الفصل الثاني و الثلاثون : في ابطال صناعة النجوم و ضعف مداركها و فساد غايتها
هذه الصناعة يزعم أصحابها أنهم يعرفون بها الكائنات في عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب و تأثيرها في المولدات العنصرية مفردة و مجتمعة فتكون لذلك أوضاع الأفلاك و الكواكب دالة على ما سيحدث من نوع من أنواع الكائنات الكلية و الشخصية فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب و تأثيراتها بالتجربة و هو أمر تقصر الأعمار كلما لو اجتمعت عن تحصيله إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم أو الظن و أدوار الكواكب منها ما هو طويل الزمن فيحتاج تكرره إلى آماد و أحقاب متطارلة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم و ربما ذهب ضعفاء منهم إلى أن معرفة قوى الكواكب و تأثيراتها كانت بالوحي و هو رأي فائل و قد كفونا مؤنة إبطاله و من أوضح الأدلة فيه أن تعلم أن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام أبعد الناس عن الصنائع و أنهم لا يتعرضون للإخبار عن الغيب إلا أن يكون عن الله فكيف يدعون استنباطه بالصناعة و يشيرون بذلك لتابعيهم من الخلق و أما بطليمس و من تبعه من المتأخرين فيرون أن دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعية من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصرية قال لأن فعل النيرين و أثرهما في العنصريات ظاهر لا يسع أحدا حجده مثل فعل الشمس في تبدل الفصول و أمزجتها و نضج الثمار و الزرع و غير ذلك و فعل القمر في الرطوبات و الماء و إنضاج المواد المتعفنة و فواكه القناء و سائر أفعاله ثم قال : و لنا فيما بعدها من الكواكب طريقان الأولى التقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمة الصناعة إلا أنه غير مقنع للنفس و الثانية الحدس و التجربة بقياس كل واحد منها إلى النير الأعظم الذي عرفنا طبيعته و أثره معرفة ظاهرة فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القران في قوته و مزاجه فتعرف موافقته له في الطبيعة أو ينقص عنها فتعرف مضادته ثم إذا عرفنا قواها مفردة عرفناها مركبة و ذلك عند تناظرها بأشكال التثليث و التربيع و غيرهما و معرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضا إلى النير الأعظم و إذا عرفنا قوى الكواكب كلها فهي مؤثرة في الهواء و ذلك ظاهر و المزاج الذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحته من المولدات و تتخلق به النطف و البزر فتصير حالا للبدن المتكون عنها و للنفس المتعلقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه و لما يتبع النفس و البدن من الأحوال لأن كيفيات البزرة و النطفة كيفيات لما يتولد عنهما و ينشأ منهما قال : و هو مع ذلك ظني و ليس من اليقين في شيء و ليس هو أيضا من القضاء الإلهي يعني القدر إنما هو من جملة الأسباب الطبيعية للكائن و القضاء الإلهي سابق على كل شيء هذا محصل كلام بطليمس و أصحابه و هو منصوص في كتابه الأربع و غيره و منه يتبين ضعف مدرك هذه الصناعة و ذلك أن العلم الكائن أو الظن به إنما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل و القابل و الصورة و الغاية على ما يتبين في موضعه و القوى النجومية على ما قرروه إنما هي فاعلة فقط و الجزء العنصري هو القابل ثم إن القوى النجومية ليست هي الفاعل بجملتها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي مثل قوة التوليد للأب و النوع التي في النطفة و قوى الخاصة التي تميز بها صنف من النوع و غير ذلك فالقوى النجومية إذا حصل كمالها و حصل العلم فيها إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن ثم إنة يشترط مع العلم بقوى النجوم و تأثيراتها مزيد حدس و تخمين و حينئذ يحصل عنده الظن بوقوع الكائن و الحدس و التخمين قوى للناظر في فكره و ليس من علل الكائن و لا من أصول الصناعة فإذا فقد هذا الحدس و التخمين رجعت أدراجها عن الظن إلى الشك هذا إذا حصل العلم بالقوى النجومية على سداده و لم تعترضه آفة و هذا معوز لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرف به أوضاعها و لما أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه و مدرك بطليمس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف لأن قوة الشمس غالبه لجميع القوى من الكواكب و مستولية عليها فقل أن يشعر بالزيادة فيها أو النقصان منها عند المقارنة كما قال و هذه كلها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصناعة ثم إن تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبين في باب التوحيد أن لا فاعل إلا الله بطريق استدلالي كما رأيته و احتج له أهل علم الكلام بما هو غني في البيان من أن إسناد الأسباب إلى المسببات مجهول الكيفية و العقل منهم على ما يقضى به فيما يظهر بادئ الرأي من التأثير فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف و القدرة الإلهية رابطة بنهما كما ربطت جميع الكائنات علوا و سفلا سيما و الشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله تعالى و يبرأ مما سوى ذلك و النبؤات أيضا منكرة لشأن النجوم و تأثيراتها و استقراء الشرعيات شاهد بذلك في مثل قوله إن الشمس و القمر لا يخسفان لموت أحد و لا لحياته و في قوله أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر بي فأما من قال مطرنا بفضل الله و رحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب و أما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب الحديث الصحيح فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع و ضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل مع ما لها من المضار في العمران الإنساني بما تبعث من عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين أتفاقا لا يرجع إلى تعليل و لا تحقيق فيلهج بذلك من لا معرفة له و يظن اطراد الصدق في سائر أحكامها و ليس كذلك فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها ثم ما ينشأ عنها كثيرا في الدول من توقع القواطع و ما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء و المتربصين بالدولة إلى الفتك و الثورة و قد شاهدنا من ذلك كثيرا فينبغي أن تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران لما ينشأ عنها من المضار في الدين و الدول و لا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعيا للبشر بمقتضى مداركهم و علومهم فالخير و الشر طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما و إنما يتعلق التكليف بأسباب حصولهما فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه و دفع أسباب الشر و المضار هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم و مضاره و ليعلم من ذلك أنها و إن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحدا من أهل الملة تحصيل علمها و لا ملكتها بل إن نظر فيها ناظر و ظن الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر فإن الشريعة لما حظرت النظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها و التحليق لتعليمها و صار المولع بها من الناس و هم الأقل و أقل من الأقل إنما يطالع كتبها و مقالاتها في كسر بيته متسترا عن الناس و تحت ربقة الجمهور مع تشغب الصناعة و كثرة فروعها و اعتياصها على الفهم فكيف يحصل منها على طائل ؟ و نحن نجد الفقه الذي عم نفعه دينا و دنيا و سهلت مآخذه من الكتاب و السنة و عكف الجمهور على قراءته و تعليمه ثم بعد التحقيق و التجميع و طول المدارسة و كثرة المجالس و تعدها إنما يحذق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار و الأجيال فكيف يعلم مهجور للشريعة مضروب دونه سد الخطر و التحريم مكتوم عن الجمهور صعب المآخذ محتاج بعد الممارسة و التحصيل لأصوله و فروعه إلى مزيد حدس و تخمين يكتنفان به من الناظر فأين التحصيل و الحذق فيه مع هذه كلها و مدعى ذلك من الناس مردود على عقبه و لا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفن بين أهل الملة و قلة حملته فاعتبر ذلك يتبين لك صحة ما ذهبنا إليه و الله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحدا و مما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن و حاصروه بالقيروان و كثر إرجاف الفريقين الأولياء و الأعداء و قال في ذلك أبو القاسم الروحي من شعراء أهل تونس :
( أستغفر الله كل حين ... قد ذهب العيش و الهناء )
( أصبح في تونس و أمسي ... و الصبح لله و المساء )
( الخوف و الجوع و المنايا ... يحدثها الهرج و الوباء )
( و الناس في مرية و حرب ... و ما عسى ينفع المراء )
( فأحمدي يرى عليا ... حل به الهلك و التواء )
( و آخر قال سوف يأتي ... به إليكم صبا رخاء )
( و الله من فوق ذا و هذا ... يقضي لعيديه ما يشاء )
( يا راصد الخنس الجواري ... ما فعلت هذه السماء )
( مطلتمونا و قد زعمتم ... أنكم اليوم أملياء )
( مر خميس على خميس ... و جاء سبت و أربعاء )
( و نصف شهر و عشر ثان ... و ثالث ضمه القضاء )
( و لا نرى غير زور قول ... أذاك جهل أم ازدراء )
( إنا إلى الله قد علمنا ... أن ليس يستدفع القضاء )
( رضيت بالله لي إلها ... حسبكم البدر أو ذكاء )
( ما هذه الأنجم السواري ... إلا عباديد أو إماء )
( يقضى عليها و ليس تقضي ... و ما لها في الورى اقتضاء )
( ضلت عقول ترى قديما ... ما شأنه الجرم و الفناء )
( و حكمت في الوجود طبعا ... يحدثه الماء و الهواء )
( لم تر حلوا إزاء مر ... تغذوهم تربة و ماء )
( الله ربي و لست أدري ... ما الجوهر الفرد و الخلاء )
( و لا الهيولى التي تنادي ... ما لي عن صورة عراء )
( و لا وجود و لا انعدام ... و لا ثبوت و لا انتفاء )
( و الكسب لم أدر فيه إلا ... ما جلب البيع و الشراء )
( و إنما مذهبي و ديني ... ما كان للناس أولياء )
( إذ لا فصول و لا أصول ... و لا جدال و لا رياء )
( ما تبع الصدر و اقتفينا ... يا حبذا كان الاقتفاء )
( كانوا كما يعلمون منهم ... و لم يكن ذلك الهذاء )
( يا أشعري الزمان إني ... أشعرني الصيف و الشتاء )
( لم أجز بالشر غير شر ... و الخير عن مثله جزاء )
( و إنني إن أكن مطيعا ... فلست أعصى و لي رجاء )
( و إنني تحت حكم بار ... أطاعه العرش و الثراء )
( ليس انتصار بكم و لكن ... أتاحه الحكم و القضاء )
( لو حدث الأشعري عمن ... له إلى رأيه انتماء )
( لقال أخبرهم بأني ... مما يقولونه براء ) (1/714)
الفصل الثالث و الثلاثون : في انكار ثمرة الكيميا و استحالة وجودها و ما ينشأ من المفاسد عن انتحالها
اعلم أن كثيرا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصنائع و يرون أنها أحد مذاهب المعاش و وجوهه و أن اقتناء المال منها أيسر و أسهل على مبتغيه فيرتكبون فيها من المتاعب و المشاق و معاناة الصعاب و عسف الحكام و خساره الأموال في النفقات زيادة على النيل من غرضه و العطب آخرا إذا ظهر على خيبة و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا و إنما أطمعهم في ذلك رؤية أن المعادن تستحيل و ينقلب بعضها إلى بعض للمادة المشتركة فيحاولون بالعلاج صيرورة الفضة ذهبا و النحاس و القصدير فضة و يحسبون أنها من ممكنات عالم الطبيعة و لهم في علاج ذلك طرق مختلفة لاختلاف مذاهبهم في التدبير و صورته و في المادة الموضوعة عندهم للعلاج المساة عندهم بالحجر المكرم هل هي العذرة أو الدم أو الشعر أو البيض أو كذا أو كذا مما سوى ذلك و جملة التدبير عندهم بعد تعين المادة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس و تسقى أثناء إمهائها بالماء و بعد أن يضاف إليها من العقاقير و الأدوية ما يناسب القصد منها و يوثر في انقلابها إلى المعدن المطلوب ثم تجفف بالشمس من بعد السقي أو تطبخ بالنار أو تصعد أو تكلس لاستخراج مائها أو ترابها فإذا رضي بذلك كله من علاجها و تم تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته حصل من ذلك كله تراب أو مائع يسمونه الإكسير و يزعمون أنه إذا ألقى على الفضة المحماة بالنار عادت ذهبا أو النحاس المحمى بالنار عاد فضة على ما قصد به في عمله و يزعم المحققون منهم أن ذلك الإكسير مادة مركبة من العناصر الأربعة حصل فيها بذلك العلاج الخاص و التدبير مزاج ذو قوى طبيعية تصرف ما حصلت فيه إليها و تقلبه إلى صورتها و مزاجها و تبث فيه ما حصل فيها من الكيفيات و القوى كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها و تعمل فيه ما حصل لها من الانفشاش و الهشاشة ليحسن هضمة في المعدة و يستحيل سريعا إلى الغذاء و كذا إكسير الذهب و الفضة فيما يحصل فيه من المعادن يصرفه إليهما و يقلبه إلى صورتهما هذا محصل زعمهم على الجملة فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرزق و المعاش فيه و يتناقلون أحكامه و قواعده من كتب لأئمة الصناعة من قبلهم يتداولونها بينهم و يتناظرون في فهم لغوزها و كشف أسرارها إذ هي في الأكثر تشبه المعمى كتآليف جابر بن حيان في رسائله السبعين و مسلمة المجريطي في كتابه رتبة الحكيم و الطغرائي و المغيربي في قصائده العريقة في إجادة النظم و أمثالها و لا يحلون من بعد هذا كله بطائل منها ففاوضت يوما شيخنا أبا البركات التلفيفي كبير مشيخة الأندلس في مثل ذلك و وقفته على بعض التآليف فيها فتصفحه طويلا ثم رده إلي و قال لي و أنا الضامن له أن لا يعود إلى بيته إلا بالخيبة ثم منهم من يقتصر في ذلك على الدلسة فقط إما الظاهرة كتمويه الفضة بالذهب أو النحاس بالفضة أو خلطهما على نسبة جزء أو جزءين أو ثلاثة أو الخفية كإلقاء الشبه بين المعادن بالصناعة مثل تبييض النحاس و تلبيسه بالزوق المصعد فيجيء جسما معدنيا شبيها بالفضة و يخفى إلا على النقاد المهرة فيقدر أصحاب هذه الدلس مع دلستهم هذه سكة يسربونها في الناس و يطبعونها بطابع السلطان تمويها على الجمهور بالخلاص و هؤلاء أخس الناس حرفة و أسوأهم عاقبة لتلبسهم بسرقة أموال الناس فإن صاحب هذه الدلسة إنما هو يدفع نحاسا في الفضة و فضة في الذهب ليستخلصها لنفسه فهو سارق أو شر من السارق و معظم هذا الصنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع و مساكن الأغمار يأوون إلى مساجد البادية و يموهون على الأغنياء منهم بأن بأيديهم صناعة الذهب و الفضة و النفوس مولعة بحبهما و الاستهلاك في طلبهما فيحصلون من ذلك على معاش ثم يبقى ذلك عندهم تحت الخوف و الرقبة إلى أن يظهر العجز و تقع الفضيحة فيفرون إلى موضع آخر و يستجدون حالا أخرى في استهواء بعض أهل الدنيا بأطماعهم فيما لديهم و لا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم و هذا الصنف لا كلام معهم لأنهم بلغوا الغاية في الجهل و الرداءة و الاحتراف بالسرقة و لا حاسم لعلتهم إلا اشتداد الحكام عليهم و تناولهم من حيث كانوا و قطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم لأن فيه إفسادا للسكة التي تعم بها البلوى و هي متمول الناس كافة و السلطان مكلف بإصلاحها و الاحتياط عليها و الاشتداد على مفسديها و أما من انتحل هذه الصناعة ولم يرض بحال الدلسة بل استنكف عنها و نزه نفسه عن إفساد سكة المسلمين و نقودهم و إنما يطلب إحالة الفضة للذهب و الرصاص و النحاس و القصدير إلى الفضة بذلك النحو من العلاج و بالإكسير الحاصل عنده فلنا مع هؤلاء متكلم و بحث في مداركهم لذلك مع أنا لا نعلم أن أحدا من أهل العالم تم له هذا الغرض أو حصل منه على بغية إنما تذهب أعمارهم في التدبير و الفهر و الصلابة و التصعيد و التكليس و اعتيام الأخطار بجمع العقاقير و البحث عنها و يتناقلون في ذلك حكايات و تمت لغيرهم ممن تم له الغرض منها أو وقف على الوصول يقنعون باستماعها و المفاوضات فيها و لا يستريبون في تصديقها شأن الكلفين المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلفون به فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك بالمعاينة أنكروه و قالوا إنما سمعنا و لم نر هكذا شأنهم في كل عصر و جيل و اعلم أن انتحال هذه الصنعة قديم في العالم و قد تكلم الناس فيها من المتقدمين و المتأخرين فلننقل مذاهبهم في ذلك ثم نتلوه بما يظهر فيها من التحقيق الذي عليه الأمر في نفسه فنقول إن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المتطرقة و هي الذهب و الفضة و الرصاص و القصدير و النحاس و الحديد والخارصين هل هي مختلفات بالفصول و كلها أنواع قائمة بأنفسها أو إنها مختلفة بخواص من الكيفيات و هي كلها أصناف لنوع واحد ؟ فالذي ذهب إليه أبو البصر الفارابي و تابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد و أن اختلافها إنما هو بالكيفيات من الرطوبة و اليبوسة و اللين و الصلابة و الألوان من الصفرة و البياض والسواد و هي كلها أصناف لذلك النوع الواحد و الذي ذهب إليه ابن سينا و تابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول و أنها أنواع متباينة كل واحد منها قائم بنفسه متحقق بحقيقته له فصل و جنس شأن سائر الأنواع و بنى أبو نصر الفارابي على مذهبه في اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض لإمكان تبدل الأغراض حينئذ و علاجها بالصنعة فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء عنده ممكنة سهلة المأخذ و بنى أبو علي بن سينا على مذهبه في اختلافها بالنوع إنكار هذه الصنعة و استحالة وجودها بناء على أن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه و إنما يخلقه خالق الأشياء و مقدرها و هو الله عز و جل و الفصول مجهولة الحقائق رأسا بالتصوف فكيف يحاول انقلابها بالصنعة و غلطه الطغرائي من أكابر أهل هذه الصناعة في هذا القول و رد عليه بأن التدبير و العلاج ليس في تخليق الفصل و إبداعه و إنما هو في إعداد المادة لقبوله خاصة و الفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه و بارئه كما يفيض النور على الأجسام بالصقل و الإمهاء و لا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره و معرفته قال : و إذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مع الجهل بفصولها مثل العقرب من التراب و النتن و مثل الحيات المتكونة من الشعر و مثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر و تكوين القصب من قرون ذوات الظلف و تصييره سكرا بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح للقرون فما المانع إذا من العثور على مثل ذلك في الذهب و الفضة فتتخذ مادة تضيفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب و الفضة ثم تحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلها انتهى كلام الطغرائي بمعناه و هو الذي ذكرة في الرد على ابن سينا صحيح لكن لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذا آخر يتبين منه استحالة وجودها و بطلان مزعمهم أجمعين لا الطغرائي و لا ابن سينا و ذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعا و يحاذون في تدبيرها و علاجها تدبير الطبيعة في الجسم المعدني حتى أحالته ذهبا أو فضة و يضاعفون القوى الفاعلة و المنفعلة ليتم في زمان أقصر لأنة تبين في موضوعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله و تبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف و ثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى فإذا تضاعفت القوى و الكيفيات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته و ذلك هو الإكسير على ما تقدم و اعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية فلابد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لما تم امتزاجها فلابد من الجزء الغالب على الكل و لابد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونها الحافظة لصورته ثم كل متكون في زمان فلابد من اختلاف أطواره و انتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته و انظر شأن الإنسان في طور النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم التصوير ثم الجنين ثم المولود ثم الرضيع ثم إلى نهايته و نسب الأجزاء في كل طور تختلف في مقاديرها و كيفياتها و إلا لكان الطور الأول بعينه هو الآخر و كذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة لها في الطور الآخر فانظر إلى الذهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة و ثمانين و ما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن و يحاذيه بتدبيره و علاجه إلى أن يتم و من شرط الصناعة أبدا تصورها يقصد إليه بالصنعة فمن الأمثال السائرة للحكماء أول العمل آخر الفكرة و آخر الفكرة أول العمل فلابد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة و نسبها المتفاوتة في كل طور و اختلاف الحار الغريزي عند اختلافها و مقدار الزمان في كل طور و ما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة و يقوم مقامه حتى يحاذي بذلك كله فعل الطبيعة في المعدن أو تعد لبعض المواد صورة مزاجية كصورة الخميرة للخبز و تفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها و مقاديرها و هذه المادة إنما يحصرها العلم المحيط والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك و إنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصنعة بمثابة من يدعي بالصنعة تخليق إنسان من المني و نحن إذا سلمنا له الإحاطة بأجزائه و نسبته و أطواره و كيفية تخليقه في رحمه و علم ذلك علما محصلا بتفاصيله حتى لا يشذ منه شيء عن علمه سلمنا له تحليق هذا الإنسان وأنى له ذلك و لنقرب هذا البرهان بالاختصار ليسهل فهمه فنقول حاصل صناعة الكيمياء و ما يدعونه بهذا التدبير أنه مساوقة الطبيعية المعدنية بالفعل الصناعي و محاذاتها به إلى أن يتم كون الجسم المعدني أو تخليق مادة بقوى و أفعال و صورة مزاجية تفعل في الجسم فعلا طبيعيا فتصيره و تقلبه إلى صورتها و الفعل الصناعي مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي يقصد مساوقتها أو محاذاتها أو فعل المادة ذات القوى فيها تصورا مفصلا واحدة بعد أخرى و تلك الأحوال لا نهاية لها و العلم البشري عاجز عن الإحاطة بما دونها و هو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات هذا محصل هذا البرهان و هو أوثق ما علمته و ليست الاستحالة فيه من جهة الفصول كما رأيته و لا من الطبيعة إنما هو من تعذر الإحاطة و قصور البشر عنها و ما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك و له وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته و ذلك أن حكمة الله في الحجرين و ندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس و متمولاتهم فلو حصل عليهما بالصنعة لبطلت حكمة الله في ذلك و كثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء و له وجه آخر من الاستحالة أيضا و هو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطريق في أفعالها و ترتكب الأعوص و الأبعد فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون أنه صحيح و أنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها أو أقل زمانا لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في كون الفضة و الذهب و تخلقهما و أما تشبيه الطغراءي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات لأمثاله في الطبيعة كالعقرب و النحل و الحية وتخليقها فأمر صحيح في هذه أدى إليه العثور كما زعم و أما الكيمياء فلم تنقل عن أحد من أهل العالم أنه عثر عليها و لا على طريقها و ما زال منتحلوها يخبطون فيها عشواء إلى هلم جرا و لا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة و لو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه و أصحابه و تنوقل في الأصدقاء و ضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر و يبلغ إلينا و إلى غيرنا و أما قولهم إن الإكسير بمثابة الخميرة و إنه مركب يحيل ما يحصل فيه و يقلبه إلى ذلك فاعلم أن الخميرة إنما تقلب العجين و تعده للهضم و هو فساد و الفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال و الطبائع و المطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه و أعلى فهو تكوين و صلاح و التكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير بالخميرة و تحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها مثل جابر بن حيان و مسلمة بن أحمد المجريطي و أمثالهم فليست من باب الصنائع الطبيعية و لا تتم بأمر صناعي و ليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية و سائر الخوارق و ما كان من ذلك للحلاج و غيره و قد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبة ذلك و كلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى و هذا كلام جابر في رسائله و نحو كلامهم فيه معروف و لا حاجة بنا إلى شرحه و بالجملة فأمرها عندهم من كليات المواد الخارجة عن حكم الصنائع فكما لا يتدبر ما منه الخشب و الحيوان في يوم أو شهر خشبا أو حيوانا فيما عدا مجرى تخليقه كذلك لا يتدبر ذهب من مادة الذهب في يوم و لا شهر و لا يتغير طريق عادته إلا بإرفاد ما وراء عالم الطبائع و عمل الصنائع فكذلك من طلب الكيمياء طلبا صناعيا ضيع ماله و عمله و يقال لهذا التدبير الصناعي التدبير العقيم لأن نيله إن كان صحيحا فهو واقع مما وراء الطبائع و الصنائع كالمشي على الماء و امتطاء الهواء و النفوذ في كشائف الأجساد و نحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة أو مثل تخليق الطير و نحوها من معجزات الأنبياء قال تعالى : { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني } و على ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها فربما أوتيها الصالح و يؤتيها غيره فتكون عنده معارة و ربما أوتيها الصالح و لا يملك إيتاءها فلا تتم في يد غيره و من هذا الباب يكون عملها سحريا فقد تبين أنها إنما تقع بتأثيرات النفوس و خوارق العادة إما معجزة أو كرامة أو سحرا و لهذا كان كلام الحكماء كلهم فيها إلغازا لا يظفر بحقيقته إلا من خاض لجة من علم السحر و اطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة و أمور خرق العادة غير منحصرة و لا يقصد أحد إلى تحصيلها و الله بما يعملون محيط و أكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة و انتحالها هو كما قلناه العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش و ابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية كالفلاحة و التجارة و الصناعة فيصعب العاجز ابتغاءه من هذه و يروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء و غيرها و أكثر من يعني بذلك الفقراء من أهل العمران حتى في الحكماء المتكلمين في إنكارها و استحالتها فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان عليه الوزراء فكان من أهل الغنى و الثروة و الفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش و أسبابه و هذه تهمة ظاهرة في أنظار النفوس المولعة بطرقها و انتحالها و الله الرازق ذو القوة المتين لا رب سواه (1/719)
الفصل الرابع و الثلاثون : في أن كثرة التآليف في العلوم عائقة عن التحصيل
اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم و الوقوف على غاياته كثرة التآليف و اختلاف الاصطلاحات في التعاليم و تعد طرقها ثم مطالبة المتعلم و التلميذ باستحضار ذلك و حينئذ يسلم له منصب التحصيل فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها و مراعاة طرقها و لا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها فيقع القصور و لابد دون رتبة التحصيل و يمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلا و ما كتب عليها من الشروحات الفقهية مثل كتاب ابن يونس و اللخمي و ابن بشير و التنبيهات و المقدمات و البيان و التحصيل على العتبية و كذلك كتاب ابن الحاجب و ما كتب عليه ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية و البغدادية و المصرية و طرق المتأخرين عنهم و الإحاطة بذلك كله و حينئذ يسلم له منصب الفتيا و هي كلها متكررة والمعنى واحد و المتعلم مطالب باستحضار جميعها و تمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها و لو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير و كان التعليم سهلا و مأخذه قريبا و لكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها و لا تحويلها و يمثل أيضا علم العربية من كتاب سيبويه و جميع ما كتب عليه و طرق البصريين و الكوفيين و البغداديين و الأندلسيين من بعدهم و طرق المتقدمين و المتأخرين مثل ابن الحاجب و ابن مالك و جميع ما كتب في ذلك كيف يطالب به المتعلم و ينقضي عمره دونه و لا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هاشم ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة لم تحصل إلا لسييبويه و ابن جني و أهل طبقتهما لعظيم ملكته و ما أحاط به من أمصول ذلك الفن و تفاريعه و حسن تصرفه فيه و ذلك على أن الفضل ليس منحصرا في المتقدمين سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب و الطرق و التآليف و لكن فضل الله يؤتيه من يشاء و هذا نادر من نوادر الوجود و إلا فالظاهر أن المتعلم و لو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلا الذي هو آلة من الآلات و وسيلة فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة ؟ و لكن الله يهدي من يشاء (1/727)
الفصل الخامس و الثلاثون : في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و إلغاء ما سواها
اعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولا ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانيا إما بغير وسط أو بوسط حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعنى بإثباتها أو نفيها فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلابد من بيانها لآخر : إما على وجه التعليم أو على وجه المفاوضة تصقل الأفكار في تصحيحها و ذلك البيان إنما يكون بالعبارة و هي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التى خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف و هي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة و اللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم و هذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر و إن كان معظمها و أشرفها العلوم فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم و بعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية لا يؤدى بها ما في الضمير لمن توارى أو غاب شخصه و بعد أو لمن يأتي بعد و لم يعاصره و لا لقيه و هذا البيان منحصر في الكتابة و هي رقوم باليد تدل أشكالها و صورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفا بحروف و كلمات بكلمات فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحدا فسمي هذا البيان يدل على ما في الضمائر من العلوم و المعارف فهو أشرفها و أهل الفنون معتنون يإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة لتعلم الفائدة في حصوله للغائب و المتأخر و هؤلاء هم المؤلفون و التآليف بين العوالم البشرية و الأمم الإنسانية كثير و منتقلة في الأجيال و الأعصار و تختلف باختلاف الشرائع و الملل و الأخبار عن الأمم و الدول و أما العلوم الفلسفية فلا اختلاف فيها لأنها إنما تأتي على نهج واحد فيما تقتضيه الطبيعة الفكرية في تصور الموجودات على ما هي عليه جسمانيها و روحانيها و فلكيها و عنصريها و مجردها و مادتها فإن هذه العلوم لا تختلف و إنما يقع الاختلاف في العلوم الشرعية لاختلاف الملل أو التاريخية لاختلاف خارج الخبر ثم الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها و أشكالها و يسمى ذلك قلما و خطا فمنها الخط الحميري و يسمى المسند و هو كتابة حمير و أهل اليمن الأقدمين و هو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر كما يخالف لغتهم و إن الكل عربيا إلا أن ملكة هؤلاء في اللسان و العبارة غير ملكة أولئك و لكل منهما قوانين كلية مستقرأة من عبارتهم غير قوانين الآخرين و ربما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة و منها الخط السرياني و هو كتابة النبط و الكلدانيين و ربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه فإنهم كانوا أقدم الأمم و هذا وهم و مذهب عامي لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع و إنما هو يستمر بالقديم و المران حتى يصير ملكة راسخة فيظنها المشاهد طبيعية كما هو رأي كثير من البلداء في اللغة العربية فيقولون : العرب كانت تعرب بالطبع و تنطق بالطبع و هذا وهم و منها الخط العبراني الذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل و غيرهم و منها الخط اللطيني خط اللطينيين من الروم و لهم أيضا لسان مختص بهم و لكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها و يختص بها مثل الترك و الفرنج و الهنود و غيرهم و إنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى أما السرياني فلقدمه كما ذكرنا و أما العربي و العبري فلتنزل القرآن و التوراة بهما بلسانهما و كان هذان الخطان بيانا لمتلوهما فوقعت العناية بمنظومهما أولا و انبسطت قوانين لاطراد العبارة في تلك اللغة على أسلوبها لتفهم الشرائع التكليفية من ذلك الكلام الرباني و أما اللطيني فكان الروم و هم أهل ذلك اللسان لما أخذوا بدين النصرانية و هو كله من التوراة كما سبق في أول الكتاب ترجموا التوراة و كتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق و صارت عنايتهم بلغتهم و كتابتهم آكد من سواها و أما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية و إنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها ثم إن الناس حصروا مقاصد التآليف التي ينبغي اعتمادها و إلغاء ما سواها فعدوها سبعة :
أولها : استنباط العلم بموضوعه و تقسيم أبوابه و فصوله و تتبع مسائله أو استنباط مسائل و مباحث تعرض للعالم المحقق و يحرص على إيصاله بغيره لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة كما وقع في الأصول في الفقه تكلم الشافعى أولا في الأدلة الشرعية اللفظية و لخصها ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس و استوعبوها و انتفع بذلك من بعدهم إلى الآن
و ثانيها : أن يقف على كلام الأولين و تآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام و يفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه لتصل الفائدة لمستحقها و هذه طريقة البيان لكتب المعقول و المنقول و هو فصل شريق
و ثالثها : أن يعثر المتأخر على غلط أو خطأ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله و بعد في الإفادة صيتة و يستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه فيحرص على إيصال ذلك لمن بعدة إذ قد تعذر محوه و نزعه بانتشار التآليف في الأفاق و الأعصار و شهرة المؤلف و وثوق الناس بمعارفه فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك
و رابعها : أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله و فصوله و لا يبقى للنقص فيه مجال
و خامسها : أن تكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها و لا منتظمة فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها و يهذبها و يجعل كل مسئلة في بابها كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم و في العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة و بقيت العتبية غير مهذبة فنجد في كل باب مسائل من غيره و استغنوا بالمدونة و ما فعله ابن أبي زيد فيها و البرادعي من بعده
و سادسها : أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض الفضلاء إلى موضوع ذلك الفن و جميع مسائله فيفعل ذلك و يظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم كما وقع في علم البيان فإن عبد القاهر الجرجاني و أبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو و قد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان و التبيين مسائل كثيرة تنبه الناس فيها لموضوع ذلك العلم و انفراده عن سائر العلوم فكتبت في ذلك تأليفهم المشهورة و صارت أصولا لفن البيان و لقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم
و سابعها : أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولا مسهبا فيقصد بالتآليف تلخيص ذلك بالاختصار و الايجاز و حذف المتكرر إن وقع مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول
فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف و مراعاتها و ما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه و خطأ عن الجادة التي يتعين سلوكها في نظر العقلاء مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس من تبديل الألفاظ و تقديم المتأخر و عكسه أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه أو يبدل الصواب بالخطأ أو يأتي بما لا فائدة فيه فهذا شأن الجهل و القحة و لذا قال أرسطو لما عدد هذه المقاصد و انتهى إلى آخرها فقال : و ما سوى ذلك ففصل أو شره يعني بذلك الجهل و القحة نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه و الله يهدي للتي هي أقوم (1/729)
الفصل السادس و الثلاثون في أن كثرة الاختصارات المؤلفة في العلوم مخلة بالتعليم
ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق و الأنحاء في العلوم يولعون بها و يدونون منها برنامجا مختصرا في كل علم يشتمل على حصر مسائله و أدلتها باختصار في الألفاظ و حشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن و صار ذلك مخلا بالبلاغة و عسرا على الفهم و ربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير و البيان فاختصروها تقريبا للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه و ابن مالك في العربية و الخونجي في المنطق و أمثالهم و هو فساد في التعليم و فيه اخلال بالتحصيل و ذلك لأن فيه تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه و هو لم يستعد لقبولها بعد و هو من سوء التعليم كما سيأتي ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتراحم المعاني عليها و صعوبة استخراج المسائل من بينها لأن ألفاظ المختصرات تجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح عن الوقت ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده و لم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة ما يقع في تلك من التكرار و الإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة و إذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعبا يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة و تمكنها و من يهد الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و الله سبحانه و تعالى أعلم (1/733)
الفصل السابع و الثلاثون : في وجه الصواب في تعليم العلوم و طريق إفادته
اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا و قليلا قليلا يلقى عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب و يقرب له في شرحها على سبيل الإجمال و يراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي إلى آخر الفن و عند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية و ضعيفة و غايتها أنها هيأته لفهم الفن و تحصيل مسائله ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها و يستوفى الشرح و البيان و يخرج عن الإجمال و يذكر له ما هنالك من الخلاف و وجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته ثم يرجع به و قد شد فلا يترك عويصا و لا مهما و لا مغلقا إلا وضحه و فتح له مقفله فيخلص من الفن و قد استولى على ملكته هذا وجه التعليم المفيد و هو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثا تكرارات و قد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له و يتيسر عليه و قد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم و إفاداته و يحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم و يطالبونه بإحضار ذهنه في حلها و يحسبون ذلك مرانا على التعليم و صوابا فيه و يكلفونه رعي ذلك و تحصيله و يخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها و قبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم و الاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا و يكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل و على سبيل التقريب و الإجمال والأمثال الحسنة ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن و تكرارها عليه و الإنتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل و يحيط هو بمسائل الفن و إذا ألقيت عليه الغايات في البداءات و هو حينئذ عاجز عن الفهم و الوعي و بعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها و حسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه و انحرف عن قبوله و تمادى في هجرانه و إنما إلى ذلك من سوء التعليم و لا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته و على نسبة قبوله للتعليم مبتدئا كان أو منتهيا و لا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى أخره و يحصل أغراضه و يستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي و حصل له نشاط في طلب المزيد و النهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم و إذا خلط عليه الأمر عجز عن الفهم و أدركه الكلال و انطمس فكره و يئس من التحصيل و هجر العلم و التعليم و الله يهدي من يشاء و كذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس و تقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان و انقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها و إذا كانت أوائل العلم و أواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولا و أحكم ارتباطا و أقرب صنعة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل و تكراره و إذا تنوسي الفعل تنوسيت الملكة الناشئة عنه و الله علمكم ما لم تكونوا تعلمون و من المذاهب الجميلة و الطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معا فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال و انصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معا و يستصعبان و يعود منهما بالخيبة و إذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصرا عليه فربما كان ذلك أجدر لتحصيله و الله سبحانه و تعالى الموفق للصواب و اعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلقيتها بالقبول و أمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم و ذخيرة شريفة و أقدم لك مقدمة تعينك في فهمها و ذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته و هو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدماغ تارة يكون مبدأ للأفعال الإنسانية على نظام و ترتيب و تارة يكون مبدأ لعلم ما لم يكن حاصلا بأن يتوجه إلى المطلوب و قد يصور طرفيه يروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحدا أو ينتقل إلى تحصيل آخر إن كان متعددا و يصير إلى الظفر بمطلوبه هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشر من بين سائر الحيوانات ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطبيعة الفكرية النظرية تصفه لتعلم سداده من خطئه و أنها و إن كان الصواب لها ذاتيا إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما من اشتباه الهيئات في نظم القضايا و ترتيبها للنتاج فتعين المنطق للتخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض فالمنطق إذا أمر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية و منطبق على صورة فعلها و لكونه أمرا صناعيا استغني عنه في الأكثر و لذلك تجد كثيرا من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق و لا سيما مع صدق النية و التعرض لرحمة الله تعالى فإن ذلك أعظم معنى و يسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فيفضي بالطبع إلى حصول الوسط و العلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعلم و هي معرفة الألفاظ و دلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب و مشافهة اللسان بالخطاب فلابد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك فأولا : دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة و هي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناعة المنطق ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراطا يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله و مواهبه و ليس كل أحد يتجاوز هذه المراتب بسرعة و لا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال و الشبهات و قعد عن تحصيل المطلوب و لم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلا ممن هداه الله فإذا ابتليت بمثل ذلك و عرض لك ارتباك في فهمك أو تشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك و انتبذ حجب الألفاظ و عوائق الشبهات و أترك الأمر الصناعي جملة و اخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه و سرح نظرك فيه و فرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعا لها حيث وضعها أكابر النظار قبلك مستعرضا للفتح من الله كما فتح عليهم من ذهنهم من رحمته و علمهم ما لم يكونوا يعلمون فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك و حصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر و نظره عليه كما قلناه و حينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة و صورها فأفرغه فيها و وفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ و أبرزة إلى عالم الخطاب و المشافهة وثيق العرى صحيح البنيان و أما إن وقفت عند المناقشة و الشبهة في الأدلة الصناعية و تمحيص صوابها من خطئها و هذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة و تتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك و الارتياب و تسدل الحجب على المطلوب و تقعد بالناظر عن تحصيله و هذا شأن الأكثرين من النظار و المتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت عن ذهنه و من حصل له شغب بالقانون المنطقي تعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة و شكوكها و لا يكاد يخلص منها و الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام و تعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى و أما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه في الأكثر فاعتبر ذلك و استمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالالهام إلى الصواب و الله الهادي إلى رحمته و ما العلم إلا من عند الله (1/734)
الفصل الثامن و الثلاثون : في أن العلوم الإلهية لا توسع فيها الأنظار و لا تفرع المسائل
اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين : علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير و الحديث و الفقه و علم الكلام و كالطبيعيات و الإلهيات من الفلسفة و علوم هي وسيلة آلية بهذه العلوم كالعربية و الحساب و غيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة و ربما كان آلة لعلم الكلام و لأصول الفقه على طريقة المتأخرين فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها و تفريع المسائل و استكشاف الأدلة و الأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته و إيضاحا لمعانيها المقصودة و أما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية و المنطق و أمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط و لا يوسع فيها الكلام و لا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج لها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير فكلما خرجت عن ذلك خرجت في المقصود و صار الاشتغال بها لغوا مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها و كثرة فروعها و ربما يكون ذلك عائقا عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم و العمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعا للعمر و شغلا بما لا يغني و هذا كما فعل المتأخرون في صناعة النحو و صناعة المنطق و أصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها و أكثروا من التفاريع و الاستدلالات بما أخرجها عن كونها آلة و صيرها من المقاصد و ربما يقع فيها لذلك أنظار و مسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة فهي من نوع اللغو و هي أيضا مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بوسائلها فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد ؟ فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستجيروا في شأنها و لا يستكثروا من مسائلها و ينبهوا المتعلم على الغرض منها و يقفوا به عنده فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل و رأى من نفسه قياما بذلك و كفاية به فليرق له ما شاء من المراقي صعبا أو سهلا و كل ميسر لما خلق له (1/738)
الفصل التاسع و الثلاثون : في تعليم الولدان و اختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار الدين أخذ به أهل الملة و درجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان و عقائده من آيات القرآن و بعض متون الأحاديث و صار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات و سبب ذلك أن التعليم في الصفر أشد رسوخا و هو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس و للملكات و على حسب الأساس و أساليبه يكون حال من ينبني عليه و اختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط و أخذهم أثناء المدارسة بالرسم و مسائله و اختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث و لا من فقه و لا من شعر و لا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعا عن العلم بالجملة و هذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب و من تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة و كذا في الكبير إذا رجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره فهم لذلك أقوم على رسم القرآن و حفظه من سواهم و أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن و الكتاب من حيث هو و هذا هو الذي يراعونه في التعليم إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك و أسه و منبع الدين و العلوم جعلوه أصلا في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب و الترسل و أخذهم بقوانين العربية و حفظها و تجويد الخط و الكتاب و لا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة و قد شدا بعض الشيء في العربية و الشعر و البصر بهما و برز في الخط و الكتاب و تعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم لكنهم ينقطعون عن ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم و لا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول و فيه كفاية لمن أرشده الله تعالى و استعداد إذا وجد المعلم و أما أهل أفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب و مدارسة قوانين العلوم و تلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن و استنظار الولدان إياه و وقوفهم على اختلاف رواياته و قراءاته أكثر مما سواه و عنايتهم بالخط تبع لذلك و بالجملة فطريقهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس و استقروا بتونس و عنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك و أما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا و لا أدري بم عنايتهم منها و الذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن و صحف العلم و قوانينه في زمن الشبيبة و لا يخلطون بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون و معلمون له على انفراده كما تتعلم سائر الصنائع و لا يتداولونها في مكاتب الصبيان و إذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة و من أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه و يبتغيه من أهل صنعته فأما أهل أفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة و ذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه و الاحتذاء بها و ليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة في اللسان العربي و حظه الجمود في العبارات و قلة التصرف في الكلام و ربما كان أهل أفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب بما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف و محاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة كما سيأتي في فصله و أما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم و كثرة رواية الشعر و الترسل و مدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي و قصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن و الحديث الذي هو أصل العلوم و أساسها فكانوا لذلك أهل حظ و أدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبي و لقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك و أبدأ و قدم تعليم العربية و الشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس قال : لأن الشعر ديوان العرب و يدعو على تقديمه و تعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليك بهذه المقدمة ثم قال : و يا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أوامره يقرأ مالا يفهم و ينصب في أمر غيره أهم ما عليه منه ثم قال ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث و علومه و نهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم و النشاط هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله و هو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه و هي أملك بالأحوال و وجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك و الثواب و خشية ما يعرض للولد في جنون الصبي من الآفات و القواطع عن العلم فيفوته القرآن لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم فإذا تجاوز البلوغ و انحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساجل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر و ربقة الحكم تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه و لو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم و قبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب و المشرق و لكن الله يحكم ما يشاء لا معقب لحكمه (1/740)
الفصل الأربعون : في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
و ذلك أن إرهاف الحد بالتعليم مضر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة و من كان مرباه بالعسف و القهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر و ضيق عن النفس في انبساطها و ذهب بنشاطها و دعاه إلى الكسل و حمل على الكذب و الخبث و هو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه و علمه المكر و الخديعة لذلك و صارت له هذه عادة و خلقا و فسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع و التمرن و هي الحمية و المدافعة عن نفسه و منزله و صار عيالا على غيره في ذلك بل و كسلت النفس عن اكتساب الفضائل و الخلق الجميل فانقبضت عن غايتها و مدى إنسانيتها فارتكس و عاد في أسفل السافلين و هكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر و نال منها العسف و اعتبره في كل من يملك أمره عليه و لا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به و تجد ذلك فيهم استقراء و انظره في اليهود و ما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق و عصر بالحرج و معناه في الاصطلاح المشهور التخابث و الكيد و سببه ما قلناه فينبغي للمعلم في متعلمه و الوالد في ولده أن لا يستبدا عليهما في التأديب و قد قال محمد بن أبى زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين و المتعلمين : لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئا و من كلام عمر رضي الله عنه : من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله حرصا على صون النفوس عن مذلة التأديب و علما بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته و من أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده قال خلف الأحمر : بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال : يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه و ثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة و طاعته لك واجبة و كن له بحيث وضعك أمير المؤمنين أقرئه القرآن و عرفه الأخبار و روه الأشعار و علمه السنن و بصره بمواقع الكلام و بدئه و امنعه من الضحك إلا في أوقاته و خذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه و رفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه و لا تمرن بك ساعة إلا و أنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه و لا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ و يألفه و قومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة و الغلظة انتهى (1/743)
الفصل الحادي و الأربعون : في أن الرحلة في طلب العلوم و لقاء المشيخة مزيد كمال في التعلم
و السبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم و أخلاقهم و ما ينتحلون به من المذاهب و الفضائل : تارة علما و تعليما و إلقاء و تارة محاكاة و تلقينا بالمباشرة إلا أن حصول الملكات عن المباشرة و التلقين أشد استحكاما و أقوى رسوخا فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات و رسوخها و الاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم و لا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين فلقاء أهل العلوم و تعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها و يعلم أنها أنحاء تعليم و طرق توصل و تنهض قواه إلى الرسوخ و الاستحكام في المكان و تصحح معارفه و تميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة و التلقين و كثرتهما من المشيخة عند تعددهم و تنوعهم و هذا لمن يسر الله عليه طرق العلم و الهداية فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد و الكمال بلقاء المشايخ و مباشرة الرجال و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (1/744)
الفصل الثاني و الأربعون : في أن العلماء من بين البشر أبعد عن السياسة و مذاهبها
و السبب في ذلك أنهم معتادون النظر الفكري و الغوص على المعاني و انتزاعها من المحسوسات و تجريدها في الذهن أمورا كلية عامة ليحكم عليها بأمر العلوم لا بخصوص مادة و لا شخص و لا جيل و لا أمة و لا صنف من الناس و يطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات و أيضا يقيسون الأمور على أشباهها و أمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي فلا تزال أحكامهم و أنظارهم كلها في الذهن و لا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث و النظر و لا تصير بالجملة إلى المطابقة و إنما يتفرغ ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب و السنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية التي تطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية و الأنظار الفكرية لا يعرفون سواها و السياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج و ما يلحقها من الأحوال و يتبعها فإنها خفية و لعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال و ينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها و لا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام و قياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم و نوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيرا و لا يؤمن عليهم و يلحق بهم أهل الذكاء و الكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني و القياس و المحاكاة فيقعون في الغلط و العامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك و عدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها و في كل صنف من الأحوال و الأشخاص على ما اختص به و لا يعدي الحكم بقياس و لا تعميم و لا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة و لا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج قال الشاعر :
( فلا توغلن إذا ما سبحت ... فإن السلامة في الساحل )
فيكون مأمونا من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه و تندفع آفاته و مضاره باستقامة نظره و فوق كل ذي علم عليم و من هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع و بعدها عن المحسوس فإنها تنظر في المعقولات الثواني و لعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام و ينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني و أما النظر في المعقولات الأول و هي التي تجريدها قريب فليس كذلك لأنها خيالية و صور المحسوسات حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق (1/745)
الفصل الثالث و الأربعون : في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم
من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية و لا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر و إن كان منهم العربي في نسبته فهو أعجمي في لغته و مرباه و مشيخته مع أن الملة عربية و صاحب شريعتها عربي و السبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم و لا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة و البداوة و إنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله و نواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم و قد عرفوا مأخذها من الكتاب و السنة بما تلقوه من صاحب الشرع و أصحابه و القوم يومئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم و التأليف و التدوين و لا دفغوا إليه و لا دعتهم إليه حاجة و جرى الأمر على ذلك زمن الصحابة و التابعين و كانوا يسمون المختصين بحمل ذلك و نقله إلى القراء أي الذين يقرأون الكتاب و ليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عربا فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء إشارة إلى هذا فهم قراء لكتاب الله و السنة المأثورة عن الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه و من الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له و شرح قال صلى الله عليه و سلم : [ تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله و سنتي ] فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية و تقييد الحديث مخافة ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد و تعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح مم الأسانيد و ما دونه ثم كثر استخراج أحكام الواقعات من الكتاب و السنة و فسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية و صارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباطات و الاستخراج و التنظير و القياس و احتاجت إلى علوم أخرى و هي الوسائل لها من معرفة قوانين العربية و قوانين ذلك الاستنباط و القياس و الذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع و الإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوما ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع و قد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر و أن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية و بعد عنها العرب و عن سوقها و الحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي و أهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة و أحوالها من الصنائع و الحرف لأنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه و الفارسي من بعده و الزجاج من بعدهما و كلهم عجم في أنسابهم و إنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى و مخالطة العرب و صيروه قوانين و فنا لمن بعدهم و كذا حملة الحديث الذين حفظوة عن أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة و المربى لاتساع الفن بالعراق و كان علماء أصول الفقه كلهم عجما كما عرف و كذا حملة علم الكلام و كذا أكثر المفسرين و لم يقم بحفظ العلم و تدوينه إلا الأعاجم و ظهر مصداق قوله صلى الله عليه و سلم : [ لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس ] و أما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة و سوقها و خرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرئاسة في الدولة العباسية و ما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم و النظر فيه فإنهم كانوا أهل الدولة و حاميتها و أولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع و الرؤساء أبدا يستنكفون عن الصنائع و المهن و ما يجر إليها و دفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين و ما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم و علومهم و لا يحتقرون حملتها كل الاحتقار حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة و صار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها و امتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني و لا يجدي عنهم في الملك و السياسة كما ذكرناه في نقل المراتب الدينية فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم و أما العلوم العقلية أيضا فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم و مؤلفوه و استقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم و تركتها العرب و انصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولا فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم و بلادهم من العراق و خراسان و ما وراء النهر فلما خربت تلك الأمصار و ذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم و الصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة و اختص العلم بالأمصار الموفورة الحضارة و لا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم و إيوان الإسلام و ينبوع العلم و الصنائع و بقي بعض الحضارة في ما وراء النهر لما هناك من الحضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك حصة من العلوم و الصنائع لا تنكر و قد دلنا على ذلك كلام بعض علمائهم من تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد و هو سعد الدين التفتازاني و أما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب و نصير الدين الطوسي كلاما يعول على نهايته في الإصابة فاعتير ذلك و تأمله تر عجبا في أحوال الخليقة و الله يخلق ما بشاء لا شريك له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير و حسبنا الله و نعم الوكيل و الحمد لله (1/747)
الفصل الرابع و الأربعون : في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي
و السر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية و الخيالية من بين العلوم الشرعية التي هي أكثر مباحثها في الألفاظ و مودها من الأحكام المتلقاة من الكتاب و السنة و لغاتها المؤدية لها و هي كلها في الخيال و بين العلوم العقلية و هي في الذهن و اللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة بالمناظرة و التعليم و ممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكاتها بطول المران على ذلك و الألفاظ و اللغات وسائط و حجب بين الضمائر و روابط و ختام بين المعاني و لابد في اقتياض تلك الضمائر من المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عليها و جودة الملكة لناظر فيها و إلا فيعتاض عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص و إذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عن استعمالها أن البديهي والجبلي زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني و الفهم أو خف و لم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط هذا كله إذا كان التعاليم تلقينا و بالخطاب و العبارة و أما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة و التقييد بالكتاب و مشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم كان هنالك حجاب آخر بين الخط و رسومه في الكتاب و بين الألفاظ المقولة في الخيال لأن رسوم الكتاب لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة و ما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة و إن عرفت بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضا قاصرة و يزداد على الناظر و المتعلم بذلك حجاب آخر بينه و بين مطلوبه من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول و إذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية و الخطية مستحكمة ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني و صار إنما يعاني فهم مباحثها فقط هذا شأن المعاني مع الألفاظ و الخط بالنسبة إلى كل لغة و المتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاما لملكاتهم ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها و اندرجت الأمم في طيها و درست علوم الأولين بنبوتها و كتابها و كانت أمية النزعة و الشعار فأخذ الملك و العزة و سخرية الأمم لهم بالحضارة و التهذيب و صيروا علومهم الشرعية صناعة بعد أن كانت نقلا فحدثت فيهم الملكات و كثرت الدواوين و التآليف و تشوفوا إلى علوم الأمم فنقلوها بالترجمة إلى علومهم و أفرغوها في قالب أنظارهم و جردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم و أربوا فيها على مداركهم و بقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسيا منسيا و طللا مهجورا و هباء منثورا و أصبحت العلوم كلها بلغة العرب و دواوينها المسطرة بخطهم و احتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية و الخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن لدروسها و ذهاب العناية بها و قد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسال و كذا الخط صناعة ملكتها في اليد فإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة صار مقصرا في اللغة العربية لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعة أخرى و هو ظاهر و إذا كال مقصرا في اللغة العربية و دلالاتها اللفظية و الخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم و لا يكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية و كذا أيضا شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي و لهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم و مجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التفاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهرا يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني و صاحب الملكة في العبارة و الخط مستغن عن ذلك بتمام ملكته و إن صار له فهم الأقوال من الخط و المعاني من الأقوال كالجبلة الراسخة و ارتفعت الحجب بينه و بين المعاني و ربما يكون الدؤوب على التعليم و المران على اللغة و ممارسة الخط يفيضان لصاحبهما إلى تمكن الملكة كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم إلا أنه في النادر و إذا قرن بنظيره من علماء العرب و أهل طبقته منهم كان باع العرب أطول و ملكته أقوى لما عند المستعجم من الفتور بالعجمة السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة و لا يعترص ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع و الملكات و من جملتها العلوم و أما عجمة اللغة فليست من ذلك و هي المرادة هنا و لا يعترض ذلك أيضا مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فأنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم و خطهم المتعارف بينهم و الأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه و من غير خطه الذي يعرف ملكته فلهذا يكون له ذلك حجابا كما قلناه و هذا عام في جميع أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس و الروم و الترك و البربر و الفرنج و سائر من ليس من أهل اللسان العربي و في ذلك آيات للمتوسمين (1/750)
الفصل الخامس و الأربعون : في علوم اللسان العربي
أركانه أربعة و هي اللغة و النحو و البيان و الأدب و معرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها في الكتاب و السنة و هي بلغة العرب و نقلتها من الصحابة و التابعين عرب و شرح مشكلاتها من لغاتهم فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة و تتفاوت في التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فنا فنا و الذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر و لولاه لجهل أصل الإفادة و كان من حق علم اللغة التقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد و المسند و المسند إليه فإنه تغير بالجملة و لم يبق له أثر فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة و ليست كذلك اللغة و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق (1/753)
علم النحو
اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده و تلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلابد أن تصير ملكة متقررة في الغصو الفاعل لها و هو اللسان و هو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم و كانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات و أوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف و مثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى و ليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب و أما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لابد له من ألفاظ تخصه بالدلالة و لذلك نجد كلام العجم من مخاطباتهم أطول مما تقدره بكلام العرب و هذا هو معنى قوله صلى الله عليه و سلم : [ أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا ] فصار للحروف في لغتهم و الحركات و الهيئات أي الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا فلما جاء الإسلام و فارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم و الدول و خالطوا المجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين و السمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع و خشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأسا و يطول العهد بها فينغلق القرآن و الحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات و القواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام و يلحقون الأشباه بالأشباه مثل أن الفاعل مرفوع و المفعول منصوب و المبتدأ مرفوع ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا و تسمية الموجب لذلك التغير عاملا و أمثال ذلك و صارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب و جعلوها صناعة لهم مخصوصة و اصطلحوا على تسميتها بعلم النحو و أو ل من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة و يقال بإشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد و كان الناس أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب فهذب الصناعة و كمل أبوابها و أخذها عنه سيبويه فكمل تفاريعها و استكثر من أدلتها و شواهدها و وضع فيها كتابه المشهور الدي صار إماما لكل ما كتب فيها من بعده ثم وضع أبو علي الفارسي و أبو القاسم الزجاج كتبا مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه ثم طال الكلام في هذه الصناعة و حدث الخلاف بين أهلها في الكوفة و البصرة المصرين القديمين للعرب و كثرت الأدلة و الحجاج بينهم و تباينت الطرق في التعليم و كثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد و طال ذلك على المتعلمين و جاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيرا من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل و أمثاله أو اقتصارهم على المبادئ للمتعلمين كما فعله الزمخشري في المفصل و ابن الحاجب في المقدمة له و ربما نظموا ذلك نظما مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى و الصغرى و ابن معطي في الارجوزة الألفية و بالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها و طرق التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين و الكوفيون و البصريون و البغداديون و الأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك و قد كادت هذه الصناعة تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم و الصنائع بتناقص العمران و وصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين بن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة و مفصلة و تكلم على الحروف و المفردات و الجمل و حذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابه و سماه بالمغني في الإعراب و أشار إلى نكت إعراب القرآن كلها و ضبطها بأبواب و فصول و قواعد انتظم سائرها فوقفنا منع على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة و وفور بضاعته منها و كأنه ينحو في طريقته منحاة أهل الموصل الذين اقتفوا أثر ابن جني و اتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته و اطلاعه و الله يزيد في الخلق ما يشاء (1/753)
علم اللغة
هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية و ذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب و استنبطت القوانين لحفظها كما قلناه ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم و مخالطتهم حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنه المستعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب و التدوين خشية الدروس و ما ينشا عنه من الجهل بالقرآن و الحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك و أملوا فيه الدواوين و كان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي ألف فيها كتاب العين فحصر فيه فركبات حروف العجم كلها من الثنائي و الثلاثي والرباعي و الخماسي و هو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي و تأتي له حصر ذلك بوجوه عديدة حاضرة و ذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة و عشرين و هو دون نهاية حروف العجم بواحد لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة و العشرين فتكون سبعة و عشرين كلمة ثنائية ثم يؤخذ الثاني مع الستة و العشرين كذلك ثم الثالث و الرابع ثم يؤخذ السابع و العشرون مع الثامن و العشرين فيكون واحدا فتكون كلها أعدادا على توالي العدد من واحد إلى سبعة و عشرين فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب و هو أن تجمع الأول مع الأخير و تضرب المجموع في نصف العدة ثم تصاعف لأجل قلب الثنائي لأن التقديم و التأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات و تخرج الثلاثيات من صرب عدد الثنائيات فيما يجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالى العدد لأن كل ثنائية يزيد عليها حرفا فتكون ثلاثية فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية و هي ستة و عشرون حرفا بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة و عشرين على توالي العدد و يضرب فيه جملة الثنائيات ثم تضرب الخارج في ستة جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية فيخرج مجموع تراكيبها من حروف العجم و كذلك في الرباعي و الخماسي فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه و رتب أبوابه على حروف العجم بالترتيب المتعارف و اعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثم بعده من خروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة و جعل حروف العلة آخرا و هي الحروف الهوائية و بدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصر منها فلذلك سمي كتابه بالعين لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا و هو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات و الألفاظ ثم بين المهمل منها من المستعمل و كان المهمل في الرباعي و الخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله و لحق به الثنائي لقلة دورانه و كان الإستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه و ضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين و استوعبه أحسن استيعاب و أوعاه و جاء أبو بكر الزبيدي و كتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائة الرابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب و حذف منه المهمل كله و كثيرا من شواهد المستعمل و لخصه للحفظ أحسن تلخيص و ألف الجوهري من المشارقة كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف العجم فجعل البداءة منها بالهمزة و جمل الترجمة بالحروف على الحرف الأخير من الكلمة لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم فجعل ذلك بابا ثم يأتي بالحروف أول الكلمة على ترتيب حروف العجم أيصا و يترجم عليها بالفصول إلى آخرها و حصر اللغة اقتداء بحصر الخليل ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية في دولة علي بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب و على نحو ترتيب كتاب العين و زاد فيه التعرض لاشتقاتات الكلم و تصاريفها فجاء من أحسن الدواوين و لخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس و قلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم و بناء التراجم عليها فكانا توأمي رحم و سليلي أبوة و لكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد و لابن دريد كتاب الجمهرة و لابن الأنباري كتاب الزاهر هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه و هناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم و مستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها إلا أن وجه الحصر فيها خفي و و في الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت و من الكتب الموضوعة أيضا في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز سماه أساس البلاغة بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ و فيما تجوزت به من المدلولات و هو كتاب شريف الإفادة ثم لما كانت العرب تضع الشيء على العموم ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظا أخرى خاصة بها فوق ذلك عندنا و بين الوضع و الاستعمال و احتاج إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب و من الإنسان بالأزهر و من الغنم بالأملح حتى صار استعمال الأبيص في هذه كلها لحنا و خروجا عن لسان العرب و اختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي و أفرده في كتاب له سماه فقه اللغة و هو من أكد ما بأخذ به اللغوي نفسه أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه فليس معرفة الوضع الأول بكاف في الترتيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك و أكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه و نثره حذرا من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها و تراكيبها و هو أشد من اللحن في الإعراب و أفحش و كذلك ألف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة و تكفل بحصرها و إن لم تبلغ إلى النهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر و أما المختصرات الموجودة في هذا الفن المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال تسهيلا لحفظها على الطالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت و الفصيح لثعلب و غيرهما و بعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ و الله الخلاق العليم لا رب سواه
فصل : و اعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني لا تقل إنهم وصغوها لأنه متعذر و بعيد و لم يعرف لأحد منهم و كذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله على ما عرف استعماله في ماء العنب باعتبار الإسكار الجامع لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله و ليس لنا مثله في اللغة إلا بالعقل و هو محكم و على هذا في جمهور الأئمة و إن مال إلى القياس فيها القاضي و ابن سريح و غيرهم لكن القول بنفيه أرجح و لا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية لأن الحد راجع إلى المعاني ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور و اللغة إثبات أن اللفظ كذا لمعنى كذا و الفرق في غاية الظهور (1/756)
علم البيان
هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية و اللغة و هو من العلوم اللسانية لأنه متعلق بالألفاظ و ما تفيده و يقصد بها الدلالة عليه من المعاني و ذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي : إما تصور مفردات تسند و مسند إليها و يفضي بعضها إلى بعض و الدالة على هذه هي المفردات من الأسماء و الأفعال و الحروف و إما تمييز المسندات من المسند إليها و الأزمنة و يدل عليها بتغير الحركات من الإعراب و أبنية الكلمات و هذه كلها هي صناعة النحو و يبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين و ما يقتضيه حال الفعل و هو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة و إذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة في كلامه و إذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع و لكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب و الإبانة ألا ترى أن قولهم زيد جاءني مغاير لقولهم جاءني زيد من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم فمن قال : جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه و من قال : زيد جاءني أفاد أن اهتمامة بالشخص قبل المجيء المسند و كذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة و كذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم : زيد قائم و أن زيدا قائم و إن زيدا لقائم متغايرة كلها في الدلالة و إن استوت من طريق الإعراب فإن الأول العاري عن التأكيد أنما يفيد الخالي الذهن و الثاني المؤكد بإن يفيد المتردد و الثالث يفيد المنكر فهي مختلفة و كذلك تقول : جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه و أنه رجل لا يعادله أحد من الرجال ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية و هي التي لها خارج تطابقه أولا و إنشائية و هي التي لا خارج لها كالطلب و أنواعه ثم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذا كان للثانية محل من الإعراب : فيشرك بذلك منزلة التابع المفرد نعتا و توكيدا و بدلا بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب ثم يقتضي المحل الإطناب و الإيجاز فيورد الكلام عليهما ثم قد يدل باللفظ و لا يراد منطوقه و يراد لازمه إن كان مفردا كما تقول : زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد المنطوقة و إنما تريد شجاعته اللازمة و تسندها إلى زيد و تسمى هذه استعارة و قد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول : زيد كثير الرماد و تريد ما لزم ذلك عنه من الجود و قرى الضيف لأن كثرة الرماد ناشئة عنهما في دالة عليهما و هذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد و المركب و إنما هي هيئات و أحوال الواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال و هيئات في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالة التي هي للهيئات و الأحوال و المقامات و جعل على ثلاثة أصناف : الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيآت و الأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال و يسمى علم البلاغة و الصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي و ملزومه و هي الاستعارة و الكناية كما قلناه و يسمى علم البيان و ألحقوا بهما صنفا آخر و هو النظر في تزيين الكلام و تحسينه بنوع من التنميق إما بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أو تورية عن المعنى المقصود بإيهام معنى أخفى منة لاشتراك اللفظ بينهما و أمثال ذلك و يسمى عندهم علم البدء و أطق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان و هو اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول من تكلموا فيها ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى و كتب فيها جعفر بن يحيى و الجاحظ و قدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي زبدته و هذب مسائله و رتب أبوابه على نحو ما ذكرناه أنفا من الترتيب و ألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو و التصريف و البيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه و أخذه المتأخرون من كتابه و لخصوا منه أمهات قي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب التبيان و ابن مالك في كتاب المصباح و جلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح و التلخيص و هو أصغر حجما من الإيضاح و العناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح و التعليم منه أكثر من غيره و بالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة و سببه و الله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية و الصنائع الكمالية توجد في وفور العمران و المشرق أوفر عمرانا من المغرب كما ذكرناه أو نقول لعناية العجم و هم معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري و هو كله مبني على هذا الفن و هو أصله و إنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البدء خاصة و جعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية و فرغوا له ألقابا و عدوا أبوابا و نوعوا أنواعا و زعموا أنهم أحصوها من لسان العرب و إنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ و العلم البديع سهل المأخذ و صعبت عليهم مآخذ البلاغة و البيان لدقة أنظارهما و غموض معانيهما فتجافوا عنهما و ممن ألف في البدء من أهل أفريقية ابن رشيق و كتاب العمدة له مشهور و جرى كثير من أهل أفريقية و الأندلس على منحاه و اعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة و مفهومة و هي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختص بالألفاظ في انتقائها و جودة رصفها و تركيبها و هذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه و إنما يدرك بغض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي و حصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوة من مبلغه أعلى مقاما في ذلك لأنهم فرسان الكلام و جهابذته و الذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون و أصحه و أحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون و أكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جاز الله الزمخشري و وضع كتابه في التفسير و تتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفصل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة و لأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة فمن أحكم عقائد السنة و شارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنه بدعة فيعرض عنها و لا تضر في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع و الأهواء و الله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل (1/759)
علم الأدب
هذا العلم لا موضع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها و إنما المقصود منة عند أهل اللسان ثمرته و هي الاجادة في فني المنظوم و المنثور على أساليب العرب و مناحيهم فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة من شعر عالي الطبقة و سجع متساو في الإجادة و مسائل من اللغة و النحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها و كذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة و الأخبار العامة و المقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب و أساليبيهم و مناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمة ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا : الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها و الأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط و هي القرآن و الحديث إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم و ترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائما على فهمها و سمعنا من شيوخنا في مجالسى التعليم أن أصول هذا الفن و أركانه أربعة دوارين و هي أدب الكتاب لابن قتيبة و كتاب الكامل للمبرد و كتاب البيان و التبيين للجاحظ و كتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي و ما سوى هذه الأربعة فتبع لها و فروع عنها و كتب المحدثين في ذلك كثيرة و كان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه و كان الكتاب و الفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصا على تحصيل أساليب الشعر و فنونه فلم يكن انتحالة قادحا في العدالة و المروءة و قد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب و أشعارهم و أنسابهم و أيامهم و دولتهم و جعل مبناه على الغناء في المائة صوتا التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب و أوفاه و لعمري إنه ديوان العرب و جامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر و التاريخ و الغناء و سائر الأحوال و لا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه و هو الغاية التي يسمو إليها الأديب و يقف عندها و أنى له بها و نحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان و الله الهادي للصواب (1/763)
الفصل السادس و الأربعون : في أن اللغة ملكة صناعية
إعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكات في اللسان للعبارة عن المعانى و جودتها و تصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها و ليس ذلك بالنظر إلى المفردات و إنما هو بالنظر إلى التراكيب فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة و مراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئد الغاية من إفادة مقصوده للسامع و هذا هو معنى البلاغة و الملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولا و تعود منه للذات صفة ثم تتكرر فتكون حالا و معنى الحال أنها صفة غير راسخه ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله و أساليبهم في مخاطباتهم و كيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولا ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة و من كل متكلم و استعماله يتكرر إلى أن يضير ذلك ملكة و صفة راسخة و يكون كأحدهم هكذا تصيرت الألسن و اللغات من جيل إلى جيل و تعلمها العجم و الأطفال و هذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم و لم يأخذوها عن غيرهم ثم إنه لما فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم و سبب فسادها أن الناشئ من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيميز بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم و يسمع كيفيات العرب أيضا فاختلط عليه الأمر و أخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة و كانت ناقصة عن الأولى و هذا معنى فساد اللسان العربي و لهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية و أصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم ثم من اكتنفهم من ثقيف و هذيل و خزاعة و بني كنانة وغطفان و بني أسد و بني تميم و أما من بعد عنهم من ربيعة و لخم و جذام و غسان و إياد و قضاعة و عرب اليمن المجاورين لأمم الفرس و الروم و الحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم و على نسبة بعدهم من قريش كان الإحتجاج بلغاتهم في الصحة و الفساد عند أهل الصناعة العربية و الله سبحانة و تعالى أعلم و به التوفيق (1/764)
الفصل السابع و الأربعون : في أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايرة للغة مصر و حمير
و ذلك أنا نجدها في بيان المقاصد و الوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري و لم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم و التأخير و بقرائن تدل على خصوصيات المقاصد إلا أن البيان و البلاغة في اللسان المضري أكثر و أعرق لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها و يبقى ما تقتضيه الأحوال و يسمى بساط الحال محتاجا إلى ما يدل عليه و كل معنى لا بد و أن تكتنفه أحوال تخصه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته و تلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع و أما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال و كيفيات في تراكيب الألفاظ و تأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة أعراب و قد يدل عليها بالحروف غير المستقلة و لذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات كما قدمناه فكان الكلام العربي لذلك أوجز و أقل ألفاظا و عبارة من جميع الألسن و هذا معنى قوله صلى الله عليه و سلم : [ أوتيت جوامع الكلم و اختصر لي الكلام اختصارا ] و اعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر و قد قال له بعض النحاة : إني أجد في كلام العرب تكرارا في قولهم : زيد قائم و إن زيدا قائم و إن زيدا لقائم و المعنى واحد فقال له : إن معانيها مختلفة فالأول : لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد و الثاني : لمن سمعه فتردد فيه و الثالث لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال و ما زالت هذه البلاغة و البيان ديدن العرب و مذهبهم لهذا العهد و لا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت و أن اللسان العربي فسد اعتبارا بما وقع في أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه و هي مقالة دسها التشيع في طباعهم و ألقاها القصور في أفئدتهم و إلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى و التعبير عن المقاصد و التعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد و أساليب اللسان و فنونه من النظم و النثر موجودة في مخاطباتهم و فهم الخطيب المصقع في محافلهم و مجامعهم و الشاعر المفلق على أساليب لغتهم و الذوق الصحيح و الطبع السليم شاهدان بذلك و لم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة و مهيما معروفا و هو الإعراب و هو بعض من أحكام اللسان و إنما وقعت العناية بلسان مضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق و الشام و مصر و المغرب و صارت ملكته على غير الصورة التى كانت أولا فانقلب لغة أخرى و كان القرآن منزلا به و الحديث النبوي منقولا بلغته و هما أصلا الدين و الملة فخشي تناسيهما و انغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي نزلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه و وضع مقاييسه و استباط قوانينه و صار علما ذا فصول و أبواب و مقدمات و مسائل سماه أهله بعلم النحو و صناعة العربية فأصبح فنا محفوظا و علما مكتوبا و سلما إلى فهم كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم وافيا و لعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد و استقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موخودة فيه تكون بها قوانين تخصها و لعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر فليست اللغات و ملكاتها مجانا و لقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة و تغير عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري و تصاريف كلماته تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافا لمن يحمله القصور على أنها لغة واحدة و يلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية و قوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللسان الحميري أنه من القول و كثير من أشباه هذا و ليس ذلك بصحيح و لغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها و تصاريفها و حركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهفدنا مع لغة مضر إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط و الاستقراء و ليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك و يدعونا إليه و مما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربية أنه من أقصى اللسان و ما فوقه من الحنك الأعلى و ما ينطقون بها أيضا من مخرج الكاف و إن كان أسفل من موضع القاف و ما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف و القاف و هو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم و الأجيال مختصا بهم لا يشاركهم فيها غيرهم حتى إن من يريد التقرب و الانتساب إلى الجيل و الدخول فيه يحاكيهم في النطق بها و عندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف و يظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها فإن هذا الجيل الباقين معظمهم و رؤساؤهم شرقا و غربا في ولد منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور و من بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور و هم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور و أغلبهم و هم من أعقاب مضر و سائر الجيل معهم من بني كهلان في النطق بهذه القاف أسوة و هذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة و يظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين و لعلها لغة النبي صلى الله عليه و سلم بعينها قد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت و زعموا أن من قرأ في أم القرآن { اهدنا الصراط المستقيم } بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن و أفسد صلاته و لم أدر من أين جاء هذا ؟ فإن لغة أهل الأمصار أيضا لم يستحدثوها و إنما تناقلوها من لدن سلفهم و كان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح و أهل الجيل أيضا لم يستحدثوها إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار فهذا يرجح فيما يوجد من اللغة لديهم أنه من لغة سلفهم هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقا و غربا في النطق بها و أنها الخاصية التي يتميز بها العربى من الهجين و الحضري و الظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج القاف عند أولهم من أهل اللغة و أن مخرج القاف متسع فأوله من أعلى الحنك و آخره مما يلي الكاف فالنطق بها من أعلى الحنك في لغة الأمصار و النطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي و بهذا يندفع ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم القرآن فإن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك و بعيد أن يكونوا أهملوا ذلك فوجهه ما قلناه نعم نقول إن الأرجح و الأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها فيهم كما قدمناه شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم و أنها لغة النبي صلى الله عليه و سلم و يرجح ذلك أيضا ادغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين و لو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك لما كانت قريبة المخرج من الكاف و لم تدغم ثم إن أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف و هي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد و جعلوها متوسطة بين مخرجي القاف و الكاف على أنها حرف مستقل و هو بعيد و الظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه ثم إنهم يصرحون باستهجانه و استقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول و فيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلا بعد جيل و أنها شعارهم الخاص بهم دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول و لغة النبي صلى الله عليه و سلم كما تقدم ذلك كله و قد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف و أنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم و إنهم ينطقون بها كذلك فليست من لغة العرب و لكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج فتفهم ذلك و الله الهادي المبين (1/766)
الفصل الثامن و الأربعون : في أن لغة أهل الحضر والأمصار لغة قائمة بنفسها للغة مضر
اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار و بين الحضر ليس بلغة مضر القديمة و لا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر و عن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا و هي عن لغة مضر أبعد فأنا إنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي يعد عند صناعة أهل النحو لحنا و هي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب و كذا أهل الأندلس عنهما و كل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده و الإبانة عما في نفسه و هذا معنى اللسان و اللغة و فقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا المهد و أما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه و هذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب و من الملكة الثانية التي للعجم فعلى مقدار ما يسمعونه من العجم و يربون عليه يبعون عن الملكة الأولى و اعتبر ذلك في أمصار أفريقية و المغرب والأندلس و المشرق أما أفريقية و المغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجم بوفور عمرانها بهم و لم يكد يخلو عنهم مضر و لا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم و صارت لغة أخرى ممتزجة و العجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهي عن اللسان الأول أبعد و كذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس و الترك فخالطوهم و تداولت بينهم لغاتهم في الأكرة و الفلاحين و السبي الذين اتخذوا خولا و دايات و أظآرا و مراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى و كذا أهل الأندلس مع عجم الحلالقة و الإفرنجة و صار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر و يخالف أيضا بعضهم بعضا كما نذكره و كأنه لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم و الله يخلق ما يشاء و يقدر (1/770)
الفصل التاسع و الأربعون في تعليم اللسان المضري
اعلم أن ملكة اللسان المضري لهذا العهد قد ذهبت و فسدت و لغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن و إنما هي لغة أخرى من امتزاح العجمة بها كما قدمناه إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكنا شأن سائر الملكات و وجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة و يروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن و الحديث و كلام السلف و مخاطبات فحول العرب في أسجاعهم و أشعارهم و كلمات المولدين أيضا في سائر فنونهم حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم و المنثور منزلة من نشأ بينهم و لقن العبارة عن المقاصد منهم ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حساب عباراتهم و تأليف كلماتهم و ما وعاه و حفظه من أساليبهم و ترتيب ألفاظهم فتحثل له هذه الملكة بهذا الحفظ و الاستعمال و يزداد بكثرتهما رسوخا و قوة و يحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع و التفهم الحسن لمنازع العرب و أسليبهم في التراكيب و مراعاة التطبيق بينهما و بين مقتضيات الأحوال و الذوق يشهد بذلك و هو ينشأ ما بين هذه الملكة و الطبع السليم فيهما كما نذكر و على قدر المحفوظ و كثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظما و نثرا و من حصل على هذه الملكات فقد حصل على لغة مضر و هو الناقد البصير بالبلاغة فيها و هكذا ينبغي أن يكون تعلمها و الله يهدي من يشاء بفضله و كرمه (1/771)
الفصل الخمسون : في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية و مستغنية عنها في التعليم
و السبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة و مقاييسها خاصة فهو علم بكيفية لا نفس كيفية فليست نفس الملكة و إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما ولا يحكمها عملا مثل أن يقول بصير بالخياطة غير محكم لملكتها في التعبير عن بعض أنواعها الخياطة هي أن يدخل الخيط في خرت الإبرة ثم يغرزها في لفقي الثوب مجتمعين و يخرجها من الجانب الآخر بمقدار كذا ثم يردها إلى حيث ابتدأت ويخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين ثم يتمادى على ذلك إلى آخر العمل و يعطي صورة الحبك و التثبيت و التفتيح و سائر أنواع الخياطة و أعمالها و هو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئا و كذا لو سئل عامل بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول : هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه و آخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر و تتعاقبانه بينكما و أطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة و جائية إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة و هو لو طولب بهذا العمل أو شيء منه لم يحكمه و هكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل و ليس هو نفس العمل و لذلك نجد كثيرا من جهابذة النحاة و المهرة في صناعة العربية المحيطين علما بتلك القوانين إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو ذوي مودته أو شكوى ظلامه أو قصد من قصوده أخطأ فيها عن الصواب و أكثر من اللحن ولم يجد تأليف الكلام لذلك و العبارة عن المقصود على أساليب اللسان العربي و كذا نجد كثيرا ممن يحسن هذه الملكة ويجيد التفنن في المنظوم و المنثور و هو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول و لا المرفوع من المجرور و لا شيئا من قوانين صناعة العربية
فمن هذا تعلم أن الملكة هي غير صناعة العربية و إنها مستغنية عنها بالجملة و قد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيرا بحال هذه الملكة و هو قليل و اتفاقي و أكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبوبه فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط بل ملأ كتابه من أمثال العرب و شواهد أشعارهم و عباراتهم فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة فتجد العاكف عليه و المحصل له قد حصل على خط من كلام العرب و اندرج في محفوظه في أماكنه و مفاصل حاجاته و تنبه به لشأن الملكة فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة و من هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه يغفل عن التفطن لهذا فيحصل على علم اللسان صناعة و لا يحصل عليه ملكة و أما المخالطون لكتب المتأخرين العارية عن ذلك إلا من القوانين النحوية مجردة عن أشعار العرب و كلامهم فقل ما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو ينتبهون لشأنها فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب و هم أبعد الناس عنه و أهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة و تعليمها من سواهم لقيامهم فيها على شواهد العرب و أمثالهم و التفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم فيسبق إلى المبتدئ كثير من الملكة أثناء التعليم فتنقطع النفس لها و تستعد إلى تحصيلها و قبولها و أما من سواهم من أهل المغرب و أفريقية و غيرهم فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثا و قطعوا النظر في التفقه في كلام العرب إلا أن أعربوا شاهدا أو رجحوا مذهبا من جهة الإقتضاء الذهني لا من جهة محامل اللسان و تراكيبه فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل و بعدت عن مناحي اللسان و ملكته و أفاد ذلك حملتها في الأمصار و آفاقها البعد عن الملكة في الكلية و كأنهم لا ينظرون في كلام العرب و ما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان و تراكيبه و تمييز أساليبه و غفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم فهو أحسن ما تفيد الملكة في اللسان و تلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم لكنهم أجروها على غير ما قصد بها و أصاروها علما بحتا و بعدوا عن ثمرتها و تعلم مما قررناه في هذا الباب أن حصول ملكة اللسن العربي إنما هو بكثرة المحفظ من كلام العرب حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هو عليه و يتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم و خالط عباراتهم في كلامهم حتى حصلت له الملكة المستقرة ف يالعبارة عن المقاصد على نحو كلامهم و الله مقد الأمور كلها و الله أعلم بالغيب (1/772)
الفصل الواحد و الخمسون : في تفسر الذوق في مصطلح أهل البيان و تحقيق معناه و بيان أنه لا يحصل للمستعربين من العجم
اعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان و معناها حصول ملكة البلاغة للسان و قد مر تفسير البلاغة و أنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك فالمتكلم بلسان العرب و البليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك على أساليب العرب و أنحاء مخاطباتهم و ينظم الكلام على ذلك الوجه جهده فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه و سهل عليه أمر التركيب حيث لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب و إن سمع تركيبا غير جار على ذلك المنحى مجه و نبا عنه سمعه بأدنى فكر بل و بغير فكر إلا بما استفاد من حصول هذه الملكة فإن الملكات إذا استقرت و رسخت في محالها ظهرت كأنها طبيعة و جبلة لذلك المحل و لذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات أن الصواب للعرب في لغتهم إعرابا و بلاغة أمر طبيعي و يقول كانت العرب تنطق بالطبع و ليس كذلك و إنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت و رسخت فظهرت في بادئ الرأي أنها جبلة و طبع و هذه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب و تكرره على السمع و التفطن لخواص تراكيبه و ليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة اللسان فإن هذه القوانين إنما تفيد علما بذلك اللسان و لا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها و قد مر ذلك و إذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم و حسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم و نظم كلامهم و لو رام صاحب هذه الملكة حيدا عن هذه السبل المعينة و التراكيب المخصوصة لما قدر عليه و لا وافقه عليه لسانه لأنه لا يعتاده و لا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده و إذا عرض عليه الكلام حائدا عن أسلوب العرب و بلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه و مجه و علم أنة ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم و ربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنه أهل القوانين النحوية و البيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء و هذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم و مثاله : لو فرضنا صبيا من صبيانهم نشأ و ربى في جيلهم فإنه يتعلم لغتهم و يحكم شأن الإعراب و البلاغة فيها حتى يستولي على غايتها و ليس من العلم القانوني في شيء و إنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه و نطقه و كذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل بحفظ كلامهم و أشعارهم و خطبهم و المداومة على ذلك بحيث يحصل الملكة و يصير كواحد ممن نشأ في جيلهم و ربى بين أجيالهم و القوانين بمعزل عن هذا و استعير لهذه الملكة عندما ترسخ و تستقر اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان و الذوق و إنما هو موضوع لإدراك الطعوم لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان من حيث النطق بالكلام كما هو محل لإدراك الطعوم استعير لها اسمه و أيضا فهو وجداني اللسان كما أن الطعوم محسوسة له فقيل له ذوق و إذا تبين لك ذلك علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله كالفرس و الروم و الترك بالمشرق و كالبربر بالمغرب فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر و سبق ملكة أخرى إلى اللسان و هي لغاتهم أن يعتنوا بما يتداوله أهل مصر بينهم في المحاورة من مفرد و مركب لما يضطرون إليه من ذلك و هذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار و بعدوا عنها كما تقدم و إنما لهم في ذلك ملكة أخرى و ليست هي ملكة اللسان المطلوبة و من عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب فليس من تحصيل الملكة في شيء إنما حصل أحكامها كما عرفت و إنما تحصل هذه الملكة بالممارسة و الاعتياد و التكرر لكلام العرب فإن عرض لك ما تسمعة من أن سيبويه و الفارسي و الزمخشري و أمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاما مع حصول هذه الملكة لهم فاعلم أن أولئك القوم الذين تسمع عنهم إنما كانوا عجما في نسبهم فقط و أما المربى و النشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب و من تعلمها منهم فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا شيء وراءها و كأنهم في أول نشأتهم من العرب الذين نشأوا في أجيالهم حتى أدركوا كنه اللغة و صاروا من أهلها فهم و إن كانوا عجما في النسب فليسوا بأعجام في اللغة و الكلام لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها و اللغة في شبابها و لم تذهب أثار الملكة و لا من أهل الأمصار ثم عكفوا على الممارسة و المدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته و اليوم الواحد من العجم إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار و يجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي ثم إذا فرضنا أنة أقبل على الممارسة لكلام العرب و أشعارهم بالمدارسة و الحفظ يستفيد تحصيلها فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة و إن فرضنا أعجميا في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية و ذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ و المدارسة فربما يحصل له ذلك لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر و ربما يدعى كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها و هو غلط أو مغالطة و إنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية و ليست من ملكة العبارة في شيء و الله يهدي من يشاء إلى طريق مستقيم (1/775)
الفصل الثاني و الخمسون : في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم و من كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب و أعسر
و السبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلم من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادته العجمة حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد و لهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان و تعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم و ليس كذلك و إنما هي بتهليم هذه الملكة بمخالطة اللسان و كلام العرب نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك و ما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة و أنعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المضرية و حصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ و اعتبر ذلك في أهل الأمصار فأهل أفريقية و المغرب لما كانوا أعرق في العجمة و أبعد عن اللسان الأول كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم و لقد نقل ابن الرفيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له : يا أخي و من لا عدمت فقده أعلمني أبو سعيد كلاما أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي و عاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج و أما أهل المنزل الكلاب من أمر الشين فقد كذبوا هذا باطلا ليس من هذا حرفا واحدا و كتابي إليك و أنا مشتاق إليك إن شاء الله و هكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري شبية بما ذكرنا و كذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة و لم تزل كذلك لهذا العهد و لهذا ما كان بأفريقية من مشاهير الشعراء إلا ابن رشيق و ابن شرف و أكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها و لم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور و أهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة بكثرة معاناتهم و امتلائهم من المحفوظات اللغوية نظما و نثرا و كان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة و رافع الراية لهم فيها و ابن عبد ربه و السقطلي و أمثالهم من شعراء ملوك الطوائف لما زخرت فيها بحار اللسان و الأدب و تداول ذلك فيهم مئين من السنين حتى كان الانفضاض و الجلاء أيام تغلب النصرانية و شغلوا عن تعلم ذلك و تناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض و كان من آخرهم صالح بن شريف و مالك بن مرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة و كتاب دولة بني الأحمر في أولها و ألقت الأندلس أفلاذ كبدها من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة لعدوة الإشبيلية إلى سبته و من شرقي الأندلس إلى أفريقية و لم يلبثوا إلى أن انقرضوا و انقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة لعسر قبول العدوة لها و صعوبتها عليهم بعوج ألسنتهم و رسوخهم في العجمة البربرية و هي منافية لما قلناه ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلسس كما كانت و نجم بها ابن بشرين و ابن جابر و ابن الجياب و طبقتهم ثم إبراهيم الساحلي الطريحي و طبقته و قفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيدا بسعاية أعدائه و كان له في اللسان ملكة لا تدرك و اتبع أثره تلميذه من بعده و بالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر و تعليمها أيسر و أسهل بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناه من معاناة علوم اللسان و محافظتهم عليها و على علوم الأدب و سند تعليمها و لأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم و ليست عجمتهم أصلا للغة أهل الأندلس و البربر في هذه العدوة و هم أهلها و لسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط و هم منغمسون في بحر عجمتهم و رطانتهم البربرية فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الأندلس و اعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية و العباسية فكان شأنهم شأن أهل الأندلس في تمام هذه الملكة و إجادتها لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم و مخالطتهم إلا في القليل فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم و كان فحول الشعراء و الكتاب أوفر لتوفر العرب و أبنائهم بالمشرق و انظز ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم و نثرهم فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب و ديوانهم و فيه لغتهم و أخبارهم و أيامهم و ملتهم العربية وسيرتهم و آثار خلفائهم و ملوكهم و أشعارهم و غناوهم و سائر معانيهم له فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب و بقي أمر هذه الملكة مستحكما في المشرق في الدولتين و ربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد حتى تلاشى أمر العرب و درست لغتهم و فسد كلامهم و انقضى أثرهم و دولتهم و صار الأمر للأعاجم و الملك في أيديهم و التغلب لهم و ذلك في دولة الديلم و السلجوقية و خالطوا أهل الأمصار و كثروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم واستولت العجمة على أهل الأمصار و الحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي و ملكته و صار متعلمها منهم مقصرا عن تحصيلها و على ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم و المنثور و إن كانوا مكثرين منه و الله يخلق ما يشاء و يختار و الله سبحانه و تعالى أعلم و به التوفيق لا رب سواه (1/778)
الفصل الثالث و الخمسون : في انقسام الكلام إلى فني النظم و النثر
اعلم أن لسان العرب و كلامهم على فنين في الشعر المنظوم و هو الكلام الموزون المقفى و معناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد و هو القافية و في النثر و هو الكلام غير الموزون و كل واحد من الفنين يشتمل على فنون و مذاهب في الكلام فأما الشعر فمنه المدح و الهجاء و الرثاء و أما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعا و يلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة تسمى سجعا و منه المرسل و هو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا و لا يقطع أجزاء بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية و لا غيرها و يستعمل قي الخطب و الدعاء و ترغيب الجمهور و ترهيبهم و أما القرآن و إن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين و ليس يسمى مرسلا مطلقا و لا مسجعا بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها و يثنى من غير التزام حرف يكون سجعا و لا قافية و هو معنى قوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } و قال : { قد فصلنا الآيات } و يسمى آخر الآيات منها فواصل إذ ليست أسجاعا و لا التزم فيها ما يلتزم في السجع و لا هي أيضا قواف و أطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه و اختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا و لهذا سميت السبع المثاني و انظر هذا مع ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني يشهد لك الحق برجحان ما قلناه و اعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله و لا تصلح للفن الآخر و لا تستعمل فيه مثل النسيب المختص بالشعر و الحمد و الدعاء المختص بالخطب و الدعاء المختص بالمخاطبات و أمثال ذلك و قد استعمل المتأخرون أساليب الشعر و موازينه في المنثور من كثرة الأشجاع و التزام التقفية و تقديم النسيب بين يدي الأغراض و صار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر و فنه و لم يفترقا إلا في الوزن و استمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة و استعملوها في المخاطبات السلطانية و قصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه و خلطوا الأساليب فيه و هجروا المرسل و تناسوه و خصوصا أهل المشرق و صارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه و هو غير صواب من جهة البلاغة لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال من أحوال المخاطب و المخاطب و هذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه إذ أساليب الشعر تنافيها اللوذعية و خلط الجد بالهزل و الإطناب في الأوصاف و ضرب الأمثال و كثرة التشبيهات و الاستعارات حيث لا تدعو ضرورة إلى ذلك في الخطاب و التزام التقفية أيضا من اللوذعة و التزيين و جلال الملك و السلطان و خطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب و الترهيب تنافي ذلك و يباينة و المحمود في المخاطبات السلطانية الترسل و هو إطلاق الكلام و إرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر و حيث ترسله الملكة إرسالا من غير تكلف له ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فإن المقامات مختلفة و لكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة أو كناية و استعارة و أما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم و ما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم و قصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة و انفساح خطوبه و ولعوا بهذا المسجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود و مقتضى الحال فيه و يجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع و الألقاب البديعة و يغفلون عما سوى ذلك و أكثر من أخذ بهذا الفن و بالغ فيه في سائر أنحاه كلامهم كتاب المشرق و شعراؤه لهذا العهد حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات و التصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس و يدعون الإعراب و يفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس فتأفل ذلك بما قدمناه لك تقف على صحة ما ذكرناه و الله الموفق للصواب بمنه و كرمه و الله تعالى أعلم (1/718)
الفصل الرابع و الخمسون : في أنه لا تتفق الإجادة في فني المنظوم و المنثور معا إلا للأقل
و السبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان فإذا تسبقت إلى محله ملكة أخرى قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة لأن تمام الملكات و حصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل و أيسر و إذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المادة القابلة و عالقة عن سرعة القبول فوقعت المنافاة و تعذر التمام في الملكة و هذا موجود به في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق و قد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان فاعتبر مثله في اللغات فإنها ملكات اللسان و هي بمنزلة الصناعة و انظر من تقدم له شيء من العجمة كيف يكون قاصرا في اللسان العربي أبدا فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي و لا يزال قاصرا فيه و لو تعلمه و علمه و كذا البربري و الرومي و الإفرنجي قل أن تجد أحدا منهم محكما لملكة اللسان العربي و ما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي جاء مقصرا في معارفه عن الغاية و التحصيل و ما أوتي إلا من قبل اللسان و قد تقدم لك من قبل أن الألسن و اللغات شبيهة بالصنائع و قد تقدم لك أن الصنائع و ملكاتها لا تزدحم و أن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد في أخرى أو يستولي فيها على الغاية و الله خلقكم و ما تعملون (1/783)
الفصل الخامس و الخمسون : في صناعة الشعر و وجه تعلمه
هذا الفن من فنون كلام العرب و هو المسمى بالشعر عندهم و يوجد في سائر اللغات إلا أننا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب فإن أمكن أن تجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم و إلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه و هو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى إذ هو كلام مفصل قطعا قطعا متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة و تسمى كل قطعين من هذه القطعات عندهم بيتا و يسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رويا و قافية و يسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة و كلمة و ينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه حتى كأنه كلام وحده مستقل عما قبله و ما بعده و إذا أفرد كان تاما في بابه في مدح أؤ تشبيب أو رثاء فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته ثم يستأنف في البيت الآخر كلاما آخر كذلك و يستطرد للخروج من فن إلى فن و من مقصود إلى مقصود بأن يوطئ المقصود الأول و معانيه إلى أن يناسب المقصود الثاني و يبعد الكلام عن التنافر كما يستطرد من التشبيب إلى المدح و من وصف البيداء و الطلول إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف و من وصف الممدوح إلى وصف قومه و عساكره و من التفجع و العزاء في الرثاء إلى التأثر و أمثال ذلك و يراعي فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد حذرا من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس و لهذه الموازين شروط و أحكام تضمنها علم العروض و ليس كل وزن يتفق في الطبع استعملته العرب في هذا الفن و إنما هي أوزان مخصوصة تسميها أهل تلك الصناعة البحور و قد حصروها في خمسة عشر بحرا بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظما و اعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفا عند العرب و لذلك جعلوه ديوان علومهم و أخبارهم و شاهد صوابهم و خطئهم و أصلا يرجعون إليه في الكثير من علومهم و حكمهم و كانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات كلها و الملكات اللسانية كلما إنما تكسب بالصناعة و الارتياض في كلامهم حتى يحصل شبة في تلك الملكة و الشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده و يصلح أن ينفرد دون ما سواه فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب و يبرز مستقلا بنفسه ثم يأتى ببيت آخر كذلك ثم ببيت آخر و يستكمل الفنون الوافية بمقصوده ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التى في القصيدة و لصعوبة منحاه و غرابة فنه كان محكا للقرائح في استجادة أساليبه و شحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه و لا يكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف و محاولة في رعاية الأساليب التي اختصته العرب بها و استعمالها فيه لنذكر هنا سلوك الأسلوب عند أهل هذه الصناعة و ما يريدون بها في إطلاقهم فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي ينسج فيه التراكيب أو القالب الذي يفرغ به و لا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته أصل المعنى الذي هو وظيفة الإعراب و لا باعتبار إفادته كمال المعنى من خواص التراكيب الذي هو و ظيفة البلاغة و البيان و لا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية و إنما يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص و تلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب و أشخاصها و يصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب و البيان فيرصها فيه رصا كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام و يقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه فإن لكل فن من الكلام أساليب تختص به و توجد فيه على أنحاء مختلفة فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله : يا دار مية بالعلياء فالسند و يكون باستدعاء الصحب للوقوف و السؤال كقوله : قفا نسأل الدار التي خف أهلها أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله : قفا نبك من في ذكرى حبيب و منزل أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله : ألم تسأل فتخبرك الرسوم و مثل تحية الطلول بالأمر لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله : حي الديار بجانب الغزل أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله :
( أسقى طلولهم أجش هزيم ... و غدت عليهم نضرة و نعيم )
أو سؤاله السقيا لها من البرق كقوله :
( يا برق طالع منزلا بالأبرق ... واحد السحاب لها حداء الأينق )
أو مثل التفجع في الجزع باستدعاء البكاء كقوله :
( كذا فليجل الخطب و ليفدح الأمر ... و ليس لعين لم يفض ماؤها عذر )
أو باستعظام الحادث كقوله : أرأيت من حملوا على الأعواد أرأيت كيف خبا ضياء النادي أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله :
( منابت العشب لا حام و لا راع ... مضى الردى بطويل الرمح و الباع )
أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية :
( أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف )
أو بتهيئة فريقه بالراحة من ثقل وطأته كقوله :
( ألقى الرماح ربيعة بن نزار ... أودى الردى بفريقك المغوار )
و أمثال ذلك كثير من سائر فنون الكلام و مذاهبه و تنتظم التراكيب فيه بالجمل و غير الجمل إنشائية و خبرية إسمية و فعلية متفقة مفصولة و موصولة على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي في مكان كل كلمة من الأخرى يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب من القالب الكلي المجرد في الذهن من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج و الصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبنى فيه أو المنوال الذي ينسج عليه فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن المنوال في نسجه كان فاسدا و لا تقولن إن معرفة قوانين البلاغة كافية لذلك لأنا نقول قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية تفيد جواز استعمال التراكيب على هيئتها الخاصة بالقياس و هو قياس علمي صحيح مطرد كما هو قياس القوانين الإعرابية و هذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب لجريانها على اللسان حتى تستحكم صورتها فيستفيد بها العمل على مثالها و الاحتذاء بها في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق و إن القوانين العلمية من العربية و البيان لا يفيد تعليمه بوجه و ليس كل ما يصح في قياس كلام العرب و قوانينه العلمية استعملوه و إنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون لكلامهم تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو و بهذه الأساليب الذهنية التي تصير كالقوالب كان نظرا في المستعمل من تراكيبهم لا فيما يقتضيه القياس و لهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن إنما هو حفظ أشعار العرب و كلامهم و هذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في المنثور فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين وجاؤوا به مفصلا في النوعين ففي الشعر بالقطع الموزونة و القوافي المقيدة و استقلال الكلام في كل قطعين و في المنثور يعتبرون الموازنة و التشابه بين القطع غالبا و قد يقيدونه بالأسجاع و قد يرسلونه و كل واحد في من هذه معروفة في لسان العرب و المستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلف الكلام عليه تأليفه و لا يعرفه إلا من حفظ كلامهم حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف كما يحذو البناء على القالب و النساج على المنوال فلهذا كان من تآليف الكلام منفردا عن نظر النحوي و البياني و العروضي نعم إنه مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر لطيف في هذه القوالب التي يسمونها أساليب و لا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظما و نثرا و إذا تقرر معنى الأسلوب ما هو فلنذكر بعده حدا أو رسما للشعر به تفهم حقيقته على صعوبة هذا العرض فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه و قول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده و لا رسم له و صناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات و السواكن على التوالي و مماثلة عروض أبيات الشعر لضربها و ذلك نظر في وزن مجدد عن الألفاظ و دلالتها فناسب أن يكون حدا عندهم و نحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب و البلاغة و الوزن و القوالب الخاصة فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول : الشعر هو الكلام البليغ المبني على الإستعاره و الأوصاف المفضل بأجزاء متفقة في الوزن و الروي مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به فقولنا الكلام البليغ جنس و قولنا المبني على الاستعارة و الأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر و قولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن و الروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل و قولنا مستقل كل جزء منها في غرضه و مقصده عما قبله و بعده بيان للحقيقة لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك و لم يفصل به شيء و قولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة فإنه حينئذ لا يكون شعرا إنما هو كلام منظوم لأن الشعر له أساليب تخصه لا تكون للمنثور و كذا أساليب المنثور لا تكون للشعر فما كان من الكلام منظوما و ليس على تلك الأساليب فلا يكون شعرا و بهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي و المعري ليس هو من الشعر في شيء لأنهما لم يجريا على أساليب العرب فيه و قولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم عندما يرى أن الشعر يوجد للعرب و غيرهم و من يرى أنه لا يوجد لغيرهم فلا يحتاج إلى ذلك و يقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة و إذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول : اعلم أن لعمل الشعر و إحكام صناعته شروطا أولها : الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها و يتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب و هذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل ابن ربيعة و كثير و ذي الرمة و جرير و أبى نواس و حبيب و البحتري و الرضي و أبى فراس و أكثره شعر كتاب الأغاني لأنه جمع شعر أهل الطبقة الإسلامية كله و المختار من شعر الجاهلية و من كان خاليا من المحفوظ فنظمه قاصر رديء و لا يعطيه الرونق و الحلاوة إلا كثرة المحفوظ فمن قل حفظه أو عدم لم يكن له شعر و إنما هو نظم ساقط و اجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ ثم بعد الامتلاء من الحفظ و شحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم و بالإكثار منه تستحكم ملكته و ترسخ و ربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ لتمحى رسومه الحرفية الظاهرة إذ هي صادرة عن استعمالها بعينها فإذا نسيها و قد تكيفت النفس بها انتقش الأسلوب فيها كأنه منوال يؤخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخري ضرورة ثم لا بد له من الخلوة و استجادة المكان المنظور فيه من المياه و الأزهار و كذا المسموع لاستنارة القريحة باستجماعها و تنشيطها بملاذ السرور ثم مع هذا كله فشرطه أن يكون على جمام و نشاط فذلك أجمع له و أنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك المنوال الذي في حفظه قالوا : و خير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم و فراغ المعدة و نشاط الفكر و في هؤلاء الجمام و ربما قالوا إن من بواعثه العشق و الانتشاء ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة و هو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة و إعطاء حقها و لم يكتب فيها أحد قبله و لا بعده مثله قالوا : فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت أخر و لا يكره نفسه عليه و ليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه و نسجه بعضها و يبني الكلام عليها إلى آخره لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها فربما تجيء نافرة قلقة و إذا سمح الخاطر بالبيت و لم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به فإن كل بيت مستقل بنفسه و لم تبق إلا المناسبة فليتخير فيها كما يشاء و ليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح و النقد و لا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة فإن الإنسان مفتون بشعره إذ هو نبات فكره و اختراع قريحته و لا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب و الخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة و قد حظر أئمة اللسان المولد من ارتكاب الضرورة إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة و يجتنب أيضا المعقد من التراكيب جهده و إنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم و كذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم و إنما المختار منه ما كانت ألفاظه طبقا على معانيه أو أوفى منها فإن كانت المعاني كثيرة كان حشوا و استعمل الذهن بالغوص عليها فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة و لا يكون الشعر سهلا إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن و لهذا كان شيوخنا رحمهم الله يعيبون شعر أبى بكر بن خفاجة شاعر شرق الأندلس لكثرة معانيه و ازدحامها في البيت الواحد كما كانوا يعيبون شعر المتنبئ و المعري بعدم النسج على الأساليب العربية كما مر فكان شعرهما كلاما منظوما نازلا عن طبقة الشعر و الحاكم بذلك هو الذوق و ليجتنب الشاعر أيضا الحوشي من الألفاظ و المقصر و كذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة و كذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضا فيصير مبتذلا و يقرب من عدم الإفادة كقولهم : النار حارة و السماء فوقنا و بمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة إذ هما طرفان و لهذا كان الشعر في الربانيات و النبويات قليل الإجادة في الغالب و لا يحذق فيه إلا الفحول و في القليل على العشر لأن معانيها متداولة بين الجمهور فتصير مبتذلة لذلك و إذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه و يعاوده فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء و يجف بالترك و الإهمال و بالجملة فهذه الصناعة و تعلمها مستوفى في كتاب العمدة لابن رشيق و قد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد و من أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه البغية من ذلك و هذه نبذة كافية و الله المعين و قد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها و من أحسن ما قيل في ذلك و أظنه لابن رشيق :
( لعن الله صنعة الشعر ماذا ... من ضنوف الجهال منه لقينا )
( يؤثرون الغريب منه على ما ... كان سهلا للسامعين مبينا )
( ويرون المحال معنى صحيحا ... و خسيس الكلام شيئا ثمينا )
( يجهلون الصواب منه و لا يد ... رون للجهل أنهم يجهلونا )
( فهم عند من سوانا يلامو ... ن و في الحق عندنا يعذرونا )
( إنما الشعر ما يناسب في النظم ... و إن كان في الصفات فنونا )
( فأتى بعضه يشاكل بعضا ... وأقامت له الصدور المتونا )
( كل معنى أتاك منه على ما ... تتمنى و لم يكن أن يكونا )
( فتناهى من البيان إلى أن ... كاد حسنا يبين للناظرينا )
( فكأن الألفاظ منه وجوه ... و المعاني ركبن فيها عيونا )
( إنما في المرام حسب الأماني ... يتحلى بحسنه المنشدونا )
( فإذا ما مدحت بالشعر حرا ... رمت فيه مذاهب المشتهينا )
( فجعلت النسيب سهلا قريبا ... و جعلت المديح صدقا مبينا )
( و تنكبت ما يهجن في السمع ... و إن كان لفظه موزونا )
( و إذا ما عرضته بهجاء ... عبت فيه مذاهب المرقبينا )
( فجعلت التصريح منه دواء ... و جعلت التعريض داء دفينا )
( و إذا ما بكيت فيه على الغا ... دين يوما للبين و الظاعنينا )
( خلت دون الأسى و ذللت ما كا ... ن من الدعع في العيون مصونا )
( ثم إن كنت عاتبا جئت بالو ... عد وعيدا و بالصعوبة بينا )
( فتركت الذي عتبت عليه ... حذرا آمنا عزيزا مهينا )
( و أصح القريض ما قارب النظم ... و إن كان واضحا مستبينا )
( فإذا قيل أطمع الناس طرا ... و إذا ريم أعجز المعجزينا )
ومن ذلك أيضا قول بعضهم و هو الناشي :
( الشعر ما قومت ربع صدوره ... و شددت بالتهذيب أس متونه )
( و رأيت بالأطناب شعب صدوعه ... و فتحت بالايجاز عور عيونه )
( و جمعت بين قريبه و بعيده ... و جمعت بين مجمه و معينه )
( و إذا مدحت به جوادا ماجدا ... و قضيته بالشكر حق ديونه )
( أصفيته بتفتش و رضيته ... و خصصته بخطيره و ثمينه )
( فيكون جزلا في مساق صنوفه ... و يكون سهلا في اتفاق فنونه )
( و إذا بكيت به الديار و أهلها ... أجريت للمخزون ماء شؤونه )
( و إذا أردت كناية عن ريبة ... باينت بين ظهوره و بطونه )
( فجعلت سامعه يشوب شكوكه ... بثبوته و ظنونه بيقينه )
( و إذا عتبت على أخ في زلة ... أدمجت شدته له في لينه )
( فتركته مستانسأ بدماثة ... مستأمنا لوعوته و حزونه )
( و إذا نبذت إلى الذي علقتها ... إذ صارمتك بفاتنات شؤونه )
( تيمتها بلطيفه و رفيقه ... و شغفتها بخبيه و كمنه )
( و إذا اعتذرت لسقطة أسقطتها ... و أشكت بين مخيله و مبينه )
( فيحول ذنبك عند من يعتده ... عتبا عليه مطالبا بيمينه ) (1/784)
الفصل السادس و الخمسون : في أن صناعة النظم و النثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني
إعلم أن صناعة الكلام نظما و نثرا إنما هي في الألفاظ لا في المعاني إنما المعاني تبع لها و هي أصل فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم و النثر إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب ليكثر استعماله و جريه على لسانه حتى تستقر له الملكة في لسان مضر و يتخلص من العجمة التي ربي عليها في جبله و يفرض نفسه مثل وليد نشأ في جبل العرب و يلقن لغتهم كما يلقنها الصبي حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم و ذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تحصل شأن الملكات و الذي في اللسان و النطق إنما هو الألفاظ و أما المعاني فهي في الضمائر وأيضا فالمعاني موجودة عند كل واحد و في طوع كل فكر منها ما يشاء و يرضى فلا يحتاج إلى تكلف صناعة في تأليفها و تأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه و هو بمثابة القوالب للمعاني فكما أن الأواني التى يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب و الفضة و الصدف و الزجاج و الخزف و الماء واحد في نفسه و تختلف الجودة في الأواني المملؤة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء كذلك جودة اللغة و بلاغتها في الاستعمال تختلف بإختلاف طبقات الكلام في تأليفه باعتبار تطبيقه على المقاصد و المعاني واحدة في نفسها و إنما الجاهل بتأليف الكلام و أساليبه على مقتضى ملكة اللسان إذا حاول العبارة عن مقصوده و لم يحسن بمثابة المقعد الذي يروم النهوض و لا يستطيعه لفقدان القدرة عليه و الله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون (1/794)
الفصل السابع و الخمسون : في أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ و جودتها بجودة المحفوظ
قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ لمن يروم تعلم اللسان العربي و على قدر جودة المحفوظ و طبقته في جنسه و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانئ أو الشريف الرضي أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابئ تكون ملكته أجود و أعلى مقاما و رتبة في البلاغة ممن يحفظ شعر ابن سهل من المتأخرين أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد الأصبهاني لنزول طبقة هؤلاء عن أولئك يظهر ذلك للبصير الناقد صاجب الذوق و على مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الاستعمال من بعده ثم إجادة الملكة من بعدهما فبارتقاء المحفوظ في طبقته من الكلام ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها و تنمو قوى الملكة بتغذيتها و ذلك أن النفس و إن كانت في جبلتها واحدة بالنوع فهي تختلف في البشر بالقوة و الضعف في الإدراكات و اختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات و الملكات و الألوان التي تكيفها من خارج فبهذه يتم وجودها و تخرج من القوة إلى الفعل صورتها و الملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر و ملكة الكتابة بحفظ الأسجاع و الترسيل و العلمية بمخالطة العلوم و الإدراكات و الأبحاث و الأنظار و الفقهية بمخالطة الفقه و تنظير المسائل و تفريعها و تخريج الفروع على الأصول والتصوفية الربانية بالعبادات و الأذكار و تعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة و الانفراد عن الخلق ما استطاع حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن و روحه و ينقلب ربانيا و كذا سائرها و للنفس في كل واحد منها لون تتكيف به و على حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام و بهذا كان الفقهاء و أهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة و ما ذلك إلا لما سبق إلى محفوظهم و يمتلئ به من القوانين العلمية و العبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة و النازلة عن الطبقة لأن العبارات عن القوانين و العلوم لا حظ لها في البلاغة فإذا سبق ذلك المخفوظ إلى الفكر و كثر و تلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور و انحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم و هكذا نجد شعر الفقهاء و النحاة و المتكلمين و النظار و غيرهم ممن لم يمتلئ من حفظ النقي الحر من كلام العرب أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال : ذكرت يوما صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن و كان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي و لم أنسبها له و هو هذا :
( لم أذر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها و البالي )
فقال لي على البديهة : هذا شعر فقيه فقلت له : و من أين لك ذلك فقال : من قوله ما الفرق ؟ إذ هي من عبارات الفقهاء و ليست من أساليب كلام العرب فقلت له : لله أبوك إنه ابن النحوي و أما الكتاب و الشعراء فليسوا كذلك لتخيرهم في محفوظهم و مخالطتهم كلام العرب و أساليبهم في الترسل و انتقائهم لهم الجيد من الكلام ذاكرت يوما صاحبنا أبا عند الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر و كان الصدر المقدم في الشعر و الكتابة فقلت له : أجد استصعابا علي في نظم الشعر متى رمته مع بصري به و حفظي للجيد من الكلام من القرآن و الحديث و فنون من كلام العرب و إن كان محفوظي قليلا و إنما أتيت و الله أعلم بحقيقة الحال من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية و القوانين التألفية فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى و الصغرى في القراءات في الرسم و استظهرتهما و تدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه و الأصول و جمل الخونجى في المنطق و بعض كتاب التسهيل و كثيرا من قوانين التعليم في المجالس فامتلأ محفوظي من ذلك و خدش وجه الملكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن و الحديث و كلام العرب تعاق القريحة عن بلوغها فنظر إلي ساعة معجبا ثم قال : لله أنت و هل يقول هذا إلا مثلك ؟ و يظهر لك من هذا الفصل و ما تقرر فيه سر آخر و هو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة و أذواقها من كلام الجاهلية في منثورهم و منظومهم فإنا نجد شعر حسان بن ثابت و عمر بن أ بي ربيعة و الحطيئة و جرير و الفرزدق و نصيب و غيلان ذي الرمة و الأحوص و بشار ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية و صدرا من الدولة العباسية في خطبهم و ترسيلهم و محاوراتهم للملوك أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة و عنترة و ابن كلثوم و زهير و علقمة بن عبدة و طرفة بن العبد و من كلام الجاهلية في منثورهم و محاوراتهم و الطبع السليم و الذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة و السبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن و الحديث اللذين عجز البشر في الإتيان بمثليهما لكونها ولجت في قلوبهم و نشأت على أساليبها نفوسهم فنهضت طباعهم و ارتقت ملكاتهم في البلاغة على ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية ممن لم يسمع هذه الطبقة و لا نشأ عليها فكان كلامهم في نظمهم و نثرهم أحسن ديباجة و أصفى رونقا من أولئك و أرصف مبنى و أعدل تثقيفا بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة و تأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق و البصر بالبلاغة و لقد سألت يوما شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا و كان شيخ هذه الصناعة أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين و استبحر في علم اللسان و جاء من وراء الغاية فيه فسألته يوما ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين ؟ و لم يكن ليستنكر ذلك بذوقه فسكت طويلا ثم قال لي : و الله ما أدري فقلت : أعرض عليك شيئا ظهر لي في ذلك و لعله السبب فيه و ذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجبا ثم قال لي : يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب و كان من بعدها يؤثر محلي و يصيخ في مجالس التعليم إلى قولي و يشهد لي بالنباهة في العلوم و الله خلق الإنسان و علمه البيان (1/796)
الفصل الثامن و الخمسون : في بيان المطبوع من الكلام و المصنوع و كيف جودة المصنوع أو قصوره
إعلم أن الكلام الذي هو العبارة و الخطاب إنما سره و روحه في إفادة المعنى و أما إذا كان مهملا فهو كالموات الذي لا عبرة به و كمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال و معرفة الشروط و الأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال هو فن البلاغة و تلك الشروط و الأحكام للتراكيب في المطابقة اسقريت من لغة العرب و صارت كالقوانين فالتراكيب بوضعها تفيد الاسناد بين المسندين بشروط و أحكام هي جل قوانين العربية و أحوال هذه التراكيب من تقديم و تأخير و تعريف و تنكير و إضمار و إظهار و تقييد و إطلاق و غيرها يفيد الأحكام المكتنفة من خارج بالإسناد و بالمتخاطبين حال التخاطب بشروط و أحكام هي قوانين لفن يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة فتندج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد و ما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصرا عن المطابقة لمقتضى الحال و لحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات
ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات لأن التركيب يدل بالوضع على معنى ثم ينقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه فيكون فيها مجازا : إما باستعارة أو كناية كما هو مقرر في موضعه و يحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة و أشد لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله و الظفر من أسباب اللذة كما علمت ثم لهذه الانتقالات أيضا شروط و أحكام كالقوانين صيروها صناعة و سموها بالبيان و هي شقيقة علم المعانى المفيد لمقتضى الحال لأنها راجعة إلى معاني التراكيب و مدلولاتها و قوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب أنفسها من حيث الدلالة و اللفظ و المعنى متلازمان متضايقان كما علمت فإذا علم المعاني و علم البيان هما جزء البلاغة و بهما كمال الإفادة فهو مقصر عن البلاغة و يلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم و أجدر به أن لا يكون عربيا لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي و سجيته و روحه و طبيعته
ثم اعلم أنهم إذا قالوا : الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طييعته و سجيته من إفادة مدلوله المقصود منه لأنه عبارة و خطاب ليس المقصود منه النطق فقط بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة و يدل به عليه دلالة وثيقة ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين و التزيين بعد كمال الإفادة و كأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع و الموازنة بين حمل الكلام و تقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام و التورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه و المطابقة بين المتضادات ليقع التجانس بين الألفاظ و المعاني فيحصل للكلام رونق و لذة في الأسماع و حلاوة و جمال كلها زائدة على الإفادة
و هذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضيع متعددة مثل : { والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى } و مثل : { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى } إلى آخر التقسيم في الآية و كذا : { فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا } إلى آخر الآية و كذا : { هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } و أمثاله كثير و ذلك بعد كمال الإفادة في أصبل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها و كذا وقع في كلام الجاهلية منه لكن عفوا من غير قصد ولا تعمد و يقال إنه وقع في شعر زهير
و أما الإسلاميون فوقع لهم عفوا و قصدا و أتوا منه بالعجائب و أول من أحكم طريقته حبيب بن أوس و البحتري و مسلم بن الوليد فقد كانوا مولعين بالصنعه و يأتون منها بالعجب و قيل أن أول من ذهب إلى معاناتها بشاز بن برد و ابن هرمة و كانا آخر من يستشهد بشعره في اللسان العربي ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم و العتابي و منصور النميري و مسلم بن الوليد و أبو نواس و جاء على آثارهم حبيب و البحتري ثم ظهر ابن المعتز فختم على البدء و الصناعة أجمع و لنذكر مثالا من المطبوع الخالي من الصناعة مثل قول قيس بن ذريح :
( و أخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس في السر خاليا )
و قول كثير :
( و إني و تهيامي بعزة بعدما ... تخليت عما بيننا و تخليت )
( لكالمرتجي ظل الغمامة كلها ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت )
فتأمل هذا المطبوع الفقيد الصنعة ي أحكام تأليفه و ثقافة تركيبه فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسنا
و أما المصنوع فكثير من لدن بشار ثم حبيب و طبقتهما ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم و نسجوا على منوالهم و قد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها و اختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها و كثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة و أنها هي تعطى التحسين و الرونق و أما المتقدمون من أهل البديع فهي عندهم خارجة عن البلاغة و لذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها و هو رأي ابن رشيق قي كتاب العمدة له و أدباء الأندلس و ذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطا منها أن تقع من غير تكلف و لا اكتراث في ما يقصد منها و أما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلام من عيب الاستهجان لأن تكلفها و معاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام فتخل بالإفادة من أصلها و تذهب بالبلاغة رأسا و لا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات و هذا هو الغالب اليوم على أهل العصر و أصحاب الأذواق في البلاغة يسخرون من كلفهم بهذه الفنون و يعدون ذلك من القصور عن سواه و سمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي و كان من أهل البصر في اللسان و القريحة في ذوقه يقول إن من أشهى ما تقترحه على نفسي أن أشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره و قد عوقب بأشد العقوبة و نودي عليه يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة فيكلفون بها و يتناسون البلاغة ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها و أن تكون في بيتين أو ثلاثة من القصيد فتكفي في زينة الشعر و رونقه و الإكثار منها عيب قاله ابن رشيق و غيره و كان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي منفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول : هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها لأنها من محسنات الكلام و مزيناته فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد و الإثنين منها و يقبح بتعدادها و على نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية و الإسلام كان أولا مرسلا معتبر الموازنة بين جمله و تراكيبه شاهدة موازنته بفواصله من غير التزام سجع و لا اكتراث بصنعة حتى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه فتعاطى الصنعة و التقفيه و أتى بذلك بالعجب و عاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية و إنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة و البعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين و نسي عهد الترسيل و تشابهت السلطانيات و الإخوانيات و العربيات بالسوقيات و اختلط المرعى بالهمل و هذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة و التكليف قاصر عن الكلام المطبوع لقلة الإكتراث فيه بأصل البلاغة و الحاكم في ذلك الذوق و الله خلقكم و علمكم ما لم تكونوا تعلمون (1/799)
الفصل التاسع و الخمسون : في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر
اعلم أن الشعر كان ديوانا للعرب فيه علومهم و أخبارهم و حكمهم و كان رؤساء العرب منافسين فيه و كانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده و عرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن و أهل البصر لتمييز حوله حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام موضع حجهم و بيت أبيهم إبراهيم كما فعل امرؤ القيس ابن حجر و النابغة الذبياني و زهير بن أبى سلمى و عنترة بن شداد و طرفة بن العبد و علقمة بن عبدة و الأعشى و غيرهم من أصحاب المعلقات السبع فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها من كان له قدرة على ذلك بقومه و عصبته و مكانه في مضر على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام بما شغلهم من أمر الدين والنبؤة و الوحي و ما أدهشهم من أسلوب القرآن و نظمه فأخرسوا عن ذلك و سكتوا عن الخوض في النظم و النثر زمانا ثم استقر ذلك و أونس الرشد من الملة و لم ينزل الوحي في تحريم الشعر و حظره و سمعه النبي صلى الله عليه و سلم و أثاب عليه فرجعوا حينئذ إلى ديدنهم منه و كان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية و طبقة مرتفعة و كان كثيرا ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجبا به ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل و الدولة العزيزة و تقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها و يجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم و مكانهم من قومهم و يحرصون على استهداء أشعارهم يطلعون منها على الآثار و الأخبار و اللغة و شرف اللسان و العرب يطالبون ولدهم بحفظها و لم يزل هذا الشأن أيام بني أمية و صدرا من دولة بني العباس و انظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي في باب الشعر و الشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك و الرسوخ فيه و العناية بانتحاله و التبصر بجيد الكلام و رديئه و كثرة مخفوظه منه ثم جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم من أجل العجمة و تقصيرها باللسان و إنما تعلموه صناعة ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط لا سوى ذلك من الأغراض كما فعله حبيب و البحتري و المتنبئ و ابن هانئ و من بعدهم و هلم جرا فصار غرض الشعر في الأغلب إنما هو الكذب و الاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين كما ذكرناه آنفا و أنف منه لذلك أهل الهمم و المراتب من المتأخرين و تغير الحال و أصبح تعاطيه هجنة في الرئاسة و مذمة لأهل المناصب الكبيرة و الله مقلب الليل و النهار (1/803)
الفصل الستون : في أشعار العرب و أهل الأمصار لهذا العهد
اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط بل هو موجود في كل لغة سواء كانت عربية أو عجمية و قد كان في الفرس شعراء و في يونان كذلك و ذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق أوميروس الشاعر و أثنى عليه و كان في حمير أيضا شعراء متقدمون و لما فسد لسان مضر و لغتهم التي ذونت مقاييسها و قوانين إعرابها و فسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها و مازجها من العجمة فكانت تحيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة و في كثير من الموضوعات اللغوية و بناء الكلمات و كذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب و أكثر الأوضاع و التصاريف وخالفت أيضا لغة الجيل من العرب لهذا العهد و اختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق فلأهل الشرق و أمصاره لغة غير لغة أهل المغرب و أمصاره وتخالفهما أيضا لغة أهل الأندلس و أمصاره ثم لما كان الشعر موجودا بالطبع في أهل كل لسان لأن الموازين على نسبة واحدة في أعداد المتحركات و السواكن و تقابلها موجودة في طباع البشر فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة و هي لغة مضر الذين كانوا فحولة و فرسان ميدانه حسبما اشتهر بين أهل الخليقة بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين و الحضر أهل الأمصار يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله و رصف بنائه على مهيع كلامهم فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيعرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون و يأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر و أغراضه من النسيب و المدح و الرثاء و الهجاء و يستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام و ربما هجموا على المقصود لأول كلامهم و أكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات نسبة إلى الأصمعي راوية العرب في أشعارهم و أهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحورانى و القيسي و ربما يلحنون فيه ألحانا بسيطة لا على طريقة الصناعة الموسيقية ثم يغنون به و يسمون الغناء به باسم الحوراني نسبة إلى حوران من أطراف العراق و الشام و هي من منازل العرب البادية و مساكنهم إلى هذا العهد و لهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به معصبا على أربعة أجزاء يخالف آخرها الثلاثة في رويه و يلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة شبيها بالمربع و المخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين و لهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة و فيهم الفحول و المتأخرون و الكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد و خصوصا علم اللسان يستنكر صاحبها هذه الفنون التي لهم إذا سمعها و يمج نظمهم إذا أنشد و يعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها و فقدان الإعراب منها و هذا إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعة و ذوقه ببلاغتها إن كان سليما من الآفات في فطرته و نظره و إلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود و لمقتضى الحال من الوجود فيه سواء كان الرفع دالا على الفاعل و النصب دالا على المفعول أو بالعكس و إنما يدل على ذلك قرائن الكلام كما هو في لغتهم هذه فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة فإذا عرف اصطلاح في ملكة و اشتهر صحة الدلالة و إذا طابقت تلك الدلالة المقصود و مقتضى الحال صحت البلاغة و لا عبرة بقوانين النحاة في ذلك و أساليب الشعر و فنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر و يتميز عندهم الفاعل من المفعول و المبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب
فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجارية بنت سرحان و يذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب :
( قال الشريف ابن هاشم علي ... ترى كبدي حرى شكت من زفيرها )
( يغز للإعلام أين ما رأت خاطري ... يرد غلام البدو يلوي عصيرا )
( و ماذا شكاة الروح مما طرا لها ... عداة وزائع تلف الله خبيرها )
( يحس إن قطاع عامر ضميرها ... طوى و هند جافي ذكيرها )
( و عادت كما خوارة في يد غاسل ... على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها )
( تجابذوها اثنين و النزع بينهم ... على شوك لعه و البقايا جريرها )
( و باتت دموع العين ذارفات لشانها ... شبيه دوار السواني يديرها )
( تدارك منها النجم حذرا و زادها ... مرون يجي متراكبا من صبيرها )
( يصب من القيعان من جانب الصفا ... عيون و لجاز البرق في غزيرها )
( هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة ... ناضت من بغداد حتى فقيرها )
( و نادى المنادي بالرحيل و شدوا ... و عرج عاريها على مستعيرها )
( و شد لها الأدهم دياب بن غانم ... على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها )
( و قال لهم حسن بن سرحان غزبوا ... و سوقوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها )
( و يركض و بيده شهامه بالتسامح ... و باليمين لا يجدوا في مغيرها )
( غدرني زيان السيح من عابس ... و ما كان يرضى زين حمير و ميرها )
( غدرني و هو زعما صديقي و صاحبي ... و أناليه ما من درقتي ما يديرها )
( و رجع يقول لهم بلال بن هاشم ... بحرالبلادالعطشى ما بخيرها )
( حرام علي باب بغداد و أرضها ... داخل و لا عائد ركيره من نعيرها )
( تصدف روحي عن بلاد بن هاشم ... على الشمس أوحول الغظامن هجيرها )
( و باتت نيران العذارى قوادح ... يلوذ و بجرجان يشدوا أسيرها )
ومن قولهم في رثاء أمير زناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بأفريقية و أرض الزاب و رثاؤهم له على جهة التهكم :
( تقول فتاة الحي سعدى و هاضها ... لها في ظعون الباكرين عويل )
( أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفه ... خذ النعت مني لا تكون هبيل )
( تراه يعالي وادي ران و فوقه ... من الربط عيساوي بناه طويل )
( أراه يميل النور من شارع النقا ... به الواد شرقا و اليراع دليل )
( أيا لهف كبدي على الزناتي خليفه ... قد كان لأعقاب الجياد سليل )
( قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم ... جراحه كافواه المزاد تسيل )
( أيا جائزا مات الزناتي خليفه ... لاترحل إلا أن يريذ رحيل )
( ألا واش رحلنا ثلاثين مرة ... و عشرا و ستا في النهار قليل )
و من قولهم على لسان الشريف بن هاشم يذكر عتابا وقع بينه و بين ماضي بن مقرب :
( تبدى ماضي الجبار و قال لي ... أشكر ما نحنا عليك رضاش )
( أشكر أعد ما بقي ود بيننا ... و رانا عريب عربا لابسين نماش )
( نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا ... كما صادفت طعم الزباد طشاش )
( أشكر أعد إلى يزيد ملامه ... ليحدو و من عمر بلاده عاش )
( إن كان نبت الشوك يلقح بأرضكم ... هنا العرب ما زدنا لهن صياش )
و من قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب و غلبهم زناتة عليه :
( و أي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم ... و أي رجال ضاع قبلي جميلها )
( لقد كنت أنا وياه في زهو بيتنا ... عناني بحجة ماغباني دليلها )
( وعدت كأني شارب من مدامة ... من الخمر فهو ما قدر من يميلها )
( أو مثل شمطامات مظنون كبدها ... غريبا و هي مدوخه عن قبيلها )
( أتاها زمان السوء حتى تدوحت ... و هي بين عربا غافلا عن نزيلها )
( كذلك أنا مما لحاني من الوجى ... شاكي بكبد باديتها زعيلها )
( و أمرت قومي بالرحيل و بكروا ... و قووا و شداد الحوايا حميلها )
( قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنا ... و البدو ماترفع عمود يقيلها )
( نظل على حداب الثنايا نوازي ... يظل الجرى فوق النضا و نصيلها )
و من شعر يلطان بن مظفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح و أهل الرياسة فيهم يقولها و هو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك أفريقية من الموحدين :
( يقول و في بوح الدجا بعد وهنة ... حرام على أجفان عيني منامها )
( يا من لقلب حالف الوجد و الأسى ... و روح هيامي طال ما في سقامها )
( حجازية بدوية عربية ... عداوية و لها بعيد مرامها )
( مولعة بالبدو لا تألف القرى ... سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها )
( غيات و مشتاها بها كل شتوة ... ممحونة بيها و بيها صحيح غرامها )
( و مرباها عشب الأراضي من الحيا ... يواتي من الخورالخلايا جسامها )
( تشوق شوق العين مما تداركت ... عليها من السحب السواري عمامها )
( و ماذا بكت بالما و ماذا تناحطت ... عيون غرار المزن عذبا حمامها )
( كأن عروس البكر لاحت ثيابها ... عليها و من نور الأقاحي خزامها )
( فلاة و دهنا و اتساع و منة ... و مرعى سوى ما في مراعي نعامها )
( و مشروبها من مخض ألبان شولها ... غنيم و من لحم الجوازي طعامها )
( تفانت عن الأبواب و الموقف الذي ... يشيب الفتى مما يقاسي زحامها )
( سقى الله ذا الوادي المشجر بالحيا ... و بلا و يحيى ما بلي من رمامها )
( فكافأتها بالود مني و ليتني ... ظفرت بأيام مضت في ركامها )
( ليالي أقواس الصبا في سواعدي ... إذا قمت لم تحظ من أيدي سهامها )
( و فرسي عديد تحت سرجي مشاقة ... زمان الصبا سرجا و بيدي لجامها )
( و كم من رداح أسهرتني و لم أرى ... من الخلق أبهى من نظام ابتسامها )
( و كم غيرها من كاعب مرجحنة ... مطرزة الأجفان باهي و شامها )
( و صفقت من وجدي عليها طريجة ... بكفي و لم ينسى جداها ذمامها )
( و نار بخطب الوجد توهج في الحشا ... و توهج لا يطفا من الماء ضرامها )
( أيا من وعدتي الوعد هذا إلى متى ... فني العمر في دار عماني ظلامها )
( و لكن رأيت الشمس تكسف ساعة ... و يغمى عليها ثم يبدا غيامها )
( بنود و رايات من السعد أقبلت ... إلينا بعون الله يهفو علامها )
( أرى في الفلا بالعين أظعان عزوتي ... و رمحى على كتفي و سيري أمامها )
( يجرعا عتاق النوق من فوق شامس ... أحب بلاد الله عندي حشامها )
( إلى منزل بالجعفرية للوى ... مقيم بها مالذ عندي مقامها )
( ونلقى سراة من هلال بن عامر ... يزيل الصدا و الغل عني سلامها )
( بهم تضرب الأمثال شرقا و مغربا ... إذا قاتلوا قوما سريع انهزامها )
( عليهم و من هو في حماهم تحية ... مدى الدهر ما غنى يفينا حمامها )
( فدع ذا و لا تأسف على سالف مضى ... فذي الدنيا ما دامت لاحد دوامها )
و من أشعار المتأخرين منهم قول خالد بن حمزة بن عمر شيخ الكعوب من أولاد أبي الليل يعاتب أقتالهم أولاد مهلهل و يجيب شاعرهم شبل بن مسكيانة بن مهلمهل عن أبيات فخر عليهم فيها بقومه :
( يقول و ذا قول المصاب الذي نشا ... قوارع قيعان يعانى صعابها )
( يريح بها حادي المصاب إذا سعى ... فنونا من انشاد القوافي عذابها )
( محيرة مختارة من نشادها ... تحدى بها تام الوشا ملتها بها )
( مغربلة عن ناقد في غضونها ... محكمة القيعان دابي و دابها )
( و هيض بتذكاري لها يا ذوي الندى ... قوارع من شبل و هذي جوابها )
( اشبل جنينا من حباك طرائفا ... فراح يريح الموجعين الغنا بها )
( فخرت و لم تقصر و لا أنت عادم ... سوى قلت في جمهورها ما أعابها )
( لقولك في أم المتين بن حمزة ... وحامي حماها عاديا في حرابها )
( أما تعلم أنه قامها بعد ما لقي ... رصاص بني يحيى و غلاق دابها )
( شهابا من أهل الأمر يا شبل خارق ... و هل ريت من جا للوغى و اصطلى بها )
( سواها طفاها أضرمت بعد طفيه ... و أثنى طفاها جاسرا لا يهابها )
( و اضرمت بعد الطفيتين ألن صحت ... لفاس إلى بيت المنى يقتدى بها )
( و بان لوالي الأمر في ذا انشحابها ... فصار و هي عن كبر الاسنة تهابها )
( كما كان هو يطلب على ذا تجنبت ... رجال بني كعب الذي يتقى بها )
منها في العتاب :
( وليدا تعاتبتوا أنا أغنى لأنني ... غنيت بمعلاق الثنا و اغتصابها )
( علي ونا ندفع بها كل مبضع ... بأسياف ننتاش العدا من رقابها )
( فإن كانت الأملاك بغت عرايس ... علينا بأطراف القنا اختضابها )
( و لا بعدها الارهاف و ذبل ... و زرق كالسنة الحناش انسلابها )
( بني عمنا ما نرتضي الذل غلمه ... تسير السبايا و المطايا ركابها )
( و هي عالما بأن المنايا تنيلها ... بلا شك و الدنيا سريع انقلابنها )
و منها في وصف الظعائن :
( قطعنا قطوع البيد لا نختشي العدا ... فتوق بحوبات مخوف جنابها )
( ترى العين فيها قل لشبل عرائف ... وكل مهاة محتظيها ربابها )
( ترى أهلها غب الصباح أن يفلها ... بكل حلوب الجوف ما سد بابها )
( لها كل يوم في الأرامي قتائل ... ورا الفاجر الممزوج عفو رضابها )
و من قولهم في الأمثال الحكمية
( و طلبك في الممنوع منك سفاهة ... و صدك عمن صد عنك صواب )
( إذا رأيت أناسا يغلقوا عنك بابهم ... ظهور المطايا يفتح الله باب )
و من قول شبل يذكر انتساب الكعوب إلى برجم :
( لشيب و شبان من أولاد برجم ... جميع البرايا تشتكي من ضهادها )
و من قول خالد يعاتب إخوانه في موالاة شيخ الموحدين أبي محمد بن تافراكين المستبد بحجابة السلطان بتونس على سلطانها مكفولة أبي إسحاق ابن السلطان أبي يحيى و ذلك فيما قرب من عصرنا :
( يقول بلا جهل فتى الجود خالد ... مقالة قوال و قال صواب )
( مقالة حبر ذات ذهن و لم يكن ... هريجا و لا فيما يقول ذهاب )
( تهجست معنا نابها لا لحاجة ... و لا هرج ينقاد منه معاب )
( و كنت بها كبدي و هي نعم صابة ... حزينة فكر و الحزين يصاب )
( تفوهت بادي شرحها عن مآرب ... جرت من رجال في القبيل قراب )
( بني كعب أدنى الأقربين لدمنا ... بني عم منهم شايب و شباب )
( جرى عند فتح الوطن منا لبعضهم ... مصافاة ود و اتساع جناب )
( و بعضهم ملنا له عن خصيمه ... كما يعلموا قولي بقيه صواب )
( و بعضهمو مرهوب من بعض ملكنا ... جزاعا و في جو الضمير كتاب )
( و بعضهمو جانا جريحا تسمحت ... خواطر منها للنزيل و هاب )
( و بعضهمو نظار فينا بسوة ... نقهناه حتى ماعنا به ساب )
( رجع ينتهي مما سفهناقبيحه ... مرارا و في بعض المرار يهاب )
( و بعضهمو شاكي من أوغاد قادر ... غلق عنه في أحكام السقائف باب )
( فصمناه عنه و اقتضي منه مورد ... على كره مولى البالقي و دياب )
( و نحن على دافي المدى نطلب العلا ... لهم ما حططنا للفجور نقاب )
( و حزنا حمى وطن بترشيش بعدما ... نفقنا عليها سبقا و رقاب )
( و مهد من الأملاك ما كان خارجا ... على أحكام والي أمرها له ناب )
( بردع قروم من قروم قبيلنا ... بني كعب لاواها الغريم و طاب )
( جرينا بهم عن كل تاليف في العدا ... و قمنا لهم عن كل قيد مناب )
( إلى أن عاد من لا كان فيهم بهمة ... ربيها و خيراته عليه نصاب )
( و ركبوا السبايا المثمنات من أهلها ... و لبسوا من أنواع الحرير ثياب )
( و ساقوا المطايا يالشرا لا نسوا له ... جماهير ما يغلو بها بجلاب )
( و كسبوا من أصناف السعايا ذخائر ... ضخام لحزات الزمان تصاب )
( و عادوا نظير البرمكيين قبل ذا ... و إلا هلالا في زمان دياب )
( و كانوا لنا درعا لكل مهمة ... إلى أن بان من نار العدو شهاب )
( و خلوا الدار في جنح الظلام و لا اتقوا ... ملامه و لا دار الكرام عتاب )
( كسوا الحيى جلباب البهيم لستره ... وهم لو دروا لبسوا قبيح جباب )
( كذلك منهم حانس ما دار النبا ... ذهل حلمي إن كان عقله غاب )
( يظن ظنونا ليس نحن بأهلها ... تمنى يكن له في السماح شعاب )
( خطا هو و من واتاه في سو ظنه ... بالاثبات من ظن القبايح عاب )
( فوا عزوتي إن الفتى بو محمد ... وهوب لآلاف بغير حساب )
( و برحت الأوغاد منه و يحسبوا ... بروحه ما يحيى بروح سحاب )
( جروا يطلبوا تحت السحاب شرائع ... لقوا كل ما يستاملوه سراب )
( و هو لو عطى ما كان للرأي عارف ... و لا كان في قلة عطاه صواب )
( و إن نحن ما نستاملوا عنه راحة ... و إنه باسهام التلاف مصاب )
( و إن ما وطا ترشيش يضياق وسعها ... عليه و يمشي بالفزوع لزاب )
( و إنه منها عن قريب مفاصل ... خنوج عناز هوالها و قباب )
( و عن فاتنات الطرف بيض غوانج ... ربوا خلف أستار و خلف حجاب )
( يتيه إذا تاهوا و يصبوا إذا صبوا ... بحسن قوانين و صوت رباب )
( يضلوه عن عدم اليمين و ربما ... يطارح حتى ما كأنه شاب )
( بهم حازله زمه و طوع أوامر ... و لذة مأكول و طيب شراب )
( حرام على ابن تافركين ما مضى ... من الود إلا ما بدل بحراب )
( و إن كان له عقل رجيح و فطنة ... يلجج في اليم الغريق غراب )
( و أما البدا لا بدها من فياعل ... كبار إلى أن تبقى الرجال كباب )
( و يحمي بها سوق علينا سلاعه ... و يحمار موصوف القنا و جعاب )
( و يمسي غلام طالب ريح ملكنا ... ندوما و لا يمسي صحيح بناب )
( أيا واكلين الخبز تبغوا أدامه ... غلطتوا أدمتوا في السموم لباب )
و من شعر علي بن عمر بن إبراهيم من رؤساء بني عامر لهذا العهد أحد بطون زغبة يعاتب بني عمه المتطاولين إلى رياسته :
( محبرة كالدر في يد صانع ... إذا كان في سلك الحرير نظام )
( أباحها منها فيه أسباب ما مضى ... و شاء تبارك و الضعون تسام )
( غدا منه لام الحي حيين و انشطت ... عصاها و لا صبنا عليه حكام )
( و لكن ضميري يوم بان بهم إلينا ... تبرم على شوك القتاد برام )
( و إلا كأبراص التهامي قوادح ... و بين عواج الكانفات ضرام )
( و إلا لكان القلب في يد قابض ... أتاهم بمنشار القطيع غشام )
( لما قلت سما من شقا البين زارني ... إذا كان ينادي بالفراق و خام )
( ألا يا ربوع كان بالأمس عامر ... بيحيى و حله و القطين لمام )
( و غيد تداني للخطا في ملاعب ... دجى الليل فيهم ساهر و نيام )
( و نعم يشوف الناظرين التحامها ... لنا ما بدا من مهرق و كظام )
( و عرود باسمها ليدعو لسربها ... و لإطلاق من شرب المها و نعام )
( و اليوم ما فيها سوى البوم حولها ... ينوح على اطلال لها و خيام )
( وقفنا بها طورا طويلا نسالها ... بعين سخينا و الدموع سجام )
( و لا صح لي منها سوى وحش خاطري ... و سقمي من أسباب إن عرفت أوهام )
( و من بعد ذا تدى لمنصور بو علي ... سلام و من بعد السلام سلام )
( و قولوا له يا بو الوفا كلح رأيكم ... دخلتم بحور غامقات دهام )
( زواخر ما تنقاس بالعود إنما ... لها سيلات على الفضا و أكام )
( و لا قمستمو فيها قياسا يدلكم ... و ليس البحور الطاميات تعام )
( و عانوا على هلكاتهم في ورودها ... من الناس عدمان العقول لئام )
( أيا عزوة ركبوا الضلالة و لا لهم ... قرار و لا دنيا لهن دوام )
( ألا غناهمو لو ترى كيف زايهم ... مثل سراب فلاه ما لهن تمام )
( خلو القنا يبغون في مرقب العلا ... مواضع ماهيا لهم بمقام )
( و حق النبي و البيت و أركانه العلى ... و من زارها في كل دهر و عام )
( لبر الليالي فيه إن طالت الحيا ... يذوقون من خمط الكساع مدام )
( و لا بزها تبقى البوادي عواكف ... بكل رديني مطرب و حسام )
( و كل مسافة كالسد إياه عابر ... عليها من أولاد الكرام غلام )
( و كل كميت يكتعص عض نابه ... يظل يصارع في العنان لجام )
( و تحمل بنا الأرض العقيمة مدة ... و تولدنا من كل ضيق كظام )
( بالأبطال و القود الهجان و بالقنا ... لها وقت و جنات البدور زحام )
( أتجحدني و أنا عقيد نقودها ... وفي سن رمحي للحروب علام )
( و نحن كاضراس الموافي بنجعكم ... حتى يقاضوا من ديون غرام )
( متى كان يوم القحط يا مير أبو علي ... يلقى سعايا صايرين قدام )
( كذلك بو حمو إلى اليسر ابعته ... و خلى الجياد العاليات تسام )
( و خل رجالا لا يرى الضيم جارهم ... و لا يجمعوا بدهى العدو زفام )
( ألا يقيموها و عقد بؤسهم ... و هم عذر عنه دائما و دوام )
( و كم ثار طعنها على البدو سابق ... ما بين صحاصيح و ما بين حسام )
( فتى ثار قطار الصوى يومنا على ... لنا أرض ترك الظاعنين زمام )
( و كم ذا يجيبوا أثرها من غنيمة ... حليف الثنا قشاع كل غيام )
( و إن جاء خافوه الملوك و وسعوا ... غدا طبعه يجدى عليه قيام )
( عليكم سلام الله من لسن فاهم ... ما غنت الورقا و ناح حمام )
و من شعر عرب نمر بنواحي حوران لإمرأة قتل زوجها فبعثت إلى أحلافه من قيس تغريهم بطلب ثأره تقول :
( تقول فتاة الحي أم سلامه ... بعين أراع الله من لا رثى لها )
( تبيت بطول الليل ما تألف الكرى ... موجعة كان الشقا في مجالها )
( على ما جرى في دارها و بو عيالها ... بلحظة عين البين غير حالها )
( فقدنا شهاب الدين يا قيس كلكم ... و نمتوا عن أخذ الثار ماذا مقالها )
( أنا قلت إذا ورد الكتاب يسرني ... و يبرد من نيران قلبي ذبالها )
( أيا حين تسريح الذوائب و اللحى ... و بيض العذارى ما حميتو جمالها ) (1/805)
الموشحات و الأزجال للأندلس
و أما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم و تهذبت مناحيه و فنونه و بلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا منه سموه بالموشح ينظمونه أسماطا أسماطا و أغصانا أغصانا يكثرون من أعاريضا المختلفة و يسمون المتعدد منها بيتا واحدا و يلتزمون عند قوافي تلك الأغصان و أوزانها متتاليا فيما بعد إلى آخر القطعة و أكثر ما تنتهى عندهم إلى سبعة أبيات و يشتمل كل بيت على أغصان عددها بحسب الأغراض و المذاهب و ينسبون فيها و يمدحون كما يفعل في القصائد و تجاروا في ذلك إلى الغاية و استظرفة الناس جملة الخاصة والكافة لسهولة تناوله و قرب طريقه و كان المخترع لها بجزيرة الأندلس مقدم بن معافرالفريري من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني و أخذ ذلك عنه أبو عبد الله أحمد بن عبد ربه صاحب كتاب العقد و لم يظهر لهما مع المتأخرين ذكر و كسدت موشحاتهما فكان أول من برع في هذا الشأن عبادة القزاز شاعر المعتصم بن صمادح صاحب المرية و قد ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع أبا بكر بن زهير يقول : كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز فيما أتفق له من قوله :
( بدر تم ... شمس ضحا غصن نقا مسك شم )
( ما أتم ... ما أوضحا ما أورقا ما أنم )
( لا جرم ... من لمحا قد عشقا قد حرم )
و زعموا أنة لم يسبقه وشاح من معاصريه الذين كانوا في زمن الطوائف و ذكر غير واحد من المشايخ أن أهل هذا الشأن بالأندلس يذكرون أن جماعة من الوشاحين اجتمعوا في مجلس بأشبيلية و كان كل واحد منهم اصطنع موشحة و تأنق فيها فتقدم الأعمى الطليطلي للإنشاد فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله :
( ضاحك عن جمان ... سافرعن در ضاق عنه الزمان و حواه صدري )
صرف ابن بقي موشحته و تبعه الباقون و ذكر الأعلم البطليوسي أنه سمع ابن زهر يقول : ما حسدت قط وشاحا على قول إلا ابن بقي حين وقع له :
( أما ترى أحمد ... في مجده العالي لا يلحق أطلعه الغرب فأرنا مثله يا مشرق )
و كان في عصرهما من الموشحين المطبوعين أبو بكر الأبيض و كان في عصرهما أيضا الحكيم أبو بكر بن باجة صاحب التلاحين المعروفة و من الحكايات المشهورة أنه حضر مجلس مخدومه ابن تيفلويت صاحب سرقسطة فألقى على بعض قيناته موشحته التي أولها :
( جرر الذيل أيما جر ... وصل الشكر منك بالشكر )
فطرب الممدوح لذلك لما ختمها بقوله :
( عقد الله راية النصر ... لأمير العلا أبي بكر )
فلما طرق ذلك التلحين سمع ابن تيفلويت صاح : و اطرباه : و شق ثيابه و قال : ما أحسن ما بدأت و ختمت و حلف بالأيمان المغلظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب فخاف الحكيم سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهبا في نعله و مشى عليه و ذكر أبو الخطاب بن زهر أنه جرى في مجلس أبي بكر ابن زهير ذكر أبي بكر الأبيض الوشاح المتقدم الذكر فغص منه نعض الحاضرين فقال كيف تغص ممن يقول :
( ما لذي شراب راح على رياض الأقاح ... لولا هضيم الوشاح إذا أسا في الصباح )
( أو في الأصيل أضحى يقول : ... ما للشمول لطمت خدي ؟ )
( و للشمال هبت فمال ... غصن اعتدال ضمه بردي )
( مما أباد القلوبا يمشي لنا مستريبا ... يا لحظة رد نوبا و يا لماه الشنيبا )
( برد غليل صب عليل ... لا يستحيل فيه عن عهدي )
( و لا يزال في كل حال ... يرجو الوصال و هو في الصد )
و اشتهر بعد هؤلاء في صدر دولة الموحدين محمد بن أبى الفضل بن شرف قال الحسن بن دويدة : رأيت حاتم بن سعيد على هذا الافتتاح :
( شمس قاربت بدرا راح ... و نديم )
و ابن بهرودس الذي له :
( يا ليلة الوصل و السعود ... بالله عودي )
و ا بن مؤهل الذي له :
( ما العيد في حلة و طاق ... و شم و طيب و إنما العيد في التلاقي مع الحبيب )
و أبو إسحاق الرويني قال ابن سعيد : سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول : إنه دخل على ابن زهير و قد أسن و عليه زي البادية إذ كان يسكن بحصن سبتة فلم يعرفة فجلس حيث انتهى به المجلس و جرت المحاضرة فانشد لنفسه موشحة وقع فيها :
( كحل الدجى يجري من مقلة ... الفجر على الصباح )
( و معصم النهر في حلل ... خضر من البطاح )
فتحرك ابن زهير و قال أنت تقول هذا ؟ قال : اختبر ! قال : و من تكون فعرفة فقال ارتفع فوالله ما عرفتك قال ابن سعيد و سابق الحلبة الذي أدرك هؤلاء أبو بكر بن زهير و قد شرقت موشحاته و غربت قال : و سمعت أبا الحسن سهل بن مالك يقول قيل لابن زهير لو قيل لك ما أبدع و أرفع ما وقع لك في التوشيح قال كنت أقول :
( ما للموله من سكره لا يفيق ... يا له سكران من غير خمر ما للكئيب المشوق يندب الأوطان )
( هل تستعاد ... أيامنا بالخليج و ليالينا )
( أو نستفاد ... من النسيم الأريج مسك دارينا )
( أو هل يكاد ... حسن المكان البهيج أن يحيينا ؟ )
( روض أظله ... دوح عليه أنيق مورق الأفنان و الماء يجري و عائم و غريق من جنى الريحان )
و اشتهر بعده ابن حيون الذي له من الزجل المشهور قوله :
( يفوق سهمه كل حين ... بما شئت من يد و عين )
و ينشد في القصيد :
( خلقت مليح علمت رامي ... فليس تخل ساع من قتال )
( و تعمل بذي العينين متاعي ... ما تعمل يدي بالنبال )
و اشتهر معهما يومئذ بغرناطة المهر بن الفرس قال ابن سعيد و لما سمع ابن زهر قوله :
( لله ما كان من يوم بهيج ... بنهر حمص على تلك المروج )
( ثم انعطفنا على فم الخليج ... نفض في حانه مسك الختام )
( عن عسجد زانه صافي المدام ... و رداء الأصيل ضمه كف الظلام )
قال ابن زهر : أين كنا نحن عن هذا الرداء و كان معه في بلده مطرف أخبر ابن سعيد عن والده أن مطرفا هذا دخل على ابن الفرس فقام له و أكرمه فقال : لا تفغل ! فقال ابن الفرس : كيف لا أقوم لمن يقول :
( قلوب تصاب بألحاظ تصيب ... فقل كيف تبقى بلا وجد )
و بعد هذا ابن خزمون بمرسية ذكر ابن الرائس أن يحيى الخزرجي دخل عليه في مجلسه فأنشده موشحة لنفسه فقال له ابن حزمون : لا يكون الموشح بموشح حتى يكون عاريا غن التكلف قال على مثل ماذا ؟ قال على مثل قولي :
( يا هاجري هل إلى الوصال ... منك سبيل )
( أو هل ترى عن هواك سالي ... قلب العليل )
و أبو الحسن سهل بن مالك بغرناطة قال ابن سعيد كان والدي يعجب بقوله :
( إن سيل الصباح في الشرق ... عاد بحرا في أجمع الأفق )
( فتداعت نوادب الورق )
( أتراها خافت من الغرق ... فبكت سحرة على الورق )
و اشتهر بأشبيلية لذلك العهد أبو الحسن بن الفضل قال ابن سعيد عن والده سمعت سهل ابن مالك يقول : له يا ابن الفضل لك على الوشاحين الفضل بقولك :
( واحسرتا لزمان مضى ... عشية بأن الهوى و انقضى )
( و أفردت بالرغم لا بالرضى ... و بت على جمرات الغضى )
( أعانق بالفكر تلك الطلول ... و ألثم بالوهم تلك الرسوم )
قال و سمعت أبا بكر بن الصابوني ينشد الأستاذ أبا الحسن الدباج موشحاته غير ما مرة فما شنمعتة يقول له لله درك إلا في قوله :
( قسما بالهوى لذي حجر ... ما لليل المشوق من فجر )
( جمد الصبح ليس يطرد ما لليلي فيما أظن غد إصح ياليل إنك الأبد )
( أو قفصت قوادم النسر ... فنجوم السماء لا تسري )
و من محاسن موشحات ابن الصابوني قوله :
( ما حال صب ذي ضنى و اكتئاب ... أمرضة يا ويلتاه الطبيب )
( عامله محبوبه باجتناب ... ثم اقتدى فيه الكرى بالحبيب )
( جفا جفوني النوم لكنني ... لم أبكه ألا لفقد الخيال )
( و ذا الوصال اليوم قد غرني ... منه كما شاء و شاء الوصال )
( فلست باللائم من صدني ... بصورة الحق و لا بالمحال )
و اشتهر ببر أهل العدوة ابن خلف الجزائري صاحب الموشحة المشهورة :
( يد الاصباح قدحت زناد الأنوار في مجامز الزهر )
و ابن خرز البجائي و له من موشحة :
( ثغر الزمان موافق ... حباك منه بابتسام )
و من محاسن الموشحات للمتأخرين موشحة ابن سهل شاعر أشبيلية و سبتة من بعدها فمنها قوله :
( هل درى ظبي الحمى أن قد حمى ... قلب صب حله عن مكنس )
( فهو في نار و خفق مثل ما ... لعبت ريح الصبا بالقبس )
و قد نسج على منواله فيها صاحبنا الوزير أبو عبد الله ابن الخطيب شاعر الأندلس و المغرب لعصره و قد مر ذكره فقال :
( جادك الغيث إذا الغيث همى ... يا زمان الوصل بالأندلس )
( لم يكن وصلك إلا حلما ... في الكرى أو خلسة المختلس )
( إذ يقود الدهر أشتات المنى ... ينقل الخطو على ما يرسم )
( زمرا بين فرادى و ثنا ... مثل ما يدعو الوفود الموسم )
( و الحيا قد جلل الروض سنى ... فثغور الزهر فيه تبسم )
( و روى النعمان عن ماء السما ... كيف يروي مالك عن أنس )
( فكساه الحسن ثوبا معلما ... يزذهي منه بأبهى ملبس )
( في ليال كتمت سر الهوى ... بالدجى لو لا شموس الغرر )
( مال نجم الكأس فيها و هوى ... مستقيم السير سعد الأثر )
( وطر ما فيه من غيب سوى ... أنه مر كلمح البصر )
( حين لذ النوم منا أو كما ... هجم الصبح هجوم الحرس )
( غارت الشهب بنا أو ربما ... أثرت فينا عيون النرجس )
( أي شيء لامرئ قد خلصا ... فيكون الروض قد مكن فيه )
( تنهب الأزهار فيه الفرصا ... أمنت من مكره ما تتقيه )
( فإذا الماء يناجي و الحصا ... و خلا كل خليل بأخيه )
( تبصر الورد غيورا برما ... يكتسي من غيظيه ما يكتسي )
( و ترى الآس لبيبا فهما ... يسرق الدمع بأذني فرس )
( يا أهيل الحي من وادي الغضا ... و بقلبي مسكن أنتم به )
( ضاق عن وجدي بكم رحب الفضا ... لا أبالي شرقه من غربه )
( فأعيدوا عهد أنس قد مضى ... تنقذوا عانيكم من كربه )
( و اتقوا الله احيوا مغرما ... يتلاشى نفسا في نفس )
( حبس القلب عليكم كرما ... أفترضون خراب الحبس )
( و بقلبي منكم مقترب ... بأحاديث المنى و هو بعيد )
( قمر أطلع منه المغرب ... شقوة المغرى به و هو سعيد )
( قد تساوي محسن أو مذنب ... في هواه بين وعد و وعيد )
( ساحر المقلة معسول اللمى ... جال في النفس مجال النفس )
( سدد السهم فأصمى إذ رمى ... بفؤادي نبلة المفترس )
( إن يكن جار و خاب الأمل ... و فؤاد الصب بالشوق يذوب )
( فهو للنفس حبيب أول ... ليس في الحب لمحبوب ذنوب )
( أمره معتمل ممتثل ... في ضلوع قد براها و قلوب )
( حكم اللحظ بها فاحتكما ... لم يراقب في ضعاف الأنفس )
( ينصف المظلوم ممن ظلما ... و يجازي البر منها و المسي )
( ما لقلبي كلما هبت صبا ... عادة عيد من الشوق جديد ؟ )
( كان في اللوح له مكتتبا ... قوله إن عذابي لشديد )
( جلب الهم له و الوصبا ... فهو للأشجان في جهد جهيد )
( لاعج في أضلعي قد أضرما ... فهي نار في هشيم اليبس )
( لم يدع من مهجتي إلا الدما ... كبقاء ألصبح بعد الغلس )
( سلمي يا نفس في حكم القضا ... و اعتبري الوقت برجعى و متاب )
( و اتركي ذكرى زمان قد مضى ... بين عتبى قد تقضت و عتاب )
( و اصرفي القول إلى المولى الرضى ... ملهم التوفيق في أم الكتاب )
( الكريم المنتهى و المنتمى ... أسد السرج و بدر المجلس )
( ينزل النصر عليه مثلما ... ينزل الوحي يروح القدس )
و أما المشارقة فالتكلف ظاهر على ما عانوه من الموشحات و من أحسن ما وقع لهم في ذلك موشحة ابن سناء الملك التي اشتهرت شرقا و غربا و أولها :
( حبيبي ارفع حجاب النور ... عن العذار )
( تنظر المسك على كافور ... في جلنار )
( كللي يا سحب تيجان الربى ... بالحلى و اجعلي )
( سوارها منعطف الجدول )
و لما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس و أخذ به الجمهور لسلاسته و تنميق كلامه و ترصيع أجزائه نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله و نظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابا و استحدثوا فنا سموه يالزجل و التزموا النظم فيه على مناحيهم لهذا العهد فجاءوا فيه بالغرائب و اتسع فيه للبلاغة مجال بحسب لغتهم المستعجمة
و أول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان و إن كانت قيلت قبله بالأندلس لكن لم يظهر حلاها و لا انسبكت معانيها و اشتهرت رشاقتها إلا في زمانه و كان لعهد الملثمين و هو إمام الزجالين على الإطلاق قال ابن سعيد : و رأيت أزجاله مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب قال : و سمعت أبا الحسن بن جحدر الأشبيلي إمام الزجالين في عصرنا يقول :
ما وقع لأحد من أئمة هذا الشأن مثل ما وقع لابن قزمان شيخ الصناعة و قد خرج إلى منتزه مع بعض أصحابه فجلسوا تحت عريش و أمامهم تمثال أسد من رخام يصب الماء من فيه على صفائح من الحجر متدرجة فقال :
( و عريش قد قام على دكان ... بحال رواق )
( و أسد قد ابتلع ثعبان ... من غلظ ساق )
( و فتح فمه بحال إنسان ... بيه الفراق )
( و انطلق من ثم على الصفاح ... و ألقى الصياح )
و كان ابن قزمان مع أنه قرطبي الدار كثيرا ما يتردد إلى إشبيلية و نيتاب نهرها فاتفق أن اجتمع ذات يوم جماعة من أعلام هذا الشأن و قد ركبوا في النهر للنزهة و معهم غلام جميل الصورة من سروات أهل البلد و بيوتهم و كانوا مجتمعين في زورق للصيد فنظموا في وصف الحال و بدأ منهم عيسى البليدي فقال :
( يطمع بالخلاص قلبي و قد فاتو ... و قد ضمني عشقو لشهماتو )
( تراه قد حصل مسكين محلاتو ... يغلق و كذاك أمر عظيم صاباتو )
( توحش الجفون الكحل إن غابو ... وذيك الجفون الكحل أبلاتو )
ثم قال أبو عمرو بن الزاهر الأشبيلي :
( نشب و الهوى من لج فيه ينشب ... ترى ايش دعاه يشقى و يتعذب )
( مع العشق قام في بالوان يلعب ... و خلق كثير من ذا اللعب ماتوا )
ثم قال أبو الحسن المقري الداني :
( نهار مليح يعجبن أوصافو ... شراب و ملاح من حولي قد طافوا )
( و المقلين يقول من فوق صفصافو ... و البوري أخرى فقلاتو )
ثم قال أبو بكر بن مرتين :
( الحق تريد حديث بقالي عاد ... في الواد النزيه و البوري و الصياد )
( لسنا حيتان ذيك الذي يصطاد ... قلوب الورى هي في شبيكاتو )
ثم قال أبو بكر بن قزقان :
( إذا شمر كمامو يرميها ... ترى البوري يرشق لذاك الجيها )
( و ليس مرادو أن يقع فيها ... إلا أن يقبل بدياتو )
و كان في عصرهم يشرق الأندلس محلف الأسود و له محاسن من الزجل منها قوله :
( قد كنت منشوب و اختشيت النشب ... و ردني ذا العشق لأمر صعب )
( حتى تنظر الخد الشريق البهي ... تنتهي في الخمر إلما تنتهي )
( يا طالب الكيميا في عيني هي ... تنظر بها الفضة و ترجع ذهب )
و جاءت بعدهم حلبة كان سابقها مدغليس وقعت له العجائب في هذه الطريقة فمن قوله في زجله المشهور :
( و رذاذ دق ينزل ... و شعاع الشمس يضرب )
( فترى الواحد يفضض ... و ترى الآخر يذهب )
( و النبات يشرب و يسكر ... و الغصون ترقص و تطرب )
( و تريد تجي إلينا ... ثم تستحي و تهرب )
و من محاسن أزجاله قوله :
( لاح الضيا و النجوم حيارى ... فقم بنا ننزع الكسل )
( شربت ممزوج من قراعا ... أحلى هي عندي من العسل )
( يا من يلمني كما تقلد ... قلدك الله بما تقول )
( يقول بان الذنوب تولد ... و أنه يفسد العقول )
( لارض الحجاز موريكن لك أرشد ... ايش ما ساقك معي في ذا الفضول )
( مر أنت للحج و الزيارا ... و دعني في الشرب منهمل )
( من ليس لو قدره و لا استطاع ... النية أبلغ من العمل )
و ظهر بعد هؤلاء بأشبيلية ابن جحدر الذي فضل على الزجالين في فتح ميورقة بالزجل الذي أوله هذا :
( من عاند التوحيد بالسيف يمحق ... أنا بري ممن يعاند الحق )
قال ابن سعيد لقيتة و لقيت تلميذة المعمع صاحب الزجل المشهور الذي أوله :
( يا ليتني ان رأيت حبيبي ... أفتل اذنو بالرسيلا )
( ليش أخذ عنق الغزيل ... و سرق فم الحجيلا )
ثم جاء من بعدهم أبو الحسن سهل بن مالك إمام الأدب ثم من بعدهم لهذه العصور صاحبنا الوزير أبو عبد الله بن الخطيب إمام النظم و النثر في الملة الإسلامية غير مدافع فمن محاسنه في هذه الطريقة :
( امزج الأكواس و املالي تجدد ... ما خلق المال إلا أن يبدد )
و من قوله على طريقة الصوفية و ينحو منحى الششتري منهم :
( بين طلوع و بين نزول ... اختلطت الغزول )
( و مضى من لم يكن ... و بقي من لم يزول )
و من محاسنه أيضا قوله في ذلك المعنى :
( البعد عنك يا بني أعظم مصايبي ... و حين حصل لي قربك سببت قاربي )
و كان لعصر الوزير ابن الخطيب بالأندلس محمد بن عبد العظيم من أهل وادي آش و كان إماما في هذه الطريقة و له من زجل يعارض به مدغليس في قوله :
( لاح الضياء و النجوم حيارى ) بقوله :
( حل المجون يا أهل الشطارا ... مذ حلت الشمس في الحمل )
( تجددوا كل يوم خلاعا ... لا تجعلوا بينها ثمل )
( إليها يتخلعوا في شنبل ... على خضورة ذاك النبات )
( و حل بغداد و اجتياز النيل ... أحسن عندي من ذيك الجهات )
( و طاقتها أصلح من أربعين ميل ... ان مرت الريح عليه و جات )
( لم تلتق الغبار امارا ... و لا بمقدار ما يكتحل )
( و كيف ولاش فيه موضع رقاعا ... إلا و نسرح فيه النحل )
و هذه الطريقة الزجلية لهذا العهد هي فن العامة بالأندلس من الشعر و فيها نظمهم حتى أنهم لينظمون بها في سائر البحور الخمسة عشر لكن بلغتهم العامية و يسمونه الشعر الزجلي مثل قول شاعرهم :
( دهر لي نعشق جفونك و سنين ... و أنت لا شفقة و لا قلب يلين )
( حتى ترى قلبي من أجلك كيف رجع ... صنعة السكة بين الحدادين )
( الدموع ترشرش و النار تلتهب ... و المطارق من شمال و من يمين )
( خلق الله النصارى للغزو ... و أنت تغزو قلوب العاشقين )
و كان من المجيدين لهذه الطريقة لأول هذه المائة الأديب أبو عبد الله اللوشي و له فيها قصيدة يمدح فيها السلطان ابن الأحمر :
( طل الصباح قم يا نديمي نشربو ... و نضحكو من بعدما نطربو )
( سبيكة الفجر أحكت شفق ... في ميلق الليل فقم قلبو )
( ترى عيارها خالص أبيض نقي ... فضة هو لكن الشفق ذهبو )
( فتنتفق سكتوا عند البشر ... نور الجفون من نورها يكسبو )
( فهو النهار يا صاحبي للمعاش ... عيش الغني فيه بالله ما أطيبو )
( والليل أيضا للقبل و العناق ... على سرير الوصل يتقلبو )
( جاد الزمان من بعدما كان بخيل ... ولش ليفلت من يديه عقربو )
( كما جرع مرو فما قد مضى ... يشرب بيننو و ياكل طيبو )
( قال الرقيب يا أدبا إيش ذا ... في الشرب و العشق ترى ننجبو )
( و تعجبوا عذالي من ذا الخبر ... فقلت يا قوم من ذا تتعجبوا )
( نعشق مليح الا رقيق الطباع ... علاش تكفروا بالله أو تكتبوا )
( ليش يربح الحسن إلا شاعر أديب ... يفض بكرو و يدع ثيبو )
( أما الكاس فحرام نعم هو حرام ... على الذي ما يدري كيف يشربو )
( و يد الذي يحسن حسابه و لم ... يقدر يحسن الفاظ أن يجلبوا )
( و أهل العقل و الفكر و المجون ... يغفر ذنوبهم لهذا إن أذنبوا )
( ظبي بهي فيها يطفي الجمر ... و قلبي في جمر الغضى يلهبو )
( غزال بهي ينظر قلوب الأسود ... و بالوهم قبل النظر يذهبوا )
( ثم يحييهم إذا ابتسم يضحكوا ... و يفرحوا من بعدما يندبوا )
( فميم كالخاتم و ثغر نقي ... خطيب الأمة للقبل يخطبو )
( جوهر و مرجان أي عقد يا فلان ... قد صففه الناظم و لم يثقبو )
( و شارب أخضر يريد لاش يريد ... من شبهه بالمسك قد عيبو )
( يسبل دلال مثل جناح الغراب ... ليالي هجري منه يستغربوا )
( على بدن أبيض بلون الحليب ... ما قط راعي للغنم يحلبوا )
( و زوج هندات ما علمت قبلها ... ديك الصلايا ريت ما أصلبو )
( تحت العكاكن منها خصر رقيق ... من رقتو يخفي إذا تطلبوا )
( أرق هو من ديني فيما تقول ... جديد عتبك حق ما أكذبو )
( أي دين بقا لي معاك و أي عقل ... من يتبعك من ذا و ذا تسلبوا )
( تحمل ارداف ثقال كالرقيب ... جين ينظر العاشق و حين يرقبو )
( ان لم ينفس عدر أو ينقشع ... في طرف ديسا و البشر تطلبو )
( يصير إليك المكان حين تجي ... و حين تغيب ترجع في عيني تبو )
( محاسنك مثل خصال الأمير ... أو الرمل من هو الذي يحسبو )
( عماد الأمصار و فصيح العرب ... من فصاحة لفظه يتقربو )
( بحمل العلم انفرد و العمل ... و مع بديع الشعر ما أكتبو )
( ففي الصدور بالرمح ما أطعنه ... و في الرقاب بالسيف ما أضربو )
( من السماء يحسد في أربع صفات ... فمن يعد قلبي أو يحسبو )
( الشمس نورو و القمر همتو ... الغيث جودو و النجوم منصبو )
( يركب جواد الجود و يطلق عنان ... الاغنيا و الجند حين يركبوا )
( من خلعتو يلبس كل يوم بطيب ... منه بنات المعالي تطيبوا )
( نعمتو تظهر على كل من يجيه ... قاصد و وارد قط ما خيبوا )
( قد أظهر الحق و كان في حجاب ... لاش يقدر الباطل بعدما يحجبو )
( و قد بنى بالسر ركن التقى ... من بعد ما كان الزمان خربو )
( تخاف حين تلقاه كما ترتجيه ... فمع سماحة وجهو ما أسيبو )
( يلقى الحروب ضاحكا و هي عابسة ... غلاب هو لا شي في الدنيا يغلبو )
( إذا جبد سيفه ما بين الردود ... فليس شيء يغني من يضربو )
( و هو سمي المصطفى و الاله ... للسلطنة اختار و استنخبو )
( تراه خليفة أمير المؤمنين ... يقود جيوشو و يزين موكبو )
( لذي الإمارة تخضع الرؤوس ... نعم و في تقبيل يديه يرغبوا )
( ببيته بقى بدور الزمان ... يطلعوا في المجد و لا يغربوا )
( و في المعالي و الشرف يبعدوا ... و في التواضع و الحيا يقربوا )
( و الله يبقيهم ما دار الفلك ... و أشرقت شمسه و لاح كوكبو )
( و ما يغني ذا القصيد في عروض ... يا شمس خدر مالها مغربو )
ثم استحدث أهل الأمصار بالمغرب فنا آخر من الشعر في أعاريض مزدوجة موشح نظموا فيه بلغتهم الحضرية أيضا و سموه عروض البلد و كان أول من حدثه فيهم رجل من أهل الأندلس نزل بفاس يعرف بابن عمير فنظم قطعة بطريقة الموشح و لم يخرج فيها عن مذاهب الإعراب إلا قليلا مطلعها :
( اني بشاطي النهر نوح الحمام ... على الغصن في البستان قريب الصباح )
( السحر يمحو مداد الظلام ... و ماء الندى يجري بثغر الاقاح )
( جرت الرياض و الطل فيها افتراق ... كثير الجواهر في نحور الجوار )
( مع النواعير ينهرق انهراق ... يحاكي ثعابين حلقت بالثمار )
( بالغصون خلخال على كل ساق ... و دار الجميع بالروض دور السوار )
( الندى تخرق جيوب الكمام ... و يحمل نسيم المسك عنها رياح )
( الصبا يطلى بمسك الغمام ... و جر النسيم ذيلو عليها و فاح )
( و يطير الحمام بين الورق في القضيب ... قد ابتلت ارياشو بقطر الندى )
( تنوح مثل ذاك المستهام الغريب ... قد التف من توبو الجديد في ردا )
( و لكن بما أحمر و ساقو خضيب ... ينظم سلوك جوهر و يتقلدا )
( جلس بين الأغصان جلسة المستهام ... جناحا توسد و التوى في جناح )
( و صار يشتكي ما في الفؤاد من غرام ... منها ضم منقاره لصدره و صاح )
( قلت يا حمام احرمت عيني الهجوع ... أراك ما تزال تبكي بدمع سفوح )
( قال لي بكيت حتى صفت لي الدموع ... بلا دمع نبقى طول حياتي ننوح )
( على فرخ طار لي لم يكن لو رجوع ... ألفت البكا و الحزن من عهد نوح )
( كذا هو الوفا و كذا هو الزمام ... انظر جفون صارت بحال الجراح )
( و أنتم من بكى منكم إذا تم عام ... يقول عناني ذا البكا و النواح )
( قلت يا حمام لو خضت بحر الضنى ... كنت تبكي و ترثي لي بدمع هتون )
( و لو كان بقلبك ما بقلبي أنا ... ما كان يصير تحتك فروع الغصون )
( اليوم نقاسي الهجر كم من سنا ... حتى لا سبيل جمله تراني العيون )
( و مما كسا جسمي النحول و السقام ... أخفاني نحولي عن عيون اللواح )
( لو جتنى المنايا كان يموت في المقام ... و من مات بعد يا قوم لقد استراح )
( قال لي لو رقدت لاوراق الرياض ... من خوفي عليه ودا النفوس للفؤاد )
( و تخضبت من دمعي و ذاك البياض ... طوق العهد في عنقي ليوم التناد )
( أما طرف منقاري حديثو استفاض ... بأطراف البلد و الجسم صار في الرماد )
فاستحسنه أهل فاس و ولعوا به و نظموا على طريقته و تركوا الإعراب الذي ليس من شأنهم و كثر سماعه بينهم و استفحل فيه كثير منهم و نوعةه أصنافا إلى المزدوج و الكازي و الملعبة و الغزل و اختلفت أسماؤها باختلاف ازدواجها و ملاحظاتهم فيها فمن المزدوج ما قاله ابن شجاع من فصولهم و هو من أهل تازا :
( المال زينة الدنيا و عز النفوس ... يبهي وجوها ليس هي باهيا )
( فها كل من هو كثير الفلوس ... ولوه الكلام و الرتبة العاليا )
( يكبر من كثر مالو و لو كان صغير ... و يصغر عزيز القوم اذ يفتقر )
( من ذا ينطبق صدري و من ذا تغير ... و كاد ينفقع لولا الرجوع للقدر )
( حتى يلتجي من هو في قومو كبير ... لمن لا أصل عندو و لا لو خطر )
( لذا ينبغي يحزن على ذي العكوس ... و يصبغ عليه ثوب فراش صافيا )
( اللي صارت الاذناب أمام الرؤوس ... و صار يستفيد الواد من الساقيا )
( ضعف الناس على ذا و فسد ذا الزمان ... ما يدروا على من يكثروا ذا العتاب )
( اللي صار فلان يصبح بو فلان ... و لو رأيت كيف يرد الجواب )
( عشنا و السلام حتى رأينا عيان ... أنفاس السلاطين في جلود الكلاب )
( كبار النفوس جدا ضعاف الاسوس ... هم ناحيا و المجد في ناحيا )
( يرو أنهم و الناس يروهم تيوس ... و جوه البلد و العمدة الراسيا )
و من مذاهبهم قول ابن شجاع منهم في بعض مزدوجاته :
( تعب من تبع ذا الزمان ... اهمل يا فلان لا يلعب الحسن فيك )
( ما منهم مليح عاهد إلا و خان ... قليل من عليه تحبس و يحبس عليك )
( يهبوا على العشاق و يتمنعوا ... و يستعمدوا تقطيع قلوب الرجال )
( و ان واصلوا من حينهم يقطعوا ... و ان عاهدوا خانوا على كل حال )
( مليح كان هويتو وشت قلبي معو ... و صيرت من خدي لقدمو نعال )
( و مهدت لو من وسط قلبي مكان ... و قلت لقلبي اكرم لمن حل فيك )
( و هون عليك ما يعتريك من هوان ... فلا بد من هول الهوى يعتريك )
( حكمتوا علي و ارتضيت بو أمير ... فلو كان يرى حالي اذا يبصرو )
( يرجع مثل در حولي بوجه الغدير ... مرديه و يتعطس بحال انحرو )
( و تعلمت من ساعا بسبق الضمير ... و يفهم مرادو قبل أن يذكرو )
( و يحتل في مطلو لوان كان ... عصر في الربيع أو في الليالي يريك )
( و يمشي بسوق كان و لو باصبهان ... وايش ما يقل يحتاج لو يجيك )
حتى أتى على آخرها
و كان منهم علي بن المؤذن بتلمسان و كان لهذه العصور القريبة من فحولهم بزرهون من ضواحي مكناسة رجل يعرف بالكفيف أبدع في مذاهب هذا الفن و من أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن و بنى مرين إلى أفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان و يعزيهم عنها و يؤنسهم بما وقع لغيرهم بعد أن عيبهم على غزاتهم إلى إفريقية في ملعبة من فنون هذه الطريقة يقول في مفتتحها و هو من أبدع مذاهب البلاغة في الأشعار بالمقصد في مطلع الكلام و افتتاحه و يسمى براعة الإستهلال :
( سبحان مالك خواطر الامرا ... و نواصيها في كل حين و زمان )
( ان طعناه أعظم لنا نصرا ... و ان عصيناه عاقب بكل هوان )
إلى أن يقول في السؤال عن جيوش المغرب بعد التخلص :
( كن مرعى قل و لا تكن راعي ... فالراعي عن رعيته مسؤول )
( و استفتح بالصلاة على الداعي ... للإسلام و الرضا السني المكمول )
( على الخلفاء الراشدين و الاتباع ... و اذكر بعدهم اذا تحب و قول )
( أحجاجا تخللوا الصحرا ... ودوا سرح البلاد مع السكان )
( عسكر فاس المنيرة الغرا ... وين سارت بوعزايم السلطان )
( أحجاج بالنبي الذي زرتم ... و قطعتم لو كلاكل البيدا )
( عن جيش الغرب حين يسألكم ... المتلوف في افريقيا السودا )
( و من كان بالعطايا يزودكم ... و يدع برية الحجاز رغدا )
( قام قل للسد صادف الجزرا ... و يعجز شوط بعدما يخفان )
( و يزف كر دوم تهب في الغبرا ... أي ما زاد غزالهم سبحان )
( لو كان ما بين تونس الغربا ... و بلاد الغرب سد السكندر )
( مبنى من شرقها إلى غربا ... طبقا بحديد أو ثانيا بصفر )
( لا بد الطير أن تجيب نبا ... أو يأتي الريح عنهم بفرد خبر )
( ما أعوصها من أمور و ما شرا ... لو تقرا كل يوم على الديوان )
( لجرت بالدم و انصدع حجرا ... و هوت الخراب و خافت الغزلان )
( أدرلي بعقلك الفحاص ... و تفكر لي بخاطرك جمعا )
( ان كان تعلم حمام و لا رقاص ... عن السلطان شهر و قبله سبعا )
( تظهر عند المهيمن القصاص ... و علامات تنشر على الصمعا )
( الا قوم عاريين فلا سترا ... مجهولين لا مكان و لا امكان )
( ما يدروا كيف يصوروا كسرا ... و كيف دخلوا مدينة القيروان )
( امولاي أبو الحسن خطينا الباب ... قضية سيرنا إلى تونس )
( فقنا كنا على الجريد و الزاب ... واش لك في اعراب افريقيا القوبس )
( ما بلغك من عمر فتى الخطاب ... الفاروق فاتح القرى المولس )
( ملك الشام و الحجاز و تاج كسرى ... و فتح من افريقيا و كان )
( رد ولدت لو كره ذكرى ... و نقل فيها تفرق الاخوان )
( هذا الفاروق مردي الاعوان ... صرح في افريقيا بذا التصريح )
( و بقت حمى إلى زمن عثمان ... و فتحها ابن الزبير عن تصحيح )
( لمن دخلت غنائمها الديوان ... مات عثمان و انقلب علينا الريح )
( و افترق الناس على ثلاثة أمرا ... و بقي ما هو للسكوت عنوان )
( اذا كان ذا في مدة البرارا ... اش نعمل في أواخر الازمان )
( و أصحاب الحضر في مكناساتا ... و في تاريخ كأنا و كيوانا )
( تذكر في صحتها أبياتا ... شق و سطيح و ابن مرانا )
( ان مرين إذا تكف براياتا ... لجدا و تونس قد سقط بنيانا )
( قد ذكرنا ما قال سيد الوزرا ... عيسى بن الحسن الرفيع الشان )
( قال لي رأيت و أنا بذا أدري ... لكن إذا جاء القدر عميت الأعيان )
( و يقول لك ما دهى المرينيا ... من حضرة فاس إلى عرب دياب )
( أراد المولى بموت ابن يحيى ... سلطان تونس و صاحب الأبواب )
ثم أخذ في ترحيل السلطان و جيوشه إلى آخر رحلته و منتهى أمره مع أعراب إفريقية و أتى فيها بكل غريبة من الإيداع و أما أهل تونس فاستحدثوا فن الملعبة أيضا على لغتهم الحضرية إلا أن أكثره رديء و لم يعلق بمحفوظي منة شيء لرداءته
الموشحات و الأزجال في المشرق
و كان لعامة بغداد أيضا فن من الشعر يسمونه المواليا و تحته فنون كثيرة يسمون منها القوما و كان و كان و منه مفرد و منه في بيتين و يسمونه دوبيت على الإختلافات المعتبرة عندهم في كل واحد منها و غالبها مزدوجة من أربعة أغصان و تبعهم في ذلك أهل مصر القاهرة و أتوا فيها بالغرائب و تبحروا فيها في أساليب البلاغة بمقتضى لغتهم الحضرية فجاؤوا بالعجائب و رأيت في ديوان الصفي الحلي من كلامه أن المواليا من بحر البسيط و هو ذو أربعة أغصان و أربع قواف و يسمى صوتا و بيتين و أنه من مخترعات أهل واسط و أن كان و كان فهو قافية واحدة و أوزان مختلفة في أشطاره : الشطر الأول من البيت أطول من الشطر الثاني و لا تكون قافيته إلا مردفة بحرف العلة و أنه من مخترعات البغداديين و أنشد فيه لنا :
بغمز الحواجب حديث تفسير و منو أوبو و أم الأخرس تعرف بلغة الخرسان انتهى كلام الصفي و من أعجب ما علق بحفظى منه قول شاعرهم :
( هذي جراحي طريا ... و الدما تنضح )
( و قاتلي يا أخيا ... في الفلا يمرح )
( قالوا و ناخذ بثارك ... قلت ذا أقبح )
( إلى جرحتي يداويني ... يكون أصلح )
و لغيره :
( طرقت باب الخبا قالت من الطارق ... فقلت مفتون لا ناهب ولا سارق )
( تبسمت لاح لي من ثغرها بارق ... رجعت حيران من بحر أدمعي غارق )
و لغيره :
( عهدي بها و هي لا تأمن علي البين ... و ان شكوت الهوى قالت فديتك العين )
( لمن يعاين لها غيري غلام الزين ... ذكرتها العهد قالت لك على دين )
و لغيره في وصف الحشيش :
( دي خمر صرف التي عهدي بها باقي ... تغني عن الخمر و الخمار و الساقي )
( قحبا و من قحبها تعمل على احراقي ... خبيتها في الحشى طلت من احداقي )
و لغيره :
( يا من و صالو لأطفال المحبة بح ... كم توجع القلب بالهجران أوه أح )
( أودعت قلبي حوحو و التصبر بح ... كل الورى كخ في عيني و شخصك دح )
و لغيره :
( ناديتها و مسيبي قد طواني طي ... جودي علي بقبلة في الهوى يا مي )
( قالت و قد كوت داخل فؤادي كي ... ما ظن ذا القطن يغشى فم من هو حي )
و لغيره :
( راني ابتسم سبقت سحب أدمعي برقه ... ماط اللثام تبدي بدر في شرقه )
( اسبل دجى الشعرتاه القلب في طرقه ... رجع هدانا بخيط الصبح من فرقه )
و لغيره :
( يا حادي العيس ازجر بالمطايا زجر ... وقف على منزل أحبابي قبيل الفجر )
( و صيح في حيهم يا من يريد الأجر ... ينهض يصلي على ميت قتيل الهجر )
و لغيره :
( عيني التي كنت ارعاكم بها باتت ... ترعى النجوم و بالتسهيد اقتاتت )
( و أسهم البين صابتني و لا فاتت ... و سلوتي عظم الله أجركم ماتت )
و لغيره :
( هويت في قنطرتكم يا ملاح الحكر ... غزال يبلى الأسود الضاريا بالفكر )
( غصن اذا ما انثنى يسبي البنات البكر ... وان تهلل فما للبدر عندو ذكر )
و من الذي يسمونه دوبيت :
( قد اقسم من أحبه بالباري ... أن يبعث طيفه مع الاسحار )
( يا نار أشواقي به فاتقدي ... ليلا فعساه يهتدي بالنار )
و اعلم أن الأذواق كلها في معرفة البلاغة إنما تحصل لمن خالط تلك اللغة و كثر استعماله لها و مخاطبته بين أجيالها حتى يحصل ملكتها كما قلناه في اللغة العربية فلا يشعر الأندلس بالبلاغة التي في شعر أهل المغرب و لا المغربي بالبلاغة التي في شعر أهل الأندلس و المشرق و لا المشرقي بالبلاغة التي في شعر الأندلس و المغرب لأن اللسان الحضري و تراكيبه مختلفة فيهم و كل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته و ذائق لمحاسن الشعر من أهل جلدته و في خلق السماوات والأرض و اختلاف ألسنتكم و ألوانكم آيات للعالمين و قد كدنا نخرج عن الغرض
و جاء مصليا خلفه منهم ابن رافع رأس شعراء المأمون ابن ذي النون صاحب طليطلة قالوا و قد أحسن في ابتدائه في موشحته التي طارت له حيث يقول :
( العود قد ترنم بأبدع تلحين ... و سقت المذانب رياض البساتين )
و في انتهائه حيث يقول :
( تخطر و لا تسلم عساك المأمون ... مروع الكتائب يحيى بن ذي النون )
ثم جاءت الحلبة التي كانت في دولة الملثمين فظهرت لهم البدائع و سابق فرسان حلبتهم الأعمى الطليطلي ثم يحيى بن بقي و للطليطلي من الموشوحات المهذبة قوله :
( كيف السبيل إلى ... صبري و في العالم أشجان )
( و الركب وسط الفلا ... بالخرد النواعم قد بان ) (1/817)
خاتمة
و لذلك عزمنا أن نقبض العنان عن القول في هذا الكتاب الأول الذي هو طبيعة العمران و ما يعرض فيه و قد استوفينا من مسائله ما حسيناه كفاية له و لعل من يأتي بعدنا ممن يؤيده الله بفكر صحيح و علم مبين يغوف من مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن إحصاء مسائله و إنما عليه تعيين موضع العلم و تنويع فصوله و ما يتكلم فيه و المتأخرون يلحقون المسائل من بعده شيئا فشيئا إلى أن يكمل و الله يعلم و أنتم لا تعلمون
قال مؤلف الكتاب عفى الله عنه : أتممت هذا الجزء الأول المشتمل على المقدمة بالوضع و التأليف قبل التنقيح و التهذيب في مدة خمسة أشهر آخرها منتصف عام تسعة و سبعين و سبعمائة ثم نقحته بعد ذلك و هذبته و الحقت به تواريخ الأمم كما ذكرت في أوله و شرطته و ما العلم إلا من عند الله العزيز الحكيم (1/840)
الكتاب الثاني و يشتمل : أخبار العرب و أجيالهم و دولهم منذ مبدأ الخليقة إلى هذا العهد
و فيه ذكر معاصيرهم من الأمم المشاهير مثل السريانيين و النبط و الكلدانيين و الفرس و القبط و بني إسرائيل و بني يونان و الروم و الإلمام بأخبار دولهم و يتقدم الكلام في ذلك مقدمتان :
إحداهما في أمم العالم و أنسابهم على الجملة
الثانية في كيفية أوضاع الانساب في هذا الكتاب (2/3)
المقدمة الأولى في أمم العالم و اختلاف أجيالهم و الكلام على الجملة في أنسابهم
اعلم أن الله سبحانه و تعالى اعتمر هذا العالم بخلقه و كرم بني آدم باستخلافهم في أرضه و بثهم في نواحيها لتمام حكمته و خالف بين أممهم و أجيالهم إظهارا لآياته فيتعارفون بالأنساب و يختلفون باللغات و الألوان و يتمايزون بالسير و المذاهب و الأخلاق و يفترقون بالنحل و الأديان و الأقاليم و الجهات فمنهم العرب و الفرس و الروم و بنو إسرائيل و البربر و منهم الصقالبة و الحبش و الزنج و منهم أهل الهند و أهل بابل و أهل الصين و أهل اليمن و أهل مصر و أهل المغرب و منهم المسلمون و النصارى و اليهود و الصائبة و المجوس و منهم أهل الوبر و هم أصحاب الخيام و الحلل و أهل المدر و هم أصحاب المجاشر و القرى و الأطم و منهم البدو الظواهر و الحضر الأهلون و منهم العرب أهل البيان و الفصاحة و العجم و أهل الرطانة بالعبرانية و الفارسية و الإغريقية و اللطينية و البربرية خالف أجناسهم و أحوالهم و ألسنتهم و ألوانهم ليتم أمر الله في اعتمار أرضه بما يتوزعونه من وظائف الرزق و حاجات المعاش بحسب خصوصياتهم و نحلهم فتظهر آثار القدرة و عجائب الصنعة و آيات الوحدانية إن في ذلك لآيات للعالمين
و اعلم أن الامتياز بالنسب أضعف المميزات لهذه الأجيال و الأمم لخفائه و اندارسه بدروس الزمان و ذهابه و لهذا كان الاختلاف كثيرا ما يقع في نسب الجيل الواحد أو الأمة الواحدة إذا اتصلت مع الأيام و تشعبت بطونها على الأحقاب كما وقع في نسب كثير من أهل العالم مثل اليونانيين و الفرس و البربر و قحطات من العرب فإذا اختلفت الأنساب و اختلفت فيها المذاهب و تباينت الدعاوى استظهر كل ناسب على صحة ما ادعاه بشواهد الأحوال و المتعارف من المقارنات في الزمان و المكان وما يرجع إلى ذلك من خصائص القبائل و سمات الشعوب و الفرق التي تكون فيهم منتقلة متعاقبة في بينهم
و سئل مالك رحمه الله تعالى عن الرجل يرفع نسبة إلى آدم فكره ذلك و قال من أين يعلم ذلك ؟ فقيل له فإلى إسمعيل فأنكر ذلك و قال من يخبره به ؟ و على هذا درج كثير من علماء السلف و كره أيضا أن يرفع في أنساب الأنبياء مثل أن يقال إبراهيم بن فلان بن فلان و قال من يخبره به و كان بعضهم إذا تلا قوله تعالى : { و الذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } قال : كذبت النسابون و احتجوا أيضا بحديث ابن عباس أنه صلى الله عليه و سلم لما بلغ نسبه الكريم إلى عدنان قال من ههنا كذب النسابون و احتجوا أيضا بما ثبت فيه أنه علم لا ينفع و جهالة لا تضر إلى غير ذلك من الاستدلالات
و ذهب كثير من أئمة المحدثين و الفقهاء مثل ابن إسحق و الطبري و البخاري إلى جواز الرفع في الأنساب و لم يكرهوه محتجين بعمل السلف فقد كان أبو بكر رضي الله عنه أنسب قريش لقريش و مضر بل لسائر و العرب و كذا ابن عباس و جبير بن مطعم و عقيل بن أبي طالب و كان من بعدهم ابن شهاب و الزهري و ابن سيرين و كثير من التابعين قالوا و تدعو الحاجة إليه في كثير من المسائل الشرعية مثل تعصيب الوراثة و ولاية النكاح و العاقلة في الديانات و العلم بنسب النبي صلى الله عليه و سلم و أنه القرشي الهاشمي الذي كان بمكة و هاجر إلى المدينة فان هذا من فروض الإيمان و لا يعذر الجاهل به و كذا الخلافة عند من يشترط النسب فيها و كذا من يفرق في الحرية و الاسترقاق بين العرب و العجم فهذا كله يدعو إلى معرفة الأنساب و يؤكد فضل هذا العلم و شرفه فلا ينبغي أن يكون ممنوعا
و أما [ حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه و سلم لما بلغ نسبه إلى عدنان قال من ههنا كذب النسابون ] يعني من عدنان فقد أنكر السهيلي روايته من طريق ابن عباس مرفوعا و قال الأصح أنه موقوف على ابن مسعود و خرج السهيلي [ عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : معد بن عدنان بن أدد بن زيد بن البري بن أعراق الثري ] قال و فسرت أم سلمة زيدا بأنه الهميسع و البري بأنه نبت أو نابت و أعراق الثري بأنه اسمعيل و اسمعيل هو ابن ابراهيم و ابراهيم لم تأكله النار كما لا تأكل الثرى ورد السهيلي تفسير أم سلمة و هو الصحيح و قال إنما معناه معنى قوله صلى الله عليه و سلم [ كلكم بنو آدم و آدم من تراب ] لا يريد أن الهميسع و من دونه ابن لاسمعيل لصلبه و عضد ذلك باتفاق الأخبار على بعد المدة بين عدنان و اسمعيل التي تستحيل في العادة أن يكون فيما بينهما أربعة آباء أو سبعة أو عشرة أو عشرون لأن المدة أطول من هذا كله كما نذكره في نسب عدنان فلم يبق في الحديث متمسك لأحد من الفريقين و أما ما رووه من أن النسب علم لا ينفع و جهالة لا تضر فقد ضعف الأئمة رفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم مثل الجرجاني و أبي محمد بن حزم و أبي عمر بن عبد البر
و ألحق في الباب أن كل واحد من المذهبيين ليس على إطلاقه فإن الأنساب القريبة التي يمكن التوصل إلى معرفتها لا يضر الاشتغال بها لدعوى الحاجة إليها في الأمور الشرعية من التعصيب و الولاية و العاقلة و فرض الإيمان بمعرفة النبي صلى الله عليه و سلم و نسب الخلافة و التفرقة بين العرب و العجم في الحرية و الاسترقاق عند من يشترط ذلك كما مر كله و في الأمور العادية أيضا تثبت به اللحمة الطبيعة التي يكون بهذا المدافعة و المطالبة و منفعة ذلك في إقامة الملك و الدين ظاهرة و قد كان صلى الله عليه و سلم و أصحابه ينسبون إلى مضر و يتساءلون عن ذلك و روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ تعلموا من أنسابكن ما تصلون به أرحامكم ] و هذا كله ظاهر في النسب القريب و أما الأنساب البعيدة العسرة المدرك التي لا يوقف عليها إلا بالشواهد و المقارنات لبعد الزمان و طول الأحقاب أو لا يوقف عليها رأسا لدروس الأجيال فهذا قد ينبغي أن يكون له وجه في الكراهة كما ذهب إليه من ذهب من أهل العلم مثل مالك و غيره لأنه شغل الإنسان بما لا يعنيه و هذا وجه قوله صلى الله عليه و سلم فيما بعد عدنان من ههنا كذب النسابون لأنها أحقاب متطاولة و معالم دراسة لا تثلج الصدور باليقين في شيء منها أن عملها لا ينفع و جهلها لا يضر كما نقل و الله الهادي إلى الصواب
و لنأخذ الآن في الكلام في أنساب العالم على الجملة و نترك تفصيل كل واحد منها إلى مكانه فنقول : إن النسابين كلهم اتفقوا على أن الأب الأول للخليفة هو آدم عليه السلام كما وقع في التنزيل إلا ما يذكره ضعفاء الإخباريين من أن الجن و الطم أمتان كانتا فيما زعموا من قبل آدم و هو ضعيف متروك و ليس لدينا من أخبار آدم و ذريته إلا ما وقع في المصحف الكريم و هو معروف بين الأئمة و اتفقوا على أن فيهم أنبياء مثل شيث و إدريس و ملوك في تلك الأجيال معدودون و طوائف مشهورون بالنحل مثل الكلدانيين و معناه الموحدون و مثل السريانيين و هم المشركون و زعموا أن أمم الصابئة منهم و أنهم من و لد صابئ بن لمك بن أخنوخ و كان نحلتهم في الكواكب و القيام لها كلها و استنزال روحانيتها و أن من حزبهم الكلدانيين أي الموحدين و قد ألف أبو إسحق الصابي الكاتب مقالة في أنسابهم و نحلتهم و ذكر أخبارهم أيضا داهر مؤرخ السريانيين و البابا الصابي الحراني و ذكروا استيلاءهم على العالم و جملا من نواميسهم و قد اندرسوا و انقطع أثرهم و قد يقال أن السريانيين من أهل تلك الأجيال و كذلك النمرود و الازدهاق و هو المسمى بالضحاك من ملوك الفرس و ليس ذلك بصحيح عند المحققين
و اتفقوا على أن الطوفان الذي كان في زمن و بدعوته ذهب بعمران الأرض أجمع بما كان من خراب المعمور و مهلك الذين ركبوا معه في السفينة و لم يعقبوا فصار أهل الأرض كلهم من نسله و عاد أبا ثانيا للخليفة و هو نوح بن لامك و يقال لمك بن متوشلخ بفتح اللام و سكونها ابن خنوخ و يقال أخنوخ و يقال أشنخ و يقال أخنخ و هو إدريس النبي فيما قاله ابن إسحاق ابن بيرد و يقال بيرد بن مهلائيل و يقال ماهلايل بن قاين و يقال قنين بن أنوش و يقال يانش بن شيث بن آدم و معنى شيث عطية الله هكذا نسبه ابن إسحق و غيره من الأئمة و كذا وقع في التوراة نسبه وليس فيه اختلاف بين الأئمة و نقل ابن إسحق أن خنوخ الواقع اسمه في هذا النسب هو إدريس النبي صلوات الله عليه و هو خلاف ما عليه الأكثر من النسابين فإن إدريس النبي صلوات الله عليه و هو خلاف ما عليه الأكثر من النسابين فإن إدريس عندهم ليس بجد لنوح و لا في عمود نسبه و قد زعم الحكماء الأقدمون أيضا أن إدريس هو هرمس المشهور بالإمامة في الحكمة عندهم و كذلك يقال : أن الصائبة من ولد صابئ بن لامك و هو أخو نوح عليه السلام و قيل أن صابئ متوشلخ جده
و اعلم أن الخلاف الذي في ضبط هذه الأسماء إنما عرض في مخارج الحروف فإن هذه الأسماء إنما أخذها العرب من أهل التوراة و مخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب فإذا وقع الحرف متواسطا بين حرفين من لغة العرب فترده العرب تارة إلى هذا و تارة إلى هذا و كذلك إشباع الحركات قد تحذفه العرب إذا نقلت كلام العجم فمن ههنا اختلف الضبط في هذه الأسماء
و اعلم أن الفرس و الهند لا يعرفون الطوفان و بعض الفرس يقولون كان ببابل فقط و اعلم أن آدم هوكيوميرث و هو نهاية نسبهم فيما يزعمون و أن أفريدون الملك في آبائهم هو نوح و أنه بعث لازدهاق و هو الضحاك فلبسه الملك و قبله كما يذكر بعد في أخبارهم و قد تترجح صحة هذا الأنساب من التوراة و كذلك قصص الأنبياء الأقدمين إذ أخذت عن مسلمي يهودا و من نسخ صحيحة من التوراة يغلب على الظن صحتها و قد وقعت العناية في التوراة بنسب موسى عليه السلام و اسرائيل و شعوب الأسباط و نسب ما بينهم و بين آدم صلوات الله عليه و النسب و القصص أمر لا يدخله النسخ فلم يبق الاتحري النسخ الصحيحة و النقل المعتبر و أما ما يقال من أن علمائهم بدلوا مواضع من التوراة بحسب أغراضهم في ديانتهم فقد قال ابن عباس على ما نقل عنه البخاري في صحيحه : أن ذلك بعيد و قال معاذ الله أن تعمد أمة الأمم إلى كتابها المنزل على نبيها فتبدله أو ما في معناه و قال و إنما بدلوه و حرفوه بالتأويل و يشهد لذلك قوله تعالى : { و عندهم التوراة فيها حكم الله } و لو بدلوا من التوراة ألفاظها لم يكن عندهم التوراة التي فيها حكم الله و ما وقع في القرآن الكريم من نسبة التحريف و التبديل فيها إليهم فإنما المعني به التأويل اللهم إلا أن يطرقها التبديل في الكلمات على طريق الغفلة و عدم الضبط و تحريف من لا يحسن الكتابة بنسخها فذلك يمكن في العادة لا سيما و ملكهم قد ذهب و جماعتهم انتشرت في الآفاق و استوى الضابط منهم وغير الضابط و العالم و الجاهل و لم يكن وازع يحفظ لهم ذلك لذهاب القدرة بذهاب الملك فتطرق من أجل ذلك إلى صحف التوراة في الغالب تبديل و تحريف غير متعمد من علمائهم و أحبارهم و يمكن مع ذلك الوقوف على الصحيح منها إذ تحرى القاصد لذلك بالبحث عنه
ثم اتفق النسابون و نقلت المفسرين على أن ولد نوح الذي تفرعت الأمم منهم ثلاثة : سام و حام ويافث و قد وقع ذكرهم في التوراة و أن يافث أكبرهم و حام الأصغر و سام الأوسط و خرج الطبري في الباب أحاديث مرفوعة بمثل ذلك و أن سام أبو العرب و يافث أبو الروم و حام أبو الحبش و الزنج و في بعضها السودان و في بعضها سام أبو العرب و فارس و الروم و يافث أبو الترك و الصقالبة و يأجوج و مأجوج و حام أبو القبط و السودان و البربر و مثله عن ابن المسيب و وهب بن منبه و هذه الأحاديث و إن صحت فإنما الأنساب فيها مجملة و لا بد من نقل ما ذكره المحققون في تفريغ أنساب الأمم من هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا و كذلك نقل الطبري أنه كان لنوح ولد اسمه كنعان و هو الذي هلك في الطوفان قال و تسمية العرب يام و آخر مات قبل الطوفان اسمه عابر و قال هشام كان له ولد اسمه بوناطر فمن ولد العرب على اختلافهم و إبراهيم و بنوه صلوات الله عليهم باتفاق النسابين
و الخلاف بينهم إنما هو في تفاريع ذلك أو في نسب غير العرب إلى سام
فالذي نقله ابن إسحاق : أن سام بن نوح كان له من الولد خمسة و هم : أرفخشد و لاوذ و إرم و أشوذ و غليم و كذا وقع ذكر هذه الخمسة في التوراة و أن بني أشوذ هم أهل الموصل و بني غليم أهل خوزستان و منها الأهواز و لم يذكر في التوراة ولد لاوذ و قال ابن إسحق : و كان للاوذ أربعة من الولد : و هم طسم و عمليق و جرجان و فارس قال : و من العماليق أمة جاسم فمنهم بنو لف و بنو هزان و بنو مطر و بنو الأزرق و منهم بديل و راحل و ظفار و منهم الكنعانيون و برابرة الشام و فراعنة مصر و عن غير ابن إسحاق أن عبد بن ضخم و أميم من ولد لاوذ قال ابن إسحق : و كانت طسم و العماليق و أميم و جاسم يتكلمون بالعربية و فارس يجاورونهم إلى المشرق و يتكلمون بالفارسية
قال و ولد إرم : عوص و كاثر و عبيل و من ولد عوص عاد و منزلهم بالرمال و الأحقاف إلى حضرموت و من ولد كاثرثمود و جديس و منزل ثمود بالحجر بين الشام و الحجاز
و قال هشام بن الكلبي : عبيل بن عوص أخو عاد و قال ابن حزم عن قدماء النسابين : أن لاوذ هو ابن إرم بن سام أخو عاص و كاثر و قال : فعلى هذا يكون جديس و ثمود أخوين و طسم و عملاق أخوين أبناء عم لحام و كلهم بنو عم عاد قال : و يذكرون أن عبد بن ضخم بن إرم و أن أميم بن لاوذ بن إرم قال الطبري : و فهم الله لسان العربية عادا و ثمود و عبيل و طسم و جديس و أميم و عمليق و هم العرب العاربة و ربما يقال : إن من العرب العاربة يقطن أيضا و يسمون أيضا العرب البائدة و لم يبق على وجه الأرض منهم أحد قال : و كان يقال عاد إرم فلما هلكوا قيل ثمود إرم ثم هلكوا فقيل لسائر ولد إرم أرمان و هم النبط و قال هشام بن محمد الكلبي : إن النبط بنو نبيط بن ماش بن إرم و السريان بنو سريان بن نبط و ذكر أيضا أن فارس من ولد أشوذ بن سام و قال فيه فارس بن طبراش بن أشوذ وقيل أنهم من أميم بن لاوذ و قيل ابن غليم و في التوراة : ذكر ملك الأهواز و اسمه كردلا عمرو من بني غليم و الأهواز متصلة ببلاد فارس فلعل هذا القائل ظن أن أهل أهواز هم فارس و الصحيح أنهم من ولد يافث كما يذكر و قال أيضا إن البربر من ولد عمليق بن لاوذ و أنهم بنو تميلة من مأرب بن قاران بن عمر بن عمليق و الصحيح أنهم من كنعان بن حام كما يذكر و ذكر في التوراة ولد إرم أربعة عوص و كاثر و ماش و يقال مشح و الرابع حول و لم يقع عند بني إسرائيل في تفسير هذا شيء إلا أن الجرامقة من ولد كاثر و قد قيل إن الكرد و الديلم من العرب و هو قول مرغوب عنه و قال ابن سعيد كان لأشوذ أربعة من الولد إيران و نبيط و جرموق و باسل فمن إيران الفرس و الكرد و الخزر و من نبيط النبط و السريان و من جرموق الجرامقة و أهل الموصل و من باسل الديلم و أهل الجبل قال الطبري : و من ولد أرفخشد العبرانيون و بنو عابر بن شالخ بن أرفخشد و هكذا نسبه في التوراة و في غيره أن شالخ بن قينن بن أرفخشذ و إنما لم يذكر قينن في التوراة لأنه كان ساحرا و ادعى الألوهية
و عند بعضهم أن النمروذ من ولد أرفخشذ و هو ضعيف و في التوراة أن عابر ولد اثنين من الولد هما فالغ و يقطن و عند المحققين من النسابة أن يقطن هو قحطان عربته العرب هكذا و من فالغ إبراهيم عليه السلام و شعوبه و يأتي ذكرهم و من يقطن شعوب كثيرة ففي التوراة ذكر ثلاثة من الولد له و هم : المرذاذ و معربه و مضاض و هم جرهم و إرم و هم حضور و سالف و هم أهل السلفات و سبا وهم أهل اليمن من حمير و التبابعة و كهلان و هدرماوت و هم حضرموت هؤلاء خمسة و ثمانية أخرى ننقل أسماءهم و هي عبرانية و لم نقف على تفسير شيء منها و لا يعلم من أي البطون هم و هم : بباراح و أوزال و دفلا و عوثال و أفيمايل و أيوفير و حويلا ويوفاف و عند النسابين أن جرهم من ولد يقطن فلا أدري من أيهم و قال هشام بن الكلبي : إن الهند و السن من نوفير بن يقطن و الله أعلم
و أما يافث فمن ولده الترك و الصين و الصقالبة و يأجوج و مأجوج باتفاق من النسابين و في آخرين خلاف كما يذكر و كان له من الولد على ما وقع في التوراة سبعة و هم كومر و ياوان و ماذاي و ماغوغ و قطوبال و ماشخ و طيراش و عدهم ابن إسحق هكذا و حذف ماذاي و لم يذكر كومر و توغرما و أشبان و ريغاث هكذا في نص التوراة و وقع في الإسرائيليات أن توغرما هم الخزر و أن أشبان هم الصقالبة و أن ريغاث هم الإفرنج و يقال لهم برنسوس و الخزر هم التركمان و شعوب الترك كلهم من بني كومر و لم يذكروا من أي الثلاثة هم و الظاهر أنه ممن توغرما و نسبهم ابن سعيد إلى الترك ابن عامور بن سويل بن يافث و الظاهر أنه غلط و أن عامور هو كومر صحف عليه و هم أجناس كثيرة منهم الطغرغر و هم التتر و الخطا و كانوا بأرض طغماج و الخزلقية و الغز الذي كان منهم السلجوقية و الهياطلة الذي كان منهم الخلج و يقال للهياطلة الصغد أيضا و من أجناس الترك الغور و الخزر و القفجاق و يقال الخفشاخ و منهم يمك و العلان و يقال الأز و منهم الشركس و أزكش و من ماغوغ عند الإسرائيليين يأجوج و مأجوج و قال ابن إسحق : إنهم من كومر و من ماذاي الديلم و يسمون في اللسان العبراني ماهان و منهم أيضا همذان و جعلهم بعض الإسرائيليين من بني همذان بن يافث و عد همذان ثامنا للسبعة المذكورين من ولده
و أما ياوان فعند الإسرائليلين أنه كان له من الولد أربعة و هم : داود بن و اليشا و كيتم و ترشيش و إن كيتم من هؤلاء الأربعة هو أبو الروم و الباقي يونان و أن ترشيش أهل طرسوس
و أما قطوبال فهم أهل الصين من المشرق و الليمان من المغرب و يقال أن أهل أفريقية قبل البربر منهم و أن الإفرنج أيضا منهم و يقال أيضا أن أهل الأندلس قديما منهم و أما ماشخ فكان ولده عند الإسرائيليين بخراسان و قد انقضوا لهذا العهد فيما يظهر و عند بعض النسابين أن الأشبان منهم
و أما طيراش فهم الفرس عند الإسرائليين و ربما قال غيرهم إنهم من كومر و أن الخزر و الترك من طيرش و أن الصقالبة و برجان و الأشبان من ياوان و أن يأجوج و مأجوج من كومر و هي كلها مزاعم بعيدة عن الصواب و قال اهروشيوش مؤرخ الروم أن القوط و اللطين من ماغوغ و هذا آخر الكلام في أنساب يافث
و أما حام فمن ولده : السودان و الهند و القبط و كنعان باتفاق و في آخرين خلاف نذكره و كان له على ما وقع في التوارة أربعة من الولد و هم مصر و يقول بعضهم مصرايم و كنعان و كوش و قوط فمن ولد مصر عن الاسرائيليين فتروسيم و كسلوحيم و وقع في التوراة فلشنين منهما معا و لم يتعين من أحدهما و بنو فلشين الذين كان منهم جالوت و من ولد مصر عندهم كفتورع و يقولون هم أهل دمياط و وقع الانقلوس ابن أخت قيطش الذي خرب القدس في الجلوة الكبرى على اليهود قال إن كفتورع هو قبطقاي و يظهر من هذه الصيغة أنهم القبط لما بين الاسمين من الشبه و من ولد مصر عناميم و كان لهم نواحي إسكندرية و هم أيضا بفتوحيم و لوديم و لهابيم و لم يقع إلينا تفسير هذه الأسماء و أما كنعان بن حام فذكر من ولده في التوراة أحد عشر منهم صيدون و لهم ناحية صيدا و إيموري و كرساش و كانوا بالشام و انتقلوا عندما غلبهم عليه يوشع إلى أفريقية فأقاموا بها و من كنعان أيضا يبوسا و كانوا ببيت المقدس و هربوا أمام داود عليه السلام حين غلبهم عليه إلى أفريقية و المغرب و أقاموا بها و الظاهر أن البربر من هؤلاء المنتقلين أولا و آخرا إلا أن المحققين من نسابتهم على أنهم من ولد مازيغ بن كنعان فلعل مازيغ ينتسب إلى هؤلاء و من كنعان أيضا حيث الذين كان ملكهم عوج بن عناق و منهم عرفان و أروادى و خوي و لهم نابلس و سبا و لهم طرابلس و ضمارى و لهم حمص و حما و لهم أنطاكية و كانت تسمى حما باسمهم و أما كوش بن حام فذكر له في التوراة خمسة من الولد و هم سفنا و سبا و جويلا و رعما و سفخا و من ولد رعماشا و هم السند و دادان و هم الهند و فيها أن النمروذ من ولد كوش و لم يعنيه و في تفاسيرها أن جويلا زويلة و هم أهل برقة و أما أهل اليمن من ولد سبا و أما قوط فعند أكثر الإسرائيلين أن القبط منهم و نقل الطبري عن ابن إسحق أن الهند و السند و الحبشة من بني السودان من ولد كوش و أن النوبة و فزان و زغاوة و الزنج منهم من كنعان و قال ابن سعيد أجناس السودان كلهم من ولد حام و نسب ثلاثة منهم إلى ثلاثة سماهم من ولده غير هؤلاء الحبشة إلى حبش و النوبة إلى نوابة أو نوى و الزنج إلى زنج و لم يسم أحدا من آباء الأجناس الباقية و هؤلاء الثلاثة الذين ذكروا لم يعرفوا من ولد حام فلعلهم من أعقابهم أو لعلها أسماء أجناس و قال هشام بن محمد الكلبي إن النمروذ هو ابن كوش بن كنعان و قال أهروشيوش مؤرخ الروم : إن سبا و أهل إفريقية يعني البربر من جويلا بن كوش و يسمى يضول و هذا و الله أعلم غلط لأنه مر أن يضول في التوراة من ولد يافث و لذلك ذكر أن حبشة المغرب من دادان ابن رعما من ولد مصر بن حام بنو قبط بن لاب بن مصر الكلام في بني حام
و هذا آخر الكلام في أنساب أمم العالم على الجملة و الخلاف الذي في تفاصيلها يذكر في أماكنه و الله ولي العون و التوفيق (2/3)
المقدمة الثانية في كيفية وضع الأنساب في كتابنا لأهل الدول و غيرهم
اعلم أن الأنساب تتشعب دائما و ذلك أن الرجل قد يكون له من الولد ثلاثة أو أربعة أو أكثر و يكون لكل واحد منهم كذلك و كل واحد منهم فرع ناشئ عن أصل أو فرع أو عن فرع فرع فصارت بمثابة الأغصان للشجرة تكون قائمة على ساق واحدة هي أصلها و الفروع عن جانبها و لكل واحد من الفروع فروع أخرى إلى أن تنتهي إلى الغاية فلذلك اخترنا بعد الكلام على الأنساب للأمة و شعوبها أن نضع ذلك على شكل شجرة نجعل أصلها و عمود نسبها باسم الأعظم من أولئك الشعوب و من له التقدم عليهم فيجعل عمود نسبة أصلالها و تفرع الشعوب الأخرى عن جانبه من كل جهة كأنها فروع لتلك الشجرة حتى تتصل تلك الأنساب عمودا و فروعا بأصلها الجامع لها ظاهرة للعيان في صفحة واحدة فترسم في الخيال دفعة و يكون ذلك أعون على تصور الأنساب و تشعبها فإن الصور الحسية أقرب إلى الارتسام في الخيال من المعاني المتعلقة ثم لما كانت هذه الأمم كلها لها دول و سلطان اعتمدنا بالقصد الأول ذكر الملوك منهم في تلك الشجرات متصلة أنسابهم إلى الجد الذي يجمعهم بعد أن نرسم على كل واحد منهم رتبته في تعاقبهم واحدا بعد واحد بحروف أ ب ج د فالألف للأول و الباء للثاني و الجيم للثالث و الدال للرابع و الهاء للخامس و هلم جرا و نهاية الأجداد لأهل تلك الدولة في الآخر منهم و يكون للأول غصون و فروع في كل جهة عنه فإذا نظرت في الشجرة علمت أنساب الملوك في كل دولة و ترتبهم بتلك الحروف واحدا بعد واحد و الله أعلم بالصواب (2/16)
القول في أجيال العرب و أوليتها و اختلاف طبقاتها و تعاقبها و أنساب كل طبقة منها
اعلم أن العرب منهم الأمة الراحلة الناجعة أهل الخيام لسكانهم و الخيل لركوبهم و الأنعام لكسبهم يقومون عليها و يقتاتون من ألبانها و يتخذون الدفء و الأثاث من أوبارها و أشعارها و يحملون أثقالها على ظهورها يتنازلون حللا متفرقة و يبتغون الرزق في غالب أحوالهم من القنص و يختطف الناس من السبل و يتقلبون دائما في المجالات فرارا من حمارة القيظ تارة و صبارة البرد أخرى و انتجاعا لمراعي غنمهم و ارتيادا لمصالح إبلهم الكفيلة بمعاشهم و حمل أثقالهم و دفئهم و منافعهم فاختصوا لذلك بسكن الإقليم الثالث ما بين البحر المحيط من المغرب إلى أقصى اليمن و حدود الهند من المشرق فعمروا اليمن و الحجاز و نجدا و تهامة و ما وراء ذلك مما دخلوا إليه في الماء الخامسة كما ذكروه من مصر وصحاري برقة و تلولها و قسطنطينة و أفريقية و زاغا و المغرب الأقصى و السوس لاختصاص هذه البلاد بالرمال و القفار المحيطة بالأرياف و التلول و الأرياف الآهلة بمن سواهم من الأمم في فصل الربيع و زخرف الأرض لرعي الكلأ و العشب في منابتها و التنقل في نواحيها إلى فصل الصيف لمدة الأقوات في سنتهم من حبوبها و ربما يلحق أهل العمران أثناء ذلك معرات من أضرارهم بإفساد السابلة و رعي الزرع مخضرا و انتهابه قائما و حصيدا إلا ما حاطته الدولة و ذادت عنه الحامية في الممالك التي للسلطان عليهم فيها ثم ينحدرون في فصل الخريف إلى القفار لرعي شجرها ونتاج إبلهم في رمالها و ما أحاط به عملهم من مصالحها و فرارا بأنفسهم و ظعائنها من أذى البرد إلى دفء مشاتيها فلا يزالون في كل عام مترددين بين الريف و الصحراء ما بين الإقليم الثالث و الرابع صاعدين و منحدرين على ممر الأيام شعارهم لبس المخيط في الغالب و لبس العمائم تيجانا على رؤوسهم يرسلون من أطرافها عذبات يتلثم قوم منهم بفضلها و هم عرب المشرق و قوم يلفون منها الليث و الاخدع قبل لبسها ثم يتلثمون بما تحت أذقانهم من فضلها و هم عرب المغرب حاكوا بها عمائم زناتة من أمم البربر قبلهم و كذلك لقنوا منهم في حمل السلاح اعتقال الرماح الخطية و هجروا تنكب القسى و كان المعروف لأولهم و من بالمشرق لهذا العهد منهم استعمال الأمرين
ثم إن العرب لم يزالوا موسومين بين الأمم بالبيان في الكلام و الفصاحة في المنطق و الذلاقة في اللسان و لذلك سموا بهذا الاسم فإنه مشتق من الابانة لقولهم أعرب الرجل عما في ضميره إذا أبان عنه و منه قوله صلى الله عليه و سلم : [ الثيب تعرب عن نفسها ] و البيان سمتهم بين الأمم منذ كانوا و انظر قصة كسرى لما طلب من خليفته على العرب النعمان بن المنذر منذ كانوا و انظر قصة كسرى لما طلب من خليفته على العرب النعمان بن المنذر أن يوفد عليه من كبرائهم و خطبائهم من رضي لذلك فاختار منهم وفد أوفده عليه و كان من خبره و استغراب ما جاؤوا به من البيان ما هو معروف
فهذه كلها شعائرهم و سماتهم و أغلبه عليهم اتخاذ الإبل و القيام على نتاجها و طلب الانتجاع بها الارتياد مراعيها و مفاحص توليدها بما كان معاشهم منها فالعرب أهل هذه الشعار من أجيال الآدميين كما أن الشاوية أهل القيام على الشاة و البقر لما كان معاشهم فيها فلهذا لا يختصون بنسب واحد بعينه إلا بالعرض و لذلك كان النسب في بعضهم مجهولا عند الأكثر و في بعضهم خفيا على الجمهور و ربما تكون هذه السمات و الشعائر في أهل نسب آخر فيدعون باسم العرب إلا أنهم في الغالب يكونون أقرب إلى الأولين من غيرهم و هذا الانتقال لا يكون إلا في أزمنة متطاولة و أحقاب متداولة و لذلك يعرض في الأنساب ما يعرض من الجهل و الخفاء
و اعلم أن حيل العرب بعد الطوفان و عصر نوح عليه السلام كان في عاد الأولى و ثمود و العمالقة و طسم و جديس و أميم و جرهم و حضرموت و من ينتمي إليهم من العرب العاربة من أبناء سام بن نوح ثم لما انقرضت تلك العصور و ذهب أولئك الأمم و أبادهم الله بما شاء من قدرته و صار هذا الجيل في آخرين ممن قرب من نسبهم من حمير و كهلان و أعقابهم من التبابعة و من إليهم من العرب المستعربة من أبناء عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام ثم لما تطاولت تلك العصور و تعاقبت و كان بنو فالغ بن عابر أعالم من بين ولده و اختص الله بالنبوة منهم إبراهيم بن تارخ و هو آزر بن ناحور بن ساروخ بن أرغو بن فالغ و كان من شأنه مع نمروذ ما قصه القرآن ثم كان من هجرته إلى الحجاز ما هو مذكور و تخلف ابنه إسمعيل مع أمه هاجر بالحجر قربانا لله و مرت بها رفقة من جرهم في تلك المفازة فخالطوها و نشأ إسمعيل بينهم و ربي في أحيائهم و تعلم لغتهم العربية بعد أن كان أبوه أعجميا ثم كان بناء البيت كما قصه ثم عظم نسله و كثر و صار بالجيل آخر من ربيعة و مضر و من إليهم من إياد وعك و شعوب نزار و عدنان و سائر ولد إسمعيل و هم العرب التابعة للعرب ثم انقرض أولئك الشعوب في أحقاب طويلة و انقرض ما كان لهم من الدولة في الإسلام و خالطوا العجم بما كان لهم من التغلب عليهم ففسدت لغة أعقابهم في آماد متطاولة و بقي خلفهم أحياء بادين في القفار و الرمال و الخلاء من الأرض تارة و العمران تارة و قبائل بالمشرق و المغرب و الحجاز و اليمن و بلاد الصعيد و النوبة و الحبشة و بلاد الشام و العراق و البحرين و بلاد فارس و السند و كرمان و خراسان أمم لا يأخذها الحصر و الضبط قد كاثروا أمم الأرض لهذا العهد شرقا و غربا و اعتزوا عليهم فهم اليوم أكثر أهل العالم و أملك لأمرهم من جميع الأمم و لما كانت لغتهم مستعجمة على اللسان المضري الذي نزل به القرآن و هو لسان سلفهم سميناهم لذلك العرب المستعجمة فهذه أجيال العرب منذ مبدأ الخليفة و لهذا العهد في أربع طبقات متعاقبة كان لكل طبقة منها عصور و أجيال و دول و أحياء وقعت العناية بها دون من سواهم من الأمم لكثرة أجيالهم و اتساع النطاق من ملكهم فلنذكر لكل طبقة أحوال جيلها و بعض أيامهم و دولهم و من كان عهدهم من ملوك الأمم و دولهم ليتبين لك بذلك مراتب الأجيال في الخليقة كيف تعاقبت و الله سبحانه و تعالى و لي العون (2/16)
برنامج بما تضمنه الكتاب من الدول في هذه الطبقات الأربع على ترتيبها و الدول المعاصرين من العجم في كل طبقة منها
فنبدأ أولا بذكر الطبقة الأولى و هم العرب العاربة و نذكر أنسابهم و مواطنهم و ما كان لهم من الملك و الدولة ثم الطبقة الثانية و هم العرب المستعربة من بني حمير بن سبا و نذكر أنسابهم و ما كان لهم من الملك باليمن في التبابعة و أعقابهم ثم نرجع إلى ذكر معاصرهم من العجم و هم ملوك بابل من السريانيين ثم ملوك الموصل و نينوى من الجرامقة ثم القيط و ملوكهم بمصر ثم بني إسرائيل و دولهم ببيت المقدس قبل تخريب بختنصر و بعده و بالصابئة ثم الفرس و دولهم الأولى و الثانية ثم يونان و دولهم الإسكندر و قومه ثم الروم و دولهم في القياصرة و غيرهم
ثم نرجع إلى ذكر الطبقة الثالثة و هم العرب التابعة للعرب من قضاعة و قحطان و عدنان و شعبيها العظيمين ربيعة و مضر فنبدأ بقضاعة و أنسابهم و ما كان لهم من الملك البدوي في آل النعمان بالحيرة و العراق و من زاحمهم فيها من ملوك كندة بني حجر آكل المرار ثم ما كان لهم أيضا من الملك البدوي بالشام في بني جفنة بالبلقاء و الأوس و الخزرج بالمدينة النبوية ثم عدنان و أنسابهم و ما كان لهم من الملك بمكة في قريش ثم ما شرفهم الله به و جيل الآدميين أجمع من النبوة و ذكر الهجرة و السير النبوية ثم نذكر ما أكرمهم الله به من الخلافة و الملك فنترجم للخلفاء الأربعة و ما كان على عصرهم من الردة و الفتوحات و الفتن ثم نذكر خلفاء الإسلام من بني أمية و ما كان لعهدهم من أمر الخوارج ثم نذكر خلفاء الشيعة و ما كان لهم من الدول في الإسلام فالأولى الدولة العظيمة لبني العباس التي انتشرت في أكثر ممالك الإسلام ثم دول العلوية المزاحمين لها بعد صدر منها دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى ثم دولة العبيدية من الإسماعيلية بالقيروان و مصر ثم القرامطة بالبحرين ثم دعاة طبرستان و الديلم ثم ما كان من هؤلاء العلوية بالحجاز ثم نذكر بني أمية المنازعين لبني العباس بالأندلس و ما كان لهم من الدولة هنالك و الطوائف من بعدهم ثم نرجع إلى ذكر المستبدين بالدعوة العباسية بالمغرب و النواحي و هم بنو الأغلب بأفريقية و بنو حمدان بالشام و بنو المقلد بالموصل و بنو صالح بن كلاب بحلب و بنو مروان بديار بكر و بنو أسد بالحلة و بنو زياد باليمين و بنو هود بالأندلس
ثم نرجع إلى القائمين بالدعوة العبيدية بالنواحي و هم الصليحيون باليمن و بنو أبي الحسن الكلبي بصقلية و صنهاجة بالمغرب ثم نرجع إلى المستبدين بالدعوة العباسية من العجم في النواحي و هم بنو طولون بمصر و من بعدهم بنو طغج و بنو الصفار بفارس و سجستان و بنو سامان فيما وراء النهر و بنو سبكتكين في غزنة و خراسان و غورية في غزنة و الهند و بنو حسنويه من الكرد في خراسان ثم نرجع إلى ذكر المستبدين على الخلفاء ببغداذ من العجم و هم أهل الدولتين العظيمتين القائمتين بملك الإسلام من بعد العرب و هم بنو بويه من الديلم و السلجوقية من الترك ثم نرجع إلى ملوك السلجوقية المستبدين بالنواحي و هم بنو طغتكين بالشام و بنو قطلمش ببلاد الروم و بنو خوارزم شاه ببلاد العجم ما وراء النهر و بنو سقمان بخلاط و أرمينية و بنو أرتق بماردين و بنو زنكي بالشام و بنو أيوب بمصر و الشام ثم الترك الذي ورثوا ملكهم هنالك و بنو رسول باليمن ثم نرجع إلى ذكر التتر من الترك القائمين على دولة الإسلام و الماحين للخلافة العباسية ثم ما كان من دخلوهم في دين الإسلام و قيامهم بالملك بالنواحي و هم بنو هولاكو بالعراق و بنو ذوشيخان بالشمال و بنو أرتنا ببلاد الروم و من بعد بني هولاكو بنو الشبخ حسن ببغداذ و توريز و بنو المظفر بأصبهان و شيراز و كرمان و بعد بني أرتنا ملوك بني عثمان من التركمان ببلاد الروم و ما وراءها
ثم نرجع إلى الطبقة الرابعة من المغرب و هم المستعجمة و من له ملك بدوي منهم بالمغرب و المشرق ثم نخرج بعد ذكر ذلك إلى ذكر البرير و دولهم بالمغرب لأنهم كانوا من شرط كتابنا و هنالك نذكر برنامج دولهم و الله سبحانه أعلم (2/19)
الطبقة الأولى من العرب و هم العرب العاربة و ذكر نسبهم و الإلمام بملكهم و دولهم على الجملة
هذه الأمة أقدم الأمم من بعد قوم نوح و أعظمهم قدرة و أشدهم قوة و آثارا في الأرض و أول أجيال العرب من الخليقة فيما سمعناه لأن أخبار القرون الماضية في قبلهم يمتنع اطلاعنا عليها التطاول الأحقاب و دروسها إلا ما يقصه علينا الكتاب و يؤثر عن الأنبياء بوحي الله إليهم و ما سوى ذلك من الأخبار الأزلية فمنقطع الإسناد و لذلك كان المعتمد عند الإثبات في أخبارهم ما تنطق به آية القرآن في قصص بالأنبياء الأقدمين أو ما ينقله زعماء المفسرين في تفسيرها من أخبارهم و ذكر دولهم و حروبهم ينقلون ذلك عن السلف من التابعين الذين أخذوا عن الصحابة أو سمعوه ممن هاجر إلى الإسلام من أحبار اليهود و علمائهم أهل التوراة أقدم الصحف المنزلة فيما علمناه و ما سوى ذلك من حطام المفسرين و أساطير القصص و كتب بدء الخليقة فلا نعول على شيء منه و إن وجد لمشاهير العلماء تأليف مثل كتاب الياقوتية للطبري و البدء للكسائي فإنما نحوا فيها منحى القصاص و جروا على أساليبهم و لم يلتزموا فيها الصحة و لا ضمنوا لنا الوثوق بها فلا ينبغي التعويل عليها و تترك و شأنها و أخبار هذا الجيل من العرب و إن لم يقع لها ذكر في التوراة إلا أن بني إسرائيل من بين أهل الكتاب أقرب إليهم عصرا و أوعى لأخبارهم فلذلك يعتمد نقل المهاجرة منهم لأخبار هذا الجيل ثم إن هذه الأمم على ما نقل كان لهم ملوك و دول
فملوك جزيرة العرب و هي الأرض التي أحاط بها بحر الهند من جنوبها و خليج الحبشة من غربها و خليج فارس من شرقها و فيها اليمن و الحجاز و الشحر و حضرموت و امتد ملكهم فيها إلى الشام و مصر في شعوب منهم على ما يذكر و يقال : إنهم انتقلوا إلى جزيرة العرب من بابل لما زاحمهم فيها بنو حام فسكنوا جزيرة العرب بادية مخيمين ثم كان لكل فرقة منهم ملوك و آطام و قصور حسبما نذكره إلى أن غلب عليهم بنو يعرب بن قحطان و هؤلاء العرب العاربة شعوب كثيرة و هم عاد و ثمود و طسم و جديس و أميم و عبيل و عبد ضخم و جرهم و حضرمون و حضورا و السلفات
و سمي أهل هذا الجبل العرب العاربة إما بمعنى الرساخة في العروبية كما يقال : ليل أليل و صوم صائم أو بمعنى الفاعلة للعروبية و المبتدعة لها بما كانت أول أجيالها و قد تسمى البائدة أيضا بمعنى الهالكة لأنه لم يبق على وجه الأرض أحد من نسلهم فأما عاد و هم بنو عاد بن عوص بن إرم بن سام فكانت مواطنهم الأولى بأحقاف الرمل بين اليمن و عمان إلى حضرموت و الشحر و كان أبوهم عاد فيما يقال أول من ملك من العرب و طال عمره و كثر ولده و في التواريخ ولد له أربعة آلاف ولد ذكر لصلبه و تزوج ألف امرأة و عاش ألف سنة و مائتي سنة و قال البيهقي : إنه عاش ثلثمائة سنة و ملك بعده بنوه الثلاثة شديد و بعده شداد و بعده إرم و ذكر المسعودي : إن الذي ملك من بعد عاد و شداد منهم هو الذي سار في الممالك و استولى على كثير من بلاد ملك من بعد عاد و شداد منهم هو الذي سار في الممالك و استولى على كثير من بلاد الشام و الهند و العراق و قال الزمخشري : إن شداد هو الذي بنى مدينة إرم صحارى عدن و شيدها بصخور الذهب و أساطين الياقوت و الزبرجد يحاكي بها الجنة لما سمع وصفها طغيانا منه و عتوا و يقال : إن باني إرم هذه هو إرم بن عاد و ذكر ابن سعيد عن البيهقي : أن باني ارم هو ارم بن شداد بن عاد الأكبر و الصحيح أنه ليس هناك مدينة اسمها إرم و إنما هذا من خرافات القصاص و إنما ينقله ضعفاء المفسرين و إرم المذكورة في قوله تعالى : { إرم ذات العماد } القبيلة لا البلد
و ذكر المسعودي أن ملك عوص كان ثلثمائة و أن الذي ملك من بعده ابنه عاد بن عوص و أن جيرون بن سعد بن عاد كان من ملوكهم و أنه الذي اختط مدينة دمشق و مصرها و جمع عمد الرخام و المرمر إليها و سماها إرم و من أبواب مدينة دمشق إلى هذا العهد باب جيرون و ذكره الشعراء في معاهدها قال الشاعر :
( النخل فالقصر فالحماء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون )
و هذا البيت في الصوت الأول من كتاب الأغاني و ذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق جيرون و يزيد أخوان هما ابنا سعد بن لقمان بن عاد و بهما عرف باب جيرون و نهر يزيد و الصحيح أن باب جيرون إنما سمي باسم مولى من موالي سليمان عليه السلام في دولة بني إسرائيل جيرون كان ظاهرا في دولتهم
و ذكر ابن سعيد في أخبار القبط : أن شداد بن بداد بن هداد بن شداد بن عاد حارب بعضها من القبط و غلب على أسافل مصر و نزل الإسكندرية و بنى بها حينئذ مدينة مذكورة في التوراة يقال لها أون ثم هلك في حروبهم و جمع القبط إخوتهم من البربر و السودان و أخرجوا العرب من ملك مصر
ثم لما اتصل ملك عاد و عظم طغيانهم و عتوهم انتحلوا عبادة الصنام والأوثان من الحجارة و الخشب و يقال : إن ذلك لانتحالهم دين الصابئة فبعث الله إليهم أخاهم هودا و هو فيما ذكر المسعودي و الطبري هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد و في كتاب البدء لابن حبيب رباح بن حرب بن عاد و بعضهم يقول هود بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ فوعظهم و كان ملوكهم لعهده : الخلجان و لقمان بن عاد بن عاديا بن صدا بن عادفا آمن به لقمان و قومه و كفر الخلجان و امتنع هود بعشيرته من عاد و حبس الله عنهم المطر ثلاث سنين و بعثوا الوفود من قومهم إلى مكة يستسقون لهم كان في الوفد على ما قاله الطبري نعيم بن هزال بن هزيل بن عبيل بن صدا بن عاد و قيل ابن عنز منهم و حلقمة بن الخسري و مرثد بن سعد بن عنز و كان ممن آمن بهود و اتبعه و كان بمكة من عاد هؤلاء : معاوية بن بكر و قومه و كانت هزيلة أخت معاوية عند نعيم بن هزال و ولدت له عبيدا و عمرا و عامرا فلما وصل الوفد إلى مكة مروا بمعاوية بن بكر و ابنه بكر و نزل الوفد عليه ثم تبعهم لقمان بن عاد و أقاموا عند معاوية و قومه شهرا لما بينهم من الخؤلة و مكثوا يشربون و تغنيهم الجرادتان قينتان لمعاوية بن بكر و ابنه بكر ثم غنتاهم شعرا تذكرهم بأمرهم فانبعثوا و مضوا إلى الاستقساء و تخلف عنهم لقمان بن عاد و مرثد بن سعد فدعوا في استسقائهم و تضرعوا و أنشأ الله السحب و نودي بهم أن اختاروا فاختاروا سوداء من السحب و أنذروا بعذابها فمضت إلى قومهم و هلكوا كما قصه القرآن
و في خبر الطبري أن الوفد لما رجعوا إلى معاوية بن بكر لقيهم خبر مهلك قومهم هنالك و أن هودا بساحل البحر و أن الخلجان ملكهم قد هلك بالريح فيمن هلك و أن الريح كانت تدخل تحت الرجل فتحمله حتى تقطعوا في الجبال و تقلع الشجر و ترفع البيوت حتى هلكوا أجمعون انتهى كلام الطبري
ثم ملك لقمان و رهطه من قوم عاد و اتصل لهم الملك فيما يقال ألف سنة أو يزيد و انتقل ملكه إلى ولده لقمان و ذكر البخاري في تاريخه أن الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا هو هدد بن بدد بن الخلجان بن عاد بن رقيم بن عابر بن عاد الأكبر و أن المدينة بساحل برقة و لم يزل ملكهم متصلا إلى أن غلبهم عليه يعرب بن قحطان و اعتصموا بجبال حضرموت إلى أن انقرضوا و قال صاحب زجار أن ملكهم عاد بن رقيم بن عابر بن عاد الأكبر هو الذي حارب يعرب بن قحطان و كان كافرا يعبد القمر و أنه كان على عهد نوح و هذا بعيد لأن بعثة هود كانت عند استفحال دولتهم أو عند مبتدئها و غلب يعرب كان عند انقراضها و كذلك هدد الذي ذكر البخاري أنه ملك برقة إنما هو حافد الخلجان الذي اعتصم آخرهم بجبل حضرموت و خبر
البخاري مقدم
و قال علي بن العزيز الجرجاني : و كان من ملوك عاد يعمر بن شداد و عبد أبهر بن معد يكرب بن شمد بن شداد بن عاد و حناد بن مياد بن شمد بن شداد و ملوك آخرون أبادهم الله و البقاء لله وحده فأما عبيل و هم إخوان عاد بن عوص فيما قاله الكلبي و إخوان عوص بن إرم فيما قاله الطبري و كانت ديارهم بالحجفة بين مكة و المدينة و أهلكهم السيل و كان الذي اختط يثرب منهم هكذا قال المسعودي و قال هو يثرب بن ابائلة بن مهلهل بن عبيل و قال السهيلي إن الذي اختط يثرب من العماليق و هو يثرب بن مهلايل بن عوص بن عمليق و أما عبد ضخم بن إرم فقال الطبري كانوا يسكنون الطائف و هلكوا فيمن هلك من ذلك الجيل و قال غيره إنهم أول من كتب بالخط العربي
و أما ثمود بنو ثمود بن إرم فكانت ديارهم بالحجر و وادي القرى فيما بين الحجاز و الشام و كانوا ينحتون بيوتهم في الجبال و يقال لأن أعمارهم كان تطول فيأتي البلاء و الخراب على بيوتهم فنحتوها لذلك في الصخر و هي لهذا العهد و قد مر بها النبي صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك و نهى عن دخولها كما في الصحيح و فيه إشارة إلى أنها بيوت ثمود أهل ذلك الجيل و يشهد ذلك ببطلان ما يذهب إليه القصاص و وقع مثله للمسعودي من أن أهل تلك الأجيال كانت أجسامهم مفرطة في الطول و العظم و هذه البيوت المشاهدة المنسوبة إليهم بكلام الصادق صلوات الله عليه و يشهد بأنهم في طولهم و عظم حجراتهم مثلنا سواء فلا أقدم من عاد و أجيالهم فيما بلغنا
و يقال إن أول ملوكهم كان عابر بن إرم بن ثمود ملك عليهم مائتي سنة ثم كان من بعده جندع بن الدبيل بن إرم بن ثمود و يقال ملك نحوا من ثلثمائة سنة و في أيامه كانت بعثة صالح عليه السلام و هو صالح بن عبيل بن أسف بن شالخ بن عبيل بن كاثر بن ثمود و كانوا أهل كفر و بغي و عبادة أوثان فدعاهم صالح إلى الدين و التوحيد قال الطبري : فلما جاءهم بذلك كفروا و طلبوا الآيات فخرج بهم إلى هضبة من الأرض فتمخضت عن الناقة و نهاهم أن يعترضوا لها بعقر أو هلكة و أخبرهم مع ذلك أنهم عاقروها و لا بد و رأس عليهم قدار بن سالف و كان صالح وصف لهم عاقر الناقة بصفة قدار هذا و لما طال النذير عليهم من صالح سئموه و هموا بقتله و كان يأوي إلى مسجد خارج ملائهم فكمن له رهط منهم تحت صخرة في طريقه ليقتلوه فانطبقت عليهم و هلكوا و حنقوا ومضوا إلى الناقة و رماها قدار بسهم في ضرعها و قتلها و لجأ فصيلها إلى الجبل فلم يدركوه و أقبل صالح و قد تخوف عليهم العذاب فلما رآه الفصيل أقبل إليه و رغا ثلاث رغاآت فأنذرهم صالح ثلاثا و في صبح الرابعة صعقوا بصيحة من السماء تقطعت بها قلوبهم فأصبحوا جاثمين و هلك جميعهم حيث كانوا من الأرض إلا رجلا كان في الحرم منعه الله من العذاب قيل من هو يا رسول الله ؟ قال : أبو رغال و يقال إن صالحا أقام عشرين سنة ينذرهم و توفي ابن ثمان و خمسين سنة و في الصحيح [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مر في غزوة تبوك بقرى ثمود فنهى عن استعمال مياههم و قال : لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا و أنتم باكون أن يصيبكم ما أصابهم ] كلام الطبري
و قال الجرجاني : كان من ملوكهم دوبان بن يمنع ملك الإسكندرية و موهب بن مرة بن رحيب و كان عظيم الملك و أخوه هوبيل بن مرة كذلك و فيما ذكره المفسرون أنهم أول من نحت الجبال و الصخور و أنهم بنو ألفا و سبعمائة مدينة و في هذا ما فيه ثم ذهبوا بما كسبوا و درجوا في الغابرين و هلكوا و يقال إن من بقاياهم أهل الرس الذين كان نبيهم حنظلة بن صفوان و ليس ذلك بصحيح و أهل الرس هم حضور و يأتي ذكرهم في بني فالغ بن عابر و كذلك يزعم بعض النسابة أن ثقيفا من بقايا ثمود هؤلاء و هو مردود و كان الحجاج بن يوسف إذا سمع ذلك يقول كذبوا و قال و الله جل من قائل يقول و ثمود فما أبقى أي أهلكهم فما أبقى أحدا منهم و أهل التوراة لا يعرفون شيئا من أخبار عاد و لا ثمود لأنهم لم يقع لهم ذكر في التوراة و لا لهود و لا لصالح عليهما السلام بل و لا لأحد من العرب العاربة لأن سياق الأخبار في التوراة عن أولئك الأمم إنما هو لمن كان في عمود النسب ما بين موسى و آدم صلوات الله عليهم و ليس لأحد من آباء هؤلاء الأجيال ذكر في عمود ذلك النسب فلم يذكروا فيها
و أما جديس و طسم فعند ابن الكلبي أن جديسا لإرم بن سام و ديارهم اليمامة و هم إخوان لثمود بن كاثر و لذلك ذكرهم بعدهم و أن طسما للاوذ بن سام و ديارهم بالبحرين و عند الطبري أنهما معا للاوذ و ديارهم باليمامة و لهذين الاثنين خبر مشهور ينبغي سياقه عند ذكرهم قال الطبري عن هشام بن محمد الكلبي بسنده إلى ابن اسحق و غيره من علماء العرب : أن طسما و جديسا كانوا من ساكني اليمامة و هي إذ ذاك من أخصب البلاد و أعمرها و أكثرها خيرا و ثمارا و حدائق و قصورا و كان ملك طسم غشوما لا ينهاه شيء عن هواه و يقال له : عملوق و كان مضرا لجديس مستذلا لهم حتى كانت البكر من جديس لا تهدى إلى زوجها حتى تدخل عليه فيفترعها و كان السبب في ذلك أن امرأة منهم كان اسمها هزيلة طلقها زوجها و أخذ ولده منها فأمر عملوق ببيعها و أخذ زوجها الخمس من ثمنها فقالت شعرا تتظلم منه فأمر أن لا تزوج منهم امرأة حتى يفترعها فقاقوا كذلك حتى تزوجت الشموس و هي عفيرة ابنة غفار بن جديس أخت الأسود فافتضها عملوق فقال الأسود بن غفار لرؤساء جديس : قد ترون ما نحن فيه من الذل و العار الذي ينبغي للكلاب أن تعافه فأطيعوني أدعوكم إلى عز الدهر فقالوا و ما ذاك قال : أصنع للملك و قومه دعوة فإذا جاؤوا يعني طسما نهضنا إليهم بأسيافنا فنقتلهم فأجمعوا على ذلك و دفنوا سيوفهم في الرمل و دعوا عملوقا و قومه فلما حضروا قتلوهم فأفنوهم و قتل الأسود عملوقا و أفلت رباح بن مرة بن طسم فأتى حسان بن تبع مستغيثا فنهض حسان في حمير لإغاثته حتى كان من اليمامة على ثلاث مراحل قال لهم رباح إن لي أختا مزوجة في جديس اسمها اليمامة ليس على وجه الأرض أبصر منها و إنها لتبصر الراكب على ثلاث مراحل و أخاف أن تنظر القوم فأمر كل رجل أن يقع شجرة فيجعلها في يديه و يسير كأنه خلفها ففعلوا و بصرت بهم اليمامة فقالت لجديس : لقد سارت إليكم حمير و إني أرى رجلا من وراء شجرة بيده كتف يتعرقها أو نعل يخصفها فاستبعدوا ذلك و لم يحفلوا به و صبحهم حسان و جنوده من حمير فأبادهم و خرب حصونهم و بلادهم و هرب الأسود بن غفار إلى جبلي طيء فأقام بهما و دعا تبع باليمامة أخت رباح التي أبصرتهم فقلع عينها و يقال إنه وجد بها عروقا سودا زعمت أن ذلك من اكتحالها بالإثمد و كانت تلك البلد تسمى جو فسميت باليمامة اسم تلك المرأة
قال أبو الفرج الأصبهاني : و كانت طيء تسكن الجرف من أرض اليمن و هي اليوم محلة مراد و همدان و سيدهم يومئذ سامة بن لؤي بن الغوث بن طيء و كان الوادي مسبعة و هم قليل عددهم و كان يجتاز بهم بعير في زمن الخريف و يذهب في زمن الخريف و يذهب ثم يجيء من قابل و لا يعرفون مقره و كان الأزد قد خرجت أيام سيل العرم و استوحشت طيء فظغنوا على أثرهم و قالوا لسامة هذا البعير إنما يأتي من الريف و الخصب لأن في بعره النوى فلما جاءهم زمن الخريف أتبعوه يسيرون لسيره حتى هبط عن الجبلين و هجموا على النخل في الشعاب و على المواشي و إذا هم بالأسود بن غفار في بعض تلك الشعاب فهالهم خلقه و تخوفوه و نزلوا ناحية و نفضوا الطريق فلم يروا أحدا فأمر سامة ابنه الغوث بقتل الأسود فجاء إليه فعجب من صغر خلقه و قال : من أين أقبلتم ؟ قال : من اليمن و أخبره خبر البعير ثم رماه فقتله و أقامت طيء بالجبلين بعده
و ذكر الطبري عن غير ابن اسحق أن تبع الذي أوقع بجديس هو والد حسان هذا و هو ثبان أسعد أبو كرب بن ملكي كرب و يأتي ذكره في ملوك اليمن إن شاء الله تعالى انتهى كلام الطبري
و قال غيره إن حسان بن تبع لما سار بحمير إلى طسم بعث على مقدمته إليه عبد كلال بن منوب بن حجر بن ذي رعين من أقيال حمير فسلك بهم رباح بن مرة الرمل و كانت الزرقاء أخت رباح ناكحا في طسم و تسمى عنزة و اليمامة و كانت تبصر على البعد فأنذرتهم فلم يقبلوا و صبح عبد بن كلال جديسا إلى آخر القصة و بقيت اليمامة بعد طسم يبابا لا يأكل ثمرها إلا عوافي الطير و السباع حتى نزلها بنو حنيفة و كانوا بعثوا رائدهم عبيد بن ثعلبة الحنفي يرتاد لهم في البلاد فلما أكل من ذلك الثمر قال إن هذا الطعام ! و حجر بعصاه على موضع قصبة اليمامة فسميت حجرا و استوطنها بنو حنيفة و بها صبحهم الإسلام كما يأتي في أخبارهم إن شاء الله تعالى و أما العمالقة فهم بنو عمليق بن لاوذ و بهم بضرب المثل في الطول و الجثمان قال الطبري : عمليق أبو العمالقة كلهم أمم تفرقت في البلاد فكان أهل المشرق و أهل عمان و البحرين و أهل الحجاز منهم و كانت الفراعنة بمصر منهم و كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون منهم و كان الذين بالبحرين و عمان و المدينة يسمون جاسم و كان بالمدينة من جاسم هؤلاء بنو لف و بنو سعد بن هزال و بنو مطر و بنو الأرزق و كان بنجد منهم بديل و راحل و غفار بالحجاز منهم إلى تيما بنو الأرقم و يسكنون مع ذلك نجدا و كان ملكهم يسمى الأرقم قال : و كان بالطائف بنو عبد ضخم بن عاد الأول انتهى
و قال ابن سعيد فيما نقله عن كتب التواريخ التي اطلع عليها في خزانة الكتب بدار الخلافة من بغداد قال : كانت موطن العمالقة تهامة من أرض الحجاز فنزلوها أيام خروجهم من العراق أمام النمادرة من بني حام و لم يزالوا كذلك إلى أن جاء إسمعيل صلوات الله عليه و آمن به من آمن منهم و تطرد لهم الملك إلى أن كان منهم السميدع بن لاوذ بن عمليق و في أيامه خرجت العمالقة من الحرم أخرجتهم جرهم من قبائل قحطان فتفرقوا و نزل بمكان المدينة منهم بنو عبيل بن مهلايل بن عوص بن عمليق فعرفت به و نزل أرض أيلة ابن هومر بن عمليق و اتصل ملكها في ولده و كان السميدع سمة لمن ملك منهم إلى أن كان آخرهم السميدع بن هومر الذي قتله يوشع لما زحف بنو إسرائيل إلى الشام بعد موسى صلوات الله عليه فكان معظم حروبهم مع هؤلاء العمالقة هنالك فغلبه يوشع و أسره و ملك أريحا قاعدة الشام و هي قرب بيت المقدس و مكانها معروف لهذا العهد ثم بعث من بني إسرائيل بعثا إلى الحجاز فملكوه و انتزعوا من أيدي العمالقة ملوكه و نزعوا يثرب و بلادها و خبير و من بقاياهم يهود قريظة و بنو النضير و بنو قينقاع و سائر يهود الحجاز على ما نذكره ثم كان لهم ملك بعد ذلك في دولة الروم و ملكوا أذينة بن السميدع على مشارف الشام و الجزيرة من ثغورهم و أنزلوهم في التخوم ما بينهم و بين فارس و هذا الملك أذينة ابن السميدع هو الذي ذكره الشارع في قوله :
( أزال أذينة عن ملكه ... و أخرج عن أهله ذا يزن )
و كان من بعده حسان بن أذينة و من بعده طرف بن حسان بن بدياه نسبة إلى أمه و بعده عمرو بن مطرف و كان بينه و بين جذيمة الأبرش حروب و قتله جذيمة و استولى على ملكهم و كان آخرا من العمالقة كما نذكر ذلك في موضعه
و من هؤلاء العمالقة فيما يزعمون عمالقة مصر و أن بعض ملوك القبط استنصر بملك العمالقة بالشام لعهده و اسمه الوليد بن دومغ و يقال ثوران بن أراشة بن فادان بن عمرو بن عملاق فجاء معه ملك مصر و استعبد القبط قال الجرجاني و من ثم ملك العماليق مصر و يقال أن منهم فرعون إبراهيم و هو سنان بن الأشل بن عبيد بن عولج بن عمليق و فرعون يوسف أيضا منهم و هو الريان بن الوليد بن فوران و فرعون موسى كذلك و هو الوليد بن مصعب بن أبي أهوان بن الهلوان و يقال أنه قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن فاران و كان الذي ملك مصر بعد الريان بن الوليد طاشم بن معدان كلام الجرجاني و قال غيره : الريان فرعون يوسف و هو الذي تسميه القبط نقراوش و أن وزيره كان أطفير و هو العزيز و أنه آمن بيوسف و أن أرض الفيوم كانت مغايض للماء فدبرها يوسف بالوحي و الحكمة حتى صارت أعز الديار المصرية و ملك بعده ابنه دارم بن الريان و بعده ابنه معدانوس فاستعبد بني إسرائيل قال الكلبي : و يذكر القبط أنه فرعون موسى و ذكر أهل الأثر أنه الوليد بن مصعب و أنه كان نجارا من غير بيت الملك فاستولى إلى أن ولي حرس السلطان ثم غلب عليه ثم استبد بعده و عليه انقرض أمر العمالقة و لما غرق في اتباع موسى صلوات الله عليه رجع الملك إلى القبط فولوا من بيت ملكهم دلوكة العجوز كما نذكره في أخبارهم إن شاء الله تعالى و أما بنو إسرائيل فليس عندهم ذكر لعمالقة الحجاز و عندهم أن عمالقة الشام من ولد عملاق بن أليفاذ ـ بتفخيم الفاء ـ ابن عيصو أو عيصاب أو العيص بن إسحق بن إبراهيم عليه السلام و فراعنة مصر منهم على الرأيين و أما الكنعانيون الذين ذكر الطبري أنهم العمالقة فهم عند الإسرائيلين من كنعان ابن حام و كانوا قد انتشروا ببلاد الشام و ملكوها و كان معهم فيها بنو عيصو المذكورون و يقال لهم بنو يدوم و من أيديهم جميعا ابتزها بنو اسرائيل عند المجي أيام يوشع بن نون و لذلك تزعم زناتة المغرب أنهم من هؤلاء العمالقة و ليس بصحيح و أما أميم فهم إخوان عملاق بن لاوذ قال السهيلي : يقال بفتح الهمزة و كسر الميم و بضم الهمزة و فتح الميم و هو أكثر و وجدت بخط بعض المشاهير أميم بتشديد الميم و يذكر أنهم أول من بنى البنيان و اتخذ البيوت و الأطام من الحجارة و سقفوا بالخشب و كان ديارهم فيما يقال أرض فارس و لذلك زعم بعض نسابة الفرس أنهم من أميم و أن كيومرث الذين ينسبون إليه هو ابن أميم بن لاوذ و ليس بصحيح و كان من شعوبهم و بار بن أميم نزلوا رمل عالج بين اليمامة و الشحر و سالت عليهم الريح فهلكوا
و أما العرب البايدة من بني أرفخشذ بن يقطن بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ فهم جرهم و عبادة أوثان و بعث إليهم نبي منهم إسمه شعيب بن ذي مهرع فكذبوه و هلكوا كما هلك غيرهم من الأمم و أما جرهم فكانت ديارهم باليمن و كانوا يتكلمون بالعبرانية و قال البيهقي : إن يعرب بن قحطان لما غلب عادا على اليمن و ملكه من أيديهم ولى إخوته على الأقاليم و ولى جرهم على الحجاز و ولى بلاد عاد الأولى و هي الشحر عاد بن قحطان فعرفت به و ولى جرهم على الحجاز و ولى بلاد عاد الأولى و هي الشحر عاد بن قحطان فعرفت به و ولى عمان يقطن بن قحطان انتهى كلام البيهقي و قيل إنما نزلت جرهم الحجاز ثم بني قطور بن كركر بن عملاق لقحط أصاب اليمن فلم يزالوا بمكة إلى أن كان شأن إسمعيل عليه السلام و نبوته فآمنوا به و قاموا بأمره و ورثوا ولاية البيت عنه حتى غلبتهم عليه خزاعة و كنانة فخرجت جرهم من مكة و رجعوا إلى ديارهم باليمن إلى أن هلكوا
و أما حضرموت فمعدودون في العرب العاربة لقرب أزمانهم و ليسوا من العرب البايدة لأنهم باقون في الأجيال المتأخرة إلا أن يقال أن جمهورهم قد ذهب من بعد عصورهم الأولى و اندرجوا في كندة و صاروا من عدادهم فهم بهذا الاعتبار قد هلكوا و بادوا و الله أعلم و قال علي بن عبد العزيز إنه كان فيهم ملوك التبابعة في علو الصيت و نهاية الذكر قال و ذكر جماعة من العلماء أن أول من انبسط ملكه منهم و ارتفع ذكره عمرو الأشنب بن ربيعة بن يرام بن حضرموت ثم خلفه ابنه نمر الأزج فملك مائة سنة و قاتل العمالقة ثم ملك كريب ذوكراب ثم نمر الأزج مائة و ثلاثا و ثلاثين سنة و هلك إخوته في ملكه ثم ملك مرثد ذو مروان بن كريب مائة و أربعين سنة و كان يسكن مأرب ثم تحول إلى حضرموت ثم ملك علقمة ذو قيعان ابن مرثد ذي مروان بحضرموت ثلاث سنة ثم ملك ذو عيل بن ذي قيعان عشر سنين و سكن صنعاء و غزا الصين فقتل ملكها و أخذ سيفه ذا النور ثم ملك ذو عيل بن ذي عيل بحضرموت عشر سنين و لما شخص سنان ذو ألم لغزو الصين تحول ذو عيل إلى صنعاء و اشتدت وطأته و كان أول من غزا الروم من ملوك اليمن و أول من أدخل و الديباج إلى اليمن ثم ملك بدعات بن ذي عيل بحضرموت أربع سنين ثم ملك بدعيل بن بدعات و بني حصونا و خلف آثارا ثم ملك بديع ذو عيل ثم ملك حماد بن بدعيل بحضرموت فأنشأ حصنه المعقرب و غزا فارس في عهد سابور ذي الأكتاف و خرب و سبى و دام ملكه ثمانين سنة و كان أول من اتخذ الحجاب من ملوكهم ثم ملك يشرح ذو الملك بن ودب بن ذي حماد بن عاد من بلاد حضرموت مائة سنة و كان أول من رتب الرواتب و أقام الحرس و الروابط ثم ملك منعم بن ذي الملك دثار بن جذيمة بن منعم ثم يشرح بن جذيمة بن منعم ثم نمر بن بشرح ثم ساجن المسمى ابن نمر و في أيامه تغلبت الحبشة على اليمن
هذه قبائل هذا الجيل من العرب العاربة و ما كانوا عليه من الكثرة و الملك إلى أن انقرضوا و أزال الله من أمرهم بالقحطانية كما نحن ذاكروه و لم نغفل منهم إلا من لم يصلنا ذمره من خيره و الله وارث الأرض و من عليها
و أما جرهم فقال له ابن سعيد : إنهم أمتان أمة على عهد عاد و أمة من ولد جرهم بن قحطان و لما ملك يعرب بن قحطان اليمن ملك أخوه جرهم الحجاز ثم ملك من بعده ابنه عبد يا ليل ثم بعده ابنه عبد المدان بن جرهم ثم ابنه نفيلة بن عبد المدان ثم ابنة عبد المسيح بن نفيلة ثم ابنه مضاض بن عبد المسيح ثم ابنه الحرس ثم ملك من بعده جرهم بن عبد يا ليل ثم بعده ابنه عمرو بن الحرث ثم أخوه يشير بن الحرث ثم مضاض بن عمرو بن مضاض قال و هذه الأمة الثانية هم الذين بعث إليهم إسمعيل عليه السلام و تزوج فيهم انتهى
و أما بنو سبا بن يقطن فلم يبيدوا و كان لهم بعد تلك الأجيال البائدة أجيال باليمن منهم حمير و كهلان و ملوك التبابعة و هم أهل الطبقة الثانية و في مسند الإمام أحمد : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم قيل هو فروة بن مسيك المرادي عن سبا أرجل هو أو امرأة أم أرض ؟ فقال به رجل ولد عشرة فسكن اليمن منهم ستة و الشام أربعة فأما اليمانيون فمذ حج و كندة و الأزد و الأشعر و أنمار و حمير و أما الشاميون فلخم و جذام و عاملة و غسان و ثبت أن أباهم قحطان كان يتكلم بالعربية و لقنها عن الأجيال قبله فكانت لغة بينه و لذلك سموا العرب المستعربة و لم يكن في آباء قحطان من لدن نوح عليه السلام إليه من يتكلم بالعربية و كذلك كان أخوه فالغ و بنوه إنما يتكلمون بالعجمية إلى أن جاء اسمعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما فتعلم العربية من جرهم فكانت لغة نبيه و هم أهل الطبقة الثالثة المسلمون بالعرب التابعة للعرب فلنذكر هذا النسب لينتظم أجياله مع الأجيال السابقة و اللاحقة و نستوفي أنساب الأمم منها (2/21)
الخبر عن ابراهيم أبي الأنبياء عليهم السلام و نسبه إلى فالغ بن عابر و ذكر أولاده صلوات الله عليهم و أحوالهم
و لنذكر الآن أهل هذا النسب ما بين إسمعيل و نوح عليهما السلام و من كان منهم أو من إخوانهم أو أبنائهم من الأنبياء و الشعوب و الملوك و ما كان لإسمعيل صلوات الله عليه من الولد و نختم هذه الطبقة الأولى بذكرهم و إن كانوا عجما في لغاتهم إلا أنهم أصون الخليقة في أنسابهم و كل البشر على بعض الآراء من أعقابهم و هم مع ذلك معاصرون لهذه الطبقة فيتسق الكلام فيهم على شرط كتابنا و يتميز يذكر أخبارهم أحوال الطبقات التي بعدهم على الوفاء و الكمال
فنبدأ أولا بذكر عمود هذا النسب على التوالي ثم نرجع إلى أخبارهم و إسمعيل صلوات الله عليه هو ابن إبراهيم بن آزر و هو تارح و آزر اسم لصنمه لقب به ابن ناحور بن ساروخ بالخاء أو بالغين ابن عابر أو عنبر بن شالح أو شليخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح و هذه الأسماء الأعجمية كلها منقولة من التوراة و لغتها عبرانية و مخارج حروفها في الغالب مغايرة لمخارج الحروف العربية و قد يجيء الحرف منها بين حرفين من العربية فترده العرب إلى أحد ذينك الحرفين و في مخرجه فيتغير عن أصله و لذلك تكون فيها إمالة مستوطة أو محضة فيصير إلى حرف العلة الذي بعده من ياء أو واو فلذلك تنقل الكلمة منها على اختلاف و إلا فشأن الأعلام أن لا تختلف و قال الطبري : إن بين شالخ و أرفخشذ أبا آخر اسمه قنين و سقط ذكره من التوراة لأنه كان ساحرا و ادعى الألوهية و قال ابن حزم : في كتب النصارى أن بين فالغ و عابر أبا آخر اسمه ملكيصدق و هو أبو فالغ
و اعلم أن نوحا صلوات الله عليه بلغ عمره يوم الطوفان ستمائة سنة و عاش بعد الطوفان ثلثمائة و خمسين سنة فكانت جملة ذلك تسعمائة و خمسين سنة ألف سنة إلا خمسين و هذا نص المصحف الكريم و كذا وقع في التوراة بعينه و من الغريب الواقع في التوارة أن عمر إبراهيم كان يوم وفاة نوح ثلاثا و خمسين سنة لأنه قال إن أرفخشذ ولد لسام بعد سنتين من الطوفان و لما بلغ خمسا و ثلاثين سنة ولد له ابنه شالخ و بعد ثلاثين سنة ولد ابنه عابر و بلغ عابر أربعا و ثلاثين سنة فولد ابنه فالغ و بلغ فالغ ثلاثين سنة فولد له أرغو و بلغ أرغو اثنتين و ثلاثين سنة فولد شاروغ و بلغ شاروغ ثلاثين سنة فولد ناحور و بلغ ناحور تسعا و عشرين سنة فولد تارح و بلغ تارح خمسا و سبعين فولد إبراهيم و جملة هذه السنين من الطوفان إلى ولادة إبراهيم مائتان و سبع تسعون سنة و عمر نوح بعد الطوفان ثلثمائة و خمسون سنة فيكون إبراهيم بعد وفاة نوح ابن نوح ابن ثلاث و خمسين سنة فيكون لقي نوحا صلوات الله عليهما و خالطه و أخذ عنه و هو على بعضهم أب لجميع الشعوب من بعده فلذلك كان الأب الثالث للخليقة من بعد آدم و نوح صلوات الله عليهم أجمعين
و في كتاب البدء و نقله ابن سعيد : أن أول من ملك الأرض ولد نوح كنعان بن كوش بن حام فسار من أرض كنعان بالشام إلى أرض بابل فبنى مدينة بابل اثني عشر فرسخا في مثلها و ورث ملكه ابنه النمرود بن كنعان و عظم سلطانه في الأرض و طال عمره و غلب على أكثر المعمور و أخذ بدين الصابئة و خالفه الكلدانيون منهم في التوحيد و أسمائه و مال معهم بنو سام و كان سام قد نزل بشرقي الدجلة و كان وصي أبيه في الدين و التوحيد و ورث ذلك ابنه أرفشخذ و معنى أرفخشذ مصباح مضيء فاشتغل بالعبادة و دعاه الكلدانيون إلى القيام بالتوحيد فامتنع ثم قام من بعده ابنه شالخ و عاش طويلا و قام من بعده ابنه عابر كذلك و خرج مع الكلدانيين على النمروذ منكرا لعبادة الهياكل فغلبه نمروذ و أخرجه من كوثا فلحق هو و من معه من الخلفاء بالجزيرة و هي مدينة المجدل بين الفرات و دجلة و عابر هذا هو أبو العبرانيين الذين تكلموا بالعبرانية و استفحل ملكه بالمجدل قال ابن سعيد و ورث من بعده ابنه فالغ و هو الذي قسم الأرض بين ولد نوح و في زمانه بنى النمروذ الصرح ببابل و كان من أمره ما نصه القرآن و قام بأمر فالغ من بعده ابنه ملكان فيما زعموا و غلبه الجرامقة و النبط على ملكه و قام بالمجدل في ملكهم إلى أن هلك و خلف ابنه أتيا و يقال له الخضر و أما أرغو بن فالغ فعبر إلى كلواذا و دخل في دين النبط و هي بدعة الصائبة و ولد منهم ابنه شاروخ ثم بعده ناحور بن شاروخ ثم بعد تارح بن ناحور الذي سمي آزر و استخلص النمروذ آزر و قدمه على بيت الأصنام و النمروذ من ملوك الجرامقة و اسمه هاصد بن كوش انتهى كلام ابن سعيد
و ولد لتارح و هو آزر على ما وقع في التوراة ثلاثة من الولد إبراهيم و ناحور و هاران و مات هاران في حياة أبيه تارح و ترك ابنه لوطا فهو ابن أخي إبراهيم قال الطبري : ولد إبراهيم الخليل قيل بناحية كوثا من السواد و هو قول ابن إسحق و قيل بحران قيل ببابل و عامة السلف أنه ولد على عهد نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام و كان الكهان يتحدثون بولادة رجل يخالف الدين و يكسر الأصنام و الأوثان و رأى في الكواكب ما رآه و كملت نبوته فأحضرته إلى أبيه و دعاه إلى التوحيد فامتنع و كسر إبراهيم الأصنام و أحضر عند نمروذ و قذفه في النار فصارت بردا و سلاما و خرج منها و لم تعد عليه كما نص ذلك القرآن ثم تدبر النمروذ في أمره و طلب من إبراهيم أن يقرب قربانا يفتدي مما دعاه إليه فقال له إبراهيم : لن يقبل منك إلا الإيمان فقال : لا أستطيع و ترك إبراهيم و شأنه
ثم أمر الله إبراهيم بالخروج من أرض الكلدانيين ببابل فخرج به أبوه تارح و معهما على ما في التوراة ابنه ناحور بن تارح و زوجته ملكا بنت أخيه هاران و حافده لوط بن هاران قال في التوراة و كنته سارة يعني زوج ابراهيم فقيل إنها أخت ملكا بنت هاران بن تارح و قيل بنت ملك حران طعنت على قومها في الدين فتزوجها إبراهيم على أن لا يضرها و يرد هذا ما في التوراة إنها خرجت معهم من أرض الكلدانيين إلى حران فتزوجها و قيل إنها بنت هاران بن ناحور و هاران عم إبراهيم قال السهيلي فأقاموا بحران و مات بها أبوه تارح و عمره مائتا سنة و خمس سنين ثم أمر بالخروج إلى أرض الكنعانيين و وعده الله بأن تكون أثرا لبنيه و أنهم يكثرون مثل حصى الأرض فنزل بمكان بيت المقدس و هو ابن خمس و سبعين سنة ثم أصاب بلد الكنعانيين مجاعة فخرج إبراهيم في أهل بيته و قدم مصر و وصف لفرعون ملك القبط جمال امرأته سارة فأحضرها عنده و لما هم بها يبست يده على صدره فطلب منها الإقالة فدعت له الله فانطلقت يده و يقال عاود ذلك ثلاثا يصاب في كلها و تدعو له فردها إلى إبراهيم و استخدمها هاجر قال الطبري و الملك الذي أراد سارة و هو سنان بن علوان و هو أخو الضحاك و الظاهر أنه من ملوك القبط
ثم ساروا إلى أرض كنعان بالشام و يقال أن هاجر أهداها ملك الأردن لسارة و كان اسمه فيما قال الضبي صلاوق و أنه انتزع سارة من إبراهيم و لما هم بها صرع مكانه و سألها في الدعاء فدعت له فأفاق فردها إلى إبراهيم و أخدمها هاجر أمة كانت لبعض ملوك القبط و لما عاد إبراهيم إلى أرض كنعان نزل جيرون و هو مدفنه المسمى بالخليل و كانت معظمة تعظمها الصائبة و تسكب عليها الزيت للقربان و تزعم أنها هيكل المشتري و الزهرة فسماها العبرانيون إيليا و معناه بيت الله
ثم أن لوطا فارق إبراهيم عليه السلام لكثرة مواشيهما و تابعهما و ضيق المرعى فنزل المؤتكفة بناحية فلسطين و هي بلاد العدور المعروف بعدور صقر وكانت هناك على ما نقله المحققون خمس قرى سدوم و وجدهم على ارتكاب الفواحش فدعاهم إلى الدين و نهاهم عن المخالفة فكذبوه و عتوا و أقام فيها داعيا إلى الله إلى أن هلكوا كما قصه القرآن و خرج لوط مع عساكر كنعان و فلسطين للقاء ملوك الشرق حين زحفوا إلى أرض الشام و كانوا أربعة ملوك ملك الأهواز من بني غليم بن سام و اسمه كرزلا عامر و ملك بابل و اسمه في التوراة شنعا و اسمه و يقال هو نمروذ و ملك الأستار و ما أدري معنى هذه اللفظة و اسمه أريوح و ملك كوتم معنى ملك أمم أو جماعة و اسمه تزعال و كان ملوك كنعان الذين خرجوا إليهم خرجوا إليهم خمسة على عدد القرى الخمسة و ذلك أن ملك الأهواز كان استعبدهم اثنتي عشرة سنة ثم عصوا فزحف إليهم و استجاش بالملوك المذكورين معه فأصابوا من أهل جبال يسعين إلى فاران التي في البرية و كان بها يومئذ الجويون من شعوب كنعان أيضا و خرج ملك سدوم و أصحابه لمدافعتهم فانهزم هو و الملوك الذين معه من أهل سدوم و سباهم ملك الأهواز و من معه من الملوك و أسروا لوطا و سبوا أهله و غنموا ماشيته و بلغ الخبر إبراهيم عليه السلام فاتبعهم في ولده و مواليه نحوا من ثلثمائة وثمانية عشر و لحقهم بظاهر دمشق فدهمهم فانفضوا و خلص لوطا في تلك الوقعة و جاء بأهله و مواشيه و تلقاهم ملك سدوم و استعظم فعلتهم
ثم أوحى الله إلى إبراهيم أن هذه الأرض أرض الكنعانيين التي أنت بها ملكتها لك و لذريتك و أكثرهم مثل حصى الأرض و أن ذريتك يسكنون في أرض ليست لهم أربعمائة سنة و يرجع الحقب إلى هنا
ثم إن سارة وهبت مملوكتها هاجر القبطية لإبراهيم عليه السلام لعشر سنين من مجيئهم من مصر و قالت لعل الله يرزقك منها ولدا و كان إبراهيم قد سأل الله أن يهب له ولدا فوعده به و كانت سارة قد كبرت و عقمت عن الولد فولدت هاجر لإبراهيم إسمعيل عليهما السلام لست و ثمانين من عمره و أوحى الله إليه أني قد باركت عليه و كثرته و يولد له اثنا عشر ولدا و يكون رئيسا لشعب عظيم و أدركت سارة الغيرة من هاجر و طلبت منه إخراجها و أمره الله أن يطيع سارة في أمرها فهاجر بها إلى مكة و وضعها و ابنها بمكان زمزم عند دوحة هنالك و انطلق فقالت له هاجر : آلله أمرك ؟ قال : نعم فقالت : إذا لا يضيعنا و انطلق إبراهيم و عطش إسمعيل بعد ذلك عطشا شديدا و أقامت هاجر تتردد بين الصفا و المروة إلى أن صعدت عليها سبع مرات لعلها تجد شيئا ثم أتته و هو يفحص برجليه فنبعت زمزم
و عن السدي : أنه تركه في مكان الحجر و اتخذ فيه عريشا و أن جبريل هو الذي همز له الماء بعقبه و أخبر هاجر أنها عين يشرب بها ضيفان الله و أن أبا هذا الغلام سيجيء و يبنيان بيتا لله هذا مكانه ثم مرت رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم أقبلوا من كداء و نزلوا أسفل مكة فرأوا الطير حائمة فقالوا : لا نعلم بهذا الوادي ماء ثم أشرفوا فرأوا المرأة و نزلوا معها هنالك
و عن ابن عباس : كانت أحياؤها قريبا من ذلك المكان فلما رأوا الطير تحوم عليه أقبلوا إليه فوجدوهما فنزلوا معهما حتى كان بها أهل أبيات منهم و شب إسمعيل بينهم و تعلم اللغة العربية منهم و أعجبهم و زوجوه امرأة منهم و ماتت أمه هاجر فدفنها في الحجر و لما رجع إبراهيم و أقام في أهله بالشام و بالغ أهل المؤتفكة في العصيان و الفاحشة و دعاهم لوط فكذبوه و أقام على ذلك قال الطبري : فأرسل الله رسولا من الملائكة لإهلاكهم و مروا بإبراهيم فأضافهم و خدمهم و كان من ضحك سارة و بشارة الملائكة لها باسحق و ابنه يعقوب ما قصه القرآن و كانت البشارة بإسحق و إبراهيم ابنا مائة سنة و سارة بنت تسعين و في التوراة إنه أمر أن يحرر ولده إسمعيل لثلاث عشرة سنة من عمره و كل من في بيته من الأحرار فكان ذلك لتسع و تسعين من عمر إبراهيم و قال له ذلك عهد بيني و بينك و ذريتك ثم أهلك الله المؤتكفة و نجى لوطا إلى أرض الشام فكان بها مع عمه إبراهيم صلوات الله عليهما و ولدت سارة إسحق و أمر الله إبراهيم بعد ولادة اسمعيل و إسحق ببناء بيت يعبد فيه و يذكر و لم يعرف مكانه فجعل له علامة تسير معه حتى وقفت به على الموضع يقال أنها ريح لينة لها رأسان تسير معه حتى تكون بالموضع و يقال بل بعث معه جبريل لذلك حتى أراه الموضع و كان إبراهيم يعتاد إسمعيل لزيارته و يقال إنه كان يستأذن سارة في ذلك و أنها شرطت عليه أن لا يقيم عندهم و أن إبراهيم وجد امرأة لإسمعيل في غيبة منه و كانت من العماليق و هي عمارة بنت سعيد بن أسامة بن أكيل فرآها فظة غليظة فأوصاها لإسمعيل بأن يحول عتبة بابه فلما قصت عليه الخبر و الوصية قال ذلك أبي يأمرني أن أطلقك فطلقها و تزوج بعدها السيدة بنت مضاض بن عمرو الجرهمي و خالفه إبراهيم إلى بيته فتسهلت له بالإذن و أحسنت التحية و قربت الوضوء و الطعام فأوصاها لإسمعيل بأني قد رضيت عتبة بابك و لما قصت عليه الوصية قال ذلك أبي يأمرني بإمساكك فأمسكها ثم جاء إبراهيم مرة ثالثة و قد أمره الله ببناء البيت و أمر اسمعيل بإعانته فرفعوها من القواعد و تم بناؤها و أذن في الناس بالحج
ثم زوج لوط ابنته من مدين بن إبراهيم عليهما السلام و جعل الله في نسلها البركة فكان منه أهل مدين الأمة المعروفة
ثم ابتلى الله إبراهيم بذبح ابنه في رؤيا رآها و هي وحي و كانت الفدية و نجى الله ذلك الولد كما قص في القرآن و اختلف في ذلك الذبيح من ولديه فقيل إسمعيل و قيل إسحق و ذهب إلى كلا القولين جماعة من الصحابة و التابعين فالقول بإسمعيل لابن عباس و ابن عمر و الشعبي و مجاهد و الحسن و محمد بن كعب القرظي و قد يحتجون له بقوله صلى الله عليه و سلم : [ أنا ابن الذبيحين ] و لا تقوى الحجة به لأن عم الرجل قد يجعل أباه يضرب من التجوز لا سيما في مثل هذا الفخر يحتجون أيضا بقوله تعالى : { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } و لو كان ذبيحا في زمن الصبا لم تصح البشارة بابن يكون له لأن الذبح في الصبا ينافي وجود الولد و لا تقوم من ذلك حجة لأن البشارة إنما وقعت على وفق العلم بأنه لا يذبح و إنما كان ابتلاء لابراهيم و القول بإسحق للعباس و عمرو و علي و ابن مسعود و كعب الأحبار و زيد بن أسلم و مسروق و عكرمة و سعيد بن جبير و عطا و الزهري و مكحول و السدي و قتادة
و قال الطبري : و الراجح أنه إسحق لأن نص القرآن يقتضي أن الذبيح هو المبشر به و لم يبشر إبراهيم بولد إلا من زوجته سارة مع أن البشارة وقعت إجابة لدعائه عند مهاجره من أرض بابل و قوله إني ذاهب إلى ربي سيهدين ثم قال عقبة : رب هب لي من الصالحين ثم قال عقبة فبشرناه بغلام حليم و ذلك كله كان قبل هاجر لأن هاجر إنما ملكتها سارة بمصر و ملكتها لإبراهيم بعد ذلك بعشر سنين فالمبشر به قبل ذلك كله إنما هو ابن سارة فهو الذبيح بهذه الدلالة القاطعة و بشارة الملائكة لسارة بعد ذلك حين كانوا ضيوفا عند إبراهيم في مسيرهم لإهلاك سدوم إنما كان تجديدا للبشارة المتقدمة
ثم توفيت سارة لمائة و سبع و عشرين من عمرها و ذلك في قرية جيرون من بلاد بني حبيب الكنعانيين فطلب إبراهيم منهم مقبرة لها فوهبه عفرون بن صخر مغارة كانت في مزرعته فامتنع من قبولها إلا بالثمن فأجاب إلى ذلك و أعطاه إبراهيم أربعمائة مثقال فضة و دفن فيها سارة و تزوج إبراهيم من بعدها قطورا بنت يقطان من الكنعانيين و قال السهيلي قنطورا بزيادة نون بين القاف و الطاء و هذا الاسم أعجمي و طاؤه قريبة من التاء فولدت له كما هو مذكور في التوراة ستة من الولد و هم : زمران يقشان مدان مدين أشبق شوخ ثم وقع في التوراة ذكر أولادهم فولد يقشان سبا ودذان وولد دذان أشور ثم ولطوسيح و لاميم و ولد مدين عيفا و عيفين و حنوخ و أفيداع و ألزاعا هذا آخر ولده من قنطورا في التوراة و قال السهيلي : كان لإبراهيم عليه السلام أولاد آخرون خمسة من امرأة اسمها حجين أو حجون بنت أهيب وهم كبسان و فروخ و أميم و لوطان و نافس و لما ذكر الطبري بني قنطورا الستة و سمى منهم يقشان قال بعده : و سائرهم من الأخرى و هي رعوة ثم قال : و من يقشان جبل البربر فولد إبراهيم على هذا ثلاثة عشر : فإسمعيل من هاجر و إسحق من سارة و ستة من قنطورا كما ذكر في التوراة و الخمسة بنو حجين عند السهيلي أو رعوة عند الطبري
و كان إبراهيم عليه السلام قد عهد لابنه إسحق أن لا يتزوج في الكنعانيين و أكد العهد و الوصية بذلك لمولاه القائم على أموره ثم بعثه إلى حران مهاجرهم الأول فخطب من ابن أخيه بتويل بن ناحور بن آزر بنته رفقا فزوجها أبوها و احتملها و من معها من الجواري و جاء بها إلى إسحق في حياة أبيه و عمره يومئذ أربعون سنة فتزوجها و ولدت له يعقوب و عيصو توأمين و سنذكر خبرهما ثم قبض الله نبيه إبراهيم صلوات الله عليه بمكان هجرته من أرض كنعان و هو ابن مائة و خمس و سبعين سنة و دفن مع مغارة عفرون الحبيبي و عرف بالخليل لهذا العهد ثم جعل الله في ذريته النبوة و الكتاب آخر الدهر
فإسمعيل سكن مع جرهم بمكة و تزوج فيهم و تعلم لغتهم و تكلم بها و صار أبا لمن بعده من أجيال العرب و بعثه الله إلى جرهم و العمالقة الذين كانوا بمكة و إلى أهل اليمن فآمن بعض و كفر بعض ثم قبضه الله إليه و خلف ولده بين جرهم و كانوا على ما ذكر في التوراة اثنتي عشر أكبرهم بنايوت و هو الذي تقوله العرب نابت و نبت ثم قيذار و أدبيل و بسام و مشمع و ذوما و مسار و حراه و قيما وبطور و نافس و قدما قال ابن إسحق : و عاش فيما ذكر مائة و ثلاثين سنة و دفن في الحجر مع أمه هاجر و يقال آجر و في التوراة أنه قبض ابن مائة و سبع و ثلاثين سنة و أن شيعته سكنوا من حويلا إلى شور قبالة مصر من مدخل أثور و سكنوا على حذر شيع إخوته و حويلا عند أهل التوراة هي جنوب برقة و الواو منها قريبة من الياء و شور هي أرض الحجاز و أثور بلاد الموصل و الجزيرة ثم ولي أمر البيت من بعد إسمعيل ابنه نابت و أقام ولده بمكة مع أخوالهم جرهم حتى تشعبوا و كثر نسلهم و تعددت بطونهم من عدنان في عداد معد ثم بطون معد في ربيعة و مضر و إياد و أنمار بني نزار بن معد فضاقت بهم مكة على ما نذكره عند ذكر قريش و اخبار ملكهم بمكة فكانت بطون عدنان هذه كلها من ولد إسمعيل لابنه نابت و قيل لقيذار و لم يذكر النسابون نسلا من ولده الآخرين و تشعبت من إسمعيل أيضا عند جماعة من أهل العلم بالنسب بطون قحطان كلها فيكون على هذا أبا لجميع العرب بعده
و أما إسحق فأقام بمكانه في فلسطين و عمر و عمي بعد الكثير من عمره و بارك على ولده يعقوب فغضب بذلك أخوه عيصو و هم بقتله فأشارت عليه رفقا بنت بتويل بالسير إلى حران عند خاله لابان بن بتويل فأقام عنده و زوجه بنتيه فزوجه أولا الكبرى و اسمها ليا و أخدمها جاريتها زلفة ثم من بعدها أختها الصغرى و اسمها راحيل و أخدمها جاريتها بلها و أول من ولد منهن ليا ولدت له روبيل ثم شمعون ثم لاوي ثم يهوذا و كانت راحيل لا تحبل فوهبت جاريتها بلها ليعقوب لتلد منه فولدت له دان ثم نفتالي و لما فعلت ذلك الرحيل و هبت أختها ليا ليعقوب عليه السلام جاريتها زلفة فولدت له كادو و آشر ثم ولدت ليا من بعد ذلك يساخر ثم زبولون فكمل له بذلك عشرة من الولد ثم دعت راحيل الله عز و جل أن يهب لها ولدا من يعقوب فولدت يوسف و قد كملت له بحران عشرون سنة ثم أمر بالرحيل إلى أرض كنعان التي وعدوا بملكها فارتحل و خرج لابان في اتباعه و عزم له في المقام عنده فأبى فودعه و انصرف إلى حران و سار يعقوب لوجهه حتى إذا قرب من بلد عيصو و هو جبل يسعين بأرض الكرك و الشوبك لهذا العهد اعترضه عيصو لتلقيه و كرامته فأهدى إليه يعقوب من ماشيته هدية احتفل و تودد إليه بالخضوع و التضرع فذهب ما كان عند عيصو و أوحى الله إليه بأن يكون اسمه إسرائيل و مر على أرشاليم و هي بيت فاشترى هنالك مزرعة ضرب فيها فسطاطه و أمر ببناء مرجح سماه إيل في مكان الصخرة ثم حملت راحيل هنالك فولدت له بنيامين و ماتت من نفاسه و دفنها في بيت لحم ثم جاء إلى أبيه إسحق بقرية جيرون من أرض كنعان فأقام عنده
و مات إسحق عليه السلام لمائة و ثمانين سنة من عمره و دفن مع أبيه في المغارة و أقام يعقوب بمكانه و ولده عنده و شب يوسف عليه السلام على غير حالهم من كرامة الله به و قص عليهم رؤياه التي بشر الله فيها بأمره فغصوا به و خرجوا معه إلى الصيد فألقوه في الجب و استخرجه السيارة الذين مروا به بعد ذلك و باعوه للعرب بعشرين مثقالا و يقال إن الذي تولى بيعه هو مالك بن دعر بن واين بن عيفا بن مدين و اشتراه من العرب عزيز مصر و هو وزيرها أو صاحب شرطتها قال ابن إسحق و اسمه أطفير بن رجيب و قيل قوطفير و كان ملكها يومئذ من العماليق الريان بن الوليد بن دومغ و ربي يوسف عليه السلام في بيت العزيز فكان من شأنه مع امرأته زليخا و مكثه في السجن و تعبيره الرؤيا للمحبوسين من أصحاب الملك ما هو مذكور في الكتاب الكريم ثم استعمله ملك مصر عندما خشي السنة و الغلاء على خزائن الزرع في سائر مملكته يقدر جمعها و تصريف الأرزاق منها و أطلق يده بذلك في جميع أعماله و ألبسه خاتمه و حمله على مركبه و يوسف لذلك العهد ابن ثلاثين سنة فقيل عزل أطفير العزيز و ولاه و قيل بل مات أطفير فتزوج زليخا و تولى عمله و كان ذلك سببا لانتظام شمله بأبيه و إخوته لما أصابتهم السنة بأرض كنعان و جاء بعضهم للميرة و كان لهم يوسف عليه السلام و رد عليهم بضاعتهم و طالبهم بحضور أخيهم فكان ذلك كله سببا لاجتماعه بأبيه يعقوب بعد أن كبر و عمي
قال ابن اسحق : كان ذلك لعشرين سنة من مغيبه و لما وصل يعقوب إلى بلبيس قريبا من مصر خرج يوسف ليلقاه و يقال خرج فرعون معه و أطلق لهم أرض بلبيس يسكنون بها و ينتفعون و كان وصول يعقوب صلوات الله عليه في سبعين راكبا من بنيه و معه أيوب النبي من بني عيصو و هو أيوب بن برحما بن زبرج بن رعويل بن عيصو و استقروا جميعا بمصر ثم قبض يعقوب صلوات الله عليه لسبع عشرة سنة من مقدمه و لمائة و أربعين من عمره و حمله يوسف صلوات الله عليه إلى أرض فلسطين و خرج معه أكابر مصر و شيوخها بإذن من فرعون و اعترضهم بعض الكنعانيين في طريقهم فأوقعوا بهم و انتهوا إلى مدفن إبراهيم و إسحق عليهما السلام فدفنوه في المغارة عندهما و انتقلوا إلى مصر و أقام يوسف صلوات الله عليه بعد موت أبيه و معه إخوته إلى أن أدركته الوفاة فقبض لمائة و عشرين سنة من عمره و أدرج في تابوت و ختم عليه و دفن في بعض مجاري النيل و كان يوسف أوصى أن يحمل عند خروج بني إسرائيل إلى أرض البقاع فيدفن هنالك و لم تزل وصيته محفوظة عندهم إلى أن حمله موسى صلوات الله عليه عند خروجه ببني اسرائيل من مصر
و لما قبض يوسف صلوات الله عليه و بقي من بقي من الأسباط إخوته و بنيه تحت سلطان الفراعنة بمصر تشعب نسلهم و تعددوا إلى أن كاثروا أهل الدولة و ارتابوا بهم فاستعبدوهم قال المسعودي : دخل يعقوب إلى مصر مع ولده الأسباط و أولادهم حين أتوا إلى يوسف في سبعين راكبا و كان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى صلوات الله عليه نحوا من مائتين و عشر سنين فتداولهم ملوك القبط و العمالقة بمصر ثم أحصاهم موسى في التيه و عد من يطيق حمل السلاح من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف و يزيدون و قد ذكرنا ما في هذا العدد من الوهم و الغلو في مقدمة الكتاب فلا نطول به و وقوعه في نص التوراة لا يقضي بتحقيق هذا العدد لأن المقام للمبالغة فلا تكون إعداده نصوصا و كان ليوسف صلوات الله عليه من الولد كثير إلا أن المعروف منهم اثنان أفراثيم و منشى و هما معدودان في الأسباط لأن يعقوب صلوات الله عليه أدركهما و بارك عليهما و جعلهما من جملة ولده و قد يزعم بعض من لا تحقيق عنده أن يوسف صلوات الله عليه استقل آخرا بملك مصر و ينسب لبعض ضعفة المفسرين و معتمدهم في ذلك قول يوسف عليه السلام في دعائه : رب قد آتيتني من الملك و لا دليل لهم في ذلك لأن كل من ملك شيئا و لو في خاصة نفسه فاستيلاؤه يسمى ملكا حتى البيت و الفرس و الخادم فكيف من ملك التصرف و لو كان في شعب واحد منها فهو ملك و قد كان العرب يسمون أهل القرى و المدائن ملوكا مثل هجر و معان و دومة الجندل فما ظنك بوزير مصر لذلك العهد و في تلك الدولة و قد كان في الخلافة العباسية تسمى الولاة الأطراف و عمالها ملوكا فلا استدلال لهم في هذه الصيغة و أخرى أيضا فيما يستدلون به من قوله تعالى : { و كذلك مكنا ليوسف في الأرض } أن لا يكون فيه مستند لأن التمكين يكون بغير الملك و نص القرآن إنما هو بولايته على أمور الزرع في جمعه و تفريقه كما قال تعالى : { اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم } و مساق القصة كلها أنه مرؤوس في تلك الدولة بقرائن الحال كلها لا ما يتوهم من تلك اللفظة الواقعة في دعائه فلا نعدل عن النص المحفوف بالقرائن إلى هذا المتوهم الضعيف و أيضا فالقصة في التوراة قد وقعت صريحة في أنه لم يكن ملكا و لا صار إليه ملك و أيضا فالأمر الطبيعي من الشوكة و القطامة له يدفع أن يكون حصل له ملك لأنه إنما كان في تلك الدولة قبل أن يأتي إليه إخوته منفردا لا يملك إلا نفسه و لا يتأتى الملك في هذا الحال و قد تقدم ذلك في مقدمة الكتاب و الله أعلم
و أما عيصو بن إسحق فسكن جبال بني يسعين من بني جوي إحدى شعوب كنعان و هي جبال الشراة بين تبوك و فلسطين و تعرف اليوم ببلاد كرك و الشوبك و كان من شعوبهم هناك على ما في التوراة بنو لوطان و بنو شوبال و بنو صمقون و بنو عنا و بنو ديشوق و بنو يصد و بنو ديسان سبعة شعوب و من بني ديشون الأشبان فسكن عيصو بينهم بتلك البلاد و تزوج منهم من بنات عنا بن يسعين من جوى و هي أهليقاما و تزوج أيضا من بنات حي من الكنعانيين عاذا بنت أيلول و باسمت بنت إسمعيل عليه السلام و كان له من الولد خمسة مذكورون في التوراة و أكبرهم أليفاز بالفاء المفخمة و إشباع حركتها و زاي معجمة من بعدها من عاذا بنت أيلول ثم رعويل من باسمت بنت إسمعيل ثم يعوش و يعلام و قورح من أهليقاما بنت عنا و ولد أليفاز ستة من الولد ثمال و أومار و صفو و كعتام و قتال و عمالق السادس لسرية اسمها تمتاع و هي شقيقة لوطان بن يسعين و ولد رعويل بن عيصو أربعة من الولد ناحة و زيدم و شتما و مرا هكذا وقع ذكر ولد العيص و ولدهم في التوراة و فيها أن العيص اسمه أروم فلذلك قبل لهم بنو أروم و لبعض الاسرائيلين أن أروم اسم لذلك الجبل و معناه بالعبرانية الجبل الأحمر الذي لا نبات به و قد يقع لبعض المؤرخين أن القياصرة ملوك الروم من ولد عيصو و قال الطبري : أن الروم و فارس من ولد رعويل ابن باسمت و ليس ذلك كله بصحيح و رأيته في كتاب يوسف بن كرمون مؤرخ العمارة الثانية ببيت المقدس قبيل الجلوة الكبرى و كان من كهنوتينا اليهود و هو قريب من الغلط
قال ابن حزم في كتاب الجمهرة : و كأن لإسحق عليه السلام ابن آخر غير يعقوب اسمه عيصاب أو عيصو كان بنوه يسكنون جبال الشراة بين الشام و الحجاز و قد بادوا جملة إلا أن قوما يذكرون أن الروم من ولده و هذا خطأ و إنما وقع لهم هذا الغلط لأن موضعهم كان يقال له أروم فظنوا أن الروم من ذلك الموضع و ليس كذلك لأن الروم إنما نسبوا إلى رومس باني رومة فإن ظن ظان أن قول النبي صلى الله عليه و سلم للحر بن قيس هل لك في بلاد بني الأصفر العام و ذلك في غزوة تبوك يدل على أن الروم من بني الأصفر و هو عيصاب المذكور فليس كما ظن و قول النبي صلى الله عليه و سلم حق و إنما عنى عليه السلام بني عيصاب على الحقيقة لا الروم لأن مغزاه عليه الصلاة و السلام في تلك الغزوة كان إلى ناحية الشراة مسكن القوم المذكورين كلام ابن حزم
و زعيم أهروشيوش مؤرخ الروم أن أم الفينان و هاؤا و عالوم و قدوم الأربعة من بنات كاتيم بن ياوان بن يافث و الأول أصح لأنه نص التوراة ثم كثر نسل بني عيصو بأرض يسعين و غلبوا الجويين على تلك البلاد و غلبوا بني مدين أيضا على بلادهم إلى أبلة و تداول فيهم ملوك و عظماء كان منهم فالغ بن ساعور و بعده يودب بن زيدح ثم كان منهم هداد بن مداد الذي أخرج بني مدين عن مواطنهم ثم كان فيهم بعده ملوك إلى أن زحف يوشع إلى الشام و فتح أريحاء و ما بعدما و انتزع الملك من جميع الأمم الذين كانوا هنالك ثم استلحمهم بختنصر عندما ملك أرض القدس و لحق بعضهم بأرض يونان و بعضهم بأفريقية و أما عمالق بن أليفاز فمن عقبه عند الإسرائيلين عمالقة الشام و في قول فراعنة مصر من القبط و نساب العرب يأبون من ذلك و نسبوهم إلى عملاق بن لاوذ كما مر ثم بنو يروم و كنعان و لم يبق منهم عين تطرف و الله الباقي بعد فناء خلقه
و أما مدين بن إبراهيم فتزوج بابنة لوط و جعل الله في نسلها البركة و كان له من الولد خمسة عيفا و عيفين و خنوخ و أنيداغ و ألزاعا و قد تقدم ذكرهم في ولد إبراهيم من قنطورا فكان منهم مدين أمة كبيرة ذات بطون و شعوب و كانوا من أكبر قبائل الشام و أكثرهم عددا و كانت مواطنهم تجاور معان من أطراف الشام مما يلي الحجاز قريبا من بحيرة قوم لوط و كان لهم تغلب بتلك الأرض فعتوا و بغوا و عبدوا الآلهة و كانوا يقطعون السبل و يبخسون في المكيال و بعث الله فيهم شعيبا نبيا منهم و هو ابن نويل بن رعويل بن عيا بن مدين قال المسعودي : مدين هؤلاء من ولد المحضر بن جندل بن يعصب بن مدين و أن شعيبا أخوهم في النسب و كانوا ملوكا عدة يسمون بكلمات أبجد إلى آخرها و فيه نظر و قال ابن حبيب في كتاب البدء : هو شعيب بن نويب بن أحزم بن مدين و قال السهيلي : شعيب بن عيفا و يقال ابن صيفون و شعيب هذا هو شعيب موسى الذي هاجر إليه من مصر أيام القبط و استأجره على إنكاح ابنته أياه على أن يخدمه ثماني سنين و أخذ عند آداب الكتاب و النبوة حسما يأتي عند ذكر موسى صلوات الله عليهما و أخبار بني إسرائيل و قال الصيمري الذي استأجر موسى و زوجه : هو بثر بن رعويل و وقع في التوارة أن اسمه يبثر و أن رعويل أباه أو عمه هو الذي تولى عقد النكاح و كان لمدين هؤلاء مع بني إسرائيل حروب بالشام ثم تغلب عليهم بنو إسرائيل و انقرضوا جميعا
و أما لوط بن هارون أخي إبراهيم عليهما السلام فقد تقدم من خبره مع قومه ما ذكرناه هنالك و لما نجا بعد هلاكهم لحق بأرض فلسطين فكان بها مع إبراهيم إلى أن قبضه الله و كان له من الولد على ما ذكر في التوراة عمون بتشديد الميم و إشباع حركتها بالضم و نون بعدها و موآيي بإشباع ضمة الميم و إشباع فتحة الهمزة بعدها و ياء تحيتة و بعدها ياء ساكنة هوائية و جعل الله في نسلهما البركة حتى كانوا من أكثر قبائل الشام و كانت مساكنهم بأرض البلقاء و مدائنها في بلد موآيي و معان و ما والاهما و كانت لهم مع بني إسرائيل حروب نذكرهم في أخبارهم و كان منهم بلعام بن باعورا بن رسيوم بن برسيم بن موآيي و قصته مع ملك كنعان حين طلبه في الدعاء على بني إسرائيل أيام موسى صلوات الله عليه و أن دعاءه صرف إلى الكنعانيين مذكورة في التوراة و نودرها في موضعها
و أما ناحور إبراهيم عليه السلام فقد تقدم ذكره أنه هاجر مع إبراهيم عليه السلام من بابل إلى حران ثم إلى الأرض المقدسة فكان معه هنالك و كانت زوجته ملكا بنت أخيه هاران و ملكا هذه هي أخت سارة زوج إبراهيم عليه السلام و أم إسحق و كان لناحور من ملكا على ما وقع في نص التوراة ثمانية من الولد عوص و بوص و قمويل و هو أبو الأرمن و كاس و منه الكلدانيون الذين كان منه بختنصر و ملوك بابل و حذر و بلداس و بلداف و يثويل و كان له من سرية اسمها أدوما أربعة من الولد و هم طالج و كاحم و تاخش و ماعخا هؤلاء ولد ناحور أخي إبراهيم كلهم مذكورون في التوراة و هم اثنا عشر ولدا و هؤلاء كلهم بادوا و انقرضوا و لم يبق منهم إلا الأرمن من قمويل بن ناحورا أخي إبراهيم عليه السلام ابن آزر و هم لهذا العهد على دين النصرانية و مواطنهم في أرمينية شرقي القسطنطينية و الله وارث الأرض و من عليها و هم خبر الوارثين و هذا آخر الكلام في الطبقة الأولى من العرب و من عاصرهم من الأمم و لنرجع إلى أهل الطبقة الثانية و هم العرب المستعربة و الله سبحانه و تعالى الكفيل بالإعانة (2/36)
الطبقة الثانية من العرب و هم العرب المستعربة و ذكر أنسابهم و أيامهم و ملوكهم و الإلمام ببعض الدول التي كانت على عهدهم
و إنما سمي أهل هذه الطبقة بهذا الاسم لأن السمات و الشعائر العربية و لما انتقلت إليهم ممن قبلهم اعتبرت فيها الصيرورة بمعنى أنهم صاروا إلى حال لم يكن عليها أهل نسبهم و هي اللغة العربية التي تكلموا بها و فهو من استفعل بمعنى الصيرورة من قولهم : استنوق الجمل و استحجر الطين و أهل الطبقة الأولى لما كانوا أقدم الأمم فيما يعلم جيلا كانت اللغة العربية لهم بالأصالة و قيل العاربة
و اعلم أن أهل هذا الجيل من العرب يعرقون باليمينة و السبائية و قد تقدم أن نسابة بني إسرائيل يزعمون أن أباهم سبا من ولد كوش بن كنعان و نسابة العرب يأبون ذلك و يدفعونه و الصحيح الذي عليه كافتهم أنهم من قحطان و أن سبا هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان و قال ابن إسحق يعرب بن يشجب فقدم و أخر و قال ابن ماكولا على ما نقل عنه السهيلي اسم قحطان مهزم و بين النسابة خلاف في نسب قحطان فقيل هو ابن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام أخو فالغ و يقطن و لم يقع له ذكر في التوراة و إنما ذكر فالغ و يقطن و قيل هو معرب يقطن لأنه اسم أعجمي و العرب تتصرف في الأسماء الأعجمية بتبديل حروفها و تغييرها و تقديم بعضها على بعض و قيل إن قحطان بن يمن بن قيدار و قيل إن قحطان من ولد إسمعيل و أصح ما قيل في هذا إنه قحطان بن يمن بن قيدر و يقال الهميسع بن يمن بن قيدار و أن يمن هذا سميت به اليمن و قال ابن هشام أن يعرب ابن قحطان كان يسمى يمنا و به سميت اليمن فعلى القول بأن قحطان من ولد إسمعيل تكون العرب كلهم من ولده لأن عدنان و قحطان يستوعبان شعوب العرب كلها
و قد احتج لذلك من ذهب إليه بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال لرماة الأنصار : [ ارموا يا بني إسمعيل فإن أباكم كان راميا ] و الأنصار من ولد سبا و هو ابن قحطان و قيل إنما قال ذلك لقوم من أسلم من أقصى أخوة خزاعة بن حارثة بناء على أن نسبهم في سبا و قال السهيلي و لا حجة في شيء منهما لأنه إذا كانت العرب كلها من ولد إسمعيل فهذا من السهيلي جنوح إلى القول بمفهوم اللقب و هو ضعيف ثم قال : و الصحيح أن هذا القول إنما كان منه صلى الله عليه و سلم لأسلم كما قدمناه و إنما أراد أن خزاعة من معد بن إلياس بن مضر و ليسوا من سبا و لا من قحطان كما هو الصحيح في نسبهم على ما يأتي و احتجوا أيضا لذلك بأن قحطان لم يقع له ذكر في التوراة كما تقدم فدل على أنه ليس من ولد عابر فترجح القول بأنه من إسماعيل و هذا مردود بما تقدم أن قحطان معرب يقطن و هو الصحيح و ليس بين الناس خلاف في أن قحطان أبو اليمن كلهم و يقال إنه أول من تكلم بالعربية و معناه من أهل هذا الجيل الذين هم العرب المستعربة من اليمنية و إلا فقد كان للعرب جيل آخر و هم العرب العاربة و منهم تعلم قحطان تلك اللغة العربية ضرورة و لا يمكن أن يتكلم بها من ذات نفسه و كان بنو قحطان هؤلاء معاصرين لإخوانهم من العرب العاربة و مظاهرين لهم على أمورهم و لم يزالوا مجتمعين في مجالات البادية مبعدين عن رتبة الملك و ترفه الذي كان لأولئك فأصبحوا بمنجاة من الهرم الذي يسوق إليه الترف و النضارة فتشعبت في أرض الفضا فصائلهم و تعدد في جو القفر أفخاذهم و عشائرهم و نما عددهم و كثر إخوانهم من العمالقة في آخر ذلك الجيل و زاحموهم بمناكبهم و استجدوا خلق الدولة بما استأنفوه من عزهم
و كانت الدولة لبني قحطان متصلة فيهم و كان يعرب بن قحطان من أعاظم ملوك العرب يقال إنه أول من حياة قومه بتحية الملك قال ابن سعيد : و هو الذي ملك بلاد اليمن و غلب عليها قوم عاد و غلب العمالقة على الحجاز و ولى إخوته على جميع أعمالهم فولى جرهما على الحجاز و عاد بن قحطان على الشحر و حضرموت بن قحطان على جبال الشحر و عمان بن قحطان على بلاد عمان هكذا ذكر البيهقي و قال ابن حزم : وعد لقحطان عشرة من الولد و أنه لم يعقب منهم أحد ثم ذكر ابنين منهم دخلوا في حمير ثم ذكر الحرث بن قحطان و قال فولد فيما يقال له لاسور و هم رهط حنظلة بن صفوان نبي الرس و الرس ما بين نجران إلى اليمن و من حضرموت إلى اليمامة ثم ذكر يعرب بن قحطان و قال فيهم الحميرية و العداد انتهى قال ابن سعيد و ملك بعد يعرب ابنه يشجب و قيل اسمه يمن و استبد أعمامه بما في أيديهم من الممالك و ملك بعده ابنه عبد شمس و قيل عابر و يسمى سبا لأنه قيل إنه أول من سن السبي و بنى مدينة سبا و سد مأرب و قال صاحب التيجان إنه غزا الأقطار و بنى مدينة عين شمس بإقليم مصر و ولى عليها ابنه بابليون و كان لسبا من الولد كثير و أشهرهم حمير و كهلان اللذان منهما الأمتان العظيمتان من اليمنية أهل الكثرة و الملك و العز و ملك حمير منهم أعظمه و كان منهم التبابعة كما يذكر في أخبارهم و عد ابن حزم في ولده زيدان و ابنه نجران بن زيدان و به سميت البلد و لما هلك سبا قام بالملك بعد ابنه حمير و يعرف بالعرنجج و قيل هو أول من تتوج بالذهب و يقال إنه ملك خمسين سنة و كان له من الولد ستة فيما قال السهيلي : واثل و مالك و زيد و عامر و عوف و سعد و قال أبو محمد بن حزم الهميسع : و مالك و زيد و واثل و مشروح و معد يكرب و أوس و مرة و عاش فيما قال السهيلي ثلثمائة سنة و ملك بعده ابنه واثل و تغلب أخوه مالك بن حمير على عمان فكانت بينهما حروب و قال ابن سعيد : إن الذي ملك بعد حمير على عمان فكان بينهما حروب و قال ابن سعيد : إن الذي ملك بعد حمير أخوه كهلان و من بعده واثل بن حمير ثم من بعد واثل السكسك بن واثل و كانت مالك بن حمير قد هلك و غلب على عمان بعده ابنه قضاعة فحاربه السكسك و أخرجه عنها و ملك بعده ابنه يعفر بن السكسك و خرجت عليه الخوارج و حاربه ملك بن الحاف بن قضاعة و طالت الفتنة بينهما و هلك يعفر و خلف ابنه النعمان حملا و يعرف بالمعافر و استبد عليه من بني حمير ماران بن عوف بن حمير و يعرف بذي رياش و كان صاحب البحرين فنزل نجران و اشتغل بحرب مالك بن الحاف بن قضاعة
و لما كبر النعمان حبس ذارياش و استبد بأمره وطال عمره و ملك بعده ابنه أسجم بن المعافر فاضطربت أحوال حمير و صار ملكهم طوائف إلى أن استقر في الرايش و بنيه التبابعة كما نذكره
و يقال إن بني كهلان تداولوا الملك مع حمير هؤلاء و ملك منهم جبار بن غالب بن كهلان و ملك أيضا من شعوب قحطان نجران بن زيد بن يعرب بن قحطان و ملك من حمير هؤلاء ثم من بني الهميسع بن حمير أبين بن زهير بن الغوث بن أبين بن الهميسع و إليه نسب عرب أبين من بلاد اليمن و ملك منهم أيضا عبد شمس بن واثل بن الغوث بن حيران بن قطن بن عريب بن زهير بن أبين بن الهميسع بن حمير ثم ملك من أعقابه شداد بن الملطاط بن عمرو بن ذي هرم بن الصوان بن عبد شمس و بعده أخوه و بعد أخوه لقمان ثم أخوهما ذو شدد و هداد و مداثر و بعده ابنه الصعب و يقال إنه ذو القرنين و بعده أخوه الحرث بن ذي شدد و هو الرائش جد الملوك التبابعة و ملك في حمير أيضا من بني الهميسع من بني عبد شمس هؤلاء حسان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس
قال أبو المنذر هشام بن الكلبي في كتاب الأنساب و نقلته من أصل عتيق بخط القاضي المحدث أبي القاسم بن عبد الرحمن بن حبيش قال : ذكر الكلبي عن رجل من حمير من ذي الكلاع قال : أقبل قيس يحرق موضعا باليمن فأبدى عن أزج فدخل فيه فوجد سريرا عليه رجل ميت و عليه جباب و شيء مذهبة في رأسه تاج و بين يديه مجحن من ذهب و في رأسه ياقوتة حمراء و إذا لوح مكتوب فيها : بسم الله رب حمير أنا حسان بن عمرو القيل مات في زمان هيد و ما هيد هلك فيها اثنا عشر ألف قبيل فكنت آخرهم قبيلا فابتنيت ذا شعبين ليجرني من الموت فاخفرني كلامه و قال الطبري : و قيل أن أول من ملك من اليمن من حمير شمر بن الأملوك كان لعهد موسى عليه السلام و بني طفار و أخرج منها العمالقة و يقال كان من عمال الفرس على اليمن انتهى الكلام في أخبار حمير الأول و الله سبحانه و تعالى ولي العون (2/52)
الخبر عن ملوك التبابعة من حمير و أوليتهم باليمن و مصاير أمورهم
هؤلاء الملوك من ولد عبد شمي بن واثل بن الغوث باتفاق من النسابين و قد مر نسبه إلى حمير و كانت مدائن ملكهم صنعاء و مأرب على ثلاث مراحل منها و كان بها السد ضربته بلقيس ملكة من ملوكهم سدا ما بين جبلين بالصخر و القار فحقنت به ماء العيون و الأمطار و تركت فيه خروقا على قدر ما يحتاجون إليه في سقيهم و هو الذي يسمى العرم و السكر و هو جمع لا واحد له من لفظه قال الجعدي :
( من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيله العرما )
أي السد و يقال إن الذي بنى السد هو حمير أبو القبائل اليمنية كلها قال الأعشى :
( ففي ذلك للمؤتسى أسوة ... مأرب غطى عليه العرم )
( رخام بناه لهم حمير ... إذا جاءه من رامه لم يرم )
و قيل بناه لقمان الأكبر ابن عاد كما قاله المسعودي و قال : جعله فرسخا في فرسخ و جعل له ثلاثين شعبا و قيل و هو الأليق و الأصوب أنه من بناء سبا بن يشجب و أنه ساق إليه سبعين واديا و مات قبل إتمامه فأتمه ملوك حمير من بعده و إنما رجحناه لأن المباني العظيمة و الهياكل الشامخة لا يستقل بها الواحد كما قدمناه في الكتاب الأول فأقاموا في جناته عن اليمين و الشمال كما وصف القرآن و دولتهم يومئذ أوفرما كانت و أترف و أبذخ و أعلى يدا و أظهر فلما طغوا و أعرضوا سلط الله عليهم الخلد و هو الجرذ فنقبه من أسفله فأجحفهم السيل و أغرق جناتهم و خربت أرضهم و تمزق ملكهم و صاروا أحاديث
و كان هؤلاء التبابعة ملوكا عدة في عصور متعاقبة و أحقاب متطاولة لم يضبطهم الحصر و لا تقيدت منهم الشوارد و ربما كانوا يتجاوزون ملك اليمن إلى ما بعد عنهم من العراق و الهند و المغرب تارة و يقتصرون على يمنهم أخرى فاختلفت أحوالهم و اتفقت أسماء كثيرة من ملوكهم و وقع الليس في نقل أيامهم و دولهم فلنأت بما صح منها متحريا جهد الاستطاعة عن طموس من الفكر و اقتفاء التقاييد المرجوع إليها و الأصول المعتمد على نقلها و عدم الوقوف على أخبارهم مدونة في كتاب واحد و الله المستعان
قال السهيلي : معنى تبع الملك المتبع و قال صاحب المحكم : التبابعة ملوك اليمن و أحدهم تبع لأنهم يتبع بعضهم بعضا كلما هلك واحد قام آخر تابعا له في سيرته و زادوا الباء في التبابعة لإرادة النسب قال الزمخشري : قيل لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون كما قيل الأقيال لأنهم يتقيلون قال المسعودي : و لم يكونوا يسمون الملك منهم تبعا حتى يملك اليمن و الشحر و حضرموت و قيل حتى يتبعه بنو جشم بن عبد شمس و من لم يكن له شيء من الأمرين فيسمى ملكا و لا يقال له تبع و أول ملوك التبابعة باتفاق من المؤرخين الحرث الرائش و إنما سمي الرائش لأنه راش الناس بالعطاء أو اختلف الناس في نسبه بعد اتفاقهم على أنه من ولد واثل بن الغوث بن حيران بن قطن بن عريب بن زهير بن إبين بن الهميسع بن حمير فقال ابن إسحق و أبو المنذر بن الكلبي : إن قيسا بن معاوية بن جشم فابن اسحق يقول في نسبه إلى سبا الحرث بن عدي بن صيفي و ابن الكلبي يقول الحرث بن قيس بن صيفي و قال السهيلي هو الحرث بن همال بن ذي سدد بن الملطاط بن عمرو بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن واثل و جشم جد سباهو بن عبد شمس هذا عند المسعودي و عند بعضهم أنه أخوه و أنهما معا ابنا واثل و ذكر المسعودي عن عبيد بن شربة الجرهمي و قد سأل معاوية عن ملوك اليمن في خبر طويل و نسب الحرث منهم فقال : هو الحرث بن شداد بن الملطاط بن عمرو و أما الطبري فاختلف نسبه في نسب الحرث فمرة قال : و بيت ملك التبابعة في سبا الأصغر و نسبه كما مر و قال في موضع آخر و الحرث بن ذي شدد هو الرائش جد الملوك التبابعة فجعله إلى شدد و لم ينسبه إلى قيس و لا عدي من ولد سبا و كذلك اضطرب أبو محمد بن حزم في نسبه في الجمهرة مرة إلى الملطاط و مرة إلى سبا الأصغر و الظاهر أنه تبع في ذلك الطبري و الله أعلم
و ملك الحرث الرائش فيما قالوا مائة و خمسا و عشرين سنة و كان يسمى تبعا و كان مؤمنا فيما قال السهيلي ثم ملك بعده ابنه أبرهة ذو المنار مائة مائة و ثمانين سنة قال المسعودي و قال ابن هشام : أبرهة ذو المنار هو ابن الصعب بن ذي مداثر بن الملطاط و سمي ذا المنار لأنه رفع المنار ليهتدي به ثم ملك من بعده أفريقش بن أبرهة مائة و ستين سنة و قال ابن حزم هو أفريقش بن قيس بن صيفي أخو الحرث الرائش و هو الذي ذهب بقبائل العرب إلى أفريقية و به سميت و ساق البربر إليها من أرض كنعان مر بها عندما غلبهم يوشع و قتلهم فاحتمل الفل منهم و ساقهم إلى أفريقية فأنزلهم بها و قتل ملكها جرجير و يقال إنه الذي سمى البرابرة بهذا الإسم لأنه لما افتتح المغرب و سمع رطانتهم قال : ما أكثر بربرتهم فسموا البرابرة و البربرة في لغة العرب هي اختلاط أصوات غير مفهومة و منه بربرة الأسد و لما رجع من غزو المغرب ترك هنالك من قبائل حمير صنهاجة و كتامة فهم إلى الآن بها و ليسوا من نسب البربر قاله الطبري و الجرجاني و المسعودي و ابن الكلبي و السهيلي و جميع النسابين
ثم ملك من بعد افريقش أخوه العبد بن أبرهة و هو ذو الأذعار عند المسعودي قال : سمي بذلك لكثرة ذعر الناس من جوره و ملك خمسا و عشرين سنة و كان على عهد سليمان بن داود بن داود و قبله بقليل و غزا ديار المغرب و سار إليه كيقاوس بن كنعان ملك فارس فبارزه و انهزم كيقاوس و أسره ذو الأذعار حتى استنقذه بعد حين من يده وزيره رستم زحف إليه بجموع فارس إلى اليمن و حارب ذا الأذعار فغلبه و استخلص كيقاوس من أسره كما نذكره في أخبار ملوك فارس و قال الطبري إن ذا الأذعار اسمه عمرو بن ابرهة ذي المنار بن الحرث الرائش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر انتهى و كان مهلك ذي الأذعار فيما ذكر ابن هشام مسموما على يد الملكة بلقيس
و ملك من بعده الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن ذي الأذعار و هو ذو الصرح و ملك ستا أو عشرا فيما قال المسعودي و ملكت بعده ابنته بلقيس سبع سنين و قال الطبري : إن اسم بلقيس يلقمة بنت اليشرح بن الحرث بن قيس انتهى ثم غلبهم سليمان عليه السلام على اليمن كما وقع في القرآن فيقال تزوجها و يقال بل عزلها في التأيم فتزوجت سدد بن زراعة بن سبا و أقاموا في ملك سليمان و ابنه أربعا و عشرين سنة ثم قال بملكهم ناشر بن عمرو ذي الأذعار و يعرف بناشر النعم لفظين مركبين جعلا اسما واحدا كذا ضبطه الجرجاني و قال السهيلي ناشر بن عمرو ثم قال و يقال ناشر النعم و في كتاب المسعودي نافس بن عمرو و لعله تصحيف و نسبه إلى عمرو ذي الأذعار و ليس يتحقق في هذه الأنساب كلها أنها للصلب فإن الآماد طويلة و الأحقاب بعيدة و قد يكون بين اثنتين منهما عدد من الآباء و قد يكون ملصقا به و قال هشام بن الكلبي أن ملك اليمن صار بعد بلقيس إلى ناشر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له ياسر أنعم لإنعامه عليهم بما جمع من أمرهم و قوي من ملكهم و زعم أهل اليمن أنه سار غازيا إلى المغرب فبلغ وادي الرمل و لم يبلغه أحد و لم يجد فيه مجازا لكثرة الرمل و عبر بعض أصحابه فلم يرجعوا فأمر بصنم من نحاس نصب على شفير الوادي و كتب في صدره بالخط المسند هذا الصنم لياسر أنعم الحميري ليس وراءه مذهب فلا يتكلف أحد ذلك فيعطب انتهى
ثم ملك بعد ياسر هذا ابنه شمر مرعش سمي بذلك لارتعاش كان به و يقال إنه وطئ أرض العراق و فارس و خراسان و افتتح مدائنها و خرب مدينة الصغد وراء جيحون فقالت العجم ( شمركنداي ) شمر خرب و بني مدينة هنالك فسميت باسمه هذا عربته العرب فصار سمرقند و يقال أنه الذي قاتل قباذ ملك الفرس و أسره و أنه الذي حير الحيرة و كان ملكه مائة و ستين سنة و ذكر بعض الإخباريين أنه ملك بلاد الروم و أنه الذي استعمل عليهم ماهان قيصر فهلك و ملك بعده ابنه دقيوس و قال السهيلي في شمر مرعش الذي سميت به سمرقند أنه شمر بن مالك و مالك هو الأملوك الذي قيل فيه :
( فنقب عن الأملوك و اهتف بذكره ... و عش دار عز لا يغالبه الدهر )
و هذا غلط من السهيلي فإنهم مجمعون على أن الأملوك كان لعهد موسى صلوات الله عليه و شمر من أعقاب ذي الأذعار كان على عهد سليمان فلا يصح ذلك إلا أن يكون شمر ابرهة و يكون أول دولة التبابعة
ثم ملك على التبابعة بعد شمر مرعش تبع الأقرن و اسمه زيد قال السهيلي و هو ابن شمر مرعش و قال الطبري إنه ابن عمرو ذي الأذعار و قال السهيلي إنما سمي الأقرن لشامة كانت في قرنه و ملك ثلاثا و خمسين سنة و قال المسعودي ثلاثا و ستين ثم ملك من بعده ابنه ملكيكرب و كان مضعفا و لم يغزقط إلى أن مات و ملك بعده ابنه تبان أسعد أبو كرب و يقال هو تبع الآخر و هو المشهور من ملوك التبابعة و عند الطبري أن الذي بعد ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار تبع الأقرن أخوه ثم بعد تبع الأقرن شمر مرعش بن ياسر ينعم ثم من بعده تبع الأصغر و هو تبان أسعد أبو كرب هذا هو تبع الآخر و هو المشهور من ملوك التبابعة و قال الطبري : و يقال له الرائد و كان على عهد يستاسب و حافده أردشير يمن ابن ابنه اسفنديار من ملوك الفرس و أنه شخص من اليمن غازيا و مر بالحيرة فتحير عسكره هنالك فسميت الحيرة و خلف قوما من الأزد و لخم و جذام و عاملة و قضاعة فأقاموا هنالك و بنو الإطام و اجتمع إليهم ناس من طيرة و كلب و السكون و أيام و الحرث بن كعب ثم توجه إلى الأنبار ثم الموصل ثم أذربيجان و لقي الترك فهزمهم و قتل و سبى ثم رجع إلى اليمن و هابته الملوك و هادنه ملوك الهند ثم رجع لغزو الترك و بعث ابنه حسان إلى الصغد و ابنه يعفو إلى الروم و ابن أخيه شمر ذي الجناح إلى الفرس و إن شمر لقي كيقباذ ملك الفرس فهزمه و ملك سمرقند و قتله و جاز إلى الصين فوجد أخاه حسان قد سبقه إليها فأثخنا في القتل و السبي و انصرفا بما معهما من الغنائم إلى أبيهما و بعث ابنه يعفر إلى القسطنطينية فتلقوه الجزية و الأتاوة فسار إلى رومة و حصرها و وقع الطاعون في عسكره فاستضعفهم الروم و وثبوا عليهم فقتلوهم و لم يفلت منهم أحد ثم رجع إلى اليمن و يقال أنه ترك ببلاد الصين قوما من حمير و أنهم بها لهذا العهد و أنه ترك ضعفاء الناس بظاهر الكوفة فتحيروا هنالك و أقاموا معهم من كل قبائل العرب
و قال ابن إسحق إن الذي سار إلى المشرق من التبابعة تبع الآخر و هو تبان أسعد أبو كرب بن ملكيكرب بن زيد الأقرن ابن عمرو ذي الأذعار و تبان أسعد هو حسان تبع و هو فيما يقال أول من كسا الكعبة و ذكر ابن إسحق الملأ و الوصائل و أوصى ولاته من جرهم بتطهيرها و جعل لها بابا و مفتاحا و ذكر ابن إسحق أنه أخذ بدين اليهودية و ذكر في سبب تهوده أنه لما غزا إلى المشرق مر بالمدينة يثرب فملكها و خلف ابنه فيهم فعدوا عليه و قتلوه غيلة و رئسهم يومئذ عمرو بن الطلة من بني النجار فلما أقبل من المشرق و جعل طريقه على المدينة مجمعا على خرابها فجمع هذا الحي من أبناء قيلة لقتاله فقاتلهم و بينما هم على ذلك جاءه حبران من أحبار يهود من بني قريظة و قالا له : لا تفعل فإنك لن تقدر و أنها مهاجر نبي قرشي يخرج آخر الزمان فتكون قرارا له و أنه أعجب بهما و اتبعهما على دينهما ثم مضى لوجهه و لقيه دون مكة نفر من هذيل و أغروه بمال الكعبة و ما فيها من الجواهر و الكنوز فنهاه الحبران عن ذلك و قالا له إنما أراد هؤلاء هلاكك فقتل النفر من الهذليين و قدم مكة فأمره الحبران بالطواف بها و الخضوع ثم كساها كما تقدم و أمر ولاتها من جرهم بتطهيرها من الدماء و الحيض و سائر النجاسات و جعل لها بابا و مفتاحا ثم سار إلى اليمن و قد ذكر قومه ما أخذ به من دين اليهودية و كانوا يعبدون الأوثان فتعرضوا لمنعه ثم حاكموه إلى النار التي كانوا يحاكمون إليها فتأكل الظالم وتدع المظلوم و جاؤوا بأوثانهم و خرج الجيران متقلدان المصاحف و دخل الحميريون فأكلتهم أوثانهم و خرج الحبران منها ترشح وجوههم عرقا فآمنت حمير عند ذلك و أجمعوا على اتباع اليهودية و نقل السهيلي عن ابن قتيبة في هذه الحكاية أن غزاة تبع هذه إنما هي استصراخة أبناء قيلة على اليهود فإنهم كانوا نزلوا مع اليهود حين أخرجوهم من اليمن على شروط فنقضت عليهم اليهود فاستغاثوا بتبع فعند ذلك قدمها و قد قيل : إن الذي استصرخه أبناء قيلة على اليهود إنما هو أبو جبلة من ملوك غسان بالشام جاء به مالك بن عجلان فقتل اليهود بالمدينة و كان من الخزرج كما نذكر بعد و يعضد هذا أن مالك بن عجلان بعيد عن عهد تبع بكثير يقال إنه كان قبل الإسلام بسبعمائة سنة ذكره ابن قتيبة و حكى المسعودي في أخبار تبع هذا أن أسعد أبا كرب سار في الأرض و وطأ الممالك و ذللها ووطئ أرض العراق في ملك الطوائف و عميد الطوائف يومئذ خرداد بن سابور فلقي ملكا من ملوك الصوائف إسمه قباذ و ليس قباذ بن فيروز فانهزم قباذ و ملك أبو كرب العراق و الشام و الحجاز و في ذلك يقول تبع أبو كرب :
( إذا حسينا جيادنا من دماء ... ثم سرنا بها مسيرا بعيدا )
( و استبحنا بالخيل خيل قباذ ... و ابن إقليد جاءنا مصفودا )
( و كسونا البيت الذي حرم ... الله ملاء منضدا و برودا )
( و أقمنا به عن من الشهر عشرا ... و جعلنا لبابه إقليدا )
و قال أيضا
( لست بالتبع اليماني إن لم ... تركض الخيل في سواد العراق )
( أو تؤدي ربيعة الخرج قسرا ... لم يعقها عوائق العواق )
و قد كانت لكندة معه وقائع و حروب حتى غلبهم حجر بن عمرو بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة بن ملوك كهلان فدانوا له و جع أبوكرب إلى اليمن فقتله حمير و كان ملكه ثلثمائة و عشرين سنة
ثم ملك من بعد أبي كرب هذا فيما قال ابن إسحق ربيعة بن نصر بن الحرث بن نمارة بن لخم و لخم أخو جذام و قال ابن هشام و يقال ربيعة بن نصر بن أبي حارثة بن عمرو بن عامر كان أبو حارثة تخلف باليمن بعد خروج أبيه و أقام ربيعة بن نصر ملكا على اليمن بعد هؤلاء التبابعة الذين تقدم ذكرهم و وقع له شأن الرؤيا المشهورة قال الطبري عن ابن إسحق عن بعض أهل العلم أن ربيعة بن نصر رأى رؤيا هالته و فظع بها و بعث في أهل مملكته في الكهنة و السحرة و المنجمين و أهل العيافة فأشاروا عليه باستحضار الكاهنين المشهورين لذلك العهد في إياد و غسان و هما شق و سطيح قال الطبري شق هو أبو صعب شكر بن وهب بن أمول بن يزيد بن قيس عبقر بن أنمار و سطيح هو ربيع بن ربيعة بن مسعود بن مازن بن ذيب بن عدي بن مازن بن غسان و لوقوع اسم ذيب في نسبه كان يعرف بالذيبي فأحضرهما و قص عليهما رؤياه و أخبراه بتأويلها أن الحبشة يملكون بلاد اليمن من بعد ربيعة و قحطان بسعين سنة ثم يخرج عليهم ابن ذي يزن من عدن فيخرجهم و يملك عليهم اليمن ثم تكوه النبوة في قريش في بني غالب بن فهر و وقع في نفس ربيعة أن الذي حدثه الكاهنان من أمر الحبشة كائن فجهز بينه و أهل بيته إلى العراق بما يصلحهم و كتب إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرداذ فأسكنهم الحيرة
و من بيت ربيعة بن نصر كان النعمان ملك الحيرة و هو النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر قال ابن إسحق و لما هلك ربيعة بن نصر اجتمع ملك اليمن لحسان بن تبان أسعد بن كرب قال السهيلي و هو الذي استباح طسما كما ذكرناه و بعث على المقدمة عبد كهلان بن يثرب بن ذي حرب بن حارث بن ملك بن عبدان بن حجر بن ذي رعين و اسم ذي رعين يريم و هو ابن زيد الجمهور و قد مر نسبه إلى سبا الأصغر و قال السهيلي في أيام حسان تبع كان خروج عمرو بن مزيقيا من اليمن بالأزد و هو غلط من السهيلي لأن أبا كرب أباه إنما غزا المدينة فيما قال هو صريخا للأوس و الخزرج على اليهود و هو من غسان و نسبه إلى مزيقيا فعلى هذا يكون الذي استصرخه الأوس و الخزرج على اليهود و هو من ملوك غسان كما يأتي في أخبارهم قال ابن إسحق : و لما ملك حسان بن تبع بن تبان أسعد سار بأهل اليمن يريد أن يطأ بهم أرض العرب و العجم كما كانت التبابعة تفعل فكرهت حمير و قبائل اليمن السير معه و أراداوا الرجوع إلى بلادهم فكلموا أخا له كان معهم في العسكر يقال له عمرو و قالوا له اقتل أخاك نملكك و ترجع بنا إلى بلادنا فتابعهم على ذلك و خالفه ذورعين في ذلك و نهى عمرا عن ذلك فلم يقبل و كتب في صحيفة و أودعها عنده :
( ألا من يشتري سهرا بنوم ... سعيد من يبيت قرير عين )
( فأما حمير غدرت و خانت ... فمعذرة الإله لذي رعين )
ثم قتل أخاه بعرصة لخم و هي رحبة مالك بن طوق و رجع حمير إلى اليمن فمنع النوم عليه السهر وأجهده ذلك فشكى إلى الأطباء عدم نومه و الكهان و العرافين فقال ما قتل رجل أخاه إلا سلط عليه السهر فجعل يقتل كل من أشار عليه بقتل أخيه و لم يغنه ذلك شيئا و هم بذي رعين فذكره شعره فكانت فيه معذرته و نجاته و كان عمرو هذا يسمى موثبان قال الطبري : لوثوبه على أخيه و قال ابن قتيبة لقلة غزوه و لزومه الوثب على الفراش و هلك عمرو هذا لثلاث و ستين سنة من ملكه
قال الجرجاني و الطبري : ثم مرج أمر حمير من بعده و تفرقوا و كان ولد حسان تبع صغارا لا يصلحون للملك و كان أكبرهم قد استهوته الجن فوثب على ملك التبابعة عبد كلال موثبا فملك عليهم أربعا و تسعين سنة و كان يدين بالنصرانية ثم رجع ابن حسان تبع من استهواء الجن فملك على التبابعة قال الجرجاني ملك ثلاثا و سبعين سنة و هو تابع الأصغر ذو المغازي و الآثار البعيدة قال الطبري : و كان أبوه حسان تبع قد زوج بنته من عمرو بن حجر آكل المرارا بن عمرو بن معاوية من ملوك كندة فولدت له ابنه الحرث بن عمرو فكان ابن تبع بن حسان هذا فبعثه على بلاد معد و ملك على العرب بالحيرة مكان آل نصر بن ربيعة قال و انعقد الصلح بينه و بين كيقباد ملك فرس على أن يكون الفرات حدا بينهم ثم أغارت العرب بشرقي الفرات فعاتبه على ذلك فقال لا أقدر على ضبط العرب إلا بالمال و الجند فأقطعه بلادا من السواد و كتب الحرث إلى تبع يغريه بملك الفرس و تضعيف أمر كيقباد فغزاهم و قيل إن الذي فعل ذلك هو عمرو بن حجر أبوه الذي ولاه تبع أبو كرب و أنه أغراه بالفرس و استقدمه إلى الحيرة فبعث عساكره من ولده الثلاثة إلى الصغد و الصين و الروم و قد تقدم ذكر ذلك
قال الجرجاني : ثم ملك بعد تبع بن حسان تبع أخوه لأمه و هو مدثر بن عبد كلال فملك إحدى و أربعين سنة ثم ملك من بعده ابنه وليعة بن مدثر سبعا و ثلاثين سنة ثم ملك من بعده أبرهة بن الصباح بن لهيعة بن شبيبة بن مدثر قيلف بن يعلق بن معد يكرب بن عبد الله بن عمرو بن ذي أصبح الحرب بن مالك أخو ذي رعين و كعب أبو سبا الأصغر قال الجرجاني : و بعض الناس يزعم أن أبرهة بن الصباح إنما ملك تهامة فقط قال : ثم ملك من بعده حسان بن عمرو بن تبع بن ملكيكرب سبعا و خمسين سنة ثم ملك لخيتعة و لم يكن من أهل بيت المملكة قال ابن إسحق و لما ملك لختيعة غلب عليهم و قتل خيارهم و عبث برجالات بيوت المملكة منهم قيل إنه كان ينكح ولدان حمير يريد بذلك أن لا يملكوا علهم و كانوا لا يملكون عليهم من نكح نقله ابن إسحق و قال أقام عليهم مملكا سبعا و عشرين سنة ثم وثب عليه ذو نواس زرعة تبع بن تبان أسعد بني كرب و هو حسان أبي ذي معاهر فيما قال ابن إسحق و كان صبيا حين قتل حسان ثم شب غلاما جميلا ذا هيئة و فضل و وضاءة ففتك بالختيعة في خلوة أراده فيها على مثل فعلاته القبيحة و علمت به حمير و قبائل اليمن فملكوه و اجتمعوا عليه و جدد ملك التبابعة و تسمى يوسف و تعصب لدين اليهودية و كانت مدته فيما قال ابن إسحق ثمانية و ستين سنة إلى هنا ترتيب أبي الحسن الجرجاني ثم قال : و قال آخرون ملك بعد أفريقش بن أبرهة قيس بن صيفي و بعده الحرث بن قيس بن مياس ثم ماء السماء بن ممروه ثم شرحبيل و هو يصحب بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن علي بن الهمال بن المنثلم بن جهيم ثم الصعب بن قرين بن الهمال بن المنثلم ثم زيد بن الهمال ثم ياسر بن الحرث بن عمرو بن يعفر ثم زهير بن عبد شمس أحد بني صيفي بن سبا الأصغر و كان فاسقا مجرما يفتض أبكار حمير حتى نشأت بلقيس بنت اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث بن قيس بن صيفي فقتلته غيلة ثم ملكت و لما أخذها سليمان ملك لملك بن شرحبيل ثم ملك ذو وداغ فقتله ملكيكرب بن تبع بن الأقرن و هو أبو ملك ثم هلك فملك أسعد بن قيس بن زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبا و هو أبو كرب ثم ملك حسان ابنه فقتله عمرو أخوه و وقع الاختلاف في حمير و وثب على عمرو الختيعة ينوف ذو الشناتر و ملك ثم قتله ذو نواس بن تبع و ملك كلام الجرجاني
و زعم ابن سعيد و نقله من كتب مؤرخي المشرق أن الحرث الرايش هو ابن ذي شداد و يعرف بذي مداثر و أن الذي ملك بعده ابنه الصعب و هو ذو القرنين ثم ابنه أبرهة بن الصعب و هو ذو المنار ثم العبد ذو الأشفارا بن أبرهة بن عمرو ذي الأذعار ابن أبرهة ثم قتله بلقيس قال في التيجان : إن حمير خلعوه و ملكوا شرحبيل ابن غالب بن المنتاب بن زيد بن يعفر بن السكسك بن وائل و كان بمأرب فجاز به ذو الأذعار و حارب ابنه الهدهاد بن شرحبيل من بعده و ابنته بلقيس بنت الهدهاد الملكة من بعده فصالحته على التزويج و قتلته و غلبها سليمان عليه السلام على اليمن إلى أن هلك و ابنه رحبعم من بعده و اجتمعت حمير من بعده على مالك بن عمرو ابن يعفر بن عمرو بن حمير بن المنتاب بن عمرو بن يزيد بن يعفر بن السكسك بن وائل بن حمير و ملك بعده ابنه شمر يرعش و هو الذي خرب سمرقند و ملك بعده ابنه صيفي بن شمر على اليمن و سار أخوه أفريقش بن شمر إلى أفريقية بالبربر و كنعان فملكها ثم انتقل الملك إلى كهلان و قام به عمران بن عامر ماء السماء بن حارثة امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد و كان كاهنا و لما احتضر عهد إلى أخيه عمرو بن عامر المعروف بمزيقيا و أعلمه بخراب سد مأرب و هلاك اليمن بالسيل فخرج من اليمن بقومه و أصحاب اليمن سيل العرم فلم ينتظم لبني قحطان بيعته و استولى على قصر مأرب من بعده ربيعة بن نصر ثم رأى رؤيا و نذر بملك الحبشة و بعث ولده إلى العراق و كتب إلى سابور الأشعاني فأسكنه الحيرة و كثرت الخوارج باليمن فاجتمع حمير على أن تكون لأبي كرب أسعد بن عدي بن صيفي فخرج من ظفار و غلب ملوك الطوائف باليمن و دوخ جزيرة العرب و حاصر الأوس و الخزرج بالمدينة وحمل حمير على اليهودية وطالت مدته و قتلته حمير و ملك بعده ابنه حسان الذي أباد طسما ثم قتله أخوه عمرو بمداخلة حمير و هلك عمرو فملك بعده أخوه لأبيه عبد كلال بن منوب و في أيامه خلع سابور أكتاف العرب و ملك بعده تبع بن حسان و هو الذي بعث ابن أخيه الحرث بن عمرو الكندي إلى أرض بني معد بن عدنان بالحجاز فملك عليهم و ملك بعده مرثد بن عبد كلال ثم ابنه وليعة و كثرت الخوارج عليه و غلب أبرهة بن الصباح على تهامة اليمن و كان في ظفار دار التبابعة حسان بن عمرو بن أبي كرب ثم وثب بعده على ظفار ذو شناتر و قتله ذو نواس كما مر هذا ترتيب ابن سعيد في ملوكهم
و عند المسعودي : أنه لما هلك كليكرب بن تبع المعروف بالأقرن قال و هو الذي سار قومه نحو خراسان و الصغد و الصين و ولي بعد حسان بن تبع فاستقام له الأمر خمسا و عشرين سنة ثم قتله أخوه عمرو بن تبع و ملك أربعا و ستين سنة ثم تبع أبو كرب و هو الذي غزا يثرب و كسا الكعبة بعد أن أراد هدمها و منعه الحبران من اليهود و تهود و ملك مائة سنة ثم بعده عمرو بن تبع أبي كرب و خلع و ملكوا مرثد بن عبد كلال و اتصلت الفتن باليمن أربعين سنة و من بعده وليعة بن مرثد تسعا و ثلاثين سنة و من بعده أبرهة بن الصباح بن وليعة بن مرثد و يدعى شيبة الحمد ثلاث و تسعين سنة و كانت له سير و قصص و من بعده عمرو ذو قيفان تسع عشرة سنة و من بعده لخيتعة ذو شناتر و من بعده ذو نواس
و أما ابن الكلبي و الطبري و ابن حزم فعندهم أن تبع أسعد أبي كرب هو ابن كليكرب بن زيد الأقرن ابن عمرو بن ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار الرايش بن قيس بن صيفي بن سبا الأصغر و قال السهيلي إنه أسقط أسماء كثيرة و ملوكا و قال ابن الكلبي و ابن حزم : و من ملوك التبابعة أفريقش بن صيفي و منهم شمر يرعش ابن ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار و منهم بلقيس ابنة اليشرح بن ذي جدن بن اليشرح بن الحرث الرايش بن قيس بن صيفي ثم قال ابن حزم بعد ذكر هؤلاء من التبابعة : و في أنسابهم اختلاف و تخليط و تقديم و تأخير و نقصان و زيادة و لا يصح من كتب أخبار التبابعة و أنسابهم إلا طرف يسير لاختلاف رواتهم و بعد العهد و قال الطبري لم يكن لملوك اليمن نظام و إنما كان الرئيس منهم يكون ملكا على مخلافه لا يتجاوزه و إن تجاوز بعضهم عن مخلافه بمسافة يسيرة من غير أن يرث ذلك الملك عن آبائه و لا يرثه أبناؤه عنه إنما هو شأن شداد المتلصصة يغيرون على نواحي باستغفال أهلها فإذا قصدهم الطلب لم يكن لهم ثبات و كذلك كان أمر ملوك اليمن يخرج أحدهم من مخلافه بعض الأحيان و يبعد في الغزو و الإغارة فيصيب ما يمر به ثم يتشمر عند خوف الطلب زاحفا إلى مكانه من غير أن يدين له أحد من غير مخلافه بالطاعة أو يؤدي إليه خراجا
و أما الخبر عن ذي نواس و ما بعده فاتفق أهل الأخبار كلهم أن ذا نواس هو ابن تبان أسعد و اسمه زرعة و أنه تغلب على ملك آبائه التبابعة تسمى يوسف و تعصب لدين اليهودية و حمل عليه قبائل اليمن و أراد أهل نجران عليها و كانوا من بين العرب يدينون بالنصرانية و لهم فضل في الدين و استقامة و كان رئيسهم في ذلك يسمى عبد الله بن الثامر و كان هذا الدين وقع إليهم قديما من بقية أصحاب الحواريين من رجل سقط لهم من ملك التبعية يقال له ميمون نزل فيهم و كان مجتهدا في العبادة مجاب الدعوة و ظهرت على يده الكرامات في شفاء المرضى و كان يطلب الخفاء عن الناس جهده و تبعه على دينه رجل من أهل الشام اسمه صالح و خرجا فارين بأنفسهما فلما وطئا بلاد العرب اختطفتهما سيارة فباعوهما بنجران و هم يعبدون نخلة طويلة بين أظهرهم و يعلقون عليها في الأعياد من حليهم و ثيابهم و يعكفون عليها أياما و افترقا في الدير على رجلين من أهل نجران و أعجب سيد ميمون صلاته و دينه و سأله عن شأنه فدعاه إلى الدين و عبادة الله و أن عبادة النخلة باطل و أنه لو دعا معبوده عليها هلكت فقال له سيده إن فعلت دخلنا في دينك فدعا ميمون فأرسل الله ريحا فجعفت النخلة من أصلها و أطبق أهل نجران على أتباع دين عيسى صلوات الله عليه و من رواية ابن إسحق أن ميمون نزل بقرية من قرى نجران و كان يمر به غلمان أهل نجران يتعلمون من ساحر كان بتلك القرية و في أولئك الغلمان عبد الله بن الثامر فكان يجلس إلى ميمون و يسمع منه فآمن به و اتبعه و حصل على معرفة اسم الله الأعظم فكان مجاب الدعوة لذلك و اتبعه الناس على دينه و أنكر عليه نجران و هم بقتله فقال له : لن تطيق حتى تؤمن و توحد فآمن ثم قتله فهلك ذلك الملك مكانه و اجتمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر و أقام نجران على دين صلوات الله عليه حتى دخلت عليهم الأحداث و دعاهم ذو نواس إلى دين اليهودية فأبوا فسار إليهم في أهل اليمن و عرض عليهم القتل فلم يزدهم إلا جماحا فحدد لهم الأخاديد و قتل و حرق حتى أهلك منهم فيما قال ابن إسحق عشرين ألفا و يزيدون و أفلت منهم رجل من سبا يقال له دوس ذو ثعلبان فسلك الرمل على فرسه و أعجزهم (2/57)
ملك الحبشة اليمن
قال هشام بن محمد الكلبي في سبب غزو ذي نواس أهل نجران أن يهوديا كان بنجران فعدا أهلها على ابنين له فقتلوهما ظلما فرفع أمره إلى ذي نواس و توسل له باليهودية و استنصره على أهل نجران و هم نصارى فحمي له و لدينه و غزاهم و لما أفلت دوس ذو ثعلبان فقدم على قيصر صاحب الروم يستنصره على ذي نواس و اعلمه بما ركب منهم و أراه الإنجيل قد احترق بعضه بالنار فكتب له إلى النجاشي يأمره بنصره وطلب بثأره و بعث معه النجاشي سبعين ألفا من الحبشة و قيل إن صريخ دوس كان أولا للنجاشي و إنه اعتذر إليه بقلة السفن لركوب البحر و كتب إلى قيصر و بعث إليه بالإنجيل المحرق فجاءته السفن و أجاز فيها العساكر من الحبشة و أمر عليهم أرباطا رجلا منهم و عهد إليه بقتلهم و سبيهم و خراب بلادهم فخرج أرباط لذلك و معه أبرهة الأشرم فركبوا البحر و نزلوا ساحل اليمن و جمع ذو نواس حمير و من أطاعه من أهل اليمن على افتراق و اختلاف في الأهواء فلم يكن كبير حرب و انهزموا فلما رأى ذو نواس ما نزل به و بقومه وجه بفرسه إلى البحر ثم ضربه فدخل فيه و خاض ضحضاح البحر ثم أفضى به إلى غمرة فأقحمه فيه فكان آخر العهد به و وطئ أرباط اليمن بالحبشة و بعث إلى النجاشي بثلث السبي كما عهد له ثم أقام بها فضبطها و أذل رجالات حمير و هدم حصون الملك بها مثل سلجيق و سون و غمدان و قال ذو يزن يرثي حمير و قصور الملك باليمن :
( هونك ليس يرد الدمع ما فاتا ... لا تهلكن أسفا في إثر من ماتا )
( أبعد سون فلا عين و لا أثر ... و بعد سلجيق يبني الناس أبياتا )
و في رواية هشام بن محمد الكلبي أن السفن قدمت على النجاشي من قيصر فحمل فيها الحبش و نزلوا بساحل اليمن و استجاش ذو نواس بأقيال حمير فامتنعوا من صريخه و قالوا : كل أحد يقاتل عن ناحيته فألقى ذو نواس باليد و لم يكن قتال و أنه سار بهم إلى صنعاء و بعث عماله في النواحي لقبض الأموال و عهد بقتلهم في كل ناحية فقتلوا و بلغ ذلك النجاشي فجهز إلى اليمن سبعين ألفا و عليهم أبرهة فبلغوا صنعاء و هرب ذو نواس و اعترض البحر فكان آخر العهد به و ملك أبرهة اليمن و لم يبعث إلى النجاشي بشيء و ذكر له أنه خلع طاعته فوجه جيشا من أصحابه عليهم أرباط و لما حل بساحته دعاه إلى النصفة و النزال فتبارزا و خدعه أبرهة و أكمن عبدا له في موضع المبارزة فلما التقيا ضربه أرباط فشرم أنفه و سمي الأشرم و خالفه العبد من الكمين فضرب أرباطا فأنفذه و بلغ النجاشي خبر أرباط فحلف ليريقن دمه ثم كتب إليه أبرهة و استرضاه فرضي عليه و أقره على عمله
و قال ابن إسحق إن أرباط هو الذي قدم اليمن أولا و ملكه و انتقض عليه أبرهة من بعد ذلك فكان ما ذكرنا من الحرب بينهما و قتل أرباط و غضب النجاشي لذلك ثم أرضاه و استبد أبرهة بملك اليمن
و يقال إن الحبشة لما ملكوا اليمن أمر أبرهة بن الصباح و أقاموا في خدمته قاله ابن سلام : و قيل إن ملك حمير لما انقرض أمر التبابعة صار متفرقا في الأذواء من ولد زيد الجمهور و قال ابن الكلبي و أبو الفرج الأصبهاني : هو علس بن الحرث بن زيد بن الغوث سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور قالوا كلهم : و لما ملك ذو يزن بعد مهلك ذي نواس و استبد أمر الحبشة على أهل اليمن طالبوهم بدم النصارى الذين في أهل نجران فساروا إليه و عليهم أرباط و لقيهم فيمن معه فانهزم و اعترض البحر فأقحم من فرسه و غرق فهلك بعد ذي نواس و ولي ابنه مرثد بن ذي يزن مكانه و هو الذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد و كان من عقب ذي يزن أيضا من هؤلاء الأدواء علقمة ذو قيفال بن شراحيل بن ذي يزن و ملك مدينة الهون فقتله أهلها من همدان و لما استقر أبرهة في ملك اليمن أساء السير في حمير و رؤسائهم و بعث في ريحانة بنت علقمة بن مالك بن زيد بن كهلان فانتزعها من زوجها أبي مرة بن ذي يزن و قد كانت ولدت منه ابنه معد يكرب و هرب أبو مرة و لحق بأطراف اليمن و اصطفى أبرهة ريحانة فولدت له مسروق بن أبرهة و أخته بسباسة و كان لأبرهة غلام يسمى عمددة و كان قد ولاه الكثير من أمره فكان يفعل الأفاعيل حتى عدا عليه رجل من حمير أو خثعم فقتله و كان حليما فأهدر دمه (2/69)
غزو الحبشة الكعبة
ثم إن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء تسمى القليس لم ير مثلها و كتب إلى النجاشي بذلك و إلى قيصر في الصناع و الرخام و الفيسفساء و قال لست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب و تحدث العرب بذلك فغضب رجل من السادة أحد بني فقيم ثم أحد بني مالك و خرج حتى أتى القليس فقعد فيها و لحق بأرضه و بلغ أبرهة و قيل له الرجل من البيت الذي يحج إليه العرب فحلف ليسيرن إليه يهدمه ثم بعث في الناس يدعوهم إلى حج القليس فضرب الداعي في بلاد كنانة بسهم فقتل و أجمع أبرهة على غزو البيت و هدمه فخرج سائرا بالحبشة و معه الفيل فلقيه ذو نفر الحميري و قاتله فهزمه و أسره و استبقاه دليلا في أرض العرب قال ابن إسحق : و لما مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف فأتوه بالطاعة و بعثوا معه أبا رغال دليلا فأنزله المغمس بين الطائف و مكة فهلك هنالك و رجمت العرب قبره من بعد ذلك قال جرير :
( إذا مات الفرذدق فارجموه ... كما ترمون قبر أبي رغال )
ثم بعث أبرهة خيلا من الحبشة فانتهوا إلى مكة و استاقوا أموال أهلها و فيها مائتا بعير لعبد المطلب و هو يومئذ سيد قريش فهموا بقتاله ثم عملوا أن لا طاقة لهم به فاقصروا و بعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة يعلمهم بمقصده من هدم البيت و يؤذنهم بالحرب إن اعترضوا دون ذلك و أخبر عبد المطلب بذلك عن أبرهة فقال له : و الله ما نريد حربه و هذا بيت الله فإن يمنعه فهو بيته و إن يخلي عنه فما لنا نحن من دافع ثم انطلق به إلى أبرهة و مر بذي نفر و هو أسير فبعث معه إلى سائس الفيل و كان صديقا لذي نفر فاستأذن له على أبرهة فلما رآه جله و نزل عن سريره فجلس معه على بساطه و سأله عبد المطلب في الإبل فقال له أبرهة هلا سألت في البيت الذي هو دينك و دين آبائك و تركت البعير فقال عبد المطلب : أنا رب الإبل و للبيت رب سيمنعه فرد عليه إبله قاله الطبري : و كان فيما زعموا قد ذهب مع عبد المطلب عمرو بن لعابة بن عدي بن الرمل سيد كنانة و خويلد بن واثلة سيد هذيل و عرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة و يرجع عن هدم البيت فأبى عليهم فانصرفوا و جاء عبد المطلب و أمر قريشا بالخروج من مكة إلى الجبال و الشعاب للتحرز فيها ثم قام عند الكعبة ممسكا بحلقة الباب و معه نفر من قريش يدعون الله و يستنصرونه و عبد المطلب ينشد و يقول :
( لا هم إن العبد ... يمنع رحله فامنع رحالك )
( لا يغلبن صليبهم ... و محالهم أبدا محالك )
( و انصر علي آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك )
في أبيات معروفة
ثم أرسل الله عليهم الطير الأبابيل من البحر ترميم بالحجارة فلا تصيب أحدا منهم إلا هلك مكانه و أصلبه في موضع الحجر من جسده كالجدري و الحصبة فهلك و أصيب أبرهة في جسده بمثل ذلك و سقطت أعضاؤه عضوا عضوا و بعثوا بالفيل ليقدم على مكة فربض و لم يتحرك فنجا و أقدم فيل آخر فحصب و بعث الله سيلا مجحفا فذهب بهم و ألقاهم في البحر و رجع أبرهة إلى صنعاء و هو مثل فرخ الطائر فانصدع صدره عن قلبه و مات
و لما هلك أبرهة ملك مكانه ابنه يكسوم و به كان يكنى و استفحل ملكه و أذل حمير و قبائل اليمن و وطئتهم الحبشة فقتلوا رجالهم و نكحوا نساءهم و استخدموا أبناءهم ثم هلك يكسوم بن أبرهة فملك مكانه أخوه مسروق و ساءت سيرته و كثر عسف الحبشة باليمن فخرج ابن ذي يزن و استجاش عليهم بكسرى و قدم اليمن بعساكر الفرس و قتل مسروقا و ذهب أمر الحبشة بعد أن توارث ملك اليمن منهم أربعة في اثنتين و سبعين سنة أولهم أرباط ثم أبرهة ثم ابنه يكسوم ثم أخوه مسروق بن أبرهة (2/71)
قصة سيف بن ذي يزن و ملك الفرس على اليمن
و لما طال البلاء من الحبشة على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري من الأذواء بقية ذلك السلف و عقب أولئك الملوك و ديال الدولة المفوض للخمود و قد كان أبرهة انتزع منه زوجته ريحانة بعد أن ولدت منه ابنه معد يكرب كما مر و نسبه فيما قال الكلبي سيف بن ذي يزن بن عافر بن أسلم بن زيد بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور هكذا نسبه ابن الكلبي و مالك بن زيد هو أبو الأذواء فخرج سيف و قدم على قيصر ملك الروم و شكى إليه أمر الحبشة و طلب أن يخرجهم و يبعث على اليمن من شاء من الروم فلم يسعفه عن الحبشة و قال الحبشة على دين النصارى فرجع إلى كسرى و قدم الحيرة على النعمان بن المنذر عامل فارس على الحيرة و ما يليها من أرض العرب فشكى إليه و استمهله النعمان إلى حين و فادته على كسرى و أوفد معه و سأله النصر على الحبشة و أن يكون ملك اليمن له فقال : بعدت أرضك عن أرضنا أو هي قليلة الخير إنما هي شاء و بعير و لا حاجة لنا بذلك ثم كساه و أجازه فنثر دنانير الإجازة و نهبها الناس يوهم الغنى عنها بما في أرضه فأنكر عليه كسرى ذلك فقال : جبال أرضي ذهب و فضة و إنما جئت لتمنعني من الظلم فرغب كسرى في ذلك و أمهله للنظر في أمره و شاور أهل دولته فقالوا في سجونك رجال حبستهم للقتل ابعثهم معه فإن هلكوا كان الذي أردت بهم و إن ملكوا كان ملكا إزددته إلى ملكك و أحصوا ثمانمائة و قدم عليهم أفضلهم و أعظمهم بيتا و أكبرهم نسبا و كان وهزر الديلمي
و عند المسعودي و هشام بن محمد و السهيلي أن كسرى وعده بالنصر و لم ينصره و شغل بحرب الروم و هلك سيف بن ذي يزن عنده و كبر ابنه ابن ريحانة و هو معد يكرب و عرفته أمه بأبيه فخرج و وفد على كسرى يستنجزه في النصرة التي وعد بها أباه و قال له : أنا ابن الشيخ اليمني الذي وعدته فوهبه الدنانير و نثرها إلى آخر القصة
و قيل إن الذي وفد على كسرى و أباد الحبشة هو النعمان بن قيسبن عبيد بن سيف بن ذي يزن قالوا و لما كتبت الفرس مع وهزر و كانوا ثمانمائة و قال ابن قتيبة كانوا سبعة آلاف و خمسمائة و قال ابن حزم كان و هزر من عقب جاماس عم أنو شروان فأمره على أصحابه و ركبوا البحر ثمان سفائن فغرقت منها سفينتان و خلصت ست إلى ساحل عدن فلما نزلوا بأرض اليمن قال وهزر لسيف : ما عندك ؟ قال : ماشئت من قوس عربي و رجلي مع رجلك حتى نظفر أو نموت قال أنصفت و جمع ابن ذي يزن من استطاع من قومه و سار إليه مسروق بن أبرهة في مائة ألف من الحبشة و أوباش اليمن فتواقفوا للحرب و أمر وهزر ابنه أن يناوشهم القتال فقتلوه و أوباش اليمن فتوافقوا للحرب و أمر وهزر ابنه أنه يناوشهم القتال فقتلوه و أحفظه ذلك و قال : أروني ملكهم فأروه إياه على الفيل عليه تاجر و بين عينيه ياقوتة حمراء ثم نزل عن الفيل إلى الفرس ثم إلى البغلة فقال وهزر ركب بنت الحمار ذل و ذل ملكه ثم رماه بسهم فصك الياقوتة بن عينيه و تغلغل في دماغه و تنكس عن دابته وداروا به فحمل القوم عليهم و انهزم الحبشة في كل وجه و أقبل وهزر إلى صنعاء و لما أتى بابها قال : لا تدخل رايتي منكوسة فهدم الباب و دخل ناصبا رايته فملك اليمن و نفى عنها الحبشة و كتب بذلك إلى كسرى و بعث إليه بالأموال فكتب إليه أن يملك سيف بن ذي يزن على اليمن على فريضة يؤديها كل عام ففعل و انصرف وهزر إلى كسرى
و ملك سيف اليمن و كان أبوه من ملوكها و خلف وهزر نائبا على اليمن في جماعة من الفرس ضمهم إليه و جعله لنظر ابن ذي يزن بصنعاء و انفرد ابن ذي يزن بسلطانه و نزل قصر الملك و هو رأس غمدان يقال إنه الضحاك بناه على اسم الزهرة و هو أحد البيوت السبعة الموضوعة على أسماء الكواكب و روحانيتها خرب في خلافة عثمان قاله المسعودي
و قال السهيلي : كانت صنعاء تسمى أوال و صنعاء اسم بانيها صنعاء بن أوال بن عمير بن عابر بن شالخ و لما استقل ابن ذي يزن بملك اليمن وفدت العرب عليه يهنوه بالملك و لما رجع من سلطان قومه و أباد من عدوهم و كان فيمن وفد عليه مشيخة قريش و عظماء العرب لعهدهم من أبناء إسمعيل و أهل بيتهم المنصوب لحجهم فوفدوا في عشرة من رؤوسائهم فيهم عبد المطلب فأعظمهم سيف و أجلهم و أوجب لهم حقهم و وفر من ذلك قسم عبد المطلب من نبيهم و سأله عن بنيه حتى ذكر له شان النبي صلى الله عليه و سلم و كفالته إياه بعد موت عبد الله أبيه عاشر ولد عبد المطلب فأوصاه به و حضه على الإبلاغ في القيام عليه و التحفظ به من اليهود و غيره و أسر إليه البشرى بنبوته و ظهور قريش قومهم على جميع العرب و أسنى جوائز هذا الوفد بما يدل على شرف الدولة و عظمها لبعد غايتاه في الهمة و علو نظرها في كرامة الوفد و بقاء آثار الترف في الصبابة شاهد الحال في الأول ذكر صاحب الأعلام و غيره أنه أجاز سائر الوفد بمائة من الإبل و عشرة أعبد و صائف و عشرة أرطال من الورق و الذهب و كرش مليء من العنبر و أضعاف ذلك بعشرة أمثاله لعبد المطلب
قال ابن إسحق : و لما انصرف وهزر إلى كسرى غزا سيف على الحبشة و جعل يقتل و يبقر بطون النساء حتى إذا لم يبق إلا القليل جعلهم خولا و اتخذ منهم طوابير يسعون بين يديه بالحراب و عظم خوفهم منه فخرج يوما وهم يسعون بين يديه فلما توسطهم و قد انفردوا به عن الناس رموه بالحراب فقتلوه و وثب رجل منهم على الملك و قيل ركب خليفة وهزر فيمن معه من المسلحة و استحلم الحبشة و بلغ ذلك كسرى فبعث وهزر في أربعة آلاف من الفرس و أمره بقتل كل أسود أو متنسب إلى أسود و لو جعدا قططا ففعل و قتل الحبشة حيث كانوا و كتب بذلك إلى كسرى فأمره على اليمن فكان يجبيه له حتى هلك و استضافت حشابة ملك الحميريين بعد مهلك ابن ذي يزن و أهل بيته إلى الفرس و ورثوا ملك العرب و سلطان حمير باليمن بعد أن كانوا يزاحمونهم بالمناكب في عراقهم و يجوسونهم بالغزو خلال ديارهم و لم يبق للعرب في الملك رسم و لا طلل إلا أقيالا من حمير و قحطان رؤساء في أحيائهم بالبدو لا تعرف لهم طاعة و لا ينفذ لهم في غير ذاتهم أمر إلا ما كان لكهلان إخوتهم بأرض العرب من ملك آل المنذر من لخم على الحيرة و العراق بتولية فارس و ملك آل جفنة من غسان على الشام بتولية آل قيصر كما يأتي في أخبارهم
و قال الطبري : لما كانت اليمن لكسرى بعث إلى سرنديب من الهند قائدا من قواده ركب إليها البحر في جند كثيف فقتل ملكها و استولى عليها و حمل إلى كسرى منها أموالا عظيمة و جواهر و كان وهزر يبعث العير إلى كسرى بالأموال و الطيوب فتمر على طريق البحرين تارة و على أرض الحجاز أخرى و عدا بنو تميم في بعض الأيام على عيره بطريق البحرين فكتب إلى عامله بالانتقام منهم فقتل منهم خلقا كما يأتي في أخبار كسرى و عدا بنو كنانة على عيره بطريق الحجاز حين مرت بهم و كان في جوار رجل من أشراف العرب من قيس فكانت حرب الفجار بين قيس و كنانة بسبب ذلك و شهدها النبي صلى الله عليه و سلم و كان ينبل فيها على أعمامه أي يجمع لهم النيل
قال الطبري : و لما هلك و هزار أمر كسرى من بعده على اليمن ابنه المزربان ثم هلك فأمر حافده خرخسرو بن التيجان بن المرزبان ثم سخط عليه و حمل إليه مقيدا ثم أجاره ابن كسرى و خلى سبيله فعزله كسرى و ولى باذان فلم يزل إلى أن كانت البعثة و أسلم باذان و فشا الإسلام باليمن كما نذكره عند ذكر الهجرة و أخبار الإسلام باليمن
هذا آخر الخبر عن ملوك التبابعة من اليمن و من ملك بعدهم من الفرس و كان عدد ملوكهم فيما قال المسعودي سبعة و ثلاثين ملكا في مدة ثلاثة آلاف و مائتي سنة إلا عشرا و قيل أقل من ذلك فكانوا ينزلون مدينة ظفار قال السهيلي زمار و ظفار اسمان لمدينة واحدة يقال بناها مالك بن أبرهة و هو الأملوك و يسمى مالك و هو ابن ذي المنار و كان على بابها مكتوب بالقلم الأول في حجر أسود :
( يوم شيدت ظفار فقيل لمن ... أنت فقالت لخير الأخيار )
( ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... إن ملكي أحابش الأشرار )
( ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... إن ملكي لفارس الأحرار )
( ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... إن ملكي لقريش النجار )
( ثم سيلت من بعد ذلك قالت ... إن ملكي لخير سنجار )
( و قليلا ما يلبث القوم فيها ... غير تشييدها لحامي البوار )
( من أسود يلقيهم البحر فيها ... تشعل النار في أعالي الجدار )
و لم تزل مدينة ظفار هذه منزلا للملوك و كذلك في الإسلام صدر الدولتين و كانت اليمن من أرفع الولايات عندهم بما كانت منازل العرب العاربة و دارا لملوك العظماء من التبابعة و الأقيال و العباهلة و لم انقضى الكلام في أخبار حمير و ملوكهم باليمن من العرب استدعى الكلام ذكر معاصريهم من العجم على شرط كتابنا لنستوعب أخبار الخليفة و نميز حال هذا الجيل العربي من جميع جهاته و الأمم المشاهير من العجم الذين كانت لهم الدول العظيمة لعهد الطبقة الأولى و الثانية من العرب و هم النبط و السريانيون أهل بابل ثم الجرامقة أهل الموصل ثم القبط ثم بنو إسرائيل و الفرس و يونان و الروم الآن بما كان لهم من الملك و الدولة و بعض أخبارهم على اختصار و الله ولي العون و التوفيق لا رب غيره و لا مأمول إلا خيره (2/73)
الخبر عن ملوك بابل من النبط و السريانيين و ملوك الموصل و نينوى من الجرامقة
قد تقدم لنا أن ملك الأرض من بعد نوح عليه السلام كان لكنعان بن كوش بن حام ثم لابنه النمروذ من بعده و إنه كان على بدعة الصائبة و أن بني سام كانوا حنفاء ينتحلون التوحيد الذي عليه الكلدانيون من قبلهم قال ابن سعيد : و معنى الكلدانيين الموحدين و وقع ذكر النمروذ في التوراة منسوبا إلى كوش بن حام و لم يقع فيها ذكر لكنعان بن كوش فالله أعلم بذلك و قال ابن سعيد أيضا : و خرج عابر بن شالخ بن أرفخشذ فغلبه و سار من كوثا إلى أرض الجزيرة و الموصل فبنى مدينة مجدل هنالك و أقام بها إلى أن هلك و ورث أمره ابنه فالغ من بعده و أصاب النمروذ و قومه على عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام ما أصابهم في الصرح و كانت البلبلة و هي المشهورة و قد وقع ذكرها في التوراة و لا أدري معناها و القول بأن الناس أجمعين كانوا على لغة واحدة فباتوا عليها ثم أصبحوا و قد افترقت لغاتهم قول بعيد في العادة إلا أن يكون من خوارق الأنبياء فهو معجزة حينئذ و لم ينقلوه كذلك و الذي يظهر أنه إشارة إلى التقدير الإلهي في خرق العادة و افتراقها و كونها من آياته كما في القرآن الكريم و لا يعقل في أمر البلبلة غير ذلك
و قال ابن سعيد سوريان بن نبيط ولاه فالغ على بابل فانتقض عليه و حاربه و لما هلك فالغ قام بأمره بعده ابنه ملكان فغلبه سوريان على الجزيرة و ملكها هؤلاء الجرامقة إخوانه في النسل بنو جرموق بن أشوذ بن سام و كانت مواطنهم بالجزيرة و كانت ابن أخت سوريان منهم الموصل بن جرموق فولاه سوريان على الجزيرة و أخرج بني عابر منها و لحق ملكان منها بالجبال فأقام هناك و يقال إن الخضر من عقبه و استبد الموصل على خاله سوريان بن نبيط ملك بابل و امتازت مملكة الجرامقة من مملكة النبط و ملك بعد الموصل ابنه راتق و كانت له حروب مع النبط و ملك من بعده ابنه أثور و بقي ملكها في عقبه و هو مذكور في التوراة و ملك بعده ابنه نينوى و بني المدينة المقابلة للموصل من عدوة دجلة المعروفة باسمه ثم كان من عقبه سنجاريف بن أثور بن نينوى بن أثور و هو الذي بنى مدينة سنجار و غزا بني اسرائيل فصلبوه على بيت المقدس
و قال البيهقي : إن الجزيرة ملكها بعد مقتل سنجاريف أخوه ساطرون و هو الذي بنى مدينة الخضر في برية سنجار على نهر الترتار لتولعه بصيد الأسود في غيضاتها و ملك من بعده ابنه زان و كان يدين بالصائبة و يقال إن يونس بن متى بعث إليه و يونس من الجرامقة من سبط بنيامين بن إسرائيل من ابنه فآمن به زان بن ساطرون بعد الذي قصه القرآن من شأنه معهم ثم إن بختنصر لما غلب على بابل زحف إليه و دعاه إلى دين الصائبة و شرط له أن يبقيه في ملكه فأجاب و لم يزل على الجزيرة حتى زحف إليه جيوش الفرس مع أرتاق فضمن القيام بالمجوسية على أن يبقوه في ملكه و كتب بذلك أرتاق إلى بهمن فيضمن له فأجابه بأن هذا رجل متلاعب بالأديان فاقتله فقتله أرتاق و انقرض ملكه بعد ألف و ثلثمائة سنة فيما قال البيهقي و في أربعين ملكا منهم و صارت الجزيرة لملوك الفرس و الذي عند الإسرائيليين سنجاريف من ملوك نينوى و هم أولاد موصل بن أشوذ بن سام و أنه كان قبله بالموصل ملوك منهم و هم فول و تلفات و بلناص و أنهم ملكوا بلد الأسباط العشرة و هي شمورون المعروفة بالسامرة و أنه غرب الأسباط الذين كانوا فيها إلى نواحي أصبهان و خراسان و أسكن أهل كومة و هي الكوفة في شمورون هذه فسلط الله عليهم السباع يفترسونهم في كل ناحية فشكوا ذلك إلى سنجاريف و سألوه أن يخبرهم عن بلد شمورون في قسمة أي كوكب هي كي يتوجهوا إليه و يستنزلوا روحانيته على طريق الصابئة فأعرض عن ذلك و بعث كاهنان إليهم من اليهود فعلموهم دين اليهودية و أخذوا به و هؤلاء عند اليهود هم الشمرة نسبة إلى شمرة و هي شمورون و ليس الشمرة عندهم من بني إسرائيل و لأن دينهم صحيح في اليهودية
و زحف سنجاريف عندهم إلى بيت المقدس بعد استيلائه على شمورون فحاصرها و داخله العجب بكثرة عساكره فقال لبني إسرائيل من الذي خلصه إلهه من يدي حتى يخلصكم إلهكم و فزع ملاك بني اسرائيل إلى نبيهم مدليلا و سأله الدعاء فدعا له و أمنه من شر سنجاريف و نزلت بعسكره في بعض لياليهم آفة سماوية فأصبحوا كلهم قتلى يقال أحصى قتلاهم فكانوا مائة و خمسة و ثمانين ألفا و رجع سنجاريف إلى نينوى ثم قتله أولاده في سجوده لمعبوده من الكواكب و ولي ابنه أيسر حدون ثم استولى عليهم بعد ذلك بختنصر كما سنذكره في خبره
و أما ملوك بابل فهم النبط بنو نبيط بن أشوذ بن سام و قال المسعودي : نبيط بن ماش بن إرم و كانوا موطنين بأرض بابل و ملك منهم سوريان بن نبيط و قال المسعودي : هو أحد نبيط بن ماش ملك أرض بابل بولاية من فالغ فلما مات فالغ أظهر بدعة الصائبة و انتحلها بعده ابنه كنعان و يلقب بالنمروذ و ملك بعده ابنه كوش و هو نمروذ إبراهيم عليه السلام عليه السلام و هو الذي قدم أباه آزر فاصطفاه هاجر على بيت الأصنام لأن أرعو بن فالغ لما هلك أبوه فالغ و كان على دين التوحيد الذي دعاه إليه أبوه عابر رجع حينئذ أرغو إلى كوثا و دخل مع النمارذة في دين الصائبة و توارثها بنوه إلى آزر بن ناحور فاصطفاه هاجر بن كوش و قدمه على بيت الأصنام و ولد له إبراهيم عليه السلام و كان من أمره ما ذكرنا فيما نصه التنزيل و نقله الثقات ثم توالت ملوك النماردة ببابل و كان منهم بختنصر على ما ذهب إليه بعضهم و يقال إن الجرامقة و هم أهل نينوى غلبوا على بابل و ملكها سنجاريف منهم و استعمل فيها بختنصر من ملوكها ثم انتقض عليه بالجزا و الطاعة و غزا بني اسرائيل ببيت المقدس فاقتحمها عليهم بعد الحصار و أثخن فيهم بالقتل و الأسر و قتل ملكهم و خرب مسجدهم و تجاوزهم إلى مصر فملكها و لما هلك بختنصر ملك من بعده فيما ذكروه ابنه نشبت نصر ثم من بعده بنيصر و غزاه أرتاق مرزبان كسرى من ملوك الكينية فقتله و ملك بابل و أعمالها و صار النبط و الجرامقة رعية للفرس و انقرضت دولة النمارذة ببابل هكذا ذكر ابن سعيد و نقله عن داهر مؤرخ دولة الفرس و جعل السريانيين و النبط أمة واحدة و هما دولة واحدة و أما المسعودي فجعلهما دولتين و أما السريانيون فقال هم أول ملوك الأرض بعد الطوفان و سمى من ملوكهم تسعة متعاقبين في مائة سنة أو فوقها بأسماء أعجمية لا فائدة في نقلها لقلة الوثوق بالأصول التي بأيدينا من كتبه و كثرة التغيير في الأسماء الأعجمية نعم ذكر أن شوشان بشينين معجمتين و أنه أول من وضع التاج على رأسه و الرابع منهم أنه الذي كور الكور و مدن المدن و أن ملك الهند لعهده كان اسمه رتبيل و أنه على ملكه و استولى على السريانيين و أن بعض ملوك المغرب ظاهرهم عليه و انتزع لهم ملكهم منه ورده عليهم و سمى الثامن منهم ماروت و أشار في آخر كلامه إلى أنهم كانوا مستولين على بابل و على الموصل و أن ملوك اليمن ربما غلبوهم على أمرهم بعض الأحيان و ذكر في التاسع أنه كان غير مستقل بأمره و أن أخاه كان مقاسمه في سلطانه و أن أول من اتخذ الخمر فلان و أول من ملك فلان و أول من لعب بالصقور و الشطرنج فلان مزاعم كلها بعيدة من الصحة إنما وجهه أن السريانيين لما كانوا أقدم في الخليفة نسب إليهم كل قديم من الأشياء أو طبيعي كالخط و اللغة و السحر و الله أعلم
و أما النبط فعند المسعودي أنهم من أهل بابل لقوله في ترجمهتم ذكر ملوك بابل و النبط و غيرهم المعروفين بالكلدانيين و ذكر أن أولهم نمروذ الجبار و نسبه إلى ماش بن إرم بن سام و ذكر أنه الذي بنى الصرح ببابل و احتفر نهر الكوفة و نسب النمروذ في موضع آخر إلى كوش بن حام لا أدري هو أو غيره ثم عد ملوكهم بعد النمروذ ستا و أربعين أو نحوها في ألف و أربعمائة من السنين بأسماء أعجمية متعذر ضبطها فتركت نقلها إلا أنه ذكر في الموفي منهم عدد العشرين و بعد التسعمائة من سنيهم إنه الذي غزت فارس لعهدة مدينة بابل و ذكر في الموفى عدد ثلاثة و ثلاثين منهم عند الألف و الأربعمائة من سنيهم أنه سنجاريف الذي حارب بني إسرائيل حاصرهم ببيت المقدس حتى أخذ الجزية منهم و أن آخر ملوكهم دارينوش و هو دار الذي قتله الإسكندر لما ملك بابل هذا ما ذكره المسعودي و لم يذكر منهم نمروذ الخليل عليه السلام و ذكر أن مدينتهم بابل و أن الذي اختطها اسمه نير و اسم إمراته شمرام ملوك السريانيين اسمان أعجميان لا وثوق لنا بضبطهما و قال الطبري نمروذ بن كوش بن كنعان بن حام صاحب إبراهيم الخليل عليه السلام و كان يقال عاد إرم فلما هلكوا قيل ثمود إرم فلما هلكوا قيل نمروذ إرم فلما هلك قيل لسائر ولد إرم إرمان فهم النبط و كانوا على الإسلام ببابل حتى ملكهم نمروذ فدعاهم إلى عبادة الأوثان فعندوها انتهى كلام الطبري
و قال هروشيوش مؤرخ الروم : إنه نمروذ الجسيم و إن بابل كانت مربعة الشكل و كان سورها في دور ثمانين ميلا و ارتفاعه مائتا ذراع و عرضه خمسون ذراعا و هو كله مبني بالآجر و الرصاص و فيه مائة باب من النحاس و في أعلاه مساكن الحراس و المقاتلة تبيت على الجانبين في سائر دورة الطريق بينهما و حول هذا السور خندق بعيد المهوى أجري فيه الماء و أن الفرس هدموه و لما تغلبوا على ملك بابل تولى ذلك منهم جيرش و هو كسرى الأول انتهى كلام هروشيوش
و يظهر من كلام هؤلاء أن اسم النمروذ سمت لكل من ملك بابل لوقوعه في أهل أنساب مختلفة مرة إلى سام و مرة إلى حام و زعم بعض المؤرخين أن نمروذ الخليل عليه السلام هو النمروذ بن كنعان بن سنجاريف بن النمروذ الأكبر و أن بختنصر من عقبه و هو ابن برزاد بن سنجاريف بن النمرود و أن الفرس الكينية غلبوا بختنصر على بابل ثم أبقوه و استعملوه عليها و أن كسرى الأول من بنيى ساسان خرب مدينة بابل و عند الإسرائيلين و ينقلونه عن كتاب دانيال و أرميا من أنبيائهم و ضبط هذا الاسم يرميا أن بختنصر من عقب كاسد بن حاور و هو أخو ابراهيم الخليل و بنو كاسد هؤلاء من ملوك بابل و يعرفون بالكسدانيين نسبة إليه و إن بختنصر منهم ملك أكثر المعمور وغلب على بني إسرائيل و أزال دولتهم و خرب بيت المقدس و انتهى ملكه إلى مصر و ما وراءها و كان ملكه خمسا و أربعين و ملك بعده ابنه أويل مردود ثلاثا و عشرين سنة و بعده ابنه بلينصر ثلاث سنين ثم زحف إليه دارا من ملوك الفرس و صهره كورش فحاصروه بمدينة بابل و قال بعض الاسرائيليين أن بختنصر و ملوك بابل من كسديم و كسديم من عيلام بن سام و هو أخو أشوذ و من أشوذ ملوك الموصل انتهى الكلام في ملوك الموصل و ملوك بابل
و هذا غاية ما أدى إليه البحث من أخبارهم و أنسابهم و كان من هؤلاء و الكلدانيين دين الصائبة و هو عبادة الكواكب و استجلاب روحانيتها و يذكر أنهم كانوا لذلك أهل عناية بأرصاد الكواكب و معرفة طبائعها و خلاص المولدات و ما يشابه ذلك من علوم النجوم و الطلسمات و السحر و أنهم نهجوا ذلك لأهل الربع الغربي من الأرض و قد يشهد لذلك قراءة من قرأ : و ما أنزل على الملكين بكسر اللام مشيرا إلى أن هاروت و ماروت من ملوك السريانيين و هم أول ملوك بابل و على القراءة المشهور و أنهما من الملائكة فيكون اختصاص هذه الفتنة و الابتلاء ببابل من بين أقطار الأرض دليلا على وفور قسطهما من صناعة السحر الذي وقع الابتلاء به و مما يشهد لانتحالهم السحر و فنونه من النجوم و غيرها أن هذه العلوم وجدناها من منتحل أهل مصر المجاورين لهم و كان لملوكها عناية شديدة بذلك حتى كان من مباهاتهم موسى بذلك و حشر السحرة له ما كان و بقايا الآثار السحرية في برابي أخميم من صعيد مصر ما يشهد لذلك أيضا و الله أعلم (2/78)
الخبر عن القبط و أولية ملكهم و دولهم و تصاريف أحوالهم و الإلمام بنسبهم
هذه الأمة أقدم أمم العالم و أطولهم أمدا في الملك و اختصوا بملك مصر و ما إليها ملوكها من لدن الخليفة إلى أن صبحهم الإسلام بها فانتزعها المسلمون من أيديهم و لعهدهم كان الفتح و ربما غلب عليهم جميع من عاصرهم من الأمم حين يستفحل أمرهم مثل العمالقة و الفرس و الروم و اليونان فيستولون على مصر من أيديهم ثم يتقلص ظلهم فراجع القبط ملكهم هكذا إلى أن انقرضوا في مملكة الإسلام
و كانوا يسمون الفراعنة سمة لملوك مصر في اللغة القديمة ثم تغيرت اللغة و بقي هذا الاسم مجهول المعنى كما تغيرت الحميرية إلى المضرية و السريانية إلى الرومية و نسبهم في المشهور إلى حام بن نوح و عند المسعودي إلى بنصر بن حام و ليس في التوراة ذكر لبنصر بن حام و إنما ذكر مصرايم و كوش و كنعان و قوط و قال السهيلي إنهم من ولد كنعان بن حام لأنه لما نسب مصر قال فيه : مصر بن النبيط أو ابن قبط بن النبيط من ولد كوش بن كنعان و قال أهروشيوش : إن القبط من ولد قبط ابن لايق بن مصر و عند الإسرائيليين أنهم من قوط بن حام
و عند بعضهم أنهم من كفتوريم قبطقايين و معناه القبط
و قال المسعودي اختص بنصر بن حام أيام النمروذ ابن أخيه كنعان بولاية أرض مصر و استبد بها و أوصى بالملك لابنه مصر فاستفحل ملكه ما بين أسوان و اليمن و العريش و أيلية و فرسيسة فسميت كلها أرض مصر نسبة إليه و في قبليها النوبة و في شرقيها الشام و في بحر الزقاق و في غربها برقة و النيل من دونها و طال عمر مصر و كبر ولده و أوصى بالملك لأكبرهم و هو قبط بن مصر أبو الأقباط فطال أمد ملكه و كان له بنو أربع : قبط بن مصر و أن مصر هو الذي قسم الأرض و عهد إلى أكبرهم بالملك و هو قبط فغلب عليهم فأضيفوا إليه لمكان الملك و السن و ملك بعد قبط بن مصر أشمون بن مصر ثم من بعده صاثم أخوهما أتريب ثم عد ملوكا بأسماء أعجمية بعيدة عن الضبط لعجمتها و فساد الأصول التي بين أيدينا من كتبته ثم لما ذكر ستة منهم بعد أتريب قال : فكثر ولد بنصر بن حام و تشاغبوا و ملك عليهم النساء فسار إليهم ملك الشام من العمالقة الوليد بن دومع فملكهم و انقادوا إليه
و أما ابن سعيد فيما نقل من كتب المشارقة فقال : ملك مصر ابنه قبط ثم من بعده أخوه أتريب قال : و في أيام قبط زحف شداد بن مداد بن شداد بن عاد إلى مصر و غلب على أسافلها و مات قبط في حروبه ثم جمع أتريب قومه و استظهر بالبربر و السودان على العرب حتى أخرجهم إلى الشام و استبد أتريب بملك مصر و بنى المدينة المنسوبة إليه و مدينة عين شمس و ملك بعده ابن أخيه البودشير بن قبط و هو الذي بعث هرمسا المصري إلى جبل القمر حتى ركب جرية النيل من هنالك و عدل البطيحة الكبرى التي تنصب إليها عيون النيل و عمر بلاد الواحات و حول إليها جميعا من أهل بيته ثم ملك من بعده عديم بن البودشير ثم ابنه شدات بن عديم ثم ابنه منذ وش بن شدات وجدد مدينة عين شمس و كان لهم في السحر آثار عجيبة ثم ملك بعده ابنه مقلاوش بن مقناوش و عبد البقر و صورها من الذهب ثم هلك و خلف ابنه مرقيش فغلب عليه عمه أشمون بن قبط و بنى مدينة الأشمون و ملك بعده ابنه أشاد بن أشمون ثم من بعده عمه صابن قبط و بنى مدينة باسمه و ملك بعده ابنه ندراس و كان حكيما و هو الذي بنى هيكل الزهرة الذي هدمه بختنصر و ملك بعده ابنه ماليق بن ندراس فرفض الصائبة و دان بالتوحيد و دوخ بلاد البربر و الأندلس و حارب الإفرنج و ملك بعده ابنه حربيا بن ماليق فرجع عن التوحيد إلى الصابئة و غزا بلاد الهند و السودان و الشام و ملك بعده ابنه كلكي بن حربيا و هو الذي تسميه القبط حكيم الملوك و اتخذ هيكل زحل و عهد إلى أخيه ماليا بن حربيا و اشتغل باللهو فقتله ابنه خرطيش و كان سفاكا للدماء و القبط تزعم أنه فرعون الخليل عليه السلام و أنه أول الفراعنة و لما تعدى بالقتل إلى أقاربه سمته ابنته حوريا و ملكت القبط من بعده فنازعها أبراحس من ولد عمها أتريب وحاربته فكان لها الغلب و انهزم أبراحس إلى الشام فاستظهر بالكنعانيين و بعث ملكهم قائده جيرون فلما قرب مصر استقبلته حوريا و أطمعته في زواجها على أن يقتل أبراحس و يبني مدينة الإسكندرية ففعل ثم قتلته آخرا مسموما و استقام لها الأمر و بنت منارة الإسكندرية و عهدت بأمرها لدليقية ابنة عمها باقوم فخرج عليها أيمن من نسل أتريب طالبا بثأر قريبه إبراحس و لحق بملك العمالقة يومئذ و هو الوليد بن دومع الذي ذكرناه عند ذكر العمالقة فاستنصر به و جاء معه و ملك ديار مصر و استبد بالقبط نقراوس فاشتغل باللذات و استكفى من بنيه أطفير و هو العزيز فكفاه و قام بأمره و دبر له يوسف الفيوم بالوحي و الهندسة و كانت أرضها مغايض للماء فأخرجه و عمر القرى مكانه على عدد أيام السنة فجعله على خزائنه و ملك بعده دارم بن الريان و سمته القبط و يموص و كان يوسف مدبر أمره بوصية أبيه و مات لعهده فأساء السيرة و هلك غريقا في النيل و ملك بعده ابنه معد انوس بن دارم فترهب و استخلف ابنه كاشم فاستعبد بني اسرائيل للقبط و قتله حاجبه و نصب بعده ابنه لاطش فاشتغل باللهو فخلعه و نصب آخر من نسل ندراس اسمه لهوب فتجبر و تذكر القبط أنه فرعون موسى عليه السلام و أهل الأثر يقولون : إنه الوليد بن مصعب و أنه نجارا تقلب حاله إلى عرافة الحرس ثم تطور إلى الوزارة ثم إلى الاستبداد و هذا بعيد لما قدمناه في الكتاب الأول و قال المسعودي : بل كان فرعون موسى من الأقباط
ثم هلك فرعون موسى و خشي القبط من ملوك الشام فملكوا عليهم دلوكة من بيت الملك و هي التي بنت الحائط على أرض مصر و يعرف بحائط العجوز لأنها طال عمرها حتى كبرت و اتخذت البرابي و مقاييس النيل ثم سمي المسعودي من بعد دلوكة ثمانية من ملوكهم على ذلك النحو من عجمة الأسماء و قال في الثامن إنه فرعون الأعرج الذي اعتصم به بنو إسرائيل من بختنصر فدخل عليه مصر و قتله و هدم هياكل الصائبة و وضع بيوت النيران له و لولده و ذكر في تواريخهم قال : قال ابن عبد الحكم : و هذه العجوز دلوكة هي التي جددت البرابي بمصر أرسلت إلى امرأة ساحرة كانت لعهدها اسمها ترورة و كانت السحرة تعظمها فعملت بربى من حجارة وسط مدينة منف و صورت فيها صور الحيوانات من ناطق و أعجم فلا يقع شي بتلك الصورة إلا وقع بمثالها في الخارج و كان لهم بذلك امتناع ممن يقصدهم من الأمم لأنهم كانوا أعلم الناس بالسحر و أقامت عليهم عشرين سنة حتى بلغ صبي من أبنائهم اسمه دركون بطلوس فملكوه و أقامت معه على ذلك أربعمائة سنة ثم مات فولوا ابنه برديس بن دركون و من بعده أخاه نقاس بن نقراس و من بعده مرينا بن مرينوس ثم ابنه استمارس بن مرينا فطغى عليهم و خلعوه و قتلوه و ولوا عليهم من أشرافهم بلوطيس بن مناكيل أربعين سنة ثم استخلف مالوس بن بلوطيس و مات فاستخلف أخاه مناكيل بن بلوطيس ثم توفي فاستخلف ابنه بركة ابن مناكيل فملكهم مائة و عشرين سنة و هو فرعون الأعرج الذي سبى أهل بيت المقدس و يقال أنه خلع
و قال ابن عبد الحكم : و ولي من بعده ابنه مرينوس بن بركة فاستخلف ابنه فرقون بن مرينوس فملكهم ستين سنة ثم هلك و استخلف أخاه نقاس بن مرينوس و كاتن البرابي كلها إذا فسد منها شيء لا يصلحه إلا رجل من ذرية تلك العجوز الساحرة التي وضعتها ثم انقطعت ذريتها ففسدت البرابي أيام نقاس هذا و تجاسر الناس على طلب الملك الذي في أيديهم و هلك نقاس و استخلف ابنه قومس بن نقاس فملكهم دهرا ثم ملك بختنصر بيت المقدس و استلحم بني إسرائيل و فرقهم و قتل و خرب و لحقوا بمصر فأجارهم قومس ملكها و بعث فيهم بختنصر فمنعهم و زحف إليه و غلب عليه و قتله و خرب مدينة منف و بقيت مصر أربعين سنة خرابا و سكنها أرمياء مدة ثم بعث إليه بختنصر فلحق به ثم رد أهل مصر إلى موضعهم و أقاموا كذلك ما شاء الله إلى أن غلب الفرس و الروم على سائر الأمم و قاتل الروم أهل مصر إلى أن وضعوا عليهم الجزى ثم تقاسمها فارس و الروم ثم تداولوا ملكها فتوالت عليها نواب الفرس ثم ملكها الإسكندر اليوناني و جدد الإسكندرية و الآثار التي خارجها مثل عمود السواري و رواق الحكمة
ثم غلب الروم على مصر و الشام و أبقوا القبط في ملكها و صرفوهم في الولاية بمصر إلى أن جاء الله بالإسلام و صاحب القبط بمصر و الإسكندرية المقوقس و اسمه جريج بن مينا فيما نقله السهيلي فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم حاطب بن أبي بلعتة و جبرا مولى أبي رهم الغفاري فقارب الإسلام و أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم هديته المعروفة ذكرها أهل السير كان فيها البغلة التي كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يركبها و تسمى دلدل و الحمار الذي يسمى يعفور و مارية القبطية أم ولده إبراهيم و أمها و أختها سيرين وهبها رسول الله صلى الله عليه و سلم لحسان بن ثابت فولدت له عبد الرحمن و قدح من قوارير كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يشرب فيه و عسل استظرفه له من بنها إحدى قرى مصر معروفة بالعسل الطيب و يقال إن هرقل لما بلغه شأن هذه الهدية اتهمه بالميل إلى الإسلام فعزله عن رياسة القبط
و خرج مسلم في صحيحه [ من رواية أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : إذا افتتحتم مصر أو إنكم مستفتحون مصر فاستوصوا بأهلها خيرا فإن لهم ذمة و رحما أو صهرا ] و رواه ابن إسحق عن الزهري و قال : قلت للزهري ما الرحم التي ذكر ؟ قال : كانت هاجر أم إسمعيل منهم و لبعض رواة الحديث في تفسير الصهر أن مارية أم إبراهيم منهم أهداها له المقوقس و كانت من كورة حفن من عمل أنصناء و قال الطبري إن عمرو بن العاص لما ملك مصر أخبرهم بوصية النبي صلى الله عليه و سلم بهم فقال : هذا نسب لا يحفظ حقه إلا نبي لأنه نسب بعيد و ذكروا له أن هاجر كانت امرأة لملك من ملوكنا و وقعت بيننا و بين أهل عين شمس حروب كانت لهم في بعضها فقتلوا الملك و سبوها و من هنالك تسيرت إلى أبيكم إبراهيم
و لما كمل فتح مصر و الإسكندرية و ارتحل الروم إلى القسطنطينية أقام المقوقس و القبط على الصلح الذي عقده لهم عمرو بن العاص و على الجزى و أبقوه على رياسة قومه و كانوا يشاورونه فيما ينزل من المهمات إلى أن هلك و كان ينزل الإسكندرية و في بعض الأوقات ينزل منف من أعمال مصر و اختط عمرو بن العاص الفسطاط بموضع خيامه التي كان يحاصر مصر منها فنزل بها المسلمون و هجروا المدينة التي كان بها المقوقس إلى أن خربت و كان في خرابها و مهلك المقوقس انقراض أمرهم و بقي أعقابهم إلى هذا الزمان يستعملهم أهل الدول الإسلامية في حسابات الخراج و جبايات الأموال لقيامهم عليها و غنائهم فيها و كفايتهم في ضبطها و تنميتها و قد يهاجر بعضهم إلى الإسلام فترفع رتبتهم عند السلطان في الوظائف المالية التي أعلاها في الديار المصرية رتبة الوزارة فيقلدونهم إياها ليحصل لهم بذلك قرب من السلطان و حظ عظيم في الدولة و بسطة يد في الجاه تعددت منهم في ذلك رجال و تعينت لهم بيوت قصر السلطان نظره على الاختيار منها لهذا العهد و عامتهم يقيم على دين النصرانية الذين كانوا عليها لهذا العهد و أكثرهم بنواحي الصعيد و سائر الأعمال متحرفون بالفلح و الله غالب على أمره
و أما إقليم مصر فكان في أيام القبط و الفراعنة جسورا كله بتقدير و تدبير يحبسونه و يرسلونه كيف شاءوا و الجنات حفاف النيل من أعلاه إلى أسفله ما بين أسوان و رشيد و كانت مدينة منف و عين شمس يجري الماء تحت منازلها و أفنيتها بتقدير معلوم ذكر ذلك كله عبد الرحمن بن شماسة و هو من خيار التابعين يرويه عن أشياخ مصر قالوا : و مدينة عين شمس كانت هيكل الشمس و كان فيها من الأبنية و الأعمدة و الملاعب ما ليس في بلد قلت : و في مكانها لهذا العهد ضيعة متصلة بالقاهرة يسكنها نصارى من القبط و تسمى المطرية قالوا : و مدينة منف مدينة الملوك قبل الفراعنة و بعدهم إلى أن خربها بختنصر كما تقدم في دولة قومس بن نقاس و كان فرعون ينزل مدينة منف و كان لها سبعون بابا و بنى حيطانها بالحديد و الصفر و كانت أربعة أنهار تجري تحت سريره ذكره أبو القاسم بن خرداذبه في كتاب المسالك و الممالك قال : و كان طولها اثني عشر ميلا و كانت جباية مصر تسعين ألف ألف دينار مكررة مرتين بالدينار الفرعوني و هو ثلاثة مثاقيل و إنما سميت مصر بمصر بن بيصر بن حام و يقال إنه كان مع نوح في السفينة فدعا له فأسكنه الله هذه الأرض الطيبة و جعل البركة في ولده و حدها طولا من برقة إلى أيلة و عرضا من أسوان إلى رشيد و كان أهلها صائبة ثم حملهم الروم لما ملكوها بعد قسطنطين على النصرانية عندما حملوا على الأمم المجاورة لهم من الجلالقة و الصقالبة و برجان و الروس و القبط و الحبشة و النوبة فدانوا كلهم بذلك و رجعوا عن دين الصابئة في تعظيم الهياكل و عبادة الأوثان و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (2/84)
الخبر عن بني إسرائيل و ما كان لهم من النبوة و الملك و تغلبهم على الأرض المقدسة بالشام و كيف تجددت دولتهم بعد الانقراض و ما اكتنف ذلك من الأحوال
لقد ذكرنا عند ذكر إبراهيم و بنيه صلوات الله عليه و سلامه عليهم ما كان من شأن يعقوب بن إسحق و استقراره بمصر مع بنيه الأسباط و في التوراة أن الله سماه إسرائيل و إيل عندهم كلمة مرادفة لعبد و ما قبلها من أسماء الله عز و جل و صفاته و المضاف أبدا متأخر في لسان المعجم فلذلك كان إيل هو آخر الكلمة و هو المضاف ثم قبض الله نبيه يعقوب بمصر لمائة و سبع و ثمانين سنة من عمره و أوصى أن يدفن عند أبيه فطلب يوسف من فرعون أن يطلقه لذلك فأذن له و أمر أهل دولته بالإنطلاق معه فانطلقوا و حملوه إلى فلسطين فدفنوه بمقبرة آبائه و هي التي اشتراها إبراهيم من الكنعانيين و رجع يوسف إلى مصر و أقام بها إلى أن توفي لمائة و عشرين سنة من عمره و دفن بمصر و أوصى أن يحملوا شلوه معهم إذا خرجوا إلى أرض الميعاد و هي الأرض المقدسة
و أقام الأسباط بمصر و تناسلوا و كثروا حتى ارتاب القبط بكثرتهم و استعبدوهم و في التوراة أن ملكا من الفراعنة جاء بعد يوسف لم يعرف شأنه و لا مقامه في دولة آبائه فاسترق بني إسرائيل و استعبدهم ثم تحدث الكهان من أهل دولتهم بأن نبوة تظهر في بني إسرائيل و أن ملكك كائن لهم مع كان معلوما من بشارة آبائهم لهم بالملك فعمد الفراعنة إلى قطع نسلهم بذبح الذكور من ذريتهم فلم يزالوا على ذلك مدة من الزمان حتى ولد موسى و هو موسى بن عمران بن قاهث بن لاوى بن يعقوب و أمه يوحانذ بنت لاوى عمه عمران و كان قاهث بن لاوى من القادمين إلى مصر مع يعقوب عليه السلام و ولد عمران بمصر و ولد هارون لثلاث و سبعين من عمره و موسى ثمانين فجعلته أمه في تابوت و ألقته في ضحضاح أليم و أرصدت أخته على بعد لتنظر من يلتقطه فتعرفه فجاءت ابنة فرعون إلى البحر مع جواريها فرأته و استخرجته من التابوت فرحمته و قالت : هذا من العبرانيين فمن لنا بظئر ترضعه فقالت لها أخته أنا آتيكم بها و جاءت بأمه فاسترضعها له ابنة فرعون إلى أن فصل فأتت به إلى ابنة فرعون و سمته موسى و أسلمته لها و نشأ عندها ثم شب و خرج يوما يمشي في الناس و له وصولة بما كان له في بيت فرعون من المربى و الرضاع فهم لذلك أخواله فرأى عبرانيا يضربه مصري الذي ضربه و دفنه و خرج يوما آخر فإذا هو برجلين من بني اسرائيل و قد سطا أحدهما على الأخر فزجره فقال له و من جعل لك هذا ؟ أتريد أن تقتلني كما قتلت الآخر بالأمس و نمي الخبر إلى فرعون فطلبه و هرب موسى إلى أرض مدين عند عقبة أيلة
و بنو مدين أمة عظيمة من بني إبراهيم عليه السلام كانوا ساكنين هناك و كان ذلك لأربعين سنة من عمره فلقى عند مائهم بنتين لعظيم من عظمائهم فسقى لهما و جاءتا به إلى أبيهما فزوجه بإحداهما كما وقع في القرآن الكريم و أكثر المفسرين على أنه شعيب بن نوفل بن عيقا بن مدين و هو النبي صلى الله عليه و سلم و قال الطبري : الذي استأجر موسى و زوجه بنته رعويل و هو بيتر حبر مدين أي عالمهم و أن رعويل هو الذي زوجه البنت و أن اسمه يبتر و عن الحسن البصري أنه شعيب رئيس بني مدين و قيل إنه ابن أخي شعيب و قيل ابن عمه فأقام عند شعيب صهره مقبلا على عبادة ربه إلى أن جاءه الوحي و هو ابن ثمانين سنة و أوحى إلى أخيه هارون و هو ابن ثلاث و ثمانين سنة فأوحى الله إليهما بأن يأتيا فرعون ليبعث معهما بني إسرائيل فيستنقذانهم من مملكة القبط و جور الفراعنة و يخرجون إلى الأرض المقدسة التي وعدهم الله بملكها على لسان إبراهيم و إسحاق و يعقوب فخرجا إليه و بلغا بني إسرائيل الرسالة فآمنوا به و اتبعوه ثم حضرا إلى فرعون و بلغاه أمره الله له بأن يبعث معهما بني إسرائيل و أراه موسى عليه السلام معجزة العصا فكان من تكذيبه و امتناعه و إحضار السحرة لما رآى موسى في معجزته ثم إسلامهم ما نصه القرآن العظيم
ثم تمادى فرعون في تكذيبه و مناصبته و اشتد جوره على بني إسرائيل و استعبادهم و اتخاذهم سخريا في مهنة الأعمال فأصابت و قومه الجوائح العشرة واحدة بعد أخرى يسالمهم عند وقوعها و يتضرع إلى موسى في الدعاء بانجلائها إلى أن أوحى الله إلى موسى بخروج بني إسرائيل من مصر ففي التوراة أنهم أمروا عند خروجهم أن يذبح أهل كل بيت حملا من الغنم إن كان كفايتهم أو يشتركون مع جيرانهم إن كان أكثر و أن ينضحوا دمه على أبوابهم لتكون علامة و أن يأكلوه سواء برأسه و أطرافه و معناه لا يكسرون منه عظما و لا يدعون شيئا خارج البيوت و ليكن خبزهم فطيرا ذلك اليوم و سبعة أيام بعده و ذلك في اليوم الرابع عشر من فضل الربيع و ليأكلوا بسرعة و أوساطهم مشدودة و خفافهم في أرجلهم و عصيهم في أيدهم و يخرجوا ليلا و ما فضل من عشائهم ذلك يحرقوه بالنار و شرع هذا عيدا لهم و لا عقابهم و يسمى عيد الفصح
و في التوراة أيضا إنه قتل في تلك الليلة أبكار النساء من القبط و دوابهم و مواشيهم ليكون لهم بذلك ثقل عن بني إسرائيل و أنهم أمروا أن يستعيروا منهم حليا كثيرا يخرجون به فاستعاروه و خرجوا في تلك الليلة بما معهم من الدواب و الأنعام و كانوا ستمائة ألف أو يزيدون و شغل القبط عنهم بالمآتم التي كانوا فيها على موتاهم و أخرجوا معهم تابوت يوسف عليه السلام استخرجه موسى صلوات الله عليه من المدفن الذي كان به إلهام من الله تعالى و ساروا لوجههم حتى انتهوا إلى ساحل البحر بجانب الطور و أدركهم فرعون و جنوده و أمر موسى بأن يضرب البحر بعصاه و يقتحمه فضربه فانفلق طرقا و سار فيها بنو إسرائيل و فرعون و جنوده في اتباعه فهلكوا و نزل بنو إسرائيل بجانب الطور و سبحوا مع موسى بالتسبيح المنقول عندهم و هم : نسبح الرب البهي الذي قهر الجنود و نبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود إلى آخره قالوا : و كانت مريم أخت موسى و هارون صلوات الله عليهما تأخذ الدف بيدها و نساء بني إسرائيل في أثرها بالدفوف و الطبول و هي ترتل لهن التسبيح سبحان الرب القهار الذي قهر الخيول و ركبانها ألقاها في البحر و هو معنى الأول ثم كانت المناجاة على جبل الطور و كلام الله لموسى و المعجزات المتتابعة و نزول الألواح و يزعم بنو إسرائيل أنها كانت لوحين فيها الكلمات العشرة و هي : كلمة التوحيد و المحافظة على السبت بترك الأعمال فيه و بر الوالدين ليطول العمر و النهي عن القتل و الزنا و السرقة و شهادة الزور و لا تمتد عين إلى بيت صاحبه أو امرأته أو لشيء من متاعه هذه الكلمات العشرة التي تضمنتها الألواح
و كان سبب نزول الألواح أن بني إسرائيل لما نجوا و نزلوا حول طور سينا صعد موسى إلى الجبل فكلمه ربه و أمره أن يذكر بني إسرائيل بالنعمة عليهم في نجاتهم من فرعون و أن يتطهروا و يغسلوا ثيابهم ثلاثة أيام و يجتمعوا في اليوم الثالث حول الجبل من بعد ففعلوا و ظلت الجبل غمامة عظيمة ذات بروق و رعود ففزعوا و قاموا في سفح الجبل دهشين ثم غشى الجبل دخان في وسطه عمود نور و تزلزل له الجبل زلزلة عظيمة شديدة و اشتد صوت الرعد الذي كانوا يسمعونه و أمر موسى صلوات الله عليه بأن يقرب بني إسرائيل لسماع الوصايا و التكاليف قال فلم يطيقوا فأمر بحضور هارون و تكون العلماء غير بعيد ففعل و جاءهم بالألواح
ثم سار بعد ذلك إلى ميعاد الله بعد أربعين ليلة فكلمه ربه و سأله الرؤية فمنعها فكان الصعق و ساخ الجبل و تلقى كثيرا من أحكام التوراة في المواعظ و التحليل و التحريم و كان حين سار إلى الميعاد استخلف أخاه هارون على بني اسرائيل و استبطؤا موسى و كان هارون قد أخبرهم بأن الحلى الذي أخذوه للقبط محرم عليهم فأرادوا حرقه و أوقدوا عليه النار و جاء السامري في شيعة له من بني إسرائيل و ألقى عليه شيئا كان عنده من أثر الرسول فصار عجلا و قيل عجلا حيوانا و عبده بنو إسرائيل و سكت عنهم هارون خوفا من افتراقهم و جاء موسى صلوات الله عليه من المناجاة و قد أخبر بذلك في مناجاته فلما رآهم على ذلك ألقى الألواح و يقال كسرها و أبدل غيرها من الحجارة و عند بني إسرائيل أنهما اثنان و ظاهر القرآن أنها أكثر مع أنه لا يبعد استعمال الجمع في الاثنين ثم أخذ برأس أخيه و وبخه و اعتذر له بما اعتذر ثم حرق العجل و قيل برده بالمبرد و ألقاه في البحر
و كان موسى صلوات الله عليه لما نجا ببني إسرائيل إلى الطور بلغ خبره إلى بيثر صهره من بني مدين فجاء و معه بنته صفورا زوجة موسى عليه السلام التي زوجها به أبوها رعويل كما تقدم و معها ابناها من موسى و هما جرشون و عازر فتلقاها موسى صلوات الله عليه بالبر و الكرامة و عظمه بنو إسرائيل و رأى كثرة الخصومات على موسى فأشار عليه بأن يتخذ النقباء على كل مائة أو خمسين أو عشرة فيفصلوا بين الناس و تفصل أنت فيما أهم و أشكل ففعل ذلك
ثم أمر الله موسى ببناء قبة للعبادة و الوحي من خشب الشمشاد و يقال هو السنط و جلود الأنعام و شعر الأغنام و أمر بتزيينها بالحرير و المصبغ و الذهب و الفضة على أركانها صور منها صور الملائكة الكروبيين على كيفيات مفصلة في التوراة في ذلك كله و لها عشر سرادقات مقدرة الطول و العرض و أربعة أبواب و أطناب من حرير منقوش مصبغ و فيها دفوف و صفائح من ذهب و فضة و في كل زاوية بابان و أبواب و ستور من حرير و غير ذلك مما هو مشروح في التوراة و بعمل تابوت من خشب الشمشاد طول ذراعين و نصف في عرض ذراعين في ارتفاع ذراع و نصف مصفحا بالذهب الخالص من داخل و خارج و له أربع حلق في أربع زوايا و على حافته كروبيان من ذهب يعنون مثالي ملكين بأجنحة و يكونان متقابلين و أن يصنع ذلك كله فلان شخص معروف من بني إسرائيل و أن يعمل مائدة من خشب الشمشاد طول ذراعين في عرض ذراع و نصف بطناب ذهب و إكليل ذهب بحافة مرتفعة بإكليل ذهب و أربع حلق ذهب في أربع نواحيها مغروزة في مثل الرمانة من خشب ملبس ذهبا و صحافا و مصافي و قصاعا على المائدة كلها من ذهب و أن يعمل منارة من ذهب بست قصبات من كل جانب ثلاث و على كل قصبة ثلاث سرج و ليكن في المنارة أربعة قناديل و لتكن هي و جميع آلاتها من قنطار من ذهب و أن يعمل مذبحا للقربان و وصف ذلك كله في التوراة بأتم وصف
و نصبت هذه القبة أول يوم من فصل الربيع و نصبت فيها تابوت الشهادة و تضمن هذا الفصل في التوراة من الأحكام و الشرائع في القربان و النحور و أحوال هذه القبة كثيرا و فيها : أن قبة القربان كانت موجودة قبل عبادة أهل العجل و أنها كانت كالكعبة يصلون إليها وفيها و يتقربون عندها و أن أحوال القربان كانت كلها راجعة إلى هارون عليه السلام بعهد الله إلى موسى بذلك و أن موسى صلوات الله عليه كان إذا دخلها يقفون حولها و ينزل عمود الغمام على بابها فيخرون عند ذلك سجدا الله عز و جل و يكلم الله موسى عليه السلام من ذلك العمود الغمام هو نور و يخاطبه و يناجيه و ينهاه و هو واقف عند التابوت صامد لما بين ذينك الكروبيين فإذا فصل الخطاب يخبر بني إسرائيل بما أوحاه إليه من الأوامر و النواهي و إذا تحاكموا إليه في شيء ليس عنده من الله فيه بشيء يجيء إلى قبة القربان و يقف عند التابوت و يصمد لما بين ذينك الكروبيين فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الخصومة
و لما نجا بنو إسرائيل و دخلوا البرية عند سينا أول المصيف لثلاثة أشهر من خروجهم من مصر و واجهوا جبال الشام و بلاد بيت المقدس التي وعدوا بها أن تكون ملكا لهم على لسان إبراهيم و إسحق و يعقوب صلوات الله عليه بمسيرهم إليها و أتوه بإحصاء بني إسرائيل من يطيق حمل السلاح منهم من ابن عشرين فما فوقها فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون و ضرب عليهم الغزو رتب المصاف و الميمنة و الميسرة و عين مكان كل سبط في التعبية و جعل فيه التابوت و المذبح في القلب و عين لخدمتها بني لاوى من أسباطهم و أسقط عنهم القتال لخدمة القبة و سار على التعبية سالكا على برية فاران و بعثوا منهم اثني عشر نقيبا من جميع الأسباط فأتوهم بالخبر عن الجبارين كان منهم كالب بن يوفنا بن حصرون بن بارص بن يهوذا بن يعقوب و يوشع بن نون بن أليشامع بن عميهون بن بارص بن لعدان بن تاحن بن تالح بن أراشف بن رافح بن بريعا بن أفرايم بن يوسف بن يعقوب فاستطابوا البلاد و استعظموا العدو من الكنعانيين و العمالقة و رجعوا إلى قومهم يخبرونهم الخبر و خذلوهم إلا يوشع و كالب فقالا لهم ما قالا و هما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما و خامر بنو إسرائيل عن اللقاء و أبوا من السير إلى عدوهم و الأرض التي ملكهم الله إلى أن يهلك الله عدوهم على غير أيديهم
فسخط الله ذلك منهم و عاقبهم بأن لا يدخل الأرض المقدسة أحد من ذلك الجيل إلا كالبا و يوشع و إنما يدخلها أبناؤهم و الجيل الذي بعدهم فأقاموا كذلك أربعين سنة في برية سينا و فاران يترددون حوالي جبال الشراة و أرض ساعير و أرض بلاد الكرك و الشوبك و موسى صلوات الله عليه بين ظهرانيهم يسأل الله لطفه بهم و مغفرته و يدفع عنهم مهالك سخطه و شكوا الجوع فبعث الله لهم المن حبات بيض منتشرة على الأرض مثل ذرير الكزبرة فكانوا يطحنونه و يتخذون منه الخبز لأكلهم ثم قرموا إلى اللحم فبعث لهم السلوى طيرا يخرج من البحر و هو طير السماني فيأكلون منه و يدخرون ثم طلبوا الماء فأمر أن يضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا و أقاموا على ذلك ثم ارتاب واحد منهم اسمه فودح بن إيصهر بن قاهث و هو ابن عم موسى بن عمران بن قاهث فارتاب هو وجماعة منهم من بني إسرائيل بشأن موسى و اعتمدوا مناصبته فأصابتهم قارعة و خسفت بهم و به الأرض و أصبحوا عبرة للمعتبرين و اعتزم بنوا إسرائيل على الاستقالة مما فعلوه و الزحف إلى العدو و نهاهم موسى عن ذلك فلم ينتهوا و صعدوا جبل العمالقة فحاربهم أهل ذلك الجبل فهزموهم و قتلوهم في كل وجه فأمسكوا و أقام موسى على الاستغفار لهم فأرسل إلى ملك أدوم يطلب الجواز عليه إلى الأرض المقدسة فمنعهم و حال دون ذلك
ثم قبض هارون صلوات الله عليه لمائة و ثلاثة و عشرين سنة من عمره و لأربعين سنة من يوم خروجهم من مصر و حزن له بنو إسرائيل لأنه كان شديد الشفقة عليهم و قام بأمره الذي كان يقوم به ابنه العيزار ثم زحف بنو إسرائيل إلى بعض ملوك كنعان فهزموهم و قتلوهم و غنموا ما أصابوا معهم و بعثوا إلى سيحون ملك العموريين من كنعان في الجواز في أرضه إلى الأرض المقدسة فمنعهم و جمع قومه و غزا بني اسرائيل في البرية فحاربوه و هزموه و ملكوا بلاده إلى حد بني عمون و نزلوا مدينته و كانت لبني مؤاب و تغلب عليها سيحون ثم قاتلوا عوجا و قومه من كنعان و هو المشهور بعوج بن عوق و كان شديد البأس فهزموه و قاتلوه و بنيه و أثخنوا في أرضه و ورثوا أرضهم إلى الأردن بناحية أريحا و خشي ملك بني مؤاب من بني إسرائيل و استجاش بمن يجاوره من بني مدين و جمعهم ثم أرسل إلى بلعام بن باعورا و كان ينزل في التخم بين بلاد بني عمون و بني مؤاب و كان مجاب الدعوة معبرا للأحلام و استدعاه ليستعين بدعائه و أتاه الوحي بالنهي عن الدعاء و ألح عليه ذلك الملك و أصعده إلى الأماكن الشاهقة و أراه معسكر بني إسرائيل منها فدعا لهم و أنطقه الله بظهورهم و أنهم يملكون إلى الموصل ثم تخرج أمة من أرض الروم فيغلبون عليهم فغضب الملك و انصرف بلعام إلى بلاده
و فشا بني إسرائيل الزنا ببنات مؤاب و مدين فأصابهم الموتان فهلك منهم أربعة و عشرون ألفا و دخل فحناص بن لغزرا على رجل من بني إسرائيل في خيمته و معه امرأة من بني مدين قد أدخلها للزنا بمرأى من بني إسرائيل فطعنها برمحه و انتظمها و ارتفع الموتان عن بني إسرائيل ثم أمر الله موسى و ألعازر بن هارون بإحصاء بني اسرائيل بعد فناء الجبل الذي أحصاهم موسى و هارون ببربة سينا و انقضاء الأربعين سنة التي حرم الله عليهم فيها دخول تلك الأرض و أن يبعث بعثا من بني إسرائيل إلى مدين الذين أعانوا بني مؤاب فبعث اثني عشر ألفا من بني إسرائيل و عليهم فنحاص بن العيزر بن العزر بن هارون فحاربوا بني مدين و قتلوا ملوكهم و سبوا نساءهم و ملكوا أموالهم و قسم ذلك في بني إسرائيل بعد أن أخذ منه الله و كان فيمن قتل بلعام بن باعورا ثم قسم الأرض التي ملك من بني مدين و العموريين و بني عمون و بني مؤاب ثم ارتحل بنو إسرائيل و نزلوا شاطئ الأردن و قال الله قد ملكتكم ما بين الأردن و الفرات كما وعدت آباءكم و نهوا عن قتال عيصو الساكنين ساعير و بني عمون و عن أرضهم و أكمل الله الشريعة و الأحكام و الوصايا لموسى عليه السلام و قبضه إليه لمائة و عشرين سنة من عمره بعد أن عهد إلى فتاه يوشع أن يدخل بيني إسرائيل إلى الأرض المقدسة ليسكنوها و يعملوا بالشريعة التي فرضت عليهم فيها و دفن بالوادي في أرض مؤاب و لم يعرف قبره لهذا العهد
و قال الطبري : مدة عمر موسى صلوات الله عليه مائة و عشرون سنة منها في أيام أفريدون عشرون و منها في أيام منوجهر مائة قال : ثم سار يوشع من بعد موسى إلى أريحا فهزم الجبارين و دخلها عليهم و قال السدي : إن يوشع تنبأ بعد موسى و سار إلى أريحا فهزم الجبارين و دخلها عليهم و أن بلعام بن باعورا كان مع الجبارين يدعو على يوشع فلم يستجب له و صرف دعاؤه على الجبارين و كان بلعام من قرى البلقاء و كان عنده الاسم الأعظم فطلبه الكنعانيون في الدعاء على بني إسرائيل فامتنع و ألحوا عليه فأجاب و دعا فصرف دعاؤه و كان قيامه للدعاء على جبل حسان مطلا على عسكر بني إسرائيل هذا خبر السدي في أن دعاء بلعام كان لعهد يوشع و الذي في التوراة إنه كان لعهد موسى و أن بلعام قتل لعهد موسى كما مر في خبر الطبري
و قال السدي : إن يوشع بعد وفاة موسى صلوات الله عليه أمر أن يعبر فسار و معه التابوت تابوت الميثاق حتى عبر الأردن و قاتل الكنعانيين فهزمهم و أن الشمس جنحت للغروب يوم قتالهم و دعا الله يوشع فوقفت الشمس حتى تمت عليهم الهزيمة ثم نازل أريحاء ستة أشهر و في السابع نفخوا في القرون و ضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فاستباحوها و أحرقوها و كمل الفتح و اقتسموا بلاد الكنعانيين كما أمرهم الله هذا مساق الخبر عن سيرة موسى صلوات الله عليه و بني إسرائيل أيام حياته و بعد مماته حتى ملكوا أريحا
و في كتب الإخباريين أن العمالقة الذي كانوا بالشام قاتلهم يوشع فهزمهم و قتل آخر ملوكهم و هو السميدع بن هوبر بن مالك و كان لقاؤهم إياه مع بني مدين في أرضهم و في ذلك يقول عوف بن سعد الجرهمي :
( ألم تر أن العلقمي بن هوبر ... بأيلة أمسى لحمه قد تمزعا )
( ترامت عليه من يهود جحافل ... ثمانون ألفا حاسرين و درعا )
ذكره المسعودي و قد تقم لنا خلاف النسابة في هؤلاء العمالقة و أنه لعمليق بن ولاذ أو لعمالق بن أليفاز بن عيصو الثاني لنسابة بني إسرائيل سار إليه علماء العرب و أما الأمم الذين كانوا بالشام لذلك العهد فأكثرهم لبني كنعان و قد تقدمت شعوبهم و بنو أروم أبناء عمون و بنو مؤاب أبناء لوط و ثلاثتهم أهل يستعير و جبال الشراة و هي بلاد الكرك و الشوبك و البلقا ثم بنو فلسطين من بني حام و يسمى ملكهم جالوت هو من الكنعانيين منهم ثم بنو مدين ثم العمالقة و لم يؤذن لبني إسرائيل في غير بلاد الكنعانيين فهي التي اقتسموها و ملكوها و صارت لهم تراثا و أما غيرها فلم يكن لهم فيها إلا الطاعة و المغارم الشرعية من صدقة و غيرها
و في كتب الأخباريين أن بني إسرائيل بعد ملكهم الشام بعثوا بعوثهم إلى الحجاز و هنالك يومئذ أمة من العمالقة يسمون جاسم و كان اسم ملكهم الإرم بن الأرقم و كان أوصاهم أن لا يستبقوا منهم من بلغ الحلم فلما ظهروا على العمالقة و قتلوا الأرقم استبقوا ابنه وضنوا به عن القتل لوضاءته و لما رجعوا من بعد الفتح وبخهم إخوانهم و منعوهم دخول الشام و أرجعوهم إلى الحجاز و ما تملكوا من أرض يثرب فنزلوها و استتم لهم فتح في نواحيها و من بقاياهم يهود خيبر و قريظة و النضير قال ابن إسحق قريظة و النضير و التحام و عمرو هو هزل من الخزرج و قال ابن الصريح : ابن التومان بن السبط بن أليسع بن سعد ابن لاوى بن النمام بن يحتوم بن عازر بن عزر بن هارون عليه السلام و اليهود لا يعرفون هذه القصة و بعضهم يقول كان ذلك لعهد طالوت و الله أعلم (2/92)
الخبر عن حكام بني إسرائيل بعد يوشع إلى أن صار أمرهم إلى الملك و ملك عليهم طالوت
و لما قبض يوشع صلوات الله عليه بعد استكمال الفتح و تمهيد الأمر ضيع بنو إسرائيل الشريعة و ما أوصاهم به و حذرهم من خلافه فاستطالت عليهم الأمم الذين كانوا بالشام و طمعوا فيهم من كل ناحية و كان أمرهم شورى فيختارون للحكم في عامتهم من شاءوا و يدفعون للحرب من يقوم بها من أسباطهم و لهم الخيار مع ذلك على من يلي شيئا من أمرهم و تارة يكون نبيا يدبرهم بالوحي و أقاموا على ذلك نحوا من ثلثمائة سنة لم يكن لهم فيها ملك مستفحل و الملوك تناوشهم من كل جهة إلى أن طلبوا من نبيهم شمويل أن يبعث عليهم ملكا فكان طالوت و من بعده داود فاستفحل ملكهم يومئذ و قهروا أعداءهم على ما يأتي ذكره بعد و تسمى هذه المدة بين يوشع و طالوت مدة الحكام و مدة الشيوخ
و أنا الآن أذكر من كان فيها من الحكام على التتابع معتمدا على الصحيح منه على ما وقع في كتاب الطبري و المسعودي و مقابلا به صاحب حماة من بني أيوب في تاريخه عن سفر الحكام و الملوك من الإسرائيليات و ما نقله أيضا هروشيوش مؤرخ الروم في كتابه الذي ترجمه للحكم المستنصر من بني أمية قاضي النصارى و ترجمانهم بقرطبة و قاسم بن أصبغ قالوا كلهم : لما فتح يوشع مدينة أريحاء سار إلى نابلس فملكها و دفن هنالك شلو يوسف عليه السلام و كانوا حملوه معهم عند خروجهم من مصر و قد ذكرنا أنه كان أوصى بذلك عند موته و قال الطبري : إنه بعد فتح أريحاء نهض إلى بلد عاي من ملوك كنعان فقتل الملك و أحرق المدينة و تلقاه خيقون ملك عمان و بارق ملك أروشليم بالجزي و استذموا بأمانه فأمنهم و زحف إلى خيقون ملك الأرمانيين من نواحي دمشق فاستنجد بيوشع فهزم يوشع ملك الأرمن إلى حوران و استلحمهم و صلب ملوكهم و تتبع سائر الملوك بالشام فاستباح منهم واحدا و ثلاثين ملكا و ملك قيسارية و قسم الأرض التي ملكها بين بني إسرائيل و أعطى جبل المقدس لكالب ابن يوفنا فسكن مدينة أورشليم و أقام مع بني يهودا و وضع القبة التي فيها تابوت العهد و المذبح و المائدة و المنارة على الصخرة التي في بيت المقدس و أما بنو أفرايم فكانوا يأخذون الجزية من الكنعانيين ثم قبض يوشع و في سفر الحكام أنه قبض لثمان و عشرين سنة من ملكه و هو ابن مائة و عشرين سنة و قال الطبري : ابن مائة و ستة و عشرين سنة و الأول أصح قال : و كان تدبير يوشع لبني اسرائيل في زمن منوشهر عشرين سنة و في زمن أفراسياب سبع سنين و قال أيضا : إن ملك اليمن شمر بن الأملوك من حمير كان لعهد موسى و بني أظفار و أخرج منها العمالقة و يقال أيضا : كان من عمال الفرس على اليمن و زعم هشام بن محمد الكلبي أن الفل من الكنعانيين بعد يوشع احتملهم أفريقش بن قيس بن صيفي من سواحل الشام في غزاته إلى المغرب التي قتل فيها جرجيس الملك و أنه أنزلهم بأقريقية فمنهم البربر و ترك معهم صهاجة و كتامة من قبائل حمير انتهى
و قام بأمر بني إسرائيل بعد يوشع كالب بن يوفنا بن حصرون بن بارص بن يهودا و قد مر نسبه و كان فنحاص بن العيزر بن هارون كوهنا يتولى أمر صلاتهم و قربانهم ثم تنبأ و تنبأ أبوه العيزر و كان كالب مضعفا فأقاما كذلك سبع عشرة سنة و قال الطبري كان مع كالف في تدبيرهم حزقيل بن يودي و يقال له ولد العجوز لأنه ولد بعد أن كبرت أمه و عقمت و حدث عن وهب بن منبه أن حزقيل هذا دبرهم بعد كالب و لم يقع لهذا ذكر في سفر الحكام ثم بعد يوشع اجتمع بنو يهودا و بنو شمعون لحرب الكنعانيين فغلبوهم و قتلوهم و فتحوا أورشيلم و قتلوا ملكها ثم فتحوا غزة و عسقلان و ملكوا الجبل كله و لم يقتلوا الغور و أما سبط بنيامين فكان في قسمهم بلد اليونانيين في أرضهم و أخذوا منهم الخراج و اختلطوا بهم و عبدوا آلهتهم فسلط الله عليهم ملك الجزيرة و اسمه كوشان شقنائم و معناه أظلم الظالمين و يقال إنه ملك الأرمن في الجزيرة و دمشق و ملك حوران و صيدا و حران و يقال و البحرين و يقال أنه من أدوم
و قال الطبري : من نسل لوط فاستعبد بني إسرائيل ثمان سنين بعد وفاة كالب بن يوفنا ثم ولى الحكم فيها عثينئال ابن أخيه قناز ابن يوفنا فحاربهم كوشان هذا وأزال ملكته عن بني إسرائيل ثم حاربه فقتله و كان له بعد ذلك حروب سائر أيامه مع بني مؤاب و بني عمون أسباط لوط و مع العماليق إلى أن هلك لأربعين سنة من دولته ثم عبد بنو إسرائيل الأوثان من بعده فسلط الله عليهم ملك بني مؤاب و اسمه عفلون بعين مهملة و معجمة ساكنة و لام مضمومة تجلب واوا ساكنة و نون بعدها فاستعبدهم ثماني عشرة سنة ثم قام بتدبيرهم أيهوذ بن كارا من سبط أفرايم و قال ابن حزم : من بنيامين و ضبط بهمزة ممالة تجلب ياء ثم هاء مضمومة تجلب واوا ثم ذال معجمة فأنقذهم من يد بني مؤاب و قتل ملكهم عفلون بحيلة تمت لهم في ذلك و هو أنه جاءه رسولا عن بني إسرائيل متنكرا بهدايا و تحف منهم حتى إذا خلا به طعنه فأنقذه و لحق بمكانه من جبل أفرايم ثم اجتمعوا و نزلوا فقتلوا من الحرس نحوا من عشرة آلاف و غلب ببني إسرائيل بني مؤاب واستلحمهم و هلك لثمانين سنة من دولته
و قام بتدبيرهم بعده شمكار بن عناث من سبط كاد و ضبطه بفتح الشين المثلثة بعدها ميم ساكنة و كاف تقرب من مخرج الجيم و يجلب فتحها ألفا و بعدها راء مهملة و مات لسنة من ولايته و بنو إسرائيل على حيالهم من المخالفة فسلط الله عليهم ملك كنعان و اسمه يافين بفاء شفوية تقرب من الباء فسرح إليهم قائده سميرا فملك عليهم أمرهم و استعبدهم عشرين سنة و كانت فيهم كوهنة امرأة متنبئة اسمها دافورا بفاء هوائية تقرب من الباء و هي من سبط نفطالي و قيل من سبط أفرايم و قيل كان زوجها بارق ابن أبي نوعم من سبط نفطالي و اسمه البيدوق فدعته إلى حرب سميرا فأبى إلا أن تكون معه فخرجت ببني إسرائيل و هزموا الكنعانيين و قتل قائدهم سميرا و قامت بتدبيرهم أربعين سنة يرادفها زوجها بارق بن أبي نوعم قال هروشيوش : و على عهدها كان أول ملوك الروم اللطينيين بأنطاكية بنقش بن شطونش و هو أبو القياصرة ثم توفيت دافورا و بقي بنو إسرائيل فوضى و عادوا إلى كفرهم فسلط الله عليهم أهل مدين و العمالقة
قال الطبري : و بنو لوط الذي بتخوم الحجاز قهروهم سبع سنين ثم تنبأ فيهم من سبط منشى بن يوسف كدعون بن يواش و ضبطه بفتح الكاف القريبة من الجيم و سكون الدال المهملة بعدها و عين مهملة مضمومة تجلب واوا بعدها نون فقام بتدبيرهم و قد كان لمدين ملكان أحدهما اسمه رابح و الآخر صلمناع فبعث إلى بني إسرائيل عساكره مع قائدين عوديب و زديف و أهم بني إسرائيل شأنهم فخرج بهم كدعون فهزموا بني مدين و غنموا منهم أموالا جمة و مكثوا أيام كدعون هذا على استقامة في دينهم و غلب لأعدائهم أربعين سنة و كان له من الولد سبعون ولدا و على عهده بنيت مدينة طرسوس و قال جرجيس بن العميد : و ملطية أيضا و لما هلك قام بتدبيرهم ولده أبو مليخ و كانت أمه من بني شخام ابن منشى بن يوسف من أهل نابلس فأنجدوه بالمال و قتل بني أبيب كلهم ثم نازعوه بنو شخام أخواله الأمر و طالت حروبه معهم و هلك محاصرا لبعض حصونهم بحجر طرحته عليه امرأة من السور فشدخه فقال لصاحب سلاحه أجهز علي لئلا يقال قتلته امرأة و ذلك لثلاث سنين من ولايته
ثم دبر أمرهم بعده طولاع بن فوا بن داود من سبط يساخر و ضبطه بطاء قريبة من التاء تجلب ضمتها واوا ثم لام ألف ثم عين و قال الطبري هو ابن خال أبي مليخ و ابن عمه قلت : و الظاهر أنه ابن خاله لأن سبط هذا غير سبط هذا غير ذاك و قال ابن العميد : هو من سبط يساخر إلا أنه كان نازلا في سائر من جبل أفراييم فمن هنا و الله أعلم وقع اللبس في نسبه و دبرهم ثلاثا و عشرين سنة قال هروشيوش : و على عهده كان بمدينة طرونية من ملوك الروم اللطينيين برمامش بن بنقش و ملك ثلاثين سنة و قد مضى ذكره و لما هلك طولاع قام بتدبيرهم بعده يائير بن كلعاد من سبط منشى بن يوسف و ضبطه بياء مثناة تحتية مفتوحة و ألف ثم همزة مكسورة بعدها ياء أخرى ثم راء مهملة و قام في تدبيرهم اثنتين و عشرين سنة و نصب أولاده كلهم حكاما في بني إسرائيل و كانوا نحوا من ثلاثين فلما هلك طغوا و عبدوا الأصنام فسلط الله عليهم بني فلسطين و بني عمون فقهروهم ثماني عشرة سنة
و قام بتدبيرهم يفتاح من سبط منشى و ضبطه بياء مثناة تحتانية و فاء ساكنة و تاء مثناة من فوق بفتحة تجلب ألفا ثم حاء مهملة فلما قام بأمرهم طلب ضريبة النحل من بني عمون فامتنعوا من إعطائها و كانوا ملوكا منذ ثلثمائة سنة فقاتلهم و غلبهم عليها و على اثنتين و عشرين قرية معها ثم حارب سبط أفراييم و كانوا مستبدين وحدهم عن بني إسرائيل فأرادهم على اتفاق الكلمة و الدخول في الجماعة حتى استقاموا على ذلك و أقام في تدبيرهم ست سنين و على عهده أصابت بلاد يونان المجاعة العظيمة التي هلك فيها أكثرهم
و لما هلك قام بتدبيرهم أبصان من سبط يهودا من بيت لحم و ضبطه بهمزة مفتوحة و باء موحدة ساكنة و صاد مهملة بفتحة تجلب ألفا و بعدها نون و يقال أنه جد داود عليه السلام بوعز بن سلمون بن نحشون بن عميناذاب بن رم بن حصرون بن بارص بن يهودا و حصرون هذا هو جد كالب بن يوفنا الذي دبرهم بعد يوشع و نحشون كان سيد بني يهود العهد خروجهم من مصر مع موسى عليه السلام و هلك في التيه و دخل ابنه سلمون أريحا مع يوشع و نزل بيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس قال هروشيوش : في أيام أبصان هذا كان انقراض ملك السريانيين و خروج القوط و حروبهم مع النبط
و أقام أبصان في تدبير بني إسرائيل سبع سنين ثم هلك فقام بتدبيرهم إيلون من سبط زبولون و ضبطه بهمزة مكسورة تجلب ياء ثم لام مضمومة تجلب واوا ثم نون فدبرهم عشر سنين ثم هلك فدبرهم عبدون بن هلال بن سبط أفراييم ثمان سنين و قال ابن العميد اسمه عكرون بن هليان و كان له أربعون ابنا و ثلاثون حافدا قال هروشيوش : و في أيامه خربت مدينة طرونة قاعدة الروم اللطينيين خربها الروم الغريقيون في فتنة بينهم و لما هلك عبدون دفن بأرض أفراييم في جبال العمالقة و اختلف بنو إسرائيل بعده و عبدوا الأصنام و سلط الله عليهم بني فلسطين فقهروهم أربعين سنة ثم تخلصهم من أيديهم شمشون بن مانوح من سبط دان و يعرف بشمشون القوي لفضل قوة كانت في يده و يعرف أيضا بالجبار و كان عظيم سبطه و دبر بني إسرائيل عشر سنين بل عشرين سنة و كثرت حروبه مع بني فلسطين و أثخن فيهم و
أتيح لهم عليه في بعض الأيام فأسروه ثم حملوه و حبسوه استدعاه ملكهم بعض الأيام إلى بيت آلهتهم ليكلمه فامسك عمود البيت و هزه بيده فسقط البيت على من فيه و ماتوا جميعا
و لما هلك اضطربت بنو إسرائيل و افترقت كلمتهم و انفرد كل سبط بحاكم يولونه منهم و الكهونية فيهم جميعا في عقب العيزار بن هرون من لدن وفاة هرون عليه السلام بتوليته موسى صلوات الله عليه بالوحي و معنى الكهنونية إقامة القرابين من الذبح و البخور على شروطها و أحكامها الشرعية عندهم و قال ابن العميد : إنه ولي تدبيرهم بعد شمشمون حاكم آخر اسمه ميخائيل بن راعيل دبرهم ثمان سنين و لم تكن طاعته فيهم مستحكمة و أن الفتنة وقعت بين بني إسرائيل ففني فيها سبط بنيامين عن آخرهم
ثم سكنت الفتنة و كان الكوهن فيهم لذلك العهد عالي بن بيطات بن حاصاب بن إليان بن فنحاص بن العيزار بن هرون و قيل من ولد ايتامار بن هرون و ضبطه بعين مهملة مفتوحة تجلب ألفا ثم لام مكسورة تجلب ياء تحتانية فلما سكنت الفتنة كانوا يجرعون إليه في أحكامهم و حروبهم و كان له ابنان عاصيان فدفعهما إلى ذلك و كثر لعهده قتال بني فلسطين و فشا المنكر من ولديه و أمر بدفعهم عن ذلك فلم يزدادوا إلا عتوا و طغيانا و أنذر الأنبياء بذهاب الأمر عنه و عن ولده ثم هزمهم بنو فلسطين في بعض أيامهم و أصابوا منهم فتذامر بنو إسرائيل و احتشدوا و حملوا معهم تابوت العهد و لقيهم بنو فلسطين فانهزم بنو إسرائيل أمامهم و قتلوا ابنا عالي كوهن كما أنذر به أبوهما و شمويل و بلغ أباهما الكوهن خبر مقتلهما فمات أسفا لأربعين سنة من دولته و غنم بنو فلسطين التابوت فيما غنموه و احتملوه إلى بلادهم بعسقلان و غزة و ضربوا الجزية على بني إسرائيل ولما مضى القوم بالتابوت فيما حكى الطبري وضعوه عند آلهتهم فقلاها مرارا فأخرجوه إلى ناحية من القرية فأصيبوا فتبادروا بإخراجه و حملوه على بقرتين لهما تبيعان و وضعتاه عند أرض بني إسرائيل و رجعتا إلى ولديهما و أقبل إليه بنو إسرائيل فكان لا يدنوا منه أحد إلا مات حتى أذن شمويل لرجلين منهم حملاه إلى بيت أمهما و هي أرملة فكان هنالك حتى ملك طالوت و كان ردهم التابوت لسبعة أشهر من يوم حملوه و كان عالي الكوهن قد كفل ابن عمه بن الكنابن يوام بن إلياهد بن ياو بن سوف و سوف هو أخو حاصاب بن البلى بن يحاص
و قيل إن شمويل من عقب فورح و هو قارون بن يصهار بن قاهاث بن لاوى و نسبه إليه شمويل بن القنا بن يروحام بن أليهوذ بن يوحا بن صوب بن ألقانا بن يويل بن عزيز ابن صنعينا بن ثاحت بن أسر بن القانا بن النشاسات بن قارون و كانت أمه نذرت أن تجعله خادما في المسجد و ألقته هنالك فكلفه عالي و أوصى له بالكهونية ثم أكرمه الله بالنبوة و ولاه بنو إسرائيل أحكامهم فدبرهم عشر سنين و قال جرجيس بن العميد : عشرين سنة و نهاهم عن عبادة الأوثان فانتهوا و حاربوا أهل فلسطين و استردوا ما كانوا أخذوا لهم من القرى و البلاد و استقام أمرهم ثم دفع الأمر إلى ابنيه يؤال و أبيا و كانت سيرتهما سيئة فاجتمع بنو إسرائيل إلى شمويل و طلبوه أن يسأل الله في ولاية ملك عليهم فجاء الوحي بولاية طالوت فولاه و صار أمر بني إسرائيل ملكا بعد أن كان مشيخة و الله معقب الأسر بحكمته لا رب غيره (2/101)
الخبر عن ملوك بني إسرائيل بعد الحكام ثم افترق أمرهم و الخبر عن دولة بني سليمان بن داود على السبطين يهوذا و بنيامين بالقدس إلى انقراضها
لما نقم بنو إسرائيل على يؤال و أبيا ابني شمويل ما نقموا من أمورهم و اجتمعوا إلى شمويل و سألوه من الله أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه أعداءهم و يجمع نشرهم و يدفع الذل عنهم فجاء الوحي بأن يولي الله طالوت و يدهنه بدهن القدس فأبوا بعد أمر شمويل بأن يستهموا عليه فاستهموا على بني آبائهم فخرج السهم على طالوت و كان أعظمهم جسما فولوه و اسمه عند بني إسرائيل شاول بن قيس بن أفيل بالفاء الهوائية القريبة من الباء ابن صاروا بن نحورت بن أفياح فقام بملكهم و استوزر أفنين ابن عمه نير بن أفيل و كان لطالوت من الولد يهوناتان و ملكيشوع و تشبهات و أنبياداف و قام طالوت بملك بني إسرائيل و حارب أعداءهم من بني فلسطين و عمون و مؤاب و العمالقة و مدين فغلب جميعهم و نصر بنو إسرائيل نصرا لا كفاء له و أول من زحف إليهم ملك بني عمون و نازل قرية بلقاء فهجم عليهم طالوت و هو في ثلثمائة ألف من بني إسرائيل فهزمهم و استلحمهم ثم أغزى ابنه في عساكر بني إسرائيل إلى فلسطين فنال منهم و اجتمعوا لحرب بني إسرائيل فزحف إليهم طالوت و شمويل فانهزموا و استلحمهم بنو اسرائيل و أمر شمويل أن يسير إلى العمالقة و أن يقتلهم و دوابهم ففعل و استبقى ملكهم أعاع مع بعض الأنام فجاء الوحي إلى شمويل بأن الله قد سخطه و سلبه الملك فخبره بذلك و هجره شمويل فلم يره بعد
و أمر شمويل أن يقدس داود و بعث له بعلامته فسار إلى بني يهوذا في بيت لحم و جاء به أبوه أيشا فمسحه شمويل و سلب طالوت روح الجسد و حزن لذلك ثم قبض شمويل و زحف جالوت و بنو فلسطين إلى بني إسرائيل فبرز إليهم طالوت في العساكر و فيهم داود بن إيشا من سبط يهوذا و كان صغيرا يرعى الغنم لأبيه و كان يقذف بالحجارة في مخلاته فلا تكاد تخطئ قال الطبري : و كان شمويل قد أخبر طالوت بقتل جالوت و أعطاه علامة قاتلة فاعترض بني إسرائيل حتى رأى العلامة فيه فسلمه و أقام في المصاف و قد احتمل الحجارة في مخلاته فلما عاين جالوت قذفه بحجارة فصكه في رأسه و مات و انهزم بنو فلسطين و حصل النصر فاستخلص طالوت حينئذ داود و زوجه ابنته و جعله صاحب سلاحه ثم ولاه على الحروب فاستكفى به و كان عمره حينئذ فيما قال الطبري ثلاثين سنة و أحبه بنو إسرائيل و اشتملوا عليه و ابتلي طالوت و بنوه بالغيرة منه و هم بقتله و نفذ لذلك مرارا ثم حمل ابنه يهونتان على قتله فلم يفعل لخلة و مصافاة كانت بينهما ودس إلى داود بدخيلة أبيه فيه فلحق بفلسطين و أقام فيهم أياما ثم إلى بني مؤاب كذلك ثم رجع إلى سبطه يهوذا بنواحي بيت المقدس فأقام فيهم يقاتل معهم بني فلسطين في سائر حروبهم حتى إذا شعر به طالوت طلب بني يهوذا بإسلامه إليه فأبوا فزحف إليهم فأخرجوه عنهم و لحق ببني فلسطين و قاتلهم طالوت في بعض الأيام فهزموه و اتبعوه و أولاده يقاتلون دونه حتى قتل يهونتان و مشوى و ملكيشوع و بنو فلسطين في اتباعه حتى إذا أيقن بالهلكة قتل نفسه بنفسه و ذكر فيما قال الطبري لأربعين سنة من ملكه
ثم جاء داود إلى بني يهوذا فملكوه عليهم و هو داود بن إيشا بن عوفذ بالفاء الهوائية ابن بوغر و اسمه أفصان بالفاء الهوائية و الصاد المشمة و قد قدمنا ذكره في حكام بني اسرائيل بن سلمون الذي نزل بيت لحم لأول الفتح ابن نحشون سيد بني يهوذا عند الخروج من مصر ابن عميناذاب بن إرم بن حصرون بن بارص بن يهوذا هكذا نسبه في كتاب اليهود و النصارى و أنكره ابن حزم قال : لأن نحشون مات بالتيه و إنما دخل القدس ابنه سلمون و بين خروج بني إسرائيل من مصر و ملك داود ستمائة سنة باتفاق منهم و الذي بين داود و نحشون أربعة آباء فإذا قسمت الستمائة عليهم يكون كل واحد منهم إنما ولد له بعد المائة و الثلاثين سنة و هو بعيد
و لما ملك داود على بني يهوذا نزل مدينتهم حفرون بالفاء الهوائية و هي قرية الخليل عليه السلام لهذا العهد و اجتمع الأسباق كلهم إلى يشوشات بن طالوت فملكه في أورشليم و قام بأمره وزير أبيه أفنيد و قد مر نسبه
و في كتاب أسفار الملوك من الإسرائيليات أن رجلا جاء الداود بعد وفاة طالوت فأخبره بمهلكه و مهلك أولاده في هزيمتهم أمام بني فلسطين و أمر هذا الرجل أن يقتله لما أدركوه فقتله و جاء بتاجه و دملجه إلى داود و انتسب إلى العمالقة فقتله داود بقتله و بكى على طالوت و ذهب إلى سبط يهوذا بأرض حفرون بالفاء القريبة من الباء و هي قرية الخليل لهذا العهد و أقام شيوشيات بن طالوت في أورشليم و الأسباط كلهم مجتمعون عليه و أقامت الحرب بينهم و بين داود أكثر من سنتين ثم وقع الصلح بينهم و المهادنة و أذعن الأسباط إلى داود و تركوه ثم اغتاله بعض قواده و جاء برأسه إلى داود فقتله به و أظهر عليه الحزن و الأسف و كفل أخواته و بنيه أحسن كفالة
و استبد داود بملك بني إسرائيل لثلاثين سنة من عمره و قاتل بني كنعان فغلبهم ثم طالت حروبه مع بني فلسطين و استولى على كثير من بلادهم ورتب عليهم الخراج ثم حارب أهل مؤاب و عمون و أهل أدوم و ظفر بهم و ضرب عليهم الجزية ثم خرب بلادهم بعد ذلك و ضرب الجزية على الأرمن بدمشق و حلب و بعث العمال لقبضها و صانعه ملك أنطاكية بالهدايا و التحف و اختط مدينة صهيون و سكنها و اعتزم على بناء مسجد في مكان القبة التي كانوا يضعون بها تابوت العهد و يصلون إليها فأوحى الله إلى دانيال نبي على عهده أن داود لا يبني و إنما يبنيه ابنه و يدوم ملكه فسر داود بذلك ثم انتفض عليه ابنه ابشلوم و قتل أخاه أمون غيه منه على شقيقه بأمان و هرب ثم استماله داود و رده و أهدر دم أخيه و صير له الحكم بين الناس ثم رجع ثانيا لأربع سنين بعدها و خرج معه سائر الأسباط و لحق داود بأطراف الشام و قيل لحق بخيبر و ما إليها من بلاد الحجاز ثم تراجع للحرب فهزمه داود و أدركه يؤاب وزير داود و قد تعلق بشجرة فقتله و قتل في الهزيمة عشرون ألف من بني إسرائيل و سيق رأس قشلوط لولي أبيه داود فبكى عليه و حزن طويلا و استألف الأسباط و رضي عنهم و رضوا عنه ثم أحصى بني إسرائيل فكانوا ألف ألف و مائة ألف و سبط يهوذا أزيد من أربعمائة ألف و عوتب في الوحي لأنه أحصاهم بغير إذن و أخبره بذلك بعض الأنبياء لعهده
و أقام داود صلوات الله عليه في ملكه و الوحي يتتابع عليه و سور الزبور تنزل و كان يسبح بالأوتار و المزامير و أكثر المزامير المنسوبة إليه في ذكر التسبيح و شأنه و فرض على الكهنونية من سبط لاوى التسبيح بالمزامير قدام تابوت العهد اثني عشر كوهنا لكل ساعة ثم عهد عند تمام أربعين سنة من دولته لابنه سليمان صلوات الله عليهما و مسحه مابان النبي و صادوق الخبر مسحة التقديس و أوصى ببناء بيت المقدس ثم قبض صلوات الله عليه و دفن في بيت لحم و كان لعهده من الأنبياء نامان و كاد و آصاف و كان الكهنون الأعظم أفيثار بن أحليج من عقب عالي الكوهن الذي ذكرناه في الحكام و كان من بعده صادوق
ثم قام بالملك من بعده من بني إسرائيل ابنه سليمان صلوات الله عليه و هو ابن اثنتين و عشرين سنة فاستفحل ملكه و غالب الأمم و ضرب الجزية على جميع ملوك الشام مثل فلسطين و عمون و كنعان و مؤاب و أدوم و الأرمن و أصهر إليه لملوك من كل ناحية ببناتهم و كان ممن تزوج بنت فرعون مصر و كان وزيره يؤاب بن نيثرا و هو ابن أخت داود اسمها صوريا و كان وزيرا لداود فلما ولي سليمان استوزره فقام بدولته ثم قتله بعد ذلك و استوزر يشوع بن شيداح و لأربع سنين من ملكه شرع في بيت المقدس بعهد أبيه إليه بذلك فلم يزل إلى آخر دولته بعد أن هدم مدينة انطاكية و بنى مدينة تدمر في البرية و بعث إلى ملك صور ليعينه في قطع الخشب من لبنان و أجرى على الفعلة فيه في كل عام عشرين ألف كر من الطعام و مثلها من الزيت و مثلها من الخمر و كان الفعلة في لبنان سبعين ألفا و لنحت الحجارة ثمانين ألفا و خدمه المناولة سبعون ألفا و كان الوكلاء و العرفاء على ذلك العمل ثلاثة آلاف و ثلثمائة رجل
ثم بنى الهيكل و جعل ارتفاعه مائة ذراع في طول ستين و عرض عشرين و جعل بدائره كله أروقة و فوقها مناظر و جعل بدائر البيت ابريدا من خارج و نمقه و جعل الظهر مقورا ليودع فيه تابوت العهد و صف البيت من داخله و سقفه بالذهب و صنع في البيت كروبيين من الخشب مصفحتين بالذهب و هما تمثالان للملائكة الكروبيين و جعل للبيت أبوابا من خشب الصنوبر و نقش عليها تماثيل من الكروبيين و النرجس و النخل و السوسن و غشاها كلها بالذهب و أتم بناء الهيكل في سبع سنين و جعل لها بابا من ذهب ثم بنى بيتا لسلاحه أقامه على أربعة صفوف من العمد من خشب الصنوبر في كل صف خمسة عشر عمودا و وضع فيه مائتي ترس من الذهب في كل ترس ستمائة من حجر الجوهر و الزمر و ثلثمائة درقة من الذهب في كل درقة ثلثمائة من حجر الياقوت و سمى هذا البيت غيضة لبنان و صنع منبرا لجلوسه تحت رواق و كراسي كثيرة كلها من العاج ملبسة من الذهب ثم بنى من فوق هذا البناء بيتا لابنه فرعون التي تزوج بها و صنع بها أوعية النحاس لسائر ما يحتاج إليه البيت و استرضى الصناع لذلك من مدينة صور و عمل مذبح القربان بالبيت من الذهب و مائدة الخبز الوجوه من الذهب و خمس منابر عن يمين الهيكل و خمسا عن يساره بجميع آلاتها من الذهب و مجامر من الذهب و أحضر موروث أبيه من الذهب و الفضة و الأوعية الحسنة فأدخلها إلى البيت و بعث إلى تابوت العهد من صهيون قرية داود إلى البيت الذي بناه له فحمله رؤساء الأسباط و الكهنونية على كواهلهم حتى وضعوه تحت أجنحة التمثالين للكروبيين بالمسجد و كان في التابوت اللوحان من الحجارة اللذين صنعهما موسى عليه السلام بدل الألواح المنكسرة و حملوا مع تابوت العهد قبة القربان و أوعيتها إلى المسجد و أقام سليمان أمام المذبح يدعو في يوم مشهود اتخذ فيه وليمة لذلك ذبح فيها اثنتين و عشرين ألفا من البقر ثم كان يقرب ثلاث مرات من السنة قرابين و ذبائح كاملة و يبخر البخور و جميع الأوعية لذلك كلها ذهب و كانت جبايته في كل سنة ستمائة قنطار و ستة و ستون قنطارا من الذهب غير الهدايا و القربان إلى بيت المقدس و كانت له سفن بحر الهند تجلب الذهب و الفضة و البضائع و الفيلة و القرود و الطواويس و كانت له خيل كثيرة مرتبة تجلب من مصر و غيرها تبلغ ألفا و ستمائة فرس معدة كلها للحرب و كانت له ألف امرأة لفراشه ما بين حرة و سرية منها ثلثمائة سرية و في الأخبار للمؤرخين أنه تجهز للحج فوافى الحرم و أقام به ما شاء الله و كان يقرب كل يوم خمسة آلاف بدنة و خمسة آلاف بقرة و عشرين ألف شاة ثم سما إلى ملك اليمن و سار إليه فوافى صنعاء من يومه و طلب الهدهد لالتماس الوضوء و كانت قناقه أي ملتمس الوضوء له في الأرض فافتقده و رجع إليه بخبر بلقيس كما قصه القرآن و دافعته بالهدية فلم يقبلها فلاذت بطاعته و دخلت في دينه و طاعته و ملكته أمرها و وافته بملك اليمن و أمرها بأن تتزوج فنكرت ذلك لمكان الملك فقال لا بد في الدين من ذلك فقالت زوجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه و ملكه على اليمن و استعملها فيه و رجع إلى الشام و قيل تزوجها و أمر الجن فبنوا لها سليمين و غمدان و كان يزورها في الشهر مرة يقيم عندها ثلاثا و علماء بني إسرائيل ينكرون وصوله إلى الحجاز و اليمن و إنما ملك اليمن عندهم بمراسلة ملكة سبأ و أنها وفدت عليه في أورشليم و أهدت إليه مائة و عشرين قنطارا من الذهب و لؤلؤا و جوهرا و أصنافا من الطيب و المسك و العنبر فأجازها و أحسن إليها و انصرفت هكذا في كتاب الأنساب من كتبهم
ثم انتفض على سليمان آخر هدرور ملك الأرمن بدمشق و هداد ملك أدوم و كان قد ولى على ضواحي بيت المقدس و جميع أعماله يربعان بن نباط من سبط أفرايم و استكفى به في ذلك و كان جبارا فعوتب بالوحي على لسان أخيا النبي في توليته فأراد قتله و شعر بذلك يربعان فهرب إلى مصر فأنكحه فرعون ابنته و ولدت له ابنه ناباط و أقام بمصر
و قبض سليمان صلوات الله عليه لأربعين سنة من ملكه و قيل اثنتين و خمسين و دفن عند أبيه داود صلوات الله عليهما و افترق ملك بني إسرائيل من بعده كما نذكره إن شاء الله تعالى (2/109)
الخبر عن افتراق بني إسرائيل منهم ببيت المقدس على سبط يهوذا و بنيامين إلى انقراضه
لما قبض سليمان صلوات الله عليه و سلامه ولي ابنه رحبعم و ضبطه براء مهملة و جاء مهملة مضمومتين و باء موحدة ساكنة و عين مهملة مضمومة و ميم فقام بأمره و زاد في عمارة بيت لحم و فزة و صور و أيلة و اشتد على بني إسرائيل و طلبوا منه تخفيف الضرائب فامتنع و طالبهم بالوظائف و أخذ فيهم برأي الغواة من بطانته فنقموا عليه ذلك و انتقضوا و جاءهم يربعم بن نباط من مصر فبايعوه و ولوه عليهم و اجتمع عليه سائر الأسباط العشرة من بني إسرائيل ما عدا سبط يهوذا و بنيامين و تزاحفوا للحرب ثم دعاهم بعض أنبيائهم للصلح فتواضعوا و اصطحوا
و في السنة الخامسة من ملك رحبعم زحف شيشاق ملك مصر إلى بيت المقدس فهرب رحبعم و استباحها شيشاق و رجع و ضرب عليهم الجزية ثم دفعوه و منعوه فأقام بنو داود في سلطانهم على بني يهوذا و بنيامين ببيت المقدس و عسقلان و غزة و دمشق و حلب و حمص و حماة و ما إلى ذلك من أرض الحجاز و ملك الأسباط العشرة بنواحي نابلس و فلسطين ثم نزلوا مدينة شومرون و هي شمرة و سامرة في الناحية الشرقية الشمالية من الشام مما يلي الفرات و الجزيرة و اتخذوها كرسيا لملكهم ذلك و أقاموا على هذا الافتراق إلى حين انقراض أمراض أمرهم و وقعوا في الجلاء الذي كتب الله عليهم كما نذكره
ثم هلك رحبعم لسبع عشرة سنة من دولته و ولي بعده على سبط يهوذا و بنيامين بأرض القدس ابنه أفيا و ضبطه بهمزة مفتوحة و متوسطة بين الفاء و الذال من لغتهم و ياء مثناة من تحت مشددة و ألف و كان على مثل سيرة أبيه و كان عابدا صواما و كانت أيامه كلها حربا مع يربعم بن نباط و بني إسرائيل و هلك لثلاث سنين و ولى ابنه أسا بضم الهمزة و فتح السين المهملة و ألف بعدها ابن أفيا و طال أمد ملكه و كان رجلا صالحا و كان على مثل سيرة جده داود صلوات الله عليه و تعددت الأنبياء في بني إسرائيل على عهده و مات يربعم بن نباط لسنتين من ملكه وملك بعده ابنه ناداب و قتله يعشا بن أحياكما نذكر في أخبارهم ثم وقعت بينه و بين أسا حروب و استمد أسا بملك دمشق فزحف معه و كان يعشا ملك السامرة في ناحية يثرب لبنائها فهرب و ترك آلات البناء فنقلها أسا ملك القدس و بنى بها الحصون ثم خرج عليهم زادح ملك الكوش في ألف ألف مقاتل و لقيهم أسا فهزمهم و أثخن فيهم و لم تزل الحرب قائمة بين أسا و بين الأسباط بالسامرة سائر أيامه و على عهده اختطت السامرة كما نذكر بعد
ثم هلك أسا بن أفيا لإحدى و أربعين سنة من ملكه و ولي بعده ابنه يهوشاظ بياء مفتوحة مثناة تحتانية و هاء مضمومة و واو ساكنة و شين معجمة بعدها ألف ثم ظاء بين الذال و الظاء المعجمتين فكان على مثل سيرة أبيه و كانت أيامه مع أهل السامرة و ملوكهم سلما و اجتمع ملوك العمالقة و يقال أروم و خرج لحربهم فهزمه و غنم أموالهم و كان لعهده من الأنبياء إلياس بن شوياق و اليسع بن شوبوات وقال ابن العميد : إيليا و منحيا و عبوديا و كانت له سفن في البحر يجلب له فيها بضائع الهند فأصابها قاصف الريح فتكسرت و غرقت ثم هلك لخمسة و عشرين سنة من ملكه و ولي ابنه يهورام بفتح المثناة التحتية ثم هاء مضمومة تجلب واوا ثم راء مفتوحة تجلب ألفا و بعدها ميم و انتقض عليه أروم و ولوا عليهم ملكا منهم فزحف إليهم و وقع بهم في سفيرا أوسط بلادهم و أثخن فيهم بالسبي و القتل ثم رجع عنهم و أقاموا في عصيانهم و على عهده زحف ملك الموصل إلى الأسباط بالسامرة فكانت بينه و بينهم حروب كما نذكر
و قال ابن العميد : كانت على بني مؤاب جزية مضروبة لبني يهوذا مائتان من الغنم كل سنة فمنعوها و اجتمع ملوك القدس و السامرة لحربهم و حاصروهم سبعة أيام و فقدوا الماء فاستسقى لهم اليسع و جرى الوادي فخرج أهل مؤاب فظنوه ماء فقتلهم بنو إسرائيل و أثخنوا فيهم و في أيام يهورام رفع إيليا النبي و انتقل سره إلى اليسع و كان على عهده من الأنبياء أيضا عبوديا
ثم هلك يورام لثمان سنين من ملكه و دفن عند جد داود و ولي بعده ابنه أحزياهو بهمزة مفتوحة و حاء مهملة مضمومة و زاي معجمة ساكنة ثم ياء مثناة تحتية بفتحة تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب واوا و أمه غثليا بنت عمري أخت أجاب و سار سيرة خاله و ملك سنة واحدة و قيل سنتين و خرج لقتال ملك الجزيرة و الموصل و استنفر معه صاحب السامرة يورام ابن خاله أجاب فاقتتلوا معه ثم انصرفوا و ابن خاله جريح و جاءه أحزياهو في بعض الأيام يعوده و كان ابن يهوشافاض بن منشي من سبط منشا بن يوسف يترصد قتل يورام بن أجاب ملك السامرة فأصاب فرصة في ذلك الوقت فقتلهما جميعا وقال ابن العميد أن يورام بن أجاب ملك السامرة خرج لحرب أروم في رواية كلعاد و خرج معه أحزياهو فقتلا في تلك الحرب قال : و قيل أن ياهو عشا رمى بسهم فأصاب يورام بن أجاب و كان لعصره من الأنبياء اليسع و عامور و فنحاء
ثم ملك بعد أحزيا أمه عثليا بنت عمري كذا وقع اسمها في كتاب الطبري و في كتاب الاسرائيليات اسمها أضالية و يقال كانت من جواري سليمان ثم استفحل ملكها بالقدس و قتلت بني داود كلهم و أغفلت ابنا رضيعا من ولد أبيها أحزيا هو اسمه يؤاش بضم الياء المثناة التحتية ثم همزة مفتوحة تجلب ألفا ثم شين معجمة أخفته عمته يهوشيع بنت يهورام في بعض زوايا القدس و علم بمكانه زوجها يهود يادع و هم يومئذ الكوهن الأعظم حتى إذا كملت له سبع سنين و نقم بنو يهوذا سيرة عثليا اجتمعوا إلى يهود يادع الكوهن لهم يؤاش بن أحزياهو من مكانه و استحلفهم فبايعوا له و قتلوا جدته عثليا و من معها لسبع سنين من ملكها
و قام يؤاش بملكه في تدبير يهوديادع الكوهن ثم أراد عبادة الأصنام فمنعه زكريا النبي فقتله و كان لعهده من الأنبياء إليسع و عوفريا و زكريا بن يهودياع و هلك يهوديادع لثلاث و عشرين سنة من ملك يؤاش بعد أن جدد يؤاش بيت المقدس و لثمان و ثلاثين من ملكه قبض إليسع النبي صلوات الله عليه و على عهده زحف شريال ملك الكلدانيين ببابل إلى بيت المقدس و يقال له ملك نينوى و الموصل و قال ابن العميد : ملك الشام فأعطاهم جميع ما في خزائن الملك و بيت المقدس من الأموال و دخل في طاعتهم إلى أن قتله وزراؤه و أهل دولته لأربعين سنة من ملكه
و ولوا مكانه ابنه أمصياهو بفتح الهمزة و الميم و سكون الصاد المشمة بالزاي بعدها ياء مثناة تحتانية بفتحة تجلب ألفا ثم هاء مضمومة تجلب واوا و استبدوا عليه ثم ثار عليهم بأمه و قتلهم أجمعين و سار إلى أروم فظفر بهم و قتل منهم نحوا من عشرين ألفا ثم زحف إليه ملك الأسباط بالسامرة و لقيه فهزمه و حصل في أسره و سار إلى بيت المقدس فحاصرها و هدم من سورها نحوا من أربعمائة ذراع و اقتحمها فغنم ما في خزائن بيت السلطان و بيت الهيكل من الأموال و الأواني و الذخائر و رجع إلى السامرة فأطلق أمصياهو ملك القدس فرجع إلى قومه و رم تثلم من سورها و لم يزل مملكا حتى نقموا عليه أفعاله فقتلوه لسبع و عشرين سنة من ملكه و كان لعهده من الأنبياء يونان و ناحوم و تنبأ لعصره عاموص
و لما قتلوا أمصياهو ولوا ابنه عزياهو بعين مهملة مضمومة و زاي معجمة مكسورة مشددة و ياء مثناة تحتانية تجلب ألفا و هاء تجلب واوا و طالت مدته ثلاثا و خمسين سنة و اختلفت فيها أحواله قال ابن العميد : و لخمس من ملكه كان ابتداء وضع سني الكبس التي هي سنة بعد أربع تزيد يوما على الماضية بحساب ربع يوم في كل سنة الذي اقتضاه حساب مسير الشمس عندهم قال : و ليست من ملكه انقرض ملك الأرمانيين من الموصل و صارت إلى بابل لاثنتين و عشرين من ملكه غزا ملك بابل و اسمه فول مدينة السامرة فاقتحمها و أعطاه ملكها بدرة من المال فرجع عنه قال : و لعهده ملك على بابل رينوس و يلقب قطب الملك و لعهده ملك على اليونانيين ملكهم الأول من مدينة أنقياس لثلاث و عشرين سنة من تملك عزياهو قال : و لإحدى و خمسين من ملكه ملك ببابل بختنصر الأول قال : و لعهده أيضا كان الملك الأول من الروم المقدويس و يسمى فروس و لعده كان من الأنبياء يوشع و غوزيا و أموص و أشعيا و يونس بن متى قال ابن العميد و انتهت عساكر عزياهو إلى ثلثمائة ألف و أصابه البرص بدعاء الكوهن لما أراد أن يخالف التوراة في استعمال البخور و هو محرم على سبط لاوى فبرص و لزم بيته سنة و صار ابنه يؤام ينظر في أمر الملك إلى أن تغلب على أبيه قال هروشيوش : و على عهده أيضا قتل شرديال آخر ملوك بابل من الكلدنيين على يد قائده أرباط بن المادس و استبد بملك بابل و أصاره إلى قومه بعد حروب طويلة ثم زحف إلى القوط و العرب من قضاعة فحاربهم طويلا و انصرف عنهم
ثم هلك عزيا هو لثلاث و خمسين سنة من ملكه و ملك بعده ابنه يؤاب و كان صالحا تقيا و كان لعهده من الأنبياء هو شيع و أشعيا و بويل و عوفد و في أيامه ابتدأ غلب ملك الجزيرة على اليهود و كانوا يعرفون بالسوريانيين ثم هلك يوآب لست عشرة من ملكه و ملك ابنه أحاز بهمزة مفتوحة ممالة و حاء مهملة و تجلب ألفا و زاي معجمة فخالف سنة آبائه و عبد بنو إسرائيل الأوثان في أيامه و حارب الأرمن و استجاش عليهم بملك الموصل فزحف معه و حاصر دمشق و ملكها منهم و استباحها و رجع إلا بلاده ثم خرج أحاز لحربهم فهزموه و قتلوا من اليهود مائة و عشرين ألفا و نحوها و أرجعوا أحاز إلى دمشق أسيرا قال هروشيوش : و على عهد أحاز كان انقراض ملك الماريس على يد كيرش ملك الفرس و رجعت أعمالهم إليه و يقال : إن آخر ملوكهم هو اشتانيش و كان جد كيرش لأمه و كفله صغيرا فلما شب و ملك حارب جده فقتله و انتزع ملكه و قال ابن العميد عن المسبحي : و لذلك العهد ملك على الروم الفرنجة غير اليونان الأخوان روملس و رومانس و اختط مدينة رومة و قال هروشيوش : و لعهده ملك على الروم اللطينينين بأرض أنطاكية روملس ثم مركة و بنى مدينة رومة
ثم هلك أحاز لست عشرة من ملكه و ولى ابنه حزقيا هو بحاء مهملة مكسورة و زاي معجمة ساكنة و قاف مكسورة و ياء مثناة تحتانية مشددة تحلب ألفا و هاء مضمومة تجلب واوا فقطع عبادة الأوثان و سار سيرة جده داود و لم يكن في ملوك بني يهوذا مثله و عصى على ملك الموصل و بابل و كوريش و هزم فلسطين و خرب قراهم و في أيامه و أيام أبيه سار شليشار ملك الجزيرة و الموصل إلى الأسباط بالسامرة فضرب عليهم الجزية ثم سار في أيامه فأزال ملكهم و لأربع من ملكه زحف إليه رضين ملك دمشق و رجع عنه من غير قتال و لأربع عشرة من ملكه زحف إليه سنجاريف ملك الموصل بعد فتح السامرة فافتتح أكثر مدائن يهوذا و حاصرهم ببيت المقدس و صانعه حزقيا هو بثلثمائة قنطار من الفضة و ثلاثين من الذهب أخرج فيها ما كان في الهيكل و بيت الملك من المال و نثر الذهب من أبواب المسجد دفع ذلك له و رجع عنه ثم فسد ما بينهما و زحف إليه سنجاريف ثانيا و حاصره و امتنع من قبول مصانعته و قال : من ذا الذي خلصه إلهه من يدي حتى يخلصكم أنتم إلهكم فخافوا منه و فزعوا إلى النبي شعياء في الدعاء فأمنهم منه و دعا عليه فوقع الطاعون في عسكره ثم تواقعوا في بعض الليالي فبلغ قتلاهم مائة و عشرين ألفا و رجع سنجاريف إلى نينوى و الموصل فقتله أبناؤه و هربوا إلى بيت المقدس و ملك ابنه السرمعون
و قال الطبري إن ملك بني إسرائيل أسر سنجاريف و أوحى الله إلى شعياء أن يطلقه فأطلقه قال : وقيل إن الذي سار إليه سنجاريف من ملوك بني إسرائيل كان أعرج و أن سنجاريف لعهد ملك أذربيجان و كان يدعى سليمان الأعسر فلما نزل بيت المقدس صار بينهما أحقاد كامنة فتواقعوا و هلك عامة عسكرهما و صار ما معهما غنيمة لبني إسرائيل و بعث ملك بابل إلى حزقيا ملك الفرس بالهدايا و التحف فأعظم موصلها و بالغ في كرامة الوفد و فخر عليهم بخزانته و طوفهم عليها فنكر ذلك عليه شعياء النبي و أنذره بأن ملوك بابل يغنمون جميع هذه الخزائن و يكون من أبنائك خصيان في قصرهم
ثم هلك حزقيا هو لتسع و عشرين سنة من ملكه و ولي ابنه منشا بميم مكسورة و نون مفتوحة و شين معجمة مشددة و ألف و كان عاصيا قبيح السيرة و كانت آثاره في الدين شنيعة و أنكر عليه شعيا النبي أفعاله فقتله نشرا بالمناشير من رأسه إلى مغرق ساقيه و قتل جماعة من الصالحين معه و في التاسعة و الثلاثين من ملكه ملك سنجاربف الصغير مملكة الموصل قاله ابن العميد و في الثانية و الخمسين بنيت بوزنطية بناها بورس الملك و هي التي جددها قسطنطين و سماها باسمه و في أيامه ملك برومة
قنوقرسوس الملك وفي الحادية و الخمسين من ملكه زحف سنجاريف ملك الموصل إلى القدس فحاصرها ثلاث سنين و افتتحها في الرابعة و الخمسين من ملكه و ولي بعده ابنه أمون بهمزة قريبة من العين و الميم مضمومة تجلب واوا ثم نون و كانت حاله مثل حال أبيه فملك سنتين و قيل اثنتي عشرة ثم اغتاله عبيده فقتلوه و اجتمع بنو يهوذا فقتلوا أولئك العبيد و أقاموا ابنه يوشيا مكانه و ضبطه بياء مثناة تحتية مضمومة تجلب واوا بعدها شين معجمة مكسورة ثم ياء مثناة تحتية بفتحة تجلب ألفا فلما ملك أحسن السيرة و هدم الأوثان و كان صالح الطريقة مستقيم الدين و قتل كهنة الأصنام و هدم البيوت و المذابح التي بناها يربعام بن نباط بالبرابرة و كان في أيامه من الأنبياء صفونا و كلدي امرأة شالوم و ناحوم و تنبأ لعهده أرمياء بن ألحيا من نسل هارون و أخبرهم بالجلاء إلى بابل سبعين سنة فأخذ يوشيا قبة القربان و تابوت العهد و أطبق عليهما في مغارة فلم يعرف مكانهما من بعد ذلك و في أيامه ملك المجوس بابل و لإحدى و ثلاثين من دولته ملك فرعون الأعرج مصر و زحف لقتال مسيح بالفرات فخرج يوشيا لحربه و انهزم يوشيا فهلك بسهم أصابه لاثنتين و ثلاثين من دولته
و ولى بعده ابنه يوآش و يقال اسمه يهوياحاز فعطل أحكام التوراة و أساء السيرة فزحف إليه فرعون الأعرج و أخذه و رجع به إلى مصر فمات هنالك و ضرب على أرضهم الخراج مائة قنطار فضة و عشرة ذهبا و كانت ولايته ثلاثة أشهر و ولوا مكانه أخاه ألياقيم بن يوشيا بهمزة مفتوحة و لام ساكنة و ياء مثناة تحتانية يجلب فتحها ألفا و قاف مكسورة تجلب ياء ثم ميم و كان عاصيا كافرا و كان يأخذ الخراج لفرعون من بني يهوذا على قدر أحوالهم ثم زحف إليه بختنصر ملك بابل لسبع من ولاية ألياقيم فملك الجزيرة و سار إلى بيت المقدس فضرب عليهم الجزية أولا و دخل ألياقيم في طاعته ثلاثة سنين و سلط الله عليه أروم و عمون و مؤاب و الكلدانييين ثم انتقض عليه فسرح الجيوش فقبضوا عليه و احتملوه إلى بابل فهلك في طريقه لإحدى عشرة سنة من ملكه و ولى بختنصر مكانه ابنه يخنيو بفتح الياء المثناة التحتانية بعدها خاء معجمة مضمومة ثم نون ساكنة و بعدها ياء تحتانية تجلب ضمتها واوا فأقام ثلاثة أشهر ثم زحف إليه و حاصره و أخرج إليه أمه و أشراف مملكته فأشخصهم إلى بلده و جمع أهله و رجال دولته و سائر بني إسرائيل نحوا من عشرة آلاف و احتملهم أسارى إلى بابل و غنم جميع ما كان في الهيكل و الخزائن من الأموال و جميع الأواني التي صنعها سليمان للمسجد و لم يترك بمدينة القدس إلا الفقراء و الضعفاء و بقي يخنيو ملك بني إسرائيل محبوسا سبعا و ثلاثين سنة
و قال ابن العميد : إن بختنصر سار إلى القدس في الثالثة من مملكة ألياقيم وسبى طائفة منها و انتهب جميع ما في بيت الهيكل و كان في سنة دانيال و خانيا و عزاريا و ميصائل و إن في السنة الخامسة من ملكه قاتل بختنصر فرعون الأعرج ملك مصر و في الثانية من ملك الياقيم غزا بختنصر القدس و وضع عليهم الخراج و أبقى الياقيم في ملكه و هلك لثلاث سنين بعد ذلك و ملك ابنه يخينو و كان لعهده من الأنبياء أرميا و أوربا بن شعيا و موري والد حزقيا و في أيامه تنبأ دانيال ثم سار بختنصر ليخنيو فأشخصه إلى بابل كما مر
و قال الطبري و وافقه نقل هروشيوش : إن بختنصر ولى مكان يخينو بن الياقيم عمه متنيا بميم مفتوحة و تاء مثناة فوقانية مشددة و نون ساكنة و ياء مثناة تحتانية بفتحة تجلب ألفا و يسمى صدقياهو و كان عاصيا قبيح السيرة و لتسع سنين من ولايته انتقض على بختنصر فزحف إليه في العساكر و حاصر بيت المقدس و بنى عليها المدار للحصار و أقام ثلاث سنين و اشتد الحصار بهم فخرجوا هاربين منها إلى الصحراء و اتبعهم العساكر من الكلدانيين و أدركوهم في أريحا فقبض على ملكهم صدقيا هو و أتى به أسيرا فسمل عينيه و قال الطبري : و ذبح ولده بمرأى منه ثم اعتقله ببابل إلى أن مات و لحق بعض من بني إسرائيل بالحجاز فأقاموا مع العرب و كان لعهده من الأنبياء أرميا و حبقون و باروح و بعث بختنصر قائده نبو زراذون بنون مفتوحة و باء موحدة مضمومة تجلب واوا بعدها زاي وراء مفتوحة تجلب ألفا و ذال مضمومة تجلب واوا بعدها نون بعثه إلى مدينة القدس و كانوا يدعونها مدينة بروشالم فخربها و خرب الهيكل و كسر عمد الصفر التي نصبها سليمان في المسجد طول كل عمود منها ثمانية عشر ذراعا و طول رؤوسها ثلاثة أذرع و كسر صرح الزجاج و سائر ما كان بها من آثار الدين و الملك و احتمل بقية الأواني و ما كان وجده من المتاع و سبى الكوهن سارية و الحبر منشا و خدمة الهيكل إلى بابل قال هروشيوش : و أبقى صدقيا هو محبوسا ببابل إلى أن أطلقه بزداق قائد بهمن ملك الفرس حين غلبوا على بابل فأطلقه و وصله و أقطعه
و قال مؤرخ حماة و وافقه المسعودي : إن بختنصر بعد تخريب القدس هرب منه بعض ملوك بني اسرائيل إلى مصر و بها فرعون الأعرج و طلبه بختنصر فأجاره فرعون و سار إليه بختنصر فقتله و ملك مصر و افتتح من المغرب مدائن و بث فيها دعاته و كان إرمياء نبي بني اسرائيل من سبط لاوى و يقال اسمه إرمياء بن خلقيا و كان على عهده صدقيا هو و وجده بختنصر في محبسهم فأطلقه و احتمله معه في السبي إلى بابل و قيل إنه مات في محبسه و لم يدركه بختنصر و كذلك احتمل معهم دانيال بن حزقيل من أنبيائهم
و قال ابن العميد : و ولي جدليا بن أحان علي من بقي من ضعفاء اليهود بالقدس و لسبعة أشهر من ولايته قال إسمعيل من بيت الملك فقتل جدليا و اليهود و الكلدانيين الذي معهم ثم هرب إلى مصر و هرب معه إرميا و هرب حبقون إلى الحجاز فمات و كان قيما و لحقهم بمصر و تنبأ إرمياء في مصر و بابل و أورشليم و صور و صيدا و عمون ثمانية و ثلاثين سنة و رجمه أهل الحجاز فمات و كان فيما أخبرهم به مسير بختنصر إلى مصر و تخريبه هياكلها و قتله أهلها و لما دخل بختنصر مصر نقل جسده إلى الإسكندرية و دفنه بها و قيل دفن بالقدس لوصيته و أما
حزقيا هو فقتله اليهود في السبي
قال الطبري : و افترقت جالية بني إسرائيل في نواحي العراق إلى أن ردهم ملوك الفرس إلى القدس فعمروه و بنوا مسجده و كان لهم فيه ملك في دولتين متصلتين إلى أن وقع بهم الخراب الثاني و الجلوة الكبرى على يد طيطش من ملوك القياصرة كما نذكر بعد
و لنذكر هنا ما وقع من الخلاف في نسب بختنصر هذا و إلى من يرجع من الأمم : فقد ذهب قوم إلى أنه من عقب سنجاريف ملك الموصل الذي كان يقاتل بني إسرائيل و السامرة بالقدس قال هشام بن محمد الكلبي فيما نقل الطبري : هو بختنصر بن نبوزراذون بن سنجاريف ثم نسب سنجاريف إلى نمروذ بن كوش بن حام الذي وقع ذكره في التوراة في ولد كوش وعد بين سنجاريف و النمروذ ستة عشر أبا أو نحوها أولهم داريوش بن فالغ و عصا بن نمروذ أسماء غير مضبوطة يغلب على الظن تصحيفها لعدم دارية الأصول و قلة الوثوق بضبطها و قيل إن بختنصر من نسل أشوذ بن سام و لم يقع إلينا رفع هذا النسب و لعله أصح من الأول لأنه قد تقدم نسب سنجاريف في الجرامقة ثم في الموصل منهم و هم من ولد أشوذ باتفاق من أهل فارس نقله أيضا الطبري عن ابن الكلبي و إن اسمه بختمرسه فسمي بختنصر و كان يملك ما بيم الأهواز و الروم من غربي دجلة أيام هراسب و يستاسب و بهمن من ملوك الفرس و إنه افتتح ما يليه من بلاد بابل و الشام ثم سار إلى القدس فافتتحها كما تقدم و قيل إن بهمن بعث رسله إلى القدس في طلب الطاعة منهم فقتلوه فبعث بهمن أصبهبذا للناحية القربية من مملكته و بعث معه داريوش من ملوك مارى بن نابت و كيرش بن كيكوس من ملوك بني غليم بن سام و أحشوارش بن كيرش بن جاماهن من قرابته و سار معهم بختنصر بن نبوزراذون بن سنجاريف صاحب الموصل الذي لقومه البرآت في أهل المقدس فكان ما وقع من الفتح و قيل كان بختنصر صاحب الموصل في مقدمتهم و كان الفتح على يده
و أما بنو إسرائيل فيزعمون أن بختنصر من الكلدانيين و هم ولد ناحور بن آزر أبي إبراهيم عليه السلام و كان لهم الملك ببابل و كان بختنصر هذا من أعقابهم و كان مدة دولته خمسا و أربعين سنة و كان فتحة المقدس لثمانية عشر من دولته و مللك بعده أويل مر وماخ ثلاثا و عشرين سنة ثم بعده ابنه فيلسنصر بن أويل ثلاث سنين ثم غلب عليهم كوروش و أزال ملكهم و هو الذي رد بني اسرائيل إلى بيت المقدس فعمروه و جددوا به ملكا كما نذكره
و قد اختلف في كيرش الذي رد بني إسرائيل إلى القدس من هو بعد اتفاقهم على أنه من الفرس فقيل هو يستاسب و لم يكن ملكها و إنما كان مملكا على حوزستان و أعمالها من قبل كيقوس و بنجسون بن سياوش و لهراسب من بعدهما و كان عظيم الشأن و لم يكن ملكا و قيل إن كيرش هو ابن احشوارش بن جاماسب بن لهراسب و أبوه أحشروارش هذا الذي بعثه بهمن و لما رجع من ذلك الفتح بعثه إلى ناحية الهند و السند و انصرف إلى حصن الأبر فولاه بابل و تزوج من سبي بني إسرائيل ابنة أبي حاويل الرحا و أخت مردخاي من الرضاع و هو من أنبياء بني إسرائيل فتزعم النصارى إنها ولدت عند حيرا حوارس إلى بابل ابنه كيرش هذا فحضنه مردخاي و لقنه دين اليهودية و لزم سائر أنبيائهم مثل متنيا و عازريا و ميثائل و عزيز و ولي دانيال أحكام دولته و جعل إليه أمره و أذن له أن يخرج ما في الخزائن من السبي و الذخائر و الآنية و يرده إلى مكانه و يقوم في بناء القدس فعمره و راجعه بنو إسرائيل و سأله هؤلاء الأنبياء أن يرجعوا إلى بيت المقدس فمنعهم اغتباطا بمكانهم
و قيل إن كيرش هو كيرش بن كيكو بن غليم بن سام و هو الذي كنا قدمنا أن بهمن بعثه مع قائده بختنصر إلى فتح بيت المقدس و أن بختمرس ملكه بهمن على بابل و كان يسمى بختمرسي كما ذكرنا فملكها و ملك ابنه من بعده ثلاثا و عشرين سنة ثم ابنه بلتنصر سنة واحدة ثم بلغ بهمن سوء سيرته فعزله و ولى على بابل داريوش ألماذة بن ماداي ثم عزله و ولى كيرش بن كيكو و كتب إليه بهمن بأن يرفق بيني إسرائيل و يحسن ملكتهم و أن يردهم إلى أرضهم و يولي عليهم من يختارونه ففعل فاختاروا دانيال من أنبيائهم فولاه و قيل و هو لعلماء بني إسرائيل أن بلتنصر حافد بختنصر و هو ملك بابل و الكلدانيين و أن دارا و يسمى داريوش ملك ماري و كورش و هو كيرش ملك فارس كان في طاعته فانتقضا عليه و خرج إليهم في العساكر فانهزم أولا ثم بعث عساكره و قواده إليهم فهزمهم ثم قتله خادمه على فراشه و لحق بداريوش و كورش و زحفا إلى بابل فغلبا الكلدانيين عليها و اختص دارا و قومه مادي و أظنهم الديلم ببابل و نواحيها و اختص كورش و قومه فارس بسائر الأعمال و الكور و كان كورش نذر ببناء بيت المقدس و إطلاق الجالية و رد الآنية ثم هلك دارا و انفرد كورش بالملك على فارس و مادي ووفى بنذره هذا محصل الخلاف في بختنصر و كيرش و الله أعلم (2/116)
الخبر عن دولة الأسباط العشرة و ملوكهم إلى حين انقراض أمرهم
قد تقدم لنا في دولة سليمان عليه السلام أن يربعام بن نباط من سبط افرائيم كان واليا لسليمان على جميع نواحي يورشيلم و هي بيت المقدس و قيل إنما كان واليا على عمل بني يوسف بنابلس و ما إليها و كان جبارا و إن سليمان عوتب على ولايته من الله و انتقض و لحق بمصر فلما قبض سليمان و ولي ابنه رحبعم و اختلف عليه بنو إسرائيل بما بلوا من سوء ملكته و الزيادة في الضرائب عليهم و اجتمع الأسباط العشرة ما عدا يهوذا و بنيامين فاستقدموا يربعام بن نباط من مصر فبايعوا له و ولوه الملك عليهم و حارباو رحبعم و من في طاعته و هم سبط يهوذا و بنيامين فامتنعوا عليهم بمدينة يروشليم ثم انحازوا إلى جهة فلسطين في عمل بني يوسف و نزل يربعم مدينة نابلس بملك الأسباط العشرة و منعهم من الدخول إلى بيت المقدس و القربان فيه و كان عاصيا مسخوط السيرة
و لم يزل الحرب بينه و بين رحبعم بن سليمان و ابنه أبيا من بعده و اثنين من ملك أسا بن أبيا و كان أبيا ظاهرا عليه في حروبه ثم هلك يربعام بن نباط لسنتين من ملك أبيا و لثلاث و عشرين من ملكه فولي مكانه على الأسباط يوناذاب و كان على مثل سيرة أبيه من الجور و عبادة الأصنام فسلط الله عليه بعشا بن أحيا فقتله و جميع أهل بيته لسنتين من ملكه و قام بملك الأسباط فلم يزل يحارب أسا بن أبيا و أهل القدس سائر أيامه و كان أسا يستمد عليه بملك دمشق من الأرمن و سار معه إليه مرة و كان أعشا بن أحيا نبي يثرب فأجفل أمامهم و ترك الآلات فأخذها أسا و بنى بها الحصون و هلك أعشا بن أحيا لأربع و عشرين سنة من ملكه و دفن في برصا مدينة ملكهم بعد أن أنذره بالهلاك نبيهم فاهو و لما هلك ولي بعده ابنه إيليا و يقال إيلهوا في السادسة و العشرين من ملك أسا فأقام سنين ثم بعث عساكر بني إسرائيل إلى محاصرة بعض المدن بفلسطين فوثب عليه سبط من الأسباط من عقب كان يعرف زمري صاجب المراكب و يقال ابن اليافا فقتله و جميع أهل بيته و قام بالملك و مكث أياما يسيرة خلال ما بلغ الخبر لبني اسرائيل بمكانهم من حصار فلسطين فلم يرضوه و ملكوا عليهم صي بن كسات من سبطه و رجعوا إلى زمري المتوثب على الملك فحاصروه فلما أحيط به دخل مجلس الملك و أوقد نارا لتحرقه فاحترق فيه لسبعة أيام من فورتهم
و كان عمري بن ناداب من سبط أفراييم و يلقب صاحب الحربة يرادف صي في الملك فقتله و استبد و ذلك في الحادية و الثلاثين من ملك أسا ثم اختلف عليه بنو إسرائيل و نصب بعضهم بنيامين فنال من سبك يساخر و حاربهم عمري فغلبهم و كان ينزل مدينة برصا و لست سنين من ملكه اختط مدينة السامرية ابتاع لها جبل شمران من رجل اسمه سامر بقنطار فضة و بنى فيه قصوره و سميت سبسطية ثم غلبت عليها النسبة إلى البائع و يقال إن الاسم كان شومرون فعرب سامرة و أهملت شينها المثلثة و كانت هذه المدينة مدينة ملكهم إلى انقراض أمرهم
ثم هلك عمري لاثنتي عشرة سنة من ولايته و دفن في نابلس و قام بملك الأسباط من بعده ابنه أحاب و كان على مذهبه و مذهب سلفه منهم من الكفر و العصيان و تزوج بنت ملك صيدا و بني هيكلا بسامرة و جعل فيه صنما يسجد له و أفحش في قتل الأنبياء و بنى قرية أريحاء و دعا عليه إيليا النبي فقحطوا ثلاث سنين خرج فيها إيليا إلى البرية فسكنها ثم رجع فدعا و أنزل الله المطر و ذبح الذين حملوا أحاب على عبادة الأصنام هكذا قال ابن العميد و الذي قاله الطبري إن هذا النبي الذي دعا عليهم هو الياس بن سين و قيل ابن ياسين من نسل فنحاص بن العازار و كان بعث إلى أهل بلعلبك و إلى أحاب و قومه
و قال الطبري : فكذبوه فأصابهم القحط ثلاثا ففزعوا إليه في الدعاء و بأهلهم في أصنامهم فلم تغن شيئا فدعا لهم فمطروا ثم إنهم أقاموا على ما كانوا عليه من الكفر و العصيان و كان أحاب شديدا و دعا عليه الياس ثم طلب من الله أن يتوفاه بعد أن أنذر الناس بهلاكه و هلاك قومه بل عقبه و تنبأ بعده إليسع بن أخطوب من سبط أفرأيتم و قيل ابن عم الياس و قال ابن عساكر : اسمه أسباط بن عدي بن شوليم بن أفرائيم قال الطبري : كان مستخفيا مع الياس بجبل قاسيون من ملك بعلبك ثم خلفه في قريته انتهى كلام الطبري
و قال ابن العميد : في أيام أحاب أوحى الله إلى إيليا أن يبارك على الياس بن بغسا ففعل ذلك و أن يبارك على أدوم بدمشق و على ياهو ملكا على بني اسرائيل ففعل ذلك و هو أيضا على عهد أحاب فجاء سنداب ملك سورية فحاصر أحاب بن عمري و الأسباط العشرة في السامرة و خرجوا إليه فهزموه و استلحموا عامة عسكره ثم رجع إليهم من العام القابل فخرجوا إليه و هزموه ثانيا و قتلوا من عسكره نحوا من مائة ألف و مروا في أتباعهم و امتنع سنذاب في بعض حصونه و أحاطوا به فخرج إليهم ملقيا بنفسه على ملكهم أحاب فعفا عنه و رده إلى ملكه و سخط ذلك النبي من فعله و أنذره بعذاب يصيب ولده عقوبة من الله تعالى على إبقائه عليهم ثم خرج أحاب من ملك الأسباط مع
يهوشافاظ ملك يهوذا المقدس لمحاربة ملك سورية فأصابه سهم هلك فيه و دفن بسامرة لاثنتين و عشرين سنة من ملكه قال ابن العميد : و قيل لثمان عشرة و قال إنما خرج لحرب كلعاد ملك أدوم فانهزم و قتل
و لما ملك من بعده ابنه أحزيا و يقال أمشيا و كان عاصيا سيئ السيرة قتل عاموص النبي و عبد بعلا الصنم و هلك لسنتين فملك أخوه يوآم و قيل إنه لتسع عشرة من ملك يهوشافاظ ملك الفرس فملك يوآم على الأسباط اثنتي عشرة سنة زحف فيها أولا إلى مؤاب لما منعوه الجزية التي كانت عليهم للأسباط مائتين من الغنم في كل سنة و استنجد ملك يهوذا لحربهم فحاصرهم سبعة أيام و فقدوا الماء فاستسقى لهم اليسع و جرى الوادي و خرج أهل مؤاب يظنونه دما فقتلهم بنو إسرائيل و جمع هداد أدوم لحصار سامرة و نازلها ثلاث سنين ثم دعا عليهم إليسع فأجفلوا و رجعوا إلى بلادهم و في الثانية عشر من ملك يؤام ملك الأسباط ثار عليه يهوشافاظ بن يشا من سبط منشا بن يوسف و ذلك عند منصرفه من محاربة ملوك الجزيرة و أروم مع أحزيا بن يهورام ملك القدس و كان جريحا فعاده أحزيا و كان هذا الفتى ياهو يترصد قتل يؤام فأمكنته الفرصة فيه تلك الساعة فقتله و قتل معه أحزيا ملك القدس و بني يهوذا و ملك على الأسباط
و قال ابن العميد : خرج يؤام بن أحاب ملك الأسباط لحرب أدوم و معه أحزيا ملك القدس فقتلا جميعا في تلك الحرب و قيل إن ياهو بن منشا رمى بسهم فأصاب يؤام بن أحاب فمات
و لما ملك ياهو على الأسباط قتل بني أحآب كلهم كما أمره إليسع و هلك لخمس و ثلاثين من ملكه و ولي ابنه يوآص و قيل يهوذا و لثمان و عشرين من دولة يوآص بن أحزيا ملك يهوذا القدس و كان قبيح السيرة عبادا للأصنام و عمل مذبحا بسامرة و هلك لسبع عشرة من ملكه و ولي بعده ابنه يوآش لسبع و ثلاثين من دولة يوآص بالقدس و زحف إلى القدس فملكها من يد أمصيا ملك يهوذا و هدم من سورها أربعمائة ذراع و سبى أهل المقدس و سبى بني عزريا الكوهن و أخذ جميع ما في المسجد و رجع إلى سامرة و مرض إليسع فعاده يوآش فوعده بأنه يهلك أدوم و يظفر بهم ثلاث مرات فكان كذلك و هلك لثلاث عشرة سنة من ملكه و ولي من بعده ابنه يربعام و كان سيء السيرة و زحف إلى أمصيا ملك يهوذا و قيل إن الذي زحف إلى أمصيا إنما هو يؤاش أبوه فهزمه و أخذه أسيرا و سار به إلى القدس فاقتحمها عنوة و غنم جميع ما في خزانتها و سبى بني عزريا الكوهن و رحع إلى السامرة فأطلق أمصيا ثم لإحدى و أربعين سنة من ملكه و لسبع و عشرين من ملك عزيا هو بن أمصيا ملك القدس
قال ابن العميد : و بقي بنو اسرائيل بالسامرة فوضى أحدى عشرة سنة ثم ملكوا ابنه زكريا في الثامنة و الثلاثين من ملك عزيا هو فملك ستة أشهر و قال ابن العميد شهرا ثم وثب به مناخيم بن كاد من سبط زبلون من أهل برصا فقتله و ملك مكانه اثنتي عشرة سنة و قال ابن العميد عشر سنين قال و في التاسعة و الثلاثين من ملك عزيا هو خرج إلى مدينة برصا ففتحها عنوة و استباحها و زحف إليه فول ملك الموصل فصانعه بألف قنطار من الفضة و رجع عنه و كانت سيرته رديئة و لما هلك مناخيم ملك ابنه بقحيا لأربعين من دولة عزيا ملك القدس فأقام فيهم اثنتي عشرة سنة و قال ابن العميد سنتين ثم ثار عليه من عماله باقح بن رصليا و كان على طريقة من تقدمه في الضلال فأقام ملكا على الأسباط بالسامرة عشر سنين و هلك لدولته عزيا بن أمصيا ملك يهوذا بالقدس و أقام باقح بن رصليا على سوء السيرة و عبادة الأصنام إلى أن قتله هويشيع الله إيليا من سبط كاد في الثالثة من ملك يؤاب ملك القدس و بقي الأسباط بعده فوضى عشر سنين ثم ملكوا قاتله هويشيع بن إيليا المذكور فأقام مملكا عليهم سبع سنين و في أيامه زحف إليه ملك أثور و الموصل فصير الأسباط في دولته و أدوا إليه الخراج ثم إن هويشيع راسل ملك مصر في الاستعانة به و الرجوع إلى طاعته فلما بلغ ذلك إلى ملك الموصل زحف إليه و حاصره في مدينة السامرة ثلاث سنين و اقتحمها في الرابعة و تقبض على هويشيع لتسع سنين من ملكه و نقله مع الأسباط كلهم إلى الموصل ثم بعثهم إلى قرى أصبهان و أنزلهم بها و قطع ملك بني إسرائيل من السامرة و بقي ملك يهوذا و بنيامين بالقدس و كان ذلك لعهد احزيا بن أخآز من ملوكهم لسنة من دولته
و تعاقبت ملوكهم بعد ذلك بالقدس إلى أن انقرضوا و جمع ملك الموصل من كوره غارا و حماة و صفرارام و يقال و مركتا و أسكنهم بالسامرة قال ابن العميد و تفسيرها حفيظة و يوآطر قالوا و سلط الله عليهم السباع يفترسونهم فبعثوا إلى ملك الموصل أن يعرفهم بصاحب قسمة السامرية من الكواكب ليتوجهوا إليه بما يناسبه على طريقة الصابئة فقيل إن العشرية التي رسخت فيها و هي دين اليهودية تمنع من ذلك و من ظهور أثره فبعث إليهم كوهنين من عامة اليهود يلعمانهم اليهودية فتلقوها عنهما فهذا أصل السامرة في فرق اليهود و ليسوا منهم عند أهل ملتهم لا في نسبهم و لا في دينهم و الله مالك الأمور لا رب غيره و لا معبود سواه سبحانه و تعالى (2/128)
الخبر عن عمارة بيت المقدس بعد الخراب الأول و ما كان لبني اسرائيل فيها من الملك في الدولتين لبني حشمناي و بني هيردوس إلى حين الخراب الثاني و الجلوة الكبرى
هذه الأخبار التي كانت لليهود ببيت المقدس و الملك الذي كان لهم في العمارة بعد جلاء بختنصر و أمر الدولتين اللتين كانتا لهم في تلك المدة لم يكتب فيها أحد من الأئمة و لا وقفت في كتب التواريخ مع كثرتها و اتساعها على ما يلم بشيء من ذلك و وقع بيدي و أنا بمصر تأليف لبعض علماء بني إسرائيل من أهل ذلك العصر في أخبار البيت و الدولتين اللتين كانتا بها ما بين خراب بختنصر الأول و خراب طيطش الثاني الذي كانت عنده الجلوة الكبرى استوفى فيها أخبار تلك المدة بزعمه و مؤلف الكتاب يسمى يوسف بن كريون و زعم أنه كان من عظماء اليهود و قوادهم عند زحف الروم إليهم و أنه كان على صولة فحاصره أسيبانوس أبو طيطش و اقتحمها عليه عنوة و فر يوسف إلى بعض الشعاب و كمن فيها ثم حصل في قبضته بعد ذلك و استبقاه و من عليه و بقي في جملته و كانت له تلك وسيلة إلى ابنه طيطش عندما أجلى بني اسرائيل عن البيت فتركه بها للعبادة كما يأتي في أخباره هذا هو التعريف بالمؤلف
و أما الكتاب فاستوعب فيه أخبار البيت و اليهود بتلك المدة و أخبار الدولتين اللتين كانت بها لبني حشمناي و بني هيردوس من اليهود و ما حدث في ذلك من الأحداث فلخصتها هنا كما وجدتهما فيه لأني لم أقف على شيء فيها لسواه و القوم أعلم بأخبارهم إذا لم يعارضها ما يقدم عليها و كما قال صلى الله عليه و سلم : [ لا تصدقوا أهل الكتاب ] فقد قال [ و لا تكذبوهم ] مع أن ذلك إنما هو راجع إلى أخبار اليهود و قصص الأنبياء التي كان فيها التنزيل من عند الله لقوله بعد ذلك : { و قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم } و أما الخبر عن الواقعات المستندة إلى الحس فخبر الواحد كاف فيه إذا غلب على الظن صحته فينبغي أن نلحق هذه الأخبار بما تقدم من أخبارهم لتكمل لنا أحوالهم من أول أمرهم إلى آخره و الله أعلم و لم ألتزم صدقه من كذبه و الله المستعان
قال الطبري و غيره من الأئمة : كان يرميا و يقال أرميا بن خلقيا من أنبياء بني اسرائيل و من سبط لاوى و كان لعهد صدقيا هو آخر ملوك بني يهوذا ببيت المقدس و لما توغلوا في الكفر و العصيان أنذرهم بالهلاك على يد بختنصر و سأله عنه و أطلقه و لما توغلوا في الكفر و العصيان أنذرهم بالهلاك على يد بختنصر و سأله عنه و أطلقه و احتمله معه في السبي و كان فيما يقوله أرميا إنهم يرجعون إلى ببيت المقدس بعد سبعين سنة يملك فيها بختنصر و ابنه و ابن ابنه و يهلكون و إذا فرغت مملكة الكلدانيين بعد السبعين يفتقدكم يخاطب بذلك بني إسرائيل في نص آخر له عند كمال سبعين لخراب المقدس و كان شعيا بن أمصيا من أنبيائهم أخبرهم بأنهم يرجعون إلى بيت المقدس على يد كورش من ملوك الفرس و لم يكن وجد لذلك العهد فلما استولى كورش على بابل و أزال مملكة الكلدانيين أذن لبني إسرائيل في الرجوع إلى بيت المقدس و عمارة مسجدها و نادى في الناس أن الله أوصاني أن أبني بيتا فمن كان لله و سعيه لله فليمض إلى بنائه فمضى بنو اسرائيل في اثنين و أربعين ألفا و عليهم زيريافيل بالفاء الهوائية بن شالتهيل بن يوخنيا آخر ملوكهم بالقدس الذي حبسه بختنصر و قد مر ذكره و قد مضى معهم عزير من عقب أشيوع بن فنحاص ابن العازر بن هارون و بينه و بين أشيوع ستة آباء لم أثق بنقلها لغلبة الظن بأنها مصحفة و رد عليهم كورش الأواني و كانت لا يعبر عنها من الكثرة قال ابن العميد : كانت خمسة آلاف و أبعمائة قصعة ذهبا و فضة فمضوا إلى بيت المقدس و شرعوا في العمارة و شرع كورش و سعى عليهم في إبطال ذلك بعض أعدائهم من السامرة و لم يكن أمد السبعين التي وعدهم بها انقضى لأن الخراب كان لثمان عشرة من ملك بختنصر و كانت دولته خمسة و أربعين و مدة ابنه و ابن خمس و عشرون فبقيت من السبعين ثمانية عشر التي نفذت من ملك بختنصر قبل الخراب فمنعوا من العمارة بسعاية السامرية إلى أن انقضت الثمان عشرة
و جاءت دولة دارا من ملوك الفرس فأذن لهم في العمارة و عاد السامرة لسعايتهم في إبطال ذلك عند دارا فأخبره أهل دولته أن كورش أذن لهم في ذلك فخلى سبيلهم و عمروا بيت المقدس في الثانية من ملك دارا الأول و هو أرفخشذ و الكوهن يومئذ عزير و جدد لهم التوراة بعد سنتين من رجوعهم إلى البيت ثم هلك زيريافيل و خلقه فيهم بهشمياش و قبض العزيز و خلفه شمعون الصفا من بني هرون أيضا و قال يوسف بن كريون : إن بختنصر لما رجع إلى بابل أقام ملكا سبعا و عشرين سنة و ملك بعده ابنه بلتنصر ثلاث سنين و انتقض عليه داريوش ملك ماذي و أظنهم الديلم و كيرش ملك فارس و هزمتهم عساكره كما مر فعمل في بعض أيامه صنيعا لقواده سرورا بالواقع و سقاهم في أواني بيت المقدس التي احتملها جده من الهيكل فسخط الله لذلك و رأى تلك الساعة كأن يدا خرجت من الحائط تومي بكتابة كلمات بالخط الكلداني و الكلمات عبرانية و هي أحصى وزن نفذ فارتاع لذلك هو و الحاضرون و فزع إلى دانيال النبي في تفسيرها قال وهب بن منبه و هو من أعقاب حزقيل الأصغر و كان خلفا من دانيال الأكبر فقال له دانيال : هذا الكلمات تنذر بزوال ملكك و معناها أن الله أحصى مدة ملكك و وزن أعمالك و نفذ قضاؤه بزوال ملكك عنك و عن قومك و قتل في تلك الليلة بلتنصر و كان ما قدمناه من استقلال كورش و قومه فارس بالملك و رد الجالية إلى بيت المقدس و أطلق لهم المال لعمارتها شكرا على الظفر بالكلدانيين و مضى بنو اسرائيل و معهم عزوا الكاهن و نجميا و مردخاي و جميع رؤساء الجالية يبنون البيت و المذبح على حدودها و قربوا القرابين و كان كورش بعد ذلك يطلق لهم في كل سنة من الحنطة و الزيت و البقر و الغنم و الخمر ما يحتاجون إليه في خدمة البيت و يطلق لهم جراية واسعة و جرى ملوك الفرس بعده على سنته في ذلك إلا قليلا في أيام أخشويروش منهم كان وزيره هامان و كان من العمالقة و كان طالوت قد استخلفهم بأمر الله فكان هامان يعاديهم لذلك و عظمت سعايته فيهم و حمله على قتلهم و كان مردخاي من رؤسائهم قد زوج أخته من الرضاع لأخشويروش فدس إليها مردخاي أن تشفع إلى الملك في قومها فقبلها و عطف عليهم و أعادهم إلى أن انقرضت دولة الفرس بمهلك دارا و استولى بنو يونان بمهلك دارا على ملك فارس
و ملك الاسكندر بن فليفوس و دوخ الأرض و فتح سواحل الشام و سار إلى بيت المقدس لأنها من طاعة دارا و خاف الكهنة من وصوله إليهم و رأى في بعض تمثال رجلا فقال : أنا رجل أرسلت لمعونتك و نهاه عن أذية المقدس و أوصاه بامتثال إشارتهم فلما وصل إلى البيت لقيه الكوهن فبالغ في تعظيمه و دخل معه إلى الهيكل و بارك عليه و رغب إليه الاسكندر أن يضع هنالك تمثاله من الذهب ليذكر به فقال : هذا حرام لكن تصرف همتك في مصالح الكهنة و المصلين و يجعل لك من الذكر دعاؤهم لك و أن يسمى كل مولود لبني اسرائيل في هذه السنة بالاسكندر فرضي الاسكندر و حمل لهم المال و أجزل عطية الكوهن و سأله أن يستخير الله في حرب دارا فقال له : امض و الله مظفرك و حض دانيال و قص عليه الاسكندر رؤيا رآها له بأنه يظفر بدارا
ثم انصرف الاسكندر و سار في نواحي بيت المقدس و مر بنابلس و لقيه سنبلاط السامري و كان أهل المقدس أخرجوه عنهم فأضافه و أهدى له أموالا و أمتعة و استأذنه في بناء هيكل في طول بريد فأذن له فبناه و أقام صهره منشاكوهنا فيه و زعم أن المراد بقوله في التوراة اجعل البركة على جيل كريدم فقصده اليهود في الأعياد و حملوا إليه القرابين و عظم أمره و غص بشأنه أهل بيت المقدس إلى أن خربه هرمايوس بن شمعون أول ملوك بني حشمناي كما يأتي ذكره
ثم هلك الاسكندر ببابل بعد استيفاء مدته لاثنتين و ثلاثين من ملكه و قد كان قسم ملكه بين عظماء دولته فكان سلياقوس بعد الاسكندر و كان عظيم أصحابه فأكرم اليهود و حمل المال إلى فقراء البيت ثم سعى عنده بأن في الهيكل أموالا و ذخائر نفسية و رغبوه في ذلك فبعث عظيما من قواده اسمه أردوس ليقبض ذلك المال فحضر بالبيت و أنكر الكاهن حنينان أن يكون بالبيت إلا بقية الصدقات من فارس و يونان و ما أعطاهم سلياقوس آنفا فلم يقبل و وكل بهم في الهيكل فتوجهوا بالدعاء و جاء أردوس ليقبض المال فصدع في طريقه و جاء أصحابه إلى الكوهن حنينا و جماعة الكهنة يسألون الإقالة و الدعاء لأردوس فدعوا له و عوفي و ارتحل و ازداد الملك سلياقوس إعظاما للبيت و حمل ما كان يحمل إليهم مضاعفا
قال ابن كريون : ثم ترجمت التوراة لليونانيين و كان من خبرها أن تلماي ملك مصر من اليونانيين بعد الاسكندر و كان من أهل مقدونية و كان محبا للعلوم و مشغوفا بالحكمة و الكتب الإلهية و ذكرت له كتب اليهود الأربعة و العشرون سفرا فتاقت نفسه للوقوف عليها و كتب إلى كهنون القدس في ذلك و أهدى له فاختار سبعين من أحبار اليهود و علمائهم و فيهم كوهن عظيم اسمه ألعازر و بعثهم إليه ومعهم الأسفار فتلقاهم بالكرامة و أوسع لهم النزول و رتب مع كل واحد كاتبا يملي عليه ما يترجم له حتى ترجم الأسفار من العبرانية إلى اليونانية و صححها و أجاز الأحبار و أطلق لهم من كان بمصر من سبي اليهود نحوا من مائة ألف و صنع مائدة من الذهب نقشت عليها صورة أرض مصر و النيل و رصعها بالجواهر و الفصوص و بعث بها إلى القدس فأودعت في الهيكل
ثم ملك تلماي صاحب مصر و استولى بعده أنطيخوس صاحب مقدونية على أنطاكية ثم على مصر و أطاع ملوك الطوائف بأرض العراق و استفحل ملكه و عظم طغيانه و أمر الأمم بعبادة الأصنام و عمل أصناما على صورته فامتنع اليهود من قبولها و سعى بهم عنده بعض شرارهم و كانوا أهل نجدة و شوكة فسار انطيخوس إليهم و أثخن فيهم بالقتل و السبي و فروا إلى الجبال و البراري فرجع و استخلف على بيت المقدس قائده فليقلوس و أمره أن يحملهم على السجود لأصنامه و على أكل الخنزير و ترك السبت و الختان و يقتل من يخالفه ففعل ذلك أشد ما يكون و بسط على اليهود أيدي أولئك الأشرار الساعين و قتل العازر الكوهن الذي ترجم لهم التوراة لما امتنع من السجود لصنمه و أكل قربانه وكان فيمن هرب إلى الجبال و البراري متيتيا بن يوحنا بن شمعون الكوهن الأعظم و يعرف بحشمناي بن حونيا من بني نوذاب من نسل هارون عليه السلام و كان رجلا صالحا خيرا شجاعا و أقام بالبرية و حزن لما نزل بقومه فلما أبعد أنطيخوس الرحلة عن القدس بعث متيتيا إلى اليهود يعرفهم بمكانه و ينمعض لهم و يحرضهم على الثورة على اليونانيين فأجابوه و تراسلوا في ذلك و بلغ الخبر قائد أنطيخوس فسار في عسكره إلى البرية طالبا متيتيا و أصحابه فلما وصل إليهم حاربهم فغلبوه و انهزم في عساكره
و قوي اليهود على الخلاف و هلك متيتيا خلال ذلك و قام بأمره ابنه يهوذا فهزم عساكر فليقوس ثانية و شغل أنطيخوس بحروب الفرس فزحف إليهم من مقدونية و استخلف عليهم ابنه أفظر و ضم إليه عظيما من قومه اسمه ليشاوش و أمرهم أن يبعثوا العساكر إلى اليهود فبعثوا ثلاثة من قوادهم و هم نيقانور و تلمياس و صردوس و عهد إليهم بإبادة اليهود حيث كانوا فسارت العساكر و استنفروا سائر الأرمن من نواحي دمشق و حلب و أعداء اليهود من فلسطين و غيرهم و زحف يهوذا بن متيتيا مقدم اليهود للقائهم بعد أن تضرعوا إلى الله و طافوا بالبيت و تمسحوا به و لقيهم عسكر نيقانور فهزموه و أثخنوا فيه بالقتل و غنموا ما معهم ثم لقيهم عسكر القائد ابن تلمياس و صردوس ثانيا فهزموهما كذلك و قبضوا على فليلقوس القائد الأول لأنطيخوس فأحرقوه بالنار و رجع نيقانور إلى مقدونية فدخلها و خبر ليشاوش و أفظر ابن الملك بالهزيمة فجزعوا لها ثم جاءهم الخبر بهزيمة أنطيخوس أمام الفرس ثم وصل إلى مقدونية و اشتد غيظه على اليهود و جمع لغزوهم فهلك دون ذلك بطاعون في جسده و دفن في طريقه و ملك أفظر و سموه أنطخيوس باسم أبيه
و رجع يهوذا بن متيتيا إلى القدس فهدم جميع ما بناه أنطيخوس من المذابح و أزال ما نصبه من الأصنام و طهر المسجد و بنى مذبحا جديدا للقربان فوضع فيه الحطب و دعا الله أن يريهم آية في اشتعاله من غير نار فاشتعل كذلك و لم ينطف إلى الخراب الثاني أيام الجلوة و اتخذوا ذلك اليوم عيدا سموه عيد العساكر
و نازل ليشاوش فزحف إليه يهوذا بن متيتا في عسكر اليهود و ثبت عسكر ليشاوش فانهزموا و لجأ إلى بعض الحصون و طلب النزول على الأمان على أن لا يعود إلى حربهم فأجابه يهوذا على أن يدخل أفظر معه في العقد و كان ذلك و تم الصلح و عاهد أفظر اليهود على أن لا يسير إليهم و شغل يهوذا بالنظر في مصالح قومه
قال ابن كريون : و كان لذلك العهد ابتداء أمر الكيتم و هم الروم و كان برومية و كان أمرهم شورى بين ثلثمائة و عشرين رئيسا و رئيس واحد عليهم يسمونه الشيخ يدبر أمرهم و يدفعون للحروب من يثقون بغنائه و كفايته منهم أو من سواهم هكذا كان شأنهم لذلك العهد و كانوا قد غلبوا اليونانيين و استولوا على ملكهم و أجازوا البحر إلى إفريقية فملكوها كما يأتي في أخبارهم فأجمعوا السير إلى أنطيخوس أفظر و ابن عمه ليشاوش بقية ملوك يونان بأنطاكية و كاتبوا يهوذا ملك بني إسرائيل بالقدس يستميلونهم عن طاعة أنطيخوس و اليونانيين فأجابوهم إلى ذلك و بلغ ذلك أنطيخوس فنبذ إلى اليهود عهدهم و سار إلى حربهم فهزموه و نالوا منه ثم راسلهم في الصلح و أن يقيموا من على عهدهم معه و تحمل لبيت المقدس بما كان يحمله من المال و أن يقتل من عنده من شرار اليهود الساعين عليهم فتم العهد بينهم على ذلك و قتل شملاشوش من الساعين على اليهود ثم جهز أهل رومة قائد حروبهم دمترياس بن سلياقوس إلى أنطاكية و لقيه أنطيخوس أفظر فانهزم أنطيخوس و قتل هو و ابن عمه ليشاوش و ملك الروم أنطاكية و نزلها قائدهم دمترياس و كان ألقيموس الكوهن من شرار اليهود عند أنطيخوس فلما ملك دمترياس قائد الروم فسعى عنده في اليهود و رغبه في ملك القدس و الاستيلاء على أمواله فبعث قائده نيقانور لذلك و خرج يهوذا ملك القدس لتلقيه و طاعته و قدم بين يديه الهدايا و التحف فمال نيقانور إلى مسالمة اليهود و حسن رأيه و أكد بينه و بينهم العهد و رجع و بادر ألقيموس الكوهن إلى دمترياس و أخبره بميل قائده نيقانور إلى اليهود و زاد في إغرائه فبعث إلى قائده ينكر عليه و يستحثه لإنفاذ أمره و أن يحمل يهوذا مقيدا و بلغ ذلك يهوذا فلحق بمدينة السامرة صبصطية و اتبعه نيقانور في العساكر فكر عليه يهوذا و هزمه و قتل أكثر عساكر الروم الذين معه ثم ظفر به فصلبه على الهيكل ببيت المقدس و اتخذ اليهود ذلك اليوم عيدا و هو ثالث عشر آذار
ثم بعث قائد الروم دمترياس من قابل قائده الآخر يعتروس في ثلاثين ألفا من الروم لمحاربة اليهود و خرجت عساكرهم من المقدس و فروا عن ملكهم يهوذا و افترقوا في الشعاب و أقام معهم منهم فل قليل و اتبعهم يعتروس فلقيه يهوذا و أكمن له فانهزم اليهود و خرج عليهم كمين الروم فقتل يهوذا في كثير من ولايته و دفن إلى جانب أبيه متيتيا و لحق أخوه يوناثال فيمن بقي من اليهود بنواحي الأردن و تحصنوا ببئر سبع فحاصرهم يعتروس هنالك أياما ثم بيتوه فهزموه و خرج يوناثال و اليهود في اتباعه فتقبضوا عليه ثم أطلقوه على مسالمة اليهود و أن لا يسير إلى حربهم فهلك يوناثال إثر ذلك و قام بأمر اليهود أخوهما الثالث شمعون فاجتمع إليه اليهود من كل ناحية و عظمت عساكره و غزا جميع أعدائهم و من ظاهر عليهم من سائر الأمم و زحف إليه دمترياس قائد الروم بإنطاكية فهزمه شمعون و قتل غالب عسكره
و لم تعاودهم الروم بعدها بالحرب إلى أن هلك شمعون وثب عليه صهره تلماي زوج أخته فقتله و تقبض على بنيه و امرأته و هرب ابنه الأكبر قانوس بن شمعون إلى غزة فامتنع بها و كان اسمه يوحان و كان شجاعا قتل في بعض الحروب شجاعا اسمه
هرقانوس فسماه أبوه باسمه ثم اجتمع عليه اليهود و ملكوه و سار إلى بيت المقدس وفر تلماي المتوثب على أبيه إلى حصن داخون فامتنع به و سار هرقانوس إلى محاربته و ضيق عليه و أشرف تلماي في بعض الأيام من فوق السور بأم هرقانوس و أخته يتهدده يقتلهما فكف عن الحرب و انصرف لحضور عيد المظال ببيت المقدس فقتل تلماي أخته و أمه وفر من الحصن
قال ابن كريون : ثم زحف دمترياس بن سلياقوس قائد الروم إلى القدس و حاصر اليهود فامتنعوا و ثلم السور و راسلوه في تأخير الحرب إلى انقضاء عيدهم ففعل على أن يكون له نصب في القربان و وقعت في نفسه صاغية إليهم و أهدى تماثيل للبيت فحسن موقعها عندهم و راسلوه في الصلح على المسالمة و المظاهرة لبعض فأجاب و خرج إليه هرقانوس ملك اليهود و أعطاه ثلثمائة بدرة من الذهب استخرجها من بعض قبور بني داود و رحل عنهم الروم و شغل هرقانوس في رم ما ثلم من السور و حدثت خلال ذلك فتنة بين الفرس و الروم فسار إليهم دمترياس في جموع الروم و بينما و أبطأ هرقانوس ملك اليهود لحضور عيدهم إذ جاءه الخبر بأن الفرس هزموا دمترياس فنهز الفرصة و زحف إلى أعدائه من أهل الشام و فتح نابلس و حصون أروم التي بجبل الشراة و قتل منهم خلقا و وضع عليهم الجزية و أخذهم بالختان و التزام أحكام التوراة و خرب الهيكل الذي بناه سنبلاط السامري في طول بريد بإذن الإسكندر و قهر جميع الأمم المجاورين لهم ثم بعث وجوه اليهود و أعيانهم إلى الأشياخ و المدبرين برومة يسأل تجديد العهد و أن يردوا على اليهود ما أخذ أنطيخوس و يونان من بلادهم التي صارت في مملكة الروم فأجابوا و كتبوا له العهد بذلك و خاطبوه بملك اليهود و إنما كان يسمى من سلف قبله من آبائه بالكوهن فسمى نفسه من يومئذ بالملك و جمع بين منزلة الكهنونة و منزلة الملك و كان أول ملوك بني حشمناي ثم سار إلى مدينة السامرة صبصطية ففتحها و خربها و قتل أهلها
قال ابن كريون : و كان اليهود في دينهم يومئذ ثلاث فرق فرقة الفقهاء و أهل القياس و يسمونهم الفروشيم و هم الربانيون و فرقة الظاهرية المتعلقين بظواهر الألفاظ من كتابهم و يسمونهم الصدوقية و هم القراؤن و فرقة العباد المنقطعين إلى العبادة و التسبيح و الزهاد فيما سوى ذلك و يسمونهم الحيسيد و كان هرقانوس و آباؤه من الربانيين ففارق مذهبهم إلى القرائين لأنه جمع اليهود يوما عندما تمهد أمره و أخذ بمذاهب الملك و ألقى به في صنيع احتفل فيه و ألان لهم جانبه و خضع في قوله و قال : أريد منكم النصيحة فطمع بعض الربانيين فيه و قال : إن النصيحة أن تنزل عن الكهنونة و تقتصر على الملك و قد فاتك شرطها لأن أمك كانت سبية من أيام أنطيخوس فغضب لذلك و قال للربانيين : قد حكمتكم في صاحبكم فأخذوا في تأديبه بالضرب فتنكر لهم من أجل ذلك و فارق مذهبهم إلى مذهب القرائين و قتل من الربانيين خلقا كثيرا و نشأت الفتنة بين هاتين الطائفتين من اليهود و اتصلت بينهم الحرب إلى هذا العهد
و هلك هرقانوس لإحدى و ثلاثين سنة من دولته و ملك بعده ابنه أرستبلوس و كان كبيرهم و كان له ولدان آخران و هم أنطقنوس و يحب الملك له و يبغض الإسكندر فأبعده إلى جبل الخليل فلما ملك أرستبلوس أخذ من إخوته بمذهب أبيهم و قبض على الاسكندر و أمه و استخلص أنطقنوس و قدمه على العساكر و اكتفى به في الحروب و ترفع عن تاج الكهنونة و لبس تاج الملك و خرج أنطقنوس إلى الأمم المجاورين الخارجين عن طاعتهم فردهم إلى الطاعة و كثرت السعاية فيه عند أخيه من البطانة و أغروه به فلما قدم أنطقنوس من مغيبه وافق عيد المظال و كان أخيه ملتزما بيته لمرض طرقه فعدل أنطقنوس عن بيته إلى الهيكل للتبرك فأوهموا الملك أنه إنما فعل ذلك لاستمالة الكهنوينة و العامة و أنه يروم قتل أخيه و علامة ذلك أنه جاء بسلاحه فعهد أرستبلوس إلى حشمانه و غلمان قصره إن جاء متسلحا أن يقتلوه و كان ذلك و تمت حيلة البطانة و سعايتهم عليه و علم أرستبلوس أن قد خدع في أخيه فندم و اغتم و لطم صدره حتى قذف الدم من فيه و أقام عليلا بعده حولا كاملا ثم هلك فأفرجوا على أخيه الإسكندر من محبسه و بايعوا له بالملك و استقام له الأمر ثم انتقض أهل عكا و أهل صيدا و أهل غزة بعثوا إلى قبرص و سار الإسكندر إلى عكا فحاصرها و كانت كلوبطره ملكة من بقية اليونان قد انتقض عليها ابنها و اسمه ألظيرو و أجاز البحر إلى جزيرة قبرص فملكها فبعث أهل عكا أنهم يملكونه و أجاز إليهم في ثلاثين ألف مقاتل حتى إذا أفرج الإسكندر عن حصارهم راجعوا أمرهم و منعوا ألظير و أمن الدخول إليهم فسار في بلاد الإسكندر و نزل على جبل الخليل فقتل منه خلقا و نزل على الأردن و في خلال ذلك زحف الإسكندر إلى صيدا ففتحها عنوة و استباحها و عاد إلى القدس و قد أطاعته البلاد و حسم داء المنتقضين عليه
ثم تجددت الفتنة بين اليهود بالقدس و ذلك أنهم اجتمعوا في عيد المظال بالمسجد و حضر الإسكندر معهم فتلاعبوا بين يديه مراماة بما عندهم من مشموم و مأكول و أصاب الإسكندر رمية من الربانيين فغضب لها و شاتمهم القراؤن بما كانوا من شيعته فشتموا الإسكندر و قتلوا الشاتم و أصحابه فلم يغن عنهم و عظم فيهم الفتك و انفض الجمع و عهد الإسكندر أن يستد المذبح و الكهنة بحائط عن الناس و نفذ أمره بذلك و اتصلت الفتنة بين اليهود ست سنين قتل من الربانيين نحو من خمسين ألفا و الاسكندر يعين القرائين عليهم و بعثوا إلى دمتريوس المسمى أنطخيوس و بذلوا له المال فسار معهم إلى نابلس و لقي الإسكندر فهزمه و قتل عامة أصحابه و رجع فخرج الإسكندر إلى الربانيين و أثخن فيهم و ظفر منهم بجماعة تزيد على ثلثمائة فقتلهم صبرا و قهر سائر اليهود و سار إلى ديمتريوس ففتح الكثير من بلاده و خرج فظفر به الإسكندر و قتله
و عاد إلى بيت المقدس لثلاث سنين في محاربة الربانيين و دمتريوس فاستقام أمره و عظم سلطانه ثم طرقه المرض فقام عليلا ثلاثا آخرين و خرج بعضها لحصار بعض الحصون و انتقضوا عليه فمات هنالك و أوصى امرأته الإسكندرة بكتمان موته حتى يفتح الحصن و تسير بشلوه إلى القدس فتدفنه فيه و تصانع الربانيين على ولدها فتملكه لأن العامة إليهم أميل ففعلت ذلك و استدعت من كان نافرا من الربانيين و جمعتهم و قدمتهم للشورى و استبدت بالملك و كان لهما ابنان من الإسكندر بن هرقانوس اسم الأكبر منهم هرقانوس و الآخر أرستبلوس و كانا صغيرين عند موت أبيهما فلما كبرا عينت هرقانوس للكهونة و قدمت أرستبلوس على العساكر والحروب و ضمت إليه الربانيين و أخذت الرهن من جميع الأمم و سألها الربانيون في الأخذ بثأرهم من القرائين خلقا كثيرا و جاء القراؤون إلى ابنها الكهنون ينكرون ذلك و أنه إذا فعل بهم ذلك و قد كانوا شيعا لأبيه الإسكندر فقد تحدث النفرة من سائر الناس و سألوه أن يلتمس لهم إذنها في الخروج عن القدس و البعد عن الربانيين فأذنت لهم رغبة في انقطاع الفتنة و خرج معهم وجوه العسكر ثم ماتت خلال ذلك لتسع سنين من دولتها و يقال إن ظهور عيسى صلوات الله عليه كان في أيامها و كان ابنها أرستبلوس قائد العسكر لما شعر بموتها خرج إلى القرائين يستدعيهم إلى نصرته فأجازوه وتقبضت هي على إبنيه وامرأته واجتمعت عليه العساكر من النواحي و ضرب البوق و حف لحرب أخيه هرقانوس و الربانيين و حاصرهم أرستبلوس ببيت المقدس و عزم على هدم الحصن فخرج إليه أعيان اليهود و الكهنونية ساعين في الصلح بينهما و أجاب على أن يكون ملكا و يبقى هرقانوس على الكهنونية فتم ذلك و استقر عليه أمره (2/134)
ابتداء أمر انظفتر أبو هيردوس
ثم سعى في الفتنة بينهما انظفتر أبو هيردوس و كان من عظماء بني إسرائيل من الذين جمعوا مع العزير من بابل و كان ذا شجاعة و بأس وله يسار وقنية من الضياع والمواشي و كان الاسكندر قد ولاه على بلاد أروم و هي جبال الشراة فأقام في ولايتها سنين و كثر ماله و أنكحوه منهم فكان له منها أربعة من الأبناء و هم فسيلو وهيردوس وفرودا ويوسف وبنت اسمها سلومث و قيل إن أنظفتر لم يكن من بني إسرائيل و إنما كان من أروم وربي في جملة بني خشمناي وبيوتهم فلما مات الاسكندر وملكت زوجته الاسكندرة عزلته عن جبال الشراة فأقام بالقدس حتى إذا استبد بالأمر أرستبلوس و كان بين هرقانوس و أنظفتر مودة وصحبة فغص أرستبلوس بمكانه من أخيه لما يعلم من مكر أنظفتر و هم بقتله فانفض عنه و أخذ في التدبير على أرستبلوس و فشا في الناس تبغضه إليهم و ينكر تغلبه و يذكر لهم أن هرقانوس أحق بالملك منه ثم حذر هرقانوس من أخيه و خيل إليه أنه يريد قتله وبعث لشيعة هرقانوس المال على تخويفه من ذلك حتى تمكن منه الخوف ثم أشار عليه بالخروج إلى ملك العرب هرثمة و كان يحب هرقانوس فعقد معه عهدا على ذلك و لحق هرقانوس بهرثمة و معه أنظفتر ثم دعوا هرثمة إلى حرب أرستبلوس فأجابهم بعد مراوغة و تزاحفوا و نزع الكثير من عسكر أرستبلوس إلى هرقانوس فرجع هاربا إلى القدس و نازلهم هرقانوس و هرثمة و اتصلت الحرب و طال الحصار و حضر عيد الفطير و افتقد اليهود القرابين فبعثوا إلى أصحاب هرقانوس فيها فاشتطوا في الثمن ثم أخذوه و لم يعطوهم شيئا و قتلوا بعض النساك طلبوه في الدعاء على أرستبلوس و أصحابه و امتنع فقتلوه و وقع فيهم الوباء فمات منهم أمم
قال ابن كريون : و كان من الأرمن ببلاد دمشق و حمص و حلب و كانوا في طاعة الروم فانتقضوا عليهم في هذه المدة و حدثت عندهم صاغية إلى الفرس فبعث الروم قائدهم فمقيوس فخرج لذلك من رومية و قدم بين يديه قائده سكانوس فطوع الأرمن و لحق دمشق ثم لحقه فمقيوس و نزل بها و توجهت إليه وجوه اليهود في أثرهم و بعث إليه أرستبلوس من القدس و هرقانوس من كان حصاره كل واحد منهما يستنجده على أخيه وبعثوا إليه بالأموال و الهدايا فأعرض عنها و بعث إلى هرثمة ينهاه عن الدخول بينهما فرحل عن القدس و رحل معه هرقانوس و أنظفتر و أعاد إلى أرستبلوس رسله و هداياه من بيت المقدس و ألح في الطلب و جاء أنظفتر إلى فقيموس بغير مال و لا هدية فنكث عنه فمقيوس فرجع إلى رغبته و مسح أعطافه و ضمن له طاعة هرقانوس الذي هو الكهنوت الأعظم و يحصل بعد ذلك إضعاف أرستبلوس فأجابه فمقيوس على أن يتحيل له في الباطن و يكون ظاهره مع أرستبلوس حتى يتم الأمر و على أن يحملوا الخراج عند حصول أمرهم فضمن أنظفتر ذلك و حضر هرقانوس و أرستبلوس عند فمقيوس القائد يتظلم كل واحد من صاحبه فوعدهم بالنظر بينهم إذا حل بالقدس
و بعث أنظفتر في جميع الرعايا فجاءوا شاكين من أرستلبوس فأمره فمقيوس من إنصافهم فغضب لذلك و استوحش و هرب من معسكر فمقيوس و تحصن في القدس و سار فمقيوس في أثره فنزل أريحا ثن القدس و خرج أرستبلوس و استقال فأقاله و بذل له الأموال على أن يعينه على أخيه و يحمل له ما في الهيكل من الأموال و الجواهر و بعث معه قائده لذلك فمنعهم الكهنونية و ثارت بهم العامة و قتلوا بعض أصحاب القائد و أخرجوه فغضب فمقيوس و تقبض لحينه على أرستبلوس و ركب ليقتحم البلد فامتنعت عليه و قتل جماعة من أصحابه فرجع و أقام عليهم و وقعت الحرب بالمدينة بين شبع أرستبلوس و هرقانوس و فتح بعض اليهود الباب لفمقيوس فدخل البلد و ملك القصر و امتنع الهيكل عليه فأقام يحاصره أياما و صنع آلة الحصار فهدم بعض أبراجه و اقتحمه عنوة و وجد الكهنونية على عبادتهم و قربانهم مع تلك الحرب و وقف على الهيكل فاستظمه و لم يمد يده إلى شيء من دخائره و ملك عليهم هرقانوس و ضرب عليهم الخراج يحمله كل سنة و رفع يد اليهود عن جميع الأمم الذين كانوا في طاعتهم و رد عليهم البلدان التي ملكها بنو حمشناي و رجع إلى رومة
و استخلف هرقانوس و أنظفتر على المقدس و أنزل معهما قائده سكانوس الذي قدمه لفتح دمشق و بلاد الأرمن عندما خرج من رومية و حمل أرستبلوس و ابنيه مقيدين معه و هرب الثالث من بنيه و كان يسمى الاسكندر و لحقه فلم يظفر به و لما بعد فمقيوس عن الشام ذاهبا إلى مكانه خرج هرقانوس و أنظفتر إلى العرب ليحملوهم على طاعة الروم فخالفهم الإسكندر بن أرستبلوس إلى المقدس و كان متغيبا بتلك النواحي منذ مغيب أبيه لم يبرح فدخل إلى المقدس و ملكه اليهود عليهم و بنى ما هدمه فمقيوس من سور الهيكل و اجتمع إليه خلق كثير و رجع هرقانوس و أنظفتر فسار إليهم الإسكندر و هزمهم و أثخن في عساكرهم و كان قائد الروم كينانوس قد جاء إلى بلاد الأرمن من بعد فمقيوس فلحق به و استنصره على الإسكندر فسار معه إلى القدس و خرج إليهم الإسكندر فهزموه و مضى إلى حصن له يسمى الإسكندرية و اعتصم به
و سار هرقانوس إلى القدس فاستولى على ملكه و سار كينانوس قائد الروم إلى الإسكندر فحاصره بحصنه و استأمن إليه فقبله و عفا عنه و أحسن إليه و في أثناء ذلك هرب أرستبلوس أخو هرقانوس من محبسه برومية و ابنه أنطقنوس و اجتمع إليه فحاربه كينانوس و هزمه و حصل في أسره فرده إلى محبسه برومية و لم يزل هنالك إلى أن تغلب قيصر على رومية و استحدث الملك في الروم
و خرج فمقيوس من رومية إلى نواحي عمله و جمع العساكر لمحاربة قيصر فأطلق أرستبلوس من محبسه و أطلق معه قائدين في اثني عشر ألف مقاتل و سرحهم إلى الأرمن و اليهود ليردوهم عن طاعة فمقيوس و كتب فمقيوس إلى أنظفتر بيت المقدس أن يكفيه أمر أرستبلوس فبعث قوما من اليهود لقوه في بلاد الأرمن و دسوا له سما في بعض شرابه كان فيه حتفه و قد كان كينانوس كاتب الشيخ صاحب رومية في إطلاق من بقي من ولد أرستبلوس فأطلقهم
قال ابن كريون : و كان أهل مصر لذلك العهد انتقضوا على ملكهم تلماي و طردوه و امتنعوا من حمل الخراج إلى الروم فسار إليهم و استنفر معه أنظفتر فغلبهم و قتلهم و رد تلماي إلى ملكه و استقام أمر مصر و رجع كينانوس إلى بيت المقدس فجدد الملك لهرقانوس و قدم أنظفتر مدبر المملكة و سار إلى رومية
قال ابن كريون : ثم غضبت الفرس على الروم فندبوا إلى ذلك قائدا منهم يسمى عرنبوس و بعثوه لحربهم فمر بالقدس و دخل إلى الهيكل و طالب الكهنون بما فيه من المال و كان يسمى ألعازر من صلحاء اليهود و فضلائهم فقال له : إن كينانوس و فمقيوس لم يفعلوا ذلك بتلك فاشتد عليه فقال أعطيك ثلثمائة من الذهب و تتجافى عن الهيكل و دفع إليه سبيكة ذهب على صورة خشبة كانت تلقى عليها الصور التي تنزل من الهيكل الذي تجدد و كان وزنها ثلثمائة فأخذها و نقض القول و تعدى على الهيكل و أخذ جميع ما فيه منذ عمارتها من الهدايا و الغنائم و قربانات الملوك و الأمم و جميع آلات القدس و سار إلى لقاء الفرس فحاربوه و هزموه و أخذوا جميع ما كان معه و قتل و استولت الفرس على بلاد الأرمن من دمشق و حمص و حلب و ما إليها و بلغ الخبر إلى الروم فجهزوا قائدا عظيما في عساكر جمة اسمه كسناو فدخل بلاد الأرمن الذين كانوا غلبوا عليها و ساروا إلى القدس فوجد اليهود يحاربون هرقانوس و أنظفتر فأعانهما حتى استقام ملك هرناقوس ثم سار إلى الفرس في عساكره فغلبهم و حملهم على طاعة الروم و رد الملوك الذين كانوا عصوا عليهم إلى الطاعة و كانوا اثنين و عشرين ملكا من الفرس كان فمقيوس قائد الروم هزمهم فلما سار عنهم انتقضوا
قال ابن كريون : ثم ابتدأ أمر القياصرة و ملك على الروم يولياس و لقبه قيصر لأن أمه ماتت حاملا به عند مخاضها فشق بطنها عنه فذلك سمي قيصر و معناه بلغتهم القاطع و يسمى أيضا يولياس باسم الشهر الذي ولد فيه و هو يوليه خامس شهورهم و معنى هذه اللفظة عندهم الخامس و كان الثلثمائة و العشرون المدبرون أمر الروم و الشيخ الذي عليهم قد أحكموا أمرهم مع جماعة الروم على أن لا يقدموا عليهم ملكا و أنهم يعينون للحروب في الجهات قائدا بعد آخر هذا ما اتفقوا عليه النقلة في الحكاية عن أمر الروم و ابتداء ملك القياصرة قالوا و لما رأى قيصر هذا الشيخ الذي كان لذلك العهد كبر و شب على غاية من الشجاعة و الإقدام فكانوا يبعثونه قائدا على العساكر إلى النواحي فأخرجوه مرة إلى المغرب فدوخ البلاد و رجع فسمت نفسه إلى الملك فامتنعوا له و أخبروه أن هذا سنة آبائهم منذ أحقاب و حدثوه بالسبب الذي فعلوا ذلك لأجله و هو أمر يكوس و أنه عهد لأولهم لا ينقض و قد دوخ فمقيوس الشرق و طوع اليهود و لم يطمع في هذا فوثب عليهم قيصر و قتلهم و استولى على ملك الروم منفردا به و سمى قيصر و سار إلى فمقيوس بمصر فظفر به و قتله و رجع فوجد بتلك الجهات قواد فمقيوس فسار إليهم يولياس قيصر و مد ببلاد الأرمن فأطاعوه و كان عليهم ملك اسمه مترداث فبعثه قيصر إلى حربهم
فسار في الأرمن و لقيه هرقانوس ملك اليهود بعسقلان و نفر معه إلى مصر هو و أنظفتر ليمحوا بعض ما عرف منهم من موالاة فمقيوس و ساروا جميعا إلى مصر و لقيتهم عساكرها و اشتد الحرب فحصر بلادهم و كادت الأرمن أن ينهزموا فثبت أنظفتر و عساكر اليهود و كان لهم الظفر و استولوا على مصر و بلغ الخبر إلى قيصر فشكر لأنظفتر حسن بلائه و استدعاه فسار إليه مع ملك الأرمن مترداث فقبله و أحسن وعده و كان انطقنوس بن أرستبلوس قد اتصل بقيصر و شكى بأن هرقانوس قتل أباه حين بعثه أهل رومة لحرب فمقيوس فتحيل عليه هرقانوس و أنظفتر و قتلاه مسموما فأحسن أنظفتر العذر لقيصر بأنه إنما فعل ذلك في خدمة من ملك علينا من الروم و إنما كنت ناصحا لقائدهم فمقيوس بالأمس و أنا اليوم أيها الملك لك أنصح و أحب فحسن موقع كلامه من قيصر و رفع منزلته و قدمه على عساكره لحرب الفرس فسار إليه أنظفتر و أبلى في تلك الحروب و مناصحة قيصر فلما انقلبوا من بلاد الفرس أعادهم قيصر إلى ملك بيت المقدس على ما كانوا عليه
و استقام الملك لهرقانوس و كان خيرا إلا أنه كان ضعيفا عن لقاء الحروب فتغلب عليه أنظفتر و استبد على الدولة و قدم ابنه فسيلو ناظرا في بيت المقدس و ابنه هيردوس عاملا على جبل الخليل و كان كما بلغ الحلم و احتازوا الملك من أطرافه و امتلأ أهل الدولة منهم حسدا و كثرت السعاية فيهم و كان في أطراف عملهم ثائر من اليهود يسمى حزقيا و كان شجاعا صعلوكا و اجتمع إليه أمثاله فكانوا لا يغيرون على الأرمن و ينالون منهم و عظمت نكايتهم فيهم فشكى عامل بلاد الأرمن و هو سفيوس ابن عم قيصر إلى هيردوس و هو بحبل الخليل ما فعله حزقيا و أصحابه في بلادهم فبعث هيردوس إليه سرية فكبسوهم و قتل حزقيا و غيره منهم و كتب بذلك إلى سفيوس فشكره و أهدى إليه اليهود
و نكر اليهود ذلك من فعل هيردوس و تظلموا منه عند هرقانوس و طلبوه في القصاص منه فأحضره في مجلس الأحكام و أحضر السبعين شيخا من اليهود و جاء هيردوس متسلحا و دافع عن نفسه و علم هرقانوس بغرض الأشياخ ففصلوا المجلس فنكروا ذلك على هرقانوس و لحق هيردوس ببلاد الأرمن فقدمه سفيوس على عمله
ثم أرسل هرقاوس إلى قيصر يسأل عن تجديد عهود الروم لهم فكتب له بذلك و أمر بأن يحمل أهل الساحل خراجهم إلى بيت المقدس ما بين صيدا و غزة و يحمل أهل صيدا إليها في كل سنة عشرين ألفا وسق من القمح و أن يرد على اليهود سائر ما كان بأيديهم إلى الفرات و اللاذقية و أعمالها و ما كان بنو حشمناي فتحوه عنوة من عدوات الفرات لأن فمقيوس كان يتعدى عليهم في ذلك و كتب العهد بذلك في ألواح من نحاس بلسان الروم و يونان و علقت في أسوار صور و صيدا و استقام أمر هرقانوس
قال ابن كريون : ثم قتل قيصر ملك الروم و أنظفتر وزير هرقانوس المستبد عليه أما قيصر فوثب عليه كيساوس من قواد فمقيوس فقتله و ملك و جمع العساكر و عبر البحر إلى بلاد أشيت ففتحها ثم سار إلى القدس و طالبهم بسعبين بدرة من الذهب فجمع له أنظفتر و بنوه من اليهود ثم رجع كيساوس إلى مقدونية فأقام بها و أما أنظفتر فإن اليهود دخلوا القائد ملكيا الذي كان بين أظهرهم من قبل كيساوس في قتل أنظفتر وزير هرقانوس فأجابهم إلى ذلك فدسوا إلى ساقيه سما فقتله و جاء ابنه هيردوس إلى القدس مجمعا قتل هرقانوس فكفه فسيلو عن ذلك و جاء كيساوس من مقدونية إلى صور و لقي هرقانوس و هيردوس و شكوا إليه ما فعله قائده ملكيا من مداخلة اليهود في قتل أنظفتر فأذن لهم في قتله فقتلوه ثم زحف كينانوس بن أخي قيصر و قائده أنطيوس في العساكر لحرب كيساوس المتوثب على عمه قيصر فلقيهم قريبا من مقدونية فظفرا به و قتلاه و ملك كينانوس مكان عمه و سمى أوغسطس قيصر باسم عمه فأرسل إليه هرقانوس ملك اليهود بهدية و فيها تاج من الذهب مرصع بالجواهر و سأل تجديد العهد لهم و أن يطلق السبي الذي سبي منهم أيام كيساوس و أن يرد اليهود إلى بلاد يونان و أثنية و أن يجري لهم ما كان رسم به عمه قيصر فأجابه إلى ذلك كله
و سار أنطيانوس و أوغسطس قيصر إلى بلاد الأرمن بدمشق و حمص فلقته هنالك كلبطرة ملكة مصر و كانت ساحرة فاستأمنته و تزوجها و حضر عنده هرقانوس ملك اليهود و جاء جماعة من اليهود فشكوا من هيردوس و أخيه فسيلو و تظلموا منهما و أكذبهم ملكهم هرقانوس و أبى عليها و أمر انطيانوس بالقبض على أولئك الشاكين و قتل منهم و رجع هيردوس و أخوه فسارا إلى مكانهما و مكان أبيهما من تدبير مملكة هرقانوس و سار أنطيانوس إلى بلاد الفرس فدوخها و عاث في نواحيها و قهر ملوكهم و قفل إلى رومة
قال ابن كريون : و في خلال ذلك لحق أنطقنوس و جماعة من اليهود بالفرس و ضمنوا لملكهم أن يحملوا إليه بدرة من الذهب و ثمانمائة جارية من بنات اليهود و رؤسائهم يسبيهن له على أن يملكه مكان عمه هرقانوس و يسلمه إليه و يقتل هيردوس و أخاه فسيلو فأجابهم ملك في الفرس إلى ذلك و سار في العساكر و فتح بلاد الأرمن و قتل من وجد بها من قواد الروم و مقاتلتهم و بعث قائده بعسكر من القدس مع أنطقنوس موريا بالصلاة في بيت المقدس و التبرك بالهيكل حتى إذا توسط المدينة ثار بها و أفحش في القتل و بادر هيردوس إلى قصر هرقانوس ليحفظه و مضى فسيلو إلى الحصن يضبطه و تورط من كان بالمدينة من الفرس قتلهم اليهود عن آخرهم و امتنعوا على القائد و فسد ما كان دبره في أمرر أنطقنوس فرجع إلى استمالة هرقانوس و هيردوس و طلب الطاعة منهم للفرس و أنه يتطلف لهم عند الملك في إصلاح حالهم فصغي هرقانوس و فسيلو إلى قوله و خرجوا إليه و ارتاب هيردوس و امتنع فارتحل بهما قائد الفرس حتى إذا بلغ الملك ببلاد الأرمن تقبض عليهما فمات فسيلو من ليلته و قيد هرقانوس و احتمله إلى بلاده و أشار أنطقنوس بقطع أذنه ليمنعه من الكهنونة
و لما وصل ملك الفرس إلى بلاده أطلق هرقانوس من الاعتقال و أحسن إليه إلى أن استدعاه هيردوس كما يأتي بعد و بعث ملك الفرس قائده إلى اليهود مع أنطقنوس ليملك فخرج هيردوس عن القدس إلى جبل الشراة فترك عياله بالحصن عند أخيه يوسف و سار إلى مصر يريد قيصر فأكرمته كلبطرة ملكة مصر و أركبته السفن إلى رومية فدخل بها انطيانوس إلى أوغسطس قيصر و خبره قيصر و خبره الخبر عن الفرس و القدس فملكه أوغسطس و ألبسه التاج و أركبه في رومية في زي الملك و الهاتف بين يديه بأن أوغسطس ملكه و احتفل انطيانوس في صنيع له حضره الملك أوغسطس قيصر و شيوخ رومية و كتبوا له العهد في ألواح من نحاس و وضعوا ذلك اليوم التاريخ و هو أول ملك هيردوس
و سار أنطيانوس بالعسكر إلى الفرس و معه هيردوس و فارقه من أنطاكية و ركب البحر إلى القدس لحرب أنطقنوس فخرج أنطقنوس إلى جبال الشراة للإستيلاء على عيال هيردوس و أقام على حصار الحصن و جاء هيردوس فحاربه و خرج يوسف من الحصن من ورائه فانهزم أنطقنوس إلى القدس و هلك أكثر عساكره و حاصره هيردوس و بعث انطقنوس بالأموال إلى قواد العسكر من الروم فلم يجيبوه و أقام هيردوس على حصاره حتى جاءه الخبر عن أنطيانوس قائد قيصر أنه ظفر بملك الفرس و قتله و دوخ بلادهم و أنه عاد و نزل الفرات فترك هيردوس أخاه يوسف على حصار القدس مع قائد الروم سيساو و من تبعهم من الأرمن و سار للقاء أنطيانوس و بلغه و هو بدمشق أن أخاه يوسف قتل في حصار القدس على يد قائده أنطقنوس و أن العساكر انفضت و رجعوا إلى دمشق و جاء سيساو منهزما قائد أنطيانوس بالعساكر و تقدم هيردوس و قد خرج أنطقنوس للقائه فهزمه و قتل عامة عسكره و اتبعه إلى القدس و وافاه سيساو قائد الروم فحاصروا القدس أياما ثم اقتحموا البلد و تسللوا صاعدين إلى السور و قتلوا الحرس و ملكوا المدينة و أفحش سيساو في قتل اليهود فرغب إليه هيردوس في الإبقاء و قال له : إذا قتلت قومي فعلى من تملكني ؟ فرفع القتل عنهم ورد ما نهب و قرب إلى البيت تاجا من الذهب وضعت فيه و حمل إليه هيردوس أموالا ثم عثروا على أنطقنوس مختفيا بالمدينة فقيده سيساو القائد و سار به إلى أنطيانوس و قد كان سار من الشام إلى مصر فجاءه بأنطقنوس هنالك و لحق بهم هيردوس و سأل من أنطيانوس قتل أنطقنوس فقتله و استبد هيردوس بملك و انقرض ملك بني حشمناي و البقاء لله وحده (2/144)
انقراض ملك بني حشمناي و ابتداء ملك هيردوس و بنيه
و كان أول ما افتتح به ملكه أن بعث إلى هرقانوس الذي احتمله الفرس و قطعوا أذنه يستقدمه ليأمن على ملكه من ناحيته و رغبه في الكهنونية التي كان عليها فرغب و حذره ملك الفرس من هيردوس و عزله اليهود الذين معه و أراه أنها خديعة و أنه العيب الذي به يمنع الكنهونية فلم يقبل شيئا من ذلك و صغى إلى هيردوس و حسن ظنه به و سار إليه و تلقاه بالكرامة و الإعطاء و كان يخاطبه بأبي في الجمع و الخلوة
و كانت الإسكندرة بنت هرقانوس تحت الاسكندر و ابن أخيه أرستبلوس و كانت بنتها منه مريم تحت هيردوس فاطلعتا على ضمير هيردوس من محاولة قتله فخبرتاه بذلك و أشارتا عليه باللحاق يملك الرعب ليكون في جواره فخاطبه هرقانوس في ذلك و أن يبعث إليه من رجالاتهم من يخرج به إلى أحيائهم و كان حامل الكتاب من اليهود مضطغنا على هرقانوس لأنه قتل أخاه و سلب ماله فوضع الكتاب في يد هيردوس فلما قرأه رده إليه و قال : أبلغه إلى ملك العرب و أرجع الجواب إلي فجاءه بالجواب من ملك العرب إلى هرقانوس و أنه أسعف و بعث الرجال فالقهم بوصولك إلي فبعث هيردوس من يقبض على الرجال بالمكان الذي عينه و أحضرهم و أحضر حكام البلاد اليهود و السبعين شيخا و أحضر هرقانوس و قرأ عليه الكتاب بخطه فلم يحر جوابا و قامت عليه الحجة و قتله هيردوس لوقته لثمانين سنة من عمره و أربعين من ملكه و هو أخر ملوك بني حشمناي
و كان للإسنكدر الله أرستبلوس و كان من أجمل الناس صورة و كان في كفالة أمه الإسنكدر و أخته يومئذ تحت هيردوس كما قلناه و كان هيردوس يغص به و كانت أخته و أمهما يؤملان أن يكون كوهنا بالبيت مكان جده هرقانوس و هيردوس يريد نقل الكنهونة عن بني حشمناي و قدم لها رجلا من عوام الكهنونية و جعله كبير الكهنونية فشق ذلك على الاسكندرة بنت هرقانوس و بنتها مريم زوج هيردوس و كان بين الإسكندرة و كلوبطره ملكة مصر مواصلة و مهاداة و طلبت منها أن تشفع زوجها انطيانوس في ذلك إلى هيردوس فاعتذر له هيردوس بأن الكواهن لا تعزل و لو أردنا ذلك فلا يمكننا أهل الدين من عزله فبعث بذلك إلى الاسكندرة و دست الاسكندرة إلى الرسول الذي جاء من عند أنطيانوس و أتحفته بمال فضمن لهم أن انطيانوس يعزم على هيردوس في بعث أرستبلوس إليه و رجع إلى أنطيانوس فرغبه في ذلك و وصف له من جماله و أغراه باستقدامه فبعث فيه أنطيانوس إلى هيردوس و هدده بالوحشة إن منعه فعلم أنه يريد منه القبيح فقدمه كهنونا و عزل الأول و اعتذر لانطيانوس بأن الكوهن لا يمكن سفره و اليهود تنكر ذلك فأغفل أنطيانوس الأمر و لم يعاود فيه
و وكل هيردوس بالاسكندرة بنت هرقانوس عهدته من يراعى أفعالها فاطلع على كتبها إلى كلوبطرة أن تبعث إليها السفن و الرجال يوصلنها إليها و أن السفن وصلت إلى ساحل يافا و أن الإسكندرة صنعت تابوتين لتخرج فيهما في و ابنتها على هيئة الموتى فأرصد هيردوس من جاء بهما من المقابر في تابوتيهما فوبخهما ثم عفا عنهما ثم بلغه أن أرستبلوس حضر في عيد المظال فصعد على المذبح و قد لبس ثياب القدس و ازدحم الناس عليه و ظهر من ميلهم إليه و محبتهم ما لا يعبر عنه فغص بذلك و اعمل التدبير في قتله فخرج في منتزه له بأريحاء في نيسان و استدعى أصحابه و أحضر أرستبلوس فطعموا و لعبوا و انغمسوا في البرك يسبحون و عمد غلمان هيردوس إلى أرستبلوس فغمسوه في الماء حتى شرق و فاض فاغتم الناس لموته و بكى عليه هيردوس و دفنه و كان موته لسبع عشرة سنة من عمره و تأكدت البغضاء بين الإسكندرة و ابنتها مريم زوج هيردوس أخت هذا الغريق و بين أم هيردوس و أخته و كثرت شكواهما إليه فلم يشكهما لمكان زوجته مريم و أمها منه
قال ابن كريون : ثم انتقض أنطيانوس على أوغسطس قيصر و ذلك أنه تزوج كلوبطره و ملك مصر و كانت ساحرة فسحرته و استمالته و حملته على قتل ملوك كانوا طاعة الروم و أخذ بلادهم و أموالهم و سبي نسائهم و أموالهم و كان من جملته هيردوس و توقف فيه خشية من أوغسطس قيصر لأنه كان يكرمه بسبب ما صنع في الآخرين فحمله على الانتقاض في العصيان ففعل و جمع العسكر و استدعى هيردوس فجاءه و بعثه إلى قتال العرب و كانوا خالفوا عليه فمضى هيردوس لذلك و معه أنيثاون قائد كلوبطرة و قد دست له أن يجر الهزيمة على هيردوس ليقتل ففعل و ثبت هيردوس من المعترك بعد حروب صعبة هلك فيها بين الفريقين خلق كثير
و رجع هيردوس إلى بيت المقدس فصالح جميع الملوك و الأمم المجاورين له و امتنع العرب من ذلك فسار إليهم و حاربهم ثم استباحهم بعد أيام و مواقف بذلوا و جمعوا له الأموال و فرض عليهم الخراج في كل سنة و رجع و كان أنطيانوس لما بعثه إلى العرب سار هو إلى رومة و كانت بينه و بين أغسطس قيصر حروب هزمه قيصر في آخرها و قتله و سار إلى مصر فخافه هيردوس على نفسه لما كان منه في طاعة أنطيانوس و موالاته و لم يمكنه التخلف عن لقائه فأخرج خدمه من القدس فبعث بأمه و أخته إلى قلعة الشراة لنظر أخيه فردوا و بعث بزوجه مريم و أمها الإسكندرة إلى حصن الإسكندرونة لنظر زوج أخته يوسف و رجل آخر من خالصته من أهل صور اسمه سوما و عهد إليهما بقتل زوجته و أمها إن قتله قيصر
ثم حمل معه الهدايا و سار إلى أوغسطس قيصر و كان تحقد له صحبة أنطيانوس فلما حضر بين يديه عنفه و أزاح التاج عن رأسه و هم بعقابه فتلطف هيردوس في الاعتذار و أن موالاته لأنطيانوس إنما كان لما أولى من الجميل في السعاية عند الملك و هي أعظم أياديه عندي و لم تكن موالاتي له في عداوتك و لا في حربك و لو كان ذلك و أهلكت نفسي دونه كنت غير ملوم فإن الوفاء شأن الكرام فإن أزلت عني التاج فما أزلت عقلي و لا نظري و إن أبقيتني فأنا محل الصنيعة و الشكر فانبسط أوغسطس لكلامه و توجه كما كان و بعثه على مقدمته إلى مصر فلما ملك مصر و قتل كلوبطره وهب لهيردوس جميع ما كان أنطيانوس أعطاها إياه و نفل فأعاد هيردوس إلى ملكه ببيت المقدس و سار إلى رومية
قال ابن كريون : و لما عاد هيردوس إلى بيت المقدس أعاد حرمه من أماكنهن فعادت زوجته مريم و أمها من حصن الاسكندرونة و في خدمتها يوسف زوج أخته و سوما الصوري و قد كانا حدثا المرأة و أمها بما أسر إليهما هيردوس و قد كان سلف منه قتل هرقانوس و أرستبلوس فشكرتا له و بينما هو آخذ في استمالة زوجته إذ رمتها أخته بالفاحشة مع سوما في ملاحاة جرت بينهما و لم يصدق ذلك هيردوس للعداوة و الثقة بعفة الزوجة ثم جرى منها في بعض الأيام و هو في سبيل استمالتها عتاب فيما أسر إلى سوما و زوج أخته فقويت عنده الظنة بهم جميعا و أن مثل هذا السر لم يكن إلا لأمر مريب و أخذ في إخفائها و إقصائها و دست عليه أخته بعض النساء تحدثه بأن زوجته داخلته في أن تستحضر السم و أحضره فجرب و صح و قتل للحين صهره يوسف و صاحبه سوما و ولى على أروم مكان صهره رجلا منهم اسمه كرسوس و زوجه أخته فسار إلى عمله و انحرف عن دين التوراة و الإحسان الذي حملهم عليه هرقانوس و أباح لهم عبادة صنمهم و أجمع الخلاف و طلق أخت هيردوس فسعت به إلى أخيها و خبرته بأحواله و أنه آوى جماعة من بني حشمناي المرشحين للملك منذ اثني عشر سنة فقام هيردوس في ركائبه و بحث عنه فحضر و طالبه ببني حشمناي الذي عنده فأحضرهم فقتله و قتلهم و أرهف حده و قتل جماعة من كبار اليهود و مقدميهم و اتهمهم بالإنكار عليه عليه فأذعن له الناس و استفحل ملكه و أهمل المراعاة لوصايا التوراة و عمل في بيت المقدس سورا و اتخذ منتزه لعب و أطلق فيه السباع و يحمل بعض الجهلة على مقابلتها فتفرسهم فنكر الناس ذلك و أعمل أهل الدولة الحيلة في قتله فلم تتم لهم و كان يمشي متنكرا للتجسن على أحوال الناس فعظمت هيبته في النفوس
و كان أعظم طوائف اليهود عنده الربانيون بما تقدم لهم في ولايته و كان لطائفة العباد من اليهود المسمى بالحيسيد مكانة عنده أيضا كان شيخهم مناحيم لذلك العهد محدثا و كان حدثه و هو غلام بمصير الملك له و أخبره و هو ملك بطول مدته في الملك فدعا له و لقومه و كان كلفا ببناء المدن و الحصون و مدينة قيسارية من بنائه و لما حدثت في أيامه المجاعة شمر لها و أخرج الزرع للناس و بثه فيهم بيعا و هبة و صدقة و أرسل في الميرة من سائر النواحي و أمر قيصر في سائر تخومه و في مصر و رومة أن يحملوا الميرة إلى بيت المقدس فوصلت السفن بالزرع إلى ساحلها من كل جهة و أجرى على الشيوخ و الأيتام و الأرامل و المنقطعين كفايتهم من الخبز و على الفقراء و المساكين كفايتهم من الحنطة و فرق على خمسين ألفا قصدوه من غير ملته فرفعت المجاعة و ارتفع له الذكر و الثناء الجميل
قال ابن كريون : و لما استفحل ملكه و عظم سلطانه أراد بناء البيت ما بناه سليمان بن داود لأنهم لما رجعوا إلى القدس بإذن كورش عين لهم مقدار البيت لا يتجاوزونه فلم يتم على حدود سليمان و لما اعتزم على ذلك ابتدأ أولا بإحضار الآلات مستوفيات خشية أن يحصل الهدم و تطول المدة و تعرض القواطع و الموانع فأعد الآلات و أكمل جمعها في ست سنين ثم جمع الصناع للبناء و ما يتعلق به فكانوا عشرة آلاف و عين ألفا من الكهنة يتولون القدس الأقدس الذي لا يدخله غيرهم
و لما تم له ذلك شرع في الهدم فحصل لأقرب وقت ثم بنى البيت على حدوده و هيئته أيام سليمان و زاد في بعض المواضع على ما اختاره و وقف عليه نظره فكمل في ثمان سنين ثم شرع في الشكر لله تعالى على ما هيأ له من ذلك فقرب القربان و احتفل في الولائم و إطعام الطعام و تبعه الناس في ذلك أياما فكانت من محاسن دولته
قال ابن كريون : ثم ابتلاه الله بقتل أولاده و كان ولدان من مريم بنت الإسكندرة قتيلة السم أحدهما الإسكندر و الآخر ارستبلوس و كانا عند قتل أمهما غائبين برومة يتعلمان خط الروم فلما وصلا و قد قتل أمهما حصلت بينه و بينهما الوحشة و كان له ولد آخر اسمه انظفتر على اسم جده و كان قد أبعد أمه راسيس لمكان الروم فلما هلكت و استوحش من ولدها لطلب محل راسيس منه قدم ابنها أنظفتر و جعله ولي عهده و أخذ في السعاية على إخوته خشية منهما بأنهما يرومان قتل أبيهما فانحرف عنهما و اتفق أن سار إلى أوغسطس قيصر و معه ابنه إسكندر فشكاه عنده و تبرأ الإسكندر و حلف على براءته فأصلح بينهما قيصر و رجع إلى القدس و قسم القدس بين ولده الثلاثة و وصاهم و وصى الناس بهم و عهد أن لا يخالطوهم خشية مما يحدث عن ذلك و أنظفتر مع ذلك متماد على سعايته بهما و قد داخل في ذلك عمه قدودا و عمته سلومنت فأغروا أباه بأخويه المذكورين حتى اعتقلهما وبلغ الخبر أرسلاوش ملك كفتور و كانت بنته تحت الاسكندر منهما فجاء إلى هيردوس مظهرا السخط على الإسكندر و الانحراف عنه و تحيل في إظهار جراءتهما و أطلعه على جلية الحال و سعاية أخيه و أخته فانكشف له الأمر و صدقه و غضب على أخيه قدودا فجاء إلى أرسلاوش و أحضره عند هيردوس حتى أخبره بمصدوقية الحال ثم شفعه فيه و أطلق ولديه و رضي عنهما و شكر لأرسلاوش من تلطفه في تلاقي هذا الأمر و انصرف إلى بلده
و لم ينف ذلك أنظفتر عن تدبيره عليهما و ما زال يغري أباه و يدس له من يغريه حتى أسخطه عليهما ثانية و اعتقلهما و أمضى بهما في بعض أسفاره مقيدين و نكر ذلك بعض أهل الدولة فدس أنظفتر إلى أبيه المنكر علي من المدبرين عليك و قد ضمن لحجامك الإسكندر مالا على قتلك فأنزل هيردوس بهما العقاب ليكتشف الخبر و نمي بأن ذلك الرجل معه و لذعه العقاب و أقر على نفسه و قتل هو و أبوه و الحجام ثم قتل هيردوس ولديه و صلبهما على مصطبة و كان لابنه الإسكندر ولدان من بنت أرسلاوش ملك كفتور و هما كوبان و الإسكندر و لإبنه أرستبلوس ثلاثة من الولد : أعرباس و هيردوس و أستروبلوس ثم ندم هيردوس على قتل ولديه و عطف على أولادهما فزوج كوبان بن الإسكندر بابنة أخيه قدودا و زوج ابنة ابنه أرستبلوس من ابن ابنه أنظفتر و أمر أخاه قدودا و ابنه أنظفتر بكفالتهما و الإحسان إليهم فكرها ذلك و اتفقا على فسخه و قتل هيردوس متى أمكن
و بعث هيردوس ابنه أنظفتر إلى أوغسطس قيصر و نما الخبر إليه بأن أخاه قدودا يريد قتله فسخطه و أبعده و ألزمه بيته ثم مرض قدودا و استبد أخاه هيردوس ليعوده فعاده ثم مات فحزن عليه ثم حزن باستكشاف ما نمي إليه فعاقب جواريه فأقرت إحداهما بأن أنظفتر و قدودا كانا يجتمعان عند رسيس أم أنظفتر يدبران على قتل هيردوس على يد خازن أنظفتر فأقر بمثل ذلك و أنه بعث على السم من مصر و هو عند امرأة قدودا فأحضرت فأقرت بأن قدودا أمرها عند موته بإراقته و أنها أبقت منه قليلا يشهد لها إن سئلت فكتب هيردوس إلى ابنه أنظفتر بالقدوم فقدم مستريبا بعد أن أجمع على الهروب فمنعه خدم أبيه و لما حضر جمع له الناس في مشهد و حضر رسول أغسطس و قدم كاتبه نيقالوس و كان يحب أولاد هيردوس المقتولين و يميل إليهما عن أنظفتر فدفع يخاصمه حتى قامت عليه الحجة و أحضر بقية السم و جرب في بعض الحيوانات فصدق فعله فحبس هيردوس ابنه أنظفتر حتى مرض و أشرف على الموت و أسف على ما كان منه لأولاده فهم بقتل نفسه فمنعه جلساؤه و أهله و سمع من القصر البكاء و الصراخ لذلك فهم أنظفتر بالخروج من محبسه و منع و أخبر هيردوس بذلك و أمر بقتله في الوقت فقتل ثم هلك بعده لخمسة أيام و لسبعين سنة من عمره و خمس و ثلاثين من ملكه
و عهد الملك لابنه أركلاوش و خرج كاتبه نيقالوس فجمع الناس و قرأ عليهم العهد و أراهم خاتم هيردوس عليه فبايعوا له و حمل أباه إلى قبره على سرير من الذهب مرصع بالجوهر و الياقوت و عليه ستور الديباج منسوجة بالذهب و أجلس مسندا ظهره إلى الأرائك و الناس أمامه من الأشراف و الرؤساء و من خلفه الخدم و الغلمان و حواليه الجواري بأنواع الطيب إلى أن اندرج في قبره
و قدم أركلاوش بملكه و تقرب إلى الناس بإطلاق المسجونين فاستقام أمره و انطلقت الألسنة بذم هيردوس و الطعن عليه ثم انتقضوا على أركلاوش بملكه بما وقع منه من القتل فيهم فساروا إلى قيصر شاكين بذلك و عابوه عنده بأنه ولي من غير أمره و حضر أركلاوش و كاتبه نيقالوس بخصمهم و دفع دعاويهم و أشار عظماء الروم بإبقائه فملكه قيصر و أعاده إلى القدس و أسار السيرة في اليهود و تزوج امرأة أخيه الإسكندر و كان له أولاد منها فماتت لوقتها و وصلت شكاية اليهود بذلك كله إلى قيصر فبعث قائدا من الروم إلى المقدس فقيد أركلاوش و حمله إلى رومة لسبع سنين من دولته و ولى على اليهود بالقدس أخاه أنطيفس و كان شرا منه و اغتصب امرأة أخيه فليقوس و له منها ولدان و نكر ذلك عليه علماء اليهود و الكنهونية و كان لذلك العهد يوحنا بن زكريا فقتله في جماعة منهم و هذا هو المعروف عند النصارى بالمعمدان الذي عمد عيسى أي طهره بماء المعمودية بزعمهم
و في دولة أنطيفس هذا مات أوغسطس قيصر فملك بعده طبريانوس و كان قبيح السيرة و بعث قائده بعيلاس بصنم من ذهب على صورته ليسجد له اليهود فامتنعوا فقتل منهم جماعة فأذنوا بحربه و قاتلوه و هزموه و بعث طبريانوس العساكر مع قائده إلى القدس فقبض على أنطيفس و حمله مقيدا ثم عزله طبريانوس إلى الأندلس فمات بها و ملك بعده على اليهود أغرباس ابن أخيه أرستبلوس المقتول و هلك في أيامه طبريانوس قيصر و ملك نيروش و كان أشر من جميع من تقدمه و أمر أن يسمى إلاهو و بنى المذبح للقربان و قرب و أطاعته الناس إلا اليهود و بعثوا إليه في ذلك أفيلو الحكيم في جماعة فشتمهم و حبسهم و سخط اليهود ثم قبحت أحواله و ساءت أفعاله و ثارت عليه دولته فقتلوه و رموا شلوه في الطريق فأكلته الكلاب ثم ملك بعده قلديوش قيصر و أطلق أفيلو و الذين معه إلى بيت المقدس و هدم المذابح التي كان نيروش بناها
و كان أغرباس حسن السيرة معظما عند القياصرة و هلك لثلاث و عشرين سنة من دولته و ملك بعده ابنه أغرباس بأمر اليهود و ملك عشرين سنة و كثرت الحروب و الفتن في أيامه في بلاد اليهود و الأرمن و ظهرت الخوارج و المتغلبون و انقطعت السبل و كثر الهرج داخل المدينة في القدس و كان الناس يقتل بعضهم بعضا في الطرقات يحملون سكاكين صغار محدين لها فإذا ازدحم مع صاحبه في الطريق طعنه فأهواه حتى صاروا يلبسون الدروع لذلك و خرج كثير من الناس عن المدينة فرارا من القتل و هلك ولد طبريانوس قيصر و نيروش من بعده و ملك على الروم فيلقوس قيصر فسعى بعض الشرار عنده بأن هؤلاء الذين خرجوا من القدس يذمون على الروم فبعث إليهم من قتلهم و أسرهم
و اشتد البلاء على اليهود و طالت الفتن فيهم و كان الكهنون الكبير فيهم لذلك العهد عناني و كان له ابن اسمه العازار و كان ممن خرج من القدس و كان فاتكا مصعلكا و انضم إليه جماعة من الأشرار و أقاموا يغيرون على بلاد اليهود و الأرمن و ينهبون و يقتلون و شكتهم الأرمن إلى فيلقوس قيصر فبعث من قيده و حمله و أصحابه إلى رومة فلم يرجع إلى القدس إلا بعد حين
و اشتد قائد الروم ببيت المقدس على اليهود و كثر ظلمه فيهم فأخرجوه عنهم بعد أن قتلوا جماعة من أصحابه و لحق بمصر فلقي هنالك أغرباس ملك اليهود راجعا من رومية و معه قائدان من الروم فشكى إليه فيلقوس بما وقع من اليهود و مضى إلى بيت المقدس فشكى إليه اليهود بما فعل فيلقوس و أنهم عازمون على الخلاف و تلطف لهم في الإمساك عن ذلك حتى تبلغ شكيتهم إلى قيصر و يعتذر منه فامتنع العازار بن عناني و أبى إلا المخالفة و أخرج القربان الذي كان بعثه معه نيروش قيصر من البيت ثم عمد إلى الروم الذين جاءوا مع أغرباس فقتلهم حيث وجدوا و قتل القائدين و نكر ذلك أشياخ اليهود و اجتمعوا لحرب العازار و بعثوا إلى أغرباس و كان خارج القدس فبعث إليهم بثلاثة آلاف مقاتل فكانت الحرب بينهم و بين العازار سجالا ثم هزمهم و أخرجهم من المدينة و عاث في البلد و خرب قصور الملك و نهبها و أموالها و ذخائرها و بقي أغرباس و الكهنونة و العلماء و الشيوخ خارج المقدس و بلغهم أن الأرمن قتلوا من وجدوه من اليهود بدمشق و نواحيها و بقيسارية فساروا إلى بلادهم و قتلوا من وجدوه بنواحي دمشق من الأرمن ثم سار أغرباس إلى قيرش قيصر و خبره الخبر فامتعض لذلك و بعث إلى كسنينا و قائده على الأرمن و قد كان مضى إلى حرب الفرس فدوخها و قهرهم و عاد إلى بلاد الأرمن فنزل دمشق فجاء عهد قيصر بالمسير مع أغرباس ملك اليهود إلى القدس فجمع العساكر و سار و خرب كل ما مر عليه و لقيه العازار الثائر بالقدس فانهزم و رجع و نزل كسنينا و قائد الروم فأثخن فيهم و ارتحل كسنينا إلى قيسارية و خرج اليهود في أتباعهم فهزموهم و لحق كسنينا و أغرباس بقيصر قيرش فوافقوا وصول قائده الأعظم اسبنانوس عن بلاد الغرب و قد فتح الأندلس و دوخ أقطارها فعهد إليه قيرش قيصر بالمسير إلى بلاد اليهود و أمره أن يستأصلهم و يهدم حصونهم فسار و معه ابنه طيطوش و أغرباس ملك اليهود و انتهوا إلى أنطاكية و تأهب اليهود لحربهم و انقسموا ثلاث فرق في ثلاث نواحي مع كل فرقة كهنون فكان عناني الكهنون الأعظم في دمشق و نواحيها و كان ابنه العازر كهنون بلاد أروم و ما يليها إلى أيلة و كان يوسف بن كريون كهنون طبرية و جبل الخليل و ما يتصل به و جعلوا فيما بقي من البلاد من الأغوار إلى حدود مصر من يحفظها من بقية الكهنونية و عمر كل منهم أسوار حصونه و رتب مقاتلته
و سار اسبنانوس بالعساكر من أنطاكية فتوسط في بلاد الأرمن و أقام و خرج يوسف بن كريون من طبرية فحاصر بعض الحصون بناحية الأغرباس ففتحه و استولى عليه و بعث أهل طبرية من ورائه إلى الروم فاستأمنوا إليهم فزحف يوسف مبادرا و قتل من وجد فيها من الروم و قبل معذرة أهل طبرية و بلغه مثل ذلك عن جبل الخليل فسار إليهم و فعل فيهم فعله في طبرية فزحف إليه اسبنانوس من عكا في أربعين ألف مقاتل من الروم و معه أغرباس ملك اليهود و سارت معهم الأمم من الأرمن و غيرهم إلا أروم فإنهم كانوا حلفاء لليهود منذ أيام هرقانوس و نزل أسبنانوس بعساكره على يوسف بن كريون و من معه بطبرية فدعاهم إلى الصلح فسألوا الإمهال إلى مشاورة الجماعة بالقدس ثم امتنعوا و قاتلهم أسبنانوس بظاهر الحصن فاستلحمهم حتى قل عددهم و أغلقوا الحصن فقطع عنهم الماء خمسين ليلة ثم بيتهم الروم فاقتحموا عليهم الحصن فاستلحموهم و أفلت يوسف بن كريون و من معه من الفل فامتنعوا ببطن الأعراب و أعطاهم أسبنانوس الأمان فمال إليه يوسف و أبى القوم إلا أن يقتلوا أنفسهم و هموا بقتله فوافقهم على رأيهم إلى أن قتل بعضهم بعضا و لم يبق من يخشاه فخرج إلى أسبنانوس مطارحا عليه و حرضه اليهود على قتله فأبى و اعتقله و خرب أعمال طبرية و قتل أهلها و رجع إلى قيسارية
قال ابن كريون : و في خلال ذلك حدثت الفتنة في القدس بين اليهود داخل المدينة و ذلك أنه كان في جبل الخليل بمدينة كوشالة يهودي إسمه يوحنان و كان مرتكبا للعظائم و اجتمع إليه أشرار منهم فقوي بهم على قطع السابلة و النهب و القتل فلما استولى الروم على كوشالة لحق بالقدس و تألف عليه أشرار اليهود من فل البلاد التي أخذها الروم فتحكم على أهل المقدس و أخذ الأموال و زاحم عناني الكهنون الأعظم ثم عزله و استبدل به رجلا من غواتهم و حمل الشيوخ على طاعته فامتنعوا فتغلب عليهم فقتلهم فاجتمع اليهود إلى عناني الكهنون و حاربهم يوحنان و تحصنوا إلى القدس و راسله عناني في الصلح فأبى و بعث إلى أروم يشتجيشهم فبعثوا إليه بعشرين ألفا منهم فأغلق عناني أبواب المدينة دونهم و حاط بهم من الأسوار ثم استغفلوه و كبسوا المدينة و اجتمع معهم يوحنان فقتلوا من وجوه اليهود نحوا من خمسة آلاف و صادروا أهل النعم على أموالهم و بعثوا يوحنان إلى المدن الذين استأمنوا إلى الروم فغنم أموالهم و قتل من وجد منهم و بعث أهل القدس في استدعاء أسبنانوس و عساكره فزحف من قيسارية حتى إذا توسط الطريق خرج يوحنان من القدس و امتنع ببعض الشعاب فمال إليه أسبنانوس العسكر و ظفر بالكثير منهم فقتلوهم ثم سار إلى بلاد أروم ففتحها و سبسطية بلاد السامرة ففتحها أيضا و عمر جميع ما فتح من البلاد و رجع إلى قيسارية ليزيح علله و يسير إلى القدس و رجع يوحنان أثناء ذلك من الشعاب فغلب على المدينة و عاث فيهم بالقتل و تحكم في أموالهم و أفسد حريمهم
قال ابن كريون : و قد كان ثار بالمدينة في مغيب يوحنان ثائرا آخر اسمه شمعون و اجتمع إليه اللصوص و الشرار حتى كثر جمعه و بلغوا نحوا من عشرين ألفا و بعث إليه أهل أروم عسكرا فهزمهم و استولى على الضياع و نهب الغلال و بعث إلى امرأته من المدينة فردها يوحنان من طريقها و قطع من وجد معها ثم أسعفوه بامرأته و سار إلى أروم فحاربهم و هزمهم و عاد إلى القدس فحاصرها و عظم الضرر على أهلها شمعون خارج المدينة و يوحنان داخلها و لجأوا إلى الهيكل و حاربوا يوحنان فغلبهم و قتل منهم خلقا فاستدعوا شمعون لينصرهم من يوحنان فدخل و نقض العهد و فعل أشر من يوحنان
قال ابن كريون : ثم ورد الخبر إلى أسبنانوس و هو بمكانه من قيسارية بموت قيروش قيصر و أن الروم ملكوا عليهم مضعفا اسمه نطاوس فغضب البطارقة الذين مع أسبنانوس و ملكوه و سار إلى رومة و خلف نصف العسكر مع ابنه طيطش و قدم بين يديه قائدين إلى رومة لمحاربة نطاوس الذي ملكه الروم فهزم و قتل و سار أسبنانوس إلى إسكندرية و ركب البحر منها و رجع طيطش إلى قيسارية إلى أن ينسلخ فصل الشتاء و يزيح العلل
و عظمت الفتن و الحروب بين اليهود داخل القدس و كثر القتل حتى سالت الدماء في الطرقات و قتل الكهنونية على المذبح و هم لا يقربون الصلاة في المسجد لكثرة الدماء و تعذر المشي في الطرقات من سقوط حجارة الرمي و مواقد النيران بالليل و كان يوحنان أخبث القوم و أشرهم
و لما انسلخ الشتاء زحف طيطس في عساكر الروم إلى أن نزل على القدس و ركب إلى باب البلد يتخير المكان لمعسكره و يدعوهم إلى السلم فصموا عنه و أكمنوا له بعض الخوارج في الطريق فقاتلوه و خلص منهم بشدته فعبى عسكره من الغد و نزل بجبل الزيتون شرقي المدينة و رتب العساكر و الآلات للحصار و اتفق اليهود داخل المدينة و رفعوا الحرب بينهم و برزوا إلى الروم فانهزموا ثم عاودوا فظهروا ثم انتفضوا بينهم و تحاربوا و دخل يوحنان إلى القدس يوم الفطر فقتل جماعة من الكهنونة و قتل جماعة أخرى خارج المسجد و زحف طيطش و برزوا إليه فردوه إلى قرب معسكره و بعث إليهم قائده نيقانور في الصلح فأصابه سهم فقتله فغضب طيطش و صنع كبشا و أبراجا من الحديد توازي السور و شحنها بالمقاتلة فأحرق اليهود تلك الآلات و دفنوها و عادوا إلى الحرب بينهم
و كان يوحنان قد ملك القدس و معه ستة آلاف أو يزيدون من المقاتلة و مع شمعون عشرة آلاف من اليهود و خمسة آلاف من أروم و بقية اليهود بالمدينة مع العازر و أعاط طيطش الزحف بالآلات و ثلم السور الأول و ملكه إلى الثاني فاصطلح اليهود بينهم و تذامروا و اشتد الحرب و باشرها طيطش بنفسه ثم زحف بالآلات إلى السور الثاني فثلمه و تذامر اليهود فمنعوهم عنه و مكثوا كذلك أربعة أيام
و جاء المدد من الجهات إلى طيطش و لاذ اليهود بالأسوار و أغلقوا الأبواب و رفع طيطش الحرب و دعاهم إلى المسألة فامتنعوا فجاء بنفسه في اليوم الخامس و خاطبهم و دعاهم و جاء معه يوسف بن كريون فوعظهم و رغبهم في أمنة الروم و وعدهم و أطلق طيطش أسراهم فجنح الكثير من اليهود إلى المسألة و منعهم هؤلاء لرؤساء الخوارج و قتلوا من يروم الخروج إلى الروم و لم يبق من المدينة ما يعصمهم إلا السور الثالث
و طال الحصار و اشتد الجوع عليهم و القتل و من وجد خارج المدينة لرعي العشب قتله الروم و صلبوه حتى رحمهم طيطش و رفع القتل عمن يخرج في ابتغاء العشب ثم زحف طيطش إلى السور الثالث من أربه جهاته و نصب الآلات و صبر اليهود على الحرب و تذامر اليهود و صعب الحرب و بلغ الجوع في الشدة غايته و استأمن متاي الكوهن إلى الروم و هو الذي خرج في استدعاه شمعون فقتله شمعون و قتل بنيه و قتل جماعة من الكهنونية و العلماء و الأئمة ممن حذر منه أن يستأمن و نكر ذلك العازر بن عناني و لم يقدر على أكثر من الخروج من بيت المقدس و عظمت المجاعة فمات أكثر اليهود و أكلوا الجلود و الخشاش و الميتة ثم أكل بعضهم بعضا و عثر على امرأة تأكل ابنها فأصابت رؤساؤهم لذلك رحمة و أذنوا في الناس بالخروج فخرجت منهم أمم و هلك أكثرهم حين أكلوا الطعام و ابتلع بعضهم في خروجه ما كان له من ذهب أو جوهر ضنة به و شعر بهم الروم فكانوا يقتلونهم و يشقون عنها بطونهم و شاع ذلك في توابع العسكر من العرب و الأرمن فطردهم طيطش
و طمع الروم في فتح المدينة و زحفوا إلى سورها الثالث بالآلات و لم يكن لليهود طاقة بدفعها و إحراقها فثلمو السور و بنى اليهود خلف الثلمة فأصبحت منسدة و صدمها الروم بالكبش فسقطت من الحدة و استماتوا في تلك الحال إلى الليل ثم بيت الروم المدينة و ملكوا الأسوار عليهم و قاتلهم من الغد فانهزموا إلى المسجد و قاتلوا في الحصن و هدم طيطش البناء ما بين الأسوار إلى المسجد ليتسع المجال و وقف ابن كريون يدعوهم إلى الطاعة فلم يجيبوا و خرج جماعة من الكهنونية فأمنهم و منع الرؤساء بقيتهم ثم باكرهم طيطش بالتال من الغد فانهزموا الأقداس و ملك الروم المسجد و صحته
و اتصلت الحرب أياما و هدمت الأسوار كلها و ثلم سور الهيكل و أحاط العساكر بالمدينة حتى مات أكثرهم و فر كثير ثم اقتحم عليهم الحصن فملكه و نصب الأصنام في الهيكل و منع من تخريبه و نكر رؤساء الروم ذلك و دسوا من أضرم النار في أبوابه و سقفه و ألقى الكهنونة أنفسهم جزعا على دينهم و حزنوا و اختفى شمعون و يوحنان في جبل صهيون و بعث إليهم طيطش بالأمان فامتنعوا و طرقوا القدس في بعض الليالي فقتلوا قائدا من قواد العسكر و رجعوا إلى مكان اختفائهم ثم هرب عنهم أتباعهم و جاء يوحنان ملقيا بيده إلى طيطش فقيده و خرج إليه يوشع الكوهن بآلات من الذهب الخالص من آلات المسجد فيها منارتان و مائدتان ثم قبض على فنحاس خازن الهيكل فأطلعه على خزائن كثيرة مملوءة دنانير و دراهم و طيبا فامتلأت يده منها و رحل عن بيت المقدس بالغنائم و الأموال و الأسرى و أحصى الموتى في هذه الوقعة قال ابن كريون : فكان عدد الموتى الذين خرجوا على الباب للدفن بأخبار مناحيم الموكل به مائة و خمسة و عشرون ألفا و ثمانمائة و قال غير مناحيم كانت عدتهم ستمائة ألف دون من ألقي في الآبار أو طرح إلى خارج الحصن و قتل في الطرقات و لم يدفن و قال غيره كان الذي أحصي من الموتى و القتلى ألف ألف و مائة ألف و السبي و الأسارى مائة ألف كان طيطش في كل منزلة يلقي منهم إلى السباع إلى أن فرغوا و كان فيمن هلك شمعون أحد الخوارج الثلاثة
و أما الفرار بن عثمان فقد كان خرج من القدس عندما قتل شمعون أمتاي الكوهن كما ذكرنا فلما رحل طيطش عن القدس نزل في بعض القرى و حصنها و اجتمع إليه فل اليهود و اتصل الخبر بطيطش و هو في أنطاكية فبعث إليه عسكرا من الروم مع قائده سلياس فحاصرهم أياما ثم نهض الكهنونة و أولادهم و خرجوا إلى الروم مستميتين فقاتلوا إلى أن قتلوا عن آخرهم و أما يوسف بن كريون فافتقد أهله وولده في هذه الوقائع و لم يقف لهم بعدها على خبر و أراده طيطش على السكنى عنده برومة فتضرع إليه في البقاء بأرض القدس فأجابه إلى ذلك و تركه و انقرضت دولة اليهود أجمع و البقاء لله وحده سبحانه وتعالى لا انقضاء لملكه (2/152)
الخبر عن شأن عيسى بن مريم صلوات الله عليه في ولادته و بعثته و رفعه من الأرض و الإلمام بشأن الحواريين بعده و كتبهم الأناجيل الأربعة و ديانة النصارى بملته و اجتماع الأقسة على تدوين شريعته
كان بنو ماثان من ولد داود صلوات الله عليه كهنونية بيت المقدس و هو ماثان بن ألعازر بن أليهود بن أخس بن رادوق بن عازور بن ألياقيم بن أيود بن زور قابل بن سالات بن يوخنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني إسرائيل بن أمون بن عمون ابن منشا بن حزقيا بن أحاز بن يواش بن أحزيا بن يورام بن يهوشافاظ بن أسا بن رحبعم بن سليمان ابن داود صلوات الله عليهما و يوخنانيا بن يوشيا السادس عشر من ملوك بني سليمان ولد في جلاء بابل و هذا النسب نقلته من إنجيل متى و كانت الكهنونية العظمى من بعد بني حشمناي لهم و كان كبيرهم قبل عصر هيردوس عمران أبو مريم و نسبه ابن إسحق إلى أمون بن منشا الخامس عشر من ملوك بيت المقدس من لدن سليمان أبيهم و قال فيه عمران بن ياشم بن أمون و هذا بعيد لأن الزمان بين عمون و عمران أبعد من أن يكون بينهما أب واحد فإن أمون كان قبيل الخراب الأول و عمران كان في دولة هيردوس قبيل الخراب الثاني و بينهما قريب من أربعمائة سنة و نقل ابن عساكر و الظن أن ينقل عن مستند أنه من ولد زريافيل الذي ولي على بني إسرائيل عند رجوعهم إلى بيت المقدس وهو ابن يخنيا آخر ملوكهم الذي حبسه بختنصر وولى عمه صدقيا هو بعده كما مر و قال فيه : عمران بن ماثان بن فلان بن فلان إلى زريافيل و عد نحوا من ثمانية آباء بأسماء عبرانية لا وثوق بضبطها و هو أقرب من الأول و فيه ذكر ماثان الذي هو شهرتهم و لم يذكره ابن اسحق
و كان عمران أبو مريم كهنونا في عصره و كانت تحته حنة بنت فاقود بن فيل و كانت من العابدات و كانت أختها إيشاع و يقال خالتها تحت زكريا بن يوحنا و نسبه ابن عساكر إلى يهوشافاظ خامس ملوك القدس من عهد سليمان أبيهم و عد ما بينه و بين يهوشافاظ اثني عشر أبا أولهم يوحنا بأسماء عبرانية كما فعل في نسب عمران ثم قال و هو أبو يحيى صلوات الله عليهما و يقال بالمد و القصر من غير ألف و كان نبيا من بني إسرائيل صلوات الله عليهم و نقلت من كتاب يعقوب بن يوسف النجار مثان يعني ماثان من سبط داود و كان له ولدان يعقوب و يؤاقيم و مات فتزوج أمهما بعده مطنان و مطنان بن لاوي من سبط سليمان بن داود و سمي ماثان فولدت هالي من مطنان ثم تزوج و مات و لم يعقب فتزوج امرأته أخوه لأمه يعقوب بن ماثان فولدت منه يوسف خطيب مريم و نسب إلى هالي لأن من أحكام التوراة إن مات من غير عقب فامرأته لأخيه و أول ولد منها ينسب إلى الأول فلهذا قيل فيه يوسف بن هالي بن مطنان و إنما هو يوسف بن يعقوب بن ماثان و هو ابن عم مريم لحا
و كان ليوسف من البنين خمسة بنين و بنت و هم يعقوب و يوشا و بيلوت و شمعون و يهوذا وأختهم مريم كانوا يسكنون بيت لحم فارتحل بأهله و نزل ناصرة و سكن بها و تعلم النجارة حتى صار يلقب بالنجار و تزوج يؤاقيم حنة أخت إيشاع العاقر امرأة زكريا بن يوحنا المعمدان و أقامت ثلاثين سنة لا يولد لها فدعوا الله و ولد لها مريم فهي بنت يؤاقيم موثان و هو مثان و ولدت إيشاع العاقر من زكريا ابنه يحيى قلت في التنزيل مريم ابنة عمران فليعلم أن معنى عمران بالعبرانية يؤاقيم و كان له اسمان
و عن الطبري و كانت حنة أم مريم لا تحبل فنذرت لله إن حملت لتجعلن ولدها حبيسا ببيت المقدس على خدمته على عاداتهم في نذر مثله فلما حملت و وضعتها لفتها في خرقتها و جاءت بها إلى المسجد فدفعتها إلى عباده و هي ابنة أمامهم و كهنونهم فتنازعوا في كفالتها و أراد زكريا أن يستبد بها لأن زوجه إيشاع خالتها و نازعوه في ذلك لمكان أبيها من إمامهم فاقترعوا فخرجت قرعة زكريا عليها فكفلها و وضعها في مكان شريف من المسجد لا يدخله سواها و هو المحراب فيما قيل و الظاهر أنها دفعتها إليهم بعد مدة إرضاعها
فأقامت في المسجد تعبد الله و تقوم بسدانة البيت في نوبتها حتى كان يضرب بها المثل في عبادتها و ظهرت عليها الأحوال الشريفة و الكرامات كما قصه القرآن و كانت خالتها إيشاع زوج زكريا أيضا عاقرا و طلب زكريا من الله ولدا فبشره بيحيى نبيا كما طلب لأنه قال يرثني و يرث من آل يعقوب و هم أنبياء فكان كذلك و كان حاله في نشوه و صباه عجبا و ولد في دولة هيردوس ملك بني اسرائيل و كان يسكن القفار و يقتات الجراد و يلبس الصوف من وبر الإبل و ولاه اليهود الكهنونية ببيت المقدس ثم أكرمه الله بالنبوة كما قصه القرآن و كان لعهده على اليهود بالقدس أنطفيس بن هيردوس و كان يسمى هيردوس باسم أبيه و كان شريرا فاسقا و اغتصب امرأة أخيه و تزوجها و لها ولدان منه و لم يكن ذلك في شرعهم مباحا فنكر ذلك عليه العلماء و الكهنونية و فيهم يحيى بن زكريا المعروف بيوحنان و يعرفه النصارى بالمعمدان فقتل جميع من نكر عليه ذلك و قتل فيهم يحيى صلوات الله عليه و قد ذكر في قتله أسباب كثيرة و هذا أقربها إلى الصحة
و قد اختلف الناس هل كان أبوه حيا عند قتله فقيل إنه لما قتل يحيى طلبه بنو إسرائيل ليقتلوه ففر أمامهم و دخل في بطن شجرة كرامة له فدلهم عليه طرف ردائه خارجا منها فشقوها بالمنشار و شق زكريا فيها نصفين و قيل بل مات زكريا قبل هذا و المشقوق في الشجرة إنما هو شعيا النبي و قد مر ذكره و كذلك اختلف في دفنه فقيل دفن ببيت المقدس و هو الصحيح و قال أبو عبيد بسنده إلى سعيد بن المسيب أن بختنصر لما قدم دمشق وجد دم يحيى بن زكريا يغلي فقتل على دمه سبعين ألفا فسكن دمه و يشكل أن يحيى كان مع المسيح في عصر واحد باتفاق و أن ذلك كان بعد بختنصر بأحقاب متطاولة و في هذا ما فيه و في الإسرائيليات من تأليف يعقوب بن يوسف النجار أن هيردوس قتل زكريا عندما جاء المجوس للبحث عن إيشوع و الإنذار به و أنه طلب ابنه يوحنا ليقتله مع من قتل من صبيان بيت لحم فهربت به أمه إلى الشقراء و اختفت فطالب به أباه زكريا و هو كهنون في الهيكل فقال لا علم لي هو مع أمه فتهدده و قتله ثم قال بعد قتل زكريا بسنة تولى الكهنونية يعقوب بن يوسف إلى أن مات هيرودوس
و أما مريم سلام الله عليها فكانت بالمسجد على حالها من العبادة إلى أن أكرمها الله بالولاية و بين الناس في نبوتها خلاف من أجل خطاب الملائكة لها و عند أهل السنة أن النبوة مختصة بالرجل قاله أبو الحسن الأشعري و غيره و أدلة الفريقين في أماكنها و بشرت الملائكة باصطفاء الله لها و أنها تلد ولدا من غير أب يكون نبيا فعجبت من ذلك فأخبرتها الملائكة أن الله قادر على ما يشاء فاستكانت و عملت أنها محنة بما تلقاه من كلام الناس فاحتسبت
و في كتاب يعقوب بن يوسف النجار أن أمها حنة توفيت لثمان سنين من عمر مريم و كان من سنتهم أنها إن لم تقبل التزويج يفرض لها من أرزاق الهيكل فأوحى الله إليه أن يجمع أولاد هارون و يردها إليهم فمن ظهرت في عصاه آية تدفعها إليه تكون له شبه زوجة و لا يقربها و حضر الجمع يوسف النجار فخرج من عصاه حمامة بيضاء و وقفت على رأسه فقال له زكريا هذه عزراء الرب تكون لك شبه زوجة و لا تردها فاحتملها متكرها بنت اثنتي عشرة سنة إلى ناصرة فأقامت معه إلى أن خرجت يوما تستقي من العين فعرض لها الملك أولا و كلمها ثم عاودها و بشرها بولادة عيسى كما نص القرآن فحملت و ذهبت إلى زكريا ببيت المقدس فوجدته على الموت و هو يجود بنفسه فرجعت إلى ناصرة و رأى يوسف الحمل فلطم وجهه و خشي الفضيحة مع الكهنونية فيما شرطوا عليه فأخبرته بقول الملك فلم يصدق و عرض له الملك في نومه و أخبره أن الذي بها من روح القدس فاستيقظ و جاء إلى مريم فسجد لها و ردها إلى بيتها و يقال إن زكريا حضر لذلك و أقام فيهما سنة اللعان الذي أوصى به موسى فلم يصبهما شيء و برأهما الله و وقع في إنجيل متى أن يوسف خطب مريم ووجدها حاملا قبل أن يجتمعا فعزم على فراقها خوفا من الفضيحة فأمر في نومه أن يقبلها و أخره الملك بأن المولود من روح القدس و كان يوسف صديقا و ولد على فراشه إيشوع انتهى
و قال الطبري : كانت مريم و يوسف بن يعقوب ابن عمها و في رواية عنه أنه ابن خالها و كانوا سدنة في بيت المقدس لا يخرجان منه إلا لحاجة الإنسان و إذا نفد ماؤهما فيملآن من أقرب المياه فمضت مريم و تخلف عنها يوسف و دخلت المغارة التي كانت تعهد أنها للورد فتمثل لها جبريل بشرا فذهبت لتجزع فقال لها { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } فاستسقاها و عن وهب بن منبه أنه نفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى الرحم فاشتملت على عيسى فكان معها ذو قرابة يسمى يوسف النجار و كان في مسجد بجبل صهيون و كان لخدمته عندهم فضل و كانا يجمرانه و يقمانه و كانا صالحين مجتهدين في العبادة و لما رأى بها من الحمل استعظمه و عجب منه لما يعلم من صلاحها و أنها لم تغب قط عنه ثم سألها فردت الأمر إلى قدرة الله فسكت و قام بما ينوبها من الخدمة فلما بان حملها أفضت بذلك إلى خالتها إيشاع و كانت أيضا حبلى بيحيى فقالت لها إني أرى ما في بطني يسجد لها في بطنك ثم أمرت بالخروج من بلدها خشية أن يعيرها قوهما و يقتلوا ما في بطنها فاحتملها يوسف إلى مصر و أخذها المخاض في طريقها فوضعته كما قصه القرآن و احتملته على الحمار و أقامت تكتم أمرها من الناس و تتحفظ به حتى بلغ اثنتي عشرة سنة و ظهرت عليه الكرامات و شاع خبره فأمرت أن ترجع به إلى إيلياء فرجعت و تتابعت عنه المعجزات و انثال الناس عليه يستشفون و يسألون عن الغيوب
قال الطبري : و في خبر السدي أنها إنما خرجت من المسجد لحيض أصابها فكان نفخ الملك و أن إيشاع خالتها التي سألتها عن الجمل و ناظرتها فيه فحجتها بالقدرة و أن الوضع كان في شرقي بيت لحم قريبا من بيت المقدس و هو الذي بنى عليه بعض ملوك الروم البناء الهائل لهذا العهد
قال ابن العميد مؤرخ النصارى : ولد لثلاثة أشهر من ولادة يحيى بن زكريا و لإحدى و ثلاثين من دولة هيردوس الأكبر و لاثنتين و أربعين من ملك
أوغسطس قيصر
و في الإنجيل أن يوسف تزوجها و مضى بها ليكتم أمرها في بيت لحم فوضعته هنالك و وضعته في مذود لأنها لم يكن لها موضع نزل و أن جماعة من المجوس بعثهم ملك الفرس يسألون أين ولد الملك العظيم ؟ و جاءوا إلى هيردوس يسألونه و قالوا جئنا لنسجد له و حدثوه بما أخبر الكهان و علماء النجوم من شأن ظهوره و أنه يولد ببيت لحم ابن سنتين فما دونها و سمع أوغسطس قيصر بخبر المجوس فكتب إلى هيردوس يسأله فكتب له بمصدوقية خبره و أنه قتل من الصبيان و كان يوسف النجار قدر أمر أن يخرج به إلى مصر فأقام هنالك اثنتي عشرة سنة و ظهرت عليه الكرامات و هلك هيردوس الذي كان يطلبه و أمروا بالرجوع إلى إيليا فرجعوا و ظهر صدق شعيا النبي في قوله عنه من مصر دعوتك و في كتاب يعقوب بن يوسف النجار حذرا من أن يكتب كما أمر أوغسطس في بعض أيامه فاجأها المخاض و هي في طريقها على حمار فصابرته إلى قرية بيت لحم وولدت في غار و سماه إيشوع و أنه لما بلغ سنتين و كان من أمر المجوس ما قدمناه حذر هيرودوس من شأنه و أمر أن يقتل الصبيان ببيت لحم فخرج يوسف به و بأمه إلى مصر أمر بذلك في نومه و أقام بمصر سنتين حتى مات هيردوس ثم أمر بالرجوع فرجع إلى ناصرة و ظهرت عليه الخوارق من إحياء الموتى و إبراء المعتوهين و خلق الطير و غير ذلك من خوارقه حتى إذا بلغ ثماني سنين كف عن ذلك
ثم جاء يوحنان المعمدان من البرية و هو يحيى بن زكريا و نادى بالتوبة و الدعاء إلى الدين و قد كان شعيا أخبر أنه يخرج أيام المسيح و جاء المسيح من الناصرة و لقيه بالأردن فعمده يوحنان و هو ابن ثلاثين سنة ثم خرج إلى البرية و اجتهد في العبادة و الصلاة و الرهبانية و اختار تلامذته الاثني عشر : سمعان بطرس و أخوه أندراوس و يعقوب بن زيدي و أخوه يوحنا و فيليبس و برتولوماوس و توما و متى العشار و يعقوب بن حلفا و تداوس و سمعان القناني و يهوذا الأسخريوطي و شرع في إظهار المعجزات ثم قبض هيرودوس الصغير على يوحنان و هو يحيى بن زكريا لنكيره عليه في زوجة أخيه فقتله و دفن بنابلس
ثم شرع المسيح الشرائع من الصلاة و الصوم و سائر القربات و حلل و حرم و أنزل عليه الإنجيل و ظهرت على يديه الخوارق و العجائب و شاع ذكره في النواحي و اتبعه الكثير من بني إسرائيل و خافه رؤساء اليهود على دينهم و تآمروا في قتله و جمع عيسى الحواريين فباتوا عنده ليلتين يطعمهم و يبالغ في خدمتهم بما استعظموه قال و إنما فعلته لتتأسوا به و قال يعظهم ليكفرن بي بعضكم قبل أن يصيح الديك ثلاثا و يبيعني أحدكم بثمن بخس و تأكلوا ثمني ثم افترقوا و كان اليهود قد بعثوا العيون عليهم فأخذوا شمعون من الحواريين فتبرأ منهم و تركوه و جاء يهوذا الأسخريوطي و بايعهم على الدلالة عليه بثلاثين درهما و أراهم مكانه الذي كان يبيت فيه و أصبحوا به إلى فلاطش النبطي قائد قيصر على اليهود و حضر جماعة الكهنونية و قالوا هذا يفسد ديننا و يحل نواميسنا و يدعي الملك فاقتله و توقف فصاحوا به و توعدوه بإبلاغ الأمر إلى قيصر فأمر بقتله
و كان عيسى قد أبلغ الحواريين بأنه يشبه على اليهود في شأنه فقتل ذلك الشبه و صلب و أقام سبعا و جاءت أمه تبكي عند الخشبة فجاءها عيسى و قال : مالك تبكي ؟ قالت : عليك قال : إن الله رفعني و لم يصبني إلا خير و هذا شيء شبه لهم و قولي للحواريين يلقوني بمكان كذا فانطلقوا إليه و أمرهم بتبليغ رسالته في النواحي كما عين لهم من قبل و عند علماء النصارى أن الذي بعث من الحواريين إلى رومة بطرس و معه بولس من الأتباع و لم يكن حواريا و إلى أرض السودان و الحبشة و يعبرون عن هذه الناحية بالأرض التي تأكل أهلها و الناس متى العشار و أندراوس إلى أرض بابل و المشرق توماس و إلى أرض أفريقية فيلبس و إلى أفسوس قرية أصحاب الكهف يوحناس و إلى أورشيلم و هي بيت المقدس يوحنا و إلى أرض العرب و الحجاز برتلوماوس و إلى أرض برقة و البربر شمعون القناني
قال ابن إسحق : ثم وثب اليهود على بقية الحواريين يعذبونهم و يفتنونهم و سمع قيصر بذلك و كتب إليه فلاطش النبطي قائده بأخباره و معجزاته و بغي اليهود عليه و على يوحنان قبله فأمرهم بالكف عن ذلك و يقال قتل بعضهم و انطلق الحواريون إلى الجهات التي بعثهم إليها عيسى فآمن به بعض و كذب بعض و دخل يعقوب أخو يوحنان إلى رومة فقتله غاليوس قيصر و حبس شمعون ثم خلص و سار إلى أنطاكية ثم رجع إلى رومة أيام قلوديش قيصر بعد غاليوس و اتبع كثير من الناس و آمن به بعض نساء القياصرة و أخبرها بخبر الصليب فدخلت إلى القدس و أخرجته من تحت الزبل و القمامات بمكان الصلب و غشته بالحرير و الذهب و جاءت به إلى رومة
و أما بطرس كبير الحواريين و بولص اللذان بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة فإنهما مكثا هنالك يقيمان دين النصرانية ثم كتب بطرس الإنجيل بالرومية و نسبه إلى مرقص تلميذه و كتب متى إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس و نقله من بعد ذلك يوحنان بن زيدي إلى رومة و كتب لوقا إنجيله بالرومية و بعثه إلى بعض أكابر الروم و كتب يوحنا بن زيدي إنجيله برومة ثم اجتمع الرسل الحواريون برومة و وضعوا القوانين الشرعية لدينهم و صيروها بيد إقليمنطس تلميذ بطرس و كتبوا فيها عد الكتب التي يجب قبولها فمن القديمة : التوراة خمسة أسفار و كتاب يوشع بن نون و كتاب القضاة و كتاب راعوث و كتاب يهوذا و أسفار الملوك أربعة كتب و سفر بنيامين و سفر المقباسين ثلاثة كتب و كتاب عزرا الإمام و كتاب أشير و كتاب قصة هامان و كتاب أيوب الصديق و مزامير داود النبي و كتب ولده سليمان خمسة و نبوات الأنبياء الصغار و الكبار ستة عشر كتابا و كتاب يشوع بن شارخ و من الحديثة : كتب الإنجيل الأربعة و كتب القتاليقون سبع رسائل و كتاب بولس أربع عشرة رسالة و الإبركسيس و هو قصص الرسل و يسمى أفليمد ثمانية كتب تشتمل على كلام الرسل و ما أمروا به و نهوا عنه
و كتاب النصارى الكبار إلى أساقفتهم الذين يسمون البطارقة ببلاد معينة يعلمون بها دين النصرانية فكان : برومة بطرس الرسول الذي بعثه عيسى صلوات الله عليه و كان ببيت المقدس يعقوب النجار و كان بالاسكندرية مرقص تلميذ بطرس و كان بيزنطية و هي قسطنطينية أندرواس الشيخ و كان بإنطاكية
و كان صاحب هذا الدين عندهم و المقيم لمراسمه يسمونه البطرك و هو رئيس الملة و خليفة المسيح فيهم و يبعث نوابه و خلفاءه إلى من بعد عنهم من أمم النصرانية و يسمونه الأسقف أي نائب البطرك و يسمون القرا بالقسيس و صاحب الصلاة بالجاثليق و قومه المسجد بالشمامسة و المنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة الراهب و القاضي بالمطران و لم يكن بمصر بذلك العهد أسقف إلى أن جاء دهدس الحادي عشر من أساقفة اسكندرية و كان بطرك أساقفة بمصر و كان الأساقفة يسمون البطرك أبا و القسوس يسمون الأساقفة أبا فوقع الاشتراك اسم الأب فاخترع اسم البابا لبطرك الاسكندرية ليتميز عن الأسقف في اصطلاح القسوس و معناه أبو الأباء فاشتهر هذا الاسم ثم انتقل إلى بطرك رومة لأنه صاحب كرسي بطرس كبير الحواريين و رسول المسيح و أقام على ذلك لهذا العهد يسمى البابا
ثم جاء بعد قلوديش قيصر نيرون قيصر فقتل بطرس كبير الحواريين و بولص اللذين بعثهما عيسى صلوات الله عليه إلى رومة و جعل مكان بطرس أرنوس برومة و قتل مرقص الإنجيلي تلميذ بطرس و كان بالاسكندرية يدعو إلى الدين سبع سنين و يبعثه في نواحي مصر و برقة و المغرب و قتله نيرون و ولى بعده حنينيا و هو أول البطاركة عليها بعد الحواريين و ثار اليهود في دولته على أسقف بيت المقدس و هو يعقوب النجار و هدموا البيعة و دفنوا الصليب إلى أن أظهرته هيلانة أم قسطنطين كما نذكره بعد و جعل نيرون مكان يعقوب النجار ابن عمه شمعون بن كيافا
ثم اختلفت حال القياصرة من بعد ذلك في الأخذ بهذا الدين و تركه كما يأتي في أخبارهم إلى أن جاء قسطنطين بن قسطنطين باني المدينة المشهورة و كانت في مكانها قبله مدينة صغيرة تسمى بيزنطية و كانت أمه هيلانة صالحة فأخذت بدين المسيح لاثنتين و عشرين سنة من ملك قسطنطين ابنها و جاءت إلى مكان الصليب فوقفت عليه و ترحمت و سألت عن الخشبة التي صلب عليها بزعمهم فأخبرت بما فعل اليهود فيها و أنهم دفنوها و جعلوا مكانها مطرحا للقمامة و النجاسة و الجيف و القاذورات فاستعظمت ذلك و استخرجت تلك الخشبة التي صلب عليها بزعمهم و قيل من علامتها أن يمسها ذو العاهة فيعافى لوقته فطهرتها و طيبتها و غشتها بالذهب و الحرير و رفعتها عندها للتبرك بها و أمرت ببناء كنيسة هائلة بمكان الخشبة تزعم أنها قبره و هي التي تسمى لهذا العهد قمامة و خربت مسجد بني اسرائيل و أمرت بأن تلقى القاذورات و الكناسات على الصخرة التي كانت عليها القبة التي هي قبلة اليهود إلى أن أزال ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عند فتح بيت المقدس كما نذكره هنالك
و كان من ميلاد المسيح إلى وجود الصليب ثلثمائة و ثمان و عشرون سنة و أقام هؤلاء النصرانية بطاركتم و أساقفتهم على إقامة دين المسيح على ما وضعه الحواريون من القوانين و العقائد و الأحكام ثم حدث بينهم اختلاف في العقائد و سائر ما ذهبوا إليه من الإيمان بالله و صفاته و حاش لله و للمسيح و للحواريين أن يذهبوا إليه و هو معتقدهم التثليث و إنما حملهم عليه ظواهر من كلام المسيح في الإنجيل لما يهتدوا إلى تأويلها و لا وقفوا على فهم معانيها مثل قول المسيح حين صلب بزعمهم : أذهب إلى أبي و أبيكم و قال : افعلوا كذا و كذا من البر لتكونوا أبناء أبيكم في السماء و تكونوا تامين كما أن أباكم الذي في السماء تام و قال له في الإنجيل إنك أنت الابن الوحيد و قال له شمعون الصفا إنك ابن الله حقا فلما أثبتوا هذه الأبوة من ظاهر هذا اللفظ زعموا أن عيسى ابن مريم من أب قديم و كان اتصاله بمريم تجسد كلمة منه مازجت جسد المسيح و تدرعت به فكان مجموع الكلمة و الجسد ابنا و هو ناسوت كلي قديم أزلي و ولدت مريم إلها أزليا و القتل و الصلب وقع على الجسد و الكلمة و يعبرون عنهما بالناسوت و اللاهوت
و أقاموا على هذه العقيدة و وقع بينهم فيها اختلاف و ظهرت مبتدعة من النصرانية اختلفت أقوالهم الكفرية كان من أشدهم ابن دنصان و دافعهم هؤلاء الأساقفة و البطاركة عن معتقدهم الذين كانوا يزعمونه حقا وظهر يونس الشميصاني بطرك انطاكية بعد حين أيام افلوديس قيصر فقال بالواحدانية و نفى الكلمة و الروح و تبعه جماعة على ذلك ثم مات فرد الأساقفة مقالته و هجروها و لم يزالوا على ذلك إلى أيام قسطنطين بن قسطنطين فتنصر و دخل في دينهم و كان باسكندرية أسكندروس البطرك و كان لعهده أريوش من الأساقفة و كان يذهب إلى حدوث الابن و أنه إنما خلق الخلق بتفويض الأب إليه في ذلك فمنعه اسكندروس الدخول إلى الكنيسة و أعلم أن إيمانه فاسد و كتب بذلك إلى سائر الأساقفة و البطاركة في النواحي و فعل ذلك بأسقفين آخرين على مثل رأي أريوش فدفعوا أمرهم إلى قسطنطين و أحضرهم جميعا لتسع عشرة من دولته و تناظروا و لما قال أريوش : إن الابن حادث و ان الأب فوض إليه بالخلق و قال الاسكندروس : بالخلق استحق الألوهية فاستحسن قسطنطين قوله و أذن له أن يشد بكفر أريوش
و طلب الاسكندروس باجتماع النصرانية لتحرير المعتقد الإيماني فجمعهم قسطنطين و كانوا ألفين و ثلثمائة و أربعين أسقفا و ذلك في مدينة نيقية فسمي المجتمع مجتمع نيقية و كان رئيسهم الإسكندروس بطرك إسكندرية و أسطانس بطرك أنطاكية و مقاريوس أسقف بيت المقدس و بعث سلطوس بطرك رومة بقسيس حضر معهم لذلك نيابة عنه فتفاوضوا و تناظروا و اتفقوا عنهم بعد الاختلاف الكثير على ثلثمائة و ثمانية عشر أسقفا على رأي واحد فسار قسطنطين إلى قولهم و أعطى سيفه و خاتمه و باركوا عليه و وضعوا له قوانين الدين و الملك و نفى أريوش و أشيد بكفره و كتبوا العقيدة التي اتفق عليها أهل ذلك المجمع و نصها عندهم على ما نقله ابن العميد من مؤرخيهم و الشهرستاني في كتاب الملل و النحل و هو :
نؤمن بالله الواحد الأحد الأب مالك كل شيء و صانع ما يرى و ما لا يرى و بالابن الوحيد إيشوع المسيح ابن الله ذكر الخلائق كلها و ليس بمصنوع إله حق من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم و كل شيء الذي من أجلنا و من أجل خلاصنا بعث العوالم و كل شيء الذي نزل من السماء و تجسد من روح القدس و ولد من مريم البتول و صلب أيام فيلاطوس و دفن ثم قام في اليوم الثالث و صعد إلى السماء و جلس على يمين أبيه و هو مستعد للمجيء تارة أخرى بالقضاء بين الأحياء و الأموات و تؤمن بروح الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه بمعمودية واحدة لغفران الخطايا و بجماعة قدسية مسيحية جاثليقية و بقيام أبداننا بالحياة الدائمة أبد الآبدين انتهى
هذا هو اتفاق المجمع الأول الذي هو مجتمع نيقية و فيه إشارة إلى حشر الأبدان و لا يتفق النصارى عليه و إنما يتفقون على حشر الأرواح و يسمون هذه العقيدة الأمانة و وضعوا معها قوانين الشرائع و يسمونها الهيمايون
و توفي الإسكندروس البطرك بعد هذا المجمع بخمسة أشهر و لما عمرت هلانة أم قسطنطين الكنائس و أحب الملك أن يقدسها و يجمع الأساقفة لذلك و بعث أوسانيوس بطرك القسطنطينية و حضر معهم أثناس بطرك الإسكندرية و اجتمعوا في صور و كان أوسانيوس الذي أخرجه اسكندروس مع أربوس من كنيسة إسكندرية
و كان بسب بذلك مجمع نيقية و كتاب الأمانة و نفي أريوس حينئذ و أوسانيوس و صاحبهما و لعنوا جاء أوسانيوس من بعد ذلك و أظهر البراءة من أريوس و من مقالته فقبله قسطنطين و جعله بطركا بالقسطنطينية فلما اجتمعوا في صور و كان فيهم أومانيوس على رأي أريوس فأشار أوسانيوس بطرك القسطنطينية بأن يظاهر أثناس بطرك الإسكندرية عن مقالة أريوس فقال أومانيوس : إن أريوس لم يقل إن المسيح خلق العالم و إنما قال هو كلمة الله التي بها خلق كما وقع في الإنجيل فقال أثناس بطرك الإسكندرية : و هذا الكلام أيضا يقتضي أن الابن مخلوق و أنه خلق المخلوقات دون الأب لأنه إذا كان يخلق به فالأب لم يخلق شيئا لأنه مستعين بغيره و الفاعل بغيره محتاج إلى ذلك المتمم فهو في ذاته الخالق و الله سبحانه منزه عن ذلك و إن زعم أريوس أن الأب يريد الشيء و الابن يكونه فقد جعل فعل الابن أتم لأن الأب إنما له الإرادة فقط و للابن الإختراع فهو أتم
فلما ظهر بطلان مقالة أريوس و ثبوا على أومانيوس المناظر عن مقالة أريوس و ضربوه ضربا وجيعا و خلصه ابن أخت الملك ثم قدسوا الكنائس و انفض الجمع و بلغ الخبر إلى قسطنطين فندم على بطركية أوسانيوس بالقسطنطينية و غضب عليه و مات لسنتين من رياسته و اجتمع بعد ذلك أصحاب أريوس إلى قسطنطين فحسنوا له تلك المقالة و أن جماعة نيقية ظلموا أريوس و بغوا عليه وصدوا عن الحق في قولهم إن الأب مساو للابن في الجوهرية و كاد الملك أن يقبلا منهم فكتب إليه كيراش أسقف بيت المقدس يحذره من مقالة أريوس فقبل و رجع و اختلف حال ملوك القياصرة بعد قسطنطين في الأخذ بالأمانة أو بمقالة أريوس و ظهور إحدى الطائفتين متى كان الملك على دينهم و أفحش بعض ملوك القياصرة في الحق على مخالفه فقال له بعض العلماء و الحكماء : لا تنكر المخالفة فالحنفاء يختلفون أيضا و إنما هو الخلق يحمدون الله و يصفونه بالصفات الكثيرة و الله يحب ذلك فسكن بعض الشيء و كان بعضهم يعرض عن الطائفتين و يخلي كل أحد و دينه ثم كان المجمع الثاني بقسطنطينية بعد مجمع نيقية بمائتين و خمسين سنة اجتمعوا للنظر في مقالة مقدونيوس و سليوس بأن جسد المسيح بغيرنا موت و أن اللاهوت أغناه عنها مستدلين بما وقع في الإنجيل أن الكلمة صار لحما و لم يقل صار إنسانا و جعلا من الإله عظيما و أعظم منه و الأب أفضل عظما و قال : إن الأب غير محدود في القوة و في الجواهر فأبطلوا هذه المقالة و لعنوهما و أشادوا بكفرهما و زادوا في الأمانة التي قررها جماعة نيقية ما نصه : و نؤمن بروح القدس المنتقى من الأب و لعنوا من يزيد بعد ذلك على كلمة الأمانة أو ينقص منها
ثم كان لهم بعد ذلك بأربعين سنة المجمع الثالث على نسطوريوس البطرك بالقسطنطينة لأنه كان يقول : إن مريم لم تلد إلها و إنما ولدت إنسانا و إنما اتحد به في المشيئة لا في اللذات و ليس هو إلها حقيقية بل بالمواهبة و الكرامة و يقول بجوهرين و أقنومين : و هذا الرأي الذي أظهره نسطوريوس كان رأي تاودوس و ديودوس الأسقفين و كان من مقالتهما أن المولود من مريم هو المسيح و المولود من الآب هو الابن الأزلي و الابن الأزلي حل في المسيح المحدث فسمي المسيح ابن الله بالموهبة و الكرامة وإنما الاتحاد بالمشيئة و الإرادة فأثبتوا لله ولدين أحدهما بالجوهر و الثاني بالنعمة و بلغت مقالة نسطوريوس إلى كرلس بطرك اسكندرية فكتب إلى بطرك رومة و هو أكليمس و إلى يوحنا و هو بطرك أنطاكية و إلى يونالوس أسقف بيت المقدس فكتبوا إلى نسطوريوس ليدفعوه عن ذلك بالحجة فلم يرجع و لا التفت إلى قولهم فاجتمعوا في مدينة أفسيس في مائتين أسقفا للنظر في مقالته فقرروا إبطالها و لعنوه و أشاروا بكفره و وجد عليهم يوحنا بطرك انطاكية حيث لم ينتظروا حضوره فخالفهم و وافق نسطوريوس ثم أصلح بينهم باوداسوس من بعد مدة و اتفقوا على نسطوريوس و كتب أساقفة المشارقة أمانتهم و بعثوا بها إلى كرلس فقبلها و نفى نسطوريوس إلى صعيد مصر فنزل أخميم و مات بها لسبع سنين من نزولها و ظهرت مقالته في نصارى المشرق و بفارس و العراق و الجزيرة و الموصل إلى الفرات
و كان بعد ذلك بإحدى و عشرين سنة المجمع الرابع بمدينة خلقدونية اجتمع فيه ستمائة و أربعة و ثلاثون أسقفا من فتيان قيصر للنظر في مقالة ديسقورس بطرك الإسكندرية لأنه كان يقول : المسيح جوهر من جوهرين و أقنوم من أقنومين و طبيعة من طبيعتين و مشيئة من مشيئتين و كانت الأساقفة و البطاركة لذلك العهد يقولون بجوهرين و طبيعتين و مشيئتين و أقنوم واحد فخالفهم ديسقورس في بعض الأساقفة و كتب خطه بذلك و لعن من يخالفه فأراد مرقيان قيصر قتله فأشارت البطارقة بإحضاره و جمع الأساقفة لمناظرته فحضر بمجلس مرقيان قيصر و افتضح في مخاطبتهم و مناظرتهم خاطبته زوج الملك فأساء الرد فلطمته بيدها و تناوله الحاضرون بالضرب و كتب مرقيان قيصر إلى أهل مملكته في جميع النواحي بأن مجمع خلقدونية هو الحق و من لا يقبله يقتل و مر ديسقورس بالقدس و أرض فلسطين و هو مضروب منفي فاتبعوا رأيه و كذلك اتبعه أهل مصر و الإسكندرية و ولي و هو في النفي أساقفة كثيرة كلهم يعقوبية
قال ابن العميد : و إنما سمي أهل مذهب ديسقورس يعقوبية لأن اسمه كان في الغلمانية يعقوب وكان يكتب إلى المؤمنين من المسكين المنفي يعقوب و قيل بل كان له تلميذ اسمه يعقوب فنسبوا إليه و قيل بل كان شاويرش بطرك أنطاكية على رأي ديسقورس و كان له تلميذ اسمه يعقوب فكان شاويرش يبعث يعقوب إلى المؤمنين ليثبتوا على أمانة ديسقورس فنسبوا إليه
قال : و من جمع خلقدونية افترقت الكنائس و الأساقفة إلى يعقوبية و ملكية و نسطورية فاليعقوبية أهل مذهب ديسقورس الذي قررناه آنفا و الملكية أهل الأمانة التي قررها جماعة خلقدونية بعدهم و عليها جمهور النصرانية و النسطورية اهل المجمع الثالث و أكثرهم بالمشرق و بقي الملكية و اليعقوبية يتعاقبون في الرياسة على الكراسبي بحسب من يريدهم من القياصرة و ما يختارونه من المذهبين
ثم كان بعد ذلك بمائة و ثلاثين سنة أو ثلاث و ستين سنة المجمع الخامس بقسطنطينية في أيام يوسيطانوس قيصر للنظر في مقالة أقفسح لأنه نقل عنه أنه يقول : بالتناسخ و ينكر البعث و نقل عن أساقفة أنقرا و المصيصة و الرها أنهم يقولون أن جسد المسيح فنطايسا فأحضر قيصر جمعهم بالقسطنطينية ليناظرهم البطرك بها فقال البطرك : إن كان جسد المسيح فني فقوله و فعله كذلك و قال الأسقف أقفسح : إنما قام المسيح من بين الأموات ليحقق البعث و القيامة فكيف تنكر ذلك أنت ؟ و جمع لهم مائة و عشرين أسقفا فأشادوا بكفره و أوجبوا لعنتهم و لعنة من يقول بقولهم و استقرت فرق النصارى على هذه الثلاثة (2/167)
الخبر عن الفرس و ذكر أيامهم و دولهم و تسمية ملوكهم و كيف كان مصير أمرهم إلى تمامه و انقراضه
هذه الأمة من أقدم أمم العالم أشدهم قوة و آثارا في الأرض و كانت لهم في العالم دولتان عظيمتان طويلتان : الأولى منهما الكينية و يظهر أن مبتدأها و مبتدأ دولة التبابعة و بني إسرائيل واحد و أن الثلاثة متعاصرة و دولة الكينية هذه هي التي غلب عليها الإسكندر و الساسانية الكسروية و يظهر أنها معاصرة لدولة الروم بالشام و هي التي غلب عليها المسلمون و أما ما قبل هاتين الدولتين فبعيد و أخباره متعارضة و نحن ذاكرون ما اشتهر من ذلك و أما أنسابهم فلا خلاف بين المحققين أنهم من ولد سام بن نوح و أن جدهم الأعلى الذي ينتمون إليه هو فرس و المشهور أنهم من ولد إيران بن أشوذ بن سام بن نوح و أرض إيران هي بلاد الفرس و لما عربت قيل لها إعراق هذا عند المحققين و قيل إنهم منسوبون إلى إيران بن إيران بن أشوذ و قيل إلى غليم بن سام و وقع في التوراة ذكر ملك الأهواز كردامر من بني غليم فهذا أصل هذا القول و الله أعلم لأن الأهواز من ممالك بلاد فارس و قيل : إلى لاوذ بن إرم بن سام و قيل إلى أميم بن لاوذ و قيل إلى يوسف بن يعقوب بن إسحق و يقال إن الساسانية فقط من ولد إسحق و أنه يسمى عندهم وترك و أن جدهم منوشهر بن منشحر بن فرهس بن وترك هكذا نقل المسعودي هذه الأسماء و هي كما تراه غير مضبوطة و فيما قيل : إن الفرس كلهم من ولد إيران بن أفريدون الآتي ذكره و أن من قبله لا يسمون بالفرس و الله أعلم و كان أول ما ملك إيران أرض فارس فتوارث أعقابه الملك ثم صارت لهم خراسان و مملكة النبط و الجرامقة ثم اتسعت مملكتهم إلى الإسكندرية غربا و باب الأبواب شمالا و في الكتب أن أرض إيران هي أرض الترك و عند الإسرائيليين أنهم من ولد طيراس بن يافث و إخوتهم بنو مادي بن يافث و كانوا مملكة واحدة
فأما علماء الفرس و نسابتهم فيأتون من هذا كله و ينسبون الفرس إلى كيومرث و لا يرفعون نسبه إلى ما فوقه و معنى هذا الاسم عندهم ابن الطين و هو عندهم أول النسب هذا رأيهم و أما مواطن الفرس فكانت أول أمرهم بأرض فارس و بهم سميت و يجاورهم إخوانهم في نسب أشوذ بن سام و هم فيما قال البيهقي : الكرد و الديلم و الخزر و النبط و الجرامقة ثم صارت لهم خراسان و مملكة النبط و الجرامقة و سائر هؤلاء الأمم ثم اتسعت ممالكهم إلى الإسكندرية
و في هذا الجيل على ما اتفق عليه المؤرخون أربع طبقات : الطبقة الأولى تسمى البيشدانية و الطبقة الثانية تسمى الكينية و الطبقة الثالثة تسمى الأشكانية و الطبقة الرابعة تسمى الساسانية و مدة ملكهم في العالم على مانقل ابن سعيد عن كتاب تاريخ الأمم لعلي بن حمزة الأصبهاني و ذلك من زمن كيومرث أبيهم إلى مهلك يزدجرد أيام عثمان أربعة آلاف سنة و مائتا سنة و نحو إحدى و ثمانين سنة و كيومرث عندهم هو أول ملك نصب في الأرض و يزعمون فيما قال المسعودي أنه عاش ألف سنة و ضبطه بكاف أول الاسم قبل الياء المثناة من أسفل و السهيلي ضبطه بجيم مكان الكاف و الظاهر أن الحرف بين الجيم و الكاف كما قدمناه (2/180)
الطبقة الأولى من الفرس و ذكر ملوكهم و ما صار إليه في الخليفة أحوالهم
الفرس كلهم متفقون على أن كيومرت هو آدم الذي هو أول الخليقة و كان له ابن اسمه منشا و لمنشا سيامك و لسيامك أفروال و معه أربعة بنين و أربع بنات و من أفروال كان نسل كيومرت و الباقون انقرضوا فلا يعرف لهم عقب قالوا : و ولد لأفروال أوشهنك بيشداد فاللفظة الأولى حرفها الأخير بين الكاف و القاف و الجيم و اللفظة الأخرى معناها بلغتهم النور قاله السهيلي
و قال الطبري : أول حاكم بالعدل و كان أفروال وارث ملك كيومرت و ملك الأقاليم السبعة قال الطبري عن ابن الكلبي : إنه أوشهنك بن عابر بن شالخ قال : و الفرس تدعيه و تزعم أنه بعد آدم بمائتي سنة قال و إنما كان نوح بعد آدم بمائتي سنة فصيره بعد آدم و أنكره الطبري لأن شهرة أوشهنك تمنع من مثل هذا الغلط فيه و يزعم بعض الفرس أن أوشهنك بيشداد هو مهلايل و أن أباه أفروال هو قينن و أن سيامك هو أنوش و أن منشا هو شيث و أن كيومرت هو آدم قاتل و زعمت الفرس أن ملك أوشهنك كان أربعين سنة فلا يبعد أن يكون بعد آدم بمائتي سنة و قال بعض علماء الفرس : أن كيومرت هو كومر بن يافث بن نوح و أنه كان معمرا و نزل جبل دنباوند من جبال طبرستان و ملكها ثم ملك فارس و عظم أمره و أمر بنيه حتى ملكوا بابل و أن كيومرت هو الذي بنى المدن و الحصون و اتخذ الخيل و تسمى بآدم و حمل الناس على دعائه بذلك و أن الفرس من عقب ولده ماداي و لم يزل الملك في عقبهم في الكينية و الكسروية إلى آخر أيامهم
و تقول الفرس أن أوشهنك و هو مهلايل ملك الهند قالوا و ملك بعد أوشهنك طهمورث بن أنوجهان بن أنكهد بن أسكهد بن أوشهنك و قيل مكان أسكهد فيشداد و كلها أسماء أعجمية لا عهدة علينا في نقلها لعجمتها و انقطاع الرواية في الأصول التي نقلت منها
قال ابن الكلبي : إن طهمورث أول ملوك بابل و أنه ملك الأقاليم كلهم و كان محمودا في ملكه و في أول سنة من ملكه ظهر بيوراسب و دعا إلى ملة الصابئة و قال علماء الفرس : ملك بعد طهمورث جمشيد و معناه الشجاع لجماعة و هو جم بن نوجهان أخو طهمورث و ملك الأرض و استقام أمره ثم بطر النعمة و ساءت أحواله فخرج عليه قبل موته بسنة بيوراسب و ظفر به فنشره بمنشار و أكله و شرط أمعاءه و قيل إنه ادعى الربوبية فخرج عليه أولا أخوه أستوير فاختفى ثم خرج بيوراسب فانتزع الأمر من يده و ملك سبعمائة سنة و قال ابن الكلبي مثل ذلك
قال الطبري : بيوراسب هو الازدهاك و العرب تسميه الضحاك و هو بصاد بين السين و الزاي و جاء قريب من الهاء و كاف قريبة من القاف و هو الذي عني أبو نواس بقوله :
( و كان منا الضحاك تعبده الـ ... جامل و الجن في محاربها ) لأن اليمن تدعيه قال : و تقول العجم إن جمشيد زوج أخته من بعض أهل بيته و ملك على اليمن فولدت الضحاك و تقول أهل اليمن في نسبه الضحاك بن علوان بن عبيدة بن عويج و أنه بعث على مصر أخاه سنان بن علوان ملكا و هو فرعون إبراهيم قاله ابن الكلبي
و أما الفرس فينسبونه هكذا : بيوارسب بن رتيكان بن ويدوشتك بن فارس بن أفروال و منهم من خالف في هذا و يزعمون أنه ملك الأقاليم كلها و كان ساحرا كافرا و قتل أباه و كان أكثر إقامته ببابل
و قال هشام : ملك الضحاك و هو نمرود الخليل بعد جمشيد و أنه التاسع منهم و كان مولده بدنباوند و أن الضحاك سار إلى الهند فخالفه أفريدون إلى بلاده فملكها و رجع الضحاك فظفر به أفريدون و حبسه بجبال دنباوند و اتخذ يوم ظفر به عيدا و عند الفرس أن الملك إنما كان للبيت الذي وطنه أوشهنك و جمشيد و أن الضحاك هو بيوارسب خرج عليهم و بنى بابل و جعل النبط جنده و غلب أهل الأرض بسحره و خرج عليه رجل من عامة أصبهان اسمه عالي و بيده عصا علق فيها جرابا و اتخذها راية و دعا الناس إلى حربه فأجابوا و غلبه فلم يدع الملك و أشار بتولية بني جمشيد لأنه من عقب أوشهنك ملكهم الأول ابن أفروال فاستخرجوا أفريدن من مكان اختفائه فملكوه و اتبع الضحاك فقتله و قيل أسره بدنباوند و يقال كان على عهد نوح و إليه بعث و لهذا يقال إن أفريدون هو نوح والتحقيق عند نسابة الفرس على ما نقل هشام بن الكلبي أن أفريدون من ولد جمشيد بينهما تسعة آباء و ملك مائتي سنة و رد غصوب الضحاك و مظالمه وكان له ثلاثة بنين الأكبر سرم و الثاني طوج و الثالث إيرج و أنه قسم الأرض بينهم فكانت الروم و ناحية المغرب لسرم و الترك و الصين و العراق لإيرج و آثره بالتاج و السرير و لما مات قتله أخواه و اقتسما الأرض بينهما ثلثمائة سنة
و يزعمون أن أفريدون و آباءه العشرة يلقبون كلهم أشكيان و قيل في قسمته الأرض بين ولده غير هذا و أن بابل كانت لإبرج الأصغر و كان يسمى خيارث و يقال كان لإيرج ابنان : و ندان و أسطوبة و بنت اسمها خورك و قتل الابنان مع أبيهما بعد مهلك أفريدون و أن أفريدون ملك خمسمائة سنة و أنه الذي محا آثار ثمود من النبط بالسواد و أنه أول من تسمى بكي فقيل كي أفريدون و معناه التنزيه أي مخلص متصل بالروحانيات و قيل معناه البهاء لأنهى يغشاه نور من يوم قتل الضحاك و قيل معناه مدرك الثأر و كان منوشهر الملك ابن منشحر بن إيرج من نسل أفريدون و كانت أمه من ولد إسحق عليه السلام فكفلته حتى كبر فملك و ثأر بأبيه إيرج من عمه بعد حروب كانت له معهما ثم استبد و نزل بابل و حمل الفرس على دين إبراهيم عليه السلام و ثار عليه فراسياب ملك الترك فغلبه على بابل و ملكها ثم اتبعه إلى غياض طبرستان فجهز العساكر لحصاره و سار إلى العراق فملكه و يقال فراسياب هذا من عقب طوج بن أفريدون و لحق ببلاد الترك عندما قتل منوشهر جد طوج فنشأ عندهم و ظهر من بلادهم فلهذا نسب إليهم
و قال الطبري : لما هلك منوشهر بن منشحور غلب أفراسياب بن أشك بن رستم بن ترك على خيارات و هي بابل و أفسد مملكة فارس و حيرها فثار عليه زومر بن طهمارست و يقال راسب بن طهمارست و ينسب إلى منوشهر في تسعة آباء و أن منوشهر غضب على طهمارست و كانوا يحاربون أفراسياب فهم بقتله و شفع فيه أهل الدولة فنفاه إلى بلاد الترك و تزوج منهم ثم عاد إلى أبيه و أعمل الحيلة في إخراج امرأته من بلاد الترك و كانت ابنة وامن ملك الترك فولدت له زومر ابنه و قام بالملك بعد منوشهر و طرد أفراسياب عن ملكة فارس و قتل جده
وامن في حروبه مع الترك و لحق أفراسياب بتركستان و اتخذ يوم ذلك الغلب عيدا و مهرجانا و كان ثالث أعيادهم و كان غلبه على بلاد فارس لاثنتي عشرة سنة من وفاة منوشهر جده و كان زومر بن طهمارست هذا محمودا في سيرته و أصلح ما أفسد أفراسياب بن خيارت من مملكة بابل و هو الذي حفر نهر الزاب بالسواد و بنى على حافته المدينة العتيقة و سماها الزواهي و عمل فيها البساتين و حمل إليها بزور الأشجار و الرياحين و كان معه في الملك كرشاسب من ولد طوج بن أفريدون و قيل من ولد منوشهر و يقال إنما كان رديفا له و كان عظيم الشأن في أهل فارس و لم يملك و إنما كان الملك لزومر بن طهمارست و هلك لثلاث سنين من دولته و في أيامه خرج بنو إسرائيل من التيه و فتح يوشع مدينة أريحاء ودال الملك من بعده للكينية حسبما يذكر و أولهم كيقباذ
و يقال إن مدة الملك لهذه الطبقة كانت ألفين و أربعمائة و سبعين سنة فيما قال البيهقي و الأصبهاني و لم يذكر من ملوكهم إلا هؤلاء التسعة الذين ذكرهم الطبري و الله وارث الأرض و من عليها (2/182)
الطبقة الثانية من الفرس و هم الكينية و ذكر ملوكهم و أيامهم إلى حين انقراضهم
هذه الطبقة الثانية من الفرس و ملوكهم يعرفون بالكينية لأن اسم كل وحد مضاف إلى كي و قد تقدم معناه و المضاف عند العجم متأخر عن المضاف إليه و أولهم فيما قالوا كيقباذ من عقب منوشهر بينهما أربعة آباء و كان متزوجا بامرأة من رؤوس الترك ولدت له خمسة من البنين : كي وافيا وكيكاوس و كي أرش و كي نية و كي فاسمن و هؤلاء هم الجبابرة و آباء الجبابرة قال الطبري : و قيل إن الملوك الكينية و أولادهم من نسله جرت بينه و بين الترك حروب و كان مقيما بنهر بلخ يمانع الترك من طروق بلاده و ملك مائة سنة و انتهى
و ملك بعده ابنه كيكاوس بن كينية و طالب حروبه مع فراسيات ملك الترك و هلك فيها ابنه سياوخش و يقال كان على عهد داود و أن عمرا ذا الأذعار من ملوك التبابعة غزاه في بلاده فظفر به و حبسه عنده باليمن و سار وزيره رستم بن دستان بجنود فارس إلى غزو ذي الأذعار فقتله و تخلص كيكاوس إلى ملكه و قال الطبري : كان كيكاوس عظيم السلطان و الحماية و ولد له ابنه سياوخش فدفعه إلى رستم الشديد ابن دستان و كان أصهر بسجستان حتى إذا كملت تربيته و فصاله رده إلى أبيه فرضيه و كفلت به امرأة أبيه فسخطه و بعثه لحراب فراسيات و أمره بالمناهضة فراوده فراسيات في الصلح و امتنع أبوه كيكاوس فخشي منه على نفسه و لحق بفراسيات فزوجه بنته أم كي خسرو ثم خشيه فراسيات على نفسه و أشار على ابنته بقتله فقتلته و ترك ابنة فراسيات حاملا بخسرو و ولدته هنالك و أعمل كيكاوس الحيلة في إخراجه فلحق به
و يقال إنه لما بلغه قتل ابنه بعث عساكره مع قواده فوطئوا بلاد الترك و أثخنوا فيها و قتلوا بني فراسيات فيمن قتلوه قال الطبري و إنه غزا بلاد اليمن و لقيه ذو الأذعار في حمير و قحطان فظفر به و أسره و حبسه في بئر و أطبق عليه و إن رستم سار من سجستان فحارب ذا الأذعار ثم اصطلحا على أن يسلم إليه كيكاوس فأخذه و رجع إلى بابل و كافأه كيكاوس على ذلك بالعتق من عبودية الملك و نصب لجلوسه سريرا من فضة بقوائم من ذهب و توجه بالذهب و أقطعه سجستان و أباستان و هلك لمائة و خمسين من دولته و ملك بعده فيما قال الطبري و المسعودي و البيهقي و جماعة من المؤرخين حافده كي خسرو و ابن ابنه سباوخش
و قال السهيلي : إنه ملك كي خسرو و بعد ثلاثة آخرين بينه و بينه كيكاوس فأولهم بعده ابنه كي كينة ثم من بعده ابنه جو بن كي كينة ثم عمه سباوخش بن كيكاوس ثم بعد الثلاثة كي خسرو بن سباوخش و هو غريب فإنهم متفقون على أن سباوخش مات في حياة أبيه في حروب الترك
قال الطبري : و قد كان كيكاوس بن كي كينة بن كيقباذ ملك كي خسرو حين جاءه من بلاد الترك مع أمه و أسفاقدين بنت فراسيات قالوا و لما ملك بعث العساكر مع أجو إلى أصبهان لحرب فراسيات ملك الترك للطلب بثأر أبيه سباوخش فزحفوا إلى الترك و كانت بينهم حروب شديدة انهزمت فيها عساكر الفرس فنهض كي خسرو بنفسه إلى بلخ و قدم عساكره و قواده فقصدوا بلاد الترك من سائر النواحي و هزموا عساكرهم و قتلوا قوادهم و كان قاتل سباوخش بن كي خسرو فيمن قتل منهم و بعث فراسيات ابنه و كان ساحرا إلى كيخسرو يستميله فعمد إلى القواد بمنعه و قتاله و قاتل فقتل و زحف فراسيات فلقيه
كي خسرو و كانت بينهما حروب شديدة انجلت عن هزيمة فراسيات و الترك و اتبعه كي خسرو فظفر به في أذربيجان فذبحه و انصرف ظافرا و كان فيمن حضر معه لهذا الفتح ملك فارس و هو كي أوجن بن حينوش بن كيكاوس بن كي كينة بن كيقباذ و هو عند الطبري أبو كيهراسف الذي ملك بعد كيخسرو على ما نذكر
و ملك على الترك بعد فراسيات جوراسيات جوراسف ابن أخيه شراشف ثم أن كي خسرو ترهب و تزهد في الملك و استخلف مكانه كيهراسف بن كي أوجن الذي قدمنا أنه أبوه عند الطبري ولد كيخسرو فقيل غاب في البرية و قيل مات و ذلك لستين سنة من ملكه
و لما ملك كيهراسف اشتدت شوكة الترك فسكن لقتالهم مدينة بلخ على نهر جيحون و أقام في حروبهم عامة أيامه و كان أصبهبذ ما بين الأهواز و الروم من غربي دجلة في أيام بختنرسي المشتهر ببختنصر و أضاف إليه كهراسف ملكا عندما سار إليه و أذن له في فتح ما يليه و سار إلى الشام معه ملوك الفرس و بختنصر ملك الموصل و له سنجاريق ففتح بيت المقدس و كان له الظهور على اليهود و استأصلهم كما مر في أخبارهم و بختنصر هذا الذي غزا العرب و قاتلهم و استباحهم و يقال إن ذلك كان في أيام
كي بهمن حافد كيستاسب بن كيهراسف
قال هشام بن محمد : أوحى الله إلى أرميا النبي صلى الله عليه و سلم و كان حافد زريافيل الذي رجع بني إسرائيل إلى بيت المقدس بأمر بختنصر أن يفرق العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم و يستبيحهم و الوحي بذلك كان إلى يرميا بن خلقيا و قد مر ذكره و أنه أمر أن يستخرج معد بن عدنان من بينهم و يكفله إلى انقضاء أمر الله فيهم انتهى
قال : فوثب بختنصر على من وجده ببلاده من العرب للميرة فحبسهم و نادى بالغزو و جاءت منهم طوائف مستسملين فقبلهم و أنزلهم بالأنبار و الحيرة
و قال غير هشام إن بختنصر غزا العرب بالجزيرة و ما بين أيلة و الأبلة و ملأها عليهم خيلا و رجالا و لقيه بنو عدنان فهزمهم إلى حضورا و استلحمهم أجمعين و أن الله أوحى إلى أرميا و يوحنا أن يستخرجا معد بن عدنان الذي ولده محمد أختم به النبيين آخر الزمان و هو ابن اثنتي عشرة سنة و ردفه يوحنا على البراق و جاء به إلى حران و ربى بين أنبياء بني إسرائيل
و رجع بختنصر إلى بابل و أنزل السبي بالأنبار فقيل أنبار العرب و سميت بهم و خالطهم النبط بعد ذلك و لما هلك بختنصر خرج معد بن عدنان مع أنبياء بني إسرائيل إلى الحج فحجوا و بقي هنالك مع قومه و تزوج بعانة بنت الحارث بن مضاض الجرهمي فولدت له نزار بن معد
و أما كيهراسف فكان يحارب الترك عامة أيامه و هلك في حروبهم لمائة و عشرين سنة من ملكه و كان محمود السيرة و كانت الملوك شرقا و غربا يحملون إليه الأتاوة و يعظمونه و قيل إنه ولى ابنه كيستاسب على الملك و انقطع للعبادة و لما ملك ابنه كيستاسب شغل بقتال الترك عامة أيامه و دفع لحروبهم ابنه أسفنديار فعظم عناؤه فيهم و ظهر في أيامه زرادشت الذي يزعم المجوس نبوته و كان فيما زعم أهل الكتاب من أهل فلسطين خادما لبعض تلامذة أرميا النبي خالصة عنده فخانه في بعض أموره فدعا الله عليه فبرص و لحق بأذربيجان و شرع بها دين المجوسية و توجه إلى كيستاسب فعرض عليه دينه فأعجبه و حمل الناس على الدخول فيه و قتل من امتنع
و عند علماء الفرس أن زرادشت من نسل منوشهر الملك و أن نبيا من بني إسرائيل بعث إلى كيستاسب و هو ببلخ فكان زرادشت و جاماسب العالم و هو من نسل منوشهر أيضا يكتبان بالفارسية ما يقول ذلك النبي بالعبرانية و كان جاماسب يعرف اللسان العربي و يترجمه لزرادشت و أن ذلك كان لثلاثين سنة من دولة كيهراسف
و قال علماء الفرس : إن زرادشت جاء بكتاب ادعاه وحيا كتب في اثني عشر ألف بعده نقشا بالذهب و أن كيستاسب وضع ذلك في هيكل باصطخر و وكل به الهرابذة و منع من تعليمه العامة قال المسعودي : و يسمى ذلك الكتاب نسناه و هو كتاب الزمزمة و يدور على ستين حرفا من حروف المعجم و فسره زرادشت و سمي تفسيره زند ثم فسر التفسير ثانيا و سماه زنديهء و هذه اللفظة هي التي عربتها العرب زنديق و أقسام هذا الكتاب عندهم ثلاثة : قسم في أخبار الأمم الماضية و قسم في حدثان المستقبل و قسم في نواميسهم و شرائعهم مثل أن المشرق قبلة و أن الصلوات في الطلوع و الزوال و الغروب و أنها ذات سجدات و دعوات و جدد لهم زرادشت بيوت النيران التي كان منوشهر أخمدها و رتب لهم عيدين : النيروز في الاعتدال الربيعي و المهرجان في الاعتدال الخريفي و امثال ذلك من نواميسهم و لما انقرض ملك الفرس الأول أحرق الإسكندر هذه الكتب و لما جاء أردشير جمع الفرس على قراءة سورة منها تسمى أسبا قال المسعودي : و أخذ كيستاسب بدين المجوسية من زرادشت لخمس و ثلاثين سنة من نبوته فيما زعموا و نصب كيستاسب مكانه جاماسب العالم من أهل أذربيجان و هو أول موبذان كان في الفرس انتهى
قال الطبري : و كان كيستاسب مهادنا أرجاماسب ملك الترك و قد اشترط عليه أن تكون دابة كيستاسب موقفة على بابه بمنزلة دواب الرؤسا عند أبواب الملوك منعه من ذلك زرادشت و أشار عليه بفتنة الترك فبعث إلى الدابة و الموكل بها و صرفهما إليه و بلغ الخبر إلى ملك الترك فبعث إليه بالعتاب و التهديد و أن يبعث بزرداشت إليه و إلا فيعزره و أغلظ كيستاسب في الجوال و آذنه بالحرب و سار بعضهما إلى بعض و اقتتلوا و قتل رزين بن كيستاسب و انهزم الترك و أثخن فيهم الفرس و قتل ساحر الترك قيدوشق و رجع كيستاسب إلى بلخ ثم سعى عنده بابنه أسفنديار فحبسه و قيده و سار إلى جبل بناحية كرمان و سجستان فانقطع به للعبادة و دراسة الدين و خلف أباه كهراسف في بلخ شيخا قد أبطله الكبر و ترك خزاثنه و أمواله فيها مع امرأته فغزاهم بخا خدراسف و قدم أخا جورا في جموع الترك و كان مرشحا للملك فأثخن و استباح و استولى على بلخ و قتل كهراسف أباهم و غنموا الأموال و هدموا بيوت النيران و سبوا حمايي بنت كستاسب و أختها و كان فيما غنموه العلم الأكبر الذي كانوا يسمونه زركش كاويان و هي راية الحداد الذي خرج على الضحاك و قتله و ولى أفريدون فسموا بتلك الراية و رصعوها بالجواهر و وضعوها في ذخائزهم يبسطوها في الحروب العظام و كان لها ذكر في دولتهم و غنمها المسلمون يوم القادسية
ثم مضى خدراسف ملك الترك في جموعه إلى كيستاسب و هو بجبال سجستان متعبدا فتحصن منه و بعث إلى ابنه أسفنديار مع جاماسب العالم و هو في الجبل فقلده الملك و محاربة الترك فسار إليهم و أبلى في حروبهم فانهزموا و غنم ما معهم و استرد ما كانوا غنموه و الراية زركش كاويان في جملته ثم دخل أسفنديار إلى بلادهم في اتباعهم و فتح مدينتهم عنوة و قتل ملكهم خدارسف و أخوته و استلحم مقاتلته و استباح أمواله و نساءه و دخل مدينة فراسيات و دوخ البلاد و انتهى إلى بلاد صول و التبت وولى على كل ناحية من الترك و فرض الخراج و انصرف إلى بلخ و قد غص به أبوه
قال هشام بن محمد : فبعثه إلى رستم ملك سجستان الذي كان يستنفره كيقباذ جدهم من ملوك اليمن و أقطعه تلك الممالك جزاء لفعله فسار إليه أسفنديار و قاتله رستم و هلك كيستاسب لمائة و عشرين سنة و يقال إنه الذي رد بني إسرائيل إلى بلادهم و أن أمه كانت من بني طالوت و يقال إن ذلك هو حافد بهمن و قيل إن الذي ردهم هو كورش من ملوك بابل أيام بهمن بأمره
ثم ملك بعد كيستاسب حافده كي بهمن و يقال أردشير بهمن قال الطبري : و يعرف بالطويل الباع لاستيلائه على الممالك و الأقاليم قال هشام بن محمد : و لما ملك سار إلى سجستان طالبا بثأر أبيه فكانت بينهما حروب فقتل فيها رستم بن دستان و أبوه و إخوته و أبناؤه ثم غزا الروم و فرض عليهم الأتاوة و كان من أعظم ملوك الفرس و بنى مدنا بالسواد و كانت أمه من نسل طالوت لأربعة آباء من لدنه و كانت له أم ولد من سبي بني إسرائيل اسمها راسف و هي أخت زريافيل الذي ملكه على اليهود ببيت المقدس و جعل له رياسة الجالوت و ملك الشام و ملك ثمانين سنة فملكت حمايي ملكها الفرس لجمالها و لحسن أدبها و كمال عرفتها و فروسيتها و كانت بلغت شهرا أزاد و قيل إنما ملوكها لأنها لما حملت من أبيها بدار الأكبر سألته أن يعقد له التاج في بطنها ففعل ذلك و كان ابنه ساسان مرشحا للملك فغضب و لحق بجبال اصطخر زاهد يتولى ماشيته بنفسه فلما مات أبوه فقدوا ذكرا من أولاده فولوا حمايي هذه و كانت مظفرة على الأعداء و لما بلغ ابنها دارا الأشد سلمت إليه الملك و سارت إلى فارس و اختطت مدينة دار ابجرد وردت الغزو إلى بلاد الروم و أعطيت الظفر فكثر سبيهم عندها و ملكت ثلاثين سنة و لما ملك ابنها دارا نزل بابل و ضبط ملكه و غزا الملوك و أدوا الخراج إليه و يقال إنه الذي رتب دواب البرد و كان معجبا بابنه دارا حتى سماه باسمه و ولاه عهده و هلك لاثنتي عشرة سنة
و ملك بعده ابنه دارا بهمن و كان له مربي اسمه بيدلي قتله أبوه دارا بسعاية وزيره أرشيش محمود و ندم على قتله فلما ولي دارا جعل على كتاتبه أخا بيدلي ثم استوزره رعيا لمرباه مع أخيه فاستفسده على أرشيش وزيره و وزير أبيه و على سائر أهل الدولة استوحشوا منه و قال هشام بن محمد : و ملك دارا بن دارا أربع عشرة سنة فأساء السيرة و قتل الرؤساء و أهلك الرعية و غزاه الاسكندر الله فيلبس ملك بني يونان و قد كانوا يسمونه فوثب عليه بعضهم و قتله و لحق بالإسكندر و تقرب بذلك إليه فقتله الإسكندر و قال هذا جزاء من اجترأ على سلطانه و تزوج بنته روشنك كما نذكره في أخبار الإسكندر
و قال الطبري : قال بعض أهل العلم بأخبار الماضيين كان لدارا من الولد يوم قتل أربع بنين أسسك و بنودار و أردشير و بنت إسمها روشنك و هي التي تزوجها الإسكندر قال : و ملك أربع عشرة سنة هذه هي الأخبار المشهورة للفرس الأولى إلى ملكهم الأخير دارا
قال هرشيوش مؤرخ الروم في مبدأ دولة الفرس هؤلاء إنما كانت بعد دخول بني إسرائيل إلى الشام و على عهد عثنيئال بن قناز بن يوفنا و هو ابن أخي كالب بن يوفنا الذي دبر أمر بني إسرائيل بعد يوشع قال : و في ذلك الزمان خرج أبو الفرس من أرض الروم الغريقيين من بلاد آسيا و اسمه بالعربية فارس باليونانية يرشور و بالفارسية يرشيرش فنزل بأهل بيته في ناحية و تغلب على أهل ذلك الموضع فنسبت إليه تلك الأمة و اشتق اسمها من اسمه و ما زال أمرهم ينمو إلى دولة كيرش الذي يقال فيه أنه كسرى الأول فغلب على القضاعيين ثم زحف إلى مدينة بابل و عرض له دونها النهر الثاني بعد الفرات و هو نهر دجلة فاحتفر له الجداول و قسمه فيها ثم زحف إلى المدينة و تغلب عليها و هدمها ثم حارب السريانيين فهلك في حروبهم ببلاد شيت و ولى ابنه قنبيشاش بن كيرش فثأر منهم بأبيه و تخطاهم إلى أرض مصر فهدم أوثانهم و نقض شرائعهم فقتله السحرة و ذلك لألف سنة من ابتداء دولتهم فولي أمر الفرس دارا و قتل السحرة بمصر و رد عمالة السريانيين إليهم و رجع بني إسرائيل إلى الشام في الثانية من أيامه و زحف إلى بلاد الروم الغريقيين طالبا ثأر كيرش فلم يزل في حروبهم إلى أن هلك لثلاث و عشرين من دولته ثار عليه أحد قواده فقتله و ولى بعده ابنه أرتشخار أربعين سنة و ولي بعده ابنه دارا أنوطو سبع عشرة سنة
ثم ولي بعده ابنه أرتشخار بعد أن نازعه كيرش بن نوطو فقتله أرتشخار و استولي على لأمر و سالم الروم الغريقيين ثم انتقضوا عليه و استعانوا بأهل مصر فطالت الحرب ثم اصطلحوا و ووقعت الهدنة و هلك أرتشخار و ذلك على عهد الإسكندر ملك اليونانيين و هو خال الاسكندر الأعظم و هلك لعهده فولي أبو الاسكندر الأعزن ببلد مقدونية و هو ملك فيلبش
و هلك أرتشخار أوقش لست و عشرين من دولته و ولي من بعده ابنه شخشار أربع سنين و في أيامه ولي على مقدونية و اليونانيين و سائر الروم الغريقيين الاسكندر بن فيلبس ثم ولي بعده شخاردارا و على عهده تغلب الاسكندر على يهود بيت المقدس و على جميع الروم الغريقيين ثم حدثت الفتنة بينه و بين دارا و تزاحفوا مرات انهزم في كلها و كان لاسكندر الظهور عليه و مضى إلى الشام و مصر فملكهما و بنى الإسكندرية و انصرف فلقيه دارا أنطوس فهزمه و غلب على ممالك الفرس و استولى على مدينتهم و خرج في اتباع دارا فوجده في بعض طريقه جريحا و لم يلبث أن هلك من تلك الجراحة فأظهر الاسكندر الحزن عليه و أمر بدفنه في مقابر الملوك و ذلك لألف سنة ونحو من ثمانين سنة منذ ابتداء دولتهم كمل قلناه انتهى كلام هرشيوش
و قال السهيلي : وجده مثخنا في المعركة فوضع رأسه على فخذه و قال : يا سيد الناس لم أرد قتلك و لا رضيته فهل من حاجة ؟ فقال تتزوج ابنتي و تقتل قاتلي ففعل الاسكندر ذلك و انقرض أمر هذه الطبقة و البقاء لله وحده سبحانه و تعالى
قال ابن العميد : في ترتيب هؤلاء الملوك الفرس من بعد كيرش إلى دارا آخرهم يقال : إنه ملك من بعد كورش ابنه قمبوسيوس ثمانيا و قيل تسعا و قيل اثنتين و عشرين سنة و قيل إنه غزا مصر و استولى عليها و تسمى بختنصر الثاني و ملك بعد أريوش بن كستاسب خمسا و عشرين سنة و هو أول الملوك الأربعة الذين عناهم دانيال بقوله ثلاث ملوك يقومون بفارس و الرابع يكثر ماله و يعظم على من قبله فأولهم دارا بن كستاسب و هو مذكور في المجسطي و الثاني دارا ابن الأمة و الثالث الذي قتله الإسكندر و قيل بل هو الرابع الذي عناه دانيال لأنه جعل أول الأربعة داريوش و أخشورش العادي و سركورش و رديفه في الملك ثم عد الثلاثة بعده و في الثانية من ملكة داريوش بن كيستاسل لبابل تمت سبعون سنة لخراب القدس و في الثالثة كمل بناء البيت ثم ملك بعد داريوش بن كيستاسب هذا أسمرديوس المجوسي سنة واحدة و قيل ثلاث عشرة سنة و سمى مجوسيا لظهور زرادشت بدين المجوسية في أيامه
ثم ملك أخشويرش بن داريوش عشرين سنة و كان وزيره هامان العميلقي و قد مرت قصته مع الجارية من بني إسرائيل ثم ملك من بعده ابنه أرطحشاشت بن أخشويرش و يلقب بطويل اليدين و كانت أمه من اليهود بنت أخت مردخاي و كانت خطية عند أبيه و على يدها تخلص اليهود من سعاية وزيره فيهم عنده و كان العزيز في خدمته و لعشرين من دولته أمر بهدم أسوار القدس ثم رغب إليه العزير في تجديدها فبناها في اثنتي عشرة سنة قال ابن العميد عن المجسطي إن العزير هذا و يسمى عزراء هو الرابع عشر من الكهنونة من لدن هرون عليه السلام و أنه كتب لنبي إسرائيل التوراة و كتب الأنبياء من حفظه بعد عودهم من الجلاء الأول لأن بختنصر كان أحرقها و قيل أن الذي كتب لهم ذلك هو يشوع بن أبو صادوق ثم ملك من بعده أرطحشاشت الثاني خمس سنين و قيل إحدى و ثلاثين و قيل ست عشرة و قيل شهرين و رجح ابن العميد الخمس لموافقتها سياقة التواريخ و كان لعهده أبقراط و سقراط في مدينة أشياش و لعهده كتب النواميس الإثني عشر ثم ملك بعد صغريتوس ثلاث سنين و قيل سنة واحدة و قيل سبعة أشهر و لم يزل محنقا لمرض كان به إلى أن هلك ثم ملك من بعده دارا ابن الأمة و يلقب الناكيش و قيل داريوش ألياريوس ملك سبع عشر سنة و كان على عهده من حكماء يونان سقراط و فيثاغورس و أقليوس و في الخامسة من دولته انتقض أهل مصر على يونان و استبدوا بملكهم بعد مائة و أربع و عشرين سنة كانوا فيها في ملكتهم ثم ملك من بعده أرطحشاشت ابن أخي كورش داريوش إحدى عشرة سنة و قيل اثنتين و عشرين سنة و قيل أربعين و قيل إحدى و عشرين و كان لعهده ألياقم الكوهن الذي داهن الكهنونية ستا و أربعين سنة ثم ملك من بعده أرطحشاشت و تسمى أخوش و يقال أوغش عشرين سنة و قيل خمسا و عشرين و قيل تسعا و عشرين و زحف إلى مصر فملكها و هرب منها فرعون ساناق إلى مقدونية و اسمه قصطرا و بنى أرطحشاشت قصر الشمع و جعل فيه هيكلا و هو الذي حاصره عمرو بن العاص و ملكه ثم ملك من بعده ابنه أرشيش بن أرطحشاشت و قيل اسمه فارس أربع سنين و قيل إحدى عشرة و كان لعهده من حكماء يونان بقراط و أفلاطون و دمقراطس و لعهده قتل بقراط على القول بالتناسخ و قيل لم يكن مذهبه و إنما ألزمه بعض تلامذته ثم شهدوا عليه و قتل مسموما قتله القضاة بمدينة أثينا ثم ملك من بعده ابنه دارا بن أرشيش عشرين سنة و قيل ست عشرة و قال ابن العميد عن أبي الراهب : إنه دارا الرابع الذي أشار إليه دانيال كما مر و كان هذا الملك عظيما فيهم و تغلب على يونان و ألزمهم الوظائف التي كانت عليهم لآبائه و ملكهم يومئذ الاسكندر بن فيلبس و كان عمره ست عشرة سنة فطمع فيه دارا و طلب الضريبة فمنع و أجاب بالإغلاظ و زحف إليه فقاتله و قتله و استولى الإسكندر على ملك فارس و ما وراءه انتهى كلام ابن العميد (2/187)
الطبقة الثالثة من الفرس و هم الأشكانية ملوك الطوائف و ذكر دولهم و مصاير أمورهم إلى نهايتها
هذه الطبقة من ملوك الفرس يعرفون بالأشكانية و كافها أقرب إلى الغين من ولد أشكان بن دارا الأكبر وقد مر ذكره و كانوا من أعظم ملوك الطوائف عند افتراق أمر الفرس و ذلك أن الإسكندر لما قتل دارا الأصغر استشار معلمه أرسطو في أمر الفرس فأشار عليه أن يفرق رياستهم في أهل البيوت منهم فتفرق كلمتهم و يخلص لك أمرهم فولى الإسكندر عظماء النواحي من الفرس و العرب و النبط و الجرامقة كلا على عمله و استبد كل بناحية و استقام له ملك فارس و المشرق و لما مات الإسكندر قسم ملكه بين أربعة من أمرائه : فكان ملك مقدونية و أنطاكية و ما إليها من ممالك الروم لفيلبس من قواده و كانت الإسكندرية و مصر و المغرب لفيلادفس و لقبه بطليموس و كان الشام و بيت المقدس و ما إلى ذلك لدمطوس و كان السواد إلى الجبال و الأهواز و فارس ليلاقش سيلقس و لقبه أنطيخس و أقام السواد في ملكته أربعا و خمسين سنة
قال الطبري : كان أشك بن دارا الأكبر خلفه أبوه بالري فنشأ بها فلما كبر و هلك الإسكندر جمع العساكر و سار يريد أنطيخس و التقيا بالموصل فانهزم أنطيخس و قتل وغلب أشك على السواد من الموصل إلى الري و أصبهان و عظمه سائر ملوك الطوائف لشرفه و نسبه و أهدوا إليه من غير أن يكون له عليهم إيالة في عزل و لا تولية بل إنما كانوا يعظمونه و يبدأون باسمه في المخاطبات وهم مع ذلك متعادون تختلف حالاتهم بعضهم مع بعض في الحرب و المهادنة و قال بعضهم : كان رجلا من نسل الملوك من فارس مملكا على الجبال و أصبهان و السواد لقوات الإسكندر
ثم غلب بعد ذلك ولده على السواد و جمعه إلى الجبال و أصبهان و صار كالرئيس على سائر ملوك الطوائف و لذلك قصر ذكر هؤلاء الملوك دون غيرهم من الطوائف فمنهم من قال : إنه أشك بن دارا كما قدمنا هو قول الفرس و قيل هو أشك عقب أسفنديار بن كستاسب بينهما ستة آباء و قيل هو أشك بن أشكان الأكبر من ولد كينية بن كيقباذ و يقال : إنه كان أعظم الأشكانية قهر ملوك الطوائف و على إصطخر لأتصالها بأصبهان و تخطاها إلى ما يتاخمها من بلاد فارس فغلب عليه و اتصل ملكه عشرين سنة و ملك بعده جور بن أشك و غزا بني إسرائيل بسبب قتلهم يحيى بن زكريا
و قال المسعودي : ملك أشك بن أشك بن دارا بن أشكان الأول منهم عشر سنين ثم سابور ابنه ستين سنة و غزا بني إسرائيل بالشام و نهب أموالهم و لإحدى و أربعين من ملكه ظهر عيسى صلوات الله عليه بأرض فلسطين ثم ملك عمه جور عشر سنين ثم نيرو بن سابور إحدى و عشرين سنة و في أيامه غلب طيطش قيصر على بيت المقدس و خربها و أجلى منها اليهود كما مر ثم جور بن نيرو تسع عشرة سنة ثم جرسي أخوه أربعين سنة ثم هرمز أخوهما أربعين سنة ثم ابنه أردوان بن هرمز خمس عشرة سنة ثم ابنه كسرى بن أردوان أربعين سنة ثم ابنه يلاوش بن كسرى أربعا و عشرين سنة و في أيامه غزت الروم السواد مع قيصر يطلبون بثأر أنطيخش ملك أنطاكية من اليونان الذي قتله أشك جد يلاوش هذا فجمع يلاوش العساكر و استنفر ملوك الطوائف بفارس و العراق فوجهوا له بالمدد و اجتمع له أربعمائة ألف من المقاتلة و ولى عليهم صاحب الحضر و كان من ملوك الطوائف على السواد فزحف إلى قيصر فقتله و استباح عسكر الروم و قتل و فتح أنطاكية و انتهى إلى الخليج و ولى من بعد يلاش ابنه أردوان بن يلاوش ثلاث عشرة سنة ثم خرج عليه أردشير بن بابك بن ساسان و جمع ملك فارس من أيدي ملوك الطوائف و جدد الدولة الساسانية كما نذكر في أخبارهم
قال الطبري : و في أيام الطوائف كانت ولادة عيسى صلوات الله عليه لخمس و ستين من غلب الإسكندر على بابل و لإحدى و خمسين من ملك الأشكانية و النصارى يزعمون أن ذلك كان لمضي ثلثمائة و ثلاث و ستين من غلب الإسكندرية على بابل قال الطبري : و جميع سني الطوائف من لدن الإسكندر إلى ظهور أردشير بن بابك و استوائه على الأمر مائتان و ستون سنة و بعضهم يقول خمسمائة و ثلاث و عشرون سنة و قال بعضهم : ملك في هذه المدة منهم تسعون ملكا على تسعين طائفة كلهم يعظم ملوك المدائن منهم و هم الأشكانيون
يا ى ط ح ز جرسى د ب
أردوان بن يلاوش بن كسرى بن أردوان بن هرمز بن فيروز بن سابور بن أشك بن أشك بن دارا الأكبر (2/197)
القسم الأول من الطبقة الرابعة من الفرس و هم الساسانية و الخبر عن ملوكهم الأكاسرة إلى حين الفتح الإسلامي
هذه الدولة كانت من أعظم الدول في الخليقة و أشدها قوة و هي إحدى الدولتين اللتين صبحهما الإسلام في العلم و هما دولة فارس و الروم و كان مبدأ أمرها من توثب أردشير ابن بابك شاه ملك مرو و هو ساسان الأصغر ابن بابك بن سامان بن بابك بن هرمز بن ساسان الأكبر بن كي بهمن وقد تقدم ذكر كي بهمن و أن ابنه ساسان غضب لما توج للملك أخوه دارا و هو في بطن أمه و لحق بجبال إصطخر فأقام هنالك و تناسل ولده بها إلى أن كان ساسان الأصغر منهم فكان قيما على بيت النار لاصطخر و كان شجاعا و كانت امرأته من بيت ملك فولدت له ابنه بابك و ولد لبابك أردشير و ضبطه الدارقطني : بالراء المهملة و كان على اصطخر يومئذ ملك من ملوك الطوائف و له عامل على دار ابجرد خصي اسمه سري فلما أتت لأردشير سبع سنين جاء به جده ساسان إلى ملك إصطخر و سأله أن يضمه إلى عامل دار ابجرد الخصي يكفله إلى أن تتم تربيته و لما هلك عامل دار ابجرد أقام بأمره فيها أردشير هذا و ملكها كان له علم من المنجمين بأن الملك سيصير إليه فوثب على كثير من ملوك الطوائف بأرض فارس فاستولى عليهم و كتب إلى أبيه بذلك ثم وثب على عامل اصطخر فغلبه على ما بيده و ملك إصطخر و كثيرا من أعمال فارس
و كان زعيم الطوائف يومئذ أردوان ملك الأشكانيين فكتب إليه يسأله أن يتوجه فعنفه و كتب إليه بالشخوص فامتنع و خرج بالعساكر من اصطخر و قدم موبذان رورين فتوجه ثم فتح كرمان و بها ملك من ملوك الطوائف و ولى عليها ابنه و كتب إليه أردوان يتهدده و أمر ملك الأهواز من الطوائف أن يسير إليه فرجع مغلوبا ثم سار أردشير إلى أصبهان فقتل ملكها و استولى عليها ثم إلى الأهواز فقتل ملكها كذلك ثم زحف إليه أردوان عميد الطوائف فهزمه أردشير و قتله و ملك همذان و الجبل و أذربيجان و أرمينية و الموصل ثم السودان و بنى مدينة على شاطئ دجلة شرقي المدائن ثم رجع إلى إصطخر ففتح سجستان ثم جرجان ثم مرو و بلخ و خوارزم إلى تخوم خراسان و بعث بكثير من الرؤوس إلى بيت النيران ثم رجع إلى فارس و نزل صول و أطاعه ملك كوشان و مكران ثم ملك البحرين بعد أن حاصرها مدة و ألقى ملكها بنفسه في البحر ثم رجع فنزل المدائن و توجه ابنه سابور و لم يزل مظفرا و قهر الملوك حوله و أثخن في الأرض و مدن المدن و استكثر العمارة و هلك لأربع عشرة سنة من ملكه بإصطخر بعد مقتل أردوان
و قال هشام بن الكلبي : قام أردشير في أهل فارس يريد الملك الذي كان لآبائه قبل الطوائف و أن يجمعه لملك واحد و كان أردوان ملكا على الأردوانيين و هم أنباط السواد و كان بابا ملكا على الأرمانيين و هم أنباط الشام و بينهما حرب و فتنة فاجتمعا على قتال أردشير فحارباه مناوبة ثم بعث أردشير إلى بابا في الصلح على أن يدعه في الملك و يخلي باب بينه و بين أردوان فلم يلبث أن قتل أردوان و استولى على السواد فأعطاه بابا الطاعة بالشام و دانت له سائر الملوك و قهرهم ثم رجع إلى أمر العرب و كانت بيوتهم على ريف العراق ينزلون الحيرة و كانوا ثلاث فرق : الأولى تنوخ و منهم قضاعة الذين كنا قدمنا أنهم كانوا اقتتلوا مع ملك من التبابعة و أتى بهم و كانوا يسكنون بيوت الشعر و الوبر و يضعونها غربي الفرات بين الأنبار و الحيرة و ما فوقها فأنفوا من الإقامة في مملكة أردشير و خرجوا إلى البرية و الثانية العباد الذين كانوا يسكنون الحيرة و أوطنوها و الثالثة الأحلاف الذين نزلوا بهم من غير نسبهم و لم يكونوا من تنوخ الناكثين عن طاعة الفرس و لا من العباد الذين دانوا بهم فملك هؤلاء الأحلاف الحيرة و الأنبار و كان منهم عمرو بن عدي و قومه فعمروا الحيرة و الأنبار و نزلوا و خربوها و كانتا من بناء العرب أيام بختنصر ثم عمرها بنو عمرو بن عدي لما أصاروها نزلا لملكهم إلى أن صبحهم الإسلام و اختط العرب الإسلاميون مدينة الكوفة فدثرت الحيرة
و كان أردشير لما ملك أسرف في قتل الأشكانية حتى أفناهم لوصية جده و وجد بقصر أردوان جارية استملحها و دفعت عن نفسها القتل بإنكار نسبها فيهم فقالت أنا مولاة و بكر فواقعها و حملت و ظنت الأمن على نفسها فأخبرته بنسبها فتنكر و دفعها إلى بعض مرازبته ليقتلها فاستبقاها ذلك المرزبان إلى أن شكى إليه أردشير قلة الولد و الخوف على ملكه من الإنقطاع و ندم على ما سلف منه من قتل الجارية و إتلاف الحمل فأخبره بحياتها و أنها ولدت ولدا ذكرا و أنه سماه سابور و أنه قد كملت خصاله و آدابه فاستحضره أردشير و اختبره فرضيه و عقد له التاج
ثم هلك أردشير فملك سابور من بعده فأفاض العطاء في أهل الدولة و تخير العمال ثم شخص إلى خراسان فمهد أمورها ثم رجع فشخص إلى نصيبين فملكها عنوة فقتل و سبى افتتح من الشام مدنا و حاصر أنطاكية و بها من الملوك أريانوس فاقتحمها عليه و أسره و حمله إلى جنديسابور فحبسه بها إلى أن فاداه على أموال عظيمة و يقال على بناء شاذروان تستر و يقال جدع أنفه و أطلقه و يقال بل قتله و كان بجبال تكريت بين دجلة و الفرات مدينة يقال لها الحضر و بها ملك من الجرامقة يقال له الساطرون من ملوك الطوائف و هو الذي يقول فيه الشاعر :
( و أرىالموت قد تدلى من الحضر ... على رب أهله الساطرون )
( و لقد كان آمنا للدواهي ... ذا ثراء و جوهر مكنون )
و قال المسعودي : و هو الساطرون بن إستطرون من ملوك السريانيين قال الطبري : و تسميه العرب الضيزن و قال هشام بن محمد الكلبي : من قضاعة و هو الضيزن بن معاوية بن العميد بن الأجدم بن عمرو بن النخع بن سليم و سنذكر نسب سليم في قضاعة و كان بأرض الجزيرة و كان معه من قبائل قضاعة ما لا يحصى و كان ملكه قد بلغ الشام فحلف سابور في غزاته إلى خراسان و عاث في أرض السواد فشخص إليه سابور عند انقضاء غزاته حتى أناخ على حصنه و حاصره أربع سنين قال الأعشى :
( ألم تر للحضر إذ أهله ... بنعمة و هل خالد من نعم )
( أقام به سابور الجنود ... حولين يضرب فيه القمم )
ثم إن ابنه ساطرون و اسمها النضيرة و خرجت إلى ربض المدينة و كانت من أجمل النساء و سابور كان جميلا فأشرفت عليه فشغفت به و شغف بها و داخلته في أمر الحصن و دلته على عورته فدخله عنوة وقتل الضيزن و أباد قضاعة الذين كانوا معه و أكثرهم بنو حلوان فانقرضوا و خرب حصن الحضر و قال عدي بن زيد في رثائه :
( و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجلة ... تجبى إليه و الخابور )
( شاده مرمرا و جلله كلسا ... فللطير في ذراه و كور )
( لم يهبه ريح المنون فبا ... د الملك عنه فبابه مهجور )
ثم أعرس بالنضيرة بعين النمر و باتت ليلها تتضور في فراشها و كان من الحرير محشو بالقز و القسي فإذا ورقة آس بينها و بين الفراش و تؤذيها فقال : ويحك ما كان أبوك يغذيك ؟ قالت الزبد و المخ و الشهد و صفو الخمر فقال : و أبيك لأنا أحداث عهدا و أبعد ودا من أبيك الذي غذاك بمثل هذا و أمر رجلا ركب فرسا جموحا و عصب غدائرها بذنبه و لم يزل يركض حتى تقطعت أوصالها
و عند ابن اسحق أن الذي فتح حصن الحضر و خربه و قتل الساطرون هو سابور ذو الأكتاف و قال السهيلي : لا يصح لأن الساطرون من ملوك الطوائف و الذي أزال ملكهم هو أردشير و ابنه سابور و سابور ذو الأكتاف بعدهم بكثير هو التاسع من ملوك أردشير قال السهيلي و أول من ملك الحيرة من ملوك الساسانية سابور بن أردشير و الحيرة وسط بلاد السواد و حاضرة العرب و لم يكن لأحد قبله من آل ساسان حتى استقام العرب على طاعته و ولى عليهم عمرو بن عدي جد آل المنذر بعده و أنزله الحيرة فجبى خراجهم و إتاوتهم و استعبدهم لسلطانه و قبض أيديهم عن الفساد بأقطار ملكه و ما كانوا يرومونه بسواد العراق من نواحي مملكته و ولى بعده ابنه امرأ القيس بن عمرو عدي و صار ذلك ملكا لآل المنذر بالحيرة توارثوه حسبما نذكر بعد
و هلك سابور لثلاثين سنة من ملكه و ولي بعده ابنه هرمز و يعرف بالبطل فملك سنة واحدة و ولي بعده ابنه بهرام بن هرمز و كان عامله على مذحج من ربيعة و مضر و سائر بادية العراق و الجزيرة و الحجاز امرؤ القيس بن عمرو بن عدي و هو أول من تنصر من ملوك الحيرة و طال أمد ملكه قال هشام بن الكلبي : ملك مائة و أربع عشرة سنة من لدن أيام سابور اهـ
و كان بهرام بن هرمز حليما وقورا و أحسن السيرة و اقتدى بآبائه و كان ماني الثنوي الزنديق صاحب القول بالنور و الظلمة قد ظهر في أيام جده سابور فاتبعه قليلا ثم رجع إلى المجوسية دين آبائه و لما ولي بهرام بن هرمز جمع الناس لامتحانه فأشادوا بكفره و قتله و قالوا زنديق قال المسعودي : و معناه أن من عدل عن ظاهر إلى تأويله ينسبونه إلى تفسير كتاب زرادشت الذي قدمنا أن اسمه زندة فيقولون زنديهء فعربته العرب فقالوا زنديق و دخل فيه كل من خالف الظاهر إلى الباطن المنكر ثم اختص في عرف الشرع بمن يظهر الإسلام و يبطن الكفر
ثم هلك بهرام بن هرمز لثلاث سنين و ثلاثة أشهر من دولته و ولي ابنه بهرام ثماني عشرة سنة عكف أولها على اللذات و امتدت أيدي بطانته إلى الرعايا بالجور و الظلم فخربت الضياع و القرى حتى نبهه الموبذان لذلك بمثل ضربه له و ذلك أنه سامره في ليلة فمر راجعا من الصيد فسمعا بومين يتحدثان في خراب فقال بهرام ليت شعري هل أحد فهم لغات الطير ؟ فقال له الموبذان : نعم إنا نعرف ذلك أيها الملك و إنهما يتحاوران في عقد نكاح و عن الأنثى اشترطت عليه إقطاع عشرين ضيعة من الخراب فقبل الذكر و قال : إذا دامت أيام بهرام أقطعتك ألفا فتفطن بهرام لذلك و أفاق من غفلته و أشرف على أحوال ملكه مباشرا و قابضا أيدي البطانة عن الرعية و حسنت أيامه إلى أن هلك و ولي بعده بهرام بن بهرام بن بهرام ثلاثة أسماء متشابهة و تلقب شاه و كان مملكا على سجستان و هلك لأربع سنين من دولته و ملك بعده أخوه قرسين بن بهرام تسع سنين أخرى و كان عادلا حسن السيرة و ملك بعده ابنه هرمز بن قرسين فوجل منه الناس لفظاظته ثم أبدل من خلقه الشر بالخير و سار فيهم بالعدل و الرفق و العمارة و هلك لسبع سنين من ولايته و كان هؤلاء كلهم ينزلون جند يسابور من خراسان و لما هلك و لم يترك ولدا شق ذلك على أهل مملكته لميلهم إليه و وجدوا ببعض نسائه حملا فتوجوه و انتظروا إتمامه و قيل بل كان هرمز أبوه أوصى بالملك لذلك الحمل فقام أهل الدولة بتدبير الملك ينتظرون تمام الولد
و شاع في أطراف المملكة أنهم يتلومون صبيا في المهد فطمع فيهم الترك و الروم و كانت بلاد العرب أدنى إلى بلادهم و هم أحوج إلى تناول الحبوب من البلاد لحاجتهم إليها بما هم فيه من الشظف و سوء العيش فسار منهم جمع من ناحية البحرين و بلاد القيس و وحاظة فأناخوا على بلاد فارس من ناحيتهم و غلبوا أهلها على الماشية و الحرث و المعايش و أكثر الفساد و مكثوا في ذلك حينا و لم يغزهم أحد من فارس و لا دافعوهم لصغر الملك حتى إذا كبر و عرضوا عليه الأمور فأحسن فيها الفصل و بلغ ست عشرة سنة من عمره ثم أطاق حمل السلاح نهض حينئذ للاستبداد بملكه و كان أول شيء ابتدأ به شأن العرب فجهز إليهم العساكر و عهد إليهم أن لا يبقوا على أحد ممن لقوا منهم ثم شخص بنفسه إليهم و غزاهم و هم غازون ببلاد فارس فقتلهم و أبرح القتل و هربوا أمامه و أجاز البحر في طلبهم إلى الخط و تعدى إلى بلاد البحرين قتلا و تخريبا ثم غزا بعدها رؤوس العرب من تميم و بكر و عبد القيس فأثخن فيهم و أباد عبد القيس و لحق فلهم بالرمال ثم أتى اليمامة فقتل و أسر و خرب ثم عطف إلى بلاد بكر و تغلب ما بين مملكة فارس و مناظر الروم بالشام فقتل من وجد هنالك من العرب وطم مياههم و أسكن من رجع إليه من بني تغلب دارين من البحرين و الخطو من بني تميم هجروا من بكر بن وائل كرمان و يدعون بكر إياد و من بني حنظلة الأهواز و بنى مدينة الأنبار و الكرخ و السوس
و فيما قاله غيره إن إيادا كان تشتو بالجزيرة و تصيف بالعراق و تشن الغارة و كانت تسمى طما لانطباقها على البلاد و سابور يومئذ صغير حتى إذا بلغ القيام على ملكه شرع في غزوهم و رئيسهم يومئذ الحرث بن الأغر الأيادي و كتب إليهم بالنذر بذلك رجل من إياد كان بين ظهراني الفرس فلم يقبلوا حتى واقعتهم العساكر فاستلحمهم و خرجوا إلى أرض الجزيرة و الموصل إجلاء و لم يعاودوا العراق و لما كان الفتح طلبهم المسلمون بالجزية مع تغلب و غيرهم فأنفوا و لحقوا بأرض الروم
و قال السهيلي : عند ذكر سابور بن هرمز إنه كان يخلع أكتاف العرب و لذلك لقبه العرب ذو الأكتاف و أنه أخذ عمرو بن تميم بأرضهم بالبحرين و له يومئذ ثلثمائة سنة و إنه قال : إنما أقتلكم معاشر العرب لأنكم تزعمون أن لكم دولة فقال له عمرو بن تميم : ليس هذا من الحزم أيها الملك فإن يكن حقا فليس قتلك إياهم بدافعة و تكون قد اتخذت يدا عندهم ينتفع بها ولدك و أعقاب قومك فيقال إنه استبقاه و رحم كبره
ثم غزا سابور بلاد الروم و توغل فيها و نازل حصونهم كان ملوك الروم على عصره قسطنطين و هو أول من تنصر من ملوكهم و هلك قسطنطين و ملك بعده إليانوس من أهل بيته و انحراف عن دين النصرانية و قتل الإساقفة و هدم البيع و جمع الروم و انحدار لقتال سابور و اجتمعت العرب معهم لثأرهم عند سابور بمن قتل منهم و سار قائد إليانوس و اسمه يوسانوس في مائة و سبعين ألفا من المقاتلة حتى دخل أرض فارس و بلغ خبره و كثرة جموعه إلى سابور فأحجم عن اللقاء و أجفل و صحبه العرب ففضوا جموعه و هرب في فل من عسكره و احتوى إليانوس على خزائنه و أمواله و استولى على مدينة طبسون من مدائن ملكه ثم استنفر أهل النواحي و اجتمعت إليه فارس و ارتجع مدينة طبسون و أقاما متظاهرين و هلك إليانوس بسهم أصابه فبقي الروم فوضى و فزعوا إلى يوسانوس القائد أن يملكوه فشرط عليهم الرجوع إلى دين النصرانية كما كان قسطنطين فقبلوا و بعث إليه سابور في القدوم عليه فسار إليه في ثمانين من أشراف الروم و تلقاه سابور و عانقه و بالغ في إكرامه و عقد معه الصلح على أن يعطي الروم قيمة ما أفسدوا من بلاده فارس و أعطوا بدلا عن ذلك نصيبين فرضي بها أهل فارس و كانت مما أخذه الروم من أيديهم فملكها سابور و شرد عنها أهلها خوفا من سطوته فنقل إليها من أهل اصطخر و أصبهان و غيرها و انصرف يوسانوس بالروم و هلك عن قرب و رجع سابور إلى بلاده
و فيما نقله الإخباريين إن سابور دخل بلاد الروم متنكرا و عثر عليه فأخذ و حبس في جلد ثور و زحف ملك الروم بعساكره إلى
جنديسابور فحاصرها و إن سابور هرب من حبسه و دخل
جنديسابور المدينة ثم خرج إلى الروم فهزمهم و أسر ملكهم قيصر و أخذه بعمارة ما خرب من بلاده و نقل التراب و الغروس إليها ثم قطع أنفه و بعث به على حمار إلى قومه و هي قصة واهية تشهد العادة بكذبها
ثم هلك سابور لاثنتين و سبعين سنة من ملكه و هو الذي بنى مدينة نيسابور و سجستان و بنى الإيوان المشهور لمقعد ملوكهم و ملك لعهده امرؤ القيس بن عدي و أوصى بالملك لأخيه أردشير بن هرمز وفتك في أشراف فارس و عظمائهم فخلعوه لأربعين سنة من دولته و ملكوا سابور بن ذي الأكتاف فاستبشر الناس برجوع ملك أبيه إليه و أحسن السيرة و رفق بالرعية و حمل على ذلك العمال و الوزراء و الحاشية و لم يزل عادلا و خضع له عمه أردشير المخلوع و كانت له حروب مع إياد و في ذلك يقول شاعرهم :
( على رغم سابور بن سابور أصبحت ... قباب إياد حولها الخيل و النعم )
و قيل إن هذا الشعر إنما قيل في سابور ذي الأكتاف ثم هلك سابور لخمس سنين من دولته و ملك أخوه بهرام و يلقب
كرمان شاه و كان حسن السياسة و هلك لإحدى عشرة سنة من دولته رماه بعض الرماة بسهم في القتال فقتله و ملك بعده ابنه يزدجرد الأثيم و بعض نسابة الفرس يقول إنه أخوه ولي ابنه و إنما هو ابن ذي الأكتاف و قال هشام بن محمد : كان فظا غليظا كثير المكر و الخديعة يفرغ في ذلك عقله و قوة معرفته و كان معجبا برأيه سيء الخلق كثير الحدة يستعظم الزلة الصغيرة و يرد الشفاعة من أهل بطانته متهما للناس قليل المكافأة و بالجملة فهو سيء الأحوال مذمومها و استوزر لأول ولايته برسي الحكيم و يسمى فهر برشي و مهر مرسة و كان متقدما في الحكمة و الفضائل و أمل أهل المملكة أن تهرب من يزدجرد الأثيم فلم يكن ذلك و اشتد أمره على الأشراف بالإهانة و على من دونهم بالقتل و بينما هو جالس في مجلسه يوما إذا بفرس عابر لم يطق أحد إمساكه قد وقف ببابه فقام إليه ليتولى إمساكه بنفسه فرمحه فمات لوقته لإحدى و عشرين سنة من ملكه
و ملك بعده ابنه بهرام بن يزدجرد و يلقب ببهرام جور و كان نشوؤه ببلاد الحيرة مع العرب أسلمه أبوه إليهم فربي بينهم و تكلم بلغتهم و لما مات أبوه قدم أهل فارس رجلا من نسل أردشير ثم زحف بهرام جور بالعرب فاستولى على ملكه كما نذكر في أخبار آل المنذر و في أيام بهرام جور سار خاقان ملك الترك إلى بلاد الصغد من ممالكه فهزمه بهرام و قتله ثم غزا الهند و تزوج ابنه ملكهم فهابته ملوك الأرض و حمل إليه الروم الأموال على سبيل المهادنة و هلك لتسع و عشرين من دولته
و ملك ابنه يزدجرد بن بهرام جور و استوزر مهر برسي الحكيم الذي كان أبوه استوزره و جرى في ملكه بأحسن سيرة من العدل و الإحسان وهو الذي شرع في بناء الحائط بناحية الباب و الأبواب و جعل جبل الفتح سدا بين بلاده و ما وراءها من أمم الأعاجم و هلك لعشرين سنة من دولته
و ملك من بعده ابنه هرمز و كان ملكا على سجستان فغلب على الدولة و لحق أخوه فيروز بملك الصغد بمرو الروذ و هذه الأمم المعروفون قديما بالهياطلة و كانوا بين خوارزم و فرغانة فأمر فيروز بالعساكر و قاتل أخاه هرمز فغلبه و حبسه و كانت الروم قد امتنعت من حمل الخراج فحمل إليهم العساكر مع وزيره مهر برسي فأثخن في بلادهم حتى حملوا ما كان يحملونه و استقام أمره و أظهر العدل و أصابهم القحط في دولته سبع سنين فأحسن تدبير الناس فيها و كف عن الجباية و قسم الأموال و لم يهلك في تلك السنين أحد إتلافا و قيل أنه استسقى لرعيته من ذلك القحط فسقوا و عادت البلاد إلى أحسن ما كانت عليه و كان لأول ما ملك أحسن إلى الهياطلة جزاء بما أعانوه على أمره فقوي ملكهم أمره و زحفوا إلى أطراف ملكه و ملكوا طخارستان و كثيرا من بلاد خراسان و زحف هو إلى قتالهم فهزموه و قتلوه و أربعة بنين له و أربعة إخوة و استولوا على خراسان بأسرها و سار إليهم رجل من عظماء الفرس من أهل شيراز فغلبهم على خراسان و أخرجهم منها حتى ألقوا بجميع ما أخذوه من عسكر فيروز من الأسرى و السبي و كان مهالكه لسبع و عشرين من ملكه و بنى المدن بالري و جرجان و أذربيجان
و قال بعضهم : إن ملك الهياطلة الذي سار إلى فيروز اسمه خشتوا و الرجل الذي استرجع خراسان من يده هو خرسوس من نسل منوشهر و إن فيروز استخلفه لما سار إلى خشتوا و الهياطلة على مدينتي الملك و هما طبسون و نهرشير فكان من أمره مع الهياطلة بعد فيروز ما تقدم
و ملك بعد فيروز بن يزدجرد ابنه يلاوش بن فيروز و نازعه أخوه قباذ الملك فغلبه يلاوش و لحق قباذ بخاقان ملك الترك يستنجده و أحسن يلاوش الولاية و العدل و حمل أهل المدن على عمارة ما خرب من مدنهم و بنى مدينة ساباط بقرب المدائن و هلك لأربع سنين من دولته و ملك من بعده أخوه قباذ بن فيروز و كان قد سار بعساكر الترك أمده بها خاقان فبلغه الخبر بمهلك أخيه و هو بنيسابور من طريقه وقد لقي بها إبنا كان له هنالك حملت به أمه منه عند مروره ذلك إلى خاقان فلما أحل بنيسابور و معه العساكر سأل عن المرأة فأحضرت و معها الخبر و جاء الخبر هنالك بمهلك أخيه يلاوش بالمولود و سار إلى سرحد الذي كان أبوه فيروز استخلفه على المدائن و مال الناس إليه دون قباذ و استبد عليه فلما كبر و بلغ سن الاستبداد بأمره أنف من استبداد سرحد عليه فبعث إلى أصبهبذ البلاد و هو سابور مهران فقدم عليه و قبض على سرحد و حبسه ثم قتله و لعشرين من دولته حبس و خلع ثم عاد إلى الملك و صورة الخبر عن ذلك أن مردك الزنديق كان إباحيا و كان يقول باستباحة أموال الناس و أنها فيء و أنه ليس لأحد دون أحد و هو لمن اختاره فعثر الناس منه على متابعة مزدك في هذا الاعتقاد و اجتمع أهل الدولة فخلعوه وحبسوه و ملكوا جاماسات أخاه
و خرج رزمهر شاكيا داعيا لقباذ و يقرب إلى الناس بقتل المزدكية و أعاد قباذ إلى ملكه ثم سعت المزدكية عنده في رزمهر بإنكار ما أتى قبلهم فقبله و اتهمه الناس برأي مزدك فانتقضت الأطراف و فسد الملك و خلعوه و حبسوه و أعادوا جاماسات و فر قباذ من محبسه و لحق قباذ بالهياطلة و هم الصغد مستجيشا لهم و مر في طريقه بأبو شهر فتزوج بنت ملكها و ولدت له أنوشروان ثم أمده ملك الهياطلة فزحف إلى المدائن لست من مغيبه و غلب أخاه جاماسات و استولى على الملك ثم غزا بلاد الروم و فتح آمد و سبى أهلها و طالت مدته و ابتنى المدن العظيمة منها مدينة أرجان بين الأهواز و فارس ثم هلك لثلاث و أربعين سنة من ملكه في الكرة الأولى
و ملك ابنه أنوشروان بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد و كان يلي الأصبهبذ و هي الرياسة على الجنود و لما ملك فرق أصبهبذ البلاد على أربعة فجعل : أصبهبذ المشرق بخراسان و المغرب بأذربيجان و بلاد الخزر و استرد البلاد التي تغلب عليها جيران الأطراف من الملوك مثل السند و بست الرخج و زبلستان و طخارستان و دهستان و أثخن في أمة البازر و أجلى بقيتهم ثم أدهنوا و استعانوا بهم في حروبه و أثخن في أمة صول و استلحمهم و كذلك الجرامقة و بلنجر و اللان و كانوا يجاورون أرمينية و يتملأون على غزوها فبعث إليهم العساكر و استلحموهم و أنزل بقيتهم أذربيجان و أحكم بناء الحصون التي كان بناها قباذ و فيروز بناحية صول و اللان لتحصين البلاد و أكمل بناء الأبواب و السور الذي بناه جده بجبل الفتح بنوه على الأزماق المنفوخة تغوص في الماء كلما ارتفع البناء إلى أن استقرت بقعر البحر و شقت بالخناجر فتمكن الحائط من الأرض ثم وصل السور في البر ما بين جبل الفتح و البحر و فتحت فيه الأبواب ثم وصلوه في شعاب الجبل و بقي فيه إلى أن كمل قال المسعودي : إنه كان باقيا لعصره و الظن أن التتر خربوه بعد لما استولوا على ممالك الإسلام في المائة السابعة و مكانه اليوم بني ذو شيخان ملوك الشمال منهم و كان لكسرى أنوشروان في بنائه خبر ملوك الخزر
ثم استفحل ملك الترك زحف خاقان سيحور و قتل ملك الهياطلة و استولى على بلادهم و أطاعه أهل بلنجر و زحف إلى بلاد صول في عشرة آلاف مقاتل و بعث إلى أنوشروان يطلب منه ما أعطاه أهل بلنجر في الفداء وضبط أنوشروان أرمينية بالعساكر و امتنعت صول بملكها أنوشروان و الناحية الأخرى بسور الأبواب فرجع خاقان خائبا
و أخذ أنوشروان في إصلاح السابلة و الأخذ بالعدل و تفقد أهل المملكة و تخير الولاة و العمال مقتديا بسيرة أردشير بن بابك جده ثم سار إلى بلاد الروم و افتتح حلب و قبرص و حمص و أنطاكية و مدينة هرقل ثم الإسكندرية و ضرب الجزية على ملوك القبط و حمل إليه ملك الروم الفدية و ملك الصين و التبت الهدايا ثم غزا بلاد الخزر و أدرك فيهم بثأره و ما فعلوه ببلاده ثم وفد عليه ابن ذي يزن من نسل الملوك التبابعة يستجيشه على الحبشة فبعث معه قائدا من قواده في جند من الديلم فقتلوا مسروقا ملك الحبشة باليمن و ملكوها و ملك عليهم سيف بن ذي يزن و أمره أن يبعث عساكره إلى الهند فبعث إلى سرنديب قائدا من قواده فقتل ملكها و استولى عليها و حمل إلى كسرى أموالا جمة و ملك على العرب في مدينة الحيرة ثم سار نحو الهياطلة مطالبا بثأر جده فيروز فقتل ملكهم و استأصل أهل بيته و تجاوز بلخ و ما وراءها و أنزل عساكره فرغانة و أثخن في بلاد الروم و ضرب عليهم الجزى و كان مكرما للعلماء محبا للعلم و في أيامه ترجم كتاب كليلة و ترجمه من لسان اليهود و حله بضرب الأمثال و يحتاج إلى فهم دقيق و على عهده ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم لإثنتين و أربعين سنة من ملكه و ذلك عام الفيل و كذلك ولد أبوه عبد الله بن عبد المطلب لأربع و عشرين من ملكه (2/199)
القسم الثاني من الطبقة الرابعة من الفرس و هم الساسانية و الخبر عن ملوكهم الأكاسرة إلى حين الفتح الإسلامي
قال الطبري : و في أيامه رأى الموبذان الإبل الصعاب تقود الخيل العراب وقد قطعت دجلة و انتشرت في بلادها فأفزعه ذلك و قص الرؤيا على من يعبرها فقال : حادث يكون من العرب فكتب كسرى إلى النعمان أن يبعث إليه بمن يسأله عما يريده فبعث إليه بعبد المسيح بن عمرو بن حسان بن نفيلة الغساني و قص عليه الرؤيا فدله على سطيح و قال له : إئته أنت فسار إليه و قص عليه الرؤيا فأخبره بتأويلها و أن ملك العرب سيظهر و القصة معروفة و كان فيما قاله سطيح إنه يملك من آل كسرى أربعة عشرة ملكا فاستطال كسرى المدة و ملكوا كلهم في عشرين سنة أو نحوها
و بعث عامل اليمن و هرز بهدية و أموال و طرف من اليمن إلى كسرى فأغار عليها بنو يربوع من تميم و أخذوها و جاء أصحاب العير إلى هوذة بن علي ملك اليمامة من بني حنيفة فسار معهم إلى كسرى فأكرمه و توجه بعقد من لؤلؤ و من ثم قيل له ذو التاج و كتب إلى عامله بالبحرين في شأنهم و كان كثيرا ما يوقع ببني تميم و يقطعهم حتى سموه المكفر فتحيل عليهم بالميرة و نادى مناديه في أحيائهم : إن الأمير يقسم فيكم بحصن المشعر ميرة فتسايلوا إليه و دخلوا الحصن فقتل الرجال و خصى الصبيان و جاءت هدية أخرى من اليمن على أرض الحجاز أجازها رجل من بني كنانة فعدت عليه قيس و قتلوه و أخذوا الهدية فنشأت الفتنة بين كنانة و قيس لأجل ذلك و كانت بينهما حرب الفجار عشرين سنة و شهدها رسول الله صلى الله عليه و سلم صغيرا كان ينبل على أعمامه ثم هلك أنوشروان لثمان و أربعين من دولته و ملك ابنه هرمز
قال هشام : و كان عادلا حتى لقد أنصف من نفسه خصيا كان له و كانت له خؤلة في الترك و كان مع ذلك يقتل الأشراف و العلماء و زحف إليه ملك الترك شبابة في ثلثمائة ألف مقاتل فسار هرمز إلى هراة و باذغيس لحربهم و خالفه ملك الروم إلى ضواحي العراق و ملك الخزر إلى الباب و الأبواب و جموع العرب إلى شاطئ الفرات فعاثوا في البلاد و نهبوا و اكتنفته الأعداء من كل جانب و بعث قائده بهرام صاحب الري إلى لقاء الترك و أقام هو بمكانه من خراسان بيت هراة و باذغيس و قاتل بهرام الترك و قتل ملكهم شبابة بسهم أصابه و استباح معسكره و أقام بمكانه فزحف إليه برمومة بن شبابة بالترك فهزمه بهرام و حاصره في بعض الحصون حتى استسلم و بعث به إلى هرمز أسيرا و بعث معه بالأموال و الجواهر و الآنية و السلاح و سائر الأمتعة يقال في مائتين و خمسين ألفا من الأحمال فوقع ذلك من هرمز أحسن المواقع و غص أهل الدولة ببهرام و فعله فأكثروا فيه السعاية و بلغ الخبر إلى بهرام فخشيه على نفسه فداخل من كان معه من المرازبة و خلعوا هرمز و دعوا لابنه أبرويز و داخلهم في أهل الدولة فلحق أبرويز بأذريبجان خائفا على نفسه و اجتمع إليه المرازبة و الأصبهبذيون فملكوه و وثب بالمدائن الأشراف و العظماء و نفدويه و بسطام خال أبرويز فخلعوا هرمز و حبسوه تحرزا من قتله
و أقبل أبرويز بمن معه إلى المدائن فاستولى على الملك ثم نظر في أمر بهرام و تحرز منه و سار إليه و توافقا بشط النهروان و دعاه أبرويز إلى الدخول في أمره و يشترط ما أحب فلم يقبل ذلك و ناجزه الحرب فهزمه ثم عاود الحرب مرارا و أحس أبرويز بالقتل من أصحابه فرجع إلى المدائن منهزما و عرض على النعمان أن يركبه فرسه فنجا عليها و كان أبوه محبوسا بطبسون فأخبره الخبر و شاوره فأشار عليه بقصد موريق ملك الروم يستجيشه فمضى لذلك ونزل المدائن لاثنتي عشرة سنة من ملكه و في بعض من طرق هذا الخبر أن أبروبز لما استوحش من أبيه هرمز لحق بأذربيجان واجتمع عليه من اجتمع ولم يحدث شيئا و بعث هرمز لمحاربة بهرام قائدا من مرازبته فانهزم و قتل و رجع فلهم إلى المدائن و بهرام في اتباعهم و اضطرب هرمز و كتبت إليه أخت المرزبان المهزوم من بهرام تستحثه للملك فسار إلى المدائن و ملك و أتاه أبوه فتواضع له أبرويز و تبرأ له من فعل الناس و أنه إنما حمله على ذلك الخوف و سأله أن ينتقم له ممن فعل به ذلك و أن يؤنسه بثلاثة من أهل النسب و الحكمة يحادثهم كل يوم فأجابه و استأذنه في قتل بهرام جوبين فأشار به و أقبل بهرام حثيثا و بعث خاليه نفدويه و بسطام يستدعيانه للطاعة فرد أسوأ رد و قاتل أبرويز و اشتدت الحرب بينهما و لما رأى أبرويز فشل أصحابه شاور أباه و لحق بملك الروم و قال له خالاه عند وصولهم من المدائن : نخشى أن يدخل بهرام المدائن و يملك أباك و يبعث فينا إلى ملك الروم و انطلقوا إلى المدائن فقتلوا هرمز ثم ساروا مع أبرويز و قطعوا الفرات و اتبعتهم عساكر بهرام وقد وصلوا إلى تخوم الروم و قاتلوهم و أسروا نفدويه خال أبرويز و رجعوا عنهم و لحق أبرويز و من معه بأنطاكية و بعث إلى قيصر موريق يستنجده فأجابه و أكرمه و زوجه ابنته مريم و بعث إليه أخاه بناطوس بستين ألف مقاتل و قائدهم و اشترط عليه الإتاوة التي كان الروم يحملونها فقبل و سار بالعساكر إلى أذربيجان و وافاه هنالك خاله نفدويه هاربا من الأسر الذي كانوا أسروه ثم بعث العساكر من أذربيجان مع أصبهبذ الناحية فانهزم بهرام جوبين و لحق بالترك و سار أبرويز إلى المدائن فدخلها و فرق في الروم عشرين ألف ألف دينار و أطلقهم إلى قيصر
و أقام بهرام عند ملك الترك و صانع أبرويز عليه ملك الترك و زوجته حتى دست عليه من قتله و اغتم لذلك ملك الترك و طلقها من أجله و بعث إلى أخت بهرام أن يتزوجها فامتنعت ثم أخذ أبرويز في مهاداة قيصر موريق و ألطافه و خلعه الروم و قتلوه و ملكوا عليهم ملكا اسمه قوفا قيصر و لحق بأبرويز فبعث العساكر على ثلاثة من القواد و سار أحدهم و دوخوا الشام إلى فلسطين و وصلوا إلى بيت المقدس فأخذوا أسقفتها و من كان بها من الأقسة و طالبوهم بخشبة الصليب فاستخرجوها من الدفن و بعثوا بها إلى كسرى و سار منهم قائد آخر إلى مصر و اسكندرية و بلاد النوبة فملكوا ذلك كله و قصد الثالث قسطنطينية و خيم على الخليج و عاث في ممالك الروم
و لم يجب أحد إلى طاعة ابن موريق و قتل الروم قوفا الذي كانوا ملكوه لما ظهر من فجوره و ملكوا عليهم هرقل فافتتح أمره بغزو بلاد كسرى و بلغ نصيبين فبعث كسرى قائدا من أساورته فبلغ الموصل و أقام عليها يمنع الروم المجاوزة و جاز هرقل من مكان آخر إلى جند فارس فأمر كسرى قائده بقتاله فانهزم و قتل و ظفر هرقل بحصن كسرى و بالمدائن و وصل هرقل قريبا منها ثم رجع و أولع كسرى العقوبة بالجند المنهزمين و كتب إلى سخراب بالقدوم من خراسان و بعثه بالعساكر و بعث هرقل عساكره و التقيا بأذرعات و بصرى فغلبهم عساكر فارس و سار سخراب في أرض الروم يخرب و يقتل و يسبي حتى بلغ القسطنطينية و رجع و عزله أبرويز عن خراسان و ولى أخاه
و في مناوبة هذا الغلب بين فارس و الروم نزلت الآيات من أول سورة الروم قال الطبري : و أدنى الأرض التي أشارت إليها الآية هي أذرعات و بصرى التي كانت بها هذه الحروب ثم غلبت الروم لسبع سنين من ذلك العهد و أخبر المسلمون بذلك الوعد الكريم لما أهمهم من غلب فارس الروم لأن قريشا كانوا يتشيعون لفارس لأنهم غير دائنين بكتاب و المسلمون يودون غلب الروم لأنهم أهل كتاب و في كتب التفسير بسط ما وقع في ذلك بينهم
و أبرويز هذا هو الذي قتل النعمان بن المنذر ملك العرب و عامله على الحيرة سخطه بسعاية عدي بن زيد العبادي وزير النعمان و كان قد قتل أباه و بعثه إلى كسرى ليكون عنده ترجمانا للعرب كما كان أبوه قد فعل بسعايته في النعمان و حمله على أن يخطب إليه ابنته و بعث إليه رسوله بذلك عدي بن زيد فترجم له عنه في ذلك مقالة قبيحة أحفظت كسرى أبرويز مع ما كان تقدم له في منعه الفرس يوم بهرام كما تقدم فاستدعاه أبرويز و حبسه بساباط ثم أمر به فطرح للفيلة و ولى على العرب بعده أياس بن قبيصة الطائي جزاء بوفاء ابن عمه حسان يوم بهرام كما تقدم ثم كان على عهده وقعة ذي قار لبكر بن وائل معهم من عبس و تميم على الباهوت مسلحة كسرى بالحيرة و من معه من طيء كان سببها أن النعمان بن المنذر أودع سلاحه عند هانيء بن مسعود الشيباني و كانت شكة ألف فارس و طلبها كسرى منه فأبى إلا أن يردها إلى بيته فآذنه كسرى بالحرب و آذنوه بها و بعث كسرى إلى أياس أن يزحف إليه بالمسالح التي كانت ببلاد العرب بأن يوافوا أياسا و اقتتلوا بذي قار و انهزمت الفرس و من معهم و فيها قال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اليوم انتصف العرب من العجم و بي نصروا ] أوحى إليه بذلك أو نفث في روعه قيل إن ذلك كان بمكة و قيل بالمدينة بعد وقعة بدر بأشهر
و في أيام أبرويز كانت البعثة لعشرين من ملكه و قيل لاثنتين و ثلاثين حكاه الطبري و بعث إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم بكتابه يدعوه إلى الإسلام كما تقدم في أخبار اليمن و كما يأتي في أخبار الهجرة
و لما طال ملك أبرويز بطر و أشر و خسر الناس في أموالهم و ولى عليهم الظلمة و ضيق عليهم المعاش و بغض عليهم ملكه و قال هشام : جمع أبرويز من المال ما لم يجمعه أحد و بلغت عساكره القسطنطينية و أفريقية و كان يشتو بالمدائن و يصيف بهمدان و كان له اثنتا عشرة ألف امرأة و ألف فيل و خمسون ألف دابة و بنى بيوت النيران و أقام فيها اثني عشر ألف هربذ و أحصى جبايته لثمان عشرة سنة من ملكه فكان أربعمائة ألف ألف مكررة مرتين و عشرون ألف ألف مثلها فحمل إلى بيت المال بمدينة طبسون و كانت هنالك أموال أخرى من ضرب فيروز بن يزدجرد منها اثنا عشر ألف بدرة في كل بدرة من الورق مصارفة أربعة آلاف مثقال فتكون جملتها ثمانية و أربعين ألف ألف مثقال مكررة مرتين في صنوف من الجواهر و الطيوب و الأمتعة و الآنية لا يحصيها إلا الله تعالى ثم بلغ من عتوه و استخفافه بالناس أنه أمر بقتل المقيدين في سجونه و كانوا ستة و ثلاثين ألفا فنقم ذلك عليه أهل الدولة و أطلقوا ابنه شيرويه و اسمه قباذ و كان محبوسا مع أولاده كلهم لإنذار بعض المنجمين له بأن بعض ولده يغتاله فحبسهم و أطلق أهل الدولة شيرويه و جمعوا إليه المقيدين الذين أمر بقتلهم و نهض إلى قصور الملك بمدينة نهرشير فملكها و حبس أبرويز و بعث إلى ابنه شيرويه يعنفه فلم يرض ذلك أهل الدولة و حملوه على قتله و قتل لثمان و ثلاثين سنة من ملكه و جاءته أختاه بوران و أزرميدخت فأسمعتاه و أغلظتا له فيما فعل فبكى و رمى التاج عن رأسه و هلك لثمانية أشهر من مقتل أبيه في طاعون و هلك فيه نصف الناس أو ثلثهم و كان مهلكه لسبع من الهجرة فيما قال السهيلي
ثم ولي ملك الفرس من بعده ابنه أردشير طفلا ابن سبع سنين لم يجدوا من بين الملك سواه لأن أبرويز كان قتل المرشحين كلهم من بينيه و بني أبيه فملك عظماء فارس هذا الطفل أردشير و كفله بهادرخشنش صاحب المائدة في الدولة فأحسن سياسة ملكه و كان شهريران بتخوم الروم في جند ضمهم إليه أبرويز و حموهم هنالك و صاحب الشورى في دولتهم و لما يشاوروه في ذلك غضب وبسط يده في القتل و طمع في الشورى في دولتهم و لما لم يشاوروه في ذلك غضب و بسط يده في القتل و طمع في الملك و أطاعه من كان معه من العساكر و أقبل إلى المدائن و تحصن بهادرخشنش بمدينة طبسون دار الملك و نقل إليها الأموال و الذخائر و أبناء الملوك و حاصرها شهريران فامتنعت ثم داخل بعض العسس ففتحوا له الباب فاقتحمها و قتل العظماء و استصفى الأموال و فضح النساء
و بعث أردشير الطفل الملك من قتله لسنة و نصف من ملكه و ملك شهريران على التخت و لم يكن من بيت الملك و امتعض لقتل أردشير جماعة من عظماء الدولة و فيهم زادان فروخ و شهريران و وهب مؤدب الأساورة و أجمعوا على قتل شهريران و داخلوا في ذلك بعض حرس الملك فتعاقدوا على قتله و كانوا يعملون قدام الملك في الأيام و المشاهد سماطين مر بهم شهريران بعض أيام بين السماطين و هم مسلحون فلما حاذاهم طعنوه فقتلوه و قتلوا العظماء بعد قتل أردشير الطفل
ثم ملكوا بوران بنت أبروبز و دفعت أمر الدولة إلى قبائل شهريران من حرس الملك و هو فروج بن ماخدشيراز من أهل إصطخر و رفعت رتبته و أسقطت الخراج عن الناس و أمرت برم القناطير و الجسور و ضرب الورق و ردت خشبة الصليب على الجاثليق ملك الروم و هلكت لسنة و أربعة أشهر و ملكوا بعدها خشنشده من عمومة أبرويز عشرين يوما فملك أقل من شهر ثم ملك أزرميدخت بنت أبرويز و كانت من أجل نسائهم و كان عظيم فارس يومئذ هرمز أصبهبذ خراسان فأرسل إليها في التزويج فقالت هو حرام على الملكة و دعته ليلة كذا فجاء وقد عهدت إلى صاحب حرسها أن يقتله ففعل فأصبح بدار الملك قتيلا و أخفي أثره و كان لما سار إلى أزرميدخت استخلف على خراسان ابنه رستم فلما سمع بخبر أبيه أقبل في جند عظيم حتى نزل المدائن و ملكها و سمل أزرميدخت و قتلها و قيل سمها فماتت و ذلك لستة أشهر من ملكها و ملكوا بعدها رجلا من نسل أردشير بن بابك و قتل لأيام قلائل و قيل بل هو من ولد أبرويز اسمه فروخ زاذ بن خسرو وجدوه بحصن الحجارة قريب نصيبين فجاءوا به إلى المدائن و ملكوه ثم عصوا عليه فقتلوه و قيل لما قتل كسرى بن مهرخشنش طلب عظماء فارس من يولونه الملك و لو من قبل النساء فأتى برجل وجد بميسان اسمه فيروز بن مهرخشنش و يسمى أيضا خشنشدة أمه صهاربخت بنت يرادقرار بن أنوشروان فملكوه كرها ثم قتلوه بعد أيام قلائل ثم شخص رجل من عظماء الموالي و هو رئيس الخول إلى ناحية الغرب فاستخرج من حصن الحجارة قرب نصيبين إبنا لكسرى كان لجأ إلى طبسون فملكوه ثم خلعوه و قتلوه لستة أشهر من ملكه
و قال بعضهم : كان أهل اصطخر قد ظفروا بيزدجرد بن شهريار بن أبرويز فلما بلغهم أن أهل المدائن عصوا على ابن خسرو
فروخ زاذ أتوا بيزدجرد من بيت النار الذي عندهم و يدعى أردشير فملكوه بإصطخر و أقبلوا به إلى المدائن و قتلوا فروخ زاذ خسرو لسنة من ملكه و استقل يزدجرد بالملك و كان أعظم و زرائه رئيس الموالي الذي جاء بفرخزاد خسرو من حصن الحجارة و ضعفت مملكة فارس و تغلب الأعداء على الأطراف من كل جانب فزحف إليهم العرب المسلمون بعد سنتين من ملكه و قيل بعد أربع فكانت أخبار دولته كلها هي أخبار الفتح نذكرها هنالك إلى أن قتل بمرو بعد نيف و عشرين سنة من ملكه
هذه هي سياقة الخبر عن دولة هؤلاء الأكاسرة الساسانية عند الطبري ثم قال آخرها : فجميع سني العالم من آدم إلى الهجرة على ما يزعمه اليهود أربعة آلاف سنة و ستمائة و اثنان و أربعون سنة و على ما يدعيه النصارى في توراة اليونانيين ستة آلاف سنة غير ثمان سنين و على ما يقوله الفرس إلى مقتل يزدجرد أربعة آلاف و مائة و ثمانون سنة و مقتل يزدجرد عندهم لثلاثين من الهجرة و أما عند أهل الإسلام فبين آدم و نوح عشرة قرون و القرن مائة سنة و بين نوح و إبراهيم كذلك و بين إبراهيم و موسى كذلك و نقله الطبري عن ابن عباس و عن محمد بن عمرو بن واقد الإسلامي عن جماعة من أهل العلم و قال : إن الفترة بين عيسى و بين محمد صلى الله عليه و سلم ستمائة سنة و رواه عن سلمان الفارسي و كعب الأحبار و الله أعلم بالحق في ذلك و البقاء لله الواحد القهار (2/210)
الخبر عن دولة يونان و الروم و أنسابهم و مصايرهم
كان هؤلاء الأمم من أعظم أمم العالم و أوسعهم ملكا و سلطانا و كانت لهم الدولتان العظيمتان للإسكندر و القياصرة من بعده الذين صبحهم الإسلام و هم ملوك بالشام و نسبهم جميعا إلى يافث باتفاق من المحققين إلا ما ينقل عن الكندي في نسب يونان إلى عابر بن فالغ و أنه خرج من اليمن بأهله و ولده مغاضبا لأخيه قحطان فنزل ما بين الأفرنجة و الروم فاختلط نسبه بهم وقد رد عليه أبو العباس الناشيء في ذلك بقوله :
( تخلط يونان بقحطان ضلة ... لعمري لقد باعدت بينهما جدا )
و لذلك يقال إن الإسكندر من تبع و ليس شيء من ذلك بصحيح و إنما الصحيح نسبهم إلى يافث ثم إن المحققين ينسبون الروم جيمعا إلى يونان الأغريقيون منهم و اللطينيون و يونان معدود في التوارة من ولد يافث لصلبه و اسمه فيها يافان بفاء تقرب من الواو فعربته العرب إلى يونان
و أما هروشيوش فجعل الغريقيين خمس طوائف منتسبين إلى خمسة من أبناء يونان و هم : كيتم و حجيلة و ترشوش و دودانم و إيشاي و جعل من شعوب إيشاي سجينية و أثناش و شمالا و طشال و لجدمون و نسب الروم اللطينيين فيهم و لم يعين نسبهم في أحد من الخمسة و نسب الإفرنج إلى غطر ما بن عومر بن يافث و قال : إن الصقالبة إخوانهم في نسبه و قال : إن الملك كان في هذه الطوائف لبني أشكان بن غومر و الملوك منهم هؤلاء الغريقيون قبل يونان و غيرهم و نسب القوط إلى ماداي بن يافث و جعل من إخوانهم الأرمن ثم نسب القوط مرة أخرى إلى ماغوغ بن يافث و جعل اللطينينين من إخوانهم في ذلك النسب و نسب القاللين منهم إلى رفنا بن غومار و نسب إلى طوبال بن يافث الأندلس و الإيطاليين و الأركاديين و نسب إلى طبراش بن يافث أجناس الترك و اسم الغريقيين عنده يشمل أبناء يونان كلهم كما ذكره و ينوع الروم إلى الغريقيين و اللطينيين
و قال ابن سعيد فيما نقله من تواريخ المشرق عن البيهقي و غيره : إن يونان هو ابن علجان بن يافث قال : و لذلك يقال لهم العلوج و يشركهم في هذا النسب سائر أهل الشمال من غير الترك و إن الشعوب الثلاثة من ولد يونان فالإغريقيون من ولد أغريقش بن يونان و الروم من ولد رومي بن يونان و اللطينيون من ولد لطين بن يونان و إن الاسكندر من الروم منهم و الله أعلم و نحن الآن نذكر أخبار الدولتين الشهيرتين منهم مبلغ علمنا و الله الموفق للصواب سبحانه و تعالى (2/218)
الخبر عن دولة يونان و الإسكندر منهم و ما كان لهم من الملك و السلطان إلى انقراض أمرهم
هؤلاء اليونانيون المتشعبون إلى الغريقيين و اللطينيين ـ كما قلناه ـ اختصوا بسكنى الناحية الشمالية من المعمور مع إخوانههم من سائر بني يافث كلهم كالصقالبة و الترك و الإفرنجة من ورائهم و غيرهم من شعوب يافث و لهم منها الوسط ما بين جزيرة الأندلس إلى بلاد الترك بالمشرق طولا و ما بين البحر المحيط و البحر الرومي عرضا فمواطن اللطينين منهم في الجانب الغربي و مواطن الغريقيين منهم في الجانب الشرقي و البحر بينهما خليج القسطنطينية و كان لكل واحد من شعبي الغريقيين و اللطينيين منهم دولة عظيمة مشهورة في العالم
و اختص الغريقيون باسم اليونانيين و كان منهم الإسكندر المشهور الذكر أحد ملوك العالم و كانت ديارهم كما قلناه بالناحية الشرقية من خليج القسطنطينية بين بلاد الترك و دروب الشام ثم استولى على ما وراء ذلك من بلاد الترك و العراق و الهند ثم جال أرمينية و ما وراءها من بلاد الشام و بلاد مقدونية و مصر و الإسكندرية و كان ملوكهم يعرفون بملوك مقدونية
وذكر هروشيوش مؤرخ الروم من شعوب هؤلاء الغريقيين بنو لجدمون و بنو أنتناش قال : و إليهم ينسب الحكماء الأنتاشيون و هم ينسبون لمدينتهم أجدة أنتاش قال : و من شعوبهم أيضا بنو طمان و لجدمون كلهم بنو شمالا بن إيشاي و قال في موضع آخر : لجدمون أخو شمالا
و كانت شعوب هذه الأمة قبل الفرس و القبط و بني إسرائيل متفرقة بافتراق شعوبها و كان بينهم و بين إخوانهم اللطينيين فتن و حروب و لما استفحل ملك فارس لعهد الكينية أرادوهم على الطاعة لهم فامتنعوا و غزتهم فارس فاستصرخوا عليهم بالقبط فسالموهم إلى محاربة الغريقيين حتى أذلوهم و أخذوا الجزى منهم و ولوا عليهم و يقال : إن أفريدون ولى عليهم ابنه و أن جده الإسكندر لأبيه من أعقابه و يقال : إن بختنصر لما ملك مصر و المغرب أنفوه بالطاعة و كانوا يحملون خراجهم إلى ملك فارس عددا من كرات الذهب أمثال البيض ضريبة معلومة عليهم في كل سنة و لما فرغوا من شأن أهل فارس و أنفوا ملكهم بالجزى و الطاعة صرفوا وجوههم إلى حرب اللطينيين ثم استفحل أمر الإيشائيين من الغريقيين و لم يكن قوامهم إلا الجرمونيون فغلبوهم و غلبوا بعدهم اللطينيين و الفرناسيين و الأركاديين و اجتمع إليهم سائر شعوب الغريقيين و اعتز سلطانهم و صار لهم الملك و الدولة
و قال ابن سعيد : إن الملك استقر بعد يونان في ابنه أغريقش في الجانب الشرقي من خليج قسطنطينية و توالى الملك في ولده و قهروا اللطينيين و الروم و دال ملكهم في أرمينية و كان من أعظمهم هرقل الجبار بن ملكان بن سلقوس بن أغريقش يقال : إنه ضرب الأتاوة على الأقاليم السبعة و ملك بعده ابنه يلاق و إليه تنسب الأمة اليلاقية و هي الآن باقية على بحر سودان و اتصل الملك في عقب يلاق إلى أن ظهر إخوانهم الروم و استبدوا بالملك و كان أولهم هردوس بن منطرون بن رومي بن يونان فملك الأمم الثلاثة و صار اسمه لقبا لكل من ملك بعده و سمت به يهود الشام كل من قام بأمرها منهم ثم ملك بعده ابنه هرمس فكانت له حروب مع الفرس إلى أن قهروه و ضربوا عليه الأتاوة فاضطرب حينئذ أمر اليونانيين و صاروا دولا و ممالك و انفرد الإغريقيون برئيس لهم و صنع مثل ذلك اللطينيون إلا أن اللقب بملك الملوك كان لملك الروم ثم ملك بعده ابنه مطريوش فحمل الأتاوة لملك الفرس لاشتغاله بحرب اللطينيين و الإغريقيين و ملك بعده ابنه فليفوش و كانت أمه من ولد سرم من ولد أفريدون الذي ملكه أبوه على اليونان فظهر و هدم مدينة أغريقية و بنى مدينة مقدونية في وسط الممالك بالجانب الغربي من الخليج و كان محبا للحكمة فلذلك كثر الحكماء في دولته ثم ملك من بعده ابنه الإسكندر و كان معلمه من الحكماء أرسطو
و قال هروشيوش : إن أباه فيلفوش إنما ملك بعد الإسكندر بن تراوش أحد ملوكهم العظماء و كان فيلفوش صهرا له على أخته لينبادة بنت تراوش و كان له منها الإسكندر الأعظم قال : و كان ملك الإسكندر بن تراوش لعهد أربعة آلاف و ثمانمائة من عهد الخليفة و لعهد أربعمائة أو نحوها من بناء رومة و هلك و هو محاصر لرومة قتله اللطينيون عليها لسبع سنين من دولته فولي أمر الغريقيين و الروم من بعده صهره على أخته لينبادة فيلفوش ابن آمنتة بن هركلش و اختلفوا عليه فافترق أمرهم و حاربهم إلى أن انقادوا و غلبهم على سائر أوطانهم و أراد بناء القسطنطينية فمنعه الجرمانيون بما كانت لهم فقاتلهم حتى استلحمهم و اجتمع إليه سائر الروم و الغريقيين من بني يونان و ملك ما بين ألمانية و جبال أرمينية و كان الفرس لذلك العهد قد استولوا على الشام و مصر فاعتزم فيلفوش على غزو الشام فاغتاله في طريقه بعض اللطينيين و قتله بثأر كان له عنده و ولي من بعده ابنه الإسكندر فاستمر على مطالبة بلاد الشام و بعث إليه ملوك فارس في الخراج على الرسم الذي كان لعهد أبيه فيلفوش فبعث إليه الإسكندر إني قد ذبحت تلك الدجاجة التي كانت تبيض الذهب و أكلتها ثم زحف إلى بلاد الشام و استولى عليها و فتح بيت المقدس و قرب فيه القربان و ذلك لعهد مائتين و خمسين من فتح بختنصر إياها و امتعض أهل فارس لانتزاعه إياها من ملكتهم فزحف إليه دارا في ستين ألفا من الفرس و لقيه الإسكندر في ستمائة ألف من قومه فغلبهم و فتح كثيرا من مدن الشام و رجع إلى طرسوس فزحف إليه دارا و لقيه عليها فهزمه الإسكندر و افتتح طرسوس و مضى و بنى الإسكندرية
ثم تزاحف مع دارا و هزمه و قتله و تخطى إلى فارس فملك بلادها و هدم مدينة الملك بها و سبى أهلها و أشار عليه معلمه أرسطو بأن يجعل الملك في أسافلهم لتتفرق كلمتهم و يخلص إليه أمرهم فكاتب الإسكندر ملوك كل ناحية من الفرس و النبط و العرب و ملك على كل ناحية و توجه فصاروا طوائف في ملكهم و استبد كل واحد منهم بجهة كان ملكها لعقبه و معلمه أرسطو هذا من اليونانيين و كان مسكنه أثينا و كان كبير حكماء الخليفة غير منازع أخذ الحكمة عن أفلاطون اليوناني كان يعلم الحكمة و هو ماش تحت الرواق المظلل له من حر الشمس فسمى تلاميذه بالمشائين و أخذ أفلاطون عن سقراط و يعرف بسقراط الدن بسكناه في دن من الخزف اتخذه لرهبانيته و قتله قومه أهل يونان مسموما لما نهاهم عن عبادة الأوثان و كان هو أخذ الحكمة عن فيثاغورس منهم و يقال : إن فيثاغورس أخذ عن تاليس حكيم ملطية و أخذ تاليس عن لقمان و من حكماء اليونانيين دميقراطيس و أنكيثاغورس كان مع حكمته مبرزا في علم الطب و بعث فيه بهمن ملك الفرس إلى يونان فامتنع من إيفاده عليه ضنانة به و كان من تلامذته جالينوس لعهد عيسى عليه السلام و مات بصقلية و دفن بها
و لما استولى الإسكندر على بلاد فارس تخطاها إلى بلاد السند فملكها و بنى بها مدينة سماها الإسكندرية ثم زحف إلى بلاد الهند فغلب على أكثرها و حاربه فور ملك الهند فانهزم و أخذه الإسكندر أسيرا بعد حروب طويلة و غلب على جميع طوائف الهنود و ملك بلاد الصين و السند و ذللت إليه الملوك و حملت إليه الهدايا و الخراج من كل ناحية و راسله ملوك الأرض من أفريقية و المغرب و الإفرنجة و الصقالبة و السواد ثم ملك بلاد خراسان و الترك و اختط مدينة الإسكندرية عند مصب النيل في البحر الرومي و استولى على الملوك يقال : على خمسة و ثلاثين ملكا و عاد إلى بابل فمات بها يقال مسموما سمه عامله على مقدونية لأن أمه شكته إلى الإسكندر فتوعده فأهدى له سما و تناوله فمات لاثنتين و أربعين سنة من عمره بعد أن ملك اثنتي عشرة سنة سبعا منها قبل مقتل دارا و خمسا بعده
قال الطبري : و لما مات عرض الملك على ابنه إسكندروس فاختار الرهبانية فملك يونان عليهم لوغوس من بيت الملك و لقبه بطليموس قال المسعودي : ثم سارت هذه التسمية لكل من يملك منهم و مدينتهم مقدونية و ينزلون الإسكندرية و ملك منهم أربعة عشر ملكا في ثلثمائة سنة
و قال ابن العميد : كان قسم الملك في حياته بين أربعة من أمرائه بطليموس فليادا كان على الإسكندرية و مصر و المغرب و فيلفوس بمقدونية و ما إليها من ممالك الروم و هو الذي سم الإسكندر و دمطرس بالشام و سلقنوس بفارس و المشرق فلما مات استبد كل واحد بناحية
و كتب أرسطو شرح كتاب هرمس و ترجمه من اللسان المصري إلى اليوناني و شرح ما فيه من العلوم و الحكمة و الطلسمات و كتاب الأسطماخيس يحتوي على عبادة الأول و ذكر فيه أن أهل الأقاليم السبعة كانوا يعبدون الكواكب السيارة كل إقليم لكوكب و يسجدون له و يبخرون و يقربون و يذبحون و روحانية ذلك الكوكب تدبرهم بزعمهم و كتاب الأستماطس يحتوي على فتح المدن و الحصون بالطلسمات و الحكم و منها طلسمات لانزال المطر و جلب المياه و كتب الأشطرطاش في الأختيارات على سرى القمر في المنازل و الاتصالات و كتب أخرى في منافع و خواص الأعضاء الحيوانيات و الأحجار و الأشجار و الحشائش
و قال هروشيوش : إن الذي ملك بعد الإسكندر صاحب عسكره بطليموس بن لاوي فقام بأمرهم و نزل الإسكندرية و اتخذها دارا لملكهم و نهض كلمش بن الإسكندر و أمه بنت دارا و لينبادة أم الإسكندر و ساروا إلى صاحب أنطاكية و اسمه فمشاندر فقتلهم و اختلف الغريقيون على بطليموس و افترق أمره و حارب كل واحد منهم ناحيته إلى أن غلبهم جميعا و استقام أمره ثم زحف إلى فلسطين و تغلب على اليهود و أثخن فيهم بالقتل و السبي والأسر و نقل رؤساءهم إلى مصر ثم هلك لأربعين سنة من ملكه و ولي بعده ابنه فلديغيش و أطلق أسرى اليهود من مصر و رد الأواني إلى البيت و حباهم بآنية من الذهب و أمرهم بتعليقها في مسجد القدس و جمع سبعين من أحبار اليهود ترجموا له التوراة من اللسان العبراني إلى اللسان الرومي و اللطيني ثم هلك فلديغيش لثمان و ثلاثين سنة من ملكه
و ولي بعده ابنه أنطريس و يلقب أيضا بطليموس لقبهم المخصوص بهم إلى آخر دولتهم فانعقدت السلم بينه و بين أهل أفريقية على مدعيون ملك قرطاجنة و وفد عليه و عقد معه الصلح عن قومه و زحف قواد رومة إلى الغريقيين و نالوا منهم ثم هلك أنطريس لست و عشرين سنة من ملكه و ولي بعده أخوه فلوباذي فزحف إليه قواد رومة فهزمهم و جال في ممالكهم ثم كانت حروبه معهم بعدها سجالا و زحف إلى اليهود فملك الشام عليهم و ولى الولاة من قبله فيهم و أثخن بالقتل و السبي فيهم يقال : إنه قتل منهم نحوا من ستين ألفا و هلك لسبع عشرة سنة من ملكه و ولي بعده ابنه إيفانش و على عهده كانت فتنة أهل رومة و أهل إفريقية التي اتصلت نحوا من عشرين سنة و افتتح أهل رومة صقلية و أجاز قوادهم إلى أفريقية و افتتحوا قرطاجنة كما نذكر في أخبارهم و هلك إيفانش لأربع و عشرين سنة من دولته و ولي بعده بالإسكندرية ابنه فلوماطر فزحف الغريقيون إلى رومة و كان فيهم صاحب مقدونية و أهل أرمينية و العراق و ظاهرهم ملك النوبة و اجتمعوا لذلك فغلبهم الرومانيون و أسروا صاحب مقدونية و هلك فلوماطر لخمس و ثلاثين سنة من ملكه و ولي بعده ابنه إيرياطش و على عهده استفحل ملك أهل رومة و استولوا على الأندلس و أجازوا البحر إلى قرطاجنة بأفريقية فملكوها و قتلوا ملكها أشدريال و خربوا مدينتها بعد أن عمرت تسعمائة سنة من بنائها كما نذكر في أخبارها و زحف أيضا أهل رومة إلى الغريقيين فغلبوهم و ملكوا عليهم مدينتهم قرنطة من أعظم مدنهم يقال : إنها كانت ثانية قرطاجنة
ثم هلك إيرياطش لسبع و عشرين سنة من مدته و ولي بعده ابنه شوطار سبع عشرة سنة و على عهده استفحل ملك أهل رومة و مهدوا الأندلس و ملك بعده أخوه الإسكندر عشر سنين ثم ابنه ديونشيس مائة و ثلاثين سنة و على عهده استولى الرومانيون على بيت المقدس و وضعوا الجزية على اليهود و زحف قيصر يولش من قوادهم إلى الإفرنجة و لمياش أيضا من قوادهم إلى الفرس فغلبوهم جميعا و ما حولهم إلى أنطاكية و استولوا على ما كان لهم من ذلك و خرج الترك من بلادهم فأغاروا على مقدونية فردهم هامس قائد الرومانيين بالمشرق على أعقابهم
و هلك ديونشيس فوليت بعده ابنته كلابطرة سنتين فيما قال هروشيوش لخمسة آلاف و نيف من مبدأ الخليفة و لسبعمائة سنة و من بناء رومة و على عهدها استبد قيصر يولش بملك رومة و غلب عليها القواد أجمع و محا دولتهم منها و ذلك بعد مرجعه من حرب الإفرنج ثم سار إلى المشرق فملك إلى أرمينية و نازعه مبانش هنالك فهزمه قيصر و فر مبانش إلى مصر مستنجدا بملكتها و هي يومئذ كلابطره فبعثت برأسه إلى قيصر خوفا منه فلم يغنها ذلك و زحف قيصر إليها فملك مصر و الإسكندرية من كلابطره هذه و انقرض ملك اليونانيين و ولى قيصر على مصر و الإسكندرية و بيت المقدس من قبله و ذلك لسبعمائة أو نحوها من بناء رومة و لخمسة آلاف من مبدأ الخليفة
و ذكر البيهقي : إن كلابطره زحفت إلى أرض اللطينيين و قهرتهم و أرادت العبور إلى الأندلس فحال دونها الجبل الحاجز بين الأندلس و الإفرنج فاستعملت في فتحه الحيل و النار حتى نفذت الأندلس و إن مهلكها كان على يد أوغسطس يولش ثاني القياصرة و كذا ذكر المسعودي و أنها ملكت لاثنتين و عشرين سنة و كان زوجها أنطونيوس مشاركا لها في ملك مقدونية و مصر و أن قيصر و أوغسطس زحف إليهم فهلك زوجها انطونيوس في حروبه ثم أراد التحكم في كلابطره ليستولي على حكمتها إذ كانت بقية الحكماء من آل يونان فخطبها و تحيلت في إهلاكه و إهلاك نفسها بعد أن اتخذت بعض الحيات القاتلة التي بين الشام و الحجاز و أطلقها بمجلسها بين رياحين نصبتها هنالك و لمست الحيات فهلكت لحينها و أقامت بمكانها كأنها جالسة و دخل أوغسطس لا يشعر بذلك حتى تناول من تلك الرياحين ليشمها فأصابته الحية و هلك لحينه و تمت حيلتها عليه و انقرض ملك اليونانيين بهلاكها و ذهبت علومهم إلا ما بقي بأيدي حكمائهم في كتب خزائنهم حتى بحث عنها المأمون و أمر باستخراجها فترجمت له من هروشيوش
و أما ابن العميد فعد مصر والإسكندرية بعد الإسكندر بعد الإسكندر أربعة عشر آخرهم كلابطره كلهم يسمون بطليموس كما قال المسعودي و لم يذكر ملوك المشرق منهم بعد الإسكندر و لا ملوك الشام ولا ملوك مقدونية الذين قسم الملك فيهم كما ذكرناه إلا بذكر ملك إنطاكية من اليونانيين و يسميه أنطيوخس كما ذكرناه الآن و ذكر في أسماء ملوك مصر هؤلاء و في عددهم خلافا كثيرا ألا أنه سمى كل واحد منهم بطليموس فقال في بطليموس الأول : إنه أخو الإسكندر أو مولاه اسمه فلافاذافسد أو أرنداوس أو لوغس أو فيليبس ملك سبعا و قيل أربعين قال : و في عصره بنى سلقيوس و أظنه ملك المشرق منهم قمامة و حلب و قنسرين و سلوقية واللاذقية قال : و منها كان الكوهن الأعظم بالقدس سمعان بن خونيا و بعده أخوه ألعازر قال : و في التاسعة من ملك لوغش جاء أنطيوخس المعظم إلى بلاد اليهود و استعبدهم و في الحادية عشر حارب الروم فغلبوه و أسروه و أخذوا منه ابنه أقفاقس رهينة و في الثالثة عشر تزوج أنطيوخس كلابطره بنت لوغش زوجها له أبوها و أخذ سورية بلاد المقدس في مهرها و في التاسعة عشر وثب أهل فارس و المشرق على ملكهم فخلعوه و ولوا ابنه ثم هلك لوغش
قال ابن العميد : بعد مائة و إحدى و ثلاثين سنة لليونان ملك بطليموس بن الإسكندروس و يلقب غالب أثور و ملك مصر و الإسكندرية و البلاد الغربية إحدى و عشرين سنة و قيل ثمانيا و ثلاثين سنة أيضا فيلادلفوس أي محب أخيه و هو الذي استدعى أحبار اليهود و علماءهم الاثنين و سبعين يترجموا له التوارة و كتب الأنبياء من العبرانية إلى اليونانية و قابلوها بنسخهم فصحت و كان من هؤلاء الأحبار سمعان المذكور أولا و عاش إلى أن حمل على ذراعيه في الهيكل و مات ابن ثلثمائة و خمسين و كان منهم ألعازر الذي قتله أنطيوخس على امتناعه عن السجود لصنمه و قتله ابن سبعين سنة و يظهر من هذا أن بطليموس هو تلماي و إنه من ملوك مقدونية و ملك مصر لأن ابن كريون قال : و في ذلك الزمان كان تلماي من أهل مقدونية ملك مصر و كان يحب العلوم فاستدعى من اليهود سبعين من أحبارهم و ترجموا له التوراة و كتب الأنبياء وكان في عصره صادوق الكوهن انتهى و ملك خمسا و أربعين سنة
و ملك بعده بطليموس الأرنبا و قيل اسمه رغادي و قيل راكب الأنبر ملك أربعا و عشرين و قيل سبعا و عشرين و هو الذي بنى ملعب الخيل بإسكندرية الذي أحرق في عصر زينون قيصر و ملك بعده بطليموس محب أخيه و يقال : أوغسطس و يقال فيلادلفس ملك ست عشرة و كان في عصره أخميم الكوهن و ملك بعده بطليموس الصائغ و يقال : أخيه ملك خمس سنين و قيل خمسا و عشرين و على عهده كان اليهود الكوهن و كان ضالا غشوما و قتله بعض خدمه خنقا و ملك بعده بطليموس محب أبيه و قيل اسمه كلافاطر ملك سبع عشرة سنة و أخذ الجزية من اليهود و ملك بعده بطليموس المظفر و قيل الغالب و قيل محب أمه ملك عشرين و قيل أربعا و عشرين و في التاسعة عشرة من ملكه خرج متيتيا بن يوحنا بن شمعون الكوهن الأعظم و يعرف بحشمناي من بني يوناداب من نسل هارون بعث أنطيخوس ملك أنطاكية ابنه ألغايش بالعساكر إلى القدس فأعمل الحيلة في ملكها و قتل العازر و الكوهن و حمل بني إسرائيل على السجود لآلهته فهرب متيتيا في جماعة من اليهود إلى الجبال حتى إذا خرجت عساكر يونان رجع إلى القدس و مر بالمذبح فوجد يهوديا يذبح خنزيرا عليه و ثار باليونانيين فقتل قائدهم و أخرجهم و استبد بملك القدس كم ذكرناه في أخباره
ثم ملك بطليموس كلاباطر أي محب أبيه خمسا و عشرين سنة و قيل عشرين و كان في أيامه بالقدس يهود ابن متيتيا و بعده أخوه يوناداب و بعده أخوه شمعون و بعده أخوه هرقانوس و اسمه يوحنان و هو أول من تسمى بالملك من بن حشمناي و بعث ابنه يوحنا بالعساكر لقتال قيدونوس قائد أنطيخوس فغلبه و ارتفع عن اليهود الخراج الذي كانوا يعطونه لملوك سورية من أيام فيلفسوس ملك المشرق و ملك بعده بطليموس أرغادي أي الفاضل و قيل بطليموس الصايغ و قيل سانيطر ملك عشرين و قيل ثلاثا و عشرين و قيل ثلاثة عشر و لعهده جدد أنطيخوس بناء أنطاكية و سماها باسمه و لعهده كان ملك هرقانوس على القدس و بنيه الثلاثة و خرب مدينة السامرة سبسطية و لعهده أيضا زحف أنطيخوس إلى القدس و حاصرها فصانعه هرقانوس بثلثمائة كرة من الذهب استخرجها من قبر داود عليه السلام
ثم ملك على مصر و الإسكندرية بطليموس المخلص و قيل مقروطون و قيل شعري ملك ثماني عشرة و قيل عشرين و قيل سبعا و عشرين و لعهده كان الأسكندروس تلماي بن هرقانوس سابع بني حشمناي بالقدس و كانت فرقة اليهود عندهم ثلاثة : الربانيون ثم القرأون و هم في الأنجيل زنادقة و هم في الإنجيل الكتبة ثم على مصر بطليموس محب أمة و قيل الإسكندروس و قيل قيقتس و قيل الإسكندر و قيل ابن المخلص ملك عشر سنين لا غير و لعهده كانت الإسكندرة ملكة على بيت المقدس و لعهده بطلت مملكة سورية لمائتين و سبع عشرة سنة من ملك يونان و قتل بطليموس هذا قتله أهل إهراقية و أحرقوه ثم ملك على مصر بطليموس فيناس و قيل إيزيس و قيل المنفي لأن كلابطرة الملكو نفته عن الملك و ملك ثمان سنين و قيل ثلاثا و عشرين يوما و قيل ثمانية عشر يوما و بعضهم أسقطه من البطالسة و لم يذكره ثم ملك على مصر بطليموس يوناشيش إحدى و عشرين سنة و قيل إحدى و ثلاثين و قيل ثلاثين و لعهده كان أرستبلوس و أخوه هرقانوس على القدس
ثم ملك على مصر كلابطره بنت ديوناشيش و معنى هذا الاسم الساكنة على الصخرة ملكت ثلاثين و قيل اثنتين و عشرين و كانت حاذقة و في الثالثة من ملكها حفرت خليج الإسكندرية و جرى فيه الماء و بنت بإسكندرية هيكل زحل و العاروص و بنت مقياسا بأحميم و آخر بمدينة أنصناء و في الرابعة من ملكها ملك برومة أغانيوس أول القياصرة ملك أربعا ثم يوليوس بعده ثلاثا ثم أغسطس بن مونوجس فاستولى على الممالك و النواحي و بلغ خبره إليها فحصنت بلادها و بنت حائطا من الفرماء إلى النوبة شرقي النيل و حائطا آخر من اسكندرية إلى النوبة غربي النيل و هو حائط العجوز لهذا العهد و بعث أوغسطس العساكر إلى مصر مع قائده أنطريوس و معه مترداب ملك الأرمن فخادعت كلابطره أنطريوس و أوعدته بتزويجها فقتل رفيقه مترداب و تزوجها و عصى أوغسطس فسار أوغسطس إليها و ملك مصر و قتل كلابطرة و ولديها و قائده بطريوس الذي تزوجها يقال : إنها وضعت له سما في مجلسها و أن أوغسطس تناوله و مات و الله أعلم و انقرضت مملكة يونان من مصر و الاسكندرية و المغرب بملكها و صارت هذه الممالك للروم إلى حين الفتح الإسلامي و انتهى كلام ابن العميد
و الخلاف الذي ينقله عن جماعة مؤرخيهم يذكر منهم سعيد بن بطريق و يوحنا فم الذهب و المنجبي و ابن الراهب و أبو فانيوس و الظاهر أنهم من مؤرخي النصارى و البقاء لله الواحد القهار سبحانه لا إله غيره و لا معبود سواه (2/220)
الخبر عن اللطينيين و هم الكتيم المعرفون بالروم من أمم يونان و أشياعهم و شعوبهم و ما كان لهم من الملك و الغلب و ذكر الدولة التي فيهم للقياصرة و أولية ذلك و مصايره
هذه الأمة من أشهر أمم العالم و هي ثانية الغريقيين عند هروشيوش و يجمعان في نسب يونان و ثالثهم عند البيهقي و يجتمعون في نسب يونان بن علجان بن يافث و اسم الروم يشملهم ثلاثتهم لما كان الروم أهل المملكة العظمى منهم و مواطن هؤلاء اللطينيين بالناحية الغربية من خليج القسطنطينية إلى بلاد الافرنجة فيما بين البحر المحيط و البحر الرومي من شماليه و ملك هذه الأمة قديما كانت لهم مدينة اسمها طروبة و ذكر هروشيوش أن أول من ملك من اللطينيين ألفنس بن شطرنش بن أيوب و ذلك لعهد دائرة بني اسرائيل وقد مر ذكرها في آخر الألف الرابع من مبدأ الخليقة و ملك من بعده ابنه بريامش و اتصل الملك في عقب الفنس هذا و إخواته و كان منهم كرمنس بن مرسية بن شيبن بن مزكة الذي ألف حروف اللسان اللطيني و أثبتها و لم تكن قبله و ذلك على عهد يواثير بن كلعاد من حكام بني إسرائيل بعد أربعة آلاف و خمسين من مبدأ الخليفة
و كان بين هؤلاء اللطينيين و بين الغريقيين و إخوانهم فتن طويلة و على يدهم خربت طروبة مدينة اللطينيين لعهد أربعة آلاف و مائة و عشرين من مبدأ الخليفة أيام عبدون ملك بني إسرائيل وقد مر ذكره و كان ملكهم يومئذ أناش من عقب بريامش بن ألفنس بن شطرنش و ولي بعده ابنه أشكانيش بن أناش و هو الذي بنى مدينة ألبا ثم اتصل الملك فيهم إلى أن افتراق أمرهم ثم كان من أعقابهم برقاش أيام انقراض ملك الكدانيين و صار للمازنيين و القضاعيين على عهبن عزياه بن أمصيا من ملوك بني إسرائيل و لعهد أربعة آلاف و مائة و عشرين سنة من مبدأ الخليفة فصار الأمر في اللطينيين لبرقاش هذا بتولية ملك المازنيين ما كان لهم و للسريانيين قبلهم من الصيت في العالم و التفوق على الملوك بنسبهم و عصبيتهم ثم اتصل الملك لابنه و لحافديه روملوس و أماش و هما اللذان اختطا مدينة رومة و ذلك لعهد أربعة آلاف و خمسمائة سنة من مبدأ الخليفة و على عهد حزقيا بن آحاز ملك بني إسرائيل و لأربعمائة و نيف من خراب مدينة طروبة و كان طول مدينة رومة من الشمال إلى الجنوب عشرين ميلا في عرض إثني عشر ميلا و ارتفاع سورها ثمانية و أربعون ذراعا في عرض عشرة أذرع و كانت من أحفل مدن العالم و لم تزل دار مملكة اللطينيين و القياصرة منهم حتى صبحهم الإسلام و هي في ملكهم
و كان اللطينيون بعد روملس و أماش و انقراض عقبهم قد سئموا ولاية الملوك عليهم فعزلوهم و صار أمرهم شورى بين الوزراء و كانوا يسمونهم القنشلش و معناه الوزراء بلغتهم و كان عددهم سبعين على ما ذكر هروشيوش و لم يزل أمرهم على ذلك مدة سبعمائة سنة إلى أن استبد عليهم قيصر بولش بن غايش أول ملوك القياصرة كما نذكر بعد
و كانت لهم حروب مع الأمم المجاورة لهم من كل جهة فحاربوا اليونايين ثم حاربوا الفرس من بعدهم و استولوا على الشام و مصر ثم ملكوا جزيرة الأندلس ثم جزيرة صقلية ثم أجازوا إلى أفريقية فملكوها و خربوا قرطاجنة و أجاز أهل أفريقية إليهم و حاصروا رومة و اتصلت الفتن بينهم عشرين سنة أو نحوها على ما نذكر
و ذهب جماعة من الإخباريين إلى أن الروم من ولد عيصو بن اسحق عليه السلام قال ابن كريون : كان لليفاز بن عيصو ولد اسمه صفوا و لما خرج يوسف من مصر ليدفن أباه يعقوب في مدينة الخليل عليه السلام و اعترضه بنو عيصو و قاتلوه فهزمهم و أسر منهم صفوا بن أليفاز و بعثه إلى أفريقية فصار عند ملكها و اشتهر بالشجاعة و حدثت الفتنة بين أغنياس و بين الكيتم وراء البحر فأجاز إليهم أغنياس في أهل أفريقية و أثخن فيهم و ظهرت شجاعة صفوا بن أليفاز ثم هرب صفوا إلى الكيتم و عظم بينهم و حسن أثره في أهل أفريقية و في الأمم المجاورة لكيتم من أموال و غيرها فزوجوه و ملكوه عليهم قال : و هو أول من ملك في بلاد أسبانيا و أقام ملكا خمسا و خمسين سنة ثم عد ابن كريون بعد ستة عشر ملكا من أعقابه آخرهم روملس باني رومة و كان لعهد داود عليه السلام و خاف منه فوضع مدينة رومة و بنى على جميعها هياكله و نسبت المدينة إليه و سميت باسمه و سمى أهلها الروم نسبه إليها
ثم عد بعد روملس خمسة من الملوك اغتصب خامسهم رجلا في زوجه فقتلت نفسها و قتله زوجها في الهيكل و أجمع أهل رومة أن لا يولوا عليهم ملكا و قدموا شيوخا ثلثمائة و عشرين يدبرون ملكهم فاستقام أمرهم كما يجب إلى أن تغلب قيصر و سمى نفسه ملكا فصاروا من بعده يسمون ملوكا انتهى كلام ابن كريون و هو مناقض لما قاله هروشيوش فإنه زعم أن بناء رومة كان لعهد داود عليه السلام و هروشيوش قال : إنه كان لعهد حزقيا رابع عشر ملوك بني يهوذا من لدن داود عليه السلام و بين المدتين تفاوت و خبر هروشيوش مقدم لأن واضعيه مسلمان كانا يترجمان لخلفاء الإسلام بقرطبة و هما معروفان و وضعا الكتاب فالله أعلم بحقيقة الأمر في ذلك (2/232)
الخبر عن فتنة الكيتم مع أهل أفريقية و تخريب قرطاجنة ثم بناؤها على الكيتم و هم اللطينيون
كان بناء قرطاجنة هذه قبل بناء رومة بإثنتين و سبعين سنة قال هروشيوش : على يدي ديدن بن أليثا من نسل عيصو بن إسحق و كان بها أمير يسمى ملكون و هو الذي بعث إلى الإسكندرية بطاعته عند استيلائه على طرسوس ثم صار ملك أفريقية إلى أملقا من ملوكهم فافتتح صقلية و هاجت الحرب بينه و بين الرومانيين و أهل الإسكندرية بسبب أهل سردانية و ذلك لخمسين سنة من بناء رومة ثم وقعت السلم بينهم و هي السلم التي وفد فيها عتون من ملوك أفريقية على أنطريطش ملك مقدونية و اسكندرية و هو ملك الروم الأعظم ثم ولى بقرطاجنة أملقا ابنه أنبيل فأجاز إلى بلاد الإفرنج و غلبهم على بلادهم و زحف إليه قواد رومة فوالى عليهم الهزائم و بعث أخاه أشدربال إلى الأندلس فملكها و خالفه قواد الرومانيين إلى أفريقية بعد أن ملكوا من حصون صقلية أربعين أو نحوها ثم أجازوا إلى أفريقية فملكوها و قتلوا غشول خليفة أنبيل فيها و افتتحوا مدينة جردا و خرج آخرون من قواد رومة إلى الأندلس فهزموا أشدربال و اتبعوه إلى أن قتلوه و فر أخوه أنبيل عن بلادهم بعد ثلاث عشرة سنة من إجازته إليهم و بعد أن حاصر رومة و أثخن في نواحيها فلحق بأفريقية و لقيه قواد أهل رومة الذين أجازوا إلى أفريقية فهزموه و حاصروه بقرطاجنة حتى سأل الصلح على أن يغرم لهم ثلاثة آلاف قنطار من الفضة فأجابوا إليه
و سكنت الحرب بينهم ثم ظاهر بعد ذلك أنبيل صاحب أفريقية ملوك السريانيين على حرب أهل رومة فهلك في حربهم مسموما و بعد أن تخلص أهل رومة من تلك الحروب رجعوا إلى الأندلس فملكوها ثم أجازوا البحر إلى قرطاجنة ففتحوها و قتلوا ملكها يومئذ أنبيل و خربوها لتسعمائة سنة من بنائها و سبعمائة لبناء رومة
ثم دارت الحرب بين أهل رومة و ملك النوبة و استظهر ملك النوبة بالبربر بعد أن هزمه أهل رومة و اتبعوه إلى قفصة فملكوها و استولوا على ذخيرتها و هي من بناء أركلش الجبار ملك الروم و هزمهم أهل رومة فخافهم ملك البربر من ملوك النوبة إلى أن هلك في أسرهم و كانت هذه الحروب لعهد بطليموس الإسكندر بعد أن كان قواد رومة اجتمعوا على بناء قرطاجنة و تجديدها لاثنتين و عشرين سنة من خرابها فعمرت و اتصل بها لأهل رومة ملك على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى (2/234)
الخبر عن ملوك القياصرة من الكتيم و هم اللطينيون و مبدأ أمورهم و مصاير أحوالهم
لم يزل أمر هؤلاء الكيتم و هم اللطينيون راجعا إلى الوزراء منذ سبعمائة سنة كما قلناه من عهد بناء رومة أو قبلها بقليل كما قال هروشيوش تقترع الوزراء في كل سنة فيخرج قائد منهم إلى كل ناحية كما توجبه القرعة فيحاربون أمم الطوائف و يفتحون الممالك و كانوا أولا يعطون إخوانهم من الروم اليونانيين طاعة معروفة بعد الفتن و المحاربة حتى إذا هلك الإسكندرية و افترق أمر اليونانيين و الروم و فشلت ريحهم وقعت فتنة هؤلاء اللطينيين و هم الكيتم مع أهل أفريقية و استولوا عليها مرارا و خربوا قرطاجنة ثم بنوها كما ذكرناه و ملكوا الأندلس و ملكوا الشام و أرض الحجاز و قهروا العرب بالحجاز و افتتحوا بيت المقدس و أسروا ملكها يومئذ من اليهود و هو أرستبلوس ابن الإسكندر ثامن ملوك بني حشمناي و غربوه إلى رومة و ولوا قائدهم على الشام ثم حاربوا ألغماس فكانت حربهم سجالا إلى أن خرج بولس بن غايش و معه ابن عمه لوجيار بن مدكة إلى جهة الأندلس و حارب من كان بها من الإفرنج و الجلالقة إلى أن ملك برطانية و اشبونة و رجع إلى رومة و استخلف على الأندلس أكتبيان ابن أخيه يونان فلما وصل إلى رومة و شعر الوزراء أنه يروم الاستبداد عليهم فقتلوه
فزحف اكتبيان ابن أخيه من الأندلس بثأره و ملك رومة و استولى على أرض قسطنطينية و فارس و أفريقية و الأندلس و عمه يولش هو الذي تسمى قيصر فصار سمة لملوكهم من بعده و أصل هذا الإسم جاشر فعربته العرب إلى قيصر و لفظ جاشر مشترك عندهم فيقال جاشر للشعر و زعموا أن يولش ولد شعره نام يبلغ عينيه و يقال أيضا للمشقوق جاشر و زعموا أن قيصر ماتت أمه و هي مقرب فبقر بطنها و استخرج يولس و الأول أصح و أقرب إلى الصواب
و كانت مدة يولس قيصر خمس سنين و لما ولى قيصر أكتبيان ابن أخته انفرد بملك الناحية الشمالية من الأرض و وفد عليه رسل الملوك بالمشرق يرغبون في ولايته و يضرعون إليه في السلم فاسعفهم و دانت له أقطار الأرض و ضرب الأتاوة على أهل الآفاق من الصغر و كان العامل على اليهود بالشام من قبله هيردوس بن أنظفنر و على مصر ابنه غايش و ولد المسيح لإثنتين و أربعين سنة خلت من ملكه و هلك قيصر أكتبيان لست و خمسين من ملكه بعد و خمسين سنة لبناء رومة و خمسة آلاف و مائتين لمبدأ الخليفة انتهى كلام هروشيوش
و أما ابن العميد مؤرخ النصارى فذكر عن مبدأ هؤلاء القياصرة أن أمر رومة كان راجعا إلى الشيوخ الذين يدبرون أمرهم و كانوا ثلثمائة و عشرين رجلا لأنهم كانوا حلفوا أن لا يولون عليهم ملكا فكان تدبيرهم يرجع إلى هؤلاء و كانوا يقدمون واحدا منهم و يسمونه الشيخ و انتهى تدبيرهم في ذلك الزمان إلى أغانيوس فدبرهم أربع سنين و هو الذي سمي قيصر لأن أمة ماتت و هو جنين في بطنها فبقروا بطنها و أخرجوه و لما كبر انتهت إليه رياسة هؤلاء الشيوخ برومة أربع سنين ثم ولي من بعده يوليوس قيصر ثلاث سنين ثم ولي من بعده أوغسطس قيصر بن مرنوخس قال : و يقال إن أوغسطس قيصر كان أحد قواد الشيخ مدبر رومة و توجه بالعساكر لفتح المغرب و الأندلس ففتحهما و عاد إلى رومة فملك عليهم و طرد الشيخ من رياسته بها و تدبيره و وافقته الناس على ذلك و كان للشيخ نائقب بناحية المشرق يقال له فمقيوس فلما بلغه ذلك زحف بعساكره إلى رومة فخرج إليه أوغسطس فهزمه و قتله و استولى على ناحية المشرق و سير عساكره إلى فتح مصر مع قائدين من قواده هما أنطونيوس و مترادب ملك الأرمن بدمشق فتوجها إلى مصر و بها يومئذ كلابطره الملكة من بقية البطالسة ملوك يونان بالإسكندرية و مصر فحصنت بلادها و بنت بعدوتي النيل حائطين مبدؤهما من النوبة إلى الإسكندرية غربا و إلى الفرما شرقا و هو حائط العجوز لهذا العهد ثم داخلت القائد أنطونيوس و خادعته بالتزويج فتزوجها و قتل رفيقه مترداب و عصي على أوغسطس فزحف إليه و قتله و ملك مصر و قتل كلابطره و ولديها و كانا يسميان الشمس و القمر و ملك مصر و الإسكندرية و ذلك لإثنتي عشرة سنة من ملكه
قال و لإثنتين وأربعين سنة من ملك أوغسطس ولد المسيح بعد مولد يحيى بثلاثة أشهر و ذلك لتمام خمسة آلاف و خمسمائة سنة من سني العالم و لإثنتين و ثلاثين من ملك هيردوس بالقدس و قيل لخمس و ثلاثين من مملكته و الكل متفقون على أنها لإثنتين و أربعين من ملك أوغسطس قال : و سياقه التاريخ تقتضي أنها خمسة آلاف و خمسمائة شمسية من مبدأ العالم لأن من آدم إلى نوح ألفا و ستمائة و من نوح إلى الطوفان ستمائة و من الطوفان إلى إبراهيم ألفا و اثنتين و سبعين سنة و من إبراهيم إلى موسى أربعمائة و خمسا و عشرين و من موسى إلى داود عليهما السلام سبعمائة و ستين من داود إلى الاسكندر سبعمائة و ستين سنة و من الاسكندر إلى مولد المسيح ثلثمائة و تسع عشرة سنة و هكذا ذكر ابن العميد و أنها تواريخ النصارى و فيها نظر و يظهر من كلامه أن قيصر الذي سماه أوغسطس و ذكر أن المسيح ولد لإثنتين و أربعين من ملكه هو الذي سماه هيردوس قيصر أكتبيان و جعل مهلكه لخمسة آلاف و مائتين من مبدأ الخليفة و عند ابن العميد أن ملكه لخمسة آلاف و خمسمائة و خمس عشرة و الله أعلم بالحق من ذلك
ثم ولي من بعد طباريش قيصر و كان وادعا و استولى على النواحي و على عهده كان شأن المسيح و بغى اليهود عليه و رفعه الله من الأرض و أقام الحواريون من بعده و اليهود يضطهدونهم و يحبسونهم على إظهار أمرهم و كان بلاطس النبطي الذي كان قائدا على اليهود يسعى إلى طباريش بأخبار المسيح و بغى اليهود عليه و على يوحنا المعمدان و تبعتهم الحواريون من بعده بالأذية و أراه انهم على حق فأمر بتخلية سبيلهم و هم بالأخذ بدينهم فمنعنه من ذلك قومه ثم قبض على هيردوس و أحضره إلى رومة ثم نفاه إلى الأندلس فمات بها ثم ولي مكانته أغرباس ابن أخيه و افترق الحواريون في الآفاق لإقامة الدين و حمل الأمم على عبادة الله ثم قتل طباريش قيصر أغرباس مملك اليهود إلى أشر من حالهم و قتلوا أتباع الحواريين من الروم
و مات طباريش لثلاث و عشرين من ملكه بعد أن جدد مدينة طبرية فيما قال ابن العميد و اشتق اسمها من اسمه و ملك من بعده غاينس قيصر و قال هيروشيوش : هو أخو طباريش و سماه غاينس فليفة من أكتبيان و قال : هو رابع القياصرة و أشدهم و أراد اليهود على نصب و ثنه ببيت المقدس فمنعوه و قال ابن العميد : و وقعت في أيامه شدة على النصارى و قتل يعقوب أخاه من الحواريين و حبس بطرس رئيسهم ثم هرب إلى انطاكية فأقام بها و قدم هراديوس بطركا عليها و هو أول البطاركة فيها ثم توجه إلى رومة لسنتين من ملك غانيس فدبرها خمسا و عشرين سنة و نصب فيها الأساقفة شدائد من اليهود و كان الأسقف عليهم يومئذ يعقوب بن يوسف الخطيب
و ق ابن العيمد عن المسبحي : إن فيلقس ملك مصر غزا اليهود لأول سنة من ملك غانيس و استعبدهم سبع سنين قال و في الرابعة من ملكه أمر عامله على اليهود بسورية و هي أورشاليم و هي بيت المقدس ـ أن ينصب الأصنام في محاريب اليهود و وثب عليه بعض قواده فقتله
و ملك من بعده قلوديش قيصر قال هروشيوش : هو ابن طباريش و على عهده كتب متى الحواري إنجيله في بيت المقدس بالعبرانية قال ابن العميد : و نقله يوحنا ابن زبدي إلى الرومية قال : و في أيامه كتب بطرس رأس الحواريين إنجيله بالرومية و نسبه إلى مرقص تلميذه و كتب لوقا من الحواريين إنجيله بالرومية و بعث به إلى بعض الأكابر من الروم و كان لوقا طيبا ثم عظم الفساد بين اليهود و لحق ملكهم أغرباش برومة فبعث معه أقلوديش عساكر الروم فقتلوا من اليهود خلقا و حملوا إلى انطاكية و رومة منهم سبيا عظيما و خربت القدس و انجلى أهلها فلم يول عليهم القياصرة أحدا لخرابها و افترقت اليهود على فرق كثيرة أعظمها سبعة قال و لسبع من ملك أقلوديش دخلت بطريقة من الروم في دين النصارى على يد شمعون الصفا و سمعت منه بالصليب فجاءت إلى القدس لإظهاره و رجعت إلى رومة
و هلك أقلوديش قيصر لأربع عشرة سنة من ملكه و ملك من بعده ابنه نيرون قال هروشيوش : هو سادس القياصرة و كان غشوما فاسقا و بلغه أن كثيرا من أهل رومة أخذوا بدين المسيح فنكر ذلك و قتلهم حيث وجدوا و قتل بطرس رأس الحواريين و أقام أريوس بطركا برومة مكان بطرس متن بعد خمس و عشرين سنة مضت لبطرس في كرسيها و هو رأس الحواريين و رسول المسيح إلى رومة و قتل مرقص الإنجيلي بالإسكندرية لاثنتي عشرة من ملكه و كان هنالك منذ سبع سنين بها مساعدا إلى النصرانية بالاسكندرية و مصر و برقة و المغرب و ولي مكانه حنانيا و يسمى بالقبطية جنبار و هو أول البطارقة بها و اتخذ معه الأقسة الاثني عشر
قال ابن العميد عن المسبحي : و في الثانية من ملك نيرون عزل بلخس القاضي كان على اليهود من جهة الروم و ولى مكانه قسطس القاضي و قتل بوثار رئيس الكهنونية بالمقدس و مات القاضي قسطس فثار اليهود على من كان بالمقدس من النصارى و قتلوا أسقفهم هنالك و هو يعقوب بن يوسف النجار و هدموا البيعة و أخذوا الصليب و الخشبتين و دفنوها إلى أن استخرجتها هلانة أم قسطنطين كما نذكر بعد و ولي مكان يعقوب النجار ابن عمه شمعون بن كنابا ثم ثار بهم اليهود و أخرجوهم من المقدس لعشر من ملك نيرون فأجازوا الأردن و أقاموا هنالك و بعث نيرون قائده أسباشيانس و أمر بقتل اليهود و خراب القدس و تحصن اليهود منه و بنوا عليهم ثلاثة حصون و حاصرهم أسباشيانس و أمر بقتل اليهود و خراب القدس و تحصن اليهود منه و بنوا عليهم ثلاثة حصون و حاصرهم و خرب جميع حصونهم و أحرقها و أقام عليهم سنة كاملة و قال هروشيوش : إن نيرون قيصر انتقض عليه أهل مملكته فخرج عن طاعته أهل برطانية من أرض الجوف و رجع أهل أرمينية و الشام إلى طاعة الفرس فبعث صهره على أخته و هو يشبشيان بن لوجيه فسار إليهم في العساكر و غلبهم على أمرهم ثم زحف إلى اليهود بالشام و كانوا قد انتقضوا فحاصرهم بالقدس و بينما هو في حصاره إذ بلغه موت نيرون لأربع عشرة سنة من ملكه ثار به جماعة من قواده فقتلوه و كان قد بعث قائدا إلى جهة الجوف و الأندلس فافتتح برطانية و رجع إلى رومة بعد مهلك نيرون قيصر فملكه الروم عليهم و أنه قتل أخاه يشبشيان فأشار عليه أصحابه بالانصراف إلى رومة و بشره رئيس اليهود و كان أسيرا عنده بالملك و يظهر أنه يوسف بن كريون الذي مر ذكره فانطلق إلى رومة و خلف ابنه طيطش على حصار القدس فافتتحها و خرب مسجدها و عمرانها كما مر ذكره و قال : و قتل منهم نحوا من ستمائة ألف ألف مرتين و هلك في حصارها جوعا نحو هذا العدد و بيع من سراريهم في الآفاق نحو من تسعين ألفا و حمل منهم إلى رومة نحوا من مائة ألف استبقاهم لفتيان الروم يتعلمون المقاتلة فيهم ضربا بالسيوف و طعنا بالرماح و هي الجلوة الكبرى كانت لليهود بعد ألف و مائة و ستين سنة من بناء بيت المقدس و لخمسة آلاف و مائتين و ثلاثين من مبدأ الخليفة و لثمانمائة و عشرين من بناء رومة فكان معه إلى أن افتتحها و كان المستبد بها بعد مهلك نيرون قيصر و انقطع ملك آل يولس قيصر لمائة و ست عشرة سنة من مبدأ دولتهم و استقام ملك يشبشيان في جميع ممالك الروم و تسمى قيصر كما كان من قبل كلام هروشيوش
و قال ابن العميد : و إن أسباشيانس لما بلغه و هو محاصر للقدس أن نيرون هلك ذهب بالعساكر الذين معه و بشره يوسف بن كريون كهنون طبرية من اليهود بأن مصير ملك القياصرة إليه ثم بلغه أن الروم بعد مهلك نيرون ملكوا غليان بن قيصر فأقام عليهم تسعة أشهر و كان رديء السيرة و قتله بعض خدمه غيلة و قدموا عوضه أنون ثلاثة أشهر ثم خلعوه و ملكوا أبطالس ثمانية أشهر فبعث أسباشيانس و هو الذي سماه هروشيوش يشبشيان قائدين إلى رومة فحابوا أبطانش و قتلوه و سار أسباشيانس إلى رومة و بعث إليه طيطش المحاصر للقدس بالأموال و الغنائم و السبي قال و كانت عدة القتلى ألف ألف و السبي تسعمائة ألف و احتمل الخوارج الذين كانوا في نواحي القدس مع الأسرى و كان يلقي منهم كل يوم للسباع فرائس إلى أن فنوا قال : و لما ملك طيطش بيت المقدس رجع النصارى الذين كانوا عبروا إلى الأردن فبنوا كنيسة بالمقدس و سكنوا و كان الأسقف فيهم سمعان بن كلوبا ابن عم يوسف النجار و هو الثاني من أساقفة المقدس
ثم هلك أسباشيانس و هو يشبشيان لتسع سنين من ملكه و ملك بعده ابنه طيطش قيصر سنتين و قيل ثلاثا قال ابن العميد : لأربعمائة من ملك الاسكندر و قال هروشيوش : كان متفننا في العلوم ملتزما للخير عارفا باللسان الغريقي و اللطيني و ولي بعده أخوه دومريان خمس عشرة سنة قال هروشيوش : و هو ابن أخت نيرون قيصر قال : وكان غشوما كافرا و أمر بقتل النصارى فعل خاله نيرون و حبس يوحنا الحواري و أمر بقتل اليهود من نسل داود حذرا أن يملكوا و هلك في حروب الإفرنج و سماه ابن العميد دانسطيانوس و قال : ملك ست عشرة سنة و قيل تسعا و كان شديدا على اليهود و قتل أبناء ملوكهم و قيل له إن النصارى يزعمون أن المسيح يأتي و يملك فأمر بقتلهم و بعث عن أولاد يهوذا بن يوسف من الحواريين و حملهم إلى رومة مقيدين و سألهم عن شأن المسيح فقالوا إنما يأتي عند انقضاء العلم فخلى سبيلهم و في الثالثة من دولته طرد بطرك اسكندرية لسبع و ثمانين سنة للمسيح و قدم مكانه ملموا فأقام ثلاث عشرة سنة و مات فولى مكانه كرماهو
قال ابن العميد عن المسبحي : و لعهده كان أمر ليونيوس صاحب الطلسمات برومة فنفى ذوسطيالوس جميع الفلاسفة و المتنجمين من رومة و أمر أن لا يغرس بها كرم هلك ذوسطيالوس و هو الذي سماه هروشيوش دومريان و قال : هلك في حروب الإفرنج و ملك بعده برما ابن أخيه طيطش نحوا من سنتين و سماه ابن العميد تاوداس و قال : إن المسبحي سماه قارون قال : و يسمى أيضا برسطوس قال ملك على الروم سنة أو سنة و نصفا و أحن السيرة و أمر برد من كان منفيا من النصارى و خلاهم و دينهم و رجع يوحنا الإنجيلي إلى أفسس بعد ست سنين و قال هروشيوش : أطلقه من السجن و قال : و لم يكون له ولد فعهد بالملك إلى طريانس من عظماء قواده و كان من أهل مالقة فولي بعده وتسمى قيصر و قال ابن العميد : واسمه أنديانوس و سماه المسبحي طرينوس و ملك على الروم باتفاق المؤرخين سبع عشرة سنة و قتل سمعان بن كلاويا أسقف بيت المقدس و أغناطيوس بطرك أنطاكية و لقي النصارى في أيامه شدة و تتبع أئمتهم بالقتل و استعبد عامتهم و هو ثالث القياصرة بعد نيرون في هذه الدولة و لعهده كتب يوحنا إنجيله برومة في بعض الجزائر السادسة من ملكه و كان قد رجع اليهود إلى بيت المقدس فكثروا بها و عزموا على الانتقاض فبعث عساكره و قتل منهم خلقا كثيرا و قال هروشيوش : إن الحرب طالت بينه و بين اليهود فخرجوا كثيرا من المدن إلى عسقلان ثم إلى مصر و الإسكندرية فانهزم هنالك و قتلوا و زحفوا بعدها إلى الكوفة فأثخن فيهم بالقتل و خضد من شوكتهم
قال ابن العميد : و في تاسعة من ملكه مات كوثبانوبطرك الإسكندرية لإحدى عشرة سنة من ولايته و ولي مكانه أمرغو اثنتي عشرة سنة أخرى و قال بطليموس صاحب كتاب المجسطي : إن شيلوش الحكيم رصد برومة في السنة الأولى من ملك طرنيوس و هو أندريانوس لأربعمائة و إحدى و عشرين للإسكندر و لثمانمائة و خمس و أربعين لبختنصر و قال ابن العميد : خرج عليه خارجي ببابل فهلك في حروبه لتسع عشرة سنة من ولايته كما قلناه فولي من بعد أندريانوس إحدى و عشرين سنة و قال ابن العميد عن ابن بطريق عشرين سنة و قال هروشيوش : إنه أثخن في اليهود ثم بنى مدينة المقدس و سماها إيلياء و قال ابن العميد : كان شديدا على النصارى و قتل منهم خلقا و أخذ الناس بعبادة الأوثان و في ثامنة ملكه خرب بيت المقدس و قتل عامة أهلها و بنى على باب المدينة عمودا و عليه لوح نقش فيه مدينة إيلياء ثم زحف إلى الخارجي الذي خرج على طرنيوس قبله فهزمه إلى مصر و ألزم أهل مصر حفر خليج من مجرى النيل إلى مجرى القلزم و أجرى فيه الحلو ثم أرتد بعد ذلك و جاء الفتح و الدولة الإسلامية فألزمهم عمرو بن العاص حفره حتى جرى فيه الماء ثم انسد لهذا العهد
و كان أندريانوس هذا قد بنى مدينة القدس و رجع إليها اليهود و بلغه أنهم يرومون الانتقاض و أنهم ملكوا عليهم زكريا من أبناء الملوك فبعث إليهم العساكر و تتبعهم بالقتل و خرب المدينة حتى عادت صحراء و أمر أن لا يسكنها يهودي و أسكن اليونان بيت المقدس و كان هذا الخراب لثلاث و خمسين سنة من خراب طيطش الذي هو الحلوة الكبرى و امتلأ القدس من اليونان و كانت النصارى يترددون إلى موضع القبر و الصليب يصلون فيه و كانت اليهود يرمون عليه الزبل و الكناسات فمنعهم اليونان من الصلاة فيه و بنوا هنالك هيكلا على اسم الزهرة
و قال ابن العميد عن المسبحي : و في الرابعة من ملك أندريانوس بطل الملك من الرها و تداولتها القضاة من قبل الروم و بنى أندريانوس بمدينة أثينوس بيتا و رتب فيه جماعة من الحكماء لمدارسة العلوم قال : و في خامسة ملكة قدم نسطس بطركا على إسكندرية وكان حكيما فاضلا فلبث إحدى عشرة سنة ثم مات و قدم مكانه أمانيق في سادسة عشر من ملك أندريانوس فلبث إحدى عشرة سنة و هو سابع البطارقة ثم مات أندريانوس لإحدى و عشرين من ملكه كما مر و ولي ابنه أنطونيش قال هروشيوش : و يسمى قيصر الرحيم و قال ابن العميد : ملك اثنتين و عشرين و قال الصعيديون إحدى و عشرين قال : و في خامسة ملكه قدم مرتيانو بطركا بإسكندرية و هو الثامن منهم فلبث تسع سنين و مات و كان فاضل السيرة و قدم بعده كلوتيانو فلبث أربع عشرة سنة و مات في سابعة ملكه أوراليانوس بعده و كان محبوبا و قال بطليموس صاحب المجسطي : إنه رصد الإعتدال الخريفي في ثالثة ملك أنطونيوس فكان لأربعمائة و ثلاث و ستين بعد الإسكندر
ثم هلك أنطونيوس لاثنتين و عشرين كما مر فملك من بعده أوراليانس و قال هروشيوش : و هو أخو أنطونيوس و سماه أورالش و أنطونيوس الأصغر و قال : كانت له حروب مع أهل فارس و بعد أن غلبوا على أرمينية و سورية من ممالكه فدفعهم عنهما و غلبهم في حروب طويلة و أصاب الأرض على عهده وباء عظيم و قحط الناس سنتين و استسقى لهم النصارى فأمطروا و ارتفع الوباء و القحط بعد أن كان اشتد على النصارى و قتل منهم خلقا و هي الشدة الرابعة من بعد نيرون :
قال ابن العميد : و في السابعة من ملكه قدم على الإسكندرية البطرك أغريبوس فلبث اثني عشر سنة و مات في تاسعة عشر من ملك أنطونيوس الأصغر قال و في أيامه ظهرت مبتدعة من النصارى و اختلفت أقوالهم و كان منهم ابن ديصان و غيره فجاهدهم أهل الحق من الأساقفة و أبطلوا بدعتهم
و هلك أنطونيوس هذا لتسع عشرة من ملكه و في عاشرة ملكه ظهر أردشير بن بابك أول ملوك الساسانية و استولى على ملك الفرس و كان صاحب الحضر متملكا على السواد فغلبه وملك السواد و قتله و قصته معروفة و كان لعهده جالينوس المشهور بالطب و كان ربي معه فلما بلغه أنه ملك على الروم قدم عليه من بلاد اليونان و أقام عنده و كان لعهده أيضا ديمقراطس الحكيم و لأول سنة من ملكه قدم بليانس بطركا على إسكندرية و هو الحادي عشر من بطاركتها فلبث عشر سنين و مات
و ولي مكانه ديمتريوس فلبث فيهم ثلاثا و ثلاثين سنة و مات كمودة قيصر لثلاثة عشر كما قلناه فولي من بعده ورمتيلوس ثلاثة أشهر قال ابن العميد : و سماه ابن بطريق فرطنوش و قال : و ملك ثلاثة أشهر و سماه غيره فرطيخوس و سماه الصعيديون برطانوس و مدة مالكه باتفاقهم شهران و قال هروشيوش : اسمه اللبيس بن طيجليس و هو عم كمودة قيصر قال و ولي سنة واحدة و قتله بعض قواده و أقام في الملك ستة أشهر و قتل
قال ابن العميد : و ملك بعده يوليانس قيصر شهرين و مات ثم ولي سوريانوس قيصر و سماه بعضهم سورس و سماه هروشيوش طباريش بن أرنت بن أنطونيش و اختلفوا في مدته فقال ابن العميد عن ابن بطريق : سبع عشرة سنة و قال المسبحي : ثمان عشرة و عن أبي فانيوس ستة عشرة و عن ابن الراهب ثلاث عشرة و عن الصعيديين سنتين قال و ملك في رابعة من ملك أردشير و اشتد على النصارى و فتك فيهم و سار إلى مصر و الإسكندرية فقتلهم و هدم كنائسهم و شردهم كل مشرد و بنى بالإسكندرية هيكلا سماه هيكل الآله قال هروشيوش : و هي الشدة الخامسة من بعد شدة نيرون و قال : ثم انتقض عليه اللطينيون و لم يزل محصورا إلى أن هلك و ملك من بعده أقطونيش قال ابن العميد عن ابن بطريق : ست سنين و عن المسبحي : سبع سنين و سماه أنطونيش قسطس قال : و كان ابتداء ملكه عندهم لخمس و عشرين و خمسمائة من ملك الإسكندر و لعهده سار أردشير ملك الفرس إلى نصيبين فحاصرها و بنى عليها حصنا ثم بلغه أن خارجا خرج عليه بخراسان فأجفل عنهم بعد المصالحة على أن لا يتعرضوا لحصنه فلما رحل بنوا من وراء الحصن و أدخلوه في مدينتهم و رجع أردشير فنازلهم و امتنعوا عليه فأشار بعض الحكماء بأن يجمع أهل العلم فيدعون الله دعوة رجل واحد ففعلوا فملك الحصن لوقته و قال هرشيوش : لما ولي أنطونيوش ضعف عن مقاومة الفرس فغلبوا على أكثر مدن الشام و نواحي أرمينية و هلك في حروبهم و ولي بعده مفريق بن مركة و قتله قواد رومة لسنة من ملكه و كذا قال ابن العميد و سماه ابن بطريق بقرونشوش و المسبحي هرقليانوس قالوا جميعا : و ملك من بعده أنطونيش قال ابن العميد عن ابن بطريق و ابن الراهب : ثلاث سنين و عن المسبحي و الصعيديين : أربع سنين قال : و في أول سنة من ملكه بنيت مدينة عمان بأرض فلسطين و ملك سابور بن أردشير مدنا كثيرة من الشام و مات أنطونيش فملك من بعده إسكندروس لثلاث و عشرين من ملك سابور بن أردشير فملك على الروم ثلاث عشرة سنة و كانت أمة محبة في النصارى و قال هروشيوش : ملك عشرين سنة و كانت أمة نصرانية و كانت النصارى معه في سعة من أمرهم قال ابن العميد : و في سابعة ملكه قدم تاوكلا بطركا بالإسكندرية و هو الثالث عشر من البطاركة فلبث ست عشر سنة و مات قال هروشيوش : و لعشر من ملكه غزا فقتل سابور بن أردشير و انصرف ظافرا فثار عليه أهل رومة و قتلوه
و ملك من بعده مخشميان بن لوجية ثلاث سنين و لم يكن من بيت الملك و إنما ولوه لأجل حرب الإفرنج و اشتد على النصارى الشدة السادسة من بعد نيرون و أما ابن العميد فسماه فقيموس و وافق على الثلاث سنين في مدته و على ما لقي النصارى منه و أنه قتل سرحبوس في سلمية و واجوس في بالس على الفرات و قتل بطرك إنطاكية فسمع أسقف بيت المقدس بقتله فهرب و ترك الكرسي قال : و في ثالثة ملكه ملك سابور بن أردشير خلاف ما زعم هروشيوش من أنه قتله ثم هلك فقيموس أرمشميان و ولي من بعده يونيوس ثلاثة أشهر و قتل فيما قال ابن العميد و قال : سماه أبو فانيوس لوكس قيصر و ابن بطريق بلينايوس و لم يذكره هروشيوش ثم ملك عرديانوس قيصر قال ابن العميد عن ابن بطرق و اين الراهب : أربع سنين و عن المسبحي و الصعيديين : ست سنين و سماه أبوفانيوس فودينوس و الصعيديون قرطانوس قال : كان ملكه لإحدى و خمسين و خمسمائة من ملك الإسكندر و قال هروشيوش : غرديار بن بليسان قال : و ملك سبع سنين و طالت حروبه مع الفرس و كان ظافرا عليهم و قتله أصحابه على نهر الفرات قال و ولي بعده فلفش بن أولياق بن أنطنيش سبع سنين و هو ابن عم الإسكندر الملك قبله و أول من تنصر من ملوك الروم و قال ابن العميد عن الصعيديين : ملك ست سنين و قيل تسع سنين و كان ملكه لخمس و خمسين و خمسمائة من ملك الإسكندر و آمن بالمسيح و في أول سنة من ملكه قدم دنوشيوش بطركا بالإسكندرية و هو رابع عشر البطاركة بها فلبث تسع عشرة سنة و لعهد فيلفش هذا قدم غرديانوس أسقفا على بيت المقدس بعد هروب مركيوس ثم عاد من هروبه فأقام شريكا معه سنة واحدة و مات غرديانوس فانفرد مركيوش أسقفا ببيت المقدس عشر سنين قال : و قتل فيلفش قيصر قائد من قواده يقال له دافيس و ملك مكانه خمس سنين و قال عن المسبحي و ابن الراهب سنة و عن ابن بطريق سنتين قال : و كان يعبد الأصنام و لقي النصارى منه شدة و كان من أولاد الملوك و قتل بطرك رومة و أجاز من مدينة قرطاجنة إلى مدينة أفسس و بنى بها هيكلا و حمل النصارى على السجود له قال : و في أيامه كانت قصة فتية أهل الكهف و ظهروا بعده في أيام تاودوسيوس و أما هروشيوش فسماه داجية بن مخشميان و قال : ملك سنة واحدة و كانت على النصارى في أيامه الشدة السابعة و قتل بطرك رومة منهم
و ولي من بعده غالش قيصر سنتين و استباح في قتل النصارى وباء عظيم أقفلت له المدن و قال هروشيوش : هو غالش بن يولياش و قال ابن بطريق : إن يولياش كان شريكا له في ملكه و مات قبله و قال ابن العميد : إحدى عشرة سنة لسبعين و خمسمائة من ملك الإسكندر و قال هروشيوش و ابن بطريق : ملك خمس عشرة سنة و اسمه غاليوش و قال المسبحي : خمس عشرة سنة و سماه داقيوس و غاليوش ابنه و قال آخرون : اسمه أورليوش و ملك خمس سنين و قال أبوفانيوس : اسمه غليوس و ملك أربع عشرة سنة و قال الصعيديون ملك كذلك و اسمه أوراليونوس
قال ابن العميد : و كان يعبد الأصنام و لقي النصارى منه شدة في أول سنة من ملكه قدم مكتميوش بطركا بالإسكندرية و هو الخامس عشر من بطاركتها فلبث اثنتي عشرة سنة و مات و في خامسة ملكه قدم إسكندروس أسقفا ببيت المقدس ثم قتله بعد سبع سنين و بعث ابنه في عساكر الروم لغزو الفرس فانهزم و حمل أسيرا إلى كسرى بهرام فقتله و قال هرشيوش : ولي غالينوس خمسة عشر سنة فاشتد على النصارى الأمر و قتلهم معهم بطرك بيت المقدس و كانت له حروب مع الفرس أسره في بعضها ملكهم سابور ثم من عليه و أطلقه و وقع في أيامه برومة وباء عظيم فرفع طلبه عن النصارى بسببه و في أيامه خرج القوط من بلادهم و تغلبوا على بلاد الغريقيين و مقدونية و بلاد النبط وكان هؤلاء القوط يعرفون بالسنسبين و كانت مواطنهم في ناحية بلاد السريانيين فخرجوا لعهد غلنوش هذا و غلبوا كما قلناه على بلاد الغريقيين و مقدونية و على مرية
و هلك غلينوش قتيلا على يد قواد رومة ثم ملك أقاويدوش قيصر سنة واحدة و قال ابن العميد عن المسبحي سنة و تسعة أشهر لثمانين و خمسمائة للإسكندر و في أول سنة من ملكه قدم يونس السميصاني بطركا بأنطاكية فلبث ثمان سنين و كان يقول بالوحدانية و يجحد الكلمة بالروح و لما مات اجتمع الأساقفة بأنطاكية و ردوا مقالته و قال هروشيوش : و لي بعد غلينوش فلدويش بن يلاريان بن موكله فنسبه هكذا و قال فيه من عظماء القواد و لم يكن من بيت الملك و دفع القوط المتغلبين عن مقدونية من منذ خمس عشرة سنة عليها و مات لسنتين من ملكه و هذا كما قال المسبحي
و قال هروشيوش : و لي بعده أخوه نطيل سبع عشرة يوما و قتله بعض القواد و لم يذكر ذلك ابن العميد ثم ملك بعده أوريليانس ست سنين و سماه ابن بطريق أواليوس و المسبحي أرينوس و أبوفانيوس أوليوس و هروشيوش أوليان بن بلنسيان و قال : ملك خمس سنين قال ابن العميد : و في الرابعة من ملكه قدم تاونا بطركا بالإسكندرية سادس عشر البطاركة فلبث عشر سنين و كان النصارى يقيمون الدين خفية فلما صار بطركا قابل الروم ولاطفهم بالهدايا فأذنوا له في بناء كنيسة مريم و أعلنوا فيها بالصلاة قال : و في سادسة ملكه ولد قسطنطين و قال هروشيوش : إن أوليان بن بلنسيان هذا حارب القوط فظفر بهم و جدد بناء رومة و اشتد على النصارى تاسعة بعد نيرون ثم قتل فولي بعده طانيش بن إلياس و ملك قريبا من السنة و قال ابن العميد : اسمه طافسوس و ملك ستة أشهر و قال ابن بطريق : اسمه طافساس و ملك تسعة أشهر
ثم ملك فروفش قيصر خمس سنين و قال أبوفانيوس : اسمه فروش و قال ابن بطريق و اين الراهب و الصعيديون ست سنين و قال المسبحي سبع سنين و سماه ألاكيوس و أرفيون و سماه ابن بطريق بروش و سماه هروشيوش فاروش بن أنطويش قال : و تغلب على كثير من بلاد الفرس و قال ابن العميد : كان ملكه لسابعة من ملك سابور ذي الأكتاف و لخمسمائة و اثنتين و تسعين من ملك الإسكندر و كان شديدا على النصارى و قتل منهم خلقا كثيرا و هلك هو و إبناه في الحرب
و قال هروشيوش : و لما هلك فاروش ولي من بعده ابنه مناربان و قتل لحينه و لم يذكره ابن العميد ثم ملك بقلاديانوش إحدى و عشرين سنة و قال المسبحي : عشرين سنة و قال غيره : ثماني عشرة سنة و ملك لخمسمائة و خمس و تسعين للإسكندر قال غيرهم : كان اسمه عربيطا و ارتقى في أطوار الخدمة عند القياصرة إلى أن استخلصه فاريوش و جعله على خيله و كان حسن المزمار و يقال أن الخيل كانت ترقص طربا لمزاميره و عشقته بنت فاريوش الملك و لما مات أبوها و إخوتها ملكها الروم عليهم فتزوجته و سلمت له في الملك فاستولى على جميع ممالك الروم و ما والاها و قسطنطش ابن عمه على بلاد أشيا و بيزنطية و أقام هو بأنطاكية و له الشام و مصر إلى أقصى المغرب و في تاسعة عشر من ملكه انتقض أهل مصر و الإسكندرية فقتل منهم خلقا و رجع إلى عبادة الأصنام و أمر بغلق الكنائس و لقي النصارى منه شدة و قتل القيسس مارجرس و كان من أكابر أبناء البطارقة و قتل ملقوس منهم أيضا و في عاشرة ملكه قدم ماربطرس بطركا بالإسكندرية فلبث عشر سنين و قتله و جعل مكانه تلميذه إسكندروس و كان كبير تلامذته أريوش كثيرا لمخالفة له فسخطه و طرده و لما مات ماربطرس رجع أريوش عن المخالفة فأدخله إسكندروس إلى الكنيسة و صيره قسا
قال ابن العميد : و في أيام دقلاديانوس خرج قسطنطش ابن عمه و نائبه على بيرنطيا و أشيا و رأى هلانة و كانت تنصرت على يد أسقف الرها فأعجبته و تزوجها و ولدت له قسطنطين و حضر المنجمون لولادته فأخبروا بمكه فأجمع ديقلاديانوس على قتله فهرب إلى الرها و ثم جاء بعد موت ديقلاديانوس فوجد أباه قسطنطش قد ملك على الروم فتسلم الملك من يده على ما نذكر و هلك ديقلاديانوس لعشرين سنة من ملكه و لستمائة و ستة عشرة سنة من ملك الإسكندر و ملك من بعده ابنه مقسيمانوس قال ابن بطريق : سبع سنين و قال المسبحي و اين الراهب : سنة واحدة قالوا و كان شريكه في الملك مقطوس و كان أشد كفرا من ديقلاديانوس و لقي النصارى منهما شدة و قتلا منهم خلقا كثيرا و في أول سنة من ملكه قدم الإسكندروس تلميذ مار بطرس الشهير بطركا بالإسكندرية فلبث فيهم ثلاثا و عشرين سنة
و على عهد مقسيمانوس تذكر تلك الخرافة بين المؤرخين من أن سابور ملك الفرس دخل أرض الروم متنكرا و حضر مكان مقسيمانوس و سجنه في جلد بقرة و سار إلى مملكة فارس و سابور في ذلك الجلد و هرب منه و لحق بفارس و هزم الروم في حكاية مستحيلة و كلها أحاديث خرافة و الصحيح منه أن سابور سار إلى مملكة الروم فخرج إليه مقسيمانوس و استولى على ملكه كما نذكر بعد و أما هروشيوش فلما ذكر مناربان قيصر بن قاريوس و انه ملك بعد أبيه و قتل لحينه ثم قال و قام بملكهم ديوقاريان و ثأر من قاتله خرج عليه أقرير بن قاريوس فقتله ديوقاريان بعد حروب طويلة ثم انتقض عليه أهل ممالكه و ثار الثوار ببلاد الإفرنجة و الأندلس و أفريقية و مصر و سار إليه سابور ذو الأكتاف فدفع ديوقاريان إلى هذه الحروب كلها مخشميان هركوريش و صيره قيصر فبدأ أولا ببلاد الإفرنجة فغلب الثوار بها و أصلحها و كان الثائر الذي بالأندلس قد ملك سبع سنين فقتله بعض أصحابه و رجعت برطانية إلى ملك ديوقاريان ثم استعمل مخشميان خليفة ديوقاريان صهره قسطنطش و أخاه مخشمس ابني وليتنوس فمضى مخشمس إلى أفريقية و قهر الثوار بها و ردها إلى طاعة الرومانيين و زحف ديوقاريان قيصر الأعظم إلى مصر و الإسكندرية فحصر الثائر بها إلى أن ظفر به و قتله و مضى قسطنطش إلى اللمانيين في ناحية بلاد الإفرنج فظفر بهم بعد حروب طويلة و زحف مخشميان خليفة ديوقاريان إلى سابور ملك الفرس فكانت حروبه معه سجالا حتى غلبه و أصاب منه و استأصل مدينة غورة و الكوفة من بلاده سبيا و قتلا و رجع إلى رومة ثم سرحه ديوقاريان قيصر إلى حروب أهل غالش من الإفرنجة فأثخن فيهم قتلا و سبيا ثم اشتد ديوقاريان على النصارى الشدة العاشرة بعد نيرون و أثخن فيهم بالقتل و دام ذلك عليهم عشر سنين
ثم اعتزل ديوقاريان و خليفته مخشميان الملك و رفضاه و دفعاه إلى قسطنطش بن و ليتنوش و أخيه مخشمس و يسمى غلاريس فاقتسما ملك الرومانيين فكان لمخشمس غلاريس ناحية الشرق و كان لقسطنطش ناحية المغرب و كانت أفريقية و بلاد الأندلس و بلاد الإفرنج في ملكته و هلك ديوقاريان و مخشميان معتزلين عن الملك بناحية الشام و أقام قسطنطش في الملك ثم هلك ببرطانية و أقام بملك اللطينيين من بعده ابنه قسطنطين انتهى كلام هروشيوش
و يظهر أن هذا الملك الذي سماه ابن العميد ديقلاديانوس هو الذي سماه هروشيوش ديوقاريان و الخبر من بعد ذلك متشابه و الأسماء مختلفة و لا يخفى عليك وضع كل اسم في مكانه من الآخر و الله سبحانه و تعالى أعلم (2/235)
الخبر عن القياصرة المنتصرة من اللطينيين و هم الكيتم و استفعال ملكهم بقسطنطينية ثم بالشام بعدها إلى حين الفتح الإسلامي ثم بعد إلى انقراض أمرهم
هؤلاء الملوك القياصرة المتنصرة من أعظم ملوك العالم و أشهرهم و كان الاستيلاء على جانب البحر الرومي من الأندلس إلى رومة إلى القسطنطينية إلى الشام إلى مصر و الإسكندرية إلى أفريقية و المغرب و حاربوا الترك و الفرس بالمشرق و السودان بالمغرب من النوبة فمن وراءهم و كانوا أولا على دين المجوسية ثم بعد ظهور الحواريين و نشر دين النصرانية بأرضهم و تسلطهم عليهم بأرضهم مرة بعد أخرى أخذوا بدينهم و كان أول من أخذ به قسطنطين بن قسطنطش بن وليتنوس و أمه هلانة بنت مخشميان قيصر خليفة ديوقاريان قيصر الثالث و الثلاثون من القياصرة وقد مر ذكره آنفا و إنما سعى هذا الدين دين النصرانية نسبة إلى ناصرة القرية التي كان فيها مسكن عيسى عليه السلام عندما رجع من مصر مع أمه و أما نسبه إلى نصران فهو من أبنية المبالغة و معناه أن هذا الدين في غير أهل عصابة فهو دين من ينصره من أتباعه
و يعرف هؤلاء القياصرة ببني الأصفر و بعض الناس ينسبهم إلى عيصو بن إسحق وقد أنكر ذلك المحققون و أبوه و قال أبو محمد بن حزم عند ذكر إسرائيل عليه السلام كان لإسحق عليه السلام ابن آخر غير يعقوب و اسمه عيصاب و كان بنوه يسكنون جبال السراة من الشام إلى الحجاز وقد بادوا جملة إلا أن قوما يذكرون أن الروم من ولده و هو خطأ و إنما وقع لهم هذا الغلط لأن موضعهم كان يقال له أروم فظنوا أن الروم من ذلك الموضع و ليس كذلك لأن الروم إنما نسبوا إلى روملس باني رومة و ربما يحتجون بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال في غزوة تبوك للحرث بن قيس : هل لك في جلاد بني الأصفر ؟ و لا حجة فيه لاحتمال أن يريد بني عيصاب على الحقيقة لأن قصده كان إلى ناحية السراة و هو مسكن بني عيصو قلت : مسكن عيصو هؤلاء كان يقال له أيذوم بالذال المعجمة إلى الظاء أقرب فعربتها العرب راء و من هنا جاء الغلط و الله تعالى أعلم و هذا الموضع يقال له يسعون أيضا و الاسمان في التوراة
قال ابن العميد : خرج قسطنطين المؤمن على مقسيمانوس فهزمه و رجع إلى رومة و ازدحم العسكر على الجسر فوقع بهم في البحر و غرق مقسمانوس مع من غرق و دخل قسطنطين رومة و ملكها بعد أن أقام ملكا على بيزنطية من بعد أبيه ستا و عشرين سنة فبسط العدل و رفع الجور و خرج قائده يسكن ناحية قسطنطينية و ولاه على رومة و أعمالها و ألزمه بإكرام النصارى ثم انتقض عليه و قتل النصارى و عبد الأصنام و كان فيمن قتل ماريادس بطرك بطارقة فبعث قسطنطين العساكر إلى رومة لحربه فساقوه أسيرا و قتله
ثم تنصر قسطنطين في مدينة نيقيا لإثنتي عشر من ملكه و هدم بيوت الأصنام و بنى الكنائس و لتاسع عشرة من ملكه كان مجمع الأساقفة بمدينة و نفى أريوس كما ذكرنا ذلك كله من قبل و أن رئيس هذا المجمع كان إسكندروس بطرك الإسكندرية و في الخامسة عشر من رياسته توفي بعد المجمع بخمسة أشهر و قال ابن بطريق كانت ولاية إسكندروس في الخامسة من ملك قسطنطين و بقي ست عشرة سنة و قتل في السادسة و العشرين من ملك ديقلاديانوس و أنه كان على عهد أوسانيوس أسقف قيسارية قال المسبحي : مكث بطركا ثلاثا و عشرين و كسر صنم النحاس الذي هو هيكل زحل بإسكندرية و جعل مكانه كنيسة فهدمها العبيديون عند ملكهم إسكندرية و قال ابن الراهب : إن إسكندروس البطرك ولي أول سنة من ملك قسطنطين فمكث إثنتين و عشرين سنة و على عهده جاءت جاءت هلانة أم قسطنطين لزيارة بيت المقدس و بنت الكنائس و سألت عن موضع الصليب فأخبرها مقاريوس الأسقف : إن اليهود أهالوا عليه التراب و الزبل فأحضرت الكهنونية و سألتهم عن موضع الصليب و سألتهم رفع ما هنالك من الزبل ثم استخرجت ثلاثة من الخشب و سألت أيتها خشبة المسيح فقال لها الأسقف : علامتها أن الميت يحيا بمسيسها فصدقت ذلك بتجربتها و اتخذوا ذلك اليوم عيدا لوجود الصليب و بنت على الموضع كنيسة القمامة و أمرت مقاريوس الأسقف ببناء الكنائس و كان ذلك لثلمائة و ثمان و عشرين من مولد المسيح عليه السلام
و في حادية و عشرين من ملك قسطنطين كان مهلك إسكندروس البطرك و ولي مكانه تلميذه أثناسيوس كانت أمه تنصرت على يده فربى ابنها عنده و علمه و ولي بطركا مكانه و سعى به أصحاب أريوش إلى الملك بعده مرتين بقي فيهما على كرسيه ثم رجع و حمل قسطنطين اليهود بالقدس على النصرانية فأظهروها و افتتحوا في الامتناع من أكل الخنزير فقتل منهم خلقا و تنصر بعضهم فزعموا أن أخبار اليهود نقصوا من سني مواليد الآباء نحوا من ألف و خمسمائة سنة ليبطلوا مجيء المسيح في السوابيع التي ذكر دانيال أن المسيح يظهر عندها و أنها لم يحن وقتها و أن التوراة الصحيحة هي التي فسرها السبعون من أحبار اليهود ملك مصر و زعم ابن العميد أن قسطنطين أحضرها و اطلع منها على النقص الذي قاله قال : و هي التوراة التي بيد النصارى الآن
قال ثم أمر قسطنطين بتجديد مدينة بيزنطية و سماها قسطنطينية باسمه و قسم ممالكه بين أولاده فجعل لقسطنطين قسطنطينية و ما والاها لقسطنطين الآخر بلاد الشام إلى أقصى المشرق و لقسطوس الثالث رومة و ما والاها قال و ملك خمسين سنة منها ست و عشرون بيزنطية قبل غلبة مقسميانوس و منها أربع و عشرون بعد استيلائه على الروم و تنصر في اثنتي عشرة من آخر ملكه و هلك لستمائة و خمسين للإسكندر قال هروشيوش : كان قسطنطين بن قسنطش على دين المجوسية و كان شديدا على النصارى و نفى بطرك رومة فدعا عليه و ابتلى بالجذام و وصف له في مداواته أن ينغمس في دماء الأطفال فجمع منهم لذلك عددا ثم أدركته الرقة عليهم فأطلقهم فرأى في منامه من يحضه على الاقتداء بالبطرك فرده إلى رومة و برئ من الجذام و جنح من حينئذ إلى دين النصرانية ثم خشي خلاف قومه في ذاك فارتحل إلى القسطنطينية و نزلها و شيد بناءها و أظهر ديانة المسيح و خالف أهل رومة فرجع إليهم و غلبهم على أمرهم و أظهر دين النصرانية ثم جاهد الفرس حتى غلبهم على كثير من ممالكهم و لعشرين سنة من ملكه خرجت طائفة من القوط إلى بلاده فأغاروا و سبوا فزحف إليهم و أخرجهم من بلاده ثم رأى في منامه عربا و بنودا على تمثال الصلبان و قائلا يقول هذه علامة الظفر لك فخرجت أمه هلانة إلى بيت المقدس لطلب آثار المسيح و بنت الكنائس في البلدان و رجعت ثم هلك قسطنطين لإحدى و ثلاثين سنةمن ملكه اهـ كلام هروشيوش
ثم ولي قسطنطين الصغير بن قسطنطين و سماه هروشيوش قسنطش قال ابن العميد : ملك أربعا و عشرين سنة و كان أخوه قسطوس برومية بولاية أبيهما ففي خامسة من ملك قسطنطين بعث العساكر فقتل مقنيطوس و أتباعه و ولى على رومة من جهته فكانت له صاغية إلى أريوش فأخذ بمذهبه و غلبت تلك المقالة على أهل قسطنطينية و إنطاكية و مصر و الإسكندرية و غلب أتباع أريوش على الكنائس و وثبوا على بطرك إسكندرية ليقتلوه فهرب كما مر ثم هلك لأربع و عشرين سنة من ملكه و ولي ابن عمه يولياش و قال هروشيوش بن منخمشطش قال : و ملك سنة واحدة و قال ابن العميد : ملك سنتين باتفاق لثلاثة من ملك سابور و كان كافرا و قتل النصارى و عزلهم عن الكنائس و أطرحهم من الديوان و سار لقتال الفرس فمات من سهم أصابه و قال هرشيوش : تورط في طريقه في مفازة ضل فيها عن سبيله فتقبض عليه أعداؤه و قتلوه
قال هروشيوش : و ولي بعده بليان بن قسطنطي سنة أخرى و زحف إلى الفرس و ملكهم يومئذ سابور فحجم عن لقائهم فصالحهم و رجع و هلك في طريقه و لم يذكر ابن العميد بليان هذا و إنما قال : ملك من بعد يوليانوس الملك يوشانوش واحدة باتفاق في سادسة عشر من ملك سابور و كان مقدم عساكر يوليانوس فلما قتل اجتمعوا إليه و بايعوه و اشترط عليهم الدخول في النصرانية فغلبوه و أشار سابور بتوليته و نصب له صليبا في العسكر و لما ولي نزل على نصيبين للفرس و نقل الروم الذي بها إلى آمد و رجع إلى كرسي مملكتهم فرد الأساقفة إلى الكنائس و رجع فيمن رجع أثناشيوش بطرك إسكندرية و طلب منه أن يكتب له أمانة أهل مجمع نيقية فجمع الأساقفة و كتبوها و أشار عليه بلزومها و لم يذكر هروشيوش يوشانوش هذا و ذكر مكانه آخر قال : و سماه بلنسيان بن قسنطش قال : و قاتل أمما من القوط و الإفرنجة و غيرهم قال : و افترق القوط في أيامه فرقتين على مذهبي أريوش و أمانة نيقية قال : و في أيامه ولي داماش بطركا برومة ثم هلك بالفالج و ملك بعده أخوه واليس أربع سنين و عمل على مذهب أريوش و اشتد على أهل الأمانة و قتلهم و ثار عليه بأهل أفريقية بعض النصارى مع البربر فأجاز إليهم البحر و حاربهم فظفر بالثائر و قتله بقرطاجنة و رجع إلى قسنطينية فحارب القوط و الأمم من ورائهم و هلك في حروبهم
و قال ابن العميد في قيصر الذي قتل واليس و سماه واليطنوس : إنه ملك اثنتي عشرة سنة فيما حكاه ابن بطريق و ابن الراهب و حكى عن المسبحي خمسة عشر سنة و أن أخاه والياش كان شريكه في الملك و أنه كان مباينا و أنه ملك لستمائة و ست و سبعين للإسكندر و سبع عشرة لسابور كسرى قال : و في أيامه وثب أهل إسكندرية على أثناشيوش البطرك ليقتلوه فهرب و قدموا مكانه لوقيوس و كان على رأي أريوش ثم اجتمع أهل الأمانة بعد خمسة أشهر و رجعوه إلى كرسيه و طردوا لوقيوس و أقام أثناشيوش بطركا إلى أن مات فولوه بعده تلميذه بطرس سنتين و وثب به أصحاب لوقيوس فهرب و رجع لوقيوس إلى الكرسي فأقام إلى الكرسي فأقام ثلاث سنين ثم وثب به أهل الأمانة و رجعوا بطرس و ما لسنة من رجعته و لقي من داريانوس قيصر و من أصحاب أريوش شدائد و محنا و قال المسبحي : كان واليطينوس يدين بالأمانة و أخوه واليش يدين بمذاهب أريوش أخذه عن ثاودكيس أسقف القسطنطينية و عاهده على إظهاره فلما ملك نفى جميع أساقفة الأمانة و سار أريوس أسقف أنطاكية بإذنه إلى الإسكندرية فحبس بطرس البطرك و أقام مكانه أريوش من أهل سميساط أو هرب بطرس من السجن و أقام برومة
و كانت بين و اليطينوس قيصر و بين سابور كسرى فتنة و حروب و هلك في بعض حروبه معهم و ولي بعده أخوه و اليش قال ابن العميد عن ابن الراهب : سنتين و عن أبي فانيوس ثلاث سنين و سماه والاس و قال : هو أبو الملكين اللذين تركا الملك و ترهبا و سمى مكسينموس و دوقاديوس قال : و في الثانية من ملكه بعث طيماناوس أخا بطرس بطركا على إسكندرية فلبث فيهم سبع سنين و مات و في سادسة ملكه كان المجمع الثاني بقسطنطينية وقد مر ذكره و في أيام واليش قيصر هذا مات بطرك قسطنطينية فبعث أغريوس أسقف يزناروا و ولاه مكانه فوليه أربع سنين و مات ثم خرج على واليش خارج من العرب فخرج إليه فقتل في حروبه
ثم ولي أغراديانوس قيصر قال ابن العميد : و هو أخو واليش و كان والنطوس بن واليش شريكا له في الملك و ملك سنة واحدة و قال عن أبي فانيوس سنتين و عن ابن بطريق ثلاث سنين و ذكر عن ابن المسبحي و ابن الراهب : أن تاوداسيوس الكبير كان شريكا لهما و أن ابتداء ملكهم لستمائة و تسعين من ملك الإسكندر و أنه رد جميع ما نفاه واليش قبله من الأساقفة إلى كرسيه و خلى كل واحد مكانه
و مات أغراديانوس و ابن أخيه في سنة واحدة قال ابن العميد و ملك بعدهما تاوداسيوس سبع عشرة سنة باتفاق لستمائة و تسعين من ملك الإسكندر و لإحدى و ثلاثين من ملك سابور كسرى و في سادسة ملكه مات أثناشيوش بطرك إسكندرية فولي مكانه كاتبه تاوفيلا و كان بطرك القسطنطينية يوحنا فم الذهب و أسقف قبرص أبوفانيوس كان يهوديا و تنصر قال : و كان لتاوداسيوس ولدان أرقاديوس و برباريوس قال : و في خامسة عشر من ملكه ظهر الفتية السبعة أهل الكهف الذين قاموا أيام دقيانوس و لبثوا في نومهم ثلثمائة سنة و تسع سنين كما قصه القرآن و وجد معهم صندوق النحاس و الصحيفة التي أودع البطريق فيها خبرهم و بلغ الأمر إلى قيصر تاوداسيوس فبعث في طلبهم فوجدهم قد ماتوا فأمر أن يبنى عليهم كنيسة و يتخذ يوم ظهورهم عيدا قال المسبحي : و كان أصحاب أريوس قد استولوا على الكنائس منذ أربعين سنة فأزالهم عنها و نفاهم و أسقط من عساكره كل من يدين بتلك المقالة و عقد المجمع الثاني بقسطنطينية لمائتين و خمسين سنة من مجمع نيقية و قرر فيه الأمانة الأولى بنيقية و عهدوا أن لا يزاد فيها و لا ينقض و في خامسة عشر من ملكه مات سابور بن سابور و ملك بعده بهرام ثم هلك تاوداسيوس لسبع عشرة سنة من ملكه
و أما هروشيوش فقال بعد ذكر واليش : و ملك بعده و ليطانش ابن أخيه فلنسيان ست سنين و هو الموفى أربعين عددا من ملوك القياصرة قال و استعمل طودوشيش بن أنطيونش بن لوخيان على ناحية المشرق فملك الكثير منها ثم هم أهل رومة على قائدهم فقتلوه و خلعوا وليطانش الملك فلحق بطودوشيش بالمشرق فسلم إليه في الملك فأقبل طودوشيش إلى رومة و قتل الثائر بها و استقل بملك القياصرة و هلك لأربع عشرة سنة من ولايته فولي ابنه أركاديش و يظهر من كلام هروشيوش أن طودوشيش هو تاوداسيوس الذي ذكره ابن العميد لأنهما متفقان في أن ابنه أركاديش و متقاربان في المدة فلعل وليطانش الذي ذكره هروشيوش هو أغراديانوس الذي ذكره ابن العميد اهـ
قال ابن العميد : و ملك أركاديش ولد تاوداسيوس الأكبر ثلاث عشرة سنة باتفاق في ثالثة ملك بهرام بن سابور و كان مقيما بالقسطنطينية و ولي أخاه أنوريش على رومة قال : و ولد لأركاديش ابن سماه طودوشيش باسم أبيه و لما كبر طلب معلمه أريانوس ليعلم ولده فهرب إلى مصر و ترهب و رغبه المال فأبى و أقام في مغارة بالجبل المقطم على قرية طرا ثلاث سنين و مات فبنى الملك على قبره كنيسة و ديرا يسمى دير القصير و يقال : دير البغل و في أيامه غرق أبوفانيوس بمرجعه إلى قبرص و مات يوحنا فم الذهب بطرك القسطنطينية و كان نفاه أركاديش بموافقة أبي فانيوس و دعا كل منهما على صاحبه فهلكا و في التاسعة من ملك أركاديش مات بهرام بن سابور و ملك ابنه يزدجرد
ثم هلك أركاديش و ملك من بعده طودوشيش الأصغر ابن أركاديش ثلاث عشرة سنة و ولى أخاه أنوريش على رومة فاقتسما ملك اللطينيين و انتقض لعهديهما قومس أفريقية و خالفه إلى طاعة القياصرة فحدثت بأفريقية فتنة لذلك ثم غلب القومس أخاه فلحق بقبرص و ترهب بها ثم زحف القوط إلى رومة و فر عنها أنوريش فحاربوها و دخلوها عنوة و استباحوها ثلاثا و تجافوا عن أموال الكنائس قال : و لما هلك أركاديش قيصر استبد أخوه أنوريش بالملك خمس عشرة سنة و أحسن في دفاع القوط عن رومة و هلك فولي من بعده طودوشيش ابن أخيه أركاديش و لم يذكر ابن العميد أنوريش و إنما ذكر بعد أركاديش ابنه طودوشيش و سماه الأصغر قال : و ملك اثنتين و أربعين سنة باتفاق في خامسة ملك يزدجرد و كانت بينه و بين الفرس حروب كثيرة قال : و في أول سنة من ملكه مات تاوفيلا بطرك إسكندرية فولي مكانه كيرلوس ابن أخته في سابعة عشر من ملكه قدم نسطوريش بطركا بالقسطنطينية فأقام أربع سنين و ظهرت عنه العقيدة التي دان بها وقد تقدمت و بلغت مقالته إلى كيرلس بطرك الإسكندرية فخاطب في ذلك بطرك رومة و أنطاكية و بيت المقدس ثم اجتمعوا بمدينة أفسيس في مائتي أسقف و أجمعوا على كفرنسطوريش و نفوه فنزل أخميم من صعيد مصر و أقام بها سبع سنين و أخذ بمقالته نصارى الجزيرة و الموصل إلى الفرات ثم العراق و فارس إلى المشرق و ولى طودوشيش بالقسطنطينية مقسيموس عوضا عن نسطورس فأقام بها ثلاث سنين و في ثامنة و ثلاثين من ملك طودوشيش الأصغر مات كيرلس بطرك الإسكندرية و ولي مكانه ديسقرس و لقي شدائد من مرقيان الملك بعده و في سادسة عشرة من ملك طودوشيش الأصغر مات يزدجرد كسرى و ولي ابنه بهرام جور و كانت بينه و بين خاقان ملك الترك وقائع ثم عدل عن حروبهم و دخل إلى أرض الروم فهزمه طودوشيش و ملك ابنه يزدجرد قال هروشيوش : و في أيام طودوشيش الأصغر تغلب القوط على رومة و ملكوها و هلك ملكهم أبطريك كما نذكر في أخبارهم ثم صالحوا الروم على أن يكون لهم الأندلس فانقلبوا إليها و تركوا رومة انتهى
قال ابن العميد : ثم ملك مرقيان بعده ست سنين باتفاق و تزوج أخت طودوشيش و سماه هروشيوش مركيان بن مليكة قالوا : و كان في أيامه المجمع الرابع بمقدونية وقد تقدم ذكره و إنه كان بسبب ديقوس بطرك إسكندرية و ما أحدث من البدعة في الأمانة فأجمعوا على نفيه و جعلوا مكانه برطارس و افترقت النصارى إلى ملكية و هم أهل الأمانة فنسبوا إلى مركبان قيصر الملك الذي جمعهم و عهد بأن لا يقبل ما اتفق عليه أهل المجمع الخلقدوني و إلى يعقوبية و هم أهل مذهب ديسقوس و تقدم الكلام في تسميتهم يعقوبية و إلى نسطورية و هم نصارى المشرق و في أيام مركيان سكن شمعون الحبيس الصومعة بأنطاكية و ترهب و هو أول من فعل ذلك من النصارى و على عهده مات يزدجرد كسرى
و مات مركيان قيصر لست سنتين من ملكه و ملك بعده لاون الكبير قال ابن العميد : لسبعمائة و سبعين من ملك الإسكندرية و لثانية من ملك نيرون ملك ست عشرة سنة و وافقه هروشيوش على مدته و قال فيه ليون بن شمخلية قال ابن العميد : و كان على مذهب الملكية و لما سمع أهل إسكندرية بموت مركيان وثبوا على برطارس البطرك فقتلوه بعد ست سنين من ولايته و أقاموا مكانه طيماناوس و كان يعقوبيا فجاء قائد من قسطنطينية بعد ثلاث سنين من ولايته فنفاه و أبدل عنه سورس من الملكية و أقام تسع سنين ثم عاد طيماناوس بالأمر لاون قيص و يقال : إنه بقي بطركا اثنتين و عشرين سنة و لثانية عشر من ملك لاون زحف الفرس إلى مدينة آمد و حاصروها و امتنعت عليهم و في أيامه مات شمعون الحبيس صاحب العمود
ثم هلك لاون قيصر لست عشرة سنة من ملكه قال ابن العميد : و ولي من بعده لاون الصغير و هو أبو زيتون الملك بعده و قال ابن بطريق : و هو ابن سينون و كان يعقوبيا و ملك سنة واحدة و لم يذكره هروشيوش و إنما ذكر زينون الملك بعده و سماه سينون بالسين المهملة و قال ملك سبع عشرة سنة و قال ابن العميد مثله و لثمانية عشر من ملك نيرون و لسبعمائة و سبع و ثمانين للإسكندر قال : و كان يعقوبيا و خرج عليه ولده و رجل من قرابته و حاربهما عشرين شهرا ثم قتلهما و أتباعهما و دخل قسطنطينية و وجد بطركها و كان رديء العقيدة قد غير كتب الكنيسة و زاد و نقص فكتب زينون قيصر إلى بطرك رومة و جمع الأساقفة فناظروه و نفوه و في سابعة ملك زينون مات طيماناوس بطرك إسكندرية فولي مكانه بطرس و هلك بعد ثمان سنين فولي مكانه أثناسيوس و هلك لسبع سنين و كان قيما ببعض البيع في بطركيته و قال المسبحي : و في أيام زينون احترق ملعب الخيل الذي بناه بطليموس الأرنبا بالإسكندرية و قال ابن بطريق : و في أيام زينون هاجت الحرب بين نيرون و الهياطلة و هزموه في بعض حروبهم و رد الكرة عليه بعض قواده كما في أخبارهم و مات نيرون و تنازع الملك ابناه قياد و يلاش و في عاشرة من ملك زينون غلب يلاش أخاه و استقل بالملك و لحق أخوه قياد بخاقان ملك الترك ثم هلك يلاش لأربع سنين و رجع قياد و استولى على مملكة فارس و ذلك في أربعة عشر من ملك زينون فأقام ثلاثا و أربعين سنة
و هلك زينون لسبع عشرة من ولايته فملك بعده نسطاس سبعا و عشرين سنة في أربعة من ملك قيادة و لثمانمائة و ثلاث للإسكندر و كان يعقوبيا و سكن حماة و لذلك أمر أن تشيد و تحصن فبنيت في سنتين و عهد لأول ملكه أن يقتل كل إمرأة كاتبة و في ثالثة ملكه أمر ببناء مدينة في المكان الذي قتل فيه دارا فوق نصبين ثم وقعت الحرب بينه و بين الأكاسرة و خرب قياد مدينة آمد و نازلت عساكر الفرس إسكندرية و أحرقوا ما حولها من البساتين و الحصون و قتل بين الأمتين خلق كثير و في سادسة ملكه مات أثناسيوس بطرك الإسكندرية فصير مكانه يوحنا و كان يعقوبيا و مات لتسع سنين فصير بعده يوحنا الحسن و مات بعد إحدى عشرة و في أيام نسطاس قدم ساريوس بطركا بأنطاكية و كان كلاهما على أمة ديسقوس و في سابعة و عشرين من ملك نسطاس قدم ساريوس بطركا بإنطاكية يوحنا بطرك إسكندرية فولى مكانه ديسقوس الجديد و مات لسنتين و نصف
و قال سعيد بن بطريق : إن إيليا بطرك المقدس كتب إلى نسطاس قيصر يسأله الرجوع إلى الملكية و يوضح له الحق في مذهبهم و صبا إليه في ذلك جماعة من الرهبان فأحضرهم و سمع كلامهم و بعث إليهم بالأموال للصدقات و عمارة الكنائس و كان بقسطنطينية رجل على رأي ديسقوس فمضى إلى نشطانش قيصر و مضى و أشار عليه باتباع مذهب ديسقوس و أن يرفض المجمع الخلقدوني فقبل ذلك منه و بعث إلى جميع أهل مملكته و بلغ ذلك بطرك أنطاكية فكتب إلى نشطانش قيصر بالملامة على ذلك فغضب و نفاه و جعل مكانه بأنطاكية سويوس و بلغ ذلك إلى إيليا بطرك القدس فجمع الرهبان و رؤساء الديور في نحو عشرة آلاف و لعنوا سويوس و أجرموه و الملك نشطانش معه فنفاه نشطانش إلى إيليا و ذلك في ثالثة و عشرين من ملكه فاجتمع جميع البطاركة و الأساقفة من الملكية و أجرموا نشطانش الملك و سويوس و ديسقوس إمام اليعقوبية و نسطورس قال ابن بطريق : و كان لسويوس تلميذ اسمه يعقوب البرادعي يطوف البلاد داعيا إلى مقالة سويوس و دسيقوس فنسب اليعاقبة إليه و قال ابن العميد : و ليس كذلك لأن اليعاقبة سموا بذلك من عهد ديسقوس كما مر
ثم هلك نشطانش لسبع و عشرين من ملكه و ملك بعده يشطيانش قيصر لثمانية و ثلاثين من ملك قياد بن نيرون و لثمانية و ثلاثين للإسكندر و ملك تسع سنين باتفاق و قال هروشيوش سبعا و قال المسبحي : كان معه شريك في ملكه اسمه يشطيان و في ثالثة ملكه غزت الفرس بلاد الروم فوقعت بين الفرس و الروم حروب كثيرة و زحف كسرى في آخرها لثمانية من ملك يشطيانش و معه المنذر ملك العرب فبلغ الرها و غلب الروم و غرق من الفريقين في الفرات خلق كثير و حمل الفرس أسارى الروم و سباياهم ثم وقع الصلح بينهما بعد موت قيصر و في تاسعة ملكه أجاز البربر من المغرب إلى رومة و غلبوا عليها قال ابن بطريق : و كان يشطيانش على دين المليكة فرد كل من نفاه نشطانش قبله منهم و صير طيماناوس بطركا بالإسكندرية و كان يعقوبيا فلبث ثلاث سنين و قيل سبع عشرة سنة و قال ابن الراهب : كان يشطيانش خلقدونيا و نفى طيماناوس البطرك عن إسكندرية و جعل مكانه أيوليناريوس و كان ملكيا و عقد مجمعا بالقسطنطينية يريد جمع الناس على رأي الخلقدونية مذهبه و أحضر شاويرش بطرك أنطاكية و أساقفة المشرق فلم يوافقوه فاعتقل بطرك أنطاكية سنين ثم أطلقه فسار إلى مصر و بقي مختفيا في الديور ثم وصل أيوليناريوس بطرك إسكندرية و معه كتاب الأمانة الخلقدونية فقبل الناس منه و تبعوا مذهبه فيها و صاروا إليه
و هلك يشطيانش لتسع سنين من ملكه ثم ملك يشطينانش قيصر لإحدى و أربعين من ملك قياد و لثمانمائة و أربعين للإسكندر و كان ملكيا و هو ابن عم يشطيانش الملك قبله و قال المسبحي : بل كان شريكه كما مر و ملك أربعين سنة باتفاق و قال أبو فانيوس : ثلاثا و ثلاثين و في سابعة ملكه غزا كسرى بلاد الروم و أحرق إيليا و أخذ الصليب الذي كان فيها و في حادية عشر من ملكه عصت السامرية عليه فغزاهم و خرب بلادهم و في سادسة عشر من ملكه غزا الحارث بن جبلة أمير غسان و العرب ببرية الشام و غزا بلاد الأكاسرة و هزم عساكرهم و خرب بلادهم و لقيه بعض مرازبة كسرى فهزمهم و رد السبي منهم ثم وقع الصلح بين فارس و الروم و توادعوا و في خمس و ثلاثين من ملك يشطينانش عهد بأن يتخذ عيد الميلاد في أربع و عشرين من كانون و عيد الغطاس في ست منه و كانا من قبل ذلك جميعا في سادس كانون و قال المسبحي : أراد يشطينانش حمل الناس على رأي الملكية فأحضر طيماناوس بطرك إسكندرية و كان يعقوبيا و أراده على ذلك فامتنع فهم بقتله ثم أطلقه فرجع إلى مصر مختفيا ثم نفاه بعد ذلك و جعل مكانه بولس و كان ملكيا فلم يقبله اليعاقبة و أقام على ذلك سنين
قال سعيد بن بطريق : ثم بعث قيصر قائدا من قواده إسمه يوليناريوس و جعله بطرك إسكندرية فدخل الكنيسة بزي الجند ثم لبس زي البطاركة و قدس فهموا به فصار إلى سياستهم فاقصروا ثم حملهم على رأي اليعقوبية و قتل من امتنع و كانوا مائتين و في أيام يشطينانش هذا ثار السامرة بأرض فلسطين و قتلوا النصارى و هدموا كنائسهم فبعث العساكر و أثخنوا فيهم و أمر ببناء الكنائس كما كانت و كانت كنيسة بيت لحم صغيرة فأمر بأن يوسع فيها فبنيت كما هي لهذا العهد و في عهده كان المجمع الخامس بقسطنطينية بعد مائة و ثلاث من الجمع الخلقدوني و لتاسعة و عشرين من ملك يشطينانش و قد مر ذكر ذلك و في عهد قيصر هذا مات أيوليناريوس القائد الذي جعل بطركا بإسكندرية لسبع عشرة سنة عشرة سنة من ولايته و هو كان رئيس هذا المجمع و جعل مكانه يوحنا وكان أمانيا و هلك لثلاث سنين و انفرد اليعاقبة بالإسكندرية و كان أكثرهم القبط و قدموا عليهم طودوشيوش بطركا لبث فيهم اثنتين و ثلاثين سنة و جعل الملكية بطركهم داقيانوس و طردوا طودوشيوش من كرسيه ستة أشهر ثم أمر يشطينانش قيصر بأن يعاد فأعيد و طلب منه المغامسة أن يقدم دقيانوش بطرك الملكية على الشمامسة فأجابهم ثم كتب يطشينانش إلى طودوشيوش البطرك باجتماع المجمع الخلقدوني أو يترك البطركية فتركها و نفاه و جعل مكانه بولس التنسي فلم يقبله أهل إسكندرية و لا ما جاء به ثم مات و غلقت كنائس القبط اليعقوبية و لقوا شدائد من الملكية و مات طودوشيوش البطرك في سابعة و ثلاثين من ملكة يشطيانش و جعل مكانه بإسكندرية بطرس و مات بعد سنتين
قال ابن العميد : و سار كسرى أنوشروان في مملكة يشطيانش قيصر إلى بلاد الروم و حاصر أنطاكية و فتحها و بنى قبالتها مدينة سماها رومة و نقل إليها أهل أنطاكية ثم هلك يشطيانش و ملك بعده يشطيانش و ملك بعده يوشطونش قيصر لست و ثلاثين من ملم أنوشروان و لثمانمائة و ثمانين للإسكندر فملك ثلاثة عشر سنة و قال هروشيوش إحدى عشرة سنة و لثانية من ملكه مات بطرس ملك إسكندرية فجعل مكانه داميانو فمكث ستا و ثلاثين سنة و خربت الديور على عهده و في الثانية عشر من ملكه مات كسرى أنوشروان بعد أن كان بعث العساكر من الديلم مع سيف بن ذي يزن من التبابعة ففتحوا اليمن و صارت للأكاسرة ثم هلك يوشطونش قيصر لإحدى عشرة أو ثلاث عشرة من ملكه و ملك بعده طباريش قيصر لثالثة من ملك هرمز ابن أنوشروان و لثمانمائة و اثنتين و تسعين للإسكندر فملك ثلاث سنين عند ابن بطريق و ابن الراهب و أربعا عند المسبحي و لعهده انتقض الصلح بين الروم و فارس و اتصلت الحرب و انتهت عساكر الفرس إلى رأس عين الخابور فثار إليهم موريق من بطاركة الروم فهزمهم ثم جاء طباريش قيصر على أثره فعظمت الهزيمة و استحر القتل في الفرس و أسر الروم منهم نحوا من أربعة آلاف غربهم إلى جزيرة قبرص ثم انتقض بهرام مرزبان هرمز كسرى و طرده عن الملك بمنجع من تخوم بلاد الروم و بعث بالصريخ إلى طباريش قيصر فبعث إليه المدد من الفرسان و الأموال يقال كان عسكر المدد أربعين ألفا فسار هرمز و لقيه بهرام بين المدائن و واسط فانهزم و استبيح و عاد هرمز إلى ملكه و بعث إلى طباريش بالأموال و الهدايا أضعاف ما أعطاه ورد إليه ما كانت الفرس أخذته من بلادهم و سألهم و غيرها و نقل من كان فيها من الفرس إلى بلاده و سأله طباريش بأن يبني هيكلين للنصارى بالمدائن و واسط فأجابه إلى ذلك
ثم هلك طباريش قيصر و ملك من بعده موريكش قيصر في السادسة لهرمز و لثمانمائة و خمس و تسعين للإسكندر و ملك عشرين سنة باتفاق المؤرخين فأحسن السيرة و في حادية عشر من ملكه بلغه عن بعض اليهود بأنطاكية أنه بال على صورة المسيح فأمر بقتلهم و نفيهم و لعهده انتقض على هرمز كسرى قريبه بهرام و خلعه و استولى على ملكه و قتله و سار ابنه أبرويز إلى موريكش قيصر صريخا فبعث معه العساكر ورد أبرويز إلى ملكه و قتل بهرام الخارج عليه و بعث إليه بالهدايا و التحف كما فعل أبوه من قبله مع القياصرة و خطب أبرويز من موريكش قيصر ابنته مريم فزوجه إياها و بعث معها من الجهاز و الأمتعة و الأقمشة ما يضيق عنه الحصر
ثم وثب على موريكش بعض مماليكه بمداخلة قريبه البطريق قوقاص فدسه عليه فقتله و ملك على الروم و تسمى قيصر و ذلك لتسعمائة و أربع عشرة للإسكندر و خمس عشرة لأبرويز فملك ثماني سنين و قتل أولاد موريكش و أفلت صغير منهم فلحق بطور سينا و ترهب و مات هنالك و بلغ أبرويز كسرى ما جرى على موريكش و أولاده فجمع عساكره و قصد بلاد الروم ليأخذ ثأر صهره و بعث عساكره مع مرزبانه خزرويه إلى القدس و عهد إليه بقتل اليهود و خراب البلد و بعث مرزبان آخر إلى مصر و الإسكندرية و جاء بنفسه في عساكر الفرس إلى القسطنطينية و حاصرها و ضيق عليها و اما خزرويه المرزبان فسار إلى الشام و خرب البلاد و اجتمع يهود طبرية و الخليل و ناصرة و صور و أعانوا الفرس على قتل النصارى و خراب الكنائس فنهبوا الأموال و أخذوا قطعة من الصليب و عادوا إلى كسرى بالسبي و فيهم ذخريا بطرك القدس فاستوهبته مريم بنت موريكش من زوجها أبرويز فوهبه إياها مع قطعة الصليب و لما خلت الشام من الروم و اجتمع الفرس على القسطنطينية تراسل اليهود من القدس و الخليل و طبرية و دمشق و قبرص و اجتمعوا في عشرين ألفا و جاءوا إلى صور ليملكوها و كان فيها من اليهود نحو من أربعة آلاف فتقبض بطركها عليهم و قيدهم و حاصرهم عساكر اليهود و هدموا الكنائس خارج صور و البطرك يقتل المقيدين و يرمي برؤوسهم إلى أن فنوا و ارتحل كسرى عن القسطنطينية جاثيا فأجفل اليهود عن صور و انهزموا
و قال ابن العميد : و في رابعة من قوقاص قيصر قدم يوحنا الرحوم بطركا على الملكية بإسكندرية و مصر و إنما سمي الرحوم لكثرة رحمته و صدقته و هو الذي عمل البيمارستان للمرضى بإسكندرية و لما سمع بمسير الفرس هرب مع البطريق الوالي بإسكندرية إلى قبرص فمات بها لعشر سنين من ولايته و خلا كرسي الملكية بإسكندرية سبع سنين و كان اليعاقبة بإسكندرية قدموا عليهم في أيام قوقاص قيصر بطركا إسمه أنشطانيوش مكث فيهم اثنتي عشرة سنة و استرد ما كانت الملكية استولت عليه من الكنائس اليعقوبية و جاء أثناسيوس بطرك أنطاكية بالهدايا سرورا بولايته فتلقاه هو بالأساقفة و الرهبان و اتخذت الكنيسة بمصر و الشام و أقام عنده أربعين يوما و رجع إلى مكانه و مات أنسطانيوش بعد إثنتي عشرة من ولايته لثلثمائة و ثلاثين من ملك ديقلاديانوس
و لما انتهى أبرويز في حصار القسطنطينية نهايته و ضيق عليها و عدموا الأقوات و اجتمع البطارقة بعلوقيا و بعثوا السفن مشحونة بالأقوات مع هرقل أحد بطاركة الروم ففرحوا به و مالوا إليه و داخلهم في الملك و أن قوقاص سبب هذه الفتنة فثاروا عليه و قتلوه و ملكوا هرقل و ذلك لتسعمائة و اثنتين و عشرين للإسكندر فارتحل أبرويز عن القسطنطينية راجعا إلى بلاده و ملك هرقل بعد ذلك إحدى و ثلاثين سنة و نصف عند المسبحي و ابن الراهب و اثنتين و ثلاثين عند ابن بطريق و كان ملكته أول سنة من الهجرة و قال هروشيوش : لتسع و سماه هرقل بن هرقل بن أنطونيش
و لما تملك هرقل بعث أبرويز بالصلح بوسيلة قتلهم موريكش فأجابهم على تقرير الضريبة عليهم فامتنعوا فحاصرهم ست سنين أخرى إلى الثمان التي تقدمت و جهدهم الجوع فخادعهم هرقل بتقرير الضريبة على أن يفرج عنهم حتى يجمعوا له الأموال و ضربوا الموعد معه ستة أشهر و نقض هرقل فخالف كسرى إلى بلاده و استخلف أخاه قسطنطين على قسطنطينية و سار في خمسة آلاف من عساكر الروم إلى بلاد فارس فخرب و قتل و سبي و أخذا بني أبرويز كسرى من مريم بنت موريكش و هما قباد و شيرويه و مر بحلوان و شهرزود إلى المدائن و دجلة و رجع إلى أرمينية و لما قرب من القسطنطينية و ارتحل أبرويز كسرى إلى بلاده فوجدها خرابا و كان ذلك مما أضعف من مملكة الفرس و أوهنها
و خرج هرقل لتاسعة من ملكه لجمع الأموال و طلب عامل دمشق منصور بن سرحون فاعتذر بأنه كان يحمل الأموال إلى كسرى فعاقبه و استخلص منه مائة ألف دينار و أبقار على عمله ثم سار إلى بيت المقدس و أهدى إليه اليهود فأمنهم أولا ثم عرفه الأساقفة و الرهبان بما فعلوه في الكنائس و رآها خرابا و أخبروه بمن قتلوه من النصارى فأمر هرقل بقتلهم فلم ينج منهم إلا من اختفى أو أبعد المفر إلى الجبال و البراري و أمر بالكنائس فبنيت
و في العاشرة من ملكه قدم أندراسكون بطركا لليعاقبة بإسكندرية فأقام ست سنين خربت فيها الديور ثم مات فجعل مكانه بنيامين فمكث سبعا و ثلاثين سنة و مات و الفرس يومئذ قد ملكوا مصر و الإسكندرية و أما هرقل فسار من بيت المقدس إلى مصر و ملكها و قتل الفرس و ولى على الإسكندرية فوس و كان أمانيا و جمع له بين البطركة و الولاية و رأى بنيامين البطرك في نومه شخصا يقول قم فاختف إلى أن يجوز غضب الرب فاختفى و تقبض هرقل على أخيه مينا و أراده على الأخذ بالأمانة الخلقدونية فامتنع فأحرقه بالنار و رمى بجثته في البحر ثم عاد هرقل إلى قسطنطينية بعد أن جمع الأموال من دمشق و حمص و حماة و حلب و عمر البلاد إلى أن ملك مصر عمرو بن العاص و فتحها لثلثمائة و سبع و خمسين لديقلاديانوس و كتب لبنيامين البطرك بالأمان فرجع إلى إسكندرية بعد أن غاب عن كرسيه ثلاث عشرة سنة
قال ابن العميد : و انتقل التاريخ إلى الهجرة لإحدى عشرة من ملك هرقل و ذلك لتسعمائة و ثلاث و ثلاثين للإسكندر و ستمائة و أربع عشرة للمسيح قال المسعودي : و قيل إن مولده عليه السلام كان لعهد نيشطيانش الثاني الذي ذكر إنه نوسطيونس الذي بنى كنيسة الرها و أن ملكه كان عشرين سنة ثم ملك هرقل بن نوسيطونس خمس عشرة سنة و هو الذي ضرب السكة الهرقلية و بعده مورق بن هرقل قال : و المشهور بين الناس أن الهجرة و أيام الشيخين كان ملك الروم لهرقل قال : و في كتب السير أن الهجرة كانت على عهد قيصر بن مورق ثم كان بعهد ابنه قيصر بن قيصر أيام أبي بكر ثم هرقل بن قيصر أيام عمرو عليه كان الفتح و هو المخرج من الشام قال و مدة ملكهم إلى الهجرة مائة و خمس و سبعون سنة
قال الطبري : مدة ما بين عمارة المقدس بعد تخريب بختنصر إلى الهجرة على قول النصارى ألف سنة و تزيد و من ملك الإسكندر إليها تسعمائة و نيف و عشرين سنة و منه إلى مولد عيسى ثلثمائة و ثلاث سنين و عمره إلى رفعه اثنان و ثلاثون سنة و من رفعه إلى الهجرة خمسمائة و خمس و ثمانون سنة و قال هروشيوش إن ملك هرقل كانت الهجرة في تاسعته و سماه هرقل بن هرقل بن أنطونيوس لستمائة و إحدى عشرة من تاريخ المسيح و لألف و مائة من بناء رومة و الله تعالى أعلم (2/250)
الخبر عن ملوك القياصرة من لدن هرقل و الدولة الإسلامية إلى حين انقراض أمرهم و تلاشي أحوالهم
قال ابن العميد و في الثانية من الهجرة بعث أبرويز عساكره إلى الشام و الجزيرة فملكها و أثخن في بلاد الروم و هدم كنائس النصارى و احتمل ما فيها من الذهب و الفضة و الآنية حتى نقل الرخام الذي كان بالمباني و حمل أهل الرها على رأي اليعقوبية بإغراء طبيب منهم كان عنده فرجعوا إليه و كانوا ملكية و في سابعة الهجرة بعث عساكر الفرس و مقدمهم مرزبانه شهريار فدوخ بلاد الروم و حاصر القسطنطينية ثم تغير له فكتب إلى المرازبة معه بالقبض عليه و اتفق وقوع الكتاب بيد هرقل فبعث به إلى
شهريار فانتقض و من معه و طلبوا هرقل في المدد فخرج معهم بنفسه في ثلثمائة ألف من الروم و أربعين ألفا من الخزر الذين هم التركمان و سار إلى بلاد الشام و الجزيرة و افتتح مدائنهم مدائنهم التي كان ملكها كسرى من قبل و فيما افتتح أرمينية ثم سار إلى الموصل فلقيه جموع الفرس و قائدهم المرزبان فانهزموا و قتل و أجفل أبرويز عن المدائن و استولى هرقل على ذخائر ملكهم و كان شيرويه بن كسرى محبوسا فأخرجه شهريار و أصحابه و ملكوه و عقدوا مع هرقل الصلح و رجع هرقل إلى آمد بعد أن ولى أخاه تداوس على الجزيرة و الشام ثم سار إلى الرها و رد النصارى اليعاقبة إلى مذهبهم الذي أكرهوا على تركه و أقام بها سنة كاملة
و عن غير ابن العميد : و في آخر سنة ست من الهجرة كتب النبي صلى الله عليه و سلم إلى هرقل كتابه من المدينة مع دحية الكلبي يدعوه إلى الإسلام و نصه على ما وقع في صحيح البخاري : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من ابتع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } ]
فلما بلغه الكتاب جمع من كان بأرضه من قريش و سألهم عن أقربهم نسبا منه فأشاروا إلى أبي سفيان بن حرب فقال لهم : إني سائله عن شأن هذا الرجل فاستمعوا ما يقوله ثم سأل أبا سفيان عن أحوال تجب أن تكون للنبي صلى الله عليه و سلم أو ينزه عنها و كان هرقل عارفا بذلك فأجابه أبو سفيان عن جميع ما سأله من ذلك فرأى هرقل أنه نبي لا محالة مع أنه كان حزاء ينظر في علم النجوم و كان عنده علم من القرآن الكائن قبل الملة بظهور الملة و العرب فاستيقن بنبوته و صحة ما يدعو إليه حسبما ذكره البخاري في صحيحه
و كتب النبي صلى الله عليه و سلم إلى الحرث بن أبي شمر الغساني ملك غسان بالبلقاء من أرض الشام و عامل قيصر على العرب مع شجاع بن وهب الأسدي يدعوه إلى الإسلام قال شجاع : فأتيته و هو بغوطة دمشق يهيئ النزل لقيصر حين جاء من حمص إلى إيلياء فشغل عني إلى أن دعاني ذات بوم و قرأ كتابي و قال : من ينتزع مني ملكي أنا سائر إليه و لو كان باليمن ثم أمر بالخيول تنعل و كتب بالخبر إلى قيصر فنهاه عن المسير ثم أمرني بالانصراف و زودني بمائة دينار
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم في الثامنة من الهجرة جيشه إلى الشام و هي غزوة مؤتة كان المسلمون فيها ثلاثة آلاف و أمر عليهم زيد بن حارثة و قال : إن أصيب فجعفر فعبد الله بن رواحة فانتهوا إلى معان من أرض الشام و نزل هرقل صاب من أرض البلقا في مائة ألف من الروم و انضمت إليه جموع جذام و الغيد و بهرام و بلى و على بلى مالك بن زافلة ثم زحف المسلمون إلى البلقا و لقيتهم جموع هرقل من الروم و العرب على مؤتة فكان التمحيص و الشهادة و استشهد زيد ثم جعفر ثم عبد الله و انصرف خالد بن الوليد بالناس فقدموا المدينة و وجد النبي صلى الله عليه و سلم على من قتل من المسلمين و لا كوجده على جعفر بن أبي طالب لأنه كان تلاده
ثم أمر بالناس في السنة التاسعة بعد الفتح و حنين و الطائف أن يتهيؤا لغزو الروم فكانت غزوة تبوك فبلغ تبوك و أتاه صاحب أيلة و جرباء و أذرح و أعطوا الجزية و صاحب أيلة يومئذ بن رؤبة بن نفاثة أحد بطون جذام و أهدى له بغلة بيضاء و بعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل و كان بها أكيدر بن عبد الملك فأصابوه بضواحيها في ليلة مقمرة فأسروه و قتلوا أخاه و جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فحقن دمه و صالحه على الجزية و رده إلى قريته و أقام بتبوك بعض عشرة ليلة و قفل إلى المدينة و بلغ خبر يوحنا إلى هرقل فأمر بقتله و صلبه عند قريته اهـ من غير ابن العميد
و رجعنا إلى كلامه قال : و في الثالثة عشرة من الهجرة جهز أبو بكر العساكر من المسلمين العرب لفتح الشام : عمرو بن العاص لفلسطين و يزيد بن أبي سفيان لحمص و شرحبيل بن حسنة للبلقاء و قائدهم أبو عبيدة بن الجراح و بعث خالد بن سعيد بن العاص إلى سماوة فلقيه ماهاب البطريق في جموع الروم فهزمهم خالد إلى دمشق و نزل مرجع الصفراء ثم أخذوا عليه الطريق و نازلوه ثانية فتجهز إلى جهة المسلمين و قتل ابنه و بعث أبو بكر خالد بن الوليد بالعراق يسير إلى الشام أميرا على المسلمين فسار و نزل معهم دمشق و فتحوها كما نذكر في الفتوحات و زحف عمرو بن العاص إلى غيره و لقيته الروم هنالك فهزمهم و تحصنوا ببيت المقدس و قيسارية
ثم زحف عساكر الروم من كل جانب في مائتين و أربعين ألفا و المسلمون في بضع و ثلاثين ألفا و التقوا باليرموك فانهزم الروم و قتل منهم من لا يحصى و ذلك في خامسة عشر من الهجرة ثم تتابعت عليهم الهزائم و نازل أبو عبيدة و خالد بن الوليد حمص فصالحوه على الجزية ثم سار خالد إلى قنسرين فلقيه منياس البطريق في جموع الروم فهزمهم و قتل منهم خلق كثير و فتح قنسرين و دوخ البلاد ثم سار عمرو بن العاص و شرحبيل بن حسنة فحاصروا مدينة الرملة و جاء عمر بن الخطاب إلى الشام فعقد لأهل الرملة الصلح على الجزية و بعث عمرا و شرحبيل لحصار بيت المقدس فحاصروها و لما أجهدهم البلاء طلبوا الصلح على أن يكون أمانهم من عمر نفسه فحضر عندهم و كتب أمانهم و نصه : بسم الله الرحمن الرحيم من عمر بن الخطاب لأهل إيلياء إنهم آمنون على دمائهم و أولادهم و نسائهم و جميع كنائسهم لا تسكن و لا تهدم اهـ
و دخل عمر بن الخطاب بيت المقدس و جاء كنيسة القمامة فجلس في صحنها و حان وقت الصلاة فقال للبترك أريد الصلاة فقال له : صل موضعك فامتنع و صلى على الدرجة التي على باب الكنيسة منفردا فلما قضى صلاته قال للبترك لو صليت داخل الكنيسة أخذها المسلمون بعدي و قالوا هنا صلى عمر و كتب لهم أن لا يجمع على الدرجة للصلاة و لا يؤذن عليها ثم قال للبترك أرني موضعا أبني فيه مسجدا فقال : على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب و وجد عليها دما كثيرا فشرع في إزالته و تناوله بيده يرفعه في ثوبه و اقتدى به المسلمون كافة فزال لحينه و أمر ببناء المسجد ثم بعث عمرو بن العاص إلى مصر فحاصرها و أمده بالزبير بن العوام في أربعة آلاف من المسلمين فصالحهم المقوقس على الجزية ثم سار إلى الإسكندرية فحاصرها و افتتحها
و في السابعة عشر من الهجرة جاء ملك الروم إلى حمص في جموع النصرانية و بها أبو عبيدة فهزمهم و استلحمهم و رجع هرقل إلى أنطاكية و قد استكمل المسلمون فتح فلسطين و طبرية و الساحل كله و استنفر العرب المتنصرة من غسان و لخم و جذام و قدم عليهم ماهاب البطريق و بعثه للقاء العرب و كتب إلى عامله على دمشق منصور بن سرحون أن يمده بالأموال و كان يحقد عليه نكبته من قبل و استصفى ماله حين أفرج الفرج عن حصاره بالقسطنطينية لأول ولايته فاعتذر العامل للبطريق عن المال و هون عليه أمر العرب فسار من دمشق للقائهم و نازلهم بجابية الخولان ثم اتبعه العامل ببعض مال جهزه للعساكر و جاء العسكر ليلا و أوقد المشاعل و ضرب الطبول و نفخ البوقان فظنهم الروم عسكر العرب جاءوا من خلفهم و أنهم أحيط بهم فأجفلوا و تساقطوا في الوادي و ذهبوا طوائف إلى دمشق و غيرها من ممالك الروم و لحق ماهاب بطور سيناء و ترهب إلى أن هلك و اتبع المسلمون الفل مع منصور إلى دمشق و حاصروها ستة أشهر فرقوا على أبوابها ثم طلب منصور العامل الأمان للروم من خالد فأمنه و دخل المدينة من الباب الشرقي و تسامع الروم الذين بسائر الأبواب فهربوا و تركوها و دخل منها الأمراء الآخرون عنوة و منصور ينادي بأمان خالد فاختلف المسلمون قليلا ثم اتفقوا على أمان الروم الذين كانوا بالإسكندرية بعد أن افتتحها عمرو بن العاص ركبوا إليه البحر و وافوه بها
ثم هلك هرقل لإحدى و عشرين من الهجرة و لإحدى و ثلاثين من ملكه فملك على الروم بقسطنطينية قسطنطين و قتله بعض نساء أبيه لستة أشهر من ملكه و ملك أخوه هرقل بن هرقل ثم تشاءم به الروم فخلعوه و قتلوه و ملكوا عليهم قسنطينوس بن قسطنطين فملك ست عشرة سنة و مات لسابعة و ثلاثين من الهجرة و في أيامه غزا معاوية بلاد الروم سنة أربع و عشرين و هو يومئذ أمير على الشام في خلافة عمر بن الخطاب فدوخ البلاد و فتح منها مدنا كثيرة و قفل ثم أغزى عساكر المسلمين إلى قبرص في البحر ففتح منها حصونا و ضرب الجزية على أهلها سنة سبع و عشرين و كان عمرو بن العاص لما فتح الإسكندرية كتب لبنيامين بطرك اليعاقبة بالأمان فرجع بعد ثلاث عشرة من مغيبه و كان ولاه هرقل في أول الهجرة كما قدمنا و ملك الفرس مصر و الإسكندرية عشر سنين عند حصار قسطنطينية أيام هرقل ثم غاب عن الكرسي عندما ملك الفرس و قدموا الملكية و بقي غائبا ثلاث عشرة سنة أيام الفرس عشرة و ثلاث من ملكة المسلمين ثم أمنه عمرو بن العاص فعاد ثم مات في تاسعة و ثلاثين من الهجرة و خلفه في مكانه أغاثوا فملك سبع عشرة سنة
و لما هلك قستطينوس بن قسطنطين في سابعة و ثلاثين من الهجرة كما قلناه ملك على الروم في القسطنطينية ابنه يوطيانوس فمكث إثني عشرة سنة و توفي سنة خمسين فملك بعد طيباريوس و مكث سبع سنين و في أيامه غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية في عساكر المسلمين و حاصرها مدة ثم أفرج عنها و استشهد أبو أيوب الأنصاري في حصارها و دفن في ساحتها و لما قفل عنها توعدهم بتعطيل كنائسهم بالشام إن تعرضوا لقبره
ثم قتل طيباريوس قيصر سنة ثمان و خمسين و ملك أوغسطس قيصر و في أيام ولايته مات أغاثوا بطرك اليعاقبة القبط بإسكندرية و قدم مكانه يوحنا ثم قتل أوغسطس قيصر ذبحه بعض عبيده سنة و ملك ابنه أصطفانيوس و كان لعهد عبد الملك بن مروان و في سنة خمس و ستين من الهجرة زاد عبد الملك في المسجد الأقصى و أدخل الصخرة في الحرم ثم خلع أصطفانيوس ثم ملك بعده لاون و مات سنة ثمان و سبعين و ملك طيباريوس سبع سنين و مات ست و ثمانين فملك سيطانوس و ذلك في أيام الوليد بن عبد الملك و هو الذي بنى مسجد بني أمية بدمشق يقال إنه أنفق فيه أربعمائة صندوق في كل صندوق أربعمائة عشر ألف دينار و كان فيه من جملة الفعلة إثنا عشر ألف مرخم و يقال كانت فيه ستمائة سلسلة من الذهب لتعليق القناديل فكانت تغشى عيون الناظرين و تفتن المسلمين فأزالها عمر بن عبد العزيز و ردها إلى بيت المال و كان الوليد لما اعتزم على الزيادة في المسجد أمر بهدم كنيسة النصارى و كانت ملاصقة للمسجد فأدخلها فيه و هي معروفة عندهم بكنيسة مار يوحنا و يقال إن عبد الملك طلبهم في ذلك فامتنعوا و إن الوليد بذل لهم فيها أربعين ألف دينار فلم يقبلوا فهدمها و لم يعطهم شيئا و شكوا أمرها إلى عمر بن عبد العزيز و جاءوه بكتاب خالد بن الوليد و عهده أن لا تخرب كنائسهم و لا تسكن فراودهم على أخد الأربعين ألفا التي بذل لهم الوليد فأبوا فأمر أن ترد عليهم فعظم ذلك على الناس و كان قاضيه أبو داريس الخولاني فقال لهم : تتركون هذه الكنيسة في الكنائس التي في العنوة في المدينة و إلا هدمناها فأذعنوا و كتب لهم عمر الأمان على ما بقي من كنائسهم
و في سنة ست و سبعين بعث كاتب الخراج إلى سليمان بن عبد الملك بأن مقياس حلوان بطل فأمر ببناء مقياس في الجزيرة بني الفسطاط و الجزيرة فهو لهذا العهد
و في سنة إحدى و مائة من الهجرة ملك تداوس على الروم سنة و نصفا ثم ملك بعده لاون أربعا و عشرين سنة و بعده ابنه قسطنطين و في سنة ثلاث عشرة و مائة غزا هشام بن عبد الملك الصائفة اليسرى و أخوه سلمان الصائفة اليمنى و لقيهم قسطنطين في جموع الروم فانهزموا و أخذ أسيرا ثم أطلقوه بعد و في أيام مروان بن محمد و ولاية موسى بن نصير لقي النصارى بالإسكندرية و مصر شدة و أخذوا بغرامة المال و اعتقل بطرك الإسكندرية أبي ميخايل و طلب بجملة من المال فبذلوا موجودهم و انطلقوا يستسعون ما يحصل لهم من الصدقة و بلغ ملك النوبة ما حل بهم فزحف في مائة ألف من العساكر إلى مصر فخرج إليه عامل مصر فرجع من غير قتال و في أيام هشام ردت كنائس الملكية من أيدي اليعاقبة و ولي عليهم بطرك قريبا من مائة سنة كانت رياسة البطرك فيها لليعاقبة و كانوا يبعثون الأساقفة للنواحي ثم صارت النوبة من ورائهم للحبشة يعاقبه
ثم ملك بالقسطنطينة رجل من غير بيت الملك اسمه جرجس فبقي أيام السفاح و المنصور و أمره مضطرب ثم مات و ملك بعده قسطنطين بن لاون و بنى المدن و أسكنها أهل أرمينية و غيرها ثم مات قسطنطين بن لاون و ملك ابنه لاون ثم هلك لاون و ملك بعده نقفور
و في سنة سبع و ثمانين و مائة غزا الرشيد هرقلة و دوخ جهاتها و صالحه نقفور ملك الروم على الجزية فرجع إلى الرقة و أقام شاتيا و قد كلب البرد و أمن نقفور من رجوعهم فانتقض فعاد إليه الرشيد و أناخ عليها حتى قرر الموادعة و الجزية عليه و رجع و دخلت عساكر الصائفة بعدها من درب الصفصاق فدوخوا أرض الروم و جمع نقفور و لقيهم فكانت عليه هزيمة شنعاء قتل فيها أربعون ألفا و نجا نقفور جريحا و في سنة تسعين و مائة دخل الرشيد بالصائفة إلى بلاد الروم في مائة و خمسة و ثلاثين ألفا سوى المطوعة و بث السرايا في الجهات و أناخ على هرقلة ففتحها و بلغ سبيها ستة عشر ألفا و بعث نقفور بالجزية فقبل و شرط عليهم أن لا يعمر هرقلة
و هلك نقفور في خلافة الأمين و ولي ابنه أستبران قيصر و غزا المأمون سنة خمس عشرة و مائتين إلى بلاد الروم ففتح حصونا عدة و رجع إلى دمشق ثم بلغه أن ملك الروم غزا طرسوس و المصيصة و قتل منها نحوا من ألف و ستمائة رجل فرجع و أناخ على أنطواغوا حتى فتحها صلحا و بعث المعتصم ففتح ثلاثين من حصون الروم و بعث يحيى بن أكثم بالعساكر فدوخ أرضهم و رجع المأمون إلى دمشق ثم دخل بلاد الروم و أناخ على مدينة لؤلؤة مائة يوم و جهز إليها العساكر مع عجيف مولاه و رجع ملك الروم فنازل عجيفا فأمده المأمون بالعسكر فرحل عنه ملك الروم و افتتح لؤلؤة صلحا ثم سار المأمون إلى بلاد الروم ففتح سلعوس و البروة و بعث ابنه العباس بالعساكر فدوخ أرضهم و بنى مدينة الطولية ميلا في ميل و جعل لها أربعة أبواب ثم دخل غازيا بلاد الروم و مات في غزاته سنة ثمان عشرة و مائتين و في أيامه غلب قسطنطين على مملكة الروم و طرد ابن نفقور عنها و في سنة ثلاث و عشرين و مائتين فتح المعتصم عمورية و قصتها معروفة في أخباره اهـ كلام ابن العميد و أغفلنا من كلامه أخبار البطاركة من لدن فتح الإسكندرية لأنا رأيناه مستغنى عنه و قد صارت بطركيتهم الكبرى التي كانت بالإسكندرية بمدينة رومة و هي هنالك للملكية و يسمونه البابا و معناه أبوا الآباء و بقي ببلاد مصر بطرك اليعاقبة على المعاهدين من النصارى بتلك الجهات و على ملوك النوبة و الحبشة
و أما المسعودي فذكر ترتيب هؤلاء القياصرة من بعد الهجرة و الفتح كما ذكره ابن العميد قال : و المشهور بين الناس أن الهجرة و أيام الشيخين كان ملك الروم فيها لهرقل قال : و في كتب أهل السير أن الهجرة كانت على عهد قيصر بن مورق ثم كان بعده ابنه قيصر بن قيصر أيام أبي بكر ثم هرقل بن قيصر أيام عمر و عليه كان الفتح و هو المخرج من الشام أيام أبي عبيدة و خالد بن الوليد و يزيد بن أبي سفيان فاستقر بالقسطنطينية و بعده مورق بن هرقل أيام عثمان و بعده مورق بن مورق أيام علي و معاوية و بعده قلفط بن مورق آخر أيام معاوية و أيام يزيد و مروان بن الحكم و كان معاوية يراسله و يراسل أباه مورق و كانت تختلف إليه علامة نياق و بشره مورق بالملك و أخبره أن عثمان يقتل و أن الأمر يرجع إلى معاوية و هادى ابنه قلفط حين سار إلى حرب علي رضي الله عنه ثم نزلت جيوش معاوية مع ابنه الزيد قسطنطينية و هلك عليها في حصاره أبو أيوب الأنصاري ثم ملك من بعد قلفط بن مروان لاون بن قلفط أيام عبد الملك بن مروان و بعده جيرون بن لاون أيام الوليد و سليمان و عمر بن عبد العزيز ثم غشيهم المسلمون في ديارهم و غزوهم في البر و البحر و نازل مسلمة القسطنطينية و اضطرب ملك الروم و ملك عليهم جرجيس بن مرعش و ملك تسع عشرة سنة و لم يكن من بيت الملك و لم يزل أمرهم مضطربا إلى أن ملك عليهم قسطنطين بن ألبون و كانت أمه مستبدة عليه لمكان صغره و من بعده نقفور بن استيراق أيام الرشيد و كانت له معه حروب و غزاه الرشيد فأعطاه الانقياد و دفع إليه الجزية ثم نقض العهد فتجهز الرشيد إلى غزوه و نزل هرقلة و افتتحها سنة تسعين و مائة و كانت من أعظم مدائن الروم و انقاد نقفور بعد ذلك و حمل الشروط و ملك بعده استيراق بن نقفور أيام الأمين و غلب عليه قسطنطين ابن قلفط و ملك أيام المأمون و بعده نوفيل أيام المعتصم و استرد زبطره و نازل عمورية و افتتحها و قتل من كان بها من أمم النصرانية ثم ملك ميخايل بن نوفيل أيام الواثق و المتوكل و المنتصر و المستعين ثم تنازع الروم و ملكوا عليهم نوفيل بن ميخايل ثم غلب على الملك بسيل الصقلبي و لم يكن من بيت المال و كان ملكه أيام المعتز و المهتدي و بعضا من أيام المعتمد و من بعده إليون بن بسيل بقية أيام المعتمد و صدرا من أيام المعتضد و من بعده الإسكندروس و نقموا سيرته فخلعوه و ملكوا أخاه لاوي بن إليون بقية أيام المعتضد و المكتفي و صدرا من أيام المقتدر ثم هلك و ملك ابنه قسطنطين صغيرا و قام بأمره أرمنوس بطريق البحر و زوجه ابنته و يسمى الدمستق و هو الذي كان يحارب سيف الدولة ملك الشام من بني حمدان و اتصل ذلك أيام المقتدر و القاهر و الراضي و المتقي و افترق أمر الروم و أقام بعض بطارقتهم و يعرق أستفانس في بعض النواحي و خوطب بالملك أرمنوس بطركا بكرسي القسطنطينية إلى هنا انتهى كلام المسعودي و قال عقبة : فجميع سني الروم المتنصرة من أيام قسطنطين بن هلانة إلى عصرنا و هو حدود الثلثمائة و الثلاثين للهجرة خمسمائة سنة و سبع سنين و عدد ملوكهم أحد و أربعون ملكا قال : فيكون ملكهم إلى الهجرة مائة و خمسا و سبعين سنة اهـ كلام المسعودي
و في تاريخ ابن الأثير : إن أرمانوس لما مات ترك ولدين صغيرين و كان الدمستق على عهده قوقاش و ملك ملطية من يد المسلمين بالأمان سنة إثنتين و عشرين و ثلثمائة و كان أمر الثغور لسيف الدولة بن حمدان و ملك قوقاش مرعش و عرزرية و حصونهما و أوقع بجابية طرسوس مرارا و سار سيف الدولة في بلادهم فبلغ خرشنة و صارخة و دوخ البلاد و فتح حصونا عدة ثم رجع ثم ولى أرمانوس نقفور دمستقا و اسم الدمستق عندهم على من يلي شرقي الخليج حيث ملك ابن عثمان لهذا العهد فأقام نقفور دمستقا و هلك أرمانوس و ترك ولدين صغيرين و كان نفقور غائبا في بلاد المسلمين فلما رجع اجتمع إليه زعماء الروم و قدموه لتدبير أمر الولدين و ألبسوه التاج و سار إلى بلاد المسلمين سنة إحدى و خمسين و ثلثمائة إلى حلب فهزم سيف الدولة و ملك البلد و حاصر القلعة فامتنعت عليه و قتل ابن أخت الملك في حصارها فقتل جميع الأسرى الذين عنده
ثم بنى سنة ست و خمسين مدينة بقيسارية ليجلب منها على بلاد الإسلام فخافه أهل طرسوس و استأمنوا إليه فسار إليهم و ملكها بالأمان و ملك المصيصة عنوة ثم بعث أخاه في العساكر سنة تسع و خمسين إلى حلب فملكها و هرب أبو المعالي بن سيف الدولة إلى البرية و صالحه مرعويه بعد أن امتنع بالقلعة و رجع ثم أن أم الملكين إبني أرمانوس اللذين كانا مكفولين له استوحشت منه و داخلت في قتله ابن الشميشق فقتله سنة ستين و قام ابن أرمانوس الأكبر و هو بسيل بتدبير ملكه و جعل ابن الشميشق دمستقا و قام على الأورق أخي نقفور و على ابنه ورديس بن لاون و اعتقلهما و سار إلى الرها و ميافارقين و عاث في نواحيهما و صانعه أبو تغلب بن حمدان صاحب الموصل بالمال فرجع ثم خرج سنة اثنتين و ستين فبعث أبو تغلب ابن عمه أبا عبد الله بن حمدان فهزمه و أسره و أطلقه و كان لأم بسيل أخ قام بوزارتها فتحيل في قتل ابن الشميشق بالسم
ثم ولى بسيل بن أرمانوس سقلاروس دمستقا فعصى عليه سنة خمس و ستين و طلب الملك لنفسه و غلبه بسيل ثم خرج على بسيل ورد بن منير من عظماء البطارقة و استجاش بأبي تغلب بن حمدان و ملكوا الأطراف و هزم عساكر بسيل مرة بعد مرة فأطلق و رديس لاون و هو ابن أخي نقفور من معقله و بعثه في العساكر لقتاله فهزمه ورديس و لحق ورد بن منير بميافارقين صريخا بعضد الدولة و راسله بسيل في شأنه فجنح عضد الدولة إلى بسيل و قبض على ورديس و اعتقله ببغداد ثم أطلقه ابنه صمصام الدولة لخمس سنين من اعتقاله و شرط عليه إطلاق أسرى المسلمين و النزول عن حصون عدة من معاقل للروم و أن لا يغير على بلاد الإسلام و سار فاستولى على ملطية و مضى إلى القسطنطينية فحاصرها و قتل ورديس بن لاون و استنجدا بسيل بملك الروم و زوجه أخته ثم صالح وردا على ما بيده ثم هلك ورد بعد ذلك بقليل و استولى بسيل على أمره و سار إلى قتال البلغار فهزمهم و ملك بلادهم و عاث فيها أربعين سنة و استمده صاحب حلب أبو الفضائل بن سيف الدولة فلما زحف إليه منجوتكين صاحب دمشق من قبل الخليفة بمصر سنة إحدى و ثمانين فجاء بسيل لمدده و هزمه منجوتكين و رجع مهزوما و رجع منجوتكين إلى دمشق ثم عاود الحصار فجاء بسيل صريخا لأبي الفضائل فأجفل منجوتكين من مكانه على حلب و سار إلى حمص و شيزر فملكها و حاصر طرابلس و صالحه ابن مروان على ديار بكر ثم بعث الدوقس الدمستق إلى أمامه فبعث إليه صاحب مصر أبا عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان في العساكر فهزمه و قتله
ثم هلك بسيل سنة عشر و أربعمائة لنيف و سبعين من ملكه بعده أخوه قسطنطين و أقام تسعا ثم هلك عن ثلاث بنات فملك الروم عليهم الكبرى منهم و أقام بأمرها ابن خالهم أرمانوس و تزوجت به فاستولى على مملكة الروم و كان خاله ميخاييل متحكما في دولته و مداخلا لأهله فمالت إليه الملكة و حملته على قتل أرمانوس فقتله و استولى على الأمر ثم أصابه الصرع و أذاه فعمد لابن أخته و اسمه ميخاييل أيضا و كان أرمانوس قد خرج سنة إحدى و عشرين إلى حلب في ثلاثة آلاف مقاتل ثم خار عن اللقاء فاضطرب و رجع و اتبعه العرب فنهبوا عساكره و كان معه ابن الدوقس من عظماء البطارقة فارتاب و قبض عليه و خرج سنة اثنتين و عشرين و أربعمائة في جموع الروم فملك الرها و سروج و هزم عساكر ابن مروان
و لما ملك ميخاييل سار إلى بلاد الإسلام فلقيه الدريري صاحب الشام من قبل العلوية فهزمه و اقتصر الروم بعدها عن الخروج إلى بلاد الإسلام و ملك ميخاييل ابن أخته كما قلناه و قبض على أخواله و قرابتهم و أحسن السيرة في المملكة ثم طلب زوجته في الخلع فأبت فتفاها إلى بعض الجزائر و استولى على المملكة سنة ثلاث و ثلاثين و أربعائة و نكر عليه البترك ما وقع فيه فهم بقتله و دخل بعض حاشيته في ذلك و نمى الخبر إلى البترك فنادى في النصرانية بخلعه و حاصره في قصره و استدعى الملكة التي خلعها ميخاييل من مكانها و أعادوها إلى الملك فنفت ميخاييل كما نفاها أولا
ثم اتفق البترك و الروم على خلع الملكة بنت قسطنطين و ملكوا أختها الأخرى تودورة و سلموا ميخاييل لها ثم وقعت الفتنة بين شيعة تودورة و شيعة ميخاييل و اتصلت و طلب الروم أن يملكوا عليهم من يمحو هذه الفتنة و أقرعوا على المرشحين فخرجت القرعة على قسطنطين منهم فملكوه أمرهم و تزوج بالملكة الصغيرة تودورة و جعلت أختها الكبرى على ما بذلته لها و ذلك سنة أربع و ثلاثين و أربعمائة
ثم توفي قسطنطين سنة ست و أربعين و ملك على الروم أرمانوس و قارن ذلك بظهور الدولة السلجوقية و اسيتلاء طغرلبك على بغداد فردد الغزو إليهم من ناحية أذربيجان ثم سار ابنه الملك ألبأرسلان و ملك مدنا من بلاد الكرخ منها مدينة آي و أثخن في بلادهم ثم سار ملك الروم إلى منبج و هزم ابن مرداس و ابن حسان و جموع العرب فسار ألبأرسلان إليه سنة ثلاث و ستين و خرج أرمانوس في مائتي ألف من الروم و الدوس و الكرخ و نزل على نواحي أرمينية فزحف إليه ألبأرسلان من أذربيجان فهزمه و حصل في أسره ثم فاداه على مال يعطيه و أجروه عليه و عقد معه صلحا و كان أرمانوس لما انهزم وثب ميخاييل بعده على مملكة الروم فلما انطلق من الأسر و رجع دفعه ميخاييل عن الملك و التزم أحكام الصلح الذي عقده مع ألبأرسلان و ترهب أرمانوس إلى هنا انتهى كلام ابن الأثير
ثم استفحل ملك الإفرنج بعد ذلك و استبدوا بملك رومة و ما وراءها و كان الروم لما أخذوا بدين النصرانية حملوا عليه الأمم المجاورين لهم طوعا و كرها فدخل فيه طوائف من الأمم الأرمن وقد تقدم نسبهم إلى ناحور أخي إبراهيم عليه السلام و بلدهم أرمينية و قاعدتها خلاط و منهم الكرج و هم من شعوب الروم و بلادهم الخزر ما بين أرمينية و القسطنطينية شمالا في جبال ممتنعة و منه الجركس في جبال بالعدوة و الشرقية من بحر نيطش و هم من شعوب الترك و منهم الروس في جزائر ببحر نيطش و في عدوته الشمالية و منه البلغار نسبة إلى مدينة لهم في العدوة الشمالية أيضا من بحر نيطش و منهم البرجان أمة كبيرة متوغلون في الشمال لا تعرف أخبارهم لبعدها و هؤلاء كلهم من شعوب الترك
و أعظم من أخذ به من الأمم الإفرنج و قاعدة بلادهم فرنجة و يقولون فرنسة بالسين و ملكهم الفرنسيس و هم في بسائط على عدوة البحر الرومي من شماليه و جزيرة الأندلس من ورائهم في المغرب تفصل بينهم و بينها جبال متوعرة ذات مسالك ضيقة يسمونها ألبون و ساكنها الجلالقة من شعوب الإفرنج و هؤلاء فرنسة أعظم ملوك الإفرنجة بالعدوة الشمالية من هذا البحر و استولوا من الجزيرة البحرية منه على صقلية و قبرص و أقريطش و جنوة و استولوا أيضا على قطعة من بلاد الأندلس إلى برشلونة و استفحل ملكهم بعد القياصرة الأول
و من الأمم الإفرنجة البنادقة و بلادهم حفافي خليج يخرج من بحر من بحر الروم متضايقا إلى ناحية الشمال و مغربا بعض الشيء على سبعمائة ميل من البحر و هذا الخليج مقابل لخليج القسطنطينية و في القرب منه و على ثمان مراحل من بلاده جنوة و من ورائها مدينة رومة حاضرة الإفرنجة و مدينة ملكهم و بها كرسي البطرك الأكبر الذي يسمونه البابا و من أمم الإفرنجة الجلالقة و بلادهم الأندلس و هؤلاء كلهم دخلوا في دين النصرانية تبعا للروم إلى من دخل فيه منهم من أمم السودان و الحبشة و النوبة و من كان على ملكة الروم من برابرة العدوة بالمغرب مثل نغزاوة و هوارة بأفريقية و المصامدة بالمغرب الأقصى و استفحل ملك الروم و دين النصرانية
و لما جاء الله بالإسلام و غلب دينه و كانت مملكة الروم قد انتشرت في حفافي البحر الرومي من عدوتيه فانتزعوا منهم لأول أمرهم عدوته الجنوبية كلها من الشام و مصر و أفريقية و المغرب و أجازوا من خليج طنجة فملكوا الأندلس كلها من يد القوط و الجلالقة و ضعف أمر الروم و ملكهم بعد الانتهاء إلى غايته شأن كل أمة ثم شغل الإفرنجة بما دهمهم متن العرب في الأندلس و الجزائر بما كانوا يتخيمونهم و يرددون الصوائف إلى بسائطهم أيام عبد الرحمن الداخل و بنيه الأندلس و عبد الله الشيعي و بنيه بأفريقية و ملكوا عليهم جزائر البحر الرومي التي كانت لهم مثل صقلية و ميورقة و دانية و أخواتها إلى أن فشل ربح الدولتين و ضعف ملك العرب فاستفحل الإفرنجة و رجعت لهم و استرجعوا ما ملكه المسلمون إلا قليلا بسيف البحر الرومي مضائق العرض في طول أربع عشرة مرحلة و استولوا على جزائر البحر كلها ثم سموا إلى الشام و بيت المقدس مسجد أنبيائهم و مطلع دينهم فسربوا إليه آخر المائة الخامسة و تواثبوا على الأمصار و الحصون و سواحله و يقال : إن المستنصر العبيدي هو الذي دعاهم لذلك و حرضهم عليه لما رجى فيه من اشتغال ملك السلجوقية بأمرهم و إقامتهم سدا بينه و بينهم عندما سموا إلى ملك الشام و مصر و كان ملك الإفرنجة يومئذ اسمه بردويل و صهره زجار ملك صقلية من أهل طاعته فتظاهروا علة ذلك و ساروا إلى القسطنطينية سنة إحدى و تسعين ليجعلوها طريقا إلى الشام فمنعهم ملك الروم يومئذ ثم أجازهم على أن يعطوه ملطية إذا ملكوها فقبلوا شرطه ثم ساروا إلى بلاد ابن قلطمش وقد استولى يومئذ على مرية و أعمالها و أرزن الروم و أقصر و سيواس و افتتح تلك الأعمال كلها عند هبوب ريح قومه على السلجوقية ثم حدثت الفتنة بينهم و بين الروم بالقسطنطينية و استنجد كل منهم بملوك المسلمين في ثغور الشام و الجزيرة و عظمت الفتن في تلك الآفاق و دامت الحال على ذلك نحوا من مائة سنة و ملك الروم بالقسطنطينية في تناقص و اضمحلال و كان زجار صاحب صقلية يغزو القسطنطينية من البحر و يأخذ ما يجد في مرساها من سفن التجار و شواني المدينة و لقد دخل جرجي بن ميخاييل صاحب أسطوله إلى مينا القسطنطينية سنة أربع و أربعين و خمسمائة و رمى قصر الملك بالسهام فكانت تلك أنكى على الروم من كل ناحية
ثم كان لاستيلاء الإفرنج على القسطنطينية آخر المائة السادسة و كان من خبرها أن ملك الروم بالقسطنطينية أصهر إلى الفرنسيس عظيم ملوك الإفرنج في أخته فزوجها له الفرنسيس و كان له منها ابن ذكر ثم وثب بملك الروم أخوه فسمله و ملك القسطنطينية مكانه و لحق الابن بخاله الفرنسيس صريخا به على عمه فوجده قد جهز الأساطيل لارتجاع بيت المقدس و اجتمع فيه ثلاثة من ملوك الإفرنجة بعساكرهم دوقس البنادقة صاحب المراكب البحرية و في مراكبه كان ركوبهم و كان شيخا أعمى نقادا ذا ركب و المركس مقدم الفرنسيس و كيدفليد و هو أكبرهم فأمر الفرنسيس بالجواز على القسطنطينية ليصلحوا بين ابن أخته و بين عمه ملك الروم فلما وصلوا إلى مرسى القسطنطينية خرج عمه و حاربهم فهزموه و دخلوا البلد و هرب إلى أطراف البلد و قتل حاضروه و أضرموا النار في البلد فاشتغل الناس بها و أدخل الصبي بشيعته فدخل الإفرنج معه و ملكوا البلد و أجلسوا الصبي في ملكه و ساء أثرهم في البلد صادروا أهل النعم و أخذوا أموال الكنائس و ثقلت وطأتهم على الروم فعقلوا الصبي و أخرجوهم و استدعوا ملكهم عم الصبي من مكان مقره و ملكوه عليهم
و حاصرهم الإفرنج فاستنجد بسليمان بن قليج أرسلان صاحب قونية و بلاد الروم شرقي الخليج و كان في البلد خلق من الإفرنج فقبل أن يصل سليمان ثاروا فيها و أضرموا النيران حتى شغل بها الناس و فتحوا الأبواب فدخل الإفرنج و استباحوا ثمانية أيام حتى أقفرت و اعتصم الروم بالكنيسة العظمى منها و هي مموقيا ثم خرجت جماعة القسيسين و الأساقفة و الرهبان و في أيديهم الإنجيل و الصلبان فقتلوهم أجمعين و لم يراعوا لهم ذمة و لا عهدا ثم خلعوا الصبي و اقترعوا ثلاثتهم على الملك فخرجت القرعة على كيدفليد كبيرهم فملكوه على القسطنطينية و ما يجاورها و جعلوا لدوقس البنادقة الجزائر البحرية مثل أقريطش و رودس و غيرهما و للمركيس مقدم الفرنسيس البلاد التي في شرقي الخليج ثم تغلب عليها بطريق من بطارقة الروم اسمه لشكري و دفع عنها الإفرنج و بقيت بيده و استولى بعدها على القسطنطينية و كان اسمه ميخاييل و في كتاب المؤيد صاحب حماة أنه أقام ببعض الحصون ثم بنيت القسطنطينية و ملكها و فر الإفرنج في مراكبهم و ملك الروم و قتل الذي كان ملكا قبله و توفي سنة إحدى و ثمانين و ستمائة و عقد معه الصلح المنصور قلاون صاحب مصر و الشام لذلك العهد
قال : و ملك بعده ابنه ماند و يلقب الدوقس و شهرتهم جميعا اللشكري ثم انقرضت دولة بني قليج أرسلان و ملك أعمالهم التتر كما نذكر في أخبارهم و بقي بني اللشكري ملوكا على القسطنطينية إلى هذا العهد و ملك شرقي الخليج بعد انقضاء دولة التتر من بلاد الروم ابن عثمان جق أمير التركمان و هو الآن متحكم على صاحب القسطنطينية و متغلب على نواحيه من سائر جهاته و هذا ما بلغنا من أخبار الروم من أول دولتهم منذ يونان و القياصرة لهذا العهد و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (2/266)
الخبر عن القوط و ما كان لهم من الملك بالأندلس إلى حين الفتح الإسلامي و أولية ذلك و مصايره
هذه الأمة من أمم أهل الدولة العظيمة المعاصرة لدول الطبقة الثانية من العرب وقد ذكرناهم عقب اللطينيين لأن الملك صار إليهم من بينهم كما ذكرناه و سياقه الخبر عنهم أنهم كانوا يعرفون في الزمن القديم بالسيسيين نسبة إلى الأرض التي كانوا يعمرونها بالشرق فيما بين الفرس و اليونان و هم في نسبهم إخوة الصين من ولد ماغوغ بن يافث و كانت لهم مع الملوك السريانيين حروب موصوفة زحف إليهم فيها مومن مالي ملك سريان فدافعوه لعهد إبراهيم الخليل عليه السلام ثم كانت لهم حروب مع الفرس عند تخريب بيت المقدس و بناء رومة ثم غلبهم الإسكندر و صاروا في ملكته و اندرجوا في قبائل الروم و يونان ثم لما ضعف أمر الروم بعد الإسكندر و تغلبوا على بلاد الغريقيين و مقدونية و نبطة أيام غلبنوش بن بارايان من ملوك القياصرة و كانت بينه و بينه حروب سجال ثم غلبهم القياصرة من بعده و ظفروا بهم حتى إذا انتقل القياصرة إلى القسطنطينية و فشل أمرهم برومة زحف إليها هؤلاء القوط و اقتحموها عنوة فاستباحوها ثم خرجوا عنها أيام طودوشيش بن أركادش بعد حروب كثيرة و كان أميرهم لذلك العهد أنطرك كما ذكرناه و مات لعهد طودوشيش و أرادوا أن يجعل اسمه سمة الملوك برومة منهم مكان سمة قيصر فاختلف عليه أصحابه في ذلك فرجع عنه ثم صالح الرومانيين على أن يكون له ما يفتح من بلاد الأندلس لما كان أمر الرومانيين قد ضعف عن الأندلس و لحق بها ثلاث طوائف من الغريقيين فاقتسموا ملكها و هم الأبيون و الشوانيون و القندلش و باسم قندلس سميت الأندلس
و كان بالأندلس من قبلهم الأرباريون من ولد طوال بن يافث و هم إخوة الأنطاليس سكنوها من بعد الطوفان و صاروا إلى طاعة أهل رومة حتى دخل إليهم هؤلاء الطوالع من الغريقيين عندما اقتحم القوط مدينة رومة و غلبوا الأمم الذين كانوا بها من ولد طوال وقد يقال : إن هؤلاء الطوالع كلهم من ولد طوال بن يافث و ليسوا من الغريقيين و اقتسم هؤلاء الطوالع ملكها و كانت جليقية لقندلش و لشبونة و ماردة و طليطلة و مرسية لشوانش و كانوا أشرافهم و كانت أشبيلية و قرطبة و جيان و طالعة للأبيق و أميرهم عند ريقش أخو لشيقش أربعين سنة حين زحف إليهم القوط من رومة و كان قد ولي عليهم بعد أطفانش ملك آخر منهم اسمه طشريك و قتله الرومانيون و ولي مكانه منهم ماستة ثلاث سنين و زوج أخته من طودوشيش ملك الرومانيين و صالحه على أن يكون له ما يفتحه من الأندلس ثم مات و ولي مكانه لزريق ثلاث عشرة سنة و هو الذي زحف إلى الأندلس و قتل ملوكها و طرد الطوائف الذين كانوا بها فأجازوا إلى طنجة و تغلبوا على بلاد البربر و صرفوا البربر الذين كانوا بالعدوة عن طاعة القسطنطين إلى طاعتهم فلم يزالوا على ذلك إلى دولة يشيتانش نحوا من ثمانين سنة ثم هلك طورديق ملك القوط بالأندلس و ولي مكانه سبع عشرة سنة و انتقض عليه البسكتس إحدى طوائف القوط فزحف إليهم و ردهم إلى طاعته ثم هلك
و ولي بعده الديك ثلاثا و عشرين سنة و كانت الإفرنج لعهده قد طمعوا في ملك الأندلس و أن يغلبوا عليها القوط فجمعوا لهم و ملكوا على أنفسهم منهم فزحف إليهم الديك في أمم القوط إلى أن توغل في بلاد الإفرنج فغلبوه و قتلوه و عامة أصحابه و كانت القوط قبل دخولهم إلى الأندلس فرقتين كما في دولة بلنسيان بن قسطنطين من القياصرة المنتصرة و كانت إحدى الفرقتين قد أقامت بمكانها من نواحي رومة فلما بلغهم خبر الديك صاحب الأندلس منهم امتعضوا لذلك و كان أميرهم طورديك منهم فزحف إلى الإفرنج و غلبهم على ما كانوا يملكونه من الأندلس و دخل القوط الذين بالأندلس في طاعته فولى عليهم ابنه أشتريك و رجع إلى مكانه من نواحي رومة فزحف الإفرنج إلى محاربة أشتريك حتى غلبوه على طلوسة من ناحيتهم
و هلك أشتريك بعد خمس سنين من ملكه و ولي عليهم بعده بشليقش أربع سنين ثم بعده طودريق إحدى و ستين سنة و قتله بعض أصحابه بأشبيلية و ولي بعده أبرليق خمس سنين و بعده طودس ثلاث عشرة سنة و بعده طودشكل سنتين و بعده أيلة خمس سنين و انتقض عليه أهل قرطبة فحاربهم و تغلب عليهم و بعده طنجاد خمس عشرة سنة و بعده ليولة سنة واحدة و بعده لوبليدة ثماني عشرة سنة و انتقضت عليه الأطراف فحاربهم و سكنهم و نكر عليه النصارى تثليث أريش و راودوه على الأخذ بتوحيدهم الذين يزعمونه فأبى و حاربهم فقتل و ولي ابنه زدريق ست عشرة سنة و رجع إلى توحيد النصارى بزعمهم و هو الذي بنى البلاد المنسوبة إليه بقرطبة و لما هلك ولي بعده على القوط ليوبة سنتين و بعده تبديقا عندمار سنتين و بعده شيشوط ثماني سنين و على عهده كان هرقل ملك قسطنطينية و الشام و لعهده كانت الهجرة
و هلك شيشوط ملك القوط و ولي زدريق آخر منهم ثلاثة أشهر و بعده شتله ثلاث سنين و بعده سنشادش خمس سنين و بعده خنشوند سبع سنين و بعده وجنشوند ثلاثا و عشرين سنة و لهذه العصور ابتدأ ضعف الأحكام للقوط و بعده مانيه ثمان سنين و بعده لوري ثمان سنين و بعده إيقه ست عشرة سنة و بعده غطسة أربع عشرة سنة و هو الذي وقع من قصته مع ابنه يليان عامل طنجة ما وقع ثم بعده زدريق سنتين و هو الذي دخل عليه المسلمون و غلبوه على ملك القوط و ملكوا الأندلس و لذلك العهد كان الوليد بن عبد الملك حسبما نذكره عند فتح الأندلس إن شاء الله تعالى
هذه سياقة الخبر عن هؤلاء القوط نقلته من كلام هروشيوش و هو أصح ما رأيناه في ذلك و الله سبحانه و تعالى الموفق المعين بفضله و كرمه لا رب غيره و لا مأمول إلا خيره (2/280)
الطبقة الثالثة من العرب و هم العرب التابعة للعرب و ذكر أفاريقهم و أنسابهم و ممالكهم و ما كان لهم من الدول على اختلافها و البادية و الرحالة منهم و ملكها
هذه الأمة من العرب البادية أهل الخيام الذين لا أغلاق لهم لم يزالوا من أعظم أمم العالم و أكثر أجيال الخليفة يكثرون الأمم تارة و ينتهى إليهم العز و الغلبة بالكثرة فيظفرون بالملك و يغلبون على الأقاليم و المدن و الأمصار ثم يهلكهم الترفه و التنعم و يغلبون عليهم و يقتلون و يرجعون إلى باديتهم وقد هلك المتصدرون منهم للرياسة بما باشروه من الترف و نضارة العيش و تصيير الأمر لغيرهم من أولئك المبعدين عنهم بعد عصور أخرى هكذا سنة الله في خلقه و للبادية منهم مع من يجاورهم من الأمم حروب و وقائع في كل عصر و جيل بما تركوا من طلب المعاش و جعلوا طلب المعاش رزقهم في معاشهم بترصد السبيل و انتهاب متاع الناس
و لما استفحل الملك للعرب في الطبقة الأولى للعمالقة و في الثانية للتبابعة و كان ذلك عن كثرتهم فكانوا منتشرين لذلك العهد باليمن و الحجاز ثم بالعراق و الشام فلمغا تقلص ملكهم و كانوا بالعراق بقية أقاموا ضاحين من ظل الملك يقال في مبدأ كونهم هنالك أن بختنصر لما سلطه الله على العرب و على بني إسرائيل بما كانوا من بغيهم و قتلهم الأنبياء قتل أهل الوبر بناحية عدن اليمن نبيهم شعيب بن ذي مهدم على ما وقع في تفسير قوله تعالى : { فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون } فأوحى الله إلى إرمياء بن حزقيا و برخيا أن يسيرا بختنصر إلى العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم أن يقتل و لا يستحيى و يستلحمهم أجمعين و لا يبقي منهم أثرا و قال بختنصر : و أنا رأيت مثل ذلك و سار إلى العرب و قد نظم ما بين أيلة و الأبلة خيلا و رجلا و تسامع العرب بأقطار جزيرتهم و اجتمعوا للقائه فهزم عدنان أولا ثم استلحم الباقين و رجع إلى بابل و جمع السبايا فأنزلهم بالنبار ثم خالطهم بعد ذلك النبطة
و قال ابن الكلبي : إن بختنصر لما نادى بغزو العرب افتتح أمره بالقبض على من كان في بلاده من تجارهم للميرة و أنزلهم الحيرة ثم خرج إليهم في العساكر فرجعت قبائل منهم إليه آثروا الإذعان و المسالمة و أنزلهم بالسواد على شاطئ الفرات و ابتنوا موضع عسكرهم و سموه الأنبار ثم أنزلهم الحيرة فسكنوها سائر أيامه و رجعوا إلى الأنبار بعد مهلكه
قال الطبري : إن تبعا أبا كرب لما غزا العراق أيام أردشير بهمن كانت طريقة على جبل طيء و منه إلى الأنبار و انتهى إلى موضع الحيرة ليلا فتحير و أقام فسمي المكان الحيرة ثم سار لوجهه و خلف هنالك قوما من الأزد و لخم و جذام و عاملة و قضاعة وطنوا و بنوا و لحق بهم ناس من طيء و كلب و السكون و إياد و الحرث بن كعب فكانوا معهم
و قيل و هو قريب من الأول : خرج تبع في العرب حتى تحيروا بظاهر الكوفة فنزل بها ضعفاء الناس فسميت الحيرة و لما رجع و وجدهم قد استوطنوا تركهم هنالك و فيهم من كل قبائل العرب من هذيل و لخم و جعفى و طيء و كلب و بني لحيان من جرهم
قال هشام بن محمد : لما مات بختنصر انتقل الذين أسكنهم بالحيرة إلى الأنبار و معهم من انضم إليهم من بني إسمعيل و بني معد و انقطعت طوالع العرب من اليمن عنهم ثم كثر أولاد معد و فرقتهم العرب و خرجوا يطلبون المنسع و الريف فيما يليهم من بلاد اليمن و مشارف الشام و نزلت قبائل منهم البحرين و بها يومئذ قوم من الأزد نزلوها أيام خروج مزيقياء من اليمن و كان الذين أقبلوا من تهامة من العرب مالك و عمرو إبنا فهم بن تيم بن أسد بن وبرة بن قضاعة و ابن أخيهما مالك بن زهير و ابن عمرو بن فهم في جماعة من قومهم و الخنفار بن الحيق بن عمرو بن معد بن عدنان في قفص كلها و لحق بهم غطفان بن عمرو بن لطمان بن عبد مناف بن بعدم بن دعمى بن أياد بن أرقص بن صبيح بن الحارث بن أفصى بن دعمى و زهير بن الحرث بن أليل بن زهير بن أياد و اجتمعوا بالبحرين و تحالفوا على المقام و التناصر و أنهم يد واحدة و كان هذا الاجتماع و الحلف أزمان الطوائف و كان ملكهم قليلا و مفترقا و كان كل واحد منهم يغير على صاحبه و يرجع على أكثر من ذلك فتطلعت نفوس العرب بالبحرين إلى ريف العراق و طمعوا في غلب الأعاجم عليه أو مشاركتهم فيه و اهتبلوا الخلاف الذي كان بين الطوائف و أجمع رؤساؤهم المسير إلى العراق فسار منهم الأول الخنفار بن الحبق في أشلاء قفص بن معد و من معهم من أخلاط الناس فوجدوا بأرض بابل إلى الموصل بني إرم بن سام الذين كانوا ملوكا بدمشق و قيل لها من أجلهم دمشق إرم و هم من بقايا العرب الأولى فوجدوهم يقاتلون ملوك الطوائف فدفعوهم عن سواد العراق فارتفعوا عنه إلى أشلاء قفص هؤلاء ينسبون إلى عمرو بن عدي بن ربيعة جد بني المنذر عند نسابة مضر و في قول حماد الراوية كما يأتي ذكره ثم طلع مالك و عمرو إبنا فهم و ابن مالك بن زهير من قضاعة و غطفان بن عمرو و صبح بن صبيح وزهير بن الحرث من أياد فيمن معهم من غسان و حلفائهم بالأنبار و كلهم تنوخ كما قدمنا فغلبوا بني إرم و دفعوهم عن جهات السواد و جاء على أثرهم نمارة بن قيس و نمارة بن لخم نجدة من قبائل كندة فنزلوا الحيرة و أوطنوها و أقامت طالعة الأنبار و طالعة الحيرة لا يدينون للأعاجم و لا تدين لهم حتى مر بهم تبع و ترك فيهم ضعفة عساكره كما تقدم و أوطنوا فيهم من كل القبائل كما ذكرنا جعف وطيء و تميم و بني لحيان من جرهم و نزل كثير من تنوخ ما بين الحيرة و الأنبار بادين في الخيام لا يأوون إلى المدن و لا يخالطون أهلها و كانوا يسمون عرب الضاحية و أول من ملك منهم أزمان الطوائف مالك بن فهم و بعده أخوه عمرو و بعده ابن أخيه جذيمة الأبرش كما يأتي ذكر ذلك كله
و كان أيضا ولد عمرو مزيقياء بعد خروجه من اليمن بالأزد قومه عند خروجه أنذرهم بسيل العرم في القصة المشهورة وقد انتشروا بالشام و العراق و تخلف من تخلف منهم بالحجاز و هم خزاعة فنزالوا مر الظهران و قاتلوا جرهما بمكة فغلبوهم عليها و نزل نصر بن الأزد عمان و نزلت غسان جبال الشراة و كانت لهم حروب مع بني معد إلى أن استقروا هنالك في التخوم بين الحجاز و الشام هذا شأن من أوطن العراق و الشام من قبائل سبا تشاءم منهم أربعة و بقي باليمن ستة و هم مذجح و كندة و الأشعريون و حمير و أنمار و هو أبو خثعم و بجيلة فكان الملك لهؤلاء باليمن في حمير ثم التبابعة منهم و يظهر من هذا أن خروج مزيقياء و الأزد كان لأول ملك التبابعة أو قبله بيسير
و أما بنو معد بن عدنان فكان إرميا و برخيا لما أوحي إليهما بغزو بختنصر العرب و أمرهما الله أن يستخرجا معد بن عدنان لأن من ولده محمدا صلى الله عليه و سلم و أخرجه آخر الزمان أختم به النبيين و أرفع به من الضعة فأخرجاه على البراق و هو ابن اثنتي عشرة سنة و ذهبا به إلى حران فربي عندهما و غزا بختنصر العرب و استلحمهم و هلك عدنان و بقيت بلاد العرب خرابا ثم هلك بختنصر فخرج معد بن عدنان مع أنبياء بني إسرائيل فحجوا جميعا و طفق يسأل عمن بقي من ولد الحرث بن مضاض الجرهمي و كانت قبائل دوس أكثر جرهم على يده فقيل له بقي جرهم بن جلهة فتزوج ابنته معانة و ولدت له نزار بن معد
قال السهيلي : و كان رجوع معد إلى الحجاز بعدما رفع الله بأسه عن العرب و رجعت بقاياهم التي كانت بالشواهق إلى مجالاتهم بعد أن دوخ بختنصر بلادهم و خرب معمورهم و استأصل خضورا و أهل الرس التي كانت سطوة الله بالعرب من أجلهم اهـ كلام السهيلي
ثم كثر نسل معد في ربيعة و مضر و أياد و تدافعوا إلى العراق و الشام و تقدم منهم أشلاء قفص ـ كما ذكرنا ـ و جاءوا على أثرهم فنزلوا مع أحياء اليمنية الذين ذكرناهم قبل و كانت لهم مع تبع حروب و هو الذي يقول :
( لست بالتبع اليماني إن لم ... تركض الخيل في سواد العراق )
( أو تؤدي ربيعة الخرج قسرا ... لم تعقها موانع العواق )
ثم كان بالعراق و الشام و الحجاز أيام الطوائف و من بعدهم في أعقاب ملك التبابعة اليمنية و العدنانية ملك و دول بعد أن درست الأجيال قبلهم و تبدلت الأحوال السابقة لعصرهم فاستحق بذلك أن يكون جيلا منفردا عن الأول و طبقة مباينة لطباق السالفة و لما لم يكن لهم أثر في إنشاء العروبية كما للعرب العاربة و لا في لغتها عنهم كما في المستعربة و كانوا تبعا لمن تبعهم في سائر أحوالهم استحقوا التسمية بالعرب التابعة للعرب و استمرت الرياسة و الملك في هذه الطبقة اليمانية أزمنة و آمادا بما كانت صبغتها لهم من قبل و أحياء مضر و ربيعة تبعا لهم فكان الملك بالحيرة للخم في بني المنذر و بالشام لغسان في بني جفنة و بيثرب كذلك في الأوس و الخزرج ابني قيلة و ما سوى هؤلاء من العرب فكانوا ظواعن بادية و أحياء ناجعة و كانت في بعضهم رياسة بدوية و راجعة في الغالب إلى أحد هؤلاء ثم نبضت عروق الملك في مضر و ظهرت قريش على مكة و نواحي الحجاز أزمنة عرف فيها منهم و دانت الدول بتعظيمهم ثم صبح الإسلام أهل هذا الجيل و أمرهم على ما ذكرناه فاستحالت صبغة الملك إليهم و عادت الدول لمضر من بينهم و اختصت كرامة الله بالنبوة بهم فكانت فيهم الدول الإسلامية كلها إلا بعضا من دولها قام بها العجم اقتداء بالملة و تمهيدا للدعوة حسبما نذكر ذلك كله
فلنأت الآن بذكر قبائل هذه الطبقة من قحطان و عدنان و قضاعة و ما كان لكل واحدة منها من الملك قبل الإسلام و بعده : و من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني في أخبار خزيمة بن نهد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة قال : كان بدء تفرق بني إسمعيل من تهامة و نزوعهم عنها إلى الآفاق و خروج من خرج منهم عن نسبه أن قضاعة كانوا مجازرين لنزار و كان خزيمة بن نهد فاسقا متعرضا للنساء فشبب بفاطمة بنت يذكر و هو عامر بن عنزة و ذكرها في شعره حيث يقول :
( إذا الجوزاء أردفت الثريا ... ظننت بآل فاطمة الظنونا )
( و حالت دون ذلك من هموم ... هموم تخرج الشجر الربينا )
( أرى ابنة يذكر ظعنت فحلت ... جنوب الحزن يا شحطا مبينا )
و سخط ذلك يذكر خشية خزيمة على نفسه فاغتاله و قتله و انطفت نار يذكر و لم يصح على خزيمة شيء تتوجه به المطالبة على قضاعة حتى قال في شعره :
( فاه كان عند رضاب العصير ... ففيها يعل به الزنجبيل )
( قتلت أباها على حبها ... فتبخل إن بخلت أو تقيل )
فلما سمعت نزار شعر خزيمة بن نهد و قتله يذكر بن عنزة ثاروا مع قضاعة و تساندوا مع أحياء العرب الذين كانوا معهم و كانت هذه مع نزار و نسبها يومئذ كندة بن جنادة بن معد و جيرانهم يومئذ أجأ بن عمرو بن أد بن أدد أخي عدنان بن أدد و كانت قضاعة تنتسب إلى معد و معد إلى عدنان و الأشعريون إلى الأشعر بن أدد أخي عدنان و كانوا يظعنون من تهامة إلى الشام و منازلهم بالصفاع و كانت عسقلان من ولد ربيعة و كانت قضاعة مابين مكة و الطائف و كندة من العمد إلى ذات عرق و منازل أجأ و الأشعر و معد ما بين جدة و البحر فلما اقتتلوا هزمت نزار قضاعة و قتل خزيمة و خرجوا مفترقين فسارت تيم اللات من قضاعة و بعض بني رفيدة منهم و فرقة من الأشعريين نحو البحرين و نزلوا هجر و أجلوا من كان بها من النبط و ملكوها و كانت الزرقاء بنت زهير كاهنة منهم فتكهنت لهم بنزول ذلك المكان و الخروج عن تهامة و قالت في شعرها :
( و دع تهامة لا وداع مخالف ... بذمامه لكن قلي و ملام )
( لا تنكري هجرا مقام غريبة ... لن تعدمي من ظاعنين تهام )
ثم تكهنت لهم في سجع بأنهم يقيمون بهجر حتى ينعق غراب أبقع عليه خلخال ذهبا و يقع على نخلة وصفتها فيسيرون إلى الحيرة و كان في سجعها مقام و تنوخ فسميت تلك القبائل تنوخ من أجل هذه اللفظة و لحق بهم قوم من الأزد فدخلوا في تنوخ و أصاب بقية قضاعة الموتان و سارت فرقة من بني حلوان فنزلوا عبقرة من أرض الجزيرة و نسج نساؤهم البرود العبقرية من الصوف و البرود التزيدية إليهم لأنهم بنو تزيد و أغات عليهم الترك فأصابوا منهم و أقبل الحرث بن قراد البهراني ليستجيش بني حلوان فعرض له أبان بن سليح صاحب العين فقتله الحرث و لحقت بهرا بالترك فاستنقذوا ما أخذوه من بني تزيد و هزموهم و قال الحرث :
( كأن الدهر جمع في ليال ... ثلاث بينهن بشهرزور )
( صففنا للأعاجم من معد ... صفوفا بالجزيرة كالسعير )
و سارت سليح بن عمرو بن الحاف و عليهم الهدرجان بن مسلمة حتى نزلوا فلسطين على بني أدينة بن السميدع بن عاملة و سارت أسلم بن الحاف و هي عذرة و نهد و حويكة و جهينة حتى نزلوا بين الحجر و وادي القرى و أقامت تنوخ بالبحرين سنين ثم أقبل الغراب بحلقتي الذهب و وقع على النخلة و نعق كما قالت الزرقاء فذكروا قولها و ارتحلوا إلى الحيرة فنزلوا و هم أول من اختطفها و كان رئيسهم مالك بن زهير و اجتمع إليه ناس كثيرة من بسائط القرى و بنوا بها المنازل و أقاموا زمانا ثم أغار عليهم سابور الأكبر و قاتلوه و كان شعارهم يا لعباد الله فسموا العباد و هزمهم سابور فافترقوا و سار أهل المهبط منهم مع الضيزن بن معاوية التنوخي فنزل بالحضر الذي بناه الساطرون الجرمقاني فأقاموا عليه و أغارت حمير على قضاعة فأجلوهم و هم كلب وخرج بنو زبان بن تغلب بن حلوان فلحقوا بالشام ثم أغارت عليهم كنانة بعد ذلك بحين و استباحوهم فلحقوا بالسماوة و هي إلى اليوم منازلهم اهـ كلام صاحب الأغاني قلت : و أحياء جدهم لهذا العهد ما بين عنزة و قلتة و فلسطين إلى معان من أرض الحجاز (2/283)
الخبر عن أنساب العرب من هذه الطبقة الثالثة واحدة واحدة و ذكر مواطنهم و من كان له الملك منهم
إعلم أن جميع العرب يرجعون إلى ثلاثة أنساب و هي عدنان و قحطان و قضاعة : فأما عدنان : فهو من ولد إسمعيل بالاتفاق إلا ذكر الآباء الذين بينه و بين إسمعيل فليس فيه شيء يرجع إلى يقينه و غير عدنان من ولد إسمعيل قد انقرضوا فليس على وجه الأرض منهم أحد
و أما قحطان : فقيل من ولد إسمعيل و هو ظاهر كلام البخاري في قوله باب نسبه اليمن إلى إسمعيل و ساق في الباب قوله صلى الله عليه و سلم لقوم من أسلم يناضلون : [ ارموا يا بني إسمعيل فإن أباكم كان راميا ] ثم قال : و أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة يعني و خزاعة من سبأ و الأوس و الخزرج منهم و أصحاب هذا المذهب على أن قحطان ابن الهميسع بن أبين بن قيذار بن نبت بن إسمعيل و الجمهور على أن قحطان هو يقطن المذكور في التوراة في ولد عابر و أن حضرموت من شعوب قحطان
و أما قضاعة : فقيل إنها حمير قاله ابن إسحق و الكلبي و طائفة وقد يحتج لذلك بما رواه ابن لهيعة [ عن عقبة بن عامر الجهني قال : يا رسول الله ممن نحن ؟ قال : أنتم من قضاعة بن مالك ] و قال عمرو بن مرة و هو من الصحابة :
( نحن بنو الشيخ العجاز الأزهري ... قضاعة بن مالك بن حمير )
النسب المعروف غير المنكر و قال زهير : قضاعة و أختها مضرية فجعلهما أخوين و قال : إنهما من حمير بن معد بن عدنان و قال ابن عبد البر : و عليه الأكثرون و يروي عن ابن عباس و ابن عمرو و جبير بن مطعم و هو اختيار الزبير بن بكار و اين مصعب الزبيري و ابن هشام قال السهيلي : و الصحيح أن أم قضاعة و هي عبكرة مات عنها مالك بن حمير و هي حامل بقضاعة فتزوجها معد و ولدت قضاعة فتكنى به و نسب إليه و هو قول الزبير اهـ كلام السهيلي و في كتب الحكماء الأقدمين من يونان مثل بطليموس و هروشيوش ذكر القضاعيين و الخبر عن حروبهم فلا يعلم أهم أوائل قضاعة هؤلاء و أسلافهم أو غيرهم و ربما يشهد للقول بأنهم من عدنان و أن بلادهم لا تتصل ببلاد اليمن و إنما هي ببلاد الشام و بلاد بني عدنان و النسب البعيد يحيل الظنون و لا يرجع فيه إلى يقين
و لنبدأ بقحطان و بطونها : لما أن الملك الأقدم للعرب كان في نسب سبأ بن يشجب ابن يعرب بن قحطان و منه تشعب بطون حمير بن سبأ و كهلان بن سبأ و ينفرد بنو حمير بالملك و كان منهم التبابعة أهل الدولة المشهورة و غيرهم كما نذكر فلنبدأ بذكر حمير أولا من القحطانية و نذكر بعدهم قضاعة لانتسابهم في المشهور إلى حمير ثم نتبعهم بذكر كهلان إخوان حمير من القضاعة ثم نرجع إلى ذكر عدنان (2/289)
الخبر عم حمير من القحطانية و بطونها و تفرع شعوبها
قد تقدم لنا ذكر الشعوب من حمير الذين كان لهم الملك قبل التبابعة فلا حاجة لنا إلى إعادة ذكرهم و تقدم لنا أن حمير بن سبأ كان له من الولد تسعة و هم : الهميسع و مالك و زيد و عريب و واثل و مشروح و معد يكرب و أوس و مرة فبنو مرة دخلوا إلى حضرموت و كان من حمير أبين بن زهير بن الغوث بن أبين بن الهميسع ابن حمير و إليهم تنسب عدن أبين و منهم بنو الأملوك و بنو عبد شمس و هما إبنا وائل ابن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير و عريب و أبين أخوان و من بني عبد شمس بنو شرعب بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس وقد تقدم قول من ذهب إلى أن جشم و عبد شمس أخوان و هما ابنا وائل و الصحيح ما ذكرناه هنا فلنرجع و بنو خيران و شعبان و هما ابنا عمرو أخي شرعب بن قيس و زيد الجمهور بن سهل أخي خيران و شعبان و رابعهم حسان القيل بن عمرو و قد مر ذكره و من زيد الجمهور ذو رعين و اسمه يريم بن زيد بن سهل و إليه ينسب عبد كلال الذي تقدم ذكره في ملوك التبابعة و الحارث و عريب إبنا عبد كلال بن عريب بن يشرح بن مدان بن ذي رعين و هما اللذان كتب لهما النبي صلى الله عليه و سلم و منهم كعب بن زيد الجمهور و يلقب كعب الظلم و أبناء سبأ الأصغر بن كعب و إليه ينتهي نسب ملوك التبابعة و من زيد الجمهور بنو حضور بن عدي بن مالك بن زيد وقد مر ذكرهم و تقول اليمن إن منهم كان شعيب بن ذي مهدم النبي الذي قتله قومه فغزاهم بختنصر فقتلهم و قيل بل هو من حضور بن قحطان الذي إسمه في التوارة يقطن و منهم أيضا بنو ميثم و بنو حالة إبني سعد بن عوف بن عدي بن مالك أخي ذي رعين و عوف هذا أخو حضور و أخوه أحاظة و ميثم بنو حراز بن سعد فمن ميثم كعب الأحبار وقد مر ذكره و هو كعب بن ماتع بن هلسوع بن ذي هجري بن ميثم و من أحاظة رهط ذي الكلاع و هو السميقع بن ناكور بن عمرو بن يعفر بن يزيد و هو ذو الكلاع الأكبر بن النعمان بن أحاظة و من عمرو بن سعد الخبائر و السحول بنو سوادة بن عمرو بن الغوث بن سعد يحصب و ذو أصبح أبرهة بن الصباح و كان من ملوك اليمن لعهد الإسلام وقد مر ذكره و نسبه و منهم مالك بن أنس إمام دار الهجرة و كبير فقهاء السلف و هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر و هو نافع بن عمرو بن الحرث بن عثمان بن خثيل بن عمرو بن الحارث و هو ذو أصبح و إبناه يحيى و محمد و أعمامه أويس و أبو سهل و الربيع و كانوا حلفاء لبني تيم من قريش و من زيد الجمهور مرثد بن علس بن ذي جدن بن الحرث ابن زيد و هو الذي استجاشه امرؤ القيس على بني أسد قاتلي أبيه
و من بني سبأ الأصغر الأوزاع و هم بنو مرثد بن زيد بن شدد بن زرعة بن سبأ الأصغر و من إخوان هؤلاء الأوزاع بنو يعفر الذين استبدوا بملك اليمن كما يأتي عند ذكر ملوك اليمن في الدولة العباسية و هو يعفر بن عبد الرحمن بن كريب بن عثمان بن الوضاح بن إبراهيم بن مانع بن عون بن تدرص بن عامر بن ذي مغار البطين بن ذي مرايش بن مالك بن زيد بن غوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن شدد بن زرعة و كان آخر ملوك بني يعفر هؤلاء باليمن أبو حسان أسعد بن أبي يعفر إبراهيم بن محمد بن يعفر ملك أبو إبراهيم صنعاء و بنى قلعة كحلان باليمن و ورث ملكه بنوه من بعده إلى أن غلب عليهم الصليحيون من همدان بعدوة العبيديين من الشيعة كما نذكر في أخبارهم و من زيد الجمهور ملوك التبابعة و ملوك حمير من ولد صيفي بن سبأ الأصغر بن كعب بن زيد
قال ابن حزم : فمن ولد صيفي هذا تبع و هو تبان و هو أيضا أسعد أبو كرب بن كليكرب و هو تبع بن زيد و هو تبع بن عمرو و هو تبع ذو الأذعار بن أبرهة و هو تبع ذو المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي قال : فولد تبع أسعد أبو كرب حسان ذو معاهر و تبع زرعة و هو ذو نواس الذي وهود أهل اليمن و يسمى يوسف و قتل أهل نجران من النصارى و عمرو بن سعد و هو موثبان قال : و من هؤلاء التبابعة شمر يرعش بن ياسر ينعم بن عمرو ذي الأذعار و أفريقش بن قيس بن صيفي و بلقيس بنت إيلي أشرح بن ذي جدن بن إيلي أشرح بن الحرث بن قيس بن صيفي قال : و في أنساب التبابعة تخليط و اختلاف و لا يصح منها و من أخبارهم إلا القليل اهـ
و من زيد الجمهور ذو يزن بن عامر بن أسلم بن زيد و قال ابن حزم : إن عامر هو ذو يزن قال و من ولده : سيف بن النعمان بن عفير بن زرعة بن عفير بن الحرث بن النعمان بن قيس بن عبيد بن سيف بن ذي يزن الذي استجاش كسرى على الحبشة و أدخل الفرس إلى اليمن هذه بطون حمير و أنسابها و ديارهم باليمن من صنعاء إلى ظفار إلى عدن و أخبار دولهم قد تقدمت و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين
و نلحق بالكلام في أنساب حمير بن سبأ أنساب حضرموت و جرهم و ما ذكره النسابون من شعوبهما : فإنهم يذكرونهما مع حمير لأن حضرموت و جرهم إخوة سبأ كما وقع في التوراة وقد ذكرناه و لم يبق من ولد قحطان بعد سبأ معروف العقب غير هذين فأما حضرموت فقد ذكرهم في العرب البائدة و من كان منهم من الملوك يومئذ و نبهنا هنالك أن منهم بقية في الأجيال المتأخرة اندرجوا في غيرهم فلذلك ذكرناهم في هذه الطبقة الثالثة قال ابن حزم : و يقال إن حضرموت هو ابن يقطن أخي قحطان و الله أعلم و كان فيهم رياسة إلى الإسلام منهم وائل بن حجر له صحبة و هو وائل بن حجر بن سعيد بن مسروق بن وائل بن النعمان بن ربيعة بن الحارث بن عوف بن سعد بن عوف بن عدي بن شرحبيل بن الحرث بن مالك بن مرة بن حمير بن زيد بن لابي مالك بن قدامة بن أعجب بن مالك بن لابي بن قحطان و ابنه علقمة بن وائل و سقط عنده بين حجر أبي وائل و سعيد ابن مسروق أب اسمه سعد و هو ابن سعيد ثم قال ابن حزم : و يذكر بنو خلدون الأشبيليون فيقال إنهم من ولد الجبار بن علقمة بن وائل و منهم علي المنذر بن محمد و ابنه بقرمونة و أشبيلية اللذين قتلهما إبراهيم بن حجاج اللخمي غيلة و هما إبنا عثمان أبي بكر بن خالد بن عثمان أبي بكر بن مخلوف المعروف بخلدون الداخل المشرق و قال غيره في خلدون الأول : إنه ابن عمرو بن خلدون و قال ابن حزم في خلدون : إنه ابن عثمان بن هانيء بن الخطاب بن كريب بن معد يكرب بن الحرث بن وائل بن حجر و قال غيره : : خلدون بن مسلم بن عمر بن الخطاب بن هانيء بن كريب بن معد يكرب بن الحرث بن وائل قال ابن حزم : و الصدف من بني حضرموت و هو الصدف بن أسلم بن زيد بن مالك بن زيد بن حضرموت الأكبر قال : و من حضرموت العلاء بن الحضرمي الذي ولاه رسول الله صلى الله عليه و سلم البحرين و أبو بكر و عمر من بعده إلى أن توفي سنة إحدى و عشرين وهو العلاء بن عبد الله بن عبدة بن حماد بن مالك حليف بني أمية بن عبد شمس و أخوه ميمون بن الحضرمي ابن الصدف فيقال عبد الله بن حماد بن أكبر بن ربيعة بن مالك بن أكبر بن عريب بن مالك بن الخزرج بن الصدف قال و أخت العلاء الصعبة بنت الحضرمي أم طلحة بن عبد الله اهـ
و أما جرهم فقال ابن سعيد : إنهم أمتان أمة على عهد عاد و أمة من ولد جرهم بن قحطان و لما ملك يعرب بن قحطان اليمن ملك أخوه جرهم الحجاز ثم ملك من بعده ابنه عبد ياليل بن جرهم ثم ابنه جرشم بن عبد ياليل ثم ملك من بعده ابنه عبد المدان بن جرشم ثم ابنه نفيلة بن عبد المدان ثم ابنه عبد المسيح بن نفيلة ثم إبنه مضاض بن عبد المسيح ثم ابنه عمرو بن مضاض ثم أخوه الحرث بن مضاض ثم ابنه عمرو بن الحرث ثم أخوه بشر بن الحرث ثم مضاض بن عمرو بن مضاض قال و هذه الأمة الثانية هم الذين بعث إليهم و تزوج فيهم اهـ (2/290)
الخبر عن قضاعة و بطونها و الإلمام ببعض الملك الذي كان فيها
قد تقدم آنفا ذكر الخلاف الذي في قضاعة هل هم لحمير أو لعدنان و نقلنا الحجاج لكلا المذهبين و أتينا ذكر أنسابهم تالية حمير ترجيحا للقول بأنهم منهم و على هذا فقيل هو قضاعة بن مالك بن حمير و قال ابن الكلبي : قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير و كان قضاعة فيما قال ابن سعيد ملكا على بلاد الشحر و صارت بعده لابنه الحاف ثم لابنه مالك و لم يذكر ابن حزم في ولد الحاف مالكا قال ابن سعيد و كانت بين قضاعة و بين وائل بن حمير حروب ثم استقل ببلاد الشحر مهرة بن حيدان بن الحاف بن قضاعة و عرفت به قال و ملك بنو قضاعة أيضا نجران ثم غلبهم عليها بنو الحرث بن كعب بن الأزد و ساروا إلى الحجاز فدخلوا في قبائل معد و من هنا غلط من نسبهم إلى معد اهـ
و لنذكر الآن تشعب البطون من قضاعة : اتفق النسابون على أن قضاعة لم يكن له من الولد إلا الحافي و منه سائر بطونهم من قضاعة : اتفق النسابون على أن قضاعة لم يكن له من الولد إلا الحافي و منه سائر بطونهم و للحافي ثلاثة من الولد : عمرو و عمران و أسلم بضم اللام قاله ابن حزم
فمن عمرو بن الحافي حيدان و بلى و بهرا فمن حيدان مهرة و من بلى جماعة من مشاهير الصحابة : منهم كعب بن عجرة و خديج بن سلامة و سهل بن رافع و أبو بردة ابن نيار و من بهرا جماعة من الصحابة أيضا منهم : المقداد بن عمرو و ينسب إلى الأسود بن عبد يغوث بن وهب خال رسول الله صلى الله عليه و سلم أخي أمه و تبناه فنسب إليه و يقال عن خالد بن برمك مولى بني بهرا
و من أسلم سعد هذيم و جهينة و نهد بنو زيد بن ليث بن سود بن أسلم فجهينة ما بين الينبع و يثرب إلى الآن في متسع من برية الحجاز و في شماليهم إلى عقبة إيلة مواطن بلى و كلاهما على العدوة الشرقية من بحر القلزم و أجاز منهم أمم إلى العدوة الغربية و انتشروا ما بين صعيد مصر و بلاد الحبشة و كثروا هنالك سائر الأمم و غلبوا على بلاد النوبة و فرقوا كلمتهم و أزالوا ملكهم و حاربوا الحبشة فأرهقوهم إلى هذا العهد و من سعد هذيم بنو عذرة المشهورون بين العرب في المحبة كان منهم جميل بن عبد الله بن معمر و صاحبته بثينة بنت حبابا قال ابن حزم : كان لأبيها صحبة و منهم عروة بن حزام و صاحبته عفرا و من بني عذرة كان رزاح بن ربيعة أخو قصي بن كلاب لأمه و هو الذي استظهر قصي به و بقومه على بني سعد بن زيد بن مناة بن تميم فغلبهم على الإجازة بالناس من عرفة و كانت مفتاح رياسته في قريش
و من عمران بن الحافي بنو سليح و هو عمرو بن حلوان بن عمران و من بني سليح الضجاعم بنو ضجعم بن سعد بن سليح كانوا ملوكا بالشام للروم قبل غسان و من بني عمران بن الحافي بنو جرم بن زبان بن حلوان بن عمران بطن كبير و فيهم كثير من الصحابة و مواطنهم بن حلوان ما بين غزة و جبال الشراة من الشام و جبال الشراة و من جبال الكرك و من تغلب بن حلوان بنو أسد و بنو أسد و بنو أسد و بنو النمر و بنو كلب قبائل ضخمة كلهم بنو وبرة بن تغلب فمن النمر بنو خشين بن النمر و من بين أسد بن وبرة تنوخ و هم فهم بن تيم اللات بن أسد منهم مالك بن زهير بن عمرو بن عمرو بن فهم و عليه تنخت تنوخ و على عهد أبيه مالك بن فهم كما مر و كانوا حلفاء لبني حزم فتنوخ على ثلاثة أبطن : بطن اسمه فهم و هم هؤلاء و بطن اسمه نزار و هم ليس نزار لهم بوالد لكنهم من بطون قضاعة كلها و من بني تيم اللات و من غيرهم بطون ثلاث يقال لهم الأحلاف من جميع قبائل العرب من كندة و لخم وجذام و عبد القيس اهـ كلام ابن حزم و من بني أسد بن وبرة بنو القين و اسمه النعمان بن جسر بن شيع اللات بن أسد و من بني كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بنو كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب قبيلة ضخمة فيها ثلاثة بطون بنو عدي و بنو زهير و بنو جناب بن هبل ابن عبد الله بن كنانة بطون ضخمة و منهم عبيدة بن هبيل شاعر قديم و يقول فيه بعض الناس ابن حرام و هو الذي عنى امرؤ القيس بقوله
( نبكي الديار كما بكى ابن حرام )
وقد قيل إنه من بكر بن وائل و قال هشام بن السائب الكلبي : إذا سئلوا بم بكى ابن حرام الديار أنشدوا خمسة أبيات من كلمات امرئ القيس المشهور
( قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل )
و يقول إن بقيتها لامرئ القيس بن حجر و هذا امرؤ القيس بن حرام شاعر قديم دثر شعره لأنه لم يكن للعرب كتاب لبدأتها و إنما بقي من أشعارهم ما ذكره رواة الإسلام و قيدوه من رواية الكتاب من محفوظ الرجال
و من بني عدي بنو حصين بن ضمضم بن عدي كانت منهم نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة بن الحرث بن حصن امرأة عثمان بن عفان و منهم أبو الخطار الحسام بن ضرار بن سلامان بن جشم بن ربيعة بن حصن أمير الأندلس و منسبة بن شحيم بن منجاش بن مزغور بن منجاش بن هزيم بن عدي بن زهير و ابن ابنه حسان بن مالك بن بحدل الذي قام بمروان يوم مرج راهط و كانت رياسة الإسلام في كلب لبني بحدل هؤلاء و من عقبهم بنو منقذ ملوك شيزر
و من بني زهير بن جناب حنظلة بن صفوان بن توبل بن بشر بن حنظلة بن علقمة بن شراحيل بن هرير بن أبي جابر بن زهير ولي أفريقية لهشام و من عليم بنو جناب بنو معقل و ربما يقال إن عرب المعقل الذين بالمغرب الأقصى لهذا العهد و في زمانه ينتسبون فيهم
و من بطون كلب بن عوف بن بكر بن عوف بن كعب بن عوف بن عامر بن عوف دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة بن زيد بن زيد امرئ القيس بن الخزرج بن عامر بن بكر بن عامر بن عوف صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي أتاه جبريل عليه السلام في صورته و منصور بن جهور بن حفر بن عمرو بن خالد بن حارثة بن العبيد بن عامر بن عوف القائم مع يزيد بن الوليد و ولاه الكوفة و حب رسول الله صلى الله عليه و سلم أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل بن عبد العزى بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبدود بن عوف سبي أبوه زيد في الجاهلية و صار إلى خديجة فوهبته إلى النبي صلى الله عليه و سلم و جاءه أبوه و خيره النبي صلى الله عليه و سلم فاختاره على أبيه و أهله و أقام في كفالة النبي صلى الله عليه و سلم ثم أعتقه و ربي ابنه أسامة في بيته و مع مواليه و أخباره مشهورة
و من بني كلب ثم من بني كنانة بن بكر بن عوف النسابة ابن الكلبي و هو أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحرث بن عبد العزى بن امرئ القيس قال ابن حزم : هكذا ذكره ابن الكلبي في نسبه و أرى امرؤ القيس هذا هو عامر بن النعمان بن عامر بن عبدود بن عوف بن كنانة بن عذرة وقد مر بقية نسبه و كان لقضاعة هؤلاء ملك ما بين الشام و الحجاز إلى العراق في أيلة و جبال الكرك إلى مشارف الشام و استعملهم الروم على بادية العرب هنالك و كان أول الملك فيهم في تنوخ و تتابعت فيهم فيما ذكر المسعودي ثلاثة ملوك : النعمان بن عمر و ثم ابنه عمرو بن النعمان ثم ابنه الحواري بن عمرو ثم غلبهم على أمرهم سليح من بطون قضاعة و كانت رياستهم في ضجعم بن معد منهم و قارن ذلك استيلاء طيطش من القياصرة على الشام فولاهم ملوكا على العرب من قبله يجبون له من سلاحتهم إلى أن ولي منهم زيادة بن هبولة بن عمرو بن عوف بن ضجعم و خرجت غسان من اليمن فغلبوهم على أمرهم و صار ملك العرب بالشام لبني جفنة و انقرض ملك الضجاعم حسبما نذكر
و قال ابن سعيد : سار زيادة بن هبولة بمن أبقى السيف منهم بعد غسان إلى الحجاز فقتله حجر آكل المرار الكندي كان على الحجاز من قبل التبابعة و أفنى بقيتهم فلم ينج منهم إلا القليل قال : و من الناس من يطلق تنوخ على الضجاعمة و دوس الذين تنخوا بالبحرين أي أقاموا قال و كان لبني العبيد بن الأبرص بن عمر بن أشجع بن سليح ملك يتوارثونه بالحضر آثاره باقية في برية سنجار و كان آخرهم الضيزن بن معاوية بن العبيد المعروف عند الجرامقة بالساطرون و قصته مع سابور ذي الجنود من الأكاسرة معروفة قال و كان لقضاعة ملك آخر في كلب بن وبرة يتداولونه مع السكون من كندة فكانت لكلب دومة الجندل و تبوك و دخلوا في دين النصرانية و جاء الإسلام و الدولة في دومة الجندل لأكيدر بن عبد الملك بن السكون و يقال إنه كندي من ذرية الملوك الذين ولاهم التبابعة على كلب فأسره خالد بن الوليد و جاء به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فصالح على دومة و كان في أول من ملكها دجانة بن قنافة بن عدي بن زهير بن جناب قال : بقيت بنو كلب الآن في خلق عظيم على خليج القسطنطينية منهم مسلمون و منهم متنصرون اهـ الكلام في أنساب قضاعة
قال ابن حزم : و جميع قبائل العرب فهي راجعة إلى أب واحد حاش ثلاث قبائل : و هي تنوخ و العتقي و غسان فأما تنوخ فقد ذكرناهم و أما العتقي فهم من حجر حمير و من حجر من ذي رعين و من سعد العشيرة و من كنانة بن خزيمة و منهم زبيد بن الحرث العتقي من حجر حمير و هو مولى عبد الرحمن بن القاسم و خالد بن جنادة المصري صاحب مالك بن أنس و هو مولى زبيد المذكور من أسفل و أما غسان فإنهم من بني أب لا يدخل بعضهم في هذا النسب و يدخل فيهم من غيرهم و سموا العتقا لأنهم اجتمعوا ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه و سلم فظفر بهم فأعتقهم و كانوا جماعة من بطون شتى و سموا تنوخ لأن التنوخ الإقامة فتحالفوا على الإقامة بموضعهم بالشام و هم من بطون شتى و أما غسان فإنهم أيضا طوائف نزلوا بماء يقال له غسان فنسبوا إليه اهـ كلام ابن حزم (2/296)
الخبر عن بطون كهلان من القحطانية و شعوبهم و اتصال بعضها مع بعض و انقضائها
هؤلاء بنو كهلان بن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان إخوة بني حمير بن سبا و تداولوا معهم الملك أول أمرهم ثم انفرد بنو حمير به و بقيت بطون بني كهلان تحت ملكتهم باليمن ثم لما تقلص ملك حمير بقيت الرياسة على العرب البادية لبني كهلان لما كانوا بادين لم يأخذ ترف الحضارة منهم و لا أدركهم الهرم الذي أودى بحمير إنما كانوا أحياء ناجعة في البادية و الرؤساء و الأمراء في العرب إنما كانوا منهم و كان لكندة من بطونهم ملك باليمن و الحجاز ثم خرجت الأزد من شعوبهم أيضا من اليمن مع مزيقيا و افترقوا بالشام و كان لهم ملك بالشام في بني جفنة و ملك بيثرب في الأوس و الخزرج و ملك بالعراق في بني فهم ثم خرجت لخم وطيء من شعوبهم أيضا من اليمن و كان لهم ملك بالحيرة في آل المنذر حسبما نذكر ذلك كله
و أما شعوبهم فهي كلها تسعة من زيد بن كهلان في مالك بن زيد و عريب بن زيد فمن مالك بطون همدان و ديارهم لم تزل باليمن في شرقيه و هم بنو أوسلة و هو همدان بن مالك بن زيد بن أوسلة بن ربيعة بن الجبار بن مالك بن زيد بن نوف بن همدان و من شعوب حاشد بنويام بن أصغى بن مانع بن مالك بن جشم بن حاشد و منهم طلحة بن مصرف و لما جاء الله بالإسلام افترق كثير من همدان في ممالكه و بقي منهم من بقي باليمن و كانوا شيعة لعلي كرم الله وجهه و رضي عنه عندما شجر بين الصحابة و هو المنشد فيهم متمثلا :
( فلو كنت بوابا على باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام )
و لم يزل التشيع دينهم أيام الإسلام كلها و منهم كان علي بن محمد الصليحي من بني يام القائم بدعوة العبيديين باليمن في حصن حرار من بني يام و هو من بطونهم و هو من بني يام من بطون حاشد فاستولى عليه و ورث ملكه لبنيه حسبما نذكره في أخبارهم و كانت بعد ذلك و قبله دولة بني الرسى أيام الزيدية بصعدة فكانت على يدهم و بمظاهرتهم و لم يزل التشيع دينهم لهذا العهد
و قال البيهقي : و تفرقوا في الإسلام فلم تبق لهم قبيلة و برية إلا باليمن و هم أعظم قبائله و هم عصبة المعطي من الزيدية القائمين بدعوته باليمن و ملكوا جملة من حصون اليمن باليمن و لهم بها إقليم بكيل و إقليم حاشد من بطونهم
قال ابن سعيد : و من همدان بنو الزريع و هم أصحاب الدعوة و الملك في عدن و الحيرة و هم زيدية و إخوة همدان الهان بن مالك بن زيد بن أوسلة و من مالك بن زيد أيضا الأزد و هو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك و خثعم و بجيلة ابنا أنمار بن أراش أخي الأزد بن الغوث وقد يقال أنمار هو ابن نزار بن معد و ليس بصحيح فأما الأزد فبطن عظيم متسع و شعوب كثيرة فمنهم بنو دوس من بني نصر بن الأزد و هو دوس بن عدثان بالثاء المثلثة ابن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحرث بن كعب بن مالك بن نصر بن الأزد بطن كبير و منهم كان جذيمة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس و ديارهم بنواحي عمان و كان بعد دوس و جذيمة ملك بعمان في إخوانهم بني نصر بن زهران بن كعب كان منهم قبيل الإسلام المستكبر بن مسعود بن الجرار بن عبد الله بن مغولة بن شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر زهران و الذي أدرك الإسلام منهم جيفر بن الجلندي بن كركر بن المستكبر و أخوه عبد الله ملك عمان كتب إليهما النبي صلى الله عليه و سلم فأسلموا و استعمل على نواحيهما عمرو بن العاص
و من الأزد من بني مازن بن الأزد بنو عمرو مزيقيا بن عامر و يلقب ماء السماء ابن حارثة الغطريف ابن امرئ القيس البهلول ابن ثعلبة بن مازن بن الأزد و عمرو هذا و آباؤه كانوا ملوكا على بادية كهلان باليمن مع حمير و استحفل لهم الملك من بعدهم و كانت أرض سبأ باليمن لذلك العهد من أرفه البلاد و أخصبها و كانت مدافع للسيول المنحدرة بين جبلين هنالك فضرب بينهما سد بالصخر و القار يحبس سيول العيون والأمطار حتى يصرفوه خروق في ذلك السد على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم و مكث كذلك ما شاء الله أيام حمير فلما تقلص ملكهم و انحل نظام دولتهم و تغلب بادية كهلان على أرض سبأ و انطلقت عليها الأيدي بالعبث و الفساد و ذهب الحفظة القائمون بأمر السد نذروا بخرابه و كان الذي ندر به عمرو مزيقيا ملكهم لما رأى من اختلال أحواله و يقال : إن أخاه عمران الكاهن أخبره و يقال طريفة الكاهنة و قال السهيلي : طريفة الكاهنة امرأة عمرو بن عامر و هي طريفة بنت الخبر الحميرية لعهده
و قال ابن هشام : عن أبي زيد الأنصاري أنه رأى جرذا تحفر السد فعلم أنه لا بقاء للسد مع ذلك فأجمع النقلة من اليمن و كاد قومه بأن أمر أصغر بنيه أن يلطمه إذا أغلظ له ففعل فقال لا أقيم في بلد يلطمني فيها أصغر ولدي و عرض أمواله فقال أشرف اليمن اغتنموا غضبة عمرو فاشتروا أمواله و انتقل في ولده و ولد ولده فقال الأزد لا نتخلف عن عمرو فتجشموا للرحلة و باعوا أموالهم و خرجوا معه و كان رؤساءهم في رحلتهم بنو عمرو مزيقيا و من إليهم من بني مازن ففصل الأزد من بلادهم باليمن إلى الحجاز
قال السهيلي : كان فصولهم على عهد حسان بن تبان أسعد من ملوك التبابعة و لعهده كان خراب السد و لما فصل الأزد من اليمن كان أول نزولهم ببلاد عك ما بين زبيد و زمع و قتلوا ملك عك من الأزد ثم افترقوا إلى البلاد و نزل بنو نصر بن الأزد بالشراة و عمان و نزل بنو ثعلبة بن عمرو مزيقيا بيثرب و أقام بنو حارثة بن عمرو بمر الظهران بمكة و هم فيما يقال خزاعة و مروا على ماء يقال له غسان بين زبيد و زمع فكل من شبه منه من بني مزيقيا سمي به و الذين شربوا منه بنو مالك و بنو الحرث و بنو جفنة و بنو كعب فكلهم يسمون غسان و بنو ثعلبة العتقاء لم يشربوا منه فلم يسموا به فمن ولد جفنة ملوك الشام الذين يأتي ذكرهم و دولتهم بالشام و من ولد ثعلبة العتقاء الأوس و الخزرج ملوك يثرب في الجاهلية و سنذكرهم و من بطن عمرو مزيقيا بنو أفصى بن حارثة بن عمرو و يقال إنه أفصى بن عامر بن قمعة بلا شك ابن إلياس بن مضر قال ابن حزم : فإن كان أسلم بن أفصى منهم فمن بني أسلم بلا شك و بنو أبان و هو سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو و بنو العتيك من الأزد عمران بن عمرو
و أما بجيلة فبلادهم في سروات البحرين و الحجاز إلى تبالة وقد افترقوا على الآفاق أيام الفتح فلم يبق منهم بمواطنهم إلا القليل و يقدم الحاج منهم على مكة في كل عام عليهم أثر الشظف و يعرفون من أهل الموسم بالسرو و أما حالهم لأول الفتح الإسلامي فمعروف و رجالاتهم مذكورة فمن بطون بجيلة قسر و هو مالك بن عبقر بن أنمار و بنو أحمس بن الغوث بن أنمار
و أما بنو عريب بن زيد بن كهلان فمنهم طيء و الأشعريون و مذحج و بنو مرة و أربعتهم بنو أدد بن زيد بن يشجب بن عريب فأما الأشعريون فهم بنو أشعر و هو نبت بن أدد و بلادهم في ناحية الشمال من زبيد و كان لهم ظهور أول الإسلام ثم افترقوا في الفتوحات و كان لمن بقي منهم باليمن حروب مع ابن زياد لأول إمارته عليها أيام المأمون ثم ضعفوا عن ذلك و صاروا في عدد الرعايا
و أما بنو طيء بن أدد فكانوا باليمن و خرجوا منه على أثر الأزد إلى الحجاز و نزلوا سميرا وفيد في جوار بني أسد ثم غلبوهم على أجا و سلمى و هما جبلان من بلادهم فاستقروا بهما و افترقوا لأول الإسلام في الفتوحات قال ابن سعيد : و منهم في بلادهم الآن أمم كثيرة ملأوا السهل و الجبل حجازا وشاما وعراقا يعني قبائل طيء هؤلاء و هم أصحاب الدولة في العرب لهذا العهد في العراق و الشام و بمصر منهم سنبس و الثعالب بطنان مشهوران فسنبس بن معاوية بن شبل بن عمرو بن الغوث بن طيء و معهم بحتر بن ثعل قال ابن سعيد و منهم زبيد بن معن بن عمرو بن عس بن سلامان بن ثعل و هم في برية سنجار و الثعالب بنو ثعلبة بن رومان بن جندب بن خارجة بن سعد بن قطرة بن طيء و ثعلبة بن جدعا بن ذهل بن رومان قال ابن سعيد : و منهم لام بن ثعلبة منازلهم من المدينة إلى الجبلين و ينزلون في أكثر أوقاتهم مدينة يثرب و الثعالب الذين بصعيد مصر من ثعلب بن عمرو بن الغوث بن طيء قال ابن حزم : لام بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن مالك بن جدعا و من الثعالب بنو ثعلبة بن ذهل بن رومان و بجهة بنيامين و الشام بنو صخر و من بطونهم غزية المرهوب صولتهم بالشام و العراق و هم بنو غزية بن أفلت بن معبد بن عمرو بن عس بن سلامان بن ثعل و بنو غزية كثيرون و هم في طريق الحاج بين العراق و نجد و كانت الرياسة على طيء في الجاهلية لبني هني بن عمرو بن الغوث بن طي و هم رمليون و إخوتهم جبليون و من ولده إياس بن قبيصة الذي أدال به كسرى أبرويز النعمان المنذر حين قتله و أنزل طيا بالحيرة مكان لخم قوم النعمان و ولى على العرب من إياسا هذا و هو إياس بن قبصة بن أبي يعفر بن النعمان بن خبيب بن الحرث بن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن سعد بن هني فكانت لهم الرياسة إلى حين انقراض ملك الفرس و من عقب إياس هذا بنو ربيعة بن علي بن مفرح بن بدر بن سالم بن قصة بن بدر بن سميع و من ربيعة شعب آل مراد و شعيب آل فضل و آل فضل شعبان آل علي و آل مهنا فعلي و مهنا إبنا فضل و فضل و مراد ابنا ربيعة و سميع الذين ينسبون إليه من عقب قبيصة بن أبي يعفر و يزعم كثير من جهلة البادية إنه الذي جاءت به العباسة أخت الرشيد من جعفر بن يحيى زعما كاذبا لا أصل له و كانت الرياسة على طيء أيام العبيديين لبني المفرح ثم صارت لبني مراد بن ربيعة و كلهم ورثوا أرض غسان بالشام و ملكهم على العرب ثم صارت الرياسة لبني علي و بني مهنا ابني فضل بن ربيعة اقتسموها مدة ثم انفرد بها لهذا العهد بنو مهنا الملوك على العرب إلى هذا العهد بمشارف الشام و العراق و برية نجد و كان ظهورهم لأمر الدولة الأيوبية و من بعدهم من ملوك الترك بمصر و الشام و يأتي ذكرهم و الله وارث الأرض و من عليها
و أما مذحج و اسمه مالك بن زيد بن أدد بن زيد بن كهلان و منهم مراد و اسمه يخابر بن مذحج و منهم سعد العشيرة بن مذحج بطن عظيم لهم شعوب كثيرة منهم جعفر بن سعد العشيرة و زبيد بن صعب بن سعد العشيرة و من بطون مذحج النخع ورها و مسيلة و بنو الحرث بن كعب فأما النخع فهو جسر بن عمرو بن علة بن جلد بن مذحج و مسيلة ابن عامر بن عمرو بن علة و أما رها فهو ابن منبه بن حرب بن علة و بقي من مذحج و برية ينجعون مع أحياء طيء في جملة أيام بني مهنا مع العرب بالشام زمن أحلافهم و أكثرهم من زبيد و أما بنو الحرث فالحرث أبوهم ابن كعب بن علة و ديارهم بنواحي نجران يجاورون بها بني ذهل بن مزيقيا من الأزد و بني حارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد و كان نجران قبلهم لجرهم و منهم كان ملكها الأفعى الكاهن الذي حكم بين ولد نزار معد لما تنافروا إليه بعد موت نزار و إسمه الغلس بن غمر ماء بن همدان بن مالك بن منتاب بن زيد بن واثل بن حمير و كان داعية لسليمان عليه السلام بعد أن كان واليا لبلقيس على نجران و بعثته إلى سليمان فصدق و آمن و أقام على دينه بعد موته ثم نزل نجران بنو الحرث بن كعب بن علة بن جلد بن مذحج فغلبوا عليها بني الأفعى ثم خرجت الأزد من اليمن فمروا بهم و كانت بينهم حروب و أقام من أقام في جوارهم من بني نصر بن الأزد و بني ذهل بن مزيقيا و اقتسموا الرياسة فنجران معهم و كان من بني الحرث كعب هؤلاء المذحجيين بنو الزياد و اسمه يزيد بن قطن بن زياد بن الحرث بن مالك بن كعب بن الحرث و هم بيت مذحج و ملوك نجران و كانت رياستهم في عبد المدان بن الديان و انتهت قبيل البعثة إلى يزيد بن عبد المدان و وفد أخوه عبد الحجر بن عبد المدان على النبي صلى الله عليه و سلم على يد خالد بن الوليد و كان ابن أخيهم زياد بن عبد الله بن عبد المدان خال السفاح و ولاه نجران و اليمامة
و قال ابن سعيد : و لم يزل الملك بنجران في بني عبد المدان ثم في بني أبي الجواد منهم و كان منهم في المائة السادسة عبد القيس بن أبي الجاد ثم صار الأمر بهذا العهد إلى الأعاجم شأن النواحي كلها بالمشرق ثم من بطون الحرث بن كعب بنو معقل و هو ربيعة بن الحرث بن كعب وقد يقال إن المعقل الذين هم بالمغرب الأقصى لهذا العهد إنما هم من هذا البطن و ليسوا من معقل الذين هم بالمغرب الأقصى لهذا العهد إنما هم من هذا البطن و ليسوا من معقل بن كعب القضاعيين و يؤيد هذا أن هؤلاء المعقل جميعا ينتسبون إلى ربيعة و ربيعة اسم معقل هذا كما رأيت و الله تعالى أعلم
و أما بنو مرة بن أدد إخوة طيء و مذحج و الأشعريين فهم أبطن كثيرة و تنتهي كلها إلى الحرث بن مرة مثل خولان و معافر و لخم و جذام و عاملة و كندة فأما معافر فهم بنو يعفر بن مالك بن الحرث بن مرة و افترقوا في الفتوحات و كان منهم المنصور بن أبي عامر صاحب هشام بالأندلس و أما خولان و إسمه أفكل بن عمرو بن مالك و عمرو أخو يعفر و بلادهم في جبال اليمن من شرقيه و افترقوا في الفتوحات و ليس منهم اليوم و برية إلا اليمن و هم لهذا العهد و همدان أعظم قبائل العرب باليمن و لهم الغلب على أهله و الكثير من حصونه و أما لخم و إسمه مالك بن عدي بن الحرث بن مرة فبطن كبير متسع ذو شعوب و قبائل منهم الدار بن هانيء بن حبيب بن نمارة بن لخم و من أكبرهم بنو نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحرث بن مسعود بن مالك بن عمم بن أنمارة بن لخم و يقال نمارة و هم رهط آل المنذر و حافده عمرو بن عدي بن نصر هو ابن اخت جذيمة الوضاح الذي أخذ بثأره من الزبا قاتلته و ولي الملك على العرب للأكاسرة بعد خاله جذيمة و أنزلوه بالحيرة حسبما يأتي الخبر عن ملكه و ملك بنيه و من شعوب بني لخم هؤلاء كان عباد ملوك أشبيلية و يأتي ذكرهم و أما جذام و إسمه عمرو بن عدي أخو لخم بن عدي فبطن متسع له شعوب كثيرة مثل غطفان و أمصى و بنو حرام بن جزام و بنو ضبيب و بنو مخرمة و بنو بعجة بنو نفاثة و ديارهم حوالي أيلة من أول أعمال الحجاز إلى الينبع من أطراف يثرب و كانت لهم رياسة في معان و ما حولها من أرض الشام لبني النافرة من نفاثة ثم لفروة بن عمرو بن النافرة منهم و كان عاملا للروم على قومه و على من كان حوالي معان من العرب و هو الذي بعث إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بإسلامه و أهدى له بغلة بيضاء و سمع بذلك قيصر فأغرى بع الحارث بن أبي شمر الغساني ملك غسان فأخذه و صلبه بفلسطين و بقيتهم اليوم في مواطنهم الأولى في شعبين من شعوبهم يعرف أحدهما بنو عائد و هم ما بين بلبيس من أعمال مصر إلى عقبة أيلة إلى الكرك من ناحية فلسطين و تعرف الثانية بنو عقبة و هم من الكرك إلى الأزلم من برية الحجاز و ضمان السابلة ما بين مصر و المدينة النبوية إلى حدود غزة من الشام عليهم و غزة من مواطن جرم إحدى بطون قضاعة كما مر و بأفريقية لهذا العهد منهم
وبرية كبيرة ينتجعون مع ذياب بن سليم بنواحي طرابلس
و أما عامله و اسمه الحرث بن عدي و هم إخوة لخم و جذام و إنما سمي الحرث عاملة بأمه القضاعية و هم بطن متسع و مواطنهم ببرية الشام و أما كندة و إسمه ثور بن عفير بن عدي و عفير أخو لخم و جذام و تعرف كندة الملوك لأن الملك كان لهم على بادية الحجاز من بني عدنان كما نذكر و بلادهم بجبال اليمن مما يلي حضرموت و منها دمون التي ذكرها امرؤ القيس في شعره و بطونهم العظيمة ثلاثة : معاوية بن كندة و منه الملوك بنو الحرث بن معاوية الأصغر ابن ثور بن مرتع بن معاوية و السكون و سكسك و ابنهما أشرش بن كندة و من السكون بطن تجيب و هم بنو عدي و بنو سعد بن أشرش بن شبيب بن السكون و تجيب إسم أمهما و كان للسكون ملك بدومة الجندل و كان عليها عبد المغيث بن أكيدر بن عبد الملك بن عبد الحق بن أعمى بن معاوية ابن حلاوة بن أمامة بن شكامة بن شبيب بن السكون بعث إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة تبوك خالد بن الوليد فجاء به أسيرا و حقن صلى الله عليه و سلم دمه و صالحه على الجزية و رده إلى موضعه و من معاوية بن كندة بنو حجر ابن الحرث الأصغر ابن معاوية بن كندة منهم حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية و هو حجر أبو الملوك ابن كندة الذين يأتي ذكرهم و الحرث الولادة أخو حجر و كان من عقبه الخارجين باليمن المسلمين طالب الحق و كان أباضيا و سيأتي ذكره و منهم الأشعث بن قيس بن معدي كرب بن معاوية و جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية بن الحرث الأكبر جاهلي إسلامي و ابنه محمد بن الأشعث و ابنه عبد الرحمن بن الأشعث القائم على عبد الملك و الحجاج و هو مشهور و ابن عمهم أيضا ابن عدي و هو الأدمر بن عدي بن جبلة له صحبة فيما يقال و هو الذي قتله معاوية على الثورة بأخيه زياد و خبره معروف
هذه قبائل اليمن من قحطان استوفينا ذكر بطونهم و أنسابهم و نرجع الآن إلى ذكر من كان الملك منهم بالشام و الحجاز و العراق حسبما نقصه و الله تعالى المعين بكرمه و منه لا رب غيره و لا خير إلا خيره (2/302)
الخبر عن ملوك الحيرة من آل المنذر من هذه الطبقة و كيف انساق الملك إليهم ممن قبلهم و كيف صار إلى طيء من بعدهم
أما أخبار العرب بالعراق في الجبل الأول و هم العرب العاربة فلم يصل إلينا تفاصيلها و شرح حالها إلا أن قوم عاد و العمالقة ملكوا العراق و المسند في بعض الأقوال أن الضحاك بن سنان منهم كما مر و أما في الجبل الثاني و هم العرب المستعربة فلم يكن لهم به مستبد و إنما كان ملكهم به بدويا و رياستهم في أهل الظواعن و كان ملك العرب كما مر في التبابعة من أهل اليمن و كانت بينهم و بين فارس حروب و ربما غلبوهم على العراق و ملكوه أو بعضه كما مر لكن اليمن لم يغلبوا ثانيا على ملكوا منه وقد مر إيقاع بختنصر و إثخنانه فيهم ما تقدم و كان في سواد العراق و أطراف الشام و الجزيرة الأمارنيون من بني إرم بن سام و من كان من بقية عساكر ابن تبع من جعفر طيء و كلب و تميم و غيرهم من جرهم و من نزل معهم بعد ذلك من تنوخ و نمارة بن لخم و قنص بن معد و من إليهم كما قدمناه ذكر ذلك و كان ما ما بين الحيرة و الفرات إلى ناحية الأنبار مواطن لهم و كانوا يسمون عرب الضاحية و كان أول من ملك منهم في زمن الطوائف مالك بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن قضاعة و كان منزله مما يلي الأنبار و ملك من بعده أخوه عمرو بن فهم ثم ملك من بعدهما جديمة الأبرش إثنتي عشرة سنة وقد تقدم أنه صهرهما و أن مالك بن زهير بن عمرو بن فهم زوجه أخته و صاروا حلفاء مع الأزد من قوم جذيمة و نسب جذيمة في الأزد إلى بني زهران ثم إلى دوس بن عدنان بن عبد الله بن زهران و هو جذيمة بن ملك بن فهم بن غنم بن دوس هكذا قال ابن الكلبي و يقال : إنه من وبار بن أميم بن لاوذ بن سام و كان بنو زهران من الأزد خرجوا قبل خروج مزيقيا من اليمن و نزلوا بالعراق و قيل ساروا من اليمن مع أولاد جفنة بن مزيقيا فلما تفرق الأزد على الموطن نزل بنو زهران هؤلاء بالشراة و عمان و صار لهم مع الطوائف ملك و كان مالك بن فهم هذا من ملوكهم و كان بشاطئ الفرات من الجانب الشرقي عمرو بن الظرب بن حسان بن أدينة من ولد السميدع بن هوثر من بقايا العمالقة فكان عمرو بن الظرب على مشارف الشام و الجزيرة و كان منزله بالمضيق بين الخابور و قرقيسا فكانت بينه و بين مالك بن فهم حروب هلك عمرو في بعضها و قامت بملكه من بعده ابنته الزباء بنت عمرو و اسمها نائلة عند الطبري و ميسون عند ابن دريد
قال السهيلي : و يقال إن الزباء الملكة كانت من ذرية السميدع بن هوثر من بني قطورا أهل مكة و هو السميدع بن مرثد بالثاء المثلثة ابن لاي بن قطور بن كركي بن عملاق و هي بنت عمرو بن أدينة بن الظرب بن حسان و بين حسان هذا و السميدع آباء كثيرة ليست بصحيحة لبعد زمن الزباء من زمن السميدع انتهى كلام السهيلي
و لم تزل الحرب بين مالك بن فهم و بين الزباء بنت عمرو إلى أن ألجاها إلى أطراف مملكتها و كان يغير على ملوك الطوائف حتى غلبهم على كثير مما في أيديهم قال أبو عبيدة : و هو أول ملك كان بالعراق من العرب و أول من نصب المجانيق و أوقد الشموع و ملك ستين سنة و لما هلك قام بأمره من بعده جذيمة الوضاح و يقال له الأبرش و كان يكنى بأبي مالك و هو منادم الفرقدين قال أبو عبيدة : كان جذيمة بعد عيسى بثلاثين سنة فملك أزمان الطوائف خمسا و سبعين سنة و أيام أردشير كلها خمسة عشر سنة و ثماني سنين من أيام سابور و كان بينه و بين الزباء سلم و حرب و لم تزل تحاول الثأر منه بأبيها حتى تحيلت عليه و أطمعته في نفسها فخطبها و أجابته و أجمع المسير إليها و أبى عليه و زيره قيصر بن سعد فعصاه و دخل إليها و لقيه بالجنود و أحس بالشر فنجا قصير و دخل جذيمة إلى قصرها فقطعت رواهشه و أجرت دمه إلى أن هلك في حكاية منقولة في كتب الأخباريين
قال الطبري : و كان جذيمة من أفضل ملوك العرب رأيا و أبعدهم مغارا و أشدهم حزما و أول من استجمع له الملك بأرض العراق و سرى بالجيوش و كان به برص فكنوا عنه بالوضاح إجلالا له و كانت منازله بين الحيرة و الأنبار و هيت و نواحيها و عين التمر و أطراف البر العمق و القطقطانية و جفنة و كانت تجبى إليه الأموال و تفد إليه الوفود و غزا في بعض الأيام طسما و جديسا في منازلهم باليمامة و وجد حسان بن تبع قد أغار عليهم فانفكأ هو راجعا بمن معه و أتت خيول حسان على سرايا فأجاحوها و كان أكثر غزو جذيمة للعرب العاربة و كان قد تكهن و ادعى النبوة و كانت منازل إياد بعين أباغ سميت باسم رجل من العمالقة نزل بها و كان جذيمة كثيرا ما يغزوهم حتى طلبوا مسالمته و كان بينهم غلام من لخم من بني أختهم و كانوا أخوالا له و هو عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحرث بن مسعود بن مالك بن عمرو بن نمارة بن لخم و كان له جمال و ضرب و طلبه منهم جذيمة فامتنعوا من تسليمه إليه فألح عليهم بالغزو و بعثت إياد من سرق لهم صنمين كانا عند جذيمة يدعو بهما و يستسقى بهما و عرفوه أن الصنمين عندهم و أنهم يردونهما بشريطة رفع الغزو عنهم فأجابهم إلى ذلك بشريطة أن يبعثوا مع الصنمين عدي بن نصر فكان ذلك و لما جاءه عدي بن نصر استخلصه لنفسه و ولاه شرابه و هويته رقاش أخته فراسلته فدافعها بالخشية من جذيمة فقالت له اخطبني منه إذا أخذت الخمر منه و أشهد عليه القوم ففعل و أعرس بها من ليلته و أصبح مضرجا بالخلوق و ارب جذيمة شأنه ثم أعلم بما كان منه فعض على يديه أسفا و هرب عدي فلم يظهر له أثر ثم سألها في أبيات شعر معروفه فأخبرته بما كان منه فعرف عذرها و كف و أقام عدي في أخواله إياد إلى أن هلك و ولدت رقاش منه و سمته عمرا و ربي عند خاله جذيمة و كان يستظرفه ثم استهوته الجن فغاب و ضرب له جذيمة في الآفاق إلى أن رده عليه وافدان من العتقا ثم من قضاعة و هما مالك و عقيل ابنا فارج بن مالك بن العنس أهديا له طرفا و متاعا و لقيا عمرا بطريقهما وقد ساءت حاله و سألاه فأخبرهما باسمه و نسبه فأصلحا من شأنه و جاءا به إلى جذيمة بالحيرة فسر به و سرت أمه و حكم الرجلين فطلبا منادمته فأسعفهما و كانا ينادمانه حتى ضرب المثل بهما و قيل ندماني جذيمة و القصة مبسوطة في كتاب الأخباريين بأكثر من هذا
قال الطبري : و كان ملك العرب بأرض الحيرة و مشارف الشام عمرو بن ظرب بن حسان بن أدينة بن السميدع بن هوثر العملاقي فكانت بينه و بين جذيمة حرب قتل فيها عمرو بن الظرب وفضت جموعه و ملكت بعده ابنته الزباء و اسمها نائلة و جنودها بقايا العمالقة من عاد الأولى و من نهد و سليح ابني حلوان و من كان معهم من قبائل قضاعة و كانت تسكن على شاطئ الفرات وقد بنت هنالك قصرا و تربع عند بطن المجاز و تصيف بتدمر و لما استحكم لها الملك أجمعت أخذ الثأر من جذيمة بأبيها فبعثت إليه توهمه الخطبة و أنها إمرأة لا يليق بها الملك فيجمع ملكها إلى ملكه فطمع في ذلك و وافقه قومه و أبى عليه منهم قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن أربى بن نمارة بن لخم و كان حازما ناصحا و حذره عاقبة ذلك فعصاه و استشار ابن أخته عمرو بن عدي فوافقه فاستخلفه على قومه و جعل على خيوله عمرو بن عبد الجن و سار هو على غربي الفرات إلى أن نزل رحبة مالك بن طوق و أتته الرسل منها بالألطاف و الهدايا ثم استقبلته الخيول فقال له قصير : إن أحاطت بك الخيول فهو الغدر فاركب فرسك العصا و كانت لا تجارى فأحاطت به الخيول و دخل جذيمة على الزباء فقطعت رواهشه فسال دمه حتى نزف و مات و قدم قصير على عمرو بن عدي وقد اختلف عليه قومه و مال جماعة منهم إلى عمرو بن عبد الجن فأصلح أمرهم حتى انقادوا جميعا لعمرو بن عدي و أشار عليه يطلب الثأر من الزباء بخاله جذيمة و كانت الكاهنة قد عرفتها بملكها و أعطتها علامات عمرو فحذرته و بعثت رجلا مصورا يصور لها عمرا في جميع حالاته فسار إليه متنكرا و اختلط بحشمه و جاء إليها بصورته فاستثبتته و تيقنت أن مهلكها منه و اتخذت نفقا في الأرض من مجلسها إلى حصن داخل مدينتها و عمد عمرو إلى قصير فجذع أنفه بمواطأة منه على ذلك فلحق بالزباء يشكو ما أصابه من عمرو و أنه اتهمه بمداخلة الزباء في أمر خاله جذيمة و ما رأيت بعد ما فعل بي أنكى له من أن أكون معك فأكرمته و قربته حتى إذا رضي منها من الوثوق به أشار عليها بالتجارة في طرف العراق و أمتعته فأعطته مالاص وعيرا و ذهب إلى العراق و لقي عمرو بن عدي بالحيرة فجهزه بالطرف و الأمتعة كما يرضيها و أتاها بذلك فازدادت به وثوقا و جهزته بأكثر من الأولى ثم عاد الثالثة و حمل بغاة الجند من أصحابه عمرو في الغرائر على الجمال و عمرو فيهم و تقدم فبشرها بالعيرة و بكثرة ما حمل إليها من الطرف فخرجت تنظر فأنكرت ما رأته في الجمال من التكارد ثم دخلت العيرة المدينة فلما توسطت أنيخت و خرج الرجال و بادر عمرو إلى النفق فوقف عنده و وضع الرجال سيوفهم في أهل البلد و بادرت الزباء إلى النفق فوجدت عمرا قائما عنده فلحمها بالسيف و ماتت و أصاب ما أصاب من المدينة و انكفأ راجعا
قال الطبري : و عمرو بن عدي أول من اتخذ الحيرة منزلا من ملوك العرب و أول من تجده أهل الحيرة في كتبهم من ملوك العرب بالعراق و إليه ينسبون و هم ملوك آل نصر و لم يزل عمرو بن عدي ملكا حتى مات و هو ابن مائة و عشرين سنة مستبدا منفردا يغزوهم و يغنم و تفد عليه الوفود و لا يدين لملوك الطوائف و لا يدينون له حتى قدم أردشير بن بابك في أهل فارس
قال الطبري : و إنما ذكرنا في هذا الموضع أمر جذيمة و ابن أخته عمرو بن عدي لما قدمناه عند ذكر ملوك اليمن و أنهم لم يكن لهم ملك مستفحل و إنما كانوا طوائف على المخاليف يغير كل واحد على صاحبه إذا استغفله و يرجع خوف الطلب حتى كان عمرو بن عدي فاتصل له و لعقبه الملك على من كان بنواحي العراق و بادية الحجاز بالعرب فاستعمله ملوك فارس على ذلك إلى آخرهم أمرهم و كان أمر آل نصر هؤلاء و من كان من ولاة الفرس و عمالهم على العرب معروفا مثبتا عندهم في كنائسهم و أشعارهم
و قال هشام بن الكلبي : كنت أستخرج أخبار العرب و أنسابهم و أنساب آل نصر بن ربيعة و مبالغ أعمار من ولي منهم لآل كسرى و تاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة و أما ابن إسحق فذكر في آل نصر و مصيرهم إلى العراق أن ذلك بسبب الرؤيا التي رآها ربيعة بن نصر و عبرها الكاهنان شق و سطيح و فيها أن الحبشة يغلبون على ملكهم باليمن قال : فجهز بنيه و أهل بيته إلى العراق بما يصلحهم و كتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له سابور بن خرزاذ فأسكنهم الحيرة و من بقية ربيعة بن نصر كان النعمان بن المنذر بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر وقد يقال إن المنذر من أعقاب ساطرون ملك الحضر من تنوخ قضاعة رواه ابن إسحق من علماء الكوفة و رواه عن جبير بن مطعم قال : لما أتى عمر رضي الله عنه بسيف النعمان دعا بجبير بن مطعم و كان أنسب قريش لقريش و العرب تعلمه من أبي بكر رضي الله عنه فسلمه إياه ثم قال : ممن كان النعمان يا جبير ؟ قال : كان من أسلاف قنص بن معد قال السهيلي : كان ولد قنص بن معد انتشروا بالحجاز فوقعت بينهم و بين بني أبيهم حرب و تضايق بالبلاد و أجدبت الأرض فساروا نحو سواد العراق و ذلك في أيام ملوك الطوائف قاتلهم الأردوانيون و بعض ملوك الطوائف و أجلوهم عن السواد و قتلوهم إلا أشلاء لحقت بقبائل العرب و دخلوا فيهم فانتسبوا إليهم قال الطبري : حين سأله عمر عن النعمان قال : كانت العرب تقول من أشلاء قنص بن معد و هم من ولد عجم بن قنص إلا أن الناس صحفوا عجم و جعلوا مكانه لخم قال ابن إسحق : و أما سائر العرب فيقولون النعمان بن المنذر رجل من لخم ربي بين ولد ربيعة بن نصر أهـ
و لما هلك عمرو بن عدي ولي بعده على العرب و سائر من ببادية العراق و الحجاز و الجزيرة امرؤ القيس بن عمرو بن عدي و يقال له البدء و هو أول من تنصر من ملوك آل نصر و عمال الفرس و عاش فيما ذكر هشام بن الكلبي مائة و أربعة عشر سنة منها أيام سابور ثلاثا و عشرين سنة و أيام هرمز بن سابور سنة واحدة و أيام بهرام بن هرمز ثلاث سنين و أيام بهرام بن بهرام ثماني عشرة سنة و من أيام سابور سبعون سنة و هلك لعهده فولي مكانه ابنه عمرو بن امرئ القيس البدء فأقام في ملكه ثلاثين سنة بقية أيام سابور بن سابور ثم ولي مكانه أوس بن قلام العمليقي فيما قال هشام بن محمد و هو من بني عمرو بن عملاق فأقام في ولايته خمس سنين ثم سار به جحجبا بن عتيك بن لخم فقتله و ولي مكانه ثم هلك في عهد بهرام بن سابور و ولى من بعده امرؤ القيس بن عمرو خمسا و عشرين سنة و هلك أيام يزدجرد الأثيم فولي مكانه ابنه النعمان بن امرئ القيس و أمه شقيقة بنت ربيعة بن ذهب بن شيبان و هو صاحب الخورنق و يقال إن سبب بنائه إياه إن يزجرد الأثيم دفع إليه إبنه بهرام جور ليربيه و أمره ببناء هذا الخورنق مسكنا له و أسكنه إياه و يقال : إن الصانع الذي بناه كان اسمه سنمار و إنه فرغ من بنائه ألقاه من أعلاه فمات من أجل محاورة وقعت اختلف الناس في نقلها و الله اعلم بصحتها و ذهب ذلك مثلا بين العرب في قبح الجزاء و وقع في أشعارهم منه كثير و كان النعمان هذا من أفحل ملوك آل نصر و كانت له سنانان إحداهما للعرب و الأخرى للفرس و كان يغزو بهما بلاد العرب بالشام و يدوخها و أقام في ملكه ثلاثين سنة زهد و ترك الملك و لبس المسوح و ذهب فلم يوجد له أثر
قال الطبري : و أما العلماء بأخبار الفرس فيقولون إن الذي تولى تربية بهرام هو المنذر بن النعمان بن امرئ القيس دفعه إليه يزدجرد الأثيم لإشارة كانت عنده فيه من المنجمين فأحسن تربيته و تأديبه و جاءه بمن يلقنه الخلال من العلوم و الآداب و الفروسية و النقابة حتى اشتمل على ذلك كله بما رضيه ثم رده إلى أبيه فأقام عنده قليلا و لم يرض بحاله و وفد على أبيه وافد قيصر و هو أخوه قياودس فقصده بهرام أن يسأل له من أبيه الرجوع إلى بلاد العرب فرجع و نزل على المنذر ثم هلك يزدجرد فاجتمع أهل فارس و ولوا عليهم شخصا من ولد أردشير و عدلوا عن بهرام لمرباه بين العرب و خلوه عن آداب العجم و جهز المنذر العساكر لبهرام لطلب ملكه و قدم ابنه النعمان فحاصر مدينة الملك ثم جاء على أثره بعساكر العرب و بهرام معه فأذعن له فارس و أطاعوه و استوهب المنذر ذنوبهم من بهرام فعفا عنهم و اجتمع أمره و رجع المنذر إلى بلاده و شغل باللهو و طمع فيه الملوك حوله و غزاه خاقان ملك الترك في خمسين ألفا من العساكر و سار إليه بهرام فانتهى إلى أذربيجان ثم إلى أرمينية ثم ذهب يتصيد و خلف أخوه نرسي على العساكر فرماه أهل فارس بالجبن و أنه خار عن لقاء الترك فراسلوا خاقان في الصلح على ما يرضاه فرجع عنهم و انتهى الخبر بذلك إلى بهرام فسار في اتباعه و بيته فانفض بعسكره و قتله بيده و استولى بهرام على ما في العساكر من الأثقال و الذراري و ظفر بتاج خاقان و أكليله و سيفه بما كان فيه من الجواهر و اليواقيت و أسر زوجته و غلب على ناحية من بلاده فولى عليها بعض مرازبته و أذن له في الجلوس على سرير الفضة و أغزى ما وراء النهر فدانوا بالجزية و انصرف إلى أذربيجان فجعل سيف خاقان و أكليله معلقا ببيت النار و أخدمه خاتون إمرأة خاقان و رفع الخراج عن الناس ثلاث سنين شكرا لله تعالى على النصر و تصدق بعشرين ألف ألف درهم مكررة مرتين و كتب بالخبر إلى النواحي و ولى أخاه نرسي على خراسان و استوزر له بهر نرسي بن بدارة بن فرخزاد و وصل الطبري نسبه من هنا بعد فكان رابعهم أشك بن دارا و أغزى بهرام أرض الروم في أربعين ألفا فانتهى إلى القسطنطينية و رجع
قال هشام بن الكلبي : ثم جاء الحرث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش إلى بلاد معد و الحيرة وقد ولاه تبع بن حسان بن تبع فسار إليه النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة و قاتله فقتل النعمان و عدة من أهل بيته و انهزم أصحابه و أفلت المنذر بن النعمان الأكبر و أمه ماء السماء امرأة من اليمن و تشتت ملك آل النعمان و ملك الحرث بن عمرو ما كانوا يملكونه و قال غير هشام بن الكلبي : إن النعمان الذي قتله الحرث هو ابن المنذر بن النعمان و أمه هند بنت زيد مناة بن زيد الله بن عمرو بن ربيعة بن ذهل بن شيبان و هو الذي أسرته فارس ملك عشرين سنة منها في أيام فيروز بن يزدجرد عشر سنين و أيام يلاوش بن يزدجرد أربع سنين و في أيام قباذ بن فيروز ست سنين
قال هشام بن محمد الكلبي : و لما ملك الحرث بن عمرو ملك آل النعمان بعث إليه قباذ يطلب لقاءه و كان مضعفا فجاءه الحرث و صالحه على أن لا يتجاوز بالعرب الفرات ثم استضعفه فأطلق العرب للغارة في نواحي السواد وراء الفرات فسأله اللقاء بابنه و اعتذر إليه أشظاظ العرب و أنه لا يضبطهم إلا المال فأقطعه جانبا من السواد فبعث الحرث إلى ملك اليمن تبع يستنهضه بغزو فارس في بلادهم و يخبره بضعف ملكهم فجمع و سار حتى نزل الحيرة و بعث ابن أخيه شمرا ذا الجناح إلى قباذ فقاتله و اتبع إلى الري فقتله ثم سار شمر إلى خراسان و بعث تبع ابنه حسان إلى الصغد و أمرهما معا أن يدوخا أرض الصين و بعث ابن أخيه يعفر إلى الروم فحاصر القسطنطينية حتى أعطوا الطاعة و الأتاوة و تقدم إلى رومة فحاصرها ثم أصابهم الطاعون و وهنوا له فوثب عليهم فقتلوهم جميعا و تقدم شمر إلى سمرقند فحاصرها و استعمل الحيلة فيها فملكها ثم سار إلى الصين و هزم الترك و وجد أخاه حسان قد سبقه إلى الصين منذ ثلاث سنين فأقاما هنالك إحدى و عشرين سنة إلى أن هلك قال : و الصحيح المتفق عليه أنهما رجعا إلى بلادهما بما غنماه من الأموال و الذخائر و صنوف الجواهر و الطيوب و سار تبع حتى قدم مكة و نزل شعب حجاز و كانت وفاته باليمن بعد أن ملك مائة و عشرين سنة و لم يخرج أحد بعده من ملوك اليمن غازيا و يقال : إنه دخل في دين اليهود للأحبار الذين خرجوا معه من يثرب و أما ابن إسحق فعنده أن الذي سار إلى المشرق من التبابعة تبع الأخير و هو تبان أسعد أبو كرب
قال هشام بن محمد : و و لى أنوشروان بعد الحرث بن عمرو المنذر بن النعمان الذي أفلت يوم قتل أبوه و نزل الحيرة و أبوه النعمان الأكبر فلما قوي سلطان أنوشروان و اشتد أمره بعث إلى المنذر فملكه الحيرة و ما كان يليه الحرث بن عمرو آكل المرار فلم يزل كذلك حتى هلك قال : و ملك العرب من قبل الفرس بعد الأسود بن المنذر أخوه المنذر بن المنذر و أمه ماوية بنت النعمان سبع سنين ثم ملك بعده النعمان بن الأسود ابن المنذر و أمه أم الملك أخت الحرث بن عمرو أربع سنين ثم استخلف أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل بن ثور بن أسد بن أربى بن نمارة بن لخم ثلاث سنين ثم ملك المنذر بن امرئ القيس و هو ذو القرنين لضفيرتين كانتا له من شعره و أمه ماء السماء بنت عوف بن جثم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر بن الضبيب بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط فملك تسعا و أربعين سنة ثم ملك ابنه عمرو بن المنذر و أمه هند بنت الحرث بن عمرو بن حجر آكل المرار ست عشرة سنة و لثمان سنين من ملكه كان عام الفيل الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ولى عمرو بن هند شقيقه قابوس أربع سنين : سنة منها أيام أنوشروان و ثلاثة أيام ابنه هرمز
ثم ولى بعده أخوهما المنذر أربع سنين ثم بعده النعمان بن المنذر و هو أبو قابوس اثنتين و عشرين سنة منها ثمان سنين أيام هرمز و أربع عشرة أيام أبروبز و في أيام النعمان هذا اضحمل ملك آل نصر بالجزيرة و عليه انقرض و هو الذي قتله كسرى أبرويز و أبدل منه في الولاية على الحيرة و العرب باياس بن قبيصة الطائي ثم رد رياسة الحيرة لمرازبة فارس إلى أن جاء الإسلام و ذهب ملك فارس و كان الذي دعا أبروبز إلى قتله سعاية زيد بن عدي العبادي فيه عند أبرويز بسبب أن النعمان قتل أباه عدي بن زيد و سياقه الخبر عن ذلك ان عدي بن زيد كان من تراجمة أبرويز و كان سبب قتل النعمان أن أباه و هو زيد بن حماد بن أيوب بن محروب بن عامر بن قبيصة بن امرئ القيس بن زيد مناة والد عدي هذا كان جميلا شاعرا خطيبا و قارئا كتاب العرب و الفرس و كانوا أهل بيت يكونون مع الأكاسرة و يقطعونهم القطائع على أن يترجموا عندهم عن العرب و كان المنذر بن المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان في حجر عدي فأرضعه أهل بيته و رباه قوم من أشراف الحيرة ينسبون إلى لخم و يقال لهم بنو مرسي و كان للمنذر بن المنذر عشرة سوى النعمان يقال لهم الأشاهب لجمالهم و كان النعمان من بينهم أحمر أبرش قصيرا أمه سلمى بنت وائل بن عطية من أهل فدك كانت أمة للحرث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب بن كلب و كان قابوس بن المنذر الأكبر عم النعمان بعث إلى أنوشروان بعدي بن زيد و إخوته فكانوا في كتابه يترجمون له فلما مات المنذر أوصى على ولده إياس بن قبيصة الطائي و جعل أمره كله بيده فأقام على ذلك شهرا و نظر أنوشروان فيمن يملكه على العرب و شاور عدي بن زيد و استنصحه في بني المنذر فقال بقيتهم في بني المنذر بن المنذر فاستقدمهم كسرى و أنزلهم على عدي و كان هواه مع النعمان فجعل يرعى إخوته تفضيلهم عليه و يقول لهم : إن أشار عليكم كسرى بالملك و بمن يكفوه أمر العرب تكفلوا بشأن ابن أخيكم النعمان و يسر للنعمان إن سأله كسرى عن شأن إخوته أن يتكفله و يقول : إن عجزت عنهم فأنا عن سواهم أعجز و كان مع أخيه الأسود بن المنذر رجل من بني مرسي الذين ربوهم اسمه عدي بن أوس بن مرسي فنصحه في عدي و أعلمه أنه يغشه فلم يقبل و وقف كسرى على مقالاتهم فمال إلى النعمان و ملكه و توجه بقيمة ستين ألف دينار و رجع إلى الحيرة ملكا على العرب و عدي بن أوس في خدمته وقد أضمر السعاية بعدي بن زيد فكان يظهر الثناء عليه و يتواصى به مع أصحابه و أن يقولوا مثل قوله إلا أنه يستصغر النعمان و يزعم أنه ملكه و أنه عامله حتى آسفوه بذلك و بعث في الزيارة فأتاه و حبسه ثم ندم و خشي عاقبة إطلاقه فجعل يمنيه ثم خرج النعمان إلى البحرين و خالفه جفنة ملك غسان إلى الحيرة و غار عليها و نال منها و كان عدي بن زيد كتب إلى أخيه عند كسرى يشعره بطلب الشفاعة من كسرى إلى النعمان فجاء الشفيع إلى الحيرة و بها خليفة النعمان و جاء إلى عدي فقال له : أعطني الكتاب أبعثه أنا و لازمني أنت هنا لئلا أقتل و بعث أعداؤه من بني بقيلة إلى النعمان بأن رسول كسرى دخل عنده فبعث من قتله فلما وفد وافد كسرى في الشفاعة أظهر له الإجابة و أحسن له بأربعة آلاف دينار و جارية و أذن له أن يخرجه من محبسه فوجده قد مات منذ ليال فجاء إلى النعمان مثربا فقال : و الله لقد تركته حيا فقال : و كيف تدخل إليه و أنت رسول إلي ؟ فطرده فرجع إلى كسرى و أخبره بموته و طوى عنه ما كان من دخوله إليه
ثم ندم النعمان على قتله و لقي يوما و هو يتصيد ابنه زيدا فاعتذر إليه من أمر أبيه و جهزه إلى كسرى ليكون خليفة أبيه على ترجمة العرب فأعجب به كسرى و قربه و كان أثيرا عنده ثم إن كسرى أراد خطبة بنات العرب فأشار عليه عدي بالخطبة في بني منذر فقال له كسرى : اذهب إليهم في ذلك فقال : إنهم لا ينكحون العجم و يستريبون في ذلك فابعث معي من يفقه العربية فلعلي آتيك بغرضك فلما جاء إلى النعمان قال لزيد : أما في عير السواد و فارس ما يغنيكم عن بناتنا ؟ و سأل الرسول عن العير فقال له زيد : هي البقر ثم رجعا إلى كسرى بالخيبة و أغراه زيد فغضب كسرى و حقد على النعمان ثم استقدمه بعد حين لبعض حاجاته و قال له : لا بد من المشافهة لأن الكتاب لا يسعها ففطن فذهب إلى طيء و غيرهم من قبائل العرب ليمنعوه فأبوا و فرقوا من معاداة كسرى إلا بني رواحة بن سعد من بني عبس فإنهم أجابوه لو كانوا يغنون عنه فعذرهم و انصرف عنهم إلى بني شيبان بذي قار و الرياسة فيهم لهانئ بن مسعود بن عامر بن الخطيب بن عمرو المزدلف ابن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان و لقيس بن خالد بن ذي الخدين و علم أن هانئا يمنعه و كان كسرى قد أقطعه فرجع إليه النعمان ماله و نعمه و حلقته و هي سلاح ألف فارس شاكة و سار إلى كسرى فلقيه زيد بن عدي بساباط و تبين الغدر فلما بلغ إلى كسرى قيده و أودعه السجن إلى أن هلك فيه بالطاعون و دعا ذلك إلى واقعة ذي قار بين العرب و فارس
و ذلك أن كسرى لما قتل النعمان استعمل إياس بن قبيصة الطائي على الحيرة مكان النعمان ليده التي أسلفها طيء عند كسرى يوم واقعة بهرام على أبرويز و طلب من النعمان فرسه ينجو عليها فأبى و اعترضه حسان بن حنظلة بن جنة الطائي و هو ابن عم إياس بن قبيصة فأركبه فرسه و نجا عليه و مر في طريقه بإياس فأهدى له فرسا و جزورا فرعى له أبرويز هذه الوسائل و قدم إياسا مكان النعمان و هو إياس بن قبيصة بن أبي عفر بن النعمان بن جنة فلما هلك النعمان بعث إياس إلى هانيء بن مسعود في حلقة النعمان و يقال كانت أربعمائة درع و قيل ثمانمائة فمنعها هانيء و غضب كسرى و أراد استئصال بكر بن وائل و أشار عليه النعمان بن زرعة من بني تغلب أن يمهل إلى فصل القيظ عند ورودهم مياه ذي قار فلما قاظوا و نزلوا تلك المياه جاءهم النعمان بن زرعة يخيرهم في الحرب و إعطاء اليد فاختاروا الحرب اختاره حنظلة بن سنان العجلي و كانوا قد ولوه أمرهم و قال لهم إنما هو الموت قتلا إن أعطيتم باليد أو عطشا إن هربتم و ربما لقيكم بنو تميم فقتلوكم ثم بعث كسرى إلى إياس بن قبيصة أن يسير إلى حربهم و يأخذه معه مسالح فارس و هم الجند الذين كانوا معه بالقطقطانية و بارق و تغلب و بعث إلى قيس بن مسعود بن قيس بن خالد بن ذي الخدين و كان على طيف شقران أن يوافي إياسا فجاءت الفرس معها الجنود و الأفيال عليها الأساورة و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ بالمدينة فقال : [ اليوم انتصف العرب من العجم و نصروا ] و حفظ ذلك اليوم فإذا يوم الوقعة
و لما توافق الفريقان جاء قيس بن مسعود إلى هانيء و أشار عليه أن يفرق سلاح النعمان على أصحابه ففعل و اختلف هانيء بن مسعود و حنظلة بن ثعلبة بن سنان فأشار هانيء بركوب الفلاة و قطع حنظلة حزم الرجال و ضرب على نفسه و آلى أن لا يفر ثم استقوا الماء لنصف شهر و اقتتلوا و هرب العجم من العطش و اتبعهم بكر و عجل فاصطف العجم و قاتلوا و صبروا و راسلت إياد بكر بن وائل إنا نفر عند اللقاء فصحبوهم و اشتد القتال و قطعوا الآمال حتى سقطت الرجال إلى الأرض ثم حملوا عليهم و اعترضهم يزيد بن حماد السكوني في قومه كان كمينا أمامهم فشدوا على إياس بن قبيصة و من معه من العرب فولت إياد منهزمة و انهزمت الفرس و جاوزوا الماء في حر الظهيرة في يوم قائظ فهلكوا أجمعين قتلا و عطشا و أقام إياس في ولاية الحيرة مكان النعمان و معه الهمرجان من مرازبة فارس تسع سنين و في الثامنة منها كانت البعثة و ولي بعده على الحيرة آخر من المرازبة اسمه زاذويه بن ماهان الهمذاني سبع عشرة سنة إلى أيام بوران بنت كسرى ثم ولي المنذر بن النعمان بن المنذر و تسميه العرب الغرور الذي قتل بالبحرين يوم أجداث
و لما زحف المسلمون إلى العراق و نزل خالد بن الوليد الحيرة حاصرهم بقصورها فلما أشرفوا على الهلكة خرج إليهم إياس بن قبيصة في أشراف أهل الحيرة و أتقى من خالد و المسلمين بالجزية فقبلوا منه و صالحهم على مائة و ستين ألف درهم و كتب لهم خالد بالعهد و الأمان و كانت أول جزية بالعراق و كان فيهم هانيء بن قبيصة أخو إياس بن قبيصة بالقصر الأبيض و عدي بن عدي العبادي ابن عبد القيس و زيد بن عدي بقصر العدسيين و أهل نصر بن عدس من قصور الحيرة و هو بنو عوان بن عبد المسيح بن كلب بن وبرة و أهل قصر بني بقيلة لأنه خرج على قومه في بردين أخضرين فقالوا : يا حارث ما أنت إلا بقيلة خضراء و عبد المسيح هذا هو المعمر و هو الذي بعثه كسرى أبرويز إلى سطيح في شأن رؤيا المرزبان
و لما صالح إياس بن قبيصة المسلمين و عقد لهم الجزية سخطت عليه الأكاسرة و عزلوه فكان ملكه تسع سنين و لسنة منها و ثمانية أشهر كانت البعوث و ولي حينئذ الخلافة عمر بن الخطاب و عقد لسعد بن أبي وقاص على حرب فارس فكان من أول عمل يزدجرد أن أمر مرزبان الحيرة أن يبعث قابوس بن قابوس بن المنذر و أغراه بالعرب و وعده بملك آبائه و قال له : ادع العرب و أنت على من أجابك منهم كما كان آباؤك فنهض قابوس إلى القادسية و نزلها و كاتب بكر بن وائل بمثل ما كان للنعمان فكاتبهم مقاربة و وعدا و انتهى الخبر إلى المثنى بن حارثة الشيباني عقب مهلك أخيه المثنى و قبل وصول سعد فأسرى من ذي قار و بيت قابوس بالقادسية ففض جمعه و قتله و كان آخر من بقي من ملوك آل نصر بن ربيعة و انقرض أمرهم مع زوال ملك فارس أهـ كلام الطبري و ما نقله عن هشام بن الكلبي
وقد كان المغيرة بن شعبة تزوج هندا بنت النعمان و سعد بن أبي وقاص تزوج صدقة بنت النعمان و خبرهما معروف ذكره المسعودي و غيره و عدة ملوك آل نصر عند هشام بن الكلبي عشرون ملكا و مدتهم خمسمائة و عشرون سنة و عند المسعودي ثلاث و عشرون ملكا و مدتهم ستمائة و عشرون سنة قال : وقد قيل إن مدة عمران الحيرة إلى أن خربت عند بناء الكوفة خمسمائة سنة قال : و لم يزل عمرانها يتناقص إلى أيام المعتضد ثم أقفرت و فيما نقله بعض الإخباريين أن خالد بن الوليد قال لعبد المسيح : أخبرني بما رأيت من الأيام ؟ قال : نعم قال : رأيت المرأة من الحيرة تضيع مكتلها على رأسها ثم تخرج حتى تأتي الشام في قرى متصلة و بساتين ملتفة وقد أصبحت اليوم خرابا و الله يرث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين
هذا ترتيب الملوك من ولد نصر بن ربيعة بن كعب بن عمرو بن عدي الأول منهم و هو الترتيب الذي ذكره الطبري عن ابن الكلبي و غيره و بين الناس فيه خلاف في ترتيب ملوكهم بعد اتفاقهم على أن الذي ملك بعد عمرو بن عدي ابنه امرؤ القيس ثم ابنه عمرو بن امرئ القيس و هو الثالث منهم قال علي بن عبد العزيز الجرجاني في أنسابه بعد ذكر عمرو هذا : ثم ثار أوس بن قلام العملقي و ملك فثار به جحجب بن عتيك اللخمي فقتله و ملك ثم ملك من بعده امرؤ القيس البدء بن عمرو الثالث ثم ملك من بعده ابنه النعمان الأكبر ابن امرئ القيس بن الشقيقة و هو الذي ترك الملك و ساح ثم ملك من بعده ابنه المنذر ثم ابنه الأسود بن المنذر ثم أخوه المنذر بن المنذر ثم النعمان بن الأسود بن المنذر ثم أبو يعفر بن علقمة بن مالك بن عدي بن الذميل بن ثور بن أسنش بن زبى بن نمارة بن لخم ثم ملك من بعده امرؤ القيس بن النعمان الأكبر ثم ابنه امرؤ القيس ثم كان أمر الحرث بن عدي الكندي حتى تصالحها و تزوج المنذر ابنته هندا فولدت له عمرا ثم ملك بعد المنذر عمرو بن هند ثم قابوس بن المنذر أخوه ثم المنذر بن المنذر أخوه الآخر ثم ابنه النعمان بن المنذر هكذا نسبه الجرجاني و هو موافق لترتيب الطبري إلا في الحرث بن عمرو الكندي فإن الطبري جعله بعد النعمان الأكبر بن امرئ القيس و ابنه المنذر و الجرجاني جعله بعد المنذر بن امرئ القيس بن النعمان و بين هذا المنذر و المنذر بن النعمان الأكبر خمسة من ملوكهم فيهم أبو يعفر بن الذميل فالله أعلم بالصحيح من ذلك
و أما المسعودي فخالف تربيتهم فقال : بعد النعمان الأكبر ابن امرئ القيس و سماه قائد الفرس ملك خمسا و ستين سنة ثم ملك ابنه المنذر خمسا و عشرين سنة و هذا مثل ترتيب الطبري و الجرجاني ثم خالفهما و قال : و ملك النعمان بن المنذر الحيرة و هو الذي بنى الخورنق خمسا و ثلاثين سنة و ملك الأسود بن النعمان عشرين سنة و ملك ابنه المنذر أربعين سنة و أمه ماء السماء من النمر قاسط من ربيعة و بها عرف وملك ابنه عمرو بن المنذر أربعا و عشرين سنة ثم ملك بعده أخوه النعمان و أمه مامة و قتله كسرى و هو آخرهم هكذا ساق المسعودي نسق ملوكهم و نسبهم و هو مخالف لما ذكره الطبري و الجرجاني
و قال السهيلي : كان للمنذر بن ماء السماء من الولد المملكين عمرو و النعمان و كان عمرو لهند بنت الحرث آكل المرار قال : و كان عمرو هذا من أعاظم ملوك الحيرة و يعرف بمحرق لأنه حرق مدينة الملهم عند اليمامة وكان يملك من قبل كسرى أنوشروان و من بعده ملك أخوه النعمان بن المنذر و أمه مامة و قتله كسرى ابرويز بن هرمز بن أنوشروان لموجدة وجدها بسعاية زيد بن عدي بن زيد العبادي و ساق قصة مقتله و ولاية إياس بن قبيصة الطائي من بعده و ما وقع بعد ذلك من حرب ذي قار و غلب العرب فيها على العجم إلى آخرها فالله أعلم بالصحيح في ترتيب ملوكهم و قال ابن سعيد : أول حديثهم في الملك أن بني نمارة كانوا جندا للعمالقة بأطراف الشام و الجزيرة و كانوا مع الزباء و لما قتلت جذيمة قام عمرو بن عدي منهم بثأره و كان ابن أخته حتى أدركه و قتلها و بنى الحيرة على فرع من الفرات في أرض العراق و قال صاحب تواريخ الأمم : ملك مائة و ثمانية و عشرين سنة أيام ملوك الطوائف و بعده امرؤ القيس بن عمرو و لما مات ولي أردشير بن سابور على الحيرة أوس بن قلام من العمالقة ثم كان ملك الحيرة فوليها امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس المعروف بمحرق قال و هو المذكور في قصيدة الأسود بن يعفر التي على روي الدال و بعده ابنه النعمان بن شقيقه و هي من بني شيبان و جعل معه كسرى واليا للفرس و هو باني الخورنق و السرير على مياه الفرات و ملك إلى أن ساح و تزهد ثلاثين سنة و ذكره عدي بن زيد في شعره و ملك بعده إبنه المنذر و هو الذي سعى لبهرام جور في الملك حتى تم له و ملك أربعا و أربعين سنة و ملك بعده ابنه الأسود ثم أخوه المنذر بن المنذر ثم النعمان بن الأسود و غضب عليه كسرى و ولى مكانه الذميل بن لخم من غير بيت الملك ثم عاد الملك إليهم فولي امرؤ القيس بن النعمان الأكبر و هو ابن الشقيقة و هو الذي غزا بكر بن وائل و ملك بعده إبنه المنذر بن ماء السماء و هي أمه أخت كليب سيد وائل و طالبه قباذ بإتباع مزدك على الزندقة فأبى و ولى مكانه الحرث بن عمرو ابن حجر الكندي ثم رده أنوشروان إلى ملك الحيرة و قتله الحرث الأعراج الغساني يوم حليمة كما يأتي و ملك بعده ابنه عمرو بن هند و هي مامة عمة امرئ القيس بن حجر المعروف بمضرط الحجارة لشدة بأسه و هو محرق الثاني حرق بني دارم من
تميم لأنهم قتلوا أخاه و حلف ليحرقن منهم مائة فحرقهم و ملك ستة عشرة سنة أيام أنوشروان فتك به في رواق بين الحيرة و الفرات عمرو بن كلثوم سيد تغلب و نهبوا حياءه و ملك بعده أخوه قابوس بن هند و كان أعرج و قتله بعض بني يشكر فولى أنوشروان على الحيرة بعض مرازبة الفرس فلم تستقم له طاعة العرب فولى عليهم المنذر بن المنذر بن ماء السماء فخرج إلى جهة الشام طالبا ثأر أبيه من الحرث الأعرج الغساني فقتله الحرث أيضا يوم أباغ و ملك بعده ابنه النعمان بن المنذر و كان ذميما أشقر أبرش و هو أشهر ملوك الحيرة و عليه كثرت وفود العرب و طلبه بثأر أبيه و حرد من بني جفنة حتى أسر خلقا كثيرا من أشرافهم و حمله عدي بن زيد على أن تنصر و ترك دين آبائه و حبس عديا فشفع كسرى فيه بسعاية أخ له كان عنده فقتله النعمان في محبسه ثم نشا ابنه زيد بن عدي و صار ترجمانا لكسرى فأغراه بالنعمان و حضر مع كسرى أبروبز في وقعة بين الفرس و الروم و انهزمت الفرس و نجا النعمان على فرسه التخوم بعد أن طلبه منه كسرى ينجو عليه فأعرض عنه و نزل له إياس بن قبيصة الطائي عن فرسه فنجا عليه و وفد عليه النعمان بعد ذلك فقتله و ولى على الحيرة إياس بن قبيصة فلم تستقم له طاعة العرب و غضبوا لقتل النعمان و كان لهم على الفرس يوم ذي قار سنة ثلاث من البعثة و مات إياس و صارت الفرس يولون على الحيرة منهم إلى أن ملكها المسلمون
و ذكر البيهقي : أن دين بني نصر كان عبادة الأوثان و أول من تنصر منهم النعمان بن الشقيقة و قيل بل النعمان الأخير و ملكت العرب بتلك الجهات ابنه المنذر فقتله جيش أبي بكر رضي الله عنه و في تواريخ الأمم أن جميع ملوك الحيرة من بني نصر و غيرهم خمسة و عشرون ملكا في نحو ستمائة سنة و الله أعلم و هذا الترتيب مساو لترتيب الطبري و الجرجاني و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين (2/310)
ملوك كندة ـ الخبر عن ملوك كندة من هذه الطبقة و مبدأ أمرهم و تصاريف أحوالهم
قال الطبري عن هشام بن محمد الكلبي : كان يخدم ملوك حمير أبناء الأشراف من حمير و غيرهم و كان ممن يخدم حسان بن تبع عمرو بن حجر سيد كندة لوقته و أبوه حجر هو الذي تسميه العرب آكل المرار و هو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحرث الأصغر ابن معاوية بن الحرث الأكبر ابن معاوية بن كندة و كان أخا حسان بن تبع لأمه فلما دوخ حسان بلاد العرب و سار في الحجاز و هم بالانصراف ولى علىمعد بن عدنان كلها أخا حجر بن عمرو هذا و هو آكل المرار فدانوا له و سار فيهم أحسن سيرة ثم هلك و ملك من بعده ابنه عمرو المقصور
قال الطبري عن هشام : و لما سار حسان إلى جديس خلفه على بعض أمور ملكه في حمير فلما قتل حسان و ولي بعده أخوه عمرو بن تبع و كان ذا رأي و نبل فأراد أن يكرم عمرو بن حجر بما نقصه من ابن أخيه حسان فزوجه بنت أخيه حسان بن تبع و تكلمت حمير في ذلك و كان عندهم من الأحداث التي ابتلوا بها أن يتزوج في ذلك البيت أحد من العرب سواهم فولدت بنت حسان لعمرو بن حجر الحرث بن عمرو و ملك بعد عمرو بن تبع عبد كلال بن متون أصغر أولاد حسان و استهوت الجن منهم تبع بن حسان فولوا عبد كلال مخافة أن يطمع في ملكهم أحد من بيت الملك فولي عبد كلال لسرورحمة و كان على دين النصرانية الأولى و كان ذلك يسوء قومه و دعا إليه رجل من غسان قدم عليه من الشام و وثب حمير بالغساني فقتلوه ثم رجع تبع بن حسان من استهواء الجن وهو أعلم الناس بنجم و أعقل من يعلم في زمانه و أكثرهم حديثا عما كان و يكون فملك على حمير و هابته حمير و العرب و بعث بابن أخته الحرث بن عمرو بن حجر الكندي في جيش عظيم إلى بلاد معد و الحيرة و ما والاها فسار إلى النعمان بن امرئ القيس بن الشقيقة فقاتله فقتل النعمان و عدة من أهل بيته و هزم أصحابه و أفلت المنذر بن النعمان الأكبر و أمه ماء السماء امرأة من النمر بن قاسط و ذهب ملك آل النعمان و ملك الحرث بن عمرو و ما كانوا يملكون
و في كتاب الأغاني قال : لما ملك قباذ و كان ضعيف الملك توثبت العرب على المنذر الأكبر ابن ماء السماء و هو ذو القرنين ابن النعمان بن الشقيقة فأخرجوه و إنما سمي ذا القرنين لذؤابتين كانتا له فخرج هاربا منهم حتى مات في إياد و ترك ابنه المنذر الأصغر فيهم و كان أنكى ولده و جاءوا بالحرث بن عمروبن حجر آكل المرار فملكوه على بكر و حشدوا له و قاتلوا معه و ظهر على من قاتله من العرب و أبى قباذ أن يمد المنذر بجيش فلما رأى ذلك كتب إلى الحرث بن عمرو : إني في غير قومي و أنت أحق من ضمني و أنا متحول إليك فحوله و زوجه بنته هندا
و قال غير هشام بن محمد : أن الحرث بن عمرو لما ولي على العرب بعد أبيه اشتدت وطأته و عظم بأسه و نازع ملوك الحيرة و عليهم يومئذ المنذر بن امرئ القيس و بين لهم إذ ولي كسرى قباذ بعد أبيه فيروز بن يزدجرد و كان زنديقا على رأي ماني فدعا المنذر إلى رأيه فأبى عليه و أجابه الحرث بن عمرو فملكه على العرب و أنزله بالحيرة ثم هلك قباذ و ولي ابنه أنوشروان فرد ملك الحيرة إلى المنذر و صالحه الحرث على أن له ما وراء نهر السواد فاقتسما ملك العرب و فرق الحرث ولده في معد فملك حجرا على بني أسد و شرحبيل على بني سعد و الرباب و سلمة على بكر و تغلب و معد يكرب على قيس و كنانة و يقال : بل كان سلمة على حنظلة و تغلب و شرحبيل على سعد و الرباب و بكر و كان قيس بن الحرث سيارة أي قوم نزل بهم فهو ملكهم و في كتاب الأغاني إنه ملك ابنه شرحبيل على بكر بن وائل و حنظلة على بني أسد و طوائف من بني عمرو بن تميم و الرباب و غلفا و هو معد يكرب على قيس و سلمة بن الحرث على بني تغلب و النمر بن قاسط و النمر بن زيد مناة أه كلام الأغاني فأما شرحبيل : فإنه فسد ما بينه و بين أخيه سلمة و اقتتلوا بالكلاب ما بين البصرة و الكوفة على سبع من اليمامة و على تغلب السفاح و هو سلمة بن خالد بن كعب بن زهير بن تميم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب و سبق إلى الكلاب سفيان بن مجاشع بن دارم من أصحاب سلمة في تغلب مع إخوته لأمه ثم ورد سلمة و أصحابه فاقتتلوا عامة يومهم و خذلت بنو حنظلة و عمرو بن تميم و الرباب بكر بن وائل و انصرف بنو سعد و أتباعها عن تغلب و صبر بنو بكر و تغلب ليس معهم غيرهم إلى الليل و نادى منادي سلمة في ذلك اليوم من يقتل شرحبيل و لقاتله مائة من الإبل فقتل شرحبيل في ذلك اليوم قتله عصيم بن النعمان بن مالك بن غياث بن سعد بن زهير بن بكر بن حبيب التغلبي و بلغ الخبر إلى أخيه معد يكرب فاشتد جزعه و حزنه على أخيه وزاد ذلك حتى اعتراه منه وسواس هلك به و كان معتزلا عن الحرث و منع بنو سعد بن زيد مناة عيال شرحبيل و بعثوا بهم إلى قومهم فعل ذلك عوف بن شحنة بن الحرث بن عطارد بن عوف بن معد بن كعب و أما سلمة فإنه فلج فمات
و أما حجر بن الحرث : فلم يزل أميرا على بني أسد إلى أن بعث رسله في بعض الأيام لطلب الأتاوة من بني أسد فمنعوها و ضربوا الرسل و كان حجر بتهامة فبلغه الخبر فسار إليهم في ربيعة و قيس و كنانة فاستباحهم و قتل أشرافهم و سرواتهم و حبس عبيد ابن الأبرص في جمع منهم فاستعطفه بشعر بعث به إليه فسرحه و أصحابه و أوفدهم فلما بلغوا إليه هجموا عليه ببيته فقتلوه و تولى قتله علباء بن الحرث الكاهلي كان حجر قتل أباه و بلغ الخبر امرئ القيس فحلف أن لا يقرب لذة حتى يدرك بثأره من بني أسد و سار صريخا إلى بني بكر و تغلب فنصروه و أقبل بهم فأجفل بنو أسد و سار إلى المنذر بن امرئ القيس ملك الحيرة و أوقع امرؤ القيس في كنانة فأثخن فيهم ثم سار في اتباع بني أسد إلى أن أعيا و لم يظفر منهم بشيء و رجعت عنه بكر و تغلب فسار إلى مؤثر الخبر بن ذي جدن من ملوك حمير صريخا بنصره بخمسمائة رجل من حمير و بجمع من العرب سواهم و جمع المنذر لامرئ القيس و من معه و أمده كسرى أنوشروان بجيش من الأساورة و التقوا فانهزم امرؤ القيس و فرت حمير و من كان معه و نجا بدمه و ما زال يتنقل في القبائل و المنذر في طلبه و سار إلى قيصر صريخا فأمده ثم سعى به الطماح عند قيصر أنه يشبب ببنته فبعث إليه بحلة مسمومة كان فيها هلاكه و دفن بأنقرة
قال الجرجاني و لا يعلم لكندة بعد هؤلاء ملوك اجتمع لهم أمرها و أطيع فيها سوى أنهم قد كان لهم رياسة و نباهة و فيهم سؤدد حتى كانت العرب تسميهم كندة الملوك و كانت الرياسة يوم جبلة على العساكر لهم فكان حسان بن عمرو بن الجور على تميم و معاوية بن شرحبيل بن حصن على بني عامر و الجور هو معاوية بن حجر آكل المرار اخو الملك المقصور عمرو بن حجر و الله وارث الأرض و من عليها
و في كتاب الأغاني : أن امرئ القيس لما سار إلى الشام نزل على السموأل بن عاديا بالأبلق بعد إيقاعه ببني كنانة على أنهم بنو أسد و تفرق عنه أصحابه كراهية لفعله و احتاج إلى الهرب فطلبه المنذر بن ماء السماء و بعث في طلبه جموعا من إياد و بهرا و تنوخ و جيوشا من الأساورة أمده بهم أنوشروان و خذلته حمير و تفرقوا عنه فالتجأ إلى السموأل و معه أدراع خمسة مسماة كانت لبني آكل المرار يتوارثونها و معه بنته هند و ابن عمه يزيد بن الحرث بن معاوية بن الحرث و مال و سلاح كان بقي معه و الربيع بن ضبع بن نزارة و أشار عليه الربيع بمدح السموأل فمدحه و نزل به فضرب لابنته قبة و أنزل القوم في مجلس له براح فمكثوا ما شاء الله و سأله امرؤ القيس أن يكتب له إن الحرث بن أبي شمر يوصله إلى قيصر ففعل و استصحب رجلا يدله على الطريق و أودع ابنته و ماله و أدراعه السموأل و خلف ابن عمه يزيد بن الحرث مع ابنته هند و نزل الحرث بن ظالم غازيا على الأبلق و يقال الحرث بن أبي شمر و يقال ابن المنذر و بعث الحرث بن ظالم ابنه يتصيد و يهدده بقتله فأبى من إخفار ذمته و قتل ابنه فضرب به المثل في الوفاء بذلك
و أما نسب السموأل فقال ابن خليفة عن محمد بن سالم البيكندي عن الطوسي عن ابن حبيب : إنه السموأل بن عريض بن عاديا بن حيا و يقال إن الناس يدرجون عريضا في النسب و نسبه عمرو بن شبة و لم يذكر عريضا و قال عبد الله بن سعد عن دارم بن عقال : من ولد السموأل بن عاديا بن رفاعة بن ثعلبة بن كعب بن عمرو ابن عامر مزيقيا و هذا عندي مجال لأن الأعشى أدرك سريج بن السموأل و أدرك الإسلام و عمرو مزيقيا قديم لا يجوز أن يكون بينه و بين السموأل ثلاثة آباء و لا عشرة وقد قيل إن أمه من غسان و كلهم قالوا هو صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيما المشهور بالزباء و قيل من ولد الكوهن بن هارون و كان هذا الحصن لجده عاديا و احتفر فيه أروية عذبة و تنزل به العرب فتصيبها و تمتار من حصنه و تقيم هنالك سوقا أهـ كلام الأغاني
و قال ابن سعيد : كندة لقب لثور بن عفير بن الحرث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عبيد الله بن زيد بن كهلان و بلادهم في شرقي اليمن و مدينة ملكهم دمون و توالى الملك منهم في بني معاوية بن عنزة و كان التبابعة يصاهرونهم و يولونهم على بني معد ابن عدنان بالحجاز فأول من ولي منهم حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية الأكبر و ولاه تبع بن كرب الذي كسا الكعبة و ولي بعده ابنه عمرو بن حجر ثم ابنه الحرث المقصور و هو الذي أبى أن يتزنذق مع قباذ ملك الفرس فقتل في بني كلب و نهب ماله و كان قد ولى أولاده على بني معد فقتل أكثرهم و كان على بني أسد منهم حجر بن الحرث فجار عليهم فقتلوه و تجرد للطلب بثأره ابنه امرؤ القيس و سار إلى قيصر فأغراه به الطماح الأسدي و قال : إنه يتغزل ببنات فألبسه حلة مسموح تقطع بها
و قال صاحب التواريخ إن الملك انتقل بعدهم إلى بني جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين و اشتهر منهم قيس بن معد يكرب بن جبلة و منه الأعشى و ابنته العمردة من مردة الإنس و لها في قتال المسلمين أخبار في الردة و أسلم أخوها الأشعث ثم ارتد بعد الوفاة و اعتصم بالحبر ففتحه جيش أبي بكر رضي الله عنه و جيء به إليه أسيرا فمن عليه و زوجه أخته و خرج من نسله بنو الأشعث المذكورون في الدولة الأموية
و من بطون كندة السكون و السكاسك و للسكاسك مجالات شرقي اليمن متميزة و هم معروفون بالسحر و الكهانة و منهم تجيب بطن كبير كان منهم بالأندلس بنو صمادح و بنو ذي النون و بنو الأفطس من ملوك الطوائف و الله تعالى وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين لا رب غيره (2/327)
الخبر عن أبناء جفنة ملوك غسان بالشام من هذه الطبقة و أوليتهم و دولهم و كيف انساق الملك إليهم ممن قبلهم
أول ملك كان للعرب بالشام فيما علمناه للعمالقة ثم لبني إرم بن سام و يعرفون بالأرمانيين وقد ذكرنا خلاف الناس في العمالقة الذين كانوا بالشام هل هم من ولد عمليق بن لاوذ بن سام أو من ولد عماليق بن أليفاز بن عيصو و أن المشهور و المتعارف أنهم من عمليق بن لاوذ و كان بنو إرم يومئذ بادية في نواحي الشام و العراق وقد ذكروا في التوارة و كان لهم مع ملوك الطوائف حروب كما تقدمت الإشارة إلى ذلك كله من قبل و كان آخر هؤلاء العمالقة ملك السميدع بن هوثر و هو الذي قتله يوشع بن نون حين تغلب بنو إسرائيل على الشام و بقي في عقبه ملك في بني الظرب بن حسان من بني عاملة العماليق و كان آخرهم ملكا الزبا بنت عمرو بن السميدع و كانت قضاعة مجاورين لهم في ديارهم بالجزيرة و غلبوا العمالقة لما فشل ريحهم فلما هلكت الزبا و انقرض أمر بني الظرب بن حسان ملك أمر العرب تنوخ من بطون قضاعة و هم تنوخ بن مالك بن فهم بن تيم الله بن الأسود بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وقد تقدم ذكر نزولهم بالحيرة و الأنبار و مجاورتهم للأرمانيين فملك من تنوخ ثلاثة ملوك فيما ذكر المسعودي : النعمان بن عمرو ثم ابنه عمرو بن النعمان ثم أخوه الحوار بن عمرو و كانوا مملكين من قبل الروم ثم تلاشى أمر تنوخ و اضمحل و غلبت عليهم سليح من بطون قضاعة ثم الضجاعم منهم من ولد ضجعم بن سعد بن سليح و اسمه عمرو بن حولان بن عمران بن الحاف فتنصروا و ملكتهم الروم على العرب و أقاموا على ذلك مدة و كان نزولهم ببلاد مؤاب من أرض البلقاء و يقال : إن الذي ولى سليح على نواحي الشام هو قيصر طيطش بن قيصر ماهان
قال ابن سعيد : كان لبني سليح دولتان في بني ضجعم و بني العبيد فأما بنو ضجعم فملكوا إلى أن جاءهم غسان فسلبوهم ملكهم و كان آخرهم زياد بن الهبولة سار بمن أبقى السيف منهم إلى الحجاز فقتله والي الحجاز للتبابعة حجر آكل المرار قال : و من النسابين من يطلق تنوخ على بني ضجعم و دوس الذين تنخوا بالبحرين أي أقاموا ثم سار الضجاعم إلى برية الشام و دوس إلى برية العراق قال : و أما بنو العبيد بن الأبرص بن عمرو بن أشجع بن سليح فتوارثوا الملك بالحضر الذي آثاره باقية في برية سنجار و المشهور منهم الضيزن بن معاوية بن العبيد المعروف عند الجرامقة بالساطرون و قصته مع سابور معروفة أهـ كلام ابن سعيد ثم استحالت صبغة الرياسة عن العرب لحمير و صارت إلى كهلان إلى بلاد الحجاز و لما فصلت الأزد من اليمن كان نزولهم ببلاد عك ما بين زبيد و زمع فحاربوهم و قتلوا ملك عك قتله ثعلبة بن عمرو مزيقيا قال بعض أهل اليمن عك بن عدنان بن عبد الله بن أدد قال الدارقطني : عك بن عبد الله بن عدثان بالثاء المثلثة و ضم العين و لا خلاف أنه بنونين كما يختلف في دوس بن عدثان قبيلة من الأزد أنه بالثاء المثلثة ثم نزلوا بالظهران و قاتلوا جرهم بمكة ثم افترقوا في البلاد فنزل بنو نصر بن أزد الشراة و عمان و نزل بنو ثعلبة بن عمرو مزيقيا بيثرب و أقام بنو حارثة بن عمر و بمر الظهران بمكة و هم يقال لهم خزاعة
و قال المسعودي : سار عمرو مزيقيا حتى إذا كان الشراة بمكة أقام هنالك بنو نصر بن الأزد و عمران الكاهن و عدي بن حارثة بن عمرو بالأزد حتى نزلوا بين بلاد الأشعريين و عك على ماء يقال له غسان بين واديين يقال لهما زبيد و زمع فشربوا من ذلك الماء فسموا غسان و كانت بينهم و بين معد حروب إلى أن ظفرت بهم معد فأخرجوهم إلى الشراة و هو جبل الأزد الذين هم به على تخوم الشام ما بينه و بين الجبال مما يلي أعمال دمشق و الأردن
قال ابن الكلبي : و لد عمرو بن عامر مزيقيا جفنة و منه الملوك و الحرث و هو محرق أول من عاقب بالنار و ثعلبة و هو العنقا و حارثة و أبا حارثة و مالكا و كعبا و وداعة و هو في همدان و عوفا و دهل وائل و دفع ذهل إلى نجران و منه أسقف عبيدة و ذهلا و قيسا درج هؤلاء الثالثة و عمران بن عمرو فلم يشرب أبو حارثة و لا عمران و لا وائل ماء غسان فليس يقال لهم غسان و بقي من أولاد مزيقيا ستة شربوا منه فهم غسان و هم : جفنة و حارثة و ثعلبة و مالك و كعب و عوف و يقال إن ثعلبة و عوفا لم يشربا منه و لما نزلت غسان الشام جاوروا الضجاعم و قومهم من سليح و رئيس غسان يومئذ ثعلبة بن عمرو بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد ورئيس الضجاعم يومئذ داود اللثق بن هبولة بن عمرو بن عوف بن ضجعم و كانت الضجاعم هؤلاء ملوكا على العرب عمالا للروم كما قلناه يجمعون ممن نزل بساحتهم لقيصر فغلبتهم غسان على ما بأيديهم من رياسة العرب لما كانت صبغة رياستهم الحميرية قد استحالت و عادت إلى كهلان و بطونها و عرفت الرياسة منها باليمن قبل فصولهم و ربما كانوا أولى عدة و قوة و إنما العزة للكاثر
و كانت غسان لأول نزولها بالشام طالبها ملوك الضجاعم بالأتاوة فمانعتهم غسان فاقتتلوا فكانت الدائرة على غسان و أقرت بالصغار و أدت الأتاوة حتى نشأ جذع بن عمرو بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن المجالد بن الحرث بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد و رجال سليح من ولد رئيسهم داود اللثق و هو سبطة بن المنذر داود و يقال بل قتله فالتقوا فغلبتهم غسان و أقادتهم و تفردوا بملك الشام و ذلك عند فساد كان بين الروم و فارس فخاف ملك الروم أن يعينوا عليه فارسا فكتب إليهم و استدناهم و رئيسهم يومئذ ثعلبة بن عمرو أخو جذع بن عمرو و كتبوا بينهم الكتاب على أنه إن دهمهم أمر من العرب أمدهم بأربعين ألفا من الروم و إن دهمه أمر أمدته غسان بعشرين ألفا و ثبت ملكهم على ذلك و توارثوه أول من ملك منهم ثعلبة بن عمرو فلم يزل ملكها إلى أن هلك و ولي مكانه منهم ثعلبة بن عمرو مزيقيا
قال الجرجاني : و بعد ثعلبة بن عمرو ابنه الحرث بن ثعلبة يقال إنه ابن مارية ثم بعده ابنه المنذر بن الحرث ثم ابنه النعمان بن المنذر بن الحرث ثم أبو بشر بن الحرث بن جبلة بن الحرث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة هكذا نسبه بعض النساب و الصحيح أنه ابن عوف بن الحرث بن عوف بن عمرو بن عدي بن عمرو بن مازن ثم الحرث الأعرج ابن أبي شمر ثم عمرو بن الحرث الأعرج ثم المنذر بن الحرث الأعرج ثم الأيهم بن جبلة بن الحرث بن جبلة بن الحرث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة ثم ابنه جبله
و قال المسعودي : أول من ملك منهم الحرث بن عمرو مزيقيا ثم بعده الحرث بن ثعلبة بن جفنة و هو ابن مارية ذان القرطين و بعده النعمان بن الحرث بن جفنة بن الحرث ثم أبو شمر بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن الحارث ثم ملك بعده أخوه المنذر بن الحارث ثم أخوه جبلة بن الحارث ثم بعده عوف بن أبي شمر ثم بعده الحارث بن أبي شمر و على عهده كانت البعثة و كتب له النبي صلى الله عليه و سلم فيمن كتب إليه من ملوك تهامة و الحجاز و اليمن و بعث إليه شجاع بن وهب الأسدي يدعوه إلى الإسلام و يرغبه في الدين كذا عند ابن إسحق و كان النعمان بن المنذر على عهد الحارث بن أبي شمر هذا و كانا يتنازعان في الرياسة و مذاهب المدح و كانت شعراء العرب تفد عليهما مثل الأعشى و حسان بن ثابت و غيرهما و من شعر حسان رضي الله عنه في مدح أبناء جفنة :
( لله در عصابة نادمتهم ... يوما بجلق في الزمان الأول )
( أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل )
( يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل )
ثم ملك بعد الحارث بن أبي شمرا ابنه النعمان ثم ملك بعده جبلة بن الأيهم بن جبلة و جبلة جده هو الذي ملك بعد أخويه شمر و المنذر
و قال ابن سعيد : أول من ملك من غسان بالشام و أذهب ملك الضجاعم جفنة بن مزيقيا و نقل عن صاحب تواريخ الأمم : و لما ملك جفنة بنى جلق و هي دمشق و ملك خمسا و أربعين سنة و اتصل الملك في بنيه إلى أن كان منهم الحارث الأعرج ابن أبي شمر و أمه مارية ذات القرطين من بني جفنة بنت الهانيء المذكورة في شعر حسان بأرض البلقاء و معان قال ابن قتيبة : و هو الذي سار إليه المنذر بن ماء السماء من ملوك الحيرة في مائة ألف فبعث إليه الحارث مائة من قبائل العرب فيهم لبيد الشاعر و هو غلام فأظهروا أنهم رسل في الصلح حتى إذا أحاطوا برواق المنذر فتكوا به و قتلوا جميع من كان معه في الروق و ركبوا خيولهم فمنهم من نجا و منهم من قتل و حملت غسان على عسكر المنذر وقد اختطوا فهزموهم و كانت حليمة بنت الحارث تحرض الناس و هم منهزمون على القتال فسمي يوم حليمة و يقال إن النجوم ظهرت فيه بالنهار من كثرة العجاج ثم توالى الملك في ولد الحارث الأعرج إلى أن ملك منهم جفنة بن المنذر بن الحارث الأعرج و هو محرق لأنه حرق الحيرة دار ملك آل النعمان و كان جوالا في الآفاق و ملك ثلاثين سنة ثم كان ثالثه في الملك النعمان بن عمرو بن المنذر الذي بنى قصر السويدا و قصر حارث عند صيدا و هو مذكور في شعر النابغة و لم يكن أبوه ملكا و إنما كان يغزو بالجيوش ثم ملك جبلة بن النعمان و كان منزله بصفين و هو صاحب عين أباغ يوم كانت له الهزيمة فيه على المنذر بن المنذر ابن ماء السماء و قتل المنذر في ذلك اليوم ثم اتصل الملك في تسعة منهم بعده و كان العاشر أبو كرب النعمان بن الحارث الذي رثاه النابغة و كان منزله بالجولان من جهة دمشق ثم ملك الأيهم بم جبلة بن الحارث و كان له رأي في الإفساد بين القبائل حتى أفنى بعضهم فعل ذلك ببني جسر و عاملة و غيرهم و كان منزله بتدمر و ملك بعده منهم خمسة فكان السادس منهم ابنه جبلة بن الأيهم و هو آخر ملوكهم أهـ كلام ابن سعيد
و استفحل ملك جبلة هذا و جاء الله بالإسلام و هو على ملكه و لما افتتح المسلمون الشام أسلم جبلة و هاجر إلى المدينة و استشرف أهل المدينة لمقدمه حتى تطاول النساء من خدورهن لرؤيته لكرم وفادته و أحسن عمر رضي الله عنه نزله و أكرم وفادته و أجله بأرفع رتب المهاجرين ثم غلب عليه الشقاء و لطم رجلا من المسلمين من فزارة وطيء فضل إزاره و هو يسحبه في الأرض و نابذه إلى عمر رضي الله عنه في القصاص فأخذته العزة بالإثم فقال له عمر رضي الله عنه : لا بد أن أقيده منك فقال له : إذن أرجع عن دينكم هذا الذي يقاد فيه للسوقة من الملوك فقال له عمر رضي الله عنه : إذن أضرب عنقك فقال أمهلني الليلة حتى أرى رأيي و احتمل رواحله و أسرى فتجاوز الدروب إلى قيصر و لم يزل بالقسطنطينية حتى مات سنة عشرين من الهجرة و فيما تذكره الثقات أنه ندم و لم يزل باكيا على فعلته تلك و كان فيما يقال يبعث بالجوائز إلى حسان بن ثابت لما كان منه في مدح قومه و مدحه في الجاهلية و عند ابن هشام أن شجاع بن وهب إنما بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى جبلة
قال المسعودي : جميع ملوك غسان بالشام أحد عشر ملكا و قال : إن النعمان و المنذر إخوة جبلة و أبي شمر و كلهم بنو الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة ملكوا كلهم قال : وقد ملك الروم على الشام من غير آل جفنة مثل : الحارث الأعرج و هو أبو شمر بن عمر بن الحارث بن عوف و عوف هذا جد ثعلبة بن عامر قاتل داود اللثق و ملكوا عليهم أيضا أبا جبيلة بن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج بن ثعلبة بن مزيقيا و هو أبو جبيلة الذي استصرخه مالك بن العجلان على يهود يثرب حسبما نذكر بعد
و قال ابن سعيد عن صاحب تواريخ الأمم : إن جميع ملوك بني جفنة اثنان و ثلاثون و مدتهم ستمائة سنة و لم يبق لغسان بالشام قائمة و ورث أرضهم بها قبيلة طيء قال ابن سعيد : أمراؤهم بنو مرا و أما الآن فأمراؤهم بنو مهنا و هما معا لربيعة بن علي ابن مفرج بن بدر بن سالم بن علي بن سالم بن قصة بن بدر بن سميع و قامت غسان بعد منصرفها من الشام بأرض القسطنطينية حتىانقرض ملك القياصرة فتجهزوا إلى جبل شركس و هو ما بين بحر طبرستان و بحر نيطش الذي يمده خليج القسطنطينية و في هذا الجبل باب الأبواب و فيه من شعوب الترك المنتصرة الشركس و أركس و اللاص و كسا و معهم أخلاط من الفرس و يونان و الشركس غالبون على جميعهم فانحازت قبائل غسان إلى هذا الجبل عند انقراض القياصرة و الروم و تحالفوا معهم و اختلطوا بهم و دخلت أنساب بعضهم في بعض حتى ليزعم كثير من الشركس أنهم من نسب غسان و الله حكمة بالغة في خلقه و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين لا انقضاء لملكه و لا رب غيره (2/333)
الخبر عن الأوس و الخزرج أبناء قيلة من هذه الطبقة ملوك يثرب دار الهجرة ذكر أوليتهم و الإلمام بشأن نصرتهم و كيف انقراض أمرهم
قد ذكرنا فيما تقدم شأن يثرب و أنها من بناء يثرب بن فانية بن مهلهل بن إرم بن عبيل ابن عوص و عبيل أخو عاد و فيما ذكر السهيلي : أن يثرب بن قائد بن عبيل بن مهلاييل بن عوص بن عمليق بن لاوذ بن إرم و هذا أصح و أوجه وقد ذكرنا كيف صار أمر هؤلاء لإخوانهم جاسم من الأمم العمالقة و أن ملكهم كان يسمى الأرقم و كيف تغلب بنو إسرائيل عليه و قتلوه و ملكوا الحجاز دونه كله من أيدي العمالقة و يظهر من ذلك أن الحجاز لعهدهم كان آهلا بالعمران و جميع مياهه يشهد بذلك أن داود عليه السلام لما خلع بنو إسرائيل طاعته و خرجوا عليه بابنه أشبوشت فر مع سبط يهوذا إلى خيبر و ملك ابنه الشام و أقام هو و سبط و يهوذا بخيبر سبع سنين في ملكه حتى قتل ابنه و عاد إلى الشام فيظهر من أن عمرانه كان متصلا بيثرب و يجاوزها إلى خيبر وقد ذكرنا هنالك كيف أقام من بني إسرائيل من أقام بالحجاز و كيف تبعتهم يهود خيبر و بنو قريظة
قال المسعودي : و كانت الحجاز إذ ذاك أشجر بلاد الله و أكثرها ماء فنزلوا بلاد يثرب و اتخذوا بها الأموال و بنو الآطام و المنازل في كل موطن و ملكوا أمر أنفسهم و انضافت إليهم قبائل من العرب نزلوا معهم و اتخذوا الأطم و البيوت و أمرهم راجع إلى ملوك المقدس من عقب سليمان عليه السلام قال الشاعر بني نعيف :
( و لو نطقت يوما قباء لخبرت ... بأنا نزلنا قبل عاد و تبع )
( و آطامنا عادية مشمخرة ... تلوح فتنعى من يعادي و يمنع )
فلما خرج مزيقيا من اليمن و ملك غسان بالشام ثم هلك و ملك ابنه ثعلبة العنقاء ثم هلك ثعلبة العنقاء و ولي أمرهم بعد ثعلبة عمرو ابن أخيه جفنة سخط مكانه ابنه حارثة فأجمع الرحلة إلى يثرب و أقام بنو جفنة بن عمرو و من انضاف إليهم بالشام و نزل حارثة يثرب على يهود خيبر و سألهم الحلف و الجوار على الأمان و المنعة فأعطوه من ذلك ما سأل قال ابن سعيد : و ملك اليمن يومئذ شريب بن كعب فكانوا بادية لهم إلى أن انعكس الأمر بالكثرة و الغلبة
و من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني قال : بنو قريظة و بنو النضير الكاهنان من ولد الكوهن بن هرون عليه السلام كانوا بنواحي يثرب بعد موسى عليه السلام و قبل تفرق الأزد من اليمن بسيل العرم و نزول الأوس و الخزرج يثرب و ذلك بعد الفجار
و نقل ذلك عن علي بن سليمان الأخفش بسنده إلى العماري قال : ساكنوا المدينة العماليق و كانوا أهل عدوان و بغي و تفرقوا في البلاد و كان بالمدينة منهم بنو نعيف و بنو سعد و بنو الأزرق و بنو نظرون و ملك الحجاز منهم الأرقم ما بين تيما إلى فدك و كانوا ملوك المدينة و لهم بها نخل و زرع و كان موسى عليه السلام قد بعث الجنود إلى الجبابرة يغزونهم و بعث إلى العمالقة جيشا من بني إسرائيل و أمرهم أن لا يستبقوا أحدا فأبقوا إبنا للأرقم ضنوا به على القتل فلما رجعوا بعد وفاة موسى عليه السلام و أخبروا بني إسرائيل بشأنه فقالوا هذه معصية لا تدخلوا علينا الشام فرجعوا إلى بلاد العمالقة و نزلوا المدينة و كان هذا أولية سكنى اليهود بيثرب و انتشروا في نواحيها و اتخذوا بها الآطام و الأموال و المزارع و لبثوا زمانا و ظهر الروم على بني إسرائيل بالشام و قتلوهم و سبوا فخرج بنو النضير و بنو قريظة و بنو يهدل هاربين إلى الحجاز و تبعهم الروم فهلكوا عطشا في المفازة بين الشام و الحجاز و سمي الموضع تمر الروم و لما قدم هؤلاء الثلاثة المدينة نزلوا العلية فوجدوها وابية و ارتادوا و نزل بنو النضير مما يلي البهجان و بنو قريظة و بنو بهدل على نهروز و كان ممن سكن المدينة من اليهود حين نزلها الأوس و الخزرج بنو الشقمة و بنو ثعلبة و بنو زرعة و بنو قبنقاع و بنو يزيد و بنو النضير و بنو قريظة و بنو يهدل و بنو عوف و بنو عصص و كان بنو يزيد من بلي و بنو نعيف من بلي و بنو الشقمة من غسان و كان يقال لبني قريظة و بني النضير الكاهنان كما مر فلما كان سيل العرم و خرجت الأزد نزلت أزدشنوءة الشام بالسراة و خزاعة بطوي و نزلت غسان بصرى و أرض الشام و نزلت أزد عمان الطائف و نزلت الأوس و الخزرج يثرب نزلوا في ضرار بعضهم بالضاحية و بعضهم بالقرى مع أهلها و لم يكونوا أهل نعم و شاء لأن المدينة كانت ليست بلاد مرعى و لا نخل لهم و لا زرع إلا الأعذاق اليسيرة و المزرعة يستخرجها من الموات و الأموال لليهود فلبثوا حينا ثم وفد مالك بن عجلان إلى أبي جبيلة الغساني و هو يومئذ ملك غسان فسأله فأخبره عن ضيق معاشهم فقال : ما بالكم لم تغلبوهم حين غلبنا أهل بلدنا ؟ و وعده أنه يسير إليهم فينصرهم فرجع مالك و أخبرهم أن الملك آبا جبيلة يزورهم فأعدوا له نزلا فأقبل و نزل بذي حرض و بعث إلى الأوس و الخزرج بقدومه و خشي أن يتحصن منه اليهود في الآطام فاتخذ حائرا و بعث إليهم فجاؤه في خواصهم و حشمهم و أذن لهم في دخول الحائر و أمر جنوده فقتلوهم رجلا رجلا إلى أن أتوا عليهم و قال للأوس و الخزرج : إن لم تغلبوا على البلاد بعد قتل هؤلاء فلأحرقنكم و رجع إلى الشام فأقاموا في عداوة مع اليهود ثم أجمع مالك بن العجلان و صنع لهم طعاما و دعاهم فامتنعوا لغدرة أبي جبيلة فاعتذر لهم مالك عنها و أنه لا يقصد نحو ذلك فأجابوه و جاءوا إليه فغدرهم و قتل منهم سبعة و ثمانين من رؤسائهم و فطن الباقون فرجعوا و صورت اليهود بالحجاز مالك بن العجلان في كنائسهم و بيعهم و كانوا يلعنونه كلما دخلوا و لما قتلهم مالك ذلوا و خافوا و تركوا مشي بعضهم إلى بعض في الفتنة كما كانوا يفعلون من قبل و كان كل قوم من اليهود قد لجأوا إلى بطن من الأوس و الخزرج يستنصرون بهم و يكونون لهم أحلافا اهـ كلام الأغاني
و كان الحارثة بن ثعلبة ولدان أحدهما أوس و الآخر خزرج و أمهما قيلة بنت الأرقم بن عمرو بن جفنة و قيل بنت كاهن بن عذرة من قضاعة فأقاموا كذلك زمانا حتى أثروا و امتنعوا في جانبهم و كثر نسلهم و شعوبهم فكان بنو الأوس كلهم لمالك بن الأوس منهم خطمة بن جشم بن مالك و ثعلبة و لوذان و عوف كلهم بنو عمرو بن عوف بن مالك و من بني عوف بن عمرو حنش و مالك و كلفة كلهم بنو عوف و من مالك بن عوف معاوية و زيد فمن زيد عبيد و ضبيعة و أمية و من كلفة بن عوف جحجبا بن كلفة و من مالك بن الأوس أيضا الحارث و كعب ابنا الخزرج بن عمرو ابن مالك فمن كعب بنو ظفر و من الحارث بن الخزرج حارثة و جشم و من جشم بنو عبد الأشهل و من مالك بن الأوس أيضا بنو سعد و بنو عامر ابنا مرة بن مالك فبنوا سعد الجعادرة و من بني عامر عطية و أمية و وائل كلهم بنو زيد بن قيس بن عامر و من مالك بن الأوس أيضا أسلم و واقف بنو امرئ القيس بن مالك فهذه بطون الأوس
و أما الخزرج فخمسة بطون من كعب و عمرو و عوف و جشم و الحارث فمن كعب بن الخزرج بنو ساعدة بن كعب و من عمرو بن الخزرج بنو النجار و هم تيم الله بن ثعلبة بن عمرو و هم شعوب كثيرة : بنو مالك و بنو عدي و بنو مازن و بنو ديار كلهم بنو النجار و من مالك بن النجار مبدول و اسمه عامر و غانم و عمرو عدي معاوية و من عوف بن الخزرج بنو سالم و القوافل و هما عوف بن عمرو بن عوف و القوافل ثعلبة و مرضخة بنو قوقل بن عوف و من سالم بن عوف بنو العجلان بن زيد بن عصم بن سالم و بنو سالم بن عوف و من جشم بن الخزرج بنو غضب بن جشم و تزيد بن جشم فمن غضب بن جشم بنو بياضة و بنو زريق ابنا عامر بن زريق بن عبد حارثة بن مالك بن غضب و من تزيد بن جشم بنو سلمة بن سعد بن علي بن راشد بن ساردة بن تزيد و من الحارث بن الخزرج بنو خدرة و بنو حرام ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج فهذه بطون الخزرج
فلما انتشر بيثرب هذان الحيان من الأوس و الخزرج و كثروا يهود خافوهم على أنفسهم فنقضوا الحلف الذي عقدوه لهم و كان العزة يومئذ بيثرب لليهود قال قيس بن الحطيم :
( كنا إذا رابنا قوم بمظلمة ... شدت لنا الكاهنان الخيل و اعتزموا )
( بنو الرهون و واسونا بأنفسهم ... بنو الصريخ فقد عفوا وقد كرموا )
ثم نتج فيهم بعد حين مالك بن العجلان وقد ذكر نسب العجلان فعظم شأن مالك و سوده الحيان فلما نقض يهود الحلف واقعهم و أصاب منهم و لحق بأبي جبيلة ملك غسان بالشام و قيل بعث إليه الرنق بن زيد بن امرئ القيس فقدم عليه فأنشده :
( أقسمت أطعم من رزق قطرة ... حتى تكثر للنجاة رحيل )
( حتى ألاقي معشرا أنى لهم ... خل و مالهم لنا مبذول )
( أرض لنا تدعى قبائل سالم ... و يجيب فيها مالك و سلول )
( قوم أولو عز و عزة غيرهم ... إن الغريب و لو يعز ذليل )
فأعجبه و خرج في نصرتهم و أبو جبيلة هو ابن عبد الله بن حبيب بن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج كان حبيب بن عبد حارثة و أخو غانم إبنا الجشمي ساروا مع غسان إلى الشام و فارقوا الخزرج و لما خرج أبو جبيلة إلى يثرب لنصرة الأوس و الخزرج لقيه أبناء قيلة و أخبروه أن يهود علموا بقصده فتحصنوا في آطامهم فورى عن قصده باليمن خرجوا إليه فدعاهم إلى صنيع أعده لرؤسائهم ثم استلحمهم فعزت الأوس و الخزرج من يومئذ و تفرقوا في عالية يثرب و سافلتها يتبوءون منها حيث شاءوا و ملكت أمرها على يهود فذلت اليهود و قل عددهم و علت قدم أبناء قيلة عليهم فلم يكن لهم امتناع إلا بحصونهم و تفرقهم أحزابا على الحيين إذا اشتجرا
و في كتاب ابن إسحق : إن تبعا أبا كرب غزا المشرق فمر بالمدينة و خلف بين أظهرهم إبنا له فقتل غيلة فلما رجع أجمع على تخريبها و اسئصال أهلها فجمع له هذا الحي من الأنصار و رئيسهم عمرو بن ظلة و ظلة أمه و أبوه معاوية بن عمرو قال ابن اسحق : وقد كان رجل من بني عدي بن النجار و يقال له أحمر نزل بهم تبع و قال : إنما التمر لمن أبره فزاد ذلك تبعا حنقا عليهم فاقتتلوا و قال ابن قتيبة في هذه الحكاية إن الذي عدا على التبعي هو مالك بن العجلان و أنكره السهيلي وفرق بين القصتين بأن عمرو بن ظلة كان لعهد تبع و مالك بن العجلان لعهد أبي جبيلة و استبعد ما بين الزمانين و لم يزل هذان الحيان قد غلبوا اليهود على يثرب و كان الاعتزاز و المنعة تعرف لهم في ذلك و يدخل في حلفهم من جاورهم من قبائل مضر و كانت قد تكون بينهم في الحيين فتن و حروب و يستصرخ كل بمن دخل في حلفه من العرب و يهود
قال ابن سعيد : و رحل عمرو بن الإطنابة من الخزرج إلى النعمان بن المنذر ملك الحيرة فملكه على الحيرة و اتصلت الرياسة في الخزرج و الحرب بينهم و بين الأوس و من أشهر الوقائع التي كانت بينهم يوم بعاث قبل المبعث كان على الخزرج فيه عمرو بن النعمان بن صلاة بن عمرو بن أمية بن عامر بن بياضة و كان على الأوس يومئذ حضير الكتائب ابن سماك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل و كان حلفاء الخزرج يومئذ أشج من غطفان و جهينة من قضاعة و حلفاء الأوس مزينة من أحياء طلحة بن إياس و قريظة و النضير من يهود و كان الغلب صدر النهر للخزرج ثم نزل حضير و حلف لا أركب أو أقتل فتراجعت الأوس و حلفاؤها و انهزم الخزرج و قتل عمرو بن النعمان رئيسهم و كان آخر الأيام بينهم و صحبهم الإسلام وقد سئموا الحرب و كرهوا الفتنة فأجمعوا على أن يتوجوا عبد الله بن أبي بن سلول ثم اجتمع أهل العقبة منهم بالنبي صلى الله عليه و سلم بمكة و دعاهم إلى نصرة الإسلام فجاءوا إلى قومهم بالخبر كما نذكر و أجابوا و اجتمعوا على نصرته و رئيس الخزرج سعد بن عبادة و الأوس سعد بن معاذ قالت عائشة : كان يوم بعاث يوما قدمه الله لرسوله و لما بلغهم خبر مبعث النبي صلى الله عليه و سلم بمكة و ما جاء به من الدين و كيف أعرض قومه عنه و كذبوه و آذوه و كان بينهم و بين قريش إخاء قديم و صهر فبعث أبو قيس بن الأسلت من بني مرة بن مالك بن الأوس ثم من بني وائل منهم و اسمه صيفي بن عامر بن شحم بن وائل و كان يحبهم لمكان صهره فيهم فكتب إليهم قصيدة يعظم لهم فيها الحرمة و يذكر فضلهم و حلمهم و ينهاهم عن الحرب و يأمرهم بالكف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و يذكرهم بما رفع الله عنهم من أمر الفيل و أولها :
( أيا راكبا إما عرضت فبلغن ... مقالة أوسي لؤي بن غالب )
تناهز خمسا و ثلاثين بيتا ذكرها ابن إسحق في كتاب السير فكان ذلك أول ما ألقح بينهم من الخير و الإيمان
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم لما يئس من إسلام قومه يعرض نفسه على وفود العرب و حجاجهم أيام الموسم أن يقوموا بدين الإسلام و بنصره حتى بلغ ما جاء به من عند الله و قريش يصدونهم عنه و يرمونه بالجنون و الشعر و السحر كما نطق به القرآن و بينما هو في بعض المواسم عند العقبة لقي رهطا من الخزرج ست نفر اثنان من بني غانم بن مالك و هما : أسعد بن زرارة بن عدي بن عبيد الله بن ثعلبة بن غانم ابن عوف بن الحرث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غانم و هو ابن عفراء و من بني زريق بن عامر : رافع بن مالك بن العجلان بن عمرو بن عامر بن زريق و من بني غانم بن كعب بن سلمة بن سعد بن عبد الله بن عمرو بن الحرث بن ثعلبة بن الحرث ابن حرام بن كعب بن غانم كعب بن رئاب بن غانم و قطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو بن غانم بن سواد بن غانم و عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب ابن غانم فلما لقيهم قال لهم : من أنتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج ! قال : أمن موالي يهود ؟ قالوا : نعم ! فقال : ألا تجلسون أكلمكم ؟ فجلسوا معه فدعاهم إلى الله و عرض عليهم الإسلام و تلا عليهم القرآن فقال بعضهم لبعض : تعلموا و الله إنه النبي الذي تعدكم يهودية فلا يسبقنكم إليه فأجابوه فيما دعاهم و صدقوه و آمنوا به و أرجأوا الأمر في نصرته إلى لقاء قومهم و قدموا المدينة فذكروا لقومهم شأن النبي صلى الله عليه و سلم و دعوهم إلى الإسلام ففشا فيهم فلم تبق دار من دور الأنصار إلا و فيها ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم وافى الموسم في العام المقبل إثنا عشر منهم فوافوه بالعقبة و هي العقبة الأولى و هم : أسعد بن زرارة و عوف بن الحرث و أخوه معاذ ابنا عفراء و رافع بن مالك ابن العجلان و عقبة بن عامر من الستة الأولى و ستة آخرون منهم من بني غانم بن عوف من القواقل : منهم عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهر بن ثعلبة بن غانم و من بني زريق ذكوان بن عبد القيس بن خلدة بن مخلد بن عامر بن زريق و العباس بن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان هؤلاء التسعة من الخزرج و أبو عبد الرحمن بن زيد بن ثعلبة بن خزيمة بن أصرم بن عمرو بن عمارة من بني عصية من بلي إحدى بطون قضاعة حليف لهم و من الأوس رجلان الهيثم بن التيهان و اسمه مالك بن التيهان بن مالك بن عتيك بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهر و عويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف فبايعوه على الإسلام بيعة النساء و ذلك قبل أن يفترض الحرب و معناه أنه حينئذ لم يؤمر بالجهاد و كانت البيعة على الإسلام فقط كما وقع بيعة النساء على { أن لا يشركن بالله شيئا و لا يسرقن و لا يزنين و لا يقتلن أولادهن } الآية و قال لهم : فإن وفيتم فلكم الجنة و إن غشيتم من ذلك شيئا فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له و إن سترتم عليه في الدنيا إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذب و إن شاء غفر و بعث معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي يقريهم القرآن و يعلمهم الإسلام و يفقههم في الدين فكان يصلي بهم و كان منزله على أسعد بن زرارة
و غلب الإسلام في الخزرج و فشا فيهم و بلغ المسلمون من أهل يثرب أربعين رجلا فجمعوا ثم أسلم من الأوس بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل و ابن عمه أسيد بن حضير الكتائب و هما سيدا بني عبد الأشهل و أوعب الإسلام بني عبد الأشهل و أخذ من كل بطن من الأوس ما عدا بني أمية بن زيد و خطمة و وائل و واقف و هي أوس أمه من الأوس من بني حارثة و وقف بهم عن الإسلام أبو قيس بن الأسلت يرى رأيه حتى مضى صدر من الإسلام و لم يبق دار من دور أبناء قيلة و إلا فيها رجال و نساء مسلمون
ثم رجع مصعب إلى مكة و قدم المسلمون من أهل المدينة معه فواعدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم العقبة من أوسط أيام التشريق فبايعوه و كانوا ثلثمائة و سبعين رجلا و مرأتين بايعوه على الإسلام و أن يمنعوه ممن أراده بسوء و لو كان دون ذلك القتل و أخذ عليهم النقباء اثني عشر تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس و أسلم ليلتئذ عبد الله بن عمرو بن حرام و أبو جابر بن عبد الله و كان أول من بايع البراء بن معرور من بني تزيد بن جشم من الخزرج و صرخ الشيطان بمكانهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و تنطست قريش الخبر فوجدوه قد كان فخرجوا في طلب القوم و أدركوا سعد بن عبادة و أخذوه و ربطوه حتى أطلقه جبير بن مطعم بن عدي ابن نوفل و الحرث بن حرب بن أمية بن عبد شمس لجوار كان عليهما ببلده فلما قدم المسلمون المدينة أظهروا الإسلام ثم كانت بيعة الحرب حتى أذن الله لرسوله صلى الله عليه و سلم في القتال فبايعوه على السمع و الطاعة في العسر و اليسر و المنشط و المكره و أثرته عليهم و أن لا ينازعوا الأمر أهله و أن يقوموا بالحق أينما كانوا و لا يخافوا في الله لومة لائم و لما تمت بيعة العقبة و أذن الله لنبيه في الحرب أمر المهاجرين الذين كانوا يؤذنون بمكة أن يلحقوا بإخوانهم من الأنصار بالمدينة فخرجوا أرسالا و أقام هو بمكة ينتظر الإذن في الهجرة فهاجر من المسلمين كثير سماهم ابن إسحق و غيره
و كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيمن هاجر هو و أخوه زيد و طلحة بن عبيد الله و حمزة بن عبد المطلب و زيد بن حارثة و أنيسة و أبو كبشة موالي رسول الله صلى الله عليه و سلم و عبد الرحمن بن عوف و الزبير بن العوام و عثمان بن عفان رضي الله عنهم ثم أذن لرسول الله صلى الله عليه و سلم في الهجرة فهاجر و صحبه أبو بكر رضي الله عنه فقدم المدينة و نزل في الأوس على كلثوم بن مطعم بن امرئ القيس بن الحرث بن زيد بن عبيد بن مالك بن عوف و سيد الخزرج يومئذ عبد الله بن أبي ابن سلول و أبي هو ابن مالك بن الحرث بن عبيد و إسم أم عبيد سلول و عبيد هو ابن مالك بن سالم بن غانم بن عوف بن غانم بن مالك بن النجار وقد نظموا له الخرز ليملكوه على الحيين فغلب على أمره و اجتمعت أبناء قيلة كلهم على الإسلام فضغن لذلك لكنه أظهر أن يكون له اسم منه فأعطى الصفقة و طوى على النفاق كما يذكر بعد و سيد الأوس يومئذ أبو عامر بن عبد عمرو بن صيفي بن النعمان أحد بني ضبيعة بن زيد فخرج إلى مكة هاربا من الإسلام حين رأى اجتماع قومه إلى النبي صلى الله عليه و سلم بغضا في الدين و لما فتحت مكة فر إلى الطائف و لما فتح الطائف فر إلى الشام فمات هنالك
و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم على أبي أيوب الأنصاري حتى ابتنى مساكنه و مسجده ثم انتقل إلى بيته و تلاحق به المهاجرون و استوعب الإسلام سائر الأوس و الخزرج و سموا الأنصار يومئذ بما نصروا من دينه و خطبهم النبي صلى الله عليه و سلم و ذكرهم و كتب بين المهاجرين و الأنصار كتابا وادع فيه يهود و عاهدهم و أقرهم على دينهم و أموالهم و اشترط عليهم شرط لهم كما يفيده كتاب ابن إسحق فلينظر هنالك ثم كانت الحرب بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين قومه فغزاهم و غزوه و كانت حروبهم سجالا ثم كان الظهور لرسول الله صلى الله عليه و سلم آخرا كما نذكر في سيرته صلى الله عليه و سلم و صبر الأنصار في المواطن كلها و استشهد من أشرافهم و رجالاتهم كثير هلكوا في سبيل الله و جهاد عدوه و نقض أثناء ذلك اليهود الذين بيثرب على المهاجر و الأنصار ما كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم ظاهروا عليه فأذن الله لنبيه صلى الله عليه و سلم فيهم و حاصرهم طائفة بعد أخرى و أما بنو قينقاع فإنهم تثاوروا مع المسلمين بسيوفهم و قتلوا مسلما و أما بنو النضير و قريظة فمنهم من قتله الله و أجلاه فأما بنو النضير فكان من شأنهم بعد أحد و بعد بئر معونة جاءهم رسول الله صلى الله عليه و سلم يستعينهم في دية العامريين اللذين قتلهما عمرو بن أمية من القرى و لم يكن علم بعقدهم مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حسبما نذكره فهموا بقتل رسول الله صلى الله عليه و سلم حين جاءهم لذلك خديعة منهم و مكرا فحاصرهم حتى نزلوا على الجلاء و أن يحملوا ما استقلت به الإبل من أموالهم إلا الحلقة و افترقوا في خبير و بني قريظة
و أما بنو قريظة فظاهروا قريشا في غزوة الخندق فلما فرج الله كما نذكره حاصرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم خمسا و عشرين ليلة حتى نزلوا على حكمه و كلمته و شفع الأوس فيهم و قالوا تهبهم لنا كما وهبت بني قينقاع للخزرج فرد حكمهم إلى سعد بن معاذ و كان جريحا في المسجد أثبت في غزوة الخندق فجاء [ و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : بم تحكم في هؤلاء بعد أن استحلف الأوس أنهم راضون بحكمه فقال : يا رسول الله تضرب الأعناق و تسبي الأموال و الذرية فقال حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ] فقتلوا عن آخرهم و هم ما بين الستمائة و التسعمائة
ثم خرج إلى خيبر بعد الحديبية سنة ست فحاصرهم و افتتحها عنوة و ضرب رقاب اليهود و سبى نساءهم و كان في السبي صفية بنت حيي بن أخطب و كان أبوها قتل مع بني قريظة و كانت تحت كنانة بن الربيع عبد بن أبي الحقيق و قتله محمد بن مسلمة غزاه من المدينة بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم في ستة نفر فبيته فلما افتتحت خيبر اصطفاها رسول الله صلى الله عليه و سلم لنفسه و قسم الغنائم في الناس من القمح و التمر و كان عدد السهام التي قسمت عليها أموال خيبر ألف سهم و ثمانمائة سهم برجالهم و خيلهم الرجال ألف و أربعمائة و الخيل مائتان و كانت أرضهم الشق و نطاة و الكتيبة فحصلت الكتيبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم و الخمس ففرقها على قرابته و نسائه و من وصلهم من المسلمين و أعمل أهل خيبر على المسافاة و لم يزالوا كذلك حتى
أجلاهم عمر رضي الله عنه
و لما فتح مكة سنة ثمان غزوة حنين على أثرها و قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم الغنائم فيمن كان يستألفه على الإسلام من قريش و سواهم وجد الأنصار في أنفسهم و قالوا : سيوفنا تقطر من دمائهم و غنائمنا تقسم فيهم مع أنهم كانوا ظنوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا فتح بلاده و جمع على الدين قومه إنه سيقيم بأرضه و له غنية عنهم و سمعوا ذلك من بعض المنافقين و [ بلغ ذلك كله رسول الله صلى الله عليه و سلم فجمعهم و قال : يامعشر الأنصار ما الذي بلغكم عني ؟ فصدقوه الحديث فقال : ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي و عالة فأغناكم الله و متفرقين فجمعكم الله ؟ فقالوا الله و رسوله آمن فقال : لو شئتم لقلتم جئتنا طريدا فآويناك و مكذبا فصدقناك و لكن و الله إني لأعطي رجالا استألفهم على الدين و غيرهم أحب إلي ألا ترضون أن ينقلب الناس بالشاء و البعير و تنقلبون برسول صلى الله عليه و سلم إلى رحالكم ؟ أما و الذي نفسي بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار الناس دثار و أنتم شعار و لو سلك الناس شعبا و سلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ففرحوا بذلك و رجعوا برسول صلى الله عليه و سلم إلى يثرب فلم يزل بين أظهرهم إلى أن قبضه الله إليه ]
و لما يوم وفاته صلى الله عليه و سلم اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة بن كعب و دعت الخزرج إلى بيعة سعد بن عبادة و قالوا لقريش : منا أمير و منكم أمير ضنا بالأمر أو بعضه فيهم لما كان من قيامهم بنصر رسول الله صلى الله عليه و سلم و امتنع المهاجرون و احتجوا عليهم بوصية رسول الله صلى الله عليه و سلم إياهم بالأنصار في الخطبة و لم يخطب بعدها قال : أوصيكم بالأنصار إنهم كرشي و عيبتي وقد قضوا الذي عليهم و بقي الذي لهم فأوصيكم بأن تحسنوا إلى محسنهم و تتجاوزوا عن مسيئهم فلو كانت الأمارة لكم لكانت و لم تكن الوصية بكم فحجوهم فقام بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد بن مالك بن الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحرث بن الخزرج فبايع لأبي بكر و اتبعه الناس فقال حباب بن المنذر بن الجموع بن حرام بن كعب بن غانم بن سلمة بن سعد يا بشير أنفست بها ابن عمك يعني الأمارة قال لا و الله و لكني كرهت أن أنازع الحق قوما جعله لهم فلما رأى الأوس ما صنع بشير بن سعد و كانوا لا يريدون الأمر للخزرج قاموا فبايعوا أبا بكر و وجد سعد فتخلف عن البيعة و لحق بالشام إلى أن هلك و قتله الجن فيما يزعمون و ينشدون من شعر الجن
( نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ... ضربناه بسهم فلم تخط فؤاده )
و كان لابنه قيس من بعده غناء في الأيام و أثرا في فتوحات الإسلام
و كان له انحياش إلى علي في حروبه مع معاوية و هو القائل لمعاوية بعد مهلك علي رضي الله عنه وقد عرض به معاوية في تشيعه فقال : و الآن ماذا يا معاوية ؟ و الله إن القلوب التي أبغضناك بها لفي صدورنا و عن السيوف التي قاتلناك بها لعلى عواتقنا و كان أجود العرب و أعظمهم جثمانا يقال : إنه كان إذا ركب تخط رجلاه الأرض
و لما ولي يزيد بن معاوية و ظهر من عسفه و جوره و إدالته الباطل من الحق ما هو معروف امتعضوا للدين و بايعوا لعبد الله بن الزبير حين خرجوا بمكة و اجتمعوا على حنظلة بن عبد الله الغسيل ابن أبي عامر بن عبد عمر و بن صيفي بن النعمان بن مالك ابن صيفي بن أمية بن ضبيعة بن زيد و عقد ابن الزبير لعبد الله بن مطيع بن إياس على المهاجرين معهم و سرح يزيد إليهم مسلم بن عقبة المري و هو عقبة بن رباح ابن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مرة بن عوف ابن سعد بن دينار بن بغيض بن ريث ابن غطفان فيمن فرض عليه من بعوث الشام و المهاجرين فالتقوا بالحرة حرة بني زهرة و كانت الدبرة على الأنصار و استلحمهم جنود يزيد و يقال إنه قتل في ذلك اليوم من المهاجرين و الأنصار سبعون بدريا و هلك عبد الله بن حنظلة يومئذ فيمن هلك و كانت إحدى الكبر التي أتاها يزيد
و استفحل ملك الإسلام من بعد ذلك و اتسعت دولة العرب و افترقت قبائل المهاجرين و الأنصار في قاصية الثغور بالعراق و الشام و الأندلس و أفريقية و المغرب حامية و مرابطين فافترق الحي أجمع من أبناء قيلة و افترقت و أقفرت منه يثرب و درسوا فيمن درس من الأمم و تلك أمة قد خلت لها ما كسبت و لكم ما كسبتم و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين لا خالق سواه و لا معبود إلا إياه و لا خير إلا خيره و لا رب غيره و هو نعم المولى و نعم النصير و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم و الحمد لله رب العالمين (2/342)
القسم الأول من الخبر عن بني عدنان و أنسابهم و شعوبهم و ما كان لهم من الدول و الملك في الإسلام و أولية ذلك و مصايره
قد تقدم لنا أن نسب عدنان إلى إسمعيل عليه السلام باتفاق من النسابين و أن الآباء بينه و بين إسمعيل غير معروفة و تنقلب في غالب الأمر مخلطة مختلفة بالقلة و الكثرة في العدد حسبما ذكرناه فأما نسبته إليه فصحيحة في الغلب و نسب النبي صلى الله عليه و سلم منها إلى عدنان صحيح باتفاق من النسابين و أما بين عدنان و إسمعيل فبين الناس فيه اختلاف كثير فقيل من ولد نابت بن إسمعيل و هو عدنان بن أدد المقدم ابن ناحور بن تنوخ بن يعرب بن يشجب بن نابت قاله البيهقي و قيل من ولد قيذار ابن إسمعيل و هو عدنان بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل ابن قيذار قاله الجرجاني علي بن عبد العزيز النسابة و قيل عدنان بن أدد بن يشجب ابن أيوب بن قيذار و يقال إن قصي بن كلاب كان يومي شعره بالانتساب إلى قيذار
و نقل القرطبي عن هشام بن محمد فيما بين عدنان و قيذار نحوا من أربعين أبا و قال سمعت رجلا من أهل تدمر من مسلمة يهود و ممن قرأ كتبهم يذكر نسب معد بن عدنان إلى إسمعيل من كتاب إرمياء النبي عليه السلام و هو يقرب من هذا النسب في العدد و الأسماء إلا قليلا و لعل الخلاف إنما جاء من قبل اللغة لأن الأسماء ترجمت من العبرانية و نقل القرطبي عن الزبير بن بكار بسنده إلى ابن شهاب فيما بين عدنان و قيذار قريبا من ذلك العدد و نقل عن بعض النسابين أنه حفظ لمعد بن عدنان أربعين أبا إلى إسمعيل و أنه قابل ذلك بما عند أهل الكتاب في نفسه فوجده موافقا و إنما خالف في بعض الأسماء قال : و استمليته فأملاه علي و نقله الطبري إلى آخره من النسابين من بعد بين عدنان و إسمعيل عشرين أو خمسة عشر ونحو ذلك و في الصحيح [ عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : معد بن عدنان بن أدد بن زيد بن برا بن أعراق الثراء ] قالت أم سلمة : و زيد هو الهميسع و برا هو نبت أو نابت و أعراق الثرى هو إسمعيل و قد تقدم هذا أول الكتاب و أن السهيلي رد تفسير أم سلمة و قال : ليس المراد بالحديث عد الآباء بين معد و إسمعيل و إنما معناه معنى قوله الحديث الآخر : أنتم بنو آدم و آدم من التراب و عضد ذلك باتفاق النسابين على بعد المدة بين عدنان و اسمعيل بحيث يستحيل في العادة أن يكون بينهما أربعة آباء أو خمسة أو عشرة إذ المدة أطول من هذا كله بكثير و كان لعدنان من الولد على ما قال الطبري ستة : الريب و هو عك و عرق و به سميت عرق اليمن و أدو أبي و الضحاك و عبق و أمهم مهدد قال هشام بن محمد هي من جديس و قيل من طسم و قيل من الطواسيم من نسل لفشان بن إبراهيم
قال الطبري : و لما قتل أهل حضورا شعيب بن مهدم نبيهم أوحى الله إلى إرميا و أبرخيا من أنبياء بني إسرائيل بأن يأمر بختنصر يغزو العرب و يعلماه أن الله سلطه عليهم و أن يحتملا معد بن عدنان إلى أرضهم و يستنقذاه من الهلكة لما أراده من شأن النبوة المحمدية في عقبه كما مر ذلك من قبل فحملاه على البراق ابن اثنتي عشرة سنة و خلصا به إلى حران فأقام عندهما و علماه علم كتابهما و سار بختنصر إلى العرب فلقيه عدنان فيمن اجتمع إليه من حضورا و غيرهم بذات عرق فهزمهم بختنصر و قتلهم أجمعين و رجع إلى بابل بالغنائم و السبي و ألقاها بالأنبار و مات عدنان عقب ذلك و بقيت بلاد العرب خرابا حقبا من الدهر حتى إذا هلك بختنصر خرج معد في أنبياء بني إسرائيل إلى مكة فحجوا و حج معهم و وجد أخويه و عمومته من بني عدنان قد لحقوا بطوائف اليمن و تزوجوا فيهم و تعطف عليهم أهل اليمن بولادة جرهم فرجعهم إلى بلادهم و سأل عمن بقي من أولاد الحرث بن مضاض الجرهمي فقيل له بقي جرهم بن جلهة فتزوج ابنته معانة و لدت له نزار بن معد
و أما مواطن بني عدنان هؤلاء فهي مختصة بنجد و كلها بادية رحالة إلا قريشا بمكة و نجد هو المرتفع من جانبي الحجاز و طوله مسيرة شهر من أول السروات التي تلي اليمن إلى آخرها المطلة على أرض الشام مع طول تهامة و أوله في أرض الحجاز من جهة العراق العذيب مما يلي الكوفة و هو ماء لبني تميم و إذا دخلت في أرض الحجاز فقد أنجدت و أوله من جهة تهامة الحجاز حضن و لذلك يقال أنجد من رأى حضنا و قال السهيلي : و هو جبل متصل بجبل الطائف الذي هو أعلى نجد تبيض فيه النسور قال : و سكانه بنو جبل جشم بن بكر و هو أول حدود نجد و أرض تهامة من الحجاز في قرب نجد مما يلي بحر القلزم في سمت مكة و المدينة و تيما و أيلة و في شرقها بينها و بين جبل نجد غير بعيد منها العوالي و هي ما ارتفع عن هذه الأرض ثم تعلو عن السروات ثم ترتفع إلى نجد و هي أعلاها و العوالي و السروات بلاد تفصل بين تهامة و نجد متصلة من اليمن إلى الشام كسروات الخيل تخرج من نجد منفصلة من تهامة داخلة في بلاد أهل الوبر و في شرقي هذا الجبل برية نجد ما بينه و بين العراق متصلة باليمامة و عمان و البحرين إلى البصرة و في هذه البرية مشاتي للعرب تشتو بها منهم خلق أحياء لا يحصيهم إلا خالقهم
قال السهيلي : و اختص بنجد من العرب بنو عدنان لم تزاحمهم فيه قحطان إلا طيء من كهلان فيما بين الجبلين سلمى و أجأ و افترق أيضا من عدنان في تهامة و الحجاز ثم في العراق و الجزيرة ثم افترقوا بعد الإسلام على الأوطان و أما شعوبهم فمن عدنان عك و معد فمواطن عك في نواحي زبيد و يقال عك بن الديث بالدال غير منقوطة و الثاء مثلثة ابن عدنان و يقال أن عكا هذا هو ابن عدنان بالثاء المثلثة ابن عبد الله من بطون الأزد و من عك بن عدثان بنو عايق بن الشاهد بن علقمة بن عك بطن متسع كان منهم في الإسلام رؤساء و أمراء
و أما معد البطن و منه تناسل عقب عدنان كلهم و هو الذي تقدم الخبر عنه بأن إرمياء النبي من بني إسرائيل أوحى الله إليه أن يأمر بختنصر بالانتقام من العرب و أن يحمل معدا على البراق أن تصيبه النقمة لأنه مستخرج من صلبه نبيا كريما خاتما للرسل فكان كذلك و من ولده و يقال و قنص و أنمار فأما قنص فكانت له الأمارة بعد أبيه على العرب و أراد إخراج أخيه نزار من الحرم فأخرجوه أهل مكة و قدموا عليه نزارا و لما احتضر قسم ماله بين ولديه فجعل لربيعة الفرس و لمضر القبة الحمراء و لأنمار الحمار و لإياد عند من جعله من جعله من ولده الحلمة و العصا ثم تحاكموا في هذا الميراث إلى أفعى نجران في قصة معروفة ليست من غرض الكتاب
و أما إياد فتشعبوا بطونا كثيرة و تكاثر بنو إسمعيل و انفرد بنو مضر بن نزار برياسة الحرم و خرج بنو إياد إلى العراق و مضى أنمار إلى السروات بعد بنيه في اليمانية و هم : خثعم و بجيلة و نزلوا بأريافه و كان لهم في بلاد الأكاسرة آثار مشهورة إلى أن تابع لهم الأكاسرة الغزو و أبادوهم و أعظم ما باد منهم سابور ذو الأكتاف هو الذي استلحمهم و أفناهم
و أما نزار فمنه البطنان : العظيمان ربيعة و مضر و يقال : إن إيادا يرجعون إلى نزار و كذلك أنمار فأما ربيعة فديارهم ما بين الجزيرة و العراق و هم ضبيعة و أسد ابنا ربيعة و من أسد عنزة و جديلة ابنا أسد فعنزة بلادهم في عين التمر في برية العراق على ثلاثة مراحل من الأنبار ثم انتقلوا عنها إلى جهات خيبر فهم هنالك و ورثت بلادهم غزية من طيء الذين لهم الكثرة و الأمارة بالعراق لهذا العهد و من عنزة هؤلاء بأفريقية حي قليل مع رياح من بني هلال بن عامر و منهم أحياء مع طيء ينتجعون و يشتون في برية نجد
و أما جديلة فمنهم عبد القيس و هنب إبنا أفصى بن دعمي بن جديلة فأما عبد القيس و كانت مواطنهم بتهامة ثم خرجوا إلى البحرين و هي بلاد واسعة على بحر فارس من غربية و تتصل باليمامة من شرقيها و بالبصرة من شماليها و بعمان من جنوبها و تعرف ببلاد هجر و منها القطيف و هجر و العسير و جزيرة أوال و الأحسا و هجر هي باب اليمن من العراق و كانت أيام الأكاسرة من أعمال الفرس و ممالكهم و كان بها بشر كثير من بكر بن وائل و تميم في باديتها فلما نزل معهم بنو عبد القيس زاحموهم في ديارهم تلك و قاسموهم في المواطن و وفدوا على النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة و أسلموا و وفد منهم المنذر بن عائد بن المنذر بن الحارث بن النعمان بن زياد بن نصر ابن عمرو بن عوف بن جذيمة بن عوف بن أنمار بن وديعة بن بكر و ذكروا أنه سيدهم و قائدهم إلى الإسلام فكانت له صحبة و مكانه من النبي صلى الله عليه و سلم و وفد أيضا الجارود بن عمرو بن حنش بن المعلى بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة بن جذيمة و ثعلبة أخو عوف بن جذيمة وفد في عبد القيس سنة تسع مع المنذر بن ساوي من بني تميم و سيأتي ذكره و كان نصرانيا فأسلم و كانت له أيضا صحبة و مكانة و كان عبد القيس هؤلاء من أهل الردة بعد الوفاة و أمروا عليهم المنذر بن النعمان الذي قتل كسرى أباه فبعث إليهم أبو بكر العلا بن الحضرمي في فتح البحرين و قتل المنذر و لم تزل رياسة عبد القيس في بني الجارود أولا ثم في ابنه المنذر و ولاه عمر على البحرين ثم ولاه على إصطخر ثم عبد الله بن زياد ولاه على الهند ثم ابنه حكيم بن المنذر و تردد على ولاية البحرين قبل ولاية العراق
و أما هنب بن أفصى فمنهم النمر و وائل ابنا قاسط بن هنب فأما بنو النمر بن قاسط فبلادهم رأس العين و منه صهيب بن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل بن عامر بن جندلة بن جذيمة بن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس مناة بن النمر بن قاسط صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم المشهور و ينسب إلى الروم و كان سنان أبوه استعمله كسرى على الأبلة و كان لبني النمر بن قاسط شأن في الردة مذكور و منهم ابن القرية المشهور بالفصاحة أيام الحجاج و منصور بن النمر الشاعر مادح الرشيد و أما بنو وائل فبطن عظيم متسع أشهرهم بنو تغلب و بنو بكر بن وائل و هما اللذان كانت بينهما الحروب المشهورة التي طالت فيما يقال أربعين سنة فلبني تغلب شهرة و كثرة و كانت بلادهم بالجزيرة الفراتية بجهات سنجار و نصيبين و تعرف بديار ربيعة و كانت النصرانية غالبة عليهم لمجاورة الروم و من بني تغلب عمرو بن كلثوم الشاعر و هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غانم بن تغلب و أمه هند بنت مهلهل و من ولده مالك بن طوق بن مالك بن عتاب بن زافر بن شريح بن عبد الله بن عمرو بن كلثوم و إليه تنسب رحبة مالك بن طوق على الفرات و عاصم بن النعمان عم عمرو بن كلثوم هو الذي قتل شرحبيل بن الحرث الملك آكل المرار يوم الكلاب و من بني تغلب كليب و مهلهل إبنا ربيعة بن الحرث بن زهير بن جشم و كان كليب سيد بني تغلب و هو الذي قتله جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان و كان متزوجا بأخته فرعت ناقة البسوس في حم كليب فرماها بسهم فأثبتها و قتله جساس لأن البسوس كانت جارته فقام أخو كليب و هو مهلهل بن الحرث كمن برياسة تغلب و طلب بكر بن وائل بثأر كليب فاتصلت الحرب بينهم أربعين سنة و أخبارهم معروفة و طال عمر مهلهل و تغرب إلى اليمن فقتله عبدان له طريقه و بنو شعبة الذين بالطائف لهذا العهد من ولد شعبة بن مهلهل و من تغلب الوليد بن طريف بن عامر الخارجي و هو من بني صيفي بن حي بن عمرو بن بكر بن حبيب و هو الذي رثته أخته ليلى بقولها :
( أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف )
( فتى لا يريد العز إلا من التقى ... و لا المال إلا من قنا و سيوف )
( خفيف على ظهر الجواد إلى الوغى ... و ليس على أعدائه بخفيف )
( فلو كان هذا الموت يقبل فدية ... فديناه من ساداتنا بألوف )
و منهم بنو حمدان ملوك الموصل و الجزيرة أيام المتقي و من بعده من خلفاء العباسيين و سيأتي ذكرهم في أخبار بني العباس و هم بنو حمدان من بني عدي بن أسامة بن غانم بن تغلب كان منهم سيف الدولة الملك المشهور
و أما بكر بن وائل ففيهم الشهرة و العدد فمنهم يشكر بن بكر بن وائل و بنو عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل و منهم بنو حنيفة و بنو عجل ابني لجيم بن صعب ففي بني حنيفة بطون متعددة أكثرهم بنو الدول بن حنيفة فيهم البيت و العدد و مواطنهم باليمامة و هي من أوطان الحجاز كما هي نجران من اليمن و الشرقي منها يوالي البحرين و بني تميم و الغرب يوالي أطراف اليمن و الحجاز و الجنوب نجران و الشمالي أرض نجد و طول اليمامة عشرون مرحلة و هي على أربعة من مكة بلاد نخل و زلع و قاعدتها حجر بالفتح و بها بلد اسمه اليمامة و يسمى أيضا جو باسم الزرقا و كانت مقرا للملوك قبل بني حنيفة و اتخذ بنو حنيفة بعدها بلد حجر و بقي كذلك في الإسلام و كانت مواطن اليمامة لبني همدان بن يعفر بن السكسك بن وائل بن حمير غلبوا على من كان بها من طسم و جديس كان آخر ملوكهم بها فيما ذكره الطبري قرط ابن يعفر ثم هلك عليها بعده طسم و جديس و كانت منهم الزرقا أخت رياح بن مرة ابن طسم كما تقدم في أخبارهم ثم استولى على اليمامة آخرا بنو حنيفة و غلبوا عليها طسما و جديسا و كان ملكها منهم هوذة بن علي بن ثمامة بن عمرو بن عبد العزى بن شحيم بن مرة بن الدول بن حنيفة و توجه كسرى و ابن عمه عمرو بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن عبد العزى قاتل المنذر بن ماء السماء يوم عين أباغ و كان منهم ثمامة بن أثال بن النعمان بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة ملك اليمامة عند المبعث و ثبت عند الردة و منهم الخارجي نافع بن الأزرق بن قيس بن صبرة بن ذهل بن الدول بن حنيفة و إليه تنسب الأزارقة و منهم محلم بن سبيع بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن الدول بن حنيفة صاحب مسيلمة الكذاب هو من بني عدي بن حنيفة و هو مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحرث بن عبد الحرث بن عدي و أخبار مسيلمة في الردة معروفة و سيأتي الخبر عنها
و أما بنو عجل بن لجيم بن صعب و هم الذين هزموا الفرس بموتة يوم ذي قار كما مر فمنازلهم من اليمامة إلى البصرة و قد دثروا و خلفهم في اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل بن عامر و كان منهم بنو أبي دلف العجلي كانت لهم دولة بعراق العجم يأتي ذكرها
و أما عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل فمنه تيم الله و قيس ابنا ثعلبة بن عكابة و شيبان بن ذهل بن ثعلبة بطون ثلاثة عظيمة و أوسعها و أكثرها شعوبا بنو شيبان و كانت لهم كثرة في صدر الإسلام شرقي دجلة في جهات الموصل و أكثر أئمة الخوارج في ربيعة منهم و سيدهم في الجاهلية مرة بن ذهل بن شيبان كان له أولاد عشرة نسلوا عشرة قبائل أشهرهم : همام و جساس و سادهما بعد أبيه و قال ابن حزم : تفرع من همام ثمانية و عشرون بطنا و أما جساس فقتل كليبا زوج أخته و هو سيد تغلب حين قتل ناقة البسوس جارته و أقام ابن كليب عند بني شيبان إلى أن كبر و عقل أن جساس خاله هو الذي قتل أباه فقتله و رجع إلى تغلب فمن ولد جساس بنو الشيخ كانت لهم رياسة بآمد و انقطعت على يد المعتضد و من بني شيبان هانيء بن مسعود الذي منع حلقة النعمان من أبرويز لما كانت وديعة عنده و كان سبب ذلك يوم ذي قار و هو هانيء بن مسعود بن عامر بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان و منهم الضحاك بن قيس الخارجي الذي بويع أيام مروان بن محمد على مذهب الصفرية و ملك الكوفة و غيرها و بايعه بالخلافة جماعة من بني أمية منهم سليمان بن هشام بن عبد الملك و عبد الله بن عمر بن عبد العزيز و قتله آخرا مروان بن محمد و هو الضحاك بن قيس بن الحصين بن عبد الله بن ثعلبة بن زيد مناة بن أبي عمرو بن عوف بن ربيعة بن محلم بن ذهل بن شيبان و سيأتي الإلمام بخبره و منهم المثنى بن حارثة الذي فتح سواد العراق أيام أبي بكر و عمر و أخوه المعنى بن حارثة و منهم عمران بن حطان من أعلام الخوارج و هذا انقضاء الكلام في ربيعة بن نزار و الله المعين
و أما مضر بن نزار و كانوا أهل الكثرة و الغلب بالحجاز من سائر بني عدنان و كانت لهم رياسة بمكة فيجمعهم فخذان عظيمان و هما خندف و قيس لأنه كان له من الولد اثنان : إلياس و قيس عيلان عبد حضنه قيس فنسب إليه و قيل هوفرس و قد قيل إن عيلان هو ابن مضر و اسمه إلياس و إن له ابنين قيس و دهم و ليس ذلك بصحيح و كان لإلياس ثلاثة من الولد مدركة و طابخة و قمعة لامرأة من قضاعة تسمى خندف فانتسب بنو إلياس كلهم إليها و انقسمت مضر إلى خندف و قيس عيلان فأما قيس فتشعبت إلى ثلاث بطون من كعب و عمرو و سعد بنيه الثلاثة فمن عمرو بنو فهم و بنو عدوان ابني عمرو بن قيس و عدوان بطن متسع و كانت منازلهم الطائف من أرض نجد نزلها بعد إياد العمالقة ثم غلبتهم عليها ثقيف فخرجوا إلى تهامة و كان منهم عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان حكم العرب في الجاهلية و كان منهم أيضا أبو سيارة الذي يدفع بالناس في الموسم و عميلة محمد الأعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن رايش بن زيد بن عدوان و بأفريقية لهذا العهد منهم أحياء بادية بالقفر يظعنون مع بني سليم تارة و مع رياح بن هلال بن عامر أخرى
و من بني فهم بن عمرو فيما ذكر البيهقي بنو طرود بن فهم بطن متسع كانوا بأرض نجد و كان منهم الأعشى و ليس منهم الآن بها أحد و بأفريقية العهد حي يظعنون مع سليم ورياح و انقضى الكلام في بني عمرو بن قيس
و أما سعد بن قيس فمنهم غني و باهلة و غطفان و مرة فأما غني فهم بنو عمرو بن أعصر بن سعد و أما باهلة فمنهم بنو مالك بن أعصر بن سعد صاحب خراسان المشهور و منهم أيضا الأصمعي رواية العرب المشهور و هو عبد الملك بن علي بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن مطر بن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن عبد غانم بن قتيبة بن معن بن مالك
و أما بنو غطفان بن سعد : فبطن عظيم متسع كثير الشعوب و البطون و منازلهم بنجد ما يلي وادي القرى و جبلي طيء ثم افترقوا في الفتوحات الإسلامية و استولت عليها قبائل طيء و ليس منهم اليوم عمودة رجالة في قطر من الأقطار إلا ما كان لفزارة و رواحة في جوار هيب ببلاد برقة و بنو غطفان بطون ثلاثة : منهم أشجع بن ريث ابن غطفان و عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان و ذبيان فأما أشجع فكانوا عرب المدينة يثرب و كان سيدهم معقل بن سنان من الصحابة و كان منهم نعيم بن مسعود بن أنيف بن ثعلبة بن قند بن خلاوة بن سبيع بن أشجع الذي شتت جموع الأحزاب عن النبي صلى الله عليه و سلم إلى آخرين مذكورين منهم و ليس لهذا العهد منهم بنجد أحد إلا بقايا حوالي المدينة النبوية و بالمغرب الأقصى منهم حي عظيم الآن يظعنون مع عرب المعقل بجهات سجلماسة و وادي ملوية و لهم عدد و ذكر و أما بنو عبس فبيتهم في بني عدة بن قطيعة كان منهم الربيع بن زياد وزير النعمان ثم إخوتهم بنو الحرث بن قطيعة كان منهم زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن آزر بن الحرث سيدهم و كانت له السيادة على غطفان أجمع و له بنون أربعة منهم : قيس ساد بعده على عبس و ابنه زهير هو صاحب حرب داحس و الغبرا فرسين كانت إحداهما و هي داحس لقيس و الأخرى و هي الغبرا لحذيفة بن بدر سيد فزارة فأجرياهما و تشاما في الحكم بالسبق فتشاجرا و تحاربا و قتل قيس حذيفة و دامت الحرب بين عبس و فزارة و أخوة قيس بن زهير الحرث و شاس و مالك و قتل مالك في تلك الحرب و كان منهم الصحابي المشهور حذيفة بن اليماني بن حسل بن جابر بن ربيعة بن جروة بن الحرث بن قطيعة و من عبس بن جابر بنو غالب بن قطيعة ثم عنترة بن معاوية بن شداد بن مراد بن مخزوم بن مالك بن غالب الفارس المشهور و أحد الشعراء الستة في الجاهلية و كان بعده من أهل نسبه و قرابته الحطيئة الشاعر المشهور و اسمه جرول بن أوس بن جؤبة بن مخزوم و ليس بنجد لهذا العهد أحد من بني عبس و في أحياء زغبة من بني هلال لهذا العهد أحياء ينتسبون إلى عبس فما أدري من عبس هؤلاء أم هو عبس آخر من زغبة نسبوا إليه
و أما ذبيان بن بغيض : فلهم بطون ثلاثة : مرة و ثعلبة و فزارة فأما فزارة فهم خمسة شعوب : عدي و سعد و شمخ و مازن و ظالم و في بدر بن عدي كانت رياستهم في الجاهلية و كانوا يرأسون جميع غطفان و من قيس و إخوتهم بنو ثعلبة بن عدي كان منهم حذيفة بن بدر بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة الذي راهن قيس بن زهير العبسي على جري داحس و الغبرا و كانت بسبب ذلك الحرب المعروفة و من ولده عيينة بن حصن بن حذيفة الذي قاد الأحزاب إلى المدينة و أغار على المدينة لأول بيعة أبي بكر و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسميه الأحمق المطاع و منهم أيضا الصحابي المشهور سمرة بن جندب بن هلال بن خديج بن مرة بن خرق بن عمرو بن جابر بن خشين ذي الرأسين بن لاي بن عصيم بن شمخ بن فزارة و من بني سعد بن فزارة يزيد بن عمرو بن هبيرة بن معية بن سكين بن خديج بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة ولي العراقين هو و أبوه أيام يزيد بن عبد الملك و مروان بن محمد و هو الذي قله المنصور بعد أن عاهده و من بني مازن بن فزارة هرم بن قطبة أدرك الإسلام و أسلم إلى آخرين يطول ذكرهم و لم يبق بنجد منهم أحد و قال ابن سعيد : إن أبرق الحنان و أبانا من وادي القرى من معالم بلادهم و إن جيرانهم من طيء مولدها لهذا العهد و إن بأرض برقة منهم إلى طرابلس قبائل رواحة وهيب و فزان قلت : و بأفريقية و المغرب لهذا العهد أحياء كثيرة اختلطوا مع أهله فمنهم مع المعقل بالمغرب الأقصى أحياء كثيرة لهم عدد و ذكر بالمعقل إلى الإستظهار بهم حاجة و منهم مع بني سليم بن منصور بأفريقية طائفة أخرى أحلاف لأولاد أبي الليل من شعوب بني سليم يستظهرون بهم في مواقف حروبهم و يولونهم على ما يتولونه للسلطان من أمور باديتهم نيابة عنهم شأن الوزراء في الدول و كان من أشهرهم معن بن معاطن وزير حمزة بن عمر بن أبي الليل أمير الكعوب بعده حسبما نذكره في أخبارهم و ربما يزعم بنو مرين أمراء الزاب لهذا العهد أنهم منهم و ينتسبون إلى مازن بن فزارة و ليس ذلك بصحيح و هو نسب مصون يتقرب به إليهم بعض البدو من فزارة هؤلاء طمعا فيما بأيديهم لمكانهم من ولاية الزاب و الانفراد بجبايته و مصانعة الناس بوفرها فيلهجونهم بذلك ترفعا على أهل نسبهم بالحقيقة من الأثابج كما يذكر لكونه تحت أيديهم لكونه تحت أيديهم و من رعاياهم
و أما بنو مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان فمنهم هرم بن سنان بن غيظ بن مرة و هو سيدهم في الجاهلية الذي مدحه زهير بن أبي سلمى و منهم أيضا الفاتك و هو الحرث بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيظ فتك بخالد بن جعفر بن كلاب و شرحبيل بن الأسود بن المنذر و حصل ابن الحرث في يد النعمان بن المنذر فقتله و شاعره في الجاهلية النابغة زياد بن عمرو الذبياني أحد الشعراء الستة و منهم أيضا مسلم بن عقبة بن رياح بن أسعد بن ربيعة بن عامر بن مالك بن يربوع قائد يزيد بن معاوية صاحب يوم الحرة على أهل المدينة إلى آخرين يطول ذكرهم و هذا آخر الكلام في بني غطفان و بلادهم بنجد مما يلي وادي القرى و بها من المعالم أبنى و الحاجر و الهباءة و أبرق الحنان و تفرقوا على بلاد الإسلام في الفتوحات و لم يبق لهم في تلك البلاد ذكر و نزلت بها قبائل طيء و بانقضاء ذكرهم انقضى بنو سعد بن قيس (2/356)
القسم الثاني من الخبر عن بني عدنان و أنسابهم و شعوبهم و ما كان لهم من الدول و الملك في الإسلام و أولية ذلك و مصايره
و أما خصفة بن قيس : فتفرع منهم بطنان عظيمان و هما بنو سليم بن منصور و هوزان بن منصور و لهزوان بطون كثيرة يأتي ذكرها و يلحق بهذين البطنين بنو مازن بن منصور و عددهم قليل و كان منهم عتبة بن غزوان بن جابر بن وهب بن نشيب بن وهب بن زيد بن مالك بن عبد عوف بن الحرث بن مازن الصحابي المشهور الذي بنى البصرة لعمر بن الخطاب و إليه ينسب العتبيون الذين سادوا بخراسان و يلحق أيضا بنو محارب بن خصفة فأما بنو سليم فشعوبهم كثيرة منهم بنو ذكوان بن رفاعة بن الحرث بن رجا بن الحارث بن بهثة بن سليم و إخوتهم بنو عبس بن رفاعة الذين منهم عباس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة بن عبد عبس الصحابي المشهور الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم حنين في المؤلفة قلوبهم ثم زاده حين غضب استقلالا لعطائه و أنشد الأبيات المعروفة في السير و كان أبوه مرداس تزوج الخنساء و ولدت منه
و من بني سليم أيضا بنو ثعلبة بن بهثة بن سليم كان منهم عبيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي الأعور والي أفريقية و جده أبو الأعور من قواد معاوية و اسمه عمرو بن سفيان بن عبد شمس بن سعد بن وقائف بن الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن ثعلبة و الرود بن خالد بن حذيفة بن عمرو بن خلف بن مازن بن مالك بن ثعلبة و كان على بني سليم يوم الفتح وعمرو بن عتبة بن منقذ بن عامر بن خالد كان صديقا لرسول الله صلى الله عليه و سلم في الجاهلية و أسلم ثلاث أبو بكر و بلال فكان يقول كنت يومئذ ربع الإسلام و من بني سليم أيضا بنو علي بن مالك بن امرئ القيس بن بهثة عصية بن خفاف بن امرئ القيس و هما الذان لعنهما رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل بئر معونة و قتلهم إياهم و من شعوب عصية الشريد و إسمه عمرو بن يقظة بن عصية و قال ابن سعيد : الشريد بن رياح بن ثعلبة بن عصية الذين كانت منهم الخنساء و أخواها صخر و معاوية عمرو بن الحرث بن الشريد و الشريد بين سليم في الجاهلية قال ابن سعيد كان عمرو بن الشريد يمسك بيده إبنيه صخرا و معاوية في الموسم فيقول : أنا أبو خيري مضر و من أنكر فليعتبر فلا ينكر أحد و ابنته الخنساء الشاعرة و قد تقدم ذكرها و حضرت بأولادها حروب القادسية و بنو الشريد لهذا العصر في جملة بني سليم في أفريقية و لهم شوكة وصولة و منهم إخوة عصية بن خفاف الذين كان منهم الخفاف كبير أهل الردة الذي أحرقه أبو بكر بالنار و اسمه إياس بن عبد الله بن أليل بن سلمة بن عميرة
و من بني سليم أيضا بنو بهز بن إمرئ القيس بن بهثة كان منهم الحجاج بن علاط بن خالد بن نديرة بن حبتر بن هلال بن عبد ظفر بن سعد بن عمرو بن تميم بن بهز الصحابي المشهور و ابنه نصر بن حجاج الذي نفاه عمر عن المدينة إلى آخرين من سليم يطول ذكرهم قال ابن سعيد : و من بني سليم بنو زغبة بن مالك بن بهثة كانوا بين الحرمين ثم انتقلوا إلى المغرب فسكنوا بأفريقية في جوار إخواتهم بني ذياب بن مالك ثم صاروا في جوار بني كعب و من بني سليم بنو ذياب بن مالك و منازلهم ما بين قابس و برقة يجاورون مواطن يعهب و بجهة المدينة خلق منهم يؤذون الحاج و يقطعون الطريق و بنو سليمان بن ذياب في جهة فزان ووادن ورؤساء ذياب لهذا العهد الجواري ما بين طرابلس و قابس و بيتهم بنو صابر و المحامد بنواحي فاس و بيتهم في بني رصاب بن محمود و سيأتي ذكرهم
و من بني سليم بنو عوف بن بهثة : ما بين قابس و بلد العناب من أفريقية و جرما هم مرداس و علاق فأما مرادس فرياستهم في بني جامع لهذا العهد و أما علاق فكان رئيسهم الأول في دخولهم أفريقية رافع بن حماد و من أعقابه بنو كعب رؤساء سليم لهذا العهد بأفريقية و من بني سليم بنو يعهب بن بهثة و إخوة بني عوف بن بهثة و هم ما بين السدرة من برقة إلى العدوة الكبيرة ثم الصغيرة من حدود الإسكندرية فأول ما يلي الغرب منهم بنو أحمد لهم أجدابية و جهاتها و هم عدد يرهبهم الحاج و يرجعون إلى شماخ و قبائل شماخ لها عدد و أسماء متمايزة و لها العز في بيت لكونها جازت المحصب من بلاد مثل المرج و طلميثا و درنا و في المشرق عن بني أحمد إلى العقبة الكبيرة و أما الصغيرة فسال و محارب و الرياسة في هذين القبيلتين لبني عزاز و هبيب بخلاف سائر سليم لأنها استولت على إقليم طويل خربت مدنه و لم يبق فيه مملكة و لا ولاية إلا لأشياخها و تحت أيديهم خلق من البرابرة و اليهود زراعا و تجارا و أما رواحة و فزارة اللذين في بلاد هبيب فهم من غطفان و هذا آخر الكلام في بني سليم بن منصور و كانت بلادهم في عالية نجد بالغرب و خيبر و منها حرة بني سليم و حرة النار بين وادي القرى و تيما و ليس لهم الآن عدد و لا بقية في بلادهم و بأفريقية منهم خلق عظيم كما يأتي ذكره في أخبارهم عند ذكر الطبقة الرابعة من العرب
و أما هوزان بن منصور ففيهم بطون كثيرة يجمعهم ثلاثة أجرام كلهم لبكر بن هوزان و هم بنو سعد بن بكر و بنو معاوية بن بكر و بنو منبه بن بكر
فأما بنو سعد بن بكر و هم إظآر النبي صلى الله عليه و سلم أرضعته منهم حليمة بنت أبي ذؤيب بن عبد الله بن سحنة بن ناصر بن عصية بن نصر بن أسعد و بنوها عبد الله و أنيسة و الشيما بنو الحرث بن عبد العزى بن رفاعة بن ملاذ بن ناصرة و حصلت الشيما في سبي هوزان فأكرمها رسول الله صلى الله عليه و سلم و ردها إلى قومها و كان فيها أثر عضة عضها إياها رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي تحمله
فأما بنو منبه بن بكر فمنهم ثقيف و هم بنو قسي بن منبه بطن عظيم متسع منهم بنو جهم بن ثقيف كان منهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن حبيب بن الحرث بن مالك بن حطيط صاحب لوائهم يوم حنين و قتل يومئذ كافرا و كان من ولده أمير الأندلس لسليمان بن عبد الملك و هو الحر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عثمان و منهم بنو عوف بن ثقيف و يعرفون بالأحلاف فمنهم بنو سعد بن عوف كان منهم عتبان بن مالك بن كعب بن عمرون بن سعد بن عوف الذي وضعته ثقيف رهينة عند أبي مكسورة و أخوه معتب و كان من بنيه عروة بن مسعود بن معتب الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى قومه داعيا إلى الإسلام فقتلوه و هو أحد عظيمي القريتين و من بنيه أيضا الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب صاحب العراقين لعبد الملك و ابنه الوليد و منهم يوسف بن عمر بن محمد بن عبد الحكم والي العراقين لهشام بن عبد الملك و الوليد بن يزيد و كثير من قومه كانوا ولاة بالعراق و الشام و اليمن و مكة و من بني معتب أيضا غيلان بن مسلمة بن معتب كانت له وفادة على كسرى و منهم بنو غبرة بن عوف الذين منهم الأخنس بن شريق ابن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العري بن غيرة بن عوف بن ثقيف و الحرث بن كلدة بن عمرو بن علاج طبيب العرب و أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن غيرة الصحابي المقتول يوم الجسر من أيام القادسية و بأنه المختار بن أبي عبيد الذي ادعى النبوة بالكوفة و كان عليها لعبد الله بن الزبير فانتقض عليه و دعا لمحمد بن الحنفية ثم ادعى النبوة و منهم أبو محجن بن حبيب بن عمرو بن عمير في آخرين يطول ذكرهم و مواطن ثقيف كانت بالطائف و هي مدينة من أرض نجد قريبا من مكة ثم جلس في شرقيها و شمالها و هي على قبة الجبل كانت تسمى واج و بوج و كانت في الجاهلية للعمالقة ثم نزلتها ثمود قبل وادي القرى و من ثم يقال : إن ثقيفا كانت من بقايا ثمود يقال : إن الذي سكنها بعد العمالقة عدوان و غلبهم عليها ثقيف و هي الآن دارهم كذا ذكره السهيلي و يقال : إنهم موال لهوزان و يقال إنهم من إياد و من أعمال الطائف سوق عكاظ و العرج و عكاظ حجر بين اليمن و الحجاز و كانت سوقها في الجاهلية يوما في السنة يقصدها العرب من الأقطار فكانت لهم موسما
و أما بنو معاوية بن بكر بن هوزان ففيهم بطون كثيرة منهم بنو نصر بن معاوية الذين منهم مالك بن سعد بن عوف بن سعد بن ربيعة بن يربوع بن واثلة بن دهمان بن نصر قائد المشركين يوم حنين و أسلم و حسن إسلامه و منهم بنو جشم بن معاوية و من جشم غزية رهط دريد بن الصمة و مواطنهم بالسروات و هي بلاد تفصل بين تهامة و نجد متصلة من اليمن إلى الشام كسروات الجبل و سروات جشم متصلة بسروات هذيل و انتقل معظمهم إلى الغرب و هم الآن به كما يأتي ذكره في الطبقة الرابعة من العرب و لم يبق بالسروات منهم إلا من ليس له صولة و منهم بنو سلول و منهم بنو مرة بن صعصعة بن معاوية و إنما عرفوا بأمهم سلول و كانوا في الغرب كثيرا و في الغرب منهم كثير لهذا العهد و منهم فيما يزعم العرب بنو يزيد أهل وطن حمزة غربي بجاية و بعض أحياء بجيل عياض كما نذكر منهم بنو عامر بن صعصعة بن معاوية جرم كبير من أجرام العرب لهم بطون أربعة نمير و ربيعة و هلال و سوأة فأما نمير بن عامر فهم إحدى جمرات العرب و كانت لهم كثرة و عزة في الجاهلية و الإسلام و دخلوا إلى الجزيرة الفراتية و ملكوا حرار و غيرها و استلحمهم بنو العباس أيام المعتز فهلكوا و دثروا و أما سوأة بن عامر فشعوبهم في رباب من سمرة بن سوأة فمنهم جابر بن سمرة بن جندب بن رباب الصحابي المشهور و من بطن رباب هؤلاء حي بأفريقية ينجعون مع رياح بن هلال و يعرفون بهذا النسب كما يأتي في أخبار هلال من الطبقة الرابعة و أما هلال بن عامر فبطون كثيرة كانوا في الجاهلية بنجد ثم ساروا إلى الديار المصرية في حروب القرامطة ثم ساروا إلى أفريقية أجازهم الوزير البارزي في خلافة المستنصر العبيدي لحرب المعز بن باديس فملك عليه ضواحي أفريقية ثم زاحمهم بنو سليم فساروا إلى الغرب ما بين بونة و قسنطينة إلى البحر المحيط و كان لهلال خمسة من الولد : شعبة و ناشرة و نهيك و عبد مناف و عبد الله و بطونهم كلها ترجع إلى هؤلاء الخمسة فكان من بني عبد مناف زينب أم المؤمنين بنت خزيمة بن الحرث بن عبد الله بن عمرو بن عبد الله بن عبد مناف و كان من بني عبد الله ميمونة أم المؤمنين بنت الحرث بن حزن بن بحير بن هرم بن رويبة بن عبد الله قال ابن حزم : و من بطون بني هلال بنو قرة و بنو نعجة الذين بين مصر و أفريقية و بنو حرب الذين بالحجاز و بنو رياح الذين أفسدوا أفريقية
و قال ابن سعد : وجيل بني هلال مشهور بالشام و قد صار عربه حرائر و فيه قلعة صرخد مشهورة قال : و قبائلهم في العرب ترجع لهذا العهد إلى أثبج و رياح و زغبة و قارع فأما الأثبج فمنهم سراح بجهة برقة و عياض بجبل القلعة المسمى لهم و لغيرهم و أما رياح فبلادهم بنواحي قسنطينة و السلم و الزاب و منهم عتبة بنواحي بجاية و منهم بالمغرب الأقصى خلق كثير كما يأتي في أخبارهم و أما زغبة فإنهم في بلاد زناته خلق كثير و أما قارع فإنهم في المغرب الأقصى مع المعقل وقرة و جشم و بنو قرة كانت منازلهم ببرقة و كانت رياستهم أيام الحاكم العبيدي لما مضى ابن مقرب و لما بايعوا لأبي ركوة من بني أمية بالأندلس و قتله الحاكم سلط عليهم العرب و الجيوش فأفنوهم و انتقل جلهم إلى المغرب الأقصى فهم مع جشم هنالك كما يأتي الكلام في نسب هلال و شعوبهم و مواطنهم بالمغرب الأوسط و أفريقية عند الكلام عليهم في الطبقة الرابعة
و أما بنو ربيعة بن عامر فبطون كثيرة و عامتها ترجع إلى ثلاثة من بنيه و هم عامر و كلاب و كعب و بلادهم بأرض نجد الموالية لتهامة بالمدينة و أرض الشام ثم دخلوا إلى الشام و افترق منهم على مماليك الإسلام فلم يبق منهم بنجد أحد فمن عامر بن ربيعة بنو التكما و هو ربيعة بن عامر بن ربيعة الذي اشترك ابنه حندج مع خالد بن جعفر بن كلاب في قتل زهير بن جذيمة العبسي و بنو ذي السهمين معاوية بن عامر بن ربيعة و هو ذو الحجر عوف بن عامر بن ربيعة و بنو فارس الضحيا عمرو بن عامر بن ربيعة منهم خداش بن زهيرة بن عمرو من فرسان الجاهلية و شعرائها
و أما بنو كلاب بن ربيعة فمنهم بنو الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب و بنو ربيعة المجنون ابن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب و بنو عمرو بن كلاب قال ابن حزم : يقال : إنهم منهم بني صالح بن مرداس أمراء حلب و من بني كلاب بنو رواس و اسمه الحرب بن كلاب و بنو الضباب و اسمه معاوية بن كلاب الذين منهم شهر بن ذي الجوش بن الأعور بن معاوية قاتل الحسين بن علي و من عقبه كان الصهيل ابن حاتم بن شمر وزير عبد الرحمن بن يوسف الفهري بالأندلس و بنو جعفر بن كلاب الذين منهم عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر و عمه أبو عامر بن مالك ملاعب الأسنة منهم عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر و عمه أبو عامر بن مالك ملاعب الأسنة و ربيعة بن مالك و تبع المعتبرين و أبوه لبيد بن ربيعة شاعر معروف مشهور و كانت بلاد بني كلاب حمى ضرية و الربذة في جهات المدينة وفدك و العوالي و حمى ضرية هي حمى كليب وائل نباته النضر تسمن عليه الخيل و الإبل و حمى الربذة هو الذي أخرج عليه عثمان أبا ذر رضي الله عنهما ثم انتقل بنو كلاب إلى الشام فكان لهم في الجزيرة الفراتية صيت و ملك و ملكوا حلب و كثيرا من مدن الشام و تولى منهم بنو صالح بن مردادس ثم ضعفوا الآن تحت خفارة العرب المشهورين بالشام و هنالك بالإمارة من طيء و قال ابن سعيد و كان لهم في الإسلام دولة باليمامة
و من بني كعب بن ربيعة بطون كثيرة منهم : الحريش بن كعب بطن كان منهم مطرف بن عبد الله بن الشخير بن عوف بن وقدان بن الحريش الصحابي المشهور و يقال : إن منهم ليلى شبب بها قيس بن عبد الله بن عمرو بن عدس بن ربيعة بن جعدة الشاعر مادح النبي صلى الله عليه و سلم و عبد الله بن الحشرج بن الأشهب بن ورد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة الذي غلب على ناب فارس أيام الزبير و عم أمه زياد الأشهب الذي وفد على علي ليصلح بينه و بين معاوية و مالك بن عبد الله بن جعدة الذي أجار قيس بن زهير العبسي و بنو قشير بن كعب منهم مرة بن هبيرة بن عامر بن مسلمة الخبر بن قشير وفد على النبي صلى الله عليه و سلم فولاه صدقات قومه وكلثوم بن عياض بن رصوح بن الأعور بن قشير الذي ولي أفريقية و ابن أخيه بلخ بن بشر و من بني قشير بخراسان أعيان منهم أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة و منهم عريسة الأندلس بنو رشيق ملكها منهم عبد الرحمن بن رشيق و أخرج منها ابن عمارة و منهم الصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة و بنو العجلان بن عبد الله بن كعب و شاعرهم تميم بن مقبل و بنو عقيل بن كعب و هم بطون كثيرة منهم : بنو المنتفق بن عامر بن عقيل و من أعقاب بني المنتفق هؤلاء العرب المعروفون في المغرب بالخلط قال علي بن عبد العزيز الجرجاني : الخلط بنو عوف و بنو معاوية ابنا المنتفق بن عامر بن عقيل انتهى
قال ابن سعيد : و منازل المنتفق الآجام التي بين البصرة و الكوفة و الأمارة منهم في بني معروف قلت و الخلط لهذا العهد في أعداد جشم بالمغرب و من بني عقيل بن كعب بنو عبادة بن عقيل منهم الأخيل و اسمه كعب بن الرحال بن معاوية بن عبادة و من عقبه ليلى الأخيلية بنت حذيفة بن سداد بن الأخيل
و ذكر ابن قتيبة : أن قيس بن الملوح المجنون منهم و بنو عبادة هؤلاء لهذا العهد فيما قال ابن سعيد بالجزيرة الفراتية فيما يلي العراق و لهم عدد و ذكر و غلب منهم على الموصل و حلب في أواسط الخامسة قريش بن بدران بن مقلد فملكها هو و ابنه مسلم بن قريش من بعده و يسمى شرف الدولة و توالى الملك في عقب مسلم بن قريش منهم إلى أن انقرضوا قال ابن سعيد : و منهم لهذا العهد بقية بين الحازر و الزاب يقال لهم عرب شرف الدولة و لهم إحسان من صاحب الموصل و هم في تجمل و عز إلا أن عددهم قليل نحو مائة فارس و من بني عقيل بن كعب خفاجة بن عمرو بن عقيل و انتقلوا في قرب من هذه العصور إلى العراق و الجزيرة و لهم ببادية العراق دولة و من بني عامر بن عقيل بنو عامر بن عوف بن مالك بن عوف و هم إخوه بني المنتفق و هم ساكنون بجهات البصرة و قد ملكوا البحرين بعد بني أبي الحسن ملكوها من تغلب قال ابن سعيد : و ملكوا أرض اليمامة من بني كلاب و كان ملكهم لعهد الخمسين من المائة السابعة عصفور و بنوه و قد انقضى الكلام في بطون قيس عيلان و الله المعين لا رب غيره و لا خير إلا خيره و هو نعم المولى و نعم النصير و هو حسبي و نعم الوكيل و أسأله الستر الجميل آمين
و أما بطون خندف بن الياس بن مضر ولد إلياس مدركة و طابخة وقمعة و أمهم امرأة من قضاعة اسمها خندف فانتسب ولد إلياس كلهم إليها فمن بطون قمعة أسلم و خزاعة فأسلم بنو أفصى بن عامر بن قمعة و خزاعة بن عمرو بن عامر بن لحي و هو ربيعة ابن عامر بن قمعة و اسمه حارثة و عمرو بن لحي هو أول من غير دين إسمعيل و عبد الأوثان و أمر العرب بعبادتها و فيه قال صلى الله عليه و سلم : [ رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ] يعني أحشاءه و مواطنهم بأنحاء مكة في مر الظهران و ما يليه و كانوا حلفاء لقريش و دخلوا عام الحديبية في عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانوا مما صالح قريشا عليه ثم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فيهم فغزا قريشا و غلبهم على أمرهم و افتتح مكة و كان عام الفتح و قد يقال : إن خزاعة هؤلاء من غسان و أنهم بنو حارثة بن عمرو مزيقيا و أنهم أقاموا بمر الظهران حين سارت غسان إلى الشام و تخزعوا عنهم فسموا خزاعة وليس ذلك بصحيح كما ذكر و كان لخزاعة ولاية البيت قبل قريش في بني كعب بن عمرو بن لحي و انتهت إلى حليل بن حبشية بن سلول و هو الذي أوصى بها لقصي بن كلاب حين زوجه ابنته حبى بنت حليل و يقال : إن أبا غبشان بن حليل و اسمه المحترش باع الكعبة من قصي بزق و خمر و فيه جرى المثل المعروف و يقال : أخسر صفقة من أبي غبشان و من ولد حليل بن حبشية كان كرز بن علقمة بن علال بن حريبة بن عبد فهم بن حليل الذي قفا أثر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى انتهى إلى الغار و رأى عليه نسج العنكبوت و عش اليمامة ببيضها فرخوا عنه
و لخزاعة هؤلاء بطون كثيرة منهم بنو المصطلق بن سعد بن عمرو بن لحي و بنو كعب بن عمرو و منهم عمران بن الحصين صحابي و سليمان بن صرد أمير التوابين القائمين بثأر الحسين و مالك بن الهيثم من نقباء بني العباس و بنو عدي بن عمرو و منهم جورية بنت الحارث أم المؤمنين و بنو مليح بن عمرو و منهم طلحة الطلحات و كثير الشاعر صاحب غزة و هو ابن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر بن مخلد بن سبيع بن خثعمة بن سعد بن مليح و بنو عوف بن عمرو و منهم العباد أهل الحيرة و هم بنو جهينة بن عوف و من إخوة خزاعة بنو أسلم بن أفصى بن عامر بن قمعة و بنو ملك بن أفصى و ماثان بن أفصى فمن أسلم سلمة بن الأكوع الصحابي و دعبل و بنو الشيص الشاعران و محمد بن الأشعث قائد بني العباس و من ذلك مالك بن سليمان بن كثير من دعاة بني العباس قتله أبو مسلم
و أما طابخة فلهم بطون كثيرة أشهرها ضبة و الرباب و مزينة و تميم و بطون صغار إخوة لتميم منهم صوفة و محارب (2/367)
القسم الثالث من الخبر عن بني عدنان و أنسابهم و شعوبهم و ما كان لهم من الدول و الملك في الإسلام و أولية ذلك و مصايره
فأما بنو تميم بن مر فهم : بنو تميم بن مر بن أد بن طابخة و كانت منازلهم بأرض نجد دائرة من هنالك على البصرة و اليمامة و انتشرت إلى العذيب من أرض الكوفة و قد تفرقوا لهذا العهد في الحواضر و لم تبق منهم باقية و ورث منازلهم الحيان العظيمان بالمشرق لهذا العهد غزية من طيء و خفاجة من بني عقيل بن كعب و لتميم بطون كثيرة منهم الحارث بن تميم و فيهم ينسب المسيب بن شريك الفقيه و هم قليل و بنو العنبر الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم على الصدقات و زفر الفقيه ابن ذهيل ابن قيس بن مسلم بن قيس بن مكمل بن ذهل بن ذويب بن جذيمة بن عمرو بن جيجور بن جندب بن العنبر صاحب أبي حنيفة و الناسك الفاضل عامر بن عبد قيس بن ثابت بن بشامة بن حذيفة بن معاوية بن الجون بن كعب بن جندب و ربيعة ابن رفيع بن سلمة بن محلم بن صلاة بن عبدة بن عدي بن جندب و بنو الهجيج بن عمرو بن تميم و بنو أسيد بن عمير و كان منهم أبو هالة هند بن زرارة بن النباش بن عدي بن نمير بن أسيد الصحابي المشهور و حنظلة بن الربيع بن صيفي بن رياح ابن الحرث بن مخاشن بن معاوية بن شريف بن جروة بن أسيد كاتب رسول الله صلى الله عليه و سلم و الحليم المشهور أكثم بن صيفي بن رياح و يحيى بن أكثم قاضي المأمون من ولد صيفي بن رياح و بنو مالك بن عمرو بن تميم منهم النضر بن شميل ابن خرشة بن يزيد بن كلثوم بن عبدة بن زهير بن عروة بن جميل بن حجر بن خزاعي بن مازن بن مالك النحوي المحدث و سلم بن أخوز بن أربد بن محزر بن لاي بن مهل بن ضباب بن حجبة بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك صاحب الشرطة لنصر بن سيار و قاتل يحيى بن زيد بن زين العابدين و أخوه هلال بن أخوز قاتل آل المهلب و قطري بن الفجاءة و اسم الفجاءة جعونة بن يزيد بن زياد بن جنز بن كابية بن حرقوص الخارجي الأزرقي سلم عليه بالخلافة عشرين سنة و مالك بن الريب بن جوط بن قرط بن حسيل بن ربيعة بن كنانة بن حرقوص صاحب القصيدة المشهورة نعى بها نفسه و بعث بها إلى قومه و هو في خراسان في بعث عثمان بن عفان و أولها :
( دعاني الهوى من أهل ودي و رفقتي ... بذي الشيطين فالتفت و رائيا )
( يقولون لا تبعد و هم يدفنونني ... و أين مكان البعد إلا مكانيا )
و بنو عمرو بن العلاء بن عمار بن عدنان بن عبيد الله بن الحصي بن الحرث بن جلهم ابن خزاعي بن مازن بن مالك و بنو الحرث بن عمرو بن تميم و هم الحبطات منهم عباد بن الحصين بن يزيد بن أوس بن سيف بن عدم بن جبلذة بن قيار بن سعد بن الحرث و هو الملقب بالحبط لعظم بطنه و بنو امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم و كان منهم زيد بن عدي بن زيد بن أيوب بن مخوف بن عامر بن عطية بن امرئ القيس صاحب النعمان بن المنذر بالحيرة الذي سعى به إلى كسرى حتى قتله و مقاتل بن حسان بن ثعلبة بن أوس بن إبراهيم بن أيوب بن مخوف صاحب قصر بني مقاتل بن منصور بالحيرة و لاهز بن قريط بن سري بن الكاهن بن زيد بن عصية من دعاة بني العباس الذي قتله أبو مسلم لنذارته لنصر بن سيار و بنو سعد بن زيد مناة بن تميم منهم الأبناء منهم رؤبة بن العجاج بن رؤبة بن لبيد بن صخر بن كنيف بن عمير ابن حي بن ربيعة بن سعد بن مالك بن سعد و عبدة بن الطيب الشاعر و بنو منقر ابن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة كان منهم قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر ولاه رسول الله صلى الله عليه و سلم صدقات قومه و كان من ولده مية صاحبه ذي الرمة بنت مقاتل بن طلبة بن قيس بن عاصم و من بني منقر عمرو بن الأهتم صحابي و بنو مرة بن عبيد بن مقاعس منهم الأحنف بن قيس بن معاوية بن حصين بن حفص بن عبادة بن النزال بن مرة و أبو بكر الأبهري المالكي وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح بن عمرو بن حفص بن عمرو بن مصعب بن الزبير بن سعد بن كعب بن عبادة بن النزال و بنو صريم بن مقاعس منهم عبد الله بن أباض رئيس الأباضية من الخوارج و عبد الله بن صفار رئيس الصفرية و البرك بن عبد الله الذي اشترط بقتل معاوية و ضربه فجرحه و بنو عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة منهم ثم من بني بهدلة ابن عوف الزبرقان و اسم الحصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن بهدلة و أويس ابن أخيه حنظلة الذي أسر هوذة بن علي الحنفي و من بني عطارد بن عوف كرب بن صفوان بن شخمة بن عطارد الذي كان يجبز بأهل الموسم في الجاهلية و من بني قريع بن عوف بن كعب جعفر الملقب أنف الناقة و كان ولده يغضبون منها إلى أن مدحهم الحطيئة بقوله
( قوم هم الأنف و الأذناب غيرهم ... و من يسوي بأنف الناقة الذنبا )
و بنوالحرث الأعرج بن كعب بن سعد بن زيد مناة كان منهم زهرة بن جؤية بن عبد الله بن قتادة بن مرثد بن معاوية بن قطن بن مالك بن أرتم بن جشم بن الحرث الذي أبلى في القاسية و قتل الجالنوس أمير الفرس و قتله هو بعد ذلك أصحاب شبيب الخارجي مع عتاب بن ورقا و بنو مالك بن سعد بن زيد مناة كان منهم الأغلب بن سالم بن عقال بن خفافة بن عباد بن عبد الله بن محرث بن سعد بن حرام بن سعد بن مالك أبو الولاة بأفريقية لبني العباس و بنو ربيعة بن مالك بن زيد مناة كان منهم عروة بن جرير بن عامر بن عبد بن كعب بن ربيعة أول خارجي قال : لا حكم إلا الله يوم صفين و يعرف بأن أباه نسبه إلى أمه و من بني حنظلة بن مالك البراجم و هم بنو عمرو و الظلم و غالب و كلبة و قيس كلهم بنو حنظلة كان منهم ضابئ بن الحرث بن أرطأة بن شهاب بن عبيد بن جنادل بن قيس و ابن عمير بن ضابئ الذي قتله الحجاج و بنو ثعلبة بن يربوع بن حنظلة كان منهم بمراثيه المشهور و بنو الحرث بن يربوع منهم الزبير بن الماحور أمير الخوارج و أخوه عثمان و علي و هم بنو بشير بن يزيد الملقب بالماحور بن الحارث بن ساحق بن الحرث بن سليط بن يربوع و كلهم أمراء الأزارقة وبنو كليب بن يربوع كان منهم جرير الشاعر ابن عطية بن الخطفي و هو حذيفة بن بدر بن سلم بن عوف بن كليب و بنو العنبر بن يربوع منهم كانت سجاح المتنبئة بنت أويس بن جوين بن سامة بن عنبر و بنو رياح كان منهم شبث بن ربعي بن حصين بن عميم بن ربيعة بن زيد بن رياح كان منهم رياح أسلم ثم سار مع الخوارج ثم رجع عنهم تائبا و معقل بن قيس أوفده عمار بن ياسر على عمر بتفح تستر و عتاب بن ورقاء بن الحارث بن عمرو بن همام بن رياح أمير أصبهان و قتله شبيب الخارجي و بنو طهية بن مالك و هم بنو أبي سود و عوف ابني مالك و بنو دارم بن مالك بن حنظلة كان منهم ثم من بني نهشل بن دارم بن حازم بن خزيمة بن عبد الله بن حنظلة نضلة بن حدثان بن مطلق بن أصحر بن نهشل صاحب الشرطة لبني العباس و من بني مجاشع بن دارم الأقرع بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع و الفرزدق بن غالب بن صعصة بن ناجية بن عقال و الحتات بن يزيد بن علقمة الذي آخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بينه و بين معاوية بن أبي سفيان و من بني عبد الله بن دارم المنذر بن ساوى بن عبد الله بن زيد بن عبد مناة بن دارم صاحب هجر و من بني غرس بن زيد بن عبد الله بن دارم حاجب بن زرارة بن غرس و ابنه عطارد و بنوهم كان فيهم رؤساء و أمراء و انقضى الكلام في تميم
و أما بنو مزينة : و هم بنو مر بن أد بن طابخة بن إلياس و اسم ولده عثمان و أوس و أمها مزينة فسمي جمع و لديهما بها فكان منهم زهير بن أبي سلمى و هو ربيعة أبي رباح بن قرة بن الحرث بن مازن بن خلاوة بن ثعلبة بن ثور بن هرمة بن لاظم بن عثمان أحد الشعراء الستة و ابناه بجير و كعب الذي مدح رسول الله صلى الله عليه و سلم و النعمان بن مقرن بن عامر بن صبح بن هجيم بن نصر بن حبشية بن كعب بن عفراء بن ثور بن هرمة و أخوه سويد الذي قتل يوم نهاوند و معقل بن يسار بن عبد الله بن معير بن حراق بن لابي بن كعب بن عيد ثور الصحابي المشهور
و أما الرباب : و هم بنو عبد مناة بن أد بن طابخة فمن بينه تميم و عدي و عوف و ثور و سموا الرباب لأنهم غمسوا في الرب أيديهم في حلف على بني ضبة و بلادهم جوار بني تميم بالدهنا و في أشعارهم ذكر حزوى و عالج من معالمهما و تفرقوا لهذا العهد و لم يبق منهم أحد هنالك و كان من بني تميم بن عبد مناة المستورد بن علقمة بن الفريس بن صباري بن نشبة بن ربيع بن عمرو بن عبد الله بن لؤي بن عمرو بن الحرث بن تميم الخارجي قتله معقل بن قيس الرياحي في إمارة المغيرة بن شعبة و ابن باخمة ورد بن مجالد بن علقمة حضر مع عبد الرحمن بن ملجم في قتل علي و قتل و قطام بنت بحنة بن عدي بن عامر بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن ذهل بن تميم التي تزوجها عبد الرحمن بن ملجم و مهرها قتل علي فيما قيل حيث يقول :
( ثلاثة آلاف و عبد و قينة ... و ضرب علي بالحسام المصمم )
و كانت خارجية و قتل أبوها شحمة و عمها الأخضر يوم النهروان و من بني عدي بن عبد مناة ذي الرمة الشاعر و هو غيلان بن عقبة بن بهس بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ساعدة بن كعب بن عوف بن ثعلبة بن ربيعة بن ملكان بن عدي و من بني ثور بن عبد مناة و يسمى أطمل سفيان الثوري و هو سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب بن رافع بن عبد الله بن منقر بن نصر بن الحارث بن ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور و أخواه عمرو و المبارك و االربيع بن خثيم الفقيه
و أما ضبة : فهم بنو ضبة بن أد و كانت ديارهم جوار بني تميم إخوتهم بالناحية الشمالية التهامية من نجد ثم انتقلوا في الإسلام إلى العراق بجهة النعمانية و بها قتلوا المثنى الشاعر فمنهم ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن أسعد بن ضبة سيد بني ضبة في الجاهلية و بقيت سيادتهم في بنيه و كان له ثمانية عشر ولدا ذكرا شهدوا معه يوم القريتين و ابنه حصين كان مع عائشة يوم الجمل و من ولده القاضي أبو شبرمة بن الطفيل بن حسان بن المنذر بن ضرار بن عنبسة بن إسحق بن شمر بن عبس بن عنبسة بن شعبة ابن المختبر عامر بن العباب بن حسل بن بجالة المذكور في قواد بني العباس ولي مصر أيام المتوكل و يقال : إن الديلم من بني باسل بن ضبة بن أد و الله أعلم
و أما صوفة : فهم بنو الغوث بن مر بن أد كانوا يجيزون بالحاج في الموسم لا يجوز أحد حتى يجوزوا ثم انقرضوا عن آخرهم في الجاهلية و ورث ذلك آل صفوان بن شحمة من بني سعد بن زيد مناة بن تميم و قد مر ذكر ذلك و انقضى بنو طابخة بن إلياس
و أما مدركة بن إلياس فهم بطون كثيرة أعظمها هذيل و القارة و أسد و كنانة و قريش فأما هذيل : فهم بنو هذيل بن مدركة و ديارهم بالسورات و سراتهم متصلة بجبل غزوان المتصل بالطائف و لهم أماكن و مياه في أسفلها من جهات نجد و تهامة و بين مكة و المدينة و منها الرجيع و بئر معونة و هم بطنان سعد بن هذيل و لحيان بن هذيل : فمن بني سعد بن هذيل أبو بكر الشاعر و الحطيئة فيما يقال و عبد الله بن مسعود بن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن الحارث بن تميم بن سعد الصحابي المشهور و أخواه عتبة و عميس و بنوه عبد الرحمن و عتبة و المسعودي المؤرخ ابن عتبة و هو علي بن الحسين بن علي بن عبد الله بن زيد بن عتبة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود و من عتبة أخيه عتبة بن عبيد الله بن زيد بن عنبة فقيه المدينة و قد افترقوا في الإسلام على المماليك و لم يبق لهم حي يطرف و بأفريقية بنواحي باجة يعسكرون مع جند السلطان و يؤدون المغرم
و أما بنو أسد : فمنهم بنو أسد بن خزيمة بن مدركة و بطن كبير متسع ذو بطون و بلادهم فيما يلي الكرخ من أرض نجد و في مجاورة طيء و يقال : إن بلاد طيء كانت لبني أسد فلما خرجوا من اليمن غلبوهم على أجا و سلمى و جاءوا و اصطلحوا و تجاوروا لبني أسد و التغلبية و واقصة و غاضرة و لهم من المنازل المسماة في الأشعار غاضرة و النعف و قد تفرقوا من بلاد الحجاز على الأقطار و ليبق لهم حي و بلادهم الآن فيما ذكر ابن سعيد لطيء و بني عقيل الأمراء كانوا بأرض العراق و الجزيرة و كانوا في الدولة السلجوقية قد عظم أمرهم و ملكوا الحلة و جهاتها و كان بها منهم الملوك بنو مرين الذين ألف الهباري أرجوزته المعروفة به في السياسة ثم اضمحل ملكهم بعد ذلك و ورث بلادهم بالعراق خفاجة و كانت بنو أسد بطونا كثيرة كان منها بنو كاهل قاتل حجر بن عمر و الملك والد امرئ القيس و بنو غنم بن دودان بن أسد منهم : عبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كثير بن غنم الذي أسلم ثم تنصر و مات نصرانيا و أخته زينب أم المؤمنين رضي الله عنها و عكاشة بن محصن بن حدثان بن قيس بن مرة بن كثير الصحابي المشهور و بنو ثعلبة بن دودان بن أسد منهم : الكميت الشاعر ابن زيد محمد الأخنس بن ربيعة بن امرئ القيس بن الحرث بن عمرو بن مالك بن سعد بن ثعلبة و ضرار بن الأزور و هو مالك بن أويس بن خزيمة بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة الصحابي قاتل مالك بن نويرة و الحضرمي بن عامر بن مجمع بن مواله بن همام بن صحب بن القيس بن مالك وافدهم على النبي صلى الله عليه و سلم و بنو عمرو بن قعيد بن الحارث بن ثعلبة بن دودان منهم : الطماح بن قيس بن طريف بن عمرو بن قعيد الذي سعى عند قيصر في هلاك امرئ القيس و طليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمر و الذي كان كاهنا و ادعى النبوة ثم أسلم
و في بني أسد بطون ذكرها
و أما القارة و عكل : فهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس إخوة بني أسد و كانوا حلفاء لبني زهرة بن قريش
و أما كنانة فهم كنانة بن خزيمة بن مدركة إخوة بني أسد و ديارهم بجهات مكة و فيهم بطون كثيرة و أشرفها قريش و هم بنو النضر بن كنانة و سيأتي ذكرهم ثم بنو عبد مناة بن كنانة و بنو مالك بن كنانة فمن بني عبد مناة : بنو بكر و بنو مرة و بنو الحرث و بنو عامر فمن بني بكر بنو ليث بن بكر منهم بنو الملوح بن يعمر و هو الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث و منهم الصعب بن جثامة بن قيس بن الشداخ الصحابي المشهور و الشاعر عروة بن أدينة بن يحيى بن مالك بن الحرث بن عبد الله ابن الشداخ و منهم بنو شجع بن عامر بن ليث بن بكر و منهم أبو واقد الليثي الصحابي و هو الحرث بن عوف بن أسيد بن جابر بن عديدة بن عبد مناة بن شجع و بنو سعد بن ليث بن بكر منهم أبو الطفيل عامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو بن جابر بن خميس بن عدي بن سعد آخر من بقي ممن رأى النبي صلى الله عليه و سلم مات سنة سبع و مائة و واثلة بن الأسقع بن عبد العزى بن عبد ياليل بن ناشب بن عبدة بن سعد الصحابي المشهور و بنو جذع بن بكر بن ليث بن بكر : منهم أمير خراسان نصر بن سيار بن رافع بن عدي بن ربيعة بن عامر بن عوف بن جندع و رافع بن الليث بن نصر بسمرقند أيام الرشيد بدعوة بني أمية ثم أستأمن إلى المأمون و من بني عبد مناف بنو عريج بن بكر بن عبد مناف و بنو الديل بن بكر : منهم الأسود بن رزق بن يعمر بن نافثة بن عدي بن الديل الذي كان بسببه فتح مكة و سارية بن زنيم بن عمرو بن عبد الله بن جابر بن محية بن عبد بن عدي بن الديل الذي ناداه عمر فيما اشتهر مهن المدينة و هو بالعراق يقاتل و أبو الأسود واضع النحو و هو ظالم بن عمرو بن سفيان بن عمرو بن جندب بن يعمر بن حليس بن نافثة بن عدي و بنو ضمرة بن بكر : منهم عامرة بن مخشى بن خويلد عبد بن نهم بن يعمر بن عوف بن جري بن ضمرة الذي وادع رسول الله صلى الله عليه و سلم على قومه و عمرو بن أمية بن خويلد بن عبد الله بن إياس بن عبيد بن ناشرة بن كعب بن جري الصحابي و البراض بن قيس بن رافع بن قيس بن جري الفاتك قاتل عروة الرحال ابن عتبة بن جعفر بن كلاب و كان بسببها حرب الفجار و من ضمرة غفار بن مليل بن ضمرة بطن كان منهم أبو ذر الغفاري الصحابي و هو جندب بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار و صاحبه كثير الشاعر الذي تشبب بعزة بنت جميل بن حفص بن إياس بن عبد العزى بن حاجب غافر بن غفار و منهم كلثوم بن الحصين بن خالد بن معيسير بن بدر بن خميس بن غفار و استخلفه النبي صلى الله عليه و سلم على المدينة في غزو الفتح و بنو مدلج بن مرة بن عبد مناة : منهم سراقة بن مالك بن جعشم بن مالك بن عمرو بن مالك بن تيم بن مدلج الذي اتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم بجعالة قريش ليرده فظهرت فيه الآية و صرفه الله تعالى عنه و مجزز المدلجي الذي سر النبي صلى الله عليه و سلم بقيافته في أسامة و زيد و هو مجزز بن الأعور بن جعد بن معاذ بن عتوارة بن عمرو بن مدلج و بنو عامر بن عبد مناة منهم بنو مساحق بن الأفرم بن جذيمة بن عامر الذين قتلهم خالد بن الوليد بالغميصا و وداهم النبي صلى الله عليه و سلم و أنكر فعل خالد و بنو الحارث بن عبد مناة منهم الحليس بن علقمة بن عمرو بن الأوقح بن عامر بن جذيمة بن عوف بن الحارث الذي عقد الأحابيش مع قريش و أخوه تيم الذي عقد حلف القارة معهم و بنو فراس بن مالك بن كنانة : منهم فارس العرب ربيعة بن المكدم بن عامر بن خويلد بن جذيمة بن علقمة بن جذل الطعان بن فارس و بنو عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة : منهم نسأة الشهور في الجاهلية قام الإسلام فيهم على جنادة بن أمية بن عوف بن قلع بن جذيمة بن فقيم بن علي بن عامر و كل من صارت إليه هذه المرتبة كان يسمى القلمس و أول نسأ الشهور : سمير بن ثعلبة بن الحارث و كان منهم الرماحس بن عبد العزيز بن الرماحس بن الرسارس بن واقد بن وهب بن هاجر بن عز بن وائلة بن الفاكه بن عمرو بن الحرث ولاه عبد الرحمن الداخل حين جاء إلى الأندلس على الجزيرة و شذونة و امتنع بها ثم زحف إليه ففر إلى العدوة و بها مات و كان له بالأندلس عقب و لهم في الدولة الأموية ذكر و ولايات كان منها على الأساطيل فكان لهم فيها غناء و كانوا يغزون سواحل العبيديين بأفريقية فتعظم نكايتهم فيها و هو وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين لا رب غيره و لا خير إلا خيره و لا يرجى إلا إياه و لا معبود سواه و هو نعم المولى و نعم النصير و أسأله الستر الجميل و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين و الحمد لله رب العالمين حمدا دائما كثيرا و الله ولي التوفيق
و أما قريش و هم ولد النضر بن كنانة بن فهر بن مالك بن النضر و النضر هو الذي يسمى قريشا قيل للتقرش و هو التجارة و قيل تصغير قرش و هو الحوت الكبير المفترس دواب البحر و إنما انتسبوا إلى فهر لأن عقب النضر منحصر فيه لم يعقب من بني النضر غيره فهذا وجه القول بأن قريشا من بني فهر بن مالك أعني انحصار نسبهم فيه و أما الذي إسمه قريش فهو النضر فولد فهر غالب و الحارث و محارب فبنو محارب بن فهر من قريش الظواهر منهم الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب صاحب مرج راهط قاتل فيه مروان بن الحكم حين بويع له بالخلافة و قتل و ضرار بن الخطاب بن مرادس بن كثير بن عمرو آكل السقف ابن حبيب بن عمرو بن شيبان الفارس المشهور في الصحابة و أبوه الخطاب بن مرادس سيد الظوهر في الجاهلية و كان يأخذ المرباع منهم و حضر حروب الفجار و ابنه من فرسان الإسلام و شعرائه و عبد الملك بن قطي بن نهشل بن عمرو بن عبد الله بن وهب بن سعد بن عمرو آكل السقف شهد يوم الحرة و عاش حتى ولي الأندلس و صلبه أصحاب بلخ بن بشر القشيري و كرز بن جابر بن حسل ابن لاحب بن حبيب بن عمرو بن شيبان قتل يوم الفتح و هو مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و سار بنو الحرث بن فهر من الظواهر منهم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن وهب بن ضبة بن الحرث من العشيرة و أمير المسلمين بالشام عند الفتح و عقبة بن نافع بن عبد قيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن ضرب بن الحرث فاتح أفريقية و مؤسس القيروان بها و من عقبه عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة والي أفريقية أبوه حبيب بن عقبة هو قاتل عبد العزيز بن موسى بن نصير و يوسف بن عبد الرحمن بن أبي عبيدة صاحب الأندلس و عليه دخل عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك فقتله و وليها هو و بنوه من بعده
و أما غالب بن فهر و هو عمود النسب الكريم فولد تيم الأدرم و ولدين فبنو تيم الأدرم من الظواهر و هم بادية كان منهم ابن خطل الذي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتله يوم الفتح و هو متعلق بأستار الكعبة و هو هلال بن عبد الله بن عبد مناة بن أسعد بن جابر بن كبير بن تيم الأردم
و أما لؤي بن غالب في عمود النسب الكريم فولد كعبا و عامرا و بطونا أخرى يختلف في نسبها إلى لؤي خزيمة و سامة و سعد و جشم و هو الحارث و عوف و هم من قريش الظواهر على أقل فمنهم خزيمة بن لؤي و بنو سامة بن لؤي و يقال ليس بنو سامة من قريش و هم بعمان و يقال : إن منهم بني سامان ملوك ما وراء النهر فأما بنو عامر بن لؤي فهم شقير حسل بن عامر و معيص بن عامر فمن بني معيص بشر بن أرطأة و هو عويمر عمران بن الحليس بن يسار بن نزار بن معيص بن عامر و هو أحد قواد معاوية و مكرز بن حفص بن الأحنف بن علقمة بن عبد الحارث بن منقذ بن عمرو بن معيص من سادات قريش الذي أجار أبا جندل بن سهيل فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو عمرو بن قيس بن زايدة بن جندب الأصم ابن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد معيص و هو ابن خال خديجة و أمه أم كلثوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكمثة بن عامر بن مخزوم
و من بني حسل عامر بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح بن الحارث بن جبيب بن خزيمة بن مالك بن حسل بن عامر أمير المسلمين في فتح أفريقية أيام عثمان و ولي مصر و كان كتب لرسول الله صلى الله عليه و سلم ثم رجع إلى مكة ثم جاء تائبا و حسنت حاله و قصته معروفة و حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل له صحبة و عبد عمرو بن شمس بن عبدود بن نصر بن مالك صاحب الحديبية و أخوه السكران و ابنه أبو جندل سهيل و اسمه العاصي و هو الذي جاء في قيوده يوم الصلح الحديبية إلى النبي صلى الله عليه و سلم فرده و قصته معروفة و زمعة بن قيس بن عبد شمس و ابنه عبد بن زمعة و بنته سوده بنت زمعة أم المؤمنين و كانت زوجة السكران ابن عمها ثم تزوجها بعده رسول الله صلى الله عليه و سلم
و أما كعب بن لؤي و هو في عمود النسب الكريم فولده مرة وهصيص و عدي و هم قريش البطاح أي بطائح مكة فمن ابن كعب هصيص بن كعب بن لؤي بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب منهم العاصي بن وائل بن هشام بن سعيد بن سهم و ابناه عمرو و هشام إبنا العاصي و عبد الرحمن بن معيص بن أبي وداعة و هو الحارث بن سعيد بن سعد بن سهم قارئ أهل مكة و إسمعيل بن جامع بن عبد المطلب بن أبي وادعة مفتي مكة و نبيه و منبه إبنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم قتلا يوم بدر كافرين و ألقيا في القليب و قتل يومئذ العاصي بن منبه و كان له ذو الفقار سيف رسول الله صلى الله عليه و سلم و عبد الله بن الزبعري بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم كان يؤذي بشعره ثم أسلم و حسن إسلامه و حذافة بن قيس أبو الأخنس و خنيس و كان خنيس على حفصة قبل رسول الله صلى الله عليه و سلم و عبد الله بن حذافة من مهاجرة الحبشة و هو الذي مضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى كسرى و بنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب كان منهم أمية بن خلف بن وهب بن حذافة قتل يوم بدر و أخوه أبي قتله رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد بيده و ابنه صفوان بن أمية أسلم يوم الفتح و ابنه عبد الله بن صفوان قتل مع الزبير و عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة و إخوته قدامة و السائب و عبد الله مهاجرون بدريون و إخوتهم زينب بنت مظعون أم حفصة
و بنو عدي بن كعب : منهم زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن زراح بن عدي و رفض الأوثان في الجاهلية و التزم الحنيفية ملة إبراهيم إلى أن قتل بقرية من قرى البلقاء قتله لخم أو جذام و ابنه سعيد بن زيد أحد العشرة المشهود لهم بالجنة و عمر بن الخطاب أمير المؤمنين و ابنه عبد الله و عاصم و عبيد الله و غيرهم و خارجة بن حذافة بن غانم بن عامر بن عبيد الله بن عويج بن عدي بن كعب الذي قتله الحروري بمصر يظنه عمرو بن العاص و قال : أردت عمرا و أراد الله خارجة فصارت مثلا و أبو الجهم بن حذيفة بن غانم صاحب النفل يوم حنين و مطيع بن الأسود بن حارثة بن نضلة بن عوف بن عبيد بن عويج صحابي و ابنه عبد الله بن مطيع كان على المهاجرين يوم الحرة قتل مع ابن الزبير بمكة
و أما مرة بن كعب و هو من عمود النسب الكريم فكان له من الولد كلاب و تيم و يقظة
فأما تيم بن مرة فمنهم : عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم سيد قريش في الجاهلية و تنسب إليه الدار المشهورة يومئذ بمكة و منهم أبو بكر الصديق و إسمه عبد الله بن أبي قحافة و هو عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب و ابناه عبد الرحمن و محمد و طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب قتل يوم الجمل و ابنه محمد السجاد و أعقابهم كثيرة
و بنو يقظة بن مرة منهم : بنو مخزوم بن يقظة بن مرة فمنهم صيفي بن أبي رفاعة و هو أمية بن عائذ بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم قتل هو أخوه ببدر كافرا و الأرقم بن أبي الأرقم و اسمه عبد مناف بن أبي جندب و اسمه أسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم صاحبي بدري كان يجتمع بداره النبي صلى الله عليه و سلم و المسلمون سرا قبل أن يفشوا الإسلام و أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم من قدماء المهاجرين كان زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه و سلم و الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم و إسمه أبو قيس قتل يوم بدر كافرا و أبو جهل هشام بن المغيرة و إسمه عمر و قتل يومئذ كافرا و اينه عكرمة صحابي و الحارث بن هشام بن المغيرة أسلم و حسن إسلامه و له عقب كثير مشهورون و أبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة قتل يوم بدر كافرا و بنته أم سلمة أم المؤمنين و هشام بن أبي حذيفة من مهاجرة الحبشة و عبد الله بن أبي ربيعة و هو عمرو بن المغيرة من الصحابه من ولده الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المعروف بالقباع و الوليد بن المغيرة مات بمكة كافرا و ابنه خالد بن الوليد سيف الله صاحب الفتوحات الإسلامية و سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو عائذ بن عمران بن مخزوم تابعي و أبوه المسيب من أهل بيعة الرضوان
و أما كلاب بن مرة من عمود النسب الكريم فولد له قصي و زهرة فبنو زهرة كلاب منهم آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أم النبي صلى الله عليه و سلم و ابن أخيها عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث بن وهب و سعد بن أبي وقاص و إسمه مالك بن وهب بن عبد مناف أمير المسلمين في فتح العراق و هاشم ابن أخيه عتبة من الأمراء يومئذ و ابنه عمرو بن سعيد الذي بعثه عبد الله بن زياد لقتال الحسين و قتله المختار بن أبي عبيد و أخوه محمد بن سعد قتله الحجاج بن أبي الأشعث و المسور ابن مخرمة بن نوفل بن وهب صحابي و أبوه من المؤلفة قلوبهم و عبد الله بن عوف بن عبد عوف بن عبد الحرث بن زهرة و ابنه سلمة و له عقب كثير
و أما قصي بن كلاب من عمود النسب الكريم و هو الذي جمع أمر قريش و أثل مجدهم فولد له عبد مناف و عبد الدار و عبد العزى
فبنو عبد الدار كان منهم النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار أسر يوم بدر مع المشركين و لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و مر بالصفراء أمر به فضرب عنقه هنالك و مصعب بن عمرو بن هاشم بن عبد مناف صحابي بدري استشهد يوم أحد و كان صاحب اللواء و من عقبه كان عامر بن وهب القائم بسرقسطة من الأندلس بدعوة أبي جعفر المنصور و قتله يوسف بن عبد الرحمن الفهري أمير الأندلس قبل عبد الرحمن الداخل و منهم أبو السنابل بن بعكك بن السباق بن عبد الدار صحابي مشهور و مهم عثمان بن طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار الذي دفع إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الفتح مفتاح الكعبة و قيل إنما دفعه إلى أخيه شيبة و صارت حجابة البيت إلى بني شيبة بن طلحة من يومئذ
و بنو عبد العزى بن قصي منهم أبو البختري العاصي بن هاشم بن الحارث بن أسد بن عبد العزى أراد التملك على قريش من قبل قيصر فمنعوه فرجع عنهم إلى الشام و سجن من وجد بها من قريش و كان في جملتهم أبو أحيحة سعيد بن العاص فدست قريش إلى عمرو بن جفنة الغساني فسم عثمان بن الحويرث و مات بالشام و هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى كان من عقبه عمر بن عبد العزيز بن المنذر بن الزبير بن عبد الرحمن بن هبار صاحب السند وليها في ابتداء الفتنة إثر قتل المتوكل و تداول أولاده ملكها إلى أن انقطع أمرهم على يد محمود بن سبكتكين صاحب غزنة و ما دون النهر من خراسان و كانت قاعدتهم المنصورة و كان جده المنذر بن الربيع قد قام بقرقيسيا أيام السفاح فأسر و صلب و إسمعيل بن هبار قتله مصعب بن عبد الرحمن غيلة و هبار كان يهجو النبي صلى الله عليه و سلم ثم ابنه عوف أسلم فمدحه و حسن إسلامه و عبد الله بن زمعة بن الأسود له صحبة و تزوج زينب بنت أبي سلمة من أم سلمة أم المؤمنين و خديجة أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى و الزبير بن العوام بن خويلد أحد العشرة و ابناه عبد الله و مصعب و حكيم بن حزام بن خويلد عاش ستين سنة في الإسلام و باع داره و الندوة من معاوية بمائة ألف و ابنه هشام بن حكيم
و أما عبد مناف و هو صاحب الشوكة في قريش و سنام الشرف و هو في عمود النسب الكريم فولد له عبد شمس و هاشم و المطلب و نوفل و كان بنو هاشم و بنو عبد شمس متقاسمين رياسة بني عبد مناف و البقية أحلاف لهم فبنو المطلب أحلاف لبني هاشم و بنو نوفل أحلاف لبني عبد شمس
فأما بنو عبد شمس فمنهم العبلات و هم بنو أمية الأصغر و بنته الثريا صاحبة عمرو بن أبي ربيعة و هي سيدة القريض المغني و بنو ربيعة بن عبد شمس : منهم عتبة و شيبة ابنا ربيعة و من عتبة ابنه الوليد و قتل يوم بدر كافر و أبو حذيفة صحابي و هو مولى سالم قتل يوم اليمامة و هند بنت عتبة أم معاوية رضي الله عنها و بنو عبد العزى بن عبد شمس : منهم أبو العاصي بن الربيع بن عبد العزى صهر النبي و كانت له منها أمامة تزوجها علي بعد فاطمة رضي الله عنهما و بنو أمية الأكبر بن عبد شمس منهم سعيد بن أبي أحيحة العاصي بن أمية مات كافرا و ابنه خالد بن سعيد قتل يوم اليرموك و سعيد بن العاص بن سعيد قديم الإسلام ولي صنعاء و استشهد في فتح الشام و ابنه سعيد قتل يوم اليرموك و سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية ولي الكوفة لعثمان و ابنه عمر و الأشدق القائم على عبد الملك و قتله و أمير المؤمنين عثمان بن عفان بن العاص بن أمية و مروان بن الحكم بن أبي العاص و أعقابه الخلفاء الأولون في الإسلام و الملوك بالأندلس معروفون يأتي ذكرهم عند أخبار دولهم و أبو سفيان بن حرب بن أمية و أبناؤه معاوية أمير المؤمنين و يزيد و حنظلة و عتبة و أم حبيبة أم المؤمنين و عقب معاوية بين الخلفاء و الإسلام بين معروف يذكر عند ذكرهم و عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية ولاه رسول الله صلى الله عليه و سلم على مكة إذ فتحها فلم يزل عليها إلى أن مات يوم ورود الخبر بموت أبي بكر الصديق و منهم بنو أبي الشوارب القضاة ببغداد من عهد المتوكل إلى المقتدر و هم بنو أبي عثمان بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص و عقبة بن أبي معيط و اسمه أبان بن عمرو بن أمية قتله رسول الله صلى الله عليه و سلم ببدر صبرا و إبنه الوليد صحابي ولي الكوفة و هو الذي حد على الخمر بين يدي عثمان و ابنه أبو قطيفة الشاعر و من عقبة بن أبي معيط المعيطي الذي بويع بدانية من شرق الأندلس بايع له ما ملكها مجاهد زمان الفتنة بعد المائة الرابعة في آخر الدولة الأموية و هو عبد الله بن عبد الله بن عبيد الله بن الوليد بن محمد بن يوسف بن عبد الله بن عبد العزيز بن خالد بن عثمان بن عبد الله بن عبد العزيز بن خالد بن عقبة بن أبي معيط
و بنو نوفل بن عبد مناف : منهم جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل الصحابي المشهور و أبوه مطعم هو الذي نوه به النبي صلى الله عليه و سلم يوم الطائف و مات قبل بدر و طعيمة بن عدي قتل يوم بدر كافرا و مولاه وحشي هو الذي قتل يوم أحد حمزة بن عبد المطلب
و بنو المطلب بن عبد مناف منهم قيس بن مخرمة بن المطلب صحابي و ابنه عبد الله بن قيس مولى يسار جد محمد بن إسحق بن يسار صاحب المغازي و مسطح و هو عوف بن أثاثة بن عباد بن المطلب أحد من تلكلم بالأفك و هو ابن خالة أبي بكر الصديق و ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب كان من أشد الرجال و صارعه رسول الله صلى الله عليه و سلم فصرعه و كانت آية من آياته و السائب بن عبد يزيد و كان يشبه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أسر يوم بدر و من عقبه الشافعي محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب
و أمات بنو هاشم بن عبد مناف فسيدهم عبد المطلب بن هاشم و لم يذكر من عقبه إلا عقب عبد المطلب هذا و كان بنوه عشرة عبد الله أبو النبي صلى الله عليه و سلم و هو أصغرهم و حمزة و العباس و أبو طالب و الزبير و المقوم و يقال إسمه الغيداق و ضرار و حجل و أبو لهب و قثم و الزبير لا عقب لهما و عقب حمزة انقرض فيما قال ابن حزم و من عقب أبي لهب ابنه عتبة صحابي و أما عقب العباس و أبي طالب فأكثر من أن يحصر و البيت و الشرف من بني العباس في عبد الله بن العباس و من بني أبي طالب في علي أمير المؤمنين و بعده أخوه جعفر رضي الله عنهم أجمعين و سنذكر من مشاهيرهم عند ذكر أخبارهم و دولهم ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى
هذا آخر الكلام و في أنساب قريش و انقضى بتمامها الكلام في أنساب مضر و عدنان فلنرجع الآن إلى أخبار قريش و سائر مضر و ما كان لهم من الدول الإسلامية و الله المستعان لا رب غيره و لا خير إلا خيره و لا معبود سواه و لا يرجى إلا إياه و هو حسبي و نعم الوكيل و أسأله الستر الجميل (2/377)
الخبر عن قريش من هذه الطبقة و ملكهم بمكة و أولية أمرهم و كيف صار الملك إليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة
قد ذكروا عند الطبقة الأولى أن الحجاز و أكناف العرب كانت ديار العمالقة من ولد عمليق بن لاوذ و أنهم كان لهم ملك هنالك و كانت جرهم أيضا من تلك الطبقة من ولد يقطن بن شالخ بن أرفخشد و كانت ديارهم اليمن مع إخوانهم حضرموت و أصاب اليمن يومئذ قحط ففروا نحو تهامة يطلبون الماء و المرعى و عثروا في طريقهم بإسمعيل مع أمه هاجر عند زمزم و كان من شأنه وشأنهم معه ما ذكرناه عند ذكر إبراهيم عليه السلام و نزلوا على قطورا من بقية العمالقة و عليهم يومئذ السميدع بن هوثر بثاء مثلثة ابن لاوي بن قطورا بن ذكر بن عملاق أو عمليق و اتصل خبر جرهم من ورائهم من قومهم باليمن و ما أصابوا من النجعة بالحجاز فلحقوا بهم و عليهم مضاض بن عمرو بن سعيد بن الرقيب بن هنء بن نبت بن جرهم فنزلوا على مكة بقعيقعان و كانت قطورا أسفل مكة و كان مضاض يعشر من دخل مكة من أعلاها و السميدع من أسفلها هكذا عند ابن اسحق و المسعودي أن قطورا من العمالقة و عند غيرهما أن قطورا من بطون جرهم و ليسوا من العمالقة ثم افترق أمر قطورا و جرهم و تنافسوا الملك و اقتتلوا و غلبهم المضاض و قتل السميدع و انقضت العرب العاربة قال الشاعر :
( مضى آل عملاق فلم يبق منهمو ... حقير ولاذ و عزة متشاوس )
( عتوا فأدال الدهر منهم و حكمه ... على الناس هذا واغذ و مبايس )
و نشأ إسمعيل صلوات الله عليه بين جرهم و تكلم بلغتهم و تزوج منهم حرا بنت سعد بن عوف بن هنء بن نبت بن جرهم و هي المرأة التي أمره أبوه بتطليقها لما زاره و وجده غائبا فقال لها : قولي لزوجك فليغير عتبته فطلقها و تزوج بنت أخيها مامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف ذكر هاتين المرأتين الواقدي في كتاب انتقال النور و تزوج بعدهما السيدة بنت الحرث بن مضاض بن عمرو بن جرهم و لثلاثين سنة من عمر إسمعيل قدم أبوه الحجاز فأمر ببناء الكعبة البيت الحرام و كان الحجر زربا لغنم إسمعيل فرفع قواعدها مع ابنه إسمعيل و صيرها خلوة لعبادته و جعلها للناس كما أمره الله و انصرف إلى الشام فقبض هنالك كما مر و بعث الله إسمعيل إلى العمالقة و جرهم و أهل اليمن فآمن بعض و كفر بعض إلى أن قبضه الله و دفن بالحجر مع أمه هاجر و يقال آجر و كان عمره فيما يقال مائة و ثلاثين سنة و عهد بأمره لابنه قيذار : و معنى قيذار صاحب الإبل و ذلك لأنه كان صاحب إبل أبيه إسمعيل كذا قال السهيلي قال غيره معناه الملك و يقال : إنما عهد لابنه نابت فقام ابنه بأمر البيت و وليها و كان ولده فيما ينقل أهل التوراة كما نقل اثني عشر : قيذار ينابوت أدبيبل مبسام مشمع دوما مسا حدد ديمايطور ياقيس قدما أمهم السيدة بنت مضاض قاله السهلي و هكذا وقعت أسماؤهم في الإسرائيليات و الحروف مخالفة للحروف العربية بعض الشيء باختلاف المخارج فلهذا يقع الخلاف بين العلماء في ضبط هذه الألفاظ و قد ضبط ابن إسحق تيما منهم بالطاء والياء و ضبطه الدارقطني بالضاد المعجمة و الميم قبل الياء كأنها تأنيث آضم و ذكر ابن إسحق ديما و قال البكري به سمين دومة الجندل لأنه نزلها و ذكر ان الطور بيطون ابن إسمعيل
ثم هلك نابت بن إسمعيل و ولى أمر البيت جده الحرث بن مضاض و قيل وليها مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هنء ابن نبت بن جرهم ثم ابنه الحرث بن عمرو ثم قسمت الولاية بين ولد إسمعيل بمكة و أخوالهم من جرهم ولاة البيت لا ينازعهم ولد إسمعيل إعظاما للحرم أن يكون به بغي أو قتال ثم بغت جرهم في البيت و وافق بغيهم تفرق سبأ و نزول بني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أرض مكة فأرادوا المقام مع جرهم فمنعوهم و اقتتلوا فغلبهم بنو حارثة و هم فيما قيل خزاعة و ملكوا البيت عليهم و رئيسهم يومئذ عمرو بن لحي و شرد بقية جرهم و لحي هذا هو ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقيا بن عامر و قيل : إنما ثعلبة بن حارثة بن عامر و في الحديث [ رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ] يعني أحشاءه أنه الذي بجر البحيرة و سيب السائبة و حمى الحامي و غير دين إسمعيل و دعا إلى عبادة الأوثان و في طريق آخر رأيت عمرو بن عامر قال عياض المعروف في نسب أبي خزاعة هذا هو عمرو محمد لحي بن قمعة بن إلياس و إنما عامر اسم أبيه أخو قمعة و هو مدركة بن إلياس و قال السهيلي : كان حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر خلف على أم لحي بعد أبيه قمعة و لحي تصغير و اسمه ربيعة تبناه حارثة و انتسب إليه فالنسب صحيح بالوجهين و أسلم بن أفصى بن حارثة أخو خزاعة
و عن ابن إسحق أن الذي أخرج جرهم من البيت ليست خزاعة وحدها و إنما تصدى للنكير عليهم خزاعة و كنانة و تولى كبره بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة و بنو غبشان بن عبد عمرو بن بوى بن ملكان بن أفصى بن حارثة فاجتمعوا لحربهم و اقتتلوا و غلبهم بنمو بكر و بنو غبشان بن كنانة و خزاعة على البيت و نفوهم من مكة فخرج عمرو و قيل عامر بن الحرث بن مضاض الأصغر بمن معه من جرهم إلى اليمن بعد أن دفن حجر الركن و جميع أموال الكعبة بزمزم ثم أسفوا على ما فارقوا من أمر مكة و حزنوا حزنا شديدا و قال عمرو بن الحرث و قيل عامر :
( كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس و لم يسمر بمكة سامر )
( بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ... صروف الليالي و الجدود العواثر )
( و كنا ولاة البيت من بعد نابت ... نطوف فما تحظى لدنيا المكاثر )
( ملكنا فعززنا فأعظم ملكنا ... فليس لحي عندنا ثم فاخر )
( ألم تنكحوا من خير شخص علمته ... فأبناؤنا منا و نحن الأصاهر )
( فأن تنثني الدنيا علينا بحالها ... فإن لها حالا و فيها التشاجر )
( فأخرجنا منها المليك بقدرة ... كذلك يا للناس تجري المقادر )
( أقول إذا نام الخلي و لم أنم ... أذا العرش لا يبعد سهيل و عامر )
( و بدلت منها أوجها لا أحبها ... قبائل منها حمير و بحائر )
( و صرنا أحاديثا و كنا بغطة ... بذلك عضتنا السنون الغوابر )
( فساحت دموع العين تبكي لبلدة ... بها حرم أمن و فيها المشاعر )
( و نبكي لبيت ليس يؤذي حمامه ... يظل بها أمنا و فيها العصافر )
( و فيه و حوش لا ترام أنيسة ... إذا خرجت منه فليست تغادر )
ثم غلبت بنو حبشية على أمر البيت بقومهم من خزاعة و استقلوا بولايتها دون بني بكر عبد مناة و كان الذي يليها لآخر عهدهم عمرو بن الحرث و هو غبشان
و ذكر الزبير : أن الذين أخرجوا جرهم من البيت من ولد إسمعيل من ولد إياد بن نزار و من بعد ذلك وقعت الحرب بين مضر و إياد فأخرجتهم مضر و لما خرجت إياد قلعوا الحجر الأسود و دفنوه في بعض المواضع و رأيت ذلك امرأة من خزاعة فأخبرت قومها فاشترطوا على مضر إن دولوهم عليه أن لهم ولاية البيت دونهم فوفوا لهم بذلك و صارت ولاية البيت لخزاعة إلى أن باعها أبو غبشان لقصي و يذكر أن من وليها منهم عمرو بن لحي و نصب الأصنام و خاطبه رجل من جرهم :
( يا عمرو لا تظلم بمكة إنها بلد حرام )
( سائل بعاد أين هم ـ و كذاك تحترم الأنام )
( و هي العماليق الذين لهم بها كان السوام )
و كانت ولاية البيت لخزاعة و كان لمضر ثلاث خصال : الإجازة بالناس يوم عرفة لبني الغوث بن مرة إخوتهم و هو صوفة و الإفاضة بالناس غداة النحر من جمع إلى منى لبني زيد بن عدي و انتهى ذلك منهم إلى أبي سيارة عميرة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن كانس بن زيد فدفع من مزدلفة أربعين سنة علىحمار و نسء الشهور الحرم كان لبني مالك بن كنانة و انتهى إلى القلمس كما مر و كان إذا أراد الناس الصدور من مكة قال : اللهم إني أحللت أحد الصغرين و نسأت الآخر للعام المقبل قال عمرو بن قيس من بني فراس :
( و نحن الناسئون على معد ... شهور الحل نجعلها حرما )
قال ابن إسحق : فأقام بنو خزاعة و بنو كنانة على ذلك مدة الولاية لخزاعة دونهم كما قلناه و في أثناء ذلك تشعبت بطون كنانة و من مضر كلها و صاروا جرما و بيوتات متفرقين في بطن قومهم من بني كنانة و كلهم إذ ذاك أحياء حلول بظواهرها و صارت قريش على فرقتين : قريش البطاح و قريش الظاهر فقريش البطاح ولد قصي بن كلاب و سائر بني كعب بن لؤي و قريش الظواهر من سواهم و كانت خزاعة بادية لكنانة ثم صار بنو كنانة لقريش ثم صارت قريش الظواهر بادية لقريش البطاح و قريش الظواهر من كان على الأقل من مرحلة و من الضواحي ما كان على الأكثر من ذلك و صار من سوى قريش و كنانة من قبائل مضر في الضواحي أحياء بادية و ظعونا ناجعة من بطون قيس و خندق من أشجع و عبس و فزارة و مرة و سليم و سعد بن بكر و عامر بن صعصعة و ثقيف و من تميم و الرباب و ضبعي بني أسد و هذيل و القارة و غير هؤلاء من البطون الصغار و كان التقدم في مضر كلها لكنانة ثم لقريش و التقدم في قريش لبني لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر و كان سيدهم قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي كان له فيهم شرف و قرابة و ثروة و ولد و كان له في قضاعة ثم في بني عروة بن سعد بن زيد من بطونهم نسب ظئر و رحم كلالة كانوا أجلها فيه شيعة و ذلك بما كان ربيعة بن حرام بن عذرة قدم مكة قبل مهلك كلاب بن مرة و كان كلاب خلف قصيا في حجر أمه فاطمة بنت سعد بن باسل بن خثعمة الأسدي من اليمن فتزوجها ربيعة و قصي يومئذ فطيم فاحتملت إلى بلاد بني عذرة و تركت ابنها زهرة بن كلاب لأنه كان رجلا بالغا و ولدت لربيعة بن حزام رزاح بن ربيعة و لما شب قصي و عرف نسبه رجع إلى قومه و كان الذي يلي أمر البيت لعهده من خزاعة حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو فأصهر إلى قصي في ابنته حبى فأنكحه إياها فولدت له عبد الدار و عبد مناف و عبد العزى و عبد قصي و لما انتشر ولد قصي و كثر ماله و عظم شرفه هلك حليل فرأى قصي أنه أحق بالكعبة و بأمر مكة و خزاعة و بني بكر لشرفه في قريش و لما كثرت قريش سائر الناس و اعتزت عليهم و قيل أوصى له بذلك حليل و لما بدا له ذلك مشى في رجالات قريش و دعاهم إلى ذلك فأجابوه و كتب إلى أخيه زاح في قومه عذرة مستجيشا بهم فقدم مكة في إخوته من ولد ربيعة و من تبعهم من قضاعة في جملة الحاج مجمعا نصر قصي
قال السهيلي : و ذكر غير ابن إسحق أن حليلا كان يعطي مفاتيح البيت بنته حبى حين كبر و ضعف فكانت بيدها و كان قصي ربما أخذها يفتح البيت للناس و يغلقه فلما هلك حليل أوصى بولاية البيت إلى قصي و أبت خزاعة أن يمضي ذلك لقصي فعند ذلك هاجت الحرب بينه و بين خزاعة و أرسل إلى رزاح أخيه يستنجده عليهم
و قال الطبري : لما أعطى حليل مفاتيح الكعبة لابنته حبى لما كبر و ثقل قالت : إجعل ذلك لرجل يقوم لك به فجعله إلى أبي غبشان سليمان بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن قصي و كانت له ولاية الكعبة و يقال : إن أبا غبشان هو ابن حليل باعه من قصي بزق خمر قيل فيه أخسر من صفقة أبي غبشان فكان من أول ما بدؤا به نقض ما كان لصوفة من إجازة الحاج و ذلك أن بني سعد بن زيد مناة بن تميم كانوا يلون الإجازة للناس بالحج من عرفة ينفر الحاج لنفرهم و يرمون الجمار لرميهم و رثوا ذلك من بني الغوث بن مرة كانت أمه من جرهم و كانت لا تلد فنذرت إن ولدت أن تتصدق به على الكعبة عبدا يخدمها فولدت الغوث و خلى أخواله من جرهم و بينه و بين من نافسه بذلك فكان له و لولده و كان يقال لهم صوفة
و قال السهيلي : عن بعض الإخباريين : إن ولاية الغوث بن مرة كانت من قبل ملوك كندة ولما انقرضوا و رث بالتعدد بنو سعد بن زيد مناة و لما جاء الإسلام كانت تلك الإجازة منهم لكرب بن صفوان بن حتات بن سجنة و قد مر ذكره في بطون تميم فلما كان العام الذي أجمع فيه قصي الإنفراد بولاية البيت و حضر إخوته من عذرة تعرض لبني سعد أصحاب صوفة في قومهم من قريش و كنانة و قضاعة عند الكعبة فلما وقفوا للأجازة و قال : لا نحن أولى بهذا منكم فتناجزا و غلبهم قصي على ما كان بأيديهم و عرفت خزاعة و بنو بكر عند ذلك أنه سيمنعهم من ولاية البيت كما منع الآخرين فانجازوا لحربه و تناجزوا و كثر القتل ثم صالحوه على أن يحكموا من أشرف العرب و تنافروا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عمرو بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فقضى لقصي عليهم فولى قصي البيت و قر بمكة و جمع قريشا من منازلهم بين كنانة إليها و قطعها أرباعا بينهم فأنزل كل بطن منهم بمنزلة الذي صحبهم به الإسلام و سمي بذلك مجمعا قال الشاعر :
( قصي لعمري كان يدعى مجمعا ... به جمع الله القبائل من فهر )
فكان أول من أصاب من بني لؤي بن غالب ملكا أطاع له به قومه فصار له لواء الحرب و حجابة البيت و تيمنت قريش برأيه فصرفوا مشورتهم إليه في قليل أمورهم و كثيرها فاتخذوا دار الندوة إزاء الكعبة في مشاوراتهم و جعل بابها إلى المسجد فكانت مجتمع الملاء من قريش في مشاوراتهم و معاقدهم ثم تصدى لإطعام الحاج و سقايته لما رأى أنهم ضيف الله و زوار بيته و فرض على قريش خراجا يؤدونه إليه زيادة على ذلك كانوا يردفونه به فحاز شرفهم كله و كانت الحجابة و السقاية و الرفادة و الندوة و اللواء له و لما أسن قصي وكان بكره عبد الدار و كان ضعفا و كان أخوه عبد مناف شرف عليه في حياة أبيه فأوصى قصي لعبد الدار بما كان له من الحجابة و اللواء و الندوة و الرفادة و السقاية يجبر له بذلك ما نقصه من شرف عبد مناف و كان أمره في قومه كالدين المتبع لا يعدل عنه ثم هلك و قام بأمره في قومه بنوه من بعده و أقاموا على ذلك مدة و سلطان مكة لهم و أمر قريش جميعا ثم نفس بنو عبد مناف على بني عبد الدار ما بأيديهم و نازعوهم فافترق أمر قريش و صاروا في مظاهرة بني قصي بعضهم على بعض فرقتين و كان بطون قريش قد اجتمعت لعهدها ذلك اثني عشر بطنا : بنو الحرث بن فهر و بنو محارب بن فهر و بنو عامر بن لؤي و بنو عدي بن كعب و بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب و بنو جمح بن عمرو بن هصيص و بنو تيم بن مرة و بنو مخزوم بن يقظة بن مرة و بنو زهرة بن كلاب و بنو أسد بن عبد العزى بن قصي و بنو عبد الدار و بنو عبد مناف بن قصي
فأجمع بنو عبد مناف انتزاع ما بأيدي بني عبد الدار مما جعل لهم قصي و قام بأمرهم عبد شمس أسن ولده و اجتمع له من قريش : بنو أسد بن عبد العزى و بنو زهرة و بنو تيم و بنو الحرث و اعتزل بنو عامر و بنو المحارب الفريقين و صار الباقي من بطون قريش مع بني عبد الدار و هم : بنو سهم و بنو جمح و بنو عدي و بنو مخزوم ثم عقد كل من الفريقين على أحلافه عقدا مؤكدا و أحضر بنو عبد مناف و حلف قومهم عند الكعبة جفنة مملؤة طيبا غمسوا فيها أيديهم تأكيدا للحلف فسمي حلف المطيبين و أجمعوا للحرب و سووا بين القبائل و أن بعضها إلى بعض فعبت بنو عبد دار لبني الأسد و بنو جمح لبني زهرة و بنو مخزوم لبني تيم و بنو عدي لبني الحرث ثم تداعوا للصلح على أن يسلموا لبني عبد مناف السقاية و الرفادة و يختص بنو عبد الدار بالحجابة و اللواء فرضي الفريقان و تحاجز الناس
و قال الطبري قيل ورثها من أبيه ثم قام بأمر بني عبد مناف هاشم ليساره و قراره بمكة و تقلب أخيه عبد شمس في التجارة إلى الشام فأحسن هاشم ما شاء في إطعام الحاج و إكرامهم وفدهم و يقال : إنه أول من أطعم الثريد الذي كان يطعم فهو ثريد قريش الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم : [ فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ] و الثريد لهذا العهد ثريد الخبز بعد أن يطبخ في المقلاة و التنور و ليس من طعام العرب إلا أن عندهم طعاما يسمونه البازين يتناوله الثريد لغة و هو ثريد الخبز بعد أن يطبخ في الماء عجينا رطبا إلى أن يتم نضجه ثم يدلكونه بالمغرفة حتى تتلاحم أجزاؤه و تتلازج و ما أدري هل كان ذلك الطعام كذلك أو لا إلا أن لفظ الثريد يتناوله لغة
و يقال : إن هاشم بن عبد المطلب أول من سن الرحلتين في الشتاء و الصيف للعرب ذكره ابن إسحق و هو غير صحيح لأن الرحلتين من عوائد العرب في كل جيل لمراعي إبلهم و مصالحها لأن معاشهم فيها و هذا معنى العرب و حقيقتهم أنه الجيل الذي معاشهم في كسب الإبل و القيام عليها في ارتياد المرعى وانتجاع المياه و النتاج والتوليد و غير ذلك من مصالحها و الفرار بها من أذى البرد عند التوليد إلى القفار و دفئها و طلب التلول في المصيف للحبوب و برد الهواء و تكونت على ذلك طباعهم فلابد لهم منها ظعنوا أو أقاموا و هو معنى العروبية و شعارها أن هاشما لما هلك و كان مهلكه بغزة من أرض الشام تخلف عبد المطلب صغيرا بيثرب فأقام بأمره من بعده بعده ابنه المطلب و كان ذا شرف و فضل و كانت قريش تسمية الفضل لسماحته و كان هاشم قدم يثرب فتزوج في بني عدي و كانت قبلة عند أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبا بن كلفه بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك سيد الأوس لعهده فولدت عمرو بن أحيحة و كانت لشرفها تشترط أمرها بيدها في عقد النكاح فولت عبد المطلب فسمته شيبة و تركه هاشم عندها حتى كان غلاما و هلك هاشم فخرج إليه أخوه المطلب فأسلمته إليه بعد تعسف و اغتباط به فاحتمله و دخل مكة فرفده على بعيره فقالت قريش : هذا عبد ابتاعه المطلب فسمي شيبة عبد المطلب من يومئذ
ثم أن المطلب بردمان من اليمن فقام بأمر بني هاشم بعده عبد المطلب بن هاشم و أقام الرفادة و السقاية للحاج على أحسن ما كان قومه يقيمونه بمكة من قبله و كانت له وفادة على ملوك اليمن من حمير و الحبشة و قد قدمنا خبره مع ابن ذي يزن و مع أبرهة و لما أراد حفر زمزم للرؤيا التي رآها اعترضته قريش دون ذلك ثم حالوا بينه و بين ما أراد منها فنذر لئن ولد له عشرة من الوالد ثم يبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم قربانا لله عند الكعبة فلما كملوا عشرة ضرب عليهم القداح عند هبل الصنم العظيم الذي كان في جوف الكعبة على البئر التي كانوا ينحرون فيها هدايا الكعبة فخرجت القداح على ابنه عبد الله والد النبي صلى الله عليه و سلم وتحير في شأنه ومنعه قومه من ذلك و أشار بعضهم و هو المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بسؤال العرافة التي كانت لهم بالمدينة على ذلك فألفوها بخيبر و سألوها فقالت : قربوه و عشرا من الإبل و أجيلوا القداح فإن خرجت على الإبل فذلك و إلا فزيدوا في الإبل حتى تخرج عليها القداح و انحروها حينئذ فهي الفدية عنه و قد رضي إلهكم ففعلوا و بلغت الإبل مائة فنحرها عبد المطلب و كانت من كرامات الله به و عليه قوله صلى الله عليه و سلم [ أنا ابن الذبيحين ] يعني عبد الله أباه و إسمعيل بن إبراهيم جده اللذين قربا للذبح ثم فديا بذبح الأنعام
ثم إن عبد المطلب زوج ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فدخل بها وحملت برسول صلى الله عليه و سلم و بعثه عبد المطلب يمتار لهم تمرا فمات هنالك فلما أبطأ عليهم خبره بعث في إثره و قال الطبري : عن الواقدي : الصحيح أنه أقبل من الشام في حي لقريش فنزل بالمدينة و مرض بها و مات أقام عبد المطلب في رياسة قريش بمكة و الكون يصغي لملك العرب و العالم يتمخض بفصال النبوة إلى أن وضح نور الله من أفقهم و سرى خبر السماء إلى بيوتهم و اختلفت الملائكة إلى أحيائهم و خرجت الخلافة في أنصبائهم و صارت العزة لمضر و لسائر العرب بهم و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و عاش عبد المطلب مائة و أربعين سنة و هو الذي احتفر زمزم
قال السهيلي : و لما حفر عبد المطلب زمزم استخرج منه تمثالي غزالين من ذهب و أسيافا كذلك كان ساسان ملك الفرس أهداها إلى الكعبة و قيل سابور و دفنها الحرث بن مضاض في زمزم لما خرج بجرهم من مكة فاستخرجها عبد المطلب و ضرب الغزالين حليه للكعبة فهو أول من ذهب حلية الكعبة بها و ضرب من تلك الأسياف باب حديد و جعله للكعبة و يقال : إن أول من كسى الكعبة و اتخذا لها غلقا تبع إلى أن جهله لها عبد المطلب هذا الباب ثم اتخذا عبد المطلب حوضا لزمزم يسقي منه و حسده قومه على ذلك و كانوا يخرجون بالليل فلما غمه ذلك رأى في النوم قائلا يقول : قل لا أحلها لمغتسل و هي لشارب حل و بل فإذا قلتها فقد كفيتهم فكان بعد إذا أرادها أحد بمكروه رمى بداء في جسده ولما علموا بذلك تناهوا عنه و قال السهيلي : أول من كسا البيت المسوح و الخصف و الأنطاع تبع الحميري و يروى أنه لما كساها انتقض البيت فزال ذلك عنه و فعل ذلك حين كساه الخصف فلما كساه الملاء و الوصائل قبلة و سكن و ممن ذكر هذا الخبر قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل و قال ابن إسحق : أول من كسا البيت الديباج الحجاج و قال الزبير بن بكار بل عبد الله بن الزبير أول من كساها ذلك و ذكر جماعة منهم الدارقطني : أن نتيلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب كانت أضلت العباس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة و كانت من بيت مملكة فوفت بنذرها
هذه أخبار قريش و ملكهم بمكة و كانت ثقيف جيرانهم بالطائف يساجلونهم في مذاهب العروبية و ينازعونهم في الشرف و كانوا من أوفر قبائل هوزان لأن ثقيفا هو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن و كانت الطائف قبلهم لعدوان الذين كان فيهم حكيم العرب عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن بكر بن عدوان و كثر عددهم حتى قاربوا سبعين ألفا ثم بغى بعضهم على بعض فهلكوا و قل عددهم و كان قسي بن منبه صهرا لعامر بن الظرب و كان بنوه بينهم فلما قل عدد عدوان تغلب عليهم ثقيف و أخرجهم من الطائف و ملكوه إلى أن صبحهم الإسلام به على ما نذكره و الله وارث الأرض و من عليها و هو خير الوارثين و البقاء لله وحده و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم (2/395)
أمر النبوة و الهجرة في هذه الطبقة الثالثة و ما كان من اجتماع العرب على الإسلام بعد الإباية و الحرب
لما استقر أمر قريش بمكة على ما استقر و افترقت قبائل مضر في أدنى مدن الشام و العراق و ما دونهما من الحجاز فكانوا ظعونا و أحياء و كان جميعهم بمسغبة و في جهد من العيش بحرب بلادهم و حرب فارس و الروم على تلول العراق و الشام و أربابهما ينزلون حاميتهم بثغورها و يجهزون كتائبهم بتخومها و يولون على العرب من رجالاتهم و بيوت العصائب منهم من يسومهم القهر و يحملهم على الإنقياد حتى يؤتوا جباية السلطان الأعظم و إتاوة ملك العرب و يؤدوا ما عليهم من الدعاء من الدماء و الطوائل من يسترهن أبناءهم على السلم و كف العادية و من انتجاع الأرباب و ميرة الأقوات و العساكر من وراء ذلك توقع بمن منع الخراج و تستأصل من يروم الفساد و كان أمر مضر راجعا في ذلك إلى ملوك كندة بني حجر آكل المرار منذ ولاه عليهم تبع حسان كما ذكرناه و لم يكن في العرب ملك إلا في آل المنذر بالحيرة للفرس و في آل جهينة بالشام للروم و في بني حجر هؤلاء على مضر و الحجاز و كانت قبائل مضر مع ذلك بل و سائر العرب أهل بغي و إلحاد و قطع للأرحام و تنافس في الردى و إعراض عن ذكر الله فكانت عبادتهم الأوثان و الحجارة و أكلهم العقارب و الخنافس و الحيات و الجعلان و أشرف طعامهم أوبار الإبل إذا أمروها في الحرارة في الدم و أعظم عزهم وفادة على آل المنذر و آل جهينة و بني جعفر و نجعة من ملوكهم و إنما كان تنافسهم المؤودة و السائبة و الوصيلة و الحامي
فلما تأذن الله بظهورهم و اشرأبت إلى الشرف هوادي أيامهم و تم أمر الله في إعلاء أمرهم و هبت ريح دولتهم و ملة الله فيهم تبدت تباشير الصباح من أمرهم و أونس الخير و الرشد في خلالهم و أبدل الله بالطيب الخبيث من أحوالهم و شرهم و استبدلوا بالذل عزا و بالمآثم متابا و بالشر خيرا ثم بالضلالة هدى و بالمسغبة شبغا و ريا و إيالة و ملكا و إذا أراد الله أمرا يسر أسبابه فكان لهم من العز و الظهور قبل المبعث ما كان و أوقع بنو شيبان و سائر بكر بن وائل و عبس بن غظفان بطيء و هم يومئذ ولاة العرب بالحيرة و أميرها منهم قبيصة بن إياس و معه الباهوت صاحب مسلحة كسرى فأوقعوا بهم الوقعة المشهورة بذي قار و التحمت عساكر الفرس و أخبر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه بالمدينة ليومها و قال : [ اليوم انتصفت العرب من العجم و بي نصروا ] و وفد حاجب بن زرارة من بني تميم على كسرى في طلب الانتجاع و المسيرة بقومه في إباب العراق فطلب الأساورة منه الرهن عادتهم فأعطاهم قوسه و استكبر على استرهان ولده توقعوا منه عجزا عما سواها و انتقلت خلال الخير من العجم و رجالات فارس فصارت أغلب في العرب حتى كان الواحد منهم همه بخلافه و شرفه الشر و السفسفة على أهل دول العجم و انظر فيما كتب به عمر إلى أبي عبيدة بن المثنى حين وجهه إلى حرب فارس : إنك تقدم على أرض المكر و الخديعة و الخيانة و الحيرة تقدم على أقوام قد جرؤا على الشر فعملوه و تناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون اهـ و تنافست العرب في الخلال و تنازعوا في المجد و الشرف حسبما هو مذكور في أيامهم و أخبارهم و كان حظ قريش من ذلك أوفر على نسبة حظهم من مبعثه و على ما كانوا ينتحلونه من هدى آبائهم و انظر ما وقع في حلف الفصول حيث اجتمع بنو هاشم و بنو المطلب و بنو أسد بن عبد العزى و بنو زهرة و بنو تميم فتعاقدوا و تعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها و غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه و كانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته و سمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول
و في الصحيح [ عن طلحة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم و لو دعي به في الإسلام لأجبت ]
ثم ألقى الله في قلوبهم التماس الدين و إنكار ما عليه قومهم من عبادة الأوثان حتى لقد اجتمع منهم ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى و عثمان بن الحويرث بن أسد و زيد بن عمرو بن نفيل من بني عدي بن كعب عم عمر بن الخطاب و عبيد الله بن جحش من بني أسد بن خزيمة و تلاوموا في عبادة الأحجار و الأوثان و تواصلوا بالنفر في البلدان بالتماس الحنيفية دين إبراهيم نبيهم فأما ورقة فاستحكم في النصرانية و ابتغى من أهلها الكتب حتى علم من أهل الكتاب و أما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه حتى جاء الإسلام فأسلم و هاجر إلى الحبشة فتنصر و هلك نصرانيا و كان يمر بالمهاجرين بأرض الحبشة فيقول : فقحنا و صأصأتم أي أبصرنا و أنتم تلتمسون البصر مثل ما يقال في الجر و إذا فتح عينيه فقح و إذا أراد و لم يقدر صأصأ و أما عثمان بن الحويرث فقدم على ملك الروم قيصر فتنصر و حسنت منزلته عنده و أما زيد بن عمرو فما هم أن يدخل في دين و لا اتبع كتابا و اعتزل الأوثان و الذبائح و الميتة و الدم و نهى عن قتل الموؤدة و قال : أعبد رب إبراهيم و صرح بعيب آلهتهم و كان يقول : اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك لعبدتك و لكن لا أعلم ثم يسجد على راحته و قال ابنه سعيد و ابنه عمه عمر بن الخطاب : يا رسول الله استغفر الله لزيد بن عمرو قال : نعم إنه يبعث أمة واحدة
ثم تحدث الكهان و الحزاة قبل النبوة و أنها كائنة في العرب و أن ملكهم سيظهر و تحدث أهل الكتاب من اليهود و النصارى بما في التوراة و الإنجيل من بعث محمد و أمته و ظهرت كرامة الله بقريش و مكة في أصحاب الفيل ارهاصا بين يدي مبعثه ثم ذهب ملك الحبشة من اليمن على يد ابن ذي يزن من بقية التبابعة و وفد عليه عبد المطلب يهنيه عند استرجاعه ملك قومه من أيدي الحبشة فبشره ابن ذي يزن بظهور نبي من العرب و أنه من ولده في قصة معروفة و تحين الأمر لنفسه كثير من رؤساء العرب يظنه فيه و نفروا إلى الرهبان و الأحبار من أهل الكتاب يسألونهم ببلدتهم علم ذلك مثل أمية بن أبي الصلت الشقي و ما وقع له في سفره إلى الشام مع أبي سفيان بن حرب و سؤاله الرهبان و مفاوضته أبا سفيان فيما وقف عليه من ذلك يظن أن الأمر له أو لأشراف قريش من بني عبد مناف حتى تبين لهما خلاف ذلك في قصة معروفة ثم رجمت الشياطين عن استماع خبر السماء في أمره و أصغى الكون لاستماع أنبائه (2/404)
المولد الكريم و بدء الوحي
ثم ولد رسول الله صلى الله عليه و سلم عام الفيل لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول لأربعين سنة من ملك كسرى أنوشروان و قيل لثمان و أربعين و لثمانمائة و اثنتين و ثمانين لذي القرنين و كان عبد الله أبوه غائبا بالشام و انصرف فهلك بالمدينة و ولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد مهلكه بأشهر قلائل و قيل غير ذلك و كفله جده عبد المطلب بن هاشم و كفالة الله من ورائه و التمس له الرضعاء و استرضع في بني سعد من بني هوازن ثم في بني نصر بن سعد أرضعته منهم حليمة بنت أبي ذؤيب عبد الله بن الحرث بن شحنة بن زراح بن ناظرة بن خصفة بن قيس و كان ظئره منهم الحارث بن عبد العزى و قد مر ذكرهما في بني عامر بن صعصعة و كان أهله يتوسمون فيه علامات الخير و الكرامات من الله و لما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم شق الملكين و استخراج العلقة السوداء من قبله و غسلهم حشاه و قلبه بالثلج ما كان و ذلك لرابعة من مولده و هو خلف البيوت يرعى الغنم فرجع إلى البيت منتقع اللون و ظهرت حليمة على شأنه فخافت أن يكون أصابه شيء من اللمم فرجعته إلى أمه واسترابت آمنة برجعها إياه بعد حرصها على كفالته فأخبرتها الخبر فقالت : كلا و الله لست أخشى عليه و ذكرت من دلائل كرامة الله له و به كثيرا
و أزارته أمه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة أخوال جده عبد المطلب من بني عدي بن النجار بالمدينة و كانوا أخوالا لها أيضا و هلك عبد المطلب لثمان سنين من ولادته و عهد به إلى إبنه أبي طالب فأحسن ولايته و كفالته و كان شأنه في رضاعه و شبابه و مرباه عجبا و تولى حفظه و كلاءته من مفارقة أحوال الجاهلية و عصمته من التلبس بشيء منها حتى لقد ثبت أنه : مر بعرس مع شباب قريش فلما دخل على القوم أصابه غشي النوم فما أفاق حتى طلعت الشمس و افترقوا و وقع له ذلك أكثر من مرة و حمل الحجارة مع عمه العباس لبنيان الكعبة و هما صبيان فأشار عليه العباس بحملها في إزاره فوضعه على عاتقه و حمل الحجارة فيه و انكشف فلما حملها على عاتقه سقط مغشيا عليه ثم عاد فسقط فاشتمل إزاره و حمل الحجارة كما كان يحملها و كانت بركاته تظهر بقومه و أهل بيته و رضعائه في شؤونهم كلهم
و حمله عمه أبو طالب إلى الشام و هو ابن ثلاث عشرة و قيل ابن سبع عشرة فمروا ببحيرا الراهب عند بصرى فعاين الغمامة تظله و الشجر تسجد له فدعا القوم و أخبرهم بنبوته و بكثير من شأنه و بكثير من شأنه في قصة مشهورة ثم خرج ثانية إلى الشام تاجرا بمال خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى مع غلامها ميسرة و مروا بنسطور الراهب فرأى ملكين يظلانه من الشمس فأخبر ميسرة بشأنه فأخبر بذلك خديجة فعرضت نفسها عليه و جاء أبو طالب فخطبها إلى أبيها فزوجه و حضر الملأ من قريش و قام أبو طالب خطيبا فقال : الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم و زرع إسمعيل و ضئضي معد و عنصر مضر و جعل لنا بيتا محجوما و حرما آمنا و جعلنا أمناء بيته و سواس حرمه و جعلنا الحكام على الناس و أن ابن أخي محمد بن عبد الله من قد علمتم قرابته و هو لا يوزن بأحد إلا رجح به فإن كان في المال قل فإن المال ظل زائل و قد خطب خديجة بنت خويلد و بذل لها من الصداق ما عاجله و آجله من مالي كذا و كذا وهو و الله بعد هذا له نبأ عظيم و خطر جليل و رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ ابن خمس و عشرين سنة و ذلك بعد الفجار بخمس عشرة سنة
و شهد بنيان الكعبة لخمس و ثلاثين من مولده حين أجمع كل قريش على هدمها و بنائها و لما انتهوا إلى الحجر تنازعوا أيهم يضعه و تداعوا للقتال و تحالف بنو عبد الدار على الموت ثم احتمعوا و تشاوروا و قال أبو أمية حكموا أول داخل من باب المسجد فتراضوا على ذلك و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : هذا الأمين و بذلك كانوا يسمونه فتراضوا به و حكموه فبسط ثوبا و وضع فيه الحجر و أعطى قريشا أطراف الثوب فرفعوه حتى أدنوه من مكانه و وضعه عليه السلام بيده و كانوا أربعة عتبة بن ربيعة بن عبد شمس و الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى و أبو حذيفة بن المغيرة بن عمر بن مخزوم و قيس بن عدي السهمي ثم استمر على أكمل الزكاء و الطهارة في أخلاقه و كان يعرف بالأمين و ظهرت كرامة الله فيه و كان إذا أبعد في الخلاء لا يمر بحجر و لا شجر إلا و يسلم عليه (2/407)
بدء الوحي
ثم بدئ بالرؤيا الصالحة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ثم تحدث الناس بشأن ظهوره و نبوته ثم حببت إليه العبادة و الخلوة بها فكان يتزود للإنفراد حتى جاء الوحي بحراء لأربعين سنة من مولده و قيل لثلاث و أربعين و هي حالة يغيب فيها عن جلسانه و هو كائن معهم فأحيانا يتمثل له الملك رجلا فيكلمه و يعي قوله و أحيانا يلقي عليه و يصيبه أحوال الغيبة عن الحاضرين من الغط و العرق و تصببه كما ورد في الصحيح من أخباره قال : و هو أشد علي فيفصم عني و قد وعيت ما قال و أحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول فأصابته تلك الحالة بغار حراء و ألقى عليه : { اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم } و أخبر بذلك كما وقع في الصحيح و آمنت به خديجة و صدقته و حفظت عليه الشأن ثم خوطب بالصلاة و أراه جبريل طهرها ثم صلى به و أراه سائر أفعالها ثم كان شأن الإسراء من مكة إلى بيت المقدس من الأرض إلى السماء السابعة إلى سدرة المنتهى و أوحى إليه ما أوحى ثم آمن به علي بن أبي طالب و كان في كفالته من أزمة أصابت قريشا و كفل العباس جعفرا أخاه فجعفر أسن عيال أبي طالب فأدركه الإسلام و هو في كفالته فآمن و كان يصلي معه في الشعاب مختفيا من أبيه حتى إذا ظهر عليهما أبو طالب دعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : لا أستطيع فراق ديني و دين آبائي و لكن لا ينهض إليك شيء تكره ما بقيت و قال لعلي : إلزمه فإنه لا يدعو إلا لخير
فكان أول من أسلم خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ثم أبو بكر و علي بن أبي طالب كما ذكرنا و زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و بلال بن حمامة مولى أبي بكر ثم عمر بن عنبسة السلمي و خالد بن سعيد بن العاص بن أمية ثم أسلم بعد ذلك قوم من قريش اختارهم الله لصحابته من سائر قومهم و شهد لكثير منهم بالجنة و كان أبو بكر محببا سهلا و كانت رجالات قريش تألفه فأسلم على يديه من بني أمية عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية و من عشيرة بني عمرو بن كعب بن سعد بن تيم طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو و من بني زهرة بن قصي سعد بن أبي وقاص و اسمه مالك بن وهب بن مناف بن زهرة و عبد الرحمن بن عوف بن عوف بن الحرث بن زهرة و من بني أسد بن عبد العزى الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد و هو ابن صفية عمة النبي صلى الله عليه و سلم ثم أسلم من بني الحرث بن فهر أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحرث و من بني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب أبو سلمة عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم و من بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح و أخوه قدامة و من بني عدي سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد الله بن قرط بن رياح بن عدي و زوجته فاطمة أخت عمر بن الخطاب بن نفيل و أبوه زيد هو الذي رفض الأوثان في الجاهلية ودان بالتوحيد و أخبر صلى الله عليه و سلم أنه يبعث يوم القيامة أمة وحده ثم أسلم عمير أخو سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ابن غافل بن حبيب بن شمخ بن فار بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحرث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة حليف بني زهرة كان يرعى غنم عقبة بن أبي معيط و كان سبب إسلامه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حلب من غنمه شاة حائلا فدرت ثم أسلم جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب و امرأته أسماء بنت عميس بن النعمان بن كعب بن ملك بن قحافة الخثعمي و السائب بن عثمان بن مظعون و أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس و اسمه مهشم و عامر بن فهيرة أمه مولاة أبي بكر و أفد بن عبد الله بن عبد مناف تميمي من حلفاء بني عدي و عمار بن ياسر عنسي بن مذحج مولى أبي مخزوم و صهيب بن سنان من بني النمر بن قاسط حليف بني جدعان و دخل الناس في الدين أرسالا و فشا الإسلام و هم ينتحلون به و يذهبون إلى الشعاب فيصلون
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يصدع بأمره و يدعوه إلى دينه بعد ثلاث سنين من مبدأ الوحي فصعد على الصفا و نادى يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقال : لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أما كنتم تصدقوني ؟ قالوا : بلى قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ثم نزل قوله { و أنذر عشيرتك الأقربين } و تردد إليه الوحي بالنذارة فجمع بني عبد المطلب و هم يومئذ أربعون على طعام صنعه لهم علي بن أبي طالب بأمره و دعاهم إلى الإسلام و رغبهم و حذرهم و سمعوا كلامه و افترقوا
ثم إن قريشا حين صدع و سب الآلهة و عابها نكروا ذلك منه و نابذوه و أجمعوا على عداوته فقام أبو طالب دونه محاميا و مانعا و مشت إليه رجال قريش يدعونه إلى النصفة عتبة و شيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس و أبو البختري بن هشام بن الحرث ابن أسد بن عبد العزى و الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى و الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم و أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة ابن أخي الوليد و العاصي بن وائل بن هشام بن سعد بن سهم و نبيه بن منبه ابنا الحجاج بن علي بن حذيفة بن سعد بن سهم و الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة فكلموا أبا طالب و عادوه فردهم ردا جميلا ثم عادوا إليه فسألوه النصفة فدعا النبي صلى الله عليه و سلم إلى بيته بمحضرهم و عرضوا عليه قولهم فتلا عليهم القرآن و أيأسهم من نفسه و قال لأبي طالب : يا عماه لا أترك هذا الأمر حتى يظهره الله و أهلك فيه و استعبر و ظن أبا طالب بداله في أمره فرق له أبو طالب و قال يا ابن أخي قل ما أحببت فوالله لا أسلمك أبدا (2/409)
هجرة الحبشة
ثم افترق أمر قريش و تعاهد بنو هاشم و بنو المطلب مع أبي طالب على القيام دون النبي صلى الله عليه و سلم و وثب كل قبيلة على من أسلم منهم يعذونهم و يفتنونهم و اشتد عليهم العذاب فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم بالهجرة إلى أرض الحبشة فرارا بدينهم و كان قريش يتعاهدونها بالتجارة فيحمدونها فخرج عثمان بن عفان و امرأته رقية بنت النبي صلى الله عليه و سلم و أبو حذيفة بن كتبة بن ربيعة مراغما لأبيه و امرأته سهلة بنت سهيل بن عامر بن لؤي و الزبير بن العوام و مصعب بن عمير بن عبد شمس و أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى العامري من بني عامر بن لؤي و سهيل بن بيضاء من بني الحرث بن فهر و عبد الله بن مسعود و عامر بن ربيعة العنزي حليف بن بني عدي و هو من عنز بن وائل ليس من عنزة و امرأته ليلى بنت أبي خيثمة فهؤلاء الأحد عشر رجلا كانوا أول من هاجر إلى أرض الحبشة و تتابع المسلمون من بعد ذلك و لحق بهم جعفر بن أبي طالب و غيره من المسلمين و خرجت قريش في آثار الأولين إلى البحر فلم يدركوهم و قدموا إلى أرض الحبشة فكانوا بها و تتابع المسلمون في اللحاق بهم يقال إن المهاجرين إلى أرض الحبشة بلغوا ثلاثة و ثمانين رجلا فلما رأت قريش النبي صلى الله عليه و سلم قد امتنع بعمه و عشيرته و أنهم لا يسلمونه طفقوا يرمونه عند الناس ممن يفد على مكة بالسحر و الكهانة و الجنون و الشعر يرومون بذلك صدهم عن الدخول في دينه ثم انتدب جماعة منهم لمجاهرته صلى الله عليه و سلم بالعداوة و الأذاية منهم : عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب أحد المستهزئين و ابن عمه أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب و عتبة وشيبة ابنا ربيعة و عقبة بن أبي معيط أحد المستهزئين و أبو سفيان من المستهزئين و الحكم بن أبي العاص بن أمية من المستهزئين أيضا و النضر بن الحرث من بني عبد الدار و الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى من المستهزئين و ابنه زمعة و أبو البختري العاص بن هشام و الأسود بن عبد يغوث و أبو جهل بن هشام و أخوه العاص و عمهما الوليد و ابن عمهما قيس بن الفاكة بن المغيرة و زهير بن أبي أمية بن المغيرة و العاص بن وائل السهمي و ابنا عمه نبيه و منبه و أمية و أبي ابنا خلف بن جمح و أقاموا يستهزئون بالنبي صلى الله عليه و سلم و يتعرضون له بالاستهزاء و الأذاية حتى لقد كان بعضهم ينال منه بيده و بلغ عمه حمزة يوما أن أبا جهل بن هشام تعرض له يوما بمثل ذلك و كان قوي الشكيمة فلم يلبث أن جاء إلى المسجد و أبو جهل في نادي قريش حتى وقف على رأسه و ضربه و شجه و قال له : تشتم محمدا و أنا على دينه ؟ و ثار رجال بني مخزوم إليه فصدهم أبو جهل و قال دعوه فإني سببت ابن أخيه سبا قبيحا و مضى حمزة على إسلامه و علمت قريش أن جانب المسلمين قد اعتز بحمزة فكفوا بعض الشر بمكانه فيهم ثم اجتمعوا و بعثوا عمرو بن العاص و عبد الله بن أبي ربيعة إلى النجاشي ليسلم إليهم من هاجر إلى أرضه من المسلمين فنكر النجاشي رسالتهما و ردهما مقبوحين
ثم أسلم عمر بن الخطاب و كان سبب إسلامه أنه بلغه أن أخته فاطمة أسلمت مع زوجها سعيد ابن عمه زيد و أن خباب بن الأرت عندهما يعلمهما القرآن فجاء إليهما منكرا و ضرب أخته فشجها فلما رأت الدم قالت : قد أسلمنا و تابعنا محمدا فافعل ما بدا لك و خرج إليه خباب من بعض زوايا البيت فذكره و وعظه و حضرته الإنابة فقال له : اقرأ علي من هذا القرآن فقرأ من سورة طه و أدركته الخشية فقال له : كيف تصنعون إذا أردتم الإسلام ؟ فقالوا له و أروه الطهور ثم سأل على مكان النبي صلى الله عليه و سلم فدل عليه فطرقهم في مكانهم و خرج إليه النبي صلى الله عليه و سلم فقال : مالك يا ابن الخطاب ؟ فقال : يا رسول الله جئت مسلما ثم تشهد شهادة الحق و دعاهم إلى الصلاة عند الكعبة فخرجوا و صلوا هنالك و اعتز المسلمون بإسلامه و كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول في دعائه :
اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين يعنيه أو أبا جهل
و لما رأت قريش فشو الإسلام و ظهوره أهمهم ذلك فاجتمعوا و تعاقدوا على بني هاشم و بني المطلب ألا يناكحوهم و لا يبايعوهم و لا يكلموهم و لا يجالسوهم و كتبوا بذاك صحيفة و ضعوها في الكعبة و انحاز بنو هاشم و بنو المطلب كلهم كافرهم و مؤمنهم فصاروا في شعب أبي طالب محصورين متجنبين حاشا أبي لهب فإنه كان مع قريش على قومهم فبقوا كذلك ثلاث سنين لا يصل إليهم شيء ممن أراد صلتهم إلا سرا و رسول الله صلى الله عليه و سلم مقبل على شأنه من الدعاء إلى الله و الوحي عليه متتابع إلى أن قام في نقض الصحيفة رجال من قريش كان أحسنهم في ذلك أثرا هشام بن عمرو بن الحرث من بني حسل بن عامر بن لؤي لقي زهير بن أبي أمية بن المغيرة و كانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب فعيره بإسلامه أخواله إلى ما هم فيه فأجاب إلى نقض الصحيفة ثم مضى إلى مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف و ذكر رحم هاشم و المطلب ثم إلى أبي البختري بن هشام و زمعة بن الأسود فأجابوا كلهم و قاموا في نقض الصحيفة و قد بلغهم عن النبي صلى الله عليه و سلم أن الصحيفة أكلت الأرضة كتابتها كلها حاشا أسماء الله فقاموا بأجمعهم فوجدوها كما قال فخزوا و نقض حكمها
ثم أجمع أبو بكر الهجرة و خرج لذلك فلقيه ابن الدغنة فرده ثم اتصل بالمهاجرين في أرض الحبشة خبر كاذب بأن قريشا قد أسلموا فرجع إلى مكة قوم منهم عثمان بن عفان و زوجته و أبو حذيفة و امرأته و عبد الله بن عتبة بن غزوان و الزبير بن العوام و عبد الرحمن بن عوف و مصعب بن عمير و أخوه و المقداد بن عمرو و عبد الله بن مسعود و أبو سلمة بن عبد الأسد و امرأته أم المؤمنين و سلمة بن هشام بن المغيرة و عمار بن ياسر و بنو مظعون عبد الله و قدامة و عثمان و ابنه السائب و خنيس بن حذافة و هشام بن العاص و عامر بن ربيعة و امرأته و عبد الله بن مخرمة من بني عامر بن لؤي و عبد الله بن سهل بن السكران بن عمرو و سعد بن خولة و أبو عبيدة بن الجراح و سهيل بن بيضاء و عمرو بن أبي سرح فوجدوا المسلمين بمكة على ما كانوا عليه مع قريش من الصبر على اذاهم و دخلوا إلى مكة بعضهم مختفيا و بعضهم بالجوار فأقاموا إلى أن كانت الهجرة إلى المدينة بعد أن مات بعضهم بمكة
ثم هلك أبو طالب و خديجة و ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين فعظمت المصيبة و أقدم عليه سفهاء قريش بالأذاية و الاستهزاء و إلقاء القاذورة في مصلاه فخرج إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام و النصرة و المعونة و جلس إلى عبد يا ليل بن عمر بن عمير و أخويه مسعود و حبيب و هم يومئذ سادات ثقيف و أشرافهم و كلمهم فأساءوا الرد و يئس منهم فأوصاهم بالكتمان فلم يقبلوا و أغروا به سفهائهم فاتبعوه حتى ألجأوه إلى حائط عتبة و شيبة ابني ربيعة فأوى إلى ظله حتى اطمأن ثم رفع طرفه إلى السماء يدعو : [ اللهم إليك أشكو ضعف قوتي و قلة حيلتي و هواني على الناس أنت أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين أنت ربي إلى من تكلني إلى بغيض يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي و لكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات و صلح عليه بأمر الدنيا و الآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى و لا حول و لا قوة إلا بك ]
و لما انصرف من الطائف إلى مكة بات بنخلة و قام يصلي من جوف الليل فمر به نفر من الجن و سمعوا القرآن ثم دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مكة في جوار المطعم بن عدي بعد أن عرض ذلك على غيره من رؤساء قريش فاعتذروا بما قبله منهم ثم قدم عليه الطفل بن عمرو الدوسي فأسلم و دعا قومه فأسلم بعضهم و دعا له رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجعل الله له علامة للهداية فجعل في وجهه نورا ثم دعا له فنقله دعا له فنقله إلى سوطه و كان يعرف بذي النور
و قال ابن حزم : ثم كان الإسراء إلى بيت المقدس ثم إلى السموات و لقي من لقي من الأنبياء و رأى جنة المأوى و سدرة المنتهى في السماء السادسة و فرضت الصلاة في تلك الليلة و عند الطبري الإسراء و فرض الصلاة كان أول الوحي
ثم كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرض نفسه على وفود العرب في الموسم يأتيهم في منازلهم ليعرض عليهم السلام و يدعوهم إلى نصره و يتلو عليهم القرآن و قريش مع ذلك يتعرضونهم بالمقابح إن قبلوا منه و أكثرهم في ذلك أبو لهب و كان من الذين عرض عليهم في الموسم بنو عامر بن صعصعة من مضر و بنو شيبان و بنو حنيفة من ربيعة و كندة من قحطان و كلب من قضاعة و غيرهم من قبائل العرب فكان منهم من يحسن الاستماع و العذر و منهم من يعرض و يصرح بالأذاية و منهم من يشترط الملك الذي ليس هو من سبيله فيرد صلى الله عليه و سلم الأمر إلى الله و لم يكن فيهم أقبح ردا من بني حنيفة و قد ذخر الله الخير في ذلك كله للأنصار فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بن الأوس فدعاه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الإسلام فلم يبعد و لم يجب و انصرف إلى المدينة فقتل في بعض حروبهم و ذلك قبل بعاث ثم قدم بمكة أبو الحيسر أنس بن رافع في فتية من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف فدعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الإسلام فقال إياس بن معاذ منهم و كان شابا حدثا : هذا و الله خير مما جئنا له فانتهره أبو الحيسر فسكت ثم انصرفوا إلى بلادهم و لم يتم لهم الحلف و مات إياس فيقال : إنه مات مسلما
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم لقي عند العقبة في الموسم ستة نفر من الخزرج و هم : أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس بن عبيد بن ثعبلة بن غنم بن مالك ابن النجار و عوف بن الحرث بن رفاعة بن سواد بن مالك بن غنم و هو ابن عفراء و رافع بن مالك بن العجلان بن عمر و ابن عامر بن زيد بن مالك بن غضبة بن جشم بن الخزرج و طبقة بن عامر بن حيدرة بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد ابن مراد بن يزيد بن جشم و عقبة بن عامر بن نابي بن زيد بن حرام بن كعب بن غنم بن سلمة و جابر بن عبد الله بن رئاب بن نعمان بن سلمة بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة فدعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى الإسلام و كان من صنع الله لهم أن اليهود جيرانهم كانوا يقولون إن نبيا يبعث و قد أظل زمانه فقال بعضهم لبعض هذا و الله النبي الذي تحدثكم به اليهود فلا يسبقونا إليه فآمنوا و أسلموا و قالوا إنا قد قدمنا فيهم حروبا فتنصرف و ندعوهم إلى ما دعوتنا إليه فعسى الله أن يجمع كلمتهم بك فلا يكون أحد أعز منك فانصرفوا إلى المدينة و دعوا إلى الإسلام حتى فشا فيهم و لم تبق دار من دور الأنصار إلا و فيها ذكر النبي صلى الله عليه و سلم حتى إذا كان العام القابل قدم مكة من الأنصار اثنا عشر رجلا منهم خمسة من الستة الذي ذكرناهم ما عدا جابر بن عبد الله فإنه لم يحضرها و سبعة من غيرهم و هم : معاذ بن الحرث أخو عوف بن الحرث المذكور و قيل إنه ابن عفراء و ذكوان بن عبد قيس بن خالدة و خالد بن مخلد بن عامر بن رزيق و عبادة بن الصامت بن قيس بن أصرم بن فهد بن ثعلبة بن صرمة بن أصرم بن عمرو بن عبادة بن عصيبة من بني حبيب و العباس ابن عبادة بن نضلة بن مالك بن العجلان بن زيد بن غنم بن سالم بن عوف بن عمرو ابن عوف هؤلاء عشرة من الخزرج و من الأوس : أبو الهيثم مالك بن التيهان و هو من بني عبد الأشهل بن جشم بن الحرث بن الخزرج بن عمر ابن مالك بن أوس و عويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس بن حارثة فبايع هؤلاء رسول الله صلى الله عليه و سلم عند العقبة على بيعة النساء و ذلك قبل أن يفرض الحرب على الطاعة لرسول الله صلى الله عليه و سلم و على أن لا يشركوا بالله شيئا و لا يسرقوا و لا يزنوا و لا يقتلوا أولادهم و لا يفتروا الكذب فلما حان انصرافهم بعث صلى الله عليه و سلم ابن أم مكتوم و مصعب بن عمير يدعوهم إلى الإسلام و يعلم من أسلم منهم القرآن و الشرائع فنزل المدينة على أسعد بن زرارة و كان مصعب يؤمهم و أسلم على يديه خلق كثير من الأنصار و كان سعد بن معاذ و أسعد بن زرارة ابنا الخالة فجاء سعد بن معاذ و أسيد بن الحضير إلى أسعد بن زرارة و كان جارا لبني عبد الأشهل فأنكروا عليه فهداهما الله إلى الإسلام و أسلم بإسلامهما جميع بني عبد الأشهل في يوم واحد الرجال و النساء و لم تبق دار من دور الأنصار إلا و فيها المسلمون رجال و نساء حاشا بني أمية بن زيد و خطمة و وائل و واقف بطون من الأوس و كانوا في عوالي المدينة فأسلم منهم قوم سيدهم أبو قيس صيفي بن الأسلت الشاعر فوقف بهم عن الإسلام حتى كان الخندق فأسلموا كلهم (2/412)
العقبة الثانية
ثم رجع مصعب المذكور ابن عمير إلى مكة و خرج معه إلى الموسم جماعة ممن أسلم من الأنصار للقاء النبي صلى الله عليه و سلم في جماعة قوم منهم لم يسلموا بعد فوافوا مكة و واعدوا رسول الله صلى الله عليه و سلم العقبة من أوسط أيام التشريق و وافوا ليلة ميعادهم إلى العقبة متسللين عن رحالهم سرا ممن حضر من كفار قومهم و حضر معهم عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر و أسلم تلك الليلة فبايعوا رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن يمنعوه ما يمنعون منه نساءهم و أبناءهم و أزرهم و أن يرحل إليهم هو و أصحابه و حضر العباس بن عبد المطلب و كان على دين قومه بعد و إنما توثق للنبي صلى الله عليه و سلم و كان للبراء بن معرور في تلك الليلة المقام المحمود في الإخلاص و التوثق لرسول الله صلى الله عليه و سلم و كان أول من بايع و كان عدة الذين بايعوا تلك الليلة ثلاثا و سبعين رجلا و امرأتين و اختار منهم رسول الله صلى الله عليه و سلم اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم تسعة من الخزرج و ثلاثة من الأوس و قال لهم : أنتم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم و أنا كفيل على قومي
فمن الخزرج من أهل العقبة الأولى : أسعد بن زرارة و رافع بن مالك و عبادة بن الصامت و من غيرهم سعد بن الربيع بن عمر بن أبي زهير بن مالك بن امرئ القيس و مالك بن مالك و ثعلبة بن كعب بن الخزرج و عبد الله بن رواحة بن امرئ القيس و البراء بن معرور بن صخر بن خنساء بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة و عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر و سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن لودان بن عبد ود بن يزيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة و ثلاثة من الأوس و هم : أسيد بن حضر بن سماك بن عتيك بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل و سعد بن خيثمة بن الحارث بن مالك بن الأوس و رفاعة بن عبد المنذر بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس و قد قدم أبو الهيثم بن التيهان مكان رفاعة هذا و الله أعلم و لما تمت هذه البيعة أمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالرجوع إلى رحالهم فرجعوا و نمي الخبر إلى قريش فغدت الجلة منهم على الأنصار في رحالهم فعاتبوهم فأنكروا ذلك و حلفوا لهم و قال لهم عبد الله بن أبي سلول ما كان قومي ليتفقوا على مثل هذا و أنا لا أعلمه فانصرفوا عنه و تفرق الناس من منى و علمت قريش صحة الخبر فخرجوا في طلبهم فأدركوا سعد بن عبادة فجاءوا به إلى مكة يضربونه و يجرونه بشعره حتى نادى بجبير بن مطعم و الحرث بن أمية و كان يجيرهما ببلده فخلصاه مما كان فيه و قد كانت قريش قبل ذلك سمعوا صائحا يصيح ليلا على جبل أبي قبيس :
( فأن يسلم السعدان يصبح محمد ... بمكة لا يخشى خلاف مخالف )
فقال أبو سفيان السعدان سعد بكر و سعد هذيم فلما كان في الليلة القابلة سمعوه يقول :
( أيا سعد : سعد الأوس كن أنت ناصرا ... و يا سعد سعد الخزرجين الغطارف )
( أجيبا إلى داعي الهدى و تمنيا ... على الله في الفردوس منية عارف )
( فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنان من الفردوس ذات فارف )
فقال هما و الله سعد بن عبادة و سعد بن معاذ
و لما فشا الإسلام بالمدينة و طفق أهلها يأتون رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة تعاقدت على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم فأصابهم من ذلك جهد شديد ثم نزل قوله تعالى : { و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين كله لله } فلما تمت بيعة الأنصار على ما وصفناه أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه ممن هو بمكة بالهجرة إلى المدينة فخرجوا أرسالا و أول من خرج أبو سلمة بن عبد الأسد و نزل في قبا ثم هاجر عامر بن ربيعة حليف بني عدي بامرأته ليلى بنت أبي خيثمة بن غانم ثم هاجر جميع بني جحش من بني أسد بن خزيمة و نزلوا بقبا على عكاشة بن محصن و جماعة من بني أسد حلفاء بني أمية كانت فيهم زينب بنت جحش أم المؤمنين و أختاها حمنة و أم حبيبة ثم هاجر عمر بن الخطاب و عياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا فنزلوا في العوالي في بني أمية بن زيد و كان يصلي بهم سالم مولى أبي حذيفة و جاء أبو جهل بن هشام فخادع عياش بن أبي ربيعة و رده إلى مكة فحبسوه حتى تخلص بعد حين و رجع و هاجر مع عمر أخوه و سعيد ابن عمه زيد و صهره على ابنته حفصة أم المؤمنين خنيس بن حذافة السهمي و جماعة من حلفاء بني عدي نزلوا بقبا على رفاعة بن عبد المنذر من بني عوف بن عمرو
ثم هاجر طلحة بن عبيد الله فنزل هو و صهيب بن سنان على حبيب بن أساف في بني الحرث بن الخزرج بالسلم و قيل بل نزل طلحة على أسعد بن زرارة ثم هاجر حمزة بن عبد المطلب و معه زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و حليفه أبو مرثد كناز بن حصن الغنوي فنزلوا في بني عمر و بن عوف بقبا على كلثوم بن الهدم و نزل جماعة من بني المطلب بن عبد مناف فيهم مسطح بن أثاثة و معه خباب بن الأرت مولى عتبة بن غزوان في بني المسجلان بقبا و نزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع في بني الحرث بن الخزرج و نزل الزبير بن العوام و أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى على المنذر بن محمد بن عتبة بن أحيحة الجلاح في دار بني جحجبا و نزل مصعب بن عمير على سعد بن معاذ في بني عباد بن الأشهل و نزل أبو حذيفة بن عتبة و مولاه سالم و عتبة ابن غزواني المازني على عباد بن بشر من بني عبد الأشهل و لم يكن سالم عتيق أبي حذيفة و إنما أعتقته امرأة من الأوس كانت زوجا لأبي حذيفة اسمها بثينة بنت معاذ فتبناه و نسب إليه و نزل عثمان بن عفان في بني النجار على أوس أخي حسان بن ثابت و لم يبق أحد من المسلمين بمكة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أبو بكر و علي بن أبي طالب فإنهما أقاما بأمره و كان صلى الله عليه و سلم ينتظر أن يؤذن له في الهجرة (2/418)
الهجرة
و لما علمت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد صار له شيعة و أنصار من غيرهم و أنه مجمع على اللحاق بهم و أن أصحابه من المهاجرين سبقوه إليهم تشاوروا ما يصنعون في أمره و اجتمعت لذلك مشيختهم في دار الندوة : عتبة و شيبة و أبو سفيان من بني أمية و طعيمة بن عدي و جبير بن مطعم و الحارث بن عامر من بني نوفل و النضر بن الحارث من بني عبد الدار و أبو جهل من بني مخزوم و نبيه و منبه ابنا الحجاج من بني سهم و أمية بن خلف من بني جمح و معهم من لا يعد من قريش فتشاوروا في حبسه أو إخراجه عنهم ثم اتفقوا على أن يتخيروا من كل قبيلة منهم فتى شابا جلدا فيقتلونه جميعا فيتفرق دمه في القبائل و لا يقدر بنو عبد مناف على حرب جميعهم و استعدوا لذلك من ليلتهم و جاء الوحي بذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم فلما رأى أرصدهم على باب منزله أمر علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه و يتوشح ببرده ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم عليهم فطمس الله تعالى على أبصارهم و وضع على رؤوسهم ترابا و أقاموا طول ليلتهم فلما أصبحوا خرج إليهم علي فعلموا أن النبي صلى الله عليه و سلم قد نجا و تواعد رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أبي بكر الصديق و استأجر عبد الله بن أريقط الدولي من بني بكر بن عبد مناف ليدل بهما إلى المدينة و ينكب عن الطريق العظمى و كان كافرا و حليفا للعاص بن وائل لكنهما وثقا بأمره و كان دليلا بالطرق
و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر ليلا و أتيا الغار الذي في جبل ثور بأسفل مكة فدخلا فيه و كان عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بالأخبار و عامر بن فهيرة مولى أبي بكر و راعي غنمه يريح غنمه عليهما ليلا ليأخذ حاجتهما من لبنها و أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام و تقفى عامرا بالغنم أثر عبد الله و لما فقدته قريش اتبعوه و معهم القائف فقاف الأثر حتى وقف عند الغار و قال هنا انقطع الأثر ! و إذا بنسج العنكبوت على فم الغار فاطمأنوا إلى ذلك و رجعوا و جعلوا مائة ناقة لمن ردهما عليهم
ثم أتاهما عبد الله بن أريقط بعد ثلاث براحلتهما فركبا و أردف أبو بكر عامر بن فهيرة و أتتهما أسماء بسفرة لهما و شقت نطاقها و ربطت السفرة فسميت ذات النطاقين و حمل أبو بكر جميع ماله نحو ستة آلاف درهم و مروا بسراقة بن مالك بن جعشم فاتبعهم ليردهم و لما رأوه دعا عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فساخت قوائم فرسه في الأرض فنادى في الأمان و أن يقفوا له و طلب من النبي أن يكتب له كتابا فكتبه أبو بكر بأمره و سلك الدليل من أسفل مكة على الساحل أسفل من عسفان و أمج و أجاز قديدا إلى العرج ثم إلى قبا من عوالي المدينة و وردوها قريبا من الزوال يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول و خرج الأنصار يتلقونه و قد كانوا ينتظرونه حتى إذا قلصت الظلال رجعوا إلى بيوتهم فتلقوه مع أبي بكر في ظل نخلة و نزل عليه السلام بقبا على سعد بن خيثمة و قيل على كلثوم بن الهدم و نزل أبو بكر بالسخ في بني الحرث بن خزرج على خبيب بن أسد و قيل على خارجة بن زيد و لحق بهم علي رضي الله عنه من مكة بعد أن رد الودائع للناس التي كانت عند النبي صلى الله عليه و سلم فنزل معه بقبا
و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم هنالك أياما ثم نهض لما أمر الله و أدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد هنالك و رغب إليه رجال بني سالم أن يقيم عندهم و تبادروا إلى خطام ناقته اغتناما لبركته فقال عليه السلام : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ثم مشى و الأنصار حواليه إلى أن مر بدار بني بياضة فتبادر إليه رجالهم يبتدرون خطام الناقة و فقال : دعوها فإنها مأمورة ثم مر بدار بني ساعدة فتلقاه رجال و فيهم سعد بن عبادة و المنذر بن عمر و ودعوه كذلك و قال لهم مثل ما قال للآخرين ثم إلى دار بني حارثة بن الخزرج فتلقاه سعد بن الربيع و خارجة بن زيد و عبد الله بن رواحة ثم مر ببني عدي بن النجار أخوال عبد المطلب ففعلوا و قال لهم مثل ذلك إلى أن أتى دار بني مالك بن النجار فبركت ناقته على باب مسجده اليوم و هو يومئذ لغلامين منهم في حجر معاذ بن عفراء اسمهما سهل و سهيل و فيه خرب و نخل و قبور للمشركين و مربد ثم بركت الناقة و بقي على ظهرها و لم ينزل فقامت و مشت غير بعيد و لم يثنها ثم التفتت خلفها و رجعت إلى مكانها الأول فبركت و استقرت و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم عنها و حمل أبو أيوب رحله إلى داره فنزل عليه و سأل عن المربد و أراد أن يتخذه مسجدا فاشتراه من بني النجار بعد أن وهبوه إياه فأبى من قبوله ثم أمر بالقبور فنبشت و بالنخل فقطعت و بنى المسجد باللبن و جعل عضادتيه الحجارة و سواريه جذوع النخل و سقفه الجريد و عمل فيه المسلمون حسبة لله عز و جل ثم وداع اليهود و كتب بينه و بينهم كتاب صلح و موادعة شرط فيه لهم و عليهم
ثم مات أسعد بن زرارة و كان نقيبا لبني النجار فطلبوا إقامة نقيب مكانه فقال أنا نقيبكم و لم يخص بها منهم آخر دون آخر فكانت من مناقبهم ثم لما رجع عبد الله بن أريقط إلى مكة أخبر عبد الله بن أبي بكر بمكانه فخرج و معه عائشة أخته و أمها أم رومان و معهم طلحة بن عبيد الله فقدموا المدينة و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم عائشة بنت أبي بكر و بنى بها في منزل أبي بكر بالسنح و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا رافع إلى بناته و زوجته سودة بنت زمعة فحملاهن إليه من مكة و بلغ الخبر بموت أبي أحيحة و الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل من مشيخة قريش ثم آخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بين المهاجرين و الأنصار فآخى بين جعفر بن أبي طالب و هو بالحبشة و معاذ بن جبل و بين أبي بكر الصديق و خارجة بن زيد و بين عمر بن الخطاب و عثمان بن مالك من بني سالم و بين أبي عبيدة بن الجراح و سعد بن معاذ و بين عبد الرحمن بن عوف و سعد بن الربيع و بين الزبير بن العوام و سلمة بن سلامة بن وقش و بين طلحة بن عبيد الله و كعب بن مالك و بين عثمان بن عفان و أوس بن ثابت أخي حسان و بين سعيد بن زيد و أبي بن كعب و بين مصعب بن عمير و أبي أيوب و بين أبي حذيفة بن عتبة و عباد بن بشر بن وقش من بني عبد الأشهل و بين عمار بن ياسر و حذيفة بن اليمان العنسي حليف بني عبد الأشهل و قيل بل ثابت بن قيس بن شماس و بين أبي ذر الغفاري و المنذر بن عمرو من بني ساعدة و بين حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى و عويم بن ساعدة من بني عمرو بن عوف و بين سلمان الفارسي و أبي الدرداء و عمير بن بلتعة من بني الحرث بن الخزرج و بين بلال بن حمامة و أبي رويحة الخثعمي
ثم فرضت الزكاة و يقال و زيد في صلاة الحاضر ركعتين فصارت أربعا بعد أن كانت ركعتين سفرا و حضرا ثم أسلم عبد الله بن سلام و كفر جمهور اليهود و ظهر قوم من الأوس و الخزرج منافقون يظهرون الإسلام مراعاة لقومهم من الأنصار و يصرون الكفر و كان رؤوسهم من الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول و الجد بن قيس و من الأوس الحرث بن سهيل بن الصامت و عباد بن حنيف و مربع بن قيظي و أخوه أوس من أهل مسجد الضرار و كان قوم من اليهود أيضا تعوذوا بالإسلام و هم يبطنون الكفر منهم : سعد بن حنيس و زيد بن اللصيت و رافع بن خزيمة و رفاعة بن زيد ابن التابوت و كنانة بن خبورا (2/421)
الغزوات
الأبواء : و لما كان شهر صفر بعد مقدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة خرج في مائتين من أصحابه يريد قريشا و بني ضمرة و استعمل على المدينة سعد بن عبادة فبلغ ودان و الأبواء ولم يلقهم و اعترضه مخشى بن عمر و سيد بني ضمرة بن عبد منات بن كنانة و سأله موادعة قومه فعقد له و رجع إلى المدينة ولم يلق حربا و هي أول غزاة غزاها بنفسه و يسمى بالأبواء و بودان المكانان اللذان انتهى إليهما و هما متقاربان بنحو ستة أميال و كان صاحب اللواء فيها حمزة بن عبد المطلب
بواط : ثم بلغه أن عير قريش نحو ألفين و خمسمائة فيها أمية بن خلف و مائة رجل من قريش ذاهبة إلى مكة فخرج في ربيع الآخر لاعتراضها و استعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون و قال الطبري : سعد بن معاذ فانتهى إلى بواط و لم يلقهم و رجع إلى المدينة
غزوة العشيرة : ثم خرج في جمادى الأولى غازيا قريشا و استخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد فسلك عن جانب من الطريق إلى أن لقي الطريق بصخيرات اليمام إلى العشيرة من بطن ينبع فأقام هنالك بقية جمادى الأولى و ليلة من جمادى الثانية و وادع بني مدلج ثم رجع إلى المدينة و لم يلق حربا
بدر الأولى و أقام بعد العشيرة نحو عشر ليال ثم أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة فخرج في طلبه حتى بلغ ناحية بدر و فاته كرز فرجع إلى المدينة
البعوث : و في هذه الغزوات كلها غزا بنفسه و بعث فيما بينها بعوثا نذكرها فمنها : بعث حمزة بعد الأبواء بعثه في ثلاثين راكبا من المهاجرين إلى سيف البحر فلقي أبا جهل في ثلثمائة راكب من أهل مكة فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني و لم يكن قتال و منها بعث عبيدة بن الحرث بن المطلب في ستين راكبا و ثمانين من المهاجرين فبلغ ثنية المرار و لقي بها جميعا عظيما من قريش كان عليهم عكرمة بن أبي جهل و قيل مكرز بن حفص بن الأحنف و لم يكن بينهم قتال و كان مع الكفار يومئذ من المسلمين المقداد بن عمرو و عتبة بن غزوان خرجا مع الكفار ليجد السبيل إلى اللحاق بالنبي صلى الله عليه و سلم فهربا إلى المسلمين و جاءا معهم و كان بعث حمزة و عبيدة متقاربين و اختلف أيهما كان قبل إلا أنهما أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال الطبري إن بعث حمزة كان قبل ودان في شوال لسبعة أشهر من الهجرة و منها بعث سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين يطلب كرز بن جابر حين أغار على سرح المدينة فبلغ المرار و رجع
و منها بعث عبد الله بن جحش إثر مرجعه من بدر الأولى في شهر رجب بعثه بثمانية من المهاجرين و هم أبو حذيفة بن عتبة و عكاشة بن محصن بن أسد بن خزيمة و عتبة بن غزوان بن مازن بن منصور و سعد بن أبي وقاص و عامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي و واقد بن عبد الله بن زيد مناة بن تميم و خالد بن البكير بن سعد بن ليث و سهيل بن بيضا بن فهر بن مالك و كتب له كتابا و أمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين و لا يكره أحدا من أصحابه فلما قرأ الكتاب بعد يومين وجد فيه أن تمضي حتى تنزل نخلة بين مكة و الطائف و ترصد بها قريشا و تعلم لنا من أخبارهم فأخبر أصحابه و قال : حتى تنزل النخلة بين مكة و الطائف و من أحب الشهادة فلينهض و لا أستكره أحدا فمضوا كلهم و ضل لسعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان في بعض الطريق بعير لهما كانا يعتقبانه فتخلفا في طلبه و نفر الباقون إلى نخلة فمرت بهم عير لقريش تحمل تجارة فيها عمرو بن الحضرمي و عثمان بن عبد الله بن المغيرة و أخوه نوفل و الحكم بن كيسان مولاهم و ذلك آخر يوم من رجب فتشاور المسلمون و تحرج بعضهم الشهر الحرام ثم اتفقوا و اغتنموا الفرصة فيهم فرمى واقد بن عبد الله عمرو بن الحضرمي فقتله و أسروا عثمان بن عبد الله و الحكم بن كيسان و أفلت نوفل و قدموا بالعير و الأسيرين و قد أخرجوا الخمس فعزلوه فأنكر النبي صلى الله عليه و سلم فعلهم ذلك في الشهر الحرام فسقط في أيديهم ثم أنزل الله تعالى { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } الآية إلى قوله { حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا } فسرى عنهم و قبض النبي صلى الله عليه و سلم الخمس و قسم الغنيمة و قبل الفداء في الأسيرين و أسلم الحكم بن كيسان منهما و رجع سعد و عتبة سالمين إلى المدينة و هذه أول غنيمة غنمت في الإسلام و أول غنيمة خمست في الإسلام و قتل عمرو بن الحضرمي هو الذي هيج وقعة بدر الثانية
صرف القبلة : ثم صرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة خطب بذلك على المنبر و سمعه بعض الأنصار فقام فصلى ركعتين إلى الكعبة قاله ابن حزم و قيل على رأس ثمانية عشر شهرا و قيل ستة عشر و لم يقل غير ذلك
غزوة بدر الثانية : فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة إلى رمضان من السنة الثانية ثم بلغه أن عيرا لقريش فيها أموال عظيمة مقبلة من الشام إلى مكة معها ثلاثون أو أربعون رجلا من قريش عميدهم أبو سفيان و معه عمرو بن العاصي و مخرمة بن نوفل فندب عليه السلام المسلمين إلى هذه العير و أمر من كان ظهره حاضرا بالخروج و لم يحتفل في الحشد لأنه لم يظن قتالا و اتصل خروجه بأبي سفيان فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري و بعثه إلى أهل مكة يستنفرهم لعيرهم فنفروا و أرعبوا إلا يسيرا منهم أبو لهب و خرج صلى الله عليه و سلم لثمان خلون من رمضان و استخلف على الصلاة عمرو بن أم مكتوم و رد أبا لبابة من الروحاء و استعمله على المدينة و دفع اللواء إلى مصعب بن عمير و دفع إلى علي راية و إلى رجل من الأنصار أخرى يقال كانتا سوداوين و كان مع أصحابه صلى الله عليه و سلم يومئذ سبعون بعيرا يعتقبونها فقط و جعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة من بني النجار و راية الأنصار يومئذ مع سعد بن معاذ فسلكوا نقب المدينة إلى ذي الحليفة ثم انتهوا إلى صخيرات يمام ثم إلى بئر الروحاء ثم رجعوا ذات اليمين عن الطريق إلى الصفراء
و بعث عليه السلام قبلها بسبس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة و عدي بن أبي الزغباء الجهني حليف بني النجار إلى بدر يتجسسون أخبار أبي سفيان و غيره ثم تنكب عن الصفراء يمينا و خرج على وادي دقران فبلغه خروج قريش و نفيرهم فاستشار أصحابه فتكلم المهاجرون و أحسنوا و هو يريد ما يقوله الأنصار و فهموا ذلك فتكلم سعد بن معاذ و كان فيما قاله : لو استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك فسر بنا يا رسول الله على بركة الله فسر بذلك و قال : [ سيروا و أبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ]
ثم ارتحلوا من دقران إلى قريب من بدر و بعث عليا و الزبير و سعدا في نفر يلتمسون الخبر فأصابوا غلامين لقريش فأتوا بهما و هو عليه السلام قائم يصلي و قالوا : نحن سقاة قريش فكذبوهما كراهية في الخبر و رجاء أن يكونا من العير للغنيمة و قلة المؤنة فجعلوا يضربونهما فيقولان نحن من العير فسلم رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنكر عليهم و قال للغلامين : أخبراني أين قريش فأخبراه أنهم وراء الكثيب و أنهم ينحرون يوما عشرا من الأبل و يوما تسعا فقال عليه السلام : القوم بين التسعمائة و الألف و قد كان بسبس و عدي الجهنيان مضيا يتجسسان و لا خبر حتى نزلا و أناخا قرب الماء و استقيا في شن لهما و مجدي بن عمرو من جهينة بقربهما فسمع عدي جارية من جواري الحي تقول لصاحبتهما العير تأتي غدا أو بعد غد و أعمل لهم و أقضيك الذي لك و جاءت إلى مجدي بن عمرو فصدقها فرجع بسبس و عدي بالخبر و جاء أبو سفيان بعدهما يتجسس الخبر فقال لمجدي هل أحسست أحدا فقال راكبين أناخا يميلان لهذا التل فاستقيا الماء و نهضا فأتى أبو سفيان مناخهما وفتت من أبعار رواحلهما فقال هذه و الله علائف يثرب فرجع سريعا و قد حذر و تنكب بالعير إلى طريق الساحل فنجا و أوصى إلى قريش بأنا قد نجونا بالعير فارجعوا فقال أبو جهل : و الله لا نرجع حتى نرد ماء بدر و نقيم به ثلاثا و تهابنا العرب أبدا و رجع الأخنس بن شريق بجميع بني زهرة و كان حليفهم و مطاعا فيهم و قال : إنما خرجتم تمنعون أموالكم و قد نجت فارجعوا و كان بنو عدي لم ينفروا مع القوم فلم يشهد بدرا من قريش عدوي و لا زهري
و سبق رسول الله صلى الله عليه و سلم قريشا إلى ماء بدر و ثبطهم عنه مطر نزل و بله مما يليهم و أصاب مما يلي المسلمين دهس الوادي و أعانهم على السير فنزل عليه السلام على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة فقال له الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح : آلله أنزلك بهذا المنزل فلا نتحول عنه أم قصدت الحرب و المكيدة ؟ فقال عليه السلام : [ لا بل هو الرأي و الحرب ] فقال يا رسول الله ليس هذا بمنزل و إنما نأتي أدنى ماء من القوم فننزله و نبني عليه حوضا فنملؤه و نغور القلوب كلها فنكون قد منعناهم الماء فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم بنوا له عريشا يكون فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى يأتيه من ربه النصر و مشى يريهم مصارع القوم واحدا واحدا و لما نزل قريش مما يليهم بعثوا عمير بن وهب الجمحي يحزر له أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و كانوا ثلثمائة و بضعة عشر رجلا فيهم فارسان الزبير و المقداد فحزرهم و انصرف و خبرهم الخبر و رام حكيم بن حزام و عتبة بن ربيعة أن يرجعا بقريش و لا يكون الحرب فأبى أبو جهل و ساعده المشركون و توافقت الفئتان
و عدل رسول الله صلى الله عليه و سلم الصفوف بيده و رجع إلى العريش و معه أبو بكر وحده و طفق يدعو و يلح و أبو بكر يقاوله و يقول في دعائه اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض اللهم أنجز لي ما وعدتني و سعد بن معاذ و قوم معه من الأنصار على باب العريش يحمونه و أخفق رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انتبه فقال أبشر يا أبا بكر فقد أتى نصر الله ثم خرج يحرض الناس و رمى في وجوه القوم بحفنة من حصى و هو يقول : شاهت الوجوه ثم تزاحفوا فخرج عتبة و أخوه شيبة و ابنه الوليد يطلبون البراز فخرج إليهم عبيدة بن الحرث و حمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب فقتل حمزة و علي شيبة و الوليد و ضرب عتبة عبيدة فقطع رجله فمات و جاء حمزة و علي إلى عتبة فقتلاه و قد كان برز إليهم عوف و معوذ ابنا عفراء و عبد الله بن رواحة من الأنصار فأبوا إلا قومهم و جال القوم جولة فهزم المشركين و قتل منهم يومئذ سبعون رجلا فمن مشاهيرهم : عتبة و شيبة ابنا ربيعة و الوليد بن عتبة و حنظلة بن أبي سفيان بن حرب و ابنا سعيد بن العاص عبيدة و العاص و الحرث بن عامر بن نوفل و ابن عمه طعيمة بن عدي و زمعة بن الأسود و ابنه الحرث و أخوه عقيل بن الأسود و ابن عمه أبو البختري بن هشام و نوفل بن خويلد بن أسد و أبو جهل بن هشام اشترك فيه معاذ و معوذ ابنا عفراء و وجده عبد الله بن مسعود و به رمق فحز رأسه و أخوه العاص بن هشام و ابن عمهما مسعود بن أمية و أبو قيس بن الوليد بن المغيرة و ابن عمه أبو قيس بن الفاكه و نبيه و منبه ابنا الحجاج و العاصي بن منبه و أمية بن خلف و ابنه علي و عمير بن عثمان عم طلحة
و أسر العباس بن عبد المطلب و عقيل بن أبي طالب و نوفل بن الحرث بن عبد المطلب و السائب بن عبد يزيد من بني المطلب و عمرو بن أبي سفيان بن حرب و أبو العاص بن الربيع و خالد بن أسيد بن أبي العيص و عدي بن الخيار من بني نوفل و عثمان بن عبد شمس ابن عم عتبة بن غزوان و أبو عزيز أخو مصعب بن عمير و خالد بن هشام ابن المغيرة و ابن عمه رفاعة بن أبي رفاعة و أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة و الوليد بن الوليد أخو خالد و عبد الله و عمرو ابنا أبي بن خلف و سهيل بن عمرو في آخرين مذكورين في كتب السير
و استشهد من المسلمين من المهاجرين : عبيدة بن الحارث بن المطلب و عمير بن أبي وقاص و ذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي حليف بني زهرة و صفوان بن بيضاء من بني الحرث بن فهرو مهجع مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصابه سهم فقتله و عاقل بن البكير الليثي حليف بني عدي من الأنصار ثم من الأوس : سعد بن خيثمة و مبشر بن عبد المنذر و من الخزرج : يزيد بن الحارث بن الخزرج و عمير بن الحمام من بني سلمة سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يحض على الجهاد و يرغب في الجنة و في يده تمرات يأكلهم فقال : بخ بخ أما بيني و بين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ثم رمى بهن و قاتل حتى قتل و رافع بن المعلى من بني حبيب بن عبد حارثة و حارثة بن سراقة من بني النجار و عوف و معوذ ابنا عفراء
ثم انجلت الحرب و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتلى المشركين فسحبوا إلى القليب و طم عليهم التراب و جعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن مبدول بن عمر بن غنم بن مازن بن النجار ثم انصرف إلى المدينة فلما نزل الصفراء قسم الغنائم كما أمر الله و ضرب عنق النضر بن الحرث بن كلدة من بني عبد الدار ثم نزل عرق الظبية فضرب عنق عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية و كان في الأسارى و مر إلى المدينة فدخلها لثمان بقين من رمضان
غزوة الكدر : و بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد رجوعه إلى المدينة اجتماع غطفان فخرج يريد بني سليم بعد سبع ليال من منصرفه و استخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري أو ابن أم مكتوم فبلغ ماء يقال له الكدر و أقام عليه ثلاثة أيام ثم انصرف و لم يلق حربا و قيل إنه أصاب من نعمهم و رجع بالغنيمة و إنه بعث غالب بن عبد الله الليثي في سرية فنالوا منهم و انصرفوا بالغنيمة و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى ذي الحجة و فدى رسول الله صلى الله عليه و سلم أكثر أسارى بدر
غزوة السويق : ثم إن أبا سفيان لما انصرف من بدر نذر أن يغزو المدينة فخرج في مائتي راكب حتى أتى بني النضير ليلا فتوارى عنه جي بن أخطب و لقيه سلام بن مشكم و قراه و أعلمه بخبر الناس ثم رجع و مر بأطراف المدينة فحرق نخلا و قتل رجلين في حرث لهما فنفر رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون و استعمل على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر و بلغ الكدر وفاته أبو سفيان و المشركون و قد طرحوا السويق من أزوادهم ليتخففوا فأخذها المسلمون فسميت لذلك غزوة السويق و كانت في ذي الحجة بعد بدر بشهرين
ذي أمر : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في شهر المحرم غازيا غطفان و استعمل على المدينة عثمان بن عفان فأقام بنجد صفر و انصرف ولم يلق حربا
نجران : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم آخر ربيع الأول يريد قريشا و استخلف ابن أم مكتوم فبلغ نجران معدنا في الحجاز و لم يلق حربا و أقام هنالك إلى جمادى الثانية من السنة الثالثة و انصرف إلى المدينة
قتل كعب بن الأشرف : و كان كعب بن الأشرف رجلا من طيء و أمه من يهود بني النضير و لما أصيب أصحاب بدر و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة و عبد الله بن رواحة مبشرين إلى المدينة جعل يقول : ويلكم أحق هذا ؟ و هؤلاء أشراف العرب و ملوك الناس و إن كان محمد أصاب هؤلاء فبطن الأرض خير من ظهرها ثم قدم مكة و نزل على المطلب بن أبي وداعة السهمي و عنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص بن أمية فجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه و سلم و ينشد الأشعار و يبكي على أصحاب القليب ثم رجع إلى المدينة فشبب بعاتكة ثم شبب بنساء المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم و من يقتل كعب بن الأشرف فانتدب لذلك محمد بن مسلمة و ملكان بن سلامة بن وقش و هو أبو نائلة من بني عبد الأشهل أخو كعب من الرضاعة و عباد بن بشر بن وقش و الحرث بن بشر بن معاذ و أبو عبس بن جبر من بني حارثة و تقدم إليه ملكان بن سلامة و أظهر له انحرافا عن النبي صلى الله عليه و سلم عن إذن منه و شكا إليه ضيق الحال و رام أن يبيعه و أصحابه طعاما و يرهنون سلاحهم فأجاب إلى ذلك و رجع إلى أصحابه فخرجوا و شيعهم رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بقيع الغرقد في ليلة قمراء و أتوا كعبا فخرج إليهم من حصنه و مشوا غير بعيد ثم وضعوا عليه سيوفهم و وضع محمد بن مسلمة معولا كان معه في ثنته فقتله و صاح عدو الله صيحة شديدة انذعر لها أهل الحصون التي حواليه و أوقدوا النيران و نجا القوم و قد جرح منهم الحرث بن أوس ببعض سيوفهم فنزفه الدم و هو يصلي و أخبروه و تفل على جرح الحرث فبرأ و أذن للمسلمين في قتل اليهود لما أبلغه أنهم خافوا من هذه الفعلة و أسلم حينئذ حويصة بن مسعود و قد كان أسلم قبله أخوه محيصة بسبب قتل بعضهم
غزوة بني قينقاع : و كان بنو قينقاع لما انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم من بدر وقف بسوق بني قينقاع في بعض الأيام فوعظهم و ذكرهم ما يعرفون من أمره في كتابهم و حذرهم ما أصاب قريشا من البطشة فأساؤا الرد و قالوا : لا يغرنك إنك لقيت قوما لا يعرفون الحرب فأصبت منهم و الله لئن جربتنا لتعلمن أنا نحن الناس
فأنزل الله تعالى : { وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء } و قيل بل قتل مسلم يهوديا بسوقهم في حق فثاروا على المسلمين و نقضوا العهد و نزلت الآية فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم و استعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر و قيل أبا لبابة و كانوا في طرف المدينة في سبعمائة مقاتل منهم ثلثمائة دارع و لم يكن لهم زرع و لا نخل إنما كانوا تجار أو صاغة يعملون بأموالهم و هم قوم عبد الله بن سلام فحصرهم عليه السلام خمس عشرة ليلة لا يكلم أحدا منهم حتى نزلوا على حكمه فكتفهم ليقتلوا فشفع فيهم عبد الله بن أبي بن سلول و ألح في الرغبة حتى حقن له رسول الله صلى الله عليه و سلم دماءهم ثم أمر بإجلائهم و أخذ ما كان لهم من سلاح و ضياع و أمر عبادة بن الصامت فمضى بهم إلى ظاهر ديارهم و لحقوا بخيبر و أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الخمس من الغنائم و هو أول خمس أخذه ثم انصرف إلى المدينة و حضر الأضحى فصلى بالناس في الصحراء و ذبح بيده شاتين و يقال أنهما أول أضحيته صلى الله عليه و سلم
سرية زيد بن حارثة إلى قردة : و كانت قريش من بعد بدر قد تخوفوا من اعتراض المسلمين عيرهم في طريق الشام و صاروا يسلكون طريق العراق و خرج منهم تجار فيهم أبو سفيان بن حرب و صفوان بن أمية و استجاروا بفرات بن حيان من بكر بن وائل فخرج بهم في الشتاء و سلك بهم على طريق العراق و انتهى خبر العير إلى النبي صلى الله عليه و سلم و ما فيها من المال و آنية الفضة فبعث زيد بن حارثة في سرية فاعترضهم و ظفر بالعير و أتى بفرات بن حيان العجلي أسيرا فتعوذ بالإسلام و أسلم و كان خمس هذه الغنيمة عشرين ألفا
قتل ابن أبي الحقيق : كان سلام بن أبي الحقيق هذا من يهود خيبر و كنيته أبو رافع و كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه و يحزب عليهم الأحزاب مثلا أو قريبا من كعب بن الأشرف و كان الأوس و الخزرج يتصاولان تصاول الفحلين في طاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم و الذب عنه و النيل من أعدائه لا يفعل أحد القبيلتين شيئا من ذلك إلا فعل الآخرون مثله و كان الأوس قد قتلوا كعب بن الأشرف كما ذكرناه فاستأذن الخزرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في قتل ابن أبي الحقيق نظير ابن الأشرف في الكفر و العداوة فأذن لهم فخرج إليهم من الخزرج ثم من بني سلمة ثمانية نفر منهم : عبد الله بن عقيل و مسعر بن سنان و أبو قتادة و الحرث بن ربعي الخزاعي من حلفائهم في آخرين و أمر عليهم عبد الله بن عقيل و نهاهم أن يقتلا وليدا أو امرأة و خرجوا في منتصف جمادى الآخرى من سنة ثلاث فقدموا خيبر و أتوا دار ابن أبي الحقيق في علية له بعد أن انصرف عنه سمره و نام و قد أغلقوا الأبواب من حيث أفضوا كلها عليهم و نادوه ليعرفوا مكانه بصوته ثم تعاوروه بسيوفهم حتى قتلوه و خرجوا من القصر و أقاموا ظاهره حتى قام الناعي على سور القصر فاستيقنوا موته و ذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخبر و كان أحدهم قد سقط من درج العلية فأصابه كسر في ساقه فمسح عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم و برأ (2/424)
غزوة أحد
و كانت قريش بعد واقعة بدر قد توامروا و طلبوا من أصحاب العير أن يعينوهم بالمال ليتجهزوا به لحرب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعانوهم و خرجت قريش بأحابيشها و حلفائها و ذلك في شوال من سنة ثلاث و احتملوا الظعن التماسا للحفيظة و أن لا يفروا و أقبلوا حتى نزلوا ذا الحليفة قرب أحد ببطن مقابل المدينة على شفير واد هنالك و ذلك في رابع شوال و كانوا في ثلاثة آلاف فيهم سبعمائة دارع و مائتا فرس و قائدهم أبو سفيان و معهم خمس عشرة امرأة بالدفوف يبكين قتلى بدر و أشار صلى الله عليه و سلم على أصحابه بأن يتحصنوا بالمدينة و لا يخرجوا و إن جاءوا قاتلوهم على أفواه الأزقة و أقر ذلك على رأي عبد الله بن أبي بن سلول و ألح قوم من فضلاء المسلمين ممن أكرمه الله بالشهادة فلبس لامته و خرج و قدم أولئك الذين ألحو عليه و قالوا : يا رسول الله إن شئت فاقعد فقال : ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يضعها حتى يقاتل و خرج في ألف من أصحابه و استعمل ابن أم مكتوم على الصلاة ببقية المسلمين بالمدينة فلما سار بين المدينة و أحد انخزل عنه عبد الله بن أبي في ثلث الناس مغاضبا لمخالفة رأيه في المقامة و سلك رسول الله صلى الله عليه و سلم حرة بني حارثة و مر بين الحوائط و أبو خثيمة من بني حارثة يدل به حتى نزل الشعب من أحد مستندا إلى الجبل و قد سرحت قريش الظهر و الكراع في زروع المسلمين و تهيأ للقتال في سبعمائة فيهم خمسون فارسا و خمسون راميا و أمر على الرماة عبد الله بن جبير من بني عمرو بن عوف و الأوس أخو خوات و رتبهم خلف الجيش ينضحون بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من خلفهم و دفع اللواء إلى مصعب بن عمير من بني عبد الدار و أجاز يومئذ سمرة بن جندب الفزاري و رافع بن خديج من بني حارثة في الرماة و سنهما خمسة عشر عاما و رد أسامة بن زيد و عبد الله بن عمر بن الخطاب و من بني ملك بن النجار زيد بن ثابت و عمرو بن حرام و من بني حارثة البراء بن عازب و أسيد بن ظهير و رد عرابة بن أوس و زيد بن أرقم و أبا سعيد الخدري سن جميعهم يومئذ أربعة عشر عاما و جعلت قريش على ميمنة الخيل خالد بن الوليد و على ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل و أعطى عليه السلام سيفه بحقه إلى أبي دجانة سماك بن خرشة من بني ساعدة و كان شجاعا بطلا يختال عند الحرب و كان مع قريش ذلك اليوم والد حنظلة غسيل الملائة أبو عامر عبد عمرو بن صيفي مالك ابن النعمان في طليعة و كان في الجاهلية قد ترهب و تنسك فلما جاء الإسلام غلب عليه الشقاء و فر إلى مكة في رجال من الأوس و شهد أحد مع الكفار و كان يعد قريش في انحراف الأوس إليه لما أنه سيدهم فلم يصدق ظنه و لما ناداهم و عرفوه قالوا : لا أنعم الله لك علينا يا فاسق فقاتل المسلمين قتالا شديدا
و أبلى يومئذ حمزة وطلحة و شيبة و أبو دجانة و النضر بن أنس بلاء شديدا و أصيب جماعة من الأنصار مقبلين غير مدبرين و اشتد القتال و انهزم قريش أولا فخلت الرماة عن مراكزهم و كر المشركون كرة و قد فقدوا متابعة الرماة فانكشف المسلمون و استشهد منهم من أكرمه الله و وصل العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و قاتل مصعب بن عمير صاحب اللواء دونه حتى قتل و جرح رسول الله صلى الله عليه و سلم في وجهه و كسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر و هشمت البيضة في رأسه يقال إن الذي تولى ذلك عتبة بن أبي وقاص و عمرو بن قميئة الليثي و شد حنظلة الغسيل على أبي سفيان ليقتله فاعترضه شداد بن الأسود الليثي من شعوب فقتله و كان جنبا فأخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الملائكة غسلته
و أكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى سقط من بعض حفر هناك فأخذ علي بيده و احتضنه طلحة حتى قام و مص الدم من جرحه مالك بن سنان الخدري والد أبي سعيد و نشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه صلى الله عليه و سلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح فندرت ثنيتاه فصار اهتم و لحق المشركون رسول الله صلى الله عليه و سلم و كر دونه نفر من المسلمين فقتلوا كلهم و كان آخرهم عمار بن يزيد بن السكن ثم قاتل طلحة حتى أجهض المشركون و أبو دجانة يلي النبي صلى الله عليه و سلم بظهره و تقع فيه النبل فلا يتحرك و أصيبت عين قتادة ابن النعمان من بني ظفر فرجع و هي على وجنته فردها عليه السلام بيده فصحت و كانت أحسن عينيه
و انتهى النضر بن أنس إلى جماعة من الصحابة و قد دهشوا و قالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال فما تصنعون في الحياة بعده ؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه ثم استقبل الناس و قاتل حتى قتل و وجد به سبعون ضربة و جرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جراحة بعضها في رجله فعرج منها و قتل حمزة عم النبي صلى الله عليه و سلم قتله وحشي مولى جبير بن مطعم بن عدي و كان قد جاعله على ذلك بعتقه فرآه يبارز سباع بن عبد العزى فرماه بحربته من حيث لا يشعر فقتله و نادى الشيطان ألا أن محمدا قد قتل لأن عمرو بن قميئة كان قد قتل مصعب بن عمير يظن أنه النبي صلى الله عليه و سلم و ضربته أم عمارة نسيبة بنت كعب بن أبي مازن ضربات فتوفي منها بدرعيه وخشي المسلمون لما أصابه و وهنوا لصريخ الشيطان ثم إن كعب بن مالك الشاعر من بني سلمة عرف رسول الله صلى الله عليه و سلم فنادى بأعلى صوته يبشر الناس و رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول له : أنصت فاجتمع عليه المسلمون و نهضوا معه نحو الشعب فيهم أبو بكر و عمر و علي و الزبير و الحرث بن الصمة الأنصاري و غيرهم و أدركه أبي بن خلف في الشعب فتناول صلى الله عليه و سلم الحربة من الحرث بن الصمة و طعنه بها في عنقه فكر أبي منهزما و قال له المشركون ما بك من بأس فقال : و الله لو بصق علي لقتلني و كان صلى الله عليه و سلم قد توعده بالقتل فمات عدو الله بسرف مرجعهم إلى مكة ثم جاء علي رسول الله صلى الله عليه و سلم بالماء فغسل وجهه و نهض فاستوى على صخرة من الجبل و حانت الصلاة فصلى بهم قعودا و غفر الله للمنهزمين من المسلمين و نزل : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } الآية و كان منهم عثمان بن عفان و عثمان بن أبي عقبة الأنصاري
و استشهد في ذلك اليوم حمزة كما ذكرناه و عبد الله بن جحش و مصعب بن عمير في خمسة و ستين معظمهم من الأنصار و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يدفنوا بدمائهم و ثيابهم في مضاجعهم و لم يغسلوا و لم يصل عليهم و قتل من المشركين اثنان و عشرون منهم الوليد بن العاص بن هشام و أبو أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة و هشام بن أبي حذيفة بن المغيرة و أبو عزة عمرو بن عبد الله بن جمح و كان أسر يوم بدر فمن عليه و أطلقه بلا فداء على أن لا يعين عليه فنقض العهد و أسر يوم أحد و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بضرب عنقه صبرا و أبي بن خلف قتله رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده و صعد أبو سفيان الجبل حتى أطل على رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه و نادى بأعلى صوته : الحرب : سجال يوم أحد بيوم بدر اعل هبل
و انصرف و هو يقول موعدكم العام القابل فقال عليه السلام قولوا له هو بيننا و بينكم
ثم سار المشركون إلى مكة و وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم على حمزة و كانت هند و صواحبها قد جد عنه و بقرن عن كبده فلاكتها و لم تسغها و يقال إنه لما رأى ذلك في حمزة قال لئن أظفرني الله بقريش لأمثلن بثلاثين منهم و رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم و أصحابه إلى المدينة و يقال إنه قال لعلي لا يصيب المشركون منا مثلها حتى يفتح الله علينا
غزوة حمراء الأسد : و لما كان يوم أحد سادس عشر شوال و هو صبيحة يوم أحد أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخروج لطلب العدو و أن لا يخرج إلا من حضر معه بالأمس و فسح لجابر بن عبد الله ممن سواهم فخرج و خرجوا على ما بهم من الجهد و الجراح و صار عليه السلام متجلدا مرهبا للعدو و انتهى إلى حمراء الأسد على ثمانية أميال من المدينة و أقام بها ثلاثا و مر به هناك معبد بن أبي معبد الخزاعي سائرا إلى مكة و لقي أبا سفيان و كفار قريش بالروحاء فأخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه و سلم في طلبهم و كانوا يرومون الرجوع إلى المدينة ففت ذلك في أعضادهم و عادوا إلى مكة
بعث الرجيع : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم في صفر متم الثلاثة من الهجرة نفر من عضل و القارة بني الهون من خزيمة إخوة بني أسد فذكروا أن فيهم إسلاما و رغبوا أن يبعث فيهم من يفقههم في الدين فبعث معهم ستة رجال من أصحابه : مرثد بن أبي مرثد الغنوي و خالد بن البكير الليثي و عاصم بن ثابت بن أبي الأفلح من بني عمرو بن عوف و خبيب بن عدي من بني جحجبا بن كفلة و زيد بن الدثنة بن بياضة بن عامر و عبد الله بن طارق حليف بني ظفر و أمر عليهم مرثدا منهم و نهضوا مع القوم حتى إذا كانوا بالرجيع و هو ماء لهذيل قريبا من عسفان غدروا بهم و استصرخوا هذيلا عليهم فغشوهم في رحالهم ففزعوا إلى القتال فأمنوهم و قالوا : إنا نريد نصيب بكم فداء من أهل مكة فامتنع مرثد و خالد و عاصم من أمنهم و قاتلوا حتى حتى قتلوا و رموا رأس عاصم ليبيعوه من سلافة بنت سعد ابن شهيد و كانت نذرت أن تشرب فيه الخمر لما قتل ابنيها من بني عبد الدار يوم أحد فأرسل الله الدبر فحمت عاصما منهم فتركوه إلى الليل فجاء السيل فاحتمله و أما الآخرون فأسروهم و خرجوا بهم إلى مكة و لما كانوا بمر الظهر أن انتزع ابن طارق يده من القرآن و أخذ سيفه فرموه بالحجارة فمات و جاءوا بخبيب و زيد إلى مكة فباعوهما إلى قريش فقتلوهما صبرا
غزوة بئر معونة : و قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم في صفر هذا ملاعب الأسنة أبو براء عمر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فدعاه إلى الإسلام فلم يسلم و لم يبعد و قال يا محمد لو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فقال أني أخاف عليهم فقال أبو براء أنا لهم جار فبعث رسول الله صلى الله عليه و سلم : المنذر بن عمرو من بني ساعدة في أربعين من المسلمين و قيل في سبعين منهم الحرث بن الصمة و حرام بن ملحان خال أنس و عامر بن فهيرة و نافع بن بديل بن ورقاء فنزلوا بئر معونة بين أرض بني عامر و حرة بني سليم و بعثوا حرام بن ملحان بكتاب النبي صلى الله عليه و سلم إلى عامر بن الطفيل فقتله و لم ينظر في كتابه و استعدى عليهم بني عامر فأبوا لجوار أبي براء أياهم فاستعدى بني سليم فنهضت منهم عصية و رعل و ذكوان و قتلوهم عن آخرهم و كان سرحهم إلى جانب منهم و معهم المنذر بن أحيحة من بني الجلاح و عمرو بن أمية الضمري فنظرا إلى الطير تحوم على العسكر فأسرعا إلى أصحابهما فوجداهم في مضاجعهم فأما المنذر بن أحيحة فقاتل حتى قتل و أما عمرو بن أمية فجز عامر بن الطفيل ناصيته حين علم أنه من مضر لرقبة كانت عن أمه و ذلك لعشر بقين من صفر و كانت مع الرجيع في شهر واحد و لما رجع عمرو بن أمية لقي في طريقه رجلين من بني كلاب أو بني سليم فنزلا معه في ظل كان فيه معهما عهد من النبي صلى الله عليه و سلم لم يعلم به عمرو فانتسبا له في بني عامر أو سليم فعدا عليهما لما ناما و قتلهما و قدم على النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره بذلك فقال لقد قتلت قتيلين لأذينهما
غزوة بني النضير : و نهض رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني النضير مستعينا بهم في دية هذين القتيلين فأجابوا و قعد عليه السلام مع أبي بكر و عمر و علي و نفر من أصحابه إلى جدار من جدرانهم و أرادوا بنو النضير رجلا منهم على الصعود إلى ظهر البيت ليلقي على النبي صلى الله عليه و سلم صخرة فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب منهم و أوحى الله بذلك إلى نبيه فقام و لم يشعر أحدا ممن معه و استبطأوه و اتبعوه إلى المدينة فأخبرهم عن وحي الله بما أراد به يهود و أمر من أصحابه بالتهيؤ لحربهم و استعمل على المدينة ابن أم مكتوم و نهض في شهر ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة فتحصنوا منه بالحصون فحاصرهم ست ليال و أمر بقطع النخل و إحراقها و دس إليهم عبد الله بن أبي و المنافقون إنا معكم قتلتم أو أخرجتم فغزوهم بذلك ثم خذلوهم كرها و أسلموهم و سأل عبد الله من النبي صلى الله عليه و سلم أن يكف عن دمائهم و يجليهم بما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح و احتمل إلى خبير من أكابرهم حيي بن أخطب و ابن أبي الحقيق فدانت لهم خبير و منهم من سار إلى الشام و قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم أموالهم بين المهاجرين الأولين خاصة و أعطى منها أبا دجانة و سهل بن حنيف كانا فقيرين و أسلم من بني النضير يامين بن عمير بن جحاش و سعيد بن وهب فأحرزا أموالهما بإسلامهما و في هذه الغزاة نزلت سورة الحشر
غزوة ذات الرقاع : و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد بني النضير إلى جمادى من السنة الرابعة ثم غزا نجدا يريد بني محارب و بني ثعلبة من غطفان و استعمل على المدينة أبا ذر الغفاري و قيل عثمان بن عفان و نهض حتى نزل نجدا فلقي بها جمعا من غطفان فتقارب الناس و لم يكن بينهم حرب إلا أنهم خاف بعضهم بعضا حتى صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمسلمين صلاة الخوف و سميت ذات الرقاع لأن أقدامهم نقبت و كانوا يلقون عليها الخرق و قال الواقدي : لأن الجبل الذي نزلوا به كان به سواد و بياض و حمرة رقاعا فسميت بذلك و زعم أنها كانت في المحرم
غزوة بدر الصغرى الموعد : كان أبو سفيان نادى يوم أحد كما قدمناه بموعد بدر من قابل و أجابوه بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما كان في شعبان من هذه السنة الرابعة خرج لميعاده و استعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبي سلول و نزل في بدر و أقام هناك ثمان ليال و خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل الظهران أو عسفان ثم بدا له في الرجوع و اعتذر بأن العام عام جدب
غزوة دومة الجندل : خرج إليها رسول الله صلى الله عليه و سلم في ربيع الأول من السنة الخامسة و خلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري و سببها أنه عليه السلام بلغه أن جمعا تجمعوا بها فغزاهم ثم انصرفوا من طريقه قبل أن يبلغ دومة الجندل و لم يلق حربا و فيها وادع رسول الله صلى الله عليه و سلم عيينة بن حصن أن يرعى بأراضي المدينة لأن بلاده كانت أجدبت و كانت هذه قد أخصبت بسحابة وقعت فأذن له في رعيها (2/434)
غزوة الخندق
كانت في شوال من السنة الخامسة و الصحيح أنها في الرابعة و يقويه أن ابن عمر يقول ردني رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أحد و أنا ابن أربع عشرة سنة ثم أجازني يوم الخندق و أنا ابن خمس عشرة سنة فليس بينهما إلا سنة واحدة و هو الصحيح فهي قبل دومة الجندل بلا شك و كان سببها أن نفرا من اليهود منهم : سلام بن أبي الحقيق و كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق و سلام بن مشكم و حيي بن أخطب من بني النضير و هود ابن قيس و أبو عمارة من بني وائل و لما انجلى بنو النضير إلى خبير خرجوا إلى مكة يخربون الأحزاب و يحرضون على حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم و يرغبون من اشرأب إلى ذلك بالمال فأجابهم أهل مكة إلى ذلك ثم مضوا إلى غطفان و خرج بهم عيينة بن حصن على أشجع و خرجت قريش و قائدها أبو سفيان بن حرب في عشرة آلاف من أحابيشهم و من تبعهم من كنانة و غيرهم و لما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر بحفر الخندق على المدينة و عمل فيه بيده و المسلمون معه و يقال إن سلمان أشار به ثم أقبلت الأحزاب حتى نزلوا بظاهر المدينة بجانب أحد و خرج عليه السلام في ثلاثة آلاف من المسلمين و قيل في تسعمائة فقط و هو راجل بلا شك و خلف على المدينة ابن أم مكتوم فنزل بسطح سلع و الخندق بينه و بين القوم و أمر بالنساء و الذراري فجعلوا في الأطام و كان بنو قريظة مواد عين لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأتاهم حيي و أغراهم فنقضوا العهد و مالوا مع الأحزاب و بلغ أمرهم إلى النبي صلى الله عليه و سلم فبعث سعد بن معاذ و سعد ابن عبادة و خوات بن جبير و عبد الله بن رواحة يستخبرون الأمر فوجدوهم مكاشفين بالغدر و النيل من رسول الله صلى الله عليه و سلم فشاتمهم سعد بن معاذ و كانوا أحلافه و انصرفوا و كان صلى الله عليه و سلم قد أمرهم إن وجدوا الغدر حقا أن يخبروه تعريضا لئلا يفتوا في أعضاد الناس فلما جاؤا إليه قالوا يا رسول الله عضل و القارة يريدون غدرهم بأصحاب الرجيع فعظم الأمر و أحيط بالمسلمين من كل جهة و هم بالفشل بنو حارثة و بنو سلمة معتذرين بأن بيوتهم عورة خارج المدينة ثم ثبتهم الله
و دام الحصار على المسلمين قريبا من شهر و لم تكن حرب ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عيينة بن حصن و الحرث بن عوف أن يرجعا و لهما ثلثا ثمار المدينة و شاور في ذلك سعد بن معاذ و سعد بن عبادة فأبيا و قالا : يا رسول الله أشيء أمرك الله به فلا بد منه أم شيء تحبه فتصدقه فتصنعه لك أم شيء تصنعه لنا ؟ فقال : بل أصنعه لكم إني رأيت أن العرب رمتكم عن قوس واحدة فقال سعد بن معاذ : قد كنا معهم على الشرك و الأوثان و لا يطمعون منا بثمرة إلا شراء و بيعا فحين أكرمنا الله بالإسلام و أعزنا بك نعطيهم أموالنا و الله لا نعطيهم إلا السيف فصلب رسول الله صلى الله عليه و سلم و تمارى الأمر و ظهر فوارس من قريش إلى الخندق و فيهم : عكرمة بن أبي جهل و عمرو بن عبد ود من بني عامر بن لؤي و ضرار بن الخطاب من بني محارب فلما رأوا الخندق قالوا هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها ثم اقتحموا من مكان ضيق حتى جالت خيلهم بين الخندق و سلع و دعوا إلى البراز و قتل علي بن أبي طالب عمرو بن عبد ود و رجعوا قومهم من حيث دخلوا
و رمي في بعض تلك الأيام سعد بن معاذ بسهم فقطع عنه الأكحل يقال رماه حبان بن قيس بن العرقة و قيل أبو أسامة الجشمي حليف بني مخزوم و يروى أنه لما أصيب جعل يدعو : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقي لها فلا قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم آذوا رسولك و أخرجوه و إن كنت وضعت الحرب بيننا و بينهم فاجعلها لي شهادة و لا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة
ثم اشتد الحال و أتى نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان فقال : يا رسول الله إني أسلمت و لم يعلم قومي فمرني بما تشاء فقال إنما أنت رجل واحد فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خدعة فخرج فأتى بني قريظة و كان صديقهم في الجاهلية فنقم لهم في قريش و غطفان و أنهم إن لم يكن الظفر لحقوا ببلادهم و تركوكم و لا تقدرون على التحول عن بلدكم و لا طاقة لكم بمحمد و أصحابه فاستوثقوا منهم برهن أبنائهم حتى يصابروا معكم ثم أتى أبا سفيان و قريشا فقال لهم : إن اليهود قد ندموا و راسلوا محمدا في المواعدة على أن يسترهنوا أبناءكم و يدفعوهم إليه ثم أتى غطفان و قال لهم مثل ما قال لقريش فأرسل أبو سفيان و غطفان إلى بني قريظة في ليلة سبت إنا لسنا بدار مقام فأعدوا للقتال فاعتذر اليهود بالسبت و قالوا : مع ذلك لا نقاتل حتى تعطونا أبناءكم فصدق القوم خبر نعيم و ردوا إليهم بالاباية من الرهن و الحث على الخروج فصدق أيضا بنو قريظة خبر نعيم و أبوا القتال و أرسل الله على قريش و غطفان ريحا عظيمة أكفأت قدورهم و آنيتهم و قلعت أبنيتهم و خيامهم و بعث عليه السلام حذيفة بن اليمان عينا فأتاه بخبر رحيلهم و أصبح و قد ذهب الأحزاب و رجع إلى المدينة
غزوة بني قريظة و لما رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة أتاه جبريل بالنهوض إلى بني قريظة و ذلك بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم فأمر المسلمين أن لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة و خرج و أعطى الراية علي بن أبي طالب و استخلف ابن أم مكتوم و حاصرهم صلى الله عليه و سلم خمسا و عشرين ليلة و عرض عليهم سيدهم كعب بن أسد إحدى ثلاث إما : الإسلام و إما تبييت النبي صلى الله عليه و سلم ليلة السبت ليكون الناس آمنين منهم و إما قتل الذراري و النساء ثم الاستماتة فأبوا كل ذلك و أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم أن يبعث إليهم أبا لبابة بن عبد المنذر بن عمرو بن عوف لأنهم كانوا حلفاء الأوس فأرسله و اجتمع إليه الرجال و النساء و الصبيان فقالوا : يا أبا لبابة ترى لنا أن ننزل على حكم محمد قال نعم و أشار بيده في حلقه أنه الذبح ثم رجع فندم و علم أنه أذنب فانطلق على وجهه و لم يرجع إلى النبي صلى الله عليه و سلم و ربط نفسه إلى عمود في المسجد ينتظر توبة الله عليه و عاهد الله أن لا يدخل أرض بني قريظة مكانا خان فيه ربه و نبيه و بلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال لو أتاني لاستغفرت له فأما بعد ما فعل فما أنا بالذي أطلقه حتى يتوب الله عليه فنزلت توبته فتولى عليه السلام إطلاقه بيده بعد أن أقام مرتبطا بالجذع ست ليال لا يحل إلا للصلاة
ثم نزل بنو قريظة على حكم النبي صلى الله عليه و سلم فأسلم بعضهم ليلة نزولهم و هم نفر أربعة من هذيل إخوة قريظة و النضير و فر عنهم عمرو بن سعد القرظي و لم يكن دخل معهم في نقض العهد فلم يعلم أين وقع و لما نزل بنو قريظة على حكمه صلى الله عليه و سلم طلب الأوس أن يفعل فيهم ما فعل بالخزرج في بني النضير فقال لهم : ألا ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم ؟ قالوا : بلى قال فذلك إلى سعد بن معاذ و كان جريحا منذ يوم الخندق و قد أنزله رسول الله صلى الله عليه و سلم في خيمة في المسجد ليعوده من قريب فأتى به على حمار فلما أقبل على المجلس قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم : قوموا إلى سيدكم ثم قالوا : يا سعد إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد ولاك حكم مواليك فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله و ميثاقه قالوا : نعم قال : فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال و تسبى الذراري و النساء و تقسم الأموال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ثم أنه أمر فأخرجوا إلى سوق المدينة و خندق لهم بها خنادق و ضربت أعناقهم فيها و هم بين الستمائة و السبعمائة رجل و قتلت فيهم امرأة واحدة بنانة امرأة الحكم القرظي و كانت طرحت على خلاد بن سويد بن الصامت رحى من فوق الحائط فقتلته و أمر عليه السلام بقتل من أنبت منهم و وهب لثابت بن قيس بن الشماس ولد الزبير بن ياطا فاستحيا منهم عبد الرحمن بن الزبير كانت له صحبة و بعد أن كان ثابت استوهب من النبي صلى الله عليه و سلم الزبير و أهله و ماله فوهبه ذلك فمر الزبير عليه يده و أبى إلا الشد مع قومه اغتباطا بهم قبحه الله و وهب عليه السلام لأم المنذر بنت قيس من بني النجار رفاعة بن سموأل القريظي فأسلم رفاعة و له صحبة
و قسم صلى الله عليه و سلم أموال بني قريظة فأسهم للفارس ثلاثة أسهم و للراجل سهما و كانت خيل المسلمين يومئذ ستة و ثلاثين فارسا و وقع في سهم النبي صلى الله عليه و سلم من سبيهم ريحانة بنت عمرو بن خنافة من بني عمرو بن قريظة فلم تزل في ملكه حتى مات رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان فتح بني قريظة آخر ذي القعدة من السنة الرابعة و لما تم أمرهم أجيبت دعوة سعد بن معاذ فانفجر عرقه و مات فكان ممن استشهد يوم الخندق في سبعة آخرين من الأنصار و أصيب من المشركين يوم الخندق أربعة من قريش فيهم : عمرو بن عبد ود و ابنه حسل و نوفل بن عبد الله بن المغيرة و لم تغز كفار قريش المسلمين منذ يوم الخندق ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في جمادى الأولى من السنة الخامسة لستة أشهر من فتح بني قريظة فقصد بني لحيان يطالب بثأر عاصم بن ثابت و خبيب بن عدي و أهل الرجيع و ذلك إثر رجوعه من دومة الجندل فسلك على طريق الشام أولا ثم أخذ ذات اليسار إلى صخيرات اليمام ثم رجع إلى طريق مكة و أجد السير حتى نزل منازل لبنى بين أمج و عسفان فوجدهم قد حذروا و امتنعوا بالجبال و فاتتهم الغرة فيهم فخرج في مائتي راكب إلى المدينة
غزوة الغابة و ذي قرد و بعد قفوله و المسلمين إلى المدينة بليال أغار عيينة بن حصن الفزاري في بني عبد الله من غطفان فاستلحموا القاح النبي صلى الله عليه و سلم بالغابة و كان فيها رجل من بني غفار و امرأته فقتلوا الرجل و حملوا المرأة و نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي و كان ناهضا فعلا ثنية الوادع و صاح بأعلى صوته نذيرا بهم ثم اتبعهم و استنقذ ما كان بأيديهم و لما وقعت الصيحة بالمدينة ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم في أثرهم و لحق به المقداد بن الأسود و عباد بن بشر و سعد بن زيد من بني عبد الأشهل و عكاشة بن محصن و محرز بن نضلة الأسدي و أبو قتادة من بني سلمة في جماعة من المهاجرين و الأنصار و أمر عليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم سعد بن زيد و انطلقوا في اتباعهم حتى أدركوهم فكانت بينهم جولة قتل محرز بن نضلة قتله عبد الرحمن بن عيينة و كان أول من لحق بهم ثم ولى المشركون منهزمين و بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ماء يقال له ذو قرد فأقام عليه ليلة و يومها و نحر الناقة من لقاحه المسترجعة ثم قفل إلى المدينة
غزاة بني المصطلق : و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى شعبان من هذه السنة السادسة ثم غزا بني المصطلق من خزاعة لما بلغه أنهم مجتمعون له و قائدهم الحرث بن أبي ضرار أبو جويرية أم المؤمنين فخرج إليهم و استخلف أبا ذر الغفاري و قيل نميلة بن عبد الله الليثي و لقيهم بالمريسيع من مياههم ما بين قديد و الساحل فتزاحفوا و هزمهم الله و قتل من قتل منهم و سبي النساء و الذرية و كانت منهم جويرية بنت الحرث سيدهم و وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها و أدى عليه السلام عنها و أعتقها و تزوجها و أصيب في هذه الغزاة هشام بن صبابة الليثي من بني ليث بن بكر قتله رجل من رهط عبادة بن الصامت غلطا يظنه من العدو و في مرجع النبي صلى الله عليه و سلم من هذه الغزاة و فيها قال عبد الله بن أبي بن سلول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل لمشاجرة وقعت بين جهجاه بن مسعود الغفاري أجير عمر بن الخطاب و بين سنان ابن واقد الجهني حليف بني عوف بن الخزرج فتثاوروا و تباهوا فقال ما قال و سمع زيد بن أرقم مقالته و بلغها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و نزلت سورة المنافقين و تبرأ منه ابنه عبد الله و قال : يا رسول الله أنت و الله الأعز و هو الأذل و إن شئت و الله أخرجته ثم اعترض أباه عند المدينة و قال : و الله لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه و سلم فأذن له و حينئذ دخل و قال يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي و إني أخشى أن تأمر غيري فلا تدعني نفسي أن أقاتله و إن قتلته قتلت مؤمنا بكافر و لكن مرني بذلك فأنا و الله أحمل إليك رأسه فجزاه رسول الله صلى الله عليه و سلم خيرا و أخبره أنه لا يصل إلى أبيه سوء
و فيها قال أهل الإفك ما قالوا في شأن عائشة مما لا حاجة بنا إلى ذكره و هو معروف في كتب السيرة و قد أنزل الله القرآن الحكيم ببراءتها و تشريفها و قد وقع في الصحيح أن مراجعته وقعت في ذلك بين سعد بن عبادة و سعد بن معاذ و هو وهم ينبغي التنبيه عليه لأن سعد بن معاذ مات بعد فتح بني قريظة بلا شك داخل السنة الرابعة و غزوة بني المصطلق في شعبان من السنة السادسة بعد عشرين شهرا من موت سعد و الملاحاة بين الرجلين كانت بعد غزوة بني المصطلق بأزيد من خمسين ليلة و الذي ذكر ابن إسحق عن الزهري عن عبيد الله و غيره أن المقاول لسعد بن عبادة إنما هو أسيد بن الحضير و الله أعلم
و لما علم المسلمون أن النبي صلى الله عليه و سلم تزوج جويرية أعتقوا كل ما كان في أيديهم من بني المصطلق أصهار رسول الله صلى الله عليه و سلم فأطلق بسببها مائة من أهل بيتها ثم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم بعامين الوليد بن عقبة بن أبي معيط لقبض صدقاتهم فخرجوا يتلقونه فخافهم على نفسه و رجع و أخبر أنهم هموا بقتله فتشاور المسلمون في غدرهم ثم جاء وفدهم منكرين ما كان من رجوع الوليد قبل لقيهم و أنهم إنما خرجوا تلقية و كرامة و روده فقتل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك منهم و نزل قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق } الآية (2/440)
عمرة الحديبية
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في السادسة و في ذي القعدة منها معتمرا بعد بني المصطلق بشهرين و استنفر الأعراب حوالي المدينة فأبطأ أكثرهم فخرج بمن معه من المهاجرين و الأنصار و اتبعه من العرب فيما بين الثلثمائة بعد الألف إلى الخمسمائة و ساق الهدي و أحرم من المدينة ليعلم الناس أنه لا يريد حربا و بلغ ذلك قريشا فأجمعوا على صده عن البيت و قتاله دونها و قدموا خالد بن الوليد في خيل إلى كراع الغميم و ورد خبرهم إلى النبي صلى الله عليه و سلم بعسفان فسلك على ثنية المرار حتى نزل الحديبية من أسفل مكة و جاء من ورائهم فكر خالد في خيله إلى مكة فلما جاء صلى الله عليه و سلم إلى مكة بركت ناقته فقال الناس خلأت فقال : ما خلأت و ما ذاك لها بخلق و لكن حبسها حابس الفيل ثم قال : و الذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ثم نزل و اشتكى الناس فقد فأعطاهم سهما من كنانته غرزوه في بعض القلب من الوادي فجاش الماء حتى كفى جميع الجيش و يقال نزل به البراء بن عازب ثم جرت السفراء بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين كفار قريش و بعث عثمان بن عفان بينهما رسولا و شاع الخبر أن المشركين قتلوه فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين و جلس تحت شجرة فبايعوه على الموت و أن لا يفروا و هي بيعة الراضوان و ضرب عليه السلام بيسراه على يمينه و قال هذه عن عثمان ثم كان سهيل ابن عمرو آخر من جاء من قريش فقاضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن ينصرف عامه ذلك و يأتي من قابل معتمرا و يدخل مكة و أصحابه بلا سلاح حاشا السيوف في القرب فيقيم بها ثلاثا و لا يزيد و على أن يتصل الصلح عشرة أعوام يتداخل فيه الناس و يأمن بعضهم بعضا و على أن من هاجر من الكفار إلى المسلمين من رجل أو امرأة أن يرد إلى قومه و من ارتد من المسلمين إليهم لم يردوه
فعظم ذلك على المسلمين حتى تكلم فيه بعضهم و قد كان النبي صلى الله عليه و سلم علم أن هذا الصلح سبب لأمن الناس و ظهور الإسلام و أن الله يجعل فيه فرجا للمسلمين و هو أعلم بما علمه ربه و كتب الصحيفة علي و كتب في صدرها هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأبي سهيل عن ذلك و قال لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا أن يمحوها فأبى و تناول هو الصحيفة بيده و كتب محمد بن عبد الله و لا يقع في ذهنك من أمر هذه الكتابة ريب فإنها قد ثبتت في الصحيح و مايعترض في الوهم من أن كتابته قادحة في المعجزة فهو باطل لأن هذه الكتابة إذا وقعت من غير معرفة بأوضاع الحروف و لا قوانين الخط و أشكالها بقيت الأمية على ما كانت عليه و كانت هذه الكتابة الخاصة من إحدى المعجزات انتهى
ثم أتى أبو جندل بن سهيل يرسف في قيوده و كان قد أسلم فقال سهيل : هذا أول ما نقاضي عليه فرده رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أبيه و عظم ذلك على المسلمين و أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أبا جندل أن الله سيجعل له فرجا و بينما هم يكتبون الكتاب إذ جاءت سرية من جهة قريش قيل ما بين الثلاثين و الأربعين يردين الإيقاع بالمسلمين فأخذتهم خيول المسلمين و جاءوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأعتقهم فإليهم ينسب العتقيون
و لما تم الصلح و كتابه أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينحروا و يحلقوا فتوقفوا فغضب حتى شكى إلى زوجته أم سلمة فقالت : يا رسول الله أخرج و انحر و احلق فإنهم تابعوك فخرج و نحر و حلق رأسه حيئذ خراش بن أمية الخزاعي ثم رجع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المدينة و ما فتح من قبله فتح كان أعظم من هذا الفتح قال الزهري : لما كان القتال حيث لا يلتقي الناس فلما كانت الهدنة و وضعت الحرب أوزارها و أمن الناس بعضهم فالتقوا و تفاوضوا في الحديث و المنازعة فلم يكلم أحد بالإسلام أحدا يفعل شيئا إلا دخل عليه فلقد دخل في ذينك السنتين في الإسلام مثلما قبل ذلك أو أكثر
و لما رجع صلى الله عليه و سلم إلى المدينة لحقه أبو بصير عتبة بن أسيد بن جارية هاربا و كان قد أسلم و حبسه قومه بمكة و هو ثقفي من حلفاء بني زهرة فبعث إليه الأزهر بن عبد عوف عم عبد الرحمن بن عوف و الأخنس بن شريق سيد بني زهرة رجلا من بني عامر بن لؤي مع مولى لهم فأسلمه النبي صلى الله عليه و سلم فاحتملاه فلما نزلوا بذي الحليفة أخذ أبو بصير السيف من أحد الرجلين ثم ضرب به العامري فقتله و فر الآخر و أتى بصير إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله قد وفت ذمتك و أطلقني الله فقال عليه السلام : و يلمه مسعر حرب لو كان له رجال ففطن أبو بصير من لحن هذا القول من لحن هذا القول أنه سيرده و خرج إلى سيف البحر على طريق قريش إلى الشام و انضاف إليه جمهور من يفر عن قريش ممن أراد الإسلام فآذوا قريشا و قطعوا على رفاقهم و سابلتهم فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم أن يضمهم بالمدينة
ثم هاجرت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط و جاء فيها أخواها عمارة و الوليد فمنع الله من رد النساء و فسخ ذلك الشرط المكتتب ثم نسخت براءة ذلك كله و حرم الله حينئذ على المسلمين إمساك الكوافر في عصمتهم فانفسخ نكاحهن (2/447)
إرسال الرسل إلى الملوك
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما بين الحديبية و وفاته رجالا من أصحابه إلى ملوك العرب و العجم دعاة إلى الله عز و جل فبعث سليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود أخا بني عامر بن لؤي إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة و بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر ابن ساوى أخي بني عبد القيس صاحب البحرين و عمرو بن العاص إلى جيفر بن جلندي بن عامر بن جلندي صاحب عمان و بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية فأدى إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أهدى المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أربع جوار منهن مارية أم إبراهيم ابنه
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر و هو هرقل ملك الروم فوصل إلى بصرى و بعثه صاحب بصرى إلى هرقل و كان يرى في ملاحمهم أن ملك الختان قد ظهر فقرأ الكتاب و إذا فيه : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فأن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين ] و في رواية [ إثم الأكاريين عليك تعيا بحمله ] فطلب من مملكته من قوم النبي صلى الله عليه و سلم فأحضروا له من غزة و كان فيهم أبو سفيان فسأله كما وقع في الصحيح فأجابه و سلم أحواله و تفرس صحة أمره و عرض على الروم أتباعه فأبوا و نفروا فلاطفهم بالقول و أقصر و يروى عن ابن اسحق أنه عرض عليهم الجزية فأبوا فعرض عليهم أن يصالحوا بأرض سورية قالوا و هي أرض فلسطين و الأردن و دمشق و حمص و ما دون الدرب و ما كان وراء الدرب فهو الشام فأبوا
قال ابن اسحق : و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم شجاع بن وهب الأسدي أخا بني أسد بن خزيمة إلى الحرث بن شمر الغساني صاحب دمشق و كتب معه : [ السلام على من اتبع الهدى و آمن به أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك ] فلما قرأ الكتاب قال : من ينزع ملكي أنا سائر إليه فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ باد ملكه ]
قال : و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن أميه الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب و أصحابه و كتب معه كتابا : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة سلام عليك فإني أحمد إليك الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن و أشهد أن عيسى بن مريم روح الله و كلمته ألقاها إلى مريم الطيبة البتول الحصينة فحملت بعيسى فخلقه من روحه و نفخه كما خلق آدم بيده و نفخه و إني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له و الموالاة على طاعته تتبعني و تؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله و قد بعثت إليك ابن عمي جعفرا و معه نفر من المسلمين فإذا جاؤك قاقرهم و دع التجري و إني أدعوك و جنودك إلى الله فلقد بلغت و نصت فاقبلوا نصحي و السلام على من اتبع الهدى ] فكتب إليه النجاشي إلى محمد رسول الله من النجاشي الأصحم ابن الحر سلام عليك يا رسول الله من الله و رحمة الله و بركاته أحمد الله الذي لا إله إلا هو الذي هدانا للإسلام أما بعد فقد بلغني كتابك يا رسول الله فما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء و الأرض ما نزيد بالرأي على ما ذكرت أنه كما قلت و قد عرفنا ما بعثت به إلينا و قد قربنا ابن عمك و أصحابه فأشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا فقد بايعتك و بايعت ابن عمك و أسلمت لله رب العالمين و قد بعثت إليك بابني أرخا الأصحم فإني لا أملك إلا نفسي إن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله فإني أشهد أن الذي تقول حق و السلام عليك يا رسول الله فذكر أنه بعث إبنه في ستين من الحبشة في سيفنة فغرقت بهم و قد جاء أنه أرسل إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة و بعث إليها بالخطبة جاريته فأعطتها أوضاحا و فتخا و وكلت خالد بن سعيد بن العاص فزوجها و دفع النجاشي إلى خالد بن سعيد أربعمائة دينار لصداقها و جاءت إليها بها الجارية فأعطتها منها خمسين مثقالا فردت الجارية ذلك بأمر النجاشي و كانت الجارية صاحبة دهنه و ثيابه و بعث إليها نساء النجاشي بما عندهن من عود و عنبر و أركبها في سفينتين مع بقية المهاجرين فلقوا النبي صلى الله عليه و سلم بخيبر و بلغ أبا سفيان تزويج أم حبيبة منه فقال : ذلك الفحل الذي لا يقدع أنفه
و كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه السنة إلى كسرى و بعث بالكتاب عبد الله بن حذافة السهمي و فيه : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس سلام على من اتبع الهدى و آمن بالله و رسله أما بعد فإني رسول الله إلى الناس كافة لينذر من كان حيا أسلم تسلم فإن أبيت فعليك إثم المجوس ] فمزق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه و سلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ مزق الله ملكه ] و في رواية ابن إسحق بعد قوله [ و آمن بالله و رسله و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله و أدعوك بدعاية الله فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حيا و يحق القول على الكافرين فإن أبيت فإثم الأريسيين عليك ] قال فلما قرأه مزقه و قال يكتب إلي هذا و هو عبدي ! قال : ثم كتب كسرى إلى باذان و هو عامله على اليمن أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به فبعث باذان قهرمانه بانويه و كان حاسبا كاتبا بكتاب فارس و معه خر خسرة من الفرس و كتب إليه معهما أن ينصرف إلى كسرى و قال لقهرمانه : اختبر الرجل و عرفني بأمره و أول ما قدما الطائف سألا عنه فقيل هو بالمدينة و فرح من سمع بذلك من قريش و كانوا بالطائف و قالوا قطب له كسرى و قد كفيتموه و قدما على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة فلكلمه بانويه و قال : إن شاهنشاه قد كتب إلى الملك باذان أن يبعث إليك من يأتيه بك و بعثني لتنطلق معي و يكتب معه فينفعك و إن أبيت فهو من علمت و يهلك قومك و يخرب بلادك و كانا قد حلقا لحاهما و أعفيا شواربهما فنهاهما رسول الله صلى الله عليه و سلم عن ذلك فقالا : أمرنا به ربنا يعنون به كسرى فقال لهما : [ لكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي و قص شاربي لم أؤخرهما إلى غد ] و جاءه الوحي بأن الله سلط على كسرى إبنه شيرويه فقتله ليلة كذا من شهر كذا لعشر مضين من جمادى الأولى سنة سبع فدعاهما و أخبرهما فقالا : هل تدري ما تقول ؟ يحزنانه عاقبة هذا القول فقال اذهبا و أخبراه بذلك عني و قولا له إن ديني و سلطاني يبلغ ما بلغ ملك كسرى و إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك و ملكتك على قومك من الأنباء و أعطى خرخسرة منطقة فيها ذهب و فضة كان بعض الملوك أهداها له فما على باذان و أخبراه فقال ما هذا كلام ملك ما أرى الرجل إلا نبيا كما يقول و نحن نتظر مقالته فلم ينشب باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه : أما بعد فإني قتلت كسرى و لم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان استحل من قتل أشرافهم و تسخيرهم في ثغورهم فإذا جاءك كتابي هذا فخذلي الطاعة ممن قبلك و أنظر الرجل الذي كان كسرى كتب فيه إليك فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه فلما بلغ باذان الكتاب و أسلمت الأبناء معه من فارس ممن كان منهم باليمن و كانت حمير تسمى خرخسرة ذا المفخرة للمنطقة التي أعطاه إياها النبي صلى الله عليه و سلم و المنطقة بلسانهم المفخرة و قد كان بانويه قال لباذان ما كلمت رجلا قط أهيب عندي منه فقال : هل معه شرط ؟ قال : لا قال الواقدي و كتب إلى المقوقس عظيم القبط يدعوه إلى الإسلام فلم يسلم (2/449)
غزوة خيبر
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم غازيا إلى خيبر في بقية المحرم آخر السنة السادسة و هو ألف و أربعمائة راجل و مائتي فارس و استخلف نميلة بن عبد الله الليثي و أعطى راية لعلي بن أبي طالب و سلك على الصهباء حتى نزل بواديها إلى الرجيع فحيل بينهم و بين غطفان و قد كانوا أرادوا إمداد يهود خيبر فلما خرجوا ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب لحس سمعوه من روائهم فانصرفوا و أقاموا في أماكنهم و جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم يفتح حصون خبير حصنا حصنا فافتتح أولا منها حصن ناعم و ألقيت على محمود بن سلمة من أعلاه رحى فقتله ثم افتتح القموص حصن ابن أبي الحقيق و أصيبت منهم سبايا كانت منهن صفية بنت حيي ابن أخطب و كانت عروسا عند كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق فوهبها عليه السلام لدحية ثم ابتاعها منه بسبعة أرؤس و وضعها عند أم سلمة حتى اعتدت و أسلمت ثم أعتقها و تزوجها ثم فتح حصن الصعاب بن معاذ و لم يكن بخيبر أكثر طعاما و ودكا منه و آخر ما افتتح من حصونهم الوطيح و السلالم حصرهما بضع عشرة ليلة و دفع إلى علي الراية في حصار بعض حصونهم ففتحه و كان أرمد فتفل في عينه صلى الله عليه و سلم فبرأ
و كان فتح بعض خيبر عنوة و بعضها و هو الأكثر صلحا على الجلاء فقسمها صلى الله عليه و سلم و أقر اليهود على أن يعملوها بأموالهم و أنفسهم و لهم النصف من كل ما تخرج من زرع أو تمر يقرهم على ذلك ما بداله فبقوا على ذلك إلى آخر خلافة عمر فبلغه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في مرضه الذي مات فيه : [ لا يبقى دينان بأرض العرب فأمر بإجلائهم عن خبير و غيرها من بلاد العرب ] و أخذ المسلمون ضياعهم من مغانم خيبر فتصرفوا فيها و كان متولي قسمتها بين أصحابها جابر بن صخر من بني سلمة و زيد بن ثابت من بني النجار و استشهد من المسلمين جماعة تنيف على العشرين من المهاجرين و الأنصار منهم عامر بن الأكوع و غيره
و في هذه الغزاة حرمت لحوم الحمر الأهلية فاكفئت القدور و هي بلحمها و فيها أهدت اليهودية زينب بنت الحرث امرأة سلام بن مشكم إلى النبي صلى الله عليه و سلم شاة مصلية و جعلت السم في الذراع منها و كان أحب اللحم إليه فتناوله ولاك منه مضغة ثم لفظها و قال : [ إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم ] و أكل معه بشر بن البراء بن معرور و ازدرد لقمته فمات منها ثم دعا باليهودية فاعترفت و لم يقتلها لإسلامها حينئذ على ما قيل و يقال إنه دفعها إلى أولياء بشر فقتلوها
قدوم مهاجرة الحبشة : و كان مهاجرة الحبشة قد جاء جماعة منهم إلى مكة قبل الهجرة حين سمعوا بإسلام قريش ثم هاجروا إلى المدينة و جاء آخرون منهم قبل خيبر بسنتين ثم جاء بقيتهم إثر فتح خيبر و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي في شأنهم ليقدمهم عليه فقدم جعفر بن أبي طالب و امرأته أسماء بنت عميس و بنوهما عبد الله و محمد و عون وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية و امرأته أمينة بنت خلف و ابناهما سعيد و أم خالد و عمرو بن سعيد بن العاص و معيف بن أبي فاطمة حليف أبي سعيد بن العاص ولي بيت المال لعمر و أبو موسى الأشعري حليف آل عتبة بن ربيعة و الأسود بن نوفل خويلد ابن أخي خديجة و جهم بن قيس بن شرحبيل بن عبد الدار و ابناه عمر و خزيمة و الحرث بن خالد بن صخر بن تميم و عثمان بن ربيعة بن أهبان من بني جمح و محنية بن حذاء الزبيدي حليف بني سهم ولي لرسول الله صلى الله عليه و سلم الأخماس و معمر بن عبد الله بن نضلة بن عدي و أبو حاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عامر بن لؤي و أبي عمرو مالك بن ربيعة بن قيس بن عبد شمس فكان هؤلاء آخر من بقي بأرض الحبشة و لما قدم جعفر على النبي صلى الله عليه و سلم يوم فتح خيبر قبل ما بين عينيه و التزمه و قال : ما أدري بأبيهما أنا أسر بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ؟ !
3 - _________ (2/453)
فتح فدك و وادي القرى
و لما اتصل بأهل فدك شأن أهل خيبر بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يسألونه الأمان على أن يتركوا الأموال فأجابهم إلى ذلك فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه و سلم مما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب فلم يقسمها و وضعها حيث أمره الله ثم انصرف عن خيبر إلى وادي القرى فافتتحها عنوة و قسمها و قتل بها غلامه مدغما قال فيه لما شهد له الناس بالجنة : كلا إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم قبل القسم لتشتعل عليه نارا ثم رحل إلى المدينة في شهر صفر (2/455)
عمرة القضاء
و أقام صلى الله عليه و سلم بعد خيبر إلى انقضاء شوال من السنة السابعة ثم خرج في ذي القعدة لقضاء العمرة التي عاهده عليها قريش يوم الحديبية و عقد لها الصلح و خرج ملأ من قريش عن مكة عداوة لله و لرسوله و كرها في لقائه فقضى عمرته و تزوج بعد أحلاله بميمونة بنت الحرث من بني هلال بن عامر خالة ابن عباس و خالد بن الوليد و أراد أن يبني بها و قد تمت الثلاث التي عاهده قريش على المقام بها و أوصوا إليه بالخروج و أعجلوه عن ذلك فبنى بها بسرف (2/455)
غزوة جيش الأمراء
و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد منصرفه من عمرة القضاء إلى جمادى الأولى من السنة الثامنة ثم بعث الأمراء إلى الشام و قد كان أسلم قبل ذلك عمرو بن العاص و خالد بن الوليد و عثمان بن أبي طلحة و هم من كبراء قريش و قد كان عمرو بن العاص مضى عن قريش إلى النجاشي يطلبه في المهاجرين الذين عنده و لقي هنالك عمرو بن أمية الضمري وافد النبي صلى الله عليه و سلم فغضب النجاشي لما كلمه في ذلك فوفقه الله وريء الحق فأسلم و كتم إسلامه و رجع إلى قريش ولقي خالد بن الوليد و لقي خالد بن الوليد فأخبره فتفاوضا ثم هاجرا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأسلما
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالدا مع بعث الشام و أمر على الجيش مولاه زيد بن حارثة و كانوا نحوا آلاف و قال إن أصابه قدر فالأمير جعفر بن أبي طالب فإن أصابه قدر فالأمير عبد الله بن رواحة فإن أصيب فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه أميرا عليهم و شيعهم صلى الله عليه و سلم و ودعهم و نهضوا حتى انتهوا إلى معان من أرض الشام فأتاهم الخبر بأن هرقل ملك الروم قد نزل مؤاب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم و مائة ألف من نصارى العرب البادين هنالك من لخم و جذام و قبائل قضاعة من بهرا و بلي و القيس و عليهم مالك بن زاحلة من بني أراشة فأقام المسلمون في معان ليلتين يتشاورون في الكتب إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و انتظار أمره و مدده ثم قال لهم عبد الله بن رواحة أنتم إنما خرجتم تطلبون الشهادة و ما نقاتل الناس بعدد و لا قوة إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا إلى جموع هرقل عند قرية مؤتة و رتبوا الميمنة و الميسرة و اقتتلوا فقتل زيد بن حارثة ملاقيا بصدره الرماح و الراية في يده فأخذها جعفر بن أبي طالب و عقر فرسه ثم قاتل حتى قطعت يمينه فأخذها بيساره فقطعت فقتال كذلك و كان ابن ثلاث و ثلاثين سنة فأخذها عبد الله بن رواحة و تردد عن النزول بعض الشيء ثم صمم إلى العدو فقاتل حتى قتل
فأخذ الراية ثابت بن أفرم من بني العجلان و ناولها لخالد بن الوليد فانحاز بالمسلمين و أنذر النبي صلى الله عليه و سلم بقتل هؤلاء الأمراء قبل ورود الخبر و في يوم قتلهم و استشهد مع الأمراء جماعة من المسلمين يزيدون على العشرة أكرمهم الله بالشهادة و رجعوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأحزنه موت جعفر و لقيهم و خارج المدينة و حمل عبد الله بن جعفر بين على دابته صبي و بكى عليه و استغفر له و قال : أبدله الله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة فسمي ذا الجناحين (2/455)
فتح مكة
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم حين عقد الصلح بينه و بين قريش في الحديبية أدخل خزاعة في عقده المؤمن منهم و الكافر و أدخلت قريش بني بكر بن عبد مناة ابن كنانة في عقده و كانت بينهم تراث في الجاهلية و ذحول كان فيها الأول للأسود بن رزن من بني الدئل بن بكر بن عبد مناة و ثأرهم عند خزاعة لما قتلت حليفهم مالك بن عباد الحضرمي و كانوا قد عدوا على رجل من خزاعة فقتلوه في مالك بن عباد حليفهم و عدت خزاعة على سلمى وكلثوم و ذؤيب بني الأسود بن رزن فقتلوهم و هم أشراف بني كنانة و جاء الإسلام فاشتغل الناس به و نسوا أمر هذه الدماء فلما انعقد هذا الصلح من الحديبية و أمن الناس بعضهم بعضا فاغتنم بنو الدئل هذه الفرصة في إدراك الثأر من خزاعة بقتلهم بني الأسود بن رزن و خرج نوفل بن معاوية الدولي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة و ليس كلهم تابعه و خرج معه بعضهم و خرجوا منهم و انحجزوا في دور مكة و دخلوا دار بديل بن ورقاء الخزاعي و رجع بنو بكر و قد انتقض العهد فركب بديل بن ورقاء و عمرو بن سالم في وفد من قومهم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم مستغيثين مما أصابهم به بنو الدئل بن عبد مناة و قريش فأجاب صلى الله عليه و سلم صريخهم و أخبرهم : بأن أبا سفيان يأتي يشد العقد و يزيد في المدة و أنه يرجع بغير حاجة
و كان ذلك سببا للفتح و ندم قريش على مافعلوا فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليؤكد العقد و يزيد في المدة و لقي بديل بن ورقاء بعسفان فكتمه الخبر و ورى له عن وجهه و أتى أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فطوت دونه فراش النبي صلى الله عليه و سلم و قالت لا يجلس عليه مشرك فقال لها قد أصابك بعدي شر يا بنية ثم أتى المسجد و كلم النبي صلى الله عليه و سلم فلم يجبه فذهب إلى أبي بكر و كلمه أن يتكلم في ذلك فأبى فلقي عمر فقال : و الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به فدخل على علي بن أبي طالب و عنده فاطمة و ابنه الحسن صبيا فكلمه فيما أتى له فقال علي : ما نستطيع أن نكلمه في أمر عزم عليه فقال لفاطمة يا بنت محمد أما تأمري ابنك هذا ليجير بين الناس فقالت لا يجير أحد على رسول الله فقال له علي يا أبا سفيان أنت سيد بني كنانة فقم و أجر و ارجع إلى أرضك فقال ترى ذلك مغنيا عني شيئا ؟ قال : ما أظنه و لكن لا أجد لك سواه فقام أبو سفيان في المسجد فنادى : ألا إني قد أجرت بين الناس ثم ذهب إلى مكة و أخبر قريشا فقالوا ما جئت بشيء و ما زاد ابن أبي طالب على أن لعب بك
ثم أعلم رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه سائر إلى مكة و أمر الناس بأن يتجهزوا و دعا الله أن يطمس الأخبار عن قريش و كتب إليهم حاطب بن أبي بلتعة بالخبر مع ظعينة قاصدة إلى مكة فأوحى الله إليه بذلك فبعث عليا و الزبير و المقداد إلى الظعينة فأدركوها بروضة خاخ و فتشوا رحلها فلم يجدوا شيئا و قالوا : رسول الله أصدق فقال علي : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الحوائج فأخرجته من بين قرون رأسها فلما قرئ على النبي صلى الله عليه و سلم قال ما هذا يا حاطب ؟ فقال يا رسول الله و الله ما شككت في الإسلام و لكني ملصق في قريش فأردت عندهم يدا يحفظوني بها في مخلف أهلي و ولدي فقال عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال : و ما يدريك يا عمر لعل الله أطلع على أهل بدر فقال إعملوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم
و خرج صلى الله عليه و سلم لعشر خلون من رمضان من السنة الثامنة في عشرة آلاف فيهم : من سليم ألف رجل و قيل سبعمائة و من مزينة ألف و من غفار أربعمائة و من أسلم أربعمائة و طوائف من قريش و أسد و تميم و غيرهم و من سائر القبائل جموع و كتائب الله من المهاجرين و الأنصار و استخلف أبا رهم الغفاري على المدينة و لقيه العباس بذي الحليفة و قيل بالحجفة مهاجرا فبعث رحله إلى المدينة و انصرف معه غازيا و لقيه بنيق العقاب أبو سفيان بن الحرث و عبد الله بن أبي أمية مهاجرين و استأذنا فلم يؤذن لهما و كلمته أم سلمة فأذن لهما و أسلما فسار حتى نزل مر الظهران و قد طوى الله أخباره عن قريش إلا أنهم يتوجسون الخليفة
و خشى العباس تلافي قريش إن فاجأهم الجيش قبل أن يستأمنوا فركب بغلة النبي صلى الله عليه و سلم و ذهب يتجسس و قد خرج أبو سفيان و بديل بن ورقاء و حكيم ابن حزام يتحسسون الخبر و بينما العباس قد أتى الأراك ليلقى من السابلة من ينذر أهل مكة إذ سمع صوت أبي سفيان و بديل و قد أبصرا نيران العساكر فيقول بديل : نيران بني خزاعة فيقول أبو سفيان : خزاعة أذل من أن تكون هذه نيرانها و عسكرها فقال العباس : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم بالناس و الله إن ظفر بك ليقتلنك واصباح قريش فارتدف خلفي و نهض به إلى المعسكر و مر بعمر فخرج يشتد إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد و لا عهد فسبقه العباس على البغلة و دخل على أثره فقال : يا رسول الله هذا عدو الله أبو سفيان أمكن الله منه بلا عهد فدعني أضرب عنقه فقال العباس : قد أجرته فزأره عمر فقال العباس : لو كان من بني عدي ما قلت هذا و لكنه من عبد مناف فقال عمر : و الله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب لأني أعرف أنه عند رسول الله صلى الله عليه و سلم كذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم العباس أن يحمله إلى رحله و يأتيه صباحا فلما أتى به قال له صلى الله عليه و سلم : [ ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ] ؟ فقال بأبي أنت و أمي ما أحلمك و أكرمك و أوصلك و الله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا فقال : [ ويحك ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ] قال بأبي أنت و أمي ما أحلمك و أكرمك و أوصلك أما هذه في النفس منها شيء فقال له العباس : ويحك أسلم قبل أن يضرب عنقك فأسلم فقال العباس : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا قال : [ نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن و من أغلق عليه بابه فهو آمن و من دخل المسجد فهو آمن ]
ثم أمر العباس أن يوقف أبا سفيان بخطم الوادي ليرى جنود الله ففعل ذلك و مرت به القبائل قبيلة قبيلة إلى أن جاء مركب رسول الله صلى الله عليه و سلم في المهاجرين و الأنصار عليهم الدروع البيض فقال من هؤلاء ؟ فقال العباس : هذا رسول الله في المهاجرين و الأنصار فقال : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما : فقال : يا أبا سفيان إنها النبوة فقال : هي إذا ! فقال له العباس : النجاء من قومك فأتى مكة و أخبرهم بما أحاط بهم و بقول النبي صلى الله عليه و سلم من أتى المسجد أو دار أبي سفيان أو أغلق بابه
و رتب الجيش و أعطى سعد بن عبادة الراية فذهب يقول : اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الحرمة و بلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فأمر عليا أن يأخذ الراية منه و يقال أمر الزبير و كان على الميمنة خالد بن الوليد و فيها أسلم و غفار و مزينة و جهينة و على الميسرة الزبير و على المقدمة أبو عبيدة بن الجراح و سرب رسول الله صلى الله عليه و سلم الجيوش من ذي طوى و أمرهم بالدخول إلى مكة : الزبير من أعلاها و خالد من أسفلها و أن يقاتلوا من تعرض لهم و كان عكرمة بن أبي جهل و صفوان بن أمية و سهيل بن عمرو قد جمعوا للقتال فناوشهم أصحاب خالد القتال و استشهد من المسلمين كرز بن جابر من بني محارب و خنيس بن خالد من خزاعة و سلمة بن جهينة و انهزم المشركون و قتل منهم ثلاثة عشر و أمن النبي صلى الله عليه و سلم سائر الناس
و كان الفتح لعشر بقين من رمضان و أهدر دم جماعة من المشركين سماهم يومئذ منهم : عبد العزى بن خطل من بني تميم و الأدرم بن غالب كان قد أسلم و بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم مصدقا و معه رجل من المشركين فقتله و ارتد و لحق بمكة و تعلق يوم الفتح بأستار الكعبة فقتله سعد بن حريث المخزومي و أبو برزة الأسلمي و منهم : عبد الله بن سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي صلى الله عليه و سلم ثم ارتد و لحق بمكة و نميت عنه اقوال فاختفى يوم الفتح و أتى به عثمان بن عفان و هو أخوه من الرضاعة فاستأمن له فسكت عليه السلام ساعة ثم أمنه فلما خرج قال لأصحابه هلا ضربتم عنقه فقال له بعض الأنصار هلا أومأت إلي فقال : ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين و لم يظهر بعد إسلامه إلا خير و صلاح و استعمله عمر و عثمان و منهم الحويرث بن نفيل من بني عبد قصي كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة فقتله علي بن أبي طالب يوم الفتح و منهم مقيس بن صبابة كان هاجر في غزوة الخندق ثم عدا على رجل من الأنصار كان قد قتل أخاه قبل ذلك غلطا و وداه فقتله و فر إلى مكة مرتدا فقتله يوم الفتح نميلة بن عبد الله الليثي و هو ابن عمه و منهم قينتا ابن خطل كانتا تغنيان بهجو النبي صلى الله عليه و سلم فقتلت إحداهما و استؤمن للأخرى فأمنها و منهم مولاة لبني عبد المطلب إسمها سارة و استؤمن لها فأمنها رسول الله صلى الله عليه و سلم و استجار رجلان من بني مخزوم بأم هانئ بنت أبي طالب يقال إنهما الحرث بن هشام و زهير بن أبي أمية أخو أم سلمة فأمنتهما و أمضى رسول الله صلى الله عليه و سلم أمانها فأسلما
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم المسجد و طاف بالكعبة و أخذ المفتاح من عثمان بن طلحة بعد أن مانعت دونه أم عثمان ثم أسلمته فدخل الكعبة و معه أسامة بن زيد و بلال و عثمان بن طلحة و أبقى له حجابة البيت فهي في ولد شيبة إلى اليوم و أمر بكسر الصور داخل الكعبة و خارجها و بكسر الأصنام حواليها و مر عليها و هي مشدودة بالرصاص يشير إليها بقضيب في يده و هو يقول : [ جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ] فما بقي منهم صنم إلا خر على وجهه و أمر بلالا فأذن على ظهر الكعبة و وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم بباب الكعبة ثاني يوم الفتح و خطب خطبته المعروفة و وضع مآثر الجاهلية إلا سدانة البيت و سقاية الحاج و أخبر أن مكة لم تحل لأحد قبله و لا بعده و إنما أحلت له ساعة من نهار ثم عادت كحرمتها بالأمس ثم قال : [ لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ألا إن كل مأثورة أو دم أو مال يدعى في الجاهلية فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة و سقاية الحاج ألا و إن قتل الخطأ مثل العمد بالسوط و العصا فيهما الدية مغلظة منها أربعون في بطونها أولادها يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تعظمها بالآباء الناس من آدم و آدم خلق من تراب ثم تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } إلى آخر الآية يا معشر قريش و يا أهل مكة ما ترون أني فاعل فيكم ؟ قالوا : خيرا أخ كريم ثم قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء و أعتقهم على الإسلام و جلس لهم فيما قيل على الصفا فبايعوه على السمع و الطاعة لله و لرسوله فيما استطاعوه و لما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء أمر عمر بن الخطاب أن يبايعهن و استغفر لهن رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه كان لا يمس امرأة حلالا و لا حراما ]
و هرب صفوان بن أمية إلى اليمن و اتبعه عمير بن وهب من قومه بأمان النبي صلى الله عليه و سلم له فرجع و أنظره أربعة أشهر و هرب ابن الزبير الشاعر إلى نجران و رجع فأسلم و هرب هبيرة بن أبي وهب المخزومي زوج أم هانيء إلى اليمن فمات هنالك كافرا ثم بعث النبي صلى الله عليه و سلم السرايا حول مكة و لم يأمرهم بقتال و في جملتهم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة فقتل منهم و أخذ ذلك عليه و بعث إليهم عليا بمال فودى لهم قتلاهم و رد عليهم ما أخذ لهم ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالدا إلى العزى بنت بنخلة كانت مضر من قريش تعظمه و كنانة و غيرهم و سدنته بنو شيبان من بين سليم حلفاء بني هاشم فهدمه ثم إن الأنصار توقفوا إلى أن يقيم صلى الله عليه و سلم داره بعد أن فتحها فأغمهم ذلك و خرجوا له فخطبهم صلى الله عليه و سلم و أخبرهم أن المحيا محياهم و الممات مماتهم فسكتوا لذلك و اطمأنوا (2/457)
غزوة حنين
[ و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة خمس عشرة ليلة و هو يقصر الصلاة فبلغه أن هوازن و ثقيف جمعوا له و هم عامدون إلى مكة و قد نزلوا حنينا و كانوا حين سمعوا بمخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة يظنون أنه إنما يريدهم فاجتمعت هوازن إلى مالك بن عوف من بني النضير و قد أوعب معه بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن و بني جشم بن معاوية و بني سعد بن بكر و ناسا من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية و الأحلاف و بني مالك بن ثقيف بن بكر و لم يحضرها من هوازن كعب و لا كلاب و في جشم دريد بن الصمة بن بكر بن علقمة ابن خزاعة بن أزية بن جشم رئيسهم و سيدهم شيخ كبير ليس فيه إلا ليؤتم برأيه و معرفته و في ثقيف سيدان ليس لهم في الأحلاف إلا قارب بن الأسود بن مسعود ابن معتب و في بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحرث بن مالك و أخوه أحمر و جميع أمر الناس إلى مالك بن عوف
فلما أتاهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم فتح مكة أقبلوا عامدين إليه و أسار مالك مع الناس أموالهم و نساءهم و أبناءهم يرى أنه أثبت لموقفهم فنزلوا بأوطاس فقال دريد بن الصمة لمالك : ما لي أسمع رغاء البعير و نهاق الحمير و يعار الشاء و بكاء الصغير فقال : أموال الناس و أبناءهم سقنا معهم ليقاتلوا عنها فقال راعي ضأن : و الله هل يرد المنهزم شيء ؟ إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسلاحه و إن كانت عليك فضحت في أهلك و مالك ثم سأل عن كعب و كلاب و أسف لغيابهم و أنكر على مالك رأيه ذلك و قال : لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا أرفعهم إلى ممتنع بلادهم ثم ألق الصبيان على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك و إن كانت لغيرك كنت قد أحرزت أهلك و مالك و أبى عليه مالك و اتبعه هوازن
ثم بعث النبي صلى الله عليه و سلم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي يستعلم خبر القوم فجاءه و أطلعه على جلية الخبر و أنهم قاصدون إليه فاستعار رسول الله صلى الله عليه و سلم من صفوان بن أمية مائة درع و قيل أربعمائة و خرج على اثني عشر ألفا من المسلمين عشر آلاف الذين صحبوه من المدينة و ألفان من مسلمة الفتح و استعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية و مضى لوجهه و في جملة من اتبعه عباس بن مرداس و الضحاك بن سفيان الكلابي و جموع من عبس و ذبيان و مزينة و بني أسد و مر في طريقه بشجرة سدر خضراء و كان لهم في الجاهلية مثلها يطوف بها الأعراب و يعظمونها و يسمونها ذات أنواط فقالوا : يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم : قلتم كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة و الذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم و اجرم من ذلك
ثم نهض حتى أتى وادي حنين من أودية تهامة أول يوم من شوال من السنة الثامنة و هو وادي حزن فتوسطوه في غبش الصبح و قد كمنت هوازن في جانبيه فحملوا على المسلمين حملة رجل واحد فولى المسلمون لا يلوي أحد على أحد و ناداهم صلى الله عليه و سلم فلم يرجعوا و ثبت معه أبو بكر و عمر و علي و العباس و أبو سفيان بن الحرث و ابنه جعفر و الفضل و قثم ابنا العباس و جماعة سواهم و النبي صلى الله عليه و سلم على بغلته البيضاء دلدل و العباس آخذ بشكائمها و كان جهير الصوت فأمره رسول الله صلى الله عليه و سلم أن ينادي بالأنصار و أصحاب الشجرة قيل و بالمهاجرين فلما سمعوا الصوت و ذهبوا ليرجعوا فصدهم ازدحام الناس عن أن يثنوا رواحلهم فاستقاموا و تناولوا سيوفهم و تراسهم و اقتحموا عن الرواحل راجعين إلى النبي صلى الله عليه و سلم و قد اجتمع منهم حواليه نحو المائة فاستقبلوا هوازن و الناس متلاحقون و اشتدت الحرب و حمي الوطيس و قذف الله في قلوب هوازن الرعب حين وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يملكوا أنفسهم فولوا منهزمين و لحق آخر الناس و أسرى هوازن مغلولة بين يديه و غنم المسلمون عيالهم و أموالهم و استحر القتل في بني مالك من ثقيف فقتل منهم يومئذ سبعون رجلا في جملتهم : ذو الخمار و أخو عثمان ابنا عبد الله بن ربيعة بن الحرث بن حبيب سيداهم و أما قارب بن الأسود سيد الأحلاف من ثقيف ففر بقومه منذ أول الأمر و ترك رايته فلم يقتل منهم أحد و لحق بعضهم بنخلة و هرب مالك بن عوف النصري مع جماعة من قومه فدخلوا الطائف مع ثقيف و انحازت طوائف هوازن إلى أوطاس و اتبعتهم طائفة من خيل السلمين الذين توجهوا من نخلة فأدركوا فيهم دريد بن الصمة فقتلوه يقال قتله ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة بن يربوع بن سماك بن عوف بن امرئ القيس و بعث صلى الله عليه و سلم إلى من اجتمع بأوطاس من هوازن أبا عامر الأشعري عم أبي موسى فقاتلهم و قتل بسهم رماه به سلمة بن دريد بن الصمة فأخذ أبو موسى الراية و شد على قاتل عمه فقتله و انهزم المشركون و استحر القتل في بني رباب من بني نضر بن معاوية و انفضت جموع أهل هوازن كلها و استشهد من المسلمين يوم الخميس أربعة منهم أيمن بن أم أيمن أخو أسامة لأمه و يزيد بن زمعة بن الأسود و سراقة بن الحرث من بني العجلان و أبو عامر الأشعري ] (2/462)
حصار الطائف و غزوة تبوك
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسبايا و الأموال فحبست بالجعرانة بنظر مسعود ابن عمر الغفاري و سار من فوره إلى الطائف فحاصر بها ثقيف خمس عشرة ليلة و قاتلوا من وراء الحصون و أسلم من كان حولهم من الناس و جاءت وفودهم إليه و قد كان مر في طريقه بحصتن مالك بن عوف النصري فأمر بهدمه و نزل على أطم لبعض ثقيف فتمنع فيه صاحبه فأمر بهدمه فأخرب و تحصنت ثقيف و قد كان عروة بن مسعود و غيلان بن سلمة من ساداتهم ذهبا إلى جرش يتعلمان صنعة المجانيق و الدبابات للحصار لما أحسوا من قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم إياهم فلم يشهدا الحصار و لا حنينا قبله و حاصرهم المسلمون بضع عشرة أو بضعا و عشرين ليلة و استشهد بعضهم بالنبل و رماهم صلى الله عليه و سلم بالمنجنيق و دخل نفر من المسلمين تحت دبابة و دنوا إلى سور الطائف فصبوا عليهم سكك الحديد المحماة و رموهم بالنبل فأصابوا منهم قوما و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقطع أعنابهم و رغب إليه ابن الأسود بن مسعود في ماله و كان بعيدا من الطائف و كف عنه ثم دخل إلى الطائف و كف عنه ثم دخل إلى الطائف و تركهم و نزل أبو بكرة فأسلم
و استشهد من المسلمين في حصاره : سعيد بن سعيد بن العاص و عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة أخو أم سلمة و عبد الله بن عامر بن ربيعة العنزي حليف بني عدي في آخرين قريبا من اثني عشر فيهم أربعة من الأنصار
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه و سلم من الجعرانة و أتاه هناك وفد هوازن مسلمين راغبين فخيرهم بين العيال و الأبناء و الأموال فاختاروا العيال و الأبناء و كلموا المسلمين في ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال صلى الله عليه و سلم ما كان لي و لبني عبد المطلب فهو لكم و قال المهاجرون و الأنصار ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه و سلم و امتنع الأقرع بن حابس و عيينة بن حصن أن يردا عليهم ما وقع لهما من الفيء و ساعدهم قومهم و امتنع العباس بن مرداس كذلك و خالف بنو سليم و قالوا : ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه و سلم فعوض رسول الله صلى الله عليه و سلم من لم تطب نفسه عن نصيبه و رد عليهم نساءهم و أبناءهم بأجمعهم
و كان عدد سبي هوازن ستة آلاف بين ذكر و أنثى فيهن الشيما أخت النبي صلى الله عليه و سلم من الرضاعة و هي بنت الحرث بن عبد العزى من بني سعد بن بكر من هوازن و أكرمها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أحسن إليها و خيرها فاختارت قومها فردها إليهم و قسم الأموال بين المسلمين ثم أعطى من نصيبه من خمس الخمس قوما يستألفهم على الإسلام من قريش و غيرهم فمنهم من أعطاه مائة مائة و منهم خمسين خمسين و منهم ما بين ذلك و يسمون المؤلفة و هم مذكورون في كتب السير يقاربون الأربعين منهم أبو سفيان و ابنه معاوية و حكيم بن حزام و صفوان بن أمية و مالك بن عوف و غيرهم و منهم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر و الأقرع بن حابس و هما من أصحاب المائة و أعطى عباس بن مرداس دونهما فأنشده أبياته المعروفة يتسخط فيها فقال إقطعوا عني لسانه فأتموا إليه المائة
و لما أعطى المؤلفة قلوبهم وجد الأنصار في أنفسهم إذ لم يعطهم مثل ذلك و تكلم شبانهم مع ما كان يظنون أنه إذا فتح الله عليه بلده يرجع إلى قومه و يتركهم فجمعهم و وعظهم و ذكرهم و قال : [ إنما أعطي قوما حديثي عهد الإسلام أتألفهم عليه أما ترضون أن ينصرف الناس بالشاء و البعير و تنصرفوا برسول الله إلى رحالكم لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار و لو سلك الأنصار شعبا و سلك الناس شعبا لسلكت شعب الأنصار ] فرضوا و افترقوا
ثم اعتمر رسول الله صلى الله عليه و سلم من الجعرانة إلى مكة ثم رجع إلى المدينة فدخلها لست بقين من ذي القعدة من السنة الثامنة لشهرين و نصف من خروجه و استعمل على مكة عتاب بن أسيد شابا بنيف عمره على عشرين و كان غلبه الورع و الزهد فأقام الحج بالمسلمين في سنته و هو أول أمير أقام حج الإسلام المشركون على مشاعرهم و خلف بمكة معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين و يعلمهم القرآن و بعث عمرو بن العاص إلى جيفر و عبد ابني الجلندي من الأزد بعمان مصدقا فأطاعوا له بذلك و استعمل صلى الله عليه و سلم مالك بن عوف على من أسلم من قومه و من سلم منهم و ماله حوالي الطائف من ثقيف و أمره بمغادرة الطائف من التضييق عليهم ففعل حتى جاؤا مسلمين كما يذكر بعد و حسن إسلام المؤلفة قلوبهم ممن أسلم يوم الفتح أو بعده و إن كانوا متفاوتين في ذلك و وفد على النبي صلى الله عليه و سلم كعب بن زهير فأهدر دمه وضاقت به الأرض و جاء فأسلم و أنشد النبي صلى الله عليه و سلم قصيدته المعروفة بمدحه التي أولها :
( باتت سعاد فقلبي اليوم متبول ) الخ و أعطاه بردة في ثواب مدحه فاشتراها معاوية من ورثته بعد موته و صار الخلفاء يتوارثونها شعارا
و وفد في سنة تسع على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة بنو أسد فأسلموا و كان منهم ضرار بن الأزور و قالوا : قدمنا يا رسول الله قبل أن يرسل إلينا فنزلت { يمنون عليك أن أسلموا } و وفد فيها وفدتين في شهر ربيع الأول و نزلوا على رويفع بن ثابت البلوي و أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة بعد منصرفه من الطائف في ذي الحجة إلى شهر رجب من السنة التاسعة
ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم : و كان في غزواته كثيرا ما يوري بغير الجهة التي يقصدها على طريقة الحرب إلا ما كان من هذه الغزاة لعسرها بشدة الحرب و بعد البلاد و فصل الفواكه و قلة الظلال و كثرة العدو أمير المؤمنين الذين يصدون و تجهز الناس على ما في أنفسهم من استثقال ذلك و طفق المنافقون يثبطونهم عن الغزو و كان نفر منهم يجتمعون في بيت بعض اليهود فأمر طلحة بن عبيد الله أن يخرب عليهم البيت فخربها و استأذن ابن قيس من بني سلمة في القعود فأذن له و أعرض عنه و تدرب كثير من المسلمين بالإنفاق و الحملان و كان من أعظمهم في ذلك عثمان بن عفان يقال إنه أنفق فيها ألف دينار و حمل على تسعمائة بعير و مائة فرس و جهز ركابا و جاء بعض المسلمين يستحمل رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يجد ما يحملهم عليه فنزلوا باكين لذلك و حمل بعضهم يامين بن عمير النضري و هما أبو ليلى بن كعب من بني مازن بن النجار و عبد الله بن المغفل المزني و اعتذر المخلفون من الأعراب فعذرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم نهض و خلف على المدينة محمد بن مسلمة و قيل بل سباع بن عرفطة و قيل بل علي ابن أبي طالب و خرج معه عبد الله بن أبي بن سلول في عدد و عدة فلما سار صلى الله عليه و سلم تخلف هو فيمن تخلف من المنافقين و مر صلى الله عليه و سلم على ديار ثمود فأمر أن لا يستعمل ماؤها و يعلف ما عجن منه للإبل و أذن لهم في بئر الناقة و أمر أن لا يدخلوا عليهم بيوتهم إلا باكين و نهى أن يخرج أحد منفردا عن صاحبه فخرج رجلان من بني ساعدة خنق أحدهما فمسح عليه فشفي و الآخر رمته الريح في جبل طي فردوه بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه و سلم و ضل صلى الله عليه و سلم ناقته في بعض الطريق فقال أحد المنافقين محمد يدعي علم خبر السماء و هو لا يدري أين ناقته فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال : و الله لا أعلم إلا ما علمني الله و أن الناقة بموضع كذا و كان قد أوحى إليها بها فوجدوها ثم و كان قائل هذا القول زيد بن اللصيت من بني قينقاع و قيل إنه تاب بعد ذلك و فضح الوحي قوما من المنافقين كانوا يخذلون الناس و يهولون عليهم أمر الروم فتاب منهم مخشى بن جهير و دعا أن يكفر عنه بشهادة يخفي مكانه فقتل يوم اليمامة
و لما انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى تبوك أتاه يحينة بن رؤبة صاحب أيلة و أهل جرباء و أذرح فصالحوا على الجزية و كتب لكل كتابا و بعث صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل من كندة كان ملكا عليها و كان نصرانيا و أخبر أنه يجده يصيد البقر و اتفق أن بقر الوحش باتت تهد القصر بقرونها فنشط أكيدر لصيدها و خرج ليلا فوافق وصوله خالدا فأخذه و بعث به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فعفا عنه و صالحه على الجزية و رده
و أقام بتبوك عشرين ليلة ثم انصرف و كان في طريقه ماء قليل نهى أن يسبق إليه أحد فسبق رجلان و استنفدا ما فيه فنكر عليهما ذلك ثم وضع يده تحت وشله فصب ما شاء الله أن يصب و نضح به الوشل و دعا فجاش الماء حتى كفى العسكر
و لما قرب المدينة بساعة من نهار أنفذ مالك بن الدخشم من بني سالم و معن بن عدي من بني العجلان إلى مسجد الضرار فأحرقاه و هدماه و قد كان جماعة من المنافقين بنوه و أتوا إلى النبي صلى الله عليه و سلم و هو يتجهز إلى تبوك فسألوه الصلاة فيه فقال : أنا على سفر و لو قدمنا أتيناكم فصلينا لكم فيه فلما رجع أمر بهدمه
و في هذه الغزاة تخلف كعب بن مالك من بني سلمة و مرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف و هلال بن أمية بن واقف و كانوا صالحين فنهى صلى الله عليه و سلم عن كلامهم خمسين يوما ثم نزلت توبتهم و كان المتخلفون من غير عذر نيفا و ثلاثين رجلا وكان وصوله صلى الله عليه و سلم من تبوك في رمضان سنة تسع و فيه كانت وفادة ثقيف و إسلامهم و نزل الكثير من سورة براءة في شأن المنافقين و ما قالوه في غزوة تبوك آخر غزوة غزاها صلى الله عليه و سلم (2/465)
إسلام عروة بن مسعود ثم وفد ثقيف و هدم اللات
كان صلى الله عليه و سلم لما أفرج عن الطائف و ارتحل المدينة اتبعه عروة بن مسعود سيدهم فأدركه في طريقه و أسلم و رجع يدعو قومه فرمي بسهم في سطح بيته و هو يؤذن للصلاة فمات و منع قومه من الطلب بدمه و قال : هي شهادة ساقها الله إلي و أوصى أن يدفن مع شهداء المسلمين ثم قدم ابنه أبو المليح و قارب بن الأسود بن مسعود فأسلما و ضيق مالك بن عوف على ثقيف و استباح سرحهم و قطع سابلتهم و بلغهم رجوع النبي صلى الله عليه و سلم من تبوك و علموا أن لا طاقة لهم بحرب العرب المسلمين و فزعوا إلى عبد ياليل بن عمرو بن عمير فشرط عليهم أن يبعثوا معه رجالا منهم ليحضروا مشهده خشية على نفسه مما نزل بعروة فبعثوا معه رجلين من أحلاف قومه و ثلاثا من بني مالك فخرج بهم عبد ياليل و قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم في رمضان من السنة التاسعة يريدون البيعة و الإسلام فضرب لهم قبة في المسجد و كان خالد بن سعيد بن العاص يمشي في أمرهم و هو الذي كتب كتابهم بخطه و كانوا لا يأكلون طعاما يأتيهم حتى يأكل منه خالد و سألوه أن يدع لهم اللات ثلاث سنين رغبا لنسائهم و أبنائهم حتى يأنسوا فأبى و سألوه أن يعفيهم من الصلاة فقال : لا خير في دين لا صلاة فيه فسألوه أن لا يكسروا أوثانهم فقال : أما هذه فسنكفيكهم منها فأسلموا و كتب لهم و أمر عليهم عثمان بن أبي العاص أصغرهم سنا لأنه كان حريصا على الفقه و تعلم القرآن ثم رجعوا إلى بلادهم و خرج معه أبو سفيان بن حرب و المغيرة بن شعبة لهدم اللات و تأخر أبو سفيان حتى دخل المغيرة فتناولها بيده ليهدمها و قام بنو معتب دونه خشية عليه ثم جاء أبو سفيان و جمع ما كان لها من الحلي و قضى منه دين عروة و الأسود ابني مسعود كما أمر النبي صلى الله عليه و سلم و قسم الباقي (2/469)
الوفود
و لما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من تبوك و أسلمت ثقيف ضربت إليه وفود العرب من كل وجه حتى لقد سميت سنة الوفود قال ابن إسحق : و إنما كانت العرب تتربص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش و أمر النبي صلى الله عليه و سلم و ذلك أن قريشا كانوا إمام الناس و هاديهم و أهل البيت و الحرم و صريح ولد إسمعيل و قادتهم لا ينكرون لهم و كانت قريش هي التي نصبت لحربه وخلافه فلما استفتحت مكة و دانت قريش و دخلها الإسلام عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحربه و عداوته فدخلوا في دينه أفواجا يضربون إليه من كل وجه انتهى
فأول من قدم إليه بعد تبوك وفد بني تميم و فيه من رؤوسهم : عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس من بني دارم بن مالك و الحتات بن زيد و الأقرع بن حابس و الزبرقان بن بدر من بني سعد و قيس بن عاصم و عمرو بن الأهتم و هما من بني منقر و نعيم بن زيد و معهم عيينة بن حصن الفزاري و قد كان الأقرع و عيينة من بني منقر و نعيم بن زيد و معهم عيينة بن حصن الفزاري و قد كان الأقرع و عيينة شهدا فتح مكة و خيبر و حصار الطائف ثم جاءا مع وفد بني تميم فلما دخلوا المسجد نادوا من وراء الحجرات فنزلت الآيات في إنكار ذلك عليهم و لما خرج قالوا جئنا نفاخرك بخطيبنا و شاعرنا فأذن لهم فخطب عطارد و فاخر و يقال والأقرع بن حابس ثم أنشد الزبرقان بن بدر شعرا بالمفاخرة و دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثابت بن قيس بن الشماس من بني الحرث بن الخزرج فخطب و حسان بن ثابت فأنشد مساجلين لهم فأذعنوا للخطبة و الشعر و السؤود و الحلم و قالوا : هذا الرجل هو مؤيد من الله خطيبه أخطب من خطيبنا و شاعره أشعر من شاعرنا و أصواتهم أعلى من أصواتنا ثم أسلموا و أحسن رسول الله صلى الله عليه و سلم جوائزهم و هذا كان شأنه مع الوفود ينزلهم إذا قدموا و يجهزهم إذا رحلوا
ثم قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم في آخر رمضان مقدمه من تبوك كتاب ملوك حمير مع رسولهم و مع الحرث بن عبد كلال و نعيم بن عبد كلال و النعمان قيل ذي رعين و همدان و معافر و بعث زرعة بن ذي يزن رسوله مالك بن مرة الرهاوي بإسلامهم و مفارقة الشرك و أهله و كتب إليهم النبي صلى الله عليه و سلم كتابه و بعث إلى ذي يزن معاذ بن جبل مع رسوله مالك بن مرة يجمع الصدقات و أوصاهم برسله معاذ و أصحابه ثم مات عبد الله بن أبي بن سلول في ذي القعدة و نعى رسول الله صلى الله عليه و سلم النجاشي و أنه مات في رجب قبل تبوك
و قدم وفد بهرا في ثلاثة عشر رجلا و نزلوا على المقداد بن عمرو و جاء بهم فأسلموا و أجازهم و انصرفوا و قدم وفد بني البكاء ثلاثة نفر منهم و قدم وفد بني فزارة بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن و ابن أخيه الحر بن قيس فأسلموا
و وفد عدي بن حاتم من طي فأسلم و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قد بعث قبل تبوك إلى بلاد طي علي بن أبي طالب في سرية فأغار عليهم و أصيب حاتم و سبيت ابنته و غنم سيفين في بيت أصنامهم كانتا من قربان الحرث بن أبي شمر و كان عدي قد هرب قبل ذلك و لحق ببلاد قضاعة بالشام فرارا من جيوش المسلمين و جوارا لأهل دينه من النصارى و أقام بينهم و لما سيقت ابنة حاتم جعلت في الحظيرة بباب المسجد التي كانت السبايا تحبس بها و مر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم فكلمته أن يمن عليها فقال : قد فعلت و لا تعجلي حتى تجدي ذائقة من قومك يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني قالت : فأقمت حتى قدم ركب من بني قضاعة و أنا أريد أن آتي أخي بالشام فعرفت رسول الله صلى الله عليه و سلم فكساني و حلني و زورني و خرجت معهم فقدمت الشام فلما لقيها عدي تلاوما ساعة ثم قال لها ماذا ترين في أمري مع هذا الرجل ؟ فأشارت عليه باللحاق به فوفد و أكرمه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أدخله إلى بيته و أجلسه على وسادته بعد أن استوقفته في طريقه امرأة فوقف لها فعلم عدي أنه ليس بملك و أنه نبي ثم أخبره عن أخذه المرباع من قومه و لا يحل له فازداد استبصارا فيه ثم قال : لعله إنما يمنعك من الدخول في الدين ما ترى من حاجتهم فيوشك أن يفيض المال فيهم حتى لا يوجد من يأخذه أو لعله يمنعك ما ترى من كثرة عدوهم و قلة عددهم فوالله ليوشكن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخاف أو لعلك إنما يمنعك من الدخول فيه أنك ترى الملك و السلطان لغيرهم فيوشك أن تسمع بالقصور البيض من بابل قد فتحت فأسلم عدي و انصرف إلى قومه
ثم أنزل الله على نبيه الأربعين آية من أول براءة في نبذ هذا العهد الذي بينه و بين المشركين أن لا يصدوا عن البيت و نهوا أن يقرب المسجد الحرام مشرك بعد ذلك و أن لا يطوف بالبيت عريان و من كان بينه و بين رسول الله صلى الله عليه و السلام عهد فيتم له إلى مدته و أجلهم أربعة أشهر من يوم النحر فبعث رسول الله صلى الله عليه و السلام بهذه الآيات أبا بكر و أمره على إقامة الحج بالموسم من هذه السنة فبلغ ذا الحليفة فاتبعه بعلي فأخذها منه فرجع أبو بكر مشفقا أن يكون نزل فيه قرآن فقال له النبي صلى الله عليه و السلام : لم ينزل شيء و لكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني فسار أبو بكر على الحج و علي على الأذان ببراءة فحج أبو بكر بالناس وهم على حج الجاهلية و قام علي عند العقبة يوم الأضحى فأذن بالآية التي جاء بها قال الطبري و في هذه السنة فرضت الصدقات لقوله تعالى { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها } الآية و فيها قدم وفد ثعلبة بن سعد و وفد سعد هذيم من قضاعة قال الطبري : و فيها بعث بنو سعد بن بكر ضمام بن ثعلبة وافدا فاستحلف رسول الله صلى الله عليه و السلام على ما جاء به الإسلام و ذكر التوحيد و الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج واحدة واحدة حتى إذا فرغ تشهد و أسلم و قال : لأؤدي هذه الفرائض و أجتنب ما نهيت عنه ثم لا أزيد عليها و لا أنقص فلما انصرف قال صلى الله عليه و السلام : إن صدق دخل الجنة ثم قدم على قومه فأسلموا كلهم يوم قدومه و الذي عليه الجمهور : أن قدوم ضمام و قصته كانت سنة خمس
ثم دخلت سنة عشرة فبعث رسول الله صلى الله عليه و السلام خالد بن الوليد في ربيع أو جمادى في سرية أربعمائة إلى نجران و ما حولها يدعو بني الحرث بن كعب إلى الإسلام و يقاتلهم إن لم يفعلوا فأسلموا و أجابوا داعيته و بعث الرسل في كل وجه فأسلم الناس فكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و السلام فكتب إليه بأن يقدم مع وفدهم فأقبل خالد و معه وفد بني الحرث بن كعب منهم قيس بن الحصين ذو القصة و يزيد بن المحجل و عبد الله بن قراد الزيادي و شداد بن عبد الله الضبابي و عمرو بن عبد الله الضبابي فأكرمهم النبي صلى الله عليه و السلام و قال لهم : بم كنتم تغلبون من يقاتلكم في الجاهلية ؟ قالوا : كنا نجتمع و لا نفترق و لا نبدأ أحدا بظلم قال : صدقتم فأسلموا و أمر عليهم قيس بن الحصين و رجعوا صدر ذي القعدة من سنة عشر ثم أتبعهم عمرو بن حزم من بني النجار ليفقههم في الدين و يعلمهم السنة و كتب إليه كتابا عهد إليه فيه عهده و أمره بأمره و أقام عاملا على نجران و هذا الكتاب وقع في السير مرويا و اعتمده الفقهاء في الاستدلالات و فيه مآخذ كثيرة للأحكام الفقهية و نصه : [ بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله و رسوله : يا أيها الذين أوفوا بالعقود عهدا من محمد النبي صلى الله عليه و سلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله في أمره كله فإن الله مع الذين اتقوا و الذين و الذين هم محسنون و آمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله و أن يبشر الناس بالخير و يأمرهم به و يعلم الناس القرآن و يفهمهم فيه و أن ينهى الناس فلا يمس القرآن إنسان إلا و هو طاهر و أن يخبر الناس بالذي لهم و الذي عليهم و يلين للناس في الحق و يشتد عليهم في الظلم فإن الله حرم الظلم و نهى عنه فقال : ألا لعنة الله على الظالمين و أن يبشر الناس بالجنة و بعملها و ينذر الناس بالنار و عملها و يستألف الناس حتى يتفقهوا في الدين و يعلم الناس معالم الحج و سننه و فرائضه و ما أمر الله به الحج الأكبر و الحج الأصغر و هو العمرة و ينهي الناس أن يصلي أحد في ثوب واحد صغير إلا أن يكون واسعا يثنى طرفيه على عاتقيه و ينهي أن يحتبي أحد في ثوب واحد و يفضي بفرجه إلى السماء و ينهي أن يقص أحد شعر رأسه إذا عفا في قفاه و ينهي إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل و العشائر و ليكن دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له فمن لم يدع إلى الله و دعا القبائل و العشائر فليعطفوه بالسيف حتى يكون دعاؤهم إلى الله وحده لا شريك له و يأمر الناس بإسباغ الوضوء في وجوههم و أيديهم إلى المرافق و أرجلهم إلى الكعبين و أن يمسحوا برؤوسهم كما أمرهم الله و آمره بالصلاة لوقتها و إتمام الركوع و السجود و أن يغلس بالصبح و يهجر بالهاجرة حتى تميل الشمس و صلاة العصر و الشمس في الأرض مدبرة و المغرب حين يقبل الليل لا يؤخر حتى تبدوا نجوم السماء و العشاء أول الليل و آمره بالسعي إلى الجمعة إذا نوى لها و الغسل عند الرواح إليها و آمره أن يأخذ من الغنائم خمس الله و ما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين أو سقت السماء و على ما سقى الغرب نصف العشر و في كل عشر من الإبل شاتان و في كل عشرين أربع شياة و في كل أربعين من البقر بقرة و في كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة جذع أو جذعة و في كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة فإنها فريضة الله التي افترض على المؤمنين في الصدقة فمن زاد خيرا فهو خير له و أنه من أسلم من يهودي أو نصراني إسلاما خالصا من نفسه ودان بدين الإسلام فإنه من المؤمنين له مثل مالهم و عليه ما عليهم و من كان نصرانيته أو يهوديته فإنه لا يرد عنها و عليه الجزية على كل حالم ذكرا و أنثى حر أو عبد دينار واف أو عوضه ثيابا فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله رسوله و من منع ذلك فإنه عدو لله و لرسوله و للمؤمنين جميعا صلوات الله على محمد و السلام عليه و رحمته و بركاته ]
و قدم وفد غسان في رمضان من هذه السنة العاشرة في ثلاثة نفر فأسلموا و انصرفوا إلى قومهم فلم يجيبوا إلى الإسلام فكتموا أمرهم و هلك إثنان منهم و لقي الثالث أبو عبيدة عامر باليرموك فأخبره بإسلامه و قدم عليه وفد عامر عشرة نفر فأسلموا و تعلموا شرائع الإسلام و أقرأهم أبي القرآن و انصرفوا و قدم في شوال وفد سلامان سبعة نفر رئيسهم حبيب فأسلموا و تعلموا الفرائض و انصرفوا
و فيما قدم وفد أزدجرش وفد فيهم صرد بن عبد الله الأزدي في عشرة من قومه و نزلوا على فروة بن عمرو و أمر النبي صلى الله عليه و السلام بعد أن أسلموا صردا على من أسلم منهم و أن يجاهد المشركين حوله فحاصر جرش و من بها خثعم و قبائل اليمن و كانت مدينة حصينة اجتمع إليها أهل اليمن حين سمعوا بزحف المسلمين فحاصرهم شهرا ثم قفل عنهم فظنوا أنه انهزم فاتبعوه إلى جبل شكر فصف و حمل عليهم و نال منهم و كانوا بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه و السلام رائدين و أخبرهم ذلك اليوم بواقعة شكر و قال : إن الله لتنحر عنده الآن فرجعا إلى قومهما و أخبرهم بذلك و أسلموا و حمى حول قريتهم
و فيها كان إسلام همدان و وفادتهم على يد علي رضي الله عنه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه و السلام بعث خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام فمكث ستة أشهر لا يجيبونه فبعث عليه السلام علي بن أبي طالب و أمره أن يقفل خالدا فلما بلغ علي أوائل اليمن جمعوا له فلما لقوه صفوا فقدم علي الإنذار و قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه و السلام فأسلمت همدان كلها ذلك اليوم و كتب بذلك إلى النبي صلى الله عليه و السلام فسجد لله شكرا ثم قال : السلام على همدان ثلاث مرات ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام و قدمت وفودهم و كان عمرو بن معد يكرب الزبيدي قال لقيس بن مكشوح المرادي : اذهب بنا إلى هذا الرجل فلن يخفى علينا أمره فأبى قيس من ذلك فقدم عمرو على النبي صلى الله عليه و السلام فأسلم و كان فروة بن مسيك المرادي على ربيد لأنه وفد قبل عمرو مفارقا لملوك كندة فأسلم و نزل سعد بن عبادة و تعلم القرآن و فرائض الإسلام و استعمله رسول الله صلى الله عليه و السلام على مراد و زبيد و مذحج كلها و بعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة فكان معه في بلاده حتى كانت الوفاة
و في هذه السنة قدم وفد عبد القيس يقدمهم الجارود بن عمرو و كانوا على دين النصرانية فأسلموا و رجعوا إلى قومهم و لما كانت الوفاة ارتد عبد القيس و نصبوا المنذر بن النعمان بن المنذر الذي يسمى الغرور ثبت الجارود على الإسلام و كان له المقام المحمود و هلك قبل أن يراجعوا وقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر ساوي العبدي فأسلم و حسن إسلامه و هلك بعد الوفاة و قبل ردة أهل البحرين و العلاء أمير عنده لرسول الله صلى الله عليه و سلم على البحرين
و في هذه السنة قدم وفد بني حنيفة في سنة عشر فيهم : مسلمة بن حبيب الكذاب و رجال بن عنفوة و طلق بن علي بن قيس و عليهم سلمان بن حنظلة فأسلموا و أقاموا أياما يتعلمون القرآن من أبي بن كعب و رجال يتعلم و طلق يؤذن لهم و مسيلمة في الرحال و ذكروا للنبي صلى الله عليه و سلم مكانه في رحالهم فأجازه و قال : ليس بشركم مكانا لحفظه رحالكم فقال مسيلمة عرف أن الأمر لي من بعده ثم ادعى مسيلمة بعد ذلك النبوة و شهد له طلق أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أشركه في الأمر فافتتن الناس به كما سنذكره
و فيها قدم وفد كندة يقدمهم الأشعث بن قيس في بضعة عشر و قيل في ستين و قيل في ثمانين و عليهم الديباج و الحرير و أسلموا و نهاهم النبي صلى الله عليه و سلم عنه فتركوه و قال له أشعث نحن بنو آكل المرار و أنت ابن آكل المرار فضحك و قال : ناسبوا بهذا النسب العباس بن عبد المطلب و ربيعة بن الحرث و كانا تاجرين فإذا ساحا في أرض العرب قال نحن بنو آكل المرار فيعتز بذلك لأن لهم عليه ولادة من الأمهات ثم قال لهم لا نحن بنو النضر بن كنانة فانتفوا منا و لا ننتفي من أبينا و قدم مع وفد كنانة وفد حضرموت و هم بنو وليعة و ملوكهم جمد و مخوس و مشرح و أبضعة فأسلموا و دعا لمخوس بإزالة الرتة من لسانه ( و قدم وائل بن حجر ) راغبا في الإسلام فدعا له و مسح رأسه و نودي الصلاة جامعة سرورا بقدومه و أمر معاوية أن ينزله بالحرة فمشى معه و كان راكبا فقال له معاوية أعطني نعلك أتوقى بها الرمضاء فقال ما كنت لألبسها وقد لبستها و في رواية لا يبلغ أهل اليمن أن سوقة لبس نعل ملك فقال : أردفني قال لست من أرداف الملوك ثم قال : إن الرمضاء قد أحرقت قدمي قال إمش في ظل ناقتي كفاك به شرفا و يقال إنه وفد على معاوية في خلافته فأكرمه و كتب له رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا [ بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب محمد النبي لوائل بن حجر قيل حضرموت إنك إن أسلمت لك ما في يديك من الأرض و الحصون و يؤخذ منك من كل عشر واحدة ينظر في ذلك ذو عدل و جعلت لك ألا تظلم فيها معلم الدين و النبي صلى الله عليه و سلم و المؤمنين أشهاد عليه ] قال عياض و فيه إلى الأقيال العباهلة و الأوراع المشابيب و فيه في التيعة شاة لا مقورة لالياط ولا ضناك و أنطوا الثبجة و في السيوب الخمس و من زنى من بكر فاصقعوه مائة و استوفضوه عاما و من زنى من ثيب فضرجوه بالاضاميم و لا توصيم في الدين و لا غمة في فرائض الله و كل مسكر حرام و وائل بن حجر يترفل على الأقيال
و فيها قدم وفد محارب في عشرة نفر فأسلموا و فيها قدم وفد الرها من مذحج في خمسة عشر نفرا و أهدوا فرسا فأسلموا و تعلموا القرآن و انصرفوا ثم قدم نفر منهم و حجوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و توفي فأوصى لهم بمائة وسق من خيبر جارية عليهم من الكتيبة و باعوها من معاوية
و فيها قدم وفد نجران النصارى في سبعين راكبا يقدمهم أميرهم العاقب عبد المسيح من كندة و أسقفهم أبو حارثة من بكر بن وائل و السيد الأيهم و جادلوا عن دينهم فنزل صدر سورة آل عمران و آية المباهلة فأبوا منها و فرقوا و سألوا الصلح و كتب لهم به على ألف حلة في صفر و ألف في رجب و على دروع و رماح و خيل و حمل ثلاثين من كل صنف و طلبوا أن يبعث معهم واليا يحكم بينهم فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح ثم جاء العاقب و السيد و أسلما
و فيها قدم وفد الصدف من حضرموت في بضعة عشر نفرا فأسلموا و علمهم أوقات الصلاة و ذلك في حجة الوداع و في هذه السنة قدم وفد عبس قال ابن الكلبي : وفد منهم رجل واحد فأسلم و رجع و مات في طريقه و قال الطبري : و فيها وفد عدي ابن حاتم في شعبان انتهى
و فيها قدم وفد خولان عشرة نفر فأسلموا و هدموا صنمهم و كان وفد على رسول الله صلى الله عليه و سلم في هدنة الحديبية قبل خيبر رفاعة بن زيد الضبيبي من جذام و أهدى غلاما فأسلم و كتب له رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا و لم يلبث أن قفل دحية بن خليفة الكلبي منصرفا من عند هرقل حين بعثه النبي صلى الله عليه و سلم و معه تجارة فأغار عليه الهنيد بن عوض و قومه بنو الضليع من بطون جذام فأصابوا كل شيء معه و بلغ ذلك مسلمين من بني الضبيب فاستنقذوا ما أخذه الهنيد و إبنه و ردوه على دحية و قدم دحية على النبي صلى الله عليه و سلم فأخبره الخبر فبعث النبي صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة في جيش من المسلمين فأغار عليهم بالقضقاض من حرة الرمل و قتلوا الهنيد و إبنه في جماعة و كان معهم ناس من بني الضبيب فاستباحوهم معهم و قتلوهم فركب رفاعة بن زيد و معه أبو زيد بن عمرو من قومه في جماعة منهم فقدموا على النبي صلى الله عليه و سلم و أخبروه الخبر فقال : كيف أصنع بالقتلى ؟ فقالوا : يا رسول الله أطلق لنا من كان حيا فبعث معهم علي بن أبي طالب و حمله على جمل و أعطاه سيفه فلحقه بفيفاء الفحلتين و أمره برد أموالهم فردها
و في هذه السنة قدم وفد عامر بن صعصعة فيهم : عامر بن الطفيل بن مالك و أربد ابن ربيعة بن مالك فقال له عامر : يا محمد اجعل لي الأمر بعدك قال : ليس ذلك لك و لقومك قال : إجعل لي الوبر و لك المدر قال : لا و لكن أجعل لك أعنة الخيل فإنك امرؤ فارس فقال : لأملأنها عليك خيلا و رجلا ثم ولوا فقال : اللهم أكفنيهم اللهم أهد عامر أو أغن الإسلام عن عامر و ذكر ابن إسحق و الطبري : أنهما أرادا الغدر برسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يقدروا عليه في قصة ذكرها أهل الصحيح ثم رجعوا إلى بلادهم فأخذه الطاعون في عنقه فمات في طريقه في أحياء بني سلول و أصابت أخاه أربد صاعقة بعد ذلك ثم قدم علقمة بن علاثة بن عوف و عوف بن خالد بن ربيعة و إبنه فأسلموا
و فيها قدم وفد طيء في خمسة عشر نفرا يقدمهم سيدهم زيد الخيل و قبيصة بن الأسود من بني نبهان فأسلموا و سماه رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد الخير و أقطع له بئرا و أرضين معها و كتب له بذلك و مات في مرجعه
و في هذه السنة ادعى مسيلمة النبوة و أنه أشرك مع رسول الله صلى الله عليه و سلم الأمر و كتب إليه : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك فإني قد أشركت في الأمر معك و أن لنا نصف الأرض و لقريش نصف الأرض و لكن قريش قوم لا يعدلون و كتب إليه رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإن الأرض يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين ] قال الطبري : وقد قيل إن ذلك كان بعد منصرف النبي صلى الله عليه و سلم من حجة الوداع كما نذكر (2/470)
حجة الوداع
ثم خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى حجة الوداع في خمسة ليال بقين من ذي العقدة و معه من أشراف الناس و مائة من الإبل عريا و دخل مكة يوم الأحد لأربع خلون من ذي الحجة و لقيه علي بن أبي طالب بصدقات نجران فحج معه و علم صلى الله عليه و سلم الناس بمناسكهم و استرحمهم و خطب الناس بعرفة خطبته التي بين فيها ما بين حمد الله و أثنى عليه ثم قال : [ أيها الناس إسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا ! أيها الناس إن دماءكم و أموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا و حرمة شهركم هذا و ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم و قد بلغت فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها و إن كان ربا فهو موضوع و لكم رؤس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون قضى الله أنه لا ربا إن ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله و أن كل دم في الجاهلية موضوع كله و أن أول دم ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب و كان مسترضعا في بني الليث فقتله بنو هذيل فهو أول ما أبدا من دم الجاهلية أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا و لكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه إلى فيحلوا ما حرم الله ألا و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض و إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب الفرد الذي بين جمادى و شعبان أما بعد أيها الناس فإن لكم على أن نسائكم حقا و لهن عليكم حقا لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه و عليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع و تضربوهن ضربا غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن و كسوتهن بالمعروف و استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا و إنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله و استحللتم فروجهن بكلمة الله فاعقلوا أيها الناس و اسمعوا قولي فإني قد بلغت قولي و تركت فيكم ما إن استعصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله و سنة نبيه أيها الناس اسمعوا قولي و اعلموا إن كل مسلم أخو المسلم و إن المسلمين إخوة فلا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه إياه عن طيب نفس فلا تظلموا أنفسكم ألا هل بلغت فذكر أنهم قالوا : اللهم نعم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اللهم اشهد ] و كانت هذه الحجة تسمى حجة البلاغ و حجة الوداع لأنه لم يحج بعدها و كان قد حج قبل ذلك حجتين و اعتمر مع حجة الوداع عمرة فتلك ثلاث ثم انصرف إلى المدينة في بقية ذي الحجة من العاشر (2/479)
العمال على النواحي
كان رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أسلم باذان عامل كسرى على اليمن و أسلمت اليمن أمره على جميع مخاليفها و لم يشرك معه فيها أحدا حتى مات و بلغه موته و هو منصرف من حجة الوداع فقسم عمله على جماعة من أصحابه فولى على صنعاء ابنه شهر بن باذان و على مأرب أبا موسى الأشعري و على الجند يعلي بن أمية و علي همدان عامر بن شهر الهمداني و على عك و الأشعر بين الطاهر بن أبي هالة و على ما بين نجران و زمع و زبيد خالد بن سعيد بن العاص و على نجران عمر و بن حزم و على بلاد حضرموت زياد بن لبيد البياضي و على السكاسك و السكون عكاشة بن ثور بن أصفر الغوثي و على معاوية بن كندة عبد الله المهاجر بن أبي أمية و اشتكى المهاجر فلم يذهب فكان زياد بن لبيد يقوم على عمله و بعث معاذ بن جبل معلما لأهل اليمن و حضرموت و كان قبل ذلك قد بعث على الصدقات عدي بن حاتم على صدقة طيء و أسد و مالك بن نوبرة على صدقات بني حنظلة و قسم صدقة بني سعد بين رجلين منهم و بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين و بعث علي بن أبي طالب إلى نجران ليجمع صدقاتهم و جزيتهم و يقدم عليه بها فوفاه من حجة الوداع كما مر (2/481)
خبر العنسي
كان الأسود العنسي و اسمه عبهلة بن كعب و لقبه ذو الخمار و كان كاهنا مشعوذا يفعل الأعاجيب و يخلب بحلاوة منطقه و كانت داره كهف حنار بها ولد و نشأ و ادعى النبوة و كاتب مذحجا عامة فأجابوه و وعدوه نجران فوثبوا بها و أخرجوا عمرو بن حزم و خالد بن سعيد بن العاص و أقاموه في عملها و وثب قيس بن عبد يغوث على فروة بن مسيك و هو على مراد فأجلوه و سار الأسود في سبعمائة فارس إلى شهر بن باذان بصنعاء فلقيه شهر بن باذان فهزمه الأسود فقتله و غلب على ما بين صنعاء و حضرموت إلى أعمال الطائف إلى البحرين من قبل عدن و جعل يطير استطارة الحريق و عامله المسلمون بالتقية و ارتد كثير من أهل اليمن و كان عمرو بن معدي كرب مع خالد بن سعيد العاص فخالفه و استجاب للأسود فسار إليه خالد و لقيه فاختلفا ضربتين فقطع خالد سيفه الصمصامة و أخذها و نزل عمرو عن فرسه و فتك في الخيل و لحق عمرو بن الأسود فولاه على مذحج و كان أمر جنده إلى قيس بن عبد يغوث المرادي و أمر الأبناء إلى فيروز و دادويه و تزوج امرأة شهر بن باذان و استفحل أمره
و خرج معاذ بن جبل هاربا و مر بأبي موسى في مأرب فخرج معه و لحقا بحضرموت و نزل معاذ في السكون و أبو موسى في السكاسك و لحق عمرو بن حزم و خالد بن سعيد بالمدينة و أقام الطاهر بن أبي هالة عك حيال صنعاء فلما ملك الأسود اليمن و استفحل استخف بقيس بن عبد يغوث و بفيروز ودادويه و كانت إبنة عم قيروز هي زوجة شهر بن باذان التي تزوجها الأسود بعد مقتله و اسمها أزاد و بلغ الخبر إلى النبي صلى الله عليه و سلم فكتب مع وبر بن يحنس إلى الأبناء و أبي موسى و معاذ الطاهر يأمرهم فيه أن يعملوا في أمر الأسود بالغيلة أو المصادمة و يبلغ منه من يروم عنده دينا أو نجدة و أقام معاذ و الأبناء فداخلوا قيس بن عبد يغوث في أمره فأجاب ثم داخل فيروز بنت عمه زوجة الأسود فواعدته قتله و كتب النبي صلى الله عليه و سلم إلى عامر بن شهر الهمداني و بعث جرير بن عبد الله إلى ذي الكلاع و ذي أمران و ذي ظليم من أهل ناحيته و إلى أهل نجران من عربهم و نصاراهم و اعترضوا الأسود و مشوا و تنحوا إلى مكان واحد و أخبر الأسود شيطانه بغدر قيس و فيروز و دادويه فعاتبهم و هم بهم ففروا إلى امرأته و واعدتهم أن ينقبوا البيت من ظهره و يدخلوا فيبيتوه ففعلوا ذلك و دخل فيروز و معه قيس فقتل عنقه ثم ذبحه فنادى بالأذان عند طلوع الفجر و نادى دادويه بشعار الإسلام و أقام وبر بن يحنس الصلاة و اهتاج الناس مسلمهم و كافرهم و ماج بعضهم في بعض و اختطف الكثير من أصحابه صبيانا من أبناء المسلمين و برزوا و تركوا كثيرا من أبنائهم ثم تراسلوا في رد كل ما بيده و أقاموا يترددون فيما بين صنعاء و نجران و خلصت صنعاء و الجنود و تراجع أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم إلى أعمالهم و تنافسوا الإمارة في صنعاء ثم اتفقوا على معاذ فصلى بهم و كتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخبر و كان قد أتى خبر الواقعة من السماء فقال في غداتها : قتل العنسي البارحة قتله رجل مبارك و هو فيروز ثم قدمت الرسل و قد توفي النبي صلى الله عليه و سلم
بعث أسامة : و لما رجع النبي صلى الله عليه و سلم من حجة الوداع آخر ذي الحجة ضرب على الناس في شهر المحرم بعثا إلى الشام و أمر عليهم مولاه أسامة بن زيد بن حارثة و أمره أن يوطيء الخيل تخوم البلقاء و الداروم إلى الأردن من أرض فلسطين و مشارف الشام فتجهز الناس و أوعب معه المهاجرون الأولون فبينا الناس على ذلك ابتدأ صلى الله عليه و سلم بشكواه التي قبضه الله فيها إلى كرامته و رحمته و تكلم المنافقون في شأن الكرامة و بلغ الخبر بارتداد الأسود و مسيلمة و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم عاصبا رأسه من الصداع و قال : [ إني رأيت البارحة في نومي أن في عضدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمامة و صاحب اليمن و قد بلغني أن أقواما تكلموا في إمارة أسامة إن يطعنوا في إمارته لقد طعنوا في إمارة أبيه من قبله و إن كان أبوه لحقيقا بالأمارة و إنه لحقيق بها انفروا ] فبعث أسامة فضرب أسامة بالجرف و تهمهل و ثقل رسول الله صلى الله عليه و سلم و توفاه الله قبل توجه أسامة
أخبار الأسود و مسيلمة و طليحة : كان النبي صلى الله عليه و سلم بعدما قضى حجة الوداع تحلل به السير فاشتكى و طارت الأخبار و بذلك فوثب الأسود باليمن كما مر و وثب مسليمة باليمامة ثم وثب طليحة بن خويلد في بني أسد يدعي كلهم النبوة و حاربهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالرسل و الكتب إلى عماله و من ثبت على إسلامه من قومهم أن يجدوا في جهادهم فأصيب الأسود قبل وفاته بيوم و لم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله و الذب عن دينه فبعث إلى المسلمين من العرب في ناحية من نواحي هؤلاء الكذابين يأمرهم بجهادهم و جاء كتاب مسيلمة إليه فأجابه كما مر و جاء ابن أخي طليحة يطلب الموادعة فدعا صلى الله عليه و سلم حتى كان من حكم الله فيهم بعده ما كان
مرضه صلى الله عليه و سلم : [ أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه و سلم من ذلك أن الله نعى إليه نفسه { إذا جاء نصر الله و الفتح } إلى آخر السورة ثم بدأه الوجع لليلتين بقيتا من صفر وتمادى به وجعه و هو يدور على نسائه حتى استقر به في بيت ميمونة فاستأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة فأذن له و خرج على الناس فخطبهم و تحلل منهم و صلى على شهداء أحد و استغفر لهم ثم قال لهم : إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا و بين ما عنده فاختار ما عنده و فهمها أبو بكر فبكى فقال : بل نفديك بأنفسنا و أبنائنا فقال : على رسلك يا أبو بكر ثم جمع رسول الله صلى الله عليه و سلم أصحابه فرحب بهم و عيناه تدمعان و دعا لهم كثيرا و قال : أوصيكم بتقوى الله و أوصي الله بكم و أستخلفه عليكم و أودعكم إليه إني لكم نذير و بشير ألا تعلموا على الله في بلاده و عباده فإنه قال لي و لكم : تلك الدار الآخر نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فساد و العاقبة للمتقين و قال أليس في جهنم مثوى للمتكبرين
ثم سألوه عن مغسله فقال : الأدنون من أهلي و سألوه عن الكفن فقال : في ثيابي هذه ؟ أو ثياب مصر أو حلة يمانية و سألوه عن الصلاة عليه فقال : ضعوني على سريري في بيتي على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة حتى تصلي علي الملائكة ثم ادخلوا فوجا بعد فوج فصلوا و ليبدأ رجال أهلي ثم نساؤهم و سألوه عمن يدخله القبر فقال : أهلي ثم قال : ائتوني بدواة و قرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فتنازعوا و قال بعضهم أهجر ؟ يستفهم ثم ذهبوا يعيدون عليه ثم قال : دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه و أوصى بثلاث : أن يخرجون المشركين من جزيرة العرب و أن يجيزوا الوفد كما كان يجيزهم و سكت عن الثالثة أو نسيها الرواي و أوصى بالأنصار فقال إنهم كرشي و عيلتي التي أويت إليها فأكرموا كريمهم و تجاوزوا عن مسيئهم فقد أصبحتم يا معشر المهاجرين تزيدون و الأنصار لا يزيدون ثم قال : سدوا هذه الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم أمر أفضل يدا عندي في الصحبة من أبي بكر و لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و لكن صحبة إخاء و إيمان يجمعان الله عنده
ثم ثقل به الوجع و أغمي عليه فاجتمع إليه نساؤه و بنوه و أهل بيته و العباس و علي ثم حضر وقت الصلاة فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة : إنه رجل أسيف لا يستطيع أن يقوم مقامك فمر عمر فامتنع عمر و صلى أبو بكر و وجد رسول الله صلى الله عليه و سلم خفة فخرج فلما أحسن أبو بكر تأخر فجذبه رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقامه مكانه و قرأ من حيث انتهى أبو بكر ثم كان أبو بكر يصلي بصلاته و الناس بصلاة أبي بكر قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة و كان يدخل يده في القدم وهو في النزع فيسمه وجهه بالماء و يقول اللهم أعني على سكرات الموت فلما كان يوم الاثنين و هو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبح عاصبا رأسه و أبو بكر يصلي فنكص عن صلاته و رده رسول الله صلى الله عليه و سلم بيده و صلى قاعدا عن يمينه ثم أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم و ذكرهم و لما فرغ من كلامه قال له أبو بكر : إني أرى أصبحت بنعمة الله و فضله كما نحب و خرج إلى أهله في النسح
و دخل رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيته فاضطجع في حجرة عائشة و دخل عبد الرحمن بن أبي بكر عليه و في يده سواك أخضر فنظر إليه و عرفت عائشة أنه يريده قال : فمضغته حتى لان و أعطيته إياه فاستن به ثم وضعه ثم ثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص و هو يقول : الرفيق الأعلى من الجنة فعلمت انه خير فاختار و كانت تقول : قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم بين سحري و نحري و ذلك نصف نهار يوم الإثنين لليلتين من شهر ربيع الأول و دفن من الغد نصف النهر من يوم الثلاثاء و نادى النعي في الناس بموته و أبو بكر غائب في أهله بالنسخ و عمر حاضر فقام في الناس و قال : إن رجالا من المنافقين زعموا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مات و أنه لم يمت و إنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى و ليرجعن فيقطعن أيدي رجال و أرجلهم و أقبل أبو بكر حين بلغه الخبر فدخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم فكشف عن وجهه و قبله و قال : بأبي أنت و أمي قد ذقت الموتة التي كتب الله عليك و لن يصيبك بعدها موته أبدا و خرج إلى عمر و هو يتكلم فقال : أنصت فأبى و أقبل على الناس يتكلم فجاؤا إليه و تركوا عمر فحمد الله و أثنى عليه و قال : أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا : { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآية فكأن الناس لم يعلموا ان هذه الآية في المنزل قال عمر : فما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فوقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي و عرفت أنه قد مات و قيل تلا معها : { إنك ميت و إنهم ميتون } الآية
و بينما هم كذلك إذ جاء رجل يسعى بخبر الأنصار أنهم اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة يقولون منا أمير و من قريش أمير فانطلق أبو بكر و عمر و جماعة المهاجرين إليهم و أقام علي و العباس و إبناه الفضل و قثم و أسامة بن زيد يتولون تجهيز رسول الله صلى الله عليه و سلم فغسله علي مسنده إلى ظهره و العباس و ابناه يقلبونه معه و أسامة و شقران يصبان الماء و علي يدلك من وراء القميص لا يفضي إلى بشرته بعد أن كانوا اختلفوا في تجهيزه ثم أصابتهم سنة فخفقوا و سمعوا من وراء البيت أن غسلوه و عليه ثيابه ففعلوا ثم كفنوه في ثوبين صحاريين و برد حبره أدرج فيهن إدراجا و استدعوه حفارين أحدهما يلحد و الآخر يشق ثم بعث إليهما العباس رجلين و قال للهم خر لرسولك فجاء الذي يلحد و هو أبو طلحة زيد بن سهل كان يحفر لأهل المدينة فلحد لرسول الله صلى الله عليه و سلم
و لما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سرير بيته و اختلفوا أيدفن في مسجده أو بيته فقال أبو بكر سمعته صلى الله عليه و سلم يقول ما قبض نبي إلا يدفن حيث قبض فرفع فراشه الذي قبض عليه و حفر له تحته و دخل الناس يصلون عليه أفواجا الرجال ثم النساء ثم الصبيان ثم العبيد لا يؤم أحدهم أحدا ثم دفن من وسط الليل ليلة الأربعاء و عن عائشة لإثنتي ليلة من ربيع الأول فكملت سنو الهجرة عشر سنين كوامل و توفي و هو ابن ثلاث و ستين و قيل خمس و ستين سنة و قيل ستين ] (2/482)
خبر السقيفة
لما قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم ارتاع الحاضرون لفقده حتى ظن أنه لم يمت و اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة و هم يرون أن الأمر لهم بما آووا و نصروا و بلغ الخبر إلى أبي بكر و عمر فجاؤا إليهم و معهم أبو عبيدة و لقيهم عاصم بن عدي و عويم بن ساعدة فأرادوهم على الرجوع و خفضوا عليهم الشأن فأبوا إلا أن يأتوهم فأتوهم في مكانهم ذلك فأعجلوهم عن شأنهم و غلبوهم عليه جماعا و موعظة و قال أبو بكر : نحن أولياء النبي و عشيرته و أحق الناس بأمره و لا ننازع في ذلك و أنتم لكم حق السابقة و النصرة فنحن الأمراء و أنتم الوزراء و قال الحباب بن المنذر بن الجموح : منا أمير و منكم أمير و إن أبوا فاجلوهم يامعشر الأنصار عن البلاد فبأسيافكم دان الناس لهذا الدين و إن شئتم أعدناها جذعة أنا جذيلهما المحكك و عذيقها المرجب و قال عمر : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم أوصانا بكم كما تعلمون و لو كنتم الأمراء لأوصاكم بنا ثم وقعت ملاحاة بين عمر و ابن المنذر و أبو عبيدة يحفضهما و يقول : اتقوا الله يامعشر الأنصار أنتم أول من نصر و آزر فلا تكونوا أول من بدل و غير
فقام بشير بن سعد بن النعمان بن كعب بن الخزرج فقال : ألا أن محمدا من قريش و قومه أحق و أولى و نحن و إن كنا أولى فضل في الجهاد و سابقة في الدين فما أردنا بذلك إلا رضى الله و طاعة نبيه فلا نبتغي به من الدنيا عوضا و لا نستطيل به على الناس فقال الحباب بن المنذر : نفست و الله عن ابن عمك يابشير فقال لا و الله و لكن كرهت أن أنازع قوما حقهم فأشار أبو بكر إلى عمر و أبي عبيدة فامتنعا و بايعا أبا بكر و سبقهما إليه بشير بن سعد ثم تناجى الأوس فيما بينهم و كان فيهم أسيد بن حضير أحد النقباء و كرهوا إمارة الخزرج عليهم و ذهبوا إلى بيعة أبي بكر فبايعوه و أقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر و كادوا يطأون سعد بن عبادة فقال ناس من أصحابه اتقوا سعدا لا تقتلوه فقال عمر : اقتلوه قتله الله و تماسكا فقال أبو بكر : مهلا يا عمر الرفق هنا أبلغ فأعرض عمر ثم طلب سعد في البيعة فأبى و أشار بشير بن سعد بتركه و قال : إنما هو رجل واحد فأقام سعد لا يجتمع معهم في الصلاة و لا يفيض معهم في الحديث حتى هلك أبو بكر و نقل الطبري أن سعدا بايع يومئذ و في أخبارهم أنه لحق بالشام فلم يزل هنالك حتى مات و أن الجن قتلته و ينشدون البيتين الشهيرين و هما
( نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عباده ... فرميناه بسهمين فلم نخطء فؤاده ) (2/487)
الخلافة الإسلامية
الخبر عن الخلافة الإسلامية في هذه الطبقة و ما كان فيها من الردة و الفتوحات و ما حدث بعد ذلك من الفتن و الحروب في الإسلام ثم الإتفاق و الجماعة و لما قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان أمر السقيفة كما قدمناه أجمع المهاجرون و الأنصار على بيعة أبي بكر و لم يخالف إلا سعد إن صح خلافه فلم يلتفت إليه لشذوذه و كان من أول ما اعتمده إنفاذ بعث أسامة و قد ارتدت العرب إما القبيلة مستوعبة و إما بعض منها و نجم النفاق و المسلمون كالغنم في الليلة الممطرة لقلتهم و كثرة عدوهم و إظلام الجو بفقد نبيهم و وقف أسامة بالناس و رغب من عمر التخلف عن هذا البعث و المقام مع أبي بكر شفقة من أن يدهمه أمر و قالت له الأنصار فإن أبي إلا المضي فليول علينا أسن من أسامة فأبلغ عمر ذلك أبا بكر فقام وقعد و قال : لا أترك أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أخرج و أنفذه ثم خرج حتى أتاهم فأشخصهم و شيعهم و أذن لعمر في الشخوص و قال : أوصيكم بعشر فاحفظوها علي : لا تخونوا و لا تغلوا و لا تمثلوا و لا تقتلوا الطفل و لا الشيخ و لا المرأة و لا تغرقوا نخلا و لا تحرقوه و لا تقطعوا شجرة و لا تذبحوا شاة و لا بقرة و لا بعيرا إلا للأكل و إذا مررتم بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم و ما فرغوا أنفسهم له و إذا لقيتم أقواما فحصوا أواسط رؤسهم و تركوا حولها فتل العصاب فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه فإذا قرب عليكم الطعام فاذكروا اسم الله عليه و كلوا ترفعوا باسم الله يا أسامة اصنع ما أمرك به نبي الله ببلاد قضاعة ثم أتت آفل و لا تقصر في شيء من أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ودعه من الجرف ورجع
و قدكان بعث معه من القبائل من حول المدينة الذين لهم الهجرة في ديارهم و حبس من بقي منهم فصار مسالح حول قبائلهم و مضى أسامة مغذا و انتهى لما أمر النبي صلى الله عليه و سلم الله عليه و بعث الجنود في بلاد قضاعة و أغار على أبنى فسبى و غنم و رجع لأربعين يوما و قيل لسبعين و لم يحدث أبو بكر في مغيبه شيئا وقد جاء الخبر بارتداد العرب عامة و خاصة إلا قريشا و ثقيفا و استغلظ أمر مسيلمة و اجتمع على طليحة عوام طيء و أسد و ارتدت غطفان و توقفت هوزان فأمسكوا الصدقة و ارتد خواص من بني سليم و كذا سائر الناس بكل مكان و قدمت رسل النبي صلى الله عليه و سلم من اليمن و اليمامة و بني أسد و من الأمراء من كل مكان بانتقاض العرب عامة أو خاصة و حاربهم بالكتب و الرسل و انتظر بمصادمتهم قدوم أسامة فعاجلته عبس و ذبيان و نزلوا في الإبراق و نزل آخرون بذي القصة و معهم حبال من بني أسد و من انتسب إليهم من بني كنانة و بعثوا وفدا إلى أبي بكر نزلوا على وجوه من الناس يطلبون الاقتصار على الصلاة دون الزكاة فأبى أبو بكر من ذلك و جعل على أنقاب المدينة عليا و الزبير و طلحة و عبد الله بن مسعود و أخذ أهل المدينة بحضور المسجد و رجع وفد المرتدين و أخبروا قومهم بقلة أهل المدينة فأغاروا على من كان بأنقاب المدينة فبعثوا إلى أبي بكر فخرج في أهل المسجد على النواضح فهربوا و المسلمون في اتباعهم إلى ذي خشب ثم نفروا إبل المسلمين بلعبات اتخذوها فنفرت و رجعت بهم و هم لا يملكونها إلى المدينة و لم يصبهم شيء و ظن القوم بالمسلمين الوهن فبعثوا إلى أهل ذي القصة يستقدمونهم
ثم خرج أبو بكر في التعبية و على ميمنته النعمان بن مقرن و على ميسرته عبد الله بن مقرن و على الساقة سويد بن مقرن و طلع عليهم مع الفجر و اقتتلوا فما ذر قرن الشمس إلا وقد هزموهم و غنموا ما معهم من الظهر و قتل حبال و اتبعهم أبو بكر إلى ذي القصة فجهز بها النعمان بن مقرن في عدد و رجع إلى المدينة و وثب بنو ذبيان و عبس على من كان فيهم من المسلمين فقتلوهم و فعل ذلك غيرهم من المرتدين و حلف أبو بكر ليقتلن من المشركين مثل من قتلوه من المسلمين و زيادة و اعتز المسلمون بوقعة أبي بكر و طرقت المدينة صدقات و قدم أسامة فاستخلفه أبو بكر على المدينة و خرج في نفر إلى ذي خشب و إلى ذي القصة ثم سار حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق و بها عبس و ذبيان و بنو بكر من كنانة و ثعلبة بن سعد و من يليهم من مرة فاقتتلوا و انهزم القوم و أقام أبو بكر على الأبرق و حرم تلك البلاد على بني ذبيان ثم رجع إلى المدينة
ردة اليمن : توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و على مكة و بني كنانة عتاب بن أسيد و على الطائف و أرضها عثمان بن أبي العاص على المدر و مالك بن عوف على الوبر و على عجز هوزان عكرمة بن أبي جهل و على نجران و أرضها عمرو بن حزم على الصلاة و أبو سفيان بن حرب على الصدقات و على ما بين زمع و زبيد إلى نجران خالد بن سعيد بن العاص و على همدان كلها عامر بن شهر الهمداني و على صنعاء فيروز الديلمي و مسانده دادويه و قيس بن مكشوح المرادي رجعوا إليها بعد قتل الأسود و على الجند يعلي بن أمية و على مأرب أبو موسى الأشعري و على الأشعريين و عك الطاهر بن أبي هالة و على حضرموت زياد بن لبيد البياضي و عكاشة بن ثور بن أصفر الغوثي و على كندة المهاجر بن أبي أمية و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم غضب عليه في غزوة تبوك فاسترضته له أم سلمة و ولاه على كندة و مرض فلم يصل إليها و أقام زياد بن لبيد ينوب عنه و كان معاذ بن جبل يعلم القرآن باليمن يتنقل على هؤلاء و على هؤلاء في أعمالهم
و ثار الأسود في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم و حاربه بالرسل و بالكتب فقتله الله و عاد الإسلام في اليمن كما كان فلما بلغهم الموت انتقضت اليمن و ارتد أهلها في جميع النواحي و كانت الفالة من جند العنسي بين نجران و صنعاء لا يأوون إلى أحد و رجع عمرو بن حزم إلى المدينة و اتبعه خالد بن سعيد و كان عمرو يكرب بالجبال حيال فروة بن مسيك و ابن مكشوح و تحيل و في قتل الأبناء فيروز وداديه و خشنش و الاستبداد بصنعاء و بعث إلى الفالة من جيش الأسود يغريهم بالأبناء و يعدهم المظاهرة عليهم فجاؤا إليه و خشي الأبناء غائلتهم و فزعوا إليه فأظهر لهم المناصحة و هيأ طعاما فجمعهم له ليغدر بهم فظفر بهم فظفر بدادويه و هرب فيروز و خشنش و خرج قيس في أثرهما فامتنعا بخولان أخوال فيروز إلى أبي بكر بالخبر فكتب له بولاية صنعاء و كتب إلى الطاهر بن أبي هالة بإعانته و إلى عكاشة بن ثور بأن يجمع أهل تهامة و يقيم بمكانة و كتب إلى ذي الكلاع سميفع وذي ظليم حوشب و ذي تبان شهر بإعانة الأبناء و طاعة فيروز و أن الجند يأتيهم و أرسل إليهم قيس بن مكشوح يغريهم بالأبناء فاعتزل الفريقان و اتبعت عوامهم قيس بن مكشوح في شأنه و عمد قيس إلى عيلات الأبناء الذين مع فيروز فغر بهم و أخرجهم من اليمن في البر و البحر و عرضهم للنهبى فأرسل فيروز إلى بني عقيل بن ربيعة و إلى عك يستصرخهم فاعترضوا عيال فيروز و الأبناء الذين معه فاستنقذوهم و قتلوا من كان معه و جاؤا إلى فيروز فقاتلوا معه قيس بن مكشوح دون صنعاء فهزموه و رجع إلى المكان الذي كان به مع فالة الأسود العنسي
و انضاف قيس إلى عمرو بن معد يكرب و هو مرتد منذ تنبأ الأسود العنسي و قام حيال فروة بن مسيك و قد كان فروة و عمرو أسلما و كذلك قيس و استعمل رسول الله صلى الله عليه و سلم قيسا على صدقات مراد و كان عمرو قد فارق قومه سعد العشيرة مع بني زيد و أحلافها و انحاز إليهم فأسلم معهم و كان فيهم فلما انتقض الأسود و اتبعه عوام مذحج كان عمرو فيمن اتبعه و أقام فروة فيمن معه على الإسلام فولى الأسود عمرا و جعله بحياله
و كانت كندة قد ارتدوا و تابعوا الأسود العنسي بسبب ما وقع بينهم و بين زياد الكندي في أمر فريضة من فرائض الصدقة أطلقها بعض بني عمرو بن معاوية بعد أن وقع عليها ميسم الصدقة غلطا فقاتلهم زياد و هزمهم فاتفق بنو معاوية على منع الصدقة و الردة إلا شراحيل بن السمط و ابنه و أشير على زياد بمعاجلتهم قبل أن ينضم إليهم بعض السكاسك و حضرموت و أبضعه و جمد و مشرح و مخوس و أختهم العمرة و هرب الباقون و رجع زياد بالسبي و الغنائم و مر بالأشعب بن قيس و بني الحرث بن معاوية و استغاث نساء السبي فغار الأشعث و تنقذهم ثم جمع بني معاوية كلهم و من أطاعه من السكاسك و حضرموت و أقام على ردته
و كان أبو بكر قد حارب أهل الردة أولا بالكتب و الرسل إلى من ارتد و ابتدأ بالمهاجرين و الأنصار ثم استنفر كلا على من يليه حتى فرغ من آخر أمور الناس لا يستعين بمرتد و كتب إلى عتاب بن أسيد بمكة و عثمان بن أبي العاص بالطائف بركوب من ارتد بمن لم يرتد وثبت على الإسلام من أهل عملهما وقد كان اجتمع بتهامة أوشاب من مدلج و خزاعة فبعث عتاب إليهم ففرقهم و قتلهم و اجتمع بشنوءة جمع من الأزد و خثعم و بجيلة فبعث إليهم عثمان بن أبي العاص من فرقهم و قتلهم و اجتمع بطريق الساحل من تهامة جموع من عك و الأشعريين فسار إليهم الطاهر بن أبي هالة و معه مسروق العكي فهزموهم و قتلوهم و أقام بالأجناد ينتظر أمر أبي بكر و معه مسروق العكي و بعث أهل نجران من بني الأفعى الذين كانوا بها قبل بني الحرث و هم في أ ربعين ألف مقاتل و جاء وفدهم يطلبون إمضاء العهد الذي بأيديهم من النبي صلى الله عليه و سلم فأمضاه أبو بكر إلا ما نسخه الوحي بأن لا يترك دينان بأرض العرب
و رجعت رسل النبي صلى الله عليه و سلم الذين بعثهم عند انتقاض الأسود العنسي و هم : جرير بن عبد الله و الأقرع و وبر بن يحنس فرد أبو بكر جريرا ليستنفر من ثبت على الإسلام على من ارتد و يقاتل خثعم الذين غضبوا لهدم ذي الحليفة فيقتلهم و يقيم بنجران فنفذ ما أمره به و لم يمر به أحد إلا رجال قليل تتبعهم بالقتل و سار إلى نجران و كتب أبو بكر إلى عثمان بن أبي العاص أن يضرب البعوث على مخاليف أهل الطائف فضرب على كل مخلاف عشرين و أمر عليهم أخاه كتب إلى عتاب بن أسيد أن يضرب على مكة و عملها خمسمائة بعث و أمر عليهم أخاه خالدا و أقاموا ينتظرون ثم أمر المهاجر بن أبي أمية بأن يسير إلى اليمن ليصلح من أمره ثم ينفد إلى عمله و أمره بقتال من بين نجران و أقصى اليمن ففعل ذلك و مر بمكة و الطائف فسار معهم خالد بن أسيد و عبد الرحمن بن أبي العاص بمن معهما و مر بجرير بن عبد الله و عكاشة بن ثور فضمهما إليه ثم مر بنجران و انضم إليه فروة بن مسيك و جاءه عمرو بن معد يكرب و قيس بن مشكوح فأوثقهما و بعث بهما إلى أبي بكر و سار إلى لقائه فتتبعهم بالقتل و لم يؤمنهم فقتلوا بكل سبيل و حضر قيس عند أبي بكر فحظر قتل دادويه و لم يجد أمرا جليا في أمره و تاب عمرو بن معد يكرب و استقال فأقالهما و ردهما
و سار المهاجر حتى نزل صنعاء و تتبع شذاذ القبائل فقتل من قدر عليه و قبل توبة من رجع إليه و كتب إلى أبي بكر بدخوله صنعاء فجاءه الجواب بأن يسير إلى كندة مع عكرمة بن أبي جهل و قد جاءه من ناحية عمان و معه خلق كثير من مهرة و الأزد و ناجية و عبد القيس و قوم من مالك بن كنانة و بني العنبر و قدم أبين و أقام بها لاجتماع النجع و حمير ثم سار مع المهاجر إلى كندة و كتب زياد إلى المهاجر يستحثه فلقيه الكتاب بالمفازة بين مأرب و حضرموت فاستخلف عكرمة على الناس و تعجل إلى زياد و نهدوا إلى كندة و عليهم الأشعث بن قيس فهزمهم و قتلوهم و فروا إلى النجير حصن لهم فتحصنوا فيه مع من استغووه من السكاسك و شذاذ السكون و حضرموت و سدوا عليهم الطريق إلا واحدة جاء عكرمة بعدهم فسدها و قطعوا عنهم المدد و خرجوا مستميتين في بعض الأيام فغلبوهم و أخرجوهم و استأمن الأشعث إلى عكرمة بما كانت أسماء بنت النعمان بن الجون تحته فخرج إليه و جاء به إلى المهاجر و أمنه في أهله و ماله و تسعة من قومه على أن يفتح لهم الباب فاقتحمه المسلمون و قتلوا المقاتلة وسبوا الذرية فكان في السبى ألف امرأة فلما فرغ من النجير دعا بكتاب الأمان من الأشعث و إذا هو قد كتب غرض نفسه في التسعة رجال من أصحابه فأوثقه كتافا و بعث به إلى أبي بكر ينظر في أمره فقدم مع السبايا و الأسرى فقال له أبو بكر : أقتلك قال إني راودت القوم على عشرة و أتيناهم بالكتاب مختومة فقال أبو بكر : إنما الصلح على من كان في الصحيفة و أما غير ذلك فهو مردود فقال يا أبا بكر : احتسب في و أقلني و اقبل إسلامي و رد علي زوجتي و قد كان تزوج أم فروة أخت أبي بكر حين قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم و أخرها إلى أن يرجع فأطلقه أبو بكر و قبل إسلامه ورد عليه زوجته و قال ليبلغني عنك خيرا ثم خلى عن القوم فذهبوا و قسم الأنفال (2/489)
بعث الجيوش للمرتدين
لما قدم أسامة ببعث الشام على أبي بكر استخلفه على المدينة و مضى إلى الربذة فهزم بني عبس و ذبيان و كنانة بالأبرق و رجع إلى المدينة كما قدمناه حتى إذا استجم جند أسامة و تاب من حوالي المدينة خرج إلى ذي القصة على بريد من تلقاء نجد فعقد فيها أحد عشر لواء على أحد عشر جندا لقتال أهل الردة و أمر كل واحد باستنفار من يليه من المسلمين من كل قبيلة و ترك بعضها لحماية البلاد فعقد لخالد بن الوليد و أمره بطليحة و بعده لمالك بن نويرة بالبطاح و لعكرمة بن أبي جهل و أمره بمسيلمة و اليمامة ثم أردفه بشرحبيل بن حسنة و قال له : إذا فرغت من اليمامة فسر إلى قتال قضاعة ثم تمضي إلى كندة بحضرموت و لخالد بن سعيد بن العاص و قد كان قدم بعد الوفاة إلى المدينة من اليمن و ترك أعماله فبعثه إلى مشارف الشام و لعمرو بن العاص إلى قتال المرتدة من قضاعة و لحذيفة بن محصن و عرفجة بن هرثمة فحذيفة لأهل دبا و عرفجة لمهرة و كل واحد منهما أمير في عمله على صاحبه و لطريفة بن حاجز و بعثه إلى بني سليم و من معهم من هوزان و لسويد بن مقرن و بعثه إلى تهامة اليمن و للعلاء بن الحضرمي و بعثه إلى البحرين
و كتب إلى الأمراء عهودهم بنص واحد : بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم لفلان حين بعثه فيمن بعثه لقتال من رجع عن الإسلام و عهد إليه أن يتقي الله ما استطاع في أمره بالجد في أمر الله و مجاهدة من تولى عنه و رجع عن الإسلام إلى أماني الشيطان بعد أن يعذر إليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام فإن أجابوه أمسك عنهم و إن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له ثم ينبئهم بالذي عليهم و الذي لهم فيأخذ ما عليهم و يعطيهم الذي لهم لا ينظرهم و لا يرد المسلمين عن قتال عدوهم فمن أجاب إلى أمر الله عز و جل و أقر له قبل ذلك منه و أعانه عليه بالمعروف و إنما يقاتل من كفر بالله على الإقرار بما جاء من عند الله فإذا أجاب الدعوة لم يكن عليه سبيل و كان الله حسيبه بعد فيما استسر به و من لم يجب إلى داعية الله قتل و قوتل حيث كان و حيث بلغ مراغمة لا يقبل الله من أحد شيئا مما أعطى إلا الإسلام فمن أجابه و أقر قبل منه و أعانه و من أبى قاتله فإن أظهره الله عليه عز و جل قتلهم فيه كل قتلة بالسلاح و النيران ثم قسم ما أفاء الله عليه إلا الخمس فإنه يبلغناه و يمنع أصحابه العجلة و الفساد و أن يدخل فيهم حشوا حتى يعرفهم و يعلم ما هم لئلا يكونوا عيونا و لئلا يؤتى المسلمون من قبلهم و أن يقتصد بالمسلمين و يرفق بهم في السير و المنزل و يتفقدهم و لا يعجل عن بعض و يستوصي بالمسلمين في حسن الصحبة و لين القول انتهى
و كتب إلى كل من بعث إليه الجنود من المرتدة كتابا واحدا في نسخ كثيرة على يد رسل تقدموا بين أيديهم نصه بعد البسملة : هذا عهد من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى من بلغه كتابي هذا من عامة أو خاصة أقام على الإسلام أو رجع عنه سلام على من اتبع الهدى و لم يرجع إلى الضلالة و الهوى فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله و أومن بما جاء به و أكفر من أبى و أجاهده أما بعد ثم قرر أمر النبوة و وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم و أطنب في الموعظة ثم قال : و إني بعثت إليكم فلانا في جيش من المهاجرين و الأنصار و التابعين بإحسان و أمرته ألا يقاتل أحدا و لا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله فمن استجاب له و أقر و كف و عمل صالحا قبل منه و أعانه و من أبى أمرته أن يقاتله على ذلك ثم لا يبقي على أحد منهم قدر عليه فمن اتبعه فهو خير له و من تركه فلن يعجز الله و قد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم و الداعية للأذان فإذا أذن المسلمون فأذنوا كفوا عنهم و إن لم يؤذنوا فاسألوهم بما عليهم فإن أبو عاجلوهم و إن أقروا قبل منهم و حملهم على ما ينبغي لهم انتهى فنفذت الرسل بالكتب أمام الجنود و خرجت الأمراء و معهم العهود و كان أول ما بدأ به خالد طليحة و بني أسد (2/494)
خبر طليحة
كان طليحة قد ارتد في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان كاهنا فادعى النبوة و اتبعه أفاريق من بني إسرائيل و نزل سميراء و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم ضرار بن الأزور إلى قتاله مع جماعة فاجتمع عليهم المسلمون و هم ضرار بمناجزته فأتى الخبر بموت النبي صلى الله عليه و سلم فاستطار أمر طليحة و اجتمعت إليه غطفان و هوزان و طيء و فر ضرار و من معه من العمال إلى المدينة و قدمت وفودهم على أبي بكر في الموادعة على ترك الزكاة فأبى من ذلك و خرج كما قدمناه إلى غطفان و أوقع بهم بذي القصة فانضموا بعد الهزيمة إلى طليحة و بني أسد ببزاخة و كذلك فعلت طيء و أقامت بنو عامر و هوزان ينتظرون
و جمل خالد إلى طليحة و معه عيينة بن حصن على بزاخة من مياه بني أسد و ظهر أنه يقصد خبير ثم ينزل إلى سلمى و أجأ فيبدأ بطيء و كان عدي بن حاتم قد خرج معه في الجيش فقال له : أنا أجمع لك قبائل طيء يصحبونك إلى عدوك و سار إليهم فجاء بهم و بعث خالد عكاشة بن محصن و ثابت بن أقرم من الأنصار طليعة و لقيهما طليحة و أخوه فقتلاهما و مر بهما المسلمون فعظم عليهم قتلهما ثم عبى خالد كتائبه و ثابت بن قيس على الأنصار و عدي بن حاتم على طيء و لقي القوم فقاتلهم و عيينة بن حصن مع طليحة في سبعمائة من غطفان و اشتد المجال بينهم و طليحة في عباءة يتكذب لهم في انتظار الوحي فجاء عيينة بعدما ضجر القتال و قال : هل جاءك أحد بعد ؟ قال : لا ثم راجعه ثانية ثم ثالثة فقال : جاء و قال إن لك رحى كرحاه و حديثا لا تنساه فقال عيينة : يا بني فزارة الرجل كذاب و انصرف فانهزموا و قتل من قتل و أسلم الناس طليحة فوثب على فرسه و احتقب امرأته فنجا بها إلى الشام و نزل في كلب من قضاعة على النقع حتى أسلمت أسد و غطفان فأسلم ثم خرج معتمرا أيام عمر و لقيه بالمدينة فبايعه و بعثه في عساكر الشام فأبلى في الفتح و لم يصب عيالات بني أسد في واقعة بزاخة شيء لأنهم كانوا أخرجوهم في الحصون عند واسط و أسلموا خشية على ذراريهم (2/496)
خبر هوازن و سليم و بني عامر
كان بنو عامر ينتظرون أمر طليحة و ما تصنع أسد و غطفان حتى أحيط بهم و كان قرة ابن هبيرة في كعب و علقمة بن علاثة في كلاب و كان علقمة قد ارتد بعد فتح الطائف و لما قبض النبي صلى الله عليه و سلم رجع إلى قومه و بلغ أبا بكر خبره فبعث إليه سرية مع القعقاع ابن عمر و من بني تميم فأغار عليهم فأفلت و جاء بأهله و ولده و قومه فأسلموا و كان قرة بن هبيرة قد لقي عمرو بن العاص منصرفه من عمان بعد الوفاة و أضافه و قال له : اتركوا الزكاة فإن العرب لا تدين لكم بالأتاوة فغضب لها عمرو و أسمعه و أبلغها أبا بكر فلما أوقع خالد ببني أسد و غطفان و كانت هوازن و سليم و عامر ينتظرون أمرهم فجاؤا إلى خالد و أسلموا و قبل منهم الإسلام إلا من عدا على أحد من المسلمين أيام الردة فإنه تتبعهم فأحرق و قمط و رضخ بالحجارة و رمى من رؤوس الجبال و لما فرغ من أمر بني عامر أوثق عينية بن حصن و قرة بن هبيرة و بعث بهما إلى أبي بكر فتجاوز لهما و حقن دماءهما
ثم اجتمعت قبائل غطفان إلى سلمى بنت مالك بن حذيفة من بدر بن ظفر في الحوأب فنزلوا إليها و تذامروا و كانت سلمى هذه قد سبيت قبل و أعتقتها عائشة و قال لها النبي صلى الله عليه و سلم يوما و قد دخل عليها و هي في نسوة ببيت عائشة فقال : [ إن احداكن تستنبح كلاب الحوأب ] و فعلت ذلك و اجتمع إليها الفلال من غطفان و هوازن و سليم و طيء و أسد و بلغ ذلك خالدا و هو يتبع الثأر و يأخذ الصدقات فسار إليهم و قاتلهم و سلمى واقفة على جملها حتى عقر و قتلت و قتل حول هودجها مائة رجل فانهزموا و بعث خالد بالفتح على أثره بعد بعشرين ليلة
و أما بنو سليم فكان الفجاءة بن عبد يا ليل قدم على أبي بكر يستعينه مدعيا إسلامه و يضمن له قتال أهل الردة فأعطاه و أمره و خرج إلى الجون و ارتد و بعث نجية بن أبي المثنى من بني الشريد و أمره بشن الغارة على المسلمين في سليم و هوازن فبعث أبو بكر إلى طريفة بن حاجز قائده على جرهم و أعانه بعبد الله بن قيس الحاسبي فنهضا إليه و لقياه فقتل نجية و هرب الفجاءة فلحقه طريفة فأسره و جاء به إلى أبي بكر فأوقد له في مصلى المدينة حطبا ثم رمى به في النار مقموطا و فاءت بنو سليم كلهم و فاء معهم أبو شجرة بن عبد العزى أبو الخنساء و كان فيمن ارتد (2/497)
خبر بني تميم و سجاح
قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم و عماله في بني تميم الزبرقان بن بدر على الرباب و عوف و الأبناء و قيس بن عاصم على المقاعس و البطون و صفوان بن صفوان و سبرة بن عمرو على بني عمرو و وكيع بن مالك على بني مالك و مالك بني نويرة على حنظلة فجاء صفوان إلى أبي بكر حين بلغته الوفاة بصدقات بني عمرو و جاء الزربرقان بصدقات أصحابه و خالفه قيس بن عاصم في المقاعس و البطون لأنه كان ينتظره و بقي من أسلم منهم متشاغلا بمن تربص أو ارتاب و بينما هم على ذلك فجئتهم سجاح بنت الحارث بن سويد من بني عقفان أحد بطون تغلب و كانت تنبأت الوفاة و اتبعها الهذيل بن عمران في بني تغلب و عقبة بن هلال في النمر و السليل بن قيس في شيبان و زياد بن بلال و كان الهذيل نصرانيا فترك دينه إلى دينها و أقبلت من الجزيرة في هذه الجموع قاصدة المدينة لتغزو أبا بكر و المسلمين و انتهت إلى الجرف فدهم بني تميم أمر عظيم لما كانوا عليه من اختلاف الكلمة فوادعها مالك بن نويرة و ثناها عن الغزو و حرضها على بني تميم ففروا أمامها و رجع إليها وكيع بن مالك و اجتمعت الرباب و ضبة فهزموا أصحاب سجاح و فيها أسروا منهم ثم اصطحوا
و سارت سجاح فيمن معها تريد المدينة فبلغت النباج فاعترضهم بنو الهجيم فيمن تأشب إليهم من بني عمرو و أغاروا عليهم فأسر الهذيل وعقبة ثم تحاجزوا على أن تطلق أسراهم و يرجعوا و لا يجتازوا عليهم و رجع عن سجاح مالك بن نويرة و وكيع بن مالك إلى قومهم و يئست سجاح و أصحابها من الجواز عليهم و نهدت إلى بني حنيفة و سار معها من تميم الزبرقان بن بدر و عطارد بن حاجب و عمرو بن الأهتم و غيلان بن حريث و شبث بن ربعي و نظراؤهم و صانعها مسيلمة بما كان فيه من مزاحمة ثمامة بن أثال له في اليمامة و زحف شرحبيل بن حسنة و المسلمون إليه فأهدى لها و استأمنها و كانت نصرانية أخذت الدين من نصارى تغلب فقال لها مسيلمة : نصف الأرض لنا و نصف الأرض لقريش لكنهم لم يعدلوا فقد جعلت نصفهم لك و يقال إنها جاءت إليه و استأمنته و خرج إليها من الحصن إلى قبة ضربت لها بعد أن جمرها فدخل إليها و تحرك الحرس حوالي القبة فسجع لها و سجعت له من أسجاع الفرية فشهدت له بالنبوة و خطبها لنفسه فتزوجته و أقامت عنده ثلاثا و رجعت إلى قومها فعذلوها في التزويج على غير صداق فرجعت إليه فقال لها : ناد في أصحابك إني وضعت عنهم صلاة الفجر و العتمة مما فرض عليهم محمد و صالحته على أن يحمل لها النصف من غلات اليمامة فأخذته و سألت أن يسلفها النصف للعام القابل و دفعت هذيل و عقبة لقضبه فهم على ذلك و إذا بخالد بن الوليد و عساكره قد أقبلوا فانفضت جموعهم و افترقوا و لحقت سجاح بالجزيرة فلم تزل في بني تغلب حتى نقل معاوية عام الجماعة بني عقفان عشيرتها إلى الكوفة و أسلمت حينئذ سجاح و حسن إسلامها و لما افترق وفد الزبرقان و الأقرع على أبي بكر و قالا : إجعل لنا خراج البحرين و نحن نضمن لك أمرها ففعل و كتب لهم بذلك و كان طلحة بن عبيد الله يتردد بينهم في ذلك فجاء إلى عمر ليشهد في الكتاب فمزقه و محاه و غضب طلحة و قال لأبي بكر رضي الله عنه : أنت الأمير أم عمر رضي الله عنه ؟ فقال : عمر غير أن الطاعة لي و شهد الأقرع و الزبرقان مع خالد اليمامة و المشاهد كلها ثم مضى الأقرع مع شرحبيل إلى دومة (2/498)
البطاح و مالك بن نويرة
لما انصرفت سجاح وراجع بنو تميم الإسلام أقام مالك بن نويرة متحيرا في أمره و اجتمع إليه من تميم بنو حنظلة و اجتمعوا بالبطاح فسار إليهم خالد بعد أن تقاعد عنه الأنصار يسألونه انتظار أبي بكر فأبى إلا انتهاز الفرصة من هؤلاء فرجعوا إلى اتباعه و لحقوا به و كان مالك بن نويرة لما تردد في أمره فرق بني حنظلة في أموالهم و نهاهم عن القتال و رجع إلى منزله و لما قدم خالد بعث السرايا يدعون إلى الإسلام و يأتون بمن لم يجب أن يقتلوه فجاؤا بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع و اختلفت السرية فيهم فشهد أبو قتادة أنهم أذنوا و صلوا فحبسهم عند ضرار بن الأزور و كانتة ليلة ممطرة فنادى مناديه أن ادفئوا أسراكم و كانت في لغة كنانة كناية عن القتل فبادر ضرار بقتلهم و كان كنانيا و سمع خالد الواعية فخرج متأسفا و قد فرغوا منهم و أنكر عليه أبو قتادة فزجره خالد فغضب و لحق بأبي بكر و يقال : إنهم لما جاؤا بهم إلى خالد خاطبه مالك بقوله : فعل صاحبكم شأن صاحبكم فقال له خالد : أو ليس لك بصاحب ؟ ثم قتله و أصحابه كلهم ثم قدم خالد على أبي بكر و أشار عمر أن يقيد منه بمالك بن نويرة أو بعزله فأبى و قال : ما كنت أشيم سيفا سله الله على الكافرين و ودى مالكا و أصحابه و رد خالدا إلى عمله (2/500)
خبر مسيلمة و اليمامة
لما بعث أبو بكر عكرمة بن أبي جهل إلى مسيلمة و أتبعه شرحبيل استعجل عكرمة فانهزم و كتب إلى أبي بكر بالخبر فكتب إليه لا ترجع فتوهن الناس و امض إلى حذيفة و عرفجة فقاتلوا مهرة و أهل عمان فإذا فرغتم فامض أنت و جنودك و استنفروا من مررتم عليه حتى تلقوا المهاجر بن أبي أمية باليمن و حضرموت و كتب إلى شرحبيل يمضي إلى خالد فإذا فرغتم فامض أنت إلى قضاعة فكن فكن مع عمرو بن العاص على من ارتد منهم و لما فرغ خالد من البطاح و رضي الله عنه أبو بكر بعثه نحو مسيلمة و أوعب معه الناس و على المهاجرين أبو حذيفة و زيد و على الأنصار ثابت بن قيس و البراء بن عازب و تعجل خالد إلى البطاح و انتظر البعوث حتى قدمت عليه فنهض إلى اليمامة و بنو حنيفة يومئذ كثير يقال أربعون ألف مقاتل متفرقين في قراها و حجرها تعجل شرحبيل كما فعل عكرمة بقتال مسيلمة فنكب و جاء خالد فلامه على ذلك
ثم جاء خليط من عند أبي بكر مددا لخالد ليكون ردءا له من خلفه ففرت جموع كانت تجمعت هنالك من فلال سجاح و كان مسيلمة قد جعل لها جعلا
و كان الرجال بن عنفوة من أشراف بني حنيفة شهد لمسيلمة بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أشركه معه في الأمر لأن الرجال كان قد هاجر و أقام مع رسول الله صلى الله عليه و سلم و قرأ القرآن و تفقه في الدين فلما ارتد مسيلمة بعثه النبي صلى الله عليه و سلم معلما لأهل اليمامة و مشغبا على مسيلمة فكان أعظم فتنة على بني حنيفة منه و اتبع مسيلمة على شأنه و شهد له و كان يؤذن لمسيلمة و يشهد له بالرسالة بعد النبي صلى الله عليه و سلم فعظم شأنه فيهم و كان مسيلمة ينتهي إلى أمره و كان مسيلمة يسجع لهم بأسجاع كثيرة يزعم أنها قرآن يأتيه و يأتي بمخارق يزعم أنها معجزات فيقع منها ضد المقصود
و لما بلغ مسيلمة و بني حنيفة دنو خالد خرجوا و عسكروا في منتهى ريف اليمامة و استنفروا الناس فنفروا إليهم و أقبل خالد و لقيه شرحبيل بن حسنة فجعله على مقدمته حتى إذا كان على ليلة من القوم هجموا على مجاعة في سرية أربعين أو ستين راجعين من بلاد بني عامر و بني تميم يثأرون فيهم فوجدوهم دون ثنية اليمامة فقتلوهم أجمعين و قيل له استبق مجاعة بن مرارة إن كنت تريد اليمامة فاستبقى
ثم سار خالد و نازل بني حنيفة و مسيلمة و اشتدت الحرب و انكشف المسلمون حتى دخل بنو حنيفة خباء خالد و مجاعة بها أسير مع أم متمم زوجة خالد فدافعهم عنها مجاعة و قال : نعمت الحرة ثم تراجع المسلمون و كروا على بني حنيفة فقال المحكم بن الطفيل : ادخلوا الحديقة يا بني حنيفة فإني أمنع أدباركم فقاتل ساعة ثم قتله عبد الرحمن بن أبي بكر ثم تذامر المسلمون و قاتل ثابت بن قيس فقتل ثم زيد بن الخطاب ثم أبو حذيفة ثم سالم مولاه ثم البراء أخو أنس بن مالك و كان تأخذه عند الحرب رعدة حتى ينتقض و يقعد عليه الرجال حتى يبول ثم يثور كالأسد فقاتل و فعل الأفاعيل ثم هزم الله العدة و ألجأهم المسلمون إلى الحديقة و فيها مسيلمة فقال البراء ألقوني عليهم من أعلى الجدار فاقتحم و قاتلهم على باب الحديقة و دخل المسلمون عليهم فقتل مسيلمة و هو مزبد متساند لا يعقل من الغيظ و كان زيد بن الخطاب قتل الرجال بن عنفوة و كان خالد لما نازل بني حنيفة و مسيلمة و دارت الرحى عليه طلب البراز فقتل جماعة ثم دعا مسيلمة للبراز و الكلام محادثة يحاول فيه غرة و شيطانه يوسوس إليه ثم ركبه خالد فأرهقه و أدبروا و زالوا عن مراكزهم و ركبهم المسلمون فانهزم و تطاير الناس عن مسيلمة بعد أن قالوا له أين ما كنت تعدنا ؟ فقال : قاتلوا على أحسابكم و أتاه و حشي فرماه بحربته فقتل
و اقتحم الناس عليه حديقة الموت من حيطانها و أبوابها فقتل فيها سبعة عشر ألف مقاتل من بني حنيفة و جاء خالد بمجاعة و وقفه على القتلى ليريه مسيلمة فمر بمحكم فقال : هوذا ؟ فقال مجاعة : هذا و الله خير منه ثم أراه مسيلمة رويحل دميم أخينس فقال خالد : هذا الذي فعل فيكم ما فعل فقال مجاعة : قد كان ذلك و إنه و الله ما جاءك إلا سرعان الناس و إن جماهيرهم في الحصون فهلم أصالحك على قومي و قد كان خالد التقط من دون الحصون ما جاء من مال و نساء و صبيان و نادى بالنزول عليها فلما قال له : أصالحك على ما دون النفوس و انطلق بشاورهم فأفرغ السلاح على النساء و وقفن بالسور ثم رجع إليه و قال : أبوا أن يجيزوا ذلك و نظر خالد إلى رؤس الحصون قد اسودت و المسلمون قد نهكتهم الحرب و قد قتل من الأنصار ما ينيف على الثلثمائة و ستين و من المهاجرين مثلها و من التابعين لهم مثلها أو يزيدون و قد فشت الجراحات فيمن بقي فجنح إلى السلم فصالحه على الصفراء و البيضاء و نصف السبي و الحلقة و حائط و مزرعة من كل قرية فأبوا فصالحهم على الربع فصالحوه و فتحت الحصون فلم يجد فيها إلا النساء و الصبيان فقال خالد : خدعتني يا مجاعة فقال : قومي و لم أستطع إلا ما صنعت فعقد له و خيرهم ثلاثا فقال : له سلمة بن عمير لا نقبل صلحا و نعتصم بالحصون و نبعث إلى أهل القرى فالطعام كثير و الشتاء قد حضر فتشاءم مجاعة برأيه و قال لهم لولا أني خدعت القوم ما أجابوا إلى هذا فخرج معه سبعة من وجوه القوم و صالحوا خالدا و كتب لهم و خرجوا إلى خالد للبيعة و البراءة مما كانوا عليه و قد أضمر سلمة بن عمير الفتك بخالد فطرده حين وقعت عينه عليه و أطلع أصحابه على غدره فأوثقوه و حبسوه ثم أفلت فاتبعوه و قتلوه و كان أبو بكر بعث إلى خالد مع سلمة بن وقش إن أظفره الله أن يقتل من جرت عليه الموسى من بني حنيفة فوجده قد صالحهم فأتم عقده معهم و وفى لهم و بعث و فدا منهم إلى أبي بكر بإسلامهم فلقيهم و سألهم عن اسجاع مسيلمة فقصوها عليه فقال سبحان الله هذا الكلام ما خرج من إلا و لا بر فأين يذهب بكم عن أحلامكم و ردهم إلى قومهم (2/501)
ردة الحطم و أهل البحرين
لما فرغ خالد من اليمامة ارتحل عنها إلى واد من أوديتها و كانت عبد القيس و بكر بن وائل و غيرهم من أحياء ربيعة قد ارتدوا بعد الوفاة و كذا المنذر بن ساوى من بعدها بقليل فأما عبد القيس فردهم الجارود بن المعلى و كان قد وفد و أسلم و دعا قومه فأسلموا فلما بلغهم خبر الوفاة ارتدوا و قالوا لو كان نبيا ما مات فقال لهم الجارود تعلمون أن لله أنبياء من قبله و لم تروهم و تعلمون أنهم ماتوا و محمد صلى الله عليه و سلم قد مات ثم تشهد فتشهدوا معه و ثبتوا على إسلامهم و خلوا بين سائر ربيعة و بين المنذر بن ساوى و المسلمين
و قال ابن إسحق كان أبو بكر بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر و قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ولاه فلما كانت الوفاة و ارتدت ربيعة و نصبوا المنذر بن النعمان بن المنذر و كان يسمى المغرور فأقاموه ملكا كما كان قومه بالحيرة و ثبت الجارود و عبد القيس على الإسلام و استمر بكر بن واثل على الردة و خرج الحطم بن ربيعة أخو بني قيس بن ثعلبة حتى نزل بن القطيف و هجر و بعث إلى دارين فأقاموا ليجعل عبد القيس بينه و بينهم و أرسل إلى المغرور بن سويد أخي النعمان بن المنذر و بعثه إلى جواثي و قال اثبت فإن ظفرت ملكتك بالبحرين حتى تكون كالنعمان بالحيرة فحاصره المسلمون بجواثي و جاء العلاء بن الحضرمي لقتال أهل الردة بالبحرين و مر باليمامة فاستنقر ثمامة بن أثال في مسلمة بني حنيفة و كان مترددا و ألحق عكرمة بعمان و مهرة و أمر شرحبيل بالمقام حيث هو يغاور مع عمرو بن العاص أهل الردة من قضاعة عمرو يغاور سعدا و بلق و شرحبيل يغاور كلبا و لفها ثم مر ببلاد بني تميم فاستقبله بنو الرباب و بنو عمرو و مالك بن نويرة بالبطاح يقاتلهم ووكيع بن مالك يواقف عمرو بن العاص و قيس بن عاصم من المقاعس و البطون يواقف الزبرقان بن بدر و الأبناء عوف و قد أطاعوه على الإسلام و حنظلة متوفقون فلما رأى قيس بن عاصم تلقى الرباب و بني عمر و قدم و جاء بالصدقات إلى العلاء و خرج معه لقتال البحرين فسار مع العلاء من بني تميم مثل عسكره و نزل هجر و بعث إلى الجارود أن ينازل بعبد القيس الحطم و قومه مما يليه و اجتمع المشركون إلى الحطم إلا أهل دارين و المسلمون إلى العلاء و خندقوا و اقتتلوا و سمعوا في بعض الليالي ضوضأة شديدة أي جبلة و صياحا و بعثوا من يأتيهم بخبرها فجاءهم بأن القوم سكارى فبيتوهم و وضعوا السيوف فيهم و اقتحموا الخندق و فر القوم هرابا فمتمرد و ناج و مقتول و مأسور
و قتل قيس بن عاصم الحطم بن ربيعة و لحق جابر بن بحير و ضربه فقطع عصبه و مات و أسر عفيف بن المنذر و المغرور بن سويد و قال للعلاء : أجرني فقال له العلاء : أنت غررت بالناس فقال : لكني أبا مغرور ثم أرسل و أقام بهجر و يقال إن المغرور اسمه هو بلقب و قتل المغرور بن سويد بن المنذر و قسم الأنفال بين الناس و أعطى عفيف بن المنذر و قيس بن عاصم و ثمامة بن أثال من أسلاب القوم و ثيابهم و قصد الفلال إلى دارين و ركبوا السفين إليها و رجع الآخرون إلى قومهم
و كتب العلاء إلى من أقام على إسلامه من بكر بن وائل بالقعود لأهل الردة في السبل و إلى خصفة التميمي و المثنى بن حارثة بمثل ذلك فرجعوا إلى دارين و جمعهم الله بها ثم لما جاءته كتب بكر بن وائل و علم حسن إسلامهم أمر أن يؤتى من خلفه على أهل البحرين ثم لما ندب الناس و أن يستعرضوا البحر فارتحلوا و اقتحموا البحر على الظهر و كلهم يدعو : يا أرحم الراحمين يا كريم يا حليم يا أحد يا صمد يا حي يا محيي الموتى يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت يا ربنا ثم أجازوا الخليج يمشون على مثل رمل مشيا فوقها ما يغمر أخفاف الإبل في مسيرة يوم و ليلة فلقوا العدو و اقتتلوا و ما تركوا بدارين مخبرا و سبوا الذراري و استاقوا الأموال و بلغ نفل الفارس ستة آلاف و الرجل ألفين
و رجع العلاء إلى البحرين و ضرب الإسلام بجرانه ثم أرجف المرجفون بأن أبا شييان و ثعلبة و الحرقد جمعهم مفروق الشيباني على الردة فوثق العلاء باللهازم و تقاربهم و كانوا مجمعين على نصره و أقبل العلاء بالناس فرجعوا إلى من أحب المقام وقفل ثمامة بن أثال فيهم و مروا بقيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل فرأوا خميصة الخطم عليه فقالوا هو قتله ! فقال : لم أقتله و لكن الأمير نفلنيها فلم يقبلوا و قتلوه و كتب العلاء إلى أبي بكر بهزيمة أهل الخندق و قتل الخطم قتله زيد و سميفع فكتب إليه أبو بكر إن بلغك عن بني ثعلبة ما خاص فيه المرجفون فابعث إليهم جندا و أوصهم و شرد بهم من خلفهم (2/504)
ردة أهل عمان و مهرة و اليمن
نبغ بعمان بعد الوفاة رجل من الأزد يقال له لقيط بن مالك الأزدي يسامى في الجاهلية الجلندي فدفع عنها الملكين اللذين كانا بها و هما جيفر و عبد ابنا الجلندي فارتد و ادعى النبوة و تغلب على عمان و دفع عنها الملكين و بعث جيفر إلى أبي بكر بالخبر فبعث أبو ربكر حذيفة بن محصن من حمير و عرفجة البارقي حذيفة إلى عمان و عرفجة إلى مهرة و إن اجتمعا فالأمير صاحب العمل و أمرهما أن يكاتبا جيفر أو يأخذا برأيه و قد كان بعث عكرمة إلى اليمامة و مسيلمة و وقعت عليه النكبة كما مر فأمره بالمسير إلى حذيفة و عرفجة ليقاتل معهما عمان و مهرة و بتوجه إذا فرغ من ذلك إلى اليمن فمضى عكرمة فلحق بهما قبل أن يصلا إلى عمان و قد عهد إليهم أبو بكر أن ينتهوا إلى رأي عكرمة فراسلوا جيفرا و عبدا و بلغ لقيطا مجيء الجيوش فعسكر بمدينة دبا و عسكر جيفر و عبد ببصحار و استقدموا عكرمة و حذيفة و عرفجة و كاتبوا رؤساء الدين فقدموا بجيوشهم ثم صمدوا إلى لقيط و أصحابه فقاتلوهم و قد أقام لقيط عياله وراء صفوفه و هم المسلمون بالهزيمة حتى جاءهم مددهم من بني ناجية و عليهم الحريث بن راشد و من عبد القيس و عليهم سنجار بن صرصار فانهزم العدو و ظفر المسلمون و قتلوا منهم نحوا من عشرة آلاف و سبوا الذراري و النساء و تم الفتح و قسموا الأنفال و بعثوا بالخمس إلى أبي بكر مع عرفجة و كان الخمس ثمانمائة رأس
و أقام حذيفة بعمان و سار عكرمة إلى مهرة و قد استنفر أهل عمان و من حولها من ناحيته الأزد و عبد القيس و بني سعيد بن تميم فاقتحم مهرة بلادهم مهرة و هم على فرقتين يتنازعان الرياسة فأجابه أحد الفريقين و سار إلى الآخرين فهزمهم و قتل رئيسهم و أصابوا منهم ألفي نجيبة و أفاد المسلمون قوة بغنيمتهم و أجاب أهل تلك النواحي إلى الإسلام و هم أهل نجد و الروضة و الشاطئ و الجزائر و المر و اللبان و أهل جيرة و ظهور الشحر و الفرات و ذات الخيم فاجتمعوا كلهم على الإسلام و بعث إلى أبي بكر بذلك مع البشير و سارعوا إلى اليمن للقاء المهاجر بن أبي أمية كما عهد إليه أبو بكر (2/506)
بعوث العراق و صلح الحيرة
و لما فرغ خالد من أمر اليمامة بعث إليه أبو بكر في المحرم من سنة إثنتي عشرة فأمره بالمسير إلى العراق و مرج الهند و هي الأبلة منتهى بحر فارس في جهة الشمال قرب البصرة فيتألف أهل فارس و من في مملكتهم من الأمم فسار من اليمامة و قيل قدم على أبي بكر ثم سار من المدينة و انتهى إلى قرية بالسواد و هي بانقيا و برسوما و صاحبهما جابان فجاء صلوبا فصالحهم على عشرة آلاف دينار فقبضها خالد ثم سار إلى الحيرة و خرج إليه أشرافها مع إياس بن قبيصة الطائي الأمير عليها بعد النعمان بن المنذر فدعاهم إلى الإسلام أو الجزية أو المناجزة فصالحوه على تسعين ألف درهم و قيل إنما أمره أبو بكر أن يبدأ بالأبلة و يدخل من أسفل العراق و كتب إلى عياض بن غنم أن يبدأ بالمضيخ و يدخل من أعلى العراق و أمر خالدا بالقعقاع بن عمرو التميمي و عياض بن عوف الحمي و قد كان المثنى بن حارثة الشيباني استأذن أبا بكر في غزو العراق فأذن له فكان يغزوهم قبل قدوم خالد فكتب أبو بكر إليه و إلى حرملة و مدعور و سلمان أن يلحقوا بخالد بالأبلة و كانوا في ثمانية آلاف فارس و مع خالد عشرة آلاف فسار خالد في أول مقدمته المثنى و بعده عدي بن حاتم و جاء هو بعدهما على مسيرة يوم بين كل عسكر و واعدهما الحفير ليجتمعوا به و يصادموا عدوهم و كان صاحب ذلك الفرج من أساورة الفرس اسمه هرمز و كان يحارب العرب في البر و الهند في البحر فكتب إلى أردشير كسرى بالخبر و تعجل هو إلى الكواظم في سرعان أصحابه حتى نزل الحفير جعل على مجنبتيه قباذ و أنو شجان يناسبانه في أردشير الأكبر و اقترنوا بالسلاسل لئلا يفروا و أروا خالدا أنهم سبقوا إلى الحفير فمال إلى كاظمة فسبقه هرمز إليها أيضا و كان للعرب على هزمر حنق لسوء مجاورته و قدم خالد فنزل قبالتهم على غير ماء و قال : جالدوهم على الماء فإن الله جاعله لأصبر الفريقين ثم أرسل الله سحابة فأغدرت من ورائهم
و لما حطوا أثقالهم قدم خالد و دعا إلى النزال فبرز إليه هرمز و ترجلا ثم اختلفا ضربتين فاحتضنه خالد و حمل أصحاب هرمز للغدر به فلم يشغله ذلك عن قتله و حمل القعقاع بن عمرو فقتلهم و انهزم أهل فارس و ركبهم المسلمون و سميت الواقعة ذات السلاسل و أخذ خالد سلب هرمز و كانت قلنسوته بمائة ألف و بعث بالفتح و الأخماس إلى أبي بكر
و سار فنزل بمكان البصرة و بعث المثنى بن حارثة في آثار العدو فحاصر حصن المرأة فتحه و أسلمت فتزوجها و بعث معقل بن مقرن إلى الأبلة ففتحها عتبة بن غزوان أيام عمر سنة أربع عشرة و لم يتعرض خالد و أصحابه إلى الفلاحين و تركهم و عمارة البلاد كما أمرهم أبو بكر و كان كسرى أردشير لما جاءه كتاب هرمز بمسير خالد أمره بقارن بن فريانس فسار إلى المدار و لما انتهى إلى المذار لقيه المنهزمون من هرمز و معهم قباذ و أنوشجان فتذامروا و رجعوا و نزلوا النهر و سار إليهم خالد و اقتتلوا وبزرقان فقتله معقل بن الأعشى بن النباش و قتل عاصم أنوشجان و قتل عدي قباذ و انهزمت الفرس و قتل منهم نحو ثلاثين ألفا سوى من غرق و منعت المياه المسلمين من طلبهم و كانت الغنيمة عظيمة و أخذ الجزية من الفلاحين و صاروا في ذمة و لم يقاتل المسلمين من طلبهم و كانت الغنيمة عظيمة و أخذ الجزية من الفلاحين و صاروا في ذمة و لم يقاتل المسلمين من الفرس بعد قارن أعظم منه و تسمى هذه الوقعة بالثني و هو النهر
و لما جاء الخبر إلى أردشير بالهزيمة بعث الأندر زغر و كان فارسا من مولدي السواد فأرسل في أثره عسكرا مع بهمن حاذويه و حشد الأندرزغر ما بين الحيرة و كسكر من عرب الضاحية و الدهاقين و عسكروا بالولجة و سار إليهم خالد فقاتلهم و صبروا ثم جاءهم كمين من خلفهم فانهزموا و مات الأندرزغر عطشا و بذل خالد الأمان للفلاحين فصاروا ذمة و سبى ذراري المقاتلة و من أعانهم و أصاب اثنين من نصارى بني وائل أحدهما جابر بن بجير و الآخر ابن عبد الأسود من عجل فأسرهما و غضب بكر بن وائل لذلك فاجتمعوا على الليس و عليهم عبد الأسود العجلي فكتب أردشير إلى بهمن حاذويه و قد أقام بعد الهزيمة كتابا يأمره بالمسير إلى نصارى العرب بالليس فيكون معهم إلى أن يقدم عليهم جابان من المرازبة فقدم بهمن على أردشير ليشاوره و خالفه جابان إلى نصارى العرب من عجل و تيم اللات و ضبيعة و عرب الضاحية من الحيرة و هم مجتمعون على الليس و سار إليهم خالد حين بلغه خبرهم و لا مشعر لهم بجابان فلما حط الأثقال سار إليهم و طلب المبارزة فبرز إليه مالك بن قيس فقتله خالد و اشتد القتال بينهم و سائر المشركين ينتظرون قدوم بهمن ثم انهزموا و استأسر الكثير منهم و قتلهم خالد حتى سال النهر بالدم و سمي نهر الدم و وقف على طعام الأعاجم و كانوا قعودا للأكل فنفله المسلمين و جعل العرب يتساءلون عن الرقاق يحسبونه رقاعا و بلغ عدد القتلى سبعين ألفا و لما فرغ من الليس سار إلى أمعيشيا فغزا أهلها و أعجلهم أن ينقلوا أموالهم فغنم جميع ما فيها و خربها (2/507)
فتح الحيرة
ثم سافر خالد إلى الحيرة و حمل الرجال و الأثقال في السفن و خرج ابن زيان من الحيرة و معه الأزادية فعسكر عند الغريين و أرسل ابنه ليقاطع الماء عن السفن فوقفت على الأرض و سار إليه خالد فلقيه على فرات باذقلا فقتله و جميع من معه و سار نحو أبيه على الحيرة فهرب بغير قتال لما كان بلغ من موت أردشير كسرى و قتل ابنه و نزل خالد منزله بالغريين و حاصر قصور الحيرة و افتتح الديور و صاح القسيسون و الرهبان بأهل القصور فرجعوا على الاباية و خرج إياس بن قبيصة من القصر الأبيض و عمرو بن عبد المسيح بن قيس بن حيان بن بقيلة و كان معمرا و سأله خالد عن عجيبة قد رآها فقال : رأيت القرى ما بين دمشق و الحيرة تسافر بينهما المرأة فلا تتزود إلا رغيفا واحدا ثم جاءه و استقرب منه و رأى مع خادمه كيسا فيه سم فأخذه خالد و نثره في يده و قال ما هذا ؟ قال خشيت أن تكونوا على غير ما وجدت فيكون الموت أحب إلي من مكروه أدخله على قومي فقال له خالد : لن تموت حتى تأتي على أجلها ثم قال : باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء و ابتلع السم فوعك ساعة ثم قام كأنما نشط من عقال فقال عبد المسيح : لتبلغن ما أردتم ما دام أحد منكم هكذا ثم صالحهم على مائة أو مائتين و تسعين ألفا و على كرامة بنت عبد المسيح لشريك كان النبي صلى الله عليه و سلم عرف بها إذا فتحت الحيرة فأخذها شريك و افتدت منه بألف درهم و كتب لهم بالصلح و ذلك في أول سنة اثنتي عشرة (2/510)
فتح ما وراء الحيرة
كان الدهاقين يتربصون بخالد ما يصنع بأهل الحيرة فلما صالحهم و استقاموا له جاءته الدهاقين من كل ناحية فصالحوه عما يلي الحيرة من الفلاليح و غيرها على ألف ألف و قيل على ألفي ألف سوى جباية كسرى و بعث خالد ضرار بن الأزور و ضرار بن الخطاب و القعقاع بن عمرو و المثنى بن حارثة و عيينة بن الشماس فكانوا في الثغور و أمرهم بالغارة فمخروا السواد كله إلى شاطئ دجلة و كتب إلى ملوك فارس : أما بعد فالحمد لله الذي حل نظامكم و وهن كيدكم و فرق كلمتكم و لو لم نفعل ذلك كان شرا لكم فادخلوا في أمرنا ندعكم و أرضكم و نجوزكم إلى غيركم و إلا كان ذلك و أنتم كارهون على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة و كتب إلى المرازبة : أما بعد فالحمد لله الذي فض حدتكم و فرق كلمتكم و جفل حرمكم و كسر شوكتم فأسلموا تسلموا و إلا فاعتقدوا مني الذمة و أدوا الجزية و إلا فقد جئتكم بقوة يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر انتهى
و كان العجم مختلفين بموت أردشير و قد أزالوا بهمن حاذويه فيمن سيره في العساكر فجبى خالد خراج السواد في خمسين ليلة و غلب العجم عليه و أقام بالحييرة سنة يصعد و يصوب و الفرس حائرون فيمن يملكونه و لم يجدوا من يجتمعون عليه لأن سيرين كان قتل جميع من تناسب إلى بهرام جور فلما وصل كتاب خالد تكلم نساء آل كسرى و ولوا الفرخزاد بن البندوان إلى أن يجدوا من يجتمعون عليه و وصل جرير ابن عبد الله البجلي إلى خالد بعد فتح الحيرة و كان مع خالد بن سعيد بن العاص بالشام ثم قدم على أبي بكر فكلمه أن يجمع له قومه كما وعده النبي صلى الله عليه و سلم و كانوا أوزاعا متفرقين في العرب فسخط ذلك منه أبو بكر فقال : تكلمني بما لا يعني و أنت ترى ما نحن فيه من فارس و الروم و أمره بالمسير إلى خالد فقدم عليه بعد فتح الحيرة (2/510)
فتح الأنبار و عين التمر و تسمى هذه الغزوة ذات العيون
ثم سار خالد على تعبيته إلى الأنبار و على مقدمته الأقرع بن حابس و كان بالأنبار شيرزاد صاحب ساباط فحاصرهم و رشقوهم بالنبال حتى فقأوا منهم ألف عين ثم نحر ضعاف الإبل و ألقاها في الخندق حتى ردمه بها و جاز هو و أصحابه فوقها فاجتمع المسلمون و الكفار في الخندق و صالح شيرزاد على أن يلحقوه بمأمنه و يخلي لهم عن البلد و ما فيها ببهمن حاذويه ثم استخلف خالد على الأنبار الزبرقان ابن بدر و سار إلى عين التمر و بها بهرام بن بهرام جوبين في جمع عظيم من العجم و عقبة بن أبي عقبة في جمع عظيم من العرب و حولهم طوائف من النمر و تغلب و إياد و غيرهم من العرب و قال عقبة لبهرام : دعنا و خالدا فالعرب أعرف بقتال العرب فتركه لذلك و اتقى به و سار عقبة إلى خالد و حمل خالد عليه و هو يقيم صفوفه فاحتضنه و أخذه أسيرا و انهزم العسكر عن غير قتال و أسر أكثرهم و بلغ الخبر إلى بهرام فهرب و ترك الحصن و تحصن به المنهزمون و استأمنوا لخالد فأبى فنزلوا على حكمه فقتلهم أجمعين و عقبة معهم
و غنم ما في الحصن و سبى عيالهم و أولادهم و أخذ من البيعة و هي الكنيسة غلمانا كانوا يتعلمون الإنجيل ففرقهم في الناس منهم : سيرين أبو محمد و نصير أبو موسى و حمران مولى عثمان و بعث إلى أبي بكر بالفتح و الخمس و قتل من المسلمين عمير ابن رباب السهمي من مهاجرة الحبشة و بشير بن سعد والد النعمان
و لما فرغ خالد من عين التمر وافق وصول كتاب عياض بن غنم و هو على من بإزائه من نصارى العرب بناحية دومة الجندل و هم بهرام و كلب و غسان و تنوخ والضجاعم و كانت رياسة دومة لأكيدر بن عبد الملك و الجودي بن ربيعة يقتسمانها و أشار أكيدر بصلح خالد فلم يقبلوا منه فخرج عنهم و بلغ خالد مسيره فأرسل من اعترضه فقتله و أخذ ما معه و سار خالد فنزل دومة و عياض عليها من الجهة الأخرى و خرج الجودي لقتال خالد و أخرج طائفة أخرى لقتال عياض فانهزموا من الجهتين فأغلق دونهم و قتل الجودي و افتتح الحصن عنوة فقتل المقاتلة و سبى الذرية (2/511)
الوقائع بالعراق
و أقام خالد بدومة الجندل فطمع الأعاجم في الحيرة و ملأهم عرب الجزيرة غضبا لعقبة فخرج اسوران إلى الأنبار و انتهيا إلى الحصيد و الخنافس فبعث القعقاع من الحيرة عسكرين حالا بينهما و بين الريف ثم جاء خالد إلى الحيرة فعجل القعقاع بن عمرو وأبا ليلى بن فدكى إلى لقائهما بالحصيد فقتل من العجم مقتلة عظيمة و قتل الأسواران و غنم المسلمون ما في الحصيد و انهزمت الأعاجم إلى الخنافس و بها البهبوذان من الأساورة و سار أبو ليلى في اتباعهم فهزم البهبوذان إلى المضيخ و كان بها الهذيل بن عمران و ربيعة بن بجير من عرب الجزيرة غضبا لعقبة و جاءا مددا لأهل الحصيد فكتب خالد إلى القعقاع و أبي ليلى و واعدهما المضيخ و سار إليهم فتوافقا هنالك و أغاروا على الهذيل و من معه من ثلاثة أوجه فأكثروا فيهم القتل ففر الهذيل في قليل و كان مع الهذيل عبد العزيز بن أبي رهم من أوس مناة ولبيد بن جرير و كانا أسلما و كتب لهما أبو بكر بإسلامهما فقتلا في المعركة فوداهما أبو بكر و أوصى بأولادهما و كان عمر يعتمد بقتلهما و قتل مالك بن نويرة على خالد
و لما فرغ خالد من الهذيل بالمضيخ واعد القعقاع و أبا ليلى إلى الثني شرقي الرصافة ليغير على ربيعة بن بحير التغلبي صاحب الهذيل الذيى جاء معه لمدد الفرس و يبيتهم فلم يلق منهم أحدا ثم اتبع الهذيل بعد مفره من المضيخ إلى اليسير و قد لحق هنالك بعتاب بن أسيد فبيتهم خالد قبل أن يصل إليهم خبر ربيعة فقتل منهم مقتلة عظيمة و سار إلى الرصافة و بها هلال بن عقبة فتفرق عنه أصحابه و هرب فلم يلق بها خالد أحدا ثم سار خالد إلى الرضاب و إلى الفراض و هي تخوم الشام و العراق و الجزيرة فحميت الروم و استعانوا بمن يليهم من مسالح فارس و اجتمعت معهم تغلب و إياد و النمر و ساروا إلى خالد و طلبوا منه العبور فقال : اعبروا أسفل منا فعبروا و امتاز الروم من العرب فانهزمت الروم ذلك اليوم و قتل منهم نحو من مائة ألف و أقام خالد على الفراض إلى ذي القعدة ثم أذن للناس بالرجوع إلى الحيرة و جعل شجرة بن الأغر على الساقة و خرج من الفراض حاجا مكتتما بحجة و ذهب يتعسف في البلاد حتى أتى مكة فحج و رجع فوافى الحيرة مع جنده و شجرة بن الأغر معهم و لم يعلم بحجة إلا من أعلمه به و عتب به أبو بكر في ذلك لما سمعه و كانت عقوبته إياه أن صرفه من غزو العراق إلى الشام ثم شن خالد بن الوليد الغارات على نواحي السواد فأغار هو على سوق بغداد و على قطربل و عقرقوما و مسكن و بادروبا و حج أبو بكر في هذه السنة و استخلف على المدينة عثمان بن عفان (2/513)
بعوث الشام
و كان من أول عمل أبي بكر بعدة عوده من الحج أن بعث خالد بن سعيد بن العاص في الجنود إلى الشام أول سنة ثلاث عشرة و قيل إنما بعثه إلى الشام لما بعث خالد بن الوليد إلى العراق السنة التي قبلها ثم عزله قبل أن يسير لأنه كان لما قدم من اليمن عند الوفاة بخلف عن بيعة أبي بكر أياما و غدا على علي و عثمان فعزلهما على الاستكانة لتيم و هما رؤس بني عبد مناف فنهاه علي و بلغت الشيخين فلما ولاه أبو بكر عقد له عمر فعزله و أمره أن يقيم بتيماء و يدعو من حوله من العرب إلى الجهاد حتى يأتيه أمره فاجتمعت إليه جموع كثيرة و بلغ الروم خبره فضربوا البعث على العرب الضاحية بالشام من بهرا و سليح و كلب و غسان و لخم و جذام و سار إليهم خالد فغلبهم على منازلهم و افترقوا و كتب له أبو بكر بالإقدام فسار متقدما و لقيه بالبطريق ماهان من بطارقة الروم فهزمه خالد و استلحم الكثير من جنوده و كتب إلى أبي بكر يستمد و وافق كتابه المستنفرين و فيهم ذو الكلاع و معه حمير و عكرمة بن أبي جهل و من معه من تهامة و الشحر و عمان و البحرين فبعثهم إليه و حينئذ اهتم أبو بكر بالشام و كان عمرو بن العاص لما بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم تسليما إلى عمان و عده أن يعيده إلى عمله عند فراغه من أمر عمان فلما جاء بعد الوفاة أعاده إليها أبو بكر إنجازا لوعده صلى الله عليه و سلم تسليما و هي صدقات سعد هذيم و بني عذرة فبعث إليه الآن يأمره باللحاق بخالد بن سعيد لجهاد الروم و أن يقصد فلسطين و بعث أيضا إلى الوليد بن عقبة و كان على صدقات قضاعة و ولاه الأردن وأمر يزيد ابن أبي سفيان على جمهور من انتدب إليه فيهم سهيل بن عمرو و أشباهه و أمر أبا عبيدة بن الجراح على جمعهم و عين له حمص و أوصى كل واحد منهم
و لما وصل المدد إلى خالد بن سعيد و بلغه توجه الأمراء تعجل للقاء الروم قبلهم فاستطرد له ماهان و دخل دمشق و اقتحم خالد الشام و معه ذو الكلاع و عكرمة و الوليد حتى نزل مرج الصفر عند دمشق فانطوت مسالح ماهان عليه و سدوا الطريق دونه و زحف إليه ماهان و لقي ابنه سعيدا في طريقه فقتلوه و بلغ الخبر أباه خالدا فهرب فيمن معه و انتهى إلى ذي المروة قرب المدينة و أقام عكرمة ردءا من خلفهم فرد عنهم الروم فأقام قريبا من الشام
و جاء شرحبيل بن حسنة إلى أبي بكر وافدا من العراق من عند خالد فندب معه الناس و بعثه مكان الوليد إلى أردن و مر بخالد ففصل ببعض أصحابه ثم بعث أبو بكر معاوية و أمره باللحاق بأخيه يزيد و أذن لخالد بن سعيد بدخول المدينة
و زحف الأمراء في العساكر نحو الشام فعبى هرقل عساكر الروم و نزل حمص بعد أن أشار على الروم بعدم قتال العرب و مصالحتهم على ما يريدون فأبوا و لجوا ثم فرقهم على أمراء المسلمين فبعث شقيقه تدارق في تسعين ألفا نحو عمرو بن العاص بفلسطين و بعث جرجة بن توذر نحو يزيد بن أبي سفيان و بعث الدارقص نحو شرحبيل بن حسنة بالأردن و بعث القيقلان بن نسطورس في ستين ألفا نحو أبي عبيدة بالجابية فهابهم المسلمون ثم رأوا أن الاجتماع أليق بهم و بلغ كتاب أبي بكر بذلك فاجتمعوا باليرموك إحدا و عشرين ألفا و أمر هرقل أيضا باجتماع جنوده بينهم فأقاموا بإزائه ثلاثة أشهر و استمدوا أبا بكر فكتب إلى خالد بن الوليد أن يستخلف على العراق المثنى بن حارثة و يلحق بهم و أمره على جند الشام (2/514)
بعوث الشام
و لما استمد المسلمون أبا بكر بعث إليهم خالد بن الوليد من العراق و استحثه في السير إليهم فنفذ خالد لذلك و وافى المسلمين مكانهم عندما وافى ماهان و الروم أيضا و ولى خالد قباله و ولى الأمراء قبل الآخرين أزاءهم فهزم ماهان و تتابع الروم على الهزيمة و كانوا مائتين و أربعين ألفا و تقسموا بين القتل و الغرق في الواقوصة و الهوي في الخندق و قتل صناديد الروم و فرسانهم و قتل تدارق أخو هرقل و انتهت الهزيمة إلى هرقل و هو دون حمص فارتحل و أخلد إلى ما وراءها لتكون بينه و بين المسلمين و أصر عليها و على دمشق و يقال إن المسلمين كانوا يومئذ ستة و أربعين ألفا : سبعة و عشرين منها مع الأمراء و ثلاثة آلاف من إمداد أهل العراق مع خالد بن الوليد و ستة آلاف ثبتوا مع عكرمة ردءا بعد خالد بن سعيد و أن خالد بن سعيد سماهم كراديس ستة و ثلاثين كردوسا لما رأى الروم تعبوا كراديس و كان كل كردوس ألفا و كان ذلك في شهر جمادى و أن أبا سفيان بن حرب أبلى يومئذ بلاء حسنا بسعيه و تحريضه
قالوا و بينما الناس في القتال قدم البريد من المدينة بموت أبي بكر و ولاية عمر فأسره إلى خالد و كتمه عن الناس ثم خرج جرجه من أمراء فطلب خالدا و سأله عن أمره و أمر الإسلام فوعظه خالد فاستبصر و أسلم و كانت وهنا على الروم ثم زحف خالد بجماعة من المسلمين فيهم جرجه فقتل من يومه و استشهد عكرمة بن أبي جهل و ابنه عمرو و أصيب عين أبي سفيان و استشهد سلمة بن هشام و عمرو و أبان ابنا سعيد و هشام بن العاص و هبار بن سفيان و الطفيل بن عمرو و أثبت خالد بن سعيد فلا يعلم أين مات بعد و يقال استشهد في مرج الصفر في الواقعة الأولى
و يقال إن خالدا لما جاء من العراق مددا للمسلمين بالشام طلب من الأدلاء أن يغوروا به حتى يخرج من وراء الروم فسلك به رافع بن عمرو الطائي من فزارة في بلاد كلب حتى خرج إلى الشام و نحر فيها الإبل و أغار على مضيخ فوجد به رفقه فقتلهم و أسلبهم و كان الحرث بن الأيهم و غسان قد اجتمعوا بمرج راهط فسلك إليهم و استباحهم ثم نزل بصرى ففتحها ثم سار منها إلى المسلمين بالواقوصة فشهد معهم اليرموك و يقال : إن خالدا لما جاء من العراق إلى الشام لقي أمراء المسلمين ببصرى فحاصروها جميعا حتى فتحوها على الجزية ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص و عمرو بالغور و الروم بجلق مع تدارق أخي هرقل و كشفوا عن جلق إلى أجنادين وراء الرملة شرقا ثم تزاحف الناس فاقتتلوا و انهزم الروم و ذلك في منتصف جمادى الأولى من السنة و قتل فيها تدارق ثم رجع هرقل و لقي المسلمين بالواقوصة عند اليرموك فكانت واقعة اليرموك كما قدمنا في رجب بعد أجنادين و بلغت المسلمين وفاة أبي بكر و أنها كانت لثمان بقين من جمادى الآخرة (2/516)
خلافة عمر رضي الله عنه
و لما احتضر أبو بكر عهد إلى عمر رضي الله عنه بالأمر من بعده ان شاور عليه طلحة و عثمان و عبد الرحمن بن عوف و غيرهم و أخبرهم بما يريد فيه فأثنوا على رأيه فأشرف على الناس و قال : إني قد استخلفت عمر و لم آل لكم نصحا فاسمعوا له و أطيعوا و دعا عثمان فأمره فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم عند آخر عهده بالدنيا و أول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر و يوقن فيها الفاجر إني استعملت عليكم عمر ابن الخطاب و لم آل لكم خيرا فإن صبر و عدل فذلك علمي به و رأيي فيه و إن جار و بدل فلا علم لي بالغيب و الخير أردت و لكل امرئ ما اكتسب و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون
فكان أول ما أنفذه من الأمور عزل خالد عن إمارة الجيوش بالشام و توليه أبي عبيدة و جاء الخبر بذلك و المسلمون مواقفون عدوهم في اليرموك فكتم أبو عبيدة الأمر كله فلما انقضى أمر اليرموك كما مر سار المسلمون إلى فحل من أرض الأردن و بها رافضة الروم و خالد على مقدمة الناس فقاتلوا الروم (2/517)
فتح دمشق
و اقتحموها عنوة و ذلك في ذي القعدة ولحقت رافضة الروم و عليها ماهان من البطارقة فحاصرهم المسلمون حتى فتحوا دمشق و أظهر أبو عبيدة إمارته و عزل خالد و قال سببه أن أبا بكر يسخط خالد بن سعيد و الوليد بن عقبة من أجل فرارهما كما مر فلما ولي عمر رضي الله عنه أباح لهما دخول المدينة ثم بعثهما من الناس إلى الشام و لما فرغ أمر اليرموك و ساروا إلى فحل و بلغ عمر خبر اليرموك فكتب فعزل خالد بن الوليد و عمرو بن العاص حتى يصير الحرب إلى فلسطين فيتولاها عمرو و أن خالدا قدم على عمر بعد العزل و ذلك بعد فتح دمشق و أنهم ساروا إلى فحل فاقتحوها ثم ساروا إلى دمشق و عليها نسطاس بن نسطورس فحاصروها سبعين ليلة و قيل ستة أشهر من نواحيها الأربع خالد و أبو عبيدة و يزيد و عمرو كل واحد على ناحية و قد جعلوا بينهم و بين هرقل مدينة حمص و من دونها ذو الكلاع في جيش من المسلمين و بعث هرقل المدد إلى دمشق و كان فيهم ذو الكلاع فسقط في أيديهم و قدموا على دخول دمشق و طمع المسلمون فيهم و استغفلهم خالد في بعض الليالي فتسور سورهم من ناحيته و قتل الوليد و فتح الباب و اقتحم البلد و كبروا و قتلوا جميع من لقوه و فزع أهل النواحي إلى الأمراء الذين يلونهم فنادوا لهم بالصلح و الدخول فدخلوا من نواحيهم صلحا فأجريت ناحية خالد على الصلح مثلهم
قال سيف : و بعثوا إلى عمر بالفتح فوصل كتابه بأن يصرف جند العراق إلى العراق فخرجوا و عليهم هاشم بن عتبة و على مقدمته القعقاع و خرج الأمراء إلى فحل و أقام يزيد بن أبي سفيان بدمشق و كان الفتح في رجب سنة أربع عشرة و بعث يزيد دحية الكلبي إلى تدمر و أبا الأزاهر القشيري إلى حوران و البثنة فصالحوهما و وليا عليهما و وصل الأمراء إلى فحل فبيتهم الروم فظفر المسلمون بهم و هزموهم فقتل منهم ثمانون ألفا و كان على الناس في وقعة فحل شرحبيل بن حسنة فسار بهم إلى بيسان و حاصرها فقتل مقاتلتها و صالحه الباقون فقبل منهم و كان أبو الأعور السلمي على طبرية محاصرا لها فلما بلغهم شأن بيسان صالحوه فكمل فتح الأردن صلحا و نزلت القواد في مدائنها و قراها و كتبوا إلى عمر بالفتح
و زعم الواقدي أن اليرموك كانت سنة خمس عشرة و أن هرقل انتقل فيها من أنطاكية إلى قسطنطينية و أن اليرموك كانت آخر الوقائع و الذي تقدم لنا من رواية سيف أن اليرموك كانت سنة ثلاث عشرة و أن البريد بوفاة أبي بكر قدم يوم هربت الروم فيه و أن الأمراء بعد اليرموك ساروا إلى دمشق ففتحوها ثم كانت بعدها وقعة فحل ثم وقائع أخرى قبل شخوص هرقل و الله أعلم (2/518)
خبر المثنى بالعراق بعد مسير خالد إلى الشام
لما وصل كتاب أبو بكر إلى خالد بعد رجوعه من حجه بأن ينصرف إلى الشام أميرا على المسلمين بها و يخرج في شطر الناس و يرجع بهم إذا فتح الله عليه إلى العراق و يترك الشطر الثاني بالعراق مع المثنى بن حارسة و فعل ذلك خالد و مضى لوجهه و أقام المثنى بالحيرة و رتب المصالح و استقام أهل فارس بعد خروج خالد بقليل على شهريار بن شيرين بن شهريار ممن يناسبه إلى كسرى أبي سابور و ذلك سنة ثلاث عشرة فبعث إلى الحيرة هرمز فاقتتلوا هنالك قتالا شديدا بعدوة الضراء و غار الفيل بين الصفوف فقتله المثنى و ناس معه و انهزم أهل فارس و اتبعهم المسلمون يقتلونهم حتى انتهوا إلى المدينة و مات شهريار إثر ذلك و بقي ما دون دجلة من السواد في أيدي المسلمين
ثم اجتمع أهل فارس من بعد شهريار على آزرميدخت و لم ينفذ لها أمر فخلعت و ملك سابور بن شهريار و قام بأمره الفرخراذ بن البندوان و زوجه آزرميدخت فغضب و بعث إلى سياوخش و كان من كبار الأساورة و شكت إليه فأشار عليها بالقبول و جاءه ليلة العرس فقتل الفرخزاد و من معه و نهض إلى سابور فحاصره ثم اقتحم عليه فقتله و ملكت آزرميدخت و تشاغل بذلك آل ملكها حتى انتهى شأن أبي بكر و صار السواد في سلطانه و تشاغل أهل فارس عن دفاع المسلمين عنه
و لما أبطأ خبر أبي بكر على المثنى استخلف المثنى على الناس بشر بن الخصاصية و خرج نحو المدينة يستعلم و يستأذن فقدم و أبو بكر يجود بنفسه و قد عهد إلى عمر و أخبره الخبر فأحضر عمر و أوصاه أن يندب الناس مع المثنى و أن يصرف أصحاب خالد من الشام إلى العراق فقال عمر : يرحم الله أبا بكر علم أنه تستر في إمارة خالد فأمرني بصرف أصحابه و لم يذكره (2/519)
ولاية أبي عبيد بن مسعود على العراق و مقتله
و لما ولي عمر ندب الناس مع المثنى بن حارثة أياما و كان أول منتدب أبو عبيد بن مسعود و قال عمر للناس : إن الحجاز ليس لكم بدار إلا النجعة و لا يقوى عليه أهله إلا بذلك أين المهاجرون عن موعد الله ؟ سيروا في الأرض التي وعدكم الله في الكتب أن يورثكموها فقال : ليظهره على الدين كله فالله مظهر دينه و معز ناصره و مولي أهله مواريث الأمم أين عباد الله الصالحون ؟ فانتدب أبو عبيد الثقفي ثم سعد بن عبيد الأنصاري ثم سليط بن قيس فولى أبا عبيد على البعث لسبقه و قال : اسمع من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم و أشركهم في الأمر و لا تجتهد مسرعا بل اتئد فإنها الحرب و الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة و الكف و لم يمنعني أن أؤمر سليطا إلا لسرعته إلى الحرب و في السرعة إلى الحرب إلا عن بيان ضياع و الله لولا سرعته لأمرته فكان بعث أبي عبيد هذا أول بعث بعثه عمر ثم بعث بعده يغلى بن أمية إلى اليمن و أمره بإجلاء أهل نجران لوصية رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك في مرضه و قال أخبرهم أنا نجليهم بأمر الله و رسوله أن لا يترك دينان بأرض العرب ثم نعطيهم أرضا كأرضهم وفاء بذمتهم كما أمر الله
قالوا : فخرج أبو عبيد مع المثنى بن حارثة و سعد و سليط إلى العراق و قد كانت بوران بنت كسرى كما اختلفت الناس بالمدائن عدلت بينهم حتى يصطلحوا فلما قتل الفرخزاذ بن البندوان و ملكت آزرميدخت اختلف أهل فارس و اشتغلوا عن المسلمين غيبة المثنى كلها فبعثت بوران إلى رستم تستحثه للقدوم و كان على فرج خراسان فأقبل في الناس إلى المدائن و عزل الفرخزاذ وفقأ عين آزرميدخت و نصب بوران فملكته و أحضرت مرازبة فارس فأسلموا له و رضوا به و توجته و سبق المثنى إلى الحيرة و لحقه أبو عبيد و من معه و كتب رستم إلى دهاقين السواد أن يثوروا بالمسلمين و بعث جندا لمصادمة المثنى فساروا و اجتمعوا أسفل الفرات و خرج المثنى من الحيرة خوفا أن يؤتى من خلفه فقدم عليه أبو عبيد و نزل جابان النمارق و معه جمع عظيم فلقيه أبو عبيد هنالك و هزم فارس و أسر جابان ثم أطلق و ساورا في المنهزمين حتى دخلوا كسكر و كان بها نرسي ابن خالة كسرى فجمع الفالة إلى عسكره و سار إليهم أبو عبيد من النمارق في تعبيته و كان على مجنبتي نرسي نفدويه و شيرويه إبنا بسطام خال كسرى
و اتصلت هزيمة جابان ببوارن و رستم فبعثوا الجالنوس مددا لنرسي و عاجلهم أبو عبيد فالتقوا أسفل من كسكر فاشتد القتال و انهزمت الفرس و هرب نرسي و غنم المسلمون ما في عسكره و بعث أبو عبيد المثنى و عاصما فهزموا من كان تجمع من أهل الرساتيق و خربوا و سبوا و أخذوا الجزية من أهل السواد و هم يتربصون قدوم الجالنوس و لما سمع به أبو عبيد سار إليه على تعبيته فانهزم الجالنوس و هرب و رجع أبو عبيد فنزل الحيرة و قد كان عمر قال له : إنك تقدم على ارض المكر و الخديعة و الخيار و الخزي تقدم على قوم تجرأوا على الشر فعلموه و تناسوا الخير فجهلوه فانظر كيف تكون و أحرز لسانك و لا تفش سرك فإن صاحب السر ما ضبط متحصن لا يؤتى من وجه يكرهه و إذا ضيعه كان بمضيعة
و لما رجع الجالنوس إلى رستم بعث بهمن حادويه ذا الحاجب إلى الحيرة فأقبل و معه درفش كابيان راية كسرى عرض ثمانية أذرع في طول اثني عشر من جلود النمر فنزل في الناطف على الفرات و أقبل أبو عبيد فنزل عدوته و قعد إلى أن نصبوا للفريقين جسرا على الفرات و خيرهم بهمن حادويه في عبوره أو عبورهم فاختار أبو عبيد العبور و أجاز إليهم و ماجت الأرض بالمقاتلة و نفرت خيول المسلمين و كراديسهم من الفيلة و أمر بالتخفيف عن الخيل فترجل أبو عبيد و الناس و صافحوا العدو بالسيوف و دافعتهم الفيلة فقطعوا وضنها فسقطت رحالها و قتل من كان عليها و قابل أبو فيلا منهم فوطئه بيده و قام عليه فأهلكه و قاتلهم الناس ثم انهزموا عن المثنى و سبقه بعض المسلمين إلى الجسر فقطعه و قال : موتوا أو تظفروا و تواثب بعضهم الفرات فغرقوا و أقام المثنى و ناس معه مثل عروة بن زيد الخيل و أبي محجن الثقفي و أنظارهم و قاتل أبو زيد الطائي كان نصرانيا قدم الحيرة لبعض أمره فحضر مع المثنى و قاتل حينئذ حمية و نادى المثنى الذين عبروا من المسلمين فعقدوا الجسر و أجاز بالناس و كان آخر من قتل عند الجسر سليط بن قيس فانفض أصحابه إلى المدينة و بقي المثنى في فله جريحا
و بلغ الخبر إلى عمر فشق عليه و عذر المنهزمين و هلك من المسلمين يومئذ أربعة آلاف قتلى و غرقى و هرب ألفان و بقيت ثلاثة آلاف و بينما بهمن حادويه يروم العبور خلف المسلمين أتاه الخبر بأن الفرس ثاروا برستم مع الفيرزان فرجع إلى المدائن و كانت الوقعة في مدائن سنة ثلاث عشرة و لما رجع بهمن حادويه أتبعه جابان و معه مردارشاه و خرج المثنى في إثرهما فلما أشرف عليهما أتياه يظنان أنه هارب فأخذهما أسيرين و خرج أهل الليس على أصحابهما فأتو بهم أسرى و عقدوا معه مهادنة و قتل جميع الأسرى
و لما بلغ عمر رضي الله عنه وقعة أبي عبيد بالجسر ندب الناس إلى المثنى و كان فيمن ندب بجيلة و أمرهم إلى جرير بن عبد الله لأنه الذي جمعهم من القبائل بعد أن كانوا مفترقين و وعده النبي صلى الله عليه و سلم بذلك و شغل عن ذلك أبو بكر بأمر الردة و وفى له عمر به و سيره مددا للمثنى بالعراق و بعث عصمة بن عبد الله الضبي و كتب إلى أهل الردة بأن يوافوا المثنى و بعث المثنى الرسل فيمن يليه من العرب فوافوه في جموع عظيمة حتى نصارى النمر جاؤه و عليهم أنس بن هلال و قالوا : نقاتل مع قومنا و بلغ الخبر إلى رستم و القيرزان فبعثا مهران الهمداني إلى الحيرة و المثنى بين القادسية و خفان فلما بلغه الخبر استبقى فرات باذقلا و كتب بالخبر إلى جرير و عصمة أن يقصدا العذيب مما يلي الكوفة فاجتمعوا هنالك و مهران قبالتهم عدوة الفرات و تركوا له العبور فأجاز إليهم و سار إليه المثنى في التعبية و على مجنبتيه مهران مرزبان الحيرة من الأزدبة و مردارشاه و وقف المثنى على الرايات يحرض الناس فأعجلتهم فارس و خالطوهم و ركدت حربهم و اشتدت ثم حمل المثنى على مهران فأزاله عن مركزه و أصيب مسعود أخو المثنى و خالط المثنى القلب و وثب المجنبات على المجنبات قبالتهم فانهزمت الفرس و سبقهم المثنى إلى الجسر فهربوا مصعدين و منحدرين و استلحمتهم خيول المسلمين و قتل فيها مائة ألف أو يزيدون و أحصى مائة رجل من المسلمين قتل كل واحد منهم عشرة و تبعهم المسلمون إلى الليل و أرسل المثنى في آثار الفرس فبلغوا ساباط فغنموا و سبوا ساباط و استباحوا القرى و سخروا السواد بينهم و بين دجلة لا يلقون مانعا و رجع المنهزمون إلى رستم فاستهانوا و رضوا أن يتركوا ما وراء دجلة
ثم خرج المثنى من الحيرة و استخلف بشير الخصاصية و سار نحو السواد و نزل الليس من قرى الأنبار فسميت الغزاة غزاة الأنبار الآخرة و غزاة الليس الآخرة و جاءت إلى المثنى عيون فدلته على سوق الخنافس و سوق بغداد و أن سوق الخنافس أقرب و يجتمع بها المدائن و السواد و خفراؤهم ربيعة و قضاعة فركب إليها و أغار عليها يوم سوق فاشتف السوق و ما فيها و سلب الخفراء و رجع إلى الأنبار فأتوه بالعلوفة و الزاد و أخذ منهم أدلاء تظهر له المدائن و سار بهم إلى بغداد ليلا و صبح السوق فوضع فيهم السيف و أخذ ما شاء من الذهب و الفضة و الجيد من كل شيء ثم رجع إلى الأنبار و بعث المضارب العجلي إلى الركان و به جماعة من تغلب فهربوا عنه و لحقهم المضارب فقتل في أخرياتهم و أكثر ثم سرح فرات بن حيان التغلبي و عتيبة ابن النهاس للإغارة على أحياء من تغلب بصفين ثم اتبعهما المثنى بنفسه فوجدوا أحياء صفين قد هربوا عنها فعبر المثنى إلى الجزيرة وفني زادهم و أكلوا رواحلهم و أدركوا عيرا من أهل خفان فحضر نفر من تغلب فأخذوا العير و دلهم أحد الخفراء على حي من تغلب ساروا إليه يومهم و هجموا عليهم فقتلوا المقاتلة و سبوا الذرية و استاقوا الأموال و كان هذا الحي بوادي الرويحلة فاشترى أسراهم من كان هنالك من ربيعة بنصيبهم من الفيء و أعتقوهم و كانت ربيعة لا تسبي في الجاهلية و لما سمع المثنى أن جميع من يملك البلاد قد انتجع شاطئ دجلة في اتباعهم فأدركهم بتكريت فغنم ما شاء و عاد إلى الأنبار و مضى عتيبة و فرات حتى أغارا على النمر و تغلب بصفين و تمكن رعب المسلمين من قلوب أهل فارس و ملكوا ما بين الفرات و دجلة (2/520)
أخبار القادسية
و لما دهم فارس من المسلمين بالسواد ما دهمهم و هم مختلفون بين رستم و الفيرزان و اجتمع عظمائهم و قالوا لهما إما أن تجتمعا و إلا فنحن لكما حرب فقد عرضتمونا للهلكة و ما بعد بغداد و تكريت إلى المدار فأطاعا لذلك و فزعوا إلى بوران يسألونها في ولد آل كسرى يولونه عليهم فأحضرت لهم النساء و السراري و بسطوا عليهن العذاب فذكروا لهم غلاما من ولد شهريار بن كسرى إسمه يزدجرد أخذته أمه عندما قتل شيرويه أبناء أبيه فسألوا أمه عنه فدلتهم عليه عند أخواله كانت أودعته عندهم حينئذ فجاؤا به ابن إحدى و عشرين سنة فملكوه و اجتمعوا عليه و تبارى المزاربة في طاعته و عين المسالح و الجنود لكل ثغر و منها الحيرة و الأبلة و الأنبار و خرجوا إليها من المدائن
و كتب المثنى بذلك إلى عمر و بينما هم ينتظر الجواب انتقض أهل السواد و كفروا و خرج المثنى إلى ذي قار و نزل الناس في عسكر واحد و لما وصل كتابه إلى عمر قال : و الله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب فلم يدع رئيسا و لا ذا رأي و شرف و بسطة و لا خطيبا و لا شاعرا إلا رماهم به فرماهم بوجوه الناس و كتب إلى المثنى يأمره بخروج المسلمين من بين العجم و التفرق في المياه بحيالهم و أن يدعو الفرسان و أهل النجدات من ربيعة و مضر و يحضرهم طوعا و كرها فنزل المسلمون بالحلة و سروا إلى عصي و هو جبل البصرة متناظرين و كتب إلى عماله على العرب أن يبعثوا إليه من كانت له نجدة أو فرس أو سلاح أو رأي و خرج إلى الحج فحج سنة ثلاث عشرة و رجع فجاءته أفواجهم إلى المدينة و من كان أقرب إلى العراق انضم إلى المثنى فلما اجتمعت عنده إمداد العرب خرج من المدينة و استخلف عليها عليا و عسكر على صرار من ضواحيها و بعث على المقدمة طلحة و جعل على المجنبتين عبد الرحمن و الزبير و انبهم أمره على الناس و لم يطق أحد سؤاله فسأله عثمان فأحضر الناس و استشارهم في المسير إلى العراق فقال العامة : سر نحن معك فوافقهم ثم رجع إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أحضر عليا و طلحة و الزبير و عبد الرحمن و استشارهم فأشاروا بمقامه و أن يبعث رجلا بعده آخر من الصحابة بالجنود حتى يفتح الله على المسلمين و يهلك عدوهم فقبل ذلك و رأى فيه الصواب و عين لذلك سعد بن أبي وقاص و كان على صدقات هوزان فأحضره و ولاه حرب العراق و أوصاه و قال : ياسعد بن أم سعد لا يغرنك من الله أن يقال خال رسول الله و صاحب رسول الله فإن الله لا يمحو السيء و لكنه يمحو السيء بالحسن و ليس بين الله و بين أحد نسب إلا بطاعته فالناس في دين الله سواء الله ربهم و هم عبادة يتفاضلون بالعافية و يدركون ما عنده بالطاعة فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يلزمه فألزمه و عليك بالصبر
ثم سرحه أربعة آلاف ممن اجتمع إليه فيهم : حميضة بن النعمان بن حميضة على بارق و عمرو بن معدي كرب و أبو سبرة بن أبي رهم على مذحج و يزيد بن الحرث الصدائي على عذرة و خبب و مسلية و بشر بن عبد الله الهلالي على قيس عيلان و الحصين بن نمير و معاوية بن حديج على السكون و كندة ثم أمر بعد خروجه بألف يماني و ألفي فخرى و سار سعد و بلغه في طريقه بزرود أن المثنى مات من جراحة انتقضت و أنه استخلف على الناس بشير بن الخصاصية و كانت جموع المثنى ثلاثة آلاف و كذلك أربعة آلاف من تميم و الرباب و أقاموا و عمر ضرب على بني أسد أن ينزلوا على حد أرضهم فنزلوا في ثلاثة آلاف و أقاموا بين سعد و المثنى و سار سعد إلى سيراف فنزلها و اجتمعت إليه العساكر و لحقه الأشعث بن قيس و معه ثلاثون ألفا و لم يكن أحد أجرأ على الفرس من ربيعة ثم عبى سعد كتائب من سيراف و أمر الأمراء و عرف على كل عشرة عريفا و جعل الرايات لأهل السابقة و رتب المقدمة و الساقة و المجنبات و الطلائع و كل ذلك بأمر عمر و رأيه و بعث في المقدمة زهرة بن عبد الله بن قتادة الحيوي من بني تميم فانتهى إلى العذيب و على اليمامة عبد الله بن المعتمر و على المسيرة شرحبيل بن السمط و خليفة بن خالد بن عرفطة حليف بني عبد شمس و عاصم بن عمر التميمي و سواد بن مالك التميمي على الطلائع و سلمان بن ربيعة الباهلي على المجردة ثم سار على التعبية و لقيه المهنى بن حارثة الشيباني بسيراف و قد كان بعد موت أخيه المثنى سار بذي قار إلى قابوس و استلحمه و من معه و رجع إلى ذي قار
و جاء إلى سعد بالخبر ليعلمه بوصية المثنى إليه أن لا تدخلوا بلاد فارس و قاتلوهم على حد أرضهم بادئ حجر من أرض العرب فإن يظهر الله المسلمين فلهم ما وراءهم و إلا رجعتم إلى فئة ثم تكونوا أعلم بسبيهم و أجرأ على أرضهم إلى أن يرد الله الكرب فترحم سعد و من معه على المثنى و ولى أخاه المهنى على عمله و تزوج سلمى زوجته و وصله كتاب عمر بمثل رأي المثنى يسأله عن سيراف و نزل العرب ثم أتى القادسية فنزلها بحيال القنطرة بين العتيق و الخندق و وصله كتاب عمر يؤكد عليهم في الوفاء بالأنبار و لو كان إشارة أو ملاعبة و كان زهرة في المقدمة فبعث سرية للإغارة على الحيرة عليها بكر بن عبد الله الليثي و إذا أخت مرزيان الحيرة تزف إلى زوجها فحمل بكير على ابن الأزادية فقتله و حملوا الأثقال و العروس في ثلاثين امرأة و مائة من التوابع و معهم ما لا يعرف قيمته و رجع بالغنائم فصبح سعد بالعذيب فقسمه في المسلمين
و لما رجع سعد إلى القادسية أقام بها شهرا يشن الغارات بين كسكر و الأنبار و لم يأته خبر عن الفرس و قد بلغت أخبارهم إلى يزدجر و أن ما بين الحيرة و الفرات قد نهب و خرب فأحضر رستم و دفعه لهذا الوجه فتقاعد عنه و قال : ليس هذا من الرأي و بعث الجيوش يعقب بعضها بعضا أولى من مصادمة مرة فأبى يزدجرد إلا مسيره لذلك فعسكر رستم بساباط و كتب سعد بذلك إلى عمر فكتب إليه لا يكترثنك ما يأتيك عنهم و استعن بالله و توكل عليه و ابعث رجالا من أهل الرأي و الجلد يدعونه فإن الله جاعل ذلك و هنا لهم
فأرسل سعد نفرا منهم : النعمان بن مقرن و قيس بن زرارة و الأشعث بن قيس و فرات بن حيان و عاصم بن عمر عمرو بن معدي كرب و المغيرة بن شعبة و المهنى بن حارثة فقدموا على يزدجرد و تركوا رستم و اجتمعوا و اجتمع الناس ينظرون إليهم و إلى خيولهم و يردوهم فأحضرهم يزدجرد و قال لترجمانه : سلهم ما جاء بكم و ما أولعكم بغزونا و بلادنا من أجل أنا تشاغلنا عنكم اجترأتم علينا ؟ فتكلم النعمان بن مقرن بعد أن أستأذن أصحابه و قال ما معناه : إن الله رحمنا و أرسل إلينا رسولا صفته كذا يدعونا إلى كذا و وعدنا بكذا فأجابه منا قوم و تباعد قوم ثم أمر أن نجاهد من خالفه من العرب فدخلوا معه على وجهين مكره اغتبط وطائع ازداد حتى اجتمعنا عليه و عرفنا فضل ما جاء به ثم أمرنا بجهاد من يلينا من الأمم و دعائهم إلى الإنصاف فإن أبيتم فأمر أهون من ذلك و هو الجزية فإن أبيتم فالمناجزة فقال يزدجرد : لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى و لا أقل عددا و لا أسوأ ذات بين منكم وقد كان أهل الضواحي يكفونا أمركم و لا تطمعوا أن تقوموا للفرس فإن كان بكم جهد أعطيناكم قوتا و كسوناكم و ملكنا عليكم ملكا يرفق بكم فقال قيس بن زرارة : هؤلاء أشراف العرب و الأشراف يستحيون من الأشراف و أنا أكلمك و هم يشهدون فأما ما ذكرت من سوء الحال فكما وصفت و أشد ثم ذكر من عيش العرب و رحمة الله بهم بإرسال النبي صلى الله عليه و سلم مثل ما قال النعمان الخ ثم قال له : إختر إما الجزية عن يد و أنت صاغر أو السيف و إلا فنج نفسك بالإسلام فقال يزدجرد : لو قتل أحد الرسل فبلي لقتلتكم ثم استدعى بوقر من تراب و حمل على أعظمهم و قال : إرجعوا إلى صاحبكم و أعلموه إني مرسل رستم حتى يدفنكم أجمعين في خندق القادسية ثم يدوخ بلادكم أعظم من تدويخ سابور فقام عاصم بن عمر فحمل التراب على عنقه و قال : أنا أشرف هؤلاء و لما رجع إلى سعد فقال : أبشر فقد أعطانا الله تراب أرضهم و عجب رستم من محاورتهم و أخبر يزدجرد بما قاله عاصم بن عمر فبعث في أثرهم إلى الحيرة فأعجزوهم
ثم أغار سواد بن مالك التميمي بعد مسير الوفد إلى يزدجرد على الفراض فاستاق ثلثمائة دابة بين بغل و حمار و ثور و آخرها سمكا و صبح بها العسكر فقسمه سعد في الناس و واصلوا السرايا و البعوث لطلب اللحم و أما الطعام فكان عندهم كثيرا و سار رستم إلى ساباط في ستين ألف و على مقدمته الجالنوس في أربعين ألفا و ساقته عشرون ألفا و في الميمنة الهرمزان و في الميسرة مهران بن بهرام الرازي و حمل معه ثلاثة و ثلاثين فيلا ثمانية عشر في القلب و خمسة عشر في الجنبين ثم سار حتى نزل كوثى فأتى برجل من العرب فقال له رستم : ما جاء بكم و ما تطلبون ؟ فقال : نطلب وعد الله بأرضكم و أبنائكم إن لم تسلموا قال رستم : فإن قتلتم دون ذلك قال من قتل دخل الجنة و من بقي أنجزه الله وعده قال رستم : فنحن إذا وضعنا في أيديكم فقال : أعمالكم وضعتكم و أسلمكم الله بها فلا يغرنك من ترى حولك فلست تحاول الناس إنما تحاول القضاء و القدر فغضب و أمر به فضربت عنقه
و سار فنزل الفرس و فشا من عسكره المنكر و غصبوا الرعايا أمواهم و أبناءهم حتى نادى رستم منهم بالويل و قال : صدق و الله العربي و أتى ببعضهم فضرب عنقه ثم سار حتى نزل الحيرة و دعا أهلها فعزرهم و هم بهم فقال له ابن بقيلة : لا تجمع علينا أن تعجز عن نصرتنا و تلومنا على الدفع عن أنفسنا و أرسل سعد السرايا إلىالسواد و سمع بهم رستم فبعث لاعتراضهم الفرس و بلغ ذلك سعدا فأمدهم بعاصم بن عمر فجاءهم و خيل فارس تحتوشهم فلما رأوا عاصم هربوا و جاء عاصم بالغنائم ثم أرسل سعد عمرو بن معدي كرب و طليحة الأسدي طليعة فلما ساورا فرسخا و بعضه لقوا المسالح فرجع عمرو و مضى طليحة حتى وصل عسكر رستم و بات فيه و هتك أطنااب خيمة أو خيمتين و اقتاد بعض الخيل و خرج يعدو به فرسه و نذر به الفرس فركبوا في طلبه إلى أن أصبح و هم في أثره فكر على فارس فقتله ثم آخر و أسر الرابع و شارف عسكر المسلمين فرجعوا عنه و دخل طليحة على سعد بالفارسي و لم يخلف بعده فيهم فأسلم و لزم طليحة
ثم سار فنزل القادسية بعد ستة أشهر من المدائن و كان يطاول خوفا و تقية و الملك يستحثه و كان رأى في منامه كأن ملكا نزل من السماء و معه النبي صلى الله عليه و سلم ودفعه النبي إلى عمر فحزن لذلك أهل فارس في سيره و لما وصل القادسية وقف على العتيق حيال عسكر المسلمين و الناس يتلاحقون حتى اغتموا من كثرتهم و ركب رستم غداة تلك الليلة و صعد مع النهر و صوب حتى وقف على القنطرة و أرسل إلى زهرة فواقفه و عرض له بالصلح و قال : كنتم جيراننا و كنا نحسن إليكم و نحفظكم و يقرر صنيعهم مع العرب و يقول زهرة : ليس أمرنا بذلك و إنما طلبنا الآخرة وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث الله فينا رسولا دعانا إلى دين الحق فأجبناه و قال : قد سلطتكم على من لم يدن به و أنا منتقم بكم منهم و أجعل لكم الغلبة فقال رستم : و ما هو دين الحق فقال : الشهادتان و إخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة الله و أنتم إخوان في ذلك فقال رستم : فإن أجبنا إلى هذا ترجعون ؟ فقال : إي و الله فانصرف عنه رستم و دعا رجال فارس و ذكر ذلك لهم فأنفوا و أرسل إلى سعد أن يبعث لنا رجلا نكلمه و يكلمنا فبعث إليهم ربعي بن عامر و حبسوه على القنطرة حتى أعلموا رستم فجلس على سرير من ذهب و بسط النمارق و الوسائد منسوجة بالذهب و أقبل ربعي على فرسه و سيفه في خرقة و رمحه مشدودة بعصب و قدم حتى انتهى إلى البساط و وطئه بفرسه ثم نزل و ربطها بوسادتين شقهما و جعل الحبل فيهما فلم يقبلوا ذلك و أظهروا التهاون ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها و أشاروا إليه بوضع سلاحه فقال : لو أتيتكم فعلت كذا فأمركم و إنما دعوتموني ثم أقبل يتوكأ على رمحه و يقارب خطوه حتى أفسد ما عليه من السبط ثم دنا من رستم و جلس على الأرض و ركز رمحه على البساط و قال : إنا لا نقعد على زينتكم فقال له الترجمان : ما جاء بكم فقال : الله بعثنا لنخرج عبادة من ضيق الدنيا إلى سعتها و من جور الأديان إلى عدل الإسلام و أرسلنا بدينه إلى خلقه فمن قبله قبلنا منه و تركناه و أرضه و من أبى قاتلناه حتى نفيء إلى الجنة أو الظفر فقال رستم : هل لكم أن تؤخر هذا الأمر حتى ننظر فيه ؟ قال : نعم كم أحب إليك يوما أو يومين قال : لا بل حتى نكاتب أهل رأينا و رؤساء قومنا فقال : إن مما سن لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث فانظر في أمرك و أمرهم و اختر إما الإسلام و ندعك و أرضك أو الجزية فنقبل و نكف عنك و إن احتجت إلينا نصرناك أو المنابذة في الرابع أن تنبذ و أنا كفيل بهذا عن أصحابي قال أسيدهم أنت ؟ قال : لا و لكن المسلمون كالجسد الواحد يجيز بعضهم عن بعض يجيز أدناهم على أعلاهم فخلا رستم برؤساء قومه و قال : رأيتم كلاما قط مثل كلام هذا الرجل ؟ فأروه الاستخفاف بشأنه و ثيابه فقال : ويحكم إنما أنظر إلى الرأي و الكلام و السيرة و العرب تستخف اللباس و تصون الأحساب
ثم أرسل إلى سعد أن ابعث إلينا ذلك الرجل فبعث إليهم حذيفة بن محصن ففعل كما فعل الأول و لم ينزل عن فرسه و تكلم و أجاب مثل الأول فقال له : ما قعد بالأول عنا ؟ فقال : أميرنا يعدل بيننا في الشدة و الرخاء و هذه نوبتي فقال رستم : و المواعدة إلى متى ؟ فقال : إلى ثلاث من أمس و انصرف و حاص رستم بأصحابه يعجبهم من شأن القوم و بعث في الغد عن آخر فجاءه المغيرة حتى جلس معه على سريره فأنزلوه فقال : لا أرى قوما أسفه منا معشر العرب لا نستعبد بعضا بعضا فظننتكم كذلك و كان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض مع أني لم آتكم و إنما دعوتموني فقد علمت أنكم مغلوبون و لم يقم ملك على هذه السيرة فقالت السفلة : صدق و الله العربي و قالت الأساطين : لقد رمانا بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه قاتل الله من يصغر أمر هذه الأمة ثم تكلم رستكم فعظم من أمر فارس بل من شأن فارس و سلطانهم و صغر أمر العرب و قال : كانت عيشتكم سيئة و كنتم تقدونا في الجدب فنردكم بشيء من التمر و الشعير و لم يحملكم على ما صنعتم إلا ما بكم من الجهد و نحن نعطي أميركم كسوة و بغلا و ألف درهم و كل رجل منكم حمل تمر و تنصرفون فلست أشتهي قتلكم فتكلم المغيرة و خطب فقال : أما الذي وصفتنا به من سوء الحال و الضيق و الاختلاف فنعرفه و لا ننكره و الدنيا دول و الشدة بعدها الرخاء و لو شكرتم ما آتاكم الله لكان شكركم قليلا عما أوتيتم و قد أسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال و أن الله بعث فينا رسولا ثم ذكر مثل ما تقدم إلى التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال ثم قال : و إن عيالنا ذاقوا طعام بلادكم فقالوا لا صبر لنا عنه فقال رستم : إذا تموتون دونها فقال المغيرة : يدخل من قتل منا الجنة و يظفر من بقي منا بكم فاستشاط غضبا و حلف أن لا يقع الصلح أبدا حتى أقتلكم أجمعين و انصرف المغيرة و خلا رستم بأهل فارس و عرض عليهم مصالحة القوم و حذرهم عاقبة حربهم فلجوا و بعث إليه سعد يعرض عليه الإسلام و يرغب فأجابه بمثل ما كان يقول لأولئك من الإمتنان على العرب و التعرض بالمطامع فلم يتفق شيء من رأيهم فقال رستم : تعبرون إلينا أم نعبر إليكم ؟ فقالوا : بل اعبروا و أرسل إليهم سعد بذلك و أرادوا القنطرة فقال سعد : لا و لا كرامة لا نرد عليكم شيئا غلبناكم عليه فأبى فأتوا يسكرون العتيق بالتراب و القصب و البرادع حتى جعلوا جسرا
ثم عبر رستم له سريره و جلس عليه و ضرب طيارة و عبر عسكره و جعل الفيلة في القلب و المجنبتين عليها الصناديق و الرجال و الرايات أمثال الحصون و جعل الجالنوس بينه و بين الميمنة و الفيرزان بينه و بين الميسرة و رتب يزدجرد الرجال بين المدائن و القادسية و ما بينه و بين رستم رجلا على دعوة تنتقل إليه ينبئهم أخبار رستم في أسرع وقت ثم أخذ المسلمون مصافهم و اختط سعد قصره و كان به عرق النساء و أصابته معه دماميل لا يستطيع معه الجلوس فصعد على سطح القصر راكبا على وسادة في صدره و أشرف على الناس و عاب ذلك عليه بعض الناس فنزل و اعتذر إليهم و أراهم القروح في جسده فعذروه و استخلف خالد بن عرفطة على الناس و حبس من شغب عليه في القصر و قيدهم و كان فيهم أبو محجن الثقفي و قيل إنما حبسه بسبب الخمر ثم خطب الناس و حثهم على الجهاد و ذكرهم بوعد الله و ذلك في المحرم سنة أربع عشرة و أخبرهم أنه استخلف خالد بن عرفطة و أرسل جماعة من أهل الرأي لتحريض الناس على القتال مثل المغيرة و حذيفة و عاصم و طليحة و قيس و غالب و عمرو و من الشعراء الشماخ و الحطيئة و العبدي بل و عبدة بن الطيب و غيرهم ففعلوا ثم أمر بقراءة الأنفال فهشت قلوب الناس و عيونهم و عرفوا السكينة مع قراءتها فلما فرغت القراءة قال سعد : الزموا مواقفكم فإذا صليتم الظهر فإني مكبر تكبيرة فكبروا و استعدوا فإذا سمعتم الثانية فكبروا و أتموا عدتكم فإذا سمعتم الثالثة فكبروا و نشطوا الناس فإذا سمعتم الرابعة فازحفوا حتى تخالطوا عدوكم و قولوا لا حول و لا قوة إلا بالله
فلما كبر الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال و خرج أمثالهم من الفرس فاعتوروا الطعن و الضرب و ارتجزوا الشعر و أول من أسر في ذلك اليوم هرمز من ملوك الكبار و كان متوجا أسره غالب بن عبد الله الأسدي فدفعه إلى سعد و رجع إلى الحرب و طلب البراز أسوار منهم فبرز إليه عمرو بن معدي كرب فأخذه و جلده الأرض فذبحه و سلب سواريه و منطقته ثم حملوا الفيلة على المسلمين و أمالوها على بجيلة فثقلت عليهم فأرسل سعد إلى بني أسد أن يدفعوا عنهم فجاءه طليحة بن خويلد و حمل بن مالك فردوا الفيلة و خرج على طليحة عظيم منهم فقتله طليحة و عير الأشعث بن قيس كندة بما يفعله بنو أسد فاستشاطوا و نهدوا معه فأزلوا الذين بإزائهم و حين رأى الفرس ما لقي الناس و الفيلة من بني أسد حملوا عليهم جميعا و فيهم ذو الحاجب و الجالنوس
و كبر سعد الرابعة فزحف المسلمون و ثبت بنو أسد و دارت رحى الحرب عليهم و حملت الفيول على الميمنة و الميسرة و نفرت خيول المسلمين منها فأرسل سعد إلى عاصم بن عمر هل من حيلة لهذه الفيلة ؟ فبعث الرماة يرشقونها بالنبل و اشتد لردها آخرون يقطعون الوضن و خرج عاصم بجمعهم و رحى الحرب على أسد و اشتد عواء الفيلة و وقعت الصناديق فهلك أصحابها و نفس عن أسد أن أصيب منهم خمسائة و ردوا فارس إلى مواقفهم ثم اقتتلوا إلى هدء من الليل و كان هذا اليوم الأول و هو يوم الرماة و لما أصبح دفن القتلى و أسلم الجرحى إلى نساء يقمن عليهم و إذا بنواصي الخيل طالعة من الشام و كان عمر بعد فتح دمشق عزل خالد بن الوليد عن جند العراق و أمر أبا عبيدة أن يؤمر عليهم هاشم بن عتبة يردهم إلى العراق فخرج بهم هاشم و على مقدمته القعقاع بن عمرو فقام القعقاع على الناس صبيحة ذلك اليوم يوم أغواث و قد عهد إلى أصحابه أن يقطعوا أعشارا بين كل عشرين مد البصر و كانوا ألفا فسلم على الناس و بشرهم بالجنود و عرضهم على القتال و طلب البراز فخرج إليه ذو الحاجب فعرفه القعقاع و نادى بالثأر لأصحاب الجسر و تضاربا فقتله القعقاع و سر الناس بقتله و وهنت الأعاجم لذلك ثم طلب البراز فخرج إليه الفيرزان و البندوان
و أكثر المسلمون القتل في الفرس و أخذوا الفيلة عن القتال لأن نوابتها تكسرت بالأمس فاستأنفوا حملها و جعل القعقاع إبلا و جعل عليها البراقع و أركبها عشرة عشرة و أطاف عليها الخيول تحملها و حملها على خيل الفرس فنفرت منها و ركبتهم خيول المسلمين و لقي الفرس من الإبل أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة و برز القعقاع يومئذ في ثلاثين فارسا في ثلاثين حملة فقتلهم كان آخرهم بزرجمهر الهمداذي و بارز الأعور بن قطنة شهريار سجستان فقتل كل واحد منهما صاحبه
و لما انتصف النهار تزاحف الناس فاقتتلوا إلى انتصاف الليل و قتلوا عامة أعلام فارس ثم أصبحوا في اليوم الثالث على مواقفهم بين الصفين و من المسلمين ألفا جريح و قتيل و من المشركين عشرة آلاف فدفن المسلمون موتاهم و أسلموا الجرحى إلى النساء و وكلوا النساء و الصبيان بحفر القبور و بقي قتلى المشركين بين الصفين و بات القعقاع يسرب أصحابه إلى حيث فارقهم بالأمس و أوصاهم إذا طلعت الشمس أن يقبلوا مائة مائة يجدد بذلك الناس و جاء بينهما يلحق هاشم بن عتبة فلما ذر قرن الشمس أقبل أصحاب القعقاع فتقدموا و المسلمون يكبرون فتزاحفت الكتائب طعنا و هربا و ما جاء آخر أصحاب القعقاع حتى لحق هاشم فعبى أصحابه سبعين سبعين و كان فيهم قيس بن المكشوح فلما خالط القلب كبر و كبر المسلمون ثم كبر فخرق الصفوف إلى العتيق ثم عاد و قد أصبح الفرس على مواقفهم و أعادوا الصناديق على الفيلة و أحدقوا الرجال بها يحمونها أن تقطع وضنها و أقام الفرسان يحمون الرجالة فلم تنفر خيل المسلمين منها و كان هذا اليوم يوم عماس و كان شديدا و إلا أن الطائفتين فيه سواء و أبلى فيه قيس بن المكشوح و عمرو بن معدي كرب زحفت الفيلة و فرقت بين الكتائب و أرسل سعد إلى القعقاع و عاصم أن أكفياني الأبيض و كان بازائهما و إلى محمل و الذميل أن أكفياني الأجرب و كان بازائهما فحملوا على الفيلين فقتل الأبيض و من كان عليه و قطع مشفر الأجراب و فقئت عينه و ضرب سائسه الذميل بالطيرزين فأفلت جريحا و تحير الأجرب بن الطائفتين و ألقى نفسه في العتيق و اتبعته الفيلة و خرقت صفوف الأعاجم في إثره و قصدت المدائن بثوابتها و هلك جميع من فيها و خلص المسلمون و الفرس فاختلفوا على سواء إلى المساء و اقتتلوا بقية ليلتهم و تسمى ليلة الهرير
فأرسل سعد طليحة و عمرا إلى مخاضة أسفل السكر يقومون عليها خشية أن يؤتى المسلمون منها فتشاوروا أن يأتوا الأعاجم من خلفهم فجاء طليحة وراء العسكر و كبر فارتاع أهل فارس فأغار عمرو أسفل المخاضة و رجع و زاحفهم الناس دون إذن سعد و أول من زاحفهم من الناس دون إذن سعد زاحفهم القعقاع و قومه فحمل عليهم ثم حمل بنو أسد ثم النجع ثم بجلية ثم كندة و سعد يقول في كل واحدة اللهم إغفر لهم و انصرهم و قد كان قال لهم إذا كبرت ثلاثا فاحملوا فلما كبر الثالثة لحق الناس بعضهم بعضا صلاة العشاء و اختلطوا و صليل الحديد كصوت القرن إلى الصباح
و ركدت الحرب و انقطعت الأخبار و الأصوات عن سعد و رستم و أقبل سعد على الدعاء و سمع نصف الليل صوت القعقاع في جماعة من الرؤساء إلى رستم حتى خالطوا صفه مع الصبح فحمل الناس من كل جهة على من يليهم و اقتتلوا إلى قائم ظهيرة فناجز الفيرزان و الهرمزان بعض الشيء و انفرج القلب و هبت ريح عاصف فقلبت طيارة رستم عن سريره فهوت في العتيق و انتهى القعقاع و من معه إلى السرير و قد قام رستم عنه فاستظل في ظل بغل و حمله و ضرب هلال بن علقمة الحمل فوقع أحد العدلين على رستم فكسر ظهره و ضربه هلال ضربة نفحت مسكا و ضرب نحو العتيق فرمى بنفسه فيه فاقتحم هلال و جره برجله فقتله و صعد السرير و قال : قتلت رستم و رب الكعبة إلي إلي فأطافوا به و كبروا و قيل إن هلالا لما قصد رستم رماه بسهم فأثبت قدمه بالركاب ثم حمل عليه فقتله و احتز رأسه و نادى في الناس قتلت رستم
فانهزم قلب المشركين و قام الجالنوس على الردم و نادى الفرس إلى العبور و تهافت المقترنون بالسلاسل في العتيق و كانوا ثلاثين فهلكوا و أخذ ضرار بن الخطاب راية الفرس العظيمة و هي درفش كابيان فعوض منها ثلاثين ألفا و كانت قيمتها ألف ألف و مائة ألف ألف و قتل ذلك اليوم من الأعاجم عشرة آلاف في المعركة و قتل من المشركين في ذلك اليوم ستة آلاف دفنوا بالخندق سوى ألفين و خمسمائة قتلوا ليلة الهرير و جمع من الأسلاب و الأموال ما لم يجمع قبله و لا بعده مثله و نفل سعد هلال بن علقمة سلب رستم و أمر القعقاع و شرجبيل باتباع العدو وقد كان خرج زهرة بن حيوة قبلها في آثارهم فلحق الجالنوس يجمع المنهزمين فقتله و أخذ سلبه فتوقف سعد من عطائه و كتب إلى عمر فكتب إليه : تعمد إلى مثل زهرة وقد صلى بمثل ما صلى به وقد بقي عليك من حربك ما بقي تفسد قلبه أمض له سلبه و فضله على أصحابه في العطاء بخمسمائة
و لحق سلمان بن ربيعة الباهلي و أخذه عبد الرحمن بطائفة من الفرس قد استماتوا فقتلوهم أجمعين و استمات بعد الهزيمة بضعة و ثلاثون رئيسا من المسلمين فقتلوهم أجمعين و كان ممن هرب من أمراء الفرس الهرمزان و أهودوزاد بيهس و قارن و ممن استمات فقتل شهريار بن كبارا و أسر المدمرون و الفردان الأهوازي و حشرشوم الهمداني و كتب سعد إلى عمر بالفتح و بمن أصيب من المسلمين و كان عمر يسأل الركبان حين يصبح إلى انتصاف النهار ثم يرجع إلى أهله فلما ألفى البشير قال : من أين ؟ فأخبره فقال : حدثني فقال : هزم الله المشركين ففرح بذلك و أقام المسلمون بالقادسية ينتظرون كتاب عمر إلى أن وصلهم بالإقامة و كانت وقعة القادسية سنة أربع عشرة و قيل خمس عشرة و قيل ست عشرة (2/524)