وروى الإمام أحمد وابن السني والطبراني في الصغير، وأبو نعيم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا طلع النّجم ارتفعت العاهة [عن كلّ بلد]
[ (1) ] » [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما طلع النّجم صباحا قطّ بقوم عاهة إلا ارتفعت عنهم، أو خفّت»
[ (3) ] .
تنبيهات
الأول: قال الخطابي: ليس في هذا إثبات العدوى، وإنما هو من باب التداوي فإن استصلاح الأهوية من أنفع الأشياء على تصحيح الأبدان وفساد الهواء من أضرها وأسرعها إلى أسقام الأبدان عند الأطبّاء.
الثاني: قال ابن القيم في الهدي: قد جمع النبي- صلى الله عليه وسلم- للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي بها الطاعون، وعن الخروج منها بعد وقوعه بها كمال التحرز، فإن في الدخول إلى الأرض التي هو بها تعرضا للبلاء، وموافاة له في محل سلطانه، وإعانة الإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشّرع والعقل، بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشد الشّرع إليها، وهي حمية عن الأمكنة والأهوية المؤذية وأما نهيه- عليه الصلاة والسلام- عن الخروج من بلده ففيه معنيان:
أحدهما: حمل النفس على الثقة بالله تعالى، والتوكل عليه والصبر على المصيبة والرضى بها.
والثاني: ما قاله أئمة الطب: أنه يجب عند وقوع الطاعون السكون والدعة وتسكين هيجان الأخلاط، ولا يمكن الخروج عن أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة، وهي مضرة جدا قال في المنهج السوي: هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين، وظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما، وفي المنع من الدخول إلى الأرض التي وقع بها عدّة حكم منها:
تجنب الأسباب المؤذية والبعد منها.
ومنها أن لا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد فيمرضون.
__________
[ (1) ] انظر كشف الخفاء 1/ 110.
[ (2) ] سقط في أ.
[ (3) ] أخرجه أحمد 2/ 388.(12/137)
ومنها أن لا يجاور المرضى الذين قد مرضوا بذلك، فيحصل له بمجاورتهم من جنس أمراضهم.
الثالث: قال في المنهج السوي: وأما الثّريّا فالأمراض تكثر وقت طلوعها مع الفجر وسقوطها قال التميمي في كتاب «مادة البقاء» : أشد أوقات السنة فسادا وأعظمها بليّة على الأجساد وقتان:
أحدهما: وقت سقوط الثّريّا [للمغيب عند طلوع الفجر] [ (1) ] .
والثاني: وقت طلوعها من المشرق قبل طلوع الشمس على العالم، بمنزلة من منازل القمر، وهو وقت تصرّم فصل الربيع وانقضائه، غير أن الفساد الكائن عند طلوعها أقلّ ضررا من الفساد الكائن عند سقوطها.
وقال ابن قتيبة: يقال: ما طلعت الثريا، ولا نأت إلا بعاهة من الناس والإبل، وعند غروبها أهون من طلوعها، وفي الحديث قول ثالث وهو أولى الأقوال: أن المراد بالنجم الثريا، وبالعاهة الآفة التي تلحق الثمار والزرع في فصل الشتاء وصدر من فصل الربيع فيحصل في الوقت المذكور.
وقيل: المراد بالنجم طلوع النبات زمن الربيع ومنه وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن 6] فإن كمال طلوعهما وتمامه يكون في فصل الربيع، وهو الفصل الذي ترتفع فيه الآفات.
الرابع: في بيان غريب ما سبق.
القرف: بقاف فراء ففاء قال ابن قتيبة: القرف مداناة الوباء، ومداناة المرض.
__________
[ (1) ] سقط في ج.(12/138)
الباب الخامس عشر في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في الجلوس في الشمس
روى أبو نعيم في الطب عن أبي بردة عن أبيه، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- «نهى أن يجلس الرجل بين الظّلّ والشّمس» .
وروى أن مدرك بن عجرة ذكر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأى رجلا نائما في الشمس فقال: «قم فإنها تغيّر اللّون، وتبلي الثّوب» .
وروى الحاكم عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إيّاكم والجلوس في الشّمس، فإنّها تبلي الثوب، وتنتت الرّيح، وتظهر الدّاء الدّفين»
[ (1) ] .
وروى أبو داود عن قيس عن أبيه إنه جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يخطب، فقام في الشّمس، فأمر به فحوّل إلى الظّلّ.
وروى أبو داود عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا كان أحدكم في الشّمس وقلص عنه الظل وصار بعضه في الشّمس وبعضه في الظّلّ فليقم»
[ (2) ] .
وروى ابن السني وأبو نعيم عن جابر بن عبد الله- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا ينام أحدكم بعضه في الظّلّ وبعضه في الشّمس» .
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 411، وذكره المتقي الهندي في كنز العمال (25400) .
[ (2) ] أخرجه أبو داود (4821) وأحمد 2/ 283.(12/139)
الباب السادس عشر في إرشاده- صلى الله عليه وسلم- إلى دفع مضار الأغذية بالحركة والأشربة
روى أبو نعيم في الطب عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أذيبوا طعامكم بذكر الله والصّلاة ولا تناموا عليه فتقسوا قلوبكم»
[ (1) ]
وفيه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا ألوي في بطني في المسجد فقال: اشكمت درد؟ قلت: نعم، قال: «قم فصلّ، فإن في الصلاة شفاء
[ (2) ] .
وفيه عن قيس بن طلق عن أبيه قال: جلسنا عند نبي الله- صلّى الله عليه وسلم- فجاء وفد عبد القيس فقال: «ما لكم قد اصفرّت ألوانكم، وعظمت بطونكم وظهر عروقكم» قالوا: أتاك سيدنا وسألك عن شراب كان لنا موافقا فنهيته عنه، وكنا بأرض ذميمة وبيئة وخمة قال: «فاشربوا ما طاب لكم» .
وفيه عن صحار أنه قال: يا رسول الله إني رجل مسقام فائذن لي أن انتبذ في جزيرة مثل هاتيه يعني: صغيرة، فأذن له فيه.
وعنه قال: قلت: يا رسول الله إنك نهيتنا عن ظروف كانت لنا فيما منعته فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: يا صحار أطب شرابك واسق جارك.
وفيه عن عبد الله بن الديلمي عن أبيه قال: أتينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلنا: يا رسول الله إن لنا أعنابا فما نصنع بها؟ قال: زبّبوها قلنا: فما نصنع بالزبيب؟ قال: «انبذوه على غدائكم واشربوه على عشائكم وانبذوه على عشائكم واشربوه على غدائكم، وانبذوه في الشّنان، ولا تنبذوه في القلل، فإنه إذا تأخر عن عصره صار خلا
[ (3) ] .
وفيه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمشى بعد عشاء الآخرة.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 33 وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه ريع أبو الخليل وهو ضعيف.
وذكره المتقي الهندي في الكنز (40773) .
[ (2) ] أخرجه ابن ماجة (3458) .
[ (3) ] أخرجه أبو داود (3710) .(12/140)
الباب السابع عشر في إرشاده- صلى الله عليه وسلم- إلى استعمال المعاجين والجوارش
روى أبو نعيم في الطب عن أبي سعيد- رضي الله تعالى عنه- قال: أهدى ملك الرّوم إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- جرّة زنجبيل فأطعم كلّ إنسان قطعة وأطعمني قطعة.
الباب الثامن عشر في إرشاده- صلى الله عليه وسلم- إلى تعهد العادات والامتناع عن الأطعمة التي لم تجر العادة بها
روى أبو نعيم في الطب عن معاوية بن أبي سفيان- رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «الخير عادة والشّرّ لحاجة»
وفيه عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تعشّوا ولو بكفّ من حشف فإن ترك العشاء مهرمة» .
وفيه عن خالد بن الوليد دخل مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيت ميمونة بنت الحارث فأتى بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال بعض النّسوة اللاتي في بيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أخبروا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بما يريد أن يأكل فقالوا: هو ضبّ فرفع يده فقال خالد بن الوليد: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: «لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه
قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- ينظر.
ورواه عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- وفيه: فقربت إليه ظبيا مطبوخا بتمر فقالت: أخبروا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بما يريد أن يأكل منه.
وفيه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- ما عاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طعاما قطّ، كان إذا اشتهى طعاما ما أكل وإلّا ترك» .(12/141)
الباب التاسع عشر في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في الصداع والشقيقة
روى الإمام أحمد عن بريدة- رضي الله تعالى عنه- قال: كان ربما أخذت الشّقيقة النبي- صلى الله عليه وسلم- فيمكث اليوم واليومين لا يخرج.
وروى البخاري عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: احتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو محرم في وسط رأسه من شقيقة كانت به.
وروى ابن ماجة عن بعض من [ ... ] أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا صدع غلّف رأسه بالحنّاء ويقول: «إنّه نافع بإذن الله من الصّداع» .
وروى ابن السني أبو نعيم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه الوحي تصدّع فيغلّف رأسه بالحناء.
وروى البخاري عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال في مرض موته: «وا رأساه» وأنّه عصب رأسه.
وروى أبو نعيم عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: «احتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في رأسه من أذى كان به» وفي لفظ: «من شقيقة كانت به» .
وروى ابن السّنّي وأبو نعيم في الطّب وابن عساكر، عن قتادة مرسلا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا ادّهن أحدكم فليبدأ بحاجبيه فإنّه يذهب بالصّداع» .
وروى الطبراني في الكبير، وأبو نعيم عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الحجامة في الرأس شفاء من سبع إذا ما نوى صاحبها، من الجنون والصّداع والجذام والبرص والنّعاس ووجع الضّرس وظلمة يجدها في عينيه» .
وروى ابن عساكر عن أبي الدرداء- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «المليلة والصّداع يولعان بالمؤمن وإنّ ذنبه مثل جبل أحد حتى لا تدع عليه من ذنبه مثقال حبة من خردل» .
وروى الشيخان عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[ «احتجم في رأسه وهو محرم من وجع كان به» وفي لفظ البخاري: «من شقيقة كانت به بماء يقال له:
لحي جمل» [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (5700) .(12/142)
وروى الشيخان عن عبد الله بن بحينة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-] [ (1) ] احتجم بلحي جمل من طريق مكّة وهو محرم وسط رأسه.
وروى الطبراني في الكبير عن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: [ «إنّ الحجامة في الرّأس دواء من كل داء الجنون والجذام والعشاء والبرص والصّداع [ (2) ] .
وروى الحكيم الترمذي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-] : [ (3) ] «إذا ادّهن أحدكم فليبدأ بحاجبيه فإنّه يذهب بالصّداع وذلك أوّل ما ينبت على ابن آدم من الشّعر» .
ورواه أيضاً ابن السّنّي وأبو نعيم في الطب وابن عساكر عن قتادة بن دعامة مرسلا وسنده ضعيف، والدّيلمي عنه عن أنس بدون وذلك ... إلخ.
وروى أبو نعيم في الطّب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: جاء أعرابي إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فأعجبه صحّته وجلده فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «متى أحسست بالصّداع» قال: «وأيّ شيء الصّداع؟» قال: «ضرب يكون في الرأس قال: ما لي بذلك من عهد قال: فلما ولّى الأعرابي قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى الأعرابي» وفي لفظ: «فهل أخذك هذا الصّداع؟ قال: وما الصّداع؟ قال «عرق يضرب الإنسان في رأسه قال: ما وجدت هذا قطّ قال: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النّار فلينظر إلى هذا» [ (4) ] .
وفيه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا نزل عليه الوحي صدّع فيغلّف رأسه بالحنّاء.
وفيه عن سلمى قالت: ما شكا أحد إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعا في رأسه إلا أمره بالحجامة.
وفيه عن أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- احتجم من وجع كان برأسه وهو محرم.
وفيه عن عبد الله بن عمر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: من صدع رأسه في سبيل الله فاحتسبه غفر له ما كان قبل ذلك من ذنب» .
__________
[ (1) ] سقط في أ.
[ (2) ] ذكره المتقي الهندي في الكنز (28129) .
[ (3) ] سقط في أ.
[ (4) ] أخرجه أحمد 2/ 332.(12/143)
وروى البخاري في التاريخ وسنن أبي داود أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ما شكا إليه أحد وجعا في رأسه إلا قال له: احتجم ولا شكا وجعا في رجله إلا قال له: اختضب بالحنّاء» .
تنبيهات
الأول: الخضب بالحناء خاص بما إذا كان الصداع من حرارة ملهبة ولم يكن من مادة يجب استفراغها، وإذا كان كذلك نفع فيه الحناء نفعا ظاهرا.
قالوا: وإذا دقّ دهنت وضمّدت به الجبهة مع الخل، سكن الصّداع وهذا لا يختص بوجع الرأس بل يعمّ الأعضاء.
الثاني: بيان غريب ما سبق:
«الصّداع» بصاد مهملة مضمومة ودال مفتوحة فألف فعين مهملة: ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه في أحد جانبي الرأس لازما يسمّى شقيقة بشين معجمة بوزن عظيمة، ويختص بالموضع الأضعف من الرأس، وعلاجها يشد العصابة، سببه أبخرة مرتفعة وأخلاط حارة أو باردة ترتفع إلى الدماغ، فإن لم تجد منفذا أحدثت الصداع، فإن مال إلى أحد شقي الرأس أحدث الشقيقة، وإن ملك كل الرّأس أحدث داء البيضة، تشبيها ببيضة السلاح التي تشمل الرأس كلها، ومن الأسباب ما يحدث من الأعراض النفسانية كالهم والحزن والجوع والحمّى.
ومنها ما يحدث في الرأس كضربة أو ورم في صفاق الدّماغ، أو حمل شيء ثقيل لضغط الرأس أو شيء خارج عن الاعتداء، أو تبريده بملاقاة الهواء، أو الماء في البرد.
شقيقة بشين معجمة فقافين بينهما تحتية ساكنة: ألم في الرأس ويختص بالموضع الأضعف من الرأس وعلاجها بشد العصابة وينفع شد الرأس من الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس.
المليلة: [حرارة الحمّى ووهجها] .(12/144)
الباب العشرون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في السعوط واللدود
روى الترمذي وحسنه وابن السني وأبو نعيم في الطب عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنّ خير» وفي لفظ: «خير ما تداويتم به السّعوط واللّدود والحجامة والمشي» .
وروى الترمذي والحاكم عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: [ «خير ما تداويتم به اللّدود والسّعوط والحجامة والمشيّ» ] [ (1) ] وخير ما اكتحلتم به الإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشعر.
وروى الإمام أحمد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «مكان الكيّ التكميد، ومكان العلاق السّعوط، ومكان النّضخ اللّدود» [ (2) ] .
وروى أبو نعيم عن الشعبي مرسلا، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «خير الدّواء اللّدود والسّعوط والحجامة والمشيّ» .
وروى أبو نعيم في الطب عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم وأعطى الحجّام أجرته وأسقط، رواه ابن سعد مقتصرا.
تنبيه:
اللّدود: بفتح اللام ما سقاه المريض في أحد شقي الفم وهو كاره.
والسّعوط: مثله إلا أنه من الأنف.
والمشيّ: دواء يسهّل البطن.
__________
[ (1) ] سقط في أ.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 100، 101 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح إلا أن إبراهيم لم يسمع من عائشة.(12/145)
الباب الحادي والعشرون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في الحجامة والفصد [والقسط البحري] [ (1) ]
وفيه أنواع:
الأول: في فضل الحجامة وأمره بها
روى الطبراني برجال الصحيح، عن مالك بن صعصعة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما مررت ليلة أسري بي على ملأ من الملائكة إلا أمروني بالحجامة» .
وروى البزار برجال ثقات، عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما مررت بسماء من السّموات إلا قالت الملائكة: يا محمّد مر أهلك بالحجامة وقال:
خير ما تداويتم به الحجامة والقسط والشونيز» .
وروى ابن ماجه والترمذي عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما مررت ليلة أسري بي بملإ من الملائكة إلّا قالوا: يا محمّد مر أمّتك بالحجامة» .
وروى الطبراني بسند لا بأس به عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: حدثنا أبو القاسم- صلى الله عليه وسلم- أنّ جبريل أخبره أنّ الحجامة من أنفع ما تداوى به الناس.
وروى الطبراني في الكبير بسند لا بأس به جيد عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: حجم أبو طيبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدخل عليه عيينة بن حصين والأقرع بن حابس فقال: ما هذا الحجم؟ فقال: «هذا الحجم خير ما تداويتم به» .
وروى الطبراني في الكبير برجال ثقات عن سمرة- رضي الله تعالى عنه- قال: دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حجاما فحجمه بقرن وشرط بشفرة فرآه رجل من بني فزارة فقال: يا رسول الله علام تدع هذا يقطع لحمك؟ قال: «هل تدري ما هذا؟ هذا الحجم، وهو خير ما تداويتم به» [ (2) ] .
وروى ابن سعد عن [سمرة بن جندب]- رضي الله تعالى عنه- قال: كنت عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدعا حجاما فحجمه بمحاجم من قرون وجعل يشرطه بطرف شفرة قال:
فدخل أعرابي فرآه ولم يكن يدري ما الحجامة قال: هذا. قال: ففزع فقال: يا رسول الله على ما تعطي هذا يقطع جلدك! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذا الحجم» . قال: يا رسول الله وما
__________
[ (1) ] سقط في ب.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 95 وقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح خلا حصين بن أبي الحر وهو ثقة.(12/146)
الحجم؟ قال: «هو خير ما تداويتم به» [ (1) ] .
روى الطبراني في الكبير، والإمام أحمد والحاكم وأبو داود والطيالسي وأبو يعلى والضياء عن سمرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «خير ما تداويتم به الحجامة» .
وروى مسلم عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن في الحجم شفاء» .
وروى البزار والطبراني في الكبير برجال الصحيح عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالحجامة والقسط البحريّ» .
وروى الطبراني في الكبير عن سلمى امرأة أبي رافع قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا اشتكى أحد برأسه قال: اذهب فاحتجم، وإذا اشتكى برجله قال: اذهب فاخضبها بالحنّاء.
وروى أبو نعيم في الطب عن علي- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «خير الدّواء [وفي لفظ: «خير ما تداويتم به] [ (2) ] الحجامة والفصاد» .
وروى البخاري وابن ماجه عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الشّفاء في ثلاثة: شربة عسل وشرطة محجم وكيّة نار، وأنهى أمّتي عن الكيّ» .
وروى الإمام أحمد والطبراني برجال ثقات، عن عقبة بن عامر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن كان في شيء شفاء فشرطة محجم أو شربة عسل أو كيّة بنار تصيب ألما وأنا أكره الكيّ ولا أحبّه» [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد، والطبراني برجال ثقات، عن معاوية بن خديج قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أن كان في شيء شفاء ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو كيّة بنار تصيب ألما ولا أحبّ أن أكتوي» [ (4) ] .
وروى ابن أبي شيبة بسند جيد عن رجل من الأنصار من بني سلمة قال: قال
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 343.
[ (2) ] سقط في أ.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 94 وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح خلا عبد الله بن الوليد بن قيس وهو ثقة.
[ (4) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 94 وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح خلا سويد بن قيس وهو ثقة.(12/147)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن كان في شيء ممّا تعالجون من أدويتكم شفاء ففي شربة عسل» وفي لفظ: «ففي شرطة محجم» .
وروى الحارث وأبو يعلى وأحمد عن عقبة بن عامر والشيخان والإمام أحمد والبيهقي والنسائي والبخاري وابن ماجه عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن كان في شيء شفاء ففي ثلاثة: في شربة عسل أو شرطة محجم أو كيّة من نار تصيب ألما، وأنا أكره الكيّ ولا أحبّه» .
وروى أبو نعيم في الحلية والضياء عن عبد الله بن سرجس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الحجم شفاء» .
وروى الأئمة مالك والشافعي وأحمد والشيخان والترمذي والنسائي والدّارمي وأبو عوانة عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: أمثل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحريّ» .
[وروى الحاكم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الحجم أمثل ما تداوى به الناس] [ (1) ] .
وروى أبو يعلى بسند ضعيف عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: دخلنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على رجل من الأنصار وبه ورم فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ألا تخرجوه عنه»
قال: فبط ورسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد [ (2) ] .
وروى البزار عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- إن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أصيب فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لقرابته: «اطلبوا من يعالجه فجيء بالرجلين الأخوين قدما المدينة فقال لهما: بحديدة تعالجان فقالا: إنا كنا نعالج في الجاهلية بها فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم- عالجاه فبطه حتى برأ [ (3) ] .
وروى مسلم والطبراني في الكبير عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجل به جرح يستأذن في بطّه، فأذن له [ (4) ] .
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 102 وقال: رواه أبو يعلى وفيه أبو الربيع السمان وهو ضعيف.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 102 وقال: رواه البزار وفيه عاصم بن عمر العمري وقد ضعفه الجمهور ووثقه ابن حبان وقال يخطئ ويخالف، وبقية رجاله ثقات.
[ (4) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 102 وقال: رواه الطبراني وفيه عبد الله بن خراش وقد ضعفه الجمهور ووثقه ابن حبان وقال: يخطئ ويخالف، وبقية رجاله ثقات.(12/148)
وروى مسلم عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن في الحجم شفاء» .
[وروى الحاكم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أنه دخل علي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يحتجم فقال: أي شيء هذا يا رسول الله؟ فقال: «الحجم» قلت: وما الحجم يا رسول الله؟ قال: «خير ما يتداوى به العرب» .
ورواه الحاكم عن سمرة قال: دخل أعرابي على النبي- صلى الله عليه وسلم- فذكره [ (1) ]] [ (2) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن علي- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «خير ما تداويتم به الحجامة والفصاد» .
وفيه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أنه دخل على النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يحتجم فقال: أي شيء هذا يا رسول الله؟ فقال: «الحجم» قلت: وما الحجم؟ قال: «خير ما تداوى به العرب» .
وفيه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن كان فيما تداويتم به شفاء فالحجامة خير» .
وفيه عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا الدّم تبيّغ بصاحبه قتل» .
وفيه عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «احتجموا لا يتبيّغ بكم الدّم فيقتلكم» .
وفيه عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث إلى أبي بن كعب متطببا، فكواه وفصد العرق.
الثّاني: في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في موضع الحجم من البدن.
روى الخطيب والطبراني في الكبير عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يحتجم في رأسه وروي في لفظ: في مقدم رأسه ويسميها أمّ مغيث [ (3) ] .
وروى الترمذي والحاكم عن أنس والطبراني في الكبير والحاكم عن ابن عباس- رضي
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 209.
[ (2) ] ما بين المعكوفين سقط في ب، ج.
[ (3) ] أخرجه الخطيب في التاريخ 13/ 95.(12/149)
الله تعالى عنهم- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يحتجم في الأخدعين، والكاهل وكان يحتجم لسبع عشرة، وتسع عشرة، وإحدى وعشرين.
وروى الطبراني في الكبير وابن السني وأبو نعيم في الطب عن عبد الحميد بن زياد بن صفي عن أبيه عن جده والطبراني في الكبير برجال ثقات عن صهيب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالحجامة في جوزة القمحدوة فإنها دواء من اثنين وسبعين داء، وخمسة أدواء من الجنون والجذام والبرص ووجع الضّرس» [ (1) ] .
وروى أبو داود والبيهقي وابن ماجه عن أبي كبشة الأنماري- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يحتجم على هامته وبين كتفيه ويقول: «من هراق من هذه الدّماء فلا يضرّه أن لا يتداوى بشيء لشيء» [ (2) ] .
وروى الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحجمة التي في وسط الرأس إنها أمان ودواء من الجنون والجذام والبرص والنّعاس والأضراس كان يسميها أمّ مغيث ورواه أيضاً عن ابن عمر بسند ضعيف، ورواه أيضاً عن ابن عباس بسند ضعيف، وزاد الصّداع.
وروى الطيالسي عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم في وسط رأسه وسماه المنقذ.
وروى عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم في الأخدعين وبين الكتفين.
وروى الطبراني في الكبير وابن السني في الطب عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الحجامة في الرّأس دواء من الجنون والجذام والبرص والأضراس والنّعاس» .
وروى ابن أبي شيبة [بسند ضعيف] [ (3) ] عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: احتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علي الأخدعين اثنتين، والكاهل واحدة، ورواه الحاكم وزاد: وكان يحتجم بسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين.
وروى ابن أبي شيبة برجال ثقات قال: احتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو محرم من وجع وجده في رأسه.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 97 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
[ (2) ] أخرجه أبو داود (3859) ، والبيهقي 9/ 340 وابن ماجه (3484) .
[ (3) ] في أ، ب (بسند صحيح) .(12/150)
وروى ابن حبان في صحيحه عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به.
وروى الأربعة وابن سعد عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص- رضي الله تعالى عنه- أنه وضع يده على المكان الناتئ من الرأس فوق اليافوخ فقال: هذا موضع محجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وروى ابن سعد عن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يحتجم على هامته وبين كتفيه [ (1) ] .
وروى أيضا عن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز قال: احتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في وسط رأسه، وكان يسميه منقذا [ (2) ] .
وروى أيضا عن جبير بن نفير أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم في وسط رأسه.
الثّالث: في استحبابه- صلّى الله عليه وسلم- الحجامة في أيّام مخصوصة.
روى الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «خير ما تحتجمون يوم سبع عشرة ويوم تسع عشرة ويوم إحدى وعشرين» زاد الإمام أحمد والحاكم «وما مررت بملإ من الملائكة ليلة أسري بي إلّا قالوا: عليك بالحجامة يا محمد» .
وروى ابن ماجة والبيهقي والترمذي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أراد الحجامة فليتحرّ سبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين لا يتبيّغ بأحدكم الدّم فيقتله» [ (3) ] .
وروى أبو داود عن أبي بكرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يوم الثلاثاء يوم الدّم فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم أي لا ينقطع» [ (4) ] .
وروى أبو داود من طريق أبي بكرة بكار بن عبد العزيز وبكار استشهد به البخاري في الصحيح، وروى له في الأدب، وقال ابن معين: صالح، وقال ابن عدي: أرجو أن لا بأس به
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى 1/ 344.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد 1/ 345.
[ (3) ] أخرجه ابن ماجة (3486) .
[ (4) ] أخرجه أبو داود (3862) .(12/151)
وهو ممكن يكتب حديثه عن كيسة- بمثناة تحتية ثقيلة وسين مهملة- بنت أبي بكرة إن أباها كان ينهي أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء، ويزعم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن يوم الثلاثاء يوم الدّم وفيه ساعة لا يرقأ فيها الدّم» .
قوله: «لا يرقأ بالهمز أي: لا ينقطع» .
وروى البيهقي وابن ماجة عن نافع- رحمه الله تعالى- أن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال له: يا نافع قد [تبيّغ بي الدّم، فالتمس لي حجّاما، واجعله رفيقا إن استطعت ولا تجعله شيخا كبيرا ولا صبيا صغيرا،
فإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «الحجامة على الرّيق أمثل وفيه شفاء وبركة، وتزيد في العقل، وفي الحفظ، فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس، واجتنبوا الحجامة يوم الأربعاء والجمعة والسبت ويوم الأحد تحريا، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء، فإنه اليوم الذي عافى الله فيه أيّوب من البلاء، وضربه بالبلاء يوم الأربعاء، فإنه لا يبدو جزام ولا برص إلا يوم الأربعاء أو ليلة الأربعاء] [ (1) ] .
وروى أبو داود والحاكم والبيهقي عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من احتجم لسبع عشرة من الشهر وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان له شفاء من كل داء» [ (2) ] .
وروى ابن عساكر عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: «من احتجم يوم الخميس فمرض فيه مات فيه.
وما رواه أبو يعلى عن الحسن بن علي- رضي الله تعالى عنهما- أن في الجمعة ساعة لا يحتجم فيها أحد إلا مات
ففيه يحيى بن العلاء وهو كذّاب.
وحديث أبي هريرة: «من احتجم يوم الأربعاء ويوم السبت فأصابه وضح فلا يلومن إلا نفسه» رواه البزار من طريق سليمان بن أرقم وهو كذاب، ورواه الشيرازي في الألقاب والحاكم وتعقّب والبيهقي.
وحديث ابن عمر: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة يوم الثلاثاء رواه الطبراني في الكبير من طريق مسلمة بن علي الخشني.
وروى الطبراني في الكبير وابن عدي وابن سعد عن معقل بن يسار وابن حبان في الضعفاء والبيهقي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحجامة يوم
__________
[ (1) ] أخرجه ابن ماجة (3487) .
[ (2) ] أخرجه أبو داود (3861) ، والبيهقي 9/ 34.(12/152)
الثلاثاء لسبع عشرة خلت من الشهر دواء لداء السنة» وفي لفظ: «من احتجم يوم الثلاثاء لسبع عشرة كان دواء لداء سنة» وفي لفظ: «أخرج الله منه داء سنة»
انتهى.
وروى ابن حبيب في الطب النبوي عن عبد الكريم الحضرمي معضلا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: [ «الحجامة تكره أوّل النّهار، ولا يرجى نفعها حتى ينقص الهلال» [ (1) ] .
وروى الطبراني] [ (2) ] في الكبير من طريق أبي هرمز عن نافع عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يحتجم يوم الثلاثاء فقلت: في هذا اليوم تحتجم؟ قال: «نعم. ومن وافق منكم يوم الثلاثاء لسبع عشرة مضت من الشهر فلا يتجاوز حتى يحتجم. فاحتجموا.
وروى الطبراني في الكبير أيضا برجال الصحيح عن زيد العمي عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحجامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر دواء لداء السنة» .
وروى الطبراني في الكبير أيضا برجال ثقات، وفي سنده انقطاع عن ابن سيرين قال:
أنفع الحجامة ما كان في نقصان الشهر.
وروى البزار وأبو نعيم في الطب عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «احتجموا لخمس عشرة أو لسبع عشرة أو لتسع عشرة أو إحدى وعشرين لا يتبيّغ عليكم الدّم فيقتلكم» .
وروى العقيلي في الضعفاء من حديث أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالحجامة يوم الخميس فإنها تزيد في الأرب» قيل: وما الأرب؟ قال: «العقل» [ (3) ] .
الرّابع: في نهيه عن الحجامة في أيّام مخصوصة.
روى الشيرازي في الألقاب وابن النجار عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تحتجموا يوم الخميس، فمن احتجم يوم الخميس فأصابه مكروه فلا يلومنّ إلا نفسه» .
ورواه الشيرازي في الألقاب والخطيب والدّيلمي وابن عساكر بلفظ: «فناله مكروه، فلا يلومن إلا نفسه» .
__________
[ (1) ] انظر كشف الخفا 1/ 415.
[ (2) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.
[ (3) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 6/ 17.(12/153)
الخامس: في الحجامة على الرّيق.
روى ابن ماجة وابن السني وأبو نعيم عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الحجامة على الرّيق أمثل، وفيها شفاء وبركة، وتزيد في الحفظ وفي العقل، فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس واجتنبوا الحجامة يوم الجمعة والسبت والأحد، واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء فإنه اليوم الذي عافى الله فيه أيّوب وما يبدو جذام ولا برص إلا يوم الأربعاء أو ليلة الأربعاء» [ (1) ] .
السّادس: في أمره- صلى الله عليه وسلم- بدفن الدّم وأمور جامعة.
روى الطبراني بسند ضعيف عن أم سعد امرأة زيد بن ثابت- رضي الله تعالى عنهما- قالت: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأمر بدفن الدّم إذا احتجم.
وروى ابن سعد عن هارون بن رئاب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم ثم قال لرجل:
«ادفنه لا يبحث عنه كلب» .
وروى عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم محرم.
وروى ابن سعد عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم حجمه أبو طيبة وأمر له بصاعين من طعام، ثم سأله: كم خراجك؟ قال: ثلاثة آصع فوضع عنه صاعا، وفي لفظ: فكلّم أهله أن يضعوا عنه من ضريبته صاعا.
وروى ابن سعد عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: احتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالقاحة وهو صائم وأعطى أجره ولو كان خبيثا ما أعطاه.
وروى ابن سعد عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: أخرج إلينا أبو طيبة المحاجم لثمان عشرة من رمضان نهارا فقلت: أين كنت؟ قال: كنت عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحجمه.
قال ابن سعد: أخبرنا نصر بن باب عن الحجاج عن الحكم عن مقسم عن أبي عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم فغشي عليه يومئذ، فلذلك كرهت الحجامة للصائم.
وروى ابن سعد بسند فيه بشر بن سعيد والبزّار بسند ضعيف عن زيد بن ثابت- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم في المسجد.
وروى ابن عدي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
__________
[ (1) ] أخرجه ابن ماجة (3488) .(12/154)
يكتحل كلّ ليلة، ويحتجم كل شهر، ويشرب الدّواء كل سنة.
وروى الترمذي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «نعم العبد الحجّام يذهب بالدّم، ويخف الصلب ويجلو البصر» .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم عن ثوبان- وهو متواتر- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أفطر الحاجم والمحجوم» .
وروى الحاكم عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا اشتدّ الحرّ فاستعينوا بالحجامة، لا يتبيّغ الدّم على أحدكم فيقتله» .
وروى أبو داود والدارقطني عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أنّ أبا هند حجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في اليافوخ» .
تنبيهات
الأول: قال الأطباء: الحجامة في وسط الرأس نافعة للدّم جدا، والحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه كالأذنين والعينين والأسنان والأنف وعصب الرأس ينفع من الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس.
والحناء علاج خاص بما إذا كان الصّداع من حرارة ملتهبة، ولم يكن من مادة يجب استفراغها، وإذا كان كذلك نفع الحناء نفعا ظاهرا، قالوا: وإذا دق وصمدت به الجبهة مع الخل سكن الصّداع، وهذا لا يختص بوجع الرأس بل يعم الأعضاء.
الثاني: قال الشيخ في شرحه على ابن ماجة: ذهب جمع من الأئمة كأحمد وإسحاق إلى حمل حديث «أفطر الحاجم والمحتجم» على ظاهره وقال آخرون: تكره الحجامة للصائم، وحملوا الحديث على التشديد، ومعناه تعرضا للإفطار.
الثالث: في بيان غريب ما سبق.
القمحدوة: نقرة القفاء، وهي التي إذا استلقى الرجل أصابته الأرض من رأسه فمكان الإصابة هي القمحدوة.(12/155)
الباب الثاني والعشرون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في الإسهال والقيء
روى الطبراني في الكبير عن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما لي أراك مرتثة؟» فقلت: شربت دواء أستمشي به قال: «وما هو» ؟
قلت: السرم قال: «ما لك وللسّرم فإنّه حارّ نار وعليكم بالسّناء والسنوت فإن فيهما دواء من كل شيء إلا السّام» [ (1) ] .
وروى البخاري في تاريخه الكبير والترمذي وابن ماجة عن أسماء بنت عميس قالت:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بماذا كنت تستمشين» ؟ قالت: بالشّبرم قال: «حار حار» ثم استمشيت بالسنى فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لو أن شيئا فيه شفاء من الموت لكان في السّنى» .
وروى ابن ماجه والحاكم في الكنى وابن مندة وقال: غريب والطبراني في الكبير وابن السني وأبو نعيم في الطب والبيهقي وابن عساكر عن عبد الله ابن أم حرام قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «عليكم بالسّنى والسّنوات فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السّام» قيل: يا رسول الله وما السّام؟ قال: «الموت» [ (2) ] .
وروى أبو نعيم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالسنى، فإن الله تعالى جعل فيه شفاء من كل داء» .
تنبيه في بيان غريب ما سبق:
«الشّبرم» قشر عروق شجرة وهو حار يابس، وهو في الدرجة الرابعة، وهو من الأدوية التي منع الأطباء من استعمالها لخطرها وفرط إسهالها، السنا:
نبت حجازي أفضله المكي، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريب من الاعتدال، حارّ يابس في الدرجة الأولى، يسهّل الصّفراء والسّوداء، ويقوي جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة فيه وخاصيته النفع من الوسواس السوداوي.
قال الرازي: السناء والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة، وينفعان من الجرب والحكة، قال: والشّربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة.
السنوت: قيل هو العسل، وقيل هو ربّ عكة السمن يخرج خططا سوداء على السمن، وقيل: حبّ يشبه الكمون وليس به، وقيل: هو الكمون الكرماني، وقيل: إنه الرازيانج، وقيل:
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 93 وقال: رواه الطبراني من طريق وكيع بن أبي عبيدة عن أبيه عن أمه ولم أعرفهم.
[ (2) ] أخرجه ابن ماجة (3457) .(12/156)
إنه الشّبتّ، وقيل: إنه العسل الذي يكون في زقاق السمن، قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى، وأقرب إلى الصواب، أي يخلط السناء مدقوقا بالعسل المخالط للسمن ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردا، لما في العسل والسمن من إصلاح السنا، وإعانته على الإسهال.(12/157)
الباب الثالث والعشرون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في الكيّ
وفيه أنواع:
الأوّل:
فيما قيل إنه- صلى الله عليه وسلم- اكتوى قال الحافظ- رحمه الله تعالى-: لم أر في أثر صحيح أنّه اكتوى، إلا أن القرطبي نسب إلى «أدب النفوس» للطبري أنه- صلى الله عليه وسلم- اكتوى، ذكره الحليمي بلفظ «روى أنه اكتوى للجرح الذي أصابه بأحد» قال الحافظ: والثابت في الصحيح في غزوة أحد «أن فاطمة- رضي الله تعالى عنها- أحرقت حصيرا فحشت به جرحه» وليس هذا الكي المعهود.
الثاني:
في نهيه- صلّى الله عليه وسلم- عنه لغير حاجة.
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمران بن حصين- رضي الله تعالى عنه- نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الكي، فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا» .
وروى الإمام أحمد بسند جيد عن عقبه بن عامر- رضي الله تعالى عنه- قال: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الكيّ، وكان يكره شرب الحميم.
وروى الطبراني في الكبير برجال الصحيح وابن قانع عن سعد الطفري- رضي الله تعالى عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- «نهى عن الكيّ» وفي لفظ قال: «أنهى عن الكيّ» وقال: «أكره شرب الحميم»
[ (1) ] .
وروى الطبراني في الكبير عن عمران بن حصين- رضي الله تعالى عنه- أن رجلا جاء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه أخوه وقد سقي فقال: يا رسول الله إن أخي قد سقي بطنه فأتينا الأطباء فأمروني بالكي أفأكويه؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تكوه وردّه إلى أهله فمرّ به بعير، فضرب بطنه فأحمص بطنه فأتى به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أما إنك لو أتيت به الأطباء، قلت: النار شفته»
[ (2) ] .
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح ومسدد وأبو نعيم في الطب عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «مكان الكيّ التّكميد ومكان العلاق السّعوط ومكان النفخ اللدود»
[ (3) ] .
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 100 وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله رجال الصحيح.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 100 وقال: رواه الطبراني في الثلاثة وفيه عبد الله بن عيسى الخزاز وهو ضعيف.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 100، 101، وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح إلا أن إبراهيم لم يسمع من عائشة.(12/158)
وروى أبو نعيم في الحلية عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكره الكي والطعام الحار ويقول: «عليكم بالبارد فإنه ذو بركة، ألا وإن الحارّ لا بركة فيه» .
وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم عن المغيرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التّوكّل» .
وروى الطيالسي وابن حبان ومسدد والحاكم والطبراني في الكبير برجال ثقات عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- «إن ناسا من الأنصار أتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: إن صاحبا لنا مرض مرضا شديدا، وإنه نعت له الكي أفنكويه؟ فسكت، فعاودناه فسكت، ثم عاودناه الثالثة، فقال: «ارصفوه أحرقوه، وكره ذلك» ، وفي لفظ أبي يعلى: «إن شئتم فاكووه وإن شئتم فارصفوه»
[ (1) ] .
وروى مسدد وابن أبي شيبة بسند ضعيف عن جابر- رضي الله تعالى عنه-: قال: اشتكى رجل منا شكوى شديدة فقال الأطباء: لا يبرأ إلا بالكيّ، فأراد أهله أن يكووه فقال بعضهم: لا حتى نستأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاستأمروه فقال: «لا» ، فبرأ الرجل فلما رآه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «هذا صاحب بني فلان» ؟ قالوا: نعم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن هذا لو اكتوى لقال النّاس: إنما برئ بالكي» .
وروى الحارث مرسلا عن العلاء بن زياد- رحمه الله تعالى- أن امرأة أتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بابن لها قد سقي بطنه فقالت: يا رسول الله إن ابني لمصاب فما ترى أفأكويه فقال: «لا تكويه» فأجمعت أن لا تكويه، فضربه بعير فخبطه أو لبطه وفقأ بطنه، فبرأ، فرجعت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله استأذنتك في ابني أن تكويه فنهيتني، فمرّ به بعير فخبطه أو لبطه ففقأ بطنه وبزأ، فقال: أما إني لو أذنت لك لزعمت أن النار هي التي شفته.
الثّالث: في كيّه- صلى الله عليه وسلم- أصحابه بيده.
روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال:
[رمي سعد بن معاذ- رضي الله تعالى عنه-] [ (2) ] في أكحله فحسمه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيده بمشقص ثم [ورمت فحسمه الثّانية] [ (3) ] .
__________
[ (1) ] انظر المجمع 5/ 102.
[ (2) ] سقط في أ.
[ (3) ] أخرجه مسلم 4/ 1731.(12/159)
وروى الطبراني برجال الصحيح عن محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال:
حدثني عمي أن أبا أمامة أصابه وجع يسميه أهل المدينة الذبح، فكواه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بيده [ (1) ] .
وروى أبو يعلى برجال الصحيح عن أبي بن كعب- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كواه.
الرابع: في وصفه- صلى الله عليه وسلم- الكيّ لبعض أصحابه.
روى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجة عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال:
رمي أبي بن كعب- رضي الله تعالى عنه- يوم الأحزاب في أكحله فبعث إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه عليه.
وروى الطبراني في الكبير عن كعب بن مالك- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاد البراء بن معرور وقد أخذته ذبحة فأمر من يبطه بالنار حتى يوجهه [ (2) ] .
تنبيهات
الأول: قال الأطباء: إنما يستعمل الكي في الخلط الباغي الذي لا تنحسم مادته إلا به، ولهذا وصفه- صلى الله عليه وسلم- ثم نهى عنه، وإنما كرهه لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم، ولهذا كانت العرب تقول في أمثلتها: «آخر الدواء الكي» والنهي فيه محمول على الكراهة، أو على خلاف الأولى لما يقتضيه مجموع الأحاديث.
وقيل: إنه خاص لعمران بن حصين، لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خطر فنهاه عن كيه، فلما اشتد عليه كواه فلم ينجح قال ابن قتيبة: الكي نوعان: كي الصحيح لئلا يعتلّ، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى، لأنه يريد أن يدفع عنه القدر، والقدر لا يدافع.
والثاني: كي الجرح إذا فسد، والعضو إذا قطع فهو الذي شرع التداوي له، فإن كان الكي لأمر محتمل فهو خلاف الأولى، لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق، قال الحافظ: وحاصل الجمع أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه أرجح من فعله، ولذا وقع الثناء على تركه، وأما النهي عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعين طريقا للشفاء.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 101 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 102 وقال: رواه الطبراني وفيه عيسى بن عبد الرحمن من ولد النعمان بن بشير وهو ضعيف.(12/160)
الباب الرابع والعشرون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في الحمى
روى الإمام أحمد برجال ثقات، وفيه راو لم يسم، عن أبي بشير الأنصاري- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال في الحمّى: «أبردوها بالماء، فإنّها من فيح جهنّم»
[ (1) ] .
وروى الطبراني والبزّار عن سمرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمّى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد» وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا حمّ دعى بقربة من ماء فأفرغها على قرنه فاغتسل.
وروى الطبراني في الكبير برجال ثقات عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: إذا حمّ أحدكم فليسنّ عليه من الماء البارد ثلاث ليال.
وروى الطبراني عن عبد الرحمن بن المرفع أن المسلمين في غزوة خيبر وقعوا في الفواكه فأخذتهم الحمّى، فشكوا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إن الحمّى رائد الموت، وهي سجن الله في الأرض فبرّدوا لها الماء في الشّنان وصبّوا عليكم فيما بين الأذانين أذان المغرب وأذان العشاء» ، ففعلوا فذهبت عنهم فأتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبروه بذلك فقال:
«إنه لا وعاء إذا ملئ شرّ من بطن قال: فإن كنتم لا بد فاعلين فاجعلوها ثلثا للطّعام وثلثا للشّراب وثلثا للرّيح أو النّفس»
[ (2) ] .
وروى أبو يعلى والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم والنسائي والضياء عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: «إذا حمّ أحدكم فليسنّ عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر» .
وروى الإمام أحمد والشيخان عن ابن عباس والإمام أحمد والبيهقي والترمذي والنسائي وابن ماجة عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمّى من فيح جهنم فأبردوها بالماء» .
وروى والبيهقي والترمذي وابن ماجة عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- والإمام أحمد والبيهقي والترمذي والنسائي وابن ماجة عن رافع بن خديج والبيهقي والترمذي وابن ماجة عن أسماء بنت أبي بكر- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمّى من فيح جهنّم فأبردوها بالماء» .
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمّى كير من جهنّم، فما أصابت المؤمن منها كان حظه من النار» .
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 97.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 97، 98 وقال: رواه الطبراني وفيه المحبر بن هارون ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.(12/161)
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الحمّى كير من جهنّم، فنحّوها عنكم بالماء البارد» .
وروى الطبراني في الكبير عن أبي ريحانة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمّى كير من جهنّم وهي نصيب المؤمن من النار» .
وروى الطبراني في الأوسط عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمّى حظّ أمّتي من النار» .
وروى ابن قانع عن أسد بن كرز أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمّى تحتّ الخطايا كما تحتّ الشّجرة ورقها» .
وروى ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمّى رائد الموت وسجن الله في الأرض» .
وروى البيهقي في الشعب عن الحسن مرسلا، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمى رائد الموت وسجن الله في الأرض للمؤمن، يحبس بها عبده إذا شاء ثم يرسله إذا شاء، ففتّروها بالماء» .
وروى البزار عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمّى حظّ كلّ مؤمن من النار» .
وروى ابن أبي الدنيا عن عثمان أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمّى حظ المؤمن من النّار يوم القيامة» .
وروى القضاعي عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحمّى حظّ كلّ مؤمن من النّار، وحمّى ليلة تكفّر خطايا سنة مجرّمة.
وروى الطبراني في الكبير والحاكم عن سمرة- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا حمّ دعا بقربة من ماء فأفرغها على قرنه فاغتسل.
وروى الطبراني في الكبير عن عبد ربه بن سعيد بن قيس عن عمته أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أمّ ملدم تخرج خبث ابن آدم كما يخرج الكير خبث الحديد» .
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تسبّوا الحمّى فإنّها تنفي الذّنوب كما ينفي الكير خبث الحديد» .
وروى الإمام أحمد والترمذي وقال حسن غريب، وابن السني في عمل اليوم والليلة، وأبو نعيم في الطب، والطبراني في الكبير عن ثوبان- رضي الله تعالى عنه- قال: قال(12/162)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أصاب أحدكم الحمى، فإنّ الحمّى قطعة من نار» ولفظ الطبراني:
«من نار جهنّم فليطفئها عنه بالماء» زاد الطبراني «البارد فلينفع في نهر جار، ويستقبل جريته ويقول: بسم الله، اللهمّ اشف عبدك، وصدّق رسولك» هذا بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ في ثلاث فخمس، فإن لم يبرأ فسبع، فإن لم يبرأ فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله تعالى.
وروى النسائي وأبو يعلى والحاكم وأبو نعيم والضياء عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا حمّ أحدكم فليسنّ عليه الماء البارد ثلاث ليال من السّحر» .
قال الضياء وروى: «فليشن» أي بالمعجمة ولعلة تصحيف.
تنبيهات
الأول:
قوله- صلى الله عليه وسلم- «فأبردوها بالماء» زاد في رواية «البارد»
قيل: المراد بغسله بالماء إن قيل: الإبراد والإطفاء بحقن الحرارة إلى الباطن فتزيد الحمى وربما يهلك؟ أجيب بأن المراد من ذلك الحمى الصفراوية، فإنّ أصحاب الصناعة الطبية يسلمون أن تبريد صاحبها أن يستقي بالماء البارد ويغسل أطرافه به، وقيل: المراد الرش بين البدن والثوب، وقيل: المراد التصدق بالماء عن المريض ليشفه الله تعالى، لما رواه الإمام أحمد وغيره وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمّى ما فعلته أسماء بنت الصديق- رضي الله تعالى عنها- فإنها كانت ترش على البدن المحموم شيئا من الماء بين يديه وثوبه، فيكون ذلك من باب النّشرة المأذون فيها، والصحابي ولا سيما مثل أسماء التي كانت ممن يلازم بيت النبي- صلى الله عليه وسلم- أعلم بالمراد من غيرها.
الثاني: اختلف في نسبتها إلى جهنّم فقيل: حقيقة، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة، وقيل: بل الخبر ورد مورده التشبيه والمعنى أن حر الحمى شبيه بحر جهنم، تنبيها للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرّها.
الثالث: قال ابن القيم: قوله «بالماء» فيه قولان:
أحدهما: أنه كل ماء وهو الصحيح.
الثاني: أنه ماء زمزم.(12/163)
واختلف من قال: إنه على عمومه هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله على قولين والصحيح أنه استعماله.
قال الإمام المازري: لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجا إلى التفصيل حتى أن المريض يكون الشيء دواء له في ساعة، فيصير داء له في الساعة التي تليها لعارض يعرض له، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء من حاله ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء والتأثير المألوف وقوة الطباع، ويحتمل أن يكون هذا في وقت مخصوص، فيكون من الخواص التي اطلع عليها النبي- صلى الله عليه وسلم- بالوحي، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب.
الخامس: جعل ابن القيم خطابه- صلى الله عليه وسلم- خاصا بأهل الحجاز وما والاهم إذا كان أكثر الحميّات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس، قال: وهذا ينفع فيها الماء البارد شربا واغتسالا لأن الحمى حرارة تستعمل في القلب، وتنبت منه بتوسط الروح والدم في الشرايين والعروق إلى جميع البدن، وهي قسمان: عرضية وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس ونحو ذلك ومرضية: وهي ثلاثة أنواع، وتكون من مادة ومنها ما يسخن جميع البدن، فإن كان مبدأ تعلقها بالروح سميت حمّى يوم، لأنها في الغالب تزول في يوم، ونهايتها ثلاثة أيام، وإن كان مبدأ تعلقها بالأخلاط سميت عفنية، وهي أربعة أصناف: صفراوية وسوداوية وبلغميّة ودموية.
وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الإفراد والتركيب انتهى.(12/164)
الباب الخامس والعشرون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في المعيون
وفيه أنواع:
الأول: في أن العين حقّ وجلّ من يموت بها.
روى أبو يعلى والطيالسي والبخاري في التاريخ والحكيم والضياء والبزار برجال ثقات غير طالب بن حبيب بن عمر بن سهل الأنصاري وهو ثقة، قاله الهيثمي عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «جلّ» وفي لفظ «أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله عز وجل وكتابه وقدره بالأنفس يعني بالعين»
[ (1) ] .
وروى الإمام مالك [ ... ] .
وروى أبو داود الطيالسي والإمام أحمد وابن حبان والحاكم والطبراني في الكبير والضياء عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «على ما يقتل أحدكم أخاه ألا برّكت؟ إنّ العين حق توضأ له» وفي لفظ «اغتسل له إذا رأى أحدكم شيئا يعجبه فليبرّك»
[ (2) ] .
وروى النسائي وابن ماجه والطبراني في الكبير عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف والطبراني في الكبير عنه عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «على ما يقتل أحدكم أخاه، إذا رأى من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة»
[ (3) ] .
وروى ابن قانع عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «على ما يقتل أحدكم أخاه، وهو عن قتله غنيّ، إن العين حق فمن رأى من أحد شيئا يعجبه أو من ماله فليبرك عليه فإن العين حق» .
وروى الإمام أحمد والبزار برجال ثقات والبيهقي عن أبي ذر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن العين لتولع الرّجل بإذن الله تعالى حتى يصعد حالقا ثم يتردّى منه»
[ (4) ] .
وروى الطبراني في الكبير عن أسماء بنت عميس- رضي الله تعالى عنها- قالت:
سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «نصف ما يحفر لأمّتي من القبور من العين»
[ (5) ] .
__________
[ (1) ] انظر المجمع 5/ 109.
[ (2) ] أخرجه ابن حبان في موارد الظمآن (1424) .
[ (3) ] أخرجه البيهقي 9/ 351.
[ (4) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 109 وقال: رواه أحمد والبزار ورجال أحمد ثقات.
[ (5) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 109 وقال: رواه الطبراني وفيه علي بن عروة الدمشقي وهو كذاب.(12/165)
وروى الإمام أحمد والطبراني في الكبير والحاكم بسند لا بأس به عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «العين حقّ حتّى يستنزل الحالق» .
ورواه مسلم عنه بلفظ: [ «العين حقّ ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين» .
ورواه الإمام أحمد برجال الصحيح والكجي في سننه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-] : [ (1) ] «العين حقّ، ويختص بها الشيطان وحسد بني آدم» .
وروى ابن ماجة والحاكم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[: «استعيذوا بالله من العين فإنّ العين حق» .
وروى ابن عدي وأبو نعيم في الحيلة عن جابر وابن عدي عن أبي ذر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-] [ (2) ] قال: «العين حقّ تدخل الجمل القدر، والرّجل القبر» .
وروى الإمام أحمد ومسلم عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «العين حقّ ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا» .
وروى ابن ماجه عن عامر بن ربيعة والإمام أحمد والبيهقي وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «العين حق» .
الثّاني: في أمره- صلى الله عليه وسلم- بالاسترقاء للمعيون.
روى أبو يعلى والطبراني برجال الصحيح إلا شيخه سهل بن مودود فيحرر حاله عن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: دخل علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعندنا صبي يشتكي فقال: «ما هذا» ؟ قلنا: إنما به العين قال: «ألا تسترقون له من العين»
[ (3) ] .
وروى البيهقي عنها قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «استرقوا لها فإنّ لها النّظرة» .
وروى الحكيم [عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أفلا استرقيتم لها فإنّ ثلث منايا أمّتي من العين» .
روى البيهقي عنها قالت: قالت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «استرقوا لها فإنّ لها النّظرة» .
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.
[ (2) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 115 وقال: رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه سهل بن مودود ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.(12/166)
وروى البزار] [ (1) ] عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من رأى شيئا فأعجبه» فقال: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضرّه» .
وروى البزار برجال ثقات عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا رقية إلّا من عين أو حمّة»
[ (2) ] .
وروى الطبراني بسند حسن عن عبادة بن الصامت- رضي الله تعالى عنه- قال: كنت أرقى من حمة العين في الجاهليّة، فلما أسلمت ذكرتها لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أعرضها عليّ» ، فعرضتها عليه، فقال: «ارق بها فلا بأس» ، ولولا ذلك ما رقيت بها إنسانا أبدا
[ (3) ] .
وروى البزار عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضرّه» .
وروى مسلم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأمر أن يسترقى من العين.
الثّالث: في أمره- صلى الله عليه وسلم- العائن بالوضوء وصبّه على المعين
روى الإمام مالك وأحمد وابن معين برجال ثقات عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأمر بالذي أصاب بعين أن يتوضّأ ويغتسل به المعين» [ (4) ] .
روى الإمام مالك وأحمد برجال الصحيح عن محمد بن أبي أمامة، وابن أبي شيبة والطبراني برجال الصحيح عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه وابن أبي شيبة والطبراني والنسائي برجال الصحيح عن عامر بن ربيعة والإمام أحمد برجال الصحيح والطبراني عن [ ... ] قال سهل: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج وسار نحو مكة حتى إذا كان بشعب الخرّار من الجحفة قال عامر: انطلقت أنا وسهل بن حنيف نلتمس الخمر فوجد خمرا وغديرا، وكان أحدنا يستحي أن يغتسل وأحد يراه، فاستتر مني حتى إذا رأى أن قد فعل نزع جبته عليه من كساء ثم دخل الماء، فنظرت إليه نظرة فأعجبني خلقه قال محمد: وكان سهل شديد البياض حسن الخلق، وقال سهل: فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فلبط به حتى ما يعقل من شدة الوجع، وقال عامر: فأصبته بعيني فأخذه قعقعة وهو في الماء فانطلقت إلى
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.
[ (2) ] أخرجه أحمد 1/ 271، وذكره المتقي الهندي في كنز العمال (28365) .
[ (3) ] انظر المجمع 5/ 114.
[ (4) ] أخرجه أبو داود (3880) .(12/167)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبرته الخبر، وقال محمد: فوعك سهل مكانه فاشتد وعكه فأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقيل له: هل لك في سهل ما يرفع رأسه؟ وكان قد اكتتب في جيش فقالوا: هو غير رابح معك يا رسول الله، والله ما يفيق،
قال عامر: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قوموا، فأتاه فرفع عن ساقه، ثم دخل إليه الماء، فلما أتاه ضرب صدره فقال: «اللهم أذهب حرّها وبردها ووصبها» ثم قال: «قم» فقام وفي حديث محمد والزهري فقال: «من تتّهمون به» فقال عامر: فدعاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتغيظ عليه، وقال: «علام يقتل أحدكم أخاه، إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه فليدع بالبركة» ، وفي رواية: «ألا برّكت» ثم دعا بماء في قدح فأمر عامر أن يتوضأ، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف قدميه وداخلة إزاره في قدح، وأمره أن يصب الماء عليه من حلقه على رأسه وظهره ثم يكفي القدح وراءه، ففعل به مثل ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس،
زاد الطبراني: قال ابن شهاب: الغسل الذي أدركت عليه علماءنا يصنعون أن يؤتى الرجل الذي يعين صاحبه بالقدح فيه الماء، فيمسك له مرفوعا من الأرض، فيدخل الذي يعين صاحبه يده اليمنى في الماء ويمضمض ثم يمجه في القدح، ثم يدخل يده اليمنى في الماء فيصب على وجهه الماء صبّة واحدة في القدح، ثم يدخل يده اليمنى ويغسل يده اليسرى صبة واحدة في القدح إلى المرفقين، ثم يدخل يديه جميعا فيغسل صدره صبة واحدة، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفق يده اليمنى صبة واحدة في القدح وهو في يده إلى عنقه، ثم يفعل ذلك في مرفق يده اليسرى، ثم يفعل مثل ذلك على ظهر قدمه اليمنى من عند أصول الأصابع واليسرى كذلك، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ظهر ركبته اليمنى، ثم يفعل باليسرى كذلك، ثم يغمس داخل إزاره اليمنى، ثم يقوم الذي في يده القدح بالقدح فيصبه على رأس المعيون من ورائه، ثم يكفأ القدح على ظهر الأرض من ورائه [ (1) ] .
الرّابع: في أمره- صلى الله عليه وسلم- بنصب الجماجم في الزّرع لأجل المعين إن صح الخبر.
روى البزار بسند ضعيف عن علي- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر بالجماجم أن تنصب في الزّرع فقلت: من أجل ماذا؟ قال: «من أجل العين»
[ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 3/ 486 والبيهقي في الشعب 6/ 163. وابن كثير في التفسير 8/ 232، وذكره الهيثمي في المجمع 5/ 111، 112.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 111 وقال: رواه البزار وفيه الهيثم بن محمد بن حفص وهو ضعيف ويعقوب بن محمد الزهري ضعيف أيضا.(12/168)
تنبيهات
الأول: العين نظر باستحسان مشوب، تحل من خبيث الطّبع يحصل للمنظور منه ضرر.
قال بعضهم: وإنما يحصل ذلك من سم يصل من عين العائن في الهوى إلى بدن المعيون، ونظير ذلك الحائض تضع يديها في إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لم يفسد، وأن الصحيح ينظر في عين الأرمد فيرمد، وينشاب أحد بحضرته فينشاب هو.
الثاني:
قوله- صلى الله عليه وسلم- العين حقّ
أي: الإصابة بها شيء ثابت موجود، قال الإمام المازري: أخذ بظاهر الحديث الجمهور، وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى، لأن الشارع أخبر بوقوعه.
الثالث: استشكل بعض الناس هذه الإصابة فقال: كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون؟
وأجيب بأن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهوى إلى بدن المعيون، وقد نقل عن بعض من كان معيانا أنه قال: إذا رأيت شيئا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني، ومن ذلك الحائض إذا وضعت يدها في إناء اللبن أفسدته، ولو وضعتها بعد طهرها لم تفسد.
الرابع: قال الإمام المازري: الذي يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تصدر عن نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص آخر، خلافا لبعض الأطباء، يعني القائل بأن العائن يبعث من عينه قوة سميّة تتصل بالمعيون فيهلك أو يفسد، وهو كإصابة السم وقد أجرى الله تعالى العادة بحصول الضرر عندها خلافا للفلاسفة وقد أجرى الله تعالى العادة بوجود كثير من القوى والخواص في الأجسام والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتسمه من الخجل فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك، وكذا الاصفرار عند رؤية من يخافه وكثير من الناس يسقم لمجرد النظر إليه، ويضعف قواه، وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات أشد ارتباطا بالعين وليست هي المؤثرة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وكيفياتها الخبيثة وخواصها، فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية لخبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة.
والحاصل أن التأثير بإرادة الله تعالى، وخلقه ليس مقصورا على الاتصال الجسماني، بل تارة يكون به وتارة يكون بالمعاينة، وأخرى بمجرد الرؤية، وأخرى بتوجيه الروح.
الخامس: قال ابن القيم: والمقصود العلاج النبوي لهذه العلة، فمن التعوّذات والرقى الإكثار من قراءة المعوّذتين والفاتحة وآية الكرسي.(12/169)
والتعوّذ النبوي نحو: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة.
ونحو: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء ومن شر ما خلق وذرأ وبرأ ومن شر ما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن.
وإذا كان يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين فليدفع شرها بقوله «اللهم بارك عليه»
كما قال- صلى الله عليه وسلم- لعامر بن ربيعة لما عان [سهل بن حنيف] [ (1) ] : ألا باركت عليه.
السادس: ومما يدفع إصابة العين قوله «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» وما رواه مسلم أن جبريل رقى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: «بسم الله أرقيك، من كل شر يؤذيك، ومن شر كل ذي نفس أو عين حاسدة، الله يشفيك، بسم الله أرقيك» .
وروي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها-: «بسم الله يبرئك، من كل داء يؤذيك ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل ذي عين» .
السابع: قال الإمام المازري: المراد بداخلة الإزار الطرف المتدلي مما يلي حقوه الأيمن، قال: وظن بعضهم أنه كناية عن الفرج، وزاد القاضي عياض: أن المراد ما يلي جسده من إزاره، وقيل: موضع الإزار من الجسد، وقيل: وركه، لأنه معقد الإزار، قال المازري: وهذا المعنى مما يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل فلا يرد لكونه لا يعقل معناه.
وقال ابن العربي: إن توقف مبتدع، قلنا له: الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة، أو يتفلسف: فالرد عليه أظهر، لأن الأدوية عنده تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى ما يدركه ويسمون ما هذا سبيله [الخواص.
تنبيه في بيان غريب ما سبق] [ (2) ] : ...
__________
[ (1) ] في أشهر بن ربيع.
[ (2) ] سقط في ب.(12/170)
الباب السادس والعشرون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في المجذومين
وروى أبو يعلى وعبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند بسند لا بأس به، عن علي وأبو يعلى والطبراني بسند لا بأس به، عن الحسن بن علي، والطبراني برجال ثقات عن الوليد ابن حماد شيخه عن معاذ بن جبل، والطبراني والطيالسي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تديموا النّظر إلى المجذومين» زاد علي وابنه «وإذا كلّمتموهم فليكن بينكم وبينهم قيد رمح»
[ (1) ] .
وروى ابن السني وأبو نعيم في الطب عن عبد الله بن أبي أوفى، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «كلّم المجذوم وبينك وبينه قيد رمح أو رمحين»
[ (2) ] .
وروى الحارث بسند ضعيف وابن عدي عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرّ بعسفان وادي المجذومين فأسرع السير، وقال: إن كل شيء من الدّاء يعدي يعني الجذام» .
وروى أبو نعيم في الطب عن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «غبار المدينة يبرئ من الجذام» .
وروى البخاري في التاريخ وأبو نعيم في الطب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «اتقوا المجذوم كما يتّقى الأسد» .
وروى ابن السني وأبو نعيم معا في الطب عن أبي بكر بن محمد عن سالم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «غبار المدينة يبرئ من الجذام» .
[وروى ابن سعد عن عبد الله بن جعفر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال «اتقوا صاحب الجذام كما يتّقى السّبع إذا هبط واديا فاهبطوا غيره
[ (3) ] » ] [ (4) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «غسل القدمين بالماء البارد بعد الخروج من الحمّام أمان من الجذام» .
وروى ابن النجار عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نبات الشّعر في الأنف أمان من الجذام»
[ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن ماجة (3543) ، وانظر المجمع 5/ 101.
[ (2) ] ذكره المتقي الهندي في الكنز (28329) .
[ (3) ] ذكره المتقي الهندي في الكنز (28322) .
[ (4) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.
[ (5) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 102، 103 وقال: رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وفيه أبو الربيع السمان وهو ضعيف.(12/171)
وروى الأربعة والحاكم عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «كل بسم الله، ثقة بالله، وتوكّلا على الله»
[ (1) ] .
وروى الطحاوي عن أبي ذر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «كل مع صاحب البلاء تواضعا لربّك وإيمانا»
[ (2) ] .
وروى الحارث عن ضمرة بن حبيب قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نهى عن التخلل بعود الرّيحان والرّمّان، وقال: «إنّه يحرّك عرق الجذام»
[ (3) ] .
وروى البيهقي وأبو داود عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فمن أعدى الأوّل»
[ (4) ] .
وروى الإمام أحمد والبيهقي وأبو داود عن أبي هريرة والإمام أحمد ومسلم عن السائب ابن يزيد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة»
[ (5) ] .
وروى الإمام أحمد ومسلم عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا غول»
[ (6) ] .
وروى مسلم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا عدوى ولا هامة وطيرة وأحبّ الفأل الصّالح»
[ (7) ] .
وروى الإمام أحمد والبيهقي عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا عدوى ولا طيرة وإنّما الشّؤم في ثلاثة في الفرس والمرأة والدّار»
[ (8) ] .
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن سعد بن مالك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا هامة ولا عدوى ولا طيرة وإن تكن الطيرة في شيء ففي الفرس والمرأة والدّار»
[ (9) ] .
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا طيرة وخيرها الفأل، الكلمة الصّالحة يسمعها أحدكم»
[ (10) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (1817) ، وابن ماجة (3542) .
[ (2) ] انظر ضعيف الجامع (4203) .
[ (3) ] انظر اللآلئ (2/ 257) ، والمنهاج السوي ص 370.
[ (4) ] أخرجه مسلم 4/ 1742 (2220) .
[ (5) ] أخرجه مسلم 4/ 1743 (2220) .
[ (6) ] أخرجه مسلم 4/ 1744 (2222) .
[ (7) ] أخرجه مسلم 4/ 1746.
[ (8) ] أخرجه البخاري كتاب الطب باب لا عدوى (5753) .
[ (9) ] أخرجه أبو داود 4/ 236 (3921) .
[ (10) ] أخرجه مسلم 4/ 1745 (2223) .(12/172)
وروى الإمام أحمد والبيهقي وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصّالح، والفأل الصّالح: الكلمة الحسنة» .
وروى أبو داود عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا نوء ولا صفر»
[ (1) ] .
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: [ «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة» قيل: يا رسول الله أرأيت البعير يكون به الجرب فيجرب الإبل كلّها قال:
«ذلكم القدر فمن أجرب الأوّل»
[ (2) ] .
وروى الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:] [ (3) ] «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر وفرّ من المجذوم كما تفرّ من الأسد»
[ (4) ] .
وروى ابن السني عن عقبة بن عامر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أصدق الطّيرة الفأل، ولا تردّ مسلما، وإذا رأيتم من الطّيرة شيئا تكرهونه فقولوا: اللهم لا يأتي بالحسنات إلّا أنت ولا يذهب بالسّيّئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بالله»
[ (5) ] .
وروى أبو داود عن قبيصة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «العيافة والطيرة والطّرق.
الجبت»
[ (6) ] .
وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب والأربعة والحاكم عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الطّيرة شرك»
[ (7) ] .
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الطّيرة في الدّار والمرأة والفرس»
[ (8) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود 4/ 232 (3912) .
[ (2) ] أخرجه ابن ماجة (3540) .
[ (3) ] سقط في ب.
[ (4) ] أخرجه البخاري كتاب الطب باب الجذام 7/ 164.
[ (5) ] ذكره المتقي الهندي في الكنز (28584) .
[ (6) ] أخرجه أبو داود 4/ 228 (3907) .
[ (7) ] أخرجه الحاكم 1/ 18.
[ (8) ] انظر المجمع 5/ 107.(12/173)
وروى الإمام أحمد بسند لا بأس به عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا عدوى ولا طيرة ولا حسد والعين حقّ»
[ (1) ] .
وروى البزار برجال ثقات عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا عدوى ولا هامة فمن أعدى الأوّل»
[ (2) ] .
وروى أبو يعلى بسند لا بأس به عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا هامة ولا صفر ولا يعدي سقيم صحيحا»
[ (3) ] .
وروى أبو يعلى والطبراني في الكبير عن عمير بن سعد قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ألم تر إلى البعير يكون في الصّحراء ثمّ يصبح في كريه أو في مراحه، لكنه لم يكن قبل ذلك، فمن أعدى الأوّل»
[ (4) ] .
وروى الطبراني في الكبير برجال الصحيح عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا عدوى» فقال أعرابي: يا رسول الله، فإنا نأخذ الشّاة الجربة فنطرحها في الغنم فتجرب، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: يا أعرابي من أجرب الأولى
[ (5) ] .
وروى الإمام أحمد والطبراني في الكبير بسند حسّن الحافظ إسناده عن ابن عمر قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من ردّته الطّيرة من حاجة فقد أشرك» ، قالوا: يا رسول الله ما كفّارة ذلك؟ قال: «يقول: اللهمّ لا خير إلا خيرك، ولا طير إلّا طيرك، ولا إله إلا أنت» .
وروى البزار نحوه عن بريدة.
وروى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «كلوا الزّيت وادّهنوا به، فإنّ فيه شفاء من سبعين داء، منها الجذام»
[ (6) ] .
وروى الحكيم والبغوي عن بريدة قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يتطيّر ولكن يتفاءل» [ (7) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن ضمرة بن حبيب قال: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 104 وقال: رواه أحمد وفيه رشدين بن سعد وهو ضعيف وقد وثقه وبقية رجاله ثقات.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 105 وقال: رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح خلا علي بن الحسين الدرهمي وهو ثقة.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 104 وقال: رواه أبو يعلى وفيه ثعلبة بن يزيد الحماني، وثقه النسائي وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات.
[ (4) ] انظر المجمع 5/ 105.
[ (5) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 105 وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح.
[ (6) ] أخرجه أبو نعيم في الطب من طريق الطبراني، انظر السلسلة الضعيفة 2/ 7.
[ (7) ] ذكره المتقي الهندي في الكنز (18377) .(12/174)
التخلّل بعود الرّيحان والرّمّان، وقال: «إنه يحرّك عروق الجذام» .
وفيه عن قبيصة بن ذؤيب عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تتخللوا بقصب آس ولا قصب ريحان، فإني أكره أن يحرك عرق الجذام» .
وفيه عن الأوزاعي مرفوعا أنه- عليه الصلاة والسلام- نهى عن التخلّل بالآس وقال: «إنه يسقي عرق الجذام»
[ (1) ] .
وفيه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما من معمّر يعمّر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء، الجنون والجذام والبرص»
[ (2) ]
وفيه عنه قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا بلغ العبد أربعين سنة عوفي من أنواع البلاء: الجنون والجذام والبرص»
[ (3) ] .
وفيه عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الشعر في الأنف أمان من الجذام» .
وروى [عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الشّعر في الأنف والأذنين أمان من الجذام» ]
[ (4) ] .
وفيه عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تكرهوا أربعة فإنّها لأربعة، لا تكرهوا الرّمد، فإنه يقطع عروق العمى، ولا تكرهوا الزّكام فإنه يقطع عروق الجذام، ولا تكرهوا السّعال. فإنه يقطع عروق الفالج، ولا تكرهوا الدّماميل فإنها تقطع عروق البرص»
[ (5) ] .
تنبيهات
الأول: قوله- صلى الله عليه وسلم- لا عدوى: أي لا سراية للمرض عن صاحبه إلى غيره وقيل: نهى عن أن يقال ذلك أن يعتقد، وقيل: هو خير أي: لا تقع عدوى بطبعها، ولكن قد تكون بقضاء الله وقدره وإجرائه العادة في العدوى من المجذوم بفعل الله وخلقه.
وقال ابن بطال: لا عدوى عام مخصوص. أي: لا عدوى إلا من المجذوم وقوله «لا نوء» [ ... ] .
__________
[ (1) ] انظر المنهج السوي 370.
[ (2) ] أخرجه أحمد 3/ 217.
[ (3) ] انظر كنز العمال (42659) .
[ (4) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.
[ (5) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 7/ 2697.(12/175)
وقوله ولا طيرة- بكسر الطاء وفتح التحتية، وقد تسكن- التشاؤم كما كانت العرب تعتقده من التطيير بالطير وغيره، إذ كانوا ينفرون الظباء والطيور فإذا أخذت ذات اليمين تركوا به ومضوا في حوائجهم، وإذا أخذت ذات الشمال رجعوا عن ذلك وتشاءموا بها فأبطله الشرع، وأخبر أنه لا تأثير له في نفع ولا ضرّ، ولا يعارضه الشؤم في ثلاث لأنه في معنى المستثنى منه، فهو كما قال الخطابي عام مخصوص.
وقوله: «ولا هامة» بتخفيف الميم على الصحيح طائر، وقيل: هو البومة قالوا: إذا سقطت على دار أحدهم وقعت فيه مصيبة، وقيل: إنهم كانوا يعتقدون أن عظام الميت تنقلب هامة وتطير.
وقوله: ولا صفر بفتحتين قيل: حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس، وهي:
أعدى من الجرب، وقيل: هو داء يأخذ البطن، وقيل: هو تأخير المحرّم إلى صفر.(12/176)
الباب السابع والعشرون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الجسد المقمل وكذا الرأس
روى البزار عن عبد الرحمن بن عوف أنه شكا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الدّوابّ فأمره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يلبس الحرير.
وروى البخاري عنه وأبو نعيم في الطب عن أنس أن الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف شكيا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- القمل فرخص لهما في لبس الحرير.
وفي رواية: أرخص لهما في لبس الحرير من حكّة كانت بهما، فيحتمل كما قال الحافظ أن تكون إحدى العلتين بأحد الرجلين، أو أن الحكة حصلت من القمل، فنسب العلة تارة إلى سبب، وتارة إلى المسبب [ (1) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله تعالى عنه- أنه شكا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- القمل فرخّص له في لبس الحرير قميص أبيض.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 118، وأحمد (2920) .(12/177)
الباب الثامن والعشرون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- السحر
روى الإمام أحمد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «في عجوة أوّل البكرة على ريق النّفس شفاء من كل سحر أو سم» .
وروى مسلم عنها أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن في عجوة العالية شفاء وإنها ترياق أول البكرة على الرّيق»
[ (1) ] .
وروى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً «من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضرّه في ذلك اليوم سم ولا سحر» وفي رواية لمسلم «من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سمّ حتى يمسي» [ (2) ] .
تنبيهات
الأول: قال ابن العربي: السحر، قول مؤلف يعظم به غير الله الكائنات والمقادير وهو من الكبائر بالإجماع، قال مالك: السّاحر كافر يقتل ولا يستتاب، ولا تقبل توبته.
وقال النووي: قد يكون كفرا وقد لا يكون كفرا، بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كفر وإلا فلا وأما تعمله فحرام وإذ لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عذّر فاعله واستتيب منه، ولا يقتل عندنا، وإن مات قبلت توبته.
قال القاضي عياض: ويقول مالك: قال أحمد بن محمد بن حنبل وهو يروي عن جماعة من الصحابة والتابعين.
الثاني: اختلف هل له حقيقة، قال النووي: وهو الصحيح، وبه قطع الجمهور وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة، أو لا حقيقة له، وهو اختيار أبي جعفر الأسترآباذي من الشافعية وأبي بكر الرازي من الحنفية وطائفة.
وقال الحافظ: محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب أعيان أو لا؟ فمن قال: إنه تخييل فقط منع من ذلك، والقائلون بأن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعا من الأمراض، أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانا مثلا وعكسه؟ فالذي عليه
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم (2048) ، وأحمد 6/ 105.
[ (2) ] أخرجه البخاري في الطب (5769) .(12/178)
الجمهور هو الأول، وقال الإمام المازري- رضي الله تعالى عنه-: جمهور العلماء على إثبات السحر، لأن العقل لا ينكر أن الله تعالى قد خرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق أو تركيب أجسام، أو مزج بين قوى على ترتيب مخصوص ونظير ذلك ما وقع من حذاق الأطباء من مزج بعض العقاقير ببعض حتى الضار منها بمفرده فيصير نافعا بالتركيب [وقيل: لا يزيد تأثير السحر على ما ذكر الله، لأن المقام مقام تهويل، والصحيح من جهة العقل أن] [ (1) ] يقع به أكثر من ذلك، والآية وإن كانت ظاهرة في ذلك فليست نصا في منع الزيادة.
قال الإمام المازري: الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك إنما تقع غالبا اتفاقا، والمعجزة تمتاز عن الكرامة بالتحدّي.
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/179)
الباب التاسع والعشرون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في الرمد وضعف البصر
روى الإمام أحمد برجال الصحيح والشيخان وابن ماجه وأبو داود والترمذي عن سعيد ابن زيد وأبو نعيم في الطب عن ابن عباس وعن عائشة- رضي الله تعالى عنهم- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الكمأة من المنّ» وفي لفظ: الذي انزل الله على بني إسرائيل وفي لفظ:
«المن والسلوى وماؤها شفاء للعين»
[ (1) ] .
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «خير أكحالكم الإثمد ينبت الشّعر ويجلو البصر»
[ (2) ] .
وروى الطبراني بسند جيد عن علي- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالإثمد، فأنه منبتة للشّعر، مذهبة للقذى، مصفاة للبصر»
[ (3) ] .
وروى الترمذي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اكتحلوا بالإثمد فإنه يجلو البصر وينبت الشّعر»
[ (4) ] .
وروى البيهقي في الشعب عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبدا»
[ (5) ] .
وروى الإمام أحمد عن معبد بن هوذة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «اكتحلوا بالإثمد المروّح، فإنه يجلو البصر وينبت الشّعر»
[ (6) ] .
وروى البخاري في التاريخ عن النعمان الأنصاري قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الإثمد يجلو البصر وينبت الشّعر»
[ (7) ] .
وروى أبو نعيم في الحلية والطيالسي والبيهقي عن ابن عباس وابن النجار عن أبي هريرة وعبد بن حميد وابن ماجة وابن منيع وأبو يعلى والعقيلي في الضعفاء والضياء عن جابر وابن ماجة والحاكم عن ابن عمر، وأبو نعيم في الحلية وابن السني والطبراني في الكبير عن عليّ،
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (4639) .
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 99 وقال: رواه البزّار ورجاله رجال الصحيح.
[ (3) ] انظر المجمع 5/ 99.
[ (4) ] أخرجه الترمذي 5/ 447، وأبو داود (3878) .
[ (5) ] أخرجه البيهقي في الشعب 3/ 367.
[ (6) ] أخرجه أبو داود (2377) .
[ (7) ] أخرجه البخاري في التاريخ 4/ 1/ 398.(12/180)
والبغوي في مسند عثمان- رضي الله تعالى عنهم- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالإثمد عند النّوم» وفي لفظ: «بالكحل فإنّه يجلو البصر وينبت الشعر» وفي لفظ: «فإنه ينبت الشّعر ويشدّ العين»
[ (1) ] .
وروى أبو نعيم وابن السني عن صهيب- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالكمأة الرّطبة فإنها من المنّ وماؤها شفاء للعين»
[ (2) ] .
وروى البغوي والبيهقي والديلمي عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة الأنصاري عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تكتحل بالنهار وأنت صائم بالإثمد اكتحل بالإثمد ليلا فإنه يجلو البصر وينبت الشعر»
[ (3) ] .
وروى الإمام أحمد والطبراني بسند جيد عن عمرو بن حريث قال: حدثني أبي عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين»
[ (4) ] .
وروى أبو نعيم عن أبي سعيد- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الكمأة من المنّ والمن من الجنّة وماؤها شفاء للعين»
[ (5) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن جابر بن عبد الله- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «لا همّ إلا همّ الدّين ولا وجع إلّا وجع العين»
[ (6) ] .
وفيه عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده قال: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نكتحل بالإثمد المروح، وقال: ليتقه الصّائم»
قال عبد العزيز: قيل لأبي النعمان: ما المروّح؟ قال: المسك [ (7) ] .
وروى فيه أن عثمان بن عفان تحير عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المحرم يشتكي عينيه قال يصمدهما بالصبر،
وفيه عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تكرهوا الرّمد فإنه يقطع عرق العمى» .
وفيه عن صهيب أنه قال: قدمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالهجرة وبين يديه تمر فقال:
__________
[ (1) ] أخرجه ابن ماجة (3496) ، والترمذي في الشمائل (50) .
[ (2) ] انظر المنهج السوي ص 335.
[ (3) ] انظر كنز العمال (23830) .
[ (4) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 91 وقال: رواه أحمد والطبراني إلا أنه قال من المن، وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط، وبقية رجاله رجال الصحيح.
[ (5) ] أخرجه ابن ماجة (3453) .
[ (6) ] ذكره الهيثمي في المجمع 2/ 313 وقال: رواه الطبراني في الصغير والأوسط وفيه مرين بن سهل قال الأزدي كذاب.
[ (7) ] أخرجه أبو داود 2/ 776 (2377) .(12/181)
«ادن فكل» فأخذت آكل من التمر، فقال: «أتأكل تمرا وبك رمد» ؟ فقلت: يا رسول الله أمصه من الناحية الأخرى، فتبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي لفظ: دخلت على النبي- صلى الله عليه وسلم- فوجدته يتغذى وبين يديه تمر وترثم من خبز والترثم هو الخبز المفتوت وأنا أشتكي عيني فوقعت في التمر آكله فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: يا صهيب أتأكل على عينيك وأنت رمد، فقلت: أنا آكل على شقي الصحيح، وأنا أمزح مع النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى نظرت إلى نواجذه
[ (1) ] .
وروى فيه عن أم سلمة قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «إذا رمدت عين امرأة من نسائه لم يأتها حتى تبرأ عينها» [ (2) ] .
تنبيهان:
الأول: الرّمد ورم حارّ يصعد من المعدة إلى الدّماغ، فإن اندفع إلى الخياشيم أحدث الزّكام أو إلى العين أحدث الرّمد أو إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخناق بالخاء المعجمة والنون، أو إلى الصدر أحدث النّزلة، أو إلى القلب أحدث الخبطة وإن لم ينحدر طلب نفاذا، فلم يجد أحدث الصّداع.
الكمأة: بفتح الكاف وسكون الميم وهمزة مفتوحة: نبات لا ورق له ولا ساق يوجد في الأرض من غير أن يزرع.
وقوله: «من المن» قيل: إنه من المنّ المنزل على بني إسرائيل.
قال الخطابي: ليس المراد أنها نوع من المنّ الذي أنزل الله تعالى على بني إسرائيل، فإن الذي أنزل على بني إسرائيل كان كالترنجبين الذي يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من غير تكلف ببذر ولا سقي، وإنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة، لأنها من الحلال المحض الذي ليس في اكتسابه شبهة.
قال ابن الجوزي: في المراد بكونها شفاء للعين قولان:
أحدهما: أنه ماؤها حقيقة إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنه لا يستعمل صرفا في العين، لكن اختلفوا كيف يصنع به على رأيين:
أحدهما: أنه يخلط في الأدوية التي يكتحل بها حكاها أبو عبيد.
ثانيهما: أنه يشق ويوضع على الجمر حتى يغلي ماؤها، ثم يؤخذ الميل فيجعل في
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم 3/ 399.
[ (2) ] انظر كنز العمال (18342) .(12/182)
ذلك الشق، وهو فاتر فيكتحل بمائها، لأن النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة وتبقي النافع منه، ولا يجعل الميل في مائها، وهي باردة يابسة فلا ينجح.
وداء آخر تجعل الكمأة في قدر جديد ويصب عليها الماء، ليس معها ملح، ثم يؤخذ غطاء جديد بفم فيجعل على القدر فما جرى في الغطاء من بخار الكمأة فذلك الماء الذي يكتحل به.
وروى ابن واقد: أن ماء الكمأة إذا انحصر ورئي منه الإثمد كان من أصلح الأشياء للعين إذا اكتحل به يقوي أجفانها ويزيد الروح الباصرة قوة وحدّة ويدفع عنها نزول النوازل.
وروى أيضا: «إذا اكتحل بماء الكمأة وحده» وقيل: إذا كان لبرودة بماء العين من حرارة فماؤها مجرّد شفاء وإلا فبالتركيب، وقيل: هو شفاء مطلقا.
الباب الثلاثون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- من عرق الكلية
روى الحارث وأبو نعيم في الطب والطبراني في الكبير والحاكم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أن الخاصرة عرق الكلية إذا تحركت آذت صاحبها، فداووها بالماء المحرّق والعسل»
[ (1) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الخاصرة عرق الكلية إذا تحركت آذت صاحبها، فداووها بالماء المحرّق والعسل» .
وفيه عنها أن الخاصرة كانت تسهل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شهرا قالت عائشة- رضي الله تعالى عنها-: فكنا ندعوها عرق الكلية.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 90 وقال: رواه الطبراني في الأوسط في حديث طويل هو في الزهد وفي إسناده من لم أعرفهم.(12/183)
الباب الحادي والثلاثون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- المفؤود
روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله تعالى عنه- قال: مرضت مرضا فأتاني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعودني، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، وقال لي:
إنّك رجل مفؤود فأت الحارث بن كلدة من ثقيف فإنه رجل يتطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهنّ ثمّ ليلدّك بهن»
[ (1) ] .
وروى ابن منده عن سعد قال: مرضت، فعادني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إني لأرجو أن يشفيك الله» ، ثم قال للحارث بن كلدة: «عالج سعد مما به» .
وروى الطبراني في الكبير عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله تعالى عنه- قال: دخل علي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعودني فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، فقال:
أنت رجل مفؤود فات الحارث بن كلدة، فإنه رجل يتطبب فليأخذ خمس تمرات من عجوة المدينة فليجأهنّ بنواهن ثم ليلدّك بهن»
[ (2) ] .
وروى الإمام أحمد والحارث بسند فيه ابن الهيعة والإمام أحمد والطبراني في الكبير عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- وعبد الرزاق عن رجل من بني زهرة وعبد الرزاق عن معمر بلاغا قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أن في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذّربة بطونهم»
[ (3) ] .
وروى أبو نعيم في الطب قال: مرض سعد بن أبي وقاص، وهو مع رسول الله فقال: يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما أراني إلا ميّت فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إني لأرجو أن يشفيك الله حتى يضر بك قوم وينتفع بك آخرون، ثم قال للحارث بن كلدة الثقفي: عالج سعدا مما به، فقال:
والله إني لأرجو أن يكون شفاؤه مما به في رحله، هل معكم من هذه التمرة العجوة شيء؟ قالوا:
نعم، قال: فصنع له القرنفة خلط له التمر بالحلبة، ثم أوسعها سمنا ثم أحساها إياه فكأنما ينشط من عقال.
[وفيه عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أخذ أهله الوعك أمر بالحساء فصنع، قالت] [ (4) ] وكان يقول: «إنّه ليرتق فؤاد الحزين ويسرو عن فؤاد السّقيم كما تسرو إحداكنّ الوسخ عن وجهها بالماء
[ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (3875) .
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 91 وقال: رواه الطبراني وفيه يونس بن الحجاج الثقفي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
[ (3) ] انظر المجمع 5/ 91.
[ (4) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.
[ (5) ] أخرجه الترمذي (2039) .(12/184)
وفيه عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذّربة بطونهم» .
وفيه عن أنس أنه قدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رهط من عرينة فأتوا النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: احتوينا المدينة وعظمت بطوننا وانتهشت أعضادنا فأمرهم أن يجيئوا براعي الإبل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيشربوا من ألبانها وأبوالها، حتى ضمرت بطونهم.
وفيه عن صهيب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بأبوال الإبل البرية وألبانها»
[ (1) ] .
وفيه عن الشيخين عن أبي سعيد أن رجلا أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن أخي استطلق وفي لفظ: يشتكي بطنه فقال: «اسقه عسلا» ، فسقاه ثم أتاه فقال: يا رسول الله قد سقيته، فلم يزده إلا استطلاقا فقال: «اسقه عسلا» ، قال: أما في الثالثة أو في الرابعة قال: حسيته فسقاه فشفي ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «صدق الله تعالى وكذب بطن أخيك»
[ (2) ] .
تنبيهات
الأول: الحارث بن كلدة بفتح الكاف واللام ذكر في الصحابة، وقال ابن أبي حاتم:
لا يصح إسلامه، قال الحافظ: وهذا الحديث يدل على جواز الاستعانة بأهل الذمة في الطب قال الأذرعي: [ ... ] .
الثاني: المفؤود بميم مفتوحة ففاء ساكنة فهمزة مضمومة فواو فدال مهملة: الذي أصيب بفؤاده، فهو يشتكيه كالمبطون، وهذا الحديث من الخطاب العام الذي أريد به الخاص، كأهل المدينة ومن جاورهم، والتمر لأهل المدينة كالحنطة لغيرهم، وفي التمر خاصية لغيرهم لأهل الداء سيما تمر المدينة ولا سيما تمر العجوة وفي كونها سبعا خاصية أخرى تدرك بالوحي وفي الصحيحين: «من تصبح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية لم يضرّه في ذلك اليوم سم ولا سحر» .
الثالث: قال الخطابي وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب موضع الخطأ وقال الإمام الرازي: لعله- صلى الله عليه وسلم- علم ذلك بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال مع كونه- صلى الله عليه وسلم- كان عالما أنه سيظهر نفعه بعد ذلك ولا التفات لاعتراض بعض الملحدة بأن العسل مسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال لأن ذلك لم يحط به علما، جهلا منه باتفاق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف العادة
__________
[ (1) ] انظر كنز العمال (28285) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 10/ 168 (5716) .(12/185)
والزمان والغذاء المألوف والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يحدث من [أنواع منها الهيضة التي تنشأ عن تخمة، واتفقوا على أن علاجها بترك] [ (1) ] الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى مسهل أعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل استطلق بطنه من تخمة أصابته فوصفه له النبي- صلى الله عليه وسلم- لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء لما من العسل من الجلاء ودفع الفضول التي تصيب المعدة من أخلاط لزجة تمنع من استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء الواصل إليها فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط، ولا شيء في ذلك مثل العسل، لا سيما إن مزج بالماء الحار وإنما لم يفده من أول مرة، لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء، إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية وإن جاوزه أوهى القوة، وأحدث ضررا آخر، فكأنه شرب منه أولا مقدارا لا يفي بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء برأ بإذن الله تعالى.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
«فليجأهن» أي: «فليذوقهنّ» ، والوجيئة: تمر يبلّ بلبن أو سمن ثم يدقّ حتى يلتئم.
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/186)
الباب الثاني والثلاثون في علاجه- صلّى الله عليه وسلّم- عرق النسا
روى الإمام أحمد والحاكم برجال الصحيح والضياء والطبراني في الأواسط وأبو يعلى وابن ماجة وأبو نعيم في الطب عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كان يصف لعرق النّساء» وفي لفظ: «كأن يأخذ ألية كبش عربيّ» وفي لفظ: «أسود ليس بالعظيم ولا بالصغير» وفي لفظ: «ليست بأعظمها ولا أصغرها» وفي لفظ: «ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة» ، وفي لفظ: «دواء عرق النّساء ألية شاة أعرابيّة تذاب» ، وفي لفظ: «فيقطّعها صغارا ثم يذيبها فيجيد إذابتها ويجعلها» ، وفي لفظ: «يتجزأ ثلاثة أجزاء فتذاب وتشرب في كل يوم جزءا» وفي لفظ: «على الرّيق» وفي لفظ: «ثم يشرب على الرّيق كلّ يوم جزءا» زاد أبو نعيم:
قال أنس: لقد فعلت لأكثر من مائة من به عرق النساء فبرأ.
وفي رواية: «فقد نعته لأكثر من ثلاثمائة كلهم يبرؤون منه [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد عن رجل من الأنصار عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نعت من عرق النّسا أن تؤخذ ألية كبش عربيّ ليست بصغيرة ولا عظيمة فتذاب ثمّ يجزّأ ثلاثة أجزاء فيشرب كلّ يوم على الرّيق جزءا [ (2) ] .
وروى الطبراني في الكبير عن عبد الله بن عمر- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من اشترى أو أهدي له كبش فليقسّمه على ثلاثة أجزاء، كلّ يوم جزءا على الرّيق، إن شاء أسلاه، وإن شاء أكله أكلا، يعني: ألية كبش يتداوى به من عرق النّسا»
[ (3) ] .
وروى الطبراني في الثلاثة بسند جيد عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال:
نعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من عرق النّسا ألية كبش تجزّأ ثلاثة أجزاء ثمّ يذاب فيشرب كلّ يوم جزءا على الرّيق [إن شاء أسلاه وإن شاء أكله أكلا، يعني: كبش يتداوى به من عرق النسا [ (4) ] .
وروى الطبراني في الثلاثة بسند جيد، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال:
__________
[ (1) ] أخرجه ابن ماجة (3463) ، والحاكم 4/ 206.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 91 وقال: رواه أحمد وفيه راو لم يسم، وبقية رجاله رجال الصحيح.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 91 وقال: رواه الطبراني وقال أسلاه يعني أذابه، ورجاله ثقات.
[ (4) ] انظر المجمع 5/ 91، 92.(12/187)
نعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من عرق النّسا ألية كبش تجزّأ ثلاثة أجزاء ثم يذاب فيشرب كلّ يوم جزءا على الرّيق] [ (1) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال أقبلت يهود إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: يا أبا القاسم أخبرنا عن ما حرّم إسرائيل على نفسه قال: «كان يسكن البدو فاشتكى عرق النّسا، فلم يجد شيئا يداويه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرّمها» ، قالوا:
صدقت
[ (2) ] .
تنبيه:
النّسا: بفتح النون المهملة: المرض الحالّ بالعرق، والإضافة فيه من إضافة الشيء إلى محلّه، قيل: سمي به، لأن ألمه ينسي ما سواه، وهذا العرق ممتد من مفصل الورك، وينتهي إلى آخر القدم وراء [الكعب] [ (3) ] وهذا الدّواء خاصّ بالعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم، وهو أنفعه لهم، لأنّ هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة فعلاجها الإسهال والألية فيها الخاصّيتان الإنضاج والتليين، وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين، وفي تعيين الشّاة الأعرابيّة لقلة فضولها، وصغر مقدارها، ولطف جوهرها، وخاصيّة مرعاها، لأنها ترعى أعشاب البر الحارّة، كالشّيح والقيصوم ونحوهما، وهذه إذا تغذّى بها الحيوان، صار في لحمه من طبعها بعد أن يلطّفها تغذية بها، ويكسبها مزاجا ألطف منها، ولا سيما الألية.
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.
[ (2) ] ذكره السيوطي في الدر المنثور 2/ 52.
[ (3) ] في ب الورك.(12/188)
الباب الثالث والثلاثون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- البثرة
روى أبو نعيم في الطب عن بعض أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دخل عليها قال: «أعندك ذريدة» قالت نعم، فدعا بها فوضعها على بثرة بين أصبعين من أصابع رجليه ثم قال: «اللهم مصغّر الكبير ومكبّر الصّغير اطفها عنّي قال: فطفيت»
[ (1) ] .
الباب الرابع والثلاثون في علاجه- صلّى الله عليه وسلّم- الباسور
روى الطبراني في الكبير وأبو نعيم في الطب وابن السني عن عقبه بن عامر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بهذه الشّجرة المباركة زيت الزّيتون فتداووا به فإنه مصحّة للباسور» وفي لفظ: «عليكم بزيت الزّيتون فكلوه وادّهنوا به فإنّه ينفع من الباسور»
[ (2) ] .
وروى أبو يعلى في مسنده وابن السني وأبو نعيم عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بإنقاء الدّبر» وفي لفظ: «بغسل الدّبر فإنّه يذهب بالباسور»
[ (3) ] انتهى.
وروى الطبراني في الكبير عن عائشة وعبد الرزاق عن المسور بن رفاعة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «استنقوا» وفي لفظ: «استنجوا بالماء فإنّه مصحّة للبواسير»
[ (4) ] .
وروى أبو نعيم في الطّب عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا مصفرّ اللّون قال: «ما هذا يا بن عباس» قلت: رويحة يعني الباسور فقال: «بحداثة سنك فأين أنت من اللصف يعني الكبر تأخذه فتدقّه فتسف منه» قال: ففعلت فبرأت.
وفيه عن ابن السني عن أبي ذر- رضي الله تعالى عنه- قال: أهدى إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- طبق من تين فقال لأصحابه: كلوا فلو قلت إنّ فاكهة نزلت من الجنّة بلا عجم لقلت هي التّين وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إنّه يذهب بالبواسير وينفع من النّقرس» .
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم 3/ 277.
[ (2) ] انظر المجمع 5/ 103.
[ (3) ] ذكره ابن حجر في المطالب العالية 1/ 19 (55) .
[ (4) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 103 وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمار بن هارون وهو متروك.(12/189)
الباب الخامس والثلاثون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الورم
[روى أبو يعلى عن علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه- قال: دخلت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعوده بظهره ورم فقالوا: يا رسول الله بهذه مدّة قال: بطّوا عنه قال علي:
فما برحت حتّى بطّت والنبي- صلى الله عليه وسلم- شاهد.
وروي عن أبي هريرة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر أن يبطّ بطن رجل، أجوى البطن، فقيل: يا رسول الله: هل ينفع الطّبّ؟ قال: الذي أنزل الداء أنزل الشّفاء فيما شاء] .
الباب السادس والثلاثون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الخنازير
روى الطبراني في الكبير بسند جيد عن طارق بن شهاب أن رجلا رأى رجلا به الخنازير، فوصف له أبوال إبل الأراك، يعني التي تأكل الأراك، فاطبخه حتى ينعقد ثم اشربه وخذ ورق الأراك فدقّه وذره عليه ففعل فبرأ [ (1) ] .
الباب السابع والثلاثون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الدوخة
روى أبو يعلى بسند ضعيف عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «اختضبوا بالحنّاء فإنّه طيّب الرّيح يسكّن الدّوخة»
[ (2) ] .
فائدة:
شكا بعض من حصل له ذلك للشيخ أبي محمد المرجاني، فرأى النبي- صلى الله عليه وسلم- في النّوم فأشار إلى هذا الدواء، قرنفل وزنجبيل وقرفا وجوزة طيب وسنبل من كل واحد درهم ونصف شونيز درهمين، يدق الجميع، ثم يطبخ ويعقد بعسل النحل، فإذا قرب استواؤه عصر عليه قليل ليمون، ويكون عسل النحل غالبا عليه، ففعل فبرأ، فهذه وإن كانت مما فات فقد عضدته التجربة.
__________
[ (1) ] انظر المجمع 5/ 103.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 163 وقال: رواه أبو يعلى من طريق الحسن بن دعامة عن عمر بن شريك قال الذهبي:
مجهولان.(12/190)
الباب الثامن والثلاثون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- العذرة
روى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجة وابن حبان عن أم قيس بن محصن- رضي الله تعالى عنهما- أنها أتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بابن لها قد أعلقت عليه العذرة فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «على ما تدغرن أولادكنّ بهذا العلاق عليكنّ بهذا العود الهنديّ، فإنه فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب وفي لفظ: ويسعط به من العذرة ويلدّ من ذات الجنب» وأخرجه عبد الرزاق إلى قوله منها ذات الجنب
قال الزهري: فيسعط للعذرة ويلدّ من ذات الجنب، وظاهره أن هذا القدر مدرج [ (1) ] .
وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن والإمام أحمد عن جابر بن عبد الله- رضي الله تعالى عنهما- قال: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عائشة وعندها صبي يسيل منخراه دما فقال لها:
ما هذا؟ فقالوا: به العذرة وفي لفظ: أو وجع في رأسه فقال: ويلكنّ لا تقتلن أولادكنّ أيّما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه، فلتأخذ قسطا هنديّا فلتحكّه بماء، ثم تسعطه إياه، فأمرت عائشة فصنع ذلك بالصبي فبرأ وفي لفظ: «على ما تفدين أولادكن، إنما يكفي إحداكن أن تأخذ قسطا هنديّا فتحكّه بماء سبع مرّات، ثم توجره إيّاه قال: ففعلوا فبرأ [ (2) ] ورواه الحاكم عن عائشة.
وروى البزار بسند جيد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن امرأة دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعها صبيّ يسيل منخراه دما فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «علام تدغرن أولادكنّ ألا أخذت قسطا بحريّا ثم أسعطتيه إياه فإن فيه شفاء من سبعة أدوية إحداهنّ ذات الجنب»
[ (3) ] .
وروى الإمام أحمد وعبد بن حميد والنّسائي وابن سعد والبزار وابن السّنّي وأبو نعيم عن أنس والطيالسي والطبراني في الكبير، والإمام أحمد وأبو يعلى والحاكم والضياء عن سمرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «خير ما تداويتم به الحجامة»
وفي رواية «القسط البحري ولا تعذبوا صبيانكم بالغمز من العذرة
وفي لفظ: «أفضل ما تداويتم به الحجامة والقسط البحريّ ولا تعذّبوا صبيانكم بالغمز»
[ (4) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 10/ 177 (5715، 5718) .
[ (2) ] أخرجه أحمد 3/ 315.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 92 وقال: رواه البزار وفيه المسعودي وهو ثقة وقد حصل له اختلاط، وبقية رجاله ثقات.
[ (4) ] أخرجه أحمد 3/ 107، والحاكم 4/ 208.(12/191)
وروى الطبراني في الكبير عن عبد الرحمن بن سابط وبريدة قال: اشتكى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العذرة حتى صدّعته ورئي ذلك عليه فأتاه جبريل فقال: إنّ ربّك أرسلني إليك لأرقيك فحلّ النبي- صلى الله عليه وسلم- رأسه فقال: بسم الله أرقيك من كل سوء [ (1) ] يؤذيك، ومن شر كل عين، وكلّ حاسد أرقيك قال: فردّدها عليه ثلاث مرّات فبرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[ (2) ] .
وروى البخاري عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تعذّبوا صبيانكم بالغمز من العذرة وعليكم بالقسط»
[ (3) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
العذرة: بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة: وجع في الحلق يهيج في الحلق يعتري الصبيان غالبا وقيل: هي قرحة تخرج بين الأذن والحلق وفي الخرم الذي بين الأنف والحلق وهو الذي يسمى سقوط اللهاة، وقيل: هو اسم اللهاة والمراد وجعها يسمى باسمها، وقيل: موضع قريب من اللهاة، واللهاة بفتح اللام اللحمة التي في أقصى الحلق.
تدغرن: بالغين المعجمة والدال المهملة والدّغر غمز الحلق.
الغمز: بمعجمة وزاي رفع اللهاة بالأصابع.
العود الهندي [ ... ] .
«القسط» بقاف مضمومة وقد تبدل القاف بالكاف والطاء بالتاء من عقاقير البحر طيّب الرّائحة، وهو إن كان حارا، والعذرة إنما تعرض في زمن الحرّ بالصبيان وأمزجتهم حارّة لا سيما وقطر الحجاز حار، فإن مادة العذرة دم يغلب عليه البلغم وفي القسط تخفيف للرّطوبة، وقد يكون نفعه في هذا الدّاء بالخاصيّة، وأيضا فالأدوية الحارّة قد تنفع من الأمراض الحارّة بالعرض كثيرا، بل وبالذات أيضا، وأطبق الأطباء على أنه يدر الطّمث والبول ويدفع السّموم والمؤذيات والمهلكات، ويحرك شهوة الجماع ويقتل الديدان في الأمعاء، ويذهب الكلف إذا طلي به، ويسخن المعدة، وينفع من حمى الربع، ويشد اللهاة، ويرفعها إلى مكانها، وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة وبالعلاق وهي شيء يعلقونه على الصبيان، فنهاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم.
السّعوط- بضم السين، وضم العين المهملتين، ما يصيب من الأنف.
واللّدود: ما يصب في أحد جانبي الفم، والوجور ما يصب في وسطه.
__________
[ (1) ] في ب داء.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 115 وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن أبان الجعفي وهو ضعيف.
[ (3) ] أخرجه البخاري 10/ 159 (5696) .(12/192)
الباب التاسع والثلاثون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- العشق
روى الخطيب عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من عشق فعفّ ثمّ مات مات شهيدا» .
وروى أيضا عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من عشق فكتم وعفّ فمات مات شهيدا» .
الباب الأربعون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- وجع الصدر
روى النّسائي عن رجل من الصحابة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أخبركم بما يذهب وحر الصدر صوم ثلاثة أيام من كلّ شهر»
[ (1) ] .
وروى ابن السني وأبو نعيم عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «كلوا السّفرجل فإنّه يجلي عن الفؤاد ويذهب بطخاء الصّدر»
[ (2) ] .
وروى ابن السني وأبو نعيم عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كلوا السّفرجل على الرّيق، فإنّه يذهب وغر الصّدر»
[ (3) ] .
وروى القالي في أماليه عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أكل السّفرجل يذهب بطخاء القلب»
[ (4) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن طلحة قال: أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو في جماعة من أصحابه وفي يده سفرجلة يقلبها فلما جلست إليه رمى بها نحوي قال: دونكها أبا محمد، فإنها تشدّ القلب وتطيّب النّفس وتذهب بطخاوة الصّدر وفي لفظ: «فإنّها تجمّ الفؤاد»
[ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه النسائي 4/ 208.
[ (2) ] انظر كنز العمال (28258) .
[ (3) ] انظر الكنز (28259) .
[ (4) ] انظر الكنز (28260) .
[ (5) ] أخرجه ابن ماجة (3339) .(12/193)
الباب الحادي والأربعون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- ذات الجنب
روى البخاري عن أم قيس بنت محصن قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بهذا العود الهنديّ فإنّ فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب» .
وروى الإمام أحمد والطّيالسي والطبراني في الكبير والحاكم والبيهقيّ والضياء والترمذي وأبو نعيم في الطب عن زيد بن أرقم- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «تداووا من ذات الجنب بالقسط البحريّ والزّيت» [ (1) ] ولفظ أبي نعيم: بالعود الهندي والزيت والقسط
وفي رواية: «أمرهم أن يتداووا من ذات الجنب بالقسط البحريّ والزّيت» وفي لفظ: أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نتداوى من ذات الجنب بالقسط البحريّ والزّيت. ورواه مسدد وأبو يعلى وصححه الترمذي بلفظ: كان ينعت الزّيت والورس من ذات الجنب [ (2) ] .
ورواه أبو نعيم في الطب عن ميمون قال: قلت لزيد بن أرقم: بايعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ذات الجنب قال: ورس وقسط وزيت يلت به.
وروى فيه عن أم قيس بنت محصن قالت: دخلت بابن لي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أعلقت عليه من العذرة فقال: «علام تعذبن أولادكنّ بهذا العلاق عليكنّ بهذا العود الهنديّ فإنّ فيه سبعة أشفية يسعط من العذرة ويلدّ به من ذات الجنب» .
تنبيه:
ذات الجنب: ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأعضاء، وقد يطلق على ما يعرض في نواحي الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات والعضل التي في الصدر والأضلاع فتحدث وجعا، فالأول هو ذات الجنب الحقيقي الذي تكلم عليه الأطباء، قالوا:
ويحدث بسببه خمسة أمراض: الحمّى والسّعال والنخس وضيق النّفس والنبض المنشاري ويقال لذات الجنب: وجع الخاصرة، وهو من الأمراض المخوفة، لأنها تحدث بين القلب والكبد، وهي من سيّئي الأسقام، والمراد بذات الجنب هنا الثاني لأن القسط هو العود الهنديّ الذي يداوى به الرّيح الغليظة، نقل ابن القيّم عن المسبحي أنّ العود حار يابس قابض يحبس البطن، ويقوي الأعضاء الباطنة ويطرد الريح ويفتح السّدد، ويذهب فضل الرّطوبة، مانع من ذات الجنب، جيّد للدّماغ قال: ويجوز أن ينفع من ذات الجنب الحقيقية أيضا، إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية ولا سيما في وقت انحطاط العلّة.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 4/ 369.
[ (2) ] أخرجه الترمذي (2078) .(12/194)
الباب الثاني والأربعون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الاستسقاء والمعدة ويبس الطبيعة
روى الشيخان عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قدم رهط من عكل على النبي- صلى الله عليه وسلم- فاجتووا المدينة، فشكوا ذلك إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «لو خرجتم إلى أبل الصّدقة فشربتم من أبوالها وألبانها، فلما صحوا عمدوا إلى الرّعاة فقتلوهم»
[ (1) ] الحديث.
وإنما أمرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشرب ذلك، لأن في لبن اللّقاح جلاء وتليينا وإمرارا وتلطيفا وتفتيحا للسدد، إذا كان أكثر رعيها الشيح والقيصوم والبابونج والأقحوان والإذخر، وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء، خصوصا إذا استعمله بحرارته التي تخرج بها من الضرع مع بول الفصيل وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك مما يزيد في ملوحة اللبن، وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن.
وروى الطبراني في الكبير بسند ضعيف من طريق يحيى بن عبد الله البابلتي عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «المعدة حوض البدن والعروق إليها واردة. فإذا صحّت المعدة صدرت العروق بالصّحّة وإذا فسدت المعدة صدرت العروق بالسّقم»
[ (2) ] .
وذكر ابن الحاج في المدخل أن بعض الناس مرض بمعدته، فرأى الشيخ الجليل أبو محمد المرجاني النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء، وهو أن يأخذ كل يوم على الرّيق وزن درهم من الورد المربى، ويكون ملتوتا بالمصطكي بعد دقها، ويجعل فيه سبع حبّات من الشّونيز يفعل ذلك في سبعة أيام، ففعله فبرئ. ومرض بعض الناس ببرد المعدة، فرأى الشيخ المرجاني أيضا النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير إلى هذا الدواء وهو أن يأخذ أوقية ونصفا عسل النحل ودرهمين الشونيز، ومثلها الأنسيون ونصف أوقية من النّعنع الأخضر، ومن القرنفل نصف درهم، ومن القرفة نصف درهم وشيئا من قشر اللّيمون مع قليل من الخلّ ويعقد ذلك على النار، فاستعمله فبرئ.
وروى البخاري في تاريخه الكبير والترمذي وابن ماجة عن أسماء بنت عميس قالت:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بم كنت تستمشين؟» قالت: بالشّبرم قال: «حارّ حارّ» قالت: ثم
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 12/ 113 (6804) .
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 89 وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه يحيى بن عبد الله البابلتي وهو ضعيف.(12/195)
استمشيت بالسّنا، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لو أنّ شيئا كان فيه شفاء من الموت لكان في السّنا»
[ (1) ] .
وروى ابن ماجه عن عبد الله بن حرام قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «عليكم بالسّنى والسّنوت، فإنّ فيهما شفاء من كل داء إلّا السّام» قيل: يا رسول الله وما السّام؟ قال:
«الموت»
[ (2) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «خير ما تداويتم به اللّدود والسّعوط والحجامة والمشيّ»
[ (3) ] .
تنبيهات
الأول: الاستسقاء: مرض مادي سببه مادة غريبة باردة تتخلل الأعضاء فتربو لها إما بالأعضاء الظّاهرة كلّها، وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط.
وأقسامه ثلاثة: الحمى، وهو أصعبها، وهو الذي يربو معه لحم جميع البدن بمادة بلغميّة تفسد مع الدم في الأعضاء.
وزقي وهو الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادّة مائية رديئة، يسمع لها عند الحركة خضخضة كالماء في الزّقّ وهو أردى أنواعه.
وطبلي وهو الذي ينتفخ معه البطن عادة إذا ضربت عليه سمعت له صوتا كصوت الطبل.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
الشيح ...
القيصوم ...
البابونج ...
الأقحوان ...
الإدخر ...
الشّونيز ...
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (2081) .
[ (2) ] أخرجه ابن ماجة (3457) .
[ (3) ] أخرجه الترمذي (2047) .(12/196)
«الشّبرم» بشين معجمة فموحدة فراء: قشر عرق شجرة، وهو حار يابس في الدرجة الرابعة، وهو من الأدوية التي منع الأطباء من استعمالها، لخطرها وفرط إسهالها.
«السّنا» - بسين مهملة ونون- نبت حجازي أفضله المكي، وهو دواء شريف مأمون الغائلة قريب من الاعتدال، حار يابس في الدرجة الأولى، يسهل الصّفراء والسّوداء ويقوي جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة ومن خاصيته النفع من الوسواس السّوداوي: قال الرازي: السّنا والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة، وينفعان من الجرب والحكة قال: والشّربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم.
السّنوت: - بسين مهملة فنون فواو فمثناة فوقية- هو العسل، وقيل: ربّ عكة السن، يخرج خططا سوداء على السّمن.
وقيل: حبّ يشبه الكمّون وليس به.
وقيل: هو الكمّون الكرمانيّ.
وقيل: إنه الرازيانج.
وقيل: إنه الشّبت.
وقيل: إنه العسل الذي يكون في زقاق السّمن.
قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى، وأقرب إلى الصّواب أن يخلط السنا مدقوقا بالعسل المخالط للسمن، ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردا، لما في العسل والسمن من إصلاح السنا وإعانته على الإسهال.(12/197)
الباب الثالث والأربعون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الإسهال
روى الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- أن رجلا أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن أخي استطلق بطنه فقال: «اسقه عسلا» فسقاه ثم جاء فقال: سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا فقال: «اسقه عسلا» فسقاه ثم جاء، فقال: إني سقيته عسلا فلم يزده إلا استطلاقا، ثم قال في الرابعة فقال: «اسقه عسلا صدق الله وكذب بطن أخيك» فسقاه فبرأ
[ (1) ] .
تنبيه:
قال الخطابي: أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، يقال: كذب سمعك أي: زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له، فمعنى كذب بطنه، أي: لم يصلح لقبول الشفاء بل زل عنه.
وقال الإمام الرّازي: لعله- صلى الله عليه وسلم- علم بنور الوحي أي ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال مع كونه- صلى الله عليه وسلم- كان عالما بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك، كان جاريا مجرى الكذب، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ، وقد اعترض بعض الملاحدة، فقال: إن العسل مسهّل فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال؟ وأجيب بأن ذلك جهل من قائله، بل هو كقوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس 39] فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يحدث من أنواع منها الهيضة التي تنشأ عن تخمة، واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى مسهل معين أعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه من تخمة أصابته، فوصف له- صلى الله عليه وسلم- العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء لما في العسل من الجلاء ودفع الفضول التي تصيب المعدة من أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللّزوجة أفسدتها، وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط ولا شيء في ذلك مثل العسل، لا سيما إن مزج بالماء الحارّ، وإنما لم يفده في أول مرة، لأن الدواء يجب أن يكون له
مقدار وكمية بحسب الداء إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية، وإن جاوزه أوهى القوة وأحدث ضررا آخر، فكأنه شرب منه أولا مقدارا لا يفي بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشّربات بحسب مادة
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 10/ 146 (5684) .(12/198)
الداء برأ بإذن الله تعالى،
وفي قوله- صلى الله عليه وسلم-: «وكذب بطن أخيك»
إشارة إلى أن هذا الدواء نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدّواء، ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل، قال ابن الجوزي: في وصفه- صلى الله عليه وسلم- العسل لهذا المنسهل أربعة أقوال:
أحدها: أنه حمل الآية على عمومها في الشّفاء، وإلى هذا أشار بقوله: صدق الله أي في قوله تعالى فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ فلما نبهه على هذه الحكمة، تلقاها بالقبول فشفي بإذن الله.
الثاني: أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوي بالعسل في الأمراض كلها.
الثالث: أن الموصوف له ذلك كانت به هيضة كما تقدم تقريره.
الرابع: يحتمل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه، فإنه يعقد البلغم فلعله شربه أولا بغير طبخ، قال الحافظ: والثاني والرابع ضعيفان ويؤيد الأول حديث ابن مسعود: عليكم بالشّفاءين «العسل والقرآن» ، رواه ابن ماجة والحاكم مرفوعاً، وابن أبي شيبة والحاكم أيضا موقوفا ورجاله رجال الصحيح.
الباب الرابع والأربعون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- القولنج
روى أبو نعيم في الطب عن جبير بن مطعم قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاد سعيد بن العاص، فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكمّده بخرقة، زاد في رواية أخرى: فيها ملح وسعيد مشوي حصل ذلك لرجل، فرأى الشيخ أبو محمد المرجاني النبي- صلى الله عليه وسلم- فأشار بهذا الدّواء، وهو أن يأخذ ثلاثة دراهم من عسل النّحل ووزن درهم ونصف من الزيت المرقي، وإحدى وعشرين حبة من الشّونيز ويخلط الجميع ثم يفطر عليه، ويفعل مثله عند النوم، ويعمل له تلبينة وهي حساء يعمل من دقيق أو نخالة، وربما عمل فيها عسل، ويستعملها بعد أن يفطر على ذلك، ويكون غذاؤه مسلوقة الدّجاج، أو لحم الضّأن، ففعله فبرأ بعد أن أعيا الأطبّاء.
تنبيه:
الزيت المرقي، صفته أن يأخذ شيئا من الزيت الطيّب، ويجعله في إناء نظيف ويحركه، ويعود ويقرأ عليه سورة الإخلاص والمعوذتين وَلَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إلى آخر السورة.(12/199)
الباب الخامس والأربعون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الدود في الجوف
روى أبو بكر في الغيلانيات عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «كلوا التّمر على الرّيق فإنّه يقتل الدّود»
[ (1) ] .
الباب السادس والأربعون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الباه.
روى الطبراني في الأوسط والضياء عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالباءة، فمن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء»
[ (2) ] .
وروى أبو نعيم في الطب، عن شداد بن عبد الله قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالصّوم فإنّه محسمة للعروق ومذهبة للأشر» .
وفيه عن علي- رضي الله تعالى عنه- أنّ رجلا شكا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قلّة الولد فأمره بأكل البيض قال: يا رسول الله، وأي بيض؟ قال: «كلّ بيض ولو بيض نملة» .
وفيه عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنه- أن رجلا شكا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قلة النّسل فأمره بأكل البيض والبصل [ (3) ] .
وفيه عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رجلا أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إني إذا أكلت اللّحم انتشرت.
وفي لفظ للنسائي: «وأخذتني شهوة النّساء، فحرّمت عليّ اللّحم» فأنزل الله عز وجل يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة 87] .
وفيه عن معاذ بن جبل- رضي الله تعالى عنه- قال: قيل يا رسول الله هل أوتيت من طعام الجنة شيئا؟ قال: «نعم، أتاني جبريل بهريسة فأكلتها، فزادت في قوتي قوة أربعين رجلا في النكاح» .
وفيه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: شكا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى جبريل
__________
[ (1) ] انظر كنز العمال (28197) .
[ (2) ] انظر كنز العمال (44409) .
[ (3) ] انظر كنز العمال (23610) .(12/200)
عليه الصلاة والسلام قلّة الجماع فقال: «يا رسول الله أين أنت من أكل الهريسة فإن فيها قوة أربعين رجلا» .
وفيه عن أبي سعيد- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ» ، زاد ابن خزيمة: فإنه أنشط للعودة.
وفيه عن أبي رافع- رضي الله تعالى عنه- قال: كنت عند النبي- صلى الله عليه وسلم- جالسا إذ مسح بيده على رأسه ثم قال: «عليكم بسيّد الخضاب الحنّاء يطيب البشرة ويزيد في الجماع»
[ (1) ] .
وفيه عن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اختضبوا بالحنّاء، فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم»
[ (2) ] .
وفيه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أيعجز أحدكم أن يجامع أهله في كل جمعة، فإن له أجرين أجر غسله وأجر غسل امرأته» .
وفيه عن الحسن- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعلي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه-: «لا تجامع أهلك في النصف من الشّهر، فإنّه محضر الشّياطين» .
الباب السابع والأربعون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- السل
[روى ابن النجار في تاريخه عن مرثد بن عبد الله اليزني قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تمشمشوا مشاش الطّير، فإنّه يورث السّلّ] .
الباب الثامن والأربعون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الجراح
روى الشيخان عن سهل بن سعد- رضي الله تعالى عنه- أنه سئل بأيّ شيء دووي جراح النبي- صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: كانت فاطمة تغسل الدّم، وعليّ يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة الدّم لا يزيد إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها، حتى إذا صارت رمادا ألصقته بالجرح فاستمسك
[ (3) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن عدي 6/ 2443.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 163 وقال: رواه البزار وفيه يحيى بن ميمون التمار وهو متروك.
[ (3) ] أخرجه مسلم 3/ 1416 (1790) .(12/201)
وروى أبو نعيم في الطب عن سلمى وكانت خادمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا اشتكى أحد منّا رجله فقال: «اذهب فاخضبها بالحنّاء»
وفي لفظ: قال: كنت أخدم النبي- صلى الله عليه وسلم- فما كانت تصيبه قرحة ولا نكبة ألّا أمرني أن أضع عليها الحنّاء.
الباب التاسع والأربعون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الخراج والحكة ونحوهما
روى ابن عساكر والخرائطي في مكارم الأخلاق عن أسماء بنت أبي بكر- رضي الله تعالى عنهما- قالت: خرج في عنقي خرّاج فتخوّفت منه، فسألت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: ضعي يدك عليه ثم قولي ثلاث مرات: «بسم الله، اللهمّ أذهب عنّي شرّ ما أجد بدعوة نبيك الطيب المبارك، المكين عندك بسم الله»
[ (1) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- رخّص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في قميص من حرير، من حكة كانت بجلدهما.
تنبيهات
الأول: قد تقدم أنه- عليه الصلاة والسلام- أرخص لبس الحرير للقمل، فيحتمل أن تكون العلتان بإحدى الرجلين، أو أنّ الحكّة حصلت من القمل فنسب العلة تارة إلى السّبب، وتارة إلى المسبّب.
الثاني: قال النووي: هذا الحديث صريح في الدلالة بمذهب الشافعي ومرافقيه، أنه يجوز لبس الحرير للرجل إذا كانت به حكّة، لما فيه من البرودة، وكذا للقمل، وما في معنى ذلك، وقال مالك: لا يجوز وتعقب قوله لما فيه من البرودة فإن الحرير حار، والصواب أن الحكة فيه لخاصية فيه تدفع الحكّة.
وقال ابن القيم: وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة في مزاجه مسخنا للبدن، وقال الرّازي: الإبريسم أسخن من الكتّان، وأبرد من القطن يربي اللّحم، وكل لباس حسن، فإنه يهزل ويصلب البشرة، فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ، وملابس الكتان والحرير والقطن تدفي ولا تسخن، فثياب الكتان باردة يابسة، وثياب الصوف حارة يابسة، وثياب القطن معتدلة الحرارة، وثياب الحرير ألين من القطن وأقل حرارة منه، ولما كانت ثياب الحرير كذلك وليس فيها شيء من اليبس والخشونة الكائنين في غيرها صارت نافعة من الحكّة.
__________
[ (1) ] انظر كنز العمال (28376) .(12/202)
الباب الخمسون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الكسر والوثى والخلع
روى أبو داود وابن ماجة عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- احتجم على وركه من وثء كان به [ (1) ] .
وروى النسائي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو محرم على ظهر القدم من وجع كان به، ورواه ابن ماجة بلفظ: «من رهصة أصابته» [ (2) ] .
تنبيه:
الوثء: وهن دون الخلع والكسر.
الباب الحادي والخمسون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الخدران الكلي
[روى أبو عبيد في «غريب الحديث» عن أبي عثمان النهدي قال: إنّ قوما مرّوا بشجرة فأكلوا منها فكأنّما مرّت بهم ريح فأجمدتهم، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «قرسوا الماء في الشّنان وصبّوا عليهم فيما بين الأذانين] .
الباب الثاني والخمسون في إرشاده- صلى الله عليه وسلم- إلى دفع مضرات السموم بأضدادها
روى أبو نعيم في الطب عن سعد- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أكل ما بين لابتي المدينة سبع تمرات على الريق لم يضرّه ذلك اليوم سم» رواه بزيادة عجوة ولا سحر
[ (3) ] .
وفيه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم» .
وفيه عن سعد- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أكل من ما بين لابتي المدينة سبع تمرات على الريق لم يضرّه ذلك اليوم السّم.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (3863) ، وابن ماجة (3485) .
[ (2) ] أخرجه النسائي 5/ 193.
[ (3) ] انظر المجمع 5/ 44.(12/203)
وفيه عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أكل سبع تمرات من عجوة المدينة في كل يوم لم يضرّه سمّ ذلك اليوم ومن أكلهنّ ليلا لم يضرّه سمّ ليلته»
[ (1) ] .
وفيه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم» وفي لفظ: «وهي شفاء من السّمّ» .
وفيه عن جابر عن عبد الله- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «العجوة من الجنة، وفيها شفاء من السم» .
الباب الثالث والخمسون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في السم
روى ابن ماجة عن أبي سعيد- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «في أحد جناح الذّباب سمّ والآخر شفاء، فإذا وقع في الطّعام فامقلوه فيه فإنّه يقدّم السّمّ ويؤخّر الشّفاء»
[ (2) ] .
وروى ابن النجار عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «في الذّباب أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، فإذا وقع في الإناء فارسبوه فيذهب شفاؤه بدائه» .
وروى أبو داود وابن حبان عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا وقع الذّباب في إناء أحدكم فليغمسه [فإنّ في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء، وإنّه يتّقي بجناحه الذي فيه الدّاء فليغمسه] [ (3) ] كلّه ثمّ لينزعه» .
وروى الإمام أحمد والنسائي والحاكم عن أبي سعيد- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا وقع الذّباب في إناء أحدكم فليمقله فيه فإنّ في أحد جناحيه سمّا، وفي الآخر شفاء وإنّه يقدّم السّمّ ويؤخر الشّفاء» .
وروى ابن ماجه عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «في أحد جناحي الذّباب سمّ والآخر شفاء فإذا وقع في الطّعام فامقلوه فيه، فإنّه يقدّم السّمّ ويؤخّر الشّفاء» .
__________
[ (1) ] انظر المجمع 5/ 44.
[ (2) ] أخرجه ابن ماجة (3504) .
[ (3) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/204)
تنبيه:
قد ذكروا في علاج السم أنه إما أن يكون بالاستفراغات، وإما أن يكون بالأدوية التي تعارض فعل السّمّ وتبطله إما بكيفياتها، وإما بخواصها، فمن عدم الدواء فليبادر إلى الاستفراغ الكلي، وأنفعه الحجامة ولا سيما إذا كان البلد حارّا، والزمان حارّا فإن القوة السّميّة تسري إلى الدّم فتنبعث في العروق والمجاري، حتى تصل إلى القلب والأعضاء، فإذا بادر المسموم وأخرج الدم خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته، فإن استفرغ استفراغا تاما لم يضرّه السم، بل إما أن يذهب وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة فتبطل فعله أو تضعفه وإنما احتجم النبي- صلى الله عليه وسلم- في الكاهل، لأنه أقرب إلى القلب، فخرجت المادة السّمّيّة مع الدّم لا خروجا كليا، بل بقي أثرها مع ضعفه، لما يريد الله تعالى من تكميل مراتب الفضل كلها له بالشهادة زاده الله فضلا وشرفا.
الباب الرابع والخمسون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في لدغ الهوام
روى الطبراني وأبو نعيم بسند حسن عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: لدغت النبي- صلى الله عليه وسلم- عقرب وهو يصلي، فلما فرغ قال: «لعنك الله لا تدعين نبيّا ولا غيره» ثم دعا بماء وملح فجعل يمرّ بها عليها ويقرأ المعوذتين، وقل يا أيها الكافرون.
وروى الطبراني في الكبير عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: ذكر عند النبي- صلى الله عليه وسلم- رقية من الحمّة فقال: اعرضوها عليّ، فعرضوها عليه، بسم الله قرنية شجنة ملحة بحر قفطا فقال: «هذه مواثيق أخذها سليمان بن داود على الهوامّ، لا أرى بها بأسا» قال:
فلدغ رجل وهو مع علقمة، فرقاه بها، فكأنّما نشط من عقال.
وروى الطبراني في الكبير بسند حسن عن عبد الله بن زيد- رضي الله تعالى عنه- قال: عرضنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رقية من الحمّة فأذن لنا فيها وقال: «إنّما هي مواثيق، والرّقية بسم الله شجنة قرنية ملحة قفطا» .
وروى الطبراني في الكبير بسند لين فيه من تكلّم فيه عن سهل بن أبي حثمة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج وخرج معه عبد الرحمن بن سهل فلما كانا بالحرّة نهشت عبد الرحمن بن سهل حيّة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «ادعوا عمرو بن حثمة» ، فدعي فعرض رقيته على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «لا بأس بها ارقه» فوضع ابن حثمة يده عليه فقال: يا رسول الله قد يموت، أو قد مات فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ارقه» وإن كان قد مات فرقاه، فصحّ عبد الرحمن وانطلق.(12/205)
وروى الطبراني في الكبير برجال الصحيح خلا قيس بن الربيع بن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: جاء رجل من الأنصار فقال له عمرو بن حثمة وكان يرقي من الحيّة فقال: يا رسول الله إنّك نهيت عن الرقى، وأنا أرقي من الحيّة، فقال: «قصّها عليّ» فقصصتها عليه فقال: «لا بأس بهذه هذه المواثيق» ، قال: وجاءه رجل من الأنصار، وكان يرقي من العقرب فقال: «من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل» .
وروى ابن أبي شيبة في مسنده، عن عبد الله بن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي إذ سجد فلدغته عقرب في أصبعه فانصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «لعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العقرب، ما تدع نبيّا ولا غيره» ثمّ دعا بإناء فيه ماء وملح فجعل يضع موضع اللّدغة في الماء والملح ويقرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ والمعوذتين حتى سكنت، وهذا طب مركب من الطبيعي والإلهيّ، فإن سورة الإخلاص قد جمعت الأقوال الثلاثة التي هي جامع التوحيد، وفي المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا، وأما الماء والملح فهو الطب الطبيعي، فإنّ في الملح نفعا لكثير من السّموم، ولا سيما لدغة العقرب، وفيه من القوّة الجاذبة المحللة ما يجذب السّموم ويحللها، ولما كان في لسعتها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب وإخراج استعمل- صلى الله عليه وسلم- الماء والملح.
الباب الخامس والخمسون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في الزكام وأدواء الأنف
روى ابن السّنيّ وأبو نعيم عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالمرزنجوش فشموه فإنّه جيّد للخشام» .
وروى أبو نعيم في الطّب عن سلمة بن الأكوع قال: عطس رجل عند النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال له: «رحمك الله» فقال: ثم عطس مرّة أخرى، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «الرّجل مزكوم»
[ (1) ] .
وفيه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «شمت أخاك ثلاثا، فإن زاد فإنّما هي نزلة أو زكام»
[ (2) ] .
وفيه عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنه- قال: عطس رجل عند النبي- صلى الله عليه وسلم- فشمّته رجل ثمّ عطس فشمّته ثم عطس فأراد أن يشمّته فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: دعه فإنّه مضنوك» .
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 2292 (2993) .
[ (2) ] أخرجه أبو داود (5034) .(12/206)
وفيه عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تكرهوا الزّكام- فإنّه يقطع عرق الجذام»
[ (1) ] .
الباب السادس والخمسون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الشوكة
روى أبو نعيم في الطّب عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كوى أسعد بن زرارة من الشّوكة، وهي حمرة تعلو الوجه.
وفيه عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاد أبا أمامة أخذته الشّوكة بالمدينة قبل بدر،
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بئس الميّت ليهود، سيقولون ألا دفع عنه، ولا أملكه ولا لنفسي شيئا ولا يكون في أبي أمامة»
فأمر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكوي من الشّوكة طرف عنقه بالكي فلم يلبث أبو أمامة إلا يسيرا حتى مات» .
الباب السابع والخمسون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- أمراض الفم
روى عبد الجبار الخولاني في تاريخ داريا عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالسّواك، فنعم الشّيء السّواك يذهب بالحفر يذهب البلغم، ويجلو البصر ويشدّ اللّثة ويذهب بالبحر، ويصلح المعدة ويزيد في درجات الجنّة، ويفرح الملائكة، ويرضي الرّبّ، ويسخط الشّيطان» .
وروى أبو الشيخ وأبو نعيم في كتاب السّواك، وضعفه عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «في السّواك عشر خصال: يطيّب الفم ويشدّ اللّثة ويجلو البصر ويذهب البلغم ويذهب بالحفر وهو من السّنة ويفرّح الملائكة ويرضي الرّبّ ويزيد في الحسنات ويصحّ المعدة» رواه البيهقيّ بسند فيه الجليل بن مرّة، وهو ضعيف إلا أنه قال: ويوافق السّنّة، وهو من السّنّة، وبدل «يطيّب الفم ويرضي الرّبّ، مطهرة للفم مرضاة للرّبّ، وبدل يفرّح الملائكة، مفرحة للملائكة» .
وروى الديلمي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «في السّواك عشر خصال: مطهرة للفم ومرضاة للرّبّ، ومسخطة للشّيطان ومحبّة للحفظة، ويشدّ
__________
[ (1) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 7/ 2697.(12/207)
اللّثة، ويطيّب الفم ويقطع البلغم ويطفو المرّة، ويجلو البصر، ويوافق السّنّة» .
وروى الحاكم في تاريخه عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «في السّواك عشر خصال، مطهرة للفم، ومرضاة للرّبّ ومسخطة للشّيطان، ومحبّة للحفظة، ويشدّ اللّثة» .
وروى الطبراني في الأوسط عن معاذ بن جبل- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نعم السّواك الزّيتون من شجرة مباركة يطيّب الفم ويذهب بالحفر، وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي ويجلو البصر ويضعّف الحسنات سبعين ضعفا، ويذهب الحفر ويشهي الطّعام»
[ (1) ] .
وروى أبو نعيم في الطّب عن أبي هند قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نعم الطّعام الزّبيب يطيّب النّكهة، ويذهب بالبلغم» .
وفيه عن الحسن بن علي- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالزّبيب فإنّه يكشف المرة ويذهب بالبلغم ويشدّ العصب، ويذهب بالعياء، ويحسّن الخلق ويطيّب النّفس ويذهب بالهمّ» .
الباب الثامن والخمسون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في الأسنان
روى أبو نعيم في الطّب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاث لا يعاد صاحبهنّ: الرّمد وصاحب الضّرس والدّمّل»
[ (2) ] .
وفيه عن عبد الله بن عبد الله بن أبي قال: ندرت ثنيّتي يوم أحد فأمرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أتخذ ثنيّة من ذهب [ (3) ] .
وفيه عن أبي أيوب عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «حبّذا المتخلّلون» قالوا: يا رسول الله، وما المتخللون؟ قال: «المتخلل من الطّعام فإنّه ليس من شيء أشدّ على الملكين اللّذين على العبد أن يريا بين أسنان صاحبهما طعاما وهو قائم يصلي» .
وروى الديلمي عن عمران بن حصين- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تخلّلوا على إثر الطّعام وتمضمضوا فإنه مصحّة للنّاب والنّواجذ» .
__________
[ (1) ] انظر المجمع 2/ 100.
[ (2) ] انظر كنز العمال (25158) .
[ (3) ] انظر مجمع الزوائد 5/ 150.(12/208)
الباب التاسع والخمسون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الدبيلة
روى أبو نعيم في الطب عن عم عامر بن الطفيل أن عامر بن الطّفيل أهدى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فرسا، وكتب إليه عامر أنه قد ظهرت به دبيلة، فابعث إليّ بدواء من عندك قال: فردّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الفرس لأنه لم يكن أسلم، وأهدى إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عكّة من عسل وقال: «تداوى بهذا» .
وفيه عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أيضا قال: لما راح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من كراع الغميم ركبانا ومشاة، فصف المشاة للنبي- صلى الله عليه وسلم- سماطا، وقالوا: نتعرض لدعوة النبي- صلى الله عليه وسلم- نرجو بركتها فلما مرّ نبي الله- صلّى الله عليه وسلم- قالوا: يا رسول الله ثقل علينا المشي واشتدّ السّفر فقال: «اللهمّ أعظم أجرهم وذخرهم» ، ثم قال: «لو استمتعتم بالنّسل لخفّت أجسادكم وقطعتم الأرض» ، فنسل المسلمون وخفّت أجسادهم وقطعوا الأرض.
الباب الستون في سيرته- صلّى الله عليه وسلم- في غمز الظهر في السقطة والقدمين من الإعياء
روى أبو نعيم في الطب عن عمر- رضي الله تعالى عنه- قال: دخلت على النبي- صلى الله عليه وسلم- وغليم أسود يغمز ظهره، فقلت: ما هذا يا رسول الله؟ قال: «إن النّاقة اقتحمت بي البارحة» وفي لفظ: «وإنسان يغمز ظهره» فسأله عمر فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إن الناقة اتعبتني»
وفيه عن أبي زيد قال: أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ادن فامسح ظهري» ، فدنوت فمسحت ظهره، ووضعت خاتم النبوة بين أصبعي.
وفيه عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أن قوما شكوا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- المشي فدعاهم [ ... ] .
شكا بعض من حصل له ذلك للشيخ أبي محمد المرجاني، فرأى النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدواء وهو أن يأخذ عسل نحل شونيز ودهن ألية والزّيت المرقّى ورقيق البيضة ويخلط ذلك كله ويمده على الموضع، ويدر عليه دقيق العدس بقشرة من الشجر مع الحرمل بعد ما يدق دقا ناعما حتى يعود مثل الدقيق ففعله فبرئ.(12/209)
الباب الحادي والستون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الإعياء من شدة المشي
روى أبو نعيم عن علي- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالزّبيب فإنّه يكشف المرة، ويذهب بالبلغم ويشدّ العصب ويذهب بالعياء ويحسّن الخلق، ويطيّب النّفس، ويذهب بالهمّ» .
وروى ابن السني وأبو نعيم في الطب والخطيب في التلخيص والدّيلمي وابن عساكر عن سعيد بن زياد بن فائد بن زياد بن أبي هند الدّاري عن أبيه عن جده عن أبيه زياد عن أبي هند أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «نعم الطّعام الزّبيب يشدّ العصب ويذهب الوصب، ويطفئ الغضب، ويطيّب النّكهة، ويذهب البلغم ويصفّي اللّون»
[ (1) ] .
الباب الثاني والستون في علاجه- صلّى الله عليه وسلم- الحائض والمستحاضة والنفساء
ذكر ابن الحاج في المدخل أن بعض الناس أصابه سلس الرّيح، فرأى الشيخ أبو محمد المرجاني النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يشير بهذا الدّواء وهو أن يأخذ الشونيز ثلاثة دراهم، ومن الخزامى درهمين ونصفا ومن الكمّون الأبيض ثلاثة دراهم ومثله من السّعتر الشّامي ومثله من الفلية ووزن درهم من البلوط، وهو ثمرة الفؤاد، وأوقية من الزيت المرقى، ويجعل فيه من العسل النحل ما يعتد به وهو ربع رطل، ويأخذ منه غدوة النهار وزن درهمين على الريق، وعند النوم درهم ونصف فاستعمله فبرأ، ثم أنه- صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك قال في النوم لذلك الشخص الذي أخبره بهذا الدواء أنه يدفع الأدواء، وهي الريح وسلس الريح والمعدة وبرودتها ووجع الفؤاد وألم الحيض وألم النّفاس.
وروى الشيخان وابن السني وأبو نعيم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن امرأة سألت النبي- صلى الله عليه وسلم- عن طهرها من الحيض قال: «خذي فرصة من مسك فتطهري بها» قالت:
كيف أتطهر بها فاجتذبتها إليّ؟ فقلت: تتبعي بها أثر الدم
[ (2) ] .
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أطيب الطّيب المسك»
[ (3) ] .
__________
[ (1) ] انظر كشف الخفاء 2/ 169.
[ (2) ] أخرجه مسلم 1/ 260 (332) .
[ (3) ] أخرجه مسلم 4/ 1766 (2252) .(12/210)
وروى ابن السني عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: ما تستطيع إحداكنّ إذا طهرت من حيضتها أن تدهن بشيء من قسط، فإن لم تجد فشيء من ريحان وفي لفظ: من ريحان يعني: الآس، فإن لم تجد فشيء من نوى، فإن لم تجد فشيء من ملح.
وروى الشيخان وابن السّنّي وأبو نعيم عن أمّ عطيّة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «المرأة تحد على زوجها أربعة أشهر وعشرا ولا تطيب إلا عند أدنى طهرها نبذة من قسط وأظفار» .
وفيه عن علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكرموا عمتكم النّخلة فإنّها خلقت من فضلة طينة آدم- عليه الصلاة والسلام- وليس من الشّجر شجرة أكرم على الله من شجرة ولدت تحتها مريم بنت عمران، فأطعموا نسائكم الولد الرّطب فإن لم يكن رطب فتمرة.
وفيه عن أبي أمامة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أطعموا نسائكم الرّطب فإنّه لو علم الله خيرا منه لأطعمه مريم» قالوا: يا رسول الله ليس في كل حين يكون الرّطب قال: «فتمر» قالوا: يا رسول الله فأي التمر؟ قال: «كلّ التّمر طيّب وخير تمركم البرنيّ يشبع الجائع ويدفئ بها المقرور» .
وفيه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما للنّفساء عندي شفاء مثل الرّطب ولا للمريض مثل العسل» .
الباب الثالث والستون في إطعامه- صلى الله عليه وسلم- المزورات للناقة وهو الذي برئ من مرضه ولم يصل لحالته الأولى
روى أبو نعيم في الطب عن أم المنذر قالت: دخل علي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعه علي- رضي الله تعالى عنه- وهو ناقه قالت: ولنا دوال معلّقة قالت: فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليأكل وقام عليّ يأكل فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «مهلا يا عليّ فإنّك ناقه» قالت: فجلس عليّ فأكل منها النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم جعلت لهم سلقا وشعيرا فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «من هذا أصب يا علي»
[ (1) ] .
وفيه عن صهيب- رضي الله تعالى عنه- قال: قدمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين يديه تمر وخبز فقال: «ادن فكل» ، فأخذت آكل من التّمر فقال: «أتأكل من التّمر وبك رمد؟»
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (3856) .(12/211)
فقلت: يا رسول الله أمضغه من النّاحية الأخرى فتبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
تنبيه:
«الناقة» - بنون فألف فقاف- الذي قام من ضعفه.
الباب الرابع والستون في تغذيته- صلى الله عليه وسلم- المريض بألطف ما اعتاده من الأغذية
روى البخاري ومسلم من حديث عروة عن عائشة، أنها كانت إذا مات الميت من أهلها واجتمع لذلك النّساء ثم تفرّقن إلى أهلهن أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت وصنعت ثريدا ثم صبت التلبينة عليه، ثم قالت: كلوا منها
فإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «التلبينة مجمّة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن» .
وروى ابن ماجه وأحمد والحاكم عن عائشة قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالبغيض النّافع التلبين»
قالت: وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا اشتكى أحد من أهله لم تزل البرمة على النار حتى ينتهي أحد طرفيه يعني: يبرأ أو يموت.
الباب الخامس والستون في بعض فوائد تتعلق بالأبواب السابقة
قال الله تعالى وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 30] .
روى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: يا نبيّ الله إذا رأيتك قرّت عيني وطابت نفسي فأخبرنا عن كل شيء قال: «كلّ شيء خلق من الماء» قال الله تعالى وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء 30] فالماء يحفظ على اليدين رطوبته وهو أنفع الأشربة وأوفقها.
وفيه عن بريدة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «خير الشّراب في الدنيا والآخرة الماء. وأنفع المياه أخفّه وزنا وأعذبه طعما»
[ (1) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يستعذب له الماء العذب من السّقيا.
وفيه عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: وذكر العقيق قال «ما ألين موطنه وأعذب ماءه» .
__________
[ (1) ] انظر الكنز (28292) .(12/212)
والماء البارد على الريق يبرد الكبد جيدا، وعلى الطعام يقوي المعدة وينهض الشّهوة.
وروى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «أوّل ما يقال للعبد يوم القيامة: ألم أصحّ جسمك وأروك من الماء البارد، وأجود المواضع لتبريد الماء المبرّدات والأشجار، والمواضع العالية الهوائية، لأنها أسعد إلى تبريد الماء»
[ (1) ] .
وروى أبو نعيم في الطّب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: فاتتني العشاء ذات ليلة فخرجت فذكر قصة أبي الهيثم بن التّيّهان وفيها جاء بقربة [ (2) ] [يزعبها، فوضعها ثم جاء يلتزم النبي- صلى الله عليه وسلم- ويفديه بأبيه وأمه، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطا، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «أفلا تنقيت لنا من رطبه» ؟ فقال: يا رسول الله إني أردت أن تختاروا، أو قال: تخيروا من رطبه وبسره فأكلوا وشربوا من ذلك الماء فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة: ظل بارد، ورطب طيب وماء بارد» .
وأنفع المياه ما روق وسكن حتى يرسب ما خالطه.
وروى أبو نعيم في الطب عن جابر بن عبد الله- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاد رجلا من الأنصار وإلى جانبه ماء في ركي، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«إن كان الليلة عندكم ماء بات في شن، وإلا كرعنا في هذا» فأتي بماء وصب عليه فشرب.
وأنفع المياه أخف المياه وألطفها إذا لم يطل.
فائدة في الأدوية الإلهيّة
أعلم أن الله تعالى لم ينزل دواء أعم ولا أنفع ولا أعظم في إزالة الداء من القرآن، فهو للدّاء شفاء قال الله تعالى وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ [الإسراء 82] فالقرآن شفاء لكل داء، ولصدأ القلوب جلاء، وشفاء للأخلاق المذمومة لاشتماله على نقيضها من المفاسد والأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة، وإنما كان شفاء للأمراض الجثمانية، فلأن التبرك بقراءته ينفع كثيرا من الأمراض.
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم 4/ 138 والترمذي (2369) .
[ (2) ]
ثبت هذا الحديث في المخطوط هكذا « ... وفيها جاء بقربة. فأتى بها يحلبه فعلقها بكرنا، وفيه من كرائمها، ثم قال:
إليها وقد شققتها الريح حتى بردت فصب منها في الإناء، ثم ناول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: الحمد لله هذا من النعيم لتسألنّ عنه يوم القيامة.(12/213)
روى ابن ماجة عن علي- رضي الله تعالى عنه- مرفوعا: «خير الدّواء القرآن ومن أنفع الأدوية الدّعاء وهو عدوّ البلاء» .
وروى الإمام مالك ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأبو داود الطيالسي عن عثمان بن أبي العاص قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا اشتكى أحدكم فليضع يده حيث يجد ألمه ثم ليقل: أعوذ بعزّة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر سبعا»
وروى الترمذي، وقال حسن غريب والحاكم عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي ثم قل: بسم الله أعوذ بعزّة الله وقدرته من شر ما أجد من وجعي هذا، ثمّ ارفع يدك ثمّ أعد ذلك وترا»
[ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والطبراني في الكبير والخرائطي في مكارم الأخلاق عن كعب بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا وجد أحدكم ألما فليضع يده حيث يجد ألمه، وليقل سبع مرّات: أعوذ بعزّة الله وقدرته من شر ما أجد» .
وروى ابن السني عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا عسر على المرأة ولادتها فخذ إناء نظيفا فاكتب عليه كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات 46] ولَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف 111] إلى آخر الآية ثم يغسل وتسقى المرأة منه وينضح على بطنها وفرجها
[ (2) ] .
وروى الرافعي عن ذكوان بن نوح قال: اشتكى رجل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجع الضّرس فقال: «اسكني أيّها الرّيح أسكنتك بالذي سكن له ما في السموات وما في الأرض وهو السميع العليم»
[ (3) ] .
وروى الترمذي وابن ماجه والطبراني في الكبير عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعلّمهم من الحمّى والأوجاع كلّها أن يقولوا: «بسم الله الكبير أعوذ بالله العظيم من شرّ كلّ عرق نعاد ومن شرّ حرّ النّار»
[ (4) ] .
وروى ابن ماجه عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «خير الدّواء القرآن»
[ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (3588) .
[ (2) ] انظر الكنز (28381) .
[ (3) ] انظر الكنز (28380) .
[ (4) ] أخرجه ابن ماجة (3526) .
[ (5) ] أخرجه ابن ماجة (3501) .(12/214)
وروى الدّيلمي وأبو نعيم عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «داووا مرضاكم بالصّدقة وحصّنوا أموالكم بالزّكاة فإنّها تدفع عنكم الأمراض والأعراض، وهي زيادة في أعماركم وحسناتكم» ورواه أبو الشيخ عن أبي أمامة: «واستقبلوا أمواج البلاء بالدّعاء» .
وروى أبو نعيم في الطب، عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم دواء من سبعين داء أو تسعة وتسعين داء أيسرها الهمّ»
[ (1) ] .
وروى الدارمي في مسنده والبيهقي في شعب الإيمان من مرسل عبد الملك بن عمير قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فاتحة الكتاب شفاء من كل داء»
[ (2) ] .
وروى الإمام أحمد في مسنده، والبيهقي في شعب الإيمان عن عبد الله بن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أخبركم بخير سورة نزلت في القرآن؟ قلت: بلى يا رسول الله قال: «فاتحة الكتاب» وأحسبه قال: «فيها شفاء من كل داء»
[ (3) ] .
وروى الثّعلبي من طريق معاوية بن صالح عن أبي سليمان قال: مرّ أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض غزواتهم على رجل قد صرع فقرأ بعضهم [في أذنه] [ (4) ] بأم القرآن فبرأ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هي أم القرآن وهي شفاء من كلّ داء.
وفي سنن سعيد بن منصور وفي شعب الإيمان للبيهقيّ من حديث أبي سعيد الخدريّ مرفوعا «فاتحة الكتاب شفاء من السم» ورواه أبو الشيخ ابن حيان في الثواب عن حديث أبي سعيد وأبي هريرة.
تنبيه:
قال ابن القيم: [من ساعده التوفيق، وأعين بنور البصيرة حتى وقف على أسرار هذه السورة، وما اشتملت عليه من التوحيد، ومعرفة الذات والأسماء والصفات والأفعال، وإثبات الشرع والقدر والمعاد، وتجريد توحيد الربوبية والإلهية، وكمال التوكل والتفويض إلى من له الأمر كلّه، وله الحمد كله، وبيده الخير كلّه، وإليه يرجع الأمر كله، والافتقار إليه في طلب الهداية التي هي أصل سعادة الدارين، وعلم ارتباط معانيها بجلب مصالحهما، ودفع
__________
[ (1) ] انظر كنز العمال (1956) .
[ (2) ] انظر الكنز (2500) .
[ (3) ] أخرجه أحمد 4/ 177.
[ (4) ] سقط في ب.(12/215)
مفاسدهما، وأن العاقبة المطلقة التامة، والنعمة الكاملة منوطة بها، موقوفة على التحقق بها، أغنته عن كثير من الأدوية والرّقى، واستفتح بها من الخير أبوابه، ودفع بها من الشر أسبابه.
وهذا أمر يحتاج استحداث فطرة أخرى، وعقل آخر، وإيمان آخر، وتالله لا تجد مقالة فاسدة، ولا بدعة باطلة إلا وفاتحة الكتاب متضمّنة لردها وإبطالها بأقرب الطرق، وأصحّها وأوضحها، ولا تجد بابا من أبواب المعارف الإلهية، وأعمال القلوب وأدويتها من عللها وأسقامها إلا وفي فاتحة الكتاب مفتاحه، وموضع الدلالة عليه، ولا منزلاً من منازل السائرين إلى ربّ العالمين إلا وبدايته ونهايته فيها.
ولعمر الله إن شأنها لأعظم من ذلك، وهي فوق ذلك. وما تحقق عبد بها، واعتصم بها، وعقل عمن تكلم بها، وأنزلها شفاء تاما، وعصمة بالغة، ونورا مبينا، وفهمها وفهم لوازمها كما ينبغي ووقع في بدعة ولا شرك، ولا أصابه مرض من أمراض القلوب إلا لماما، غير مستقر.
هذا، وإنها المفتاح الأعظم لكنوز الأرض، كما أنها المفتاح لكنوز الجنة، ولكن ليس كل واحد يحسن الفتح بهذا المفتاح، ولو أن طلّاب الكنوز وقفوا على سر هذه السورة، وتحقّقوا بمعانيها، وركبوا لهذا المفتاح أسنانا، وأحسنوا الفتح به، لوصلوا إلى تناول الكنوز من غير معاوق، ولا ممانع.
ولم نقل هذا مجازفة ولا استعارة، بل حقيقة، ولكن لله تعالى حكمة بالغة في إخفاء هذا السر عن نفوس أكثر العالمين، كما له حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم. والكنوز المحجوبة قد استخدم عليها أرواح خبيثة شيطانية تحول بين الإنس وبينها، ولا تقهرها إلا أرواح علوية شريفة غالبة لها لحالها الإيماني، معها منه أسلحة لا تقوم لها الشياطين، وأكثر نفوس الناس ليست بهذه المثابة، فلا يقاوم تلك الأرواح ولا يقهرها، ولا ينال من سلبها شيئا، فإن من قتل قتيلا فله سلبه] .(12/216)
الباب السادس والستون في الكلام على بعض المفردات التي جاءت على لسانه- صلى الله عليه وسلم-
روى الطيالسي بسند صحيح وابن أبي عمر وابن منيع وعبد بن حميد وأبو يعلى وابن حبان عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بألبان البقر، فإنّها تأكل من كلّ الشجر» ورواه الحاكم «وهو شفاء من كل داء» .
وروى الحاكم عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما أنزل الله داء إلّا وقد أنزل الله له شفاء وفي ألبان البقر شفاء من كل داء»
[ (1) ] .
وروى الطبراني في الكبير عن مليكة بنت عمرو أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ألبان البقر شفاء وسمنها دواء ولحومها داء»
[ (2) ] .
وروى الطبراني في الكبير والخطيب عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تداووا بألبان البقر فإني أرجو أن يجعل الله فيها شفاء فإنّها تأكل من كلّ الشّجر»
[ (3) ] .
وروى ابن السني وأبو نعيم عن صهيب- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بأبوال الإبل البّرّيّة وألبانها» .
وروى ابن عساكر عن طارق بن شهاب- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بألبان الإبل والبقر، فإنّها ترم من الشّجر كلّه، وهو دواء من كل داء» .
وروى ابن السني وأبو نعيم والحاكم عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بألبان الإبل والبقر، فإنّها دواء سمنانها فإنها شفاء وإيّاكم ولحومها فإن لحومها داء» .
وروى ابن السني وأبو نعيم عن صهيب- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بألبان البقر فإنّها شفاء وسمنها دواء ولحمها داء» .
وهو بارد يابس، يقطع الدم من الجراحة ذرورا ونصفه يقطع رائحة الثوم والبصل، وإذا نفخ رماده في أنف الراعف قطع دمه.
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم 4/ 404.
[ (2) ] انظر المجمع 5/ 90.
[ (3) ] انظر المجمع 5/ 84.(12/217)
وروى البخاريّ ومسلم أنه لما كسرت رباعية النبي- صلى الله عليه وسلم- عمدت فاطمة إلى حصير فأحرقتها حتى إذا صارت رمادا ألصقته على جرحه فاستمسك الدّم.
البطّيخ:
روى الدّيلمي والرافعي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «في البطّيخ عشر خصال، هو طعام وشراب وريحان وفاكهة وأشنان ويغسل البطن ويكثّر ماء الظّهر ويزيد في الجماع، ويقطع الأبردة وينقي البشرة» .
البنفسج:
قال- عليه الصلاة والسلام-: «فضل البنفسج على سائر الأدهان كفضلي على سائر الخلق» وهو بارد في الصيف حارّ في الشتاء رواه أبو نعيم في الطب.
وروى الترمذي وأبو داود أنه- عليه الصلاة والسلام- كان يأكل البطّيخ بالرّطب ويقول:
يدفع حرّ هذا برد هذا، وبرد هذا حرّ هذا.
وروى ابن السّنّيّ وأبو نعيم عن صهيب- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بأبوال الإبل البرّيّة وألبانها» .
تنبيه:
«التلبينة» بمثناة فوقية فلام فموحدة فمثناة تحتية وفسرتها أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- بلت القمح بالسّمن وقال النّضر بن شميل ما اتّخذ من النّخالة، وقيل: دقيق يحسّ وقال قوم: فيه شحم.
وروى محمد بن يحيى بن أبي عمر عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالبغيض النّافع» قالوا: وما هو؟ قالت التلبينة قالت عائشة- رضي الله تعالى عنها-: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا مرض المريض في بيته أتى بالبرمة فوضعت على النّار فلم ترفع عن النّار حتى يقضي على أحد طرفيه، إما أن يموت وإما أن يصح، وفي رواية له ولابن أبي شيبة والحاكم وصححه والبيهقي وابن ماجه بلفظ: «عليكم بالبغيض النّافع» قالوا:
وما هو؟ قال «التلبينة، والذي نفسي بيده إنها لتغسل أحدكم وجهه بالماء من الوسخ» وفي لفظ: «ليغسل، بطن أحدكم كما يغسل الوسخ عن وجهه» .
وروى الحارث عن إسحاق بن أبي طلحة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «في التلبينة شفاء من كل داء» .
وروى الإمام أحمد والبيهقي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «التلبينة مجمّة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن» .
التمر:
وروى ابن السني وأبو نعيم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالتمر فإن الله تعالى جعل فيه شفاء من كل داء» .(12/218)
الحبّة السّوداء:
وروى البخاري عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- والطبراني في الكبير أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الحبّة السّوداء شفاء من كل داء إلّا السّام» .
وروى الإمام أحمد والشيخان وابن ماجه عن أبي هريرة والبخاري عن عائشة والطبراني في الكبير والضياء عن أسامة بن شريك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «في الحبّة السّوداء شفاء من كل داء إلّا السّام» .
وروى ابن ماجه عن ابن عمر والترمذي وقال: حسن صحيح، وابن حبان عن أبي هريرة- والإمام أحمد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالحبّة السّوداء فإنّ فيها شفاء من كل داء إلّا السّام والسّام الموت» .
وروى ابن السني وأبو نعيم [عن صهيب- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «عليكم بأبوال الإبل البرّيّة وألبانها» .
وروى] [ (1) ] الديلمي عن أبي رافع- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسيّد الخضاب الحنّاء فإنّه يطيّب البشرة ويزيد في الجماع» .
الراء
الرمان:
وروى أبو نعيم في الطّب عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أنه سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الرّمّان فقال: يا أنس ما من رمانة إلا وفيها حبّة من حبّات رمّان الجنّة فسأله الثانية فقال يا بن مالك ما لقحت رمّانّة إلا بقطرة من ماء الجنة فسأله الثالثة فقال: نعم يا بن مالك ما أكل رجل من رمّانة إلّا ارتدّ قلبه إليه وهرب الشّيطان منه أربعين ليلة، ولولا استحياؤه من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لسأله الرابعة.
الزاي
الزبيب:
وروى أبو نعيم عن علي- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالزّبيب فإنّه يكشف المرة ويذهب بالبلغم ويشدّ العصب ويذهب بالعياء ويحسّن الخلق ويطيّب النّفس ويذهب بالهمّ» .
السين
السنا:
روى ابن ماجة والحاكم في الكنى وابن مندة والطبراني في الكبير والحاكم وابن السني وأبو نعيم في الطب والبيهقي وابن عساكر عن أبي أبي ابن أم حرام أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالسّنا والسّنوت فإنّ فيهما شفاء من كل داء إلّا السّام» قالوا:
يا رسول الله وما السّام؟ قال: «الموت» .
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/219)
السّنا [ (1) ] مقصور قال الفراء: ويمد أيضا، ويثنى سنوان وقال ابن زياد: هو من الأعلاف وورقته رقيقة وله سنة، إذا حرّكته الرّيح تخشخش السّنوت بسين مهملة فنون مضمومة فواو فمثناة فوقية، قال أبو نعيم في الطب: قال ابن أبي خيثمة: السنوت الشّبتّ وقال آخرون: هو العسل الذي يكون في زقاق السّمن وهو قول الشّاعر:
هم السّمن بالسّنّوت لا ألس فيهم ... وهم يمنعون جارهم أن يقرّدا
وقيل لعمر: وما معنى قوله «لا ألس فيهم» قال: «لا غش فيهم» .
قلت: فما معنى أن يقردا قال: لا يذلل.
وقيل: السنوت: الكمون.
وقيل: الرازيانج.
وقيل: التّمر.
السّفرجل:
روى أبو نعيم في الطب أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: «كلوا السّفرجل فإنّه يذهب وغر الصّدر» .
الشين
الشّونيز:
روى ابن أبي شيبة عن بريدة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الشّونيز دواء من كل داء، إلا السام، قالوا: يا رسول الله، وما السّام؟ قال:
الموت»
[ (2) ] .
وروى الطبراني برجال ثقات عن أسامة بن شريك- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الحبة السّوداء شفاء من كل داء إلّا السّام»
[ (3) ] .
وروى أبو يعلى عن بريدة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «العجوة من فاكهة الجنّة والكمأة دواء العين، والشّونيز دواء من كل داء إلا الموت» .
وروى الإمام أحمد عنه مرفوعا: «اعلموا أن الكمأة دواء العين، وأنّ العجوة من فاكهة الجنّة، وأنّ هذه الحبّة السّوداء التي تكون في الملح دواء من كل داء إلّا الموت»
[ (4) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال
__________
[ (1) ] أخرجه ابن ماجة (3457) .
[ (2) ] انظر الكنز (28253) .
[ (3) ] انظر مجمع الزوائد 5/ 88.
[ (4) ] انظر كنز العمال (28201) .(12/220)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الحبّة السّوداء فيها شفاء من كل داء إلّا الموت»
[ (1) ] .
وروى ابن السني في الطب وعبد الغني في الإيضاح عن بريدة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «الشّونيز دواء من كل داء إلا السّام وهو الموت» .
وروى ابن ماجه عن ابن عمر والتّرمذي والطبراني في الكبير عن أبي هريرة والإمام أحمد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بهذه الحبّة السّوداء فإن فيها شفاء من كل داء إلا السّام وهو الموت»
[ (2) ] .
«الشّبرم» بشين معجمة فموحدة فراء فميم: شجرة حارة محرقة.
«شيح» بشين معجمة مكسورة، فمثناة تحتية ساكنة، فحاء مهملة.
وروى أبو نعيم في الطب عن عبد الله بن جعفر القرشيّ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «بخّروا بيوتكم باللبان والشّيح» .
ورق الشّيح طعمه مر ورائحته طيّبة ومنابته القيعان والرّياض يقال: شيح وشيحان للجمع» [ (3) ] .
العين
العسل:
روى ابن ماجة وابن السني في الطب والحاكم وأبو نعيم في الحلية، وابن مردويه وأبو داود والخطيب عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالشّفاءين العسل والقرآن»
[ (4) ] .
وروى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من لعق العسل ثلاث غدوات كلّ شهر لم يصبه عظيم بلاء»
[ (5) ]
وفيه عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما طلب الدّواء بشيء أفضل من شربة عسل» .
العجوة:
وروى مسلم وأبو نعيم في الطب عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أن في عجوة العالية شفاء وإنها ترياق أول البكرة» .
وروى أبو نعيم في الطب عنها قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «في عجوة العالية وقال
__________
[ (1) ] انظر الكنز (28251) .
[ (2) ] أخرجه ابن ماجة (3448) .
[ (3) ] انظر الكنز (28317) .
[ (4) ] أخرجه ابن ماجة (3452) .
[ (5) ] انظر الكنز (28169) .(12/221)
مرة العالية أو إنّها ترياق أول البكرة على الريق» وفي لفظ: «في عجوة العالية شفاء أو ترياق أول البكرة على ريق النّفس شفاء من كل سحر أو سمّ
[ (1) ] .
وروى الشيخان عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالعود الهنديّ، فإنّ فيه سبعة أشفية يسعط به من العذرة ويلدّ به من ذات الجنب» .
الهاء
الهليلج:
روى الحاكم وتعقّب والدّيلمي عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالهليلج الأسود فاشربوه فإنّه من شجر الجنّة طعمه مر وهو شفاء من كل داء»
[ (2) ] .
في بيان غريب ما سبق:
شونيز:
بشين معجمة مضمومة فواو ساكنة فنون فمثناة تحتية فزاي، قال أبو نعيم في الطب: وهو شنيز فارسيّ الأصل.
روى عن بريدة- رضي الله تعالى عنه- الشونيز دواء من كل داء إلّا الموت.
صعتر:
بصاد فعين مهملتين فمثناة فوقية فراء.
روى أبو نعيم في الطب عن أبان بن صالح عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «بخّروا بيوتكم بالشّيح والمرّ والصّعتر»
[ (3) ] وفيه عن [أنس] [ (4) ]- رضي الله تعالى عنه- قال: مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحائط من حيطاننا، وفيه شجرة نابتة فقالت:
«خذني يا رسول الله، فو الذي بعثك بالحق ما أنزل الله من داء إلّا وفي له شفاء» يعني الصّعتر.
صبر:
بصاد مهملة فموحدة فراء.
وروى أبو نعيم في الطب عن أبان بن عثمان قال: سمعت عثمان بن عفان يخبر عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المحرم يشتكي عينيه قال: يضمدهما بالصبر.
صمع:
بصاد فعين مهملتين بينهما ميم.
روى أبو نعيم في الطب عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يلبد بالصمغ والعسل.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم (2048) .
[ (2) ] أخرجه الحاكم 4/ 404.
[ (3) ] انظر كنز العمال (28316) .
[ (4) ] في ب ابن عباس.(12/222)
حنظل:
بحاء مهملة فنون فظاء معجمة مشالة فلام.
روى أبو نعيم في الطب عن أبي موسى- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «مثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الرّيحان ريحها طيّب وطعمها مرّ ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها خبيث وريحها خبيث» .
حناء:
بحاء مهملة فنون فألف.
روى أبو نعيم في الطب عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «سيد الرّياحين في الدنيا والآخرة الحنّاء» .
أرز:
بهمزة مفتوحة فراء ساكنة فزاي: قال أبو نعيم في الطب: واحد أرزة الراء ساكنة والإناث من الأرز الصنوبر ومنه يتخذ القطران.
وروي عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمن مثل الخامة من الزّرع لا تزال الرّيح تفيئه ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تهتزّ حتّى تستحصد» .
ثفاء
بثاء مثلثة، ففاء فألف فهمز: هو الحرف تسمية العامة حبّ الرّشاد.
وروى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالثفاء فإن الله تعالى جعل فيه شفاء من كل داء» .
قسط
بقاف فسين فطاء مهملتين ويقال له: كست: بكاف فسين مهملة فمثناة فوقية.
روى أبو نعيم في الطب عن أنس- رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «خير ما تداويتم به الحجامة والقسط البحريّ» .
مرّ:
بميم فراء.
وروى أبو نعيم في الطب عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بخّروا بالشيح والمرّ والصّعتر» .
أهليلج:
بهمزة فهاء فلامين بينهما مثناة تحتية فجيم.
وروى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الأهليلج من شجر الجنّة» .
كمأة:
بكاف فميم فهمزة فهاء.
وروى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم» .(12/223)
قرع:
بقاف فراء فعين مهملة.
كتم:
بكاف فتاء فميم.
وروى أبو نعيم في الطب عن أبي ذر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن أحسن ما غيرتم به الشيب الحنّاء والكتم»
[ (1) ] .
مرنجوش:
بميم فراء فنون فجيم فواو فشين معجمة.
الهندبا:
بهاء فنون فدال مهملة فموحدة فألف.
روى أبو نعيم في الطب عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما من ورقة من ورق الهندباء إلا عليها قطرة من ماء الجنة»
[ (2) ] .
الزيت:
بزاي فمثناة تحتية فأخرى فوقية.
روى أبو نعيم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كلوا الزّيت وادّهنوا به فإنّه شفاء من سبعين داء منها الجذام»
[ (3) ] .
العدس:
بعين فدال فسين مهملة.
وروى أبو نعيم في الطب عن واثلة بن الأسقع- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالعدس فإنّه قدّس على لسان سبعين نبيّا»
[ (4) ] .
العسل:
بعين فسين مهملتين فلام.
إثمد:
روى أبو داود الطيالسي والبيهقي عن ابن عباس وابن النجار عن أبي هريرة وعبد بن حميد وابن ماجة وابن منيع وأبو يعلى والعقيلي والضياء عن جابر وابن ماجة والحاكم عن ابن عمر وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالإثمد» وفي لفظ: «عند النّوم فإنّه يجلو البصر وينبت الشّعر» .
وروى الطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن السني عن علي قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالإثمد فإنّه منبتة للشّعر مذهبة للقذاء مصفاة للبصر»
[ (5) ] .
وروي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «البلح بالتّمر
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (1753) وأبو داود (4205) .
[ (2) ] انظر الكنز (35332) .
[ (3) ] انظر الكنز (28299) .
[ (4) ] انظر كنز العمال (35333) .
[ (5) ] انظر الكنز (17205) .(12/224)
كلوا الخلق بالجديد فإن الشّيطان إذا رآه غضب» وقال: «عاش ابن آدم حتى أكل الخلق بالجديد» .
الكحل:
بالكاف.
روى البغوي في مسند عثمان عن عثمان أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالكحل فإنّه ينبت الشّعر» .
اللّبن
الحليب يخصب البدن، وينفع من الربو والسعال ويزيد في الباءة ولبن الإبل أكثرها فضولا وأدسمها، وإذا شئت اللبن بما كان أقل ضررا لمن يعتريه الصداع.
وألبان الإبل تشفي من فساد المزاج وتغير المياه والسدر.
وألبان الأتن نافعة من فساد الرئة، وقد ذكر أبو نعيم في الطب أن النبي- صلى الله عليه وسلم- رخص فيه واللّبن الحليب مع التّمر يخصب البدن جدا، وكان عليه الصلاة والسلام يسميهما الأطيبان، والزبد نافع للقوباء ولخشونة الصّدر والسّمن أقوى الأدهان وأغذاها يلين الصلابات، والجبن يقوي المعدة فإذا أكل بعد الطّعام أذهب الرخامة، والبشم.
اللحم.
روي عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنّ للقلب فرحة عند أكل اللّحم» رواه البيهقي في الشّعب وأبو نعيم في الطب
وعنه- عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم»
وعنه- عليه الصلاة والسلام- قال: «سيّد طعام الدّنيا والآخرة اللّحم ثم الأرز» وكان أحبّ اللّحم إليه الكتف والذّراع ولحم الظهر
كما روى جميع ذلك كله أبو نعيم في الطب.
الدباء.
روى الديلمي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يكثر من أكل الدّباء فقلت: يا رسول الله- إنّك لتحبّ الدّبّاء قال: «الدّبّاء يكثّر الدّماغ ويزيد في العقل»
[ (1) ] .
الهندباء.
وروى أبو نعيم عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بالهندباء فإنّه ما من يوم إلّا وهو يقطر عليه قطر من قطر الجنّة»
[ (2) ] .
__________
[ (1) ] انظر الكنز (28278) .
[ (2) ] انظر الكنز (28284) .(12/225)
العجوة.
روى الإمام أحمد عن عائشة- رضي الله تعالى عنهما- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «في عجوة العالية أوّل البكرة شفاء من كل سحر أو سمّ» .
غبار المدينة.
روى أبو سعيد السّمّان في مشيخته والرّافعي عن إسماعيل بن محمد بن ثابت بن قيس ابن شماس عن أبيه عن جده والدّيلمي عن إسماعيل عن جده ثابت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «غبار المدينة شفاء من الجذام» .
النبق.
القرع.
روى الطبراني في الكبير عن واثلة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «عليكم بالقرع فإنّه يزيد في الدّماغ، وعليكم بالعدس فإنّه قدّس على لسان سبعين نبيّا» .(12/226)
جماع أبواب مرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ووفاته
الباب الأول في كثرة أمراضه- صلّى الله عليه وسلم-
روى أبو يعلى بسند جيد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كان عرق الكلية وهي الخاصرة تأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شهرا ما يستطيع أن يخرج للنّاس، ولقد رأيته يكرب حتّى آخذ بيده فأتفل فيها بالقرآن ثمّ أكبّها على وجهه ألتمس بذلك بركة القرآن وبركة يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأقول يا رسول الله إنّك مجاب الدّعوة فادع الله يفرّج عنك ما أنت فيه فيقول: «يا عائشة أنا أشدّ النّاس بلاء»
[ (1) ] .
وروى ابن السني، وأبو نعيم عنها: «أنّ الخاصرة كانت تنهز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكنّا ندعوها عرق الكلية» .
وروى أبو يعلى- بسند ضعيف عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: «مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ذات الجنب» [ (2) ] .
قال الحافظ بهاء الدين محمد بن أبي بكر البوصيري في «إتحاف المهرة» إنه حديث منكر
فقد ثبت في الصحيح أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «ذلك ما كان الله يعذّبني به» .
وروى الحاكم وصححه عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كانت تأخذه الخاصرة فيشتدّ به جدّا فاشتدّت به حتّى أغمي عليه وفزع النّاس إله فظننّا أنّ به ذات الجنب فلددناه ثمّ سرّي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- وأفاق فعرف أنّه قد لدّ فقال: «ظننتم إن الله قد سلّطها على ما كان ليفعل إنّها من الشّيطان وما كان الله ليسلّطه عليّ»
[ (3) ] .
وروى البخاري وابن سعد والحاكم وابن جرير عن عائشة وابن سعد عن أم سلمة وابن سعد عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قالوا: «كانت تأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الخاصرة فاشتدّت به فأغمي عليه حتّى ظننّا أنه قد مات فلددناه فجعل يشير إلينا أن لا تلدّوني فقلنا:
كراهية المريض للدّواء فلما أفاق. قال: «ألم أنهكم أن تلدّوني» .
- وفي لفظ- «أما إنّكم لددتموني وأنا صائم» ثم قال: «أكنتم ترون أنّ الله يسلّط عليّ
__________
[ (1) ] أخرجه أبو يعلى 8/ 207 (4769) . وانظر المجمع 2/ 294.
[ (2) ] أخرجه الحاكم 4/ 405.
[ (3) ] أخرجه أحمد 6/ 118.(12/227)
ذات الجنب ما كان الله ليجعل لها عليّ سلطانا إنّ ذات الجنب من الشّيطان والله لا يبقى في البيت أحد إلا لدّ وأنا أنظر، إلا العباس فإنّه لم يشهدكم فما بقي أحد في البيت إلا لدّ ولددنا ميمونة وهي صائمة»
[ (1) ] .
وروى ابن إسحاق- بسند فيه متهم وهو علي- عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت «تمادى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعه وهو يدور على نسائه في بيت ميمونة فاجتمع إليه أهله فقال العباس: إنا لنرى برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات الجنب لألدنّه فلدّوه وأفاق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «من فعل هذا؟» قالوا: عمّك العباس تخوّف أن يكون بك ذات الجنب فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنّها من الشّيطان وما كان الله ليسلّطه عليّ لا يبقى في البيت أحد إلا لددتموه إلّا عمّي العباس» فلدّ أهل البيت كلّهم حتى ميمونة وإنّها لصائمة يومئذ وذلك بعين رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
قلت: ولا منافاة بين حديث أبي يعلى وهذين الحديثين: لأن في ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين.
أحدهما: ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن.
والآخر: ريح محتقن بين الأضلاع، فالأول هو المنفي هنا، والثاني هو الذي أثبت في حديث أبي يعلى وليس فيه محذور كالأول.
«اللّدود» بفتح اللام وبدالين مهملتين أن تجعل الدواء في أحد جانبي الفم، وكان الذي لدّوه به العود الهندي، والزيت والورس.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 754 (4458، 5712) .(12/228)
الباب الثاني في نعى الله تعالى إلى رسوله- صلى الله عليه وسلم- نفسه الشريفة
قال الله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر 30] .
وقال عز وجل: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ؟
[الأنبياء 34] وقال تعالى تقدس اسمه كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [الأنبياء 35] .
وقال سبحانه وتعالى: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران 144] .
وقال تبارك وتعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النصر 1- 3] .
وروى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والبزار وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: نزلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أوسط أيام التشريق بمنى وهو في حجة الوداع إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً [النصر 1- 3] حتى ختمها فعرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع فخطب الناس خطبة أمرهم فيها ونهاهم.
وروى الإمام أحمد والبلاذري وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر 1] قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نعيت إليّ نفسي وقرب أجلي» .
وروى النسائي وعبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد الزهد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عنه قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ نعيت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نفسه حتى أنزلت فأخذني أشد ما يكون اجتهادا في أمر الآخرة.
وروى الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم عن الفضيل بن عياض قال: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر 1] إلى آخر السورة قال محمد- صلى الله عليه وسلم-: «يا جبريل نعيت إليّ نفسي» قال جبريل: «الآخرة خير لك من الأولى» .(12/229)
وروى ابن سعد عن الحسن البصري- رحمه الله تعالى- قال: لما نزلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إلى آخرها قال قرّب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أجله وأمر بكثرة التّسبيح والاستغفار.
وروى عبد الرزاق والشيخان وابن سعد عن عائشة وابن جرير وابن مردويه عن أم سلمة وعبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر والحاكم عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنهم- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منذ نزلت عليه السورة كان لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال:
وفي لفظ لعائشة: كان يكثر في آخر عمره من قول: «سبحانك اللهمّ ربّنا وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك اللهم اغفر لي إنّك أنت التوّاب الرّحيم» ويقول ذلك في ركوعه وسجوده يتأول القرآن يعني إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر 1] قالت عائشة: فقلت له: يا رسول الله إنك تكثر من قول سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليك ما لم تكن تفعله قبل اليوم، فقال:
«إنّ ربي كان أخبرني بعلامة في أمّتي فقال إذا رأيتها فسبّح بحمد ربك واستغفره فقد رأيتها» إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر 1] إلى آخر السورة.
وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أم حبيبة- رضي الله تعالى عنها- قالت: لما نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله لم يبعث نبيا إلا عمّر في أمّته شطر ما عمّر النّبيّ الماضي قبله، وإنّ عيسى ابن مريم كان عمره أربعين سنة في بني إسرائيل، وهذه لي عشرون سنة وأنا ميّت في هذه السنة فبكت فاطمة فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «وأنت أول أهل بيتي لحوقا بي» فتبسّمت.
وروى الطبراني والحاكم والطحاوي والبيهقي بسند صحيح عن فاطمة الزهراء- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنه لم يكن نبي إلا عاش من بعده نصف عمر الذي كان قبله وإنّ عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة، ولا أراني إلا ذاهبا على رأس الستين. يا بنيّة إنّه ليس منّا من نساء المسلمين امرأة أعظم ذريّة منك فلا تكوني من أدنى امرأة صبرا، إنك أول أهل بيتي لحوقا بيّ وإنّك سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان من البتول مريم بنت عمران» .
وروى إسحاق بن راهويه وابن سعد عن يحيى بن جعدة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يا فاطمة أنه لم يبعث نبيّ إلا عمّر نصف الذي كان قبله [وإنّ عيسى ابن مريم بعث رسولا لأربعين وإنّي بعثت لعشرين]
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/230)
وروى البخاري في «تاريخه» عن زيد بن أرقم- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما بعث الله نبيا إلا عاش نصف ما عاش الذي كان قبله» .
وروى ابن سعد عن يزيد بن زياد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال في السّنة التي قبض فيها لعائشة- رضي الله تعالى عنها-: «أن جبريل كان يعرض عليّ القرآن في كل سنة مرّة فقد عرض عليّ العام مرّتين وأنه لم يكن نبيّ إلا عاش نصف عمر أخيه الذي كان قبله عاش عيسى ابن مريم مائة وخمسا وعشرين سنة وهذه اثنتان وستون سنة، ومات في نصف السنة» .
وروى أبو يعلى من طريق الحسين بن علي بن الأسود وباقي رجاله ثقات عن يحيى بن جعدة قال: قالت فاطمة- رضوان الله تعالى عليها-: قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أن عيسى ابن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة» .
تنبيه:
قال البيهقي كذا في هذه الرواية.
وقد روى عن ابن المسيب أن عيسى حين رفع كان ابن ثلاث وثلاثين سنة.
وعن وهب بن منبه: اثنان وثلاثون سنة، فإن صحّ قول ابن المسيب وابن وهب فالمراد من الحديث والله تعالى أعلم: ما بقي في الأرض بعد نزوله من السماء والله تعالى أعلم.
قلت: لم يصح ما نقله عن سعيد ووهب وقد بسطت الكلام على ذلك في باب [ ... ]
فراجعه.
وقال الحافظ ابن حجر بعد إيراده في «المطالب العالية» : حديث يحيى بن جعدة معناه عمره في النبوة.(12/231)
الباب الثالث في عرضه- صلّى الله عليه وسلّم- القرآن على جبريل- عليه الصلاة والسلام- في العام الذي مات فيه مرتين ونعيه- صلى الله عليه وسلم- نفسه لأصحابه
روى الإمام أحمد وابن سعد عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعرض القرآن على جبريل في كلّ رمضان فلما كان في العام الذي مات فيه عرضه عليه مرّتين» .
وروى البخاري عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كل شهر رمضان عشرة أيّام، فلما كان العام الذي توفي فيه عكف عشرين يوما وكان جبريل يقرأ عليه القرآن مرة كل رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه عرضه عليه مرتين.
وروى الشيخان عن فاطمة الزهراء- رضي الله تعالى عنها- أنها أسرّ إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إن جبريل كان يعارضني القرآن كل عام مرة وإنّه عارضني به العام مرتين ولا أرى أجلي إلّا قد قرب فاتّقي الله واصبري فإنّي نعم السلف أنا لك» .
وروى مسلم عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرمي الجمار فوقف وقال: «لتأخذوا عنّي مناسككم فلعلّي لا أحجّ بعد عامي هذا» .
وروى ابن مردويه عن معاوية بن أبي سفيان والإمام أحمد وابن سعد وأبو يعلى والطبراني بسند صحيح عن واثلة بن الأسقع- رضي الله تعالى عنهما- قالا: خرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «أتزعمون أنّي من آخركم وفاة قلنا: أجل، قال: فإنّي من أوّلكم وفاة وتتبعوني أفنادا يهلك بعضكم بعضا» .
وروى ابن سعد عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إني أوشك أن أدعى فأجيب وإنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي إنّ اللّطيف الخبير أخبرني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»
[ (1) ] .
وروى ابن سعد عن عكرمة مرسلا قال: قال العباس: لأعلمن ما بقاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فينا فقال له: يا رسول الله لو اتخذت عرشا فإن النّاس قد آخوك، فقال:
«والله لا أزال بين ظهرانيهم ينازعوني ردائي ويصيبني غبارهم حتّى يكون الله يريحني منهم» !
قال العباس: فعرفنا أنّ بقاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فينا قليل.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد 2/ 150، وأحمد 3/ 17.(12/232)
وروى البزار عن العباس- رضي الله تعالى عنه- قال رأيت في المنام كأن الأرض تنزع إلى السماء بأشطان شداد، فقصصت ذلك على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ذاك وفاة ابن أخيك» .
أفناد قال في القاموس أي: تتبعوني ذوي فند: أي ذوي عجز وكفر للنّعمة والأشطان:
بشين جمع شطن بشين معجمة فطاء مهملة فنون: الحبل.
الباب الرابع فيما جاء أنه خيّر بين أن يبقى حتى يرى ما يفتح على أمته وبين التعجيل واستغفاره- صلى الله عليه وسلّم- لأهل البقيع
روى ابن إسحاق والإمام أحمد وابن سعد والبيهقي عن أبي مويهبة والإمام أحمد وابن سعد والبيهقي عن أبي رافع موليا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورضي الله عنهما- واللفظ لأبي مويهبة- قال: أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصلى على أهل البقيع فصلى عليهم ثلاث مرّات، فلما كان في الثانية هبنى من جوف اللّيل فقال: «يا أبا مويهبة إني أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فأسرج لي دابّتي» قال: فركب ومشيت حتّى انتهى إليهم فنزل عن دابته، وأمسكت الدّابة، فلما وقف بين أظهرهم قال: «السلام عليكم يا أهل المقابر ليهن لكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح فيه الناس، لو تعلمون ما نجاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضاً، يتبع آخرهم أوّلها، الآخرة شر من الأولى» ، ثم أقبل على وقال: «يا أبا مويهبة إنّي قد أتيت مفاتيح خزائن الدّنيا والخلد فيها، ثم الجنة. فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربّي والجنة» قال: قلت بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، قال: «لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت لقاء ربي والجنة» ، ثم استغفر لأهل البقيع، ثم انصرف، فبدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في وجعه الّذي قبضه الله عز وجل فيه حين أصبح.
وروى ابن سعد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة فلبس ثيابه ثم خرج، فأمرت خادمتي بريرة، فتبعته حتى إذا جاء البقيع وقف في أدناه ما شاء الله أن يقف ثم انصرف فسبقته بريرة فأخبرتني فلم أذكر له شيئا حتى أصبح، ثم ذكرت له ذلك فقال «إني بعثت لأهل البقيع لأصلّي عليهم»
[ (1) ] .
وروى أيضا عنها قالت: فقدت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الليل فتبعته فإذا هو بالبقيع فقال:
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد 2/ 156.(12/233)
«السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم لنا فرط أتانا الله وأتاكم ما توعدون، وأنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم» قالت: ثم التفت إلى فقال: «ويحها لو تستطيع ما فعلت»
[ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال: خطب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إن عبدا خيره الله تعالى بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله» ، فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه فكان المخير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان أبو بكر هو أعلمنا به فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تبك يا أبا بكر إنّ أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبا بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوّة الإسلام، لا يبقى باب في المسجد إلا سدّ إلا باب أبي بكر» .
وروى عبد الرزاق بسند جيد قوي عن طاووس مرسلا قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «نصرت بالرعب وأعطيت الخزائن، وخيّرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل» .
وروي عن عقبة بن عامر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع على المنبر فقال: «إنّي بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد! وإنّ موعدكم الحوض وإنّي لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، لست أخشى عليكم أن تشركوا، ولكن أخشى عليكم الدّنيا أن تنافسوا فيها» .
قال عقبة: وكانت أخر نظرة نظرتها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
تنبيه:
«هبّ من نومه» هب بضم الهاء وأهببته أي استيقظته وأنبهته من نومه وأنتبه بمعناه.
القطع: بكسر القاف وسكون الطاء ظلمة آخر الليل.
__________
[ (1) ] ابن سعد 2/ 157.(12/234)
الباب الخامس في ابتداء مرضه- صلّى الله عليه وسلم- وسؤال أبي بكر- رضي الله تعالى عنه- أن يمرّضه في بيته
قال ابن إسحاق: لما قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من حجة الوداع أقام بالمدينة ذا الحجة، والمحرم، وصفر. وضرب على الناس بعث أميره أسامة بن زيد- رضي الله تعالى عنه- وقد تقدم ذكر ذلك في جمّاع أبواب بعوثه فبينا الناس على ذلك إذ ابتدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشكواه الذي قبضه الله تعالى فيه إلى ما أراده به من رحمة وكرامة في ليال بقين من صفر، أو في أول ربيع الأول صبيحة ليلة خروجه البقيع ليلا مع أبي مويهبة، فلما أصبح ابتدأ بمرضه من يومه ذلك.
وروى ابن سعد عن محمد بن عمر عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده- رضي الله تعالى عنه- والبيهقيّ عن محمد بن قيس قالا: أوّل ما بدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شكواه يوم الأربعاء فكان شكوه إلى أن قبض- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر يوما. ومشى على ذلك أبو عمرو وغيره.
وقال سليمان التيمي: يوم السبت ومشى عليه الخطابي وقال الإمام الليث بن سعد: يوم الاثنين في صفر سنة إحدى عشرة ليلة إحدى وعشرين رواه يعقوب بن سفيان قال أبو عمر:
لليلتين بقيتا منه.
وروى محمد بن قيس لإحدى عشرة ليلة بقيت منه.
وقال عمر بن علي: لليلة بقيت منه قال أبو الفرج بن الجوزي: ابتدأ به صداع في بيت عائشة، ثم اشتد أمره في بيت ميمونة وقيل: في بيت زينب بنت جحش.
وقيل: في بيت ريحانة.
قال الحافظ: وكونه في بيت ميمونة هو المعتمد، لأنه الذي رواه الشيخان عن عائشة- رضي الله تعالى عنها-.
وروى البلاذري عنها أنه- صلى الله عليه وسلم- أقام في بيت ميمونة سبعة أيام.
وروى ابن إسحاق والإمام أحمد عنها قالت: رجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من البقيع فدخل عليّ وهو يصدع وأنا اشتكي رأسي فقلت: وا رأساه فقال: «والله بل أنا والله وا رأساه» .
وفي رواية قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا مر ببابي يلقي إليّ الكلمة ينفع الله بها فمرّ(12/235)
ذات يوم فلم يقل شيئا مرتين، أو ثلاثا فقلت: يا جارية دعي لي وسادة على الباب: فجلست عليها على طريقه وعصبت رأسي فمرّ بي وقال: «ما شأنك» ؟ فقلت: أشتكي رأسي! فقال: «بل أنا وا رأساه» ! ثم مضى فلم يلبث إلا يسيرا حتى جيء به محمولا في كساء فدخل عليّ وقال:
«وما عليك لو مت قبلي، فوليت أمرك وصليت عليك ودفنتك» فقلت: والله إني لأحسب أن لو كان ذلك، لقد خلوت ببعض نسائك في بيتي في آخر النهار فأعرست بها فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم تمادى به وجعه وهو يدور على نسائه ثم استعزّ به وهو في بيت ميمونة» .
وروى البخاري نحوه.
وروى أبو يعلى والإمام أحمد- برجال ثقات- عنها قالت: ما مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على بابي قطّ إلّا قد قال كلمة تقرّ بها عيني قالت: فمر يوما فلم يكلمني ومرّ من الغد فلم يكلمني قالت: ومر من الغد فلم يكلمني، قلت: قد وجد على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في شيء:
قالت فعصبت رأسي وصفّرت وجهي، وألقيت وسادة قبالة باب الدّار فاجتنحت عليها، قالت:
فمرّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنظر إليّ فقال: «ما لك يا عائشة» ؟ قالت: قلت يا رسول الله اشتكيت وصدّعت قال: «تقولين: وا رأساه، بل أنا وا رأساه» قالت فما لبث إلا قليلا حتى أتيت به يحمل في كساء قالت: فمرّضته ولم أمرّض مريضا قطّ ...
الحديث.
وروى ابن سعد عن عطاء بن يسار- رحمه الله تعالى- مرسلاً قال: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقيل له: اذهب فصل على أهل البقيع، فذهب فصلى عليهم فقال: اللهم اغفر لأهل البقيع، ثم رجع فرقد فأتي فقيل له: اذهب فصل على الشهداء فذهب إلى أحد فصلى على قتلى أحد فرجع معصوب الرأس فكان بدء الوجع الذي مات فيه- صلى الله عليه وسلم-.
وروى أبو طاهر المخلص عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: جاء أبو بكر إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ائذن لي فأمرّضك فأكون الذي أقوم عليك فقال: «يا أبا بكر إني إن لم أجد أزواجي وبناتي علاجي ازدادت مصيبتي عليهم عظما، وقد وقع أجرك على الله.(12/236)
الباب السادس فيما جاء أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يدور على بيوت أزواجه في مرضه
روى ابن سعد عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يحمل في ثوب يطوف على نسائه وهو مريض يقسم بينهن [ (1) ] .
وروى البلاذري عن ابن إسحاق قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دير به [ (2) ] على نسائه يحمل في ثوب يأخذ بأطرافه الأربعة أبو مويهبة، وشقران، وثوبان، وأبو رافع مواليه وذلك أن زينب بنت جحش كلّمته في ذلك فقال: أنا أطوف وأدور عليكنّ وأقام ببيت ميمونة سبعة أيّام يبعث إلى نسائه أسماء بنت عميس يقول لهن: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يشقّ عليه أن يدور عليكنّ فحللنه.
وروى ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري أن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك فقالت لهن: إنّه يشقّ عليه الاختلاف.
وروى ابن إسحاق- بسند فيه متهم وهو علي- كما في الصحيح والبخاري وابن سعد والحاكم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- الحديث المتقدم في الباب الأول، وفيه: ثم استأذن نساءه أن يمرّض في بيتي فقال: إني أشتكي ولا أستطيع أن أدور بيوتكنّ فإن شئتنّ أذنتن لي كنت في بيت عائشة، فأذن له فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[يهادي] [ (3) ] إلى بيتي وهو بين العبّاس وبين رجل آخر تخطّ قدماه الأرض إلى بيت عائشة،
وفي رواية عنها عند مسلم: فخرج بين الفضل بن عباس ورجل آخر، وفي أخرى: بين رجلين أحدهما عليّ، وعند الدارقطني أسامة والفضل وعند ابن حبّان «بريرة ونوبة» بضم النون وسكون ونوبة الواو ثم موحدة، قيل:
هو اسم أمة، وقيل: عبد، وعند ابن سعد من وجه آخر والفضل وثوبان.
وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدد فتعدد من اتكأ عليه.
وروى البخاري وابن سعد عنها أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يسأل في مرضه الذي مات فيه. أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، وكان في بيت عائشة حتى مات عندها، قالت: فمات في يومي الذي كان يدور على فيه،
وفي رواية أن
__________
[ (1) ] ابن سعد 2/ 178.
[ (2) ] سقط في ب.
[ (3) ] سقط في ب.(12/237)
دخوله- عليه الصلاة والسلام- بيتها كان في يوم الاثنين، وموته يوم الاثنين الذي يليه [ (1) ] .
وروى الإسماعيلي قالت: «لما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مرضه جعل يدور على نسائه ويقول أين أنا حرصا على بيت عائشة قالت: فلما كان يومي سلت» .
وروى البخاري والإسماعيلي والبرقاني عنها قالت كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه: أين أنا اليوم؟ أين أنا؟ استبطاء ليوم عائشة، فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري، ودفن في بيتي» .
وروى البزار عنها قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا مر بحجرتي ألقى كلمة إليّ ينفعني فمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوما فلم يكلمني، فقلت: يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعصبت رأسي ونمت على فراشي فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما لك يا عائشة» قلت: أشتكي رأسي، فقال: بل أنا وا رأساه، وذاك حين أخبره جبرئيل- صلى الله عليه وسلم- أنّه مقبوض، فلبث أياما يحمل في كساء بين أربعة فيدخل علي فقال: «يا عائشة استبقي إلى النسوة» فلما جئن قال: «إني لا أستطيع أن أختلف بينكن فائذنّ لي أن أكون في بيت عائشة» ، قلن: نعم يا رسول الله فكان في بيت عائشة.
الباب السابع في اشتداد الوجع عليه- زاده الله فضلا وشرفا-
روى ابن حبان وابن سعد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: جعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يشتكي ويتقلّب على فراشه فقلت له: لو فعل هذا بغضنا قال: «إنّ الأنبياء يشدّد عليهم» .
وروى الإمام أحمد والشيخان وابن سعد عن عبد الله بن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمسسته بيدي فقلت: يا رسول الله إنك لتوعك وعكا شديدا قال: «أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم» قلت: ذاك بأنّ لك أجرين؟ قال:
«نعم، والذي نفسي بيده ما على الأرض مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حطّ الله عنه من خطاياه كما تحطّ الشجرة ورقها» -.
وروى ابن سعد والشيخان والبلاذري عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: ما رأيت أحدا أشدّ عليه الوجع من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
__________
[ (1) ] ابن سعد 2/ 180.(12/238)
وروى الإمام أحمد وابن سعد والبخاري في «الأدب» وابن أبي الدنيا وابن ماجه وأبو يعلى والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- فإذا عليه صالب من الحمى ما تكاد تقرّ يد أحدنا عليه من شدّة الحمّى.
وفي رواية «دخلنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه قطيفة فوضعت يدي عليه فوق القطيفة فوجدت حرارتها فوق القطيفة فجعلنا نسبّح فقال: «ليس أحد أشدّ بلاء من الأنبياء، كما يشدّد علينا البلاء يضاعف لنا الأجر، إن كان النبي من الأنبياء ليسلّط عليه القمّل حتّى يقتله وإن كان النبي من الأنبياء ليعرّى ما يجد شيئا يواري عورته إلا العباءة يدرعها، وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء»
[ (1) ] .
وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد بإسناد صحيح والنسائي والحاكم وابن الجوزي عن أبي عبيدة عن عمته فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة قالت: أتينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في نساء نعوده فإذا سقاء معلّق نحوه يقطّر ماؤه عليه من شدّة ما يجد من حرّ الحمى فقلنا: يا رسول الله لو دعوت الله يكشف عنك فقال: رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «إن أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» .
وروى الإمام أحمد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طرقه وجع فجعل يشتكي ويتقلّب على فراشه فقالت له عائشة لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «إنّ الصالحين يشدّد عليهم وإنّه لا يصيب المؤمن نكبة من شوكة فما فوق ذلك إلّا حطّت بها عنه خطيئة ورفع بها درجة» .
وروى ابن سعد عنها قالت: مرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرضا اشتد منه ضجره أو وجعه فجعل يشتكي ويتقلب على فراشه فقلت: يا رسول الله إنك لتجزع أو تضجر، لو صنع هذا بعضنا لوجدت عليه فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «إن المؤمنين يشدّد عليهم، لأنّه لا يصيب المؤمن نكبة من شوكة فما فوقها ولا وجع إلا رفع الله تعالى له بها درجة وحطّ عنه بها خطيئة» .
وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن أسامة بن يزيد- رضي الله تعالى عنه- قال: لما ثقل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعه هبط وهبط الناس معه إلى المدينة، فدخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد أصمت فلم يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها عليّ، أعرف أنه يدعو لي.
وروى النسائي والبيهقي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: أغمي على
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 3/ 94، وأبو يعلى (1045) .(12/239)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في حجرتي، فجعلت أمسح له وجهه وأدعو له بالشفاء، فقال: «بل أسأل الله الرفيق الأعلى لأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل» .
وروى الإمام أحمد في «الزهد» وابن سعد عن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- قال دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يوعك فوضعت يدي فوق ثوبه، فوجدت حرّها من فوق الثوب، فقلت: يا رسول الله ما وجدت أحدا تأخذه الحمّى أشدّ من أخذها إيّاك قال:
«كذلك يضاعف لنا الأجر إن أشدّ الناس بلاء الأنبياء ثمّ الصّالحون» .
وروى ابن أبي شيبة والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان بين يديه ركوة، أو عليه فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ثم يقول: اللهم أعني على سكرات الموت» - وفي لفظ: «لا إله إلا الله إن للموت سكرات» ثم نصب يده فجعل يقول: «في الرّفيق الأعلى» .
وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن الجوزي عنها قالت: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يموت وعنده قدح فيه ماء فيدخل يده في القدح ثم يمسح بها وجهه- وفي لفظ- ثم يمسح وجهه بالماء، ثم قال: «اللهم أعني على سكرات الموت» .
وروى البلاذري عنها قالت: لا أغبط أحدا يخفف عليه الموت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
ورواه البخاري بلفظ: لا أكره شدّة الموت لأحد أبدا بعد النبي- صلى الله عليه وسلم-.
صالب الحمّى- قال في الصحاح: الصّالب: الحارّة من الحمى، خلاف الناقص تقول:
صلبت عليه حمّة تصلب بالكسر أي دامت واشتدّت، فهو مصلوب عليه هذا أي: طورا ونارا.
الباب الثامن في أمره- صلى الله عليه وسلم- أن يصب عليه الماء لتقوى نفسه فيعهد إلى الناس
روى الشيخان وابن سعد والحاكم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: لما ثقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتدّ وجعه قال: «اهريقوا عليّ من سبع قرب لم تحلل أوكيتهنّ، لعلّي أعهد إلى الناس» قالت: فأجلسناه في مخضب لحفصة ثم طفقنا نصبّ عليه من تلك القرب حتى جعل يشير إلينا أن قد فعلتم، ثمّ خرج إلى الناس فصلّى بهم وخطبهم.
وروى ابن إسحاق عنها قالت: قال النبي- صلى الله عليه وسلم- في مرضه: «صبوا عليّ من سبع قرب(12/240)
من آبار شتى حتّى أخرج إلى النّاس فأعهد إليهم» قالت: فأقعدناه في مخضب لحفصة فصببنا عليه الماء صبّا أو شننا عليه الماء شنّا فوجد راحة فخرج عاصبا رأسه وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه واستغفر للشهداء من أصحاب أحد ودعا لهم ثم قال: «أما بعد فإنّ الأنصار عيبتي التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم، إلا في حدّ ألا إن عبدا من عباد الله قد خيّره الله بين الدّنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله» ففهمها أبو بكر وعرف أنّ نفسه يريد، فبكى وقال: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «على رسلك يا أبا بكر سدّوا هذه الأبواب الشوارع في المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم امرءا أفضل عندي يدا في الصحابة من أبي بكر» وفي رواية: «لو كنت متخذا من العباد خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده» .
وروى البخاريّ والبيهقي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بعصابة دسماء ملتحفا بملحفة على منكبيه، فصعد المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: «أنه ليس من الناس أحد آمنّ عليّ بنفسه وماله من أبي بكر، ولو كنت متخذا من الناس خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن خلّة الإسلام أفضل سدّوا عنّي كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر» .
وروي عن عروة بن الزبير- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- استبطأ الناس في بعث أسامة بن زيد وهو في وجعه، فخرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر وقد كان الناس قالوا في إمرة أسامة: أمّر غلاما حدثا على جلّة المهاجرين والأنصار فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها النّاس انفذوا بعث أسامة فلعمري لئن قلتم في إمارته فقد قلتم في إمارة أبيه من قبله وإنّه لخليق بالإمارة وإن كان أبوه لخليق الإمارة ثم نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وانكمش الناس في جهازهم واستقر برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعه، فخرج وخرج جيشه معه حتى تدلوا الجرف من المدينة على فرسخ، فضرب به عسكره وتتامّ إليه الناس، وثقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقام أسامة والناس ينتظرون ما الله قاض في رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وروى عن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاصبا رأسه بخرقة فلما استوى على المنبر تحدق الناس بالمنبر واستنكفوا حوله فقال: والذي نفسي بيده إني لقائم على الحوض الساعة ثم تشهد، فلما قضى تشهّده كان أول ما تكلم به أن استغفر للشهداء الذين قتلوا بأحد ثم قال: إن عبدا من عباد الله خيّر بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار العبد ما عند الله، فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه، وقال: بأبي أنت وأمي نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأموالنا، فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا(12/241)
برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: على رسلك»
[ (1) ] .
في بيان غريب ما سبق:
الوكاء ...
أحدق من الحدقة وهي العين والتحديق: شدة النّظر.
استنكف حوله بمعنى: أحاط عليه.
أهرق يقال: هراق الماء يهريقه- بفتح الهاء، هراقة أي صبّه.
الباب التاسع فيما روي أنه- صلى الله عليه وسلم- طلب من أصحابه القود من نفسه
روى ابن سعد وأبو يعلى والطبراني وابن جرير والبيهقي وأبو نعيم وابن الجوزي عن الفضل بن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «شدّوا رأسي، لعلّي أخرج إلى المسجد» ، فشددت رأسه بعصابة ثم خرج إلى المسجد يهادي بين رجلين، حتى قدم على المنبر ثم قال: نادوا في الناس فصحت في الناس فاجتمعوا إليه فقال: أمّا بعد أيّها النّاس فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وإنه قد دنا مني خفوق من بين أظهركم وإنما أبا بشر فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه، ولا يقولن أحد: إني أخشى الشّحناء من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ألا وإن الشّحناء ليست من طبعي ولا من شأني، ألا وإن أخيركم إليّ من أخذ مني شيئا كان له، أو حلّلني فلقيت الله عز وجل وأنا طيّب النّفس، وإني أرى أن هذا غير مغن حتى أقوم فيكم مرارا ثم نزل، فصلى الظهر، ثم جلس على المنبر، فعاد لمقالته الأولى في الشحناء وغيرها فقام رجل فقال: إذا والله يا رسول الله إن لي عندك ثلاثة دراهم فقال: أما أنا فلا أكذّب قائلا ولا أستحلفه على يمين، فيم كانت لك عندي؟ فقال يا رسول الله أتذكر يوم مرّ بك المسكين، فأمرتني، فأعطيته ثلاثة دراهم، فقال: يا فضل أعطه ثم قال: أيها الناس من كان عليه شيء فليؤدّه ولا يقولنّ رجل فضوح الدنيا ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة ثم عاد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقالته الأولى ثم قال: «أيها الناس من كان عنده من الغلول شيء فليردّه» ، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله عندي ثلاثة دراهم غللتها في سبيل الله قال: «ولم غللتها؟» قال: كنت محتاجا إليها، قال: «خذها منه يا فضل» ، فقال: ألا
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد 2/ 176، وذكره ابن حجر في المطالب العالية 4/ 32 (3884) .(12/242)
من أحس- وفي لفظ- خشي من نفسه شيئا فليأت. ادع الله له، فقام رجل فقال: يا رسول الله إني لكذوب وإني لفاحش فقال: «اللهم ارزقه الصدق واذهب عنه الكذب إذا أراد» ، ثم قام رجل فقال: يا رسول الله إني منافق وإني لبخيل وإني لجبان [وإني لنؤوم وإني لكذوب فقام عمر بن الخطاب فقال: فضحت نفسك أيّها الرجل] [ (1) ] فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- يا بن الخطاب:
فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة فقال اللهم ارزقه إيمانا وصدقا واذهب عنه النوم وشحّ نفسه وشجّع جبنه.
قال الفضل: فلقد رأيته في الغزو وما معنا رجل [أسخى] منه نفسا ولا أشدّ بأسا، ولا أقلّ نوما فقال عمر: كلمة فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم قال: عمر معي وأنا مع عمر، والحق مع عمر حيث كان وقامت امرأة وأومأت بإصبعها إلى نسائها فقال: انطلقي إلى بيت عائشة حتى آتيك ثم أتاها، فوضع قضيبا على رأسها ثم دعا لها، قالت عائشة- رضي الله تعالى عنها- فإني كنت لا أعرف دعوة النبي- صلى الله عليه وسلم- فيها إذ كانت تقول: يا عائشة أحسني صلاتك.
تنبيهات
الأوّل: حديث ابن عباس في قصة عكّاشة وطلبه القصاص من النبي- صلى الله عليه وسلم- وطلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- القضيب المسوق مع الحسن والحسين من السيدة فاطمة- رضي الله تعالى عنها- فهو حديث باطل رواه الطبراني من حديث عبد المنعم بن إدريس، وهو كذاب أشر، وقد صرح بوضعه الرازي في كتاب العلل له وابن الجوزي والذهبي في كتاب «العلوّ الإلهي المقدس» والشيخ وغيرهم فليحذر.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
يهادي: أي كان يمشي بينهما يعتمد عليهما من ضعفه وتمايله.
خفوق: - «بخاء معجمة مضمومة وفاء آخره قاف يقال: خفقت الشّمس إذا تدلّت للغروب.
الشّحناء: - العداوة.
فضوح: «بفاء فضاد معجمة مضمومة فواو فحاء، كشف المساوىء.
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/243)
الباب العاشر في مدة مرضه- صلّى الله عليه وسلم- واستخلافه أبا بكر في الصلاة بالناس
قال الحافظ: اختلف في مدة مرضه، فالأكثر على أنّه ثلاثة عشر يوما.
وقيل: بزيادة يوم وقيل: بنقصه.
وقيل: تسعة أيام رواه البلاذري عن علي- رضي الله تعالى عنه- وقيل: عشرة، وفيه جزم سليمان التيمي، وكان يخرج إلى الصلاة إلا أنّه انقطع ثلاثة أيّام.
قال في العيون: أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يصلى بالناس فصلى بهم فيما روينا سبع عشرة صلاة، ورواه البلاذري عن أبي بكر ابن أبي سبرة-
وفي لفظ- وقال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» .
وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن سعد عن عبد الله بن زمعة بن الأسود قال: لما استعز برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا عنده في نفر من المسلمين قال: دعا بلال للصلاة فقال مروا من يصلي بالناس قال: فخرجت فإذا عمر في الناس وكان أبو بكر غائبا فقال قم يا عمر فصلّ بالناس، قال: فقام فلما كبر عمر سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صوته وكان عمر رجلا مجهرا قال:
فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لا، لا، لا يصلي بالناس إلا ابن أبي قحافة يقول ذلك مغضبا فأين أبو بكر يأبى الله ذلك والمسلمون،
قال: فبعث إلى أبي بكر بعد ما صلى عمر تلك الصلاة فصلى بالناس قال وقال عبد الله بن زمعة قال عمر لي: ويحك ماذا صنعت بي يا بن زمعة، والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمرك بذلك، ولولا ذلك ما صليت بالناس قال:
قلت: والله ما أمرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولكن حين لم أر أبا بكر رأيتك أحقّ من حضر بالصّلاة.
وروى الشيخان وابن سعد والبلاذري والبيهقي وابن إسحاق عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: لما مرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرضه الذي مات فيه فثقل، فحضرت الصلاة فأذّن بلال فقال: «أصلّى النّاس؟» قلت: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله! [فقال: ضعوا لي ماء في المخضب قالت: ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال: «أصلّى النّاس؟» فقلت: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله] [ (1) ] فقال: «ضعوا إليّ ماء في المخضب» قالت: فقلنا فاغتسل فقال: «أصلّى الناس؟» فقلنا: لا، هم ينتظرونك! قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لصلاة العشاء الآخرة. فقال: مروا أبا بكر فليصلّ بالناس فقلت: أن أبا بكر رجل أسيف إذا قام مقامك لم يسمع النّاس من البكاء.
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/244)
وفي لفظ: لم يستطع أن يصلّي بالناس فعاودته مثل مقالتي فقال: «مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس» فقلت لحفصة: قولي له: أن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصلّ بالناس ففعلت حفصة فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنّكنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالناس» ، قالت عائشة- رضي الله تعالى عنها-: لقد عاودت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ذلك، وما حملني على معاودته إلا أن يتشائم النّاس بأبي بكر.
- وفي لفظ- والله ما أقول ذلك إلا أني كنت أحب أن يصرف الله ذلك عن أبي بكر، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلا قام مقامه أبدا، وأن الناس يتشاءمون به في كل حدث كان، فكنت أحبّ أن يصرف ذلك عن أبي بكر.
- وفي لفظ- علمت أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشائم الناس به، فأحببت أن يعدل ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن أبي بكر إلى غيره فأرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر بأن يصلي بالناس، وكان أبو بكر رجلا رقيقا، إذا قرأ القرآن لا يملك دمعه من البكاء فقال: يا عمر صلّ بالنّاس قال: أنت أحقّ بذلك فصلى بهم تلك الأيام ثم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجد خفّة فخرج يهادي بين رجلين، أحدهما العباس لصلاة الظّهر كأني أنظر إلى رجليه يخطان الأرض من الوجع، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه أن لا يتأخر وأمرهما فأجلساه إلى جنب أبي بكر عن يساره فأخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- من حيث الآية التي انتهى أبو بكر إليها فقرأ، فجعل أبو بكر يصلي قائما ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي قاعدا، وفي رواية: فكان أبو بكر يصلى بصلاة رسول الله والناس يصلون بصلاة أبي بكر.
وروى ابن إسحاق وابن سعد والبلاذري عن عبيد الله بن أبي مليكة عن عبيد بن عمير، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لما فرغ من الصلاة يوم صلى قاعدا عن يمين أبي بكر قال: وأقبل عليهم فكلمهم رافعا صوته حتى خرج صوته من باب المسجد: يا أيها الناس سعّرت النار وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم وإنّي والله لا يمسك الناس عليّ بشيء إني لم أحلّ إلّا ما أحلّ القرآن ولم أحرّم إلّا ما حرّم القرآن يا فاطمة بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يا صفية عمّة محمد اعملا لها عند الله فإني لم أغن عنكما من الله شيئا، فلما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من كلامه قال أبو بكر: يا رسول الله إنّي أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحب واليوم يوم بنت خارجة فأتها قال: نعم ثم دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وخرج أبو بكر إلى أهله بالسّنح.
وروى الإمام أحمد والنسائي والبيهقي والترمذي وصححه عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خلف أبي بكر قاعدا في مرضه الذي مات فيه» .(12/245)
وروى ابن سعد عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: كشف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- السّتارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: «أنه لم يبق من مبشّرات النّبوّة إلّا الرّؤيا الصّالحة يراها المسلم، أو ترى له ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعا وساجدا، فأمّا الرّكوع فعظموا فيه الرّب، وأما السّجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم» .
وروى الطبراني عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كشف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سترا، وفتح بابا في مرضه، فنظر إلى الناس يصلون خلف أبي بكر، فسرّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك.
وروى ابن سعد عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: إن أبا بكر كان يصلي بهم في وجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة ينظر إلينا وهو قائم كأنّ وجهه ورقة بمصحف، ثم تبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ضاحكا، فبهشنا ونحن في الصلاة من الفرح بخروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية: «وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم برسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين رأوه ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصّفّ وظنّ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خارج إلى الصلاة فأشار إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم ثم دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأرخى الستر، قال: فتوفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من يومه» .
وروي أيضا عنه قال آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين كشف الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فلما رآه الناس تخشخشوا فأومأ إليهم أن امكثوا مكانكم فنظرت إلى وجهه كأنّه ورقة مصحف ثم ألقى السّجف وتوفّي من آخر ذلك اليوم.
في بيان غريب ما سبق:
«استعزّ» بضم المثناة والفوقية وكسر العين المهملة وزاء معجمة يقال: أستعز بفلان أي غلب عن كل شيء من مرض أو غيره.
وقال أبو عمر: استعزّ بالعليل إذا غلب على عقله.
المخضب بالكسر شبه المركن وهي إجّانة تغسل فيها الثياب] .
السّنح هنا بضم السين والنون.
وقيل: بسكونها، أطم الجشم وزيد بن الحارث على ميل من المسجد النبوي، وهو أدنى العالية سميت الناحية، ووهم من جعله بحري مسجد الفتح، لأن ذلك بالمثناة التحتية وكسر السين قاله السيد نور الدين السمهودي في «تاريخ المدينة» .
«قمن-: بقاف مفتوحة فميم مكسورة فنون: حقيق.(12/246)
الباب الحادي عشر في إرادته- صلى الله عليه وسلم- أن يكتب لأبي بكر كتابا ثم لم يكتب
روى الإمام أحمد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: لما ثقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لعبد الرحمن بن أبي بكر: ائتني بكتف أو لوح أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه، فلما ذهب عبد الرحمن ليقوم قال: «يأبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر» ورواه البخاري لقد: هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه فأعهد أن يقول قائلون، أو يتمنى المتمنون ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون ورواه مسلم بلفظ قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مرضه ادع لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمن أو يقول قائل: أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، وقد ورد أنه أراد أن يكتب كتابا ولم يذكر أبا بكر.
الباب الثاني عشر في إرادته- صلى الله عليه وسلم- أن يكتب لأصحابه كتابا فاختلفوا فلم يكتب
روى الشيخان عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى بلّ دمعه الحصى، قلت يا ابن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجعه فقال: ائتوني أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا، فقال عمر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مدّ عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت، فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم ومنهم من يقول ما قال عمر. فتنازعوا ولا ينبغي عند النبي التنازع، فقالوا: ما شأنه أهجر؟ استفهموه! فذهبوا يعيدون عليه فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قوموا» لما أكثروا اللّغو والاختلاف عنده، دعوني فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه. فقال: وأوصاهم عند موته بثلاث فقال: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو مما كنت أجيزهم قال: وسكت عن الثالثة، أو قال: فنسيها فقال ابن عباس إن الرّزيئة سحل الرّزيئة ما حال بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبين أن يكتب لهم هذا الكتاب لاختلافهم ولغطهم» .
وروى أبو يعلى بسند صحيح عن جابر- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دعا عند موته بصحيفة ليكتب فيها كتابا لا يضلون بعده وفي رواية: «يكتب فيهما كتابا لأمّته(12/247)
لا يظلمون ولا يظلمون» وكان في البيت لغط فنكل عمر فرفضها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وروى الطبراني من طريق ليث بن أبي سليم- وبقية رجاله ثقات- عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بكتف فقال: ائتوني بكتف أكتب لكم كتابا لا تختلفون بعدي فأخذ من عنده من الناس وفي لفظ: «فقالت امرأة ممن حضر ويحكم عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليكم فقال بعض القوم اسكتي فإنه لا عقل لك فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- أنتم لا أحلام لكم.
وروى الإمام أحمد وابن سعد- وفي سنده ضعف- عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال أمرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن آتيه بطبق أكتب فيه ما لا تضلّ أمتي من بعدي قال:
فخشيت أن تسبقني نفسه قال: قلت إني أحفظ وأوعى قال: أوصي بالصّلاة والزّكاة وما ملكت أيمانكم» .
تنبيهات
الأول: قال البيهقي والذهبي: وإنما أراد عمر التخفيف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين رآه شديد الوجع لعلمه أن الله تبارك وتعالى قد أكمل ديننا، ولو كان ذلك الكتاب وحيا لكتبه النبي- صلى الله عليه وسلم- ولما أخل به لاختلافهم ولغطهم لقول الله تعالى: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة: 67] كما لم يترك تبليغ غيره لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، وإنما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله، أن يكتب استخلاف أبي بكر، ثم ترك كتابته اعتمادا على ما علم من تقدير الله تعالى، كما هم به في ابتداء مرضه حين
قال: «وا رأساه» . ثم بدا له أن لا يكتب ثم قال: «يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر»
ثم نبه أمّته على خلافته باستخلافه إيّاه في الصلاة حين عجز عن حضورها [ (1) ] ، وبسط البيهقي الكلام في ذلك.
__________
[ (1) ] وتكملة كلام البيهقي: «وإن كان المراد به رفع الخلاف في الدين، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه علم أن الله تعالى قد أكمل دينه بقوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.. وعلم أنه لا تحدث واقعة إلى يوم القيامة، إلا وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بيانها نصا أو دلالة.
وفي نص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على جميع ذلك في مرض موته، مع شدّة وعكه، مما يشق عليه، فرأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الاقتصار على ما سبق بيانه نصا، أو دلالة، تخفيفا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولكي لا تزول فضيلة أهل العلم بالاجتهاد في الاستنباط، وإلحاق الفروع بالأصول، بما دل الكتاب والسنة عليه. وفيما سبق من
قوله- صلى الله عليه وسلم- إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر واحد
دليل على أنه وكل بيان بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء، وأنه أحرز من أصاب منهم الأجرين الموعودين، أحدهما بالاجتهاد، والآخر بإصابة العين المطلوبة بما عليها من الدلالة في الكتاب أو السنة، وإنه أحرز من اجتهد، فأخطأ أجرا واحدا باجتهاده، ورفع اثم الخطأ عنه، وذلك في أحكام الشريعة التي لم يأت بيانها نصا، وإنما ورد خفيا.
فأما مسائل الأصول، فقد ورد بيانها جليا، فلا عذر لمن خالف بيانه لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد، وإلحاق الفروع بالأصول بالدلالة، مع طلب التخفيف على صاحب الشريعة، وفي ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الإنكار عليه فيما قال واضح على استصوابه رأيه، وبالله التوفيق» .(12/248)
وقال المازري: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره بذلك، لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلّت على أن الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه- صلى الله عليه وسلم- قال ذلك عن غير قصد جازم [وعزمه- صلى الله عليه وسلم- كان إمّا بالوحي وإما بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان بالوحي فبالوحي وإلا فبالاجتهاد أيضا] .
وقال النووي: اتفق العلماء على أن قول عمر «حسبنا كتاب الله» من قوة فقهه ودقيق نظره، لأنه خشي أن يكتب أمورا ربما عجزوا عنها فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد من العلماء، وفي تركه- صلى الله عليه وسلم- الإنكار على عمر الإشارة إلى تصويبه وأشار بقوله: «حسبنا كتاب الله» إلى قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:
38] ولا يعارض ذلك قول ابن عباس: أن الرزية ... إلخ، لأن عمر كان أفقه منه قطعا، ولا يقال: أن ابن عباس لم يكتف بالقرآن مع أنه حبر القرآن وأعلم الناس بتفسيره ولكنه أسف على ما فاته من البيان وبالتنصيص عليه لكونه أولى من الاستنباط والله تعالى أعلم.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
قولهم: «أهجر» بإثبات همز الاستفهام وفتح الهاء والجيم، قالوا: ولبعضهم هجرا بضم الهاء وسكون الجيم والتنوين أي قال هجرا والهجر بضم الهاء وسكون الجيم، وهو الهذيان الذي يقع من كلام المريض، الذي لا ينتظم ولا يعتد به لعدم فائدته ووقوع ذلك من النبي- صلى الله عليه وسلم- في حقه مستحيل.
وإنما هذا على طريق الاستفهام الذي معناه الإنكار والإبطال- أي أنه- صلى الله عليه وسلم- لا يهجر أي: لم يختلفوا في الأخذ عنه ولم ينكروا عليه الكتاب، وهو لا يهجر أصلا.
الرزيئة براء مفتوحة فزاي مكسورة فياء فهمز المصيبة.
اللغط: بغين معجمة فطاء مهملة محركا الصوت أو الجلبة، أو أصوات مبهمة لا تفهم.(12/249)
الباب الثالث عشر في إخراجه- صلى الله عليه وسلم- من المال كان عنده وعتق عبيده
روى ابن سعد والطبراني- برجال الصحيح- عن سهل بن سعد- رضي الله تعالى عنه- قال: كان عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سبعة دنانير وضعها عند عائشة فلما كان في مرضه قال: يا عائشة ابعثي الذّهب إلى علي، ثم أغمي عليه وشغل عائشة ما به حتى قال ذلك مرارا كل ذلك يغمى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويشغل عائشة ما به فبعث به إلى علي فتصدّق به، ثم أمسى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة الاثنين في جديد الموت، فأرسلت عائشة إلى امرأة من النساء بمصباحها فقالت: اقطري لنا في مصباحي من عكيك السن فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمسى في جديد الموت» .
وروى ابن سعد أيضا عن المطلب بن عبد الله بن حنطب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة- وهي مسندته إلى صدرها: «يا عائشة ما فعلت تلك الذّهب؟ قالت: هي عندي قال فأنفقيها ثم غشي عليه وهو على صدرها فلما أفاق قال: هل أنفقت تلك الذّهب يا عائشة قالت: لا والله يا رسول الله، قالت: فدعا بها فوضعها في كفّه، فعدّها، فإذا هي ستّة دنانير فقال: ما ظنّ محمّد بربّه أن لو لقي الله وهذه عنده؟ فأنفقها كلها، ومات من ذلك اليوم.
وروى مسدد وابن أبي عمر وابن أبي شيبة والإمام أحمد- برجال الصحيح- عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال لي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في وجعه الذي مات فيه: ما فعلت بالذّهب؟ قلت: هو عندي يا رسول الله قال: ائت بها فأتيت بها فجعلها في كفّه وهي بين الخمس والسّبع فرفع بها كفّه وقال: أنفقيها وقال: ما ظنّ محمّد إن لقي الله وهذه عنده أنفقيها.
وروى أبو طاهر المخلص عن سهل بن يوسف عن أبيه عن جده قال: أعتق النبي- صلى الله عليه وسلم- في مرضه أربعين نفسا-.(12/250)
الباب الرابع عشر في إعلامه- صلى الله عليه وسلم- ابنته فاطمة- رضي الله تعالى عنها- بموته
روى الخمسة والطبراني وابن حبان والحاكم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: اجتمع نساء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يغادر منهم امرأة في وجعه الذي مات فيه وما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلّا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قيامها وقعودها من فاطمة، وكانت إذا دخلت عليه قام إليها وقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلما مرض جاءت تمشي ما تخطئ مشيتها مشية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: مرحبا يا بنتي فأجلسها عن يمينه أو عن شماله فأكبت عليه تقبّله، فسارّها بشيء، فبكت، ثم سارّها فضحكت فقلت:
ما رأيت اليوم فرحا أقرب من حزن فسألتها عن ذلك قلت لها: ما خصك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالسّرار وتبكين فلما أن قامت قلت لها: أخبريني بما سارّك؟ قالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما أن توفي قلت لها: أسألك بما لي عليك من الحق لما أخبرتيني قالت أما الآن فنعم: سارّني فقال: إن جبريل كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، وأنه لم يكن نبيّ كان بعده نبيّ إلا عاش بعده نصف عمر الذي كان قبله، ولا أرى ذلك إلا اقترب أجلي- وفي لفظ- فقالت إنه أخبرني أنه يقبض في وجعه، فاتقي الله واصبري، إن جبريل أخبرني أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزنة منك فلا تكوني أدنى امرأة منهن صبرا فنعم السلف أنا لك فبكيت ثم سارني فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين، أو سيدة نساء هذه الأمة- وفي لفظ- «أخبرني أني أول أهله لحوقا به، فضحكت ضحكي الذي رأيت» .
تنبيهات
الأول: قال الحافظ: اتفقت الروايات على أن الذي سارها به أولا فبكت هو إعلامه إياها بأنه ميت في مرضه ذلك، واختلف فيما سارّها به فضحكت.
ففي رواية عروة أنه إخباره إياها بأنها أول أهله لحوقا به.
وفي رواية مسروق بأنه إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنّة، وجعل كونها أول أهله لحوقا به مضموما إلى الأول وهو الراجح، ويحتمل تعدد القضية.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
«السمت» : - بسين مهملة مفتوحة فميم ساكنة: الطريق وهيئة أهل الخير والهدي.
ساره في أذنه سارة وسرارا بكسر السين، وتسارّوا: أي تناجوا.(12/251)
الباب الخامس عشر في وصيته- صلى الله عليه وسلم- الأنصار عند موته
روى البخاري والبيهقي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بعصابة دسماء ملتحفا بملحفة على منكبيه فجلس على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «أما بعد فإن الناس يكثرون ويقل الأنصار حتى يكونوا في النّاس مثل الملح في الطعام، فمن ولى منكم أمرا يضرّ به قوما وينفع به آخرين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئتهم» وكان آخر مجلس جلسه.
وروى البيهقي عن أبي أيوب بن بشير أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خرج في مرضه الذي توفي فيه فجلس على المنبر فكان أول ما ذكره بعد حمد الله تعالى والثناء عليه ذكر أصحاب أحد، فاستغفر لهم ودعا لهم، ثم قال: «يا معشر المهاجرين إنكم أصبحتم تزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد، وإنّهم عيبتي التي أويت إليها، فأكرموا كريمهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» .
وروى البخاري وسيف بن عمر في «الفتوح» عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن أبا بكر وعمر كانا يوما بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون فقالا: ما يبكيكم قالوا: ذكرنا مجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منا، فدخل أحدهما على النبي- صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك- وعند سيف- أن الأنصار لما رأوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يزداد وجعا طافوا بالمسجد، فدخل العباس فأعلم النبي- صلى الله عليه وسلم- بمكانهم وإشفاقهم ثم دخل الفضل فأعلمه بمثل ذلك ثم دخل عليه علي بن أبي طالب كذلك،
وخرج النبي- صلى الله عليه وسلم-، زاد سيف: «متوكئا على عليّ والفضل والعباس، أمامهم قد عصب على رأسه حاشية برد- زاد سيف: - يخطّ الأرض برجله فصعد المنبر ولم يصعده بعد ذلك اليوم- زاد سيف- أنه جلس على أسفل مرقاة منه، وثار الناس إليه فحمد الله وأثنى عليه- زاد سيف- فقال: أيها الناس بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم قبلكم فمن بعث إليكم فأخلد فيكم، ألا إني لاحق بربّي وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا وأوصي المهاجرين فيما بينهم، فإن الله تعالى يقول: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 1، 2] إلى آخرها، وإن الأمور تجري بإذن الله تعالى ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله فإن الله عز وجل لا يعجل بعجلة أحد ومن غالب الله غلبه ومن خادع الله خدعه فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [محمد: 22] انتهى. أوصيكم بالأنصار- وزاد سيف- خيرا فإنهم الذين تبوّأوا الدّار والإيمان من قبلكم، ألم يشاطروكم في الثّمار، ألم يوسّعوا لكم في الدّيار، ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم خصاصة، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم- زاد سيف- ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل(12/252)
من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وفي لفظ: فأقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئتهم.
- زاد سيف- ولا تستأثروا عليهم، ألا وإنّي فرط لكم وأنتم لاحقون بي ألا وإنّ موعدكم الحوض فمن أحب أن يرده غدا فليكفف لسانه ويده ألا فيما ينبغي يا أيها الناس إنّ الذّنوب تغيّر النّعم وتبدّل القسم، فإذا بر الناس برهم وإذا فجر الناس عقهم.
في بيان غريب ما سبق.
دسما: بدال فسين مهملتين فميم أي: سوداء الملحفة.
كرشي وعيبتي قال الحافظ: أي بطانتي وخاصّتي قال القزاز: ضرب المثل بالكرش لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه، ويقال: كرش منثورة أي عيال كثيرة، والعيبة بفتح المهملة وسكون المثناة بعدها موحدة ما يحرز فيه الرجل نفيس ما عنده، يريد أنهم موضع سره وأمانته، قال ابن دريد: هذا من كلامه- صلى الله عليه وسلم- الموجز الذي لم يسبق إليه وقال غيره الكرش بمنزلة المعدة للإنسان والعيبة: مستودع الثياب، والأول أمر باطن، والثاني أمر ظاهر، فكأنه ضرب المثل بهما في إرادة اختصاصهم بأموره الباطنة والظاهرة، والأوّل أولى وكل من الأمرين مستودع لما يخص فيه] .
الباب السادس عشر في جمعه- صلّى الله عليه وسلم- أصحابه في بيت عائشة- رضي الله تعالى عنها- ووصيته لهم
روي عن مرّة عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنهم- قال: نعى إلينا نبيّنا وحبيبنا- صلى الله عليه وسلم- نفسه قبل موته بشهر، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة فنظر إلينا وتشدّد ودمعت عيناه، وتداوم القوم ونظر إلى الأرض وقال: مرحبا بكم- حيّاكم الله رحمكم الله آواكم الله قبلكم الله أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله عز وجل بكم وأستخلفه عليكم وأذكّركم الله وأشهدكم أنّي لكم منه نذير وبشير أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإنه عز وجل قال لي ولكم تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83] وقال: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:
60] قلنا: متى أجلك يا رسول الله؟ فقال: دنا الأجل والمنقلب إلى الله عز وجلّ وإلى سدرة المنتهى، وإلى جنّة المأوى والفردوس الأعلى والكأس الأوفى والعيش والحظّ المهنّى قلنا:
فمن يغسّلك يا رسول الله؟ قال رجال من أهل بيتي الأدنى فالأدنى.(12/253)
قلنا: ففيم نكفّنك يا رسول الله؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم، أو فى بياض مصر أو حلّة يمانية.
قلنا: فمن يصلي عليك يا رسول الله؟ قال: فبكى وبكينا فقال: «مهلا غفر الله لكم وجزاكم عن نبيّكم خيرا إذا أنتم غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري هذا على شفير قبري من بيتي هذا ثم اخرجوا عني ساعة، فإن أول من يصلي عليّ خليلي وحبيبي جبريل، ثم ميكائيل ثم إسرافيل، ثم ملك الموت معه جنوده بأجمعهم مع الملائكة عليهم الصلاة والسلام ثم ادخلوا عليّ أفواجا فصلوا علي وسلموا تسليما، ولا يؤمكم أحدا، ولا تؤذوني بتزكية ولا بضجّة ولا برنّة أقرؤوا أنفسكم مني السلام، ومن كان غائبا من أصحابي فأبلغوه عني السلام، وأشهدكم أني قد سلمت على من دخل في الإسلام ومن تابعني على ديني إلى يوم القيامة قلنا: فمن يدخلك قبرك يا رسول الله؟ قال: رجال من أهل بيتي، الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثير، يرونكم من حيث لا ترونهم.
روى البزار عن محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن ابن الأصبهاني عن مرّة بن عبد الله، وعبد الرحمن هذا لم يسمع من مرّة كما قال البزار بينه وبينه اثنان كما عند ابن منيع والطبراني، أو ثلاثة كما عند ابن جرير والطبراني وخلاد بن مسلم الأسدي الصفا والأشعث بن طليق ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا [ (1) ] .
روى عن الحسن العرني وروى عن خلاد بن مسلم الصّفّار أبو مسلم ثقة في الكوفيين، سمعت أبي وأبا زرعة يقولان ذلك، وذكره الأزدي في الضعفاء وتبعه وقال: لا يصح حديثه لكنهما صحفا اسم أبيه فقالا: طابق.
والحسن العرني هو ابن عبد الله ثقّة من رجال البخاري ومسلم، ورواه ابن سعد عن شيخه محمد بن عمر قال: حدثني عبد الله بن جعفر عن ابن أبي عون عن ابن مسعود به.
قلت: ورواه أحمد بن منيع في مسنده والطبراني في «الدعاء» عن ابن الأصبهاني عن الأشعث بن طليق أنه سمع الحسن العرني يحدث عن مرة عن ابن مسعود.
ورواه ابن جرير عن محمد بن عمر الصباح الهمذاني، حدثنا يحيى بن عبد الرحمن حدثنا مسلم بن جعفر البجلي قال: سمعت عبد الملك بن الأصبهاني عن خلاد الأسدي قال: قال عبد الله بن مسعود يذكره.
__________
[ (1) ] انظر كشف الخفا 1/ 338 (847) .(12/254)
ورواه ابن سعد عن محمد بن عمر قال: حدثني عبد الله بن جعفر عن أبي عون عن ابن مسعود به.
ورواه الطبراني في «الدعاء» من طريق ابن عيينة حدثني نبيط بن شريط عن عبد الملك بن عبد الرحمن الأصفهاني عن الأشعث بن طليق أنه سمع الحسن العرني يحدث عن مرة.
ومن طريق محمد بن أبان البلخي، حدثنا عمرو بن محمد العبقري حدثنا عبد الملك الأصبهاني حدثنا خلاد بن الصفار عن الأشعث بن طليق عن الحسن العرني عن مرة.
ورواه البيهقي من طريق سلام بن سليم الطويل عن عبد الملك بن عبد الرحمن وقال:
انفرد به سلام الطويل وقد علمت مما تقدم أن سلام لم ينفرد به.
وروى أبو الحسن بن الضحاك من طريق سيف عن بشر بن الفضل عن أبيه، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه الذي توفي فيه لأبي بكر: «أجمع لي يا أبا بكر الأربعين الذين سبقوا الناس إلى هذا الدين، وأودع عمر معهم ففعل، وكان قبل وفاته بخمسة عشر ليلة، فخلص لهم ودعا لهم، وعهد عهده وهم شهود، وهي آخر وصية أوصاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وروى ابن أبي شيبة وأبو يعلى والنسائي في «الكبرى» عن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: والذي أحلف به إن كان عليّ لأقرب النّاس عهدا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت:
كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم قبض في بيت عائشة فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- غداة بعد غداة يقول: جاء عليّ، مرارا قالت فاطمة: كان بعثه في حاجة، فخرجنا من البيت، فقعدنا عند البيت، فكنت من أدناهم إلى الباب فأكب عليه عليّ فجعل يسارّه ويناجيه حتى قبض من يومه ذلك، فكان أقرب الناس به عهدا
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أبو يعلى 12/ 404 (6968) .(12/255)
الباب السابع عشر في وصيته- صلى الله عليه وسلم- بالصلاة وغيرها من أمور الدين وأنه لم يوص بشيء من أمور الدنيا
روى الإمام أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجة وابن سعد والبيهقي وابن الجوزي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: كانت عامة وصية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين حضره الموت وهو يغرغر بنفسه «الصّلاة وما ملكت أيمانكم» - وفي لفظ «الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم» حتى جعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يغرغر بها في صدره، وما يفيض بها لسانه- وفي لفظ- ما كان يفيض بها لسانه.
وروى الجماعة إلا البخاري عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: ما ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دينارا ولا درهما ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء.
وروى الإمام أحمد والنسائي وابن ماجة وابن سعد عن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما حضر جعل يقول: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» فجعل يتكلم بها وما كان لسانه يفيض بها.
وروى ابن سعد عن كعب بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال: أغمي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم أفاق فقال: «الله الله فيما ملكت أيمانكم، ألبسوا ظهورهم وأشبعوا بطونهم، وألينوا لهم القول» .
وروى الجماعة إلا أبا داود عن طلحة بن مصرف قال: سألت ابن أبي أوفى هل أوصى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ قال: لا. قلت: كيف كتب على الناس وأمر بها ولم يوص؟ قال: أوصى بكتاب الله.
وروى أبو داود وابن ماجه عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: كان آخر كلام رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» يغرغر بها نفسه.(12/256)
الباب الثامن عشر في تحذيره- صلى الله عليه وسلم- أن يتخذ قبره مسجدا
روى الشيخان عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- وابن سعد قال: لما نزل برسول الله- صلى الله عليه وسلم- طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتمّ كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: «لعنة الله على اليهود والنّصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت عائشة: يحذّر مثل ما صنعوا.
وروى البخاري عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي لم يقم منه: «لعن الله اليهود [والنّصارى] [ (1) ] اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
قالت عائشة: لولا ذلك لأبرز قبره خشي أن يتّخذ مسجدا.
وروى الطيالسي والإمام أحمد عن أسامة بن زيد- رضي الله تعالى عنه- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أدخلوا عليّ أصحابي» فدخلوا عليه وهو متقنّع ببرد له معافر. فقال:
«لعن الله اليهود» زاد الإمام أحمد «والنّصارى، اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد» .
وروى ابن أبي شيبة والحارث وأبو يعلى عنه قال: دخلنا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نعوده وهو مريض فوجدناه نائما قد غطّى وجهه ببرد عدنيّ فكشف عن وجهه ثم قال: لعن الله اليهود يحرّمون شحم الغنم ويأكلون أثمانها ...
الحديث.
وروى الحارث عن حذيفة- رضي الله تعالى عنه- قال: دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي مات فيه فقال: «أجلسوني» . فأجلسه [علي- رضي الله تعالى عنه-] [ (2) ] إلى صدره.
__________
[ (1) ] سقط في ب.
[ (2) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/257)
الباب التاسع عشر في ما يؤثر عنه- صلى الله عليه وسلّم- من ألفاظه في مرض موته وآخر ما تكلم به
روى البخاري عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: لما ثقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جعل يتغشّاه الكرب فقالت فاطمة- رضي الله تعالى عنها- وا كرب أبتاه فقال: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» ، ورواه الإمام أحمد وابن ماجة بلفظ إنه قد حضر بأبيك ما ليس الله تبارك وتعالى بتارك منه أحدا لموافاة يوم القيامة [ (1) ] .
وروى ابن سعد والشيخان عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كنت أسمع أنه لا يموت نبيّ حتى يخير بين الدنيا والآخرة قالت: فأصابت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بحّة شديدة في مرضه فسمعته يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] فظننت أنه خيّر.
وروى الإمام أحمد وابن سعد والشيخان والبيهقي عنها قالت: كان جبريل يعوّذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا مرض «وفي لفظ: كأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعوذ بهؤلاء الكلمات:
«اذهب البأس رب الناس، اشف أنت الشافي، شفاء لا يغادر سقما» ، قالت: فلما ثقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخذت بيده فجعلت أمسحه بها وأعوّذه فنزع يده منّي.
زاد ابن سعد «ارفعي عني، فإنها إنما كانت تنفعني في المرة» .
وعند الحاكم من حديث أنس أنّ آخر كلمة يتكلم بها: جلال ربي الرفيع.
وروى النسائي والحارث بن أبي أسامة عنها قالت: أغمي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في حجري فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء بهذه الكلمات: «اذهب البأس رب الناس» ففاق فانتزع يده من يدي فقال: «بل اسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل» .
وروى ابن سعد عن جابر بن عبد الله- رضي الله تعالى عنه- أن كعب الأحبار قدم زمن عمر فقال: يا أمير المؤمنين، ما كان آخر ما تكلم به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: سل عليّا فسأله فقال: الصلاة الصلاة فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء» .
وروى البلاذري عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: كشف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الستر، فرأيته معصوبا في مرضه الذي مات فيه، فقال: اللهم هل بلغت ثلاثا ثم قال: لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح، أو ترى له.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 3/ 141.(12/258)
وروى الإمام أحمد من طريقين منها ثقات متصل اتصل إسنادهما عن أبي عبيدة- رضي الله تعالى عنه- قال: أخر ما تكلم به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أنّ شرار النّاس الّذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
وروى البخاريّ والبيهقي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين يديه ركوة أو علبة وفيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات، ثم نصب يده اليمنى فجعل يقول: في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده في الماء.
وروى ابن سعد والبيهقي وصححه الذهبي عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاث يقول: «أحسنوا الظّنّ بالله» .
وروى الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يموت وعنده قدح فيه ماء، يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: «اللهم أعنّي على سكرات الموت» .
وروى الإمام أحمد بسند قال ابن كثير: لا بأس به عنها أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إنه ليهوّن عليّ الموت، إني رأيت بياض كفّ عائشة في الجنة» [ (1) ] ورواه ابن سعد عن الشعبي مرسلا،
وهذا دليل على صحة محبته- عليه الصلاة والسلام- لعائشة.
تنبيه في بيان غريب ما سبق:
«الكرب» : بكاف مفتوحة فراء ساكنة فموحدة الغم.
«البحّة» : بموحدة فمهملة خشونة وغلظ في الصوت.
«الرّكوة» : [شبه تور من أدم وقال المطرزي: دلو صغير: وقال غيره: كالقصعة تتخذ من جلد، ولها طوق خشب] .
«العلبة» : بعين مهملة مضمومة فلام ساكنة فموحدة المراد به هنا قدح من خشب.
الرفيق قيل: هو اسم من أسماء الله تعالى.
قال الأزهري: وهو غلط، بل الرفيق ها هنا جماعة يسكنون أعلى عليين، اسم جاء على فعيل ومعناه: الجماعة من قوله تبارك وتعالى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] ويجوز أن يقال في الجماعة: هم لي صديق وعدو فتفرد، لأنه صفة الرّفيق، ويصح أن يقال: قومك
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 6/ 138.(12/259)
صاحبك وأبوك، فإنما يحسن هذا إذا وصف الصديق وفريق وعدو، لأنها صفة لفريق والحزب، لأن الصداقة والعداوة صفتان متضادتان، فإذا كان أحدهما على الفريق الواحد كان الآخر على ضدها، وكانت قلوب أحد الفريقين في تلك الصفة على قلب رجل واحد في عرف العادة، فحسن الإفراد وليس يلزم مثل هذا في القيام والقعود ونحوه حتى يقال: هو قائم أو قاعد كما يقال: هم لي صديق وعدو كما قدمناه من الاتفاق والاختلاف، وأهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد، وهذه الكلمة آخر كلمة تكلم بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهي تتضمن معنى التوحيد الذي يجب أن يكون آخر كلام المؤمن
لأنه- صلى الله عليه وسلم- قال: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [النساء: 69]
وهم أصحاب الصراط المستقيم وهم أهل لا إله إلا الله، ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله تعالى عنها ب «ثم نصب يده» .
وفي رواية عنها «فأشار بإصبعه» .
وفي رواية: «اللهمّ الرّفيق الأعلى» وأشار بإصبعه السبابة يريد التوحيد قاله السهيلي.
الباب العشرون في آخر صلاة صلاها بالناس- صلّى الله عليه وسلم-
روى البخاري والبلاذري عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- عن أمّه أم الفضل قالت: خرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو عاصب رأسه في مرضه في بيته في ثوب واحد، قد توشّح به، فصلى بنا المغرب، فقرأ بالمرسلات فما صلى لنا بعدها حتى لقي الله، أرادت فما صلى بعدها بالناس.
وروى البيهقي من طريقين، قال ابن كثير: وإسناده على شرط الصحيح عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: آخر صلاة صلاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع القوم في ثوب واحد برد مخالفا بين طرفيه فلما أراد أن يقوم قال: ادع لي أسامة بن زيد فجاء فأسند ظهره إلى نحره فكانت آخر صلاة صلاها.
قال البيهقيّ: ففي هذا دلالة أن هذه الصلاة التي صلاها خلف أبي بكر كانت صلاة الصبح يوم الاثنين يوم الوفاة، لأنها آخر صلاة صلاها لما ثبت أنه توفي في ضحى يوم الاثنين.
قال ابن كثير: وهو تابع في ذلك ابن عقبة وعروة وهو قول ضعيف، بل هذا آخر صلاة صلاها مع القوم، ثم لا يجوز أن تكون هذه صلاة الصبح من يوم الاثنين يوم الوفاة، لأن تلك لم يصلّها مع الجماعة، بل في بيته لما به من الضعف- عليه الصلاة والسلام- ويدل لذلك(12/260)
حديث أنس الآتي في ذلك في تاريخ وفاته- صلّى الله عليه وسلم- وهو أوضح دليل على أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يصل يوم الاثنين صلاة الصبح وأنه كان قد انقطع عنهم لم يخرج إليهم، فعلى هذا يكون آخر صلاة صلاها الظهر كما جاء مصرحا به في حديث عائشة- رضي الله تعالى عنها- في صلاة أبي بكر، ويكون ذلك يوم الخميس لا يوم السبت، ولا يوم الأحد كما حكاه البيهقيّ عن مغازي ابن عقبة وهو ضعيف لما قدمناه من خطبته بعدها، ولا انقطع عنهم يوم الجمعة والسبت والأحد، وهذه ثلاثة أيام كوامل.
الباب الحادي والعشرون في استعماله- صلّى الله عليه وسلم- السواك قبل وفاته
روى الشيخان عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: «إن من أنعم الله علي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توفي في بيتي وبين سحري ونحري» وفي رواية «بين حاقنتي وداقنتي» وأن الله تعالى جمع بين ريقي وريقه عند الموت، فدخل عليّ عبد الرحمن وبيده سواك» .
وفي رواية «جريدة خضراء يشير بها وأنا مسندة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى صدري، فرأيته ينظر إليه، فعرفت أنه يحب السواك فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أي نعم فقّصمته ثم مضغته ونقضته فأخذه، فاستنّ به أحسن ما كان مستتنا.
وروى محمد بن يحيى بن أبي عمرو العرني- برجال ثقات- عنها أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رفع رأسه في مرضه قالت: فأخذته فأسندته إلى صدري فدخل أسامة بن زيد وبيده سواك أراك رطب، فلحظه إليه، فظننت أنه يريده، فأخذته فنكشته بفي، فدفعته إليه فأخذه وأهواه إلى فيه، فخفقت يده فسقط من يده.
وروى الحارث بن أبي أسامة وابن أبي شيبة عنها قالت: «مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو توفي بين حاقنتي وداقنتي، فلا أكره شدّة الموت لأحد بعد الذي رأيت من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وروى ابن سعد عنها قالت: لا أزال أغبط المؤمن شدة الموت بعد شدته على رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
تنبيهات
الأول: قال السهيلي في هذا الحديث أي: حديث السواك: فيه من الفقه التنظف(12/261)
والتطهر [ولذلك يستحب الاستحداد لمن استشعر القتل أو الموت لأن الميت قادم على ربه كما أن المصلي مناج لربّه فالنظافة من شأنهما.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
«السّحر» بسين مفتوحة وتضم وحاء ساكنة مهملتين وبفتحتان الرّئة يريد أنه مات وهو مستند لصدرها ما بين جوفها وعنقها وما ألصق بالحلقوم والمريء من أعلى البطن، ورواه عمارة بن عقيل بشين وجيم معجمتين وسئل عنه فشبك بين أصابع يديه وضمها إلى نحره، كأنه يضم شيئا إليه أي أنّه مات وقد ضمته بيدها إلى صدرها ونحرها، والشحر التشبيك وهو الذقن أيضا والمحفوظ الأول.
«القضم» بالقاف وهو الكسر ودق الشيء وأبانته أي كسّرته فأبانت منه الموضع الذي كان استن به عبد الرحمن، وإن كان تالفا فهو الكسر من غير إبانة.
والحاقنة: المعدة أو النقرة بين الترقوة وحبلي العاتق.
الذاقنة: طرف الحلقوم، وقيل: الذّقن، وقيل: ما يناله الذقن من الصدر. والله تعالى أعلم.
الباب الثاني والعشرون في معاتبته- صلّى الله عليه وسلم- نفسه على كراهية الموت
روى ابن سعد عن أبي الحويرث أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يشتك شكوى إلّا سأل الله تعالى العاقبة، حتى كان في مرضه الذي توفي فيه فإنه لم يكن يدعو بالشفاء وطفق يقول: «يا نفسي ما لك تلوذين كلّ ملاذ» .
الباب الثالث والعشرون فيما جاء أنه قبض ثم أري مقعده من الجنة ثم ردّت إليه روحه ثم خيّر
روى الإمام أحمد والشيخان وابن سعد والطّبرانيّ وأبو نعيم بسند صحيح عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول وهو صحيح: ما من نبي إلا تقبض نفسه ثم يرى مقعده من الجنّة ثم تردّ إليه روحه فيخير بين أن يرد إليه إلى أن يلحق، فكنت قد حفظت ذلك، فإني لمسندته إلى صدري، فنظرت إليه قد غشى عليه ساعة حتى مات عنقه،(12/262)
فقلت قد قضى قالت: فعرفت الذي قال: ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت، فنظرت إليه حين ارتفع نظره فقلت: إذا والله لا يختار إلّا الرّفيق الأعلى، مع جبريل وميكائيل وإسرافيل، ومع الّذين أنعم الله عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، فعرفت أنه الحديث الذي حدثناه وهو صحيح.
قال الحافظ: وفي «مغازي» أبي الأسود عن عروة: أن جبريل نزل إليه في تلك الحالة «فخيّره» وتقدمت أحاديث في باب «ما يؤثر عنه من ألفاظه» .
الباب الرابع والعشرون في تردد جبريل إليه واستئذان ملك الموت وزيارة إسماعيل صاحب السماء الدنيا له- صلّى الله عليه وسلم- وقبض روحه الشريفة وصفة خروجها وصفة الثياب التي قبض فيها
روى ابن سعد والبيهقي عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه معضلاً والإمام الشافعي في مسنده، والطبراني عنه عن جده عن أبي الحسين مرسلا، ومحمد بن يحيى وبقي بن مخلد عنه عن أبيه عن جده عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب موصولا- ورجاله ثقات- أنه لما كان قبل وفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أيام هبط جبريل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد وفي رواية يا أحمد إنّ الله أرسلني إليك إكراما لك وتفضيلا وخاصّة لك، ليسألك عما هو أعلم به منك
- وفي حديث أبي هريرة عن ابن الجوزي فقال: إن الله عز وجل يقرئك السّلام يقول: كيف تجدك؟ قال: «أجدني يا جبريل مغموما، وأجدني يا جبريل مكروبا» [فلما كان اليوم الثاني هبط إليه جبريل فقال: يا أحمد إن الله أرسلني إليك إكراما لك وتفضيلا لك وخاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟
قال: «أجدني يا جبريل مغموما؟ وأجدني يا جبريل مكروبا» ] .
فلما كان اليوم الثالث هبط جبريل ومعه ملك الموت، ومعهما ملك آخر يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط، يقال له إسماعيل، على سبعين ألف ملك كلّ ملك على سبعين ألف ملك، فسبقهم جبريل فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك إكراما لك وتفضيلا وخاصة لك، يسألك عما هو أعلم به منك- وفي حديث أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- عند ابن الجوزي فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقرئك السّلام [يقول: كيف تجدك؟ قال: «أجدني يا جبريل مغموما، وأجدني يا جبريل مكروبا»
وفي حديث أبي الحويرث(12/263)
عند البيهقي «إنّ جبريل قال له: إنّ ربك يقرئك السلام] [ (1) ] ويقول لك: إن شئت شفيتك وكفيتك، وإن شئت توفّيتك، وغفرت لك قال: «ذلك إلى ربّي يصنع بي ما يشاء»
انتهى.
ثم استأذن ملك الموت على الباب فقال جبريل يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي كان قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، قال ائذن له، فدخل.
وفي حديث ابن عباس عند الطبراني أنه قال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، إن ربك يقرئك السلام، قال: فبلغني أن ملك الموت لم يسلم على أهل بيت قبله، ولا يسلم بعده.
انتهى.
فوقف بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن الله أرسلني إليك، وأمرني أن أطيعك فيما أمرتني، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها يا أحمد، وإن أمرتني أن أتركها تركتها قال: وتفعل ذلك يا ملك الموت؟ قال نعم، بذلك أمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني، فقال جبريل: يا أحمد إن الله قد اشتاق إلى لقائك. فقال: يا ملك الموت امض لما أمرت به فقال جبريل عليه الصلاة والسلام: عليك يا رسول الله، هذا آخر موطئ الأرض.
وفي حديث أبي هريرة عند ابن الجوزي وهذا آخر عهدي بالدّنيا بعدك، وهذا آخر عهدك بها، ولن أستأذن على هالك من بني آدم بعدك، ولن أهبط إلى الأرض على أحد بعدك أبدا، فوجد النبي- صلى الله عليه وسلم- سكرات الموت.
وفي حديث عائشة عند البخاري وغيره: «فبينما رأسه على منكبي إذ مال رأسه نحو رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة، فخرجت من فيه نقطة باردة فوقعت على ثغري ونحري فاقشعرّ لها جلدي، فظننت أنه أغشي عليه، فسجّيته ثوبا.
وفي حديث عائشة عند الطبراني فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يمد يده ويقول: «يا جبريل» وهو يقبضها ويبسطها.
وعند ابن عقبة فلم يزل يغمى عليه ساعة ثم يفيق، ثم يشخّص بصره إلى السماء.
وفي حديث أبي الحويرث عند البيهقي أنه قال: ادن مني يا جبريل، ادن مني يا جبريل.
وفي حديث جعفر بن محمد عن أبيه إنه جعل يقول: «ادن مني يا جبريل، ادن منّي يا جبريل» ثلاثا قالت عائشة: فلقد سمعت ما لم أسمع أدن مني يا جبريل، وهو يقول: لبّيك لبّيك.
وفي حديث علي عند محمد بن يحيى بن أبي عمر- برجال ثقات- فقال جبريل: يا
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/264)
أحمد عليك السلام هذا آخر موطئ الأرض إنما كنت حاجتي من الدنيا.
وفي حديث علي عند أبي نعيم لما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صعد ملك الموت باكيا إلى السماء والذي بعثه بالحق. لقد سمعت صوتاً من السماء ينادي وا محمّداه.
انتهى.
وعند ابن عقبة واشتدّ برسول الله- صلى الله عليه وسلم- الوجع فأرسلت إلى علي، وأرسلت حفصة إلى عمر، وأرسلت كلّ امرأة إلى خيمها، فلم يرجعوا حتى توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على صدر عائشة في يومها.
وعند البلاذري عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- رأيت يوما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحمرّ وجهه ويعرق جبينه ولم أكن رأيت قطّ ميّتا قبله ثم قال: أقعديني فأقعدته فأسندته إليّ ووضعت يدي عليه فقلب رأسه فوضعت يدي عنه ووقعت من فيه نقطة على صدري- أو قالت على ترقوتي- فسقط على الفراش فسجّيناه بثوب فتوفي رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-.
وفي حديث عائشة عند الإمام أحمد والبزّار والبيهقي بسند صحيح قالت: لما خرجت نفسه لم أجد قطّ ريحا أطيب منها.
وفي حديث لعائشة عند أبي يعلى وأحمد- برجال ثقات- ثم أقبل بوجهه إليّ حتى إذا كان فاه في ثغرة نحري سال من فيه نقطة باردة اقشعرّ منها جلدي، وثار ريح المسك في وجهي، ومال رأسه فظننت أنه غشي عليه، فأخذته فنوّمته على الفراش وغطيت وجهه.
وفي حديث أم سلمة عند البيهقي قال: وضعت يدي على صدر النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم مات فمرّ بي جمع، آكل وأتوضّأ ما تذهب ريح المسك من يدي.
وفي حديث ابن عمر عند البلاذري أنه- صلى الله عليه وسلم- لما قبض سجّي بثوب، وقعدنا حوله، فبكى، انتهى، فأتاهم آت يسمعون حسّه ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته.
وفي حديث ابن عمر عند البلاذري فرددنا عليه السلام فقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران 185] إلى قوله: مَتاعُ الْغُرُورِ انتهى، إنّ في الله خلفا من كلّ هالك، وعزاء عن كل مصيبة ودركا من كل ما فائت فبالله فثقوا وإياه فارجوا.
وفي حديث ابن عمر عند البلاذري نظركم في النبي ومصيبتكم، فإن المصاب من حرم الثّواب. انتهى.
وفي حديث ابن عمر عند البلاذري فظننا أنه جبريل جاء يعزّينا.(12/265)
وفي حديث بقي بن مخلد عند الشّعبي وعند المدائني فقال عليّ: هذا الخضر يعزّيّكم عن نبيّكم.
وروى البخاري والطبراني وابن سعد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قالت فاطمة لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: يا أبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه من جنّة الفردوس مأواه يا أبتاه إلى جبريل فنعاه، يا أبتاه من ربه ما أدناه.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي بردة قال: أخرجت لنا عائشة- رضي الله تعالى عنها- كساء ملبّدا وإزارا غليظا فقالت: قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في هذين.
وروى الإمام أحمد والبيهقي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: بين سحري ونحري وفي دولتي لم أظلم فيه أحدا. فمن سفهي وحداثة سنّي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبض وهو في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة وقمت مع النساء أبكي وألتدم.
وروى البزار وأبو الحسن بن الضحاك عنها قالت: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوما في مرضه وقد عرق وجهه وجبينه فقال: «أقعديني» فأسندته إلي فوضعت يدي عليه، فقلب رأسه فرفعت يدي عنه، فظننت أنه يريد شيئا من رأسي، فوقعت من فمه نقطة باردة على صدري، ثم مال فسقط على الفراش فسجّيته بثوب ولم أكن رأيت الموت» .
تنبيهات
الأول: قوله: «إن الله قد اشتاق إلى لقائك» معناه: قد أراد لقاءك بأن يردك من دنياك إلى معادك. زيادة في قربك وكرامتك.
الثاني: روى البيهقي وأبو نعيم من طريق الواقدي عن شيوخه: شكوا في النبي- صلى الله عليه وسلم- قال بعضهم: مات وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفي النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالت قد رفع الخاتم من بين كتفيه فكان هذا عرف بعد موت النبي- صلى الله عليه وسلم- ورواه ابن سعد [ (1) ] عن الواقدي حدثني القاسم بن إسحاق عن أمّه عن أبيها القاسم بن محمد بن أبي بكر أو عن أم معاوية أنه لما شك فذكره.
قال ابن كثير: والواقدي ضعيف وشيوخه لم يسمون، ثم هو منقطع بكل حال ومخالف لما صحّ، وفيه غرابة شديدة.
قلت: وذكر في «الزهر» أن الحاكم رواه في تاريخ نيسابور عن عائشة فطلبت التاريخ
__________
[ (1) ] ابن سعد 2/ 208.(12/266)
لأنظر سنده فرأيت منه مجلدات فمررت عليه فلم أر ذلك فيه فليحرر حاله فإنه كثيرا ما يسأل عن ذلك.
الثالث: اشتهر على الألسنة أن جبريل لا ينزل إلى الأرض بعد موت النبي- صلى الله عليه وسلم-.
قال الشيخ في «فتاويه» وهذا شيء لا أصل له، ومن الدليل على بطلانه
ما رواه الطبراني عن ميمونة بنت سعد قالت: قلت: يا رسول الله هل يرقد الجنب قال: «ما أحبّ أن يرقد حتّى يتوضّأ فإنّي أخاف أن يتوفّى فلا يجهزه جبريل» .
وما رواه أيضا نعيم بن حماد [في كتاب الفتن والطبراني] من حديث ابن مسعود عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في وصف الدّجّال قال: «فيمرّ بمكة فإذا هو بخلق عظيم فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا ميكائيل بعثني الله لأمنعه من حرمه [ويمر بالمدينة فإذا هو بخلق عظيم فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا جبريل بعثني الله لأمنعه من حرمه]
[ (1) ] .
وقال الضحاك: في قوله تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [القدر 4] إن الروح هنا جبريل، وإنه ينزل مع الملائكة في ليلة القدر، ويسلمون على المسلمين في كل سنة.
الرابع: قول السيدة عائشة «ألتدم» .
قال السهيلي وغيره: الالتدام: ضرب الخد باليد، واللّادم: المرأة التي تلدم والجمع:
اللّدم بتحريك الدال وقد لدمت المرأة تلدم لدما ولم يدخل هذا في التحريم، لأن التحريم إنما وقع على الصّراخ والنّوح، ولعنت الخارقة والحالقة والصّالقة- وهي الرافعة لصوتها- ولم يذكر اللّدم لكنه وإن لم يذكر فإنه مكروه في حال المصيبة، وتركه أحمد إلا على أحمد- صلّى الله عليه وسلم-:
فالصّبر يحمد في المصائب كلّها ... إلّا عليك فإنّه مذموم
وقد كان يدعى لابس الصّبر حازما ... فأصبح يدعى حازما حين يجزع
وهذا الحديث تفرد به ابن إسحاق، وهو حسن الحديث إذا صرح بالتحدث، وقد صرح به فقال: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: سمعت عائشة إلخ.
وقول السّهيلي: إنه لا يدخل في التحريم خلاف الصحيح.
الخامس: في بيان غريب ما سبق «سجّيته» : بسين مهملة مفتوحة فجيم: غطيت سائر بدنه.
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/267)
الباب الخامس والعشرون في إخبار أهل الكتاب بموته- صلى الله عليه وسلم- يوم مات وهم باليمن
روى البخاري عن جرير بن عبد الله- رضي الله تعالى عنه- قال: كنت باليمن فلقيت رجلين من أهل اليمن ذا كناع وذا عمرو، فجعلت أحدثهم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال لي:
إن كان تقول حقا فقد مضى صاحبك إلى أجله منذ ثلاث، قال: فأقبلت وأقبل معي حتى إذا كنا في بعض الطريق رفع لنا ركب من قبل المدينة، فسألناهم فقالوا: قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
[واستخلف أبو بكر، والناس صالحون. قال: فقال لي: أخبر صاحبك أنّا قد جئنا، ولعلنا سنعود- إن شاء الله- ورجع إلى اليمن، قال فأخبرت أبا بكر بحديثهم، فقال: أفلا جئت بهم، قال: فلما كان بعد، قال لي ذو عمر يا جرير، إنّ بك عليّ كرامة وإني مخبرك خبرا، إنكم معشر العرب، لم تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير، تأمرتم في آخر، فإذا كانت بالسيف، كانوا ملوكا يغضبون غضب الملوك، ويرضون رضى الملوك] .
وروى البيهقي من وجه آخر عنه قال: لقيني حبر باليمن فقال: إن كان صاحبكم نبيا فقد مات يوم الاثنين.
وروى عن كعب بن عدي قال: أقبلت في وفد من أهل الحيرة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فعرض علينا الإسلام فأسلمنا ثم انصرفنا إلى الحيرة فلم نلبث أن جاءنا وفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فارتدّ أصحابي وقالوا: لو كان نبيا لم يمت فقلت: قد مات الأنبياء قبله، وثبتّ على الإسلام، ثم خرجت أريد المدينة فمررت براهب كنا لا نقطع أمرا دونه فأخبرته فأخرج سفرا فتصفح فيه فإذا بصفة النبي- صلى الله عليه وسلم- كما رأيته وإذا هو يموت في الحين الذي مات فيه، فاشتدّت بصيرتي في إيماني، وقدمت على أبي بكر فأعلمته.
[فأقمت عنده، فوجهني إلى المقوقس، فرجعت، فوجهني أيضا عمر بن الخطاب، فقدمت عليه بكتابه، فأتيته وقعة اليرموك، ولم أعلم بها، فقال لي: علمت أنّ الروم قتلت العدو، وهزمتهم، قلت: كلّا، قال: ولما، قلت: إنّ الله وعد نبيه صلى الله عليه وسلم أن يظهره على الدين كله، وليس يخلف الميعاد، قال: إن نبيكم قد صدقكم، قتلت الروم، والله قتل عاد، ثم سألني عن وجوه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأهدى إليّ، عمرو إليهم، وكان ممن أهدي إليه عليّ وعبد الرحمن والزبير، وأحسبه ذكر العباس، قال كعب: وكنت شريكا لعمر في اليمن في الجاهلية، فلما فرض الديوان، فرض لي في بني عدي بن كعب] .
وروى ابن سعد عن محمد بن عمرو الأسلمي عن شيوخه قالوا: كان عمرو بن العاص عاملا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- على عمان فجاءه يهودي فقال أرأيت إن سألتك عن شيء يخشى(12/268)
عليّ منك؟ قال: لا، قال اليهودي: أنشدك بالله من أرسلك إلينا؟ قال اللهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال اليهودي: الله إنك لتعلم أنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال له عمرو: اللهم نعم، قال اليهودي: إن كان ما تقول حقا لقد مات اليوم، ثم بلغ عمرو وفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وروى ابن سعد وأبو نعيم عن الحارث بن عبد الله الجهني قال: بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن ولو أظن أنه يموت لم أفارقه فأتاني الحبر فقال إن محمدا قد مات قلت له: متى؟ قال: اليوم فلو أن عندي سلاحا لقتلته، فلم أمكث إلا يسيرا حتى أتى كتاب من أبي بكر بذلك فدعوت الحبر فقلت: من أين تعلم ذلك؟ فقال: إنه نبي نجده في الكتاب أنه يموت يوم كذا وكذا، قلت: وكيف، يكون بعده؟ قال: تستدير رحاكم إلى خمس وثلاثين سنة ما زاد يوما.
وروى ابن عساكر عن كعب الأحبار قال: خرجت أريد الإسلام فلقيت ذا قربات الحميري، فقال لي: أين تقصد فأخبرته فقال لي: لئن كان نبيا إنه الآن لتحت التراب، فخرجت فإذا أنا براكب فقال: مات محمد.
وروى ابن عساكر عن أبي ذؤيب خويلد وقيل: ابن الحارث الهذلي قال: بلغنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عليل فاستشعرت حزنا، وبت بأطول ليلة لا ينجاب ديجورها، ولا يطلع نورها فظللت أقاسي طولها حتى إذا كان قرب السّحر أغفيت فهتف بي هاتف وهو يقول:
خطب أجلّ أناخ بالإسلام ... بين النّخيل ومعقد الآطام
قبض النّبيّ محمّد فعيوننا ... تذري الدّموع عليه بالتّسجام
فوثبت من نومي فزعا فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذّابح فتفاءلت به ذبحا يقع في العرب، وعلمت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد قبض وهو ميّت من علّته، فركبت ناقتي وسرت، فلما أصبحت طلبت شيئا أزجر به فعنّ شيهم- يعني القنفذ- وقد قبض على صل يعني الحية فهي تلتوي عليه والشّيهم يقضمها حتى أكلها، فزجرت ذلك وقلت: الشيهم شيء مهم والتواء الصّل التواء الناس عن الحق على القائم بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم أوّلت أكل الشيهم إياها غلبة القائم بعده على الأمر فحثثت ناقتي حتى إذا كنت بالغابة فزجرت الطائر، فأخبرني بوفاته ونعب غراب سانح، فنطق بمثل ذلك، فتعوذت بالله من شر ما عنّ لي في طريقي، وقدمت المدينة ولها ضجيج بالبكاء كضجيج الحاج إذا أهلّوا بالإحرام فقلت: مه؟ فقالوا:
قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجئت إلى المسجد فوجدته خاليا فأتيت بيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأصبت بابه مرتجا، وقيل: هو مسجّى وقد خلا به أهله.(12/269)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق
«الحيرة» : - بحاء مهملة مكسورة فمثناة تحتية فراء محلة بنيسابور.
السفر: بسين مهملة مكسورة ففاء ساكنة فراء المراد به هنا [جزء من أجزاء التوراة.
تنجاب: - بمثناة فوقية فنون فجيم فألف فباء ينكشف ولا يذهب.
الدّيجور: - بدال مهملة فتحتية فجيم- المراد به هنا] [ (1) ] الظلام الهاتف.
الخطب- بخاء معجمة فطاء مهملة فموحدة هنا الأمر العظيم.
معقد- بفتح القاف وكسرها- الآطام: - حصن مبني بحجارة.
بالتسجام: - بفتح التاء مصدر وبكسر اسم.
أزجر: - بهمزة فزاي فجيم فراء نظير.
شيهم: - بشين معجمة فمثناة تحتية فهاء القنفذ.
الصّل: بصاد مهملة فلام: الحية.
نعب: - بنون فعين مهملة فباء فموحدة: الغراب وغيره، ونعبانا: صاح وصوّت ومد عنقه وحرك رأسه [في صياحه] .
السّانح: - بسين مهملة فألف فنون فحاء مهملة المبارك، وفي المثل: «من لي بالسّانح بعد البارح» أي: المبارك بعد الشؤم.
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/270)
الباب السادس والعشرون في بيان معنى قوله- صلى الله عليه وسلم-: «حياتي خير لكم وموتي خير لكم»
روى مسلم عن أبي موسى- رضي الله تعالى عنه- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إذا أراد الله بأمّة خيرا قبض نبيها قبلها فجعله فرطا وسلفا بين يديها، وإذا أراد هلاك أمّة عذّبها، ونبيّها حيّ، فأهلكها وهو ينظر فيقرّ عينه بهلاكها حيث عذّبوه وعصوا أمره
وإنما كان قبض النبي- صلى الله عليه وسلم- خيرا لأمته لأنهم إذا قبضوا قبله انقطعت أعمالهم وإذا أراد الله بهم خيرا جعل خيرهم مستمرا ببقائهم محافظين على ما أمروا به من العبادات وحسن المعاملات، نسلا بعد نسل، وعقبا بعد عقب» .
وروى ابن سعد وإسماعيل القاضي- بسند رجاله ثقات- عن بكر بن عبد الله المازني مرسلا قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «حياتي خير لكم تحدثون ويحدث لكم، فإذا أنا مت كانت وفاتي خير لكم، تعرض عليّ أعمالكم، فإن رأيت خيرا حمدت الله وإن رأيت شرا استغفرت لكم» .
قال الشيخ: - رحمه الله تعالى- في «فتاويه» : ليس قوله (خيرا) أفعل تفضيل فإن (خيرا) لها
استعمالان:
أحدهما:
أن يراد بها معنى التفضيل لا الأفضلية، وضدها الشر وهي كلمة باقية على أصلها لم يحذف منها شيء.
والثاني:
أن يراد بها معنى الأفضلية، وهي التي توصل ب «من» وهذه أصلها أخير حذفت همزتها تخفيفا، ويقابلها شر التي أصلها أشر.
قال في «الصحاح» : الخير ضد الشر قال الشاعر:
فما كنانة في خير بخائرة ... ولا كنانة في شرّ بأشرار
وتأنيث هذه خيّرة وجمعها: خيرات وهن الفاضلات من كل شيء، قال تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن 70] أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ [التوبة 88] ولم يريدوا بها معنى أفعل فلو أردت معنى التفضيل قلت: فلانة خير الناس ولم تقل: خيرة [وفلان خير الناس ولم تقل أخير] ولا تثنى ولا تجمع، لأنه في معنى أفعل انتهى كلام الصحاح.
وقال الراغب في «مفردات القرآن» الخير والشر يقالان على
وجهين أحدهما:
أن يكونا اسمين كقوله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ [آل عمران 104] .(12/271)
الثاني:
أن يكونا وصفين وتقديرهما تقدير أفعل من نحو: هذا خير من ذاك وأفضل وقوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها [البقرة 106] ويحتمل الاسمية والوصفية معا كقوله تعالى:
وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة 184] .
وقال أبو حيان في «البحر» في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ [البقرة 103] ليس «خير» هذا أفعل تفضيل بل هي للتفضيل لا للأفضلية كما في قوله تعالى: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ [فصلت 40] وخَيْرٌ مُسْتَقَرًّا [الفرقان 24] .
وفي قول حسان:
............... ..... ... فشرّكما لخيركما الفداء
وإذا عرفت ذلك «فخير» من الحديث من القسم الأوّل وهي التي يراد بها التفضيل لا الأفضلية، فلا توصل ب «من» وليست بمعنى أفعل وإنما المقصود إن في كل من حياته ومماته- صلى الله عليه وسلم- خيرا لا أن هذا خير من هذا، ولا أن هذا خير من هذا.(12/272)
الباب السابع والعشرون في عظم المصيبة وما نزل بالمسلمين بموته- صلى الله عليه وسلم- والظّلمة التي غشيت المدينة وتغير قلوب الناس وأحوالهم وبعض ما رثي به من الشعر
روى ابن ماجة عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: فتح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بابا بينه وبين الناس أو كشف سترا فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم ورجاء أن يخلفه الله فيهم بالذي رآهم فقال: يا أيها الناس أيّما أحد من الناس أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بيّ عن المصيبة التي تصيبه بغيري فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي.
وروى ابن سعد وابن الجوزي عن عطاء مرسلا قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أصابت أحدكم بمصيبة فليذكر مصابه بي، فإنّها من أعظم المصائب»
[ (1) ] .
وروى البيهقي عن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: يا لها من مصيبة ما أصبنا بعدها بمصيبة إلا هانت، إذا ذكرنا مصيبتنا به- صلى الله عليه وسلم-.
وروى ابن سعد عن سهل بن سعد- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «سيعزّي الناس بعضهم بعضا من بعدي التعزية بي»
[ (2) ] فكان الناس يقولون: ما هذا؟ فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقى الناس بعضهم بعضا يعزّي بعضهم برسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
ورحم الله تعالى القائل:
اصبر لكلّ مصيبة وتجلّد ... واعلم بأنّ المرء غير مخلّد
واصبر كما صبر الكرام فإنّها ... نوب تنوب اليوم تكشف في غد
وإذا أتتك مصيبة تسجى بها ... فاذكر مصابك بالنّبيّ محمّد
وقال القائل:
تذكّرت لمّا فرّق الدّهر بيننا ... فعزّيت نفسي بالنّبيّ محمّد
وقلت لها إنّ المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت في يومه مات في غد
__________
[ (1) ] ابن سعد 2/ 110.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 7/ 267.(12/273)
قال ابن المنير: لما توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسجّته الملائكة ودهش الناس واختلف أحوالهم في ذلك وأفحموا واختلطوا فمنهم من خبل ومنهم من أقعد ومنهم من أصمت فلم يطق الناس الكلام، ومنهم من أخبل فكان عمر فجعل يجلب ويصيح ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران حين غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم، وكان ممن أقعد وفي لفظ عقر علي فلم يستطع حراكا، وكان من أخرس عثمان بن عفان حتى جعل يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلاما، وأما عبد الله بن أنيس فأضنى حتى مات كمدا.
وروى ابن سعد عن عكرمة قال: لما توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالوا: عرج بروحه كما عرج بروح عيسى الحديث وقال العباس- رضي الله تعالى عنه-: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأسن كما يأسن البشر وإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد مات ... إلى آخره، فهذا مرسل كما ترى، ورواه إسحاق بن راهويه بسند رجاله رجال البخاري إلا أنّ عكرمة لم يسمع من العباس فإن كان الواسطة بينهما عبد الله بن عباس فهو صحيح، وقد رواه الطبراني من طريق ابن عيينة عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن العباس بنحوه وهو على شرط البخاري.
قال الحافظ ابن حجر فما وجد بخطه: وهذا الذي قاله العباس لم ينقله عن توقيف بل اجتهادا على العادة ولا يستلزم أن يقع ذلك، ولما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تزيّنت الجنان لقدوم روحه الكريمة كزينة المدينة يوم قدومه إذا كان عرش الرّحمن قد اهتزّ بموت بعض أتباعه فرحا واستبشارا فكيف بقدوم روح الأرواح، وكادت الجمادات تتصدّع من ألم مفارقته- صلى الله عليه وسلم- فكيف بقلوب المؤمنين لما فقد الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حنّ إليه وصاح، كان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحن إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
فلو ذاق من طعم الفراق رضوى ... لكان من وجده يميد
فقد حمّلوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد
وقال غيره:
وقد كان يدعى لابس الصّبر حازما ... فأصبح يدعى حازما حين يجزع
وروى أبو علي بن شاذان عن سالم بن عبيد الأشجعي قال: لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان أجزع النّاس عليه عمر بن الخطاب.
وروى أبو الحسن البلاذري بسند جيد عن عروة قال: لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دخل عمر فأصابه خبل فأقبل يقول ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.(12/274)
وروى أيضا عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: بكى الناس يوم مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى النساء في الخدور، وكادت البيوت تسقط من الصّراخ.
وروى ابن عساكر عن أبي ذؤيب الهذلي: أنه لما قدم المدينة يوم مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا لها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلّوا بالإحرام.
وروى ابن سعد عن القاسم بن محمد أن رجلا من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذهب بصره فدخل عليه أصحابه يعودونه، فقال: إنما كنت أريدهما لأنظر بهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأما إذ قبض الله نبيّه فما يسرني أن ما بهما بظبي من ظباء تبالة.
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى بسند صحيح وابن أبي شيبة والبزار والطبراني عن الزهري قال: أخبرني رجل من الأنصار من أهل الثقة، وأبو عبد الله بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعنا عثمان بن عفان يقول: لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسوس رجال فإني كنت فيمن وسوس فمر عليّ عمر فسلّم فلم أردّ عليه ما علمت بتسليمه ... الحديث.
وروى ابن سعد وابن أبي شيبة والإمام أحمد وابن عدي والدارقطني في «الإفراد» والعقيلي والبيهقي في «شعب الإيمان» والضياء عن عثمان- رضي الله تعالى عنه- أن رجالا من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حزنوا عليه حتى كاد بعضهم يوسوس وكنت منهم فقلت لأبي بكر: توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل أن أسأله عن نجاة هذه الأمة، قال أبو بكر: قد سألته عن ذلك، فقال: من قبل مني الكلمة التي عرضتها على عمي فردها عليّ فهي له نجاة.
وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه والبيهقي بسند قال ابن كثير: على شرط الشيخين عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: لما كان اليوم الذي [دخل فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء منها كل شيء، فلما كان اليوم الذي] [ (1) ] مات فيه أظلم من المدينة كل شيء.
وفي رواية: أظلمت المدينة حتى لم ينظر بعضنا إلى بعض، وكان أحدنا يبسط يده فلا يبصرها، وفي رواية: فلم أر يوما أقبح منه فما فرغنا من دفنه حتى أنكرنا قلوبنا انتهى.
وروى الإمام أحمد ومسلم والبيهقيّ عنه قال: إن أمّ أيمن بكت لما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقيل لها: ما يبكيك يا أم أيمن ما عند الله خير لرسوله- صلى الله عليه وسلم- قد أكرم الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- وأدخله جنته، وأراحه من نصب الدنيا فقالت: والله ما أبكي، أن لا أكون أعلم أنّ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي انقطع من السماء كان يأتينا غضّا جديدا كل يوم وليلة، فعجب الناس من قولها» .
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/275)
وروى أبو الربيع بهذا اليوم- يعني يوم الاثنين- كم خير لست فيه إلى أهل الأرض وأي مصيبة نزلت فيه عشية ضاق عنها منفسح الطول والعرض:
وهل عدلت يوما رزيئة هالك ... رزيئة يوم مات فيه محمّد
فيا لها والله مصيبة أحرقت الأكباد ... وغمرت بالأسف والحزن الأبناء والآباء
وزرا ثقيلا إلى كاهل الإيمان منه ما أباد ... وخطبا جليلا أودى بكلّ جميل أو كاد
وأنشد بعض الأنصار عند موته- صلّى الله عليه وسلم-:
فالصّبر يحمد في المصائب كلّها ... إلّا عليك فإنّه مذموم
ولولا أن الله سبحانه وتعالى ربط على القلوب من بعده بأمر من عنده لأورث مكانها كمدا، ولما وجدت إلى البقاء مستلفا ولا عن وحي الغناء ملتحدا.
وقال أبو الفتح:
فيا له من خطب جلّ على الخطوب ... ومصاب دمع العين كيف يصوب؟
ورزّء عزيت له النّيران ... ولا تعلّل شروقها والغروب
وجادت هجمة الموت فلا نجا ... منها هارب ولا فرار منه لمطلوب
ولا صباح له فتجلو غياهبه الملمة ودياجيه المدلهمة، ولكل ليل إذا رجى صباح يؤوب، ومن شر أهل الأرض ثم بكى أنس، بكى بعيون سرفها وقلوب فإنا لله وإنا إليه راجعون.
من نار حنت عليه الأضالع ... ولا تخبو ولا تخمد
ومصيبة تستكّ منها المسامع ... فلا يبكّي على مرّ الجديد من حزنها المجدّد
وهل عدلت يوما رزيئة هالك ... رزيئة يوم مات فيه محمّد
وما فقد الماضون مثل محمّد ... ولا مثله حتّى القيامة يفقد
وقال أبو بكر الصديق- رضي الله تعالى عنه- فيما ذكره ابن سعد يرثيه- صلى الله عليه وسلم-:
أجدّك ما لعينك لا تنام ... كأنّ جفونها فيها كلام
بوقع مصيبة عظمت وجلّت ... فدمع العين أهونه انسجام
فجعنا بالنّبيّ، وكان فينا ... مقدّمنا، وسيدنا الإمام
وكان قوامنا، والرأس فينا ... فنحن اليوم ليس لنا قوام
ننوح ونشتكي ما قد لقينا ... ويشكو فقده البلد الحرام
كأنّ أنوفنا لاقين جدعا ... لفقد محمّد، فيها اصطلام(12/276)
لفقد أغرّ أبيض هاشميّ ... إمام نبوّة، ربه الختام
أمين، مصطفى، للخير يدعو ... كضوء البدر زايله الظّلام
سأتبع هديه ما دمت حيّا ... طوال الدّهر ما سجع الحمام
كأنّ الأرض بعدك طار فيها ... فأشعلها لساكنها ضرام
وفقد الوحي إذ ولّيت عنّا ... وودّعنا من الله الكلام
سوى أن قد تركت لنا سراجا ... تواريه القراطيس الكرام
لقد ورّثتنا مرآة صدق ... عليك به التّحيّة والسّلام
من الرّحمن في أعلى جنان ... من الفردوس طاب بها المقام
رفيق أبيك إبراهيم فيه ... وما في مثل صحبته ندام
وإسحاق وإسماعيل فيه ... بما صلّوا لربّهم وصاموا
وقال أيضاً- رضي الله تعالى عنه- ورحمه:
يا عين فابكي ولا تسأمي، ... وحقّ البكاء على السّيّد!
على خير خندف عند البلا ... ء أمسى يغيّب في الملحد
فصلّى المليك وليّ العباد ... وربّ البلاد على أحمد
فكيف الحياة لفقد الحبيب ... وزين المعاشر في المشهد؟
فليت الممات لنا كلّنا ... وكنّا جميعا مع المهتدي!
وقال أبو بكر- رضي الله تعالى عنه- فيما ذكره ابن سعد:
لمّا رأيت نبيّنا متجدّلا ... ضاقت عليّ بعرضهنّ الدّور
وارتعت روعة مستهام واله، ... والعظم مني واهن مكسور
أعتيق ويحك! إنّ حبّك قد ثوى ... وبقيت منفردا وأنت حسير
يا ليتني من قبل مهلك صاحبي ... غيّبت في جدث عليّ صخور!
فلتحدثنّ بدائع من بعده، ... تعيا بهنّ جوانح وصدور
وقال أبو بكر أيضا: فيما ذكره ابن سعد:
باتت تأوّبني هموم ... حشّد ... مثل الصّخور فأمست هدّت الجسدا
يا ليتني حيث نبّئت الغداة به ... قالوا الرّسول قد امسى ميّتا فقدا(12/277)
ليت القيامة قامت بعد مهلكه، ... ولا نرى بعده مالا ولا ولدا!
والله أثني علي شيء فجعت به ... من البريّة حتّى أدخل اللّحدا
كم لي بعدك من همّ ينصّبني ... إذا تذكّرت أني لا أراك أبدا!
كان المصفّاء في الأخلاق قد علموا، ... وفي العفاف فلم نعدل به أحدا
نفسي فداؤك من ميت ومن بدن! ... ما أطيب الذّكر والأخلاق والجسدا!
وقال عبد الله بن أنيس- رضي الله تعالى عنه- فيما ذكره ابن سعد:
تطاول ليلي واعترتني القوارع ... وخطب جليل للبلية جامع!
عذاة نعى النّاعي إلينا محمّدا، ... وتلك الّتي تستكّ منها المسامع
فلو ردّ ميتا قتل نفسي قتلتها! ... ولكنه لا يدفع الموت دافع
فآليت لا أثني على هلك هالك ... من النّاس، ما أوفى ثبير وفارع
ولكنّني باك عليه ومتبع ... مصيبته. إنّي إلى الله راجع!
وقد قبض الله النّبيّين قبله، ... وعاد أصبيت بالرّزى والتّبابع
فيا ليت شعري! من يقوم بأمرنا؟ ... وهل في قريش من إمام ينازع؟
ثلاثة رهط من قريش هم هم ... أزمّة هذا الأمر، والله صانع
عليّ أو الصّدّيق أو عمر لها، ... وليس لها بعد الثّلاثة رابع!
فإن قال منّا قائل غير هذه ... أبينا، وقلن: الله راء وسامع
فيا لقريش! قلّدوا الأمر بعضهم، ... فإنّ صحيح القول للناس نافع
ولا تبطئوا عنها فواقا فإنّها ... إذا قطعت لم يمن فيها المطامع
وقال حسان بن ثابت- رضي الله تعالى عنه- فيما ذكره ابن سعد:
يا عين جودي بدمع منك إسبال! ... ولا تملّنّ من سحّ وإعوال!
لا ينفدن لي بعد اليوم دمعكما، ... إنّي مصاب وإنّي لست بالسّالي
فإنّ منعكما من بعد بذلكما ... إيّاي مثل الّذي قد غرّ بالآل!
لكن أفيضي على صدري بأربعة، ... إنّ الجوانح فيها هاجس صالي
سحّ الشّعيب وماء الغرب يمنحه ... ساق يحمّله ساق بإزلال
حامي الحقيقة نسّال الوديقة فكّ ... اك العناة، كريم ماجد عال!(12/278)
على رسول لنا محض ضريبته، ... سمح الخليقة، عفّ غير مجهال!
كشّاف مكرمة، مطعام مسغبة، ... وهّاب عانية وجناء شملال!
عفّ مكاسبه، جزل مواهبه، ... خير البريّة سمح غير نكّال!
واري الزّناد وقوّاد الجياد إلى ... يوم الطّراد، إذا شبّت بأجذال
ولا أزكّي على الرّحمن ذا بشر ... لكنّ علمك عند الواحد العالي!
إنّي أرى الدّهر والأيام يفجعني ... بالصّالحين، وأبقى ناعم البال!
يا عين فابكي رسول الله إذ ذكرت ... ذات الإله، فنعم القائد الوالي!
وقال فيما ذكره ابن سعد- رضي الله تعالى عنه-:
يا عين فابكي بدمع ذرى ... لخير البريّة والمصطفى!
وبكّي الرّسول! وحقّ البكاء ... عليه، لدى الحرب عند اللّقا!
على خير من حملت ناقة، ... وأتقى البريّة عند التّقى
على سيّد ماجد جحفل، ... وخير الأنام وخير اللها!
له حسب فوق كلّ الأنا ... م من هاشم ذلك المرتجى
نخصّ بما كان من فضله، ... وكان سراجا لنا في الدّجى!
وكان بشيرا لنا منذرا، ... ونورا لنا ضوءه قد أضا
فأنقذنا الله في نوره، ... ونجّى برحمته من لظى!
وقالت عاتكة بنت عبد المطلب رضي الله تعالى عنهما:
عينيّ، جودا طوال الدّهر وانهمرا ... سكبا وسحّا بدمع غير تعذير!
يا عين، فاسحنفري بالدّمع واحتفلي ... حتّى الممات بسجل غير منزور
يا عين فانهملي بالدّمع واجتهدي ... للمصطفى، دون خلق الله، بالنّور
بمستهلّ من الشّؤبوب ذي سيل، ... فقد رزئت نبيّ العدل والخير!
وكنت من حذر للموت مشفقة، ... والّذي خطّ من تلك المقادير!
من فقد أزهر ضافي الخلق ذي فخر ... صاف من العيب والعاهات والزّور!
فاذهب حميدا! جزاك الله مغفرة، ... يوم القيامة، عند النّفخ في الصّور
وقال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه فيما ذكره ابن إسحاق:
بطيبة رسم للرّسول ومعهد ... منير وقد تعفو الرّسوم وتهمد(12/279)
ولا تمتحي الآيات من دار حرمة ... بها منبر الهادي الّذي كان يصعد
وواضح آثار وباقي معالم ... وربع له فيه مصلّى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها ... أتاها البلى فالآي منها تجدّد
عرفت بها رسم الرّسول وعهده ... وقبرا بها واراه في التّرب ملحد
ظللت بها أبكي الرّسول فأسعدت ... عيون ومثلاها من الجفن تسعد
يذكّرن آلاء الرّسول وما أرى ... لها محصيا نفسي فنفسي تبلّد
مفجّعة قد شفّها فقد أحمد ... فظلّت لآلاء الرّسول تعدّد
وما بلغت من كلّ أمر عشيره ... ولكن لنفسي بعد ما قد توجّد
أطالت وقوفا تذرف العين جهدها ... على طلل القبر الّذي فيه أحمد
فبوركت يا قبر الرّسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرّشيد المسدّد
وبورك لحد منك ضمّن طيّبا ... عليه بناء من صفيح منضّد
تهيل عليه التّرب أيد وأعين ... عليه وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيّبوا حلما وعلما ورحمة ... عشيّة علّوه الثّرى لا يوسّد
وراحوا بحزن ليس فيهم نييّم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السّماوات يومه ... ومن قد بكته الأرض فالنّاس أكمد
وهل عدلت يوما رزيّة هالك ... رزيّة يوم مات فيه محمّد
تقطّع فيه منزل الوحي عنهم ... وقد كان ذا نور يغور وينجد
يدلّ على الرّحمن من يقتدى به ... وينقذ من هول الخزايا ويرشد
إمامٌ لهم يهديهم الحقّ جاهداً ... معلّم صدقٍ إن يطيعوه يسعدوا
عفوٌّ عن الزّلاّت يقبل عذرهم ... وإن يحسنوا فالله بالخير أجود
وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله ... فمن عنده تيسير ما يتشدّد
فبينا هم في نعمة الله بينهم ... دليل به نهج الطّريقة يقصد
عزيز عليه أن يجورا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهدوا
عطوفٌ عليهم لا يثني جناحه ... إلى كنفٍ يحنو عليهم ويمهد(12/280)
فبينا هم في ذلك النّور إذ غدا ... إلى نورهم سهم من الموت مقصد
فأصبح محموداً إلى الله راجعاً ... يبكّيه حقّ المرسلات ويحمد
وأمست بلاد الحرم وحشا بقاعها ... لغيبة ما كانت من الوحي تعهد
قفارا سوى معمورة اللّحد ضافها ... فقيد يبكّيه بلاط وغرقد
ومسجده فالموحشات لفقده ... خلاء له فيه مقام ومقعد
وبالجمرة الكبرى له ثمّ أوحشت ... ديار وعرصات وربع ومولد
فبكى رسول الله يا عين عبرة ... ولا أعرفنك الدّهر دمعك يجمد
وما لك لا تبكين ذا النّعمة الّتي ... على النّاس منها سابغ يتغمّد
فجودي عليه بالدّموع وأعولي ... لفقد الّذي لا مثله الدّهر يوجد
وما فقد الماضون مثل محمّد ... ولا مثله حتّى القيامة يفقد
أعفّ وأوفى ذمّة بعد ذمّة ... وأقرب منه نائلا لا ينكّد
وأبذل منه للطّريف وتالد ... إذا ضنّ معطاء بما كان يتلد
وأكرم صيتاً في البيوت إذا انتمى ... وأكرم جدّاً أبطحيّاً يسوّد
وأمنع ذروات وأثبت في العلا ... دعائم عزّ شاهقات تشيّد
وأثبت فرعا في الفروع ومنبتا ... وعودا غذاه المزن فالعود أغيد
ربّاه وليدا فاستتمّ تمامه ... على أكرم الخيرات ربّ ممجّد
تناهت وصاة المسّلمين بكفّه ... فلا العلم محبوس ولا الرّأي يفند
أقول ولا يلقى لقولي عائب ... من النّاس إلا عازب العقل مبعد
وليس هواي نازعا عن ثنائه ... لعلّي به في جنّة الخلد أخلد
مع المصطفى أرجوا بذاك جواره ... وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
وقال حسان بن ثابت أيضا [يبكي رسول الله صلى الله عليه وسلم] :
ما بال عينك لا تنام كأنّما ... كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعاً على المهديّ أصبح ثاوياً ... يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
وجهي يقيك التّرب لهفي ليتني ... غيّبت قبلك في بقيع الغرقد
بأبي وأمي من شهدتّ وفاته ... في يوم الاثنين النّبيّ المهتدي(12/281)
فظللت بعد وفاته متبلّدا ... متلدّدا يا ليتني لم أولد
أأقيم بعدك بالمدينة بينهم ... يا ليتني صبّحت سمّ الأسود
أو حلّ أمر الله فينا عاجلا ... في روحة من يومنا أو من غد
فتقوم ساعتنا فنلقى طيّبا ... محضا ضرائبه كريم المحتد
يا بكر آمنة المبارك بكرها ... ولدته محصنة بسعد الأسعد
نورا أضاء على البريّة كلّها ... من يهد للنّور المبارك يهتدي
يا ربّ فاجمعنا معا ونبيّنا ... في جنّة تثني عيون الحسّد
في جنّة الفردوس فاكتبها لنا ... يا ذا الجلال وذا العلا والسّؤدد
والله أسمع ما بقيت بهالك ... إلّا بكيت على النبيّ محمّدٍ
يا ويح أنصار النّبيّ ورهطه ... بعد المغيب في سواء الملحد
ضاقت بالأنصار البلاد فأصبحوا ... سودا وجوههم كلون الإثمد
ولقد ولدناه وفينا قبره ... وفضول نعمته بنا لا تجحد
والله أهداه لنا وهدى به ... أنصاره في كل ساعة مشهد
صلّى الإله ومن يحفّ بعرشه ... والطيّبون على المبارك أحمد
وقال رضي الله عنه:
نبّ المساكين أنّ الخير فارقهم ... مع النّبيّ تولّى عنهم سحرا
من ذا الّذي عنده رحلي وراحلتي ... ورزق أهلي إذا لم يؤنسوا المطرا
أم من نعاتب لا نخشى جنادعه ... إذا اللّسان عتا في القول أو عثرا
كان الضّياء وكان النّور نتبعه ... بعد الإله وكان السّمع والبصرا
فليتنا يوم واروه بملحدة ... وغيّبوه وألقوا فوقه المدرا
لم يترك الله منّا بعده أحدا ... ولم يعش بعده أنثى ولا ذكرا
ذلّت رقاب بني النّجّار كلّهم ... وكان أمرا من أمر الله قد قدرا
واقتسم الفيء دون النّاس كلّهم ... وبدّدوه جهارا بينهم هدرا
وقال حسان بن ثابت يبكي رسول الله- صلى الله عليه وسلم أيضا:
آليت ما في جميع النّاس مجتهدا ... منّي أليّة برّ غير إفناد(12/282)
تالله، ما حملت أنثى ولا وضعت ... مثل الرّسول نبيّ الأمّة الهادي
ولا برا الله خلقا من بريّته ... أوفى بذمّة جار أو بميعاد
من الّذي كان فينا يستضاء به ... مبارك الأمر ذا عدل وإرشاد
أمسى نساؤك عطّلن البيوت فما ... يضربن فوق قفا ستر بأوتاد
مثل الرّواهب يلبسن المباذل قد ... أيقنّ بالبؤس بعد النّعمة البادي
يا أفضل النّاس إنّي كنت في نهر ... أصبحت منه كمثل المفرد الصّادي
وقال أيضاً- رضي الله تعالى عنه-:
أن الرّزيّة لا رزيّة مثلها ... ميت بطيبة مثله لم يفقد
ولقد أصيب جميع أمّته به ... من كان مولودا، ومن لم يولد
والنّاس كلّهم بما قد عالهم ... يرجو شفاعته بذاك المشهد
حتّى الخليل أبوه في أشياعه ... ونجيّه موسى النّبيّ المهتدي
متواضعين لربّهم برقابهم ... تلك الفضيلة، واجتماع السّؤدد
يا خير من شدّ المطيّة نحوه ... وفد لحاجته يروح ويغتدي
أنت الّذي استنقذتنا من حفرة ... من يهو فيها من هواه يبعد
فهديتنا بعد الضّلالة والرّدى ... بهدى الإله إلى السّبيل الأرشد
فجزاك عنّا الله خير جزائه ... بمقام محمود المقام مسدّد
وقالت عاتكة بنت عبد المطلب- رضي الله تعالى عنها-:
يا عين، جودي- ما بقيت- بعبرة ... سحّا على خير البريّة أحمد
يا عين، فاحتفلي وسحّي واسجمي ... وابكي على نور البلاد محمّد!
أنّى، لك الويلات! مثل محمّد ... في كلّ نائبة تنوب ومشهد؟
فابكي المبارك والموفّق ذا التّقى، ... حامي الحقيقة ذا الرّشاد المرشد
من ذا يفكّ عن المغلّل غلّه ... بعد المغيّب في الضّريح الملحد؟
أم من لكلّ مدفّع ذي حاجة، ... ومسلسل يشكو الحديد مقيّد؟
أم من لوحي الله يترك بيننا ... في كلّ ممسى ليلة أو في غد؟
فعليك رحمة ربّنا وسلامه، ... يا ذا الفواضل والنّدى والسّودد!(12/283)
هلّا فداك الموت كلّ ملعّن ... شكس خلائقه لئيم المحتد؟
وقالت أيضاً- رضي الله تعالى عنها-:
أعينيّ، جودا بالدّموع السّواجم ... على المصطفى بالنّور من آل هاشمٍ
على المصطفى بالحقّ والنّور والهدى ... وبالرّشد بعد المندبات العظائم
وسحّا عليه وابكيا، ما بكيتما، ... على المرتضى للمحكمات العزائم
على المرتضى للبرّ والعدل والتّقى، ... وللدّين والإسلام بعد المظالم
على الطّاهر الميمون ذي الحلم والنّدى ... وذي الفضل والدّاعي لخير التّراحم
أعينيّ، ماذا، بعد ما قد فجعتما ... به، تبكيان الدّهر من ولد آدم؟
فجودا بسجل واندبا كل شارق ... ربيع اليتامى في السّنين البوازم!
وقالت أروى بنت عبد المطلب- رضي الله تعالى عنها-:
ألا يا عين! ويحك أسعديني ... بدمعك، ما بقيت، وطاوعيني
ألا يا عين ويحك! واستهلّي ... على نور البلاد وأسعديني!
فإن عذلتك عاذلة فقولي: ... علام وفيم، ويحك! تعذليني؟
على نور البلاد معا جميعا ... رسول الله أحمد فاتركيني
فإلّا تقصري بالعذل عنّي، ... فلومي ما بدا لك أو دعيني!
لأمر هدّني وأذلّ ركني، ... وشيّب بعد جدّتها قروني!
وقالت أيضاً- رضي الله تعالى عنها-:
إلا يا رسول الله، كنت رجاءنا، ... وكنت بنا برّا ولم تك جافيا!
وكنت بنا روفا رحيما نبيّنا، ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا!
لعمرك، ما أبكي النّبي لموته! ... ولكن لهرج كان بعدك آتيا
كأنّ على قلبي لذكر محمّد، ... وما خفت من بعد النّبيّ المكاويا
أفاطم، صلّى الله، ربّ محمّد، ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا!
أبا حسن، فارقته وتركته، ... فبكّ بحزن آخر الدّهر شاجيا!
فدا لرسول الله أمّي وخالتي ... وعمّي ونفسي قصرة ثمّ خاليا
صبرت وبلّغت الرّسالة صادقا، ... وقمت صليب الدّين أبلج صافيا!(12/284)
فلو أنّ ربّ النّاس أبقاك بيننا ... سعدنا، ولكن أمرنا كان ماضيا!
عليك من الله السّلام تحيّة، ... وأدخلت جنّات من العدن راضيا!
وقال كعب بن مالك- رضي الله تعالى عنه-:
وباكية حرّاء تحزن بالبكا ... وتلطم منها خدّها والمقلّدا
على هالك بعد النّبيّ محمّد ... ولو علمت لم تبك إلّا محمّدا
فجعنا بخير النّاس حيّا وميّتا ... وأدناه من ربّ البريّة مقعدا
وأفظعهم فقدا على كل مسلم ... وأعظمهم في النّاس كلّهم يدا
لقد ورثت أخلاقه المجد والثّقى ... فلم تلقه إلّا رشيدا ومرشدا
وقالت صفية بنت عبد المطلب- رضي الله تعالى عنها-:
لهف نفسي! وبتّ كالمسلوب ... آرق اللّيل فعلة المحروب!
من هموم وحسرة ردفتني، ... ليت أنّي سقيتها بشعوب!
حين قالوا: إنّ الرّسول قد امسى ... وافقته منيّة المكتوب!
إذ رأينا أنّ النّبيّ صريع، ... فأشاب القذال أيّ مشيب
إذ رأينا بيوته موحشات، ... ليس فيهنّ بعد عيش حبيبي
أورث القلب ذاك حزنا طويلا، ... خالط القلب، فهو كالمرعوب
ليت شعري! وكيف أمسي صحيحا ... بعد أن بين بالرّسول القريب؟
أعظم الناس في البريّة حقّا، ... سيّد النّاس حبّه في القلوب
فإلى الله ذاك أشكوا وحسبي، ... يعلم الله حوبتي ونحيبي!
وقالت أيضاً- رضي الله تعالى عنها-:
أفاطم، بكّي ولا تسأمي ... بصبحك، ما طلع الكوكب!
هو المرء يبكى، وحقّ البكاء! ... هو الماجد السّيّد الطّيّب!
فأوحشت الأرض من فقده، ... وأيّ البريّة لا ينكب؟
فما لي بعدك حتّى المما ... ت إلّا الجوى الدّاخل المنصب
فبكّي الرّسول! وحقّت له ... شهود المدينة والغيّب!
لتبكيك شمطاء مضرورة، ... إذا حجب النّاس لا تحجب(12/285)
ليبكيك شيخ أبو ولدة ... يطوف بعقوته أشهب
ويبكيك ركب إذا أرملوا، ... فلم يلف ما طلب الطّلّب
وتبكي الأباطح من فقده، ... وتبكيه مكّة والأخشب
وتبكي وعيرة من فقده ... بحزن ويسعدها الميثب!
فعيني ما لك لا تدمعين؟ ... وحقّ لدمعك يستكب!
وقالت صفية بنت عبد المطلب- رضي الله تعالى عنها-:
ما لعينيّ لا تجودان ريّا ... إذ فقدنا خير البريّة حيّا
يوم نادى إلى الصّلاة بلال ... فبكينا عند النّداء مليّا
لم أجد قبلها، ولست بلاق ... بعدها غصّة أمرّ عليّا
جلّ يوم أصبحت فيه عليلا ... لا يردّ الجواب منك إليّا
ليت يومي يكون قبلك يوما ... أنضج القلب للحرارة كيّا
خلقا عاليا، ودينا كريما ... وصراطا يهدى إليه سويّا
وسراجا يجلو الظّلام منيرا ... ونبيّا مسدّدا عربيّا
حازما، عازما، حليما، كريما ... عائدا بالنّوال، برّا تقيّا
إنّ يوما أتى عليك ليوم ... كوّرت شمسه وكانت جليّا
فعليك السّلام منّا ومن ... ربّك بالرّوح بكرة وعشيّا
وقالت هند بنت أثاثة بن عباد بن عبد المطلب- رضي الله تعالى عنها-:
[أشاب ذؤابتي وأذلّ ركني ... بكاؤك، فاطم، الميت الفقيدا
فأعطيت العطاء فلم تكدّر، ... وأخدمت الولائد والعبيدا
وكنت ملاذنا في كلّ لزب، ... إذا هبّت شامية برودا]
وإنّك خير من ركب المطايا، ... وأكرمهم إذا نسبوا جدودا!
[رسول الله فارقنا، وكنّا ... نرجّي أن يكون لنا خلودا]
أفاطم! فاصبري فلقد أصابت ... رزيئتك التّهائم والنّجودا
وأهل البرّ والأبحار طرّا، ... فلم تخطئ مصيبته وحيدا
وكان الخير يصبح في ذراه، ... سعيد الجدّ قد ولد السّعودا!
فموتي إن قدرتي أن تموتي ... فقدتّ الطّيّب الرّجل الحميدا(12/286)
رسول الله خير النّاس حقّا ... فلست أرى له أبدا مديدا
وقال عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه-:
ما زالت مذ وضع الفراش لجنبه ... وثوى مريضا خائفا أتوقّع
شفقا عليه أن يزول مكانه ... عنّا، فنبقى بعده نتوجّع
نفسي فداؤك من لنا في أمرنا ... أو من نشاوره إذا فترجّع
وإذا تحدّثنا الحوادث: من لنا ... بالوحي من ربّ رحيم يسمع
ليت السّماء تفطّرت أكنافها ... وتناثرت فيها النّجوم الطّلّع
لمّا رأيت النّاس هدّ جميعهم ... صوت ينادي بالنّعيّ فيسمع
وسمعت صوتا قبل ذلك هدّني ... عبّاس ينعاه بصوت يقطع
فليبكه أهل المدائن كلّها ... والمسلمون بكلّ أرض تجدع
وقال علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه-:
ألا طرق النّاعي بليل فراعني ... وأرّقني لمّا استهلّ مناديا
فقلت له لمّا رأيت الّذي أتى ... أغير رسول الله أصبحت ناعيا
فحقّق ما أشفيت منه ولم يبل ... وكان خليلي عدّتي وجماليا
فو الله، لا أنساك أحمد ما مشت ... بي العيس في أرض وجاوزت واديا
وكنت متى أهبط من الأرض تلعة ... أجد أثرا منه جديدا وعافيا
جواد تشظّى الخيل عنه كأنّما ... يرين به ليثا عليهنّ ضاريا
من الأسد قد أحمي العرين مهابة ... تفادى سباع الأرض منه تفاديا
شديد جريّ النّفس نهد مصدّر ... هو الموت مغدوّ عليه وغاديا
[ (1) ]
__________
[ (1) ] ومن مراثيه صلى الله عليه وسلم.
قال حسان رضي الله تعالى عنه:
إن الرزية لا رزية مثلها ... ميت بطيبة مثله لم يفقد
ميت بطيبة أشرقت لحياته ... ظلم الحياة لمتهم أو منجد
والكوكب الدري أصبح آفلا ... بالنور بعد تبلج وتصعد
لله ما ضمنت حفيرة قبره ... منه، وما فقدت سوارى المسجد
وقال حسان:
يا لهف نفسي عليه حين ضمنه ... بطن الضريح علي وابن عباس(12/287)
__________
[ () ]
مادت بي الأرض حتى كدت أدخلها ... بعد النبي رسول الله والآسي
وقال حسان:
متى يبد في الداجي إليهم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد
فمن كان أو من يكون كأحمد ... نظام لحق أو نكال لملحد
وقال حسان:
كنت السواد الناظري ... فعمى عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
وقالت فاطمة الزهراء رضي الله عنها ترثى أباها صلّى الله عليه وسلم:
لقد سال دمع العين من بعد حسرتي ... على صحن خدي من فراق أحبتي
وقد تركوني باكى العين اشتكى ... فراقهم دوما وقلة حيلتي
فبت على فرش السقام مسهدا ... أراعي نجوم الليل من عظم بلوتي
وقد أورثوني حسرة لفراقهم ... ونيران وجد في جوانب مهجتي
وقد سكنوا تحت التراب وأقفرت ... منازلهم من بعد حسن وبهجة
أحباي إن البعد والسقم والنوى ... لقد غيرت لوني وجسمي وصحتي
فيا رب بلغني المرام بنظرة ... إليه لتطفي نار حزني ووحشتي
وأرمق نورا للحبيب محمد ... إمام البرايا خير كل الخليقة
وأشكو إليه الوجد والسقم والجوى ... ليرثي لحالي في الهوى وصبابتي
وأنشده يا خير من وطئ الثرى ... ويا خير مرسول إلى خير أمة
بحقك كن لي في معادي شافعا ... فأنت غياثي في أماني وشدتي
عليك صلاة الله ثم سلامه ... مدى الدهر، ما غنّى الحمام بروضة
وقالت فاطمة:
قل صبري، وبان عني عزائي ... بعد فقدي لخاتم الأنبياء
عين يا عين اسكبي الدمع سحا ... ويك لا تبخلي بفيض الدماء
يا رسول الإله، يا خيرة الله ... وكهف الأيتام والضعفاء
قد بكتك الجبال والوحش جمعا ... والطير والأرض بعد بكى السماء
وبكاك الحجون والركن والمش ... عر يا سيدي مع البطحاء
وبكاك المحراب والدرس للقرا ... ن في الصبح معلنا والمساء
وبكاك الإسلام إذ صار في ... الناس غريبا عن سائر الغرباء
لو ترى المنبر الذي كنت تعلو ... هـ، علاه الظلام بعد الضياء
يا إلهي عجل وفاتي سريعا ... فلقد نغص الحياة يا مولائي
وقالت فاطمة:
قد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فاليوم تسلمني لأجر ضاح
قد كنت جار حميتي ما عشت لي ... واليوم بعدك من يريش جناحي
وأغض من طرفي وأعلم أنه ... قد مات خير فوارسي وسلاحي
حضرت منيته فأسلمني العزا ... وتمكنت ريب المنون جواحي
نشر الغراب على ريش جناحه ... فظللت بين سيوفه ورماح
إني لأعجب من يروح ويغتدي ... والموت بين بكوره ورواح
فاليوم أخضع للدليل وأنقى ... ذلي، وأدفع ظالمي بالراح
وإذا بكت قمرية شجنا به ... ليلا على غصن بكيت صباحي(12/288)
__________
[ () ]
فالله صبرني على ما حل بي ... مات النبي، قد انطفى مصباحي
وقالت الزهراء:
قل للمغيب تحت أطباق الثرى ... إن كنت تسمع صرختي وندائيا
صبت علي مصائب لو أنها ... صبت على الأيام صرن لياليا
قد كنت ذات حمى لظل محمد ... لا أخشى من ضيم، وكان جماليا
فاليوم أخشع للذليل وأتقي ... ضيمي، وأدفع ظالمي بردائيا
فإذا بكت قمرية في ليلها ... شجنا على غصن بكيت صباحيا
فلأجعلن الحزن بعدك مؤنسي ... ولأجعلن الدمع فيك وشاحيا
ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا
وقالت فاطمة الزهراء:
أغبر آفاق السماء وكورت ... شمس النهار، وأظلم العصران
فالأرض من بعد النبي كئيبة ... أسفا عليه، كثيرة الرجفان
فليبكه شرق البلاد وغربها ... ولتبكه مضر، وكل يمان
وليبكه الطود المعظم جوده ... والبيت ذو الأستار والأركان
يا خاتم الرسل المبارك ضوؤه ... صلى عليك منزل القرآن
نفسي فداؤك، ما لرأسك مائلا ... ما وسدوك وسادة الوسنان
وقالت الزهراء:
إذا مات قرم قل والله ذكره ... وذكر أبي مذ مات والله أزيد
تذكرت لما فرّق الموت بيننا ... فعزيت نفسي بالنبي محمد
فقلت لها: إن الممات سبيلنا ... ومن لم يمت في يومه مات في غد
وقالت الزهراء:
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... وغاب مذ غبت عنا الوحي والكتب
فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لما نعيت وحالت دونك الكتب
وقالت فاطمة:
ماذا على من شم تربة أحمد ... أن لم يشم مدى الزمان الغواليا
صبت علي مصائب لو أنها ... صبت على الأيام عدن لياليا
وقالت الزهراء:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة ... لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها ... إذ غاب مذ غبت عنا الوحي والكتب
وزاد جرمي بعد أبي العلاء بيتا ثالثا روي بروايتين:
واختل لقومك لما غبت وانقلبوا ... لما قضيت، وحالت دونك الكثب
فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لما قضيت، وحالت دونك الكثب
وقد أورد بعضهم بعد البيتين الأولين:
أبدى رجال لنا نجوى صدورهم ... لما مضيت، وحالت دونك الترب
تجهمتنا أناس، واستخف بنا ... لما فقدت، وكل الإرث مغتصب
وكنت بدرا ونورا يستضاء به ... عليك تنزل من ذي العزة الكتب
وكان جبريل بالآيات يؤنسنا ... وإذ فقدت فكل الخير محتجب
فليت قبلك كان الموت صادفنا ... لما مضيت وحالت دونك الكثب
انا رزينا بما لم يرز ذو شجن ... من البرية، لا عجم ولا عرب(12/289)
__________
[ () ] وقالت فاطمة:
إن حزني عليك حزن جديد ... وفؤادي والله صب عنيد
كل يوم يزيد فيه شجوني ... واكتئابي عليك ليس يبيد
جل خطبي، وبان عني عزائي ... فبكائي كل وقت جديد
إن قلبا عليك يألف صبرا ... أو عزاء إنه لجليد
وقالت فاطمة الزهراء:
أبي وا أبتاه أجاب ربا دعاه ... جنة الفردوس مأواه من ربه ما أدنا
إلى جبرئيل ننعاه
وقالت فاطمة:
إذا اشتد شوقي رزت قبرك باكيا ... أنوح وأشكو لا أراك مجاوبي
فيا ساكن الصحراء علمتني البكا ... وذكرك أنساني جميع المصائب
فإن كنت عني في التراب مغيبا ... فما كنت من قلب الحزن بغائب
وقالت صفية بنت عبد المطلب (عمة الرسول) ترثيه:
أفاطم بكي ولا تسأمي ... بصبحك ما طلع الكوكب
هو المرء يبكي وحق البكا ... هو الماجد السيد الطيب
فأوحشت الأرض من فقده ... وأي البرية لا ينكب
فما لي بعدك حتى المما ... ت إلا الجوى الداخل المنصب
فبكي الرسول وحقت له ... شهود المدينة والغيب
لتبكيك شمطاء مضرورة ... إذا حجب الناس لا تحجب
ليبكيك شيخ أبو ولدة ... يطوف بعقوته أشهب
ويبكيك ركب إذا أرملوا ... فلم يلف ما طلب الطلب
وتبكي الأباطح من فقده ... وتبكيه مكة والأخشب
وتبكي وعيرة من فقده ... بحزن، ويسعدها الميثب
فعيني ما لك لا تدمع ... ين وحق لدمعك يستسكب
وقال سالم بن زهير المحاربي
أفاطم بكي ولا تسأمي ... فقد فاتك الماجد الطيب
جوى حل بين الحشا والشغا ... ف، فخيم فيه فلا يذهب
فيا عين ويحك لا تهجعي ... وما بال دمعك لا يسكب
فمن ذا- لك الويل- بعد الرسو ... ل، يبكي من الناس أو يندب
وقال عبد الله بن سلمة الهمداني:
أنشد معترفا للمهاجرين بفضل هجرتهم، وللأنصار بفضل نصرتهم مشاركا لهما في رثاء النبي- صلّى الله عليه وسلم-، فقال:
إن فقد النبي جزعنا اليو ... م فدته الأسماع والأبصار
ما أصيبت به الغداة قريش ... لا، ولا أفردت به الأنصار
فعليه السلام ما هبت الري ... ح، ومدت جنح للظلام نوار
وقال علي بن أبي طالب
أمن بعد تكفين النبي ودفنه ... نعيش بآلاء ونجنح للسلوى
رزئنا رسول الله حقا فلن نرى ... بذاك عديلا ما حيينا من الردى(12/290)
__________
[ () ]
وكنت لنا كالحصن من دون أهله ... له معقل حرز حريز من العدى
وكنا بمرآكم نرى النور والهدى ... صباح مساء، راح فينا أو اغتدى
لقد غشيتنا ظلمة بعد فقدكم ... نهارا وقد زادت على ظلمة الدجى
فيا خير من ضم الجوانح والحشا ... ويا خير ميت ضمه الترب والثرى
كأن أمور الناس بعدك ضمنت ... سفينة موج حين في البحر قد سما
وضاق فضاء الأرض عنا برحبه ... لفقد رسول الله إذ قيل قد مضى
فقد نزلت بالمسلمين مصيبة ... كصدع الصفا، لا شعب للصدع في الصفا
فلن يستقل الناس ما حل فيهم ... ولن يجبر العظم الذي منهم وهي
وفي كل وقت للصلاة يهيجها ... بلال، ويدعو باسمه كلها دعا
ويطلب أقوام موارث هالك ... وفينا مواريث النبوة والهدى
وقال الإمام علي:
أمن بعد تكفين النبي ودفنه ... بأثوابه آسى على هالك ثوى
رزئنا رسول الله فينا فلن نرى ... بذاك عديلا ما حيينا من الورى
وكان لنا كالحصن من دون أهله ... لهم معقل حرز حريز من العدى
وكنا به شم الأنوف بنحوه ... على موضع لا يستطاع ولا يرى
فيا خير من ضم الجوانح والحشا ... ويا خير ميت ضمه الترب والثرى
كأن أمور الناس بعدك ضمنت ... سفينة موج البحر، والبحر قد طمى
وضاق فضاء الأرض عنهم برحبه ... لفقد رسول الله إذ قيل قد قضى
فيا حزنا إنا رأينا نبينا ... على حين تم الدين واشتدت القوى
وكان الألى شبهته سفر ليلة ... أضل الهدى لا نجم فيها ولا ضوى
وقالت أم سلمة زوج الرسول صلّى الله عليه وسلم:
فجعنا بالنبي، وكان فينا ... إمام كرامة، نعم الإمام
وكان قوامنا، والرأس منا ... فنحن اليوم ليس لنا قوام
ننوح ونشتكي ما قد لقينا ... ويشكو فقدك البلد الحرام
فلا تبعد، فكل فتى كريم ... سيدركه- وإن كره- الحمام
وقال كعب:
ألا أنعي النبي إلى العالمينا ... جميعا لا سيما المسلمينا
ألا أنعى النبي لأصحابه ... وأصحاب أصحابه التابعينا
ألا أنعي النبي إلى من هدى ... من الجن ليلة إذ تسمعونا
لفقد النبي إمام الهدى ... وفقد الملائكة المنزلينا
وقال سواد بن قارب الدوسي:
جلت مصيبتك الغداة سواد ... وأرى المصيبة بعدها تزداد
أبقى لنا فقد النبي محمد ... صلى الإله عليه ما يعتاد(12/291)
__________
[ () ]
حزنا لعمرك في الفؤاد مخامرا ... أم هل لمن فقد النبي فؤاد؟
كنا نحل به جنابا ممرعا ... جف الجناب، فأجدب الرواد
فبكت عليه أرضنا وسماؤنا ... وتصدعت وجدا به الأكباد
قل المتاع به وكان عيانه ... حلما تضمن سكرتيه رقاد
إن العيان هو الطريف وحزنه ... باق لعمرك في الفؤاد تلاد
إن للنبي وفاته كحياته ... الحق حق والجهاد جهاد
لو قيل تفدون النبي محمدا ... بدلت له الأموال والأولاد
وتسارعت فيه النفوس ببدلها ... هذا له الأغياب والأشهاد
هذا وهذا لا يرد نبينا ... لو كان يفديه سواد
إني أحاذر والحوادث جمة ... أمرا لعاصف ريحه إرعاد
إن جل منه ما يخاف فأنتمو ... للأرض إن رجفت بنا أوتاد
لو زاد قوم فوق منية صاحب ... زدتم، وليس لمنية مزداد
وقال عبد الله بن مالك الأرحبي:
لعمري لئن مات النبي محمد ... لما مات يا بن القبل رب محمد
دعاه إليه ربه فأجابه ... يا خير غورى ويا خير منجد
وقال عامر بن الطفيل الأزدي:
بكت الأرض والسماء على النو ... ر الذي كان للعباد سراجا
من هدينا به سبل الحق ... وكنا لا نعرف المنهاجا
وقال مران ذي عمير بن أبي مران الهمداني:
إن حزني على الرسول طويل ... ذاك مني على الرسول قليل
بكت الأرض والسماء عليه ... وبكاه خديمه جبريل
وقال أبو الهيثم بن التيهان:
لقد جدعنا آذاننا وأنوفنا ... غداة فجعنا بالنبي محمد
وقال أبو ذؤيب الهذلي:
لما رأيت الناس في عسلاتهم ... ما بين ملحود له ومضرح
متبادرين لشرجع بأكفهم ... نص الرقاب لفقد أبيض أروح
فهناك صرت إلى الهموم ومن يبت ... جار الهموم يبيت غير مروح
كسفت لمصرعه النجوم وبدرها ... وتضعضعت آطام بطن الأبطح
وتزعزعت أجبال يثرب كلها ... ونخيلها لحلول خطب مفدح
ولقد زجرت الطير قبل وفاته ... بمصابه، وزجرت سعد الأذبح
وزجرت أن نعب المشحج سائحا ... متفائلا فيه بفأل أقبح
وقال عمر الفاروق:
لعمري لقد أيقنت أنك هالك ... ولكنهما أبدي الذي قلته الجزع(12/292)
__________
[ () ]
وقلت يغيب الوحي عنا لفقده ... كما غاب موسى، ثم يرجع كما رجع (كذا)
وكان هواي أن تطول حياته ... وليس لحي في بقا ميت طمع
فلما كشفنا البرد عن حر وجهه ... إذا الأمر بالجزع الموعب قد وقع
فلم تك لي عند المصيبة حيلة ... أرد بها أهل الشماتة والقذع
سوى آذن الله الذي في كتابه ... وما آذن الله العباد به يقع
وقد قلت من بعد المقالة قولة ... لها حلوق الشامتين به بشع
إلا إنما كان النبي محمد ... إلى أجل وافى به الموت فانقطع
ندين على العلات منا بدينه ... ونعطي الذي عطى ونمنع ما منع
ووليت محزونا بعين سخينة ... أكفكف دمعي والفؤاد قد انصدع
وقلت لعيني كل دمع دخرته ... فجودي به إن الشجي له دفع
وقال الصديق:
باتت تأويني هموم حشد ... مثل الصخور، فأمست هدت الجسدا
يا ليتني حيث نبئت الغداة به ... قالوا: الرسول قد أمسى ميتا، فقدا
ليت القيامة قامت بعد مهلكه ... ولا نرى بعده مالا ولا ولدا
والله أثنى على شيء فجعت به ... من البرية حتى أدخل اللحدا
كم لي بعدك من هم ينصبني ... إذا تذكرت أني لا أراك أبدا
كان المصفاء في الأخلاق قد علموا ... وفي العفاف. فلم نعدل به أحدا
نفسي فداؤك من ميت ومن بدن ... ما أطيب الذكر، والأخلاق، والجسدا
وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوية:
أمست مراكبه أوحشت ... وقد كان يركبها زينها
وأمست تبكي على سيد ... تردد عبرتها عينها
وأمست نساؤك ما تستفي ... ق، من الحزن يعتادها دينها
وأمست شواحب مثل النصا ... ل، قد عطلت، وكبا لونها
يعالجن حزنا بعيد الذها ... ب، وفي الصدر مكتنع حينها
يضربن بالكف حر الوجو ... هـ، على مثله جادها شونها
هو الفاضل السيد المصطفى ... على الحق مجتمع دينها
فكيف حياتي بعد الرسو ... ل، وقد حان من ميتة حينها
وقالت هند بنت الحارث بن عبد المطلب:
يا عين جودي بدمع منك وابتدري ... كما تنزل ماء الغيث فانثعبا
أو فيض غرب على عادية طويت ... في جدول خرق بالماء قد سربا
لقد أتتني من الأنباء معضلة ... أن ابن آمنة المأمون قد ذهبا
أن المبارك والميمون في جدث ... قد ألحفوه تراب الأرض والحدبا
أليس أوسطكم بيتا، وأكرمكم ... خالا وعما، كريما ليس مؤتشبا(12/293)
تنبيهات
الأول:
روى الإمام احمد وابن ماجه والحاكم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن المراثي وعند ابن أبي شيبة بلفظ: نهانا عن أن نتراثى.
الثاني: في بيان غريب ما سبق سجّي: أي غطّي [والمتسجّي: المتغطي من الليل الساجي، لأنه يغطي بظلامه وسكونه] .
يجلب: بمثناة تحتية فجيم فلام يقال: جلب عليه يجلب بضم اللام جلبا بالفتح صاح من خلفه وأجلب مثله.
عقر: بكسر القاف. دهش فلا يستطيع أن يتقدم أو يتأخر.
وقيل: سقط إلى الأرض من قامته وحكاه ابن السكّيت بالفاء من العفر وهو التراب وصوّب ابن كيسان الروايتين معا والعفر بفتحتين.
يأسن: [أي يتغير] .
حنّ: [أي نزع واشتاق وأصل الحنين ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها] .
ضوى: ...
الخدور: ...
الصراخ: ...
الحجيج: ...
تبالة: ...
__________
[ () ] وقالت حاضنته أم أيمن:
عين جودي فإن بذلك للدم ... ع شفاء، فأكثري من البكاء
حين قالوا: الرسول أمسى فقيدا ... ميتا كان ذاك كل البلاء
وأبكيا خير من رزئناه في الدني ... يا، ومن خصه بوحي السماء
بدموع غزيرة منك حتى ... يقضي الله فيك خير القضاء
فلقد كان ما علمت وصولا ... ولقد جاء رحمة بالضياء
ولقد كان بعد ذلك نورا ... وسراجا يضيء في الظلماء
طيب العود والضريبة والمع ... دن والخيم، خاتم الأنبياء(12/294)
العض: ...
الأكباد: ...
الأسف: ...
الحزن: ...
الوزر: ...
الكاهل: ...
أودى: [أهلك] .
الكمد: [هم وحزن لا يستطاع إمضاؤه وقيل: الحزن المكتوم] .
الدياجي: [ ... ] .
المدلهمة: [شديدة الظلمة] .
**** تستك: ...
روعة: [الروع الفزع] .
المستهام: [هام فلان خرج على وجهه في الأرض لا يدرى أين يتوجه] .
واله: [حزين] .
ثوى: [أقام] .
حسير: [حسر فلان يحسر حسرا: أسف] .
جدث: [قبر جمعه أجداث] .
صخور:
بدائع:
جوانح: [الجانحة: الضلع القصيرة مما يلي الصدر جمعها جوانح] .
صدور: ...
تأوّبني: ...
حشد: ...(12/295)
أمسى: ...
فجعت: [يقال أمر فاجع: يفجع الناس بالدواهي] .
اللّحد: ...
ينصبني: [من نصب ينصب نصبا: أعيا وتعب] .
القوارع: [مفردها القارعة وهي المصيبة] .
البليّة: [المصيبة] .
قارع: ...
فيا ليت شعري: ...
إسبال: [يقال: أسبلت العين: سال دمعها] .
سحّ: [يقال: سح الماء ونحوه: سال من أعلى إلى أسفل وأيضا: سح الماء ونحوه: صبّه صبا متتابعا كثيرا] .
إعوال: [يقال: أعول إعوالا، وعوّل تعويلا إذا صاح وبكى] .
هاجس: [هجس الأمر في صدره: خطر بباله] .
صالي: ...
سحّ الشّعيب: ...
محصن ضريبته: ...
حامي الحقيقة: ...
تسّال الوديقة: سريع ومتقدم للقوم في شدة الحرّ ودنو الشمس.
العناة: الأسرى.
ماجد: الشريف الخيّر.
شملال: السريع الخفيف.
وجناء: الشديدة.
نكّال: المعاقب بما يردع، والمروع لغيره من إتيان مثل صنيع من نكّل به.
واري الزّناد: الذي إذا رام أمرا أنجح فيه وأدرك ما طلب.
جحفل: الجيش الكثير فيه الخيل.(12/296)
الحسب: ما يعده المرء من مناقبه وشرف آبائه.
انهمر: انسكب بقوة.
السّجل: الدّلو الملأى ماء.
الشّؤبوب: الدّفعة من المطر.
العبرة: الدمعة.
الضّريح: القبر.
فجعتما: أولمتما إيلاما شديدا.
البوازم: الشدائد.
العذل: اللّوم.
قروني: القرن من رأس الإنسان، موضع القرون منه.
الشّعوب: ...
صريع: المصروع: أي صرعته المنية.
القذال: جماع مؤخر الرأس من الإنسان والفرس.
حوبة: ...
النّحيب: رفع الصوت بالبكاء.
الجوى: شدة الوجد من العشق أو الحزن.
شمطاء: المختلطة سواد شعرها ببياض.
الطوف: ...
أشهب: المخالط بياض شعره سواد، أو حال لونه وتلوّح من برد وحرّ.
أرملوا: ...
يلف: ...
الأباطح: الأمكنة المتسعة يمر بها السّيل، فيترك فيه الرمل والحصى الصغار.
الأخشب: جبل بمكة.(12/297)
الباب الثامن والعشرون في بلوغ هذا الخطب الجسيم إلى الصّديق الكريم وثبوته في هذا الأمر
روى البزّار والبلاذري وبقي بن مخلد عن أبي هريرة وابن عباس، وأبو يعلى وأحمد برجال ثقات والطيالسي والترمذي في «الشمائل» . - بإسناد حسن- عن عائشة والطبراني برجال ثقات عن عكرمة عن ابن عباس وإسحاق بن راهويه عن عكرمة وعبد بن حميد بسند صحيح عن سالم بن عبيد الصحابي، أن الصحابة- رضي الله تعالى عنهم- أرسلوه خلف أبي بكر وفي لفظ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما خرج يوم الاثنين قال له أبو بكر: يا رسول الله وفي لفظ:
«أصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين خفيفا فقال أبو بكر: يا رسول الله: أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما تحبّ، واليوم يوم ابنة خارجة يعني: امرأته أفآتها قال: نعم، ثم دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورجع أبو بكر إلى أهله بالسّنح فلما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سجّي بثوب وجاء عمر فاستأذن على عائشة ومعه المغيرة بن شعبة، فأذنت لهما ومدّت الحجاب، فقال عمر: يا رسول الله فقالت: عائشة غشي عليه مذ ساعة، فكشف عن وجهه وقال: وا غشياه ما أشدّ غشي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي لفظ: دخل أبو بكر على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعل يراوح بين حزنه ميلا وجعل يقول: وا نبيّاه وا صفيّاه ثم غطاه، ولم يتكلم المغيرة، فلما أن دنوا من عتبة الباب قال: مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يا عمر: فقال عمر: كذبت، ما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والله لا يموت حتى يؤمر بقتال المنافقين، ولكنه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى إلى ربه، وغاب عن قومه أربعين ليلة، والله ليرجعنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وليقطّعنّ أيدي رجال وأرجلهم وألسنتهم، وتكلم حتى أزبد شدقاه: بل أنت امرؤ تحوشك فتنة وابن أم مكتوم في مؤخّرة المسجد يقرأ ووَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران 144] والناس يموجون ويبكون ولا يسمعون، فخرج عباس بن عبد المطلب على الناس فقال:
يا أيها الناس هل عند أحد منكم من عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فليحدثنا قالوا: لا. قال: هل عندك يا عمر من علم؟ قال: لا. فقال العباس: أشهد أيها الناس إن أحدا لا يشهد على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعهد عهده إليّ في وفاته، والله الذي لا إله إلا هو فقد ذاق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الموت، فادفنوا صاحبكم أيمت أحدكم إماتة ويميته إماتتين، هو أكرم على الله من ذلك فإن كان كما تقولون فليس على الله بعزيز أن عنه التراب فيخرجه إن شاء الله، ما مات حتى ترك السبيل نهجا واضحا، أحلّ الحلال، وحرّم الحرام، ونكح وطلق، وحارب وسالم، وما كان راعي غنم يتبع بها صاحبها رؤوس الجبال يخبط عليها العضاة بمخبطه يحدر حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان فيكم، فذهب سالم بن(12/298)
عبيد وراء أبي بكر إلى السّنح فأعلمه بموت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما بلغ أبو بكر الخبر وهو بالسّنح أقبل على فرس حتى نزل على باب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسجّى في ناحية البيت عليه برد حبرة.
زاد أبو الربيع وأبو اليمن بن عساكر في «إتحاف الزائر» وعيناه تهملان وزفراته تتردّد في صدره وعصصه ترتفع كقطع الحرة، وهو في ذلك جلد العقل والمقالة حتى دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكشف عن وجهه ومسح وقبل بين عينيه، وجعل يبكي ويقول: بأبي أنت وأمي طبت حيّا وميتا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء، فعظمت عن الصفة، وجللت عن البكاء وحصصت حتى صرت مسلاة وعممت حتى صرت فينا سواء، ولولا أنّ موتك كان اختبارا لجدنا لموتك بالنّفوس، ولولا أنّك نهيت عن البكاء عليك ما الشئون، فأما ما لا نستطيع تقيه ففيه كمد وإدناف يتخالفان لا يبرحان، اللهم فأبلغه عنا، اذكرنا يا محمد عند ربك ولتكن من جاء لك فلولا ما خلقت من السكينة لم تعم لما خلقت من الوحشة، اللهم أبلغ نبيك عنا واحفظه ميتا ثم صرخ. انتهى.
وفي حديث عائشة عند ابن سعد وأبي يعلى وأحمد برجال ثقات أن أبا بكر لما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: أنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم تحول من قبل رأسه فقال: وا نبيّاه، ثم حدر فمه وقبل وجهه ثم [قال: وا صفيّاه ثم] [ (1) ] رفع رأسه وحدر فمه وقبّل جبهته وقال: وا خليلاه، مات رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وفي حديث عائشة عند أبي يعلى وأحمد فقال: كيف ترين؟ قالت: غشي عليه فدنا منه فكشف عن وجهه فقال: يا غشياه ما أكون هذا الغشي، ثم كشف عن وجهه فعرف الموت فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون ثم بكى قالت عائشة: فقلت في سبيل الله انقطاع الوحي ودخول جبريل بيتي، ثم وضع يديه على صدغيه ووضع فاه على جبهته فبكى حتى سالت دموعه على وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفي لفظ ثم أقبل عليه فقبّله ثم قال: بأبي وأمي أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متّها فلن يصيبك بعدها موتة أبدا، ثم ردّ البرد على وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم خرج إلى الناس.
زاد أبو الربيع: وهم في خطبهم غمراتهم وشديد سكراتهم، ثم خرج عمر يكلّم الناس فقال: على رسلك يا عمر أنصت ثلاث مرّات فأبى إلا أن يتكلم، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر، وصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه.
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/299)
زاد أبو الربيع وأبو اليمن، ثم خطب خطبة جلّها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وقال فيها:
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وخاتم أنبيائه، وأشهد أن الكتاب كما نزّل، وأن الدين كما شرع وأن الحديث كما حدّث، وأن القول كما قال، وأن الله هو الحقّ المبين، في كلام طويل انتهى.
ثم قال: أيها الناس إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلى هذه الآية: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران 144] .
زاد ابن عقبة وقال: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر 30] وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران 185] وقال: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص 88] كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن 26، 27] زاد أبو الربيع وأبو اليمن: إن الله قد تقدم لكم في أمره فلا تدعوه جزعا، وأن الله تعالى قد اختار لنبيّه ما عنده على ما عندكم ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل 96] وقبضه إلى ثوابه، وخلّف فيكم كتابه وسنّة رسوله، فمن أخذ بهما عرف، ومن فرق بينهما أنكر، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ [النساء 135] لا يشغلنّكم الشيطان بموت نبيّكم ولا يلفتنكم عن دينكم، وعالجوا الشيطان بالخزي تعجزوه ولا تستنظروه فيلحق بكم، انتهى.
زاد ابن عقبة إنّ الله عمّر محمّدا وأبقاه حتى أقام دين الله وأظهر أمر الله وبلّغ رسالة الله وجاهد أعداء الله حتّى توفّاه الله صلوات الله وسلامه عليه وهو على ذلك وترككم على الطّريقة فلن يهلك هالك إلا من بعد البينة [والشفاء فمن كان الله ربّه فإن الله حي لا يموت، ومن كان يعبد محمّدا وينزله إلها فقد هلك إلهه] فاتقوا الله أيها الناس واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم وكلمته باقية، وإن الله ناصر من نصره ومعزّ دينه وأن كتاب الله بين أظهرنا وهو النور والشفاء، وبه هدى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وفيه حلال الله وحرامه والله لا نبالي من أجلب علينا من خلق الله، إنّ سيوف الله لمسلولة، ما وضعناها بعد ولنجاهدنّ من خالفنا كما جاهدنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلا يبقينّ أحد إلا على نفسه. انتهى.
وفي لفظ فو الله لكأن الناس لم يعلموا إن الآية نزلت [إلا] حين تلاها أبو بكر يومئذ فأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم، فلما تلاها أبو بكر أيقن الناس بموت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتلقاها كثير من الناس من أبي بكر حتى تلاها. قال عمر- رضي الله تعالى(12/300)
عنه- فو الله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فعقرت وأنا قائم حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي، وعرفت حين تلاها أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد مات. زاد أبو الربيع فلما فرغ من خطبته التفت إلى عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- فقال: يا عمر أنت الذي تقول على باب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بيده ما مات رسول الله، أما علمت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال يوم كذا وكذا، أو قال يوم كذا كذا وكذا، وقال الله تعالى في كتابه إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر 30] فقال عمر: لكأني والله لم أسمع بها في كتاب الله تعالى قبل ذلك لما نزل بنا، أشهد أن الكتاب كما نزّل، وأن الحديث كما حدّث، وأن الله تعالى حي لا يموت- صلوات الله وسلامه على رسوله- وعند الله تحتسب رسوله وقال عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- فيما كان منه يومئذ:
لعمري لقد أيقنت أنّك ميّت ... ولكنّما أبدي الّذي قلته الجزع
وقلت يغيب الوحي عنّا لفقده ... كما غاب موسى ثمّ يرجع كما رجع
وكان هواي أن تطول حياته ... وليس لحيّ في بكا ميّت طمع
فلمّا كشفنا البرد عن حرّ وجهه ... إذا الأمر بالجزع المرعب قد وقع
فلم يك لي عند المصيبة حيلة ... أردّ بها أهل الشّماتة والقزع
سوى إذن الله في كتابه ... وما أذن الله العباد به يقع
وقد قلت من بعد المقالة قولة ... لها في حلوق الشّامتين به بشع
ألا إنّما كان النّبيّ محمّد ... إلى أجل وافى به الموت فانقطع
ندين على العلّات منّا بدينه ... ونعطي الّذي أعطى ونمنع ما منع
وولّيت محزونا بعين سخينة ... أكفكف دمعي والفؤاد قد انصدع
وقلت لعيني كلّ دمع دخرته ... فجودي به إنّ الشّجيّ له دفع
وروى ابن إسحاق عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن عمر- رضي الله تعالى عنه- قال له في خلافته: هل تدري ما حملني على مقالتي التي قلت حين توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: قلت: لا أدري يا أمير المؤمنين أنت أعلم قال: فإنه والله ما حملني على ذلك إلا أني كنت أقرأ هذه الآية: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة 143] فو الله إني كنت لا أظن أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سيبقى في أمته حتى تشهد عليها بآخر أعمالها، فإنّه الذي حملني على أن قلت ما قلت.(12/301)
تنبيهات
الأول:
قول سيدنا أبي بكر- رضي الله تعالى عنه-: «لا يجمع الله عليك موتتين» .
قيل: هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم بأنه سيحيا ليقطع أيدي رجال، لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمع على غيره، كالّذين خرجوا من ديارهم ألوف أو كالذي مر على قرية.
قال الحافظ: وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها وقيل: أراد لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره، إذ يحيا ليسأل ثم يموت، قاله الداودي.
وقيل: لاي يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك.
وقيل: كنى بالموت الثاني عن الكرب أي: لا تلقي بعد كرب هذا الموت كربا آخر.
الثاني:
في بيان غريب ما سبق «السّنّح» هنا بضم السين والنون.
وقيل: بسكونها أطم لجشم ومنازل بني الحارث على ميل من المسجد النبوي، وهو أدنى العالية، وسميت به الناحية، ووهم من جعله نجديا مساجد الفتح، لأن ذاك بالمثناة التحتية وكسر السين، قاله السيد نور الدين السمهودي في تاريخ المدينة.
«أزبد» «شدقاه» .
«تحوسك» بحاء وسين مهملتين بينهما واو أي: تخالطك وتحث على ارتكابها.
«يبرحون» .
مسلاة.(12/302)
الباب التاسع والعشرون في اختيار الله تعالى له- صلى الله عليه وسلم- بأن يجمع له مع النبوة الشهادة
روى البخاري تعليقا والبيهقي مسندا عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة ما أزال أجد ألم الطّعام الّذي أكلت بخيبر وهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السّمّ وفي رواية «ما زالت أكلة خيبر تعاودني» .
وروى ابن سعد بسند صحيح، والبيهقي عن عبد الله بن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: لأن أحلف تسعا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قتل قتلا أحب إلي من أن أحلف واحدة، وذلك أنّ الله اتّخذه نبيّا، وجعله شهيدا» .
وروى ابن سعد عن ابن عباس- وجابر وأبي هريرة وغيرهم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عاش بعد أكلة الشّاة المسمومة بخيبر ثلاثة سنين حتى وجعه الذي توفي فيه، فجعل يقول في مرضه: ما زلت أجد من الأكلة التي أكلتها يوم خيبر عدادا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري، وذلك عرق في الظّهر، وتوفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شهيدا.
وروى الإمام أحمد والحاكم عن أم معبد امرأة كعب أن أمّ مبشر دخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في وجعه الذي قبض فيه فقالت: بأبي وأمّي أنت يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما تتهم بنفسك؟ فإني لا أتّهم بابني إلا الطعام الذي أكل معك بخيبر، وكان ابنها مات قبل النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: وأنا لا أتّهم غيرها هذا أوان انقطاع أبهري» .
وروى ابن ماجه عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: قالت: أم سلمة يا رسول الله لا يزال يصيبك كلّ عام وجع من الشاة المسمومة التي أكلت؟ قال: ما أصابني شيء منها إلا وهو مكتوب عليّ وآدم في طينته» .
وروى ابن سعد عن أبي هريرة وجابر بن عبد الله وابن عباس- رضي الله تعالى عنهم- وسعيد بن المسيّب- رحمه الله تعالى- حديث الشاة المسمومة، وفيه «واحتجم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على كاهله من أجل الذي أكل، حجمه أبو هند بالقرن والشّقرة، وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه فاحتجموا أوساط رؤوسهم
وعاش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قبض فيه، جعل يقول: هذا أوان انقطاع أبهري، وهو عرق في الظّهر
وتوفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شهيدا» .(12/303)
تنبيه في بيان غريب ما سبق:
الأبهر بفتح الهاء عرق إذا قطع مات صاحبه وهما أبهران يخرجان من القلب، ثم يتشعب منهما سائر الشّرايين.
«الأكلة» بالضم اللّقمة التي أكل من الشاة، وبعض الرواة بفتح الألف وهو خطأ لأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يأكل منها إلا لقمة واحدة.
قال ابن الأثير: ومعنى الحديث أنه نقض سمّ الشّاة التي أهدتها له اليهودية وكان ذلك يثور عليه أحيانا.
تعاودني أي: تراجعني ويعاودني ألم سمّها، في أوقات معلومة ويقال به: عداد من ألم:
أي: يعاوده في أوقات معلومة، والعداد- بعين مكسورة فدالين مهملات- اهتياج وجع اللديغ، وذلك إذا تمّت له سنة من يوم لدغ هاج به الألم.(12/304)
الباب الثلاثون في تاريخ وفاته- صلّى الله عليه وسلم-
روى الشيخان والبلاذري وابن جرير والبيهقي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يخرج ثلاثا وأبو بكر يصلي بالناس، وأن الناس بينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين وأبو بكر يصلي لهم لم يفجأهم إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف، فما رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن هيئة منه في تلك الساعة، وكانت آخر نظرة نظرتها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم صفوف في الصلاة، ثم تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف فظن أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريد أن يخرج إلى الصّلاة، قال أنس: وهمّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأشار إليهم أن أتمّوا صلاتكم
فقال: «أيها الناس إنه لم يبق من مبشّرات النّبوّة إلا الرّؤيا الصالحة، يراها المسلم أو ترى له إلا وإنّي نهيت أن أقرأ راكعا أو ساجدا، فأما الركوع فعظّموا فيه الرّبّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يستجاب لكم» ،
ثم دخل الحجرة وأرخى السّتر فتوفي من يومه ذلك.
وروى ابن سعد عن ابن شهاب قال: توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين حين زاغت الشمس.
وروى عنه أيضاً عن ابن شهاب قال: توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول» .
تنبيهات
الأول: قال السّهيلي وابن كثير والحافظ: لا خلاف أنه- صلى الله عليه وسلم- توفي يوم الاثنين في ربيع الأول.
قال: ابن عقبة حين زاغت الشمس.
قال في المنهل: والأكثر على أنّه حين اشتدّ الضّحى.
قال الأكثر في الثاني عشر منه وعند ابن عقبة، والليث والخوارزمي من هلال ربيع الأول.
وعند أبي مخنف والكلبي في ثانيه، وجزم به سليمان بن طرخان في «مغازيه» ورواه ابن سعد عن محمد بن قيس، ورواه ابن عساكر عن سعيد بن إبراهيم عن الزهري وعن أبي نعيم الفضل بن دكين ورجحه السهيلي.(12/305)
وعلى القولين يتنزل ما نقله الرّافعيّ أنه عاش بعد حجته ثمانين يوما.
وقيل: إحدى وثمانين، وأما على ما جزم به النووي فيكون عاش بعد حجّته تسعين يوما، أو إحدى وتسعين يوما.
الثاني: استشكل السّهيليّ وتابعه غير واحد ما عليه الأكثر من كونه مات يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، وذلك أنهم اتفقوا على أن وقفة عرفة في حجة الوداع كانت يوم الجمعة، وهو التاسع من ذي الحجة، فدخل ذي الحجة يوم الخميس، فكان المحرم إما الجمعة وإما السبت، فإن كان الجمعة فقد كان صفر إما السبت وإما الأحد، وإن كان السبت فقد كان ربيع الأول الأحد أو الاثنين، وكيفما دارت الحال على هذا الحساب فلم يكن الثاني عشر من ربيع الأول بوجه.
وقول أبي مخنف والكلبي وإن كان خلاف [أهل] الجمهور، فإنّه لا يبعد أن كانت الثلاثة الأشهر التي قبله كلّها تسعة وعشرين فتدبره، فإنه صحيح.
وقول ابن عقبة والخوارزمي أقرب في القياس من قول أبي مخنف ومن تابعه.
قال ابن كثير: وقد حاول جماعة الجواب عنه، ولا يمكن الجواب عنه إلا بمسلك واحد، وهو اختلاف المطالع، بأن يكون أهل مكة رأوا هلال ذي الحجة ليلة الخميس، وأما أهل المدينة فلم يروه إلا ليلة الجمعة.
ويؤيد هذا قول عائشة وغيرها، خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لخمس بقين من ذي القعدة، يعني: من المدينة إلى حجة الوداع [ويتعين بما ذكرناه أنه خرج يوم السبت، وليس كما زعم ابن حزم أنه خرج يوم الخميس، لأنه قد بقي أكثر من خمس بلا شك، ولا جائز أن يكون خرج يوم الجمعة لأن أنسا قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر بالمدينة أربعا والعصر بذي الحليفة ركعتين فتعين أنه خرج يوم السبت لخمس بقين] .
فعلى هذا إنما رأى أهل المدينة هلال ذي الحجة ليلة الجمعة، وإذا كان هلال ذي الحجة عند أهل المدينة الجمعة، وحسبت الشّهور بعده كوامل يكون أوّل ربيع الأوّل يوم الخميس، فيكون ثاني عشر يوم الاثنين، والله تعالى أعلم.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
لم يفجأهم: ...
«السّتر: ... نكص» : ...
قمن: بقاف فميم مفتوحتين أي: خليق وحقيق وجدير لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث، فإن كسرت الميم أو قلت: قمين ثنّيت وجمعت، وهذا مقمنة أي: مخلقة ومجدرة وتقمّنت موافقتك: توخيتها.(12/306)
الباب الحادي والثلاثون في مبلغ سنّه- صلّى الله عليه وسلم-
روى مسلم عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: «قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثلاث وستّين سنة، وقبض أبو بكر وهو ابن ثلاث وستّين سنة، وقبض عمر وهو ابن ثلاث وستّين سنة» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والشيخان عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنزل عليه وهو ابن أربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة، فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستّين سنة» [ (2) ] .
وروى أبو داود الطيالسي ومسلم عن معاوية بن أبي سفيان- رضي الله تعالى عنهما- قال: قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثلاث وستّين وأبو بكر وعمر وأنا ابن ثلاث وستّين» [ (3) ] .
وروى الشيخان عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ثلاث وستّين [ (4) ] .
وروى الإمام أحمد ومسلم عن عمار بن أبي عمّار قال: قلت لابن عباس: «كم أتى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم مات قال: أتحسب؟ قلت: نعم قال: أمسك أربعين. بعث لها خمس عشرة بمكّة، يأمن ويخاف وعشر من مهاجره إلى المدينة» [ (5) ] .
وروى الحاكم في «الإكليل» عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو ابن خمس وستّين.
وروى ابن سعد وعمر بن شبه والحاكم في «الإكليل» عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علي رأس أربعين سنة، فأقام بمكّة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفّي وهو ابن ستّين سنة» .
تنبيهات
الأول: قال ابن عساكر، والإمام النّوويّ: القول بأن عمره حين توفي ثلاث وستون سنة هو الأصحّ الأشهر.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 1825 في الفضائل (114/ 2348) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 7/ 162 (3851) (3902، 3903) ومسلم 4/ 1826 في الفضائل (117- 118/ 2351) .
[ (3) ] أخرجه مسلم 4/ 1826 (119، 120/ 2352) وقوله «وأنا» أي وأنا متوقع موافقتهم، وأني أموت في سنتي هذا.
[ (4) ] مسلم 4/ 1825 (115/ 2349) .
[ (5) ] مسلم 4/ 1827 (121/ 2353) .(12/307)
وقال أبو عمر: هو الصحيح عندنا.
وقال ابن سعد: هو الثّبت إن شاء الله تعالى.
قال الذهبي: وهو الصحيح الذي قطع به المحققون.
الثاني: قال الحاكم في «الإكليل» والنووي: اتفق العلماء على أنّ أصح الرّوايات ثلاث وستّون سنة وتأوّلوا الباقي على ذلك، فرواية ستين اقتصر فيها على العقود وترك الكسور.
ورواية الخمس وستين متأولة عليها أو حصل فيها شك، وقد أنكر عروة على ابن عباس قوله: خمس وستون، ونسبه إلى الغلط، وأنه لم يدرك أوّل النّبوّة بخلاف الباقين.
قلت: أكثر الرواة عن ابن عباس حكوا عنه رواية ثلاث وستين، فالظاهر أنه إن كان قال غير ذلك فقد رجع إلى ما عليه الأكثرون، والله تعالى أعلم.
قالا: واتفقوا على أنه- صلى الله عليه وسلم- أقام بالمدينة بعد الهجرة عشرة سنين، وبمكة قبل النبوة أربعين سنة، وإنما الخلاف في قدر إقامته بمكة بعد النبوة وقبل الهجرة، الصحيح أنّه ثلاث عشرة سنة، فيكون عمره ثلاث وستين سنة.
قال النووي: وهذا الصواب المشهور الذي أطبق العلماء عليه.
وحكى القاضي عن ابن عباس وسعيد بن المسيّب رواية شاذة، أنه بعث على رأس ثلاث وأربعين سنة والصواب أربعون كما سبق.(12/308)
الباب الثاني والثلاثون في عدم استخلافه أحداً بعينه، وأنه لم يوص إلى أحد بعينه
روى البخاري والبيهقي عن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منّي- يعني: أبا بكر- وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي، هو رسول الله- صلى الله عليه وسلم-» [ (1) ] .
وروى البيهقي عن علي- رضي الله تعالى عنه- أنه قال «يوم الجمل» : أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله، ثمّ أن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر فأقام واستقام حتّى ضرب بالدين بجرانه ثمّ إنّ أقواما طلبوا هذه الدّنيا فكانت أمور يقضي الله- عز وجل- فيها»
[ (2) ] .
وروى البخاري وابن جرير والبيهقي عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهم-: «أنّ عليّا خرج من عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئا قال:
فأخذ بيده العباس فقال له: أنت والله بعد ثلاث عبد العصا وإنّي والله لأرى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سوف يتوفّاه الله من وجعه هذا، إني أعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلنسأله فيمن هذا الأمر، فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا كلّمناه، فأوصى بنا، قال علي: إنا والله لئن سألناها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمنعناها، لا يعطيناها الناس بعده أبدا. وإنّي والله، لا أسألها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
[ (3) ] .
وروى البخاريّ والبيهقي عن إبراهيم بن الأسود قال: قيل لعائشة: إنهم يقولون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أوصى إلى عليّ فقالت: بما أوصى إلى عليّ وقد رأيته دعا بطست ليبول فيها، وأنا مسندته إلى صدري فانخنس أو قال: فانحنث، فمات وما شعرت فيم يقول هؤلاء إنّه أوصى إلى عليّ [ (4) ] .
وروى البخاريّ والبيهقي عن إبراهيم النبي عن أبيه قال: خطبنا عليّ فقال: من زعم أن عندنا كتابا نقرأه ليس إلا كتاب الله وهذه الصحيفة صحيفة معلقة في سيفه، فيها أسنان الإبل
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 13/ 218 (7218) والبيهقي في الدلائل 7/ 222 ومسلم في الإمارة باب الاستخلاف 3/ 1454 (11) .
[ (2) ] أخرجه البيهقي 7/ 223.
[ (3) ] أخرجه البخاري في المغازي حديث (4447) ، والبيهقي في الدلائل 7/ 224.
[ (4) ] أخرجه البخاري في الوصايا وفي مرض النبي- صلى الله عليه وسلم- ومسلم 3/ 1257 (19) وأحمد 6/ 32، والبيهقي في الدلائل 7/ 226.(12/309)
وأشياء من الجراحات فقد كذب [وفيها المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث يعني حدثاً أو آوى محدثا. فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ... ]
[ (1) ] .
وروى البيهقي عن أبي حسان أن عليا قال: ما عهد إلي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا خاصّة دون النّاس إلا شيئا سمعته منه في صحيفة في قراب سيفي، قال: فلم أزل به حتى أخرج الصحيفة، فإذا فيها من أحدث حدثاً أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا وإذا فيها إن إبراهيم حرم مكّة وأنا أحرم المدينة ما بين حرّتيها وحماها، ولا يختلى خلاها، ولا ينفّر صيدها ولا يلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها- يعني منشدا- ولا يقطع شجرها، إلا أن يعلف رجل بعيرا، ولا يحمل فيها السّلاح لقتال، والمؤمنون يكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده
[ (2) ] .
تنبيهان:
الأول:
حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب مرفوعا: «يا عليّ أوصيك بوصيّة فاحفظها؟ فإنك لا تزال ما حفظت وصيتي يا علي، يا علي إن للمؤمنين من ثلاث علامات الصلاة والصيام والزكاة» ،
فذكر حديثا طويلا في الرغائب والآداب وهو حديث موضوع اختلقه حمّاد بن عمرو النصيبي، وهو كذاب وضاع وقد أوضعه الحارث بن أبي أسامة في مسنده.
وقال الحافظ في «المطالب العالية» [ ... ] .
الثاني في بيان غريب ما سبق:
انخنس: ...
الحدث: ...
الصّرف: ...
العدل: ...
يختلي: ...
خلاها: ...
أشاد: ...
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري من باب ذمة المسلمين، وفي باب إثم من عاهد ثم غدر وأحمد 1/ 81 وأبو داود في المناسك 2/ 216 والبيهقي في الدلائل 7/ 227، 228.
[ (2) ] أخرجه أبو داود في المناسك 2/ 216 (2035) .(12/310)
الباب الثالث والثلاثون في ذكر خبر السّقيفة وبيعة أبي بكر- رضي الله تعالى عنه- بالخلافة بعد موت سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
قال ابن إسحاق: ولما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- انحاز هذا الحي من الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، واعتزل علي بن أبي طالب، والزبير بن العوّام، وطلحة بن عبيد الله في بيت فاطمة، وانحاز بقية المهاجرين إلى أبي بكر، وانحاز معهم أسيد بن حضير في بني عبد الأشهل، فأتى آت إلى أبي بكر وعمر فقال: إن هذا الحي من الأنصار مع سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة وقد انحازوا إليه، فإن كان لكم بأمر الناس حاجة فأدركوا قبل أن يتفاقم أمرهم ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بيته لم يفرغ من أمره قد أغلق دونه الباب أهله.
قال عمر: فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء حتى ننظر ما هم عليه [ (1) ] .
وروى ابن إسحاق والإمام أحمد والبخاري وابن جرير عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- قال وهو على المنبر: إنّه قد بلغني أن فلانا، وفي رواية البلاذري عن ابن عباس أن قائل ذلك الزبير بن العوام، قال: والله لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا.
وفي رواية البلاذري عن ابن عباس: «بايعت عليا» لا يغرنّ امرءا أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت.
[والله ما كانت بيعة أبي بكر فلتة، ولقد إقامة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقامه واختاره لدينهم على غيره وقال: «يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر» فهل منكم أحد تقطع إليه الأعناق كما تقطع إلى أبي بكر؟ فمن بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فإنه لا بيعة له، وإنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأشرافهم في سقيفة بني ساعدة، وتخلّف عنّا علي بن أبي طالب والزبير بن العوام ومن معهما، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فقلت لأبي بكر: انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار، فانطلقنا نؤمّهم حتى لقينا منهم رجلان صالحان
عويم بن ساعد وهو الذي قال فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما سئل من الذين قال الله لهم [فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «نعم المرء
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 7/ 229 وابن كثير في البداية 5/ 252 وانظر ترجمة حماد في الميزان 1/ 598 البخاري في التاريخ 3/ 28 والضعفاء للعقيلي 1/ 308، المجروحين لابن حبان 1/ 252.(12/311)
عويم بن ساعدة» ]
[ (1) ] ومعن بن عديّ ويقال: إنه لما بكى الناس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين توفّاه الله تعالى، وقالوا وددنا والله أن متنا قبله، إنا نخشى أن نفتن بعده، فقال معن: إني والله ما أحب أني متّ قبله حتى أصدقه ميتا كما صدقته حيا، وقتل رحمه الله شهيدا يوم اليمامة، فذكرا لنا ما تمالأ عليه القوم، وقالا: أين تريدون يا معشر المهاجرين؟ قلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار قالا: فلا عليكم أن لا تقربوهم يا معشر المهاجرين، اقضوا أمركم قال: قلت: والله لنأتينّهم، فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة فإذا بين ظهرانيهم رجل مزمّل فقلت: من هذا؟ فقالوا: سعد بن عبادة، فقلت: ما له؟ فقالوا: وجع فلما جلسنا نشهد خطيبهم، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد فنحن الأنصار وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط نبينا، وقد دفت إلينا دافّة من قومكم، قال: وإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا، ويغصبونا الأمر، فلما سكت أردت أن أتكلّم، وقد زودت في نفسي مقالة قد أعجبتني، أريد أن أقدّمها بين يدي أبي بكر، وكنت أداري منه بعض الجدّ فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر فكرهت أن أعصبه، فتكلم وكان هو أعلم مني، وأوقر فو الله ما ترك من كلمة أعجبتني كنت زورتها في نفسي إلا قالها في بديهته أو مثلها أو أفضل منها، حتى سكت.
وذكر ابن عقبة أن عمر أراد أن يتكلم ويسبق بالقول ويمهد لأبي بكر ويتهدد من هناك من الأنصار، وقال عمر: خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام، وعن ما أجد في نفسي من الشدة على من خالفنا، وزجره أبو بكر، فقال: على رسلك، فسيكثر الكلام إن شاء الله تعالى، ثم سوف تقول بعدي ما بدا لك فتشهد أبو بكر، وأنصت القوم ثم قال: بعث الله محمدا بالهدى ودين الله حق، فدعى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الإسلام فأخذ الله بقلوبنا ونواصينا، إلى ما دعانا إليه، فكنا معشر المهاجرين أوّل الناس إسلاما، ونحن عشيرته وأقاربه وذوو رحمه، فنحن أهل النبوة وأهل الخلافة وأوسط الناس أنسابا في العرب، ولدتنا كلها، فليس منا قبيلة إلا لقريش فيها ولادة، ولن تعترف العرب ولا تصلح إلا على رجل من قريش، هم أصبح الناس وجوها، وأبسطهم لسانا، وأفضلهم قولا، فالناس لقريش تبع، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، وهذا الأمر بيننا وبينكم قسمة إلا بثلمة، وأنتم يا معشر الأنصار إخواننا في كتاب الله، وشركاؤنا في الدين، وأحبّ الناس إلينا، وأنتم الذين آووا ونصروا، وأنتم أحق الناس بالرضا بقضاء الله والتسليم لفضيلة ما أعطى الله إخوانكم من المهاجرين، وأحق الناس ألا تحسدوهم على خير أتاهم الله إياه وأما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، ولن تعرف العرب هذا الأمر، إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسباً ودارا، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين،
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/312)
فبايعوا أيهما شئتم، وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح وهو جالس بيننا، ولم أكره شيئا مما قاله غيرها، كان والله أن أقدّم فتضرب عنقي ولا يقرّبني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمّر على قوم فيهم أبو بكر، وعند ابن عقبة فقال أبو بكر: فأنا أدعوكم إلى أحد هذين الرجلين عمر بن الخطاب وأبى عبيدة بن الجراح، ووضع يده عليهما، وكان نائما بينهما، فكلاهما قد رضيته للقيام بهذا الأمر، ورأيته أهلا لذلك الأمر، فقال عمر وأبو عبيدة: ما ينبغي لأحد بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يكون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وثاني اثنين، وأمرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين اشتكى فصليت بالناس فأنت أحق بهذا الأمر، قالت الأنصار والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، وما خلق الله قوما أحبّ إلينا ولا أعزّ علينا منكم، ولا أرضى عندنا هديا منكم، ولكنا نشفق بعد اليوم، فلو جعلتم اليوم أصلا منكم، فإذا مات أخذتم رجلا من الأنصار فجعلناه، فإذا مات أخذنا رجلا من المهاجرين فجعلناه، فكنا كذلك أبدا ما بقيت هذه الأمّة، بايعناكم ورضينا بذلك من أمركم، وكان ذلك أجدر أن يشفق القرشي، إن زاغ أن ينقض عليه الأنصاري، فقال عمر لا ينبغي هذا الأمر، ولا يصلح إلا لرجل من قريش، ولن ترضى العرب إلا به، ولن تعرف العرب الإمارة إلا له، ولن يصلح إلا عليه، والله لا يخالفنا أحد إلا قتلناه انتهى.
وروى الإمام أحمد عن حميد بن عبد الرحمن أن أبا بكر قال لسعد بن عبادة، لقد علمت يا سعد أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال وأنت قاعد: «قريش ولاة هذا الأمر، فبرّ النّاس تبع لبرّهم، وفاجرهم تبع لفاجرهم، قال: صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء،
وعند الإمام أحمد قال قائل من الأنصار: أنا جديلها المحكّك وعذيقها المرجّب، منّا أمير، ومنكم أمير يا معشر قريش، قال: فكثر اللّغط، وارتفعت الأصوات، حتى خشينا الاختلاف، فقلت ابسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، وعند ابن عقبة فكثر القول حتى كادت الحرب تقع بينهم وأوعد بعضهم بعضا، ثم تراضى المسلمون، وعصم الله لهم دينهم، فرجعوا وعصوا الشيطان، ووثب عمر فأخذ بيد أبي بكر، وقام أسيد بن حضير الأشهليّ وبشر بن سعد أبو النعمان بن بشير يستبقان ليبايعا أبا بكر، فسبقهما عمر فبايع، ثم بايعا معا وعند ابن إسحاق في بعض الروايات وابن سعد أن بشر بن سعد سبق عمر.
وروى البيهقي عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- أن خطيب الأنصار قام فقال: تعلمون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان من المهاجرين وخليفته من المهاجرين ونحن كنّا أنصار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن أنصار خليفته كما كنا أنصاره، فقام عمر بن الخطاب فقال:
صدق قائلكم، أما لو قلتم غير هذا لم نتابعكم، ووثب أهل السقيفة يبتدرون البيعة وسعد بن(12/313)
عبادة مضطجع يوعك فازدهم الناس على أبي بكر، فقال رجل من الأنصار: اتقوا سعدا لا تطأوه فتقتلوه فقال: عمر: وهو مغضب قتل الله سعدا، فإنّه صاحب فتنة، فلما فرغ أبو بكر من البيعة رجع إلى المسجد، فقعد على المنبر، فبايعه الناس حتى أمسى، وشغلوا عن دفن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وقال ابن أبي عزة القرشي في ذلك:
نشكو لمن هو بالثّناء خليق ... ذهب اللّجاج وبويع الصّدّيق
من بعد ما وخضت بسعد بغلة ... ورحا رحاه دونه العيّوق
جاءت به الأنصار عاصب رأسه ... فأتاهم الصّدّيق والفاروق
وأبو عبيدة والّذين إليهم ... نفس المؤمّل للبقاء تشوق
كنّا نقول لها عليّ ذو الرّضى ... وأولاهم عمر بتلك عتيق
فدعت قريش باسمه فأجلبها ... إنّ المنوّة باسمه الموثوق
وذكر وثيمة بن موسى أنه كان لأشراف قريش فيما كان من الأنصار مقامات محمودة، فمن ذلك إن خالد بن الوليد قام على أثر أبي بكر بعد وفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان خطيب قريش، فقال: أيّها النّاس إنّا رمينا في بدء هذا الدين بأمر ثقل علينا محمله وصعب علينا مرتقاه وكنا كأنّا منه على أوفاز، والله ما لبثنا أن خفّ علينا ثقله وذلّلنا صعبه، وعجبنا من شكّ فيه بعد عجبنا من آمن به، حتى والله أمرنا بما كنا ننهي عنه، ونهينا عما كنا نأمر به، ولا والله ما سبقنا إليه بالعقول ولكنه التوفيق، ألا وإن الوحي لم ينقطع حتى أكمل، ولم يذهب النبي- صلى الله عليه وسلم- حتى أعذر، فلسنا ننتظر بعد النبيّ نبيّا ولا بعد الوحي وحيا، ونحن اليوم أكثر منّا بالأمس، ونحن بالأمس خير منّا اليوم، من دخل في هذا الدين كان من ثوابه على حسب عمله، ومن تركه ودّدنا إليه، إنّه والله ما صاحب هذا الأمر، يعني أبا بكر بالمسئول عنه، ولا المختلف فيه، ولا بالمخفي الشخصي، ولا المغمور القناة ثم سكت فعجب النّاس من كلامه، وقام حزن بن أبي وهب، وهو الذي سمّاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سهلا:
وقامت رجال من قريش كثيرة ... فلم يك في القوم القيام كخالد
ترقّى فلم يزلق به صدر بغله ... وكفّ فلم يعرض لتلك الأوابد
فجاء بها غدو كالبدر وسهلة ... فشبّهتها في الحسن أمّ القلائد
أخالد، لا تعدم لؤي بن غالب ... قيامك فيها عند قذف الجلامد
كساك الوليد بن المغيرة مجده ... وعلّمك الشّيخان ضرب القماحد(12/314)
تقارع في الإسلام عن صدر دينه ... وفي الشّرك عن إجلال جدّ ووالد
وكنت المخزوم بن يقظة جنّة ... كلا اسببك فيها ماجد وابن ماجد
إذا ما عنا في هيجها ألف فارس ... عدلت يألف عند تلك الشّدائد
ومن يك في الحرب المصرّة واحدا ... فما أنت في الحرب العوان بواحد
إذا ناب أمر في قريش مخلّج ... تشيب له رأس العذارى النّواهد
تولّيت منه ما يخاف وإن تغب ... يقولوا جميعا خطبنا غير شاهد
روى ابن إسحاق والبخاري عن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال: لما بويع أبو بكر في السّقيفة، وكان الغد جلس أبو بكر، فقام عمر فتكلم، وأبو بكر صامت لا يتكلم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها النّاس، إنّي كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولكنّي كنت أرى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سيدبّر أمرنا بقول يكون آخرنا، وأن الله تعالى قد أبقى فيكم كتابه الّذي به هدى الله رسوله، فإن اعتصمتم هداكم الله كما كان هداه به وأن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه، فبايع النّاس أبا بكر بيعة العامّة بعد بيعة السّقيفة، ثمّ تكلّم أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه بالّذي هو أهله.
وفي رواية البلاذري عن الزّهريّ أنه قال: الحمد لله أحمده وأستعينه على الأمر كله، علانيته وسرّه، ونعوذ بالله من شر ما يأتي باللّيل والنّهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وان محمداً عبده ورسوله أرسله بالحقّ بشيرا ونذيرا، قدّام السّاعة، فمن أطاعه رشد ومن عصاه هلك، انتهى.
ثم قال: أما بعد أيّها النّاس، فإنّي قد ولّيت عليكم ولست بخيركم وقد كانت بيعتي فلتة، وذلك أنّي خشيت الفتنة، وأيم الله ما حرصت عليها يوما قطّ، ولا طلبتها ولا سألت الله تعالى إيّاها سرّا ولا وعلانية وما لي فيها من راحة، ولقد قلّدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ولا يدان ولوددت أنّ أقوى النّاس عليها مكاني، فعليكم بتقوى الله، فإن أكيس الكيس التقى وإن أحمق الحمق الفجور، وإنّي متّبع ولست بمبتدع» زاد عاصم بن عدي كما رواه ابن جرير «إنّما أنا مثلكم وإنّي لا أدري لعلكم ستكلّفونني ما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يطيق، إن الله اصطفى محمّدا على العالمين، وعصمه من الآفات، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة، ضربة سوط فما دونها، ألا وإن شيطانا يعتريني فإذا أتاني فاجتنبوني، لا(12/315)
أؤثّر في أشعاركم وأبشاركم، تغدون وتروحون في أجل قد غيّب عنكم علمه، فإن استطعتم أن لا يمضي هذا الأجل إلّا وأنتم في عمل صالح فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلّا بالله، فسابقوا في مهل آجالكم من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال، فإن قوما نسوا آجالهم وجعلوا أعمالهم لغيرهم، فإيّاكم أن تكونوا أمثالهم. الجد الجد، والوحا الوحا والنّجاء النّجاء، فإنّ وراءكم طالبا حثيثا، أجلا سريعا، احذروا الموت بالآباء والأبناء والإخوان، ولا تغبطوا الأحياء إلا بما تغبطوا به الأموات انتهى.
«فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني، الصّدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علّته إن شاء الله تعالى، والقويّ فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحقّ منه- إن شاء الله تعالى- لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذّلّ، ولم تشع الفاحشة من قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أيّها النّاس اتّبعوا كتاب الله، واقبلوا نصيحته، فإن الله يقبل التّوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون واحذروا يوما ما للظالمين فيه من حميم ولا شفيع يطاع اليوم فليعمل عامل ما استطاع من عمل يقرّبه إلى الله قبل: أن لا يقدر على ذلك.
أيّها النّاس أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله، فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
وروى البلاذري والبيهقيّ- بإسناد صحيح- من طريقين، عن أبي سعيد أن أبا بكر لما صعد المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير الزبير، فسأل عنه، فقام ناس من الأنصار فأتوا به فقال أبو بكر: قلت ابن عمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحواريّه أردت أن تشقّ عصا المسلمين، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقام فبايعه ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليّا، فسأل عنه فقام ناس من الأنصار فأتوا به، فجاء فقال أبو بكر: قلت: ابن عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وختنه على ابنته أردت أن تشقّ عصا المسلمين قال: لا تثريب يا خليفة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فبايعه.
وروى البلاذري عن علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه- قال: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يمت فجأة، كان بلال يأتيه في مرضه فيؤذنه بالصّلاة، فيأمر أبا بكر إن يصلّي بالناس، وهو يرى مكاني، فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأوا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد ولّاه أمر دينهم فولّوه أمر دنياهم.
وروى البلاذري عنه قال: لما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي- صلى الله عليه وسلم- قد قدّم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لديننا، فقدّمنا أبا بكر، ومن ذا كان يؤخّره عن مقام إقامة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيه.(12/316)
وروى البلاذري- بسند جيد- أن عمر بن عبد العزيز بعث ابن الزبير الحنظليّ إلى الحسن فقال له: هل كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- استخلف أبا بكر؟ فقال الحسن أوفي شكّ صاحبك، والله الذي لا إله إلا هو، استخلفه حين أمره بالصّلاة دون النّاس، ولهو كان أتقى لله من أن يتوثّب عليها.
وروى البلاذري عن إبراهيم التيمي، وابن سيرين قال: لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أتوا أبا عبيدة بن الجراح، فقالوا: ابسط يدك نبايعك فإنّك أمين هذه الأمة على لسان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: أتأتوني وفيكم الصّدّيق، ثاني اثنين؟ وفي لفظ: ثالث ثلاثة، قيل:
لابن سيرين: وما ثالث ثلاثة؟ قال: ألم تقرأ هذه الآية ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] .
وروى ابن عقبة- بإسناد جيد- عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: أن رجالا من المهاجرين غضبوا في بيعة أبي بكر، منهم عليّ والزّبير، فدخلا بيت فاطمة بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعهما السّلاح، فجاءهما عمر بن الخطاب في عصابة من المهاجرين والأنصار، فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن سلامة بن وقش الأشهليّان وثابت بن قيس بن شمّاس الخزرجيّ، فكلّموهما حتى أخذ أحدهم سيف الزّبير فضرب به الحجر حتى كسره، ثم قام أبو بكر فخطب النّاس، واعتذر إليهم، وقال: والله ما كنت حريصا على الإمارة يوما قطّ، ولا ليلة، ولا سألتها الله تعالى قطّ سرّا ولا علانية. ولكنّي أشفقت من الفتنة وما لي في الإمارة من راحة، ولكنّي قلّدت أمرا عظيما ما لي به طاقة، ولا يدان إلا بتقوية الله تعالى، ولوددت أنّ أقوي الناس عليها مكاني اليوم، فقبل المهاجرون منه ما قاله، وما اعتذر به، وقال عليّ والزبير:
ما غضبنا إلّا أنّا أخّرنا عن المشورة، وإنا لنرى أن أبا بكر أحقّ النّاس بها بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإنّه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنّا لنعرف له شرفه ولقد أمره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالصّلاة بالنّاس وهو حيّ.
قال أبو الربيع: وذكر غير ابن عقبة أن أبا بكر- رضي الله تعالى عنه- قام في النّاس بعد مبايعتهم إيّاه يقيلهم في بيعتهم، وأستقيلهم فيما تحمّله من أمرهم، ويعيد ذلك عليهم، كلّ ذلك يقولون: والله لا نقيلك ولا نستقيلك، قدّمك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فمن ذا يؤخّرك.
قلت:
وروى البلاذري عن أبي الجحاف قال: لما بويع أبو بكر، وبايعه النّاس، قام ينادي ثلاثا: أيّها النّاس قد أقلتكم بيعتكم فقال علي: والله لا نقيلك ولا نستقيلك قدّمك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الصّلاة، فمن ذا يؤخّرك ولم يبدأ أبو بكر- رضي الله تعالى عنه- بعد أن فرغ من أمر البيعة، واطمأنّ الناس بشيء من النّظر قبل إنفاذ أسامة، فقال له: امض لوجهك الذي(12/317)
بعثك له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكلّمه رجال من المهاجرين والأنصار، فقالوا: أمسك أسامة وبعثه، فإنّا نخشى أن تميل علينا العرب، إذا سمعوا بوفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بكر وكان أفضلهم رأيا: «أحبس بعثا بعثه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فإنّه ذو رأي ونصيحة للإسلام وأهله
فقلت [ ... ] أسامة وأذن لعمر فقام بالمدينة مع أبي بكر- رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.
تنبيه في بيان غريب ما سبق:
«سقيفة بني ساعدة» - بسين مهملة مفتوحة فقاف مكسورة، فمثنّاة، فتحتيّة ففاء- مكان لهم كانوا يستظلّون به وقيل: صفة، وبنو ساعدة بطن من الأنصار.
يتفاقم: ...
«الفلتة» : بفاء فلام فمثناة فوقية والفجأة ما وقع من غير إحكام، وذلك أنهم لم ينظروا في بيعة أبي بكر بإجماع الصّحابة، وإنما ابتدرها عمر مخافة الفرقة، وقيل: يجوز أن يريد بالفلتة الخلسة بمعنى أنّ الإمامة يوم السّقيفة مالت إلى توليتها الأنفس، ولذلك كثر فيها التّشاجر فما قلدها أبو بكر إلا انتزاعا من الأيدي واختلاسا، ومثل هذه البيعة جديرة أن تكون مثيرة للفتن فعصم الله من ذلك، ووقى شرّها.
بقطع الأعناق إليه: قيل: هو من قولهم منقطع القرين وقيل: معناه ليس فيكم سابق إلى الخيرات مثله مأخوذ من سبق الجواد، يقال: للفرس إذ سبق، تقطعت أعناق الخيل فلم تلحقه يومهم.
قالا: ...
مزمّل: مدّثر في الثّوب المغطّى به.
كتيبة ...
دفّت: الدّفّ بالفتح السير الذي ليس بشديد، والدّافّة الجماعة، سارت سيرا رقيقا فهي دافّة والمعنى جاءت جماعة من قومكم.
يختزلونا: بالخاء والزاي المعجمتين أي: يقطعونا من أصلنا ويمنعونا أمرنا، يقال: اختزل الرجل إذا ضعف.
زوّرت: هيّأت ورتّبت في نفسي كلاما أقوله.
أداري منه بعض الحسد: يقال في الحسن الخلق والمعاشرة: دارأته وداريته إذا لاينته.(12/318)
وجد الرجل جدة وجدا: إذا ترق على غيره، ولبعضهم بكسر الجيم ضدّ الهزل، على رسلك- بفتح الراء وكسرها- وهو أفصح وأشهر أي: افعل ذلك على هيّنتك وتؤدّيك.
البديهة بباء موحّدة، فدال مهملة، فمثناة تحتية، فهاء ضد التروي والتفكير. وهو ما يقال في الحال من غير تروّ، وافتكار فيه.
وأنا جديلها: تصغير جدل- بالكسر- قال محمود بن خطيب الدّهشة: وزاد أهل الغريب الفتح، ولم أره في كتاب لغة، وهو هنا عود ينصب للإبل الجربي تحتكّ فيه فتطرح قرادها وما بها من أذى، فتستشفى بذلك، كالمتمرغ للدّابّة، والتصغير هنا للتعظيم، أي: أنا ممن يستشفى برأيه.
والمحكّك- بضم الميم، وفتح الكاف الأولى وشدها- الذي كثر به الحكّ حتى صار أملس وعذيقها: تصغير عذق- بفتح العين المهملة- للتعظيم، وهو هنا النخلة، وإما بالكسر فالعرجون، وزاد القاضي الفتح، قال في تقريب القريب: وليس بالوجه، والمرجّب بضم الميم، وفتح الراء، والجيم المشددة- إما من الرجية- بضم الراء وسكون الجيم الذي يحاط به النّخلة الكريمة مخافة أن تسقط، وإما من رجبت الشّيء أرجبه- بالضم- رجبا، عظمته، ورجّيته، شدد مبالغة فيه، ومعنى هنا الكلام أنه يقول: إنّه دواء يستشفى به في الحوادث، لا سيّما مثل هذه الحادثة العظيمة، وأن مثل ذلك كالعود الذي يشفي به الجرب إذا احتكّ به، وكالنّخلة الكثيرة الحمل من توفر مواد الآراء عندي، ثم إنّه ظهر ذلك، وأشار بالرّأي المصيب عنده فقال منّا أمير ومنكم أمير، وما عرف إن ذلك لا يصلح ولا يستقيم.
[اللّغط: اختلاف الأصوات.
خليق: ...
اللّجاج: ...
رمض: ...
العيوق: ...
أوفاز: ...
المغموز: ...
الأوابد: ...
الجلامد: ...
العوان: ...(12/319)
مخلّج: ...
العذارى: ...
النّواهد: ...
ولا يدان: ...
الكيس: ...
الحمق: ...
الوحا: ...
نزت: ... [ (1) ]] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] في أقوله نزت بكسر الراء خفا لاختلاف نزوا يقال: نزا نزوا ونزا وأنا بفتح أوله وثانية وهو كلام غير واضح.
[ (2) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.(12/320)
جماع أبواب غسله وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، وموضع قبره، والاستسقاء به وفضل ما بينه وبين المنبر، وفضل مسجده وحياته في قبره، وعرض أعمال أمته عليه وحكم تركته زاده الله فضلا وشرفا لديه
الباب الأول في غسله- صلّى الله عليه وسلم- ومن غسّله، وما وقع في ذلك من الآيات
قال ابن إسحاق: فلما بويع أبو بكر أقبل الناس على جهاز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الثّلاثاء.
وروى ابن سعد عن علي، وأبو داود ومسدّد، وأبو نعيم وابن حبان والحاكم والبيهقي وصحّحه الذّهبيّ عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: لمّا أرادوا غسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اختلفوا فيه، فقالوا: والله ما ندري كيف نصنع أنجرّد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثيابه كما نجرّد موتانا، أم نغسّله وعليه ثيابه، فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النّوم، حتّى ما منهم رجل إلّا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو أن غسلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه ثيابه فقاموا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه قميصه فغسلوه يفاض عليه الماء والسدر فوق القميص ويدلكونه بالقميص دون أيديهم [فكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمرى ما استدبرت، ما غسله إلّا نساؤه] [ (1) ] .
وروى ابن سعد عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: لما أخذنا في جهاز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أغلقنا الباب دون النّاس جميعا فنادت الأنصار: نحن أخواله ومكاننا من الإسلام مكاننا، ونادت قريش: نحن عصبته، فصاح أبو بكر: يا معشر المسلمين، كل قوم أحقّ بجنازتهم من غيرهم فننشدكم الله، فإنّكم إن دخلتم أخّرتموهم عنه، والله لا يدخل عليه إلّا من دعي
[ (2) ] .
وروى الإمام الشافعي وابن الجارود وابن حبان وأبو داود والطيالسيّ وأبو يعلى عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: لما مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: اختلف الذين يغسّلونه
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم 3/ 59، والبيهقي في الدلائل 7/ 242.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 213.(12/321)
فسمعوا قائلا يقول لا يدرون من هو: اغسلوا نبيكم وعليه قميصه، فغسّل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قميصه وقالت عائشة ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا نساؤه [ (1) ] .
وروى ابن ماجه عن بريدة- رضي الله تعالى عنه- قال: لمّا أخذوا في غسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ناداهم مناد من الداخل أن لا تنزعوا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قميصه [ (2) ] .
وله طرق كثيرة مرسلة.
وروى ابن سعد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: غسلت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذهبت أنظر ما يكون من الميّت فلم أر شيئا وكان طيبا حيّا وميتا [وولي دفنه وإخباءه دون الناس أربعة علي والعباس والفضل، وصالح مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولحد رسول الله لحدا ونصب عليه اللبن نصبا
[ (3) ] .
وروى ابن سعد والبزّار والبيهقي بسند فيه ضعف عنه قال: أوصى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن لا يغسّله أحد غيري فإنه لا يرى أحدٌ عورته إلّا طمست عيناه.
قال عليّ: فكان الفضل وأسامة يناولان الماء من وراء الستر وهما معصوبا العين.
قال علي: فما تناولت عضوا إلا كأنما يقلّبه معي ثلاثون رجلا حتى فرغت من غسله
[ (4) ] .
وروى البيهقي من طريق أبي معشر عن محمد بن قيس مرسلا وفيه ضعف قال: قال علي: وما كنّا نريد أن نرفع منه عضوا لنغسله إلا رفع لنا حتى انتهينا إلى عورته فسمعنا من جانب البيت صوتا لا تكشفوا عن عورة نبيّكم
[ (5) ] .
وروى ابن سعد عن عبد الله بن الحارث: أن عليّا غسّل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجعل يقول: طبت حيّا وميتا، وقال: وسطعت ريح طيّبة لم يجدوا مثلها قطّ
[ (6) ] .
وروى الطبرانيّ مثله عن ابن عبّاس.
وروى ابن سعد عن عبد الواحد بن أبي عون قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعلي:
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود 2/ 214 في الجنائز (3141) .
[ (2) ] ابن ماجة (1466) وضعفه البوصيري في الزوائد.
[ (3) ] البيهقي في الدلائل. 7/ 244 وابن سعد 2/ 214.
[ (4) ] البيهقي في الدلائل 7/ 244 وابن سعد 2/ 213.
[ (5) ] البيهقي في الدلائل 7/ 244.
[ (6) ] ابن سعد 2/ 214، 215.(12/322)
«اغسلني إذا متّ» فقال: يا رسول الله، ما غسّلت ميتا قطّ! قال: إنّك ستهيّأ أو تيسّر، قال علي:
فغسلته فما آخذ عضوا إلا تبعني، والفضل آخذ بحضنه يقول أعجل يا عليّ، انقطع ظهري
[ (1) ] .
وروى ابن سعد عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: غسّل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علي، والفضل، وأسامة بن زيد وشقران، وولى غسل سفلته [ (2) ] عليّ، والفضل محتضنه، وكان العبّاس وأسامة بن زيد وشقران يصبّون الماء.
وروى ابن سعد بسند ضعيف عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- وعن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن العباس لم يحضر غسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: لأني كنت أراه يستحي أن أراه حاسرا [ (3) ] .
وفي عدة أحاديث أنه حضر غسله.
وروى ابن سعد من طرق عن سعيد بن المسيب قال: التمس عليّ من النبي- صلى الله عليه وسلم- عند غسله ما يلتمس من الميّت فلم يجد شيئا، فقال: بأبي أنت وأمي طبت حيّا وميّتا
[ (4) ] .
وروى البيهقي عن علباء بن أحمر قال: كان علي والفضل يغسّلان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنودي عليّ ارفع طرفك إلى السماء.
وروى ابن ماجة عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا أنا متّ فاغسلوني بسبع قرب من بئر غرس»
[ (5) ] .
وروى ابن سعد والبيهقي عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال: غسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثا بالسّدر، وغسّل وعليه قميص وغسّل من بئر يقال لها الغرس [لسعد بن حيثمة بقباء] وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يشرب منها وولى غسله علي، والفضل محتضنه، والعبّاس يصبّ الماء فجعل الفضل يقول أرحني قطعت وتيني إني لأجد شيئا يترطل عليّ مرتين
[ (6) ] .
وروى ابن سعد عن الشعبي مرسلا قال: غسّل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عليّ وأسامة والفضل ابن العبّاس وكان عليّ يقول وهو يغسّله: بأبي أنت وأمي طبت حيّا وميتا
[ (7) ] وفي رواية قال: غسّل
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 215.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 213.
[ (3) ] ابن سعد 2/ 214.
[ (4) ] ابن سعد 2/ 215 وابن ماجة (1467) وإسناده صحيح ورجال ثقات.
[ (5) ] أخرجه ابن ماجة (1468) وانظر الكامل لابن عدي 2/ 762 والكنز (4229) .
وفيه عباد بن يعقوب رافضي داعي ومع ذلك يروي المناكير عن المشاهير.
[ (6) ] ابن سعد 2/ 214 والبيهقي في الدلائل 2/ 245.
[ (7) ] ابن سعد 2/ 212.(12/323)
على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والعبّاس قاعد والفضل محتضنه وعليّ يغسّله وعليه قميص، وأسامة يختلف [ (1) ] .
وروى أيضا عن إبراهيم قال: غسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العباس، وعلي، والفضل- وفي لفظ- والعباس يسترهم [ (2) ] .
ورواه عن ابن شهاب وزاد وصالح مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[ (3) ] .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: اجتمع القوم لغسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وليس في البيت إلا أهله عمّه العباس بن عبد المطلب وعليّ بن أبي طالب والفضل بن عباس وقثم بن عباس وأسامة بن زيد بن حارثة وصالح مولاه فلمّا اجتمعوا لغسله نادى مناد من وراء الناس وهو أوس بن خولي الأنصاري أحد بني عوف بن الخزرج وكان بدريّا علي علي بن أبي طالب فقال: يا عليّ ننشدك الله وحظّنا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له عليّ: ادخل، فدخل فحضر غسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يل من غسله شيئا فأسنده عليّ إلى صدره، وعليه قميصه، وكان العباس، والفضل وقثم يقلّبونه مع عليّ وكان أسامة بن زيد، وصالح مولاه يصبان الماء، وجعل عليّ يغسله ولم ير من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا مما يرى من الميّت وهو يقول بأبي وأمّي ما أطيبك حيّا وميتا حتّى إذا فرغوا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان يغسّل بالماء والسّدر جفّفوه ثم صنع به ما يصنع بالميّت.
وروى ابن سعد والحاكم في «الإكليل» عن هارون بن سعد قال: كان عند عليّ مسك فأوصى أن يحنّط به، وكان عليّ يقول: هو فضل حنوط رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
[ (4) ] .
وروى ابن إسحاق عن عكرمة- رحمه الله تعالى- قال: لما قبض الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- غسّله علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس وكان العبّاس يناولهم الماء من وراء الستر ما يمنعني أن أغسّله إلا أنّا كنّا صبيانا نحمل الحجارة في المسجد.
تنبيهان:
الأول: قال الإمام مالك- رحمه الله تعالى- في موطئه رواية سعيد بن عفير: حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «غسّل في قميص» .
__________
[ (1) ] المصدر السابق.
[ (2) ] ابن سعد 2/ 212، 213.
[ (3) ] المصدر السابق.
[ (4) ] البيهقي في الدلائل 7/ 249.(12/324)
قال الباجي: يحتمل أن يكون ذلك خاصّا به، لأنّ السنّة عند مالك وأبي حنيفة والجمهور أن يجرّد الميت ولا يغسّل في قميصه انتهى.
قلت: الأصل عدم الخصوصية حتى يقوم عليه الدليل ولم يوجد.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
عصبته: ...
الجنازة: ...
سطعت: ...
حاسرا: ...
يلتمس: ...
الطرف: ...
بئر غرس بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء والسين المهملة بئر بقباء.
الوتين: ...
خولي: بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وبعد اللام ياء ساكنة قال أبو أحمد العسكري: هي مشدّدة.
يترطل عليّ: يترخى، والرّطل بفتح الراء الرجل الرخو.(12/325)
الباب الثاني في صفة كفنه- صلى الله عليه وسلم-
روى الشيخان والبيهقي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفّن في ثلاثة أثواب بيض سحوليّة يمانية من كرسف ليس فيها قميص ولا عمامة [ (1) ] .
ورواه ابن ماجة: وزاد فقيل لعائشة إنّهم كانوا يزعمون أنه قد كان كفّن في حبرة فقالت: قد جاءوا ببرد حبرة، فلم يكفنوه فيها [ (2) ] .
وفي رواية للشيخين وأبي داود وأدرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حلّة يمانية كانت لعبد الرحمن بن أبي بكر ثم نزعت عنه، وكفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة.
وفي رواية أخرى لهما: أما الحلّة فاشتبه على النّاس فيها أنّها اشتريت ليكفّن فيها فتركت الحلّة وكفّن في ثلاث أثواب بيض سحوليّة فأخذها عبد الله بن أبي بكر، فقال احبسها حتّى أكفّنّ فيها، ثم قال: لو رضيها الله تعالى لنبيه- صلى الله عليه وسلم- لكفنه فيها فباعها وتصدّق بثمنها [ (3) ] .
وروى أبو داود بإسناد حسن عن جابر بن عبد الله- رضي الله تعالى عنه- قال: كفّن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ثوبين وبرد حبرة [ (4) ] .
وروى ابن أبي شيبة بسند فيه عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن علي عن أبيه- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفّن في سبعة أثواب.
وروى أبو يعلى عن الفضل بن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: كفّن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ثوبين أبيضين سحوليّين [ (5) ] .
وروى الإمام أحمد والبزّار بسند حسن عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: كفن النبي- صلى الله عليه وسلم- في سبعة أثواب
[ (6) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 3/ 135 (1264) ومسلم 2/ 649 (45/ 941) ومالك في الموطأ 1/ 223 (5) وأبو داود (3151، 3152) ابن سعد 2/ 215 وأحمد 6/ 40، 93، 118، 123، 165، والبيهقي في الدلائل 7/ 246، والنسائي 4/ 35، 36.
[ (2) ] ابن ماجة 1/ 472 (1469) .
[ (3) ] انظر الدلائل للبيهقي 7/ 248 السنن الكبرى 3/ 399 وأبو داود (3149) .
[ (4) ] أخرجه أبو داود (315) .
[ (5) ] أخرجه أبو يعلى 12/ 88 (5/ 6720) وفيه سليمان الشاذكوني وضاع.
[ (6) ] انظر المجمع 3/ 26 في باب ما جاء في الكفن.(12/326)
وروى البزار برجال الصحيح عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: كفّن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ريطتين وبرد نجرانيّ [ (1) ] .
وروى الطبراني بسند حسن عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفّن في ثلاثة أثواب أحدها قميص.
وروى ابن سعد عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: كفّن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب بيض يمانية [ (2) ] .
وروى ابن سعد والبيهقي عن الشعبي قال: كفن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب سحوليّة برود يمانية غلاظ، إزار ورداء ولفافة [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة بسند ضعيف عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كفّن في ثلاثة أثواب قميصه الذي مات فيه وحلّة نجرانيّة [ (4) ] .
وروى عنه قال: كفّن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ثوبين أبيضين وفي برد أحمر.
وروى ابن سعد من طرق صحيحة عن سعيد بن المسيّب قال: كفّن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ريطتين وبرد نجرانيّ.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن هشام بن عروة قال: لفّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في برد حبرة جعل فيه ثم نزع عنه.
تنبيهات
الأول: قال الترمذي: وتكفينه- صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب بيض أصحّ ما روي في كفنه [ (5) ] .
الثاني: قول السيدة عائشة- رضي الله تعالى عنها- ليس فيها قميص ولا عمامة معناه:
لم يكفن في قميص ولا عمامة، وإنما كفّن في ثلاثة أثواب، ولم يكفن مع الثّلاثة بشيء آخر هكذا فسره الشافعيّ وجمهور العلماء، وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر حديثها، وتأوّله غيرهم على أن معناه ليس القميص والعمامة من جملة الأثواب الثلاثة وإنما هما زائدان عليه.
الثالث: في حديث ابن عباس المتقدّم أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كفّن في ثلاثة أثواب الحلّة
__________
[ (1) ] انظر المجمع 3/ 26 وابن سعد 2/ 217.
[ (2) ] ابن سعد في الطبقات 2/ 216.
[ (3) ] ابن سعد 1/ 218 والبيهقي في الدلائل 7/ 249.
[ (4) ] أبو داود 1/ 216 (3153) .
[ (5) ] وانظر شرح السّنّة بتحقيقنا 3/ 225.(12/327)
ثوبان وقميصه الذي مات فيه، فحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به، ولو بقي عليه مع رطوبته لأفسد الأكفان.
وأما حديث تكفينه في قميصه الذي مات فيه وحلّة نجرانية، فحديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به، لأن يزيد بن أبي زياد أحد رواته مجمع على ضعفه، لا سيما قد خالفت روايته الثقات.
الرّابع: سبب الاشتباه الذي وقع الناس في كفن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما سبق أنه اشترى البرد الحبرة ثم أخر عنه وترك.
الخامس: في بيان غريب ما سبق:
[البرد] [ (1) ] : ...
«الحبرة» : بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة والراء ضرب من البرد يؤتى بها من اليمن.
أدرج: ...
شبّه على الناس: بضم الشين المعجمة وكسر الباء الموحدة المشددة معناه اشتبه عليهم.
الحلّة: بحاء مهملة مضمومة فلام مشددة.
قال أهل اللغة: لا يكون إلا ثوبان إزار ورداء.
سحوليّة: بفتح السين المهملة وضمها والفتح أشهر.
قال ابن الأعرابي: وغيره: هي ثياب بيض لا تكون إلا من القطن، وقال ابن قتيبة: ثياب بيض ولم يخصّها بالقطن وقال الأزهري: هي بالفتح منسوبة إلى سحول قرية باليمن تحمل منها هذه الثياب، وبالضم ثياب بيض.
وقيل: إن القرية أيضا بالضّمّ حكاه في «النهاية» .
الرّيطة: ...
نجرانية: ...
__________
[ (1) ] سقط في أ.(12/328)
الباب الثالث في الصلاة عليه زاده الله فضلا وشرفا لديه
قد تقدم في باب جمعه أصحابه أنه- صلى الله عليه وسلم- أوصى أنهم يخرجون عنه حتى يصلى عليه الملائكة ... الحديث فراجعه في الجمّاع قبله.
قال ابن إسحاق: فلما فرغ من جهاز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الثّلاثاء وضع في سريره في بيته ثمّ دخل النّاس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلّون عليه أرسالا حتّى إذا فرغوا دخل النّساء حتّى إذا فرغن دخل الصّبيان، ولم يؤمّ الناس على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحد.
ورواه ابن ماجة والبيهقي بسند ضعيف.
زاد ابن إسحاق ثم دفن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من وسط اللّيل ليلة الأربعاء.
وروى الإمام أحمد عن أبي عسيب مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالوا: كيف نصلي عليك؟ قال: ادخلوا عليّ أرسالا أرسالا قال: فكانوا يدخلون عليه فيصلون ثمّ يخرجون من الباب الآخر
[ (1) ] .
وروى أبو يعلى والإمام أحمد عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: أضجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على السّرير ثم أذن للناس فدخلوا عليه فوجا فوجا يصلّون عليه بغير إمام حتى لم يبق أحد بالمدينة حرّ ولا عبد إلا صلّى عليه.
وروى ابن سعد عن علي- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما وضع على سريره، فقال عليّ: لا يقوم عليه أحد، هو إمامكم حيا وميتا! فكان يدخل الناس رسلا رسلا فيصلّون عليه صفّا صفّا ليس لهم إمام يقولون: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته
[ (2) ] .
وروى ابن سعد عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جدّه أنه لما وضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على السّرير قال: لا يقوم عليه أحد هو إمامكم حيا وميّتا، فكان يدخل الناس رسلا رسلا، فيصلّون عليه صفّا صفّا ليس لهم إمام ويكبّرون، وعليّ قائم بحيال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته اللهمّ إنّا نشهد أنه قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لامّته وجاهد في سبيل الله حتّى أعزّ الله دينه وتمّت
__________
[ (1) ] أحمد في المسند 5/ 81 وابن سعد 2/ 221.
[ (2) ] ابن سعد 2/ 222.(12/329)
كلمته، اللهمّ فاجعلنا ممّن يتبع ما أنزل الله إليه وثبّتنا بعده واجمع بيننا [ (1) ] وبينه.
قال محمد بن عمر الأسلميّ: حدّثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التّيميّ قال: وجدتّ هذا في صحيفة بخطّ أبي فيها أنه لما كفّن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ووضع على سريره دخل أبو بكر وعمر فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت فسلّموا كما سلّم أبو بكر وعمر وصفّوا صفوفا لا يؤمّهم أحد فقال أبو بكر وعمر: وهما في الصّفّ الأوّل حيال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اللهمّ إنّا نشهد أنه قد بلغ ما أنزل إليه ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله تعالى، حتى أعز الله تعالى دينه وتمت كلماته فآمن به وحده لا شريك له فاجعلنا يا إلهنا ممّن يتبع القول الّذي أنزل معه واجمع بيننا وبينه حتّى يعرفنا ونعرفه فإنّه كان بالمؤمنين رؤوفا رحيما لا نبتغي بالإيمان بدلا ولا نشتري به ثمنا أبدا، فيقول النّاس آمين آمين! ثم يخرجون ويدخل آخرون حتى صلّى عليه الرّجال ثمّ النّساء ثم الصّبيان [ (2) ] .
قال بعض العلماء: صلّوا عليه بعد الزوال يوم الاثنين إلى مثله من الثلاثاء.
وقيل: إنّهم مكثوا ثلاثة أيّام يصلّون.
قال الشيخ مجد الدّين الفيروزآبادي [ (3) ] في القاموس: صلوا عليه فنادى مناد صلّوا أفواجا بلا إمام.
وقيل: جماعات جماعات وحزروا ثلاثين ألفا من الملائكة فيكونون ستين ألفا، لأن مع كل واحد ملكين انتهى.
وروى أبو يعلى والإمام أحمد- بسند جيد عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: أضجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على السرير ثم أذن للنّاس فدخلوا فوجا فوجا يصلّون عليه بغير إمام حتى لم يبق أحد بالمدينة [حرّ ولا عبد إلا صلّى عليه] .
وروى عن سالم بن عبد الله- رحمه الله تعالى- قال: قالوا لأبي بكر: هل يصلّى على الأنبياء؟ قال: يجيء قوم فيكبّرون ويدعون ويجيء آخرون حتّى يفرغ الناس.
تنبيهات
الأول: قال ابن كثير وغيره: وصلاتهم عليه فرادى لم يؤمّهم أحد عليه أمر مجمع عليه لا خلاف فيه.
__________
[ (1) ] ابن سعد 1/ 221، 222.
[ (2) ] تقدم قبل قليل.
[ (3) ] في أالشيرازي.(12/330)
قال ابن كثير: فلو صح حديث ابن مسعود أي السابق في باب جمعه أصحابه لكان نصّا في ذلك، ويكون في باب التعبد الذي لا نعقل معناه.
قلت: الحديث سنده جيد، وليس لأحد أن يقول إنه لم يكن لهم إمام، لأنهم إنما شرعوا في تجهيزه- عليه الصلاة والسلام- بعد تمام بيعة أبي بكر.
وقد اختلف في تعليله فقال الإمام الشافعيّ: إنما صلّوا عليه فرادى لعظم أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي وتنافسهم فيمن يتولى الصلاة عليه وصلوا مرة بعد أخرى انتهى.
قال بعض العلماء: إنما لم يؤمّهم أحد ليباشر كل واحد من الناس الصلاة عليه منه إليه، ولتكرّر صلاة المسلمين عليه مرة بعد أخرى، من كل فرد فرد من آحاد الصحابة، رجالهم ونسائهم، وصبيانهم، حتى العبيد والإماء.
قال السهيلي وغيره: أن المسلمين صلّوا عليه أفذاذا لا يؤمّهم أحد، كلما جاءت طائفة صلّت عليه، وهذا مخصوص به- صلى الله عليه وسلم- ولا يكون هذا الفعل إلا عن توقيف.
وكذلك روى أنه أوصى بذلك ذكره الطبري [مسندا] ووجه الفقه فيه أن الله تعالى افترض الصلاة علينا عليه بقوله صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56] وحكم هذه الصلاة التي تضمنتها الآية أن لا تكون بإمام، والصلاة عليه عند موته داخلة في لفظ الآية وهي متناولة لها وللصلاة عليه على كل حال.
وأيضا: فإن الرب تبارك وتعالى [قد أخبر أنه يصلى عليه وملائكته فإذا كان الرب تعالى] هو المصلي والملائكة قيل: المؤمنين، وجب أن تكون صلاة المؤمنين تبعا لصلاة الملائكة وأن تكون الملائكة هم الإمام انتهى.
وقال أبو عمر- رحمه الله تعالى- وصلاة الناس عليه أفذاذا لم يؤمّهم أحد أمر مجمع عليه عند أهل السنة وجماعة أهل النّقل لا يختلفون فيه ووافق أبا عمر على ذلك خلائق من العلماء حكوا فيه الإجماع وتعقّب أبو عمر بعض المغاربة بأن ابن القصّار حكى الخلاف هل صلّوا عليه الصلاة والمعهودة أو دعوا فقط؟ وهل صلّوا أفرادا أو جماعة؟ واختلفوا فيمن أمّ بهم.
فقيل: أبو بكر، وروى ذلك بإسناد لا يصحّ فيه حرام بن عثمان وهو ضعيف جدّا.
قال ابن دحية: وهو ضعيف بيقين لضعف رواته وانقطاعه، وتعقّبه بعض العلماء بوجوه.
الأوّل: أن الموجود في كتب «المغازي» و «الحديث» هو ما ذكره ولم يوجد أنهم صلّوا عليه بإمام في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف.
الثاني: قال الإمام الشافعي، ويحيى بن معين، والجوزجاني: الرواية عن حرام.(12/331)
وقال الإمام مالك ويحيى: ليس بثقة واتهمه غير واحد من الحفاظ.
الثالث: حديث ابن مسعود السابق وقد ورد من طرق يقوي بعضها بعضا ويرتقي بها الحديث إلى قريب من درجة الحسن وهو نص فيما قاله أبو عمر.
قال أبو الخطاب بن دحية: والصحيح أن المسلمين صلّوا عليه فرادى لا يؤمّهم أحد، وبه جزم الإمام الشافعي- رضي الله تعالى عنه- قال: وذلك لعظم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي وتنافسهم فيمن يتولى الصلاة عليه وصلوا عليه مرة بعد أخرى.
قال ابن كثير: وعلى تقدير صحته يكون ذلك من باب التعبد الذي لا يعقل معناه.
والصحيح الذي عليه الجمهور أن صلاة الصحابة عليه كانت حقيقة لا مجرد الدعاء فقط، قاله القاضي عياض وتبعه النوويّ رحمهما الله تعالى.
وذهب شرذمة إلى أنه- صلى الله عليه وسلم- لم يصل عليه الصلاة المعتادة، وإنما كان الناس يأتون فيدعون ويترحمون.
قال الباجي: ووجه: أنه- صلى الله عليه وسلم- أفضل من كل شهيد، والشهيد يغنيه فضله عن الصلاة عليه، فرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أولى، قال: وفارق الشّهيد في الغسل، لأن الشهيد حذّر من غسله لإزالة الدّم عنه، وهو مطلوب بقاؤه لطيبه، ولأنه عنوان شهادته في الآخرة، وليس على النبي- صلى الله عليه وسلم- ما يكره إزالته فافترقا.
الرابع: قال في «المورد» نقلت من خط شيخنا الحافظ الزاهد أبي عبد الله محمد بن عثمان المعروف بالضياء الرازي قال: قال سحنون بن سعيد: سألت جميع من لقيت من فقهاء الأمصار من أهل المغرب والمشرق، عن الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته: هل صلّوا عليه؟ وكم كبّر عليه؟ فكلّ لم يدر حتى قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن ماجشون فسألته فقال: صلّي عليه اثنان وتسعون صلاة، وكذلك صلّى على عمّه حمزة، قال: قلت: من أين لك هذا دون الناس؟ قال: وجدتها في الصّندوق التي تركها مالك، وفيه عميقات المسائل ومشكلات الأحاديث بخطّه عن نافع عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما-.
قال الحافظ أبو الفضل العراقي في سيرته المنظومة.
وليس هذا بمتصل الإسناد ... عن مالك في كتب النقاد
الخامس: في بيان غريب ما سبق:
السرير: ...
أرسالا: ...(12/332)
الباب الرابع في دفنه- صلى الله عليه وسلم- ومن دفنه
قال ابن كثير: الصّحيح المشهور عن الجمهور أنه- صلى الله عليه وسلم- توفّي يوم الاثنين ودفن يوم الأربعاء.
وروى يعقوب بن سفيان عن أبي جعفر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توفّي يوم الاثنين فلبث ذلك اليوم وتلك اللّيلة ويوم الثلاثاء إلى آخر النّهار.
قال ابن كثير: وهو قول غريب.
وروى يعقوب أيضا عن مكحول قال: مكث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاث أيّام لا يدفن قال ابن كثير: غريب والصّحيح أنه مكث بقيّة يوم الاثنين، ويوم الثّلاثاء بكامله ودفن ليلة الأربعاء، وأغرب من ذلك ما رواه سيف من هشام أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دفن يوم الثّلاثاء، والسّبب في تأخير دفنه مع أن السّنّة الإعجال به عدم اتفاقهم على موته.
وروى ابن سعد عن ابن شهاب قال: توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين حين زاغت الشمس [ (1) ] .
وروى أيضا عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: اشتكى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الأربعاء لليلة بقيت من صفر وتوفي يوم الاثنين لاثنتي عشرة مضت من ربيع الأول ودفن يوم الثلاثاء أيضا
[ (2) ] .
وروى أيضا عن عكرمة قال: توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين فجلس بقيّة يومه وليلته ومن الغد حتّى دفن من اللّيل [ (3) ] ، وروى أيضا عن أبي بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده قال: توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الاثنين، فمكث يوم الاثنين والثّلاثاء حتّى دفن يوم الأربعاء [ (4) ] .
وروى ابن سعد وابن ماجه، وأبو يعلى عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: لما فرغ من جهاز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الثّلاثاء وضع على سريره في بيته وقد كان المسلمون اختلفوا في دفنه، فقال قائل: ندفنه مع أصحابه بالبقيع، وقال قائل: ادفنوه في مسجده،
فقال أبو
__________
[ (1) ] أخرجه 2/ 210.
[ (2) ] ابن سعد 2/ 209.
[ (3) ] ابن سعد 2/ 209.
[ (4) ] المصدر السابق.(12/333)
بكر: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما قبض نبيّ إلا دفن حيث يقبض» فرفع فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الّذي توفّي عليه فحفروا له تحته
[ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح عن عبد العزيز بن جريج أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يدروا أين يقبروا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتّى
قال أبو بكر: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: لم يقبر نبيّ قطّ إلا حيث يموت فأخذوا فراشه وحفروا تحته
[ (2) ] .
وهو منقطع، لأن ابن جريج لم يدرك الصديق.
وروى الترمذي وأبو يعلى عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: لما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه ادفنوه في موضع فراشه»
[ (3) ] .
وروى أبو يعلى وابن ماجة عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: لما أرادوا أن يحفروا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- دعا العبّاس رجلين فقال لأحدهما: اذهب إلى أبي عبيدة بن الجرّاح وكان يضرح لأهل مكّة وقال لآخر: اذهب إلى أبي طلحة وكان هو الذي يحفر لأهل المدينة وكان يلحد فقالوا: اللهم، خر لرسولك فوجدوا أبا طلحة فجيء به ولم يوجد أبو عبيدة فلحّد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم دفن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسط اللّيل من ليلة الأربعاء ونزل في حفرته علي بن أبي طالب والفضل وقثم بن عبّاس وشقران مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
وقال أوس ابن خولي وهو أبو ليلى لعلي بن أبي طالب: أنشدك الله، وحظّنا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له عليّ: انزل، وكان شقران مولاه أخذ قطيفة حمراء كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلبسها فدفنها في القبر وقال: والله، لا يلبسها أحد بعدك أبدا فدفنت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
[ (4) ] .
وروى ابن سعد عن أبي طلحة- رضي الله تعالى عنه- نحوه [ (5) ] .
وروى الإمام الشافعي- رضي الله تعالى عنه- قال: سل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- من قبل رأسه [ (6) ] .
وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي وحسنه والنسائي وابن سعد عن ابن عباس- رضي
__________
[ (1) ] ابن سعد (1/ 223) وابن ماجه (1628) والبيهقي في الدلائل 7/ 260، ومن مسند أبي بكر 78 وانظر نصب الراية 2/ 298.
[ (2) ] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6534) وانظر الكنز (18735، 32237) (32263) .
[ (3) ] أخرجه الترمذي (1018) وانظر الكنز 18761، 32236) .
[ (4) ] البيهقي في الدلائل 7/ 252 وابن ماجه 1/ 496 من حديث أنس بن مالك وابن سعد من حديث ابن عباس 2/ 228.
[ (5) ] ابن سعد 2/ 228.
[ (6) ] أخرجه الشافعي في المسند 1/ 215 (598) والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 54.(12/334)
الله تعالى عنه- قال: وضع تحت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قبره قطيفة حمراء [ (1) ] .
وروى ابن سعد قال وكيع: هذا للنبي- صلى الله عليه وسلم- خاصة [ (2) ] .
وروى ابن سعد- برجال ثقات- عن الحسن قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «افرشوا لي قطيفتي في لحدي فإنّ الأرض لم تسلّط على أجساد الأنبياء»
[ (3) ] .
وروى الترمذي وحسنه عن جعفر بن محمد عن أبيه- رضوان الله تعالى عليهم أجمعين- قال: الذي ألحد لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبو طلحة، والذي ألقى القطيفة تحته شقران.
قال جعفر بن محمد أخبرني ابن أبي رافع قال: سمعت شقران يقول: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في القبر [ (4) ] .
وروى ابن سعد عن الحسن أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بسط تحته سمل قطيفة حمراء كان يلبسها قال: وكانت أرضا نديّة [ (5) ] .
وروى مسلم وابن سعد والبيهقي عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله تعالى عنه- قال في مرضه الذي توفي فيه: «ألحدوا لي لحدا، وانصبوا عليّ اللّبن نصبا كما صنع برسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وروى البيهقي عن بعضهم والواقديّ عن علي بن الحسين أنه- صلى الله عليه وسلّم- نصب عليه في اللّحد تسع لبنات
[ (6) ] .
وروى ابن سعد والبيهقي عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: رشّ على قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الماء رشّا قال: وكان الذي رشّ على قبره الماء بلال بن رباح بقربة، بدءا من قبل رأسه من شقّه الأيمن حتى انتهى إلى رجليه ثمّ ضرب الماء إلى الجدار، ولم يقدر على أن يدور من الجدار [ (7) ] .
وروى البيهقي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- موضوعا على سريره من حين زاغت الشمس من يوم الاثنين إلى أن زاغت الشّمس يوم الثّلاثاء،
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 2/ 665 (91/ 967) النسائي 4/ 81.
[ (2) ] ابن سعد في الطبقات 2/ 228.
[ (3) ] ابن سعد 2/ 229 وابن كثير في البداية 5/ 269 وكنز العمال (42245) .
[ (4) ] الترمذي (1047) وانظر شرح السّنّة 3/ 266.
[ (5) ] ابن سعد في الطبقات 2/ 229.
أخرجه مسلم 2/ 665 (90/ 966) وابن سعد 2/ 227.
[ (6) ] ابن سعد 2/ 227 والبيهقي في الدلائل 2/ 252.
[ (7) ] ابن سعد 2/ 233 والبيهقي في الدلائل 2/ 264.(12/335)
يصلي النّاس عليه وسريره على شفير قبره، فلمّا أرادوا أن يقبروه- عليه الصلاة والسلام- نحّوا السّرير قبل رجليه فأدخل من هناك [ (1) ] .
وروى الإمام مالك بلاغا وصله محمد بن عمر الأسلمي عن أم سلمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: ما صدّقت بموت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى سمعت وقع الكرازين [ (2) ] .
وروى ابن سعد والبيهقي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: ما علمنا بدفن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى سمعنا صوت المساحي ليلة الثّلاثاء في السّحر [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكان بالمدينة رجل يلحد والآخر يضرح فقالوا: نستخير ربّنا ونبعث إليهما فأيّهما سبق تركناه فأرسلوا إليهما فسبق صاحب اللّحد فلحّدوا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-[ (4) ] .
وروى محمد بن سعد أنبأنا حمّاد بن خالد الخيّاط عن عقبة بن أبي الصّهباء سمعت الحسن يقول: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «افرشوا لي قطيفة في لحدي، فإنّ الأرض لم تسلّط على أجساد الأنبياء»
[ (5) ] .
وروى مسدّد بسند صحيح عن علي- رضي الله تعالى عنه- وأجنانه دون الناس أربعة:
علي بن أبي طالب والعبّاس والفضل بن العبّاس وصالح مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[وألحد له لحدا ونصب عليه اللّبن نصبا]
[ (6) ] .
وروى الحاكم والبيهقي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن الذين نزلوا قبره- صلى الله عليه وسلم- علي والفضل وقثم بن عبّاس وشقران وأوس بن خولي وكانوا خمسة [ (7) ] .
وروى ابن سعد عن الشعبي قال: دخل [قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- علي والفضل وأسامة بن زيد.
قال الشّعبيّ وأخبرني مرحب أو ابن أبي مرحب أنهم أدخلوا معهم في القبر عبد الرحمن بن عوف [ (8) ] .
__________
[ (1) ] البيهقي في الدلائل 7/ 253.
[ (2) ] ابن سعد 2/ 232.
[ (3) ] ابن سعد 2/ 232، 233.
[ (4) ] أخرجه مالك في الموطأ مرسلا 1/ 231 وابن ماجة 1/ 496 (1557) وإسناده صحيح ورجاله ثقات.
[ (5) ] تقدم قريبا.
[ (6) ] ذكره الحافظ في المطالب 4/ 258 (4388) موقوفا على ابن المسيب وفي اتحاف المهرة عن علي وقال البوصيري رواه مسدد بسند صحيح والحاكم والبيهقي ورواه ابن ماجة مختصرا.
[ (7) ] البيهقي في الدلائل 21/ 253، 254 مغازي الواقدي 3/ 1120.
[ (8) ] ابن سعد 2/ 229.(12/336)
وروى ابن سعد عن ابن] [ (1) ] شهاب قال ولي وضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قبره هؤلاء الرهط الذين غسّلوه: العباس وعليّ والفضل وصالح مولاه وخلّى أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأهله فولّوا إجنانه [ (2) ] .
وروى البخاري وابن سعد عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: لما دفن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت فاطمة- عليها السلام-: يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التّراب.
وروى طاهر بن يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي وابن الجوزي في «الوفاء» عن علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه- قال: لما رمس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاءت فاطمة- رضي الله تعالى عنها- فوقفت على قبره وأخذت قبضة من تراب القبر فوضعته على عينيها وبكت وأنشأت تقول:
ماذا على من شمّ تربة أحمد ... أن لا يشمّ مدى الزّمان غواليا
صبّت عليّ مصائب لو أنّها ... صبّت على الأيّام عدن لياليا
تنبيهات
الأول: قال أبو عمر: خرجت القطيفة قبل إهالة التّراب.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
زاغت الشّمس: ...
يضرح: ...
القطيفة بقاف مفتوحة فطاء مهملة مكسورة، فمثناة تحتية ففاء: كساء له خمل كان يجلس عليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
الكرازين بكاف فراء مفتوحتين فألف فزاي فمثناة تحتية فنون جمع كرزين وهو الفأس.
شفير قبره: ...
المساجى: ...
أجنانه: ...
حشو: ...
الغواليا: ...
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.
[ (2) ] ابن سعد 2/ 230.(12/337)
الباب الخامس في ذكر من كان آخر الناس عهداً به في قبره- صلى الله عليه وسلم-
روى الإمام أحمد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل أن نفرا من أهل العراق قالوا لعلي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه-: يا أبا الحسن، جئناك نسألك عن أمر نحبّ أن تخبرنا عنه قال: أظنّ المغيرة بن شعبة يحدّثكم أنه كان أحدث الناس عهدا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالوا: أجل عن ذلك جئنا لنسألك، قال: أحدث الناس عهدا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قثم بن العباس
[ (1) ] .
وروى أيضاً ابن سعد برجال ثقات عن أبي عسيب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لمّا وضع في لحده، قال المغيرة بن شعبة: إنّه قد بقي من قبل رجليه شيء لم تصلحوه قالوا: فادخل فأصلحه فدخل فمسح قدميه- صلى الله عليه وسلم- ثم قال: أهيلوا عليّ التراب! فأهالوا عليه التّراب حتى بلغ أنصاف ساقيه فخرج فجعل يقول: أنا أحدثكم عهدا برسول الله- صلى الله عليه وسلم-[ (2) ] .
وروى البيهقي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: لمّا وضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في لحده ألقى المغيرة بن شعبة خاتمه في قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال علي: إنّما ألقيته لتنزل فنزل فأعطاه إياه أو أمر رجلا فأعطاه
[ (3) ] .
وروى ابن سعد عن عروة بن الزّبير قال: لما وضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في لحده ألقى المغيرة بن شعبة خاتمه في القبر ثم قال: خاتمي فقالوا: ادخل فخذه قال: فدخل ثم قال:
أهيلوا عليّ التّراب، فأهالوا عليه التّراب حتّى بلغ أنصاف قدميه، فخرج فلما سوّي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: اخرجوا حتّى أغلق الباب، فإني أحدثكم عهدا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: لعمري، لئن كنت أردّتها لقد أصبتها [ (4) ] .
وروى ابن أبي شيبة وأحمد بن منيع عن المغيرة بن شعبة قال لأنا آخر الناس عهداً برسول الله- صلى الله عليه وسلم- حضرنا ولحّدنا فلمّا حضروا ودفنوا ألقيت الفأس في القبر، فقلت: الفأس الفأس، فأخذته ومسحت بيدي على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- رواه أبو يعلى بلفظ: ألقيت خاتمي، فقلت: يا أبا الحسن، خاتمي، قال: انزل فخذ خاتمك، ووضعت يدي على الكفن ثم خرجت فنزلت فأخذت خاتمي
[ (5) ] سنده مجالد وهو ضعيف.
__________
[ (1) ] البيهقي في الدلائل 7/ 257.
[ (2) ] ابن سعد 2/ 231.
[ (3) ] البيهقي في الدلائل 7/ 258، المغازي للواقدي 3/ 1121.
[ (4) ] ابن سعد 2/ 231.
[ (5) ] ذكره الحافظ في المطالب 4/ 263 (4396، 4397) ومدارهما على مجالد وهو ضعيف كما قال المصنف.(12/338)
وروى الطبراني برجال ثقات غير مجالد وهو مختلف فيه عن المغيرة بن شعبة قال:
كنت فيمن حفر قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- قالوا: فلحّدنا لحدا فلمّا دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- القبر طرحت الفأس ثمّ قلت: الفأس الفأس ثم نزلت فوضعت يدي على اللّحد [ (1) ] .
وروى أيضا بإسناد قويّ عن ابن أبي مرحب قال: نزل في قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- أربعة:
أحدهم عبد الرحمن بن عوف، وكان المغيرة بن شعبة يدّعي أنه أحدث الناس عهدا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويقول: أخذت خاتمي، فألقيته، وقلت: خاتمي سقط من يدي لأمسّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأكون آخر الناس عهداً به قال الحاكم أصحّ الأقاويل أنّ آخر الناس عهداً برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قثم بن العباس قال ابن كثير: وقول من قال: إنّ المغيرة بن شعبة كان آخرهم عهدا ليس بصحيح، لأنه لم يحضر دفنه فضلا عن أن يكون آخرهم عهدا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- قلت: في كونه لم يحضر دفنه نظر لما تقدم.
تنبيه في بيان غريب ما سبق:
[آخرهم عهدا: ...
التّراب: ...
الفأس: ... ] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ضعيف لضعف مجالد.
[ (2) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.(12/339)
الباب السادس فيما سمع من التعزية به- صلى الله عليه وسلم-
روى محمد بن عمر برجال ثقات وابن أبي حاتم وأبو نعيم عن علي- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما قبض وكانت التّعزية به جاء آت، يسمعون حسّه ولا يرون شخصه، فقال: السلام عليكم، أهل البيت ورحمة الله وبركاته كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [آل عمران: 185] إن في الله تعالى عزاء من كلّ مصيبة وخلف من كل هالك ودرك من كل ما فات فبالله فثقوا وإيّاه فارجعوا، فإن المحروم من حرم الثواب، وإن المصاب من حرم الثّواب والسّلام عليكم، فقال عليّ: هل تدرون من هذا؟ هذا الخضر- صلى الله عليه وسلم
-[ (1) ] .
وروى ابن أبي الدنيا والحاكم والبيهقي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: لما قبض النبي- صلى الله عليه وسلم- أحدق به أصحابه، فبكوا حوله واجتمعوا فدخل رجل أشهب اللّحية جسيم صبيح فتخطّى [رقابهم، فبكى، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن في الله عزاء من كلّ مصيبة وعوضا من كل فائت، وخلفا من كلّ هالك، فإلى الله فأنيبوا وإليه فارغبوا، ونظره إليكم في البلاء، فانظروا فإن المصاب من لم يجبره، فانصرف، وقال بعضهم لبعض تعرفون الرجل، قال أبو بكر وعليّ: نعم، هو أخو رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الخضر- عليه السلام-] [ (2) ] وقد ذكر في كتب «الموضوعات» .
وروى ابن سعد وابن أبي شيبة بإسناد حسن عن سهل بن سعد- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «سيعزّي النّاس بعضهم بعضا من بعدي التعزية بي، فكان النّاس يقولون: ما هذا؟ فلمّا قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لقي النّاس بعضهم بعضا يعزّي بعضهم بعضا برسول الله- صلى الله عليه وسلم
-[ (3) ] .
وروى الطبراني عن ساباط قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنّها أعظم المصائب
[ (4) ] .
وروى الإمام مالك عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد- رحمهم الله تعالى- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: ليعزّ المسلمين في مصائبهم المصيبة [ (5) ] بي.
__________
[ (1) ] ابن سعد 2/ 211 وانظر المطالب العالية 4/ 259.
[ (2) ] قال البيهقي وهذا منكر بمرّة الدلائل 7/ 269 قلت وآفته عباد بن عبد الصمد منكر الحديث الميزان 2/ 369.
[ (3) ] الطبراني في الكبير 6/ 166، ابن سعد 2/ 210 والمجمع 9/ 38، المطالب العالية (4385) .
[ (4) ] أخرجه أحمد في المسند 6/ 313.
[ (5) ] مالك في الموطأ (236) وابن سعد 2/ 211.(12/340)
وروى ابن ماجه عن عائشة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه: يا أيها الناس أيما أحد من الناس، أو من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزّ بمصيبته بي عند المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي.
[ (1) ]
[وروى عن المسور بن مخرمة- رضي الله تعالى عنهما- التعزية.
هالك: ...
الدّرك: ...
أحدق: ...
أشهب اللّحية: ... ] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ابن ماجة 2/ 510 (1599) وفيه موسى بن عبيدة الربذي ضعيف.
[ (2) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.(12/341)
الباب السابع في موضع قبره الشريف وصفته وصفة حجرته وبعض أخبارها
تقدّم في أحاديث أبي بكر أنه أخّر فراش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحفر في موضعه.
وهو قوله:
فسمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا يدفن نبيّ إلا حيث قبض» .
وقد علم بالتواتر أنه- صلى الله عليه وسلم- دفن في حجرة عائشة- رضي الله تعالى عنها-[التي كانت تختص بها شرقيّ مسجده في الزاوية الغربية القبلية من الحجرة ثم دفن بعده أبو بكر، ثم عمر.
وروى ابن سعد والحاكم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها-] [ (1) ] ومسدد- برجال ثقات- والحميديّ والحاكم وصححه عن سعيد بن المسيب أن عائشة قالت لأبي بكر رأيت كأنّ ثلاثة أقمار سقطن في حجرتي فقال: يدفن في بيتك ثلاثة هم خير أهل الأرض فلما قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودفن، قال أبو بكر: هذا خير أقمارك [ (2) ] .
وروي عن أنس أن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قصّت مناما رأته على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال لها: «إن صدقت رؤياك يدفن في بيتك ثلاث هم خير أهل الأرض» .
وروى البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: جعل قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسطوحا [ (3) ] .
وروى يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي عن هارون بن سليمان قال: حدثني غير واحد من مشايخ أهل المدينة أنّ صفات القبور الثّلاثة مسطوحة عليها بطحاء من بطحاء العرصة الحمراء.
ويؤيده ما رواه أبو داود بإسناد صحيح والحاكم وصحّح إسناده من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمّاه، اكشفي لي عن قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء.
زاد الحاكم: فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقدما وأبو بكر رأسه بين كتفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[وعمر رأسه عند رجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[ (4) ] .
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.
[ (2) ] ابن سعد 2/ 224 والبيهقي في الدلائل 2/ 262 والحاكم 3/ 60 وصححه.
[ (3) ] البيهقي في الدلائل 7/ 264.
[ (4) ] وهذه الرواية تدل على أنّ قبورهم مسطحة، لأن الحصباء لا تثبت إلا على المسطح والحديث عند الحاكم 1/ 369 والبيهقي في الدلائل 7/ 263 وأبو داود مختصرا 3/ 215 (3220) .(12/342)
وروى ابن النجار في «تاريخ المدينة» أن امرأة سألت عائشة أن اكشفي لي عن قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-] [ (1) ] فكشفته فبكت حتى ماتت- رضي الله تعالى عنها- ورحمها.
وحكى عن أبي الفضل الحمويّ أحد خدّام الحجرة النّبويّة أنه شاهد شخصا من الزوار وأتى باب مقصورة الحجرة الشريفة فطأطأ رأسه نحو العتبة، فحركوه فإذا هو ميّت وكان من حضر جنازته- رحمهما الله تعالى-.
وأما ما رواه البخاري في الصحيح عن سفيان التّمّار أنه رأى قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسنما [ (2) ] زاد أبو نعيم في «المستخرج» ، وقبر أبي بكر وعمر كذلك فلا يعارض ذلك أن سفيان ولد في زمان معاوية فلم ير القبر إلا في آخر الأمر فيحتمل كما قال البيهقي أن القبر لم يكن في أول الأمر مسنّما ثم سنّم لما سقط الجدار في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قبل الوليد صيروها مرتفعة، فقد روى يحيى بن الحسن عن عبد الله بن الحسين قال:
رأيت قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسنّما في زمن الوليد بن هشام.
وقد اختلف في صفة القبور الشريفة بالحجرة المنيفة على سبع كيفيات.
الأولى:
أن قبر النبي- صلى الله عليه وسلم-[أمامها] [ (3) ] إلى القبلة مقدما بجدار القبلة، ثم قبر أبي بكر حذاء منكبي النبي- صلى الله عليه وسلم- وقبر عمر حذو منكبي أبي بكر هكذا.
سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبو بكر- رضي الله عنه- عمر- رضي الله عنه- قال النووي: هذا هو المشهور وقال السيد السمهوديّ في «تاريخ المدينة» : إنه الذي عليه الأكثرون وإنها أشهر الروايات.
الثانية:
أن قبر الرسول- صلى الله عليه وسلم- مقدما وأبا بكر رأسه بين كتفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعمر رأسه عند رجلي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
قال أبو اليمن بن عساكر: وهذه صفته:
النبي- صلى الله عليه وسلم- عمر- رضي الله تعالى عنه-
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.
[ (2) ] أخرجه البخاري من رواية أبي بكر بن عياش 3/ 255 (1390) والبيهقي في الدلائل 7/ 264.
[ (3) ] سقط في أ.(12/343)
أبو بكر الصديق- رضي الله تعالى عنه-
الثالثة:
روى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة عن إسماعيل بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمرة عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: رأس أبي بكر عند رجلي النبي- صلى الله عليه وسلم- وعمر خلف ظهر النبي- صلى الله عليه وسلم-.
قال أبو اليمن بن عساكر وهذه صفته:
النبي- صلى الله عليه وسلم- أبو بكر- رضي الله تعالى عنه- عمر- رضي الله تعالى عنه- قال السيد نور الدين السمهودي: ويردها ما في الصحيح من أن الذي بدت قدمه عند هدم الجدار إنما هو عمر، لأن الجدار المنهدم، إنما هو الشرقي، ولو صحت هذه الرواية لكان البادي قدم أبي بكر.
الرابعة:
روى أبو نعيم من طريق محمد بن الحسن بن زبالة: ثنا محمد بن إسماعيل عن عمرو بن عثمان عن القاسم بن محمد فذكر مثل الحديث المذكور في الثالثة إلا أنه قال:
فإذا قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- أمامها ورجلا أبي بكر عند رأس النبي- صلى الله عليه وسلم- ورأس عمر عند رجلي أبي بكر.
قال أبو اليمن: وهذه صفته:
النبي- صلى الله عليه وسلم- أبو بكر- رضي الله تعالى عنه- عمر- رضي الله تعالى عنه-
الخامسة:
روى أبو نعيم عن عثمان بن نسطاس قال: رأيت قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما هدم عمر بن عبد العزيز عنه البيت مرتفعا نحوا من أربع أصابع عليه حصباء إلى الحمرة مائلة، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- ورأيت قبر عمر أسفل منه وصوره لنا هكذا:
النبي- صلى الله عليه وسلم- أبو بكر- رضي الله تعالى عنه- عمر- رضي الله تعالى عنه-
السادسة:
روي عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: خرجت في ليلة مطيرة إلى المسجد حتى إذا كنت عند دار المغيرة بن شعبة لقيتني رائحة لا والله ما وجدت مثلها قط فجئت إلى المسجد فبدأت بقبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فإذا جداره قد انهدم فدخلت فسلمت على النبي- صلى الله عليه وسلم- ومكثت فيه مليّا، فإذا قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- وقبر أبي بكر عند رجليه وعليهما(12/344)
حصباء من حصباء العرصة وقبر عمر عند رجلي أبي بكر.
قال أبو اليمن وهذه صفته:
النبي- صلى الله عليه وسلم- أبو بكر- رضي الله تعالى عنه- عمر- رضي الله تعالى عنه-
السابعة:
روى ابن زبالة عن المنكدر بن محمد عن أبيه قال: قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- هكذا، وقبر أبي بكر خلفه، وقبر عمر عند رجلي النبي- صلى الله عليه وسلم-.
النبي- صلى الله عليه وسلم- أبو بكر- رضي الله تعالى عنه- عمر- رضي الله تعالى عنه- وهذه الروايات ما عدا الأولى والثانية أسانيدها ضعيفة وأشهرها الأولى كما تقدم.
قال حسان بن ثابت- رضي الله تعالى عنه-:
ثلاثة برزوا بسبقهم ... نصرهم ربّهم إذا نشروا
عاشوا بلا فرقة حياتهم ... واجتمعوا في الممات إذ قبروا
فليس من مسلم له بصر ... ينكر فضلهم إذا ذكروا
وقال غيره:
ثلاثة أقبر جلّت وعزّت ... حوت خير الورى مع صاحبيه
محمّد المصطفى من قريش ... وصدّيق له أثنى عليه
وثالثهم هو الفاروق حقّا ... فكلّ مدائحي تهدى إليه
وروى ابن زبالة عن المطلب- رضي الله تعالى عنه- قال: كانوا يأخذون من تراب القبر وأمرت عائشة بجداره فضرب عليهم وكان في الجدار كوّة فكانوا يأخذون منها فأمرت بالكوّة فسدّت.
وروى ابن سعد عن مالك بن أنس قال: قسم مبيت عائشة باثنين: قسم كان فيه القبر وقسم كان فيه عائشة.
وروى عمر بن شبة عن أبي غسّان قال: لم يزل بيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي دفن فيه ظاهرا حتى بنى عمر بن عبد العزيز عليه الخطار المزور حين بنى المسجد في خلافة الوليد وإنّما جعله مزورا كراهية أن يشبه تربيعه تربيع القبلة، وأن يتخذ قبلة يصلّى إليه.
وروى ابن زبالة عن غير واحد من أهل العلم أن البيت مربع مبني بحجارة سود وقصة(12/345)
والذي يلي القبلة من أطوله، والشرقيّ والغربيّ سواء، والشاميّ أنقصها، وباب البيت مما يلي الشّام مسدود بالحجارة السود والقصة ثم بنى عمر بن عبد العزيز هذا البناء الطّاهر وزوّره لئلّا يتّخذه النّاس قبلة تخصّ بها الصّلاة من بين المسجد قالوا: والبناء الذي حوّل بينه وبين البناء الظاهر اليوم مما يلي المشرق ذراعان ومما يلي المغرب ذراع، ومما يلي القبلة شير ومما يلي الشّام فضاؤه كلّه وفي الفضاء الذي يلي الشّام بركن مكسور ومكتل خشب يقال إن البناء بين نسوة هناك.
وروى يحيى بن الحسن الحسيني عن أبي غسان محمد بن يحيى قال: سمعت من يقول إن في الحظار الذي على قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- مركن وخشبة وجريدة مسندة.
قال ابن أبي الزّناد: هو مركّن تركه العمّال هناك قال أبو غسّان: فأمّا أنا فإني اطلعت في الحظار فلم أر شيئا فزعم لي زاعم أنه قد رأى ثمّ مركّنا أو شيئا موضوعا مع الرّكن وأما أنا فلم أره ولا أعلم أحدا يدري من أخذه ولم أر البيت الذي في الحظار.
تنبيه في بيان غريب ما سبق:
[أقمار: ...
الخمرة: ...
مسطوحة: ...
بطحاء: ...
العرصة: ...
لاطئة: ...
الكوّة: الخرق من الحائط والثقب في البيت ونحوه.
مزورا: ...
القصّة: ...
الحظار: ...
المركن: ...
المكثل:] [ (1) ] ...
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.(12/346)
الباب الثامن في الاستسقاء بقبره الشريف- صلى الله عليه وسلم-
روى الدارمي عن [أبي الجوزاء] [ (1) ] أوس بن عبد الله قال: قحط أهل المدينة قحطا شديدا فشكوا إلى عائشة- رضي الله تعالى عنها- فقالت: انظروا إلى قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فاجعلوا منه كوّة إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السّماء سقف قال: ففعلوا فمطرنا مطرا حتّى نبت العشب وسمنت الإبل حتّى تفتقت من الشحم، فسمّي: عام الفتق.
__________
[ (1) ] في أابن الجوزي.(12/347)
الباب التاسع في فضل ما بين قبره ومنبره- صلى الله عليه وسلم-
روى الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر والإمام أحمد والبزار عن جابر بن عبد الله، والإمام أحمد- برجال الصحيح- والبخاري عن أبي هريرة والطبراني عن أبي سعيد الخدري، والبزار- برجال الصحيح- عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن الإمام أحمد عن عبد الله بن زيد المازنيّ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما بين بيتي ومنبري» .
ولفظ ابن عمر «قبري ومنبري» روضة من رياض الجنّة، ومنبري على حوضي وإنّ منبري على ترعة من ترع الجنة.
وفي لفظ تجيء ترعة من ترع الجنة.
وروى الإمام أحمد- برجال الصحيح- عن سهل بن سعد- رضي الله تعالى عنه- قال: منبري هذا على ترعة من ترع الجنة.
تنبيهات
الأول: اختلف في معنى كون منبره على حوضه على ثلاثة أوجه.
الأول: قال الخطّابيّ: معنى
قوله «ومنبري على حوضي»
أي أن قصد منبره وحضوره عنده لملازمة الأعمال الصالحة يورد [لصاحبه إلى] الحوض ويوجب الشّرب منه.
الثاني: قال ابن النّجّار: المراد أن منبره الذي كان يقوم عليه- صلى الله عليه وسلم- يعيده الله كما يعيد سائر الخلائق ويكون على حوضه في ذلك اليوم.
قال أبو اليمن بن عساكر: وهو الأظهر، وعليه أكثر النّاس.
الثالث: قيل: إن المراد منبر يخلقه الله تعالى في ذلك اليوم ويجعله على حوضه.
قال السيد: ويظهر لي معنى رابع، وهو أن البقعة التي عليها المنبر تعاد بعينها في الجنّة، ويعاد منبره ذلك على هيئته، ليناسب ما في الجنّة، فيجعل المنبر عليها عند عقر الحوض وهو مؤخّره وعن ذلك غيّر ب «ترعة من ترع الجنة» وذكر ذلك- صلى الله عليه وسلم- لأمته للتّرغيب للعمل بهذا المحلّ الشّريف ليقضي بصاحبه إلى ذلك، وهذا في الحقيقة جمع بين القولين الأوّلين.
الثاني: اختلفوا أيضا في معنى ما جاء في الروضة الشريفة.
قال الحافظ: ومحصّل ما أول العلماء به ذلك أن تلك البقعة كروضة من رياض الجنة(12/348)
في نزول الرحمة وحصول السّعادة بما يحصل فيها من ملازمة حلق الذكر، لا سيما في عهده- صلى الله عليه وسلم- فيكون مجازا [بغير أداة] ، أو المعنى أن العبادة فيها تؤدّي إلى الجنّة فيكون مجازا أو هو على ظاهره، وأن المراد أنّها روضة حقيقية بأن ينتقل ذلك الموضع بعينه في الآخرة إلى الجنّة انتهى.
قال: وهذه الأقاويل على ترتيبها هذا في القوّة، وهو محتمل لتقوية الأوّل والأخير، والأخير أقواها عندي، وهذا الذي ذهب إليه ابن النّجّار ونقله البرهان بن فرحون في «مناسكه» عن ابن الجوزي وغيره عن مالك فقال:
وقوله: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة»
حمله مالك رحمه الله تعالى على ظاهره فنقل عنه ابن الجوزي وغيره أنها روضة من رياض الجنّة تنقل إلى الجنة وأنها ليست كسائر الأرض تذهب وتفنى، ووافقه على ذلك جماعة من العلماء انتهى.
ونقله الخطيب بن جملة عن الداودي وصحّحه ابن الحاج في «مدخله» لأن العلماء فهموا من ذلك مزية عظيمة لهذا المحلّ.
وقال الحافظ في موضع آخر بعد أن صدّر بالثالث أو أنه على المجاز تكون العبادة فيه نزول إلى دخول العائد روضة الجنة، وهذا فيه نظر، إذ لا اختصاص لذلك بتلك البقعة والخير مسبوق لمزيد شرف تلك البقعة على غيرها، وجمع الشيخ ابن أبي جمرة بين الثاني والثالث، ولم يعوّل على ذكر الأوّل فقال: الأظهر والله أعلم الجمع بين الوجهين لكلّ منهما دليل يعضده، أما الدليل على أن العمل فيها يوجب الجنّة فلما جاء في فضل مسجدها في المضاعفة، ولهذه البقعة زيادة على باقي بقعه.
وأما الدليل على كونها بعينها في الجنّة فلإخباره- صلى الله عليه وسلم- بأنّ المنبر على الحوض لم يختلف أحد من العلماء أنه على ظاهره، وأنه حقّ محسوس موجود على حوضه، وقد نقل الخلاف قبل، ثم قال: تقرّر من قواعد الشّرع أن البقع المباركة ما فائدة بركتها لنا، والأخبار بذلك إلا تعميرها بالطاعات.
قال: ويحتمل وجها ثالثا وهو أن تلك البقعة نفسها روضة من رياض الجنة الآن، وتعود روضة في الجنة كما كان ويكون للعامل، فالعمل فيه درجة في الجنة قال: وهو الأظهر لوجهين:
أحدهما: علوّ منزلته- صلى الله عليه وسلم- وليكون بينه وبين الأبوّة الإبراهيمية في هذا أشبه، وهو أنه لما خصّ الله الخليل بحوض من الجنة خصّ الحبيب بالروضة منها انتهى.
وهو من النّفاسة بمكان، وفيه حمل اللفظ على ظاهره إذ لا يقتضي بصرفه عنه، ولا(12/349)
يقدح في ذلك كوننا نشاهده على أراضي الدّنيا فإنه ما دام الإنسان في هذا العالم لا تنكشف له حقائق ذلك العالم لوجود الحجب الكثيفة.
الثّالث: تخصيص ما أحاطت به البيّنة المذكورة لذلك إما تعبدا، وإما لكثرة تردّده- صلى الله عليه وسلم- بين بيته ومنبره، وقرب ذلك من قبره الشريف الذي هو الروضة العظمى كما أشار إليه ابن أبي جمرة أيضا.
الرابع: اختلفوا في مكان الرّوضة.
الخامس: في بيان غريب ما سبق:
القبر: ...
المنبر: ...
الحوض: ...
الرّوضة: ...
التّرعة: بمثناة فوقية فراء ساكنة فعين مهملة الروضة على المكان المرتفع.(12/350)
الباب العاشر في فضل مسجده- صلّى الله عليه وسلم-
غير ما تقدم.
قال الله تعالى: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة: 108] .
روى الإمام أحمد والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قال: امترى رجلان رجلا من بني خدرة ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسّس على التقوى: قال الخدريّ: هو مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال الآخر: هو مسجد قباء، فأتيا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسألاه فقال: «هو هذا» يعني مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: في ذلك خير كثير يعني مسجد قباء.
روى الإمام أحمد عن سهل بن سعد نحوه.
وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال: أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسألته عن المسجد الذي أسّس على التقوى فأخذ كفا من حصباء فضرب به الأرض ثم قال: هو مسجدكم هذا.
وروى الإمام أحمد عن أبي بن كعب- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «المسجد الّذي أسّس على التّقوى مسجدي هذا» .
وروى الزبير بن بكار في «أخبار المدينة» عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لو بني مسجدي هذا إلى صنعاء كان مسجدي» .
وروى أيضا عن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- قال: لو مدّ مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى ذي الحليفة لكان منه.
وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلّى في مسجدي هذا أربعين صلاة لا يفوته صلاة كتبت له براءة من النار ونجاة من العذاب وبرئ من النّفاق» .
وروى الشيخان عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل» .
وفي رواية: «خير» من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلّا المسجد الحرام» .(12/351)
وروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى» .
وروى البزار وابن حبان عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «خير ما ركبت إليه الرّواحل مسجدي هذا، والبيت العتيق مسجد إبراهيم- صلى الله عليه وسلم-» .
تنبيهات
الأول:
قوله- صلى الله عليه وسلم-: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام» .
اختلف في تأويل هذا الحديث فقيل: إنّ الصّلاة في مسجده- صلى الله عليه وسلم- أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بدون ألف صلاة.
ونقل أبو عمر عن جماعة من أهل الأمر: أن معناه أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد المدينة ثم أيده بما أخرجه من
حديث ابن عمر مرفوعا «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام فإنّه أفضل فيه بمائة صلاة» .
الثاني:
قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تشدّ الرّحال إلا إلى ثلاثة مساجد» .
قيل: هو نفي بمعنى النّهي.
وقيل: لمجرد الإخبار لا نهي ولا دلالة فيه على التّحريم، إذ النّفي لا يقتضي النهي مطلقا، وعلى تقدير أنه يقتضي النهي فإنما يقتضي النهي فيما وقع عليه النّفي، والنّفي هاهنا ليس لنفي الحقيقة، وإنما هو لنفي مقصود من مقاصدها، ولا يتعين أن يكون الجواز المطلق، جاز أن يكون لا تشدّ الرحال وجوبا أو ندبا أو طاعة مسنونة بخصوصيتها لا بنوعها ولا بحسنها وتعين أحد المحتملات يحتاج إلى دليل، وبتقدير أن يكون بمعنى النهي، فلا نسلم أن النهي في مثل ذلك يقتضي التحريم، والأمر يقتضي الوجوب، وإطلاق أئمة الأصول أن النهي يقتضي التحريم والأمر يقتضي الوجوب محمول على الأمر بصيغة «افعل» والنهي بصيغة «لا تفعل» إذ هو الذي يصح فيه دعوى الحقيقة.
وأما ما كان موضوعا حقيقة بغير الأمر والنهي، ويفيد معنى أحدهما كالخبر بمعنى الأمر، والنفي بمعنى النهي فلا يدعي فيه أنه حقيقة في وجوب ولا تحريم، لأنه مستعمل في غير موضوعه إذا أريد الأمر والنهي، ودعوى كونه حقيقة في إيجاب أو تحريم وهو موضوع لغيرهما مكابرة وهذا موضع يغلط فيه كثير من الفقهاء، ويعبرون بلفظ أئمة الأصول ويدخلون فيه كلما(12/352)
أفاد نهيا أو أمرا، والمحقق يعرف المراد ويضع كل شيء في موضعه.
ذكر ذلك كله شيخ الإسلام كمال الدين بن الزملكاني في كتاب «العمل المقبول في زيارة الرسول» قال النووي: معناه الأفضلية في شدّ الرحال إلى مسجد غير هذه الثلاثة ونقله عن الجمهور.
وقال العراقي: من أحسن محامل الحديث أن المراد منه حكم المساجد فقط، وأنه لا تشد الرحال إلى مسجد من مساجد غير هذه الثلاثة.
وأما فضل غير المساجد من الرّحلة في طلب العلم وزيارة الصالحين والإخوان والتجارة والتنزه ونحو ذلك فليس داخلا فيه
وقد ورد ذلك مصرحا في رواية أحمد.
ولفظه: لا ينبغي للمصلي أن يشد رحاله إلى مسجد يبتغي فيه الصلاة غير المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا.
وقال الشيخ تقي الدين السّبكي: ليس في الأرض بقعة لها فضل ثوابها حتى تشدّ إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة، ولا شك أن بقاع المساجد الثلاثة وموضع قبره- صلى الله عليه وسلم- هي أفضل بقاع الأرض، وموضع قبره- صلى الله عليه وسلم- ومسجد مكة والمدينة أفضل من المسجد الأقصى واختلف أيهما أفضل مسجد مكة أو مسجد المدينة.
الثالث: قال القاضي عياض بعد حكاية الخلاف: ولا خلاف أن موضع قبره- صلى الله عليه وسلم- أفضل بقاع الأرض انتهى.
ولا ريب أن نبينا- صلى الله عليه وسلم- أفضل المخلوقات، فليس في المخلوقات على الله تعالى أكرم منه، لا في العالم العلويّ ولا في العالم السفليّ كما تقدم في الباب الأول من الخصائص قال بعضهم: كيف يمكن انفكاك المؤمن المعظّم للنبي- صلى الله عليه وسلم- المعتقد شرف تلك البقعة أن يشدّ الرّحال إليها ويدخل المسجد ويصلي فيه ولا يصلي إلى الروضة الشريفة التي في الحجرة؟ وفي الحديث أنها روضة من رياض الجنة، وكيف يصلي إلى الروضة والقبر ويعلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسمع كلامه إذا سلم عليه، ويرد عليه السلام ويسعه أن لا يقصد الحجرة الشريفة والقبر ويسلم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن وقع هذا لأحد لا يكون قلبه معمورا بحبّ النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن تداركه الله تعالى برحمته وجد من نفسه ذلك، وكذلك لو قصد زيارة قبره- صلى الله عليه وسلم- لم ينفك قصده عن قصد المسجد وهذا شأن الزّوّار.
الرابع: قال الإمام أبو عمر بن عبد البرّ: بعد أن ذكر حديث الصحيحين أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا وليس في إتيانه- صلى الله عليه وسلم- مسجد قباء ما يعارض
قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تعمل المطيّ»
لأن قوله ذلك معناه عند العلماء فيمن نذر على نفسه صلاة(12/353)
في أحد المساجد الثلاثة أنه يلزمه إتيانها دون غيرها، وأما إتيان قباء وغيرها من مواضع الرباط فلا بأس بإتيانها بدليل حديث قباء هذا.
وقال العلامة ابن جملة: وهذا الذي ذكره هو الحق الذي لا محيد عنه، ولهذا تجد الأئمة من الفقهاء والمحدثين يذكرون الحديث في باب النّذر، والسفر للجهاد، وتعلم العلم الواجب، وبر الوالدين، وزيارة الإخوان والتفكير في آثار صنع الله كله مطلوب للشارع وجوبا واستحبابا والسفر للتجارة والأعراض الدنيوية جائز، وكله خارج من هذا الحديث، فلم يبق إلا شد الرحل للمعصية وحينئذ هو الممنوع، ولا يختص المنع بشد الرحل باستحسان الله، أيكون السفر لزيارة النبي- صلى الله عليه وسلم- من هذا القسم لقد اجترأ على الله وعلى رسوله من قال هذا، وهو كلام يدور حول الاستهانة وسوء الأدب في إطلاقه ما يقتضي كفر قائله نعوذ بالله من الخذلان، وكذلك ليس
قوله- صلى الله عليه وسلم- «لا تتخذوا قبري عيدا وتجعلوا بيوتكم صورا»
ما يعارض ما تقدّم، لأن سياقه يقتضي دفع توهم من توّهم أن الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- لا تكون مؤثّرة إلا عند قبره فيفوت بسبب ذلك ثواب الصّلاة عليه من بعد، ولهذا قال- صلى الله عليه وسلم-: «صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم» .
ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز السفر وشد الرحل، لغرض دنيوي كالتجارة، فإذا جاز ذلك فهذا أولى، لأنه من أعظم الأغراض الأخروية فإنه في أصله من الآخرة لا سيما في هذا الموضع، ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز السفر وشدّه.(12/354)
الباب الحادي عشر في حياته في قبره وكذلك سائر الأنبياء- عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام-
قال الشيخ- رحمه الله تعالى- في كتابه «أنباء الأزكياء بحياة الأنبياء» : حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- في قبره هو وسائر الأنبياء معلومة عندنا علما قطعيا لما قام عندنا من الأدلة في ذلك وتواترت به الأخبار.
وقال الشيخ جمال الدين الأردبيلي الشافعيّ في كتابه «الأنوار في أعمال الأبرار» : قال البيهقي في كتاب «الاعتقاد» : الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- بعد ما قبضوا ردت إليهم أرواحهم فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، وقد رأى النبيّ- صلى الله عليه وسلم- جماعة منهم وأمّهم في الصلاة وأخبر وخبره صدق، أن صلاتنا معروضة عليه، وأن سلامنا يبلغه، والله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء.
وقال القرطبي في «التذكرة» في حديث الصّعقة نقلا عن شيخه: الموت ليس بعدم محض، وإنما هو انتقال من حال إلى حال، ويدل على ذلك إن الشهداء بعد قتلهم وموتهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين مستبشرين، وهذه صفة الأحياء في الدنيا، وإذا كان هذا في الشهداء فالأنبياء أحق بذلك وأولى وقد صح أن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء وأنه- صلى الله عليه وسلم- اجتمع بالأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس وفي السماء ورأى موسى قائما يصلي في قبره
وأخبر- صلى الله عليه وسلم- بأنه يرد السلام على كل من يسلم عليه
إلى غير ذلك مما يحصل من جملته القطع بأن موت الأنبياء إنما هو راجع إلى أن غيّبوا عنا بحيث لا ندركهم، وإن كانوا موجودين أحياء، وذلك كالحال في الملائكة فإنّهم موجودون أحياء ولا يراهم أحد من نوعنا إلا من خصه الله بكرامة من أوليائه.
وقال الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادي شيخ الشافعية في «فتاويه» : قال المتكلمون المحققون من أصحابنا إن نبينا- صلى الله عليه وسلم- حيّ بعد وفاته وإنه يسرّ بطاعات أمته ويحزن بمعاصي العصاة منهم وأنه تبلغه الصلاة من يصلي عليه من أمته.
وقال: أن الأنبياء لا يبلون ولا تأكل الأرض منهم شيئا، وقد مات موسى في زمانه وأخبر نبينا- صلى الله عليه وسلم- أنه رآه في قبره مصليا وذكر في حديث المعراج أنه رآه في السماء وآدم وإبراهيم وقالوا له: مرحبا، وإذا صح لنا هذا الأصل قلنا نبينا- صلى الله عليه وسلم- قد صار حيا بعد وفاته وهو على نبوته انتهى.
وقال سيدي الشيخ عفيف الدين اليافعي- رحمه الله تعالى-: الأولياء ترد عليهم أحوال(12/355)
يشاهدون فيها ملكوت السموات والأرض وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات كما نظر النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى موسى عليه السلام في قبره.
قال: وقد تقرر أن ما جاز للأنبياء من معجزة جاز للأولياء كرامة بشرط عدم التّحدّي قال: ولا ينكر ذلك إلا جاهل، ونصوص العلماء في حياة الأنبياء كثيرة فلنكتف بهذا القدر.
وروى أبو داود والنسائي وابن ماجة عن أوس الثقفي مرفوعا. [إنّ من أفضل أيّامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصّلاة فيه، فإنّ صلاتكم تعرض عليّ قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض عليك صلاتنا وقد أرمت- يعني بليت- فقال: إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء] .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام» .
وروى أبو يعلى: حدثنا أبو الجهم الأزرق بن علي، حدثنا يحيى بن أبي بكر، حدثنا المسلم بن سعيد عن الحجّاج- زاد ابن عدي- ابن الأسود عن ثابت البنانيّ.
قال الحافظ في «التقريب» : أبو الجهم الأزرق صدوق يغرب ويحيى بن أبي بكير من رجال البخاري والمستلم بن سعيد قال الإمام أحمد: شيخ ثقة.
وقال النسائي: لا بأس به وذكره ابن حبّان في «الثقات» .
وقال الحافظ: صدوق عابد ربما وهم، وشيخه الحجّاج.
قال الحافظ عبد الغني بن سعيد في الإيضاح: الإشكال هو حجّاج بن حجاج، وهو حجاج الأسود الذي روى عنه جعفر بن سليمان، ومستلم بن سعيد وهو حجاج الباهليّ، وهو الحجاج بن الحجاج، وهو حجاج الأحول، وهو حجّاج زق العسل انتهى.
وحجاج هذا قال الإمام أحمد: ليس به بأس.
وقال ابن معين: ثقة.
وقال أبو حاتم: ثقة من الثقات صدوق.
وقال الحافظ: ثقة وثابت لا يسأل عنه.
وقال الحافظ عبد الغني بن سعيد: حدثنا إبراهيم بن علي الجبائي، حدثنا يحيى بن محمد بن ساعدة. حدثنا عبد الله بن محمد بن يحيى بن أبي بكير ثنا يحيى بن أبي بكير به.
وقال ابن عدي: حدثنا قسطنطين بن عبد الله الرومي، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثني(12/356)
الحسن بن قتيبة المدائني ثنا المستلم بن سعيد عن الحجاج بن الأسود عن ثابت البناني عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون» .
وروى أبو يعلى عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «والذي نفسي بيده لينزلن عيسى ابن مريم ثم لئن سلم عليّ لأجبته» .
وروى محمد بن يحيى بن أبي عمر- برجال ثقات- عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن عيسى ابن مريم يكون مارّا بالمدينة حاجا أو معتمرا ولئن سلّم عليّ لأردّنّ عليه» .
وروى ابن النّجّار عن إبراهيم بن يسار قال: حججت في بعض السنين فجئت المدينة فتقدمت إلى قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسلّمت عليه فسمعت من داخل الحجرة: وعليك السلام.
قال البازري في «التوثيق» : أن سليمان بن شحم قال: رأيت النبي- صلى الله عليه وسلم- في النّوم فقلت: يا رسول الله، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك، أتفقه سلامهم قال: نعم وأردّ عليهم.
وروى أبو نعيم في «الدلائل» عن سعيد بن المسيب قال: لقد رأيتني ليالي الحرّة، وما في المسجد غيري، وما يأتي وقت أذان إلا سمعت الأذان من القبر.
وروى الزبير بن بكّار عنه قال: لم أزل أسمع الأذان والإقامة في قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أيام الحرّة حتى عاد الناس.
وروى ابن سعد عنه أنه كان يلازم الناس أيام الحرّة والناس يقتتلون قال: فكنت إذا حانت الصّلاة أسمع أذانا يخرج من القبر الشريف.
وروى الدارميّ في مسنده: أنبأنا مروان بن محمد عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرّة لم يؤذّن في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثا ولم يقم ولم يبرح سعيد بن المسيب المسجد وكان لا يعرف وقت الصّلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبي- صلى الله عليه وسلم-.
وروى ابن ماجة بإسناد جيد عن أبي الدرداء- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا عليّ من الصّلاة يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإنّ أحدا لن يصلي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حين يفرغ منها» قال: قلت: وبعد الموت؟
قال: وبعد الموت إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-.
قال ابن ماجة: فنبي الله حيّ يرزق في قبره.(12/357)
ورواه الطبراني- بلفظ-: ليس من عبد يصلّي عليّ إلا بلغني صوته حيث كان،
ورجالهما ثقات، لكنه منقطع.
وروى البيهقي في «الشّعب» والأصبهاني في «الترغيب» عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلّى عليّ نائيا بلّغته.
وروى البخاري في «تاريخه» عن عمار- رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «أن الله تعالى خلق ملكا أعطاه أسماع الخلائق قائما على قبري، فما من أحد يصلّي عليّ صلاة إلا بلغنيها» .
وروى البيهقي في «حياة الأنبياء» والأصبهانيّ في «الترغيب» عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من صلّى عليّ مائة مرّة في يوم الجمعة، أو ليلة الجمعة قضى الله له مائة حاجة سبعين من حوائج الآخرة وثلاثين من حوائج الدنيا، ثم وكّل الله بذلك ملكا يدخله عليّ في قبري كما يدخل عليكم الهدايا، إن علمي بعد موتي كعلمي في الحياة» .
ولفظ البيهقي: يخبرني بمن صلى علي بعد موتي باسمه ونسبه فأثبته عندي في صحيفة بيضاء.
وروى البيهقي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «أن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكن يصلون بين يدي الله عز وجل حتى ينفخ في الصور» .
قال البيهقي: المراد والله تعالى أعلم لا يصلون إلا هذا المقدار، ثم يكونون مصلين، فيما بين يدي الله عز وجل.
وقال الثوري في «جامعه» : قال شيخ لنا عن سعيد بن المسيب قال: ما مكث نبي في قبره أكثر من أربعين صباحا حتى يرفع.
ورواه عبد الرزاق في «مصنّفه» عن الثّوريّ عن أبي المقدام عن سعيد به.
قال الزركشيّ وأبو المقدام هو ثابت بن هرمز شيخ صالح.
قلت: ويقال: اهريمز وثقه ابن المديني وأبو داود والنسائي ويعقوب وابن سفيان.
قال الحافظ في «القريب» : صدوق يهم.
وقال ابن القطّان: لا أعلم أحدا ضعّفه غير الدارقطنيّ ومثل هذا لا يقال من جهة الرأي.(12/358)
وروى أبو الشيخ عن شيخه عبد الرحمن بن أحمد الأعرج: حدثنا الحسن بن صباح: «من لم يوص لم يؤذن له في الكلام مع الموتى» ، قيل: يا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وهل تتكلم الموتى؟ قال: «نعم ويتزاورون» .
وروى ابن حبان: في «المجروحين» من طريق الحسن بن يحيى الخشني عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما من نبيّ يموت فيقيم في قبره إلا أربعين صباحا حتى ترد إليه روحه»
الحسن ضعفه الأكثر وقال دحيم: لا بأس به.
وقال أبو حاتم: صدوق سيّء الحفظ ووثّقه ابن معين في رواية ابن أبي مريم.
وقال أبو داود: لا بأس به.
وقال الشيخ في تهذيب موضوعات ابن الجوزي: لهذا الحديث شواهد يرتقى بها إلى درجة الحسن.
قال البيهقي: فعلى هذا يصيرون كسائر الأحياء يكونون حيث ينزلهم الله تعالى.
تنبيهات
الأوّل: قال السيد نور الدّين السمهوديّ في «تاريخ المدينة» : وإن صحّ ما قاله ابن المسيب فالقبر الشريف له به علاقة روحانية وله نسبة إليه مع أنّا قطعنا بوصفه- صلى الله عليه وسلم- به فنستصحبه حتى يقوم قاطع على خلافه وساق ما أخبر به سعيد بن المسيب من سماعه الأذان والإقامة من القبر أيام الحرّة مع أنه قد جاء عن غير ابن المسيب ما يقتضي الاستمرار، فقد قال عثمان بن عفان أيام حصاره: لن أفارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيها.
وروى ابن عساكر بسند جيد عن بلال أنه لما نزل ب «داريا» من أرض الشام رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما إنّ لك أن تزورني فانتبه حزينا خائفا، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فجعل يبكي ويمرغ وجهه عليه فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا: نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذّن به لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المسجد فعلا سطح المسجد ووقف موقفه الذي كان يقف فيه فلمّا أن قال:
الله أكبر، ارتجّت المدينة فلما أن قال:
أشهد أن لا إله إلا الله ازدادت رجّتها، فلمّا أن قال: أشهد أن محمدا رسول الله، خرجت العواتق من خدورهنّ، وقالوا: بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فما رئي يوم أكثر باكيا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ذلك اليوم.(12/359)
وقال الإمام العلامة جمال الدين محمود بن جملة: نبينا- صلى الله عليه وسلم- أحياه الله تعالى بعد موته حياة تامّة واستمرت تلك الحياة إلى الآن، وهي مستمرة إلى يوم القيامة، وليس هذا خاصّا به- صلى الله عليه وسلم- بل يشاركه الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- أجمعين.
والدليل على ذلك أمور كثيرة:
أحدها: قوله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] فقيل: وجه الدلالة منها من ثلاثة أوجه:
الأول: أن الحياة في البرزخ حاصلة لآحاد الأمّة من الشّهداء، وللشّهداء بذلك مزيّة على غيرهم ممّن ليس بشهيد، فما لهم أفضل ممن لم يكن له هذه المرتبة، ولا يكون رتبة أحد من الأمة أعلى درجة من رتبة النبي- صلى الله عليه وسلم- ولا ثوابه أكمل ولا حاله أحسن.
الثاني: أن الذين قتلوا في سبيل الله إنما استحقوا هذه الرّتبة بالشّهادة، والشّهادة حاصلة له- صلى الله عليه وسلم- على أتم الوجود وأكملها، لأنّ الشّهيد سمّي شهيدا إذ الشهادة الموت أو الشهادة لله أو الشّهادة على الناس يوم القيامة، أو لمشاهدة ثواب الله- عز وجل-، أو لمشاهدة ملائكته، وهذه الرتبة للنبي- صلى الله عليه وسلم- أكمل من الأمة وأعلاها الشهادة لله تعالى والشهادة على النّاس وشهادة النبي- صلى الله عليه وسلم- أسمى وأعظم فإنه- صلى الله عليه وسلم- شهد على الشهداء قال الله تعالى:
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] فإن توهم متوهم أن هذا من خصائص القتلى، فالنبي- صلى الله عليه وسلم- قد حصل له ذلك كما بيناه في باب أن الله تعالى اختار له مع النبوة الشهادة في أبواب الوفاة فراجعه.
وقال الحافظ عبد الغني المقدسيّ الحنبليّ: صاحب «العمدة» المشهورة في جواب سؤال ما نصّه: سألت: - أحسن الله لنا ولك التوفيق لم يحبّ ويرضى عن صلاة نبينا وسيّدنا المصطفى المرتضى سيّد الخلق في الآخرة والأولى بإخوانه النبيين والمرسلين، هل صلّى بأجسادهم أم بأرواحهم، فاعلم- رحمك الله- أنّ مذهب أهل الحقّ القائلين بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[إنّ الإسراء كان برسول الله- صلى الله عليه وسلم-] [ (1) ] بجسده وروح يقظة لا مناما، فقد ورد به القرآن العزيز وورد به الخبر الصحيح، قال الله سبحانه وتعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الإسراء: 1] الآية، وتواترت الأخبار الصّحيحة بذلك.
قال: فإن ثبت هذا، فاعلم أن الأنبياء أحياء في قبورهم.
__________
[ (1) ] سقط في ب.(12/360)
روى حديث أوس بن أوس قال: وهو حديث حسن صحيح، أخرجه أبو داود والنّسائي وجماعة، وقد روى مسلم عن أنس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «مررت ليلة أسري بي على موسى وهو قائم يصلي في قبره»
وهذا من صفة الأجساد لا من صفة الأرواح.
قال: وفي حديث حسن في الإسراء أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: فدخلت المسجد فعرفت النبيين ما بين قائم وراكع وساجد، وقد صحّ في أحاديث كثيرة أن آدم وإبراهيم- صلى الله عليه وسلم- قالا له: مرحباً بالأخ الصالح، وصحّ أنه لما لقي موسى وجاوزه بكى موسى وقد وصف- صلى الله عليه وسلم- الأنبياء فقال: رأيت موسى قائما يصلّي، كأنه من رجال شنوءة ورأيت عيسى قائما يصلي كأنه عروة بن مسعود الثقفيّ، وأما إبراهيم فأشبه الناس بصاحبكم- يعني نفسه- صلى الله عليه وسلم- وهذه صفة الأجساد لا صفة الأرواح، وقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أنه لما لقي موسى بعد أن فرض الله عليه خمسين صلاة فقال له: إنّي جربت النّاس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشدّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، ففعل ذلك مرارا إلى أن أمره الله بخمس صلوات،
ومحال أن يكون هذا الخطاب من روح موسى دون جسده، والقائل بذلك مخالف للنّقل والعقل ونمنع أن يراهم في أجسادهم ويصفها، ويخاطبهم ويخاطبونه ثم يصلّي بالأرواح دون الأجساد، والصلاة في اللغة:
الدّعاء.
وفي الشريعة: عبارة عن القراءة مع القيام والركوع والسّجود.
وقيام الأرواح وقعودها وقراءتها غير مدرك ولا معقول ولا منقول، فتبارك الذي خص محمداً عبده ورسوله وخيرته من خلقه. فإن قال قائل: كيف صلّى بهم في بيت المقدس ثم رآهم في السّماء؟.
فنقول، وبالله التوفيق: إن الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى إلى السّماء إلى سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى ثم رجع إلى مكّة قبل الصّبح هو الذي أراه إياهم كيف يشاء وجمعهم له أين يشاء، فسبحان الذي لا يحاط بقدرته، ولا تنتهي عظمته، ولا تدرك حقيقته وهو على كل شيء قدير ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، انتهى كلام الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: إن إبراهيم ابني مات، وإنه مات في الثّدي وإن له لظئرين تكمّلان رضاعه في الجنة.
ووجه الدّلالة من هذا الحديث ظاهرة وأن تكملة الرضاع إنما هو في الدّنيا، وإذا كان هذا في حقّ ولده- صلى الله عليه وسلم- كرامة له فلأن يثبت في حقّه الحياة- صلى الله عليه وسلم- بطريق أولى.
وروى أبو داود الطيالسي بسند صحيح أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: لما مات إبراهيم:
إن له مرضعاً في الجنة.(12/361)
فقد تبين لك- رحمك الله من الأحاديث السابقة- حياة النبيّ وسائر الأنبياء- صلى الله عليه وسلم- وقد قال الله سبحانه وتعالى في الشهداء: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران: 169] والأنبياء أولى بذلك فهم أجل وأعظم وقلّ نبيّ إلاّ وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة، فيدخلون في عموم لفظ الآية، فثبت كونه- صلى الله عليه وسلم- حي في قبره بنص القرآن إمّا من عموم اللّفظ وإما من مفهوم الموافقة.
الثاني: إن قيل: إن
قوله- صلى الله عليه وسلم-: «إلا ردّ الله إليّ روحي»
يقتضي مفارقة الرّوح لبدنه الشريف في بعض الأوقات، وذلك لا يلتئم مع كونه حيّا على الدوام.
وقال الشيخ الإمام العلّامة علاء الدين القونويّ الشافعيّ في «آداب البحث» له: ظاهرة رد روحه- صلى الله عليه وسلم- عند سلام أول من سلّم عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، ثم إما أنه أن يقال: باستمرار حياته بعد ذلك، وبقاء روحه المباركة في جسده الشّريف، كما كان قبل، وهو المدّعى ويحسن على هذا أن يقدر في حديث لفظة «قد» بعد أداة الاستثناء حتى يكون المعنى: ما من أحد يسلّم عليّ إلا قد رد الله علي روحي. انتهى.
وهذا أحد الأجوبة قاله البيهقي.
وبهذا جزم الإمام العلامة جمال الدين محمود بن جملة خطيب الجامع الأمويّ في كتاب الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم-: وهو كتاب جليل ولم يطلع عليه شيخنا رحمه الله تعالى، وقد أوضح الشّيخ بلك في «فتاويه» قبل الوقوف على كلام البيهقي فقال في فتاويه: إن قوله:
«ردّ الله تعالى» جملة حالية وقاعدة العربية أن جملة الحال إذا وقعت فعلا ماضيا قدّرت فيها «قد» كقوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [النساء: 90] أي قد حصرت، وكذا هنا تقدر الجملة ماضية سابقة على السلام الواقع من كل أحد «وحتّى» ليست للتعليل بل مجرد حرف عطف بعمى «الواو» فصار تقدير الحديث: ما من أحد يسلّم عليّ إلا قد رد الله علي روحي قبل ذلك وأردّ عليه، وإنما جاء الإشكال من ظنّ أن جملة «ردّ الله» بمعنى الحال أو الاستقبال وظن أن «حتّى» تعليلة وليس كذلك وبهذا الذي قررناه ارتفع الإشكال من أصله.
قال: ثم بعد ذلك رأيت الحديث مخرّجا في كتاب «حياة الأنبياء» للبيهقي بلفظ: «إلّا وقد رد الله علي روحي» فصرح فيه بلفظ «قد» ورواية إسقاطها محمولة على إضمارها وأن حذفها من تصرّف الرواة، ومراد الحديث الإخبار بأن الله تعالى يردّ إليه روحه بعد الموت فيصير حيّا على الدوام حتى لو سلّم عليه أحد ردّ عليه سلامه لوجود الحياة فيه فصار الحديث موافقا للأحاديث الواردة في حياته في قبره، ويؤيّده من حيث المعنى أنّ الرد لو أخذ بمعنى الحال أو الاستقبال لزم تكراره عند تكرّر المسلّمين، وتكرّر الرّدّ يستلزم تكرار المفارقة، وتكرار المفارقة يلزم عليه محذوران:(12/362)
أحدهما: تألّم الجسد الشريف بتكرّر خروج الرّوح منه أو نوع ما من مخافة التكرار أن لم يكن تأليما.
والآخر: مخالفة سائر الناس الشهداء وغيرهم، فإنه لم يثبت لأحد منهم أنه يتكرر له مفارقة الرّوح وعودها إلى البرزخ، والنبي- صلى الله عليه وسلم- أولى بالاستمرار الذي هو أعلى مرتبة.
ومحذور ثالث وهو مخالفة القرآن فإنه دلّ على أنه ليس إلا موتة وحياتان، وهذا التكرير يستلزم موتات كثيرة وهو باطل انتهى.
ثم قال القونوي: وإما أن يقال يردها عند سلام المسلّم الأوّل ثم قبضها بعد ذلك، ثم ردها عند مسلّم آخر وهكذا كلّما سلم عليه المسلمون، وهذا لم يقل به أحد، ولا يجوز اعتقاده أيضا، فإنه يفضى إلى توالى موتات لا تحصى ورد الروح مرّات لا تحصى، فإن كل مصلّ يسلّم عليه في صلاته مرة أو مرتين وغير المصلّي أيضا يسلّم عليه، ويختلف أوقات سلامهم فلا يخلو ساعة من الساعات من سلام عليه ولا يخفى ما في التزام تكرار الرّدّ بتكرار ذلك المحذور فتعين القول بردّها عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد موته مرّة واحدة لرد السّلام على المسلّم الأول واستمرار الحياة بعد ذلك إلى يوم القيامة فيكون النبي- صلى الله عليه وسلم- حيّا في قبره ثم أيّد ذلك
بما رواه مسلم عن أنس مرفوعا، رأيت موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره.
الجواب الثّاني: قال السّبكيّ: يحتمل أن يكون ردّا معنويّا، وأن تكون روحه الشريفة مستقلة بشهود الحضرة الإلهية والملأ الأعلى عن هذا العالم فإذا سلّم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم فيدرك سلام من سلم عليه، أو يرد عليه.
الثالث: قال الشيخ: إن لفظ «الرّدّ» قد لا يدل على انفكاك المفارقة: بل كنّى به عن مطلق الصّيرورة كما قيل في قوله تعالى حكاية عن شعيب- عليه الصلاة والسلام- قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ [الأعراف: 89] إن لفظ العود أريد به مطلق الصّيرورة لا العود بعد الانتقال، لأن شعيبا- عليه الصلاة والسلام- لم يكن في ملتهم قطّ، وحسن استعمال هذا اللفظ في هذا الحديث مراعاة للمناسبة اللفظية بينه وبين قوله: «حتى أرد عليه السّلام» في لفظ الرّدّ في صدر الحديث لمناسبة ذكره في آخر الحديث.
الرابع: قال الشّيخ: ليس المراد برد الروح عودها بعد المفارقة للبدن، وإنما النبي- صلى الله عليه وسلم- في البرزخ مشغول بأحوال الملكوت مستغرق في مشاهدة ربّه كما كان في الدّنيا في حاله بالوحي، وفي أوقات أخر فعبر عن إفاقته من تلك المشاهدة، وذلك الاستغراق بردّ الرّوح، ونظير هذا قول العلماء في اللفظة التي وقعت في بعض أحاديث الإسراء لم يكن(12/363)
مناما، وإنما المراد الإفاقة ممّا خامر من عجائب الملكوت.
قلت: وفي حديث أبي أسيد حين جاء بانه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليحنّكه فوضعه على فخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واشتغل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالحديث مع النّاس فرفع أبو أسيد ابنه ثم استيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يجد الصّبيّ فسأل عنه فقالوا: رفع فسماه الراوي استيقاظا.
وفي حديث عائشة في ذهاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف فكذّبوه، قال: فرجعت مهموما، فلم أستفق إلّا ب «قرن الثّعالب» أي: أفاق مما كان فيه والله تعالى أعلم.
الخامس: قال الشيخ: إن الرّدّ للرّوح يستلزم الاستمرار، لأن الزمان لا يخلو ممن يصلي عليه في أقطار الأرض.
السّادس: قد يقال: أوحى الله إليه بهذا الأمر أولا قبل أن يوحى إليه فإنه لا يزال حيّا في قبره فأخبره به أوحى إليه بعد ذلك فلا منافاة بتأخير الخبر الثاني عن الأوّل.
قلت: وهذا يحتاج إلى نقل، والله تعالى أعلم.
السّابع: قال الشيخ تاج الدين الفاكهاني في كتابه «الفجر المنير [فيما فضل به البشير النذير» ] : المراد بالروح هنا النّطق مجازا فكأنه- صلى الله عليه وسلم- قال: إلا ردّ الله إليّ نطقي وهو حيّ على الدوام، لكن لا يلزم من حياته نطقه، فالله سبحانه وتعالى يردّ عليه النطق عند سلام كل مسلّم، وعلاقة المجاز أن النّطق من لازمه وجود الروح، كما أن الروح من لازمه وجود النّطق بالفعل والقوة، فعبّر- عليه الصلاة والسلام- بأحد المتلازمين عن الآخر، وفي تحقيق ذلك أن عود الروح لا يكون إلا مرتين عملا بقوله تعالى: قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: 11] قال الشيخ رحمه الله تعالى: في كلامه أمران:
أحدهما: أنّه عزى الحديث للتّرمذي وإنما رواه أبو داود.
الثاني: ظاهر كلامه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- مع كونه حيّا في البرزخ يمنع عنه النّطق في بعض الأوقات، ويرد عليه عند سلام المسلّم عليه، وهذا بعيد جدّا بل ممنوع فإن العقل والنقل يشهدان بخلافه.
أما النّقل فإن الأخبار الواردة عن حاله وحال الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- في البرزخ مصرّحة بأنهم ينطقون كيف يشاءون لا يمنعون من شيء بل وسائر المؤمنين كذلك، والشهداء وغيرهم ينطقون في البرزخ بما شاءوا غيره من شيء ولم يرد أن أحدا يمنع من النطق في البرزخ إلا من مات عن غير وصيّة.
وروى أبو الشيخ ابن حبان في كتاب «الوصايا» : عن قيس بن قبيصة قال: قال(12/364)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من لم يوص لم يؤذن له في الكلام مع الموتى قيل: يا رسول الله، وهل نكلم الموتى؟ قال: «نعم» .
قال السبكيّ: حياة الأنبياء والشهداء في القبر كحياتهم في الدّنيا ويشهد له صلاة موسى في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدا جيّدا، وكذلك الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء كلّهم صفات الأجسام ولا يلزم من كونها حياة حقيقية أن تكون الأبدان معها كما كانت في الدنيا من الاحتياج إلى الطعام والشّراب، وأما الحركات كالعلم والسّماع فلا شكّ أن ذلك ثابت لهم ولسائر الموتى، وأما العقل، فلأن الحبس عن النطق في بعض الأوقات فيه نوع حصر وتعذيب، ولهذا عذب به تارك الوصيّة والنبي- صلى الله عليه وسلم- منزه عن ذلك، ولا يلحقه بعد وفاته حصر أصلا بوجه من الوجوه كما
قال لفاطمة- رضي الله تعالى عنها-: في مرض وفاته «لا كرب على أبيك بعد اليوم»
وإذا كان الشهداء وسائر المؤمنين من أمته إلا من استثنى من المعذّبين لا يحصرون بالمنع من النّطق فكيف به- صلى الله عليه وسلم-.
فائدة:
لفظ: الحديث الذي سقناه لفظ البيهقي.
ولفظ: أبي داود «إلا رد الله علي» .
قال الشيخ: ورواية البيهقي ألطف وأنسب، فإنّ بين التّعديتين فرقا لطيفا فإنّ رد يعدّى ب «على» في الإهانة وب «إلى» في الإكرام.
قال في «الصحاح» : ردّ عليه الشّيء إذا لم يقبله، وكذا إذا خطأه وتقول: ردّه إلى منزله وردّ إليه جوابا أي رجع.
وقال الراغب: من الأول قوله تعالى: يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ [آل عمران: 149] وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا [الأنعام: 71] ومن الثاني: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ [القصص: 13] وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [الكهف: 36] ، ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [التوبة: 94] ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الأنعام: 62] .
وذكر الشيخ- رحمه الله تعالى- أجوبة كثيرا فليراجعها من أرادها من فتاويه.
قلت: وأقوى الأجوبة الأول ونكتته الثالث والرابع.
الثالث: لا يقال: لو كان النبي- صلى الله عليه وسلم- حيّا في قبره دائما لزم كونه محصورا في القبر أو مسجونا فيه لأنّا نقول: قد ورد أن المؤمن يفسح له في قبره كمدّ البصر فكيف بالنبي- صلى الله عليه وسلم-.
الرابع: إن قيل: فإذا كانوا أحياء قد أحياهم الله تعالى بعد موتهم فيلزم من ذلك أنهم(12/365)
يموتون موتة ثانية عند النّفخ في الصّور فيذوقون الموت أكثر من غيرهم أجاب الإمام الحافظ صلاح الدين العلائيّ في ترجمة موسى- صلى الله عليه وسلم- بأنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض، فلا شك أن صعق غير الأنبياء بالموت وأما صعق الأنبياء فالظاهر أنه غشية وزوال استشعار لا موت كغيرهم، لئلا يلزم أنهم يموتون مرّتين، وهذا ما اختاره الإمام البيهقي والقرطبيّ وغيرهما أن صعقهم يومئذ ليس موتا بل غشيّ أو نحوه.
ويدل لصحته
قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور فلم يكن حيّا قبلي»
فإن هذا يقتضي أنه إذا نفخ النفخة الثالثة وهي نفخة البعث يفيق من كان مغشيّا عليه، ويجيء من كان ميتا والنبي- صلى الله عليه وسلم- وكذلك غيره من الأنبياء لم يحصل لهم إلا الغشي.
والحاصل إن نبينا- صلى الله عليه وسلم- تحقّق أنه أول من يفيق وأول من يخرج من قبره قبل النّاس كلّهم الأنبياء وغيرهم إلا موسى- عليه الصلاة والسلام- فإنه يحصل له تردّد هل بعث قبله أو بقي على الحالة التي كان عليها قبل نفخة الصّعق.
قال العلائيّ: وهذا وجه أقوى ما يقرر عليه هذا الحديث وهو الذي لا يصح غيره.
[الحرة: ...
الهمهمة: ...
الصّور:] [ (1) ] ...
__________
[ (1) ] سقط في ب.(12/366)
الباب الثاني عشر في صلاته في قبره وكذلك سائر الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-
قال الإمام جمال الدين الأردبيلي في «الأنوار» في الفقه والأنبياء.
روى أبو نعيم والبيهقي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون» .
وروى أبو نعيم في «الحلية» عن يوسف بن عطية قال: سمعت ثابتا يقول لحميد الطويل: هل بلغك أن أحدا يصلي في قبره إلا الأنبياء؟ قال: لا.
وروى مسلم عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- ليلة أسرى به مرّ على موسى- عليه الصلاة والسلام- وهو قائم يصلي في قبره.
وروى أبو نعيم في «الحلية» عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مرّ بقبر موسى- عليه الصلاة والسلام- وهو قائم يصلي فيه.
تنبيهات
الأول: قال العلامة جمال الدين محمود بن جملة: وهذا الحديث صريح في إثبات الحياة لموسى- صلى الله عليه وسلم- فإنه وصفه بالصلاة وذكر أنه كان قائما ومثل هذا لا يوصف به الرّوح فقط، وإنّما يوصف به مع الجسد فإنه لا يقوم يصلي إلا بعودة الروح إليه، فتلك كرامة عظيمة فإنّه يفسح له في قبره فيكون عمله في العبادة متصل بعد وفاته وهذه الرواية رؤية عين، لأن مذهب أهل السنة أن الإسراء كان بالجسد، وإن سلم أنه بالروح فرؤية الأنبياء حقّ لا شكّ فيها.
الثاني: إن قيل: إنّ الصّلاة من أعمال الدّنيا فكيف يصلي من فارق الدّنيا أجيب بأن الصّلاة هنا قد تكون بمعنى الدّعاء والذكر وهو من أعمال الآخرة.
الثّالث: روى ابن أبي بشر عن شيبان بن جسر عن أبيه قال: كنت فيمن أدخل ثابت البناني في قبره فرفعت لبنة أصلحها فإذا بالقبر وفيه ثابت يصلّي، فطبقت اللبنة، ثم سألت أهله فقلت أخبروني ما كان ثابت يسأل ربه عز وجل؟ فقالت: كان يقول: اللهم، إن كنت أعطيت أحدا الصلاة في قبره فأعطيني ذلك وجاءت هذه الحكاية من غير وجه، والله تعالى أعلم.(12/367)
الباب الثالث عشر في عرض أعمال أمته عليه، زاده الله فضلا وشرفا لديه
روى الإمام أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني في «الكبير» وأبو الشيخ في «العظمة» والبزّار- بسند صحيح- وأبو نعيم في «الحلية» والحاكم والبيهقي في «الشعب» عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أن لله ملائكة سيّاحين يبلّغونني عن أمّتي السّلام» .
قال: [ ... ] .
وروى الديلمي عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا صلّيتم عليّ فأحسنوا الصّلاة، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليّ فقولوا: اللهم اجعل صلواتك وبركاتك على سيّد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير وإمام الرحمة، اللهم ابعثه المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون.
قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله تعالى-: المعروف أنه موقوف على ابن مسعود.
وروى ابن ماجه والطبراني في «الكبير» عن أبي الدرداء- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أكثروا من الصلاة على يوم الجمعة، فإنّه يوم مشهود تشهده الملائكة وإنّ أحدا لن يصلّي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حتّى يفرغ منها» قيل: وبعد الموت؟ قال: «وبعد الموت، إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلّوا عليّ، فإنّ صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم» .
وروى الإمام أحمد في مسنده وابن أبي عاصم في الصّلاة له والبيهقي في «حياة الأنبياء» و «شعب الإيمان» وغيرهما أبو داود والنسائي وابن ماجة في سننهم وابن حبّان وابن خزيمة في صحيحيهما والحاكم وقال: هذا صحيح على شرط البخاريّ ولم يخرّجاه عن أوس بن أوس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من أفضل أيّامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض وفيه النفخة، وفيه الصعقة فأكثروا عليّ من الصّلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك، وقد أرمت؟ يعني- بليت- قال: إن الله عز وجل حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء
انتهى.(12/368)
الباب الرابع عشر في حكم تركته- صلى الله عليه وسلم- وما خلف
روى الإمام أحمد عن أبي بكر- رضي الله تعالى عنه-، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لا يورث، وإنّما ميراثه للفقراء والمساكين.
روى ابن عساكر عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «والله لا تقتسم ورثتي بعدي دينارا ما تركت من شيء بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة» .
وروى الترمذي وقال: حسن غريب من أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا نورث» .
وروى الإمامان مالك وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف والإمامان مالك وأحمد والشيخان عن عائشة ومسلم والترمذي عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» .
وروى الإمام أحمد والشيخان والعرني وأبو داود والنسائي: «لا نورث ما تركنا صدقة وإنّما يأكل آل محمّد في هذا المال» .
وروى أبو داود عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا نورث ما تركنا صدقة وإنّما هذا المال لآل محمّد لنائبتهم، ولضيفهم، فإذا متّ فهو إلى وليّ الأمر من بعدي» .
وروى ابن سعد والإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن الجارود وأبو عوانة وابن حبان والبيهقي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن فاطمة- رضي الله تعالى عنها- بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ممّا أفاء الله على رسوله وفاطمة حينئذ تطلب صدقة النبي- صلى الله عليه وسلم- التي بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا نورث ما تركنا صدقة إنّما يأكل آل محمّد من هذا المال يعني مال الله ليس لهم أن يزيدوا على المأكل وإنّي والله، لا أغير شيئا من صدقة النبي- صلى الله عليه وسلم- عن حالها التي كانت عليها في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- ولأعملنّ فيها بما عمل النبي- صلى الله عليه وسلم- فيها فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر- رضي الله تعالى عنها- في ذلك.(12/369)
فقال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحب إلي أن أصل قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال، فإنّي لم أك فيها عن الحقّ وإنّي لم أكن لأترك فيها أمرا رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصنعه فيها إلا صنعته.
وروى ابن سعد- برجال ثقات- سوى الواقديّ- عن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- قال: «لمّا كان اليوم الذي توفي فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بويع لأبي بكر في ذلك اليوم فلما كان من الغد جاءت فاطمة لأبي بكر معها عليّ فقالت: ميراثي من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال أبو بكر- رضي الله تعالى عنه-: أمن الرثة أو من العقد قالت: فدك وخيبر وصدقاته بالمدينة، أرثها كما يرثك بناتك إذا متّ، فقال أبو بكر: أبوك والله خير منّي وأنت والله خير من بناتي، وقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا نورث ما تركنا صدقة» ، يعني هذه الأموال القائمة، فتعلمين أن أباك أعطاكها فو الله، لئن قلت: نعم لأقبلنّ قولك، ولأصدقنّك قالت: جاءتني أمّ أيمن فأخبرتني أنه أعطاني فدك، قال عمر: فسمعته يقول: هي لك فإذا قلت قد سمعته فهي لك، فأنا أصدقك، وأقبل قولك، قالت قد أخبرتك ما عندي.
وروى ابن سعد عن جعفر قال: جاءت فاطمة إلى أبي بكر، تطلب ميراثها، وجاء العباس بن عبد المطلب يطلب ميراثه وجاء معهما علي
فقال أبو بكر: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا نورث ما تركنا صدقة» وما كان النبي يعول فعليّ فقال علي: وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: 16] وقال زكريا: يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم: 6] قال أبو بكر: هو هكذا، وأنت الله أعلم مثل ما أعلم فقال عليّ: هذا كتاب الله ينطق فسكتوا وانصرفوا.
وروى عبد الرزاق والإمام أحمد وعبد بن حميد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو عوانة وابن حبان وابن مردويه والبيهقيّ وأبو عبيد في «الأموال» عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: أرسل إلى عمر بن الخطاب حجبته فجاء يرفأ فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في عثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير، وسعد قال: نعم، ثم جاء، فقال: هل لك في عبّاس وعليّ؟ قال: نعم، فدخلوا، قال عمر: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» ، فقالوا: نعم، فأقبل على عبّاس وعليّ فقال: أنشدكما بالله الذي تقوم السماء والأرض بإذنه، أتعلمان أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» قال: نعم، قال عمر: فإنّ الله كان خصّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بخاصّة لم يخصص بها أحدا غيره قال: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى [الحشر: 7] فقسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بينكم أموال بني النضير، فو الله، ما أستأثر عليكم، ولا آخذها دونكم حتى بقي هذا المال، فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأخذ منه نفقة سنة(12/370)
ثم يجعل ما بقي أسوة المال، ثم قال: أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون ذلك؟ قالوا: نعم، ثم نشد عباسا وعليّا بمثل ما نشد به القوم: أتعلمان ذلك: قالا: نعم، فلما توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر: أنا وليّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجئتما تطلب ميراثك من ابن أخيك ويطلب هذا ميراث امرأته من أبيها فقال أبو بكر: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا نورث ما تركنا صدقة» فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا والله يعلم إنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفي أبو بكر فقلت: أنا ولي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وولي أبي بكر فرأيتماني كاذبا آثما غادرا خائنا والله يعلم أني لصادق بار راشد تابع للحق فوليتماني حتى جئتني أنت وهذا وأنتما جميع، وأمركما واحد، فقلتما ادفعها إلينا فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما على أن عليكما عهد الله وميثاقه أن تعملا فيه بالذي كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر يعملان فيها فأخذتماها بذلك فقال أكذلك؟ قالا: نعم ثم جئتماني لأقضي بينكما ولا والله لا أقضي بينكما بغير ذلك حتى تقوم الساعة فإن عجزتما عنها فرداها إليّ.
وروى الإمام أحمد والشيخان والبيهقي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أن فاطمة بنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يقسم لها ميراثها ممّا ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ممّا أفاء الله عليه فقال لها أبو بكر: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا نورث ما تركنا صدقة» فغضبت فاطمة فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرة حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر فكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها ممّا ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة فأبى أبو بكر ذلك، وقال: لست تاركا شيئا كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعمله إلا عملته، فإني أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.
وروى الحميديّ عن زرّ بن حبيش قال: سألت عائشة عن ميراث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قالت: أعن ميراث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تسأل؟ ما ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صفراء ولا بيضاء ولا شاة ولا بعيرا ولا عبدا ولا أمة ولا ذهبا ولا فضّة.
وروى البخاري عن عمرو بن الحارث ختن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخي جويرية بنت الحارث قال: ما ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند موته دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا إلا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة.
وروى الإمام أحمد وابن عساكر عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: مات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما ترك دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا وليدة وترك درعه عند يهودي على ثلاثين صاعا من شعير.
وروى ابن عساكر عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: والله، لا تقتسم ورثتي(12/371)
بعدي، ما تركت من بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة.
وروى الإمام أحمد وابن عساكر من طرق ومسلم عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: ما ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا شاة ولا بعيرا ولا أوصى بشيء.
وروى البخاري عن ابن عبّاس ومحمد ابن الحنفيّة قال: ما ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلّا ما بين الدّفّتين.
وروى البخاري عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند أنس، وكان قد انصدع فسلسله بفضّة قال: وهو قدح عريض من نضار قال معمر: والنّضار شجر ب «نجد» وقال أنس: لقد سقيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في هذا القدح وكان فيه حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من فضّة أو ذهب فقال أبو طلحة: لا تغيره كما كان عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فتركه.
وروى عن عيسى بن طهمان قال: أخرج إلينا أنس نعلين جرداوين لهما قبالان، قال:
فحدّثني ثابت بعد عن أنس أنهما نعلا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وروى البيهقي عن فاطمة بنت الحسين أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قبض وله بردان في الحقّ يعملان.
وروى أيضا عن سهل بن سعد قال: توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وله جبّة صوف في الحياكة.
تنبيهات
الأول:
قوله- صلى الله عليه وسلم- لا نورث ما تركنا صدقة.
قال الباجي: أجمع أهل السّنّة على أن هذا حكم جميع الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-.
وقال ابن عليّة: هذا لنبينا- صلى الله عليه وسلم- خاصة.
وقالت الإمامية: إن جميع الأنبياء يورثون وتعلّقوا في ذلك بأنواع من التّخليط لا شبهة فيها مع ورود هذا النّصّ.
قال: وقد أخبرني القاضي أبو جعفر السّمناني أن أبا علي بن شاذان وكان من أهل العلم بهذا الشأن إلا أنه لم يكن قرأ عربية فناظر يوما في هذه المسألة أبا عبد الله بن المعلم، وكان إمام الإمامية، وكان مع ذلك من أهل العلم بالعربية فاستدلّ ابن شاذان على أن الأنبياء لا يورثون بحديث: «إنّا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» نصب على الحال.(12/372)
فقال له ابن المعلم: أما ما ذكرت من هذا الحديث فإنما هو صدقة نصب على الحال فيقتضي ذلك أن ما تركه النبي- صلى الله عليه وسلم- علي وجه الصّدقة لا يورث عنه، ونحن لا نمنع هذا وإنما نمنع ذلك فيما تركه على غير الوجه، واعتمد هذه النكتة الغريبة لمّا عرف أنّ ابن شاذان لا يعرف هذا الشّأن ولا يفرق بين الحال وغيرها، فلما عاد الكلام إلى ابن شاذان، قال له: ما ادعيت من
قوله- صلى الله عليه وسلم- «لا نورث ما تركنا صدقة»
إنّما هو صدقة منصوبة على الحال، وأنت لا تمنع هذا الحكم فيما تركه الأنبياء- صلوات الله عليهم- على هذا الوجه فأنا لا نعلم فرقا بين قوله «ما تركنا صدقة» بالنّصب وبين قوله «ما تركنا صدقة» بالرفع ولا أحتاج في هذه المسألة إلى معرفة ذلك فإنه لا شكّ عندي وعندك أن فاطمة- رضي الله تعالى عنها- من أفصح العرب ومن أعلمهم بالفرق بين قوله: «ما تركنا صدقة» بالنصب و «ما تركنا صدقة» بالرفع، وكذلك العباس بن عبد المطّلب وهو ممن كان يستحق الميراث لو كان موروثا وكان علي بن أبي طالب من أفصح قريش وأعلمهم بذلك وقد طلبت فاطمة ميراث أبيها، فأجابها أبو بكر الصديق بهذا اللّفظ على وجه ففهمت منه أنه لا شيء لها، فانصرفت عن الطّلب، وفهم ذلك العباس وكذلك عليّ وسائر الصحابة ولم يعترض أحد منهم لهذا الاعتراض، وكذلك أبو بكر الصديق المحتجّ به والمتعلّق به، لا خلاف أنه من فصحاء العرب العالمين بذلك لم يورد من هذا اللفظ إلا بما يقتضي المنع، ولو كان اللفظ لا يقتضي المنع لما أورده ولا يتعرق به فإما أن يكون بالنصب يقتضي ما يقوله فادّعاؤك فيما قلت باطل وإما أن يكون الرفع هو الذي يقتضيه فهو المروي وادعاء النّصب فيه باطل.
الثاني: ذكر ابن إسحاق في قصّة تبوك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أعطى أهل أيلة برده مع كتابه الذي كتب لهم أمانا لهم وهي التي كانت عند الخلفاء اشتراها أبو العباس عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار فهي عندهم.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
لا الا: ...
الرثة: ...
العقد: ...
وليدة: ...
الدّفتين: ...
انصدع: ...(12/373)
النّضار: ...
الجرداوين: ...
الحقّ: هو الخشبة التي يلفّ عليها.
الحائك: الثّوب ويسمونه النول، ويقال الحق الذي ينسج به انتهى.(12/374)
جماع أبواب زيارته- صلى الله عليه وسلّم- بعد موته وفضلها
الباب الأول في فضل زيارته- صلّى الله عليه وسلم-
قال القاضي عياض في «الشفاء» وزيارة قبره- صلى الله عليه وسلم-: سنة من سنن المرسلين [مجمع عليها] [ (1) ] وفضيلة مرغب فيها.
وإذا قرب من المدينة فلينزل عن راحلته ويكفي زائره شرفا
قوله- صلى الله عليه وسلم-: «من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي، ومن زارني وجبت له شفاعتي» .
قال ابن الرشيد والإمام العلامة: لما قدمنا المدينة الشريفة في سنة أربع وثمانين وستمائة كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكيم وكان أرمد فلما وصلنا دار الخليفة ونحوها نزلنا عن الأكوار وقوى الشوق لقرب المزار فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابا بتلك الآثار وإعظاما لمن حل بتلك الديار فأحس بالشفاء في نفسه فأنشد فيّ نفسه لوصف الحال:
ولمّا رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا
وبالقرب منها إذ كحلنا عيوننا ... شفينا فلا بأسا نخاف ولا كربا
وحين تبدّى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنّا أزيلت لنا قربا
نزلنا على الأكوار نمشي كرامة ... لمن حلّ فيها أن يلمّ بها ركبا
فسحّ سجال الدّمع في عرصاته ... وتلثّم من حبّ لواطئه التّربا
وإنّ بقائي دونه لخسارة ... ولو أنّ كفى تملك الشّرق والغربا
فيا عجبا ممّن يحبّ بزعمه ... يقيم مع الدّعوى ويستعمل الكذبا
وزلّات مثلي لا تعدّد كثرة ... وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا
وحكى عن بعضهم أنه لما أشرف على المدينة الشريفة أنشد متمثلا:
رفع الحجاب لنا فلاح لناظري ... قمر تقطّع دونه الأوهام
__________
[ (1) ] سقط في ب.(12/375)
وإذا المطيّ بنا بلغن محمّدا ... فظهورهنّ على الرّجال حرام
قرّبننا من خير من وطئ الثّرى ... ولها علينا حرمة وذمام
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح عن يعلى بن مرة- رضي الله تعالى عنه- قال: نزلنا منزلا فنام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها فلما استيقظ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذكرت له فقال: هي شجرة استأذنت ربها عز وجل إن تسلم عليّ فأذن لها، فإذا كان هذا حال شجرة فكيف بالمؤمن المأمور بتعظيم هذا النبي الكريم الممتلئ القلب بالشوق إليه.
وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من زارني بالمدينة محتسبا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة» .
وروى الدارقطني عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من زار قبري وجبت له شفاعتي» .
ورواه في أماليه من طريق موسى بن هلال عن عبيد الله بن عمر- مصغرا- لكن رواه الدولابي في الكنى من طريق موسى بن هلال فقال عن عبد الله بن عمر العمري أبو عبد الرحمن أخو عبيد الله عن نافع به، ورواه البزار عن طريق عبد الله بن إبراهيم الغفاري وهو متروك.
وروى أبو داود الطيالسي عن سوار بن ميمون أبو الجراح العبدي قال: حدثني رجل من آل عمر عن عمر قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «من زار قبري أو قال: من زارني كنت له شفيعا وشهيدا» .
وروى الدارقطني من طريق هارون بن أبي قزعة عن رجل من آل حاطب عن حاطب قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي» .
وروى الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» .
ورواه الدارقطني من طريق آخر بلفظ: «من حجّ فزار قبري فذكره» ورواه أيضا الطبراني بهذا اللفظ.
وروى العقيلي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومن زارني حتّى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيدا أو شفيعا» .
وروى أبو الفتوح سعيد بن محمد في «حزبه» عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه-(12/376)
قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من زارني بعد موتي كمن زارني وأنا حيّ ومن زارني كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» .
وروى يحيى بن الحسن الحسيني وابن عساكر عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من زار قبري بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ومن لم يزرني فقد جافاني» .
وروى يحيى بن الحسن بن جعفر العلوي عن رجل عن بكر بن عبد الله عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «من أتى المدينة زائرا إليّ وجبت له شفاعتي يوم القيامة»
رجاله لا بأس بهم وبكر بن عبد الله إن كان المدني فهو تابعي جليل فيكون الحديث مرسلا وإن كان هو بكير بن عبد الله بن الربيع الأنصاري فهو صحابي.
تنبيهات
الأول: ضعّف الحافظ يحيى بن علي القرشيّ كون الراوي عبد الله مكبّرا، وصوّب كونه مصغّرا وكذلك صوّبه الحافظ أبو القاسم بن عساكر في تاريخه كما في النسخة التي بخطّ الحافظ البرزالي.
قال ابن عديّ: عبد الله- أي مكبّرا- أصحّ.
قال السبكي: وفيه نظر والذي يترجّح عبيد الله أي مصغّرا لتضافر روايات عبيد بن محمّد كلّها وبعض روايات ابن سمرة ولما سيأتي في الحديث الثّالث من متابعة مسلمة الجهميّ لموسى بن هلال، ويحتمل أن موسى سمع من عبد الله وعبيد الله جميعا، وحدّث به عن هذا تارة وعن هذا أخرى، وممن رواه عن موسى عن عبد الله مكبّرا الفضل بن سهل، فإن صحّ أنه عنهما فلا منافاة على أن المكبر روى له مسلم مقرونا بغيره.
وقال أحمد: صالح، وقال أبو حاتم: رأيت أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه.
وقال يحيى بن معين: ليس به بأس يكتب حديثه.
وقال: إنّه في نافع: إنه صالح.
وقال ابن عديّ: لا بأس به، صدوق.
وقال ابن حبان: ما حاصله: أن الكلام فيه بكثرة غلطه لغلبة الصلاح عليه حتّى غلب عن ضبط الأخبار.
قال السبكي: وهذا الحديث ليس في مظنة الالتباس عليه لا سندا ولا متنا، لأنّه في نافع كما هو خصيص به ومتنه في غاية القصر والوضوح فاحتمال خطئه فيه بعيد، والرواة إلى موسى ثقات لا ريبة فيهم.(12/377)
قال ابن عديّ أرجو أنه لا بأس به، وقد روى عنه ستّة منهم الإمام أحمد ومحمد بن جابر المحاربيّ روى عنه شعبة ولم يكن يروي إلا عن ثقة عنده، فلم يبق من الإسناد من ينظر فيه إلا الرّجل المبهم.
قال السّبكي: والأمر فيه قريب لا سيّما في هذه الطبقة التي هي طبقة التابعين وأما قول البيهقي: هذا إسناد مجهول، فإن كان سببه جهالة الرّجل الذي من آل عمر فصحيح، وقد بيّنا قرب الأمر فيه، وإن كان سببه عدم علمه لحال سوار بن ميمون، فقد ذكرنا رواية شعبة عنه، وهي كافية فلا يضرّه قول أبي حاتم الرازي أنه مجهول الحال، وقول العقيلي: لا يتابع عليه، وقول البيهقي: سواء قال عبيد الله أم عبد الله فهو منكر عن نافع عن ابن عمر لم يأت به غيره، فهذا وما في معناه يدلّك على أنه لا علّة لهذا الحديث عندهم إلا تفرّد موسى به وأنهم لم يحتملوه له لخفاء حاله وإلّا فكم من ثقة يتفرد بأشياء ويقبل منه، وأما بعد قول ابن عدي في موسى ما قال، ووجود متابع فإنه يتعين قبوله وعدم رده، ولذلك ذكره الحافظ عبد الحقّ في الأحكام [الصّغرى، والوسطى] [ (1) ] وسكت عنه مع قوله في الصّغرى إنه تغيّرها صحيحة الإسناد معروفة عند النقاد قد نقلها الأنبات وتداولها الثقات.
وقال في الوسطى: وهي المشهورة اليوم بالكبرى: إن سكوته عن الحديث دليل على صحته فيما نعلم انتهى.
وسبقه ابن السكن إلى تصحيح الحديث الثالث، كما سنذكره وهو متضمن لمعنى هذا الحديث وأقلّ درجات الحديث الحسن أن نوزع في صحّته لما سيأتي من شواهده.
هذا وتظافر الأحاديث يزيدها قوّة حتّى إنّ الحسن قد يرتقي بذلك إلى درجة الحديث الصحيح.
ومعنى قوله: «وجبت» أنها ثابتة لا بدّ منها بالوعد الصّادق.
وقوله له إما أن يكون المراد له بخصوصه فيخص الزائر بشفاعة لا تحصل لغيره، وإما أن يراد أنه تفرد بشفاعة لا تحصل لغيره، والإفراد للتشريف والتقوية بسبب الزيارة.
وإما أن يراد به بركة الزيارة والشفاعة، فهو يبشر بموته مسلما فيجري على عمومه، ولا يضمر فيه شرط الوفاة على الإسلام بخلافه على الأولين.
وقوله: «شفاعتي» في هذه الإضافة تشريف، فإن الملائكة والنبيين والمؤمنين يشفعون والزائر له نسبة خاصّة منه فيشفع فيه هو بنفسه.
__________
[ (1) ] في ب الأولى والصغرى.(12/378)
والشّفاعة تعظم بعظم الشافع.
وعن ابن عمر أيضا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «من زار قبري حلّت له شفاعتي» رواه البزار بسند ضعيف
قال السّبكيّ: وهذا الحديث هو الأول بعينه إلا أنّ في الأولى «وجبت» وفي هذا «حلّت» .
وعن ابن عمر أيضاً قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من جاءني زائرا يعمله حاجة إلا زيارتي كان حقّا عليّ أن أكون له شفيعا يوم القيامة» . رواه الطبراني في «الأوسط» والدّارقطنيّ في أماليه وصحّحه وأبو بكر بن المقري في «معجمه» من رواية مسلمة بن سالم الجهنيّ قال:
حدّثني عبيد الله بن العمري مصغرا عن نافع به وفي معجم ابن المقري عن نافع وسالم، فقد تابع مسلمة الجهني موسى بن هلال في شيخه عبيد الله العمري والطبراني كلها في روايته متّفقة على عبيد الله المصغر الثقة إلا أن مسلم بن حاتم الأنصاري رواه عن مسلمة مكبّرا، وهذا طريق أورده الحافظ أبو علي بن السّكن في باب من زار قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- من كتابه المسمى ب «الصّحاح المأثور» عن النبي- صلى الله عليه وسلم
- ومقتضى ما شرطه في خطبته أن يكون هذا الحديث ممّا أجمع عليه في صحته فإما أن يكون ثبت عنده من غير طريق مسلمة، أو أنه ارتقى إلى ذلك بكثرة الطرق، وتبويبه دالّ على أنه فهم من الحديث الزيارة بعد الموت أو أن ما بعد الموت داخل في العموم وقال العلامة جمال الدين محمود بن جملة بعد هذا الحديث:
ويرتقي إلى درجة الحسن الذي يحتج به في الأحكام فكيف في باب الفضائل والقرب فما يعارضه شيء قال السبكي: وهو صحيح.
قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: طرق هذا الحديث كلّها ضعيفة، لكن صحّحه من حديث ابن عمر أبو علي بن السّكن في إيراده إيّاه في أثناء السّنن الصّحاح له وعبد الحق في سكوته عنه، والشيخ تقي الدين السبكي من المتأخرين باعتبار مجموع طرقه.
الثاني: أورده البيهقي في باب زيارة النبي- صلى الله عليه وسلم- في قبره حديث أبي هريرة السابق في باب حياته في قبره، وصدّر به واعتمد جماعة من الأئمة في الزيارة على هذا الحديث.
قال السّبكي: وهو اعتماد صحيح لتضمّنه قرينة قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- ورده وهي مرتبة شريفة ومنقبة عظيمة ينبغي التعرّض لها والحرص عليها لينال بركة سلامه- صلى الله عليه وسلم
- لفظ الإمام أحمد «ما من أحد يسلّم عليّ في قبري»
فإن ثبت فهذا صريح في تخصيص هذه الفضيلة بالمسلّم عند القبر وإلا فالمسلّم عند القبر امتاز بالواجهة بالخطّاب ابتداء وجوابا ففيه فضيلة زائدة على الرّدّ على الغائب.(12/379)
الباب الثاني في الدليل على مشروعية السفر وشد الرحل لزيارة سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
استدل العلماء- رضي الله تعالى عنهم- على مشروعية زيارته وشد الرحل لذلك بالكتاب، والسّنّة، والإجماع، والقياس.
أما الكتاب فقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] وجه الدلالة من هذه الآية مبني على شيئين:
أحدهما:
إن نبينا- صلى الله عليه وسلم- حيّ كما يثبت ذلك في بابه.
الثاني:
أن أعمال أمته معروضة عليه كما يثبت ذلك في بابه.
فإذا عرف ذلك فوجه الاحتجاج بها حينئذ أن الله تعالى أخبر أنّ من ظلم نفسه ثم جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاستغفر الله تعالى واستغفر له الرسول فإنه يجد الله توابا رحيما، وهذا عامّ في الأحوال والأزمان للتعليق على الشّرط، وبعد تقرير إن نبينا- صلى الله عليه وسلم- بعد موته عارف بمن يجيء إليه سامع الصّلاة ممن يصلي عليه، وسلام من يسلم عليه، ويرد عليه السّلام فهذه حالة الحياة، فإذا سأله العبد استغفر له، لأن هذه الحالة ثابتة له في الدنيا والآخرة، فإنه شفيع المذنبين وموجبها في الدّارين الحياة والإدراك مع النبوة، وهذه الأمور ثابتة له في البرزخ أيضا فتصحّ الدلالة حينئذ وفاء بمقتضى الشّرط.
وقد استدل الإمام مالك على ذلك بهذه الآية كما ذكرته في باب مشروعية التوسل به- صلى الله عليه وسلم-.
وحكى المصنّفون في المناسك من أرباب المذاهب عن أبي عبد الرحمن محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب العتبي أحد أصحاب سفيان بن عيينة قال: دخلت المدينة فأتيت قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فزرته وجلست بحذائه فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرّسل، أن الله تعالى أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه:
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] وإني جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم بكى وأنشد:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم(12/380)
ثمّ استغفر وانصرف.
قال العتبيّ: فرقدتّ فرأيت النبي- صلى الله عليه وسلم- في النّوم، وهو: - يقول: الحق الأعرابيّ وبشّره بأن الله: غفر له بشفاعتي فاستيقظت فخرجت أطلبه فلم أجده [ (1) ] .
ورويت هذه القصّة من غير طريق العتبي رواه ابن عساكر في «تاريخه» وابن الجوزي في «الوفاء» عن محمد بن حرب الهلالي وقد خمس هذه الأبيات جماعة منهم الشيخ أبو عبد الله محمد بن أحمد الأقفسهي.
وروى الحافظ ابن النّعمان في «مصباح الظّلام في المستغيثين بخير الأنام» من طريق الحافظ ابن السمعانيّ بسنده عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: قدم علينا أعرابيّ بعد ما دفنّا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أيام فرمى نفسه على القبر الشريف، وحثا من ترابه على رأسه وقال: يا رسول الله، قلت فسمعنا قولك، ووعيت عن الله تعالى، ووعينا عنك وكان فيما أنزل عليك:
وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] وقد ظلمت نفسي، وجئتك تستغفر لي فنودي من القبر: إنّه قد غفر لك.
والآية دالّة على الحثّ على المجيء إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- والاستغفار عنده واستغفاره لهم، وهذه رتبة لا تنقطع بموته- صلى الله عليه وسلم- والعلماء- رضي الله تعالى عنهم- فهموا من الآية العموم، بحالتي الموت والحياة واستحبوا لمن أتى القبر الشريف أن يتلوها ويستغفر الله تعالى.
وأما السّنّة فما ذكر في الكتب وما ثبت من خروج النبي- صلى الله عليه وسلم- من المدينة لزيارة قبر الشهداء، وإذا ثبت أن الزيارة قربة فالسفر كذلك، وإذا جاز الخروج للقريب جاز للبعيد، وحينئذ فقبره- صلى الله عليه وسلم- أولى، وقد وقع الإجماع على ذلك لإطباق السلف والخلف.
قال القاضي عياض- رحمه الله تعالى-: زيارة قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- سنة بين المسلمين ومجمع عليها وفضيلة مرغب فيها وأجمع العلماء على زيارة القبور للرّجال والنّساء كما حكاه النووي- رحمه الله تعالى- بل قال بعض الظاهرية بوجوبه، واختلفوا في النساء وقد امتاز القبر الشريف بالأدلة الخاصّة به كما سبق.
قال السّبكيّ: ولهذا أقول: لا فرق بين الرّجال والنّساء.
وأما القياس فعلى ما ثبت من زيارته- صلّى الله عليه وسلّم- لأهل البقيع وشهداء أحد، وإذا استحب زيارة قبر غيره فقبره أولى، لما له من الحقّ ووجوب التعظيم، وليست زيارته إلا لتعظيمه والتبرك
__________
[ (1) ] لا تثبت من وجه صحيح.(12/381)
به، ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه عند قبره بحضرة الملائكة الحافين به، وذلك من الدّعاء المشروع له والزيارة قد تكون لمجرّد تذكّر الآخرة، وهو مستحبّ لحديث «زوروا القبور، فإنّها تذكّركم الآخرة» وقد تكون للدّعاء لأهل القبور كما ثبت في زيارة أهل البقيع وقد تكون للتبرك بأهلها إذا كانوا من أهل الصّلاح.
وقال أبو محمد الشامساحي المالكي: إنّ قصد الانتفاع بالميت بدعة إلا في زيارة قبر المصطفى- صلى الله عليه وسلم- وقبور الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-.
قال السبكي: وهذا الاستثناء صحيح وحكمه في غيرهم بالبدعة فيه نظر، وقد تكون الزيارة لأداء حقّ أهل القبور،
وقد روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «آنس ما يكون الميت في قبره إذا زاره من كان يحبّه في دار الدنيا» .
قال السّبكيّ: وزيارة قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذه المباني الأربعة فلا يقوم غيرها مقامها.
تنبيه:
كره الإمام أحمد ومالك- رحمه الله تعالى- أن يقال: زرنا قبر النبي- صلى الله عليه وسلم-.
واختلف الأئمة في مراده بذلك فقال أبو عمران المالكي: إنما كره ذلك، لأن الزيارة، من شاء فعلها ومن شاء تركها، وزيارة قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- واجبة.
قال عبد الحق الصّقليّ: يعني من السنن الواجبة.
وقال ابن رشد: ما كره مالك هذا إلا من وجه أن كلمة أعلى من كلمة فلما كانت الزيارة تستعمل في الموتى وقد وقع فيها من الكراهة ما وقع، كره أن يذكر مثل ذلك في النبي- صلى الله عليه وسلم-.
واختار القاضي أن كراهة مالك لذلك لإضافة الزيارة إلى القبر- وأنه لو قال: زرنا النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يكره
لحديث «اللهمّ، لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»
فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر قطعا للذريعة.
قال السّبكيّ: ويشكل عليه حديث «من زار قبري [فقد أضاف الزيارة إلى القبر] إلا أن يكون هذا الحديث لم يبلغ مالكا أو لعلّه يقول: المحذور في قول غيره مع أن أبا عمر شذ فنقل عن مالك أنه قال: وأكره ما يقول الناس: زرت النبي- صلى الله عليه وسلم- وأعظم ذلك أن يكون النبي- صلى الله عليه وسلم- يزار.(12/382)
الباب الثالث في الرد على من زعم أنّ شدّ الرحل لزيارته- صلى الله عليه وسلم- معصية
قد تقدم أنه انعقد الإجماع على تأكّد زيارته، وحديث لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد حجّة في ذلك.
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ بعد أن ذكر حديث الصحيحين: أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يأتي قباء راكبا وماشيا ليس في إتيانه- صلى الله عليه وسلم- مسجد قباء ما يعارض الحديث الأوّل، لأن ذلك معناه عند العلماء فيمن نذر على نفسه صلاة في أحد المساجد الثلاثة أنّه يلزمه إتيانها دون غيرها.
وأما إتيان مسجد قباء وغيره من مواضع الرباط فلا بأس بإتيانها بدليل حديث قباء هذا.
قال الإمام العلامة محمود بن جملة: وهو الذي ذكره هو الحق الذي لا محيد عنه، ولهذا تجد الأئمة من الفقهاء والمحدّثين يذكرون الحديث في باب النذور والسّفر للجهاد، ولتعلّم العلم الواجب، وبر الوالدين، وزيارة الإخوان، والتفكير في أثار صنع الله تعالى، وكلّه مطلوب للشّارع إما وجوبا، أو استحبابا، والسّفر للتجارة والأغراض الدّنيوية جائز وكله خارج عن هذا الحديث، فلم يبق إلا شدّ الرّحل للمعصية، وحينئذ هو النوع، ولا يختص بشد الرحل، يا سبحان الله أن يكون السّفر لزيارة النبي- صلى الله عليه وسلم- من هذا القسم لقد اجترأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قال هذا، وهو كلام يدور مع الاستهانة وسوء الأدب، وفي إطلاقه ما يقتضي كفر قائله نعوذ بالله من الخذلان، وكذا في
قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تتّخذوا قبري عيدا ولا تجعلوا بيوتكم قبورا»
يعارض ما سبق لأن سباقه يقتضي دفع توهّم من توهّم أن الصلاة عليه لا تكون مؤثرة إلا عند قبره فيفوت بسبب ذلك ثواب المصلي عليه من مصلّ، ولهذا
قال- صلى الله عليه وسلم-: «فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم»
ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز السّفر وشدّ الرّحل لغرض دنيوي كالتّجارة فإذا جاز ذلك فهذا أولى، لأنه أعظم الأغراض الأخروية فإنّه في أصله من أمر الآخرة لا سيما في هذا الوضع ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز السّفر وشدّ الرّحل لغرض أخرويّ كالاعتبار بمخلوقات الله- عز وجل- وآثار صنعه وعجائب ملكوته ومبتدعاته، وقد دل على هذا آيات كثيرة في الكتاب العزيز كقوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت: 20] والاعتبار لمن بصره الله تعالى بمثل هذا السّفر، فإن المسلم العاقل يحصل له أعظم العبر فيتقرر عنده أن الدّنيا ليست بدار مقام، وأن آخر أمرها شرب كأس(12/383)
الحمام، ويتذكر شدة الموت وسكراته، وما حصل للنبي- صلى الله عليه وسلم- من ذلك وهو أكرم الخلق على الله تعالى.
قال العلامة زين الدّين المراغيّ: وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته- صلّى الله عليه وسلم- قربة للأحاديث الواردة في ذلك ولقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [النساء: 64] الآية، لأن تعظيمه- صلى الله عليه وسلم- لا ينقطع بموته ولا يقال إن استغفار الرّسول لهم إنما هو في حال حياته، وليست الزيارة كذلك لما قد أجاب به بعض أئمة المحققين من أن الآية دلّت على تعليق وجدان الله توّابا رحيما بثلاثة أمور: المجيء، واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرّسول لجميع المؤمنين، لأنه- صلى الله عليه وسلم- قد استغفر للجميع قال الله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] فإذا وجد مجيئهم أو استغفارهم تكاملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى ورحمته.
ومشروعية السّفر لزيارة قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- قد ألف فيها الشيخ تقي الدين السّبكيّ، والشيخ جمال الدين بن الزملكاني والشّيخ داود أبو سليمان المالكيّ وابن جملة وغيرهم من الأئمة وردوا على عصريّهم الشيخ تقي الدين بن تيميّة- رحمه الله تعالى فإنّه قد أتى في ذلك بشيء منكر لا تغسله البحار [ (1) ] والله تعالى وليّ التوفيق ربّ السّموات والأرض وما بينهما العزيز الغفّار.
__________
[ (1) ] ولسنا نعتقد هذا في شيخ الإسلام فلقد جانب الصواب على شيخ الإسلام تقي الدين السبكي عليهما رحمة الله وبركاته.(12/384)
الباب الرابع في آداب زيارته- صلّى الله عليه وسلم-
منها إخلاص النّية وخلوص الطّويّة، فإنما الأعمال بالنيات فينوي التقرّب إلى الله تعالى بزيارة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويستحب أن ينوي مع ذلك التقرّب بالمسافرة إلى مسجده- صلى الله عليه وسلم- وشدّ الرّحل إليه والصلاة فيه كما قاله أصحابنا وغيرهم.
قال ابن الصلاح: ولا يلزم من هذا خلل في زيارته على ما لا يخفى، ونقل شيخ الحنفيّة الكمال بن الهمام عن مشايخهم: أنه ينوي مع زيارة القبر زيارة المسجد ثم قال: إن الأولى عندي تجريد النّيّة لزيارة قبره- صلى الله عليه وسلم- ثم إن حصل زيارة المسجد أو يستفتح فضل الله في مرّة أخرى ينويها فيها، لأن في ذلك زيادة تعظيمه وإجلاله- صلّى الله عليه وسلم- وليوافق
قوله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تعمله حاجة إلا لزيارتي» .
قال السيد: وفيه نظر، لأنه- صلى الله عليه وسلم- حثّ أيضا على قصد مسجده ففي امتثاله تعظيمه أيضا
وقوله: «لا تعمله حاجة»
أي لم يحثّ الشّرع عليها، وقد لا يسمح الزمان بزيارة المسجد، فليغتنم قصد ذلك مع الزيارة بل ينوي أيضا الاعتكاف فيه ولو ساعة، وإن تعلم فيه خيرا أو يتعلمه وأن يذكر الله تعالى فيه، ويذكر به وإكثار الصّلاة والتّسليم على النبي- صلى الله عليه وسلم- وختم القرآن إن تيسر والصّدقة على جيرانه- صلى الله عليه وسلّم- وغير ذلك ما يستحب للزائر فعله فينوي التقرّب أولا ليثاب على القصد، فنية المؤمن خير من عمله، وينوي اجتناب المعاصي، والمكروهات حياءً من الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم-.
[ومنها: أن يكون دائم الأشواق إلى زيارة الحبيب الشفيع كلفا بالوصول إلى ذلك الجناب الرفيع والشّوق إلى لقائه وطلب الوصول إلى مقامه من أظهر علامات الإيمان وأكبر بشائر الفوز يوم الفزع الأكبر بالأمن والإيمان وليزدد بالعزم شوقا وصبابة، وكلما ازداد دنوّا ازداد عزما وحنوّا] [ (1) ] .
ومنها: الإكثار في المسير من الصلاة والسلام على البشير النذير بل يستغرق أوقات فراغه في ذلك وغيره من القربات.
ومنها: إذا دنا من حرم المدينة وشاهد أعلامها وربابها وآكامها فليستحضر وظائف الخشوع والخضوع مستبشرا بالعناء وبلوغ المنال، وإن كان على دابّة حركها أو بعيرا وضعه تباشرا بالمدينة.
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/385)
ولله در القائل:
قرب الدّيار يزيد شوق الواله ... لا سيّما إن لاح نور جماله
أو بشّر الحادي بأن لاح النّقا ... وبدت على بعد رؤوس جباله
فهناك عيل الصّبر عن ذي صبوة ... وبدا الّذي يخفيه من أحواله
وليجتهد حينئذ في مزيد الصلاة والتسليم وترديد ذلك كلّما دنا من الربا والأعلام، ولا بأس بالتّرجّل والمشي عند رؤية ذلك المحلّ الشريف والقرب منه كما يفعله بعضهم، لأن وفد عبد القيس لما رأوا النبي- صلى الله عليه وسلم- نزلوا عن رواحلهم ولم ينكر عليهم والعظمة بعد الوفاة كهو في الحياة.
وقال أبو سليمان داود المالكي: في «الانتصار» إن ذلك يتأكد فعله لمن أمكنه من الرجال، وإنه يستحب تواضعا لله تعالى وإجلالا لنبيه- صلى الله عليه وسلم-.
وحكى القاضي أن أبا الفضل الجوهريّ لما ورد المدينة الشريفة زائرا وقرب من بيوتها ترجّل ومشي باكيا منشدا:
ولمّا رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادا لعرفان الرّسوم ولا لبّا
نزلنا على الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلمّ به ركبا
ولله در القائل:
رفع الحجاب لنا فلاح لناظري ... قمر تقطّع دونه الأوهام
وإذا المطيّ بنا بلغن محمّدا ... فظهورهنّ على الرّجال حرام
قرّبننا من خير من وطئ الثّرى ... ولها علينا حرمة وذمام
وقال غيره:
أتيتك راجلا ووددتّ أنّي ... ملكت سواد عيني أمتطيه
وما لي لا أسير على الأماقي ... إلى قبر رسول الله فيه
ومنها إذا بلغ حرم المدينة الشّريفة فليقل بعد الصلاة والتسليم: اللهم، هذا حرم نبيك ورسولك- صلى الله عليه وسلم- الذي حرمته على لسانه ودعاك أن تجعل فيه من الخير والبركة مثلي ما هو في حرم مكة البيت الحرام، فحرمني على النار وأمني من عذابك يوم تبعث عبادك وارزقني من بركاته ما رزقت به أوليائك وأهل طاعتك ووفقني فيه بحسن الأدب وفعل الخيرات وترك المنكرات، ثم يشتغل بالصلاة والتسليم، وإن كانت طريقه على ذي الحليفة، فلا يجاوز(12/386)
المعرس حتى ينيخ به ويصلي بمسجده ومسجد ذي الحليفة.
ومنها: أن يغتسل من بئر الحرّة [ (1) ] لدخول المدينة الشريفة ويلبس أنظف ثيابه ويتطيب وهو مستحبّ كما ذكره النووي وغير.
وقال الكرمانيّ الحنفيّ: فإن لم يغتسل خارج المدينة فليغتسل بعد دخولها في حديث المنذر بن ساوى التميمي أنه وفد من البحرين مع أناس فذهبوا بسلاحهم فسلموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ووضع المنذر سلاحه ولبس ثيابا كانت معه ومسح لحيته بدهن فأتى نبي الله- صلّى الله عليه وسلم- الحديث [ (2) ] ولتجتنب بعض ما يفعله المحرم من التحرر عن المخيط تشبها مجال الإحرام.
ومنها إذا شاهد القبّة المنيفة وشارف دخول المدينة الشريفة فليلزم الخشوع والخضوع مستحضرا عظمتها، وأنها البقعة التي اختارها الله تعالى لنبيّه وحبيبه ووصيفه- صلى الله عليه وسلم- وتمثل في نفسه مواضع أقدام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند نزوله فيها، وأنه ما من موضع يطؤه إلا موضع قدمه العزيز، فلا يضع قدمه عليه إلا مع الهيبة والسّكينة متصورا خشوعه- صلى الله عليه وسلم- في المشي وتعظيم الله تعالى له، حتى قرن ذكره بذكره، وأحبط عمل من انتهك شيئا من حرمته ولو يرفع صوته فوق صوته، ويتأسف على فوت رؤيته في الدّنيا، وأنه من رؤيته في الآخرة على خطر لسوء صنعه وقبح فعله ثم يستغفر لذنبه، ويلتزم سلوك سبيله، ليفوز بالإقبال عند اللقاء، ويحظى بتحية القبول من ذي البقاء.
ومنها: أن لا يخلّ بشيء مما أمكنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب عند انتهاك حرمة من حرمه أو تضييع شيء من حقوقه- صلى الله عليه وسلم- فإنّ من علامات المحب غيرة المحبّ لمحبوبه، وأقوى النّاس ديانة أعظمهم غيرة وإذا خلا القلب من الغيرة فهو من المحبّة خلا وإن زعم المحبّة فهو كاذب.
ومنها: أن يقول عند دخوله من باب البلد: بسم الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، حسبي الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم، إني أسالك بحق السائلين عليك، وبحقّ ممشاي هذا إليك، فإني لم أخرج بطرا ولا أشرا ولا رياء ولا سمعة وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وليحرص على ذلك كلما قصد المسجد ففي حديث أبي سعيد
__________
[ (1) ] قيل الظاهر أنه أراد بئر السقيا التي بالحرة.
[ (2) ] لا يصح ولم يثبت أنه وفد.(12/387)
الخدري- رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً: من قال ذلك في مسيره إلى المسجد، وكّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، ويقبل الله عليه بوجهه، ثم ليقوي في قلبه شرف المدينة، وأنها حوت أفضل بقاع الأرض بالإجماع وإن بعض العلماء قال: إنّ المدينة أفضل أمكنة الدّنيا، وفيها أرض مشى جبريل في عرصاتها، الله شرفها به وحماها.
ومنها: أن يقدم صدقة بين يدي نجواه ويبدأ بالمسجد الشريف قبل التعريج على أمر من الأمور أي شيء هو إلى مباشرته في ذلك الوقت غير مضطرّ ولا مضرور، فإذا شاهد المسجد النّبويّ والمسجد المحمديّ فليستحضر أنه أتى مهبط أبي الفتوح جبريل، ومنزل أبي الغنائم ميكائيل، والموضع الذي خصه الله تعالى بالوحي والتنزيل فليزدد خشوعا وخضوعا بهذا المقام ويقتضيه هذا المسجد الذي ترتعد دونه الأقدام ويجتهد في أن يوفق للوفاء بحقّه من التعظيم والقيام.
ومنها ما قاله القاضي فضل الله بن نصر التوزي: من أن الدّخول من باب جبريل أفضل وجرت عادة القادمين من ناحية باب السّلام بالدخول منه، فإذا أراد الدّخول فليفرّغ قلبه وليستصف ضميره، ويقدم رجله اليمنى، ويقول: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبنوره القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ربّ وفقني وسدّدني وأصلحني، وأعنّي على ما يرضيك عنّي ويقف عند النبيّ بحسن الأدب ثم يقول في هذه الحضرة الشريفة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ولا يترك ذلك كلّما دخل المسجد أو خرج منه إلا أنه يقول عند خروجه، افتح لي أبواب فضلك بدل قوله: وافتح لي أبواب رحمتك.
ومنها: إذا صار في المسجد فلينو الاعتكاف مدة لبثه وإن قلّ على مذهب الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- فيجوز لما فيه من الفضل ثم ليتوجه إلى الروضة المقدّسة، وإن دخل من باب جبريل فيقصدها من خلف الحجرة الشريفة مع ملازمة الهيبة والوقار وملابسة الخشية والانكسار والخضوع والافتقار، ثم ليقف في مصلّى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن كان خاليا وإلا فيما يلي المنبر من الرّوضة، وإلا في غيرها فيصلّي تحية المسجد ركعتين خفيفتين.
ونقل العلّامة زين الدين المراغي عن بعض مشايخه: أن محلّ تقدم التحية على الزيارة إذا لم يكن مروره قبالة الوجه الشريف فإن كان استحبت الزيارة أولا مع أن بعض المالكية ترخّص في تقديم الزيارة على الصلاة.(12/388)
وقال: كل ذلك واسع.
ومنها: أن يتوجّه بعد ذلك إلى القبر الكريم مستعينا بالله تعالى في رعاية الأدب في هذا الموقف العظيم فيقف بخضوع وخشوع تجاه المسمار الفضّة الذي بجدار المقصورة التي حول الحجرة الشريفة الواقف للزيارة خارجها عن مشاهدة ذلك المسمار إلا بتأكد يشغل القلب ويذهب الخشوع فليقصد الصّدعة البائنة من باب المقصورة القبلي التي على يمين مستقبل القبر الشريف فإذا استقبلها كان محازيا لها، والزيارة من داخل المقصورة أولى، لأنه موقف السّلف، والمنقول أنّ الزائر يقف على من رأس القبر الشريف نحو أربعة أذرع وقال ابن عبد السلام: على نحو ثلاثة أذرع، وعلى كل حال فذلك من داخل المقصورة بلا شك.
وقال في الإحياء: فينبغي أن يقف بين يديه كما وصفنا فتزوره ميتا كما كنت تزوره حيّا، ولا تقرب من قبره إلا ما كنت تقرب شخصه الكريم لو كان حيّا انتهى.
ولينظر الزائر في حال وقوفه إلى أسفل ما يستقبل من جدران الحجرة الشريفة ملتزما للحياء والأدب التّام في ظاهره وباطنه.
وقال الكرماني الحنفي: يضع يمينه على شماله كما في الصلاة.
وقال في الإحياء: واعلم أنه- صلى الله عليه وسلم- عالم بحضورك وقيامك وزيارتك وأنه يبلغه صلاتك وسلامك عليه فمثل صورته الكريمة في خيالك موضوعا في اللّحد بإزائك وأحضر عظيم رتيته في قلبك
فقد روي عنه- صلى الله عليه وسلم-: «إنّ الله وكّل بقبره ملكا يبلّغه سلام من يسلّم عليه من أمّته» .
هذا في حق من لم يحضر قبره فكيف بمن فارق الوطن وقطع البوادي شوقا إليه واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم إذ فاته مشاهدة نبوته الكريمة انتهى.
ثم يسلم الزائر ولا يرفع صوته ولا يخفيه بل يقصد، وأقلّه السلام عليك يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وجاء عن ابن عمر وغيره من السّلف- رضي الله تعالى عنهم- أن الاقتصار جدّا وجرى عليه الإمام مالك، واختار بعضهم التطويل في السّلام، وعليه الأكثرون ثم إن كان وصّاه أحد بالسّلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان أو فلان بن فلان يسلّم عليك يا رسول الله، أو نحوه من العبارات، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع، فيصير تجاه أبي بكر الصديق فيقول: السلام عليك يا أبا بكر صفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وثانيه في الغار، ورفيقه في الأسفار جزاك الله عن أمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خيرا.(12/389)
ثم يتأخر صوب يمينه قدر ذراع، فيصير تجاه عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- فيقول: السلام عليك يا عمر الفاروق الذي أعز الله بك الإسلام جزاك الله عن أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- خير الجزاء ثم يرجع الزائر إلى موقفه الأوّل قبالة وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيتوسّل به في حقّ نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ومن أحسن ما يقول ما حكاه المصنفون في المناسك من جميع المذاهب واستحسنوه ورأوه من أدب الزّائر عن أبي عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عقبة بن أبي سفيان- صخر بن حرب- العتبي أحد أصحاب سفيان بن عيينة قال: دخلت المدينة فأتيت قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فزرته وجلست بحزائه فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرّسل، إنّ الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] وإني جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
نفسي لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم استغفر وانصرف فرقدتّ فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في نومي وهو يقول: الحق الأعرابيّ، وبشّره بأن الله تعالى غفر له بشفاعتي فاستيقظت فخرجت أطلبه فلم أجده، رواها ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في كتابه: «مثير العزم الساكن» عن محمد بن حرب الهلاليّ أنه اتفق له مثل ما اتّفق للعتبي ووردت هذه القصة من غير طريق العتبي فرواها.
وروى ابن السّمعاني عن علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه- قال: قدم علينا أعرابيّ بعد ما دفنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بثلاثة أيام فرمى نفسه على قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- وحثا من ترابه على رأسه وقال: يا رسول الله، قلت فسمعنا قولك ووعيت عن الله تعالى ووعينا عنك، وكان فيما أنزل عليك وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا [النساء: 64] الآية فنودي من القبر قد غفر لك.
وليجدد التّوبة في ذلك الموقف ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها توبة نصوحا وليستشفع به- صلى الله عليه وسلم- إلى ربّه في قبولها وليكثر الاستغفار والتّضرّع بعد تلاوة الآية التي في قصّة العتبيّ ويقول: نحن وفدك يا رسول الله وزوّارك جئناك لقضاء حقّك والتبرك بزيارتك والاستشفاع بك إلى ربك تعالى، فإن الخطايا قد أثقلت ظهورنا، وأنت الشافع المشفع، والموعود بالشفاعة العظمى، والمقام المحمود، وقد جئناك ظالمين لأنفسنا، مستغفرين لذنوبنا، سائلين منك أن تستغفر لنا إلى ربك، فأنت نبيّنا وشفيعنا، فاشفع لنا إلى ربك واسأله أن يميتنا على سنّتك ومحبتك، ويحشرنا في زمرتك، وأن يوردنا حوضك، غير خزايا ولا ندامى.(12/390)
وروى يحيى بن الحسن العلويّ، عن ابن أبي فديك- رضي الله تعالى عنه- قال:
سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:
56] صلى الله على سيدنا محمّد وسلم.
وفي رواية: صلى الله عليك يا رسول الله، يقولها سبعين مرّة، ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان، لم يسقط لك اليوم حاجة، وينبغي تقديم ذلك على التوسل والدعاء.
قال المجد اللغوي: وروينا عن الأصمعي قال: وقف أعرابي مقابل قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: اللهم إن هذا حبيبك، وأنا عبدك، والشّيطان عدوّك، فإن غفرت لي سرّ حبيبك، وفاز عبدك، وغضب عدوّك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك، ورضي عدوّك، وهلك عبدك وأنت أكرم من أن تغضب حبيبك، وترضي عدوّك وتهلك عبدك، اللهمّ إنّ العرب الكرام إذا مات منهم سيّد أعتقوا على قبره، وإنّ هذا سيّد العالمين فأعتقني على قبره.
قال الأصمعي: فقلت: يا أخا العرب، أن الله تعالى قد غفر لك، وأعتقك بحسن هذا السّؤال.
قال المجد: ويجلس الزّائر إن طال القيام فيه، فيكثر من الصلاة والتسليم على سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ويأتي بأتم أنواع الصلوات وأكمل كيفياتها، والاختلاف في ذلك مشهور.
قال: والذي أختاره لنفسي، اللهم صل على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه، الصلاة الماثورة التي أجاب بها السائل عن كيفية الصلاة عليه، عدد ما خلقت، وعدد ما أنت خالق، وزنة ما خلقت، وزنة ما أنت خالق، وملأ ما خلقت، وملأ ما أنت خالق وملأ سماواتك، وملأ أرضك، ومثل ذلك، وأضعاف ذلك وعدد خلقك، وزنة عرشك، ومنتهى رحمتك، ومداد كلماتك ومبلغ رضاك حتّى ترضى، وعدد ما ذكرك به خلقك فيما مضى، وعدد ما هم ذاكروك فيما بقي، في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات، ولحظة من اللحظات، ونفس ولمحة، وطرفة من الأبد إلى الأبد، أبد الدنيا وأبد الآخرة، وأكثر من ذلك، لا ينقطع أولاه، ولا ينفذ أخراه، ثم يقول ذلك مرة، أو ثلاث مرات.
ثم يقول: اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمّد، كذلك قال النووي: ثم يتقدّم- يعني بعد فراغ الدعاء والتوسل قبالة الوجه الشريف- إلى رأس القبر، فيقف بين القبر والأسطوانة التي هناك، ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويمجده، ويدعوا لنفسه بما أهمّه وما أحبّه، ولوالديه ولمن شاء من أقاربه وأشياخه وإخوانه ولسائر المسلمين.(12/391)
وفي كتب الحنفية قال نحو هذا، قال العزّ بن جماعة: وما ذكروه من العود قباله الوجه الشريف، ومن التقدم إلى رأس القبر المقدس للدعاء لم يكن إلا عقب الزيارة، ولم ينقل عن فعل الصحابة والتابعين- رضي الله تعالى عنهم- أجمعين.
قال السيد: أما الدعاء والتوسل هناك فله أصل عنهم، والذي لم ينقل إنما هو هذا الترتيب المخصوص، والظاهر أن المراد بذلك تأخير الدعاء عن السلام على الشيخين، والجمع بين موقف السلف الأول الذي كان قبل إدخال الحجرة، والثاني الذي كان بعده حسن.
قال النووي: رحمه الله تعالى: ثم يأتي الرّوضة، فيكثر فيها من الدعاء والصلاة، ويقف عند المنبر ويدعو.
قال السيد: ويقف أيضا ويدعو عند أسطوان المهاجرين، ويتبرّك بالصلاة عندها، وكذا أسطوان أبي لبابة، وأسطوان الحرس وأسطوان الوفود، وأسطوان التهجد بعد أن يسلم علي السيدة فاطمة الزهراء- رضي الله تعالى عنها- عند المحراب الذي في بيتها داخل المقصورة، على القول بدفنها هناك.
ومنها تعظيمه وتوقيره، لأنهما واجبان حيا وميتا قال الله تبارك وتعالى: يا أيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] وقال تبارك اسمه فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] فأخبر أن الفلاح إنما يكون لمن جمع إلى الإيمان تعزيره، ولا خلاف أن التعزير ها هنا هو التعظيم، فانظر ما في هذه الآية من تعظيم الله تعالى لنبينا- صلى الله عليه وسلم-، حين قدم في الذكر تعزيره ونصرته على اتباع النور الذي أنزل معه، وفي ذلك من الإشعار بعلو المنزلة وارتفاع الرتبة والإجلال والتوقير والتعظيم ما لا يخفى على من يفهم مواقع كلام الله سبحانه وتعالى.
وقال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:
1] .
وقال تبارك اسمه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] الثلاث آيات.
وقال جلّ وعلا: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] فأوجب والله تعالى تعزيره وتوقيره، وألزم إكرامه وتعظيمه.
قال ابن عباس، يعزّروه أي: يجلوه.(12/392)
وقال المبرّد: يبالغوا في تعظيمه.
وقال الأخفش: ينصروه.
وقيل: التّعزير نصر مع تعظيم.
وقرئ «يعزّروه» بزائين من العز، ونهى عن التقدم بين يديه بسوء الأدب والقول، بسبقه الكلام على قول ابن عباس وغيره، وهو اختيار ثعلب.
وقال سهل بن عبد الله: لا تقولوا قبل أن يقول، وإذا قال فاستمعوا له وأنصتوا، ونهى عن التقدم والتعجيل بقضاء قبل قضائه فيه، وأن يفتاتوا عليه شيئاً من أمر دينهم إلا بأمره، ولا يسبقوه به، وإلى هذا يرجع قول الحسن ومجاهد والضحاك والسّدّيّ، وحذر مخالفة ذلك بقوله تعالى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات: 1] .
قال الماورديّ: «اتّقوا» في التقدم [المنهي عنه] .
قال السدي: اتّقوا الله في إهمال حقه، وتضييع حرمته، إنه «سميع» لقولكم «عليم» بفعلكم.
وقد تقدم الكلام على هذه الآيات في «الخصائص» ورأس الأدب معه- صلى الله عليه وسلم- كمال التسليم له، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يحمله معارضة خيال باطل نسميه معقولا أو نسميه شبهة أو شكا، أو تقدم إليه آراء الرجال وزيادة أذهانهم، فيوجد التحكيم والتسليم والانقياد والإذعان كما وجد المرشد بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما، توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرّسل، فلا يتحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره.
فصل فيما روي من تعظيم الصحابة- رضي الله تعالى عنهم- للنبي- صلى الله عليه وسلم-
روى مسلم عن عمرو بن العاص- رضي الله تعالى عنه- قال: وما كان من أحد أحب إلي من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولا أجلّ في عيني منه وما كنت أطيقه أن أملأ عيني منه إجلالاً له.
وروى الترمذي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما، ويتبسّمان إليه ويتبسّم إليهما.
وروى أبو داود عن أسامة بن شريك- رضي الله تعالى عنه- قال: أتيت(12/393)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحوله أصحابه، عليهم السّكينة والوقار، كأنما على رؤوسهم الطّير، فسلّمت ثم قعدت.
وقال عروة بن مسعود: كنا في الصحيح حين وجّهته قريش عام القضية إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى أنه لا يتوضأ وضوءا إلا ابتدروا وضوءه، وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقا ولا يتنخم نخامة إلا تلقّوها بأكفّهم، ودلّكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، فلما رجع إلى قريش قال: يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا قط في قومه يعظمه أصحابه ما يعظّم محمّدا أصحابه، وقد رأيت قوما لا يسلمونه أبدا.
وروي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: لقد رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والحلّاق يحلقه، وقد أطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل.
وفي الصحيح، أنّ قريشا لما أذنت لعثمان في الطواف بالبيت حين وجّهه- صلى الله عليه وسلم- إليهم في القضية أبى أن يطوف، وقال: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وروى عن البراء- رضي الله تعالى عنه- قال: لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الأمر فأؤخّره سنين من هيبته- صلى الله عليه وسلم-.
وروى الترمذي وحسّنه عن طلحة- رضي الله تعالى عنه- أنّ أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- قالوا لأعرابيّ جاهل سأله عمن قضى نحبه من هو وكانوا لا يجترؤن على مسألته يوقّرونه ويهابونه [فسأله، فأعرض عنه، إذ طلع طلحة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: هذا ممّن قضى نحبه] .
وروى عن المغيرة بن شعبة- رضي الله تعالى عنه- قال: كان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقرعون بابه بالأظافير.
وقد تقدم في باب هيبته ما فيه كفاية.
فصل
واعلم أن حرمة النبي- صلى الله عليه وسلم- وتوقيره وتعظيمه بعد موته لازم كما كان في حياته، وذلك عند ذكره- صلى الله عليه وسلم- وذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته- رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-.(12/394)
قال أبو إبراهيم التّجيبي واجب على كل مسلم متى ذكره، أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع، ويتوقّر ويسكّن من حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله تعالى به.
وهذه كانت سيرة السّلف الصالح في الأئمة الماضين.
وروى القاضي- بسند جيد- عن ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله عز وجل أدب قوما فقال: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] الآية.
ومدح قوما فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الحجرات: 3] الآية.
وذمّ قوما فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] وإن حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السلام- إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفّعك الله، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً.
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: كان أيّوب السّختيانيّ إذا ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- بكى حتى أرحمه.
وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتغيّر لونه، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليّ ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيّد القرّاء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد- وكان كثير الدّعابة والتبسم- فإذا ذكر عنده النبي- صلى الله عليه وسلم- اصفرّ، وما رأيته يحدث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا على طهارة.
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فننظر إلى لونه كأنه نزف منه الدّم، وقد جفّ لسانه في فمه، هيبة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذكر عنده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.(12/395)
ولقد كنت آتي الزّهريّ، وكان من أهنأ الناس وأقربهم، فإذا ذكر عنده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكأنّه ما عرفك ولا عرفته.
ولقد كنت آتى صفوان بن سليم، وكان من المتعبّدين المتهجدين، فإذا ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بكى، فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركونه.
وكان ابن سيرين ربّما يضحك، فإذا ذكر عنده [حديث] رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خشع وتضرّع.
وقال عمر بن ميمون: إن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- حدّث يوما، فجرى على لسانه، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعلاه كرب حتى رأيت العرق ينحدر عن وجهه، وغرغرت عيناه، وانفتخت أوداجه، ثم قال: هكذا إن شاء الله، أو فوق ذا، أو دون ذا، أو قريبا من ذا.
وقال مصعب: كان مالك بن أنس لا يحدث حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا على وضوء، إجلالا له.
والآثار في هذا كثيرة، وقد تقدم كثير من ذلك في باب ما يجب على الأنام من حقوقه- عليه الصلاة والسلام-.
فصل
ومن برّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتوقيره برّ آله وذريته وأزواجه وأمّهات المؤمنين- رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.
روى ابن جرير عن يزيد بن حبان، عن زيد بن أرقم- رضي الله تعالى عنه- قال: قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خطيبا بما يدعى حمى بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر، ثم قال: أما بعد أيها الناس إنّي أنتظر أن يأتيني رسول ربّي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين أحدهما: كتاب الله، فيه الهدى والصدق، فاستمسكوا بكتاب الله.
ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، ثلاث مرّات، فقيل لزيد: ومن أهل بيته؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ فقال زيد: إنّ نساءه من أهل بيته ولكن أهل بيته من حرم الصدقة [بعده، فقيل: ومن هم؟ قال: هم آل العباس وآل جعفر وآل عقيل، قيل: أكلّ هؤلاء يحرّم الصدقة عليهم] [ (1) ] ؟ قال: نعم.
ورواه أيضا عنه بلفظ: «إنما أنا بشر، أوشك أن أدعى فأجيب، ألا وإني تارك فيكم
__________
[ (1) ] سقط في أ.(12/396)
الثّقلين، أحدهما: كتاب الله، حبل ممدود، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضّلالة، وأهل بيتي: أذكركم الله في أهل بيتي، ثلاث مرّات. [ (1) ]
ورواه أيضا عنه بلفظ: «أنشدكم الله في أهل بيتي مرّتين
[ (2) ] .
وروي عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[لما نزلت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً- وذلك في بيت أمّ سلمة- دعا فاطمة وحسنا وحسينا، فجلّلهم بكساء، وعليّ خلف ظهره فجلّله بكسائه، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس، وطهّرهم تطهيرا]
وقد تقدم في أبواب ما يجب على الأنام كثير من ذلك.
قال بعض العلماء: معرفتهم وهي معرفة بمكانهم من النبي- صلى الله عليه وسلم-، وإذا عرفهم بذلك، عرف وجوب حقّهم وحرمتهم بسببه.
وروى الترمذي وحسنه عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنه- أن عمر- رضي الله تعالى عنه- فرض لأسامة في ثلاثة آلاف وخمسمائة، وفرض لعبد الله بن عمر في ثلاثة آلاف، فقال عبد الله لأبيه: لما فضّلت أسامة علي؟ فو الله ما سبقني إلى مشهد قال: لأنّ زيدا كان أحب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منك، فآثرت حبّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على حبّي.
وقال الأوزاعي: دخلت بنت أسامة على عمر بن عبد العزيز، ومعها مولى لها يقودها يمسك بيدها [ (3) ] فقام إليها عمر ومشى إليها، وجعل يدها بين يديه، ويداه في ثيابه، وأجلسها في مجلسه، وجلس بين يديها، وما ترك لها حاجة إلا قضاها.
ومنها: أن يجتنب الزائر لمس جدار المسجد، وتقبيله، والطواف به، والصلاة عليه.
قال الإمام النووي: لا يجوز أن يطاف بقبره- صلى الله عليه وسلم- ويكره إلصاق البطن والظهر بجدار قبره، قاله الحلبي وغيره.
قال: ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد عنه، كما يبعد عنه لو حضر في حياته، هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء، انتهى.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 1875.
[ (2) ] انظر المصدر السابق.
[ (3) ] لكبرها وضعف بصرها.(12/397)
وفي «الإحياء» مسّ المشاهد وتقبيلها عادة النصارى واليهود.
وقال الأقفهسي: قال الزعفراني- في كتابه: وضع اليد على القبر ومسه وتقبيله من البدع التي تنكر شرعا.
وروى أن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- رأى رجلا وضع يده على قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فنهاه، وقال: وما كنا نعرف هذا» أي الدنو منه] وذكر غير واحد نحو ذلك، وفي كتاب العلل والسؤالات لعبد الله ابن الإمام أحمد، عن أبيه رواية أبي علي الصوان قال عبد الله: سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر النبي- صلى الله عليه وسلم- ويتبرّك بمسّه، ويقبله ويفعل بالقبر مثل ذلك، رجاء ثواب الله عز وجل قال: لا بأس.
وروى الإمام أحمد- بسند حسن-، وأبو الحسن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله الخشني في «أخبار المدينة» عن داود بن أبي صالح قال: أقبل مروان يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر، فأخذ مروان برقبته ثم قال: هل تدري ما تصنع؟ فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب فقال: نعم، إني لم آت الحجرات، إنما جئت النبي- صلى الله عليه وسلم-
سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله» .
قال المطلب: وذلك أبو أيوب الأنصاري، وتقدم في باب أدلة الزيارة، أن ابن عساكر روى بسند جيد أن بلالا- رضي الله تعالى عنه- لما قدم من الشام لزيارة النبي- صلى الله عليه وسلم- أتى القبر، فجعل يبكي ويمرغ وجهه عليه.
وذكر الخطيب ابن جملة، أن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- كان يضع يده اليمنى على القبر الشريف، وأن بلالا وضع خدّه عليه أيضاً- رضي الله تعالى عنه-.
قال: ولا شك أن الاستغراق في المحبّة بحمل على الإذن في ذلك، والمقصود من ذلك كله الاحترام والتعظيم، والناس يختلف مراتبهم في ذلك، كما كانت تختلف في حياته، فأناس حين يرونه لا يملكون أنفسهم، بل يبادرون إليه، وأناس فيهم إناة يتأخرون، والكلّ محل خير.
وقال الحافظ: استنبط بعضهم من مشروعية تقبيل الحجر الأسود جواز تقبيل كلّ من يستحق التعظيم من آدميّ وغيره.
فأما الآدمي فسبق في الأدب.
وأما غيره فنقل عن أحمد، أنه سئل عن تقبيل منبر النبي- صلى الله عليه وسلم- وقبره فلم ير به بأسا، واستبعد بعض أتباعه صحّته عنه، قلت: نقل ذلك عنه ابنه عبد الله كما تقدم.(12/398)
ونقل عن ابن أبي الصيف اليمنى أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف، وأجزاء الحديث، وقبور الصالحين انتهى كلام الحافظ.
ونقل الطيب الناشري عن المحب الطبري، أنه يجوز تقبيل الحجر ومسه قال: وعليه عمل العلماء الصالحين، وينشد:
أمرّ على الدّيار ديار ليلى ... أقبّل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حبّ الدّيار شغفن قلبي ... ولكن حبّ من سكن الدّيارا
ومنها اجتناب الانحناء للقبر عند التسليم، وهو من البدع، ويظن من لا علم له أنه من شعار التعظيم، وأقبح منه تقبيل الأرض، لم يفعله السلف الصالح، والخير كله في اتباعهم، ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته، لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم.
قال ابن جماعة: وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه، بل عجبي ممن أفتى بتحسين ذلك مع علمه بقبحه ومخالفته لعمل السلف.
ومنها: أن لا يمر بالقبر الشريف حتى يقف ويسلم على النبي- صلى الله عليه وسلم-، سواء مرّ من داخل المسجد أو من خارجه، ويكثر من قصده وزيارته.
وروى ابن أبي الدنيا عن أبي حازم أن رجلا أتاه، فحدثه أنه رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول:
قل لأبي حازم: أنت المارّ بي معرضا، لا تقف تسلّم عليّ، فلم يدع ذلك أبو حازم منذ بلغته هذه الرّؤيا.
ومنها: إكثار الصلاة والتسليم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإيثار ذلك على سائر الأذكار ما دام هناك. ومنها: اغتنام ما أمكن من الصيام ولو يسيرا من الأيام.
ومنها الحرص على فعل الصلوات الخمس بالمسجد النبوي في الجماعة، والإكثار من النّافلة مع تحرّي المسجد الذي كان فيه زمنه- صلى الله عليه وسلم- إلا أن يكون الصف الأول خارجه فهو أولى، وإن أمكنه ملازمته، وأن لا يفارقه إلا لضرورة أو مصلحة راجحة، فليغتنم ذلك، وكلما دخله فليجدّد نيّة الاعتكاف، ولله در القائل: تمتّع إن ظفرت بنيل قرب وحصّل ما استطعت من ادّخاره.
قال أبو مخلد: كانوا يستحبون لمن أتى المساجد الثلاثة أن يختم فيها القرآن قبل أن يخرج، رواه سعيد بن منصور.
قال أبو اليمن بن عساكر: وليحرص على المبيت بالمسجد، ولو ليلة يحييها بالذّكر،(12/399)
والدّعاء، وتلاوة القرآن، والتضرّع إلى الله تعالى والشّكر على ما أعطاه.
ومنها أن لا يستدبر القبر المقدّس في صلاة ولا في غيرها من الأحوال، ويلتزم الأدب شريعة وحقيقة في الأقوال والأفعال.
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: وإذا أردت الصلاة فلا تجعل حجرته- صلى الله عليه وسلم- وراء ظهرك، ولا بين يديك، وتأدّب معه بعد وفاته أدبك معه في حياته من احترامه والإطراق بين يديه، وترك الخصام وترك الخوض فيما لا ينبغي أن يخوض فيه في مجلسه، فإن أبيت فانصرافك خير من بقائك، ومنها: أن يجتنب ما يفعله جهلة العوام من التقرب بأكل التمر الصيحاني في المسجد، وإلقاء النوى به، وقطعهم شعورهم، ورميها في القنديل الكبير.
فقد قال الإمام النّوويّ: أن ذلك من جهالات العوام، وبدعهم المنكرة المستبشعة.
ومنها: إدامة النّظر إلى الحجرة الشّريفة، فإنّها عبادة، قياسا على الكعبة الشريفة العظيمة، فينبغي لمن كان بالمدينة إدامة ذلك إذا كان في المسجد، وإدامة النظر إلى القبة الشريفة، إذا كان خارجه مع الهيبة والحضور.
ومنها: أنه يستحبّ الخروج كلّ يوم إلى البقيع بعد السلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خصوصا يوم الجمعة، فيقول إذا انتهى إليه: السّلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم.
وقال الإمام النووي- رحمه الله تعالى-: ويزور القبور الطاهرة بالبقيع، كقبر إبراهيم بن النبي- صلى الله عليه وسلم- وعثمان والعباس والحسن بن علي وعلي بن الحسين ومحمد بن علي بن جعفر، وجعفر بن محمد، وغيرهم، ويختم بصفيّة.
قال العلّامة فضل الله ابن القاضي نصر الدين الفوري الحنفي: وإذا خرج من باب البلد يأتي قبة العباس والحسن بن علي- رضي الله تعالى عنهم-، ويختم بزيارة صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
قال السيد: ولعله يكون مشهدهم أوّل المشاهد التي يلقاها الخارج من البلد، فإنه يكون على يمينه، فمجاوزتهم من غير سلام عليهم جفوة، فإذا سلك تلك الطريق سلّم على من يمر به بعدهم، فيكون مروره على صفية في رجوعه، فيختم بها.
وقال البرهان ابن فرحون: أول المشاهد وأولاها بالتقديم مشهد سيدنا أمير المؤمنين عثمان بن عفّان، لأنه أفضل الناس بعد أبي بكر وعمر- رضي الله تعالى عنهم أجمعين- واختار(12/400)
بعضهم البدأة بقبر سيدنا إبراهيم ابن سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
قال السيد: فتلخص فيمن يبدأ به ثلاثة آراء.
ويختم الزائر إذا رجع بمشهد إسماعيل بن جعفر الصادق، لأنه صار داخل سور المدينة، ومشاهد البقيع كلّها خارج السور، ويذهب إلى زيارة مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، ومشهد النفس الزكية فإنهما ليسا بالبقيع، وهو السيد الشّريف محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن- مرّتين- بن علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنهم- قتل أيام أبي جعفر المنصور، وهذا المشهد في جبل «سلع» .
ومنها: أنه يستحب أن يأتي قبور الشهداء بأحد.
وقال العلامة ابن الهمام: ويزور جبل أحد نفسه.
ففي الصحيح «جبل أحد يحبّنا ونحبّه» .
ويبكر بعد صلاة الصبح بالمسجد النبوي حتى يعود، ويدرك الظهر به، ويبدأ بسيد الشّهداء، وهو سيّدنا حمزة- رضي الله تعالى عنه-.
قالوا: وأفضلها يوم الخميس، وكأنّه لضيق الجمعة عن ذلك.
وقد قال محمد بن واسع: بلغني أنّ الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة، ويوما قبله ويوما بعده.
ومنها: أنه يستحب استحبابا متأكدا أن يأتي مسجد قباء وهو يوم السبت أولى ناويا التقرب بزيارته والصلاة فيه، وإذا قصد إتيانه توضأ وذهب إليه، ولا يؤخر الوضوء حتى يصل إليه.
ومنها: أن يأتي بقية الآثار المنسوبة للنبي- صلى الله عليه وسلم- بالمدينة مما عملت يمينه أو جهته.
وكذا الآبار التي شرب منها الرسول- صلى الله عليه وسلم- وتوضّأ أو اغتسل، فيتبرّك بمائها، صرّح جماعة من الشافعية وغيرهم باستحباب ذلك كلّه.
وقد كان ابن عمر يتحرّى الصلاة والنزول والمرور حيث حلّ النبي- صلى الله عليه وسلم- ونزل وغير ذلك، وما نقل عن الإمام مالك مما يخالف هذا سدّ للذريعة تبعا لعمر- رضي الله تعالى عنه-.
فقد روى سعيد بن منصور عن المعرور بن سويد، أنه خرج مع عمر في حجّة حجها، فلما رجع من حجته رأى الناس ابتدروا المسجد فقال ما هذا؟ فقالوا: مسجد صلى فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: هكذا هلك أهل الكتاب قبلكم، اتّخذوا آثار الأنبياء بيعا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصلّ، ومن لم يعرض له فليمض.(12/401)
قال القاضي: ومن إعظامه- صلى الله عليه وسلم- وإكباره إعظام جميع أسبابه، وإكرام جميع مشاهده وأمكنته ومعاهده، وما مسّه- صلى الله عليه وسلم- بيده أو عرف به انتهى.
وذلك بزيارة تلك المشاهد والتبرك بها، ولله در القائل:
خليليّ، هذا ربع عزّة فاعقلا ... قلوصيكما ثمّ انزلا حيث حلّت
ومسّا ترابا طال ما مسّ جلدها ... وظلّا وبيتا حيث باتت وظلّت
ولا تيأسا أن يمحو الله عنكما ... ذنوبا إذا صلّيتما حيث صلّت
ومنها: أن يكون مع ذلك دائم الأشواق لذلك المزار ومشاهدة تلك الآثار، متعلّق القلب بالعود إلى تلك الديار، ينمي شوقه بتأمل ما نقل من الآثار والأخبار، وما نظم فيه من نفائس الأعشار، ومن أعظمها وأعذبها وأعجبها، قصيدة الإمام الولي العارف بالله تعالى، أبو محمد العسكري التي مطلعها:
دار الحبيب أحقّ أن تهواها ... وتهيم من طرب إلى ذكراها
وقد تقدمت بتمامها في أبواب فضل المدينة الشريفة «أوائل الكتاب» وكذلك ما قاله البدر بن فرحون أحد أصحاب ناظمها: إن بعض الصالحين رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- في المنام قال البدر: وأشك هل كان هو الشيخ أو غيره، وأنشده هذه القصيدة، فلما بلغ آخرها وهو ظني أنه يرضاها، قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: رضيناها، ورضيناها رضيناها» .(12/402)
جماع أبواب التوسل به- صلى الله عليه وسلم-
الباب الأول في مشروعية التوسل به- صلى الله عليه وسلم- إلى الله تبارك وتعالى
قال الإمام السبكي- رحمه الله تعالى-: أعلم أن الاستعانة والتشفع بالنبي- صلى الله عليه وسلم- وبجاهه وبركته إلى ربه تبارك وتعالى من فعل الأنبياء- صلى الله عليه وسلم- وسير السلف الصالحين واقع في كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته الدنيوية، ومدة البرزخ [وبعد البعث] وعرصات القيامة، وذلك مما قام الإجماع عليه وتواترت به الأخبار، وإذا جاز السؤال بالأعمال كما في حديث الغار الصحيح، وهي مخلوقة، فالسؤال بالنبي- صلى الله عليه وسلم- أولى، وفي العادة أن من له عند شخص قدر يتوسّل به إليه في غيبته، فإنه يجيب إكراما للمتوسل به، وقد يكون ذكر المحبوب أو المعظّم سببا للإجابة ولا فرق في هذا بين التعبير بالتوسّل، أو الاستعانة، أو لتشفع أو السّجود، ومعناه: التوجه بذي الحاجة، وقد يتوجّه بمن له جاه إلى من هو أعلى منه، وكيف لا يتشفع ويتوسل بمن له المقام المحمود والجاه عند مولاه، بل يجوز التوسل بسائر الصالحين، كما قاله السبكي، وإن نقل بعضهم عن ابن عبد السلام ما يقتضي أن الله تعالى يختص بتعظيم من خلقه، فينبغي أن يكون مقصورا على نبينا- صلى الله عليه وسلم-.
الباب الثاني في ذكر من توسل به قبل خلقه من الأنبياء- صلى الله عليه وسلم-
روى الحاكم والطبراني والبيهقي عن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لمّا اقترف آدم الخطيئة قال: يا ربّ أسالك بحقّ محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم، وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنّك لمّا خلقتني بيدك، ونفخت فيّ من روحك، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً، لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت إنك لم تضف إلى اسمك إلاّ أحبّ الخلق إليك، فقال تعالى: [صدقت يا آدم إنّه لأحب الخلق إليّ إذا سألتني بحقّه غفرت لك] ولولا محمد ما خلقتك» وتقدم هذا الحديث في باب خلق آدم وجميع المخلوقات لأجله- صلى الله عليه وسلم-، وتقدمت شواهده هناك، وقد بشّر به موسى وعيسى- صلى الله عليهما وسلم حين وجداه في التوراة والإنجيل، كما أخبر الله تعالى في كتابه المجيد، فكانا يتوسلان إلى الله تعالى به- صلى الله عليه وسلم-.(12/403)
الباب الثالث في ذكر من توسل به- صلى الله عليه وسلم- في حياته من الإنس
روى التّرمذيّ، والنسائي، والبيهقي من طرق، عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله أن يعافيني قال: «إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال: فادعه، قال: فأمره أن يتوضّأ، فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: «اللهم إني أسألك، وأتوجه إليك بنبيّك نبي الرحمة، يا محمد إنّي توجهت بك إلى ربي في حاجتي لتقضى لي، اللهم فشفعه في» [ (1) ] .
زاد البيهقي من طرق «فقام وقد أبصر» .
وفي رواية: «ففعل الرّجل فبرأ ببركته- صلى الله عليه وسلم-» .
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (3578) والبيهقي في الدلائل 6/ 166.(12/404)
الباب الرابع في ذكر من توسل به- صلى الله عليه وسلم- في حياته من الحيوانات
روى ابن شاهين في «دلائله» عن عبد الله بن جعفر- رضي الله تعالى عنه- قال:
«أردفني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم خلفه، فأسرّ إليّ حديثا لا أحدّث به أحدا من الناس،
وقال: كان أحبّ ما استتر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاجته هدف أو حائش نخل، فدخل حائط رجل من الأنصار، فإذا جمل، فلما رأى النبي- صلى الله عليه وسلم- حنّ وذرفت عيناه، فأتاه النبي- صلى الله عليه وسلم- فمسح سراته وذفراه فسكت» .
وفي رواية: «فسكن، ثم قال: من ربّ هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل فجاء فتى من الأنصار فقال: هذا لي يا رسول الله، فقال: أفلا تتّقي الله في هذا الجمل، الذي ملّكك الله إيّاه، فإنّه يشتكي إليّ أنّك تجيعه وتدئبه» .
وروى مسلم: «إلى حائش نخل» عن محمد بن عبد الله بن أسماء، ورواه أبو داود بطوله عن موسى بن إسماعيل، عن مهدي بن ميمون.
وروى ابن ماجه «أوله» عن مهدي، وذكر ابن النعمان في كتابه «مصباح الظّلام» بسنده عن تميم الداري- رضي الله تعالى عنه- قال: كنا جلوسا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- إذ أقبل بعير يغدو، حتى وقف على هامة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فزعا فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أيّها البعير اسكن، فإن تك صادقا فلك صدقك، وإن تك كاذبا فعليك كذبك، مع إن الله قد أمّن عائذنا، وليس بخائب لائذنا» .
قلنا: يا رسول الله ما يقول البعير؟ قال: همّ أصحابه بنحره وأكله، فهرب منهم، فاستغاث بنبيكم، فبينما نحن كذلك، إذ أقبل أصحابه يتعادون، فلما رآهم البعير عاد إلى هامة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلاذ بها، فقالوا: يا رسول الله، بعيرنا هرب منّا منذ ثلاثة أيّام، فلم نلقه إلّا بين يديك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما إنه شكا، فيئست الشكاية» ، فقالوا: يا رسول الله ما يقول؟ قال: «يقول إنه ربي في بيتكم وكنتم تحملون عليه في الصّيف إلى موضع الكلأ، وفي الشتاء إذا رحلتم إلى موضع الدفء، فلما كبر استفحلتموه، فرزقكم الله به إبلا سائمة، فلما أدركته هذه السنة الخصبة هممتم بنحره وأكل لحمه، فقالوا: قدر الله كان ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما هذا جزاء المملوك الصّالح من مواليه، فقالوا: يا رسول الله إنا لا نبيعه ولا ننحره، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «كذبتم، قد استغاث بكم فلم تغيثوه، فأنا أولى بالرحمة منكم، فاشتراه وأعتقه» .
وروى البيهقي في «دلائله عن عطية بن أبي سعيد قال: «مر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بظبية(12/405)
مربوطة إلى خباء، فقالت: يا رسول الله حلّني حتى أذهب فأرضع خشفي، ثم أرجع فتربطني، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: صيد قوم، وربيطة قوم، قال: فأخذ عليها فحلفت له، فحلها، فما مكثت إلا قليلا حتى جاءت، وقد نفضت ما في ضرعها، فربطها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم أتى خباء أصحابها، فاستوهبها منهم، فوهبوها له، فحلها ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لو علمت البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم سمينا أبدا»
[ (1) ] .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وقد تقدم بعضها في أبواب معجزاته- صلى الله عليه وسلم-.
في بيان غريب ما سبق:
[الهدف: ...
الحائش: ...
حنّ: ...
ذرفت: ...
سراته: ...
زفراه: ...
استفحلتموه:.] [ (2) ] ...
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 6/ 34، وابن كثير 6/ 148 وقال البيهقي: وروي من وجه آخر ضعيف.
[ (2) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/406)
الباب الخامس في ذكر من توسل به- صلى الله عليه وسلم- بعد موته
روى الطبراني والبيهقي- بإسناد متّصل ورجاله ثقات- عن عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفّان في حاجة، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا إليه ذلك، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة، فتوضأ ثمّ ائت المسجد فصلّ فيه ركعتين، ثم قال: اللهم إني أسالك وأتوجّه إليك بنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- نبي الرحمة، يا محمّد إني أتوجّه بك إلى ربي فتقضي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورح حتى أروح معك، فانطلق الرجل فصنع ما قال له، ثم أتى باب عثمان، فجاءه البواب حتى أخذ بيده، فأدخله على عثمان، فأجلسه معه على الطّنفسة، فقال: ما حاجتك؟ فذكرها له، وقال له: ما ذكرت حاجتك حتى كان الساعة، وقال: ما كانت لك من حاجة فاذكرها، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلى حتى كلمته
فقال له عثمان بن حنيف: والله ما كلّمته، ولكني شهدت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأتاه ضرير، فشكا إليه ذهاب بصره، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: [أو تصبر؟
فقال: يا رسول الله ليس لي قائد، وقد شقّ عليّ] فقال: ائت الميضأة فتوضّأ ثمّ صلّ ركعتين، ثم ادع بهذه الدّعوات.
فقال ابن حنيف: فو الله ما تفرّقنا، وطال بنا الحديث، حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضرر قطّ [ (1) ] .
وقال الإمام النووي في «تهذيبه» في ترجمة «عقبه بن عامر» - رضي الله تعالى عنه-:
شهد فتوح الشّام، وكان البريد إلى عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- بفتح دمشق، ووصل إلى المدينة في سبعة أيّام، ورجع منها إلى الشام في يومين ونصف، بدعائه عند قبر النبي- صلى الله عليه وسلم-، وتشفّعه به في تقريب طريقه.
وقال الشيخ تقي الدين بن الصّلاح- في كلامه على بعض المسائل- لقد انتدب بعض العلماء لاستقصائها يعني: معجزاته- صلى الله عليه وسلم- فجمع ألف معجزة، وعددناه مقصّرا، إذ هي فوق ذلك بأضعاف لا تحصى، فإنّها ليست محصورة على ما وجد في عصره منها- صلّى الله عليه وسلم-، فلم تزل تتجدد بعده- صلى الله عليه وسلم- علي تعاقب العصور، وذلك أن كرامات الأولياء من أمّته وإجابات المتوسلين في حوائجهم ومعوناتهم، عقب توسلهم به في شدائدهم له براهين قواطع ومعجزات
__________
[ (1) ] الدلائل 6/ 168.(12/407)
سواطع، لا يعدّها عادّ، ولا يحصرها حادّ.
قلت: وقد ألف الإمام العلامة سيدي أبو عبد الله بن النعمان في ذلك كتاباً سماه «مصباح الظّلام في المستغيثين بخير الأنام في اليقظة والمنام» أتى فيه بالعجيب العجاب، الذي لا يشك فيه من له أدنى تمييز فعليك به، فإنّه جامع في بابه.
الّلهم إنا نسألك، ونتوجه إليك بنبيك محمد- صلى الله عليه وسلم- أن تحسن عاقبتنا في الأمور كلّها، وأن تجيرنا من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة، وقد تقدم منها في أبواب معجزاته- صلى الله عليه وسلم- جملة، فراجعها إن شئت، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.(12/408)
جماع أبواب الصلاة والسلام عليه- صلى الله عليه وسلم- زاده الله فضلا وشرفا لديه
الباب الأول في فوائد تتعلق بالآية الكريمة
منها: أنه انعقد الإجماع على أن في هذه الآية من تعظيم الله تعالى للنبي- صلى الله عليه وسلم- والتنويه به ما ليس في غيرها» وهي مدنيّة، والمقصود منها إخباره تعالى عباده بمنزلة نبيه- صلى الله عليه وسلم- عنده في الملأ الأعلى، بأنه أثنى عليه عند الملائكة المقرّبين، وأن الملائكة يصلون عليه، ثم أمر أهل العالم السّفليّ بالصلاة عليه والتسليم، ليجتمع الثّناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعا، وقال تعالى: «يصلّون» - بصيغة المضارع الدالة على الدّوام والاستمرار- ليدلّ على أنه- سبحانه وتعالى- وجميع الملائكة يصلّون على نبينا- صلى الله عليه وسلم- دائما أبدا، وغاية مطلوب الأوّلين والآخرين صلاة واحدة من الله تعالى، وأنّى لهم ذلك؟ ومنها:
الكلام على اشتقاقها ومعناها لغة وشرعا، وللصّلاة في اللغة معنيان.
أحدهما:
الدّعاء والتّبرّك، ومنه قوله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة 103] وقوله عزّ وجلّ: وَصَلَواتِ الرَّسُولِ [التوبة 99] وقوله تعالى: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التوبة 84] .
ومنه الصلاة على الجنازة، أي: الدعاء له، وسمّي الدّعاء صلاة، لأن قصد الداعي جميع المقاصد الجميلة، بحسب اختلاف السائلين.
والمعنى الثاني: العبادة، ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان صائما فليصلّ» ،
أي: فليدع بالبركة لهم.
وقيل: معناهما الدعاء، وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية، هل هي منقولة عن موضوعها في اللغة؟ فتكون حقيقة شرعيّة، لا مجازا شرعيّا، فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها لغة، وهو الدعاء، والدعاء دعاء عبادة ودعاء مسألة، والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهو في صلاة حقيقيّة لا مجازا ولا منقولا، لكن خصّ اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة بسائر الألفاظ التي تخصّها أهل اللّغة والصّرف ببعض مسمياتها كالدابّة والرّأس، فهذا غايته تخصيص اللفظ وقصره على بعض(12/409)
موضوعه، وهذا لا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي، وهو نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة فالعابد داع كالسائل، وبهما فسّر قوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر 60] فقيل: أطيعوني أثبكم.
وقيل: سلوني أعطكم.
قال ابن القيم: والصواب أنّ الدعاء يعم النوعين أو غير ذلك.
واعلم أن الصلاة يختلف حالها بحسب حال المصلي والمصلى له والمصلى عليه.
فأما بالنسبة إلى حال المصلي، فقيل: إنّ معنى صلاة الله على نبيه صلاته عليه عند ملائكته، وصلاة الملائكة عليه الدعاء له، رواه البخاري في أبي العالية.
وقيل: صلاة الرّبّ الرّحمة، وصلاة الملائكة الاستغفار، نقله الترمذي عن سفيان وغير واحد من أهل العلم، ورجّح القرافيّ أنّ الصّلاة من الله المغفرة.
وقيل: صلاته تعالى: «سبّوح قدّوس رب الملائكة والروح» . رواه ابن أبي حاتم عن عطاء بن أبي رباح في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ الآية.
وقال الماورديّ: هي من الله في أظهر الوجوه الرّحمة، ومن الملائكة الاستغفار، ومن المؤمنين الدّعاء.
نقل عياض عن أبو بكر القشيري قال: الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- تشريف وزيادة تكرمة، وعلى من دون النّبيّ رحمة.
وأما صلاتنا فالمراد بها التعظيم بأسباب ما ينبغي له فضل الله تعالى.
فمعنى قولنا: «اللهم صل على محمّد اللهمّ أعطه في الدّنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دينه، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة تشفيعه في أمّته وإجزال أجره ومثوبته، وإبداء فضله للأوّلين والآخرين بالمقام المحمود، وتقديمه على كافّة المقرّبين الشّهود، وهذا وإن كان واجبا علينا فهو ذو درجات ومراتب، فإذا صلّى عليه أحد من أمّته واستجيب دعاؤه، جاز أن يزاد النبي- صلى الله عليه وسلم- بذلك الدعاء في كل شيء مما سميناه، ولمّا لم نملك إيصال ما يعظم به أمره، ويعلو به قدره، لأن ذلك إنما هو بيد الله تعالى، أمرنا أن نصلي عليه بأن ندعوا الله تعالى له بذلك، ونبتغي من الله تعالى إيصال ذلك إليه، قضاء لحقه، وتقرّبا إلى الله تعالى، فقد أمرنا بالمكافأة لمن أحسن إلينا، فإن عجزنا عنه، كافأناه بالدعاء، فأرشدنا تعالى لما علم عجزنا عن ذلك إلى الصلاة عليه، ليكون مكافأة لإحسانه إلينا، قاله ابن عبد السلام.(12/410)
وقال ابن العربي: فائدة: الصلاة عليه ترجع إلى المصلي، لدلالة ذلك على نصوح العقيدة وخلوص النّيّة وإظهار المحبة، والمداومة على الطاعة والاحترام للواسطة الكريمة.
قال السهيلي- رحمه الله تعالى- ما حاصله: أن الله تعالى أخبر أنّه هو وملائكته يصلّون عليه، وكلّ واحد من المؤمنين وجب أن يصلّي عليه، فوجب على كل واحد أن يباشر الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم-، والصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- بعد موته من هذا القبيل.
وقال أيضا: صلاة الملائكة في ذلك الزمان وما تأخّر جميعه محتمل لأمرين:
إما أن يكون على سبيل الأوجب، بالنسبة إليه- صلى الله عليه وسلم-.
وأما أن يكون على سبيل الأفضل، بالنسبة إليه، وهو الأقرب.
وعلى الاحتمالين فالخصوصيّة ثابتة.
إما على الأول فواضح.
وإما على الثاني، فلأن الأفضل في حق غيره فعلها جملة، وليست شرطا بلا خلاف.
وقال ابن النعمان، عن شيخه ابن عبد السلام ليست الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بشفاعة منا، فإنّ مثلنا لا يشفع لمثله، لكن الله سبحانه وتعالى أمرنا بمكافأة من أنعم علينا وأحسن إلينا، فإن عجزنا عن مكافأته دعونا له أن يكافئه عنّا، ولما عجزنا عن مكافأة سيد الأولين والآخرين، أمرنا رب العالمين أن نرغب إليه، بأن نصلّي، لتكون صلاتنا عليه مكافأة لإحسانه إلينا، وإفضاله علينا، إذ لا إحسان أفضل من إحسانه- صلى الله عليه وسلّم- وعلى آله وإخوانه.
قال السهيلي: وفي حكمها مذاهب. الاستحباب مطلقا، قاله ابن جرير الطّبريّ، وادّعى الإجماع عليه، وأوّله بعض العلماء بما زاد على المرة الواحدة، وهو متعيّن، فقد نقل ابن القصّار وغيره الإجماع على أنها تجب في الجملة من غير حصر، لكن أقلّ ما يحصل به الإجزاء مرّة.
وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن الصلاة عليه فرض على كل مؤمن بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب 56] .
وقيل: واجبة مرّة في العمر في صلاة أو غيرها، ككلمة التّوحيد، وحمد الله وشكره.
قال ابن حزم، وأبو بكر الرازي من الحنفية، وغيرهما، وقال القرطبيّ المفسّر: لا خلاف في أنّ الصّلاة عليه فرض في العمر مرة، وأنها واجبة في كل حين [من الواجبات] وجوب السّنن المؤكّدة، وسبقه إلى ذلك ابن عطيّة فقال: الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- في كل حال(12/411)
واجبة وجوب السّنن المؤكّدة، التي لا يسع تركها، ولا يغفلها إلّا من لا خير فيه وقال ابن القصّار: المشهور عن أصحابنا أنّها واجبة في الجملة على الإنسان، وفرض عليه أن يأتي بها مرّة في دهره، مع القدرة على ذلك.
قال الفاكهاني: في معنى المشهور، أنّه اشتهر من قول أصحابنا، لا أعلم مخالفا.
وقيل: تجب في القعود آخر الصلاة، وهو مذهب الإمام الشافعي ومن تبعه.
وقيل: تجب في التشهد، وهو قول الشّعبيّ وابن راهويه.
وقيل: تجب في الصلاة من غير تعيين محل، نقل ذلك عن أبي بكير من المالكية.
وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد، قاله أبو بكر بن بكير من المالكية.
وقال بعض المالكية: فرض إسلاميّ جمليّ غير متعلّق بعدد ولا وقت معيّن.
وقيل: يجب كلّما ذكر، قاله الطّحاويّ وجماعة من الحنفية، والحليميّ، وجماعة من الشّافعيّة.
وقال ابن العربي من المالكية: إنّه الأحوط.
قيل: في كل مجلس مرّة، ولو تكرر ذكره مرارا، حكاه الزّمخشريّ.
وقيل: في كل دعاء [حكاه أيضا] .
[ومنها ما روي عن سهل بن محمّد [ ... ] آدم [ ... ] بأمر الملائكة له بالسجود، لأنه لا يجوز أن يكون الله مع الملائكة في هذا التّعريف، فتشريف يصدر عنه أبلغ من تشريف يختصّ به الملائكة.
ومنها: ما ذكره عن ابن أبي الدّنيا، عن ابن أبي فديك سمعت بعض من أدركت يقول:
بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال هذه الآية ثم قال: صلى الله عليك يا محمّد سبعين مرّة ناداه ملك- صلى الله عليك يا فلان لم يسقط لك حاجة] [ (1) ] .
ومنها أنه عبّر فيها بالنبي- صلى الله عليه وسلم-، ولم يقل: على محمّد، كما وقع لغيره من الأنبياء- صلى الله عليه وسلم- لقوله: يا آدم، يا يحيى، يا عيسى، يا إبراهيم لما في ذلك من الفخامة والكرامة التي اختص بها عن سائر الأنبياء، إشعارا بعلوّ المقدار، وإعلاما بالتفضيل على سائر الرّسل
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.(12/412)
الكرام، ولما ذكر نبيّنا مع الخليل- صلى الله عليه وسلم- ذكر الخليل باسمه، وذكر الحبيب بلقبه فقال:
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ [آل عمران 68] فكل موضع سمّاه باسمه إنما هو لمصلحة تقتضي ذلك فافهمه.
ومنها أن الأولى قد يكون الألف واللام فيه للغلبة، كالمدينة، فكأنه المعروف الحقيقي به، المقدم على سائر الأنبياء- صلى الله عليه وسلم-.
ومنها أن صلاة جميع الملائكة عليه مما خصه الله تعالى به دون سائر الأنبياء والمرسلين.
تنبيه:
قد كثر السؤال عن الحكمة في تأكيد التسليم بالمصدر دون الصلاة، وأجاب الفاكهاني بما حاصله: أن الصلاة مؤكدة معنى صلاة الله وملائكته ولا كذلك السلام، فحسن تأكيده لفظا إذ ليس ثمّ ما يقوم مقامه.
وأجاب الحافظ بجواب آخر محصله: أنه لما وقع تقديم الصلاة على السلام في اللفظ، وكان للتقديم مزية في الاهتمام، وحسن أن يكون السلام لتأخر مرتبته في الذّكر، لئلا يتوهم قلّة الاهتمام، لتأخره، والعلم عند الله.
ومنها: الكلام على إعرابها فقد اختلف في نصب «الملائكة» وبه قرأ العشرة وبرفعه قرأ ابن عباس وهي رواية شاذّة عن أبي عمرو فنصبه بالعطف على اسم «إنّ» وهو الاسم الكريم والرفع على محل اسم «إنّ» على مذهب الكوفيين وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر عند البصريين أي وملائكته يصلون بدل عليه يصلون المذكور، ولا يضر كون المبتدأ مفردا والخبر جميعا، لأن الخبر قد يقع جمعا للتعظيم كما ذكره بعضهم، ولا خفاء في أن حرف النداء قد أناب مناب أدعو، وأيّ منادى مفرد مبني على الضم خلافا للكسائي في أن ضمته ضمة إعراب أتي به وصلة لنداء ما، فيه «ألى» محله نصب، وهو اسم مبهم مفتقر إلى ما يزيل إبهامه فلا بد أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه كاسم الإشارة يتصف به حتى يصحّ المقصود بالنداء فالذي يعمل فيه والذي صفة له لا ينفك عنها لعدم استقلاله بنفسه.
ومنها: السّبب في نزولها.
روى عن كعب بن عجرة قال: قيل: يا رسول الله، قد عرفنا السلام عليك، فكيف نصلي؟ فنزلت.
ومنها: وجه مناسبتها لما قبلها: أنه تعالى لمّا ذكر حقوقه- صلى الله عليه وسلم- مما خصّه به دون أمته من حل نكاح من تهب نفسها وتعظيمه وتوقيره وتحريم نكاح أزواجه على الأمة بعده، ورفع(12/413)
الجناح عن أزواجه في تكليمهن آبائهن وأبنائهن، ودخولهن عليهن ودخولهم عليهن، وأنه محترم في الملأ الأعلى بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب 56] انعقد الإجماع على أن في هذه الآية من تعظيم النبي- صلى الله عليه وسلم- والتنويه به ما ليس في غيرها، فنشر ذكره في السموات السبع، وعند المستوي وصريف الأقلام والعرش والكرسي وجميع الملائكة المقربين وفي سائر آفاق الدنيا.
ومنها: زمن نزولها: فروى أنها نزلت في الأحزاب بعد نكاحه- صلى الله عليه وسلم- زينب بنت جحش وبعد تخييره أزواجه.
وقال الحافظ أبو ذر الهروي في السنة الثانية من الهجرة.
وقيل: ليلة الإسراء.
وقيل: في ليلة النصف من شعبان.
ومنها: الكلام على الملائكة والملائكة جمع ملك، واختلف فيما اشتق منه على ستة أقوال، وفي ماهيتهم وحقيقتهم وفي عصمتهم وفضلهم على الأنبياء.
والجمهور على أنهم أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل فتظهر في صور مختلفة وتقوى على أفعال ما مر.
وأكثر أهل السنة على أن الأنبياء أفضل منهم، والهاء في ملكة لتأنيث الجمع نحو صلادمة.
وقيل: للمبالغة كعلامة، وليس بشيء، وحذفها شذوذ كما قيل أبا خالد صلّت عليك الملائكة، وكثرتهم لا يعلمها إلا الله تعالى وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر 31] .
وأما الكلام على النبي- صلى الله عليه وسلم- فقد تقدم في أوائل هذا الكتاب مبسوطا.
ومنها الحكمة في إتيانه بالجلالة دون غيره من الأسماء الحسنى أنه الاسم الأعظم على ما رجحه كثيرون، ولم يقسم به غيره كما فسّر به قوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم 65] وأنه يضاف إليه فيقال: الرحمن الرحيم اسم الله ولا عكس وجميع الأسماء ولأنه لا ينقص بنقص شيء من حروفه فإذا أسقطت الهمزة قلت لله الأمر وإن أسقطت اللام الأولى قلت: «له ملك السّموات والأرض» وإن أسقطت الثانية قلت: «هو الأوّل والآخر» وقال: «آمنوا» دون «يا أيها الناس» وإن كان الصّحيح أنه خاطب الكفار بفروع الشريعة، لأن الصلاة من أجل القرب فاختص بها المؤمنون وعدّي ب «على» المراد بها الدّعاء، لأن المراد من قوله تعالى:(12/414)
صَلُّوا عَلَيْهِ أي قولوا: اللهم صل على محمد، كما أجاب به- عليه الصلاة والسلام- فيمن قال: قد أمرنا بالصّلاة عليك، فكيف نصلي؟ فقال: قولوا: ...
ومنها أنه تعالى قدّم صلاته عليه ترغيبا للمؤمنين في ذلك وترهيبا لهم من تركها.
[ومنها: أن تشريفه بصلاة الله عليه أسمى من شرف آدم بأمر الله تعالى الملائكة له بالسجود.
قال الفاكهانيّ: لما كانت الصّلاة عليه مؤكدة، يعني بصلاة الله وملائكته ولا كذلك السّلام أكّده بالمصدر.
وقال الحافظ: لمّا وقع تقديم الصلاة والسلام في اللفظ، وكان للتقديم مزيّة في الاهتمام حسن أن يؤكد السّلام لتأخره والعلم لله تعالى انتهى]
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في أ.(12/415)
الباب الثاني في الأمر بالصلاة والسلام عليه، زاده الله فضلا وشرفا لديه
وفيه أنواع:
الأول:
في الأمر بالصلاة والسلام عليه، قال الله- عز وجل-: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب 56]
وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «حيثما كنتم فصلّوا عليّ، فإنّ صلاتكم تبلغني» رواه الطبراني وأبو داود والنّسائيّ.
وقال- صلى الله عليه وسلم- «من ذكرت عنده فليصلّ عليّ» رواه الإمام أحمد والنسائي وابن حبان.
وقال عليه الصلاة والسلام: «إذا سمعتم المؤذّن، فقولوا مثل ما يقول ثمّ صلّوا عليّ» رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
وقال- صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا من الصلاة على فإنّ الله وكّل بي ملكا عند قبري فإذا صلّى على رجل من أمّتي، قال، قال: ذلك الملك يا محمد إن فلان بن فلان صلّى عليك السّاعة» ورواه الديلمي في «مسند الفردوس» وأبو يعلى.
وقال عليه الصلاة والسلام: «أكثروا الصّلاة عليّ، فإن صلاتكم عليّ مغفرة لذنوبكم، واطلبوا لي الدّرجة والوسيلة، فإنّ وسيلتي عند ربي شفاعة لكم» رواه ابن عساكر عن السيد الحسن- رضي الله تعالى عنه-.
وروى ابن عدي في «الكامل» عن ابن عمر وأبي هريرة- رضي الله تعالى عنهما- قالا:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «صلوا عليّ، صلّى الله عليكم» .
وروى ابن أبي حاتم- بسند جيد مرسلا- عن قتادة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا صلّيتم على المرسلين فصلّوا عليّ معهم [فإنّي رسول من ربّ العالمين] » .
وروى الترمذي والحاكم عن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «صلّ عليّ وعلى سائر النبيين» .
وروى ابن النجار عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا الصّلاة عليّ فإنّه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا» .
وروى الديلمي بلا إسناد عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله تعالى عنه- قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «صلّوا عليّ، فإنها لكم أضعاف مضاعفة» .
وروى ابن بشكوال عن أبي ذر- رضي الله تعالى عنه- قال: «أوصاني(12/416)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن أصليها في الحضر والسّفر- يعني صلاة الضّحى- وأن لا أنام إلا على وتر، وبالصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم-.
وعنه- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أكثروا من الصلاة على، لأن أول ما تسئلون في القبر عني» .
قال الحافظ السّخاوي في «القول البديع» : ولم أقف على سنده.
وروى الدّيلمي في مسند الفردوس عن أنس بن مالك.
وفي لفظ: عن أنس عن أبي طلحة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا صلّيتم على المرسلين فصلّوا عليّ معهم، فإنّي رسول من المرسلين» .
ورواه ابن أبي عاصم في كتابه كما هنا بلفظ آخر «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين»
ذكر المجد اللغوي أن إسناده صحيح يحتج برجاله في الصحيحين.
قال الحافظ السّخاوي في القول البديع فالله أعلم بذلك.
وروى الإمام أحمد وأبو نعيم والبخاري في الأدب عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من ذكرت عنده فليصلّ عليّ ومن صلّى عليّ مرة صلى الله عليه عشرا» ورواه الطبراني في الأوسط بدون «ومن صلى عليّ مرة» إلى آخره ورجاله رجال الصحيح.
وروى الإمام أحمد وأبو الشيخ في الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- له وكذا ابن أبي عاصم وفي سنده ضعف عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «صلّوا عليّ فإنّ صلاتكم عليّ زكاة لكم» وهو عند الحارث وأبي بكر بن أبي شيبة في مسنديهما وزاد فيه: واسألوا الله عز وجل الوسيلة لي فإمّا سألوه وإمّا أخبرهم فقال: أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد، أرجو أن أكون أنا.
وروى أبو القاسم التميمي في الترغيب: «وأكثروا من الصلاة على، فإنها لكم زكاة وإذا سألتم الله فاسألوه الوسيلة فإنها أرفع درجة في الجنة وهي لرجل، وأنا أرجو أن أكون هو» .
قوله «يصلّون» بصيغة المضارعة الدال على الدوام والاستمرار لا سيما ذلك على أنه سبحانه وجميع ملائكته يصلون عليه فكيف يحسن للمؤمن أن لا يكثر الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- ويغفل عن ذلك قاله الفاكهانيّ.(12/417)
الباب الثالث في التحذير من ترك الصلاة عليه زاده الله فضلا- صلى الله عليه وسلم- وشرفا لديه
روى الحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح الإسناد والطّبرانيّ والبخاري في «الأدب المفرد» وإسماعيل القاضي والبيهقي في «شعب الإيمان» والضّياء المقدسيّ، ورجاله ثقات عن كعب بن عجرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أحضروا المنبر فحضرنا، فلما ارتقى درجة قال: آمين، ثم ارتقى الثانية، فقال: آمين، ثم ارتقى الثالثة فقال:
آمين، فلما نزل قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئا ما كنا نسمعه، فقال: إن جبريل عرض لي فقال: بعدا لمن أدرك رمضان فلم يغفر له قلت: آمين: فلما رقيت الثانية قال: بعدا لمن ذكرت عنده فلم يصل عليك فقلت: آمين: فلما رقيت الثالثة، قال بعدا لمن أدرك أبواه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنّة، فقلت: أمين.
ورواه الحاكم في المستدرك والطبراني برجال ثقات غير عمران بن أبان وثقه ابن حبان وضعّفه غير واحد بلفظ: صعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المنبر، فلمّا رقى عتبة قال: «آمين وبعد» ، فلم يغفر له فأبعده الله وفي لفظ: إنّ جبريل قال لما رقيت الدّرجة الثّانية: بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقل: آمين.
ورواه البخاري في «الأدب المفرد» والطبراني في «الأوسط» والطبري في تهذيبه والدّارقطنيّ في «الإفراد» وهو حسن، والنسائي عن جابر- رضي الله تعالى عنه- بلفظ: رقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المنبر، فلما رقى الدرجة الأولى، وبلفظ: لما رقيت الدرجة الأولى، جاءني جبريل فقال: شقي عبد أدرك رمضان فانسلخ منه، ولم يغفر له.
قال الحافظ السّخاوي في «القول البديع» : وساقه الضياء في «المختارة» من طريق الطيالسي وقال: هذا عندي على شرط مسلم انتهى.
قال: وفيه نظر،
ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبخاري في الأدب المفرد وأبو يعلى في مسنده عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- بلفظ: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صعد المنبر فقال: آمين آمين آمين، فقيل: يا رسول الله، إنّك صعدتّ المنبر، فقلت: آمين آمين آمين فقال: «إن جبريل أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان، فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل:
آمين فقلت: آمين.
ورواه البيهقي في الدعوات باختصار.(12/418)
ورواه الإمام أحمد والحاكم وصحّحه والترمذي وقال: حسن غريب بلفظ رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ.
وروى الطبراني والطبري عن حسين بن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: من ذكرت عنده فخطئ الصّلاة عليّ خطئ طريق الجنة ورواه ابن أبي عاصم وإسماعيل القاضي عن محمد ابن الحنفية مرسلا.
قال المنذري: وهو أشبه بلفظ «من ذكرت عنده فنسي الصّلاة عليّ» .
وفي لفظ «فلم يصلّ عليّ خطئ طريق الجنة» .
وروى البيهقي في «الشّعب» و «السنن الكبرى» والتيمي في الترغيب والرشيد والعطّار وقال: إن إسناده حسن عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من نسي الصلاة عليّ فقد نسي طريق الجنّة» .
وفي رواية خطئ طريق الجنة.
قال الحافظ أبو موسى المديني في الترغيب له: هذا الحديث يروى عن جماعة منهم علي بن أبي طالب وابن عباس وأبو أمامة وأمّ سلمة- رضي الله تعالى عنهم-.
ورواه ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله.
وروى البيهقي عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: قال لي جبريل: رغم أنف عبد ذكرت عنده فلم يصل عليك، فقلت: آمين.
وروى البيهقي في «الشعب عن جابر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن جبريل قال: من ذكرت عنده، فلم يصل عليك، فمات ولم يغفر له فدخل النّار، فأبعده الله، قل آمين، فقلت:
آمين.
وروى ابن حبان عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن جبريل قال: من ذكرت عنده، فلم يصل عليك، فمات فدخل النار، فأبعده الله قل: آمين، فقلت آمين.
وروى ابن أبي عاصم في «الصلاة» عن أبي ذر- رضي الله تعالى عنه- قال: خرجت ذات يوم فأتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: ألا أخبركم بأبخل النّاس؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: من ذكرت عنده فلم يصل عليّ، فذلك أبخل النّاس.
ورواه إسماعيل القاضي عن عوف بن مالك عن أبي ذر بلفظ: إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل عليّ.(12/419)
وروى الإمام أحمد والطيالسيّ والطبراني في «الدعاء» وأبو داود والترمذي وقال: حسن عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: إذا جلس قوم مجلسا، لم يذكروا الله تعالى فيه ولم يصلوا على نبيه- صلى الله عليه وسلم- إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذّبهم، وإن شاء غفر لهم.
وروى الطبراني في «الكبير» و «الدعاء» بسند رجاله ثقات عن أبي أمامة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما من قوم جلسوا مجلسا، ثم قاموا منه لم يذكروا الله، ولم يصلّوا عليّ إلّا كان ذلك المجلس عليهم ترة» .
وروى الدينوري في المجالسة والتيمي في الترغيب والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة من طريق أبي بكر الشّافعيّ مرفوعا عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يجلس قوم مجلسا لا يصلون فيه على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلا كان عليهم حسرة، وإن دخلوا الجنّة لما يرون من الثواب.
ورواه الضياء في المختارة من طريق أبي بكر بن عاصم والنّسائيّ في عمل اليوم واللّيلة والبغويّ في الجعديّات موقوفا وهو حديث صحيح.
وروى الطيالسي والبيهقي في الشعب والضياء في المختارة والنّسائيّ في اليوم والليلة وتمام في «فوائده» برجال الصحيح على شرط مسلم عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما اجتمع قوم ثم تفرّقوا من غير ذكر الله- عز وجل- وصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- إلّا قاموا عن أنتن من جيفة» .
ورواه الطبراني في الدعاء بلفظ: «ما من قوم اجتمعوا في مجلس ثم تفرّقوا ولم يذكروا الله ولم يصلّوا على نبيهم- صلى الله عليه وسلم- إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة» .
وروى الإمام أحمد في مسنده والنّسائيّ في سننه الكبرى والبيهقي في الدعوات والشّعب عن الحسين بن علي- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «البخيل» زاد بعضهم «كلّ البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ» .
ورواه الترمذي عن عليّ وقال: حسن صحيح، وفي نسخة: حسن غريب، والنسائي وابن بشكوال من طريق البخاري في تاريخه وسعيد بن منصور في سننه والبيهقيّ في شعبه وإسماعيل القاضي.
قال الحافظ السّخاوي في «القول البديع» : واختلف في إسناده، فأرسله بعضهم، فحذف التابعيّ والصحابيّ معا، وبالجملة فلا يقتصر على درجة الحسن.
وروى الترمذي وصحّحه البيهقي في شعبه عن علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى(12/420)
عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن البخيل كلّ البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي» .
وروى البيهقي في الشعب عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «البخيل كلّ البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ» .
وروى ابن حبان والبيهقي في الشعب عن الحسين- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنّ البخيل من ذكرت عنده فلم يصل عليّ» .
تنبيهات
الأول: استشكل حمل حديث «من نسي الصلاة» على ظاهره
بما ورد «رفع عن أمتي الخطأ والنّسيان»
وبأن الناس لا لوم عليه، لأنه غير مكلّف.
وأجيب يحمل الناس على التّارك كقوله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة 67] .
الثاني: يعني قوله «وإن دخلوا الجنة» أن ذلك في عرصات القيامة لما فاتهم من الثّواب ولو كان مصيرهم إلى الجنّة، لأن الحسرة تلزمهم قبل دخول الجنة.
الثالث: قال الطيبيّ: «الفاء» في قوله: «فلم يصلّ عليّ» استبعادية والمعنى: بعد من الغافل، بل من المؤمن أن يتمكن من أجر كلمات معدودات على لسانه، فيفوز بعشر صلوات من الله تعالى، ويرفع له عشر درجات، ويحط عنه عشر سيئات، ثم لم يغتنمه حتّى يفوت عنه فحقيق أن يحقره الله تعالى ويضرب عليه الذّلّة والمسكنة.
وتعقبه بعضهم أنّ «الفاء» بمعنى «ثمّ» إذ لا داعي إلى ذلك بل كونها للتعقيب أقعد بالمعنى في هذا المقام حتى يحصل منه التراخي عن تعقيب الصلاة عليه بذكره، بل ينبغي أن تكون الصلاة عليه معقبة بذكره عنده حتّى لو تراخى عن ذلك ذمّ عليه.
الرابع: قوله: «فلم يدخلاه الجنّة» أي فلم يبرّهما فيكون سببا لدخول الجنّة فهو إسناد مجازيّ، لأن دخول الجنة برحمة الله تعالى.
الخامس: عرّف البخيل بالألف واللام ليدلّ على أنه الكامل في البخل على ما يقتضيه تعريف المبتدأ.
قال الفاكهانيّ: وهذا أقبح بخل وأسوأ شحّ، لم يبق بعده إلا بخل بكلمة الشّهادة، وهو يقوي القول بوجوب الصّلاة عليه كما ذكر، والله أعلم انتهى.
ولا شك أن إخباره- صلى الله عليه وسلم- برغم أنف من ذكر عنده فلم يصل عليه والإبخال عليه بالبخل والإبعاد والدعاء عليه والشقاء يقتضي الوعيد، والوعيد على الترك من علامات الوجوب،(12/421)
وهو قول الطّحاويّ وجماعة من الحنفية والحليميّ والشّيخ أبي كامل الإسفرايينيّ وجماعة من الشافعية وابن بطّة من الحنابلة.
وقال ابن العربي من المالكية: إنّه الأحوط وهذا خارج الصّلاة، وهل هي فرض عين وعليه الأكثر، أو كفاية وعليه أبو الليث السمرقندي من الحنفية في مقدّمته.
وقيل بوجوبها في كل مجلس مرة وإن تكرّر، حكاه الزمخشري وقيل: بوجوبها مرّة في العمر وهو محكيّ عن الحنفية، ونقل عن مالك والثوري والأوزاعيّ.
وقال القاضي عياض وابن عبد البر: إنه قول جمهور الأمة.
وقال أبو عبد الله القرطبيّ: لا خلاف في وجوبها في العمر مرة وأنّها واجبة في كل حين وجوب السّنن المؤكّدة.
وقال ابن عطية: الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- في كل حال واجبة وجوب السّنن المؤكدة التي لا يسع تركها ولا يغفل عنها إلا من لا خير فيه.
وقيل: واجبة في الجملة من غير حصر.
وأقلّ ما يحصل به الإجزاء مرّة، وادّعى بعض المالكية الإجماع عليه، قال ابن القصار منهم: المشهور عن أصحابنا أن ذلك واجب في الجملة على الإنسان وفرض عليه أن يأتي بها مرة في دهره مع القدرة على ذلك.
وقيل: واجبة في التشهد الأخير.
قال الإمام الشافعي: شرط في صحّة الصلاة.
وقيل: واجبة فيها من غير تعيين محلّ، نقل ذلك عن أبي جعفر الباقر.
وقيل: يجب الإكثار منها من غير تقييد، قاله القاضي أبو بكر بن بكير من المالكية.
وقيل: فرض إسلامي جمليّ غير متقيد بعدد، ولا وقت معيّن قاله بعض المالكية، ويجب الصّلاة عليه بقدرها، لأنها من أفضل العبادات وأجلّ الطاعات،
وقد قال- صلى الله عليه وسلم- «من نذر أن يطيع الله فليطعه» .
واختلف هل يجب عليه- صلى الله عليه وسلم- أن يصلّي على نفسه وهو مذهب الشّافعيّ أو لا يجب؟ وهو في بعض شروح الهداية للحنفية، قال شارح المشكاة «أل» في البخيل للجنس فهو محمول على الكمال وأقصى غايته وقد جاء «البخيل ليس من بخل بماله، ولكن البخيل من(12/422)
بخل بمال غيره» وأبلغ منه أبغض الجواد حتّى لا يحبّ أن يجازى عليه فمن لم يصل على النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر عنده منع نفسه أن يكتال بالمكيال الأوفى، فهل تجد أحدا أبخل من هذا انتهى.
وعبر بالجملة الاسمية على أنها تكون على طريق التأكيد بأنّ، ثم أردفه بتأكيد معنوي وهو قوله: «كلّ البخيل» ولا بخل فوق ذلك.
السادس: في بيان غريب ما سبق:
«بعد» بموحدة مفتوحة فعين مهملة مضمومة فدال مهملة يعني عن الخير.
وفي رواية أبعده الله ويروى بكسر العين أي هلك ولا مانع من حمله على المعنيين.
«صعد» بصاد مفتوحة فعين مكسورة في الماضي مفتوحة في المستقبل فدال مهملات.
رقى العتبة: ...
«خطئ» بخاء معجمة مفتوحة وكسر الطاء المهملة في آخره همزة يقال خطئ في دينه خطأ إذا أثم فيه والخطأ الذّنب والإثم، وأخطأ يخطئ إذا سلك سبيل الخطأ عمدا أو سهوا ويقال: لمن أراد شيئا ففعل غيره، أو فعل غير الصّواب، أخطأ، وإذا أخطأ طريق الجنة لم يبق له إلا الطريق إلى النّار أعاذنا الله من ذلك، ويقال: خطأ بمعنى أخطأ أيضا وقيل: خطأ إذا تعمّد وأخطأ إذا لم يتعمّد.
«رغم» براء مفتوحة فعين معجمة مكسورة فميم، لصق بالرغام وهو التراب، ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره.
«التّرة» بمثناة فوقية مكسورة فراء مفتوحة مخففة، الحسرة وقيل: البغض، وقيل: التّبعة، وقيل: النّار، وقيل: الذّنب.
وقوله: «إلا قاموا على أنتن من جيفة» هو على طريق استقذار مجلسهم العاري عن الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- استقذارا يبلغ إلى هذه الحالة، وما بلغ هذا المبلغ في كراهة الرّائحة وجب التّفرّق عنه والهرب منه.(12/423)
الباب الرابع في فضل الصلاة والسلام عليه، زاده الله فضلا وشرفا لديه
روى مسلم وأبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح، والنسائي وابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشرا» .
وروى أبو موسى المديني بسند قال الحافظ مغلطاي لا بأس به عنه، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلّى عليّ عشرا صلى الله عليه مائة، ومن صلّى عليّ مائة صلى الله عليه ألفا، ومن زاد صبابة وشوقا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة» .
وروى الإمام أحمد بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله تعالى عنهما- قال: من صلى على النبي- صلى الله عليه وسلم- واحدة صلى الله عليه وملائكته بها سبعين صلاة، فليقلّ عند ذلك أو ليكثر.
وروى الإمام أحمد وابن أبي عاصم والبيهقي وعبد بن حميد والبيهقيّ عن الحاكم، وقال: هذا حديث صحيح لا أعلم في سجدة الشّكر أصحّ منه عن عبد الرحمن بن عوف- رضي الله تعالى عنه- قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتوجّه نحو صدقته، فدخل، فاستقبل القبلة، فخرّ ساجدا فأطال السّجود حتى ظننت أن الله قبض نفسه فيها فدنوت منه، فرفع رأسه قال: «من هذا» ؟ قلت عبد الرحمن، قال: «ما شأنك» ؟ قلت: يا رسول الله، سجدتّ سجدة حتى ظننت أن يكون قد قبض الله نفسك فيها، فقال: «إن جبريل أتاني فبشّرني» ، فقال: «إن الله عز وجلّ يقول: من صلّى عليك صليت عليه، ومن سلّم عليك سلّمت عليه، زاد في رواية فسجدتّ لله شكرا»
[ (1) ] .
وروى أبو يعلى بلفظ: كان لا يفارق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منّا خمسة أو أربعة من أصحابه لما ينوبه من حوائجه باللّيل والنّهار، قال: فجئته وقد خرج فاتّبعته فدخل حائطا من حيطان الأسواق فصلّى، فسجد، فأطال السّجود، فبكيت، وقلت، قبض الله روحه، قال: فرفع رأسه فدعاني، فقال: «ما لك» ؟ فقلت: يا رسول الله، أطلت السجود، فقلت: قد قبض الله روح رسوله لا أراه أبدا، قال: «سجدت شكرا لربي فيما أبلاني في أمتي، من صلى علي من أمتي كتب له عشر حسنات، ومحا الله عنه عشر سيئات» .
ورواه ابن عساكر بلفظ: أتاني جبريل، وقال لي: يا محمّد، أبشّرك بما أعطاك الله في
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 1/ 191.(12/424)
أمتك، وما أعطى أمتك منك، من صلّى عليك منهم صلاة صلى الله عليه، ومن سلّم عليك سلّم عليه.
وروى ابن قانع عن طلحة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «قال لي جبريل يا محمد لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد إلا سلمت عليه عشرا» .
وروى الطبراني في «الصغير» والضياء في المختارة بإسناد جيّد، قال الحافظ السخاوي، بل صحّحه بعضهم عن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لحاجته فلم يجد أحدا يتبعه، ففزع عمر فأتاه بمطهرة من خلفه، فوجد النبي- صلى الله عليه وسلّم- ساجداً في مشربة، فتنحّى عنه من خلفه حتى رفع النبي- صلى الله عليه وسلم- رأسه قال:
«أخشيت يا عمر حين رأيتني ساجدا، فتنحيت عني، أن جبريل- عليه السلام- أتاني فقال: من صلى عليك من أمتك واحدة صلى الله عليه عشرا، ورفع له عشر درجات» .
وروى ابن أبي عاصم في الصّلاة له والنسائيّ في اليوم والليلة والسّنن والبيهقي في الدعوات عن أبي بردة بن نيار- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما صلّى عليّ عبد من أمتي صلاة صادقا من قلبه إلا صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحا عنه بها عشر سيئات» .
ورواه الطبراني- برجال ثقات- وليس عنده لفظ صلاة.
وروى الدارميّ والإمام أحمد والحاكم في صحيحه وابن حبان والنسائي والبيهقي في الشعب والضياء عن أبي طلحة الأنصاري- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه فقال: «إنه جاءني جبريل- عليه السلام- فقال: أما يرضيك يا محمد أنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا» .
ورواه النسائي عن عبد الله بن أبي طلحة عنه بلفظ: «يا محمد، إن ربك يقول: أما يرضيك أنّه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشرا، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشرا» .
ورواه البغويّ والطبراني في الكبير عن أنس عنه بلفظ: أتاني جبريل ببشارة من ربي قال إن الله- عز وجلّ- بعثني إليك أبشرك أنه ليس أحد من أمتك يصلي عليك صلاة إلا صلى الله عليه وملائكته عشرا.
وروى الطبراني في الكبير عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:(12/425)
أتاني جبريل، فقال: يا محمد، إن الله يقول لك من صلّى عليك صلّيت عليه أنا وملائكتي.
وروى الطبراني في الكبير عنه أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: أتاني جبريل، فقال يا محمد، من صلّى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات، ورفعه بها عشر درجات، وقال له الملك، قيل: ما قال لك؟ قلت: يا جبريل، وما ذاك الملك، قال: إن الله وكّل بك ملكا من لدن خلقك إلى أن يبعثك، ما يصلي عليك أحد من أمتك إلا قال: وأنت صلى الله عليك.
وروى الطبراني عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أتاني جبريل آنفا، فقال بشّر أمتك أنه من صلّى عليك صلاة كتب له بها عشر درجات.
وروى الضياء في «المختارة» والدارقطنيّ في «الإفراد» وابن النّجّار عن سهل بن سعد- رضي الله تعالى عنه- قال: خرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإذا بأبي طلحة، فقام إليه فتلقّاه فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إنّي لأرى السّرور في وجهك، قال: «أجل، إنه أتاني جبريل آنفا فقال: يا محمد، من صلّى عليك مرة أو قال: واحدة، كتب الله بها عشر حسنات، ومحا عنه بها عشر سيئات، ورفع له بها عشر درجات» .
قال رواية محمد بن حبيب: ولا أعلمه إلا قال: وصلّت عليه الملائكة عشر صلوات انتهى.
وروى أبو القاسم التيمي في ترغيبه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أن لله سيّارة من الملائكة يبتغون حلق الذّكر فإذا مرّوا بحلقة قال بعضهم لبعض: اقعدوا فإذا دعا القوم أمّنوا على دعائهم، فإذا صلّوا على النبي- صلى الله عليه وسلم- صلّوا معهم حتى يفرغوا ثم قال: بعضهم لبعض «طوبى لهم لا يرجعون إلا مغفورا لهم» .
وروى الإمام أحمد وعبد بن حميد في مسنديهما والترمذي وقال: حسن صحيح والحاكم صحّحه عن أبي بن كعب- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا ذهب ربع الليل.
وفي رواية «ثلث اللّيل قام فقال يا أيها الناس، اذكروا الله اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرّادفة، جاء الموت بما فيه» .
قال أبي بن كعب: يا رسول الله، إنّي أحبّ الصّلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت، قلت: الرّبع؟ قال ما شئت، وإن زدتّ فهو خير لك، قال: قلت:
النّصف؟ قال: ما شئت، فإن زدتّ فهو خير لك، قال: قلت فالثلثين؟ قال: ما شئت، فإن زدتّ فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلّها؟ قال: إذن تكفى همّك ويغفر ذنبك.(12/426)
وفي لفظ لأحمد وابن أبي شيبة وابن أبي عاصم بسند جيّد: قال رجل: يا رسول الله، أرأيت إن جعلت صلاتي كلّها لك؟ قال: يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمّك من أمر دنياك وآخرتك.
قال أبو عبد الله بن النّعمان أنشد أبو جعفر عمر بن عبد الله بن نزال:
أيا من أتى ذنبا وفارق ذلّة ... ومن يرتجي الرّحمن من الله والقربا
تعاهد صلاة الله في كل ساعة ... على خير مبعوث وأكرم من نبا
فيكفيك همّا أيّ همّ تخافه ... ويكفيك ذنبا حيث أعظم به ذنبا
ومن لم يكن يفعل فإنّ دعاءه ... يجد قبل أن يرقى إلى ربّه حجبا
وروى ابن منده والحافظ أبو موسى المديني، وقال: حديث حسن غريب، عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من صلى عليّ في كل يوم مائة مرّة، قضى الله له مائة حاجة، سبعين منها لآخرته، وثلاثين منها لدنياه» .
وروى الترمذي وقال: حسن غريب، عن عبد الله بن شدّاد عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة» ورواه عن عبد الله بن شدّاد عن أبيه عن ابن مسعود وكذا رواه ابن أبي شيبة وابن حبان وصححه وأبو نعيم، وهكذا رواه ابن أبي عاصم أيضا في فضل الصّلاة له وابن عدي في الكامل، والدينوري في المجالسة، والدارقطنيّ في الإفراد، والتيمي في الترغيب وغيره.
قال الحافظ السّخاوي: وهذه الرواية أكثر وأشهر.
وروى البخاري في تاريخه وابن عساكر عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: قال لي جبريل: من صلّى عليك له عشر حسنات.
وروى أبو الشيخ وابن حبان وأبو القاسم التّيميّ في ترغيبه والحارث في مسنده عن عمار بن ياسر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن لله ملكا أعطاه أسماع الخلائق، وهو قائم على قبري إذا متّ فليس أحد يصلي عليّ صلاة إلا قال: يا محمد، فلان ابن فلان صلّى عليك، فيصلّي الربّ على ذلك الرجل بكلّ واحدة عشرا» .
ورواه ابن أبي عاصم في كتابه بلفظ: إن الله أعطى ملكا من الملائكة أسماع الخلائق فهو قائم على قبري حتى تقوم الساعة، فليس أحد من أمتي يصلّي عليك صلاة إلّا قال: يا أحمد، فلان بن فلان باسمه واسم أبيه يصلّي عليك كذا وكذا، وضمن لي الرّبّ أنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا، وإن زاد زاده.(12/427)
ورواه الطبراني في الكبير نحوه.
ورواه أبو علي الحسين بن نصر الطوسيّ في أحكامه والبزار في مسنده بلفظ: «إن الله وكّل بقبري ملكا أعطاه الله أسماع الخلائق، فلا يصلي عليّ أحد إلى يوم القيامة إلا بلغني اسمه واسم أبيه، هذا فلان بن فلان قد صلّى عليك» .
زاد بعضهم في رواية: وإني سألت ربي- عز وجل- إن لا يصلي على أحد منهم صلاة إلا صلّى عليه عشر أمثالها والله عز وجل أعطاني ذلك.
قال الحافظ السخاوي: وفي سند الجميع نعيم بن ضمضم عن عمران بن الحميري.
قال المنذريّ: ولا يعرف.
قلت: بل هو معروف للبخاريّ وقال: لا يتابع عليه، وذكره ابن حبّان في ثقات التّابعين.
وروى التيمي عن أبي بكر الصديق موقوفا قال: الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- أفضل من مهج الأنفس، أو قال: ضرب السيف في سبيل الله.
وروى البخاري في الأدب المفرد وابن وهب وابن بشكوال وابن حبان في صحيحه وأبو الشيخ عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أيما رجل مسلم لم يكن عنده صدقة فليقل في دعائه: اللهم، صل على محمد عبدك ورسولك، وصلّ على المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، فإنّها له زكاة» .
ورواه الديلميّ من طريق درّاج وهو مختلف فيه وإسناده حسن.
وروى الإمام أحمد وأبو الشيخ في الصلاة النبوية له عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «صلّوا عليّ فإنّ الصّلاة عليّ زكاة لكم» .
وروى أبو القاسم التميمي بلفظ: «أكثروا عليّ الصلاة فإنّها زكاة لكم» .
وروى أبو موسى المديني بسند ضعيف عن سهل بن سعد- رضي الله تعالى عنه- قال: جاء رجل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فشكا إليه الفقر وضيق العيش أو المعائش، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا دخلت منزلك فسلّم إن كان فيه أحد وإن لم يكن فيه أحد، ثمّ سلّم عليّ واقرأ قل هو الله أحد مرة واحدة» ففعل الرجل، فأفاض الله عليه بالرزق حتّى أفاض على جيرانه وقراباته.
وروى ابن بشكوال بسند ضعيف عن حذيفة- رضي الله تعالى عنه- قال: الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- تنفع المصلّي وولده وولد ولده.
وروى عبد الرزاق- بسند ضعيف- عن علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه- قال:(12/428)
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: من صلّى صلاة كتب الله له قيراطا والقيراط مثل أحد.
وروى الإمام أحمد وأبو نعيم والبخاري في «الأدب المفرد» عن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من ذكرت عنده فليصلّ عليّ، ومن صلّى علي مرة، صلى الله عليه عشرا.
ورواه الطبراني في «الأوسط» برجال الصحيح- بدون «من صلى علي مرّة» .
وفي رواية «من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطّت عنه عشر سيئات، ورفعت له عشر درجات» .
ورواه النسائي وابن حبان في صحيحه بدون ورفعت إلى آخره.
ورواه تمام في فوائده وأوله: «ما من عبد مؤمن يذكرني فليصلّ عليّ ... والباقي بنحوه.
ورواه الحاكم بلفظ: «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحطّ عنه عشر خطيئات.
ورواه الطبراني في «الأوسط» و «الصغير» بلفظ: «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشرا، ومن صلّى عليّ عشرا صلى الله عليه مائة، ومن صلّى عليّ مائة كتب الله له بين عينيه براءة من النفاق، وبراءة من النّار وأسكنه الله يوم القيامة مع الشّهداء.
ورواه أبو بكر بن أبي عاصم في كتاب الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- له وأبو القاسم التيمي في ترغيبه بلفظ: «صلّوا عليّ فإنّ الصّلاة عليّ كفارة لكم وزكاة، من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشرا.
ورواه أبو القاسم التيمي وأبو موسى المديني بإسناد صحيح بلفظ: فإنّ الصلاة عليّ درجة لكم.
وأنشد أبو سعيد محمد بن السّلميّ قال:
أمّا الصلاة على النبي فمنيرة ... مرضيّة تمحى بها الآثام
وبها ينال المرء عزّ شفاعة ... يثنى بها الإعزاز والإكرام
كن للصّلاة على النّبيّ ملازما ... فصلاته لك جنّة وسلام
وأنشد الرّشيد العطّار الحافظ:
ألا أيّها الرّاقي المثوبة والأجرا ... وتكفير ذنب سالف أنقض الظّهرا
عليك بإكثار الصّلاة مواظبا ... على أحمد الهادي شفيع الورى طرّا(12/429)
وأفضل خلق الله من نسل آدم ... وأزكاهم فرعا وأشرفهم فخرا
فصلّى عليه الله ما جنّت الدّجى ... وأطلعت الأفلاك في أفقها فجرا
وأنشد شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر لنفسه:
يقول راجي إله الخلق أحمد من ... أملى حديث نبيّ الخلق متّصلا
تدنو من الألف إن عدّت مجالسه ... فالسّدس منها بلا قيد لها حصلا
يتلوه تخريج أصل الفقه يتبعها ... تخريج أذكار ربّ قد دنا وعلا
دنا بوحشه للخلق يرزقهم ... كما علا عن سمت الحادثات علا
في مدّة نحو كجّ قد مضت هملا ... ولي من العمر في ذا اليوم قد كملا
ستّا وسبعين عاما رحت أحسبها ... من سرعة السّير ساعات فيا خجلا
إذا رأيت الخطايا أوبقت عملي ... في موقف الحشر لولا أنّ لي أملا
توحيد ربّي يقينا والرّجاء له ... وخدمتي ولاكثار الصّلاة على
محمّد في صباحي والمساء وفي ... خطّي ولطفي عساها تمحيه الزّللا
فأقرب النّاس منه في قيامته ... من بالصّلاة عليه كان منشغلا
يا ربّ حقّق رجائي والألى سمعوا ... منّي جميعا بعفو منك قد شملا
تنبيهات
الأول:
قوله- صلى الله عليه وسلم- «من صلى عليّ»
هذه شرطية، والمشروط «صلّى» ، وجزاء الشّرط قوله عشرا.
قال الطيبي: الصلاة منا عليه معناها طلب التّعظيم والتبجيل لجنابه الكريم، والصلاة من الله تعالى على العبد إن كان بمعنى الغفران فيكون من الموافقة لفظا ومعنى، وهذا هو الوجه لئلا يتكرر معنى الغفران، ومعنى الأعداد المخصوصة محمولة على المزيد والفضل المطلوب انتهى.
وقال ابن القيّم: هذا موافق للقاعدة المستقرّة في الشريعة أن الجزاء من جنس العمل، فصلاة الله تعالى على المصلّي على رسوله- صلى الله عليه وسلم- جزاء لصلاته هو عليه فمن أثنى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جزاه الله من جنس عمله بأن يثني عليه ويزيد في تشريفه وتكريمه.
وقال القاضي عياض: معنى- صلى الله عليه- رحمه وضعّف أجره كقوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام 160] قال: وقد تكون الصلاة على وجهها وظاهرها(12/430)
كلاما تسمعه الملائكة تشريفا للمصلّي وتكريما كما جاء «وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» .
الثاني: قال القاضي أبو بكر بن العربيّ قد قال الله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام 160] ومعلوم أن الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- حسنة فللمصلي عليه عشر أمثالها، فما فائدته.
أجيب بأن فيه أعظم فائدة، وذلك أن القرآن اقتضى أنّ من جاء بالحسنة تضاعف له عشرا، والصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- حسنة فاقتضى القرآن أن يعطى عشر درجات في الجنّة واقتضى الحديث الإخبار أنه تعالى يصلي على من صلّى على نبيه- صلى الله عليه وسلم- عشرا وذكر الله العبد أعظم مضاعفة.
وتحقيق ذلك أن الله تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلا ذكره، كذلك جعل جزاء ذكر نبيه- صلى الله عليه وسلم- ذكره لمن ذكر انتهى.
أي بأن قائل صلاة العبد عليه يصلّي عليه سبحانه عشرا وكذلك إذا سلّم يسلّم عليه عشرا فله الحمد والفضل.
قال الفاكهانيّ: وهذه نكتة حسنة أجاد فيها وأفاد انتهى.
قال العراقي: بل لم يقتصر سبحانه وتعالى في الصّلاة على نبيّه بأن يصلي عليه بالواحدة عشرا بل زاده على ذلك رفع عشر درجات، وحطّ عنه عشر سيئات كما تقدم في حديث أنس.
الثالث: قوله: «فليقلّ عبد من ذلك أو ليكثر» فيه التخيير بعد الإعلام بما فيه من الخيرة في المخير فيه، فهو تحذير من التّفريط في تحصيله فهو قريب من معنى التّهديد.
الرابع: قوله: «أما يرضيك» قال (شارح) المشكاة هذا بعض ما أعطى في الرّضا في قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى] وهذه البشارة في الحقيقة راجعة إلى الأمة ومن ثمّ ظهر تمكّن البشرى في أسارير وجهه- صلى الله عليه وسلم- تمكنا عامّا حيث جعل وجهه الشريف ظرفا ومكانا للبشر والطّلاقة، وهذا رمز إلى نوع من الشّفاعة فإذا كانت الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- توجب هذه الكرامة من الله سبحانه وتعالى فما ظنّك بقيامه وتشميره للشّفاعة الكبرى، رزقنا الله ذلك أجمعين.
الخامس: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «أن أولى النّاس بي» أي أقربهم منّي منزلة.
قال ابن حبان: في هذا الخبر بيان صحيح على إن أولى الناس برسول الله- صلى الله عليه وسلم- في(12/431)
القيامة يكون أصحاب الحديث إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم.
وقال أبو نعيم: هذه منقبة عظيمة يختصّ بها أصحاب رواة الآثار ونقلتها، لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أكثر ممّا يعرف لهذه العصابة نسخا وذكرا.
وقال غيره: فيه بشارة عظيمة لأصحاب الحديث، لأنهم يصلون على النبي- صلى الله عليه وسلم- قولا وفعلا ليلا ونهارا عند القراءة والكتابة، فهم أكثر الناس صلاة، لذلك اختصوا بهذه المنقبة من بين سائر فرق العلماء فلله الحمد على ما أحسن وتفضّل.
السادس: إنّما كان السّلام عليه- صلى الله عليه وسلم- أفضل من عتق الرّقاب في مقابلة العتق من النار، ودخول الجنّة، والسّلام عليه في مقابلة سلام الله- عز وجل- وسلام من الله أفضل من مائة ألف ألف حسنة.
السابع: في بيان غريب ما سبق:
«أبلاني» - بهمزة مفتوحة فموحدة ساكنة فلام فألف فنون- أنعم عليّ والإبلاء الإنعام.
«الشّربة» بشين معجمة وراء موحدة [وباء] مشددة مفتوحات قال في القاموس: الأرض المعشبة لا شجر بها.
وقال في مؤلّفه الفرد في الصلاة: هي مجتمع النخيل وفي الصحيح: أنها حوض يكون في أصل النّخلة وحولها يملأ ماء لتشربه.(12/432)
الباب الخامس في كيفية الصلاة والسلام عليه، زاده الله فضلا وشرفا لديه
روى مسلم عن أبي مسعود الأنصاريّ البدري- رضي الله تعالى عنه- قال: أتانا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلّي عليك يا رسول الله، فكيف نصلّي عليك؟ قال: فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتّى تمنينا أنّه لم يسأله، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قولوا: اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم بنحوه» .
رواه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقيّ في الدعوات بنحوه وزاد فيه في العالمين إنك حميد مجيد.
وليس عند أبي داود والسلام قد علمتم.
ورواه أحمد وابن حبان في صحيحه والدارقطنيّ والبيهقي في سننيهما، وقال: إسناده صحيح، والترمذي وصححه وابن خزيمة والحاكم والدّارقطني بإسناد حسن متصل، بلفظ: أقبل رجل حتى جلس بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ونحن عنده، فقال يا رسول الله، السلام عليك فقد عرفناه، فكيف نصلي عليك إذا نحن في صلاتنا صلى الله عليك؟ قال: فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أحببنا أن الرّجل لم يسأله فقال: إذا أنتم صلّيتم فقولوا: اللهم، صل على محمد النبي الأمي، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد» .
ورواه الإمام أحمد وابن حبّان والدارقطنيّ وحسنة والبيهقي بلفظ: إذا صلّيتم على فقولوا: «اللهمّ ... » إلى آخره.
ورواه إسماعيل القاضي في فضل الصّلاة له من طرق عن عبد الرحمن بن بشير بن مسعود مرسلا قال: قيل: يا رسول الله، أمرتنا أن نسلم عليك، وأن نصلّي عليك، فقد علمنا كيف نسلّم عليك، فكيف نصلّي عليك؟ قال: «تقولون: اللهم، صل على محمد كما صليت على إبراهيم، اللهم بارك على آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» .
وروى الشيخان عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: قال: لقيني كعب بن عجرة- رضي الله تعالى عنه- فقال: ألا أهدي لك هدية أن النبي- صلى الله عليه وسلم- خرج علينا فقلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلّم عليك فكيف نصلّي عليك؟ قال: «قولوا اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهمّ، بارك على محمد وعلى آل(12/433)
محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد» .
ورواه البخاريّ بلفظ: على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في الموضعين.
ورواه الطبراني والإمام أحمد والأربعة بنحوه إلا أبا داود والترمذيّ لم يذكر الهديّة، وأول حديثهما: أن كعب بن عجرة قال: يا رسول الله، ... وذكر الحديث.
ورواه البيهقي من طريق الشّافعيّ عن كعب بن عجرة بلفظ: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول في الصلاة: اللهم، صل على محمد وآل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمّد وآل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وفي بعض طرقه عند الإمام أحمد وإسماعيل القاضي وأبي عوانة والبيهقيّ والطبراني بسند جيد: أنه لما نزلت إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ جاء رجل فقال: يا رسول الله، هذا السلام عليك قد عرفناه فكيف الصلاة عليك؟.
وروى البخاري والإمام أحمد والنسائي وابن ماجة والبيهقي وابن أبي عاصم عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال: قلنا: يا رسول الله، هذا السّلام عليك قد عرفناه، فكيف نصلّي عليك؟ قال: «قولوا: اللهم، صلّي على محمد عبدك ورسولك، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد، وآل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم» .
وروى الإمام مالك والشيخان والنسائي عن أبي حميد الساعدي- رضي الله تعالى عنه- قال: قالوا: كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ورواه الإمام أحمد وأبو داود وزاد لفظ «على آل إبراهيم» في الموضعين.
ورواه ابن ماجة بلفظ: كما باركت على آل إبراهيم في العالمين.
وروى ابن أبي عاصم بسند فيه المسعوديّ وهو ثقة قد اختلط عن عبد الله بن مسعود قال [قلنا: يا رسول الله، قد عرفنا السلام عليك، فكيف نصلّي عليك؟ قال:] [ (1) ] قولوا: اللهم، اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيّد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة، اللهم، ابعثه مقاما محمودا يغبطه فيه الأوّلون والآخرون، اللهم، صل على محمّد وأبلغه الدرجة الوسيلة من الجنّة، اللهم، اجعله في المصطفين محبّته وفي المقرّبين مودّته وفي الأعلين ذكره، أو قال: داره، والسلام عليه ورحمة
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/434)
الله وبركاته اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
وروى البزار وابن أبي عاصم وأحمد بن حنبل وإسماعيل القاضي والطبراني في الكبير والأوسط وبعض أسانيدهم حسن عن رويفع بن ثابت الأنصاري- رضي الله تعالى عنه- قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من قال: اللهم، صل على محمّد وأنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة، وجبت له شفاعتي» .
وروى الإمام أحمد عن موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي عن أبيه- رضي الله تعالى عنه- أن رجلا أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: كيف نصلي عليك، يا رسول الله، قال: «قولوا: اللهم، صل على محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، إنك حميد مجيد» .
ورواه الطبراني بلفظ: أتى رجل النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: سمعت الله تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب 56] فكيف الصلاة عليك؟.
وروى أبو نعيم في الحلية بسند صحيح عن موسى بن طلحة عن زيد بن حارثة وقيل:
ابن خارجة قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: صلّوا عليّ واجتهدوا في الدعاء وقولوا:
اللهم، صل على محمد، وعلى آل محمد.
وفي رواية اللهم، بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد ورواه النّسائيّ وأحمد وأبو نعيم والدّيلمي عن زيد بن خارجة ورواه ابن أبي عاصم من طريق موسى فقال عن خارجة بن زيد ورجّح رواية زيد الإمام أحمد وعليّ بن المدينيّ.
وروى البزّار والسّراج بإسناد على شرط الشيخين والطبريّ من وجه آخر عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أنهم سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا اللهم، صل على محمد وصلّ على آل محمد وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، والسّلام قد علمتم.
وروى البخاري في «الأدب المفرد» وأبو جعفر الطبريّ في تهذيبه برجال الصحيح بلفظ: من قال: اللهم، صل على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وترحّم على محمد وعلى آل محمد، كما ترحّمت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم شهدت له يوم القيامة بالشهادة وشفعت له.(12/435)
قال الحافظ السخاويّ: وهو حديث حسن وفيه سعيد بن عبد الرّحمن مولى آل سعيد ابن العاص، ذكره ابن حبان في الثقات.
وروى أبو داود في سننه وعبد بن حميد في مسنده من طريق المجمر عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم، صل على محمد النبي الأمي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد» .
قال الحافظ السخاوي: ورويناه من طريق مالك عن نعيم عن محمد بن زيد بن مسعود.
وقال البخاري، وأبو حاتم، إنّه أصحّ.
وروى أبو العباس السراج وأحمد بن منيع والإمام أحمد بن حنبل وعبد بن حميد في مسانيدهم والمعمريّ وإسماعيل القاضي بأسانيد ضعيفة عن بريدة بن الحصيب الأسلمي- رضي الله تعالى عنه- قال: قلنا: يا رسول الله، كيف نسلّم عليك وكيف نصلّي عليك؟ قال:
«قولوا: اللهم، اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد، كما جعلتها على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» .
تنبيهات
الأول: قوله الصحابة- رضي الله تعالى عنهم-: «أمّا السّلام عليك فقد عرفناه» أي مما علمهم إياه في التّشهّد بقوله: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» فيكون المراد بقولهم: فكيف نصلّي عليك أي بعد التّشهّد.
قال الحافظ السّخاويّ: وتفسير السّلام بذلك هو الظّاهر.
وحكى ابن عبد البر، وعياض وغيرهما احتمالا، وهو أن المراد به السّلام الذي يتحلّل به من الصّلاة.
قال ابن عبد البرّ: والأوّل أظهر.
الثاني: اختلف في المراد بقولهم: كيف؟ فقيل: المراد السّؤال عن معنى الصّلاة المأمور بها في قوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب 56] يحتمل الرحمة والدعاء والتّعظيم سألوا فقالوا: بأيّ لفظ تؤدى ورجّح الباجي أن السّؤال إنما وقع عن صفتها لا عن جنسها.
قال الحافظ: وهو أظهر، لأن لفظ «كيف» ظاهر في الصّفة وأما الجنس فيسأل عنه بلفظ «ما» وجزم به القرطبيّ فقال: هذا سؤال من أشكلت عليه كيفية ما فهم أصله، وذلك أنّهم عرفوا المراد بالصّلاة، فسألوا عن الصّفة التي يليق بها ليستعملوها انتهى.(12/436)
والحامل لهم على ذلك إن السلام لما تقدّم بلفظ مخصوص وهو «السلام عليك أيها النّبيّ» ففهموا أن الصّلاة تقع أيضا بلفظ مخصوص وعدلوا عن القياس، لإمكان الوقوف على النّصّ ولا سيما في ألفاظ الأذكار فإنّها تجيء خارجة عن القياس غالبا فوقع الأمر كما فهموه فإنّه علّمهم صفة أخرى.
الثّالث: اختلف في «آله» - عليه الصلاة والسلام- فمذهب الشافعيّ أنهم بنو هاشم والمطّلب.
ومذهب مالك: بنو هاشم فقط.
وأما آل إبراهيم، فهم ذريته من إسماعيل وإسحاق، وإن ثبت أنّ له أولادا من غير سارة وهاجر فهم داخلون، والمراد المسلمون منهم بل المتقون فيدخل الأنبياء والصّدّيقون والشهداء والصالحون دون من عداهم.
الرابع: إن قيل: ما وجه التفرقة بين الصلاة عليه- صلى الله عليه وسلم- وبين الصلاة على من عطف عليه فإنّها واجبة عليه دونهم إذا كان دليل الوجوب «قولوا» فالجواب أنّ المعتمد في الوجوب إنما هو الأمر الوارد في القرآن بقوله تعالى «صلّوا عليه» ولم يأمر بالصلاة على آله.
وأما تعليمه- صلى الله عليه وسلم- فقد بيّن لهم الواجب وزادهم رتبة الكمال على الواجب.
وأيضا جوابه- عليه الصلاة والسلام- ورد بزيادات ونقص، وإنما يحمل على الوجوب القدر المتّفق عليه.
الخامس: قال الحافظ: اشتهر السّؤال عن موقع التشبيه في قوله كما صليت على إبراهيم مع أن المقرّر أن المشبه دون المشبّه به والواقع هنا عكسه.
وأجيب عنه بأنه قال ذلك قبل أن يعلم إنه أفضل من إبراهيم وتعقّب بأنّه لو كان كذلك لغيّر صفة الصّلاة عليه بعد أن علم أنّه أفضل.
وبأنه قال: ذلك تواضعا وشرع لأمته ذلك ليكتسبوا الفضيلة.
وبأن التشبيه إنّما هو لأصل الصلاة بأصل الصّلاة لا للقدر بالقدر ورجّح هذا الجواب القرطبيّ في «المفهم» .
وبأن الكاف للتّعليل.
وبأن المراد أن يجعله كإبراهيم في الخلّة، وأن يجعل له لسان صدق [كما جعل(12/437)
لإبراهيم] مضافا لما حصل له من المحبّة.
ويرد عليه ما ورد على الأوّل وبأن قوله: «اللهم، صل على محمّد» مقطوع عن التشبيه فيكون التشبيه متعلقا بآل محمّد.
وتعقّب بأن غير الأنبياء لا يساووا الأنبياء، فكيف يطلب مساواة الصّلاة عليهم.
قال الحافظ: ويمكن الجواب عن ذلك بأن المطلوب الثّواب الحاصل لهم لا جميع الصفات وبأنّ التشبيه للمجموع بالمجموع.
قال الحافظ: ويعكر عليه ما ورد عن أبي سعيد: «اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم» .
وبأن المراد بالتشبيه النظر إلى ما يحصل لمحمّد وآله من صلاة كل فرد من أول التعليم إلى آخر الزمان فيكون أضعاف ما حصل لإبراهيم وآله، وإلى ذلك أشار ابن العربي بقوله: المراد دوام ذلك واستمراره.
وبأن التشبيه راجع إلى ما يحصل للمصلّي من الثواب لا إلى ما يحصل للنبي- صلى الله عليه وسلم- قال الحافظ: وهذا ضعيف، لأنه يصير كأنه قال: اللهم أعطني ثوابا على صلاتي على النبي- صلى الله عليه وسلم- كما صليت على إبراهيم.
ويمكن أن يجاب بأن المراد مثل ثواب المصلّي على إبراهيم.
وبأنّ كون المشبّه به أرفع من المشبّه غير مطّرد بل قد يكون التّشبيه بالمساوي والدّون كقوله تعالى: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ
[البقرة 261] مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ [النور 35] وحسّن التشبيه أنه لما كان تعظيم إبراهيم وآل إبراهيم [بالصلاة عليهم] مشهورا واضحا عند جميع الطّوائف حسن أن يطلب للنبي- صلى الله عليه وسلم- وآله مثل ذلك.
ويؤيّده قوله: «في العالمين» .
وقال ابن القيم، بعد أن زيّف أكثر الأجوبة إلا تشبيه المجموع بالمجموع: وأحسن منه أن يقال إنه- صلى الله عليه وسلم- من آل إبراهيم عليه الصلاة والسّلام [وقد ثبت ذلك عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آل عمران 33] قال: محمّد من آل إبراهيم] .
فكأنه أمرنا بأن نصلّي على محمد وآل محمد خصوصا، بقدر ما صلينا عليه مع إبراهيم وآل إبراهيم عموما فيحصل لآله ما يليق بهم ويبقى الباقي كلّه له وذلك القدر أزيد مما لغيره من آل إبراهيم قطعا ويظهر فائدة التشبيه حينئذ.(12/438)
ونقل الحافظ عن المجد اللّغويّ عن بعض أهل الكشف: أن التشبيه لغير اللّفظ المشبّه به لا لعينه وذلك أن [بقولنا: اللهم، صل على محمد] اجعل من أتباع محمد من يبلغ النهاية في أمر الدين كالعلماء بشرعه [بتقريرهم أمر الشريعة] كما صليت على آل إبراهيم بأن جعلت فن أتباعه أنبياء يقرّرون الشريعة، والمراد بقوله «وعلى آل محمد» اجعل من أتباعه ناسا محدثين بالفتح يخبرون بالمغيّبات كما صليت على إبراهيم بأن جعلت فيهم أنبياء يخبرون بالمغيّبات والمطلوب] حصول صفات الأنبياء لآل محمّد، وهم أتباع له في الدين، كما كانت حاصلة بسؤال إبراهيم.
قال الحافظ: وهو جيّد إن سلم بأن المراد بالصّلاة هنا ما ادّعاه والله تعالى أعلم.
السّادس: المراد بالبركة في قوله: «وبارك على محمد» الزيادة من الخير والكرامة وقيل: التطهير من العيوب والتزكية.
وقيل: المراد ثبوت ذلك واستمراره من قولهم بركت الإبل أي ثبتت على الأرض، وبه سمّيت بركة الماء، بكسر أوله وسكون ثانيه لإقامة الماء بها.
السّابع: ما أنكره ابن العربيّ علي ابن أبي زيد المالكيّ من قوله في رسالته: «وارحم محمّدا» إن كان من جهة أنه لم يصحّ فظاهر، وإن كان من جهة أنّه لا يقال: وارحم محمّدا فغير مسلّم فقد ورد في ذلك عدّة أحاديث منها ما تقدّم.
وأصحّها في التشهد «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» .
قال الحافظ: ومنها: حديث ابن عباس: «اللهم، إني أسالك رحمة من عندك» .
وحديث عائشة «اللهم، إنّي أستغفرك لذنبي وأسألك رحمتك» .
وحديث «يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث» .
وحديث: «اللهم، أرجو رحمتك» .
وحديث: «إلا أن يتغمدني الله برحمته» .
الثّامن: أن المراد بالعالمين أصناف الخلق كما رواه أبو مسعود وغيره وفيه أقوال أخر.
قيل: ما حواه بطن الفلك.
وقيل: كلّ محدث.
وقيل: كلّ ما فيه روح.
وقيل: يفيد العقلاء.(12/439)
التّاسع: «الحميد» فعيل من الحمد، بمعنى محمود، وأبلغ منّة وهو من حصل له من صفات الحمد أكملها.
وقيل: هو بمعنى الحامد أي يحمد أفعال عباده.
و «المجيد» من المجد وهو صفة الإكرام، ومناسبة ختم الدعاء بهذين الاسمين العظيمين أن المطلوب تكريم الله لنبيه وثناؤه عليه والتنويه به وزيادة تقريبه وذلك ممّا يستلزم طلب الحمد والمجد له.
العاشر: تقدّم في بعض الأحاديث «الأعلين» وهو بفتح اللام، ويظهر أن المراد به الملأ الأعلى وهم الملائكة، لأنهم يسكنون السموات، والجنّ هم الملأ الأسفل، لأنهم سكّان الأرض.
و «المصطفون» وهو بفتح الطاء والفاء أي المختارين من أبناء جنسهم.
فمن الأنبياء نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى أولو العزم وهو سيّدهم.
ومن الملائكة كثيرون حملة العرش، جبريل، وميكائيل، ومن شهد بدرا.
وقيل: المصطفون هم الذين أعدّهم صفوة لصفائهم من الأدناس.
وقيل: هم الذين وجدوه وآمنوا به.
وقيل: هم أصحابه.
وقيل: هم أمّته.
والمقرّبون: المراد بهم الملائكة، وعن ابن عباس: هم حملة العرش وبه جزم البغويّ.
وقيل: الملائكة الكروبيّون عنده الذين حول العرش كجبريل وميكائيل ومن في طبقتهم.
وقيل: هم الذين لهم تدبير الأحوال السّماويّة وهم المعنيّون بقوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
[النساء 172] .
وقيل المقرّبون سبعة إسرافيل، وميكائيل، وجبريل، ورضوان، ومالك، وروح القدس، وملك الموت عليهم الصلاة والسلام.
وأما المقرّبون من البشر المذكورون في قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [الواقعة 10] فقيل هم السابقون إلى الإسلام.
وعن مقاتل: السابقون من سبق إلى الأنبياء بالإيمان.(12/440)
وقيل: هم الصّدّيقون.
الحادي عشر: قوله: «من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى» أي الأجر والثّواب وكنّى بذلك عن كثرة الثّواب، لأن التّقدير بالمكيال يكون في الغالب للأشياء الكثيرة، والتّقدير بالميزان يكون دائما للأشياء القليلة وأكّد ذلك بقوله: «الأوفى» ويحتمل أن يكتال بالمكيال الأوفى الماء من حوض المصطفى ويدل لذلك ما ذكره عياض في الشفاء عن الحسن البصري أنه قال: من أراد أن يشرب بالكأس الأوفى من حوض المصطفى فليقل: اللهم، صل على محمد وعلى آله وأصحابه وأولاده وأزواجه وذريته وأهل بيته وأصهاره وأنصاره وأشياعه ومحبّيه وأمّته وعلينا معهم أجمعين يا أرحم الراحمين.
قال الإمام أبو زرعة العراقيّ: والأوّل أقرب.
الثّاني عشر: قال المجد اللغوي: أن كثيراً من الناس يقولون: «اللهم صل على سيّدنا محمّد» وفي ذلك بحث أما في الصّلاة فالظّاهر هو أنه لا يقال اتباعا للفظ المأثور ووقوفا عند الخبر الصّحيح.
وأما في غير الصلاة فقد أنكر على من خاطبه بذلك كما في حديث الصّحيح وإنكاره يحتمل أن يكون تواضعا منه- صلى الله عليه وسلم- أو كراهة منه أن يحمد ويمدح مشافهة، أو لأنّ ذلك كان من تحيّة الجاهلية أو لمبالغتهم في المدح حيث قالوا: أنت سيّدنا ومولانا وأنت والدنا، وأنت أفضلنا علينا فضلا، وأنت أطولنا علينا طولا، وأنت فرد عليهم، وقال: لا يستهوينكم الشيطان، وقد صحّ
قوله- صلى الله عليه وسلم- «أنا سيد ولد آدم» .
وقوله للحسن «إن ابني هذا سيّد»
وقوله لسعد: «قوموا إلى سيّدكم» .
وقال ابن مسعود: اللهم، صل على سيّد المرسلين» وكان هذا دلالة واضحة على جواز ذلك والمانع يحتاج إلى دليل وحديث «لا تسيّدوني في الصّلاة» لا أصل له.
الثّالث عشر: إن قيل: ما الحكمة في قولنا: «اللهم، صل على سيّدنا محمّد» والمناسب لأمرنا بالصّلاة أن يقول: أصلّي على محمّد، قيل: يبلغ قدر الواجب من ذلك أحلناه عليه تعالى، لأنّه أعلم بما يليق به، فهو كقوله: «لا أحصي ثناء عليه» قاله ابن أبي جملة: وقيل:
لما كان- صلى الله عليه وسلم- طاهرا لا عيب فيه، ونحن فينا المعايب والنقائص، ولم يصلح لنا أن نثني عليه، سألنا الله تعالى أن يصلي عليه، لتكون الصلاة من ربّ طاهر على نبي طاهر قاله المرغينانيّ من أئمة الحنفية.
الرّابع عشر: خصّ اسمه محمدا دون سائر أسمائه الشريفة، لأنه جامع لجميعها، وهو علم وصفة اجتمع فيه الأمران في حقه- صلى الله عليه وسلم- وأن كان علماً محضاً في حق كثير ممن تسمّى(12/441)
به غيره، وهذا شأن أسماء الرّبّ تعالى وأسماء كتّابه وأسماء نبيّه، وهي أعلام دالة على معان، هي أوصاف فلا يضاد فيها العلمية الوصف بخلاف غيرها من أسماء المخلوقين.
الخامس عشر: فإن قلت: لم خصّ إبراهيم دون غيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟.
أجيب بأنه خصّ بذلك، لأنه منادي الشّريعة حيث أمره الله تعالى بقوله: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج 27] ومحمد- صلى الله عليه وسلم- كان منادي الدين لقوله تعالى: إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ [آل عمران 193] أو لأمر النبي- صلّى الله عليه وسلم- باتباعه، لا سيما في أركان الحجّ أو لقوله: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء 84] أو مكافأة لما فعل حيث دعا لأمة محمد- صلى الله عليه وسلم- بقوله: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [إبراهيم 41] .
السادس عشر: قيل: المراد بالمقعد المقرب المقام المحمود وجلوسه على العرش، والمراد به الوسيلة.
وقال الطيبيّ: إنّ له- صلى الله عليه وسلم- مقامين مختصّين به.
أحدهما: مقام حلول الشّفاعة والوقوف على يمين الرّحمن حيث يغبطه فيه الأوّلون والآخرون. وثانيهما: مقعده من الجنة ومنزله الذي لا ينزل بعده.
السّابع عشر: اختلف في أفضلية كيفية الصّلاة.
قال البارزيّ: اللهم، صل على محمد، وعلى آل محمد أفضل صلواتك عدد معلوماتك فإنّه أبلغ فيكون أفضل.
وقال القاضي حسين: أن يقول اللهم، صل على محمد كما هو أهله ومستحقّه.
وقال صاحب القاموس في كتابه في الصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- عن بعضهم: اللهم، صل على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى كل نبيّ وملك ووليّ عدد الشّفع والوتر وعدد كلمات ربّنا التامات المباركات.
وقال بعضهم: اللهم، صل على محمد عبدك ونبيّك ورسولك النّبيّ الأمّيّ وعلى آله وأزواجه وذرّيّته وسلّم عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك. قال الحافظ السخاوي: ومال إليه شيخنا- أي الحافظ ابن حجر-.
وقيل: اللهم، صل على محمد، وعلى آل محمد، كلما ذكره الذاكرون وكلّما سهما عنه الغافلون حكاه الرافعي عن إبراهيم المروزي.(12/442)
وقيل: اللهم، صلّ أبدا أفضل صلواتك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك وآله وسلم تسليما، وزده شرفا وتكريما، وأنزله المنزل المقرّب عندك يوم القيامة.
قال الكمال ابن الهمام الحنفيّ: كل من ذكر من الكيفيات موجود فيها.
وقيل: اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد أفضل صلواتك عدد معلوماتك، قاله الشرف البارزي.
وقيل: اللهم، صل على محمد وعلى آل محمد صلاة دائمة بدوامك ذكر القاضي مجد الدين الشّيرازي اختيارها الثامن عشر: في بيان غريب ما سبق:
«علّمتم» بضم العين المهملة وتشديد اللام وكسرها.
ألا أهدي لك: «بضم الهمزة وتفتح هدية من الهدي الثلاثي يطلق مرة على نفس المصدر وهو الهدى بمعنى الاهتداء، ومرة على المفعول وهو المهديّ وعليه يحمل هذا الحديث ونحوه، لأنه فسره من بعد، ولأن فيه زيادة ذكر المفعول به، والهدي ما يتقرب به إلى المهدى إليه تودّدا وتكرما زاد بعضهم: من غير قصد دفع ضرر دنيويّ بل لقصد ثواب الآخرة، وأكثر ما يستعمل في الأجسام، لا سيما والهدية فيما نقل من مكان إلى آخر، وقد تستعمل في المعاني، كالعلوم والأدعية ونحو ذلك مجازا.
الذّرّيّة: بذال معجمة مضمومة وقد تكسر والأولى أفصح قال في المشارق: أهل الذريئة بالهمزة من الذرء وهو الخلق، لأن الله ذرأهم أي خلقهم والذرية النسل قال المنذري: من ذكر وأنثى، وهل يدخل فيها أولاد البنات وهو مذهب مالك والشافعي وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد، لإجماع المسلمين على دخول أولاد فاطمة في ذرية النبي- صلى الله عليه وسلم- المطلوب لهم من الله الصلاة، والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنهم لا يدخلون وهو مذهب أبي حنيفة ويستثنى أولاد سيدتنا فاطمة لشرف هذا الأصل الأصيل.(12/443)
الباب السادس في المواطن التي يستحب الصلاة عليه فيها- صلى الله عليه وسلم-
وفيه أنواع:
الأول: في يوم الجمعة وليلتها.
روى الإمام أحمد في مسنده، وابن أبي عاصم في الصلاة له والبيهقيّ في حياة الأنبياء وشعب الإيمان وغيرهما من تصانيفه وأبو داود والنسائي وابن ماجة في سننهم وابن حبّان وابن خزيمة في صحيحيهما والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط البخاريّ ولم يخرجاه عن أوس بن أوس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن من أفضل أيّامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النّفخة، وفيه الصّعقة، فأكثروا عليّ من الصّلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ» ، قالوا: يا رسول الله، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت- يعني بليت- قال: «إن الله عزّ وجلّ حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .
وروى البيهقي بسند حسن، لا بأس به- عن أبي أمامة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا من الصلاة على في كل يوم جمعة، فإنّ صلاة أمّتي تعرض عليّ في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم عليّ صلاة كان أقرب منّي منزلة» .
وروى ابن ماجه- برجال ثقات- عن أبي الدرداء- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا من الصلاة على في يوم الجمعة، فإنّه يوم مشهود تشهده الملائكة، وإنّ أحدا لن يصلّي عليّ إلا عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها، قال قلت: وبعد الموت قال: وبعد الموت، إن الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» فنبيّ الله حيّ يرزق في قبره.
وروى الحاكم- وقال: صحيح الإسناد- والبيهقي في شعب الإيمان، وحياة الأنبياء في قبورهم عن أبي مسعود الأنصاري- رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «أكثروا من الصلاة على في يوم الجمعة، فإنه ليس أحد يصلّي عليّ يوم الجمعة إلا عرضت عليّ صلاته» .
وروى ابن بشكوال في كتابه في الصلاة النبوية- بسند ضعيف- عن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أكثروا الصّلاة عليّ في الليلة الغرّاء، واليوم الأزهر فإنّ صلاتكم تعرض عليّ، فأدعو لكم وأستغفر» .
وروى الطبراني- بسند لا بأس به في المتابعات- عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن(12/444)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أكثروا الصّلاة عليّ يوم الجمعة، فإنّه أتاني جبريل آنفا عن ربه عز وجل فقال: ما على الأرض من مسلم يصلّي عليك إلّا صلّيت أنا وملائكتي عليه عشرا» .
وفي لفظ: «أكثروا من الصلاة على يوم الجمعة، وليلة الجمعة، فمن فعل ذلك كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة» .
وروى البيهقي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: سمعت نبيّكم- صلى الله عليه وسلم- يقول: «أكثروا الصّلاة على نبيّكم في اللّيلة الغرّاء واليوم الأزهر» .
وروى الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا الصّلاة عليّ في اللّيلة الزّهراء واليوم الأزهر، فإنّ صلاتكم تعرض عليّ» .
وروى الدّارقطنيّ: وابن شاهين، جميعا في الإفراد، عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الصّلاة عليّ نور على الصّراط، فمن صلّى عليّ يوم الجمعة ثمانين مرّة، غفرت له ذنوب ثمانين عاما» .
وروى الديلمي عن أبي ذرّ الغفاري- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلى عليّ يوم الجمعة مائة صلاة غفرت له ذنوب مائة عام» .
وروى الديلمي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من صلى عليّ يوم الجمعة كانت شفاعة له عندي يوم القيامة» .
وروى ابن شاهين- بسند ضعيف- عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من صلى عليّ يوم الجمعة ألف مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة» .
وروى التيمي في ترغيبه والدّيلميّ في مسنده- بسند ضعيف عنه-، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «من صلّى عليّ في كل يوم جمعة أربعين مرّة محى الله عنه ذنوب أربعين سنة، ومن صلّى عليّ مرّة واحدة فتقبّلت منه محى الله عنه ذنوب ثمانين سنة» «ومن قرأ» قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص 1] «حتى يختم السّورة بنى الله له منارا في جسر جهنّم حتّى يجاوز الجسر» .
وروى البيهقي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا من الصلاة على يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلّى عليّ صلاة صلى الله عليه عشرا» .
وروى ابن عدي، والبيهقي في الشعب عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أكثروا الصّلاة عليّ يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن فعل ذلك كنت له شهيدا وشفيعا يوم القيامة» .(12/445)
وللأديب الفاضل شعبان الآثاري في قصيدة:
وجاء في الجمعة الغرّا وليلتها ... عنه من الخير تأجيل وتعجيل
وقد أمرنا بإكثار الصّلاة على ... محمّد فيهما والفضل مأمول
فمن يصلّي على المختار واحدة ... يأتيه عشرا من المولى وتنفيل
الثاني: عند طرفي النهار.
روى الطبراني عن أبي الدرداء- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من صلّى عليّ حين يصبح عشرا وحين يمسي عشرا أدركته شفاعتي يوم القيامة» .
الثالث: عند الفراغ في الوضوء.
روى التيمي في ترغيبه، والدّارقطني والبيهقي، وقالا: ضعيف، عن عبد الله بن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا فرغ أحدكم من طهوره فليقل:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، ثمّ ليصلّ عليّ، فإذا قال ذلك فتحت له أبواب الرّحمة» .
قال الحافظ السّخاويّ: وهذا الحديث مشهور عن عمر بن الخطاب وعقبة بن عامر، وثوبان، وأنس، لكن بدون «الصلاة» والله تعالى أعلم.
وروى ابن ماجه وابن أبي عاصم- بسند ضعيف- عن سهل بن سعد- رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا وضوء لمن لا يصلي على النبي- صلى الله عليه وسلم-» وفي بعض طرقه زيادة: «لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه» .
الرابع: بعد الأذان والإقامة.
وروى مسلم والترمذي والنسائي والبيهقي، وأبو داود عن كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ثمّ صلّوا عليّ، فإنّه ليس من أحد يصلّي عليّ واحدة إلّا صلى الله عليه بها عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنّة، لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله عز وجل وأرجوا أن أكون أنا هو، فمن سألها لي حلّت له شفاعتي» .
وروى الإمام أحمد والطبراني في الأوسط عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من قال حين يسمع المنادي اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة والصّلاة القائمة» .(12/446)
وفي لفظ «الدّعوة القائمة والصّلاة النّافعة، صل على محمد وارض عنّي رضاء لا سخط بعده استجاب الله دعوته» ورواه ابن وهب في جامعه بلفظ: «من قال حين يسمع النّداء: اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة، والصّلاة القائمة صل على محمد عبدك ورسولك، وأعطه الوسيلة والشّفاعة يوم القيامة، حلّت له شفاعتي» ،
وفيه ابن لهيعة، لكن أصله عند البخاري بدون ذكر الصلاة.
وروى الإمام أحمد وابن أبي عاصم والطبراني في الدعاء والكبير عن أبي الدرداء- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «إذا سمع المؤذّن اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة، صل على محمد وأعطه سؤله يوم القيامة، وكان يسمعها من حوله، ويجب أن يقولوا مثل ذلك إذا سمعوا المؤذّن قال: ومن قال مثل ذلك إذا سمع المؤذّن وجبت له شفاعة محمد- صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة» .
ورواه الطبراني في الأوسط بلفظ: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا سمع النّداء قال: اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة صل على محمد عبدك ورسولك، واجعلنا في شفاعته يوم القيامة، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من قال هذه عند النّداء جعله الله في شفاعتي يوم القيامة» .
قال الحافظ السخاوي: وفيهما صدقة ابن عبد الله السمين.
وروى الحافظ عبد الغني المقدسي وغيره، عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا قال الرّجل حين يؤذّن المؤذّن اللهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة والصّلاة القائمة أعط محمّدا سؤله نالته شفاعتي» .
الخامس: عند دخول المسجد والخروج منه.
روى النسائي وابن ماجة بأسانيد صحيحه عن أبي حميد الساعدي- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم ليقل: اللهمّ افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسالك من فضلك» .
وروى الإمام أحمد والترمذي وقال: - حسن، وليس إسناده بمتصل- عن فاطمة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل المسجد «صلّى على محمّد وآله ثم قال: اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج- صلى على محمد ثم قال:
«اللهم اغفر لي وافتح لي أبواب فضلك» .
وروى النسائي في اليوم والليلة وابن ماجة في سننه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه عن أبي(12/447)
هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسلّم على النبي- صلى الله عليه وسلم- وليقل اللهمّ افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلّم على النبي- صلى الله عليه وسلم- وليقل: اللهمّ اعصمني من الشيطان الرجيم» .
قال الحافظ السّخاويّ: وأعلّه النسائي برواية المقبري له عن أبي هريرة عن كعب، وذكر أنها أولى بالصواب.
قال الحافظ ابن حجر: وخفيت هذه العلة على من صحح هذا الحديث، لكن في الجملة هو حسن لشواهده.
وروى ابن أبي عاصم عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا دخل أحدكم المسجد فليصلّ على النبي- صلى الله عليه وسلم- وليقل اللهمّ اعصمنا من الشّيطان» .
السادس: في الصلاة.
روى أبو داود والترمذي وصححه، وكذا ابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن فضالة بن عبيد- رضي الله تعالى عنه- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- سمع رجلا يدعو في صلاته لم يمجّد الله ولم يصل على النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عجّل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربّه، ثمّ ليصلّ على النبي- صلى الله عليه وسلم- ثمّ يدعو بعد بما شاء.
ورواه النسائي بلفظ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «عجّل هذا المصلّي» ، ثم علّمهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ثم سمع رجلا يصلّي فحمد الله وحمده وصلّى على النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال:
ادع الله تجب وسل تعطه.
ورواه الترمذي أيضا بلفظ «سمع النبي- صلى الله عليه وسلم- رجلا يدعو في صلاته فلم يصلّ على النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «عجّل هذا» ، ثم دعاه فقال له، أو لغيره: «إذا صلّى أحدكم فليبدأ بتمجيد الله والثّناء عليه، ثم ليصلّ على النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم ليدع بعده بما شاء» وله في رواية أخرى، وهي عند الطبراني أيضا برجال ثقات غير رشدين بن سعد، لكن حديثه مقبول في الرقائق، بينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قاعد إذ دخل رجل يصلي، فقال: اللهم اغفر لي وارحمني فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «عجّلت أيّها المصلّي، إذا صلّيت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله، ثمّ صلّ عليّ ثمّ ادعه، ثم صلّى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلّى على النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «أيّها المصلّي ادع تجب» .
وفي رواية «سل تعطه» .
السابع: الصلاة عليه، أوّل الدّعاء ووسطه وآخره.(12/448)
روى عبد بن حميد والبزار في مسنديهما، وعبد الرزاق في جامعه، وابن أبي عاصم في الصلاة له، والتيمي في الترغيب والطبراني والبيهقي في الشعب والضياء، وأبو نعيم في الحلية، كلهم من طريق موسى بن عبيدة الربذي- وهو ضعيف- والحديث غريب، عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تجعلوني كقدح الرّاكب» ، قيل: وما قدح الرّاكب، قال: إنّ المسافر إذا فرغ من حاجته صبّ في قدحه ماء، فإن كان له إليه حاجة توضّأ منه أو شرب وإلّا أهراقه قال: «اجعلوني في أوّل الدّعاء ووسطه وآخره» .
وروى عبد الرزاق والطبراني في الكبير- برجال الصحيح- عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: إذا أراد أحدكم أن يسأل الله فليبدأ بمدحه والثّناء عليه بما هو أهله، ثم ليصلّ على النبي- صلى الله عليه وسلم-، ثم ليسأل الله بعد، فإنّه أجدر أن ينجح أو يصيب» .
وروى النسائي وأبو القاسم بن بشكوال عن عبد الله بن بشر- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «الدّعاء كلّه محجوب حتّى يكون أوّله ثناء على الله- عز وجلّ- وصلاة على النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم يدعو فيستجاب له دعاؤه» .
وروى الدّيلمي في مسند الفردوس، عن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «كلّ دعاء محجوب حتّى يصلّى على النبي- صلى الله عليه وسلم-» .
الثامن: عند طنين الآذان.
روى الطبراني، وابن عدي، وابن السني في اليوم والليلة، وابن أبي عاصم وأبو موسى بسند ضعيف، عن أبي رافع مولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا طنّت آذان أحدكم فليصلّ على النبي- صلى الله عليه وسلم- وليقل ذكر الله بخير من ذكرني» .
وفي رواية بعضهم: «ذكر الله من ذكرني بخير» .
تنبيهات
الأوّل: الحكمة في أمره- عليه الصلاة والسلام- بالإكثار من الصّلاة عليه في يوم الجمعة، لأنه أفضل أيام الأسبوع، ووصفه بالأزهر، ووصف ليلته بالزّهراء لكثرة الملائكة فيها، وهم نور، أو لخصوصيتها بنجل خاص، وفيه شرع الغسل والصّلاة الخاصة، وخصّه تعالى من دون سائر الأيّام بقوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: 9] ولما كان- صلى الله عليه وسلم- سيد الأنام، ويوم الجمعة سيّد الأيام، كانت للصلاة عليه فيه مزيّة ليست لغيره، مع لطيفة اخرى، وهي أن كل خير نالته أمته في الدنيا والآخرة، إنما نالته على- يديه- صلى الله عليه وسلم- فجمع الله لأمته خيرى الدنيا والآخرة، وأعظم(12/449)
كرامة تحصل لهم إنما تحصل لهم يوم الجمعة، وهو بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنّة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنة، وهو عيد لهم في الدنيا، وهذا كله عرفوه وحصل لهم بسببه- صلى الله عليه وسلم- وعلى يده، فمن حمده وشكره وأداء القليل من حقّه- صلوات الله وسلامه عليه- أن يكثر عليه من الصلاة في هذا اليوم وليلته» .
الثاني: إن قيل: ما الحكمة في
قوله «إنّ الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء»
والبلاغ بعد الموت لا تعلّق له بالأجساد والأرواح؟
قيل: لما كان البيان لكلام ما اختص به بعد الموت من البلاغ أردفه بيان خصوصية أخرى له ولغيره من الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم-، وهي أن الأرض لا تأكل أجسادهم.
الثالث: قوله «ربّ هذه الدّعوة» أي: صاحبها الذي يشرعها.
وقوله: «التّامّة» قال التوربشتي: إنما وصفها بالتّمام، لأنها ذكر الله تعالى، يدعى بها إلى عبادة، وهذه الأشياء وما والاها هي التي تستحق صفة الكمال والتمام، وما سوى ذلك من أمور الدنيا بمعرض النقص والفساد، ويحتمل أنها وصفت بالتمام، لكونها محميّة عن النّسخ والإبدال، باقية إلى يوم التناد.
وقال بعضهم: معنى أنها تامة: أنها جامعة لعقيدة الإيمان مشتملة على ترغيبه في العقليات والسمعيات، لما فيه من إثبات التنزيه، والتوحيد، ونفي الشرك، وإثبات النبوة والرسالة، والدعاء إلى العبادات والصلاح.
وفيها إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء.
وقوله: «الصّلاة القائمة» أي الدائمة التي لا تغيّرها ملة ولا تنسخها شريعة.
وقوله: «الوسيلة» أي: بالقرب، وسبب الوصول إلى أبلغية، وتوسّل الرجل إذا طلب الدّنوّ، وتطلق على المنزلة العلية كما
قال- عليه الصلاة والسلام-: «فإنّها منزلة من الجنّة» .
وقوله: «لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله»
أي: مختص بها دون غيره، وذكرها بلفظ الرجاء، وإن كان ذلك له قطعا أدبا وإرشادا، أو تعظيما لأمته وتذكيرا بالخوف، وتفويضا إلى الله تعالى بحسب مشيئته، ليكون الطالب للشّيء بين الرجاء والخوف.
وفي رواية: سؤله، وهي بسين مهملة مضمومة فهمزة ساكنة- أي حاجته وهو ما يسأله الشخص، والمراد الشفاعة العظمى والدرجة العالية، والمقام المحمود، والحوض المورود، ولواء الحمد، ودخول الجنة قبل الخلائق إلى غير ذلك، بما أعد الله له من الكرامة في ذلك اليوم.
«والفضيلة» معناها ظاهر.
وقوله: «والمقام المحمود الّذي وعدته»
أي بقوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً(12/450)
مَحْمُوداً [الإسراء: 79] و «عسى» «ولعلّ» من الله تعالى للتحقيق والوقوع، وقد اختلفت في تفسير المقام المحمود.
فقيل: هو شهادته لأمته.
وقيل: لواء الحمد يوم القيامة.
وقيل: هو أن يجلسه الله على الكرسيّ.
وقيل: الشفاعة، إذ هو مقام يحمده فيه الأولون والآخرون، وسيأتي لهذا مزيد بيان في أبواب بعثه وحشره إن شاء الله تعالى.
وقوله: «حلّت» أي: وجبت، كما في بعض الروايات، أو نزلت وليست من الحلّ، لأنّ الشفاعة لم تكن محرمة قبل ذلك، واللام في «له» بمعنى «على» كما في الرواية الأخرى.
وقوله «أو في قوله» كنت له شهيدا أو شفيعا ليست للشّكّ لتظافر جماعة من الصحابة على روايتها كذلك، ويبعد اتفاقهم على الشك، وهي إما للتقسيم فيكون شهيدا لبعض وشفيعا للمنافقين، أو شفيعا للعاصين وشهيدا للطائعين، أو شهيدا لمن مات في حياته شفيعا لمن مات بعده أو غير ذلك، وإما أن تكون بمعنى «الواو» فيكون شهيدا وشفيعا.
الرّابع: إن قيل: ما السر في تخصيص ذكر الرحمة عند دخول المسجد والفضل عند الخروج؟
قيل: لأن من دخل اشتغل بما يزلفه إلى الله تعالى وإلى ثوابه وجنّته، فناسب أن يذكر الرّحمة، وإذا خرج انتشر في الأرض ابتغاء فضل الله من الرّزق الحلال، فناسب الفضل، كما قال تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:
10] .
قال في شرح المشكاة: وفي هذا الدعاء عند دخول المسجد استلواح أنّه من دواعي فتح أبواب الرحمة من الله تعالى لداخل المسجد. قوله: «أرمت» - بفتح الهمزة والراء وسكون الميم مخففا- بوزن ضربت أصله أرممت أي: صرت رميما، فحذفوا إحدى الميمين وهي لغة لبعض العرب كما قالوا: ظلت أفعل أي ظللت، والرّميم والرّمّة العظام البالية، قاله الخطّابيّ.
وقال المنذريّ: وروى أرمت بضم الهمزة وكسر الراء.
وقال غيره: إنما هو أرمّت بفتح الراء والميم المشددة وإسكان التاء، أي: أرمّت العظام.(12/451)
جماع أبواب بعثه وحشره وأحواله يوم القيامة- صلّى الله عليه وسلم-
الباب الأول فيما جاء أنه أول من يفيق من الصّعقة وأول من يقوم من قبره واختصاصه بركوب البراق يومئذ وكيفية حشره- صلى الله عليه وسلم-
روى الشيخان وابن أبي الدنيا عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم أصعق معهم، ثم ينفخ فيه مرّة أخرى فأكون أول من يفيق» .
وفي لفظ: «أوّل من يبعث» .
وفي لفظ «أول من يرفع رأسه بعد النّفخة الأخيرة، فإذا موسى باطش بجانب العرش» .
وفي لفظ: «آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان ممّن صعق فأفاق قبلي، أم حوسب بصعقته الأولى يوم الطّور» .
وفي لفظ: «وكان ممن استثنى الله» .
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر» .
وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن خزيمة والضياء وأبو يعلى والبيهقي وأبو نعيم والترمذي وقال: حسن غريب عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا» .
زاد الترمذي والدارمي: «وأنا خطيبهم إذا وفدوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا، لواء الحمد بيدي يومئذ، وأنا أكرم ولد آدم على ربّي ولا فخر» .
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني في الكبير عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر» .
وروى الطبراني في الكبير والضياء عن عمار أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض، فأكون أول من يبعث» .
وروى ابن المبارك وابن أبي الدنيا وابن النجار عن كعب الأحبار- رحمه الله تعالى- قال: «ما من فجر يطلع إلّا هبط سبعون ألف ملك، يضربون قبر النبي- صلى الله عليه وسلم- بأجنحتهم، ويحفّون به ويستغفرون له، ويصلّون عليه حتى يمشوا، فإذا مشوا عرجوا وهبط سبعون ألف(12/452)
ملك، كذلك حتّى يصبحوا، إلى أن تقوم السّاعة، فإذا كان يوم القيامة خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سبعين ألف ملك» .
وروى أبو بكر بن أبي عاصم في السنة، عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: «دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المسجد وأبو بكر عن يمينه آخذا بيده وعمر عن يساره آخذا بيده، وهو متكئ عليهما، وهو يقول: «هكذا نبعث» .
وروى الترمذي وقال: حسن غريب، والطبراني في الكبير، والحاكم وابن عساكر، وأبو نعيم في فضائل الصحابة عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من تنشق عنه الأرض وأبو بكر وعمر» .
وروى الحاكم وضعّفه ابن عساكر عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أول من تنشق عنه الأرض أنا، ثمّ تنشقّ عن أبي بكر وعمر، ثم تنشقّ عن الحرمين مكّة والمدينة، ثمّ أبعث بينهما» .
وروى الحارث بن أبي أسامة [عن سالم بن عبد الله بن عمر مرسلا، وأبو نعيم عنه عن أبيه وهو موصول، والخطيب في رواية مالك] [ (1) ] عن مولاة لعبد الله أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أبعث يوم القيامة بين أبي بكر وعمر، ثمّ أذهب إلى بقيع الغرقد، فيبعثون معي، ثمّ انظر أهل مكة حتى يأتوني فأبعث بين أهل الحرمين» .
وروى الطبراني والحاكم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يحشر الأنبياء يوم القيامة على الدّوابّ، ويبعث صالح على ناقته، وأبعث أنا على البراق، ويبعث ابنيّ الحسن والحسين على ناقتين من نوق الجنة ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة، فينادي بالأذان محضا وبالشّهادة حقّا، حتى إذا قال: أشهد أن محمدا رسول الله شهد له (المؤمنون من) الأوّلين والآخرين، فقبلت ممّن قبلت، وردّت على من ردّت» .
وروى ابن زنجويه في فضائله، عن كثير بن مرّة الحضرميّ قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تبعث ناقة ثمود وصالح، فيركبها من عند قبره حتى يوافي لها المحشر» .
قال معاذ: وأنت يا رسول الله تركب العضباء قال: لا يركبها، وأنا على البراق اختصصت به من دون الأنبياء يومئذ، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة، ينادي على ظهرها بالأذان حقّا، فإذا سمعت الأنبياء وأممها أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله قالوا: نحن نشهد بذلك» .
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/453)
الباب الثاني في كسوته- صلّى الله عليه وسلم- في الموقف، ومكانه وأمته وكون لواء الحمد ولواء الكرم بيده- صلى الله عليه وسلم-
روى الإمام أحمد وابن حزم وابن المنذر وأبو نعيم عن ابن مسعود والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن ابن عباس مرفوعا وابن المبارك، والإمام أحمد في الزهد وإسحاق وأبو يعلى، والرافعي عن علي بن أبي طالب موقوفا، وحكمه الرفع: «أن أول من يكسى إبراهيم يقول الله تعالى: «اكسوا خليلي، لا أرى خليلي عريانا» فيؤتى بريطتين بيضاوين» .
وفي لفظ: «أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم- عليه الصلاة والسلام- عليه قطيفتين ثم يكسى النبي- صلى الله عليه وسلم- برد حبرة، وهو عن يمين العرش» .
ولفظ ابن عباس: «يكسى حلّة من الجنّة، فيلبسها، ثمّ يقعد مستقبل العرش، ثمّ يؤتى بكسوتي من الجنّة، فيطرح عن يمين العرش، ثمّ يؤتى بي فأكسى حلّة من الجنة» .
وفي لفظ: على حلة حبرة، انتهى.
وفي لفظ: «لا يقوم لها البشر، فأقوم عن يمين العرش مقاما لا يقومه أحد غيري، يغبطني فيه الأولون والآخرون» .
وروى ابن جرير وابن مردويه عن جابر بن عبد الله- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا وأمّتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق، ما من الناس أحد إلّا ودّ أنّه منا» .
وروى الطبراني- برجال الصحيح- والإمام أحمد وابن جرير وابن حبان والحاكم، عن كعب بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يحضر الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمّتي على تلّ، فيكسوني ربّي حلّة خضراء، ثمّ يؤذن لي فأثني عليه بما هو أهله» .
وفي لفظ: «فيؤذن لي، فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود» .
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى وأبو نعيم عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال:
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر آدم فمن دونه» .
وفي لفظ: «جميع الأنبياء تحت لوائي ولا فخر» .
وروى الحاكم والبيهقي في كتاب الرؤية عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر، ما من أحد إلّا وهو تحت لوائي يوم(12/454)
القيامة ينتظر الفرج، وأنا معي لواء الحمد، أنا أمشي ويمشي النّاس معي حتى آتي باب الجنّة فأستفتح فيقال: من هذا؟ فأقول: محمّد، فيقال: مرحبا بمحمّد، فإذا رأيت ربّي خررت له ساجدا أنظر إليه» .
ورواه الحاكم وابن عساكر بلفظ: «أنا سيد الناس يوم القيامة ولا فخر ولا رياء، وما من الناس أحد إلّا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإنّ بيدي لواء الحمد» .
وروى الترمذي والبيهقي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لواء الكرم بيدي يوم القيامة» .
وروى عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إذا كان يوم القيامة أعطى حلّة من حلل الجنّة، ثمّ أقوم عن يمين العرش ليس لأحد من الخلائق أن يقوم ذلك المقام غيري» .
تنبيهات
الأول: قال القرطبيّ: هذه فضيلة عظيمة لإبراهيم، وخصوصية له، كما خص موسى بأن النبي- صلى الله عليه وسلم- يجده متعلقا بساق العرش، ولا يلزم من هذا أفضليتهما على النبي- صلى الله عليه وسلم- والحكمة في تقدّم إبراهيم بالكسوة أنّه لما ألقي في النار جرّد من ثيابه، وكان ذلك في ذات الله تعالى، فصبر واحتسب، فجوزي بأن جعل أوّل من يدفع عنه العري يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ثم يكسى نبينا- صلى الله عليه وسلم- حلّة أعظم من كسوة إبراهيم، ليجبر التأخير بنفاسة الكسوة، فتكون كأنه كسي معه.
وقيل: لأنه أول من يسبق إلى التستر بالسراويل وقيل: لأنه لم يكن في الأرض أخوف لله منه فعجلت له كسوته أمانا ليطمئن قلبه.
وقال الحافظ: ويحتمل أن النبي- صلى الله عليه وسلم- خرج من قبره في ثيابه التي فيها، والحلّة التي يكساها حينئذ من حلل الجنّة خلعة الكرامة فلهذا قدّم إبراهيم- صلى الله عليه وسلم-.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
الحلّة: - بحاء مهملة مضمومة، فلام مفتوحة-.
الحبرة: - بحاء مهملة مكسورة، فموحدة مفتوحة فراء-.
الرّيطة: - براء مكسورة، فتحتية ساكنة، فطاء مهملة، وتقدم تفسير الجميع مرارا-.
يغبطه: بمثناة تحتية مفتوحة، فعين معجمة ساكنة، فموحدة مكسورة فطاء مهملة، أي:
يتمنوا أن يكونوا أعطوا مثل ما أعطى.
«اللّواء» : - بلام مكسورة، فواو، فألف، فهمز-.(12/455)
الباب الثالث في كونه- صلى الله عليه وسلم- أول من يدعى يوم القيامة
روى الحكيم الترمذي عن أبي بن كعب- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أول من يدعى أنا يوم القيامة» .
وروى الحاكم والخرائطي في «مكارم الأخلاق» وابن عساكر عن حذيفة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا سيد الناس يوم القيامة، يدعوني ربّي، فأقول:
لبّيك وسعديك، والخير بيديك، والشّرّ ليس إليك، والمهديّ من هديت وعبدك بين يديك، لا ملجأ ولا منجى منك إلّا إليك تباركت ربّ البيت» .
وروى الحكيم عن أبي بن كعب- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أول من يدعى يوم القيامة أنا فأقوم فآتي ثمّ يؤذن لي في السّجود» .(12/456)
الباب الرابع في اختصاصه- صلّى الله عليه وسلّم- بالسجود يومئذ
روى الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسّجود» .
وروى الإمام أحمد عنه والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي الدرداء وأبي ذر أنه عليه الصلاة والسلام قال: «أنا أول من يؤذن له في السّجود يوم القيامة، وأوّل من يؤذن له أن يرفع رأسه فأرفع رأسي، فأنظر بين يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي، مثل ذلك، وعن يميني أنظر فأعرف أمتي من بين الأمم وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم، هم غر محجلون من آثار الوضوء ولا يكون لأحد غيرهم، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم الذي بين أيديهم عن أيمانهم وعن شمائلهم وأعرفهم يسعى نورهم بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم وأعرفهم أيديهم وذريتهم» .
وفي لفظ «وبأيمانهم» .
وروى الطبراني في الكبير عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسّجود، ثمّ يؤذن لي برفع رأسي فأعرف أمّتي عن يميني وعن شمائلي، قيل: كيف تعرفهم يا رسول الله؟ قال غر محجلون من أثر الوضوء، وذراريهم بين أيديهم» .(12/457)
الباب الخامس في طمأنينته إذا جيء بجهنم وفزع غيره- صلى الله عليه وسلم-
روى ابن وهب في كتاب «الأهوال» عن العطاف بن خالد قال: «يؤتى بجهنّم يوم القيامة يأكل بعضها بعضا، يقودها سبعون ألف ملك، فإذا رأت النّاس زفرت فذلك قوله تعالى:
إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان: 12] فلا يبقى نبيّ ولا صدّيق إلا برك لركبته، يقول: يا ربّ نفسي نفسي، ويقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أمّتي أمتي» .
وروى أبو نعيم من طريقين عن كعب الأحبار- رحمه الله تعالى- قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ونزلت الملائكة فصاروا صفوفا، فيقول الله تعالى: يا جبريل ائت بجهنّم، فيأتي بها تقاد، بسبعين ألف زمام، حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق، ثم زفرت زفرة ثانية فلا يبقى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل إلا جثى لركبتيه ثم تزفر الثّالثة فتبلغ القلوب الحناجر، وتذهل العقول، فيفزع كلّ امرئ إلى عمله حتى إنّ إبراهيم يقول بخلّتي لا أسألك إلا نفسي،
ومحمد- صلى الله عليه وسلم- يقول: أمّتي أمّتي، لا أسألك اليوم نفسي، فيجيبه الجليل جلّ جلاله: «إنّ أوليائي من أمّتك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فو عزّتي لأقرّنّ عينك في أمّتك، ثم تقف الملائكة بين يدي الله تعالى ينتظرون ما يؤمرون» .(12/458)
الباب السادس في شفاعته العظمى لفصل القضاء والإراحة من طول الوقوف
وهي التي يرغب إليه فيها الخلق كلهم حتى الأنبياء- صلى الله عليه وسلم-.
روى مسلم عن أبي بن كعب- رضي الله تعالى عنه- في حديث قال فيه: «أخّرت الثّالثة إلى يوم يرغب إلي فيه الخلق حتى إبراهيم» .
ورد مطولا من حديث أنس، رواه أحمد والشيخان، والإمام أحمد من طريق آخر، والترمذي والبيهقي مختصرا، وعن أبي بكر الصديق رواه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى وأبو عوانة، وابن حبان في صحيحيهما وأبي هريرة رواه الشيخان، وابن عباس رواه أحمد وأبو يعلى، وعقبة بن عامر رواه ابن المبارك وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني، وأبي سعيد الخدري رواه الترمذي وحسنه وابن خزيمة، وسلمان رواه ابن خزيمة والطبراني بسند صحيح، ومختصرا من رواية ابن عمر رواه البخاري من طريقين، وحذيفة رواه مسلم والحاكم والبزار والبيهقي من طريق آخر، وأبي بن كعب رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه على شرط مسلم من طريق آخر، وأبو يعلى من طريق آخر، وعبادة بن الصامت رواه الحاكم وصححه وكعب بن مالك رواه مسلم والطبراني، وجابر بن عبد الله رواه البيهقي، وعبد الله بن سلام رواه البيهقي، وفي حديث كلّ من الفوائد ما ليس في الآخر، فأدخلت بعضها في بعض وسيرت زيادة بعضهم على بعض أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «أنا سيد الناس يوم القيامة وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الدّاعي وينفذهم البصر، وتعطى الشّمس حرّ عشر سنين، ثم تدنو من جماجم النّاس حتى تكون قاب قوسين فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة» .
وفي حديث ابن عمر عند الشيخين: «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» .
وعندهما من حديث أبي هريرة «يعرق الناس يوم القيامة حتّى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا ويلجمهم العرق حتّى يبلغ آذانهم» [ (1) ] .
وفي حديث أنس عند البزار والحاكم: «إنّ العرق ليلزم المرء في الموقف حتى يقول:
يا ربّ إرسالك بي إلى النّار أهون عليّ ممّا أجد، وهو يعلم ما فيها من شدّة العذاب» .
وفي حديث أبي هريرة عند البيهقي «يحشر النّاس حفاة عراة مشاة غرلا قياما أربعين سنة شاخصة أبصارهم نحو السّماء فيلجمهم العرق من شدّة الكرب» .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (6532) ومسلم 4/ 2196 (61/ 2863) .(12/459)
وفي حديث المقداد عند مسلم [ (1) ] «تدنو الشّمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم مقدار ميل» .
قال سليم بن عامر: فو الله ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض؟ أو الميل الذي تكتحل به العين؟ فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما، وأشار رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بيده إلى فيه، فيبلغ النّاس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون، فيقول بعضهم لبعض ألا ترون إلى ما قد بلغكم، أتنظرون من يشفع لنا، فيقول بعض النّاس لبعض:
انطلقوا إلى أبيكم آدم، فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك، وعلّمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربّك حتى يريحنا من مكاننا هذا، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا، فيقول: لست هناكم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله وإنّه نهاني عن الشّجرة فعصيته فخرجت بخطيئتي من الجنّة.
وفي رواية: «وهل أخرجكم من الجنّة إلّا خطيئة أبيكم أن يغفر لي اليوم حسبي، نفسي نفسي.
وفي رواية: «أنه لا يهمّني اليوم إلّا نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى أبيكم بعد أبيكم ائتوا نوحا عبدا شكورا، أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحا، فيقولون: يا نوح، أنت أوّل الرّسل إلى أهل الأرض، وسمّاك الله عبدا شكورا، واصطفاك واستجاب لك في دعائك، ولم يدع على الأرض من الكافرين ديّارا، فاشفع لنا إلى ربّك ألا ترى ما نحن فيه: ألا ترى ما قد بلغنا: فيقول نوح: لست هناكم، إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنّه كانت لي دعوة دعوتها على قومي وسألت ما ليس لي به علم، وإن يغفر لي اليوم حسبي، نفسي نفسي» .
وفي رواية: «أنه لا يهمّني اليوم إلّا نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم الّذي اتّخذه الله خليلا فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض قم فاشفع لنا إلى ربّك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا فيقول: لست هناكم إنّما كنت خليلا من وراء وراء، وإنّ ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنّي كذبت في الإسلام ثلاث كذبات، والله ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله، وأن يغفر لي اليوم حسبي، نفسي نفسي.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 2196 (62/ 2864) .(12/460)
وفي رواية: «أنه لا يهمّني اليوم إلّا نفسي اذهبوا إلى موسى الذي اصطفاه الله برسالته وبكلامه وقرّبه نجيّا فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى أنت الّذي اصطفاه الله برسالاته وبكلامه، فاشفع لنا إلى ربّك ليريحنا، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا فيقول: لست هناكم، إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإنّي قتلت نفسا لم أومر بقتلها، وإن يغفر لي اليوم حسبي، نفسي نفسي.
وفي رواية: «أنه لا يهمّني اليوم إلّا نفسي، اذهبوا إلى عيسى، روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم، وكلّمت الناس في المهد فاشفع لنا إلى ربّك ليريحنا، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا فيقول لست هناكم، إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله وإني اتخذت من دون الله أن يغفر لي اليوم حسبي نفسي نفسي.
وفي رواية أنه لا يهمّني اليوم إلّا نفسي، اذهبوا إلى غيري فيقولون إلى من تأمرنا فقال:
إن كلّ متاع في وعاء مختوم عليه، أكان يقدر على ما في جوفه حتى يفضّ الخاتم فيقولون:
لا فيقول إنّ محمّدا خاتم النبيين وسيّد ولد آدم أجمعين، وأول من تنشق عنه الأرض، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «فإنّي لقائم انتظر عند الصّراط إذ جاء عيسى فيقول: يا محمّد هذه الأنبياء قد جاءتك يسألون لتدعوا الله أن يفوق بين الأمم إلى حيث يشاء لغم ما هم فيه.
وفي رواية فيقولون: يا نبي الله، أنت الذي فتح الله بك وختم، وغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر، وجئت في هذا اليوم آمنا، وترى ما نحن فيه فاشفع لنا إلى ربّك، فأقول: أنا صاحبكم، أنا لها (أنا لها) فأقوم فيثور من مجلسي من أطيب ريح ما شمّها أحد قطّ فيجلس النّاس، فأنطلق حتّى آخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد، فيقول الخازن: بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك، فيفتحون لي ويقولون مرحبا، فآتي جبريل، فيأتي جبريل ربّه فيقول: ائذن له وبشره بالجنة، فآتي تحت العرش، فيتجلى الله لي ولا يتجلى لشيء قبلي، فإذا رأيت ربي خررت ساجدا قدر جمعة شكرا له، ثم يفتح الله على من محامده وحسن الثّناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقول: ارفع رأسك، وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع وادع تجب، فأرفع رأسي، فأحمد ربّي بمحامد يعلمنيها لا أقدر عليها الآية، لم يحمده بها أحد قبلي ولا يحمده بها أحد بعدي، وأقول: يا ربّ، وعدتّني الشفاعة فشفّعني في خلقك فأقضى بينهم فيقول شفّعتك فيهم أنا آتيكم فأقضي بينكم» .
هذا ما يتعلّق بهذه الشفاعة من الأحاديث المتقدّمة، وبقية الأحاديث متعلّقة بفضل القضاء ليست مما نحن فيه.(12/461)
تنبيهات
الأول: [ ... ] .
الباب السابع في الكلام على المقام المحمود، والكلام على بقية شفاعته- صلّى الله عليه وسلم-
قال الله عز وجل: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: 79] أجمع المفسرون على أن «عسى» من الله واجب، لأن «عسى» تفيد الإطماع، والله أعظم من أن يطمع أحدا ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه.
قال الحافظ: الجمهور على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، وبالغ الواحديّ، فنقل فيه الإجماع، ولكنّه أشار إلى ما جاء عن مجاهد وزيّفه.
وقال ابن جرير: قال أكثر أهل التّأويل: المقام المحمود الذي يقومه النبي- صلى الله عليه وسلم- ليريحهم من كرب الموقف، وفي الأحاديث تصريح بذلك فروى ابن خزيمة والطبراني وابن جرير بسند صحيح قال: «يشفّعه الله في أمّته فهو المقام المحمود» .
وروى الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصحّحاه عن كعب بن مالك- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «يبعث الله الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمّتي على تلّ ويكسوني ربّي حلّة خضراء، ثمّ يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود» .
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في الآية، قال: هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي.
وروى ابن جرير والطبرانيّ من طرق عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: «المقام المحمود الشّفاعة» .
وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: سئل عنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «هي الشّفاعة» .
وروى ابن جرير عن مجاهد في الآية قال: المقام المحمود الشّفاعة.
وروى مسلم وابن حبان والحاكم وابن جرير عن كعب بن مالك رفعه «أكون أنا وأمّتي على تلّ فيكسوني ربّي حلّة خضراء ثمّ يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود» .
وروى البخاري عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: «سمعت(12/462)
رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم موسى فيقول كذلك، ثم بمحمد فيشفع، فيقضي الله بين الخلق، فيمشي حتّى يأخذ بحلقة باب الجنّة، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم.
وقد تقدم في الباب قبله الكلام على الشّفاعة العظمى وبقي الكلام على بقيّة الشفاعات.
فالثانية:
الشّفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب.
ودليله
قوله تعالى في جواب قوله- صلى الله عليه وسلم- أمتي أمتي: أدخل الجنّة من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن.
قال الحافظ: كذا قيل، ويظهر إلى أن دليله سؤاله- صلى الله عليه وسلم- الزيادة على السّبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فأجيب.
وروى الإمام أحمد والبيهقيّ بسند جيد عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: سألت ربي- عز وجلّ- فوعدني أن يدخل الجنة من أمّتي سبعين ألفا على صورة القمر ليلة البدر لا حساب عليهم فاستزدتّ ربّي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا.
وروى الطبراني والبيهقي بسند فيه ضعف عن عمرو بن حزم الأنصاري- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أن ربّي وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم، وإني سألت ربي في هذه الثلاثة الأيّام المزيد، فوجدتّ ربي ماجدا كريما، فأعطاني مع كل واحدة من السبعين ألفا سبعين ألفا» .
وروى الترمذي وحسنه والطبراني وابن حبان والضياء وصححاه عن أبي أمامة- رضي الله تعالى عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «وعدني ربّي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كل ألف سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربّي»
[ (1) ] .
وروى الطبراني وابن أبي عاصم نحوه عن أبي سعيد الأنماري فحسبنا عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فبلغ أربعة آلاف ألف وتسعمائة ألف.
قال الحافظ: يعني من عدّ الحثيات.
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى بسند فيه ضعف عن أبي بكر الصديق- رضي الله تعالى
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (2437) ، وأحمد 4/ 16، وابن ماجة (4286) وابن عاصم 1/ 261.(12/463)
عنه- نحو حديث أبي هريرة بلفظ: فاستزدته فزادني مع كل واحد سبعين ألفا والأحاديث في ذلك شهيرة.
الثّالثة:
في أناس حوسبوا واستحقّوا العذاب أن لا يعذبوا، وذلك ما
رواه الطبراني وابن أبي الدنيا والحاكم، وصححه والبيهقي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يوضع للأنبياء منابر من نور يجلسون عليها، ويبقى منبري لا أجلس عليه أو قال: لا أقعد عليه قائم بين يدي ربّي منتصبا مخافة أن يبعث بي إلى الجنّة وتبقى أمّتي بعدي فأقول: يا ربّ، أمتي أمتي، فيقول الله تبارك وتعالى: وما تريد أن أصنع بأمّتك فأقول: يا ربّ، عجّل حسابهم فيدعى بهم فيحاسبون فمنهم من يدخل الجنة برحمته، ومنهم من يدخل بشفاعتي، فما أزال أشفع حتّى أعطى صكاكا [ (1) ] برجال قد بعث بهم إلى النّار حتّى أن مالكا خازن النّار ليقول: يا محمد، ما تركت لغضب ربّك في أمتك من نقمة.
الرّابعة:
في إخراج ناس من المذنبين دخلوا النّار، والأدلّة على ذلك كثيرة شهيرة في الصحيحين وغيرهما ولا عبرة بإنكار المعتزلة لها.
الخامسة:
في رفع درجات ناس في الجنّة ذكرها القاضي والنّوويّ واستدلّ لها بما
رواه مسلم عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول شفيع في الجنّة» .
السادسة:
في أطفال البشر.
وروى ابن أبي شيبة وأبو يعلى بسند صحيح والدارقطنيّ في الإفراد والضياء عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «سألت ربي اللاهين من ذرية البشر فأعطانيهم» ،
قال أبو عمر: هم الأطفال، لأن أعمالهم كالسّهو واللعب من غير تقدّم عقد ولا عزم.
وروى أبو نعيم عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «سألت ربي أن يتجاوز لي عن أطفال المشركين فتجاوز عنهم وأدخلهم الجنّة» .
__________
[ (1) ] الصكاك جمع صك وهو الورقة التي تكتب للمصالح والمراد: كتبا.(12/464)
الباب الثامن في دخوله- صلّى الله عليه وسلّم- جهنم لإخراج أناس من أمته عليه أفضل الصلاة والسلام
[روى عن عمران بن حصين عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «يخرج من النار قوم بشفاعة محمد فيسمون الجهنميين» .
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» ] .
الباب التاسع في الكلام على حوضه- صلى الله عليه وسلم-
روى مسلم عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال أغفى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقال: إنّه نزلت عليّ آنفا سورة فقرأ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر: 1] حتى ختمها قال: أتدرون ما الكوثر؟ قالوا الله ورسوله أعلم؟
قال: هو نهر وعدنيه ربّي في الجنّة عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب فيختلج العبد منهم، فأقول: ربّ، إنّه من أمتي، فيقال: إنّك ما تدري ما أحدث بعدك.
وروى الإمام أحمد عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أعطيت الكوثر، فإذا هو نهر يجري ولم يشق شقّا وإذا حافتاه قباب اللّؤلؤ وليس مشقوقا فضربت بيدي إلى تربته فإذا هو مسك أذفر [وإذا حصا اللؤلؤ.
وروى الشيخان عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «دخلت الجنّة، فإذا أنا بنهر حافّتاه خيام اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى ما يجري فيه الماء، فإذا هو مسك أذفر] [ (1) ] قلت: ما هذا، يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله.
وقد ورد ذكر الحوض، من رواته بضع وخمسين صحابيّا سرد أحاديثهم ومن رواها منهم شيخنا- رحمه الله تعالى- في «البدور السّافرة» وحاصلها أنّه مسيرة شهر طوله مثل عرضه كيزانه من ذهب وفضّة أكثر من نجوم السّماء وهو أطيب ريحا من المسك وأشدّ بياضاً، من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثّلج له ميزابان من الجنّة أحدهما من ذهب والآخر من فضّة على حافّتيه قباب اللؤلؤ.
__________
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.(12/465)
وفي لفظ حافّتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، وحصباؤه ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ، تربته مسك إذفر، فيه طير، أعناقها كأعناق الخرز، من شرب منه لم يظمأ أبدا، ولم يسودّ وجهه، ولم يصرف عنه إنسان فيروى أبدا لا يشرب منه من أخفر ذمّة النبي- صلى الله عليه وسلم- ولا من قتل أهل بيته، أول الناس ورودا عليه فقراء المهاجرين.
تنبيهات
الأوّل: ورد في سعة الحوض أحاديث متقاربة المعنى.
ففي رواية: مسيرة شهر وفي رواية ما بين أيلة إلى مكة.
وفي رواية ما بين أيلة إلى صنعاء.
وفي رواية من عدن إلى عمّان.
وفي رواية من صنعاء إلى المدينة.
وفي رواية أعرض ما بين صنعاء إلى بصرى.
وفي رواية ما بين الكوفة والحجر الأسود.
وفي رواية ما بين جرباء وأذرح.
وفي رواية مثل ما بين المدينة وعمّان.
وفي رواية إن حوضي هو من أيلة إلى عدن.
في رواية ما بين مكة وبيت المقدس.
قال العلماء: وهذا الاختلاف في هذه الروايات ليس موجبا للاضطراب فيها، لأنه لم يأت في حديث بل واحد، بل في أحاديث مختلفة الرواية عن جماعة من الصحابة سمعوها من النبي- صلى الله عليه وسلم- في مواطن مختلفة ضربها النبي- صلى الله عليه وسلم- مثلاً لبعد أقطار أرض الحوض وسعته وقرب ذلك على أفهام السامعين لبعد ما بين هذه البلاد المذكورة لا على التقدير الموضوع للتحديد ولإعلام السامعين عظم بعد المسافة، وسعة الحوض وليس في ذلك القليل من هذه المسافات منع من الكثير فإن الكثير ثابت على ظاهره وصحّت الروايات به والقليل داخل فيه فلا معارضة ولا منافاة بينهما، وكذلك القول في آنية الحوض، أي العدد المذكور في الأحاديث على ظاهره وأنها أكثر من عدد نجوم السّماء ولا مانع يمنع من ذلك إذ قد وردت الأحاديث الصّحيحة بذلك.
الثاني:
روى الطبراني عن سمرة بن جندب أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الأنبياء يتباهون أيّهم أكثر أصحابا من أمته، فأرجو أن أكون يومئذ أكثرهم كلّهم واردة وإنّ كل رجل(12/466)
منهم يومئذ قائم على حوض ملآن معه عصا، يدعو من عرف من أمّته، ولكل أمة، يعرفهم بها نبيّهم.
وروى الترمذي عن سمرة أيضاً: قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إنّ لكلّ نبيّ حوضا، وإنّهم يتباهون أيّهم أكثر واردة، وإنّي أرجو أن أكون أكثرهم واردة.
انتهى.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الاختلاج: بخاء معجمة فمثناة فوقية وآخره جيم الاختلاس أي ينزع ويجدب.
«جربا» بجيم فراء ساكنة فباء موحدة فألف قرية من قرى الشام [قريب من السّراة] .
أذرح: بهمزة فذال معجمة فراى فخاء مهملة وهي المدينة في طرف الشام.
عمان: بفتح العين المهملة وتشديد الميم بلد بالبلقاء من أرض الشام.
أيلة: بفتح الهمزة وإسكان المثناة التحتية وفتح اللام.
صنعاء اليمن هي قاعدة اليمن وأكبر مدنها وإنما قيده باليمن في الحديث، لأن بالشام موضعا يعرف بصنعاء ودمشق.
يشخب: بالمثناة التحتية والشين والخاء المعجمتين أي يسيل.
«يغتّ» بفتح المثناة التحتية وبكسر الغين المعجمة وتشديد التاء المثناة الفوقية أي يدفق فيه ميزابان دفقا شديدا متتابعا.
ليعك بالمثناة التحتية وضمّ العين المهملة وإسكان الكاف وهو موقف الإبل.
الحوض: ...
الفرط: ...
سحقا: ...
الباب العاشر فيما جاء أنه أول من يجوز على الصراط وأن مفاتيح الجنة بيده- صلى الله عليه وسلم-
روى الشيخان عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يضرب الصّراط على جسر جهنم، فأكون أول من يجيز.
وروى الدارمي والترمذي وحسنه عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «مفاتيح الجنّة بيدي» .(12/467)
الباب الحادي عشر فيما جاء أنه أول من يستفتح باب الجنة وأنه أول من يدخلها وقيام خازن الجنة له- صلى الله عليه وسلم-
روى مسلم عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن: من أنت فأقول: محمد فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك» .
ورواه الطبرانيّ، وزاد فيه قال: ويقوم الخازن، ويقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم لأحد بعدك، الحديث وتقدّمت بقيّته في الخصائص.
وروى الطبراني بسند حسن عن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الجنّة حرمت على الأنبياء كلّهم حتى أدخلها وحرّمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» .
وروي أبو نعيم عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إلى مفاتيح الجنة يوم القيامة ولا فخر، وبي تفتح الشفاعة ولا فخر، وأنا سابق الخلق إلى الجنة ولا فخر، وأنا إمامهم وأمتي بالأثر» .
وروى ابن الجوزي عن حذيفة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من يفتح باب الجنة» .
وروى ابن النّجّار عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أوّل من يدقّ باب الجنّة فلم تسمع الآذان أحسن من طنين الحلق على تلك المصاريع» .
وروى الإمام أحمد والدّارميّ والتّرمذي عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنّة فأقعقعها» .
وروى ابن خزيمة عنه: أنا أول من يدخل الجنة وأول من يشفع.
وروى أبو يعلى بسند حسنه الحافظ المنذري عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا أول من يفتح له باب الجنة إلا أن امرأة تبادرني، أي لتدخل معي أو في أثري، فأقول لها: ما لك ومن أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدتّ على أيتام لي.
تنبيه:
سبق الجمع بين ما هنا وبين ما
رواه الترمذي وصحّحه من حديث بريدة بن الحصيب قال: أصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدعا بلالا، فقال: يا بلال، بم سبقتني،
الحديث.(12/468)
الباب الثاني عشر فيما جاء أن جنة عدن مسكنه وعلوّ منزلته في الجنة وتزويج الله تعالى له مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون وكثرة خدمه- صلّى الله عليه وسلم- وغير ذلك
روى الديلميّ عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مسرورا فقال: يا عائشة، أما علمت أن الله زوّجني في الجنّة مريم بنت عمران وكلثوم أخت موسى وآسية امرأة فرعون.
وروى الطبراني في الكبير عن سعد بن جنادة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن الله عز وجلّ زوّجني في الجنّة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى» .
وهذا آخر ما وجد بخطّ الفيشي والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وكان الفراغ من كتابة هذا الجزء المبارك ليلة لجمعة المباركة عشرين خلو من صفر الخير من شهور سنة تسعة وتسعين وألف من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير [ (1) ] .
__________
[ (1) ] ثبت في أقوله:
وإن نجد عيبا فسدّ الخللا ... جلّ من لا فيه عيب وعلا
ثم قال: «الحمد لله رب العالمين، قد تم وبالله الحمد إكمال إملاء هدى الكتاب الجليل مع التأمل لما فيه من سقامة الخط وعدم التصحيح والضبط، ولكن قد وقع التصحيح بقدر الطاقة وباعتبار السياق والسباق أو من أصوله، ولقد أتى فيه بما يبهر الألباب ويعجز الحفاظ والكتاب، وزاد من الأطناب فيما هو لائق عند أولي الألباب، وقد أخذ منها الخفاجي أكثرها، وتم بحمد الله الإملاء في دار مالكها وحضرة مولانا السيد الهمام الأكرم الحسام المحسن بن علي بن محمد عبد الكريم بن أحمد بن محمد بن إسحاق بن المهدي أحمد بن يحيى سلام الله عليهم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين آمين، حرر يوم التمام نهار الأحد إحدى وعشرين شهر ذي القعدة الحرام من شهور سنة 1328. وثبت في ج قوله:
(وجدتّ بالنّسخة ما لفظه: قال: مؤلّفه شيخنا وقدوتنا إلى الله تعالى خاتمة المحدّثين، الشيخ محمد بن يوسف الشامي الصالحي نزيل البرقوقيّة بصحراء القاهرة في فهرست الأبواب هذا جميع ما تضمّنه الكتاب من الأبواب والله سبحانه وتعالى الموفّق للصّواب وقال كاتبه: أقل تلازمة مؤلّفه فقير رحمه ربه محمد بن محمد بن أحمد الفيشي المالكي قد انتهى ما جمعه مما وجد من مسودة مؤلفة وغيرها على حذو مؤلفه وأول ذلك من أثناء السرايا بعد أن أشار بذلك الشيخ الإمام العالم العلامة أبي العباس شهاب زين الدين عبد الحق السنباطي الشافعي والشيخ الإمام العلامة الحافظ أبي عبد الله الشيخ شمس الدين الداودي المالكي يوم وفاة مؤلفه وامتناعي من ذلك لعلمي لعدم أهبتي لذلك، وعدم مراد مؤلفها، وقد رأيته تلك الليلة، وخصّني على ذلك، فقوى العزم على ما أشار به الشيخان، فجاء ببركتهم على وفق ما رسمه الشيخ المؤلف غير بعض تنابيه تركتها بياضا ولم أعلم مراده بها، وبعض بياضات لم يتيسر سدها الآن، وأرجو الله تعالى إن طال الأجل أن ييسرها، ويعيننا على ذلك إنه على ما يشاء قدير، ما شاء الله كان وما(12/469)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
[ () ] لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم اعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علما، وأعوذ بالله من علم لا ينفع، ودعاء لا يسمع، وقلب لا يخشع، وعين لا تدمع، أعوذ بالله من شر هؤلاء الأربع وصلى الله على سيدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
وقال العلّامة المذكور رحمه الله تعالى وكان الفراغ منه في مساء يوم الخميس خامس عشر ربيع الثاني سنة إحدى وسبعين وتسع مائة ووافق الفراغ من نسخ هذا في يوم الاثنين التاسع والعشرون من ذي القعدة سنة 1284 هـ ألف ومائتين أربعة وثمانون من هجرة من له العز والشرف- صلّى الله عليه وسلم- على يد الفقير الحقير المقر بالذنب والتقصير وهبه ابن محمد سالم غفر الله له ولوالديه ولإخوانه من المسلمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
ويا أيها الناظر إذا تأملت بعض أبواب الصلاة على رسول الله- صلّى الله عليه وسلم- وغيرها وما حررته من الحواشي وغيرها وعذرتني وشكرتني على ذلك ودعوت لي بخير، فانظر يا أخي بعين الإنصاف أيدك الله بالألطاف:
وإن رأيت عيبا فسدّ الخللا ... جلّ من لا عيب فيه وعلا
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين.(12/470)