لقائهم فالتقوا بتوج و هزمهم إلى سابور و قتل شهرك و حاصروا مدينة سابور حتى صالح عليها ملكها و استعانوا به على قتال اصطخر ثم مات عمر رضي الله عنه و بعث عثمان بن عفان عبيد الله بن معمر مكان عثمان بن أبي العاص و أقام محاصرا اصطخر و أراد ملك سابور الغدر به ثم أحضر و أصابت عبيد الله حجارة منجنيق فمات بها ثم فتحوا المدينة فقتلوا بها بشرا كثيرا منهم
بساودر ايجرد : و قصد سارية بن زنيم الكناني من أمراء الانسياح مدينة بسا و دار ايجرد فحاصرهم ثم استجاشوا بأكراد فارس و اقتتلوا بصحراء و قام عمر على المنبر و نادي يا سارية الجبل يشير إلى جبل كان ازاءه أن يسند إليه فسمع ذلك سارية و لجأ إليه ثم انهزم المشركون و أصاب المسلمون مغانمهم و كان فيها سفط جوهر فاستوهبه سارية من الناس و بعث به مع الفتح إلى عمر و لما قدم به الرسول سأله عمر فأخبره عن كل شيء و دفع إليه السفط فأبى إلا أن يقسم على الجند فرجع به و قسمه سارية
كرمان : و قصد سهيل بن عدي من أمراء الانسياح كرمان و لحث به عبد الله بن عبد الله بن عتبان و حشد أهل كرمان و استعانوا بالقفص و قاتلوا المسلمين في أدنى أرضهم فهزموهم بإذن الله و أخذ المسلمون عليهم الطريق بل الطرق و دخل النسير بن عمرو العجلي إلى جيرفت و قتل في طريقه مرزبان كرمان و عبد الله بن عبد الله مفازة شيرزاد و أصابوا ما أرادوا من إبل و شاء و قيل إن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي ثم أتى الطبسين من كرمان ثم قدم على عمر و قال : أقطعني الطبسين فأراد أن يفعل فقال إنها رستاقان فامتنع
سجستان : و قصد عاصم بن عمرو من الأمراء سجستان و لحق به عبد الله بن عمير و قاتلوا أهل سجستان في أدنى أرضهم فهزموهم و حصروهم بزرنج و مخروا أرض سجستان ثم طلبوا الصلح على مدينتهم و أرضها على أن الفدافد حمى و بقي أهل سجستان على الخراج و كانت أعظم من خراسان و أبعد فروجا يقاتلون القندهار و الترك و أمما أخرى فلما كان زمن معاوية هرب الشاه من أخيه نبيل ملك الترك إلى بلد من سجستان يدعى آمل و كان على سجستان سلم بن زياد بن أبي سفيان فعقد له و أنزله آمل و كتب إلى معاوية بذلك فأقره بغير نكير و قال : إن هؤلاء قوم غدر و أهون ما يجيء منهم إذا وقع اضطراب أن يغلبوا على بلاد آمل بأسرها فكان كذلك و كفر الشاه بعد معاوية و غلب على بلاد آمل و اعتصم منه زنبيل بمكانه و طمع هو في زرنج فحاصرها حتى جاءت الأمداد من البصرة فأجفلوا عنها
مكران : و قصد الحكم بن عمرو التغلبي من أمراء الانسياح بلد مكران و لحق به شهاب بن المخارق و جاء سهيل بن عدي و عبد الله بن عبد الله بن عتبان و انتهوا جميعا إلى دوين و أهل مكران على شاطية و قد أمدهم أهل السند بجيش كثيف و لقيهم المسلمون فهزموهم و أثخنوا فيهم بالقتل و اتبعوهم أياما حتى انتهوا إلى النهر و رجعوا إلى مكران فأقاموا بها و بعثوا إلى عمر بالفتح و الأخماس مع صحار العبدي و سأله عمر عن البلاد فأثنى عليها سرا فقال : و الله لا يغزوها جيش لي أبدا و كتب إلى سهيل و الحكم أن لا يجوز مكران أحد من جنودكما (2/565)
خبر الأكراد
كان أمر أمراء الانسياح لما فصلوا إلى النواحي اجتمع ببيروذ بين نهر تيري و منادر من أهل الأهواز جموع من الأعاجم أعظمهم الأكراد و كان عمر قد عهد إلى أبي موسى أن يسير إلى أقصى تخوم البصرة ردءا للأمراء المنساحين فجاء إلى بيروذ و قاتل تلك الجموع قتالا شديدا و قاتل المهاجر بن زياد حتى قتل ثم وهن الله المشركين فتحصنوا منه في قلة و ذلة فاستخلف أبو موسى عليهم أخاه الربيع بن زياد و سار إلى أصبهان مع المسلمين الذين يحاصرونها حتى إذا فتحت رجع إلى البصرة و فتح الربيع بن زياد بيروذ و غنم ما فيها و لحق به بالبصرة و بعثوا إلى عمر بالفتح و الأخماس و أراد ضبة بن محصن العنزي أن يكون في الوفد فلم يجبه أبو موسى فغضب و انطلق شاكيا إلى عمر بانتقائه ستين غلاما من أبناء الدهاقين لنفسه و أنه أجاز الحطيئة بألف و ولى زياد بن أبي سفيان أمور البصرة و اعتذر أبو موسى و قبله عمر
و كان عمر قد اجتمع إليه جيش من المسلمين فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعي و دفعهم إلى الجهاد على عادته و أوصاهم فلقوا عدوا من الأكراد المشركين فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية فأبوا و قاتلوهم و هزموهم و قتلوا و سبوا و قسموا الغنائم و رآى سلمة جوهرا في سفط فاسترضى المسلمين و بعث به إلى عمر فسأل الرسول عن أمور الناس حتى أخبره بالسهفط فغضب و أمر به فوجئ في عنقه و قال : أسرع قبل أن تفترق الناس ليقسمه سلمة فيه فباعه سلمة و قسمه في الناس و كان الفص يباع بخمسة دراهم و قيمته عشرون ألفا (2/567)
مقتل عمر و أمر الشورى و بيعة عثمان رضي الله عنه
كان للمغيرة بن شعبة مولى من نصارى العجم إسمه أبو لؤلؤة و كان يشدد عليه في الخراج فلقي يوما عمر في السوق فشكى إليه و قال : أعدني على المغيرة فإنه يثقل علي في الخراج درهمين في كل يوم قال : و ما صناعتك ؟ قال نجار حداد نقاش فقال : ليس ذلك بكثير على هذه الصنائع و قد بلغني أنك تقول أصنع رحى تطحن بالريح فاصنع لي رحى قال : أصنع لك رحى يتحدث الناس بها أهل المشرق و المغرب و انصرف فقال عمر : توعدني العلج فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة و استوت الصفوف و دخل أبو لؤلؤة في الناس و بيده خنجر برأسين نصابه في وسطه فضرب عمر ست ضربات إحداها تحت سرته و قتل كليبا بن أبي البكير الليثي و سقط عمر فاستخلف عبد الرحمن بن عوف في الصلاة و احتمل إلى بيته
ثم دعا عبد الرحمن و قال : أريد أن أعهد إليك قال : أتشير علي بها قال : لا
قال : و الله لا أفعل قال : فهبني صمتا حتى إلى النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو عنهم راض ثم دعا عليا و عثمان و الزبير و سعدا و عبد الرحمن معهم و قال انتظروا طلحة ثلاثا فإن جاء و إلا فاقضوا أمركم و ناشد الله من يفضي إليه الأمر منهم أن يحمل أقاربه على رقاب الناس و أوصاهم بالأنصار الذين تبوؤا الدار و الإيمان أن يحسن إلى محسنهم و بعفو عن مسيئهم و أوصى بالعرب فإنهم مادة الإسلام أن تؤخذ صدقاتهم في فقرائهم و أوصى بذمة رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يوفى لهم بعهدهم ثم قال : اللهم قد بلغت لقد تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة ثم دعى أبا طلحة الأنصاري فقال : قم على باب هؤلاء و لا تدع أحدا يدخل إليهم حتى يقضوا أمرهم ثم قال : يا عبد الله بن عمر اخرج فانظر من قتلني ؟ قال يا أمير المؤمنين : قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة قال : الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدة واحدة ثم بعث إلى عائشة يستأذنها في دفنه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبي بكر فأذنت له ثم قال : يا عبد الله إن اختلف القوم فكن مع الأكثر فإن تساووا فكن مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف
ثم أذن للناس فدخل المهاجرون و الأنصار فقال لهم : أهذا عن ملأ منكم ؟ فقالوا : معاذ الله و جاء علي و ابن عباس فقعدوا عنه رأسه و جاء الطبيب فسقاه نبيذا فخرج متغيرا ثم لبنا فخرج كذلك فقال له : اعهد قال : قد فعلت و لم يزل يذكر الله إلى أن توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث و عشرين و صلى عليه صهيب و ذلك لعشر سنين و ستة أشهر من خلافته
و جاء أبو طلحة الأنصاري و معه المقداد بن الأسود و قد كان أمرهما عمر أن يجمعا هؤلاء الرهط الستة في مكان و يلزماهم أن يقدموا للناس من يختاروه منهم و إن اختلفوا كان الاتباع للأكثر و إن تساووا حكموا عبد الله بن عمر أو اتبعوا عبد الرحمن بن عوف و يؤجلوهم في ذلك ثلاثا يصلي فيهم بالناس صهيب و يحضر عبد الله بن عمر معهم مشيرا ليس له شي من الأمر و طلحة شريكهم أن قدم في الثلاث ليال
فجمعهم أبو طلحة و المقداد في بيت المسور بن مخرمة و قيل في بيت عائشة و جاء عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد و أقامهما و قال : تريدان أن تقولا حضرنا و كنا في أهل الشورى ثم دار بينهما الكلام و تنافسوا في الأمر فقال : عبد الرحمن أيكم يخرج منها نفسه و يجتهد فيوليها أفضلكم و أنا أفعل ذلك ؟ فرضي القوم و سكت علي فقال : ما تقول على شريطة أن تؤثر الحق و لا تتبع الهوى و لا تخص ذا رحم و لا تألوا الأمة نصحا و تعطينا العهد بذلك قال : و تعطوني أنتم مواثيقكم على أن تكونوا معي على من خالف و ترضوا من اخترت و تواثقوا ثم قال لعلي : أنت أحق من حضر بقرابتك و سوابقك و حسن أثرك في الدين و لم تبعد في نفسك فمن ترى أحق فيه بعدك من هؤلاء ؟ قال : عثمان و خلا بعثمان فقال له مثل ذلك فقال : علي
و دار عبد ا لرحمن لياليه كلها يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و من يوافي المدينة من أمراء الأجناد و أشراف الناس و يشيرهم إلى صبيحة الرابع فأتى منزل المسور بن مخرمة و خلا فيه بالزبير و سعد أن يتركا الأمر لعلي أو عثمان فاتفقا على علي ثم قال له سعد بايع لنفسك و أرحنا فقال : قد خلعت لهم نفسي على أن أختار و لو لم أفعل ما أريدها ثم استدعى عبد الرحمن عليا و عثمان فناجى كلا منهما إلى أن رضوا بل إلى أن صلوا الصبح و لا يعلم أحد ما قالوا ثم جمع المهاجرين و أهل السابقة من الأنصار و أمراء الأجناد حتى غص المسجد بهم فقال : أشيروا علي فأشار عمار بعلي و وافقه المقداد فقال ابن أبي سرح : إن أردت أن لا تختلف قريش فبايع عثمان و وافقه عبد الله بن أبي ربيعة فتفاوضا و تشاتما و نادى سعد : يا عبد الرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس فقال : نظرت و شاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا ثم قال لعلي : عليك عهد الله و ميثاقه لتعملن بكتاب الله و سنة رسوله و سيرة الخليفتين من بعده قال : أرجوا أن أجتهد بل أن أفعل بمبلغ عملي و طاقتي و قال لعثمان مثل ذلك فقال : نعم فرفع رأسه إلى سقف المسجد و يده في يد عثمان و قال : اللهم اشهد أني قد جعلت ما في عنقي من ذلك في عنق من ذلك في عنق عثمان فبايعه الناس ثم قدم طلحة في ذلك اليوم فأتى عثمان فقال له عثمان : أنت على الخيار في الأمر و إن أبيت رددتها فقال : أكل الناس بايعوك ؟ قال : نعم قال : رضيت و لا أرغب عما أجمعوا عليه
و كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض و مر أبو لؤلؤة بالهرمزان و بيده الخنجر الذي طعن به عمر فتناوله من يده و أطال النظر فيه ثم رده إليه و معهم جفينة نصراني من أهل الحيرة فلما طعن عمر من الغداة قال عبد الرحمن بن أبي بكر لعبيد الله بن عمر : أني رأيت هؤلاء الثلاثة يتناجون فلما رأوني افترقوا و سقط منهم هذا الخنجر فعدا عبيد الله عليهم فقتلهم ثلاثتهم و أمسكه سعد بن أبي وقاص و جاء به إلى عثمان بعد البيعة و هو في المسجد فأشار علي بقتله و قال عمرو بن العاص : لا يقتل عمر بالأمس و يقتل ابنه اليوم فجعلها عثمان دية و احتملها و قال أنا وليه ثم قام عثمان و صعد المنبر و بايعه الناس كافة و ولى لوقته سعد بن أبي وقاص على الكوفة و عزل المغيرة و ذلك بوصية عمر لأنه أوصى بتولية سعد و قال لم أعزله عن سوء و لا خيانة منه و قيل إنما ولاه و عزل المغيرة بعد سنة و أنه أقر لأول أمره عمال عمر كلهم (2/116)
نقض أهل الإسكندرية و فتحها
لما سار هرقل إلى القسطنطينية و فارق الشام و استولى المسلمون على الإسكندرية و بقي الروم بها تحت أيديهم فكاتبوا هرقل فاستنجدوه فبعث إليهم عسكرا مع منوبل الخصي و نزلوا بساحل الإسكندرية لمنعهم المقوقس من الدخول إليه فساروا إلى مصر و لقيهم عمرو بن العاص و المسلمون فهزموهم و اتبعوهم إلى الإسكندرية و أثخنوا فيهم بالقتل و قتل قائدهم منويل الخصي و كانوا قد أخذوا في مسيرهم إلى مصر أموال أهل القرى فردها عمرو عليهم بالبينة ثم هدم سور الإسكندرية و رجع إلى مصر (2/571)
ولاية الوليد بن عقبة الكوفة و صلح أرمينية و أذربيجان
و في سنة خمس و عشرين عزل عثمان سعدا عن الكوفة لأنه اقترض من عبد الله بن مسعود من بيت المال قرضا و تقاضاه ابن مسعود فلم يوسر سعد فتلاحيا و تناجيا بالقبيح و افترقا يتلاومان و تداخلت بينهما العصبية و بلغ الخبر عثمان فعزل سعدا و استدعى الوليد بن عقبة من الجزيرة و كان على غربها منذ ولاه عمر فولاه عثمان على الكوفة فكان مكان سعد
ثم عزل عتبة بن فرقد عن أذربيجان فنقضوا فغزاهم الوليد و على مقدمته عبد الله بن شبيل الأحمسي فأغار على أهل موقان و البرزند و الطيلسان ففتح و غنم و سبى و طلب أهل كور أذربيجان الصلح فصالحهم على صلح حذيفة ثمانمائة درهم و قبض المال ثم بث سراياه و بعث سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أهل أرمينية في اثني عشر ألفا فسار فيها و أثخن ثم انصرف إلى الوليد و عاد الوليد إلى الكوفة و جعل طريقه على الموصل فلقيه كتاب عثمان بأن الروم أجلبوا على معاوية بالشام فابعث إليهم رجلا من أهل النجدة و البأس في عشرة آلاف عند قراءة المكتوب فبعث الوليد الناس مع سلمان بن ربيعة ثمانية آلاف و مضوا إلى الشام و دخلوا أرض الروم مع حبيب بن مسلمة فشنوا عليهم بالغارات و استفتحوا الحصون و قيل إن الذي أمد حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة هو سعيد بن العاص و ذلك أن عثمان كتب إلى معاوية أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشام أرمينية فبعثه و حاصر قاليقلا حتى نزلوا على الجلاء أو الجزية فجلى كثير إلى بلاد الروم و أقام فيها فيمن معه أشهرا ثم بلغه أن بطريق أرميناقس و هي بلاد ملطية و سيواس و قونية إلى خليج قسطنطينية قد زحف إليه في ثمانين ألفا فاستنجد معاوية فكتب إلى عثمان فأمر سعيد بن العاص بإمداد حبيب فأمده بسلمان في ستة آلاف و بيت الروم فهزمهم و عاد إلى قاليقلا ثم سار في البلاد فجاء بطريق خلاط و بيده أمان عياض بن غنم و حمل ما عليهم من المال فنزل حبيب خلاط ثم سار منها فصالحه صاحب السيرجان ثم صاحب اردستان ثم صالح أهل دبيل بعد الحصار ثم أهل بلاد السيرجان كلهم ثم أتى أهل شمشاط فحاربوه فهزمهم و غلب على حصونهم ثم صالحه بطريق خرزان على بلاده و سار إلى تفليس فصالحوه و فتح عدة حصون و مدن تجاورها و سار ابن ربيعة الباهلي إلى أران فصالح أهل البيلقان على الجزية و الخراج ثم أهل بردعة كذلك وقراها و قاتل أكراد البوشنجان و ظفر بهم و صالح بعضهم على الجزية و فتح مدينة شمكور و هي التي سميت بعد ذلك المتوكلية و سار سلمان حتى فتح فلية و صالحه صاحب كسكر على الجزية و ملك شروان و سائر ملوك الجبال إلى مدينة الباب و انصرفوا ثم غزا معاوية الروم و بلغ عمورية و وجد ما بين انطاكية و طرسوس من الحصون خاليا فجمع فيها العساكر حتى رجع و خربها (2/571)
ولاية عبد الله بن أبي سرح على مصر و فتح افريقية
و في سنة ست و عشرين عزل عثمان عمرو بن العاص عن خراج مصر و استعمل مكانه عبد الله بن أبي سرح أخاه من الرضاعة فكتب إلى عثمان يشكو عمرا فاستقدمه و استقل عبد الله بالخراج و الحرب و أمره بغزو افريقية و قد كان عمرو بن العاص سنة إحدى و عشرين سار من مصر إلى برقة فصالح أهلها على الجزية ثم سار إلى طرابلس فحاصرها شهرا و كانت مكشوفة السور من جانب البحر و سفن الروم في مرساها فحسر القوم في بعض الأيام و انكشف أمرها لبعض المسلمين المحاصرين فاقتحموا البلد بين البحر و البيوت فلم يكن للروم ملجأ إلا سفنهم و ارتفع الصياح فأقبل عمرو بعساكره فدخل البلد و لم تفلت الروم إلا بما خف في المراكب و رجع إلى مدينة صبرة و كانوا قد آمنوا بمنعة طرابلس فصبحهم المسلمون و دخلوها عنوة و كمل الفتح و رجع عمرو إلى برقة فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار جزية و كان أكثر أهل برقة لواتة و كان يقال إن البربر ساروا بعد قتل ملكهم جالوت إلى المغرب و انتهوا إلى لوبية و مراقية كورتان من كور مصر فصارت زناتة و مغيلة من البربر إلى المغرب فسكنوا الجبال و سكنت لواتة برقة و تعرف قديما انطابلس و انتشروا إلى السوس و نزلت هوراة مدينة لبدة و نزلت نفوسة مدينة صبرة و جلوا من كان هنالك من الروم و أقام الأفارق و هم خدم الروم و بقيتهم على صلح يؤدونه إلى من غلب عليهم إلى أن كان صلح عمرو بن العاص
ثم إن عبد الله بن أبي سرح كان أمره عثمان بغزو افريقية سنة خمس و عشرين و قال له : إن فتح الله عليك فلك خمس الخمس من الغنائم و أمر عقبة بن نافع بن عبد القيس على جند و عبد الله بن نافع بن الحرث على آخر و سرحهما فخرجوا إلى افريقية في عشرة آلاف و صالحهم أهلها على مال يؤدونه و لم يقدروا على التوغل فيها لكثرة أهلها ثم إن عبد الله بن أبي سرح استأذن عثمان في ذلك و استمده فاستشار عثمان الصحابة فأشاروا به فجهز العساكر من المدينة و فيهم جماعة من الصحابة منهم ابن عباس و ابن عمر و ابن عمرو بن العاص و ابن جعفر و الحسن و الحسين و ابن الزبير و ساروا مع عبد الله بن أبي سرح سنة ست و عشرين و لقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين ببرقة ثم ساروا إلى طرابلس فنهبوا الروم عندها ثم ساروا إلى افريقية و بثوا السرايا في كل ناحية و كان ملكهم جرجير يملك ما بين طرابلس و طنجة تحت ولاية هرقل و يحمل إليه الخراج فلما بلغه الخبر جمع مائة و عشرين ألفا من العساكر و لقيهم على يوم و ليلة من سبيطلة دار ملكهم و أقاموا يقتتلون و دعوه إلى الإسلام أو الجزية فاستكبر و لحقهم عبد الرحمن بن الزبير مددا بعثه عثمان لما أبطأت أخبارهم و سمع جرجير بوصول المدد ففت في عضده و شهد ابن الزبير معهم القتال و قد غاب ابن أبي سرح و سأل عنه فقيل إنه سمع منادي جرجير يقول من قتل ابن أبي سرح فله مائة ألف دينار و أزوجه ابنتي فخاف و تأخر عن شهود القتال فقال له ابن الزبير : تنادي أنت بأن من قتل جرجير نفلته مائة ألف و زوجته ابنته و استعملته على بلاده فخاف جرجير أشد منه
ثم قال عبد الله بن الزبير لابن أبي سرح أن يترك جماعة من أبطال المسلمين المشاهير متأهبين للحرب و يقاتلون الروم بباقي العسكر إلى أن يضجروا فيركب عليهم بالآخرين على غرة لعل الله ينصرنا عليهم و وافق على ذلك أعيان الصحابة ففعلوا ذلك و ركبوا من الغد إلى الزوال و ألحوا عليهم حتى أتعبوهم ثم افترقوا و أركب عبد الله الفريق الذين كانوا مستريحين فكبروا و حملوا حملة رجل واحد حتى غشوا الروم في خيامهم فانهزموا و قتل كثير منهم و قتل ابن الزبير جرجير و أخذت ابنته سبية فنفلها ابن الزبير و حاصر ابن أبي سرح سبيطلة ففتحها و كان سهم الفارس فيها ثلاثة آلاف دينار و سهم الرجل ألف و بث جيوشه في البلاد إلى قفصة فسبوا و غنموا و بعث عسكرا إلى حصن الأجم و قد اجتمع به أهل البلاد فحاصره و فتحه على الأمان ثم صالحه أهل افريقية على ألفي ألف و خمسمائة ألف دينار و أرسل ابن الزبير بالفتح و الخمس فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار و بعض الناس يقول أعطاه إياه و لا يصح و إنما أعطى ابن أبي سرح خمس الخمس من الغزوة الأولى ثم رجع عبد الله بن أبي سرح إلى مصر بعد مقامه سنة و ثلاثة أشهر و لما بلغ هرقل أن أهل افريقية صالحوه بذلك المال الذي أعطوه غضب عليهم و بعث بطريقا يأخذ منهم مثل ذلك فنزل قرطاجنة و أخبرهم بما جاء له فأبوا و قالوا : قد كان ينبغي أن يساعدنا مما نزل بنا فقاتلهم البطريق و هزمهم و طرد الملك الذي ولوه بعد جرجير فلحق بالشام و قد اجتمع الناس على معاوية بعد علي رضي الله عنه فاستجاشه على افريقية فبعث معه معاوية بن حديج السكوني في عسكر فلما وصل الاسكندرية و هلك الرومي و مضى ابن حديج في العساكر فنزل قونية و سرح إليه البطريق ثلاثين ألف مقاتل و قاتلهم معاوية فهزمهم معاوية و حاصر حصن جلولاء فامتنع معه حتى سقط ذات سوره فملكه المسلمون و غنموا ما فيه ثم بث السرايا و دوخ البلاد فأطاعوا و عاد إلى مصر و لما أصاب ابن أبي سرح من افريقية ما أصاب و رجع إلى مصر خرج قسطنطين بن هرقل غازيا إلى الاسكندرية في ستمائة مركب و ركب المسلمون البحر مع ابن أبي سرح و معه معاوية في أهل الشام فلما تراءى الجمعان أرسوا جميعا و باتوا على أمان و المسلمون يقرؤن و يصلون ثم قرنوا سفنهم عند الصباح و اقتتلوا و نزل الصبر و استحر القتل ثم انهزم قسطنطين جريحا في فل قليل من الروم و أقاموا ابن أبي سرح بالموضع أياما ثم قفل و سمى المكان ذات الصواري و الغزوة كذلك لكثرة ما كان بها من الصواري و كانت هذه الغزواة سنة إحدى و ثلاثين و قيل أربع و ثلاثين و سار قسطنطين إلى صقلية و عرفهم خبر الهزيمة فنكروه و قتلوه في الحمام (2/573)
فتح قبرص
كان أبو عبيدة لما احتضر استخلف على عمله عياض بن غنم و كان ابن عمه و خاله و قيل استخلف معاذ بن جبل و استخلف عياض بعده سعيد بن حذيم الجمحي و مات سعيد فولى عمر مكانه عمير بن سعيد الأنصاري و مات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه على دمشق أخاه معاوية فاجتمعت له دمشق و الأردن و مات عمر و هو كذلك و عمير على حمص و قنسرين ثم استعفى عمير عثمان في مرضه فأعفاه و ضم حمص و قنسرين إلى معاوية و مات عبد الرحمن بن أبي علقمة و كان على فلسطين فضم عثمان عمله إلى معاوية فاجتمع الشام كله لمعاوية لسنتين من إمارة عثمان و كان يلح على عمر في غزو البحر و كان و هو بحمص كتب إليه في شأن قبرص أن قرية من قرى حمص يسمع أهلها نباح كلاب قبرص و صياح دجاجهم فكتب عمر إلى عمرو بن العاص : صف لي البحر و راكبه ! فكتب إليه : هو خلق كبير يركبه خلق صغير ليس إلا السماء و الماء إن ركد فلق القلوب و إن تحرك أزاغ العقول يزداد فيه اليقين قلة و الشك كثرة و راكبه دود على عود إن مال غرق و إن نجا برق فكتب عمر إلى معاوية و الذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا و قد بلغني أن بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فسيأذن الله كل يوم و ليلة في أن يغرق الأرض فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر و بالله لمسلم واحد أحب إلي مما حوت الروم فإياك أن تعرض لي في ذلك فقد علمت ما لقي العلاء مني
ثم كاتب ملك الروم عمر و قاربه و أقصر عن الغزو ثم ألح معاوية على عثمان بعده في غزو البحر فأجابه على خيار الناس و طوعهم فاختار الغزو جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر و أبو الدرداء و شداد بن أوس و عبادة بن الصامت و زوجه أم حرام بنت ملحان و استعمل عليهم عبد الله بن قيس حليف بني فزارة و ساروا إلى قبرص و جاء عبد الله بن أبي سرح من مصر فاجتمعوا عليها و صالحهم أهلها على سبعة آلاف دينار لكل سنة و يؤدون مثلها للروم و لا منعة لهم على المسلمين ممن أرادهم من سواهم و على أن يكون عينا للمسلمين على عدوهم و يكون طريق الغزو للمسلمين عليهم و كانت هذه الغزاة سنة ثمان و عشرين و قيل تسع و عشرين و قيل ثلاث و ثلاثين و ماتت فيها أم حرام سقطت عن دابتها حين خرجت من البحر و كان النبي صلى الله عليه و سلم أخبرها بذلك و أقام عبد الله بن قيس الجاسي على البحر فغزا خمسين غزاة لم ينكب فيها أحد إلى أن نزل في بعض أيام في ساحل المرقي من أرض الروم فثاروا إليه فقتلوه و نجا الملاح و كان استخلف سفيان بن عوف الأزدي على السفن فجاء إلى أهل المرقي و قاتلهم حتى قتل و قتل معه جماعة (2/575)
ولاية ابن عامر على البصرة و فتوح فارس و خراسان
و في السنة الثالثة من خلافة عثمان خرج أبو موسى من البصرة غازيا إلى أهل آمد و الأكراد لما كفروا حمل ثقله على أربعين بغلا من القصر بعد أن كان حض على الجهاد مشيا فألب الناس عليه و مضوا إلى عثمان فاستعفوه منه و تولى كبر ذلك غيلان بن خرشة فعزله عثمان و ولى عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس و هو ابن خال عثمان و كان ابن خمس و عشرين سنة و جمع له جند أبي موسى و جند عثمان بن أبي العاص من عمان و البحرين فصرف عبيد الله بن معمر عن خراسان و بعثه إلى فارس و ولى على خراسان مكانه عمير بن عثمان بن سعد فأثخن فيها حتى بلغ فرغانة و لم يدع كورة إلا أصلحها ثم ولى عليها سنة أربع أمير بن أحمر اليشكري و على كرمان عبد الرحمن بن عبيس و استعمل على سجستان في سنة أربع عمران بن الفضيل البرجمي و على كرمان عاصم بن عمرو فجاشت فارس و انتقضت بعبيد الله بن عمرو و جمعوا له فلقيهم بباب اصطخر فقتل عبيد الله و انهزم جنده
و بلغ الخبر عبد الله بن عامر فاستنفر أهل البصرة و سار بالناس و على مقدمته عثمان بن أبي العاص و في المجنبتين أبو برزة الأسلمي و معقل بن يسار و على الخيل عمران بن حصن و لقيهم بإصطخر فقتل منهم مقتلة عظيمة و انهزموا و فتح اصطخر عنوة و بعدها دار ابجرد و سار إلى مدينة جور و هي اردشير و كان هرم بن حيان محاصرا لها فلما جاء ابن عامر فتحها ثم عاد إلى اصطخر وقد نقضت فحاصرها طويلا و رماها بالمجانيق و اقتحمها عنوة ففني فيها أكثر أهل البيوتات و الأساورة لأنهم كانوا لجأوا إليها و وطئ أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل و كتب إلى عثمان بالفتح فكتب إليه أن يستعمل على كور فارس هرم بن حيان اليشكري و هرم بن حيان العبسي و الخريت بن راشد و أخاه المنجاب من بني سلمة و البرجمان الهجيمي و أن يفرق كور خراسان بين ستة نفر : الأحنف بن قيس على المرو و حبيب بن قرة اليربوعي على بلخ و خالد بن عبد الله زهير على هراة و أمير بن أحمر اليشكري على طوس و قيس بن هبيرة السلمي على نيسابور ثم جمع عثمان خراسان كلها لقيس و استعمل أمير بن أحمد اليشكري على سجستان ثم بعده عبد الرحمن بن سمرة من قرابة ابن عامر بن كريز فلم يزل عليها حتى مات عثمان و عمران على كرمان و عمير بن عثمان ابن مسعود على فارس و ابن كريز القشيري على مكران و خرج على قيس بن هبيرة بعد موت عثمان ابن عمه عبد الله بن حازم كما نذكره
و لما افتتح ابن عامر فارس أشار عليه الناس بقصد خراسان و كانوا قد انتقضوا فسار إليها و قيل عاد إلى البصرة و استخلف على فارس شريك بن الأعور الحارثي فبنى مسجدها فلما دخل البصرة أشار عليه الأحنف بن قيس و حبيب بن أوس بالمسير إلى خراسان فتجهز و استخلف على البصرة زياد بن أبيه و سار إلى كرمان وقد نكثوا فبعث لحربهم مجاشع بن مسعود السلمي و لحرب سجستان الربيع بن زياد الحارثي و سار هو إلى نيسابور و تقدمه الأحنف بن قيس إلى الطبسين حصنان هما بابا خراسان فصالحه أهلها و سار إلى قوهستان فقاتل أهلها حتى أحجرهم في حصنهم و لحقه ابن عامر فصالحوه على ستمائة ألف درهم و قيل كان المتولي حرب قوهستان أمير بن أحمر اليشكري
ثم بعث ابن عامر السرايا إلى أعمال نيسابور ففتح رستاق رام عنوة و باخرز و جيرفت عنوة و بعث الأسود بن كلثوم من عدي الرباب و كان ناسكا إلى بيهق من أعمالها فدخل البلد من ثلمة كانت في سورها و قاتل حتى قتل و ظفر أخوه أدهم بالبلد و فتح ابن عامر بشت بالشين المعجمة من أعمال نيسابور ثم اسفراين ثم قصد نيسابور و بعدها استولى على أعمالها فحاصرها أشهرا و كان بها أربع مرازبة من فارس فسأل واحد منهم الأمان على أن يدخلهم ليلا و فتح لهم الباب و تحصن الأكبر منهم في حصنها حتى صالح على ألف ألف درهم و ولى ابن عامر على نيسابور قيس بن الهيثم السلمي و بعث جيشا إلى نسا و أبيورد فصالحهم أهلها و آخر إلى سرخس فصالحوا مرزبانها على أمان مائة رجل لم يدخل فيها نفسه فقتله و افتتحها عنوة و جاء مرزبان طوس فصالحه على ستمائة ألف درهم و بعث جيشا إلى هراة مع عبد الله بن حازم فصالح مرزبانها على ألف ألف درهم ثم بعث مرزبان مرو فصالح على ألف ألف و مائتى ألف و أرسل إليه ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي ثم بعث الأحنف بن قيس إلى طخارستان فصالح في طريقه رستاقا على ثلثمائة ألف و على أن يدخل رجل يؤذن فيه و يقيم حتى ينصرف و مر إلى مرو الروذ و زحف إليه أهلها فهزمهم و حاصرهم و كان مرزبانها من أقارب باذام صاحب اليمن فكتب إلى الأحنف متوسلا بذلك في الصلح فصالحه على ستمائة ألف ثم اجتمع أهل الجوزجان و الطالقان و الفارياب في جمع عظيم و لقيهم الأحنف فقاتلهم قتالا شديدا ثم انهزموا فقتلوا قتلا ذريعا
و رجع الأحنف إلى مروالروذ و بعث الأقرع بن حابس إلى فلهم بالجوزجان فهزمهم و فتحها عنوة ثم فتح الأحنف الطالقان صلحا و الفارياب و قيل فتحها أمير بن أحمد ثم سار الأحنف إلى بلخ و هي مدينة طخارستان فصالحوه على أربعمائة ألف و قيل سبعمائة و استعمل عليها أسيد بن المنشمر ثم سار إلى خوارزم على نهر جيحون فامتنعت عليه فرجع إلى بلخ وقد استوفى أسيد قبض المال و كتبوا إلى ابن عامر و لما سار مجاشع بن مسعود إلى كرمان كما ذكرناه و كانوا قد انتقضوا ففتح هميد عنوة و بنى بها قصرا ينسب إليه ثم سار إلى السيرجان و هي مدينة كرمان فحاصرها و فتحها عنوة و جلى كثيرا من أهلها ثم فتح جيرفت عنوة ودوخ نواحي كرمان و أتى القفص وقد تجمع له من العجم من أهل الجلاء و قاتلهم فظفر و ركب كثير منهم البحر إلى كرمان و سجستان ثم أنزل العرب في منازلهم و أراضيهم
و سار الربيع بن زياد الحارثي بولاية ابن عامر كما قدمناه إلى سجستان فقطع المفازة من كرمان حتى أتى حصن زالق فأغار عليهم يوم المهرجان و أسر دهقانهم فافتدى بما غمر عنزة قاعة من الذهب و الفضة و صالحوه على صلح فارس و سار إلى زرنج و لقيه المشركون دونها فهزمهم و قتلهم و فتح حصونا عدة بينها و بينه ثم انتهى إليها و قاتله أهلها فأحجرهم و حاصرها و بعث مرزبانها في الأمان ليحضر فأمنه و جلس له على شلو من أشلاء القتلى و ارتفق بآخر و فعل أصحابه مثله فرعب المرزبان من ذلك و صالح على ألف جام من الذهب يحملها ألف وصيف و دخل المسلمون المدينة ثم سار منها إلى وادي سنارود فعبره إلى القرية التي كان رستم الشديد يربط بها فرسه فقاتلهم و ظفر بهم و عاد إلى زرنج و أقام بها سنة ثم سار بها إلى ابن عامر و استخلف عليها عاملا فأخرجوه و امتنعوا فكانت ولاية الربيع سنة و نصف سنة سبى فيها أربعين ألف رأس و كان الحسن البصري يكتب له
ثم استعمل ابن عامر على سجستان عبد الرحمن بن سمرة فسار إليها و حاصر زرنج حتى صالحوه على ألفي ألف درهم و ألفي وصيف و غلب على ما بينها و بين الكش من ناحية الهند و على ما بينها و بين الدادين من ناحية الرخج و لما انتهى إلى بلد الدادين حاصرهم في جبل الزور حتى صالحوه و دخل على الزور و هو صنم من ذهب عيناه ياقوتتان فأخذهما و قطع يده و قال للمرزبان : دونك الذهب و الجوهر و إنما قصدت أنه لا يضر و لا ينفع ثم فتح كاتبل و زابلستان و هي بلاد غزنة فتحها صلحا ثم عاد إلى زرنج إلى أن اضطرب أمر عثمان فاستخلف عليها أمير بن أحمر و انصرف فأخرجه أهلها و انتقضوا و لما كان الفتح لابن عامر في فارس و خراسان و كرمان و سجستان قال له الناس : لم يفتح لأحد ما فتح عليك فقال : لا جرم لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج محرما من موقفي هذا فأحرم بعمرة من نيسابور و قدم على عثمان استخلف على خراسان قيس بن الهيثم فسار قيس في أرض طخارستان و دوخها و امتنع عليه سنجار فافتتحها عنوة (2/577)
ولاية سعيد بن العاص الكوفة
كان عثمان لأول ولايته قد ولى على الكوفة الوليد بن عقبة استقدمه إليها من عمله بالجزيرة و على بني تغلب و غيرهم من العرب فبقي على ولاية الكوفة خمس سنين و كان أبو زبيد الشاعر قد انقطع إليه من أخواله بني تغلب ليد أسداها إليه و كان نصرانيا فأسلم على يده و كان يغشاه بالمدينة و الكوفة و كان أبو زبيد يشرب الخمر فكان بعض السفهاء يتحدث بذلك في الوليد لملازمته إياه ثم عدا الشباب من الأزد بالكوفة على رجل من خزاعة فقتلوه ليلا في بيته و شهد عليهم أبو شريح الخزاعي فقتلهم الوليد فيه بالقسامة و أقام آباؤهم للوليد على حقه و كانوا ممن يتحدثون فيه و جاؤا إلى ابن مسعود بمثل ذلك فقال : لا نتبع عورة من استتر عنا و تغيظ الوليد من هذه المقالة و عاتب ابن مسعود عليها ثم عمد أحد أولئك الرهط إلى ساحر قد أتى به الوليد فاستفتى ابن مسعود فيه و أفتى بقتله و حبسه الوليد ثم أطلقه فغضبوا و خرجوا إلى عثمان شاكين من الوليد و أنه يشرب الخمر فاستقدمه عثمان و أحضره و قال : رأيتموه يشرب ؟ قالوا لا إنما رأيناه يقيء الخمر فأمر سعيد بن العاص فجلده و كان علي حاضرا فقال : إنزعوا خميصته للجلد و قيل إن عليا أمر ابنه الحسن أن يجلده فأبى فجلده عبد الله بن جعفر و لما بلغ أربعين قال : أمسك جلد رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر أربعين و جلد عمر ثمانين و كل سنة
و لما وقعت هذه الواقعة عزل عثمان الوليد عن الكوفة و ولى مكانه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية مات سعيد الأول كافرا و كان يكنى أحيحة و خالد ابنه عم سعيد الثاني ولاه رسول الله صلى الله عليه و سلم صنعاء و كان يكتب و استشهد يوم مرج الصفر و ربي سعيد الثاني في حجر عثمان فلما فتح الشام أقام مع معاوية ثم استقدمه عثمان و زوجه و أقام عنده حتى كان من رجال قريش فلما استعمله عثمان و ذلك سنة ثلاثين سار إلى الكوفة و معه الأشتر و أبو خشة الغفاري و جندب بن عبد الله و الصعب بن جثامة و كانوا شخصوا مع الوليد ليعينوه فصاروا عليه فلما وصل خطب الناس و حذرهم و تعرف الأحوال و كتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم و غلب الروادف و التابعة على أهل الشرف و السابقة فكتب إليه عثمان أن يفضل أهل السابقة و يجعل من جاء بعدهم تبعا يعرف لكل منزلته و يعطيه حقه فجمع الناس و قرأ عليهم كتاب عثمان و قال : أبلغوني حاجة ذي الحاجة و جعل القراء في سمره فلم ترض أهل الكوفة ذلك و فشت المقالة و كتب سعيد إلى عثمان فجمع الناس و استشارهم فقالوا : أصبت لا تطمع في الأمور من ليس لها بأهل فتفسد فقال : يا أهل المدينة إني أرى الفتن دبت إليكم و إني أرى أن أتخلص الذي لكم و أنقله إليكم من العراق فقالوا : و كيف ذلك ؟ قال : تبيعونه ممن شئتم بما لكم في الحجاز و اليمن ففعلوا ذلك و استخلصوا ما كان لهم بالعراق منهم طلحة و مروان و الأشعث بن قيس و رجال من القبائل و اشتروا ذلك بأموال كانت لهم بخيبر و مكة و الطائف (2/581)
غزو طبرستان
و في هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان و لم يغزها أحد قبله و قد تقدم أن الأصبهبذ صالح سويد بن مقرن عنها أيام عمر على مال فغزاها سعيد في هذه السنة و معه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم الحسن و الحسين و ابن عباس و ابن عمر و ابن عمرو و ابن الزبير و حذيفة بن اليمان في غيرهم و وافق خروج ابن عامر من البصرة إلى خراسان فنزل نيسابور و نزل سعيد قومس و هي صلح كان حذيفة صالحهم عليه بعد نهاوند فأتى سعيد جرجان فصالحوه على مائتي ألف ثم أتى متاخمة جرجان على البحر فقاتله أهلها ثم سألوا الأمان فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا و فتحوا فقتلهم أجمعين إلا رجلا و قتل معه محمد بن الحكم بن أبي عقيل جد يوسف بن عمرو و كان أهل جرجان يعطون الخراج تارة مائة ألف و أخرى مائتين و ثلثمائة و ربما منعوه ثم امتنعوا و كفروا فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد و صار الطريق إلى خراسان من فارس كما كان من قبل حتى ولي قتيبة بن مسلم خراسان و قدمها يزيد بن المهلب فصالح المرزبان و فتح البحيرة و دهستان و صالح أهل جرجان على صلح سعيد (2/582)
غزو حذيفة الباب و أمر المصاحف
و في سنة ثلاثين هذه صرف حذيفة من غزو الري إلى غزو الباب مددا لعبد الرحمن بن ربيعة و أقام له سعيد العاص بأذربيجان ردءا حتى عاد بعد مقتل عبد الرحمن كما مر فأخبره بما رأى من اختلاف أهل البلدان في القرآن و أن أهل حمص يقولون قراءتنا خير من قراءة غيرنا و أخذناها عن المقداد و أهل دمشق يقولون كذلك و أهل البصرة عن أبي موسى و أهل الكوفة عن ابن مسعود و أنكر ذلك و استعظمه و حذر من الاختلاف في القرآن و وافقه من حضر من الصحابة و التابعين و أنكر عليه أصحاب ابن مسعود فأغلظ عليهم و خطأهم فأغلظ له ابن مسعود فغضب سعيد و افترق المجلس و سار حذيفة إلى عثمان فأخبره و قال : أنا النذير العريان فأدرك الأمة فجمع عثمان الصحابة فرأوا ما رآه حذيفة فأرسل عثمان إلى حفصة أن إبعثي إلينا بالصحف ننسخها و كانت هذه الصحف هي التي كتبت أيام أبي بكر فإن القتل لما استحر في القراء يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر : أرى أن تأمر بجمع القرآن لئلا يذهب الكثير منه لفناء القراء فأبى و قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يفعله ثم استبصر و رجع إلى رأي عمر و أمر زيد ثابت بجمعه من الرقاع و العسب و صدور الرجال و كتب في الصحف فكانت عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة و أرسل عثمان فأخذها و أمر زيد بن ثابت و عبد الله بن الزبير و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن ينسخوها في المصاحف و قال إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش ففعلوا و نسخوا المصاحف فبعث إلى كل أفق بمصحف يعتمد عليه و حرق ما سوى ذلك الصحابة في سائر الأمصار و نكره عبد الله بن مسعود في الكوفة حتى نحاهم عن ذلك و حملهم عليه (2/583)
مقتل يزدجرد
لما خرج ابن عامر من البصرة إلى فارس فافتتحها هرب يزدجرد من جور و هي أردشير خره في سنة ثلاثين و بعث ابن عامر في إثره مجاشع بن مسعود و قيل هرم بن حيان اليشكري و قيل العبسي فاتبعه إلى كرمان فهرب إلى خراسان و هلك الجند في طريقهم بالثلج فلم يسلم إلا مجاشع و رجع معه و كان مهلكهم على خمسة فراسخ من السيرجان و لحق يزدجرد بمرو و معه خرزاذ أخو رستم فرجع عنه إلى العراق و وصى به ما هو به مرزبان مرو فسأله في المال فمنعه و خافه على نفسه و على مرو و استجاش بالترك فبيتوه و قتل أصحابه و هرب يزدجرد ماشيا إلى شط المرغاب و آوى إلى بيت رجل ينقر الأرحاء فلما نام قتله ورماه في النهر و قيل إنما بيته أهل مرو و لما جاؤا إلى بيت الرجل أخذوه و ضربوه فأقر بقتله و أهله و استخرجوا يزدجرد من النهر و حملوه في تابوت إلى اصطخر فدفن في ناوس هنالك
و قيل إن يزدجرد هرب من وقعة نهاوند إلى أرض أصبهان و استأذن عليه بعض رؤسائها و حجب فضرب البواب و شجه فرحل عن أصبهان إلى الري و جاء صاحب طبرستان و عرض عليه بلاده فلم يجبه و مضى من فوره ذلك إلى سجستان ثم إلى مرو في ألف فارس و قيل بل أقام بفارس أربع سنين ثم بكرمان سنتين و طلبه دهقانها في شيء فمنعه فطرده عن بلاده و أقام بسجستان خمس سنين ثم نزل خراسان و نزل مرو و معه الرهن من أولاد الدهاقين و فرخزاذ و كاتب ملوك الصين و فرغانة و الخزر و كابل و كان دهقان مرو قد منعه الدخول خوفا من مكره و وكل ابنه بحفظ الأبواب فعمد يزدجرد يوما إلى مرو ليدخلها فمنعه ابن الدهقان و أظهر عصيان أبيه في ذلك و قيل بل أراد يزدجرد أن يجعل ابن أخيه دهقانا عليها فعمل في هلاكه و كتب إلى نيزك طرخان يستقدمه لقتل يزدجرد و مصالحة العرب عليه و أن يعطيه كل يوم ألف درهم فكتب نيزك إلى يزدجرد يعده المساعدة على العرب و أنه يقدم عليه فيلقاه منفردا عن العسكر و عن فرخزاد فأجابه إلى ذلك بعد أن امتنع فرخزاد و اتهمه يزدجرد في امتناعه فتركه لشأنه بعد أن أخذ خطه برضاه بذلك و سار إلى نيزك فاستقبله بأشياء و جاء به إلى عسكره ثم سأله أن يزوجه إبنته فأنف يزدجرد من ذلك و سبه فعلا رأسه بالمقرعة فركض منهزما و قتل أصحابه و انتهى إلى بيت طحان فمكث فيه ثلاثا لم يطعم ثم عرض عليه الطعام فقال لا أطعم إلا بالزمزمة فسأل من زمزم له حتى أكل و وشى المزمزم بأمره إلى بعض الأساورة فبعث إلى الطحان بخنقه و القائه في النهر فأبى من ذلك و جحده فدل عليه ملبسه و عرف المسك فيه فأخذوا ما عليه و خنقوه و ألقوه في الماء فجعله أسقف مرو في تابوت و دفنه
و قيل بل سار يزدجرد من كرمان قبل وصول العرب إليها إلى مرو و في أربعة آلاف على الطبسين و قهستان و لقيه قبل مرو قائدان من الفرس متعاديين فسعى أحدهما في الآخر و وافقه يزدجرد في قتله و نمى الخبر إليه فبيت يزدجرد و عدوه فهرب إلى رحى على فرسخين من مرو و طلب منه الطحان شيئا فأعطاه منطقته فقال : إنما أحتاج أربعة دراهم فقال : ليست معي ثم قام فقتله الطحان و ألقى شلوه في الماء و بلغ خبر قتله إلى المطران بمرو فجمع النصارى و وعظهم عليه من حقوق سلفه فدفنوه و بنوا له ناووسا و أقاموا له مأتما بعد عشرين سنة من ملكه ستة عشر منها في محاربة العرب
و انقرض ملك الساسانية بموته و يقال إن قتيبة حين فتح الصغد وجد جاريتين من ولد المخدج ابنه كان قد وطئ أمه بمرو فولدت هذا الغلام بعد موته ذاهب الشق فسمى المخدج و ولد له أولاد بخراسان و وجد قتيبة هاتين الجاريتين من ولده فبعث بهما إلى الحجاج و بعث بهما إلى الوليد أو بإحداهما فولدت له يزيد الناقص (2/583)
ظهور الترك بالثغور
كان الترك و الخزر يعتقدون أن المسلمين لا يقتلون لما رأوا من شدتهم و ظهورهم في غزواتهم حتى أكمنوا لهم في بعض الغياض فقتلوا بعضهم فتجاسروا على حربهم و كان عبد الرحمن بن ربيعة على ثغور أرمينية إلى الباب و استخلف عليها سراقة بن عمرو و أقره عمر و كان كثير الغزو في بلاد الخزر و كثيرا ما كان يغزو بلنجر و كان عثمان قد نهاه عن ذلك فلم يرجع فغزاهم سنة اثنتين و ثلاثين و جاء الترك لمظاهرتهم و تذامروا فاشتدت الحرب بينهم و قتل عبد الرحمن كما مر و افترقوا فرقتين فرقة سارت نحو الباب لقوا سلمان بن ربيعة قد بعثه سعيد بن العاص من الكوفة مددا للمسلمين بأمر عثمان فساروا معه و فرقة سلكوا على جيلان و جرجان فيهم سلمان الفارسي و أبو هريرة ثم استعمل سعيد بن العاص على الباب سلمان بن ربيعة مكان أخيه و بعث معه جندا من أهل الكوفة عليهم حذيفة بن اليمان و أمدهم عثمان بحبيب بن مسلمة في جند الشام و سلمان أمير على الجميع نازعه حبيب الإمارة فوقع الخلاف ثم غزا حذيفة بعد ذلك ثلاث غزوات آخرها عند مقتل عثمان
و خرجت جموع الترك سنة إثنتين و ثلاثين من ناحية خراسان في أربعين ألفا عليهم قارن من ملوكهم فانتهى إلى الطبسين و اجتمع له أهل بادغيس و هراة و قهستان و كان على خراسان يومئذ قيس بن الهيثم السلمي استخلفه عليها ابن عامر عند خروجه إلى مكة محرما فدوخ جهتها و كان معه ابن عمه عبد الله بن حازم فقال لابن عامر : اكتب لي على خراسان عهدا إذا خرج منها قيس ففعل فلما أقبلت جموع الترك قال قيس لابن حازم : ما ترى قال : أرى أن تخرج عن البلاد فإن عهد ابن عامر عندي بولايتها فترك منازعته و ذهب إلى ابن عامر و قيل أشار عليه أن يخرج إلى ابن عامر يستمده فلما خرج أظهر عهد ابن عامر له بالولاية عند مغيب قيس و سار ابن حازم للقاء الترك في أربعة آلاف و لما التقى الناس أمر جيشه بإيقاد النار في أطراف رحالهم فهاج العدو على دهش و غشيهم ابن حازم بالناس متتابعين فانهزموا و أثخن المسلمون فيهم بالقتل و السبي و كتب ابن حازم بالفتح إلى ابن عامر فأقره على خراسان فلم يزل واليا عليها إلى حرب الجمل فأقبل إلى البصرة و بقي أهل البصرة بعد غزوة ابن حازم هذه حتى غزوا المنتقضين من أهلها و عادوا جهزوا كتيبة من أربعة آلاف فارس هناك (2/585)
بدء الانتقاض على عثمان رضي الله عنه
لما استكمل الفتح و استكمل للملة الملك و نزل العرب بالأمصار في حدود ما بينهم و بين الأمم من البصرة و الكوفة و الشام و مصر و كان المختصون بصحابة الرسول صلى الله عليه و سلم و الإقتداء بهدية و آدابه المهاجرين و الأنصار من قريش و أهل الحجاز و من ظفر بمثل ذلك من غيرهم و أما سائر العرب من بني بكر بن وائل و عبد القيس و سائر ربيعة و الأزد و كندة و تميم و قضاعة و غيرهم فلم يكونوا من تلك الصحبة بمكان إلا قليلا منهم و كان في الفتوحات قدم فكانوا يرون ذلك لأنفسهم مع ما يدين به فضلاؤهم من تفضل أهل السابقة من الصحابة و معرفة حقهم و ما كانوا فيه من الذهول و الدهش لأمر النبوة و تردد الوحي و تنزل الملائكة فلما انحسر ذلك العباب و تنوسي الحال بعض الشيء و ذل العدو و استفحل الملك كانت عروق الجاهلية تنفض و وجدوا الرياسة عليهم للمهاجرين و الأنصار من قريش و سواهم فأنفت نفوسهم منه و وافق أيام عثمان فكانوا يظهرون الطعن في ولاته بالأمصار و المؤاخذة لهم باللحظات و الخطرات والإستبطاء عليهم في الطاعات و التجني بسؤال الاستبدال منهم و العزل و يفيضون في النكير على عثمان و فشت المقالة في ذلك من أتباعهم و تنادوا بالظلم من الأمراء في جهاتهم و انتهت الأخبار بذلك إلى الصحابة بالمدينة فارتابوا لها و أفاضوا في عزل عثمان و حمله على عزل أمرائه و بعث إلى الأمصار من يأتيه بصحيح الخبر : محمد بن مسلمة إلى الكوفة و أسامة بن زيد إلى البصرة و عبد الله بن عمر إلى الشام و عمار بن ياسر إلى مصر و غيرهم إلى سوى هذه فرجعوا إليه فقالوا : ما أنكرنا شيئا و لا نكره أعيان المسلمين و لا عوامهم إلا عمارا فإنه استماله قوم من الأشرار انقطعوا إليه منهم عبد الله بن سبأ و يعرف بابن السوداء كان يهوديا و هاجر أيام عثمان فلم يحسن إسلامه و أخرج من البصرة فلحق بالكوفة ثم بالشام و أخرجوه فلحق بمصر و كان يكثر الطعن على عثمان و يدعو في السر لأهل البيت و يقول : إن محمدا يرجع كما يرجع عيسى و عنه أخذ ذلك أهل الرجعة و إن عليا وصي رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث لم يجز وصيته و إن عثمان أخذ الأمر بغير حق و يحرض الناس على القيام في ذلك و الطعن على الأمراء فاستمال الناس بذلك في الأمصار و كاتب به بعضهم بعضا و كان معه خالد بن ملجم و سودان بن حمران و كنانة بن بشر فثبطوا عمارا عن المسير إلى المدينة
و كان مما أنكروه على عثمان إخراج أبي ذر من الشام و من المدينة إلى الربذة و كان الذي دعا إلى ذلك شدة الورع من أبي ذر و حمله الناس على شدائد الأمور و الزهد في الدنيا و أنه لا ينبغي لأحد أن يكون عنده أكثر من قوت يومه و يأخذ بالظاهر في ذم الإدخار بكنز الذهب و الفضة و كان ابن سبأ يأتيه فيغريه و يعيب قوله المال مال الله و يوهم أن في ذلك احتجانه للمال و صرفه على المسلمين حتى عتب أبو ذر معاوية فاستعتب له و قال سأقول مال المسلمين و أتى ابن سبأ إلى أبي الدرداء عبادة بن الصامت بمثل ذلك فدفعوه و جاء به عبادة إلى معاوية و قال هذا الذي بعث عليك أبا ذر و لما كثر ذلك على معاوية شكاه إلى عثمان فاستقدمه و قال له ما لأهل الشام يشكون منك فأخبره فقال : يا أبا ذر لا يمكن حمل الناس على الزهد و إنما علي أن أقضي بينهم بحكم الله و أرغبهم في الاقتصاد فقال أبو ذر : لا ترضى من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف و يحسنوا للجيران و الإخوان و يصلوا القرابة فقال له كعب الأحبار : من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه فضربه أبو ذر فشجه و قال : يا ابن اليهودية ما أنت و هذا فاستوهب عثمان من كعب شجته فوهبه ثم استأذن أبو ذر عثمان في الخروج من المدينة و قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعا فأذن له و نزل الربذة و بنى بها مسجدا و أقطعه عثمان صرمة من الإبل و أعطاه مملوكين و أجرى عليه رزقا و كان يتعاهد المدينة فعد أولئك الرهط خروج أبي ذر فيما ينقمونه على عثمان مع ما كان من أعطاه مروان خمس مغانم أفريقية و الصحيح انه اشتراه بخمسمائة ألف فوضعها عنه
و مما عدوا أيضا زيادة النداء على الزوراء يوم الجمعة و إتمامه الصلاة في منى و عرفة مع أن الأمر في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم و الشيخين بعده كان على القصر و لما سأله عبد الرحمن و احتج عليه بذلك قال له : بلغني أن بعض حاج اليمن و الجفاة جعل صلاة المقيم ركعتين من أجل صلاتي وقد اتخذت بمكة أهلا و لي بالطائف مال فلم يقبل ذلك عبد الرحمن فقال : زوجتك بمكة إنما تسكن بسكناك ولو خرجت و مالك بالطائف على أكثر من مسافة القصر و أما حاج اليمن فقد شهدوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه و سلم و الشيخين بعده و قد كان الإسلام ضرب بجرانه فقال عثمان : هذا رأي رأيته فمن الصحابة من تبعه على ذلك و منهم من خالفه و مما عدوا عليه سقوط خاتم النبي صلى الله عليه و سلم من يده في بئر أريس على ميلين من المدينة فلم يوجد و أما الحوداث التي وقعت في الأمصار فمنها قصة الوليد بن عقبة وقد تقدم ذكرها و أنه عزله على شرب الخمر و استبدله بسعيد بن العاص منه و كان وجوه الناس و أهل القادسية يسمرون عنده مثل مالك بن كعب الأرحبي و الأسود بن يزيد و علقمة بن قيس من النخع و ثابت بن قيس الهمداني و جندب بن زهير الغامدي و جندب بن كعب الأزدي و عروة بن الجعد و عمرو بن الحمق الخزاعي و صعصعة بن صوحان و أخوه زيد و ابن الكواء بن زياد و عمير بن ضابيء و طليحة بن خويلد و كانوا يفيضون في أيام الوقائع و في أنساب الناس و أخبارهم و ربما ينتهون إلى الملاحاة و يخرجون منها إلى المشاتمة و المقاتلة و يعذلهم في ذلك حجاب سعيد بن العاص فينهرونهم و يضربونهم و قد قيل إن سعيدا قال يوما : إنما هذا السواد بستان قريش فقال له الأشتر : السواد الذي أفاء الله علينا بأسيافنا تزعم أنه بستان لك و لقومك ؟ و خاص القوم في ذلك فأغلظ لهم عبد الرحمن الأسدي صاحب شرطته فوثبوا عليه و ضربوه حتى غشي عليه فمنع سعيد بعدها السمر عنده فاجتمعوا في مجالسهم يثلبون سعيدا و عثمان و السفهاء يغشونهم
فكتب سعيد و أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم فكتب أن يلحقوهم بمعاوية و كتب إلى معاوية إن نفرا خلقوا للفتنة فقم عليهم و انههم و إن آنست منهم رشدا فأقبل و إن أعيوك فارددهم علي فأنزلهم معاوية و أجرى عليهم ما كان لهم بالعراق و أقاموا عنده يحضرون مائدته ثم قال لهم يوما : أنتم قوم من العرب لكم أسنان و ألسنة وقد أدركتم بالإسلام شرفا و غلبتم الأمم و حويتم مواريثهم و قد بلغني أنكم نقمتم قريشا و لو لم تكن قريش كنتم إذلة إذا أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا على جنتكم و إن أئمتكم يصبرون لكم على الجور و يحملون عنكم المؤنة والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم و لا يحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم و بعد وفاتكم فقال له صعصعة منهم : أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر الناس و لا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا و أما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترمت خلص إلينا فقال معاوية : الآن عرفتكم و علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول و أنت خطيبهم و لا أرى لك عقلا أعظم عليك أمر الإسلام و تذكرني الجاهلية أخزى الله قوما عظموا أمركم فقهوا عني و لا أظنكم تفقهون ثم ذكر شأن قريش و أن عزها إنما كان بالله في الجاهلية و الإسلام و لم يكن بكثرة و لا شدة و كانوا على أكرم أحساب و أكمل مروءة و بوأهم الله حرمه فآمنوا فيه مما أصاب العرب و العجم و الأسود و الأحمر في بلادهم ثم ذكر بعثة النبي صلى الله عليه و سلم و أن الله ارتضى له أصحابا كان خيارهم قريشا فبنى الملك عليهم و جعل الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلا بهم ثم قرعهم و وبخهم و هددهم ثم أحضرهم بعد أيام و قال : اذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحدا و لا يضره و إن أردتم النجاة فالزموا الجماعة و لا تبطرنكم النعمة و سأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم و كتب إلى عثمان : أنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول و لا أديان أبطرهم العدل إنما همهم الفتنة و أموال أهل الذمة و الله مبتليهم ثم فاضحهم و ليسوا بالذين ينكون أحد إلا مع غيرهم فإنه سعيدا و من عنده عنهم
فخرجوا من عنده قاصدين الجزيرة و مروا بعبد الرحمن بن خالد بن الوليد بحمص فأحضرهم و قال : يا ألة الشيطان لا مرحبا بكم و لا أهلا قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد في نشاط خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم ثم مضى في توبيخهم على ما فعلوا و ما قالوا لسعيد و معاوية فهابوا سطوته و طفقوا يقولون : نتوب إلى الله أقلنا أقالك الله حتى قال : تاب الله عليكم و سرح الأشتر إلى عثمان تائبا فقال له عثمان : أحلك حيث تشاء فقال : مع عبد الرحمن بن خالد قال : ذاك إليك فرجع إليهم و قيل إنهم عادوا إلى معاوية من القابلة و دار بينهم و بينه القول و أغلظوا له و أغلظ عليهم و كتب إلى عثمان فأمر أن يردهم إلى سعيد فردهم فأطلقوا ألسنتهم وضج سعيد منهم و كتب إلى عثمان فكتب إليه أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد فدار بينهم و بينه ما قدمناه و حدث بالبصرة مثل ذلك من الطعن و كان بدؤه فيما يقال شأن عبد الله بن سبأ المعروف بابن السوادء هاجر إلى الإسلام من اليهودية و نزل على حكيم بن جبلة العبدي و كان يتشيع لأهل البيت ففشت مقالته بالطعن و بلغ ذلك حكيم بن جبلة فأخرجه و أتى الكوفة فأخرج أيضا و استقر بمصر و أقام يكاتب أصحابه بالبصرة و يكاتبونه و المقالات تفشوا بالطعن و النكير على الأمراء و كان حمران بن أبان أيضا يحقد لعثمان أنه ضربه على زواجه امرأة في العدة و سيره إلى البصرة فلزم ابن عامر و كان بالبصرة عامر بن عبد القيس و كان زاهدا متقشفا فأغرى به حمران صاحب ابن عامر فلم يقبل سعايته ثم أذن له عثمان فقدم المدينة و معه قوم فسعوا بعامر بن عبد القيس أنه لا يرى التزويح و لا يأكل اللحم و لا يشهد الجمعة فألحقه عثمان بمعاوية و أقام عنده حتى تبينت براءته و عرف فضله و حقه و قال : إرجع إلى صاحبك فقال : لا أرجع إلى بلد استحل أهله مني ما استحلوا و أقام بالشام كثير العبادة و الإنفراد بالسواحل إلى أن هلك
و لما فشت المقالات بالطعن و الأرجاف على الأمراء اعتزم سعيد بن العاص على الوفادة على عثمان سنة أربع و ثلاثين و كان قبلها قد ولى على الأعمال أمراء من قبله فولى الأشعث بن قيس على أذربيجان و سعيد بن قيس على الري و النسير العجلي على همذان و السائب بن الأقرع على أصبهان و مالك بن حبيب على ماه و حكيم بن سلامة على الموصل و جرير بن عبد الله على قرقيسيا و سلمان بن ربيعة على الباب و جعل على حلوان عتيبة بن النهاس و على الحرب القعقاع بن عمرو فخرجوا لأعمالهم و خرج هو وافدا على عثمان و استخلف عمرو بن حريث و خلت الكوفة من الرؤساء و أظهر الطاعنون أمرهم و خرج بهم يزيد بن قيس يريد خلع عثمان فبادره القعقاع بن عمرو فقال له : إنما نستعفي من سعيد و كتب يزيد إلى الرهط الذين عند عبد الرحمن بن خالد بحمص في القدوم فساروا إليه و سبقهم الأشتر و وقف على باب المسجد يوم الجمعة يقول جئتكم من عند عثمان و تركت سعيدا يريده على نقصان نسائكم على مائة درهم و رد أولى البلاء منكم إلى ألفين و يزعم أن فيئكم بستان قريش ثم استخف الناس و نادى يزيد في الناس و نادى في الناس من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل فخرجوا و ذوو الرأي يعذلونهم فلا يسمعون
و أقام أشرف الناس و عقلاؤهم مع عمرو بن حريث و نزل يزيد و أصحابه الجزعة قريبا من القادسية لاعتراض سعيد و رده فلما وصل قالوا : إرجع فلا حاجة لنا بك قال : إنما كان يكفيكم أن تبعثوا واحدا إلي و إلى عثمان رجلا و قال مولى له : ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع فقتله الأشتر و رجع سعيدا إلى عثمان فأخبره بخبر القوم و أنهم يختارون أبا موسى الأشعري فولاه الكوفة و كتب إليهم : أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم و أعفيتكم من سعيد و الله لأقرضنكم عرضي و لأبذلنكم صبري و لأستصلحنكم بجهدي و خطب أبو موسى الناس و أمرهم بلزوم الجماعة و طاعة عثمان فرضوا و رجع الأمراء من قرب الكوفة و استمر أبو موسى على عمله
و قيل إن أهل الكوفة أجمع رأيهم أن يبعثوا إلى عثمان و يعذلوه فيما نقم عليه فأجمع رأيهم على عامر بن عبد القيس الزاهد و هو عامر بن عبد الله من بني تميم ثم من بني العنبر فأتاه و قال له : إن ناسا اجتمعوا و نظروا في أعمالك فوجدوك ركبت أمورا عظاما فاتق الله وتب إليه فقال عثمان : ألا تسمعون إلى هذا الذي يزعم الناس أنه قارئ ثم يجيء يكلمني في المحقرات ؟ ووالله لا يدري أين الله فقال له عامر : بل و الله إني لأدري إن الله لبالمرصاد فأرسل عثمان إلى معاوية و عبد الله بن أبي سرح و سعيد بن العاص و عبد الله بن عامر و عمرو بن العاص و كانوا بطانته دون الناس فجمعهم و شاروهم و قال : إنكم وزرائي و نصحائي و أهل ثقتي وقد صنع الناس ما رأيتم فطلبوا أن أعزل عمالي و أرجع إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم فقال ابن عامر : أرى أن تشغلهم بالجهاد و قال سعيد : متى تهلك قادتهم يتفرقوا وقال معاوية : إجعل كفالتهم إلى أمرائهم و أنا أكفيك الشام و قال عبد الله : استصلحهم بالمال فردهم عثمان إلى أعمالهم و أمرهم بتجهيز الناس في البعوث ليكون لهم فيها شغل و رد سعيد إلى الكوفة فلقيه الناس بالجزعة و ردوه كما ذكرناه و ولى أبا موسى و أمر عثمان حذيفة بغزو الباب فسار نحوه
و لما كثر هذا الطعن في الأمصار و تواتر بالمدينة و كثر الكلام في عثمان و الطعن عليه و كان له منهم شيعة يذبون عنه مثل زيد بن ثابت و أبي أسيد الساعدي و كعب بن مالك و حسان بن ثابت فلم يغنوا عنه و اجتمع الناس إلى علي بن أبي طالب و كلموه و عددوا عليه ما نقموه فدخل على عثمان و ذكر له شأن الناس و ما نقموا عليه و ذكره بأفعال عمر و شدته و لينه هو لعماله و عرض عليه ما يخاف من عواقب ذلك في الدنيا و الآخرة فقال له : إن المغيرة بن شعبة وليناه و عمر ولاه و معاوية كذلك و ابن عامر تعرفون رحمه و قرابته فقال له علي إن عمر كان يطأ على صماخ من ولاه و أنت ترفق بهم و كانوا أخوف لعمر من غلامه يرفأ و معاوية يستبد عليك و يقول هذا أمر عثمان فلا تغير عليه ثم تكالما طويلا و افترقا و خرج عثمان على أثر ذلك و خطب و عرض بما هو فيه من الناس و طعنهم و ما يريدون منه و أنهم تجرؤا عليه لرفقه بما لم يتجرؤا بمثله على ابن الخطاب و وافقهم برجوعه في شأنه إلى ما يقدمهم (2/586)
حصار عثمان و مقتله رضي الله عنه و أتابه و رفع درجته
و لما كثرت الإشاعة في الأمصار بالطعن على عثمان و عماله و كتب بعضهم إلى بعض في ذلك و توالت الأخبار بذلك على أهل المدينة جاؤا إلى عثمان و أخبروه فلم يجدوا عنده علما منه و قال : أشروا علي و أنتم شهود المؤمنين قالوا : تبعث من تثق به إلى الأمصار يأتوك بالخبر فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة و أسامة بن زيد إلى البصرة و عبد الله بن عمر إلى الشام و غيرهم إلى سواها فرجعوا و قالوا : ما أنكرنا شيئا و لا أنكره علماء المسلمين و لا عوامهم و تأخر عمار بن ياسر بمصر و استماله ابن السوادء و أصحابه خالد بن ملجم و سودان بن حمران و كنانة بن بشر و كتب عثمان إلى أهل الأمصار : إن قد رفع إلي أهل المدينة أن عمالي وقع منهم أضرار بالناس و قد أخذتهم بأن يوافوني في كل موسم فمن كان حق فليحضر يأخذ بحقه مني أو من عمالي أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين فبكى الناس عند قراءة كتابه عليهم و دعوا له و بعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه في الموسم : عبد الله بن عامر و ابن أبي سرح و معاوية و أدخل معهم سعيد بن العاص و عمرا و قال : ويحكم ما هذه الشكاية و الإذاعة وإني لأخشى و الله أن تكونوا صادقين ! فقالوا له : ألم يخبرك رسلك بأن أحدا لم يشافههم بشيء ؟ و إنما هذه إشاعة لا يحل الأخذ بها و اختلفوا في وجه الرأي في ذلك فقال عثمان : إن الأمر كائن و بابه سيفتح و لا أحب أن تكون لأحد علي حجة في فتحه وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا فسكتوا الناس و بينوا لهم حقوقهم ثم قدم المدينة فدعا عليا و طلحة و الزبير و معاوية حاضر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أنتم ولاة هذا الأمر و اخترتم صاحبكم يعني عثمان وقد كبر و أشرف و فشت مقالة خفتها عليكم فما عنيتم فيه من شيء فأنا لكم به و لا تطمعوا الناس أمركم فانتهره علي ثم ذهب عثمان يتكلم و قال : اللذان كانا قبلي منعا قرابتهما احتسابا و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعطي قرابته و أن قرابتي أهل علية و قلة معاش فأعطيتهم فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فقالوا : أعطيت عبد الله بن خالد بن أسيد خمسين ألفا و مروان خمسة عشر ألفا قال : آخذ ذلك منهما فانصرفوا راضين
و قال له معاوية : اخرج معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك ما لا تطيقه قال : لا أبتغي بجوار رسول الله صلى الله عليه و سلم بدلا قال فأبعث إليك جندا يقيمون معك قال : لا أضيق على جيران رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال معاوية : لتغتالن و لتعرين قال : حسبي الله و نعم الوكيل ثم سار معاوية و مر على علي و طلحة و الزبير فوصاهم بعثمان و ودعهم و مضى و كان المنحرفون عن عثمان بالأمصار قد تواعدوا عند مسير الأمراء إلى عثمان أن يثبوا عليه في مغيبهم فرجع الأمراء و لم يتهيأ لهم ذلك و جاءتهم كتب من المدينة ممن صار إلى مذاهبهم في الانحراف عن عثمان أن أقدموا علينا فإن الجهاد عندنا فتكاتبوا من أمصارهم في القدوم إلى المدينة فخرج المصريون و فيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة و قيل في ألف و فيهم كنانة بن بشر الليثي و سودان بن حمران السكوني و ميسرة أو قتيرة بن فلان السكوني و عليهم جميعا الغافقي بن حرب العكي و خرج أهل الكوفة و فيهم زيد صوحان العبدي و الأشتر النخعي و زياد بن النضر الحارثي و عبد الله بن الأصم العامري و خرج أهل البصرة و فيهم حكيم بن جبلة العبدي و ذريح بن عباد و بشر بن شريح القيسي و ابن المحرش و عليهم حرقوص بن زهير السعدي و كلهم في مثل عدد أهل مصر و خرجوا جميعا في شوال مظهرين للحج
و كانوا من المدينة على ثلاث مراحل تقدم ناس من أهل البصرة و كان هواهم في طلحة فنزلوا ذا خشب و تقدم ناس من أهل الكوفة و كان هواهم في الزبير فنزلوا الأعوص و نزل معهم ناس من أهل مصر و كان هواهم في علي و تركوا عامتهم بذي المروة و قال زياد بن النضر و عبد الله بن الأصم من أهل الكوفة : لا تعجلوا حتى تدخل المدينة فقد بلغنا أنهم عسكروا لنا فوالله إن كان حقا لا يقوم لنا أمر
ثم دخلوا المدينة و لقوا عليا و طلحة و الزبير و أمهات المؤمنين و أخبروهم أنهم إنما أتوا للحج و أن يستعفوا من بعض العمال و استأذنوا في الدخول فمنعوهم و رجعوا إلى أصحابهم و تشاوروا في أن يذهب من أهل الكوفة و كل مصر فريق إلى أصحابهم كيادا و ظلما في الفرقة فأتى المصريون عليا و هو في عسكر عند أحجار الزيت و قد بعث ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع عليه فعرضوا عليه أمرهم فصاح بهم و طردوهم و قال : إن جيش ذي المروة و ذي خشب و الأعوص ملعونون على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد علم ذلك الصالحون و أتى البصريون طلحة و الكوفيون الزبير فقالا مثل ذلك فانصرفوا و افترقوا عن هذه الأماكن إلى عسكرهم على بعد فتفرق أهل المدينة فلم يشعروا إلا و التكبير في نواحيها وقد هجموا و أحاطوا بعثمان و نادوا بأمان من كف يده و صلى عثمان بالناس أياما و لزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا الناس من كلامه و غدا عليهم علي فقال : ما ردكم بعد ذهابكم قالوا أخذنا كتابا مع بريد بقتلنا و قال البصريون لطلحة و الكوفيون لزبير مثل مقالة أهل مصر و أنهم جاؤا لينصروهم فقال لهم علي : كيف علمتم بما علمتم بما لقي أهل مصر و كلكم على مراحل من صاحبه حتى رجعتم علينا جميعا ؟ هذا أمر أبرم بليل فقالوا : اجعلوا كيف شئتم لا حاجة لنا بهذا الرجل ليعتزلنا و هم يصلون خلفه و منعوا الناس من الاجتماع معه
و كتب عثمان إلى الأمصار يستحثهم فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري و بعث عبد الله بن أبي سرح معاوية بن حديج و خرج من الكوفة القعقاع بن عمرو و تسابقوا إلى المدينة على الصعب و الذلول و قام بالكوفة نفر يحضون على إعانة أهل المدينة فمن الصحابة عقبة بن عامر و عبد الله بن أبي أوفى و حنظلة الكاتب و من التابعين مسروق الأسود و شريح و عبد الله بن حكيم و قام بالبصرة في ذلك عمران بن حصين و أنس بن مالك و هشام بن عامر و من التابعين كعب بن سوار و هرم بن حيان و قال بالشام و بمصر جماعة أخرى من الصحابة و التابعين
ثم خطب عثمان في الجمعة القابلة و قال يا هؤلاء الله الله فو الله إن أهل المدينة ليعلموا أنكم ملعونون على لسان محمد فامحوا الخطايا بالصواب فقال محمد بن مسلمة : أنا أشهد بذلك فأقعده حكيم بن جبلة و قام زيد بن ثابت فأقعده آخر و حصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد و أصيب عثمان بالحصباء فصرع و قاتل دونه سعد بن أبي وقاص و الحسين و زيد بن ثابت و أبو هريرة و دخل عثمان بيته و عزم عليهم في الانصراف فانصرفوا و دخل علي وطلحة و الزبير على عثمان يعودونه و عنده نفر من بني أمية فيهم مروان فقالوا لعلي : أهلكتنا وصنعت هذا الصنع و الله لئن بلغت الذي تريد لتمرن عليك الدنيا فقام مغضبا و عادوا إلى منازلهم و صلى عثمان بالناس و هو محصور ثلاثين يوما ثم منعوه الصلاة و صلى بالناس أمير المصريين الغافقي بن حرب العكي و تفرق أهل المدينة في بيوتهم و حيطانهم ملازمين للسلاح و بقي الحصار أربعين يوما و قيل بل أمر عثمان أبا أيوب الأنصاري فصلى أياما ثم صلى علي بعده بالناس و قيل أمر علي سهل بن حنيف فصلى عشر ذي الحجة ثم صلى العيد و الصلوات حتى قتل عثمان
و قد قيل عثمان أن محمد بن أبي بكر و محمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرضان على عثمان فلما خرج المصريون في رجب مظهرين للحج و مضمرين قتل عثمان أو خلعه و عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي كانا فيمن خرج مع المصريين محمد بن أبي بكر و بعث عبد الله بن سعد في آثارهم و أقام محمد بن حذيفة بمصر فلما كان ابن أبي سرح بأيلة بلغه أن المصريين رجعوا إلى عثمان فحصروه و أن محمد بن أبي حذيفة غلب على مصر فرجع سريعا إليهما فمنع منهما فأتى فلسطين و أقام بها حتى قتل عثمان و أما المصريون فلما نزلوا ذا خشب جاء عثمان إلى بيت علي و مت إليه بالقرابة في أن يركب إليهم و يردهم لئلا تظهر الجراءة منهم فقال له علي : قد كلمتك في ذلك فأطعت أصحابك و عصيتني ! يعني مروان و معاوية و ابن عامر و ابن أبي سرح و سعيدا فعلي أي شيء أردهم ؟ فقال : على أن أصير إلى ما تراه و تشيره و أن أعصي أصحابي و أطيعك فركب في ثلاثين من المهاجر و الأنصار فيهم سعيد بن زيد و أبو جهم العدوي و جبير بن مطعم و حكيم بن حزام و مروان بن الحكم و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن عتاب و من الأنصار أبو أسيد الساعدي و أبو حميد و زيد بن ثابت و حسان و كعب بن مالك و من العرب نيار بن مكرز فأتوا المصريين و تولى الكلام معهم : علي و محمد بن مسلمة فرجعوا إلى مصر و قال ابن عديس لمحمد أتوصينا بحاجة قال : تتقي الله و ترد من قبلك عن إمامهم فقد وعدنا أن يرجع و ينزع و رجع القوم إلى المدينة و دخل علي على عثمان و أخبره برجوع المصريين ثم جاءه مروان من الغد فقال له : أخبر الناس بأن أهل مصر قد رجعوا و أن ما بلغهم عنك كان باطلا قبل أن تجيء الناس من الأمصار و يأتيك ما لا تطيقه ففعل فلما خطب ناداه الناس من كل ناحية اتق الله يا عثمان وتب إلى الله و كان أولهم عمرو بن العاص فرفع يده و قال لهم : إني تائب و خرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين ثم جاء الخبر بحصاره و قتله
و قيل إن عليا لما رجع عن المصريين أشار على عثمان أن يسمع الناس ما اعتزم عليه من النزع قبل أن يجيء غيرهم ففعل و خطب بذلك و أعطى الناس من نفسه التوبة و قال : أنا أول من اتعظ أستغفر الله مما فعلت و أتوب إليه فليأت أشرافكم يروني رأيهم فوالله إن ردني الحق عبدا لاستن بسنة العبد و لأذلن ذل العبد و ما عن الله مذهب إلا إليه فوالله لأعطينكم الرضى و لا أحتجب عنكم ثم بكى و بكى الناس و دخل منزله فجاءه نفر من بني أمية يعذلونه في ذلك فوبختهم نائلة بنت الفرافصة فلم يرجعوا إليها و عابوه فيما فعل و استذلوه في إقراره بالخطبة و التوبة عند الخوف و اجتمع الناس بالباب وقد ركب بعضهم بعضا فقال لمروان : كلمهم فأغلظ لهم في القول و قال : جئتم لنزع ملكنا من أيدينا و الله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم و تحمدوا غب رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فإنا و الله ما نحن مغلوبين على ما في أيدينا و بلغ الخبر عليا فنكر ذلك و قال لعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوت : أسمعت خطبته بالأمس و مقالة مروان للناس اليوم ؟ يا لله و يا للناس إن قعدت في بتي قال : تركتني و قرابتي قرابتي و حقي و إن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان و يسوقه حيث يشاء بعد كبر السن و صحبة الرسول و قام مغضبا إلى عثمان و استقبح مقالة مروان و أنبه عليها و قال ما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتكم فقد أذهبت شرفك و غلبت على رأيك ثم دخلت عليه امرأته نائلة و قد سمعت قول علي فعذلته في طاعة مروان و أشارت عليه باستصلاح علي فبعث إليه فلم يأته فأتاه عثمان إلى منزله ليلا يستلينه و يعده الثبات على رأيه معه فقال : بعد أن قام مروان على بابك يشتم الناس و يؤذيهم فخرج عثمان و هو يقول : خذلتني و جرأت الناس فقال علي : و الله إني أكثر الناس ذبا و لكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضى جاء مروان بأخرى فسمعت قوله و تركت قولي ثم منع عثمان الماء فغضب علي غضبا شديدا حتى دخلت الروايا على عثمان
و قيل إن عليا كان عند حصار عثمان بخيبر فقدم و الناس مجتمعون عند طلحة فجاء عثمان و قال : يا علي إن لي حق الإخاء و القرابة و الصهر و لو كان أمر الجاهلية فقط كان عارا على بني عبد مناف أن تنزع تيم أمرهم ! فجاء علي إلى طلحة و قال : ما هذا فقال طلحة : أبعد ما مس الحزام الطبيين يا أبا حسن فانصرف علي إلى بيت المال و أعطى الناس فبقي طلحة وحده و سر بذلك عثمان و جاء إليه طلحة فقال له و الله ما جئت تائبا و لكن مغلوبا فالله حسيبك يا طلحة
و قيل إن المصريين لما رجعوا خرج إليهم محمد بن مسلمة فأعطوه صحيفة قالوا وجدناها عند غلام عثمان بالبويب و هو على بعير من إبل الصدقة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس و عمرو بن الحمق و عروة بن البياع و حبسهم و حلق رؤوسهم و لحاهم و صلب بعضهم و قيل وجدت الصحيفة بيد أبي الأعور السلمي فعاد المصريون و عاد معهم الكوفيون و البصريون و قالوا لمحمد بن مسلمة حين سألهم : قد كلمنا عليا و سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد فوعدونا أن يكلموه فليحضر علي معنا عند عثمان ثم دخل علي و محمد على عثمان و أخبروه بقول أهل مصر فحلف ما كنت و لا علم و قال محمد صدق هذا من عمل مروان و دخل المصريون فشكى ابن عديس بابن أبي سرح و ما أحدثه بمصر و أنه ينسب ذلك إلى كتاب عثمان و أنا جئنا من مصر لقتلك فردنا علي و محمد و ضمنا لنا النزوع عن هذا كله فرجعنا و لقينا هذا الكتاب و فيه أمرك لابن أبي سرح بجلدنا و المثلة بنا و طول الحبس و هو بيد علامك و عليه خاتمك فحلف عثمان ما كتب و لا أمر و لا علم قال : فكيف يجترأ عليك بمثل هذا فقد استحقيت الخلع على التقديرين و لا يحل أن يولى الأمور من ينتهي إلى هذا الضعف فاخلع نفسك فقال : لا أنزع ما ألبسني الله و لكن أتوب و أرجع قال : رأيناك تتوب و تعود فلا بد من خلعك أو قتلك و قتال أصحابك دون ذلك أن يخلص إليك أو تموت فقال : لا ينالكم أحد بأخرى و لو أردت ذلك لاستجشت بأهل الأمصار ثم كثر اللغط و أخرجوا و مضى علي إلى منزله و حصر المصريون عثمان و كتب إلى معاوية و ابن عامر يستحثهم و قام يزيد بن أسد القسري فاستنفر أهل الشام و سار إلى عثمان و بلغهم قتله بوادي القرى فرجعوا و قيل سار من الشام حبيب بن مسلمة و من البصرة مجاشع بن مسعود فبلغهم قتله بالربذة فرجعوا و كانت بطانة عثمان أشاروا عليه أن يبعث إلى علي في كفهم عنه على الوفاء لهم فبعث إليه في ذلك فأجاب بعد توقف ثم بعث إليهم فقالوا لا بد لنا أن نتوثق منه وجاء فأعلمه و توثق منه على أجل ثلاثة أيام وكتب بينهم كتابا على رد المظالم و عزل من كرهوه من العمال ثم مضى الأجل و هو مستعد و لم يغير شيئا فجاء المصريون من ذي خشب يستنجدون عهدهم فأبى فحصروه و أرسل إلى علي و طلحة و الزبير و أشرف عليهم فحياهم و دعا لهم ثم قال : أنشدكم الله تعالى هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار و يجمعوا على خيركم ؟ أتقولون أنه لم يستجب لكم أو تقولن أن الله لم يبال بمن ولي هذا الدين أم تقولون أن الأمة و لوا مكابرة و عن غير مشورة فوكلهم إلى أمهر أولم يعلم عاقبة أمري ثم أنشدكم الله هل تعلمون لي من السوابق ما يجب حقه فمهلا فلا يحل إلا قتل ثلاثة : زان بعد إحصان و كافر بعد إيمان و قاتل بغير حق ثم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لا يرفع الله عنكم الاختلاف فقالوا له : ما ذكرت من الاستخارة بعد عمر فكل ما صنع الله تعالى فيه الخيرة و لكن الله ابتلى بك عباده و أما حقك و سابقتك فصحيح لكن أحدثت ما علمت و لا نترك إقامة الحق مخافة الفتنة عاما قابلا و أما حصر القتل في الثلاثة ففي كتب الله قتل من سعى في الأرض فسادا و من قاتل على البغي و على منع الحق و المكابرة عليه و أنت إنما تمسكت بالأمارة علينا و إنما قاتل دونك هؤلاء لهذه التسمية فلو نزعتها انصرفوا فسكت عثمان و لزم الدار و أقسم على الناس بالانصراف فانصرفوا إلا الحسن بن علي و محمد بن طلحة و عبد الله بن الزبير و كانت مدة انحصاره أربعين يوما و لثمان عشرة منها وصل الخبر بمسير الجنود من الأمصار فاشتد الانحصار و منعوه من لقاء الناس و من الماء و أرسل إلى علي و طلحة و الزبير و أمهات المؤمنين يطلب الماء فركب علي إليهم مغلسا و قال : يا أيها الناس إن هذا لا يشبه أمر المؤمنين و لا الكافرين و إنما الأسير عند فارس و الروم يطعم و يسقى فقالوا : لا و الله و نعمة عين فرجع و جاءت أم حبيبة على بغلتها مشتملة على أدواة و قالت : أردت أن أسأل هذا الرجل عن وصايا عنده لبني أمية أو تهلك أموال أيتامهم و أراملهم فقالوا : لا و الله و ضربوا وجه البغلة فنفرت و كادت تسقط عنها و ذهب بها الناس إلى بيتها
و أشرف عليهم عثمان و قرر حقوقه و سوابقه فقال بعضهم مهلا عن أمير المؤمنين فجاء الأشتر و فرق الناس و قال : لا يمكر بكم ثم خرجت عائشة إلى الحج و دعت أخاها فأبى فقال له حنظلة الكاتب : تدعوك أم المؤمنين فلا تتبعها و تتبع سفهاء العرب فيما لا يحل و لو قد صار الأمر إلى الغلبة غلبك عليه بنو عبد مناف ثم ذهب حنظلة إلى الكوفة و بلغ طلحة و الزبير ما لقي علي و أم حبيبة فلزموا بيوتهم و كان آل حزم يدسون كالماء إلى بيت عثمان في الغفلات و كان ابن عباس ممن لزم باب عثمان للمدافعة فأشرف عليه عثمان و أمره أن يحج بالناس فقال : جهاد هؤلاء أحب إلي فأقسم عليه و انطلق
و لما رأى أهل مصر أن أهل الموسم يريدون قصدهم و أن أهل الأمصار يسيرون إليهم اعتزموا على قتل عثمان رضي الله عنه يرجون في ذلك خلاصهم و اشتغال الناس عنهم فقاموا إلى الباب ليقتحموه فمنعهم الحسن بن علي و ابن الزبير و محمد بن طلحة و مروان و سعيد بن العاص و من معهم من أبناء الصحابة و قاتلوهم و غلبوهم دون الباب ثم صدهم عثمان عن القتال و حلف ليدخلن فدخلوا و أغلق الباب فجاؤا بالنار و أحرقوه و دخلوا و عثمان يصلي و قد افتتح سوره طه و قد سار أهل الدار فما شغله شيء من أمرهم حتى فرغ و جلس إلى المصحف يقرأ فقرأ : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل } ثم قال لمن عنده إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عهد إلي عهدا فأنا صابر عليه و منعهم من القتال و أذن للحسن في اللحاق بأبيه و أقسم عليه فأبى و قاتل دونه و كان المغيرة بن الأخنس بن شريق قد تعجل من الحج في عصابة لنصره فقاتل حتى قتل و جاء أبو هريرة ينادي يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة و تدعونني إلى النار و قاتل ثم اقتحمت الدار من ظهرها من جهة دار عمرو بن حزم فامتلأت قوما و لا يشعر الذين بالباب و انتدب رجل فدخل على عثمان في البيت فحاوره في الخلع فأبى فخرج و دخل آخر ثم آخر كلهم يعظمه فيخرج و يفارق القوم و جاء ابن سلام فوعظهم فهموا بقتله و دخل عليه محمد بن أبي بكر فحاوره طويلا بما لا حاجة إلى ذكره ثم استحيا و خرج ثم دخل عليه السفهاء فضربه أحدهم و أكبت عليه نائلة امرأته تتقي الضرب بيدها فنفحها أحدهم بالسيف في أصابعها ثم قتلوه و سال دمه على المصحف و جاء غلمانه فقتلوا بعض أولئك القاتلين و قتلاء آخر و انتبهوا ما في البيت و ما على النساء حتى نائلة و قتل الغلمان منهم و قتلوا من الغلمان ثم خرجوا إلى بيت المال فانتهبوه و أرادوا قطع رأسه فمنعهم النساء فقال ابن عديس : اتركوه و يقال إن الذي تولى قتله كنانة بن بشر التجيبي و طعنه عمر بن الحمق طعنات و جاء عمير بن ضابيء و كان أبوه مات في سجنه فوثب عليه حتى كسر ضلعا من أضلاعه و كان قتله لثمان عشرة خلت من ذي الحجة و بقي في بيته ثلاثة أيام
ثم جاء حكيم بن حزام و جبير بن معطم إلى علي فأذن لهم في دفنه فخرجوا به بين المغرب و العشاء و معهم الزبير و الحسن و أبو جهم بن حذيفة و مروان فدفنوه في حش كوكب و صلى عليه جبير و قيل مروان و قيل حكيم و يقال : إن ناسا تعرضوا لهم ليمنعوا من الصلاة عليه فأرسل إليهم علي و زجرهم و قيل إن عليا و طلحة حضرا جنازته و زيد بن ثابت و كعب بن مالك
و كان عماله عند موته على ما نذكره : فعلى مكة عبد الله بن الحضرمي و على الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي و على صنعاء يعلى بن منية و على الجند عبد الله بن ربيعة و على البصرة و البحرين عبد الله بن عامر و على الشام معاوية بن أبي سفيان و على حمص عبد الرحمن بن خالد من قبله و على قنسرين حبيب بن مسلمة كذلك و على الأردن أبو الأعور السلمي كذلك و على فلسطين علقمة بن حكيم الكندي كذلك و على البحرين عبد الله بن قيس الفزاري و على القضاء أبو الدرداء و على الكوفة أبو موسى الأشعري على الصلاة و القعقاع بن عمرو على الحرب و على خراج السواد جابر المزني و سماك الأنصاري على الخراج و على قرقيسيا جرير بن عبد الله و على أذربيجان الأشعث بن قيس و على حلوان عتيبة بن النهاس و على أصبهان السائب بن الأقرع و على ما سبدان خنيس و على بيت المال عقبة بن عمرو و على القضاء زيد بن ثابت (2/593)
بيعة علي رضي الله عنه
لما قتل عثمان اجتمع طلحة و الزبير و المهاجرون و الأنصار و أتوا عليا يبايعونه فأبى و قال : أكون وزيرا لكم خير من أن أكون أميرا و من اخترتم رضيته فألحوا عليه و قالوا : لا نعلم أحق منك و لا نختار غيرك حتى غلبوه في ذلك فخرج إلى المسجد و بايعوه و أول من بايعه طلحة ثم الزبير بعد أن خيرهما و يقال إنهما ادعيا الإكراه بعد ذلك بأربعة أشهر و خرجا إلى مكة ثم بايعه الناس و جاؤا بسعد فقال لعلي : حتى تبايعك الناس فقال : اخلوه و جاؤا بابن عمر فقال : كذلك فقال : ائتني بكفيل قال : لا أجده فقال الأشتر : دعني أقتله فقال علي : دعوه أنا كفيله و بايعت الأنصار و تأخر منهم حسان بن ثابت و كعب بن مالك و مسلمة بن مخلد و أبو سعيد الخدري و محمد بن مسلمة و النعمان بن بشير و زيد بن ثابت و رافع بن خديج و فضالة بن عبيد و كعب بن عجرة و سلمة بن سلامة بن وقش و تأخر من المهاجرين عبد الله بن سلام و صهيب بن سنان و أسامة بن زيد و قدامة بن مظعون و المغيرة بن شعبة و أما النعمان بن بشير فأخذ أصابع نائلة امرأة عثمان و قميصه الذي قتل فيه و لحق بالشام صريخا
و قيل إن عثمان لما قتل بقي الغافقي بن حرب أميرا على المدينة خمسة أيام و التمس من يقوم بالأمر فلم يجبه أحد و أتوا إلى علي فامتنع و أتى الكوفيون الزبير و البصريون طلحة فامتنعا ثم بعثوا إلى سعد و ابن عمر فامتنعا فبقوا حيارى و رأوا أن رجوعهم إلى الأمصار بغير إمام يوقع في الخلاف و الفساد فجمعوا أهل المدينة و قالوا : أنتم أهل الشورى و حكمكم جائز على الأمة فاعقدوا الأمامة و نحن لكم تبع و قد أجلناكم يومين و إن لم تفعلوا قتلنا فلانا و فلانا و غيرهما يشيرون إلى الأكابر فجاء الناس إلى علي فاعتذر و امتنع فخوفوه الله في مراقبة الإسلام فوعدهم إلى الغد ثم جاؤه من الغد و جاء حكيم بن جبلة في البصريين فأحضر الزبير كرها و جاء الأشتر في الكوفيين فأحضر طلحة كذلك و بايعوا لعلي و خرج إلى المسجد و قال : هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أردتم و قد افترقنا الأمس و أنا كاره فأبيتم إلا أن أكون عليكم فقالوا : نحن على ما افترقنا عليه بالأمس فقال لهم : اللهم اشهد ! ثم جاؤا بقوم ممن تخلف قالوا نبايع على إقامة كتاب الله ثم بايع العامة و خطب علي و ذكر الناس و ذلك يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة و رجع إلى بيته فجاءه طلحة و الزبير و قالا : قد اشترطنا إقامة الحدود فأقمها على قتلة هذا الرجل فقال : لا قدرة لي على شيء مما تريدون حتى يهدأ الناس و ننظر الأمور فتؤخذ الحقوق فافترقوا عنه
و أكثر بعضهم المقالة في قتلة عثمان و باستناده إلى أربعة في رأيه و بلغه ذلك فخطبهم و ذكر فضلهم و حاجتهم إليهم و نظره لهم ثم هرب مروان و بنو أمية و لحقوا بالشام فاشتد على علي منع قريش من الخروج ثم نادى في اليوم الثالث برجوع الأعراب إلى بلادهم فأبوا و تدامرت معهم السبيئه و جاءه طلحة و الزبير فقالا : دعنا نأتي البصرة و الكوفة فنستنفر الناس فأمهلهما و جاء المغيرة فأشار عليه باستبقاء العمال حتى يستقر الأمر و يستبدلوا بمن شاء فأمهله و رجع من الغد فأشار بمعالجة الاستبدال و جاءه ابن عباس فأخبره بخبر المغيرة فقال : نصحك أمس و غشك اليوم قال : فما الرأي ؟ قال : كان الرأي أن تخرج عند قتل الرجال إلى مكة و أما اليوم فإن بني أمية يشبهون على الناس بأن يلجموك طرفا من هذا الأمر و يطلبون ما طلب أهل المدينة في قتلة عثمان فلا يقدرون عليهم و الأمر أن تقر معاوية فقال علي رضي الله عنه : و الله لا أعطيه إلى السيف فقال له ابن عباس : أنت رجل شجاع لست صاحب رأي في الحرب أما سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول الحرب خدعة قال : بلى ! فقال ابن عباس : أما و الله إن أطعتني لأتركنهم ينظرون في دبر الأمور و لا يعرفون ما كان وجهها من غير نقصان عليك و لا إثم لك فقال : يا ابن عباس لست من هنياتك و لا هنيات معاوية في شيء فقال ابن عباس : أطعني و ألحق بمالك بينبع و أغلق بابك عليك فإن العرب تجول جولة و تضطرب و لا تجد غيرك و إن نهضت مع هؤلاء القوم يحملك الناس دم عثمان غدا فأبى علي و قال : أشر علي و إذا خالفتك أطعني قال : أيسر مالك عندي الطاعة قال : فسر إلى الشان فقد وليتكها قال : إذا يقتلني معاوية بعثمان أو يحبسني فيتحكم علي لقرابتي منك و لكن أكتب إليه وعده فأبى و كان المغيرة يقول نصحته فلم يقبل فغضب و لحق بمكة
ثم فرق علي العمال على الأمصار فبعث على البصرة عثمان بن حنيف و على الكوفة عمارة بن شهاب من المهاجرين و على اليمن عبيد الله بن عباس و على مصر قيس بن سعد و على الشام سهل بن حنيف فمضى عثمان إلى البصرة و اختلفوا عليه فأطاعته فرقة و قال آخرون : ما يصنع أهل المدينة فنقتدى بهم و مضى عمارة إلى الكوفة فلما بلغ زبالة لقي طليحة بن خويلد فقال له : ارجع فإن اليوم لا يستبدلون بأبي موسى و إلا ضربت عنقك و مضى ابن عباس إلى اليمن فجمع يعلى بن منية مال الجباية و خرج به إلى مكة و دخل عبيد الله إلى اليمن و مضى قيس بن سعد إلى مصر و لقيه بأيلة خيالة من أهل مصر فقالوا : من أنت ؟ قال : قيس بن سعد من فل عثمان أطلب من آوي إليه و أنتصر به و مضى حتى دخل مصر و أظهر أمره فافترقوا عليه فرقة كانت معه و أخرى تربصوا حين يروا فعله في قتلة عثمان و مضى سهل بن حنيف إلى الشام حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل فقال لهم : أنا أمير على الشام قالوا إن كان بعثك غير عثمان فارجع فرجع
فلما رجع و جاءت أخبار الآخرين دعا علي طلحة و الزبير و قال قد وقع ما كنت أحذركم فسألوه الإذن في الخروج من المدينة و كتب علي إلى أبي موسى مع معبد الأسلمي فكتب إليه بطاعة أهل الكوفة و ببيعتهم و من الكاره منهم و الراضي حتى كأنه يشاهد و كتب إلى معاوية مع سبرة الجهني فلم يجبه إلى ثلاثة أشهر من مقتل عثمان ثم دعا قبيصة من عبس و أعطاه كتابا مختوما عنوانه من معاوية إلى علي و أوصاه بما يقول و أعاده مع رسول علي فقدما في ربيع الأول و دخل العبسي و قد رفع الطومار كما أمره حتى دفعه إلى علي ففضه فلم يجد فيه كتابا فقال للرسول : ما وراءك ؟ قال : آمن أنا ؟ قال نعم قال تركت قوما لا يرضون إلا بالقود قال : و ممن ؟ قال منك و تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان منصوبا على منبر دمشق فقال : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان ! قد نجا و الله و قتلة عثمان إلا أن يشاء الله ثم رده إلى صاحبه و صاحت السبئية اقتلوا هذا الكلب وافد الكلب فنادى يا آل مضر يا لقيس أحلف بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي فانظروا كم الفحول و الركاب و تقاووا عليه فمنعته مضر و دس أهل المدينة على علي من يأتيهم برأيه في القتال و هو زياد بن حنظلة التميمي و كان منقطعا إليه فجالسه ساعة فقال له علي : سيروا لغزو الشام فقال لعلي : الأناة و الرفق أمثل فتمثل يقول :
( متى تجمع القلب الذكي و صارما ... و أنفا حميا تجتنبك المظالم )
فعلم أن رأيه القتال ثم جاء إلى القوم الذين دسوه فأخبرهم ثم استأذنه طلحة و الزبير في العمرة و لحقا بمكة ثم اعتزم على الخروج إلى الشام و دعا أهل المدينة إلى قتالهم و قال : انطلقوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق و تقضون الذي عليكم
و أمر الناس بالتجهز إلى الشام و دفع اللواء لمحمد بن الحنفية و ولى عبد الله بن عباس ميمنته و عمرو بن سلمة ميسرته و يقال به عمرو بن سفيان بن عبد الأسد و ولى أبا ليلى بن عمرو بن الجراح ابن أخي عبيدة مقدمته و لم يول أحدا ممن خرج على عثمان و استخلف على المدينة تمام بن العباس و على مكة قثم بن العباس و كتب إلى قيس بن سعد بمصر و عثمان بن حنيف بالبصرة و أبي موسى بالكوفة أن يندبوا الناس إلى الشام و بينما هو على التجهز للشام إذ أتاه الخبر عن أهل مكة بنحو آخر و أنهم على الخلاف فانتقض عن الشام (2/602)
القسم الأول من أمر الجمل
و لما جاء خبر مكة إلى علي قام في الناس و قال : ألا إن طلحة و الزبير و عائشة قد تمالاؤا على نقض إمارتي و دعوا الناس إلى الإصلاح و سأصبر ما لم أخف على جماعتكم و أكف إن كفوا و أقتصد نحوهم و ندب أهل المدينة فتثاقلوا و بعث كميلا النخعي فجاءه بعبد الله بن عمر فقال : انهض معي فقال : أنا من أهل المدينة افعل ما يفعلون قال : فأعطني كفيلا بأنك لا تخرج قال : و لا هذه فتركه و رجع إلى المدينة و خرج إلى مكة و قد أخبر ابنة علي أم كلثوم بأنه سمع من أهل المدينة تثاقلهم و أنه على طاعة علي و يخرج معتمرا و جاء الخبر من الغداة إلى علي بأنه خرج إلى الشام فبعث في أثره على كل طريق و ماج أهل المدينة و ركبت أم كلثوم إلى أبيها و هو في السوق يبعث الرجال و يظاهر في طلبه فحدثته فانصرف عن ذلك و وثق به فيما قاله و رجع إلى أهل المدينة فخاطبهم و حرضهم فرجعوا إلى إجابته و أول من أجابه أبو الهيثم بن التيهان البدري و خزيمة بن ثابت و ليس بذي الشهادتين و لما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس عن علي انتدب إليه و قال : من تثاقل عنك فإنا نخف معك و نقاتل دونك
كان سبب اجتماعهم بمكة أن عائشة كانت خرجت إلى مكة و عثمان محصور كما قدمناه فقضت نسكها و انقلبت تريد المدينة فلقيت في طريقها رجلا من بني ليث أخوالها فأخبرها بقتل عثمان و بيعة علي فقالت : قتل عثمان و الله ظلما و لأطلبن بدمه فقال لها الرجل : و لم أنت كنت تقولين ما قلت ؟ فقالت : إنهم استتابوه ثم قتلوه و انصرفت إلى مكة و جاءها الناس فقالت : إن الغوغاء من أهل الأمصار و أهل المياه و عبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلما و نقموا عليه استعمال من حدثت سنه و قد استعمل أمثالهم من كان قبله و مواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم و نزع لهم عنها فلما لم يجدوا حجة و لا عذرا بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام و استحلوا البلد الحرام و الشهر الحرام و أخذوا المال الحرام : و الله لإصبع من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم و لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه فقال عبد الله بن عامر الحضرمي و كان عامل مكة لعثمان : أنا أول طالب فكانت أول مجيب و تبعه بنو أمية و كانوا هربوا إلى مكة بعد قتل عثمان منهم : سعيد بن العاص و الوليد بن عقبة و قدم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير و يعلى بن منية من اليمن بستمائة بعير و ستمائة ألف فأناخ بالأبطح ثم قدم طلحة و الزبير من المدينة فقالت لهما عائشة : ما وراءكما ؟ قالا : تحملنا هرابا من المدينة من غوغاء و أعراب غلبوا على خيارهم فلم يمنعوا أنفسهم و لا يعرفون حقا و لا ينكرون باطلا فقالت : انهضوا بنا إليهم و قال آخرون : نأتي الشام فقال ابن عامر : إن معاوية كفاكم الشام فأتوا البصرة فلي بها صنائع و لهم في طلحة هوى فنكروا عليه مجيئه من البصرة و استقام رأيهم على رأيه و قالوا : إن الذين معنا لا يطيقون من بالمدينة و يحتجون ببيعة علي و إذا أتينا البصرة أنهضناهم كما أنهضنا أهل مكة و جاهدنا فاتفقوا و دعوا عبد الله بن عمر إلى النهوض فأبى و قال : أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون و كانت أمهات المؤمنين معها على قصد المدينة فلما نهضت إلى البصرة قعدوا عنها و أجابتها حفصة فمنعها أخوها عبد الله و جهزهم ابن عامر بما معه من المال و يعلى بن منية بما معه من المال و الظهر و نادوا في الناس بالحملان فحملوا على ستمائة بعير و ساروا في ألف من أهل مكة و من أهل المدينة و تلاحق بهم الناس فكانوا ثلاثة آلاف و بعثت أم الفضل و أم عبد عبد الله بن عباس بالخبر استأجرت على كتابها من أبلغه عليا و نهضت عائشة و من معها و جاء مروان بن الحكم إلى طلحة و الزبير فقال : على أيكما أسلم بالأمرة و أؤذن بالصلاة فقال ابن الزبير على أبي و قال ابن طلحة على أبي فأرسلت عائشة إلى مروان تقول له أتريد أن تفرق أمرنا ليصل بالناس ابن أختي تعني عبد الله بن الزبير
وودع أمهات المؤمنين عائشة من ذات عرق باكيات و أشار سعيد بن العاص على مروان بن الحكم و أصحابه بإدراك ثأرهم من عائشة و طلحة و الزبير فقالوا نسير لعلنا نقتل قتلة عثمان جميعا ثم جاء إلى طلحة و الزبير فقال : لمن تعجلان الأمر إن ظفرتما ؟ قالا : لأحدنا الذي تختاره الناس فقال : بل اجعلوه لولد عثمان لأنكم خرجتم تطلبون بدمه فقال : و كيف ندع شيوخ المهاجرين و نجعلها لأبنائهم ؟ قال : فلا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف فرجع و رجع عبد الله بن خالد بن أسيد و وافقه المغيرة بن شعبة و من معه من ثقيف فرجعوا و مضى القوم و معهم أبان و الوليد ابنا عثمان و أركب يعلى بن منية عائشة جملا اسمه عسكر اشتراه بمائة دينار و قيل بثمانين و قيل بل كان لرجل من عرينة عرض لهم بالطريق على جمل فاستبدلوا به جمل عائشة على أن حمله بألف فزادوه أربعمائة درهم و سألوه عن دلالة الطريق فدلهم و مر بهم على الماء الحوأب فنبحتهم كلابه و سأله عن الماء فعرفه باسمه فقالت عائشة : ردوني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول و عنده نساؤه : ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته و أقامت بهم يوما و ليلة إلى أن قيل النجاء النجاء قد أدرككم علي فارتحلوا نحو البصرة فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي و أشار بأن يتقدم عبد الله بن عامر إليهم فأرسلته عائشة و كتبت معه إلى رجال من البصرة إلى الأحنف بن قيس و سمرة و أمثالهم و أقامت بالحفين تتنظر الجواب و لما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين و كان رجلا عامة و أبا الأسود الدؤلي و كان رجلا خاصة و قال : انطلقنا إلى هذه المرأة فاعلما علمها و علم من معها فجاآها بالحفين و قالا : إن أميرنا بعثنا نسألك عن مسيرك ؟ فقالت : إن الغوغاء و نزاع و القبائل فعلوا ما فعلوا فخرجت في المسلمين أعلمهم بذلك و بالذي فيه الناس وراءنا و ما ينبغي من إصلاح هذا الأمر ثم قرأت لا خير في كثير من نجواهم الآية ثم عدلا عنها إلى طلحة فقالا : ما أقدمك ؟ قال : الطلب بدم عثمان فقالا : ألم تبايع عليا ؟ قال : بلى و السيف على رأسي و ما أستقبل على البيعة إن هو لم يخل بيننا و بين قتلة عثمان و قال لهما الزبير مثل ذلك و رجعا إلى عثمان بن حنيف فاسترجع و قال : دارت رحى الإسلام و رب الكعبة ثم قال أشيروا علي فقال عمران : اعتزل قال بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين فجاءه هشام بن عامر فأشار عليه بالمسالمة و المسامحة حتى يأتي أمر علي فأبى و نادى في الناس فلبس السلاح ثم دس من يتكلم في الجمع ليرى ما عندهم فقال رجل : إن هؤلاء القوم إن كانوا جاؤا خائفين فبلدهم يأمن فيه الطير وإن جاؤا لدم عثمان فما نحن بقتلته فأطيعوني و ردوهم من حيث جاؤا فقال الأسود بن سريع السعدي : إنما جاؤا يستعينون بنا على قتلته منا و من غيرنا فحصبه الناس فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصرا و كسره ذلك كله
و انتهت عائشة و من معها إلى المربد و خرج إليها عثمان فيمن معه و حضر أهل البصرة فتكلم طلحة من الميمنة : فحمدوا لله و ذكر عثمان و فضله و دعا إلى الطلب بدمه و حث عليه و كذلك الزبير فصدقهما أهل الميمنة و قال أصحاب عثمان من الميسرة : بايعتم عليا ثم جئتم تقولون ثم تكلمت عائشة و قالت : كان الناس يتجنون على عثمان و يأتوننا بالمدينة فنجدهم فجرة و نجده برا تقيا و هم يحاولون غير ما يظهرون ثم كثروا و اقتحموا عليه داره و قتلوه و استحلوا المحرمات بلا ترة و لا عذر ألا و أن مما ينبغي لكم غيره أخذ قتلة عثمان و إقامة كتاب الله ثم قرأت { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم } الآية فاختلف أصحاب عثمان عليه و مال بعضهم إلى عائشة ثم افترق الناس و تحاصبوا و انحدرت عائشة إلى المربد و جاءها جارية بن قدامة السعدي فقال : يا أم المؤمنين و الله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح إنه قد كان لك من الله ستر و حرمة فهتكت سترك و أبحت حرمتك و أنه من رأى قتالك يرى قتلك فإن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك و إن كنت مكرهة فاستعيني بالله و بالناس على الرجوع
و أقبل حكيم بن جبلة و هو على الخيل فأنشب القتال و أشرع أصحاب عائشة رماحهم فاقتتلوا على فم السكة و حجز الليل بينهم و باتوا يتأهبون و عاداهم حكيم بن جبلة فاعترضه رجل من عبد القيس فقتله حكيم ثم قتل امرأة أخرى و اقتتلوا إلى أن زال النهار و كثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف و لما عضتهم الحرب تنادوا إلى الصلح و توادعوا على أن يبعثوا إلى المدينة فإن كان طلحة و الزبير أكرها سلم لهم عثمان الأمر و إلا رجعا عنه و سار كعب بن سوار القاضي إلى أهل المدينة يسألهم عن ذلك فجاءهم يوم جمعة و سألهم فلم يجبه إلا أسامة بن زيد فإنه قال : بايعا مكرهين فضربه الناس حتى كاد يقتل ثم خلصه صهيب و أبو أيوب و محمد بن مسلمة إلى منزله و رجع كعب و بلغ الخبر بذلك إلى علي فكتب إلى عثمان بن حنيف يعجزه و يقول و الله ما أكرها على فرقة و لقد أكرها على جماعة و فضل فإن كانا يريدان الخلع فلا عذر لهما و إن كانا يريدان غير ذلك نظرنا و نظروا و لما جاء كعب بقول أهل المدينة بعث طلحة و الزبير إلى عثمان ليجتمع بها فامتنع و احتج بالكتاب و قال هذا غير ما كنا فيه فجمع طلحة و الزبير الناس و جاآ إلى المسجد بعد صلاة العشاء في ليل ظلماء شاتية و تقدم عبد الرحمن بن عتاب في الوحل فوضع السلاح في الجائية من الزط و السابحة و هم أربعون رجلا فقتلوهم و قتلوا عن آخرهم و اقتحموا على عثمان فأخرجوه إلى طلحة و الزبير و قد نتفوا شعر وجهه كله و بعثا عائشة بالخبر فقالت خلوا سبيله و قيل أمرت بإخراجه و ضربه و كان الذي تولى إخراجه و ضربه مجاشع بن مسعود و قيل إن الاتفاق إنما وقع بينهم على أن يكتبوا إلى علي فكتبوا إليه و أقام عثمان يصلي فاستقبلوه و وثبوا عليه فظفروا به و أرادوا قتله ثم استبقوه من أجل الأنصار و ضربوه و حبسوه
ثم خطب طلحة و الزبير و قالا يا أهل البصرة توبة بحوبة إنما أردنا أن نستعتب عثمان فغلب السفهاء فقتلوه فقالوا لطلحة قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا ! قال الزبير : أما أنا فلم أكاتبكم و أخذ يرمي عليا بقتل عثمان فقال رجل من عبد القيس : يا معشر المهاجرين أنتم أول من أجاب داعي الإسلام و كان لكم بذلك الفضل ثم استخلفتم مرارا و لم تشاورونا و قتلتم كذلك ثم بايعتم عليا و جئتم تستعدوننا عليه فماذا الذي نقمتم عليه ؟ فهموا بقتله و منعته عشيرته ثم وثبوا من الغد على قتل عثمان و من معه فقتلوا منهم سبعين و بلغ حكيم بن جبلة ما فعل بعثمان بن حنيف فجاء لنصره في جماعة من عبد القيس فوجد عبد الله بن الزبير فقال له : ما شأنك ؟ قال : تخلوا عن عثمان و تقيمون على ما كنتم حتى يقدم علي و لقد استحللتم الدم الحرام تزعمون الطلب بثأر عثمان و هم لم يقتلوه ثم ناجزهم الحرب في ربيع الآخر سنة ست و ثلاثين و أقام حكيم أربعة قواد فكان هو بحيال طلحة و ذريح بحيال الزبير و ابن المحرش بحيال عبد الرحمن بن عتاب و حرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام و تزاحفوا و استحر القتل فيهم حتى قتل كثير منهم و قتل حكيم و ذريح و أفلت حرقوص في فل من أصحابه إلى قومهم بني سعد و تتبعوهم بالقتل و طالبوا بني سعد بحرقوص و كانوا عثمانية فاعتزلوا و غضبت عبد القيس كلهم و الكثير من بكر بن وائل و أمر طلحة و الزبير بالعطاء في أهل الطاعة لهما و قصدت عبد القيس و بكر بيت المال فقاتلوهم و منعوهم و كتبت عائشة إلى أهل الكوفة بالخبر و أمرتهم أن يثبطوا الناس عن علي و أن يقدموا بدم عثمان و كتبت بمثل ذلك إلى اليمامة و المدينة
و لنرجع إلى خبر علي و قد كان لما بلغه خبر طلحة و الزبير و عائشة و مسيرهم إلى البصرة دعا أهل المدينة للنصرة و خطبهم فتثاقلوا أولا و أجابه زياد بن حنظلة و أبو الهيثم و خزيمة بن ثابت و ليس بذي الشهادتين و أبو قتادة في أخرين و بعثت أم سلمة معه ابن عمها و خرج يسابق طلحة و الزبير إلى البصرة ليردهما و استخلف على المدينة تمام ابن عباس و قيل سهل بن حنيف و على مكة قثم بن عباس و سار في ربيع الآخر سنة ست و ثلاثين و سار معه من نشط من الكوفيين و المصريين متخففين في تسعمائة و لقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه و قال يا أمير المؤمنين : لا تخرج منها فوالله إن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا فبدر الناس إليه فقال : دعوه فنعم الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم و سار فانتهى إلى الربذة و جاء خبر سبقهم إلى البصرة فأقام يأتمر بما يفعل و لحقه ابنه الحسن و عذله في خروجه و ما كان من عصيانه أياه فقال : ما الذي عصياك فيه حين أمرتني ؟ قال : أمرتك أن تخرج عند حصار عثمان من المدينة و لا تحضر لقتله ثم عند قتله ألا تبايع حتى تأتيك وفود العرب و بيعة الأمصار ثم عند خروج هؤلاء أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فقال : أما الخروج من المدينة فلم يكن إليه سبيل و قد كان أحيط بنا كما أحيط بعثمان و أما البيعة فخفنا ضياع الأمر و الحل و العقد لأهل المدينة لا للعرب و لا للأمصار و لقد مات رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا أحق بالأمر بعده فبايع الناس غيري و اتبعتهم في أبي بكر و عمر و عثمان فقتلوه و بايعوني طائعين غير مكرهين فأنا أقاتل من خالف بمن أطاع إلى أن يحكم الله و هو خير الحاكمين و أما القعود عن طلحة و الزبير فإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر فمن ينظر فيه ؟
ثم أرسل إلى كوفة محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر يستنفران الناس و أقام بالربذة يحرض الناس و أرسل إلى المدينة في أداته و سلاحه و قال له بعض أصحابه عرفنا بقصدك من القوم ؟ قال : الإصلاح إن قبلوه و إلا ننظرهم و إن بادرونا امتنعنا
ثم جاءه جماعة من طيء نافرين معه فقبلهم و أثنى عليهم ثم سار من الربذة و على مقدمته أبو ليلى بن عمرو بن الجراح و لما انتهى إلى فيد أتته أسد و طيء و عرضوا عليه النفير معه فقال : الزموا قراركم ففي المهاجرين كفاية و لقيه هنالك رجل من أهل الكوفة من بني شيبان فسأله عن أبي موسى فقال إن أردت الصلح فهو صاحبه و إن أردت القتال فليس بصاحبه فقال : و الله ما أريد إلا الصلح حتى يرد علينا ثم انتهى إلى الثعلبية و الأساد فبلغه ما لقي عثمان بن حنيف و حكيم بن جبلة ثم جاءه بذي قار عثمان بن حنيف و أراه ما بوجهه فقال : أصبت أجرا و خيرا إن الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب ثم ثالث فقالوا و فعلوا ثم بايعوني و منهم طلحة و الزبير ثم نكثا و ألبا علي و من العجب انقيادهما لأبي بكر و عمر و عثمان و خلافهما علي ! و الله إنهما ليعلمان أني لست دونهم ثم أخذ في الدعاء عليهما و ابن وائل هنالك يعرضون عليه النفير فأجابهم مثل طيء و أسد و بلغه خروج عبد القيس على طلحة و الزبير فأثنى عليهم و أما محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر فبلغا إلى الكوفة و دفعا إلى أبي موسى كتاب علي و قاما في الناس بأمره فلم يجبهما أحد و شاوروا أبا موسى في الخروج إلى علي فقال : الخروج سبيل الدنيا و القعود سبيل الآخرة فقعدوا كلهم و غضب محمد و محمد و أغلظا لأبي موسى فقال لهما : و الله إن بيعة عثمان لفي عنقي و عنق علي و إن كان لا بد من القتال فحتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا فرجعا إلى علي بالخبر و هو بذي قار فرجع علي باللائمة على الأشتر و قال : أنت صاحبنا في أبي موسى فاذهب أنت و ابن العباس و أصلح ما أفسدت فقدما على أبي موسى و كلما استعانا عليه بالناس لم يجب إلى شيء و لم ير إلا القعود حتى تنجلي الفتنة و يلتئم الناس فرجع ابن عباس و الأشتر إلى علي فأرس علي ابنه الحسن و عمار بن ياسر و قال : لعمار : انطلق فأصلح ما أفسدت فانطلقا حتى دخلا المسجد و خرج أبو موسى فلقي الحسن بن علي فضمه إليه و قال لعمار : يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا و أحللت نفسك مع الفجار ؟ فقال : لم أفعل فأقبل الحسن على أبي موسى فقال : لم تثبط الناس عنا و ما أردنا إلا الإصلاح و مثل أمير المؤمنين لا يخاف على شيء قال : صدقت بأبي أنت و أمي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم و القائم خير من الماشي و الماشي خير من الراكب و المسلمون إخوان و دماؤهم و أموالهم حرام ] فغضب عمار و سبه فسبه آخر و تثاور الناس ثم كفهم أبو موسى و جاء زيد بن صوحان بكتاب عائشة إليه و كتابها إلى أهل الكوفة فقرأهما على الناس في سبيل الإنكار عليها فسبه شبث بن ربعي و تهاوى الناس و أبو موسى يكفهم و يأمرهم بلزوم البيوت حتى تنجلي الفتنة و يقول : أطيعوني و خلوا قريشا إذا أبوا إلا الخروج من دار الهجرة و فراق أهل العلم حتى ينجلي الأمر و ناداه زيد بن صوحان بإجابة علي و القيام بنصرته و تابعه القعقاع بن عمر فقام بعده فقال : لا سبيل إلى الفوضى و هذا أمير المؤمنين ملئ بما ولي و قد دعاكم فانفروا و قال عبد خير مثل ذلك و زاد : يا أبا موسى هل تعلم أن طلحة و الزبير بايعا ؟ قال : نعم قال : فهل أحدث علي ما ينقص البيعة ؟ لا أدري قال : لا دريت و نحن نتركك حتى تدري ثم قال سيحان بن صوحان مثل ما قال القعقاع و حرض على طاعة علي و قال : فإنه دعاكم تنظرون ما بينه و بين صاحبيه و هو المأمون على الأمة الفقيه في الدين فقال عمار و هو دعاكم إلى ذلك لتنظروا في الحق و تقاتلوا معه عليه و قال الحسن : أجيبوا دعوتنا و أعينونا على ما ابتلينا به و ابتليتم و إن أمير المؤمنين يقول : إن كنت مظلوما أطيعوني أو ظالما فخذوا مني بالحق و الله إن طلحة و الزبير أول من بايعني و أول من غدر فأجاب الناس و حرض عدي بن حاتم قومه و حجر بن عدي كذلك فنفر مع الحسن من الكوفة تسعة آلاف سارت منها ستة في البر و باقيهم في الماء
و أرسل علي بعد مسير الحسن و عمار الأشتر إلى الكوفة فدخلها و الناس في المسجد و أبو موسى و الحسن و عملوا في منازعة معه و مع الناس فعجل الأشتر يمر بالقبائل و يدعوهم إلى القصر حتى انتهى إليه في جماعة الناس فدخله و أبو موسى بالمسجد يخطبهم و يثبطهم و الحسن يقول له اعتزل عملنا و اترك منبرنا فدخل الأشتر إلى القصر و أمر بإخراج غلمان أبي موسى من القصر و جاءه أبو موسى فصاح به الأشتر : أخرج لا أم لك و أجله تلك العشية و دخل الناس لينهبوا متاعه فمنعهم الأشتر و نفر الناس مع الحسن كما قلنا و كان الأمراء على أهل النفير على كنانة و أسد و تميم و الرباب و مزينة معقل بن يسار الرياحي و على قبائل قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار و على بكر و تغلب وعلة بن مجدوح الذهلي و على مذحج و الأشعريين حجر بن عدي و على بجيلة و أنمار و خثعم و الأزد محنف بن سليم الأزدي و رؤساء الجماعة من الكوفيين القعقاع بن عمرو و سعد بن مالك و هند بن عمرو و الهيثم بن شاهب و رؤساء النفار زيد بن صوحان و الأشتر و عدي بن حاتم و المسيب بن نجبة و يزيد بن قيس و أمثالهم فقدموا على علي بذي قار فركب إليهم و رحب بهم و قال : يا أهل الكوفة دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فهو الذي نريد و إن يلحوا داويناهم بالرفق حتى يبدؤنا بالظلم و لا ندع أمرا فيه الصلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله فاجتمع الناس عنده بذي قار و عبد القيس بأسرها و هم ألوف ينتظرونه ما بينه و بين البصرة ثم دعا القعقاع و كان من الصحابة فأرسله إلى أهل البصرة و قال : إلق هذين الرجلين فادعهما للألفة و الجماعة و عظم عليهما الفرقة و قال له : كيف تصنع إذا قالوا ما لا وصاة مني فيه عندك ؟ قال : نلقاهم بالذي أمرت به فإذا جاء منهم مالي عندنا منك رأي فيه اجتهدنا رأينا و كلمناهم كما نسمع و نرى إنه ينبغي قال : أنت لها
فخرج القعقاع فقدم البصرة و بدأ بعائشة و قال : أي أمة ما أشخصك ؟ قالت : أريد الإصلاح بين الناس قال ابعثني إلى طلحة و الزبير تسمعي مني و منهما فبعثت إليهما فجاآ فقال لهما : إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها فقالت الإصلاح و كذلك قالا قال فأخبراني ما هو ؟ قالا : قتلة عثمان ! فإن تركهم ترك للقرآن قال : فقد قتلتم منهم ستمائة من أهل البصرة و غضب لهم ستة آلاف و اعتزلوكم و طلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف فإن قاتلتم هؤلاء كلهم اجتمعت مضر و ربيعة على حربكم فأين الاصلاح ؟ قالت عائشة : فماذا تقول أنت ؟ قال هذا الأمر دواؤه التسكين و إذا سكن اختلجوا فآثروا العافية تزرقوها و كونوا مفاتيح خير و لا تعرضونا للبلاء فنتعرض له و يصرعنا و إياكم فقالوا قد أصبت و أحسنت فارجع فإن قدم علي و هو على مثل رأيك صلح هذا الأمر فرجع و أخبر عليا فأعجبه و أشرف القوم على الصلح و قد كانت وفود أهل البصرة أقبلوا إلى علي قبل رجوع القعقاع و تفاوضوا مع أهل الكوفة و اتفقوا جميعا على الاصلاح ثم خطب علي الناس و أمرهم بالرحيل من الغد و أن لا يرحل معه أحد ممن أعان على عثمان فاجتمع من أهل مصر ابن السوداء و خالد بن ملجم و الأشتر و الذين رضوا بمن سار إليه مثل علباء بن الهيثم و عدي بن حاتم و سالم بن ثعلبة القيسي و شريح بن أوفى و تشاوروا فيما قال علي و قالوا : هو أبصر بكتاب الله و أقرب إلى العمل به من أولئك و هو يقول ما يقول و إنما معه الذين أعانوا على عثمان فكيف إذا اصطلحوا و اجتمعوا و رأوا قلتنا في كثرتهم فقال الأشتر رأيهم و الله فينا واحد و أن يصطلحوا فعلى دمائنا فهلموا نثب على طلحة نلحقه بعثمان ثم يرضى منا بالسكون فقال ابن السوداء : طلحة و أصحابه نحو من خمسة آلاف و أنتم ألفان و خمسمائة فلا تجدون إلى ذلك سبيلا و قال علباء بن الهيثم : اعتزلوا الفريقين حتى يأتيكم من تقومون به فقال ابن السوداء : ود و الله الناس لو انفردتم فيتخطفونكم فقال عدي : و الله ما رضيت و لا كرهت فأما إذ وقع ما وقع و نزل الناس بهذه المنزل فإن لنا خيلا و سلاحا فإن أقدمتم أقدمنا و إن أحجمتم أحجمنا ثم قال سالم بن ثعلبة و سويد بن أوفى : أبرموا أمركم ثم تكلم ابن السوداء فقال : يا قوم إن عزكم في خلطة الناس فصانعوهم و إذا التقى الناس غدا فانشبوا القتال فلا يجدون بدا منه و يشغلهم الله عما تكرهون و افترقوا على ذلك
و أصبح علي راحلا حتى نزل على عبد القيس فانضموا إليه و ساروا معه فنزل الزواية و سار من الزواية إلى البصرة و سار طلحة و الزبير و عائشة من الفرضة و التقوا بموضع قصر عبيد الله بن زياد منتصف جمادى الآخرة و تراسلت بكر بن وائل و عبد القيس و جاؤا إلى علي رضي الله عنه فكانوا معه و أشار على الزبير بعض أصحابه أن يناجز القتال فاعتذر بما وقع بينه و بين القعقاع و طلب من علي رضي الله عنه أصحابه مثل ذلك فأبى و سئل ما حالنا و حالهم في القتلى ؟ فقال : أرجو أن لا يقتل منا و منهم أحد نقي قلبه لله إلا أدخله الله الجنة و نهى عن قتالهم و بعث إليهم حكيم بن سلام و مالك بن حبيب إن كنتم على ما جاء به القعقاع فكفوا حتى ننزل و ننظر في الأمر و جاءه الأحنف بن قيس و كان معتزلا عن القوم و قد كان بايع عليا بالمدينة بعد قتل عثمان مرجعه من الحج قال الأحنف : و لم أبايعه حتى لقيت طلحة و الزبير و عائشة بالمدينة و عثمان محصور و علمت أنه مقتول فقلت لهم من أبايع بعده ؟ قالوا عليا فلما رجعت و قد قتل عثمان بايعت عليا فلما جاؤا إلى البصرة دعوني إلى قتال علي فحرت في أمري بين خذلانهم أو خلع طاعتي فقلت : ألم تأمروني بمبايعته ؟ قالوا نعم لكنه بدل و غير فقلت لا أنقض بيعتي و لا أقاتل أم المؤمنين و لكن أعتزل و نزل بالجلحاء على فرسخين من البصرة في زهاء ستة آلاف فلما قدم علي جاءه و خيره بين القتال معه أو كف عشرة آلاف سيف عنه فاختار الكف و نادى في تميم و بني سعد فأجابوه فاعتزل بهم حتى ظفر علي فرجع إليه و اتبعه و لما تراءى الجمعان خرج طلحة و الزبير و جاءهم علي حتى اختلفت أعناق دوابهم فقال علي : لقد أعددتما سلاحا و خيلا و رجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي ولا أحرم دمكما فهل من حدث أحل لكما دمي قال طلحة : ألبت على عثمان ! قال علي : يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق فلعن الله قتلة عثمان يا طلحة أما بايعتني ؟ قال : و السيف على عنقي ثم قال للزبير : أتذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه و سلم لتقاتلنه و أنت له ظالم ؟ قال اللهم نعم و لو ذكرت قبل مسيري ما سرت و الله لا أقاتلك أبدا و افترقوا فقال علي لأصحابه : إن الزبير قد عهد أن لا يقاتلكم و رجع الزبير إلى عائشة و قال : ما كنت في موطن منذ عقلت إلا و أنا أعرف أمري غير موطني هذا ! قالت : فما تريد أن تصنع ؟ قال أدعهم و أذهب فقال له ابنه عبد الله : خشيت رايات ابن أبي طالب و علمت أن حامليها فتية أنجاد و أن تحتها الموت الأحمر فجنبت فأحفظه ذلك و قال : حلفت قال : كفر عن يمينك فأعتق غلامه مكحولا و قيل إنما أراد الرجوع عن القتال حين سمع أن عمار بن ياسر مع علي لما ورد : ويح عمار تقتله الفئة الباغية
و كان أهل البصرة على ثلاث فرق مفترقين مع هؤلاء و هؤلاء و ثالثة اعتزلت كالأحنف ابن قيس و عمران بن حصين و نزلت عائشة في الأزد و رأسهم صبرة بن شيمان و أشار عليه كعب بن سور بالاعتزال فأبى و كان معها قبائل كثيرة من مضر و الرباب و عليهم المنجاب بن راشد و بنو عمرو بن تميم و عليهم أبو الجربا و بنو حنظلة و عليهم هلال بن وكيع و سليم و عليهم مجاشع بن مسعود و بنو عامر و غطفان و عليهم زفر بن الحرث و الأزد و عليهم صبرة بن شيمان و بكر و عليهم مالك بن مسمع و بنو ناجية و عليهم الخريب بن راشد و هم في نحو ثلاثين ألفا و علي في عشرين ألفا والناس جميعا متنازلون مضر إلى مضر و ربيعة إلى ربيعة و لا يشكون في الصلح و قد ردوا حكيما و مالكا إلى علي : إنا على ما فارقنا عليه القعقاع و جاء ابن عباس إلى طلحة و الزبير و محمد بن طلحة إلى علي و تقارب أمر الصلح و بات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة يتشاورون و اتفقوا على إنشاب الحرب بين الناس فغسلوا و ما يشعر بهم أحد و قصد مضر إلى مضر و ربيعة إلى ربيعة و يمن إلى يمن فوضعوا فيهم السلاح و ثار أهل البصرة و ثار كل قوم في وجوه أصحابهم و بعث طلحة و الزبير عبد الرحمن بن الحرث بن هشام إلى الميمنة و هم ربيعة و عبد الرحمن بن عتاب إلى الميسرة و ركبا في القلب و سألا الناس ما هذا ؟ فقالوا : طرقنا أهل الكوفة ليلا فقال طلحة و الزبير إن عليا لا ينتهي حتى يسفك الدماء ثم دفعوا أولئك المقاتلين فسمع علي و أهل عسكره الصيحة فقال ما هذا ؟ فقيل له أظنه سقط من هنا طرقنا أو نحوه السبئية بيوتنا ليلا فرددتهم فوجدنا القوم على أهبة فركبونا و ثار الناس و ركب علي و بعث إلى الميمنة و الميسرة صاحبها و قال : إن طلحة و الزبير لا ينتهيان حتى تسفك الدماء و نادى في الناس كفوا و كان رأيهم جميعا في تلك الفتنة أن لا يقتتلوا حتى يقيموا الحجة و لا يقتلوا مدبرا و لا يجهزوا على جريح و لا يستحلوا سلبا
و أقبل كعب بن سور إلى عائشة و قال : قد أبى القوم إلا القتال فلعل الله يصلح بك فأركبها و ألبسوا هودجها الأدراع و أوقفوها بحيث تسمع الغوغاء و اقتتل الناس حتى انهزم أصحاب الجمل و ذهب و أصيب طلحة بسهم في رجله فدخل البصرة و دمه يسيل إلى أن مات و ذهب الزبير إلى وادي السباع لما ذكره علي فمر بعسكر الأحنف و اتبعه عمرو بن الجرموز و كان يسائله حتى إذا قام إلى الصلاة قتله و رجع بفرسه و سلاحه و خاتمه إلى الأحنف فقال و الله ما أدري أحسنت أم أسأت فجاء ابن جرموز إلى علي و قال للحاجب : استأذن لقاتل الزبير فقال لحاجبه : ائذن له و بشره بالنار و لما بلغت الهزيمة البصرة و رأوا الخيل أطافت بالجمل فرجعوا و شبت الحرب كما كانت و قالت عائشة لكعب بن سور و ناولته مصحفا : تقدم فادعهم إليه و استقبل القوم فقتله السبيئة رشقا بالسهم و رموا عائشة في هودجها حتى جأرت بالاستغاثة ثم بالدعاء على قتله عثمان و ضج الناس بالدعاء فقال علي ما هذا قالوا عائشة تدعو على قتلة عثمان ! فقال : اللهم العن قتلة عثمان
ثم أرسلت عائشة إلى الميمنة و الميسة و حرضتهم و تقدم مضر الكوفة و مضر البصرة فاجتلدوا أمام الجمل حتى ضرسوا و قتل زيد بن صوحان من أهل الكوفة و أخوه سيحان و ارتث أخوهما صعصعة و تزاحف الناس و تأخرت يمن الكوفة و ربيعتها ثم عادوا فقتل على راياتهم عشرة ثم أخذها يزيد بن قيس فثبت و قتل تحت راية ربيعة زيد و عبد الله بن رقية و أبو عبيدة بن راشد بن سلمة و اشتد الأمر و لزقت ميمنة الكوفة بقلبهم و ميسرة أهل البصرة بقلبهم و منعت ميمنة هؤلاء ميسرة هؤلاء و ميسرة هؤلاء ميمنة هؤلاء و تنادى شجعان مضر من الجانبين بالصبر و قصدوا الأطراف يقطعونها و أصيبت يد عبد الرحمن بن عتاب قبل قتله و قاتل عند الجمل الأزد ثم بنو ضبة و بنو عبد مناة و كثر القتل و القطع و صارت المجنبات إلى القلب و استحر القتل إلى الجمل حتى قتل على الخطام أربعون رجلا أو سبعون كلهم من قريش فجرح عبد الله بن الزبير و قتل عبد الرحمن بن عتاب و جندب بن زهير العامري و عبد الله بن حكيم بن حزام و معه راية قريش قتله الأشتر و أعانه فيه عدي بن حاتم و قتل الأسود بن أبي البختري و هو آخذ بالخطام و بعده عمرو بن الأشرف الأزدي في ثلاثة عشر من أهل بيته و جرح مروان بن الحكم و عبد الله بن الزبير سبعا و ثلاثين جراحة ما بين طعنة و رمية و نادى علي اعقروا الجمل يتفرقوا و ضربه رجل فسقط فما كان صوت أشد عجيجا منه و كانت راية الأزدمن أهل الكوفة مع مخنف بن سليم فقتل فأخذها الصقعب أخوه فقتل ثم أخوهما عبد الله كذلك فأخذها العلاء بن عروة فكان الفتح و هي بيده و كانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن سليم فقتل و معه زيد و سيحان ابنا صوحان و أخذها عدة فقتلوا منهم عبد الله بن رقية ثم منقذ الله النعمان و دفعها إلى ابنه مرة فكان الفتح و هي بيده و كانت راية بكر بن وائل في بني ذهل مع الحرث بن حسان فقتل في خمسة من بني أهله و رجال من بني محدوج و خمسة و ثلاثين من بني ذهل (2/606)
القسم الثاني من أمر الجمل
و قيل في عقر الجمل : إن القعقاع دعا الأشتر و قد جاء من القتال عند الجمل إلى العود فلم يجبه و حمل القعقاع و الخطام بيد زفر بن الحرث فأصيب شيوخ من بني عامر و قال القعقاع لبجير بن دلجة من بني ضبة و هو من أصحاب علي بن يا بجير صح بقومك يعقروا الجمل قبل أن يصابوا و تصاب أم المؤمنين فضرب ساق البعير فوقع على شقه و أمن القعقاع من يليه و اجتمع هو و زفر على قطع بطان البعير و حملا الهودج فوضعاه و هو كالقنفذ بالسهام و فر من وراءه و أمر علي فنودي لا تتبعوا مدبر و لا تجهزوا على جريح و لا تدخلوا الدور و أمر بحمل الهودج من بين القتلى و أمر محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبة و أن ينظر هل بها جراحة فجاء يسألها و قيل لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه و معه عمار فاحتملا الهودج إلى ناحية ليس قربه أحد و أتاها علي فقال : كيف أنت يا أمة ؟ قالت : بخير قال : يغفر الله لك قالت : و لك و جاء وجوه الناس إليها فيهم القعقاع بن عمرو فسلم عليها و قالت له : وددت إني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة و جاء إلى علي فقال له مثل قولها و لما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر الصديق البصرة فأقرها في دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية زوجه بنت الحرث بن أبي طلحة من بني عبد الدار أم طلحة الطلحات بن عبد الله و تسلل الجرحى من بين القتلى فدخلوا ليلا إلى البصرة و أذن علي في دفن القتلى فدفنوا بعد أن أطاف عليهم و رأى كعب بن سور و عبد الرحمن بن عتاب و طلحة بن عبيد الله و هو يقول : زعموا أنه لم إلينا إلا الغوغاء مع أن هؤلاء فيهم ثم صلى على القتلى من الجانبين و أمر بالأطراف فدفنت في قبر عظيم و جمع ما كان في العسكر من كل شيء و بعث به إلى مسجد البصرة و قال من عرف شيئا فليأخذه إلا سلاحا عليه سمة السلطان و أحصى القتلى من الجانبين فكانوا عشرة ألاف منهم من ضبة ألف رجل
و لما فرغ علي من الوقعة جاءه الأحنف بن قيس في بني سعد فقال له : تربصت فقال ما أراني إلا قد أحسنت و بأمرك كان ما كان فارفق فإن طريقك بعيد و أنت إلي عند أحوج منك أمس فلا تقل لي مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحا ثم دخل البصرة يوم الاثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى و المستأمنة و أتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة فبايعه و عرض له في عمه زياد بأنه متربص فقال و الله إنه لمريض و على مسرتك لحريص فقال : انهض أمامي فمضى فلما دخل عليه علي اعتذر فقبل عذره و اعترض بالمرض قبل عذره و أراده على البصرة فامتنع و قال : و لها رجلا من أهلك تسكن إليه الناس و سأشير عليه و أشار بابن عباس فولاه و جعل زيادا على الخراج و بيت المال و أمر ابن عباس بموافقته فيما يراه ثم راح علي إلى عائشة في دار ابن خلف و كان عبد الله بن خلف قتل في الوقعة فأساءت أمه و بعض النسوة عليه فأعرض عنهن و حرضه بعض أصحابه عليهن فقال : إن النساء ضعيفات و كنا نؤمر بالكف عنهن و هن مشركات فكيف بهن مسلمات ثم بلغه أن بعض الغوغاء عرض لعائشة بالقول و الإساءة فأمر من أحضر له بعضهم و أوجعهم ضربا ثم جهزها علي إلى المدينة بما احتاجت إليه و بعثها مع أخيها محمد مع أربعين من نسوة البصرة اختارهن لمرافقتها و أذن للفل ممن خرج عنها أن يرجعوا معها ثم جاء يوم ارتحالها فودعها و استعتبت له و استعتب لها و مشى معها أميالا و شيعها بنوه مسافة يوم و ذلك غرة رجب فذهبت إلى مكة فقضت الحج و رجعت إلى المدينة و رجع بنو أمية من الفل ناجين إلى الشام فعتبة بن أبي سفيان و عبد الرحمن و يحيى أخوا مروان خلصوا إلى عصمة بن أبير التميمي إلى أن أندملت جراحهم ثم بعثهم إلى الشام و أما عبد الله بن عامر فخلص إلى بني حرقوص و مضى من هنالك و أما مروان بن الحكم فأجاره أيضا مالك بن مسمع و بعثه و قيل كان مع عائشة فلما ذهبت إلى مكة فارقها إلى المدينة و أما ابن الزبير فاختفى بدار بعض الأزد و بعث إلى عائشة يعلمها بمكانه فأرسلت أخاها محمدا و جاء إليها به
ثم قسم علي جميع ما في بيت المال على من شهد معه و كان يزيد على ستمائة ألف فأصاب كل رجل خمسمائة و قال : إن أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم فخاض السبيئة في الطعن عليه بذلك و بتحريم أموالهم مع إراقة دمائهم و رحلوا عنه فأعجلوه عن المقام بالبصرة و ارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمرا إن أرادوه
و قد قيل في سياق أمر الجمل غير هذا هو أن عليا لما أرسل محمد بن أبي بكر إلى أبي بموسى لستنفر له أهل الكوفة و امتنع سار هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى علي بالربذة فأخبره فأعاده إليه يقول له : إني لم أولك إلا لتكون من أعواني على الحق فامتنع أبو موسى و كتب إليه هاشم مع المحل بن خليفة الطائي فبعث علي ابنه الحسن و عمار الله ياسر يستنفران كما مر و بعث قرظة بن كعب الأنصاري أميرا و بعث إليه : إني قد بعثت الحسن و عمارا يستنفران الناس و بعثت قرظة بن كعب واليا على الكوفة فاعتزل عملنا مذموما مدحورا و إن لم تفعل فقد أمرته أن ينابذك و إن ظفر بك أن يقطعك إربا إربا و إن الناس توافقوا للقتال و أمر علي من يتقدم بالمصحف يدعوهم إلى ما فيه و إن قطع و قتل و حمله بعض الناس و فعل ذلك فقتل
و حملت ميمنتهم على ميسرتهم فاقتتلوا و لاذ الناس بجمل عائشة أكثرهم من ضبة و الأزد ثم انهزموا آخر النهار و استحر في الأزد القتل و حمل عمار على الزبير يحوزه بالرمح ثم استلان له و تركه و ألقى عبد الله بن الزبير نفسه مع الجرحى و عقر الجمل و احتمل عائشة أخوها محمد فأنزلها و ضرب عليها قبة و وقف عليها علي يعاتبها فقالت له ملكت فأسجح نعم ما أبكيت قومك اليوم فسرحها في جماعة رجال و نساء المدينة و جهزها بما تحتاج إليه هذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبي جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به و لسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة و غيره من المؤرخين و قتل يوم الجمل عبد الرحمن أخو طلحة من الصحابة و المحرز بن حارثة العبشمي و كان عمر ولاه على أهل مكة و مجاشع و مخالد ابنا مسعود مع عائشة و عبد الله بن حكيم بن حزام و هند بن أبي هالة و هو ابن خويلد بن خديجة قتل مع علي و قيل بالبصرة و غيرهم انتهى أمر الجمل
و لما فرغ الناس من هذه الوقعة اجتمع صعاليك من العرب و عليهم جبلة بن عتاب الحنظلي و عمران بن الفضيل البرجمي و قصدوا سجستان و قد نكث أهلها و بعث علي إليهم عبد الرحمن بن جرو الطائي فقتلوه فكتب إلى عبد الله بن عباس أن يبعث إلى سجستان واليا فبعث ربعي بن كاس العنبري في أربعة آلاف و معه الحصين بن أبي الحر فقتل جبلة و انهزموا و ضبط ربعي البلاد و استقامت (2/619)
انتقاض محمد بن أبي حذيفة بمصر و مقتله
لما قتل أبو حذيفة بن عتبة يوم اليمامة ترك ابنه محمدا في كفالة عثمان و أحسن تربيته و سكر في بعض الأيام فجلده عثمان ـ ثم نتنسك و أقبل على العبادة و طلب الولاية من عثمان فقال : لست بأهل فاستأذنه على اللحاق بمصر لغزو البحر فأذن له و جهزه و لزمه الناس و عظموه لما رأوا من عبادته ثم غزا مع ابن أبي سرح غزوة الصواري كما مر فكان يتعرض له بالقدح فيه و في عثمان بتوليته و يجتمع في ذلك مع محمد بن أبي بكر و شكاهما ابن أبي سرح إلى عثمان فكتب إليه بالتجافي عنهما لوسيلة ذلك بعائشة و هذا لتربيته و بعث إلى ابن أبي حذيفة ثلاثين ألف درهم و حمل من الكسوة فوضعهما ابن أبي حذيفة في المسجد و قال : يا معشر المسلمين كيف أخادع عن ديني و آخذ الرشوة عليه فأزاداد أهل مصر تعظيما له و طعنا على عثمان و بايعوه على رياستهم و كتب إليه عثمان يذكره بحقوقه عليه فلم يرده ذلك و ما زال يحرض الناس عليه خرجوا لحصاره و أقام هو بمصر و خرج ابن أبي سرح إلى عثمان فاستولى هو على مصر و ضبطها إلى أن قتل عثمان و بويع علي و بايع عمرو بن العاص لمعاوية و سار إلى مصر قبل قدوم قيس بن سعد فمنعهما فخدعا محمد حتى خرج إلى العريش فتحصن بها في ألف رجل فحاصراه حتى نزل على حكمهم فقتلوه
و في هذا الخبر بعض الهون لأن الصحيح أن عمرا ملك مصر بعد صفين و قيس ولاه علي لأول بيعته و قد قيل أن ابن أبي حذيفة لما حوصر عثمان بالمدينة أخرج هو ابن أبي سرح عن مصر و ضبطها و أقام ابن أبي سرح بفلسطين حتى جاء الخبر بقتل عثمان و بيعة علي و توليته قيس بن سعد على مصر فأقام بمعاوية و قيل إن عمرا سار إلى مصر بعد صفين فبرز إليه ابن أبي حذيفة في العساكر و خادعه في الرجوع إلى بيعة علي و أن يجتمعا لذلك بالعريش في غير جيش من الجنود و رجع إلى معاوية عمرو فأخبره ثم جاء إلى ميعاده بالعريش و قد استعد بالجنود و أكمنهم و أكمنهم خلفه حتى إذا التقيا طلعوا على أثره فتبين ابن أبي حذيفة الغدر فتحصن بقصر العريش إلى أن نزل على حكم عمرو و بعث به إلى معاوية فحبسه إلى أن فر من محبسه فقتل و قيل إنما بعثه عمرو إلى معاوية عند مقتل محمد بن أبي بكر و أنه أمنه ثم حمله إلى معاوية فحبسه بفلسطين (2/622)
ولاية قيس بن سعد علي مصر
كان علي قد بعث إلى مصر لأول بيعته قيس بن سعد أميرا في صفر من سنة ست و ثلاثين و أذن له في الإكثار من الجنود و أوصاه فقال له : لو كنت لا أدخلها إلا بجند آت بهم من المدينة لا أدخلها أبدا فأنا أدع لك الجند تبعثهم في وجوهك و خرج في سبعة من أصحابه حتى أتى مصر و قرأ عليهم كتابا يعلهم بمبايعته و طاعته و أنه أميرهم ثم خطب فقال بعد أن حمد الله : أيها الناس قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا فبايعوه على كتاب الله و سنة رسوله فبايعه الناس و استقامت مصر و بعث عليها عماله إلا بعض القرى كان فيها قوم يدعون إلى الطلب بدم عثمان مثل يزيد بن الحرث و مسلمة بن مخلد فهادنهم و جبى الخراج و انقضى امر الجمل و هو بمصر و خشي معاوية أن يسير إليه علي في أهل العراق و قيس من ورائه في أهل مصر فكتب إليه يعظم قتل عثمان و يطوقه عليا و يحضه على البراءة من ذلك و متابعته على أمره على أن يوليه العراقين إذا ظفر و لا يعزله يولي من أراد من أهله الحجاز كذلك و يعطيه ما شاء من الأموال فنظر في أهله بين موافقته أو معاجلته بالحرب فآثر الموافقة فكتب إليه : أما بعد فإني لم أقارف شيئا مما ذكرته و ما اطلعت لصاحبي على شيء منه و أما متابعتك فانظر فيها و ليس هذا مما يسرع إليه و أنا كاف عنك فلا يأتيك شيء من قبلي تكرهه حتى نرى و ترى فكتب إليه معاوية : إني لم أرك تدنو فأعدك سلما و لا تتباعد فأعدك حربا و ليس مثلي يصانع المخادع و ينخدع للمكايد و معه عدد الرجال و أعنة الخيل و السلام فعلم قيس أن المدافعة لا تنفع معه فأظهر له ما في نفسه و كتب إليه بالرد القبيح و الشتم و التصريم بفضل علي و الوعيد فحينئذ أيس معاوية منه وكاده من قبل علي فأشاع في الناس أن قيسا شيعة له تأتينا كتبه و رسله و نصائحه و قد ترون ما فعل بإخوانكم القائمين بثأر عثمان و هو يجري عليهم من الأعطية و الأرزاق فأبلغ ذلك إلى علي محمد بن أبي بكر و محمد بن جعفر و عيونه بالشام فأعظم ذلك و فاوض فيه الحسن و الحسين و عبد الله بن جعفر فقال له عبد الله : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك و أعزله عن مصر ثم جاء كتابه بالكف عن قتال المعتزلين فقال ابن جعفر : مره بقتالهم خشية أن تكون هذه ممالأة فكتب إليه يأمره بذلك فلم ير قيس ذلك رأيا و قال : متى قاتلناهم ساعدوا عليك عدوك و هم الآن معتزلون و الرأي تركهم فقال ابن جعفر : يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر على مصر و كان أخاه لأمه و اعزل قيسا فبعثه و قيل بعث قبله الأشتر النخعي و مات بالطريق فبعث محمد و لما قدم محمد على قيس خرج عنها مغضبا إلى المدينة و كان عليها مروان بن الحكم فأخافه فخرج هو و سهل بن حنيف إلى علي و كتب معاوية إلى مروان يعاتبه لو أمددت عليا بمائة ألف مقاتل كان أيسر علي من قيس بن سعد
و لما قدم قيس على علي و كشف له عن وجه الخبر قبل عذره و أطاعه في أمره كله و قدم محمد مصر فقرأ كتاب علي على الناس و خطبهم ثم بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادعهم ادخلوا في طاعتنا أو اخرجوا عن بلادنا فقالوا : دعنا حتى ننظر و أخذوا حذرهم و لما انقضت صفين و صار الأمير إلى التحيكم بارزوه و بعث العساكر إلى يزيد بن الحرث الكناني بخربتا و عليهم الحرث بن جمهان فقتلوه ثم بعث آخر فقتلوه (2/623)
مبايعة عمرو بن العاص لمعاوية
لما أحيط بعثمان خرج عمرو بن العاص إلى فلسطين و معه ابناه عبد الله و محمد فسكن بها هاربا مما توقعه من قتل عثمان إلى أن بلغه الخبر بقتله فارتحل يبكي و يقول كما تقول النساء حتى أتى دمشق فبلغه بيعة علي فاشتد عليه الأمر و أقام ينتظر ما يصنعه الناس ثم بلغه مسير عائشة و طلحة و الزبير فأمل فرجا من أمره ثم جاءه الخبر بوقعة الجمل فارتاب في أمره و سمع أن معاوية بالشام لا يبايع عليا و أنه يعظم قتل عثمان فاستشار ابنيه في المسير إليه فقال له ابنه عبد الله توفي النبي صلى الله عليه و سلم و الشيخان بعده و هم راضون عنك فأرى أن تكف يدك و تجلس في بيتك حتى يجتمع الناس و قال له محمد : أنت ناب من أنياب العرب و كيف يجتمع هذا الأمر و ليس لك فيه صيت فقال : يا عبد الله أمرتني بما هو خير لي في ديني و يا محمد أمرتني بما هو خير لي في دنياي و شر لي في آخرتي ثم خرج و معه ابناه حتى قدم على معاوية فوجدوهم يطلبون دم عثمان فقال : أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم فأعرض معاوية قليلا ثم رجع إليه و شركه في سلطانه (2/625)
أمر صفين
لما رجع علي بعد وقعة الجمل إلى الكوفة مجمعا على قصد الشام بعث إلى جرير بن عبد الله البجلي بهمدان و إلى الأشعث بن قيس بأذربيجان و هما من عمال عثمان بأن يأخذا له البيعة و يحضرا عنده فلما حضرا بعث جرير إلى معاوية يعلمه ببيعته و نكث طلحة و الزبير و حزبهما و يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس فلما قدم عليه طاوله في الجواب و حمل أهل الشام ليرى جرير قيامهم في دم عثمان و اتهامهم عليا به و كان أهل الشام لما قدم عليه النعمان بشير بقميص عثمان ملوثا بالدم كما قدمناه و بأصابع زوجته نائلة وضع معاوية القميص على المنبر و الأصابع من فوقه فمكث الناس يبكون مدة و أقسموا ألا يمسهم ماء إلا لجنابة و لا يناموا على فراش حتى يثأروا لعثمان و من حال دون ذلك قتلوه فرجع جرير بذلك إلى علي و عذله الأشتر في بعث جرير و أنه طال مقامه حتى تمكن أهل الشام من رأيهم فغضب لذلك جرير و لحق بقرقيسيا و استقدمه معاوية فقدم عليه و قيل أن شرحبيل بن السمط الكندي أشار على معاوية برد جرير لأجل منافسة كانت بينهما منذ أيام عمر و ذلك أن شرحبيل كان عمر بن الخطاب بعثه إلى سعد بالعراق ليكون معه فقربه سعد و قدمه و نافسه له أشعث بن قيس فأوصى جريرا عند وفادته على عمر أن ينال من شرحبيل عنده ففعل فبعث عمر شرحبيل إلى الشام فكان يحقد ذلك على جرير فلما جاء إلى معاوية أغراه شرحبيل به و حمله بدم عثمان
ثم خرج علي و عسكر بالنخلة و استخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري و قدم عليه عبد الله بن عباس في أهل البصرة و تجهز معاوية و أغراه عمرو بقلة عسكر علي و اضطغان أهل البصرة له بمن قتل منهم و عبى معاوية أهل الشام و عقد لعمرو و لابنيه و غلامه وردان الألوية و بعث علي في مقدمته زياد بن النضر الحارثي في ثمانية آلاف و شريح بن هانيء في أربعة آلاف و سار من النخيلة إلى المدائن و استنفر من كان بها من المقاتلة و بعث بن قيس في ثلاثة آلاف يسير من الموصل و يوافيه بالرقة ؟ و ولى علي المدائن سعد بن مسعود الثقفي عم المختار بن أبي عبيد و سار فلما وصل إلى الرقة نصب له جسر فعبر و جاء زياد و شريح من ورائه و كانا سمعا بمسير معاوية و خشيا أن يلقاهما معاوية و بينهما و بين علي البحر و رجعا إلى هيت و عبر الفرات و لحقا بعلي فقدمهما أمامه فلما أتيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام فطاولاه و بعثا إلى علي فسرح الأشتر و أمره أن يجعلهم على مجنبتيه و قال : لا تقاتلهم حتى آتيك و كتب إلى شريح و زياد بطاعته فقدم عليهما و كف عن القتال سائر يومه حتى حمل عليهم أبو الأعور بالعشي فاقتتلوا ساعة و افترقوا عامة يومهم و بعث الأشتر سنان بن مالك النخعي إلى أبي الأعور السلمي يدعوه إلى البراز فأبى و حجز بينهم الليل و وافاهم من الغد علي و عساكره فتقدم الأشتر و انتهى إلى معاوية و لحق به علي و كان معاوية قد ملك شريعة الفرات فشكى الناس إلى علي العطش فبعث صعصعة بن صوحان إلى معاوية : بأنا سرنا و نحن عازمون على الكف عنكم حتى نعذر إليكم فسابقنا جندكم بالقتال و نحن رأينا الكف حتى ندعوك و نحتج عليك وقد منعتم الماء و الناس غير منتهين فابعث أصحابك يخلون عن الماء للورد حتى ننظر بيننا و بينكم و أن أردت القتال حتى يشرب الغالب فعلنا فأشار عمرو بن العاص بتخلية الماء لهم و أشار ابن أبي سرح و الوليد بن عقبة بمنعهم الماء و عرضا بشتم فتشاتم معهم صعصعة و رجع و أوعز إلى أبي الأعور بمنعهم الماء و جاء الأشعث بن قيس إلى الماء فقاتلهم عليه ثم أمر معاوية أبا الأعور يزيد بن أبي أسد القسري جد خالد بن عبد الله ثم بعمرو بن العاص بعده و أمر علي الأشعث بشبث بن ربعي ثم بالأشتر و عليهم أصحاب علي و ملكوا الماء عليهم و أرادوا منعهم منه فنهاهم علي عن ذلك
و أقام يومين ثم بعث إلى معاوية أبا عمر و بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري و سعيد بن قيس الهمداني و شبث بن ربعي التميمي يدعونه إلى الطاعة و ذلك أول ذي الحجة سنة ست و ثلاثين فدخلوا عليه و تكلم بشير بن عمرو بعد حمدا لله و الثناء عليه و الموعظة الحسنة و ناشده الله أن لا يفرق الجماعة و لا يسفك الدماء فقال : هلا أوصيت بذلك صاحبك فقال بشير : ليس مثلك أحق بالأمر بالسابقة و القرابة قال : فما رأيك ؟ قال : تجيبه إلى ما دعا إليه من الحق قال لمعاوية : و نترك دم عثمان لا و الله لا أفعله أبدا ! ثم قال شبث بن ربعي : يا معاوية إنما طلبت دم عثمان تستميل به هؤلاء السفهاء الطغام إلى طاعتك و لقد علمنا أنك أبطأت على عثمان بالنصر لطلب هذه المنزلة فاتق الله و دع ما أنت عليه و لا تنازع الأمر أهله فأجابه معاوية و أبدع في سبه و قال : انصرفوا فليس بيني و بينكم إلا السيف فقال له شبث : أقسم بالله لنجعلنها لك و رجعوا إلى علي بالخبر
و أقاموا يقتتلون أيام ذي الحجة كلها عسكر من هؤلاء و عسكر من هؤلاء و كرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام حذار من الاستئصال و الهلاك ثم جاء المحرم فذهبوا إلى الموادعة حتى ينقضي طمعا في الصلح و بعث إلى معاوية عدي بن حاتم و يزيد بن قيس الأرحبي و شبث بن ربعي و زياد بن خصفة فتكلم عدي بعد الحمد و الثناء و دعا إلى الدخول في طاعة علي ليجمع الله به الكلمة فلم يبق غيرك و من معك و احذر يا معاوية أن يصيبك و أصحابك مثل يوم الجمل فقال معاوية : كأنك جئت مهددا لا مصلحا هيهات يا عدي أنا ابن حرب و الله ما يقعقع لي بالشنان و أنك من قتله عثمان و أرجوا أن يقتلك الله به فقال له يزيد بن قيس : إنما أتيناك رسلا و لا ندع مع ذلك النصح و السعي في الإلفة و الجماعة و ذكر من فضل علي و استحقاقه للأمر بتقواه و زهده فقال معاوية بعد الحمد و الثناء : أما الجماعة التي تدعون إليها فهي معنا و أما طاعة صاحبكم فلا نراها لأنه قتل خليفتنا و آوى أهل ثأرنا و نحن مع ذلك نجيبكم إلى الطاعة و الجماعة إذا دفع إلينا قتلة عثمان فقال شبث بن ربعي : أيسرك يا معاوية أن تقتل عمارا ؟ قال : نعم بمولاه قال شبث : حتى تضيق الأرض و الفضاء عليك فقال معاوية : لو كان ذلك لكانت عليك أضيق و افترقوا عن معاوية ثم خلا بزياد بن خصفة و شكى إليه من علي و سأله النصر منه بعشيرته و أن يوليه أحد المصرين فأبى و قال : إني على بينة من ربي فلن أكون ظهيرا للمجرمين و قام عنه فقال معاوية لعمرو : كأن قلوبهم قلب رجل واحد
ثم بعث معاوية إلى علي حبيب بن مسلمة و شرحبيل بن السمط و معن بن يزيد بن الأخنس فدخلوا عليه فتكلم حبيب بعد الحمد لله و الثناء فقال : إن عثمان كان خليفة مهديا يعمل بكتاب الله و ينيب إلى أمره فاستثقلتم حياته و استبطأتم موته فقتلتموه فادفع إلينا قتلته إن كنت لم تقتله ثم اعتزل أمر الناس فيولوا من أجمعوا عليه فقال علي : ما أنت و هذا الأمر ؟ فاسكت فلست بأهل له فقال و الله لتراني بحيث تكره فقال : و ما أنت لا أبقى الله عليك إن أبقيت اذهب فصوب و صعد ثم تكلم بعد الحمد لله و الثناء و هداية الناس بمحمد صلى الله عليه و سلم و خلافة الشيخين و حسن سيرتهما وقد وجدنا عليهما أن توليا و نحن أقرب منهما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لكن سمحنا لهما بذلك و ولي عثمان فعاب الناس عليه و قتلوه ثم بايعوني مخافة الفرقة فأجبتهم و نكث علي رجلان و خالف صاحبكم الذي ليس له مثل سابقتي و العجب من انقيادكم له دون بيت نبيكم و لا ينبغي لكم ذلك و أنا أدعوكم إلى الكتاب و السنة و معالم الدين و إماتة الباطل و إحياء الحق فقالوا : نشهد أن عثمان قتل مظلوما فقال : لا أقول مظلوما و لا ظالما قالوا : فمن لم يقل ذلك فنحن منه برآء و انصرفوا فقرأ علي { إنك لا تسمع الموتى } الآية ثم قال لأصحابه : لا يكن هؤلاء في ضلالهم أجد منكم في حقكم
ثم تنازع عدي بن حاتم في راية طيء و عامر بن قيس الحزمري و كان رهطه أكثر من رهط عدي فقال عبد الله بن خليفة البولاني : ما فينا أفضل من عدي و لا من أبيه حاتم و لم يكن في الإسلام أفضل من عدي و هو الوافد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و رأس طيء في النخلة و القادسية و المدائن و جلولاء و نهاوند و تستر و سأل علي قومهم فوافقوه على ذلك فقضى بها لعدي و لما انسلخ المحرم نادى علي في الناس بالقتال و عبى الكتائب و قال : لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا و لا تجهزوا على جريح و لا تكشفوا عورة و لا تمثلوا و لا تأخذوا مالا و لا تهيجوا امرأة و إن شتمتكم فإنهن ضعاف الأنفس و القوى ثم حرضهم و دعا لهم و جعل الأشتر على خيل الكوفة و سهل بن حنيف على خيل البصرة و قيس بن سعد على رجالة البصرة و عمار بن ياسر على رجالة الكوفة و هاشم بن عتبة معه الراية و مسعر بن فدكي على القراء و عبى معاوية فجعل على الميمنة ذا الكلاع الحميري و على الميسرة حبيب بن مسلمة و على المقدمة أبا الأعور و على خيل دمشق عمرو بن العاص و على رجالتها مسلم بن عقبة المري و على الناس كلهم الضحاك بن قيس و تبايع رجال من أهل الشام على الموت فعقلوا أنفسهم بالعمائم في خمسة صفوف فاقتتلوا عامة يومهم و في اليوم الثاني هاشم بن عتبة و أبو الأعور السلمي و في اليوم الثالث عمار بن ياسر و عمرو بن العاص فاقتتلوا أشد قتال و حمل عمار فأزال عمرا عن موضعه و في اليوم الرابع محمد بن الحنفية و عبيد الله بن عمر بن الخطاب و تداعيا إلى البراز فرد علي ابنه و ترجعوا و في اليوم الخامس عبد الله بن عباس و الوليد بن عقبة فاقتتلا كذلك ثم عاد في اليوم السادس الأشتر و حبيب فاقتتلا قتالا شديدا و انصرفا
و خطب علي الناس عشية يومه و أمرهم بمناهضة القوم بأجمعهم و أن يطيلوا ليلتهم القيام و يكثروا التلاوة و يدعو الله بالنصر و الصبر و يرموا غدا في لقائهم بالجد و الحزم فبات الناس يصلحون ليلتهم سلاحهم و عبى علي الناس ليلته إلى الصباح و زحف و سأل عن القبائل من أهل الشام و عرف مواقفهم و أمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام و من ليس منهم أحد بالشام يصرفهم إلى من ليس منهم أحد بالعراق مثل بجيلة صرفهم إلى لخم و خرج معاوية في أهل الشام فاقتتلوا يوم الأربعاء قتالا شديدا عامة يومهم ثم انصرفوا و غلس علي يوم الخميس بالزحف و على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء و على ميسرته عبد الله بن عباس و القراء مع عمار و قيس بن سعد و عبد الله بن يزيد و الناس على راياتهم و مراكزهم و علي في القلب بين أهل الكوفة و البصرة و معه أهل البصرة و الكوفة و معه أهل المدينة من الأنصار و خزاعة و كنانة
و رفع معاوية قبة عظيمة و ألقى عليها الثياب و بايعه أكثر أهل الشام على الموت و أحاط بقبته خيل دمشق و زحف ابن بديل في الميمنة فقاتلهم إلى الظهر و هو يحرض أصحابه ثم كشف خيلهم و اضطرهم إلى قبة معاوية و جاء الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية فبعثهم إلى حبيب فحمل بهم على ميمنة أهل العراق فانجفل الناس عن ابن بديل إلا ثلثمائة أو مائتين من القراء و انتهت الهزيمة إلى علي و أمده علي بسهل بن حنيف في أهل المدينة فاستقبلهم جموع عظيمة لأهل الشام فمنعتهم ثم انكشفت مضر من الميسرة و ثبتت ربيعة و جاء علي يمشي نحوهم فاعترضه أحمر مولى أبي سفيان فحال دونه كيسان مولاه فقتله أحمر فتناول علي أحمر من درعه فجذبه و ضرب به الأرض و كسر منكبيه و عضديه ثم دنا من ربيعة فصبرهم و ثبت أقدامهم و تنادوا بينهم إن أصيب بينكم أمير المؤمنين افتضحتم في العرب و كان الأشتر مر به راكضا نحو الميمنة و استقبل الناس منهزمين فأبلغهم مقالة علي : أين فراركم من الموت الذي لا تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم ثم نادى أنا الأشتر فرجع إليه بعضهم فنادى مذحجا و حرضهم فأجابوه و قصد القوم و استقبله شباب من همذان ثمانمائة أو نحوها و كان قد هلك منهم في ذلك اليوم أحد عشر رئيسا و أصيب منهم ثمانون و مائة و زحف الأشتر نحو الميمنة و تراجع الناس و اشتد القتال حتى كشف أهل الشام و ألحقهم بمعاوية عند الاصفرار و انتهى إلى ابن بديل في مائتين أو ثلثمائة من القراء قد لصقوا بالأرض فانكشفوا عنهم أهل الشام و أبصروا إخوانهم و سألوا عن علي فقيل لهم هو في الميسرة يقاتل فقال ابن بديل استقدموا بنا و نهاه الأشتر فأبى و مضى نحو معاوية و حوله أمثال الجبال تقتل كل من دنا منه حتى وصل إلى معاوية فنهض إليه الناس من كل جانب و أحيط به فقتل و قتل من أصحابه ناس و رجع آخرون مجرحين و أهل الشام في اتباعهم فبعث الأشتر من نفس عنهم حتى وصلوا إليه و زحف الأشتر في همذان و طوائف من الناس فأزال أهل الشام عن مواقفهم حتى ألحقهم بالصفوف المعقلة بالعمائم حول معاوية ثم حمل أخرى فصرع منهم أربعة صفوف حتى دعا معاوية بفرسه فركبه و خرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في القراء الذين مع عمار فقاتلوا و تقدم عقبة بن حديد النميري مستميتا و معه إخوته و قاتلوا حتى قتلوا و تقدم شمر بن ذي الجوشن مبارزا فضرب أدهم بن محرز الباهلي وجهه بالسيف و حمل هو على أدهم فقتله و حمل قيس بن المكشوح و معه راية بجيلة فقاتل حتى أخذها آخر كذلك
و لما رأى علي أهل ميمنة أصحابه قد عادوا إلى مواقفهم و كشفوا العدو قبالتهم أقبل إليهم و عذلهم بعض الشيء عن مفرهم و أثنى على وجوههم و قاتل الناس قتالا شديدا و تبارز الشجعان من كل جانب و أقبلت قبائل طيء و النخع و خرجت حمير من ميمنة أهل الشام و تقدم ذو الكلاع و معهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب فقصد ربيعة في ميسرة أهل العراق و عليهم ابن عباس و حملوا عليهم حملة شديدة فثبتت ربيعة و أهل الحفاظ منهم و انهزم الضعفاء و الفشلة ثم رجعوا و لحقت بهم عبد القيس و حملوا على حمير فقتل ذو الكلاع و عبيد الله و عمر و أخذ سيف ذي الكلاع و كان لعمر فلما ملك معاوية العراق أخذه من قاتلة ثم خرج عمار بن ياسر و قال اللهم إني لا أعمل اليوم عملا أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين ثم نادى من سعى في رضوان ربه فلا يرجع إلى مال و لا ولد فأتاه عصابة فقال : اقصدوا بنا هؤلاء الذين يطلبون بدم عثمان يخادعون بذلك عما في نفوسهم من الباطل ثم مضى فلا يمر بواد من صفين إلا اتبعه من هناك من الصحابة ثم جاء هاشم بن عتبة و كان صاحب الراية فأنهضه حتى دنا من عمرو بن العاص و قال : يا عمرو بعت دينك بمصر ؟ تبا لك فقال : إنما أطلب دم عثمان فقال : أشهد أنك لا تطلب وجه الله في كلام كثير من أمثال ذلك و أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في عمار تقتله الفئة الباغية
و لما قتل عمار حمل علي و حمل معه ربيعة و مضر و همذان حملة منكرة فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض حتى بلغوا معاوية فناداه علي : علام يقتل الناس بيننا هلم أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقام له الأمر فقال له عمرو : أنصفك فقال له معاوية : لكنك ما أنصفت و أسر يومئذ جماعة من أصحاب علي فترك سبيلهم و كذلك فعل علي و مر علي بكتيبة من الشام قد ثبتوا فبعث إليهم محمد ابن الحنفية فأزالهم عن موقفهم و صرع عبد الله بن كعب المرادي فمر به الأسود بن قيس فأوصاه بتقوى الله و القتال مع علي و قال أبلغه عني السلام و قال له قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك فإنه من أصبح غدا و المعركة خلف ظهره فإنه العالي
ثم اقتتل الناس إلى الصباح و هي ليلة الجمعة و تسمى ليلة الهرير و علي يسير بين الصفوف و يحرض كل كتيبة على التقدم حتى أصبح و المعركة كلها خلف ظهره و الأشتر في الميمنة و ابن عباس في الميسرة و الناس يقتتلون من كل جانب و ذلك يوم الجمعة ثم ركب الأشتر و دعا الناس إلى الحملة على أهل الشام فحمل حتى انتهى إلى عسكرهم و قتل صاحب رايتهم و أمده علي بالرجال فلما رآى عمرو شدة أهل العراق و خاف على أصحابه الهلاك قال لمعاوية : مر الناس يرفعون المصاحف على الرماح و يقولون كتاب الله بيننا و بينكم فإن قبلوا ذلك ارتفع عنا القتال و إن أبى بعضهم وجدنا في افتراقهم راحة ففعلوا ذلك فقال الناس : نجيب إلى كتاب الله فقال لهم علي : ياعباد الله امضوا على حقكم و قتال عدوكم فإن معاوية و ابن أبي معيط و حبيبا و ابن أبي سرح و الضحاك ليسوا بأصحاب دين و لا قرآن أن أعرف بهم صحبتهم أطفالا و رجالا فكانوا شر أطفال و شر رجال و يحكم الله ما رفعوها إلا مكيدة و خديعة فقالوا : لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فلا نقبل فقال : إنما قتلناهم ليدنوا بكتاب الله فإنهم نبذوه فقال له مسعر بن فدك التميمي و زيد بن حصين الطائي في عصابة من القراء الذين صاروا خوراج بعد ذلك : يا علي أجب إلى كتاب الله و إلا دفعنا برمتك إلى القوم أو فعلنا بك ما فعلنا بابن عفان فقال : إن تطيعوني فقاتلوا و إن تعصوني فافعلوا ما بدا لكم قالوا : فابعث إلى الأشتر و كفه عن القتال و فبعث إليه يزيد هانئ بذلك فأبى و قال : قد رجوت أن يفتح الله لي فلما جاء يزيد ارتج الموقف باللغط و قالوا لعلي : ما نراك إلا أمرته بقتال فابعث إليه فليأتك و إلا اعتزلناك فقال علي : ويحك يا يزيد قل له أقبل إلي فإن الفتنة قد رفعت فقال : ألرفع المصاحف ؟ فقال : نعم قال : لقد ظننت أن ذلك يوقع فرقة كيف ندع هؤلاء و ننصرف و الفتح قد رفع فقال يزيد : تحب أن تظفر و أمير المؤمنين يسلم إلى عدوه أو يقتل ثم أقبل إليهم الأشتر و أطال عتبهم و قال أمهلوني فواقا فقد أحسست بالفتح فأبوا فعذلهم و أطال في عذلهم فقالوا دعنا يا أشتر قاتلناهم لله فقال : بل خدعتم فانخدعتم ثم كثرت الملاحاة بينهم و تشاتموا فصاح بهم علي فكفوا فقال له الأشعث بن قيس : إن الناس قد رضوا بما دعوا إليه من حكم القرآن فإن شئت أتيت معاوية و سألته ما يريد قال : افعل فأتاه و سأله : لأي شيء رفعتم المصاحف ؟ قال : لنرجع نحن و أنتم إلى ما أمر الله به من كتابه تبعثون رجلا ترضون و نحن آخر و نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتبع ما اتفقنا عليه فقال الأشعث هذا الحق و رجع إلى علي و الناس و أخبرهم فقال الناس رضينا و قبلنا و رضي أهل الشام عمرا و قال الأشعث و أولئك القراء الذين صاروا خوارج : رضينا بأبي موسى فقال علي لا أرضاه فقال الأشعث و يزيد بن الحصين و مسعر بن فدك : لا نرضى إلا به قال فإنه ليس ثقة قد فارقني و خذل الناس عني و هرب مني حتى أمنته بعد شهر قالوا لا نريد إلا رجلا هو منك و من معاوية سواء قال فالأشتر قالوا : و هل سعر الأرض غير الأشتر ؟ قال : فاصنعوا ما بدا لكم فبعثوا إلى أبي موسى وقد اعتزل القتال فقيل إن الناس قد اصطلحوا فحمد الله قيل وقد جعلوك حكما فاسترجع و جاء أبو موسى إلى العسكر و طلب الأحنف بن قيس من علي أن يجعله مع أبي موسى فأبى الناس من ذلك و حضر عمرو بن العاص عند علي لتكتب القضية بحضوره فكتبوا بعد البسملة هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين فقال : عمرو ليس هو بأميرنا فقال له الأحنف لا تمحها فإني أتطير بمحوها فمكث مليا ثم قال الأشعث : امحها فقال علي : الله أكبر و ذكر قصة الحديبية و فيها أنك ستدعى إلى مثلها فتجيبها فقال عمرو : و سبحان الله نشبه بالكفار و نحن مؤمنون فقال علي : يا ابن النابغة و متى لم تكن للفاسقين وليا و للمؤمنين عدوا فقال عمرو : و الله لا يجمع بيني و بينك مجلس بعد اليوم فقال علي : أرجو أن يظهر الله مجلسي منك و من أشباهك و كتب الكتاب و هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان قاضى علي على أهل الكوفة و من معهم و معاوية على أهل الشام و من معهم أنا ننزل عند حكم الله و كتابه و أن لا يجمع بيننا غيره و أن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا و نميت ما أمات مما وجد الحكمان في كتاب الله و هما أبو موسى عبد الله ابن قيس و عمرو بن العاص و ما لم يجدا في كتب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة و أخذ الحكمان من علي و معاوية و من الجندين العهود و المواثيق و أنهما آمنان على أنفسهما و أهليهما و الأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه و على عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص عهد الله و ميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة و لا يورداها في حرب و لا فرقة حتى يقضيا و أجلا القضاء إلى رمضان و إن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه و أن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة و أهل الشام و شهد رجال من أهل العراق و رجال من أهل الشام و ضعوا خطوطهم في الصحيفة و أبى الأشتر أن يكتب اسمه فيها و حاوره الأشعث في ذلك فأساء الرد عليه و تهدده و كتب الكتاب لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع و ثلاثين و اتفقوا على أن يوافي علي موضع الحكمين بدومة الجندل و بأذرح في شهر رمضان ثم جاء بعض الناس إلى علي يحضه على قتال القوم فقال : لا يصلح الرجوع بعد الرضى و لا التبديل بعد الإقرار
ثم رجع الناس عن صفين و رجع علي و خالفت الحرورية و أنكروا تحكيم الرجال ثم رجعوا على غير الطريق الذي فيه جاؤا فيه حتى جازوا النخلية و رأوا بيوت الكوفة و مر علي بقبر خباب بن الأرت توفي بعد خروجه فوقف و استرحم له ثم دخل الكوفة فسمع رجة البكاء في الدور فقال يبكين على القتلى فترحم لهم و لم يزل يذكر الله حتى دخل القصر فلم تدخل الخوارج معه و أتوا حرورا فنزلوا بها في اثني عشر ألفا و قدموا شبث بن عمر التميمي أمير القتال و عبيد الله بن الكوا اليشكري أمير الصلاة قالوا البيعة لله عز و جل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الأمر شورى بعد الفتح فقالوا للناس بايعتم عليا إنكم أولياء من والى و أعداء من عادى و بايع أهل الشام معاوية على ما أحب و كرهوا فلستم جميعا من الحق في شيء فقال لهم زياد بن النضر : و الله ما بايعناه إلا على الكتاب و السنة لكن لما خالفتموه تعينتم للضلال و تعينا للحق ثم بعث علي عبد الله بن عباس إليهم قوال لا تراجعهم حتى آتيك فلم يصبر عن مكالمتهم و قال : ما نقمتم من أمر الحكمين وقد أمر الله بهما بين الزوجين فكيف بالأمة فقالوا لا يكون هذا بالرأي و القياس فإن ذلك جعله الله حكما للعباد و هذا أمضاه كما أمضى حكم الزاني و السارق قال ابن عباس : قال الله تعالى يحكم به ذو عدل منكم قالوا و الأخرى كذلك و ليس أمر الصيد و الزوجين كدماء المسلمين ثم قالوا له : قد كنا بالأمس نقاتل عمرو بن العاص فإن كان عدلا فعلى ما قتلناه و إن لم يكن عدلا فكيف يسوغ تحكيمه ؟ و أنتم قد حكمتم الرجال في أمر معاوية و أصحابه و الله تعالى قد أمضى حكمه فيهم أن يقتلوا أو يرجعوا و جعلتم بينكم الموادعة في الكتب وقد قطعها الله بين المسلمين و أهل الحرب منذ نزلت براءة
ثم جاء علي إلى فسطاط يزيد بن قيس منهم بعد أن علم أنهم يرجعون إليه في رأيهم فصلى عنده ركعتين و ولاه على أصبهان و الري ثم خرج إليهم و هم في مجلس ابن عباس فقال من زعيمكم قالوا : ابن الكوا قال : فما هذا الخروج ؟ قالوا لحكومتكم يوم صفين قال أنشدكم الله أتعلمون أنه لم يكن رأيي و إنما كان رأيكم مع أني اشترطت على الحكمين أن يحكما بحكم القرآن فإن فعلا فلا ضير وإن خالفا فلا خير و نحن برآء من حكمهم قالوا فتحكيم الرجال في الدماء عدل ؟ قال إنما حكمنا القرآن إلا أنه لا ينطق و إنما يتكلم به الرجال قالوا : فلم جعلتم الأجل بينكم ؟ قال لعل الله يأتي فيه بالهدنة بعد افتراق الأمة فرجعوا إلى رأيه و قال ادخلوا مصركم فلنمكث ستة أشهر حتى يجبى المال و يسمن الكراع ثم نخرج إلى عدونا فدخلوا من عند آخرهم (2/625)
أمر الحكمين
و لما انقضى الأجل و حان وقت الحكمين بعث علي أبا موسى الأشعري في أربعمائة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي و معهم عبد الله بن عباس يصلي بهم و أوصى شريحا بموعظة عمر فلما سمعها قال متى كنت أقبل مشورة علي و أعتد برأيه ؟ قال و ما يمنعك أن تقبل من سيد المسلمين و أساء الرد عليه فسكت عنه و بعث معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام و التقوا بأذرح من دومة الجندل فكان أصحاب عمرو أطوع من أصحاب ابن عباس لابن عباس حتى لم يكونوا يسألوه عن كتاب معاوية إذا جاءه و يسأل أهل العراق ابن عباس و يتهمونه و حضر مع الحكمين : عبد الله بن عمر و عبد الرحمن بن أبي بكر و عبد الله بن الزبير و عبد الرحمن ابن الحرث بن هشام و عبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري و أبو جهم بن حذيفة العدوي و المغيرة بن شعبة و سعد بن أبي وقاص على خلاف فيه و قيل قدم على حضور فأحرم بعمرة من بيت المقدس
و لما اجتمع الحكمان قال عمرو لأبي موسى : أتعلم أن عثمان قتل مظلوما و أن معاوية و قومه أولياؤه قال : بلى قال : فما يمنعك منه و هو في قريش كم علمت و إن قصرت به السابقة قدمه حسن السياسة و أنه صهر رسول الله صلى الله عليه و سلم و كاتبه و صاحبه و الطالب بدم عثمان و عرض بالولاية فقال أبو موسى : ياعمرو اتق الله و أعلم أن هذا الأمر ليس بالشرف و إلا لكان لآل أبرهة بن الصباح و إنما هو بالدين و الفضل مع أنه لو كان بشرف قريش لكان لعلي بن أبي طالب و ما كنت لأرى لمعاوية طلبه دم عثمان و أوليه و أدع المهاجرين الأولين و أما تعريضك بالولاية فلو خرج لي معاوية عن سلطانه ما وليته و ما أرتشي في حكم الله ثم دعاه إلى توليه عبد الله بن عمر فقال له عمرو : فما يمنعك من ابني و هو من علمت ؟ فقال : هو رجل صدق و لكنك غمسته في الفتنة فقال عمرو : إن هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل له ضرس يأكل و يطعم و كانت في ابن عمر غفلة و كان ابن الزبير بإزائه فنبهه لما قال فقال ابن عمر : لا أرشو عليها أبدا ثم قال أبو موسى : يا ابن العاص إن العرب أسندت أمرها إليك بعد المقارعة بالسيوف فلا تردنهم في فتنة قال له : فخبرني ما رأيك قال : أرى أن نخلع الرجلين و نجعل الأمر شورى يختار المسلمون لأنفسهم فقال عمرو : و الرأي ما رأيت
ثم أقبلوا على الناس و هم ينتظرونهم و كان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في الكلام لما له من الصحبة و السن فقال : يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق فقال : إنا رأينا أمرا نرجو الله أن يصلح به الأمة فقال له ابن عباس : ويحك أظنه خدعك فاجعل له الكلام قبلك فأبى و قال : أيها الناس إنا نظرنا في أمر الأمة فلم نر أصلح لهم مما اتفقنا عليه و هو أن نخلع عليا و معاوية و يولي الناس أمرهم من أحبوا و أني قد خلعتهما فولوا من رأيتموه أهلا فقال عمرو : إن هذا قد خلع صاحبه وقد خلعته كما خلعه و أثبت معاوية فهو ولي ابن عفان و أحق الناس بمقامه ثم غدا ابن عباس و سعد على أبي موسى باللائمة فقال : ما أصنع غدرني و رجع باللائمة على عمرو و قال لا وفقك الله غدرت و فجرت و حمل شريح على عمرو فضربه بالسيف و ضربه ابن عمر كذلك و حجز الناس بينهم فلحق أبو موسى بمكة و انصرف عمرو و أهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة و رجع ابن عباس و شريح إلى علي بالخبر فكان يقنت إذا صلى الغداة و يقول اللهم إلعن معاوية و عمرا و حبيبا و عبد الرحمن بن مخلد و الضحاك بن قيس و الوليد و أبا الأعور و بلغ ذلك معاوية فكان إذ اقتنت يلعن عليا و ابن عباس و الحسن و الحسين و الأشتر (2/635)
أمر الخوارج و قتالهم
و لما اعتزم علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه زرعة بن البرح الطائي و حرقوص بن زهير السعدي من الخوارج و قالا له : تب من خطيئتك و ارجع عن قضيتك و اخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم و قال علي : قد كتبنا بيننا و بينهم كتابا و عاهدناهم فقال حرقوص : ذلك ذنب تنبغي التوبة منه فقال علي : ليس بذنب و لكنه عجز من الرأي فقال زرعة : لئن لم تدع تحكميم الرجال لأقاتلنك أطلب وجه الله فقال علي : بؤسا لك كأني قتيلا تسفى عليك الرياح قال : وددت لو كان ذلك و خرجا من عنده يناديان لا حكم إلا الله و خطب علي يوما فتنادوا من جوانب المسجد بهذه الكلمة فقال علي : الله أكبر كلمة حق أريد بها باطل و خطب ثانيا فقالوا كذلك فقال : أما آن لكم عندنا ثلاثا ما صحبتمونا لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه و لا الفيء ما دمتم معنا و لا نقاتلكم حتى تبدؤنا و ننتظر فيكم أمر الله
ثم اجتمع الخوارج في منزل عبد الله بن وهب الراسبي فوعظهم و حرضهم على الخروج إلى بعض النواحي لإنكار هذه البدع و تبعه حرقوص بن زهير في المقالة فقال حمزة بن سنان الأسدي : الرأي ما رأيتم لكن لا بد لكم من أمير و رواية فعرضوها على زيد بن حصين الطائي ثم حرقوص بن زهير ثم حمزة بن سنان ثم شريح بن أوفى العنسي فأبوا كلهم ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فأجاب فبايعوه لعشر خلون من شوال و كان يقال له ذو الثفنات ثم اجتمعوا في منزل شريح و تشاوروا و كتب ابن وهب إلى أهل البصرة منهم يستحشدهم على اللحاق بهم و لما اعتزموا على السير تعبدوا ليلة الجمعة و يومها ساروا فخرج معهم طرفة بن عدي بن حاتم الطائي و اتبعه أبوه إلى المدائن فلم يقدر عليه فرجع و لقيه عبد الله بن وهب في عشرين فارسا و أراد قتله فمنعه من كان معه من طيء
و أرسل علي إلى عامل المدائن سعد بن مسعود بخبرهم فاستخلف ابن أخيه المختار بن عبيد و سار في طلبهم في خمسمائة فارس فتركوا طريقهم و ساروا على بغداد و لحقهم سعد بالكرخ مساء و جاءه عبد الله في ثلاثين فارسا و قاتلهم و امتنعوا و أشار أصحابه بتركهم إلى أن يأتي فيهم أمر علي فأبى و لما جن عليهم الليل عبر عبد الله إليهم دجلة و سار إلى أصحابه بالنهروان و اجتمعت خوارج البصرة في خمسمائة رجل عليهم مسعر بن فدكي التميمي و اتبعهم أبو الأسود الدؤلي بأمر ابن عباس و لحقهم فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل فأدلج مسعر بأصحابه فلحق بعبد الله بن وهب بالنهروان و لما خرجت الخوارج بايع علي أصحابه على قتالهم ثم أنكر شأن الحكمين و خطب الناس و قال بعد الحمد لله و الموعظة : ألا إن هذين الحكمين نبذا حكم القرآن و اتبع كل واحد هواه و اختلفا في الحكم و كلاهما لم يرشد فاستعدوا للسير إلى الشام و كتب إلى الخوارج بالنهروان بذلك و استحثهم للمسير إلى العدو و قال : نحن على الأمر الأول الذي كنا عليه فكتبوا إليه : إنك غضبت لنفسك و لم تغضب لربك فإن شهدت على نفسك بالكفر و تبت نظرنا بيننا و بينك و إلا فقد نابذناك على السواء
فيئس علي منهم و رأى أن يمضي إلى الشام و يدعهم و قام في الناس يحرضهم لذلك و كتب إلى ابن عباس من معسكره بالنخيلة يأمره بالشخوص بالعساكر و المقام إلى أن يأتي أمره فأشخص ابن عباس الأحنف بن قيس في ألف و خمسمائة ثم خطب ثانية و ندب الناس و قال : كيف ينفر هذا العدد القليل و أنتم ستون ألف مقاتل ! ثم تهددهم و أمرهم بالنفير مع جارية بن قدامة السعدي فخرج معه ألف و ستمائة و وافوا عليا في ثلاثة آلاف و يزيدون ثم خطب أهل الكوفة و لاطفهم بالقول و حرضهم و أخبرهم بما فعل أهل البصرة مع كثرتهم و قال ليكتب إلي كل رئيس منكم ما في عشيرته من المقاتلة من أبنائهم و مواليهم فأجابه سعيد بن قيس الهمداني و معقل بن قيس و عدي بن حاتم و زياد بن خصفة و حجر بن عدي و أشراف الناس بالسمع و الطاعة و أمروا ذويهم ألا يتخلف منهم أحد فكانوا أربعين ألف مقاتل و سبعة عشر ممن بلغ الحلم و انتهت عساكره إلى ثمانية و ستين ألفا و بلغه أن الناس يرون تقديم الخوارج فقال لهم : إن قتال أهل الشام أهم علينا لأنهم يقاتلونكم ليكونوا ملوكا جبارين و يتخذوا عباد الله خولا فرجعوا إلى رأيه و قالوا : سر بنا إلى حيث شئت و بينما هو على اعتزام السير إلى أهل الشام بلغه أن خوارج أهل البصرة لقوا عبد الله بن خباب من صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم قريبا من النهروان فعرفهم بنفسه فسألوه عن أبي بكر و عمر فأثنى خيرا ثم عن عثمان في أول خلافته و آخرها فقال : كان محقا في الأول و الآخر فسألوه عن علي قبل التحكيم و بعده فقال : هو أعلم بالله و أشد توقيا على دينه فقالوا : إنك توالي الرجال على أسمائها ثم ذبحوه و بقروا بطن امرأته ثم قتلوا ثلاث نسوة من طيء فآسف عليا قتلهم عبد الله بن خباب و اعتراضهم الناس فبعث الحرث بن مرة العبدي لينظر فيما بلغه عنهم فقتلوه فقال له أصحابه : كيف ندع هؤلاء و نأمن غائلتهم في أموالنا و عيالنا إنما نقدم أمرهم على الشام و قام الأشعث بن قيس بمثل ذلك فوافقهم علي و سار إليهم و بعث من يقول لهم ادفعوا إلينا قتلة إخواننا منكم فنكف عنكم حتى نرجع من قتال العرب لعل الله يردكم إلى خير فقالوا : كلنا قتلهم وكلنا مستحل دماءكم و دماءهم ثم جاءهم قيس بن سعد و وعظهم و أبو أيوب الأنصاري كذلك
ثم جاءهم علي فتهددهم و سفه رأيهم و يريهم شأن الحكمين و أنهما لما خالفا حكم الكتاب و السنة نبذنا أمرهما و نحن على الأمر الأول فقالوا : إنا كفرنا بالتحكيم وقد تبنا فإن تبت أنت فنحن معك و إن أبيت فقد نابذناك فقال : كيف أحكم على نفسي بالكفر بعد إيماني و هجرتي و جهادي ثم انصرف عنهم و قيل إن عليا خطبهم و أغلظ عليهم فيما فعلوه من الاستعراض و القتل فتنادوا لا تكلموهم و تأهبوا للقاء الله ثم قصدوا جسر الخوارج و لحقهم علي دونه وقد عبى أصحابه : و على ميمنته حجر بن عدي و على ميسرته شبث بن ربعي أو معقل بن قيس و على الخيل أبو أيوب و على الرجالة أبو قتادة و على أهل المدينة سبعمائة أو ثمانمائة قيس بن سعد و عبأت نحوه الخوارج : على ميمنتهم زيد بن حصن الطائي و على الميسرة شريح بن أوفى العنسي و على الخيل حمزة بن سنان الأسدي و على الرجالة حرقوص بن زهير و دفع علي إلى أبي أيوب راية أمانا لهم لمن جاءها ممن لم يقتل و لم يستعرض فناداهم إليها و قال : من انصرف إلى الكوفة و المدائن فهو آمن فاعتزل عنهم فروة بن نوفل الأشجعي في خمسمائة و قال أعتزل حتى يتضح لي أمر في قتال علي فنزل الدسكرة و خرج آخرون إلى الكوفة و رجع آخرون إلى علي و كانوا أربعة آلاف و بقي منهم ألف و ثمانمائة فحمل عليهم علي و الناس حتى فرقهم على الميمنة و الميسرة ثم استقبلتهم الرماة و عطفت عليهم الخيل من المجنبتين و نهض إليهم الرجال بالسلاح فهلكوا كلهم في ساعة واحدة كأنما قيل لهم موتوا و قتل عبد الله بن وهب و زيد بن حصن و حرقوص بن زهير و عبد الله بن شجرة و شريح بن أوفى و أمر علي أن يلتمس المخدج في قتلاهم و هو الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه و سلم في علاماتهم فوجد في القتلى فاعتبر علي و كبر و استنصر الناس و أخذ ما في عسكرهم من السلاح و الدواب فقسمه بين المسلمين و رد عليهم المتاع و الإماء و العبيد و دفن عدي بن حاتم ابنه طرفة و رجالا من المسلمين فنهى علي عن ذلك و ارتحل و لم يفقد من أصحابه إلا سبعة أو نحوهم
و شكا إليه الناس الكلال و نفود السهام و الرماح و طلبوا الرجوع إلى الكوفة ليستعدوا فإنه أقوى على القتال و كان الذي تولي كلامه الأشعث بن قيس فلم يجبه و أقبل فنزل و منعهم من دخول منازلهم حتى يسيروا إلى عدوهم فتسللوا أيام المقامة إلى البيوت و تركوا المعسكر خاليا فلما رأى علي ذلك دخل ثم ندبهم ثانيا فلم ينفروا فأقام أياما ثم كلم رؤساءهم على رأيهم و الذي يبطئ بهم فلم ينشط من ذلك إلا القليل فخطبهم و أغلظ في عتابهم و أعلمهم بما له عليهم من الطاعة في الحق و النصح فتثاقلوا و سكتوا (2/637)
ولاية عمرو بن العاص مصر
قد تقدم لنا ما كان من اجتماع العثمانية بنواحي مصر مع معاوية بن خديج السكوني و إن محمد بن أبي بكر بعث إليهم العساكر من الفسطاط مع ابن مضاهم فهزموه و قتلوه و اضطربت الفتنة بمصر على محمد بن أبي بكر و بلغ ذلك عليا فبعث إلى الأشتر من مكان عمله بالجزيرة و هو نصبين فبعثه على مصر و قال : ليس لها غيرك و بلغ الخبر إلى معاوية و كان قد طمع في مصر فعلم أنها ستتمنع بالأشتر و جاء الأشتر فنزل على صاحب الخراج بالقلزم فمات هنالك و قيل إن معاوية بعث إلى صاحب القلزم فسمه على أن يسقط عنه الخراج و هذا بعيد و بلغ خبر موته عليا فاسترجع و استرحم و كان محمد بن أبي بكر لما بلغته ولاية الأشتر شق عليه فكتب علي يعتذر إليه و أنه لم يوله لسوء رأي في محمد و إنما هو لما كان يظن فيه من الشدة وقد صار إلى الله و نحن عنه راضون فBه و ضاعف له الثواب فاصبر لعدوك و شمر للحرب و ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و أكثر من ذكر الله و الاستعانة به و الخوف منه يكفيك ما أهمك و يعينك على ما ولاك فأجابه محمد بالرضى برأيه و الطاعة لأمره و أنه مزمع على حرابة من خالفه
ثم لما كان من أمر الحكمين ما كان و اختلف أهل العراق على علي و بايع أهل الشام معاوية بالخلافة فأراد معاوية صرف عمله إلى مصر لما كان يرجو من الإستعانة على حروبه بخراجها و دعا بطانته أبا الأعور السلمي و حبيب بن مسلمة و بسر بن أطأة و الضحاك بن قيس و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد و شرحبيل بن السمط و شاورهم في شأنها فأشار عليه عمرو بافتتاحها و أشار ببعث الجيش مع حازم صارم يوثق و يجتمع إليه من كان على رأيه من العثمانية و قال معاوية : بل الرأي أن نكاتب العثمانية بالوعد و نكاتب العدو بالصلح و التخويف و نأتي الحرب من بعد ذلك ثم قال معاوية : إنك يا ابن العاص بورك لك في العجلة و أنا في التؤدة فقال : أفعل ما تراه و أظن الأمر لا يصير إلا للحرب فكتب معاوية إلى معاوية بن حديج و مسلمة بن مخلد يشكرهما على الخلاف و بحثهما على الحرب و القيام في دم عثمان و فرحا بجوابهما فطلب المدد فجمع أصحابه و أشاروا بذلك فأمر عمرو بن العاص أن يتجهز إلى مصر في ستة آلاف رجل و وصاه بالتؤدة و ترك العجلة فنزل أدنى أرض مصر و اجتمعت إليه العثمانية و بعث كتابه و كتاب معاوية إلى محمد بن أبي بكر بالتهديد و أن الناس اجتمعوا عليك و هم مسلموك فاخرج فبعث بالكتابين إلى علي فوعده بإنفاذ الجيوش و أمره بقتال العدو و الصبر
فقدم محمد بن أبي بكر كنانة بن بشر في ألفين فبعث معاوية عمرو بن حديج و سرحه في أهل الشام فأحاطوا بكنانة فترجل عن فرسه و قاتل حتى استشهد و جاء الخبر إلى محمد بن أبي بكر فافترق عنه أصحابه و فروا و آوى في مفره إلى خربة و استتر في تلك الخربة فقبض عليه فأخذه ابن حديج و جاء به الفسطاط و طلب أخوه عبد الرحمن من عمرو أن يبعث إلى ابن حديج في البقاء عليه فأبى و طلب محمد الماء فمنعه ابن حديج جزاء بما فعل بعثمان ثم أحرقه في جوف حمار بعد أن لعنه و دعا عليه معاوية و عمرو و كانت عائشة تقنت في الصلاة بالدعاء على قتلته و يقال إنه لما انهزم اختفى عند جبلة بن مسروق حتى أحاط به معاوية بن حديج و أصحابه فخرج إليهم فقاتل حتى قتل
و لما بلغ الخبر عليا خطب الناس و ندبهم إلى أعدائهم و قال : اخرجوا بنا إلى الجزعة بين الحيرة و الكوفة و خرج من الغد إلى منتصف النهار يمشي إليها حتى نزلها فلم يلحق به أحد فرجع من العشي و جمع أشراف الناس و وبخهم فأجاب مالك بن كعب الأرحبي في ألفين فقال سر و ما أراك تدركهم فسار خمسا لقي حجاج بن عرفة الأنصاري قادما من مصر فأخبره بقتل محمد و جاء إلى علي عبد الرحمن بن شبث الفزاري و كان عينا له بالشام فأخبره بقتل محمد و استيلاء عمرو على مصر فحزن لذلك و بعث إلى مالك بن كعب أن يرجع بالجيش و خطب الناس فأخبرهم بالخبر و عذلهم على ما كان منهم من التثاقل حتى فات هذا الأمر و وبخهم طويلا ثم نزل (2/641)
دعاء ابن الحضرمي بالبصرة لمعاوية و مقتله
و لما فتح معاوية مصر بعث عبد الله بن الحضرمي إلى البصرة داعيا لهم وقد آنس منهم الطاعة بما كان من قتل علي أباهم يوم الجمل و أنهم على رأيه في دم عثمان و أوصاه بالنزول في مصر يتودد إلى الأزد و حذره من ربيعة و قال إنهم ترائبه يعني شيعة لعلي فسار ابن الحضرمي حتى قدم البصرة و كان ابن عباس قد خرج إلى علي و استخلف عليها زيادا و نزل في بني تميم و اجتمع إليه العثمانية فحضهم على الطلب بدم عثمان من علي فقال الضحاك بن قيس الهلالي : قبح الله ما جئت به و ما تدعو إليه تحملنا على الفرقة بعد الاجتماع و على الموت ليكون معاوية أميرا ؟ فقال له عبد الله بن حازم السلمي : أسكت فلست لها بأهل ثم قال لابن الحضرمي : نحن أنصارك و يدك و القول قولك فقرأ كتاب معاوية يدعوهم إلى رأيه من الطلب بدم عثمان على أن يعمل فيهم بالسنة و يضاعف لهم الأعطية فلما فرغ من قراءته قام الأحنف بن قيس معتزلا و حض عمر بن مرحوم على لزوم البيعة و الجماعة و قام العباس بن حجر في مناصرة ابن الحضرمي فقال له المثنى بن مخرمة لا يغرنك ابن صحار وارجع من حيث جئت فقال ابن الحضرمي لصبرة بن شيمان الأزدي ألا تنصرني ؟ قال : لو نزلت عندي فعلت و دعا زياد أمير البصرة حصين بن المنذور و مالك بن مسمع و رؤوس بكر بن وائل إلى المنعة من ابن الحضرمي إلى أن يأتي أمر علي فأجاب حصين و تثاقل مالك و كان هواه في بني أمية فأرسل زياد إلى صبرة بن شيمان يدعوه إلى الجوار بما معه من بيت المال فقال : إن حملته إلى داري أجرتك فتحول إليه ببيت المال و المنبر و كان يصلي الجمعة في مسجد قومه و أراد زياد اختبارهم فبعث إليهم من ينذرهم بمسيره بهم إليهم و أخذ زياد جندا منهم بعد صبره لذلك و قال : إن جاؤا جئناهم و كتب زياد إلى علي بالخبر فأرسل أعين بن ضبيعة ليفرق تميما عن ابن الحضرمي و يقاتل من عصاه بمن أطاعه فجاء لذلك و قاتلهم يوما أو بعض يوم ثم اغتاله قوم قتلوه يقال من الخوارج (2/643)
ولاية زياد على فارس
و لما قتل ابن الحضرمي بالبصرة و الناس مختلفون على علي طمع أهل النواحي من بلاد العجم في كسر الخراج و أخرج أهل فارس عاملهم سهل بن حنيف فاستشار علي الناس فأشار عليه جارية بن قدامة بزياد فأمر ابن عباس أن يوليه عليها فبعثه إليها في جيش كثيف فطوى بهم أهل فارس و ضرب ببعضهم بعضا و هرب قوم و أقام آخرون وصفت له فارس بغير حرب ثم تقدم إلى كرمان فدوخها مثل ذلك فاستقامت وسكن الناس ونزل اصطخر وسكن قلعة بها تسمى قلعة زياد (2/644)
فراق ابن عباس لعلي رضي الله عنهم
و في سنة أربعين فارق عبد الله بن عباس عليا و لحق بمكة و ذلك أنه مر يوما بأبي الأسود و وبخه على أمر فكتب أبو الأسود إلى علي بأن ابن عباس استتر بأموال الله فأجابه علي يشكره على ذلك و كتب لابن عباس و لم يخبره بالكاتب فكتب إليه بكذب ما بلغه من ذلك و أنه ضابط للمال حافظ له فكتب إليه علي أعلمني ما أخذت و من أين أخذت و فيما صنعت ؟ فكتب إليه ابن عباس فهمت استعظامك لما رفع إليك أني رزأته من هذا المال فابعث إلى عملك من أحببت فإني ظاعن عنه و استدعى أخواله من بني هلال فجاءته قيس كلها و لم يبعث الأموال و قال : هذه أرزاقنا و أتبعه أهل البصرة و وقفت دونه قيس فرجع صبرة بن شيمان الهمداني بالأزد و قال قيس : إخواننا و هم خير من المال فأطيعوني و انصرف معهم بكر و عبد القيس ثم انصرف الأحنف بقومه من بني تميم و حجز بقية تميم عنه و لحق ابن عباس بمكة (2/644)
مقتل علي
قتل علي رضي الله عنه سنة أربعين عشرة من رمضان و قيل لإحدى عشرة و قيل في ربيع الآخر و الأول أصح و كان سبب قتله أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي و البرك بن عبد الله التميمي الصريمي و اسمه الحجاج و عمرو بن بكر التميمي السعدي ثلاثتهم من الخوارج لحقوا من فلهم بالحجاز و اجتمعوا فتذكروا ما فيه الناس و عابوا الولاة و ترحموا على قتلى النهروان و قالوا : ما نصنع بالبقاء بعدهم فلو شرينا أنفسنا و قتلنا أئمة الضلال و أرحنا منهم الناس فقال ابن ملجم و كان من مصر : أنا أكفيكم عليا و قال البرك : أنا أكفيكم معاوية و قال عمرو بن بكر التميمي : أنا أكفيكم عمرو بن العاص و تعاهدوا أن لا نرجع أحد عن صاحبه حتى يقتله أو يموت و اتعدوا لسبع عشرة من رمضان و انطلقوا و لقي ابن ملجم أصحابه بالكوفة فطوى خبره عنهم ثم جاء إلى شبيب بن شجرة من أشجع و دعاه إلى الموافقة في شأنه فقال شبيب ثكلتك أمك فكيف تقدر على قتله قال : أكمن له في المسجد في صلاة الغداة فإن قتلناه و إلا فهي الشهادة قال : ويحك لا أجدني أنشرح لقتله مع سابقته و فضله قال : ألم يقتل العباد الصالحين أهل النهروان ؟ قال : بلى قال : فنقتله بمن قتله منهم فأجابه : ثم لقي أمرأة من تيم الرباب فائقة الجمال قتل أبوها و أخوها يوم النهروان فأخذت قلبه فخطبها فشرطت عليه عبدا و قينة و قتل علي فقال كيف يمكن ما أنت تريدين ؟ قال التمس غرته فإن قتلته شفيت النفوس و إلا فهي الشهادة قال : و الله ما جئت إلا لذلك و لك ما سألت قالت : سأبعث معك من يشد ظهرك و يساعدك و بعثت معه رجلا من قومها اسمه وردان
فلما كانت الليلة التي واعد ابن ملجم أصحابه على قتل علي و كانت ليلة الجمعة جاء إلى المسجد و معه شبيب ووردان و جلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي للصلاة فلما خرج و نادى للصلاة علاه شبيب بالسيف فوقع بعضادة الباب و ضربه ابن ملجم على مقدم رأسه و قال : الحكم لله لا لك يا علي و لا لأصحابك و هرب وردان إلى منزله و أخبر بعض أصحابه بالأمر فقتله هرب شبيب مغلسا و صاح الناس به فلحقه رجل من حضرموت فأخذه و جلس عليه و السيف في يد شبيب و الناس قد أقبلوا في طلبه و خشي الحضرمي على نفسه لاختلاط الغلس فتركه و ذهب في غمار الناس و شد الناس على ابن ملجم و استخلف علي على الصلاة جعدة بن هبيرة و هو ابن أخته أم هانيء فصلى الغداة بالناس و ادخل ابن ملجم مكتوفا على علي فقال : أي عدو الله ما حملك على هذا ؟ قال : شحذته أربعين صباحا و سألت الله أن يقتل به شر خلقه فقال : أراك مقتولا به ثم قال إن هلكت فاقتلوه كما قتلني و إن بقيت رأيت فيه رأيي يابني عبد المطلب لا تحرضوا على دماء المسلمين و تقولوا قتل أمير المؤمنين لا تقتلوا إلا قاتلي يا حسن إن أنا مت من ضربتي هذه فاضربه بسيفه و لا تمثلن بالرجل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إياكم و المثلة ] و قالت أم كلثوم لابن ملجم و هو مكتوف و هي تبكي : أي عدو الله إنه لا بأس على أبي و الله مخزيك قال : فعلام تبكين ؟ و الله لقد شريته بألف و صقلته أربعين و لو كانت هذه الضربة بأهل بلد ما بقي منهم أحد و قال جندب بن عبد الله لعلي أنبايع الحسن إن فقدناك ؟ قال : ما آمركم به و لا أنهاكم أنتم أبصر ثم دعا الحسن و الحسين و وصاهما قال : أوصيكما بتقوى الله و لا تبغيا الدنيا و أن بغتكما و لا نأسفا على شيء زوى منهما عنكما و قولا الحق و ارحما اليتيم و أعينا الضائع و كونا للظالم خصما و للمظلوم ناصرا و عملا بما في كتاب الله و لا تأخذكما في الله لومة لائم ثم قال لمحمد بن الحنفية : إني أوصيك بمثل ذلك و بتوقير أخويك لعظيم حقهما عليك و لا تقطع أمرا دونهما ثم وصاهما بابن الحنفية ثم أعاد على الحسن وصيته و لما حضرته الوفاة كتب وصيته العامة و لم ينطق إلا بلا إله إلا الله حتى قبض
فأحضر الحسن ابن ملجم فقال له : هل لك في البقاء علي و أني قد عاهدت الله أن أقتل عليا و معاوية و أني عاهدت الله على الوفاء بالعهد فخل بيني و بين ذلك فإن قتلته و بقيت فلك عهد الله أن آتيك فقال : لا و الله حتى تعاين النار ثم قدمه فقتله و أما البرك فإنه قعد لمعاوية تلك الليلة فلما خرج للصلاة ضربه بالسيف في إليته و أخذ فقال : عندي بشرى أتنفعني إن أخبرتك بها قال : نعم قال : إن أخا لي قتل عليا هذه الليلة قال : فلعله لم يقدر عليه قال : بلى إن عليا ليس معه حرس فأمر به معاوية فقتل و أحضر الطبيب فقال : ليس إلا الكي أو شربة تقطع منك الولد فقال : في يزيد و عبد الله ما تقر به عيني و النار لا صبر لي عليها و قد قيل إنه أمر بقطع البرك فقطع و أقام إلى أيام زياد فقتله بالبصرة و عند ذلك اتخذ معاوية المقصورة و حرس الليل و قيام الشرط على رأسه إذا سجد و يقال إن أول من اتخذ المقصورة مروان بن الحكم سنة أربع و أربعين حين طعنه اليماني
و أما عمرو بن بكر فإنه جلس لعمرو بن العاص تلك الليلة فلم يخرج و كان اشتكى فأمر صاحب شرطته خارجة بن أبي حبيبة بن عامر بن لؤي يصلي بالناس فشد عليه فضربه فقتله و هو يرى أنه عمرو بن العاص فلما أخذوه و أدخلوه على عمرو قال فمن قتلت إذا ؟ قالوا خارجة فقال : لعمرو بن العاص و الله ما ظننته غيرك ! فقال عمرو : و أردت عمرا و أراد الله خارجة و أمر بقتله
وتوفي علي رضي الله عنه و على البصرة عبد الله بن عباس و على قضائها أبو الأسود الدؤلي و على فارس زياد بن سمية و على اليمن عبيد الله بن العباس حتى وقع أمر بسر بن أبي أرطأة و على مكة و الطائف قثم بن عباس و على المدينة أبو أيوب الأنصاري و قيل سهل بن حنيف (2/645)
بيعة الحسن و تسليمه الأمر لمعاوية
و لما قتل علي رضي الله عنه اجتمع أصحابه فبايعوا ابنه الحسن و أول من بايعه قيس ابن سعد و قال : ابسط يدك على كتاب الله و سنة رسوله و قتال الملحدين فقال الحسن على كتاب الله و سنة رسوله و يأتيان على كل شرط ثم بايعه الناس فكان يشترط عليهم أنكم سامعون مطيعون تسالمون من سالمت و تحاربون من حاربت فارتابوا وقالوا : ما هذا لكم بصاحب و ما يريد القتال
و بلغ الخبر بمقتل علي إلى معاوية فبويع بالخلافة و دعي بأمير المؤمنين وقد كان بويع بها بعد اجتماع الحكمين و لأربعين ليلة بعد مقتل علي مات الأشعث بن قيس الكندي من أصحابه ثم مات من أصحابه معاوية شرحبيل بن السمط الكندي و كان علي قبل قتله قد تجهز بالمسلمين إلى الشام و بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت فلما بويع الحسن زحف معاوية في أهل الشام إلى الكوفة فسار الحسن في ذلك الجيش للقائه و على مقدمته قيس بن سعد في اثني عشر ألفا و قيل بل كان عبد الله بن عباس على المقدمة و قيس في طلائعه فلما نزل الحسن في المدائن شاع في العسكر أن قيس بن سعد قتل و اهتاج الناس و ماج بعضهم في بعض و جاؤا إلى سرادق الحسن و نهبوا ما حوله حتى نزعوه بساطه الذي كان عليه و استلبوه رداءه و طعنه بعضهم في فخذه و قامت ربيعة و همدان دونه و احتملوه على سرير إلى المدائن و دخل إلى القصر و كاد أمره أن ينحل فكتب إلى معاوية يذكر له النزول عن الأمر على أن يعطيه ما في بيت المال بالكوفة و مبلغه خمسة آلاف ألف و يعطيه خراج دار ابجرد من فارس و ألا يشتم عليا و هو يسمع و أخبر بذلك أخوه الحسين و عبد الله بن جعفر و عذلاه فلم يرجع إليهما و بلغت صحيفته إلى معاوية فأمسكها و كان قد بعث عبد الله بن عامر و عبد الله بن سمرة إلى الحسن و معهما صحيفة بيضاء ختم في أسفلها و كتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة ما شئت فهو لك فاشترط فيها أضعاف ما كان في الصحيفة فلما سلم له و طالبه في الشروط أعطاه ما في الصحيفة الأولى و قال هو الذي طلبت ثم نزعه أهل البصرة خراج دار ابجرد و قالوا : هو فيئنا لا نعطيه و خطب الحسن أهل العراق و قال : سخى نفسي عنكم ثلاث : قتل أبي وطعني و انتهاب بيتي ثم قال ألا وقد أصبحتم بين قبيلين قبيل بصفين يبكون له و قبيل بالنهروان يطلبون بثأره و أما الباقي فخاذل و أما الباكي فثائر و أن معاوية دعانا إلى أمر ليس فيه عز و لا نصفة فإن أردتم الموت رددناه عليه و حاكمناه إلى الله بظبا السيوف و إن أردتم الحياة قبلنا و أخذنا لكم الرضى فناداه الناس من كل جانب البقية البقية فأمضى الصلح ثم بايع لمعاوية لستة أشهر من بيعته
و دخل معاوية الكوفة و بايعه الناس و كتب الحسن إلى قيس بن سعد يأمره بطاعة معاوية فقام قيس في أصحابه فقال نحن بين القتال مع غير إمام أو طاعة إمام ضلالة فقال له الناس : طاعة الإمام أولى و انصرفوا إلى معاوية فبايعوه و امتنع قيس و انصرف فلما دخل معاوية الكوفة أشار عليه عمرو بن العاص أن يقيم الحسن للناس خطيبا ليبدو للناس عيه فلما قدم حمد الله و قال : أيها الناس إن الله هداكم بأولنا و حقن دماءكم بآخرنا و إن لهذا الأمر مدة و الدنيا دول الله عز و جل يقول لنبيه : و إن أدري لعله فتنة لكم و متاع إلى حين فقال له معاوية إجلس و عرف أنه خدع في رأيه ثم ارتحل الحسن في أهل بيته و حشمهم إلى المدينة و خرج أهل الكوفة لوداعه باكين فلم يزل مقيما بالمدينة إلى أن هلك سنة تسع و أربعين و قال أبو الفرج الأصبهاني سنة إحدى و خمسين و على فراشه بالمدينة و ما ينقل من أن معاوية دس إليهم السم مع زوجه جعدة بنت الأشعث فهو من أحاديث الشيعة و حاشا لمعاوية من ذلك
و أقام قيس بن سعد على امتناعه من البيعة و كان معاوية قد بعث عبد الله بن عامر في جيش إلى عبيد الله بن عباس لما كتب إليه في الأمان بنفسه فلقيه ليلا و أمنه و سار معه إلى معاوية فقام بأمر العسكر بعده قيس بن سعد و تعاقدوا على قتال معاوية حتى يشترط لشيعة علي على دمائهم و أموالهم و ما كانوا أصابوا في الفتنة و بلغ الخبر إلى معاوية و أشار عليه عمرو في قتاله و قال معاوية : يقتل في ذلك أمثالهم من أهل الشام و لا خير فيه ثم بعث إليه بصحيفة ختم في أسفلها و قال : اكتب في هذا ما شئت فهو لك فكتب قيس له و لشيعته الأمان على ما أصابوا من الدماء و الأموال و لم يسأل مالا فأعطاه معاوية ذلك و بايعه قيس و الشيعة الذين معه ثم جاء سعد بن أبي وقاص فبايعه و استقر الأمر لمعاوية و اتفق الجماعة على بيعته و ذلك في منتصف سنة إحدى و أربعين و سمي ذلك العام عام الجماعة من أجل ذلك ثم خرج عليه الخوارج من كل جهة من بقية أهل النهروان و غيرهم فقاتلهم و استلحمهم كما يأتي في أخبارهم على ما اشترطناه في تأليفنا من إفراد الأخبار عن الدول و أهل النحل دولة دولة و طائفة طائفة
و هذا آخر الكلام في الخلافة الإسلامية و ما كان فيها من الردة و الفتوحات و الحروب ثم الإتفاق و الجماعة أوردتها ملخصة عيونها و مجامعها من كتاب محمد بن جرير الطبري و هو تاريخه الكبير فإنه أوثق ما رأيناه في ذلك و أبعد من المطاعن عن الشبه في كبار الأمة من خيارهم و عدولهم عن الصحابة رضي الله عنهم و التابعين فكثيرا ما يوجد في كلام المؤرخين أخبار فيها مطاعن و شبه في حقهم أكثرها من أهل الأهواء فلا ينبغي أن تسود بها الصحف و اتبعتها بمفردات من غير كتاب الطبري بعد أن تخيرت الصحيح جهد الطاقة و إذا ذكرت شيئا في الأغلب نسبته إلى قائله وقد كان ينبغي أن تلحق دولة معاوية و أخباره بدول الخلفاء و أخبارهم فهو تاليهم في الفضل و العدالة و الصحبة و لا ينظر في ذلك إلى حديث الخلافة بعدي ثلاثون سنة فإنه لم يصح و الحق أن معاوية في عداد الخلفاء و إنما أخره المؤرخون في التأليف عنهم لأمرين : الأول أن الخلافة لعهده كانت مغالبة لأجل ما قدمناه من العصبية التي حدثت لعصره و أما قبل ذلك كانت اختيار و اجتماعا فميزوا بين الحالتين فكان معاوية أول خلفاء المغالبة و العصبية الذين يعبر عنهم أهل الأهواء بالملوك و يشبهون بعضهم ببعض و حاشى الله أن يشبه معاوية بأحد ممن بعده فهو من الخلفاء الراشدين و من كان تلوه في الدين و الفضل من الخلفاء المروانية ممن تلاه في المرتبة كذلك و كذلك من بعدهم من خلفاء بني العباس و لا يقال إن الملك أدون رتبة من الخلافة فكيف يكون خليفة ملكا
و أعلم أن الملك الذي يخالف بل ينافي الخلافة هو الجبروتية المعبر عنها بالكسروية التي أنكرها عمر على معاوية حين رأى ظواهرها و أما الملك الذي هو الغلبة و القهر بالعصبية و الشوكة فلا ينافي الخلافة و لا النبوة فقد كان سليمان بن داود و أبوه صلوات الله عليهما نبيين و ملكين و كانا على غاية الإستقامة في دنياهما و على طاعة ربهما عز و جل و معاوية لم بطلب الملك و لا أبهته للإستكثار من الدنيا و إنما ساقه أمر العصبية بطبعها لما استولى المسلمون على الدول كلها و كان هو خليفتهم فدعاهم بما يدعو الملوك إليه قومهم عندما تستفحل العصبية و تدعو لطبيعة الملك و كذلك شأن الخلفاء أهل الدين من بعده إذا دعتهم ضرورة الملك إلى إستفحال أحكامه ودواعيه و القانون في ذلك عرض أفعالهم على الصحيح من الأخبار لا بالواهي فمن جرت أفعاله عليها فهو خليفة النبي صلى الله عليه و سلم في المسلمين و من خرجت أفعاله عن ذلك فهو من ملوك الدنيا و إنما سمي خليفة بالمجاز
الأمر الثاني في ذكر معاوية مع خلفاء بني أمية دون الخلفاء الأربعة أنهم كانوا أهل نسب واحد و عظيمهم معاوية فجعل مع أخل نسبه و الخلفاء الأولون مختلفو الأنساب فجعلوا في نمط واحد و ألحق بهم عثمان و إن كان من أهل هذا النسب للحوقه بهم قريبا في الفضل و الله يحشرنا في زمرتهم و يرحمنا بالاقتداء بهم
تمت تكملة الجزء الثاني و يليه الجزء الثالث و أوله
الخبر عن الدول الإسلامية و نبدأ منها بدولة بني أمية معقبة لخلفاء صدر الإسلام و ذكر أوليتهم و أخبار دولهم واحدة واحدة إلى انقضائها (2/648)
بسم الله الرحمن الرحيم ـ صحيفة
كان لبني عبد مناف في قريش جمل من العدد و الشرف لا يناهضهم فيها أحد من سائر بطون قريش و كان فخداهم بنو أمية و بنو هاشم حيا جميعا ينتمون لعبد مناف و ينسبون إليه و قريش تعرف ذلك و تسأل لهم الرياسة عليهم إلا أن بني أمية أكثر عددا من بني هاشم و أوفر رجالا و العزة إنما هي بالكثرة قال الشاعر :
( و إنما العزة للكاثر )
و كان لهم قبيل الإسلام شرف معروف انتهى إلى حرب بن أمية و كان رئيسهم في حرب الفجار و حدث الإخباريون أن قريشا توقعوا ذات يوم و حرب هذا مسند ظهره إلى الكعبة فتبادر إليه غلمة منهم ينادون يا عم أدرك قومك فقام يجر إزاره حتى أشرف عليهم من بعض الربا و لوح بطرف ثوبه فبادرت الطائفتان إليه بعد أن كان حمي و طيسهم و لما جاء الإسلام و دهش الناس لما وقع من أمر النبوة و الوحي و تنزل الملائكة و ما وقع من خوارق الأمور و نسي الناس أمر العصبية مسلمهم و كافرهم أما المسلمون فنهاهم الإسلام عن أمور الجاهلية كما في الحديث أن الله أذهب عنكم غبية الجاهلية و فخرها لأننا و أنتم بنو آدم و آدم من تراب و أما المشركون فشغلهم ذلك الأمر العظيم عن شأن العصائب و ذهلوا عنه حينا من الدهر و لذلك لما افترق أمر بني أمية و بني هاشم بالإسلام إنما ذلك الإفتراق بحصار بني هاشم في الشعب لا غير و لم يقع كبير فتنة لأجل نسيان العصبات و الذهول عنها بالإسلام حتى كانت الهجرة و شرع الجهاد و لم يبق إلا العصبية الطبيعية التي لا تفارق و هي بعزة الرجل على أخيه و جاره في القتل و العدوان عليه فهذه لا يذهبها شيء و لا هي محظورة بل هي مطلوبة في الجهاد و الدعاء إلى الدين ألا ترى إلى صفوان بن أمية و قوله عندما انكشف المسلمون يوم حنين و هو يومئذ مشرك في المدة التي جعل له رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يسلم فقال له أخوه : ألا بطل السحر اليوم ؟ فقال له صفوان : اسكت فض الله فاك لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوزان ثم أن شرف بني عبد مناف لم يزل في بني عبد شمس و بني هاشم فلما هلك أبو طالب و هاجر بنوه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و حمزة كذلك ثم من بعده العباس و الكثير من بني عبد المطلب و سائر بني هاشم خلا الجو حينئذ من مكان بني هاشم بمكة و استغلظت رياسة بني أمية في قريش ثم استحكمتها مشيخة قريش من سائر البطون في بدر و هلك فيها عظماء بني عبد شمس : عتبة و ربيعة و الوليد و عقبة بن أبي معيط و غيرهم فاستقل أبو سفيان بشرف بني أمية و التقدم في قريش و كان رئيسهم في أحد و قائدهم في الأحزاب و ما بعدها و لما كان الفتح قال العباس للنبي صلى الله عليه و سلم أبو سفيان ليلتئذ كما هو معروف و كان صديقا له : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له ذكرا فقال : [ من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن ] ثم من على قريش بعد أن ملكهم يومئذ و قال : [ إذهبوا فأنتم الطلقاء و أسلموا ] و شكت مشيخة قريش بعد ذلك لأبي بكر ما وجدوه في أنفسهم من التخلف عن رتب المهاجرين الأولين و ما بلغهم من كلام عمر في تركه شوراهم فاعتذر لهم أبو بكر و قال أدركوا إخوانكم بالجهاد و أنفذهم لحروب الردة فأحسنوا الغناء عن الإسلام و قوموا الأعراب عن الحيف و الميل ثم جاء عمر فرمي بهم الروم و أرعب قريشا في النفير إلى الشام فكان معظمهم هنالك و استعمل يزيد بن أبي سفيان على الشام و طال أمد ولايته إلى أن هلك في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة فولى أخاه معاوية و أقره عثمان من بعد عمر فاتصلت رياستهم على قريش في الإسلام برياستهم قبيل الفتح التي لم تحل صبغتها و لا ينسى عهدها أيام شغل بني هاشم بأمر النبوة و نبذوا الدنيا من أيديهم بما اعتاضوا عنها من مباشر الوحي وشرف القرب من الله برسوله و مازال الناس يعرفون ذلك لبني أمية و انظر مقاله حنظلة بن زياد الكاتب لمحمد بن أبي بكر : إن هذا الأمر إن صار إلى التغلب غلبك عليه بنو عبد مناف و لما هلك عثمان و اختلف الناس على علي كانت عساكر علي أكثر عددا لمكان الخلافة و الفضل إلا أنها من سائر القبائل من ربيعة و يمن و غيرهم و جموع معاوية إنما هي جند الشام من قريش شوكة مضرو بأسهم نزلوا بثغور الشام منذ الفتح فكانت عصبيته أشد و أمضى شوكة ثم كسر من جناح علي ما كان من أمر الخوارج و شغله بهم إلى أن ملك معاوية و خلع الحسن نفسه و اتفقت الجماعة على بيعة معاوية في منتصف سنة إحدى و أربعين عندها نسى الناس شأن النبوة و الخوارق و رجعوا إلى أمر العصبية و التغالب و تعين بنو أمية للغلب على مضر و سائر العرب و معاوية يومئذ كبيرهم فلما تتعده الخلافة و لا ساهمه فيها غيره فاستوت قدمه و استفحل شأنه و استحكمت في أرض مصر رياسته و توثق عقده و أقام في سلطانه و خلافته عشرين سنة ينفق من بضاعة السياسة التي لم يكن أحد من قوقه أوفر فيها منه يدا من أهل الترشيح من ولد فاطمة و بني هاشم و آل الزبير و أمثالهم و يصانع رؤوس العربو قروم مضر بالأغضاء و الإحتمال و الصبر على الأذى و المكروه و كانت غاياته فيلا الحلم لا تدرك و عصابته فيها لا تنزع و مرقاته فيها تزل عنها الأقدام ذكر أنه مازح عدي بن حاتم يوما يؤنبه بصحبه علي فقال له عدي : و الله إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا و أن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا و لئن أدنيت إلينا من الغدر شبرا لندنين إليك من الشر باعا و أن حز الحلقوم و حشرجة الحيزوم لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي فشم السيف يا معاوية يبعث السيف فقال معاوية هذه كلمات حق فاكتبوها و أقبل عليه و لاطفه و تحادثا و أخباره في الحلم كثيرة (3/3)
بعث معاوية العمال إلى الأمصار
لما استقبل معاوية بالخلافة عام عدم الجماعة بعث العمال إلى الأمصار فبعث على الكوفة المغيرة بن شعبة و يقال إنه ولى عليها أولا عبد الله بن عمرو بن العاص فأتاه المغيرة منتصحا و قال : عمرو بمصر و ابنه بالكوفة فأنت بين نابي أسد فعزله و ولى المغيرو و بلغ ذلك عمرا فقال لمعاوية : يختان المال فلا تقدر على رده فعد فاستعمل من يخافك فنصب المغيرة على الصلاة و ولى على الخراج غيره و كان القضاء شريح و لما ولي المغيرة على الكوفة استعمل كثير بن شهاب على الري بعده و كان يغزو الديلم ثم بعث على البصرة بسر بن أرطأة و كان قد تغلب عليها حمران بن زيد عند صلح الحسن مع معاوية فبعث بسرا عليها فخطب الناس و تعرض الناس و تعرض لعلي ثم قال : نشدت الله رجلا يعلم أني صادق أو كاذب و لا صدقني أو كذبني فقال أبو بكرة : اللهم لا نعلمك إلا كاذبا فأمر به فخنق فقام أبو لؤلؤة الضبي فدفع عنه و كان على فارس من أعمال البصرة زياد بن أبيه و بعث إليه معاوية يطلبه في المال فقال : ضرفت بعضه في وجهه و استودعت بعضه للحاجة إليه و حملت ما فضل إلى أمير المؤمنين رحمه الله فكتب إليه معاوية بالقدوم لينظر في ذلك فامتنع فلما ولي بسر على البصرة جمع عنده أولاد زياد و الأكابر عبد الرحمن و عبد الله و عباد و كتب إليه لتقدمن أو لأقتلن بينك فامتنع و اعتزم بسر على قتلهم فأتاه أبو يبكرة و كان أخا زياد لأمه فقال : أخذتهم بلا ذنب و صالح الحسن على أصحاب علي حيث كانوا فأمهله بسر إلى أن يأتي بكتاب معاوية ثم قدم أبو بكرة على معاوية و قال : إن الناس لم يبايعوك على قتل الأطفال و إن بسرا يريد قتل بني زياد ! فكتب إليه بتخليتهم و جاء إلى البصرة يوم المهاد و لم يبق منه إلا ساعة و هم موثقون للقتل فأدركهم و أطلقهم انتهى ثم عزل معاوية بسرا عن البصرة و أراد أن يولي عتبة ابن أبي سفيان فقال له ابن عامر : إن لي بالبصرة أموالا و ودائع و إن لم تولني عليها ذهبت فولاه و جعل إليه معها خرسان وسجستان و قدمها سنة إحدى و أربعين فولي على خراسان قيس بن الهيثم السلمي و كان أهل بلخ و باذغيس و هراة و يوشلخ قد نضوا فسار إلى بلخ و حاصرها حتى سألوا الصلح وراجعوا الطاعة و قيل إنما صالحهم الربيع بن زياد سنة إحدى و خمسين على ما سيأتي ثم قدم قيس على ابن عامر فضربه و حبسه و ولى مكانه عبد الله بن حازم و قدم خراسان فأرسل إليه أهل هراة و باذغيس و يرشلخ في الأمان و الصلح فأجابهم و حمل لابن عامر مالا انتهى ثم ولى معاوية سنة إثنتين و أربعين على المدينة مروان بن الحكم و على مكة خالد بن العاص بن هشام و استقصى مروان عبد الله بن الحرث بن نوفل و عزل مروان عن المدينة سنة تسع و أربعين و ولى مكانه سعيد بن العاص و ذلك لثمان سنين من ولايته و جعل سعيد على القضاء ابن عبد الرحمن مكان عبد الله بن الحرث ثم عزل معاوية سعيدا سنة أربع و خمسين ورد إليها مروان (3/5)
قدوم زياد
و كان زياد قد امتنع بفارس بعد مقتل علي كما قدمناه و كان عبد الرحمن ابن أخيه أبي بكرة يلي بكرة يلي أمواله بالبصرة و رفع إلى معاوية أن زيادا استودع أمواله عبد الرحمن فبعث إلى المغيرة بالكوفة أن ينظر في ذلك فأحضر عبد الرحمن و قال له : إن يكن أبوك أساء إلي فقد أحسن عمك و أحسن العذر عند معاوية ثم قدم المغيرة على معاوية فذكر له ما عنده من وجل باعتصام زياد بفارس فقال : داهية العرب معه أموال فارس يدبر الحيل فما آمن أن يبايع لرجل من أهل البيت و يعيد الحرب خدعة فأستأذنه المغيرة أن يأتيه و يتلطف له ثم أتاه و قال : إن معاوية بعثني إليك و قد بايعه الحسن و لم يكن هناك غيره فخذ لنفسك قبل معاوية عنك قال : أشر علي و المستشار مؤتمن فقال أرى أن تشخيص إليه و تصل حبلك بحبله و ترجع عنه فكتب إليه معاوية بأمانه و خرج زياد من فارس نحو معاوية و معه المنجاب بن رابد الضبي و حارثة بن بدر الغداني و اعترضه عبد الله بن حازم في جماعة و قد بعثه ابن عامر ليأتيه به فلما رأى كتاب الأمان تركه و قدم على معاوية فسأله عن أموال فارس فأخبره بما أنفق و بما حمل إلى علي و بما بقي عنده مودعا للمسلمين فصدقه معاوية و قبضه منه و يقال إنه قال له : أخاف أن تكون مكروبا بي فصالحني فصالحه على ألفي درهم بعث بها إليه و استأذنه في نزول الكوفة فأذن له و كان المغيرة يكرمه و يعظمه و كتب إليه معاوية أن يلزم زيادا و حجر بن عدي و سليمان بن صرد و سيف بن ربعي و ابن الكوا و ابن الحميق بالصلاة في الجماعة فكانوا يحضرون معه الصلوات (3/7)
عمال ابن عامر الثغور
لما ولي ابن عامر على البصرة استعمل عبد الرحمن بن سمرة على سجستان فأتاها و على شرطتها عباد بن الحصين و معه من الأشراف عمر بن عبيد الله بن معمر وغيره و كان أهل البلاد قد كفروا ففتح أكثرها حتى بلغ كابل و حاصرها أشهرا و نصب عليها المجانيق حتى ثلم سورها و لم يقدر المشركون على سد الثلمة و بات عباد بن الحسين عليها يطاعنهم إلى الصبح ثم خرجوا من الغد للقتال فهزمهم المسلمون و دخلوا البلدة عنوة ثم سار إلى نسف فملكها عنوة ثم إلى حسك فصالحه أهلها ثم إلى الرجح فقاتلوه و ظفر بهم و فتحها ثم إلى زابلستان و هي غزنة و أعمالها ففتحها ثم عاد إلى كابل و قد نكث أهلها ففتحها و استعمل على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبدي و يقال بل ولاه معاوية من قبلة فغزا التيعان فأصاب مغنما و وفد على معاوية و أهدى له من خيولها ثم عاد إلى غزوهم فاستنجدوا بالترك و قتلوه و كان كريما في الغاية يقال : لم يكن أحد يوقد النار في عسكره و سأل ذات ليلة عن نار رآها فقيل له خبيص يصنع لنفساء فأمر أن يطعم الناس الخبيص ثلاثة أيام و استعمل على خراسان قيس بن الهيثم فتغافل بالخراج و الهدنة فولى مكانه عبد الله بن حاتم فخاف قيسا و أقبل فزاد ابن عامر غضبا لتضيعه الثغر و بعث مكانه من يشكر و قيل أسلم بن زرعة الكلابي ثم بعث عبد الله بن حازم و قيل : إن ابن حازم قال لابن عامر : إن قيسا لا ينهض بخراسان و أخاف إن لقي قيس حربا أن ينهزم و يفسد خراسان فاكتب لي عهدا إن عجز عن عدو قمت مقامه فكتب و خرجت خارجة من طخارستان فأشار ابن حازم عليه أن يتأخر حتى يجتمع عليه الناس فلما سار غير بعيد أخرج ابن حازم عهده و قام بأمر الناس و هزم العدو و بلغ الخبر إلى الإمصار فغضبت أصحاب قيس و قالوا خدع صاحبنا و شكوا إلى معاوية فاستقدمه فاعتذر فقبل منه و قال له أقم في الناس بعذرك ففعل و في سنة ثلاث و أربعين توفي عمرو بن العاص بمصر فاستعمل معاوية مكانه عبد الله ابنه (3/7)
عزل ابن عامر
و كان حليما لينا للسفهاء فطرق البصرة الفساد من ذلك و قال له زياد جرد السيف فقال : لا أصلح الناس بفساد نفسي ثم بعث وفدا من البصرة إلى معاوية فوافقوا عنده وفد الكوفة و منهم ابن الكوا و هو عبد الله بن أبي أوفى اليشكري فلما سألهم معاوية عن الأمصار أجابه ابن الكوا بعجز ابن عامر و ضعفه فقال معاوية : تتكلم على أهل البصرة و هم حضور ! و بلغ ذلك ابن عامر فغضب و ولى على خراسان من أعداء ابن الكوا عبد الله بن أبي شيخ اليشكري أو طفيل بن عوف فسخر منه ابن الكوا لذلك و قال : وددت أنه ولى كل يشكري من أجل عداوتي ثم أن معاوية استقدم ابن عامر فقدم و أقام أياما فلما ودعه قال : إني سائلك ثلاثا قال : هن لك قال : ترد علي عملي و لا تغضب و تهب لي مالك بعرفة و دورك بمكة قال : قد فعلت قال : وصلتك رحم فقال ابن عامر : و إني سائلك ثلاثا ترد علي عملي بعرفة و لا تحاسب لي عاملا و لا تتبع لي أثرا و تنكحني إبنتك هندا قال : قد فعلت ! و يقال : إن معاوية خيره بين أن يرده على إتباع أثره و حسابه بما سار إليه أو يعزله و يسوغه ما أصاب فاختار الثالثة فعزله و ولى مكانه الحرث ابن عبد الله الأزدي (3/8)
استخلاف زياد
كانت سمية أم زيادة مولاة للحرث بن كندة الطيب و ولدت عنده أبا بكرة ثم زوجها بمولى له و ولدت زيادا و كان أبو سفيان قد ذهب إلى الطائف في بعض حاجاته فأصابها بنوع من أنكحة الجاهلية و ولدت زيادا هذا و نسبه إلى أبي سفيان و أقر لها به إلا أنه كان بخفية و لما شب زياد بخفية و لما شب به النجابة و استكتبه أبو موسى الأشعري و هو على البصرة و استكفاه عمر في أمر فحسن منار دينه و حضر عنده يعلمه بما صنع فأبلغ ما شاء في الكلام فقال عمرو بن العاص و كان حاضرا لله هذا الغلام لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه قال أبو سفيان و علي يسمع : و الله إني لأعرف أباه و من وضعه في رحم أمه فقال له علي : اسكت فلوسمع عمر هذا منك كان إليك سريعا ثم إستعمل علي زيادا على فارس فضبطها و كتب إليه معاوية يتهدده و يعرض له بولادة أبي سفيان إياه فقام في الناس فقال : عجبا لمعاوية يخوفني دين ابن عم الرسول في المهاجرين و لأنصار ! و كتب إليه علي إني و ليتك و أنا أراك أهلا و قد كان من أبي سفيان فلتة من آمال الباطل و كذبب النفس و لا توجب ميراثا و لا نسبا و معاوية يأتي الإنسان من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله فاحذر ثم احذر و السلام و لما قتل علي و صالح زياد معاوية و ضع مصقلة بن هبيرة الشيباني على معاوية له بنسب أبي سفيان ففعل و رأى معاوية أن يستميله باستلحاقه فالتمس الشهادة بذلك ممن علم لحوق نسبه بأبي سفيان فشهد له رجال من أهل البصرة و ألحقه و كان أكثر شيعة علي ينكرون ذلك و ينقمونه على معاوية حتى أخوه أبو بكرة و كتب زياد إلى عائشة في بعض الأحيان من زياد بن أبي سفيان يستدعي جوابها بهذا النسب ليكون له حجة فكتبت إليه : من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد و كان عبد الله بن عامر يبغض زيادا و قال يوما لبعض أصحابه : من عبد القيس ؟ ! ابن سمية يقبح آثاري و يعترض عمالي لقد هممت بقسامة من قريش أن أبا سفيان لم يرسمية ! فأخبر زياد بذلك فأخبر به معاوية فأمر حاجبه أن يرده من أقصى الأبواب و شكا ذلك إلى يزيد فركب معه فأدخله على معاوية فلما رآه قام من مجلسه و دخل إلى بيته فقال يزيد : نقعد في انتظاره فلم يزالا حتى عدا ابن عامر فيما كان منه من القول و قال : إني لا أتكثر بزياد من قلة و لا أتغزز به من ذلة و لكن عرفت حق الله فوضعه موضعه فخرج ابن عامر و ترضى زيادا و رضى له معاوية (3/9)
ولاية زياد البصرة
كان زياد بعد صلح معاوية و استلحاقه نزل الكوفة و كان يتشوف الامارة عليها فاستثقل المغيرة ذلك منه فاستعفى معاوية من ولاية الكوفة فلم يعفه فيقال إنه خرج زياد إلى الشام ثم إن معاوية عزل الحرث بن عبد الله الأزدي عن البصرة و ولى عليها زيادا سنة خمس و أربعين و جمع له خراسان و سجستان ثم جمع له السند و البحرين و عمان و قدم البصرة فخطب خطبته البتراء و هي معروفة و إنما سميت البتراء لأنه لم يفتحها بالحمد و الثناء فحذرهم في خطبته ما كانوا عليه من الإنهماك في الشهوات و الاسترسال في الفسق و الضلال و انطلاق أيدي السفهاء على الجنايات و انتهاك الحرم و هم يدنون منهم فأطال في ذلك عنفهم و وبخهم و عرفهم ما يجب عليهم في الطاعة من المناصحة و الانقياد للائمة و قال : لكم عندي ثلاث لا أحتجب عن طالب حاجة و لو طرقني ليلا و لا أحبس العطاء عن اباية و لا أحمر البعوث فلما فرغ من خطبته قال له عبد الله بن الأيهم : أشهد أنك أوتيت الحكمة و فصل الخطاب قال : كذبت ذاك نبي الله داود ثم استعمل على شرطته عبد الله بن حصين و أمره أن يمنع الناس من الولوج بالليل و كان قد قال في خطبته لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه و كان يأمر بقراءة سورة البقرة بعد صلاة العشاء مؤخرة ثم يمهل بقدر مايبلغ الرجل أقصى البصرة ثم يخرج صاحب الشرطة فلا يجد أحدا إلا قتله و كان أول من شدد أمر السلطان و شيد الملك فجرد السيف و أخذ بالظنة و عاقب على الشبهة و خافه السفهاء و الذعار و أمن الناس على أنفسهم و متاعهم حتى كان الشيء يسقط من يد الإنسان فلا يتعرض له أحد حتى يأتي صاحبه فيأخذه و لا يغلق أحد بابا و أدر العطاء و استكثر من الشرط فبلغوا أربعة آلاف وسئل في إصلاح السابلة فقال : حتى أصلح المصر فلما ضبطه أصلح ما وراءه و كان يستعين بعدة من الصحابة منهم عمران بن حصين ولاه قضاء البصرة فاستعفى فولى مكانه عبد الله بن فضالة الليثي ثم أخاه عاصما ثم زرارة بن أوفى و كانت أخته عند زياد و كان يستعين بأنس بن مالك و عبد الرحمن بن سمرة و سمرة بن جندب ويقال : إن زيادا أول من سير بين يديه بالحراب و العمد و اتخذ الحرس رابطة فكان خمسمائة منهم لا يفارقون المسجد ثم قسم ولاية خراسان على أربعة : فولى على مرو أمين ابن أحمد اليشكري و على نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي و على مرو الروذ و العاريات والطالقات قيس بن الهيثم و على هراة و بادغيس و بوشنج نافع بن خالد الطائي ثم إن نافعا بعث إليه بجواد باهر في غنمه في بعض وجوهه و كانت قوائمه منه فأخذ منها قائمة و جعل مكانها أخرى ذهبا و بعث بجواده مع غلامه زيد و كان يتولى أموره فسعى فيه عند زياد بأمر تلك القائمة فعزله و حبسه و أغرمه مائة ألف كتب عليه بها كتابا و قيل ثمانمائة ألف و شفع فيه رجال من الأزد فأطلقه و استعمل مكانه الحكم بن عمرو الغفاري و جعل معه رجالا على الجباية منهم أسلم بن زرعة الكلابي و غزا الحكم طخارستان فغنم غنائم كثيرة ثم سار سنة سبع و أربعين إلى جبال الغور و كانوا قد ارتدوا ففتح و غنم و سبى وعبر النهر في ولايته إلى ما وراءه فملأه غارة و لما رجع من غزاة الغور مات بمرو و استخلف على عمله أنس بن أبي أناس بن ربين فلم يرضه زياد و كتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بولاية خراسان ثم بعث الربيع بن زياد المحاربي في خمسين ألفا من البصرة و الكوفة (3/10)
صوائف الشام
و دخل المسلمون سنة إثنتين و أربعين إلى بلاد الروم فهزموهم و قتلوا جماعة من البطارقة و أثخنوا فيها ثم دخل بسر بن أرطأة أرضهم سنة ثلاث و أربعين و مشى بها و بلغ القسطنطينية ثم دخل عبد الرحمن بن خالد و كان علىحمص فشتى بهم و غزاهم بسر تلك السنة في البحر ثم دخل عبد الرحمن إليها سنة ست و أربعين فشتى بها و شتى أبو عبد الرحمن السبيعي على انطاكية ثم دخلوا سنة ثمان وأربعين فشتى عبد الرحمن بأنطاكية أيضا و دخل عبد الله بن قيس الفزاري في تلك السنة بالصائفة و غزاهم مالك بن هبيرة اليشكري في البحر و عقبة بن عامر الجهني في البحر أيضا بأهل مصر و أهل المدينة ثم دخل مالك بن هبيرة سنة تسع و أربعين فشتى بأرض الروم ودخل عبد الله بن كرز الجيلي بالصائفة و شتى يزيد بن ثمرة الرهاوي في بلاد الروم بأهل الشام في البحر و عقبة بن نافع بأهل مصر كذلك ثم بعث معاوية سنة خمسين جيشا كثيفا إلى بلاد الروم مع سفيان بن عوف ندب يزيد ابنه معهم فتثاقل فتركه ثم بلغ الناس أن الغزاة أصابهم جوع و مرض و بلغ معاوية أن يزيد أنشد في ذلك :
( ما إن أبالي بما لاقت جموعهم ... بالفدفد البيد من حمى و من شوم )
( إذا اتطأت على الأنماط مرتفقا ... بدير مران عندي أم كلثوم )
وهي امرأت بنت عبد الله بن عامر فحلف ليلحقن بهم فسار في جمع كثير جمعهم إليه معاوية فيهم ابن عباس و ابن عامر و ابن الزبير و أبو أيوب الأنصاري فأوغلوا في بلاد الروم و بلغوا القسطنطينية و قاتلوا الروم عليها فاستشهد أبو أيوب الأنصاري ودفن قريبا من سورها و رجع يزيد و العساكر إلى الشام ثم شتى فضاله بن عبيد بأرض الروم سنة إحدى و خمسين و غزا بسر بن أرطأة بالصائفة (3/11)
وفاة المغيرة
توفي المغيرة و هو عامل علىالكوفة سنة خمس بالطاعون و قيل سنة تسع و أربعين و قيل سنة إحدى و خمسين فولى مكانه معاوية زيادا و جمع له المصريين فسار زياد إليها و استخلف على البصرة سمرة بن جندب فلما وصل الكوفة خطبهم فحصبوه على المنبر فلما نزل جلس علىكرسي و أحاط أصحابه بأبواب المسجد يأتونه بالناس يستحلفهم على ذلك و من لم يخلف حبسه فبلغوا ثمانين و اتخذ المقصورة من يوم حبس ثم بلغه عن أوفى بن حسين شيء فطلبه فهرب ثم أخذه فقتله و قال له عمارة بن عتبة بن أبي معيط : إن عمر بن الحمق يجتمع إليه شيعة علي فأرسل إليه زياد و نهاه عن الاجتماع عنده و قال لا أبيح أحدا حتى يخرج علي و أكثر سمرة بن حندب اليتامى بالبصرة يقال قتل ثمانية آلاف فأنكر ذلك ذلك عليه زياد
كان عمرو بن العاص قبل وفاته استعمل عقبة بن عامر بن عبد قيس على إفريقية و هو ابن خالته انتهى إلىلواته و مرانه فأطاعوا ثم كفروا فغزاهم و قتل و سبى ثم افتتح سنة اثنتين و أربعين غذامس و في السنة التي بعدها ودان و كورا من كور السودان و أثخن في تلك النواحي و كان له فيها جهاد و فتوح ثم ولاه معاوية على إفريقية سنة و خمسين و بعث إليه عشرة آلاف فارس فدخل إفريقية و انضاف إليه مسلمة البربر فكبر جمعه و وضع السيف في أهل البلاد لأنهم كانوا إذا جاءت عساكر المسلمين أسلموا فإذا رجعوا عنهم ارتدوا فرأى أن يتخذ مدينة يعتصم بها العساكر من البربر فاختلط القيروان و بنى بها المسجد الجامع و بنى الناس مساكنهم و مساجدهم و كان دورها ثلاثة آلاف باع و ستمائة باع و كملت في خمس سنين و كان يغزو و يبعث السرايا للإغارة و النهب و دخل أكثر البربر في الإسلام و اتسعت خطة المسلمين و رسخ الدين ثم ولى معاوية على مصر و أفريقية مسلمة بن مخلد الأنصاري و استعمل على أفريقية مولاه أبا المهاجر فأساء عزل عقبة و استخف به فسير ابن مخلد الأنصاري عقبة إلى معاوية و شكا إليه فاعتذر له و وعده برده إلى عمله ثم ولاه يزيد سنة إثنتين و ستين و ذكر الواقدي : أن عقبة ولي أفريقية سنة تسع و أربعين فاختلط القيروان ثم عزله يزيد سنة اثنتين و ستين بأبي المهاجر
فحينئذ فبض على عقبة و ضيق عليه فكتب إليه يزيد يبعثه إليه و أعاده واليا على أفريقية فحبس أبا المهاجر إلى أن قتلهم جميعا كسلة ملك البرانس من البربر كما نذكر بعد كان المغيرة بن شعبة أيام إمارته على الكوفة كثيرا ما يتعرض لعلي في مجالسه و خطبه و يترحم على عثمان و يدعو له فكان حجر بن عدي إذا سمعه يقول : بلاياكم ثد أضل الله و لعن ثم يقول أنا أشهد أن من تذمون أحق بالفضل و من تزكون أحق بالذم فبعث له المغيرة يقول : يا حجر اتق غضب السلطان و سطوته فإنها تهلك أمثالك لا يزيده على ذلك و لما كان آخر إمارته المغيرة قال في بعض أيامه مثل ما كان يقول فصاح به حجر ثم قال له : مر لنا بأرزاقنا فقد حبستها منا و أصبحت مولعا بذم المؤمنين و صاح الناس من جوانب المسجد صدق حجر فر لنا بأرزاقنا فالذي أنت فيه لا يجدي علينا نفعا فدخل المغيرة إلى بيته و عذله قومه في جراءة حجر عليه يوهن سلطانه و يسخط عليه معاوية فقال لا أحب أن آتي بقتل أحد من أهل المصر و سيأتي بعدي من يصنع معه مثل ذلك فيقتله ثم توفي المغيرة و ولي زياد فلما قدم خطب الناس و ترحم على عثمان و لعن قاتليه و قال حجر ما كان يقول فسكت عنه و رجع إلى البصرة و استخلف على الكوفة عمرو بن حريث و بلغه أن حجرا يجتمع إليه شيعة علي و يلعنون بلعن معاوية و البراءة منهم حصبوا عمرو بن حريث فشخص إلى الكوفة حتى دخلها ثم خطب الناس و حجر جالس يسمع فتهدده و قال : لست بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر و أودعه نكالا لمن بعده ثم بعث إليه فامتنع من الإجابة فبعث صاحب الشرطة شداد بن الهيثم الهلالي إليه جماعة فسبهم أصحابه فجمع زياد أهل الكوفة و تهددهم فتبرؤا فقال : ليدع كل رجل منكم عشيرته الذين عند حجر ففعلوا حتى إذا لم يبق معه إلا قومه قال زياد لصاحب الشرطة : انطلق إليه فأت به طوعا أو كرها فلما جاءه يدعوه امتنع من الإجابة فحمل عليهم و أشار إليه أبوا العمرطة الكندي بأن يلحق بكندة فمنعوه هذا و زياد على المنير ينتظر ثم غشيهم أصحاب زياد و ضرب عمرو بن الحمق فسقط و دخل في دور الأزد فاختفى و خرج حجر من أبواب كندة فركب و معه أبو العمرطة إلى دور قومه و اجتمع إليه الناس و لم يأته من كندة إلا قليل ثم أرسل زياد و هو على المنبر مذحج و همذان ليأتوه بحجر فلما علم أنهم قصدوه تسرب من داره إلى النخع و نزل على أخي الأشتر و بلغه أن الشرطة تسأل عنه في النخع فأتى الأزد و اختفى عند ربيعة بن ناجد و أعياهم طلبه فدعا حجر محمد بن الأشعث أن يأخذ له أمانا من زياد حتى يبعث به إلى معاوية فجاء محمد و معه جرير بن عبد الله و حجر بن يزيد و عبد الله بن الحرث أخو الأشتر فاستأمنوا له زيادا فأجابهم ثم أحضروا حجرا فحبسه و طلب أصحابه فخرج عمرو بن الحمق إلى الموصل و معه زواعة بن شداد فاختفى في جبل هناك و رفع أمرهما إلى عامل الموصل و هو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي ابن أخت معاوية و يعرف بابن أم الحكم فسار إليهما و هرب زواعة و قبض على عمرو و كتب إلى معاوية و كتب إلى معاوية بذلك فكتب إليه أنه طعن عثمان سبعا بمشاقص كانت معه فاطعنه كذلك فمات في الأولى و الثانية ثم جد زياد في طلب أصحاب حجر و أتى بقبيصة بن ضبعة العبسي بأمان فحبسه و جاء قيس بن عباد الشبلي برجل من قومه من أصحاب حجر فأحضره زياد و سأله عن علي فأثنى عليه فضربه و حبسه و عاش قيس بن عباد حتى قاتل مع ابن الأشعث ثم دخل بيته في الكوفة و سعى به إلى الحجاج فقتله ثم أرسل زياد إلى عبد الله ابن خليفة الطائي من أصحاب حجر فتوارى و جاء الشرط فأخذوه و نادات أخته الفرار بقومه فخلصوه فأخذ زياد عدي بن حاتم و هو في المسجد و قال : إئتني بعبد الله و خبره جهرة فقال : آتيك بابن عمي تقتله ؟ و الله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فحبسه فنكر ذلك الناس و كلموه و قالوا تفعل هذا بصاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم و كبير طيء قال : أخرجه على أن يخرج ابن عمه عني فأطلقه و أمر عدي عبد الله أن يلحق بجبل طيء فلم يزل هنالك حتى مات و أتى زياد بكريم بن عفيف الخثعمي من أصحاب حجر و غيره و لما جمع منهم اثني عشر في السجن دعا برؤوس الأرباع يومئذ و هم عمرو بن حريث على ربع أهل المدينة و خالد بن عرفطة على ربع تميم و همدان و قيس ابن الوليد على ربع ربيعة و كندة و أبو بردة بن أبي موسى على ربع مذحج و أسد فشهدوا كلهم أن حجرا جمع الجموع و أظهر شتم معاوية و دعا إلى حربه و زعم أن الأمر لا يصلح إلا في الطالبيين و وثب بالمصر و أخرج العامل و أظهر غدر أبي تراب و الترحم عليه و البراءة من عدوه و أهل حربه و أن النفر الذين معه و هم رؤس أصحابه على مقدم رأيه ثم استكثر زياد من الشهود فشهد إسحق و موسى إبنا طلحة و المنذر ابن الزبير و عمارة بن عقبة بن أبي معيط و عمر بن سعد بن أبي وقاص و غيرهم و في الشهود شريح بن الحرث و شريح بن هانئ ثم استدعى زياد وائل بن حجر الحضرمي و كثير ابن شهاب و دفع إليهما حجر بن عدي و أصحابه و هم الأرقم بن عبد الله الكندي و شريك بن شداد الحضرمي و صيفي بن فضيل الشيباني و قبيصة بن ضبيعة العبسي و كريم ابن عفيف الخثعمي و عاصم بن عوف البجلي و ورقاء بن سمي البجلى و كرام بن حبان العتري و عبد الرحمن بن حسان العنزي و محرز بن شهاب التميمي و عبد الله بن حوية السعدي ثم أتبع هؤلاء الإحدى عشر و محرز بن شهاب التميمي و عبد الله بن حوية السعدي ثم أتبع هؤلاء الإحدى عشر بعتبة بن الأخنس من سعد بن بكر و سعد بن غوات الهمداني و أمرهما أن يسيرا بهم إلى معاوية ثم لحقها شريح بن هانئ و دفع كتابه إلى معاوية بن وائل و لما انتهوا إلى مرج غدراء قريب دمشق تقدم ابن وائل و كثير إلى معاوية فقرأ كتاب شريح و فيه بلغني أن زيادا كتب شهادتي و أني أشهد على حجر أنه ممن يقيم الصلاة و يؤتي الزكاة و يديم الحج و العمرة و يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر حرام الدم و المال فإن شئت فأقبله أو فدعه فقال معاوية : ما أرى هذا إلا أخرج نفسه من شهادتكم و حبس القوم بمرج غدراء حتى لحقهم عتبة بن الأخنس و سعد بن غوات اللذين ألحقها زياد بها و جاء عامر بن الأسود العجيلي إلى معاوية فأخبره بوصولهما فاستوهب يزيد بن أسد البجلي عاصما و ورقاء إبني عمه و قد كتب يزيد يزكيهما و يشهد ببراءتهما فأطلقهما معاوية و شفع وائل بن حجر في الأرقم و أبو الأعور السلمي في ابن الأخنس و حبيب بن سلمة في أخويه فتركهم و سأله مالك بن هبيرة السكوني في حجر فرده فغضب و حبس في بيته و بعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي و الحسين بن عبد الله الكلابي و أبا شريف البدري إلى حجر و أصحابه ليقتلوا منهم من أمرهم بقتله فأتوهم و عرض عليهم البراءة من علي فأبوا وصلوا عامة ليلتهم ثم قدموا من الغد للقتل و توضأ حجر و صلى و قال : لولا أن يظنوا بي الجزع من الموت لاستكثرت منها اللهم إنا نستعديك على أمشاء أهل الكوفة يشهدون علينا و أهل الشام يقتلوننا ثم مشى إليه هدبة بن فياض بالسيف فارتعد فقالوا : كيف و أنت زعمت أنك لا تجزع من الموت ؟ فابرأ من صاحبك و ندعك
فقال : و ما لي لا أجزع و أنا بين القبر و الكفن و السيف و إن جزعت من الموت لا أقول ما يسخط الرب فقتلوه و قتلوا ستة معه و هم شريك بن شداد و صيفي بن فضيل و قبيصة و محرز بن شهاب و كرام بن حبان و دفنوهم و صلوا عليهم بعبد الرحمن بن حسان العنزي وجيء بكريم بن الخثعمي إلى معاوية فطلب منه البراءة من علي فسكت و استوهبه سمرة بن عبد الله الخثعمي من معاوية فوهبه له على أن لا يدخل الكوفة فنزل إلى الموصل ثم سأل عبد الرحمن بن حسان عن علي فأثنى خيرا ثم عن عثمان فقال : أول من فتح باب الظلم و أغلق باب الحق فرده إلى زياد ليقتله شر قتلة فدفنه حيا و هو سابع القوم و أما مالك بن هبيرة السكوني فلما لم يشفعه معاوية في حجر جمع قومه و سار ليخلصه و أصحابه فلقي القتلة و سألهم فقالوا مات القوم و سار إلى عدي فتيقتن قتلهم فأرسل في إثر القتلة فلم يدركوهم و أخبروا معاوية فقال : تلك حرارة يجدها في نفسه و كأني بها قد طفئت ثم أرسل إليه بمائة ألف و قال : خفت أن يعيد القوم حربا فيكون على المسلمين أعظم من قتل حجر فطابت نفسه و لما بلغ عائشة خبر حجر و أصحابه أرسلت عبد الرحمن بن الحرث إلى معاوية يشفع فيهم فجاء و قد قتلوا فقال لمعاوية : أين غاب عنك حلم أبي سفيان ؟ فقال : حيث غاب علي مثلك من حلماء قومي و حملني ابن سمية فاحتملت و أسفت عائشة لقتل حجر و كانت تثني عليه و قيل في سياقة الحديث غير ذلك و هو أن زيادا أطال الخطبة في يوم جمعة فتأخرت الصلاة فأنكر حجر و نادى بالصلاة فلم يلتفت إليه و خشي فوت الصلاة فحصبه بكف من الحصباء الصلاة فقام الناس معه فخافهم زياد و نزل فصلى و كتب إلى معاوية و عظم عليه الأمر فكتب إليه أن يبعث به موثقا في الحديد و بعث من يقبض عليه فكان ما مر
ثم قبض عليه وحمله إلى معاوية فلما رآه معاوية أمر بقتله فصلى ركعتين و أوصى من حضره من قومه لا تفكوا عني قيدا و لا تغسلوا دما فإني لاق معاوية غدا على الجادة و قتل و قالت عائشة لمعاوية : أين حملك عن حجر ؟ قال : لم يحضرني رشيد و كان زياد قد ولى الربيع بن زياد الحارثي على خراسان سنة إحدى و خمسين بعد أن هلك حسن بن عمر الغفاري و بعث معه من جند الكوفة و البصرة خمسين ألفا فيهم بريدة بن الحصيب و أبو برزة الأسلمي من الصحابة و غزا بلخ ففتحها صلحا و كانوا انتقضوا بعد صلح الأحمق بن قيس ثم فتح قهستان عنوة و استحلم من كان بناحيتها من الترك و لم يفلت منهم إلا قيزل طرخان و قتله قتيبة ابن مسلم في ولايته فلما بلغ الربيع بن زياد بخراسان قتل حجر سخط لذلك و قال : لا تزال العرب تقتل بعده صبرا و لو نكروا قتله منعوا أنفسهم من ذلك لكنهم أقروا فذلوا ثم دعا بعد صلاة جمعة لأيام من خبره و قال للناس : إني قد مللت الحياة و إني داع فأمنوا ثم رفع يديه و قال : اللهم إن كان لي عندك خبر فاقبضني إليك عاجلا و أمن الناس ثم خرج فما تواترت ثيابه حتى سقط فحمل إلى بيته و استخلف إبنه عبد الله و مات من يومه ثم مات ابنه بعده بشهرين و استخلف خليد ابن عبد الله الحنفي و أقره زياد (3/12)
وفاة زياد
ثم مات زياد في رمضان ثلاث وخمسين بطاعون أصابه في يمينه يقال بدعوة ابن عمر و ذلك أن زيادا كتب إلى معاوية إني ضبت العراق بشمالي و يميني فارغة فاشغلها بالحجاز فكتب له عهده بذلك و خاف أهل الحجاز و أتوا عبد الله بن عمر يدعوهم الله أن يكفيهم ذلك فاستقبل القبلة و دعا معهم و كان من دعائه : اللهم اكفناه ثم كان الطاعون فأصيب في يمينه فأشير عليه بقطعها فاستدعى شريحا القاضي فاستشاره فقال إن يكن الأجل فرغ فتلقى الله أجذم كراهية في لقائه و إلا فتعيش أقطع و يعير ولدك فقال : لا أبيت و الطاعون في لحاف واحد و اعتزم على قطعها فلما نظر إلى النار و المكاوي جزع و تركه و قيل تركه لإشارة شريح و عذل الناس شريحا في ذلك فقال : المستشار مؤتمن و لما حضرته الوفاة قال له ابنه : قد هيأت لكفنك ستين ثوبا فقال : يابني قددنا لأبيك خير من لباسه ثم مات و دفن بالتوسة قرب الكوفة و كان يلبس القميص و يرقعه و لما مات استخلف على الكوفة عبد الله بن خالد بن أسيد و كان خليفته على البصرة عبد الله بن عمر بن غيلان و عزل بعد ذلك عبد الله بن خالد عن الكوفة و ولى عليها الضحاك بن قيس (3/17)
ولاية عبيد الله بن زياد على خراسان ثم على البصرة
و لما قدم إبنه عبيد الله على معاوية و هو ابن خمسين و عشرين سنة قال : من استعمل أبوك على المصرين ؟ فأخبره فقال : لو استعملك لاستعملتك فقال عبيد الله : أنشدك الله أن تقول لي أحد بعدك لو استعملك أبوك و عمك استعملتك فولاه خراسان و وصاه فكان من وصيته : إتق الله و لا تؤثرن على تقواه شيئا فإن في تقواه عوضا وق عرضك من أن تدنسه و إن أعطيت عهدا فأزف به و لا تتبعن كثيرا بقليل و لا يخرجن منك أمر حتى تبرمه فإذا خرج فلا يردن عليك و إذا لقيت عوك فكبر أكبر من معك و قاسمهم على كتاب الله و لا تطمعن أحدا في غير حقه و لا تؤيسن أحدا من حق هو له ثم ودعه فسار إلى خراسان أولرسنة أربع و خمسين و قدم إليها أسلم بن زرعة الكلابي ثم قدم فقطع النهر إلى جبال بخارى على الإبل ففتح رامين و نسف و سكند و لقيه الترك فهزمهم و كان مع ملكهم امرأته خاتون فأعجلوها عن لبس خفيها فأصاب المسلمون أحدهما و قوم بمائتي ألف درهم و كان عبيد الله ذلك اليوم يحمل عليهم و هو يطعن حتى يغيب عن أصحابه ثم يرفع رايته تقطر دما و كان هذا الزحف من زحوف خراسان المعدودة و كانت أربعة منها للأحنف بن قيس بقهستان و المرعات و زحف لعبد الله بن حازم قضى فيه حموع فاران و أقام عبيد الله واليا على خراسان سنتين و ولاه معاوية سنة خمس و خمسين على البصرة و ذلك أن ابن غيلان خطب و هو أمير على البصرة فحصبه رجل من بني ضبة فقطع يده فأتاه بنو ضبة يسألونه الكتاب إلى معاوية بالاعتذار عنه و أنه قطع على أمر لم يصح مخافة أن يعاقبهم جميعا فكتب لهم و سار ابن غيلان إلى معاوية رأس السنة و أوفاه الضبيون بالكتاب فادعوا أن ابن غيلان قطع صاحبهم ظلما فلما قرأ معاوية الكتاب قال : أما القود من عمالي فلا سبيل إليه و لكن أدي صاحبكم من بيت المال و عزل عبد الله بن غيلان عن البصرة و استعمل عليها عبيد الله بن زياد فسار إليها عبيد الله و ولى على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي فلم يغز و لم يفتح (3/18)
العهد ليزيد
ذكر الطبري بسنده قال : قدم المغيرة على معاوية فشكا إليه الضعف فاستعفاه فأعفاه و أراد أن يولي سعيد بن العاص و قال أصحاب المغيرة للمغيرة : إن معاوية قلاك فقال له : رويدا و نهض إلى يزيد و عرض له بالبيعة و قال ذهب أعيان الصحابة و كبراء قريش و رادوا أسنانهم و إنما بقي أبناؤهم و أنت من أفضلهم و أحسنهم رأيا و سياسة و ما أدري ما يمنع أمير المؤمنين من العهد لك فأدى ذلك يزيد إلى أبيه و استدعاه و فاوضه في ذلك فقال : قد رأيت ما كان من الاختلاف و سفك الدماء بعد عثمان و في يزيد منك خلف فاعهد له يكون كهفا للناس بعدك فلا تكون فتنة و لا يسفك دم و أنا أكفيك الكوفة و يكفيك ابن زياد البصرة فرد معاوية المغيرة إلى الكوفة و أمره أن يعمل في بيعة يزيد فقدم الكوفة و ذاكر من يرجع إليه من شيعة بني أمية فأجابوه و أوفد منهم جماعة مع إبنه موسى فدعاه إلى عقد البيعة ليزيد فقال : أوقد رضيتموه ؟ قالوا : نعم ! نحن و من وراءنا فقال : ننظر ما قدمتم له و يقضي الله أمره و الأناة خير من العجلة ثم كتب إلى زياد يستنيره بفكر و كف عن هدم دار سعيد و كتب سعيد إلى معاوية يعذله في إدخال الظعينة بين قرابته و يقول لو لم تكن بني أب واحد لكانت قرابتنا ما جمعنا الله عليه من نصرة الخليفة المظلوم يجب عليك أن تدعي ذلك فاعتذر له معاوية و تنصل و قدم سعيد عليه و سأله عن مروان فأثنى خيرا فلما كان سنة سبع و خمسين عزل مروان و و لى مكانه الوليد بن عتيبة بن أبي سفيان و قيل سنة ثمان (3/19)
عزل الضحاك عن الكوفة و ولاية ابن أم الحكم ثم النعمان بن بشير
عزل معاوية الضحاك عن الكوفة سنة ثمان و خمسين و ولى مكانه عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان الثقفي و هو ابن أم الحكم أخت معاوية فخرجت عليه الخوارج الذين كان المغيرة حبسهم في بيعة المستورد بن علقمة و خرجوا من سجنه بعد موته فاجتمعوا على حيان بن ضبيان السلمي و معاذ بن جرير الطائي فسير إليهم عبد الرحمن الجيش من الكوفة فقتلوا أجمعين كما يذكر في أخبار الخوارج ثم إن أهل الكوفة نقلوا عن عبد الرحمن سوء سيرته فعزله معاوية عنهم و ولى مكانه النعمان بن بشير قال : أوليك خيرا من الكوفة فولاه مصر كان عليها معاوية بن خديج السكوني و سار إلى مصر فاستقبله معاوية على مرحلتين منها و قال : إرجع إلى حالك لا تسرفينا سيرتك في إخواننا أهل الكوفة فرجع إلى معاوية و أقام معاوية بن خديج في عمله (3/21)
ولاية عبد الرحمن بن زياد خراسان
وفي سنة تسع و خمسين قدم عبد الرحمن بن زياد وافدا على معاوية فقال : يا أمير المؤمنين أما لنا حق ؟ قال : بلى ! فماذا قال توليني ؟ قال : بالكوفة النعمان بن بشير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و بالبصرة و خراسان عبيد الله أخوك و بسجستان عباد أخوك و لا أرى ما يشبهك إلا أن أشركك في عمل عبيد الله فإن عمله واسع يحتمل الشركة فولاه خراسان فسار إليها و قدم بين يديه قيس بن الهيثم السلمي فأخذ أسلم بن زرعة و حبسه ثم قدم عبد الرحمن فأغرمه ثلثمائة ألف درهم و أقام في بخراسان و كان متضعفا لم يقر قط و قدم على يزيد بين يدي قتل الحسين فاستخلف على خراسان قيس بن الهيثم فقال له يزيد : كم معك من مال خراسان ؟ قال عشرون ألف درهم فخيره بين أخذها بالحساب ورده إلى عمله أو تسويغة إياها و عزله على أن يعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم فاختار تسويغها و العزل و بعث إلى ابن جعفر بألف ألف و قال نصفها من يزيد و نصفها مني ثم إن أهل االبصرة وفدوا مع عبيد الله بن زياد على معاوية فأذن له على منازلهم و دخل الأحنف آخرهم و كان هيأ المنزلة من عبيد الله فرحب به معاوية و أجلسه على سريره ثم تكلم القوم و أثنوا على عبيد الله و سكت الأحنف فقال معاوية : تكلم با أبا بحر فقال أخشى خلاف القوم فقال : انهضوا فقد عزلت عنكم عبيد الله و اطلبوا واليا ترضونه فطفق القوم يختلفون إلى رجال بني أمية و أشراف الشام و قعد الأحنف في منزله ساكت فقال معاوية : تكلم يا أبا بحر فقال : إن وليت علينا من أهل بيتك لم نعدل بعبيد الله أحدا و إن وليت من غيرهم ينظر في ذلك قال : فإني أعدته عليكم ثم أوصاه بالأحنف و قبح رأيه في مباعدته و لما هاجت الفتنة لم يعزله غير الأحنف ثم أخذ على وفد البصرة البيعة لابنه يزيد معهم (3/22)
بقية الصوئف
دخل بسر بن أرطأة سنة إثنتين و خمسين أرض الروم و شتى بها و قيل رجع و نزل هناك سفيان بن عوف الأزدري فشتى بها و توفي هناك و غزا بالصائفة محمد بن عبد الله الثقفي ثم دخل عبد الرحمن ابن أم الحكم سنة ثلاث و خمسين إلى أرض الروم و شتى بها و افتتحت في هذه السنة رودس فتحها جنادة بن أبي أمية الأزدي و نزلها المسلمون على حذر من الروم ثم كانوا يعترضونه في البحر و يأخذون سفنه و كان معاوية يدركهم بالعطاء حتى خافهم الروم ثم نقلهم يزيد في ولايته ثم دخل سنة أربع و خمسين إلى بلاد الروم محمد بن مالك و شتى بها و غزا بالصائفة ابن يزيد السلمي و فتح المسلمون جزيرة أروى قرب القسطنطينية و مقدمهم جنادة بن أبي أمية فملكوها سبع سنين و نقلهم يزيد في ولايته و في سنة خمس و خمسين كان شتى سفيان بن عوف بأرض الروم و قيل عمر بن محرز و قيل عبد الله بن قيس و في سنة ست و خمسين كان شتى جنادة بن أبي أمية و قيل عبد الرحمن بن مسعود و قيل غزا في البحر يزيد ابن سمرة و في البر عياض بن الحرث و في سنة سبع و خمسين كان شتى عبد الله بن قيس بأرض الروم و غزا مالك بن عبد الله الخثعمي في البر و عمر بن يزيد الجهني في البحر و في سنة ثمان و خمسين كان شتى عمر بن مرة الجهني بأرض الروم و غزا في البحر جنادة بن أمية و فتح المسلمون في هذه السنة حصن كفخ من بلاد الروم و عليهم عمير بن الحباب السلمي صعد سورها و قاتل عليه وحده حتى انكشف الروم و فتحه و في سنة ستين غزا مالك بن عبد الله سوية وملك جنادة بن أبي أمية رودس و هدم مدينتها
وفاة معاوية : و توفي معاوية سنة ستين و كان خطب الناس قبل موته و قال : إني كزرع مستحصد و قد طالت إمارتي عليكم حتى مللتكم و مللتموني و تمنيت فراقكم و تمنيتم فراقي و لن يأتيكم بعدي إلا من أنا خير منه كما أن من كان قبلي خير مني و قد قيل من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي و بارك لي فلم يمض إلا قليل حتى ازداد به مرضه فدعا إبنه يزيد و قال : يابني إني قد كفيتك الرحلة و الترحال و وطأت لك الأمور و أخضعت لك رقاب العرب و جمعت لك ما لم يجمعه أحد و إني أخاف عليك أن ينازعك هذا الأمر الذي انتسب لك إلا أربعة نفر من قريش : الحسين بن علي و عبد الله بن عمر و عبد الله بن الزبير و عبد الرحمن بن أبي بكر فأما ابن عمر فرجل قد و قذته العبادة و إذا لم يبق غيره بايعك و أما الحسين فإن أهل العراق لم يدعوه حتى يخرجوه فإن خرج عليك فظفرت به فاصفح عنه فإن له رحما ما مثله و حقا عظيما و أما ابن أبي بكر فإن رأى أصحابه صنعوا شيئا صنع مثله و ليس له همة إلا في النساء و أما الذي يجثم لك جثوم الأسد و يراوغك روغان الثعلب و إذا أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزبير فإن هو فعلها بك و قدرت عليه فقطعه إربا إربا هذا حديث الطبري عن هاشم و له عن هاشم من طريق آخر قال : لما حضرت وفاة معاوية سنة ستين كان يزيد غائبا فدعا بالضحاك بن قيس الفهري و كان صاحب شرطته و مسلم بن عتبة المزني فقال : أبلغا يزيد وصيتي أنظر أهل الحجاز فإنهم أهلك فأكرم من قدم إليك منهم و تعاهد من غاب و انظر أهل العراق فإن سألوك أن تعزل عنهم عاملا فافعل فإن عزل عامل أخف من أن يشهر عليك مائة ألف سيف و انظر أهل الشام فليكونوا بطانتك و عيبتك و إن رابك شيء من عدوك فانتصر بهم فإذا أصبتم فاردد أهل الشآم إلى بلادهم لإنهم إن قاموا بغير بلادهم تغيرت أخلاقهم و لست أخاف عليك من قريش إلا ثلاثا و لم يذكر في هذا الطريق عبد الرحمن بن أبي بكر و قال في ابن عمر : قد وقذه الدين فليس ملتمسا شيئا قبلك و قال في الحسين : و لو أني صاحبه عفوت عنه و أنا أرجو أن يكفيك الله بمن قتل أباه و خذل أخاه و قال في ابن الزبير : إذا شخص إليك فالبد له إلا أن يلتمس منك صلحا فأقبل واحقن دماء قومك ما استطعت
و توفي في منتصف رجب و يقال جمادي لتسع عشرة سنة و أشهر من ولايته و كان على خاتمه عبد الله بن محصن الحميري و هو أول من اتخذ ديوان الخاتم و كان سببه أنه أمر لعمر بن الزبير بمائة ألف درهم و كتب له بذلك إلى زياد بالعراق ففض عمر الكتاب و صير المائة مائتين فلما رفع زياد حسابه أنكرها معاوية و أخذ عمر بردها و حبسه فأداها عنه أخوه عبد الله فأحدث عند ذلك ديوان الخاتم و حزم الكتب و لم تكن تحزم و كان على شرطته قيس بن همزة الهمداني فعزله ابن بيد بن عمر العدوي و كان على حرسه المختار من مواليه و قيل أبو المحارى مالك مولى حميرة و هو أول من أتخذ الحرس و على حجابه مولاه سعد و كان كاتبه و صاحبه أمره سرجون بن منصور الرومي و على القضاء فضالة بن عبد الله الأنصاري و بعده أبو دويس عائذ بن عبد الله الخولاني (3/22)
بيعة يزيد
بويع يزيد بعد موت أبيه و على المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان و على مكة عمر ابن سعيد بن العاص وعلى البصرة عبيد الله بن زياد و على الكوفة النعمان بن بشير و لم يكن همه إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعته فكتب إلى الوليد بموت معاوية و أن يأخذ حسينا و ابن عمر و ابن الزبير بالبيعة من غير رخصة فلما قرأ مروان الكتاب بنعي معاوية استرجع و ترحم و استشار الوليد في أمر أولئك النفر فأشار عليه أن يحضرهم لوقته فإن بايعوا و إلا قتلهم قبل أن يعلموا بموت معاوية فيثب كل رجل منهم في ناحية و إلا ابن عمر فإنه لا يحب القتال و لا يحب الولاية و إلا أن يرفع إليه الأمر فبعث عبد الله بن عمرو بن عثمان و هو غلام حدث فجاء إلى الحسين و ابن الزبير في المسجد في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس و قال : أجيبا الأمير فقالا : لا تنصرف إلا أن نأتيه ثم حدثا فيما بعث إليهما فلم يعلموا ما وقع و جمع الحسين فتيانه و أهل بيته و سار إليه فأجلسهم بالباب و قال إن دعوتكم أو سمعتم صوتي فادخلوا بأجمعكم ثم دخل فسلم و مروان عنده فشكرهما على الصلة بعد القطيعة و دعا بإصلاح ذات البين فأقراه الوليد الكتاب بنعي معاوية و دعاه إلى البيعة فاسترجع و ترحم و قال : مثلي لا يبايع سرا و لا يكتفي بها مني فإذا ظهرت إلى الناس و دعوتهم كان أمرنا واحدا و كنت أول مجيب فقال الوليد و كان يحب المسالمة : انصرف فقال مروان : لا يقدر منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينك و بينهم ألزمه البيعة و إلا اضرب عنقه فوثب الحسين و قال أنت تقتلني أو هو ! كذبت و الله ! و انصرف إلى منزله و أخذ مروان في عذل الوليد فقال : يامروان و الله ما أحب أن لي ما طلعت الشمس من مال الدنيا و ملكها و أني قتلت الحسين إن قال لا أبايع و أما ابن الزبير فاختفى في داره و جمع أصحابه و ألح الوليد في طلبه و بعث مواليه فشتموه و هددوه و أقاموا ببابه في طلبه فبعث ابن الزبير أخاه جعفرا يلاطف الوليد و يشكو ما أصابه من الذعر و يعده بالحضور من الغداة و أن يصرف رسله من بابه فبعث إليهم و انصرفوا و خرج ابن الزبير من ليلته مع أخيه جعفر وحدهما و أخذا طريق الفراع إلى مكة فسرح الرحالة في طلبه فلم يدركوه و رجعوا و تشاغلوا بذلك عن الحسين سائر يومه ثم أرسل إلى الحسين يدعوه فقال : أصبحوا و ترون و فري و سار في الليلة الثانية ببنيه و إخوته و بني أخيه إلا محمد بن الحنفية و كان قد نصحه و قال تنح عن يزيد و عن الأمصار ما استطعت و ابعث دعاتك إلى الناس فإن أجابوك فاحمد الله و إن اجتمعوا على غيرك يضر بذلك دينك و لا عقلك و لم تذهب به مروأتك و لا فلك و أنا أخاف أن تأتي مصرا أو قوما فيخلفون عليك فتكون الأول إساءة فإذا خير الأمة نفسا و أبا أضيعها ذمارا و أذلها قال له الحسين : فإني ذاهب قال : إنزل مكة فإن إطمأنت بك الدار فسبيل ذلك و إن فاتت بك لحقت بالرمال و شعب الجبال و من بلد إلى آخر حتى ننظر مصير أمر الناس و تعرف الرأي فقال يا أخي نصحت و أشفقت ! و لحق بمكة و بعث الوليد إلى ابن عمر ليبايع فقال : أنا أبايع أمام الناس و قيل الناس و قيل ابن عمر و ابن عباس كانا بمكة و رجعا إلى المدينة فلقيا الحسين و ابن الزبير و أخبرهما بموت معاوية و بيعة يزيد فقال ابن عمر : لا تفرقا جماعة المسلمين و قدم هو و ابن عباس المدينة و بايعا عنه بيعة الناس و لما دخل ابن الزبير مكة و عليها عمر بن سعيد قال : أنا عائد بالبيت و لم يكن يصلي و لا يقف معهم و يقف هو و أصحابه ناحية (3/24)
عزل الوليد عن المدينة و ولاية عمر بن سعيد
و لما بلغ الخبر إلى يزيد بصنيع الوليد بن عتبة في أمر هؤلاء النفر عزله عن المدينة و استعمل عليها عمر بن سعيد الأشرق فقمها في رمضان و استعمل على شرطته عمر ابن الزبير بالمدينة لما كان بينه و بين أخيه من البغضاء و أحضر نفرا من شيعة الزبير بالمدينة فضربهم من الأربعين إلى الخمسين إلى الستين منهم المنذر بن الزبير و ابنه محمد و عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث و عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام و محمد ابن عمار بن ياسر و غيرهم ثم جهز البعوث إلى مكة سبعمائة أو نحوها و قال لعمر بن الزبير : من نبعث إلى أخيك ؟ فقال : لا تجد رجلا أنكى له مني فجهز معه سعمائة مقاتل فيهم أنيس بن عمرو الأسلمي و عذله موران بن الحكم في غزو مكة و قال له : إتق الله و لا تحل حرمة البيت فقال : و الله لنغزونه في جوف الكعبة و جاء أبو شريح الخزاعي إلى عمر بن سعيد فقال : سمعت رسول الله الله يقول : إنما أذن لي بالقتال فيها ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس فقال له عمر : نحن أعلم بحرمتها منك أيها الشيخ و قيل إن يزيد كتب إلى عمر بن سعيد أن يبعث عمر بن الزبير بالجيش إلى أخيه فبعثه في ألفي مقاتل و على مقدمته أنيس فنزل أنيس بذي طوى و نزل عمر بالأبطح و بعث إلى أخيه أن بريمين يزيد فإنه حلف أن لا يقبل بيعة إلا بيعة إلا أن يؤتي بك في جامعة فلا يضرب الناس بعضهم بعضا فإنك في بلد حرام فأرسل عبد الله بن الزبير من اجتمع له من أهل مكة مع عبد الله بن صفوان فهرموا أنيسا بذي طوى و قتل أنيس في الهزيمة و تخلف عن عمر بن الزبير أصحابه فدخل دار ابن علقمة و أجاره عبدة بن الزبير و قال لأخيه : قد أجرته فأنكر ذلك عليه و قيل : إن صفوان قال لعبد الله بن الزبير : أكفني أخاك أنا أكفيك أنيس بن عمرو و سار إلى أنيس فهزمه و قتله و سار مصعب بن عبد الرحمن إلى عمر فتفرق عنه أصحابه و أجاره أخوه عبدة فلم يجز أخوه عبد الله جواره و ضربه بكل من ضربة بالمدينة و حبسه بسجن عارم و مات تحت السياط (3/26)
مسير الحسين إلى الكوفة و مقتله
و لما خرج الحسين إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع و سأله أين تريد ؟ فقال : مكة و أستخير الله فما بعد فنصحه أن لا يقرب الكوفة و ذكره قتلهم أباه و خذلانهم أخاه و أن يقيم بمكة لا يفارق الحرم حتى يتداعى إليه الناس و رجع عنه و ترك الحسين بمكة فأقام و الناس يختلفون إليه و ابن الزبير في جانب الكعبة يصلي و يطوف عامة النهار و ياتي الحسين فيمن يأتي و يعلم أن أهل الحجاز لا يلقوا إليه مع الحسين و لما بلغ أهل الكوفة بيعة يزيد و لحاق الحسين بمكة اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد و كتبوا إليه عن نفر منهم سليمان و المسيب بن محمد و رفاعه بن شداد و حبيب ابن مظاهر و غيرهم يستدعونه و أنهم لم يبايعوا للنعمان و لا يجتمعوا معه في جمعة و لا عيد و لو جئتنا أخرجناه و بعثوا بالكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني و عبد الله بن وال ثم كتبوا إليه بعد ليلتين نحو مائة و خمسين صحيفة ثم ثالثا يستحثونه للحاق بهم كتب له بذلك شيب بن ربعي و حجاز بن ابجر و يزيد بن الحرث و يزيد بن رويم و عروة بن قيس و عمر بن الحجاج الزبيدي و محمد بن عمير التميمي فأجابهم الحسين : فهمت ما قصصتم و قد بعثت إليكمم ابن عمي و ثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل يكتب إلي بأمركم و رأيكم فإن اجتمع ملؤكم على ما قدمت به رسلكم أقدم عليكم قريبا و لعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب القائم بالقسط الدين بدين الحق و سار مسلم فدخل المدينة و صلى في المسجد و ودع أهله و استأجر دليلين من قيس فضلا الطريق و عطش القوم فمات الدليلان بعد أن أشارا إليهم بموضع الماء فانتهوا إليه و شربوا و نجوا فتطير مسلم من ذلك و كتب إلى الحسين يستعفيه فكتب إليه خشيت أن يكون حملك على ذلك إلا الجبن فامض لوجهك و السلام و سار مسلم فدخل الكوفة أول ذي الحجة من سنة ستين و اختلف إليه الشيعة و قرأ عليهم كتاب الحسين فبكوا و وعدوه النصر وعلم مكانه النعمان بن بشير أمير الكوفة و كان حليما يجنح إلى المسالمة فخطب و حذر الناس الفتنة و قال : لا أقاتل من لا يقاتلني و لا آخذ بالظنة و التهمة و لكن إن نكثتم بيعتكم و خالفتم إمامكم فوالله لأضربنكم بسيفي ما دام قائمته بيدي و لو لم يكن لي ناصر فقال له بعض حلفاء بني أمية : لا يصلح ما ترى إلا الغشم و هذا الذي أنت عليه مع عدوك رأي المستضعفين فقال : أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله ثم تركه فكتب عبد الله بن مسلم و عمارة بن الوليد و عمارة بن سعد بن أبي وقاص إلى يزيد بالخبر و تضعف النعمان و ضعفه فابعث إلى الكوفة رجلا قويا ينفد أمرك و يعمل عملك في عدوك فأشار عليه سرجون (3/27)
مسيرة المختار إلى الكوفة و أخذها من ابن المطيع بعد كربلاء
مضى إبراهيم إلى المختار و أخبره الخبر و بعثوا في الشيعة و نادوا بثأر الحسين و مضى إبراهيم إلى النخع فاستركبهم و سار بهم في المدينة ليلا و هو يتجنب المواضع التي فيها الأمراء ثم لقي بعضهم فهزمهم ثم آخرين كذلك ثم رجع إلى المختار فوجد شيث بن ربعي و حجار بن أبجر العجلي يقاتلانه فهزمهما و حاشب بن المطيع فأشار إليه بجمع الناس و النهوض إلى القوم فولى أمرهم فركب و اجتمه الناس و توافى إلى المختار نحو أربع آلاف من الشيعة و بعث ابن مطيع شيث بن ربعي في ثلاثة آلاف و ربع بن إياس في أربعة آلاف فسرح إليهم المختار إبراهيم بن الأشتر لراشد في ستمائة فارس و ستمائة راجل و نعيم بن هبيرة لشيث في ثلثمائة فارس و ستمائة راجل و اقتتلوا من بعد صلاة الصبح و قتل نعيم فوهن المختار و ظهر شيث و أصحابه عليهم و قاتل إبراهيم بن الأشتر راشد بن إياس فقتله و انهزم أصحابه و ركبهم الفشل و بعث ابن المطيع جيشا كثيفا فهزمهم ثم حمل على شيث فهزمه و بعث المختار فمنعه الرماة من دخول الكوفة و رجع المنهزمون إلى ابن مطيع فدهش فشجعه عمر ابن الحجاج الزبيدي و قال له : أخرج و اندب الناس ففعل و قام في الناس و وبخهم على هزيمتهم و ندبهم ثم بعث عمر بن الحجاج في ألفين و شمر بن ذي الجوشن في ألفين و نوفل بن مساحق في خمسة آلاف و وقف هو بكتائبه و اختلف على القصر شيث بن ربعي فحمل ابن الأشتر على ابن مساحق فهزمه و أسره ثم من عليه و دخل ابن مطيع القصر و حاصره إبراهيم محمد الأشتر ثلاثا و معه يزيد بن أنس و أحمد بن شميط و لما اشتد الحصار على ابن مطيع أشار عليه بن ربعي بأن يستأمن للمختار و يلق بابن الزبير و له ما يعده فخرج عنهم مساء و نزل دار أبي موسى و أستأمن القوم للمختار فدخل القصر و غدا على الناس في المسجد فخطبهم و دعاهم إلى بيعة ابن الحنفية فبايعه أشراف الكوفة على الكتاب و السنة و اللطف بأهل البيت و وعدهم بحسن السيرة و بلغة أن ابن مطيع في دار موسى فبعث إليه بمائة ألف درهم و قال يجهز بهذه و كان ابن مطيع قد فرق بيوت الأموال على الناس و سار ابن مطيع إلى وجهه و ملك الكوفة و جعل على شرطته عبد الله بن كامل و على حرسه كيسان أبا عمرة و جعل الأشراف جلساءه و عقد لعبد الله بن الحرث بن الأشتر على أرمينية و لمحمد بن عمير بن عطارد على أذربيجان و لعبد الرحمن بن سعيد بن قيس على الموصل و لا سحق بن مسعود على المدائن و لسعد بن حذيفة بن اليمان على حلوان و أمره بقتال الكراد و إصلاح السابلة و ولى شريحا على القضاء ثم طعنت فيه الشيعة بأنه شهد على حجر بن عدي و لم يبلغ عن هانىء بن عروة رسالته إلى قومه و أن عليا غرمه و أنه عثماني و سمع ذلك هو فتمارض فجعل مكانه عبد الله بن عتبة بن مسعود ثم مرض فولى مكانه عبد الله بن مالك الطائي (3/30)
مسيرة ابن زياد إلى المختار و خلافة أهل الكوفة عليه
كان مروان بن الحكم لما استوثق له الشآم بعث جيشين أحدهما إلى الحجاز مع جيش ابن دلجة القيني و قد شاته و مقتله و الآخر إلى العراق مع عبيد الله بن زياد فكان من أمره و أمر التوابين من الشيعة ما تقدم و أقام محاصرا لزفر بن الحرث بقرقيسيا وهو مع قومه قيس على طاعة ابن الزبير فاشتغل بهم عن العراق سنة أو نحوها ثم توفي مروان و ولي بعده عبد الملك فأقره على ولايته و أمره بالجد و يئس من امر زفر و قيس فنهض إلى الموصل فخرج عنها عبد الرحمن بن سعيد عامل المختار إلى تكريت و كتب إلى المختار بالخير فبعث يزيد بن أنس الأسدي في ثلاثة آلاف إلى الموصل فسار إليها على المدائن و سرح ابن زياد للقائة ربيعة بن المختار الغنوي في ثلاثة آلاف فالتقيا ببابل و عبى يزيد أصحابه و هو راكب على حمار و حرضهم و قال : إن مت فأميركم ورقاء بن عازب الأسدي و إن هلك فعبد الله بن ضمرة الفزاري و إن هلك فسعد الخثعمي ثم اقتتلوا يوم عرفة و انهزم أهل الشآم و قتل ربيعة و سار الفل غير بعيد فلقيهم عبد الله بن حملة الخثعمي قد سرحه ابن زياد في ثلاثة آلاف فرد المنهزمين و عاد القتال يوم الأضحى فانهزم أهل الشام و أثخن فيهم أهل الكوفة بالقتل و النهب و أسروا منهم ثلثمائة فقتلوهم و هلك يزيد بن أنس من آخر يومه و قام بأمرهم ورقاء بن عازب خليفتة و هاب لقاء ابن زياد بعد يزيد و قال : نرجع بموت أميرنا قبل أن يتجرأ علينا أهل الشام بذلك و انصرف الناس و تقدم الخبر إلى الكوفة فأرجف الناس بالمختار و أشيع أن يزيد قتل و سر المختار رجوع العسكر فسرح إبراهيم بن الأشتر في سبعة آلاف و ضم إليه جيش يزيد ثم تأخر ابن زياد فسار لذلك ثم اجتمع أشراف الكوفة عند شيث بن ربعي و كان شيخهم جاهليا إسلاميا و شكوا من سيرة المختار و إيثاره الموالي عليهم و دعوه إلى الوثوب به فقال : حتى ألقاه و اعذر إليه ثم ذهب إليه و ذكر له جميع ما نكروه فوعده الرجوع إلى مرادهم و ذكر له شأن الموالي و شركتهم في الفيء فقال : إن أعيتموني عهدكم على قتال بني أمية و ابن الزبير تركتهم فقال : اخرج إليهم بذلك و خرج فلم يرجع و اجتمع رأيهم على قتاله و هم شيث بن ربعي و محمد بن الأشعث و عبد الرحمن بن سعد بن قيس و شمر بن ذي الجوشن و كعب بن أبي كعب النخعي و عبد الرحمن محمد مخنف الأزدي و قد كان ابن مخنف أشار عليهم بأن يمهلوه لقدوم أهل الشآم و أهل البصرة فيكفونكم أمره قبل أن يقاتلكم بمواليكم و شجعانكم و هم عليكم أشد فأبوا من رأيه و قالوا : لا تفسد جماعتنا ثم خرجوا و شهروا السلاح و قالوا للمختار : اعتزلنا فإن ابن الحنفية لم يبعثك قال : نبعث إليه الرسل مني و منكم و أخذ يعللهم بأمثال هذه المراجعات و كف أصحابه عن قتالهم ينتظر وصول إبراهيم بن الأشتر و قد بعث إليه بالرجوع فجاء فرأى القوم مجتمعين ورفاعة بن شداد البجلي يصلي بهم فلما وصل إبراهيم عبأ المختار أصحابه و سرح بين يديه أحمد ابن شميط البخلي و عبد الله بن كامل الشادي فانهزم أصحابهما و صبرا و مدهما المختار بالفرسان و الرجال فوجا بعد فوج و سار ابن الأشتر إلى مصر و فيهم شيث ابن ربعي فقاتلوه فهزمهم فاشتد ابن كامل على اليمن و رجع رفاعة بن شداد أمامهم إلى المختار فقاتل معه حتى قتل من أهل اليمن عبد بن بن سعيد بن قيس و الفرات ابن زخر بن قيس و عمر بن مخنف و خرج أخوه عبد الرحمن فمات و انهزم أهل اليمن هزيمة قبيحة و أسر من الوادعيين خمسمائة أسير فقتل المختار كل من شهد قتل الحسين مهنم فكانوا نصفهم و أطلق الباقين و نادى المختار الأمان إلا من شهد في دماء أهل البيت و فر عمر بن الحجاج الزبيدي و كان أشد من حضر قتل الحسين فلم يوقف له على خبر و قيل أدركه أصحاب المختار فأخذوا رأسه و بعث في طلب شمر بن ذي الجوشن فقتل طالبه و انتهى إلى قرية الكلبانية فارتاح يظن أنه نجا و إذا في قرية أخرى بإزائه أبو عمرة صاحب المختار بعثه مسلخة بينه و بين أهل البصرة فنمي إليه خبره فركب إليه فقتله و ألقى شلوه للكلاب و انجلت الوقعة عن سبعمائة و ثمانين قتيلا أكثرهم من اليمن و كان آخر سنة ست و ستين و خرج أشراف الناس إلى البصرة و تتبع المختار قتله الحسين و دل على عبيد الله بن أسد الجهني و مالك بن نسير الكندي و حمل ابن مالك المحاربي بالقادسية فأحضرهم و قتلهم ثم أحضر زياد بن مالك الضبعي و عمران بن خالد العثري و عبد الرحمن بن أبي حشكارة البجلي و عبد الله ابن قيس الخولاني و كانوا نهبوا من الورث الذي مع الحسين فقتلهم و أحضر عبد الله أو عبد الرحمن بن طلحة و عبد الله بن وهيب الهمداني ابن عم الأعشى فقتلهم و أحضر عثمان بن خالد الجهني و أبا أسماء بشر بن سميط القابس و كانا مشتركين في قتل عبد الرحمن بن عقيل و في سلبه فقتلهما و حرقهما بالنار و بحث عن خولي بن يزيد الأصبحي صاحب رأس الحسين فجيء برأسه و حرق بالنار ثم قتل عمر بن سعد بن أبي وقاص بعد أن كان أخذ له الأمان منه عبد الله بن أبي جعدة ابن همبيرة فبعث أبا عمرة فجاءه برأسه و ابنه حفص عنده فقال : تعرف هذا ؟ قال : نعم ! ولا خير في العيش بعده فقتله و يقال : إن الذي بعث المختار على قتله الحسين أن يزيد بن شراحيل الأنصاري قدم على محمد بن الحنفية فقال له ابن الحنفية : يزعم المختار أنه لنا شيعة و قتلة الحسين عنده على الكراسي يحدثونه فلما سمع المختار ذلك تتبعهم بالقتل و بعث برأس عمر و ابنه إلى ابن الحنفية و كتب إليه أنه قتل من قدر عليه و هو في طلب الباقين ثم أحضر حكيم بن طفيل الطائي و كان رمى الحسين بسهم و أصاب سلب العباس ابنه و جاء عدي بن حاتم يشفع فيه فقتله ابن كامل و الشيعة قبل أن يصل حذرا من قبول المختار شفاعته و بحث عن مرة بن منقذ بن عبد القيس قاتل علي بن الحسين فدافع عن نفسه و نجا إلى مصعب بن الزبير و قد شلت يده بضربة و بحث عن زيد وفاد الحسين قاتل عبد الله بن مسلم بن عقيل رماه بسهمين و قد وضع كفه على جبهته يتقي النبل فأثبت كفه في جبهته و قتله بالأخرى فخرج بالسيف يدافع فقال ابن كامل : ارموه بالحجارة فرموه حتى سقط و أحرقوه حيا و طلب سنان بن أنس الذي كان يدعي قتل الحسين فلحق بالبصرة و طلب عمر بن صبح الصدائي فقتله طعنا بالرماح و أرسل في طلب محمد بن الأشعث و هو في قريته عند القادسية فهرب إلى مصعب و هدم المختار داره و طلب آخرين كذلك من المتهمين بأمر الحسين فلحقوا بمصعب و هدم دورهم (3/32)
شأن المختار مع ابن الزبير
كان على البصرة الحرث بن أبي ريبعة و هو القباع عاملا لابن الزبير و على شرطته عباد بن حسين و على المقاتلة قيس بن الهيثم و جاء المثنى بن مخرمة العبدي و كان ممن شهد مع سليمان بن صرد و رجع فبايع للمختار و بعثه إلى البصرة يدعو له بها فأجابه كثير من الناس و عسكر لحرب القباع فسرح إليه عباد بن حسين و قيس بن الهيثم في العساكر فانهزم المثنى إلى قومه عبد القيس و أرسل القباع عسكرا يأتونه به فجاءه زياد بن عمر العنكبي فقال له : لتردن خيلك عن إخواننا أو لنقاتلنهم فأرسل الأحنف بن قيس و أصلح الأمر على أن يخرج المثنى عنهم فسار إلى الكوفة و قد كان المختار لما أخرج ابن مطيع من البصرة كتب إلى ابن الزبير يخادعه ليتم أمره في الدعاء لأهل البيت و طلب المختار في الوفاء بما وعده به الولاية فأراد ابن الزبير أن يتبين الصحيح من أمره فولى عمر بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام على الكوفة و أعلمه بطاعة المختار و بعثه إليها و جاء الخبر إلى المختار فبعث زائدة بن قدامة في خمسمائة فارس و أعطاه سبعين ألف درهم و قال : ادفعها إلى عمر فهي ضعف ما أنفق و أمره بالانصراف بعد تمكث فإن أبى فأره الخيل فكان كذلك و لما رأى عمر الخيل أخذ المال و سار نحو البصرة و اجتمع هو و ابن مطيع في إمارة القباع قبل وثوب ابن مخرمة و قيل إن المختار كتب إلى ابن الزبير : إني اتخذت الكوفة دارا فإن سوغتني ذلك و أعطيتني مائة ألف درهم سرت إلى الشام و كفيتك مروان فمنعه من ذلك فأقام المختار بطاعته و يوادعه ليتفرغ لأهل الشام ثم بعث عبد الملك بن مروان عبد الملك بن الحرث ابن الحكم بن أبي العاص إلى وادي القرى فكتب المختار إلى ابن الزبير يعرض عليه المدد فأجابه أن يعجل بإيفاذ الجيش إلى جند عبد الملك بوادي القرى فسرح شرحبيل ابن دوس الهمداني في ثلاثة آلاف أكريم من الموالي و أمره أن يأتي المدينة و يكاتبه بذلك و اتهمه ابن الزبير فبعث من مكة عباس بن سهل بن سعد في ألفين و أمره أن يستنفر العرب و إن رأى من جيش المختار خلافا ناجزهم و أهلكهم فلقيهم عباس بالرقيم و هم على تعبية فقال : سيروا بنا إلى العدو الذي بوادي القرى فقال ابن دوس : إنما أمرني المختار أن آتي المدينة ففطن عباس لما يريد فأتاهم بالعلوفة و الزاد و تخير ألفا من أصحابه و حمل عليهم فقتل ابن دوس و سبعين معه من شجعان قومه و أمن الباقين فرجعوا للكوفة و مات أكثرهم في الطريق و كتب المختار إلى ابن الحنفية يشكو ابن الزبير و يوهمه أنه بعث الجيش في طاعته ففعل بهم ابن الزبير ما فعل و يستأذنه في بعث الجيوش إلى المدينة و يبعث ابن الحنفية عليهم رجلا من قبله فيفهم الناس أني في طاعتك فكتب إليه ابن الحنفية قد عرفت قصدك و وفاءك بحقي و أحب الأمر إلي الطاعة فأطلع الله و تجنب دماء المسلمين فلو أردت القتال لوجدت الناس إلي سراعا و الأعوان كثيرا لكني أعتزلهم و أصبر حتى يحكم الله و هو خير الحاكمين ثم دعا ابن الزبير محمد بن الحنفية و من معه من أهل بيته و شيعته إلى البيعة فامتنع و بعث إليه ابن الزبير و أغلظ عليه و عليهم فاستكانوا و صبروا فتركهم فلما استولى المختار على الكوفة و أظهر الشيعة دعوة ابن الحنفية خاف ابن الزبير أن يتداعى الناس إلى الرضا به فاعتزم عليهم في البيعة و توعدهم بالقتل و حبسهم بزمزم و ضرب لهم أجلا و كتب ابن الحنفية إلى المختار بذلك فأخبر الشيعة و ندبهم و بعث أمراء منهم في نحو ثلثمائة عليهم أبو عبد الله الجدلي و بعث لابن الحنفية أربعمائة ألف درهم و ساروا إلى مكة فدخلوا المسجد الحرام و بأيديهم الخشب كراهة إشهار السيوف في الحرم و طفقوا ينادون بثأر الحسين حتى انتهوا إلى زمزم و أخرج ابن الحنفية و كان قد بقي من أجله يومان واستأذنوه في قتال ابن الزبير فقال : لا استحل القتال في الحرم ثم جاء باقي الجند و خافهم ابن الزبير و خرج ابن الحنفية إلى شعب علي و اجتمع له أربعة آلاف رجل فقسم بينهم المال و لما قتل المختار و استوثق أمر ابن الزبير بعث إليهم في البيعة فخافه على نفسه و كتب لعبد الملك فأذن له أن يقدم الشام حتى يستقيم أمر الناس و وعده بالإحسان و خرج ابن الحنفية و أصحابه إلى الشام و لما وصل مدين لقيه خبر مهلك عمر بن سعيد فندم و أقام بأيلة و ظهر في الناس فضله و عبادته و زهده و كتب له عبد الملك أن يبايعه فرجع إلى مكة و نزل شعب أبي طالب فأخرجه ابن الزبير فسار إلى الطائف و عذل ابن عباس ابن الزبير على شأنه ثم خرج عنه و لحق بالطائف و مات هنالك و صلى عليه ابن الحنفية و عاش إلى أن أدرك حصار الحجاج لابن الزبير و لما قتل ابن الزبير بايع لعبد الملك و كتب عبد الملك إلى الحجاج بتعظيم حقه و بسط أمله ثم قدم إلى الشام و طلب من عبد الملك أن يرفع حكم الحجاج عنه ففعل و قيل إن ابن الزبير بعث إلى ابن عباس و ابن الحنفية في البيعة حتى يجتمع الناس على إمام فإن في هذه فتنة فحبس ابن الحنفية في زمزم و ضيق على ابن عباس في منزله و أراد إحراقهما فأرسل المختار جيشه كما تقدم و نفس عنهما و لما قتل المختار قوى ابن الزبير عليهما فخرجا إلى الطائف (3/35)
مقتل ابن زياد
و لما فرغ المختار من قتال أهل الكوفة آخر سنة ست و ستين بعث إبراهيم بن الأشتر لقتال ابن زياد و بعث معه وجوه أصحابه و فرسانهم و شيعته و أوصاه و بعث معه بالكرسي الذي كان يستنصر به و هو كرسي قد غشاه بالذهب و قال للشيعة : هذا فيكم مثل التابوت في بني إسرائيل فكبر شأنه و عظم و قاتل ابن زياد فكان له الظهور و افتتن به الشيعة و يقال : إنه كرسي علي بن أبي طالب و إن المختار أخذه من والد جعدة بن هبيرة و كانت أمه أم هانيء بنت أبي طالب فهو ابن أخت علي ثم أسرع إبراهيم بن الأشتر في السير و أوغل في أرض الموصل و كان ابن زياد قد ملكها كما مر فلما دخل إبرهيم أرض الموصل عبى أصحابه و لما بلغ نهر الحارم بعث على مقدمته الطغيل بن لقيط النخعي و نزل ابن زياد قريبا من النهر و كانت قيس مطبقة على بني مروان عند المرج و جند عبد الملك يومئذ فلقي عمير بن الحباب السلمي إبراهيم بن الأشتر و أوعده أن ينهزم بالميسرة و أشار عليه بالمشاجرة و رأى عند ابن الأشتر ميلا إلى المطاولة فثناه عن ذلك و قال : إنهم ميولا منكم رعبا و أن طاولتهم اجترؤوا عليكم قال : و بذاك أوصاني صاحبي ثم عبى أصحابه في السحر الأول و نزل يمشي و يحرض الناس حتى أشرف على القوم وجاءه عبد الله بن الزبير السلولي بأنهم خرجوا على دهش و فشل و ابن الأشتر يحرض أصحابه و يذكرهم أفعال ابن زياد ثم التقى الجمعان و حمل الحصين بن نمير من ميمنة أهل الشام على مسيرة إبراهيم فقتل علي بن مالك الخثعمي ثم أخذ الراية فرد بن علي فقتل و انهزمت الميسرة فأخذ الراية عبد الله بن ورقاء بن جنادة السلولي و رجع بالمنهزمين إلى الميسرة كما كانوا و حملت ميمنة إبراهيم على ميسرة ابن زياد و هم يرجون أن ينهزم عمير بن الحباب كما وعدهم فمنعته الأنفة من ذلك و قاتل قتالا شديدا و قصد ابن الأشتر قلب العسكر و سواده الأعظم فاقتتلوا أشد قتال حتى كانت أصوات الضرب بالحديد كأصوات القصارين و إبراهيم يقول لصاحب رايته : إنغمس برأيتك فيهم ثم حملوا حملة رجل واحد فانهزم أصحاب ابن زياد و قال ابن الأشتر إني قتلت رجلا تحت راية منفردة شممت منه رائحة المسك و ضربته بسيفي فقصمته نصفين فالتمسوه فإذا هو ابن زياد فأخذت رأسه و أحرقت جثته و حمل شريك جدير الثعلبي على الحصين بن نمير فاعتقله و جاء أصحابه فقتلوا الحصين و يقال إن الذي قتل ابن زيد هو ابن جدير هذا و قتل شرحبيل بن ذي الكلاع و ادعى قتله سفيان بن يزيد الأزدي وورقاء بن عازب الأزدي و عبيد الله بن زهير السلمي و اتبع أصحاب ابن الأشتر المنهزمين فغرق في النهر أكبر ممن قتل و غنموا جميع ما في العسكر و طرأ ابن الأشتر بالبشارة إلى المختار فأتته بالمدائن و أنفذ ابن الأشتر عماله إلى البلاد فبعث أخاه عبد الرحمن على نصيبين و غلب على سنجار و دارا و ما والاهما من أرض الجزيرة و ولى زفر بن الحرث قبس و حاتم بن النعمان الباهلي حران و الرهاء و شمشاط و عمير بن الحباب السلمي كفرنوبي و طور عبدين و أقام بالموصل و أنفذ رؤوس عبيد الله و قواده إلى المختار (3/37)
مسير مصعب إلى المختار و قتله إياه
كان ابن الزبير في أول سنة سبع و ستين أو آخر ست عزل الحرث بن ربيعة و هو القباع و ولى مكانه أخاه مصعبا فقدم البصرة و صعد المنبر و جاء الحرث فأجلسه مصعب تحته بدرجة ثم خطب و قرأ الآيات من أول القصص و نزل و لحق به أشراف الكوفة حتى قربوا من المختار و دخل عليه شيث بن ربعي و هو ينادي واغوثاه ! ثم قدم محمد بن الأشعث بعده و استوثقوه إلى المسير و بعث إلى المهلب بن أبي الصفرة و هو عامله على فارس ليحضر معه قتال المختار فأبطأ و أغفل فأرسل إليه محمد بن الأشعث بكتابه فقال المهلب : ما وجد مصعب بريدا غيرك ؟ فقال : ما أنا ببريد و لكن غلبنا عبيدنا على أبنائنا و حرمنا فأقبل معه المهلب بالجموع و الأموال و عسكر مصعب عند الجسر فأرسل عبد الرحمن بن محنف إلىالكوفة و سرا ليثبط الناس عن المختار و يدعوا إلى ابن الزبير و سار على التعبية و بعث في مقدمته عباد بن الحصين الحبطي التميمي و على ميمنته عمر بن عبيد الله بن معمر و على ميسرته المهلب و بلغ الخبر المختار فقام في أصحابه و قربهم إلى الخروج مع ابن شميط و عسكر محمد في أعفر و بعث رؤوس الأرباع الذين كانوا مع ابن الأشتر مع ابن شميط و أصحابه فثبتوا و حمل المهلب من الميسرة على ابن كامل فثبت مع كر المهلب و حمل حملة منكرة و صبر ابن كامل قليلا و انهزموا و حمل الناس جميعا على ابن شميط فانهزم و قتل و استمر القتل في الرجالة و بعث مصعب عبادا فقتل كل أسير أخذه و تقدم محمد بن الأشعث في خيل من أهل الكوفة فلم يدركوا منهزما إلا قتلوه و لما فرغ مصعب منهم أقبل فقطع الفرات من موضع واسط و حملوا الضعفاء و أثقالهم في السفن ثم خرجوا إلى نهر الفرات و سار إلى الكوفة و لما بلغ المختار خبر الهزيمة و من قتل من أصحابه و أن مصعبا أقبل إليه في البر و البحر سار إلى مجتمع الأنهار نهر الجزيرة و المسلحين و القادسية و نهر يسر فسكر الفرات فذهب ماؤه في الأنهار و بقيت سفن أهل البصرة في الطين فخرجوا إلى السكر و ازالوه و قصدوا الكوفة و سار إلى المختار و نزل حر وراء بعد أن حصن القصر و أدخل عدة الحصار و أقبل مصعب و على ميمنته المهلب و على ميسرته عمر بن عبيد الله و على الخيل عباد بن الحصين و جعل المختار على ميمنته سليم بن يزيد الكندي و على ميسرته سعيد بن منقذ الهمداني و على الخيل عمر بن عبيد الله النهدي و نزل محمد بن الأشعث فيمن هرب من أهل الكوفة بين العسكريين و لما التقى الجمعان اقتتلوا ساعة و حمل عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي على من بإزائه فحطم أصحاب المختار حطمة منكرة و كشفوهم و حمل مالك بن عمر النهدي في الرجالة عند المساء على ابن الأشعث حملة منكرة فقتل ابن الأشعث و عامة أصحابه و قتل عبيد الله بن علي بن أبي طالب و قاتل المختار ثم افترق الناس و دخل القصر و سار مصعب من الغد فنزل السبخة و قطع عنهم الميرة و كان الناس يأتونهم بالقليل من الطعام و الشراب خفية ففطن مصعب لذلك فمنعه و أصابهم العطش فكانوا يصبون العسل في الآبار و يشربون ثم إن المختار أشار على أصحابه بالاستماتة فتحنط و تطيب و خرج في عشرين رجلا منهم السائب بن مسلك الأشعري فعذله فقال : ويحك يا أحمق وثب ابن الزبير بالحجاز و وثب بجدة باليمامة و ابن مروان بالشام فكنت كأحدهم إلا أني طلبت بثأر أهل البيت إذ نامت عقد العرب فقاتل على حسبك إن لم يكن لك نية ثم تقدم فقاتل حتى قتل على يد رجلين من بني حنيفة أخوين طرفة و طراف ابني عبد الله بن دجاجة و كان عبد الله بن جعدة بن هبيرة لما رأى عزم المختار على الاستماتة تدلى من القصر و اختفى عند بعض إخوانه ثم بعث الذين بقوا بالقصر إلى مصعب و نزلوا على حكمه فقتلهم أجمعين و أشار عليه المهلب باستبقائهم فاعترضه أشراف أهل الكوفة و رجع إلى رأيهم ثم أمر بكف المختار ابن أبي عبيد فقطعت و سمرت إلى جانب المسجد فلم ينزعها من هنالك إلا الحجاج و قتل زوجه عمرة بنت النعمان بن بشير زعمت أن المختار فاستأذن أخاه عبد الله و قتلها ثم كتب مصعب إلى ابراهيم بن الأشتر يدعوه إلى طاعته و وعده بولاية أعنة الخيل و ما غلب عليه من المغربة و كتب إليه عبد الملك بولاية العراق و اختلف عليه أصحابه فجنح إلى مصعب خشية مما أصاب ابن زياد و أشراف أهل الشام و كتب إلى مصعب بالإجابة و سار إليه فبعث على عمله بالموصل و الجزيرة و أرمينية و أذربيجان المهلب بن أبي صفرة و قيل إن المختار إنما أظهر الخلاف لابن الزبير عند قدوم مصعب البصرة و إنه بعث على مقدمته أحمد بن شميط و بعث مصعب عباد الحبطي و معه عبيد الله بن علي بن أبي طالب و تراضوا ليلا فناجزهم المختار من ليلته و انكشف أصحاب مصعب إلى عسكرهم و اشتد القتال و قتل أصحاب مصعب جماعة منهم محمد بن الشعث فلما أصبح المختار وجد أصحابه قد توغلوا في أصحاب مصعب و ليس عنده أحد فانصرف و دخل قصر الكوفة و فقد أصحابه فلحقوا به و دخل القصر معه ثمانية آلاف منهم و أقبل مصعب فحاصرهم أربعة أشهر يقاتلهم بالسيوف كل يوم حتى قتل و طلب الذين في القصر الأمان من مصعب و نزلوا على حكمه فقتلهم جميعا و كانوا ستة آلاف رجل و لما ملك مصعب الكوفة بعث عبد الله بن الزبير ابنه حمزة على البصرة مكان مصعب فأساء السيرة و قصر بالأشراف ففزعوا إلى مالك بن مسمع فخرج إلى الجسر و بعث إلى حمزة أن الحق بأبيك و كتب الأحنف إلى أبيه أن يعزله عنهم و يعيد لهم مصعبا ففعل و خرج حمزة بالأموال فعرض له مالك بن مسمع و قال : لا ندعك تخرج بأعطياتنا فضمن له عمر بن عبيد الله العطاء فكف عنه و قيل إن عبيد الله بن الزبير إنما رد مصعبا إلى البصرة عند وفادته عليه بعد سنة من قتل المختار و لما ورده إلى البصرة استعمل عمر بن عبيد الله بن معمر على فارس و ولاه حرب الأزارقة و كان المهلب على حربهم أيام مصعب و حمزة فلما رد مصعبا أراد أن يولي المهلب الموصل و الجزيرة و أرمينية ليكون بينه و بين عبد الملك فاستقدمه و استخلف على عمله المغيرة فلما قدم البصرة عزله مصعب عن حرب الخوارج و بلاد فارس و استعمل عليها عمر بن عبيد الله بن معمر فكان له في حروبهم ما نذكره في أخبار الخوارج (3/39)
خلاف عمر بن سعيد الأشرف و مقتله
كان عبد الملك بعد رجوعه من قنسرين اقام بدمشق زمانا ثم سار لقتال زخر بن الحرث الكلابي بقرقيسيا و استخلف على دمشق عبد الرحمن بن أمر الحكم الثفقي ابن اخته و سار معه عمر بن سعيد فلما بلغ بطنان انتقض عمر و أسرى ليلا إلى دمشق و هرب ابن أم الحكم عنها فدخلها عمر و هدم داره و اجتمع إليه الناس فخطبهم و وعدهم و جاء عبد الملك على أثره فحاصره بدمشق و وقع بينهما القتال أياما ثم اصطلحا وكتب بينهما كتابا و أمنه عبد الملك فخرج إليه عمر و دخل عبد الملك دمشق فأقام أربعة أيام ثم بعث إلى عمر ليأتيه فقال له عبد الله بن يزيد بن معاوية و هو صهره و كان عنده : لا تأتيه فإني أخشى عليك منه فقال : و الله لو كنت نائما ما أيقظني ! و وعد الرسول بالرواح إليه ثم أتى بالعشي و لبس درعه تحت القباء و مضى في مائة من مواليه وقد جمع عبد الملك عنده بني مروان وحسان بن نجد الكلبي و قبيصة بن ذؤيب الخزاعي و أذن لعمر فدخل و لم يزل أصحابه يجلسون عند كل باب حتى بلغوا قاعة الدار و ما معه إلا غلام واحد و نظر إلى عبد الملك و الجماعة حوله فأحس بالشر و قال للغلام : إنطلق إلى أخي يحيى و قل له يأتيني فلم يفهم عنه و أعاد عليه فيجيبه الغلام لبيك و هو لا يفهم فقال له : أغرب عني ثم أذن عبد الملك لحسان و قبيصة فلقيا عمر و دخل فأجلسه معه على السرير و حادثه زمنا ثم أمر بنزع السيف عنه فأنكر ذلك عمر و قال : اتق الله يا أمير المؤمنين ! فقال له عبد الملك أتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك ؟ فأخذ عنه السيف ؟ ثم قال له عبد الملك : يا أبا أمية إنك حين خلعتني حلفت بيمين إن أنا رأيتك بحيث أقدر عليك أن أجعلك في جامعة فقال بنو مروان ثم تطلقه يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم ! و ما عسيت أن أصنع بأبي أمية ؟ فقال بنو مروان : أبر قسم أمير المؤمنين يا أبا أمية فقال عمر : قد أبر الله قسمك يا أمير المؤمنين فأخرج من تحته فراشه جامعة و أمر غلاما فجمعه فيها و سأله أن لا يخرجه على رؤوس الناس فقال أمكرا عند الموت ؟ ثم جذبه جذبة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته ثم سأل الإبقاء فقال عبد الملك : و الله لو علمت أنك تبقى إن أبقيت عليك و تصلح قريش لأبقيتك و لكن لا يجتمع رجلان مثلنا في بلد فشتمه عمر و خرج عبد الملك إلى الصلاة و أمر أخاه عبد العزيز بقتله فلما قام إليه بالسيف ذكره الرحم فأمسك عنه و جلس و رجع عبد الملك من الصلاة و غلقت الأبواب فغلظ لعبد العزيز ثم تناول عمر فذبحه بيده و قيل أمر غلامه بن الزغير فقتله و فقد الناس عمر مع عبد الملك حين خرج إلى الصلاة فأقبل أخوه يحيى في أصحابه و عبيده و كانوا ألفا و معه حميد بن الحرث وحريث و زهير بن الأبرد فهتفوا باسمه ثم كسروا باب المقصورة و ضربوا بالسيوف و خرج الوليد بن عبد الملك و اقتتلوا ساعة ثم خرج عبد الرحمن ابن أم الحكم الثقفي بالرأس فألقاه إلى الناس و ألقى إليهم عبد العزيز بن مروان بدر الأموال فانتهبوها و افترقوا ثم خرج عبد الملك إلى الناس و سأل عن الوليد فأخبر بجراحته و أتى بيحيى بن سعيد و أخيه عنبسة فحبسهما و حبس بني عمر بن سعيد ثم أخرجهم جميعا و ألحقهم بمصعب حتى حضروا عنده بعد قتل مصعب فأمنهم و وصلهم و كان بنو عمر أربعة أمية و سعد و إسماعيل و محمد و لما حضروا عنده قال : أنتم أهل بيت ترون لكم على جميع قومكم فضلا لن يجعله الله لكم و الذي كان بيني و بين أبيكم لم يكن حديثا بل كان قديما في أنفس أوليكم على أولينا في الجاهلية فقال سعيد : يا أمير المؤمنين تعد علينا أمرا كان في الجاهلية و الإسلام قد هدم ذلك و وعد جنة و حذر نارا و أما عمر فهو ابن عمك و قد وصل إلى الله و أنت أعلم بما صنعت و إن أحد ثنا به فبطن الأرض خير لنا من ظهرها فرق لهم عبد الملك و قال : أبوكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله و اخترت قتله على قتلتي و أما أنتم فما أرغبني فيكم و أوصلني لقرابتكم و أحسن حالتهم و قيل إن عمر إنما كان خلفه و قتله حين سار عبد الملك لقتال مصعب طلبه أن يجعل له العهد بعده كما فعل أبوه فلم يجبه إلى ذلك فرجع إلى دمشق فعصى و امتنع بها و كان قتله سنة تسعة و ستين (3/41)
مسير عبد الملك إلى العراق و مقتل مصعب
و لما صفا الشام لعبد الملك اعتزم على غزو العراق و أتته الكتب من أشرافهم يدعونه فاستمهله أصحابه فأبى وسار نحو العراق و بلغ مصعبا سيره فأرسل إلى المهلب بن أبي صفرة و هو بفارس في قتال الخوارج يستشيره و قد كان عزل عمر بن عبيد الله بن معمر عن فارس و حرب الخوارج و ولى مكانه المهلب و ذلك حين استخلف على الكوفة و جاء خالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد على البصرة مختفيا و أعيد لعبد الملك ابن مسمع في بكر بن وائل و الأزد و أمد عبد الملك بعبيد الله ابن زياد بن ضبيان و حاز بهم عمر بن عبيد الله بن معمر ثم صالحهم على أن يخرجوا خالدا فأخرجوه و جاء مصعب و قد طمع أن يدرك خالدا فوجده قد خرج فسخط على ابن معمر و سب أصحابه و ضربهم و هدم دورهم و حلقهم و هدم دار مالك بن مسمع و استباحها و عزل ابن معمر عن فارس و ولى المهلب و خرج إلى الكوفة فلم يزل بها حتى سار للقاء عبد الملك و كان معه الأحنف فتوفي بالكوفة و لما بعث عن المهلب ليسير معه أهل البصرة إلا أن يكون المهلب على قتال الخوارج رده و قال له المهلب إن أهل العراق قد كاتبوا عبد الملك و كاتبهم فلا يتعدى ثم بعث مصعب عن إبراهيم بن الأشتر و كان على الموصل و الجزيرة فجعله في مقدمته و سار حتى عسكر في معسكره و سار عبد الملك و على مقدمته أخوه محمد ابن مروان و خالد بن عبيد الله بن خالد بن أسيد فنزلوا قريبا من قرقيسيا و حضر زفر ابن الحرث الكلابي ثم صالحه و بعث زفر معه الهذيل ابنه في عسكر و سار معه فنزل بمسكن قريبا من مسكن مصعب و فر الهذيل بن زفر فلحق بمصعب و كتب عبد الملك إلى أهل العراق و كتبوا إليه و كلهم بشرط أصفهان و أتى ابن الأشتر بكتاب مختوما إلى مصعب فقرأه فإذا هو يدعوه إلى نفسه و يجعل له ولاية العراق فأخبره مصعب بما فيه و قال مثل و قال مثل هذا ألا يرغب عنه فقال إبراهيم ما كنت لأتقلد الغدر و الخيانة و لقد كتب عبد الملك لأصحابك كلهم مثل هذا فأطعن و اقتلهم أو احسبهم في أضيق محبس فأبى عليه مصعب و أضمر أهل العراق الغدر بمصعب و عذلهم قيس بن الهيثم منهم في طاعة أهل الشام فأعرضوا عنه و لما تدانى العسكران بعث عبد الملك إلى مصعب بقول فقال : نجعل الأمر شورى فقال مصعب : ليس بيننا إلا السيف فقدم عبد الملك أخاه محمدا و قدم مصعب إبراهيم بن الأشتر و أمده بالجيش فأزال محمدا عن موقفه و أمده عبد الملك بعبيد الله بن يزيد فاشتد القتال و قتل من أصحاب مصعب بن عمر الباهلي والد قتيبة و أمد مصعب إبراهيم بعتاب بن ورقاء فساء ذلك إبراهيم و نكره و قال أوصيته لا يمدني بعتاب و أمثاله و كان قد بايع لعبد الملك فجر الهزيمة على إبراهيم و قتله و حمل رأسه إلى عبد الملك
و تقدم أهل الشام فقاتل مصعب و دعا رؤس العراق إلى القتال فاعتذروا و تثاقلوا فدنا محمد بن مروان بن مصعب و ناداه بالأمان و أشعره بأهل العراق فأعرض عنه فنادى ابنه عيسى بن مصعب فأذن له أبوه في لقائه فجاءه و بذل له الأمان و أخبر أباه فقال : أتظنهم يعرفون لك ذلك ؟ فإن أحببت فافعل قال : لا يتحدث نساء قريش أني رغبت بنفسي عنك قال : فاذهب إلى عمك بمكة فأخبره بصنيع أهل العراق و دعني فإني مقتول فقال : لا أخبر قريشا عنك أبدا و لكن إلحق أنت بالبصرة فإنهم على الطاعة أو بأمير المؤمنين بمكة فقال : لا يتحدث قريش أني فررت ثم قال لعيسى : تقدم يا بني أحتسبك فتقدم في ناس فقتل و قتلوا و ألح عبد الملك في قبول أمانه فأبى و دخل سرادقه فتحفظ ورمى السرادق و خرج فقاتل و دعاه عبيد الله بن زياد بن ضبيان فشتمه و حمل عليه و ضربه فجرحه و خذل أهل العراق مصعبا حتى بقي في سبعة أنفس و أثخنته الجراحة فرجع إليه عبيد الله بن زياد ابن ضبيان فقتله و جاء برأسه إلى عبد الملك فأمر له بألف دينار فلم يأخذها و قال : إنما قتلته بثأر أخي و كان قطع الطريق فقتله صاحب شرطته و قيل : إن الذي قتله زائدة بن قدامة الثقفي من أصحاب المختار و أخذ عبيد الله رأسه و أمر عبد الملك به و بابنه عيسى فدفنا بدار الجاثليق عند نهر رحبيل و كان ذلك إحدى و سبعين ثم دعا عبد الملك جند العراق إلى البيعة فبايعوه و سار إلى الكوفة فأقام بالنخيلة أربعين يوما و خطب الناس فوعد المحسن و طلب يحيى بن سعيد من جعفة و كانوا أخواله فأحضروه فأمنه و ولى أخاه بشر بن مروان على الكوفة و محمد بن نمير على همدان و يزيد بن ورقاء بن رويم على الري و لم يف لهم بأصبهان كما شرطوا عليه و كان عبد الله بن يزيد بن أسد والد خالد القسري و يحيى بن معتوق الهمداني قد لجئا إلى علي بن عبد الله بن عباس و لجأ هذيل بن زفر بن الحرث و عمر بن يزيد الحكمي إلى خالد بن يزيد فأمنهم عبد الملك و صنع عمر بن حريث لعبد الملك طعاما فأخبره بالخورنق و أذن للناس عامة فدخلوا و جاء عمر بن حريث فأجلسه معه على سريره و طعم الناس ثم طاف مع عمر بن حريث على القصر يسأله عن مساكنه و معالمه و لما بلغ عبد الله بن حازم مسير مصعب لقتال عبد الملك قال : أمعه عمر بن معمر ؟ قيل : هو على فارس قال : فالمهلب قيل : في قتال الخوارج قال : فعباد بن الحسين ؟ قيل على البصرة قال : و أنا بخراسان !
( خديني فجريني جهارا و أنشدي ... بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره )
ثم بعث عبد الملك برأس مصعب إلى الكوفة ثم إلى الشام فنصب بدمشق و أرادوا التطاوف به فمنعت من ذلك زوجة عبد الملك عاتكة بنت يزيد بن معاوية فغسلته و دفنته و انتهى قتل مصعب إلى المهلب و هو يحارب الأزارقة فبايع الناس لعبد الملك بن مروان و لما جاء خبر مصعب لعبد الله بن الزبير خطب الناس فقال : الحمد لله الذي له الخلق و الأمر يؤتي الملك من يشاء و ينزع الملك ممن يشاء و يعز من يشاء و يذل من يشاء ألا و إنه لم يذل الله من كان الحق معه و إن كان الناس عليه طرا و قد أتانا من العراق خبر أحزننا و أفرحنا أتانا قتل مصعب فالذي أفرحنا منه أن قتله شهادة و أما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يحدها حميمه عند المصيبة ثم عبد من عبيد الله و عون من أعواني ألا و إن أهل العراق أهل الغدر و النفاق سلموه و باعوه بأقل الثمن فإن فو الله ما نموت على مضاجعنا كما يموت بنو أبي العاص و الله ما قتل رجل منهم في الجاهلية و لا في الإسلام و لا نموت إلا طعنا بالرماح و تحت ظلال السيوف ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه و لا يبيد ملكه فإن تقبل لا آخذها أخذ البطور و إن تدبر لم أبك عليها بكاء الضرع المهين أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم و لما بلغ الخبر إلى البصرة تنازع ولايتها حمدان بن أبان و عبد الله بن أبي بكرة و استعان حمدان بعبد الله ابن الأهتم عليها و كانت له منزلة عند بني أمية فلما تمهد الأمر بالعراق لعبد الملك بعد مصعب ولى على البصرة خالد بن عبد الله بن أسيد فاستخلف عليها عبيد الله بن أبي بكرة فقدم على حمدان و عزله حتى جاء خالد ثم عزل خالدا سنة ثلاث و سبعين و ولى مكانه على البصرة أخاه بشرا و جمع له المصرين و سار بشر إلى البصرة و استخلف على الكوفة عمر بن حريث و ولى عبد الملك على الجزيرة و أرمينية بعد قتل مصعب أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث و ستين فغزا الروم و مزقهم بعد أن كان هادن ملك الروم أيام الفتنة على ألف دينار يدفعها إليه في كل يوم (3/43)
أمر زفر بن الحرث بقرقيسيا
قد ذكرنا في وقعة راهط مسير بن زفر إلى قرقيسيا و اجتماع قيس عليه و أقام بها يدعو لابن الزبير و لما ولي عبد الملك كتب إلى أبان بن عقبة بن أبي معيط و هو على حمص بالمسير إلى زفر فسار و على مقدمته عبد الله بن رميت العلائي فعاجله عبد الله بالحرب و قتل من أصحابه نحو ثلثمائة ثم أقبل أبان فواقع زفر و قيل ابنه وكيع بن زفر و أوهنه ثم سار إليه عبد الملك إلى قرقيسيا قبل مسيره إلى مصعب فحاصره و نصب عليه المجانيق و قال : كلب لعبد الملك لا تخلط معنا القيسية فإنهم ينهزمون إذا التقينا مع زفر ففعل و اشتد حصارهم و كان زفر يقاتلهم في كل غداة و أمر ابنه الهذيل يوما أن يحمل زفر حتى يضرب فسطاط عبد الملك ففعل و قطع بعض أطنابه ثم بعث عبد الملك أخاه بالأمان لزفر و ابنه الهذيل على أنفسهما و من معهما و أن لهم ما أحبوا فأجاب الهذيل و أدخل أباه في ذلك و قال : عبد الملك لنا خير من ابن الزبير فأجاب على أن له الخيار في بيعته سنة و أن ينزل حيث شاء و لا يعين على ابن الزبير و بينما الرسل تختلف بينهم إذ قيل لعبد الملك قد هدم من المدينة أربعة أبراج فترك الصلح و زحف إليهم فكشفوا أصحابه إلى عسكرهم و رجع إلى الصلح و استقر بينهم على الأمان ووضع الدماء و الأموال و أن لا يبايع لعبد الملك حتى يموت ابن الزبير للبيعة التي له في عنقه و أن يدفع إليه مال نفسه في أصحابه و تأخر زفر عن لقاء عبد الملك خوفا من فعلته بعمر بن سعيد فأرسل إليه بقضيب النبي صلى الله عليه و سلم فجاء إليه و أجلسه عبد الملك معه على سريره و زوج إبنه مسلمة الرباب بنت زفر و سار عبد الملك إلى قتال مصعب فبعث زفر ابنه الهذيل معه بعسكر و لما قارب مصعبا هرب إليه و قاتل مع ابن الأشتر حتى إذا اقتتلوا اختفى الهذيل في الكوفة حتى أمنه عبد الملك كما مر (3/46)
مقتل ابن حازم بخراسان و ولاية بكير بن وشاح عليها
قد تقدم لنا خلاف بني تميم على ابن حازم بخراسان و أنهم كانوا على ثلاث فرق و كف فرقتين منهم و بقي يقاتل الفرقة الثالثة من نيسابور و عليهم بجير بن ورقاء الصريمي فلما قتل مصعب بعث عبد الملك إلى حازم يدعوه إلى البيعة و يطعمه خراسان سبع سنين و بعث الكتاب مع رجل من بني عامر بن صعصعة فقال ابن حازم : لولا الفتنة بين سليم و عامر و لكن كل كتابك فأكله و كان بكير بن وشاح التميمي خليفة بن حازم على مرو فكتب إليه عبد الملك بعهده على خراسان و رغبه بالمطامع إن انتهى فخلع ابن الزبير و دعا إلى عبد الملك و أجابه أهل مرو و بلغ ابن حازم فخاف أن يأتيه بكير و يجتمع عليه أهل مرو و أهل نيسابور فترك بجيرا و ارتحل عنه إلى مرو و يزيد ابنه يترمد فأتبعه بجير و لحقه قريبا من مرو و اقتتلوا فقتل ابن حازم طعنه بجير و آخران معه فصرعوه و قعد أحدهم على صدره فقطع رأسه و بعث بجير البشير بذلك إلى عبد الملك و ترك الرأس و جاء بكير بن وشاح في أهل مرو و أراد إنفاذ الرأس إلى عبد الملك و أنه الذي قتل ابن حازم و أقام في ولاية خراسان و قيل إن ذلك إنما كان بعد قتل ابن الزبير و أن عبد الملك أنفذ رأسه إلى ابن حازم و دعاه إلى البيعة فغسل الرأس و كفنه و بعثه إلى ابن الزبير بالمدينة و كان من شأنه مع الرسول و مع بجير و بكير ما ذكرناه
كان عبد الملك لما بويع بالشام بعث إلى المدينة عروة بن أنيف في ستة آلاف من أهل الشام و أمره أن يسكن بالعرصة و لا يدخل المدينة و عامل ابن الزبير يومئذ على المدينة الحرث بن حاطب بن الحرث بن معمر الجمعي فهرب الحرث و أقام ابن أنيف شهرا يصلي بالناس الجمعة بالمدينة و يعود إلى معسكره ثم رجع ابن أنيف إلى الشام و رجع الحرث إلى المدينة و بعث ابن الزبير بن خالد الدورقي على خيبر و فدك ثم بعث عبد الملك إلى الحجاز عبد الملك بن الحرث بن الحكم في أربعة آلاف فنزل وادي القرى و بعث سرية إلى سليمان بخيبر و هرب و أدركوه فقتلوه و من معه و أقاموا بخيبر و عليهم ابن القمقام و ذكر لعبد الملك ذلك فاغتم و قال قتلوا رجلا صالحا بغير ذنب ثم عزل ابن الزبير الحرث بن حاطب عن المدينة و ولى مكانه جابر بن الأسود بن عوف الزهري فبعث جابر إلى خيبر أبا بكر بن أبي قيس في ستمائة فانهزم ابن القمقام و أصحابه أمامه و قتلوا صبرا ثم بعث عبد الملك طارق بن عمر مولى عثمان و أمره أن ينزل بين أيلة و وادي القرى و يعمل كما يعمل عمال ابن الزبير من الانتشار و ليسد خللا إن ظهر له بالحجاز فبعث طارق خيلا إلى أبي بكير بخيبر و اقتتلوا فأصيب أبو بكير في مائتين من أصحابه و كتب ابن الزبير إلى القباع و هو عامله على البصرة يستمده ألفي فارس إلى المدينة فبعثهم القباع و أمر ابن الزبير جابر ابن الأسود أن يسيرهم إلى قتال طارق ففعل و لقيهم فهزمهم و قتل مقدمهم و قتل من أصحابه خلقا و أجهز على جريحهم و لم يستبق أسيرهم و رجع إلى وادي القرى ثم عزل ابن الزبير جابرا عن المدينة و استعمل طلحة بن عبد الله بن عوف و هو طلحة النداء و ذلك سنة سبعين فلم يزل على المدينة حتى أخرجه طارق و لما قتل عبد الملك مصعبا و دخل الكوفة وبعث منها الحجاج بن يوسف الثقفي في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال ابن الزبير و كتب معه بالأمان لابن الزبير و من معه إن أطاعوا فسار في جمادى سنة إثنتين و سبعين فلم يتعرض للمدينة و نزل الطائف و كان يبعث الخيل إلى عرفة و يلقاهم هناك خيل ابن الزبير فيهزمون دائما و تعود خيل الحجاج بالظفر ثم كتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره بضعف ابن الزبير و تفرق أصحابه و يستأذنه في دخول الحرم لحصار ابن الزبير و يستمده فكتب عبد الملك إلى طارق يأمره باللحاق بالحجاج فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين و سبعين و أخرج عنها طلحة النداء عامل ابن الزبير و ولى مكانه رجلا من أهل الشام و سار إلى الحجاج بمكة في خمسة آلاف و لما قدم الحجاج مكة أحرم بحجه و نزل بئر ميمون و حج بالناس و لم يطف و لا سعى و حصر ابن الزبير عن عرفة فنحر بدنة بمكة و لم يمنع الحاج من الطواف و السعي ثم نصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس و رمى به الكعبة و كان ابن عمر قد حج تلك السنة فبعث إلى الحجاج بالكف عن المنجنيق لأجل الطائفين ففعل و نادى منادي الحجاج عند الإفاضة انصرفوا فإنا نعود بالحجارة على ابن الزبير و رمى بالمنجنيق على الكعبة و ألحت الصواعق عليهم في يومين و قتلت من أصحاب الشام رجالا فذعروا فقال لهم الحجاج لا شك فهذه صواعق تهامة و إن الفتح قد حضر فأبشروا ثم أصابت الصواعق من أصحاب ابن الزبير فسرى عن أهل الشام فكانت الحجارة تقع بين يدي ابن الزبير و هو يصلي فلا ينصرف و لم يزل القتال بينهم و غلت الأسعار و أصاب الناس مجاعة شديدة حتى ذبح ابن الزبير فرسه و قسم لحمها في أصحابه و يبعت الدجاجة بعشرة دراهم و المد من الذرة بعشرين و بيوت ابن الزبير ممملوأة قمحا و شعيرا و ذرة و تمرا و لا ينفق منها إلا ما يمسك الرمق يقوي بها نفوس أصحابه ثم أجهدهم ثم أجهدهم الحصار و بعث الحجاج إلى أصحاب ابن الزبير بالأمان فخرج إليهم منهم نحو عشرة آلاف و افترق الناس عنه و كان ممن فارقه ابناه حمزة و حبيب و أقام ابنه الزبير حتى قتل معه و حرض الناس الحجاج و قال : قد ترون قلة أصحاب ابن الزبير و ما هم فيه من الجهد و الضيق فتقدموا و املؤا ما بين الحجون و الأبواء فدخل ابن الزبير على أمه أسماء و قال يا أمه قد خذلني الناس حتى ولدي و القوم يعطونني ما أردت من الدنيا فما رأيك ؟ فقالت له : أنت أعلم بنفسك إن كنت على حق و تدعو إليه فامض له فقد قتل عليه أصحابك و لا تمكن من رقبتك و قد بلغت بها علمين بين بني أمية و إن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك و من قتل معك و إن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فليس هذا فعل الأحرار و لا أهل الدين فقال : يا أمه أخاف أن يمثلوا بي و يصلبوني فقالت : يا بني الشاة إذا ذبحت لا تتألم بالسلخ فامض على بصيرتك و استعن بالله فقبل رأسها و قال هذا رأيي و الذي خرجت به داعيا إلى يومي هذا و ما ركنت إلى الدنيا و لا أحببت الحياة و ما أخرجني إلا الغضب لله و أن تستحل حرماته و لكن أحببت أن أعلم فقد زدتيني بصيرة و إني يا أمه في يومي هذا مقتول فلا يشتد حزنك و سلمي لأمر الله فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر و لا عمد بفاحشة و لم يجر و لم يغدر و لم يظلم و لم يقر على الظلم و لم يكن آثر عندي من رضا الله تعالى اللهم لا أقر هذا تزكية لنفسي لكن تعزية لأمي حتى تسلو عني فقالت : إني لأرجو أن يكون عزائي فيك جميلا إن تقدمتني احتسبتك و إن ظفرت سررت بظفرك ثم قالت : أخرج حتى أنظر ما يصير أمرك جزاك الله خيرا قال : فلا تدعي الدعاء لي فدعت له و ودعها و ودعته و لما عانقته للوداع وقعت يدها على الدرع فقالت : ما هذا صنيع من يريد ما تريد ! فقال : ما لبستها إلا لأشد منك فقالت : إنه لا يشد مني فنزعها و قالت له إلبس ثيابك مشمرة ثم خرج فحمل على أهل الشام حملة منكرة فقتل منهم ثم انكشف هو و أصحابه و أشار عليه بعضهم بالفرار فقال : بئس الشيخ إذن أنا في الإسلام إذا واقعت قوما فقتلوا ثم فررت عن مثل مصارعهم و امتلأت أبواب المسجد بأهل الشام و الحجاج و طارق بناحية الأبطح إلى المروة و ابن الزبير يحمل على هؤلاء و ينادي أبا صفوان لعبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف فيجيبه من جانب المعترك و لما رأى الحجاج إحجام الناس عن ابن الزبير غضب و ترجل و حمل إلى صاحب الراية بين يديه فتقدم ابن الزبير إليهم و كشفهم عنه و لرجع فصلى ركعتين عند المقام و حملوا على صاحب الراية فقتلوه عند باب بني شيبة و أخذوا الراية ثم قاتلهم و ابن مطيع معه حتى قتل و يقال أصابته جراحة فمات منها بعد أيام و يقال : إنه قال : لأصحابه يوم قتل : يا آل الزبير أوطبتم لي نفسا عن أنفسكم كأهل بيت من العرب اصطلمنا في الله ؟ فلا يرعكم وقع السيوف فإن ألم الدواء في الجرح أشد من ألم وقعها صونوا سيوفكم بما تصونون وجوهكم و غضوا أبصاركم عن البارقة و ليشغل كل امرئ قرنه و لا تسألوا عني و من كان سائلا فإني في الرعيل الأول ثم حمل حتى بلغ الحجون فأصابته حجارة في وجه فأرغش لها و دمى وجهه ثم قاتل قتالا شديدا و قتل في جمادى الآخر سنة ثلاث و سبعين و حمل رأسه إلى الحجاج فسجد و كبر أهل الشام و ثار الحجاج و طارق حتى وقفا عليه و بعث الحجاج برأسه و رأس عبد الله بن صفوان و رأس عمارة بن عمرو بن حزم إلى عبد الملك و صلب جثته منكسة على ثنية الحجون اليمنى و بعثت إليه أسماء في دفنه فأبى و كتب إليه عبد الملك يلومه على ذلك فخلى بينها و بينه و لما قتل عبد الله ركب أخوه عروة و سبق الحجاج إلى عبد الملك فرحب به و أجلسه على سريره و جرى ذكر عبد الله فقال عروة : إنه كان ! فقال عبد الملك : و ما فعل ؟ قال : قتل فخر ساجدا ثم أخبره عروة أن الحجاج صلبه فاستوهب جثته لأمه فقال : نعم و كتب إلى الحجاج ينكر عليه صلبه فبعث بجثته إلى أمه و صلى عليه عروة و دفنه و ماتت أمه بعده قريبا و لما فرغ الحجاج من ابن الزبير دخل إلى مكة فبايعه أهلها لعبد الملك و أمر بكنس المسجد من الحجارة و الدم و سار إلى المدينة و كانت من عمله فأقام بها شهرين و أساء إلى أهلها و قال : أنتم قتلة عثمان و ختم أيدي جماعة من الصحابة بالرصاص استخفافا بهم كما يفعل بأهل الذمة منهم جابر بن عبد الله و أنس بن مالك و سهل بن سعد ثم عاد إلى مكة و نقلت عنه في ذم المدينة أقوال قبيحة أمره فيها إلى الله و قيل إن ولاية الحجاج المدينة و ما دخل منها كانت سنة أربع و سبعين و إن عبد الملك عزل عنها طارقا و استعمله ثم هدم الحجاج بناء الكعبة الذي بناه ابن الزبير و أخرج الحجرمنه و أعاده إلى البناء الذي أقره عليه النبي صلى الله عليه و سلم و لم يصدق ابن الزبير في الحديث الذي رواه عن عائشة فلما صح عنده بعد ذلك قال وددت أني تركته و ما تحمل (3/47)
ولاية المهلب حرب الأزارقة
و لما عزل الملك بن خالد بن عبد الله عن البصرة و استعمل مكانه أخاه بشر بن مروان و جمع له المصرين أمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزارقة فيمن ينتخبه من أهل البصرة و يترك وراءه في الحرب و أن يبعث من أهل الكوفة رجلا شريفا معروفا بالبأس و النجدة في جيش كثيف إلى المهلب فيتبعوا الخوارج حتى يهلكوهم فأرسل المهلب جديع بن سعيد بن قبيصة ينتخب الناس من الديوان و شق على بشر أن امرأة المهلب جاءت من عند عبد الملك فغص به و دعا عبد الرحمن بن مخنف فأعلمه منزلته عنده و قال : إني أوليك جيش الكوفة بحرب الأزارقة فكن عند حسن ظني بك أخذ يغريه بالمهلب و أن لا يقبل رأيه و لا مشورته فأظهر له الوفاق و سار إلى المهلب فنزلوا رامهرمز و لقي بها الخوارج فحدق عليه على ميل من المهلب حيث يتراءى العسكران ثم أتاهم نعي بشر بن مروان لعشر ليال من مقدمهم و أنه استخلف على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد فافترق الناس من أهل المصرين إلى بلادهم و نزلوا الأهواز و كتب إليهم خالد بن عبد الله يتهددهم و يحذرهم عقوبة عبد الملك إن لم يرجعوا إلى المهلب فلم يلتفتوا إليه و مضوا إلى الكوفة و استأذنوا عمر بن حريث في الدخول و لم يأذن لهم فدخلوا و أضربوا عن إذنه (3/52)
ولاية أسد بن عبد الله على خراسان
و لما ولي بكير بن وشاح على خراسان اختلف عليه بطون تميم و أقاموا في العصبية له و عليه سنتين و خاف أهل خراسان أن تفسد البلاد و يقهرهم العدو فكتبوا إلى عبد الملك بذلك و أنها لا تصلح إلا على رجل من قريش و استشار أصحابه فقال له أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد : نزكيهم برجل منك فقال : لولا انهزامك عن أبي فديك كنت لها فاعتذر و حلف أن الناس خذلوه و لم يجد مقاتلا فانحزت بالعصبة التي بقيت من المسلمين عن الهلكة و قد كتب إليك خالد بن عبد الله بعذري و قد علمه الناس فولاه خراسان و لما سمع بكير بن شاح بمسيره بعث إلى بجير بن ورقاء و هو حبسه كما مر فأبى و أشار عليه بعض أصحابه أن يقبل مخافة القتل فقبل و صالح بكير أو بعث إليه بكير بأربعين ألفا على أن لا يقاتله فلما قارب أمية نيسابور إليه بجير و عرفه عن أمور خراسان و ما يحسن به طاعة أهلها و حذره غدر بكير و جاء معه إلى مرو فلم يعرض أمية لبكير و لا لعماله و عرض عليه شرطته فأبى و قال : لا أحمل الجزية اليوم و قد كانت تحمل إلي بالأمس و أراد أن يوليه بعض النواحي من خراسان فحذره بجير منه ثم ولى أمية ابنه عبد الله على سجستان فنزل بستا و غزا رتبيل الذي ملك على الترك بعد المقتول الأول و كان هائبا للمسلمين فراسلهم في الصلح و بعث ألف ألف و بعث بهدايا و رقيق فأبى عبد الله من قبولها و طلب الزيادة فجلا رتبيل عن البلاد حتى أوغل فيها عبد الله ثم عليه الشعاب و المضايق حتى سأل منه الصلح و أن يخلي عينه عن المسلمين فشرط رتيبل عليه ثلثمائة ألف درهم و العهد بأن لا يغزو بلادهم فأعطاه ذلك و بلغ الخبر بذلك عبد الملك فعزله (3/52)
ولاية الحجاج العراق
ثم ولى عبد الملك الحجاج بن يوسف على الكوفة و البصرة سنة خمسة و سبعين و أرسل إليه و هو بالمدينة يأمره بالمسير إلى العراق فسار على النجب في إثني عشر راكبا حتى قدم الكوفة في شهر رمضان و قد كان بشر بعث المهلب إلى الخوارج فدخل المسجد و صعد المنبر و قال : علي بالناس فظنوه من بعض الخوارج فهموا به حتى تناول عمير بن ضابي البرجمي الحصباء و أراد أن يحصبه فلما تكلم جعل الحصباء يسقط من يديه و هو لا يشعر به ثم حضر الناس فكشف الحجاج عن وجهه و خطب خطبته المعروفة ذكرها الناس و أحسن من أوردها المبرد في الكامل يتهدد فيها أهل الكوفة و يتوعدهم عن التخلف عن المهلب ثم نزل و حضر الناس عنده للعطاء و اللحاق بالمهلب فقام إليه عمير ابن ضابي و قال : أنا شيخ كبير عليل و ابني هذا أشد مني فقال : هذا خير لنا منك قال : و من أنت ؟ قال عمير بن ضابي قال : الذي غزا عثمان في داره ؟ قال : نعم فقال : يا عدوا الله إلى عثمان بدلا قال : إنه حبس أبي و كان شيخا كبيرا فقال : إني لا أحب حياتك إن في قتلك صلاح المصرين و أمر به فقتل و نهب ماله و قيل إن عنبسه بن سعيد بن العاص هو الذي أغرى به الحجاج حين دخل عليه ثم أمر الحجاج مناديه فنادى ألا إن ضابي تخلف بعد النداء فأمرنا بقتله و ذمة الله بريئة ممن بات الليلة من جند المهلب فتساءل الناس إلى المهلب و هو بدار هرمز و جاءه العرفاء فأخذوا كتبه بموافاة العسكر ثم بعث الحجاج على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي و أمره أن يشتد على خالد بن عبد الله و بلغه الخبر فقسم في أهل البصرة ألف ألف و خرج عنها و يقال إن الحجاج أول من عاقب على التخلف عن البعوث بالقتل قال الشعبي : كان الرجل إذا أخل بوجهه الذي يكتب إليه زمن عمر و عثمان و علي تنزع عمامته و يقام بين الناس فلما ولي مصعب أضاف إليه حلق الرؤس و اللحى فلما ولي بشر أضاف إليه تعليق الرجل بمسمارين في يده في حائط فيخرق المسماران يده و ربما مات فلما جاء الحجاج ترك ذلك كله و جعل عقوبة من تخلى بمكانه من الثغر أو البعث القتل ثم ولى الحجاج على السند سعيد بن أسلم بن زرعة فخرج عليه معاوية ابن الحرث الكلابي العلاقي و أخوه فغلباه على البلاد و قتلاه فأرسل الحجاج مجاعة ابن سعيد التميمي مكانه فغلب و غزا و فتح فتوحات بمكران لسنة من ولايته (3/53)
وقوع أهل البصرة بالحجاج
ثم خرج الحجاج من الكوفة و استخلف عليها عروة بن المغيرة بن شعبة و سار إلى البصرة و قدمها و خطب بالكوفة و توعد على القعود عن المهلب كما توعد فأتاه شريك بن عمرو اليشكري و كان به فتق فاعتذر به و بأن بشر بن مروان قبل عذره بذلك و أحضر عطاءه ليرد لبيت المال فضرب الحجاج عنقه و تتابع الناس مزدحمين إلى المهلب ثم سار حتى كان بينه و بين المهلب ثمانية فرسخا و أقام يشد ظهره و قال : يا أهل المصرين هذا و الله مكانكم حتى يهلك الله الخوارج ثم قطع لهم الزيادة التي زادها مصعب في الأعطية و كانت مائة مائة و قال : لسنا نجيزها فقال عبد الله بن الجارود : إنما هي زيادة عبد الملك و قد أجازها أخوه بشر بأمره فانتهره الحجاج فقال : إني لك ناصح و إنه قول ورائي فمكث الحجاج أشهرا لا يذكر الزيادة ثم أعاد القول فيها فرد عليه ابن الجارود مثل الرد الأول فقال له مضفلة بن كرب العبدي سمعا و طاعة للأمير فيما أحببنا و كرهنا و ليس لنا أن نرد عليه فانتهره ابن الجارود و شتمه و أتى الوجوه إلى عبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعي و قالوا : إن هذا الرجل مجمع على نقص هذه الزيادة و إنا نبايعك على إخراجه من العراق و نكتب إلى عبد الملك أن يولي علينا غيره و إلا خلعناه و هو يخافنا ما دامت الخوارج في العراق فبايعوه سرا و تعاهدوا و بلغ الحجاج أمرهم فاحتاط و جد ثم خرجوا في ربيع سنة ستة و سبعين و ركب عبد الله بن الجارود في عبد قيس على راياتهم و لم يبق مع الحجاج إلا خاصته و أهل بيته و بعث الحجاج يستدعيه فأفحش في القول لرسوله و صرح بخلع الحجاج فقال له الرسول : تهلك قومك و عشيرتك ! و أبلغه تهديد الحجاج إياه فضرب و أخرج و قال : لولا أنك رسول لقتلتك ثم زحف ابن الجارود في الناس حتى غشى فسطاطه فنهبوا ما فيه من المتاع و أخذوا زجاجته و انصرفوا عنها فكان رأيهم أن يخرجوه و لا يقتلوه و قال الغضبان بن أبي القبعثري الشيباني لابن الجارود : لا ترجع عنه و حرضه على معالجته فقال إلى الغداة و كان مع الحجاج عثمان بن قطن و زياد بن عمر العتكي صاحب الشرطة بالبصرة فاستشارهما فأشار زياد بأن يستأمن القوم و يلحق بأمير المؤمنين و أشار عثمان بالثبات و لو كان دونه الموت و قال : لا تخرج إلى أمير المؤمنين من العراق بعد أن رقاك إلى ما رقاك و فعلت ما فعلت بابن الزبير و الحجاز فقبل رأي عثمان و حقد على زياد في إشارته و جاءه عامر بن مسمع يقول : قد أخذ لك الأمان من الناس فجعل الحجاج يغالطه رافعا صوته عليه ليسمع الناس و يقول و الله لا آمنهم حتى تؤتوني بالهذيل بن عمران و عبد الله بن حكيم ثم أرسل إلى عبيد بن كعب الفهري أن إئتني فامنعني فقال له : إن أتبتني منعتك فأبى و بعث إلى محمد بن عمير بن عطارد و عبد الله بن حكيم بمثل ذلك و أجابوه مثله ثم إن عباد بن الحصين الجفطي مر بابن الجارود و الهذيل و عبد الله بن حكيم يتناجون فطلب الدخول معهم فأبوا و غضب و سار إلى الحجاج و جاءه قتيبة بن مسلم في بني أعصر للحمية القتيبية ثم جاءه سبرة بن علي الكلابي و جعفر بن عبد الرحمن بن مخثف الأزدي فثابت إليه نفسه و علم أنه قد امتنع و أرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع : إن شئت أتيتك و إن شئت أقمت و ثبطت عنك فأجابه أن أقم فلما أصبح إذا حوله ستة آلاف و قال ابن الجارود لعبد الله بن زياد بن ضبيان ما الرأي ؟ قال تركته أمس و لم يبق إلا الصبر ثم تراجعوا و عبى ابن الجارود و أصحابه على ميمنة الهذيل و على ميسرته سعيد بن أسلم و حمل ابن الجارود حتى حاصر أصحاب الحجاج و عطف الحجاج عليه فقارب ابن الجارود أن يظفر ثم أصابه سهم غرب فوقع ميتا و نادى منادي الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل و ابن حكيم و أمر أن لا يتبع المنهزمين و لحق ابن ضبيان بعمار فهلك هنالك و بعث الحجاج برأس ابن الجارود و رأس ثمانية عشر من أصحابه إلى الملك و نصبت ليراها الخوارج فيتأسوا من الاختلاف و حبس الحجاج عبيد بن كعب و محمد بن عمير لامتناعهما من الإتيان إليه و حبس ابن القبعثري لتحريضه عليه فأطلقه عبد الملك و كان فيمن قتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك فقال الحجاج : لا أرى أنسا يعين علي و دخل البصرة و أخذ ماله و جاءه أنس فأساء عليه و أفحش في كلمة في شتمه و كتب أنس إلى عبد الملك يشكوه فكتب عبد الملك إلى الحجاج يشتمه و يغلظ عليه في التهديد على ما فعل بأنس و أن تجيء إلى منزله و تتنصل إليه و إلا نبعث من يضرب ظهرك و يتهتك سترك قالوا وجعل الحجاج في قراءته يتغير و يرتعد و جبينه يرشح عرقا ثم جاء إلى أنس بن مالك و اعتذر إليه و في عقب هذه الواقعة خرج الزنج بفرات البصرة و قد كانوا قبل ذلك أيام مصعب و لم يكونوا بالكثير و أفسدوا الثمار و الزروع ثم جمع لهم خالد بن عبد الله فافترقوا قبل أن ينال منهم و قتل بعضهم و صلبه فلما كانت الواقعة قدموا عليهم رجلا منهم إسمه رياح و يلقب بشير زنجي أي أسد الزنج و أفسدوا فلما فرغ الحجاج من ابن الجارود أمر زياد بن عمر صاحب الشرطة أن يبعث إليهم من يقاتلهم و بعث إبنه حفصا في جيش فقتلوه و انهزم أصحابه فبعث جيشا فهزم الزنج و أبادهم (3/54)
مقتل ابن مخنف و حرب الخوارج
كان االمهلب و عبد الرحمن بن مخنف واقفين للخوراج برامهرمز فلما أمدهم الحجاج بالعساكر من الكوفة و البصرة تأخر الخوارج من رامهرمز إلى كازرون و أتبعهم العساكر حتى نزلوا بهم و خندق المهلب على نفسه و قال ابن مخنف و أصحابه خدمنا سيوفنا فبيتهم الخوارج و أصابوا الغرة في ابن مخنف فقاتل هو و أصحابه حتى قتلوا هكذا حديث أهل البصرة و أما أهل الكوفة فذكروا أنهم لما ناهضوا الخوارج اشتد القتال بينهم و مال الخوارج على المهلب فاضطروه إلى معسكره و أمده عبد الرحمن بالخيل و الرجال و لما رأى الخوارج مدده تركوا من يشغل المهلب و قصدوا عبد الرحمن فقاتلوه و انكشفوا عنه و صبر في سبعين من قومه فثابوا إلى عتاب بن ورقاء و قد أمره الحجاج أن يسمع فثقل ذلك عليه فلم يحسن بينهما العشرة و كان يتراءف في الكلام و ربما أغلظ له المهلب فأرسل عتاب إلى الحجاج يسأله القعود و كان حرب الخوارج و شبيب قد اتسع عليه فصادفا منه ذلك مرقعا و استقدمه و أمره أن يترك العسكر مع المهلب فولى المهلب عليهم ابنه حبيبا و أقام يقاتلهم بنيسابور نحوا من سنة و تحركت الخوارج على الحجاج من لدن سنة ستة و سبعين إلى سنة ثمان و شغل بحربهم و أول من خرج منهم صالح بن سرح من بني تميم بعث إليه العساكر فقتل فولوا عليهم شبيبا و اتبعه كثير من بني شيبان و بعث إليهم الحجاج العساكر مع الحرث بن عميرة ثم مع سفيان الخثعمي ثم انحدر ابن سعيد فهزموها و أقبل شبيب إلى الكوفة فحاربهم الحجاج و امتنع ثم سرح عليه العساكر و بعث في أثرهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فهزموهم ثم بعث عتاب بن ورقاء و زهرة بن حوية مددا لهم فانهزموا و قتل عتاب و زهرة ثم قتل شبيب و اختلف الخوارج بينهم و قتل منهم جماعة كما يذكر ذلك كله في أخبارهم (3/56)
ضرب السكة الإسلامية
كان عبد الملك كتب في صدر كتابه إلى الروم : { قل هو الله أحد } و ذكر النبي مع التاريخ فنكر ذلك ملك الروم و قال : اتركوه و إلا ذكرناه نبيكم في دنانير بما تكرهونه فعظم ذلك عليه و استشار الناس فأشار عليه خالد بن يزيد بضرب السكة و ترك دنانيرهم ففعل ثم نقش الحجاج فيها { هو الله أحد } فكره الناس ذلك لأنه قد يمسها غير الطاهر ثم بالغ في تخليص الذهب و الفضة من الغش و زاد ابن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك عليه ثم زاد خالد القسري عليهم في ذلك أيام هشام ثم أفرط يوسف بن عمر من بعدهم في المبالغة و امتحان العيار و ضرب عليه فكانت الهبيرية و الخالدية و اليوسفية أجود نقود بني أمية ثم أمر المنصور أن لا يقبل في الخراج غيرها و سميت النقود الأولى مكروهة إما لعدم جودتها أو لما نقش عليها الحجاج و كرهه و كانت دراهم العجم مختلفة بالصغر و الكبر فكان منها مثقال وزن عشرين قيراطا و إثني عشرة قراريط و هي أنصاف المثاقيل فجمعوا قراريط الأنصاف الثلاثة فكانت إثنين و أربعين فجعلوا ثلثها و هو إثنا عشر قيراطا وزن الدهم العربي فكانت كل عشرة دراهم تزن مثاقيل و قيل إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله و الأصح أن عبد الملك أول من ضرب السكة في الإسلام (3/57)
مقتل بكير بن وشاح بخراسان
قد تقدم لنا عزل بكير عن خراسان و ولاية أمية بن عبيد الله بن خالد بن أسيد سنة اربع و سبعين و أن بكيرا أقام في سلطان أمية بخراسان و كان يكرمه و يدعوه لولاية شاء من أعمال خراسان فلا يجيب و أنه ولاه طخارستان وتجهز لها فيه بجير بن ورقاء فمنعه ثم أمره بالتجهز لغزو ما وراء النهر فحذره منه بجير فرده فغضب بكير ثم تجهز أمية لغزو غارا و موسى بن عبد الله بن حازم لترمذ و استخلف ابنه على خراسان فلما أراد قطع النهر قال لبكير : إرجع مرو فأكفنيها فقد وليتكها و قم بأمر ابن حازم فإني أخشى أن لا يضبطها فانتخب من وثق من أصحابه و رجع و أشار عليه صاحبه عتاب بأن يحرق السفن و يرجع إلى مرو فيخلع أمية و وافقه الأحنف بن عبد الله العنبري على ذلك فقال لهم بكير : أخشى على من معي قالوا نأتيك من أهل مرو بمن تشاء قال : يهلك المسلمون قال ناد في الناس برفع الخراج فيكونون معك قال فيهلك أمية و أصحابه قال لهم عدد و عدد يقاتلون عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين فأحرق بكير السفن و رجع إلى مرو فخلع أمية و حبس إبنه و بلغ الخبر أمية فصالح أهل الشام بخارى و رجع و أمر باتخاذ السفن و عبر و جاءه موسى بن عبد الله بن حازم من مددا له و بعث شماس بن و بعث شماس بن ورقاء في ثمانمائة في مقدمته فبيته بكير و هزمه فبعث مكانه ثابت بن عطية فهزمه ثم التقى أمية و بكير فاقتتلوا أياما ثم انهزم بكير إلى مرو و حاصره أمية حتى سأل الصلح على ولاية ما شاء من خراسان و أن يقضي عنه أربعمائة ألف دينه و يصل أصحابه و لا يقبل فيه سعاية بجير فتم الصلح و دخل أمية مدينة مرو و أعاد بكيرا إلى ما كان عليه من الكرامة و أعطى عتاب العدابي عشرين ألفا و عزل بجير عن شرطته بعطا بن أبي السائب و قيل إن بكيرا لم يصحب أمية إلى النهر و إنما استخلفه على مرو فلما عبر أمية النهر خلع و فعل ما فعل ثم أن بجيرا سعى بأمية بأن بكيرا دعاه إلى الخلاف و شهد عليه جماعة من أصحابه و أن معه إبني أخيه فقبض عليه أمية و قتله و قتل معه إبني أخيه و ذلك سنة سبع و سبعين ثم عبر النهر لغزو بلخ فحصره الترك حتى جهد هو و عسكره و أشرفوا على الهلاك ثم نجوا و رجعوا إلى مرو (3/58)
مقتل بجير بن زياد
و لما قتل بكير بسعاية بجير بن ورقاء تعاقد بنو سعد بن عوف من تميم و هم عشيرته على الطلب بدمه و خرج فتى منهم من البادية إسمه شمردل و قدم خراسان و وقف يوما على بجير فطعنه فصرعه و لم يمت و قتل شمردل و جاء مكانه صعصعة بن حرب العوفي و مضى إلى سجستان و جاور قرابة بجير مدة و انتسب إلى خنفية ثم قال لهم : إن لي بخراسان ميراثا فاكتبوا إلى بجير يعينني فكتبوا له و جاء إليه و أخبره بنسبه و ميراثه و أقام عنده شهرا يحضر باب المهلب و قد أنس به و أمن عائلته و جاء صعصعة يوما و هو عند المهلب في قميص و رداء و دنا ليكلمه فطعنه و مات من الغد و قال صعصعة فمنعته مقاعس و قالوا أخذ بثأره فحمل المهلب دم صعصعة و جعل دم بجير ببكير و قيل إن المهلب بعثه إلى بجير فقتله و الله أعلم و كان ذلك سنة إحدى و ثمانين (3/59)
ولاية الحجاج على خراسان و سجستان
و في سنة ثمان و سبعين عزل عبد الملك أمية بن عبد الله عن خراسان و سجستان و ضمهما إلى الحجاج بن يوسف فبعث المهلب بن أبي صفرة على خراسان و قد كان فرغ من حرب الأزارقة فاستدعاه و أجلسه معه على السرير و أحسن إلى أهل البلاد من أصحابه و زادهم و بعث عبيد الله بن أبي بكرة على سجستان فأما المهلب فقدم إبنه حبيبا إلى خراسان فلم يعرض لأمية و لا لعماله حتى قدم أبوه المهلب بعد سنة من ولايته و سار في خمسة آلاف و قطع النهر الغربي و ما وراء النهر و على مقدمته أبو الأدهم الرماني في ثلاثة آلاف فنزل على كش و جاءه ابن عمر الختن يستنجده على ابن عمه فبعث معه ابنه يزيد فبيت ابن العم عساكر الختن و قتل الملك و جاءه صر يريد قلعتهم حتى صالحوا بما رضي و رجع و بعث ابنه حبيبا في أربعة آلاف صاحب بخارى في أربعين ألفا و كبس بعض جنده في قرية فقتلهم و أحرقها و رجع إلى أبيه و أقام المهلب يحاصر كش سنتين حتى صالحوه على فدية و أما عبد الله بن أبي بكرة فأقام بسجستان و رتبيل على صلحه يؤدي الخراج ثم امتنع فأمر الحجاج ابن أبي بكرة فغزوه و استباحوا بلاده فسار في أهل المصرين و على أهل الكوفة شريح بن هانئ من أصحاب علي فدخل بلاد رتبيل و توغل فيها حتى كانوا على ثمانية عشر فرسخا من مدينتهم و أثخن و استباح و خرب القرى و الحصون ثم أخذ الترك عليهم القرى و الشعاب حتى ظنوا الهلكة فصالحهم عبيد الله على الخروج من أرضهم على أن يعطيهم سبعمائة ألف درهم و نكر ذلك عليه شريح و أبى إلا القتال و حرض الناس و رجع و قتل حين قتل في ناس من أصحابه و نجا الباقون و خرجوا من بلاد رتبيل و لقيهم الناس بالأطعمة فكانوا يموتون إذا شبعوا فجعلوا يطعمونهم السمن قليلا قليلا حتى استمروا و كتب الحجاج إلى عبد الملك يستأذنه في غزو بلاد رتبيل فأذن له فجهز عشرين ألف فارس من الكوفة و عشرين ألفا من البصرة و اختار أهل الغنى و الشجاعة و أزاح عللهم و أنفق فيهم ألفي ألف سوى أعطياتهم و أخذهم بالخيل الرائعة و السلاح الكامل و بعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث و كان يبغضه و يقول أريد قتله و يخبر الشعبي بذلك عبد الرحمن فيقول أنا أزيله عن سلطانه فلما بعثه على ذلك الجيش تنصح أخوه إسماعيل للحجاج و قال لا تبعثه فإني أخشى خلافه فقال هو أهيب لي من أن يخالف أمري و سار عبد الرحمن في الجيش و قدم سجستان و استنفرهم و حذر العقوبة لمن يتعدى و ساروا جميعا إلى بلاد رتبيل و بذل الخراج فلم يقبل منه و دخل بلاده فحواها شيئا فشيئا و بعث عماله عليها و رجع المصالح بالنواحي و الأرصاد على العقاب و الشعاب و امتلأت أيدي الناس من الغنائم و منع من التوغل في البلاد إلى قابل و قد قيل في بعث عبد الرحمن بن الأشعث غير هذا أن الحجاج كان قد أنزل هميان بن عدي السدي مسلحة بكرمان إن احتاج إليه عامل السند و سجستان فمضى هميان فبعث الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث فهزمه و قام بموضعه ثم مات عبد الله بن أبي بكرة فولاه الحجاج مكانه و جهز إليه هذا الجيش و كان يسمى جيش الطواويس لحسن زيهم (3/59)
أخبار ابن الأشعث و مقتله
و لما وصل كتاب ابن الأشعث إلى الحجاج كتب إليه يوبخه على القعود عن التوغل و يأمره بالمضي لما أمره به من هدم حصونهم و قتل مقاتليهم و سبي ذراريهم و أعاد عليه الكتاب بذلك ثانيا و ثالثا و قال له : إن مضيت و إلا فأخوك إسحق أمير الناس فجمع عبد الرحمن الناس ورد الرأي عليهم و قال : قد كنا عزمنا جميعا على ترك التوغل في بلد العدو و رأينا رأيا و كتب بذلك إلى الحجاج و هذا كتابه يستعجزني و يستضعفني و يأمرني بالتوغل بكم و أنا رجل منكم فثار الناس و قالوا : لا نسمع و لا نطيع للحجاج و قال أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني : اخلعوا عدو الله الحجاج و بايعوا الأمير عبد الرحمن فتنادى الناس من كل جانب فعلنا فعلنا و قال عبد المؤمن بن شيث بن ربعي : انصرفوا إلى عدو الله الحجاج فانفوه عن بلادكم و وثب الناس إلى عبد الرحمن على خلع الحجاج و نفيه من العراق و على النصرة له و لم يذكر عبد الملك و صالح عبد الرحمن رتبيل على أنه إن ظهر فلا خراج على رتبيل ما بقي من الدهر و إن هزم منعه ممن يريده و جعل عبد الرحمن على سبت عياض بن هميان الشيباني و على رومج عبد الله بن عامر التميمي و على كرمان حرثة بن عمر التميمي ثم سار إلى العراق في جموعه و أعشى همدان بين يديه يجري بمدحه و ذم الحجاج و على مقدمته عطية بن عمير العيرني و لما بلغ فارس بدا للناس في أمر عبد الملك و قالوا إذا خلعنا الحجاج فقد خلعناه فخلعه الناس و بايعوا عبد الرحمن على السنة و على جهاد أهل الضلالة و المخلين و خلعهم و كتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره و يستمده و كتب المهلب إلى الحجاج بأن لا يعترض أهل العراق حتى يسقطوا إلى أهليهم فنكر كتابه و اتهمه و جند عبد الملك الجند إلى الحجاج فساروا إليه متتابعين و سار الحجاج من البصرة فنزل تستر و بعث مقدمة خيل فهزمهم أصحاب عبد الرحمن بعد قتال شديد و قتل منهم جمعا كثيرا و ذلك في أضحى إحدى و ثمانين و أجفل الحجاج إلى البصرة ثم تأخر عنها إلى الغاوية و راجع كتاب المهلب فعلم نصيحته و دخل عبد الرحمن البصرة فبايعه أهلها و سائر نواحيها لأن الحجاج كان اشتد على الناس في الخراج و أمر من دخل الأمصار أن يرجع إلى القرى يستوفي الجزية فنكر ذلك الناس و جعل أهل القرى يبكون منه فلما قدم عبد الرحمن بايعوه على حرب الحجاج و خلع عبد الملك ثم اشتد القتال بينهم في المحرم سنة إثنتين و ثمانين و تزاحفوا على حرب الحجاج و خلع عبد الملك و انهزم أهل العراق و قصدوا الكوفة و انهزم منهم خلق كثير و فشا القتل في القرى فقتل منهم عقبة بن الغافر الأزدي في جماعة استلحموا معه و قتل الحجاج بعد الهزيمة منهم عشرة آلاف و كان هذا اليوم يسمى يوم الراوية و اجتمع من بقي بالبصرة على عبد الرحمن ابن عباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب و بايعوه فقاتل بهم الحجاج خمس ليال ثم لحق بابن الأشعث بالكوفة ربيعة طائفة من أهل البصرة و لما جاء عبد الرحمن الكوفة و خليفة الحجاج عليها عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله الحضرمي وثب مع مطر بن ناجية من بني تميم مع أهل الكوفة فاستولى على القصر و أخرجه فلما وصل ابن الأشعث لقيه أهل الكوفة و احتف به همدان و جاء إلى القصر فمنعه مطر فصعد الناس القصر و أخذوه فحبسه عبد الرحمن و ملك الكوفة ثم إن الحجاج استعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي و رجع إلى الكوفة فنزل دوير فيرة و نزل عبد الرحمن دير الجماجم و اجتمع إلى كل واحد أمداده و خندق على نفسه و بعث عبد الملك إبنه عبد الله و أخاه محمدا في جند كثيف و أمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجاج و يجرى عليهم أعطياتهم كأهل الشام و ينزل عبد الرحمن إلى أي بلد شاء عاملا لعبد الملك فوجم الحجاج لذلك و كتب إلى عبد الملك : إن هذا ممن يزيدهم جراءة و ذكره بقضية عثمان و سعيد بن العاص فأبى عبد الملك من رأيه و عرض عبد الله و محمد بن مروان ما جاء به عبد الملك و تشاور أهل العراق بينهم و أشار عليهم عبد الرحمن بقبول ذلك و أن العزة لهم على عبد الملك لا تزول فتوثبوا من كل جانب منكرين لذلك و مجددين الخلع و تقدمهم في ذلك عبد الله بن دواب السلمي و عمير بن تيحان ثم برزوا للقتال و جعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي و على ميسرته عمارة بن تميم اللخمي و على الخيل سفيان بن الأبرد الكلبي و على الرجالة عبد الله بن حبيب الحكمي و جعل عبد الرحمن على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي و على ميسرته الأبرد بن قرة التميمي و على خيله عبد الرحمن ابن العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب و على رجالته محمد بن سعد بن أبي وقاص و على مجنبته عبد الله بن رزم الحرشي و على القرى جبلة بن زخر بن قيس الجعفي و فيهم سعيد بن جبير و عامر الشعبي و أبو البحتري الطائي و عبد الرحمن بن أبي ليلى ثم أقاموا يتزاحفون كل يوم و يقتتلون بقية سنتهم و كتيبة القرى معروفة بالصبر يحملون عليها فلا تنتقص فعبى الحجاج ثلاث كتائب مع الجراح بن عبد الله الحكمي و حملوا على القرى ثلاث حملات و جبلة يحرض القرى و يبيتهم و الشعبي و سعيد بن جبير كذلك ثم حملوا على الكتائب ففرقوها و أزالوها عن مكانها و تأخر جبلة عنهم ليكون لهم فئة يرجعون إليه و أبصره الوليد بن نجيب الكلبي فقصده في جماعة من أهل الشام و قتله و جيء برأسه إلى الحجاج و قدموا عليهم مكانه و ظهر القتل في القرى ثم اقتتلوا بعد ذلك ما يزيد على مائة يوم كثر فيها القتلى و المبارزة ثم اقتتلوا يوما في منتصف جمادى الآخرة و حمل سفيان بن الأبرد في ميمنة الحجاج على ميسرة عبد الرحمن فانهزم الأبرد بن قرة من غير قتال فتقوضت صفوف الميمنة و ركبهم أصحاب الحجاج ثم انهزم عبد الرحمن و أصحابه ومضى الحجاج إلى الكوفة و محمد بن مروان إلى الموصل و عبد الله بن عبد الملك إلى الشام و أخذ الحجاج الناس على أن يشهدوا على أنفسهم بالكفر و قتل من أبي ودعا بكميل بن زياد صاحب علي فقتله لاقتصاصه ثم أقام بالكوفة شهرا و أنزل أهل الشام في بيوت أهل الكوفة و لحق ابن الأشعث بالبصرة إليه جموع المنهزمين و معه عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة و لحق به محمد بن سعد بن أبي وقاص بالمدائن و سار نحو الحجاج و معه بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني كان قدم عليه قبل الهزيمة من الري و كان انتقض بها ثم غلب عليها و لحق بعبد الرحمن فكان معه و بايع عبد الرحمن خلق كثير على الموت و نزل مسكن و خندق عليه و على أصحابه و الحجاج قبالتهم و قاتلهم خالد بن جرير بن عبد الله و كان قدم من خراسان في بعث الكوفة فقاتلهم خمسة عشر يوما من شعبان أشد قتال و قتل زياد بن غنيم القيني و كان علي صالح الحجاج فهد منهم ثم أبى بكر القتال و حل بسطام بن مصقلة بن هبيرة في أربعة آلاف من فرسان الكوفة و البصرة كسروا جفون سيوفهم و حملوا على أهل الشام فكشفوا الشام فكشفوهم مرارا و أحاط بهم الرماة و لحقوا فقتلوا و حمل عبد الملك بن المهلب على أصحاب عبد الرحمن فكشفوهم ثم حمل أصحاب الحجاج من كل جانب فانهزم عبد الرحمن و أصحابه و قتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه و أبو البحتري الطائي و معلى بن الأشعث نحو سجستان و يقال إن بعض الأعراب جاء إلى الحجاج فدله على طريق من وراء معسكر ابن الأشعث فبعث معه أربعة آلاف جاؤا من ورائه و أصبح الحجاج فقاتله و استطرد له حتى نهب معسكره و أقبلت السرية من الليل إلى معسكر ابن الأشعث و كان الغرقى منهم أكثر من القتلى و جاء الحجاج إلى المعسكر فقتل من وجد فيه و كان عدة القتلى أربعة آلاف منهم : عبد الله بن شداد بن الهادي و بسطام بن مصقلة و عمر بن ربيعة الرقاشي و بشر بن المنذر الجارود و غيرهم و لما سار ابن الأشعث إلى سجستان أتبعه الحجاج بالعساكر و عليهم عمارة بن تميم اللخمي و معهم محمد بن الحجاج فأدركوه بالسوس فقاتلوه و انهزم إلى سابور واجتمع إليه الأكراد و قاتلوا العساكر قتالا شديدا فهزم و خرج عمارة و لحق ابن الأشعث بكرمان فلقيه عامله بها و هيأ له النزول فنزل ثم رحل إلى زرنج فمنعه عامله من الدخول فحاصرها أياما ثم سار إلى بست و عليها من قبله عياض بن هميان بن هشام السلوبي الشيباني ثم استغفله فأوثقه و كان رتبيل ملك الترك قد سار ليستقبله و نزل على بست و تهدد عياضا فأطلقه و حمل رتبيل إلى بلاده و أنزله عنده و اجتمع المنهزمون فاتفقوا على قصد خراسان لينموا بعشائرهم و قصدوا للصلاة عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحرث و كتبوا إلى عبد الرحمن بن الأشعث يستقدمونه فقدم عليهم و ثناهم عن قصد خراسان مخافة من سطوة يزيد بن المهلب و أن يجتمع أهل الشام و أهل خراسان فأبوا و قالوا بل يكثر بها تابعنا فسار معهم إلى هراة فهرب عنهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة فخشي الانتقاض و قال : إنما أتيتكم و أمركم جميعا و أنا الآن منصرف إلى صاحبي الذي جئت من عنده يعني رتبيل و رجع عنهم في قليل و بقي معظم العسكر مع عبد الرحمن بن العباس بسجستان فجمع بابن الأشعث و سار إلى خراسان في عشرين ألفا و نزل هراة و لقوا الرقاد فقتلوه و بعث إليه يزيد بن المهلب بالرحلة من البلاد فقال إنما نزلنا لنستريح و نرتحل ثم أخذ في الجباية و سار نحوه يزيد بن المهلب و التقوا فافترق أصحاب عبد الرحمن عنه و صبرت معه طائفة ثم انهزموا و أمر يزيد بالكف عنهم و غنم ما في عسكرهم و أسر جماعة منهم فيهم محمد بن سعد بن أبي وقاص و عمر بن موسى بن عبد الله بن معمر و عباس بن الأسود بن عوف و الهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة و فيروز و أبوا العلج مولى عبيد الله بن معمر و سوار بن مروان و عبد الله بن طلحة الطلحات و عبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي و لحق عبد الرحمن بن العباس بالسند و أتى ابن سمرة إلى مرو و انصرف يزيد إلى مرو و بعث بالأسرى إلى الحجاج مع سيدة بن نجدة و قال له أخوه حبيب : ألا تبعث عبد الرحمن بن طلحة ؟ فإن له عندنا يدين و قد ودى عن المهلب لأبوه طلحة مائة ألف فتركه و ترك عبد الله بن فضالة لأنه من الازد و بعث الباقين و قدموا عليه بمكان واسط قبل بنائها فدعا بفيروز و قال : ما أخرجك مع هؤلاء و ليس بينك و بينهم نسب ؟ قال : فتنة عمت الناس قال : أكتب أمولك فكتب ألفي ألف و أكثر فقال للحجاج : و أنا آمن على دمي ؟ قال : لا و الله لتؤدينها ثم أقتلك قال : لا تجمع مالي و دمي و أمر به فنحي ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقاص فوبخه طويلا ثم أمر به فقتل ثم دعا بعمر بن موسى فوبخه و لاطفه في العذر فلم يقبل ثم أمر به فقتل ثم أحضر الهلقام بن نعيم فوبخه و قال : ابن الأشعث طلب الممالك فالذي طلبت أنت ؟ قال : أن توليني العراق مكانه فأمر به فقتل ثم أحضر عبد الله بن عامر فعذله في عبد الله يزيد بن المهلب لأنه أطلق قومه من الأسر و قاد نحوه مطرا فأطرق الحجاج ثم قال : ما أنت و ذاك ؟ ثم أمر به فقتل فلم يزل في نفسه من يزيد حتى عزله ثم أمر بفيروز فعذب و لما أحس بالموت قال أظهروني للناس ليردوا علي ودائعي فلما ظهر نادى من كان لي عنده شيء فهو في حل فأمر به فقتل و أمر بقتل عمر بن فهر الكندي و كان شريفا و أحضر أعشى همدان و استنشده قصيدته بين الأثلج و بين قيس و فيها تحريض ابن الأشعث و أصحابه فقال : ليست هذه و إنما التي بين الأثلج و بين قيس بارق على روي الدال فأنشده فلما بلغ قوله بخ بخ للوالدة و للمولود قال : و الله لا تبخبخ بعدها أبدا و قتل و سأل الحجاج عن الشعبي فقال له يزيد بن أبي مسلم إنه لحق بالري فكتب إلى قتيبة بن مسلم و هو عامله على الري بإرسال الشعبي فقدم على الحجاج سنة ثلاث و ثمانين و كان ابن أبي مسلم له صديقا فأشار عليه بحسن الإعتذار فلما دخل على الحجاج سلم عليه بالأمرة و قال : و أيم الله لا أقول إلا الحق قد و الله حرضنا و جهدنا فما كنا أقوياء فجرة و لا أتقياء بررة و قد نصرك الله و ظفرت فإن سطوت فبذنوبنا و إن عفوت فبحلمك و الحجة لك علينا فقال الحجاج : هذا و الله أحب إلي ممن يقول ما شهدت و لا فعلت و سيفه يقطر من دمائنا ثم أمنه و انصرف و لما ظفر الحجاج بابن الأشعث و هزمه لحق كثير من المنهزمين بعمر بن الصلت و قد كان غلب على الري تلك الفتنة فلما اجتمعوا أرادوا أن يحظوا عند الحجاج و يمحوا عن ذنب الجماجم فأشاروا على عمر بخلع الحجاج فامتنع فدسوا عليه أباه فأجاب و لما سار قتيبة إلى الري خرجوا مع عمر لقتاله ثم غدروا به فانهزم و لحق بطبرستان و أقره الأصبهبد و أحسن إليه و أرادوا الوثوب على الأصبهبد فشاور أباه و قال : قد علمت الأعاجم أني أشرف منه فمنعه أبوه ودخل قتيبة الري و كتب الحجاج إلى الأصبهبد أن يبعث بهم أو برؤسهم ففعل ذلك : و لما انصرف عبد الرحمن بن الأشعث من هراة إلى رتبيل قال له علقمة ابن عمر الازدي : لا أدخل معك دار الحرب لأن رتبيل إن دخل إليه الحجاج فيك و في أصحابك قتلكم أو أسلمكم إليه و نحن خمسمائة قد تبايعنا على أن نتحصن بمدينة حتى نأمن أو نموت كراما و قدم عليهم مودود البصري و زحف إليهم عمارة بن تميم اللخمي و حاصرهم حتى استأمنوا فخرجوا إليه و قلاهم و تتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل و زحف عليه و أغرىفي عبد الرحمن يرهبه و يرغبه و كان عبيد بن سميع التميمي من أصحاب الأشعث و كان رسوله إلى رتبيل أولا فأنس به رتبيل و زحف عليه و أغرى القاسم بن الأشعث أخاه عبد الرحمن فخافه وزير لرتبيل أخذ العهد من الحجاج و إسلام عبد الرحمن إليه على أن يكف عن أرضه سبع سنين فأجابه رتبيل و خرج إلى عمارة سرا و كتب عمارة إلى الحجاج بذلك فأجاب و كتب له بالكف عنه عشر سنين و بعث إليه رتبيل برأس عبد الرحمن و قيل مات بالسل فقطع رأسه و بعث به و قيل أرسله مقيدا مع ثلاثين من أهل بيته إلى عمارة فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح القصر فمات فبعث عمارة برأسه و ذلك سنة أربع أو خمس و ثمانين
قد كنا قدمنا حصار المهلب مدينة كش من وراء النهر فأقام عليها سنتين و كان استخلف على خراسان إبنه المغيرة فمات سنة إثنتين و ثمانين فجزع عليه و بعث إبنه يزيد إلى مرو و مكنه في سبعين فارسا و لقيهم في مفازة نسف جمع من الترك يقاربون الخمسمائة فقاتلوا قتالا شديدا يطلبون ما في أيديهم و المغيرة يمتنع حتى أعطى بعض أصحابه لبعضهم شيئا من المتاع و السلاح و لحقوا بهم و لحق يزيد بمرو ثم سأل أهل كش من المهلب الصلح على مال يعطونه فاسترهن منهم رهنا من أبنائهم في ذلك و انفتل المهلب و خلف حريث بن قطنة مولى خزاعة ليأخذ الفدية و يرد الرهن فلما صار ببلخ كتب إليه : لا تخل الرهن و إن قبضت الفدية حتى تقدم أرض بلخ لئلا يغيروا عليك فأقرأ صاحب كش كتابة و قال : و إن عجلت أعطيتك الرهن و أقول له جاء الكتاب بعد إعطائه فعجل صاحب كش بالفدية و أخذ الرهن و عرض له الترك كما عرضوا ليزيد و قاتلهم فقتلهم و أسر منهم أسرى ففدوهم فردا فردا و أطلقهم و لما وصل إلى المهلب ضربه ثلاثين سوطا عقوبة على مخالفة كتابه في الرهن فخلف حريث بن قطنة ليقتلن المهلب و خاف ثابتا أن كان ذلك المسير إليه فبعث إليه المهلب أخاه ثابت بن قطنة يلاطفه فأبى و حلف ليقتلن المهلب و خاف ثابت إن كان ذلك أن يقتلوا جميعا فأشار عليه باللحاق بموسى بن عبد الله بن حازم فلحق به في ثلثمائة من أصحابهما ثم هلك المهلب و استخلف ابنه يزيد و أوصى إبنه حبيبا بالصلاة و أوصى ولده جميعا بالاجتماع و الإلفة ثم قال : أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسىء في الأجل و تثري و تكثر العدد و أنهاكم عن القطيعة فإنها تعقب النار و الذلة و القلة و عليكم بالطاعة و الجماعة و لتكن فعالكم أفضل من مقالكم و اتقوا الجواب وزلة اللسان فإن الرجل تزل قدمه فينعش و يزل لسانه فيهلك و اعرفوا لمن يغشاكم حقه فكفى بغدو الرجل و رواحه إليكم تذكرة له و آثروا الجود على البخل و أحبوا العرف و اصنعوا المعروف فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت فكيف بالصنيعة عنده و عليكم في الحرب بالتؤدة و المكيدة فإنها أنفع من الشجاعة و إذا كان اللقاء نزل القضاء و إن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر وجهه فظفر و إن يظفر قيل ما فرط و لا ضيع و لكن القضاء غالب و عليكم بقراءة القرآن و تعلم السنن و آداب الصالحين و إياكم و كثرة الكلام في مجالسكم ثم مات و ذلك سنة إثنتين و ثمانين و يقال إنه لما حثهم على الإلفة و الإجتماع أحضر سهاما محزومة فقال : أتكسرون هذه مجتمعة ؟ قالوا : لا قال : فتكسرونها مفترقة ؟ قالوا : نعم قال : فهكذا الجماعة و استولى يزيد على خراسان بعد أبيه و كتب له الحجاج بالعهد عليها ثم وضع العيون على بيزك حتى بلغه خروجه عن قلعته فسار إليها و حاصرها ففتحها و غنم ما كان فيها من الأموال و الذخائر و كانت من أحصن القلاع و كان بيزك إذا أشرف عليها يسجد لها و لما فتحها كتب إلى الحجاج بالفتح و كان كاتبه يعمر العدواني حليف هذيل فكتب : إنا لقينا العدو فمنحنا الله أكنافهم فقتلنا طائفة و لحقت طائفة برؤس الجبال و مهامه الأودية و أهضام الغيطان و أفناء الأنهار فقال الحجاج : من يكتب ليزيد ؟ قيل : يحيى بن يعمر فكتب بحمله على البريد فلما جاءه قال : أين ولدت ؟ قال : بالأهواز قال : فمن أين هذه الفصاحة ؟ قال : حفظت من أولاد أبي و كان فصيحا قال : يلحن عنبسة بن سعيد ؟ قال : نعم كثيرا قال ففلان ؟ قال : نعم قال : فأنا ؟ قال : تلحن خفيفا تجعل أن موضع إن موضع أن قال : أجلتك ثلاثا و إن و جدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان (3/61)
بناء الحجاج مدينة واسط
كان الحجاج ينزل أهل الشام على أهل الكوفة فضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان سنة ثلاث و ثمانين و عسكروا قريبا من الكوفة حتى يستتموا و رجع منهم ذات ليلة فتى حديث عهد بعرس بابنه عمه فطرق و دق الباب فلم يفتح له إلا بعد هنيهة و إذا سكران من أهل الشام فشكت إليه إبنه عمه مراودته إياها فقال لها : ائذني له فأذنت له و جاء فقتله الفتى و خرج إلى العسكر و قال : إبعثي إلى الشاميين و ارفعي إليهم صاحبهم فأحضروها عند الحجاج فأخبرته فقال : صدقت ! و قال للشاميين لا قود له و لا عقل فإنه قتيل الله إلى النار ثم نادى مناديه لا ينزل أحد على أحد و بعث الرواد فارتادوا له مكان واسط و وجد هناك راهبا ينظف بقعته من النجاسات فقال : ما هذه ؟ قال : نجد كتبنا أنه ينشأ ههنا مسجد للعبادة فاختط الحجاج مدينة واسط هنالك و بنى المسجد هنالك و بنى المسجد في تلك البقعة (3/68)
عزل يزيد عن خراسان
يقال إن الحجاج وفد إلى عبد الملك و مر في طريقه براهب قيل له إن عنده علما من الحدثان فقال : هل تجدون في كتابكم ما أنتم فيه ؟ قال : نعم فقال : مسمى أو موصوفا ؟ قال : موصوفا قال فما تجدون صفة ملكنا ؟ قال : صفته كذا قال ثم من ؟ قال : آخر اسمه الوليد قال : ثم من ؟ قال : آخر اسمه ثقفي قال فمن تجد بعدي قال رجل يدعى يزيد قال أتعرف صفته قال لا أعرف صفته إلا أنه يغدر غدرة فوقع في نفسي الحجاج أنه يزيد بن المهلب و وجل منه و قدم على عبد الملك ثم عاد إلى خراسان و كتب إلى عبد الملك يذم يزيد و آل المهلب و أنهم زبيرية فكتب إليه إن وفاءهم لآل الزبير يدعوهم إلى الوفاء لي فكتب إليه الحجاج يخونه غدرهم و ما يقول الراهب فكتب إليه عبد الملك إنك أكثرت في يزيد فانظر من تولي مكانه فسمى له قتيبة بن مسلم فكتب له أن يوليه و كره الحجاج أن يكتبه بالعزل فاستقدمه و أمره أن يستخلف أخاه المفضل و استشار يزيد حصن بن المنذر الرقاشي فقال له : أقم و اعتل و كاتب عبد الملك فإنه حسن الرأي فيك نحن أهل بيت بورك لنا في الطاعة و أنا أكره الخلاف و أخذ يتجهز و أبطأ فكتب الحجاج إلى المفضل بولاية خراسان و استلحاق يزيد فقال : إنه لا يضرك بعدي و إنما ولاك مخافة أن امثنع و خرج يزيد في ربيع سنة خمس و ثمانين ثم عزل المفضل لتسعة أشهر من ولايته و ولى قتيبة بن مسلم و قيل سبب عزل اليزيد أن الحجاج أذل العراق كلهم إلا آل المهلب و كان يستقدم يزيد فيعتل عليه بالعدا و الحروب و قيل كتب إليه أن يغزو خوارزم فاعتذر إليه بأنها قليلة السلب شديدة الكلف ثم استقدمه بعد ذلك فقال إني أغزو خوارزم فكتب الحجاج لا تغزها فغزاها و أصاب سبيا و صالحه أهلها و انفتل في الشتاء و أصاب البرد فتدثروا بلباس الأسرى فبقوا عرايا و قتلهم المفضل و لما ولى المفضل خراسان غزا باذغيس ففتحها و أصاب مغنما و أصاب مغنما فقسمه ثم غزا شومان فغنم و قسم ما أصابه (3/68)
مقتل موسى بن حازم
كان عبد الله بن حازم لما قتل بني تميم بخراسان و افترقوا عليه فخرج إلى نيسابور و خاف بنو تميم على ثقله بمرو فقال لابنه موسى : اقطع نهر بلخ حتى نلتجئ إلى بعض الملوك أو إلى حصن نقيم فيه فسار موسى عن مرو في مائتين و عشرين فارسا و اجتمع إليه شبه الأربعمائة و قوم من بين سليم و أتى قم فقاتله أهلها فظفر بهم و أصاب منهم مالا و قطع النهر و سأل صاحب بخارى أن يأوي إليه فأبى و خافه و بعث إليه بصلة فسار عنه و عرض نفسه على ملوك الترك فأبوا خشية منه و أتى سمرقند فأذن له ملكها طرخون ملك الصغد في المقام فأقام و بلغه قتل أبيه عبد الله بن حازم و لم يزل مقيما بسمرقند و بارز بعض أصحابه يوما بعض الصغد فقتله فأخرجه طرخون عنه فأتى كش فنزلها و لم يطق صاحبها مدافعته و استجاش عليه بطرخون فخرج موسى للقائه و قد اجتمع معه سبعمائة فارس فاقتتلوا إلى الليل و دس موسى بعض أصحابه إلى طرخون يخوفه عاقبة أمره و أن كل من يأتي خراسان يطالبه بدمه فقال : يرتحل عن كش ؟ فقال له : نعم ! و كف حتى ارتحل و أتى ترمذ فنزل إلى جانب حصن بها مشرف على النهر و أبى ملك ترمذ من تمليكه الحصن فأقام هنالك و لاطف الملك و تودد له و صار يتصيد معه و صنع له الملك يوما طعاما وأحضره في مائة من أصحابه ليأكلوا فلما طعموا امتنعوا من الذهاب و قال موسى هذا الحصن إما بيتي أو قبري و قاتلهم فقتل منهم عدة و استولى على الحصن و أخرج ملك ترمذ و لم يتعرض لله و لا لأصحابه و لحق به جمع من أصحاب أبيه فقوي بهم و كان يغير على ما حوله و لما ولي أمية خراسان سار لغزوه و خالفه بكير كما تقدم ثم بعث إليه بعد صلحه مع بكير الجيوش مع رجل من خزاعة و حاصروه و عاود ملك ترمذ إستنصاره بالترك في جمع كثير و نزلوا عليه من جانب آخر و كان يقاتل العرب أول النهار و الترك آخره ثلاثة أشهر ثم بيت الترك ليلة فهزمهم و حوى عسكرهم بما فيه من المال و السلاح و لم يهلك من أصحابه إلا ستة عشر رجلا و أصبح الخزاعي و العرب و قد خافوا مثلها و إذا عمر بن خالد بن حصين الكلابي على موسى بن حازم و كان صاحبه فقال : إنا لانظفر إلا بمكيدة فاضربني و خلني فضربه خمسين سوطا فلحق بالخزاعي و قال : إن ابن حازم اتهمني بعصبيتكم و أني عين لكم فأمنه الخزاعي و أقام عنده و دخل عليه يوما و هو خال فقال له : لا ينبغي أن تكون بغير سلاح فرفع طرف فراشه و أراه سيفا منتضى تحته فضربه عمر حتى قتله و لحق بموسى و تفرق الجيش و استأمن بعضهم موسى و لما ولي المهلب على خراسان قال لبنيه : إياكم و موسى فإنه إن مات جاء على خراسان أمير من قيس ثم لحق به حريث و ثابت ابنا قطنة الخزاعي فكانا معه و لما ولي يزيد أخذ أموالهما و حرمهما و قتل أخاهما للأم الحرث بن معقد فسار ثابت إلى طرخون صريخا و كان محببا إلى الترك فغضب له طرخون وجمع له نيزك و ملك الصغد و أهل بخارى و الصاغان فقدموا ثابت إلى موسى و قد اجتمع عليه فل عبد الرحمن بن عباس من هراة و فل ابن الأشعث من العراق و من كابل فكان معه نحو ثمانية آلاف فقال له ثابت و حريث : سر بنا فب هذا العسكر مع الترك فنخرج يزيد من خراسان و نوليك فحذر موسى أن يغلباه على خراسان و نصحه بعض أصحابه في ذلك فقال لهما : إن أخرجنا يزيد قدم عامل المدينة عبد الملك و لكنا نخرج عمال يزيد من وراء النهر و يكون لنا فأخرجوهم و انصرف طرخون و الترك و قوي أمر العرب بترمذ و جبوا الأموال و استبد ثابت و حريث على موسى و أغراه أصحابه بهما فهم بقتلهما و إذا بجموع العجم قد خرجت إليهم من الهياطلة و التبت و الترك فخرج موسى فيمن معه للقتال و وقف ملك الترك على ما قيل في عشرة آلاف فحمل عليهم حريث بن قطنة حتى أزالهم عن موضعهم و أصيب بسهم في وجهه و تحاجزوا ثم بيتهم موسى فانهزموا و قتل من الترك خلق كثير و مات منهم قليل و مات حريث بعد يومين و رجع موسى بالظفر و الغنيمة و قال له أصحابه : قد كفينا أمر حريث فاكفنا أمر ثابت فأبى و بلغ ثابتا بعض ما كانوا يخوضون فيه و دس محمد بن عبد الله الخزاعي عليهم على أنه من سبي الباسيان و لا يحسن العربية فاتصل بموسى و كان ينقل إلى ثابت خبر أصحابه فقام لهم ليلة : قد أكثرتم علي فعلى أي وجه تقتلونه و لا أغدر به ؟ فقال له أخوه نوح : إذا أتاك غدا عد لنا به إلى بعض الدور فقتلناه قبل أن يصل إليك فقال و الله : إنه لهلاككم و جاء الغلام إلى ثابت بالخبر فخرج من ليلته في عشرين فارسا و أصبحوا ففقدوه و فقدوا الغلام فعلموا أنه كان عينا و نزل ثابت بحشور و اجتمع إليه خلق كثير من العرب و العجم و سار إليه موسى و قاتله فحصر ثابتا بالمدينة و أتاه طرخون مددا فرجع موسى إلى ترمذ ثم اجتمع ثابت و طرخون و أهل بخارى و نسف و أهل كش في ثمانين ألفا فحاصروا موسى بترمذ حتى جهد أصحابه و قال يزيد بن هذيل و الله لأقتلن ثابتا أو أموت فاستأمن إليه و حذره بعض أصحابه منه فأخذ إبنيه قدامة و الضحاك رهنا و أقام يزيد يتلمس غرة ثابت و مات ابن الزياد و القصير و الخزاعي فخرج إليه ثابت يعزيه بغير سلاح فضربه يزيد على رأسه و هرب و أخذ طرخون قدامة و الضحاك إبني يزيد فقتلهما و هلك ثابت لسبعة أيام و قام مكانه من أصحابه ظهير و ضعف أمرهم و بيتهم موسى ليلا في ثلثمائة فبعث إليه طرخون كف أصحابك فإنا نرحل الغداة فرجع و ارتحل طرخون و العجم جميعا و لما ولي المفضل خراسان بعث عثمان بن مسعود في جيش إلى موسى بن حازم و كتب إلى مدرك بن المهلب في بلخ بالمسير معه فعبرالنهر في خمسة عشر ألفا و كتب إلى رتبيل و إلى طرخون أن يكونوا مع عثمان فحاصروا موسى بن حازم فضيقوا عليه شهرين و قد خندق عثمان على معسكره حذر البيات فقال موسى لأصحابه : اخرجوا بنا مستميتين واقصدوا الترك فخرجوا و خلف النضر ابن أخيه سليمان في المدينة و قال له : إن أنا قتلت فملك المدينة لمدرك بن المهلب دون عثمان و جعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان و قال لا تقاتلوه إلا إن قاتلكم و قصد طرخون و أصحابه و صدقوهم القتال فانهزم طرخون و أخذوا و حجزت الترك و الصغد بينهم و بين الحصن فقاتلهم فعقروا فرسه و أردفه مولى له فبصر به عثمان حين وثب فعرفه فقصده و عقروا به الفرس و قتلوه و قتل خلق كثير من العرب و تولى قتل موسى واصل العنبري و نادى منادي عثمان بكف القتل و بالأسر و بعث النضر بن سليمان إلى مدرك بن المهلب فسلم إليه مدينة ترمذ و سلمها مدرك إلى عثمان و كتب المفضل إلى الحجاج بقتل موسى فلم يسره لأنه من قيس و كان قتل موسى سنة خمس و ثمانين لخمس عشرة سنة من تغلبه على ترمذ (3/69)
البيعة للوليد بالعهد
و كان عبد الملك يروم خلع أخيه عبد العزيز من ولاية العهد و البيعة لابنه الوليد و كان قبيصة ينهاه عن ذلك و يقول : لعل الموت يأتيه و تدفع العار عن نفسك و جاءه روح بن زنباع ليلة و كان عنده عظيما ففاوضه في ذلك فقال : لو فعلته ما انتضج فيه عنزان فقال : نصلح إن شاء الله و أقام روح عنده و دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب من جنح الليل و هما نائمان و كان لا يحجب عنه و إليه الخاتم و السكة فأخبره بموت عبد العزيز أخيه فقال روح : كفانا الله ما نريد ثم ضم مصر إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك و ولاه عليها و يقال : إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد فكتب إلى عبد العزيز إني رأيت أن يصير الأمر إلى ابن أخيك فكتب له أن تجعل الأمر له من بيعة فكتب له إني أرى في أبي بكر ما ترى في الوليد فكتب له عبد الملك أن يحمل خراج مصر فكتب إليه عبد العزيز إني و إياك يا أمير المؤمنين قد أشرفنا على عمر أهل بيتنا و لا ندري أينا يأتيه الموت فلا تفسد على بقية عمري فرق له عبد الملك و تركه و لما بلغ الخبر بموت عبد العزيز عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنه الوليد و سليمان و كتب بالبيعة لهما إلى البلدان و كان على المدينة هشام بن إسماعيل المخزومي فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا و أبى سعيد بن المسيب فضربه ضربا مبرحا و طاف به و حبسه و كتب عبد الملك إلى هشام يلومه و يقول : إن سعيدا ليس عنده شقاق و لا نفاق و لا خلاف و قد كان ابن المسيب امتنع من بيعة ابن الزبير فضربه جابر بن الأسود عامل المدينة لابن الزبير ستين سوطا و كتب إليه ابن الزبير يلومه و قيل إن بيعة الوليد و سليمان كانت سنة أربع و ثمانين و الأول أصح و قيل قدم عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر فلما فارقه وصاه عبد الملك فقال : أبسط بشرك و ألن كنفك و آثر الرفق في الأمور فهو أبلغ لك وانظر حاجبك و ليكن من خير أهلك فإنه وجهك و لسانك و لا يقفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتكون أنت الذي تأذن له أو ترده فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك و تثبت في قلوبهم محبتك و إذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المبهمة و اعلم أن لك نصف الرأي و لأخيك نصفه و لم يهلك امرؤ عن مشورة و إذا سخطت على أحد فأخر عقوبته فإنك على العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردها بعد إصابتها (3/72)
وفاة عبد الملك و بيعة الوليد
ثم توفي عبد الملك منتصف شوال سنة ست و ثمانين و أوصى إلى بنيه فقال : أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلية و أحصن كهف ليعطف الكبير منكم على الصغير و انظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون ولحيكم الذي عنه ترمون و أكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر و دوخ لكم البلاد و أذل لكم مغنى الأعداء و كونوا بني أم بررة لا تدب بينكم العقارب و كونا في الحرب أحرارا فإن القتال لا يقرب منية و كونوا للمعروف منارا فإن المعروف يبقى أجره و ذخره و ذكره و ضعوامعروفكم عند ذوي الأحساب فإنه لصون له و اشكر لما يؤتي إليهم منه و تعهدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا و إن عادوا فانتقموا و لما دفن عبد الملك قال الوليد : إنا لله و إنا إليه راجعون و الله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين و الحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة فكان أول من عزى نفسه و هنأه ثم قام عبد الله بن همام السامولي و هو يقول :
( الله أعطاك التي لا فوقها ... و قد أراد الملحدون عوقها )
( عنك و يأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها )
و بايعه ثم بايع الناس بعده و قيل إن الوليد صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أيها الناس لا مقدم لما أخره الله ولا مؤخر لما قدمه الله و قد كان من قضاء الله و سابق علمه و ما كتب على أنبيائه و حملة على أنبيائه و حملة عرشه الموت و قد صار إلى منازل الأبرار و ولي هذه الأمة بالذي يحق لله عليه في الشدة على المذنب و اللين لأهل الحق و الفضل و إقامة ما أقام الله من منازل الإسلام و إعلائه من حج البيت و غزو الثغور و شن الغارة على أعداء الله فلم يكن عاجزا و لا مفرطا أيها الناس عليكم بالطاعة و لزوم الجماعة فإن الشيطان مع المنفرد أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فهي عيناه و من سكت مات بدائه ثم نزل (3/73)
ولاية قتيبة بن مسلم خراسان و أخباره
قدم قتيبة خراسان أميرا عن الحجاج سنة ستة و ثمانين فعرض الجند و حث على الجهاد و سار غازيا وجعل على الحرب بمرو أياس بن عبد الله بن عمرو و على الخراج عثمان بن السعدي و تلقاه دهاقين البلخ و الطالقان و ساروا معه و لما عبر النهر تلقاه ملك الصغانيان بهداياه و كان ملك أخرون و شومان يسيء جواره فدعا إلى بلاده و سلمها إليه و سار قتيبة إلى أخرون و شومان و هو من طخارستان فصالحه ملكهما على فدية أداها إليه و قبضها ثم انصرف إلى مرو و استخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم ففتح بعد رجوع قتيبة كاشان و أورشت من فرغانة ثم أخسيكت مدينة فرغانة القديمة و كان معه ابن يسار و أبلى في هذه الغزاة و قيل إن قتيبة قدم خراسان سنة خمس و ثمانين و كان من ذلك السبي امرأة برمك و كان برمك على النوبهار فصارت لعبد الله بن مسلم أخي قتيبة فوقع عليها و علقت منه بخالد ثم صالح أهل بلخ و أمر قتيبة برد السبي فألحق عبد الله به حملها ثم ردت إلى برمك و ذكر أن ولد عبد الله بن مسلم إدعوه و رفعوا أمرهم إلى المهدي و هو بالري فقال بعض قرابتهم إنكم إن استلحقتموه لا بد لكم أن تزوجوه فتركوه و لما صالح قتيبة ملك شومان كتب إلى بترك طرخان صاحب باذغيس فيمن عنده من أسرى المسلمين هددهم فبعث بهم إليهم ثم كتب إليه يستقدمه على الأمان فخشي و تثاقل ثم قدم و صالح لأهل باذغيس على أن لا يدخلها قتيبة ثم غزا بيكنداد في مدائن بخارى إلى النهر سنة سبع و ثمانين فلما نزل بهم استجاشوا بالصغد و بمن حولهم من الترك و ساروا إليه في جموع عظيمة و أخذوا عليه الطرق فانقطعت الأخبار و الرسل ما بينه و بين المسلمين شهرين ثم هزمهم بعض الأيام و اثخن فيهم بالقتل و الأسر وجاء إلى السور ليهدمه فسألوا الصلح فصالحهم و استعمل عليهم و سار عنهم غير بعيد فقتلوا العامل و من معه فرجع إليهم و هدم سورهم و قتل المقاتلة و سبى الذرية و غنم من السلاح و آنية الذهب و الفضة ما لم يصيبوا مثله ثم غزا سنة ثمان و ثمانين بلد نومكثت فصالحوه و سار إلى رامسة فصالحوه أيضا فانصرف و زحف أيضا إليه الترك و الصغد و أهل فرغانة في مائتي ألف و ملكهم كوربعابور ابن أخت ملك الصين و اعترضوا مقدمته و عليها أخوه عبد الرحمن فقاتلهم حتى جاء قتيبة و كان ينزل معه فأبلى مع المسلمين ثم انهزم الترك و جموعهم و رجع قتيبة إلى مرو ثم أمره الحجاج سنة تسع و ثمانين و بخارى و ملكها وردان خذاه فعبر النهر من زم و لقيه الصغد و أهل كش و نسف بالمفازة و قاتلوه فهزمهم و مضى إلى بخارى فنزل عن يمين وردان و لم يظفر منه بشيء و رجع إلى مرو (3/74)
عمارة المسجد
كان الوليد عزل هشام بن إسماعيل المخزومي عن المدينة سنة سبع و ثمانين لأربع سنين من ولايته و ولى عليها عمربن عبد العزيز فقدمها و نزل دار مروان و دعا عشرة من فقهاء المدينة فيهم الفقهاء السبعة المعروفون فجعلهم أهل مشورته لايقطع أمرا دونهم و أمرهم أن يبلغوه الحاجات و الظلامات فشكروه و جزوه خيرا و دعا له الناس ثم كتب إليه سنة ثمان أن يدخل حجر أمهات المؤمنين في المسجد و يشتري ما في نواحيه حتى يجعله مائتي ذراع في مثلها و قدم القبلة و من أبى أن يعطيك ملكه فقومه قيمة عدل و ادفع إليه الثمن و اهدم عليه الملك و لك في عمر و عثمان أسوة فأعطاه أهل الأملاك ما أحب منها بأثمانها و بعث الوليد إلى ملك الروم أنه يريد بناء المسجد فبعث إليه ملك الروم بمائة ألف مثقال من الذهب و مائة من الفعلة و أربعين حملا من الفسيفساء و بعث بذلك كله إلى عمر بن عبد العزيز و استكثر معهم من فعله الشام و شرع عمر في عمارته و ولى الوليد في سنة تسع و ثمانين على مكة خالد بن عبد الله القسري (3/75)
فتح السند
كان الحجاج قد ولى علىثغر السند ابن عمه محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل و جهز معه ستة آلاف مقاتل و نزل مكران فأقام بها أياما ثم أتى فيريوز ففتحها ثم أرمايل ثم سار إلى الدبيل و كان به بد عظيم في وسط المدينة على رأسه دقل عظيم و عليه راية فإذا هبت الريح دارت فأطافت بالمدينة و البد صنم مركوز في بناء و الدقل منارة عليه و كل ما يعبد فهو عندهم بد فحاصر الدبيل و رماهم بالمنجنيق فكسر الدقل فتطيروا بذلك ثم خرجوا إليه فهزمهم وتسنم الناس الأسوار ففتحت عنوة و أنزل فيها أربعة آلاف من المسلمين و بني جامعها و سار عنها إلى النيروز و قد كانوا بعثوا إلى الحجاج و صالحوه فلقوا محمدا بالميرة و أدخلوه مدينتهم و سار عنها و جعل لا يمر بمدينة من مدائن السند إلا فتحها حتى بلغ نهر مهران و استعد ملك السند لمحاربته و إسمه داهر بن صصة ثم عقد الجسر على النهر و عبر فقاتله داهر و هو على الفيل و حوله الفيلة ثم اشتد القتال و ترجل داهر فقاتل حتى قتل و انهزم الكفار و استلحمهم المسلمون و لحقت امرأة داهر بمدينة رارو فساروا إليها و خافته فأحرقت نفسها و جواريها و ملك المدينة و لحق الفل بمدينة بدهمتاباد العتيقة على فرسخين من مكان المنصورة و هي يومئذ غيضة ففتحها عنوة و استلحم من وجد بها و خربها ثم استولى على مدائن السند واحدة واحدة و قطع نهر ساسل إلى الملقاد فحاصرها و قطع الماء فنزلوا على حكمه فقتل المقاتلة و سبى الذرية و قتل سدنة البلد و هو ستة آلاف و أصابوا في البلد ذهبا كثيرا في بيت طوله عشرة أذرع و عرضه ثمانية كانت الأموال تهدى إليه من البلدان و يحجون إليه و يحلقون شعرهم عنده و يزعمون أنه هو أيوب فاستكمل فتح السند و بعث من الخمس بمائة و عشرين ألف ألف و كانت النفقة نصفها (3/76)
فتح الطالقان و سمرقند و غزوكش و نسف و الشاش و فرغانة و صلح خوارزم
قد تقدم أن قتيبة غزا بخارى سنة تسع و ثمانين و انصرف عنها و لم يظفر و بعث إليه الحجاج سنة تسعين يوبخه على الانصراف عنها و يأمره بالعود فسار إليها و معه نيزك طرخان صاحب باذغيس و حاصرها و استجاش ملكها وردان أخذاه بمن حوله من الصغد و الترك فلما جاء مددهم خرجوا إلى المسلمين و كانت الأزد في المقدمة فانهزموا حتى جاوزوا عسكر المسلمين ثم رجعوا و زحفت العساكر حتى ردوا الترك إلى موقفهم ثم زحف بنو تميم و قاتلوا الترك حتى خالطوهم في مواقفهم و أزالوهم عنها و كان بين المسلمين و بينهم نهر لم يتجاسر أحد على عبوره إلا بنو تميم فلما زالوا عن مواقفهم عبر الناس و اتبعوهم و أثخنوا فيهم بالقتل و خرج خاقان و ابنه و فتح الله على المسلمين و كتب بذلك إلى الحجاج و لما استوت الهزيمة جاء طرخون ملك الصغد و معه فارسان و دنا من عسكر قتيبة يطلب الصلح على فدية يؤديها فأجابها قتيبة و عقد له و رجع قتيبة و معه نيزك و قد خافه لما رأى من الفتوح فاستأذنه في الرجوع و هو بآمد فرجع يريد طخارستان و أسرع السير وبعث قتيبة إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسه و تبعه المغيرة فلم يدركه و أظهر نيزك الخلع و دعا لذلك الأصبهند ملك بلخ و باذان ملك مرو الروذ و ملك الطالقان وملك القاربات و ملك الجوزجان فأجابوه و تواعدوا لغزو قتيبة و كتب إلى كاتب شاه يستظهر به وبعث إليه بأثقاله و أمواله و استأذنه في الاتيان إن اضطر إلى ذلك و كان جيفونة ملك طخارستان نيزك ينزل عنده فاستضعفه و قبض عليه و قيده خشية من خلافه و أخرج عامل قتيبة من بلده و بلغ قتيبة و خبرهم قبل الشتاء و قد تفرق الجند فبعث أخاه عبد الرحمن بن مسلم في إثني عشر ألف إلى البروقان و قال : أقم بها و لا تحدث شيئا فإذا انقضى الشتاء تقدم إلى طخارستان و أنا قريب منك و لما انصرم الشتاء استقدم قتيبة الجنود من نيسابور و غيرها فقدموا فسار نحو الطالقان و كان ملكها قد دخل معهم في الخلع ففتحها و قتل من أهلها مقتلة عظيمة و صلب منهم سماطين أربعة فراسخ في مثلها و استخلف عليها أخاه محمد بن مسلم و سار إلى القاربات فخرج إليه ملكها مطيعا و استعمل عليها و سار إلى الجوزجان فلقيه أهلها بالطاعة و هرب ملكها إلى الجبال و استعمل عليها عامر بن ملك الحماس ثم أتى بلخ و تلقاه أهلها بالطاعة و سار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب حمله و مضى نيزك إلى بغلان و خلف المقاتلة على فم الشعب و لا يهتدي إلى مدخل و مضايقوه يمنعونه و وضع أثقاله في قلعة من وراء الشعب و أقام قتيبة أياما يقاتلهم على فم الشعب و لا يهتدى إلى مدخل حتى دله عليه بعض العجم هنالك على طريق سرب منه الرجال إلى القلعة فقتلوهم و هرب من بقي منهم و مضى إلى سمنجان ثم إلى نيزك و قدم أخاه عبد الرحمن و ارتحل نيزك إلى وادي فرغانة و بعث أثقاله و أمواله إلى كابل شاه مضى إلى السكون فتحصن به و لم يكن له إلا مسلك واحد صعب على الدواب فحاصره قتيبة شهرين حتى جهدوا و أصابهم جهد الجدري و قرب فصل الشتاء فدعا قتيبة بعض خواصه ممن كان يصادق نيزك فقال : إنطلق إليه و أثن عليه بغير أمان و إن أعياك فأمنه و إن جئت دونه صلبتك فمضى الرجل و أشار عليه بلقائه و أنه عازم على أن يشق هنالك فقال : أخشاه فقال له : لا يخلصك إلا إتيانك تنصح له بذلك و بأنه يخشى عليه من غدر أصحابه الذين معه و لم يزل يفتل له في الذروة و الغارب و هو يمتنع حتى قال له : إنه قد أمنك فأشار عيه أصحابه بالقبول لعلمهم بصدقه و خرج معه نيزك و معهم جيفونة ملك طخارستان الذي كان قيده حتىانتهوا إلى الشعب و هناك خيل أكمنه الرجل ما كان فيه و كتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك فوافاه كتابه لأربعين يوما بقتله فقتله و قتل معه صول طرخان خليفة جيفونة و ابن أخي نيزك و من أصحابه سبعمائة و صلبهم و بعث برأسه إلى الحجاج و أطلق جيفونة و بعث به إلى الوليد ثم رجع إلى مرو و أرسل إليه ملك الجوزجان يستأمنه فأمنه على أن يأتيه فطلب الرهن فأعطاه و قدم ثم رجع فمات بالطالقان و ذلك سنة إحدى و تسعين ثم سار إلى شومان فحاصرها و قد كان ملكها طرد عامل قتيبة من عنده فبعث إليه بعد مرجعه من هذه الغزاة أن يؤدي ما كان صالح عليه فقتل الرسول فسار إليه قتيبة و بعث له صالح أخو قتيبة و كان صديقه ينصحه في مراجعة الطاعة فأبى فحاصره قتيبة و نصب عليه المجانيق فهدم الحصن و جمع الملك ما في الحصن من مال و جوهر و رمى به في بئر لا يدرك قعره ثم استمات و خرج فقاتل حتى قتل و أخذ قتيبة القلعة عنوة فقتل المقاتلة و سبى الذرية ثم بعث أخاه عبد الرحمن إلى الصغد و ملكهم طرخون فأعطى ما كان صالح عليه قتيبة و سار قتيبة إلى كش و نسف فصالحوه و رجع و لقي أخاه ببخارى و ساروا إلى مرو و لما رجع عن الصغد حبس الصغد ملكهم طرخون لإعطائه الجزية و ولوا عليهم غورك فقتل طرخون نفسه ثم غزا في سنة إثنتين وتسعين إلى سجستان يريد رتبيل فصالحه و انصرف و كان ملك خوارزم قد غلبه أخوه خرزاد على أمره و كان أصغر منه و عاث في الرعية و أخذ أموالهم و أهليهم فكتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلمها إليه على أن يمكنه من أخيه و من عصاه من دونهم فأجابه قتيبة و لم يطلع الملك أحدا من مرازبته على ذلك و تجهز قتيبة سنة ثلاث و تسعين و أظهر غزو الصغد فأقبل أهل خوارزم على شأنهم و لم يحتفلوا بغزوه و إذا به قد نزل هزراسب قريبا منهم و جاء أصحاب خوارزم شاه إليه فدعوه للقتال فقال : ليس لنا به طاقة و لكن نصالحه على شيء نعطيه كما فعل غيرنا فوافقوه و سار إلى مدينة الفيد من واء النهر و هذا حصن بلاده و صالحه بعشرة آلاف رأس و عين و متاع و أن يعينه على خادم جرد و قيل على مائة ألف فارس و بعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى خام جرد و هو عدو لخوارزم شاه فقاتله و قتله عبد الرحمن و غلب على أرضه و أسر منهم أربعة آلاف فقتلهم و سلم قتيبة إلى خوارزم شاه أخاه و من كان يخالفه من أمرائه فقتلهم و دفع أموالهم إلى قتيبة و لما قبض قتيبة أموالهم أشار عليه المحشر بن مخازم السلمي بغزو الصغد و هم آمنون على مسافة عشرة أيام فقال أكتم ذلك فقدم أخاه في الفرسان و الرماة و بعثوا بالأثقال إلى مرو و خطب قتيبة الناس و حثهم على الصغد و ذكرهم الضغائن فيهم ثم سار فأتى الصغد بعد ثلاث من وصول أخيه فحاصرهم بسمرقند شهرا و استجاشوا ملك الشاش و أخشاد خاقان و فرغانة فانتخبوا أهل النجدة من أبناء الملوك و المرازبة و الأساورة و ولوا عليهم ابن خاقان و جاؤوا إلى المسلمين فانتخب قتيبة من عسكره ستمائة فارس و بعث بهم أخاه صالحا لإعتراضهم في طريقهم فلقوهم بالليل و قاتلوهم أشد قتال فهزموهم و قتلوهم و قتلوا ابن خاقان و لم يفلت منهم إلا القليل و غنموا ما معهم و نصب قتيبة المجانيق فرماهم بها و ثلم السور و اشتد في قتالهم و حمل الناس عليهم إلى أن بلغوا الثلمة ثم صالحوه على ألفي ألف و مائتي ألف مثقال في كل عام و أن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس و أن يمكنوه من بناء مسجد بالمدينة و يخلوها حتى يدخل فيصلي فيه فلما فعل ذلك و دخل المدينة أكرههم على إقامة جند فيها و قيل إنه شرط عليهم الأصنام و ما في بيوت النار فأعطوه فأخذ الحلية و أحرق الأصنام و جمع من بقايا مساميرها و كانت ذهبا خمسين ألف مثقال و بعث بجارية من سبيها من ولد يزدجرد إلى الحجاج فأرسلها الحجاج إلى الوليد و ولدت له يزيد ثم قال فورك لقتيبة إنتقل عنا فانتقل و بعث إلى الحجاج بالفتح ثم رجع إلى مرو و استعمل على سمرقند إياس بن عبد الله على حربها و عبيد الله بن أبي الله مولى مسلم على خراجها فاستضعف أهل خوارزم إياسا و جمعوا له فبعث قتيبة عبد الله عاملا على سمرقند و أمره أن يضرب إياسا و حبايا السطي مائة مائة و يخلعهما فلما قرب عبد الله من خوارزم مع المغيرة بن عبد الله فبلغهم ذلك و خشي ملكهم من أبناء الذين كان قتلهم ففر إلى بلاد الترك و جاء المغيرة فقتل و سبى و صالحه الباقون على الجزية و رجع إلى قتيبة فولاه على نيسابور ثم غزا قتيبة سنة أربع و تسعين إلى ما وراء النهر و فرض البعث على أهل بخارى و كش ونسف و خوارزم فسار منهم عشرون ألف مقاتل فبعثهم إلى الشاش و سار هو إلى خجندة فجمعوا له و اقتتلوا مرارا كان الظفر فيها للمسلمين و فتح الجند الذين ساروا إلى الشاش مدينة الشاش و أحرقوها و رجعوا إلى قتيبة و هو على كشان مدينة فرغانة و انصرف إلى مرو ثم بعث الحجاج إليه جيشا من العراق و أمره بغزو الشاش فسار لذلك و بلغه موت الحجاج فرجعوا إلى مرو (3/77)
خبر يزيد بن المهلب و إخوته
كان الحجاج قد حبس يزيد و إخوته سنة ست و ثمانين وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان فأقاموا في محبسهم إلى سنة تسعين و بلغه أن الأكراد غلبوا على فارس فعسكر قريبا من البصرة للبعث و أخرج معه بني المهلب و جعلهم في فسطاط قريبا منه و رتب عليهم الحرس من أهل الشام ثم طلب منهم ستة آلاف ألف و أمر بعذابهم و بكت أختهم هند بنت المهلب زوجة الحجاج فطلقها ثم كف عنهم و جعل يستأدبهم وبعثوا إلى أخيهم مروان و كان على البصرة أن يعد لهم خيلا و كان حبيب منهم يعذب بالبصرة فصنع يزيد للحرس طعاما كثيرا و أمر لهم بشراب فأقاموا يتعاقرون واستغفلهم يزيد و المفضل و عبد الملك و خرجوا و لم يفطنوا لهم و رفع الحرس خبرهم إلى الحجاج فخشيهم على خراسان و بعث البريد إلى قتيبة يخبرهم ليحذرهم و كان يزيد قد ركب السفن إلى البطائح و استقبلته الخيل المعدة له هناك و ساروا إلى الشام على السماوة ومعهم دليل من كلب و نمى خبرهم إلى الحجاج فبعث إلى الوليد بذلك و قدموا إلى فلسطين فنزلوا على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي و كان كريما على سليمان فأخبره بحالهم و أنهم استجاروا به من الحجاج فقال : إئتني بهم فقد أجرتهم وكتب الحجاج إلى الوليد أن بني المهلب خانوا مال الله و هربوا مني فلحقوا بسليمان فسكن مابه لأنه كان خشيهم على خراسان كما خشيهم الحجاج و كان غضبا للمال الذي ذهبوا به فكتب سليمان إلى الوليد أن يزيد عندي و قد أمنته و كان الحجاج أغرمه ستة آلاف ألف فأد نصفها و أنا أؤدي النصف فكتب الوليد لا أؤمنه حتى تبعث به فكتب سليمان لأجيئن معه فكتب الوليد إذن لا أؤمنه فقال يزيد لسليمان : لا يتشاءم الناس بي لكما فاكتب معي و تلطف ما أطقت فأرسله و أرسل معه إبنه أيوب و كان الوليد أمر أن يبعث مقيدا فقال سليمان لابنه : أدخل على عمك أنت و يزيد في سلسلة فقال : الوليد لما رأى ذلك لقد بلغنا من سليمان ثم دفع أيوب كتاب أبيع بالشفاعة و ضمان المال عن يزيد فقرأه الوليد واستعطفه أيوب في ذمة أبيه و جواره و تكلم يزيد و اعتذر فأمنه الوليد و رجع إلى سليمان و كتب الوليد إلى الحجاج بالكف عنهم فكف عن حبيب و أبي عبسة و كانا عنده و أقام يزيد عند سليمان يهدي إليه الهدايا و يصنع له الأطعمة (3/81)
ولاية خالد القسري على مكة و إخراج سعيد بن جبير عنها و مقتله
و لما كان في سنة ثلاث و تسعين كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد يقص عليه أفعال الحجاج بالعراق و ما هم فيه من ظلمه و عدوانه فبلغ بذلك الحجاج فكتب إلى الوليد : إن كثيرا من المراق و أهل الشقاق قد انجلوا عن العراق و لحقوا بالمدينة و مكة و منعهم عمر و أصابه من ذلك وهن فولى الوليد على مكة خالد الله عبد الله القسري و عثمان بن حيان بإشارة الحجاج و عزل عمر عن الحجاز و ذلك في شعبان من السنة و لما قدم خالد مكة أخرج من كان بها من أهل العراق كرها و تهدد من أنزل عراقيا أو أجره دارا و كانوا أيام عمر الله عبد العزيز يلجأ إلى مكة و المدينة كل من خلف الحجاج فيأمن و كان منهم سعيد بن جبير هاربا من الحجاج كان قد جعله على عطاء الجند الذين وجههم مع عبد الرحمن بن الأشعث إلى قتال رتبيل فلما خرج عبد الرحمن كان سعيد فيمن خلع فكان معه إلى أن هزم و سار إلى بلاد رتبيل فلحق سعيد بأصبهان و كتب الحجاج فيه إلى عاملها فتحرج من ذلك و دس إلى سعيد فسار إلى أذربيجان ثم طال عليه المقام فخرج إلى مكة فكان بها مع ناس أمثاله من طلبة الحجاج يستخفون بأسمائهم فلما قدم خالد بن عبد الله مكة أمره الوليد بحمل أهل العراق إلى الحجاج فأخذ سعيد بن جبير و مجاهدا و طلق بن حبيب و بعث بهم إلى الحجاج فمات طلق في الطريق و جيء بلآخرين إلى الكوفة و أدخلا على الحجاج فلما رأى سعيدا شتم خالدا القسري على إرساله و قال : لقد كنت أعرف أنه بمكة و أعرف البيت الذي كان فيه ثم أقبل على سعيد و قال : لقد ألم أشركك في أمانتي ؟ ألم أستعملك ؟ ثم تفعل بعدد أياديه عنده فقال : بلى ! قال : فما أخرجك على قتالي ؟ أنا امرؤ من المسلمين أخطئ مرة و أصيب أخرى ثم استمر في محاوراه فقال : إنما كانت البيعة في عنقي فغضب الحجاج و قال : ألم آخذ بيعتك لعبد الملك بمكة بعد مقتل ابن الزبير ؟ ثم جددت له البيعة بالكوفة فأخذت بيعتك ثانيا ؟ قال : بلى ! قال : فنكثت بيعتين لأمير المؤمنين و توفي بواحدة للفاعل بن الفاعل و الله لأقتلنك فقال : إني لسعيد كما سمتني أمي فضربت عنقه فهلل رأسه ثلاثا أفصح منها بمرة و يقال : إن عقل الحجاج التبس يومئذ و جعل يقول : قيودنا قيودنا فظنوها قيود سعيد بن جبير فأخذوها من رجليه و قطعوا عليها ساقيه و كان إذا نام يرى سعيد بن جبير في منامه آخذا بمجامع ثوبه يقول : يا عدو الله فيم قتلتني ؟ فينتبه مرعوبا يقول : ما لي و لـ سعيد بن جبير (3/82)
وفاة الحجاج
و توفي الحجاج في شوال خمس و تسعين لعشرين سنة من ولايته العراق و لما حضرته الوفاة استخلف على ولايته ابنه عبد الله و على حرب الكوفة و البصرة يزيد بن أبي كبشة و على خراجهما يزيد بن أبي مسلم فأقرهم الوليد بعد وفاته و كتب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان قد عرف أمير المؤمنين بلاءك و جهدك و جهادك أعداء المسلمين و أمير المؤمنين رافعك و صانع بك الذي تحب فأتمم مغازيك و انتظر ثواب ربك و لا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني أنظر إلى بلادك و الثغر الذي أنت فيه و لم يغير الوليد أحدا من عمال الحجاج (3/83)
أخبار محمد بن القاسم بالسند
كان محمد بن القاسم بالملتان و أتاه خبر وفاة الحجاج هنالك فرجع إلى الدور و الثغور و كان قد فتحها ثم جهزه الناس إلى السلماس مع حبيب فأعطوا الطاعة و سالمه أهل شرست و هي مغزى أهل البصرة و أهلها يقطعون في البحر ثم سار في العسكر إلى فخرج إليه دزهر فقاتله محمد و هزمه و قتله و نزل أهل المدينة على حكمه فقتل و سبا و لم يزل عاملا على السند إلى أن ولي سليمان بن عبد الملك فعزله و ولى يزيد بن أبي كبشة السكسكي على السند مكانه فقيده يزيد و بعث به إلى العراق فحبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط و عذبه في رجال من قرابة الحجاج على قتلهم و كان الحجاج قتل أخاه آدم على رأي الخوارج و مات يزيد بن أبي كبشة لثمان عشرة ليلة من مقدمه فولى سليمان على السند حبيب بن المهلب فقدمها و قد رجع ملوك السند إلى ممالكهم و رجع حبشة بن داهر إلى برهما باذ فنزل حبيب على شاطئ مهران و أعطاه أهل الروم الطاعة و حارب فظفر ثم أسلم الملوك لما كتب عمر بن عبد العزيز إلى الإسلام على أن يملكهم و هم أسوة المسلمين فيما لهم و عليهم فأسلم حبشة و الملوك و تسموا بأسماء العرب و كان عمرو بن مسلم الباهلي عامل عمر على ذلك الثغر فغزا بعض الهند و ظفر ثم ولى الجنيد بن عبد الرحمن على السند أيام هشام بن عبد الملك فأتى شط مهران و منعه حبشة بن داهر العبور و قال : إني قد أعلمت وولاني الرجل الصالح و لست آمنك فأعطاه الرهن ثم ردها حبشة و كفر و حارب فحاربه الجنيد في السفن و أسره ثم قتله و هرب صصه بن داهر إلى العراق شاكيا لغدر الجنيد فلم يزل يؤنسه حتى جاءه فقتله ثم غزا الجنيد الكيرج من آخر الهند وكانوا نقضوا فاتخذ كباشا زاحفة ثم صك بها سور المدينة فثلمها و دخل فقتل و سبى و غنم و بعث العمال إلى المرمد و المعدل و دهنج و بعث جيشا إلى أرين فأغاروا عليها و أحرقوا ربضها و حصل عنده سوى ما حمل أربعون ألف ألف و حمل مثلها و ولى تميم بن زيد الضبي فضعف و وهن و مات قريبا من الديبل و في أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند و تركوا مراكزهم ثم ولي الحكم بن سوام الكلبي و قد كفر أهل الهند إلا أهل قصة فبنى مدينة سماها المحفوظة و جعلها مأوى المسلمين و كان معه عمر بن محمد بن القاسم و كان يفوض إليه عظائم الأمور و أغزاه عن المحفوظة فلما قدم و قد ظهر أمره فبنى مدينة و سماها المنصورة و هي التي كانت أمراء السند ينزلونها و استخلص ما كان غلب عليه من العدو و رضي الناس بولايته ثم قتل الحكم و ضعفت الدولة الأموية عن الهند و تأتي أخبار السند في دولة المأمون (3/83)
فتح مدينة كاشغر
أجمع قتيبة لغزو مدينة كاشغر سنة ست و تسعين و هي أدنى مدائن الصين فسار لذلك و حمل مع الناس عيالاتهم ليضعها بسمرقند و عبر النهر و جعل على المجاز مسلحة يمنعون الراجع من العسكر إلا بإذنه ! و بعث مقدمه إلى كاشغر فغنموا و سبوا و ختم أعناق السبي و أوغل حتى قارب الصين فكتب إليه ملك الصين يستدعي من أشراف العرب من يخبره عنهم و عن دينهم فانتخب قتيبة عشرة من العرب كان منهم هبيرة بن شمرج الكتابي و أمر لهم بعدة حسنة و متاع من الخز و الوشي و خيول أربعة و قال لهم : أعلموه أني حالف أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم و أختم ملوكهم و أجبي خراجهم و لما قدموا على ملك الصين دعاهم في اليوم الأول فدخلوا و عليهم الغلائل و الأردية و قد تطيبوا و لبسوا النعال فلم يكلمهم الملك و لا أحد ممن حضره و قالوا بعد انصرافهم هؤلاء نسوان فلبسوا الوشي و المطارف و عمائم الخز و غدوا عليه فلم يكلموهم و قالوا هذه أقرب إلى هيئة الرجال ثم دعاهم الثالثة فلبسوا سلاحهم و على رؤسهم البيضات و المغافر و توشحوا السيوف و اعتقلوا الرماح و نكبوا القسي فهالهم منظرهم ثم انصرفوا و ركبوا فتطاردوا فعجب القوم منهم ثم دعا زعيمهم هبيرة بن شمرج فسأله لم خالفوا في زيهم فقال : أما الأول فإنا نساء في أهلنا و أما الثاني فزينا عند أمرائنا و أما الثالث فزينا لعدونا فاستحسن ذلك ثم قال له : قد رأيتم عظم ملكي و أنه ليس أحد يمنعكم مني و قد عرفت قلتكم فقولوا لصاحبكم ينصرف و إلا بعثت من يهلككم فقال هبيرة كيف نكون في قلة و أول خيلنا في بلادك و آخرها في منابت الزيتون و أما القتل فلسنا نكرهه و لا نخافه و لنا آجال إذا حضرت فلن نتعداها و قد حلف صاحبنا أنه لا ينصرف حتى يطأ أرضكم و يختم ملوككم و يأخذ جزيتكم قال الملك : فإنا نخرجه من يمينه نبعث له بتراب من أرضنا فيطؤه و يقبض أبناءنا فيختمهم و بهدية ترضيه ثم أجازهم فأحسن و قدموا على قتيبة فقبل الجزية و وطئ التراب و ختم الغلمان و ردهم ثم انصرف من غداته و أوفد هبيرة إلى الوليد و بلغه و هو في الفرات موت الوليد (3/85)
وفاة الوليد و بيعة سليمان
ثم في منتصف جمادى الأخيرة من سنة ست و تسعين وصلى عليه عمر بن عبد العزيز و كان من أفضل خلفاء بني أمية و بنى المساجد الثلاثة : مسجد المدينة و مسجد القدس و مسجد دمشق و لما أراد أبناء مسجد دمشق كانت في موضعه كنيسة فهدمها و بناها مسجدا و شكوا ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال : نرد عليكم كنيستكم و نهدم كنيسة توما فإنها خارج المدينة مما فتح عنوة و نبنيها مسجدا فتركوا ذلك و فتح في ولايته الأندلس و كاشغر و الهند و كان يتخذ الضياع و كان متواضعا يمر بالبقال فيسأل بكم حزمة البقل ؟ و يسعر عليه و كان يختم القرآن في ثلاث و في رمضان في يومين و كان أراد أن يخلع أخاه سليمان و يبايع لولده عبد العزيز فأبى سليمان فكتب إلى عماله و دعا الناس إلى ذلك فلم يجبه إلا الحجاج و قتيبة و بعض خواصه و استقدم سليمان ثم استبطأه فأجع السير إليه ليخلعه فمات دون ذلك و لما مات بويع سليمان من يومه و هو بالرملة فعزل عثمان بن حيان من المدينة آخر رمضان و ولى عليها أبا بكر ابن محمد بن عمر بن حزم و عزل ولاة الحجاج عن العراق فولى يزيد بن المهلب على المصرين و عزل عنهما يزيد بن أبي مسلم فبعث يزيد أخاه زيادا على عمان و أمر سليمان يزيد بن المهلب بنكبة آل أبي العقيل قوم الحجاج و بني أبيه و بسط أصناف العذاب عليهم فولى على ذلك عبد الملك بن المهلب (3/86)
مقتل قتيبة بن مسلم
و لما ولى سليمان قتيبة لما قدمناه من موافقته الوليد على خلعه فخشي أن يولى يزيد ابن المهلب خراسان فأجمع خلعه و كتب إليه لئن لم تقرني على ما كنت عليه و تؤمني لأخلعنك و لأملأنها عليك خيلا و رجلا فأمنه و كتب له العهد على خراسان و بعث إليه رسول بذلك فبعث الرسول و هو بحلوا أنه قد خلع و كان هو بعد بعثة الكتاب إلى سليمان قد اشتد وجله و أشار عليه أخوه عبد الله بالمعاجلة فدعا الناس إلى الخلع و ذكرهم بوائقه و سوء ولاية من تقدمه فلم يجبه أحد فغضب و شتمهم و عدد و قالبهم قبيلة قبيلة و أثنى على نفسه بالأب و البلد و المعشر فغضب الناس و كرهوا خلع سليمان و أجمعوا على خلع قتيبة و خلافه و عذل قتيبة و عذل قتيبة أصحابه فيما كان منه فقال : لما لم تجيبوني غضبت فلم أدر ما قلت و جاء الأزد إلى حضين بن المنذر ( بالضاد المعجمة ) فقالوا : كيف ترى هذا يدعو إلى فساد الدين و يشتمنا فعرف مغزاهم فقال : إن مضر بخراسان كثير و تميم أكثرهم و هم شوكتها و لا يرضون فيصيبوا قتيبة و لا أرى لها إلا وكيعا و كان وكيع موثقا من قتيبة بعزله و ولاية ضرار بن حصين الضبي مكانه و قال حيان النبطي مولى بن شيبان ليس لها غير وكيع و مشى الناس بعضهم إلى بعض سرا و تولى كبر ذلك حيان و نمي خبره إلى قتيبة فأمر بقتله إذا دخل عليه و تنصح بعض خدم قتيبة بذلك إلى حيان فلما دعاه تمارض و اجتمع الناس إلى وكيع و بايعوه فمن أهل البصرة و العالية من المقاتلة تسعة آلاف و من بكر سبعة آلاف رئيسهم حضين بن المنذر ومن تميم عشرة آلاف عليهم ابن زخر و من الموالي سبعة آلاف عليهم حيان النبطي و قيل من الديلم و سمي نبطيا للكنته و شرط على وكيع أن يحول له الجانب الشرقي من نهر بلخ فقبل و فشا الخبر و بلغ قتيبة فدس ضرار بن سيان الضبي إلى وكيع فبايعه و جاء إلى قتيبة بالخبر فأرسل قتيبة إلى وكيع فاعتذر بالمرض فقال لصاحب شرطته : إئتني به أبى إتني برأسه فلما جاء إلى وكيع ركب و نادى في الناس فأتوه أرسالا و اجتمع إلى قتيبة أهل بيته و خواصه و ثقاته و بنو عمه و أمر فنودي في الناس قبيلة و أجابوه بالجفوة يقول : أين بنو فلان ؟ فيقول : حيث وضعتهم فنادى بأذكركم الله و الرحم فقالوا : أنت قطعتها ! فنادى لكم العتبى فقالوا : إنا لنا الله إذا فدعا ببرذون ليركبه فمنعه و رمحه فعاد إلى سريره و جاء حيان النبطي في العجم فأمره عبد الله أخو قتيبة أن يحمل على القوم فاعتذر و قال لإبنه : إذا لقيتني حولت قلنسوتي فمل بالأعاجم إلى وكيع ثم حولها و سار بهم و رمى صالح أخو قتيبة بسهم فحمل إلى أخيه ثم تهايج الناس و جاء إلى عبد الرحمن أخي قتيبة الغوغاء و نحوهم فأحرقوا آريا فيه إبل قتيبة و دوابه ثم زحفوا به حتى بلغوا فسطاطه فقطعوا أطنابه و جرح جراحات كثيرة ثم قطعوا رأسه و قتل معه إخوته عبد الرحمن و عبد الله و صالح و حصين و عبد الكريم و مسلم و ابنه كثير و قيل قتل عبد الكريم بقزوين فكان عدة من قتل من أهله أحد عشر رجلا و نجا أخوه عمر مع أخواله من تميم ثم صعد وكيع المنبر و أنشد الشعر في الثناء على نفسه و فعله و الذم من قتيبة و وعد بحسن السيرة و طلب رأس قتيبة من الأزد و هددهم عليه فجاؤا به فبعثه إلى سليمان و وفى وكيع لحيان النبطي بما ضمن له (3/86)
ولاية يزيد بن المهلب خراسان
كان يزيد بن المهلب لما ولاه سليمان العراق على الحرب و الصلاة و الخراج استكره أن يحيف على الناس في الخراج فتلحقه المذمة كما لحقت الحجاج و يخرب العراق و إن قصر عن ذلك لم يقبل منه فرغب من سليمان أن يعفيه من الخراج و أشار عليه بصالح ابن عبد الرحمن مولى تميم فولاه سليمان الخراج و بعثه قبل يزيد فلما جاء صالح إلى يزيد ضيق عليه صالح و كان يزيد يطعم على ألف خوان فاستكثرها صالح فقال : اكتب ثكمنها علي و غير ذلك و ضجر يزيد و جاء خبر خراسان و مقتل قتيبة فطمع يزيد في ولايتها و دس عبد الله بن الأهتم على سليمان أن يوليه خراسان و لا يشعر بطلبته بذلك و سيره على البريد فقال له سليمان : إن يزيد إلي بذكر عملك بالعراق ! فقال : نعم بها ولدت و بها نشأت ثم استشار فيمن يوليه خراسان و لم يزل سليمان بذكر الناس و هو يردهم ثم حذره من وكيع و غدره قال : فسم أنت ! قال شريطة الكمال الإجازة ممن أشير به و إذا علم يكره ذلك ثم قال : هو يزيد بن المهلب فقال سليمان : العراق أحب إليه فقال ابن الأهتم : قد عملت و لكن نكرهه فيستخلف على العراق و يسير إلى خراسان فكتب عهد يزيد على خراسان و بعثه مع ابن الأهتم فلما جاءه بعث ابنه على خراسان ثم سار بعده و استخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحكمي و على البصرة ابن عبد الله بن هلال الكلابي و على الكوفة حرمحلة بن عيد اللمغمي ثم عزله لأشهر بشير بن حيان النهدي فكانت قيس تطلب بثأر قتيبة و تزعم أنه لم يخلع فأوصى سليمان يزيد إن أقامت قيس بينه أنه لم يخلع أن يقيد به من وكيع (3/88)
أخبار الصوائف و حصار قسطنطينية
كانت الصوائف من الشام منذ وفاة معاوية و حدوث الفتن و اشتدت الفتن أيام عبد الملك اجتمعت الروم و استجاشوا على أهل الشام فصالح عبد الملك صاحب قسطنطينية على أن يؤدي إليه كل يوم جمعة ألف دينار خشية منه على المسلمين و نظرا لهم و ذلك سنة سبعين لعشر سنين من وفاة معاوية ثم لما قتل مصعب و سكنت الفتنة بعث الجيوش سنة إحدى و سبعين في الصائفة فدخل فافتتح قيسارية ثم ولى على الجزيرة و أرمينية أخاه محمد بن مروان سنة ثلاث و سبعين فدخل في الصائفة إلى بلاد الروم فهزمهم و دخل عثمان بن الوليد من ناحية أرمينية في أربعة آلاف و لقيه الروم في ستين ألفا فهزمهم و أثخن فيهم بالقتل و الأسر ثم غزا محمد بن مروان سنة أربع و سبعين فبلغ أنبولية و غزا في السنة بعدها في الصائفة من طريق مرعش فدوخ بلادهم و خرج الروم في السنة بعدها إلى العتيق فغزاهم من ناحية مرعش ثانية ثم غزاهم سنة ست و سبعين من ناحية ملطية و دخل في الصائف سنة سبع و سبعين الوليد ابن عبد الملك فأثخن فيهم و رجع و جاء الروم سنة تسع و سبعين فأصابوا من أهل أنطاكية و ظفروا بهم فبعث عبد الملك سنة إحدى و ثمانين ابنه عبيد الله بالعسكر ففتح قاليقلا ثم غزا محمد بن مروان سنة اثنتين و ثمانين أرمينية و هزمهم فسألوه الصلح فصالحهم و ولى عليهم أبا شيخ بن عبد الله فغدروه و قتلوه فغزاهم سنة خمسين و ثمانين و صاف فيها و شتى ثم غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم و دوخها و رجع و عاد إليها سنة سبع و ثمانين فيهم بناحية المصيصة و فتح حصونا كثيرة منها حصن بولق و الحأزم و بولس و قمقيم و قتل من المستقربة ألف مقاتل و سبى أهاليهم ثم غزا بلاد الروم سنة تسع و ثمانين مسلمة بن عبد الملك و العباس بن الوليد فافتتح مسلمة حصن سورية و افتتح العباس أردولية و لقي جمعا من الروم فهزمهم و قيل إن مسلمة قصد عمورية فلقي بها جمعا من الروم فهزمهم و افتتح هرقلة و قمولية و غزا العباس الصائفة من ناحية البلدبدون و غزا مسلمة بن عبد الملك الترك سنة تسع و ثمانين من ناحية أذربيجان ففتح حصونا و مدائن هناك ثم غزا سنة تسعين ففتح الحصون الخمس التي بسورية و غزا العباس حتى بلغ أردن و سورية و في سنة إحدى و تسعين غزا عبد العزيز بن الوليد في الصائفة مع مسلمة بن عبد الملك و كان الوليد قد ولى مسلمة على الجزيرة و أرمينية و عزل عمه محمد بن مروان عنها فغزا الترك من ناحية أذربجيان حتى الباب و فتح مدائن و حصونا ثم غزا سنة إثنتين و تسعين بعدها ففتح ثلاثة حصون و جلا أهل سرسنة إلى بلاد الروم ثم غزا العباس بن الوليد سنة ثلاث بعدها بلاد الروم ففتح سبيطلة و غزا مروان بن الوليد فبلغ حنجرة و غزا مسلمة ففتح ماشية و حصن الحديد و غزالة من ناحية ملطية و غزا العباس بن الوليد سنة أربع و تسعين ففتح إنطاكية و غزا عبد العزيز بن الوليد ففتح غزالة و بلغ الوليد بن هشام المعيطي مروج الحمام و يزيد بن أبي كبشة أرض سورية و في سنة خمس و تسعين غزا العباس الروم ففتح هرقلة و في سنة سبع و تسعين غزا مسلمة أرض الرضاخية و فتح الحصن الذي فتحه الرصاع و غزا عمر بن هبيرة أرض الروم في البحر فشتى بها و بعث سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية و بعث إبنه داود على الصائفة ففتح حصن المراة و في سنة ثمان و تسعين مات ملك الروم فجاء القون إلى سليمان فأخبره و ضمن له فتح الروم و سار سليمان إلى وابق و بعث الجيوش مع أخيه مسلمة و لما دنا من القسطنطينية أمر أهل المعسكر أن يحمل كل واحد مدين من الطعام و يلقوه في معسكرهم فصار أمثال الجبال و اتخذ البيوت من الخشب و أمر الناس بالزراعة و صاف و شتى و هم يأكلون من زراعتهم و طعامهم الذي استاقوه مدخرا ثم جهد أهل القسطنطينية الحصار و سألوا الصلح على الجزية دينارا على الرأس فلم يقبل مسلمة و بعث الروم إلى ألقون إن صرفت عنا المسلمين ملكناك فقال لمسلمة : لو أحرقت هذا الزرع علم الروم أنك قصدتهم بالقتال فنأخذهم باليد وهم الآن يظنون مع بقاء الزرع أنك تطاولهم فأحرق الزرع فقوي الروم و غدر ألقون و أصبح محاربا و أصاب الناس الجوع فأكلوا الدواب و الجلود و أصول الشجر و الورق و سليمان مقيم بوابق و حال الشتاء بينهم و بينه فلم يقدر أن يمدهم حتى مات و أغارت برجان على مسلمة و هو في قلة فهزمهم و فتح مدينتهم و غزا في هذه السنة الوليد بن هشام فأثخن في بلاد الروم و غزا داود بن سليمان سنة ثمان و تسعين ففتح حصن المراة مما يلي ملطية و في سنة تسع و تسعين بعث عمر بن عبد العزيز مسلمة و هو بأرض الروم و أمده بالنفول بالمسلمين و بعث إليه بالخيل و الدواب و حث الناس على معونتهم ثم أمر عمر بن عبد العزيز أهل طريدة بالجلاء عنها إلى ملطية و خربها و كان عبد الله بن عبد الملك قد أسكنها المسلمين و فرض على أهل الجزيرة مسلحة تكون عندهم إلى فصل الشتاء و كانت متوغلة في أرض الروم فخربها عمر و ولى على ملطية جعونة بن الحرث من بني عامر بن صعصعة و أغزى عمر سنة مائة من الهجرة بالصائفة الوليد بن هشام المعطي و عمر ابن قيس الكندي (3/88)
فتح جرجان و طبرستان
كان يزيد بن المهلب يريد فتحهما لما أنمهما كانتا للكفار و توسطتا بين فارس و خراسان و لم يصبهما الفتح و كان يقول في جوار سليمان بالشام إذا قصت عليه أخبار قتيبة و ما يفعله بخراسان و ما وراء النهر ما فعلت جرجان التي قطعت الطريق و أفسدت يوسس و نيسابور و ليست هذه الفتوح بشيء و الشأن في جرجان فلما ولاه سليمان خراسان سار إليها في مائة ألف من أهل العراق و الشام سوى الموالي و المتطوعة و لم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال و مخارم يقوم الرجل على باب منها فيمنعه فابتدأ بقهستان فحاصرها و بها طائفة من الترك فكانوا يخرجون قيقاتلون و ينهزمون في كل يوم و يدخلون حصنهم و لم يزل على ذلك حتى بعث إليه دهقان يتستأذن يسأل في الصلح و يسلم المدينة و ما فيها فصالحه و أخذ ما فيها من الأموال و الكنوز و السبي ما لا يحصى و قتل أربعة عشر ألفا من الترك و كتب إلى سليمان بذلك ثم سار إلى جرجان و كان سعيد بن العاصي قد صالحهم على الجزية مائة ألف في السنة فكانوا أحيانا يجبون مائة و أحيانا مائتين و أحيانا ثلثمائة و ربما أعطوا ذلك و ربما منعوا ثم كفروا و لم يعطوا خراجا و لم يأت جرجان بعد سعيد أحد و منعوا الطريق إلى خراسان على فكان الناس يسلكون على فارس و سلماس ثم فتح قتيبة طريق قومس و بقي أمر جرجان حتى جاء يزيد فصالحوه و لما فتح يزيد قهستان و جرجان طمع في طبرستان فاستعمل عبد الله بن معمر اليشكري على ساسان و قهستان و خلف معه أربع آلاف فارس و سار إلى أدنى جرجان من جهة طبرستان و نزل بآمد و نسا راشد بن عمر في أربعة آلاف و دخل بلاد طبرستان فسأل صاحبها الأصبهبذ في الصلح و أن يخرج من طبرستان فأبى يزيد و رجا أن يفتحها و وجه أخاه عيينة من وجه و ابنه خالد بن يزيد من وجه و إذا اجتمعا فعيينة على الناس و استجاش الأصنبهبذ أهل جيلان و الديلم و التقوا فانهزم المشركون و اتبعهم المسلمون إلى الشعب و صعد المشركون في الجبل فامتنعوا على المسلمين و صعد أبو عيينة بمن معه خلفهم فهزمهم المشركون في الوعر فكفوا و كاتب الأصبهبذ أهل جرجان و مقدمهم المرزبان أن يبيتوا للمسلمين عندهم ليقطعوا المادة عن يزيد و الطريق بينه و بين جرجان و وعدهم بالمكافأة على ذلك فساروا بالمسلمين و هم غارون و قتل عبد الله بن معمر و جميع من معه و لم ينج أحد و كتبوا إلى الأصبهبذ بأخذ المضايق و الطرق و بلغ ذلك و أصحابه فعظم عليهم و هالهم و فزع يزيد إلى حيان النبطي و كان قد غرمه مائتي ألف درهم بسبب أنه كتب إلى ابنه مخلد كتابا فبدأ بنفسه فقال له : لا يمنعك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين و قد علمت ما جاءنا من جرجان فاعمل في الصلح فأبى حيان الأصبهبذ و مت إليه بنسب العجم و تنصل له و فتل له في الذروة و الغارب حتى صالحه على سبعمائة ألف درهم و أربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين و أربعمائة رجل على يد كل رجل منهم ترس و طيلسان و جام من فضة و خرقة حرير و كسوة فأرسل يزيد لقبض ذلك و رجع و قيل في سبب مسير يزيد إلى جرجان أن صولا التركي كان على قهستان و البحيرة جزيرة في البحر على خمسة فراسخ من قهستان و هما من جرجان مما يلي خوارزم و كان يغير على فيروز بن فولفون مرزبان جرجان و أشار فيروز بنصيب من بلاده فسار فيروز إلى يزيد هاربا منه و أخذ صول جرجان و أشار فيروز على يزيد أن يكتب إلى الأصبهبذ و يرغبه في العطاء إن هو حبس صولا بجرجان حتى يحاصر بها ليكون ذلك وسيلة إلى معاكسته و خروجه عن جرجان فيتمكن يزيد منه فكتب إلى الأصبهبذ و بعث بالكتاب إلى صول فخرج من حينه إلى البحيرة و بلغ يزيد الخبر فسار إلى جرجان و معه فيروز و استخلف على خراسان إبنه مخلدا و على سمرقند و كش و نسف و بخارى إبنه معاوية و على طخارستان ابن قبيصة بن المهلب و أتى جرجان فلم يمنعه دونها أحد و دخلها ثم سار منها إلى البحير و حصر صولا بها شهرا حتى سأل الصلح على نفسه و ماله و ثلثمائة و يسلم إليه البحيرة فأجابه يزيد و خرج صول عن البحيرة و قتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفا و أمر إدريس بن حنظلة العمى أن يحصي ما في البحيرة ليعطى الجند فلم يقدر و كان فيها من الحنطة و الشعير و الأرز و السمسم و العسل شيء كثير و من الذهب و الفضة كذلك و لما صالح يزيد أصبهبذ طبرستان كما قدمناه سار إلى جرجان و عاهد الله إن ظفر بهم ليطحنن القمح على سائل دمائهم و يأكل منه فحاصرهم سبعة أشهر و هم يخرجون إليه فيقاتلونه و يرجعون و كانوا متمنعين في الجبل و الأوعار و قصد رجل من عجم خراسان فأتبع بخلا في الجبل و انتهى إلى معسكرهم و عرف الطريق إليه و دل الأدلة على معالمة و أتى يزيد فأخبره فانتخب ثلثمائة رجل مع ابنه خالد و ضم إليه جهم بن ذخر و بعثه و ذلك الرجل يدل به و واعده أن يناهضهم العصر من الغداة و لما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد كل حطب عنده حتى اضطرمت النيران و نظر العدو إلى النار فهالهم و حاموا للقتال آمنين خلفهم فناشبهم يزيد إلى العصر و إذا بالتكبير من ورائهم فهربوا إلى حصنهم و أتبعهم المسلمون فأعطوا ما بأيديهم و نزلوا على حكم يزيد فقتل المقاتلة و سبى الذرية و قاد منهم اثتي عشر ألفا إلى وادي جرجان و مكن أهل الثأر منهم حتى استلحموهم و جرى الماء على الدم و عليه الأرحاء فطحن و خبز و أكل و قتل منهم أربعين ألفا و بنى مدينة جرجان و لم تكن بنيت قبل و رجع إلى خراسان و ولى على جرجان جهم بن ذخر الجعفي و لما قتل مقاتلهم صلبهم فرسخين عن يمين الطريق و يساره (3/91)
وفاة سليمان و بيعة عمر بن عبد العزيز
ثم توفي سليمان بدايق من أرض قنسرين من سنة تسعة و تسعين في صفر منها و قد كان في مرضه أراد أن يعهد إلى ولده داود ثم استصغره و قال له كاتبه رجاء بن حيوة ابنك غائب عنك بقسطنطينية و لا يعرف حياته من مو ته فعدل إلى عمر بن عبد العزيز و قال له : إني و الله لأعلم أنها تكون فتنة و لا يتركونه أبدا يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده و كان عبد الملك قد جعل ذلك له و كتب بعد البسملة هذا كتاب من عبد الله بن سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز : إني قد وليتك الخلافة من بعدي و من بعدك يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له و أطيعوا و اتقوا الله و لا تختلفوا فيطمع فيكم ختم الكتاب ثم أمر كعب بن جابر العبسي صاحب الشرطة أن يجمع أهل بيته و أمر رجاء بن حيوة أن يدفع لهم كتابه و قال : أخبرهم أنه كتابي فليبايعوا من وليت فيه فبايعوه رجلا و تفرقوا و أتى عمر إلى رجاء يستعمله و يناشده الله و المودة يستعفي من ذلك فأبى و جاءه هشام أيضا يستعمله ليطلب حقه في الأمر فأبى فانصرف أسفا أن يخرج من بني عبد الملك ثم مات سليمان و جمع رجاء أهل بيته فقرأ عليهم الكتاب فلما ذكر عمر قال هشام : و الله لا نبايعه أبدا فقال له رجاء : و الله نضرب عنقك فقام أسفا يجر رجليه حتى جاء إلى عمر بن عبد العزيز و قد أجلسه رجاء على المنبر و هو يسترجع لما أخطأه فبايعه و اتبعه الباقون و دفن سليمان و صلى عليه عمر بن عبد العزيز و الوليد كان غائبا عند موت سليمان و لم يعلم بيعه عمر فعقد لواء و دعا لنفسه و جاء إلى دمشق ثم بلغه عهد سليمان فجاء إلى عمر و اعتذر إليه و قال : بلغني أن سليمان لم يعهد فخفت على الأموال أن تنهب فقال : عمر لو قمت بالأمر لقعدت في بيتي ولم أنازعك فقال عبد العزيز : و الله لا أحب لهذا الأمر غيرك و أول ما بدأ به عمر لما استقرت البيعة له أنه رد ما كان لفاطمة بنت عبد الملك زوجته من المال و الحلى و الجواهر إلى بيت المال و قال : لا أجتمع أنا و أنت و هو في بيت واحد فردته جميعه و لما ولاى أخوها يزيد من بعد رده عليها فأبت و قالت : ما كنت أعطيه ميتا ففرقه يزيد على أهله و كان بنو أمية يسبون عليا فكتب عمر إلى الآفاق بترك ذلك و كتب إلى مسملة و هو بأرض الروم بالقفول بالمسلمين (3/93)
عزل يزيد بن المهلب و حبسه و الولاية على عماله
و لما استقرت البيعة لعمر كتب في سنة مائة إلى يزيد بن المهلب أن يستخلفه على عماله و يقدم فاستخلف مخلدا ابنه و قدم من خراسان و قد كان عمر ولى على البصرة عدي ابن أرطاة الفراري و على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب و ضم إليه أبا الزناذ فكتب إلى عدي بن أرطاة موسى أن يقبض على يزيد بن المهلب و يبعثه مقيذا فلمنا نزل يزيد واسط و ركب السفن يريد البصرة بعث علي بن أرطاة موسى بن الرحيبة الحميري فلقيه في نهر معقل عند الجسر فقيده و بعث به إلى عمر و كان عمر يبغضه و يقول إنا مراء و أهل بيته جبابرة فلما طالبه بالأموال التي كتب بها إلى سليمان من خمس جرجان قال : إنما كتبت لأسمع الناس و علمت أن سليمان لم يكن ليأخذني بذلك فقال له عمر : إتق الله و هذه حقوق المسلمين لا يسعني تركها ثم حبسه بحصن حلب و بعث الجاح بن عبد الله الحكمي واليا على خراسان مكانه و انصرف يزيد بن يزيد فقدم على عمر و استعطفه لأبيه و قال له : يا أمير المؤمنين إن كانت له بينة فخذ بها و إلا فاستحلفه و إلا فصالحه أو فصالحني على ما تسأل فأبى عمر من ذلك و شكر من مخلد ما فعل ثم ألبس يزيد جبة صوف و حمله على جمل و سيره إلى دهلك و مر يزيد على الناس و هو ينادي بعشيرة بالنكير لما فعل به فدخل سلامة بن نعيم الخولاني على عمر و قال : أردد يزيد إلى محبسه لئلا ينزعه قومه فإنهم قد غضبوا فرده إلى أن كان من أمر فزارة ما يذكر (3/94)
ولاية عبد الرحمن بن نعيم القشيرى على خراسان
و لما عزل يزيد عن خراسان و كان عامل جرجان جهم بن ذخر الجعفي فأرسل عامل العراق على جرجان عاملا مكانه فحبسه جهم و قيده فما جاء الجراح إلى خراسان أطلق أهل جرجان عاملهم و نكر الجاح على جهم ما فعل و قال : لولا قابتك مني ما سوغتك هذا ! يعني أن جهما و جعفا معا إبنا سعد العشيرة ثم بعث في الغزو و أوفد على عمر وفدا فكلم فيه بعضهم عمر بأنه يعري الموالي بلا عطاء و لا رزق و يؤاخذ من أسلم من أهل الذمة بالخراج ثم عرض بأنه سيف من سيوف الجراح قد علم بالظلم و العدوان فكتب عمر إلى الجراح انظر من صلى قبلك فخل عنه الجزية فسارع الناس إلى الإسلام فرارا من الجزية فامتحنهم بالختان و كتب إلى عمر بذلك فكتب عليه عمران ! الله بعث محمدا داعيا و لم يبعثه خاتنا و استقدم الجراح و قال : إحمل معك أبا مخلد و استخلف على حرب خراسان عبد الرحمن ابن نعيم القشيري و لما قدم على عمر قال : متى خرجت ؟ قال : في شهر رمضان قال : صدق من وصفك بالجفاء ألا أقمت حتى تفطر ثم تسافر ثم سأل عمر أبا مخلد عن عبد الرحمن بن عبد الله فقال يكافيء الأكفاء و يعادي الأعداء و يقدم إن وجد ما يساعده قال : فعبد الرحمن بن نعيم ؟ قال : يحب العافية و تأتيه ! قال : هو أحب إلي فولاه الصلاة و الحرب و ولى عبد الرحمن القشيرى الخراج فلم يزل عبد الرحمن بن نعيم على خراسان حتى قتل يزيد بن المهلب و ولي مسلمة فكانت ولايته أكثر من سنة و نصف و ظهر من أيام الجاح بخراسان دعاة بني العباس فيمن بعثه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس إلى الآفاق حسبما يذكر في أخبار الدولة العباسية (3/95)
وفاة عمر بن عبد العزيز و بيعة يزيد
ثم توفي عمر بن عبد العزيز في رجب سنة إحدى و مائة بدير سمعان و دفن بها السنتين و خمسة أشهر من ولايته و لأربعين من عمره و كان يدعى أشج بني أمية رمحته دابة و هو غلام فشجته و لما مات ولي بعده يزيد بن عبد الملك بعهد سليمان كما تقدم و قيل لعمر حين احتضر : اكتب إلى يزيد فأوصه بالأمة فقال : بماذا أوصيه ؟ إنه من بني عبد الملك ! ثم كتب أما بعد فاتق يا يزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة و لا تقدر على الرجعة إنك تترك ما أترك لمن لا يحمدك و تصير إلى من لا يعذرك و السلام و لما ولي يزيد عزل أبا بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن المدينة و ولى عليها عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري و غير كل ما صنعه عمر بن عبد العزيز و كان من ذلك شأن خراج اليمن فإن محمدا أخا الحجاج جعل عليهم خراجا مجددا و أزال ذلك عمر إلى العشر أو نصف العشر و قال : لئن يأتيني من اليمن حبة ذرة أحب إلي من تقرير هذه الوظيفة فلما ولي يزيد أعادها و قال لعامله خذها منهم و لو صاروا حرضا و هلك عمه محمد بن مروان فولى مكانه على الجزيرة و أذربيجيان و أرمينية عمه اآخر مسلمة بن عبد الملك (3/96)
احتيال يزيد بن المهلب مقتله
قد تقدم لنا حبس يزيد بن المهلب فلم يزل محبوسا حتى اشتد مرض عمر بن عبد العزيز فعمل في الهرب مخافة يزيد بن عبد الملك لأن زوجته بنت أخي الحجاج و كان سليمان أمر ابن المهلب بعذاب قرابة الحجاج كلهم فنقلهم من البلقاء و فيهم زوجة يزيد و عذبها و جاءه يزيد بن عبد الملك إلى منزله شافعا فلم يشفعه فضمن حمل ما قرر عليها فلم يقبل فتهدده فقال له ابن المهلب الآن وليت أنت لأرمينك بمائة ألف سيف فحمل يزيد بن عبد الملك عنها مائة ألف دينار و لما اشتد مرض عمر خاف من ذلك و أرسل إلى مواليه أن يغدوا له بالإبل و الخيل في مكانه عينة لهم و بعث إلى عامل حلب بإشفاقه من يزيد و بزل له المال و إلى الحرس الذين يحفظونه فخلى سبيله و أتى إلى دوابه فركبها و لحق بالبصرة و كتب إلى عمر : إني و الله لو وثقت بحياتك لم أخرج من محبسك و لكن خفت أن يقتلني يزيد شر قتلة فقرأ عمر الكتاب و به رمق فقال : اللهم إن كان ابن المهلب يريد بالمسلمين سؤا فألحقه به و هضه فقد هاض انتهى و لما بويع ليزيد بن عبد الملك كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة و إلى عدي بن أرطأة بالبصرة بهربه و التحرر منه و أبى عدي أن يأخذ المهلب بالبصرة فحبس المفضل حبيبا و مروان ابني المهلب بعث عبد الحميد من الكوفة جندا عليهم هشام بن ساحق بن عامر فأتوا العذيب و مر بيزيد عليهم فوق القطقطانة فلم يقدموا عليه و مضى نحو البصرة و قد جمع عدي بن أرطأة أهل البصرة و خندق عليها و بعث على خيلها المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل و جاء يزيد على أصحابه الذين معه و انضم إليه أخوه محمد فيمن اجتمع إليه من قومهم و بعث عدي بن أرطأة على كل خمس من أخماس البصرة رجالا : فعلى الأزد المغيرة بن زياد بن عمر العتكي و على تميم محرز بن حمدان السعدي و على بكرة نوح بن شيبان بن مالك بن مسمع و على عبد القيس مالك بن المنذر بن الجارود و على أهل العالية عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر و هم قريش و كنانة و الأزد و بجيلة و خثعم و قيس عيلان و مزينة فلم يعرضوا ليزيد و أقبل فانزل انتهى و اختلف الناس إليه و أرسل إلى عدي أن يطلق له إخوته فينزل به البصرة و يخرج حتى يأخذ لنفسه من يزيد و بعث حميد ابن أخيه عبد الملك بن المهلب يستأمن له من يزيد بن عبد الملك فأجاره خالد القسري و عمر بن يزيد الحكمي بأمان يزيد له و لأهله و قد كان بعد منصرف حميد فرق في الناس قطع الذهب و الفضة فانثلوا عليه و عدي يعطي درهمين درهمين ثم تناجزوا الحرب و حمل أصحاب يزيد على أصحاب عدي فانهزموا و دنا يزيد من القصر و خرج عدي بنفسه فانهزم أصحابه و خاف إخوة يزيد و هم في الحبس أن يقتلوا قبل وصوله فأغلق الباب و امتنعوا فجاءهم الحرس يعالجون فأجفلهم الناس عنه فخلوا عنهم و انطلقوا إلى أخيهم و نزل دار مسلم بن زياد إلى جنب القصر و تسور القصر بالسلالم و فتحه و أتى أخيهم و نزل يزيد دار مسلم بن زياد إلى جنب القصر و تسور القصر بالسلالم و فتحه و أتى بعدي بن أرطأة فحبسه و هرب رؤس البصرة من تميم و قيس و مالك بن المنذر إلى الكوفة و الشام و خرج المغيرة بن زياد بن عمر العتكي إلى الشام فلقي خالدا القسري و عمر بن يزيد و قد جاؤا بأمان يزيد بن المهلب مع حميد بن أخيه فأخبرهما بظهور يزيد على البصرة و حبسه عديا فرجعا إلى وعد لهما فلم يقبلا و قبض عبد الحميد بن عبد الرحمن بالكوفة على خالد بن يزيد ابن المهلب و حماد بن ذخر و حملهما و سيرهما إلى الشام فحبسهما يزيد حتى هلكا بالسجن و بعث يزيد بن عبد الملك إلى أهل الكوفة يثني عليهم و يمنيهم الزيادة و جهز أخاه العباس مسلمة و ابن أخيه العباس بن الوليد إلى العراق في سبعين ألف مقاتل أو ثمانين من أهل الشام و الجزيرة فقدموا الكوفة و نزلوا النخيلة و تكلم العباس يوما ببعض الكلام فأساء عليه حيان النبطي بالكشة الأعجمية و لما سمع ابن المهلب بوصول مسلمة و أهل الشام فخطب الناس و شجعهم للقائهم و هون عليهم أمرهم و أخبرهم أن أكثرهم له و استوثق له أهل البصرة و بعث عماله على الأهواز و فارس و كرمان و بعث إلى خراسان مدرك بن المهلب و عليها عبد الرحمن بن نعيم و بعث بنو تميم ليمنعوه و لقيه الأزد على رأس المغارة فقالوا : ارجع عنا حتى نرى مآل أمركم ثم خطب يزيد الناس يدعوهم إلى الكتاب و يحثهم على الجهاد و أن جهاد أهل الشام أعظم ثوابا من جهاد الترك و الديلم و نكر ذلك الحسن البصري و النضر بن أنس بن مالك و تابعها الناس في النكير و سار يزيد من البصرة إلى واسط و استخلف عليها أخاه مروان بن المهلب و أقام بواسط أياما ثم خرج منها سنة إثنتين و مائة و استخلف عليها أمان معونة و قدم أخاه عبد الملك بن المهلب نحو الكوفة فاستقبله ابن الوليد بسور له فاقتتلوا و انهزم عبد الملك و عاد إلى يزيد و أقبل مسلمة على شاطئ الفرات إلى الأنهار فعقد الجسر و عبر و سار حتى نزل على يزيد بن المهلب و فزع إليه ناس من أهل الكوفة و كان عسكره مائة و عشرين و كان عبد الحميد بن عبد الرحمن قد عسكر بالنخيلة و شق المياه و جعل الأرصاد على أهل الكوفة أن يفزعوا إلى يزيد بن المهلب و بعث بعثا إلى مسلمة مع صبرة بن عبد الرحمن بن مختف فعزل مسلمة بن عبد الحميد عن الكوفة و استعمل عليها محمد بن عمر بن الوليد بن عقبة ثم أراد يزيد بن المهلب أن يبعث أخاه محمد بالعساكر يبيتون مسلمة فأبى عليه أصحابه و قالوا : قد و عدناهم بالكتاب و السنة و وعدوا بالإجابة فلا نغدرهم فقال يزيد : و يحكم تصدقونهم إنهم يخادعونكم ليمكروا بكم فلا يسبقوكم إليه و الله ما في بني مروان أمكر و لا أبعد غورا من هذه الجرادة الصغرى يعني مسلمة و كان مروان بن المهلب بالبصرة يحث الناس على اللحاق بيزيد أخيه و الحسن البصري يثبطهم و يتهدده فلم يكف ثم طلب الذين يجتمعون إليه فافترقوا فأقام مسلمة بن عبد الملك يطاول يزيد بن المهلب ثمانية أيام ثم خرج يوم الجمعة منتصف صغر فعبى أصحابه و عبى العباس بن الوليد كذلك و التقوا و اشتد القتال و أمر مسلمة فأخرق الجسر فسطع دخانه فلما رآه أصحاب يزيد انهزموا و اعترضهم يزيد يضرب في وجوههم حتى كثروا عليه فرجع و ترجل في أصحابه و قيل له : قتل أخوك حبيب فقال : لا خير في العيش بعده و لا بعد الهزيمة ثم استمات و دلف إلى مسلمة لا يريد غيره فعطف عليه أهل الشام فقتلوه هو و أصحابه و فيهم أخوه محمد و بعث مسلمة برأسه إلى يزيد بن عبد الملك مع خالد ابن الوليد بن عقبة و قيل إن الذي قتله الهذيل بن زفر بن الحرث الكلابي و أنف أن ينزل فيأخذ رأسه فأخذه غيره و كان المفضل بن المهلب يقاتل في ناحية المعترك و ما علم ببيقتل يزيد فبقي ساعة كذلك يكر و يفر حتى أخبر بقتل إخوته فافترق الناس عنه و مضى إلى واسط و جاء أهل الشام إلى عسكر يزيد فقاتلهم أبو رؤبة رأس الطائفة المرجئة و معه جماعة منهم صدق فقاتلهم أبو رؤبة رأس الطائفة المرجئة و معه جماعة منهم صدق فقاتلوا ساعة من النهار ثم انصرفوا و أسر مسلمة ثلثمائة أسير حبسهم بالكوفة و جاء كتاب يزيد إلى محمد بن عمر بن الوليد بقتلهم فأمر العريان بن الهيثم صاحب الشرطة بذلك و بدأ بثمانين من بني تميم فقتلهم ثم جاء كتاب يزيد بإعفائهم فتركهم و أقبل مسلمة فنزل الحيرة و جاء الخبر بقتل يزيد إلى واسط فقتل ابنه معاوية عدي بن أرطاة و محمدا ابنه و مالكا و عبد الملك ابنا مسمع في ثلاثين و رجع إلى البصرة بالمال و الخزائن و اجتمع بعمه المفضل و أهل بيتهم و تجهزوا للركوب في البحر و ركبوا إلى قندابيل و بها وداع بن حميد الأزدي ولاه عليها يزيد بن المهلب ملجأ لأهل بيته إن وقع بهم ذلك فركبوا البحر بعيالهم و أموالهم إلى جبال كرمان فنزلوا بها و اجتمع إليهم الفل من كل جانب و بعث مسلمة مدرك بن ضب الكلبي في طلبهم فقاتلهم و قتل من أصحابه المفضل النعمان بن إبراهيم و محمد بن إسحق بن محمد بن الأشعث و أسر ابن صول قهستان و هرب عثمان بن اسحق بن محمد بن الأشعث فقتل و حمل رأسه إلى مسلمة بالحيرة و رجع ناس من أصحاب بني المهلب فاستأمنوا و أمنهم مسلمة منهم مالك بن إبراهيم بن الأشتر و الورد ابن عبد الله بن حبيب السعدي التميمي و مضى إلى آل المهلب و من معهم بقندابيل فمنعهم وداع بن حميد من دخولها و خرج معهم لقتال عدوهم و كان مسلمة قد رد مدرك بن ضب بعد هزيمتهم في جبال كرمان و بعث في أثرهم هلال بن أحور التميمي فلحقهم بقندابيل فتبعوا لقتاله ! و بعث هلال رايه أمان فمال إليه وداع بن حميد و عبد الملك بن هلال و افترق الناس عن آل المهلب ثم استقدموا فاستأمنوا فقتلهم عن آخرهم : المفضل و عبد الملك و زياد و مروان بنو المهلب و معاوية بن يزيد بن المهلب و المنهال و عمر بن يزيد بن المهلب و عمر بن يزيد بن المهلب و عثمان بن المفضل بن المهلب بريبيل ملك الترك و بعث هلال بن أحور برؤسهم و سبيهم و أسراهم إلى مسلمة بالحيرة فبعث بهم مسلمة إلى يزيد بن عبد الملك فسيرهم يزيد إلى العباس بن الوليد في حلب فنصب الرؤوس و أراد مسلمة أن يبتاع الذرية فاشتراهم الجراح بن عبد الله الحكمي بمائة ألف و خلى سبيلهم و لم يأخذ مسلمة من الجراح شيئا و لما قدم بالأسرى على يزيد بن عبد الملك و كانوا ثلاثة عشر أمر يزيد فقتلوا و كلهم من ولد المهلب و استأمنت هند بنت المهلب لأخيها عيينة إلى يزيد بن عبد الملك فأمنه و أقام عمر و عثمان عند رتبيل حتى أمنهما أسد بن عبد القسري عليه بخراسان (3/96)
ولاية مسلمة على العراق و خراسان
و لما فرغ مسلمة بن عبد الملك من حرب بني المهلب ولاه يزيد بن عبد الملك العراق و جمع له ولاية البصرة و الكوفة و خراسان فأقر على الكوفة محمد بن عمر بن الوليد و كان قد قام بأمر البصرة بعد بني المهلب شبيب بن الحرث التميمي فبعث عليها مسلمة عبد الرحمن بن سليم الكلبي و على شرطتها عمر بن يزيد التميمي و أراد عبد الرحمن أن يقتل شيعة بن المهلب بالبصرة فزله عبد الملك بن بشر ابن مروان و أقر عمر بن يزيد على الشرطة و استعمل مسلمة على خراسان صهره على سعيد بن عبد العزيز بن الحرث بن الحكم بن أبي العباس و يلقب سعيد خدينة و دخل عليه بعض العرب بخراسان و عليه ثياب مصبغة و حوله مرافق مصبغة و سئل عنه لما خرج فقال : خدينة و هي الدهقانة ربة البيت و لما ولاه على خراسان سار إليها فاستعمل شعبة بن ظهر النهشلي على سمرقند فسار إليها و قدم الصغد و كان أهلها كفروا أيام عبد الرحمن بن نعيم ثم عادوا إلى الصلح فوبخ ساكنها من العرب و غيرهم بالجبن فاعتذروا بأمر أميرهم علي بن حبيب العبدي ثم حبس سعيد عمال عبد الرحمن بن عبد الله و أطلقهم ثم حبس عمال يزيد بن المهلب رفع لهم أنهم اختانوا الأموال فعذبهم فمات بعضهم في العذاب و بقي بعضهم بالسجن حتى غزاهم الترك و الصغد فأطلقهم (3/100)
العهد لهشام بن عبد الملك و الوليد بن يزيد
لما بعث يزيد بن عبد الملك الجيوش إلى يزيد بن المهلب مع مسلمة أخيه و العباس بن أخيه الوليد قال له العباس : إنا نخاف أن يرجف أهل العراق بموتك و يبث ذلك في أعضادنا و أشار عليه بالعهد لعبد العزيز أخيه بن الوليد و بلغ ذلك مسلمة فجاءه و قال : أخوك أحق فإن ابنك لم يبلغ و أشار عليه بأخيه هشام و ابنه الوليد من بعده و الوليد ابن إحدى عشرة سنة فبايع لهما كذلك ثم بلغ ابنه الوليد فكان إذا رآه يقول بيني و بين من قدم هشاما عليك (3/101)
غزوة الترك
لما ولي سعيد خراسان استضعفه الناس و سموه خدينة و استعمل شعبه على سمرقند ثم عزله كما مر و ولى مكانه عثمان بن عبد الله بن مطرف بن الشخير فطمعت الترك و بعثهم خاقان إلى الصغد و على الترك كورصول و أقبلوا حتى نزلوا قصر الباهلي و فيه مائة أهل بيت بذراريهم و كتبوا إلى عثمان بسمرقند و خافوا أن يبطئ المدد فصالحوا الترك على أربعين ألفا و أعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة و ندب عثمان الناس فانتدب المسيب بن بشر الرياحي و معه أربع آلاف من سائر القبائل فقال لهم المسيب : من أراد الغزو و الصبر على الموت فليتقدم فرجع عنه ألف و قالها بعد فرسخ فرجع ألف آخر ثم أعادها ثالثة بعد فرسخ فاعتزله ألف و سار حتى كان على فرسخين من العدو فأخبره بعض الدهاقين بقتل الرهائن و ميعادهم غدا و قال أصحابي ثلثمائة مقاتل و هم معكم فبعث المسيب إلى القصر رجلين عجميا و عربيا يأتيانه بالخبر فجاؤا في ليلة مظلمة و قد أجرت الترك الماء بدائر القصر لئلا يصل إليه أحد فصاح بهما فقالا له اسكت وادع لنا فلانا فأعلماه قرب العسكر و سألا هل عندكم امتناع غدا ؟ فقال : لهما نحن مستميتون فرجعا إلى المسيب فأخبره فعزم على تبييت الترك و بايعه أصحابه على الموت و ساروا يومهم إلى الليل و لما أمسى حثهم على الصبر و قال : ليكن شعاركم يا محمد و لا تتبعوا موليا و اعقروا الدواب فإنه أشد عليهم و ليست بكم قلة فإن سبعمائة سيف لا يضرب بها في عسكر إلا أوهنته و إن كثر أهله ثم دنوا من العسكر في السحر و ثار الترك و خالطهم المسلمون و عقروا الدواب و ترجل المسيب في أصحابه له فقاتلوا قتالا شديدا و قتل عظيم من عظماء الترك فانهزم و نادى منادي المسيب لاتتبعوهم و اقصدوا القصر و احملوا من فيه و لا تحملوا من متاعهم إلا المال و من حمل إمرأة أو صبيا أو ضعيفا حسبة فأجره على الله و إلا فله أربعون درهما و حملوا من في القصر إلى سمرقند و رجع الترك من الغد فلم يروا في القصر أحدا و رأوا قتلاهم فقالوا : لم يكن الذين جاؤنا بالأمس (3/101)
غزو الصغد
و لما كان من انتقاض االصغد إعانتهم على المسلمين ما ذكرنا تجهز سعيد لغزوهم و عبر النهر فلقيه الترك و طائفة من الصغد فهزمهم المسلمون و نهاهم سعيد عن اتباعهم و قال هم جباية أمير المؤمنين فانكفوا عنهم ثم سار المسلمون إلى واد بينهم و بين المرج فقطعه بعض العسكر و قد أكمن لهم الترك فخرجوا عليهم و انهزم المسلمون إلى الوادي و قيل بل كان المنهزمون مسلحة للمسلمين و كان فيمن قتل شعبة بن ظهر في خمسين رجلا و جاء الأمير و الناس فانهزم العدو و كان سعيد إذا بعث سرية فأصابوا و غنموا و سبوا رد السبي و عاقب فثقل سعيد على الناس و ضعفوه و لما رجع من هذه الغزاة و كان سورة بن الأبجر قد قال لحيان النبطي يوم أمر سعيد بالكف عن الصغد و انهم جباية امير المؤمنين فقال : سورة إرجع عنهم يا حيان فقال : عقيرة الله لا أدعها فقال انصرف يانبطي قال : أنبط الله وجهك فحقدها عليه سورة و أغزى به سعيد خدينة و قال : إنه أفسد خراسان على قتيبة و يثب عليك و يتحصن ببعض القلاع له سعيد : لا يسمع هذا منك أحد ثم حاول عليه و سقاه لبنا قد ألقى فيه ذهبا مسحوقا ثم ركض الناس معه أربعة فراسخ فعاش حيان من بعدها ليالي قلائل و مات (3/102)
ولاية ابن هبيرة على العراق و خراسان
كان مسلمة لما ولي على هذه الأعمال لم يدفع من الخراج شيئا و استحيا يزيده من عزله فكتب إليه بالقدوم و أن يستخلف على عمله و سار لذلك سنة ثلاث و أربعمائة فلقيه عمر بن هبيرة بالطريق على دواب البريد و قال : وجهني أمير المؤمنين لحيازه أموال بني المهلب فارتاب لذلك و قال له بعض أصحابه : كيف يبعث ابن هبيرة من عند الجزيرة لمثل هذا الغرض ؟ ثم أتاه أن ابن هبيرة عزل عماله و كان عمر بن هبيرة من النجابة بمكان و كان الحجاج يبعثه في البعوث و هو ممن سار لقتال مطرف بن المغيرة حين خلغ و يقال إنه الذي قتله و جاء برأسه فسيره الحجاج إلى عبد الملك فأقطعه قرية قريبة من دمشق ثم بعثه إلى كروم ابن مرثد الفزاري ليخلص منه فارتاب و أخذ المال و لحق بعبد الملك عائدا به من الحجاج و قال قتلت ابن عمه و لست آمنه على نفسي فأجاره عبد الملك و كتب الحجاج إليه فيه فقال : أمسك عنه و عظم شأنه عبد الملك و بنوه و استعمله عمر بن عبد العزيز على روم من ناحية أرمينية و أثخن فيهم و أسر سبعمائة منهم و قتلهم و استخدم أيام يزيد لمحبوبته حبابة فسعت له في ولاية العراق فولاه مكان أخيه مسلمة و لما ولي قدم عليه المجشر بن مزاحم السلمي و عبد الله بن عمر الليثي في وفد فشكوا من سعيد و حذيفة عاملهم و هو صهر مسلمة فعزله و ولى مكانه على خراسان سعيد بن عمر الحريشي من بني الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فسار خدينة عن خراسان و قدم سعيد فلم يعرض لعماله و لما قدم على خراسان كان الناس بإزاء العدو و قد نكثوا فحثهم على الجهاد و خاف الصغد منه بما كانوا أعانوا الترك أيام خدينة فقال لهم ملكهم : احملوا له خراج ما مضى و اضمنوا خراج ما يأتي و العمارة و الغزو معه و أعطوه الرهن بذلك فأبوا إلا أن يستجيروا بملك فرغانة و خرجوا من بلادهم إلى خجندة و سألوا الجوار و أن ينزلوا شعب عصام فقال : أمهلونا عشرين يوما أو أربعين لنخليه لكم و ليس لكم علي جوار قبل دخولكم إياه ثم غزاهم الحريش سنة أربع و مائة فقطع النهر و ترك قصر الريح على فرسخين من الدنوسية و أتاه ابن عم ملك فرغانة يغريه بأهل الصغد و أنهم بخجندة و لم يدخلوا جواره بعد فبعث معه عبد الرحمن القسري في عسكر و جاء في أثره حتى نزلوا على خجندة و خرج أهل صغد لقتالهم فانهزموا و قد كانوا حفروا خندقا و غطوه بالتراب ليسقط فيه المسلمون عند القتال فلما انهزموا ذلك اليوم أخطأهم الطريق و أسقطهم الله في ذلك الخندق ثم حاصرهم الحريشي و نصب عليهم المجانيق و أرسلوا إلى ملك فرغانة ليجيرهم فقال : قد شرطت عليكم أن لا جوار قبل الأجل الذي بيني و بينكم فسألوا الصلح من الحريشي على أن يردوا ما في أيديهم من سبي العرب و يعطوا ما كسر من الخراج و لا يتخلف أحد منهم بخجندة و إن أحدثوا حدثا استبيحت دماؤهم فقبل منهم و خرجوا من خجندة و نزلوا في العسكر على كل من يعرفه و بلغ الحريش أنهم قتلوا إمرأة فقتل قاتلها فخرج قبيل منهم فاعترض الناس و قتل جماعة و قتل الصغد من أسرى المسلمين مائة وخمسين و لقي الناس منهم عنفا ثم أحاطوا بهم و هم يقاتلون بالخشب ليس لهم سلاح فقتلوا عن آخرهم ثلاثة آلاف أو سبعة آلاف و كتب الحريشي إلى يزيد بن عبد الملك و لم يكتب لعمر بن هبيرة فأحفظه ذلك ثم سرح الحريشي سليمان بن أبي السرى إلى حصن يطيف به وراء الصغد و معه خوارزم شاه و ملك أجرون و سومان فسار سليمان و على مقدمته المسيب بن بشر الرياحي و لقيه أهل الحصن فهزمهم ثم حاصرهم فسألوا الصلح على أن لا يعرض لسبيهم و يسلموا القلعة بما فيها فقبل و بعث إلى الحريشي فقبضه و بعث من قبضه و سار الحريشي إلى كش و نسف حربا و خراجا سليمان بن أبي السري و استنزل مكانه آخر اسمه قشقري من حصنه على الأمان و جاء به إلى مرو فشنقه و صلبه (3/103)
ولاية الجراح على أرمينية و فتح بلنجر
و لما سار ابن هبيرة على الجزيرة و أرمينية تشبب البهراني فحفل لهم الخزر و هم التركمان و استجاشوا بالقفجاق و غيرهم من أنواع الترك و لقوا المسلمين بمرج الحجارة فهزموهم و احتوى التركمان علىعسكرهم و غنموا ما فيه و قد المنهزمون على يزيد بن عبد الملك فولى على أرمينية الجراح بن عبد الله الحكمي و أمده بجيش كثيف و سار لغزو الخزر فعادوا للباب و الأبواب و نزل الجراح بردعة فأراح بها قليلا ثم سار نحوهم و عبر نهر الكر و أشاع الإقامة ليرجع بذلك عيونهم إليهم ثم أسرى من ليلته و أجد السير إلى مدينة الباب فدخلها وبث السرايا للنهب و الغارة و زحف إليه التركمان و عليهم ابن ملكهم فلقيهم عند نهر الزمان و اشتد القتال بينهم ثم انهزم التركمان و كثر القتل فيهم و غنم المسلمون ما معهم و ساروا حتى نزلوا على الحصن و نزل أهلها على الأمان فقتلهم ثم سار إلى مدينة برغوا فحاصرها ستة أيام ثم نزلوا على الأمان و نقلهم ثم ساروا إلى بلنجر و قاتلهم التركمان دونها فانهزموا و افتتح الحصن عنوة و غنم المسلمون جميع ما فيه فأصاب الفارس ثلثمائة دينار و كانوا بضعة و ثلاثين ألفا ثم إن الجراح رجع حصن بلنجر إلى صاحبه و رد عليه أهله و ماله على أن يكون عينا للمسلمين على الكفار ثم نزل على حصن الوبيد و كان به أربعون ألف بيت من الترك فصالحوا الجراح على مال أعطوه إياه ثم تجمع الترك و التركمان و أخذوا الطرق على المسلمين فأقام في رستاق سبى و كتب إلى يزيد بالفتح و طلب المدد و كان ذلك آخر عمر يزيد و بعث بعد ذلك إليه بالمدد و أقره على العمل (3/105)
ولاية عبد الواحد القسرى على المدينة و مكة
كان عبد الرحمن بن الضحاك عاملا على الحجاز منذ أيام عمر بن عبد العزيز و أقام عليها ثلاث سنين ثم حدثته نفسه خطبة فاطمة بنت الحسين فامتنعت فهددها بأن يجلد ابنها في الخمر و هو عبد الله بن الحسن المثنى و كان على ديوان المدينة عامل من أهل الشام يسمى ابن هرمز و لما رفع حسابه و أراد السير إلى يزيد جاء ليودع فاطمة فقالت : أخبر أمير المؤمنين بما ألقى من ابن الضحاك و ما يتعرض لي ثم بعث رسولها بكتابها إلى يزيد يخبره و قدم ابن هرمز على يزيد فبينما هو يحدثه عن المدينة قال الحاجب : بالباب رسول فاطمة بنت الحسين فذكر ابن هرمز ما حملته فنزل عن فراشه و قال عندك مثل هذا و ما تخبرني به ! فاعتذر بالنسيان فأدخل يزيد الرسول و قرأ الكتاب و جعل ينكث الأرض بخيزرانة و يقول : لقد اجترأ ابن الضحاك هل من رجل يسمعني صوته في العذاب قيل له عبد الواحد بن عبد الله القسري فيكتب إليه بيده قد وليتك المدينة فانهض إليها و اعزل ابن الضحاك و غرمه أربعين ألف دينار و عذبه حتى أسمع و أنا على فراشي و جاء البريد بالكتاب إليه و لم يدخل علىابن الضحاك فأحضر البريد و دس إليه بألف دينار فأخبره الخبر فسار ابن الضحاك إلى مسلمة بن عبد الملك و استجار به و سأل مسلمة فيه يزيد فقال : و الله لا أعفيه أبدا فرده مسلمة إلى عبد الواحد بالمدينة فعذبه و لقي شرا و لبس جبة صوف يسأل الناس و كان قد آذى الأنصار فذموه و كان قدوم القسري في شوال سنة أربع و مائة و أحسن السيرة فأحبه الناس و كان يستشير القاسم بن محمد و سالم بن عبد الله (3/105)
عزل الحريشي و ولاية مسلم الكلبي على خراسان
كان سعيد الحريشي عاملا على خراسان لابن هبيرة كما ذكرنا و كان يستخف به و يكاتب الخليفة دونه و يكنيه أبا المثنى و بعث من عيونه من يأتيه بخبره فبلغه أعظم مما سمع فعزله و عذبه حتى أدى الأموال و عزم على قتله ثم كف عنه و ولى ابن هبيرة على خراسان مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي و لما جاء إلى خراسان حبسه و قيده و عذبه كما قلنا فلما هرب ابن هبيرة بعد ذلك عن العراق أرسل خالد القسري في طلبه الحريشي فأدركه على الفرات و قال لابن هبيرة ما ظنك بي قال : إنك لا تدفع رجلا من قومك إلى رجل من قسر قال : هو ذاك ثم انصرف و تركه (3/106)
وفاة يزيد و بيعة هشام
ثم توفي يزيد بن عبد الملك في شعبان سنة خمس و مائة لأربع سنين من خلافته و ولى بعده أخوه هشام بعهده إليه بذلك كما مر و كان بحمص فجاءه الخبر بذلك فعزل عمر ابن هبيرة عن العراق وولى مكانه خالد بن عبد الله القسري فسار إلى العراق من يومه (3/106)
غزو مسلم الترك
غزا مسلم بن سعيد الترك سنة خمسة و مائة فعبرالنهر و عاث في بلادهم و لم يفتح شيئاو قفل فأتبعه الترك و لحقوه علىالنهر فعبرالناس و لم ينالوا منه ثم غزا بقية السنة و حاصر أفشين حتى صالحوه على ستة آلاف رأس ثم دفعوا إليه القلعة ثم غزا سنة ست و مائة و تباطأ عنه الناس و كان ممن تباطأ البختري بن درهم فرد مسلم نصر بن سيار إلى بلخ و أمره أن يخرج الناس إليه و على بلخ عمر بن قتيبة أخو مسلم فجاء نصر و أحرق باب البختري و زياد بن طريف الباهلي ثم منعهم عمر من دخول بلخ و قد قطع سعيد النهر و نزل نصر بن سيار البروقان و أتاه جند الضلاضيان و تجمعت ربيعة و الأزد بالبروقان على نصف فرسخ من نصر و خرجت مضر إلى نصر و خرج عمر بن مسلم إلى ربيعة والأزد و توافقوا و سفر الناس بينهما في الصلح و انصرف نصر ثم حمل البختري و عمر بن مسلم على نصر فكر عليهم فقتل منهم ثمانية عشر و هزمهم و أتى بعمر بن مسلم و البختري و زياد بن طريف فضربهم مائة مائة و حلق رؤسهم و لحاهم و ألبسهم المسوح و قيل إن سبب تعزيز عمر بن مسلم إنهزام تميم عنه و قيل انهزام ربيعة و الأزد ثم أمنهم نصر بعد ذلك و أمرهم أن يلحقوا بمسلم بن سعيد و لما قطع مسلم النهر و لحقه من لحق من أصحابه سار إلى بخارى فلحقه بها كتاب خالد بن عبد الله القسري بولايته و يأمره بإتمام غزاته فسار إلى فرغانة و بلغه أن خاقان قد أقبل إليه فارتحل و لحقه خاقان بعد ثلاثة مراحل لقي فيها طائفة من المسلمين فأصابهم ثم أطاف بالعسكر و قاتل المسلمين و قتل المسيب بن بشر الرياحي و البراء من فرسان المهلب و أخو غورك و ثار الناس في وجوههم فأخرجوهم من العسكر و رحل مسلم بالناس ثمانية أيام و الترك مطيفون بهم بعد أن أمر بإحراق ما ثقل من الأمتعة فأحرقوا ما قيمته ألف ألف و أصبحوا في التاسع قريب النهر دونه أهل فرغانة و الشاش فأمر مسلم الناس لأن يخرطوا سيوفهم و يحملوا فافرج أهل فرغانة و الشاش عن النهر و نزل مسلم بعسكره ثم عبر من الغد و اتبعهم ابن خاقان فكان حميد بن عبد الله على الساقة من وراء النهر و هو مثخن بالجراحة فبعث إلى مسلم بالانتظار و عطف علىالترك فقاتلهم و أسر قائدهم و قائد الصغد ثم أصابه سهم فمات و أتوا خجندة و قد أصابتهم مجاعة و جهد و لقيهم هنالك كتاب أسد بن عبد الله القسري أخي خالد بولايته على خراسان و استخلافه عبد الرحمن بن نعيم فقرأ مسلم الكتاب و قال سمعا و طاعة (3/107)
ولاية أسد القسري على خراسان
و لما غزا خالد بن عبد الله خراسان استخلف عليها أخاه أسد بن عبد الله فقدم و مسلم بن سعيد بفرغانة فلما رجع و أتى النهى ليقطعه منعه الأشهب بن عبد الله التميمي و كان على السفن بآمد حتى عرفه أنه الأمير فأذن له ثم عبر أسد النهر و نزل بالمرج و على سمرقند هانئ بن هانئ فخرج بالناس و تلقى أسدا و أدخله سمرقند و بعث أسد إلى عبد الرحمن بن نعيم بالولاية على العسكر فقفل بالناس إلى سمرقند ثم عزل أسدا عنها و ولى مكانه الحسن بن أبي العمرطة الكندي ثم قدم مسلم بن سعيد بن عبد الله بخراسان فكان يكرمه و مر بابن هبيرة و هو يروم الهرب و أسلم على يديه ثم غزا الغور و هي جبال هراة فوضع أهلها أثقالهم في الكهوف و لم يكن إليهم طريق فاتخذ التوابيت و وضع فيها الرجال و دلاها بالسلاسل فاستخرجوا ما قدروا عليه ثم قطع كماق النهر و جاءه خاقان و لم يكن بينهما قتال و قيل عاد مهزوما من الجسر ثم سار إلى عوبرين و قاتلها و أبلى نصر بن سيار و مسلم بن أحور و انهزم المشركون و حوى المسلمون عسكرهم بما فيه (3/108)
ولاية أشرس على العراق
كان أسد بن عبد الله في ولايته على خراسان يتعصب حتى أفسد الناس و ضرب نصر بن سيار بالسياط و عبد الرحمن بن نعيم و سورة بن أبجر و البختري بن أبي درهم و عامر بن مالك الحماني و حلقهم و سيرهم إلى أخيه و كتب إليه أنهم أرادوا الوثوب بي فلامه خالد و عنفه و قال : هلا بعثت برؤوسهم ؟ و خطب أسد يوما فلعن أهل خراسان فكتب هشام بن عبد الملك إلى خالد اعزل أخاك فعزله في رمضان سنة تسع و ولى مكانه الحكم بن عوانة الكلبي فقعد عن الصائفة تلك السنة فاستعمل هشام على خراسان أشرس بن عبد الله السلمي و أمره أن يراجع خالدا فكان خيرا ففرح به أهل خراسان (3/108)
عزل أشرس
أرسل أشرس إلى سمرقند سنة عشر و مائة أبا الصيدا صالح بن ظريف مولى بني ضبة و الربيع بن عمران التميمي إلى سمرقند و غيرها مما وراء النهر يدعوهم إلى الإسلام على أن توضع عنهم الجزية و عليها الحسن بن العمرطة الكندي على حربها و خراجها فدعاهم لذلك و أسلموا و كتب غورك إلى الأشرس أن الجراح قد انكسر فكتب أشرس إلى ابن العمرطة : بلغني أن أهل الصغد و أشباههم لم يسلموا رغبة و إنما أسلموا نفورا من الجزية فانظر من اختتن و أقام الفرائض و قرأ سورة من القرآن فارفع خراجه ثم عزل ابن العمرطة عن الخراج و ولى عليها ابن هانئ و منعهم أبو الصيدا أخذ الجزية ممن أسلم و كتب هانئ إلى أشرس بأنهم أسلموا و بنوا المساجد فكتب إليه و إلى العمال أن يعيدوا الجزية على من كانت عليه و لو أسلم فامتنعوا و اعتزلوا في سبعة آلاف على فراسخ من سمرقند وخرج معهم أبو الصيدا و ربيع بن عمران و الهيثم الشيباني و أبو فاطمة الأزدي و عامر بن قشير و بشير الحجدري و بيان العنبري و إسمعيل بن عقبة لينصروهم و بلغ الخبر إلى أشرس فعزل ابن العمرطة عن الحرب و ولى مكانه المجشر بن مزاحم السلمي و عميرة بن سعد الشيباني فكتب المجشر إلى أبي الصيدا يستقدمه هو و أصحابه فقدم و معه ثابت قطنة فحبسهما و سيرهما إلى أشرس و اجتماع الباقون و ولوا عليهم أبا فاطمة ليقاتلوا هانئا فكتب أشرس و وضع عنهم الخراج فرجعوا و ضعف أمرهم و تتبعوا فحبسوا كلهم و ألح هانئ في الخراج و استخف بغعل العجم و الدهاقين و أقيموا في العقوبات و حرقت ثيابهم و ألقيت مناطقهم في أعناقهم و أخذت الجزية من أسلم فكفرت الصغد و بخارى و استجاشوا بالترك و خرج أشرس غازيا فنزل آمد و أقام أشهرا و قدم قطن بن قتيبة بن مسلم في عشرة آلاف فعبر النهر و لقي الترك و أهل الصغد و بخارى و معهم خاقان فحصروا قطنا في خندقه و أغار الترك على سرح المسلمين و أطلق أشرس ثابت بن قطنة بكفالة عبد الله بن بسطام بن مسعود بن عمرو و بعث معه في خيل فاستقدمه من أيدي الترك ما أخذوه ثم عبر أشرس بالناس و لحق بقطن و لقيهم العدو فانهزموا أمامهم و سار أشرس بالناس حتى جاء بيكند فحاصرها المسلمون و قطع أهل البلد عنهم الماء و أصابهم العطش فرحلوا إلى المدينة و اعترضهم دونها العدو فقاتلوهم قتالا شديدا و أبلى الحرث بن شريح و قطن بن قتيبة بلاء شديدا و أزالوا الترك عن الماء فقتل يومئذ ثابت قطنة وصخر بن مسلم بن النعمان العبدي و عبد الملك بن دثار الباهلي و غيرهم و حمل قطن بن قتيبة في جماعة تعاقدوا على الموت فانهزم العدو و اتبعهم المسلمون يقتلونهم إلى الليل ثم رجع أشرس إلى بخارى و جهز عليها عسكرا يحاصرونهم و عليهم الحرث بن شريح الأزدي ثم حاصر خاقان مدينة كمرجة من خراسان و بها جمع من المسلمين و قطعوا القنطرة و أتاهم ابن جسر و ابن يزدجرد و قال : إن خاقان جاء يرد علي منكبي و أنا آخذ لكم الأمان فشتموه و أتاهم يزغري في مائتين و كان داهية و كان خاقان لايخالفه فطل رجلا يكلمه فجاءه يزيد بن سعد الباهلي فرغبه بإضعاف العطاء و الإحسان على النزول و يسيرون معهم فلاطفه و رجع إلى أصحابه و قال هؤلاء يدعونكم لقتال المسلمين فأبوا و أمر خاقان فألقى الحطب الرطب في الخندق ليقطعه و ألقى المسلمون البهائم ليأكلوها و يحشوا جلودها ترابا و يملؤا بها الخندق و أرسل الله سبحانه سحابة فاحتمل السيل ما في الخندق إلى النهر الأعظم و رمى المسلمون بالسهام فأصيب يزغري بسهم و مات من ليلته فقتلوا جميع من عندهم من الأسرى و الرهن و لم يزالوا كذلك حتى نزلت جيوش المسلمين فرغانة فجردوا عليهم و اشتد قتالهم و صالحهم المسلمون على أن يسلموا لهم كمرجة و يرحلوا عليها إلى سمرقند و الدنوسية و تراهنوا على ذلك و تأخر خاقان حتى يخرجوا و خلف معهم كورصول ليبلغهم إلى مأمنهم فارتحلوا حتى بلغوا الدنوسية و أطلقوا الرهن و كانت مدة الحصار ستين يوما (3/109)
عزل أشرس عن خراسان و ولاية الجنيد
و في سنة إحدى عشرة ومائة عزل هشام أشرس بن عبد الله عن خراسان و ولى مكانه الجنيد بن عبد الرحمن بن عمر بن الحرث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري أهدى إلى أم حكيم بنت يحيى بن الحكم امرأة هشام قلادة فيها جواهر فأعجبت هشاما فأهدى له أخرى مثلها فولاه خراسان و حمله على البريد فقدم خراسان في خمسمائة و وجد الخطاب ابن محرز السلمي خليفة أشرس على خراسان فسار الجنيد إلى ما وراء النهر و معه الخطاب و استخلف على مرو المجشر بن مزاحم السلمي و على بلخ سورة بن أبجر التميمي و بعث إلى أشرس و هو يقاتل أهل بخارى و الصغد أن يبعث إليه بسرية مخافة أن يعترضه العدو فبعث إليه أشرس عامر بن مالك الجابي فعرض له الترك و الصغد فقاتلوهم ثم استداروا وراء معسكر الترك و حمل المسلمون عليهم من أمامهم فانهزم الترك و لحق عامر بالجنيد فأقبل معه و على مقدمته عمارة بن حزيم و اعترضه الترك فهزمهم و زحف إليه خاقان بنواحي سمرقند و قطن ابن قتيبة على ساقته فهزم خاقان و أسر ابن أخيه و بعث به هشام و رجع إلى مرو ظافرا و استعمل قطن بن قتيبة على بخارى و الوليد بن القعقاع العبسي على هراة و حبيب بن مرة العبسي على شرطته و مسلم بن عبد الرحمن الباهلي على بلخ و عليها نصر بن سيار فبعث مسلم إلى نصر وجيء به في قميص دون سراويل فقال شيخ مضر جئتم به على هذه الحالة ؟ فعزل الجنيد مسلما عن بلخ و أوفد وفدا إلى هشام يخبر غزاته (3/110)
مقتل الجراح الحكمي
قد كان تقدم لنا دخوله إلى بلاد الخزر سنة أربع و مائة و انهزامهم أمامه و أنه أثخن فيهم و ملك بلنجر و ردها على صاحبها و أدركه الشتاء فأقام هنالك و أن هشاما أقره على عمله ثم ولاه أرمينية فدخل بلاد التركمان من ناحية تفليس سنة إحدى عشرة ففتح مدينتهم البيضاء و انصرف ظافرا فاجتمع الخزر و الترك من ناحية اللاف و زحف إليهم الجراح سنة إثنتي عشرة و لقيهم بمرج أردبيل فاقتتلوا أشد قتال و تكاثر العدو عليه فاستشهد و من معه وقد كان استخلف أخاه الحجاج على أرمينية و لما قتل طمع الخزر و هم التركمان و أوغلوا في البلاد حتى قاربوا الموصل و قيل كان قتله ببلنجر و لما بلغ الخبر هشاما دعا سعيد الحريشي فقال : بلغني أن الجراح انهزم ! قال : الجراح أعرف بالله من أن ينهزم و لكن قتل فابعثني على أربعين من دواب البريد و ابعث إلي كل يوم أربعين رجلا مددا و اكتب إلى أمراء الأجناد يواسوني ففعل و سار الحريشي فلا يمر بمدينة إلا يستنهض أهلها فيجيبه من أراد الجهاد و وصل مدينة أزور فلقيه جماعة من أصحاب الجراح فردهم معه و وصل إلى خلاط فحاصرها و فتحها و قسم غنائمها ثم سار عنها يفتح القلاع و الحصون إلى بروعة فنزلها و ابن خاقان يومئذ بأذزبيجان يحاصرها مدينة ورثان منها و يعيث في نواحيها و بعث الحريشي إلى أهل ورثان يخبرهم بوصوله فأخرج العدو عنهم و وصل إليهم الحريشي ثم اتبع العدو إلى أردبيل و جاءه بعض عيونه بأن عشرة آلاف من عسكرهم على أربعة فراسخ منه و معهم خمسة آلاف بيت من المسلمين أسارى و سبايا فبيتهم و قتلهم أجمعين و لم ينج منهم أحد و استنقذ المسلمين منهم و سار إلى باجروان فجاءه عين آخر ودله على جمع منهم فسار إليهم و استحلمهم أجمعين و استنفد من معهم من المسلمين و كان فيهم أهل الجراح و ولده فحملهم إلى باجروان ثم زحف إليهم جموع الخزر مع ابن ملكهم و التقوا بأرض زرند و اشتد القتال و السبي من معسكر الكفار فبكى المسلمون رحمة لهم و صدقوا الحملة فانهزم الكفار و اتبعهم المسلمون إلى نهر أرس و غنموا ما كان معهم من الأموال و استنفدوا الأسرى و السبايا و حملوهم إلى باجروان ثم تناصر الخزر في ملكهم و رجعوا فنزلوا نهر البيلقان و اقتتلوا قتالا شديدا ثم انهزموا فكان من غرق أكثر ممن قتل و جمع الحريشي الغنائم و عاد إلى باجروان فقسمها و كتب إلى هشام بالفتح و استقدمه و ولى أخاه مسلمة على أرمينية و أذربيجان (3/111)
وقعة الشعب بين الجنيد و خاقان
و خرج الجنيد سنة إنثني عشرة و مائة من خراسان غازيا إلى طخارستان و بعث إليها عمارة ابن حزيم في ثمانية عشر ألفا بعث ابراهيم بن سام الليثي في عشرة آلاف إلى وجه آخر و حاشتك الترك و زحف بهم خاقان إلى سمر قند و عليها سورة بن أبجر فكتب إلى الهند مستغيثا فأمر الجنيد بعبور النهر فقال له المجشر بن مزاحم السلمي و ابن بسطام الأزدي : إن الترك ليسوا كغيرهم و قد جندك فسلم ابن عبد الرحمن بالنبراود و البختري بهراة و عمارة بن حزيم بطخارستان و لا تعبر النهر في أقل من خمسين ألفا فاستقدم عمارة و أمهل فقال : أخي على سورة و عبر الجنيد فنزل كش و تأهب للسير و غور الترك الآبار في طريق كش و سار الجنيد على التعبية و اعتراضه خاقان و معه أهل الصغد و فرغانة و الشاش و حملوا على مقدمته و عليها عثمان بن عبد الله بن الشخير فرجعوا و الترك في أتباعهم ثم حملوا على المدينة و أمدهم الجنيد بنصر بن سيار و شدوا على العدو و قتل أعيانا منهم و أقبل الجنيد على الميمنة و أقبل تحت راية الأزد فقال صاحب الراية : ماقصدت كرامتنا لكن علمت أنا لا نصل إليك و منا عين تطرف فصبروا و قاتلوا حتى كلت سيوفهم و قطع عبيدهم الخشب فقاتلوا بها حتى أدركهم الملل و تعانقوا ثم تحاجزوا و هلك من الأزد في ذلك المعترك نحو من ثمانين فيهم عبد الله بن بسطام و محمد بن عبد الله بن جودان و الحسين بن شيخ و يزيد ابن المفضل الحراني و بين الناس كذلك إذ طلعت أوائل عسكر خاقان فنادى منادي الجنيد بالنزول فترجلوا و خندق كل كائن على رجاله و قصد خاقان جهة بكر بن وائل و عليهم زياد بن الحرث فحملت بكر عليهم فأفرجوا واشتد القتال و أشار أصحاب الجنيد عليه بأن يبعث إلى سورة بن أبجر من سمرقند ليقدم الترك إليه ليكون لهم شغل به عن الجنيد و أصحابه فكتب يستقدمه فاعتذر فأعاد عليه تهدده وقال : اخرج و سر مع النهر لا تفارقه فلما خرج هو استبعد طريق النهر و استخلف على سمرقند موسى بن أسود الحنظلي وسار محمد في إثنتي عشر ألفا حتى إذا بقي بينه و بين الجنيد و عساكره فرسخ لقيه خاقان عند الصباح و حال بينهم و بين الماء و أضرم النار في اليبس حواليهم فاستماتوا و حملوا و انكشفت الترك و أظلم الجو بالعجاج و كان من وراء الترك لهب سقط فيه جمع العدو و المسلمون و سقط سورة فاندقت فخذه ثم عطف الترك فقتلوا المسلمين و لم يبق منهم إلا القليل و انحاش بالناس المهلب بن زياد و العجمي في ستمائة أو ألف و معه قريش بن عبد الله العبدي إلى رستاق المرغاب و قاتلوا بعض قصوره فأصيب المهلب و ولوا عليهم الرحب بن خالد و جاءهم الاسكيد صاحب نسف و غورك ملك الصغد فنزلوا معه إلى خاقان فلم يجز أمان غورك و قتلهم و لم ينج منهم أحد ثم خرج الجنيد من الشعب قاصدا سمرقند و أشار عليه مجشر بن مزاحم بالنزول فنزل و وافقته جموع الترك فجال الناس جولة و صبر المسلمون و قاتل العبيد و انهزم العدو و مضى الجنيد إلى سمرقند فحمل العيالات إلى مرو و أقام بالصغد أربع أشهر و كان صاحب الرأي بخراسان في الحرب المجشر بن مزاحم السلمي و عبد الرحمن ابن صبح المخزومي و عبيد الله بن حبيب الهجري و لما انصرفت الترك بعث الجنيد نهار بن توسعة بن تيم الله و زميل بن سويد بن شيم بالخبر و تحامل فيه على سورة بن أبجر بما عصاه من مفارقة النهر حتى نال العدو منه فكتب إليه هشام قد بعث إليك من المدد عشرة آلاف من البصرة و مثلها من الكوفة و ثلاثون ألف رمح و مثلها سيفا و أقام الجنيد بسمرقند و سار خاقان إلى بخارى و عليها قطن بن قتيبة بن مسلم فخاف عليه من الترك و استشار عبد الله بن أبي عبد الله مولى بن سليم بعد أن اختلف عليه أصحابه فاشترط عليه أن لا يخالفه فأشار بحمل العيالات من سمرقند فقدمهم و استخلف بسمرقند عثمان بن عبد الله بن الشخير في أربعمائة فارس و أربعمائة راجل و وفر أعطياتهم و سار العيادات في مقدمته حتى من الضيق و دنا من الطواويس فأقبل إليه خاقان بكير ميمنية أول رمضان سنة إثنتى عشرة و اقتتلوا قليلا ثم رجع الترك و ارتحل من الغد فاعترضه الترك ثانيا و قتل مسلم بن أحوز بعض عظمائهم فرجعوا من الطواويس ثم دخل الجنيد بالمسلمين بخارى و قدمت الجنود من البصرة و الكوفة فسرح الجنيد معهم حورثة بن زيد العنبري فيمن انتدب معه (3/112)
ولاية عاصم على خراسان و عزل الجنيد
بلغ هشاما سنة ست عشرة أن الجنيد بن عبد الرحمن عامل خراسان تزوج بنت يزيد بن المهلب فغضب لذلك و عزله و ولى مكانه عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي و كان الجنيد قد مرض بالاستسقاء فقال هشام لعاصم : إن أدركته و به رمق فأزهق نفسه فلما قدم عاصم وجده قد مات و كانت بينهما عداوة فحبس عمارة بن حزيم و كان الجنيد استخلفه و هو ابن عذبة فعذبه و عذب عمال الجنيد (3/114)
ولاية مروان بن محمد على أرمينية و أذربيجان
لما عاد مسلمة من غزو الخرز و هم التركمان إلى بلاد المسلمين و كان في عسكره مروان بن محمد بن مروان فخرج مختفيا عنه إلى هشام و شكا له من مسلمة و تخاذله عن الغزو و ما أدخل بذلك على المسلمين من الوهم و بعث إلى العدو بالحرب و أقام شهرا حتى استعدوا و حشدوا و دخل بلادهم فلم يكن له فيهم نكاية و قصد أراد السلامة و رغب إليه بالغزو إليهم لينتقم منهم و أن يمده بمائة و عشرين ألف مقاتل و يكتم عليه فأجابه لذلك و ولاه على أرمينية فسار إليها و جاءه المدد من الشام و العراق و الجزيرة فأظهر أنه يريد غزو اللان و بعث إلى ملك الخزر في المهادنة فأجاب و أرسل رسله لتقرير الصلح فأمسكهم مروان إلى أن تجهز و ودعهم و سار على أقرب الطرق فوافاهم و رأى ملك الخزر أن اللقاء على تلك الحال غرر فتأخر إلى أقصى بلاده و دخل مروان فأوغل فيها و خرب و غنم و سبى إلى آخرها و دخل بلاد ملك السرير و فتح قلاعها و صالحوه على ألف رأس نصفها غلمان و نصفها جواري و مائة ألف مد تحمل إلى الباب و صالحه أهل تومان على مائة رأس نصفين و عشرين ألف مد ثم دخل أرض وردكران فصالحوه ثم أتى حمرين و افتتح حصنهم ثم أتى سبدان فافتتحها صلحا ثم نزل صاحب اللكز في قلعته و قد امتنع من أداء الوظيفة فخرج يريد ملك الخزر فأصيب بسهم و مات و صالح أهل اللكز مروان و أدخل عامله و سار مروان إلى قلعة سروان فأطاعوا و سار إلى الرودانية فأوقع بهم و رجع (3/114)
خلع الحرث بن شريح بخراسان
كان الحرث هذا عظيم الأزد بخراسان فخلع ست عشرة و لبس السواد و دعا إلى كتاب الله و سنة نبيه و البيعة للرضا على ما كان عليه دعاة بني العباس هناك و أقبل إلى الغاربات و جاءته رسل عاصم مقاتل بن حيان النبطي و الخطاب بن محرز السلمي فحبسهما و فروا من السجن إلى عاصم بدم الحرث و غدره و سار الحرث من الغاربات إلى بلخ و عليها نصر بن سيار و التخيبي فلقياه في عشرة آلاف و هو في أربعة فهزمهم و ملك بلخ و استعمل عليها سليمان بن عبد الله بن حازم و سار إلى الجوزجان عليها ثم سار إلى مرو و نمي إلى عاصم أن أهل مرو يكاتبونه فاستوثق منهم بالقسامة و خرج و عسكر قريبا من مرو و قطع الجسور و أقبل الحرث في ستين ألفا و معه فرسان الأزد و تميم و دهاقين الجوزجان و الغاربات و ملك الطالقان و أصلحوا القناطر ثم نزع محمد بن المثنى في ألفين من الأزد و حماد بن عامر الجانبي في مثلها من بني تميم إلى عاصم و لحقوا به ثم اقتتلوا فانهزم الحرث و غرق كثير من أصحابه في نهر مرو و قتلوا قتلا ذريعا و كان ممن غرق حازم و لما قطع الحرث نهر مرو ضرب رواقه و اجتمع إليه بها ثلاثة آلاف فارس و كف عاصم عنهم (3/115)
ولاية أسد القسرى الثانية بخراسان
كتب عاصم إلى هشام سنة سبع عشرة أن خراسان لا تصلح إلا أن تضم إلى العراق ليكون مددها قريب الغوث فضم هشام خراسان إلى خالد بن عبد الله القسري و كتب إليه : إبعث أخاك يصلح ما أفسد فبعث خالد أخاه أسدا فسار على مقدمته محمد بن مالك الهمداني و لما بلغ عاصم الخبر راود الحرث بن شريح على الصلح و أن يكتبا جميعا إلى هشام يسألانه الكتاب و السنة فإن أبى اجتمعا و أبى بعض أهل خراسان ذلك فانتفض بينهما و اقتتلا فانهزم الحرث و أسر من أصحابه كثير قتلهم عاصم و بعث بالفتح إلى هشام مع محمد بن مسلم العنبري فلقيه أسد بالري و جاء إلى خراسان فبعث عاصما و طلبه بمائة ألف درهم و أطلق عمارة بن حزيم و عمال الجنيد و لم يكن لعاصم بخراسان الأمر و نيسابور و كانت مرو الروذ للحرب و وصل لخالد بن عبيد الله الهجري على مثل رأي الحرث فبعث أسد عبد الرحمن بن نعيم في أهل الكوفة و الشام إلى الحرث و سار هو بالناس إلى آمد فخرج إليه زياد القرشي مولى حيان النبطي في العسكر فهزمهم أسد و حاصرهم حتى سألوا الأمان و استعمل عليهم يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني و سار إلى بلخ و قد بايعوا سليمان بن عبد الله بن حازم فسار حتى قدمها ثم سار منها إلى ترمذ و الحرث محاصر لهما و أعجزه وصول المدد إليها فخرج إلى بلخ و خرج أهل ترمذ فهزموا الحرث و قتلوا أكثر أصحابه ثم سار أسد إلى سمرقند و مر بحصن زم و به أصحاب الحرث فبعث إليهم و قال : إنما نكرتم منا سوء السيرة و لم يبلغ ذلك النساء و استحلال الفروج و لا مظاهرة المشركين على مثل سمرقند و أعطاه الأمان على تسليم سمرقند و هدده إن قاتل بأنه لا يؤمنه أبدا فخرج إلى الأمان و سار معه إلى سمرقند فأنزلهم على الأمان ثم رجع أسد إلى بلخ و سرح جديعا الكرماني إلى القلعة التي فيها ثقل الحرث و أصحابه في طخارستان فحاصرها و فتحها و قتل مقاتلهم و منهم بنو بزري من ثعلب أصحاب الحرث و باع سبيهم في سوق بلخ و انتقض على الحرث أربعمائة و خمسون من أصحابه بالقلعة و رئيسهم جرير بن ميمون القاضي فقال لهم الحرث : إن كنتم مفارقي و لابد فاطلبوا الأمان و إن طلبتموه بعد رحيلي لا يعطونه لكم فأبوا إلا أن ارتحل فبعثوا بالأمان فلم يجبهم إليه و سرح جديعة الكرماني في ستة آلاف فحصرهم حتى نزلوا على حكمه و حمل خمسين منهم إلى أسد فيهم ابن ميمون القاضي فقتلهم و كتب إلى الكرماني بإهلاك الباقين و اتخذ أسد مدينة بلخ دارا و نقل إليها الدواوين ثم غزا طخارستان و أرض حبونة فغنم و سبى (3/116)
مقتل خاقان
و لما كانت سنة تسع عشرة غزا أسد بن عبد الله بلاد الختل فافتتح منها قلاعا و امتلأت أيدي العسكر من السبي و الشاء و كثب بن السائحي صاحب البلاد يستجيش خاقان على العرب و يضعفهم له فتجهز و خفف من الأزودة استعجالا للعرب فلما أحس به ابن السائحي بعث بالنذير إلى أسد فلم يصدقه فأعاد عليه أني الذي استمددت خاقان لأنك معرت البلاد و لا أريد أن يظفر بك خشية من معاداة العرب و استطالة خاقان علي فصدقه حينئذ أسد و بعث الأثقال مع إبراهيم بن عاصم العقيلي الذي كان ولي سجستان و بعث معه المشيخة كثير بن أمية و أبا سفيان بن كثير الخزاعي و فضيل بن حيان المهري و غيرهم و أمدهما بجند آخر و جاء في أثرهم فانتهى إلى نهر بلخ و قد قطعه إبراهيم بن عاصم بالسبي و الأثقال فخاض النهر من ثلاثة و عشرين موضعا و حمل الناس شياههم حتى حمل هو شاة فما استكمل العبور حتى طلعت عليهم الترك و على المسلمة الآزد و تميم فحمل خاقان عليهم فانكشفوا فرجع أسد إلى عسكره و خندق و ظنوا أن خاقان لا يقطع النهر فقطع النهر إليهم و قاتله المسلمون في معسكرهم و باتوا و الترك محيطون بهم فلما أصبحوا لم يروا منهم أحد فعلموا أنهم اتبعوا الأثقال و السبي و استعملوا علمها من الطلائع فشارو أسد الناس فأشاروا بالمقام و أشار نصر بن سيار باتباعهم يخلص الأثقال و يقطع شقة لا بد من قطعها فوافقه أسد و طير النذير إلى إبراهيم بن عاصم و صبح خاقان للأثقال و قد خندقوا عليهم فأمر أهل الصغد بقتلهم فهزمهم مسلحة المسلمين فصعد على تل حتى رأى المسلمين من خلفهم و أمر الترك أن يأتوهم من هنالك ففعلوا و خالطوهم في معسكرهم و قتلوا صاغان خذاه و أصحابه و أحسوا بالهلاك و إذا بالغبار قد رهج و الترك يتنحون قليلا قليلا و جاء أسد و وقف على التل الذي كان عليه خاقان و خرج إليه بقية الناس و جاءته إمرأة صاغان خذاه معولة فأعول معها و مضى خاقان يقود أسرى المسلمين في الآفاق و يسوق الإبل الموقورة و الجواري و أراد أهل العسكر قتالهم فمنعهم أسد و نادى رجل من عسكر خاقان و هو من أصحاب الحرث بن شريح يعير أسدا و يحرضه و يقول : قد كان لك عن الختل مندوحة و هي أرض آبائي و أجدادي قد كانت ما رأيت و لعل الله ينتقم منك و مضى أسد إلى بلخ فعسكر في مرجها حتى جاء الشتاء فدخل البلد و شتى فيها و كان الحرث بن شريح بناحية طخارستان فانضم إلى خاقان و أغراه بغزو خراسان و زحفوا إلى بلخ و خرج أسد يوم الأضحى فخطب الناس و عرفهم بأن الحرث بن شريح استجلب الطاغية ليطفئ نور الله و يبدل دينهم و حرضهم على الإستنصار بالله و قال أقرب ما يكون العبد لله ساجدا ثم سجد و سجد الناس و أخلصوا الدعاء و خرج للقائهم و قد استمد خاقان من وراء النهر و أهل طخارستان و حبونة في ثلاثين ألفا و جاء الخبر إلى أسد و أشار بعض الناس يالتحصن منهم بمدينة بلخ و استمد خالد و هشام و أبى الأسد إلا اللقاء فخرج و استخلف على بلخ الكرماني بن علي عهد إليه أنه لا يدع أحدا يخرج من المدينة و اعتزم نصر بن سيار و القاسم بن نجيب و غيرهم على الخروج فأذن لهم وصلى بالناس ركعتين و طول ثم دعا و أمر الناس بالدعاء و نزل من وراء القنطرة ينتظر من تخلف ثم بدا له و ارتحل فلقي طليعة خاقان و أسر قائدهم و سار حتى نزل على فرسخين من الجوزجان ثم أصبحوا و قد تراءى الجمعان و أنزل أسد الناس ثم تهيأ للحرب و معه الجوزجان و حملت الترك على الميسرة فانهزموا إلى رواق أسد فشدت عليهم الأسد و بنو تميم و الجوزجان من الميمنة فانكشفوا إلى خاقان و قد انهزم و الحرث معه و اتبعهم الناس ثلاثة فراسخ يقتلونهم واستاقوا مائة و خمسين ألفا من الشاء و دواب كثيرة و سلك خاقان غير الجادة و الحرث بن شريح و لقيهم أسد عند الطريق و سلك الجوزجان بعثمان بن عبد الله بن الشخير طريقا يعرفها حتى نزلوا على خاقان و هو آمن فتركوا الأبنية و القدور تغلي و بناء العرب و الموالي و العسكر مشحون من آنية الفضة و ركب خاقان و الحرث يمانع عنه و أعجلوا إمرأة خاقان عن الركوب فقتلها الخصي الموكل بها و بعث أسد بجوار الترك دهاقين خراسان يفادون بها أسراهم و أقام خمسة أيام و انصرف إلى بلخ لتاسعة من خروجه و نزل الجوزجان و خاقان هارب أمامه و انتهى خاقان إلى جونة الطخاري فنزل عليه و انصرف أسد إلى بلخ و أقام خاقان عند جونة حتى أصلح آلته و سار و سبيه بها فأخذه جدكاوش أبو فشين فأهدى إليه و أتحفه و حمل أصحابه يتخد بذلك عنده يدا ثم وصل خاقان بلاده و أخذ في الاستعداد في الحرب و محاصرة سمرقند و حمل الحرث و ابن شريح و أصحابه على خمسة آلاف برذون و لاعب خاقان بالنرد كورصول يوما فغمزه كورصول فأنف و تشاجر فصك كورصول يد خاقان فخلف خاقان ليكسرن يده فتنحى و جمع ثم بيت خاقان فقتله و افترق الترك و حملوه و تركوه بالعراء فحمله بعض عظمائهم و دفنه و كان أسد بعث بالفتح من بلخ إلى خالد بن عبد الله فأخبره و بعث به هشام فلم يصدقه ثم بعده القاسم بن نجيب بقتل خاقان فحثت قيس أسدا و خالدا و قالوا لهشام : استقدم مقاتل بن حيان فكتب بذلك إلى خالد فأرسل إلى أسد أن يبعث به فقدم على هشام و الأبرش وزيره جالس عنده فقص عليه الخبر فسر بذلك و قال لمقاتل : ما حاجتك ؟ قال يزيد بن المهلب أخذ من حيان أبي مائة ألف درهم بغير حق فأمر بردها علي فاستحلفه و كتب له بردها و قسمها مقاتل بين ورثة حيان ثم غزا أسد الختل بعد مقتل خاقان و قدم مصعب بن عمر الخزاعي إليها فسار إلى حصن بدر طرخان فاستأمن له أن يلقي أسدا فأمنه و بعث إلى أسد فسأل أن يقبل منه ألف درهم و راوده على ذلك فأبى أسد ورده إلى مصعب ليرده إلى حصنه فقال له مسلمة بن أبي عبد الله و هو من الموالي : إن أمير المؤمنين سيندم على حبسه ثم أقبل أسد بالناس و وعد له المجشر بن مزاحم بدرطرخان أو قبول ما عرض فندم أسد و أرسل إلى مصعب يسأل عنه فوجده مقيما عند مسلمة فجيء به و قطعت يده ثم أمر رجلا من الأزد كان بدرطرخان قتل أباه فضرب عنقه و غلب على القلعة و بعث العساكر في بلاد الختل فامتلأت أيديهم من الغنائم و السبي و امتنع ولد بدرطرخان و أمواله في قلعة بلدهم صغيرة فلم يوصل إليهم (3/117)
وفاة أسد
و في ربيع الأول سنة عشرين توفي ابن عبدا القسري بمدينة بلخ و استخلف جعفر بن حنظلة النهرواني فعمل أربع أشهر ثم جاء عهد نصر بن سيار بالعمل في رجب (3/120)
ولاية يوسف بن عمر الثقفي على العراق و عزل خالد
و في هذه السنة عزل هشام خالدا عن أعماله جميعها بسعاية أبي المثنى و حسان النبطي و كانا يتوليان ضياع هشام بالعراق فنقلا على خالد و أمر الأشدق بالنهوض على الضياع و أنهى ذلك حسان بعد أبي المثنى و أن غلته في السنة ثلاثة عشر ألف ألف فوقرت في نفس هشام و أشار عليه بلال بن أبي بردة العريان بن الهيثم أن يعرض أملاكه على هشام و يضمنون له الرضا فم يجبهم ثم شكا من خالد بعض آل عمر و الأشدق بأنه أغلظ له القول بمجلسة فكتب إليه هشام يوبخه و يأمره بأن يمشي ساعيا على قدميه إلى بابه و يترضاه و نميت عنه من هذا أقوال كثيرة و أنه يستقل ولاية العراق فكتب إليه هشام : يا ابن أم خالد بلغني أنك تقول ما ولاية العراق لي بشرف يا ابن اللخناء كيف لا تكون إمرة العراق لك شرفا و أنت من بجيلة القليلة الذليلة ؟ و لما و الله إني لأظن أن أول من يأتيك صقر من قريش يشد يديك إلى عنقل ثم كتب إلى يوسف بن عمر الثقفي وهو باليمن يأمره أن يقدم في ثلاثين من أصحابه إلى العراق فقد ولاه ذلك فسار إلى الكوفة و نزل قريبا منها و قد ختن طارق خليفة خالد بالكوفة ولده و أهدى إليه وصيفا و وصيفة سوى الأموال و الثياب و مر يوسف و أصحابه ببعض أهل العراق فسألوهم فعرضوا و ظنوهم خوارج و ركب يوسف إلى دور ثقيف فكتموا ثم جمع يوسف بالمسجد من كان هنالك من مضر و دخل مع الفجر فصلى و أرسل إلى خالد و طارق فأخذهما و قيل إن خالدا كان بواسط و كتب إليه بالخبر بعض أصحابه من دمشق فركب إلى خالد و أخبره بالخبر و قال : إركب إلى أمير المؤمنين و اعتذر إليه قال : لا أفعل بغير إذن قال : فترسلني أستأذنه قال : لا قال : فاضمن له جميع ما انكسر في هذه السنين و آتيك بعهده و هي مائة ألف ألف قال : و الله ما أجد عشرة آلاف ألف قال : أتحملها أنا و فلان و فلان قال : لا أعطي شيئا و أعود فيه فقال طارق : إنما نقيك و نقي أنفسنا بأموالنا و نستبقي الدنيا و تبقى النعمة عليك و علينا خير من أن يجيء من يطالبنا بالأموال و هي عند الكوفة فنقتل و يأكلون الأموال فأبى خالد من ذلك كله فودعه طارق و مضى و بكى و رجع إلى الكوفة و خرج خالد إلى الحمة و جاء كتاب هشام بخطه إلى يوسف بولاية العراق و أن يأخذ ابن النصرانية يعني خالدا و عماله فيعذبهم فأخذ الأولاد و سار من يومه و استخلف على اليمين إبنه الصلت و قدم في جمادى الأخيرة سنة عشرين و مائة فنزل النجف و أرسل مولى كيسا فجاء بطارق و لقيه بالحيرة فضربه ضربا مبرحا و دخل الكوفة و بعث عثمان عطاء بن مقدم إلى خالد بالحمة فقدم عليه و حبسه و صالحه عنه أبان بن الوليد و أصحابه على سبع آلاف ألف و قيل أخذ منه مائة ألف و كانت ولايته العراق خمس عشرة سنة و لما ولي يوسف نزلت الذلة بالعراق في العرب و صار الحكم فيه إلى أهل الذمة (3/120)
ولاية نصر بن سيار خراسان و غزوه وصلح الصغد
و لما مات أسد بن عبد الله ولى هشام على خراسان نصر سيار و بعث إليه عهده على عبد الكريم بن سليط الحنفي و قد كان جعفر بن حنظلة لما استخلفه أسد عند موته عرض على نصر أن يوليه بخارى فقال له : البحتري بن مجاهد مولى بني شيبان لا تقبل فإنك شيخ مضر بخراسان و كان عهدك قد جاء على خراسان كلها فكان كذلك و لما ولي نصر استعمل على بلخ مسلم بن عبد الرحمن و علىمرو الروذ و شاح ابن بكير بن وشاح وعلى هراة الحراث بن عبد الله بن الحشرج و على نيسابور زياد بن الرحمن القسري و على خوارزم أبا حفص علي بن حقنة و على الصغد قطن بن قتيبة و بقي أربع سنين لا يستعمل في خراسان إلا مضريا فعمرت عمارة لم تعمر مثلها و أحسن الولاية و الجباية و كان وصول العهد إليه بالولاية في رجب سنة عشرين فغزا غزوات أولها إلى ما وراء النهر من نحو باب الحديد و سار إليها من بلخ و رجع إلى مرو فوضع الجزية على من أسلم من أهل الذمة و جعلها على من كان يخفف عنه منهم و انتهى عددهم ثلاثين ألفا من الصنفين وضعت عن هؤلاء و جعلت على هؤلاء ثم غزا الثانية إلى سمرقند ثم الثالثة إلى الشاش سار إليها من مرو و معه ملك بخارى و أهل سمرقند و كش و نسف في عشرين ألفا و جاء إلى نهر الشاش فحال بينه و بين عبوره كورصول عسكر نصر في ليلة ظلماء و نادى نصر لا يخرج أحد و خرج عاصم بن عمير في جند سمرقند فجاولته خيل الترك ليلا و فيهم كورصول فأسره عاصم و جاء به إلى نصر فقتله و صلبه على شاطئ النهر فحزنت الترك لقتله و أحرقوا أبنيته و قطعوا آذانهم و شعورهم و أذناب خيولهم و أمر نصر بإحراق عظامه لئلا يحملوها بعد رجوعه ثم سار إلى فرغانة فسبى منها ألف رأس و كتب إليه يوسف بن عمران ليسير إلى الحرث بن شريح في الشاش و يخرب بلادهم و يسبيهم فسار لذلك و جعل على مقدمته يحيى بن حصين و جاء بهم إلى الحرث و قاتلهم و قتل عظيما من عظماء الترك و انهزموا و جاء ملك الشاش في الصلح و الهدنة و الرهن و اشترط نصر عليه إخراج الحرث بن شريح من بلده فأخرجه إلى فاراب و استعمل على الشاش ينزل ابن صالح مولى عمرو بن العاص ثم سار إلى أرض فرغانة و بعث أمه في إتمام الصلح فجاءت لذلك و أكرمها نصر و عقد لها و رجعت و كان الصغد لما قتل خاقان طمعوا في الرجعة إلى بلادهم فلما ولي نصر بعث إليهم في ذلك و أعطوه ما سألوه من الشروط و كان أهل خراسان قد نكروا شروطهم و كان منها أن لا يعاقب من ارتد عن الإسلام إليهم و لا يؤخذ منهم أسرى إلا ببينة و حكم و عاب الناس ذلك على نصر لما أمضاه لهم فقال : لو عاينتم شكوتهم في المسلمين مثل ما عانيت ما أنكرتم و أرسل إلى هشام في ذلك فأمضاه و ذلك سنة ثلاث و عشرين (3/121)
ظهور زيد بن علي و مقتله
ظهر زيد بن علي بالكوفة خارجا على هشام داعيا للكتاب و السنة و إلى جهاد الظالمين و الدفع عن المستضعفين و إعطاء المحرومين و العدل في قسمة الفيء ورد المظالم و أفعال الخير و نصر أهل البيت و اختلف في سبب خروجه فقيل : إن يوسف ابن عمران لما كتب في خالد القسري كتب إلى هشام أنه شيعة لأهل البيت و أنه ابتاع من زيد أرضا بالمدينة بعشرة آلاف دينار ورد عليه الأمن و أنه أودع زيدا و أصحابه الوافدين عليه مالا فكان زيد قد قدم على خالد بالعراق هو و محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب و داود بن علي بن عبد الله بن عباس فأجازهم و رجعوا إلى المدينة فبعث هشام عنهم و سألهم فأقروا بالجائزة و حلفوا على ما سوى ذلك و أن خالدا لم يودعهم شيئا فصدقهم هشام و بعثهم إلى يوسف فقاتلوا خالدا و صدقهم الآخر و عادوا إلى المدينة و نزلوا القادسية و راسل أهل الكوفة زيدا فعاد إليهم و قيل في سبب ذلك إن زيدا اختصم مع ابن عمه جعفر ابن الحسن المثنى في وقف علي ثم مات جعفر فخاصم أخوه عبد الله زيدا و كانا يحضران عند عامل خالد بن عبد الملك بن الحرث فوقعت بينهما في مجلسه مشاتمة و أنكر زيد من خالد إطالته للخصومة و أن يستمع لمثل هذا فأغلظ له زيد و سار إلى هشام فحجبه ثم أذن له بعد حين فحاوره طويلا ثم عرض له بأنه ينكر الخلاف و تنقصه ثم قال له : أخرج ؟ قال : نعم ثم لا أكون إلا بحيث تكره ! فسار إلى الكوفة و قال له محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب : ناشدتك الله إلحق بأهلك و لا تأت الكوفة و ذكره بفعلهم مع جده و جده يستعظم ما وقع به و أقبل الكوفة فأقام بها مستخفيا يتنقل في المنازل و اختلف إليه الشيعة و بايعه جماعة منهم : مسلمة بن كهيل و نصر بن خزيمة العبسي و معاوية بن إسحق بن زيد بن حارثة الأنصاري و ناس من وجوه أهل الكوفة يذكر لهم دعوته ثم يقول : أتبايعون على ذلك ؟ فيقولون : نعم فيضع يده على أيديهم و يقول عهد الله عليك و ميثاقه و ذمته نبيه بيقين تتبعني و لا تقاتلني مع عدوي و لتنصحن لي في السر و العلانية فإذا قال نعم وضع يده على يده ثم قال : اللهم اشهد فبايعه خمسة عشر ألفا و قيل أربعون و أمرهم بالاستعداد و شاع أمره في الناس و قيل : إنه أقام في الكوفة ظاهرا و معه داود بن علي ابن عبد الله بن عباس لما جاؤا لمقاتلة خالد فاختلف إليه الشيعة و كانت البيعة و بلغ الخبر إلى يوسف بن عمران فأخرجه من الكوفة و لحق الشيعة بالقادسية أو الغلبية و عذله داود بن علي في الرجوع معه و ذكره حال جده الحسين فقالت الشيعة لزيد : هذا إنما يريد الأمر لنفسه و لأهل بيته فرجع معهم و مضى داود إلى المدينة و لما أتى الكوفة جاءه مسلمة بن كهيل فصده عن ذلك و قال أهل الكوفة لا يعولون لك و قد كان مع جدك منهم أضعاف من معك و لم تعاوله و كان أعز عليهم منك على هؤلاء فقال له : قد بايعوني و وجبت البيعة في عنقي و عنقهم و قال : فتأذن لي أن أخرج من هذا البلد فلا آمن أن يحدث حدث و أنا لا أهلك نفسي فخرج لليمامة و كتب عبد الله بن الحسن المثنى إلى زيد يعذله و يصده فلم يصغ إليه و تزوج نساء بالكوفة و كان يختلف إليهن و الناس يبايعونه ثم أمر أصحابه يتجهزون و نمى الخبر إلى يوسف بن عمر فطلبه و خاف فتعجل الخروج و كان يوسف بالحيرة و على الكوفة الحكم بن الصلت و على شرطته عمر بن عبد الرحمن من القاهرة و معه عبيد الله بن عباس الكندي في ناس من أهل الشام و لما علم الشيعة أن يوسف يبحث عن زيد جاء إليه منهم فقالوا : ما تقول في الشيخين ؟ فقال زيد : رحمهما الله و غفر لهما و ما سمعت أهل بيتي يذكرونهما إلا بخير و غاية ما أقول أنا كنا أحق بسلطان رسول الله صلى الله عليه و سلم من الناس فدفعونا عنه و لم يبلغ ذلك الكفر و قد عدلوا في الناس و عملوا بالكتاب و السنة قال : فإذا كان أولئك لم يظلموك فلم تدعو إلى قتالهم ؟ فقال : إن هؤلاء ظلموا المسلمين أجمعين فإنا ندعوهم إلى الكتاب و السنة و أن نحيي السنن و نطفيء البدع فإن أجبتم سعدتم و إن أبيتم فلست عليكم بوكيل ففارقوه و نكثوا بيعته و قالوا : سبق الإمام الحق يعنون محمدا الباقر و أن جعفرا ابنه إمامنا بعده فسماهم زيد الرافضة و يقال إنما سماهم الرافضة حيث فارقوه ثم بعث يوسف بن عمر إلى الحكم بأن يجمع أهل الكوفة في المسجد فجمعوا و طلبوا زيدا في دار معاوية بن إسحق بن زيد بن حارثة فخرج منها ليلا و اجتمع إليه ناس من الشيعة و أشعلوا النيران و نادوا يا منصور حتى طلع الفجر و أصبح جعفر بن أبي العباس الكندي فلقى إثنين من أصحاب زيد يناديان بشعاره فقتل واحدا و أتى بالآخر إلى الحكم فقتله و أغلق أبواب المسجد على الناس و بعث إلى يوسف بالخبر فسار من الحيرة و قدم الرياف بن سلمة الأراثيني في ألفين خيالة و ثلثمائة ماشية و افتقد زيد الناس فقيل إنهم في الجامع محصورون و لم يجد معه إلا مائتين و عشرين وخرج صاحب الشرطة في خليه فلقي نصر بن خزيمة العبسي من أصحاب زيد ذاهبا إليه فحمل عليه نصر و أصحابه فقتلوه و حمل زيد على أهل الشام فهزمهم و انتهى إلى دار أنسي بن عمر الأزدي ممن بايعه و ناداه فلم يخرج إليه ثم سار زيد إلى الكناسة فحمل على أهل الشام فهزمهم ثم دخل الكوفة و الريات في اتباعه فلما رأى زيد خذلان الناس قال لنصر بن خزيمة : أفعلتموها حسينية ؟ قال : أما أنا فو الله لأموتن معك و إن الناس بالمسجد فامض بنا إليهم فجاء إلى المسجد ينادي بالناس بالخروج إليه فرماه أهل الشام بالحجارة من فوق المسجد فانصرفوا عند المساء و أرسل يوسف بن عمر من الغد العباس ابن سعد المزني في أهل الشام فجاءه في دار الزرق و قد كان أوى إليها عند المساء فلقيه زيد بن ثابت فاقتتلوا فقتل نصر ثم حملوا على أصحاب العباس فهزمهم زيد و أصحابه و عبأهم يوسف بن عمر من العشي ثم سرحهم فكشفهم أصحاب زيد و لم يثبت خيلهم لخيله و بعث إليهم يوسف بن عمر بالقادسية و اشتد القتال و قتل معاوية بن زيد ثم رمي زيد عند المساء بسهم أثبته فرجع أصحابه و أهل الشام يظنون أنهم تحاجزوا و لما نزع النصل من جبهته مات فدفنوه و أجروا عليه الماء و أصبح الحكم يوم الجمعة يتبع الجرحى من الدور و دله بعض الموالي على قبر زيد و قطع رأسه و بعث بها إلى يوسف بالحيرة فبعثه إلى هشام فنصبه على باب دمشق و أمر يوسف الحكم أن يصلب زيدا بالكناسة و نصر ابن خزيمة و معاوية بن إسحق و يحرسهم فلما ولي الوليد أمر بإحراقهم و استجار يحيي ابن زيد بعبد الملك بن شبر بن مروان فأجاره حتى سكن المطلب ثم سار إلى خراسان في نفر من الزيدية (3/122)
ظهور أبي مسلم بالدعوة العباسية
كان أهل الدعوة العباسية بخراسان يكتمون أمرهم منذ بعث محمد بن علي بن عبد الله بن عباس دعاته إلى الآفاق سنة مائة من الهجرة أيام عمر بن عبد العزيز لما مر أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية ذاهبا و جائيا من الشام من عند سليمان بن عبد الملك فمرض عنده بالحميمة من أعمال البلقاء و هلك هنالك و أوصى له بالأمر و كان أبوهاشم قد علم شيعته بالعراق و خراسان و أن الأمر صائر في ولد محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فلما مات أبو هاشم قصدت الشيعة محمدا و بايعوه سرا و بعث دعاته منهم إلى الآفاق و كان الذي بعث إلى العراق مسيرة بن والي خراسان محمد بن حبيش و أما عكرمة السراج و هو أبو محمد الصادق و حيان العطار خال ابراهيم بن سلمة فجاؤا إلى خراسان و دعوا إليه سرا و أجابهم الناس و جاؤا بكتب من أجاب إلى مسيرة فبعث بها إلى محمد و اختار أبو محمد الصادق إثني عشر رجلا من أهل الدعوة فجعلهم نقباء عليهم و هم : سليمان بن كثير الخزاعي و لاهز بن قريط التميمي و أبو النجم عمران بن اسمعيل مولى أبي معيط و مالك بن الهيثم الخزاعي و طلحة بن زريق الخزاعي و أبو حمزة بن عمر ابن أعين مولى خزاعة و أخوه عيسى و أبو علي شبلة بن طهمان الهروي مولى بني حنيفة و اختار بعده سبعين رجلا و كتب إليه محمد بن علي كتابا يكون لهم مثالا يقتدون به في الدعوة و أقاموا على ذلك ثم بعث مسيرة رسله من العراق سنة إثنتين و مائة في ولاية سعيد خدينة و خلافة يزيد بن عبد الملك و سعى بهم إلى سعيد فقالوا نحن تجار فضمنهم قوم من ربيعة و اليمن فأطلقهم و ولد محمد ابنه عبد الله السفاح سنة أربع و مائة و جاء إليه أبو محمد الصادق في جماعة من دعاة خراسان فأخرجه لهم ابن خمسة عشر يوما قال : هذا صاحبكم الذي يتم الأمر على يده فقبلوا أطرافه و انصرفوا ثم دخل معهم في الدعوة بكير بن هامان جاء من السند مع الجنيد بن عبد الرحمن فلما عزل قدم الكوفة و لقي أبا عكرمة و أبا محمد الصادق و محمد بن حبيش و عمار العبادي خال الوليد الأزرق دعاه غلى خراسان في ولاية أسد القسري أيام هشام و وشى بهم إليه فقطع أيدي من ظفر به منهم و صلبه و أقبل عمار إلى بكير بن هامان فأخبره فكتب إلى محمد بن علي بذلك فأجابه : الحمدلله الذي صدق دعوتكم و مقالتكم و قد بقيت منكم قتلى ستعد ثم كان أول من قدم محمد بن علي إلى خراسان أبو محمد زياد مولى همذان بعثه محمد بن علي سنة تسعة في ولاية أسد أيام هشام و قال له : انزل في اليمن و تلطف لمضر و نهاه عن الغالب النيسابورى شيعة بني فاطمة فشتى زياد بمرو ثم سعى به إلى أسد فاعتذر بالتجارة ثم عاد إلى أمره فأحضره أسد و قتله في عشرة من أهل الكوفة ثم جاء بعدهم إلى خراسان رجل من أهل الكوفة إسمه كثير و نزل على أبي الشحم و أقام يدعو سنتين أو ثلاثة ثم أخذ أسد بن عبد الله في ولايته الثانية سنة سبع عشرة أخذ سليمان بن كثير و مالك بن الهيثم و موسى بن كعب و لاهز بن قريط بثلثمائة سوط و شهد حسن ابن زيد الأزدي ببراءتهم فأطلقهم ثم بعث بكير بن هامان سنة ثماني عشرة عمار بن زيد على شيعتهم بخراسان فنزل مرو و تسمى بخراش و أطاعه الناس ثم نزل دعوتهم بدعوة الحزمية فأباح النساء و قال : إن الصوم إنما هو عن ذكر الإمام و أشار إلى إخفاء إسمه و الصلاة الدعاء له و الحج القصد إليه و كان خراش هذا نصرانيا بالكوفة و اتبعه على مقالته مالك بن الهيثم و الحريش بن سليم و ظهر أسد على خبره و بلغ الخبر بذلك إلى محمد بن علي فنكر عليهم قبولهم من خراش و قطع مراسلتهم فقدم عليه ابن كثير منهم يستعلم خبره و يستعطفه على ما وقع منهم و كتب معه إليهم كتابا مختوما لم يجدوا فيه غير البسملة فعلموا مخالفة خراش لأمره و عظم عليهم ثم بعث محمد بن بكير بن بان و كتب معه بكذب خراش فلم يصدقوه فجاء إلى محمد و بعث معه عصيا مضبية بعضها بالنحاس و دفع إلى كل رجل عصا فعلموا أنهم قد خالفوا السيرة فتابوا و رجعوا و توفي محمد بن علي سنة أربع و عشرين و عهد إبنه إبراهيم بالأمر و أوصى الدعاة بذلك و كانوا يسمونه الإمام و جاء بكير بن هامان إلى خراسان بنعيه و الدعاء لإبراهيم الإمام سنة ست و عشرين و مائة و نزل مرو و دفع إلى الشيعة و النقباء كتابه بالوصية و السيرة فقبلوه و دفعوا إليه ما اجتمع عندهم من نفقاتهم فقدم بها بكير على إبراهيم ثم بعث إليهم أبا مسلم سنة أربع و عشرين و قد اختلف في أوليته اختلافا كثيرا و في سبب اتصاله بإبراهيم الإمام أو أبيه محمد فقيل : كان من ولد بزر جمهر ولد بأصبهان و أوصى به أبوه إلى عيسى بن موسى السراج فحمله إلى الكوفة ابن سبع سنين و نشأ بها و اتصل بإبراهيم الإمام و كان اسم أبي مسلم إبراهيم بن عثمان بن بشار فسماه إبراهيم الإمام عبد الرحمن و زوجة أبيه أبي النجم عمران ابن سمعيل من الشيعة فبنى بها بخراسان و وزوج إبنته من محرز بن إبراهيم فلم يعقب و ابنته أسماء من فهم بن محرز فأعقب فاطمة و هي التي يذكرها الحزمية و قيل في إتصاله بإبراهيم الإمام أن أبا مسلم كان مع موسى السراج و تعلم منه صناعة السروج و كان يتجهز فيها بأصبهان و الجبال و الجزيرة و الموصل و اتصل بعاصم بن يونس العجلي صاحب عيسى السراج و إبني أخيه عيسى و إدريس ابني معقل و إدريس هو جد أبي دلف و نمى إلى يوسف بن عمران العجلي من دعاة بني العباس فحبسهم مع عمال خالد القسري و كان أبو مسلم معهم في السجن بخدمتهم و قبل منهم الدعوة و قيل لم يتصل بهم من عيسى السراج و إنما كان من ضاع بني العجلي بأصبهان أو الجبل و توجه سليمان بن كثير و مالك بن الهيثم و لاهز بن قريط و قحطبة بن شبيب من خراسان يريدون إبراهيم الإمام بمكة فمروا بعاصم بن يونس و عيسى و إدريس ابني معقل العجلي بمكانهم من الحبس فرأوا معهم أبا مسلم فأعجبهم و أخذوه و لقوا إبراهيم الإمام بمكة فأعجبه فأخذه و كان يخدمه ثم قدم النقباء بعد ذلك على إبراهيم الإمام يطلبون أن يوجه من قبله إلى خراسان فبعث معه أبا مسلم فلما تمكن و نوى أمره ادعى أنه من ولد سليط بن عبد الله بن عباس و كان من أولية هذا الخبر أن جارية لعبد الله بن العباس ولدت لغير رشدة فحدها و استعبد وليدها و سماه سليطا فنشأ و اختص بالوليد و ادعى أن عبد الله بن عباس أقر بأنه ابنه و أقام بالبينة على ذلك و خاصم علي بن عبد الله في الميراث و أذاه و كان في صحابته عمر الدن من ولد أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و دخل عليها سليط بالخبر فاستعدت الوليد على علي فأنكر و حلف فنبشوا في البستان فوجدوه فأمر الوليد بعلي فضربه ليدله على عمر الدن ثم شفع فيه عباد بن زياد فأخرج إلى الحميمة و لما ولي سليمان رده إلى دمشق و قيل : إن أبا مسلم كان عبدا للعجلين و ابن بكير بن هامان كان كاتبا لعمال بعض السند و قدم الكوفة فكان دعاة بني العباس فحبسوا و بكير معهم و كان العجليون في الحبس و أبو مسلم العبسي بن معقل فدعاهم بكير إلى رأيه فأجابوه و استحسن الغلام فاشتراه من عيسى بن معقل بأربعمائة درهم و بعث به إلى إبراهيم الإمام فدفعه إبراهيم إلى موسى السراج من الشيعة فسمع منه و حفظ و صار يتردد إلى خراسان و قيل كان لبعض أهل هراة و ابتاعه منه إبراهيم الإمام و مكث عنده سنين و كان يتردد بكتبه إلى خراسان ثم بعثه أميرا على الشيعة و كتب إليهم بالطاعة له و إلى أبي سلمة الخلال داعيهم بالكوفة يأمره بإنفاذ إلى خراسان فنزل على سليمان بن كثير و كان من أمره ما يذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى ثم جاء سليمان بن كثير و لاهز بن قريط و قحطبة إلى مكة سنة سبع و عشرين بعشرين ألف دينار للإمام إبراهيم و مائتي ألف درهم و مسك و متاع كثير و معهم أبو مسلم و قالوا : هذا مولاك و كتب بكير بن هامان إلى الإمام بأنه أوصى بأمر الشيعة بعده لأبي سلمة حفص بن سليمان الخلال و هو رضى فكتب إليه إبراهيم بالقيام بأمر أصحابه و كتب إلى أهل خراسان بذلك فقبلوه و صدقوه و بعثوا بخمس أموالهم و نفقة الشيعة للإمام إبراهيم ثم بعث إبراهيم في سنة ثمان و عشرين مولاه أبا مسلم إلى خراسان و كتب له : إني قد أمرته بأمري فاسمعوا له و أطيعوا و قد أمرته على خراسان و ما غلبت عليه فارتابوا من قوله و وفدوا على إبراهبم الإمام من قابل مكة و ذكر له أبو مسلم أنهم لم يقبلوه فقال لهم : قد عرضت عليكم الأمر فأبيتم من قبوله و كان عرضه على سليمان كثير ثم على إبراهيم بن مسلمة فأبوا و إني قد أجمع رأيي على أبي مسلم و هو منا أهل البيت فاسمعوا له و أطيعوا و قال لأبي مسلم : إنزل في أهل اليمن و أكرمهم فإن بهم يتم الأمر و آتهم البيعة و أما مضر فهم العدو و الغريب و اقتل من شككت فيه و إن قدرت أن لا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل و ارجع إلى سليمان بن كثير به مني و سرحه معهم فساروا إلى خراسان (3/125)
وفاة هشام بن عبد الملك و بيعة الوليد بن يزيد
توفي هشام بن عبد الملك بالرصافة في ربيع الآخر سنة خمس و عشرين و مائة لعشرين سنة من خلافته و ولي بعده الوليد ابن أخيه يزيد بذلك كما مر و كان الوليد متلاعبا و له مجون و شراب و ندمان و أراد هشام خلعه فلم يمكنه و كان يضرب من يأخذه في صحبته فخرج الوليد في ناس من خاصته و مواليه و خلف كاتبه عياض بن مسلم ليكاتبه بالأحوال فضربه هشام و حبسه و لم يزل الوليد مقيما بالبرية حتى مات هشام و جاءه مولى أبي محمد السفياني على البريد بكتاب سالم بن عبد الرحمن صاحب ديوان الرسائل بالخبر فسأل عن كاتبه عياض فقال : لم يزل محبوسا حتى مات هشام فأرسل إلى الحراق أن يحتفظوا بما في أيديهم حتى منعوا هشاما من شيء طلبه ثم خرج بعد موته من الحبس و ختم أبواب الخزائن ثم كتب الوليد من وقته إلى عمه العباس بن عبد الملك أن يأتي الرصافة فيحصي ما فيها من أموال هشام و ولده و عماله و خدمه إلا مسلمة بن هشام فإنه كان يراجع أباه في الرفق بالوليد فانتهى العباس لما أمر به الوليد ثم استعمل الوليد العمال و كتب إلى الآفاق بأخذ البيعة فجاءته بيعتهم و كتب مروان ببيعته و استأذن في القدوم ثم عقد الوليد من سنته لابنيه الحكم و عثمان بعده و جعلهما وليي عهده و كتب بذلك إلى العراق و خراسان (3/129)
ولاية نصر للوليد على خراسان
وكتب الوليد في سنته إلى نصر بن سيار بولاية خراسان و أفرده بها ثم وفد يوسف بن عمر على الوليد فاشترى منه نصرا و عماله فرد إليه الوليد خراسان و كتب يوسف إلى نصر بالقدوم و يحمل معه الهدايا و الأموال و عياله جميعا و كتب له الوليد بأن يتخذ له برابط و طنابير و أباريق ذهب و فضة و يجمع له البراذين الغرة و يجمع بذلك إليه في وجوه أهل خراسان و استحثه رسول يوسف فأجازه ثم سار و استخلف على خراسان عصمة بن عبد الله الأسدي و على شاش موسى بن ورقاء و على سمرقند حسان بن من أهل الضغانيان و على آمد مقاتل بن علي الصغدي و أسر إليهم أن يداخلوا الترك في المسير إلى خراسان ليرجع إليهم و بينا هو في طريقه إلى العراق ببيهق لقيه مولى لبني ليث و أخبره بقتل الوليد و الفتنة بالشام و أن منصور بن جمهور قدم العراق و هرب يوسف بن عمر فرجع بالناس (3/129)
مقتل يحيى بن زياد
كان يحيى بن زياد سار بعد قتل أبيه و سكون الطلب عنه كما مر فأقام عنه الحريش بن عمر و مروان في بلخ و لما ولي الوليد كتب إلى نصر بأن يأخذه من عند الحريش فأحضر الحريش و طالبه بيحيى فأنكر فضربه ستمائة سوط فجاء ابنه قريش و دله على يحيى فحبسه و كتب إلى الوليد فأمره أن يخلي سبيله و سبيل أصحابه فأطلقه نصر و أمره أن يلحق بالوليد فسار و أقام بسرخس فكتب نصر إلى عبد الله بن قيس بن عياد يخرجه عنها فأخرجه إلى بيهق و خاف يحيى بن يوسف بن عمر فسار إلى نيسابور و بها عمر ابن زرارة و كتب عمر بن زرارة بذلك إلى نصر فكتب إليه يأمره بحربهم فحاربهم في عشرة آلاف فهزموه و قتلوه و مروا بهراة فلم يعرضوا لها و سرح نصر بن سيار مسلم بن أحور المازني إليهم فلحقهم بالجوزجان فقاتلهم قتالا شديدا و أصيب يحيى بسهم في جبهته فمات و قتل أصحابه جميعا و بعثوا برأسه إلى الوليد و صلب بالجوزجان و كتب الوليد إلى يوسف بن عمر بأن يحرق شلوزيد فأحرقه و ذراه في الفرات و لم يزل يحيى مصلوبا بالجوزجان حتى استولى أبو مسلم على خراسان فدفنه ونظر في الديوان أسماء من حضر لقتله فمن كان حيا قتله و من كان ميتا خلفه في أهله بسوء (3/130)
مقتل خالد بن عبد الله القسري
قد تقدم لنا ولاية يوسف بن عمر على العراق و أنه حبس خالدا أصحاب العراق و خراسان قبله فأقام بحبسه في الحيرة ثمانية عشر شهرا مع أخيه إسمعيل وابنه يزيد بن خالد و المنذر ابن أخيه أسد و استأذن هشام في عذابه فأذن له على أنه إن هلك قتل يوسف به فعذبه ثم أمر هشام بإطلاقه سنة إحدى و عشرين فأتى إلى قرية بإزاء الرصافة فأقام بها حتى خرج زيد و قتل و انقضى أمره فسعى يوسف بخالد عند هشام بأنه الذي داخل زيدا في الخروج فرد هشام سعايته ووبخ رسوله و قال : لسنا نتهم خالدا في طاعة و سار خالد إلى الصائفة و أنزل أهله دمشق وعليها كلثوم بن عياض القشيري و كان يبغض خالدا فظهر في دمشق حريق في ليال فكتب كلثوم إلى هشام بأن موالي خالد يريدون الوثوب إلى بيت المال و يتطرقون إلى ذلك بالحريق كل ليلة في البلد فكتب إليه هشام بحبس الكبير منهم و الصغير و الموالي فحبسهم ثم ظهر على صاحب الحريق و أصحابه يزيد كتب بهم الوليد بن عبد الرحمن عامل الخراج و لم يذكر فيهم أحدا من آل خالد و مواليه فكتب هشام إلى كلثوم يوبخه و يأمره بإطلاق آل خالد و ترك الموالي فشفع فيهم خالد عند مقدمه من الصائفة فلما قدم دخل منزله و أذن للناس فاجتمعوا ببابه فوبخهم و قال : إن هشاما يسوقهن إلى الحبس كل يوم ثم قال خرجت غازيا سامعا مطيعا فحبس أهلي مع أهل الجرائم كما يفعل بالمشركين و لم يغير ذلك أحد منكم أخفتم القتل ؟ أخافكم الله و الله ليكفن عني هشام أو لأعودن إلى عراقي الهوى شامي الدار حجازي الأصل يعني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس و بلغ ذلك هشاما فقال : خرف أبو الهيثم ثم تتابعت كتب يوسف بن عمر إلى هشام يطلب يزيد بن خالد فأرسل إلى كلثوم بإنفاذه إليه فهرب يزيد فطلبه كلثوم من خالد و حبسه فيه فكتب إليه هشام بتخليته و وبخه و لما ولي الوليد بن يزيد استقدم خالدا و قال أين ابنك ؟ قال : هرب من هشام و كنا نراه عندك حتى استخلفك الله فلم نره و طلبناه ببلاد قومه من الشراة فقال : و لكن خلفته طلبا للفتنة فقال : إنا أهل بيت طاعة فقال : لتأتيني به أو لأزهقن نفسك فقال : و الله لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه فأمر الوليد بضربه و لما قدم يوسف بن عمر من العراق بالأموال اشتراه من الوليد بخمسين ألف ألف فقال له الوليد : إن يوسف يشتريك بكذا فاضمنها إلي قبل أن أدفعك إليه فقال : ما عهدت العرب تباع ! و الله لو سألتني عودا ما ضمنته فدفعه إلى يوسف فألبسه عباءة و حمله على غير وطاء وعذبه عذابا شديدا و هو لا يكلمه ثم حمله إلى الكوفة فاشتد في عذابه ثم قتله و دفنه في عباءة يقال : إنه قتله بشيء وضعه على وجهه و قيل وضع على رجليه الأعواد و قام عليها الرجال حتى تكسرت قدماه و ذلك في المحرم سنة ست و عشرين و مائة (3/130)
مقتل الوليد و بيعة يزيد
و لما ولي الوليد لم يقلع عما كان عليه من الهوى و المجون حتى نسب إليه في ذلك كثير من الشنائع مثل رمية المصحف بالسهام حين استفتح فوقع على قوله : { و خاب كل جبار عنيد } و ينشدون له في ذلك بيتين تركتهما لشناعة مغزاهما و لقد ساءت القالة فيه كثيرا و كثير من الناس نفوا ذلك عنه و قالوا : إنها من شناعات الأعداء الصقوها به قال المدائني : دخل ابن الغمر بن يزيد على الرشيد فسأله : ممن أنت ؟ فقال : من قريش قال : من أيها ؟ فوجم فقال : قل و أنت آمن و لو أنك مروان فقال : أنا ابن الغمز بن يزيد فقال : رحم الله الوليد و لعن يزيد الناقص فإنه قتل خليفة مجمعا عليه إرفع حوائجك فرفعها و قضاها و قال شبيب بن شبة : كنا جلوسا عند المهدي فذكر الوليد فقال المهدي : كان زنديقا فقام ابن علانة الفقيه فقال : يا أمير المؤمنين إن الله عز و جل أعدل من أن يولي خلافة النبوة و أمر الأمة زنديقا لقد أخبرني عنه من كان يشهده في ملاعبه و شربه و يراه في طهارته و صلاته فكان إذا حضرت الصلاة يطرح الثياب التي عليه المصيبة المصبغة ثم يتوضأ فيحسن الوضوء و يؤتى بثياب بيض نظيفة فيلبسها و يشتغل بربه أترى هذا فعل من لا يؤمن بالله ؟ فقال المهدي : بارك الله عليك يا ابن علانة و إنما كان الرجل محسودا في خلاله و مزاحما بكبار عشيرة بيته من بين عمومته مع لهو كان يصاحبه أوجد لهم به السبيل على نفسه و كان من خلاله قرض الشعر الوثيق و نظم الكلام البليغ قال يوما لهشام يعزيه في مسلمة أخيه : إن عقبى منبقي لحوق من مضى و قد أفقر بعد مسلمة الصيد لمن رمى و اختل الثغر فهوى و على أثر من سلف يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى فأعرض هشام و سكت القوم و أما حكاية مقتله فإنه لما تعرض له بنو عمه و نالوا من عرضه أخذ في مكافأتهم فضرب سليمان بن عمه هشام مائة سوط و حلقه و غربه إلى معان من أرض الشام فحبسه إلى آخر دولته و حبس أخاه يزيد بن هشام و فرق بين ابن الوليد و بين امرأته و حبس عدة من ولد الوليد فرموه بالفسق و الكفر و استباحة نساء أبيه و خوفوا بني أمية منه بأنه اتخذ ميتة جامعة لهم و طعنوا عليه في تولية إبنيه الحكم و عثمان العهد مع صغرهما و كان أشدهم عليه في ذلك يزيد بن الوليد لأنه كان يتنسك فكان الناس إلى قوله أميل ثم فسدت اليمامة عليه بما كان منه لخالد القسري و قالوا : إنما حبسه و نكبه لامتناعه من بيعة ولديه ثم فسدت عليه قضاعة و كان اليمن و قضاعة أكثر جند الشام و استعظموا منه ما كان من بيعة خالد ليوسف بن عمر و صنعوا على لسان الوليد قصيدة معيرة اليمنية بشأن خالد فازداد و اختفى و أتوا إلى يزيد بن الوليد بن عبد الملك فأرادوه على البيعة و شاور عمر بن زيد الحكمي فقال : شاور أخاك العباس و إلا فأظهر أنه قد بايعك فإن الناس له أطوع فشاور العباس فنهاه عن ذلك فلم ينته و دعا الناس سرا و كان بالبادية و بلغ الخبر مروان بأرمينية فكتب إلى سعيد بن عبد الملك يعظم عليه الأمر و يحذره الفتنة و يذكر له أمر يزيد فأعظم ذلك سعيد و بعث بالكتاب إلى العباس فتهدد أخاه يزيد قكتمه فصدقه و لما اجتمع ليزيد أمره أقبل إلى دمشق لأربع ليال متنكرا معه سبعة نفر على الحمر و دخل دمشق ليلا و قد بايع له أكثر أهلها سرا و أهل المزة و كان علىدمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج فاستوياها فنزل قطنا و استخلف عليها إبنه محمدا و على شرطته أبو العاج كثير بن عبد الله السلمي و نمى الخبر إليهما فكذباه و تواعد يزيد مع أصحابه بعد المغرب بباب الفراديس ثم دخلوا المسجد فصلوا العتمة و لما قضوا الصلاة جاء حرس المسجد لإخراجهم فوثبوا عليهم و مضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فجاء به إلى المسجد في زهاء مائتين و خمسين و طرقوا باب المقصورة فأدخلهم الخادم فأخذوا أبا العاج و هو سكران و خزان بيت المال و بعث عن محمد بن عبد الملك فأخذه و أخذوا سلاحا كثيرا كان بالمسجد و أصبح الناس من الغد من النواحي القريبة متسائلين للبيعة أهل المزة و السكاسك و أهل دارا و عيسى بن شيب الثعلبي في أهل درهة و حرستا و حميد بن حبيب اللخمي في أهل دمرعران و أهل حرش و الحديثة و دير كاوربعي بن هشام الحرثي في جماعة من عروسلامان و يعقوب بن عمير بن هاني العبسي و حهينة و مواليهم ثم بعث عبد الرحمن بن مصادي في مائتي فارس فجاء بعبد الملك بن محمد بن الحجاج من قصره على الأمان ثم جهز يزيد الجيش إلى الوليد بمكانه من البادية مع عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك و منصور بن جمهور و قد كان الوليد لما بلغه الخبر بعث عبد الله بن يزيد بن معاوية إلى دمشق فأقام بطريقه قليلا ثم بايع ليزيد و أشار على الوليد أصحابه أن يلحق بحمص فيتحصن بها قال له ذلك يزيد بن خالد بن يزيد و خالفه عبد الله بن عنبسة و قال : ما ينبغي للخليفة أن يدع عسكره و حرمه قبل أن يقاتل فسار إلى قصر النعمان ابن بشير و معه أربعون من ولد الضحاك و غيره و جاء كتاب العباس بن الوليد بأنه قادم عليه و قاتلهم عبد العزيز و منصور بعد أن بعث إليهم زياد بن حصين الكلبي يدعوهم إلى الكتاب و السنة فقتله أصحاب الوليد و اشتد القتال بينهم و بعث عبد العزيز بن منصور بن جمهور لاعتراض العباس بن الوليد أن يأتي بالوليد فجاء به كرها إلى عبد العزيز و أرسل الوليد إلى عبد العزيز بخمسين ألف دينار و ولاية حمص ما بقي على أن ينصرف عنه فأبى ثم قاتل قتالا شديدا حتى سمع النداء بقتله و سبه من جوانب الحومة فدخل القصر فأغلق الباب و طلب الكلام من أعلى القصر فكلمه يزيد بن عنبسة السكسكي فذكره بحرمه و فعله فيهم فقال ابن عنبسة : إنا ما ننقم عليك في أنفسنا و إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله و شرب الخمر و نكاح أمهات أولاد أبيك و استخفافك بأمر الله قال : حسبك الله يا أخا السكاسك ! فلعمري لقد أكثرت و أغرقت و إن فيما أحل الله سعة عما ذكرت ثم رجع إلى الدار فجلس يقرأ في المصحف و قال : يوم كيوم عثمان فتسوروا عليه و أخذ يزيد بن عنبسة بيده يقيه لا يريد قتله و إذا بمنصور بن جمهور في جماعة معه ضربوه و اجتزوا رأسه فساروا به إلى يزيد فأمر بنصبه فتلطف له يزيد بن فروة مولى بني مرة في المنع من ذلك و قال : هذا ابن عمك و خليفة و إنما تنصب رؤس الخوارج و لا آمن أن يتعصب له أهل بيته فلم يجبه و أطافه بدمشق على رمح ثم دفع إلى أخيه سليمان بن يزيد و كان معهم عليه و كان قتله آخر جمادى الآخرة سنة ست و عشرين لسنتين و ثلاثة أشهر من بيعته و لما قتل خطب الناس يزيد فذمه و ثلبه و أنه إنما قتله من أجل ذلك ثم وعدهم بحسن الظفر و الاقتصار عن النفقة في غير حاجاتهم و سد الثغور و العدل في العطاء و الأزراق و رفع الحجاب و إلا فلكم ما شئتم من الخلع و كان يسمى الناقص لأنه نقص الزيادة التي زادها الوليد في أعطيات الناس و هي عشرة عشرة و رد العطاء كما كان أيام هشام و بايع لأخيه إبراهيم بالعهد و من بعده لعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك حمله على ذلك أصحابه القدرية لمرض طرقه
و لما قتل الوليد و كان قد حبس سليمان ابن عمه هشام بعمان خرج سليمان من الحبس و أخذ ما كان هناك من الأموال و نقله إلى دمشق ثم بلغ مقتله إلى حمص و أن العباس بن الوليد أعان على قتله فانتقضوا و هدموا دار العباس و سبوها و طلبوه فلحق بأخيه يزيد و كاتبوا الأجناد في الطلب بدم يزيد و أمروا عليهم مروان بن عبد الله بن عبد الملك و معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير و راسلهم يزيد فطردوا رسوله فبعث أخاه مسرورا في الجيش فنزل حوارين ثم جاء سليمان بن هشام من فرد عليه ما أخذ الوليد من أموالهم و بعث على الجيش و أمر أخاه مسروا بالطاعة و اعتزم أهل حمص على المسير إلى دمشق فقال لهم مروان : ليس من الرأي أن تتركوا خلفكم هذا الجيش و إنما نقاتله قبل فيكون ما بعده أهون علينا فقال لهم السميط بن ثابت : إنما يريد خلافكم و إنما هواه مع يزيد و القدرية فقتلوه و ولوا عليهم محمدا السفياني و قصدوا دمشق فاعترضهم ابن هشام بغدرا فقاتلهم قتالا شديدا و بعث يزيد عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك في ثلاثة آلاف إلى ثنية العقاب و هشام بن مضاد في ألف و خمسمائة إلى عقبة السلامية و بينما سالم يقاتلهم إذ أقبلت عساكر من ثنية العقاب فانهزم أهل حمص و نادى يزيد بن خالد بن عبد الله القسري : الله الله على قومك يا سليمان فكف الناس عنهم و بايعوا ليزيد و أخذ أبا محمد السفياني و يزيد بن خالد ابن يزيد و بعثهما إلى يزيد فحبسهما و استعمل على حمص معاوية بن يزيد بن الحصين و كان لما قتل الوليد وثب أهل فلسطين على عاملهم سعيد بن عبد الملك فطردوه و تولى منهم سعيد و ضبعان إبنا روح و كان ولد سليمان ينزلون فلسطين فأحضروا يزيد بن سليمان و ولوه عليهم و بلغ ذلك أهل الأردن فولوا عليهم محمد بن عبد الملك و بعث يزيد سليمان بن هشام في أهل دمشق و أهل حمص الذين كانوا مع الفياني على ثمانين ألفا و بعث إلى إبني روح بالإحسان و الولاية فرجعا بأهل فلسطين و قدم سليمان عسكرا من خمسة آلاف إلى طبرية فنهبوا القرى و الضياع و خشي أهل طبرية على من وراءهم فانتهبوا يزيد بن سليمان و محمد بن عبد الملك و نزلوا بمنازلهم فافترقت جموع الأردن و فلسطين و سار سليمان بن هشام و لحقه أهل الأردن فبايعوه ليزيد و سار إلى طبرية و الرملة و أخذ على أهلهما البيعة ليزيد و ولى فلسطين ضبعان بن روح و على الأردن إبراهيم بن الوليد (3/132)
ولاية منصور بن جمهور على العراق ثم ولاية عبد الله بن عمر
لما ولي يزيد استعمل منصور بن جمهور على العراق و خراسان لم يكن من أهل الدين و إنما صار مع يزيد لرأيه في الغيلانية و حنقا على يوسف بقتله خالد القسري و لما بلغ يوسف قتل الوليد ارتاب في أمره و حبس اليمانية لما تجمع المضرية عليه فلم ير عندهم ما يحب فأطلق اليمانية و أقبل منصور و كتب من عين البقر إلى قواد الشام في الحيرة بأخذ يوسف و عماله فأظهر يوسف الطاعة و لما قرب منصور دخل دار عمر ابن محمد بن سعيد محمد العاص و لحق منها بالشام سرا و بعث يزيد بن الوليد خمسين فارسا لتلقيه فلما أحس بهم هرب و اختفى و جد بين النساء فأخذوه و جاؤا به إلى يزيد فحبسه مع إبني الوليد حتى قتلهم مولى ليزيد بن خالد القسري و لما دخل منصور بن جمهور الكوفة لأيام خلت من رجب أفاض تاعطاء و أطلق من كان في السجون من العمال و أهل الخراج و استعمل أخاه على الري و خراسان فسار لذلك فامتنع نصر بن سيار من تسليم خراسان له ثم عزل يزيد منصور بن جمهور لشهرين من ولايته و ولى على العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز و قال : سر إلى أهل العراق فإن أهله يميلون إلى أبيك فسار و انقاد له أهل الشام و سلم إليه منصور العمل و انصرف إلى الشام و بعث عبد الله العمال على الجهات و استعمل عمر بن الغضبان بن القبعثرا على الشرطة و خراج السواد و المحاسبات و كتب إلى نصر بن سيار يعهد على خراسان (3/136)
انتقاض أهل اليمامة
و لما قتل الوليد كان علي بن المهاجر على اليمامة عاملا ليوسف بن عمر فجمع له المهير بن سليمان بن هلال من بني الدول بن خولة و سار إليه هو في قصره بقاع هجر فالتقوا و انهزم علي و قتل ناس من أصحابه و هرب إلى المدينة و ملك المهير اليمامة ثم مات و استخلف عليها عبد الله بن النعمان من بني قيس بن ثعلبة من الدؤل فبعث المندلب بن الحنفي على الفلخ قرية من قرى بني عامر بن صعصعة فجمع له بني كعب بن ربيعة بن عامر و بني عمير فقتلوا المندلب و أكثر أصحابه فجمع عبد الله ابن النعمان جموعا من حنيفة و غيرها و غزا الفلج و هزم بني عقيل و بني بشير و بني جعدة و قتل أكثرهم ثم اجتمعوا و معهم نمير فلقوا بعض حنيفة بالصحراء و سلبوا نساءهم ثم جمع عمر بن الوازع الحنفي الجموع و قال لست بدون عبد الله بن النعمان و هذه فترة من السلطان و أغار و امتلأت يداه من الغنائم و أقبل و من معه و أقبلت بنو عامر و التقوا فانهزم بنو حنيفة و مات أكثرهم من العطش و رجع بنو عامر بالأسرى و النساء و لحق عمر بن الوازع باليمامة ثم جمع عبيد الله بن مسلم الحنفي جمعا و أغار على قشير و عكل فقتل منهم عشرين و سمى المثنى بن يزيد بن عمر بن هبيرة واليا على اليمامة من قبل أبيه حتى ولي العراق لمروان فتعرض المثنى لبني عامر و ضرب عدة من بني حنيفة و حلقهم ثم سكنت البلاد و لم يزل عبيد الله بن مسلم الحنفي مستخفيا حتى قدم كسرى بن عبيد الله الهاشمي واليا على العامة لبني العباس و دل عليه فقتله (3/137)
اختلاف أهل خراسان
و لما قتل الوليد و قدم على نصر عهد خراسان من عبد الله بن عمر بن عبد العزيز صاحب العراق انتقض عليه جديع بن علي الكرماني و هو أزدي و إنما سمى الكرماني لأنه ولد بكرمان و قال لأصحابه : هذه فتنة فانظروا لأموركم رجلا فقالوا له : أنت ! و ولوه و كان الكرماني قد أحسن إلى نصر في ولاية أسد بن عبد الله فلما ولي نصر عزله عن الرياسة بغيره فتباعد ما بينهما و أكثر على نصر أصحابه في أمر الكرماني فاعتزم على حبسه و أرسل صاحب حرسه ليأتي به و أراد الأزد أن يخلصوه فأبى و جاء إلى نصر يعدد عليه أياديه قبله من مراجعة يوسف بن عمر في قتله و الغرامة عنه و تقديم إبنه للرياسة ثم قال : فبذلت ذلك بالإجماع على الفتنة فأخذ يعتذر و يتنصل و أصحاب نصر يتحاملون عليه مثل مسلم بن أحرو و عصمة بن عبد الله الأسدي ثم ضربه و حبسه آخر رمضان سنة ست و عشرين ثم نقب السجن و اجتمع له ثلاثة آلاف و كانت الأزد قد بايعوا عبد الملك بن حرملة على الكتاب و السنة فلما جاء الكرماني قدمه عبد الملك ثم عسكر نصر على باب مرو الروذ و اجتمع إليه الناس و بعث سالم بن أحور في الجموع إلى الكرماني و سفر الناس بينهما على أن يؤمنه نصر و لا يحبسه و أجاب نصر إلى ذلك و جاء الكرماني إليه و أمره بلزوم بيته ثم بلغه عن نصر شيء فعاد إلى حاله و كلموه فيه فأمنه و جاء إليه و أعطى أصحابه عشرة عشرة فلما عزل جمهور عن العراق و ولي عبد الله بن عمر بن عبد العزيز خطب نصر قدام بن جمهور و أثنى على عبد الله فغضب الكرماني لابن الجمهور و عاد لجمع المال و اتخاذ السلاح و كان يحضر الجمعة في ألف و خمسمائة و يصلي خارج المقصورة و يدخل فيسلم و لا يحبس ثم أظهر الخلاف و بعث إليه نصر سالم بن أحور فأفحش في صرفه و سفر بينهما الناس في الصلح على أن يخرج الكرماني من خراسان و تجهز للخروج إلى جرجان (3/138)
أمان الحرث بن شريح و خروجه من دار الحرث
لما وقعت الفتنة بخراسان بين نصر و الكرماني خاف نصر أن يستظهر الكرملاني عليه بالحرث بن شريح و كان مقيما ببلاد الترك منذ إثنتي عشرة سنة كما مر فأرسل مقاتل بن حيان النبطي يراوده على الخروج من بلاد الترك بخلاف ما يقضي له الأمان من يزيد بن الوليد و بعث خالد بن زياد البدي الترمذي و خالد بن عمرة مولى بني عامر لاقتضاء الأمان له من يزيد فكتب له الأمان و أمر نصرا أن يرد عليه ما أخذ له و أمر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز عامل الكوفة أن يكتب لهما بذلك أيضا و لما وصل إلى نصر بعث إلى الحرث بذلك فلقيه الرسول راجعا مع مقاتل بن حيان و أصحابه و وصل سنة سبع و عشرين في جمادى الأخيرة و أنزله نصر بمرو و رد عليه ما أخذ له و أجرى عليه كل يوم خمسين درهما و أطلق أهله و ولده و عرض عليه أن يوليه و يعطيه مائة ألف دينار فلم يقبل و قال : لست من الدنيا و اللذات في شيء و إنما أسأل كتاب الله و العمل بالسنة و بذلك أساعدك على عدوك و إنما خرجت من البلاد منذ ثلاث عشرة سنة إنكار للجور فكيف تزيدني عليه ؟ و بعث إلى الكرماني : إن عمل نصر بالكتاب عضدته في أمر الله و لا أعتبك إن ضمنت لي القيام بالعدل و السنة ثم دعا قبائل تميم فأجاب منهم و من غيرهم كثير و اجتمع إليه ثلاثة آلاف و أقام على ذلك (3/139)
انتقاض مروان لما قتل الوليد
كان مروان بن محمد بن مروان على أرمينية و كان على الجزيرة عبدة بن رياح العبادي و كان الوليد قد بعث بالصائفة أخاه فبعث معه مروان ابنه عبد الملك فلما انصرفوا من الصائفة لقيهم بجرزان حين مقتل الوليد و سار عبدة عن الجزيرة فوثب عبد الملك بالجزيرة و جرزان فضبطهما و كتب إلى أبيه بأرمينية يستحثه فسار طالبا بدم الوليد بعد أن أرسل إلى الثغور من يضبطها و كان معه ثابت بن نعيم الجذامي من أهل فلسطين و كان صاحب فتنة و كان هشام قد حبسه على إفساد الجند بأفريقية عند مقتل كلثوم بن عياض و شفع فيه مروان فأطلقاه و اتخذا عنده يدا فلما سار من أرمينية داخل ثابت أهل الشام في العود إلى الشام من وجه الفرات و اجتمع له الكبير من جند مروان و ناهضه القتال ثم غلبهم و انقادوا له و حبس ثابت محمد نعيم و أولاده ثم أطلقهم من حران إلى الشام و جمع نيفا و عشرين ألفا من الجزبرة ليسير بهم إلى يزيد و كتب إليه يشترط ما كان عبد الملك ولى أباه محمدا من الجزيرة و الموصل و أذربيجان فأعطاه يزيد ولاية ذلك و بايع له مروان و انصرف (3/139)
وفاة يزيد و بيعة أخيه إبراهيم
ثم توفي يزيد آخر سنة ست و عشرين لخمسة أشهر من ولايته و يقال إنه كان قدريا و بايعوا لأخيه إبراهيم من بعده إلا أنه انتقض عليه الناس و لم يتم له الأمر و كان يسلم عليه تارة بالخلافة و تارة بالأمان و أقام على ذلك نحوا من ثلاثة أشهر ثم خلعه مروان ابن محمد على ما يذكر و هلك سنة إثنتين و ثلاثين (3/140)
مسير مروان إلى الشام
و لما توفي يزيد و ولي أخوه إبراهيم و كان مضعفا و انتقض عليه مروان لوقته و سار إلى دمشق فلما انتهى إلى قنسرين و كان عليها بشر بن الوليد عاملا لأخيه يزيد و معه أخوهما مسرو و دعاهم مروان إلى بيعته و مال إليه يزيد بن عمر بن هبيرة و خرج بشر للقاء مروان فلما تراءى الجمعان مال ابن هبيرة و قيس إلى مروان و أسلموا بشرا و مسرورا فأخذهما مروان و حبسهما و سار بأهل قنسرين و من معه إلى حمص و كانوا امتنعوا من بيعه إبراهيم فوظه إليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك في جند اهل دمشق فكان يحاصرهم فلما دخل مروان رحل عبد العزيز عنهم و بايعوا مروان و خرج للقائه سليمان بن هشام في مائة و عشرين ألفا و مروان في ثماتين فدعاهم إلى الصلح و ترك الطلب بدم الوليد على أن يطلقوا ابنيه الحكم و عثمان وليي عهده فأبوا و قاتلوه و سرب عسكرا جاؤوهم من خلفهم فانهزموا و أثخن فيهم أهل حمص فقتلوا منهم نحوا من سبعة ألفا مثلها و رجع مروان بالفل و أخذ عليهم البيعة للحكم و عثمان ابني الوليد و حبس يزيد محمد العقار و الوليد محمد مصاد الكلبيين فهلكا في حبسه و كان ممن شهد قتل الوليد ابن الحجاج و هرب يزيد بن خالد القسري إلى دمشق فاجتمع له مع إبراهيم و عبد العزيز بن الحجاج و تشاوروا في قتل الحكم و عثمان خشية أن يطلقهما مروان فيثأر بأبيهما و ولوا ذلك يزيد بن خالد فبعث مولاه أبا الأسد فقتلهما و أخرج يوسف ابن عمر فقتله و اعتصم أبو محمد السفياني ببيت في الحبس فلم يطيقوا فتحه و أعجلهم خيل مروان فدخل دمشق و أتى بأبي الوليد و يوسف بن عمر مقتولين فدفنهما و أتى بأبي عمر السفياني في قيوده فسلم عليه بالخلافة و قال : إن ولي العهد جعلها لك ثم بايعه و سمع الناس فبايعوه و كان أولهم بيعة معاوية بن يزيد بن حصين بن نمير و أهل حمص ثم رجع مروان إلى خراسان و استأمن له إبراهيم بن الوليد و سليمان بن هشام و قدما عليه و كان قدوم سليمان من تدمر بمن معه من إخوته و أهل بيته و مواليه الذكوانية فيايعوا لمروان (3/140)
انتقاض الناس على مروان
و لما رجع غلى خراسان راسل ثابت بن نعيم من فلسطين أهل حمص في الخلاف على مروان فأجابوه و بعثوا إلى من كان بتدمر ممن طلب و جاء الأصبغ بن دؤالة الكلبي و أولاده و معاوية السكسكي فارس أهل الشام و غيرها في ألف من فرسانهم و دخلوا حمص ليلة الفطر من سنة سبعة و عشرين و زحف مروان في العساكر من حران و معه إبراهيم المخلوع و سليمان بن هشام و نزل عليهم ثالث يوم الفطر و قد سدوا أبوابهم فنادى مناديه : ما دعاكم إلى النكث ؟ قالوا لم ننكث و نحن على الطاعة و دخل عمر الوضاح في ثلاثة آلاف فقاتله المحتشدون هنالك للخلاف و خرجوا من الباب الآخر و جفل مروان في إتباعهم و علا الباب فقتل منهم نحو خمسمائة و صلبهم و هدم من سورها علوه و أفلت الأصبغ بن دؤالة و ابنه قرافصة ثم بلغ مروان و هو بحمص خلاف أهل الغوطة و إنهم و لوا عليهم يزيد بن خالد القسري و حاصروا دمشق و أميرها زامل بن عمر فبعث مروان إليهم أبا الورد بن الكوثر بن زفر بن الحرث و عمر بن الوضاح في عشرة آلاف فلما دنوا من دمشق حملوا عليهم و خرج إايهم من كان بالمدينة فهزمهم و قتلوا يزيد بن خالد و بعثوا برأسه إلى مروان و أحرقوا المزة و قرى البرامة ثم خرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين و حاصر طبرية و عليها الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم فبعث مروان إليه أبا الورد فلما قرب منه خرج أهل طبرية عليه فهزموه و لقيه أبو الورد منهزما فهزمه أخرى و افترق أصحابه و أسر ثلاثة من ولده و بعث بهم إلى مروان و تغيب ثابت و ولى مروان على فلسطين الرماحس بن عبد العزيز الكناني فظفر بثابت بعد شهرين و بعث به إلى مروان موثقا فقطعه و أولاده الثلاثة و بعثهم إلى دمشق فصلبوه ثم بايع لأبنيه عبد الله و عبيد الله و زوجهما بنتي هشام ثم سار إلى ترمذ من دير أيوب و كانوا قد غورا المياه فاستعمل المزاد و القرب و الإبل و بعث وزيره الأبرش الكلبي إليهم و أجابوه إلى الطاعة و هرب نفر منهم إلى البلد و هدم الأبرش سورها و رجع بمن أطاع إلى مروان ثم بعث مروان يزيد ابن عمر محمد هبيرة إلى العراق لقتال الضحاك الشيباني الخارجي بالكوفة و امده ببعوث اهل الشام و نزل قرقيسيا ليقدم ابن هبيرة لقتال الضحاك و كان سليمان بن هشام قد أستأذنه بالمقام في الرصافة أياما و يلحق به فرجعت طائفة عظيمة من أهل الشام الذين بعثهم مروان مع اين هبيرة فأقاموا بالرصافة و دعوا سليمان بن هشام بالبيعة فأجاب و سار معهم إلى قنسرين فعسكر بها و كاتب أهل الشام فأتوه من كل وجه و بلغ الخبر مروان فكتب إلى ابن هبيرة بالمقام و رجع من قرقيسيا إلى سليمان فقاتله فهزمه و استباح معسكره و اثخن فيهم و قتل اسراهم و قتل إبراهيم أكبر ولد سليمان و خالد بن هشام المخزومي جاء أبيه فيما ينيف على ثلاثين ألفا و هرب سليمان إلى حمص في الفل فعسكر بها و بنى ما كان تهدم من سورها و سار مروان إليه فلما قرب منه بيته جماعة من أصحاب سليمان تبايعوا على الموت و كان على احتراس و تعبية فترك القتال بالليل و كمنوا له في طريقه من الغد فقاتلهم إلى آخر النهر و قتل منهم نحوا من ستمائة و جاؤا إلى سليمان فلحق بتدمر و خلف أخاه سعيدا بحمص و حاصره مروان عشرة أشهر و نصب عليهم نيفا و ثمانين منجنيقا حتى استأمنوا له و امكنوه من سعيد بن هشام و ىخرين شرطهم عليهم ثم سار لقتال الضحاك الخارجي بالكوفة و قيل إن سليمان بن هشام لما انهزم بقنسرين لحق بعبد الله ابن عمر بن عبد العزيز بالعراق و سار معه إلى الضحاك فبايعوه و كان النضر بن سعيد قد ولي العراق فلما اجتمعوا على قتاله سار نحو مروان فاعترضه بالقادسية جنود الضحاك من الكوفة مع ابن ملحان فقتله النضر و لى الضحاك مكانه بالكوفة المثنى بن عمران و سار الضحاك إلى الوصل و أقبل ابن هبيرة إلى الكوفة فنزل بعيد التمر و سار إليه المثنى فهزمه ابن هبيرة و قتله و عدة من قواد الضحاك و اننهزم الخوارج و معهم بن جمهور ثم جاؤا إلى الكوفة و احتشدوا و ساروا للقاء ابن هبيرة فهزمهم ثانية و دخل الكوفة و سار إلى واسط و أرسل الضحاك عبيدة بن سوار الثعلبي لقتاله فنزل الصراة و قاتله ابن هبيرة هنالك فانهزمت الخوارج كما يأتي في أخبارهم (3/141)
ظهور عبد الله بن معاوية
كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قدم على عبد الله بن عمر بن عبد العزيز الكوفة في إخوانه و ولده فاكرمهم عبد الله و أجرى عليهم ثلثمائة درهم في كل يوم و أقاموا كذلك و لما يويع إبراهيم بن الوليد بعد أخيه و اضطرب الشام و سار مروان إلى دمشق حبس عبد الله بن عمر عبد الله بن معاوية عنده و زاد في رزقه بعده لمروان يبايعه و يقاتله فلما ظفر مروان بإبراهيم سار إسمعيل بن عبد الله القسري إلى الكوفة و قاتله عبد الله بن عمر ثم خاف إسمعيل أن يفتضح فكفوا خبرهم فوقعت العصبية بين الناس من إيثار عبد الله بن عمر بعضا من مضر و ربيعة بالعطاء دون غيرهم فثارت ربيعة فبعث إليهم أخاه عاصما ملقيا بيده فاستحيوا و رجعوا و أفاض في رؤوس الناس يستمليهم فاستنفر الناس و اجتمعت الشيعة إلى عبد الله بن معاوية فبايعوا و أدخلوه قصر الكوفة و أخرجوا منه عاصم بن عمر فلحق بأخيه بالحيرة و بايع الكوفيون ابن معاوية و منهم منصور بن جمهور و إسمعيل أخو خالد القسري و عمر بن العطاء و جاءته البيعة من المدائن و جمع الناس و خرج إلى عبد الله بن عمر بالحيرة فسرح للقائه مولاه ثم خرج في إثره و تلاقيا و نزع منصور بن جمهور و إسمعيل أخو خالد القسري و عمر بن العطاء و جاءته البيعة من ابن عمر و لحقوا بالحيرة و انهزم ابن معاوية إلى الكوفة و كان عمر بن الغضبان قد حمل على ميمنة ابن عمر فكشفها و انهزم أصحابه من ورائه فرجع إلى الكوفة و أقام مع ابن معاوية في القصر و معهم ربيعة و الزيدية على أفواه السك يقاتلون ابن عمر ثم أخذ ربيعة الأمان لابن معاوية و لأنفسهم و للزيدية و سار ابن معاوية إلى المدائن و تبعه قوم من أهل الكوفة فتغلب بهم على حلوان و الجبل و همدان و أصبهان و الري إلى أن كان من خبره ما نذكره (3/143)
غلبة الكرواني على مرو و قتله الحرث بن شريح
لما ولي مروان و ولى على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة كتب يزيد إلى نصر بعهده على خراسان فبايع لمروان بن محمد فارتاب الحرث و قال : ليس لي أمان من مروان و خرج فعسكر و طلب من نصر أن يجعل الأمر شورى فأبى و قرأ جهم بن صفوان مولى راسب و هو رأس الجهمية سيرته و ما يدعو إليه على الناس فرضوا و كثر جمعه و أرسل إلى نصر في عزل سالم بن أحور عن الشرطة و تغيير العمال فتقرر الأمر بينهما على أن يردوا ذلك إلى رجال أربعة : مقاتل بن سليمان و مقاتل بن حيان بتعيين نصر و المغيرة بن شعبة الجهضي و معاذ بن جبلة بتعيين الحرث و أمر نصر أن يكتب بولاية سمرقند و طخارستان لمن يرضاه هؤلاء الأربعة و كان الحرث يقول إنه صاحب السور و إنه يهدم سور دمشق و يزيل ملك بني أمية فأرسل إليه نصر : إن كان ما تقوله حقا فتعال نسير إلى دمشق و إلا فقد أهلكت عشيرتك فقال الحرث : هو حق لكن لا تبايعني عليه أصحابي قال : فكيف تهلك عشرين ألفا من ربيعة و اليمن ؟ ثم عرض عليه ولاية ما وراء النهر و يعطيه ثلثمائة ألف فلم يقبل فقال له : فابدأ بالكرماني فاقتله و أنا في طاعتك ثم اتفقا على تحكيم جهم و مقاتل فاحتكما بأن يعزله نصر و يكون الأمر شورى فأتى نصر فخالفه الحرث و قدم على نصر جمع من أهل خراسان حين سمعوا بالفتنة منهم عاصم بن عمير الضمريمي و أبو الديال الناجي و مسلم بن عبد الرحمن و غيرهم فكانوا معه و أمر الحرث أن يقرأ سيرته في الأسواق و المساجد و أتاه الناس و قرئت على باب نصر فضرب غلمان نصر قارئها فنادى بهم و تجهزوا للحرب و نقب الحرث سور مرو من الليل و دخل بالنهار فاقتتلوا و قتل جهم بن مسعود الناجي و أعين مولى حيان و نهبوا منزل مسلم بن أحور فركب سالم حين أصبح فقاتل الحرث و هزمه و جاء إلى عسكره فقتل كاتبه و بعث نصر إلى الكرماني و كان في الأزدو ربيعة كان موافقا للحرث لما قدمناه فجاءه نصر على الأمان و حادثهم و أغلظوا له في القول فارتاب و مضى و قتل من أصحابه جهم بن صفوان ثم بعث الحرث إبنه حاتما إلى الكرماني يستجيشه فقال له أصحابه : دع عدويك يضطربان ثم ضرب بعد يومين و ناوش القتال نصر فهزمهم و صرع تميم بن نصر و مسلم بن أحور و خرج نصر من مرو من الغد فقاتلهم ثلاثة أيام و انهزم الكرماني و أصحابه و نادى مناد يا معشر ربيعة و اليمن إن أبا سيار قتل فانهزمت مضر و نصر و ترجل إبنه تميم فقاتل و أرسل إليه الحرث إني كاف عنك فإن اليمانية يعيرونني بانهزامكم فاجعل أصحابك إزاء الكرماني و لما انهزم نصر غلب الكرماني على مرو و نهب الأموال فأنكر ذلك عليه الحرث ثم اعتزل عن الحرث بشر بن جرموز الضبي في خمسة آلاف و قال : إنما كنا نقاتل معك طلبا للعدل فأما إن اتبعت الكرماني للعصبية فنحن لا نقاتل فدعا الحرث الكرماني إلى الشورى فأبى فانتقل الحرث عنه و أقاموا أياما ثم ثلم الحرث السور و دخل البلد و قاتله الكرماني قتالا شديدا فهزمه و قتله و أخاه سوادة و استولى الكرماني على مرو و قيل إن الكرماني خرج مع الحرث لقتال بشر بن جرموز ثم ندم الحرث على اتباع الكرماني و أتى عسكر بشر فأقام معهم و بعث إلى مضر من عسكر الكرماني من عسكر الكرماني فساروا إليهم و كانوا يقتتلون كل يوم و يرجعون إلى خنادقهم ثم نقب الحرث بعد أيام سور مرو و دخلها و تبعه الكرماني و اقتتلوا فقتل الحرث و أخاه و بشر بن جرموز و جماعة من بني تميم و ذلك سنة ثمان و عشرين و مائة فانهزم الباقون و صفت مرو لليمن و هدموا دور المضرية (3/144)
ظهور الدعوة العباسية بخراسان
قد ذكرنا أن أبا مسلم كان يتردد إلى الإمام من خراسان ثم استدعاه سنة تسعة و عشرين ليسأله عن الناس فسار في سبعين من النقباء مؤدين بالحج و مر بنسا فاستدعى أسيدا فأخبره بأن كتب الإمام جاءت إليه مع الأزهر بن شعيب و عبد الملك بن سعيد و دفع إليه الكتب ثم لقيه بقومس كتاب الإمام إليه و إلى سليمان بن كتير إني قد بعثت إليك براية النصر فارجع من حيث يلقاك كتابي و وجه قحطبة إلى الإمام بما معه من الأموال و العروض و جاء أبو مسلم إلى مرو و أعطى كتاب الإمام لسليمان بن كثير و فيه الأمر بإظهار الدعوة فنصبوا أبا مسلم و قالوا رجل من أهل البيت و دعوا إلى طاعة بني العباس و كتبوا إلى الدعاة بإظهار الإمر و ترك أبو مسلم بقرية من قرى مرو في شعبان من سنة تسع و عشرين ثم بثوا الدعاة في طخارستان و مرو الروذ و الطالقان و خوارزم و أنهم إن أعجلهم عدوهم دون الوقت عاجلوه و جردوا السيوف للجهاد و من شغله العدو عن الوقت فلا حرج عليه أن يظهر بعد الوقت ثم سار أبو مسلم فنزل على سليمان بن كثير الخزاعي آخر رمضان و نصر بن سيار يقاتل الكرماني و شيبان فعقد اللواء الذي بعث به الإمام إليه و كان يدعى الظل على رمح طوله أربعة عشر ذراعا ثم عقد الراية التي بعثها معه و تسمى السحاب و هو يتلو : أذن للذين يقاتلون الآية و لبسوا السواد هو و سليمان بن كثير و أخوه سليمان و مواليه و من أجاب الدعوة من أهل تلك القرى و أوقدوا النيران ليلتهم لشيعتهم في خرقان فأصبحوا عنده ثم قدم عليه أهل السقادم مع أبي الوضاح في سبعمائة راجل و قدم من الدعاة أبو العباس المروزي و حصن أبو مسلم بسفيدنج و رمها و حضر عيد الفطر فصلى سليمان بن كثير و خطب على المنبر في العسكر و بدأ بالصلاة قبل الخطبة بلا أذان و لا إقامة و كبر في الأولى ست تكبيرات و في الثانية خمسا خلاف ما كان بنو أمية يفعلون و كل ذلك مما سنه لهم الإمام و أبوه ثم انصرفوا من الصلاة مع الشيعة فطمعوا و كان أبو مسلم و هو في الخندق إذا كتب نصر بن سيار يبدأ بإسمه فلما قوى بمن اجتمع إليه كتب إلى نصر و بدأ بنفسه و قال : أما بعد فإن الله تباركت أسماؤه عير قوما في القرآن فقال : { و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير } إلى { و لن تجد لسنة الله تحويلا } فاستعظم الكتاب و بعث مولاه يزيد لمحاربة أبي مسلم لثمانية عشر شهرا من ظهوره فبعث إليه أبو مسلم مالك الهيثم الخزاعي فدعاه إلى الرضا من آل رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستكبروا فقاتلهم مالك و هو في مائتين يوما بكماله و قدم على أبي مسلم صالح بن سليمان الضبي و إبراهيم بن يزيد و زياد بن عيسى فسرحهم إلى مالك فقوي مالك بهم و قاتلوا القوم فحل عبد الله الطائي على يزيد مولى نصر فأسره و انهزم أصحابه و أرسله الطائي إلى أبي مسلم و معه رؤوس القتلى فأحسن أبو مسلم إلى يزيد و عالجه و لما اندملت جراحه قال : إن شئت أقمت عندنا و إلا رجعت إلى مولاك سالما بعد أن تعاهدنا على أن لا تحاربنا و لا تكذب علينا فرجع إلى مولاه و تفرس نصر أنه عاهدهم فقال : و الله هو ما ظننت و قد استحلفوني أن لا أكذب عليهم و أنهم الله يصلون الصلاة لوقتها بأذان و إقامة و يتلون القرآن و يذكرون الله كثيرا و يدعون إلى ولاية آل رسول الله صلى الله عليه و سلم و ما أحسب أمرهم إلا سيعلو و لولا أنك مولاي لأقمت عندهم و كان الناس يرجفون عنهم بعبادة الأوثان و استحلال الحرام ثم غلب حازم بن خزيمة على مرو الروذ و قتل عامل نصر بها و كان من بني تميم من الشيعة و أرادوا بنو تميم منعه فقال : أنا منكم فإن ظفرت فهي لكم و إن قتلت كفيتم أمري فنزل قرية زاها ثم تغلب على أهلها فقتل بشر بن جعفر السغدي عامل نصر عليها أوائل ذي القعدة و بعث بالفتح إلى أبي مسلم مع إبنه خزيمة بن حازم و قيل في أمر أبي مسلم غير هذا و أن إبراهيم الإمام أزوج أبا مسلم لما بعثه خراسان بابنه أبي النجم و كتب إلى النقباء بطاعته و كان أبو مسلم من سواد الكوفة فهزما فانتهى لإدريس بن معقل العجلي ثم سار إلى ولاية محمد بن علي ثم إبنه إبراهيم ثم للأئمة من ولاية من ولده و قدم خراسان و هو حديث السن و استصغره سليمان بن كثير فرده و كان أبو داود خالد بن إبراهيم غائبا وراء النهر فلما جاء إلى مرو أقرأه كتاب الإمام و سألهم عن أبي مسلم فأخبروه أن سليمان بن كثير رده لحداثة سنه و أنه لا يقدر على الأمر فنخاف على أنفسنا و على من يدعوه فقال لهم أبو داود : إن الله بعث نبيه صلى الله عليه و سلم إلى جميع خلقه و أنزل عليه كتابه بشرائعه و أنبأه بما كان و ما يكون و خلف علمه رحمة لأمته و عمله إنما هو عند عترته و أهل بيته و هم معدن العلم و ورثة الرسول فيما علمه الله أتشكون في شيء من ذلك قالوا : لا قال : فقد شككتم و الرجل لم يبعثه إليكم حتى علم أهليته لما يقوم به فبعثوا عن أبي مسلم و ردوه من قومس بقول أبي داود و ولوه أمرهم و أطاعوه و لم تزل في نفس أبي مسلم من سليمان بن كثير ثم بعث الدعاة و دخل الناس في الدعوة أفواجا و استدعاه الإمام سنة تسع و عشرين أن يوافيه بالمرسوم ليأمره في إظهار الدعوة و أن يقدم معه قحطبة بن شبيب و يحمل ما اجتمع عنده من الأموال فسار في جماعة من النقباء و الشيعة فلقيه كتاب الإمام بقومس يأمره بالرجوع و إظهار الدعوة بخراسان و بعث قحطبة بالمال و أن قحطبة سار إلى جرجان و استدعى خالد بن برمك و أبا عون فقدما بما عندهما من مال الشيعة فسار به نحو الإمام (3/146)
مقتل الكرماني
قد ذكرنا من قبل أن الكرماني قتل الحرث بن شريح فخلصت له مرو و تنحى نصر عنها ثم بعث نصر سالم بن أحور في رابطته و فرسانه إلى مرو فوجد يحيي بن نعيم الشيباني في ألف رجل من ربيعة و محمد بن المثنى في سبعمائة من الأزد و أبو الحسن ابن الشيخ في ألف منهم و الحربي السغدي في ألف من اليمن فتلاحى سالم و ابن المثنى و شتم سالم الكرماني فقاتلوه فهزموه و قتل من أصحابه نحو مائة فبعث نصر بعده عصمة بن عبد الله الأسدي فكان بينهم مثل ما كان أولا فقاتلهم محمد السغدي فانهزم السغدي و قتل من أصحابه أربعمائة و رجع إلى نصر فبعث مالك بن عمر التميمي فاقتتلوا كذلك و انهزم مالك و قتل من أصحابه سبعمائة و من أصحابه الكرماني ثلثمائة و لما استيقن أبو مسلم أن كلا الفريقين قد أثخن صاحبه و أنه لا مدد لهم جعل يكتب إلى شيبان الخارجي يذم اليمانية تارة و مضر أخرى و يوصي الرسول بكتاب مضر أن يتعرض لليمانية ليقرؤا ذم مضر و الرسول بكتاب اليمانية أن يتعرض لمضر ليقرؤا ذم اليمانية حتى صار هوى الفريقين معه ثم كتب إلى نصر بن سيار و الكرماني : أن الإمام أوصاني بكم و لا أعد و رأيه فيكم ثم كتب يستدعي الشيعة أسد بن عبد الله الخزاعي بنسا و مقاتل بن حكيم بن غزوان و كانوا أول من سود و نادوا يا محمد يا منصور ! ثم سود أهل أبي ورد و مرو الروذ و قرى مرو فاستدعاهم أبو مسلم و أقبل فنزل بين خندق الكرماني و خندق نصر و هابه الفريقان و بعث إلى الكرماني إني معك و قبل فانضم أبو مسلم إليه و كتب نصر بن سيار إلى الكرماني يحذره منه و يشير عليه بدخول مرو ليصالحه فدخل ثم خرج من الغد و ارسل إلى نصر في إتمام الصلح في مائتي فارس فرأى نصر فيه غرة فبعث إليه ثلثمائة فارس فقتلوه و سار إبنه إلى أبي مسلم و قاتلوا نصر بن سيار حتى أخرجوه من دار الأمارة إلى بعض الدور و دخل أبو مسلم مرو فبايعه علي بن الكرماني و قال له أبو مسلم أقم على ما أنت عليه حتى آمرك بأمري و كان نصر حين نزل أبو مسلم بين خندقه و خندق الكرماني و رأى قوته كتب إلى مروان بن محمد يعلمه بخروجه و كثرة من معه و دعائه لإبراهيم بن محمد :
( أرى خلل الرماد و ميض جمر ... و يوشك أن يكون لها ضرام )
( فإن النار بالعودين تذكو ... و إن الحرب أولها الكلام )
( فإن لم تطفؤها يخرجوها ... مسجرة يشيب لها الغلام )
( أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام )
( فإن يك قومنا أضحوا نياما ... فقل قوموا فقد حان القيام )
( تعزي عن رجالك ثم قولي ... على الإسلام و العرب السلام )
فوجده مشتغلا بحرب الضحاك بن قيس فكتب إليه الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فاحثهم التلول قبلك فقال نصر : أما صاحبكم فقد أعلمكم أنه لا نصر عنده و صادف وصول كتاب نصر إلى مروان عثورهم على كتاب من إبراهيم الإمام لأبي مسلم يوبخه حيث لم ينتهز الفرصة من نصر و الكرماني إذ أمكنته و يأمره أن لا يدع بخراسان متكلما بالعربية فلما قرأ الكتاب بعث إلى عامله بالبلقاء أن يسير إلى الحيسة فيبعث إليه بإبراهيم بن محمد مشدود الوثاق فحبسه مروان (3/148)
اجتماع أهل خراسان على قتل أبي مسلم
لما أظهر أبو مسلم أمره سارع إليه الناس و كان أهل مرو يأتونه و لا يمنعهم نصر و كان الكرماني و شيباني الخارجي لا يكرهان أمر أبي مسلم لأنه دعا إلى خلع مروان و كان أبو مسلم ليس له حرس و لا حجاب و لا غلظة الملك فكان الناس يأنسون به لذلك و أرسل نصر إلى شيبان الخارجي في الصلح ليتفرغ لقتال أبي مسلم إما أن يكون معه أو يكف عنه ثم نعود إلى ما كنا فيه فهم شيبان بذلك و كتب أبو مسلم إلى الكرماني فحرضه على منع شيبان من ذلك فدخل عليه و ثناه عنه ثم بعث أبو مسلم النضر بن نعيم الضبي إلى هراة فملكها و طرد عنها عيسى بن عقيل بن معقل الليثي عامل نصر فجاء يحيى بن نعيم بن هبيرة الشيباني إلى الكرماني و شيبان و أغراهما بمصالحة نصر و قال : إن صالحتم نصرا قاتله أبو مسلم و ترككم لأن أمر خراسان لمضر و إن لم تصالحوه صالحه و قاتلكم فقدموا نصر قبلكم فأرسل شيبان إلى نصر في الموادعة فأجلب و جاء مسلم بن أحور بكتب الموادعة فكتبوها و بعث أبو مسلم إلى شيبان في موادعة ثلاثة أشهر فقال ابن الكرماني إذا ما صالحت نصرا إنما صالحه شيبان و أنا موتور بأبي ثم عادو القتال و قعد شيبان عن نصره و قال : لا يحل الغدر فاستنصر ابن الكرماني بأبي مسلم فأقبل حتى نزل الماخران لإثنتين و أربعين يوما من نزوله يسفيدنخ و خندق على معسكره و جعل له بابين و على شرطته مالك بن الهيثم و على الحرس أبا إسحق خالد بن عثمان و على ديوان الجند أبا صالح كامل بن المظفر و على الرسائل أسلم بن صبيح و على القضاء القاسم بن مجاشع النقيب و كان القاسم يصلي بأبي مسلم و يقرأ القصص بعد العصر فيذكر فضل بني هاشم و سالف بني أمية و لما نزل أبو مسلم الماخران أرسل إلى ابن الكرماني بأنه معه فطلب لقاءه فجاءه أبو مسلم و أقام عنده يومين ثم رجع و ذلك أول المحرم سنة ثلاثين ثم عرض الجند و أمر كامل ابن مظفر بكتب أسمائهم و أنسابهم في دفتر فبلغت عدته سبعة آلاف ثم إن القبائل من ربيعة و مضر و اليمن توادعوا على وضع الحرب والاجتماع على قتال أبي مسلم فعظم ذلك عليه و تحول عن الماخران لأربعة أشهر من نزولها لأنها كانت تحت الماء و خشي أن يقطع فتحول إلى طبسين و خندق بها و خندق نصر بن سيار على نهر عياض و أنزل عماله بالبلاد فأنزل أبا الديال في جنده لطوسان فآذوا أهلها و عسفوهم و كان أكثرهم مع أبي مسلم في خندق فسير إليهم جندا فقاتلوه فهزموه و أسروا من أصحابه ثلاثين فأطلقهم أبو مسلم ثم بعث محرز بن إبراهيم في جمع من الشيعة ليقطع مادة نصر من مرو الروذ و بلخ و طخارستان فخندق بين نصر و بين هذه البلاد و اجتمع إليه ألف رجل و قطع المادة عن نصر (3/150)
مقتل عبد الله بن معاوية
قد تقدم لنا أن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بويع بالكوفة و غلبه عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز و لحق بالمدائن و جاءه ناس من أهل الكوفة و غيرها فسار إلى الجبال و غلب عليها و على حلوان و قومس و أصبهان و الري و أقام بأصبهان و كان محارب بن موسى مولى بني يشكر عظيم القدر بفارس فجاء إلى دار الأمارة بأصطخر و طرد عامل عبد الله بن عمر عنها و بايع الناس لعبد الله بن معاوية ثم سار إلى كرمان فأغار عليها و انضم إليه قواد أهل الشام فسار إلى سالم بن المسيب عامل عبد الله ابن عمر على شيراز فقتله سنة ثمان و عشرين ثم سار محارب إلى أصبهان و حول عبد الله ابن معاوية إلى أصطخر بعد أن استعمل على الجبال أخاه الحسن بن معاوية و أتى إلى أصطخر فنزل بها و أتاه بنو هاشم و غيرهم و جبى المال و بعث العمال و كان معه منصور بن جمهور و سليمان بن هشام و أتاه شيبان بن عبد العزيز الخارجي ثم أتاه أبو جعفر المنصور و عبد الله ابن أخيه عيسى و لما قدم يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق أرسل نباتة بن حنظلة الكلابي على الأهواز و أن يقاتل عبد الله بن معاوية و بلغ سليمان بن حبيب و هو بالأهواز فسرح داود بن حاتم للقاء نباتة و هرب سليمان من الأهواز إلى نيسابور و قد غلب الأكراد عليها فطردهم عنها بايع لابن معاوية فبعث أخاه يزيد بن معاوية عليها ثم إن محارب بن موسى فارق عبد الله بن معاوية و جمع و قصد نيسابور فقاتله يزيد بن معاوية و هزمه فأتى كرمان و أقام بها حتى قدم محمد بن الأشعث فصار معه ثم نافره فقتله ابن الأشعث و أربعة و عشرين إبنا له ثم بعث يزيد بن هبيرة بعد نباتة بن حنظلة إبنه داود ابن يزيد في العساكر إلى عبد الله بن معاوية و على مقدمته داود بن ضبارة و بعث معن بن زائدة من وجه آخر فقاتلوا عبد الله بن معاوية و هزموه و أسروا و قتلوا و هرب منصور بن جمهور إلى السند و عبد الرحمن بن يزيد إلى عمان و عمر بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان إلى مصر وبعثوا بالأسرى إلى ابن هبيرة فأطلقهم و مضى ابن معاوية عن فارس إلى خراسان و سار معن بن زائدة في طلب منصور بن جمهور و كان فيمن أسر مع عبد الله بن معاوية عبد الله بن علي بن عبد الله ابن عباس شفع فيه حرب ابن قطن من أخواله بني هلال فوهبه له ضبارة و غاب عبد الله بن معاوية عن ابن ضبارة و رمى أصحابه باللواطة فبعث إلى ابن هبيرة ليخبره و سار ابن ضبارة في طلب عبد الله بن معاوية إلى شيراز فحاصره بها حتى خرج منها هاربا و معه أخوه الحسن و يزيد و جماعة من أصحابه فسلك المفازة على كرمان إلى خراسان طمعا في أبي مسلم لأنه كان يدعو إلى الرضا من آل محمد و قد استولى على خراسان فوصل إلى نواحي هراة و عليها مالك فقال له : انتسب نعرفك فانتسب له فقال : أما عبد الله و جعفر فمن أسماء آل الرسول و أما معاوية فلا نعرفه في أسمائهم قال : إن جدي كان عند معاوية حين ولد أبي فبعث إليه مائة ألف على أن يسمي إبنه باسمه فقال : لقد اشتريتم الأسماء الخبيثة بالثمن اليسير فلا نرى لك حقا فيما تدعوا إليه ثم بعث بخبره إلى أبي مسلم فأمره بالقبض عليه و على من معه فحبسهم ثم كتب إليه بإطلاق أخويه الحسن و يزيد و قتل عبد الله فوضع الفراش على وجهه فمات
لما تعاقد نصر و ابن الكرماني و قبائل ربيعة و اليمن و مضر على قتال أبي مسلم عظم على الشيعة و جمع أبو مسلم أصحابه و دس سليمان بن كثير إلى ابن الكرماني يذكره بثأر أبيه من نصر فانتقضوا فبعث نصر إلى أبي مسلم بموافقة مضر و بعث إليه أصحاب ابن الكرماني و هم ربيعة و اليمن بمثل ذلك و استدعى وفد الفريقين ليختار الركون إلى أحدهما و أحضر الشيعة لذلك و أخبرهم بأن مضر أصحاب مروان و عماله و شيعته و قبله يحيى بن زيد فلما حضر الوفد تكلم سليمان بن كثير و يزيد بن شقيق السلمي بمثل ذلك و بأن نصر بن سيار عامل مروان و يسميه أمير المؤمنين و ينفد أوامره فليس على هدى و إنما يختار علي بن الكرماني و أصحابه و وافق السبعون من الشيعة على ذلك و انصرف الوفد و رجع أبو مسلم من أبين إلى الماخران وأمر الشيعة ببناء المساكن و أمن من فتنة العرب ثم أرسل إليه علي بن الكرماني أن يدخل مرو من ناحيته ليدخل هو و قومه من الناحية الأخرى فلم يطمئن لذلك أبو مسلم و قال : ناشبهم الحرب من قبل فناشب ابن الكرماني نصر بن سيار الحرب و دخل مرو من ناحيته و بعث أبو مسلم بعض النقباء فدخل معه ثم سار و على مقدمته أسيد بن عبد الله الخزاعي و على ميمنته مالك بن الهيثم و على ميسرته القاسم بن مجاشع فدخل مرو و الفريقان يقتتلان و مضى إلى قصر الإمارة و هو يتلو : و دخل المدينة على حين غفلة من أهلها و أمر الفريقين بالانصراف فانصرفوا إلى معسكرهم و صفت له مرو و أمر بأخذ البيعة من الجند و تولى أخذها أبو منصور طلحة بن زريق أحد النقباء الذين اختارهم محمد بن علي من الشيعة حين بعث دعاته إلى خراسان سنة ثلاث و أربع و كانوا إثني عشر رجلا فمن خزاعة سليمان بن كثير و مالك بن الهيثم و زياد بن صالح و طلحة بن زريق و عمر بن أعين و من طيء قحطبة بن شيب بن خالد سعدان و من تميم أبو عيينة موسى بن كعب و لاهز ابن قريط و القاسم بن مجاشع و أسلم بن سلام و من بكر بن وائل أبو داود خالد بن إبراهيم الشيباني و أبو الهروي و يقال شبل بن طهمان و كان عمر بن أعين مكان موسى بن كعب و أبو النجم إسمعيل بن عمران مكان أبي علي الهروي و هو ختن أبي مسلم و لم يكن أحد من النقباء و والده غير أبي منصور طلحة بن زريق بن سعد و هو أبو زينب الخزاعي و كان قد شهد حرب ابن الأشعث و صحب المهلب و غزا معه و كان أبو مسلم يشاوره في الأمور و كان نص البيعة : أبايعكم على كتاب الله و سنة رسوله محمد صلى الله عليه و سلم و الطاعة للرضا من آل رسول الله صلى الله عليه و سلم عليكم بذلك عهد الله و ميثاقه و الطلاق و العتاق و المشي إلى بيت الله الحرام و على أن لا تسألوا رزقا و لا طمعا حتى تبدأكم به ولاتكم و ذلك سنة ثلاثين و مائة ثم أرسل أبو مسلم لاهز بن قريط في جماعة إلى نصر بن سيار يدعو إلى البيعة و علم نصر أن أمره قد استقام ولا طاقة له بأصحابه فوعده بأنه يأتيه يبايعه من الغد و أرسل أصحابه بالخروج من ليلتهم إلى مكان يأمنون فيه فقال أسلم بن أحوز لا يتهيأ لنا الليلة فلما أصبح أبو مسلم كتابه و أعاد لاهز بن قريط إلى نصر يستحثه فأجاب و أقام لوضوئه فقال لاهز : إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فخرج نصر عند المساء من خلف حجرته و معه إبنه تميم و الحكم بن غيلة النميري و امرأته المزربانة و انطلقوا هرابا و استبطأه لاهز فدخل المنزل فلم يجده و بلغ أبا مسلم هربه فجاء إلى معسكره وقبض على أصحابه منهم سالم بن أحوز صاحب شرطته و البحتري كاتبه و إبنان له و يونس بن عبد ربه و محمد بن قطن و غيرهم و سار أبو مسلم و ابن الكرماني في طلبه ليلتهما فأدركا إمرأته قد خلفها و سار فرجعوا إلى مرو و بلغ نصر من سرخس فأقام بطوس خمس عشرة ليلة ثم جاء نيسابور فأقام بها و تعاقد ابن الكرماني مع أبي مسلم على رأيه ثم بعث إلى شيبان الحروري يدعوه إلى البيعة فقال شيبان : بل أنت تبايعني و استنصر بابن الكرماني فأبى عليه و سار شيبان إلى سرخس و اجتمع له جمع من بكر بن وائل و بعث إليه أبو مسلم في الكف فسجن الرسل فكتب إلى بسام بن إبراهيم مولى بني ليث المكنى بأبي ورد أن يسير إليه فقاتله و قتل بكر بن وائل الرسل الذي كانوا عنده و قيل إن أبا مسلم إنما وجه إلى شيبان عسكرا من عنده عليهم خزيمة بن حازم و بسام بن إبراهيم ثم بعث أبو مسلم كعبا من النقباء إلى أبيورد فافتتحها ثم أبا داود خالد بن إبراهيم من النقباء إلى بلخ و بها زياد بن عبد الرحمن القشيري فجمع له أهل بلخ و ترمذ و جند طخارستان و نزل الجوزجان و لقيهم أبو داود فهزمه و ملك مدينة بلخ و ساروا إلى ترمذ فكتب أبو مسلم إلى أبي داود يستقدمه و بعث مكانه على بلخ يحيى بن نعيم أبا الميلا فداخله زياد بن عبد الرحمن في الخلاف على أبي مسلم و اجتمع لذلك زياد و مسلم بن عبد الرحمن الباهلي و عيسى بن زرعة السلمي و أهل بلخ و ترمذ و ملوك طخارستان و ما وراء النهر و نزلوا على فرسخ من بلخ و خرج إليهم يحيى بن نعيم بمن معه و اتفقت كلمة مضر و ربيعة و اليمن و من معهم من العجم على قتال المسودة و ولوا عليهم مقاتل بن حيان النبطي مخافة أن يتنافسوا و بعث أبو مسلم أبا داود إليهم فأقبل بعساكره حتى اجتمعوا على نهر السرحسان و اقتتلوا و كان زياد و أصحابه قد خلفوا أبا سعيد القرشي مسلحة وراءهم خشية أن يؤتوا من خلفهم و كانت راياته سودا و أغفلوا ذلك فلما اشتد القتال زحف أبو سعيد في أصحابه لمددهم فظنوه كمينا للمسودة فانهزموا و سقطوا في النهر و حوى أبو داود في معسكرهم بما فيه و ملك بلخ و مضى زياد و يحيى و من معهما إلى ترمذ و كتب أبو مسلم يستقدم أبا داود و بعث النضر بن صبيح المزني على بلخ و لما قدم أبو داود أشار على أبي مسلم بالتفرقة بين علي و عثمان إبني الكرماني فبعث عثمان على بلخ و قدمها فاستخلف الفرافصة بن ظهير العبسي و سار هو و النضر بن صبيح إلى مرو الروذ و جاء مسلم بن عبد الرحمن الباهلي من ترمذ في المضرية فاستولى على بلخ و رجع إليه عثمان و النضر فهربوا من ليلتهم ولم يعن النضر في طلبهم و قاتلهم عثمان ناحية عنه فانهزم و رجع أبو داود إلى بلخ و سار أبو مسلم إلى نيسابور و معه علي بن الكرماني و قد اتفق مع أبي داود على قتال إبني الكرماني فقتل أبو داود عثمان في بلخ و قتل أبو مسلم عليا في طريقه إلى نيسابور (3/151)
مسير قحطبة للفتح
و في سنة ثلاثين قدم قحطبة بن شبيب على أبي مسلم من عند الإمام إبراهيم و قد عقد له لواء على محاربة العدو فبعثه أبو مسلم في مقدمته و ضم إليه العساكر و جعل إليه التولية و العزل و أمر الجنود بطاعته و قد كان حين غلب على خراسان بعث العمال على البلاد فبعث ساعي بن النعمان الأزدي على سمرقند و أبا داود خالد بن إبراهيم على طخارستان و محمد بن الأشعث الخزاعي على طبسين و جعل مالك بن الهيثم على شرطته و بعث قحطبة إلى طوس و معه عدة من القواد : أبو عون عبد الملك بن يزيد و خالد بن برمك و عثمان بن نهيك و حازم بن خزيمة و غيرهم فهزم أهل طوس و أفحش في قتلهم ثم بعث أبو مسلم القاسم بن مجاشع إلى نيسابور على طريق الحجة و كتب إلى قحطبة بقتال تميم ابن نصر بالسودقان و معه الثاني بن سويد و أصحاب شيبان و أمده بعشرة آلاف مع علي بن معقل فزحف إليهم و دعاهم بدعوته و قاتلهم فقتل تميم بن نصر و جماعة عظيمة من أصحابه يقال بلغوا ثلاثين ألفا و استبيح معسكرهم و تحصن الباقي بالمدينة فاقتحهما عليهم و خلف خالد بن برمك على قبض الغنائم و سار إلى نيسابور فهرب منها نصر بن سيار إلى قومس ثم تفرق عنه أصحابه فسار إلى نباتة بن حنظلة بجرجان و كان يزيد بن هبيرة بعثه مددا لنصر فأتى فارس و أصبهان ثم سار إلى الري ثم إلى جرجان و قدم حطبة نيسابور فأقام بها رمضان و شوال و ارتحل إلى جرجان و جعل إبنه الحسن على مقدمته و انتهى إلى جرجان و أهل الشام بها مع نباتة فهابهم أهل خراسان فخطبهم قحطبة و أخبرهم أن الإمام أخبره أنهم يلقونه مثل ههذ العدد فينصرونه عليهم ثم تقدم للقتال و على ميمنته ابنه الحسن فانهزم أهل الشام و قتل نباتة في عشرة آلاف منهم و بعث برأسه إلى أبي مسلم و ذلك في ذي الحجة من السنة و ملك قحطبة جرجان ثم بلغه أن أهل جرجان يرومون الخروج عليهم فاستعرضهم و قتل منهم نحوا من ثلاثين ألفا و سار نصر من قومس إلى خوار الري و عليها أبو بكر العقيلي و كتب إلى ابن هبيرة بواسط يستمده فحبس رسله فكتب مروان إلى ابن هبيرة فجهز ابن هبيرة جيشا كثيفا إلى نصر و عليهم ابن عطيف (3/155)
هلاك نصر بن سيار
ثم بعث قحطبة ابنه الحسن إلى محاصرة نصر في خوار الري في محرم سنة إحدى و ثلاثين و بعث إليه المدد مع أبي كامل و أبي القاسم محرز بن إبراهيم و أبي العباس المروزي و لما تقاربوا نزع أبو كامل إلى نصر فكان معه و هرب جند قحطبة و أصحاب نصر أصابهم شيء من متاعهم فبعثه نصر إلى ابن هبيرة فاعترضه ابن عطيف بالري فأخذه فغاضبه نصر فأقام ابن عطيف بالري و سار نصر إلى الري و عليها حبيب بن يزيد النهشلي فلما قدمها سار ابن عطيف إلى همذان و كان فيها مالك ابن أدهم بن محرز الباهلي فعدل ابن عطيف عنها إلى أصبهان و بها عامر بن ضبارة و قدم نصر الري فأقام بها يومين و مرض و ارتحل فلما بلغ نهاوة مات لإثنى عشر من ربيع الأول من السنة و دخل أصحابه همذان (3/156)
استيلاء قحطبة على الري
و لما مات نصر بن سيار بعث الحسن بن قحطبة خزيمة بن حازم إلى سمنان و أقبل قحطبة من جرجان و قدم زياد بن زرارة القشيري و قد كان قدم على طاعة أبي مسلم و اعتزم على اللحاق بابن ضبارة فبعث قحطبة في أثره المسيب بن زهير الضبي فهزمه و قتل عامة من مع ابن معاوية و رجع و لحق قحطبة ابنه الحسن إلى الري فخرج عنها حبيب بن يزيد النهشلي و أهل الشام و دخلها الحسن في صفر ثم لحق به أبوه و كتب بالخبر إلى أبي مسلم و قد كثر أهل الري إلى بني أمية فأخذ أبو مسلم أملاكهم و لم يردها عليهم إلا السفاح بعد حين فأقام قحطبة بالري و كتب أبو مسلم إلى أصبهذ طبرستان بالطاعة و أداء الخراج فأجاب و كتب إلى المصمغان صاحب دنباوند و كبير الديلم بمثل ذلك فأفحش في الرد فكتب أبو مسلم إلى موسى بن كعب أن يسير إليه من الري فسار ولم يتمكن منه لضيق بلاده و كان الديلم يقاتلونه كل يوم فكثر فيهم الجراح و القتل ومنعهم الميرة فأصابهم الجوع فرجع موسى إلى الري و لم يزل المصمغان متمنعا إلى أيام المنصور فأغزاه حماد بن عمر في جيش كثيف ففتح دنباوند و لما ورد كتاب قحطبة على أبي مسلم ارتحل عن مرو و نزل نيسابور ثم سير قحطبة إبنه الحسن بعد نزوله الري بثلاث ليال فسار عنها مالك بن أدهم و أهل الشام و خراسان إلى نهاوند و نزل على أربعة فراسخ من المدينة و أمده قحطبة بأبي الجهم بن عطية مولى باهلة في سبعمائة و أقام محاصرا لها (3/157)
استيلاء قحطبة على أصبهان و مقتل ابن ضبارة و فتح نهاوند و شهرزور
قد تقدم لنا أن ابن هبيرة بعث ابنه داود يزيد لقتال عبد الله بن معاوية باصطخر و بعث معه عامر بن ضبارة فهزموه و اتبعوه إلى كرمان سنة تسع و عشرين فلما بلغ ابن هبيرة مقتل نباتة بجرجان سنة ثلاثين كتب إلى إبنه داود ضبارة بالمسير إلى قحطبة فسار من كرمان في خمسين ألفا و نزلوا أصبهان و بعث إليهم قحطبة جماعة من القواد عليهم مقاتل بن حكيم الكعبي فنزلوا قم و سار قحطبة إلى نهاوند مددا لولده الحسن الذي حاصرهم فبعث مقاتلا بذلك قحطبة فسار حتى لحقه و زحفوا للقاء داود ابن ضبارة و هم في مائة ألف و قحطبة في عشرين ألفا و حمل قحطبة و أصحابه فانهزم ابن ضبارة و قتل و احتووا على ما كان في معسكرهم مما لا يعبر عنه من الأصناف و ذلك في رجب و طير قحطبة بالخبر إلى ابنه الحسن و سار إلى أصبهان فأقام بها عشرين ليلة و قدم على إبنه فحاصروا نهاوند ثلاثة أشهر إلى آخر شوال و نصبوا عليه المجانيق و بعث بالأمان إلى من كان في نهاوند من أهل خراسان فلم يقبلوا فبعث إلى أهل الشام فقالوا أشغل عنا أهل المدينة بالقتال نفتح لك المدينة من ناحيتنا ففعلوا و خرجوا إليه جميعا فقتلوا أهل خراسان فيهم أبو كامل و حاتم بن شريح و ابن نصر بن سيار و عاصم بن عمير و علي بن عقيل وبيهس كان قحطبة لما جاء إلى نهاوند بعث إبنه الحسن إلى جهات حلوان و عليها عبد الله بن العلاء الكندي فتركها و هرب ثم بعث قحطبة عبد الملك بن يزيد و مالك بن طرا في أربعة آلاف إلى شهرزور و بها عثمان بن سفيان على مقدمته عبد الله بن محمد فقاتلوا عثمان آخر ذي الحجة فانهزم و قتل و ملك أبو عون بلاد الموصل و قيل إن عثمان هرب إلى عبد الله بن مروان و غنم أبو عون عسكره و قتل أصحابه و بعث إليه قحطبة بالمدد و كان مروان بن محمد بحران فسار في أهل الشام و الجزيرة و الموصل و نزل الزاب الأكبر و أتوا شهرزور إلى المحرم سنة إثنتين وثلاثين (3/157)
حرب سفاح بن هبيرة مع قحطبة و مقتلهما و فتح الكوفة
و لما قدم على يزيد بن هبيرة إبنه داود منهزما من حلوان خرج يزيد للقاء قحطبة في مدد لا يحصى و كان مروان أمده بحوثرة بن سهيل الباهلي فسار معه حتى نزل حلوان و احتفر الخندق الذي كانت فارس احتفرته أيام الواقعة و أقام و أقبل قحطبة إلى حلوان ثم عبر دجلة إلى الأنبار فرجع ابن هبيرة مبادرا إلى الكوفة و قدم إليها حوثرة في خمسة عشر ألفا و عبر قحطبة الفرات من الأنبار لثمان من المحرم سنة إثنتين و ثلاثين و ابن هبيرة معسكر على فم الفرات و على ثلاثة و عشرين فرسخا من الكوفة و معه حوثرة و فل ابن ضبارة و أشار عليه أصحابه أن يدع الكوفة و يقصد هو خراسان فيتبعه قحطبة فأبى إلا البدار إلى الكوفة و عبر إليها دجلة من المدائن و على مقدمته حوثرة و الفريقان يسيران على جانب الفرات و قال قحطبة لأصحابه إن الإمام أخبرني بأن وقعة تكون بهذا المكان و النصر لنا ثم دلوه على مخاضة فعبر منها و قاتل حوثرة و ابن نباتة فانهزم أهل الشام و قعد قحطبة و شهد مقاتل العللي بأن قحطبة عهد لابنه الحسن بعده فبايع جميع الناس لأخيه الحسن و كان في سرية فبعثوا عنه و ولوه و وجد قحطبة في جدول هو و حرب بن كم ابن أحوز و قيل : إن قحطبة لما عبر الفرات و قاتل ضربه معن بن زائدة فسقط و أوصى إذا مات أن يلقى في الماء ثم انهزم ابن نباتة و أهل الشام و مات قحطبة و أوصى بأمر الشيعة إلى أبي مسلم الخلال بالكوفة وزير آل محمد و لما انهزم ابن نباتة و حوثرة لحقوا بابن هبيرة فانهزم إلى واسط و استولى الحسن ابن قحطبة على ما في معسكرهم و بلغ الخبر إلى الكوفة فثار بها محمد بن خالد القسري بدعوة الشيعة خرج ليلة عاشوراء و على الكوفة زياد بن صالح الحارثي و على شرطته عبد الرحمن بن بشير العجلي و سار إلى فهرب زياد و من معه من أهل الشام و دخل القصر و رجع إليه حوثرة و عن محمد عامة من معه و لزم القصر ثم جاء قوم من بجيلة من أصحاب حوثرة فدخلوا في الدعوة ثم آخرون من كنانة ثم آخرون من نجدل فارتحل حوثرة نحوه و كتب محمد إلى قحطبة و هو لم يعلم بهلاكه فقرأه الحسن على الناس و ارتحل نحو الكوفة فصبحها الرابعة من مسيرة و قيل إن الحسن بن قحطبة سار إلى الكوفة بعد قتل ابن هبيرة و عليها عبد الرحمن بن بشير العجلي فهرب عنها و سبق محمد بن خالد و خرج في إحدى عشر رجلا فلقى الحسن و دخل معه و أتوا إلى أبي مسلمة فاستخرجوه من بني مسلمة و عسكر بالنخيلة ثم نزل حمام أعين و بعث الحسن بن قحطبة إلى واسط لقتال ابن هبيرة و بايع الناس أبا مسلمة حفص ابن سليمان الخلال وزير آل محمد و استعمل محمد بن خالد القسري على الكوفة و كان يسمى الأمير حتى ظهر أبو العباس السفاح و بعث حميد بن قحطبة إلى المدائن في قواد و المسيب بن هبيرة و خالد بن مرمل إلى دير فناء و شراحيل إلى عير و بسام بن إبراهيم بن بسام إلى الأهواز و بها عبد الرحمن بن عمر بن هبيرة فقاتله بسام و انهزم إلى البصرة و عليها مسلم بن قتيبة الباهلي عاملا لأخيه و بعث بسام في أثره سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب واليا على البصرة فجمع سالم قيسا و مضر وبني أمية و جاء قائد من قواد ابن هبيرة في ألفي رجل و جمع سفيان اليمانية و حلفاءهم من ربيعة و اقتتلوا في صفر و قتل ابن سفيان و اسمه معاوية فانهزم لذلك ثم جاء إلى سالم أربعة آلاف مددا من عند مروان فقاتل الأزد و استباحهم ولم يزل بالبصرة حتى قتل ابن هبيرة فهرب عنها و اجتمع ولد الحرث بن عبد المطلب إلى محمد بن جعفر فولوه أياما حتى قدم أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي من قبل أبي مسلم فلما بويع أبو العباس السفاح ولاها سفيان بن معاوية (3/158)
بيعة السفاح
قد كنا قدمنا خبر الدعاة و قبض مروان على إبراهيم بن محمد و أنه حبسه بحران و كان نعى نفسه إلى أهل بيته و أمرهم باللحاق بالكوفة و أوصى على أخيه أبي العباس عبد الله ابن الحريثة فسار أبو العباس و معه أهل بيته و في إخوته أبو جعفر المنصور و عبد الوهاب و محمد ابن أخيه إبراهيم و عيسى ابن أخيه موسى و من أعمامه داود و عيسى و صالح و إسمعيل و عبد الله و عبد الصمد بنو علي بن عبد الله بن عباس و موسى ابن عمه داود و يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس فقدموا الكوفة في صفر و أبو سلمة و الشيعة على حمام أعين بظاهر الكوفة و أنزلهم أبو سلمة دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أود و كتم أمرهم عن جميع القواد و الشيعة أربعين ليلة و أراد فيما زعموا أن يحول الأمر إلى أبي طالب و سأله أبو الجهم من الشيعة و غيره فيقول : لا تعجلوا ليس هذا وقته و لقي أبو حميد محمد بن إبراهيم ذات يوم خادم إبراهيم الإمام و هو سابق الخوارزمي فسأله عن الإمام فقال : قتل إبراهيم و أوصى إلى أخيه أبي العباس و ها هو بالكوفة و معه أهل بيته فسأله عن اللقاء فقال : حتى أستأذن و واعده من الغد في ذلك المكان و جاء أبو حميد إلى أبي الجهم فأخبره و كان في عسكر أبي سلمة فقال له : تلطف في لقائهم فجاء إلى موعد سابق ومضى معه و دخل عليهم فسأل عن الخليفة فقال داود بن علي : هذا إمامكم و خليفتكم يشير إلى أبي العباس فسلم عليه بالخلافة و عزاه بإبراهيم الإمام و رجع و معه خادم من خدمهم إلى أبي الجهم فأخبره عن منزلهم و أن أبا العباس أرسل إلى أبي سلمة أن يبعث إليه كراء الرواحل التي جاؤا إليها فلم يبعث إليهم شيئا فمشى أبو الجهم و أبو الحميد و الخادم إلى موسى بن كعب و أخبروه بالأمر و بعثوا إلى الإمام مائتي دينار مع خادمه و اتفق رأي القواد على لقاء الإمام فنهض موسى بن كعب و أبو الجهم عبد الحميد بن ربعي و سلمة بن محمد و عبد الله الطائي و إسحق بن إبراهيم و شراحيل و أبو حميد و عبد الله ابن بسام و محمد بن إبراهيم و محمد بن حصن و سليمان بن الأسود فدخلوا على أبي العباس فسلموا عليه بالخلافة و عزوه في إبراهيم و رجع موسى بن كعب و أبو الجهم و خلفوا الباقين عند الإمام و أوصوهم إن جاء أبو سلمة لا يدخلن إلا وحده و بلغه الخبر فجاء و دخل وحده كما حدوا له و سلم على أبي العباس بالخلافة و أمره بالعود إلى معسكره و أصبح الناس يوم الجمعة لإثنتي عشرة خلت من ربيع الأول فلبسوا الصفاح و اصطفوا للخروج إلى أبي العباس و أتوه بالدواب له و لمن معه من أهل بيته و أركبوهم إلى دار الإمارة ثم رجع إلى المسجد فخطب و صلى بالناس و بايعوه ثم صعد المنبر ثانية فقام في أعلاه و صعد عمه داود فقام دونه و خطب خطبته البليغة المشهورة و ذكر حقهم في الأمر و ميراثهم له و زاد الناس في أعطياتهم و كان موعوكا فاشتد عليه الوعك فحبس على المنبر و قام عمه داود على أعلى المراقي فخطب مثله و ذم سيرة بني أمية و عاهد الناس على إقامتة الكتاب و السنة و سيرة النبي ثم اعتذر عن عود السفاح بعد الصلاة إلى المنبر و أنه أراد أن لا يخلط كلام الجمعة بغيرها و إنما قطعه عن إتمام الكلام شدة الوعك فأدعوا الله له بالعافية ثم بالغ في ذم مروان و شكر شيعتهم من أهل خراسان و أن الكوفة منزلهم لا يتخلون عنها و أنه ما صعد هذا المنبر خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين و أمير المؤمنين عبد الله بن محمد و أشار إلى السفاح و أن هذا الأمر فينا ليس بخارج عنا حتى نسلمه لعيسى بن مريم ثم نزل أبو العباس و داود أمامه حتى دخل القصر و أجلس أخاه أبا جعفر في المسجد يأخذ البيعة على الناس حتى جن الليل و خرج أبو العباس إلى عسكر أبي سلمة و نزل معه في حجرته بينهما ستر و حاجب السفاح يومئذ عبد الله بن بسام و استخلف على الكوفة عمه داود و بعث عمه عبد الله إلى أبي عون بن يزيد بشهرزور و بعث ابن أخيه موسى إلى الحسن ابن قحطبة و هو يحاصر ابن هبيرة بواسط و بعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلى أحمد ابن قحطبة بالمدائن و بعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام إبراهيم بن بسام بالأهواز و بعث سلمة بن عمر بن عثمان بن مالك ابن الطواف و أقام السفاح بالعسكر شهرا ثم ارتحل فنزل قصر الإمارة من المدينة الهاشمية و قد قيل إن داود بن علي و ابنه موسى لم يكونا بالشام عند مسير بني العباس إلى الكوفة و إنهما لقياهم بدومة الجندل فعرفا خبرهم و قال لهم داود : كيف تأتون الكوفة و مروان بن محمد في حران في أهل الشام و الجزيرة فطل على العراق و يزيد بن هبيرة بالعراق ؟ فقال : يا عم من أحب الحياء ذل فرجع داود و ابنه معه (3/160)
مقتل إبراهيم بن الإمام
قد تقدم لنا أن مروان حبسه بحران و حبس سعيد بن هشام بن عبد الملك و ابنيه عثمان و مروان و العباس بن الوليد بن عبد الملك و عبد الله بن عمر بن عبد العزيز و أبا محمد السفياني فهلك منهم في السجن من وباء وقع بحران : العباس بن الوليد و إبراهيم بن الإمام و عبد الله بن عمر و خرج سعيد بن هشام و من معه من المحبوسين بعد أن قتلوا صاحب السجن فقتلهم الغوغاء من أهل حران و كان فيمن قتلوه شراحيل بن مسلمة بن عبد الملك و عبد الملك بن بشر الثعلبي و بطريق أرمينية و إسمه كوشان و تخلف أبو محمد السفياني في الحبس لم يستحل الخروج منه و لما قدم مروان منهزما من الزاب حل عنه فيمن بقي و قيل إن شراحيل بن مسلمة كان محبوسا مع إبراهيم و كانا يتزاوران و يتهاديان فدس في بعض الأيام إلى إبراهيم بن الإمام بلبن مسموم على لسان شراحيل فاستطلق بطنه و قيل إن شراحيل قال : إنالله و إنا إليه راجعون احتيل و الله عليه و أصبح ميتا من ليلته (3/162)
هزيمة مروان بالزاب و مقتله بمصر
قد ذكرنا أن قحطبة أرسل أبا عون عبد الملك بن يزيد الأزدي إلى شهرزور فقتل عثمان بن سفيان و أقام بناحية الموصل و أن مروان بن محمد سار إليه من حران في مائة و عشرين ألفا و سار أبو عون إلى الزاب و وجه أبو سلمة عيينة بن موسى و المنهال بن قبان و اسحق بن طلحة كل واحد في ثلاثة آلاف مددا له فلما بويع أبو العباس و بعث مسلمة بن محمد في ألفين و عبد الله الطائي في ألف و خمسمائة و عبد الحميد بن ربعي الطائي في ألفين و دارس بن فضلة في خمسمائة كلهم مددا لأبي عون ثم ندب أهل بيته إلى المسير إلى أبي عون فانتدب عبد الله بن علي فسار و قدم على أبي عون فتحول له عن سرادقه بما فيه ثم أمر عيينة بن موسى بخمسة آلاف تعبر النهر من الزاب أول جمادى الأخير سنة إثنتين و ثلاثين و قاتل عساكر مروان إلى المساء و رجع ففقد مروان الجسر من الغد و قدم ابنه عبد الله و عبر فبعث عبد الله بن علي المخارق بن غفار في أربعة نحو عبد الله بن مروان فسرح ابن مروان الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم فانهزم أصحاب المخارق و أسر هو و جيء به إلى مروان مع رؤوس القتلى فقال : أنت المخارق ؟ قال : لا قال : فتعرفه في هذه الرؤوس ؟ قال : نعم قال : هو ذا فخلى سبيله و قيل بل أنكر أن يكون في الرؤوس فخلى سبيله و عاجلهم عبد الله بن علي بالحرب قبل أن يفشوا الخبر و على ميمنته أبو عون و على ميسرته الوليد بن معاوية و كان عسكره نحوا من عشرين ألفا و قيل إثني عشر و أرسل مروان إليه في الموادعة فأبى و حمل الوليد بن معاوية بن مروان و هو صهر مروان على إبنته فقاتل أبا عون حتى انهزم إلى عبد الله بن علي فأمر الناس فارتحلوا و مشى قدما ينادي يالتارات إبراهيم و بالأشعار يا محمد يا منصور و أمر مروان القبائل بأن يحملوا فتخاذلوا و اعتذروا حتى صاحب شرطته ثم ظهر له الخلل فأباح الأموال للناس على أن يقاتلوا فأخذوها من غير قتال فبعث ابنه عبد الله يصدهم عن ذلك فتبادروا بالفرار و انهزموا و قطع مروان الجسر و كان من غرق أكثر ممن قتل و غرق إبراهيم بن الوليد المخلوع و قيل بل قتله عبد الله بن علي بالشام و ممن قتل يحيى بن علي ابن هشام و كان ذلك في جمادى الأخيرة سنة إثنتين و ثلاثين و أقام عبد الله في عسكره سبعة أيام و اجتاز عسكر مروان بما فيه و كتب بالفتح إلى أبي العباس السفاح و سار مروان منهزما إلى مدينة الموصل و عليها هشام بن عمر الثعلبي و ابن خزيمة الأسدي فقطعا الجسر و منعاه العبور إليهم و قيل هذا أمير المؤمنين فتجاهلوا و قالوا أمير المؤمنين لا يفر ثم أسمعوه الشتم و القبائح فسار إلى حران و بها أبان ابن أخيه وسار إلى حمص و جاء عبد الله إلى حران فلقيه أبو مسعود فأمنه و لقي الجزيرة و لما بلغ مروان حمص أقام بها ثلاثا و ارتحل فاتبعه أهلها لينهبوه فقاتلهم و أثخن فيهم و سار إلى دمشق و عليها الوليد ابن عمه فأوصاه بقتال عدوه و سار إلى فلسطين فنزل نهر أبي فطرس و قد غلب على فلسطين الحكم بن ضبعان الجذامي فأرسل إلى عبد الله ابن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي فأجاره ثم سار عبد الله بن علي في أثره من حران بعد أن هدم الدار التي حبس فيها أخوه الإمام إبراهيم و انتهى إلى قنج فأطاعه أهلها و قدم عليه أخوه عبد الصمد بعثه السفاح مددا في ثمانية آلاف و افترق قواد الشيعة على أبواب دمشق فحاصروها أياما ثم دخلوها عنوة لخمس من رمضان و اقتتلوا بها كثيرا و قتل عاملها الوليد بن معاوية و أقام عبد الله بدمشق خمس عشرة ليلة و ارتحل يريد فلسطين فأجفل مروان إلى العرش و جاء عبد الله فنزل نهرابي فطرس و وصله هناك كتاب السفاح بأن يبعث صالح بن علي في طلب مروان فسار صالح في ذي القعدة و على مقدمته أبو عون بن إسمعيل الحارثي فأجفل مروان إلى النيل ثم إلى الصعيد و نزل صالح الفسطاط و تقدمت عساكر فلقوا خيلا لمروان فهزموهم و أسروا منهم ودلوهم على مكانه ببوصير فسار إليه عون و بيته هنالك خوفا من أن يفضحه الصبح فانهزم مروان و طعن فسقط في آخر ذي الحجة الحرام و قطع رأسه و بعث به طليعة أبي عون إليه فبعثه إلى السفاح و هرب عبد الله و عبيد الله إبنا مروان إلى أرض الحبشة و قاتلوهم فقتل عبيد الله و نجا عبد الله و بقي إلى أيام المهدي فأخذه عامل فلسطين و سجنه المهدي و كان طليعة أبي عون عامر بن إسمعيل الحارثي فوجد نساء مروان و بناته في كنيسة بوصير قد وكل بهن خادما يقتلهن بعده بهن صالح و لما دخلن عليه سألنه في الإبقاء فلامهن على قتالهم عند بني أمية ثم عفا عنهن و حملهن إلى حران يبكين و كان مروان يلقب بالحمار لحرنه في مواطن الحرب و كان أعداؤه و يلقبونه الجعدي نسبة إلى الجعد بن درهم كان يقول بخلق القرآن و يتزندق و أمر هشام خالد القسري بقتله ثم تتبعوا بني أمية بالقتل و دخل أسديف يوما على السفاح و عنده سليمان بن هشام و قد أمنه والده فقال :
( لا يغرنك ما ترى من رجال ... إن بين الضلوع داء دويا )
( فضع السيف و ارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا )
فأمر السفاح بسليمان فقتل و دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي و عنده ثمانون أو تسعون من بني أمية يأكلون على مائدته فقال :
( أصبح الملك في ثبات الأساس ... بالبهاليل من بني العباس )
( طلبوا أمر هاشم فنعونا ... بعد ميل من الزمان وباس )
( لا تقيلن عبد شمس عثارا ... فأقطعن كل رقلة و غراس )
( فلنا أظهر التودد منها ... و بها منكم كحز المواسي )
( فلقد غاضني و غاض سوائي ... قربهم من نمارق و كراسي )
( أنزلوها بحيث أنزلها الله بدار الهوان و الإتعاس )
( و اذكروا مصرع الحسين و زيدا ... و قتيلا بجانب المهراس )
( و القتيل الذي بحان أضحى ... ثاويا رهن غربة و نعاس )
فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد بسط من فوقهم الأنطاع فأكل الطعام عليهم و أنينهم يسمع حتى ماتوا ذلك بنهرابي فطرس و كان فيمن قتل : محمد بن عبد الملك بن مروان و المعز بن يزيد و عبد الواحد بن سليمان و سعيد بن عبد الملك و أبو عبيدة بن الوليد بن عبد الملك و قيل : إن إبراهيم المخلوع قتل معهم و قيل إن أسديفا هو الذي أنشد هذا الشعر للسفاح و أنه الذي قتلهم ثم قتل سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بالبصرة جماعة من بني أمية فأمر بأشلائهم في الطرق فأكلتهم الكلاب و قيل إن عبد الله بن علي أمر بنبش قبور الخلفاء من بني أمية فلم يجدوا في القبور إلا شبه الرماد و خيطا في قبر معاوية و جمجمة في قبر عبد الملك و ربما وجد فيها بعض الأعضاء إلا هشام بن عبد الملك فإنه وجد كما هو لم يبل فضربه بالسوط ثم صلبه و حرقه و ذاره في الريح و الله أعلم بصحة ذلك ثم تتبعوا بني أمية بالقتل فلم يفلت منهم إلا الرضعاء أو من هرب إلى الأندلس مثل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام و غيره ممن تبعه من قرابته كما يذكر في أخبارهم (3/163)
بقية الصوائف في الدولة الأموية
قد انتهينا بالصوائف إلى أخر أيام عمر بن الله العزيز و في سنة إثنتين و مائة أيام اليزيد غزا عمر بن هبيرة الروم من ناحية أرمينية و هو على الجزيرة قبل أن يلي العراق فهزمهم و أسر منهم خلقا منهم سبعمائة أسير و غزا العباس بن الوليد الروم أيضا ففتحها لسنة ثم غزا سنة ثلاث بعدها فافتتح مدينة رسلة ثم غزا الجراح الحكمي أيام هشام سنة خمس فبلغ وراء بلنجر و غنم و غزا في هذه السنة سعيد بن عبد الملك أرض الروم و بعث ألف مقاتل في سرية فهلكوا جميعا و غزا فيها مروان محمد بالصائفة اليمنى ففتح مدينة من أرض الزوكج ثم غزا سعيد بن عبد الملك بالصائفة أيام هشام سنة ست ثم غزا مسملة بن عبد الملك الروم من الجزيرة و هو وال عليها ففتح قيسارية و غزا إبراهيم بن هشام ففتح حصنا و غزا معاوية بن هشام في البحر قبرس و غزا سنة ففتح حصنا آخر يقال له طبسة و غزا سنة عشر بالصائفة عبد الله بن عقبة الفهري و كان على جيش البحر عبد الرحمن بن معاوية بن خديج و غزا بالصائفة اليسرى سنة إحدى عشرة معاوية بن هشام و بالصائفة اليمنى سعيد بن هشام و في البحر عبد الله بن أبي مريم و افتتح معاوية في صائفة سنة ثلاث عشرة مدينة خرشفة و غزا سنة ثلاث عشرة عبد الله البطال فانهزم فثبت عبد الوهاب من أصحابه فقتل و دخل معاوية بن هشام أرض الروم من ناحية مرعش ثم غزا سنة أربع عشرة بالصائفة اليسرى و أصحاب ربض أفرق و التقى عبد الله البطال مع قسطنطين فهزمه البطال و أسره و غزا سليمان بن هشام بالصائفة اليسرى فبلغ قيسارية و هزم مسلمة بن عبد الملك خاقان و باب الباب و غزا معاوية بن هشام بالصائفة سنة خمس عشرة و غزا سفيان بن هشام بالصائفة اليسرى سنة سبع عشرة وسليمان بن هشام بالصائفة اليمنى من ناحية الجزيرة و فرق السرايا في أرض الروم و بعث فيها مروان بن محمد من أرمينية فافتتحوا من أرض اللان آهلها أخذها قومانساه صلحا غزا معاوية و سليمان أيضا أرض الروم سنة ثماني عشرة و غزا فيها مروان بن محمد من أرمينية و دخل أرض وارقيس فهرب وارقيس إلى الحرو و نازل حصنه فحاصره و قتل وارقيس بعض من اجتاز به و بعث برأسه إلى مروان و نزل أهل الحصن على حكمه فقتل و سبى و غزا سنة تسع عشرة مروان بن محمد من أرمينية و مر ببلاد اللان إلى بلاد الخزر على بلنجر و سمندر و انتهى إلى خاقان فهرب خاقان منه و غزا سليمان بن هشام سنة عشرين بالصائفة فافتتح سندرة و غزا إسحق بن مسلم العقيلي قومانساه و افتتح قلاعه و خرب أرضه و غزا مروان من أرمينية سنة إحدى و عشرين و أفنى قلعة بيت السرير فقتل و سبى ثم قلعة أخرى كذلك و دخل عزسك و هو حصن الملك فهرب منه الملك و دخل حصنا له يسمى جرج فيه سرير الذهب فنازله مروان حتى صالحه على ألف فارس كل سنة و مائة ألف مدنى ثم دخل أرض أزرق و نصران فصالحه ملكها ثم أرض تومان كذلك ثم أرض حمدين فأخرب بلاده و حصر حصنا له شهرا حتى صالحه ثم أرض مسداد ففتحها على صلح ثم نزل كيلان فصالحه أهل طبرستان و كيلان وكل هذه الولايات على شاطئ البحر من أرمينية إلى طبرستان و غزا مسلمة بن هشام الروم في هذه السنة فافتتح بها مطامير و في سنة إثنتين و عشرين بعدها قتل البطال و إسمه عبد الله بن الحسين الأنطاكي و كان كثير الغزو في بلاد الروم و الإغارة عليهم و قدمه مسلمة على عشرة آلاف فارس فكان يغزو بلاد الروم إلى أن قتل هذه السنة و في سنة أربع و عشرين غزا سليمان بن هشام بالصائفة على عهد أبيه فلقي أليون ملك الروم فهزمه و غنم و في سنة خمسة و عشرين خرجت الروم إلى حصن زنطره و كان افتتحه حبيب بن مسلمة الفهري و خزيمة الروم و بني بناء غير محكم فأخربوه ثانية أيام مروان ثم بناه الرشيد و طرقه الروم أيام المأمون فشعبوه فأمر ببنائه و تحصينه ثم طرقوه أيام المعتصم و خبره معروف و في هذه السنة غزا الوليد بن يزيد بالصائفة أخاه العمر و بعث الأسود بن بلال المحاربي بالجيش في البحر إلى قبرس ليجير أهلها بين الشام و الروم فافترقوا فريقين و غزا أيام مروان سنة ثلاثين بالصائفة الوليد بن هشام و نزل العمق و بنى حصن مرعش (3/166)
عمال بني أمية على النواحي
استعمل معاوية أول خلافته سنة أربعين عبد الله عمرو بن العاص على الكوفة ثم عزله و استعمل المغيرة بن شعبة على الصلاة و استعمل على الخراج و كان على النقباء بها شريح و كان حمران بن أبان قد وثب على البصرة عندما صالح الحسن معاوية فبعث بشر بن أرطأة على البصرة و أمده فقتل أولاده زياد بن أبيه و كان عاملا على فارس لعلي بن أبي طالب فقدم البصرة و قد ذكرنا خبره مع بني زياد فيما قبل ثم ولى على البصرة عبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس وضم إليه خراسان و سجستان فجعل على شرطته حبيب بن شهاب و على القضاء عميرة بن تبرى و قد تقدم لنا أخبار قيس في خراسان و كان عمرو بن العاص على مصر كما تقدم فولى سنة إحدى و أربعين من قبله على أفريقية عقبة بن نافع بن عبد قيس و هو ابن خالته فانتهى إلى لواته و مزاتة فأطاعوه ثم كفروا فغزاهم و قتل و سبى ثم افتتح سنة إثنتين و أربعين بعدها غذامس و قتل و سبى و افتتح سنة ثلاثة و أربعين بعدها بلد ودان معاوية بالمدينة سنة إثنتين و أربعين مروان بن الحكم فاستقضى عبد الله بن الحرث بن نوفل و ولى معاوية على مكة في هذه السنة خالد بن العاص ابن هشام و كان على أرمينية حبيب بن مسلمة الفهري و ولاه عليها معاوية و مات سنة إثنتين و أربعين فولى مكانه
و استعمل ابن عامر في هذه السنة على ثغر الهند عبد الله بن سوار العبدي و يقال ولاه معاوية و عزل ابن عامر في هذه السنة قيس بن الهيثم عن خراسان و ولى مكانه الحرث ابن عبد الله بن حازم ثم عزل معاوية عبد الله بن عامر عن البصرة سنة أربع و أربعين و ولى مكانه الحرث بن عبد الله الأزدي ثم عزله لأربعة أشهر و ولى أخاه زيادا سنة خمس و أربعين فولى على خراسان الحكم بن عمر الغفاري و جعل معه على الخراج أسلم بن زرعة الكلابي ثم مات الحكم فولى خليد بن عبد الله الحنفي سنة سبعة و أربعين ثم ولي على خراسان سنة ثمان بعدها غالب بن فضالة الليثي و تولى عمرو بن العاص سنة تسعة و أربعين فولى مكانه سعيد بن العاص فعزله عبد الله بن الحرث عن القضاء و استقضى أبا سلمة بن عبد الرحمن و في سنة خمسين توفي المغيرة بن شعبة فضم الكوفة إلى أخيه زياد فجاءه إليها و استخلف على البصرة سمرة ابن جندب و كان يقسم السنة بين المصريين في الإقامة نصفا بنصف و في سنة خمسين هذه اقتطع معاوية أفريقية عن معاوية بن خديج بمصر و ولى عقبة بن نافع الفهري و كان مقيما ببرقة و زويلة من وقت فتحها أيام عمرو بن العاص فأمده بعشرة آلاف فسار إليها و انضاف إليه من أسلم من البربر و دوخ البلاد و بنى بالقيروان و أنزل عساكر المسلمين ثم استعمل معاوية على مصر و أفريقية مولاه أبا المهاجر فاساء عزل عقبة و جاء عقبة إلى الشام فاعتذر إليه معاوية و وعده بعمله و مات معاوية فولاه يزيد سنة إثنتين و ستين و ذكر الواقدي أن عقبة ولي سنة إثنتين و ستين و استعمل أبا المهاجر فولى الأمصار فحبس عقبة و ضيق عليه و أمره يزيد بإطلاق فوفد عقبة فأعاده إلى عمله فحبس أبا المهاجر و خرج غازيا و أثخن حتى قتله كسيلة كما يأتي في سنة إحدى و خمسين ولى زياد على خراسان الربيع بن زياد الحرث مكان خليد بن عبد الله الحنفي و في سنة ثلاث و خمسين توفي زياد يزيد و استخلف على البصرة سمرة بن جندب و على الكوفة عبد الله خالد بن أسيد ثم ولى الضحاك بن قيس سنة خمس بعدها و في هذه السنة مات الربيع بن زياد عامل خراسان قبل موت زياد و استخلفه ابنه عبد الله و مات لشهرين و استخلف خليد بن يربوع الحنفي و كان على صفا بيروز الديلمي من قبل معاوية فمات سنة ثلاث و خمسين و في سنة أربع و خمسين عزل معاوية عن المدينة سعيد بن العاص ورد إليها مروان بن الحكم ثم عزله سنة سبعة و ولى مكانه الوليد بن عقبة بن أبي سفيان و عزل سنة تسعة و خمسين عن البصرة ابن جندب و ولى مكانه عبد الله بن عمر بن غيلان و ولى على خراسان عبيد الله بن زياد ثم ولاه سنة خمس بعدها على البصرة مكان بن غيلان ثم ولى على خراسان سنة ستة و خمسين سعيد بن عثمان بن عفان و في سنة ثمانية و خمسين عزل معاوية عن الكوفة الضحاك بن قيس و استعمل مكانه ابن أم الحكم و هي أخته و هو عبد الرحمن بن عثمان الثقفي و طرده أهل الكوفة فولاه مصر فرده معاوية بن خديج و ولى مكانه على الكوفة سنة تسعة و خمسين النعمان بن بشير وولى فيها على خراسان عبد الرحمن بن زياد فقدم إليها قيس بن الهيثم السلمي فحبس أسلم بن زرعة فأغرمه ثلثمائة ألف درهم ثم مات معاوية سنة ستين و ولاته على النواحي من ذكرناه و على سجستان عباد بن زياد و على كرمان شريك بن الأعور و عزل يزيد لأول وليته الوليد بن عقبة عن المدينة و الحجاز و ولاها عمر بن سعيد الأشدق ثم عزله سنة إحدى و ستين و رد الوليد بن عقبة و ولى على خراسان سالم بن زياد فبعث سالم إليها الحرث بن معاوية الحرثي و بعث أخاه يزيد إلى سجستان و كان بها أخوهما عباد عنهما و قاتل يزيد أهل كابل فهزموه فبعث مسلم على سجستان طلحة الطلحات و هو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي فبقي سنة و بعث سنة إثنتين و ستين عقبة بن نافع إلى أفريقية فحبس أبا المهاجر و استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي كما نذكر في أخباره و توفي في هذه السنة مسلمة بن مخلد الأنصاري أمير مصر ثم هلك يزيد سنة أربع و ستين و استخلف على أهل العراق عبيد الله بن زياد و ولى أهل البصرة عليهم عبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب و يلقب ببة و هرب ابن زياد إلى الشام و جاء إلى الكوفة عامر بن مسعود من قبل ابن الزبير و بلغه أهل الري و عليهم الفرخان فبعث عليهم محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب فهزموه فبعث عتاب بن ورقاء فهزمهم ثم بويع مروان و سار إلى مصر فملكها من يد عبد الرحمن بن حجام القريشي داعية ابن الزبير و ولى عليها عمر بن سعيد ثم بعثه للقاء مصعب بن الزبير لما بعثه أخوه عبد الله إلى الشام و ولى على مصر ابنه عبد العزيز فلم يزل عليها واليا إلى أن هلك لسنة خمسة و ثمانين فولى عبد الملك عليها ابنه عبد الله بن عبد الملك و خلع أهل خراسان بعد يزيد سالم بن زياد و استخلف المهلب بن أبي صفرة ثم ولى مسلم عبد الله بن حازم فاستبد بخراسان إلى حين ثم خرج أهل الكوفة عمر بن حريث خلفة بن زياد و بايعوا لابن الزبير و قدم المختار بن أبي عبيد أميرا على الكوفة من قبله بعد ستة أشهر من مهلك يزيد و امتنع شريح من القضاء أيام الفتنة و استعمل ابن الزبير على المدينة أخاه مصعبا سنة خمس و ستين مكان أخيه عبد الله و ثار بنو تميم بخراسان على عبد الله بن حازم فغلبه عليها بكير بن وشاح و غلب المختار على ابن مطيع عامل ابن الزبير بالكوفة سنة ست و ستين ثم مات مروان سنة خمس و ستين و ولي عبد الملك و ولي ابن الزبير أخاه مصعبا على البصرة و ولي مكانه بالمدينة جابر بن الأسود بن عوف الزهري ثم ملك عبد العزيز سنة إحدى و سبعين و استعمل على البصرة خالد بن عبد الله بن أسد و على الكوفة أخاه بشر بن مروان و كان على خراسان عبد الله بن حازم بدعوة ابن الزبير فقام بكير بن و شاح التميمي بدعوة عبد الملك و قتله و ولاه عبد الملك خراسان و كان على المدينة طلحة بن عبد الله بن عوف بدعوة ابن الزبير بعد جابر بن الأسود فبعث عبد الملك طارق بن عمر مولى عثمان فغلبه عليها ثم قتل ابن الزبير سنة ثلاث و سبعين و انفرد عبد الملك بالخلافة و ولي على الجزيرة و أرمينية أخاه محمدا و عزل خالد عن البصرة و ضمها إلى أخيه بشر فسار إليها و استخلف على الكوفة عمر بن حريث و ولى على الحجاز و اليمن و اليمامة الحجاج بن يوسف و بعثه من الكوفة لحرب ابن الزبير و عزل طارقا عن المدينة و سار من جنده و في سنة أربع و سبعين استقضى أبا إدريس الخولاني و أمر بشر أخاه أن يبعث المهلب بن أبي صفرة لحرب الأزارقة و عزل عن خراسان بكير بن وشاح و ولى مكانه أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد فبعث أمية ابنه عبد الله على سجستان و كان على أفريقية زهير بن قيس البلوي فقتله البربر سنة تسع و ستين و شغل عبد الملك بفتنة ابن الزبير فلما فرغ منها بعث إلى أفريقية سنة أربع و سبعين حسان بن النعمان القيساني في عساكر لم ير مثلها فأثخن فيها و افترقت جموع الروم و البربر و قتل الكاهنة كما يذكر في أخبار أفريقية ثم ولى عبد الملك سنة خمس و سبعين الحجاج بن يوسف على العراق فقط و ولى على السند سعيد بن أسلم بن زرعة و قتل في حروبها و كان أمر الخوارج و في سنة ست و سبعين ولي على المدينة أبان ابن عثمان و كان على قضاء الكوفة شريح و على قضاء البصرة زرارة بن أبي أوفى بعد هشام بن هبيرة و على قضاء المدينة عبد الله بن قشير بن مخرمة ثم كانت حروب الخوارج كما نذكر في أخبارهم و في سنة ثمان و سبعين عزل عبد الملك أمية بن عبد الله عن خراسان و سجستان و ضمهما إلى الحجاج بن يوسف فبعث الحجاج على خراسان المهلب بن أبي صفرة و على سجستان عبد الله بن أبي بكرة و ولى على قضاء البصرة موسى بن أنس و استعفى شريح بن الحرث من القضاء بالكوفة فولى مكانه أبا بردة بن أبي موسى ثم ولى على قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة و خرج عبد الرحمن بن الأشعث فملك سجستان و كرمان و فارس و البصرة ثم قتل و رجعت إلى حالها و ذلك سنة إحدى و ثمانين و في سنة إثنتين و ثمانين مات المهلب بن أبي صفرة و استخلف ابنه يزيد على خراسان فأقره الحجاج و في هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة و ولى مكانه هشام بن إسمعيل المخزومي فعزل هشام نوفل ابن مساحق عن القضاء و ولي مكانه عمر بن خالد الزرقي و بنى الحجاج مدينة واسط و في سنة خمس و ثمانين عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان و ولى مكانه هشام أخاه المفضل قليلا ثم قتيبة بن مسلم و توفي عبد الملك و عزل الوليد لأول ولايته هشام بن إسمعيل عن المدينة و ولى مكانه عمر بن عبد العزيز فولى على القضاء أبا بكر بن عمر بن حزم و ولى الحجاج على البصرة الجراح بن عبد الله الحكمي و ولى على قضائها عبد الله بن أذينة و على قضاء الكوفة أبا بكر بن أبي موسى الأشعري و في سنة تسع و ثمانين ولى الوليد على مكة خالد بن عبد الله القسري و كان على ثغر السند محمد بن القاسم بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي و هو ابن عم الحجاج ففتح السند و قتل ملكه و كان على مصر عبد الله بن عبد الملك ولاه عليها أبوه ففل ملكها فعزله الوليد في هذه السنة و ولىمكانه قرة بن شريك و عزل خالدا عن الحجاز و ولى عمر بن عبد العزيز و في سنة إحدى و تسعين عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة و أرمينية و ولى مكانه أخاه مسلمة بن عبد الملك و كان على طندة في قاصية المغرب بن زياد عاملا لمولاه موسى بن نصير عامل الوليد بالقيروان فأجاز البلاد و البحر إلى بلاد الأندلس و افتتحها سنة إثنتين و تسعين كما يذكر في أخبارها و في سنة ثلاث و تسعين عزل بن عبد العزيز عن الحجاز و ولى مكانه خالد بن عبد الله على مكة و عثمان بن حيان على المدينة و مات الحجاج سنة خمس و تسعين ثم مات الوليد سنة ست وتسعين و فيها قتل قتيبة بن مسلم لانتقاضه على سليمان و ولاها سليمان يزيد المهلب وفيها مات قرة بن شريك و كان على المدينة أبو بكر بن محمد بن عمر بن حزم و على مكة عبد العزيز بن عبد الله ابن خالد بن أسيد و على قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى و على قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة و في سنة سبع و تسعين عزل سليمان بن موسى بن نصير عن أفريقية و ولى مكانه محمد بن يزيد القرشي حتى مات سليمان فعزل و استعمل عمر مكانه إسمعيل بن عبد الله و في سنة ثمان و تسعين كان فتح طبرستان و جرجان أيام سليمان بن عبد الملك على يد يزيد اين المهلب و في سنة تسع و تسعين استعمل عمر ابن عبد العزيز على البصرة عدي بن أطأة الفزاري و أمره بإنقاذ يزيد بن المهلب موثوقا على القضاء الحسن بن أبي الحسن البصري ثم أياس بن معاوية و على الكوفة عبد الحميد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطاب و ولى على المدينة عبد العزيز بن أرطأة و ولى على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي ثم عزل سنة مائة و ولى عبد الرحمن بن نعيم القريشي و ولى على الجزيرة عمر بن هبيرة الفزاري و على أفريقية إسمعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم و على الأندلس السمح بن مالك الخولاني ثم في سنة إحدى و مائة عزل إسمعيل عن أفريقية و ولاها يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجاج فلم يزل عليها إلى أن قتل و في سنة إثنتين و مائة ولي يزيد بن عبد الملك أخاته مسلمة على العراق و خراسان فولى على خراسان سعيد بن عبد العزيز بن الحرث ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية و يقال له سعيد خدينة ثم استحيا من مسلمة في أمر الجراح فعزله و ولى مكانه ابن يزيد بن هبيرة فجعل على قضاء الكوفة القاسم ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود و على قضاء البصرى عبد الملك بن يعلى و كان على مصر أسامة بن زيد وليها بعد قرة بن شريك و ولى ابن هبيرة على خراسان سعيدا الحريشي مكان حذيفة و في سنة ثلاث و مائة جمع يزيد مكة و المديبة لعبد الرحمن بن الضحاك و عزل عبد العزيز بن عبد الله بن خالد عن مكة و عن الطائف و ولى مكانه على الطائف عبد الواحد بن عبد الله البصري و في سنة أربع و مائة ولى يزيد على أرمينية الجراح بن عبد الله الحكمي و عزل عبد الرحمن بن الضحاك عن مكة و المدينة لثلاث سنين من ولايته و ولى عليهما مكانه عبد الواحد النصري و عزل هبيرة سعيد الحريشي عن خراسان و ولى عليها مسلم بن سعيد ابن أسلم بن زرعة الكلابي و لى على قضاء الكوفة الحسين بن حسين الكندي و مات يزيد بن عبد الملك سنة خمس و ولي هشام فعزل ابن هبيرة عن العراق و ولى مكانه خالد بن عبد الله القسري و استعمل خالد على خراسان أخاه أسدا سنة سبع و مائة و عزل مسلم بن سعيد و ولى على البصرة عقبة بن عبد الأعلى و على قضائها ثمامة بن عبد الله بن أنس و ولى على السند الجنيد بن عبد الرحمن و استعمل هشام على الموصل الحر بن يوسف و عزل عبد الواحد النصري عن الحجاز و ولى مكانه إبراهيم بن هشام بن إسمعيل المخزومي و استتقضى بالمدينة محمد بن صفوان الجمحي ثم عزله و استقصى الصلت الكندي و عزل الجراح بن عبد الله عن أرمينية و أذربيجان و ولى مكانه أخاه مسلمة فولى عليها الحرث ابن عمر الطائي و كان على اليمن سنة ثمان يوسف بن عمر و في سنة تسع عزل سنة تسع عزل خالد أخاه أسدا عن خراسان و ولى هشام عليها أشرس بن عبد الله السلمي و أمره أن يكاتب خالدا بعد أن كان خالد ولى الكم بن عوانة الكلبي مكان أخيه فلم يقر فعزله هشام و مات في سنة تسع عامل القيروان بشر بن صفوان فولى هشام مكانه عبيدة بن عبد الرحمن بن الأغر السلمي فعزله عبيدة يحيى بن سلمة الكلبي عن الأندلس استعمل حذيفة بن الأخوص الأشجعي ثم عزل لستة أشهر و وليها عثمان بن أبي نسعة الخثعمي و في سنة عشر و مائة جمع خالد الصلاة و الأحداث و الشرط و القضاء بالبصرة لبلال بن أبي بردة و عزل تمامة عن القضاء و في سنة إحدى عشرة عزل هشام عن خراسان أشرس بن عبد الله و ولى مكانه الجنيد بن عبد الرحمن بن الحرث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري و ولى على أرمينية الجراح بن عبد الله الحكمي و عزل مسلمة و فيها عزل عبيدة بن عبد الرحمن عامل أفريقية و عثمان بن أبي تسعة عن الأندلس و ولى مكانه الهيثم بن عبيد الكناني و في سنة اثنتي عشرة قتل الجراح بن عبد الله صاحب أرمينية قتله التركمان فولى هشام مكانه سعيدا الحريشي و مات الهيثم عامل الأندلس و ولوا على أنفسهم مكانه محمد بن عبد الله الأشجعي شهرين و بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من قبيل ابن عبد الرحمن السلمي عامل أفريقية و غزا إفرنجة فاستشهد فولى عبيدة مكانه عبد الملك بن قطن الفهري و عزل عبيدة عن إفريقية و ولى مكانه عبيد الله بن الحجاب و كان على مصر فسار إليها و في سنة أربع عشرة عزل هشام مسلمة عن أرمينية و ولى مكانه مروان بن محمد بن مروان و عزل إبراهيم بن هشام عن الحجاز و ولى مكانه على المدينة خالد بن عبد الملك بن الحرث بن الحكم وعلى مكة و الطائف محمد بن هشام المخزومي و في سنة ست عشرة و مائة عزل هشام الجنيد بن عبد الرحمن المري عن خراسان و ولى مكانه عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي و فيها استعمل عبد الله بن الحجاب على الأندلس عقبة بن الحجاج القيسي مكان عبد الملك بن قطن ففتح خليتيه و في سنة سبع و مائة عزل هشام عاصم بن عبد الله عن خراسان و ولى مكانه خالد بن عبد الله القسري فاستخلف خالد أخاه أسدا و ولى هشام على أفريقية و الأندلس عبيد الله بن الحجاب و كان على مصر فسار إليها و استخلف على مصر ولده و ولى على الأندلس عقبة بن الحجاج و على طنجة ابنه إسمعيل و بعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع غازيا إلى المغرب فبلغ السوس الأقصى و أرض السودان و فتح و غنم و أغزاه إلى صقلية و عشرين و مائة ففتح سنة اثنتين و عشرين و مائة ففتح اأثرها ثم و استدعاه لفتنة ميسرة كما نذكره في أخبارهم و في سنة ثمان عشرة عزل هشام عن المدينة خالد بن عبد الملك بن الحرث و ولى مكانه محمد بن هشام بن إسمعيل و في سنة عشرين مات أسد بن عبد الله الخراساني و ولي مكانه نصر بن سيار و عزل هشام خالد القسري عن جميع أعماله بالعراقين و خراسان و ولى مكانه يوسف بن عمر الثقفي استقدمه إليها من ولاية اليمن فأقر نصر بن سيار على خراسان و كان على قضاء الكوفة ابن شرمة و على قضاء البصرة عامر بن عبيدة و ولى يوسف بن عمر بن شرمة على سجستان و استقضى مكانه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى و كان على قضاء البصرة اياس بن معاوية بن قرة فمات في هذه السنة و في سنة ثلاث و عشرين قتل كلثوم بن عياض الذي حثه هشام لقتال البربر بالمغرب و توفي عقبة بن الحجاج أمير الأندلس و قيل بل خلعوه و ولى مكانه عبد الملك بن قطن ولايته الثانية كما يذكر و في سنة أربع و عشرين ظهر أمر أبي مسلم بخراسان و تلقب بلخ على الأندلس ثم مات و كان سار إليها من فل كلثوم بن عياض لما قتله البربر بالمغرب و ولى هشام على الأندلس أبا الخطار حسام بن ضرار الكلبي فأمر حنظلة بن صفوان أن يوليه فولاه و كان ثعلبة بن خزامة سلامة الجرابي قد ولوه بعد بلخ فعزله أبو الخطار و في هذه السنة ولى الوليد بن يزيد خالد بن يوسف بن محمد بن يوسف الثقفي على الحجاز فأسره ثم قتل الوليد سنة ست و عشرين فعزل يزيد عن العراق يوسف بن عمر و ولى مكانه منصور ابن جمهور فبعث عامله على خراسان فامتنع نصر بن سيار من تسليم العمل له ثم عزل يزيد منصور بن جمهور و ولى مكانه على العراق عبد الله بن عمر ابن عبد العزيز و غلب حنظلة على إفريقية عبد الرحمن بن حبيب كما يذكر في خبرها و عزل يزيد عن المدينة يوسف بن محمد بن يوسف و ولى مكانه عبد العزيز ابن عمر بن عثمان و غلب سنة سبع و عشرين عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على الكوفة و ولى مروان على الحجاز عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز و على العراق النضر بن سعيد الحريشي و امتنع ابن عمر من استلام العمل إليه و وقعت الفتنة بينهم و لحق ابن عمر بالخوارج كما يذكر في أخبارهم و استولى بنو العباس على خراسان و في سنة تسع و عشرين ولي يوسف بن عبد الرحمن الفهري على الأندلس بعد نوابة بن سلامة كما ياتي في أخبارهم و ولى مروان على الحجاز عبد الواحد و على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة و في سنة ثلاثين ملك أبو مسلم خراسان و هرب عنها نصر بن سيار فمات بنواحي همذان سنة إحدى و ثلاثين و جاء المسودة عليهم قحطبة ابن هبيرة على العراق و ملكوه و بايعوا خليفتهم أبا العباس السفاح ثم غلبوا مروان على الشام و مصر و قتلوه و انقرض أمر بني أمية و عاد الأمر و الخلافة لبني العباس و الملك لله يؤتيه من يشاء من عباده و هذه أخبار بني أمية مخلصة من كتاب أبي جعفر الطبري و لنرجع إلى أخبار الخوارج كما شرطنا في أخبارها بالذكر و الله المعين لا رب غيره (3/169)
الخبر عن الخوارج و ذكر أوليتهم و تكرر خروجهم في الملة الإسلامية
قد تقدم لنا خبر الحكمين في حرب صفين و اعتزل الخوارج عليا منكرين لتحكيم مكفرين به و لاطفهم في الرجوع عن ذلك و ناظرهم فيه بوجه الحق فلجوا و أبوا إلا الحرب و جعلوا أشعارهم النداء بلا حكم إلا لله و بايعوا عبد الله ابن وهب الراسبي و قاتلهم علي بالنهروان فإستحلمهم أجمعين ثم خرج من فلهم طائفة بالأنبار فبعث إليهم من استلحمهم ثم طويفة أخرى مع الهلال بن علية فبعث معقل قيس فقتلهم ثم أخرى ثالثة كذلك ثم أخرى على المدائن كذلك ثم أخرى بشهرزور كذلك و بعث شريح بن هانيء فهزموه فجرح و استلحمهم أجمعين و استأمن من بقي فأمنهم و كانوا نحو خمسين و افترق شمل الخوارج ثم اجتمع من وجدانهم الثلاثة الذين توعدوا لقتل علي و معاوية و عمرو بن العاص فقتل بالسهم عبد الرحمن بن ملجم عليا رضى الله عنه بإثمه و سلم الباقون ثم اتفقت الجماعة على بيعة معاوية سنة إحدى و أربعين و استقل معاوية بخلافة الإسلام و قد كان فروة بن نوفل الأشجعي اعتزل عليا و الحسن و نزل شهرزور و هو في خمسمائة من الخوارج فلما بويع معاوية قال فروة لأصحابه : قد جاء الحق فجاهدوا و أقبلوا فنزلوا النخيلة عند الكوفة فاستنفر معاوية أهل الكوفة فخرجوا لقتالهم و سألوا أهل الكوفة أن يخلوا بينهم و بين معاوية فأبوا فاجتمعت أشجع على فروة و أتوا له من القتال و دخلوا الكوفة قهرا و استعمل الخوارج بعده عبد الله بن أبي الحريشي من طيء و قاتلوا أهل الكوفة فقاتلوا و ابن أبي الحريشي معهم ثم اجتمعوا بعده على حوثرة بن و داع الأسدي و قدموا إلى النخيلة في مائة و خمسين و معهم فل ابن أبي الحريشي و بعث معاوية إلى حوثرة أباه ليرده عن شأنه فأبى فبعث إليهم عبد الله بن عوف في معسكر فقتله و قتل أصحابه إلا خمسين دخلوا الكوفة و تفرقوا فيها و ذلك في جمادى الأخيرة سنة إحدى و أربعين و سار معاوية إلى الشام و خلف المغيرة بن شعبة فعاد فروة ابن نوفل الأشجعي إلى الخروج فبعث إليه المغيرة خيلا عليها ابن ربعي و يقال معقل ابن قيس فلقيه بشهرزور فقتله ثم بعث المغيرة إلى شبيب بن أبجر من قتله و كان من أصحاب ابن ملجم و هو الذي أتى معاوية يبشره بقتل علي فخافه على نفسه و أمر بقتله فتنكر بنواحي الكوفة إلى أن بعث المغيرة من قتله ثم بلغ المغيرة أن بعضهم يريد الخروج و ذكر له معن بن عبد الله المحاربي فحبسه ثم طالبه بالبيعة لمعاوية فأبى فقتله ثم خرج على المغيرة أبو مريم مولى بني الحرث بن كعب فأخرج معه النساء فبعث المغيرة من قتله و أصحابه ثم حكم أبو ليلى في المسجد بمشهد الناس و خرج في إثنين من الموالي فأتبعه المغيرة معقل بن قيس الرياحي فقتله بسور الكوفة سنة إثنتين و أربعين ثم خرج على ابن عامر في البصرة سهم بن غانم الجهني في سبعين رجلا منهم الحطيم و هو يزيد بن حالك الباهلي و نزلوا بين الجسرين و البصرة و مر بهم بعض الصحابة منقلبا من الغزو فقتلوا و قتلوا إبنه و ابن أخيه و قالوا : هؤلاء كفرة و خرج إليهم ابن عامر فقتل منهم عدة و أمن باقيهم و لما أتى زياد البصرة سنة خمس و أربعين هرب منهم الحطيم إلى الأهواز و جمع و رجع إلى البصرة فافترق عنه أصحابه فاختفى و طلب الأمان من زياد فلم يؤمنه ثم دل عليه فقتله و صلبه بداره و قيل بل فتله عبد الله بعد زياد سنة أربع و خمسين ثم اجتمع الخوارج بالكوفة على المستورد بن عقلة التميمي من تيم الرباب و على حيان بن ضبيان السلمي و على معاذ بن جوين الطائي و كلهم من فل النهروان الذين ارتموا في القتلى و دخلوا الكوفة بعد مقتل علي و اجتمعوا في أربعمائة في منزل حيان بن ضبيان و تشاوروا في الخروج و تدافعوا الإمارة ثم اتفقوا على المستورد و بايعوه في جمادى الأخيرة و كبسهم المغيرة في منزلهم فسجن حيان و أفلت المستورد فنزل الحيرة و اختلف إليه الخوارج و بلغ المغيرة خبرهم فخطب الناس و تهدد الخوارج فقام إليه معقل بن قيس فقال : ليكفك كل رئيس قومه و جاء صعصعة بن صوحان إلى عبد القيس و كان عالما بمنزلهم عند سليم بن مخدوج العبدي إلا أنه لا يسلم عشرته فخرجوا و لحقوا بالصراة في ثلثمائة فجهز إليهم معقل بن قيس في ثلاثة آلاف و جعل معظمهم من شيعة علي و خرج معقل في الشيعة و جاء الخوارج ليعبروا النهر إلى المدائن فمنعهم عاملها سمال بن عبد العبسي و دعاهم إلى الطاعة على الأمان فأبوا فساروا إلى المذار و بلغ ابن عامر بالبصرة خبرهم فبعث شريك بن الأعور الحارثي في ثلاثة آلاف من الشيعة و جاء معقل بن قيس إلى المدائن و قد ساروا إلى المذار فقدم بين يديه أبا الرواع الشاكري في ثلثمائة و سار و لحقهم أبو الرواع بالمذار فقاتلهم ثم لحقه معقل بن قيس متقدما أصحابه عند المساء فحملت الخوارج عليه فثبت و باتوا على تعبية و جاء الخبر الخوارج بنهوض شريك بن الأعوار من البصرة فأسروا من ليلتهم راجعين و أصبح معقل و اجتمع بشريك و بعث أبا الرواع في أتباعهم في ستمائة فلحقهم بجرجان فقاتلهم فهزمهم إلى ساباط و هو في اتباعهم و رأى المستورد أن هؤلاء مع أبي الرواع حماة أصحاب معقل فتسرب عنهم إلى معقل و أبو الرواع في اتباعه و لما لحق بمعقل قاتلهم قتالا و أدركهم أبو الرواع بعد أن لقي كثيرا من أصحاب معقل منهزمين فردهم و اقتتلوا قتالا شديدا و قتل المستورد معقلا طعنة بالرمح فانفذه و تقدم معقل و الرمح فيه إلى المستورد فقسم دماغه بالسيف و ماتا جميعا و أخذ الراية عمر بن محرز بن شهاب التميمي بعهد معقل بذلك ثم حمل الناس على الخوارج فقتلوهم و لم ينج منهم إلا خمسة أو ستة و عند ابن الكلبي أن المستورد من تيم من بني رباح خرج بالبصرة أيام زياد قريب الأزدى و رجاف الطائي ابنا الخالة و على البصرة سمرة بن جندب و قتلوا بعض بني ضبة فخرج عليهم شبان من بني علي و بني راسب فرموهم بالنبل و قتل قريب و جاء عبد الله بن أوس الطائي برأسه و اشتد زياد في أمر الخوارج و سمرة و قتلوا منهم خلقا ثم خرج سنة إثنتين و خمسين على زياد بن حراش العجلي في ثلثمائة بالسواد فبعث إليهم زياد سعد بن حذيفة في خيل فقتلوهم و خرج أيضا أصحاب المستورد حيان بن ضبيان و معاذ من طيء فبعث إليهما من قتلهما و أصحابهما و قيل بل استأمنوا و افترقوا ثم اجتمع بالبصرة سنة ثمان و خمسين سبعون رجلا من الخوارج من عبد القيس و بايعوا طواف بن على أن يفتكوا بابن زياد و كان سبب ذلك أن ابن زياد حبس جماعة من الخوارج بالبصرة و حملهم على قتل بعضهم بعضا و خلى سبيل القاتلين ففعلوا و أطلقهم و كان منهم طواف ثم ندموا و عرضوا على أولياء المقتولين القود و الدية فأبوا و أفتاهم بعض علماء الخوارج بالجهاد لقوله تعالى : { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } الآية فاجتمعوا للخروج كما قلنا و سعى بهم إلى ابن زياد فاستعجلوا الخروج و قتلوا رجلا و مضوا إلى الجلحاء كما قلنا فندب ابن زياد الشرط و المحاربة فقاتلوهم فانهزم الشرط أولا ثم كثرهم الناس فقتلوا عن آخرهم و اشتد ابن زياد على الخوارج و قتل منهم جماعة كثيرة منهم : عروة بن أدبة أخو مرداس و أدبة أمهما و أبوهما جرير بن تميم و كان وقف على ابن زياد يوما يعظه فقال أتبنون بكل ريع آية تعبثون الآيات ؟ فظن ابن زياد أن معه غيره فأخذه و قطعه و قتل إبنيه و كان أخوه مرداس من عظمائهم و عبادهم و ممن شهد النهروان بالاستعراض و يحرم خروج النساء و لا يرى بقتال من لا يقاتله و كانت إمرأته من العابدات من بني يربوع و أخذها ابن زياد فقطعها و ألح ابن زياد في طلب الخوارج و قتلهم و خلى سبيل مرداس من بينهم لما وصف له من عبادته ثم خاف فخرج إلى الأهواز و كان يأخذ مال المسلمين إذا مر به فيعطي منه أصحابه و يرد الباقي و بعث ابن زياد إليهم أسلم بن زرعة الكلابي في الغي رجل و دعاهم إلى معاودة الجماعة فأبوا و قاتلوهم فهزموا أسلم و أصحابه فسرح إليهم ابن زياد عباد بن علقمة المازني و لحقهم بتوج و هم يصلون فقتلهم أجمعين ما بين راكع و ساجد لم يتغيروا عن حالهم و رجع إلى البصرة برأس أبي بلال مرداس فرصده عبيدة بن هلال في ثلاثة نفر عند قصر الإمارة ليستفتيه فقتلوه و اجتمع عليهم الناس فقتلوه منهم و كان على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة فأمره زياد بتتبع الخوارج إلى أن تقدم فحبسهم و أخذ الكفلاء على بعضهم و أتى بعروة بن أدبة فقال أنا كفيلك و أطلقه و لما جاء ابن زياد قتل المحبوسين منهم و المكفولين و طالب ابن أبي بكرة بعروة بن أدبة فبحث عنه حتى ظفر به و جاء به إلى ابن زياد فقطعه و صلبه سنة ثمان و خمسين ثم مات يزيد و استفحل أمر ابن الزبير بمكة و كان الخوارج لما اشتد عليهم ابن زياد بعد قتل أبي بلال مرداس أشار عليهم نافع بن الأزرق منهم باللحاق بابن الزبير لجهاد عساكر يزيد لما ساروا إليه قالوا : و إن لم يكن على رأينا داحضا عن البيت و قاموا يقاتلون معه فلما مات يزيد و انصرفت العساكر كشفوا عن رأي ابن الزبير فيهم و جاؤه يرمون من عثمان و يتبرؤن منه فصرح بمخالفتهم و قال بعد خطبة طويلة أثنى فيها على الشيخين و علي و عثمان و اعتذر عنه فيما يزعمون و قال : أشهدكم و من حضرني أني ولي لابن عفان و عدو لأعدائه قالوا : فبرئ الله منك قال بل برئ الله منكم فافترقوا عنه و أقبل نافع بن الأزرق الحنظلي و عبد الله بن صفار السعدي و عبد الله بن أباض و حنظلة بن بيهس و بنو الماخور : عبد الله و عبيد الله و الزبير من بني سليط بن يربوع و كلهم من تميم حتى أتوا البصرة و انطلق أبو طالوت عن بني بكر من وائل و أبو فديك عبد الله بن نور بن قيس ابن ثعلبة و عطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة فوثبوا بها مع أبي طالوت ثم تركوه و مالوا عنه إلى نجدة ابن عامر الحنفي و من هنا افترقت الخوارج على أربع فرق : الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق الحنظلي و كان رأيه البراءة من سائرة المسلمين و تكفيرهم و الاستعراض و قتل الأطفال و استحلال الأمانة لأنه يراهم كفارا و الفرقة الثانية النجدية و هم بخلاف الأزارقة في ذلك كله و الفرقة الثالثة الإباضية أصحاب عبد الله بن إباض المري و هم يرون أن المسلمين كلهم يحكم لهم بحكم المنافقين فلا ينتهون إلى الرأي الأول و لا ينفقون عند الثاني و لا يحرمون مناكحة المسلمين و لا موارثتهم و لا المنافقين فيهم و هم عندهم كالمنافقين و قول هؤلاء أقرب إلى السنة و من هؤلاء البيهسية أصحاب أبي بيهس هيصم بن جابر الضبعي و الفرقة الرابعة الصفرية و هم موافقون للإباضية إلا في العقد فإن الإباضية أشد على العقدة منهم و ربما اختلف هذه الآراء من بعد ذلك و اختلف في تسمية الصفرية فقيل نسبوا إلى ابن صفار و قيل اصفروا بما نهكتم العبادة و كانت الخوارج من قبل هذا الافتراق على رأي واحد لا يختلفون إلا في الشاذ من الفروع و في أصل اختلافهم هذا مكاتبات بين نافع بن الأزرق و أبي بيهس و عبد الله بن إباض ذكرها المبرد في كتاب الكامل فلينظر هناك و لما جاء نافع إلى نواحي البصرة سنة أربع و ستين فأقام بالأهواز يتعرض الناس و كان على البصرة عبد الله بن الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب فسرح إليه مسلم عبس بن كويز بن ربيعة من أهل البصرة بإشارة الأحنف ابن قيس فدافعه عن نواحي البصرة و قاتله بالأهواز على ميمنة مسلم الحجاج بن باب الحميري و على ميسرته بن بدر العدابي و على ميمنة ابن الأزرق عبيدة بن هلال و على ميسرته الزبير بن الماخور التميمي فقتل مسلم ثم قتل نافع فأمر أهل البصرة عليهم الحجاج بن باب و الخوارج عبد الله بن الماخور ثم قتل الحجاج و عبد الله فأمر أهل البصرة ربيعة بن الأخدم و الخوارج عبيد الله بن الماخور ثم اقتتلوا حتى أمسوا و جاء إلى الخوارج مدد فحملوا على أهل البصرة فهزمهم و قتل ربيعة و ولوا مكانه حارثة بن بدر فقاتل و ردهم على الأعقاب و نزل الأهواز ثم عزل عن البصرة عبد الله بن الحرث و بعث ابن الزبير عليها الحرث القباع بن أبي ربيعة فزحف الخوارج إلى البصرة و أشار الأحنف بن قيس بتولية المهلب حروبهم و قد كان ابن الزبير ولاه خراسان فكتبوا لابن الزبير بذلك فأجاب و اشترطوا للمسلم ما سأل من ولاية ما غلب عليه و الإعانة بالأموال فاختار من الجند إثنتي عشر ألفا و سار إليهم فدفعهم عن الجسر و جاء حارثة بن بدر بمن كان معه في قتال الخوارج فردهم الحرث إلى المهلب و ركب حارثة البحر يريد البصرة فغرق في النهر و سار المهلب و على مقدمته إبنه المغيرة فقاتلهم المقدمة و دفعوهم عن سوق الأهواز إلى مادر و نزل المهلب بسولاف و قاتله الخوارج و صدقوا الحملة فكشفوا أصحاب المهلب ثم ترك من الغد قتالهم و قطع دجيل و نزل العقيل ثم ارتحل فنزل قريبا منهم و خندق عليه و أذكى العيون و الحرس و جاء منهم عبيدة بن هلال و الزبير بن الماخور في بعض الليالي ليبيتوا عسكر المهلب فوجدوهم حذرين و خرج إليهم المهلب من الغد في تعبية و الأزد و تميم في ميمنته و بكر و عبد القيس في ميسرته و أهل العالية في القلب و على ميمنة الخوارج عبيدة بن هلال اليشكري و على ميسرتهم الزبير بن الماخور و اقتتلوا و نزل الصبر ثم شدوا على الناس فأجفل عسكر المهلب و انهزم و سبق المنهزمين إلى ربوة نادى فيهم فاجتمع له ثلاثة آلاف أكثرهم من الأزد فرجع بهم و قصد عسكر الخوارج و اشتد قتالهم و رموهم بالحجارة و قتل عبد الله بن الماخور و كثير منهم و انكفؤا راجعين إلى كرمان و ناحية أصبهان منهزمين و استحلفوا عليهم الزبير ابن الماخور و أقام المهلب بمكانه حتى جاء مصعب بن الزبير أميرا على البصرة و عزل المهلب و أما نجدة و هو نجدة بن عامر بن عبد الله بن سيار بن مفرج الحنفي و كان مع نافع بن الأزرق فلما افترقوا سار إلى اليمامة و دعا أبو طالوت إلى نفسه و هو من بكر بن وائل و تابعه نجدة و نهب الحضارم بلد بني حنيفة و كان فيها رقيق كثير يناهز أربعة آلاف فقسمها في أصحابه و ذلك سنة خمس و ستين و اعترض عيرا من البحرين جاءت لابن الزبير فأخذها و جاء بها إلى أبي طالوت فقسمها بين أصحابه ثم رأى الخوارج أن نجدة خير لهم من أبي طالوت فخالفوه و بايعوا نجدة و سار إلى بني كعب بن ربيعة فهزمهم و أثخن فيهم و رجع نجدة إلى اليمامة في ثلاثة آلاف ثم سار إلى البحرين سنة سبع و ستين فاجتمع أهل البحرين من عبد القيس و غيرهم على محاربته و سالمته الأزد و التقوا بالعطيف فانهزمت عبد القيس و أثخن فيهم نجدة و أصحابه و أرسل سرية إلى الخط فظفروا بأهله و لما قدم مصعب بن الزبير البصرة سنة تسع و ستين عبد الله بن عمر الليثي الأعور في عشرين ألفا و نجدة بالعطيف فقاتلوهم و هزمهم نجدة و غنم ما في عسكرهم و بعث عطية بن الأسود الحنفي من الخوارج إلى عمان و بها عباد ابن عبد الله شيخ كبير فقاتله عطية فقتله و أقام أشهرا و سار عنها و استخلف عليها بعض الخوارج فقتله أهل عمان و ولوا عليهم سعيدا و سليمان ابني عباد ثم خالف عطية نجدة و جاء إلى عمان فامتنعت منه فركب البحر إلى كرمان و أرسل إليه المهلب جيشا فهرب إلى سجستان ثم إلى السند فقتله خيل المهلب بقندابيل ثم بعث نجدة العرفين إلى البوادي بعد هزيمة ابن عمير فقاتلوا بني تميم بكاظمة و أعانهم أهل طويلع فبعث نجدة من استباحهم و أخذ منهم الصدقة كرها ثم سار إلى صنعاء فبايعوه و أخذ الصدقة من مخالفيها ثم بعث أبا فديك إلى حضرموت فأخذ الصداقة منهم و حج سنة ثمان و ستين في تسعمائة رجل و قيل في ألفين و وقف ناحية عن ابن الزبير على صلح عقد بينهما ثم سار نجدة إلى المدينة و تأهبوا لقتاله فرجع إلى الطائف و أصاب بنتا لعبد الله بن عمر بن عثمان فضمها إليه و امتحنه الخوارج بسؤاله بيعها فقال : قد أعتقت نصيبي منه قالوا : فزوجها قال : هي أملك بنفسها و قد كرهت الزواج و لما قرب من الطائف جاءه عاصم بن عروة بن مسعود فبايعه عن قومه عليهم الخازرق و على يبانة و السراة و ولى على ما يلي نجران سعد الطلائع و رجع إلى البحرين و قطع الميرة عن الحرمين و كتب إليه ابن عباس أن ثمامة بن أشاك لما أسلم قطع الميرة عن مكة و هم مشركون فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة فخلاها لهم و أنك قطعت الميرة و نحن مسلمون فخلاها لهم نجدة ثم اختلف إليه أصحابه لأن أبا سنان حيي بن وائل أشار عليه بقتل من أطاعه تقية فانتهره نجدة و قال : إنما علينا أن نحكم بالظاهر و أغضبه عطية في منازعة جرت بينهما على تفضيله لسرية البر على سرية البحر في الغنيمة فشتمه نجدة فغضب و سأله في درء الحد في الخمر عن رجل من شجعانهم فأبى كاتبه عبد الملك في الطاعة على أن يوليه اليمامة و يهدر له ما أصاب من الدماء فاتهموه في هذه المكاتبة و نقموا عليه أمثال هذه و فارقه عطية إلى عمان ثم انحازوا عنه و ولوا أمرهم أبا فديك عبد الله بن ثور أحد بني قيس بن ثعلبة و استخفى نجدة و ألح أبو فديك في طلبه و كان مستخفيا في قرية من قرى حجر ثم نذر به فذهب إلى أخواله من تميم و أجمع المسير إلى عبد الملك فعلم به أبو فديك و جاءت سرية منهم و قاتلهم فقتلوه و سخط قتله جماعة من أصحاب أبي فديك و اعتمده مسلم بن جبير فطعنه إثنتي عشرة طعنة و قتل مسلم لوقته و حمل أبو فديك إلى منزله ثم جاء مصعب إلى البصرة سنة ثمان و ستين واليا على العراقين عن أخيه و كان المهلب في حرب الأزارقة فأراد مصعب أن يوليه بلاد الموصل و الجزيرة و أرمينية ليكون بينه و بين عبد الملك فاستقدمه من فارس و ولاه و ولى على فارس و حرب الأزارقة عمر بن عبد الله بن معمر و كان الخوارج قد ولوا عليهم بعد قتل عبد الله بن الماخور سنة خمس و ستين أخاه الزبير فجاؤا به إلى إصطخر و قدم عمر ابنه عبيد الله إليهم فقتلوه ثم قاتل الزبير عمر فهزمهم و قتل منهم سبعون و فلق قطري بن الفجاءة و شتر صالح بن مخراق و ساروا إلى نيسابور فقاتلهم عمر بها و هزمهم فقصدوا أصبهان فاستحموا بها ثم أقبلوا إلى فارس و تجنبوا عسكر عمر و مروا على ساجور ثم أرجان فأتوا الأهواز قاصدين العراق و أغذ عمر السير في أثرهم و عسكر مصعب عند الجسر فسار الزبير بالخوارج فقطع أرض صرصر و شن الغارة على أهل المدائن يقتلون الوالدان و الرجال و يبقرون بطون الحبالى و هرب صاحب المدائن عنها و انتهت جماعة منهم إلى الكرخ فقاتلهم أبو بكر بن مخنف فقتلوه و خرج أمير الكوفة و هو الحرث بن أبي ربيعة القباع حتى انتهى إلى الصراة و معه إبراهيم بن الأشتر و شبيب بن ريعي و أسماء بن خارجة و يزيد بن الحرث و محمد بن عمير و أشاروا عليه بعقد الجسر و العبور إليهم فانهزموا إلى المدائن و أمر الحرث عبد الرحمن ابن مختف باتباعهم في ستة آلاف إلى حدود أرض الكوفة فانتهوا إلى الري و عليها يزيد بن الحرث بن دويم الشيباني و ما والاهم عليه أهل الري فهزموه و قتلوه ثم انحطوا إلى أصبهان و بها عتاب بن ورقاء فحاصروه أشهرا و كان يقاتلهم على باب المدينة ثم دعا إلى الإستماتة في قتالهم فخرجوا و قاتلوهم و انهزمت الخوارج و قتل الزبير و احتووا على معسكرهم ثم بايع الخوارج قطري بن الفجاءة المازني و يكني أبا نعامة و ارتحل بهم إلى كرمان حتى استجمعوا فرجعوا إلى أصبهان فامتنعت فأتوا الأهواز و قاموا و بعث مصعب إلى المهلب فرده إلى قتال الخوارج و ولى على الموصل و الجزيرة إبراهيم بن الأشتر و جاء المهلب فانتجعت الناس من البصرة و سار إلى الخوارج فلقيهم بسولاف و اقتتلوا ثمانية أشهر و بعث مصعب إلى عتاب بن ورقاء الرباحي عامل أصبهان بقتال أهل الري بما فعله في ابن دويم فسار إليهم و عليهم الفرخان فقاتلهم و افتتحها عنوة و قلاعها و عاث في نواحيها (3/178)
خبر ابن الحر و مقتله
كان عبيد الله بن الحر الجعفي من خيار قومه صلاحا و فضلا و لما قتل عثمان حزن عليه و كان مع معاوية على علي و كانت له زوجة بالكوفة فتزوجت لطول مغيبه فأقبل من الشام و خاصم زوجها إلى علي فعدد عليه شهوده صفين فقال : أيمنعني ذلك من عدلك ؟ قال : لا ورد إليه إمرأته فرجع إلى الشام و جاء إلى الكوفة بعد مقتل علي و لقي إخوانه و تفاوضوا في النكير على علي و معاوية و لما قتل الحسين تغيب على ملحمته و سأل عنه ابن زياد فلم يره ثم لقيه فأساء عذله و عرض له بالكون مع عدوه فأنكر و خرج مغضبا و راجع ابن زياد رأيه فيه فطلبه فلم يجده فبعث عنه فامتنع و قال : أبلغوه أني لا آتيه طائعا أبدا و أتى منزل أحمد بن زياد الطائي فاجتمع إليه أصحابه و خرج إلى المدائن و مضى لمصارع الحسين و أصحابه فاستغفر لهم و لما مات يزيد وقعت الفتنة اجتمع إليه أصحابه و خرج بنواحي المدائن و لم يعترض للقتل و لا للمال إنما كان يأخذ مال السلطان متى لقيه فيأخذ منه عطاء أصحابه و يرد الباقي و يأخذ لصاحب المال بما أخذ و حبس المختار إمرأته بالكوفة و جاء فأخرجها من الحبس و أخرج كل من فيه و أراد المختار أن يسطو به فمنعه إبراهيم محمد الأشتر إلى الموصل لقتال ابن زياد ثم فارقه و لم يشهد معه و شهد مع مصعب قتال المختار و قتله ثم أغرى به مصعب فحبسه و شفع فيه رجال من وجوه مذحج فشفعهم و أطلقه و أتى إليه الناس يهنؤنه فصرح بأن أحدا لا يستحق بعد الأربعة و لا يحل أن يعقد لهم بيعة في أعناقنا فليس لهم علينا من الفضل ما يستحقنه به ذلك و كلهم عاص مخالف و قوي الدنيا ضعيف الآخرة و نحن أصحاب الأيام مع فارس ثم لا يعرف حقنا و فضلنا و إني قد أظهرت لهم العداوة و خرج للحرب فأغار فبعث إليه مصعب سيف بن هانئ المرادي يعرض عليه الطاعة على أن يعطيه قطعة من بلاد فارس فأبى فسرح إليه الأبرد بن فروة الرباحي في عسكر فهزمه عبيد الله فبعث إليه حريث بن زيد فهزمه فقتله فبعث إليه الحجاج بن حارثة الخثعمي و مسلم بن عمر فقاتلهما بنهر صرصر و هزمهما فأرسل إليه مصعب بالأمان و الولاية فلم يقبل و أتى إلى فارس فهرب دهقانها بالمال و تبعه ابن الحر إلى عين التمر و عليه بسطام بن معقلة بن هبيرة الشيباني فقاتل عبيد الله و أوفاهم الحجاج بن حارثة فهزمهما عبيد الله و أسرهما و أخذ المال الذي مع الدهقان و أقام بتكريت ليحيي الخراج فسرح مصعب لقتاله الأبرد ابن فروة الرباحي و الجون بن كعب الهمداني في ألف و أمدهم المهلب بيزيد بن المعقل في خمسمائة و قاتلهم عبيد الله يومين في ثلثمائة ثم تحاجزوا و قال لأصحابه : إني سائر بكم إلى عبد الملك فتجهزوا ! ثم قال : إني خائف أن أموت و لم أذعر مصعبا و قصد الكوفة و جاءته العساكر من كل جهة و لم يزل يهزمهم و يقتل منهم بنواحي الكوفة و المدائن و أقام يغير بالسواد و يجبي الخراج ثم لحق بعبد الملك فأكرمه و أجلسه معه على سريره و أعطاه مائة ألف درهم و قسم في أصحابه الأعطيات و سأل من عبد الملك أن يوجه معه عسكرا لقتال مصعب فقال : سر بأصحابك و ادع من قدرت عليه و أنا ممدك بالرجال فسار نحو الكوفة و نزل بناحية الأنبار و أذن لأصحابه في إتيان الكوفة ليخبروا أصحابه بقدومه و بعث الحرث بن أبي ربيعة إليه جيشا كثيفا فقاتلهم و تفرق عنه أصحابه و أثخنه الجراح فخاض البحر إلى سفينة فركبها حتى توسط الفرات فأشرف خيل على السفينة و تبادروا به فقام يمشي في البحر فتعلقوا به فألقى نفسه في الماء مع بعضهم فغرقوه (3/186)
حروب الخوارج مع عبد الملك و الحجاج
و لما استقر عبد الملك بالكوفة بعد قتل مصعب بعث على البصرة خالد بن عبد الله و كان المهلب يحارب الأزارقة فولاه على خراج الأهواز و بعث أخاه عبد العزيز بن عبد إلى قتال الخوارج و معه مقاتل بن مسمع و أتت الخوارج من ناحية كرمان إلى دار ابجرد و بعث قطري بن الفجاءة صالح بن مخراق في تسعمائة فاستقبل عبد العزيز ليلا على غير تعبية فانهزم و قتل مقاتل بن مسمع و أسرت بنت النذر بن الجارود إمرأة عبد العزيز فقتلها الخوارج و تغير عبد العزيز إلى رامهرمز و كتب خالد بالخبر إلى عبد الملك فكتب إليه على ولاية أخيه الحرب و ولاية المهلب جباية الخراج و أمره بأن يسرح المهلب بحربهم و كتب إلى بشر بالكوفة بإمداده بخمسة آلاف مع من يرضاه فإذا فرغوا من قتال الخوارج ساروا إلى الري فكانوا هنالك مسلحة فأنفذ بشر العسكر و عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث و كتب له عهده على الري و خرج خالد بأهل البصرة و معه المهلب و اجتمعوا بالأهواز و جاءت الأزارقة فأحرقوا السفن و مر المهلب بعبد الرحمن بن الأشعث و أمره أن يخندق عليه و أقاموا كذلك عشرين ليلة ثم زحف الخوارج بالناس فهال الخوارج كثرتهم و انصرفوا و بعث خالد داود قحدم في آثارهم و انصرف إلى البصرة و كتب بالخبر إلى عبد الملك فكتب إلى أخيه بشر أن يبعث أربعة آلاف من أهل الكوفة إلى فارس و يلحقوا بداود بن قحدم في طلب الأزارقة فبعث بهم بشر بن عتاب و لحقوا بداود و اتبعوا الخوارج حتى أصابهم الجهد و رجع عامتهم مشاة إلى الأهواز ثم خرج أبو فديك من بني قيس بن ثعلبة فغلب على البحرين و قتل نجدة بن عامر الحنفي كما مر و هزم خالدا فكتب إلى عبد الملك بذلك و أمر عبد الملك عمر بن عبيد الله بن معمر أن يندب الناس من أهل الكوفة و البصرة و يسير لقتال أبي فديك فانتدب معه عشرة آلاف و سار بهم و أهل الكوفة علىلا ميمنته عليهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله و أهل البصرة في ميسرته عليهم عمر بن موسى أخيه و هو في القلب و انتهوا إلى البحرين و اصطفوا للقتال و حملوا على أبي فديك و أصحابه فكشفوا ميسرته حتى أبعدوا إلا المغيرة بن المهلب و مجاعة و عبد الرحمن و فرسان الناس فإنهم مالوا إلى أهل الكوفة بالميمنة و رجع أهل الميسرة و حمل أهل الميمنة على الخوارج و استباحوا عسكرهم و قتلوا أبا فديك و حصروا أصحابه بالمشقر حتى نزلوا فقتل منهم ستة آلاف و أسر ثمانمائة و ذلك سنة ثلاث و سبعين ثم ولى عبد الملك أخاه بشرا على البصرة فسار إليها و أمره أن يبعث المهلب إلى حرب الأزارقة و أن ينتخب من أهل البصرة من أراد و يتركه و رأيه في الحرب و يمده بعسكر من أهل الكوفة مع رجل معروف بالنجدة فبعث المهلب لانتخاب الناس جديع بن قبيصة و شق على بشر أن ولاية المهلب من عبد الملك و أوغرت صدره فبعث على عسكر الكوفة عبد الرحمن ابن مخنف و أغراه بالمهلب في ترك مشورته و تنغصه و سار المهلب إلى رامهرمز و بها الخوارج و أقبل ابن مخنف في أهل الكوفة فنزل على ميل منه بحيث يتراءى العسكران ثم أتاهم نبأ بشر ابن مروان و أنه استخلف خالد بن عبد الله بن خالد على البصرة و خليفته على الكوفة عمر بن حريث فاقترق ناس كثيرة من أهل البصرة و أهل الكوفة فنزلوا فنزلوا الأهواز و كتب إليهم خالد بن عبد الله يتهددهم فلم يلتفتوا إليه و أقبل أهل الكوفة إلى الكوفة و كتب إليهم عمر بن حريث بالنكير و العود إلى المهلب و منعهم الدخول فدخلوا ليلا إلى بيوتهم ثم قدم الحجاج أميرا على العراقين سنة خمس و سبعين فخطب بالكوفة خطبته المعروفة كان منها : و لقد بلغني رفضكم المهلب و إقبالكم إلى مصركم عاصين مخالفين و أيم الله لا أجد أحدا من عسكره بعد ثلاثة إلا ضربت عنقه و أنهب داره ثم دعا العرفاء و قال ألحقوا الناس بالمهلب و أتوني بالبراءة بموافاتهم و لا تغلقن أبواب الجسر و وجد عمر بن ضابئ من المتخلفين و أخبر أنه من قتله عثمان فقتله فأخر جند المهلب و ازدحموا على الجسر و جاء العرفاء إلى المهلب برامهرمز فأخذوا كتابه بموافاة الناس و أمرهم الحجاج بمناهضة الخوارج فقاتلهم شيئا ثم انزاحوا إلى كازرون و سار المهلب و ابن مخنف فنزلوا بهم و خندق المهلب و لم يخندق إبن مخنف و بيتهم الخوارج فوجدوا المهلب حذارا فمالوا إلى ابن مخنف فانهزم عنه أصحابه و قاتل حتى قتل و في حديث أهل الكوفة أنهم لما ناهضوا الخوارج مالوا إلى المهلب و اضطروه إلى معسكر و أمده عبد الرحمن بعامة عسكره و بقي في خف من الجند فمال إليه الخوارج فنزل و نزل معه القراء واحد و سبعون من أصحابه فقتلوا و جاء المهلب من الغد فدفنه و صلى عليه و كتب بالخبر إلى الحجاج فبعث على معسكره عتاب بن ورقاء و أمره بطاعة المهلب فأجاب لذلك و في نفسه منه شيء و عاتبه المهلب يوما و رفع إليه القضيب فرده إبنه المغيرة عن ذلك و كتب عتاب يشكو المهلب إلى الحجاج و يسأله العود و صادف ذلك أمر شبيب فاستقدمه و بقي المهلب (3/188)
حروب الصفرية و شبيب مع الحجاج
ثم خرج صالح بن مسرح التميمي من بني امرئ القيس بن زيد مناة و كان يرى رأي الصغرية و كان عابدا و مسكنه أرض الموصل و الجزيرة و له أصحاب يقرئهم القرآن و الفقه و كان يأتي الكوفة و يلقى أصحابه و يعد ما يحتاج إليه فطلبه الحجاج فترك الكوفة و جاء إلى أصحابه بالموصل و دار فدعاهم إلى الخروج و حثه عليه و جاءه كتاب شيب بن يزيد بن نعيم الشيباني من رؤوسهم يحثه على مثل ذلك فكتب إليه إني في انتظارك فاقدم فقدم شبيب في نفر من أصحابه منهم أخوه المضاد و المحلل ابن وائل اليشكري و لقيه بدارا و أجمع صالح الخروج و بث إلى أصحابه و خرجوا في صفر سنة ست و سبعين و أمر بالدعاء قبل القتال و خير في الداء و الأموال و عرضت لهم دواب لمحمد بن مروان بالجزيرة فأخذوها و حملوا عليها أصحابهم و بلغ محمد بن مروان و هو أمير الجزيرة خروجهم فسرح إليهم عدي بن عدي الكندي في ألف فسار من حران و كان ناسكا فكره حروبهم و بعث إليهم بالخروج فحبسوا الرسول فساروا إليه فطلعوا عليه و هو يصلي الضحى و شيب في الميمنة و سويد بن سليم في الميسرة و ركب عدي على غير تعبية فانهزم و احتوى الخوارج على معسكره و مضوا إلى آمد و سرح محمد بن مروان خالد بن حر السلمي في ألف وخمسمائه و الحرث بن جعونة العامري في مثلها و قال : أيكما سبق فهو أمير على صاحبه و بعث صالح شبيبا إلى الحرث و توجه نحو خالد و قاتلوهم أشد القتال و اعتصم أصحاب محمد بخندقهم فسارت الخوارج عنهم و قطعوا أرض الجزيرة و الموصل إلى الدسكرة فسرح إليهم الحجاج الحرث بن عميرة ابن ذي الشعار في ثلاثة آلاف من أهل الكوفة فلقيهم على تخم ما بين الموصل و صرصر و الخوارج في تسعين رجلا فانهزم سويد بن سليم و قتل صالح و صرع شبيب ثم وقف على صالح قتيلا فنادى بالمسلمين فلاذوا به و دخلوا حصنا هنالك و هم سبعون و عاث الحرث بهم و أحرق عليهم الباب و رجع يصحبهم من الغداة فقال لهم شبيب بايعوا من شئتم من أصحابكم و اخرجوا بنا إليهم فبايعوه و أطفئوا النار بالماء في اللبود و خرجوا إليه فبيتوا و صرح الحرث فحملوا أصحابه و انهزموا نحو المدائن و حوى شبيب عسكرهم و سار شبيب إلى أرض الموصل فلقي سلامة بن سنان التميمي من تميم شيبان إلا أخاه فضالة من أكابر الخوارج و كان خرج قبل صالح في ثمانية عشر رجلا و نزل على ماء لبني عنزة فقتلوهم و أتوا برؤوسهم إلى عبد الملك يتقربون له بهم فلما دعا شبيب سلامة إلى الخروج شرط عليه أن ينتخب ثلاثين فارسا و يسير بهم إلى عنزة فيثأر منهم بأخيه فقبل شرطه و سار إلى عنزة فأثخن فيهم و جعل يقتل الحلة بعد الحلة ثم أقبل شبيب إلى داران في نحو سبعين رجلا ففرت منهم طائفة من بني شيبان نحو ثلاثة آلاف فنزلوا ديرا خرابا و امتنعوا منه و سار في بعض حاجاته و استخلف أخاه مضاد بن يزيد بجماعة من بني شيبان في أموالهم مقيمين فقتل منهم ثلاثين شيخا فيهم حوثرة بن أسد و أشرف بنو شيبان على مضاد و أصحابه و سألوا الأمان ليخرجوا إليهم و يسمعوا دعوتهم فأخرجوا و قبلوا و نزلوا إليهم و اجتمعوا بهم و جاء شبيب فاستصوب فعلهم و سار بطائفة نحو أذربيجان و كان الحجاج قد بعث سفيان بن أبي العالية الخثعمي إلى طبرستان يحاصرها في ألف فارس فكتب إليه الحجاج أن يرجع فصالح أهل طبرستان و رجع فأقام بالدسكرة يطلب المدد و بعث الحجاج أيضا إلى الحرث بن عميرة الهمداني قاتل صالح أن يأتيه بجيش الكوفة و المدائن و إلى سورة ابن أبجر التميمي في خيل المناظر و يعجل سفيان في طلب شبيب فلحقه بخانقين فاستطردهم و أكمن كمينا لهم مع أخيه و اتبعوه في سفح الجبل فخرج عليهم الكمين فانهزموا بغير قتال و ثبت سفيان و قاتل ثم حمل شبيب فانكشف و نجا إلى بابل مهرود و كتب إلى الحجاج بالخبر و بوصول العساكر إلا سورة بن أبجر فكتب الحجاج إلى سورة يتهدده و يأمره أن يتخذ من المدائن خمسمائة فارس و يسير إلى شبيب فسار و انتهى شبيب إلى المدائن ثم إلى الهندوان فترحم على أصحابه هنالك و بيتهم سورة هنالك و هم حذرون فلم يصب منهم الغرة و رجع نحو المدائن و شبيب في لتباعه و خرج ابن أبي العصغي عامل المدائن فقاتلهم و هرب الكثير من جنده إلى الكوفة و مضى شبيب إلى تكريت و وصل سورة إلى الكوفة بالغل فحبسه الحجاج ثم أطلقه و سرح عثمان بن سعيد شرحيل الكندي و يلقب الجزل في أربعة آلاف ليس فيهم من المنهزمين أحد و ساروا لحرب شبيب و أصحابه و قدم بين يديه عياض بن أبي لبنة الكندي و جعلوا يتبعون شبيبا من رستاق إلى رستاق و هو على غير التعبية و الجزل على التعبية و يخندق على نفسه متى نزل و طال ذلك شبيب و كان في مائة و ستين فقسمه على أربع فرق و ثبت الجزل و مشايخه فلم يصب منهم فرجع عنهم ثم صحبهم ثانية فلم يظفر منهم بشيء و سار الجزل في التعبية كما كان و شبيب يسير في أرض الخوارج و غيرها يكسب الخراج و كتب الحجاج إلى الجزل ينكر عليه البطء و يأمره بالمناهضة و بعث سعيد بن المجالدي على جيش الجزل فجاءهم بالهندوان و وبخهم و عجزهم و جاءهم الخبر بأن شبيبا قد دخل قطيطيا و الدهقان يصلح لهم الغداء فنهض سعيد في الناس و ترك الجزل مع العسكر و قد صف بهم خارج الخندق و جاء سعيد إلى قطيطيا و علم به شبيب فأكل و توضأ و صلى و خرج فحمل على سعيد و أصحابه مستعرضا فانهزموا و ثبت سعيد فقتله و سار في اتباعهم إلى الجزل فقاتلهم الجزل حتى وقع بين القتلى جريحا و كتب إلى الحجاج بالخبر و أقام بالمدائن و انتهى شبيب إلى الكرخ و عبر دجلة إليه و أرسل إلى سوق بغداد فأتاهم في يوم سوقهم و اشترى منه حاجاته و سار إلى الكوفة فلما قرب بعث الحجاج سويد بن عبد الرحمن السعدي في ألفي رجل فساروا إلى شبيب و أمر عثمان بن قطن فعسكر في السبخة و خالفه شبيب إلى أهل السبخة فقاتلوه و جاء سويد في آثاره فمضى نحو الحيرة و سويد في إتباعه ثم رحل من الحيرة و جاء كتاب الحجاج إلى سويد يأمره باتباعه فمضى في إتيانه و شبيب يغير في طريقه و أخذ على القطقطاتة ثم قصر بني مقاتل ثم على الأنبار ثم ارتفع على أدنى أذربيجان و لما أبعد سار الحجاج إلى البصرة و استعمل على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة فجاءه كتاب دهقان بابل مهرود يخبره بقصد شبيب الكوفة فبعث بالكتاب إلى الحجاج و أقبل شبيب حتى نزل عقرقوبا و نزل و سار منها يسابق الحجاج إلى الكوفة و طوى الحجاج المنازل فوصل الكوفة عند العصر و وصل شبيب عند المغرب فأراح و طمعوا ثم ركبوا و دخلوا إلى السوق و ضرب شبيب القصر بعموده ثم اقتحموا المسجد الأعظم فقتلوا فيه من الصالحين و مروا بدار صاحب الشرطة فدعوه إلى الأمير و نكرهم فقتلوا غلامه و مروا بمسجد بني ذهل فقتلوا ذهل بن الحرث و كان يطيل الصلاة فيه ثم خرجوا من الكوفة و استقبلهم النضر بن القعقاع بن شور الذهلي و كان ممن أقبل مع الحجاج من البصرة فتخلف عنه فلما رآه قال : السلام عليك أيها الأمير فقال له شبيب : قل أمير المؤمنين ويلك ! فقالها و أراد شبيب أن يلقنه للقرابة بينهما و كان النضر ناحية بيت هانئ بن قبيصة الشيباني فقال له : يا نضر لا حكم إلالله ففطن بهم و قال : إنا لله و إنا إليه راجعون و شد عليه أصحاب شبيب فقتلوه و نادى منادي الحجاج بالكوفة يا خيل الله اركبي و هو بباب القصر و كان أول من أتاه عثمان بن قطن ابن عبد الله بن الحسين ذي القصة ثم جاء الناس من كل جانب فبعث الحجاج خالد بن الأسدي و زائدة بن قدامة الثقفي و أبا الضريس مولى بني تميم و عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر و زياد بن عبد الله العتكي في ألفين ألفين و قال : إن كان حرب فأميركم زائدة بن قدامة و بعث معهم محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله من سجستان و كان عبد الملك قد ولاه عليها و أمر الحجاج أن يجهزه و يبعثه في آلاف من الجنود إلى عمله فجهزه و حدث أمر شبيب فقال له الحجاج : تجاهد و يظهر إسمك ثم تقضي إلى عمالك فساروا جميعا و نزلوا أسفل الفرات و أخذ شبيب نحو القادسية و جرد الحجاج ألفا وثمانمائة من نقاوة الجند مع ذخر بن قيس و أمره بمواقعة شبيب أينما أدركه و إن ذهب فاتركه فأدركه بالسلخين و عطف عليه شبيب فقاتل ذخر حتى صرع و فيه بضعة عشر جرحا و انهزم أصحابه يظنون أنه قتل ثم أفاق من برد السحر فدخل قرية و سار إلى الكوفة ثم قصد شبيب و أعوانه و هم على أربعة و عشرين فرسخا من الكوفة فقال : إن هزمناهم فليس دون الحجاج و الكوفة مانع و انتهى إليهم و قد تعبوا للحرب و على الميمنة زياد بن عمر العتكي و على الميسرة بشر بن غالب الأسدي و كل أمير بمكانه و عبى شبيب أصحابه ثلاثة كتائب فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمر فانكشفوا و ثبت زياد قليلا ثم حمل الثانية فانهزموا و انهزم جريحا عند المساء ثم حملوا على عبد الأعلى ابن عبد الله بن عامر فانهزم و لم يقاتل و لحق بزياد بن عمر و حملت الخوارج حتى انتهت إلى محمد بن موسى بن طلحة عند الغروب فقاتلوه و صبر لهم ثم حمل مضاد أخو شبيب على بشر بن غالب في الميسرة فصبر و نزل في خمسين رجلا فقاتلوه حتى قتلوا و حملت الخوارج على أبي الضريس مولى بني تميم فهزموه حتى انتهى إلى أعين ثم حملوا عليه و على أعين فهزموهما إلى زائدة بن قدامة فلما انتهوا إليه نادى نزال و قاتلهم إلى السحر ثم حمل شبيب عليه فقتله و قتل أصحابه و دخل أبو الضريس مع الفل إلى الجوسق بإزائهم و رفع الخوارج عنهم السيف و دعوهم إلى البيعة لشبيب عند الفجر فبايعوه و كان فيمن بايعه أبو بردة و بقي محمد بن موسى لم ينهزم فلما طلع الفجر سمع شبيب أذانهم و علم مكانهم فأذن و صلى ثم حمل عليهم فانهزمت طائفة منهم و ثبتت أخرى و قاتل محمد حتى قتل و أخذ الخوارج ما في العسكر و انهزم الذين بايعوا شبيبا فلم يبق منهم أحد و جاء شبيب إلى الجوسق الذي فيه أعين و أبو الضريس فتحصنوا منه فأقام يوما عليهم و سار عنهم و أراده أصحابه على الكوفة و إزاءهم خوخى فتركها و خرج على نفر و سمع الحجاج بذلك فظن أنه يريد المدائن و هي باب الكوفة و أكثر السواد لها فهاله ذلك و بعث عثمان بن قطن أميرا على المدائن و خوخى و الأنبار و عزل عنها عبد الله بن أبي عصيفير و قيل في مقتل محمد بن موسى غير هذا و هو أنه كان شهد مع عمر بن عبد الله بن معمر قتال أبي فديك فزوجه عمر ابنته و كانت أخته تحت عبد الملك فولاه سجستان فمر بالكوفة و قيل للحجاج إن جاء إلى هذا أحد ممن تطلبه منعك منه فمره بقتال شبيب في طريقه لعل الله يريحك منه ففعل الحجاج و عدل محمد إلى قتال شبيب و بعث إليه شبيب بدهاء الحجاج و خديعته إياه و أن يعدل عنه فأبى إلا شبيبا فبارزه و قتله شبيب و لما انهزم الأمراء و قتل موسى بن محمد طلحة دعا الحجاج عبد الرحمن بن الأشعث و أمره أن ينتخب ستة آلاف فارس و يسير في طلب شبيب أين كان فسار لذلك ثم كتب إليه و إلى أصحابه يتهددهم إن انهزموا و مر ابن الأشعث بالمدائن و عاد الجزل من جراحته فوصاه و حذره و حمله على فرسه و كانت لا تجارى و سار شبيب على دقوقا و شهرزور و ابن الأشعث في إتباعه إلى أن وقف على أرض الموصل و أقام يقاتله أهلها فكتب إليه الحجاج : أما بعد فاطلب شبيبا و أسلك في أثره أين سلك حتى تدركه فاقتله أو تنفيه فإنما السلطان أمير المؤمنين و الجند جنده فجعل ابن الأشعث يتبعه و شبيب يقصد به الأرض الخشنة الغليظة و إذا دنا منه رجع يبيته فيجده على حذرة حتى أتعب الجيش و أحفى دوابهم بطن أرض الموصل ليس بينه و بين سواد إلا نهر حولايا في دادان الأعلى من أرض خوخى و نزل عبد الرحمن في عواقيل النهر و كانت أيام النحر و طلب شبيب الموادعة فيها فأجابه قصدا للمطاولة و كتب عثمان بن قطن بذلك إلى الحجاج فنكر و بعث إلى عثمان بن قطن بإمارة العسكر و أمره بالمسير و عزل عبد الرحمن بن الأشعث و بعث على المدائن مطرف بن المغيرة مكان ابن قطن و قدم ابن قطن على عسكر الكوفة عشية يوم التروية و ناداهم إلى الحرب فاستمهلوه و أنزله عبد الرحمن بن الأشعث و أصبحوا إلى القتال ثالث يومهم على تعبية و في الميمنة خالد بن نهيك بن قيس و في الميسرة عقيل بن شداد السلولي و ابن قطن في الرجالة و عبر إليهم شبيب في مائة و ثلاثين رجلا فوقف في الميمنة و أخوه مضاد في القلب و سويد بن سليم في الميسرة و حمل شبيب على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا و نزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل و قتل معه مالك بن عبد الله الهمداني و حمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها و قاتل خالد بن نهيك فجاء شبيب من ورائه فقتله و تقدم عثمان إلى مضاد في القلب فاشتد القتال و حمل شبيب من وراء عثمان و عطف عليهم سويد بن سليم و مضاد من القلب حتى أحاطوا به فقتلوه و انهزمت العساكر و وقع عبد الرحمن بن الأشعث فأتاه ابن أبي شثبة الجعفي و هو على بغلة فأردفه و نادى في الناس باللحاق بدير أبي مريم و رفع شبيب السيف عن الناس و دعاهم إلى البيعة فيايعوه و لحق ابن الأشعث بالكوفة فاختفى حتى أمنه الحجاج و مضى شبيب إلى ماه نهرادان فأقام فيه فصل الصيف فلحق به من كان للحجاج عليه تبعه ثم أقبل إلى المدائن في ثمانمائة رجل و عليها مطرف بن المغيرة و بلغ الخبر إلى الحجاج فقام في الناس و تسخط و توعد فقال زهرة بن حوية و هو شيخ كبير لا يستطيع القيام إلا معتمدا : أنت تبعث الناس متقطعين فيصبون منهم فاستنفر الناس جميعا و ابعث عليهم رجلا شجاعا مجريا يرى الفرار عارا و الصبر مجدا و كرما فقال الحجاج : أنت ذلك الرجل ! فقال : إنما يصلح من يحمل الدرع و الرمح و يهز السيف و يثبت على الفرس و لا أطيق من هذا شيئا و قد ضعف بصري و لكن أكون مع أمير و أشير عليه فقال له : جزاك الله خيرا عن الإسلام و أهله أول أمرك و آخره ثم قال للناس : سيروا فتجهزوا بأجمعكم فتجهزوا و كتب الحجاج إلى عبد الملك بأن شبيبا شارف المدائن يريد الكوفة و هم عاجزون عن قتاله بما هزم جندهم و قتل أمراءهم و يستمده من جند الشام فبعث إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي في أربعة آلاف و حبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ألفين و ذلك سنة ست و سبعين و كتب الحجاج إلى عتاب بن الرياحي يستقدمه من عند المهلب و قد وقع بينهما كما مر فقدم عتاب و ولاه على الجيش فشكر زهرة بن حوية له و قال : رميتهم بحجرهم و الله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل و بعث الحجاج إلى جند الشام يحذرهم البيات و يوصيهم الإحتياط و أن يأتوا على عين التمر و عسكر عتاب بجماع أعين ثم قطع شبيب دجلة إلى المدائن و بعث إليه مطرف أن يأتيه رجال من وجوههم ينظر في دعوتهم فرجا منه و بعث إليه بغيث بن سويد في جماعة مكثوا عنده أربعا و لم يرجعوا من مطرف بشيء و نزل عتاب الصراة و خرج مطرف إلى الجبال خوفا أن يصل خبره مع شبيب إلى الحجاج فخلا لهم الجو و جاء مضاد إلى المدائن فعقد الجسر و نزل عتاب سوق حكم في خمسين ألفا و سار شبيب بأصحابه في ألف رجل فصلى الظهر بساباط و أشرف على عسكر عتاب عند المغرب و قد تخلف عنه أربعمائة من أصحابه فصلى المغرب و عبى أصحابه ستمائة سويد بن سليم في مائتين في الميسرة و المحلل بن وائل في مائتين في الميمنة و هو في مائتين في القلب و كان على ميمنة عتاب محمد بن عبد الرحمن بن سعيد و على ميسرته نعيم بن عليم و على الرجالة حنظلة بن الحرث اليربوعي و هو ابن عمه و هم ثلاثة صفوف بين السيوف و الرماح و الرماة ثم حرض الناس طويلا و جلس في القلب و معه زهرة بن مرتد و عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث و أبو بكر بن محمد بن أبي جهم العدوي و أقبل شبيب حين أضاء القمر بين العشاءين فحمل على الميسرة و فيها ربيعة فانقضوا و ثبت قبيصة بن والق و عبيد بن الحليس و نعيم بن عل رايتهم حتى قتلوا ثم حمل شبيب على عتاب بن ورقاء و حمل سويد بن سليم على محمد بن سليم في الميمنة في تميم و همدان و اشتد القتال و خالط شبيب القلب و انفضوا و تركوا عتابا و فر ابن الأشعث في ناس كثيرين و قتل عتاب بن ورقاء و ركب زهرة بن حوية فقاتل ساعة ثم طعنه عامر بن عمر الثعلبي من الخوارج و وطأته الخيل فقتله الفضل بن عامر الشيباني منهم و وقف عليه شبيب و توجع له و نكر الخوارج ذلك و قالوا : أتتوجع لرجل كافر ؟ فقال : أعرف قديمه ثم رفع السيف عن الناس ودعا للبيعة فبايعوه و هربوا تحت ليلهم و حوى ما في العسكر و أتاه أخوه من المدائن و أقام يومين ثم سار نحو الكوفة و لحق سفيان بن الأبرد و عسكر الشام بالحجاج فاستغنى بهم عن أهل الكوفة و اشتد بهم و خطب فوبخ أهل الكوفة و عجزهم و جاء شبيب فنزل حمام أعين فسرح الحجاج إليه الحرث بن معاوية الثقفي في نحو ألف من الشرط لم يشهدوا يوم عتاب فبادر إليه شبيب فقتله و انهزم أصحابه إلى الكوفة و أخرج الحجاج مواليه فأخذوا بأفواه السكك و جاء شبيب فنزل السبخة ظاهر الكوفة و بنى بها مسجدا و سرح مولاه أبا الورد في غلمان لقتاله فحمل عليه شبيب و قتله يظنه الحجاج ثم أخرج إليه مولاه طهمان كذلك فقتله فركب الحجاج في أهل الشام و جعل سيرة بن عبد الرحمن بن مخنف على أفواه السكك و قعد على كرسيه و نادى في أهل الشام و حرضهم فغضوا الأبصار و جثوا على الركب و شرعوا الرماح و أقبل شبيب في ثلاثة كراديس معه و مع سويد بن سليم و مع المحلل بن وائل و حمل سويد و بيتوا و طاعنوه حتى انصرف و قدم الحجاج كرسيه و حمل المحلل ثانية فكذلك و قدم الحجاج كرسيه فثبتوا له و ألحقوا بأصحابه و سرب شبيب سويد بن سليم إلى أهل السكك و كان عليها عروة بن المغيرة بن شعبة فلم يطق دفاعه ثم حمل شبيب فطاعنوه و ردوه و انتهى الحجاج إلى مسجده و صعد و ملك العرصة و قال له خالد ابن عتاب إئذن لي في قتالهم فإني موتور فأذن له فجاءهم من ورائهم و قتل أخا شبيب و غزالة إمرأته و خرق عسكرهم و حمل الحجاج عليهم فانهزموا و تخلف شبيب ردأ لهم فأمر الحجاج أصحابه بموادعتهم و دخل الكوفة فخطب و بشر الناس ثم سرح حبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ثلاثة آلاف فارس لاتباعه و حذره بيانه فانتهى في أثره إلى الأنبار و قد افترق عن شبيب كثير من أصحابه للأمان الذي نادى الحجاج به فجاءه شبيب عند الغروب و قد قسم حبيب جنده أرباعا و تواصوا بالاستماتة فقاتلهم شبيب طائفة بعد فما زالت قدم إنسان عن موضعها إلى آخر الليل ثم نزل شبيب و أصحابه و اشتد القتال و كثر القتلى و سقطت الأيدي و فقئت الأعين و قتل من أصحابه شبيب نحو ثلاثين و من أهل الشام نحو مائة و أدركهم الإعياء و الفشل جميعا فانصرف شبيب بأصحابه و قطع دجلة و مر في أرض خوخى ثم قطع دجلة أخرى عند واسط و مضى على الأهواز و فارس إلى كرمان ليريح بها و قد قيل في هذه الحرب غير هذا و هو أن الحجاج بعث إليه أمراء واحدا بعد واحد فقتلهم و كان منهم أعين صاحب حمام أعين و كان غزالة إمرأة شبيب نذرت أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين بالبقرة و آل عمران فجاء شبيب و دخل الكوفة ليلا و أوفت بنذرها ثم قاتلهم الناس و خرجوا و قام الحجاج في الناس يستشيرهم و برز إليه قتيبة و عذله في بعث الرعاع ينهزمون و يموت قائدهم و الرأي أن تخرج بنفسك فتحالمه فخرج من الغد إلى السبخة و بها شبيب و اختفى مكانه عن القوم و نصب أبا الورد مولاه تحت اللواء فحمل عليه شبيب فقتله ثم حمل على خالد بن عتاب في الميسرة ثم على مطرف بن ناجية في الميمنة فكشفهما و نزل عند ذلك الحجاج و أصحابه و جلس على عباءة و معه عنبسة بن سعيد و بينما هم على ذلك إذ اختلف الخوارج و قال مصقلة بن مهلهل الضبي لشبيب : ما تقول في صالح بن مسرح ؟ قال : برئت منه فبرئ مصقلة منه و فارقه و شعر الحجاج بإختلافهم فسرح خالد بن عتاب لقتالهم فقاتلهم في عسكرهم و قتل غزالة و بعث برأسها إلى الحجاج فأمر شبيب من اعترضه فقتل حامله و جاء به فغسله و دفنه و انصرف الخوارج و تبعهم خالد و قتل مضاد أخو شبيب و رجع خالد عنهم بعد أن أبلى و سار شبيب إلى كرمان و كتب الحجاج إلى عبد الملك يستمده فبعث إليه سفيان بن الأبرد الكلبي في العساكر فأنفق فيهم المال و سرحه بعد انصراف الخوارج بشهرين و كتب إلى عامل البصرة و هو الحكم بن أيوب زوج ابنته أن يبعثه بأربع آلاف فارس من جند البصرة إلى سفيان فبعثهم مع زياد بن عمر العتكي فلحقه ـ ـ ـ انقضاء الحرب و كان شبيب بعد أن استجم بكرمان أقبل راجعا فلقي سفيان بالأهواز فعبر إليه جسر دجيل و زحف في ثلاثة كراديس فقاتلهم أشد قتال و حملوا عليهم أكثر من ثلاثين حملة و سفيان و أهل الشام مستميتين يزحفون زحفا حتى اضطر الخوارج إلى الجسر فنزل شبيب في مائة من أصحابه و قاتل إلى المساء حتى إذا جاء الليل انصرف و جاء إلى الجسر فقدم أصحابه و هو على أثرهم فلما مر بالجسر اضطرب حجر تحت حافر فرسه و هو على حرف السفينة فسقط في الماء و غرق و هو يقول : و كان أمر الله مفعولا ذلك تقدير العزيز العليم و جاء صاحب الجسر إلى سفيان و هو يريد الإنصراف بأصحابه فقال : إن رجلا من الخوارج سقط فتنادوا بينهم غرق أمير المؤمنين و مروا و تركوا عسكرهم فكبر سفيان و أصحابه و ركب إلى الجسر و بعث إلى عسكرهم فحوى ما فيه و كان كثير الخيرات ثم استخرجوا شبيبا من النهر و دفنوه (3/190)
خروج المطرف و المغيرة بن شعبة
لما ولى الحجاج الكوفة و قدمها وجد بني المغيرة صلحاء أشرافا فاستعمل عروة على الكوفة و مطرفا على المدائن و حمزة على همذان فكانوا أحسن العمال سيرة و أشدهم على المريب و لما جاء شبيب إلى المدائن نزل نهر شير و مطرف بمدينة الأبواب فقطع مطرف الجسر و بعث إلى شبيب أن يرسل إليه من يعرض عليه الدعوة فبعث إليه رجلا من أصحابه فقالوا نحن ندعو إلى كتاب الله و سنة رسوله و أنا نقمنا على قومنا الاستئثار بالفيء و تعطيل الحدود و التسبط بالجزية فقال مطرف دعوتم إلى حق ـ ـ ـ جورا ظاهرا و أنا لكم متابع فبايعوني على قتال هؤلاء الظلمة بإحداثهم و على الدعاء إلى الكتاب و السنة على الشورى كما تركها عمر بن الخطاب حتى يولي المسلون من يرضونه فإن العرب إذا علمت أن المراد بالشورى الرضا من قريش رضوا فكثر مبايعكم فقالوا : لا نجيبك إلى هذا ! و أقاموا أربعة أيام يتناظرون في ذلك و لم يتفقوا و خرجوا من عنده ثم دعا مطرف أصحابه و أخبرهم بما دار بينه و بين أصحاب شبيب و أن رأيه خلع عبد الملك و الحجاج فوجموا من قوله و أشاروا عليه بالكتمان فقال له يزيد بن أبي زياد مولى أبيه لن و الله يخفى على الحجاج شيء مما وقع و لو كنت في السحاب لاستنزلك فالنجاء بنفسك و وافقه أصحابه فسار عن المدائن إلى الجبال و لما كان في بعض الطريق دعا أصحابه إلى الخلع و الدعاء إلى الكتاب و السنة و أن يكون الأمر شورى فرجع عنه بعض إلى الحجاج منهم سبرة بن عبد الرحمن مخنف و سار مطرف و مر بحلوان و بها سويد بن عبد الرحمن السعدي مع الأكراد فاعترضوه فأوقع مطرف بهم و أثخن في الأكراد و مال عن همذان ذات اليمين و بها أخو حمزة و استمده بمال و سلاح فأمده سرا و سار إلى قم و قاشان فبعث عماله في نواحيه و فزع إليه كل جانب فجاء سويد بن سرحان الثفقي و بكير بن هرون النخعي من الري في نحو مائة رجل و كان على الري عدي بن زياد الأيادي و على أصبهان البراء بن قبيصة فكتب إلى الحجاج بالخبر و استمده فأمده بالرجال و كتب إلى عدي بالري أن يجتمع مع البراء على حرب مطرف فاجتمعوا في ستة آلاف و عدي أميرهم و كتب الحجاج إلى قيس بن سعد البجلي و هو على شرطة حمزة بهمذان بأن يقبض على حمزة و يتولى مكانه فجاءه في جمع من عجل و ربيعة و أقرأه كتاب الحجاج فقال سمعا و طاعة و قبض قيس عليه و أودعه السجن و سار عدي و البراء نحو مطرف فقاتلوه و انهزم أصحابه و قتل يزيد مولى أبيه و كان صحاب الراية و قتل من أصحابه عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي و كان ناسكا صالحا و كان الذي تولى قتل مطرف عمر بن هبيرة الفزاري و بعث عدي أهل البلاء إلى الحجاج و أمر بكير بن هرون و سويد بن سرحان و كان الحجاج يقول مطرف ليس بولد للمغيرة و إنما هم ابن مصقلة الحر لأن أكثر الخوارج كانوا من ربيعة لم يكن فيهم من قيس (3/200)
اختلاف الأزارقة
قد تقدم لنا مقام المهلب في قتال الأزارقة على سابور بعد مسير عتاب عنه إلى الحجاج و أنه أقام في قتالهم سنة و كانت كرمان لهم و فارس للمهلب فانقطع عنهم المدد و ضاقت حالهم فتأخروا إلى كرمان و تبعهم المهلب و نزل خيررفت مدينة كرمان و قاتلهم حتى أزالهم عنها و بعث الحجاج العمال على نواحيها و كتب إليه عبد الملك بتسويغ ـ ـ ـ للمهلب معونة له على الحرب و بعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة يستحثه لقتال الخواج فسار و قاتلهم و البراء مشرف عليه من ربوة و اشتد قتاله و جاء البراء من الليل فتعجب لقتاله و انصرف إلى الحجاج و أنهى غدر المهلب و قاتلهم ثمانية عشر شهرا لا يقدر منهم على شيء ثم وقع الاختلاف بينهم فقيل في سببه أن المقعطر الضبي و كان عاملا لقطري على بعض نواحي كرمان قتل بعض الخوارج فطلبوا القود منه فمنعه قطري و قال : تأول فأخطأ هو من ذوي السابقة فاختلفوا و قيل بل كان رجل في عسكرهم يصنع النصول مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب فكتب المهلب كتابا مع رجل و امرأة أن يلتقيه في عسكرهم و فيه وصلت نصالك و قد أنفذت إليك ألف درهم فلما و قف على الكتاب سأل الصانع فأنكر فقتله فأنكر عليه عبد ربه الكبير و اختلفوا و قيل بعث المهلب نصرانيا و أمره بالسجود لقطري فقتله بعض الخوارج و ولوا عبد ربه الكبير و خلعوا قطريا فبقي في نحو الخمسين منهم و أقاموا يقتتلون شهرا ثم لحق قطري بطبرستان و أقام عبد ربه بكرمان و قاتلهم المهلب و حاصرهم بخيرفت و لما طال عليهم الحصار خرجوا بأموالهم و حريمهم و هو يقاتلهم حتى أثخن فيهم ثم دخل خيرفت و سار في اتباعهم فلحقهم على أربعة فراسخ فقاتلهم هو و أصحابه حتى أعيو و كف عنهم ثم استمات الخوارج و رجعوا فقاتلوه حتى يئس من نفسه ثم نصره الله عليهم و هزمهم و قتل منهم نحوا من أربعة آلاف كان منهم عبد ربه الكبير و لم ينج إلا القليل و بعث المهلب المبشر إلى الحجاج فأخبره و سأله عن بني المهلب عليهم واحدا واحدا قال : فأيهم كان أنجد ؟ قال : كانوا كالحلقة المفزعة لا يعرف طرفها فاستحسن قوله و كتب إلى المهلب يشكره و يأمره أن يولي على كرمان من يراه و ينزل حامية و يقدم عليه فولى عليها إبنه يزيد و قدم على الحجاج فاحتفل لقدومه و أجلسه إلى جانبه و قال : يا أهل العراق أنتم عبيد المهلب ! و سرح سفيان بن الأبرد الكلبي في جيش عظيم نحو طبرستان لطلب قطري و عبيدة بن هلال و من معهم من الخوارج و التقوا هنالك بإسحق بن محمد بن الأشعث في أهل الكوفة و اجتمعا على طلبهم فلقوهم في شعب من شعاب طبرستان و قاتلوهم فافترقوا عن قطري و وقع عن دابته فتدهده إلى أسفل الشعب و مر به علج فاستقاه على أن يعطيه سلاحه فعمد إلى أعلى الشعب و حدر عليه حجرا من فوق الشعب فأصابه في رأسه فأوهنه و نادى بالناس فجاء في أولهم نفر من أهل الكوفة فقتلوه ـ ـ ـ منهم سورة بن أبجر التميمي و جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف و السياح بن محمد بن الأشعث و حمل رأسه أبو الجهم إلى إسحق بن محمد فبعث به الحجاج و بعثه الحجاج إلى عبد الملك و ركب سفيان فأحاط بالخوارج و حاصرهم حتى أكلوا دوابهم ثم خرجوا إليه و استماتوا فقتلهم أجمعين و بعث برؤوسهم إلى الحجاج و دخل دنباوند و طبرستان فكان هناك حتى عزله الحجاج قبل دير الجماجم قال بعض العلماء و انقرضت الأزارقة بعد قطري و عبيدة آخر رؤسائهم و أول رؤسائهم نافع بن الأزرق و اتصل أمرهم بضعا و عشرين سنة إلى أن افترقوا كما ذكرناه سنة سبع و سبعين فلم تظهر لهم جماعة إلى رأس المائة (3/201)
خروج سودب
خرج سودب هذا أيام عمر بن عبد العزيز على رأس المائة و اسمه بسطام و هو من بني يشكر فخرج في مائتي رجل و سار في خوخى و عامل الكوفة يومئذ عبد الحميد ابن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطاب فكتب إليه عمر أن لا يعرض لهم حتى يقتلوا أو يفسدوا فيوجه إليهم الجند مع صليب حازم فبعث عبد الحميد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين فأقام بازائة لا يحركه و كتب عمر إلى سودب : بلغني أنك خرجت غضبا لله و لرسوله و كنت أولى بذلك مني فهلم إلي أناظرك فإن كان الحق معنا دخلت مع الناس و إن كان الحق معك نظرنا في أمرك فبعث إليه عاصما الحبشي مولى بني شيبان و رجلا من بني يشكر فقدما عليه بخاصر فسألهما ما أخرجكم و ما الذي نقمتم ؟ فقال عاصم ما نقمنا سيرتك إنك لتتحرى العدل و الإحسان فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر مشورة من الناس أم غلبت عليه ؟ قال عمر : ما سألته و لا غلبت عليه و عهد إلي رجل قبلي فقمت و لم ينكر أحد و مذهبكم الرضا لكل من عدل و إن أنا خالفت الحق فلا طاعة لي عليكم قالا : فقد خالفت أعمال أهل بيتك و سميتها مظالم فتبرأ منهم و العنهم فقال عمر : أنتم تريدون الآخرة و قد أخطأتم طريقها و إن الله لم يشرع اللعن و قد قال إبراهيم : و من عصاني فإنك غفور رحيم و قال : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده و بقي تسمية أعمالهم مظالم ذما و لو كان لعن اهل الذنوب فريضة لوجب عليكم لعن فرعون أنتم لا تلعنونه و هو أخبث الخلق فكيف ألعن انا أهل بيتي و هم مصلون صائمون و لم يكفروا بظلمهم ! لأن النبي صلى الله عليه و سلم دعا إلى الإيمان و الشريعة فمن عمل بها قبل منه و من أحدث حدثا فرض عليه الحد فقالا : فإن النبي صلى الله عليه و سلم دعا إلى التوحيد و الإقرار بما نزل عليه فقال عمر : و ليس أحد ينكر ما نزل عليه و لا يقول لا أعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم لكن القوم أسرفوا على أنفسهم قال عاصم : فابرأ منهم و رد أحكامهم قال عمر : أتعلمان ان أبا بكر سبى أهل الردة و أن عمر ردها بالفدية و لم يبرأ من أبي بكر و أنتم لا تبرؤون من واحد منهما قال : فأهل النهروان خرج أهل الكوفة منهم فلم يقتتلوا و لا استعرضوا و خرج أهل البصرة فقتلوا عبد الله بن حباب و جارية حاملا و لم يتبرأ من لم يقتل ممن قتل و استعرض و لا أنتم تتبرؤن من واحد منهما و كيف ينفعكم ذلك مع علمكم باختلاف أعمالكم ؟ و لا يسعني أنا البراءة من أهل بيتي و الدين واحد فاتقوا الله و لا تقبلوا المردود و تردوا المقبول و قد أمن رسول الله صلىالله عليه وسلم من شهد شهادة الإسلام و عصم ماله و دمه و أنتم تقتلونه و يأمن عندكم سائر الأديان و تحرمون دماءهم و أموالهم فقال اليشكري من استأمن على قوم و أموالهم فعدل فيها ثم صيرها بعده إلى رجل غير مأمون أتراه أدى الحق الذي لزمه ؟ فكيف تسلم هذا الأمر بعدك إلى يزيد مع علمك أنه لا يعدل فيه ؟ فقال : إنما ولاه غيري و المسلمون أولى بذلك بعدي قال : فهو حق ممن فعله و ولاه قال أنظراني ثلاثا ثم جاءه عاصم فرجع عن رأي الخوارج و قال له اليشكري : أعرض عليهم ما قلت و اسمع حجتهم و أقام عاصم عند عمرو و أمر له بالعطاء و توفي عمر لأيام قلائل و محمد بن جرير ينتظر عود الرسل و لما مات عمر كتب عبد الحميد إلى محمد بن جرير بمناجرة سودب قبل أن يصل إليهم خبر عمر فقالت الخوارج ما خالف هؤلاء ميعادهم إلا وقد مات الرجل الصالح و اقتتلوا فانهزم محمد بن جرير و اتبعه الخوارج إلى الكوفة و جعوا و قدم على سودب صاحباه و أخبراه بموت عمر و سرح يزيد تميم بن الحباب في ألفين فهزمه أصحابه ثم بعث إليهم الشجاع بن وادع في ألفين فقتلوه و هزموه بعد أن قتل منهم هدبة ابن عم سودب و بقي الخوارج بمكانهم و جاء مسلمة إلى الكوفة فأرسل سعيد بن عمرو الحريشي في عسكر آلاف فاستماتت الخوارج و كشفوا العساكر مرارا ثم حملوا عليهم فطحنوهم طحنا و قتل سودب و أصحابه و لم يبق منهم أحد و ضعف أمر الخوارج إلى ظهور أيام هشام سنة عشرين و مائة بهلول بن بشر بن شيبان و بلغت كنارة و كان لما عزم على الخوارج حج و لقي بمكة من كان على رأيه فأبعدوا إلى قرية من قرى الموصل و اجتمعوا بها و هم أربعون و أمروا عليهم البهلول و أخفوا أنفسهم بأنهم قدموا من عند هشام و مروا بقرية كان بهلول ابتاع منها خلا فوجده خمرا و أبى البائع من رده و استعدى عليه عامل القرية فقال : الخمر خير منك و من قومك فقتلوه و أظهروا أمرهم و قصدوا خالد القسري بواسط و تعللوا عليه بأنه يهدم المساجد و يبني الكنائس و يولي المجرد على المسلمين و جاء الخبر إلى خالد فتوجه من واسط إلى الحيرة و كان بها جند من بني العين نحو ستمائة بعثوا مددا لعامل الهند فبعثهم خالد مع مقدمهم لقتال بهلول و أصحابه و ضم إليهم مائتين من الشرط و التقوا على الفرات فقتل مقدمهم و انهزموا إلى الكوفة و بعث خالد عابدا الشيباني من بني حوشب بن يزيد بن رويم فلقيه بين الموصل و الكوفة فهزمهم إلى الكوفة و ارتحل يريد الموصل ثم بدا له و سار يريد هشاما بالشام و بعث خالد جندا من العراق و عامل الجزيرة جندا و بعث هشام جندا فاجتمعوا بين الجزيرة و الموصل بكحيل و هم في عشرين ألفا و بهلول في سبعين فقاتلوا و استماتوا و صرع بهلول و سأله أصحابه العهد فعهد إلى دعامة الشيباني ثم إلىعمر اليشكري من بعده ومات بهلول من ليلته و هرب دعامة و تركهم ثم خرج عمر اليشكري فلم يلبث أن قتل ( ثم خرج ) على خالد بعد ذلك بسنتين الغفري صاحب الأشهب و بهذا كان يعرف فبعث إليه السمط بن مسلم البجلي في أربعة آلاف فالتقوا بناحية الفرات فانهزمت الخوارج و لقيهم عبيد أهل الكوفة و غوغاؤهم فرموهم بالحجارة حتى قتلوهم ثم خرج وزير السختياني على خالد بالحيرة فقتل و أحرق القرى فوجه إليه خالد جندا فقتلوا أصحابه و أثخن بالجراح و أتى به خالد فوعظه فأعجبه وعظه فأعفاه من القتل و كان يسامره بالليل و سعى بخالد إلى هشام و أنه أخذ حروريا يستحق القتل فجعله سميرا فكتب إليه هشام بقتله فقتله ثم خرج ذلك الصخاري بن شبيب بالفريفية فمضى و ندم خالد فطلبه فلم يرجع و أتى جبل و بها نفر من اللات بن ثعلبة فأخبرهم و قال : إنما أردت التوصل إليه لأقتله بفلان من قعدة الصغرية كان خالد قتله صبرا ثم خرج معه ثلاثون منهم فوجه إليهم خالد جندا فلقوهم بناحية المناذر فاقتتلوا فقتل الصحارى و أصحابه أجمعون و رد أمر الخوارج بعد ذلك مرة فلما وقعت الفتن أيام هشام بالعراق و الشام و شغل مروان بمن انتقض عليه فخرج بأرض كفريموتا سعيد بن بهدل الشيباني في مائتين من أهل الجزيرة و كان على رأي الحرورية و خرج بسطام البهسي في مثل عدتهم من ربيعة و كان مخالفا لرأيه فبعث إليه من الصغرية أربعة آلاف أو يزيدون و ولى مروان على العراق النضر بن سعيد الحريشي و عزل به عبد الله بن عمر بن عبد العزيز فامتنع عبد الله بالحيرة و سار إليه النضر و تحاربا أشهرا و كانت الصغرية مع النضر عصبة لمروان لطلبه بدم الوليد و أمه قيسية فلما علم الضحاك و الخوارج بإختلافهم و أقبل إلى العراق سنة سبع و عشرين و زحف إليهم فتراسل ابن عمر و النضر و تعاقدا و اجتمعا لقتاله بالكوفة و كل واحد منهما يصلى بأصحابه و ابن عمر أمير على الناس و جاء الخوارج فقاتلوهم فهزموهم إلى خندقهم ثم قاتلوهم في اليوم الثاني كذلك فسلك الناس إلى واسط منهم النضر بن سعيد الحريشي و منصور اين جمهور و إسمعيل أخوخالد القسري و غيرهم من الوجوه فلحق ابن عمر بواسط و استولى الضحاك على الكوفة و عادت الحرب بين ابن عمر و النضر ثم زحف إليهما الضحاك فاتفقا وقاتلا حتى ضرستهما الحرب و لحق منصور بن جمهور بالضحاك و الخوارج و بايعهم ثم صالحهم ابن عمر ليشغلوا مروان عنه و خرج إليهم و صلى خلف الضحاك و بايعه و كان معه سليمان بن هشام وصل إليه هاربا من حمص لما انتقض بها و عليه و عليها مروان فلحق بابن عمر و بايع معه الضحاك و صار معه و حرضه على مروان إنما لحق بالضحاك و هو يحاصر نضيرا و تزوج أخت شيبان الحروري فرجع الضحاك إلى الكوفة و سار منها إلى الموصل و عليهم القطران أم أكمه من بني شيبان عامل لمروان فأدخلهم أهل البلد و قاتلهم القطرن فقتل و من معه و بلغ الخبر إلى مروان و هو يحاصر حمص فكتب إلى ابنه عبد الله أن يسير إلى يمانع الضحاك عن توسط الجزيرة فسار في ثمانية آلاف فارس و الضحاك في مائة ألف و حاصره بنصيبين ثم سار مروان بن محمد إليه فالتقيا عند كفريموتا من نواحي ماردين فقاتله عامة يومه إلى الليل و ترجل الضحاك في نحو ستة آلاف و قاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم و عثر على الضحاك في القتلى فبعث مروان برأسه إلى الجزيرة و أصبح الخوارج فبايعوا الخبيري قائد الضحاك و عاودوا الحرب مع مروان فهزموه و انتهوا إلى خيامه فقطعوا أطنابهم و جلس الخبيري على فرشه و الجناحان ثابتان و على الميمنة عبد الله بن مروان و على الميسرة اسحق بن مسلم العقيلي فلما انكشف قله الخوارج أحاطوا بهم في مخيم مروان فقتلوهم جميعا و الخبيري معهم و رجع مروان من نحو ستة أميال و انصرف الخوارج و بايعوا شيبان الحروري و هو شيبان بن عبد العزيز اليشكري و يكنى أبا الدلقاء و قاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس و أبطل الصف من يومئذ و أقام في قتالهم أياما وانصرف عن شيبان كثير منهم و ارتحلوا إلى الموصل بإشارة سليمان بن هشام و عسكروا شرقي دجلة و عقدوا الجسور و اتبعهم مروان فقاتلهم لتسعة أشهر و قتل من الطائفتين خلق كثير و أسر ابن أخ لسليمان بن هشام اسمه أمية بن معاوية فقطعه ثم ضرب عنقه و كتب مروان إلى يزيد بن عمر بن هبيرة و هو بقرقيسيا يأمره بالسير إلى العراق و ولاه عليها و على الكوفة يومئذ المثنى بن عمران العائدي من قريش خليفة للخوارج فلقي ابن هبيرة بعين التمر فاقتتلوا و انهزمت الخوارج ثم تجمعوا له بالنخيلة ظاهر الكوفة فهزمهم ثم تجمعوا بالبصرة فأرسل شيبان إليهم عبيدة بن سوار في خيل عظيمة فهزمهم ابن هبيرة و قتل عبيدة و استباح عسكرهم و استولى على العراق و كان منصور بن جمهور مع الخوارج فمضى إلى الماهين و غلب عليها و على الخيل جميعا و سار ابن هبيرة إلى واسط فحبس ابن عمر و كان سليمان بن حبيب عامل ابن عمر على الأهواز فبعث ابن هبيرة إليه نباته بن حنظلة و بعث هو داود بن حاتم و التقيا على دجلة فانهزم داود و قتل و كتب مروان إلى ابن هبيرة أن يبعث إليه عامر بن ضبابة المزني فبعثه في ثمانية آلاف و بعث شيبان لاعتراضه الجون بن كلاب الخارجي في جمع فانهزم عامر و تحصن بالسند و جعل مروان يمده بالجنود و كان منصور بن جمهور بالجبل يمد شيبان بالأموال ثم كثرت جموع عامر فخرج إلى الجون و الخوارج اللذين يحاصرونه فهزمهم و قتل الجون و سار قاصدا الخوارج بالموصل فارتحل شيبان عنها و قدم عامر على مروان فبعثه في اتباع شيبان فمر على الجبل و خرج على بيضاء فارس و بها يومئذ عامر بن عبد الله بن حطوية بن جعفر في جموع كثيرة فسار ابن معاوية إلى كرمان وقاتله عامر فهزمه و لحق بهراة و سار عامر بمن معه فلقي شيبان و الخوارج بخيرفت فهزمهم و استباح عسكرهم و مضى شيبان إلى سجستان فهلك بها سنة ثلاثين و مائة و قيل بل كان قتال مروان و شيبان على الموصل شهرا ثم انهزم شيبان و لحق بفارس و عامر بن صراة في اتباعه ثم سار شيبان إلى جزيرة ابن كاوان و أقام بها و لما ولي السفاح بعث حارثة بن خزيمة لحرب الخوارج هنالك لموجدة وجدها عليه فأشير عليه ببعثه لذلك فسار في عسكر إلى البصرة و ركب السفن إلى جزيرة ابن كاوان و بعث فضالة بن نعيم النهيلي في خمسمائة فانهزم شيبان إلى عمان و قاتل هناك و قتله جلندي بن مسعود بن جعفر بن جلندي و من معه سنة أربع و ثلاثين و ركب سليمان بن هشام السفن بأهله و مواليه إلى الهند بعد مسير شيبان إلى جزيرة ابن كاوان حتى إذ بويع السفاح قدم عليه و أنشده سديف البتين المعروفين و هما :
( لايغرنك ما ترى من رجال ... إن بين الضلوع داء دويا )
( فضع السيف و ارفع الصوت حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا )
فقتله السفاح و انصرف مروان بعد مسير شيبان إلى الموصل إلى منزله بحران فلم يزل بها حتى سار إلى الزاب و مضى شيبان بعد سلمة إلى خراسان و الفتنة بها يومئذ بين نصر ابن سيار و الكرماني و الحرث بن شريح و قد ظهر أبو مسلم بالدعوة فكان له من الحوادث معهم ما ذكرناه و اجتمع مع علي بن الكرماني على قتال نصر بن سيار فلما صالح الكرماني أبا مسلم كما مر و فارق شيبان تنحى شيبان عن عمر لعلمه أنه لا يقاومه ثم هرب نصر بن سيار إلى سرخس و استقام أمر أبي مسلم بخراسان فأرسل إلى شيبان يدعوه إلى البيعة و يأذنه بالحرب و استجاش بالكرماني فأبى فسار إلى سرخس و اجتمع إليه الكثير من بكر بن وائل و أرسل إليه أبو مسلم في الموادعة فحبس الرسل فكتب أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم مولى بني ليث بالمسير إلى شيبان فسار إليه فهزمه و قتل في عدة من بكر بن وائل و يقال إن خزيمة بن حازم حضر مع بسام في ذلك (3/203)
خبر أبي حمزة و طالب و إسحق
كان اسم أبي حمزة الخارجي المختار بن عوف الأزدي البصري و كان من الخوارج الإباضية و كان يوافي مكة كل موسم يدعو إلى خلاف مروان و جاء عبد الله ابن يحيى المعروف بطالب الحق سنة ثمان و عشرين و هو من حضرموت فقال له : إنطلق معي فإني مطاع في قومي فانطلق معه إلى حضرموت و بايعه على الخلافة و بعثه عبد الله سنة تسع و عشرين مع بلخ بن عقبة الأزدي في سبعمائة فقدموا مكة و حكموا بالموقف و عامل المدينة يومئذ عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك فطلبهم في الموادعة حتى ينقض الموسم و أقام للناس حجهم و نزل بمنى و بعث إلى أبي حمزة عبيد الله بن حسن بن الحسن و محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان و عبد الرحمن بن القاسم بن محمد و عبيد الله ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن في أمثالهم فكشر في وجه العلوي و العثماني و انبسط إلى البكري و العمري و قال لهما : ما خرجنا إلا بسيرة أبويكما ! فقال له عبيد الله بن حسن : ما جئنا للتفضيل بين آبائنا و إنما جئنا برسالة من الأمير و ربيعة يخبرك بها ثم أحكموا معه الموادعة إلى مدتها و نفر عبد الواحد في النفر الأول فمضى إلى المدينة و ضرب على أهلها البعث و زادهم في العطاء عشرة و بعث عليهم عبد العزيز بن عبد الله بن عمر ابن عثمان فانتهوا إلى فديك و جاءتهم رسل أبي حمزة يسألونهم التجافي عن حربهم و أن يخلوا بينهم و بين عدوهم فلما نزلوا قديد و كانوا مترفين ليسوا بأصحاب حرب فطلع عليهم أصحاب أبي حمزة من الغياض فأثخنوا فيهم و كان قتلاهم نحو سبعمائة من قريش و بلغ الخبر إلى عبد الواحد فلحق بالشام و دخل أبو حمزة المدينة منتصف صفر سنة ثلاثين و خطب على المنبر و أعلن بدعوته و وعظ و ذكر و رد مقالات من عليهم و سفه رأيهم و أحسن السيرة في أهل المدينة و استمالهم حتى سمعوه يقول : من زنا فهو كافر و من سرق فهو كافر و أقام ثلاثة أشهر ثم ودعهم و سار نحو الشام و كان مروان قد سرح إليهم عبد الملك بن محمد بن عطية بن هوزان في أربعة آلاف ليقتل الخوارج حتى يبلغ اليمن فلقي أبا حمزة في وادي القرى فانهزمت الخوارج و قتل أبو حمزة و لحق فلهم بالمدينة و سار عطية في أثرهم إلى المدينة فأقام بها شهرا ثم سار إلى اليمن و استخلف على المدينة الوليد ابن أخيه عروة و على مكة رجلا من أهل الشام و بلغ عبد الله طالب الحق مسيرة إليه و هو بصنعاء فخرج للقائه و اقتتلوا و قتل طالب الحق و سار ابن عطية إلى صنعاء و ملكها و جاء كتاب مروان بإقامة الجح بالناس فسار في إثنتي عشر رجلا و معه أربعون ألف دينار و خلف ثقله بصنعاء و نزل الحرف فاعترضه ابن حماية المرادي في جمع و قال له و لأصحابه : أنتم لصوص فاستظهروا بعهد مروان فكذبوه و قاتلهم فقتلوه و ركد ريح الخوارج من يومئذ إلى أن ظهرت الدولة العباسية و بويع المنصور بعد السفاح ( فخرج سنة سبع و ثلاثين ) بالجزيرة ملبد بن حرملة الشيباني فسارت إليه روابط الجزيرة في ألف فارس فهزمهم و قاد منهم ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبي و مهلل بن صفوان مولى المنصور ثم نزار من قواد خراسان ثم زياد بن مسكان ثم صالح بن صبيح فهزمهم كلهم واحدا بعد واحد و قتل منهم ثم سار إليه حميد بن قحطبة و هو عامل الجزيرة فهزمه و تحصن حميد منه فبعث المنصور عبد العزيز بن عبد الرحمن أخا عبد الجبار في الجيوش و معه زياد بن مسكان فأكمن له الملبد و قاتلهم ثم خرج الكعبين فانهزم عبد العزيز و قتل عامة أصحابه فبعث المنصور حازم بن خزيمة في ثمانية آلاف من أهل خراسان فسار إلى الموصل و عبر إليه الملبد دجلة فقاتله فانهزم أهل الميمنة و أهل الميسرة من أصحاب حازم و ترجل حازم و أصحابه و ترجل ملبد كذلك و أمر حازم أصحابه فنضحوهم بالنبل و اشتد القتال و تزاحفت الميمنة و الميسرة و رشقوهم فقتل ملبد في ثمانمائة ممن ترجل معه ثلثمائة قبل أن يترجل و تبعهم فضالة صاحب الميمنة فقتل منهم زهاء مائة و خمسين ثم خرج سنة ثمان و أربعين أيام المنصور بنواحي الموصل حسان بن مخالد بن مالك بن الأجدع الهمداني أخو مسروق و كان على الموصل الصغر بن يجدة وليها بعد حرب بن عبد الله فسار إليهم فهزموه إلى الدجلة و سار حسان إلى العمال ثم إلى البحر و ركب إلى السند و قاتل و كاتب الخوارج بعمان يدعوهم و يستأذنهم في اللحاق بهم فأبوا و عاد إلى الموصل فخرج إليه الصفر بن الحسن ابن صالح بن جنادة الهمداني و هلال فقتل هلالا و استبقى ابن الحسن فاتهمه بعض أصحابه بالعصبية و فارقوه و قد كان حسان أمه من الخوارج و خاله حفص بن أشتم من فقهائهم و لما بلغ المنصور خروجه قال : خارجي من همذان فقيل له إنه ابن أخت حفص بن أشتم قال : من هناك و إنما أنكر المنصور ذلك لأن عامة همذان شيعة و عزم المنصور على الفتك بأهل الموصل فإنهم عاهدوه على أنهم إن خرجوا فقد فلت ديارهم و أموالهم و أحضر أبا حنيفة و ابن أبي ليلى بن شبرمة و استفتاهم فتلطفوا له في العفو فأشار إلى أبي حنيفة فقال : أبا حوا ما لا يملكون كما لو أباحت إمرأة فزوجها بغير عقد شرعي فكف عن أهل الموصل ثم خرج أيام المهدي بخراسان يوسف بن إبراهيم المعروف بالبرة و اجتمع شركس فبعث إليه المهدي يزيد بن مزيد الشيباني ابن أخي معن فاقتتلوا قتالا شديدا و أسره يزيد و بعث به إلى المهدي موثقا و حمل من النهروان على بعير و حول وجهه إلى ذنبه كذلك فدخلوا إلى الرصافة و قطعوا ثم صلبوا و كان حروبا متعودا فغلب على بوشنج و مرو الروذ و الطالقان و الجوزجان و كان على بوشنج مصعب بن زريق جد طاهر بن الحسين فهرب منه و كان من أصحابه معاذ الفارياني و قبض معه ثم خرج معه أيام المهدي بالجزيرة حمزة بن مالك الحزاعي سنة تسع و ستين و هزم منصور بن زياد و صاحب الخراج و قوي أمره ثم اغتاله بعض أصحابه فقتله ثم خرج آخر أيام المهدي بأرض الموصل خارجي من بني تميم اسمه ياسين يميل إلى مقاتله صالح بن مسرح فهزم عسكر الموصل و غلب على أكثر ديار ربيعة و الجزيرة فبعث إليه المهدي القائد أبا هريرة محمد بن مروخ و هزيمة بن أعين مولى بني ضبة فحارباه حتى قتل في عدة من أصحابه و انهزم الباقون ثم خرج بالجزيرة أيام الرشيد سنة ثمان و سبعين الوليد بن طريف من بني مغلب و قتل إبراهيم بن خالد ابن خزيمة بنصيبين ثم دخل أرمينية و حاصر خلاط عشرين يوما و افتدوا بثلاثين ألفا ثم سار إلى أذربيجان ثم إلى حلوان و أرض السود و عبر إلى غرب دجلة و عاث في أرض الجزيرة فبعث إليه الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني و هو ابن أخي معن في العساكر فمكث يقاتله و كانت البرامكة منحرفة عن يزيد فاغروا به الرشيد و أنه أبقى على الوليد برجم وائل فكتب إليه الرشيد يتهدده فناجزه يزيد الحرب في رمضان سنة تسع و سبعين و قاتلهم قتالا شديدا فقتل الوليد وجيء برأسه ثم أصبحت أخته مستلئمة للحرب فخرج إليها يزيد و ضربها على رأسها بالرمح و قال لها أعدي فقد فضحت العشيرة فاستحيت و انصرفت و هي تقول في رثائه الأبيات المشهورة التي منها :
( أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف )
( فتى لا يحب الزاد إلا من التقى ... و لا المال إلا من قنا و سيوف )
و انقرضت كلمة هؤلاء بالعراق و الشام فلم يخرج بعد ذلك إلا شذاذ متفرقون يستلحمهم الولاة بالنواحي إلا ما كان من خوارج البربر بأفريقية فإن دعوة الخارجية فشت فيهم من لدن مسيرة الظفري سنة ثلاث و عشرين و مائة ثم فشت دعوة الإباضية و الصفرية منهم في هوارة و لماية و نفزة و مغيلة و في مغراوة و بني يفرن من زناتة حسما يذكر في أخبار البربر لسي رستم من الخوارج بالمغرب دولة في تاهرت من الغرب الأوسط نذكرها في أخبار البربر أيضا ثم سار بأفريقية منهم على دولة العبيديين خلفاء القيروان أبو يزيد بن مخلد المغربي و كانت له معهم حروب و أخبار تذكرها في موضعها ثم لم يزل أمرهم في تناقض إلى أن اضمحلت ديانتهم و افترقت جماعتهم و بقيت آثار نحلتهم في أعقاب البربر الذين دانوا بها أول الأمر ففي بلاد زناته بالصحراء منها أثر باق لهذا العهد في قصور ربع و واديه في مغراوة من شعوب زناتة و يسمون الراهبية نسبة إلى عبد الله بن وهب الراهبي أول من بويع منهم أيام علي بن أبي طالب و هم في قصور هنالك مظهرين لبدعتهم لبعدهم عن مقال أهل السنة و الجماعة و كذلك في جبال طرابلس و زناتة أثر باق تلك النحلة تدين بها أولئك البربر في المجاورة لهم مثل ذلك و تطير إلينا هذا العهد من تلك البلاد دواوين و مجلدات من كلامهم في فقه الدين و تمهيد عقائده و فروعه مباينة لمناحي السنة و طرقها بالكلية و إلا أنها ضاربة بسهم في إجادة التأليف و الترتيب و بناء الفروع على أصولهم الفاسد و كان بنواحي البحرين و عمان إلى بلاد حضرموت و شرقي اليمن و نواحي الموصل آثار تفشي و عروق في كل دولة إلى أن خرج علي بن مهدي من خولان باليمن و دعا إلى هذه النحلة و غلب يومئذ من كان من الملوك باليمن و استلحم بني الصليحي القائمين بدعوة العبيديين من الشيعة و غلبوهم على ما كان بأيديهم من ممالك اليمن و استولوا أيضا على زبيد و نواحيها من يد موالي بني نجاح و مولى ابن زياد كما نذكر ذلك كله في أخبارهم إن شاء الله سبحانه و تعالى فلتصفح في أماكنها و يقال إن باليمن لهذا العهد شيعة من هذه الدعوة ببلاد حضرموت و الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء (3/210)
الدولة الإسلامية بعد افتراق الخلافة
لم يزل أمر الإسلام جميعا دولة واحدة أيام الخلفاء الأربعة و بني أمية من بعدهم لاجتماع عصبية العرب ثم ظهر من بعد ذلك أمر الشيعة و هم الدعاة لأهل البيت فغلب دعاة بني العباس على الأمر و استقلوا بخلافة الملك و لحق الفل من بني أمية بالأندلس فقام بأمرهم فيها من كان هنالك من مواليهم و من هرب فلم يدخلوا في دعوة بني العباس و انقسمت لذلك دولة الإسلام بدولتين لافتراق عصبية العرب ثم ظهر دعاة أهل البيت بالمغرب و العراق من العلوية و نازعوا خلفاء بني العباس و استولوا على القاصبة من النواحي كالأدارسة بالمغرب الأقصى و العبيديين بالقيروان و مصر و القرامطة بالبحرين و الدواعي بطبرستان و الديلم و الأطروش فيها من بعده و انقسمت دولة الإسلام بذلك دولا متفرقة نذكرها واحدة بعد واحدة و نبدأ منها أولا بذكر الشيعة و مبادئ دولهم و كيف انساقت إلى العباسية و من بعدهم إلى آخر دولهم ثم نرجع إلى دولة بني أمية بالأندلس ثم نرجع إلى دولة الدعاة للدولة العباسية في النواحي من العرب و العجم كما ذكرناه في برنامج الكتاب و الله الموفق للصواب (3/214)
مبدأ دولة الشيعة
أعلم أن مبدأ هذه الدولة أن أهل البيت لما توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يرون أنهم أحق بالأمر و أن الخلافة لرجالهم دون من سواهم من قريش و في الصحيح أن العباس قال لعلي في وجع رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي توفي فيه : إذهب بنا إليه نسأله فيمن هذا الأمر إن كان فينا علمنا ذلك و إن كان في غيرنا علمناه فأوصى بنا فقال له علي : إن منعناها لايعطيناها الناس بعده و في الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في مرضه الذي توفي فيه : [ هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فاختلفوا عنده في ذلك و تنازعوا و لم يتم الكتاب ] و كان ابن عباس يقول : إن الرزية كل ما حال بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين ذلك الكتاب لاختلافهم و لغطهم حتى لقد ذهب كثير من الشيعة إلى أن النبي صلى الله عليه و سلم أوصى في مرضه ذلك لعلي و لم يصح ذلك من وجه يعول عليه و قد أنكرت هذه الوصية عائشة و كفى بإنكارها و بقي ذلك معروفا من أهل البيت و أشياعهم و فيما نقله أهل الآثار أن عمر قال يوما لابن العباس : إن قومكم يعني قريشا ما أرادوا أن يجمعوا لكم يعني يني هاشم بين النبوة و الخلافة فتحموا عليهم و أن ابن عباس نكر ذلك و طلب من عمر إذنه في الكلام فتكلم بما عصب له و ظهر من محاورتهما أنهم كانوا يعلمون أن في نفوس أهل البيت شيئا من أمر الخلافة و العدول عنهم بها و في قصة الشورى : أن جماعة من الصحابة كانوا يتشيعون لعلي و يرون استحقاقه على غيره و لما عدل به إلى سواه تأففوا من ذلك و أسفوا له مثل الزبير و معه عمار بن ياسر و المقداد بن الأسود و غيرهم إلا أن القوم لرسوخ قدمهم في الدين و حرصهم على الإلفة لم يزيدوا في ذلك على النجوى بالتأفف و الأسف : ثم لما فشا التكبر على عثمان و الطعن في الآفاق كان عبد الله ابن سبأ و يعرف بابن السوداء من أشد الناس خوضا في التشنيع لعلي بما لا يرضاه من الطعن على عثمان و على الجماعة في العدول إليه عن علي و أنه ولي بغير حق فأخرجه عبد الله بن عامر من البصرة و لحق بمصر فاجتمع إليه جماعة من أمثاله جنحو إلى الغلو في ذلك و انتحال المذاهب الفاسدة فيه مثل خالد بن ملجم و سوذان بن حمدان و كنانة بن بشر و غيرهم ثم كانت بيعة علي و فتنة الجمل و صفين و انحراف الخوارج عنه بما أنكروا عليه من التحكم في الدين و تمحضت شيعته للاستماته معه في حرب معاوية مع علي و بويع ابنه الحسن و خرج عن الأمر لمعاوية فسخط ذلك شيعة علي منه و أقاموا يتناجون في السر باستحقاق أهل البيت و الميل إليهم و سخطو من الحسن ما كان منه و كتبوا إلى الحسين بالدعاء له فامتنع و أوعدهم إلى هلاك معاوية فساروا إلى محمد بن الحنفية و بايعوه في السر على طلب الخلافة متى أمكنه و ولى على كل بلد رجلا و أقاموا على ذلك و معاوية يكف بسياسة من غربهم و يقتلع الداء إذا تعين له منهم كما فعل بحجر بن عدي و أصحابه و يروض من شماس أهل البيت و يسامحهم في دعوى تقدمهم و استحقاقهم و لا يهيج أحدا منهم بالتثريب عليه في ذلك إلى أن مات و ولي يزيد و كان من خروج الحسين و قتله ما هو معروف فكانت من أشنع الوقائع في الإسلام عظمت بها الشحناء و توغل الشيعة في شأنهم و عظم النكير و الطعن على من تولى ذلك أو قعد عنه ثم تلاوموا على ما أضاعوه من أمر الحسين و أنهم دعوه ثم لم ينصروه فندموا و رأوا أن لا كفارة في ذلك إلا الإستماتة دون ثأره و سموا أنفسهم التوابين و خرجوا لذلك يقدمهم سليمان بن صرد الخزاعي و معه جماعة من خيار أصحاب علي و كان ابن زياد قد انتقض عليه العراق و لحق بالشام و جمع و زرينج قاصدا العراق فزحفوا إليه و قاتلوه حتى قتل سليمان و كثير من أصحابه كما ذكرنا في خبره و ذلك سنة خمس و ستين ثم خرج المختار بن أبي عبيد و دعا لمحمد بن الحنفية كما قدمناه في خبره و فشا التعصب لأهل البيت في الخاصة و العامة بما خرج عن حدود الحق و اختلف مذاهب الشيعة فيمن هو أحق بالأمر من أهل البيت و بايعت كل طائفة لصاحبها سرا و رسخ الملك لبني أمية و طوى هؤلاء الشيعة قلوبهم على عقائدهم فيها و تستروا بها مع تعدد فرقهم و كثرة اختلافهم كما ذكرناه عند نقل مذاهبهم في فصل الإمامة من الكتاب الأول و نشأ زيد بن علي بن الحسين و قرأ على واصل بن عطاء إمام المعتزلة في وقته و كان واصل مترددا في إصابه علي في حرب صفين و الجمل فنقل ذلك عنه و كان أخوه محمد الباقر يعذله في الأخذ عمن يرى سخطية جده و كان زيد أيضا مع قوله بأفضلية علي على أصحابه يرى أن البيعة الشيخين صحيحة و أن إقامة المفضول جائزة ما عليه الشيعة و يرى أنهما لم يظلما عليا ثم دعته الحال إلى الخروج بالكوفة سنة إحدى و عشرين و مائة و اجتمع له عامة الشيعة و رجع عنه بعضهم لما سمعوه يثني على الشيخين و أنهما لم يظلما عليا و قالوا : لم يظلمك هؤلاء و رفضوا دعوته فسموا الرافضة من أجل ذلك ثم قاتل يوسف بن عمر فقتله يوسف بعث برأسه إلى هشام و صلب شلوه بالكناسة و لحق ابنه يحيى بخراسان فأقام بها ثم دعته شيعة إلى الخروج فخرج هنالك سنة خمس و عشرين و سرح إليه نصر بن سيار العساكر مع سالم بن أحور المازني فقتلوه و بعث برأسه إلى الوليد و صلب شلوه بالجوزجان و انقرض شأنه الزيدية و أقام الشيعة على شأنهم و انتظار أمرهم و الدعاء لهم في النواحي يدعون على الأحجال للرضا من آل محمد و لا يصرحون بمن يدعون له حذرا عليه من أهل الدولة و كان شيعة محمد بن الحنفية أكثر شيعة أهل البيت و كانوا يرون أن الأمر بعد محمد بن الحنفية لابنه أبي هشام عبد الله و كان كثيرا ما يغدو على سليمان بن عبد الملك فمر في بعض أسفاره محمد بن علي ابن عبد الله بن عباس بمنزلة بالحميمة من أعمال البلقاء فنزل عليه و أدركه المرض عنده فمات و أوصى له بالأمر و قد كان أعلم شيعته بالعراق و خراسان أن الأمر صائر إلى ولد محمد بن علي هذا فلما مات قصدت الشيعة محمد بن علي و بايعوه سرا و بعث الدعاة منهم إلى الآفاق على رأس مائة من الهجرة أيام عمر بن عبد العزيز و أجابه عامة أهل خراسان و بعث عليهم النقباء و تداول أمرهم هنالك و توفي محمد سنة أربع و عشرين و عهد لابنه إبراهيم و أوصى الدعاة بذلك و كانوا يسمونه الإمام ثم بعث أبو مسلم إلى أهل دعوته بخراسان فهلك و كتب إليهم بولايته ثم قبض مروان بن محمد على إبراهيم الإمام وحبسه بخراسان فهلك هنالك لسنة و ملك أبو مسلم خراسان و زحف إلى العراق فملكها كما ذكرنا ذلك كله من قبل و غلبوا بني أمية على أمرهم و انقرضت دولتهم (3/214)
الخبر عن بني العباس من دول الإسلام في هذه الطبقة الثالثة للعرب و أولية ـ أمرهم و إنشاء دولتهم و الالمام بنكت أخبارهم و عيون أحاديثهم
هذه الدولة من دولة الشيعة كما ذكرناه و فرقها منهم يعرفون بالكيسانية و هم القائلون بإمامة محمد بن علي بن الحنفية بعد علي ثم بعده إلى ابنه أبي هشام عبد الله ثم بعده إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بوصيته كما ذكرنا ثم بعده إلى ابنه إبراهيم الإمام ابن محمد ثم بعده إلى أخيه أبي العباس السفاح و هو عبد الله بن الحارثية و هكذا مساقها عند هؤلاء الكيسانية و يسمون أيضا الحرماقية نسبة إلى أبي مسلم لأنه كان يلقب بحرماق و لبني العباس أيضا شيعة يسمون الراوندية من أهل خراسان يزعمون أن أحق الناس بالإمامة بعد النبي صلى الله عليه و سلم هو العباس لأنه وارثة و عاصبه لقوله و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله و أن الناس منعوه من ذلك و ظلموه إلى أن رده الله إلى ولده و يذهبون إلى البراءة من الشيخين و عثمان و يجيزون بيعة علي لأن العباس قال له يا ابن أخي هلم أبايعك فلا يختلف عليك إثنان و لقول داود بن علي ( عم الخليفة العباسي ) على منبر الكوفة يوم بويع السفاح : يا أهل الكوفة إنه لم يقم فيكم إمام بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا علي بن أبي طالب و هذا القائم فيكم يعني السفاح (3/217)
دولة السفاح
قد تقدم لنا كيف كان أصل هذه الدعوة و ظهورها بخراسان على يد أبي مسلم ثم استيلاء شيعتهم على خراسان و العراق ثم بيعة السفاح بالكوفة سنة ثلاث و ثلاثين و مائة ثم قتل مروان بن محمد و انقراض الدولة الأموية ثم خرج بعض أشياعهم و قوادهم و انتقضوا على أبي العباس السفاح و كان أول من انتقض حبيب بن مرة المري من قواد مروان و كان بخولان و البلقاء خاف على نفسه و قومه فخلع و بيض و معناه لبس البياض و نصب الرايات البيض مخالفة لشعار العباسية في ذلك و تابعته قيس و من يليهم و السفاح يومئذ بالحيرة بلغه أن أبا الورد مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحرث الكلابي انتقض بقنسرين و كان من قواد مروان و لما انهزم مروان و قدم عليه عبد الله بن علي بايعه و دخل في دعوة العباسية و كان ولد مسلمة بن عبد الملك مجاورين له ببالس و الناعورة فبعث بهم و بنسائهم القائد الذي جاءهم من قبل عبد الله بن علي و شكوا ذلك إلى أبي فقتل القائد و خلع معه أهل قنسرين و كاتبوا اهل حمص في الخلاف و قدموا عليهم أبا محمد عبد الله بن يزيد بن معاوية و قالوا هو السفياني الذي يذكر و لما بلغ ذلك عبد الله بن علي وادع حبيب ابن مرة و سار إلى أبي الورد بقنسرين و مر بدمشق فخلع بها أبا غانم عبد الحميد بن ربعي الطائي في أربعة آلاف فارس مع حرمه و أثقاله و سار إلى حمص فبلغه أن أهل دمشق خلعوا و بيضوا و قام فيهم بذلك عثمان بن عبد الأعلى ابن سراقة الأزدي و أنهم هزموا أبا غانم و عسكره و قتلوا منهم مقتلة عظيمة و انتهبوا ما خلف عندهم فأعرض عن ذلك و سار للقاء السفياني و أبي الورد و قدم أخاه عبد الصمد في عشرة آلاف فكشف و رجع إلى أخيه عبد الله منهزما فزحف عبد الله في جماعة القواد و لقيهم بمرج الأحزم و هم في أربعين ألفا فانهزموا و ثبت أبو الورد في خمسمائة من قومه فقتلوا جميعا و هرب أبو محمد إلى ترمذ و راجع أهل قنسرين طاعة العباسية و رجع عبد الله بن علي إلى قتال أهل دمشق و من معهم فهرب عثمان بن سراقة و دخل أهل دمشق في الدعوة و بايعوا لعبد الله بن علي و لم يزل أبو محمد السفياني بأرض الحجاز متغيبا إلى أيام المنصور فقتله زياد بن عبد الله الحارثي عامل الحجاز يومئذ و بعث برأسه إلى المنصور مع ابنين له أسيرين فأطلقهما المنصور ثم خلع أهل الجزيرة و بيضوا و كان السفاح قد بعث إليهما ثلاثة آلاف من جنده مع موسى بن كعب من قواده و أنزلهم بحران و كان إسحق بن مسلم العقيلي عامل مروان على أرمينية فلما بلغته هزيمة مروان سار عنها و اجتمع إليه أهل الجزيرة و حاصروا موسى بن كعب بحران شهرين فبعث السفاح أخاه أبا جعفر إليهم و كان محاصرا لابن هبيرة بواسط فسار لقتال إسحق بن مسلم و مر بقرقيسيا و الرقة و أهلهما قد خلعوا و بيضوا و سار نحو حران فأجفل إسحق بن مسلم عنها و دخل الرها و بعث أخاه بكار بن مسلم إلى قبائل ربيعة بنواحي ماردين و رئيسهم يومئذ برمكة من الحرورية فصمد إليهم أبو جعفر فهزمهم و قتل برمكة في المعركة و انصرف بكار إلى أخيه إسحق فخلعه بالرها و سار إلى شمشاط بمعظم عسكره و جاء عبد الله بن علي فحاصره ثم جاء أبو جعفر فحاصروه سبعة أشهر و هو يقول : لا أخلع البيعة من عنقي حتى أتيقن موت صاحبها ثم تيقن موت مروان فطلب الأمان و استأذنوا السفاح فأمرهم بتأمينه و خرج إسحق إلى أبي جعفر فكان من آثر أصحابه و استقام أهل الجزيرة و الشام و ولى السفاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة و أرمينية و أذربيجان فلم يزل عليها حتى استخلف (3/218)
حصار ابن هبيرة بواسط و مقتله
ثم تقدم لنا هزيمة يزيد بن هبيرة أمام الحسن بن قحطبة و تحصنه بواسط و كان جويرة و بعض أصحابه أشاروا عليه بعد الهزيمة باللحاق بالكوفة فأبى و أشار عليه يحيى بن حصين باللحاق بمروان و خوفه عاقبة الحصار فأبى على نفسه من مروان و اعتصم بواسط و بعث أبو مسلمة الحسن بن قحطبة في العسكر لحصاره و على ميمنته ابنه داود فانهزم أهل الشام و اضطروا إلى دجلة و غرق منهم كثير ثم تحاجزوا محمد و دخل ابن هبيرة المدينة و خرج لقتالهم ثانية بعد سبعة أيام فانهزم كذلك و مكثوا أياما لا يقتتلون إلا رميا و بلغ ابن هبيرة أن أبا أمية الثعلبي قد سود فحبسه فغضبت لذلك ربيعة و معن بن زائدة و حبسوا ثلاثة نفر من فزارة رهنا في أبي أمية و اعتزل معن و عبد الله بن عبد الرحمن بن بشير العجلي فيمن معهما فخلى ابن هبيرة سبيل أبي أمية و صالحهم و عادوا إلى اتفاقهم ثم قدم على الحسن بن قحطبة من ناحية سجستان أبو نصر مالك بن الهيثم فأوقد غيلان بن عبد الله الخزاعي على السفاح يخبره بقدوم أبي نصر و كان غيلان واجدا على الحسن فرغب من السفاح أن يبعث عليهم رجلا من أهل بيته فبعث أخاه أبا جعفر و كتب إلى الحسن العسكر لك و القواد قوادك و لكن أحببت أن يكون أخي حاضرا فأحسن طاعته و مؤازرته و قدم أبو جعفر فأنزله الحسن في خيمته و جعل على حرسه عثمان بن نهيك ثم تقدم مالك بن الهيثم لقتال أهل الشام و ابن هبيرة فخرجوا لقتال و أكمنوا معن بن زائدة و أبا يحيى الجرافي ثم استطردوا لابن الهيثم و انهزموا للخنادق فخرج عليهم معن و أبو يحيى فقاتلهم إلى الليل و تحاجزوا و أقاموا بعد ذلك أياما ثم خرج أهل واسط مع معن و محمد بن نباتة فهزمهم أصحاب الحسن إلى دجلة فتساقطوا فيها و جاء مالك بن الهيثم فوجد ابنه قتيلا في المعركة فحمل على أهل واسط حتى أدخلهم المدينة و كان مالك يملأ السفن حطبا و يضرمها نارا فتحرق ما تمر به فيأمر ابن هبيرة بأن تجر بالكلاليب و مكثوا كذلك أحد عشر شهرا و جاء إسمعيل بن عبد الله القسري إلى ابن هبيرة بقتل مروان و فشلت اليمانية عن القتال معهم و تبعهم الفزارية فلم يقاتل معه إلا الصعاليك و بعث ابن هبيرة إلى محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بأن يبايع له فأبطأ عنه جوابه و كاتب السفاح اليمانية من أصحاب ابن هبيرة و أطمعهم فخرج إليه زياد بن صالح و زياد بن عبيد الله الحرثيان و وعدا ابن هبيرة أن يصلحا له جهة السفاح و لم يفعلا و تردد الشعراء بين أبي جعفر و ابن هبيرة في الصلح و أن يكتب له كتاب أمان على ما اختاره ابن هبيرة و شاور فيه العلماء أربعين يوما حتى رضيه و أنفذه إلى أبي جعفر فانفذه إلى السفاح و أمر بإمضائه و كان لا يقطع أمرا دون أبي مسلم فكتب إليه يحي بن هبيرة قد خرج بعد الأمان إلى أبي جعفر في ألف و ثلثمائة فلقيه الحاجب سلام بن سليم فأنزله و أجلسه على وسادة و أطاف بحجرة أبي جعفر عشرة آلاف من أهل خراسان ثم أذن لابن هبيرة فدخل على المنصور و حادثه و خرج عنه و مكث يأتيه يوما و يغبه يوما ثم أغرى أبا جعفر أصحابه بأنه يأتي في خمسمائة فارس و ثلثمائة راجل فيهتز له العسكر فأمر أبو جعفر أن يأتي في حاشيته فقط فكان يأتي في ثلاثين ثم آخرا في ثلاثة ثم ألح على أبي جعفر في قتله و هو يراجعه للأمان الذي كتب له حتى كتب إليه السفاح و الله لتقتلنه أو لأبعثن من يخرجه من حجرتك فيقتله فبعث أبو جعفر إلى وجوه القيسية و المضرية و قد أعد لهم ابن نهيك في مائة من الخراسانية في بعض حجره و جاء القوم في اثنين و عشرين رجلا يقدمهم محمد بن نباتة و جويرة بن سهيل فدعاهم سلام الحاجب رجلين رجلين و عثمان بن نهيك يقيدهما إلى أن استكملهم و بعث أبو جعفر لحازم بن خزيمة و الهيثم بن شعبة في مائة إلى ابن هبيرة فقالوا : نريد حمل المال فدلهم حاجبه على الخزائن فأقاموا عندها الرجال و أقبلوا نحوه فقام حاجبه في وجوههم فضربه الهيثم فصرعه و قاتل ابنه فقتل في جماعة من مواليه ثم قتل ابن هبيرة آخرا و حملت رؤسهم إلى أبي جعفر و نادى بالأمان للناس إلا الحكم بن عبد الملك أبي بشر و خالد بن مسلمة المخزومي و عمر بن در فهرب الحكم و أمن أبو جعفر خالدا فلم يجز السفاح أمانه و قتل و استأمن زياد بن عبيد الله لابن در فأمنه (3/220)
مقتل أبي مسلمة بن الخلال و سليمان بن كثير
قد تقدم لنا ما كان من أبي مسلمة الخلال في أمر أبي العباس السفاح و اتهام الشيعة في أمر و تغير السفاح عليه و هو بعكوة أعين ظاهر الكوفة ثم تحول إلى مدينة الهاشمية و نزل قصرها و هو يتنكر لأبي مسلمة و كتب إلى أبي مسلم ببغيته و برأيه فيه فكتب إليه أبو مسلم بقتله و قال له داود بن علي لا تفعل فيحتج بها أبو مسلم عليك و الذين معك أصحابه و هم له أطوع و لكن أكتب إليه يبعث من يقتله ففعل و بعث أبو مسلم مرار بن أنس الضبي فقتله فلما قدم نادى السفاح بالرضا عن أبي مسلمة و دعا بهس و خلع عليه ثم دخل عنده ليلة أخرى فسهر عامة ليلة ثم انصرف إلى منزله فاعترضه مرار بن أنس و أصحابه فقتلوه و قالوا قتله الخوارج و صلى عليه من الغد يحيى أخو السفاح و كان يسمى وزير آل محمد و أبو مسلم أمير آل محمد و بلغ الخبر إلى أبي مسلم و سرح سليمان بن كثير بالنكير لذلك فقتله أبو مسلم و بعث على فارس محمد بن الأشعث و أمره أن يقتل ابن أبي مسلمة ففعل (3/222)
عمال السفاح
و لما استقام الأمر للسفاح ولى على الكوفة و السواد عمه داود بن علي ثم عزله و ولاه على الحجاز و اليمن و اليمامة و ولى على الكوفة عيسى ابن أخيه موسى بن محمد ثم توفي داود سنة ثلاث و ثلاثين فولى مكانه على الحجاز و اليمامة خالد بن زياد بن عبيد الله بن عبيد و على اليمن محمد بن يزيد بن عبيد الله بن عبد و ولى السفاح على البصرة سفيان بن معاوية المهلبي ثم عزله و ولى مكانه عمه سليمان بن علي و أضاف إليه كور دجلة و البحرين و عمان و ولى عمه إسمعيل بن علي الأهواز و عمه عبد الله بن علي على الشام و أبا عون عبد الملك ابن يزيد على مصر و أبا مسلم على خراسان و برمك على ديوان الخراج و ولى عمه عيسى بن علي على فارس فسبقه إليها محمد بن الأشعث من قبل أبي مسلم فلما قدم عليه عيسى هم محمد بقتله و قال أمرني أبو مسلم أن أقتل من جاءني بولاية من غيره ثم أقصر عن قتله و استحلفه بأيمان لا مخارج لها أن لا يعلو منبرا ما عاش و لا يتقلد سيفا إلا في جهاد فوفى عيسى بذلك بقية عمره و استعمل بعده على فارس عمه إسمعيل بن علي و استعمل على الموصل محمد بن صول فطرده أهلها و قالوا : بل علينا تولى خثعم و كانوا منحرفين عن بني العباس فاستعمل السفاح عليهم أخاه يحيى و بعثه في اثنتي عشر ألفا فنزل قصر الإمارة و قتل منهم اثنتي عشر رجلا فثاروا به و حمل السلاح فنودي فيهم بالأمان لمن دخل المسجد فتسايل الناس إليه و قد أقام الرجال على أبوابه فقتلوا كل من دخل يقال : قتل أحد عشر ألفا ممن لبس و ما لا يحصى من غيرهم و سمع صياح النساء بالليل فأمر من الغد بقتل النساء و الصبيان و استباحهم ثلاثة أيام و كان في عسكره أربعة آلاف من الزنوج فعانوا في النساء و ركب في اليوم الرابع و بين يديه الحراب و السيوف فاعترضته إمرأة و أخذت بعنان دابته و قالت له : ألست من بني هاشم ؟ ألست ابن عم الرسول ؟ أما تعلم أن المؤمنات المسلمات ينكحهن الزنوج ؟ فأمسك عنها و جمع الزنج من الغد للعطاء و أمر بهم فقتلوا عن آخرهم و بلغ السفاح سوء أمره في أهل الموصل فعزله و ولى مكانه إسمعيل بن علي و ولى يحيى مكان إسمعيل بالأهواز و فارس و ملك الروم ملطية و قاليقلا و في سنة ثلاث و ثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم فحصر ملطية و الفتن يومئذ بالجزيرة و عاملها يومئذ موسى بن كعب بن أسان فلم يزل حاصرهم حتى نزلوا على الأمان و انتقلوا إلى بلاد الجزيرة و حملوا ما قدروا عليه و خرب الروم ملطية و سار عنها إلى مرج الحصى و أرسل قسطنطين العساكر إلى قالقيلا من نواحي ماردين مع قائده كوشان الأرمني فحصرها و داخل بعض الأرمن من أهل المدينة فنقبوا له السور فاقتحم البلد من ذلك النقب و استباحها (3/222)
الثوار بالنواحى
كان المثنى بن يزيد بن عمر بن هبيرة قد ولاه أبو علي اليمامة فلما قتل يزيد أبوه امتنع هو باليمامة فبعث إليه زياد بن عبيد المدن بالعساكر من المدينة مع إبراهيم بن حبان السلمي فقتله و قتل أصحابه و ذلك سنة ثلاث و ثلاثين و فيها خرج شريك بن شيخ أسحارا على أبي مسلم و نقض أفعاله و اجتمع إليه أكثر من ثلاثين ألفا فبعث إليه مسلم زياد بن صالح الخزاعي فقاتله و قتله و فيها توجه أبو داود و خالد بن إبراهيم إلى الختل فتحصن ملكهم ابن السبيل منهما و منعه الدهاقبن فحاصره أبو داود حتى جهد الحصار فخرج من حصنه مع الدهاقين و لحق بفرغانة ثم سار منها إلى بلد الصين و أخذ أبو داود من ظفر به في الحصن فبعث بهم إلى أبي مسلم و فيها الفتنة بين إخشيد فرغانة و ملك الشاش و استمد الإحشيد ملك الصين فأمده بمائة ألف مقاتل و حصروا ملك الشاش حتى نزلوا حكم ملك الصين فلم يعرض له و لا لقومه بسوء و بعث أبو مسلم زياد بن صالح لاعتراضهم فلقيهم على نهر الطراز فظفر بهم و قتل منهم نحوا من خمسين ألفا و أسر نحوا من عشرين ألفا و لحق بهم بالصين و ذلك في ذي الحجة سنة ثلاث و ثلاثين ثم انتقض بسام بن إبراهيم ابن بسام من فرسان أهل خراسان و سار من عسكر السفاح و جماعة على رأيه سرا إلى المدائن فبعث السفاح في أثرهم خازم بن خزيمة فقاتلهم و قتل أكثرهم و استباحهم و بلغ ماه و انصرف فمر بذات المطامير و بها أخوال السفاح من بني عبد المدان في نحو سبعين من قرابتهم و مواليهم و قيل له إن المغيرة من أصحاب بسام عندهم فسألهم عنه فقالوا مر بنا مجتازا فهددهم إن يأخذه فأغلظوا له في القول فقتلهم أجمعين و نهب أموالهم و هدم دورهم و غضب اليمانية لذلك و دخل بهم زياد بن عبيد الله الحرثي على السفاح و شكوا إليه ما فعل بهم فهم بقتله و بلغ ذلك موسى بن كعب و أبا الجهم بن عطية فدخلا على السفاح و ذكراه سابقة الشيعة و طاعتهم و أنهم آثروكم على الأقارب و الأولاد و قتلوا من خالفكم فإن كان لا بد من قتله فابعثه لوجه الوجوه فإن قتل فهو الذي تريد و إن ظفر فلك بعثه إلى الخوارج الذين بجزيرة ابن كاوان من عمان مع شيبان بن عبد العزيز اليشكري فبعث معه سبعمائة رجل فحملهم سليمان بن علي من البصرة في السفن و قد انضم إليه من أهله و عشيرته و مواليه و عدة من بني تميم من البصرة فلما أرسوا بجزيرة ابن كاوان قدم خازم فضلة بن نعيم المنشلي في خمسمائة إلى شيبان فانهزم هو و أصحابه و كانوا صفرية و ركبوا إلى عمان فقاتلهم الجلندي في الإباضية فقتل شيبان و من معه كما مر و شيبان هذا غير شيبان بن سلمة الذي قتل بخراسان فربما يشتبهان ثم ركب خازم البحر إلى ساحل عمان فنزل و قاتل الجلندي أياما أمر خازم أصحابه في آخرها أن يجعلوا على أطراف أسنتهم المشاقة و يدوروها بالنفط و يشعلوها بالنيران و يرموها في بيوت القوم و كانت من خشب فلما اضطرمت فيها النار شغلوا بأهليهم و أولادهم عن القتل فحمل عليهم خازم و أصحابه فاستلحموهم و قتل الجلندي و عشرة آلاف فبعث خازم برؤسهم إلى البصرة فبعثها سليمان إلى السفاح فندم ثم غزا خالد بن إبراهيم أهل كش فقتل الأخريد ملكها و هو مطيع و استباحهم و أخذ من الأواني الصينية المنقوشة المذهبة و من الديباج و السروج و متاع الصين و ظرفه ما لم ير مثله و حمله إلى أبي مسلم بسمرقند و قتل عدة من دهاقين كش و ملك طازان أخا الأخريد على كش و رجع أبو مسلم إلى مرو بعد أن فتك في الصغد و بخارى و أمر ببناء سور سمرقند و استخلف زياد بن صالح على بخارى و سمرقند و رجع أبو داود إلى بلخ ثم بلغ السفاح انتقاض منصور ابن جمهور بالسند فبعث صاحب شرطته موسى بن كعب و استخلف مكانه على الشرطة المسيب بن زهير و سار موسى لقتال ابن جمهور فلقيه بتخوم الهند و هو في نحو اثني عشر ألفا فانهزم و مات عطشا في الرمال و رحل عامله على السند بعياله و ثقلته فدخل بهم بلاد الخزر ثم انتقض سنة خمس و ثلاثين زياد بن صالح وراء النهر فسار أبو مسلم إليه من مرو و بعث أبو داود خالد بن إبراهيم نصر بن راشد إلى ترمذ ليمنعها من زياد فلما وصل إليها خرج عليه ناس من الطالقان فقتلوه فبعث مكانه عيسى محمد ماهان فسمع قتله نصر فقتلهم و سار أبو مسلم فانتهى إلى آمد و معه سباع ابن النعمان الأزدي و كان السفاح قد دس معه إلى زياد بن صالح الأزدي أن ينتهز فرصة في أبي مسلم فيقتله و نمي الخبر إلى أبي مسلم فحبس سباعا بآمد و سار عنها و أمر عامله بقتله و لقيه قواد زياد في طريقه و قد خلعوا زيادا فدخل أبو مسلم بخارى و نجا زياد إلى هقان هناك فقتله و حمل رأسه إلى أبي مسلم و كتب أبو مسلم إلى أبي داود فقتله و كان قد شغل بأهل الطالقان فرجع إلى كش و بعث عيسى بن ماهان إلى بسام فلم يظفر منها بشيء و بعث إلى بعض أصحاب أبي مسلم يعيب أبا داود عيسى فضربه و حبسه ثم أخرجه فوثب عليه الجند فقتلوه و رجع أبو مسلم إلى مرو (3/224)
حج أبي جعفر و أبي مسلم
و في سنة ست و ثلاثين إستأذن أبو مسلم السفاح في القدوم عليه للحج و كان منذ ولي خراسان لم يفارقها فأذن له في القدوم مع خمسمائة من الجند فكتب إليه أبو مسلم إني قد عاديت الناس و لست أمن على نفسي فأذن له في ألف و قال : إن طريق مكة لا تحتمل العسكر فسار في ثمانية آلاف فرقهم ما بين نيسابور و الري و خلف أمواله و خزائنه بالري و قدم في ألف و خرج القواد بأمر السفاح لتلقيه فدخل على السفاح و أكرمه و أعظمه و استأذن في الحج فأذن له قال : لولا أن أبا جعفر يريد الحج لاستعملتك على الموسم فأنزله بقرية و كان قد كتب إلى أبي جعفر أن أبا مسلم استأذنني في الحج و أذنت له و هو يريد ولاية الموسم فاسألني أنت في الحج فلا تطمع أن يتقدمك و أذن له فقدم الأنبار و كان ما بين أبي جعفر و أبي مسلم متباعدا من حيث بعث السفاح أبا جعفر إلى خراسان ليأخذ البيعة له و لأبي جعفر من بعده ويولي أبا مسلم على خراسان فاستخلى أبو مسلم بأبي جعفر فلما قدم ألان أبو جعفر السفاح بقتله و أذن له فيه ندم و كفه عن ذلك و سار أبو جعفر إلى الحج و معه أبو مسلم و استعمل على حران مقاتل بن حكيم العكي (3/226)
موت السفاح و بيعة المنصور
كان أبو العباس السفاح قد تحول من الحيرة إلى الأنبار في ذي الحجة سنة أربع و ثلاثين فأقام بها سنتين ثم توفي في ذي الحجة سنة ست و ثلاثين لثلاث عشرة ليلة خلت منه و لأربع سنين و ثمانين أشهر من لدن بويع و صلى عليه عمه و دفن بالأنبار و كان وزيره أبو الجهم بن عطية و كان قبل موته قد عهد بالخلافة لأخيه أبي جعفر و من بعده لعيسى ابن أخيهما موسى و جعل العهد في ثوب و ختمه بخواتيمه و خواتيم أهل بيته و دفعه إلى عيسى و لما توفي السفاح و كان أبو جعفر بمكة فأخذ البيعة على الناس عيسى بن موسى و كتب إليه بالخبر فجزع و استدعى أبا مسلم و كان متأخرا عنه فاقرأه الكتاب فبكى و استرجع و سكن أبا جعفر عن الجزع فقال : أخاف شر عبد الله بن علي فقال أنا أكفيكه و عامة جنده أهل خراسان و هم أطوع لي منه فسري عنه و بايع له أبو مسلم و الناس و أقبلا حتى قدما الكوفة و يقال إن أبا مسلم كان متقدما على أبي جعفر فإن الخبر قد أتاه قبله فكتب أبو مسلم إليه يعزيه و يهنيه بالخلافة و بعد يومين كتب له ببيعته و قدم أبو جعفر الكوفة سنة سبع و ثلاثين و سار منها إلى الأنبار فلم إليه عيسى بيوت الأموال و الدواوين و استقام أمر أبي جعفر (3/227)
انتقاض عبد الله بن علي و هزيمته
كان عبد الله بن علي قدم على السفاح قبل موته فبعثه إلى الصائفة في جنود أهل الشام و خراسان فإنتهى إلى دلوك و لم يدر حتى جاءه كتاب عيسى بن موسى بوفاة السفاح و أخذ البيعه لأبي جعفر و له من بعده كما عهد به السفاح فجمع عبد الله الناس و قرأ عليهم الكتاب و أعلمهم أن السفاح حين أراد أن يبعث الجنود إلى حران تكاسل بنو أبيه عنها فقال لهم : من أنتدب منكم فهو ولي عهدي فلم يندب غيري ! و شهد له أبو غانم الطائي و خفاف المروزي و غيرهما من القواد و بايعوه و فيهم حميد بن حكيم بن قحطبة و غيره من خراسان و الشام و الجزيرة ثم سار عبد الله حتى نزل حران و حاصر مقاتل بن حكيم العكي أربعين يوما و خشي من أهل خراسان فقتل منهم جماعة و ولى حميد بن قحطبة على حلب و كتب معه إلى عاملها زفر بن عاصم بقتله فقرأ الكتاب في طريقه و سار إلى العراق و جاء أبو جعفر من الحج فبعث أبا مسلم لقتال عبد الله و لحقه حميد بن قحطبة نازعا عن عبد الله فسار معه و جعل على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي و لما بلغ عبد الله خبر إقباله و هو على حران بذل الأمان لمقاتل بن حكيم و من معه و ملك حران ثم بعث مقاتلا بكتابه إلى عثمان بن عبد الأعلى فلما قرأ الكتاب قتله و حبس ابنيه حتى إذا هزم عبد الله قتلهما و أمر المنصور محمد بن صول و هو على أذربيجان أن يأتي عبد الله بن علي ليمكر به فجاء و قال : إني سمعت السفاح يقول الخليفة بعدي عمي عبد الله فشعر بمكيدته و قتله و هو جد إبراهيم بن العباس الصولي الكاتب ثم أقبل عبد الله بن علي حتى نزل نصيبين و خندق عليه و قدم أبو مسلم فيمن معه و كان المنصور قد كتب إلى الحسن بن قحطبة عامله على أرمينية بأن يوافي أبا مسلم فقدم عليه بالموصل و سار معه و نزل ناحية نصيبين و كتب إلى عبد الله : إني قد وليت الشام و لم أومر بقتالك فقال أهل الشام لعبد الله : سر بنا إلى الشام لنمنع نساءنا و أبناءنا فقال لهم عبد الله ما يريد إلا قتالنا و إنما قصد المكر بنا فأبوا إلا الشام فارتحل بهم إلى الشام و نزل أبو مسلم في موضع معسكره و غور ما حوله من المياه فوقف أصحاب عبد الله بكار بن مسلم العقيلي و على ميسرته حبيب بن سويد الأسدي و على الخيل عبد الصمد بن علي أخو عبد الله و على ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة و على ميسرته خازم بن خزيمة فاقتتلوا شهرا ثم حمل أصحاب عبد الله على عسكر أبي مسلم فأزالوهم عن مواضعهم و حمل عبد الصمد فقتل منهم ثمانية عشر رجلا ثم حمل عليهم ثانية فأزالوا صفهم ثم نادى منادي أبي مسلم في أهل خراسان فتراجعوا و كان يجلس إذا لقي الناس على عريش ينظر منه إلى الخومة فإن رأى خللا أرسل بسده فلا تزال رسله تختلف بينه و بين الناس حتى ينصرفوا فلما كان يوم الأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة سبع و ثلاثين إقتتلوا و أمر أبو مسلم الحسن بن قحطبة أن يضم إلى الميسرة و ينزل في الميمنة حماة أصحابه فانضم أهل الشام من الميسرة إلى الميمنة كما أمرهم و أمر أبو مسلم أهل القلب فحطموهم و ركبهم أصحاب أبي مسلم فانهزم أصحاب عبد الله فقال لابن سراقة ما ترى ؟ قال : الصبر إلى أن تموت فالغرار فيكم بمثلك قبيح قال : بل آتي العراق فأنا معك فانهزموا و حوى أبو مسلم عسكرهم و كتب بذلك إلى المنصور و مضى عبد الله و عبد الصمد فقدم عبد الصمد الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى و أمنه المنصور و قيل بل أقام بالرصافة حتى قدهما جمهور بن مروان العجلي في خيول أرسلها المنصور فبعث به موثقا مع أبي الخطيب فأطلقه المنصور و أما عبد الله فقدم البصرة و أقام عند أخيه سليمان متواريا حتى طلبه و أشخص إليه ثم إن أبا مسلم أمن الناس بعد الهزيمة و أمر بالكف عنهم (3/227)
ذكر قتل أبي مسلم الخراساني
كان أبو مسلم لما حج مع المنصور يؤيد نفسه عليه و يتقدم بالإحسان للوفود و إصلاح الطريق و المياه و كان الذكر له و كان الأعراب يقولون : هذا المكذوب عليه و لما صدروا عن الموسم تقدم أبو مسلم ولقيه الخبر بوفاة السفاح فبعث إلى أبي جعفر يعزيه و لم يهنئه بالخلافة و لا رجع إليه و لا أقام ينتظره فغضب أبو جعفر وكتب إليه و أغلظ في العتاب فكتب يهنئه بالخلافة و يقدم إلى فدعا عيسى بن موسى إلى أن يبايع له فأبى و قدم أبو جعفر و قد خلع عبيد الله بن علي فسرح أبا مسلم لقتاله فهزمه كما مر و جمع الغنائم من عسكره فبعث المنصور مولاه أبا الخصيب لجمعها فغضب أبو مسلم و قال : أنا أعين على الدعاء فكيف أخوان الأموال ؟ و هم بقتل الخصيب ثم خلى عنه و خشى المنصور أن يمضي إلى خراسان فكتب إليه بولاية مصر و الشام فأزداد نفارا و خرج من الجزيرة يريد خراسان و سار المنصور إلى المدائن و كتب إليه يستقدمه فأجابه بالإمتناع و المسك بالطاعة عن بعد و التهديد بالخلع إن طلب منه سوى ذلك فكتب إليه المنصور ينكر عليه هذا الشرط و أنه لا يحسن طاعة و بعث إليه عيسى بن موسى برسالة يؤنسه و يسليه و قيل بل كتب إليه أبو مسلم يعرض له بالخلع و أنه قد تاب إلى الله مما جناه من القيام بدعوتهم و أخذ أبو مسلم طريق حلوان و أمر المنصور عمه عيسى و مشيخة بني هاشم بالكتاب على أبي مسلم يحرضونه على التمسك بالطاعة و يحذرونه عاقبة البغي و يأمرونه بالمراجعة و بعث الكتب مع مولاه أبي حميد المرودوذي و أمره بملاينته و الخضوع له بالقول حتى ييأس منه فإذا يئس يخبره بقسم أمير المؤمنين لأوكلت أمرك إلى غيري و لو خضت البحر لخضته وراءك و لو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت فأوصل أبو حميد الكتب و تلطف له في القول ما شاء و احتج عليه بما كان منه في التحريض على طاعتهم فاستشار أبو مسلم مالك بن الهيثم فأبى له من الإصغاء إلى هذا القول و قال و الله لئن أتيته ليقتلنك ثم بعث إلى نيزك صاحب الري يستشيره فأبى له من ذلك و أشار عليه بنزول الري و خراسان من ورائه فيكون أمكن لسلطانه فأجاب أبا حميد بالإمتناع فلما يئس منه أبلغه مقالة المنصور فوجم طويلا و رعب من ذلك القول و أكبره و كان المنصور قد كتب إلى عامل أبي مسلم بخراسان يرغبه في الإنحراف عنه بولاية خراسان فأجاب سرا و كتب إلى أبي مسلم يحذره الخلاف و المعصية فزاده ذلك رعبا و قال لأبي حميد قبل انصرافه : قد كنت عزمت على المضي إلى خراسان ثم رأيت أن أوجه أبا إسحق إلى أمير المؤمنين يأتيني برأيته فإني أثق به و لما قدم أبو إسحق تلقاه بنو هاشم و أهل الدولة بكل ما يجب و داخله المنصور في صرف أبي مسلم عن وجهه خراسان و وعده بولايتها فرجع إليه و أشار عليه بلقاء المنصور فاعتزم على ذلك و استخلف مالك بن الهيثم على عسكره بحلوان و سار فقدم المدائن في ثلاثة آلاف و خشي أبو أيوب وزير المنصور أن يحدث منه عند قدومه فتك فدعا بعض إخوانه و أشار عليه بأن يأتي أبا مسلم و يتوسل به إلى المنصور في ولاية كسكر ليعيب فيها مالا عظيما و أن يشرك أخاه في ذلك فإن أمير المؤمنين عازم أن يوليه ما ورى به و يريح نفسه و استأذن له المنصور في لقاء أبي مسلم فأذن له فلقي أبا مسلم و توسل إليه وأخبره الخبر فطابت نفسه و ذهب عنه الحزن و لما قرب أمر الناس بتلقيه ثم دخل على المنصور فقبل يده و انصرف ليريح ليلته و دعا المنصور من الغد حاجبه عثمان بن نهيل و أربعة من الحرس منهم شبيب بن رواح و ابن حنيفة حرب بن قيس و أجلسهم خلف الرواق و أمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفق بيديه و استدعى أبا مسلم فلما دخل سأله عن سيفين أصابهما لعمه عبد الله بن علي و كان متقلدا بأحدهما فقال : هذا أحدهما ! فقال : أرني فانتضاه أبو مسلم و ناوله إياه فأخذ يقلبه بيده و يهزه ثم وضعه تحت فراشه و أقبل يعاتبه فقال : كتبت إلى السفاح تنهاه عن الموت كأنك تعلمه : قال : ظننت أنه لا يحل ثم اقتديت بكتاب السفاح و علمت أنكم معدن العلم قال فتوركك عني بطريق مكة ! قال كرهت مزاحمتك على الماء قال فامتناعك من الرجوع إلي حين بلغك موت السفاح أو الإقامة حتى ألحقك ! قال : طلبت الرفق بالناس و المبادرة إلى الكوفة ! قال : فجارية عبد الله بن علي أردت أن تتخذها لنفسك ! قال : لا إنما و كانت بها من يحفظها قال : فمراغمتك و مسيرك إلى خراسان قال : خشيت منك فقلت آتي خراساني و أكتب بعذري فأذهب ما في نفسك مني ! قال فالمال الذي جمعته بحران ! قال أنفقته في الجند تقوية لكم قال ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك و تخطب آسية بنت علي و تزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس ؟ لقد ارتقيت لا أم لك مرتقى صعبا ثم قال له : و ما الذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا و هو أحد نقبائنا من قبل أن ندخلك في هذا الأمر ؟ قال : أراد الخلافة فقتلته ثم قال أبو مسلم : كيف يقال هذا بعد بلائي و ما كان مني ؟ قال : يا ابن الخبيثة لو كانت أمه مكانك لأغنت إنما ذلك بدولتنا و ربحنا أبو مسلم يقبل يده و يعتذر فازداد المنصور غضبا ثم قال أبو مسلم دع هذا فقد أصبحت لا أخاف إلا الله فشتمه المنصور و صفق بيديه فخرج الحرس و ضربه عثمان بن نهيك فقطع حمائل سيفه فقال : اسبقني لعدوك فقال : لا أبقاني الله إذا و أي عدو منك و أخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه بذلك لخمس بقين من شعبان سنة سبع و ثلاثين و خرج الوزير أبو الجهم فصرف الناس و قال : الأمير قائل عند أمير المؤمنين فانصرفوا و أمر لهم بالجوائز و أعطى إسحق مائة ألف و دخل عيسى بن موسى على المنصور فسأل عنه و أخذ في الثناء على طاعته و بلائه و ذكر رأي الإمام إبراهيم فيه فقال المنصور : و الله ما أعلم على وجه الأرض عدوا أعدى لكم منه هوذا في البساط فاسترجع عيسى فأنكر عليه المنصور و قال : و هل كان لكم ملك معه ؟ ثم دعا جعفر بن حنظلة و استشاره في أمر أبي مسلم فأشار بقتله فقال له المنصور وفقك الله ثم نظر إليه قتيلا فقال له يا أمير المؤمنين عد خلافتك من هذا اليوم ثم دعا أبا إسحق عن متابعة أبي مسلم و قال تكلم بما أردت و أخرجه قتيلا فسجد أبو إسحق ثم رفع رأسه يقول الحمد لله أميت هو و الله ما جئته قط إلا تكفنت و رفع ثيابه و أراه كفنه و حنوطه فرحمه و قال له استقبل طاعتك و احمد الله الذي أراحك و كتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر بن الهيثم على لسان أبي مسلم يأمره بحمل أثقاله و قد كان أبو مسلم أوصاه إن جاءك كتاب بخاتمي تاما فاعلم أني لم أكتبه فلما رآه كذلك فطن و انحدر إلى همذان يريد خراسان فكتب له المنصور بولاية شهرزور و كتب إلى زهير بن التركي بهمذان يحبسه فمر أبو نصر بهمذان و خادعه زهير و دعاه إلى طعامه و حبسه و جاء كتاب العهد بشهرزور لأبي نصر فأطلقه زهير ثم جاءه بعد ذلك الكتاب بقتله فقال : جاءني كتاب عهده فخليت سبيله و قدم أبو نصر على المنصور فعذله في إشارته على أبي مسلم بخراسان فقال : نعم استنصحني فنصحت له و إن استنصحني أمير المؤمنين نصحت و شكرت و استعمله على الموصل و خطب أبو جعفر الناس بعد قتل أبي مسلم و انسهم و افترق أصحابه و خرج منهم بخراسان رجل إسمه سنباد و يسمى فيروز أصبهبذ و تبعه أكثر الجيال يطلبون بدم أبي مسلم و غلب على نيسابور و الري و أخذ خزائن أبي مسلم التي خلفها بالري حين شخص إلى السفاح و سبى الحرم و نهب الأموال و لم يعرض إلى التجار و كان يظهر أنه قاصد إلى الكعبة يهدمها فسرح إليه المنصور جمهور بن مرار العجلي و التقوا على طريق المفازة بين همذان و الري فقاتلهم و هزمهم و قتل منهم نحوا من ستين ألفا و سبى ذراريهم و نساءهم ولحق سنباد بطبرستان فقتله بعض عمال صاحبها و أخذ ما معه و كتب إلى المنصور بذلك فكتب إليه المنصور في الأموال فأنكر فسرح إليه الجنود فهرب إلى الديلم ثم إن جمهور بن مرار لما حوى ما في عسكر سنباد و لم يبعث به خاف من المنصور فخلع و اعتصم بالري فسرح إليه محمد بن الأشعث في الجيوش فخرج من الري إلى أصبهان فملكها و ملك محمد الري ثم اقتتلوا و انهزم جمهور فلحق بأذربيجان و قتله بعض أصحابه و حملوا رأسه إلى المنصور و ذلك سنة ثمان و ثلاثين (3/229)
حبس عبد الله بن علي
كان عبد الله بن علي بعد هزيمته أمام أبي مسلم لحق بالبصرة و نزل على أخيه سليمان ثم إن المنصور عزل سليمان سنة تسع و ثلاثين فاختفى عبد الله و أصحابه فكتب المنصور إلى سليمان و أخيه عيسى بأمان عبد الله و قواده و مواليه و إشخاصهم إلى المنصور منهما فشخصوا و لما قدما عليه فأذن لهما فأعلماه بحضور عبد الله و استأذناه له فشغلهما بالحديث و أمر بحبسه في مكان قد هيئ له في القصر فلما خرج سليمان و عيسىلم يجدا عبد الله فعلما أنه قد حبس و أن ذمتهما قد أخفرت فرجعا إلى المنصور فحبسا عنه و توزع أصحاب عبد الله بين الحبس و القتل و بعث ببعضهم إلى أبي داود خالد ابن إبراهيم بخراسان فقتلهم بها و لم يزل عبد الله محبوسا حتى عهد المنصور إلى المهدي سنة تسع و أربعين و أمر موسى بن عيسى فجعله بعد المهدي و دفع إليه عبد الله و أمره بقتله و خرج حاجا و سار عيسى كاتبه يونس بن فروة في قتل عبد الله بن علي فقال : لا تفعل فإنه يقتلك به و إن طلبه منك فلا ترده إليه سرا فلما قفل المنصور من الحج دس على أعمامه من يحرضهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله فشفعهم و قال لعيسى جئنا به فقال : قتلته كا أمرتني فأنكر المنصور و قال خذوه بأخيكم فخرجوا به ليقتلوه حتى اجتمع الناس و اشتهر الأمر فجاء به و قال : هو ذا حي سوي فجعله المنصور في بيت أساسه ملح و أجرى عليه الماء فسقط و مات (3/233)
وقعة الراوندية
كان هؤلاء القوم من أهل خراسان ومن أتباع أبي مسلم يقولون بالتناسخ و الحلول و أن روح آدم في عثمان بن نهيك و أن الله حل في المنصور و جبريل في الهيثم بن معاوية فحبس المنصور نحوا من مائتين منهم فغضب الباقون و اجتمعوا و حملوا بينهم نعشا كأنهم في جنازة و جاؤا إلى السجن فرموا بالنعش و أخرجوا أصحابهم و حملوا على الناس في ستمائة رجل و قصدوا قصر المنصور و خرج المنصور من القصر ما شيا و جاء معن بن زائدة الشيباني و كان مستخفيا من المنصور لقتاله مع ابن هبيرة و قد اشتد طلب المنصور له فحضر عنده هذا اليوم متلثما و ترجل و أبلى ثم جاء إلى المنصور ولجام بغلته في يد الربيع حاجبه و قال : تنح ذا أنا أحق بهذا اللجام في هذا الوقت و أعظم فنازل و قاتل حتى ظفر بالراوندية ثم سأله فانتسب فأمنه و اصطنعه و جاء أبو نصر مالك بن الهيثم و وقف على باب المنصور و قال أنا اليوم بواب ثم قاتلهم أهل السوق و فتح باب المدينة و دخل الناس و حمل عليهم خازم بن خزيمة و الهيثم بن شعبة حتى قتلوهم عن آخرهم و أصاب عثمان بن نهيك في الحومة سهم فمات منه بعد أيام و جعل على الحبس بعده أخاه عيسى ثم بعده أبا العباس الطوسي و ذلك كله بالهاشمية ثم أحضر معنا و رفع منزلته و أثنى عليه بما كان منه في ذلك اليوم مع عمه عيسى فقال معن : و الله يا أمير المؤمنين لقد جئت إلى الحومة و جلا حتى رأيت شدتك فحملني ذلك على ما رأيت مني و قيل إنه كان مختفيا عند أبي الخصيب حاجب المنصور و أنه جاء يوم الراوندية فاستأذن أبو الخصيب و شاوره المنصور في أمرهم فأشار ببث المال في الناس و أبى المنصور إلا الركوب إليهم بنفسه فخرج بين يديه و أبلى حتى قتلوا ثم تغيب فاستدناه و أمنه و ولاه على اليمن (3/233)
انتقاض خراسان و مسير المهدي إليها
كان السفاح قد ولى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم الدهلي بعد انتقاض بسام ابن إبراهيم و مهلكه فلما كان سنة أربعين ثار به بعض الجند و هو بكشماهن و جاؤا إلى منزله فاشرف عليهم ليلا من السطح فزلت قدمه فسقط و مات ليومه و كان عصام صاحب شرطته فقام بالأمر بعده ثم ولى المنصور على خراسان عبد الجبار بن عبد الرحمن فقدم عليها و حبس جماعة من القواد اتهمهم بالدعاء للعلوية منهم مجاشع ابن حريث الأنصاري عامل بخاري و أبو المعرة خالد بن كثير مولى بني تميم عامل قهستان و الحريش بن الذهلي ابن عم أبي داود في آخرين ثم قتل هؤلاء و ألح على عمال أبي داود في استخراج المال و انتهت الشكوى إلى المنصور بذلك فقال لأبي أيوب : إنما يريد بفناء شيعتنا الخلع فأشار عليه أبو أيوب أن تبعث من جنود خراسان لغزو الروم فإذا فارقوه بعثت إليه من شئت و استكمن منه فكتب إليه بذلك فأجاب بأن الترك قد جاشت و إن فرقت الجنود خشيت على خراسان فقال له أبو أيوب : أكتب إليه بأنك ممده بالجيوش و ابعث معها من شئت يستمكن منه فأجاب عبد الجبار بأن خراسان مغلبة في عامها و لا تحتمل زيادة العسكر فقال له أبو يوسف هذا خلع فعاجله فبعث ابنه المهدي فسار و نزل الري و قدم خازم بن خزيمة لحرب عبد الجبار فقاتلوه فانهزم و جاء إلى مقطنة و توارى فيها فعبر إليه المحشد بن مزاحم من أهل مرو الروذ و جاء به إلى خازم فحمله على بعير و عليه جبة صوف و وجهه إلى عجز البعير و حمله إلى المنصور في ولده و أصحابه فبسط إليهم العذاب حتى استخرج الأموال ثم قطع يديه و رجليه و قتله و ذلك سنة اثنتين و أربعين و بعث بولده إلى دهلك فعزلهم بها و أقام المهدي بخراسان حتى رجع إلى العراق سنة تسع و أربعين
و في سنة اثنتين و أربعين انتقض عيينة بن موسى بن كعب بالسند و كان عاملا عليها من بعد أبيه و كان أبوه يستخلف المسيب بن زهير على الشرط فخشى المسيب إن حضر عيينة عند المنصور أن يوليه على الشرط فحذره المنصور و حرضه على الخلاف فخلع الطاعة و سار المنصور إلى البصرة و سرح من هنالك عمر بن حفص بن أبي صفوة العتكي لحرب عيينة و ولاه على السند و الهند فورد السند و غلب عليها و في السنة انتفض الأصبهبد بطبرستان و قتل من كان في أرضه من المسلمين فبعث المنصور مولاه أبا الخطيب و خازم بن خزيمة و روح بن حاتم في العساكر فحاصروه في مدة ثم تحيلوا ففتح لهم الحصن من داخله و قتلوا المقاتلة و سبى الذرية و كان مع الإصبهبد سم فشربه فمات (3/234)
أمر بني العباس
بنو هاشم حين اضطرب أمر مروان بن محمد اجتمعوا إليه و تشاوروا فيمن يعقدون له الخلافة فاتفقوا على محمد بن عبد الله بن الحسن المثنى بن علي و كان يقال : إن المنصور ممن بايعه تلك الليلة و لما حج أيام أخيه السفاح سنة ست و ثلاثين تغيب عنه محمد و أخوه إبراهيم ولم يحضرا عنده مع بني هاشم و سأل عنهما فقال له زياد ابن عبيد الله الحرثى أنا آتيك بهما و كان بمكة فرده المنصور إلى المدينة ثم استخلف المنصور و طفق يسأل عن محمد و يختص بني هاشم بالسؤال سرا فكلهم يقول : إنك ظهرت على طلبه لهذا الأمر فخافك على نفسه و يحسن العذر عنه إلا الحسن ابن زيد بن الحسن بن علي فإنه قال له : و الله ما آمن و ثوبه عليك فإنه لا ينام عنك فكان موسى بن عبد الله بن حسن يقول بعد هذا : اللهم أطلب الحسن بن زيد بدمائنا ثم إن المنصور حج سنة و ألح على عبد الله بن حسن في أحضار ابنه محمد فاستشار عبد الله بن علي في إحضاره فقال له : لو كان عافيا عفى عن عمه ! فاستمر عبد الله على الكتمان و بث المنصور العيون بين الأعراب في طلبه بسائر بوادي الحجاز و مياهها ثم كتب كتابا على لسان الشيعة إلى محمد بالطاعة و المسارعة و بعثه مع بعض عيونه إلى عبد الله و بعث معه بالمال و الإلطاف كأنه من عندهم و كان للمنصور كاتب على سريره يتشيع فكتب إلى عبد الله بن حسن بالخبر و كان محمد بجهينة و ألح عليه صاحب الكتاب أمر محمد ليدفع إليه كتاب الشيعة فقال له : إذهب إلى علي بن الحسن المدعو بالأغر يوصلك إليه في جبل جهينة فذهب و أوصله إليه ثم جاءهم حقيقة خبره من كاتب المنصور و بعثوا أبا هبار إلى محمد و علي بن حسن يحذرهما الرجل فجاء أبو هبار إلى علي بن حسن و أخبره ثم سار إلى محمد فوجد العين عنده جالسا مع أصحابه فخلا به و أخبره فقال : و ما الرأي ؟ قال : تقتله قال : لا أقارف دم مسلم قال : تقيده و تحمله معك قال : لا آمن عليه لكثرة الخوف و الاعجال قال : فتودعه عند بعض أهلك من جهينة قال : هذه إذن و رجع فلم يجد الرجل و لحق بالمدينة ثم قدم على المنصور و أخبره الخبر و سمى اسم أبي هبار و كنيته و قال : معه وبر فطلب أبو جعفر وبرا المري فسأله عن أمر محمد فأنكره و حلف فضربه و حبسه ثم دعا عقبة بن سالم الأزدي و بعثه منكرا بكتاب و الطاف من بعض الشيعة بخراسان إلى عبد الله بن حسن ليظهر على أمره فجاءه بالكتاب فانتهره و قال لا أعرف هؤلاء القوم فلم يزل يتردد إليه حتى قبله و أنس به و سأله عقبة الجواب فقال : لا أكتب لأحد و لكن أقرئهم مني سلاما و أعلمهم أن ابني خارجان لوقت كذا فرجع عقبة إلى المنصور فأنشأ الحج فلما لقيه بنو حسن رفع مجالسهم و عبد الله إلى جنبه ثم دعا بالغداء فأصابوا منه ثم قال لعبد الله بن حسن قد أعطيتني العهود و المواثيق أن لا تبغيني بسوء و لا تكيد لي سلطانا فقال : و أنا على ذلك فلحظ المنصور عقبة بن سالم فوقف بين عبد الله حتى ملأ عينه منه فبادر المنصور يسأله الإقالة فلم يفعل و أمر بحبسه و كان محمد يتردد في النواحي و جاء إلى البصرة فنزل في بني راهب و قيل في بني مرة بن عبيد بلغ الخبر إلى المنصور فجاء إلى البصرة و قد خرج عنها محمد قلقي المنصور عمر بن عبيد فقال له : يا أبا عثمان هل بالبصرة أحد تخافه على أمرنا ؟ فقال : لا فانصرف و اشتد الخوف على محمد و إبراهيم و سار إلى عدن ثم إلى السند ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة و كان الممنصور حج سنة أربعين و حج محمد و إبراهيم و عزما على اغتيال المنصور و أبي محمد من ذلك ثم طلب المنصور عبد الله بإحضار و لديه و عنفه و هم به فضمنه زياد عامل المدينة و انصرف المنصور و قدم محمد المدينة قدمة فتلطف له زياد و أعطاه الأمان له ثم قال له : إلحق بأي بلاد شئت و سمع المنصور فبعث أبا الأزهر إلى المدينة في جمادى سنة إحدى و أربعين ليستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطلب و يقبض زيادا و أصحابه فسار بهم فحبسهم المنصور و خلف زياد ببيت المال ثمانين ألف دينار ثم استعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري و أمره بطلب محمد و انفاق المال في ذلك فكثرت نفقته و استبطأه المنصور و استشار في عزله فأشار عليه يزيد بن أسيد السلمي من أصحابه باستعمال رباح بن عثمان بن حسان المزني فبعثه أميرا علىالمدينة في رمضان سنة أربع و أربعين و أطلق يده في محمد بن خالد القسري فقدم المدينة و تهدد عبد الله بن حسن في إحضار ابنيه و قال له عبد الله يومئذ : إنك لتريق المذبوح فيها كما تذبح الشاة فاستشعر ذلك و وجد فقال له حاجبه أبو البختري : إن هذا ما اطلع على الغيب فقال : ويلك ! و الله ما قال إلا ما سمع فكان كذلك ثم حبس رباح محمد بن خالد و ضربه وجد في طلب محمد فأخبر أنه في شعبان رضوى من أعمال ينبع و هو جبل جهينة فبعث عامله في طلبه فأفلت منه ثم إن رباح بن مرة حبس بني حسن و قيدهم و هم عبد الله بن حسن بن الحسن و إخوته حسن و إبراهيم و جعفر و ابنه موسى بن عبد الله و بنو أخيه داود و إسمعيل و إسحق بنو إبراهيم بن الحسن و لم يحضر معهم أخوه علي العائد ثم حضر من الغد عند رباح و قال : جئتك لتحبسني مع قومي فحبسه و كتب إليه المنصور أن يحبس معهم محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان المعروف بالديباجة و كان أخا عبد الله لأمه أمهما فاطمة بنت الحسين و كان عامل مصر قد عثر على علي بن محمد بن عبد الله ابن حسن بعثه أبوه إلى مصر يدعو له فأخذه و بعث به إلى المنصور فلم يزل في حبسه و سمى من أصحاب أبيه عبد الرحمن بن أبي المولى و أبا جبير فضربهما المنصور و حبسهما و قيل عبد الله حبس أولا وحده و طال حبسه فأشار عليه أصحابه بحبس الباقين فحبسهم ثم حج المنصور سنة أربع و أربعين فلما قدم مكة بعث إليهم و هم في السجن محمد بن عمران بن إبراهيم بن طلحة و مالك بن أنس يسألهم أن يرفعوا إليه محمدا و إبراهيم ابني عبد الله فطلب عبد الله الإذن في لقائه فقال المنصور : لا و الله حتى يأتيني به و بابنيه و كان محسنا مقبولا لا يكلم أحدا إلا أجابه إلى رأيه ثم إن المنصور قضى حجه و خرج إلى الربذة و جاء رباح ليودعه فأمر بأشخاص بني حسن و من معهم إلى العراق فأخرجهم في القيود و الأغلال و أردفهم في محامل بغير وطء و جعفر الصادق يعاينهم من وراء ستر و يبكي و جاء محمد إبراهيم مع أبيهما عبد الله يسايرانه مستترين بزي الأعراب و يستأذنانه في الخروج فيقول : لا تعجلا حتى يمكنكما و إن منعتما أن تعيشا كريمين تمنعا أن تموتا كريمين و انتهوا إلى الزيدية و أحضر العثماني الديقا عند المنصور فضربه مائة و خمسين سوطا بعد ملاحاة جرت بينهما أغضبت المنصور و يقال : إن رباحا أغرى المنصور به و قال له : إن أهل الشام شيعته و لا يتخلف عنه منهم أحد ثم كتب أبو عون عامل خراسان إلى المنصور بأن أهل خراسان منتظرون أمر محمد بن عبد الله و احذر منهم فأمر المنصور بقتل العثماني و بعث برأسه إلى خراسان و بعث من يحلف أنه رأس محمد بن عبد الله و أن أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قدم المنصور بهم الكوفة و حبسهم بقصر ابن هبيرة يقال : إنه قتل محمد بن إبراهيم بن حسن منهم على إسطرانة و هو حي فمات ثم بعده عبد الله بن حسن ثم علي بن حسن و يقال : إن المنصور أمر بهم فقتلوا و لم ينج منهم إلا سليمان و عبد الله ابنا داود و إسحق و إسمعيل ابنا إبراهيم بن حسن و جعفر بن حسن و الله أعلم (3/235)
ظهور محمد المهدي و مقتله
و لما سار المنصور إلى العراق و حمل معه بني حسن رجع رباح إلى المدينة و ألح في طلب محمد و هو مختف ينتقل في اختفائه من مكان إلى مكان و قد أرهقه الطلب حتى تدلى في بئر فتدلى فغمس في مائها و حتى سقط ابنه من جبل فتقطع و دل عليه رباح بالمداد فركب في طلبه فاختفى عنه ولم يره و لما اشتد عليه الطلب أجمع الخروج و أغراه أصحابه بذلك و جاء الخبر إلى رباح بأنه الليلة خارج فأحضر العباس بن عبد الله بن الحرث بن العباس و محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضي المدينة و غيرهما و قال لهم : أمير المؤمنين يطلب محمدا شرق الأرض و غربها و هو بين أظهركم و الله لئن خرج ليقتلنكم أجمعين و أمر القاضي بإحضار عشيرة بني زهرة فجاؤا في جمع كثير و أجلسهم بالباب ثم أحضر نفرا من العلويين فيهم جعفر بن محمد بن الحسين و حسين بن علي بن حسين بن علي و رجال من قريش فيهم إسمعيل ابن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة و ابنه خالد و بينما هم عنده إذ سمعوا التكبير و قيل قد خرج محمد فقال له : ابن مسلم بن عقبة أطعني و اضرب أعناق هؤلاء فأبى و أقبل من المداد في مائة و خمسين رجلا و قصد السجن فأخرج محمد بن خالد بن عبد الله القسري و ابن أخيه النذير بن يزيد و من كان معهم و جعل على الرجالة خوات بن جبير و أتى دار الإمارة و هو ينادي بالكف عن القتل فدخلوا من باب المقصورة و قبضوا على رباح و أخيه عباس و ابن مسلم بن عقبة فحبسهم ثم خرج إلى المسجد و خطب الناس و ذكر المنصور بما نقمه عليه و وعد الناس و استنصر بهم و استعمل على المدينة عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير و على قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي و على بيت السلاح عبد العزيز الدراوردي و على الشرط أبا الغلمش عثمان بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب و على ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة و أرسل إلى محمد بن عبد العزيز يلومه على القعود عنه فوعده بالبصرة و سار إلى مكة ولم يتخلف عن محمد من وجوه الناس إلا نفر قليل منهم : الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حرام و عبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد و أبو سلمة بن عبيد الله بن عمر و حبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير و استفتى أهل المدينة مالكا في الخروج مع محمد و قالوا : في أعناقنا بيعة المنصور فقال : إنما بايعتم مكرهين فتسارع الناس إلى محمد و لزم مالك بيته و أرسل محمد إلى إسمعيل بن عبد الله بن جعفر يدعوه إلى بيعته و كان شيخا كبيرا فقال : أنت و الله و ابن أخي مقتول فكيف أبايعك ؟ فرجع الناس عنه قليلا و أسرع بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر إلى محمد فجاءت جمادة أختهم إلى عمها إسمعيل و قالت : يا عم إن مقالتك ثبطت الناس عن محمد وإخوتي معه فأخشى أن يقتلوا فردها فيقال : إنها عدت عليه فقتله ثم حبس محمد بن خالد القسري بعد أن أطلقه و اتهمه بالكتاب إلى المنصور فلم يزل في حبسه و لما استوى أمر محمد ركب رجل من آل أويس بن أبي سرح اسمه الحسين بن صخر و جاء إلى المنصور في تسع فخبره الخبر فقال : أنت رأيته ؟ قال : نعم و كلمته على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم تتابع الخبر و أشفق المنصور من أمره و استشار أهل بيته و دولته و بعث إلى عمه عبد الله و هو محبوس يستشيره فأشار عليه بأن يقصد الكوفة فإنهم شيعة لأهل البيت فيملك عليهم أمرهم و يحفها بالمسالح حتى يعرف الداخل و الخارج و يستدعي سالم بن قتيبة من الري فيتحشد معه كافة أهل الشام و يبعثه و أن يبعث العطاء في الناس فخرج المنصور إلى الكوفة و معه عبد الله بن الربيع بن عبد الله بن عبد المدان و لما قدم الكوفة أرسل إلى يزيد يحيى و كان السفاح يشاوره فأشار عليه بأن يشحن الأهواز بالجنود و أشار عليه جعفر بن حنظلة الهراني بأن يبعث الجند إلى البصرة فلما ظهر إبراهيم بتلك الناحية تبين وجه إشارتهما و قال المنصور : كيف خفت البصرة ؟ قال : لأن أهل المدينة ليسوا أهل حرب حبسهم أنفسهم و أهل الكوفة تحت قدمك و أهل الشام أعداء الطالبيين ولم يبق إلا البصرة ثم إن المنصور كتب إلى محمد المهدي كتاب أمان فأجابه عنه بالرد و التعريض بأمور في الأنساب و الأحوال فأجابه المنصور عن كتابه بمثل ذلك و انتصف كل واحد منهما لنفسه بما ينبغي الإعراض عنه مع أنهما صحيحان مرويان نقلهما الطبري في كتاب الكامل فمن أراد الوقوف فليلتمسها في أماكنها ثم إن محمدا المهدي استعمل على مكة محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله ابن جعفر و على اليمن القاسم بن إسحق و على الشام موسى بن عبد الله فسار محمد بن الحسن إلى مكة و القاسم معه و لقيهما السري بن عبد الله عامل مكة ببطن أذاخر فانهزم و ملك محمد مكة حتى استنفره المهدي لقتال عيسى بن موسى فنفر هو و القاسم بن عبيد الله و بلغهما قتل محمد بنواحي قديد فلحق محمد بإبراهيم فكان معه بالبصرة و اختفى القاسم بالمدينة حتى أخذت له الأمان إمرأة عيسى و هي بنت عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر و أما موسى بن عبد الله فسار إلى الشام فلم يقبلوا منه فرجع إلى المدينة ثم لحق بالبصرة مختفيا و عثر عليه محمد بن سليمان بن علي و على ابنه عبد الله و بعث بهما إلى المنصور فضربهما و حبسهما ثم بعث المنصور عيسى ابن موسى إلى المدينة لقتال محمد فسار في الجنود و معه محمد بن أبي العباس بن السفاح و كثير بن حصين العبدي و حميد بن قحطبة و هوا زمرد و غيرهم فقال له : إن ظفرت فأغمد سيفك و ابذل الأمان و إن تغيب فخذ أهل المدينة فإنهم يعرفون مذاهبه و من لقيك من آل أبي طالب فعرفني به و من لم يلقك فاقبض ماله و كان جعفر الصادق فيمن تغيب فقبض ماله و يقال إنه طلبه من المنصور لما قدم بالمدينة بعد ذلك فقال : قبضه مهديكم و لما وصل عيسى إلى فئته كتب إلى نفر من أهل المدينة ليستدعيهم منهم : عبد العزيز بن المطلب المخزومي و عبيد الله بن محمد بن صفوان الجمعي و عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب فخرج إليه عبد الله هو و أخوه عمر و أبو عقيل محمد بن عبد الله بن محمد بن عقيل و استشار المهدي أصحابه في القيام بالمدينة ثم في الخندق عليها فأمر بذلك اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم و حفر الخندق الذي حفره رسول الله صلى الله عليه و سلم للأحزاب و نزل عيسى الأعراض و كان محمد قد منع الناس من الخروج فخيرهم فخرج كثير منهم بأهلهم إلى الجبال و بقي في شرذمة يسيرة ثم تدارك رأيه و أمر أبا الغلمش بردهم فأعجزوه و نزل عيسى على أربعة أميال من المدينة و بعث عسكرا إلى طريق مكة يعترضون محمدا إن انهزم إلى مكة و أرسل إلى المهدي بالإمان و الدعاء إلى الكتاب و السنة و يحذره عاقبة البغي فقال : إنما أنا رجل فررت من القتل ثم نزل عيسى بالحرف لاثنتي عشرة من رمضان سنة خمس و أربعين فقام يومين ثم وقف على مسلم و نادى بالأمان لأهل المدينة و أن تخلوا بينه و بين صاحبه فشتموه فانصرف و عاد من الغد و قد فرق القواد من سائر جهات المدينة و برز محمد في أصحابه و رايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير و شعارهم أحد أحد و طلب أبو الغلمش من أصحابه البراز فبرز إليه أخو أسد فقتله ثم آخر فقتلوه و قال أنا ابن الفاروق و أبلى محمد المهدي يومئذ بلاء عظيما و قتل بيده سبعين رجلا ثم أمر عيسى بن موسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة من الرجال إلى حائط دون الخندق فهدمه و أجازوا الخندق و قاتلوا من وارئه و صابرهم أصحاب محمد إلى العصر ثم أمر عيسى أصحابه فرموا الخندق بالحقائب و نصبوا عليها الأبواب و جازت الخيل و اقتتلوا و انصرف محمد فاغتسل و تحنط ثم رجع فقال : أترك أهل المدينة و الله لا أفعل أو أقتل و أنت مني في سعة فمشى قليلا معه ثم رجع و افترق عنه جل أصحابه و بقي في ثلثمائة أو نحوها فقال له بعض أصحابه : نحن اليوم في عدة أهل بدر و طفق عيسى بن حصين من أصحابه يناشده في اللحاق بالبصرة أو غيرها فيقول و الله لا تبتلون بي مرتين ثم جمع بين الظهر و العصر و مضى فأحرق الديوان الذي فيه أسماء من بايعهم و جاء إلى السجن و قتل رياح بن عثمان و أخاه عباسا و ابن مسلم بن عقبة و توثق محمد بن القسري بالأبواب فلم يصلوا إليه و رجع ابن حصين إلى محمد فقاتل معه و تقدم بن إلى بطن سلع و معه بنو شجاع من الخمس فعرقبوا دوابهم و كسروا جفون سيوفهم و استماتوا و هزموا أصحاب عيسى مرتين أو ثلاثة و صعد نفر من أصحابه عيسى الجبل و انحدروا منه إلى المدينة و رفع بعض نسوة إلى العباس خمارا لها أسود على منارة المسجد فلما رآه أصحاب محمد و هم يقاتلون هربوا و فتح بنو غفار طريقا لأصحاب عيسى فجاؤا من وراء أصحاب محمد و نادى حميد بن قحطبة للبراز فأبى نادى ابن حصين بالأمان فلم يصغ إليه و كثرت فيه الجراح ثم قتل و قاتل محمد على شلوه فهد الناس عنه هدا حتى ضرب فسقط لركبته و طعنه ابن قحطبة في صدره ثم أخذ رأسه و أتى به عيسى فبعثه إلى المنصور مع محمد بن الكرام عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر و بالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن و أرسل معه رؤوس بني شجاع و كان قتل محمد منتصف رمضان و أرسل عيسى الألوية فنصبت بالمدينة للأمان و صلب محمد و أصحابه ما بين ثنية الوداع و المدينة و استأذنت زينب أخته في دفنه بالبقيع و قطع المنصور الميرة في البحر عن المدينة حتى أذن فيها المهدي بعده و كان مع المهدي سيف علي ذو الفقار فأعطاه يومئذ رجلا من التجار في دين كان له عليه فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة أخذه منه و أعطاه من دينه ثم أخذه منه المهدي و كان الرشيد يتقلده و كان فيه ثمان عشرة فقرة و كان معه من مشاهير بني هاشم أخو موسى و حمزة بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين و حسين و علي ابنا زيد بن علي و كان المنصور يقول عجبا خرجا علي و نحن أخذنا بثأر أبيهما و كان معه علي و زيد ابنا الحسن بن زيد بن الحسن و أبوهما الحسن مع المنصور و الحسن و يزيد و صالح بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر و القاسم بن إسحق بن عبد الله بن جعفر و المرجى علي بن جعفر بن إسحق بن علي بن عبد الله بن جعفر و أبوه علي مع المنصور و من غير بني هاشم محمد بن عبد الله بن عمر بن سعيد بن العاص و محمد ابن عجلان و عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم و أبوبكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة و أخذ أسيرا فضرب و حبس في سجن المدينة فلم يزل محبوسا إلى أن نازل السودان بالمدينة على عبد الله بن الربيع الحارثي وفر عنها إلى بطن نخل و ملكوا المدينة و نهبوا طعام المنصور فخرج ابن أبي سبرة مقيدا و أتى المسجد و بعث إلى محمد بن عمران و محمد بن عبد العزيز و غيرهما بعثوا إلى السودان و ردوهم عما كانوا فيه فرجعوا و لم يصل الناس يومئذ جمعة و وقف الأصبغ بن أبي سفيان بن عاصم بن عبد العزيز لصلاة العشاء و نادى أصلي بالناس على طاعة أمير المؤمنين و صلى ثم أصبح ابن أبي سبرة و رد من العبيد ما نهبوه و رجع ابن الربيع من بطن نخل ثم و قطع رؤساء العبيد و كان مع محمد بن عبد الله أيضا عبد الواحد بن أبي عون مولى الأزد و عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة و عبد العزيز بن محمد الدراوردي و عبد الحميد بن جعفر و عبد الله بن عطاء ابن يعقوب مولى بني سباع و بنوه تسعة و عيسى و عثمان ابنا خضير و عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير قتله المنصور من بعد ذلك لما أخذ بالبصرة و عبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع و علي بن المطلب بن عبد الله بن حنطب و إبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير و هشام بن عمير بن الوليد بن عبد الجبار و عبد الله بن يزيد بن هرمز و غيرهم (3/239)
شأن إبراهيم بن عبد الله و ظهوره و مقتله
كان إبراهيم بن عبد الله أخو المهدي محمد قد اشتد الطلب عليه و على أخيه منذ خمس سنين و كان إبراهيم يتنقل في النواحي بفارس و بكرمان و الجبل و الحجاز و اليمن و الشام و حضر مرة مائدة المنصور بالموصل و جاء أخرى إلى بغداد حين خطها المنصور مع النظار على قنطرة الفرات حين شدها و طلبه فغاض في الناس فلم يوجد و وضع عليه الرصد بكل مكان و دخل بيت سفيان بن حيان العمي و كان معروفا بصحبته فتحيل على خلاصه بأن أتى المنصور و قال : أنا آتيك بإبراهيم فأحملني و غلامي على البريد و ابعث معي الجند ففعل و جاء بالجند إلى البيت و أركب معه إبراهيم في زي غلامه و ذهب بالجند إلى البصرة و لم يزل يفرقهم على البيوت و يدخلها موهما أنه يفتشه حتى بقي وحده فاختفى و طلبه أمير البصرة سفيان بن معاوية فأعجزه و كان قدم قبل ذلك الأهواز فطلبه محمد بن حصين و اختفى منه عند الحسن بن حبيب و لقي من ذلك غيا ثم قدم إبراهيم البصرة سنة خمس و أربعين بعد ظهور أخيه محمد بالمدينة يحيى بن زياد بن حيان النبطي و أنزله بداره في بني ليث فدعاالناس إلى بيعة أخيه و كان أول من بايعه نميلة بن مرة العبسي و عبد الله بن سفيان و عبد الواحد بن زياد و عمر بن سلمة الهجيمي و عبد الله بن حي بن حصين الرقاشي و بثوا دعوته في الناس و اجتمع لهم كثير من الفقهاء و أهل العلم و أحصى ديوانه أربعة آلاف و اشتهر أمره ثم حولوه إلى وسط البصرة و نزل دار أبي مروان مولى بني سليم في مقبرة بني يشكر ليقرب من الناس و ولاه سفيان أمير البصرة على أمره و كتب إليه أخوه محمد يأمره بالظهور و كان المنصور بظاهر و أرسل من القواد مددا لسفيان علي إبراهيم إن ظهر ثم إن إبراهيم خرج أول رمضان من سنة خمس و أربعين و صلى الصبح في الجامع و جاء دار الإمارة بابن سفيان و حبسه و حبس القواد معه و جاء جعفر و محمد ابنا سليمان بن علي في ستمائة رجل و أرسل إبراهيم إليها المعين بن القاسم الحدروري في خمسين رجلا فهزمهما إلى باب زينب بنت سليمان بن علي و إليها ينسب الزينبيون من بني العباس فنادى بالأمان و أخذ من بيت المال ألفي ألف درهم و فرض لكل رجل من أصحابه خمسين ثم أرسل المغيرة على الأهواز في مائة رجل فغلب عليها محمد بن الحصين و هو في أربعة آلاف و أرسل عمر بن شداد إلى فارس و بها إسمعيل و عبد الصمد ابنا علي فتحصنا في دار بجرد و ملك نواحيها فأرسل هرون بن شمس العجلي في سبعة عشر ألفا إلى واسط فغلب عليها هرون بن حميد الإيادي و ملكها و أرسل المنصور لحربه عاكمر ابن إسمعيل في خمسة آلاف و قيل في عشرين فاقتتلوا أياما ثم تهادنوا يروا مآل الأميرين المنصور و إبراهيم ثم جاء نعي محمد إلى أخيه إبراهيم قبل الفطر فصلى يوم العيد و أخبرهم فازدادوا حنقا على المنصور و نفر في حره و عسكر من الغد و استخلف على البصرة غيلة و ابنه حسنا معه و أشار عليه أصحابه من أهل البصرة بالمقام و إرسال الجنود و أمدادهم واحدا بعد واحد و أشار أهل الكوفة باللحوق إليها لأن الناس في انتظارك و لو رأوك ماتوانوا عنك فسار و كتب المنصور إلى عيسى بن موسى بإسراع العود و إلى مسلم بن قتيبة بالري و إلى سالم بقصد إبراهيم و ضم إليه غيرها من القواد و كتب إلى المهدي بإنفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز و فارس و المدائن و واسط و السواد و إلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف يتربصون به ثم رمى كل ناحية بحجرها و أقام خمسين يوما على مصلاه و يجلس ولم ينزع عنه جبته و لا قميصه و قد توسخا و يلبس السواد إذا ظهر للناس و ينزعه إذا دخل بيته و أهديت له من المدينة إمرأتان فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله و أمه الكريم بنت عبد الله من ولد خالد بن أسيد فلم يحفل بهما و قال : ليست هذه أيام نساء حتى أنظر رأس إبراهيم إلي أو رأسي له و قدم عليه عيسى بن موسى فبعثه لحرب إبراهيم في خمسة عشر ألفا و على مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف و سار إبراهيم من البصرة و مائة ألف حتى نزلا بازاء عيسى بن موسى على ستة عشر فرسخا من الكوفة و أرسل إليه مسلم بن قتيبة بأن يخندق على نفسه أو يخالف إلى المنصور فهو في حف من الجنون و يكون أسهل عليك فعرض ذلك إبراهيم على أصحابه فقالوا : نحن هرون و أبو جعفر في أيدينا ! فأسمع ذلك رسول سالم فرجع ثم تصافوا للقتال و أشار عليه بعض أصحابه أن يجعلهم كراديس ليكون أثبت و الصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره فأبى إبراهيم إلا الصف صف أهل الإسلام و وافقه بقية أصحابه ثم اقتتلوا و انهزم حميد بن قحطبة و انهزم معه الناس و عرض لهم عيسى يناشدهم الله و الطاعة فقال لهم حميد : لا طاعة في الهزيمة و لم يبق مع عيسى إلا فل قليل فثبت و استمات و بينما هو كذلك إذ قدم جعفر و محمد بن سليمان بن علي و جاء من وراء إبراهيم و أصحابه فانعطفوا و اتبعهم أصحاب عيسى و رجع المنهزمون من أصحابه بأجمعهم اعترضهم إمامهم فلا يطيقون و مخافة و لا و ثوبه فانهزم أصحاب إبراهيم و ثبت هو في ستمائة أو أربعمائة من أصحابه و حميد يقاتله ثم أصابه سهم بنحره فأنزلوه و اجتمعوا عليه و قال حميد شدوا على تلك الجماعة فاحصروهم عن إبراهيم و قطعوا رأسه و جاؤا به إلى عيسى فسجد و بعثه إلى المنصور ذلك لخمس بقين من ذي القعدة الحرام سنة خمس و أربعين و لما وضع رأسه بين يدي المنصور بكى و قال : و الله أني كنت لهذا كارها و لكني ابتليت بك و ابتليت بي ثم جلس للعامة فأذن للناس فدخلوا و منهم من يثلب إبراهيم مرضاة للمنصور حتى دخل جعفر بن حنظلة النهراني فسلم ثم قال : عظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك و غفر له ما فرط فيه من حقك فتهلل وجه المنصور و أقبل عليه و كناه بأبي خالد و استدناه (3/244)
بناء مدينة بغداد
و ابتدأ المنصور سنة ست و أربعين في بناء مدينة بغداد و سبب ذلك ثورة الراوندية عليه بالهاشمية و لأنه كان يكره أهل الكوفة و لا يأمن على نفسه منهم فتجافي عن جوارهم و سار إلى مكان بغداد اليوم و جمع من كان هناك من البطارقة فسألهم عن أحوال مواضعهم في الحر و البرد و المطر و الوحل و الهوام و استشارهم فأشاروا عليه بمكانها و قالوا تجيئك الميرة في السفن من الشام و الرقة و مصر و المغرب إلى المصرات و من الصين و الهند و البصرة و واسط و ديار بكر و الروم و الموصل في دجلة و من أمينية و ما اتصل بها في تامرا حتى يتصل بالزاب بين أنهار كالخنادق لا تعبر إلا على القناطى و الجسور و إذا يكن لعدوك مطمع و أنت متوسط بين البصرة و الكوفة و واسط و الموصل قريب من البر و البحر و الجبل فشرع المنصور في عمارتها و كتب إلى الشام و الجبل و الكوفة و واسط و البصرة في الصناع و الفعلة و اختار من ذوي الفضل و العدالة و العفة و الأمانة و المعرفة بالهندسة فأحضرهم لذلك منهم : الحجاج بن أرطأة و أبو حنيفة الفقيه و أمر بخطها بالرماد فشكلت أبوابها و فضلانها و طاقاتها و نواحيها و جعل على الرماد حب القطن فاضرم نارا ثم نظر إليها و هي تشتعل فعرف رسمها و أمر أن تحفر الأسس على ذلك الرسم و وكل بها أربعة من القواد يتولى كل واحد منهم ناحية و وكل أبا حنيفة بعد الآجر و اللبن و كان أراده على القضاء و المظالم فأبى فحلف أن لا يقلع عنه حتى يعمل له عملا فكان هذا و أمر المنصور أن يكون عرض أساس القصر من أسفله خمسين ذراعا و من أعلاه عشرين و جعل في البناء القصب و الخشب و وضع بيده أول لبنة و قال : بسم الله و الحمد لله و الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين ثم قال ابنوا على بركة الله فلما بلغ مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد المهدي فقطع البناء و سار إلى الكوفة حتى فرغ من حرب محمد و أخيه و رجع من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد و استمر في بنائها و استشار خالد بن برمك في نقض المدائن و الإيوان فقال : لا أرى ذلك لأنه من آثار الإسلام و فتوح العرب و فيه مصلى علي بن أبي طالب فاتهمه بمحبة العجم و أمر بنقض القصر الأبيض فإذا الذي ينفق في نقضه أكثر من ثمن الجديد فأقصر عنه فقال خالد : لا أدري إقصارك عنه لئلا يقال عجزوا عن هدم ما بناه غيرهم فأعرض عنه و نقل الأبواب إلى بغداد من واسط و من الشام و من الكوفة و جعل المدينة مدورة و جعل قصره وسطها ليكون الناس منه على حد سواء و جعل المسجد الجامع بجانب القصر و عمل لها سورين و الداخل أعلى من الخارج و وضع الحجاج ابن ارطاة قبلة المسجد و كان وزن اللبنة التي يبنى بها مائة رطل و سبعة عشر رطلا و طولها ذراع في ذراع و كانت جماعة من الكتاب و القواد تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع و كانت الأسواق داخل المدينة فأخرجهم إلى ناحية الكرخ لما كان الغرباء يطرقونها و يبيتون فيها و جعل الطرق أربعين ذراعا و كان مقدار النفقة عليها في المسجد و القصر و الأسواق و الفضلان و الخنادق و الأبواب أربعة آلاف ألف و ثمانمائة ألف و ثلاثة و ثلاثين ألف درهم و كان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط و الروز كاري بحبتين و حاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلا بما بقي عنده و أخذه حتى أخذ من خالد بن الصلت منهم خمسة عشر درهما بعد أن حبسه عليها (3/247)
العهد للمهدي و خلع عيسى بن موسى
كان السفاح قد عهد إلى عيسى بن موسى بن علي و ولاه الكوفة فلم يزل عليها فلما كبر المهدي أراه المنصور أبوه أن يقدمه في العهد على عيسى و كان يكرمه في جلوسه فيجلس عن يمينه و المهدي عن يساره فكلمه في التأخر عن المهدي في العهد فقال : يا أمير المؤمنين كيف بالإيمان التي علي و على المسلمين و أبى من ذلك فتغير له المنصور و باعده بعض الشيء و صار يأذن للمهدي قبلة و لعمه عيسى بن علي و عبد الصمد ثم يدخل عيسى فيجلس تحت المهدي و استمر المنصور على التنكر له و عزله عن المكوفة لثلاث عشرة سنة من ولايته و ولى مكان محمد بن سليمان بن علي ثم راجع عيسى نفسه فبايع المنصور للمهدي بالعهد و جعل عيسى من بعده و يقال إنه أعطاه أحد عشر ألف ألف درهم و وضع الجند في الطرقات لأذاه و إشهاد خالد بن برمك عليه جماعة من الشيعة بالخلع تركت جميعها لأنها لا تليق بالمنصور و عدالته المقطوع بها فلا يصح من تلك الأخبار شيء (3/248)
خروج استادسيس
كان رجل إدعى النبوة في جهات خراسان فاجتمع إليه نحو ثلثمائة ألف مقاتل من أهل هراة و باذغيس و سجستان و سار إليه الأخثم عامل مرو الروذ في العساكر فقاتل الأخثم و عامة أصحابه و تتابع القواد في لقائه فهزمهم و بعث المنصور و هو بالبرادق خازم بن خزيمة إلى المهدي في اثني عشر ألفا فولاه المهدي حربه فزحف إليه في عشرين ألفا و جعل على ميمنتة الهيثم بن شعبة بن ظهير و على ميسرته نهار بن حصن السعدي و في مقدمته بكار بن مسلم العقيلي و دفع لواءه للزبرقان ثم راوعهم في المزاحفة و جاء إلى موضع فخندق عليه و جعل له أربعة أبواب و أتى أصحاب أستادسيس بالفؤس و المواعيل ليطموا الخندق فبدؤا بالباب الذي يلي بكار بن مسلم فقاتلهم بكار و أصحابه حتى ردوهم عن بابهم فأقبلوا على باب خازم و تقدم منهم الحريش من أهل سجستان فأمر خازم الهيثم بن شعبة أن يخرج من باب بكار و يأتي العدو من خلفهم و كانوا متوقعين قدوم أبي عون و عمر بن مسلم بن قتيبة و خرج على الحريش و اشتد قتاله معهم و بدت أعلام الهيثم من ورائهم فكبر أهل العسكر و حملوا عليهم فكشفوهم و لقيهم أصحاب الهيثم فاستمر فيهم القتل سبعون ألفا و أسر أربعة عشر و تحصن أستادسيس على حكم أبي عون فحكم بأن يوثق هو و بنوه و يعتق الباقون و كتب إلى المهدي بذلك فكتب المهدي إلى المنصور و يقال إن أستادسيس أبو مراجل أم المأمون و ابنه غالب خال المأمون الذي قتل الفضل بن سهل (3/249)
ولاية هشام بن عمر الثعلبي على السند
كان على السند أيام المنصور عمر بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة و يلقب مرامى ألف رجل و لما كان مكن امر المهدي ما قدمناه بعث ابنه عبد الله الأشت إلى البصرة ليدعو له فسار من هنالك إلى عمر بن حفص و كان يتشيع فأهدى له خيلا ليتمكن بها من لقائه ثم دعاه فأجاب و بايع له و أنزله عنده مختفيا و دعا القواد و أهل البلد فأجابوا فمزق الأعلام و هيأ لبسه من البياض يخطب فيها و هو في ذلك إذ فجأه الخبر بقتل المهدي فدخل على ابنه أشتر و عزاه فقال له : الله في دمي فأشار عليه باللحاق بملك من ملوك السند عظيم المملكة كان يعظم جهة النبي صلى الله عليه و سلم و كان معروفا بالوفاء فأرسل إليه بعد أن عاهده عليه و استقر عند ذلك الملك و تسلل إليه جماعة من الزيدية من أربعمائة و بلغ ذلك المنصور فغاظه و كتب إلى عمر بن حفص بعزله و أقام يفكر فيمن يوليه السند و عرض له يوما هشام بن عمر الثعلبي و هو راكب ثم اتبعه إلى بيته و عرض عليه أخته فقال للربيع : لو كانت لي حاجة في النكاح لقبلت فجزاك الله خيرا و قد وليتك السند فتجهز لها و أمره أن يحارب ملك السند و يسلم إليه الأشتر ففعل و أقام المنصور يستحثه ثم خرجت خارجة بالسند فبعث هشام أخاه سفيحا لحسم الداء عنها فمر بنواحي ذلك الملك فوجد الأشتر يتنزه في شاطئ همذان في عشرة من الفراسان فجاء ليأخذه فقاتلهم حتى قتل و قتل أصحابه جميعا و كتب هشام بذلك إلى المنصور فشكره و أمر بمحاربة ذلك الملك فظفر به و غلب على مملكته و بعث بسراري عبد الله الأشتر و معه ولد منه اسمه عبد الله بعث بهم المنصور إلى المدينة و أسلمه إلى أهله و لما ولى هشام بن عمر على السند و عزل عمر بن حفص عنها ثم حدثت فتق بأفريقية بعثه إلى سده كما سيأتي في أخبارها (3/249)
بناء الرصافة للمهدي
و لما رجع المهدي من خراسان قدم عليه أهله بيته من الشام و الكوفة و البصرة فأجازهم و كساهم و جملهم و كذلك المنصور ثم شعب عليهم الجند فأشار عليهم قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بأن يفرق بينهم و يستكفيه في ذلك و أمر بعض غلمانه أن يعترضه بدار الخلافة و يسأله بحق الله و رسله و العباس و أمير المؤمنين أبي الحسين من أشرف اليمن أم مضر ؟ فقال : مضر كان منها رسول الله صلى الله عليه و سلم و فيها كتاب الله و عندها بيت الله و منها خليفة الله فغضب اليمن إذ لم يذكر لها فضلا ثم كبح بعضهم بغلة قثم فامتنعت مضر و قطعوا الذي كبحها فتشاجر الحيان و تعصبت لليمن ربيعة و الخراسانية للدولة و أصبحوا أربع فرق و قال قثم للمنصور : إضرب كل واحدة بالأخرى و سير لابنك المهدي فلل أنير له بجنده فيتناظرون أهل مدينتك فقبل رأيه و أمر صالحا صاحب المصلى ببناء الرصافة للمهدي (3/250)
مقتل معن بن زائدة
كان المنصور قد ولى على سجستان معن بن زائدة الشيباني و أرسل إلى رتبيل في الضريبة التي عليه فبعث بها عروضا زائدة الثمن فغضب معن و سار الرخج على مقدمته يزيد ابن أخيه يزيد ففتحها و سبى أهلها و قتلهم و مضى رتبيل إلى عزمه و انصرف معن إلى بست فشتى بها و نكر قوم من الخوارج سيرته فهجموا عليه و فتكوا به في بيته و قام يزيد بأمر سجستان و قتل قاتليه و اشتدت على أهل البلاد وطأته فتحيل بعضهم بأن كتب المنصور على لسان كتابا يتضجر من كتب المهدي إليه و يسأله أن يعفى من معاملته فأغضب ذلك المنصور و أقرأ المهدي كتابه و عزله و حبسه ثم شفع فيه شخص إلى مدينة السلام فلم يزل مجفوا حتى بعث إلى يوسف البرم بخراسان كما يذكر بعد (3/251)
العمال على النواحي أيام السفاح و المنصور
كان السفاح قد ولى عند بيعته على الكوفة عمه داود بن علي و جعل على حجابته عبد الله بن بسام و على شرطته موسى بن كعب و على ديوان الخراج خالد بن برمك و بعث عمه عبد الله لقتال مروان مع أبي عون بن يزيد بن قحطبة تقدمه و بعث يحيى ابن جعفر ابن تمام بن العباس إلى المدائن و كان أحمد بن قحطبة تقدمه و بعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن عمار بن ياسر إلى الأهواز مددا لبسام بن إبراهيم و دفع ولاية خراسان إلى أبي مسلم فولى أبو مسلم عليها إيادا و خالد بن إبراهيم و بعث عمه عبد الله في مقدمته لحرب مروان أخاه صالحا و معه أبو عون بن يزيد فلما ظفر و انصرف ترك أبا عون يزيد بمصر و استقل عبد الله بولاية الشام و ولى السفاح أخاه أبا جعفر على الجزيرة و أرمينية و أذربيجان فولى على أرمينية يزيد بن أسد و على أذربيجان محمد بن صول و نزل الجزيرة و كان أبو مسلم ولى على فارس محمد بن الأشعث حين قتل أبا مسلمة الخلال فبعث السفاح عليها عيسى فمنعه محمد بن الأشعث و استخلفه على الولاية فبعث عليها عمه إسمعيل و ولى على الكوفة ابن أخيه موسى و على البصرة سفيان بن معاوية المهلبي و على السند منصور بن جمهور و نقل عمه داود إلى ولاية الحجاز و اليمن و اليمامة ثم ولى على البصرة و أعمالها و كور دجلة و البحرين و عمان و توفي داود بن علي سنة علي سنة ثلاث و ثلاثين فولى مكانه على اليمن محمد بن يزيد بن عبد الله بن عبد المدان و على مكة و المدينة و الطائف و اليمامة خاله زياد ابن عبد الله بن عبد المدان الحارثي و هو عم محمد بن يزيد و فيها بعث محمد بن الأشعث إلى أفريقية ففتحها و في سنة أربعة و ثلاثين بعث صاحب الشرطة موسى بن كعب لقتال منصور بن جمهور و ولاه مكانه على السند فاستخلف مكانه على الشرطة المسيب بن زهير و توفي عامل اليمن محمد بن يزيد فولى مكانه علي بن الربيع بن عبيد الله الحارثي و لما استخلف المنصور و انتقض عبد الله بن علي و أبو مسلم ولى على خراسان أبا داود خالد بن إبراهيم و على مصر صالح بن علي وعلى الشام عبد الله بن علي ثم هلك خالد ابن إبراهيم سنة أربعين فولى مكانه عبد الجبار ابن عبد الرحمن فانتقض لسنة من ولايته فبعث المنصور ابنه المهدي على خراسان و في مقدمته خازم بن خزيمة فظفر بعبد الجبار و توفي سليمان عامل البصرة سنة أربعين فولى مكانه سفيان بن معاوية و مات موسى بن كعب بالسند و ولى مكانه ابنه عيينة فانتفض فبعث المنصور مكانه عمر بن حفص بن أبي صفرة و ولى مصر في هذه السنة حميد بن قحطبة و ولى على الجزيرة و الثغور و العواصم أخاه العباس ابن محمد و كان بها يزيد بن أسيد و عزل عمه إسمعيل عن الموصل و ولى مكانه مالك ابن الهيثم الخزاعي و في سنة ست و أربعين عزل الهيثم بن معاوية و ولى على مكة و الطائف مكانه السري بن عبد الله بن الحرث بن العباس نقله إليها من اليمامة و ولى مكانه من اليمن قثم بن العباس بن عبد الله بن العباس و عزل حميد بن قحطبة عن مصر و ولى مكانه نوفل بن الفرات ثم عزله و ولى مكانه يزيد بن حاتم ابن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة و ولى على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري ثم اتهمه في أمر ابن أبي الحسن فعزله و ولى مكانه رباح بن عثمان المزني و لما قتله أصحابه محمد المهدي ولى مكانه عبد الله بن الربيع الحارثي و لما قتل إبراهيم أخو المهدي سنة خمس و أربعين ولى المنصور على البصرة سالم بن قتيبة الباهلي و ولى على الموصل ابنه جعفرا مكان مالك بن الهيثم و بعث معه حرب بن عبد الله من أكابر قواده ثم عزل سالم بن قتيبة عن البصرة سنة ست و أربعين و ولى مكانه محمد بن سليمان و عزل عبد الله بن الربيع عن المدينة و ولى مكانه جعفر بن سليمان و عزل السري بن عبد الله عن مكة و ولى مكانه عمه عبد الصمد بن علي و ولى سنة سبع و أربعين على الكوفة محمد بن سليمان مكان عيسى بن موسى لما سخطه بسبب العهد و ولى مكانه محمد بن سليمان على البصرة محمد بن السفاح فاستعفاه و رجع إلى بغداد فمات و استخلف بها عقبة بن سالم فأقره و ولى على المدينة جعفر بن سليمان و ولى سنةثمان و أربعين على الموصل خالد بن برمك لإفساد الأكراد في نواحيها عزل سنة تسع و أربعين عمه عبد الصمد عن مكة و ولى مكانه محمد بن إبراهيم و في سنة خمسين عزل جعقر بن سليمان عن المدينة و ولى مكانه الحسن بن زيد بن الحسن و في سنة إحدى و خمسين عزل عمر بن حفص عن السند و ولى مكانه هشام بن عمر و الثعلبي و ولى عمر بن حفص على أفريقية ثم بعث يزيد بن حاتم من مصر مددا له و ولى مكانه بمصر بن سعيد و في هذه السنة قتل معن بن زائدة بسجستان كما تقدم فقام بأمره يزيد ابن أخيه يزيد فأقره المنصور ثم عزله و في هذه السنة سار عقبة بن سالم من البصرة و استخلف نافع ابن عقبة فغزا البحرين و قتل ابن حكيم العدوي و استقصره المنصور بإطلاق أسراهم فعزله و ولى جابر بن مومة الكلابي ثم عزله و ولى مكانه عبد الملك بن طيبان النهيري ثم عزله و ولى الهيثم بن معاوية العكي و فيها ولى على مكة و الطائف محمد بن إبراهيم الإمام ثم عزله و ولى مكانه إبراهيم ابن أخيه يحيى بن محمد و ولى على الموصل إسمعيل بن خالد بن عبد الله القسري و مات أسيد بن عبد الله أمير خراسان فولى مكانه حميد بن قحطبة و في سنة ثلاث و خمسين توفي عبيد الله بن بنت أبي ليلى قاضي الكوفة فاستقضى شريك بن عبد الله النخعي و كان على اليمن يزيد بن منصور و في سنة خمس و أربعين بل أربع و خمسين عزل عن الجزيرة أخاه العباس و أغرمه مالا و ولى مكانه موسى بن كعب الخثعمي و كان سبب عزله شكاية يزيد بن أسيد منه ولم يزل ساخطا على العباس حتى غضب على عمه إسمعيل فشفع فيه إخوته عمومة المنصور فقال عيسى بن موسى : يا أمير المؤمنين شفعوا في أخيهم و أنت ساخط على أخيك العباس منذ كذا ! و لم يكلمك فيه أحد منهم فرضي عنه و في سنة خمس و خمسين عزل محمد بن سليمان عن الكوفة و ولى مكانه عمر بن زهير الضبي أخاه المسيب صاحب الشرطة و كان من أسباب عزله أنه حبس عبد الكريم بن أبي العوجاء خال معن بن زائدة على الزندقة و كتب إليه أن يتبين أمره فقتله قبل وصول الكتاب فغضب عليه المنصور و قال : لقد هممت أن أقيده به و عزل عمه عيسى في أمره لأنه الذي كان أشار بولايته و فيها عزل الحسن بن زيد عن المدينة و ولى مكانه عمه عبد الصمد بن علي و كان على الأهواز و فارس عمارة بن حمزة و في سنة سبع و خمسين ولى على البحرين سعيد بن دعلج صاحب الشرطة بالبصرة فأنفذ إليها ابنه تميما و مات سوار بن عبد الله قاضي البصرة فولى مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحصين العيري و عزل محمد بن الكاتب عن مصر و ولى مكانه مولاه مطرا و عزل هشام بن عمر عن السند و ولى مكانه معبد بن الخليل و في سنة ثمان و خمسين عزل موسى بن كعب عن الموصل لشيء بلغه عنه فأمره ابنه المهدي أن يسير إلى الرقة موريا بزيارة القدس و يكفل طريقة على الموصل فقبض عليه و كان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم و أجله في إحضارها ثلاثا و إلا قتله فبعث ابنه يحيى إلى عمارة حمزة و مبارك التركي و صالح صاحب المصلى و غيرهم من القواد ليستقرض منهم قال يحيى : فكلهم بعث إلا أن منهم من منعني الدخول و منهم من يجيبني بالرد إلا عمارة بن حمزة فإنه أذن لي و وجهه إلى الحائط و لم يقبل علي و سلمت فرد خفيفا و سأل كيف خالد فعرفته و استقرضته فقال : إن أمكنني شيء يأتيك فانصرفت عنه ثم أنفذ المال فجمعناه في يومين و تعذرت ثلثمائة ألف و ورد على المنصور انتقاض الموصل و الجزيرة و انتشار الأكراد بها و سخط موسى بن كعب فأشار عليه المسيب بن زهير بخالد بن برمك فقال : كيف يصلح بعدما فعلنا ؟ فقال : أنا ضامنه فصفح له عما بقي عليه و عقد له على الموصل و لابنه يحيى على أذربيجان و سارا مع المهدي فعزل موسى بن كعب و ولاهما قال يحيى : و بعثني خالد إلى عمارة بقرضه و كان مائة ألف فقال لي : أكنت لأبيك صديقا ؟ قم عني لاقمت و لم بزل خالد على الموصل إلى وفاة المنصور و في هذه السنة عزل المنصور المسيب بن زهير عن شرطته و حبسه مقيدا لأنه ضرب أبان بن بشير الكاتب بالسياط حتى قتله و كان مع أخيه عمر بن زهير بالكوفة و ولى المنصور على فارس نصر بن حرب بن عبد الله ثم على الشرطة ببغداد عمر بن عبد الرحمن أخا عبد الجبار و على قضائها عبد الله بن محمد بن صفوان ثم شفع المهدي في المسيب و أعاده إلى شرطته (3/251)
الصوائف
كان أمر الصوائف قد انقطع منذ سنة ثلاثين بما وقع من الفتن فلما كانت سنة ثلاث و ثلاثين أقبل قسطنطين ملك الروم إلى ملطية و نواحيها فنازل حصن بلخ و استنجدوا أهل ملطية فأمدوهم بثمانمائة مقاتل فهزمهم الروم و حاصروا ملطية و الجزيرة مفتوحة و عاملها موسى بن كعب بخراسان فسلموا البلد على الأمان لقسطنطين و دخلوا إلى الجزيرة و خرب الروم ملطية ثم ساروا إلى قاليقلا ففتحوها و في هذه السنة سار أبو داود و خالد بن إبراهيم إلى الجتن فدخلها فلم تمتنع عليه و تحصن منه السبيل ملكهم و حاصره مدة ثم فرض الحصن و لحق بفرغانة ثم دخلوا بلاد الترك و انتهوا إلى بلد الصين و فيها بعث صالح بن علي بن فلسطين سعيد بن عبد الله لغزو الصائفة وراء الدروب و في سنة خمس و ثلاثين غزا عبد الرحمن بن حبيب عامل أفريقية جزيرة صقلية فغنم و سبى و ظفر بمالم يظفر به أحد قبله ثم سفل ولاة أفريقية بفتن البربر فأمن أهل صقلية و عمر الحصون و المعاقل و جعلوا الأساطيل تطوف بصقلية للحراسة و ربما صادفوا تجار المسلمين في البحر فأخذوهم و في سنة ثمان و ثلاثين خرج قسطنطين ملك الروم فأخذ ملطية عنوة و هدم سورها و عفا عن أهلها فغزا العباس بن محمد الصائفة و معه عماه صالح و عيسى و بني ما خربه الروم من سور ملطية من سورة الروم ورد إليها أهلها و أنزل بها الجند و دخل دار الحرب من درب الحرث و توغل في أرضهم و دخل جعفر بن حنظلة البهراني من درب ملطية و في سنة تسع و ثلاثين كان الفداء بين المسلمين و الروم في أسرى قاليقلا و غيرهم ثم غزا بالصائفة سنة أربعين عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام و معه الحسن قحطبة و سار إليهم قسطنطين ملك الروم في مائة ألف فبلغ جيحان و سمع كثرة المسلمين فأحجم عنهم و رجع و لم تكن بعدها صائفة إلى سنة ست و أربعين لاشتغال المنصور بفتنة بني حسن و في سنة ست و أربعين خرج الترك و الحدر بن باب الأبواب و انتهوا إلى أرمينية و قتلوا من أهلها جماعة و رجعوا و في سنة سبع و أربعين أغار أسترخان الخوارزمي في جمع من الترك على أرمينية فغنم و سبى و دخل تفليس فعاث فيها و كان حرب بن عبد الله مقيما بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارزمي بالجزيرة فأمره المنصور بالمسير لحرب الترك مع جبريل بن يحيى فانهزموا و قتل حرب في كثير من المسلمين و فيها غزا بالصائفة مالك بن عبد الله الخثعمي من أهل فلسطين و يقال له ملك الصوائف فغنم غنائم كثيرة و قسمها بدرب الحرث و في سنة تسع و أربعين غزا بالصائفة العباس بن محمد و معه الحسن بن قحطبة و محمد بن الأشعث فدخلوا أرض الروم و عاثوا و رجعوا و مات محمد بن الأشعث في طريقه في سنة إحدى و خمسين و قتل أخوه محمد ولم يدر ثم غزا بالصائفة سنة أربع و خمسين زفر بن عاصم الهلالي و في سنة خمس بعدها طلب ملك الروم الصلح على أن يؤدي الجزية و غزا بالصائفة يزيد بن أسيد السلمي و غزا بها سنة ست و خمسين و غزا بالصائفة معيوب بن يحيى من درب الحرثى و لقي فاقتتلوا ثم تحاجزوا (3/255)
وفاة المنصور و بيعته المهدى
و في سنة ثمان و خمسين توفي المنصور منصرفا من الحج ببئر ميمون لست خلت من ذي الحجة و كان قد أوصى المهدي عند وداعه فقال : لم أدع شيئا إلا تقدمت إليك فيه و سأوصيك بخصال و ما أظنك تفعل واحدة منها و له سفط فيه دفاتر علمه و عليه قفل لا يفتحه غيره فقال للمهدي : انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به فإن فيه علم آبائك ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير فإن أصبت فيه ما تريد و إلا ففي الثاني و الثالث حتى تبلغ سبعة فإن ثقل عليك فالكراسة الصغيرة فإنك واجد ما تريد فيها و ما أظنك تفعل فانظر هذه المدينة و إياك أن تستبدل بها غيرها و قد جمعت فيها من الأموال ما أنكر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند و النفقات و الذرية و مصلحة البيوت فاحتفظ بها فإنك لا تزال عزيزا ما دام بيت مالك عامرا و ما أظنك تفعل و أوصيك بأهل بيتك و أن تظهر كرامتهم و تحسن إليهم و تقدمهم و توطئ الناس أعقابهم و توليهم المنابر فإن عزك عزهم و ذكرهم لك و ما أظنك تفعل و أوصيك بأهل خراسان خيرا فإنهم أنصارك و شيعتك الذين بذلوا أموالهم و دماءهم في دولتك و أن لا تخرج محبتك من قلوبهم و أن تحسن إليهم و تتجاوز عن مسيئهم و تكافئهم عما كان منهم و تخلف من مات منهم في أهله و ولده و ما أظنك تفعل و إياك أن تبني مدينة الشرقية فإنك لا تتم بناءها و أظنك ستفعل و إياك أن تستعين برجل من بين سليم و أظنك ستفعل و إياك أن تدخل النساء في أمرك و أظنك ستفعل و قيل قال له : إني ولدت في ذي الحجة و وليت في ذي الحجة و قد يحس في نفسي أن أموت في ذي الحجة في هذه السنة و إنما حد لي الحج على ذلك فاتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي يجعل لك فيما كربك و حزنك فرجا و مخرجا و يرزقك السلامة و حسن العاقبة من حيث لا تحتسب يا بني إحفظ محمدا صلى الله عليه و سلم في أمته يحفظك الله و يحفظ عليك أمورك و إياك و الدم الحرام فإنه حوب عند الله عظيم و عار في الدنيا لازم مقيم و الزم الحدود فإن فيها صلاحك في الآجل و صلاحك في العاجل و لا تعتد فيها فتبور فإن الله تعالى لو علم أن شيئا أصلح منها لدينه و أزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه و أعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه أمر في كتابه بتضعيف العذاب و العقاب على من سعى في الأرض فسادا مع ما ادخر له من العذاب الأليم فقال : { إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا } الآية فالسلطان يا بني حبل الله المتين وعروته الوثقى و دينه المقيم فاحفظه و حصنه و ذب عنه و أوقع بالملحدين اقمع المارقين منه و قابل الخارجين عنه بالعقاب و لا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن و احكم بالعدل و لا تشطط فإن ذلك أقطع للشعث و أحسم للعدو و أنجع في الدواء و اعف عن الفيء فليس بك إليه حاجة مع ما أخلفه لك و افتتح بصلة الرحم و بر القرابة و إياك و الأثرة و التبديد لأموال الرعية و اشحن الثغور و اضبط الأطراف و أمن السبيل و سكن العامة و أدخل المرافق عليهم و ارفع المكاره عنهم و أعد الأموال و اخزنها و إياك و التبديد فإن النوائب غير مأمونة و هي من شيم الزمان و أعد الأكراع و الرجال و الجند ما استطعت و إياك و تأخير عمل اليوم لغد فتتداول الأمور و تضيع و خذ في أحكام الأمور و النازلات في أوقاتها أولا أولا و اجتهد و شمر فيها و أعد رجالا بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار و رجالا بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل و باشر الأمور بنفسك و لا تضجر و لا تكسل و استعمل حسن الظن و أسيء الظن بعملك و كتابك و خذ نفسك بالتيقظ و تفقد من يبيت على بابك و سهل إذنك للناس و انظر في أمر النزاع إليك وكل بهم عينا غير نائمة و نفسا غير ساهية و لا تنم فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة و لا دخل عينه الغمض إلا و قلبه مستيقظ هذه وصيتي إليك و الله خليفتي عليك ثم ودعه و سار إلى الكوفة فأحرم منها قارنا و ساق الهدي و أشعره و قلده لأيام خلت من ذي القعدة و لما سار منازل عرض له وجعه الذي مات به ثم اشتد فجعل يقول للربيع و كان عديله بادربي إلى حرم ربي هاربا من ذنوبي فلما وصل بئر ميمون مات سحر السادس من ذي الحجة لم يحضر إلا خدمه و الربيع مولاه فكتموا الأمر ثم غدا أهل بيته على عادتهم فدعا عيسى بن علي العم ثم عيسى بن موسى بن محمد ولي العهد ثم الأكابر و ذوي الأنساب ثم عامتهم فبايعهم الربيع للمهدي ثم بايع القواد و عامة الناس و سار العباس بن محمد و محمد بن سسليمان إلى مكة فبايعا الناس للمهدي بين الركن و المقام و جهزوه إلى قبره و صلى عليه عيسى بن موسى قيل إبراهيم ابن يحيى و دفن في مقبرة المعلاة و ذلك لاثنتين و عشرين من سنة خلافته و ذكر علي بن محمد النوفلي عن أبيه و هو من أهل البصرة و كان يختلف إلى المنصور تلك الأيام قال : جئت من مكة صبيحة موته إلى العسكر فإذا موسى بن المهدي عند عمود السرادق و القاسم بن منصور في ناحية فعلمت أنه قد مات ثم أقبل الحسن بن زيد العلوي و الناس حتى ملؤا السرادق و سمعنا همس البكاء ثم خرج ابو العنبر الخادم مشقوق الأقبية و على رأسه التراب و هو يستغيث و قام القاسم فشق ثيابه ثم خرج الربيع و في يده قرطاس فقرأه على الناس و فيه : بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله المنصور أمير المؤمنين إلىمن خلف من بني هاشم و شيعة من أهل خراسان و عامة المسلمين ثم بكى و بكى الناس ثم قال : البكاء أمامكم فانصتوا رحمكم الله : ثم قرأ : أما بعد فإني كتبت كتابي هذا و أنا حي في آخر يوم من أيام الدنيا أقرأ عليكم السلام و أسأل الله أن لا يفتنكم بعدي و لا يلبسكم شيعا و لا يذيق بعضكم بأس بعض ثم أخذ في وصيتهم للمهدي و حثهم على الوفاء بعهده ثم تناول الحسن بن زيد و قال : قم فبايع فبايع موسى بن المهدي لأبيه ثم بايع الناس الأول فالأول ثم دخل بنو هاشم و هو في أكفانه مكشوف الرأس لمكان الإحرام فحملوه على ثلاثة أميال من مكة فدفنوه و كان عيسى بن موسى لما بايع الناس أبى من الشيعة فقال له علي بن عيسى بن ماهان : و الله لتبايعن و إلا ضربنا عنقك ثم بعث موسى بن المهدي و الربيع بالخبر و البردة و القضيب و خاتم الخلافة إلى المهدي و خرجوا من مكة و لما وصل الخبر إلى المهدي منتصف ذي الحجة إجتمع إليه أهل بغداد و بايعوه و كان أول ما فعله المهدي حين بويع أنه أطلق من كان في حبس المنصور إلا من كان في دم أو مال أو من يسعى بالفساد و كان فيمن أطلق يعقوب بن داود و كان محبوسا مع الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن فلما أطلق ساء ظن إبراهيم و بعث إلى من يثق به بحفر سرب يفضي إلى محبسه و بلغ ذلك يعقوب بن داود فجاء إلى ابن علاثة القاضي و أوصله إلى أبي عبيد الله الوزير ليوصله إلى المهدي فأوصله و استخلاه فلم يحدثه حتى قام الوزير و القاضي و أخبره بتحقيق الحال فأمره بتحويل الحسن ثم هرب بعد ذلك ولم يظفر به و شاور يعقوب بن داود في أمره فقال أعطه الأمان و أنا أحضره و أحضره ثم طلب من المهدي أن يجعل له السبيل في رفع أمور الناس وراء بابه إليه فأذن له و كان يدخل كلما أراد و يرفع إليه النصائح في أمر الثغور و بناء الحصون و تقوية الغزاة و ترويح العذاب و فكاك الأسرى و المحبوسين و القضاء على الغارمين و الصدقة على المتعففين فحظى بذلك و تقدمت منزلته و سقطت منزلة أبي عبد الله و وصله المهدي بمائة ألف و كتب له التوقيع بالإخاء في الله (3/256)
ظهور المقنع و مهلكه
كان هذا المقنع من أهل مرو و يسمى حكيما و هاشميا و كان يقول بالتناسخ و أن الله خلق آدم فتحول في صورته ثم في صورة نوح ثم إلى أبي مسلم ثم إلى هاشم و هو المقنع فظهر بخراسان و ادعى الإلهية و اتخذ وجها من ذهب فجعله على وجهه فسمي المقنع و أنكر قتل يحيى بن يزيد و زعم أنه يأخذ بثأره و تبعه خلق عظيم من الناس و كانوا يسجدون له و تحصن بقلعة بسام من رساتيق كش و كان قد ظهر بخارى و الصغد جماعة من المبيضة فاجتمعوا معه على الخلاف و أعانهم كفار الأتراك و أغاروا على المسلمين من ناحيتهم و حاربهم أبو النعمان و الجنيد و ليث بن نصر بن سيار فقتلوا أخاه محمد بن نصر و حسان ابن أخيه تميم و أنفذ المهدي إليهم جبريل بن يحيى و أخاه يزيد لقتال المبيضة فقاتلوهم أربعة أشهر في بعض حصون بخارى و ملكوه عنوة فقتل منهم سبعمائة و لحق فلهم بالمقنع و جبريل في اتباعهم ثم بعث المهدي أبا عون لمحاربة المقنع فلم يبالغ في قتاله فبعث معاذ بن مسلم في جماعة القواد و العساكر و على مقدمته سعيد الحريشني و أتاه عقبة بن مسلم من ذم فاجتمعوا بالطواويس و أوقعوا بأصحاب المقنع فهزمزهم و لحق فلهم بالمقنع في بسام فتحصنوا بها و جاء معاذ فنازلهم و فسد ما بينه و بين الحريشي فكتب الحريشي إلى المهدي بالسعاية في معاذ و يضمن الكفاية إن أفرد بالحرب فأجابه المهدي إلى ذلك و انفرد بحرب المقنع و أمده معاذ بابنه وجاؤا بآلات الحرب حتى طلب أصحاب المقنع الأمان سرا فأمنهم و خرج إليه ثلاثون ألفا و بقي معه زهاء ألفين و ضايقوه بالحصار فأيقن بالهلاك و جمع نساءه و أهله فيقاتل سقاهم السم و يقال بل أحرقهم و أحرق نفسه بالنار و دخلوا القلعة و بعث الحريشي برأس المقنع إلى المهدي فوصل إليه بحلب سنة ثلاث و تسعين (3/259)
الولاة أيام المهدي
وعزل المهدي سنة تسع و خمسين عمه إسمعيل عن الكوفة و ولى عليها إسحق بن الصفاح الكندي ثم الأشعي و قتل عيسى بن لقمان بن محمد بن صاحب الجمحي و عزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة و عبيد الله بن الحسن عن الصلاة و ولى مكانهما عبد الملك بن أيوب بن طيبان الفهيري ثم جعل الأحداث إلى عمارة بن حمزة فولاها للسود بن عبد الله الباهلي و عزل قثم بن العباس عن اليمامة و ولى مكانه الفضل بن صالح و عزل مطرا مولى المنصور عن مصر و ولى مكانه أبا ضمرة محمد بن سليمان وعزل عبد الصمد بن علي عن المدينة و ولى مكانه محمد بن عبد الله الكثيري ثم عزله و ولى عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان ثم عزله وولى مكانه زفر بن عاصم الهلالي و توفي معبد بن الخليل عامل السند فولى مكانه روح بن حاتم بإشارة وزيره أبي عبد الله و توفي حميد بن قحطبة بخراسان فولى عليها مكانه أبا عون عبد الملك بن يزيد ثم سخطه سنة ستين فعزله و ولى معاذ بن مسلم و ولى على سجستان حمزة بن يحيى و على سمرقند جبريل بن يحيى فبنى سورها و حصنها و كان على اليمن رجاء بن روح و ولى على قضاء الكوفة شريك و ولى على فارس و الأهواز و دجلة قاضي البصرة عبيد الله بن الحسن ثم عزله و ولى مكانه محمد بن سليمان و ولى على السند بسطام بن عمر و ولى اليمامة بشر بن المنذر وفي سنة إحدى و تسعين ولى علىالسند محمد بن الأشعث و استقضى عافية القاضي مع ابن علاثة بالرصافة و عزل الفضل بن صالح عن الجزيرة و ولى مكانه عبد الصمد بن علي و ولى عيسى بن لقمان على مصر و يزيد بن منصور على سواد الكوفة و حسان السروري على الموصل وبسطام بن عمر و الثعلبي على أذربيجان و عزله عن السند وتوفي نصر بن مالك بن صالح صاحب الشرطة فولى مكانه حمزة بن مالك و كان الأبان بن صدقة كاتبا للرشيد فصرفه و جعله مع الهادي و جعله هو مع هرون يحيى ابن خالد و عزل محمد بن سليمان أبا ضمرة عن مصر و ولى مكانه سليمان بن رجاء و كان على سواد الكوفة يزيد بن منصور و على أحداثها إسحق بن منصور و في سنة ست و ستين عزل علي بن سليمان عن اليمن و ولى مكانه عبد الله بن سليمان و عزل مسلمة بن رجاء عن مصر و ولى مكانه عيسى بن لقمان ثم عزله لأشهر و ولى مكانه مولاه واضحا ثم عزله و ولى مكانه يحيى الحريشي و كان على طبرستان عمر بن العلاء و سعيد بن دعلج و على جرجان مهليل بن صفوان و وضع ديوان الأرمة و ولى عليها عمر بن يزيع مولاه (3/260)
العهد للهادي و خلع عيسى
كان جماعة من بني هاشم و شيعة المهدي خاضوا في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد و البيعة لموسى الهادي بن المهدي و نمي ذلك إلى المهدي فسر به و استقدم عيسى بن موسى من منزله بالرحبة من أعمال الكوفة فامتنع من القدوم فاستعمل المهدي علىالكوفة روح بن حاتم و أوصاه بالإضرار فلم يجد سبيلا إلى ذلك و كان عيسى لا يدخل الكوفة إلا يوم جمعة أو عيد و بعث إليه المهدي يتهدده فلم يجب ثم بعث عمه العباس يستقدمه فلم يحضر فبعث قائدين من الشيعة فاستحضراه إليه و قدم على عسكر المهدي و أقام أياما يختلف إليه ولا يكلم بشيء و حضر الدار يوما و قد اجتمع رؤساء الشيعة لخلعه فثاروا به وأغلق الباب الذي كان خلفه فكسروه و أظهر المهدي النكير عليهم فلم يرجعوا إلى أن كاشفه أكابر أهل بيته و أشدهم محمد بن سليمان و اعتذر بالإيمان التي عليه فأحضر المهدي القضاة و الفقهاء و فيهم محمد بن علاثة و مسلم بن خالد الزنجي فأفتوه بمخارج الإيمان و خلع نفسه و أعطاه المهدي عشرة آلاف درهم و ضياعا بالزاب و كسكر و بايع لابنه موسى الهادي بالعهد ثم جلس المهدي من الغد و أحضر أهل بيته و أخذ بيعتهم و خرج إلى الجامع وعيسى معه فخطب و أعلم الناس ببيعة الهادي و دعاهم إليها فبادروا و أشهد عيسى بالخلع (3/261)
فتح باربد من السند
و بعث المهدي سنة تسع و خمسين عبد الملك بن شهلب المسمعي في جمع كثير من الجند و المقطوعة إلى بلاد الهند فركبوا البحر من فارس ونزلوا بأرض الهند و فتحوا باربد فافتتحوا عنوة و لجأ أهلها إلى البد فأحرقوه عليهم فاحترق بعض و قتل الباقون و استشهد من المسلمين بضعة و عشرون و أقاموا بعض أيام إلى أن يطيب الريح فوقع فيهم موتان فهلك ألف فيهم إبراهيم بن صبيح ثم ركبوا البحر إلى فارس فلما انتهوا إلى ساحل حران عصفت الريح فانكسرت عامة مراكبهم و غرق الكثير منهم (3/262)
حج المهدي
وفي سنة ستين حج المهدي و استخلف على بغداد ابنه الهادي و خاله يزيد بن منصور و استصحب ابنه هرون و جماعة من أهل بيته و كان معه الوزير يعقوب بن داود فجاء في مكة بالحسن بن إبراهيم الذي ضمنه على الأمان فوصله المهدي و أقطعه و لما وصل إلى مكة اهتم بكسوة الكعبة فكساها بأفخر الكسوة بعد أن نزع ما كان عليها و كانت فيها كسوة هشام بن عبد الملك من الديباج الثخين و قسم مالا عظيما هنالك في مصارف الخير فكان منه مما جاء به من العراق ثلاثون ألف درهم و وصل إليه من مصر ثلثمائة ألف دينار و من اليمن مائة ألف دينار ففرق ذلك كله و فرق مائة ألف ثوب و خمسين ألف ثوب و وسع المسجد و نقل خمسمائة من الأنصار إلى العراق جعلهم في حرسه و أقطع لهم و أجرى الأرزاق و لما رجع أمر ببناء القصور بطريق مكة أوسع من قصور المنصور من القادسية إلى زبالة و أمر باتخاذ المصانع في كل منها منهل و بتحديد الأميال و حفر الآبار و ولى على ذلك بقطير بن موسى و أمر بالزيادة في مسجد البصرة و تصغير المنابر إلى مقدار منبر النبي صلى الله عليه و سلم و أمر في سنة سبع و ستين بالزيادة في الحرمين على يد بقطير فدخلت فيه دور كثيرة و لم يزل البناء فيهما إلى وفاة المهدي (3/262)
نكبة الوزير أبي عبد الله
كان أبو عبد الله الأشعري قد اتصل بالمهدي أيام أبيه المنصور فلطفت عنده منزلته و استوزره وسار معه إلى خراسان و عظمت به بطانة المهدي فأكثروا فيه السعاية و كان الربيع يدرأ عنه و يعرض كتبه على المنصور و يحسن القول فيه فكتب المنصور إلى المهدي بالوصاية به و أن لا يقبل فيه السعاية و لما مات المنصور قام الربيع ببيعة المهدي و قدموا إلى بغداد جاء الربيع إلى باب أبي عبد الله قبل المهدي و قبل أهله فعذله ابنه الفضل على ذلك فقال : هو صاحب الرجل و ينبغي أن نعامله بغير ما كنا نعامله و إياك أن تذكر ما كنا نصنع في حقه أو تمنن بذلك في نفسك فلما وقف ببابه أمهله طويلا من المغرب إلى العشاء ثم أذن له فدخل عليه و هو متكئ فلم يجلس و لا أقبل عليه و شرع الربيع يذكر أمر البيعة فكفه و قال : قد بلغنا أمركم فلما خرج استطال عليه ابنه الفضل بالعذل فيما فعل بأن لم يكن الصواب فقال له : ليس الصواب إلا ما عملته و لكن و الله لأنفقن مالي و جاهي في مكروهه وجد في السعاية فيه فلم يجد طريقا إليها لاحتياطه في أمر دينه و أعماله فأتاه من قبل ابنه محمد و دس إلى المهدي بعرضه لحرمة و أنه زنديق حتى لا استحكمت التهمة فيه أحضره المهدي في غييبه من أبيه ثم قال له : إقرأ فلم يحسن فقال لأبيه : ألم تقل أن ابنك يقرأ القرآن ؟ فقال : فارقني منذ سنين و قد نسي فأمر به المهدي فقتل و استوحش من أبي عبد الله و ساءت منزلته إلى أن كان من أمره ما نذكره و عزله عن ديوان الرسائل و رده إلى الربيع و ارتفعت منزلة يعقوب بن داود عند المهدي و عظم شأنه و أنفذ عهده إلى جميع الآفاق بوضع الأمناء ليعقوب و كان لا ينفذ كتاب المهدي حتى يكتب يعقوب إلى يمينه بانفاذ ذلك (3/263)
ظهور دعوة العباسية بالأندلس و انقطاعها
و في سنة إحدى و ستين أجاز عبد الرحمن بن حبيب الفهري من أفريقية إلى الأندلس داعية لبني العباس و نزل بساحل مرسية و كاتب سليمان بن يقطن عامل سرمقسطة في طاعة المهدي فلم يجبه و قصد بلاده فيمن معه من البربر فهزمه سليمان و عاد إلى تدبير و سار إليه عبد الرحمن صاحب الأندلس و أحرق السفن في البحر تضييقا على ابن حبيب في النجاة فاعتصم بجبل منيع بنواحي بلنسية فبذل عبد الرحمن فيه المال فاغتاله بعض البربر وحمل رأسه إليه فأعطاه ألف دينار و ذلك سنة اثنتين و ستين و هم عبد الرحمن صاحب الأندلس أمر ذلك لغزو الشام من الأندلس على العدوة الشمالية لأخذ ثأره فعصى عليه سليمان بن يقطن و الحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد عثمان الأنصاري في سرقسطة فشغلوه عما اعتزم عليه من ذلك (3/264)
غزو المهدي
تجهز المهدي سنة ثلاث و ستين لغزو الروم و جمع الأجناد من خراسان و من الآفاق و توفي عمه عيسى بن علي آخر جمادى الأخيرة بعسكره و سار من الغد و استخلف على بغداد ابنه موسى الهادي و استصحب هرون و مر في طريقه بالجزيرة و الموصل فعزل عبد الصمد بن علي و حبسه ثم أطلقه سنة ست و ستين و لما جاز ببني مسلمة بن عبد الملك ذكره عمه العباس بما فعله مسلمة مع جدهم محمد بن علي و كان أعطاه مرة في اجتيازه عليه ألف دينار فأحضر المهدي ولد مسلمة و مواليه و أعطاهم عشرين ألف دينار و أجرى عليهم الأرزاق و عبر الفرات إلى حلب فأقام بها و بعث ابنه هرون للغزو و أجاز معه الدروب إلى جيحان مشيعا و بعث معه عيسى بن موسى و عبد الملك بن صالح و الحسن بن قحطبة و الربيع بن يونس و يحيى بن خالد بن برمك و كان إليه أمر العسكر و النفقات و حاصروا حصن سمالوا أربعين يوما فتحوه بالأمان و فتحوا بعده فتوحات كثيرة و عادوا إلى المهدي و قد أثخن في الزنادقة و قتل من كان في تلك الناحية منهم ثم قفل إلى بغداد و مر ببيت المقدس و صلى في مسجده و رجع إلى بغداد (3/264)
العهد لهرون
و في سنة ست و ستين أخذ المهدي البيعة لابنه هرون بعد أخيه الهادي و لقبه الرشيد (3/265)
نكبة الوزير يعقوب بن داود
كان أبو داود بن طهمان كاتبا لنصر بن سيار هو و إخوته و كان شيعيا و على رأي الزيدية و لما خرج يحيى بن زيد بخراسان كان يكاتبه بأخبار نصر فأقصاه نصر فلما طلب أبو مسلم بدم يحيى جاءه داود فأمنه في نفسه و أخذ ما أكتسبه من المال أيام نصر و أقام بعد ذلك عاطلا و نشأ له ولد أهل أدب و علم و صحبوا أولاد الحسن و كان داود يصحب إبراهيم بن عبد الله فورثوا ذلك عنه و لما قتل إبراهيم طلبهم المنصور و حبس يعقوب و عليا مع الحسن بن إبراهيم حتى توفي و أطلقهما المهدي بعده مع من أطلق و داخله المهدي في أمر الحسن لما فر من الحبس فكان ذلك سببا لوصلته بالمهدي حتى استوزره فجمع الزيدية و ولاهم شرقا و غربا و كثرت السعاية فيه من البطانة بذلك و بغيره و كان المهدي يقبل سعايتهم حتى يروا أنها قد تمكنت فإذا غدا عليه تبسم و سأله و كان المهدي مشتهرا بالنساء فيخوض معه في ذلك و فيما يناسبه و يتغلب برضاه و سامره في بعض الليالي و جاء ليركب دابته و قد نام الغلام فلما ركب نفرت الدابة من قعقعة ردائه فسقط و رمحته فانكسر فانقطع عن المهدي و تمكن أعداؤه من السعاية حتى سخطه و أمر به فحبس و حبس عماله و أصحابه و يقال بل دفع إليه علويا ليقتله فأطلقه و نمي ذلك إلى المهدي فأرسل من أحضره و قال ليعقوب أين العلوي ؟ فقال : قتلته فأخرجه إليه حتى رآه ثم حبس في المطبق و دلي في بئر فيه و بقي أيام المهدي و الهادي ثم أخرج و قد عمي و سأل من الرشيد المقام بمكة فأذن له و قيل في سبب تغيره انه كان ينهى المهدي عن شرب أصحابه النبيذ عنده و يكثر عليه في ذلك و يقول : أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ لا و الله لا على هذا استوزرتني و لا عليه صحبتك ! (3/265)
مسير الهادي إلى جرجان
و في سنة سبع و ستين عصى و تداهر من شرو بن ملكا طبرستان من الديلم فبعث المهدي ولي عهده موسى الهادي و جعل على جنده محمد بن حميد و على حجابته نفيعا مولى المنصور و على حرسه عيسى بن ماهان و على رسائله أبان بن صدقة و توفي أبان بن صدقة فبعث المهدي مكانه أبا خالد الأجرد فسار المهدي و بعث الجنود في مقدمته و أمر عليهم يزيد فحاصرهما حتى استقاما و عزل المهدي يحيى الحريشي عن طبرستان و ما كان إليه و ولى مكانه عمر بن العلاء و ولى على جرجان فراشه مولاه ثم بعث سنة ثمان و ستين يحيى الحريشي في أربعين ألفا إلى طبرستان (3/266)
العمال بالنواحي
و في سنة ثلاث و ستين ولي المهدي ابنه هرون على المغرب كله و أذربيجان و أرمينية و جعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى و على الرسائل يحيى بن خالد بن برمك و عزل زفر بن عاصم عن الجزيرة و ولى مكانه عبد الله بن صالح و عزل معاذ بن مسلم عن خراسان و ولى مكانه المسيب بن زهير الضبي و عزل يحيى الحريشي عن أصبهان و ولى مكانه الحكم بن سعيد و عزل سعيد بن دعلج عن طبرستان و ولى مكانه عمر بن العلاء و مهلهل بن صفوان عن جرجان و ولاها هشام بن سعيد و كان على الحجاز و اليمامة جعفر بن سليمان و على الكوفة إسحق بن الصباح و على البحرين و البصرة و فارس و الأهواز محمد بن سليمان فعزله سنة أربع و ستين و ولى مكانه صالح بن داود و كان على السند محمد بن الأشعث و في سنة خمس و ستين عزل خلف بن عبد الله عن الري و ولاها عيسى مولى جعفر و ولى على البصرة روح بن حلتم و على البحرين و عمان و الأهواز و فارس و كرمان النعمان مولى المهدي و عزل محمد بن الفضل عن الموصل و ولى مكانه أحمد بن إسمعيل و في سنه ست و ستين عزل عبيد الله بن الحسن العنبري عن قضاء البصرة و استقضى مكانه خالد بن طليق ابن عمران بن حصين فاستعفى أهل البصرة منه و ولى المهدي على قضائه أبا يوسف حين سار جرجان و اضطربت في هذه السنة خراسان على المسيب بن زهير فولاها أبا العباس الفضل بن سليمان الطوسي و أضاف إليه سجستان فولى هو على سجستان سعيد بن دعلج و ولى على المدينة إبراهيم ابن عمه و عزل منصور بن يزيد عن اليمن و ولى مكانه عبد الله بن سليمان الربعي و كان على مصر إبراهيم بن صالح و توفي في هذه السنة عيسى بن موسى بالكوفة و هي سنة سبع و ستين و عزل المهدي يحيى الحريشي عن طبرستان و الرويان و ما كان إليه و ولاه عمر بن العلاء و ولى على جرجان فراشه مولاه و حج بالناس إبراهيم ابن عمه يحيى و هو على المدينة و مات بعد قضاء الحج فولى مكانه إسحق بن موسى بن علي و على اليمن سليمان بن زيد الحارثي و على اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيرى و على البصرة محمد بن سليمان و على قضائها عمر بن عثمان التميمي و على الموصل أحمد بن إسمعيل الهاشمي و قتل موسى بن كعب و وقع الفساد في بادية البصرة من الأعراب بين اليمامة و البحرين و قطعوا الطريق و انتهكوا المحارم و تركوا الصلاة (3/266)
الصوائف
و في سنة تسع و خمسين أغزى المهدي عمه العباس بالصائفة و على مقدمته الحسن الوصيف فبلغوا أهرة و فتحوا مدينة أوهرة و رجعوا سالمين و لم يصب من المسلمين أحد و في سنة احدى و ستين غزا بالصائفة يمامة بن الوليد فنزل دابق و جاشت الروم مع ميخاييل في ثمانين ألفا و نزل عمق مرعش فقتل و سبى و غنم و حاصر مرعش و قتل من المسلمين عددا و انصرف إلى جيحان فكان عيسى بن علي مرابطا بحصن مرعش فعظم ذلك على المهدي و تجهز لغزو الروم و خرجت الروم سنة اثنتين و ستين إلى الحرث فهدموا أسوارها و غزا بالصائفة الحسن بن قحطبة في ثمانين ألفا من المرتزقة فبلغ جهة أدرركبه و أكثر التحريق و التخريق ولم يفتح حصنا و لا لقي جمعا و رجع بالناس سالما و غزا يزيد بن أسيد السلمي من ناحية قاليقلا فغنم و سبى و فتح ثلاثة حصون ثم غزا المهدي بنفسه سنة ثلاث و ستين كما مر ثم غزا سنة أربع و ستين عبد الكبير بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب من درب الحرث فخرج إليه ميخاييل و طارد الأرمني البطريقان في تسعين ألفا فحام عن لقائهم و رجع بالناس فغضب عليه المهدي و هم بقتله فشفع فيه و حبسه و في سنة خمس و ستين بعث المهدي ابنه هرون بالصائفة و بعث معه الربيع فتوغل في بلاد الروم و لقيه عسكر نقيطا من القواميس فبارزه يزيد بن مزيد فهزمهم و غلب على عسكرهم و لحقوا بالدمشق صاحب المسالح فحمل لهم مائتي ألف دينار و اثنتين و عشرين ألف درهم و سار الرشيد بعساكره و كانت نحوا من مائة ألف فبلغ خليج قسطنطينية و على الروم يومئذ غسطة امرأة إليوك كافلة لابنها منه صغيرا فجرى الصلح على الفدية و أن تقيم له الأدلاء و الأسواق في الطريق لأن مدخله كان ضيقا مخوفا فأجابت لذلك و كان مقدار الفدية سبعين ألف دينار كل سنة و مدة الصلح ثلاث سنين و كان ما سباه المسلمون قبل الصلح خمسة آلاف رأس و ستمائة رأس و قتل من الروم في وقائع هذه الغزوات أربعة و خمسون ألفا و من الأسرى ألفان ثم نقض الروم هذا الصلح سنة ثمان و ستين ولم يستكملوا مدته بقي منها أربعة أشهر و كان على الجزيرة و قنسرين علي ابن سليمان فبعث يزيد بن البدر بن البطال في عسكر فغنموا و سبوا و ظفروا و رجعوا (3/267)
وفاة المهدي و بيعة الهادي
و في سنة تسع و ستين اعتزم المهدي على خلع ابنه موسى الهادي من العهد و البيعة للرشيد به و تقديمه على الهادي و كان بجرجان فبعث إليه بذلك فاستقدمه فضرب الرسول و امتنع فسار إليه المهدي فلما بلغ ما سبدان توفي هنالك و يقال مسموما من بعض جواريه و يقال سمت إحداهما الأخرى في كثرى فغلط و أكلها و يقال حاز صيدا فدخل وراءه إلى خربة فدق الباب ظهره و كان موته في المحرم و صلى عليه ابنه الرشيد و بويع ابنه موسى الهادي لما بلغه موت أبيه و هو مقيم بجرجان يحارب أهل طبرستان و كان الرشيد لما توفي المهدي و العسكر بما سبدان نادى في الناس بإعطاء تسكينا و قسم فيهم مائتين مائتين فلما استوفوها تنادوا بالرجوع إلى بغداد و تشايعوا إليها و استيقنوا موت المهدي فأتوا باب الربيع و أحرقوا و طالبوا بالأرزاق و نقبوا السجون و قدم الرشيد بغداد في إثرهم فبعث الخيزران إلى الربيع فامتنع يحيى خوفا من غيرة الهادي و أمرت الربيع بتسكين الجند فسكنوا و كتب الهادي إلى الربيع يتهدده فاستشاريحيى في أمره و كان يثق بوده فأشار عليه بأن يبعث ابنه الفضل يعتذر عنه و تصحبه الهدايا و التحف ففعل و رضى الهادي عنه و أخذت البيعة ببغداد للهادي و كتب الرشيد بذلك إلى الآفاق و بعث نصيرا الوصيف إلى الهادي بجرجان فركب اليزيد إلى بغداد فقدمها في عشرين يوما فاستوزر الربيع و هلك لمدة قليلة من وزارته و اشتد الهادي في طلب الزنادقة و قتلهم و كان منهم علي بن يعطى و يعقوب بن الفضل من ولد ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب كان قد أقر بالزندقة عند المهدي إلا أنه كان مقسما أن لا يقتل هشميا فحبسه و أوصى الهادي بقتله ولد عمهم داود بن علي فقتلهما و أما عماله فكان على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب و على مكة و الطائف عبد الله بن قثم و على اليمن إبراهيم بن مسلم بن قتيبة و على اليمامة و البحرين سويد القائد الخراساني و على عمان الحسن بن سليم الحواري و على الكوفة موسى بن عيسى بن موسى و على البصرة ابن سليمان و على جرجان الحجاج مولى الهادي وعلى قومس زياد بن حسان و على طبرستان و الرويان صالح بن عمير مولى و على الموصل هاشم بن سعيد بن خالد و عزله الهادي لسوء سيرته و ولى مكانه عبد الملك و صالح بن علي و أما الصائفة فغزا بها في هذه السنة و هي سنة تسع و تسعين معيوب بن يحيى و قد كان الروم خرجوا مع بطريق لهم إلى الحرث فهرب الوالي و دخلها الروم و عاثوا فيها فدخل معيوب وراءهم من درب الراهب و بلغ مدينة استة و غنم و سبى و عاد (3/268)
ظهور الحسين المقتول بفتح
و هو الحسين بن علي بن حسن المثلث بن حسن المثنى بن الحسن السبط كان الهادي قد استعمل على المدينة عمر بن عبد العزيز كما مر فأخذ يوما الحسن بن المهدي بن محمد بن عبد الله بن الحسين الملقب أبا الزفت و مسلم بن جندب الهذلي الشاعر و عمر بن سلام مولى العمريين على شراب لهم فضربهم و طيف بهم بالمدينة بالحبال في أعناقهم و جاء الحسين إليه فشفع فيهم و قال : ليس عليهم حد فإن أهل العراق لا يرون به بأسا و ليس من الحد أن نطيفهم فحبسهم ثم جاء ثانية و معه من عمومته يحيى بن عبد الله بن الحسن صاحب الديلم بعد ذلك فكفلاه و أطلقه من الحبس و ما زال آل أبي طالب يكفل بعضهم بعضا و يعرضون فغاب الحسن عن العرض يومين فطلب به الحسين بن علي و يحيى بن عبد الله كافليه و أغلظ لهما فحلف يحيى أنه يأتي به من ليلته أو يدق عليه الباب يؤذنه به و كان بين الطالبيين ميعاد للخروج في الموسم فأعجلهم ذلك عنه و خرجوا من ليلتهم و ضرب يحيى على العمري في باب داره بالسيف و اقتحموا المسجد فصلوا الصبح و بايع الناس الحسين المرتضى من آل محمد على كتاب الله و سنة رسوله و جاء خالد اليزيدي في مائتين من الجند و العمري و ابن إسحق الأزراق و محمد بن واقد في ناس كثيرين فقاتلهم و هزموهم من المسجد و اجتمع يحيى و إدريس بن عبد الله بن حسن فقتلاه و انهزم الباقون و افترق الناس و أغلق أهل المدينة أبوابهم و انتهت القوم من بيت المال بضعه عشر ألف دينار و قيل سبعين ألفا و اجتمعت شيعة بني العباس من الغد و قاتلوهم إلى الظهر و فشت الجراحات و افترقوا ثم قدم مبارك التركي من الغد حاجا فقاتل مع العباسية إلى منتصف النهار و افترقوا و واعدهم مبارك الرواح إلى القتال و استغفلهم و ركب رواحله راجعا و اقتتل الناس المغرب ثم افترقوا و يقال إن مباركا دس إلى الحسين بذلك تجافيا عن أذيه أهل البيت و طلب أن يأخذ له عذرا في ذلك بالبيات فبيته الحسين و استطرد له راجعا و أقام الحسين و أصحابه بالمدينة واحدا و عشرين يوما آخر ذي القعدة و لما بلغها نادى في الناس بعتق من أتى إليه من العبيد فاجتمع إليه جماعة و كان قد حج تلك السنة رجال من بني العباس منهم سليمان بن المنصور و محمد بن سليمان بن علي و العباس بن محمد بن علي و موسى و إسمعيل أبناء عيسى بن موسى و لما بلغ خبر الحسين إلى الهادي كتب إلى محمد بن سليمان و ولاه على حربه و كان معه رجال و سلاح و قد أغذ بهم عن البصرة خوف الطريق فاجتمعوا بذي طوى و قدموا مكة فحلوا من العمرة التي كانوا أحرموا بها و انضم إليهم من حج من شيعتهم و مواليهم و قوادهم و اقتتلوا يوم التروية فانهزم الحسين و أصحابه و قتل كثير منهم و انصرف محمد بن سليمان و أصحابه إلى مكة و لحقهم بذي طوى رجل من خراسان برأس الحسين ينادي من خلفهم بالبشارة حتى ألقى الرأس بين أيديهم مضروبا على قفاه وجبهته و جمعت رؤوس القتلى فكانت مائة و نيفا و فيها رأس سليمان أخي المهدي ابن عبد الله و اختلط المنهزمون بالحاج و جاء الحسن بن المهدي أبو الزفت فوقف خلف محمد بن سليمان و العباس بن محمد فأخذه موسى بن عيسى و قتله و غضب محمد بن سليمان من ذلك و غضب الهادي لغضبه و قبض أمواله و غضب على مبارك التركي و جعله سائس الدواب فبقي كذلك حتى مات الهادي و أفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله أخو المهدي فأتى مصر و علي يريدها و أصبح مولى صالح بن المنصور و كان يتشيع لآل علي فحمله على البريد إلى المغرب و وقع بمدينة وليلة من أعمال طنجة و اجتمع البريد على دعوته و قتل الهادي و أصحابه بذلك و صلبه و كان لإدريس و ابنه إدريس و أعقابهم حروب نذكرها بعده (3/269)
حديث الهادي في خلع الرشيد
كان الهادي يبغض الرشيد بما كان المهدي أبوهما يؤثره و كان رأى في منامه أنه دفع إليهما قضيين فأورق قضيب الهادي من أعلاه قضيب الرشيد كله و تأول ذلك بقصر مدة الهادي و طول مدة الرشيد و حسنها فلما ولي الهادي أجمع خلع الرشيد و البيعة لابنه جعفر مكانه و فاوض في ذلك قواده فأجابه يزيد بن مزيد و علي بن عيسى و عبد الله بن مالك و حرضوا الشيعة على الرشيد لينقصوه و يقولوا لا نرضى به و نهى الهادي أن يشاور بين يديه بالحرب فاجتنبه الناس و كان يحيى بن خالد يتولى أموره فاتهمه الهادي بمداخلته و بعث إليه و تهدده فحضر عنده مستميتا و قال : يا أمير المؤمنين أنت أمرتني بخدمته من بعد المهدي ! فسكن غضبه و قال له في أمر الخلع فقال : يا أمير المؤمنين أنت إن حملت الناس على نكث الإيمان فيه هانت عليهم فيمن توليه و إن بايعت بعده كان أوثق للبيعة فصدقه و سكت عنه و عاد أولئك الذين جفلوه من القواد و الشيعة فأغروه بيحيى و أنه الذي منع الرشيد من خلع نفسه فحبسه الهادي فطلب الحضور للنصيحة و قال له يا أمير المؤمنين أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر و هو صبي و يرضون به لصلاتهم و حجهم و غزوهم و تأمن أن يسمو إليها عند ذلك أكابر أهل بيتك فتخرج من ولد أبيك و الله لولم يعقد المهدي لكان ينبغي أن تعقده أنت له حذرا من ذلك و أني أرى أن تعقده لأخيك فإذا بلغ ابنك أتيتك بأخيك فخلع نفسه و بايع له فقبل الهادي قوله و أطلقه ولم يقنع القواد ذلك لأنهم كانوا حذرين من الرشيد في ذلك و ضيق عليه و استأذنه في الصيد فمضى إلى قصر مقاتل و نكره الهادي و أظهر خفاءه و بسط الموالي و القواد فيه ألسنتهم (3/271)
وفاة الهادي و بيعة الرشيد
ثم خرج الهادي إلى حديقة الموصل فمرض و اشتد مرضه هناك و استقدم العمال شرقا و غربا و لما ثقل تآمر القواد الذين بايعوا جعفرا في قتل يحيى بن خالد ثم أمسكوا خوفا من الهادي ثم توفي الهادي في شهر ربيع الأول سنة سبعين و مائة و قيل توفي بعد أن عاد من حديقة الموصل و يقال إن أمه الخيزران وصت بعض الجوارى عليه فقتلته لأنها كانت أول خلافته تستبد عليه بالأموار فعكف الناس و اختلفت المواكب و وجد الهادي لذلك فكلمته يوما في حاجة فلم يجبها فقالت : قد ضمنتها لعبد الله بن مالك فغضب الهادي و شتمه و حلف لاقضيتها فقامت مغضبه فقال : مكانك و إلا انتفيت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه و سلم لئن بلغني أن أحدا من قوادي و خاصتي و قف ببابك لأضربن عنقه و لأقبضن ماله ما للمواكب تغدو و تروح عليك ؟ أما لك يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك ؟ إياك إياك لا يفتحي بابك لمسلم و لاذمي ! فانصرفت و هي لا تعقل ثم قال لأصحابه : إيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه و يقال فعلت أم فلان و صنعت ؟ فقالوا لا نحب ذلك قال : فما بالكم تأتون أمي فتتحدثون معها ؟ فيقال : إنه لما وجد في خلع الرشيد خافت عليه منه فلما ثقل مرضه وصت بعض الجواري فجلست على وجهه فمات و صلى عليه الرشيد و جاء هرثمة بن أعين إلى الرشيد فأخرجه و أجلسه للخلافة و أحضر يحيى فاستوزره و كتب إلى الأطراف بالبيعة و قيل : إن يحيى هو الذي جاءه و أخرجه فصلى على الهادي و دفنه إلى يحيى و أعطاه خاتمه و كان يحيى يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد و عزل لأول خلافته عمر بن عبد العزيز العمري عن المدينة و ولى مكانه إسحق بن سليمان وتوفي يزيد بن حاتم عامل أفريقية فولى مكانه روح بن حاتم ثم توفي فولى بنه الفضل ثم قتل فولى هرثمة بن أعين كما يذكر في أخبار أفريقية و أفراد الثغور كلها عن الجزيرة و قنسرين و جعلها عمالة و سماها العواصم و أمره بعمارة طرسوس و نزلها الناس و حج لأول خلافته و قسم في الحرمين مالا كثيرا و أغرى بالصائفة سليمان بن عبد الله البكائي و كان على مكة و الطائف عبد الله بن قثم و على الكوفة عيسى بن موسى و على البحرين و البصرة و اليمامة و عمان و الأهواز و فارس محمد بن سليمان بن علي و على خراسان أبو الفضل العباس بن سليمان الطوسي ثم عزله و ولى مكانه جعفر بن محمد بن الأشعث فسار إلى خراسان و بعث ابنه العباس إلى كابل فاقتتحها و افتتح سابهار و غنم ما كان فيها ثم استقدمه الرشيد فعزله و ولى مكانه ابنه العباس و كان على الموصل عبد الملك بن صالح فعزله و ولى مكانه إسحق بن محمد بن فروح فبعث إليه الرشيد أبا حنيفة حرب بن قيس فأحضره إلى بغداد و قتله و ولى مكانه و كان على أرمينية يزيد بن مزيد بن زائدة ابن أخي معن فعزله و ولى مكانه أخاه عبد الله بن المهدي و ولى سنة إحدى و سبعين على صدقات بني ثعلب روح بن صالح الهمداني فوقع بينه و بين ثعلب خلاف و جمع لهم الجموع و فبيتوه و قتلوه في جماعة من أصحابه و توفي سنة ثلاث و سبعين محمد بن سليمان والي البصرة و كان أخوه جعفر كثير السعاية فيه عند الرشيد و إنه يحدث نفسه بالخلافة ! و أن أمواله كلها فيء من أمواله المسلمين فاستضفاها الرشيد و بعث من قبضها و كان لا يعبر عنها من المال و المتاع و الدواب و احضروا من العين فيها ستين ألف ألف دينار ولم يكن إلا أخوه جعفر فاحتج عليه الرشيد بإقراره أنها فيء و توفي سنة أربع و سبعين والي الرشيد إسحق بن سليمان على السند و مكران و استقضى يوسف بن أبي يوسف في حياة أبيه و في سنة خمس و سبعين عقد لابنه محمد بن زبيدة ولاية العهد و لقبه الأمين و أخذ له البيعة و عمره خمس سنين بسعاية خاله عيسى بن جعفر بن المنصور و وساطة الفضل بن يحيى و فيها عزل الرشيد العباس بن جعفر عن خراسان و ولاها خاله الغطريف بن عطاء الكندي (3/272)
خبر يحيى بن عبد الله في الديلم
و في سنة خمس و سبعين خرج يحيى بن عبد الله بن حسن أخو المهدي بالديلم و اشتدت شوكته و كثر جمعه و أتاه الناس من الأمصار فندب إليه الرشيد الفضل بن يحيى في خمسين ألفا و ولاه جرجان و طبرستان و الري و ما إليها و وصل معه الأموال فسار و نزل بالطالقان و كاتب يحيى و حذره و بسط أمله و كتب إلى صاحب االديلم في تسهيل أمر يحيى على أن يعطيه ألف ألف درهم فأجاب يحيى على الأمان بخط الرشيد و شهادة الفقهاء و القضاء و أجله بني هاشم و مشايخهم عن عبد الصمد منهم فكتب له الرشيد بذلك و بعثه مع الهدايا و التحف و قدم يحيى مع الفضل فلقيه الرشيد بكل ما أحب و أفاض عليه العطاء و عظمت منزلته الفضل عنده ثم أن الرشيد حبس يحيى إلى أن هلك في حبسه (3/274)
ولاية جعفر بن يحيى مصر
كان موسى بن عيسى قد ولاه الرشيد مصر فبلغه أنه عازم على الخلع فرد أمرها إلى جعفر بن يحيى و أمره بإحضار عمر بن مهران و أن يوليه عليها و كان أحول مشوه الخلق خامل البزة يردف غلامه خلفه فلما ذكرت له الولاية قال على شرطية أن يكون أمري إذا صلحت البلاد انصرفت فأجابه إلى ذلك و سار مصر و أتى مجلس موسى فجلس في أخريات الناس حتى إذا افترقوا رفع الكتاب إلى موسى فقرأه و قال : متى يقدم أبو حفص ؟ فقال : أنا أبو حفص ! فقال موسى : لعن الله فرعون حيث قال : أليس لي ملك مصر ثم سلم له العمل فتقدم عمر إلى كاتبه أن لا يقبل من الهدية إلا ما يدخل في الكيس فبعث الناس بهداياهم و كانوا يمطلون بالخراج فلكا حضر النجم الأول و الثاني و شكوا الضيق في الثالث أحضر الهدايا و حسبها لأربابها و استوفى خراج مصر و رجع إلى بغداد (3/274)
الفتنة بدمشق
و في هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية و اليمانية و رأس المضرية أبو الهيدام عامر بن عمارة من ولد خارجة بن سنان بن أبي حارثة المري و كان أصل الفتنة بين القيس و بين اليمانية قتلوا منهم رجلا فاجتمعوا لثأره و كان على دمشق عبد الصمد بن علي فجمع كبار العشائر ليصلحوا بينهم فأمهلتهم اليمانية و بيتوا المضرية فقتلوا ثلثمائة أو ضعفها فاستجاشوا بقبائل قضاعة و سليم فلم ينجدوهم و أنجدتهم قيس و ساروا معهم إلى البلقاء فقتلوا من اليمانية ثمانمائة و طال الحرب بينهم و عزل عبد الصمد عن دمشق و ولى مكانه إبراهيم بن صالح بن علي ثم اصطلحوا بعد سنين و وفد إبراهيم على الرشيد و كان هواه مع اليمانية فوقع في قيس عند الرشيد و اعتذر عنهم عبد الواحد بن بشر و استحلف إبراهيم على دمشق ابنه إسحق فحبس جماعة من قيس و ضربهم ثم وثبت غسان برجل من ولد قيس بن العبسي فقتلوه و استنجد أخوه بالدواقيل من حوران فأنجدوه و قتلوا من اليمانية نفرا ثم وثبت اليمانية بكليب بن عمر بن الجنيد بن عبد الرحمن و عنده ضيف له فقتلوهم فجاءت أم الغلام سابة إلى أبي الهيدام فقال انظريني حتى ترفع دماؤنا إلى الأمير فإن نظر فيها و إلا فأمير المؤمنين ينظر فيها و بلغ ذلك إسحق و حضر عنده أبو الهيدام فلم يأذن له ثم قتل بعض الدواقيل رجلا من اليمانية و قتلت اليمانية رجلا من سليم و نهبوا جيران محارب و ركب أبو الهيدام معهم إلى إسحق فوعده بالنظر لهم و بعث إلى اليمانية يغريهم به فاجتمعوا و أتوا إلى باب الجابية فخرج إليهم أبو الهيدام و هزمهم و استولى على دمشق و فتح السجون ثم اجتمعت اليمانية و استنجدوا كلبا و غيرهم فاستمدوهم و استجاش أبو الهيدام المضرية فجاؤه و هو يقاتل اليمانية عند باب توما فهزمهم أربع مرات ثم أمره إسحق بالكف و بعث إلى اليمانية يخبرهم بغرته و جاء الخبر و ركب و قاتلهم فهزمهم ثم هزمهم أخرى على باب توما ثم جمعت اليمانية أهل الأردن و الجولان من كلب و غيرهم فأرسل من يأتيه بالخبر فأبطؤا و دخل المدينة فأرسل إسحق من دلهم على مكمنه و أمرهم بالعبور إلى المدينة فبعث من أصحابه من يأتيهم من ورائهم فانهزموا و لما كان مستهل صفر جمع إسحق الجنود عند قصر الحجاج و جاء أصحاب الهيدام من أراد نهب القرى التي لهم بنواحي دمشق ثم سألوا الأمان من أبي الهيدام فأمنهم و سكن الناس و فرق أبو الهيدام أصحابه و بقي في نفر يسير من أهل دمشق فطمع فيه إسحق و سلط عليه العذافر السكسكي مع الجنود فقاتلهم العذافر و بقي الجند يحاربونه ثلاثا ثم إن إسحق قاتله في الثالثة و الجند في اثنتي عشر ألفا و معهم اليمانية فخرج أبو الهيدام من المدينة و قاتلهم على باب الجابية حتى أزلهم عنه ثم أغار جمع من أهل حمص على قرية لأبي الهيدام فقاتلهم أصحابه و هزموهم و قتلوا منهم خلقا و أحرقوا قرى و ديارا لليمانية في الغوطة ثم توادعوا سبعين يوما أو نحوها و قدم السندي في الجنود من قبل الرشيد و أغزته اليمانية بأبي الهيدام فبعث هو إليه بالطاعة فأقبل السندي إلى دمشق و إسحق بدار الحجاج و بعث قائده في ثلاثة آلاف و أخرج إليهم أبو الهيدام ألفا و أحجم القائد عنهم و رجع إلى السندي فصالح أبا الهيدام و أمن أهل دمشق و سار أبو الهيدام إلى حوران و أقام السندي بدمشق ثلاثا و قدم موسى بن عيسى واليا عليها فبعث الجند يأتونه بأبي الهيدام فكسبوا داره و قاتلهم هو و ابنه و عبده فانهزموا و جاء أصحابه من كل جهة و قصد بصرى ثم بعث إليه موسى فسار إليه في رمضان سنة سبع و سبعين و قيل إن سبب الفتنة بدمشق أن عامل الرشيد بسجستان قتل أخا الهيدام فخرج هو بالشام و جمع الجموع ثم بعث الرشيد أخا له ليأتيه به فتحيل حتى قبض عليه و شده وثاقا و أتى به إلى الرشيد فمن عليه و أطلقه و بعث جعفر ابن يحيى سنة ثمانين إلى الشام من أجل هذه الفتن و العصبية فسكن الثائرة و أمن البلاد و عاد (3/275)
فتنة الموصل ومصر
و في سنة سبع و ثمانين تغلب العطاف بن سفيان الأزدي على خراسان و أهل الموصل على العامل بها محمد بن العباس الهاشمي و قيل عبد الملك بن صالح فاجتمع عليه أربعة آلاف رجل و جبى الخراج و بقي العامل معه مغلبا إلى أن سار الرشيد إلى الموصل و هدم سورها و لحق العطاف بأرمينية ثم بالرقم فاتخذها وطنا و في سنة ثمان و سبعين ثارت الحوفية بمصر و هم من قيس و قضاعة على عاملها إسحق بن سليمان و قاتلوه و كتب الرشيد إلى هرثمة بن أعين و كان بفلسطين فسار إليهم و أذعنوا بالطاعة و ولي على مصر ثم عزله لشهر و ولى عبد الملك بن صالح عليها و كان خراسان أيام المهدي و الهادي أبو الفضل العباس بن سليمان الطوسي فعزله الرشيد و ولى على خراسان جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي فأبوه من النقباء من أهل مصر و مقدم ابنه العباس سنة ثلاث و سبعين ثم قدم فغزا طخارستان و بعث ابنه العباس إلى كابل في الجنود و افتتح سابهار و رجع إلى مرو ثم سار إلى العراق سنة ثلاث في رمضان و كان الأمين في حجره قبل أن يجعله في حجر الفضل بن يحيى ثم ولى الرشيد ابنه العباس بن جعفر ثم عزله عنها فولى خالدا الغطريف بن عطاء الكندي سنة خمس و سبعين على خراسان و سجستان و جرجان فقدم خليفة داود بن يزيد و بعث عامل سجستان و خرج في أيامه حصن الخارجي من موالي قيس بن ثعلبة من أهل أوق و بعث عامل سجستان عثمان بن عمارة الجيوش إليه فهزمهم حصين و قتل منهم و سار إلى باذغيس و بوشنخ و هراة فبعث إليه الغطريف اثني عشر ألفا من الجند فهزمهم حصين و قتل منهم خلقا و لم يزل في نواحي خراسان إلى أن قتل سنة سبع و سبعين و سار الفضل إلى خراسان سنة ثمان و سبعين و غزا ما وراء النهر سنة ثمان ثم ولي الرشيد على خراسان علي بن عيسى بن ماهان و قدم إليه يحيى فأقام بها عشرين سنة و خرج عليه في ولايته حمزة بن أترك و قصد بوشنج و كان على هراة عمروية بن يزيد الأزدي فنهض إليه في ستة آلاف فارس فهزمهم حمزة و قتل جماعة منهم و مات عمروية في الزحام فبعث علي بن عيسى ابنه الحسن في عشرة آلاف ففض حربه فعزله و بعث ابنه الآخر عيسى فهزمه حمزة فأمده بالعساكر و رده فهزمهم حمزة و قتل أصحابه و نجا إلى قهستان في أربعين و أثخن عيسى في الخوارج بارق و جوين و فيمن كان يعينهم من أهل القرى حتى قتل ثلاثين ألفا و خلف عبد الله بن العباس النسيقي بزرنج فجبى الأموال و سار بها و معه الصفة و لقيه حمزة فهزموه و قتلوا عامة أصحابه و سار حمزة في القرى فقتل و سبى و كان علي قد استعمل طاهر بن الحسين على بوشنج فخرج إلى حمزة و قصد قرية ففر الخوارج و هم الذين يرون التحكيم و لا يقاتلون و المحكمة هم الذين يقاتلون و شعارهم لا حكم إلالله فكتب العقد إلى حمزة بالكف و واعدهم ثم انتقض و عاث في البلاد و كانت بينه و بين أصحاب علي حروب كثيرة ثم ولى الرشيد سنة اثنتين و ثمانين ابنه عبد الله العهد بعد الأمين و لقبه المأمون و ولاه على خراسان و ما يتصل بها إلى همذان و استقدم عيسى ابن علي من خراسان و ردها إليه من قبل المأمون و خرج عليه بنسا أبو الخصيب و هب ابن عبد الله النسائي و عاث في نواحي خراسان ثم طلبه الأمان فأمنه ثم بلغه أن حمزة الخارجي عاث بنواحي باذغيس فقصده و قتل من أصحابه نحوا من عشرة آلاف و بلغ كل من وراء غزنة ثم غدر أبو الخصيب ثانية و غلب أبيورد و نسا وطوس و نيسابور و حاصر مرو و انهزم عنها و عاد إلى سرخس ثم نهض إليه ابن ماهان سنة ست و ثمانين فقتله في نسا و سبى أهله ثم نمي إلى الرشيد سنة تسع و ثمانين أن علي بن عيسى مجمع على الخلاف و أنه قد أساء السيرة في خراسان و عنفهم و كتب إليه كبراء أهلها يشكون بذلك فسار الرشيد إلى الري فأهدى له الهدايا و الكثيرة و الأموال و لجمع من معه من أهل بيته و ولده و كتابه و قواده و تبين للرشيد من مناصحته خلاف ما أنهى إليه فرده إلى خراسان و ولى على الري و طبرستان و دنباوند و قومس و همذان و بعث علي ابنه عيسى لحرب خاقان سنة ثمان وثماني فهزمه و أسر إخوته انتقض على علي بن عيسى رافع بن الليث بن نصر بن سيار بسمرقند و طالت حروبه معه و هلك في بعضها ابنه عيسى ثم إن الرشيد نقم على علي بن عيسى أمورا منها استخفافه بالناس و إهانته أعيانهم و دخل عليه يوما الحسين بن مصعب والد طاهر فأغلظ له في القول و أفحش في السب و التهديد و فعل يوما مثل ذلك بهشام بن فأما الحسين فلحق بالرشيد شاكيا و مستجيرا و أما هشام فلزم بيته و ادعى أنه بعله الفالج حتى عزل علي و كان ممانقم عليه أيضا أنه لم قتل ابنه عيسى في حرب رافع بن الليث أخبر بعض جواريه أنه دفن في بستانه ببلخ ثلاثين ألف دينار و تحدث الجواري بذلك فشاع في الناس و دخلوا البستان و نهبوا المال و كان يشكو إلى الرشيد بقلة المال و يزعم أنه باع حلي نسائه فلما سمع الرشيد هذا المال استدعى هرثمة بن أعين و قال له : وليتك خراسان و كتب له بخطه و قال له : اكتم أمرك و امض كأنك مدد و بعث معه رجاء الخادم فسار إلى نيسابور و ولى أصحابه فيها ثم سار إلى مرو و لقيه علي بن عيسى فقبض عليه و على أهله و أتباعه و أخذ أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف و بعث إلى الرشيد من المتاع و قر خمسمائة بعير و بعث إليه بعلي بن عيسى على بعير من غير غطاء و لا وطاء و خرج هرثمة إلى ما وراء النهر و حاصر رافع بن الليث بسمرقند إلى أن استأمن فأمنه و أقام هرثمة بسمرقند و كان قدم مرو سنة ثلاث و تسعين (3/276)
إيداع كتاب العهد
و في سنة ست و ثمانين حج الرشيد و سار من الأنبار و معه أولاده الثالثة محمد الأمين و عبد الله المأمون و القاسم و كان قد ولي الأمين العهد و ولاه العراق و الشام إلى آخر الغرب و ولى المأمون العهد بعده و ضم إليه من همذان إلى آخر المشرق و بايع لابنه القاسم من بعد المأمون و لقبه المؤتمن و جعل خلعه و إثباته للمأمون و جعل في حجر عبد الملك صالح و ضم إليه الجزيرة و الثغور و العواصم و مر بالمدينة فأعطاه فيها ثلاثة أعطية عطاء منه و من الأمين و من الأامون فبلغ ألف ألف دينار و خمسمائة ألف دينار ثم سار مكة فأعطى مثلها و أحضر الفقهاء و القضاة و القواد و كتب كتابا أشهد فيه على الأمين بالوفاء للمأمون و آخر على المأمون بالوفاء للأمين و علق الكتابين في الكعبة و جدد عليها العهود هنالك و لما شخص إلى طبرستان سنة تسع و ثمانين و أقام بها أشهد من حضره أن جميع ما في عسكره من الأموال و الخزائن و السلاح و الكراع للمأمون و جدد له البيعة عليهم و أرسل إلى بغداد فجدد له البيعة على الأمين (3/279)
أخبار البرامكة و نكبتهم
قد تقدم لنا أن خالد بن برمك كان من كبار الشيعة و كان له قدم راسخ في الدولة و كان يلي الولايات العظام و ولاه المنصور على الموصل و على أذربيجان و ولى ابنه يحيى على أرمينية و وكله المهدي بكفالة الرشيد فأحسن تربيته و دفع عنه أخاه الهادي أراده على الخلع و تولية العهد ابنه و حبسه الهادي لذلك فلما ولي الرشيد إستوزر يحيى و فوض إليه أمور ملكه و كان أولا يصدر عن رأي الخيزران أم الرشيد ثم استبد بالدولة و لما ماتت بيتهم مشهورا بالرجال من العمومة و القرابة و كان بنوه جعفر و الفضل و محمد قد شابهوا آباءهم في عمل الدولة و استولوا على حظ من تقريب السلطان و استخلاصه و كان الفضل أخاه من الرضاع أرضعت أمه الرشيد و أرضعته الخيزران و كان يخاطب يحيى يا أبت و استوزر الفضل و جعفرا و ولى جعفرا على مصر و على خراسان و بعثه إلى الشام عندها وقعت الفتنة بين المضرية و اليمانية فسكن الأمور و رجع و ولى الفضل أيضا على مصر و على خراسان و بعثه لاستنزال يحيى بن عبد الله العلوي من الديلم و دفع المأمون لما ولاه العهد إلى كفالة جعفر بن يحيى فحسنت آثارهم في ذلك كله ثم عظم سلطانهم و استيلاؤهم على الدولة و كثرت السعاية فيهم و عظم حقد الرشيد على جعفر منهم يقال بسبب أنه دفع إليه يحيى بن عبد الله لما استنزله أخوه الفضل من الديلم و جعل حبسه عنده فأطلقه استبدادا على السلطان و دالة و أنهى الفضل بن الربيع ذلك إلى الرشيد فسأله فصدقه الخبر فأظهر له التصويب و حقدها عليه و كثرت السعاية فيهم فتنكر لهم الرشيد و دخل عليه يوما يحيى بن خالد بغير إذن فنكر ذلك منه و خاطب به طبيبه جبريل بن بختيشوع منصرفا به مواجهته و كان حاضرا فقال يحيى : هو عادتي يا أمير المؤمنين و إذ قد نكرت مني فسأكون في الطبقة التي تجعلني فيها ! فاستحيى هرون و قال : ما أردت ما يكره و كان الغلمان يقومون بباب الرشيد ليحيى إذا دخل فتقدم لهم مسرور الخادم بالنهي عن ذلك فصادروا يعرضون عنه إذا أقبل و أقاموا على ذلك زمانا فلما حج الرشيد سنة سبعة و ثمانين و رجع من حجه و نزل الأنبار أرسل مسرورا الخادم في جماعة من الجند ليلا فأحضر جعفرا بباب الفسطاط و أعلم الرشيد فقال : إئتني برأسه فطفق جعفر يتذلل و يسأله المراجعة في أمره حتى قذفه الرشيد بعصى كانت في يده و تهدده فخرج و أتاه برأسه و حبس الفضل من ليلته و بعث من احتاط على منازل يحيى و ولده و جميع موجودهم و حبسه في منزله و كتب من ليلته إلى سائر النواحي بقبض أموالهم و رقيقهم و بعث من الغد بشلو جعفر و أمر أن يقسم قطعتين و بنصبان على الجسر و أعفى محمد بن خالد من النكبة و لم يضيق على يحيى و لابنيه الفضل و محمد و موسى ثم تجردت عنه التهمة بعبد الملك بن صالح بن علي و كانوا أصدقاء له فسعى فيه ابنه عبد الرحمن بأنه يطلب الخلافة فحبسه عنه الفضل بن الربيع ثم أحضره من الغداة و قرعه و وبخه فأنكر و حلف و اعترف لحقوق الرشيد و سلفه عليه فأحضر كاتبه شاهدا عليه فكذبه عبد الملك فأحضر ابنه عبد الرحمن فقال هو مأمور معذور أو عاق فاخر فنهض الرشيد من مجلسه و هو يقول سأصبر حتى أعلم ما يرضي الله فيك فأنه الحكم بيني و بينك فقال عبد الملك : رضيت بالله حكما و بأمير المؤمنين حاكما فإنه لا يؤثر هواه على رضا ربه ثم أحضره الرشيد يوما آخر فأرعد له و أبرق و جعل عبد الملك يعدد وسائله و مقاماته في طاعته و منا صحته فقال له الرشيد : لولا إبقائي على بني هاشم لقتلتك و رده إلى محبسه و كلمه عبد الله بن مالك فيه و شهد له بنصحه فقال : أطلقه إذا قال : أما في هذا القرب فلا و لكن سهل حبسه ففعل و أجرى عليه مؤنه حتى مات الرشيد و أطلقه الأمين و عظم حقده على البرامكة بسبب ذلك فضيق عليهم و بعث إلى يحيى يلومه فيما ستر عنه من أمر عبد الملك فقال : يا أمير المؤمنين كيف يطلعني عبد الملك على ذلك و أنا كنت صاحب الدولة و هل إذا فعلت ذلك يجازيني بأكثر من فعلك ؟ أعيذك بالله أن تظن هذا الظن إلا أنه كان رجلا متجملا يسرني أن يكون في بيتك مثله فوليته و لا خصصته فعاد إليه الرسول يقول : إن لم تقر قتلت الفضل ابنك فقال : أنت مسلط علينا فافعل ما أردت و جذب الرسول الفضل و أخرجه فودع أباه و سأله في الرضا عنه فقال : رضي الله عنك و فرق بينهما ثلاثة أيام ولم يجد عندهما شيئا فجمعهما و احتفظ إبراهيم بن عثمان بن نهيك لقتل جعفر فكان يبكيه و يبكي قومه حزنا عليهم ثم انتهى به إلى طلب الثأر بهم فكان يشرب النبيذ مع جواريه و يأخذ سيفه و ينادي و اجعفراه و اسيداه و الله لأثأرن بك و لأقتلن قاتلك فجاء ابنه و حفص كان مولاه إلى الرشيد فأطلعاه على أمره فأحضر إبراهيم و أظهر له الندم على قتله جعفرا و الأسف عليه فبكى إبراهيم و قال : و الله ياسيدي لقد أخطأت في قتله فانتهزه الرشيد و أقامه ثم دخل عليه ابنه بعد ليال قلائل فقتله يقال بأمر الرشيد و كان يحيى بن خالد محبوسا بالكوفة ولم يزل بها ذلك إلى أن مات سنة تسعين و مائة و مات بعده ابنه الفضل سنة ثلاث و تسعين و كانت البرامكة من محاسن العالم و دولتهم من أعظم الدول و هم كانوا نكتة محاسن الملة و عنوان دولتها (3/279)
الصوائف و فتوحاتها
كان الرشيد على ما نقله الطبري و غيره يغزو عاما و يحج عاما و يصلي كل يوم مائة ركعة و يتصدق بألف درهم و إذا حج حمل معه مائة من الفقهاء ينفق عليهم و إذا لم يحج أنفق على ثلثمائة حاج نفقة شائعة و كان يتحذى بآثار المنصور إلا في بذل المال فلم ير خليفة قبله أبذل منه للمال و كان إذا لم يغزو غزا بالصائفة كبار أهل بيته و قواده فغزا بالصائفة سنة سبعين سليمان بن عبد الله البكائي و قيل غزا بنفسه و غزا بالصائفة سنة اثنتين و سبعين إسحق بن سليمان بن علي فأثخن في بلاد الروم و غنم و سبى و غزا في سنة أربع و سبعين بالصائفة عبد الملك بن صالح و قيل أبوه عبد الملك فبلغ في نكاية الروم ما شاء و أصحابهم برد سديد سقطت منه أيدي الجند ثم غزا بالصائفة سنة سبع و سبعين عبد الرزاق بن عبد الحميد الثعلبي و في سنة ثمان و سبعين زفر بن عاصم و غزا سنة إحدى و ثمانين بنفسه فافتتح حصن الصفصاف و أغزى عبد الملك بن صالح فبلغ أنقرة و افتتح مطمورة و كان الفداء بين المسلمين و الروم و هو أول فداء في دولة بني العباس و تولاه القاسم بن الرشيد و أخرج له من طرسوس الخادم الوالي عليها و هو أبو سليمان فرج المدامس على اثني عشر فرسخا و حضر العلماء و الأعيان و خلق من أهل الثغور و ثلاثون ألفا من الجند المرتزقة فحضروا هناك و جاء الروم بالأسرى ففودي بهم من كان لهم من الأسرى و كان أسرى المسلمين ثلاثة آلاف و سبعمائة و غزا بالصائفة سنة اثنتين و ثمانين عبد الرحمن ابن عبد الملك بن صالح دقشوسوس مدينة أصحاب الكهف و بلغهم أن الروم سلوا ملكهم قسطنطين بن أليون و ملكوا أمه ربى و تلقب عطشة فأثخنوا في البلاد و رجعوا و في سنة ثلاث و ثمانين حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل ابن يحيى فماتت ببردعة و رجع من كان معه فأخبروا أباها أنها قتلت غيلة و فتجهز إلى بلاد الإسلام و خرج من باب الأبواب و سبى أكثر من مائة ألف فارس و فعلوا ما لم يسمع بمثله فولى الرشيد يزيد بن مزيد أمر أرمينية مضافة إلى أذربيجان و أمره بالنهوض إليهم و أنزل خزيمة بن خازم بنصيبين ردءا لهم و قيل إن سبب خروجهم أن سعيد بن مسلم قتل الهجيم السلمى فدخل ابنه إلى الخزر مستجيشا بهم على سعيد و دخلوا أرمينية و هرب سعيد و الخزر و رجعوا و في سنة سبع و ثمانين غزا بالصائفة القاسم بن الرشيد و جعله قربانا لله و ولاه العواصم فأناخ على قرة و ضيق عليها و بعث عليها ابن جعفر بن الأشعث فحاصر حصن سنان حتى جهد أهله و فادى الروم بثلثمائة و عشرين أسيرا من المسلمين على أن يرحل عنهم فأجابهم و تم بينهم الصلح و رحل عنهم و كان ملك الروم يومئذ ابن زيني و قد تقدم ذكره فخلعه الروم و ملكوا يقفور و كان على ديوان خراجهم و مات زيني بعد خمسة أشهر و لما ملك يقفور كتب الرشيد بما استفزه فسار إلى بلاد الروم غازيا و نزل هرقل و أثخن في بلادهم حتى سأل يقفور الصلح ثم نقض العهد و كان البرد شديد الكلب و ظن يقفور أن ذلك يمنعه من الرجوع فلم يمنعه و رجع حتى أثخن في بلاده ثم خرج من أرضهم و غزا بالصائفة سنة ثمان و ثمانين إبراهيم بن جبريل و دخل من درب الصفصاف فخرج إليه يقفور ملك الروم و انهزم و قتل من عسكره نحوا أربعين ألفا و في هذه السنة رابط القاسم بن الرشيد أبق و في سنة تسع و ثمانين كتب الرشيد و هو بالري كتب الأمان لشروين أبي قارن و نداهرمز جدمازيار مرزبان خستان صاحب الديلم و بعث بالكتب مع حسين الخادم إلى طبرستان فقدم خستان و ونداهرمز فأكرمهما الرشيد و أحسن إليهما و ضمن و نداهرمز و شروين صاحبي طبرستان و ذكرا كيف توجه الهادي لهما و حاصرهما و في سنة ست ثمانين كان فداء بين المسلمين حتى لم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي و في سنة تسعين سار الرشيد إلى بلاد الروم بسبب ما قدمناه من غدر يقفور في مائة و خمسة و ثلاثين ألفا من المرتزقة سوى الأتباع و المتطوعة و من ليس له ذكر في الديوان و استخلف المأمون بالرقة و فوض إليه الأمور و كتب إلى الآفاق بذلك فنزل على هرقل فحاصرها ثلاثين يوما و افتتحها و سبى أهلها و غنم ما فيها و بعث داود بن عيسى بن موسى في سبعين ألفا غازيا في أرضهم ففتح الله عليه و خرب و نهب ما شاء و فتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة و ديسة و افتتح يزيد بن مخلد حصن الصفصاف و قونية و أناخ عبد الله بن مالك على حصن ذي الكلاع و استعمل الرشيد حميد بن معيوب على الأساطيل ممن بسواحل الشام و مصر إلى قبرس فهزم و حرق و سبى من أهلها نحوا من سبعة ألفا و جاء بهم إلى الواقعة فبايعوا بها و بلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار ثم سار الرشيد إلى حلوانة فنزل بها و حاصرها ثم رحل عنها و خلف عليها عقبة بن جعفر و بعث يقفور بالخراج و الجزية عن رأسه أربعة دنانير و عن ابنه دينارين و عن بطارقته كذلك و بعث يقفور في جارية من بني هرقلة و كان خطبها ابنه فبعث بها إليه و نقض في هذه السنة قبرس فغزاهم معيوب بن يحيى فأثخن فيهم و سباهم و لما رجع الرشيد من غزاتة خرجت الروم إلى عين زربة و الكنيسة السوداء و أغاروا و رجعوا فاستنفد أهل المصيصة ما حملوه من الغنائم و فيها غزا يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف فأخذت الروم عليه المضايق فانهزم و قتل في خمسين من أصحابه على مرحلتين من طرسوس و استعمل الرشيد على الصائفة هرثمة بن أعين قبل أن يوليه خراسان و ضم إليه ثلاثين ألفا من أهل خراسان و أخرجه إلى الصائفة و سار بالعساكر الإسلامية في أثره و رتب بدرب الحرث عبد الله بن مالك و بمرعش سعيد بن مسلم بن قتيبة و أغارت الروم عليه فأصابوا من المسلمين و انصرفوا و لم يتحرك من مكانه و بعث الرشيد محمد بن زيد بن مزيد إلى طرسوس و أقام هو بدرب الحرث و أمر قواده بهدم الكنائس في جميع الثغور و أخذ أهل الذمة بمخالفة زي المسلمين في ملبوسهم و أمر هرثمة ببناء هرطوس و تولى ذلك فخرج الخادم بأمر الرشيد و بعث إليها جندا من خراسان ثلاثة أيام و أشخص ألفا من أهل المصيصة و ألفا من أنطاكية فتم بناؤها سنة اثنتين و تسعين و في هذه السنة تحركت الخرمية بناحية أذربيجان فبعث إليهم عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فقتل و سبى و أسر و وافاه بقرملين فأمره بقتل الأسرى و بيع السبي و فيها استعمل الرشيد على الثغور ثابت بن مالك الخزاعي فافتتح مطمورة و كان الفداء على يدية بالبرذون ثم كان الفداء الثاني و كان عدة أسرى المسلمين فيه ألفين و خمسمائة (3/282)
الولاية على النواحي
كان على أفريقية مزيد بن حاتم كما قدمناه و مات سنة احدى و سبعين بعد أن استخلف ابنه داود فبعث الرشيد على أفريقية أخاه روح بن حاتم فاستقدمه من فلسطين و بعثه إلى أفريقية و عزل أبا هريرة محمد بن فروج عن الجزيرة و قتله و ولى مكانه و في سنة ست و سبعين ولى الرشيد على الموصل الحكم بن سليمان و قد كان خرج الفضل الخارجي بنواحي نصيبين و غنم و سار إلى داريا و آمدوا رزق و خلاط فقفل لذلك و رجع إلى نصيبين فأتى الموصل و خرج إليه الفضل في عساكرها فهزهم على الزاب ثم عادوا لقتاله فقتل الفضل و أصحابه و في سنة ست و سبعين مات روح بن حاتم بأفريقية و استخلف حبيب بن نصر المهلبي فسار الفضل إلى الرشيد فولاه على أفريقية و عاد إليها فاضطرب عليه الخراسانية من جند أفريقية و لم يرضوه فولى مكانه هرثمة بن أعين و بعث في العساكر فسكن الاضطراب و رأى ما بأفريقية من الاختلاف فاستعفى االرشيد من ولايتها فأعفاه و قدم إلى العراق بعد سنتين و نصف من مغيبه و في هذه ولى الفضل بن يحيى على مصر مكان أخيه جعفر مضافا إلى ما بيده من الري و سجستان و غيرهما ثم عزله عن مصر و ولى عليها إسحق بن سليمان فثارت به الجوقية من مصر و هم جموع من قيس و قضاعة فأمده بهرثمة بن أعين فأذعنوا و ولاه عليهم شهرا ثم عزله و ولى عبد الملك بن صالح مكانه و فيها أمر دولته إلى يحيى بن خالد و في سنة ثمانين بعث جعفر ابن يحيى إلى الشام في القواد و العساكر و معه السلاح و الأموال و العصبية التي كانت بها فسكنت الفتنة و رجع فولاه خراسان و سجستان فاستعمل عليها عيسى بن جعفر و ولى جعفر بن يحيى المريس و قدم هرثمة بن أعين من أفريقية فاستخلفه جعفر على الحرد و عزل الفضل بن يحيى عن طبرستان و الرويان و ولاها عبد الله بن حازم و ولى على الجزيرة سعيد بن مسلم و ولى على الموصل يحيى بن سعيد الحريشي فأساء السيرة و طالبهم بخراج سنين ماضية فانجلا أكثر أهل البلد و عزله الرشيد و ولى عليها يحيى بن خالد و في سنة إحدى و ثمانين ولى على أفريقية محمد بن مقاتل بن حكيم العكي و كان أبوه من قواد الشيعة و محمد رضيع الرشيد و تلاده فلما استعفى هرثمة ولاه مكانه و اضطربت عليه أفريقية و كان إبراهيم بن الأغلب بها واليا على الزاب و كان جند أفريقية يرجعون إليه فأعانه و حمل الناس على طاعته بعد أن أخرجوه فكرهوا ولاية محمد بن مقاتل و حملوا إبراهيم بن الأغلب على أن كتب إلى الرشيد يطلب ولاية أفريقية على أن يترك المائة ألف دينار التي كانت تحمل من مصر معونة إلى والي أفريقية و يحمل هو كل سنة أربعين ألف دينار فاستشار الرشيد بطانته فأشار هرثمة بإبراهيم بن الأغلب و ولاه الرشيد في محرم سنة أربعة و ثمانين فضبط الأمور و قبض على المؤمنين و بعث بهم إلى الرشيد فسكنت البلاد و ابتنى مدينة بقرب القيروان و سماها العباسية و انتقل إليها بأهله و خاصته و حشمه و صار ملك أفريقية في عقبة كما يذكر في أخبارها إلى أن غلبهم عليها الشيعة العبيديون و كان يزيد بن مزيد على أذزبيجان فولاه الرشيد سنة ثمان و ثمانين على أرمينية مضافة إليها و ولى خزيمة بن خازم على نصيبين و ولى الرشيد سنة أربع و ثمانين على اليمن و مكة حمادا البربري و على السند داود بن يزيد حاتم و على الجبل يحيى الحريشي و على طبرستان مهروية الزاي و قتله أهل طبرستان سنة خمس و ثمانين فولى مكانه عبد الله بن سعيد الحريشي و فيها مكانه ابنه أسد بن يزيد بن حاتم و في سنة تسع و ثمانين سار الرشيد إلى الري و ولى على طبرستان و الري و دنباوند و قوس و همذان عبد الملك بن مالك و في سنة تسعين ولى على الموصل خالد بن يزيد بن حاتم و قد تقدم لنا ولاية هرثمة على سليمان و نكبة علي بن عيسى في سنة احدى و تسعين ظفر حماد البربري بهيصيم اليماني و جاء به إلى الرشيد فقتله و ولى في هذه السنة على الموصل محمد بن الفضل ابن سليمان و كان على مكة الفضل بن العباس أخي المنصور و السفاح (3/285)
خلع رافع محمد الليث بما وراء النهر
كان رافع بن نصر بن سيار من عظماء الجند فيما وراء النهر و كان يحيى بن الأشعث قد تزوج ببعض النساء المشهورات الجمال و تسرى عليها و أكثر ضرارها و تشوقت إلى التخلص منه فدس إليها رافع بن الليث بأن تحاول من يشهد عليها بالكفر لتخلص منه و تحل للأزواج ثم ترجع و تتوب فكان و تزوجها و شكا يحيى بن الأشعث إلى الرشيد و أطلعه على جل الأمر فكتب إلى علي بن عيسى أن يفرق بينهما و يقيم الحد ىعلى رافع و يطوف به في سمر قند مقيدا على حمار ليكون عظة لغيره ففعل ذلك و لم يجده رافع و حبس بسمرقند فهرب من الحبس و لحق بعلي بن عيسى في بلخ فهم بضرب عنقه فشفع فيه ابنه عيسى فأمره بالإنصراف إلى سمر قند فرجع إليها و وثب بعاملها فقتله و ملكها و ذلك سنة تسعين فبعث علي لحربه ابنه عيسى فلقيه رافع و هزمه و قتله فخرج علي بن عيسى لقتله و سار من بلخ إلى مرو مخافة عليها من رافع ابن الليث ثم كانت نكبة علي بن عيسى و ولاية هرثمة بن أعين على خراسان و كان مع رافع بن الليث جماعة من القواد ففارقوه إلى هرثمة منهم عجيف بن عنبسة و غيره و حاصر هرثمة رافع بن الليث في سمرقند و ضايقه و استقدم طاهر ابن الحسين من خراسان فحضر عنده و عاث حمزة الخارجي في نواحي خراسان لخلائها من الجند و حمل إليه عمال هراة و سجستان الأموال ثم خرج عبد الرحمن إلى نيسابور سنة أربع و تسعين و جمع نحوا من عشرين ألفا و سار إلى حمزة فهزمه و قتل من أصحابه خلقا و أتبعه إلى هراة حتى كتب المأمون إليه و رده عن ذلك و كانت سنة ثلاث و تسعين بين هرثمة و بين أصحاب رافع وقعة كان الظفر فيها لهرثمة و أسر بشرا أخا رافع و بعث به إلى الرشيد و افتتح بخاري و كان الرشيد قد سار من الرقة بعد مرجعه من الصائفة التي بنى فيها طرسوس على اعتزام خراسان لشأن رافع و كان قد أصابه المرض فاستخلف على الرقة ابنه القاسم و ضم إليه خزيمة بن خازم و جاء إلى بغداد ثم سار منها إلى خراسان في شعبان سنة اثنتين و تسعين و استخلف عليها ابنه الأمين و أمر المأمون بالمقام معه فأشار عليه الفضل بن سهل بأن يطلب المسير مع الرشيد و حذره البقاء من الأمين فأسعفه الرشيد بذلك و سار معه (3/287)
وفاة الرشيد و بيعة الأمين
و لما سار عن بغداد إلى خراسان بلغ جرجان في سفر سنة ثلاث و تسعين و قد اشتدت عليه فبعث ابنه المأمون إلى مرو جماعة من القواد عبد الله بن مالك و يحيى بن معاذ و أسد بن خزيمة و العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث و السدي و الحريشي و نعيم بن خازم ثم سار الرشيد إلى موسى و اشتد به الوجع و ضعف عن الحركة و ثقل فأرجف الناس بموته و بلغه ذلك فأراد الركوب ليراه الناس فلم يطق النهوض فقال : ردوني و وصل إليه و هو بطوس بشير أخو رافع أسيرا بعث به هرثمة بن أعين فأحضره و قال : لولم يبق من أجلي إلاحركة شفتي بكلمة لقلت اقتلوه ثم أمر قصابا ففصل أعضاءه ثم أغمي عليه و افترق الناس و لما يئس من نفسه أمر بقبره فحفر في الدار التي كان فيها و أنزل فيه قوما قرؤا فيه القرآن حتى ختموه و هو في محفة على شفيره إليه و ينادي واسو أتاه من رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم مات و صلى عليه ابنه صالح و حضر وفاته الفضل بن الربيع و إسمعيل بن صبيح و مسرور و حسين و رشيد و كانت خلافته ثلاثا و عشرين سنة أو تزيد و ترك في بيت المال تسعمائة ألف ألف دينار و لما مات الرشيد بويع الأمين في العسكر صبيحة يومه و المأمون يومئذ بمرو و كتب حموية مولى المهدي صاحب البريد إلى نائبه ببغداد و هو سلام أبو مسلم يعلمه بوفاة الرشيد و هنأه بالخلافة فكان أول من فعل ذلك و كتب صالح إلى أخيه الأمين مع رجاء الخادم بوفاة الرشيد و بعث معه بالخاتم و البردة و القضيب فانتقل الأمين من قصره بالخلد إلى قصر الخلافة و صلى بالناس الجمعة و خطب ثم نعى الرشيد و عزى نفسه و الناس و بايعته جملة أهله و وكل سليمان بن المنصور و هو عم أبيه و أمه بأخذ البيعة على القواد و غيرهم و وكل السندي بأخذ البيعة على الناس سواهم و فرق في الجند ببغداد رزق سنين و قدمت أمه زبيدة من الرقة فلقيها الأمين بالأنبار في جمع من بغداد من الوجوه و كان معها خزائن الرشيد و كان قد كتب إلى معسكر الرشيد و هو حي مع بكر بن المعتمر لما اشتدت علة الرشيد و إلى المأمون بأخذ البيعة لهم و للمؤتمن أخيهما و إلى أخيه صالح بالقدوم بالعسكر و الخزائن و الأموال برأي الفضل و إلى الفضل بالاحتفاظ على ما معه من الحرم و الأموال و أقر كل واحد على عمله كصاحب الشرطة و الحرس و الحجابة و كان الرشيد قد سمع بوصول بكر بالكتاب فدعاه ليستخرجها سنة فجحدها فضربه و حبسه ثم مات الرشيد و أحضره الفضل فدفعها إليه و لما قرؤا الكتاب تشاوروا في اللحاق بالأمين و ارتحل الفضل بالناس لهواهم في وطنهم تركوا عهود المأمون فجمع المأمون من كان عنده من قواد أبيه و هم عبد الله بن مالك و يحيى بن معاذ و شبيب بن حميد بن قحطبة و العلاء مولى الرشيد و كان على حجابته و العباس بن المسيب بن زهير و كان على شرطته و أيوب بن أبي سمير و هو على كتابته و عبد الرحمن بن عبد الملك ابن صالح و ذو الرياستين الفضل بن سهل و هو أخصهم به و أحظاهم عنده فأشار بعضهم أن يركب في أثرهم و يردوهم و منعه الفضل من ذلك و قال : أخشى عليك منهم و لكن تكتب و ترسل رسولك إليهم تذكرهم البيعة و الوفاء و تحذرهم الحنث فبعث سهل بن صاعد و نوفلا الخادم بكتابه إليهم بنيسابور فقرأ الفضل كتابة و قال : أنا واحد من الجند و شد عبد الرحمن برجليه على سهل ليطعنه بالرمح و قال : رلم كان صاحبك حاضرا لوضعته فيه و سب المأمون و انصرفوا و رجع سهل و نوفل بالخبر إلى المأمون فقال له الفضل بن سهل هؤلاء أعداء استرحت منهم و أنت بخراسان و قد خرج بها المقنع و بعده يوسف البر فتضعضعت لهما الدولة ببغداد و أنت رأيت عند خرج رافع بن الليث كيف كان الحال و أنت اليوم نازل في أخوالك و بيعتك في أعناقهم فاصبر و أنا أضمن لك الخلافة فقال المأمون : قد فعلت و جعلت الأمر إليك فقال : إن عبد الله بن مالك و القواد أنفع مني لشهرتهم و قوتهم و أنا خادم لمن يقوم بأمرك منهم حتى ترى رأيك و جاءهم الفضل في منازلهم و عرض عليهم البيعة للمأمون فمنهم من امتنع منهم من طرده فرجع
إلى المأمون و أخبره فقال أنت بالأمر و أشار عليه الفضل أن يبعث على الفقهاء و يدعوهم إلى الحق و العمل به و إحياء السنة و رد المظالم و يعقد على الصفوف ففعل جميع ذلك و أكرم القواد و كان يقول للتميمي نقيمك مقام موسى ابن كعب و للربعي مكان أبي داود و خالد بن إبراهيم و لليماني مكان قحطبة و مالك بن الهيثم و كل هؤلاء نقباء الدولة و وضع عن خراسان ربع الخراج فاغتبط به أهلها و قالوا : ابن أختنا و ابن عم نبينا و أقام المأمون يتولى ما كان بيده من خراسان و الري و أهدى إلى الأمين و كتب إليه و عظمه ثم إن الأمين عزل لأول ولايته أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة و استعمل عليها خزيمة بن خازم و أقر المؤتمن على قنسرين و العواصم و كان على مكة داود بن عيسى بن موسى ابن محمد و على حمص إسحق بن سليمان فخالف عليه أهل حمص و انتقل عنهم إلى سلمية فعزله الأمين و ولى مكانه عبد الله بن سعيد الحريشي فقتل عدة منهم و حبس عدة و اضرم النار في نواحيها و سألوا الأمان فأجابهم ثم انتقضوا فقتل عدة منهم ثم ولى عليهم إبراهيم بن العباس (3/288)
أخبار رافع و ملوك الروم
و في سنة ثلاث و تسعين دخل هرثمة بن أعين سمرقند و ملكها و قام بها و معه طاهر ابن الحسين فاستجاش رافع بالترك فأتوه بهم ثم انصرفوا و ضعف أمره و بلغه الحسن سيرة المأمون فطلب الأمان و حضر عند المأمون فأكرمه ثم قدم هرثمة على المأمون فولاه الحرس و أنكر الأمين ذلك كله و في هذه السنة قتل يقفور ملك الروم في حرب برجان لسبع سنين من ملكه و ملك بعده ابنه استبراق و كان جريا فمات لشهرين و ملك بعده صهره على أخته ميخاييل بن جرجيس و وثب عليه الروم سنة أربع و تسعين بعد اثنتين من ملكه فهرب و ترهب و ولوا بعده إليوق القائد (3/290)
الفتنة بين الأمين و المأمون
و لما قدم الفضل بن الربيع على الأمين و نكث عهد المأمون خشي غائلته فأجمع قطع علائقه من الأمور و أغرى الأمين بخلعه و البيعة للعهد لابنه موسى و وافقه في ذلك علي بن عيسى بن ماهان و السندي و غيرهما ممن يخشى المأمون و خالفهم خزيمة بن خازم و أخوه عبد الله و ناشدوا الأمين في الكف عن ذلك و أن لا يحمل الناس على نكث العهود فيطرقهم لنكث عهده ولج الأمين في ذلك و بلغه أن المأمون عزل العباس بن عبد الله بن مالك عن الري و أنه ولى هرثمة بن أعين على الحرس و أن رافع بن الليث أستأمن له فآمنه و سار في جملته فكتب إلى العمال بالدعاء لموسى ابنه بعد الدعاء للمأمون و المؤتمن فبلغ ذلك المأمون فأسقط اسم الأمين من الطرد و قطع البريد عنه و أرسل الأمين إليه العباس بن موسى بن عيسى و خاله عيسى بن جعفر بن المنصور و صالحا الموصل و محمد بن عيسى بن نهيك يطلب منه تقديم ابنه موسى عليه في العهد و يستقدمه فلما قدموا على المأمون استشار كبراء خراسان فقالوا : إنما بيعتنا لك على أن لا تخرج من خراسان فأحضر الوفد و أعلمهم بامتناعه مما جاؤا فيه و استعمل الفضل بن سهل العباس بن موسى ليكون عينا لهم عند الأمين ففعل و كانت كتبه تأتيهم بالأخبار و لما رجع الوفد عاودوه بطلب بعض كور خراسان و أن يكون له بخراسان صاحب بريد يكاتبه فامتنع المأمون من ذلك و أوعد إلى قعوده بالري و نواحيها يضبط الطرق و ينقذها من غوائل الكتب و العيون وهو مع ذلك يتخوف عاقبة الخلاف و كان خاقان ملك التبت قد التوى عليه و جيفونة فارق الطاعة و ملوك الترك منعوا الضريبة فخشي المأمون ذلك و حفظ عليه الأمر بأن يولى خاقان و جيفونة بلادهما و يوادع ملك كابل و يترك الضربية لملوك الترك الآخرين و قال له بعد ذلك ثم أضرب الخيل بالخيل و الرجال بالرجال فإن ظفرت و إلا لحقت بخاقان مستجيرا فقبل إشارته و فعلها و كتب إلى الأمين يخادعه بأنه عامله على هذا الثغر الذي أمره الرشيد بلزومه و أن مقامه به أشد غناء و يطلب إعفاء من الشخوص إليه فعلم الأمين أنه لا يتابعه على مراده فخلعه و بايع لولده في أوئل سنة خمس و تسعين و سماه الناطق بالحق و قطع ذكر المأمون و المؤتمن من المنابر و جعل ولده موسى في حجر علي بن عيسى و على شرطته محمد بن عيسى بن نهيك و على حرسه أخوه عيسى و على رسائله صاحب القتلى و كان يدعى له على المنابر و لابنه الآخر عبد الله و لقبه القائم بالحق و أرسل إلى الكعبة من جاء بكتابي العهد للأمين و المأمون اللذين وضعهما الرشيد هنالك و سارت الكتب من ذلك إلى المأمون ببغداد من عيونه بها فقال المأمون : هذه أمور أخبر الرائي عنها و كفاني أنا أن أكون مع الحق و بعث الفضل بن سهل إلى جند الري بالأقوات و الإحسان و جمع إليهم من كان بأطرافهم ثم بعث على الري طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق أسعد الخزاعي أبا العباس أميرا و ضم إليه القواد و الأجناد فنزلها و وضع المسالح و المراصد و بعث الأمين عصمة بن حماد بن سالم إلى همذان في ألف رجل و أمره أن يقيم بهمذان و يبعث مقدمته إلى ساوة (3/291)
خروج ابن ماهان لحرب طاهر و مقتله
ثم جهز الأمين علي بن ماهان إلى خراسان لحرب المأمون يقال دس بذلك الفضل ابن سهل العين له عند الفضل بن الربيع فأشار به عليهم لما في نفوس أهل خراسان من النفرة عن ابن ماهان فجدوا في حربه و يقال حرض أهل خراسان على الكتب إلى ابن ماهان و مخادعته إن جاء فأمره الأمين بالمسير و أقطعه نهاوند و همذان و قم و أصبهان و سائر كور الجبل حربا و خراجا و حكمه في الخزائن و أعطاه الأموال و جهز معه خمسين ألف فارس و كتب إلى أبي دلف القاسم بن عيسى بن إدريس العجلي و هلال بن عبد الله الحضرمي في الإنضمام و ركب إلى باب زبيدة ليودعها فأوصته بالمأمون بغاية ما يكون أن يوصى به و أنه بمنزلة ابنها في الشفقة و الموصلة و ناولته قيدا من فضة و قالت له : إن سار إليك فقيده به مع المبالغة في البرد و الأدب معه ثم سار علي بن عيسى من بغداد في شعبان و ركب الأمين يشيعه في القواد و الجنود ولم ير عسكر مثل عسكره و لقي السفر بالسابلة فأخبروه أن طاهرا بالري يعرض أصحابه و هو مستعد للقتال و كتب إلى ملوك الديلم و طبرستان يعدهم و يمنيهم و أهدى لهم التيجان و الأسورة على أن يقطعوا الطريق عن خراسان فأجابوا و نزل أول بلاد الري فأشار عليه أصحابه باذكاء العيون و الطلائع و التحصن بالخندق فقال : مثل طاهر لا يستعد له و هو إما أن يتحصن بالري فيثب إليه أهلها و إما أن يفر إذا قربت منه خيلنا و لما كان من الري على عشرة فراسخ استشار أصحاب طاهر في لقائه فمالوا إلى التحصن بالري فقال : أخاف أن يثب بنا أهلها و خرج فعسكر على خمسة فراسخ منها في أقل من أربعة آلاف فارس و أشار عليه أحمد بن هشام كبير جند خراسان أن ينادي بخلع الأمين و بيعة المأمون لئلا يخادعه علي بن عيسى بطاعة الأمين و أنه عامله ففعل و قال علي لأصحابه بادروهم فإنهم قليل و لا يصبرون على حد السيوف و طعن الرماح و أحكم تعبية جنده و قدم بين يديه عشر رايات مع كل راية ألف رجل و بين كل رايتين غلوة سهم ليقتاتلوا نوبا و عبى طاهر أصحابه كراديس و حرضهم و أوصاهم و هرب من أصحابه طاهر جماعة فجلدهم علي و أهانهم فأقصر الباقون و جدوا في قتاله و أشار أحمد بن هشام على طاهر بأن يرفع كتاب البيعة على رمح و يذكر علي بن عيسى بها نكثه ثم اشتد القتال و حملت ميمنة علي فانهزمت ميسرة طاهر و كذلك ميسرته على ميمنة طاهر فأزالوها و اعتمد طاهر القلب فهزموهم و رجعت المجنبتان منهزمة و انتهت الهزيمة إلى علي و هو ينادي بأصحابه فرماه رجل من أصحابه طاهر بسهم فقتله و جاء برأسه إلى طاهر و حمل شلوه على خشبة و ألقي في بئر بأمر طاهر و اعتق طاهر جميع غلمانه شكرا لله و تمت الهزيمة و اتبعهم أصحاب طاهر فرسخين واقفوهم فيها اثنتين عشرة مرة يقتلونهم في كلها و يأسرونهم حتى جن الليل بينهم و رجع طاهر إلى الري و كتب إلى الفضل : كتابي إلى أمير المؤمنين و رأس علي بين يدي و خاتمه في إصبعي و جنده متصرفون تحت أمري و السلام و ورد الكتاب على البريد في ثلاثة أيام فدخل الفضل على المأمون و هنأه بالفتح و دخل الناس فسلموا عليه بالخلافة و وصل رأس علي بعدها بيومين و طيف به خراسان و وصل الخبر إلى الأمين بمقتل علي هزيمة العسكر فأحضر الفضل بن الربيع وكيل المأمون ببغداد و هو نوفل الخادم فقبض ما بيده من ضياعه و غلاته و خمسين ألف ألف درهم كان الرشيد وصاه بها و ندم الأمين على فعله و سعت الجند و القواد في طلب الأرزاق فهم عبد الله بن حاتم بقتالهم فمنعه الأمين و فرق فيهم أموالا (3/292)
مسير ابن جبلة غلى طاهر و مقتله
و لما قتل علي بن عيسى بعث الأمين عبد الرحمن بن الأنباري في عشرين ألف فارس إلى همذان و ولاه عليها و على كل ما يفتحه من بلاد خراسان و أمده بالمال فسار إلى همذان و حصنها و جاءه طاهر فبرز إليه و لقيه فهزمه إلى البلد ثم خرج عبد الرحمن ثانية فانهزم إلى المدينة و حاصره طاهر حتى ضجر منه أهل المدينة و طلب الأمان من طاهر و خرج من همذان و كان طاهر عند نزوله عليها قد خشى من صاحب قزوين أن يأتيه من ورائه فجهز العسكر على همذان و سار إلى قزوين في ألف فارس ففر عاملها و ملكها ثم ملك همذان و سار أعمال الجبل و أقام عبد الرحمن بن جبلة في أمانه ثم أصاب منه بعض الأيام غرة فركب و هجم عليه في عسكر فقاتله طاهر أشد القتال حتى انهزم أصحابه و قتل و لحق فلهم بعبد الله و أحمد ابني الحريشي في عسكر عظيم بعثهما الأمين مددا لعبد الرحمن فانهزموا جميعا إلى بغداد و أقبل طاهر نحو البلاد و حده و أخذه إلى حلوان فخندق بها و جمع أصحابه (3/293)
بيعة المأمون
و أمر المأمون عندها بأن يخطب له على المنابر و يخاطب بأمير المؤمنين و عقد للفضل بن سهل على المشرق كله من جبل همذان إلى البيت طولا و من بحر فارس إلى بحر الديلم و جرجان عرضا و حمل له عماله ثلاثة آلاف ألف درهم و عقد له لواء ذا شعبتين و لقبه ذا الرياستين يعني الحرب و العلم و حمل اللواء علي بن هشام و حمل العلم نعيم بن حازم و ولى أخاه الحسن بن سهل ديوان الخراج (3/294)
ظهور السفياني
هو علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية و يلقب أبا العميطر لأنه زعم أنها كنية الحردون فلقبوه بها و كانت أمه نفيسه بنت عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب و كان يقول أنا ابن شيخي صفين يعني عليا و معاوية و كان من بقايا بني أمية بالشام و كان من أهل العلم و الرواية فادعى لنفسه بالخلافة آخر سنة خمس و تسعين و أعانه الخطاب بن وجه العلس مولى بني أمية كان متغلبا على صيدا فملك دمشق من يد سليمان بن المنصور و كان أكثر أصحابه من كلب و كتب إلى محمد بن صالح بن بيهس يدعوه و يتهدده فأعرض عنه و قصد السفياني القيسية فاستجاشوا بمحمد بن صالح فجاءهم في ثلثمائة فارس من الصبات و مواليه و بعث السفياني يزيد بن هشام للقائهم في اثنتي عشر ألفا فانهزم يزيد و قتل من أصحابه ألفان و أسر ثلاثة آلاف أطلقهم ابن بيهس و حلقهم ثم جمع جمعا مع ابنه القاسم و خرجوا إلى ابن بيهس فانهزموا و قتل القاسم و بعث برأسه إلى الأمين ثم جمع جمعا آخر و خرجوا مع مولاه المعتمر فانهزموا و قتل المعتمر فوهن أمر السفياني و طمعت فيه قيس ثم إن ابن بيهس مرض فجمع رؤساء بني نمير و أوصاهم بيعة مسلمة بن يعقوب بن علي بن محمد بن سعد بن مسلمة عبد الملك بالخلافة و قال لهم : تولوه و كيدوا به السفياني فإنكم لا تتقون بأهل بيته و عاد ابن بيهس إلى حوران و اجتمعت نمير على مسلمة فبايعوه فقتل منهم و جمع مواليه و دخل على السفياني فقيده و حبس رؤساء بني أمية و أدنى القيسية و جعلهم بطانة و أفاق ابن بيهس من مرضه فجاء إلى دمشق و حاصرها و سلمها له القيسية في محرم سنة ثمان و تسعين و هرب مسلمة و السفياني إلى المزة و ملك ابن بيهس دمشق إلى أن قدم عبد الله بن طاهر دمشق و سار إلى مصر ثم عاد إليها فاحتمل ابن بيهس معه إلى العراق و مات بها (3/294)
مسير الجيوش إلى طاهر و رجوعهم بلا قتال
و لما قتل عبد الرحمن بن جبلة أرسل الفضل بن الربيع إلى أسد بن يزيد بن مزيد و دعاه لحرب طاهر بعد أن ولي الأمين الخلافة و شكر لأسد فضل الطاعة و النصيحة و شدة البأس و يمن التقية و طلب منه أرزاق الجند من المال لسنة و ألف فرس تحمل من معه بعد إزاحته عللهم بالأموال و أن لا يطلب بحسبان ما يفتتح فقال قد أشططت و لا بد من مناظرة أمير المؤمنين ثم ركب و دخل على الأمين فأمره بحبسه و قيل إنه طلب ولدي المأمون كانا عند أمهما ابنه الهادي ببغداد بحملهما معه فإن أطاعه المأمون و إلا قتلهما فغضب الأمين لذلك و حبسه و استدعى عبد الله بن حميد بن قحطبة فاشتط و كذلك فاستدعى أحمد بن مزيد و اعتذر له عبس أسد و بعثه لحرب طاهر و أمر الفضل بأن يجهز له عشرين ألف فارس و شفع في أسد ابن أخيه فأطلقه ثم سار و سار معه عبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين الفا أخرى و انتهوا إلى حلوان و أقاموا و طاهر بموضعه و دس المرجفين في عسكرهم بأن العطاء و المنع ببغداد و الجند و يقبضون أرزاقهم حتى مشى الجند بعضهم إلى بعض و اختلفوا و اقتتلوا و رجعوا من غير لقاء و تقدم طاهر فنزل حلوان و جاءه هرثمة في جيش من عند المأمون و معه كتاب بأن يسلم إلى هرثمة ما ملكه من المدن و يتقدم إلى الأهواز ففعل ذلك (3/295)
أمر عبد الملك بن صالح و موته
قد تقدم لنا حبس عبد الملك بن صالح إلى أن مات الرشيد و أخرجه الأمين و لما كان أمر طاهر جاء عبد الملك إلى الأمين و أشار عليه بأن يقدم أهل الشام لحربه فهم أجرأ من أهل العراق و أعظم نكاية في العدو و ضمن طاعتهم بذلك فولاه الأمين أهل الشام و الجزيرة و قر له بالمال و الرجال و استحثه فسار إلى الرقة و كاتب أهل الشام فتسالموا إليه فأكرمهم و خلع عليهم و كثرت جموعه ثم مرض و اشتد مرضه و وقعت فتنة في عسكره بين الخراسانيين و أهل الشام بسبب دابة أخذت لبعضهم في وقعة سليمان بن أبي جعفر و عرفها عند أهل الشام فقتتلوا و أرسل إليهم عبد الملك بالقتل فلم يقتلوا و كثر القتل و أظهر عبد الملك النضرة للشاميين و انتقض الحسين ابن علي للخراسانيين و تنادى الناس بالرجوع إلى بلادهم فمضى أهل حمص و قبائل كلب فانهزم أهل الشام و أقام عبد الملك بن صالح بالرقة توفي بها (3/296)
خلع الأمين و أعادته
و لما مات عبد الملك بن صالح نادى الحسين بن علي في الجند بالرحيل إلى بغداد و قدمها فلقيه القواد و وجوه الناس و دخل منزله و استدعاه الأمين من جوف الليل فامتنع و أصبح فوافى باب الجسر و أغراهم بخلع الأمين و حذرهم من نكثة ثم أمرهم بعبور الجسر فعبروا و لقيه أصحاب الأمين فانهزموا ذلك منتصف رجب سنة ست و أخذ البيعة للمأمون من الغد و وثب العباس بن عيسى بن موسى بالأمين فأخرجه من قصر الخلد و حبسه بقصر المنصور و معه أمه زبيدة فلما كان من الغد طلب الناس أرزاقهم من الحسين و ماج بعضهم في بعض و قام محمد بن أبي خالد فنكر استداد الحسين بخلع الأمين و ليس بذي منزلة و لا حسب و لا نسب و لا غنائم و قال أسد الحربي قد ذهب أقوام بخلع الأمين فاذهبوا أنتم بفكه يا معشر الحربية فرجع الناس على أنفسهم باللائمة و قالوا ما قتل قوم خليفتهم إلا سلط الله عليهم السيف ثم نهضوا إلى الحسين و تبعهم أهل الأرض فقاتلوه قتالا شديدا و أسروه و دخل أسد الحربي إلى الأمين و كسر قيوده و أجلسه على أريكته و أمرهم الأمين بلبس السلاح فانتهبه الغوغاء و جيء بالحسين إليه أسيرا فاعتذر إليه و أطلقهم و أمره بجمع الجند و المسير إلى طاهر و خلع عليه ما وراء بابه و وقف الناس يهنئونه بباب الجسر حتى إذا خف عنه الناس قطع الجسر و هرب و ركب الجند في طلبه و أدركوه على فرسخ من بغداد و قتلوه و جاؤا برأسه إلى الأمين و اختفى الفضل بن الربيع عند ذلك فلم يوقف له على خبر (3/296)
استلاء طاهر على البلاد
و لما جاء كتاب المأمون بالمسير إلى الأهواز قدم إليها الحسين بن عمر الرستمي و سار في أثره و أتته عيونه بأن محمد بن يزيد بن حاتم قد توجه من قبل الأمين في جند ليحمي الأهواز من أصحابه طاهر فبعث من أصحابه محمد بن طالوت و محمد بن العلاء و العباس بن بخارا خذاه مددا للرستمي ثم أمدهم بقريش بن شبل ثم سار بنفسه حتى كان قريبا منهم و أشرفوا على محمد بن يزيد مكرم و قد أشار إليه أصحابه بالرجوع إلى الأهواز و التحصن بها حتى تأتيه قومه الأزد من البصرة فرجع طاهر قريش شبل باتباعه قبل أن يتحصن بالأهواز فخرج لذلك وفاته محمد بن يزيد إلى الأهواز و جاء على أثره فاقتتلوا قتالا شديدا و فر أصحاب محمد و استمات هو و مواليه حتى قتلوا و ملك طاهر الأهواز و ولى على اليمامة و البحرين و عمان ثم سار إلى واسط و بها السندي بن يحيى الحريشي و الهيثم بن شعبة خليفة خزيمة بن حازم فهربا عنها و ملكها طاهر و بعث قائدا من قواده إلى الكوفة و بها العباس بن الهادي فخلع الأمين و بايع للمأمون و كتب بذلك إلى طاهر فعل المنصور بن المهدي بالبصرة و المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل و أقرهم طاهر على أعمالهم و بعث الحرث بن هشام و داود بن موسى إلى قصر ابن هبيرة و أقام بجرجابا و لما بلغ الخبر بذلك إلى الأمين بعث محمد بن سليمان القائد و محمد بن حماد البربري إلى قصر ابن هبيرة فقاتلهم الحرث و داود قتالا شديدا و هزموهم إلى بغداد و بعث الأمين أيضا الفضل بن موسى على الكوفة فبعث إليه طاهر بن العلاء في جيش فلقيه في طريقه فأراد مسالمته بطاعة المأمون كيادا ثم قاتله فانهزم إلى بغداد ثم سار طاهر إلى المدائن و عليها البرمكي و المدد متصل له كل يوم فقدم قريش بن شبل فلما أشرف عليهم و أخذ البرمكي في التعبية فكانت لا يتم له فأطلق سبيل الناس و ركب بعضهم بعضا نحو بغداد و ملك طاهر لمدائن و نواحيها ثم نزل صرصر و عقد بها جسرا (3/297)
بيعة الحجاز للمأمون
و لما أخذ الأمين كتب العهد من مكة و أمر داود بن عيسى و كان على مكة و المدينة بخلع المأمون قام في الناس و نكر نقض العهد و ذكرهم ماأخذ الرشيد عليهم من الميثاق لابنيه في المسجد الحرام أن يكونوا على الظالم و أن محمدا بدأ بالظلم و النكث و خلع أخويه و بايع لطفل صغير رضيع و أخذ الكتابين من الكعبة فحرقهما ظلما ثم دعا إلى خلعه و البيعة للمأمون فأجابوه نادى بذلك في شعاب مكة و خطبهم و كتب إلى ابنه سليمان بالمدينة بمثل ذلك ففعله و ذلك في رجب سنة ست و تسعين و سار من مكة على البصرة و فارس و كرمان إلى المأمون و أخبره فسر بذلك و ولاه مكانه و أضاف إليه ولاية عك و أعطاه خمسمائة ألف درهم و سير معه ابن أخيه العباس بن موسى بن عيسى بن موسى على الموسم و يزيد بن جرير بن مزيد بن خالد القسري في جند كثيف عاملا على اليمن و مروا بطاهر و هو محاصر بغداد فأكرمهم و أقام يريد اليمن فبايعوه للمأمون و أطاعوه (3/298)
حصار بغداد و استلاء طاهر عليها و مقتل الأمين
و لما اتصلت بالأمين هذه الأحوال و قتل الحسين بن علي بن عيسى شمر لحرب طاهر و استعد له و عقد في شعبان سنة ست و تسعين و أربعمائة شتى و أمر عليهم علي بن محمد بن عهيسى نهيك و أمرهم بالمسير إلى هرثمة فساروا إليه و التقوا بنواحي النهروان في رمضان فانهزموا و أسر قائدهم علي بن محمد فبعث به هرثمة إلى المأمون و ترك النهروان و أقام طاهر بصرصر و الجيوش تتعاقب من قبل الأمين فيهزمها ثم بذل الأمين الأموال ليستفسد بها عساكرهم فسار إليه من عسكر طاهر نحو من خمسة آلاف ففرق فيهم الأموال و قود جماعة من الحربية و دس إلى رؤساء الجند في عسكر طاهر و رغبهم فشغبوا على طاهر و سار كثير منهم إلى الأمين و انضموا إلى قواد الحربية و قواد بغداد و ساورا إلى صرصر فعبى أصحابه كراديس و حرضهم و وعدهم ثم تقدم فقاتلهم مليا من النهار و انهزم أصحاب الأمين و غنم أصحاب طاهر عسكرهم و لما وصلوا إلى الأمين فرق فيهم الأموال و قود منهم جماعة ولم يعط المنهزمين شيئا و دس إليهم طاهر و استمالهم فشغبوا على الأمين فأمر هؤلاء المحدثين بقتالهم و طاهر يراسلهم و قد أخذ رهائنهم على الطاعة و أعطاهم الأموال فسار فنزل باب الأنبار بقواده و أصحابه و استأمن إليه كثير من جند الأمين و ثارت العامة و فتقت السجون و وثب الشطار على الأخيار و نزل زهير مسيب الضبي من ناحية و نصب المجانيق و العرادات و حفر الخنادق و نزل هرثمة بناحية أخرى و فعل مثل ذلك و نزل عبيد الله بن الوضاح بالشماسية و نزل طاهر بباب الأنبار فضيق على الأمين بمنزلة و نفد ما كان بيد الأمين من الأموال و أمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة و ضرب آنية الذهب و الفضة لفرقها في الجند و أحرق الحديثة فمات بها خلق و استأمن سعيد ابن مالك بن قادم إلى طاهر فولاه الأسواق و شاطئ دجلة و أمره بحفر الخنادق و بناء الحيطان و كل ما غلب عليه من الدروب و أمده بالرجال و الأموال و وكل الأمين بقصر صالح و قصر سليمان بن المنصور إلى دجلة بعض قواده فألح في إحراق الدور و الرمي بالمجانيق و فعل طاهر مثل ذلك و كثر الخراب ببغداد و صار طاهر يخندق على ما يمكنه من النواحي و يقاتل من لم يجبه و قبض ضياع من لم يخرج إليه من بني هاشم و القواد و عجز الأجناد عن القتال و قام به الباعة و العيارون و كانوا ينهون أموال الناس و استأمن إليه القائد الموكل بقصر صالح فأمنه و سلم إليه ما كان بيده من تلك الناحية في جمادى الأخيرة من سنة سبع و استأمن إليه محمد بن عيسى صاحب الشرطة فوهن الأمين و اجتمع العيارون و الباعة و الأجناد و قاتلوا أصحاب طاهر في قصر صالح و قتلوا منهم خلقا و كاتب طاهر القواد بالأمان و بيعة المأمون فأجابه بنو قحطبة كلهم و يحيى بن علي بن ماهان و محمد بن أبي العباس الطائي و غيرهم و فشل الأمين و فوض الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك و إلى الحسن الهرش و معهم الغوغاء يتولون أمر تلك الفتنة و أجفل الناس من بغداد و افترقوا في البلاد و لما وقع بطاهر في قصر صالح ما وقع بأصحابه شرع في هدم المباني و تخريبها ثم قطع الميرة عنهم و صرف السفن التي تحمل فيها إلى الفرات فغلت الأسعار و ضاق الحصار و اشتد كلب العيارين فهزموا عبيد الله بن الوضاح و غلبوه على الشماسية و جاء هرثمة ليعينه فهزموه أيضا و أسروه ثم خلصه أصحابه و عقد طاهر جسرا فوق الشماسية و عبر إليهم و قاتلهم أشد قتال فردهم على أعقابهم و قاتل منهم بشرا كثيرا و عاد ابن الوضاح إلى مركزه و أحرق منازل الأمين بالخيزرانية و كانت النفقة فيها بلغت عشرين ألف درهم و أيقن الأمين بالهلاك و فر منه عبد الله بن حازم ابن خزيمة إلى المدائن لأنه اتهمه و حمل عليه السفلة و الغوغاء و يقال بل كاتبه طاهر و قبض ضياعه فخرج عن الأمين و قصد الهرش و من معه جزيرة العباس من نواحي بغداد فقاتلهم بعض أصحاب طاهر و هزموهم و غرق منهم خلق كثير و ضجر الأمين و ضعف أمره و سار المؤتمن بن الرشيد إلى المأمون فولاه جرجان و كاتب طاهر خزيمة بن حازم و محمد بن علي بن موسى بن ماهان و أدخلهما في خلع الأمين فأجاباه و وثبا آخر محرم من سنة ثمان و تسعين فقطعا جسر دجلة و خلع الأمين و بعث إلى هرثمة و كان بازائهما فسار من ناحيته و دخل عسكر المهدي و ملكه و قدم طاهر من الغد إلى المدينة و الكرخ فقاتلهم و هزمهم و ملكها عنوة و نادى بالأمان و وضع الجند بسوق الكرخ و قصر الوضاح و أحاط بمدينة المنصور و قصر زبيدة و قصر الخلد من باب الجسر إلى باب البصرة و شاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة و نصب عليها المجانيق و اعتصم الأمين في أمه و ولده بمدينة المنصور اشتد عليه الحصار و ثبت معه حاتم بن الصقر و الحريشي و الأفارقة و افترق عامة الجنود و الخصيان و الجواري في الطريق و جاء محمد بن حاتم بن الصقر و محمد بن إبراهيم بن الأغلب الأفريقي إلى الأمين و قالا له بقي من خيلك سبعة آلاف فرس نختار سبعة آلاف فنجعلهم عليها و نخرج على بعض الأبواب و لا يشعر بنا أحد و نلحق بالجزيرة و الشام فيكون ملك جديد و ربما مال إليك الناس و يحدث الله أمرا فاعتزم على ذلك و بلغ الخبر إلى طاهر فكتب إلى سليمان بن المنصور و محمد بن عيسى بن نهيك و السندي بن شاهك يتهددهم إن لم يصرفوه عن ذلك الرأي فدخلوا على الأمين و حذروه من ابن الصقر و ابن الأغلب أن يجعل نفسه في أيديهم فيتقربوا به إلى طاهر و أشاروا عليه بطلب الأمان على يد هرثمة بن أعين و الخروج إليه و خالفهم إليه ابن الصقر و ابن الأغلب و قالوا له إذا ملت إلى الخوارج فطاهر خير لك من هرثمة فأبى و تطير من طاهر و أرسل إلى هرثمة يستأمنه فأجابه أنه يقاتل في أمانة المأمون فمن دونه و بلغ ذلك طاهرا فعظم عليه أن يكون الفتح لهرثمة و اجتمع هو و قواده لهرثمة و قواده في منزل خزيمة بن حازم و حضر سليمان و السندي و ابن نهيك و أخبروا طاهرا أنه لا يخرج إليه أبدا و أنه يخرج إلى هرثمة و يدفع إليك الخاتم و القضيب و البردة و هو الخلافة فرضي ثم جاء الهرش و أسر إليه أنهم يخادعونه و أنهم يحملونها مع الأمين إلى هرثمة فغضب و أعد رجالا حول قصور الأمين و بعث إليه هرثمة لخمسة بقين من محرم سنة ثمان و تسعين بأن يتربص ليلة لأنه رأى أولئك الرجال بالشط فقال : قد افترق عني الناس و لا يمكنني المقام لئلا يدخل علي طاهر فيقتلني ثم ودع ابنيه و بكى و خرج إلى الشط و ركب حراقة هرثمة و جعل هرثمة يقبل يديه و رجليه و أمر بالحراقة أن تدفع و إذا بأصحاب طاهر في الزواريق فشدوا عليها و نقبوها و رموهم بالآجر و النشاب فلم يرجعوا و دخل الماء إلى الحراقة فغرقت قال أحمد بن سالم صاحب المظالم : فسقط الأمين و هرثمة و سقطنا فتعلق الملاح بشعر هرثمة و أخرجه و شق الأمين ثيابه قال : و خرجت إلى الشط فحملت إلى طاهر فسألني عن نفسي فانتسبت و عن الأمين فقلت غرق فحملت إلى بيت و حبست فيه حتى أعطيتهم مالا فاديتهم به على نفسي فبعد ساعة من الليل فتحوا علي الباب و أدخلوا علي الأمين عريان في سراويل و عمامة و على كتفه خرقة فاسترجعت و بكيت ثم عرفني فقال : ضمني إليك فإني أجد وحشة شديدة فضممته و قلبه يخفق فقال : يا أحمد ما فعل أخي ؟ فقلت : حي قال : قبح الله بريدهم كان يقول قد مات يريد بذلك العذر عن محاربته فقلت : بل قبح الله وزراءك فقال : تراهم يفون لي بالأمان ؟ قلت : نعم إن شاء الله ثم دخل محمد بن حميد الطاهر فاستثبتنا حتى عرفه و انصرف ثم دخل علينا منتصف الليل قوم من العجم منتضين سيوفهم فدافع عن نفسه قليلا ثم ذبحوه و مضوا برأسه إلى طاهر ثم جاؤا من السحر فأخذوا جثته و نصب طاهر الرأس حتى رآه الناس ثم بعث به إلى المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسن بن مصعب و معه الخاتم و البردة و القضيب و كتب معه بالفتح فلما رآه المأمون سجد و لما قتل الأمين نادى طاهر بالأمان و دخل المدينة يوم الجمعة فصلى بالناس و خطب للمأمون و ذم الأمين و وكل بحفظ القصور الخلافية و أخرج زبيدة أم الأمين و ابنيه موسى و عبد الله إلى بلاد الزاب الأعلى ثم أمر بحمل الولدين إلى المأمون و ندم الجند على قتله و طالبوا طاهر بالأموال فارتاب بجند بغداد و بجنده أنهم توطؤا عليه و ثاورا به لخمس من قتل الأمين فهرب إلى عقرقوبا و معه جماعة من القواد ثم تعبى لقتالهم فجاؤا و اعتذروا و أحالوا على السفهاء و الأحداث فصفح عنهم و توعدهم أن يعودوا لمثلها و أعطاهم أربعة أشهر و حلفوا أنهم لم يدخلوا الجند في شيء من ذلك فقبل منهم و وضعت أهل الحرب أوزارها و استوسق لأمر للمأمون في سائر الأعمال و الممالك ثم خرج الحسن الهرش في جماعة من السفلة و اتبعه كثير من بوادي الأعراب و دعا إلى الرضا من آل محمد و أتى النيل فجبى الأموال و نهب القرى و ولى المأمون الحسن بن سهل أخا الفضل على ما افتتحه طاهر من كور الجبل و العراق و فارس الأهواز و الحجاز و اليمن فقدم سنة تسع و تسعين و فرق العمال و ولى طاهرا على الجزيرة و الموصل و الشام و المغرب و أمره أن يسير إلى قتل نصر بن شبيب و أمره هرثمة بالمسير إلى خراسان و كان نصر بن شبيب من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر في كيسوم شمالي حلب و كان له ميل إلى الأمين فلما قتل أظهر الوفاء له بالبيعة و غلب على ما جاوره من البلاد و ملك سميساط و اجتمع عليه خلق كثير من الأعراب و عبر إلى شرقي العراق و حصر حران و سأل منه شيعة الطالبيين أن يبايعوا لبعض آل علي لما رأوه من بني العباس و رجالهم و أهل دولتهم و قال : و الله لا أبايع أولاد السوداوات فيقول : إنه خلقني و رزقني قالوا فبعض بني أمية قال قد أدبر أمرهم و المدبر لا يقبل و لو سلم على رجل مدبر لأعداني بإدباره و إنما هو أي في بني العباس و إنما حاربتهم لتقديمهم العجم على العرب و لما سار إليه طاهر نزل الرقة و أقام بها و كتب إليه يدعوه إلى الطاعة و ترك الخلاف فلم يجبه و جاء الخبر إلى طاهر في الرقة وفاة أبيه الحسين بن زريق بن مصعب بخراسان و أن المأمون حضر جنازته و نزل الفضل قبره و جاءه كتاب المأمون يعزيه فيه و بعد قتل الأمين كانت الواقعة بالموصل بين اليمانية و النزارية و كان علي بن الحسن الهمداني متغلبا على الموصل فعسف بالنزارية و سار عثمان بن نعيم البرجمي إلى ديار مصر و شكا إلى أحيائهم و استنفرهم فسار معه من مصر عشرون ألفا و أرسل إليهم علي بن الحن بالرجوع إلى مايريدون فأبى عثمان فخرج علي في أربعة آلاف فهزمهم و أثخن فيهم و عادا إلى البلد (3/298)
ظهور ابن طباطبا العلوي
لما بعث المأمون الحسن بن سهل إلى العراق و ولاه على ما كان افتتحه طاهر من البلاد و الأعمال تحدث الناس أن الفضل بن سهل غلب على المأمون و استبد عليه و حجبه عن أهل بيته و قواده فغضب بنو هاشم و وجوه الناس و اجترؤا على الحسن بن سهل و هاجت الفتنة و كان أبو السرايا السري بن منصور يذكر أنه من بني شيبان من ولد هاني بن قبيصة بن هانئ بن مسعود و قيل من بني تميم بالجزيرة و طلب فعبر إلى شرقي الفرات و أقام هنالك يخيف السابلة ثم لحق بيزيد بن مزيد بأرمينية في ثلاثين فارسا فقوده و قاتل معه الحرمية و أسر منهم غلامه أبا الشوك و مات يزيد بن مزيد فكان مع ابنه أسد و عزل أسد فسار إلى أحمد بن مزيد و لما بعث الأمين أحمد بن مزيد لحرب هرثمة بعثه طليعة إلى عسكره فاستماله هرثمة فمال إليه و لحق به و قصد بني شيبان مع الجزيرة و استخرج لهم الأرزاق من هرثمة و اجتمع إليه أزيد من ألفي فارس فلما قتل الأمين تعصى هرثمة عن أرزاقهم فغضب و استأذن في الحج فأذن له و أعطاه عشرين ألف درهم ففرقها في أصحابه و مضى و أوصاهم باتياعه فاجتمع له منهم نحو مائتين و سار إلى عين التمر فأخذوا عاملها و قسموا ماله و لقوا عاملا آخر بمال موقور على ثلاثة أنفار فاقتسموه و أرسل هرثمة عسكرا خلفه فهزمهم و دخل البرية و لحق به من تخلف من أصحابه فكثر جمعه و سار نحو دقوقا و عليها أبو ضرغامة في سبعمائة فارس فخرج و قاتله فهزمه و رجع إلى القصر فحاصره أبو السرايا حتى نزل على الأمان و أخذ أمواله و سار إلى الأنبار و عليها إبراهيم الشروي مولى المنصور فقتله و أخذ ما فيها و عاد إليها عند إدراك الغلال فافتتحها ثم قصد الرقة و مر بطوق بن مالك الثعلبي فاستجاشه على قيس فأقام عنده أربع أشهر يقاتل قيسا بعصبية ربيعة حتى انقادت قيس إلى طوق و سار أبو السرايا إلى الرقة فلقي محمد بن إبراهيم بن إسمعيل بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي و تلقب أبوه إبراهيم طباطبا فدعاه إلى الخروج و أنفذ إلى الكوفة فدخلاها و بايعهم أهلها على بيعة الرضا من آل محمد نهب أبو السرايا قصر العباس بن موسى بن عيسى و أخذ ما فيه من الأموال و الجواهر ما لا يحصى و ذلك منتصف جمادى الأخيرة سنة تسعة و تسعين و قيل إن أبا السرايا مطله هرثمة بأرزاق أصحابه فغضب و مضى إلى الكوفة فبايع اين طباطبا و لما ملك الكوفة هرع إليه الناس و الأعراب من النواحي فبايعوه و كان عليها سليمان بن المنصور من قبل الحسن بن سهل فبعث إليه زهير بن المسيب الضبي في عشرة آلاف و خرج إليه ابن طباطبا و أبو السرايا فهزموه و استباحوا عسكره و أصبح محمد بن طباطبا من الغد ميتا فنصب أبو السريا مكانه غلاما من العلوية و هو محمد بن جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين و استبد عليه و رجع زهير إلى قصر ابن هبيرة فأقام به و بعث الحسن بن سهل عبدوس ابن محمد بن خالد المروزوذي في أربعة آلاف فلقيه أبو السرايا منتصف رجب و قتل و لم يفلت من أصحابه أحد كانوا بين قتيل و أسير و ضرب أبو السرايا الدراهم بالكوفة و بعث جيوشا إلى البصرة و واسط و ولى على البصرة العباس بن محمد بن عيسى بن محمد الجعفري و على مكة الحسين الأفطس بن الحسبن بن علي زين العابدين و جعل إليه الموسم و على اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق و على فارس إسمعيل بن موسى بن جعفر الصادق و على الأهواز زيد بن موسى الصادق فسار إلى البصرة و أخرج عنها العباس بن محمد بن داود بن الحسن المثنى إلى المدائن و أمره أن يأتي بغداد من الجانب الشرقي ففعل و كان بواسط عبد الله بن سعد الخرشي من قبل الحسن بن سهل ففر أمامهم و بعث الحسن بن سهل إلى هرثمة يستدعيه لحرب أبي السرايا و كان قد سار إلى خراسان مغاضبا له فرجع بعد امتناع و سار إلى الكوفة في شعبان و بعث الحسن إلى المدائن و واسط علي بن أبي سعيد و أبلغ الخبر أبا السرايا و هو بقصر ابن هبيرة فوجه جيشا إلى المدائن فملكوها في رمضان و تقدم فنزل نهر صرصر و عسكر هرثمة بازائه غدوة و سار علي بن أبي سعيد في سؤال المدائن فحاصر بها أصحاب أبي السرايا و رجع هو من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة و هرثمة و أتباعه ثم حصره و قتل جماعة من أصحابه فانجاز إلى الكوفة و وثب الطالبيون على دور بني العباس و شيعتهم فنهبوها و خربوها و أخرجوهم و استخرجوا ودائعهم عند الناس و كان على مكة داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي فلما بلغه قدوم حسين الأفطس جمع شيعة بني العباس و كان مسرور الكبير قد حج في مائة فارس فتعبى للحرب و دعا داود إلى حربهم فقال : لا أستحل ذلك في الحرم و خرج إلى العراق و تبعه مسرور و كان حسين الأفطس بسرف يخاف دخول مكة فبلغة الخبر أن مكة قد خلت من بني العباس عنها فدخل في عشرة أنفس و طاف و سعى و وقف بعرفه ليلا و أتم الحج و أقام هرثمة بنواحي الكوفة يحاصرها و استدعى منصور بن المهدي و كاتب رؤساء الكوفة و سار علي بن سعيد من المدائن إلى واسط فملكها ثم توجه إلى البصرة و اشتد الحصار على أبي السرايا بالكوفة فهرب عنها في ثمانمائة فارس و معه صاحبه الذي نصبه و هو محمد بن جعفر بن محمد و دخلها هرثمة منتصف محرم فأقام بها يوما و ولى عليها غسان صاحب الحرس بخراسان و عاد و قصد أبو السرايا القادسية و سار منها إلى السوس و لقي بخراسان مالا حمل من الأهواز فقسمه في أصحابه و كان على الأهواز الحسن بن علي المأموني فخرج إليه فقاتله فهزمه و افترق أصحابه و جاء إلى منزله برأس عين من جلولاء و معه صاحبه محمد و غلامه أبو الشوك فظفر بهم حماد الكند غوش و جاء بهم إلى الحسن بن سهل في النهروان فقتل أبا السرايا و بعث برأسه إلى المأمون و بصاحبه محمد معه و نصب شلوه على جسر بغداد و سار علي بن أبي سعيد إلى البصرة فملكها من يد زيد بن موسى بن جعفر الصادق و كان يسمى زيد النار لكثرة ما أحرق من دور العباسيين و شيعتهم فاستأمن إليه زيد فأمنه و أخذه و بعث الجيوش إلى مكة و المدينة و اليمن لقتال من بها من العلويين و كان إبراهيم بن موسى بن جعفر بمكة فلما بلغه خبر أبي السرايا و مقتله ولى و سار إلى اليمن و بها إسحق بن موسى فهرب إلى مكة و استولى إبراهيم على اليمن و كان يسمى الجزار لكثرة قتله فتكه ثم بعث رجلا من ولد عقيل بن أبي طالب إلى مكة ليحج بالناس و قد جاء لذلك أبو الحسن المعتصم في جماعة من القواد فيهم حدوية بن علي بن عيسى بن ماهان و اليا على اليمن من قبل الحسن بن سهل فخام العقيلي عن لقائهم و اعترض قافلة الكسوة فأخذها و نهب أموال التجار و دخل الحجاج إلى مكة عراة فبعث الخلودي من القواد فصبحهم و هزمهم و أسر منهم و تفقد أموال التجار و كسوة الكعبة و طيبها و ضرب الأسراء عشرة أسواط لكل واحد و أطلقهم و حج المعتصم بالناس (3/303)
بيعة محمد بن جعفر بمكة
هو محمد بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين و يلقب الديباجة و كان عالما زاهدا و يروي عن أبيه و كان الناس يكتبون عنه و لما ملك الحسين الأفطس مكة كما ذكرناه عاث فيها و نزع كسوة الكعبة و كساها بأخرى من الغد أنفذها أبو السرايا من الكوفة و تتبع ودائع بني العباس و جعلها ذريعة لأخذ أموال الناس فخرجوا من مكة و قلع أصحابه شبابيك الحرم و قلع ما على الأساطين من الذهب و استخرج ما كان في الكعبة من المال فقسمه في أصحابه و ساء أثره في الناس فلما قتل أبو السرايا تنكروا له فخشى على نفسه فجاء إلى محمد بن جعفر ليبايع له بالخلافة فلم يزل به هو و ابنه حسن و استعانا عليه بابنه علي حتى بايعوه و دعوه بأمير المؤمنين و استبد عليه ابنه علي و ابن الأفطس بأسوا مما كان قبل و أفحشوا في الزنا و اللواط و اغتصاب النساء و الصبيان فاجتمع الناس على خلع محمد بن جعفر أو يرد إليهم ابن القاضي كان مغتصبا ببيت ابنه علي فاستأمنهم حتى ركب إلى بيت ابنه و سلم إليهم الغلام و جاء إسحق بن موسى بن عيسى من اليمن فاجتمع الناس و خندقوا مكة و قاتلهم إسحق و امتنعوا عليه فسار نحو العراق و لقي الجند الذين بعثهم هرثمة إلى مكة مع الجلودي و رجاء بن جميل و هو ابن عم الحسين بن سهل فرجع بهم و قاتل الطالبيين فهزمهم و افترقوا و استأمن إليه محمد بن جعفر فأمنه و ملك مكة و سار محمد ابن جعفر إلى الجحفة ثم إلى بلاد جهينة فجمع و قاتل هرون بن المسيب والي المدينة فانهزم محمد و فقئت عينه و قتل خلق من أصحابه و رجع إلى موضعه و لما انقضى الموسم استأمن الجلودي و رجاء بن جميل فأمناه و دخل مكة و خطب و اعتذار عما فعله بأنه بلغه موت المأمون ثم صح أنه حي و خلع نفسه و سار إلى الحسن والي المأمون بمرو فلم يزل عنده إلى أن سار المأمون إلى العراق فمات بجرجان في طريقه (3/305)
مقتل هرثمة
لما فرغ هرثمة من أبي السرايا رجع و كان الحسن بن سهل بالمدائن فلم يعرج عليه و سار على عقرقوبا إلى النهروان قاصدا خراسان و لقيته كتب المأمون متلاحقة أن يرجع إلى الشام و الحجاز فأبى إلا لقاءه دالة عليه بما سبق له من نصحه له و لآبائه و كان قصد أن يطلع المأمون على حال الفضل بن سهل في طيه لأخبار عنه و ما عند الناس من القلق بذلك و باستبداده عليه و مقامه بخراسان و علم الفضل بذلك فأغرى به المأمون و ألقي إليه أنه سلط أبا السرايا و هو من جنده و قد خالف كتبك و جاء معاندا سيئ القالة و إن سومح في ذلك اجترأ غيره فسخطه المأمون و بقي في انتظاره و لما بلغ مرو قرع طبوله يسمعها لئلا يطوى خبره عن المأمون و سأل المأمون عنها فقيل هرثمة أقبل يرعد و يبرق فاستدعاه و قال هرثمة مالأت العلويين و أبا السرايا و لو شئت أهلاكهم جميعا لفعلت فذهب يعتذر فلم يمهله و أمر فربس بطنه و شدخ أنفه و سحب إلى السجن ثم دس إليه من قتله (3/306)
انتقاض بغداد على الحسن بن سهل
و لما بلغ خبر هرثمة إلى العراق كتب الحسن بن سهل إلى علي بن هشام والي بغداد من قبله أن يتعلل على الجند الحربية و البغداديين في أرزاقهم لأنه كان بلغه عنهم قبل مسير هرثمة أنهم عازمون على خلعه و طرد عماله و ولوا عليهم إسحق بن الهادي خليفة المأمون فلم يزل الحسين يتلطف إليهم و يكاتبهم حتى اختلفوا فأنزل علي بن هشام و محمد ابن أبي خالد جانبيها و زهير بن المسيب في الجانب الآخر و قاتلوا الحربية ثلاثة أيام ثم صالحهم على العطاء و شرع فيه و كان زيد بن موسى ابن جعفر قد أخذه علي بن أبي سعيد من البصرة و حبسه كما ذكرناه قبل فهرب من محبسه و خرج بناحية الأنبار و معه أخ لأبي السرايا ثم تلاشى أمره و أخذوا إلى علي بن هشام ثم جاء خبر هرثمة و قد انتقض محمد بن أبي خالد على علي بن هشام بما كان يستحق به و غضب يوما مع زهير بن المسيب فقنعه بالسوط فسار إلى الحربية و نصب لهم الحرب انهزم علي بن هشام إلى صرصر و قيل إن ابن هشام أقام الحد على عبد الله بن علي بن عيسى فغضب الحربية و أخرجوه و اتصل ذلك بالحسن بن سهل و هو بالمدائن كما قلناه فانهزم إلى واسط أول سنة احدى و مائتين و الفضل بن الربيع و قد ظهر من اختفائه من لدن الأمين و جاء عيسى بن محمد بن أبي خالد من الرقة من عند طاهر فاجتمع هو و أبوه على قتال الحسن و هزموا كل من تعرض للقائهم من أصحابه و كان زهير بن المسيب عاملا للحسن على جوخى من السواد و كان يكاتب بغداد فركب إليه محمد بن أبي خالد و أخذه أسيرا و انتهب ماله و حبسه ببغداد عند ابنه جعفر ثم تقدم إلى واسط و بعثه ابنه هرون إلى النيل فهزم نائب الحسن بها إلى الكوفة فلحق بواسط و رجع هرون إلى أبيه و تقدم نحو واسط فسار الحسن عنها و أقام الفضل بن الربيع مختفيا بها و استأمن لمحمد و بعثه إلى بغداد و سار إلى الحسن على البقية عساكر الحسن و قواده و انهزم محمد و أصحابه و تبعهم الحسن إلى تمام الصلح ثم لحقوا بجرجايا و وجه محمد ابن ابنه هرون إلى فأقام بها و سار محمد ابن ابنه أبورتيل و هو جريح إلى بغداد فمات بها و دفن في داره سرا و محمد أبو رتيل إلى زهير بن المسيب فقتله من ليلته و قام خزيمة بن خازم بأمر بغداد و بعث إلى عيسى بن محمد بأن يتولى حرب الحسن مكان أبيه و بلغ الحسن موت محمد فبعث عسكره إلى هرون بالنيل فغلبوا و انتهبوها و لحق هرون بالمدائن ثم اجتمع أهل بغداد و أرادوا منصور بن المهدي على الخلافة فأبى فجعلوه خليفة للمأمون ببغداد و العراق انحرافا عن الحسن ابن سهل و قيل إن الحسن لما ساعد أهل بغداد عيسى بن محمد بن أبي خالد على حربه خام عنه فلاطفه و وعده بالمصاهرة و مائة ألف دينار و الأمان له و لأهل بيته و لأهل بغداد و ولاية النواحي فقبل و طلب المأمون بذلك و كتب إلى أهل بغداد إني شغلت بالحرب عن جباية الخراج فولوا رجلا من بني هاشم فولوا المنصور بن المهدي و أحصى عيسى أهل عسكره فكانوا مائةألف و خمسة و عشرين ألفا و بعث منصور غسان بن الفرج إلى ناحية الكوفة فغزاه حميد الطوسي من قواد الحسن بن سهل و أخذ أسيرا و نزل النيل فبعث منصور بن محمد يقطين في العساكر إلى حميد فلقيه حميد بكونا فهزمه و قتل من أصحابه و نهب ما حول كوثا و رجع إلى النيل و أقام ابن يقطين بصرصر (3/307)
أمر المطوعة
و لما كثر الهرج ببغداد و امتدت أيدي الدعاوى باذايه الناس في أموالهم و أفشى المناكير فيهم و تعذر ذلك فخرجوا إلى القرى فانتهوها و استعدى الناس أهل الأمر فلم يغدوا عليهم فتمشى الصلحاء من عمل ريظ و كل بينهم و رأوا أنهم في كل درب قليلون بالنسبة إلى خيارهم فاعتزموا على مدافعتهم و اشتد خالد المدريوش من أهل بغداد فدعا جيرانه و أهل محلته إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من غير أن يغيروا على السلطان فشد على من كان عندهم من أدعار و حبسهم و رفعهم إلى السلطان و تعدى ذلك إلى غير محلته ثم قام بعده سهل بن سلامة الأنصاري من الحريشية من أهل خراسان و يكنى أبا حاتم فدعا إلى مثل ذلك و إلى العمل بالكتاب و السنة و علق في عنقه مصحفا و عبر على العامة و على أهل الدولة فبايعوه على ذلك و على قتال من خالف و بلغ خبرهما إلى منصور بن المهدي و عيسى بن محمد بن أبي خالد فنكروا ذلك لأن أكثر الدعار كانوا يشايعونهم على أمرهم فدخلوا بغداد بعد أن عقد عليه الصلح مع الحسن بن سهل على الأمان له و لأهل بغداد و انتظروا كتاب المأمون و رضي أهل البلد بذلك فسهل عليهم أمر المدريوش و سهل (3/309)
العهد لعلي الرضا و البيعة لإبراهيم بن مهدي
و لما بلغ أهل بغداد أن المأمون قد بايع بالعهد لعلي بن موسى الكاظم و لقبه الرضا من آل محمد و أمر الجند بطرح السواد و لبس الخضرة و كتب بذلك إلى الآفاق و كتب الحسن بن سهل إلى عيسى بن محمد بن أبي خالد ببغداد يعلمه بذلك في رمضان من سنة احدى و مائتين و أمره أن يأخذ من عنده من الجند و بني هاشم بذلك فأجاب بعض و امتنع بعض و كبر عليهم إخراج الخلافة من بني العباس و تولى كبر ذلك منصور و إبراهيم ابنا المهدي و شايعهم عليه المطلب بن عبد الله بن مالك و السدي و نصر الوصيف و صالح صاحب المصلى و منعوا يوم الجمعة من نادى في الناس بخلع المأمون و البيعة لإبراهيم بن المهدي و من بعده لإسحق بن الهادي ثم بايعوه في المحرم سنة اثنتين و مائتين و لقبوه المبارك و وعد الجند بأرزاق ستة أشهر و استولى على الكوفة و السواد و خرج فعسكر بالمدائن و ولى بها على الجانب الغربي العباس بن الهادي و على الجانب الشرقي إسحق بن الهادي و كان بقصر ابن هبيرة حميد بن عبد الحميد عاملا للحسن بن سهل و معه القواد سعيد بن الساحور و أبو البط و غسان بن الفرج و محمد بن إبراهيم بن الأغلب كانوا منحرفين عن حميد فداخلوا إبراهيم بن الهادي في أن يهلكوه في قصر ابن هبيرة و شعر بذلك الحسن بن سهل فاستقدم حميدا و خلا لهم الجو منه فبعث إبراهيم بن المهدي عيسى ابن محمد بن أبي خالد و ملك قصر ابن هبيرة و انتهب عسكر حميد و لحق به ابنه بجوارية ثم عاد إلى الكوفة فاستعمل عليها العباس بن موسى الكاظم و أمره أن يدعو لأخيه فامتنع غلاة الشيعة من إجابته و قالوا : لا حاجة لنا بذكر المأمون و قعدوا عنه و بعث إبراهيم بن المهدي من القواد سعيدا و أبا البط لقتاله فسرح إليهم العباس بن عمه و هو علي بن محمد الديباجة فانهزم و نزل سعيد و أبو البط الحيرة ثم تقدموا لقتال أهل الكوفة و قاتلهم شيعة بني العباس و مواليهم ثم سألوا الأمان للعباس و خرجوا من داره ثم قاتل أصحابه أصحاب سعيد فهزموهم و أحرقوا دور عيسى بن موسى و بلغ الخبر إلى سعيد بالحيرة بأن العباس قد نقض و رجع عن الأمان فركب و جاء إلى الكوفة و قتل من ظفر به و لقيه أهل فاعتذروا إليه بأن هذا فعل الغوغاء و أن العباس باق على عهده و دخل سعيد و أبو البط و نادوا بالأمان و ولوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصباح الكندي ثم عزلوه و ولوا مكانه غسان بن الفرج فقتل أخا السرايا ثم عزلوه و ولوا الهول ابن أخي سعيد القائد و قدم حميد بن عبد الحميد لحربهم بالكوفة فهرب الهول و بعث إبراهيم بن المهدي بن عيسى بن محمد بن أبي خالد لحصار الحسن بواسط على طريق النيل و كان الحسن متحصنا بالمدينة فسرح أصحابه لقتالهم فانهزموا و غنم عسكرهم و رجع عيسى إلى بغداد فقاتل سهل بن سلامة المطوع حتى غلبه على منزله فاختفى في غمار النظار و أخذوه بعد ليال و أتوا به إسحق فقال : كل ما كنت أدعو إليه باطل فقالوا : أخرج فأعلم الناس بذلك فخرج و قال : قد كنت أدعوكم إلى الكتاب و السنة و لم أزل على ذلك فضربوه و قيدوه و بعثوا به إلى إبراهيم المهدي فضربه و حبسه و ظهر أنه قتل في محبسه خفية لسنة من قيامه ثم أطلقه فاختفى إلى أن انقرض أمر إبراهيم و زحف حميد بن عبد الحميد سنة ثلاث و مائتين إلى قتال إبراهيم بن المهدي و أصحابه و كان عيسى بن محمد بن أبي خالد هو المتولى بأمر إبراهيم فداخلهم في الغدر بإبراهيم و صار يتعلل عليه في المدافعة عنه و نمي ذلك إلى إبراهيم بن هرون أخي عيسى فتنكر له و نادى عيسى في الناس بمسالمة حميد فاستدعاه إبراهيم و عاتبه بذلك فأنكر و اعتذر فأمر به فضرب و حبس عدة من قواده و أفلت العباس خليفته فمشى بعض الناس إلى بعض و وافقوا العباس على خلع إبراهيم و طردوا عامله من الجسر و الكرخ و ثار الرعاع و الغوغاء و كتب العباس إلى حميد يستقدمه ليسلم إليه بغداد و نزل صرصر و خرج إليه العباس و القواد و تواعدوا لخلع إبراهيم على أن يدفع لهم العطاء و بلغ الخبر إلى إبراهيم فأخرج عيسى و إخوته و سأله قتال حميد فامتنع و دخل حميد فصلى الجمعة و خطب للمأمون و شرع في العطاء ثم قطعه عنهم فغضب الجند و عاود إبراهيم سؤال عيسى في قتال حميد فقاتل قليلا ثم استأسر لهم و انفض العسكر راجعين إلى إبراهيم و ارتحل حميد فنزل في وسط المدينة و تسلل أصحاب إبراهيم إلى المدائن فملكوها و قاتل بقيتهم حميد و كان الفضل بن الربيع مع إبراهيم فتحول إلى حميد و كاتب المطلب بن عبد الله بن مالك بأن يسلموه إليه و كان سعيد بن الساحور و البط و غيرهم من القواد يكاتبون علي بن هشام بمثل ذلك و لما علم إبراهيم بما اجتمعوا عليه أقبل على مداراتهم إلى أن جن الليل ثم تسرب في البلد و اختفى منتصف ذي الحجة من سنة ثلاث و بلغ الخبر إلى حميد و علي بن هشام فأقبلوا إلى دار إبراهيم فلم يجدوه و ذلك لسنتين من بيعته و أقام علي بن هشام على شرقي بغداد و حميد على غربيها و أظهر سهل بن سلامة ما كان يدعو إليه فقربه حميد و وصله (3/310)
قدوم المأمون إلى العراق
لما وقعت هذه الفتن بالعراق بسبب الحسن بن سهل و نفور الناس من اسبداده و أخيه على المأمون ثم من العهد لعلي الرضا بن موسى الكاظم و إخراج الخلافة من بني العباس و كان الفضل بن سهل يطوي ذلك عن المأمون و يبالغ في إخفائه حذرا من أن يتغير رأي المأمون فيه و في أخيه و لما جاء هرثمة للمأمون و علم أنه يخبره بذلك و أن المأمون يثق بقوله أحكم السعاية فيه عند المأمون حتى تغير له فقتله ولم يصغ إلى كلامه فازدادت نفرة الشيعة و أهل بغداد و كثرت الفتن و تحدث و القواد في في عسكر المأمون بذلك ولم يقدروا على إبلاغه فجاؤا إلى عين الرضا و سألوه إنهاء ذلك إلى المأمون فأخبره بما في العراق من الفتنة و القتال و أنهم بايعوا إبراهيم بن المهدي فقال المأمون : إنما جعلوه أميرا يقوم بأمرهم ! فقال : ليس كذلك و إن الحرب الآن قائمة بين ابن سهل و بينه و إن الناس ينقمون عليك مكان الفضل و الحسن و مكاني و عهدك لي فقال له المأمون : و من يعلم هذا غيرك ؟ فقال يحيى بن معاذ و عبد العزيز ابن عمران و غيرهما من وجوه قوادك فاستدعاهم فكتموا حتى استأمنوا إليه ثم أخبروه بما أخبره به الرضا و أن الناس بالعراق يتهمونه بالرفض لعهده لعلي الرضا و أن طاهر ابن الحسين مع علم أمير المؤمنين ببلائه قد دفع إلى الرقة و ضعف أمره و البلاد تفتقت من كل جانب و إن لم يتدارك الأمر ذهبت الخلافة منهم فاستيقن المأمون ذلك و أمر بالرحيل و استحلف على خراسان غسان بن عباد و هو ابن عم الفضل بن سهل و علم الفضل بن سهل بذلك فشرع في عقاب أولئك القواد فلم يغنه و لما نزل المأمون شرحبيل وثب بالفضل أربعة نفر فقتلوه في الحمام و هربوا و جعل المأمون جعلا لمن جاء بهم فجاء بهم العباس بن الهيثم الدينوري فلما حضروا عند المأمون قالوا له : أنت أمرتنا بقتله ! و قيل بل اختلفوا في القول فقال بعضهم : أمرنا بقتله ابن أخيه و قال آخرون بل عبد العزيز بن عمران من القواد و علي و موسى و غيرهم و أنكر آخرون فأمر المأمون بقتلهم و قتل من أقروا عليه من القواد و بعث إلى الحسن بن سهل و سار إلى العراق و جاءه الخبر بأن الحسن بن سهل أصابته الماليخوليا و اختلط فبعث دينارا مولاه و وكله بأمور العسكر و كان إبراهيم بن المهدي و عيسى بالمدائن و أبو البط و سعيد بالنيل و الحرب متصلة بينهم و المطلب بن عبد الله بن مالك قد اعتل بالمدائن فرجع إلى بغداد و جعل يدعو إلى المأمون سرا و إلى خلع إبراهيم و أن يكون منصور بن المهدي خليفة للمأمون و دخله في ذلك خزيمة بن خازم و غيره من القواد و كتب إلى علي بن هشام و حميد أن يتقدما فنزل حميد نهر صرصر و علي النهروان و عاد إبراهيم بن المهدي من المدائن إلى بغداد منتصف صفر و قبض على منصور و خزيمة و منع المطلب مواليه فأمر إبراهيم بنهب داره ولم يظفر و نزل حميد و علي بن هشام المدائن و أقاما بها و زوج المأمون في طريقه إبنته من علي الرضا و بعث أخاه إبراهيم بن موسى الكاظم على الموسم و ولاه اليمن و كان به حمدوية بن علي ابن عيسى بن ماهان قد غلب عليه و لما نزل المأمون مدينة طوس مات علي الرضا فجأة آخر صفر من سنة ثلاث من عنب أكله و بعث المأمون إلى الحسن بن سهل بذلك و إلى أهل بغداد و شيعتة يعتذر من عهده إليه و أنه قد مات و يدعوهم إلى الرجوع لطاعته ثم سار إلى جرجان و أقام بها أشهرا و عقد على جرجان لرجاء بن أبي الضحاك قاعدا وراء النهر ثم عزله سنة أربع و عقد لغسان بن عباد من قرابة الفضل بن سهل على خراسان و جرجان و طبرستان و سجستان و كرمان و روبان و دهارير ثم عزله بطاهر كما نذكره ثم سار إلى النهروان فلقيه أهل بيته و شيعته و القواد و وجوه الناس و كان قد كتب إلى طاهر أن يوافيه بها فجاء من الرقة و لقيه هنالك و سار المأمون فدخل بغداد منتصف صفر من سنة أربعة فنزل الرصافة ثم نزل قصره بشاطيء دجلة و بقي القواد في العسكر و انقطعت الفتن و بقي الشيعة يتكلمون في لبس الخضرة و كان المأمون قد أمر طاهر بن الحسين أن يسأل حوائجه فأول شيء سأل لبس السواد فأجابه و قعد للناس و خلع عليه و عليهم الثياب السود و استقامت الأمور كانت الفتنة قد وقعت بالموصل بين بني شامة و بني ثعلبة و كان علي بن الحسن الهمداني متغلبا عليها في قومه فاستجارت ثعلبة بأخيه محمد فأمرهم بالخروج إلى البرية ففعلوا و تبعهم بنو شامة في ألف رجل و حاصروهم بالقوجاء و معهم بنو ثعلب و بعث علي و محمد إليهم بالمدد فقتلوا جماعة من بني شامة و أسروا منهم و من بني ثعلب فجاء أحمد بن عمر بن الخطاب الثعلبي إلى علي فوادعه و سكنت الفتنة ثم إن علي بن الحسين سطا بمن كان في الموصل من الأزد عسفا في الحكم عليهم و قال لهم يوما : ألحقوا بعمان فاجتمعت الأزد إلى السيد بن أنس كبيرهم و قاتلوه و كان في تلك النواحي مهدي بن علوان من الخوارج فادخله علي ابن الحسين و بايعه و صلى بالناس و اشتدت الحرب ثم كانت اصرا على علي و أصحابه و أخرجهم الأزد عن البلد إلى الحديثة ثم اتبعوهم فقتلوا عليا و أخاه أحمد في جماعة و لجأ محمد إلى بغداد و ملك السيد بن أنس و الأزد الموصل و خطب للمأمون و لما قدم المأمون بغداد وفد عليه السيد بن أنس فشكاه محمد بن الحسين بن صالح و استعداءه عليه بقتل أخويه و قومه فقال : نعم يا أمير المؤمنين ! أدخلوا الخارجي بلدك و أقاموه على منبرك و أبطلوا دعوتك فأهدر المأمون دماءهم (3/312)
ولاية طاهر على خراسان و وفاته
كان المأمون بعد وصوله إلى العراق قد ولى طاهر بن الحسين الجزيرة و الشرطة بجانبي بغداد و السواد و دخل عليه يوما في خلوته فأذن له بالجلوس و بكى ففداه فقال المأمون أبكي لأمر ذكره ذل و ستره حزن و لن يخلو أحد من شجن و قضى طاهر حديثه و انصرف و كان حسين الخادم فدس إليه على يد كاتبه محمد بن هرون أن يسأل المأمون عن مكاتبته على ألف درهم و مثلها للكاتب و خلا حسين بالمأمون و سأله ففطن و قال له : إن الثناء مني ليس برخيص و المعروف عندي ليس بضائع فعيبي عن غير المأمون فأجابه و ركب إلى المأمون و فاوضه في أمر خراسان و أنه يخشى عليها من الترك و أن غسان بن عباد ليس بكفء لها فقال : لقد فكرت في ذلك فمن ترى يصلح لها ؟ قال : طاهر بن الحسين قال : هو خالع قال : أنا ضامنه فاستدعاه و عقد له من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق من حلوان إلى خراسان و عسكر من يومه خارج بغداد و أقام شهرا تحمل إليه كل يوم عشرة آلاف ألف درهم عادة صاحب خراسان و ولى المأمون مكانه بالجزيرة ابنه عبد الله و كان ينوب عن أبيه بالشرطة فحملها إلى ابن عمه إسحق بن إبراهيم بن مصعب و خرج إلى عمله و نزل الرقة لقتال نصر بن شيث ثم سار طاهر إلى خراسان آخر ذي القعدة سنة خمس و مائتين و قيل في سبب ولاية طاهر خراسان أن عبد الرحمن المطوع جمع جموعا كثيرة بنيسابور لقتال الحرورية و لم يستأذن غسان بن عباد و هو الوالي على خراسان فخشي أن يكون ذلك من المأمون فاضطرب و تعصب له الحسن بن سهل و خشي المأمون على خراسان فولى طاهرا و سار إلى خراسان فأقام بها إلى سنة سبع ثم اعتزم على الخلاف و خطب يوما فأمسك عن الدعاء للمأمون و دعا بصلاح الأمة و كتب صاحب البريد بذلك إلى المأمون بخلعه فدعا بأحمد بن أبي خالد فقال : أنت ضمنته ! فسر و ائتني به ثم جاء من الغد الخبر بموته فقال المأمون للبريد و نعم الحمدلله الذي قدمه و أخرنا و ولى طلحة من قبله و بعث إليه المأمون أحمد بن أبي خالد ليقوم بأمره فعبر أحمد إلى ما وراء النهر و افتتح أشر و سنة و أسر كاووس بن خالد حدد و ابنه الفضل و بعث بهما إلى المأمون و وهب طلحة لأحمد بن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم و عروضا بألف و لمكاتبته خمسمائة ألف درهم ثم خالف الحسين بن الحسين بن مصعب بكرمان فسار إليه أحمد بن أبي خالد و أتى به إلى المأمون فعفا عنه (3/314)
ولاية عبد الله بن طاهر الرقة و مصر و محاربته نصر بن شيث
و في سنة ست و مائتين بلغ الخبر بوفاة يحيى بن معاذ عامل الجزيرة و أنه استحلف ابنه أحمد فولى المأمون عبد الله بن طاهر مكانه و جعل له ما بين الرقة و مصر فأمره بحرب نصر بن شيث و قيل ولاه سنة خمس و قيل سنة سبع و استحلف على الشرطة ببغداد إسحق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب و هو ابن عمه و كتب إليه أبو طاهر كتابا بالوصية جمع فيه محاسن الآداب و السياسة و مكارم الأخلاق و قد ذكرناه في مقدمة كتابنا فسار عبد الله بن طاهر لذلك و بعث الجيوش لحصار نصر ابن شيث بكيسوم في نواحي جانب ثم سار إليه بنفسه سنة تسع و مائتين و أخذ بمخنقه فتوقف المأمون محمد بن جعفر العامري يدعوه إلى الطاعة فأجاب على شرط أن لا يحضر عنده فتوقف المأمون و قال : ما باله ينفر مني ؟ فقال أبو جعفر : لما تقدم من ذنبه فقال : أفتراه أعظم ذنبا من الفضل بن الربيع و قد أخذ جميع ما أوصى له به الرشيد من الأموال و السلاح و ذهب مع القواد إلى أخي و أسلمني و أفسد علي حتى كان ما كان و من عيسى بن أبي خالد و قد خالف علي ببلدي و أخرب داري بايع لإبراهيم دوني فقال اين جعفر : يا أمير المؤمنين هؤلاء لهم سوابق و دالة يبقون بها و نصر ليست له في دولتكم سابقة و إنما كان من جند بني أمية و أنا لا أجيب إلى هذا الشرط ولح نصر في الخلاف حتى جهده الحصار و استأمن فأمنه عبد الله بن طاهر و خرج إليه سنة عشرة و بعث به إلى المأمون و أخرب حصن كيسوم لخمس سنين من حصاره و رجع عبد الله بن طاهر إلى الرقة ثم قدم بغداد سنة احدى عشرة فتلقاه العباس بن المأمون و المعتصم و سائر الناس (3/315)
الظفر بابن عائشة و بإبراهيم بن المهدي
كان إبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام و يعرف باب عائشة ممن تولى كبر البيعة لإبراهيم بن المهدي و معه إبراهيم بن الأغلب و مالك بن شاهين و كانوا قد اختفوا عند قدوم المأمون في نواحي بغداد و لما وصل نصر بن شيث و خرجت النظارة أنفذوا للخروج في ذلك اليوم ثم غلبهم بعض الناس فأخذوا في صفر من سنة عشرة ثم ضربوا حتى أقروا على من كان معهم في الأمر فلم يعرض لهم المأمون و حبسهم فضاق عليهم المحبس و أرادوا أن ينقبوه فركب المأمون بنفسه و قتلهم و صلب ابن عائشة ثم صلى عليه و دفنه ثم أخذ في هذه السنة إبراهيم بن المهدي و هو متنقب في زي إمرأة يمشي بين إمرأتين و استراب به بعض العسس و قال أين تردون في هذا الوقت ؟ فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت في يده فازداد ريبة و رفعهن إلى صاحب المسلحة و جاء بهن إلى صاحب الجسر فذهب به إلى المأمون و أحضره و الغل في عنقه و الملحبة على صدره ليراه بنو هاشم و الناس ثم حبسه عند أحمد بن أبي خالد ثم أخرجه معه عندما سار الحسن بن سهل ليغنم الصلح فشفع فيه الحسن و قيل ابنته بوران و قيل إن إبراهيم لما أخذ حمل إلى دار المعتصم و كان عند المأمون فأدخله عليه و أنبه فيما كان منه و اعتذر بمنظوم من الكلام و منثور أتى فيه من وراء الغاية و هو منقول في كتب التاريخ فلا نطيل بنقله (3/316)
انتقاض مصر و الإسكندرية
كان السري بن محمد بن الحكم واليا على مصر و توفي سنة خمس و مائتين و بقي ابنه عبد الله فانتقض و خلع الطاعة و أنزل بالإسكندرية جالية من الأندلس أخرجهم الحكم بن هشام من ربضي قرطبة و غر بهم إلى المشرق و لما نزلوا بالإسكندرية ثاروا و ملكوها و ولوا عليهم أبا حفص عمر البلوطي و فشل عبد الله بن طاهر عنهم بمحاربة نصر بن شيث فلما فرغ منه ثار من الشام إليهم و قدم قائدا من قواده و لقيه ابن السري و قاتله و أغذ ابن طاهر المسير فلحقهم و هم في القتال و انهزم ابن السري إلى مصر و حاصره عبد الله بن طاهر حتى نزل على الأمان و ذلك سنة عشرة ثم بعث إلى الجالية الذين ملكوا الإسكندرية بالحرب فسألوه الأمان على أن يرتحلوا إلى بعض الجزائر في بحر الروم مما يلي الإسكندرية ففعل نزلوا جزيرة أقريطش و استوطنوها و أقامت في مملكة المسلمين من أعقابهم دهرا إلى أن غلب عليها الإفرنجة (3/317)
العمال بالنواحي
لما استقر المأمون ببغداد و سكن الهيج و ذلك سنة أربع ولى على الكوفة أخاه أبا عيسى و على البصرة أخاه صالحا و على الحرمين عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب و على الموصل السيد بن أنس الأزدي و ولى على الشرطة ببغداد و معاون السواد طاهر بن الحسن استقدمه من الرقة و كان الحسن بن سهل ولاه عليها فقدم و استخلف ابنه عبد الله عليها ثم ولاه المأمون سنة خمس خراسان و أعمال المشرق كلها و استقدم ابنه عبد الله فجعله على الشرطة ببغداد مكان أبيه و ولى يحيى بن معاذ على الجزيرة و عيسى بن محمد بن أبي خالد على أرمينية و أذربيجان و محاربة بابك و مات عامل مصر السري بن محمد بن الحكم فولى ابنه عبيد الله مكانه و مات داود بن يزيد عامل السند فولى بشر بن داود مكانه على أن يحمل ألف ألف درهم كل سنة ثم مات يحيى بن معاذ سنة و استخلف ابنه أحمد فعزله المأمون و ولى مكانه عبد الله بن طاهر و ضاف إليه مصر و سيره لمحاربة نصر بن شيث و ولى عيسى بن يزيد الجلودي محاربة الزط سنة خمس ثم عزله سنة ست و ولى داود بن منحور مع أعمال البصرة و كور دجلة و اليمامة و البحرين و ولى في سنة سبع محمد بن حفص على طبرستان و الرويان و دنباوند و فيها أوقع السيد بن أنس بجماعة من عرب بني شيبان و وديعة بما فشا من إفسادهم في البلاد فكبسهم بالدسكرة و استباحهم بالقتل و النهب و في سنة تسع ولى صدقة بن علي و يعرف بزريق على أرمينية و أذربيجان و أمره بمحاربة بابك و قام بأمره أحمد بن الجنيد الاسكافي فأسره بابك فولى إبراهيم بن الليث بن الفضل أذربيجان و كان على جبال طبرستان شهريار بن شروين فمات سنة عشر و قام مكانه ابنه سابور فقتله مازيار بن قارن في حرب أسره فيها و ملك جبال طبرستان و في سنة احدى عشرة قتل زريق بن علي بن صدقة الأزدي السيد بن أنس صاحب الموصل و قد كان زريق تغلب على الجبال ما بين الموصل و أذربيجان و ولاه المأمون عليها فجمع و قصد الموصل لحرب السيد فخرج إليه أربعة آلاف فاشتد القتال بينهم و قتل السيد في المعركة فغضب المأمون لقتله و ولى محمد بن حميد الطوسي على الموصل و أمره بحرب زريق و بابك الخرمي فسار إلى الموصل و استولى عليها سنة اثنتي عشرة و مات موسى بن حفص عامل طبرستان فولى المأمون مكانه ابنه و ولى حاجب بن صالح على الهند فوقعت بينه و بين بشر بن داود صاحب السند حرب و انهزم بشر إلى كرمان ثم قتل محمد بن حميد الطوسي سنة أربع عشرة قتله بابك الخرمي و ذلك أنه لما فرغ من أمر المتغلبين بالموصل سار إلى بابك في العساكر الكاملة الحشد و تجاوز إليه المضايق و وكل بحفظها حتى انتهى إلى الجبل فصعد و قد أكمن بابك الرجال في الشعراء فلما جال ثلاثة فراسخ خرجت عليهم الكمائن فانهزموا و ثبت محمد بن حميد حتى إذا لم يبق معه إلا رجل واحد فتسلل يطلب النجاة فعثر في جماعة من الحربية يقاتلون طائفة من أصحابه فقصدوه و قتلوه و عظم ذلك على المأمون و استعمل عبد الله بن طاهر على خراسان لأنه كان بلغه أن أخاه طلحة بن طاهر مات و قام علي أخوه مكانه خليفة لعبد الله و عبد الله بالدينور يجهز العساكر إلى بابك فولى على نيسابور محمد بن حميد فكثر عيث الخوارج بخراسان فأمره المأمون بالمسير إليها فسار و نزل نيسابور و سأل عن سيرة محمد بن حميد فسكتوا فعزله لسكوتهم و في سنة اثنتي عشرة خلع أحمد بن محمد العمري يعرف بالأحمر العين باليمن فولى المأمون ابنه العباس على الجزيرة و الثغور و العواصم و أخاه أبا إسحق المعتصم على الشام و مصر و سير عبد الله بن طاهر إلى خراسان و أعطى لكل واحد منهم خمسمائة ألف درهم و بعث المعتصم أبا عميرة الباذغيسى عاملا على مصر فوثب به جماعة من القيسية و اليمانية فقتلوه سنة أربع عشرة فسار المعتصم إلى مصر فقاتلهم و افتتح مصر و ولى عليها و استقامت الأمور و في سنة ثلاث عشرة ولي المأمون غسان بن عباس على السند لما بلغته خلاف بشر بن داود و في سنة أربع عشرة استقدم المأمون أبا دلف و كان بالكرخ من نواحي همدان منذ سار مع عيسى بن ماهان لحرب طاهر و قتل عيسى فعاد إلى همذان و راسله طاهر يدعوه إلى البيعة فامتنع و قال له و لا أكون مع أحد و أقام بالكرخ فلما خرج المأمون إلى الري أرسل إليه يدعوه فسار نحوه وجلا بعد أن أغرى عليه أصحابه الإمتناع و في سنة أربع عشرة قتل باليمن و فيها ولى المأمون علي بن هشام الجبل و قم و أصبهان و أذربيجان و خلع أهل قم و كانوا سألوا الحطيطة من خراجهم و هو ألف ألف درهم لأن المأمون لما جاء من العراق أقام بالري أياما و خفف عنهم من الخراج فطمع أهل قم في مثلها فأبى فامتنعوا من الاداء فسرح إليهم علي بن هشام و عجيف بن عنبسة و ظفروا بهم و قتلوا يحيى بن عمران و هدموا سورها و جبوها على سبعة آلاف ألف و في سنة ست عشرة ظهر عبدوس الفهري بمصر و قتل بعض عمال المعتصم فسار المأمون إلى مصر و أصلحها و أتى بعبدوس فقتله و قدم من برقة و أقام بمصر و فيها غضب المأمون على علي بن هشام و وجه عجيفا و أحمد بن هشام لقبض أمواله و سلامه لما بلغه من عسفه و ظلمه و أراد قتل عجيف و اللحاق ببابك فلم يقدر و ظفر به عجيف و جاء به إلى المأمون فأمر بقتله و طيف برأسه في الشام و العراق و خراسان و مصر ثم ألقي في البحر و قدم غسان بن عباد من السند و معه بشر بن داود مستأمنا فولى على السند عمران بن موسى العكي و هرب جعفر بن داود القمي إلى قم فخلع و كان محبوسا بمصر منذ عزله المأمون عن قم فهرب الآن و خلع فغلبه علي بن عيسى القمي و بعث به إلى المأمون فقتل (3/317)
الصوائف
و في سنة مائتين قتل الروم ملكهم إليون لسبع سنين و نصف من ملكه و أعادوا ميخاييل بن جرجس المخلوع و بقي عليهم تسع سنين ثم مات سنة خمس عشرة و ملك ابنه نوفل و فتح عبد الله بن حرداويه والي طبرستان البلاد و السيرن من بلاد الديلم و افتتح جبال طبرستان و أنزل شهريار بن شروين عنها و أشخص مازيار بن قارن إلى المأمون و أسرا باليل ملك الديلم و ذلك سنة احدى و مائتين و فيها ظهر بابك الخرمي في الجاوندانية أصحاب جاوندان سهل و تفسيره الدائم الباقي و تفسير خرم فرح و كانوا يعتقدون مذاهب المجوس و في سنة أربع عشرة خرج أبو بلال الصابي الشاري فسرح إليه المأمون ابنه العباس في جماعة من القواد و قتلوه و في سنة خمس عشرة دخل المأمون بلاد الروم بالصائفة و سار عن بغداد في المحرم و استخلف عليها إسحق بن إبراهيم بن مصعب و هو ابن عم طاهر و ولاه السواد و حلوان و كور دجلة و لما وصل تكريت لقيه محمد بن علي الرضا فأجازه و زف إليه ابنته أم الفضل و سار إلى المدينة فأقام بها و سار المأمون على الموصل إلى منبج ثم دابق ثم أنطاكية ثم المصيصة و طرطوس و دخل من هناك فافتتح حصن قرة عنوة و هدمه و قيل بل فتحه على الأمان و فتح حصن ماجد كذلك و بعثه أشناس إلى حصن سدس و دخل ابنه العباس ملطية و وجه المأمون عجيفا و جعفر الخياط إلى حصن سنان فأطاع و عاد المعتصم من مصر فلقي المأمون قبل الموصل و لقيه العباس ابنه برأس عين و جاء المأمون منصرفه من العراق إلى دمشق ثم بلغه أن الروم أغاروا على طرطوس و المصيصة و أثخوا فيهم بالقتل و كتب إليه ملك الروم فيه بنفسه فرجع إليهم و افتتح كثيرا من معاقلهم و أناخ على هرقلة حتى استأمنوا و صالحوه و بعث المعتصم فافتتح ثلاثين حصنا منها مطمورة و بعث يحيى بن أكثم فأثخن في البلاد و قتل و حرق و سبى ثم رجع المأمون إلى كيسوم فأقام بها يومين ثم ارتحل إلى دمشق و في سنة سبع عشرة رجع المأمون إلى بلاد الروم فأناخ على لؤلؤة فحاصرها مائة يوم ثم رحل عنها و خلف عجيفا على حصارها و جاء نوفل ملك الروم فأحاط به فبعث إليه المأمون بالمدد فارتحل نوفل و استأمن أهل لؤلؤة إلى عجيف و بعث نوفل في المهادنة و المأمون على سلوين فلم يجبه ثم رجع المأمون سنة ثمان عشرة و بعث ابنه العباس إلى بناء طوانة فبنى بها ميلا في ميل و دورها أربعة فراسخ و جعل لها أربعة أبواب و نقل إليها الناس من البلدان (3/319)
وفاة المأمون و بيعة المعتصم
ثم مرض المأمون على نهر البربرون و اشتد مرضه و دخل العراق و هو مريض فمات بطرسوس و صلى عليه المعتصم و ذلك لعشرين سنة من خلافته و عهد لابنه المعتصم و هو أبو إسحق محمد فبويع له بعد موته و ذلك منتصف رجب من سنة ثمان عشرة و مائتين و شغب الجند و هتفوا باسم العباس بن المأمون فأحضره و بايع فسكتوا و خرب لوقته ما كان بناه من مدينة طوانة و أعاد الناس إلى بلادهم و حمل ما أطاق حمله من الآلة و أحرق الباقي (3/320)
ظهور صاحب الطالقان
و هو محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي زين العابدين بن الحسين كان ملازما للمسجد بالمدينة فلزمه شيطان من أهل خراسان و زين له أنه أحق بالأمامة و صار يأتيه بحجاج خراسان يبايعونه ثم خرج به إلى الجوزجان و أخفاه و أقبل على الدعاء له ثم حمله على إظهار الدعوة للرضا من آل محمد على عادة الشيعة في هذا الإبهام كما قدمناه و واقعة قواد عبد الله بن طاهر بخراسان المرة بعد المرة فهزموه و أصحابه و أخرج ناجيا بنفسه ومر بنسا فوشي به إلى العامل فقبض عليه و بعثه إلى عبد الله بن طاهر فبعثه إلى المعتصم منتصف ربيع أول سنة تسع عشرة فحبسه عند الخادم مسرور الكبير و وكل بحفظه فهرب من محبسه ليلة الفطر من سنته ولم يوقف له على خبر (3/321)
حرب الزط
و هم قوم من أخلاط الناس غلبوا على طريق البصرة و عاثوا فيها و أفسدوا البلاد و ولوا عليهم رجلا منهم اسمه محمد بن عثمان و قام بأمره آخر منهم اسمه سماق و بعث المعتصم لحربهم في هذه السنة عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة فسار إلى واسط و حاربهم فقتل منهم في معركة ثلثمائة و أسر خمسمائة ثم قتلهم و بعث برؤوسهم إلى باب المعتصم و أقام قبالتهم سبعة أشهر ثم استأمنوا إليه في ذي الحجة آخر السنة و جاؤوا بأجمعهم في سبعة و عشرين ألفا المقاتلة منهم اثنا عشر ألفا فعباهم عجيف في السفن على هيئتهم في الحرب و دخل بهم بغداد في عاشوراء سنة عشرين و ركب المعتصم إلى الشماسة في سفينة حتى رآهم ثم غربهم إلى عين زربة فأغارت عليهم الروم فلم يفلت منهم أحد (3/321)
بناء سامرا
كان المعتصم قد اصطنع قوما من أهل الحرف بمصر و سماهم المطاربة و قوما من سمرقند و أشر و سنة و فرغاونة و سماهم الفرغانة و أكثر من صبيانهم و كانوا يركضون الدواب في الطرق و يختلفون بها ركضا فيصدمون النساء و الصبيان فتتأذى العامة بهم و ربما انفرد بعضهم فقتلوه و تأذى الناس و نكروه و ربما اسمعوا النكير للمعتصم فعمد إلى بناء القاطون و كانت مدينة بناها الرشيد و لم يستتمها و خربت فجددها المعتصم و بناها سنة عشرين و سماها سر من رأى فرخمها الناس سامرا و سارت دارا لملكهم من لدن المعتصم و من بعده واستخلف ببغداد حتى انتقل إليها ابنه الواثق (3/321)
نكبة الفضل بن مروان
كان للمعتصم في ولاية أخيه كاتب يعرف بيحيى الجرمقابي و اتصل به الفضل بن مروان و هو من البردان و كان حسن الخط فلما هلك الجرمقابي استكتبه المعتصم و سار معه إلى الشام فأثرى و لما استخلف المعتصم استولى على هواه و استتبع الدواوين و احتجر الأموال ثم صار يرد أوامر المعتصم في العطايا و لا ينفذها و اختلفت فيه السعايات عند المعتصم و دسوا عليه عنده من ملأ مجلسه و مساخره من يعير المعتصم باستبداده عليه ورد أوامره فحقد له ذلك ثم نكبه سنة عشرين و صادره و جميع أهل بيته و جعل مكانه محمد بن عبد الملك بن الزيات و غرب الفضل إلى بعض قرى الموصل قد تقدم لنا حديث بابك الخرمي محاربة بابك الخرمي و ظهوره سنة اثنتين و مائتين بدعوة جاوندان بن سهل و اتخذ مدينة البر لامتناعه و ولى المأمون حروبه فهزم عساكره و قتل جماعة من قواده و خرب الحصون فيما بين أردبيل و زنجان فلما ولي المعتصم بعث أبا سعيد محمد بن يوسف فبنى الحصون التي خربها و شحنها بالرجال و الأقوات و حفظ السابلة لجلب الميرة و بينما هو في ذلك أغارت بعض سرايا بابك بتلك النواحي فخرج في طلبهم و استنفد ما أخذوه و قتل كثيرا و أسر أكثر و بعث بالرؤوس و الأسرى إلى المعتصم و كان ابن البعيث أيضا في قلعة له حصينة من كور أذربيجان ملكها من يد ابن الرواد و كان يصانع بابك و يضيف سراياه إذا مروا به و مر به في هذه الأيام قائده عصمة و أضافه على العادة ثم قبض عليه و قتل أصحابه و بعث به إلى المعتصم فسأله عن عورات بلاد بابك فدله عليها ثم حبسه و عقد لقائده الأفشين حيدر بن كاوس على الجبال و وجهه لحرب بابك فسار إليها و نزل بساحتها و ضبط الطرقات ما بينه و بين أردبيل و أنزل قواده في العساكر مابينه و بين أردبيل يتلقون الميرو من أردبيل من واحد إلى الآخر حتى تصل عسكر الأفشين و كان إذا وقع بيده أحد من جواسيس بابك يسأله عن إحسان بابك إليه فيضاعفه و يطلقه ثم إن المعتصم بعث بغا الكبير بمدد الأفشين بالنفقات و سمع بابك فاعتزم على اعتراضه و أخبر الأفشين بذلك بعض جواسيسهم فكتب إلى بغا أن يرتحل من حصن النهر قيلا ثم رجع إلى أردبيل ففعل ذلك و جاءت الأخبار إلى بابك و ركب الأفشين في يوم مواعدته لبغا و اغذ المسير خرجت سرية بابك فلقيت قافلة النهر ولم يصادفوا بغا فيها فقتلوا من وجدوا فيها من الجند وفاتهم المال و لقوا في طريقهم الهيثم من قواد الأفشين فهزموه و امتنع بحصنه و نزل بابك عليه يحاصره و إذا بالأفشين قد وصل فأوقع بهم و قتل الكثير من جنده نجا بابك إلى موقان و أرسل إلى عسكره في البر فلحقت به و خرج معهم من موقان إلى البذ و لما رجع الأفشين إلى عسكره استمر على حصار بابك و انقطعت عنه الميرة من سائر النواحي و وجه صاحب مراغة إليه ميرة فلقيتها سرية من سرايا بابك فأخذوها ثم خلص إليه بغا بما معه من المال ففرقه في العساكر و أمر الأفشين قواده فتقدموا ليضيقوا الحصار على بابك في حصن البذ نزل على ستة أميال منه و سار بغا الكبير حتى أحاط بقرية البذ و قاتلهم و قتلوا منهم جماعة فتأخر إلى خندق محمد بن حميد من القواد و بعث إلى الأفشين في المدد فبعث إليه أخاه الفضل و أحمد بن الخليل بن هشام و أبا خوس و صاحب شرطة الحسن بن سهل و أمره بمناجرتهم إلى حرب في يوم عينه له فركبوا في ذلك اليوم و قصدوا البذ و أصابهم برد شديد و مطر و قاتل الأفشين فغلب من بازائه من أصحاب بابك و اشتد عليهم المطر فنزلوا و اتخذ بغا دليلا أشرف به على جبل يطل منه على الأفشين و نزل عليهم الثلج و الضباب فنزلوا منازلهم و عمد بابك إلى الأفشين ففض معسكره و ضجر أصحاب بغا من مقامهم في رأس الجبل فارتحل بهم و لا يعلم ما تم على الأفشين و قصد حصن البذ فتعرف خبر الأفشين و رجع على غير الطريق الذي دخلوا منه لكثرة مضايقة و عقباته و تبعته طلائع بابك فلم يلتفت إليهم مسابقة للمضايق أمامه و أجنهم الليل و خافوا على أثقالهم و أموالهم فعسكر بهم بغا من رأس جبل و قد تعبوا و فنيت أزوادهم و بيتهم بابك ففضهم و نهبوا ما كان معهم من المال و السلاح و نجوا إلى خندقهم الأول في أسفل الجبل و أقام بغا هنالك و كان طرخان كبير قواد بابك قد استأذنه أن يشتوا بقرية في ناحية مراغة فأرسل الأفشين إلى بعض قواده بمراغة فأسرى إليه و قتله وبعث برأسه و دخلت سنة اثنتين وعشرين فبعث المعتصم جعفر الخياط بالعساكر مددا للأفشين و بعث إيتاخ بثلاثين ألف ألف درهم لنفقات الجند فأرسلها وعاد و رحل الأفشين لأول فصل الربيع و دنا من الحصن و خندق على نفسه و جاءه الخبر بأن قائد بابك و اسمه أدين قد عسكر بازائه و بعث عياله إلى بعض حصون الجبل فبعث الأفشين بعض قوداه لاعتراضهم فسلكوا مضايق و تملقوا و أغاروا إلى أن لقوا العيال فأخذوهم و انصرفوا و بلغ الخبر أدين فركب لاعتراضهم و حاربهم و استنفذ بعض النساء و علم بشأنهم الأفشين من علامات كان أمرهم بها إن رأى بهم ريبا فركب إليهم فلما أحسوا به فرجوا عن المضيق و نجا القوم و تقدم الأفشين قليلا قليلا إلى حصن البذ و كان يأمر الناس بالركوب ليلا للحراسة خوف البيات فضجر الناس من التعب و ارتاد في رؤوس تلك الجبال أماكن يتحصن فيها الرجالة فوجد ثلاثة فأنزل فيها الرجالة بأزوادهم و سد الطرق إليها بالحجارة و أقام يحاصرهم و كان يصلي الصبح بغلس ثم يسير زحفا و يضرب الطبول الناس لزحفه في الجبال و الأودية على مصافهم و إذا أمسك وقفوا و كان إذا أراد ان يتقدم المضيق الذي أتى منه عام أول خلف به عسكرا على رأس العقبة يحفظونه لئلا يأخذه الحرسة منه عليهم و كان بابك متى زحفوا عليه كمن عسكرا تحت تلك العقبة و اجتهد الأفشين أن يعرف مكان الكمين فلم يطق و كان يأمر أبا سعيد و جعفرا لخياط و أحمد بن الخليل بن هشام فيتقدمون إلى الوادي في ثلاثة كراديس و يجلس على تلك ينظر إليهم و إلى قصر بابك و يقف بابك قبالته في عسكر قليل و قد أكمن بقية العسكر فيشربون الخمر و يلعبون بالسرياني فإذا صلى الأفشين الظهر رجع إلى خندقه بروذ الروز مصافا بعد مصاف الأقرب إلى العدو ثم الذي يليه و آخرين ترجع العسكر الذي عقبه المضيق حتى ضجرت الخرمية من المطاولة و انصرف بعض الأيام و تأخر جعفر فخرج الخرمية من البذ على أصحابه فردهم جعفر على أعقابهم و ارتفع الصياح و رجع الأفشن و قد نشبت الحرب و كان مع أبي دلف من أصحاب جعفر قوم من المطوع فضيقوا على أصحاب بابك و كانوا يصدعون البذ و بعث إلى الأفشين يستمده خمسمائة راجل من الناشبة فأتى له و أمره بالتحيل في الإنصراف و تعلق أولئك المطوعة بالبذ و ارتفع الصياح و خرج الكمناء من تحت العقبة و تبين الأفشين أماكنهم و أطلع على خدعتهم و انصرف جعفر إلى الأفشين و عاتبه فاعتذر إليه يستأمن الكمين و أراه مكانه فانصرف عن عتابه و علم أن الرأي معه و شكا المطوعة ضيق العلوفة و الزاد فأذن لهم في الإنصراف و تناولوه بألسنتهم ثم طلبوه في المناهضة لهم و وداعهم ليوم معلوم و جهز و حمل المال و الزاد و الماء و المحامل لجرجان و تقدم إلى مكانه بالأمس و جهز العسكر على العقبة على عادته و أمر جعفرا بالتقدم بالمطوعة و ان يأتوا من أسهل الوجوه و أطلق يده بمن يريده من الناشبة و النفاطين و تقدم جعفر إلى مكانه بالأمس و المتطوعة معه فقاتلوا و تعلقوا بسور البذ حتى ضرب جمعهم ما به و جاء الفعلة بالفؤس و طيف عليهم بالمياه و الأزودة ثم جاء الخزمية من الباب و كسروا على المطوعة و طرحوهم على السور و رموهم بالحجارة فنالت منهم و ضعفوا عن الحرب ثم تحاجزوا آخر يومهم و أمرهم الأفشين بالأنصراف و داخلهم اليأس من الفتح تلك السنة و انصرف أكثر المطوعة ثم عاود الأفشين الحرب بعد أسبوعين و بعث من جوف الليل ألفا من الناشبة إلى الجبل الذي وراء البذ حتى يعاينوا الأفشين من هذه الناحية فيرمون على الخرمية و بعث عسكرا آخر كمينا تحت ذلك الجبل الذي وراء البذ و ركب هو من الغداة إلى المكان الذي يقف فيه على عادته و تقدم جعفر الخياط و القواد حتى صاروا جميعا حول ذلك الجبل فوثب بابك من أسفل الجبل بالعسكر الذي جاء إليه لما فضحهم الصبح و انحدر الناشبة من الجبل و قد ركبوا الأعلام على رماحهم و قصدوا جميعا أدين قائد بابك في جفلة فانحدر إلى الوادي فحمل عليه جماعة من أصحاب القواد فرمى عليهم الصخور من الجبل و تحدرت إليهم و لما رأى ذلك بابك استأمن للأفشين على أن يحمل عياله من البذ و بينما هم في ذلك إذ جاء الخبر إلى الأفشين بدخول البذ و أن الناس صعدوا بالأعلام فوق قصور بابك حتى دخل واديا هنالك و أحرق الأفشين قصور بابك و قتل الخرمية عن آخرهم و أخذ أمواله و عياله و رجع إلى معسكره عند المساء و خالفه بابك إلى الحصن فحمل ما أمكنه من المال و الطعام و جاء الأفشين من الغد فهدم القصور و أحرقها و كتب إلى ملوك أرمينية و بطارقتهم بإذكاء العيون عليه في نواحيهم حتى يأتوه به ثم عثر على بابك بعض العيون في واد كثير الغياض يمر من أذربيجان إلى أرمينية فبعث من يأتي به فلم يعثروا عليه لكثرة الغياض و الشجر و جاء كتاب المعتصم بأمانه فبعث به الأفشين بعض المستأمنة من أصحاب بابك فامتنع من قبوله و قتل بعضهم ثم خرج من ذلك الوادي هو و أخوه عبد الله و معاوية و أمه يريدون أرمينية و رآهم الحرس الذين جاؤا لأخذه و كان أبو السفاح هو المقدم عليهم فمروا قي اتباعهم و أدركوهم على بعض المياه فركب و نجا و أخذ أبو السفاح معاوية و أم بابك و بعث بهم إلى الأفشين و سار بابك في جبال أرمينية مختفيا و قد أذكوا عليه العيون حتى إذا مسه الجوع بعث بعض أصحابه بدنانير لشراء قوتهم فعثر به بعض المسلحة و بعث إلى سهل بن ساباط فجاء و اجتمع بصاحب بابك الذي كانت حراسة الطريق عليه و دله على بابك فأتاه و خادعه حتى سار إلى حصنه و بعث بالخبر إلى الأفشين فبعث إليه بقائدين من قبله و أمرهما بطاعة ابن ساباط فأكمنهما في بعض نواحي الحصن و أغرى بابك بالصيد و خرج معه فخرج القائدان من الكمين فأخذاه و جاء به إلى الأفشين و معهما معاوية بن سهل بن ساباط فحبسه و وكل بحفظه و أعطى معاوية ألف درهم و آتى سهلا ألف ألف درهم و منطقة مفرقة بالجواهر و بعث إلى عيسى بن يوسف أسطقانوس ملك البيلقان يطلب منه عبد الله أخا بابك و قد كان لجأ إلى حصنه عندما أحاط به ابن ساباط فأنفذه إليه و حبسه الأفشين مع أخيه و كتب إلى المعتصم فأمره بالقدوم بهما و ذلك في شوال من سنة اثنتين و عشرين و سار الأفشين بهما إلى سامرا فكان يلقاه في كل رحلة رسول من المعتصم بخلعة و فرس و لما قرب من سامرا تلقاه الواثق و كبر لقدومه و أنزل الأفشين و بابك عنده بالمطيرة و توج الأفشين و ألبسه وشاحين و وصله بعشرين ألف ألف درهم و عشرة آلاف ألف درهم يفرقها في عسكره و ذلك في صفر سنة ثلاث و عشرين و جاء أحمد ابن أبي داود إلى بابك متنكرا و كلمه ثم جاء المعتصم أيضا متنكرا فرآه ثم عقد من الغد و اصطف النظارة سماطين و جيء ببابك راكبا على فيل فلما وصل أمر المعتصم بقطع أطرافع ثم بذبحه و أنفذ رأسه إلى خراسان و صلب شلوه بسامرا و بعث بأخيه عبد الله إلى إسحق بن إبراهيم ببغداد ليفعل به مثل ذلك ففعل و كان الذي أنفق الأفشين في مدة حصاره لبابك سوى الأرزاق و الأنزال و المعاون عشرة آلاف ألف درهم يوم ركوبه لمحاربته و خمسة آلاف يوم قعوده و جميع من قتل بابك في عشرين سنة أيام قتيبة مائة ألف و خمسة و خمسين ألف و هزم من القواد يحيى بن معاذ و عيسى بن محمد بن أبي خالد و أحمد ابن الجنيد و زريق بن علي بن صدقة و محمد بن حميد الطوسي و إبراهيم بن الليث و كان الذين أسروا مع بابك ثلاثة آلاف و ثلثمائة و الذي استنفده من يديه من المسلمات و أولادهن سبعة آلاف و ستمائة إنسان جعلوا في حظيرة فمن أتى من أوليائهم و أقام بينة على أحد منهم أخذه و الذي صار في يد الأفشين من بني بابك و عياله سبعة عشر رجلا و عشرين امرأة (3/322)
فتح عمورية
و في سنة ثلاث و عشرين خرج نوفل بن ميخاييل ملك الروم إلى بلاد المسلمين فأوقع بأهل زبطرة لأن بابك لما أشرف على الهلاك كتب إليه أن المعتصم قد وجه عساكره حتى خياطة يعني جعفر بن دينار و طباخه يعنى إيتاخ ولم يبق عنده أحد فانتهز الفرصة ثلاثا أو دونها و ظن بابك أن ذلك يدعو المعتصم إلى إنفاذ العساكر لحرب الروم فيخف عنه ما هو فيه فخرج نوفل في مائة ألف و فيهم من المجمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال و هزمهم إسحق بن إبراهيم بن مصعب فلحق بالروم و بلغ زبطرة فاستباحها قتلا و سبيا و أعاد على ملطية و غيرها و مثل بالأسرى و بلغ الخبر إلى المعتصم فاستعظمه و بلغه أن هاشمية صاحت و هي في أيدي الروم : و امعتصماه ! فأجاب و هو على سريره لبيك لبيك ! و نادى بالنفير و نهض من ساعته فركب دابته و احتقب شكالا من حديد فيها رداؤه و جمع العساكر و أحضر قاضي بغداد عبد الرحمن بن إسحق و معه ابن سهل في ثلثمائة و ثلاثين من العدول فأشهدهم بما وقف من الضياع ثلثا لولده و ثلثا لمواليه و ثلثا لوجه الله و سار فعسكر بقرى دجلة لليلتين من جمادى الأولى و بعث عجيف بن عنبسة و عمر الفرغاني و جماعة من القواد مددا لأهل زبطرة فوجدوا الروم قد ارتحلوا عنها فأقاموا حتى تراجع الناس و اطمأنوا و لما ظفر ببابك أي بلاد الروم أعظم عندهم فقيل له عمورية فتجهز إليها بما لا يماثله أحد قبله من السلاح و الآلة و العدد و حياض الأدم و القرب و الروايا و جعل مقدمته أشناس و بعده محمد بن إبراهيم بن مصعب و على الميمنة إيتاخ و على الميسرة جعفر بن دينار الخياط و على القلب عجيف بن عنبسة و جاء إلى بلاد الروم فأقام بسلوقية على نهر السن قريبا من البحر و على مسيرة يوم طرطوس و بعث الأفشين إلى سروج و أمره بالدخول من درب الحرث و بعث أشناس من درب و أمره بانتظاره بالصفصاف و قدم وصيفا في أثر أشناس و واعدهم يوم اللقاء و رحل المعتصم لست بقين من رجب و بلغه الخبر أن ملك الروم عازم على كبس مقدمته فبعث إلى أشناس بذلك و أن يقيم ثلاثة أيام ليلحق به ثم كتب إليه أن يبعث إليه من قواده من يأتيه بخبر الروم و ملكهم فبعث عمر الفرغاني في مائتي فارس فطاف في البلاد و أحضر جماعة عند أشناس أخبروه بأن ملك الروم بينما هو ينتظر المقدمة ليواقعها إذ جاءه الخبر بأن العساكر دخلت من جهة أرمينية يعني عسكر الأفشين فاستخلف ابن خاله على عسكره و سار إلى تلك الناحية فوجه أشناس بهم إلى المعتصم و كتب المعتصم إلى الأفشين بالمقام حذرا عليه و جعل لمن يوصل الكتاب عشرة آلاف درهم و أوغل في بلاد الروم فلم يدركه الكتاب و كتب المعتصم إلى أشناس بأن يتقدم و المعتصم في أثره حتى إذا كانوا على ثلاث مراحل من أنقرة أسر أشناس في طريقه جماعة من الروم فقتلهم و قال لهم شيخ منهم : أنا أدلك على قوم هربوا من أنقرة معهم الطعام و الشعيرة فبعث معه مالك بن كرد في خمسمائة فارس فدل بهم إلى مكان أهل أنقرة فغنموا منهم و وجدوا فيهم جرحى قد حضروا وقعة ملك الروم مع الأفشين و قالوا : لما استخلف على عسكره سار إلى ناحية أرمينية فلقينا المسلمين صلاة الغداة فهزمناهم و قتلنا رجالهم و افترقت عساكرنا في طلبهم ثم رجعوا بعد الظهر فقاتلونا و حرقوا عسكرنا و فقدنا الملك و انهزمنا و رجعنا إلى العسكر فوجدناه قد انتقض و جاء الملك من الغد فقتل نائبه الذي استخلفه و كتب إلى بلاده بعقاب المنهزمين و مواعدتهم بمكان كذا ليلقى المسلمين بها و وجه خصيا له إلى أنقرة ليحفظها فوجد أهلها قد أجلوا فأمره الملك بالمسير إلى عمورية فوعى مالك ابن كرد خبرهم و رجع بالغنيمة و الأسرى إلى أشناس و أطلق الأمير الذي دله و كتب أشناس بذلك إلى المعتصم ثم جاء البشير من ناحية الأفشين بالسلامة و أن الوقعة كانت لخمس بقين من شعبان و قدم الأفشين على المعتصم بأنقرة و رحل بعد ثلاث و الأفشين في ميمنتة و أشناس في ميسرته و هو في القلب و بين كل عسكر و عسكر فرسخان و أمرهم بالتخريب و التحريق و ما بين أنقرة و عمورية ثم وافى عمورية و قسمها على قواده و خرج إليه رجل من المنتصرة فدله على عورية من السور بني ظاهره و أخل باطنه فضرب المعتصم خيمته قبالته و نصبت عليه المجانيق فتصدع السور و كتب بطريقها باطيس و الخصي إلى الملك يعلمانه بشأنهما في السور و غيره فوقه في يد المسلمين مع رجلين و في الكتاب أن باطيس عازم على أن يخرج ليلا و يمر بعسكر المسلمين و يلحق بالملك فنادى المعتصم حرسه ثم انثملت فوهة من السور بين برجين و قد كان الخندق طم بأوعية الجلود المملوأة ترابا ثم ضرب بالذبالات عليها فدحرجها الرجال إلى السور فنشبت في تلك الأوعية و خلص من فيها بعد الجهد و لما جاء من الغد بالسلالم و المنجنيقات فقاتلوهم على تلك الثلمة و حارب و بدر بالحرب أشناس و جمعت المنجنيقات على تلك الثلمة و حارب في اليوم الثاني الأفشين و المعتصم راكب ازاء الثملة و أشناس و أفشين و خواص الخدام معه ثم كانت الحرب في اليوم الثالث على المعتصم و تقدم إيتاخ بالمغاوبة و الأتراك و اشتد القتال على الروم إلى الليل و فشت فيهم الجراحات و مشى بطريق تلك الناحية إلى رؤساء الروم و شكا إليهم و استمدهم فأبوا فبعث إلى المعتصم يستأمن فأمنه و خرج من الغد إلى المعتصم و كان اسمه وبدوا فبينما هو و المعتصم يحادثه أومأ عبد الوهاب ابن علي من بين يديه إلى المسلمين بالدخول فافتتحوا من الثلمة ورآهم وبدوا فخاف فقال له المعتصم : كل شيء تريده هو لك و دخل المسلمون المدينة و امتنع الروم بكنيستهم وسطها فأحرقها المسلمون عليهم و امتنع باطيس البطريق في بعض أبراجها حتى استنزله المعتصم بالأمان و جاء الناس بالأسرى و السبي من كل جانب و اصطفى الأشراف و قتل من سواهم و بيعت مغانمهم في خمسة أيام و أحرق الباقي و وثب الناس على المغانم في بعض الأيام ينهبونها فركب المعتصم و سار نحوهم فكفؤا بعمورية فهدمت و أحرقت و حاصرها خمسة و خمسين يوما من سادس رمضان إلى آخر شوال و فرق الأسرى على القواد و رجع نحو طرطوس ولم يزل نوفل مملكا على الروم إلى أن هلك سنة تسع و عشرين و مائتين في ولاية الواثق و نصبا ابنه ميخاييل في كفالة أمه ندورة فأقامت عليهم ست سنين ثم اتهمها ابنها ميخاييل بقمط من أقماطها عليها و ألزمها بيتها سنة ثلاث و ثلاثين (3/327)
حبس العباس بن المأمون و مهلكه
كان المعتصم يقدم الأفشين على عجيف بن عنبسة و لما بعثه إلى زبطرةلم يطلق يده في النفقات كما أطلق للأفشين و كان بستقصر شأن عجيف و أفعاله فطوى عجيف على النكث و لقي العباس بن المأمون فعذله على قعوده عند وفاة المأمون عن الأمر حتى بويع المعتصم و أغراه قبلا في ذلك فقبل العباس منه و دس رجلا من بطانته يقال له السمرقندي قرابة عبد الله بن الوضاح و كان له أدب و مداراة فاستأمن له جماعة من القواد و من خواص المعتصم فبايعوه و واعد كل واحد منهم أن يثب بالقائد الذي معه فيقتله من أصحاب المعتصم و الأفشين و أشناس بالرجوع إلى بغداد فأبى من ذلك و قال : لا أفسد العراق فلما فتحت عمورية و صعب التدبير بعض الشيء أشار عجيف بأن يضع من ينهب الغنائم فإذا ركب المعتصم وثبوا به ففعلوا مثل ما ذكرنا و ركب فلم يتجاسروا عليه و كان للفرغاني قرابة غلام أمرد في جملة المعتصم فجلس مع ندمان الفرغاني تلك الليلة و قص عليهم ركوب المعتصم فأشفق الفرغاني و قال يابني أقلل من المقام عند أمير المؤمنين و الزم خيمتك و إن سمعت هيعة فلا تخرج فأنت غلام غر ثم ارتحل المعتصم إلى الثغور و تغير أشناس على عمر الفرغاني و أحمد بن الخليل و أساء عليهما فطلبا من المعتصم أن يضمهما إلى من شاء و شكيا من أشناس فقال له المعتصم أحسن أدبهما فحبسهما و حملهما على بغل فلما صار بالصفصاف حدث الغلام ما سمع من قريبة عمر الفرغاني فأمر بغا أن يأخذه من عند أشناس و يسأله عن تأويل مقالته فأنكر و قال إنه كان سكران فدفعه إلى إتياخ ثم دفع أحمد بن الخليل إلى أشناس عنده نصيحة للمعتصم و أخبره العباس بن المأمون و القواد و الحرث السمرقندي فأنفذ أشناس إلى الحرث و قيده و بعث به إلى المعتصم و كان في المقدمة فأخبر الحرث المعتصم بجلية الأثر فأطلقه و خلع عليه ولم يصدقه على القواد لكثرتهم ثم حضر العباس بن المأمون و استحلفه أن لا يكتم عنه شيئا فشرح له القصة فحبسه عند الأفشين و تتبع القواد بالحبس و التنكيل و قتل منهم المشاء بن سهيل ثم دفع العباس للأفشين فلما نزل منبج طلب الطعام فأطعم و منع الماء ثم أدرج في نبج فمات و لما وصل المعتصم إلى نصيبين احتفر لعمر الفرغاني بئرا و طمت عليه و لما دخلوا بلاد الموصل قتل عجيف بمثل ما قتل به العباس و استلحم جميع القواد في تلك الأيام و سموا العباس اللعين و لما وصل إلى سامرا جلس أولاد المأمون في داره حتى ماتوا (3/330)
انتقاض مازيار و قتله
كان مازيار بن قارن بن وندا هرمز صاحب طبرستان و كان منافرا لعبد الله بن طاهر فلا يحمل إليه الخراج و قال : لا أحمله إلا للمعتصم فيبعث المعتصم من يقبضه من أصحابه و يدفعه إلى وكيل عبد الله بن طاهر يرده إلى خراسان و عظمت الفتنة بين مازيار و عبد الله و عظمت سعاية عبد الله في مازيار عند المعتصم حتى استوحش منه و لما ظفر الأفشين ببابك و عظم محله عند المعتصم وطمع في ولاية خراسان ظن أن انتقاض مازيار وسيلة لذلك فجعل يستميل مازيار و يحرضه على عداوة ابن طاهر و إن أدت إلى الخلاف لبيعته المعتصم لحربه فيكون ذلك وسيلة له إلى استيلائه على خراسان ظنا بأن ابن طاهر لا ينهض لمحاربته فانتفض مازيار و حمل الناس على بيعته كرها و أخذ رهائنهم و عجل جباية الخراج فأستكثر منه و خرب سور آمد و سور سابة و فتل أهلها إلى جبل يعرف بهرمازا باروني و سرخاشان سور طمس منها إلى البحر على ثلاثة أميال و هي على حد جرجان و كانت تبنيه سدا بين الترك و طبرستان و جعل عليه خندقا و من أهل جرجان إلى نيسابور و أنفذ عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين في جيش كثيف لحفظ جرجان فعسكر على الخندق ثم بعث مولاه حيان جبلة إلى قومس فعسكر على جبال شروين و بعث المعتصم من بغداد محمد بن إبراهيم بن مصعب و بعث منصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الري و بعث أبا الساج إلى دنباوند و أحاطت العساكر بحياله من كل ناحية و داخل أصحاب الحسن بن الحسين أصحاب سرخاشان في تسليم سورهم و ليس بينهما إلا عرض الخندق فكلموه و سار الآخرون إليه على حين غفلة من القائدين و ركب الحسن بن الحسين و قد ملك أصحابه السور و دخلوا منه فهرب سرخاشان و قبضوا على أخيه شهريار فقتل ثم قبض على سرخاشان على خمسة فراسخ من معسكره و جيء به إلى الحسن بن الحسين فقتله أيضا ثم وقعت بين حيان بن جبلة و بين فارق بن شهريار و هو ابن أخي مازيار و من قواده مداخلة استمالت حيان فأجاب أن يسلم مدينة سارية إلى حد جرجان على أن يملكوه جبال آبائه و بعث حيان إلى ابن طاهر فسجل لقارن بما سأل و كان قارن في جملة عبد الله بن قارن أخي مازيار و من قواده فأحضر جميعهم لطعامه و قبض عليهم و بعث بهم إلى حيان فدخل جبال قارن في جموعه و اعتصم لذلك مازيار و أشار عليه أخوه القوهيار أن يخلي سبيل من عنده من أصحاب ينزلون من الجبل إلى مواطنهم لئلا يؤتى من قبلهم فصرف صاحب شرطته و خراجه و كاتبه حميدة فلحقوا بالسهل و وثب أهل سارية بعامله عليهم مهرستان بن شهرين فهرب و دخل حيان سارية ثم بعث قوهيار أخو مازيار محمد بن موسى بن حفص عامل طبرستان و كانوا قد حبسوه عند انتقاضهم فبعثه إلى حيان ليأخذ له الأمان و ولاية جبال آبائه على أن يسلم إليه مازيار و عذل قوهيار بعض أصحابه في عدو له بالأستئمان عن الحسن إلى حيان فرجع إليهم و كتبوا إلى الحسن يستدعونه قوهيار من أخيه مازيار فركب من معسكره بطمس و جاء لموعدهم و لقي حيان على فرسخ فرده إلى جبال شروين التي افتتحها و وبخه على غيبته عنها فرجع إلى سارية و توفي و بعث عبد الله مكانه بن الحسين بن مصعب و عهد إليه أن لا يمنع قارن ما يريده و لما وصل الحسن إلى خرماباذ وسط جبال مازيار لقيه هنالك و استوثق كل منهما من صاحبه و كاتب محمد بن إبراهيم ابن مصعب من قواده المعتصم قوهيار بمثل ذلك فركب قاصدا إليه و بلغ الحسن خبره فركب في العسكر و حازم يسابق محمد بن إبراهيم إلى قوهيار فسبقه و لقي قوهيار و قد جاء بأخيه مازيار فقبض عليه و بعثه مع إثنين من قواده إلى خرماباذ و منها إلى مدينة سارية ثم ركب و استقبل محمد بن إبراهيم بن مصعب و قال : أين تريد ؟ فقال : إلى المازيار فقال هو بسارية ثم حبس الحسن أخوي المازيار و رجع إلى مدينة سارية فقيد المازيار بالقيد الذي قيد به محمد بن محمد بن موسى بن حفص و جاء كتاب عبد الله بن طاهر بأن يدفع المازيار و أخويه و أهل بيته إلى محمد بن إبراهيم يحملهم إلى المعتصم و سأل الحسن المازيار عن أمواله فذكر أنها عند قوم من وجوه سارية سماهم و أمر الحسن القوهيار بحمل هذه الأموال و سار إلى الجبل ليحملها فوثب به مماليك المازيار من الديلم و كانوا ألفا و مائتين فقتلوه بثأر أخيه و هربوا إلى الديلم فاعترضهم جيوش محمد بن إبراهيم و أخذوهم فبعث بهم إلى مدينة سارية و قيل إن الذي غدر بالمازيار ابن عم له كان يتوارث جبال طبرستان و المازيار يتوارث سهلها و كانت جبال طبرستان ثلاثة أجبل فلما انتقض و احتاج إلى الرجال دعا ابن عمه من السهل و ولاه على أصعبها و ظن أنه قد توثق به فكاتب هو الحسن و أطلعه على مكاتبة الأفشين لمازيار و داخله في الفتك على أن يوليه ما كان لآبائه و أن المازيار لما ولاه الحسن بن سهل طبرستان انتزع الجبل من يده فأفضى له الحسن كتاب ابن طاهر و توثق له فيه و أوعده ليوم معلوم ركب فيه الحسن إلى الجبل فأدخله ابن عم مازيار و حاصروه حتى نزل على حكمه و يقال أخذه أسيرا في الصيد و مضى الحسن به ولم يشعر صاحب الجبل الآخر و أقام في قتاله لمن كان بازائه فلم يشعر إلا و العساكر من ورائه فانهزم و مضى إلى بلاد الديلم فأتبعوه و قتلوه و لما صار المازيار في يده طلبت منه كتب الأفشين فأحضرها و أمر ابن طاهر أن يبعث بها معه إلى المعتصم فلما وصل إلى المعتصم ضربه حتى مات و صلبه إلى جانب بابك و ذلك سنة أربع و عشرين (3/331)
ولاية ابن السيد على الموصل
و في سنة أربع و عشرين ولى المعتصم على الموصل عبد الله بن السيد بن أنس الأزدي و كان سبب ولايته أن رجلا من مقدمي الأكراد يعرف بجعفر بن فهرجس كان قد عصى بأعمال الموصل و تبعه خلق كثير من الأكراد و غيرهم و أفسدوا البلاد فبعث المعتصم لحربه عبد الله بن السيد بن أنس فقاتله و غلبه و أخرجه منها بعد أن كان استولى عليها و لحق بجبل دانس و امتنع بأعاليه و قاتله عبد الله و توغل في مضايق ذلك الجبل فهزمه الأكراد و أثخنوا في أصحابه بالقتل و قتل إسحق بن أنس عم عبد الله فبعث المعتصم مولاه إتياخ في العساكر إلى الموصل سنة خمس و عشرين و قصد جبل داسن فقاتل جعفرا و قتله و افترق أصحابه و أوقع بالأكراد و استباحهم و فروا أمامه إلى تكريت (3/334)
نكبة الأفشين و مقتله
كان الأفشين من أهل اشروسنة تبوأها ببغداد عند المعتصم و عظم محله عنده و لما حاصر بابك كان يبعث إلى أشروسنة بجميع أمواله فيكتب ابن طاهر بذلك إلى المعتصم فيأمره المعتصم بأن يجعل عيونه في ذلك و عثر مرة ابن طاهر على تلك الأموال فأخذها و صرفها في العطاء و قال له حاملوها : هذا مال الأفشين فقال : كذبتم لو كان ذلك لأعلمني أخي أفشين به و إنما أنتم لصوص و كتب إلى الأفشين بذلك بأنه دفع المال إلى الجند ليوجههم إلى الترك فكتب إليه الأفشين مالي و مال أمير المؤمنين واحد و سأله في إطلاق القوم فأطلقهم و استحكمت الوحشة بينهما و تتابعت السعاية فيه من طاهر و ربما فهم الأفشين أن المعتصم يعزله عن خراسان فطمع في ولايتها و كان مازيار يحسن له الخلافة ليدعو المعتصم ذلك إلى عزله و ولاية الأفشين لحرب مازيار فكان من أمر مازيار ما ذكرناه و سيق إلى بغداد مقيدا و ولى المعتصم الأفشين على أذربيجيان فولى عليها من قبله منكجور من بعض قرابته فاستولى على مال عظيم لبابك و كتب به صاحب البريد إلى المعتصم فكذبه منكجور و هم بقتله فمنعه أهل أردبيل فقاتلهم و سمع ذلك المعتصم فأمر الأفشين بعزل منكجور و بعث قائدا في عسكره مكانه فخلع منكجور و خرج من أردبيل فهزمه القائد ببعض حصون أذربيجان كان بابك خربه فأصلحه و تحصن فيه شهرا ثم وثب أصحاب و أسلموه إلى القائد فقدم به إلى سامرا فحبسه المعتصم و اتهم الأفشين في أمره و ذلك سنة خمس و عشرين و مائتين بأن القائد كان بغا الكبير و أنه خرج إليه بالأمان و لما أحسن الأفشين بتغير المعتصم أجمع أمره على الفرار و اللحاق بأرمينية و كانت في ولايته و يخرج منها إلى بلاد الخزر و يرجع إلى بلاد أشروسنة و صعب عليه ذلك بمباشرة المعتصم أمره فأراد ان يتخذ لهم صنيعا يشغلهم فيه نهارهم ثم يسير من أول الليل و عرض له في أثناء ذلك غضب على بعض مواليه و كان سيء الملكة فأيقن مولاه بالهلكة و جاء إلى إتياخ فأحضره إلى المعتصم و خبره الخبر فأمره بإحضاره و حبسه بالجوسق و كان ابنه الحسن عاملا على بعض ما وراء النهر فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال عليه و كان يشكو من نوح بن أسد صاحب بخارى فكتب ابن طاهر إلى الحسن بولاية بخارى و كتب إلى نوح بذلك و أن يستوثق منه إذا وصل إليه و يبعث به ثم يبعث به إلى ابن طاهر ثم إلى المعتصم ثم أمر المعتصم بإحضار الأفشين و مناظرته فيما قيل عنه فأحضر عند الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات و عنده القاضي أحمد بن أبي داود و إسحق بن إبراهيم و جماعة القواد و الأعيان و أحضر المازيار من محبسه المؤيد و المرزبان بن تركش أحد ملوك الصغد و رجلان من أهل الصغد يدعيان أن الأفشين ضربهما و هما إمام و مؤذن بمسجد فكشفا عن ظهورهما و هما عاريان من اللحم فقال اين الزيات للأفشين : ما بال هذين ؟ قال : عهدا إلى معاهدين فوثبا على بيت أصنافهم فكسراها و اتخذ البيت مسجدا فعاقبتهما على ذلك و قال ابن الزيات : ما بال الكتاب المحلى بالذهب و الجواهر عندك و فيه الكفر ؟ و قال : كتاب ورثته من آبائي و أوصوني بما فيه من آدابهم فكنت آخذها منه و أترك كفرهم ولم أحتج إلى نزع حلبته و ما ظننت أن مثل هذا يخرج عن الإسلام ثم قال المؤيد أنه يأكل لحم المنخنقة و يحملني على أكلها و يقول : هو أرطب من لحم المذبوحة ! و لقد قال لي يوما حملت على كل مكروه لي حتى أكلت الزيت و ركبت الجمل و لبست النعل و إلى هذه الغاية لم أختتن ولم تسقط عني شعرة العانة فقال الأفشين : أثقة هذا عندكم في دينه ؟ و كان مجوسيا قالوا : لا ! قال : فكيف تقبلونه علي ؟ ثم قال للمؤيد : أنت ذكرت أني أسررت إليك ذلك فلست بثقة في دينك و لا بكريم في عهدك ثم قال له المرزبان : كيف يكاتبك أهل أشروسنة ؟ قال : ما أدري ! قال : أليس يكاتبونك بما تفسره بالعربي إلى إله الآلهة من عبده فلان ؟ قال : بلى ! فقال ابن الزيات : فمات أبقيت لفرعون ؟ قال هذه عادة منهم لأبي وجدي ولي قبل الإسلام و لو منعتهم لفسدت علي طاعتهم ثم قال له : أنت كاتبت هذا و أشار إلى المازيار كتب أخوه إلى أخي قوهيار أنه لن ينصر هذا الدين غيري و غيرك و غير بابك فأما بابك فقد قتل نفسه بجمعه و لقد عهدت أن أمنعه فأبى إلا خنقه و أنت إن خالفت لم يرمك القوم بغيري و معي أهل النجدة و إن توجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا العرب و المغاربة و الترك و العربي كلب تناوله لقمة و تضرب رأسه و المغاربة أكله رأس و الأتراك لهم صدمة ثم تجول الخيل جولة فتأتي عليهم و يعود هذا الدين إلى ما كان عليه أيام العجم فقل الأفشين : هذا يدعى أن أخي كتب إلى أخيه فما يجب علي ؟ و لو كتب فأنا أستميله مكرا به لأحظى عند الخليفة كما حظي به اين طاهر فزجره ابن أبي دؤاد فقال له الأفشين : ترفع طيلسانك فلا تضعه حتى تقتل جماعة فقال : أمتطهر أنت ؟ قال : لا ! قال : فما يمنعك و هو شعار الإسلام ؟ قال : خشيت على نفسي من قطعة ! قال : فكيف و أنت تلقى الرماح و السيوف ؟ قال تلك ضرورة أصبر عليها و هذا أستجلبه فقال ابن أبي دؤاد لبغا الكبير : قد بان لكم أمره يا بغا عليك به فدفعه بيديه و رده إلى محبسه و ضرب مازيار أربعمائة سوط فمات منها و طلب أفشين من المعتصم أن ينفذ إليه من يثق به فبعث حمدون بن إسمعيل فاعتذر له عن جميع ما قيل فيه و حمل إلى دار إيتاخ فقتل بها و صلب على باب العامة ثم أحرق و ذلك في شعبان من سنة ست و عشرين و قيل قطع عنه الطعام و الشراب حتى مات (3/334)
ظهور المبرقع
كان هذا المبرقع يعرف بأبي حرب اليماني و كان بفلسطين و أراد بعض الجند النزول في داره فمنعه بعض النساء فضربها الجندي و جاء فشكت إليه بفعل الجندي فسار إليه و قتله ثم هرب إلى جبال الأردن فأقام به و اختفى ببرقع على و جهه و صار يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يعيب الخليفة و يزعم أنه أموي و اجتمع له قوم من تلك الناحية و قالوا : هو السفياني ثم أجابه جماعة من رؤساء اليمانية منهم ابن بهيس و كان مطاعا في قومه و غيره فاجتمع له مائة ألف و سرح المعتصم رجاء بن أيوب في ألف من الجند فخام عن لقائهم لكثرة من معه و عسكر قبالته ينتظرون أوان الزراعة و انصراف الناس عنه لأعمالهم و بينما هم في الإنصراف توفي المعتصم و ثارت الفتنة بدمشق فأمره الواثق بقتل من آثار الفتنة و العود إلى المبرقع ففعل و قاتله فأخذه أسيرا و ابن بهيس معه و قتل من أصحابه عشرين ألفا و حمله و ذلك سنة سبع و عشرين و مائتين (3/337)
وفاة المعتصم و بيعة الواثق
و توفي المعتصم أبو إسحق محمد بن المأمون بن الرشيد منتصف ربيع الأول سنة سبع و عشرين لثمان سنين و ثمانية أشهر من خلافته و بويع ابنه هرون الواثق صبيحته و تكنى أبا جعفر فثار أهل دمشق بأميرهم و حاصروه و عسكرهم بمرج واسط و كان رجاء بن أيوب بالرملة في قتال المبرقع فرجع إليهم بأمر الواثق فقاتلهم و هزمهم و أثخن فيهم و قتل منهم نحو ألف و خمسمائة و من أصحابه نحو ثلثمائة و صلح أمر دمشق و رجع رجاء إلى قتال المبرقع حتى جاء به أسيرا بيعة الواثق توجه أشناس و وشحه و كان للواثق سمر يجلسون عنده و يفيضون في الأخبار حتى أخبروه عن شأن البرامكة و استبدادهم على الرشيد و احتجابهم الأموال فأغراه ذلك بمصادرة الكتاب فحبسهم و ألزمهم الأموال فأخذ من أحمد بن إسرئيل ثمانين ألف دينار بعد أن ضربه و من سليمان بن وهب كاتب إيتاخ أربعمائة ألف و من الحسن بن وهب أربعة عشر ألفا و من إبراهيم بن رباح و كاتبه مائة ألف و من أبي الوزر مائة و أربعين ألفا و كان على اليمن إتياخ و ولاه عليها المعتصم بعدها عزل جعفر بن دينار و سخطه و حبسه ثم رضي عنه و أطلقه فلما ولي الواثق إيتاخ على اليمن من قبله سار بأميان فسار إليها و كان الحرس إسحق بن يحيى بن معاذ ولاه المعتصم بعد عزل الأفشين و ولى الواثق على المدينة سنة احدى و عشرين محمد بن صالح بن العباس و بقي محمد بن داود على مكة توفي عبد الله بن طاهر سنة ثلاثين و كان على خراسان و كرمان و طبرستان و الري و كان له الحرب و الشرطة و السواد فولى الواثق على أعماله كلها ابنه طاهرا (3/337)
وقعة بغافى الأعراب
كان بنو سليم يفسدون بنواحي المدينة و يتسلطون على الناس في أموالهم و أوقعوا بناس من كنانة و باهلة و بعث محمد بن صالح إليهم مسلحة المدينة و معهم متطوعة من قريش و الأنصار فهزمهم بنو سليم و قتلوا عامتهم و أحرقوا لباسهم و سلاحهم و كراعهم و نهبوا القرى مابين مكة و المدينة و انقطع الطريق فبعث الواثق بغا الكبير و قدم المدينة في شعبان فقاتلهم و هزمهم و قتل منهم خمسين رجلا و أسر مثلها و استأمنوا له على حكم الواثق فقبض على ألف منهم ممن يعرف بالفساد فحبسهم بالمدينة و ذلك سنة ثلاثين ثم حج و سار إلى ذات عرق و عرض على بني هلال مثل بني سليم فأخذ من المفسدين منهم نحو ثلثمائة رجل و حبسهم بالمدينة و أطلق الباقين ثم خرج بغا إلى بني مرة فنقب أولئك الأسرى الحبس و قتلوا الموكلين فاجتمع عليهم أهل المدينة ليلا و منعوهم من الخروج فقاتلوهم إلى الصبح ثم قتلوهم و شق ذلك على بغا و كان سبب غيبته أن فزارة و بني مرة تغلبوا على فدك فخرج إليهم و قدم رجلا من قواده يعرض عليهم الأمان فهربوا من سطوته إلى الشام و اتبعهم إلى تخوم الحجاز من الشام و أقام أربعين ليلة ثم رجع إلى المدينة بمن ظفر منهم و جاءه قوم من بطون غفار و فزارة و أشجع و ثعلبة فاستخلفهم على الطاعة ثم سار إلى بني كلاب فأتوه في ثلاثة آلاف رجل فحبس أهل الفساد منهم ألفا بالمدينة و أطلق الباقين و أمره الواثق سنة اثنين و ثلاثين بالمسير إلى بني نمير باليمامة و ما قرب منها لقطع فسادهم فسار إليهم و لقي جماعة منهم فحاربهم و قتل منهم خمسين و أسر أربعين ثم سار إلى مرة و بعث إليهم الطاعة فامتنعوا و سار إلى جبال السند و طف اليمامة و بعث سراياهم فأوقع بهم في كل ناحية ثم سار إليهم في ألف رجل فلقيهم قريبا من أضاخ فكشفوا مقدمته و ميسرته و أثخنوا في عسكره بالقتل و النهب ثم ساروا تحت الليل و هو في اتباعهم يدعوهم إلى الطاعة و بعث طائفة من جنده يدعوه بعضهم و أصبح و هو في قلة فحملوا عليه و هزموه إلى معسكره و إذا بالطائفة الذين بعثهم قد جاؤا من وجهتهم فلما رآهم بنو نمير من خلفهم و لوا منهزمين و أسلموا رجالهم و أموالهم و نجوا على خيلهم و لم يفلت من رجالتهم أحد و قتل منهم نحو ألف و خمسمائة و أقام بمكان الوقعة و استأمن له أمراؤهم فقيدهم و حبسهم بالبصرة و قدم عليه واجن الأشروسني في سبعمائة مقاتل مددا فبعثه إلى اتباعهم إلى أن بلغ تبالة من أعمال اليمن و رجع و سار بغا إلى بغداد بمن معه منهم و كانوا نحو ألفي رجل و مائتي رجل و كتب إلى صالح أمير المدينة أن يوافيه ببغداد من عنده منهم فجاء بهم و سلموا جميعا (3/338)
مقتل أحمد بن نصر
و هو أحمد بن مالك و هو أحد النقباء كما تقدم و كان أحمد هذا نسيبة لأهل الحديث و يغشاه جماعة منهم مثل ابن حصين و ابن الدورقي و أبي زهير و لقن منهم النكير على الواثق بقوله بخلق القرآن ثم تعدى ذلك إلى الشتم و كان ينعته بالخنزير و الكافر و فشا ذلك عنه و انتدب رجلان ممن كان يغشاه هما أبو هرون السراج و طالب و غيرهما فدعوا الناس له و بايعه خلق على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و فرقوا الأموال في الناس دينارا لكل رجل و أنفذوا لثلاث تمضي من شعبان من سنة احدى و ثلاثين يظهرون فيها دعوتهم و اتفق أن رجالا ممن بايعهم من بني الأشرس جاؤا قبل الموعد بليلة و قد نال منهم السكر فضربوا الطبل و صاحب الشرطة إسحق بن إبراهيم غائب فارتاع خليفة محمد أخوه فأرسل من يسأل عن ذلك فلم يوجد أحد و أتوه برجل أعور اسمه عيسى وجدوه في الحمام فدلهم على بني الأشرس و على أحمد بن نصر و على أبي هرون و طالب ثم سيق خادم أحمد بن نصر فذكر القصة فقبض عليه و بعث بهم جميعا إلى الواثق بسامرا مقيدين و جلس لهم مجلسا عاما و حضر فيه أحمد بن أبي دؤاد ولم يسأله الواثق عن خروجه و إنما سأله عن خلق القرآن فقال : هو كلام الله ثم سأله عن الرؤية فقال : جاءت بها الأخبار الصحيحة و نصيحتي أن لا يخالف حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم سأل الواثق العلماء حوله عن أمره فقال عبد الرحمن بن إسحق قاضي الجانب الغربي : هو حلال الدم ! و قال ابن أبي دؤاد : هو كافر يستتاب فدعا الواثق بالصمصامة فانتضاها و مشى إليه فضربه على حبل عاتقه ثم على رأسه ثم وخزه في بطنه ثم أجهز سيما الدمشقي عليه و حزوا لرأسه و نصب ببغداد و صلب شلوه عنده بابها (3/339)
الفداء و الصائفة
و في سنة احدى و ثلاثين عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن مسلم بن قتيبة على الثغور و العواصم و أمره بحضور الفداء هو و جانمان الخادم و أمرهما أن تمتحن الأسرى باعتقاد القرآن و الرؤية و جاء الروم بأسراهم و المسلمون كذلك و التقوا على نهر اللامس على مرحلة من طرطوس و كان عدة أسرى المسلمين أربعة آلاف و أربعة و ستين و النساء و الصبيان ثمانمائة و أهل الذمة مائة فلما فرغوا من الفداء غزا أحمد بن سعيد بن مسلم شاتيا و أصاب الناس ثلج و مطر و هلك منهم مائة نفس و أسر منهم نحوها و خرق بالنيل قرون خلق و لقيه بطريق من الروم فخام عن لقائه ثم غنم و رجع فعزله الواثق و ولى مكانه نصر بن حمزة الخزاعي (3/340)
وفاة الواثق و بيعة المتوكل
و توفي الواثق أبو جعفر هرون بن المعتصم محمد لست بقين من سنة اثنتين و ثلاثين و كانت علته الاستسقاء و أدخل في تنور مسجر فلقي خفة ثم عاوده في اليوم الثاني أكثر من الأول فأخرج في محفة فمات فيها ولم يشعروا به و قيل إن ابن أبي دؤاد غمضه و مات لخمس سنين و تسعة أشهر و خلافته و حضر في الداد أحمد بن أبي دؤاد و إتياخ و وصيف و عمر بن فرح و ابن الزيات و أراد البيعة لمحمد بن واثق و هو غلام إمر فألبسوه فإذا هو قصير فقال وصيف : أما تتقون الله تولون الخلافة مثل هذا ! ثم تناظروا فيمن يولونه و أحضروا المتوكل فألبسه ابن أبي دؤاد الطويلة و عممه و سلم عليه بإمارة المؤمنين و لقبه المتوكل و صلى على الواثق و دفنه ثم وضع العطاء للجند لثمانية أشهر و ولى على بلاد فارس إبراهيم بن محمد بن مصعب و كان على الموصل غانم بن محمد الطويس فأقره و عزل ابن العباس محمد بن وصول عن ديوان النفقات و عقد لابنه المنتصر على الحرمين و اليمن و الطائف (3/340)
نكبة الوزير ابن الزيات و مهلكه
كان محمد بن عبد الملك بن الزيات قد استوزره الواثق فاستمكن من دولته و غلب على هؤلاء و كان لا يحفل بالمتوكل و لا يوجب حقه و غضب الواثق عليه مرة فجاء إلى ابن الزيات ليستنزله فأساء معاملته في التحية و الملاقاة فقال : اذهب فإنك إذا صلحت رضي عنك و قام عنه حزينا فجاء إلى القاضي أحمد بن دؤاد فلم يدع شيئا من البر إلا فعله و حياه و فداه و خطب حاجته فقال : أحب أن ترضى عني أمير المؤمنين فقال : أفعل و نعمة عين ! و لم يزل بالواثق حتى رضي عنه و كان ابن الزيات كتب إلى الواثق عندما خرج عنه المتوكل أن جعفرا أتاني فسأل الرضا عنه و له وفرة شبه زي المخنثين فأمره الواثق أن يحضره من شعر قفاه فاستحضره فجاء يظن الرضا عنه و أمر حجاما أخذ من شعره و ضرب به وجهه فحقد له ذلك و أساء له و لما ولي الخلافة بقي شهرا ثم أمر إيتاخ أن يقبض عليه و يقيده بداره و يصادره و ذلك في صفر سنة ثلاث و ثلاثين فصادره و استصفى أمواله و أملاكه و سلط عليه أنواع العذاب ثم جعله في تنور خشب في داخله مسامير تمنع من الحركة و تزعج من فيه لضيقه ثم مات منتصف ربيع الأول و قيل إنه مات من الضرب و كان لا يزيد على التشهد و ذكر الله و كان عمر بن الفرح الرحجي يعامل المتوكل بمثل ذلك فحقد له و لما استخلف قبض عليه في رمضان و استصفى أمواله ثم صودر على أحد عشرة ألف ألف (3/341)
نكبة إتياخ و مقتله
كان إتياخ مولى السلام الأبرص و كان عنده ناخوريا طباخا و كان شجاعا فاشتراه المعتصم منه سنة تسع و تسعين و ارتفع في دولته و دولة الواثق ابنه و كان له المؤنة بسامرا مع إسحق بن إبراهيم بن مصعب و كانت نكبة العظماء في الدولة على يديه و حبسهم بداره مثل أولاد المأمون و ابن الزيات و صالح و عجيف و عمر بن الفرح و ابن الجنيد و أمثالهم و كان له البريد و الحجابة و الجيش و المغاربة و الأتراك و شرب ذات ليلة مع المتوكل فعربد على إتياخ و هم إتياخ بقتله ثم غدا عليه فاعتذر له و دس عليه من زين له الحج فأستأذن المتوكل فأذن له و خلع عليه و جعله أمير كل بلد يمر به و سار لذلك في ذي القعدة سنة أربع و ثلاثين أو ثلاث و ثلاثين و سار العسكر بين يديه و جعلت الحجابة إلى وصيف الخادم و لما عاد إتياخ من الحج بعث إليه المتوكل بالهدايا و الالطاف و كتب إلى إسحق بن إبراهيم بن مصعب يأمره بحبسه فلما قارب بغداد كتب إليه إسحق بأن المتوكل أمر أن يدخل بغداد و أن تلقاه بنو هاشم و وجوه الناس و أن يقعد بدار خزيمة بن خازم فيأمر للناس بالجوائز على قدر طبقاتهم ففعل ذلك و وقف إسحق على باب الدار فمنع أصحابه من الدخول إليه و وكل بالأبواب ثم قبض على ولديه منصور و مظفر و كاتبيه سليمان بن وهب و قدامة بن زياد و بعث إيتاخ إليه يسأله الرفق بالولدين ففعل ولم يزل إيتاخ مقيدا بالسجن إلى أن مات فقيل إنهم منعوه الماء و بقي ابناه محبوسين إلى أن أطلقهما المنتصر بعد المتوكل (3/342)
شأن ابن البغيث
كان محمد بن البغيث بن الحليس ممتنعا في حصونه بأذربيجان و أعظمها مرند و استنزل من حصنه أيام المتوكل و حبس بسامرا فهرب من حبسه و لحق بمرند و قيل إنه في حبس إسحق بن إبراهيم بن مصعب و شفع فيه بغا الشرابي فأطلقه إسحق في كفالة محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني و كان يتردد إلى سامرا حتى مرض المتوكل ففر و لحق بمرند و شحنها بالأقوات و جاءه أهل الفتنة من ربيعة و غيرهم فاجتمع له نحو ألفين و مائتي رجل و الوالي بأذربيجان يومئذ محمد بن حاتم ابن هرثمة فلم يقامعه فعزله المتوكل و ولى حمدوية بن علي بن الفضل السعدي فسار إليه و حاصره بمرند مدة و بعث إليه المتوكل بالمدد و طال الحصار فلم يقن فيه فبعث بغا الشرابي في ألفى فارس فجاء لحصاره و بعث إليه عيسى ابن الشيخ بن السلسل بالأمان له و لوجوه أصحابه أن ينزلوا على حكم المتوكل فنزل الكثير منهم و انقض جمعه و لحق ببغا و خرج هو هاربا و نهبت منازله و أسرت نساؤه و بناته ثم أدرك بطريقة و أتي به أسيرا و بأخويه صقر و خالد و أبنائه حليس و صقر و البغيث و جاء بهم بغا إلى بغداد و حملهم على الحجال يوم قدومه حتى رآهم الناس و حبسوا و مات البغيث لشهر من وصوله سنة خمس و ثلاثين و جعل بنوه في الشاكرية مع عبد الله بن يحيى خاقان (3/342)
بيعة العهد
و في سنة خمس و ثلاثين و مائتين عقد المتوكل البيعة و العهد و كانوا ثلاثة محمدا و طلحة و إبراهيم و يقال في طلحة ابن الزبير و جعل محمدا أولهم و لقبه المستنصر و أقطعه أفريقية و المغرب و قنسرين و الثغور و الشامية و الخزرية و ديار مضر و ديار ربيعة و هيت و الموصل و غانة و الخابور و كور دجلة و السواد و الخرمين و حضرموت و الحرمين و السند و مكران و قندابيل و كور الأهواز و المستغلات بسامر و ماء الكوفة و ماء البصرة و جعل طلحة ثانيهم و لقبه المعتز و أقطعه أعمال خراسان و طبرستان و الري و أرمينية و أذربيجان و أعمال فارس ثم أضاف إليه سنة أربعين خزن الأموال و دور الضرب في جميع الآفاق و أمر أن يرسم اسمه في السكة و جعل الثالث إبراهيم و أقطعه حمص و دمشق و فلسطين و سائر الأعمال الشامية و في هذه السنة أمر الجند بتغيير الزي فلبسوا الطيالسة العسلية و شدوا الزنانير في أوساطهم و جعلوا الطراز في لباس المماليك و منع من لباس المناطق و أمر بهدم البيع المحدثة لأهل الذمة و نهى أن يستغاث بهم في الأعمال و أن يظهروا في شعابهم الصلبان و أمر أن يجعل على أبوابهم صور شياطين من الخشب (3/343)
ملك محمد بن إبراهيم
كان محمد بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب على بلاد فارس و هو ابن أخي طاهر و كان أخوه إسحق بن إبراهيم صاحب الشرطة ببغداد منذ أيام المأمون و المعتصم و الواثق و المتوكل و كان ابنه محمد بباب الخليفة بسامرا نائبا عنه فلما مات إسحق سنة خمس و ثلاثين ولاه المتوكل و ضم إليه أعمال أبيه و استخلفه المعتز على اليمامة و البحرين و مكة و حمل إلى المتوكل و بنيه من الجواهر و الذخائر كثيرا و بلغ ذلك محمد بن إبراهيم فتنكر للخليفة و لمحمد بن أخيه و شكا ذلك محمد إلى المتوكل فسرحه إلى فارس و ولاه مكان عمه محمد فسار و عزل عمه محمدا و ولى مكانه ابن عمه الحسين بن إسمعيل بن مصعب و أمره بقتل عمه محمد فأطعمه و منعه الشراب فمات (3/344)
انتقاض أهل أرمينية
كان على أرمينية يوسف بن محمد فجاءه البطريق بقرط بن أسواط و هو بطريق البطارقة يستأمن فقبض عليه و على ابنه و بعث بهما إلى المتوكل فاجتمع بطارقة أرمينية مع ابن أخيه و صهره موسى بن زرارة و تحالفوا على قتله و حاصروه بمدينة طرون في رمضان سنة سبع و ثلاثين و خرج لقتالهم فقتلوه و من كان معه فسرح المتوكل بغا الكبير فسار على الموصل و الجزيرة و أناخ على أردن حتى أخذها و حمل موسى و إخوته إلى المتوكل و قتل منهم ثلاثين ألفا و سبى خلقا و سار مدينة دبيل فأقام بها شهرا ثم سار إلى تفليس فحاصرها و بعث في مقدمته ربزك التركي و كان بتفليس إسحق بن إسمعيل بن إسحق مولى بني أمية فخرج و قاتلهم و كانت المدينة مشيدة من خشب الصنوبر فأمر بغا أن يرمى عليها بالنفط فاضطرمت النار في الخشب و احترقت قصور إسحق و جواريه و خمسون ألف إنسان و أسر الباقون و أحاطت الأتراك و المغاربة بإسحق فأسروه و قتله بغا لوقته و نجا أهل إسحق بأمواله إلى صعدنيل مدينة حذاء تفليس على نهر الكرمن من شرقيه بناها أنو شروان و حصنها إسحق و جعل أمواله فيها فاستباحها بغا ثم بعث الجند إلى قلعة أخرى بين بردعة و تفليس ففتحوها و أسروا بطريقها ثم سار إلى عيسى بن يوسف في قلعة كيس من كور البيلقان ففتحها و أسره و حمل معه جماعة من البطارقة و ذلك سنة ثمان و ثلاثين و مائتين (3/344)
عزل ابن أبي دؤاد و ولاية ابن أكثم
و في سنة سبع و ثلاثين غضب المتوكل على أحمد بن أبي دؤاد و قبض ضياعه و حبس أولاده فحمل أبو الوليد منهم مائة و عشرين ألف دينار و جواهر تساوي عشرين ألفا ثم صولح عن ستة عشر ألف ألف درهم و أشهد عليهم ببيع أملاكهم و فلح أحمد فأحضر المتوكل يحيى بن أكثم و ولاه قضاء القضاة و ولى أبا الوليد بن أبي دؤاد المظالم ثم عزله و ولى أبا الربيع محمد بن يعقوب ثم عزله و ولى يحيى بن أكثم على المظالم ثم عزله سنة أربعين و صارده على خمسة و سبعين ألف دينار و أربعة آلاف حربو و ولى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي و توفي في هذه السنة أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه أبي الوليد بعشرين يوما و كان معتزليا أخذ مذهبهم عن بشر المريسي و أخذه بشر عن جهم بن صفوان و أخذه جهم عن الجعد بن دهم معلم مروان (3/345)
انتفاض أهل حمص
و في سنة سبع و ثلاثين وثب أهل حمص بعاملهم أبي المغيث موسى بن إبراهيم الرافعي بسبب أنه قتل بعض رؤسائهم فأخرجوه و قتلوا من أصحابه فولى مكانه محمد بن عبدويه الأنباري فأساء إليهم و عسف فيهم فوثبوا به و أمره المتوكل بجند من دمشق و الرملة فظفر بهم و قتل منهم جماعة و أخرج النصارى منها و هدم كنائسهم و أدخل منها بيعة في الجامع كانت تجاوره (3/346)
إغارة البجاة على مصر
كانت الهدنة بين أهل مصر و البجاة من لدن الفتح و كان في بلادهم معادن الذهب يؤدون منها الخمس إلى أهل مصر فامتنعوا أيام المتوكل و قتلوا من وجدوه من المسلمين بالمعادن و كتب صاحب البريد بذلك إلى المتوكل فشاور الناس في غزوهم فأخبروه أنهم أهل إبل و شاء و أن بين بلادهم و بلاد المسلمين مسيرة شهر و لا بد فيها من الزاد و إن فنيت الأزواد هلك العسكر فأمسك عنهم و خاف أهل الصغد من شرهم فولى المتوكل محمد بن عبد الله القمي على أسوان و قفط و الأقصر و أستا و أرمنت و أمره بحرب البجاة و كتب إلى عنبسة بن إسحق الضبي عامل مصر بتجهيز العساكر معه و أزاحه عليهم فسار في عشرين ألفا من الجند و المتطوعة و حملت المراكب من القلزم و التمر و الأدم إلى سواحل بلاد البجاة و انتهى إلى حصونهم و قلاعهم و زحف إليه ملكهم و اسمه علي بابا في أضعاف عساكرهم على المهاري و طاولهم علي بابا رجاء أن تفنى أزوادهم فجاءت المراكب و فرقها القمي في أصحابه فناجزهم البجاة الحرب و كانت إبلهم نفورة فأمر القمي جنده باتخاذ الأجراس بخيلهم ثم حملوا عليهم فانهزموا و أثخن فيهم قتلا و أسرا حتى أستأمنوا على أداء الخراج لما سلف و لما يأتي و أن يرد إلى مملكته و سار مع القمي إلى المتوكل و استخلف ابنه فخلع القمي عليه و على أصحابه و كسا أرجلهم الجلال المديحة و ولاهم طريق ما بين مصر و مكة و ولى عليهم سعدا الإتياخي الخادم فولى سعد محمد القمي فرجع معهم و استقامت ناحيتهم (3/346)
الصوائف
و في سنة ثمان و ثلاثين ورد على دمياط اسطول الروم في مائة مركب فكبسوها و كانت المسلحة الذين بها قد ذهبوا إلى مصر باستدعاء صاحب المعونة عنسبة بن إسحق الضبي فانتهزوا الفرصة في مغيبهم و انتهبوا دمياط و أحرقوا الجامع بها و أوقروا سفنهم سبيا و متاعا و ذهبوا إلى تنيس ففعلوا فيها ذلك و أقطعوا و غزا بالصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرميني صاحب الصوائف و في سنة احدى و أربعين كان الفداء بين الروم و بين المسلمين و كانت تدورة ملكة الروم قد حملت أسرى المسلمين على التنصر فتنصر الكثير منهم ثم طلبت المفاداة فيمن بقي فبعث المتوكل سيفا الخادم بالفداء و معه قاضي بغداد جعفر بن عبد الواحد و استخلف على القضاء ابن أبي الشوارب و كان الفداء على نهر اللامس ثم أغارت الروم بعد ذلك روبة فأسروا من كان هنالك من الزط و سبوا نساءهم و أولادهم و لما رجع علي بن يحيى الأرميني من الصائفة خرجت الروم في ناحية سمسياط فانتهوا إلى آمد و اكتسحوا نواحي الثغور و الخزرية نهبا و أسروا نحوا من عشرة آلاف و رجعوا و اتبعهم قرشاس و عمر بن عبد الأقطع و قم من المتطوعة فلم يدركوهم و أمر المتوكل علي بن يحيى ان يدخل بالثانية في تلك السنة ففعل و في سنة أربع و أربعين جاء المتوكل من بغداد إلى دمشق و قد اجتمع نزولها و نقل الكرسي إليها فأقام بها شهرين ثم استوبأها و رجع بعد أن بعث بغا الكبير في العساكر للصائفة فدخل بلاد الروم فدوخها و اكتسحها من سائر النواحي و رجع و في سنة خمس و أربعين أغارت الروم على سميساط فغنموا و غزا علي بن يحيى الأرميني بالصائفة كركرة و انتقض أهلها على بطريقهم فقبضوا عليه و سلموه إلى بعض موالي المتوكل فأطلق الروم في فداء البطريق ألف أسير من المسلمين و في سنة ست و أربعين غزا عمر بن عبيد الله الأقطع بالصائفة فجاؤا بأربعة آلاف رأس و غزا قرشاس فجاء بخمسة آلاف رأس و غزا الفضل بن قاران في الأسطول بعشرين مركبا فافتتح حصن انطاكية و غزا ملكها دورهم و سبا و غزا علي بن يحيى فجاء بخمسة آلاف رأس و من الظهر بعشرة آلاف و كان على يده في تلك السنة الفداء في ألفين و ثلثمائة من الأسرى (3/347)
الولاية في النواحي
ولى المتوكل سنة اثنتين على بلاد فارس محمد بن إبراهيم بن مصعب و كان على الوصل غانم بن حميد الطوسي و استوزر لأول خلافته محمد بن عبد الله بن الزيات و ولى على ديوان الخراج يحيى بن خاقان الخراساني مولى الأزد و عزل الفضل بن مروان و ولى على ديوان النفقات إبراهيم بن محمد بن حتول و ولى سنة ثلاث و ثلاثين على الحرمين و اليمن و الطائف ابنه المستنصر و عزل محمد بن عيسى و ولى على حجابة بابه وصيفا الخادم عندما سار إيتاخ للحج و في سنة خمس و ثلاثين عهد لأولاده كما مر و ولى على الشرطة ببغداد إسحق بن إبراهيم بن الحسين ابن مصعب مكان ابنه إبراهيم عندما توفي و كانت وفاته و وفاة الحسن بن سهل في سنة واحدة و في سنة ست و ثلاثين استكتب عبيد الله بن يحيى بن خاقان ثم استوزره بعد ذلك و ولى على أرمينية و أذربيجان حربا و خراجا يوسف بن أبي سعيد محمد بن يوسف المروذوذي عندما توفي أبوه فجاءه فسار إليها وضبطها و أساء إلى البطارقة بالناحية فوثبوا به كما مر و قتلوه و بعث المتوكل بغا الكبير في العساكر فأخذ ثأره منهم و ولى معادن السواد عبد الله بن إسحق بن إبراهيم و في سنة تسع و ثلاثين عزل ابن أبي دؤاد عن القضاء و صادره و ولى مكانه يحيى بن أكثم و قدم محمد بن عبد الله بن طاهر من خراسان فولاه الشرطة و الجزية و أعمال السواد و كان على مكة علي بن عيسى بن جعفر بن المنصور فحج بالناس ثم ولى مكانه في السنة القابلة عبد الله بن محمد بن داود بن عيسى بن موسى و ولى على الأحداث بطريق و المواسم جعفر بن دينار و كان على حمص أبوا المغيب موسى بن إبراهيم الرافقي و ثبوا به سنة تسع و ثلاثين فولى مكانه محمد بن عبدويه و في سنة تسع و ثلاثين عزل يحيى بن أكثم عن القضاء و ولى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان و في سنة اثنتين و أربعين ولى على مكة عبد الصمد بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام و ولى على ديوان النفقات الحسن بن مخلد بن الجراح عندما توفي إبراهيم بن العباس الصولي و كان خليفته فيها من قبل و في سنة خمس و أربعين اختط المتوكل مدينته و أنزلها القواد و الأولياء و أنفق عليها ألف ألف دينار و بنى فيها قصر اللؤلؤة لم ير مثله في علوه و أجرى له الماء في نهر احتفره و سماه المتوكلية و تسمى الجعفري و الماخورة و فيها ولى على طريق مكة أبا الساج مكان جعفر بن دينار لوفاته تلك السنة و ولى على ديوان الضياع و التوقيع نجاح بن سلمة و كانت له صولة على العمال فكان ينام المتوكل فسعى عنده في الحسن بن مخلد و كان معه ديوان االضياع ولى موسى بن عقبة عبد الملك و كان على ديوان الخراج و ضمن للمتوكل في مصادرتهما أربعين ألفا و أذن المتوكل و كانا منقطعين إلى عبيد الله بن خاقان فتلطف عند نجاح و خادعه حتى كتب على الرقعتين و أشار إليه بأخذ ما فيها معا و بدأ بنجاح فكتبه و قبض منه مائة و أربعين ألف دينار سوى الغلات و الفرش و الضياع ثم ضرب فمات و صودر أولاده في جميع البلاد على أموال جمة (3/348)
مقتل المتوكل و بيعة المنتصر ابنه
كان المتوكل قد عهد إلى ابنه المنتصر ثم ندم و أبغضه لما كان يتوهم فيه من استعجاله الأمر لنفسه و كان يسميه المنتصر و المستعجل لذلك و كان المنتصر تنكر عليه إنحرافه عن سنن سلفه فيما ذهبوا إليه من مذهب الاعتزال و التشيع لعلي و ربما كان الندمان في مجلس المتوكل يفيضون في ثلث علي فينكر المنتصر ذلك و يتهددهم و يقول للمتوكل : إن عليا هو كبير بيننا و شيخ بني هاشم فإن كنت لا بد ثالبه فتول ذلك بنفسك و لاتجعل لهؤلاء الصفاغين سبيلا إلى ذلك فيستخف به و يشتمه و يأمر وزيره عبيد الله بصفعه و يتهدده بالقتل و يصرح بخلعه و ربما استخلف ابنه الحبر في الصلاة و الخطبة مرارا و تركه فطوى من ذلك على النكث و كان المتوكل قد استفسد إلى بغا و وصيف الكبير و وصيف الصغير و دواجن فأفسدوا عليه الموالي و كان المتوكل قد أخرج بغا الكبير من الدار و أمره بالمقام بسميساط لتعهد الصوائف فسار لذلك و استخلف مكانه ابنه موسى في الدار و كان ابن خالة المتوكل و استخلف على الستر بغا الشرابي الصغير ثم تغير المتوكل لوصيف و قبض ضياعه بأصبهان و الجبل و أقطعها الفتح بن خاقان فتغير وصيف لذلك و داخل المنتصر في قتل المتوكل و أعد لذلك جماعة من الموالي بعثهم مع ولده صالح و أحمد و عبد الله و نصر و جاؤا في الليلة اتعدوا فيها و حضر المنتصر ثم انصرف على عادته و أخذ زرافة الخادم معه و أمر بغا الشرابي الندمان بالانصراف حتى لم يبق إلا الفتح و أربعة من الخاصة و أغلق الأبواب إلا باب دجلة فأدخل منه الرجال و أحسن المتوكل و أصحابه بهم فخافوا على أنفسهم و استماتوا و ابتدروا إليه فقتلوه و ألقى الفتح نفسه عليهم ليقيه فقتلوه و بعث إلى المنتصر و هو ببيت زرافة فأخبره و أوصى بقتل زرافة فمنعه المنتصر و بايع له زرافة و ركب إلى الدار فبايعه من حضر و بعث إلى وصيف إن الفتح قتل أبي فقتلته فحضر و بايع و بعث عن أخويه المعتز و المؤيد فحضرا و بايعا له و انتهى الخبر إلى عبيد الله بن يحيى فركب من ليله و قصد منزل المعتز فلم يجده و اجتمع عليه آلاف من الأزد و الأرمن و الزواقيل و أغروه بالحملة على المنتصر و أصحابه فأبى و خام عن ذلك و أصبح المنتصر فأمر بدفن المتوكل و الفتح و ذلك لأربع خلون من شوال سنة سبع و أربعين و مائتين و شاع الخبر بقتل المتوكل فثار الجند و تبعهم و ركب بعضهم بعضا و قصدوا باب السلطان فخرج إليهم بعض الأولياء فأسمعوه و رجع فخرج المنتصر بنفسه و بين المغاربة فشردوهم عن الأبواب فتفرقوا بعد أن قتل منهم ستة أنفس (3/349)
الخبر عن الخلفاء من بني العباس أيام الفتنة و تغلب الأولياء و تضايق نطاق الدولة باستبداد الولاة في النواحي من لدن المنتصر إلى أيام المستكفي
كان بنو العباس حين ولوا الخلافة قد امتدت إيالتهم على جميع ممالك الإسلام كما كان بنو أمية من قبلهم ثم لحق بالأندلس من فل بني أمية من ولدها هاشم بن عبد الملك حافده عبد الرحمن بن معاوية بن هشام و نجا من تلك الهلكة فأجاز البحر و دخل الأندلس فملكها من يد عبد الرحمن بن يوسف الفهري و خطب للسفاح فيها حولا ثم لحق به أهل بيته من المشرق فعزلوه في ذلك فقطع الدعوة عنهم و بقيت بلاد الأندلس مقتطعة من الدولة الإسلامية عن بني العباس ثم لما كانت وقعة فتح أيام الهادي علي بن الحسن بن علي سنة تسع و تسعين و مائة و قتل داعيتهم يومئذ حسين ابن علي بن حسن المثنى و جماعة من أهل بيته و نجا آخرون و خلص منهم إدريس بن عبد الله بن حسن إلى المغرب الأقصى و قام بدعوته البرابرة هنالك فاقتطع المغرب عن بني العباس فاستحدثوا هنالك دولة لأنفسهم ثم ضعفت الدولة العباسية بعد الاستحفال و تغلب على الخليفة فيها الأولياء و القرابة و المصطنعون و صار تحت حجرهم من حين قتل المتوكل و حدثت الفتن ببغداد و صار العلوية إلى النواحي مظهرين لدعوتهم فدعا عبد الله الشيعي سنة ست و ثمانين و مائتين بأفريقية في طامة لعبيد الله المهدي بن محمد بن جعفر بن محمد بن إسمعيل بن جعفر الصادق و بايع له و انتزع أفريقية من يد بني الأغلب استولى عليها و على المغرب الأقصى و مصر و الشام و اقتطعوا سائر هذه الأعمال عن بني العباس و استحدثوا له دولة أقامت مائتين و سبعين سنة كما يذكر في أخبارهم ثم ظهر بطبرستان من العلوية الحسن بن زيد بن محمد بن إسمعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط و يعرف بالداعي خرج سنة خمسين و مائتين أيام المستعين و لحق بالديلم فأسلموا على يديه و ملك طبرستان و نواحيها و صار هنالك دولة أخذها من يد أخيه سنة احدى و ثلثمائة الأطروش من بني الحسين ثم من بني على عمر داعي الطالقان أيام المعتصم و قد مر خبره و اسم هذه الأطروش الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر و كانت لهم دولة و انقرضت أيام الحسين و استولى عليها الديلم و صارت لهم دولة أخرى و ظهر باليمن الرئيس و هو ابن إبراهيم طباطبا بن إسمعيل بن إبراهيم بن حسن المثنى فأظهر هنالك دعوة الزيدية و ملك صعدة و صنعاء و بلاد اليمن و كانت لهم هنالك دولة و لم تزل حتى الآن و أول من ظهر منهم يحيى بن الحسين بن القاسم سنة تسعين ومائتين ثم ظهر أيام الفتنة من دعاة العلوية صاحب الزنج أدعى أنه أحمد بن عيسى بن زيد الشهيد و ذلك سنة خمس و خمسين و مائتين أيام المهتدي و طعن الناس في نسبه فأدعى أنه من ولد يحيى بن زيد قتيل الجوزجان و قيل إنه انتسب إلى طاهر بن الحسين بن علي و الذي ثبت عند المحقيقين أنه علي بن عبد الرحيم بن عبد القيس فكانت له و لبنيه دولة بنواحي البصرة أيام الفتنة قام بها الزنج إلى أن انقرضت على يد المعتضد أيام السبعين و مائتين ثم ظهر القرظ بنواحي البحرين و عمان فسار إليها من الكوفة سنة تسع و سبعين أيام المعتضد و انتسب إلى بني إسمعيل الإمام بن جعفر الصادق دعوى كاذبة و كان من أصحابه الحسن الجمالي و زكرونة القاشاني فقاموا من بعده بالدعوة و دعوا لعبد الله المهدي و غلبوا على البصرة و الكوفة ثم انقطعوا عنها إلى البحرين و عمان و كانت لهم هنالك دولة انقرضت آخر المائة الرابعة و تغلب عليهم العرب من بني سليم و بني عقيل و في خلال ذلك استبد بنو سامان بما وراء النهر آخر الستين و مائتين و أقاموا على الدعوة إلا أنهم لا ينفذون أوامر الخلفاء و أقامت دولتهم إلى آخر المائة الرابعة ثم اتصلت دولة في مواليهم بغزنة إلى منتصف المائة السادسة و كانت للأغالبة بالقيروان و أفريقية دولة أخرى بمصر و الشام بالاستبداد من لدن الخمسين و المائتين أيام الفتنة إلى آخر المائة الثالثة ثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم بني طفج إلى الستين و الثلثمائة و في خلال هذا كله تضايق نطاق الدولة العباسية إلى نواحي السواد و الجزيرة فقط إلا أنهم قائمون ببغداد على أمرهم ثم كانت للديلم دولة أخرى استولوا فيها على النواحي و ملكوا الأعمال ثم ساروا إلى بغداد و ملكوها و صيروا الخليفة في ملكتهم من لدن المستكفي أعوام الثلاثين و الثلثمائة و كانت من أعظم الدول ثم أخذها من أيديهم السلجوقية من الغز إحدى شعوب الترك فلم تزل دولتهم من لدن القائم سنة أربعين و أربعمائة إلى آخر المائة السادسة و كانت دولتهم من أعظم الدول في العالم و تشعبت عنها دول هي متصلة إلى عهدنا حسبما يذكر ذلك كله في مكانه ثم استبد الخلفاء من بني العباس آخرا في هذا النطاق الضيق ما بين دجلة و الفرات و أعمال السواد و بعض أعمال فارس إلى أن خرج التتار من مفازة الصين و زحفوا إلى الدولة السلجوقية و هم على دين المجوسية و زحفوا إلى بغداد فقتلوا الخليفة المعتصم و انقرض أمر الخلافة و ذلك سنة ست و خمسين و ستمائة ثم أسلموا بعد ذلك و كانت لهم دولة عظيمة و تشعبت عنها دول لهم و لأشياعهم في النوحي و هي باقية لهذا العهد آخذه في الثلاثين كما نذكر ذلك كله في أماكنه (3/351)
دولة المنتصر
و لما بويع المنتصر كما ذكرناه ولى المظالم أبا عمر و أحمد بن سعيد و على دمشق عيسى بن محمد النوشري و كان على وزارته أحمد بن الخصيب و استقامت أموره و تفاوض و صيف و بغا و أحمد بن الخطيب في شأن المعتز و المؤيد لما توقعوا من سطوتهما بسبب قتل المتوكل فحملوا المنتصر على خلعهما الأربعين يوما من خلافته و بعث إليهما بذلك فأجاب المؤيد و امتنع المعتز فأغلظوا عليه و أوهموه القتل فخلا به المؤيد و تلطف به حتى أجاب و خلع نفسه و كتبا ذلك بخطهما ثم دخلا على المنتصر فأجلسهما و اعتذر لهما بسمع من الأمراء بأنهم الذين حملوه على خلعهما فأجبتهم إلى ذلك خشية عليكما منهم فقبلا يده و شكرا له و شهد عليهما القضاة و بنو هاشم و القواد و وجوه الناس و كتب بذلك المنتصر إلى الآفاق و إلى محمد بن طاهر ببغداد ثم إن أحمد بن الخصيب أخا المنتصر أمر بإخراج وصيف للصائفة و إبعاده عن الدولة لما بينهما من الشحناء فأحضر المنتصر و قال له : قد أتانا من طاغية الروم أنه أفسد الثغر فلا بد من مسيرك أو مسيري فقال بل أنا أشخص يا أمير المؤمنين ! فأمر أحمد بن الخصيب أن يجهزه و يزيح علل العسكر معه و أمره أن يوافي ثغر ملطية فسارو على مقدمته مزاحم بن خاقان أخو الفتح و على نفقات العساكر و المغانم و المقاسم أبو الوليد القروالي أن أن يأتيه رأيه (3/353)
وفاة المنتصر و بيعة المستعين
ثم أصابت المنتصر علة الذبحة فهلك لخمس بقين من ربيع الأول من سنة ثمان و أربعين و مائتين لستة أشهر من ولايته و قيل بل أكثر من ذلك فجعل السم في مشرطة الطبيب فاجتمع الموالي في القصر و فيهم بغا الصغير و بغا الكبير و أتامش و غيرهم فاستحلفوا قواد الأتراك و المغاربة و الأشروسية على الرضا بمن يرضونه لهم ثم خلصوا للمشورة و معهم أحمد بن الخصيب فعدلوا عن ولد المتوكل خوفا منهم و نظروا في ولد المعتصم فبايعوه و استكتب أحمد بن الخصيب و استوزر أتامش و غدا على دار العامة في زي الخلافة و إبراهيم بن إسحق يحمل بين يديه الحربة وصفت الممالك و الأشروسية صفين بترتيب دواجن و حضر أصحاب المراتب من العباسيين و الطالبيين و ثار جماعة من الجند و قصدوا الدار يذكرون أنهم من أصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر و الغوغاء فشهروا السلاح و هتفوا باسم المعتز و شدوا على أصحاب دواجن فتضعضعوا ثم جاءت المبيضة و الشاكرية و حمل عليهم المغاربةو الأشروسية فنشبت الحرب و انتهبت الدروع و السلاح من الخزائن بدار العامة و جاء بغا الصغير فدفعهم عنها و قتل منهم عدة و فتقت السجون و تمت بيعة الأتراك للمستعين و وضع العطاء على البيعة و بعث إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فبايع له هو و الناس ببغداد ثم جاء الخبر بوفاة طاهر بن عبد الله بن طاهر بخراسان و هلك عمه الحسين بن طاهر بمرو فعقد المستعين لابنه محمد بن طاهر مكانه و عقد لمحمد بن عبد الله بن طاهر على خراسان سنة ثمان و أربعين و مائتين و ولى عمه طلحة على نيسابور و ابنه منصور بن طلحة على مرو و سرخس و خوارزم و عمه الحسين بن عبد الله على هراة و أعمالها و عمه سليمان بن عبد الله على طبرستان و العباس ابن عمه على الجوزجان و الطالقان و مات بغا الكبير فولى ابنه موسى على أعماله كلها و بعث أناجور من قواد الترك إلى العمرط الثعلبي فقتله و استأذنه عبد الله بن يحيى بن خان في الحج فأذن له ثم بعث خلفه من نفاه إلى برقة و حبس المعتز و المؤيد في حجره بالجوسق بعد أن أراد قواد الأتراك قتلهما فمنعهم أحمد بن الخصيب من ذلك ثم قبض على أحمد بن الخصيب فاستصفى ماله و مال ولده و نفاه إلى قرطيش و استوزر أتامش و عقد له على مصر و المغرب و
عقد لبغا الصغير على حلوان و ما سيدان و مهرجا تعرف و جعل شاهك الخادم على داره و كراعه و حرمه و خاصة أموره رخادمه و أشناس على جميع الناس و عزل علي بن يحيى الأرمني عن الثغور الشامية و عقد له على أرمينية و أذربيجان و كان على حمص كندر فوثب به أهلها فأخرجوه فبعث المستعن الفضل بن قارن و هو أخو مازيار فاستباحهم و حمل أعيانهم إلى سامرا و بعث المستعين إلى وصيف و هو بالثغر الشامي بأن يغزو بالصائفة فدخل بلاد الروم و افتتح حصن قرورية ثم غزا بالصائفة سنة تسع و أربعين جعفر بن دينار و افتتح مطامير و استأذنه عمر بن عبد الله الأقطع في تدويخ بلاد الروم فأذن له دخل في جماعة من أهل ملطية و لقي ملك الروم فخرج الأسقف في خمسين ألفا احاطوا به و قتل عمر في ألفين من المسلمين و كان على الثغور الجزرية فأغار عليها الروم و بلغ ذلك علي بن يحيى و هو قابل من أرمينية إلى ميافارقين و معه جماعة من أهلها فنفر إليهم و هو في نحو أربعمائة فقتلوا و قتل (3/353)
فتنة بغداد و سامرا
و لما اتصل الخبر ببغداد و سامرا بقتل عمر بن عبد الله و علي بن يحيى شق ذلك الناس لما كانوا عليه من عظم الغناء في الجهاد و اشتد نكيرهم على الترك في غفلتهم عن المصالح و تذكروا قتل المتوكل و استيلاءهم على الأمور فاجتمعت العامة و تنادوا بالنفير إلى الجهاد و انضم إليهم الشاكرية يطلبون أرزاقهم ثم فتقوا السجون و قطعوا الجسور و انتهبوا دور كتاب محمد بن عبد الله بن طاهر ثم أخرج أهل اليسار من بغداد الأموال ففرقوها في المجاهدين و جاءت العامة من الجبال و فارس والأهواز فنفروا للغزو و لم يظهر للمستعين و لا لأهل الدولة في ذلك أثر ثم وثب العامة بسامرا و فتقوا السجون و خرج من كان فيها و جاء من الموالي في طلبهم فوثب العامة بهم و هزموهم و ركب بغا و وصيف و أتامش في الترك فقتلوا من العامة خلقا و انتهوا منازلهم و سكنت الفتنة (3/355)
مقتل أتامش
كان المستعين لما ولي أطلق يد أمه و أتامش و شاهك الخادم في الأموال و ما فضل عنهم فلنفقات العباس بن المستعين و كان في حجر أتامش فبعث ذلك عليه بغا و وصيف و ضاق حال الأتراك و الفراغنة و دسهم عليهم بغا و وصيف فخرج منهم أهل الكرخ و الدور و قصدوه في الجوسق مع المستعين و أراد الهرب فلم يطق و استجار بالمستعين فلم يجره و حاصروه يومين ثم افتتحوا عليه الجوسق و قتلوه و كاتبه شجاع بن القاسم و نهبت أموالهم و استوزر المستعين مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن علي على الأهواز و لبغا الصغير على فلسطين ثم غضب بغا الصغير على أبي صالح فهرب إلى بغداد و استوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني و ولى على ديوان الرسائل سعيد بن حميد (3/355)
ظهور يحيى بن عمر و مقتله
كان على الطالبيين بالكوفة يحيى بن عمر بن يحيى بن زيد الشهيد و يكنى أبا الحسين و أمه من ولد عبد الله بن جعفر و كان من سراتهم ووجوههم و كان عمر بن فرج يتولى أمر الطالبيين أيام المتوكل فعرض له أبو الحسين عند مقدمة من خراسان يسأله صلة لدين لزمه فأغلظ له عمر القول و حبسه حتى أخذ عليه الكفلاء و انطلق إلى بغداد ثم جاء إلى سامرا و قد أملق فتعرض لوصيف في رزق يجري له فأساءه عليه وإليها فرجع إلى الكوفة و عاملها يومئذ أيوب بن الحسين بن موسى بن جعفر بن سليمان بن علي من قبل محمد بن عبد الله بن طاهر فاعتزم على الخروج و التف عليه جمع من الأعراب و أهل الكوفة و دعا للرضى من آل محمد ففتق السجون و نهبه و طرد العمال و أخذ من بيت المال ألفي دينار و سبعين ألف درهم و كان صاحب البريد قد طير بخبره إلى محمد بن عبد الله بن طاهر فكتب إلى عامله بالسواد عبد الله بن محمود السرخسي و أن يصير مددا إلى الكوفة فلقيه و قاتله فهزمهم يحيى و انتهب ما معهم و خرج إلى سواد الكوفة و اتبعه خلق من الزيدية و انتهى إلى ناحية واسط و كثرت جموعه لا و سرح محمد بن عبد الله بن طاهر إلى محاربة الحسين بن إسمعيل بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب في العساكر فسار إليه و قد كان يحيى قصد الكوفة فلقيه عبد الرحمن بن الخطاب المعروف بوجه الفلس فهزمه يحيى إلى ناحية شاهي و دخل الكوفة و اجتمعت عليه الزيدية و اشتمل عليه عامة أهل الكوفة و أمداد الزيدية من بغداد و جاء الحسين بن إسمعيل و انضم إليه عبد الرحمن بن الخطاب و خرج يحيى من الكوفة ليعاجلهم الحرب فأسرى ليلته و صبح العساكر فساروا إليه فهزموه و وضعوا السيف في أصحابه و أسروا الكثير من اتباعه و كان منهم الهيصم العجلي و غيره و انجلت الحرب عن يحيى بن عمر قتيلا فبعثوا برأسه إلى محمد عبد الله بن طاهر فبعث به إلى المستعين و جعل في صندوق في بيت السلاح و جيء بالأسرى فحبسوا و كان ذلك منتصف رجب سنة خمس و مائتين (3/356)
ابتداء الدولة العلوية بطبرستان
لما ظهر محمد بن عبد الله بن طاهر بيحيى بن عمر و كان له من الغناء في حربه ما قدمناه أقطعه المستعين قطائع من صوافي السلطان بطبرستان كانت منها قطعة بقرب ثغر الديلم تسمى روسالوس و فيها أرض موات ذات غياض و أشجار وكلا و مباحة لمصالح الناس من الاحتطاب و الرعي و كان عامل طبرستان يومئذ من قبل محمد بن طاهر صاحب خراسان عمه سليمان بن عبد الله بن طاهر و هو أخو محمد صاحب القطائع و كان سليمان مكفولا لأمة و قد حظي عندها و تقدم و فرق أولاده في أعمال طبرستان و أساؤا السيرة في الرعايا و دخل محمد بن أوس بلاد الديلم و هم مسالمون فسبى منهم و انحرفوا لذلك و جاء نائب محمد بن عبد الله لقبض القطائع فحاز فيها تلك الأرض الموات المرصدة لمرافق الناس فنكر ذلك الناظر على تلك الأرض و هما محمد و جعفر ابنا رستم و استنهضا من أطاعهما من أهل تلك الناحية لمنعه من ذلك فخافهما النائب بسليمان صاحب طبرستان و بعث ابنا رستم إلى الديلم يستنجدانهم على حرب سليمان و بعثا إلى محمد بن إبراهيم من العلويين بطبرستان يدعوانه إلى القيام بأمره فامتنع و دلهما على كبير العلوية بالري الحسن بن زيد بن محمد بن إسمعيل بن الحسن بن زيد بن الحسن السبط فشخص إليهما و قد اجتمع أهل كلاروسالوس و مقدمهم ابنا رستم و أهل الريان و معهم الديلم بأسرهم فبايعوه جميعا و طردوا عمال سليمان و ابن أوس ثم انضم إليهم جبال طبرستان و زحف الحسن بمن معه إلى مدينة آمد و خرج ابن أوس من سارية لمدافعتة فانهزم و لحق بسليمان في سارية فخرج سليمان لحرب الحسن و لما التقى الجمعان بعث الحسن بعض قواده خلف سليمان إلى سارية و سمع بذلك سليمان فانهزم و ملك الحسن سارية و بعث بعيال سليمان و أولاده في البحر إلى جرجان و قيل إن سليمان انهزم اختيارا لما كان بنو طاهر يتهمون به من التشييع ثم بعث الحسن إلى الري ابن عمه و هو القاسم ابن علي بن إسمعيل و يقال محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن الحسين بن علي بن زين العابدين فملكها و بعث المستعين جندا إلى همدان ليمنعها و لما ملك محمد بن جعفر قائد الحسن بن زيد الري أساء السيرة و بعث محمد بن طاهر قائد محمد بن ميكال أخو الشاه فغلبه على الري و انتزعها منه و أسره فبعث إليه الحسن بن زيد قائده دواجن فهزم ابن ميكال و قتله و استرجع الري ثم رجع سليمان بن طاهر من جرجان إلى طبرستان فملكها و لحق الحسين بالديلم و سار سليمان إلى سارية و آمد و معهم أبناء قارن بن شهرزاد فصفح عنهم و نهى أصحابه عن الفتك و الأذى ثم جاء موسى بن بغا بالعساكر فملك الري من يدي أبي دلف و بعث مصلحا إلى طبرستان فحارب الحسن بن زيد و هزمه و استولى على طبرستان و لحق الحسن بالديلم و دخل مفلح آمد و خرب منازل الحسن و رجع إلى موسى بالري (3/357)
مقتل باغر
و كان باغر هذا من قواد الترك و من جملة بغا الصغير و لما قتل المتوكل زيد في أرزاقة و أقطعوه قرى بسواد الكوفة و ضمنها له بعض أهل باروسما بألفي دينار فطلبه ابن مارمة و كيل باغر و حبسه ثم تخلص و سار إلى سامرا و كانت له ذمة من نصراني عند بغا الصغير فأجاره النصراني من كيد بغا و أغراه عليه فغضب لذلك باغر و شكى إلى بغا فأغلظ له القول و قال : إني مستبدل من النصراني و أفعل فيه بعد ذلك ما تريد و دس إلى النصراني بالحذر من باغر و أظهر عزله و بقي باغر يتهدده و قد انقطع عن المستعين و قد منعه بغا في يوم نوبته عن الحضور بدار السلطان فسأل المستعين وصيفا عن أعمال إيتاخ و قلدها لباغر فعذل وصيفا في الشأن فحلف له أنه ما علم قصد الخليفة و تنكر بغا لباغر فجمع أصحابه الذين بايعوه على المتوكل و جدد عليهم العهد في قتل المستعين و بغا و وصيف و أن ينصبوا ابن المعتصم أو ابن الواثق و يكون الأمر لهم و نما الخبر على الترك إلى المستعين فأحضر بغا و وصيفا و أعلمهما بالخبر فحلفا له على العلم و أمروا بحبس باغر و رجلين معه من الأتراك فسخطوا ذلك و ثاروا فانتهبوا الإصطبل و حضروا الجوثق و أمر بغا و وصيف و شاهك الخادم و كاتبه أحمد بن صالح ابن شيزاده و نزل على محمد بن طاهر في بيته في المحرم سنة إحدى و خمسين و لحق به القواد و الكتاب و العمال و بنو هاشم و تخلف جعفر الخياط و سليمان بن يحيى بن معاذ فندم الأتراك و ركب جماعة من قوادهم إلى المستعين و أصحابه ليردوهم فأبوا و رجعوا آيسين منه و تفاوضوا في بيعة المعتز (3/358)
بيعة المعتز و حصار المستعين
كان قواد الأتراك لما جاؤا إلى المستعين ببغداد يعتذرون من فعلهم و يتطارحون في الرضا عنهم و الرجوع إلى دار مكة و هو يوبخهم و يعدد عليهم إحسانه و إساءتهم و لم يزالوا به حتى صرح لهم بالرضا فقال بعضهم : فإن كنت رضيت فقم و راكب معنا إلى سامرا فكلمه ابن طاهر لسوء خطابهم و ضحك المستعين لعجمتهم و جهلهم بآداب الخطاب و أمر باستمرار أرزاقهم و وعدهم بالرجوع فانصرفوا حاقدين ما كان من ابن طاهر و أخرجوا المعتز من محبسه و بايعوا له بالخلافة و أعطى للناس شهرين و حضر للبيعة أبو أحمد بن الرشيد فامتنع منها و قال : قد خلعت نفسك ! فقال : أكرهت فقال : ما علمنا ذلك و لا مخلص لنا في إيماننا فتركه و ولوا على الشرطة إبراهيم البربرح و أضيفت له الكتابة و الدواوين و بيت المال و هرب عتاب ابن عتاب من القواد إلى بغداد و قال محمد بن عبد الله بن طاهر بالأحتشاد و استقدم مالك بن طوق في أهل بيته و جنده و أمر حوبة بن قيس و هو على الأنبار و بالأحتشاد و كتب إلى سليمان بن عمران صاحب الموصل بمنع الميرة عن سامرا و شرع في تحصين بغداد و أدار عليها الأسوار و الخنادق من الجانبين و جعل على كل باب قائدا و نصب على الأبواب المجانيق و العدادات و شحن الأسوار بالرماة و المقاتلة و بلغت النفقة في ذلك ثلثمائة و ثلاثين ألف دينار و فوض للعيارين الرزق و اغدق عليهم و أنفذ كتب المستعين إلى العمال بالنواحي تحمل الخراج إلى بغداد و كتب المستعين إلى الأتراك يأمرهم بالرجوع عما فعلوا و كتب المعتز إلى محمد يدعوه إلى بيعته و طالت المرجعات في ذلك و كان موسى بن بغا قد خرج لقتال أهل حمص فاختلفت إليه و هو بالشام كتب المستعين و المعتز يدعوه كل واحد منهما إلى نفسه فاختار المعتز و رجع إليه و هرب إليه عبد الله بن بغا الصغير من بغداد بعد أن هرب عنه فقتله و هرب الحسن بن الأفشين إلى بغداد فخلع عليه المستعين و ضم إليه الأشروسية ثم عقد المعتز لأخيه إلى أحمد الواثق عن حرب بغداد و ضم إليه الجنود مع باكليال من قوادهم فسار في خمسين ألفا من الأتراك و الفراغنة و المغاربة و انتهبوا ما بين عكبرا و بغداد من القرى و الضياع و خربوها و هرب إليهم جماعة من أصحاب بغا الصغير و وصلوا إلى باب الشماسية و ولى المستعين على باب الشماسية الحسين بن إسمعيل بن إبراهيم بن الحسن بن مصعب و جعل القواد هنالك تحت يده و وافقت طلائع الأتراك إلى باب الشماسية فوقفوا بالقرب منه و أمده ابن طاهر بالشاة بن ميكال و بيدار الطبري ثم ركب محمد بن عبد الله بن طاهر من الغد و معه بغا و وصيف و الفقهاء و القضاة و ذلك عاشر صفر و بعث إليهم يدعوهم إلى مراجعة الطاعة على المعتز ولي عهده فم يجيبوا فانصرفوا و بعث إليه القواد من الغد بأنهم زحفوا إلى باب الشماسية فنهاهم عن مناداتهم بالقتال و قدم ذلك اليوم عبد الله بن سليمان خليفة بغا من مكة في ثلثمائة رجل ثم جاء الأتراك من الغد فاقتتلوا مع القواد و انهزم القواد و بلغ ابن طاهر أن جماعة من الأتراك ساروا نحو النهروان فبعث قائدا من أصحابه إليهم فرجع منهزما و استولى الأتراك على طريق خراسان و قطعوها عن بغداد ثم بعث المعتز عسكرا آخر نحو أربعة آلاف فنزلوا في الجانب الغربي و بعث ابن طاهر إليهم الشاه ابن ميكال فهزمهم و أثخن فيهم و رجع إلى بغداد فخلع عليه و على سائر القواد أربع خلع و طوقا و سوارا من ذهب لكل واحد ثم أمر ابن طاهر بهدم الدور و الحوانيت إلى باب الشماسية ليتسع المجال للحرب و قدمت عليه أموال فارس و الأهواز مع مكحول الأشروسي و خرج الأتراك الاعتراضه و بعث ابن طاهر لحفظه فقدموا به بغداد و لم يظفر به الأتراك و مضوا نحو النهروان فأحرقوا سفن الجسر و كان المستعين قد بعث محمد بن خالد بن يزيد بن مزيد واليا على الثغور الجزرية و أقام ينتظر الجند و المال فلما بلغه خبر هذه الفتنة جاء على طريق الرقة إلىبغداد فخلع عليه ابن طاهر و بعثه في جيش كثيف لمحاربتهم و صار إلى ضبيعة بالسواد فأقام بها فقال ابن طاهر : لن يفلح أحد من العرب إلا أن يكون معه نبي ينصره الله به ! ثم ذهب الأتراك و قاتلوا و اتصل الحصار و اشتدت الحرب وانتهبت الأسواق و ورد الخبر من الثغور بأن بلكاجور حمل الناس على بيعة المعتز فقال ابن طاهر : لعله ظن موت المستعين فكان كذلك و وصل كتابه بأنه جدد البيعة و كان موسى بن بغا مع الأتراك كما قدمنا فأراد الرجوع على المستعين فامتنع أصحابه و قاتلوه فلم يتم له أمره وفر القعاطون من البصرة و رموا على الأتراك فأحرقوهم فبعث ابن طاهر إلى المدائن ليحفظها و أمده بثلاثة آلاف فارس بعث إلى الأنبار حوبة بن قيس فشق الماء إلى خندقها من الفرات و جاء إلى الإسحاقي من قبل المعتز فسبق المدد الذي جاء من قبل ابن طاهر و ملك الأنبار و رجع حوبة إلى بغداد فأنفذ ابن طاهر الحسين بن إسمعيل في جماعة من القواد و الجند فاعترضه الأتراك و حاربوه و عاد الأنبار و تقدم و هو لينزل عليهما و بينما هو يحط الأثقال إذا بالأتراك فقاتلهم و هزمهم و أثخن فيهم و كانوا قد كمنوا له فخرج الكمين و انهزم الحسين و غرق كثير من أصحابه في الفرات و أخذ الأتراك عسكره و وصل إلى الياسرية آخر جمادى الآخرة و منع ابن طاهر المنهزمين من دخول بغداد و توعدهم على الرجوع إليه و أمده بجند آخر فدخل من الياسرية و بعث على المخاض الحسين بن علي بن يحيى الأرميني في مائتين مقاتل ليمنع الأتراك من العبور إليه من عدوة الفرات فوافوه و قاتلوه عليها فهزموه و ركب الحسين في زورق منحدرا و ترك عسكره و أثقاله فاستولى عليها الأتراك و وصل المنهزمون إلى بغداد من ليلتهم و لحق من عسكره جماعة من القواد و الكتاب بالمعتز و فيهم علي و محمد ابنا الواثق و ذلك أول رجب ثم كانت بينهم عدة وقعات و قتل من الفريقين خلق و دخل الأتراك في كثير من الأيام بغداد و أخرجوا عنها ثم ساروا إلى المدائن و غلبوا عليها ابن أبي السفاح و ملكوها و جاء الأتراك الذين بالأنبار إلى الجانب الغربي و انتهوا إلى صرصر و قصر ابن هبيرة و اتصل الحصار إلى شهر ذي القعدة و خرج ابن طاهر في بعض أيامه في جميع القواد و العساكر فقاتلهم و انهزموا و قتل منهم خلق و ارتقم الذين كانوا مع بغا و وصيف لذلك فلحقوا بالأتراك ثم تراجع الأتراك و انهزم أهل بغداد ثم خرج في ذي الحجة رشيد بن كاووس أخو الأفشين ساعيا في الصلح بين الفريقين و اتهم الناس ابن طاهر بالسعي في خلع المستعين فلما جاء رشيد و أبلغهم سلام المعتز و أخيه أبي أحمد شتموه و شتموا ابن طاهر و عمدوا إلى دار رشيد ليهدموها و سأل ابن طاهر من المستعين أن يسكنهم فخرج إليهم و نهاهم و برأ ابن طاهر مما اتهموه به فانصرفوا و ترددت الرسل بين ابن طاهر و بين أبي أحمد فتجدد للعامة و الجند سوء الظن و طلب الجند أرزاقهم فوعدهم بشهرين و أمرهم بالنزول فأبوا إلا أن يعلمهم الصحيح من رأيه في المستعين و خاف أن يدخلوا الأتراك كما عمل أهل المدائن و الأنبار فأصعد المستعين على سطح دار العامة حتى رآه الناس و بيده البردة و القضيب و أقسم عليهم فانصرفوا و اعتزم ابن طاهر على التحول إلى المدائن فجاء وجوه الناس و اعتذروا له بالغوغاء فأقصروا بنقل المستعين عن دار ابن طاهر إلى دار رزق الخادم بالرصافة و أمر القواد و بني هاشم بالكون مع ابن طاهر فركب في تعبية و حلف لهم على المستعين و على قصد الإصلاح فدعوا له و سار إلى المستعين و أغراه به و أمر بغا و وصيفا بقتله فلم يفعلا و جاءه أحمد بن اسرائيل و الحسين بن مخلد بمثل ذلك في المستعين فتغير له ابن طاهر فلما كان يوم الأضحى و قد حضر الفقهاء و القضاة طالبه ابن طاهر بإمضاء الصلح فأجاب و خرج إلى باب الشماسية فجلسس هناك ابن طاهر إلى المستعين و أخبره بأنه عقد الأمر إلى أن يخلع نفسه و يبتذلوا خمسين ألف دينار و يعطوه غلة ثلاثين ألف دينار و يقيم بالحجاز مترددا بين الحرمين و يكون بغا واليا على الحجاز و وصيف على الجبل و يكون ثلث الجباية لابن طاهر و جند بغداد و الثلثان للموالي و الأتراك فامتنع المستعين أولا من الخلع ظنا منه أن وصيفا و بغا معه ثم تبين مواقفها عليه فأجاب و كتب بما أراد من الشروط و أدخل الفقهاء و اشهدهم بأنه قد صير أمره إلى ابن طاهر ثم أحضر القواد و أخبرهم بأنه ما قصد بهذا الإصلاح إلا حقن الدماء و أخرجهم إلى المعتز ليوافقهم بخطه على كتاب الشرط و يشهدوا على إقراره فجاؤا بذلك لست خلون من المحرم سنة اثنتين و خمسين و مائتين (3/359)
خلع المستعين و مقتله و الفتن خلال ذلك
و لما تم ما عقده ابن طاهر و وافى القواد بخط المعتز على كتاب الشروط أخذ البيعة للمعتز على أهل بغداد و خطب له بها و بايع له المستعين و أشهد على نفسه بذلك و فنقله من الرصافة إلى قصر الحسن بن سهل و معه عياله و أهله و أخذ البردة و القضيب و الخاتم و منع من الخروج إلى مكة فطلب البصرة فمنع منها و بعث إلى واسط فاستوزر المعتز أحمد بن أبي اسرائيل و رجع أخوه أبو أحمد إلى سامرا و في آخر المحرم انصرف أبو الساج دبواز بن درموسب إلى بغداد فقلده ابن طاهر معاون السواد فبعث معه مؤنة إليها لطرد الأتراك و المغاربة عنها و سار هو إلى الكوفة ثم كتب المعتز إلى ابن طاهر بإسقاط بغا و وصيف و من معهما من الدواوين و كان محمد أبو عون من قواد ابن طاهر قد تكفل لأبي إسحق بقتلهما و عقد له المعتز على اليمامة و البحرين و البصرة و نمى الخبر إليهما بذلك فركبا إلى طاهر و أخبراه الخبر و أن القوم قد نقضوا العهد ثم بعث وصيف أخته سعاد إلى المؤيد و كان في حجرها فاستوهن له الرضا من المعتز و كذا فعل أبو أحمد مع بغا و كتب لهما المعتز جميعا بالرضا ثم رغب الأتراك في إحضارهما بسامرا و فكتب بذلك و دس إلى ابن طاهر بمنعهما فخرجا فيمن معهما و لم يقدر ابن طاهر على منعهما و حضرا باسامرا فعقد إليهما المعتز على أعمالهما و رد البريد إلى موسى بن بغا الكبير ثم كانت فتنة بين جند بغداد و ابن طاهر في شهر رمضان جاؤا إليه يطلبون أرزاقهم قال : كتبت إلى أمير المؤمنين في ذلك فكتب إلي إن كنت تريد الجند لنفسك فأعطهم و إن كان لنا فلا حاجة لنا فيهم فشغبوا ففرق فيهم ألفي دينار فسكنوا ثم اجتمعوا ثانية و معه الأعلام و الطبول و ضربوا الخيام بباب الشماسية و بنوا البيوت من الأعواد و القصب و جمع محمد بن إبراهيم أصحابه و شحن داره بالرجال و أرادوا يوم الجمعة أن يمنعوا الخطيب من الدعاء للمعتز فقعد و اعتذر بالمرض فخرجوا إلى الجسر ليقطعوه فقاتلهم أصحاب ابن طاهر و دفعوهم عنه ثم دفعوا أصحاب ابن طاهر بإعانة أهل الجانب الشرقي و جاء العامة فجلس الشرطة فأمر ابن طاهر بإحراق الحوانيت إلى باب الجسر و مات أصحابه تعبية الحرب و جاء من دله على عورة الجند فسرح الشاه بن ميكال و عرض القواد فسار إلى ناحيتهم و افترقوا و قتل بينهم ابن الخليل و حمل رئيسهم الآخر ابن القاسم عبدون بن الموفق إلى ابن طاهر و مات في خلال ذلك و أخرج المعتز أخاه المؤيد من ولاية العهد و ذلك أن العلاء بن أحمد عامل أرمينية بعث إلى المؤيد بخمسة آلاف دينار فأخذها عيسى بن فرخانشاه فأغرى المؤيد بعيسى الأتراك و المغاربة فبعث المعتز إلى المؤيد و أبي أحمد و قتل المؤيد فأخذ خطه بخلع نفسه ثم نمي إليه أن الأتراك يرومون إخراجه من الحبس فسأل عن ذلك موسى بن بغا فأنكر علم ذلك و أخرج المؤيد من الغد ميتا و دفنته أمه فيقال غطى على أنفه فمات و قيل أقعد في الثلج و وضع على رأسه ثم نقل أخوه ابن أحمد إلى مجلسه ثم اعتزم المعتز على قتل المستعين فكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر أن يسلمه إلى سيما الخادم و كتب محمد في ذلك إلى الموكلين به بواسط يقال بل أرسل بذلك أحمد بن طولون فسار به في القاطون و سلمه إلى سعيد بن صالح فضربه سعيد حتى مات و قيل ألقاه في دجلة بحجر في رجله و كانت معه دابته فقتلت معه و حمل رأسه إلى المعتز فأمره بدفنه و أمر لسعيد بخمسين ألف درهم و ولاه معونة البصرة ثم وقعت فتنة بين الأتراك و المغاربة مستهل رجب بسبب أن الأتراك و ثبوا بعيسى بن فرخانشاه فضربوه و أخذوا دابته لما أمرهم المؤيد فامتعضت المغاربة له و نكروا على الأتراك و غلبوهم على الجوسق و أخذوا دوابهم و ركبوها و ملكوا بيت المال و استجاش الأتراك بمن كان منهم في الكرخ و الدور و انضم الغوغاء و الشاكرية إلى المغاربة فضعفت الأتراك عن لقائهم و سعى بينهم جعفر بن عبد الواحد في الصلح فتوادعوا أياما ثم اجتمع الأتراك على حين افتراق المغاربة فقصد محمد بن راشد و نصر ابن سعيد منزل محمد بن عون يختفيان عنده حتى تسكن الهيعة فدس للأتراك بخبرهما و جاؤا فقتلوهما في منزله و بلغ ذلك المعتز فهم بقتل ! ابن عون ثم نفاه (3/363)
أخبار مساور الخارجي
كان الوالى على الموصل عقبة بن محمد بن جعفر بن محمد بن الأشعث بن هاني الخزاعي و كان صاحب الشرطة بالحديثة من أعمالها حسين بن بكير و كان مساور ابن عبد الله بن مساور البجلي من الخوارج يسكن البواريخ و حبس صاحب الشرطة حسين بن بكير بالحديثة ابنا للمساور هذا يسمى جوثرة و كان جميلا فكتب إلى أبيه مساور بأن حسين بن بكير نال منه الفاحشة فغضب لذلك و خرج فقصد الحديثة فاختفى حسين و أخرج ابنه من الحبس ثم كثر جمعه من الأكراد و الأعراب و قصد الموصل فقاتلها أياما ثم رجع فكان تحت طريق خراسان و كانت لنظر بندأر و مظفر بن مشبك فسار إليه بندار في ثلثمائة مقاتل و الخوارج مع مساور في سبعمائة فهزموه و قتلوه و لم ينج منهم إلا نحو خمسين رجلا و فر مظفر إلى بغداد و جاء الخوارج إلى جلولاء و كانت فيهم حرب هلك فيها من الجانبين خلق ثم سار خطرمش في العساكر فلقيهم بجلولاء و هزمه مساور ثم استولى مساور على أكثر أعمال الموصل ثم ولى الموصل أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبي سنة أربع و خمسين فاستخلف عليها ابنه الحسن فجمع عسكرا كان فيهم حمدون الحرث بن لقمان جدا لأمراء من بني حمدان و محمد بن عبد الله بن السيد بن أنس و سار إلىمساور و عبر إليه نهر الزاب فتأخر عن موضعه و سار الحسن في طلبه فالتقوا و اقتتلوا و انهزم عسكر الموصل و قتل محمد بن السيد الأزدي و نجا الحسن بن أيوب إلى أعمال اربل ثم كانت الفتنة سنة خمس و خمسين خلع المعتز و بويع للمهتدي و ولى على الموصل عبد الله بن سليمان فزحف إليه مساور و خام عبد الله عن لقائه فملك مساور البلد و أقام بها جمعة و صلى و خطب ثم خرج منها إلى الحديثة و كانت دار هجرته ثم انتقض عليه سنة ست و خمسين رجل من الخوارج اسمه عبيدة بن زهير العمري بسبب الخلاف في توبة الخاطيء و قال عبيدة : لا تقبل و اجتمع معه جماعة و خرج إليهم مساور من الحديثة و اقتتلوا قتالا شديدا ثم قتل عبيدة و انهزم أصحابه و خرج إليه آخر من بني زهر اسمه طوق فجمع له الحسن بن أيوب بن أحمد العدوي جمعا كثيرا و حاربه فقاتله سنة خمس أو سبع و استولى مساور على أكثر العراق و منع الأموال فسار إليه موسى بن بغا بابكيال في العساكر فانتهوا إلى و بلغهم خبر الأتراك مع المهتدي فأقاموا ثم زحفوا بخلع المهتدي فلما ولي المعتمد سير مفلحا إلى قتال مساور في عسكر كبير و خرج مساور عن الحديثة إلى جبلين حذاءها و قاتله مفلح في أتباعه و لحق الجبل فاعتصم به و أقام مفلح في حصاره فكانت بينهما وقعات و كثرت الجراحة في أصحاب مساور من لدن حربه مع عبيدة إلى هذه الحروب فسار عن الجبل و تركه و أصبح مفلح و قد فقدهم فسار إلى الموصل ثم إلى ديار ربيعة و سنجار و نصيبين و الخابور فأصلح أمورها و خرج من الموصل إلى الحديثة ففارقها عنه فرجع مساور في اتباعهم يتخطف من أعقابهم و يقاتلهم حتى وصل الحديثة فأقام بها أياما ثم سار إلى بغداد في رمضان سنة ست و خمسين فرجع مساور الحديثة و استولى على البلاد و اشتدت شوكته ثم أوقع به مسرور البلخي سنة ثمان و خمسين و جهز العسكر بالحديثة مع جعلان من قواد الترك ثم قتل سنة احدى و ستين يحيى بن جعفر من ولاه خراسان و سار مسرور في طلبه و تبعه الموفق فلم يدركاه (3/364)
مقتل وصيف ثم بغا
و في سنة ثلاث و خمسين أيام المعتز اجتمع الجند من الأتراك و الفراغنة و الأشروسية فطلبوا أرزاقهم منهم لأربعة أشهر و شغبوا فخرج إليهم بغا و وصيف و سيما الطويل و كلمهم وصيف و اعتذر بعدم المال و قال : خذوا الزاب في أرزاقكم نزلوا بدار أشناس يتناظرون في ذلك و مضى بغا و سيما إلى المعتز يسألانه في أمرهم و بقي وصيف في أيديهم فوثب عليه بعضهم فقتله و قطعوا رأسه و نصبوه ثم انفادوا و أهدر لهم ذلك و جعل المعتز لبغا الشرابي و ما كان لوصيف و ألبسه التاج و الوشاحين ثم تغير له المعتز لما عليه من الاستبداد على الدولة و خشى غائلته و مال باطنا إلى بابكيال و داخله في أمره و اعتده لذلك ثم زوج بغا ابنته آمنة من صالح بن وصيف و شغل بجهازها فركب المعتز في تلك الغفلة و معه حمدان بن إسرائيل إلى بابكيال في كرخ سامرا و كانت بينه و بين بغا وحشة شديدة و بلغ ذلك فركب في خمسمائة من غلمانه و ولده و قواده و كان أكثرهم منحرفين عنه و لحق بالسن و أقام المعتز على وجل لا ينام إلا بسلاحه ثم تعلل أصحاب بغا عليه فأعرض عنهم و ركب البحر راجعا إلى بغداد و جاء الجسر ليلا لئلا يفطن به الموكلون هنالك و بعثوا إلى المعتز بخبره فأمر بقتله و حمل إليه رأسه و نصب بسامرا و أحرقت المغاربة شلوه و كان قصد دار صالح بن وصيف ليثبوا على المعتز (3/366)
ابتداء دولة الصفار
كان يعقوب بن الليث عمر : الصفر بسجستان و كان صالح بن النضر الكناني من أهل البيت قد ظهر بتلك الناحية و قام يقاتل الخوارج و سمى أصحابه المتطوعة حتى قيل له صالح المطوعي و صحبه جماعة منهم درهم بن الحسن و يعقوب بن الليث هذا و غلبوا على سجستان ثم أخرجهم عنها طاهر بن عبد الله أمير خراسان و هلك صالح إثر ذلك و قام بأمر المتطوعة درهم بن الحسن فكثر أتباعه و كان يعقوب بن الليث شهما و كان درهم مضعفا و احتال صاحب خراسان حتى ظفر به و حبس ببغداد فاجتمعت المتطوعة على يعقوب بن الليث و قام بقتال السراة و أتيح له الظفر عليهم و أثخن فيهم و خرب قراهم و كانت له شرية في أصحابه لم تكن لأحد قبله فحسنت طاعتهم له و عظم أمره و ملك سجستان مظهرا طاعة الخليفة و كاتبه و قلده حرب السراة فأحسن الغناء فيه و تجاوزه إلى سائر أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ثم سار من سجستان إلى نواحي خراسان و عليها يومئذ محمد بن عبد الله بن طاهر و على هراة من قبلة محمد بن أوس الأنباري فجمع لمحاربة يعقوب و سار إليهم في التعبية فاقتتلوا و انهزم ابن أوس و ملك يعقوب هراة و بوشنج و عظم أمره و هابه صاحب خراسان و غيرها من الأطراف و كان المعتز قد كتب له بولاية سجستان فكتب له الآن بولاية كرمان و كان على فارس علي بن الحسين بن شبل و أبطأ عامل الخراج و اعتذر فكتب له المعتز بولاية كرمان يريد إعداء كل منهما بصاحبه لأن طاعتهما مهوضة فأرسل علي ابن الحسين بفارس طوق بن الغلس خليفة على كرمان و سار يعقوب الصفار من سجستان فسبقه طوق و استولى عليها و أقام يعقوب بمكانه قريبا منها يترقب خروج طوق إليه و بعد شهرين ارتحل إلى سجستان فوضع طوق أوزار الحرب و أقبل على اللهو و اتصل ذلك بيعقوب في طريقه فكر راجعا و أغذ السير فصادفه بعد يومين و ركب أصحابه و قد أحيط بهم ففروا ناجين بأنفسهم و ملك يعقوب كرمان و حبس طوق و بلغ الخبر إلى علي بن الحسين و هو على شيراز فجمع جيشه و نزل على مضيق شيراز و أقبل عليه يعقوب حتى نزل قبالته و المضيق متوعر بين جبل و نهر ضيق المسلك بينهما فاقتحم يعقوب النهر بينهما و أجاز إلى علي بن الحسين و أصحابه فانهزموا و أخذ علي أسيرا و استولى على جميع عسكره و دخل شيراز و ملكها و جبى الخراج و رجع إلى سجستان و ذلك سنة خمس و خمسين و يقال بل وقع بينهما بعد عبور النهر حرب شديدة و انهزم آخرها علي و كان عسكره من خمسة عشر ألفا من الموالي و الأكراد و رجعوا منهزمين إلى شيزار آخر يومهم و ازدحموا في الأبواب و افترقوا في نواحي فارس و انتهوا إلى الأهواز و بلغ القتلى منهم خمسة آلاف و لما دخل يعقوب و ملك فارس امتحن عليا و أخذ منه ألف بردة و من الفرش و السلاح و الآلة ما لا يحد و كتب إلى الخليفة بطاعته و أهدى هدية جليلة يقال منها عشر بازات بيض و باز أبلق صيني و مائة نافجة من المسك و غير ذلك من الطرف و رجع إلى سجستان ثم استعاد الخليفة بعد ذلك فارس و بعث عماله إليها (3/367)
ابتداء دولة ابن طولون بمصر
كان بابكيال من أكابر قواد الأتراك مع بغا و وصيف و سيما الطويل و لما حدثت هذه الفتن و تغلبوا على الخلفاء أخذوا الأعمال و النواحي في اقطاعهم فاقطع المعتز بابكيال هذا أعمال مصر و بها يومئذ ابن مدبر و كان بابكيال مقيما بالحفيدة فنظر فيمن يستخلفه عليها و كان أحمد بن طولون من أبناء الأتراك و أبوه من سبي فرغانة و ربي في دار الخلفاء و نشأ ابنه أحمد بها على طريقة مستقيمة لبابكيال خاله و أشير عليه بتوليته فبعثه على مصر فاستولى عليها أولا دون أعمالها و الاسكندرية ثم قتل المعتز بابكيال و صارت مصر في اقطاع بارجوع الترك و كان بينه و بين أحمد بن طولون مودة متأكدة فكتب إليه و استخلفه على مصر جميعها و رسخت قدمه فيها و أصارها تراثا لبنيه فكانت لهم الدولة المعروفة (3/368)
استقدام سليمان بن طاهر لولاية بغداد
قد تقدم لنا أن محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين كان على العراق و السواد و كانت لهم الشرطة و غيرها كان مقيما ببغداد و كان في المدافعة عن المستعين لما لجأ إليه ثم صلح مابينه و بين المعتز و استقل المعتز بالخلافة و الآثار المذكورة ثم هلك آخر سنة ثلاث و ثمانين أيام المعتز و فوض ما كان بيده من الولاية إلى أخيه عبيد الله نازعه ابنه طاهر في الصلاة عليه و مالت العامة مع أصحابه طاهر و القواد مع عبيد الله لوصية أخيه ثم أمضى المعتز عهد أخيه و خلع عليه و بذل لصاحب الخلع خمسين ألف درهم ثم بعث المعتز عن سليمان بن عبد الله بن طاهر من خراسان و ولاه على العراق و الشرطة و غيرها مكان أخيه محمد و عزل أخاهما عبيد الله فلما علم عبيد الله تقدم سليمان أخذ ما في بيت المال و انتقل إلى غربي دجلة و جاء سليمان و قائده محمد ابن أوس و معه جند من خراسان فأساؤا السيرة في أهل بغداد فحنق الناس عليهم و أعطى أرزاقهم مما بقي في بيت المال و قدمهم على جند بغداد و شاكريها فاتفق الجند على الثورة و فتقوا السجون و عبر ابن أوس إلى الجزيرة و اتبعه الجند و العامة فحاربهم و انهزم و أخرجوه من باب الشماسية ونهب من منزله قيمة ألفي ألف درهم و من الأمتعة ما لا يحصر و نهب منازل جنده و رأى سليمان أن يسكن الثائرة فأمر بالخروج إلى خراسان ثم كانت الفتنة في خلع المعتز و ولاية المهدي كما يذكر و بعث المهتدي سلخ رجب من سنة خمس و خمسين إلى سليمان ليأخذ البيعة له ببغداد و كان أبو أحمد بن المتوكل ببغداد قد بعثه إليها المعتز فنقله سليمان إلى داره و وثب الجند و العامة لذلك و اجتمعوا بباب سليمان و قاتلهم أصحابه مليا ثم انصرفوا و خطب من الغد للمعتز فسكنوا ثم ساروا و دعوا إلى بيعة أبي أحمد و طلبوا رؤيته فأظهره لهم و وعدهم بما طلبوا فافترقوا و وكل بحفظ أبي أحمد ثم بايع للمهتدي في شعبان من تلك السنة (3/369)
خبر كرخ اصبهان و أبي دلف
قد تقدم لنا شأن أبي دلف أيام المأمون و أنه كان مقيما بكرخة و أن المأمون عفاله عما وقع منه في القعود عن نصره و أقام بتلك الناحية و هلك فقام ابنه عبد العزيز مكانه و لما كانت أيام الفتنة تمسك بطاعة المستعين و ولى وصيف على الجبل و أصبهان فكتب إلى عبد العزيز باستخلافه عليها و بعث عليه بالخلع و عقد المعتز لموسى بن بغا الكبير في شهر رجب من سنة ثلاث و خمسين على الجبل و أصبهان فسار لذلك و في مقدمته مفلح فلقيه عبد العزيز بن أبي دلف في عشرين ألفا خارج همذان فتحاربا و انهزم عبد العزيز و قتل أصحابه و سار مفلح إلى الكرخ فخرج إليه عبد العزيز و قاتله ثانية فانهزم و استولى مفلح على الكرخ و مضى عبد العزيز إلى قلعة نهاوند فتحصن بها و أخذ مفلح أهله و أمه ثم عقد له وصيف سنة اثنين و خمسين على أعمال الجبل ثم عقد لموسى بن بغا فسار و في مقدمته مفلح فقاتله عبد العزيز فانهزم و ملك مفلح الكرخ و أخذ ماله و عياله ثم ملك عبد العزيز و قام مكانه ابنه دلف و قاتله القاسم بن صبهاه من أهالي أصبهان ثم قتل القاسم أصحاب أبي دلف وولوا أخاه أحمد بن عبد العزيز سنة خمس و ستين و ولاه عمر الصفار من قبله على أصبهان عندما ولاه عليها المعتمد سنة ست و ستين و حاربه كغليغ التركي سنة تسع و ستين فغلبه أحمد و أخرجه إلى الصميرة و بعث إليه عمر سنة ثمان و ستين في المال فبعث إليه ثم سار الموفق سنة ست و سبعين يريد أحمد بأصبهان فشاغله أحمد عن البلد و ترك داره بفرشها لنزول الموفق ثم مات أحمد سنة ثمانين و ولى أخوه عمر و أخوه بكير يرادفه و قاتلا رافع بن الليث بأمر المعتضد فهزمهما كما يأتي ذكره ثم قلده المعتضد أصبهان و نهوند و الكرخ عمر بن عبد العزيز سنة احدى و ثمانين ثم راجعا الطاعة (3/370)
خلع المعتز و موته و بيعة المهتدي
كان صالح بن وصيف بن بغا متغلبا على المعتز و كان كاتبه أحمد بن إسرائيل و كانت أمه قبيحة و وزيرها الحسن بن مخلد و كان أبو نوح عيسى بن إبراهيم من كبار الكتاب و جباة الأموال و طلب الأتراك أرزاقهم و شغبوا فقال صالح للمعتز : هذه الأموال قد ذهب بها الكتاب و الوزراء و ليس في بيت المال شيء فرد عليه أحمد بن إسرائيل و أفحش في رده و تفاوضا في الكلام فسقط صالح مغشيا عليه و بتادر أصحابه بالباب فدخلوا منتضين سيوفهم فدخل إلى قصره فأمر صالح بالوزراء الثلاثة فقيدوا و شفع المعتز في أمره وزيره فلم يقبل شفاعته و صادرهم على مال جليل حملوه فلم يسد شيا فلما فعلوا بالكتاب ما فعلوا من المصادرة إتهم الجند أنهم حملوا على مال و لم يكن ذلك فشفعوا في طلب أرزاقهم و ضمنوا للمعتز قتل صالح بن وصيف على خمسين ألفا يبذلها لهم و سألهم من أمه فاعتذرت فاتفقت كلمتهم على خلعه و دخل إليه صالح بن وصيف و محمد بن بغا المعروف بأبي نصر و بابكيال و طلبوه في الخروج إليهم فاعتذر لهم و أذن لبعضعم في الدخول فدخلوا و جروه إلى الباب و ضربوه و أقاموه في الشمس في صحن الدار و كلما مر به أحد منهم لطمه ثم أحضروا القاضي ابن أبي الشوارب في جماعة فأشهدهم على خلعه و على صالح بن وصيف بأمانه و أمان أمه و أخته و ولده و فرت أمه قبيحة من سرب كانت اتخذته بالدار ثم عذبوا المعتز ثم جعلوه في سرب و طموا عليه و أشهدوا على موته بني هاشم و القواد و ذلك آخر رجب من سنة خمس و خمسين بايعو المحمد ابن عمه الواثق و لقبوه المهتدي بالله عندما خلع المعتز نفسه و أقر بالعجز و الرغبة في تسليمها إلى المهتدي و بايعه الخاصة و العامة و كانت قبيحة أم المعتز لما فعل صالح بالكتاب ما فعل قد نفرا منهم على الفتك بذلك بصالح و نمي ذلك إليه فجمع الأتراك على الثوران و أيقنت قبيحة بالهلاك فأودعت ما في الخزائن من الأموال و الجواهر و حفرت سربا في حجرتها هربت منه لما أحيط بالمعتز و لما قتل خشيت على نفسها فبعثت إلى صالح تستأمنه فأحضرها في رمضان و ظفر منها بخمسمائة ألف دينار و عذبها على خزائن تحت الأرض فيها ألف ألف دينار و ثلثمائة ألف دينار و مقدار مكوك من الزبرجد لم ير مثله و مقدار مكوك آخر من اللؤلؤ العظيم و جراب من الياقوت الأحمر القليل النظير و ذمها الناس بأنها عرضت ابنها للقتل في خمسين ألف دينار و معها هذا المال ثم سارت إلى مكة فأقامت هنالك و قبض صالح على أحمد بن إسرائيل و زيد بن المعتز و عذبه و صادره ثم قبض على أبي نوح و فعل به مثله و قبض على الحسن بن مخلد كذلك و لم يمت و بلغ المهتدي ذلك فنكره و قال : كان الحبس كافيا في العقوبة و لأول ولاية المهتدي أخرج القيان و المغنين من سامرا و نفاهم عنها و أمر بقتل السباع التي كانت في دار السلطان و طرد الكلاب و رد المظالم و جلس للعامة و كانت الفتن قائمة والدولة مضطربة فشمر لإصلاحها لو أمهل و استوزر سليمان بن وهب و غلب على أمره صالح بن وصيف و قام بالدولة (3/370)
مسير موسى بن بغا إلى سامرا و مقتل صالح بن وصيف
كان موسى بن بغا غائبا بنواحي الري و أصبهان منذ ولاية المعتز عليها سنة ثلاث و خمسين و معه مفلح غلام أبي الساج و كانت قبيحة أم المعتز لما رأت اضطراب أموره كتبت إلى موسى قبل أن يفوت في أمره فجاءه كتابها و قد بعث مفلحا لحرب الحسن بن زيد العلوي فحربه بطبرستان فغلبه و أحرق قصوره بآمد و خرج في اتباعه إلى الديلم فكتب إلىموسى بالرجوع لمداهمة من شاء و بينما هو في استقدامه و انتظاره قتل المعتز و بويع المهتدي و بلغ أصحابه ما حواه صالح من أموال المعتز و كتابه و أمه فشرهوا إلىمثل ذلك و أغروا موسى بالمسير إلىسامرا و رجع مفلح من بلاد الديلم إليه و هو بالري فسار نحو سامرا و سمع المهتدي بذلك فكتب إليه بالمقام و يحذره على ما وراءه من العلويين فلم يصغ لذلك و أفحش أصحابه في إساءة الرسل الواصلين بالكتب فكتب بالاعتذار و احتج بما عاينه الرسل و أنه يخشى أن يقتله أصحابه إن عادوا إلى الري و صالح بن وصيف في خلال ذلك يغري به المهتدي و ينسبه إلى المعصية و الخلاف إلى أن قدم في المحرم سنة ست و خمسين و دخل في التبعية فاختفى صالح بن وصيف و مضى موسى إلى الجوسق و المهتدي جالس للمظالم فأعرض له عن الإذن ساعة ارتاب فيها هو و أصحابه و ظنوا أنه ينتظر قدوم صالح بالعساكر ثم أذن لهم فدخلوا و قبضوا على المهتدي و أودعوه دار باجورة و انتهبوا ما كان في الجوسق و استغاث المهتدي بموسى فعطف عليه ثم أخذ عليه العهود و الإيمان أن لا يوالي صالحا و أن باطنه و ظاهره في موالاتهم سواء فجددوا له البيعة و استبد موسى بالأمر و بعث إلى صالح للمطالبة بما احتجبه من الأموال فلم يوقف له على أثر و أخذوا في البحث عنه و في آخر المحرم أحضر المهتدي كتابا رفعه إليه سيما الشرابي زعم ان امرأة دفعته إليه و غابت فلم يرها و حضر القواد و قرأه سليمان بن وهب عليهم و هو بخط صالح يذكر ما صار إليه من الأموال و أنه إنما استتر خشية على نفسه و حسما للفتنة و إبقاء علىالموالي و لما قرأ الكتاب حثهم المهتدي على الصلح و الاتفاق فإتهمه الأتراك بالميل إلى صالح و أنه مطلع على مكانه و طال الكلام بينهم بذلك ثم اجتمعوا من الغد بدار موسى بن بغا داخل الجوسق و اتفقوا على خلع المهتدي إلا أخا بابكيال فإنه أبى من ذلك و تهددهم بأنه مفارقهم إلى خراسان و اتصل الخبر بالمهتدي فاستدعاه إليه و قد نظف ثيابه و تطيب و تقلد فأرعد و أبرق و تهددهم بالاستماتة ثم حلف لا يعلم مكان صالح و قال لمحمد بن بغا و بابكيال قد حضرتما مع صالح في أمر المعتز و أموال الكتاب و أنتم شركاؤه في ذلك كله و انتشر الخبر في العامة بأنهم أرهقوا و أرادوا خلعه فطفقوا يحاذرون على الدعاء في المساجد و الطرقات و يبغون على القواد بغيهم على الخليفة و يرمون الرقاع بذلك في الطرقات ثم إن الموالي بالكرخ و الدور دسوا إلى المهتدي أن يبعثوا إليه أخاه أبا القاسم عبد الله بعد أن ركبوا و تحركوا فقالوا لأبي القاسم : بلغنا ما عليه موسى و بابكيال و أصحابهما و نحن شيعة للخليفة فيما يريده و شكوا مع ذلك تأخر أرزاقهم و ما صاروا من الاقطاع و االزيادات إلى قوادهم و ما أخذه النساء و الدخلاء حتى أصحب ذلك كله بالخراج و الضياع و كتبوا بذلك إلى المهتدي فأجابهم بالثناء على التشيع له و الطاعة و الوعد الجميل في الرزق و النظر الجميل في شأن الاقطاعات للقواد و النساء فأفاضوا في الدعاء و أجمعوا على منع الخليفة من الحجر الاستبداد عليه و أن ترجع الرسوم إلى عادتها أيام المستعين على كل عشرة عريف و على كل خمسين خليفة و على كل مائة قائد و أن تسقط النساء و الزيادة في الاقطاع و يوضع العطاء في كل شهرين و كتبوا بذلك إلى المهتدي و أنهم صائرون إلى بابه ليقضي حوائجهم و إن أحد اعترض عليه أخذوا رأسه و إن تعرض له أحد قتلوا موسى بن بغا و بابكيال و ما جور فجاء أبو القاسم بالكتاب و قد قعد المهتدي للمظالم و عنده الفقهاء و القضاة و القواد قائمون في مراتبهم فقرأ كتابهم على القواد فاضطربوا و كتب جوابهم بما سألوا و طلب أبو القاسم من القواد أن يبعثوا معه رسولا بالعذر عنهم ففعلوا و مضى أبو القاسم إليهم بكتاب الكتاب و برسل القواد و أعذارهم فكتبوا إلى المهتدي يطلبون التوقيعات بخط الزيادات و رد الاقطاعات و إخراج الموالي البرانيين من الخاصة و رد الرسوم إلى عاداتها أيام المستعين و محاسبة موسى بن بغا و صالح بن وصيف على ما عندهم من الأموال و وضع العطاء على كل شهرين و صرف النظر في الجيش إلى بعض إخوته أو قرابته و إخراجه من الموالي و كتبوا بذلك إلى المهتدي و القواد فأجابهم إلى جميع ما سألوه و كتب إليهم موسى بن بغا بالأجابة في شأن صالح و الإذن في ظهور فقرؤا الكتابين و وعدوا بالجواب فركب إليهم أبو القاسم و اتبعه موسى في ألف و خمسمائة فوقف في طريقهم و جاءهم أبو القاسم فاضطربوا في الجواب و لم يتفقوا فرجع ورد موسى بن بغا فأمرهم المهتدي بالرجوع و أن يتقدم إليهم محمد بن بغا مع أبي القاسم و يدفعوا إليهم كتاب الأمان لصالح بن وصيف و قد كان من طلبتهم أن يكون موسى في مرتبة أبيه و صالح كذلك و الجيش في يده و أن يظهر على الأمان فأجيبوا إلى ذلك و افترق الناس إلى الكرخ و الدور و سامرا فلما كان من الغد ركب بنو وصيف في جماعة و لبسوا السلاح فنهبوا دواب العامة و عسكروا بسامرا و تعلقوا بأبي القاسم يطلبون صالحا فأنكر المهتدي أن يكون علم بمكانه و قال : إن كان عندهم فليظهروه ثم ركب ابن بغا في القواد و معه أربعة آلاف فارس و عسكر و افترق والأتراك و لم يظهر للكرخيين و لا لأهل الدور و سامرا في هذا اليوم حركة و جد موسى في طلب صالح و نادى عليه و عثر عليه بعض الغوغاء فجاء به إلى الجوسق و العامة في اتباعه فضربه بعض أصحاب مفلح فقتله و طيف برأسه على قناة و خرج موسى بن بغا لقتال السراة بناحية السن (3/372)
الصوائف منذ ولاية المنتصر إلى آخر أيام المهتدي
في سنة ثمان و أربعين أيام المستعين خرج بناحية الوصل محمد بن عمر الشاربي و حكم فسرح المنتصر إسحق بن ثابت الفرغاني فأسره في عدة من أصحابه و قتلوا و صلبوا و في هذه السنة غزا بالصائفة و أمره المنتصر بالمقام بملطية أربع سنين و يغزو في أوقات الغزو إلى أن يأتيه رأيه و كان مقيما بالثغر الشامي فدخل بلاد الروم و افتتح حصن قدورية و في سنة تسع و أربعين غزا بالصائفة جعفر بن دينار فافتتح مطامير و استأذنه عمر بن عبد الله الأقطع في الدخول إلى بلاد الروم فأذن له فدخل في جموع من أهل ملطية و لقي ملك الروم بمرج الأسقف في خمسين ألفا فأحاطوا به و قيل في ألفين من المسلمين و خرج الروم إلى الثغور الخزرية فاستباحوها و بلغ ذلك علي ابن يحيى الأرمني و قد كان صرف عن الثغور الشامية و عقد له على أرمينية و أذربيجان فلما سمع بخبرهم نفر إليهم و قاتلهم فانهزم و قتل في أربعمائة من المسلمين و في سنة ثلاث و خمسين أيام المعتز غزا محمد بن معاذ من ناحية ملطية فانهزم و أسر الولاة لما ولي المنتصر استوزر أحمد بن الخصيب و ولى على المظالم أبا عمر أحمد بن سعيد مولى بني هاشم ثم ولي المستعين و مات طاهر بن عبد الله بخراسان فولى المستعين مكانه ابنه محمدا و ولى محمد بن عبد الله على العراق و جعل إليه الحرمين و الشرطة و معاون السواد و استخلف أخاه سليمان بن عبد الله على طبرستان و توفي بغا الكبير فولى ابنه موسى على أعماله و ضاف إليه ديوان البريد و شغب أهل حمص على عاملهم و أخرجوه فبعث عليهم المستعين الفضل بن قارن أخا مازيار فقتل منهم خلقا و حمل مائة من أعيانهم إلى سامرا و استوزر المستعين أتامش بعد أن عزل أحمد بن الخصيب و استصفى بقى إلى أقريطش و عقد لأتامش على مصر و المغرب و لبغا الشرابي على حلوان و ما سبذان و مهرجا بعده ثم قتل أتامش فاستوزر المستعين مكانه أبا صالح عبد الله بن محمد بن داود و عزل الفضل بن مروان عن الديوان الخراج و ولاه عيسى بن فرخانشاه و ولى وصيفا على الأهواز و بغا الصغير على فلسطين ثم غضب بغا على أبي صالح ففر إلى بغداد و استوزر المستعين مكانه محمد بن الفضل الجرجاني و ولى ديوان الرسائل سعيد بن حميد و عزل جعفر بن عبد الواحد عن القضاء و نفاه إلى البصرة و ولى جعفر بن محمد بن عمار البرجمي و في خمسين عقد لجعفر بن الفضل بن عيسى بن موسى المعروف بساسان على مكة و وثب أهل حمص على عاملهم الفضل بن قارن فقتلوه فسرح إليهم المستعين موسى بن بغا و حاربوه فهزمهم و أفتتحت حمص و أثخن فيهم و أحرقها و فيها وثب الشاكرية و الجند بفارس بعبد الله بن إسحق فانتهبوا منزله و قتلوا محمد بن الحسن بن قارن و هرب عبد الله بن إسحق و فيها كان ظهور العلوية بنواحي طبرستان و في سنة احدى و خمسين عقد المعتز لبغا وصيف على أعمالها و رد البريد إلى موسى بن بغا الكبير و عقد محمد بن طاهر لأبي الساج و قدم بين يديه عبد الرحمن كما قلنا و أظهر أنه إنما جاء لحرب الأعراب و تلطف لأبي أحمد حتى خالطه و قيده و بعث به إلى بغداد في سنة اثنتين و خمسين و ولى المعتز الحسين بن أبي الشوارب على القضاء و بعث محمد ابن عبد الله بن طاهر أبا الساج على طريق مكة و عقد المعتز لعيسى الشيخ بن السليل الشيباني من ولد جساس بن مرة على الرملة فاستولى على فلسطين و على دمشق و أعمالها و قطع ما كان يحمل من الشام و كان إبراهيم بن المدبر على مصر فبعث إلى بغداد من المال بسبعمائة ألف دينار فاعترضها عيسى و أخذها و طولب بالمال فقال : الفتنة على الجند ! فولاه المعتمد على أرمينية يقيم بها دعواه و بعث المعتمد إلى الشام ما جور على دمشق و أعمالها و بلغ الخبر إلى عيسى فبعث ابنه منصورا في عشرين ألف مقاتل فانهزم و قتل و سار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل و فيها عقد وصيف لعبد العزيز بن أبي دلف العجلي على أعمال الجبل و في سنة ثلاث و خمسين عقد لموسى بن بغا على الجبل فسار وفي مقدمته مفلح مولى بني الساج و قاتله عبد العزيز بن أبي دلف فانهزم و لجأ إلى قلعة لهادر و ملك مفلح الكرخ و أخذ أهله و عياله و فيها مات ابن عبد الله بن طاهر ببغداد و ولى أخوه عبيد الله بعهده ثم بعث المعتز عن أخيه سليمان بطبرستان فولاه مكانه و كان على الموصل سليمان بن عمران الأزدي و كانت بينه و بين الأزد حروب بنواحي الموصل و فيها مات مزاحم بن خاقان بمصر و فيها ملك يعقوب الصفار سجستان و فارس و هراة و كان ابتداء دولته و ولى بابكيال أحمد بن طولون على برمصر من قبله فكان ابتداء دولته ثم أقطعها المعتمد سنة سبع و خمسين ليارجوج فولى عليها أحمد بن طولون من قبله و في سنة خمس و خمسين أيام المهتدي استولى مساور الخارجي على الموصل و فيها ظهر صاحب الزنج و كان ابتداء فتنته (3/374)
أخبار صاحب الزنج و ابتداء فتنته
كان أكثر دعاة العلوية الخارجين بالعراق أيام المعتصم و ما بعده أكثرهم من الزيدية و كان من أثمتهم علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد الشهير و كان نازلا بالبصرة و لما وقع البحث عليه من الخلفاء ظفروا بابن عمه علي بن محمد بن الحسين فقتل بغدك و لأيام من قتله خرج رجل بالري يدعى أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى المطلوب و ذلك سنة خمس و خمسين و مائتين أيام المهتدي و لما ملك البصرة لقي عليا هذا حيا معروف النسب فرجع عن ذلك و انتسب إلى يحيى قتيل الجوزجان أخي عيسى المذكور و نسبه المسعودي إلى طاهر بن الحسين و أظنه الحسين ابن طاهر بن يحيى المحدث بن الحسين بن جعفر بن عبد الله بن الحسين بن علي لأن ابن حزم قال في الحسين السبط أنه لا عقب له إلا من علي بن الحسين و قال فيه علي بن محمد بن جعفر بن الحسين بن طاهر و قال الطبري و ابن حزم و غيرهم من المحققين أنه من عبد القيس و اسمه علي بن عبد الرحيم من قرية من قرى الري و رأى كثرة خروج الزيدية فحدثته نفسه بالتوثب فانتحل هذا النسب و يشهد لذلك أنه كان على رأي الأزارقة من الخوارج و لا يكون ذلك من أهل البيت و سياقة خبره أنه كان اتصل بجماعة من حاشية المنتصر و مدحهم ثم شخص من سامرا إلى البحرين سنة تسع و أربعين أدعى أنه من ولد العباس بن أبي طالب من ولد الحسن بن عبد الله بن العباس و دعا الناس إلى طاعته فاتبعه كثير من أهل حجر و غيرها و قاتلوا أصحاب السلطان بسببه و عظمت فتنته فتحول عنهم إلى الأحساء و نزل على بني الشماس من سعد بن تميم و صحبه جماعة من البحرين منهم يحيى بن محمد الأزرق و سليمان بن جامع فكانا قائدين له و قاتل أهل البحرين فانهزم و افترقت العرب عنه و اتبعه علي بن أبان و سار إلى البصرة و نزل في بني ضبيعة و عاملها يومئذ محمد بن رجاء و الفتنة فيها بين البلالية و السعدية و طلبه ابن رجاء فهرب و حبس ابنه و زوجته و جماعة من أصحابه فسار إلى بغداد و أقام بها حولا و انتسب إلى محمد بن أبي أحمد بن عيسى كما قلناه و استمال بها جماعة منهم جعفر ابن محمد الصوحاني من ولد زيد بن ضوحان و مسروق و رفيق غلامان ليحيى بن عبد الرحمن و سمى مسروقا حمزة و كناه أبا أحمد و سمى رفيقا جعفرا و كناه أبا الفضل ثم وثب رؤساء البلالية و السعدية بالبصرة و أخرجوا العامل محمد بن رجاء فبلغه ذلك و هو ببغداد و أن أهله خلعوه فرجع إلى البصرة في رمضان سنة خمس و خمسين و يحيى بن محمد و سليمان بن جامع و مسروق و رفيق فنزل بقصر القرش و دعا الغلمان من الزنوج و وعدهم بالعتق فاجتمع له منهم خلق و خطبهم و وعدهم بالملك و رغبهم في الإحسان و حلف لهم و كتب لهم في خرقة إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم الآية و اتخذها راية و جاءه موالي الزنج في عبيدهم فأمر كل عبد أن يضرب مولاه و حبسهم ثم أطلقهم و لم يزل هذا رأيه و الزنوج في متابعته و الدخول في أمره و هو يخطبهم في كل وقت و يرغبهم ثم عبر دجيلا إلى نهر ميمون فأخرج عند الحميري و ملكه و سار إلى الأيلة و بها ابن أبي عون فخرج إليه في أربعة آلاف فهزمهم و نال منهم ثم سار إلى القادسية فنهبها و كثر سلاحهم و خرج جماعة من أهل البصرة لقتاله فبعث إليهم يحيى بن محمد في خمسمائة رجل فهزمهم و أخذ سلاحهم ثم أخرى كذلك و أخرى و خرج قائدان من البصرة فهزمهما و قتل منهما و كانت معهما سفن ألقتها الريح إلى الشط فغنموا ما فيها و قتلوا و كثر عيثه و فساده و جاء أبو هلال من قواد الأتراك في أربعة آلاف مقاتل فلقيه على نهر الريان فهزمه الزنج و استلحموا أكثر أصحابه ثم خرج أبو منصور أحد موالي الهاشمين في عسكر عظيم من المطوعة و البلالية و السعدية فسرح للقائهم علي بن أبان فلقي طائفة منهم فهزمهم ثم أرسل طائفة أخرى إلى مرفأ السفن و فيه نحو من ألفي سفينة فهرب عنها أهلها و نهبوها ثم جاءت عساكر أبي منصور و قعد الزنوج لهم بين النخل و عليهم علي بن أبان و محمد بن مسلم فهزموا العسكر و قتلوا منهم و أخذوا سلاحهم ثم سار فنهب القرى حتى امتلأت أيديهم بالنهب ثم سار يريد البصرة و لقيته عساكرها فهزمهم الزنج و أثخنوا فيهم ثم سار من الغد نحو البصرة و خرج إليه أهلها و احتشدوا و زحفوا إليه برا و بحرا فلقيهم بالسد و انهزموا هزيمة شنعاء كثر فيها القتل و وهن أهل البصرة و كتبوا إلى الخليفة فبعث إليهم جعلان التركي مددا و ولى على الأبلة أبا الأحوص الباهلي و أمه بجند من الأتراك و قد بث صاحب الزنج أصحابه يمينا و شمالا للغارة و النهب و لما وصل جعلان إلى البصرة و نزل على فرسخ منهم و خندق عليه و أقام ستة أشهر يسرح لحربهم الزيني مع بني هاشم و مرجف ثم بيته الزنج فقتلوا جماعة من أصحابه و تحول عن مكانه ثم انصرف عن حربهم و ظفر صاحب الزنج بعده من المراكب غنم فيها أمولا عظيمة و قتل أهلها و ألح بالغارات على الأبلة إلى أن دخلها عنوة آخر رجب سنة ست وخمسين و قتل عاملها أبا الأخوص عبيد الله ابن حميد الطوسي و خلقا من أهلها و استباحها و أحرقها و بلغ ذلك أهل عبادان فأستأمنوا له و ملكها و استولى على ما فيها من الأموال و العبيد و السلاح إلى الأهواز و بها إبراهيم بن المدبر على الخراج فهرب أهلها و دخلها الزنج و نهبوا و أسروا ابن المدبر فخاف أهل البصرة و افترق كثير منهم من البلدان و بعث المعتمد سعيد بن صالح الحاجب لحربهم سنة سبع و خمسين فهزمهم و أخذ ما معهم و اثخن فيهم و كان ابن المدبر أسيرا عندهم في بيت يحيى بن محمد البحراني و قد ضمن لهم مالا كثيرا و وكل به رجلين فداخلهم حتى حفر سربا من البيت و خرج منه و لحق بأهله (3/376)
خلع المهتدي و قتله و بيعة المعتمد
و في أول رجب من سنة ست و خمسين شعف الأتراك من الترك و الدور بطلب أرزاقهم و بعث المهتدي أخاه أبا القاسم و معه كفقا و غيره فسكنوهم و عادوا و بلع محمد بن بغا أن المهتدي قال للأتراك أن الأموال عند محمد و موسى ابني بغا فهرب إلى أخيه بالسند و هو مقاتلة موسى الشاربي فأمنه المهتدي و رجع و معه أخوه حنون و كيغلغ فكتب له المهتدي بالامان و رجع إلى أصحابه و حبسه و صادره على خمسة عشر ألف دينار ثم قتله و بعث بابكيال بكتابه إلى موسى بن بغا بأن يتسلم العسكر و أوصاه بمحاربة الشاربي و قتل موسى بن بغا و مفلح فقرأ الكتاب على موسى و تواطؤا على أن يرجع بابكيال فيتدبر على قتل المهتدي فرجع و معه يارجوج و اساتكين و سيما الطويل و دخلوا دار الخلافة منتصف رجب فحبس بابكيال من بينهم و اجتمع أصحابه و معهم و الأتراك و شغبوا و كان عند المهتدي صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور فأشار بقتله و مناجزتهم فركب في المغاربة و الأتراك و الفراغنة على التعبية و مشى و البلخي في الميمنة و يارجوج في الميسرة و وقف هو في القلب و معه أساتكين و غيره من القواد و بعث برأس بابكيال إليهم مع عتاب بن عتاب و لحق الأتراك من صفة باخوانهم الأتراك و انتقض الباقون على المهتدي و ولى منهزما ينادي بالناس و لا يجيبه احد و سار إلى السجن فأطلق المحبوسين و دخل دار أحمد بن جميل صاحب الشرطة و افتتحوا عليه و حملوه على بغل إلى الجوسق حبس عند أحمد ابن خاقان و أرادوه على الخلع فأبى فأجرجوا رقعة بخطه لموسى بن بغا و بابكيال و جماعة القواد أنه لا يغدر بهم و لا يقاتلهم و لايهم بذلك و متى فعل شيئا من ذلك فقد جعل أمر الخلافة بأيديهم يولون من شاؤا فاستحلوا بذلك أمره و قتلوه و قيل في سبب خلعه غير هذا و هو أن أهل الكرخ و الدور من الأتراك طلبوا الدخول على المهتدي ليكلموه فأذن لهم و خرج محمد بن بغا إلى المحمدية و دخلوا في أربعة آلاف فطلبوا أن يعزل عنهم قواده و يصادرهم و كتابهم على الأهواز و يصير الأمر إلى أخوته فوعدهم بالإجابة و أصبحوا من الغد يطلبون الوفاء بما وعدهم به فاعتذر لهم بالعجز عن ذلك إلا بسياسة و رفق فأبو إلا المعاجلة فاستخلفهم على القيام معه في ذلك بإيمان البيعة فحلفوا ثم كتبوا إلى محمد بن بغا عن المهتدي و عنهم يعذلونه في غيبته عن مجلسهم مع المهتدي و أنهم إنما جاؤا بشكوى حالهم و وجدوا الدار خالية فأقاموا و رجع محمد بن بغا فحبسوه في الأموال و كتبوا إلى موسى بن بغا و مفلح بالقدوم و تسليم العسكر إلى من ذكروه لهم و بعثوا من يقيدهما إن لم يأتمرا ذلك و لما قرئت الكتب على موسى و أصحابه و امتنعوا لذلك و ساورا نحو سامرا و خرج المهتدي لقتالهم على التعبية و ترددت الرسل بطلب موسى أن يولى على ناحية ينصرف إليها و يطلب أصحاب المهتدي أن يحضر عندهم فيناظرهم على الأموال إلى أن انفض عنهم أصحابه و سار هو و مفلح على طريق خراسان و رجع بابكيال و جماعة من القواد إلىالمهتدي فقتل بابكيال ثم أنف الأتراك من مساواة الفراغنة و المغاربة لهم و أرادوا طردهم فأبى المهتدي ذلك فخرج الأتراك عن الدار بأجمعهم طالبين ثأر بابكيال فركب المهتدي على التعبية في ستة آلاف من الفراغنة و المغاربة و نحو ألف من الأتراك أصحاب صالح بن وصيف و اجتمع الأتاك للحرب في عشرة آلاف فانهزم المهتدي و كان ما ذكرناه من شأنه ثم أحضر أبو العباس أحمد بن المتوكل و كان محبوسا بالجوسق فبايعه الناس و كتب الأتراك إلى موسى بن بغا و هو غائب فحضر و كملت البيعة لأحمد بن المتوكل و لقب المعتمد على الله و استوزر عبيد الله بن خاقان فأصبح المهتدي ثاني يوم البيعة ميتا منتصف رجب من سنة ست و خمسين على رأس سنة من ولايته و لم يزل ابن خاقان في وزارته إلى أن هلك سنة ثلاث و ستين من سقطة بالميدان سال فيها دماغه من منخريه فاستوزر محمد بن مخلد ثم سخط عليه موسى بن بغا و اختلفا فاستوزر مكانه سليمان بن وهب ثم عزله و حبسه و ولى الحسن ابن مخلد و غضب الموفق لحبسه ابن وهب و عسكر بالجانب الغربي و ترددت الرسل بينهما فاتفقا و أطلقه و ذلك سنة أربع و ستين (3/379)
ظهور العلوية بمصر و الكوفة
و في سنة ست و خمسين ظهر بمصر إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن الحنفية و يعرف بالصومي يدعو إلى الرضا من آل محمد و ملك أشياء من بلاد الصعيد و جاءه عسكر أحمد بن طولون من مصر فهزمهم و قتل قائدهم فجاء جيش آخر فانهزم أمامهم إلى أبو خات و جمع هنالك جموعا و سار إلى الأشمومين فلقيه هنالك أبو عبد الرحمن العمري و هو عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر كان قد أخذ نفسه بحرب البجاة و غزوا بلادهم و لما كان منهم في غزو بلاد المسلمين فاشتد أمره في تلك الناحية و كثر اتباعه و بعث إليه ابن طولون عسكرا فقال لقائده أنا ألبث هناك لدفع الأذى عن بلاد المسلمين فشاور أحمد بن طولون فأبى القائد إلا من أجزته فهزمه العمري و لما سمع ابن طولون خبره أنكر عليهم أن لا يكونوا بذكره فبقي على حال من الغارة على البجاة حتى أدوا الجزية فلما جاء الصولي من الأشمونين لقيه العمري فهزمه و عاد العمري إلى أسوان و اشتد عيثه فبعث إليه ابن طولون العساكر فهرب إلى عيذاب و أجاز البحر إلى مكة و افترق أصحابه و قبض عليه والي مكة و بعث به إلى ابن طولون فحبسه مدة ثم أطلقه فرجع إلى المدينة و مات بها
و في هذه السنة ظهر علي بن زيد و جاءه الشاه بن ميكال من قبل المعتمد في جيش كثيف فهزمه و أثخن في أصحابه فسرح المعتمد إلى حربه كيجور التركي فخرج علي عن الكوفة إلى القادسية و ملك كيجور الكوفة أول شوال و أقام علي بن زيد ببلاد بني أسد ثم غزا كيجور آخر ذي الحجة فأوقع به و قتل و أسر من أصحابه و رجع إلى الكوفة ثم إلى سر من رأى و بقى علي هنالك إلى أن بعث المعتمد سنة تسع عسكرا فقتلوه بعكبر و انقطع أمره و قيل سار إلى صاحب الزنج فقتله سنة ستين و في هذه السنة غلب الحسين بن زيد الطالبي على الري و سار موسى بن بغا إليه (3/381)
بقية أخبار الزنج
قدم تقدم لنا أن المعتمد بعث سعيد بن صالح الحاجب لحربهم فأوقع بهم ثم عاودوه فأوقعوا به و قتلوا من أصاحبه و أحرقوا عسكره و رجع إلى سامرا فعقد المعتمد على حربهم لجعفر بن منصور الخياط فقطع عنهم ميرة السفن ثم سار إليهم في البحر فهزموه إلى البحرين ثم بعث الخبيث علي بن أبان من قواده إلى أربل لقطع قنطرتها فلقي إبراهيم بن سيما منصرفا من فارس فأوقع بهم إبراهيم و خرج علي بن أبان و سار إبراهيم إلى نهر جي و أمر كاتبه شاهين بن بسطام باتباعه و جاء الخبر إلى علي ابن أبان باقبال شاهين فسار و لقيه و هزمه أشد من الأول و انصرف إلى جي و كان منصور بن جعفر الخياط منذ انهزم في البحر لم يعد لقتال الزنج و اقتصر على حفر الخنادق و إصلاح السفن فزحف علي بن أبان لحصاره بالبصرة و ضيق على أهل البلد و أشرف على دخولها و بعث لاحتشاد العرب فوافاه منهم خلق فدفعهم لقتال أهل البصرة و فرقهم على نواحيها فقاتلهم كذلك يومين ثم افتتحها علي بن أبان منتصف شوال و أفحش في القتل و التخريب و رجع ثم عاودهم ثانية و ثالثة حتىطلبوا الأمان فأمنهم و أحضرهم في بعض دور الإمارة فقتلهم أجمعين و حرق علي ابن أبان الجامع و مواضع من البصرة و اتسع الحريق من الجبل إلى الجبل و عم النهب و أقام كذلك أياما ثم نادى بالأمان فلم يظهر أحد و انتهى الخبر إلى الخبيث فصرف علي بن أبان و ولى عليها يحيى بن محمد البحراني (3/382)
مسير المولد لحربهم
لما دخل الزنج البصرة و خربوها و أمر المعتمد محمدا المعروف بالمولد بالمسير إلى البصرة و سار إلى الأبلة ثم نزل البصرة و اجتمع إليه أهلها و أخرج الزنج عنها إلى نهر معقل ثم بعث الخبيث قائده يحيى بن محمد لحرب المولد فقاتله عشرة أيام و وطن المولد نفسه على المقام و بعث الخبيث إلى يحيى بن محمد أبا الليث الأصبهاني مددا و أمرهم بتبييت المولد فبيتوه و قاتلوه تلك الليلة و الغد إلى المساء ثم هزموه و غنم الزنج عسكره و اتبعه البحراني إلى الجامدة و أوقع بأهلها نهب تلك القرى أجمع و عاث فيها و رجع إلى نهر معقل (3/382)
مقتل منصور الخياط
كان الزنج لما فرغوا من البصرة سار علي بن أبان إلى جي و على الأهواز يومئذ منصور ابن جعفر الخياط قد ولاه عليها المعتمد بعد مواقعته الزنج بالبحرين فسار إلى الأهواز و نزل جي و سار علي بن أبان قائد الزنج لحربه و جاء أبو الليث الأصبهاني في البحر مددا له و تقدم إلى منصور من غير أمر علي فظفر منصور و قتل الكثير ممن معه و أفلت منهزما إلى الخبيث ثم تواقع علي بن أبان مع منصور فهزمه و اتبعه الزنج فحمل عليهم و ألقى نفسه في النهر ليعبر إليهم فغرق و قيل تقدم إليه بعض الزنج لما رآه فقتله في الماء ثم قتل أخوه خلف و غيره من العسكر و ولى يارجوج على عمل منصور اصطيخور من قواد الأتراك (3/383)
مسير الموفق لحرب الزنج
كان أبو أحمد الموفق و هو أخو المعتمد بمكة و كان المعتمد قد استقدمه عندما اشتد أمر الزنج و عقد له على الكوفة و الحرمين و طريق مكة و اليمن ثم عقد له على بغداد و السواد و واسط و كور دجلة و البصرة و الأهواز و أمره أن يعقد ليارجوج على البصرة و كور دجلة و اليمامة و البحرين مكان سعيد بن صالح و لما انهزم سعيد بن سعيد بن صالح عقد يارجوج لمنصور بن جعفر مكانه على البصرة و كور دجلة و الأهواز ثم قتله كما قلناه فعقد المعتمد لأخيه أبي أحمد الموفق على مصر و قنسرين و العواصم و خلع على مفلح و ذلك في ربيع سنة ثمان و خمسين و سيرهما لحرب الزنج فساروا في عدة كاملة و خرج المعتمد يشيع أخاه و كان علي بن أبان بجي و يحيى بن محمد البحراني بنهر العباس و الخبيث في قلة من الناس و أصحابه مترددون إلى البصرة لنقل ما نهبوه فلما نزل الموفق نهر معقل أجفل الزنج إلى صاحبهم مرتاعين فأمر علي بن أبان بالمسير إليهم و لقي مفلحا مقدمة الموفق فاقتتلوا و بينما هم يقتتلون إذ اصاب مفلحا سهم غرب فقتل و انهزم أصحابه و أسر الكثير منهم ثم رحل الموفق نحو الأبلة ليجمع العساكر و نزل نهر أبي الأسد و وقع الموتان في عسكره فرجع إلى بادرود و أقام لتجهيز الآلة و إزاحة العلل و إصلاح السفن ثم عاد إلى عسكر الخبيث فالتقوا و اشتد الحرب بينهم على نهر أبي الخصيب و قتل جماعة من الزنج و استنقذ كثير من النساء المسبيات و رجع إلى عسكره ببادرود فوقع الحريق في عسكره و رحل إلى واسط و افترق أصحابه فرجع إلى سامرا و استخلف على واسط (3/383)
مقتل البحراني قائد الزنج
كان اصطيخور لما ولي الأهواز بعد منصور الخياط بلغه مسير يحيى بن محمد قائد الزنج إلى نهر العباس عند مسير الموفق إليهم فخرج إليه اصطيخور فقاتله و عبر يحيى النهر و غنم سفن الميرة التي كانت عند اصطيخور و بعث طلائعه إلى دجلة فلقوا جيش الموفق فرجعوا هاربين و طلائع الموفق في اتباعهم و عبروا النهر منهزمين و بقى يحيى فقاتل و انهزم و دخل في بعض السفن جريحا و غنم طلائع الموفق غنائمهم و السفن و أحرقوا بعضها و عبروا المأخوره على يحيى فأنزلوه من سفنهم خشية على أنفسهم فسعى به طبيب كان يداوي جراحه و قبض عليه و حمل إلى سامرا و قطع ثم قتل ثم أنفذ الخبيث علي بن أبان و سليمان بن موسى الشعراني من قواده إلى الأهواز و ضم إليهما الجيش الذي كان مع يحيى و محمد البحراني و ذلك سنة تسع و خمسين فلقيهما اصطيخور بدستميسان و انهزم أمامهما و غرق و هلك من أصحابه خلق و أسر الحسن بن هزيمة و الحسن بن جعفر و غيرهما و حبسوا و دخل الزنج الأهواز فأقاموا يفسدون في نواحيها و يغنمون إلى أن قدم موسى بن بغا (3/384)
مسير ابن بغا لحرب الزنج
و لما ملك الزنج الأهواز سنة تسع و خمسين سرح المعتمد لحربهم موسى بن بغا و عقد له على الأعمال فبعث إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح و إلى البصرة إسحق بن كنداجق و إلى بادرود إبراهيم بن سيما و أمرهم بمحاربة الزنج فسار عبد الرحمن إلى علي بن أبان فهزمه أولا ثم كانت لعبد الرحمن الكرة ثانيا فأثخن فيهم و رجعوا إلى الخبيث و جاء عبد الرحمن إلى حصن نهدي فعسكر به و زحف إليه علي بن أبان فامتنع عليه فسار إلى إبراهيم بن سيما ببادرود فواقعه فانهزم أولا إبراهيم ثم كانت له الكرة ثانيا و سار ابن أبان في الغياض فاضرموها هاربين و أسر منهم جماعة و سار عبد الرحمن إلى علي بن أبان و جاءه المدد من الخبيث في البحر فبينما عبد الرحمن في حربه إذ بعث جماعة من خلفه و شعر بهم فرجع القهقرى و لم يصب منهم شيء إلا بعض السفن البحرية ثم راجع حرب علي بن أبان و في مقدمته طاشتمر فأوقعوا بعلي بن أبان بالخبيث صاحب الزنج و أقام عبد الرحمن بن مفلح و إبراهيم يتناوبان حرب الخبيث و يوقعان به و إسحق بن كنداجق بالبصرة يقطع عنه المدد وهو يبعث لكل منهما طائفة يقاتلونهم و أقاموا على ذلك سبعة عشر شهرا إلى أن صرف موسى بن بغا عن حربهم و وليها مسرور البلخي كما نذكر (3/384)
استيلاء الصفار على فارس و طبرستان
قد تقدم استيلاء يعقوب بن الليث الصفار على فارس أيام المعتز من يد علي بن الحسين بن مقتل ثم عادت فارس إلى الخلفاء و وليها الحرث بن سيما و كان بها من رجال العراق محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي فاتفق مع أحمد بن الليث من الأكراد الذين بنواحيها و وثبوا بن سيما فقتلوه و استولى ابن واصل على فارس سنة ست و خمسين و قام بدعوة المعتمد و بعث عليها المعتمد الحسن بن الفياض فسار إليه يعقوب بن الليث سنة سبع و خمسين و بلغ ذلك المعتمد فكتب إليه بالنكير و بعث إليه الموفق بولاية بلخ و طخارستان فملكهما و قبض على رتبيل و بعث إلى المعتمد برسله و هداياه ثم رجع إلى بست و اعتزم على العود إلىسجستان فعجل بعض قواده الرحيل قبله فغضب و أقام سنة ثم رجع إلى سجستان (3/385)
استيلاء الصفار على خراسان و انقراض أمر بني طاهر منها ثم استيلاؤه على طبرستان
ثم جاء إلى هراة و حاصر مدينة نيسابور حتى ملكها ثم سار إلى بوشنج و قبض الحسين بن علي بن طاهر بن الحسين و بعث إليه محمد بن طاهر بن عبد الله شافعا فيه فأبى من إطلاقه ثم ولى على هراة و بوشنج و باذغيس و رجع إلى سجستان و كان بها عبد الله السخري ينازعه فلما قوي عليه يعقوب فر منه إلى خراسان و حاصر محمد بن طاهر في نيسابور و رجع إليه الفقهاء فأصلحوا بينه و بيد و ولاه الطبسين و قهستان و أرسل يعقوب في طلبه فأجاره محمد فسار يعقوب إليه بنيسابور فلم يطق لقاءه و نزل يعقوب بظاهرها فبعث بعمومته و أهل بيته فتلقوه ثم خرج إليه فوبخه على التفريط في عمله و قبض عليه و على أهل بيته و دخل نيسابور و استعمل عليها و ارسل إلى الخليفة بأن أهل خراسان استدعوه لتفريط ابن طاهر في أمره و غلبه العلوي على طبرستان فبعث إليه المعتمد بالنكير و الاقتصار على مابيده و إلا سلك به سبيل المخالفين و ذلك سنة تسع و خمسين و قيل في ملكه نيسابور غير ذلك و هو أن محمد بن طاهر أصاب دولته العجز و الإدبار فكاتب بعض قرابته يعقوب بن الصفار و استدعوه فكتب يعقوب إلىمحمد بن طاهر بمجيئه إلى ناحية موريا بقصد الحسن ابن زيد في طبرستان و أن المعتمد أمره بذلك و أنه لا يعرض شيئا من أعمال خراسان و بعث بعض قواده عينا عليه يمنعه من البراح عن نيسابور و جاء بعده و قدم أخاه عمرا إلى محمد بن طاهر فقبض عليه و عنفه على الأعمال و العجز و قبض على جميع أهل بيته نحو من مائة و ستين رجلا و حملهم جميعا إلى سجستان و استولى على خراسان و وثب نوابه في سائر أعمالها و ذلك لاحدى عشرة سنة و شهرين من ولاية محمد و لما قبض يعقوب على ابن طاهر و استولى على خراسان هرب منازعه عبد الله السخري إلى الحسن بن زيد صاحب طبرستان فبعث إليه فأجاره و سار إلى يعقوب سنة ستين و حاربه فانهزم الحسن إلى أرض الديلم و ملك يعقوب سارية و آمل و مضى في اثر الحسين من عسكره نحو من أربعين الفا من الرجل و الظهر و نجا بعد مشقة شديدة وكتب إلى المعتمد بذلك و كان عبد الله السخري قد هرب بعد هزيمة الحسن العلوي إلى الري فسار يعقوب في طلبه و كتب إلى عامل الري يؤذنه بالحرب إن لم يدفعه إليه فبعث به إليه و قتله و رجع إلى سجستان (3/386)
استيلاء الحسن بن زيد على جرجان
و لما هرب الحسن بن زيد أمام مفلح من طبرستان و رجع مفلح اعتزم الحسن على الرجوع إلى جرجان فبعث محمد بن طاهر إليها العساكر لحفظها فلم يغنوا عنها و جاء الحسن فملكها و ضعف أمر بن طاهر في خراسان و انتقض عليه كثير من أعمالها و ظهر المتغلبون في نواحيها و عاث السراة من الخوارج في أعمالها و لم يقدر على دفعهم و آل ذلك إلى تغلب الصفار على ابن طاهر و انتزاع خراسان من يده كما ذكرنا (3/387)
فتنة الموصل
كان المعتمد قد ولى على الموصل أساتكين من قواد الأتراك فبعث عليها هو ابنه اذكرتكين و سار إليها في جمادى سنة تسع و خمسين فأساء السيرة و أظهر المنكر و عسف بالناس في طلب الخوارج و تعرض الأيام رجل من حاشيته إلى إمرأة في الطريق و تخلصها من يده بعض الصالحين فأحضره أذكرتكين و ضربه ضربا شديدا فاجتمع وجوه البلد و تآمروا في رفع أمرهم إلى المعتمد فركب إليهم ليوقع بهم فقاتلوه و أخرجوه و اجتمعوا على يحيى بن سليمان و ولوه أمرهم و لما كانت سنة احدى و ستين ولى أستاكين عليها الهيثم بن عبد الله بن العمد الثعلبي العدوى و أمره أن يزحف لحربهم ففعل و قاتلوه أياما و كثرت القتلى بينهم و رجع عنهم الهيثم و و لى أستاكين مكانه إسحق بن أيوب الثعلبي جد بني حمدان و غيره و حاصرها مدة و مرض يحيى بن سليمان الأمير و في أثنائها فطمع إسحق في البلد وجد في الحصار و اقتحمها من بعض الجهات فأخرجوه و حملو يحيى بن سليمان في قبة و ألقوه أمام الصف و اشتد القتال و لم يزل إسحق يراسلهم و يعدهم حسن السيرة إلى أن أجابوه على أن يقيم بالربض فأقام اسبوعا ثم حدثت ممن بايعه بعض الفعلات فوثبوا به و أخرجوه و استقر يحيى بن سليمان بالموصل (3/387)
حروب ابن واصل بفارس
قد تقدم لنا وثوب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي بالحرث بن سيما عامل فارس و تغلبه عليها سنة ست و خمسين فلما بلغ ذلك إلى المعتمد أضاف فارس إلى عبد الرحمن بن مفلح و بعثه إلى الأهواز و أمده بطاشتمر و زحفوا من الأهواز إلى ابن واصل سنة احدى و ستين فسار معهم من فارس و معه أبو داود العلوس و لقيهم برام هرمز فهزمهم و قتل طاشتمر و أسر ابن مفلح و غنم عسكرهم و بعث إليه المتعمد في إطلاق ابن مفلح فقتله خفية و سار لحرب موسى بن بغا بوسط و انتهى إلى الأهواز و بها إبراهيم بن سيما في جموع كثيرة و لما رأى موسى بن بغا اضطراب هذه الناحية استعفى المعتمد من ولايتها فأعفاه و كان عند انصراف ابن مفلح عن الأهواز إلى فارس قد ولى مكانه بالساج و أمره بمحاربة الزنج فبعث صهره عبد الرحمن لذلك فلقيه علي بن أبان قائد الزنج فهزمه علي و قتله و انحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم و ملك الزنج الأهواز قعاثوا فيها ثم عزل أبو الساج عن ذلك و ولى مكانه إبراهيم بن سيما فلم يزل بها حتى انصرف موسى بن بغا عن الأعمال كلها و لما هزم إبراهيم بن سيما بن واصل عبد الرحمن بن مفلح و قتله طمع يعقوب الصفار في ملك فارس فسار من سجستان مجدا و رجع ابن واصل من الأهواز و ترك محاربة ابن سيما و أرسل خاله أبا بلال مرادس إلى الصفار و راجعه بالكتب و الرسل بحبس ابن واصل رسله و رحل بعد السير ليفجأه على بغتة وشعر به الصفار فقال لخاله مرادس : إن صاحبك قد غدر بنا ! و سار إليهم و قد أعيوا و تعبوا من شدة السير و مات أكثرهم عطشا فلما تراءى الجمعان انهزم ابن واصل دون قتال و غنم الصفار ما في عسكره و ما كان لابن مفلح و استولى على بلاد فارس و رتب بها العمال و أوقع بأهل زم لأعانتهم ابن واصل و طمع في الاستيلاء على الأهواز و غيرها (3/388)
مبدأ دولة بني سامان وراء النهر
كان جدهم أسد بن سامان من أهل خراسان و بيوتها و ينتسبون في الفرس تارة و إلى سامة بن لؤي بن غالب أخرى و كان لأسد أربعة من الولد : نوح و أحمد و يحيى و إلياس و تقدموا عند المأمون أيام ولايته خراسان و استعملهم و لما انصرف المأمون إلى العراق ولى على خراسان غسان بن عباد من قرابة الفضل بن سهل فولى نوحا منهم على سمرقند و أحمد على فرغانة و يحيى على الشاش و أشروسنة و إلياس على هراة فلما ولي طاهر بن الحسين بعده أقرهم على أعمالهم ثم مات نوح بن أسد فأقر إخوته يحيى و أحمد على عمله و كان حسن السيرة و مات إلياس بهراة فولى عبد الله ابن طاهر مكانه ابنه أبا إسحق محمد بن إلياس و كان لأحمد بن أسد من البنين سبعة : نصر و يعقوب و يحيى و إسمعيل و يحيى و إسمعيل و إسحق و أسد و كنيته أبو الأشعث و حميد و كنيته أبوغانم فلما توفي أحمد استخلف ابنه نصرا على أعماله بسمرقند و ما إليها و أقام إلى انقراض أيام بني طاهر و بعدهم و كان يلي أعماله من قبل ولاة خراسان إلى حين انقراض أيام بني طاهر و استولى الصفار على خراسان فعقد المعتمد لنصر هذا على أعماله من قبله سنة احدى و ستين و لما ملك يعقوب الصفار خراسان كما قلنا بعث نصر جيوشه إلى شط جيحون مسلحة من الصفار فقتلوا مقدمهم و رجعوا إلى بخارى و خشيهم واليها على نفسه ففر عنها فولوا عليهم ثم عزلوا ثم ولوا ثم عزلوا فبعث نصر أخاه إسمعيل لضبط بخارى ثم ولي خراسان بعد ذلك رافع بن هرثمة بدعوة بني طاهر و غلب الصفار عليها و حصلت بينه و بين إسمعيل صاحب بخارى موالاة اتفقا فيها على التعاون و التعاضد و طلب منه إسمعيل أعمال خوارزم فولاه إياها و فسد ما بين إسمعيل و أخيه نصر و زحف نصر إليه سنة اثنتين و سبعين و استجاش إسمعيل برافع بن هرثمة فسار إليه بنفسه مددا و وصل إلى بخارى ثم أوقع الصلح بينه و بين أخيه خوفا على نفسه و انصرف رافع ثم انتقض ما بينهما و تحاربا سنة خمس و سبعين و ظفر إسمعيل بنصر و لما حضر عنده ترجل له إسمعيل و قبل يده و رده إلى كرسي إمارته بسمرقند و أقام نائبا عنه ببخارى و كان إسمعيل خيرا مكرما لأهل العلم و الدين (3/389)
مسير الموفق إلى البصرة لحرب الزنج و ولاية العهد
و لما استعفى موسى بن بغا من ولاية الناحية الشرقية عزم المعتمد على تجهيز أخيه أبي أحمد الموفق فجلس في دار العامة و أحضر الناس على طبقاتهم و ذلك في شوال من سنة احدى و ستين و عقد لابنه جعفر العهد من بعده و لقبه المفوض إلى الله و ضم إليه موسى بن بغا و ولاه أفريقية و مصر و الشام و الجزيرة و الموصل و أرمينية و طريق خراسان و نهر تصدق و عقد لأخيه أحمد العهد بعده و لقبه لدين الله الموفق و ولاه المشرق و بغداد و سواد الكوفة و طريق مكة و االيمن و كسكر و كور دجلة و الأهواز و فارس و أصبهان و الكرخ و الدينور و الري و زنجان و السند و عقد لكل واحد منهما لواءين أبيض و أسود و شرط أنه إن مات و جعفر لم يبلغ بتقدم الموفق عليه و يكون هو بعده و أخذت البيعة بذلك على الناس و عقد جعفر لموسى بن بغا على أعمال العرب و استوزر صاعد بن مخلد ثم نكبه سنة اثنتين و سبعين و استصفاه و استكتب مكانه الصفر إسمعيل بن بابل و أمر المعتمد أخاه الموفق بالمسير لحرب الزنج فبعثه في مقدمته و اعتزم على المسير بعده (3/390)
وقعة الصفار و الموفق
لما كان يعقوب الصفار ملك فارس من يد واصل و خراسان من يد ابن طاهر و قبض عليه صرح المعتمد بأنه لم يوله ولا فعل باذنه و بعث ذلك مع حاج خراسان و طبرستان ثم سار إلى الأهواز يريد لقاء المعتمد و ذلك سنة اثنتين و سبعين فأرسل إليه المعتمد إسمعيل بن إسحق و فهواج من قواده الأتراك ليردوه على ذلك و بعث معهما من كان في حبسه من أصحابه الذين حبسوا عندما قبض على محمد بن طاهر و عاد إسمعيل من عند الصفار بعزمه على الموصل فتأخر الموفق لذلك عن المسير لحرب الزنج و وصل مع إسمعيل من عند الصفار حاجبه درهم يطلب ولاية طبرستان و خراسان و جرجان و الري و فارس والشرطة ببغداد فولاه المعتمد ذلك كله مضافا إلى ما بيده من سجستان و كرمان و أعاد حاجبه إليه بذلك و معه عمر بن سيما فكتب يقول : لا بد من الحضور بباب المعتمد و ارتحل من عسكر مكرم حاما و سار إليه أبو الساج من الأهواز لدخوله تحت ولايته فأكرمه و وصله و سار إلى بغداد و نهض المعتمد من بغداد فعسكر بالزعفرانية و أخاه مسرور البلخي فقاتله منتصف رجب و انهزمت ميسرة الموفق و قتل فيها إبراهيم بن سيما و غيره من القواد ثم تراجعوا و اشتدت الحرب و جاء إلى الموفق محمد بن أوس و الدارني مددا من المعتمد و فشل أصحاب الصفار لما رأوا مدد الخليفة فانهزموا و خرج الصفار و أتبعهم أصحاب الموفق و غنموا من عسكره نحوا من عشرة آلاف من الظهر و من الأموال ما يؤد حمله و كان محمد بن طاهر معتقلا معه في العسكر منذ قبض عليه بخراسان فتخلص ذلك اليوم و جاء إلى الموفق و خلع عليه و ولاه الشرطة ببغداد و سار الصفار إلى خوزستان فنزل جند يسابور و أرسله الزنج يحثه على الرجوع و يعده المساعدة فكتب إليه : { قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون } السورة و كان ابن واصل قد خالف الصفار إلى فارس و ملكها فكتب إليه المعتمد بولايتها و بعث الصفار إليه جيشا مع عمر بن السري من قواده فأخرجه عنها و ولى على الأهواز محمد بن عبد الله بن طاهر ثم رجع المعتمد إلى سامرا و الموفق إلى واسط و اعتزم الموفق على اتباع الصفار فقعد به المرض عن ذلك و عاد إلى بغداد و معه مسرور البلخي سار بعد موسى و أقطعه ما لأبي الساج من الضياع و المنازل و قدم معه محمد بن طاهر فقام بولاية الشرطة ببغداد (3/390)
سياقة أخبار الزنج
قد ذكر أن مسرورا البلخي سار بعد موسى بن بغا لحرب الزنج ثم سار مسرور للقاء المعتمد و حضر الموفق حرب الصفار و بلغ صاحب الزنج جاؤا تلك النواحي من العساكر فبعث سراياه فيها للنهب و الحرق و التخريب في بعث سليمان بن جامع إلى البطيحة و سليمان بن موسى إلى القادسية و جاء أبو التركي في السفن يريد عسكر الزنج فأخذ عليه سليمان بن موسى و قاتله شهرا حتى تخلص و انحاز إلى سليمان بن جامع و بعث إليهما الخبيث بالمدد و كان مسرور قد بعث قبل مسيره من واسط جندا في البحر إلى سليمان فهزمهم و أوقع بهم و قتل أسراهم و نزل بقرة مروان قريبا من يعقوب متحصنا بالغياض و الأغوار و زحف إليه قائدان من بغداد و هما أغرتمش و حشيش في العساكر برا و بحرا و أمر سليمان أصحابه بالإختفاء في تلك الغياض حتى يسمعوا أصوات الطبول و أقبل أغرتمش و نهض شرذمة من الزنج فواقعوا أصحابه و شاغلوهم و سار سليمان من خلفهم و ضرب طبوله و عبروا إليهم في الماء فانهزم أصحاب أغرتمش و ظهر ما كان مختفيا و قتل حشيش و اتبعوهم إلى العسكر و غنموا منه و أخذوا من القطع البحرية ثم استردها أغرتمش من أيديهم و عاد سليمان ظافرا و بعث برأس حشيش إلى الخبيث صاحبه فبعث به إلى علي بن أبان في نواحي الأهواز و كان مسرور البلخي قد بعث إلى كور الأهواز أحمد بن كيتونة فنزل السوس و كان صاحب الأهواز من قبل الصفار يكاتب صاحب الزنج و يداريه و يطلب له الولاية عنه فشرط عليه أن يكون خليفة لابن أبان واجتمعا بتستر و لما رأى أحمد تظافرهما رجع إلى السوس و كان علي بن أبان يروم خطبة محمد له بعمله فلما اجتمعا بتستر خطب للمعتضد و الصفار و لم يذكر الخبيث فغضب علي و سار إلى الأهواز و جاء أحمد بن كيتونة إلى تستر فأوقع بمحمد بن عبد الله و تحصن منه بتستر و أقبل علي بن أبان إليه فاقتتلا و اشتد القتال بينهما وانهزم علي بن أبان و قتل جماعة من أصحابه و نجا بنفسه جريحا في الساريات بالنهر و عاد إلى الأهواز و سار منها إلى عسكر الخبيث و استخلف على عسكره بالأهواز حتى دواى جراحه و رجع ثم بعث أخاه الخليل إلى أحمد بن كيتونة بعسكر مكرم فقاتله و قد أكمن لهم فانهزموا و قتل من الزنج خلق و رجع المنهزمون إلى علي بن أبان و بعث مسلحة إلى السرقان فاعترضهم جيش من أعيان فارس أصحاب أحمد بن كيتونة و قتلهم الزنج جميعا فحظي عنده بذلك و بعث في أثر إبراهيم من قتله في سرخس و لما أراد الصفار العود إلى سجستان ولى على نيسابور عزيز بن السري و على هراة أخاه عمرو بن الليث فاستخلف عمر و عليها طاهر بن حفص الباذغيسي و سار إلى سجستان سنة احدى و ستين فجاء الخبيث إلى أخيه علي و زين له أن يقيم نائبا عنه في أموره بخراسان و طلب ذلك من أخيه يعقوب فأذن له و لما ارتحلوا جمع جمعا و حارب عليا فأخرجه من بلده ثم غلب عزيز بن السري على نيسابور و ملكها أول اثنتين و ستين و قام بدعوة بني طاهر و استقدم رافع بن هرثمة من رجالاتهم فجعله صاحب جيشه و كتب إلى يعمر بن سركب و هو يحاصر بلخ يستقدمه فلم يثق إليه و سار إلى هراة فملكها من يد طاهر بن حفص و قتله و زحف إليه أحمد و كانت بينهما مواساة ثم داخل بعض قواد أحمد الخجستاني في الغدر بيعمر على أن يمكنه من أخيه أبي طلحة فكلف ذلك القائد به فتم ذلك و كبسهم أحمد و قبض على يعمر و بعثه إلى نائبه بنيسابور فقتله و قتل أبا طلحة القائد الذي غدر بأخيه و سار إلى نيسابور في جماعة فلقي بها الحسن بن طاهر مردودا من أصبهان طمعا أن يدعو له أحمد الخجستاني كما كان يزعم حين أورد فلم يخطب فخطب له أبو طلحة و أقام معه بنيسابور فسار إليهما الخجستاني من هراة في اثنى عشر ألفا و قدم أخاه العباس فخرج إليه أبو طلحة و هزمه فرجع أحمد إلى هراة و لم يقف على خبر أخيه و انتدب رافع و هرثمة إلى استعلام خبره و استأمن إلى أبي طلحة فأمنه و وثق إليه و بعث إلى أحمد بخبر أخيه العباس ثم أنفذه طاهر إلى بيهق لجباية مالها و ضم معه قائدين لذلك فجبى المال و قبض على القائدين و انتقض و سار إلى الخجستاني و نزل في طريقه بقرية و بها علي بن يحي الخارجي فنزل ناحية عنه و ركب ابن طاهر في أتباعه فأدركه بتلك القرية فأوقع بالخارجي يظنه رافعا و نجا رافع إلى الخجستاني و بعث ابن طاهر إسحق الشاربي إلى جرجان لمحاربة الحسن بن زيد و الديلم منتصف ثلاث و ستين فأثخن في الديلم ثم انتقض على ابن طاهر فسار إليه و كبسه إسحق في طريقه فانهزم إلى نيسابور و استضعفه أهلها فأخرجوه فأقام على فرسخ منها و جمع جمعا و حاربهم ثم كتب على أهل نيسابور إلى إسحق باستدعائه و مساعدته على ابن طاهر و أبي طلحة و كتب إلى أهل نيسابور عن إسحق بالمواعدة و سار إسحق أبو محمد في قلة من الجند فاعترضه أبو طلحة و قتله و حاصر نيسابور فاستقدموا الخجستاني من هراة و أدخلوه و سار أبو طلحة إلى الحسن بن زيد مستنجدا فأنجده و لم يظفر و عاد إلى بلخ و حاصرها سنة خمس و ستين و خرج للخجستاني من نيسابور به و حاربه الحسن بن زيد لما عدته أبا طلحة و جاء أهل جرجان مددا للحسن فهزمهم الخجستاني و أغرمهم أربعة آلاف ألف درهم ثم جاء عمرو بن الليث إلى هراة بعد وفاة أخيه يعقوب الصفار و عاد الخجستاني من جرجان إلى نيسابور و سار إليه عمرو من هراة فاقتتلا و انهزم عمرو و رجع إلى هراة و أقام أحمد بنيسابور و كانت الفقهاء بنيسابور يميلون إلى عمرو لتولية السلطان إياه فأوقع الخجستاني بينهم الفتنة ليشغلهم بها ثم سار إلى هراة سنة سبع و ستين و حاصر عمرو بن الليث فلم يظفر منه بشيء فسار نحو سجستان و ترك نائبه بنيسابور فأساء السيرة و قوي أهل الفساد فوثب به أهل نيسابور و استعانوا بعمرو بن الليث و بعث إليهم جندا يقبض على نائب الخجستاني و أقاموا بها و رجع من سجستان فأخرجهم و ملكها و أقام إلى تمام سبع و ستين و كاتب عمرو أبا طلحة و هو يحاصر بلخ فقدم عليه و أعطاه أموالا و استخلفه بخراسان و سار إلى سجستان و سار أحمد إلى سرخس و لقبه أبو طلحة فهزمه أحمد و لحق بسجستان و أقام بطخارستان ثم جاء أبو طلحة إلى نيسابور فقبض على أهل الخجستاني و عياله و جاء أحمد من طخارستان إلى نيسابور و أقام بها ثم تبين لابن طاهر أن الخجستاني إنما يروم لنفسه و ليس على ما يدعيه من القيام بأمرهم و كان على خوارزم أحمد بن محمد بن طاهر فبعث قائده أبا العباس النوفلي إلى نيسابور في خمسة آلاف مقاتل و خرج أحمد أمامهم و أقام قريبا منهم و أفحش النوفلي في القتل و الضرب و التشويه و بعث إليه الخجستاني فنهاه عن مثل ذلك فضرب الرسل فلحق أهل نيسابور بالخجستاني و استدعوه و جاؤا به و قبض على النوفلي و قتله ثم بلغه أن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله بن طاهر بمرو فسار إليه من أسورد في يوم و ليلة و قبض عيله و ولى عليها موسى البلخي ثم وافاها الحسين بن طاهر فأحسن فيهم السيرة و وصل إليه نحو عشرين ألف درهم و كان الخجستاني لما بلغه أخذ والدته من نيسابور و هو بطخارستان سار مجدا فلما بلغ هراة أتاه غلام لأبي طلحة مستأمنا فأمنه و قربه فغص به و غلامه الخالصة عنده و الجنود و طلب الفرصة في قتل الخجستاني و كان قد غور ساقية قطلغ فاتفقا على قتله فقتلاه في شوال سنة ثمان و ستين و أنفذ دامجور خاتمه إلى الإسطبل مع جماعة فركبوا الدواب و ساروا بالخبر إلى أبي طلحة ليستقدموه و أبطأ ظهوره على القواد فدخلوا فوجدوه قتيلا و أخبرهم صاحب الإسطبل بخبر الخاتم و الدواب و طلبوا دامجور فلم يجدوه ثم عثروا عليه بعد أيام فقتلوه و اجتمعوا على رافع بن هرثمة و كان من خبره ما نذكره (3/391)
استيلاء الصفار على الأهواز
ثم سار يعقوب الصفار من فارس إلى الأهواز و أحمد بن كيتونة قائد مسرور البلخي على الأهواز مقيم على تستر فرحل عنها و نزل يعقوب جند سابور ففر كل من كان في تلك النواحي من عساكر السلطان و بعث إلى الأهواز من أصحابه الخضر بن المعير فأفرج عنها علي بن أبان و الزنج و نزلوا السدرة و دخل خضر الأهواز و أقام أصحاب الخضر و ابن أبان يغير بعضهم على بعض ثم فر ابن أبان و سار إلىالأهواز فأوقع بالخضر و فتك في أصحابه و غنم و لحق الخضر بعسكر مكرم و استخرج ابن أبان ما كان بالأهواز و رجع إلى نهر السدرة و بعث يعقوب إلى الخضر مددا و أمره بالكف عن قتال الزنج و المقام بالأهواز فأبى ابن أبان من ذلك إلا أن ينقل طعاما ما كان هناك فنقله و توادعوا (3/394)
استيلاء الزنج على واسط
قد تقدم لنا واقعة أغرتمش مع سليمان بن جامع و ظفر سليمان به فلما انقضى أمره سار سليمان إلى صاحب الخبيث و مر في طريقه بعسكر تكين البخاري و هو ببردود فلما حاذاه قريبا أشار عليه الجناني أن يغير على العسكر في البحر و يستطرد لهم لينتهزوا منهم الفرصة ففعل و جاء مستطردا و قد أكمنوا لهم الكمناء حتى أجازوا موضع الكمائن و ركب سليمان إليهم و عطف الجناني على من في النهر و خرجت الكمائن من خلفهم فأثخنوا فيهم إلى معسكرهم ثم بيتوهم ليلا فنالوا منهم و انكشف سليمان قليلا ثم عبر أصحابه و أتاهم من وجوه عديدة برا و بحرا فانهزم تكين و غنم الزنج عسكره ثم استخلف سليمان على عسكره الجناني و سار إلى صاحب الخبيث سنة ثلاث و ستين و مضى الجناني بالعسكر لطلب الميرة فاعترضه جعلان من قواد السلطان و هزمه و أخذ سيفه ثم زحف منجور و محمد بن علي بن حبيب من القواد و بلغ الحجاجية فرجع سليمان مجدا إلى طهثا يريد جعلان و في مقدمته الجناني ثم كر إلى ابن خبيث فهزمه و قتل أخاه و غنم ما معه ثم سار في شعبان إلى قرية حسان فأوقع بالقائد هنالك جيش ابن خمار تكين و هزمه و نهب القرية و أحرقها ثم بعث العساكر في الجهات للنهب برا و بحرا و اعترض جعلان بعضهم فأوقع بهم ثم سار سليمان إلى الرصافة فأوقع بالقائد بها و استباحها و غنم ما فيها و رجع إلى منزله بمدينة الخبيث و جاء مطر إلى الحجاجية فعاث فيها و أسر جماعة منها كان منهم القاضي سليمان فحمله إلى واسط ثم سار إلى طهثا و كتب الجناني بذلك إلى سليمان فوافاه لاثنتين من ذي الحجة و جاء أحمد بن كيتونة بعد أن كان سار إلى الكوفة و جبيل فعاد إلى البريدية و صرف جعلان و ضبط تلك الأعمال و أوقع تكين بسليمان و قتل جماعة من قواده ثم ولى الموفق على مدينة واسط محمد بن الوليد و جاءه في العساكر و استمد سليمان صاحبه بالخليل بن أبان في ألف و خمسمائة مقاتل فزحف إلى ابن المولد و هزمه و اقتحم واسط بها منكجور البخاري فقاتله عامة يومه ثم قتل و نهب البلد و أحرقها و انصرف سليمان إلى جبيل و استدعوه في نواحيها تسعين ليلة (3/395)
استيلاء ابن طولون على الشام
كان على دمشق أيام المعتمد ماجور من قواد الأتراك فتوفي سنة أربع و ستين و قام ابنه علي مكانه و تجهز أحمد بن طولون من مصر إلى دمشق و كتب إلى ابن ماجور بأن المعتمد أقطعه الشام و الثغور فأجاب بالطاعة و سار أحمد و استخلف على مصر ابنه العباس و لقيه ابن ماجور بالرملة فولاه عليها و سار إلى دمشق فملكها و أقر القواد على أقطاعهم ثم سار حمص فملكها ثم حماة ثم حلب و كان على أنطاكية و طرسوس سيما الطويل من قواد الأتراك فبعث إليه ابن طولون بالطاعة و أن يقره على ولايته فامتنع فسار إليه و دلوه على عورة في سور البلد نصب عليها المجانيق و قاتله فملكها عنوة و قتل سيما في الحرب فسار ثم قصد طرسوس فدخلها و اعتزم على المقام بها و يريد الغزو و شكا أهلها غلاء السعر و سألوه الرحيل فرحل عنهم إلى الشام و مضى إلى حران و بها محمد بن أتامش فحاربه و هزمه و استولى عليها ثم جاءه الخبر بانتقاض ابنه العباس بمصر و أنه أخذ الأموال و سار إلى برقة فلم يكترث لذلك و أصلح أحوال الشام و أنزل بحران عسكرا و ولى مولاه لؤلؤا على الرقة و أنزل معه عسكرا و بلغ موسى بن أتامش خبر أخيه محمد فجمع العساكر و سار نحو جرجان و بها أحمد بن جيفونة من قواد ابن طولون فأهمل مسيره و قال له بعض الأعراب و اسمه أبو الأعز : لا يهمك أمره فإنه طياش قلق و أنا آتيك به ! فقال : إفعل و زاده عشرين رجلا و سار إلى عسكر موسى بن أتامش فأكمن بعض أصحابه و دخل العسكر بالباقي على زي الأعراب و قصد الخيل المرتبطة عند خيام ابن موسى فأطلقها و صاحوا فيها فنفرت و اهتاج العسكر و ركبوا و استطرد لهم أبو الأعز حتى جاوز الكمين و موسى في أوائلهم فخرج الكمين و انهزم أصحاب موسى من ورائه و عطف عليه أبو الأعز فأخذه أسيرا و جاء به إلى ابن جيفونة و بعث به إلى ابن طولون فاعتقله و عاد إلى مصر و ذلك سنة ست و ستين
و من أخبار الزنج أن سليمان احتفر نهرا يمر إلى سواد الكوفة ليتهيأ له الغارة على تلك النواحي و كان أحمد بن كيتونة فكبسهم و هم يعلمون و قد جمروا عساكرهم لذلك فأوقع بهم و قتل منهم نحوا من أربعين قائدا و أحرق سفنهم و رجع سليمان مهزوما إلىطهتا ثم عدت عساكر الزنج النعمانية و استباحوها و صار أهلها إلى جرجرايا و أحفل أهل السواد إلى بغداد و زحف علي بن أبان بعسكر الزنج إلى تستر فحاصرها و أشرف على أخذها و كان الموفق استعمل على كور الأهواز مسرورا البلخي فولى عليها تكين البخاري فسار إليها و وافاها أهل تستر في تلك الحال فأغزى علي ابن أبان و هزمه و قتل من الزنج خلقا و نزل تستر و بعث ابن أبان جماعة من قواد الزنج ليقيموا بقنطرة فارس و جاء عين بخبرهم إلى تكين فكبسهم و هزمهم و قتل منهم جماعة و سار ابن أبان فانهزم أمامه و كتب ابن أبان إلى تكين يسأله الموادعة فوادعه بعض الشيء و اتهمه مسرور فسار و قبض عليه و حبسه عند عجلان بن أبان و فر منه أصحابه و طائفة إلى الزنج و طائفة إلى محمد بن عبد الله الكرخي ثم أمن الباقين فرجعوا إليه (3/396)
موت يعقوب الصفار و ولاية عمر و أخيه
و في سنة خمس و ستين أخريات شوال منها مات يعقوب الصفار و قد كان افتتح الرحج و قتل ملكها و أسلم أهلها على يده و كانت مملكة واسعة الحدود و افتتح زابلستان و هي غزنة و كان المعتمد قد استماله و قلده أعمال فارس و لما مات قام أخوه عمرو بن الليث و كتب إلى المعتمد بطاعته فولاه الموفق من قبله ما كان له من الأعمال خراسان و أصبهان و السند و سجستان و الشرطة ببغداد و سر من رأى و قبله عبيد الله بن عبد الله بن طاهر و خلع الموفق عمرو بن الليث و ولى على أصبهان من قبله أحمد بن عبد العزيز (3/397)
أخبار الزنج مع أغرتمش
قد كان تقدم لنا إيقاع سليمان بن جامع بأغرتمش و حربه بعد ذلك مع تكين و جعلان و مطر ابن جامع و أحمد بن كيتونة و استيلاؤه على مدينة واسط ثم ولي أغرتمش مكان تكين البخاري ما يتولاه من أعمال الأهواز فدخل تستر في رمضان و معه مطر محمد جامع و قتل جماعة من أصحاب أبان مأسورين بها ثم سار عسكر مكرم و وافاه هناك علي ابن أبان و الزنج فاقتتلوا ثم تجازوا لكثرة الزنج و رجع علي إلى الأهواز و سار أغرتمش إلى الخليل بن أبان ليعبروا إليه من قنطرة أربل و جاءه أخوه علي و خاف أصحابه المخلفون بالأهواز فارتحلوا إلى نهر السروة و تحارب علي و أغرتمش يوما ثم رجع إلى الأهواز و لم يجد أصحابه فبعث من يردهم إليه فلم يرجعوا و جاء أغرتمش و قتل مطر بن جامع في عدة من القواد و جاء المدد لابن أبان من صاحبه الخبيث فوادعه أغرتمش و تركه ثم بعث محمد بن عبيد الله إلى أبكلاى ابن الخبيث في أن يرفع عنه يد ابن أبان فزاد ذلك في غيظه و بعث يطالبه محمد بالخراج و دافعه فسار إليه و هرب محمد من رامهرمز إلى أقصى معاقله و دخل علي و الزنج رامهرمز و غنموا ما فيها ثم صالحه محمد على مائتي ألف درهم و ترك أعماله ثم استنجده بن عبيد الله على الأكراد على أن لعلي غنائمهم فاستخلف علي على ذلك مجلز و طلب منه الرهن فمطل و بعث إليه الجيش فزحف بهم إلىالأكراد فلما نشب القتال انهزم أصحاب محمد فانهزم الزنج و أثخن الأكراد فيهم و بعث علي من يعترضهم فاستلبوهم و كتب علي إلى محمد يتهدده فاعتذر ورد عليهم كثيرا من أسلابهم و خشي من الخبيث و بعث إلى أصحابه مالا ليسألوه في الرضا عنه فأجابهم إلى ذلك على أن يقيم دعوته في أعماله ففعل كذلك ثم سار ابن أبان لحصار موتة و استكثر من آلات الحصار و علم بذلك مسرور البلخي و هو بكور الأهواز فسار إليه و وافاه عليها فانهزم ابن أبان و ترك ما كان حمله هناك و قتل من الزنج خلق و جاء الخبر بمسير الموفق إليهم (3/398)
استرجاع ابن الموفق ما غلب عليه الزنج من أعمال دجلة
لما دخل الزنج واسط و عاثوا فيها كما ذكرناه بعث الموفق ابنه أبا العباس و هو الذي ولي الخلافة بعد المعتمد و لقب المعتضد فبعثه أبوه بين يديه في ربيع سنة ست و ستين في عشرة آلاف من الخيل و الرجال و ركب لتشييعه و بعث معه السفن في النهر عليها أبو حمزة نصر فسار حتى وافى الخيل و الرجل و السفن النهرية و على مقدمته الجناني و أنهم نزلوا الجزيرة قريبا من بردرويا و جاءهم سليمان بن موسى الشعراني مددا بمثل ذلك و أن الزنج اختلفوا في الاحتشاد و نزلوا من السفح إلى أسفل واسط ينتهزون الفرصة في ابن الموفق لما يظنون من قلة دراسيته بالحرب فركب أبو العباس لاستعلام أمرهم و وافى نصيرا فلقيهم جماعة من الزنج فاستطرد لهم أولا ثم كر في وجوههم و صاح بنصير فرجع و ركب أبو العباس السفن النهرية فهزم الزنج و أثخن فيهم و اتبعهم ستة فراسخ و غنم من سعيهم و كان ذلك أول الفتح و رجع سليمان بن جامع إلى نهر الأمين و سليمان بن موسى الشعراني إلى سوق الخميس و أبو العباس على فرسخ من واسط يغاديهم القتال و يراوحهم ثم احتشد سليمان و جاء من ثلاثة وجوه و ركب في السفن النهرية و برز إليه نصير في سفنه وركب معه أبو العباس في خاصته و أمر الجند بمحاذاته من الشط و نشب الحرب فوقعت الهزيمة على الزنج و غنمت سفنهم و أفلت سليمان و الجناني من الهلكة و بلغوا طهتا و رجع أبو العباس إلى معسكره و أمر بإصلاح السفن المغنومة وحفر الزنج في طريق الجبل الآبار و غطوها فوقع بعض الفرسان فيها فعدل جند السلطان عن ذلك الطريق و أمر الخبيث أصحابه بالسفن في النهر و أغاروا على سفن أبي العباس و غنموا بعضها وركب في اتباعهم و استنقذ سفنهم و غنم من سفنهم نحوا من ثلاثين و جد في قتالهم و تحصن ابن جامع بطهتا و سمى مدينته المنصورة و الشعراني بسوق الخميس و سمى مدينته المنيعة و كان أبو العباس يغير على الميرة التي تأتيهم من سائر النواحي و ركب في بعض الأيام إلى مدينة الشعراتي التي سماها المنيعة و ركب نصير في النهر و افترقوا في مسيرهم و اعترضت أبا العباس جماعة من الزنج فمنعوه من طريق المدينة و قاتلوه مقدار نهاره و أشاعوا قتل نصير و خالفهم نصير إلى المدينة فأثخن فيها و أضرموا النار في بيوتها و جاء الخبر بذلك إلى أبي العباس بسبرة ثم جاء نصير و معه أسرى كثيرون فقاتلوا الزنج و هزموهم و رجع أبو العباس إلى عسكره و بعث الخبيث إلى ابن أبان و ابن جامع فأمرهما بالاجتماع على حرب أبي العباس (3/399)
وصول الموفق لحرب الزنج و فتح المنيعة و المنصورة
كان الموفق لما بعث ابنه أبا العباس لحرب الزنج تأخر لا مداده بالحشود و العدد و إزاحة علله و مسارقة أحواله فلما بلغه اجتماع ابن أبان و ابن جامع لحربه سار من بغداد إليه فوصل إلى واسط في ربيع الأول من سنة سبع و ستين و لقيه ابنه و أخبره بالأحوال و رجع إلى عسكره و نزل الموفق على نهر شداد و نزل ابنه شرقي دجلة على موهة بن مساور فأقام يومين ثم رحل إلى المنيعة بسوق الخميس و سار إليها في النهر و نادى بالمقامة ولقيه الزنج فحاربوه ثم جاء الموفق فانهزموا و اتبعهم أصحاب أبي العباس فاقتحموا عليهم المنيعة و قتلوا خلقا و أسروا آخريين و هرب الشعراني واختفى في الآجام آخرون و رجع الموفق إلى عسكره و قد استنقذ من المسلمات نحو خمس عشرة امرأة ثم غدا على المنيعة فأمر بنهبها و هدم سورها و طم خندقها و إحراق ما بقي من السفن فيها و ببعث الأقوات التي أخذت فكانت لا حد لها فصرفت في الجند و كتب الخبيث إلى ابن جامع يحذره مثل ما نزل بالشعراني و جاءت العيون إلى الموفق أن ابن جامع بالجوانيت فسار إلى الضبية و أمر ابنه بالسير في النهر إلى الحوانيت فلم يلق ابن جامع بها و وجد قائدين من الزنج استخلفهم عليها بحفظ الغلات و لحق بمدينته المنصورة بطهتا فقاتل ذلك الجند و رجع إلى أبيه بالخير فأمره بالمسير إليه و سار على أثره برا و بحرا حتى نزلوا على ميلين من طهتا و ركب لبيوني مقاعد القتال على المنصور فلقيه الزنج و قاتلوه و أسروا جماعة من غلمانه و رمى أبو العباس بن الموفق أحمد بن مهدي الجناني فمات و وأوهن موته ثم ركب يوم السبت آخر ربيع من سنة سبع و عبى عسكره و بعث السفن في البحر االذي يصل إلى المنصورة ثم صلى و ابتهل بالدعاء و قدم ابنه أبا العباس إلى السور و اعترضه الجند فقاتلهم عليه و اقتحموا و ولوا منهزمين إلىالخنادق وراءه فقاتلوه عندها و اقتحمها عليهم كلها و دخلت السفن المدينة من النهر فقتلوا و أسروا و أجلوهم عن المدينة و ما اتصل بها و هو مقدار فرسخ و ملكه الموفق و أفلت ابن جامع في نفر من أصحابه و بلغ الطلاب في أثره إلى دجلة و كثر القتل في الزنج و الأسر و استنقذ العباس من نساء الكوفة و واسط و صبيانهم اكثر من عشرة آلاف و أعطى ما وجد في المنصورة من الذخائر و الأموال للأجناد و أسر من نساء سليمان و أولاده عدة و لما جاء جماعة من الزنج إلى الآجام اختفوا فأمر بطلبهم و هدم سور المدينة و طم خنادقها و أقام سبعة عشر يوما في ذلك ثم رجع إلى واسط (3/400)
حصار مدينة الخبيث المختارة و فتحها
ثم إن الموفق عرض عساكره و أزاح عللهم و سار و معه ابنه أبو العباس إلى مدينة الخبيث فأشرف عليها و رأى من حصانتها بالأسوار و الخنادق و وعر الطريق و ما أعد من الآلات للحصار و من كثرة المقاتلة ما استعظمه و لما عاين الزنج عساكره الموفق دهشوا و قدم ابنه العباس في السفن حتى ألصقها بالأسوار فرموه بالحجارة في المجانيق و المقاليع و الأيدي و رأوا من صبره و أصحابه ما لم يحتسبوه ثم رجعوا و تبعهم مستأمنة من المقاتلة و الملاحين نزعوا إلى الموفق فقبلهم و أحسن إليهم فتتابع المستأمنون في النهر فوكل الخبيث بفوهة النهر من معهم و تعبى أهل السفن للحرب مع بهبود قائد الخبيث فزحف إليه أبو العباس في السفن و هزمه و قتل الكثير من أصحابه و رجع فاستأمن إليه بعض تلك السفن النهرية و كثير من المقاتلة فأمنهم و أقام شهرا لم يقاتلهم ثم عبى عساكره منتصف شعبان في البر و البحر و كانوا نحوا من خمسين ألفا و كان الزنج في نحو ثلثمائة ألف مقاتل فأشرف عليهم و نادى بلأمان إلا للخبيث و رمى بالرفاع في السهام بالأمان فجاء كثير منهم و لم يكن حرب ثم رحل من مكانه و نزل قريبا من المختارة و رتب المنازل من انشاء السفن و شرع في اختطاط مدينة لنزله سماها الموفقية فأكمل بناءها و شيد جامعها و كتب بحمل الأموال و الميرة إليها و أغب الحرب شهرا فتتابعت الميرة إلى المدينة و رحل إليها التجار بصنوف البضائع و استجر فيها العمران و نفقت الأسواق و جلبت صنوف الأشياء ثم أمر الموفق ابنه أبا العباس بقتال من كان من الزنج خارج المختارة فقاتلهم و أثخن فيهم فاستأمن إليه كثير منهم فأمنهم و وصلهم و أقام الموفق أياما يحاصر المحاربين و يصل المستأمنين و اعترض الزنج بعض الوفاد الجائية بالميرة فأمر بترتيب السفن على مخارج الأنهار و وكل ابنه أبا العباس بحفظها و جاءت طائفة من الزنج بعض الأيام إلى عسكر نصير يريدون الإيقاع به فأوقع بهم و ظفر ببعض القواد منهم فقتل رشقا بالسهام و تتابع المستأمنة فبلغوا إلى آخر رمضان خمسين ألفا ثم بعث الخبيث عسكرا من الزنج مع علي بن أبان ليأتوا من وراء الموفق إذا ناشبهم الحرب و نمي إليه الخبر فبعث ابنه أبا العباس فأوقع بهم و حملت الأسرى و الرؤس في السفن النهرية ليراها الخبيث و أصحابه و ظنوا أن ذلك تمويه فرميت الرؤوس في المجانيق حتى عرفوها فظهر منهم الجزع و تكررت الحرب في السفن بين أبي العباس و بين الزنج و هو يظهر عليهم في جميعها حتى انقطعت الميرة عنهم فاشتد الحصار عليهم و خرج كثير من وجوه أصحابه مستأمنين مثل محمد بن الحرث القمي و أحمد اليربوعي و كان من أشجع رجاله القمي منهم موكلا بحفظ السور فأمنهم الموفق و وصلهم و بعث الخبيث قائدين من أصحابه في عشرة آلاف ليأتوا البطيحة من ثلاثة وجوه فيعبروا من تلك النواحي و يقطعوا الميرة عن الموفق و بلغ الموفق خبرهم فبعث إليهم عسكرا مع مولاه و نزل فأوقع بهم و قتل و أسر و أخذ منهم أربعمائة سفينة و لما تتابع خروج المستأمنة وكل الخبيث من يحفظها و جهدهم الحصار فبعث جماعة من قواده إلى الموفق يستأمنون و أن يناشبهم الحرب ليجدوا السبيل إليه فأرسل ابنه أبا العباس إلى نهر الغربي و به علي بن أبان فاشتد الحرب و ظهر أبو العباس على بن أبان و أمده الخبيث بابن جامع و دامت الحرب عامة يومهم و كان الظفر لأبي العباس و سار إليه المستأمنة الذين واعدوه و انصرف أبو العباس إلى مدينة الخبيث و قاتل بعض الزنج طمعا فيهم فتكاثروا عليه ثم جاءه المدد من قبل أبيه فظهر عليهم و كان ابن جامع قد صعد في النهر و أتى أبا العباس من ورائه و خفقت طبوله فانكشف أصحاب أبي العباس و رجع منهزمة الزنج فأجبت جماعة من غلمان الموفق و عدة من أعلامهم و حامى أبو العباس عن أصحابه حتى خلصوا وقوي الزنج بهذه الواقعة فأجمع الموفق العبور إلى مدينتهم بعسكره فعبى الناس لذلك من الغداة آخر ذي الحجة و استكثر من المعابر و السفن و قصدوا حصن أو كان بالمدينة و فيها أنكلاي بن الخبيث و ابن جامع و ابن أبان و عليه المجانيق و الآلات فأمر غلمانه بالدنو منه فخافوا لاعتراض نهر الأتراك بينهم و بينه فصاح بهم فقطعوا النهر سبحا و تناولوا الركن بالسلاح يهدمونه ثم صعدوا عليه و ملكوه و نصبوا به علم الموفق و أحرقوا ما كان عليه من الآلات و قتلوا من الزنج خلقا عظيما و كان أبو العباس يقاتلهم من الناحية الأخرى و ابن أبان قبالته فهزمه و وصل أصحاب أبي العباس إلى السور فثملوه و دخلوا و لقيهم ابن جامع فقاتلهم حتى ردهم إلى مواقفهم ثم توافى الفعلة فثلموا السور في مواضع و نصبوا على الخندق جسرا عبر عليه المقاتلة فانهزم الزنج عن السور و اتبعهم أصحاب الموفق يقتلونهم إلى دير ابن سمعان فملكه أصحاب الموفق و أحرقوه و قاتلهم الزنج هناك انهزموا فبلغوا ميدان الخبيث فركب من هنالك و انهزم عنه أصحابه و أظلم الليل و رجع الموفق بالناس و تأخر أبو العباس لحمل بعض المستأمنين في السفن و اتبعه بعض الزنج و نالوا من آخر السفن و كان بهبود بازاء مسرور البلخي فنال من أصحابه و استأمن بعض المنهزمين من الزنج و الأعراب بعثوا بذلك من عبادان و البصرة و كان منهم قائد ريحان أبو صالح المعري فأمنهم الموفق و أحسن إليهم و ضم ريحان إلى أبي العباس و خرج في المحرم إلى الموفق من قواد الخبيث و ثقاته جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان فأحسن إليه الموفق و حمله في بعض السفن إلى قصر الخبيث فوقف وكلم الزنج في ذلك و أقام الموفق أياما استجم فيها أصحابه فلما كان منتصف ربيع الثاني قصد مدينة و فرق القواد على جهاتها ومعهم النقابون للسور و من ورائهم الرماة يحمونهم و تقدم إليهم أن لا يدخلوا بعد الهزم إلا بإذنه فوصلوا إلى السور و ثلموه و حاربوا الزنج من ورائه و هزموهم و بلغوا أبعد مما وصلوا إليه بالأمس ثم تراجع الزنج و حاربوا من المكامن فرجع أصحاب الموفق نحو دجلة بعد أن نال منهم الزنج و رجع الموفق إلى مدينته و لام أصحابه على تقدمهم بغير إذنه ثم بلغ الموفق أن بعض الأعراب من بني تميم يجلبوه الميرة إلى الزنج فبعث إليهم عسكرا أثخنوا فيهم قتلا و أسرا و جيء بالأسرى فقتلهم و أوعز إلى البصرة بقطع الميرة فانقطعت عن الزنج بالكلية و جهدهم الحصار و كثر المستأمنة و افترق كثير من الزنج في القرى و الأمصار البعيدة و بث الموفق دعاته فيهم و من أبى قتلوه و عرض المستأمنين و أحسن إليهم ليستميل غيرهم و تابع الموفق وابنه قتال الزنج و قتل بهبود بن عبد الواحد من قواد الخبيث في تلك الحروب فكان قتله من أعظم الفتوح و كان قتله في السفن البحرية ينصب فيها أعلاما كأعلام الموفق و يخايل أطراف العسكر فيصيب منهم و أفلت في بعض الأيام من يد أبي العباس بعد أن كان حصل في قبضته ثم خيل أخرى لبعض السفن طامعا فيها فحاربوه و طعنه بعض الغلمان منها فسقط في الماء و أخذه أصحابه فمات بين أيديهم و خلع الموفق على الغلام الذي طعنه و على أهل السفينة و لما هلك بهبود قبض الخبيث على بعض أصحابه و ضربهم على ماله فاستفسد قلوبهم و هرب كثير منهم إلى الموفق فوصلهم و نادى بالأمان لبقيتهم ثم اعتزم على العبور إلى الزنج من الجانب الغربي و كانت طرقه ملتفة بالنخيل فأمر بقطعها و أدار الخنادق على معسكره حذرا من البيات ثم صعب على الموفق القتال من الجانب الغربي لكثرة أوعاره و صعوبة مسالكه و ما يتوجه فيها على أصحابه من خيل الزنج لقلة خبرتهم بها فصرف قصده إلى هدم أسوارهم و توسعت الطرق فهدم طائفة من السور من ناحية نهر سلمى و باشر الحرب بنفسه و اشتد القتال و كثرت القتلى في الجانبين و فشت الجراح و كانت في النهر قنطرتان يعبر منهما الزنج عند القتال يأتون أصحاب الموفق من ورائهم فأمر بهدمهما فهدمتا ثم هدم طائفة من السور و دخلوا المدينة و انتهوا إلى دار ابن سمعان من خزائن الخبيث و دواوينه ثم تقدموا إلى الجامع فخربوه و جاؤا بمنبره إلى الموفق بعد أن استمات الزنج دونه فلم يغنوا به ثم اكثروا من هدم السور و ظهرت علامات الفتح ثم أصاب الموفق في ذلك اليوم سهم في صدره و ذلك لخمس بقين من جمادى سنة تسع و ستين فعاد إلى عسكره ثم صابح الحرب تقوية لقلوب الناس ثم لزم الفراش و اضطراب العسكر و أشير عليه بالذهاب إلى بغداد فأبى فاحتجب عن الناس ثلاثة أشهر حتى اندمل جرحه ثم ركب إلىالحرب فوجد الزنج قد سددوا ما تثلم من الأسوار فأمر بهدمها كلها و اتصل القتال مما يلي نهر سلمى كما كان و الزنج يظنون أنهم لا يأتون إلا منها فركب يوما لقتالهم و بعث السفن أسفل نهر أبي الخصيب فانتهوا إلى قصر من قصور الزنج فأحرقوه و انتهبوا ما فيه و استنقذوا كثيرا من الساكن فيه و رجع الموفق آخر يومه ظافرا ثم بكر لحربهم فوصلت المقدمات دار أنكلاي بن الخبيث و هي متصلة بدار أبيه و أشار ابن أبان باجراء المياه على الساج و حفر الخنادق بين يدي العساكر و أمر الموفق بطم الخنادق و الأنهار و رام إحراق قصره و قصده من دجلة فمنع من ذلك كثرة الحماة عنه فأمر أن تسقف السفن بالأخشاب و تطلى بالأدوية المانعة من الإحراق و رتب فيها أنجاد أصحابه و باتوا على أهبة الزحف من الغد و جاء كاتب الخبيث و هو محمد بن سمعان عشاء ذلك اليوم مستأمنا و بكروا إلى الحرب و أمر الموفق ابنه أبا العباس بإحراق منازل القواد المتصلة بقصر الخبيث ليشغلهم عن حمايته و قصدت السفن المطلية قصر الخبيث فأحرقوا الرواشن و الأبنية الخارجة و علت النار فيه و رموا بالنار على السفن فلم تؤثر فيها ثم حصر الماء من النهر فزحفت السفن فلما جاء الدعاة إلى القصر أحرقوا بيوتا كانت تشرع على دجلة و اشتعلت النار فيها و قويت و هرب الخبيث و أصحابه و تركوها و ما فيها و استولى أصحابه الموفق على ذلك كله و استنقذوا جماعة من النساء و أحرق قصر أنكلاي ابنه و جرحا و عاد الموفق عشاء يومه مظفرا ثم بكر من الغد للقتال و أمر نصيرا قائد السفن بقصد القنطرة التي كان الخبيث عملها في نهر أبي الخصيب دون القنطرة التي كان اتخذها و فرق العسكر في الجهات فدخل نصير في أول المد و لصق بالقنطرة و اتصل الشد من ورائه فلم يقدر على الرجوع حتى حسر الماء عنها و فطن لها الزنج فقصدوها فألقى الملاحون أنفسهم في الماء و ألقى نصير نفسه و قاتل ابن جامع ذلك اليوم أشد قتال ثم انهزم و سقط في الحريق فاحترق ثم خلص بعد الجهد و انصرف الموفق سالما و أصابه مرض المفاصل و اتصل به إلى شعبان من سنته فأمسك في هذه المدة عن الحرب حتى أبلى فأعاد الخبيث القنطرة التي غرق عندها نصير و زاد فيها و أحكمها وجعل أمامها سكرا من الحجارة ليضيق المدخل على السفن فبعث الموفق طائفة من شرقي نهر أبي الخصيب و طائفة من بحرية و معهم الفعلة لقطع القنطرة و جعل أمامها سفنا مملوأة من القصب لتصيبها النار بالنفط فيحترق الجسر و فرق جنده على القتال و ساروا لما أمرهم عاشر شوال و تقدموا إلى الجسر و لقيهم أنكلاي بن الخبيث و ابن أبان و ابن جامع و حاموا عن القنطرة لعلمهم بما في قطعها من المضرة عليهم و دامت الحرب عليها إلى العشي ثم غلبهم أصحاب الموفق عليها و نقضها النجارون و نقضوا الأثقال التي دونها و أدخلوا السفن بالقصب و أضرموها نارا و وافت القنطرة فأحرقتها و وصل النجارون بذلك إلى ما أرادوا و سهل سبيل السفن في النهر و قتل من الزنج خلق و استأمن آخرون و انتقل الخبيث بعد حرق قصوره و مساكن أصحابه إلى الجانب الشرقي من النهر أبي الخصيب و نقل أسواقه إليه و تبين ضعفه فانقطعت عنه الميرة و فقدت الأقوات و غلت حتى أكل بعضهم بعضا و أجمع الموفق أن يحرق الجانب الشرقي كما أحرق الغربي فقصد دار الهمذان و كان حصينا و عليه الآلات فلما انتهى إليها تعذر الصعود لعلو السور فرموا بالكلاليب و نشبت في أعلام الخبيث و جذبوها فتساقطت فانهزم المقاتلة و صعد النفاطون فأحرقوا ما كان عليها من الآلة و نهبوا الأثاث و المتاع و اتصل الحريق بما حولها من الدور و استأمن للموفق جماعة من خاصة الخبيث فأمنهم و دلوه على سوق عظيمة متصلة بالجسر الأول تسمى المباركة و بها التجار الذين بهم قوامهم فقصدها لإحراقها و حاربه الزنج عندها و اضرم أصحابه النار فيها فاتصلت و بقي التحريق عامة اليوم ثم رجع الموفق ثم انتقل التجار بأمتعتهم و أموالهم إلى أعلى المدينة ثم فعل الخبيث في الجانب الشرقي بعد هذه من حفر الخنادق و تغوير الطرق مثل ما كان فعل في الجانب الغربي و احتفر خندقا عريضا حصن به منازل أصحابه على النهر الغربي ثم خرق الموفق باقي السور إلى النهر الغربي بعد حرب شديدة كانت عليه و كان للخبيث جمع من الزنج و هم أشجع أصحابه و قد تحصنوا بحصن منيع يخرجون على أصحاب الموفق عند الحرب فيعوقونهم فأجمع على تخريبه و جمع المقاتلة عليه برا و بحرا و فرقهم على سائر جهاته و جهات الخبيث و أمد الخبيث الحصن بالمهلبي و ابن جامع فلم يغنوا عنه و انهزموا و تركوا الحصن في يدي أصحاب الموفق و هزموه و قتلوا من الزنج خلقا و خلصوا من الحصن كثيرا من النساء و الصبيان و رجع الموفق إلى عسكره ظافرا (3/401)
استيلاء الموفق على الجهة الغربية
و لما هدم الموفق سور دار الخبيث أمر بتوسعه الطريق للحرب و أحرق الجسر الأول الذي على نهر أبي الخصيب ليمنع من مدد بعضهم بعضا فكان في إحراقه حرب عظيمة و أعدت لذلك سفينة ملئت قصبا و جعل فيها النفط و أرسلت في قوة المدد فتبادر الزنج إليها و غرقوها فركب الموفق إلى فوهة نهر أبي الخصيب و قصدهم من غربي النهر و شرقيه إلى أن انتهوا إلى الجسر من غربيه و عليه أنكلاي بن الخبيث و ابن جامع فأحرقوه و فعل مثل ذلك من الجانب الشرقي فاحترق الجسر و الحظيرة التي كانت لإنشاء السفن و سجن كان هناك للخبيث و انحاز هو و أصحابه من الجانب الغربي و استأمن كثير من قواده فأمنهم و أخرجوا أرسالا و خرج قاضيه هاربا و وكل بالجسر الثاني من يحفظه و أمر الموفق ابنه أبا العباس بأن يتجهز لإحراقه فزحف في أنجاد غلمانه و معه الفعلة و الآلات و كان في الجانب الغربي قبالة أبي العباس أنكلاي و ابن جامع و في الجانب الغربي قبالة أسد مولى الموفق الخبيث نفسه و المهلبي و جاءت السفن في النهر و قاتلوا حامية الجسر فانهزم ابن جامع و أنكلاي و أضرمت النار في الجسر و لما وافياه و هو مضطرم نارا ألقيا أنفسهما في النهر فخلصا بعد أن غرق من أصحابهما خلق و احترق الجسر و اتصل الحريق بدورهم و قصورهم و أسواقهم و افترق الجيش في الجانبين و نهبت دار الخبيث و استنفذ من كان في حبسه من النسوة و الرجال و أخرج ما كان في نهر أبي الخصيب من أصناف السفن إلى دجلة و نهبها أصحاب الموفق و استأمن أنكلاي بن الخبيث و علم أبوه فثناه عن ذلك و استأمن سليمان بن موسى الشعراني من رؤساء قواده فأجيب بعد توقف و لما خرج تبعه أصحاب الخبيث فقاتلهم و صل إلى الموفق فأحسن إليه و اقتفى أثره في ذلك شبل ابن سالم من قواده و عظم على الخبيث و أوليائه استئمان هؤلاء و صار شبل بن سالم يخرج في السرايا إلى عسكر الخبيث و يكثر النكاية فيهم (3/407)
استيلاء الموفق على الجهة الشرقية
و في خلال هذه الحروب و اتصالها مرن أصحاب الموفق على تخلل تلك المسالك و الشعاب مع تضايقها و و عرها و أجمع الموفق على قصد الجانب الشرقي في نهر أبي الخصيب و ندب لذلك قواد المستأمنة لخيرتهم بذلك دون غيرهم و وعدهم بالإحسان و الزيادة فأبوا و سألوه الإقالة فأبى لتتميز مناصحتهم و جمع سفن دجلة من كل جانب و كان فيها عشرة آلاف ملاح من المرتزقة و أمر ابنه أبا العباس بقصد مدينة الخبيث الشرقية من جهاتها فسار إلى دار المهلبي و هو في مائة و خمسين قطعة من السفن قد شحنها بأنجاد غلمانه و انتخب عشرة آلاف مقاتل و أمرهم بالمسير حفا في النهر يشاهد أحوالهم و بكر الموفق لثمان خلون من ذي القعدة زاحفا للحرب فاقتتلوا مليا و صبروا ثم انهزم الزنج و قتل منهم خلق و أسر آخرون فقتلوا و قصد الموفق بجمعه دار الخبيث و قد جمع الخبيث أصحابه للمدافعة فلم يغنوا عنه و انهزموا و أسلموها فنهبها أصحاب الموفق و سبوا حريمه و بنيه و كانوا عشرين و نجا إلى دار المهلبي و نهبها و اشتغل أصحابهم جميعا بنقل الغنائم إلى السفن فأطمع ذلك الزنج فيهم و تراجعوا و ردوا الناس إلى مواقفهم ثم صدق الموفق الحملة عشي النهار فهزم الزنج إلى دار الخبيث و رجع الناس إلى عسكره و وصله كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في القدوم عليه فأخر القتال إلى حضوره (3/408)
مقتل صاحب الزنج
و لما وصل غلام ابن طولون في ثالث المحرم من سنة سبعين جاء في جيش عظيم فأحسن إليهم الموفق و أجرى لهم الأرزاق على مراتبهم و أمره بالتأهب لقتال الخبيث و قد كان لما غلب على نهر أبي الخصيب و قطعت القناطر و الجسور التي عليه أحث فيه سكرا و ضيق جرية الماء ليمنع السفن من دخوله إذا حضر و يتعذر خروجها أمامه و بقي جريه لا يتهيأ إلا بإزالة ذلك السكر فحاول ذلك مدة و الزنج يدافعون عنه و دفع الموفق لذلك لؤلؤا في أصحابه ليتمرنوا على حرب الزنج في تلك المسالك و الطرق فأحسنوا البلاء فيها و وصلهم و ألح على العسكر و هو كل يوم يقتل مقاتلهم و يحرق مساكنهم و يقتل المستأمنة منهم و قد كان بقي بالجهة الغربية بقية من أبنية و مزارع و بها جماعة يحفظونها فسار إليهم أبو العباس و أوقع بهم و لم يسلم منهم إلا الشريد ثم غلبهم على السكر و أحرقه و اعتزم على لقاء الخبيث و قدم ابنه أبا العباس دار المهلب و أضاف المستأمنة إلى شبل بن سالم و أمرهم أن ينتظروا بالقتال نفخ البوق و نصب علمه الأسود على دار الكرماني ثم صمد إليهم و زحف الناس في البر و النهر و نفخت الأبواق و ذلك لثلاث بقين من المحرم سنة سبعين و اشتد القتال و انهزم الزنج و مات منهم قتلا و غرقا ما لا يحصى و استولى الموفق على المدينة و استنقذوا الأسرى و أسروا الخليل و ابن أبان و أولادهما و عيال أخيهما و مضى الخبيث و معه ابنه أنكلاي و ابن جامع و قواد من الزنج إلى موضع بنهر السفياني كانوا أعدوه ملجأ إذا غلب على المدينة و اتبعه الموفق في السفن و لؤلؤ في البر ثم اقتحم النهر بفرسه و اتبعه أصحابه فأوقعوا بالخبيث و من معه حتى عبروا نهر السامان و اعتصموا بحبل وراءه و رجع لؤلؤ عنهم و شكر له الموفق و رفع منزلته و استبشر الناس بالفتح و جمع الموفق أصحابه فوبخهم على انقطاعهم عنه فاستعذروا بأنهم ظنوا انصرافه ثم تحالفوا على الإقدام و الثبات حتى يظفروا و سألوه أن ترد المعابر التي يعبرون فيها ليستميت الناس في حرب عدوهم فوعدهم بذلك و أصبح ثالث صفر فعبى المراكب و بعثهم إلى المراكز ورد المعابر التي عبروا فيها و تقدم سرعان العسكر فأوقعوا بالخبيث و أصحابه ففضوا جماعة و أثخنوا فيهم قتلا و أسرا و افترقوا كل ناحية و ثبت مع الخبيث لمة من أصحابه فيهم المهلبي و ذهب ابنه أنكلاي و ابن جامع و اتبع كلا منهم طائفة من العسكر بأمر أبي العباس ابن الموفق ثم أسر إبراهيم بن جعفر الهمداني فاستوثقوا منه ثم كر الخبيث و المنهزمون معه على من اتبعهم من أهل العسكر فأزالوهم عن مواقفهم ثم رجعوا و مضى الموفق في اتباع الخبيث إلى آخر نهر أبي الخصيب فلقيه غلام من أصحاب لؤلؤ برأس الخبيث و سار أنكلاي نحو الديناري و معه المهلبي و بعث الموفق أصحابه في طلبهم فظفر بهم و بمن معهم و كانوا زهاء خمسة آلاف فاستوثق منهم ثم استأمن إليه و رمونة و كان عند البطيحة قد اعتصم بمغايض و آجام هنالك يخيف السابلة و يغير على تلك النواحي و على الواردين إلى مدينة الموفق فلما علم بموت الخبيث سقط في يده و بعث يستأمن فأمنه الموفق فحسنت توبته ورد الغصوبات إلى أهلها ظاهرا و أمر الموفق بالنداء برجوع الزنج إلى موطنهم فرجعوا و أقام الموفق بمدينة الموفقية ليأمن الناس بمقامه و ولى على البصرة و الأبلة و كور دجلة محمد بن حماد و قدم ابنه أبا العباس إلى بغداد فدخلها منتصف جمادي من سنة سبعين و كان خروج صاحب الزنج آخر رمضان سنة خمس و خمسين و قتله أول صفر سنة سبعين لأربع عشرة سنة و أربعة أشهر من دولته (3/408)
ولاية ابن كنداج على الموصل
لما سار أحمد بن موسى بن بغا إلى الجزيرة و ولى موسى بن أتامش على ديار ربيعة فتغير لذلك إسحق بن كنداج و فارق عسكره و أوقع بالأكراد اليعقوبية و انتهب أموالهم ثم لقي ابن مساور الخارجي فقتله و سار إلى الموصل فقاطع أهلها على مال و كان عليهم علي بن داود قائدا فدفعه و سار ابن كنداج إليه فخرج علي بن داود و اجتمع حمدان الثعلبي و إسحق بن عمر بن أيوب بن الخطاب الثعلبي العدوي فكانوا خمسة عشر و جاءهم علي بن داود فلقيهم إسحق في ثلاثة آلاف فهزمهم بدسيسة من أهل مسيرتهم و سار حمدان و علي بن داود إلى نيسابور و ابن أيوب إلى نصيبين و ابن كنداج في اتباعه فسار عنها و استجار بعيسى ابن الشيخ الشيباني و هو بآمد و أبي العز موسى بن زرارة و هو عامل أردن فأنجداه و بعث المعتمد إلى إسحق بن كنداج بولاية الموصل فدخلها و أرسل إليه ابن الشيخ و ابن زرارة مائة ألف دينار على أن يقرهم على أعمالهم فأبى فاجتمعوا على حربه فرجع إلى إجابتهم ثم حاربوه سنة سبع و ستين و اجتمع لحربه إسحق بن أيوب و عيسى ابن الشيخ و أبو العز بن حمدان بن حمدون في ربيعة و ثعلب و بكر و اليمن فهزمهم ابن كنداج إلى نصيبين ثم إلى آمد و حمر عسكرا لحصار ابن الشيخ بآمد و كانت بينهم حروب (3/410)
حروب الخوارج بالموصل
كان مساور الخارجي قد هلك في حروبه مع العساكر سنة ثلاث و ستين بالبوارسح و أراد أصحابه ولاية محمد بن حرداد بشهرزور فامتنع و بايعوا أيوب بن حيان المعروف بالغلام فقتل فبايعوا هرون بن عبد الله البجلي و كثر أتباعه و استولى على بلد الموصل و خرج عليه من أصحابه محمد بن حرداد و كان كثير العبادة و الزهد يجلس على الأرض و يلبس الصوف الغليظ و يركب البقر لئلا يفر في الحرب فنزل واسط و جاء وجوه أهل الموصل فسار إليهم و هرون غائب في الأحشاد فبادر إليه و اقتتلا و انهزم هرون و قتل من أصحابه نحو مائتين و قصد بني ثعلب مستنجدا بهم فأنجدوه و سار معه حمدان بن حمدون و دخل معه الموصل و دخل ابن حرداد و استمال هرون أصحابه و رجع إلى الحديثة و لم يبق مع ابن حرداد إلا قليل من الأكراد فمالوا إلى هرون بالموصل فخرج و أوقع بابن حرداد فقتله و أوقع بالأكراد الجلالية و كثر أتباعه و غلب على القرى و الرساتيق و جعل على دجلة من يأخذ الزكاة من الأموال المصعدة و المنحدرة و وضع في الرساتيق من يقبض اعتبار الغلات و استقام أمره ثم جاء بنو ساسان لقتاله سنة ست و سبعين و استنجد بحمدان بن حمدون فجاءه بنفسه و سار إلى نهر الخازن و انهزمت طليعتهم و انهزموا بانهزامها و جاء بنو شيبان إلى فسا فانجفل أهلها و أقام هرون و أصحابه بالحديثة (3/410)
أخبار رافع بن هرثمة من بعد الخجستاني
لما قتل أحمد الخجستاني سنة ثمان و ستين كما قدمناه اجتمع أصحابه على رافع بن هرثمة من قواد محمد بن طاهر و كان رافع هذا لما استولى يعقوب الصفار على نيسابور و زال بنو طاهر صار رافع في جملته و صحبه إلى سجستان ثم أقصاه عن خدمته و عاد إلى منزله بنواحي جي حتى استخدمه الخجستاني و جعله صاحب جيشه فلما قتل الخجستاني اجتمع الجيش عليه بهراة و أمروه و سار إلى نيسابور فحاصر بها أبا طلحة بن شركب و قد كان وصل إليها من جرجان فضيق عليه المخنق ففارقها أبو طلحة إلى مرو و ولى على هراة ابن المهدي و خطب لمحمد بن طاهر بمرو و هراة و زحف إليه عمرو بن الليث فهزمه و غلبه على مابيده و استخلف على مرو محمد بن سهل بن هاشم و خرج أبو طلحة إلى مكمد و استعان بإسمعيل بن أحمد الساماني فأمده بعسكر و أخرج محمد بن سهل و خطب بها لعمرو بن الليث سنة احدى و سبعين ثم قلد الموفق تلك السنة أعمال خراسان لمحمد ابن طاهر و هو ببغداد فاستخلف عليها رافع بن الليث و أقر على ما وراء النهر نصر بن أحمد و وردت كتب الموفق بعزل عمرو بن الليث و لعنه فسار رافع إلى هراة و قد كان بها محمد بن المهدي خليفة أبي طلحة فثار عليه يوسف بن معبد فلما جاء رافع استأمن إليه فأمنه و استعمل على هراة مهدي بن محسن ثم سار رافع إلى أبي طلحة بمرو بعد أن استمد إسمعيل بن أحمد و أمده بنفسه في أربعة آلاف فارس و استقدم علي بن محسن المروروزي فقدم عليه في عسكره و ساروا جميعا إلى أبي طلحة بمرو سنة اثنتين و سبعين فهزموه و عاد إسمعيل إلى بخارى و لحق بأبي طلحة و بها مهدي فاجتمع معه على مخالفة رافع فهزمهما رافع و لحق أبو طلحة بعمرو بن الليث و قبض على مهدي سنة اثنتين و سبعين ثم خلى سبيله و سار رافع إلى خوارزم فجبى أموالها و رجع إلى نيسابور (3/411)
مغاضبة المعتمد للموفق و مسيرة ابن طولون و ما نشأ من الفتنة لأجل ذلك
كان الموفق حدثت بينه و بين ابن طولون و حشة و أراد عزله و بعث موسى بن بغا في العساكر إليه سنة اثنتين و ستين فأقام بالرقة عشرة أشهر و اختلف عليه العسكر فرجع و كان الموفق مستبدا على أخيه المعتمد منذ قيامه بأمر دولته مع ما كان من الكفاية و الغناء إلا أنه كان المعتمد يتأفف من الحجر و كتب إلى أحمد بن طولون في السر يشكو ذلك و أشار عليه باللحاق إليه بمصر لينصره و بعث عسكرا إلى الرقة في انتظاره و كان الموفق مشغولا بحرب الزنج فسار المعتمد منتصف سنة تسع و ستين في القواد مظهرا أنه يتصيد ثم سار إلى أعمال الموصل و عليها يومئذ و على سائر الجزيرة أصحاب كنداج و كتب صاعد بن مخلد وزير الموفق عن الموفق إلى إسحق بردة عن طريقه و القبض على من معه من القواد فلما وصل المعتمد إلى عمله أظهر إسحق طاعته فارتحل في خدمته إلى أول عمل ابن طولون ثم اجتمع بالمعتمد و القواد و فيهم نيزك و أحمد بن خاقان و غيرهم فعذلهم في المسير إلى ابن طولون و المقام تحت يده و طال الكلام بينهم مليا ثم دعاهم إلى خيمته للمناظرة في ذلك أدبا مع المعتمد و قيدهم و جاء إلى المعتمد فعذله في المسير عن دار خلافته و مغاضبة أخيه هو في دفاع عدوه و من يريد خراب ملكه و حمل الجميع إلى سامرا و قطع ابن طولون الدعاء للموفق على منابره و أسقط اسمه من الطرز و غضب الموفق بسبب ذلك على أحمد بن طولون و حمل المعتمد على أن يشار بلعنه على المنابر و ولى إسحق ابن كنداج على أعماله و فوض إليه من باب الشماسية إلى أفريقية و كان لؤلؤ مولى ابن طولون عاملا على حمص و حلب و قنسرين و ديار مصر من الجزيرة و كان منزله بالرقة فانتقض عليه في هذه السنة و سار إلى بالس فنهبها و كتب إلى الموفق فمر بقرقيسيا و بها ابن صفوان العقيلي فحاربه و غلبه عليها و سلمها إلى أحمد بن مالك بن طوق و وصل إلى الموفق في عسكر عظيم و هو يقاتل صاحب الزنج فأكرمه الموفق و أحسن هو الغناء في تلك الحرب ثم بعث ابن طولون في تلك السنة جيشه إلى مكة لإقامة الموسم و عامل مكة هرون بن محمد ففارقها خوفا منهم و بعث الموفق جعفرا في عسكر فقوي بهم هرون و لقوا أصحاب ابن طولون فهزموهم و صادروا القائد على ألف دينار و قرئ الكتاب في المسجد بلعن ابن طولون و انقلب أهل مصر إلى بلدهم آمنين و لم يزل لؤلؤ في خدمة الموفق إلى أن قبض علية سنة ثلاث و سبعين و صادره على أربعمائة ألف و أدبر أمره ثم ثم عاد إلى مصر آخر أيام هرون بن حمادية (3/412)
وفاة ابن طولون و مسير ابن كنداج إلى الشام
و في سنة سبعين انتقض بازمان الخادم بطرسوس و قبض على نائبه و سار إليه أحمد بن طولون في العساكر و حاصروه فامتنع عليه فرجع إلى أنطاكية فمرض هنالك و مات لست و عشرين سنة من ولايته على مصر و ولي بعده ابنه خمارويه و انتقضت عليه دمشق فبعث إليها العساكر و عادت إلى طاعته و كان يومئذ بالموصل و الجزيرة إسحق بن كنداج و على الأنبار و الرحبة و طريق الفرات محمد بن أبي الساج فكاتبا الموفق في المسير إلى الشام و استمداه فأذن لهما و وعدهما بالمدد فسارا و ملكا ما يجاورهما من بلاده و استولى إسحق على أنطاكية و حلب و حمص و كاتبه نائب دمشق و اجتمع الخلاف على خمارويه فسار إليه فهرب غلى شيزر و هي في طاعة خمارويه و دمشق و جاء أبو العباس بن الموفق و هو المعتضد من بغداد بالعساكر فكبس شيزر و قتل من جند ابن طولون مقتله عظيمة و لحق فلهم بدمشق و أبو العباس في اتباعهم فجلوا عنها و ملكها في شعبان سنة احدى و سبعين و رجعت عساكر خمارويه إلى الرملة فأقاموا بها و زحف إسحق بن كنداج إلى الرقة و عليها و على الثغور و العواصم ابن دعاص من قبل خمارويه فقاتله و كان الظهور لإسحق ثم زحف أبو العباس المعتضد من دمشق إلى الرملة و سار خمارويه من مصر و اجتمع بعساكره في الرملة على ماء الطواحين و كان المعتضد قد استفسد لابن كنداج و ابن أبي الساج و نسبهما إلى الجبن في انتظارهما إياه في محاربة خمارويه و عبى المعتضد عساكره و لقي خمارويه و قد أكمن له فانهزم خمارويه أولا و ملك المعتضد خيامه و شغل أصحابه بالنهب فخرج عليهم الكمين فانهزم المعتضد إلى دمشق فلم يفتح له أهلها فراح إلى طرسوس و أقام العسكران يقتتلان دون أمير و أقام أصحاب خمارويه عليهم أخاه سعدا مكانه و ذهبوا إلى الشام فملكوه أجمع و أذهبوا منه دعوة الموفق وابنه و بلغ الخبر إلى خمارويه فسر و أطلق الأسرى الذين كانوا معه ثم ثار أهل طرسوس بأبي العباس فأخرجوه و سار إلى بغداد و ولوا عليهم مازيار فاستبد بها ثم دعا لخمارويه بعد أن وصله بمال جليل يقال أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار و خمسمائة ثوب و خمسمائة مطرف و سلاحا كثيرا فدعا له ثم بعث إليه بخمسين ألف دينار (3/413)
وفاة صاحب طبرستان و ولاية أخيه
ثم توفي الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان في رجب سنة سبعين لعشرين سنة من ولايته و ولي مكانه أخوه و كان على قزوين أتكوتكين فسار إلى الري في أربعة آلاف فارس و سار إليه محمد بن زيد في عالم كثير من الديلم و الخراسانية و التقوا فانهزم محمد بن زيد و قتل من عسكره نحو من ستة آلاف و أسر ألفان و غنم أتكوتكين عسكرا و ملك الري و أغرم أهلها مائة ألف دينار و فرق عماله عليها و سار محمد بن زيد إلى جرجان ثم عزل عمرو بن الليث عن خراسان و ولى عليها محمد بن طاهر و استخلف محمد بن رافع بن هرثمة و سار سنة خمس و سبعين إلى جرجان و هرب عنها ليلا إلى استرياد فحاصره رافع فيها سنتين حتى أجهده الحصار ففر عنها ليلا إلى سارية فاتبعه عن طبرستان سنة سبع و سبعين و استأمن رستم بن قارن إلى رافع بطبرستان فأمنه و بعث إلى سالوس محمد بن هرون نائبا عنه و أتاه بها علي ابن كاني مستأمنا ثم جاءه محمد و حاصرهما بسالوس و انقطعت أخبارهما عن نافع ثم جاءه الخبر بحصارهما فسار إليهما فارتحل محمد بن زيد إلى أرض الديلم فدخل رافع خلفه و أثخن فيها نهبا و تخريبا إلى حدود قزوين و عاد إلى الري إلى أن توفي المعتمد سنة تسع و تسعين (3/414)
فتنة ابن كنداج و ابن أبي الساج و ابن طولون
كان ابن أبي الساج في أعماله بقنسرين و الفرات و الرحبة ينافس إسحق و هو على الجزيرة و يريد التقدم عليه فحدثت لذلك منهما فتنة فخطب ابن أبي الساج لخمارويه بن طولون و بعث ابنه ديواداد رهينة إليه فبعث إليه خمارويه أموالا جمة و سار إلى الشام و اجتمع بابن أبي الساج ببالس ثم عبر ابن أبي الساج الفرات إلى الرقة و هزم إسحق بن كنداج و استولى على أعماله و عبر خمارويه و نزل الرقة و مضى إسحق إلى قلعة ماردين و حاصره ابن أبي الساج بها ثم أفرج عنها و سار إلى سنجار لقتال بعض الأعراب فسار ابن كنداج من ماردين إلى الموصل فاعترضه ابن أبي الساج و هزمه فعاد إلى ماردين و استولى ابن أبي الساج على الجزيرة و الموصل و خطب فيهما لخمارويه ثم لنفسه بعد و بعث غلامه فتحا إلى أعمال الموصل لجباية الخراج و كان اليعقوبية من السراة قريبا منه فهادنهم ثم غدر بهم فكسبهم و جاءهم أصحابهم من غير شعور فحملوا على أصحاب فتح فاستلحموهم ثم انتقض ابن أبي الساج و استبيح عسكره و كان له بحمص مخلف من أثقاله فقدم خمارويه طائفة من العسكر إليها فاستولوا على ما فيها و منعوا ابن أبي الساج من دخولها فسار إلى حلب ثم إلى الرقة و خمارويه في اتباعه فعبر الفرات إلى الموصل و جاء خمارويه إلى بلد و أقام بها و سار ابن أبي الساج إلى الحديثة و كان إسحق بن كنداج قد لحق بخمارويه من ماردين فبعث معه جيشا و جماعة من القواد و سار في طلب ابن أبي الساج و قد عبر دجلة فجمع ابن كنداج السفن ليوطئ جسرا للعبور و بينما هو في ذلك أسرى ابن أبي الساج من تكريت إلى الموصل فوصلها لرابعة و سار ابن كنداج في اتباعه فاقتتلوا بظاهر الموصل و اين أبي الساج في ألفين فصبر و اشتد القتال و انهزم ابن كنداج و هو في عشرين ألفا فخلص إلى الرقة و محمد بن أبي الساج في اتباعه و كتب إلى الموفق يستأذنه في عبور الفرات إلى بلاد خمارويه بالشام فأمره بالتوقف إلى وصول المدد من عنده و مضى ابن كنداج إلى جمارويه فجاء بجيوشه إلى الفرات و توافق مع ابن أبي الساج و الفرات بينهما ثم عبرت طائفة من عسكر ابن كنداج فأوقعوا بطائفة من عسكر ابن أبي الساج فانهزموا إلى الرقة فسار ابن أبي الساج عن الرقة إلى بغداد سنة ست و سبعين في ربيع منها فأكرمه الموفق و وصله و استولى ابن كنداج على ديار ربيعة من أعمال الجزيرة و أقام بها و ولى الموفق بن أبي الساج على أذربيجان فسار إليها فخرج إليه عبد الله بن الحسين الهمذاني عامل مراغة ليصده فهزمه ابن أبي الساج فحاصره و أخذ منه مراغة سنة ثمان و سبعين و قتله و استقر ابن أبي الساج في عمله بأذربيجان (3/415)
أخبار عمرو بن الليث
كان عمرو بن الليث بعد مهلك أخيه يعقوب قد ولاه الموفق خراسان و أصبهان و سجستان و السند و كرمان و الشرطة ببغداد كما كان أخوه و قد ذكرنا ذلك قبل و كان عامله على فارس ابن الليث فانتقض عليه سنة ثمان و ستين فسار عمر و لحربه فهزمه و استباح عسكره و نهب أصطخر ثم ظفرت جيوشه بمحمد و أسره و حبسه بكرمان فأقام بها ثم بعث إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف و هو بأصبهان يطلبه بالمال فبعث إليه بالأموال و بعث عمرو إلى الموفق بثلثمائة ألف دينار و بخمسين منا من المسك و مثلها من العنبر و مائتين من العود و ثلثمائة ثوب من الوشي و من آنية الذهب و الفضة و الدواب و الغلمان قيمة مائة ألف دينار و استأذنه في غزو محمد ابن عبيد الكردي في رامهرمز فأذن له فبعث قائدا من جيشه إليه فأسره و جاء به إلى عمرو ثم عزل المعتمد سنة احدى و ستين عمرو بن الليث عما كان قلده من الأعمال و أدخل إليه الحاج من أهلها عند منصرفهم من مكة فأعلمهم بعزله و أنه قد ولى على خراسان محمد بن طاهر و أمر بلعن عمرو على المنابر و جهز مخلد ابن صاعد إلى فارس لحرب عمرو و استخلف محمد بن طاهر على خراسان رافع بن هرثمة و كتب المعتمد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بقتاله و بعث إليه الجيوش فاقتتلوا مع عمرو و كان في خمسة عشر ألف مقاتل فانهزم عمرو و خرج قائده الديلمي و قتل مائة من أعيانهم و أسر ثلاثة آلاف فأستأمن منهم و غنموا من عسكره ما لا يحصى ثم زحف الموفق سنة أربع و سبعين إلى فارس لحرب عمرو فأنفد عمرو ابنه محمدا إلى أرجان في العساكر و على مقدمته أبو طلحة بن شركب و عباس بن إسحق إلى سيراف و استأمن أبو طلحة إلى الموفق ففت ذلك في عضد عمرو و عاد إلى كرمان و استراب الموفق بأبي طلحة فقبض عليه قريبا من شيراز و جعل ماله لابنه أبي العباس المعتضد و سار في طلب عمرو فخرج من كرمان إلى سجستان و مات ابنه محمد بالمفازة و رجع عنه الموفق و سار رافع بن الليث من خراسان و غلب محمد بن زيد على طبرستان كما قدمناه و قدم عليه هنالك علي بن الليث هو و ابناه المعدل والليث بن حسن أخيه علي بكرمان ثم قتله رافع سنة ثمان و ستين (3/416)
مسير الموفق إلى أصبهان و الجبل
كان كاتب أتوتكين أنهى إلى المعتضد أن له مالا عظيما ببلاد الجبل فتوجه لذلك فلم يجد شيئا ثم سار إلى الكرخ إلى أصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف فتنحى أحمد عن البلد بعسكره و ترك داره بفرشها لنزل الموفق عند قدومه ثم رجع الموفق إلى بغداد (3/417)
قبض الموفق على ابنه أبي العباس المعتضد ثم وفاته و قيام ابنه أبي العباس بالامر بعده
كان الموفق بعد رجوعه من أصبهان نزل واسط ثم عاد إلى بغداد و ترك المعتمد بالمدائن و أمر ابنه أبا العباس و هو المعتضد بالمسير إلى بعض الوجوه فأبى فأمر بحبسه و وكل به و ركب القواد من أصحابه و اضطربت بغداد فركب الموفق إلى الميدان و سكن الناس و قال : إني احتجت إلى تقويم ابني فقومته فانصرف الناس و ذلك سنة ست و سبعين و كان عند منصرفه من الجبل قد اشتد به وجع النقرس و لم يقدر على الركوب فكان يحمل في المحفة و وصل إلى داره في صفر من سنة سبع و طال مرضه و بعث كاتبه أبا الصفر ابن بلبل إلى الميدان فجاء بالمعتمد و أولاده و أنزله بداره و لم يأت دار الموفق فارتاب الأولياء لذلك و عمد غلمان أبي العباس فكسروا الأقفال المغلقة عليه و أخرجوه و أقعدوه عند رأس أبيه وهو يجود بنفسه فلما فتح عينه قربه و أدناه و جمع أبو الصقر عنده القواد و الجند ثم تسامع الناس أن الموفق حي فتسللوا عن أبي الصقر و أولهم محمد بن أبي الساج فلم يسع أبا الصقر إلا الحضور بدار الموفق فحضر هو و ابنه و أشاع أعداء أبي الصقر أنه هرب بمال الموفق إلى المعتمد فنهبوا داره و أخرجت نساؤه حفاة عراة و نهب ما يجاوره من الدور و فتقت السجون ثم خلع الموفق على ابنه أبي العباس و أبي الصقر و ركب إلى منزلهما و ولى أبو العباس غلامه بدار الشرطة ثم مات لثمان بقين من صقر سنة ثمان و سبعين و دفن بالرصافة و اجتمع القواد فبايعوا ابنه أبا العباس المعتضد بالله و اجتمع عليه أصحاب أبيه ثم قبض المعتضد على أبي الصقر ابن بلبل و أصحابه و انتهبت منازلهم و ولى عبد الله بن سليمان بن وهب الوزارة و بعث محمد بن أبي الساج إلى واسط ليرد غلامه و صيفا إلى بغداد فأبى وصيف و سار إلى السوس فأقام بها (3/418)
ابتداء أمر القرامطة
كان ابتداء أمرهم فيما زعموا أن رجلا ظهر بسواد الكوفة سنة ثمان و سبعين و مائتين يتسم بالزهد و كان يدعى قرمط يقال لركوبه على ثور كان صاحبه يدعى كرميطة فعرب و قيل بل اسمه حمدان و لقبه قرمط و يقال و زعم أنه داعية لأهل البيت للمنتظر منهم و اتبعه العباس فقبض عليه الهيصم عامل الكوفة و حبسه ففر من حبسه و زعم أن الإغلاق لا يمنعه ثم زعم أنه الذي بشر به أحمد بن محمد ابن الحنفية و جاء بكتاب تناقله القرمطة فيه بعد البسملة : يقول الفرح بن عثمان من قرية نصرانه أنه داعية المسيح و هو عيسى و هو الكلمة و هو المهدي هو أحمد بن محمد بن الحنيفة و هو جبريل و إن المسيح تصور له في جسم إنسان فقال له إنك الداعية و إنك الحجة و إنك الناقة و إنك الدابة و إنك يحيى بن زكريا و إنك روح القدس و عرفه أن الصلاة أربع ركعات قبل طلوع الشمس و ركعتان قبل غروبها و أن الأذان بالتكبير في افتتاحه و شهادة التوحيد مرتين ثم شهادة بالرسلة لآدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم عيسى ثم محمد صلوات الله عليهم ثم لأحمد بن محمد بن الحنيفة و يقرأ الاستفتاح في كل ركعة و هو من المنزل على أحمد بن محمد الحنيفة و القبلة بيت المقدس و الجمعة يوم الاثنين و لا يعمل فيه شيء و السورة التي يقرأ فيها : الحمد لله بكلمته و تعالى باسمه المنجد لأوليائه بأوليائه قل إن الأهلة مواقيت للناس ظاهرها ليعلم عدد السنين و الحساب و الشهور و الأيام و باطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي إتقوني يا أولى الألباب و أنا الذي لا أسأل عما أفعل و أنا العليم الحكيم و أنا الذي أبلو عبادي و أمتحن خلقي فمن صبر على بلائي و محنتي و اختباري ألقيته في جنتي و في نعمتي و من زال عن أمري و كذب رسلي أخلدته مهانا في عذابي و أتممت أجلي و أظهرت على ألسنة رسلي فأنا الذي لم يعل جبار إلا وضعته و أذللته فبئس الذي أصر على أمره و دام على جهالته و قال : لن نبرح عليه عاكفين و به موقنين أولئك هم الكافرون ثم يركع و يقول في ركوعه : مرتين سبحان ربي و رب العزة و تعالى عما يصف الظالمون و في سجوده الله أعلى مرتين الله أعظم مره و الصوم مشروع يوم المهرجان و النيروز و النبيذ حرام و الخمر حلال و الغسل من الجنابة كالوضوء و لا يؤكل ذوناب و لا ذو مخالب و من خالفهم و حارب وجب قتله و إن لم يحارب أخذت منه الجزية انتهى إلى غير ذلك من دعاوى شنيعة متعارضة يهدم بعضها بعضا و تشهد عليهم بالكذب و هذا الفرح ابن يحيى الذي ذكر هذا أول الكتاب أنه داعية القرامطة يلقب عندهم ذكروية بن مهروية و يقال إن الظهور هذا الرجل كان قبل مقتل صاحب الزنج و إنه سار إليه على الأمان و قال له : إن ورائي مائة سيف فتعال نتناظر فلعلنا نتفق و نتعاون ثم تناظرا فاختلفا و انصرف قرمط عنه و كان يسمى نفسه القائم بالحق و زعم بعض الناس أنه كان يرى رأي الأزارقة من الخوارج (3/419)
فتنة طرسوس
قد تقدم لنا انتقاض بازمان بطرسوس على مولاه أحمد بن طولون و أنه حاصره فامتنع عليه و أنه راجع بعد طاعة ابنه خمارويه مما حمل إليه من الأموال و الأمتعة و السلاح فاستقام أمره بطرسوس مدة و غزا سنة ثمان و سبعين بالصائفة مع أحمد الجعفي و حاصروا اسكندا فأصيب بحجر منجنيق فرجع و هلك في طريقه و دفن بطرسوس و كان استخلف ابن عجيف فأقره خمارويه و أمده بالخيل و السلاح و المال ثم عزله و استعمل عليها ابن عمه ابن محمد بن موسى بن طولون و لما توفي الموفق نزع خادم من خواصه اسمه راغب إلى الشك و طلب المقام بالثغر للجهاد فأذن له المعتضد فسار إلى طرسوس و حط أثقاله بها و سار إلى لقاء خمارويه بدمشق فأكرمه و استجلب أنسه فطال مقامه و ألهم أصحابه بطرسوس أنه قبض عليه فأوصلوا أهل البلد في ذلك فوثبوا بأميرهم محمد بن موسى حتى يطلق لهم راغب و بلغ الخبر إلى خماوريه فأطلقه فجاء إليهم و وبخهم على فعلهم فأطلقوا محمد بن موسى و سار عنهم إلى بيت المقدس فأعادوا ابن عجيف إلى ولايته (3/420)
فتنة أهل الموصل مع الخوارج
قد تقدم لنا هرون بن سليمان كان على الشراة من الخوارج و كان بنو شيبان يقاتلونهم و يغيرون على الموصل فلما كانت سنة تسع و سبعين جاء بنو شيبان لذلك و أغاروا على نينوى و غيرها من الأعمال فاجتمع هرون الشاربي في الخوراج و حمدان ابن حمدون الثعلبي على مدافعتهم و كان مع بني شيبان هرون بن سيما مولى أحمد بن عيسى بن الشيخ الشيباني بعثه محمد بن إسحق بن كنداجق واليا على الموصل عندما مات أبوه إسحق و ولى مكانه على أعماله بالموصل و ديار ربيعة فلم يرضه أهل الموصل و طردوه فسار إلى بني شيبان مستنجدا بهم فلما التقى الجمعان إنهزم بنو شيبان أولا و اشتغل أصحاب حمدان و الخوارج بالنهب فكر عليهم بنو شيبان و ظفروا بهم و كتب هرون بن سيما إلى محمد بن إسحق بن كنداجق يستمده فسار بنفسه و خشيه أهل الموصل فسار بعضهم إلى بغداد يطلبون عاملا يكفيهم أمر ابن كنداجق و مروا في طريقهم بمحمد بن يحيى المجروج الموكل بحفظ الطريق فألفوه و قد وصل إليه بولاية العهد الموصل فبادر و ملكها و تواثق ابن كنداجق في مكانه و بعث إلى خمارويه بالهدية و يسأل إمارة الموصل كما كان من قبل فلم يجبه إلى ذلك ثم عزل المجروح و ولى بعده علي بن داود الكردي (3/420)
الصوائف أيام المعتمد
وصل الخبر في سنة سبع و خمسين بأن ملك الروم بالقسطنطينية ميخاييل بن روفيل و ثب عليه قريبه مسك و يعرف بالصقلي فقتله لأربع و عشرين سنة من ملكه و ملك مكانه و في سنة تسع و خمسين خرجت عساكر الروم فنازلوا سميساط ثم نازلوا مليطة و قاتلهم أهلها فانهزموا و قتل بطريق من بطارقتهم و في سنة ثلاث و ستين استولى الروم على قلعة الصقالبة و كانت ثغرا لطرسوس و تسمى قلعة كركرة فرد المعتمد ولاية ثغر طرسوس لابن طولون و كان أحمد بن طولون قد خطب ولايتها من الموفق يريد أن يجعلها ركابا لجهاده لخبرته بأحوالها و كان يردد الغزو من طرسوس إلى بلاد الروم قبل ولاية مصر يجبه الموفق و ولى عليها الموفق محمد بن هرون الثعلبي و اعترضه الشراة أصحاب مساور و هو مسافر في دجلة فقتلوه فولى مكانه أماجور بن أولغ بن طرخان من الترك فسار إليها و كان غرا جاهلا فأساء السيرة و منع أقران أهل كركرة ميرتهم و كتبوا إلى أهل طرسوس يشكون فجمعوا لهم خمسة عشر ألف دينار فأخذها أماجور لنفسه و أبطأ على أهل القلعة شأنها فنزلوا عنها و أعطوها الروم و كثر أسف أهل طرسوس لذلك بما كانت ثغرهم و عينا لهم على العدو و بلغ ذلك المعتمد فكتب لأحمد بن طولون بولايتها و فوض إليه أمر الثغور فوليها و استعمل فيها من يحفظ الثغر و يقيم الجهاد و قارن ذلك وفاة أماجور عامل دمشق و ملك ابن طولون الشام جمعها كما ذكرناه قبل و في سنة أربع و ستين غزا بالصائفة عبد الله بن رشيد بن كاوس في أربعين ألفا من أهل الثغور الشامية فأثخن فيهم و غنم و رجع فلما رحل عن البدندون خرج عليه بطريق سلوقية و قرة كوكب و حرسية و أحاطوا بالمسلمين فاستمات المسلمون و استلحمهم الروم بالقتل و نجا فلهم إلى الثغر و أسر عبد الله بن كاوس و حمل إلى القسطنطينية و في سنة خمس و ستين خرج خمسة من بطارقة الروم إلى أذنه فقتلوا و أسروا والي الثغور أوخرد فعزل عنها و أقام مربطا و بعث ملك الروم بعبد الله بن كاوس و من معه من الأسرى إلى أحمد بن طولون و أهدى إليه عدة مصاحف و في سنة ست و ستين لقي أسطول المسلمين أسطول الروم عند صقيلة فظفر الروم بهم و لحق من سلم منهم بصقيلة و فيها خرجت الروم على ديار ربيعة و استنفر الناس ففروا و لم يطيقوا دخول الدرب لشدة البرد فيها و غزا عامل ابن طولون على الثغور الشامية في ثلثمائة من أهل طرسوس و اعترضهم أربعة آلاف من الروم من بلاد هرقل فنال المسلمون منهم أعظم النيل و في سنة ثمان و ستين خرج ملك الروم و فيها غزا بالصائفة خلف الفرغاني عامل ابن طولون على الثغور الشامية فأثخن و رجع و في سنة سبعين زحف الروم في مائة ألف و نزلوا قلمية على ستة أميال من طرسوس فخرج إليهم بازيار فهزمهم و قتل منهم سبعين ألفا و جماعة من البطارقة و قتل مقدمهم بطريق البطارقة و غنم منهم سبع صلبان ذهبا و فضة و كان أعظمها مكللا بالجواهر و غنم خمسة عشر ألف دابة و من السروج و السيوف مثل ذلك و أربع كراسي من ذهب و مائتين من فضة و عشرين علما من الديباج و آنية كثيرة و في سنة ثلاث و سبعين غزا بالصائفة بازيار و توغل في أرض الروم و غنم و أسر و سبى و عاد إلى طرسوس و في سنة ثمان و سبعين دخل أحمد الجعفي طرسوس و غزا مع بازيار بالصائفة و نازلوا إسكندا فأصيب بازيار عليها بحجر منجنيق فرجع و مات في طريقه و دفن بطرسوس (3/421)
الولايات بالنواحي أيام المعتز
كانت الفتنة قد ملأت نواحي الدولة من أطرافها و أوساطها و استولى بنو سامان على ما وراء النهر و الصفار على سجستان و كرمان و ملك فارس من يد عمال الخليفة و انتزع خراسان من بني طاهر و كلهم مع ذلك يقيمون دعوة الخليفة و غلب الحسن بن زيد على طبرستان و جرجان منازعا بالدعوة و محاربا بالديلم لابن سامان و الصفار و عساكر الخليفة بأصبهان و استولى صاحب الزنج على البصرة و الأبلة إلى واسط و كور دجلة منازعا للدعوة و مشاققا و أضرم تلك النواحي فتنة و لم يزل الموفق في محاربته حتى حسم علته و قطع أثره و اضطرمت بلاد الموصل و الجزيرة فتنة بخوارج السراة و بالقرب من بني شيبان و تغلب بالأكراد و استولى ابن طولون على مصر و الشام مقيما لدعوة الخلافة العباسية و ابن الأغلب بأفريقية كذلك و أما المغرب الأقصى و الأندلس فاقتطعا عن المملكة العباسية منذ أزمان كما قلنا و لم يكن للمعتمد مدة خلافته كلها حكم و لا أمر و نهي و إنما كان مغلبا لأخيه الموفق و تحت استبداده و لم يكن لهما جميعا كبير ولاية في النواحي باستيلاء من استولى عليها ممن ذكرناه إلا بعض الأجناس فلنذكر ما وصل إلينا من هذه الولايات أيام المعتمد فلأول ولايته استوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان و بعث جعلان لحرب الزنج بالبصرة فكان أمره معهم كما مر ثم ولى عيسى بن الشيخ من بني شيبان على دمشق فاستأثر بها و منع الخراج و جاءه حسين الخادم من بغداد يطلب المال فاعتذر بأنه أنفقه على الجند فكتب له المعتمد عهده في أرمينية ليقيم بها دعوته و قلد أماجور دمشق و أعمالها فسار إليها و أنفذ عيسى بن الشيخ ابنه منصورا لقتال أماجور في عشرين ألفا فانهزموا و قتل منصور و سار عيسى إلى أرمينية على طريق الساحل و دخل أماجور دمشق و في سنة ست و خمسين سار موسى بن بغا لحرب مساور الخارجي فلقيه ساحة جائعين فنال الخوارج منهم و فيها كان وثوب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي على الحرث بن سيما عامل فارس فقتله و غلب عليها كما مر و فيها غلب الحسن بن زيد الطالبي على الري فسار إليها موسى بن بغا و غلب على عساكر الحسن و ظهر علي بن زيد بالكوفة و ملكها و بعث المعتمد لمحاربته كيجور التركي فخرج عنها إلى القادسية ثم إلى ختان ثم إلى بلاد بني أسد و غزاه كيجور من الكوفة فأوقع به و عاد إلى الكوفة ثم إلى سر من رأى و في سنة سبع و خمسين عقد المعتمد لأخيه الموفق على الكوفة و الحرمين و اليمن ثم على بغداد و السواد إلى البصرة و الأهواز و أمره أن يعقد ليارجوج على البصرة و كور دجلة و اليمامة و البحرين مكان سعيد الحاجب و عقد يارجوج على ذلك لمنصور بن جعفر الخياط و نزل الأهواز ثم عقد المعتمد حرب الزنج بالبصرة لأحمد بن المولد فسار إليها و قاتل الزنج و كان بالبطائح سعيد بن أحمد الباهلي متغلبا عليها فأخذه ابن المولد و بعث به إلى سامرا و فيها تغلب يعقوب الصفار على فارس و بعض أعمال خراسان و ولاه المعتمد ما غلب عليها و فيها غلب الحسن بن زيد على خراسان و انتقضت على ابن طاهر أعمال خراسان و فيها اقتطع المعتمد مصر و أعمالها ليارجوج التركي فولى عليها أحمد بن طولون و مات يارجوج لسنة بعدها فاستبد ابن طولون بها و كان عبد العزيز بن أبي دلف على الري فخرج عليها خوفا من جيوش ابن زيد صاحب طبرستان فبعث الحسن من قرابته القاسم بن علي القاسم فأساء فيها السيرة و في سنة ثمان و خمسين قتل منصور بن جعفر الخياط في حرب الزنج و ولي يارجوج على أعمال منصور فولى عليها أصطيخور و هلك في حرب الزنج و عقد المعتمد للموفق على ديار مصر و قنسرين و العواصم و بعثه لحرب الزنج و معه مفلح فهلك في تلك الحرب و عقد المعتمد على الموصل و الجزيرة لمسرور البلخي فكانت بينه و بين مساور الشيباني حروب و كذلك بين الأكراد و اليعقوبية و أوقع بهم كما مر و فيها رجع أحمد بن واصل إلى طاعة السلطان و سلم فارس للحسن بن الفياض و في سنة تسع و خمسين كان مهلك أصطيخور بالأهواز فأمر المعتمد موسى بن بغا بالمسير لحرب الزنج كما مر و فيها ملك يعقوب الصفار خراسان و قبض على محمد بن طاهر و كان لمنكجور على الكوفة فسار عنها إلى سامرا بغير إذن و أمر بالرجوع فأبى فبعث المعتمد عدة من القواد فلقوه بعكبر فقتلوه و حملوا رأسه و فيها غلب الحسن بن زيد على قومس و ملكها و كانت وقعة بين محمد بن الفضل بن نيسان و بين دهشودان ابن حسان الديلي فهزمه محمد و فيها غلب شركب الحمال على مرو و نواحيها و في سنة ستين أقام يعقوب بن الصفار الحسن بن زيد فهزمه و ملك طبرستان كما مر و أخرج أهل الموصل عاملهم أتكوتكين بن أساتكين فبعث عليهم أساتكين إسحق ابن أيوب في عشرين ألفا و معه حمدان بن حمدون الثعلبي فامتنع أهل الموصل منهم و ولوا عليهم يحيى بن سليمان فاستولى عليها و فيها قتلت الأعراب منحور والى حمص فولى بكتر و ولى على أذربيجان الرذيني عمر بن علي لما بلغه أن عاملها العلاء بن أحمد الأزدي فلج فلما أتى الرذيني حاربه العلاء فانهزم و قتل و استولى الرذيني على مخلفه قريبا من ألفي ألف و سبعمائة الف درهم و فيها سار علي بن زيد القائد بالكوفة إلى صاحب الزنج فقتله و في سنة احدى و ستين عقد المعتمد لموسى بن بغا على الأهواز و البصرة و البحرين و اليمامة مضافا لما بيده فولاها موسى عبد الرحمن بن مفلح و بعثه لحرب ابن واصل فهزمه ابن واصل و أسره كما مر و رأى موسى بن بغا اضطراب تلك الناحية فاستعفى منها و وليها أبو الساج و ملك الزنج الأهواز من يده فصرف عن ولايتها و وليها إبراهيم بن سيما و ولي محمد بن أوس البلخي طريق خراسان ثم جاء الصفار إلى فارس فغلب عليها ابن واصل كما مر فجهز المعتمد أخاه الموفق إلى البصرة بعد أن ولاه المعتمد عهده بعد ابنه جعفر كما ذكرناه و بعث الموفق ابنه أبا العباس لحرب الزنج فتقدما بين يديه و فيها فارق محمد بن زيد ولاية يعقوب الصفار و سار ابن أبي الساج إلى الأهواز و طلب أن يوجه الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر إلى خراسان و فيها استبد نصر بن أحمد بن سامان بسمرقند و ما وراء النهر و ولى أخاه إسمعيل بخارى و فيها ولى المعتمد على الموصل الخضر بن أحمد بن عمر بن الخطاب و فيها رجع الحسين بن زيد إلى طبرستان و أخرج منها أصحاب الصفار و أحرق سالوس لممالأة أهلها الصفار و أقطع ضياعهم للديلم و فيها نادى المعتمد في حاج خراسان و الري و طبرستان و جرجان بالنكير على ما فعله الصفار في خراسان و ابن طاهر و إنه لم يكن عن أمره و لا ولاه و فيها قتل مساور الشاربي يحيى ابن جعفر من ولاة خراسان فسار مسرور البلخي في طلبه و الموفق من ورائه و في سنة اثنتين وستين كانت الحرب بين الموفق و الصفار و استولى الزنج على البطيحة و دسيميسان و ولى على الأهواز كما ذكرنا و بعث مسرور البلخي أحمد بن ليتونة لحربهم كما مر و فيها ثار أحمد بن عبد الله الخجستاني في خراسان بدعوة بني طاهر و غلب عليها الصفار إلى أن قتل كما مر ذكره و فيها وقعت مغاضبة بين الموفق و ابن طولون فبعث إليه الموفق موسى بن بغا فأقام بالقة حولا و عجز عن المسير لقلة الأموال فرجع إلى العراق و فيها انصرف عامل الموصل و هو القطان صاحب مفلح فقتله الأعراب بالبرية و في سنة ثلاث و ستين استولى الصفار على الأهواز و مات مساور الشاربي و هو قاصد لقاء العساكر السلطانية بالتواريخ فولى الخوارج مكانه هرون بن عبد الله البلخي فاستولى على الموصل و فيها ظفر أصحاب الصفار بابن واصل و فيها هزم ابن أوس من طريق خراسان و عاد إلى الموصل و فيها ظفر أصحاب الصفار بابن واصل و أسروه و مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المعتمد فاستوزر مكانه الحسن بن مخلد و كان موسى بن بغا غائبا في غزو العرب فلما قدم خافه الحسين و تغيب فاستوزر مكانه سليمان بن وهب و فيها غلب أخو شركب الحمال على نيسابور و خرج عنها الحسين بن طاهر إلى مرو و بها خوارزم شاه يدعو لأخيه محمد و فيها ملك صاحب الزنج مدينة واسط و قاتله دونها محمد بن المولد فهزمه و دخلها و استباحها و فيها قبض المعتمد على وزيره سليمان بن وهب و ولى مكانه الحسن بن مخلد و جاء الموفق مع عبد الله بن سليمان شفيعا فلم يشفعه فتحول إلى الجانب الغربي مغاضبا و اختلفت الرسل بينه و بين المعتمد و كان مع الموفق مسرور كيغلغ و أحمد بن موسى بن بغا ثم أطلق سليمان و دعا إلى الجوسق و هرب محمد بن صالح ابن شيرزاده و القواد الذين كانوا بسامرا مع المعتمد خوفا من الموفق فوصلوا إلى الموصل و كتب الموفق لأحمد بن أبي الأصبغ في قبض أموالهم و فيها مات أماجور عامل دمشق و ملك ابن طولون الشام و طرسوس و قتل عاملها سيما و في سنة خمس و ستين ولي مسرور البلخي على الأهواز و هزم الزنج و فيها مات يعقوب الصفار و قام بأمره أخوه عمر و لاه الموفق مكانه أخيه بخراسان و أصبهان و سجستان و السند و كرمان و الشرطة ببغداد و فيها وثب القاسم بن مهان بدلف ابن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان فوثب جماعة من أصحاب دلف بالقاسم فقتلوه فولي أصبهان أحمد بن عبد العزيز أخو دلف و فيها لحق محمد بن المولد بيعقوب الصفار و قبضت أمواله و عقاره ببغداد و فيها حبس الموفق سليمان بن وهب و ابنه عبد الله و صادرهما على تسعمائة ألف دينار و فيها ذهب موسى بن أتامش و إسحق بن كنداجق و الفضل بن موسى بن بغا مغاضبين و بعث الموفق في أثرهم صاعد بن مخلد فردهم من صرصر و فيها استوزر الموفق أبا الصقر إسمعيل بن بلبل و في سنة ست و ستين ملك الزنج رامهرمز و غلب أساتكين على الري و أخرج عنها عاملها فطلقت ثم مضى إلى قزوين و بها أخوه كيغلغ فصالحه ملكها و فيها ولي علي بن الليث على الشرطة ببغداد عبيد الله بن عبد الله طاهر و على أصبهان أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف و على الحرمين و طريق مكة محمد بن أبي الساج و ولى الموفق على الجزيرة أحمد بن موسى بن بغا فولى من قبله على ديار ربيعة موسى بن أتامش فغضب لذلك إسحق ابن كنداجق و فارق عسكر موسى و سار إلى بلد و أوقع بالأكراد اليعقوبية ثم لقي ابن مساور الخارجي فقاتله و سار إلى الموصل و طلب من أهلها المال و خرج على ابن داود لقتاله مع إسحق بن أيوب و حمدان و كانت بينهم حروب أخرها المعتمد لإسحق بن كنداجق على الموصل و قد مر ذلك من قبل و فيها قتل أهل حمص عاملها عيسى الكرخي و فيها كانت بين لؤلؤ غلام ابن طولون و بين موسى بن أتامش وقعة برأس عين و أسره لؤلؤ و بعث به إلى الرقة ثم لقيه أحمد بن موسى فاقتتلوا و غلب أحمد أولا ثم كر لؤلؤ فغلبهم و انتهوا إلى قرقيسيا ثم ساروا إلى بغداد و سامرا و فيها أوقع أحمد بن عبد العزيز ببكتم فانهزم و لحق ببغداد و أوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان فلحق بآمد و ملك الخجساني جرجان و أقطعه من طبرستان و استخلف على سارية الحسن ابن محمد بن جعفر بن عبد الله العقيقي بن حسين الأصفر بن زيد العابدين فلما انهزم الحسن بن زيد أظهر الحسن بن محمد أنه قتل و دعا لنفسه و حاربه الحسن بن زيد فظفر به و قتله و فيها ملك الخجستاني نيسابور من يد عامل ابن عمرو بن الليث و فيها في صفر زحف الموفق لقتال صاحب الزنج فلم يزل يحاصره حتى اقتحم عليه مدينته و قتله منتصف سنة سبعين و فيها كانت الحرب بالمدينة بين بني حسن و بني جعفر و في سنة سبع و ستين كانت الفتنة بالموصل بين الخوارج و فيها حبس السلطان بن عبد الله بن طاهر و جماعة من بيته و اتهمه عمرو بن الليث بممالأة الخجستاني و الحسين بن طاهر أخيه فكتب إلى المعتمد و حبسه و فيها كانت بين كيقلغ التركي و أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف و انهزم أحمد و ملك كيقلغ همذان فزحف إليه أحمد بن عبد العزيز فهزمه وملك همذان و سار كيقلغ إلى الصحيرة و فيها أزال الخجستاني ذكر محمد بن طاهر من المنابر و دعا لنفسه بعد المعتمد و ضرب السكة باسمه و جاء يريد العراق فانتهى إلى الري ثم رجع و فيها أصحاب أبي الساج بالهيثم العجلي صاحب الكوفة و غنموا عسكره و فيها أوقع أبو العباس بن الموفق بالأعراب الذين كانوا يجلبون الميرة بالزنج من بين تميم و غيرهم و في سنة ثمان و ستين كان مقتل الخجستاني و أصحابه بعده على رافع بن هرثمة من قواد بني طاهر و ملك بلاد خراسان و خوارزم و فيها انتقض محمد بن الليث بفارس على أخيه عمرو فسار إليه و هزمه و استباح عسكره و ملك أصطيخور و شيراز و ظفر به فحبسه كما مر و فيها كانت وقعة بين أتكوتكين بن أساتكين و بين أحمد بن عبد العزيز ابن أبي دلف فهزمه أتكوتكين و غلبه على قم و فيها بعث عمرو بن الليث عسكرا إلى محمد بن عبد الله الكردي و فيها انتقض لؤلؤ على مولاه أحمد بن طولون و سار إلى الموفق و قاتل معه الزنج و فيها سار المعتمد إلى ابن طولون بمصر مغاضبا لأخيه الموفق و كتب الموفق إلى إسحق بن كنداجق بالموصل بردة فسار معه إلى آخر عمله ثم قبض على القواد الذين معه و رده إلى سامرا و فيها وثب العامة ببغداد بأميرهم الخلنجي و كان كاتب عبيد الله بن طاهر و قتل غلام له امرأة بسهم فلم يعدهم عليه فوثبوا به و قتلوا من أصحابه و نهبوا منزله و خرج هاربا فركب محمد بن عبد الله و استرد من العامة ما نهبوه و فيها وثب بطرسوس خلق من أصحاب ابن طولون و عامله على الثغور الشامية فاستنفذ أهل طرسوس من يده و زحف إليهم ابن طولون فامتنعوا عليه و رجع إلى حمص ثم إلى دمشق و فيها كانت وقعة بين العلويين و الجعفريين بالحجار فقتل ثمانية من الجعفريين و خلصوا عامل المدينة من أيديهم و فيها عقد هرون بن الموفق لأبي الساج على الأنبار و الرحبة و طريق الفرات و ولى محمد بن أحمد على الكوفة و سوادها و دافعه عنها محمد بن الهيثم فهزمه محمد و دخلها و فيها مات عيسى بن الشيخ الشيباني عامل أرمينية و ديار بكر و فيها عظمت الفتنة بين الموفق و ابن طولون فحمل المعتمد على لعنة و عزله و ولى إسحق بن كنداجق على أعماله إلى أفريقية و على شرطة الخاصة و قطع ابن طولون الخطبة للموفق و اسمه من الطرر و فيها ملك ابن طولون الرحبة بعد مقاتلة أهلها و هرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام ثم سار إلى ابن الشماخ بقرقيسيا و في سنة سبعين كان مقتل صاحب الزنج و انقراض دعوته و وفاة الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان و قيام أخيه محمد بأمره و وفاة أحمد بن طولون صاحب مصر و ولاية ابنه خمارويه و مسير إسحق بن كنداجق بابن دعامس عامل الرقة و الثغور و العواصم لابن طولون و في سنة إحدى و سبعين ثار بالمدينة محمد و علي ابنا الحسن بن جعفر بن موسى الكاظم و قتلا جماعة من أهلها و نهبا أموال الناس و منعا الجمعة بمسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم شهرا و فيها عزل المعتمد عمرو بن الليث من خراسان فقاتله أحمد بن عبد الله بن أبي دلف بأصبهان و هزمه و فيها استعاد خمارويه الشام من يد أبي العباس بن الموفق و فر إلى طرسوس كما تقدم و فيها عقد المعتمد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة و طريق مكة و كان يوسف محمد بن أبي الساج والي مكة و جاء بدر غلام الطائي أميرا على الحاج فحاربه يوسف على باب المسجد الحرام و أسره فسار الجند و الحاج بيوسف و أطلقوا بدرا من يده و حملوا يوسف أميرا إلى بغداد و في منتصف سنة اثنتين و سبعين غلب أتكوتكين على الري من يد محمد بن زيد العلوي سار هو من قزوين في أربعة آلاف و محمد بن زيد من طبرستان في الديلم و أهل خراسان فانهزموا و قتل منهم ستة آلاف و فيها ثار أهل طرسوس بأبي العباس بن الموفق و أخرجوه إلى بغداد و ولوا عليهم بازيار و فيها توفي سليمان ابن وهب في حبس الموفق و فيها دخل حمدان بن حمدون و هرون مدينة الموصل و فيها قدم صاعد بن مخلد الوزير من فارس و قد كان بعثه الموفق إليها لحرب فرجع إلى واسط و ركب القواد لاستقباله فترجلوا إليه و قبلوا يده و لم يكلمهم ثم قبض الموفق على جميع أصحابه و أهله و نهب منازلهم و كتب إلى بغداد بقبض ابنه أبي عيسى و صالح و أخيه عبدون و استكتب مكانه أبا الصقر إسمعيل بن بلبل و اقتصر به على الكتابة و فيها جاء بنو شيبان إلى الموصل فعاثوا في نواحيها و أجمع هرون الشاربي و أصحابه على قصدهم و كتب إلى أحمد بن حمدون الثعلبي فجاءه و ساورا إلى الموصل و عبروا الجانب الشرقي من دجلة ثم ساورا إلى نهر الحارد فلما تراءى الجمعان انهزم هرون و أصحابه و انجلى سوى عنها و في سنة ثلاث و سبعين وقعت الفتنة بين ابن كنداجق و بين ابن أبي الساج و سار ابن أبي الساج إلى ابن طولون و استولى على الجزيرة و الموصل و خطب له فيها و قاتل الشراة كما ذكرنا و فيها قبض الموفق على لؤلؤ غلام ابن طولون و صادره على أربعمائة ألف دينار و بقي في إدبار إلى أن عاد إلى مصر أيام هرون بن خمارويه و في سنة أربع و سبعين سار الموفق إلى فارس فاستولى عليها من يد عمرو بن الليث و رجع عمرو إلى كرمان و سجستان و عاد الموفق إلى بغداد و في سنة خمس و سبعين نقض ابن أبي الساج طاعة خمارويه و قاتله خمارويه فهزمه و ملك الشام من يده و سار إلى الموصل و خمارويه في اتباعه إلى بغداد و لحق ابن أبي الساج بالحديثة فأقام بها إلى أن رجع خمارويه و كان إسحق ابن كنداج قد جاء إلى خمارويه فبعث معه جيشا و قواد في طلب ابن أبي الساج و اشتغل بعمل السفن للعبور إليه فسار ابن أبي الساج عنها إلى الموصل و اتبعه ابن كنداج و سار إلى الرقة فاتبعه ابن أبي الساج و كتب إلى الموفق يستأذنه في اتباعه إلى الشام و جاء ابن كنداج بالعساكر من عند خمارويه و أقام على حدود الشام ثم هزم ابن أبي الساج فسار إلى الموفق و ملك ابن كنداج ديار ربيعة و ديار مضر و قد تقدم ذكر ذلك و فيها خرج أحمد بن محمد الطائي من الكوفة لحرب فارس العبدي و كان يخيف السابلة فهزمه العبدي و كان الطائي على الكوفة و سوادها و طريق خراسان و سامرا و شرطة بغداد و خراج بادر دباد قطربل و فيها قبض الموفق على ابنه أبي العباس و حبسه و فيها ملك رافع بن هرثمة جرجان من يد محمد بن زيد و حاصره في استراباذ نحوا من سنتين ثم فارقها الجيش لحربه فسار و عن سارية و عن طبرستان سنة سبع و سبعين و استأمن رستم بن قارن إلى رافع و قدم عليه علي بن الليث من حبس أخيه بكرمان هو و ابناه العدل و الليث و رافع على سالوس محمد بن هرون و جاء إليه علي بن كاني مستأمنا فحصرهما محمد بن زيد و سار إليه رافع ففر إلى أرض الديلم و رافع في اتباعه إلى حدود قزوين فسار فيها و أحرقها و عاد إلى الري و في سنة ست و سبعين رضي المعتمد عن عمرو بن الليث و ولاه و كتب اسمه على الأعلام و ولى على الشرطة ببغداد من قبله عبيد الله ابن عبد الله بن طاهر ثم انتقض فأزيل و فيها كان مسير الموفق إلى الجبل لأتكوتكين و محاربة أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف و قد تقدم ذلك و فيها ولى الموفق ابن أبي الساج على أذربيجان فسار إليها و دافعه عبد الله ابن حسن الهمداني صاحب مراغة فهزمه ابن أبي الساج و استقر في عمله و فيها زحف هرون الشاري من الحديثة إلى الموصل يريد حربها ثم صانعه أهل الموصل و رحل عنهم و في سنة سبع و سبعين دعا مازيار بطرسوس لخمارويه بن أحمد بن طولون و كان أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار و خمسمائة ثوب و خمسمائة مطرف و سلاحا كثيرا و بعث إليه بعد الدعاء بخمسين ألف دينار و في سنة ثمان و سبعين كانت وفاة الموفق و بيعة المعتضد بالعهد كما مر و فيها كان ابتداء أمر القرامطة و قد تقدم و في سنة تسع و سبعين خلع جعفر بن المعتمد و قدم عليه المعتضد و كانت الحرب بين الخوارج و أهل الموصل و بين بني شيبان و على بني شيبان هرون بن سيما من قبل محمد ابن إسحق بن كنداج ولاه عليها فطرده أهلها فزحف إليهم مع بني شيبان و دافع عن أهل الموصل هرون الشاري و حمدان بن حمدون فهزمهم بنو شيبان و خاف أهل الموصل من ابن سيما و بعثوا إلى بغداد يطلبون واليا فولى المعتمد عليهم محمد بن يحيى المجروح الموكل بحفظ الطريق و كان ينزل الحديثة فأقام بها أياما ثم استبدل منه بعلي بن داود الكردي (3/423)
وفاة المعتمد و بيعة المعتضد
توفي المعتمد على الله أبو العباس أحمد بن المتوكل لعشر بقين من رجب سنة تسع و سبعين و مائتين و عشرين سنة من ولايته و دفن بسامرا و هو أول من انتقل إلى بغداد و كان في خلافته مغلبا عاجزا و كان أخوه الموفق مستبدا عليه و لم يكن له معه حكم في شيء و لما مات الموفق سنة ثمان و سبعين كما قدمناه أقام مكانه ابنه أبا العباس أحمد المعتضد و حجر المعتمد كما كان أبوه يحجره و ولاه عهده كما كان أبوه ثم قدمه في العهد على ابنه جعفر ثم هلك فبايع الناس للمعتضد بالخلافة صبيحة موته فولى غلامه بدرا الشرطة و عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزارة و محمد بن الشاري بن ملك الحرس و وفد عليه لأول خلافته رسول عمرو بن الليث بالهدايا و سأل ولاية خراسان فعقد له عليها و بعث إليه بالخلع و اللواء و لأول خلافته مات نصر بن أحمد الساماني ملك ما وراء النهر و قام مكانه أخوه إسمعيل (3/432)
مقتل رافع بن الليث
كان رافع بن الليث قد وضع يده على قرى السلطان بالري و كتب إليه ا لمعتضد برفع يده عنها فكتب إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف بإخراجه عن الري فقاتله و أخرجه و سار إلى جرجان و دخل نيسابور سنة ثلاث و ثمانين فوقعت بينه و بين عمرو حرب و انهزم رافع إلى أبيورد و خلص عمرو ابنى أخيه من حبسه و هما العدل و الليث ابنا علي بن لليث و قد تقدم خبرهما ثم سار رافع إلى هراة و رصده عمرو بسرخس فشعر به و رجع إلى نيسابور في مسالك صعبة و طرق ضيقة و اتبعه عمرو فحاصره في نيسابور ثم تلاقيا و هرب عن رافع بعض قواده إلى عمرو فانهزم رافع و بعث أخاه محمد بن هرثمة إلى محمد بن زيد يستمده كما شرط له فلم يفعل و افترق عن رافع أصحابه و غلمانه و فارقه محمد بن هرون إلى أحمد بن إسمعيل في بخارى و لحق رافع بخوارزم في فل من العسكر و معه بقية أمواله و آلته و مر في طريقه بأبي سعيد الدرعاني ببلد فاستفعله و غدر به و حمل رأسه إلى عمرو بن الليث بنيسابور و ذلك في شوال ثلاث و ثمانين (3/432)
خبر الخوارج بالموصل
قد تقدم لنا أن خوارج الموصل من الشراة استفدر عليهم بعد مساور هرون الشاري و ذكرنا شيئا من أخبارهم ثم خرج عليه سنة ثمانين محمد بن عبادة و يعرف بأبي جوزة من بني زهير من البقعاء و كان فقيرا و معاش بنيه في التقاط الكمأة و غيرها و أمثال ذلك و كان يتدين و يظهر الزهد ثم جمع الجموع و حكم و استجمع إليه الأعراب من تلك النواحي و قبض الزكوات و الأعشار من تلك الأعمال و بنى عند سنجار حصنا و وضع فيه أمتعته و ما عونه و أنزل به ابنه أبا هلال في مائة و خمسين فجمع هرون الشاري أصحابه و بدأ بحصار الحصن فأحاط به و محمد بن عبادة في داخله وجد في حصاره حتى أشرف على فتحه و قيد أبا هلال ابنه و نفرا معه و بعث بنو ثعلب و هم مع هرون إلى من كان بالحصن من بني زهير فأمنوهم و ماك هرون الحصن ثم ساروا إلى محمد فلقيهم و هزمهم أولا ثم كروا عليه مستميتين فهزموه و قتلوا من أصحابه ألفا و أربعمائة و قسم هرون ماله و لحق محمد بآمد فحاربه صاحبها أحمد بن عيسى بن الشيخ فظفر به و بعثه إلى المعتضد فسلخه حيا (3/433)
ايقاع المعتضد ببنى شيبان و استيلاؤه على ماردين
و في سنة ثمانين سار المعتضد إلى بني شيبان بأرض الجزيرة ففروا أمامه و أثار على طوائف من العرب عند السند فاستباحهم و سار إلى الموصل فجاءه بنو شيبان و أعطوه رهنهم على الطاعة فغلبهم و عاد إلى بغداد و بعث إلى أحمد بن عيسى بن الشيخ في أموال ابن كنداج التي أخذها بأحمد فبعث بها و بهل أياما كثيرة معها ثم بلغه أن أحمد بن حمدون ممالئ لهرون الشاري و داخل في دعوته فسار المعتضد إليه سنة إحدى و ثمانين و اجتمع الأعراب من بني ثعلب و غيرهم للقائه و قتل منهم و غرق في الزاب كثيرا و سار إلى الموصل ثم بلغه أن أحمد هرب عن ماردين و خلف بها ابنه فسار المعتضد إليه و نازله و قاتله يوما ثم صعد من الغد إلى باب القلعة و صاح بابن حمدان و استفتح الباب ففتح له دهشا و أمر بنقل ما في القلعة و هدمها و بعث في طلب حمدان و أخذ أمواله (3/433)
الولاية على الجبل و أصبهان
عقد المعتضد سنة إحدى و ثمانين لابنه علي و هو المكتفي على الري و قزوين و زنجان و أبهر و قم و همذان و الدينور فأستأمن إليه عامل الري لرافع بن الليث و هو الحسن بن علي كورة فأمنه و بعث به إلى أبيه (3/434)
عود حمدان إلى الطاعة
و في سنة اثنتين و ثمانين سار المعتضد إلى الموصل و استقدم إسحق بن أيوب و حمدان ابن حمدون فبادر إسحق بقلاعه و أودع حرمه و أمواله فبعث إليه المعتضد العساكر مع وصيف و نصر القسوري فمروا بذيل الزعفران من أرض الموصل و به الحسن ابن علي كورة و معه الحسين بن حمدان فأستأمن الحسين و بعثوا له إلى المعتضد فأمر بهدم القلعة و سار وصيف في اتباع حمدان فواقعه و هزمه و عبر إلى الجانب الغربي من دجلة و سار في ديار ربيعة و عبرت إليه العساكر و حبسوه فأخذوا ماله و هرب و ضاقت عليه الأرض فقصد خيمة إسحق بن أيوب في عسكر المعتضد مستجيرا به فأحضره عند المعتضد فوكل به و حبسه (3/434)
هزيمة هرون الشاري و مهلكه
كان المعتضد قد ترك بالموصل نصر القسروي لإعادته العمال على الجباية و خرج بعض العمال لذلك فأغارت عليهم طائفة من أصحاب هرون الشاري و قتل بعضهم فكثر عيث الخوارج و كتب القسروي إلى هرون يهدده فأجابه و أساء في الرد و عرض بذكر الخليفة فبعث نصر بالكتاب إلى المعتضد فأمره بالجد في طلب هرون و كان على الموصل يكتم طاتشمر من مواليهم فقبض عليه و قيده و ولى على الموصل الحسن كورة و أمر ولاة الأعمال بطاعته فجمعهم و عسكر بالموصل و خندق على عسكره إلى أن أوقع بالناس غلاتهم ثم سار إلى الخوارج و عبر الزاب إليهم فقاتلهم قتالا شديدا فهزمهم و قتل منهم و افترقوا و سار الكثير منهم إلى أذربيجان و دخل هرون البرية و استأمن وجوه أصحابه إلى المعتضد فأمنهم ثم سار المعتضد سنة ثلاث و ثمانين في طلب هرون فانتهى إلى تكريت و بعث الحسين بن حمدون في عسكر نحو ثلثمائة فارس و اشترط إن جاء به إطلاق ابنه حمدان ! و سار معه وصيف و انتهى إلى بعض مخايض دجلة فأرصد بها وصيفا و قال : لا تفارقوها حتى تروني ! و مضى في طلبه فواقعه و هزمه و قتل من أصحابه و أقام وصيف ثلاثة أيام فأبطأ عليه الأمر فسار في اتباع ابن حمدان و جاء هرون منهزما إلى تلك المخاضة فعبر و ابن حمدان في أثره إلى حي من أحياء العرب قد اجتاز بهم هرون فدلوا ابن حمدان عليه فلحقه و أسره و جاء به إلى المعتضد فرجع المعتضد آخر ربيع الأول و خلع على الحسين و أخوته و طوقه و أدخل هرون على الفيل و هو ينادي : لا حكم إلالله و لو كره المشركون و كان صغديا ثم أمر المعتضد بحل القيود عن حمدان ابن حمدون و الإحسان إليه و باطلاقه و في سنة اثنتين سار المعتضد من الموصل إلى الجبل فبلغ الكرخ فهرب عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بين يديه فأخذ أمواله و بعث إليه في طلب جد كان عنده فوجهه إليه ثم بعث المعتضد وزيره عبيد الله بن سليمان إلى ابنه بالري ليسير من هناك إلى عمر بن عبد العزيز بالأمان فسار و أمنه و رجع إلى الطاعة فخلع عليه و على أهل بيته و كان أخوه بكر بن عبد العزيز قد استأمن قبل ذلك إلى عبيد الله بن سليمان و بدر فولاه عمله على أن يسير إلى حربه فلما وصل عمر في الأمان قال لبكر : إنما وليناك و أخوك عاص فامضيا إلى أمير المؤمنين المعتضد و ولى عيسى النوشري على أصبهان من قبل عمرو هرب بكر إلى الأهواز و سار عبيد الله بن سليمان الوزير إلى علي بن المعتضد بالري و لما بلغ الخبر إلى المعتضد بعث وصيفا موسكين إلى بكر بن عبد العزيز بالأهواز فلحقه بحدود فارس فمضى بكر إلى أصبهان ليلا و رجع وصيف إلى بغداد و كتب المعتضد إلى بدر مولاه يطلب بكر بن عبد العزيز و حربه فأمر بذلك عيسى النوشري فقام به و لقي بكرا بنواحي أصبهان فهزمه بكر ثم عاد النوشري لقتاله سنة أربع و ثمانين فهزمه بنواحي أصبهان و استباح عسكره و لجأ بكر إلى محمد بن زيد العلوي بطبرستان و هلك بها سنة خمس و ثمانين و كان عمر لما مات أبوه قبض على أخيه الحرث و يكنى أبا ليلى و حبسه في قلعة رد و وكل به شفيعا الخادم فلما جاء المعتضد و استأمن عمر و هرب بكر و بقيت القلعة بيد شفيع بأموالها رغب إليه الحرث في إطلاقه فلم يفعل و كان شفيع يسامره كل ليلة و ينصرف فحادثه ليلة و نادمه و قام شفيع لبعض حاجته فجعل الحرث في فراشه تمثلا و غطاه و قال لجاريته : قولي لشفيع إذا عاد هو نائم و مضى فاختفى في الدار و فك القيد عن رجله بمبرد أدخل إليه و برد به مسماره و لما أخبر شفيع بنومه مضى إلى مرقده و قصده أبو ليلى على فراشه فقتله و أمر أهل الدار و اجتمع عليه الناس فاستحلفهم و وعدهم و جمع الأكراد و غيرهم و خرج من القلعة ناقضا للطاعة فسار إلى عيسى النوشري و حاربه فأصاب أبا ليلى سهم فمات و حمل رأسه إلى أصبهان ثم إلى بغداد (3/434)
خبر ابن الشيخ بآمد
و في سنة خمس و ثمانين توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ و قام بأمره في آمد و أعمالها ابنه محمد فسار المعتضد إليه في العساكر و معه ابنه أبو محمد علي المكتفي و مر بالموصل و حاصر المعتمد إلى ربيع الآخر من سنة ست و ثمانين و نصب عليها المجانيق حتى استأمن لنفسه و لأهل آمد و خرج إلى المعتمد فخلع عليه و هدم سورها ثم بلغه أنه يروم الهرب فقبض عليه و على أهله (3/436)
خبر ابن أبي الساج
قد تقدم لنا ولاية محمد بن أبي الساج على أذربيجان و مدافعة الحسين إياه عن مراغة ثم فتحها و استيلاؤه على أعمال أذربيجان و بعث المعتضد سنة اثنتين و ثمانين أخاه يوسف بن أبي الساج إلى الصيمرة مددا لفتح القلانسى غلام الموفق فخرج يوسف فيمن أطاعه فولاه المعتضد على أعماله و بعث إليه بالخلع و أعطاه الرهن بما ضمن من الطاعة و المناصحة و بعث بالهدايا (3/436)
ابتداء أمر القرامطة بالبحرين و الشام
كان في سنة احدى و ثمانين قد جاء إلى القطيف بالبحرين رجل تسمى بيحيى بن المهدي و زعم أنه رسول من المهدي و أنه قد قرب خروجه و قصد من أهل القطيف علي بن المعلى بن حمدان الرباديني و كان متغالبا في التشيع فجمع الشيعة و أقرأهم كتاب المهدي ليشيع الخبر في سائر قرى البحرين فأجابوا كلهم و فيهم أبو سعيد الجناني و كان من عظمائهم ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدة و رجع بكتاب المهدي يشكرهم على إجابتهم و أمرهم أن يدفعوا ليحيى ستة دنانير و ثلثين عن كل رجل منهم ففعلوا ثم غاب و جاء بكتاب آخر بأن يدفعوا إليه خمس أموالهم فدفعوا و أقام يتردد في قبائل قيس ثم أظهر أبو سعيد الجناني الدعوة بالبحرين سنة ست و ثمانين و اجتمع إليه القرامطة و الأعراب و قتل و استباح و سار إلى القطيف طالبا البصرة و بلغت النفقة فيه أربعة عشر ألف دينار ثم قرب أبو سعيد من نواحي البصرة و بعث المعتضد إليهم المدد مع عباس بن عمر الغنوي و عزله عن فارس و أقطعه اليمامة و البحرين و ضم إليه ألفين من المقاتلة و سار إلى البصرة و أكثر من الحشد جندا و متطوعة فسار و لقي أبا سعيد الجناني و رجع من كان معه بني ضبة إلى البصرة ثم كان اللقاء فهزمه الجنابي و أسره و احتوى على معسكره و حرق الأسرى بالنار و ذلك في شعبان من هذه السنة و سار إلى هجر فملكها و أمن أهلها و رجع إلى أهل البصرة و بعثوا إليهم بالرواحل عليها الطعام و الماء فاعترضهم بنو أسد و أخذوا الرواحل و قتلوا الفل و اضطربت البصرة و تشوف أهلها إلى الإنتقال فمنعهم الواثقي ثم أطلق الجنابي العباس الغنوي فركب إلى الأبلة و سار منها إلى بغداد فخلع عليه المعتضد و أما ظهورهم بالشام فإن داعيتهم ذكروية بن مهروية الذي جاء بكتاب المهدي إلى العراق لما رأى الجيوش متتابعة إلى القرامطة بالسواد و أبادهم القتل لحق بأعراب أسد وطيء فلم يجبه فبعث أولاده في كلب بن وبرة فلم يجبه منهم إلا بنو القليظي بن ضمضم بن عدي بن جناب فبايعوا ذكرويه و يسمى بيحيى و يكنى بأبي القاسم لقبوه الشيخ و أنه من ولد إسمعيل الإمام بن جعفر الصادق و أنه يحيى بن عبد الله بن يحيى بن إسمعيل و زعم أن له مائة ألف تابع و إن ناقته التي يركبها مأمورة فمن تبعها كان منصورا فقصدهم شبل مولى المعتضد في العساكر من ناحية الرصافة فقتلوه فسار إليهم شبل مولى أحمد بن محمد الطائي فأوقع بهم و جاء ببعض رؤسائهم أسيرا فأحضره المعتضد و قال له هل تزعمون أن روح الله و أنبيائه تحل في اجسادكم فتعصمكم من الزلل و توفقكم لصالح العمل ؟ فقال له : يا هذا أرأيت إن حلت روح إبليس فما ينفعك ؟ فاترك مالا يعنيك إلى ما يعنيك قال له : فقل فيما يعنيني ! فقال له : قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبوكم العباس حي فلم يطلب الأمر و لا بايعه ثم مات أبو بكر و استخلف عمرو هو يرى العباس و لم يعهد إليه عمرو لاجعله من أهل الشورى و كانوا ستة و فيهم الأقرب و الأبعد و هذا إجماع منهم على دفع جدك عنها فبماذا تستحقون أنتم الخلافة ؟ فأمر به المعتضد فعذب و خلعت عظامه ثم قطع مرتين ثم قتل و لما أوقع شبل بالقرامطة بسواد الكوفة ساروا إلى الشام فانتهوا إلى دمشق و عليها طغج بن جف مولى أحمد بن طولون من قبل ابنه هرون فخرج إليهم فقاتلهم مرارا هزموه في كلها هذه أخبار بدايتهم و نقض العنان عنها إلى أن نذكر سياقتها عندما نعدد أخبارهم على شريطتنا في هذا الكتاب كما تقدم (3/437)
استيلاء ابن ماسان على خراسان من يد عمرو بن الليث و أسره ثم مقتله
لما تغلب عمرو بن الليث الصفار على خراسان من يد رافع بن الليث و قتله و بعث برأسه إلى المعتضد و طلب منه أن يوليه ما وراء النهر مضافا إلى ولاية خراسان كتب له بذلك فجهز الجيوش لمحاربة إسمعيل بن أحمد صاحب ما وراء النهر و جعل عليهم محمد بن بشير من أخص أصحابه و بعث معه القواد فانتهوا إلى آمد من شط جيحون و عبر إليهم إسمعيل فهزمهم و قتل محمد بن بشير في ستة آلاف و لحق الفل بعمرو في نيسابور فتجهز و سار إلى بلخ و كتب إليه إسمعيل يستعطفه و يقول : أنا في ثغر و أنت في دنيا عريضة فاتركني و استفد ألفتي فأبى و صعب على أصحابه عبور النهر لشدته فعبر إسمعيل و أخذ الطريق على بلخ و صار عمرو محصورا اقتتلوا فانهزم عمرو و تسرب من بعض المسالك عن أصحابه فوجد في أجمة و أخذ أسيرا و بعث به إسمعيل إلى سمرقند و من هناك إلى المعتضد سنة ثمان و ثمانين فحبسه إلى أن مات المعتضد سنة تسع بعدها فقتله ابنه المكتفي و عقد لإسمعيل على خراسان كما كانت لعمرو و كان عمرو عظيم السياسة و كان يستكثر من المماليك و يجري علي الأرزاق و يفرقهم على قواد ليطالعوه بأخبارهم و كان شديد الهيبة و لم يكن أحد يتجاسر أن يعاقب غلاما و لا خادما إلا أن يرفعه إلى حجابه (3/438)
استيلاء ابن سامان على طبرستان من يد العلوى و مقتله
و لما بلغ محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان و الديلم ما وقع بعمر و بن الليث و أنه أسر طمع هو في خراسان و ظن أن ابن إسمعيل لا يتجاوز عمله فسار إلى جرجان و بعث إليه إسمعيل بالكف فأبى فجهز لحربه محمد بن هرون و كان من قواده رافع بن الليث و استأمن إلى عمروا ثم إلى إسمعيل فنظمه في قواده و ندبه الآن لحرب محمد بن زيد فسار لذلك و لقيه على باب خراسان فاقتتلوا قتالا شديدا و انهزم محمد بن هرون أولا و افترقت عساكر محمد بن زيد على النهب ثم رجع هو و أصحابه و انهزم محمد بن زيد و جرح جراحات فاحشة هلك منها لأيام و أسر ابنه زيد و بعث به إسمعيل إلى بخارى و اجترأ عليه و غنم ابن هرون معسكرهم ثم سار إلى طبرستان فملكها و صار خراسان و طبرستان لبني سامان و اتصلت لهم دولة نذكر سياقة أخبارها عند أفراد دولتهم بالذكر كما شرطناه في تأليفنا (3/439)
ولاية علي بن المعتضد على الجزيرة و الثغور
و لما ملك المعتضد آمد من يد ابن الشيخ كما قدمناه سار إلى الرقة و تسلم قنسرين و العواصم من يد عمال هرون بن خمارويه لأنه كان كتب إليه أن يقاطعه على الشام و مصر و يسلم إليه أعمال قنسرين و يحمل إليه أربعمائة ألف دينار و خمسين ألفا فأجابوه و سار من آمد إلى الرقة فأنزل ابنه عليا الذي لقبه بعد ذلك بالمكتفي و عقد له على الجزيرة و قنسرين و العواصم سنة ست و ثمانين و استكتب له الحسن بن عمر النصراني و استقدم و هو بالرقة راغبا مولى الموفق من طرسوس فقدم عليه و حبسه و حبس ملنون غلامه و استصفى أموالهما و مات راغب لأيام من حبسه و قد كان راغب استبد بطرسوس و ترك الدعاء لهرون بن خمارويه و دعا لبدر مولى المعتضد و لما جاء أحمد بن طبان للغز سنة ثلاث و ثمانين تنازع معه راغب فركب أحمد البحر في رجوعه و لم يعرج على طرسوس و ترك بها دميانة غلام بازيار و أمده فقوي و أنكر على راغب أفعاله بحمل دميانة إلى بغداد و استبد راغب إلى استدعاء المعتضد و نكبه كما قلناه و ولى ابن الأخشاء على طرسوس فمات لسنة و استخلف أبا ثابت و خرج سنة سبع و ثمانين غازيا فأسر و ولى الناس عليهم مكانه علي بن الأعرابي و لحق بملطية في هذه السنة وصيف مولى محمد بن أبي الساج صاحب بردعة و كتب إلى المعتمد يسأله ولاية الثغور و قد وطأ صاحبه أن يسير إليه إذا وليها فيقصدان ابن طولون و يملكان مصر من يده و ظهر المعتضد على ذلك فسار لاعتراضه و قدم العساكر بين يديه فأخذه بعين زربة و جاؤا به إلى المعتضد فحبسه و أمن عسكره و رحل إلى قرب طرسوس و استدعى رؤساءها و قبض عليهم بمكاتبتهم وصيفا و أمر بإحراق مراكب طرسوس بإشارة دميانة و استعمل على أهل الثغور الحسن بن علي كورة و سار إلى أنطاكية و حلب و رجع منها إلى بغداد و قتل وصيفا و صلبه و استقدم المكتفي بعد وفاة المعتضد الحسن بن علي و ولى على الثغور مظفر بن حاج ثم شكا أهل الثغر منه فعزله و ولى أبا العشائر بن أحمد بن نصر سنة تسعين (3/439)
حرب الأعراب
و في سنة ست و ثمانين اعترضت طيء ركب الحاج بالاجيعر و قاتلوه و نهبوا أموال التجار ما قيمته ألف ألف دينار ثم اعترضوا الحاج كذلك سنة تسع و ثمانين بالقرن فهزمهم الحاج و سلموا (3/440)
تغلب ابن الليث على فارس و اخراج بدر اياه
و في فاتح ثمان و ثمانين جاء طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث في العساكر إلى بلاد فارس و أخرج منها عامل المعتضد و هو عيسى النوشري كان على أصبهان فولاه المعتضد فارس فسار إليها فجاءه طاهر و ملكها و كتب إليه إسمعيل صاحب ما وراء النهر بأن المعتضد ولاه سجستان لذلك و عقد المعتضد لبدر مولاه على فارس و هرب عمال طاهر عنها و ملكها بدر و جبى خراجها ثم مات المعتضد و سار مغربا عن فارس فقتل بواسط و قاطع طاهر بلاد فارس على مال يحمله فقلده المكتفي ولايتها سنة تسعين (3/440)
الولايات في النواحي
كان أكثر النواحي في دولة المعتضد مغلبا عليها كخراسان و ما وراء النهر لابن سامان و البحرين للقرامطة و مصر لابن طولون و أفريقية لابن الأغلب و قد ذكرنا من ولي الموصل و في سنة خمس و ثمانين ولى المعتضد عليها و على الجزيرة و الثغور الشامية مولاه ثم ملك آمد من يد اين الشيخ و جعلها لابنه علي المكتفي و أنزله الرقة كما ذكرناه و عقد له على الثغور ثم عقد بعده للحسن بن علي كورة و ولى على فارس بدرا مولاه و مات إسحق بن أيوب بن عمر بن الخطاب الثعلبي العدوي أمير ديار ربيعة فولى المعتضد مكانه عبد الله بن الهيثم بن عبد الله بن المعمر و في سنة ثمان و ثمانين ظهر باليمن بعض العلويين و تغلب على صنعاء فجمع له بنو يعفر و قاتلوه فهزموه و أسروا ابنه و تجافى نحو خمسين فارسا و ملك بنو يعفر صنعاء و خطبوا فيها للمعتضد و هلك ابن أبي الساج في هذه السنة فولى أصحابه ابنه ديوداد و نازعه يوسف بن رافع بابن أخيه و هزمه و مضى إلى بغداد على طريق الموصل و استقل يوسف بملك أذربيجان و عرض على ابن أخيه المقام عنده فأبى و قلد المعتضد لأول خلافته ديوان المشرق لمحمد بن داود بن الجراح عوضا عن أحمد بن محمد بن الفرات و ديوان المغرب علي بن عيسى بن داود بن الجراح و مات وزيره عبيد الله بن سليمان بن وهب فولى ابنه أبا القاسم مكانه (3/441)
الصوائف
و في سنة خمس و ثمانين غزا راغب مولى الموفق من طرسوس في البحر فغنم مراكب الروم قتل فيها نحوا من ثلاثة آلاف و أحرقها و خرج الروم سنة سبع و ثمانين و نازلوا طرسوس فقاتلهم أميرها و اتبعهم إلى نهر الرحال فأسروه و في سنة ثمان و ثمانين بعث الحسن بن علي كوره صاحب الثغور بالصائفة فغزا و فتح حصونا كثيرة و عاد بالأسرى فخرج الروم في أثره برا و بحرا إلى كيسوم من نواحي حلب فأسروا نحوا من خمسة عشر ألفا و رجعوا (3/441)
وفاة المعتضد و بيعة ابنه
كان بدر مولى المعتضد عظيم دولته و كان القاسم بن عبيد الله الوزير يروم نقل الخلافة في غير بني المعتضد و فاوض في ذلك بدرا أيام المعتضد فأبى و لم يمكن القاسم مخالفته فلما مات المعتضد كان بدر بفارس بعثه إليها المعتضد لما بلغه أن طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث غلب عليها فبعث بدرا و ولاه فلما مات عقد الوزير البيعة لابنه المكتفي و خشي من بدر فيما اطلع عليه منه فأعمل الحيلة في أمره و كان المكتفي أيضا يحقد لبدر كثيرا من منازعة معه أيام أبيه فدس الوزير إلى القواد الذين مع بدر بمفارقته ففارقه العباس بن عمر الغنوي و محمد بن إسحق بن كنداج و خاقان العلجى و غيرهم فأحسن الملتقى إليهم و سار بدر إلى واسط فوكل المكتفي بداره و قبض على أصحابه و أمر بمحو اسمه من الفراش والأعلام و بعث الحسن بن علي كورة في جيش إلى واسط و عرض على بدر ما شاء من النواحي فقال : لا بد لي أن أشافه مولية بالقول ! فخوف الوزير المكتفي خائنته و منعه من ذلك و شعر أن بدرا بعث عن ابنه هلال فوكل به ثم بعث الوزير عن القاضي أبي عمر المالكي و حمله الأمان إلى بدر فجاء بأمانه و بعث الوزير من اعتراضه بالطريق فقتله لست خلون من رمضان و حمل أهله شلوه إلى مكة فدفن بها لوصيته بذلك و حزن القاضي أبو عمر لاخفار ذمته (3/442)
استيلاء محمد بن هرون على الري ثم أسره و قتله
قد تقدم لنا ذكر محمد بن هرون و أنه كان من قواد رافع بن هرثمة و نظمه إسمعيل بن أحمد صاحب مال وراء النهر في قواده و بعثه لحرب محمد بن زيد فهزمه و استولى على طبرستان و ولاه إسمعيل عليها ثم انتقض و دعا بدعوة العلوية و بيض و ساعده ابن حسان الديلمي و بعث إسمعيل العساكر لقتال ابن حسان فهزموه و كان على الري من قبل المكتفي أغرتمشن التركي فأساء السيرة فبعث أهل الري إلى محمد بن هرون أن يسير إليهم و يولوه فسار و حارب أغرتمش فهزمه و قتله و قتل ابنيه و أخاه كيغلغ من القواد و استولى على الري و بعث المكتفي مولاه خاقان المفلحي لولاية الري في جيش كثيف فلم يصلها و بعث المكتفي إلى إسمعيل بولايته و محاربة محمد بن هرون فسار إسمعيل إليه و هزمه فخرج عن الري إلى قزوين و زنجان ثم لحق بطبرستان و استقر مع ابنه مستجيرا و لما ملك إسمعيل الري ولى على جرجان مولاه نارس الكبير و الزمه إحضار محمد بن هرون فكاتبه نارس و ضمن له صلاح الحال فقبل و انصرف عن الديلم إلى بخارى فبعث إسمعيل من اعترضه و حمل إلى بخارى مقيدا فمات في الحبس بعد شهر و ذلك في شعبان سنة تسعين (3/442)
استيلاء المكتفي على مصر و انقراض دولة ابن طولون
كان محمد بن سليمان من قواد بني طولون و كاتب جيشهم و استوحش منهم فلحق بالمعتضد و صرفوه في الخدم و كانت القرامطة عاثوا في بلاد الشام و حاصروا عامل بني طولون بدمشق و هو طغج بن جف و قتلوا قواده و سار المكتفي إليهم فنزل الرقة و بعث محمد بن سليمان لحربهم و معه الحسن بن حمدان و العساكر و بنو شيبان فلقيهم قرب حماة فهزمهم و اتبعهم إلى الكوفة و قبض في طريقه على أميرهم صاحب الشامة فبعث به إلى المكتفي فرجع إلى بغداد و خلف محمد بن سليمان في العساكر فتبعهم و أسر جماعة منهم و بينما هو يروم العود إلى بغداد جاءه كتاب بدر الحمامي مولى هرون بن خمارويه و محمد فائق صاحب دمشق يستقدمانه إلى البلاد لعجز هرون عنها فأنهى ذلك محمد بن سليمان عند عوده إلى المكتفي فأعاده و أمده بالجنود و الأموال و بعث دميانة غلام بازيار في الأسطول ليدخل من فوهة النيل و يحاصر مصر و لما وصل و دنا من مصر كاتب القواد و خرج إليه رئيسهم بدر الحمامي و تتابع منهم جماعة و برز هرون لقتاله فحاربه أياما ثم وقعت بعض الأيام في عسكره هيعة ركب لها ليسكنها فأصابته حربه مات منها و اجتمع أصحابه على عمه شيبان و بذل الأموال فقاتلوا معه ثم جاءهم كتاب محمد بن سليمان بالأمان فأجابوه و خالف شيبان إلى مصر فاستولى عليها واستأمن إليه شيبان سرا فأمنه و لحق به ثم قبض على بني طولون و حبسهم و استصفى أموالهم و ذلك في صفر سنة اثنتين و تسعين و أمره المكتفي بإزالة آل طولون و أشياعهم من مصر و الشام ففعل و سار بهم إلى بغداد و ولى المكتفي على مصر عيسى النوشري و خرج عليه إبراهيم الخليجي من قواد بني طولون يخلف عن محمد بن سليمان فخلفه و كثر جمعه و سار النوشري إلى الإسكندرية عجزا عن مدافعته و استولى الخليجي على مصر و بعث المكتفي بالجنود مع فاتك مولى المعتضد و أحمد بن كيغلغ و بدر الحمامي من قواد بني طولون فوصلوا سنة ثلاث و تسعين و تقدم أحمد بن كيغلغ و جماعة من القواد فلقيهم قرب العريش فهزمهم و قوي الأمر و بلغ الخبر إلى المكتفي فعسكر ظاهر بغداد و انتهى مده إلى تكريت فلقيه كتاب فاتك في شعبان يذكر أنهم هزموا الخليجي بعد حروب متصلة و غنموا عسكره ثم هرب و اختفى بفسطاط مصر و جاء من دل عليه فأمر المكتفي بحمله و من معه إلى بغداد فبعثوا بهم و حبسوا (3/443)
ابتداء دولة بني حمدان
و في سنة اثنتين و تسعين عقد المكتفي على الموصل و أعمالها لأبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون العدوي الثعلبي فقدمها أول المحرم و جاء الصريخ من نينوى بأن الأكراد الهدبانية و مقدمهم محمد بن سلال قد أغاروا على البلاد و عانوا فخرج في العساكر و عبر الجسر إلى الجانب الشرقي و لقيهم على الحارد فقاتلهم و قتل من قواد سليمان الحمداني و رجع عنهم و بعث إلى الخليفة يستمده فأبطأ عليه المدد إلى ربيع من سنة أربع فلما جاءه المدد سار إلى الهدبانية و هم مجتمعون في خمسة آلاف بيت فارتحلوا أمامه و اعتصموا بحبل السلق المشرف على الزاب فحاصرهم و عرفوا حقه فخذله أميرهم محمد بن سلال بالمراسلة في الطاعة و الرهن و حث أصحابه خلال ذلك المسير إلى أذربيجان و اتبعهم أبو الهيجاء فلحقهم صاعدا إلى جبل القنديل فنال منهم و امتنعوا بذروته و رجع أبو الهيجاء عنهم فلحقوا بأذربيجان و وفد ابو الهيجاء على المكتفي فأنجده العسكر و عاد إلى الموصل ثم سار إلى الأكراد بحبل السلق فدخله و حاصرهم بقنته و طال حصارهم و اشتد البرد و عدمت الأقوات و طلب محمد بن سلال النجاة بأهله و ولده فنجا و استولى ابن حمدان على أموالهم و أهليهم و أمنهم ثم استأمن محمد بن سلال فأمنه و حضر عنده و أقام بالموصل و تتابع الأكراد الحميدية مستأمنين و استقام أمر أبي الهيجاء بالموصل ثم انتقض سنة إحدى و ثلثمائة فبعث إليه المقتدر مؤنسا الخادم فجاء بنفسه مستأمنا و رجع إلى بغداد فقبله المقتدر و أكرمه و بقي ببغداد إلى أن انتقض أخوه الحسين بديار ربيعة سنة ثلاث و ثلثمائة و سارت العساكر فجاؤا به أسيرا فحبس المقتدر عند ذلك أبا الهيجاء و أولاده و جمع إخوته بداره ثم أطلقهم سنة خمس و ثلثمائة (3/444)
أخبار ابن الليث بفارس
قد تقدم لنا استقلال طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث ببلاد فارس و أن المكتفي عقد له عليها سنة تسعين ثم أنه تشاغل باللهو و الصيد و أعرض عن أمور ملكه و مضى في بعض الأيام إلى سجستان فوثب على فارس الليث بن علي بن الليث و سيكرى مولى عمرو بن الليث فاستوحش قوادهما يعرف بأبي قابوس و فارقهما إلى بغداد و أحسن المكتفي إليه ثم كتب إليه طاهر في رد أبي قابوس إليه و يحتسب له ما معه من أموال الجباية فأعرض الخليفة عن ذلك (3/445)
الصوائف
و في سنة إحدى و تسعين خرج الروم إلى الثغور في مائة ألف و قصد جماعة منهم الحدث ثم غزا بالصائفة من طرسوس القائد المعروف غلام زرافة ففتح مدينة أنطاكية و فتحها عنوة فقتل خمسة آلاف من مقاتلتهم و أسر مثلها و استنفد من اسرى المسلمين مثلها و غنم ستين من مراكب الروم بما فيها من المال و المتاع و الرقيق فقسمها مع غنائم أنطاكية فكان السهم ألف دينار و في سنة اثنتين و تسعين أغار الروم على مرعش و نواحيها فخرج أهل المصيصة و أهل طرسوس فأصيب منهم جماعة فعزل المكتفي أبا العشائر عن الثغور و ولى رستم بن برد فكان على يديه الفداء و فودي ألف من المسلمين ثم أغارت الروم سنة ثلاث و تسعين على موارس من أعمال حلب و قاتلهم أهلها فانهزموا و قتل منهم خلق و دخلها الروم فأحرقوا جامعها و أخذوا من بقي فيها و في سنة أربع و تسعين غزا ابن كيغلغ من طرسوس فأصاب من الروم أربعة آلاف سبيا و استأمن بطريق من الروم فأسلم ثم عاود ابن كيغلغ الغزو و بلغ سكند و افتتحها و سار إلى الليس فبلغ خمسين ألف رأس و قتل من الروم خلقا ثم استأمن البطريق المتولي الثغور من جهة الروم إلى المكتفي و خرج بمائتي أسير من المسلمين و كان ملك الروم قد شعر بأمره و بعث من يقبض عليه فقتل الأسرى المسلمون من جاء للقبض عليه و غنموا عسكرهم و اجتمع الروم على محاربة البطريق انذوقس و زحف المسلمون لخلاصه و خلاص من معه من الأسرى فبلغوا قونية و خربوها و انصرف الروم و مر المسلمون في طريقهم بحصن أندوس فخرج معهم بأهله و سار إلى بغداد و في سنة إحدى و تسعين خرج الترك إلى ما وراء النهر في خلق لا يحصون فبعث إليهم إسمعيل عسكرا عظيما من الجند و المطوعة فكبسوهم و استباحوهم و في سنة ثلاث و تسعين افتتح إسمعيل مدائن كثيرة من بلاد الترك و الديلم (3/445)
الولايات بالنواحي
قد ذكرنا ولايات خاقان المفلحي على الري ثم إسمعيل بن أحمد بن سامان بعده و ولاية عيسى النوشري على مصر بعد انتزعها من بني طولون و ولاية أبي العشائر أحمد بن نصر على طرسوس و عزل مظفر بن حاج عنها سنة تسعين ثم عزل أبي العشائر و ولاية رستم بن برد و سنة اثنتين و تسعين و انتراع الليث بن علي بن الليث بلاد فارس من يد طاهر بن محمد سنة ثلاث و تسعين بعد أن كان المكتفي عقد له عليها سنة تسعين و ولاية أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان على الموصل سنة ثلاث و تسعين و في هذه السنة ثار داعية القرامطة باليمن إلى صنعاء فملكها و استباحها و تغلب على كثير من مدن اليمن و بعث المكتفي المظفر بن الحاج في شوال من هذه السنة إلى عمله باليمن فأقام به و في سنة إحدى و تسعين توفي الوزير أبو القاسم بن عبيد الله و استوزر مكانه العباس بن الحسن (3/446)
وفاة المكتفي و بيعة المقتدر
ثم توفي المكتفي بالله أبو محمد علي بن المعتضد في شهر جمادى سنة خمس و تسعين لست سنين و نصف من ولايته و دفن بدار محمد بن طاهر من بغداد بعد أن عهد بالأمر إلى أخيه جعفر و كان الوزير العباس بن الحسن قد استشار أصحابه فيمن يوليه فأشار محمد بن داود بن الجراح بعبد الله بن المعتز و وصفه بالعقل و الرأي و الأدب و أشار أبو الحسين بن محمد بن الفرات بجعفر بن المعتضد بعد أن أطال في مفاوضته و قال له : اتق الله و لا توال إلا من خبرته و لا تول البخيل فيضيق على الناس في الأرزاق و لا الطماع فيشره إلى أموال الناس و لا المتهاون بالدين فلا يجتنب المآثم و لا يطلب الثواب و لا تول من خبر الناس و عاملهم و اطلع على أحوالهم فيستكثر على الناس نعمهم و أصلح الموجودين مع ذلك جعفر بن المعتضد قال : ويحك و هو صبي ! فقال : و ما حاجتنا بمن لا يحتاج إلينا و يستبد علينا ؟ ثم استشار علي بن عيسى فقال : اتق الله و انظر من يصلح فمالت نفس الوزير إلى جعفر كما أشار ابن الفرات و كما أوصى أخوه فبعث صائفا الخدمي فأتى به من داره بالجانب الغربي ثم خشي عليه غائلة الوزير فتركه في الحراقة و جاء إلى دار الخلافة فأخذ له البيعة على الحاشية ثم جاء به من الحراقة و جاء إلى دار الخلافة فأخذ له البيعة على الحاشية ثم جاء به من الحراقة و أقعده على الأريكة و جاء الوزير و القواد فبايعوه و لقب المقتدر بالله و أطلق يد الوزير في المال و كان خمسة عشر ألف ألف دينار فأخرج منه حق البيعة و استقام الأمر (3/446)
خلع المقتدر بابن المعتز و اعادته
ولما بويع المقتدر و كان عمره ثلاث عشرة سنة إستصغره الناس و أجمع الوزير خلعه و البيعة لأبي عبد الله محمد بن المعتز و راسله في ذلك فأجاب و انتظر قدوم نارس حاجب إسمعيل بن سامان كان قد انتقض إلى مولاه و سار عنه فاستأذن في القدوم إلى بغداد و أذن له و قصد الاستعانة به على موالي المعتضد و أبطأ نارس عليه و هلك أبو عبد الله بن المقتدر خلال ذلك فصرف الوزير و جهة لأبي الحسين بن الموكل فمات فأقر المقتدر ثم بدا له و أجمع عزله و اجتمع لذلك مع القواد و القضاة و الكتاب و راسلوا عبد الله بن المعتز فأجابهم على أن لا يكون قتال فأخبروه باتفاقهم و أن لا منازع لهم و كان المتولون لذلك الوزير العباس بن الحسين و محمد بن داود بن الجراح و أبا المثنى أحمد بن يعقوب القاضي و من القواد الحسين بن حمدان و بدر الأعجمي و وصيف بن صوارتكين ثم رأى الوزير أمره صالحا المقتدر فبداله في ذلك فأجمع الآخرون أمرهم و اعترضه الحسين بن حمدان و بدر الأعجمي و وصيف في طريق لستانة فقتلوه لعشر بقين من ربيع الأول سنة ست و تسعين و خلعوا المقتدر من الغد و بايعوا لابن المعتز و كان المقتدر في الحلبة يلعب الأكرة فلما بلغه قتل الوزير دخل الدار و أغلق الأبواب و جاء الحسين بن حمدان إلى الحلبة ليفتك به فلم يجده فقدم و أحضروا ابن المعتز فبايعوه و حضر الناس و القواد و أرباب الدواوين سوى أبي الحسن بن الفرات و خواص المقتدر فلم يحضروا و لقب ابن المعتز المرتضي بالله و استوزر محمد بن داود بن الجراح و قلد علي بن موسى الدواوين و بعث إلى المقتدر بالخروج من دار الخلافة فطلب الإمهال إلى الليل و قال مؤنس الخادم و مؤنس الخازن : و عربت الحال و سائر الحاشية لا بد أن يبدى عذرا فيما أصابنا و باكر الحسين بن حمدان من الغد دار الخلافة فقاتله الغلمان و الخدم من وراء السور وانصرف فلما جاء الليل سار الموصل بأهله و أجمع رأى أصحاب المقتدر على قصد ابن المعتز في داره فتسلحوا و ركبوا في دجلة فلما رآهم أصحاب ابن المعتز اضطربوا و هربوا و اتهموا الحسين بن حمدان أنه قد واطأ المقتدر عليهم و ركب ابن المعتز و وزيره محمد بن داود بن الجراح و خرجوا إلى الصحراء ظنا منهم أن الجند الذين بايعوهم يخرجون معهم و أنهم يلحقون بسامرا فيمتنعون فلما تفردوا بالصحراء رجعوا إلى البلد و تسربوا في الدور و اختفى ابن الجراح في داره و دخل ابن المعتز و مولاه دار أبي عبد الله بن الحصاص مستجيرا به و ثار العيارون و السفل ينتهبون و فشا القتل و ركب ابن عمرويه صاحب الشرطة و كان ممن بايع ابن المعتز فنادى بثأر المقتدر مغالطا فقاتله فهرب و استتر و أمر المقتدر مؤنسا الخازن فزحف في العسكر و قبض على وصيف بن صوارتكين فقتله و قبض على القاضي أبي عمر علي بن عيسى و القاضي محمد بن خلف ثم أطلقهم و قبض على القاضي أبي المثنى أحمد بن يعقوب قال له : بايع المقتدر ! قال : هو صبي ! فقتله و بعث المقتدر إلى أبي الحسن بن الفرات كان مختفيا و استوزره و جاء سوسن خادم ابن الجصاص فأخبر صافيا الخزمي مولى المقتدر بمكانه عندهم فكبست الدار و أخذ ابن المعتز و حبس إلى الليل ثم خصيت خصيتاه فمات و سلم إلى أهله و أخذ ابن الجصاص و صودر على مال كثير و أخذ محمد بن داود وزير ابن المعتز و كان مستترا فقتل و نفى علي بن عيسى بن علي إلى واسط و استأذن من ابن الفرات في المسير إلى مكة فسار إليها على طريق البصرة و أقام بها و صودر القاضي أبو عمر على مائة ألف دينار و سارت العساكر في طلب الحسين بن حمدان إلى الموصل فلم يظفروا به و شفع الوزير ابن الفرات في ابن عمروية صاحب الشرطة و إبراهيم بن كيغلغ و غيرهم و بسط ابن الفرات الإحسان و أدار الأرزاق للعباسيين و الطالبيين و أرضى و القواد بالأموال ففرق معظم ما كان في بيت المال و بعث المقتدر القاسم بن سيما و جماعة من القواد في طلب الحسين بن حمدان فبلغوا قرقيسيا و الرحبة و لم يظفروا به و كتب المقتدر إلى أخيه أبي الهيجاء و هو عامل الموصل بطلبه فسار مع القاسم بن سيما و القواد و لقوه عند تكريت فهزموه و بعث مع أخيه إبراهيم يستأمن فأمنوه و جاؤا به إلى بغداد فخلع عليه المقتدر و عقد له على قم و قاشان و عزل عنها العباس بن عمر الغنوي فسار إليها الحسين و وصل نارس مولى إسمعيل بن سامان فقلده المقتدر ديار ربيعة (3/447)
ابتداء دولة العبيديين من الشيعة بأفريقية
نسبة هؤلاء العبيدين إلى أول خلفائهم هو عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر المصدق بن محمد المكتوم بن إسمعيل الإمام بن جعفر الصادق و لا يلتفت لإنكار هذا النسب فكتاب المعتضد إلى ابن الأغلب بالقيروان و ابن مدرار بسلجماسة يغريهم بالقبض عليه لما سار إلى المغرب شاهد بصحة نسبهم و شعر الشريف الرضي في قوله :
( ألبس الذل في بلاد الأعادي ... و بمصر الخليفة العلوي )
( من أبوه أبي و مولاه مولاي ... إذا ضامني البعيد القصي )
( لف عرقي بعرقه سيدا لنا ... س جميعا محمد و علي )
و أما المحضر الذي ثبت ببغداد أيام القادر بالقدح في نسبهم و شذ فيه أعلام الأئمة مثل القدوري و الصهيري و أبي العباس و الأبيوردي و أبي حامد الأسفرايني و أبي الفضل النسوي و أبي جعفر النسفي و من العلوية المرتضى و ابن البطحاوي و ابن الأزرق و زعيم الشيعة أبو عبد الله بن النعمان فهي شهادة على السماع و كان ذلك متصلا في دولة العباسية منذ مائتين من السنين فاشيا في أمصارهم و أعصارهم و الشهادة على السماع في مثله جائزة على أنها شهادة نفي و لا تعارض ما ثبت في كتاب المعتضد مع أن طبيعة الوجود في الإنقياد لهم و ظهور كلمتهم أدل شيء على صدق نسبهم و أما من جعل نسبهم في اليهودية أو النصرانية لميمون القداح أو غيره فكفاه إنما تعرضه لذلك و أما دعوتهم التي كانوا يدعون لها فقد تقدم ذكرها في مذاهب الشيعة من مقدمة الكتاب و انتقسمت مذاهب الشيعة مع اتفاقهم على تفضيل علي على جميع الصحابة إلى الزيدية القائلين بصحة إمامة الشيخين مع فضل علي و يجوزون إمامة المفضول و هو مذهب زيد الشهيد و اتباعه و الرافضة و يدعون بالإمامية المتبرئين من الشيخين بإهمالهما وصية النبي صلى الله عليه و سلم بخلافة علي مع أن هذه الوصية لم تنقل من طريق صحيح قال بها أحد من السلف الذين يقتض بهم و إنما هي من أوضاع الرافضة و انقسم الرافضة بعد ذلك إلى اثني عشرية نقلوا الخلافة من جعفر بعد الحسن و الحسين و علي زين العابدين و محمد الباقر و جعفر الصادق إلى ابنه موسى الكاظم و ولده على سلسلة واحدة إلى تمام الاثني عشر و هو محمد المهدي و زعموا أنه دخل سردابا و هم في انتظاره إلى الآن و إلى الإسماعيلية نقلوا الخلافة من جعفر الصادق إلى ابنه إسمعيل ثم ساقوها في عقبة فمنهم من انتهى بها إلى عبيد الله هذا المهدي و هم العبيديون و منهم من ساقها إلى يحيى بن عبيد الله بن محمد المكتوم و هؤلاء طائفة من القرامطة و هي من كذباتهم و لايعرف لمحمد بن إسمعيل ولد اسمه عبيد الله و كان شيعة هؤلاء العبيدين بالمشرق و اليمن و أفريقية و سار بها إلى أفريقية رجلان يعرف أحدهما بالحلواني و الآخر بالسفياني أنفذهما الشيعة إلى هنالك و قالوا لهما : إن العرب أرض بور فاذهبا و احرثاها حتى يحيا صاحب البذر و سارا لذلك و نزلا أرض كتامة أحدهما ببلد يسمى سوق حمار و فشت هذه الدعوة منهما في أهل تلك النواحي من البربر و خصوصا في كتامة و كانوا يزعمون أن النبي صلى الله عليه و سلم أوصى إلى علي بالخلافة بالنصوص الجلية و عدل عنها الصحابة إلى غيره فوجب البراءة ممن عدل عنها ثم أوصى علي إلى ابنه الحسن ثم الحسن إلى أخيه الحسين ثم الحسين إلى ابنه علي زين العابدين ثم زين العابدين إلى ابنه محمد الباقر ثم محمد الباقر إلى ابنه جعفر الصادق ثم جعفر الصادق إلى ابنه إسمعيل الإمام و منه إلى ابنه محمد و يسمونه المكتوم لأنهم كانوا يكتمون اسمه حذرا عليه ثم أوصى محمد المكتوم إلى ابنه جعفر المصدق و جعفر المصدق إلى ابنه محمد الحبيب و محمد الحبيب إلى ابنه عبيد الله المهدي الذي دعا له أبو عبد الله الشيعي و كانت شيعهم منتشرين في الأرض من اليمن إلى الحجاز و البحرين و الطرق و خراسان و الكوفة و البصرة و الطالقان و كان محمد الحبيب ينزل سلمية من أرض حمص و كان عادتهم في كل ناحية يدعو للرضا من آل محمد و يرومون إظهار الدعوة بحسب ما عليهم و كان الشيعة من النواحي يعملون مكيهم في أكبر الأوقات لزيارة قبر الحسين ثم يعرجون على سلمية لزيارة الأئمة من ولد إسمعيل و كان باليمن من شيعتهم ثم بعده لأئمة قوم يعرفون ببني موسى و رجل آخر يعرف بمحمد بن الفضل أصله من جند و جاء محمد إلى زيارة الإمام محمد الحبيب فبعث معه أصحابه رستم بن الحسين بن حوشب بن داود النجار و هو كوفي الأصل و أمره الدعوة و أن المهدي خارج في هذا الوقت فسار إلى اليمن و نزل على بني موسى و أظهر الدعوة هنالك للمهدي من آل محمد الذي ينعتونه بالنعوت المعروفة عندهم فأتبعه و استولى على كثير من نواحي اليمن و كان أبو عبد الله الحسن بن أحمد بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب و كان محتسبا بالبصرة و قيل إنما المحتسب أخوه أبو العباس المخطوم و أبو عبد الله يعرف بالعلم لأنه كان يعرف مذهب الإمامية الباطنية قد اتصل الإمام محمد الحبيب و خبر أهليته فأرسله إلى أبي حوشب و لزم مجالسته و أفاد علمه ثم بعثه مع الحاج اليمني إلى مكة و بعث معه عبد الله بن أبي ملا فأتى الموسم و لقي به رجالات كتامة مثل حريث الحميلي و موسى بن مكاد فاختلط بهم و عكفوا عليه لما رأوا عنده من العباد و الزهد و وجه إليهم بدرا من ذلك المذهب فاغتبط و اغتبطوا و ارتحل معهم إلى بلدهم و نزل بها منتصف ربيع سنة ثمان و ثلاثين و عين لهم مكان منزله بفتح الأحار و أن النص عنده من المهدي بذلك و لجهره المهدي و أن أنصاره الأخيار من أهل زمانه و أن اسم أنصاره مشتق من الكتمان و لم يعينه و اجتمع لمناظرته كثير من أهل كتامة فأبى ثم أطاعوه بعد فتن و حروب و اجتمعوا على دعوته و كانوا يسمونه أبا عبد الله المشرقي و الشيعي و لما اختلف كتامة عليه و اجتمع كثير منهم على قتله قام بنصرته الحسن بن هرون و سار به إلى جبل إيكجان و أنزله مدينة تاصروت من بلد زرارة و قاتل من لم يتبعه بمن تبعه حتى استقاموا جميعا على طاعته و بلغ خبره إبراهيم بن أحمد بن الأغلب عامل أفريقية بالقيروان فأرسل إلى عامل ميلة يسأله عن أمره فحقره و ذكر أنه رجل يلبس الخشن و يأمر بالعبادة و الخير فأعرض عنه حتى إذا اجتمع لأبي عبد الله أمره زحف في قبائل كتامة إلى بلد ميلة فملكها على الأمان بعد الحصار فبعث إبراهيم بن أحمد بن الأغلب ابنه الأحول في عسكرهم يجاور عشرين ألفا فهزم كتامة و امتنع أبو عبد الله بجبل إيكجان و أحرق الأحول مدينة تاصروت و مدينة ميلة و عاد إلى أفريقية و بني أبو عبد الله بجبل إيكجان مدينة سماها دار الهجرة ثم توفي إبراهيم بن الأغلب صاحب أفريقية و ولى ابنه أبو العباس و قتل و استقر الأمر لزيادة الله و كان الأحول حمل العساكر لحضوره فاستقدمه زيادة الله و قتله (3/449)
وفاة الحبيب و ايصاؤه لابنه عبيد الله
و لما توفي محمد الحبيب و أوصى لابنه عبيد الله و قال له : أنت المهدي و تهاجر بعدي هجرة بعيدة و ترى محنا شديدة فقام عبيد الله بالأمر و انتشرت دعوته و أرسل إليه أبو عبد الله الشيعي رجالا من كتامة يخبرونه بما فتح الله عليهم و أانهم في انتظاره و شاع خبره و طلبه المكتفي فهرب هو و ولده نزار الذي ولي بعده و تلقب بالقائم و خرج معه خاصته و مواليه يريد المغرب و انتهى إلى مصر و عليها يومئذ عيسى النوشري فلبس عبيد الله زي التجار يتستر به و جاء كتاب المكتفي للنوشري بالقبض عليه و فيه صفته و حليته فبعث العيون في طلبه و نمي الخبر بذلك إلى عبيد الله من بعض خواص النوشري فخرج في رفقة ورآه النوشري و أحضره و دعاه للمؤاكلة فاعتذر بالصوم ثم امتحنه فلم تشهد له أحواله بشيء مما ذكر له عنه و قارن ذلك رجوع ابنه أبي القاسم يسأل عن كلب للصيد ضاع له فلما رآه النوشري و أخبر أنه ولد عبد الله علم أن هذه الدالة في طلب الضائع منافيه للرقبة و الخوف فخلى سبيله وجد المهدي في السير و كان له كتب من الملاحم ورثها منقولة عن أبيه سرقت من رحله في تلك الطريق و يقال إن ابنه أبا القاسم لما زحف إلى مصر أخذها من بلاد برقة و لما انتهى المهدي و ابنه إلى طرابلس و فارقه التجار أهل الرفقة قدم أبا العباس أخا أبي عبيد الله الشيعي إلى أخيه بكتامة و مر بالقيروان و قد سبق خبرهم إلى زيادة الله و هو يسأل عنهم فقبض على أبي العباس و سأله فأنكر فحبسه و كتب إلى عامل طرابلس بالقبض على المهدي ففاته و سار إلى قسطنطينية فعدل عنها خشية على أبي العباس أخي الشيعي المعتقل بالقيروان و ذهب إلى سجلماسة و بها أليشع بن مدرار فأكرمه ثم جاءه كتاب زيادة الله و يقال كتاب المكتفي بأنه المهدي الذي داعيه في كتامة فحبسه و بعث زيادة الله العساكر إلى كتامة مع قريبه إبراهيم بن حيش و كانوا أربعين ألفا فانتهى إلى قسطنطينية فأقام بها و هم متحصنون بخيلهم ستة أشهر ثم زحف إليهم و دافعهم عند مدينة بلزمة فانهزم إلى القيروان و كتب أبو عبد الله بالفتح إلى المهدي و هو في محبسه ثم زحف إلى مدينة طبنة فحاصرها و ملكها بالأمان ثم إلى مدينة بلزمة فملكها عنوة فبعث زيادة الله العساكر مع هرون الطبني فانتهوا إلى مدينة دار ملوك و كانوا قد أطاعوا الشيعي فهدمها هرون و قتل أهلها و سار إلى الشيعي فانهزم من غير قتال و قتل و فتح الشيعي مدينة عيسى فزحف زيادة الله في العساكر سنة خمس و تسعين و نزل الأربس ثم أشار عليه أصحابه بالرجوع إلى القيروان ليكون ردءا للعساكر فبعث الجيوش مع إبراهيم بن أبي الأغلب من قرابته و رجع و زحف أبو عبد الله إلى باغاية فهرب عاملها و ملكها ثم إلى مدينة مرما جنة فافتتحها عنوة و قتل عاملها ثم إلى مدينة تيفاش فملكها على الأمان و استأمن إليه القبائل من كل جهة فأمنهم و سار بنفسه إلى مسلبابة ثم إلى تبسة ثم مجانة ففتحها على الأمان ثم سار إلى القصرين من قمودة و أمن أهلها و سار يريد قادة و بلغ الخبر إلى إبراهيم بن أبي الأغلب و هو بالأربس أميرا على الجيش فخشي على زيادة الله برقادة لقلة عسكره و ارتحل ذاهبا إليه و سار أبو عبد الله إلى قسطنطينية فحاصرها و افتتحها على الأمان و رجع إلى باغاية فأنزل بها عسكرا و عاد إلى ايكجان فسار إبراهيم بن أبي الأغلب إلى باغاية و حاصر أصحاب أبي عبد الله بها فبعث أبو عبد الله عساكره إلى مج العرعار فألفوا إبراهيم قد عاد عنها إلى الأربس ثم زحف أبو عبد الله إلى إبراهيم سنة ست و تسعين في مائة ألف مقاتل و بعث من عسكره من يأتي إبراهيم من خلفه و سار إليه فانهزم و أثخن فيهم أبو عبد الله بالقتل و الأسر و غنم أموالهم و خيلهم و ظهرهم و دخل الأربس فاستباحها ثم سار فنزل قمودة و بلغ الخبر إلى زيادة الله فهرب إلى مصر و افترق أهل مدينة رقادة إلى القيروان و سوسة و نهب قصور بني الأغلب و وصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القيروان فنزل قصر الإمارة و جمع الناس و وعدهم الحماية و طلب المساعدة بطاعتهم و أموالهم فاعتذروا و خرجوا إلى الناس فأخبرهم فثاروا به و أخرجوه و بلغ أبا عبد الله الشيعي هرب زيادة الله و هو يشبه فدخل إلى رقادة و قدم بين يديه عروبة بن يوسف و حسن بن أبي خنزير فساروا و أمنوا الناس و خرج أهل القيروان للقاء أبي عبد الله فأكرمهم و أمنهم و دخل رقادة في رجب سنة ست و تسعين و نزل قصورها و فرق دورها علىكتامة و نادى بالأمان و تراجع الناس فأخرج العمال و طلب أهل الشر فهربوا و جمع أموال زيادة الله و سلاحه و أمر بحفظها جواريه و استأذنه الخطباء لمن يخطبون فلم يعين لهم أحدا و نقش على السكة من أحد الوجهين بلغت حجة الله و من الآخر تفرق أعداء الله و على السلاح عدة في سبيل الله و رسم أفخاذ الخيل بالملك لله (3/452)
بيعة المهدي بسجلماسة
و لما ملك أبو عبد الله أفريقية لقيه أخوه العباس منطلقا من اعتقاله فاستخلفه عليها و ترك معه أبا زاكي تمام بن معارك من قواد كتامة و سار إلى المغرب ففرق القبائل من طريقه و خافته زناتة فدخلوا في طاعته و لما قرب من سجلماسة أرسل إلى المهدي بمحبسه يسأله عن حاله فأنكر ثم سأل ولده كذلك فأنكر و ضرب رجاله فأنكروا و نمي الخبر إلى أبي عبد الله فخشي عليهم و أرسل إلى أليسع يتلطفه فقتل الرسل فأغذ أبو عبد الله السير و حاصره يوما و هرب أليسع من الليل هو و أصحابه و بنو عمه و خرج أهل البلد إلى أبي عبد الله فجاء إلى مجلس المهدي فأخرجه هو و ابنه القاسم و أركبهما و مشى مع رؤساء القبائل بين يديها و هو يقول : هذا مولاكم و يبكي من شدة الفرح ثم أنزله بالمخيم و بعث في أثر أليسع فجيء به فجلد ثم قتل و أقام بسجلماسة أربعين يوما و رجع إلى أفريقية و وصل إلى رقادة في ربيع من سنة ست و تسعين و جدد البيعة للمهدي و استولى على ملك بني الأغلب بأفريقية و ملك مدرارسجلماسة و نزل برقادة و تلقب بالمهدي أمير المؤمنين و بعث دعاته في الناس فحملوهم على مذهبهم فأجابوا إلا قليلا عرض عليهم السيف و قسم الأموال و الجواري في رجال كتامة و أقطعهم الأموال و الأعمال و دون الدواوين و جبى الأموال و بعث العمال على البلاد فبعث على صقلية الحسن بن أحمد بن أبي خنزير فوصل إلى مازر في عيد الأضحى من سنة تسع و تسعين فاستقضى بها إسحق بن المنهال و أجاز البحر سنة ثمان و تسعين إلى بسط قلورية فأثخن فيها و عاد و ثار به أهل صقيلية سنة تسع و تسعين فحبسوه و اعتذروا إلى المهدي لسوء سيرته فعذرهم و ولى عليهم علي بن عمر البلوي فوصل إليهم خاتمه السنة المذكورة (3/454)
أخبار ابن الليث بفارس
قد ذكرنا من قبل استيلاء اليث بن علي بن الليث و سيكرى مولى عمر بن الليث على فارس من يد طاهر بن محمد ثم أخرج سيكرى بعد ذلك الليث و انفرد بها و سار إليه طاهر بن محمد بن عمرو فواقعه و انهزم طاهر و أسر سيكرى و أسر أخاه يعقوب و بعث بهما إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي و قد أمره على ما يحمله و ذلك سنة ست و تسعين ثم سار إليه الليث بن علي من سجستان سنة سبع و تسعين فغلبه و ملك فارس و هرب سيكرى إلى أرجان و أمده المقتدر بمؤنس الخادم في العساكر فجاء إلى أرجان الحسين بن حمدان من قم إلى البيضاء في إعانته فسار لملاقاته و أضل الطريق إلى مسالك صعبة أشرف على عسكر مؤنس و كان سيكرى قد بعث أخاه إلى شيراز ليحفظها فلما أشرف على العسكر ظنه عسكر أخيه فثاروا إليه و اقتتلوا و انهزم عسكر الليث و أخذ أسيرا و أشار عليه أصحابه أن يقبض على سيكرى و يطلب من المقتدر ولاية فارس مكانه طاهر و دس إليه فلحق بشيراز و عاد مؤنس إلى بغداد بالليث أسيرا و الحسين بن حمدان إلى عمله بقم ثم إن عبد الرحمن بن جعفر كاتب سيكرى استولى على أمره و حسده أصحابه و أكثروا السعاية فيه عند سيكرى فحبسه و استكتب مكانه إسمعيل ابن إبراهيم اليمن فحمله على العصيان و منع الحمل و دس عبد الرحمن بن جعفر من محبسه إلى الوزير ابن الفرات بذلك فكتب إلى مؤنس و هو بواسط يأمره بالعود إلى فارس فسار و أرسله سيكرى و أنسه و سأل منه الوساطة في أمره و شعر ابن الفرات بميل مؤنس إلى بغداد و سار محمد بن جعفر فهزم سيكرى على شيراز فخلص إلى قم و تحصن بها و حاصره محمد بن جعفر ثم خرج إليه فهزمه ثانية و دخل مغارة خراسان فلقيته عساكر إسمعيل إلى بغداد فحسبا هنالك و استولى محمد بن جعفر من القواد على فارس و ولى عليها قبيحا خادم الأفشين ثم صارت ولايتها لبدر ابن عبد الله الحمامي و في آخر سنة تسع و تسعين و مائتين قبض حرمه و قامت الهيعة ببغداد ثلاثة أيام ثم سكنت و ذلك لثلاث سنين و ثلاثة أشهر من وزارته فاستوزر مكانه أبا علي محمد بن يحيى بن عبيد الله بن يحيى فرتب الأمور على الدواوين ثم زاد قرفه لضيق صدره و طيشه و عدوله عن مذاهب الرياسة إلى الوضاعة و مراجعة أصحاب الحاجات و الحقوق إلى ما يريد قضاءه منها و كثرة التولية و العزل و تبجح أصحابه عليه في إطلاق الأموال و انبساط الجاه بإفساد الأحوال و اعتزم المقتدر على عزله بأبي الحسين بن أبي الفضل فاستدعاه من أصبهان ثم قبض عليه و على أبي الحسن ببغداد و أهمل رأي الوزراء و صار يرجع إلى قول النساء و الخدم فطمع العمال في الأطراف ثم أخرج ابن الفرات من محبسه و جعله في بعض الحجر و أحسن إليه و صار يعرض عليه مطالعات العمال و أراد أن يستوزره ثم بدا له و استدعى علي بن عيسى من مكة فاستوزره لأول سنة إحدى و ثلثمائة و قبض على الخاقاني و حبسه و عين حرسيا عليه و قام علي بن عيسى بالوزارة و أصلح ما أفسده الخاقاني و استقامت الأمور (3/455)
قيام أهل صقلية بدعوة المقتدر ثم رجوعهم إلى طاعة المهدي
قد ذكرنا ولاية علي بن عمر على صقلية من عبد الله المهدي سنة تسع و تسعين ثم إن أهل صقلية انتقضوا عليه و ولوا عليهم أحمد بن موهب ثم انتقضوا عليه و أرادوا قتله فدعا إلى طاعة المقتدر و خطب له بصقلية و قطع خطبة المهدي و بعث أسطولا إلى ناحية ساحل أفريقية فلقوا أسطول المهدي و عليه الحسن بن أبي خنزير فأحرقوه و قتلوا الحسن و وصلت خلع السواد و ألويته لابن موهب من بغداد ثم جاءت أساطيل المهدي في البحر و فسد أمر ابن موهب ثم ثارت أهل صقلية به سنة ثلثمائة و أسروه و بعثوا به إلى المهدي مع جماعة من أصحابه فأمرهم بقتلهم على قبر ابن أبي خنزير (3/457)
ولاية العهد
و في سنة إحدى و ثلثمائة ولي المقتدر ابنه أبا العباس العهد و هو الذي ولي الخلافة بعد القاهر و سمي بالرافضي فولاه أبو المقتدر العهد و هو ابن سنين و قلده مصر و المغرب و استخلف له عليها مؤنسا الخادم و ولى ابنه الآخر عليا على الري ودنباوند و قزوين و أذربيجان و أبهر (3/457)
ظهور الأطروش و ملكه خراسان
كان هذا الأطروش من ولد عمر بن علي زين العابدين و هو الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر و كان قد دخل إلى الديلم بعد قتل محمد بن زيد و لبث فيهم ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام و يأخذ منهم العشر و يدافع عنهم ملكهم ابن حسان فأسلم على يديه منهم خلق كثير و بنى لهم المساجد و زحف بهم إلى ثغور المسلمين أراهم مثل قزوين و سالوس فأطاعوه و هدم حصن سالوس ثم دعاهم إلى غزو طبرستان و هي في طاعة ابن سامان و كان إسمعيل بن أحمد لما انتقض بها محمد بن هرون و قبض عليه إسمعيل و ولى عليها أبا العباس عبد الله بن محمد بن نوح فأحسن السيرة و أظهر العدل و بالغ في الإحسان إلى العلوية الذين بها و استمال الديلم بالمهاداة و الإحسان فاشتمل الناس عليه فلما دعاهم الحسن إلى غزو طبرستان لم يجيبوه من أجل ابن نوح ثم إن أحمد بن إسمعيل عزل ابن نوح عنها و و لى عليها سلاما فأساء السيرة و لم يحسن سياسة الديلم فهاجوا عليه فقاتلهم و هزمهم و استعفى من ولايتها فعاد إليها ابن نوح و صلحت الحال كما كانت إلى أن مات فولى عليها محمد بن إبراهيم بن صعلوك فأساء السيرة و تنكر للديلم فصادف الحسن منها الغرة و دعاهم إلى غزو طبرستان فأجابوه و سار إليه ابن صعلوك على من يرحله من سالوس بشاطئ البحر فانهزم و قتل من أصحابه أربعة آلاف و لجأ الباقون إلى سالوس فحاصرهم الأطروش حتى استأمنوا و رجع عنهم إلى آمد ثم جاء الحسن بن القاسم العلوي الداعي صهر الأطروش إلى أولئك المستأمنين فقتلهم و استولى الأطروش على طبرستان و لحق ابن صعلوك بالري سنة إحدى و ثلثمائة و سار منها إلى بغداد و كان الأطروش زيدي المذهب و جمع الذين اسلموا على يده فيما وراء أسعيد و لى إلى آمد كلهم على مذهب الشيعة ثم إن الأطروش العلوي تنحى عن آمد إلى سالوس بعد أن غلب عليها فبعث إليه صعلوك الري من قبل ابن سامان جيشا فهزمهم و عاد إلى آمد ثم زحف إليه عساكر السعيد صاحب خراسان سنة أربع و ثلثمائة فقتلوه و كان هذا الأطروش عادلا حسن السيرة لم ير مثله في أيامه و أصابه الصمم من ضربة في رأسه بالسيف في الحرب و قال ابن مسكويه في كتاب تجارب الأمم و يقال فيه الحسن بن علي الدعي وليس به و إنما الداعي الحسن بن القاسم صهره و سنذكره فيما بعد و كان له من الولد أبو الحسن و كان قواده من الديلم جماعة منهم ابن النعمان و كانت له ولاية جرجان و ما كان بن كالي و كان على استراباذ و معرا ثم كان من قواد ولده من الديلم جماعة آخرون منهم أسفار بن شيروية من أصحاب ما كان بن كالي و مرداويج بن زياد من أصحاب أسفار و اسكرى من أصحابه أيضا و بنو بوية من أصحاب مرداويج و سيأتي الخبر عن جميعهم إن شاء الله تعالى (3/457)
غلب المهدي على الاسكندرية و مسير مؤنس إلى مصر
و في سنة اثنتين و ثلثمائة بعث عبد الله المهدي عساكره من أفريقية إلى الإسكندرية مع قائده خفاشة الكتابي فغلب عليها و سار إلى مصر و بلغ المقتدر فبعث مؤنسا الخادم في العساكر لمحاربته و أمده بالأموال و السلاح و سار إليهم و قاتلهم فهزمهم بعد وقائع متعددة قتل من الفريقين و بلغ القتل و الأسر من المغاربة سبعة آلاف و رجعوا إلى المغرب (3/459)
انتقاض الحسين على ابن حمدان بديار ربيعة و أسره
كان الحسن بن حمدان واليا على ديار ربيعة و طالبه الوزير علي بن عيسى بالمال فدافعه و أمره بتسليم البلاد إلى عمال السلطان فامتنع و كان مؤنس الخادم بمصر في محاربة عساكر المهدي صاحب أفريقية فجهز الوزير إلى ابن حمدان رائقا الكبير في عسكر سنة ثلاث و ثلثمائة و كتب إلى مؤنس أن يسير إلى الجزيرة لقتاله بعد فراغه من أصحاب العلوي بمصر فسار رائق أولا هزمه الحسين و لحق بمؤنس فأمره بالمقام بالموصل و سار نحو الحسين و تبعه أحمد بن كيغلغ و انتهى إلى جزيرة ابن عمر و الحسين بأرمينية و رجع الكثير من عسكره إلى مؤنس ثم بعث مؤنس عسكرا في أثره عليهم بليق و معه سيما الجزري و جاء الصفواني و اتبعوه فادركوه و قاتلوه فهزموه و جاؤا به أسيرا و معه ابنه عبد الوهاب و أهله و كثير من أصحابه و عاد مؤنس إلى بغداد على الموصل فحبسه المقتدر و أغار على أبي الهيجاء بن حمدان و جميع إخوته و حبسهم ثم أطلق أبا الهيجاء سنة خمس و قتل الحسين سنة ست تقريبا كما نذكر إن شاء الله تعالى (3/459)
وزارة ابن الفرات الثانية
كان الوزير أبو الحسن بن الفرات محبوسا كما ذكرنا و كان المقتدر يشاوره و يرجع إلى رأيه و يبغي بعض أصحاب المقتدر إعادته و بلغ ذلك الوزير علي بن عيسى فاستعفى و منعه المقتدر ثم جاءت في بعض الأيام قهرمانة القصر تناظره في نفقات الحرم و الحاشية و كسوتهم فألفته نائما فلم يوقظه لها أحده فرجعت و شكت إلى المقتدر و أمه فقبض عليه في ذي القعدة من سنة أربع و ثلثمائة و أعاد ابن الفرات على أن يحمل إلى بيت المال ألف دينار و خمسمائة دينار في كل يوم و قبض على الوزير من قبله علي بن عيسى و الخاقاني و أصحابهما و صادرهم أبو علي بن مقلة و كان مختفيا منذ قبض على ابن الفرات فقدمه الآن و استخلصه (3/459)
خبر ابن أبي الساج بأذربيجان
قد ذكرنا استقرار يوسف بن أبي الساج على أرمينية و أذربيجان منذ مهلك أخيه محمد سنة ثمان و ثمانين و مائتين و كان على الحرب و الصلاة و الأحكام و كان عليه مال يؤديه فلما ولي الخاقان و علي بن عيسى الوزارة و التأمت أمور يوسف في الاستبداد و أخر بعض المال و اجتمع له ما يريده لذلك و بلغته نكبة الوزير علي ابن عيسى فأظهر أن العهد وصل إليه بولاية الري على يد علي بن عيسى و كان حميد بن صعلوك من قواد ابن سامان قد بعث على الري و ما يليها و قاطع عليها بمال يحمله فسار إليه يوسف أربع و ثلثمائة فهرب إلى خراسان و استولى يوسف على الري و قزوين و زنجان و كتب إلى الوزير ابن الفرات بالفتح و يعتذر بأنه طرد المتغلبين و يذكر كثرة ما أنفق من ذلك و أنه كان بأمر الوزير علي بن عيسى و عهده إليه بذلك فأستعظم المقتدر ذلك و سئل علي بن عيسى فأنكر و قال : سلوا الكتاب و الحاشية و العهد و اللواء اللذين كان يسير بهما مع بعض القواد و الخدام فكتب ابن الفرات بالنكير على يوسف و جهز العساكر لحربه مع خاقان المفلحي و معه أحمد بن مسرور البلخي و سيما الجزري و نحرير الصغير و ساورا في جيش كثيف لمحاربته و عزل خاقان المفلحي عن أعمال الجبل و ولاها نحريرا الصغير و سار مؤنس و استأمن له أحمد بن علي أخو صعلوك فأمنه و أكرمه و بعث ابن أبي الساج في المقاطعة على أعمال الري بسبعمائة ألف دنيار سوى أرزاق الجند و الخدم فأبى له المقتدر من ذلك عقوبة على ما أقدم عليه و ولى على ذلك العمل وصيفا البكتمري و طلب ابن أبي الساج أن يقاطعه على ما كان بيده قبل الري من أذربيجان و أرمينية فأبى المقتدر إلا أن يحضر في خدمته فلما يئس ابن أبي الساج زحف إلى مؤنس و قاتله فانهزم مؤنس إلى زنجان و قتل من قواده جماعة و أسر هلال بن بدر و غيره فحبسهم يوسف في أردبيل و أقام مؤنس بزنجان بجمع العساكر يستمد من المقتدر و ابن أبي الساج يراسله في الصلح و المقتدر لا يجيب إلى ذلك ثم قاتله مؤنس في فاتح سنة سبع و ثلثمائة عند أردبيل فهزمه و أسره و عاد به إلى بغداد أسيرا فحبسه المقتدر و ولى مؤنس على الري و دنبوند و قزوين و أبهر و زنجان علي بن و هشودان و جعل أموالها لرجاله و ولى مؤنس على أصبهان و قم و قاشان أحمد بن علي بن صعلوك و سار عن أذربيجان فوثب سبك مولى يوسف بن أبي الساج فملكها و اجتمع عليه عسكر فولى مؤنس بن محمد بن عبيد الفارقي و سار بمحاربة سبك فانهزم و عاد إلى بغداد و تمكن سبك في أذربيجان و سأل المقاطعة على مائتي ألف و عشرين ألف دينار في كل سنة فأجيب و عقد له عليها و كان مقيما بقزوين فقتله على مراسة و لحق ببلده فولى المقتدر وصيفا البكتمري مكانه على أعمال الري و ولى محمد بن سليمان صاحب الجيش على الخوارج بها ثم وثب أحمد بن علي بن صعلوك صاحب أصبهان و قم على الري فملكها و كتب إليه المقتدر بالنكير و أن يعود إلى قم فعاد ثم أظهر الخلاف و أجمع المسير إلى الري و سار وصيف البكتمري لحربه و أمر نحريرا الصغير أن يسير مددا لبكتمري فسبقهم أحمد بن صعلوك إلى الري و ملكها و قتل محمد بن سليمان صاحب الخوارج و بعث إلى نصر الحاجب ليصلح أمره بالمقاطعة على أعمال الري بمائة و ستين ألف دينار و ينزل عن قم فكتب له بذلك و ولى غيره على قم (3/460)
خبر سجستان وكرمان
كانت سجستان قد صارت لابن سامان منذ سنة ثمان و تسعين و مائتين ثم تغلب عليها كثير بن أحمد بن صهفود من يده فكتب المقتدر إلى عامل فارس و هو بدر ابن عبد الله الحمامي أن يرسل العساكر لمحاربته و يؤمر عليهم دركا و يجعل على الخراج بها زيد بن إبراهيم فسارت العساكر و حاربوا أهل سجستان فهزموهم و أسروا زيد بن إبراهيم و كتب كثير إلى المقتدر بالبراءة من ذلك و طوية أهل سجستان و أرسل المقتدر أن يسير لقتاله بنفسه فخاف كثير و طلب المقاطعة على خمسمائة ألف دينار في كل سنة فأجيب و قررت البلاد عليه و ذلك سنة أربع و ثلثمائة و انتقض في هذه السنة بكرمان صاحب الخوارج بها أبو زيد خالد بن محمد المارداني و سار منها إلى شيراز يروم التغلب على فارس فسار إليه بدر الحمامي العامل و حاربه فقتله و حمل رأسه إلى بغداد (3/461)
وزارة حامد بن العباس
و في سنة ست و ثلثمائة قبض المقتدر على وزيره أبي الحسن بن الفرات بسبب شكوى الجند بمطله أرزاقهم و اعتذر بضيق الأموال للنفقة في حروب ابن أبي الساج و نقص الارتياع بخروج الري عن ملكه فشغب الجند و ركبوا و طلب ابن الفرات من الخليفة إطلاق مائتي ألف دينار من خاصته يستعين بها فنكر ذلك عليه لأنه كان ضمن القيام بأرزاق الأحشاد و جميع النفقات المرتبة فاحتج بنقص الارتياع و بالنفقة في الحرب كما تقدم فلم يقبل و يقال سعى فيه عند المقتدر بأنه يروم إرسال الحسين بن حمدان إلى أبي الساج فيحاربه و إذا سار عنده اتفقا على المقتدر فقتل المقتدر ابن حمدان و قبض على ابن الفرات في جمادى الآخرة و كان حامد بن العباس على الأعمال بواسط و كان منافرا لابن الفرات و سعى به عنده بزيادة ارتياعه على ضمانه فخشيه حامد على نفسه و كتب إلى نصر الحاجب والي والده المقتدر سعة نفسه و كثرة أتباعه و ذلك عند استيحاشه من ابن الفرات فاستقدمه من واسط و قبض على ابن الفرات و ابنه المحسن و أتباعهما و استوزر حامدا فلم يوف حقوق الوزارة و لا سياستها و تحاشى عليه الدواوين فأطلق المقتدر علي ابن عيسى و أقامه على الدواوين كالنائب عن حامد فكان يزاحمه و استبد بالأمور دونه و لم يبق لحامد أمر عليه فأجابه ابن الفرات بأسفه منه و قال لشفيع اللؤلؤي : قل لأمير الؤمنين حامد إنما حمله على طلب الوزارة أني طالبته بأكثر من ألفي ألف دينار من فضل ضمانه فاستشاط حامد و زاد في السفه فأنفذ المقتدر من رد ابن الفرات إلى محبسه ثم صودر و ضرب ابنه الحسن و أصحابه و أخذت منهم الأموال ثم إن حامدا لما رأى استطالة علي بن عيسى عليه و كثرت تصرفه في الوزارة دونه ضمن للمقتدر أعمال الخوارج و الضياع الخاصة و المستحدثة و القرارية بسواد بغداد و الكوفة و واسط و البصرة و الأهواز و أصبهان و استأذنه في الانحدار إلى واسط لاستخراج ذلك فانحدر و اسم الوزارة له و أقام علي بن عيسى يدبر الأمور فأظهر حامد سوء تصرف في الأموال و بسط المقتدر يده حتى خافه علي بن عيسى ثم تحرك السعر ببغداد فشغبت العامة و نهبوا الغلال لأن حامدا و غيره من القواد كانوا يخزنون الغلال و أحضر حامد لمنعهم فحضر فقاتلوه و فتقوا السجون و نهبوا دار الشرطة و أنفذ المقتدر غريب الحال في العسكر فسكن الفتنة و عاقب المتصدين للشر و أمر بفتح المخازن التي للحنطة و ببيعها فرخص السعر و سكن إلى منع الناس من بيع الغلال في البيادر و خزنها فرفع الضمان عن حامد و صرف عماله عن السواد و رد ذلك لعلي بن عيسى و سكن الناس (3/462)
وصول ابن المهدي و هو أبو القاسم إلى ابنه
و في سنة سبع و ثلثمائة بعث المهدي صاحب أفريقية أبا القاسم في العساكر إلى مصر فوصل إلى الإسكندرية في ربيع الآخر و ملكها ثم سار إلى مصر و نزل بالجيزة و استولى على الصعيد و كتب إلى أهل مكة في طاعته فلم يجيبوا و بعث المقتدر مؤنسا و الخادم إلى مصر لمدافعته فكانت بينهم حروب كثر فيها القتلى من الجانبين و كان الظهور لمؤنس و لقب يومئذ بالمظفر و وصل من أفريقية أسطول من ثمانين مركبا مددا للقائهم و عليهم سليمان الخادم و يقعوب الكتامي و أمر المقتدر بأن يسير إليهم أسطول طرسوس فسار في خمسة و عشرين مركبا و عليهم أبو اليمن و معهم العدد و الأنفاط فغلبوا أسطول أفريقية و أحرقوا أكثر مراكبه و أسر سليمان الخادم و يعقوب الكتامي في جماعة قتل أكثرهم و حبس سليمان بمصر و حمل يعقوب إلى بغداد ثم هرب و عاد إلى أفريقية و انقطع المدد عن عسكر المغاربة فوقع الغلاء عندهم و كثر الموتان في الناس و الخيل فارتحلوا راجعين إلى بلادهم و سار عساكر مصر في أثرهم حتى أبعدوا (3/463)
بقية خبر ابن أبي الساج
قد تقدم لنا أن مؤنسا حارب يوسف بن أبي الساج عامل أذربيجان فأسره و حمله إلى بغداد فحبس بها و استقر بعده في عمله سبك مولاه ثم إن مؤنسا شفع فيه سنة عشر فأطلقه المقتدر و خلع عليه ثم عقد له أذربيجان و على الري و قزوين أبهر و زنجان و على خمسمائة ألف دينار في كل سنة سوى أرزاق العساكر و سار يوسف إلى أذربيجان و معه وصيف البكتمري في العساكر و مر بالموصل فنظر في أعمالها و أعمال ديار ربيعة و قد كان المقتدر تقدم إليه بذلك ثم سار إلى أذربيجان و قد مات مولاه سبك فاستولى عليها و سار سنة إحدى عشرة إلى الري و كان عليها أحمد بن علي أخو صعلوك و قد اقتطعها كما قدمنا ثم انتقض على المقتدر و هادن ما كان بن كالي من قواد الديلم القائم بدعوة أولاد الأطروش في طبرستان و جرجان فلما جاء يوسف إلى الري في ذي الحجة و أقام بها مدة ثم سار عنها إلى همذان فاتح ثلاث عشرة و استخلف بها مولاه مفلحا و أخرجه أهل الري عنهم فعاد يوسف إليهم في جمادى من سنته و استولى عليها ثانية ثم قلده المقتدر سنة أربع عشرة نواحي المشرق و أذن له في صرف أموالها في قواده و أجناده و أمره بالمسير إلى واسط ثم منها إلى هجر لمحاربة أبي طاهر القرمطي فسار يوسف إلى طاهر و كان بها مؤنس المظفر فرجع إلى بغداد و جعل له أموال الخراج بنواحي همذان و ساوة و قم و قاشان و ماه البصرة و ماه الكوفة و ما سبذان لينفقها في عسكره و يستعين بها على حرب القرامطة و لما سار من الري كتب المقتدر إلى السعيد نصر بن سامان بولاية الري و أمره بالمسير إليها و أخذها من فاتك مولى يوسف فسار إليها فاتح أربع عشرة فلما انتهى إلى جبل قارن منعه أبو نصر الطبري من العبور و بذل له ثلاثين ألف دينار فترك سبيله و سار إلى الري فملكها من يد فاتك و أقام بها شهرين و ولى عليها سيمجور الدواني و عاد إلى بخارى ثم استعمل على الري محمد بن أبي صعلوك فأقام بها إلى شعبان سنة ست عشرة و أصابه مرض و كان الحسن بن القاسم الداعي و ما كان ابن كالي أميري الديلم في تسلم الري إليهما فقدما و سار عنها و مات في طريقه و استولى الداعي و الديلم عليها (3/463)