وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينا أنا نائم أتيت بخزائن الأرض فوضع في كفّي سواران من ذهب فكبرا عليّ فأوحي إليّ أن أنفخهما فنفختهما فذهبا، فأوّلتهما الكذّابين اللذين أنا بينهما صاحب صنعاء وصاحب اليمامة» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
حنيفة: أبو حيّ من اليمن. وهو حنيفة بن لجيم بن صعب بن بكر علي بن بكر بن وائل.
منزلهم: بفتح الزاي والمراد هنا نزولهم.
في درا امرأة من الأنصار من بني النجار: هي رملة بنت الحدث كان بيتها في بني قريظة.
العسيب: بفتح العين وكسر السين المهملتين: الجريدة.
أما: بفتح الهمزة وتخفيف الميم بمعنى «ألا» الاستفتاحية.
إنه: بكسر الهمزة.
الضيعة: بفتح الضاد المعجمة وسكون التحتية وبالعين المهملة والمراد بها هنا ظهرهم وحوائجهم.
أشركت: بضم الهمزة وسكون الشين المعجمة وكسر الراء بالبناء للمفعول والتاء فيه مضمومة لأنها للمتكلم.(6/328)
الباب الأربعون في وفود خفاف بن نضلة إليه صلّى الله عليه وسلم
روى أبو سعيد النيسابوري في شرف المصطفى والبيهقي في دلائل النبوة عن ذابل بن الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قعد في مسجده منصرفه من الأباطح فقدم عليه خفاف بن نضلة بن عمرو بن بهدلة الثّقفي فأنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كم قد تحطّمت القلوص بي الدّجى ... في مهمة قفر من الفلوات
فلّ من التّوريس ليس بقاعة ... نبت من الإسنات والأزمات
إنّي أتاني في المنام مساعد ... من جنّ وجرة كان لي وموات
يدعو إليك لياليا ... ثم احزألّ وقال لست بآت
فركبت ناجية أضرّ بنيّها ... جمز تجب به على الأكمات
حتّى وردت إلى المدينة جاهدا ... كيما أراك مفرّج الكربات
قال: فاستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال: «إن من البيان كالسّحر وإن من الشعر كالحكم» [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
خفاف: بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفائين.
نضلة: بالنون والضاد المعجمة.
ذابل: بذال معجمة فألف فموحدة فلام.
الدّوسي: بدال مهملة مفتوحة فواو فسين مهملة فياء نسب.
بهدلة: بموحدة مفتوحة فهاء ساكنة فدال مهملة فلام.
تحطّمت: تكسّرت.
القلوص: من النّوق الشّابّة وهي بمنزلة الجارية من النساء.
الدّجى: بدال مهملة مضمومة فجيم من دجا اللّيل إذا تمّت ظلمته، والدّياجي الليالي المظلمة والدّجنة الظلمة.
المهمه: بميمين مفتوحتين بينهما هاء ساكنة: المفازة والبرّيّة.
القفر: بقاف مفتوحة ففاء ساكنة فراء.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 2055 (7/ 2670) والبخاري 10/ 537 (6145) .(6/329)
الفلوات: [جمع فلاة وهي أرض لا ماء فيها] .
الفلّ: بفاء مكسورة فلام: القوم المنهزمون من الفلّ الكسر وهو مصدر سمّي به يقع على الواحد والاثنين والثلاثة.
من التّوريس: [من ورّس الثوب بالورس صبغه به] .
بقاعه: [القاع المستوي من الأرض] .
الإسنات: [من أسنتوا أي أجدبوا] .
الأزمات: جمع أزمة وهي الشدّة.
وجرة: [بواو مفتوحة فجيم ساكنة فراء مفتوحة فتاء تأنيث] .
المواتي: [الموافق المطاوع] .
احزألّ: بهمزة وصل مكسورة فحاء مهملة ساكنة فهمزة مفتوحة فلام مشددة: انفرد والاحزئلال الانفراد.
النّاجية: [الناقة السريعة التي تنجو بصاحبها] .
أضرّ نبيّها: [التي بفتح النون وتشديد المثناة التحتية الشحم وبكسر النون السّمن] .
الجمز: بجيم فميم مفتوحتين فزاي: ضرب من السّير سريع فوق العنق.
تجبّ: بمثناة فوقية فجيم موحدة: تقطع.
الأكمات: جمع أكمة وهي الرابية.
مفرّج: بميم مضمومة ففاء مفتوحة فراء مشددة فجيم.
الكربات: بكاف وراء مضمومتين فموحدة فألف فتاء تأنيث.(6/330)
الباب الحادي والأربعون في وفود خثعم إليه صلى الله عليه وسلم
وعن غيرهم من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض، قالوا: وفد عثعث بن زحر، وأنس بن مدرك في رجال من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما هدم جرير بن عبد الله البجلي ذا الخلصة، وقتل من قتل من خثعم، فقالوا: آمنّا بالله ورسوله وما جاء [به] من عند الله فاكتب لنا كتابا نتّبع ما فيه.
قالوا: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لخثعم: «هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لخثعم من حاضر بيشة وباديتها أن كلّ دم أصبتموه في الجاهلية فهو عنكم موضوع، ومن أسلم منكم طوعاً أو كرهاً في يده حرث من خبار أو عزاز تسقيه السّماء أو يرويه اللّثى فزكا عمارة في غير أزمة ولا حطمة، فله نشره وأكله، وعليهم في كلّ سيح العشر وفي كلّ غرب نصف العشر، شهد جرير بن عبد الله ومن حضر» .
الباب الثاني والأربعون في وفود خولان إليه صلى الله عليه وسلم
قالوا: قدم وفد خولان وهم عشرة نفر في شعبان سنة عشر، فقالوا: يا رسول الله نحن مؤمنون بالله ومصدّقون برسوله، ونحن على من وراءنا من قومنا، وقد ضربنا إليك آباط الإبل، وركبنا حزون الأرض وسهولها، والمنّة لله ولرسوله علينا، وقدمنا زائرين لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إما ما ذكرتم من مسيركم إليّ فإنّ لكم بكلّ خطوة خطاها بعير أحدكم حسنة، وأمّا قولكم زائرين لك فإنه من زارني بالمدينة كان في جواري يوم القيامة» . فقالوا: يا رسول الله هذا السّفر الذي لا توى عليه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل عمّ أنس؟» وهو صنم خولان الذي كانوا يعبدونه. قالوا: بشرّ وعرّ، أبدلنا الله به ما جئت به، ولو قد رجعنا إليه لهدمناه، وبقيت منا بعد بقايا من شيخ كبير وعجوز كبيرة متمسكون به ولو قد قدمنا عليه هدمناه إن شاء الله تعالى فقد كنا منه في غرور وفتنة. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما أعظم ما رأيتم من فتنته؟» قالوا: لقد رأيتنا وأسنتنا حتى أكلنا الرّمّة، فجمعنا ما قدرنا عليه وابتعنا مائة ثور ونحرناها لعمّ أنس قربانا في غداة واحدة، وتركناها تردها السّباع ونحن أحوج إليها من السّباع، فجاءنا الغيث من ساعتنا، ولقد رأينا العشب يواري الرجل،
فيقول قائلنا: أنعم علينا عمّ أنس.(6/331)
وذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا يقسمون لصنمهم هذا من أنعامهم وحروثهم وأنهم كانوا يجعلون من ذلك جزءا له وجزءا لله بزعمهم.
قالوا: كنا نزرع الزّرع فنجعل له وسطه، فنسمّيه له، ونسمّي زرعا أخر حجرة لله، فإذا مالت الريح فالذي سميناه لله جعلناه لعمّ أنس، وإذا مالت الريح فالذي سميناه لعم أنس جعلناه لله. فذكر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل قد أنزل عليه في ذلك: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الأنعام 136] .
قالوا: وكنّا نتحاكم إليه فنكلّم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تلك الشياطين تكلّمكم» . قالوا:
إنا أصبحنا يا رسول الله وقلوبنا تعرف أنه كان لا يضرّ ولا ينفع، ولا يدري من عبده ممّن لم يعبده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي هداكم وأكرمكم بمحمد صلى الله عليه وسلم» . وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء من أمر دينهم، فجعل يخبرهم بها وأمر من يعلّمهم القرآن والسّنن، وأمرهم بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة وحسن الجوار وألّا يظلموا أحدا. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الظّلم ظلمات يوم القيامة [ (1) ] » .
وأنزلوا دار رملة بنت الحدث، وأمر بضيافة، فأجريت عليهم، ثم جاءوا بعد أيّام يودّعونه، فأمر لهم بجوائز باثنتي عشرة أوقية ونشّا، ورجعوا إلى قومهم فلم يحلّوا عقدة حتى هدموا عمّ أنس وحرّموا ما حرّم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحلّوا ما أحلّ لهم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
خولان: بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو.
من وراءنا: بفتح الميم.
آباط الإبل: بهمزة مفتوحة فألف فموحدة فألف فطاء مهملة: جمع إبط.
الحزون: بضم الحاء المهملة والزاي جمع حزن بفتح الحاء وسكون الزاي: ما غلظ من الأرض.
الخطوة: بضم الخاء المعجمة وفتحها، فبالأول ما بين القدمين- وجمع القلّة خطوات والكثرة خطاء- وبالثاني المرّة الواحدة.
الجواز: بكسر الجيم وضمها: الذّمام والعهد والتأمين.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 3/ 169 والترمذي (2030) وأحمد في المسند 2/ 137 والبيهقي 6/ 93.(6/332)
التّوى: بفوقية فواو مفتوحتين فألف مقصورة: هلاك المال، يقال توي المال بالكسر يتوى بالفتح توى وأتوا، غيره.
رأيتنا: بضم الفوقية.
أسنتنا: بهمزة قطع مفتوحة فسين مهملة ساكنة فنون مفتوحة ففوقية فنون: أجد بنا بإصابة السّنة يقال أسنت فهو مسنت إذا أجدب.
الرّمة: بكسر الراء وتشديد الميم المفتوحة فتاء التأنيث: العظام البالية.
الزّعم: بتثليث الزاي.
وسطه: بفتح السين المهملة وسكونها.
الحجرة: بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم: الناحية.
فنكلّم: بضم النون وفتح اللام المشدّدة مبني للمفعول أي يكلّمنا.(6/333)
الباب الثالث والأربعون في وفود خشين إليه صلى اللَّه عليه وسلم
روى ابن سعد عن محمد بن عمر قال أخبرنا عبد الرحمن بن صالح عن محجن بن وهب قال: قدم أبو ثعلبة الخشني على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو يتجهز إلى خيبر فأسلم وخرج معه فشهد خيبر، ثم قدم بعد ذلك سبعة نفر من خشين فنزلوا على أبي ثعلبة فأسلموا وبايعوا ورجعوا إلى قومهم.
الباب الرابع والأربعون في وفود الداريين إليه صلى اللَّه عليه وسلم
قالوا: قدم وفد الداريين على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم منصرفه من تبوك وهم عشرة نفر منهم تميم ونعيم ابنا أوس بن خارجة بن سواد بن جذيمة بن دارع بن عدي بن الدّار بن هانئ بن حبيب بن نمارة بن لخم، ويزيد بن قيس بن خارجة، والفاكه بن النّعمان بن جبلة وأبو هند، والطّيب ابنا ذرّ، وهو عبد اللَّه بن رزين، وهانئ بن حبيب، وعزيز، ومرّة ابنا مالك بن سواد بن جذيمة.
فأسلموا، وسمّى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الطّيّب: عبد اللَّه، وسمّى عزيزا: عبد الرحمن.
وأهدى هانئ بن حبيب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أفراسا وقباء مخوّصا بالذهب، فقبل الأفراس والقباء
[وأعطاه العباس بن عبد المطلب] فقال: «ما أصنع به؟» قال: انتزع الذّهب فتحلّيه نساءك أو تستنفقه ثم تبيع الديباج فتّأخذ ثمنه.
فباعه العباس من رجل من يهود بثمانية آلاف درهم.
وقال تميم: لنا جيرة من الرّوم لهم قريتان يقال لإحداهما حبرى والأخرى بيت عينون، فإن فتح اللَّه عليك الشّام فهبهما لي. قال: «فهما لك» . فلما قام أبو بكر أعطاه ذلك وكتب له به كتابا [ (1) ] .
وأقام وفد الداريّين حتى توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأوصى لهم بجادّ مائة وسق أي من خيبر.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
الدّاريّين: بدال مهملة فألف فراء فمثناتين تحتيتين فنون.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 107.(6/334)
أوس: بهمزة مفتوحة فواو ساكنة فسين مهملة.
خارجة: بخاء معجمة فألف فراء فجيم.
سواد: بسين مهملة مفتوحة فواو فألف فدال مهملة.
جذيمة: بجيم مفتوحة فذال معجمة فمثناة تحتية فميم.
دارع: بدال مهملة فألف فراء فعين مهملة.
عديّ: بعين مفتوحة فدال مكسورة مهملتين فمثناة تحتية.
حبيب: بحاء مهملة مفتوحة فموحدة فمثناة فموحدة.
نمارة: بنون مضمومة فميم فألف فراء فتاء تأنيث.
لخم: بلام مفتوحة فخاء معجمة ساكنة فميم.
الفاكه: بفاء فألف فكاف فهاء.
جبلة: بجيم فموحدة فلام مفتوحات.
مرّة: بميم مضمومة فراء فتاء تأنيث.
مخوّصا بالذهب: بميم مضمومة فخاء معجمة مفتوحة فواو مشدّدة فصاد مهملة أي منسوجا به كخوص النخل.
الديباج: بدال مهملة مكسورة فمثناة تحتية فموحدة فألف فجيم، وهو الثياب المتخذة من الإبريسم، فارسي معرّب.
حبري: بكسر الحاء المهملة وإسكان الموحدة وفتح الراء.
بيت عينون: بعين مهملة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فنونين بينهما واو.
جاد مائة وسق: بجيم فألف مهملة بمعنى المجدود أي نخل يجد منه ما يبلغ مائة وسق.(6/335)
الباب الخامس والأربعون في وفود دوس إليه صلى اللَّه عليه وسلم
قال: قدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أربعمائة من دوس فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «مرحبا أحسن الناس وجوها وأطيبهم أفواها وأعظمهم أمانة [ (1) ] » رواه الطبراني بسند ضعيف.
قال في زاد المعاد: قال ابن إسحاق: كان الطفيل بن عمرو والدوسي [ (2) ] يحدّث أنه قدم مكة ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بها. فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا فقالوا له: يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا فرّق جماعتنا وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسّحر يفرّق بين المرء وابنه، وبين المرء وأخيه وبين الرجل وزوجه، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا فلا تكلّمه ولا تسمع منه. قال: فو اللَّه ما زالوا بي حتى أجمعت ألّا أسمع منه شيئا ولا أكلّمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله.
قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة، فقمت قريبا منه، فأبى اللَّه إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا فقلت في نفسي وا ثكل أمياه، واللَّه إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟ فإن كان ما يقول حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت.
قال: فمكثت حتى انصرف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى بيته فتبعته حتى إذا دخل بيته، دخلت عليه فقلت: يا محمد إن قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فو اللَّه ما برحوا يخوّفوني أمرك حتى سددت أذنيّ بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبي اللَّه إلا أن يسمعنيه فسمعت قولا حسنا فاعرض عليّ أمرك. فعرض على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الإسلام وتلا عليّ القرآن فلا واللَّه ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه فأسلمت وشهدت شهادة الحق
وقلت: يا نبي اللَّه إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام، فادع اللَّه لي أن يجعل لي آية تكون عونا لي عليهم فيما أدعوهم إليه. فقال: «اللهم اجعل له آية» .
قال: فخرجت إلى قومي حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عينيّ مثل المصباح قلت: اللهم في غير وجهي، إني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 12/ 222 وذكره الهيثمي في المجمع 10/ 50.
[ (2) ] (الطفيل) بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهم بن غنم بن دوس الدوسي ... وقيل هو ابن عبد عمرو ابن عبد اللَّه بن مالك بن عمرو بن فهم لقبه ذو النور قيل استشهد باليمامة قاله ابن سعد تبعا لابن الكلبي وقيل باليوموك قاله ابن حبان وقيل بأجناديين قاله موسى بن عقبة بن شهاب وأبو الأسود عن عروة. الإصابة 3/ 286، 288.(6/336)
لفراقي دينهم. قال: فتحوّل فوقع في رأس سوطي كالقنديل المعلّق، وأنا أنهبط إليهم من الثّنيّة حتى جئتهم وأصبحت فيهم.
فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخا كبيرا. فقلت: إليك عنّي يا أبت فلست منك ولست منّي. قال: ولم يا بنيّ، بأبي أنت وأمي. قلت: فرق الإسلام بيني وبينك فقد أسلمت وتابعت دين محمد صلى اللَّه عليه وسلم. قال: يا بنيّ فديني دينك. قال: فقلت: اذهب فاغتسل وطهّر ثيابك، ثم تعال حتى أعلّمك ما علمت. قال: فذهب فاغتسل وطهّر ثيابه. ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم.
ثم أتتني صاحبتي فقلت لها: إليك عنّي فلست منك ولست منّي. قالت: لم بأبي أنت وأمي؟ قلت: فرق الإسلام بيني وبينك أسلمت وتابعت دين محمد صلى اللَّه عليه وسلم. قالت: فديني دينك فقلت: اذهبي فاغتسلي ففعلت، ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت.
ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطئوا عليّ فأتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
فقلت: يا نبي اللَّه إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع اللَّه عليهم. فقال: «اللهم اهد دوسا» ثم قال: «ارجع إلى قومك فادعهم إلى اللَّه وارفق بهم» .
فرجعت إليهم فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى اللَّه. ثم قدمت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بخيبر، فنزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس. ثم لحقنا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بخيبر، فأسهم لنا مع المسلمين.
قال ابن إسحاق: فلما قبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وارتدّت العرب خرج الطّفيل مع المسلمين حتى فرغوا من طليحة، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة، ومعه ابنه عمرو بن الطفيل، فقال لأصحابه: إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي: رأيت أن رأسي قد حلق وأنه قد خرج من فمي طائر، وأن امرأة لقيتني فأدخلتني في فرجها، ورأيت أن ابني يطلبني طلبا حثيثا، ثم رأيته حبس عنّي.
قالوا: خيرا رأيت. قال: أما واللَّه إني قد أوّلتها. قالوا: وما أوّلتها؟ قال: أمّا حلق رأسي فوضعه، وأمّا الطائر الذي خرج من فمي فروحي، وأمّا المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض، تحفر فأغيب فيها، وأما طلب ابني إيّاي وحبسه عنّي فإني أراه سيجهد لأن يصيبه من الشهادة ما أصابني. فقتل الطّفيل شهيدا باليمامة، وجرح ابنه جرحا شديدا ثم قتل عام اليرموك شهيدا في زمن عمر رضي اللَّه تعالى عنهم.(6/337)
الباب السادس والأربعون في قدوم ذباب بن الحارث عليه صلى اللَّه عليه وسلم
روى ابن سعد عن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفيّ قال: لما سمعوا بخروج النبي صلى اللَّه عليه وسلم وثب ذباب- رجل من بني أنس اللَّه بن سعد العشيرة- إلى صنم كان لسعد العشيرة يقال له فرّاض فحطمه ثم وفد إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم وقال:
تبعت رسول اللَّه إذ جاء بالهدى ... وخلّفت فرّاضا بدار هوان
شددت عليه شدّة فتركته ... كأن لم يكن والدّهر ذو حدثان
ولمّا رأيت اللَّه أظهر دينه ... أجبت رسول اللَّه حين دعاني
فأصبحت للإسلام ما عشت ناصرا ... وألفيت فيه كلكلي وجراني
فمن مبلغ سعد العشيرة أنني ... شريت الّذي يبقى بآخر فاني
وروى ابن سعد عن مسلم بن عبد الله بن شريك النّخعي عن أبيه قال: كان عبد اللَّه بن ذباب الأنسيّ مع علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه بصفّين فكان له غناء.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
ذباب: [بذال معجمة فموحدتين بينهما ألف] .
فرّاض: [بفاء فراء مشددة فألف فضاد معجمة] .
حطمه: بحاء فطاء مهملتين مفتوحتين فميم فهاء.
الكلكل: [بكافين مفتوحتين بينهما لام ساكنة فلام أخرى: الصّدر أو ما بين التّرقوتين] .
الجران: بجيم مكسورة فراء فألف فنون: باطن العنق.(6/338)
الباب السابع والأربعون في وفود الرهاويّين إليه صلى اللَّه عليه وسلم
روى الطبراني برجال ثقات عن قتادة الرّهاوي رضي اللَّه تعالى عنه قال: «لما عقد لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على قومي، أخذت بيده فودّعته فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «جعل اللَّه التّقوى زادك، وغفر لك ذنبك ووجّهك للخير حيثما تكون» [ (1) ] .
وروى ابن سعد عن زيد بن طلحة التّيمي قال: قدم خمسة عشر رجلا من الرّهاويّين وهم حيّ من مذحج على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سنة عشر، فنزلوا دار رملة بنت الحدث، فأتاهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فتحدث عندهم طويلا وأهدوا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم هدايا منها فرس يقال له المرواح فأمر فشور بين يديه فأعجبه. فأسلموا وتعلّموا القرآن والفرائض، وأجازهم كما يجيز الوافد: أرفعهم اثني عشرة أوقية ونشّا وأخفضهم خمس أواق ثم رجعوا إلى بلادهم.
ثم قدم منهم نفر فحجّوا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من المدينة وأقاموا حتى توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأوصى لهم بجادّ مائة وسق بخيبر في الكتيبة جارية عليهم وكتب لهم كتابا فباعوا ذلك في زمن معاوية.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
النّشّ: بالنون والشين المعجمة: نصف الأوقية وقيل النصف من كل شيء.
الوسق: بفتح الواو وسكون السين المهملة وبالقاف: ستّون صاعا وقيل حمل بعير.
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 19/ 15 والبخاري في التاريخ 7/ 185 وذكره الهيثمي في المجمع 10/ 131 والسيوطي في الدر 1/ 221.(6/339)
الباب الثامن والأربعون في وفود بني الرؤاس بن كلاب إليه صلى اللَّه عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] عن أبي نفيع طارق بن علقمة الرّؤاسي قال: قدم رجل منا يقال له عمرو بن مالك بن قيس على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأسلم ثم أتى قومه فدعاهم إلى الإسلام فقالوا:
حتى نصيب من بني عقيل بن كعب مثلما أصابوا منا. فخرجوا يريدونهم، وخرج معهم عمرو ابن مالك فأصابوا منهم.
ثم خرجوا يسوقون النّعم فأدركهم فارس من بني عقيل يقال له ربيعة بن المنتفق بن عقيل وهو يقول:
أقسمت لا أطعن إلا فارسا ... إذا الكماة ألبسوا القلانسا
قال أبو نفيع: فقلت نجوتم يا معشر الرّجّالة سائر اليوم. فأدرك العقيليّ رجلا من بني عبيد بن رؤاس يقال له المحرس بن عبد اللَّه [بن عمرو بن عبيد بن رؤاس] فطعنه في عضده فاختلّها، فاعتنق المحرس فرسه وقال: يا آل رؤاس. فقال ربيعة: رؤاس خيل أو أناس؟ فعطف على ربيعة عمرو بن مالك فطعنه فقتله.
قال: ثم خرجنا نسوق النّعم، وأقبل بنو عقيل في طلبنا حتى انتهينا إلى تربة فقطع ما بيننا وبينهم وادي تربة، فجعلت بنو عقيل ينظرون إلينا ولا يصلون إلى شيء فمضينا.
قال عمرو بن مالك: فأسقط في يدي وقلت قتلت رجلا وقد أسلمت وبايعت النبي صلى اللَّه عليه وسلم فشددت يديّ في غلّ إلى عنقي، ثم خرجت أريد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقد بلغه ذلك.
فقال: «لئن أتاني لأضربنّ ما فوق الغلّ من يده» . فأطلقت يديّ ثم أتيته فسلّمت عليه فأعرض عني، فأتيته عن يمينه فأعرض عني فأتيته عن يساره فأعرض عني فأتيته من قبل وجهه فقلت:
«يا رسول اللَّه إن الرّبّ ليترضّى فيرضى فارض عنّي رضي اللَّه عنك» . قال: «قد رضيت عنك» [ (2) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
بنو الرؤاس: [براء مضمومة فواو مهموزة فألف فسين مهملة] .
نفيع: بنون مضمومة ففاء مفتوحة فمثناة تحتية فعين مهملة.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 65.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 45.(6/340)
عقيل: بعين مهملة مفتوحة فقاف فمثناة تحتية فلام.
المنتفق: بميم مضمومة فنون ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة ففاء مكسورة فقاف.
الكماة: جمع كمي كغنيّ لابس السلاح من أكمى نفسه سترها بالدّرع والبيضة.
القلانس: جمع قلنسوة بفتح القاف واللام: ما يلبس على الرأس.
المحرس: [بضم الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الراء فسين مهملة] .
الغلّ: بغين معجمة مضمومة فلام مشددة: الحديدة التي تجمع يديّ الأسير إلى عنقه.
اختلّه: بخاء معجمة فمثناة فوقية أي أنفذ الطعنة من الجانب الآخر.
تربة: [بمثناة فوقية مضمومة فراء فموحدة مفتوحتين فتاء تأنيث] .(6/341)
الباب التاسع والأربعون في وفود زبيد إليه صلى اللَّه عليه وسلم
ولما كانت السنة التي توفي فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، رأت زبيد قبائل اليمن تقدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مقرّين بالإسلام مصدّقين برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، يرجع راجعهم إلى بلادهم وهم علي ما هم عليه. وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم استعمل خالد بن سعيد بن العاص على صدقاتهم وأرسله مع فروة بن مسيك كما سيأتي فقال خالد: «واللَّه لقد دخلنا فيما دخل فيه الناس.
وصدّقنا بمحمد صلى اللَّه عليه وسلم، وخلّينا بينك وبين صدقات أموالنا، وكنا لك عونا على من خالفك من قومنا» .
قال خالد: قد فعلتم. قالوا: فأوفد منّا نفرا يقدمون على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويخبرونه بإسلامنا ويقبسونا منه خيرا. فقال خالد: ما أحسن ما عدتم إليه وإنا أجيبكم، ولم يمنعني أن أقول لكم هذا إلا أني رأيت وفود العرب تمرّ بكم فلا يهيجنّكم ذلك على الخروج فسيأتي ذلك منكم حتى ساء ظنّي فيكم وكنتم على ما كنتم عليه من حداثة عهدكم بالشّرك فحسبت أن يكون الإسلام راسخا في قلوبكم.
الباب الخمسون في وفود بني سحيم إليه صلى اللَّه عليه وسلم
روى المرشاطي عن أبي عبيدة رضي اللَّه تعالى عنه أن الأسود بن سلمة قدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في وفد بني سحيم فأسلم فردّهم إلى قومهم وأمرهم أن يدعوهم إلى الإسلام وأعطاهم إداوة ماء قد تفل فيها أو مجّ وقال: «فلينضحوا بهذه الإداوة مسجدهم وليرفعوا رؤوسهم» إذا رفعها اللَّه تعالى فما تبع مسيلمة منهم رجل ولا خرج منهم خارجيّ قط.(6/342)
الباب الحادي والخمسون في وفود بني سدوس إليه صلّى اللَّه عليه وسلم
روى البزار عن عبد اللَّه بن الأسود رضي اللَّه تعالى عنه قال: كنّا عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في وفد بني سدوس فأهدينا له تمرا فنثرناه إليه على نطع فأخذ حفنة من التّمر فقال: «أيّ تمر هذا؟» فجعلنا نسمي حتى ذكرنا تمرا فقلنا: هذا الجذامي، فقال: «بارك اللَّه في الجذاميّ وفي حديقة يخرج هذا منها أو جنّة خرج هذا منها» [ (1) ] .
الباب الثاني والخمسون في وفود بني سعد هذيم إليه صلى اللَّه عليه وسلم
روى محمد بن عمر الأسلمي عن ابن النعمان عن أبيه قال: قدمت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وافدا في نفر من قومي وقد أوطأ رسول اللَّه البلاد غلبة وأذاخ العرب، والناس صنفان: إما داخل في الإسلام راغب فيه، وإما خائف من السّيف، فنزلنا ناحية من المدينة ثم خرجنا نؤمّ المسجد حتى انتهينا إلى بابه، فنجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يصلي على جنازة في المسجد فقمنا خلفه ناحية ولم ندخل مع الناس في صلاتهم وقلنا حتى نلقى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ونبايعه،
ثم انصرف صلى اللَّه عليه وسلم فنظر إلينا فدعا بنا فقال: «ممّن أنتم؟» قلنا: من بني سعد هذيم فقال:
«أمسلمون أنتم؟» قلنا: نعم. قال: «فهلّا صلّيتم على أخيكم؟» قلنا: يا رسول اللَّه ظننا إن ذلك لا يجوز لنا حتى نبايعك فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «أينما أسلمتم فأنتم مسلمون» .
قال: فأسلمنا وبايعنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بأيدينا على الإسلام ثم انصرفنا إلى رحالنا وقد كنا خلّفنا عليها أصغرنا. فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في طلبنا فأتي بنا إليه، فتقدّم صاحبنا فبايعه على الإسلام. فقلنا: يا رسول اللَّه إنه أصغرنا وإنه خادمنا،
فقال: «أصغر القوم خادمهم، بارك اللَّه عليه» .
قال: فكان واللَّه خيرنا وأقرأنا للقرآن لدعاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم له، ثم أمره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم علينا: فكان يومّنا. ولما أردنا الانصراف أمر بلالا فأجازنا بأواقيّ من فضّة لكل رجل منا فرجعنا إلى قومنا فرزقهم اللَّه عز وجل الإسلام.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
أوطأ: بفتح الهمزة في أوله وآخره وسكون الواو وبالطاء المهملة: أي قهرهم وجعلهم يوطأون قهرا وغلبة.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 43 وعزاه للبزار والطبراني بنحوه وقال: وفيه جماعة لم يعرفهم العلائي ولم أعرفهم.(6/343)
أذاخ البلاد: بفتح الهمزة والذال المعجمة وبعد الألف خاء معجمة يذيخها إذا قهرها واستولى عليها وكذلك دوّخ البلاد.
إمّا: بكسر الهمزة وتشديد الميم وكذا الثانية الآتية.
نؤمّ: بفتح النون وضم الهمزة وتشديد الميم: نؤم المسجد أي نقصده.
يصلّي على جنازة في المسجد: قال في النور: يحتمل أن صاحب الجنازة سهيل ابن بيضاء فإن قدوم هذا الوفد كان في سنة تسع وسهيل توفي فيها في مقدمة من تبوك ولا أعلمه صلى في جنازة في المسجد إلا عليه. ووقع في صحيح مسلم أنه صلى على سهيل وأخيه في المسجد ففيه أنه إن كان المراد به سهلا فلا يصح لأنه مات بعد النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله محمد بن عمر [الواقدي] وكونه صفوانا فيه نظر أيضا لأنه استشهد ببدر، والصواب حديث عبادة في مسلم الذي فيه إفراد سهيل لا الحديث الذي بعده. هذا في المسجد النبوي. وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد بني معاوية على أبي الربيع عبيد الله بن عبد الله بن ثابت بن قيس وكان قد شهد أحدا.
خلّفنا: بتشديد اللام.
أتي بنا: بالبناء للمفعول.
أمّره: بتشديد الميم من التأمير.
أواقيّ: بتشديد التحتية وتخفّف.(6/344)
الباب الثالث والخمسون في وفود بني سلامان إليه صلى الله عليه وسلم
قال محمد بن عمر رحمه الله تعالى: كان مقدمهم في شوال سنة عشر.
وروى ابن سعد عن حبيب بن عمر والسلاماني كان يحدّث قال: قدمنا وفد سلامان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن سبعة فصادفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا من المسجد إلى جنازة دعي إليها فقلنا: السلام عليك يا رسول الله. فقال: «وعليكم من أنتم؟» فقلنا: نحن من سلامان قدمنا إليك لنبايعك على الإسلام ونحن على من وراءنا من قومنا. فالتفت إلى ثوبان غلامه فقال: «أنزل هؤلاء الوفد حيث ينزل الوفد» .
فلما صلى الظهر جلس بين المنبر وبيته فتقدمنا إليه فسألناه عن أشياء من أمر الصلاة وشرائع الإسلام وعن الرقى، وأسلمنا وأعطى كل رجل منا خمس أواقيّ ورجعنا إلى بلادنا وذلك في شوال سنة عشر.
وروى أبو نعيم من طريق محمد بن عمر عن شيوخه أن وفد سلامان قدموا في شوال سنة عشر فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف البلاد عندكم؟» قالوا: مجدبة فادع الله أن يسقينا في موطننا. فقال: «اللهم اسقهم الغيث في دارهم» . فقالوا: يا نبي الله ارفع يديك فإنه أكثر وأطيب، فتبسّم ورفع يديه حتى يرى بياض إبطيه، ثم رجعوا إلى بلادهم فوجدوها قد مطرت في اليوم الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الساعة [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
سلامان: بفتح السين المهملة وتخفيف اللام.
حبيب: بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة.
أسقهم: يجوز جعله ثلاثيا ورباعيا فعلى الأول توصل الهمزة وعلى الثاني تقطع.
ما أكثر هذا: منصوب على التعجب.
وأطيبه: معطوف عليه.
مطرت: يجوز بناؤه للفاعل والمفعول أيضا.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل (160) وابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 43.(6/345)
الباب الرابع والخمسون في وفود بني سليم إليه صلّى الله عليه وسلم
قالوا: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني سليم يقال له: قيس بن نسيبة فسمع كلامه وسأله عن أشياء فأجابه ووعى ذلك كله ودعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلم ورجع إلى قومه بني سليم فقال: قد سمعت برجمة الروم وهينمة فارس وأشعار العرب وكهانة الكاهن وكلام مقاول حمير فما يشبه كلام محمد شيئا من كلامهم فأطيعوني وخذوا نصيبكم منه.
فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقوه بقديد وهم سبعمائة.
ويقال كانوا ألفا وفيهم العباس بن مرداس، وأنس بن عباس بن رعل، وراشد بن عبد ربه فأسلموا وقالوا: اجعلنا في مقدّمتك واجعل لواءنا أحمر وشعارنا مقدّما. ففعل ذلك بهم فشهدوا معه الفتح والطائف وحنينا وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم راشد بن عبد ربه رهاطا وفيها عين يقال لها عين الرسول. وكان راشد يسدن لبني سليم فرأى يوما ثعلبين يبولان عليه فقال:
أربّ يبول الثّعلبان برأسه ... لقد ذلّ من بالت عليه الثّعالب [ (1) ]
ثم شدّ عليه فكسره.
ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: «ما اسمك؟» قال: غاوي بن عبد العزى قال: «أنت راشد بن عبد ربه» . فأسلم وحسن إسلامه وشهد الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير قرى عربيّة خيبر وخير بني سليم راشد» [ (2) ] .
وعقد له على قومه.
وروى ابن سعد عن رجل من بني سليم من بني الشريد قالوا: وفد رجل منا يقال له قُدد بن عمّار على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلم وعاهده على أن يأتيه بألف من قومه على الخيل.
ثم أتى قومه فأخبرهم الخبر فخرج معه تسعمائة وخلّف في الحيّ مائة فأقبل بهم يريد النبي صلى الله عليه وسلم فنزل به الموت فأوصى إلى ثلاثة رهط من قومه: إلى عباس بن مرداس وأمّره على ثلاثمائة، وإلى جبّار بن الحكم وهو الفرّار الشّريدي وأمّره على ثلاثمائة، وإلى الأخنس بن يزيد وأمّره على ثلاثمائة وقال: ائتوا هذا الرجل حتى تقضوا العهد الذي في عنقي، ثم مات. فمضوا حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: «أين الرجل الحسن الوجه الطويل اللسان الصادق الإيمان؟» قالوا: يا رسول الله دعاه الله فأجابه وأخبروه خبره فقال: «أين تكملة الألف الذين عاهدني
__________
[ (1) ] البيت للعباس بن مرداس انظر ملحق ديوانه 151 ونسب أبي ذر انظر اللسان (ثعلب) وغيرهما انظر الدرر 4/ 104 جمهرة اللغة (1181) الهمع 2/ 22.
[ (2) ] أخرجه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 3/ 141.(6/346)
عليهم؟» قالوا: قد خلّف مائة بالحيّ مخافة حرب كانت بيننا وبين كنانة قال: «ابعثوا إليها فإنه لا يأتيكم في عامكم هذا شيء تكرهونه» . فبعثوا إليها فأتته بالهدّة وهي مائة عليها المنقع بن مالك بن أمية، فلما سمعوا وئيد الخيل قالوا: يا رسول الله أتينا قال: «لا بل لكم لا عليكم هذه سليم بن منصور قد جاءت» . فشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفتح وحنينا [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
سليم: [بضم السين المهملة وفتح اللام وسكون المثناة التحتية فميم] .
نسيبة: [بضم النون وفتح السين المهملة وسكون المثناة التحتية وفتح الموحدة فتاء تأنيث] .
ترجمة: بمثناة فوقية مفتوحة فراء ساكنة فجيم فميم: نقل لغة إلى لغة أخرى.
هينمة: بهاء مفتوحة ساكنة فنون فميم فتاء تأنيث: كلام خفيّ لا يفهم والياء زائدة.
رهاط: [بضم أوله قرية على ثلاثة أميال من مكة] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 234.(6/347)
الباب الخامس والخمسون في وفد بني شيبان إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد عن قيلة بنت مخرمة قالت: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وفد شيبان، وهو قاعد القرفصاء، فلما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم متخشّعا في الجلسة أرعدت من الفرق. فقال جليسه: يا رسول الله أرعدت المسكينة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينظر إليّ وأنا عند ظهره:
«يا مسكينة عليك السّكينة» . فلما قالها أذهب الله ما كان أدخل قلبي من الرعب.
وتقدّم صاحبي أوّل رجل فبايعه على الإسلام عليه وعلى قومه، ثم قال: يا رسول الله اكتب بيننا وبين بني تميم بالدّهناء لا يجاوزنا إلينا منهم إلا مسافر أو مجاور. فقال: «يا غلام اكتب له بالدهناء» .
فلما رأيته أمر له بأن يكتب له بها شخص بي وهي وطني وداري، فقلت: يا رسول الله إنه لم يسألك السّويّة من الأرض إذ سألك، إنما هذه الدهناء عندك مقيّد الجمل ومرعى الغنم، ونساء تميم وأبناؤها وراء ذلك. فقال: «أمسك يا غلام، صدقت المسكينة المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشّجر، ويتعاونان على الفتّان» . فلما رأى حريث أن قد حيل دون كتابه ضرب بإحدى يديه على الأخرى وقال: كنت أنا وأنت كما قيل: «حتفها تحمل ضأن بأظلافها» فقلت: أمّا والله إن كنت لدليلا في الظلماء، جوادا بذي الرّحل عفيفا عن الرفيقة حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن لا تلمني على حظّي إذ سألت حظّك. فقال: وما حظّك في الدهناء لا أبا لك؟ فقلت: مقيّد جملي تسأله لجمل امرأتك.
فقال: لا جرم إني أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أني لك أخ ما حييت، إذ أثنيت هذا عليّ عنده فقلت: إذ بدأتها فلن أضيعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيلام ابن ذه أن يفصل الخطّة وينتصر من وراء الحجرة» ، فبكيت ثم قلت: والله كنت ولدته يا رسول الله حازما فقاتل معك يوم الرّبذة، ثم ذهب يحيرني من خيبر فأصابته حمّاها وترك على النساء. فقال: «والذي نفس محمد بيده لو لم تكوني مسكينة لجرّرناك اليوم على وجهك أو لجررت على وجهك» شكّ عبد الله، «أيغلب أحيدكم أن يصاحب صويحبة في الدنيا معروفا فإذا حال بينه وبينه من هو أولى به منه استرجع» . ثم قال: «ربّ أنسني ما أمضيت وأعنّي على ما أبقيت، والذي نفس محمد بيده إن أحيدكم ليبكي فيستعبر إليه صويحبه فيما عباد الله لا تعذّبوا إخوانكم» وكتب لها في قطعة من أديم أحمر لقيلة وللنّسوة بنات قيلة: «ألّا يظلمن حقّا ولا يكرهن على منكح، وكل مؤمن مسلم لهنّ نصير أحسنّ ولا تسئن» [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 58 وذكره الهيثمي في المجمع 6/ 14، 15.(6/348)
الباب السادس والخمسون في وفود صداء إليه صلى الله عليه وسلم
روى البغوي والبيهقي وابن عساكر وحسّنه عن زياد بن الحارث الصدائي رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته على الإسلام فأخبرت أنه قد بعث جيشا إلى قومي.
قال ابن سعد رحمه الله تعالى: «لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة سنة ثمان بعث قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن وأمره أن يطأ صداء، فعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين» انتهى.
قال زياد بن الحارث الصدائي فقلت: يا رسول الله قد جئتك وافدا على من ورائي فارد الجيش وأنا لك بإسلامي قومي وطاعتهم. فقال لي: «اذهب فردّهم» .
فقلت:
يا رسول الله إن راحلتي قد كلّت. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فردّهم من صدر قناة قال زياد:
وكتب إلى قومي كتابا فقدم وفدهم بإسلامهم. وعند ابن سعد: فقدم منهم بعد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة عشر رجلا منهم. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله دعهم ينزلوا عليّ فنزلوا عليه فحباهم وأكرمهم وكساهم ثم راح بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على من وراءهم من قومهم انتهى.
قال زياد: فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أخا صداء إنك لمطاع في قومك» . قال:
فقلت: بل الله هداهم للإسلام. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلا أؤمّرك عليهم؟» فقلت: بلى يا رسول الله. فكتب لي كتابا أمّرني فيه. فقلت: يا رسول الله مر لي بشيء من صدقاتهم. قال:
«نعم» فكتب لي كتابا آخر. قال زياد: وكان ذلك في بعض أسفاره. ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا فأتاه أهل ذلك المنزل يشكون عاملهم ويقولون: أخذنا بكل شيء بيننا وبين قومه في الجاهلية.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفعل ذلك؟» قالوا: نعم. فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأنا فيهم فقال: «لا خير في الإمارة لرجل مؤمن» .
قال زياد: فدخل قوله في قلبي. ثم أتاه آخر فقال: يا رسول الله أعطني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يسأل الناس عن غنى فصداع في الرأس وداء في البطن» . فقال السائل:
اعطني من الصدقة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل لم يرض فيها بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها فجزّأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك وإن كنت غنيّا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن» .(6/349)
قال زياد: فدخل في نفسي أني سألته من الصدقات وأني غني. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتشى من أوّل الليل فلزمت [غرزه] وكنت قريبا منه فكان أصحابه ينقطعون عنه ويستأخرون عنه حتى إذا لم يبق معه أحد غيري فلما كان أذان صلاة الصبح أمرني فأذنت فجعلت أقوال أقم الصلاة يا رسول الله،
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ناحية المشرق إلى الفجر ويقول لا، حتى إذا طلع الفجر نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب لحاجته، ثم انصرف إلى وتلاحق أصحابه فقال:
«هل من ماء يا أخا صداء؟» فقلت: لا إلا شيء قليل لا يكفيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجعله في إناء ثم ائتني به» . ففعلت، فوضع كفّه في الماء. فقال زياد: فرأيت بين كل أصبعين من أصابعه عينا تفور. ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أخا صداء لولا إني أستحي من ربي عز وجل لسقينا واستقينا ناد في أصحابي من له حاجة في الماء» . فناديت فيهم. فأخذ من أراد منهم شيئا.
ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فأراد بلال أن يقيم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن أخا صداء هذا أذّن فهو يقيم» . قال الصّدائي: فأقمت الصلاة. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة أتيته بالكتابين فقلت: يا رسول الله اعفني من هذين الكتابين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بدا لك؟» فقلت: سمعتك يا رسول الله تقول: «لا خير في الإمارة لرجل مؤمن» وأنا مؤمن بالله تعالى ورسوله، وسمعتك تقول للسائل: «من سأل الناس عن غني فصداع في الرأس وداء في البطن» وقد سألتك وأنا غني.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو ذاك فإن شئت فاقبل وإن شئت فدع» . فقلت: أدع. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فدلّني على رجل أؤمّره عليكم» . فدللته على رجل من الوفد الذين قدموا عليه فأمّره عليهم.
ثم قلنا: يا رسول الله إن لنا بئرا إذا كان الشتاء كفانا ماؤها واجتمعنا عليها وإذا كان الصيف قلّ ماؤها فتفرقنا على المياه حولنا، وكلّ من حولنا لنا عدوّ فادع الله لنا في بئرنا أن يسعنا ماؤها فنجتمع عليها ولا نتفرّق. فدعا بسبع حصيّات ففركهنّ بيده ودعا فيهن ثم قال:
«اذهبوا بهذه الحصيّات فإذا أتيتم البئر فالقوا واحدة واحدة واذكروا اسم الله تعالى» [ (1) ] .
قال زياد الصّدائي: ففعلنا ما قال فما استطعنا بعد ذلك أن ننظر إلى قعرها.
وعند ابن سعد: ورجعوا أي الخمسة عشر إلى بلادهم ففشا فيهم الإسلام فوافى النبي صلى الله عليه وسلم مائة رجل منهم في حجة الوداع.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 63 والطبراني في الكبير 5/ 303 والبيهقي في الدلائل 5/ 355 وذكره الهيثمي في المجمع 5/ 206 والمتقي الهندي في الكنز (37075) .(6/350)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
صداء: بضم الصاد وفتح الدال المهملتين والمدّ: حيّ من العرب، باليمن.
الجعرانة وقناة: تقدم الكلام عليهما.
فشا فيهم الإسلام: ظهر وذاع.
الغرز: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وبالزاي: ركاب كور البعير إن كان من خشب أو جلد.
الأداوى: جمع إداوة إناء صغير من جلد يتّخذ للماء كالسّطيحة ونحوها.
القعب: بفتح القاف وسكون العين المهملة وبالموحدة: وهو القدح الضخم.
الوضوء: بفتح الواو الماء وبالضم الفعل الذي هو المصدر ويجوز العكس، والله أعلم.(6/351)
الباب السابع والخمسون في وفود الصّدف إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد عن جماعة من الصدف قالوا: قدم وفدنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بضعة عشر رجلا، على قلائص لهم في أزر وأردية فصادفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين بيته وبين المنبر فجلسوا ولم يسلّموا. فقال: «أمسلمون أنتم؟» قالوا: نعم. قال: «فهلّا سلّمتم؟» فقاموا قياما، فقالوا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فقال: «وعليكم السلام، اجلسوا» .
فجلسوا وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أوقات الصلاة فأخبرهم بها [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
الصّدف: [بفتح الصاد وكسر الدال المهملتين ففاء] .
الباب الثامن والخمسون في وفود أبي صفرة إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن منده، وابن عساكر، والدّيلمي عن محمد بن غالب بن عبد الرحمن بن يزيد بن المهلب بن أبي صفرة قال: حدثني أبي عن آبائه أن أبا صفرة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم علي أن يبايعه، وعليه حلّة صفراء وله طول ومنظر وجمال وفصاحة لسان [فلما رآه أعجبه ما رأى من جماله] فقال له: «من أنت؟» قال: أنا قاطع بن سارق بن ظالم بن عمر بن شهاب بن مرة بن الهقام بن الجلند بن المستكبر الذي كان يأخذ كل سفينة غصبا، أنا ملك ابن ملك.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت أبو صفرة دع عنك سارقا وظالما» . فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أنك عبده ورسوله حقا حقا يا رسول الله، وإن لي ثمانية عشر ذكرا وقد رزقت بأخرة بنتا سمّيتها صفرة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأنت أبو صفرة» [ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 248.
[ (2) ] ذكره المتقي الهندي في الكنز (37573) .(6/352)
الباب التاسع والخمسون في وفود ضمام بن ثعلبة إليه صلى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي رحمهم الله تعالى من طريق سليمان ابن المغيرة عن ثابت، والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن شريك بن عبد اللَّه كلاهما عن أنس وأبو القاسم عبد اللَّه بن محمد البغوي عن الزهري، والإمام أحمد وابن سعد وأبو داود عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهم، قال أنس في رواية ثابت: «نهينا في القرآن أن نسأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن شيء كان يعجبنا أن نجد الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع» . وفي رواية شريك: «بينا نحن جلوس مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم» ، وفي حديث أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: «بينا النبي صلى اللَّه عليه وسلم مع أصحابه متكئا، أو قال جالسا في المسجد إذ جاء رجل على جمل فأناخه في المسجد ثم عقله» وفي حديث ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: «بعث بنو سعد بن بكر، ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد ثم دخل المسجد ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جالس في أصحابه، وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين فأقبل حتى انتهى إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم» قال أنس في رواية شريك:
«فقال: أيّكم محمد؟» وفي حديث ابن عباس: «أيّكم ابن عبد المطلب؟» والنبي صلى اللَّه عليه وسلم متّكئ بين ظهرانيهم، فقلنا له: هذا الأبيض المتكئ» .
وفي رواية: «جاءهم رجل من أهل البادية فقال: أيّكم ابن عبد المطلب؟ قالوا: هذا الأمغر المرتفق. قال: فدنا منه وقال: إني سائلك فمشدّد عليك- وفي لفظ- فمغلظ عليك- في المسألة، فلا تجد علي في نفسك، قال: «لا أجد في نفسي فسل عمّا بدا لك» قال أنس في
رواية ثابت: فقال: يا محمد أتانا رسولك فقال لنا أنك تزعم أن اللَّه تعالى أرسلك؟ قال:
«صدق» . قال: فمن خلق السماء؟ قال: «اللَّه» . قال: فمن خلق الأرض؟ قال: «اللَّه» . قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: «اللَّه» .
وقال أبو هريرة وأنس في رواية شريك، فقال. «أسألك بربّك وربّ من قبلك» ، وفي حديث ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: «فأنشدك اللَّه إلهك وإله من قبلك وإله من هو كائن بعدك» ، وفي رواية عن أنس فقال: «فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال» ،
قال ابن عباس في حديثه: «اللَّه أمرك أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا وأن ندع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون؟ قال: «اللهم نعم» .(6/353)
وفي رواية ثابت عن أنس فقال: «فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال»
وفي حديث أبي هريرة ورواية شريك عن أنس: «أسألك بربّك وربّ من قبلك ورب من بعدك اللَّه أرسلك إلى الناس كلهم؟» فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «اللهم نعم» .
وفي رواية ثابت عن أنس قال: «وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا» . قال: «صدق» . قال: «فبالذي أرسلك» ،
وفي رواية شريك عن أنس قال: «أنشدك باللَّه» .
وفي حديث ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: «فأنشدك اللَّه إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك اللَّه أمرك أن تصلي هذه الصلوات الخمس؟ قال: «اللهم نعم» .
وفي رواية ثابت عن أنس قال: «وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا» . قال:
«صدق» .
وفي حديث أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: «أنشدك باللَّه اللَّه أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فترده على فقرائنا؟» فقال: «اللهم نعم» . قال: «فبالذي أرسلك» ،
وفي رواية شريك: «أنشدك اللَّه اللَّه أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟» فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «اللهم نعم» .
وفي رواية ثابت: «وزعم رسولك أن علينا صوم شهر في سنتنا» . قال: «صدق» . قال:
«فبالذي أرسلك» ،
وفي رواية شريك: «وأنشدك اللَّه اللَّه أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟»
وفي حديث أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: «من اثني عشر شهراً؟» فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
«اللهم نعم» .
وفي رواية ثابت قال: «وزعم رسولك أن علينا حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا» . قال:
«نعم» .
وفي حديث ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: «ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة فريضة الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها ينشده عن كل فريضة منها كما ينشده عن التي قبلها حتى إذا فرغ قال: فإني أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا رسول اللَّه وسأؤدّي هذه الفرائض وأجتنب ما تنهينّي عنه ثم لا أزيد ولا أنقص» .
وفي رواية شريك: «آمنت بما جئت به وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر» . وفي حديث أبي هريرة: «وأمّا هذه الهناة فو اللَّه إن كنّا لنتنزّه عنها في الجاهلية» .
وفي رواية ثابت: «ثم ولّى فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهم ولا أنقص منهن شيئا» . فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إن صدق ليدخلنّ الجنّة» . وفي حديث ابن عباس: «إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة» .
وفي حديث أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: «فلما أن ولى قال(6/354)
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «فقه الرجل» .
وقال: «فكان عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه يقول: «ما رأيت أحدا أحسن مسألة ولا أوجز من ضمام بن ثعلبة» . فأتى بعيره فأطلق عقاله ثم خرج حتى قدم على قومه فاجتمعوا إليه، فكان أول ما تكلم به: بئست اللات والعزّى. فقالوا: مه يا ضمام! اتّق البرص، اتّق الجذام، اتّق الجنون. فقال: «ويلكم» ! إنهما واللَّه لا يضرّان ولا ينفعان، إن اللَّه قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا فأستنقذكم به مما كنتم فيه وإني أشهد ألا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وان محمداً عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به وما نهاكم عنه» . قال:
«فو اللَّه ما أمسى من ذلك اليوم في حاضره رجل أو امرأة إلا مسلما» . زاد ابن سعد: «وبنوا المساجد وأذّنوا بالصلوات» . قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من ضمام بن ثعلبة.
تنبيهات
الأول: قال في البداية: وفي سياق حديث ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه ما يدل على أنه رجع إلى قومه قبل الفتح لأن العزّى هدمها خالد بن الوليد رضي اللَّه تعالى عنه أيام الفتح.
الثاني: قال أبو الربيع: اختلف في الوقت الذي وفد فيه ضمام هذا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقيل سنة خمس ذكره الواقدي وغيره، وقيل سنة تسع، واللَّه أعلم أي ذلك كان.
الثالث: قوله: «أن يحجّ هذا البيت من استطاع إليه سبيلا» ، قال في الهدي: ذكر الحج في هذه القصة يدل على أن قدوم ضمام كان بعد فرض الحجّ، وهذا بعيد، والظاهر أن هذه اللفظة مدرجة من كلام بعض الرواة.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:.
ضمام: بضاد معجمة مكسورة فميمين بينهما ألف، وهو الذي قال فيه طلحة بن عبيد اللَّه: جاءنا أعرابي من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دويّ صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام» . الحديث رواه مالك في الموطأ عن عمّه عن جده عن طلحة الجلد: بجيم مفتوحة فلام ساكنة فدال مهملة: صلب حديد.
الغديرة: بغين معجمة مفتوحة فدال مهملة مكسورة فتحتية ساكنة فراء فتاء تأنيث.
الأمغر: بفتح الهمزة وسكون الميم وفتح الغين المعجمة وبالراء: الأبيض المشرب بحمرة.(6/355)
المرتفق: بميم مضمومة فراء ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة ففاء مكسورة فقاف: المتّكئ، بهمزة في آخره.
بدا لك: غير مهموز، أي ظهر لك.
أنشدك: بفتح الهمزة وسكون النون وضم الشين المعجمة: أي أسألك.
آللَّه: بمدّ الهمزة على الاستفهام، وكذا ما بعده.
الهناة: بفتح الهاء وتخفيف النون في آخره تاء: الفواحش.
العقيصة: بعين مهملة مفتوحة فقاف مكسورة فتحتية ساكنة فصاد مهملة: الشّعر المعقوص، أي الملتوي.
فقه: الرجل بضم القاف وكسرها صار فقيها، واللَّه أعلم.(6/356)
الباب الستون في وفود طارق بن عبد الله إليه صلى اللَّه عليه وسلم
روى البيهقي رحمه اللَّه عن طارق بن عبد اللَّه رضي اللَّه تعالى عنه قال: «إني لقائم» .
بسوق ذي المجاز إذ أقبل رجل عليه جبّة له وهو يقول: أيها الناس قولوا لا إله إلا اللَّه تفلحوا، ورجل يتبعه برميه بالحجارة يقول: أيها الناس إنه كذّاب فلا تصدّقوه.
فقلت: من هذا؟ فقالوا:
هذا غلام من بني هاشم يزعم أنه رسول اللَّه. قال: فقلت: من ذا الذي يفعل به هذا؟ قالوا: عمّه عبد العزّي. قال: فلما أسلم الناس وهاجروا خرجنا من الرّبذة نريد المدينة نمتار من تمرها.
فلما دنونا من حيطانها ونخلها قلنا لو نزلنا فلبسنا ثيابا غير هذه، فإذا رجل في طمرين له فسلّم وقال: من أين أقبل القوم؟ قلنا من الرّبذة. قال: وأين تريدون؟ قلنا: نريد المدينة. قال: ما حاجتكم فيها؟ قلنا: نمتار من تمرها. قال: معنا ظعينة لنا ومعنا جمل أحمر مخطوم، فقال:
أتبيعوني جملكم هذا؟ قالوا: نعم بكذا وكذا صاعا من تمر. قال: فما استوفينا مما قلنا شيئا حتى أخذ بخطام الجمل وانطلق به، فلما توارى عنا بحيطان المدينة ونخلها قلنا ما صنعنا واللَّه ما بعنا جملنا ممّن نعرف ولا أخذنا له ثمنا.
فقالت المرأة التي معنا: لا تلاوموا فلقد رأيت وجه رجل لا يغدر بكم، واللَّه لقد رأيت رجلا كأن وجهه شقّة القمر ليلة البدر، أنا ضامنة لثمن جملكم، إذا أقبل رجل فقال: أنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إليكم، هذا تمركم فكلوا واشبعوا واكتالوا واستوفوا: فأكلنا حتى شبعنا واكتلنا واستوفينا، ثم دخلنا المدينة، فلما دخلنا المسجد فإذا هو قام على المنبر يخطب الناس فأدركنا من خطبته وهو يقول: «تصدّقوا فإن الصدقة خبر لكم: اليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول أمّك وأباك وأختك وأخاك وأدناك أدناك» فأقبل رجل في نفر من بني يربوع، أو قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول اللَّه إن لنا في هؤلاء دما في الجاهلية فقال: «لا تجني أن على ولد» ثلاث مرات [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
ذو المجاز، والرّبذة، والرظعينة: تقدم الكلام عليها.
بنو يربوع: [بمثناة تحتية مفتوحة فراء ساكنة فموحدة فواو فعين مهملة] .
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 6/ 25 وعزاه للطبراني وقال فيه أبو حباب الكلبي وهو مدلس وقد وثقه ابن حبان وبقية رجاله رجال الصحيح.(6/357)
الباب الحادي والستون في وفود طيء مع زيد الخيل إليه صلى اللَّه عليه وسلم
روى ابن سعد عن أبي عمير الطائي، وكان يتيم الزّهري وعن عبادة الطائي عن أشياخهم قالوا: قدم وفد طيّء على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خمسة عشر رجلا، رأسهم وسيّدهم زيد الخير، وهو زيد الخيل بن مهلهل من بني نبهان، وفيهم وزر بن جابر بن سدوس، وقبيصة بن الأسود بن عامر من جرم طيء، ومالك بن عبد اللَّه بن خيبري من بني معن، وقعين بن خليف من جديلة، ورجل من بني بولان فدخلوا المدينة ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في المسجد، فعقلوا رواحلهم بفناء المسجد ثم دخلوا فدنوا من رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا وحسن إسلامهم وأجازهم بخمس أواق فضة كل رجل منهم وأعطي زيد الخيل اثنتي عشرة أوقية ونشّا،
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «ما ذكر رجل من العرب إلا رأيته دون ما ذكر لي إلا ما كان من زيد الخيل فإنه لم يبلغ كل ما فيه» .
وسمّاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم زيد الخير، وقطع له فيد وأرضين وكتب له بذلك كتابا ورجع مع قومه،
وفي لفظ: فخرج به من عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم راجعا إلى قومه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إن ينج زيد من حمّى المدينة فإنه» ،
قال بعض الشراح إن جواب إن ينج محذوف والتقدير فإنه لا يعاب. قال: في زاد المعاد، وفي العيون، لما أحسّ بالموت أنشد يقول:
أمر تحل قومي المشارق غدوة ... وأترك في بيت بفردة منجد
ألا ربّ يوم لو مرضت لعادني ... عوائد من لم يبر منهنّ بجهد
فلما انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه يقال له فردة- وفي لفظ فرد- أصابته الحمّى بها فمات هناك وعمدت امرأته بجهلها وقلة عقلها إلى ما كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، كتب له به فحرقته بالنار.
وذكر ابن دريد عن أبي محسن أن زيدا أقام بفردة ثلاثة أيام ومات، فأقام عليه قبيصة بن الأسود المناحة سنة، ثم وجّه براحلته ورحله وفيها كتاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فلما رأت امرأته الراحلة ليس عليها زيد ضرّمتها بالنار فاحترقت واحترق الكتاب.
وروى الشيخان عن أبي سعيد [الخدري] رضي اللَّه تعالى عنه أن عليا كرم اللَّه وجهه «بعث إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصّل من ترابها فقسمها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر، وأقرع بن حابس وزيد الخيل وعلقمة بن غيلان» [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 326 (4351) ومسلم 2/ 742 (144/ 1064) .(6/358)
وروى شاهين وابن عديّ، وقال منكر، وابن عساكر واللفظ لهما عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه قال: كنا عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأقبل راكب فأناخ فقال: يا رسول اللَّه إني أتيتك من مسيرة تسع أنضيت راحلتي وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري لأسألك عن خصلتين أسهرتاني فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «ما اسمك؟» فقال: أنا زيد الخيل. قال: «بل أنت زيد الخير، فسل، فربّ معضلة قد سئل عنها» . فقال: أسألك عن علامة اللَّه فيمن يريد وعن علامته فيمن لا يريد. فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «كيف أصبحت؟» فقال: أصبحت أحبّ الخير وأهله ومن يعمل به وإن عملت به أيقنت بثوابه، وإن فاتني منه شيء حننت إليه. فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «هذه علامة اللَّه فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد، ولو أرادك بالأهدى هيّأ لك لها ثم لا تبالي من أي واد هلكت» وفي لفظ «سلكت» [ (1) ] .
وروى أبو نعيم في الحلية عنه أن رجلا قال: يا رسول اللَّه أسألك عن علامة اللَّه فيمن يريد، وعلامته فيمن لا يريد [ (2) ] .
وروى ابن سعد عن أشياخ من طيء قالوا: قدم عمرو بن المسبّح بن كعب بن طريف بن عصر الطائي على النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو يومئذ بن مائة وخمسين سنة فسأله عن الصّيد فقال له: «كل ما أصميت ودع ما أنميت» [ (3) ] ،
وكان من أرمى العرب.
تنبيهان
الأول: ذكر ابن إسحاق، ومحمد بن عمر، وابن سعد أن زيدا توفي في حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلم كما سبق، وحكى أبو عمر أنه مات في خلافة عمر رضي اللَّه تعالى عنه، وأنشد له وثيمة بن موسى في الردّة قال وبعث بها إلى أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه. قال الحافظ: وهذا إن ثبت يدل على انه تأخرت وفاته حتى مات النبي صلى اللَّه عليه وسلم.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:.
زيد الخيل: قل له زيد الخيل لخمسة أفراس كانت لديه.
سدوس: بسين مفتوحة فدال مضمومة فواو فسين مهملات.
قبيصة: بقاف مفتوحة فموحدة فمثناة تحتية فصاد مهملة.
بنو معن: بميم مفتوحة فعين مهملة فنون.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 109 وذكره الهيثمي في المجمع 7/ 197 وعزان للطبراني وقال وفيه عون بن عمارة وهو ضعيف وذكره المتقي الهندي في الكنز (30809) وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 6/ 37.
[ (2) ] أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 376.
[ (3) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 60 والطبراني في الكبير 12/ 27 وذكره الهيثمي في المجمع 4/ 162.(6/359)
لم يبلغ: بضم التحتية وسكون الموحدة وفتح اللام فغين معجمة.
فيد: بفتح الفاء وإسكان التحتية وبالدال المهملة: اسم مكان.
أرضين: بفتح الراء وتسكن في لغة.
إن ينج: بضم التحتية وسكون النون وفتح الجيم، مبني للمفعول.
أمّ ملدم: بكسر الميم وفتحها وسكون اللام وفتح الدال المهملة وأعجمها بعضهم:
الاسم الذي للحمّى وتفسير الراوي أمّ كلبة كما نقل عن كتاب معارك الفرسان لأبي عبيدة وقيل سباط بسين مهملة فموحدة فألف فطاء مهملة. ذكره أبو عبيد البكري في إعجامه، وهو من اللّدم وهو شدّة الضّرب. ويحتمل أن تكون أم كلبة مغيّرة عن كلبة بضم الكاف [أي] شدة الرّعدة وكلب البرد شديده، وأمّ كلبة بالهاء هي الحمّى، وأمّا أمّ كلب فشجيرة لها أرز حسن، وهي إذا حرّكت انثنى شوكها.
عمدت: بفتح الميم في الماضي وكسرها في المستقبل، ويجوز العكس.
أصميت: بهمزة مفتوحة فصاد ساكنة مهملة فميم مفتوحة فياء ساكنة فتاء: قتلت مكانه فزهقت روحه بسرعة.
مكنف: بضم الميم وسكون الكاف وكسر النون وبالفاء.
الفردة: بفتح الفاء وسكون الراء وبالدال المهملة وتاء تأنيث.
المناحة: [النّواح أو موضع النّوح] .
ضرّمتها: بضاد معجمة مفتوحة فراء مشددة مفتوحة فميم ففوقية فهاء أي أو قدتها من أضرم النار إذا أوقدها.(6/360)
الباب الثاني والستون في وفود بني عامر بن صعصعة إليه صلى الله عليه وسلم وقصة عامر بن الطفيل وأربد بن قيس.
روى ابن المنذر، وابن حاتم، وأبو نعيم، وابن مردويه، والبيهقي عن موله بن [كثيف] ابن حمل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، والحاكم عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه، وأبو نعيم عن عروة، والبيهقي عن ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر، فيهم عامر بن الطفيل، وأربد ابن قيس، وجبّار بن سلمى، وكان هؤلاء الثلاثة رؤساء القوم وشياطينهم [فقدم عامر بن الطفيل عدوّ الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد الغدر به]- قلت وجبّار بن سلمى هذا هو قاتل عامر بن فهيرة ببئر معونة وأسلم مع من أسلم من بني عامر والله أعلم- وقد قال لعامر بن الطّفيل قومه:
يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم. قال: والله لقد كنت آليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، أفأتبع عقب هذا الفتى من قريش؟ ثم قال الأربد: إذا قدمنا على الرجل فسأشغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسّيف.
وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فإن الناس إذا قتلت محمدا لم تزد على أن تلتزم بالدّية وتكره الحرب فسنعطيهم الدية، قال أربد: افعل. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن عباس: وانتهى إليه عامر وأربد، فجلسا بين يديه.
قال ابن إسحاق.
قال عامر بن الطفيل: يا محمد خالني. قال: «لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له»
قال: يا محمد خالّني، وجعل يكلّمه وينتظر من أربد ما كان أمره به. لعل أربد لا يحير شيئا. وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن يد أربد يبست على السيف فلم يستطع سلّه.
قال ابن إسحاق: فلما رأى عامر أربد ما يصنع شيئا قال: يا محمد خالني. قال: «لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له» .
وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فقال عامر: ما تجعل لي يا محمد إن أسلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم» . قال عامر: أتجعل لي الأمر بعدك إن أسلمت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنّة الخيل» . قال: أنا الآن في أعنّة خيل نجد، أتجعل لي الوبر ولك المدر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا» . فلما قاما عنه قال عامر: أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمنعك الله عز وجل [ (1) ] » .
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 5/ 319 وذكره ابن كثير في البداية 5/ 57 والهيثمي في المجمع 7/ 44 وعزاه للطبراني في الأوسط والكبير بنحوه.(6/361)
وفي حديث موله بن [كثيف] بن حمل: والله يا محمد لأملأنها عليك خيلا جردا ورجالا مردا ولأربطنّ بكل نخلة فرسا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اكفني عامرا» [ (1) ] .
زاد موله: «واهد قومه» .
قال ابن إسحاق: فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد: ويلك يا إربد:
أين ما كنت أمرتك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك وأيم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا. قال: لا أبالك لا تعجل علي، والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك، أفأضربك بالسيف؟.
وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فلما خرج أربد وعامر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بجرّة وأقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن الحضير فقالا: أشخصا يا عدوّا الله عز وجل لعنكما الله. فقال عامر: من هذا يا أربد؟ قال: هذا أسيد بن الحضير، فخرجا.
وروى البيهقي عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة رحمه الله، قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على عامر بن الطفيل ثلاثين صباحا: «اللهم اكفني عامر بن الطفيل بما شئت وابعث عليه داء يقتله» .
حتى إذا كان بالرّقم بعث الله تعالى على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول. فجعل يمسّ فرحته في حلقه ويقول يا بني عامر أغدّة كغدّة البكر في بيت امرأة من بني سلول [ (2) ] ؟.
زاد ابن عباس: يرغب أن يموت في بيتها. ثم ركب فرسه فأحضرها وأخذ رمحه وأقبل يجول، فلم تزل تلك حاله حتى سقط فرسه ميتا. قال ابن إسحاق: ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بني عامر شانّين. فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا: ما وراءك يا أربد؟ قال: لا شيء والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنّبل حتى أقتله. فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يتبعه، فأرسل الله عز وجل عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما. وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: حتى إذا كان بالرّقم أرسل الله تعالى عليه صاعقة فقتلته.
قال ابن عباس وابن إسحاق: وأنزل الله عز وجل في عامر وأربد: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [الرعد 8] من ذكر وأنثى وواحد ومتعدّد وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي ما
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 321 والطبراني في الكبير 6/ 155 وذكره الهيثمي في المجمع 6/ 126 وابن كثير في البداية 5/ 57.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 319.(6/362)
تنقص الأرحام من عدة الحمل وما تزداد منه. وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ أي بمقدار واحد لا يتجاوزه. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب وما شهد الْكَبِيرُ العظيم الْمُتَعالِ على خلقه بالقهر- بياء ودونها- سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي مستتر بظلمة الليل وسارب أي ظاهر بذهابه في سربه أي طريقه بالنهار. لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ له أي للإنسان، معقّبات ملائكة تعتقبه بين يديه: قدّامه، ومن خلفه: ورائه، يحفظونه من أمر الله أي بأمره من الجنّ وغيره. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ لا يسلبهم نعمته حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الحالة الجميلة بالمعصية. وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً عذابا فَلا مَرَدَّ لَهُ من المعقّبات وغيرها.
وَما لَهُمْ أي إن أراد الله بهم سوءا مِنْ دُونِهِ أي غير الله مِنْ زائدة والٍ يمنعه عنهم هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً للمسافر من الصواعق وَطَمَعاً للمقيم في المطر وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ أي يخلق السحاب الثقال بالمطر. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ الرعد هو ملك موكّل بالسحاب يسوقه يقول سبحان الله وبحمده يسبّح وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي من خشية الله تعالى. وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ وهي نار تخرج من السحاب فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيحرقه، نزل في رجل بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يدعوه فقال:
من رسول الله؟ ومن الله؟ أمن ذهب هو أم من فضّة أو نحاس؟ فنزلت به صاعقة فذهبت بقحف رأسه. وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وهم أي الكفّار، يجادلون أي يخاصمون النبي صلى الله عليه وسلم في الله وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ أي القوّة والأخذ.
تنبيهات
الأول: قد اختلف في سبب نزول قوله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ وقوله: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ وغير ذلك مما محلّه كتب التفسير.
الثاني: قال في البداية: والظاهر أن قصة عامر بن الطفيل متقدمة على الفتح وإن كان ابن إسحاق والبيهقي قد ذكراها بعد الفتح.
الثالث: من العجائب والغرائب ذكر الحافظ المستغفري أن عامر بن الطفيل هذا في الصحابة وغلطوه في ذلك، والموقع له فيه ما رواه من طريق القاسم عن أبي أمامة عن عامر بن الطفيل أنه قال: يا رسول الله زوّدني كلمات [أعيش بهن] قال: «يا عامر أفش السلام وأطعم الطعام واستحي من الله كما تستحي رجلا من أهلك وإذا أسأت فأحسن فإن الحسنات يذهبن السيِّئات» فعامر هذا أسلمي لا عامريّ. فقد روى البغوي عن عبد الله بن بريدة الأسلمي قال:
حدثني عمّي عامر بن الطفيل فذكر حديثا فعرف أن الصحابي أسلمي وافق اسمه واسم أبيه(6/363)
العامري فكان ذلك سبب وهم المستغفري فساق في نسب الصحابي نسب عامر بن الطفيل العامري.
وعن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح وهو قبّة له حمراء فقال: «من أنتم» قلنا: بنوا عامر فقال: «مرحبا أنتم منّي» ، وفي رواية: «مرحبا بكم» ، وفي رواية «فأنا منكم» . رواه الطبراني أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير الحجّاج بن أرطاة فهو مدلّس [ (1) ] .
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
أربد: بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الموحدة وبالدال المهملة: مات كافرا كما سيأتي.
جبّار بن سلمى: جبّار بفتح الجيم وتشديد الموحدة وبالراء، سلمى بضم السين وسكون اللام. وقال في الإملاء يروى هنا بفتح السين وضمها والصواب بفتح السين قال كذا في النور، والذي أعرفه الضمّ.
أسلم: بفتح أوله وسكون الميم فعل أمر.
آليت: بمدّ الهمزة أقسمت وحلفت.
خالني: بخاء معجمة وبعد الألف لام مشددة مكسورة من المخاللة وهي المصادقة أي اتخذني خليلا وصاحبا وروي بتخفيف اللام أي تفرد لي خاليا حتى اتخذك معي.
لا يحير: بفتح التحتية وبحاء مهملة أي لا يصنع شيئا مما وعد به.
في بيت مرأة من بني سلول بن صعصعة: وكان عامر بن الطفيل من بني عامر بن صعصعة فلذلك اختصّها لقرب النّسب بينهما حتى مات في بيتها قاله السّهيلي. وفي الاملاء ما سبق عامر على موته لأن بني سلول موصوفون عندهم باللؤم وليس ذلك في أصولهم.
أغدّة بالنّصب أي أغدّ غدّة.
وددت: بكسر الدال المهملة.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 10/ 54 وعزاه للطبراني في الكبير والأوسط وأبو يعلى وقال: فيه الحجاج بن أرطاة وهو مدلس وبقية رجاله رجال الصحيح.(6/364)
الباب الثالث والستون في وفود عبد الرحمن بن أبي عقيل إليه صلى الله عليه وسلم
روى البخاري رحمه الله تعالى في التاريخ، والحارث بن أبي أسامة، وابن مندة، والطبراني، والبزار، والبيهقي، برجال ثقات عن عبد الرحمن بن أبي عقيل الثقفي رضي الله تعالى عنه قال: انطلقت في وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيناه فأنخنا بالباب وما في الناس رجل أبغض إلينا من رجل نلج عليه فلما خرجنا بعد دخولنا عليه فخرجنا وما في الناس أحبّ إلينا من رجل دخلنا عليه
قال: فقال قائل منا: يا رسول الله ألا سألت ربك ملكا كملك سليمان؟ قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «فلعل لصاحبكم عند الله أفضل من ملك سليمان عليه السلام، إن الله عز وجل لم يبعث نبيا إلا أعطاه دعوة فمنهم من اتخذ بها دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا بها على قومه إذ عصوه فأهلكوا بها، وإن الله عز وجل أعطاني دعوة فاختبأتها عند ربي شفاعة لأمتي يوم القيامة [ (1) ] » .
الباب الرابع والستون في وفود بني عبد بن عديّ إليه صلى الله عليه وسلم
روى المدائني، وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وغيره قال: قدم وفد بني عبد بن عدي فيهم الحارث بن وهبان وعويمر بن الأخرم، وحبيب وربيعة ابنا ملّة ومعهم رهط من قومهم.
فقالوا: يا محمد نحن أهل الحرم وساكنيه وأعزّ من به، ونحن لا نريد قتالك، ولو قاتلك غير قريش قاتلنا معك، ولكنا لا نقاتل قريشا، وإنا لنحبّك ومن أنت منه، وقد أتيناك فإن أصبت منا أحدا خطأ فعليك ديّته، وإن أصبنا أحدا من أصحابك فعلينا ديّته إلا رجلا منا قد هرب فإن أصبته أو أصابه أحد من أصحابك فليس علينا ولا عليك. فقال عويمر بن الأخرم: دعوني آخذ عليه.
قالوا: لا، محمد لا يغدر ولا يريد أن يغدر به. فقال حبيب وربيعة: يا رسول الله أن أسيد بن أبي أناس هو الذي هرب وتبرأنا إليك منه وقد نال منك. فأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه، وبلغ أسيد أقوالهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى الطائف فأقام به. فلما كان عام الفتح كان أسيد بن أبي أناس فيمن أهدر دمه. فخرج سارية بن زنيم إلى الطائف فقال له أسيد: ما وراءك؟ قال:
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 10/ 374 وعزاه للطبراني والبزار وقال: ورجالهما ثقات.(6/365)
أظهر الله تعالى نبيه ونصره على عدوه فاخرج يا بن أخي إليه فإنه لا يقتل من أتاه.
فحمل أسيد امرأته وخرج وهي حامل تنتظر، وألقت غلاما عند قرن الثعالب وأتى أسيد أهله فلبس قميصا واعتمّ ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارية قائم بالسيف عند رأسه يحرسه.
فأقبل أسيد حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أهدرت دم أسيد؟ قال: «نعم» قال:
أتقبل منه إن جاء مؤمنا؟ قال: «نعم» .
فوضع يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذه يدي في يدك أشهد أنك رسول الله وألا إله إلا الله. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصرخ أن أسيد بن أبي أناس قد آمن وأمّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسح وجهه وألقى يده على صدره. ويقال إن أسيد كان يدخل البيت المظلم فيضيء. وقال أسيد بن أبي أناس:
أأنت الّذي تهدي معدّا لدينها ... بل الله يهديها وقال لك أشهد
فما حملت من ناقةٍ فوق كورها ... أبر وأوفى ذمة من محمّد
وأكسى لبرد الحال قبل ابتذاله ... وأعطى لرأس السّابق المتجرّد
تعلّم رسول الله إنك قادر ... على كل حيّ متهمين ومنجد
تعلّم بأنّ الرّكب ركب عويمر ... هم الكاذبون المخلفو كلّ موعد
أنبوا رسول الله أن قد هجوته ... فلا رفعت سوطي إلي إذن يدي
سوى أنّني قد قلت ويل أمّ فتية ... أصيبوا بنحس لا يطاق وأسعد
أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفيئا فعزّت حسرتي وتنكدي
ذؤيب وكلثوم وسلمى تتابعوا ... جميعا فإن لا تدمع العين تكمد
فلما أنشده: أأنت الذي يهدي معدّا لدينها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل الله يهديها» .
فقال الشاعر: «بل الله يهديها وقال لك اشهد» .(6/366)
الباب الخامس والستون في وفود عبد القيس إليه صلى الله عليه وسلم وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلوعهم قبل قدومهم.
روى أبو يعلى، والطبراني بسند جيد، والبيهقي عن مزيدة بن مالك العصريّ، وأبو يعلى عن الأشجّ العبدي رضي الله تعالى عنهما [ (1) ] ، قال الأول: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث أصحابه إذ قال لهم: «سيطلع عليكم من هاهنا ركب هم خير أهل المشرق» .
فقام عمر رضي الله تعالى عنه فتوجّه نحوهم فلقي ثلاثة عشر راكبا فقال: «من القوم؟» فقالوا: من بني عبد القيس. قال: «فما أقدمكم ألتجارة؟» قالوا: لا. قال: أما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكركم آنفا فقال خيرا.
ثم مشوا معه حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم. فقال عمر للقوم: هذا صاحبكم الذي تريدون، فرمى القوم بأنفسهم عن ركائبهم فمنهم من مشى ومنهم من هرول ومنهم من سعى حتى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فابتدره القوم ولم يلبسوا إلا ثياب سفرهم، فأخذوا بيده فقبّلوها، وتخلّف الأشجّ وهو أصغر القوم في الرّكاب حتى أناخها، وجمع متاع القوم وذلك بعين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث الزّارعي بن عامر العبدي عند البيهقي: فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبّل يد رسول الله ورجله، وانتطر المنذر الأشجّ حتى أتى عيبته فلبس ثوبيه.
وفي حديث عند الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه: فأخرج ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما ثم جاء يمشي حتى أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبّلها، وكان رجلا دميما، فلما نظر صلى الله عليه وسلم إلى دمامته قال: يا رسول الله أنه لا يستقى في مسوك الرجال إنما يحتاج من الرجل إلى أصغريه لسانه وقلبه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن فيك خصلتين يحبّهما الله ورسوله الحلم والأناة» . قال: يا رسول الله أنا أتخلّق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: «بل الله تعالى جبلك عليهما» . قال: الحمد لله الذي جبلني على خلّتين يحبّهما الله تعالى ورسوله. قال: «يا معشر عبد القيس ما لي أرى وجوهكم قد تغيّرت؟» قالوا: يا نبي الله نحن بأرض وخمة وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع من بطونها، فلما نهيتنا عن الظروف فذلك الذي ترى في وجوهنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الظروف لا تحلّ لا تحرّم ولكن كل مسكر الحرام وليس أن تجلسوا فتشربوا حتى إذا ثملت العروق تفاخرتم فوثب الرجل على ابن عمّه بالسيف فتركه أعرج» . قال: وهو يومئذ في القوم الأعرج الذي أصابه ذلك. وأقبل القوم على تمرات لهم
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 327 وانظر البداية والنهاية 5/ 47.(6/367)
يأكلونها، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لهم هذا كذا وهذا كذا، قالوا: أجل يا رسول الله ما نحن بأعلم بأسمائها منك. وقالوا لرجل منهم: أطعمنا من بقية الذي بقي في نوطك فقام وجاءه بالبرنيّ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا البرنيّ أمسى من خير ثمراتكم» .
وروى ابن سعد [ (1) ] عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى قال: وحدثني عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، قالا: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل البحرين أن يقدم عليه عشرون رجلا منهم، فقدم عليه عشرون رجلا رأسهم عبد الله بن عوف الأشجّ، وفيهم الجارود، ومنقذ بن حيّان، وهو ابن أخت الأشجّ، وكان قدومهم عام الفتح،
فقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء وفد عبد القيس.
قال: «مرحبا بهم نعم القوم عبد القيس» . قال: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأفق صبيحة ليلة قدموا وقال: «ليأتينّ ركب من المشرق لم يكرهوا على الإسلام قد أنضوا الرّكاب وأفنوا الزاد بصاحبهم علامة، اللهم اغفر لعبد القيس، أتوني لا يسألوني مالا، هم خير أهل المشرق» . قال:
فجاءوا عشرين رجلا ورأسهم عبد الله بن عوف الأشجّ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسلّموا عليه، وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيّكم عبد الله الأشجّ؟» فقال: أنا يا رسول الله، وكان رجلا دميما، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إنه لا يستقى في مسوك الرجال، إنما يحتاج من الرجال إلى أصغريه لسانه وقلبه» .
وذكر نحو ما سبق.
وروى الإمام أحمد عن الزّارع بن عامر أنه قال: يا رسول الله إن معي رجلا خالا لي، مصابا فادع الله تعالى له. فقال: «أين هو؟ ائتني به» . قال: فصنعت مثل ما صنع الأشجّ، ألبسته ثوبيه وأتيته به، فأخذ طائفة من ردائه فرفعها حتى بان بياض إبطه، ثم ضرب ظهره وقال: «اخرج عدو الله» .
فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول، ثم أقعده بين يديه فدعا له وشجّ وجهه، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفضل عليه.
وروى الشيخان [ (2) ] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «من القوم؟» قالوا: من ربيعة. قال: «محراب بالقوم غير خزايا ولا ندامى» .
فقالوا: يا رسول الله إنا نأتيك من شقّة بعيدة وإنه يحول بيننا وبينك هذا الحي من كفّار مضر وإنا لا نصل إليك إلا في شهر حرام، وفي رواية: لا نستطيع أن نأتيك إلا في الأشهر الحرم فمرنا بأمر فصل إن عملنا به دخلنا الجنّة. قال: «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع» قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال: «هل تدرون ما الإيمان بالله؟» . [قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:] «شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 54.
[ (2) ] أخرجه البخاري (7266) ومسلم 1/ 47 (24- 17) .(6/368)
الخمس من المغنم، وأنهاكم عن أربع: عن الدّباء والحنتم والمزفّت والنّقير- وربما قال المقيّر- فاحفظوهنّ وادعوا إليهن من وراءكم» . قالوا: يا نبي الله ما علمك بالنّقير؟ قال: «بلى جذع تنقرونه فتقذفون فيه من القطيعاء» - أو قال: «من التمر- ثم تصبّون فيه من الماء حتى إذا سكن غليانه شربتموه حتى أن أحدكم ليضرب ابن عمّه بالسيف» . قال: وفي القوم رجل أصابته جراحة كذلك. قال: وكنت أخبأها حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا: ففيم نشرب يا رسول الله؟
قال: «في أسقية الأدم التي يلاث على أفواهها» . فقالوا: يا رسول الله إن أرضنا كثيرة الجرذان ولا تبقى بها أسقية الأدم [فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلم] : «وإن أكلتها الجرذان» ، مرتين أو ثلاثا.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجّ عبد القيس: «إنّ فيك لخصلتين يحبّهما الله ورسوله الحلم والأناة» .
وروى الإمام أحمد [ (1) ] عن شهاب بن عبّاد أنه سمع بعض وفد عبد القيس يقول: قال الأشج: يا رسول الله إن أرضنا ثقيلة وخمة وإنا إذا لم نشرب هذه الأشربة هيجت ألواننا وعظمت بطوننا فرخّص لنا في هذه وأومأ بكفّيه. فقال: «يا أشجّ إني إن رخّصت لك في مثل هذه» - وقال بفكيه هكذا- «شربته في مثل هذه» - وفرّج يديه وبسطهما يعني أعظم منها- «حتى إذا ثمل أحدكم من شرابه قام إلى ابن عمّه فهزر ساقه بالسيف» .
وكان في القوم رجل يقال له الحارث قد هزرت ساقه في شراب لهم في بيت من الشعر تمثّل به في امرأة منهم، فقال الحارث: لما سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت أسدل ثوبي فأغطّي الضربة بساقي وقد أبداها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم.
وروى الحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن وفد عبد القيس من أهل هجر قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينما هم عنده إذا أقبل عليهم فقال: «لكم تمرة تدعونها كذا، وتمرة تدعونها كذا» . حتى عدّ ألوان تمرهم أجمع. فقال له رجل من القوم: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لو كنت ولدت في هجر ما كنت بأعلم منك الساعة، أشهد أنك رسول الله فقال:
«إن أرضكم رفعت لي منذ قعدتم إليّ فنظرت من أدناها إلى أقصاها، فخير تمركم البرني الذي يذهب بالداء ولا داء معه» [ (2) ] .
وروى البخاري [ (3) ] رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «إن أوّل
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 207 وذكره المتقي الهندي في الكنز (13252) .
[ (2) ] أخرجه الحاكم 4/ 204 وذكره المتقي في الكنز (35315) .
[ (3) ] أخرجه البخاري في كتاب الجمعة (892) .(6/369)
جمعة جمّعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين» . وروى أيضا عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخّر الركعتين بعد الظهر بسبب اشتغاله بوفد عبد القيس حتى صلّاهما بعد الظهر في بيتها.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير أهل المشرق عبد القيس» ، رواه البزّار، والطبراني برجال ثقات غير وهب بن يحيى.
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خير أهل المشرق عبد القيس» ، رواه الطبراني برجال ثقات.
وعن نوح بن مخلد رضي الله تعالى عنه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة فسأله: «ممن أنت؟» فقال: أنا من بني ضبيعة بن ربيعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير ربيعة عبد القيس ثم الحيّ الذي أنت منهم» . رواه الطبراني
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أنا حجيج من ظلم عبد القيس» ، رواه الطبراني [ (1) ] .
تنبيهات
الأول: قال في البداية في سياق حديث ابن عباس ما يدل على أن قدوم وفد عبد القيس كان قبل فتح مكة لقولهم: وبيننا وبينك هذا الحي من مضر ولا نصل إليك إلا في شهر حرام. قال الحافظ: هذا الحديث دليل على تقدم إسلام عبد القيس على قبائل مضر الذين كانوا بينه وبين المدينة، وكانت مساكن عبد القيس بالبحرين وما والاها من أطراف العراق، ولهذا قالوا كما في رواية شعبة عن أبي جمرة في العلم: وإنّا نأتيك من شقّة بعيدة.
ودلّ على سبقهم في الإسلام أيضا ما رواه العقديّ في الجمعة من طريق أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن أوّل جمعة جمّعت بعد جمعة في المسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين» - وجواثى بضم الجيم فواو بعد الألف مثلثة مفتوحة- وإنما جمّعوا بعد رجوع وفدهم إليهم، فدلّ على أنهم سبقوا جميع القرى إلى الإسلام.
الثاني: قال النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم: «أن وفد عبد القيس كانوا أربعة عشر راكبا: الأشجّ العصري رئيسهم، واسمه المنذر بن عائذ، بالذال المعجمة، وقيل: عائذ بن المنذر، وقيل: ابن عبيد. والعصري بفتح العين والصاد المهملتين وبالراء. ومنقذ ابن حبّان. ومزيدة بن مالك المحاربي. وعبيدة بن همام المحاربي. وصحار بن عبّاس المري صحار بصاد وحاء مهملتين- وعمرو بن مرجوم العصري. والحارث بن شعيب العصري.
والحارث بن جندب من بني عائش. ولم نثر بعد طول التتبع على أكثر من أسماء هؤلاء» .
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 10/ 52 وعزاه للطبراني في الكبير والأوسط وقال: وفيه من لم أعرفهم.(6/370)
وقال الحافظ: «ومنهم عقبة بن جورة، وجويرية العبدي، والجهم بن قثم، ورسيم العبدي» . وما ذكره من الوفد كانوا أربعة عشر راكبا، لم يذكر دليلهم.
وفي المعرفة لابن مندة من طريق هود [بن عبد الله] العصري- بعين وصاد مهملتين مفتوحتين نسبة إلى عصر بطن من عبد القيس- عن جده لأمّه مزيدة قال: فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث أصحابه إذ
قال لهم: «سيطلع لكم من هذا الوجه ركب هم خير أهل المشرق» .
فقام عمر رضي الله تعالى عنه فلقي ثلاثة عشر راكبا فرحب وقرب وقال: من القوم؟
قالوا: وفد عبد القيس. فيمكن أن يكون أحد المذكورين كان غير راكب أو مردونا. وأما ما رواه الدّلابي وغيره من طريق أبي خيرة- بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتية وبعد الراء هاء- الصّباحي- وهو بضم الصاد المهملة بعدها موحّدة خفيفة وبعد الألف حاء مهملة- قال: «كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم- من وفد عبد القيس- وكنّا أربعين راكبا» .
فيمكن الجمع بينه وبين الرواية الأخرى، وبأن الثلاثة عشر كانوا رؤوس الوفد فلهذا كانوا ركبانا وكان الباقون أتباعا، ومنهم أخو الزارع، واسمه مطر، وابن أخته لم يسمّ، وجابر بن الحارث، وخزيمة بن عبد عمرو، وجارية بن جابر، وهمام بن ربيعة، ونوح بن مخلّد جدّ أبي جمرة. وإنما أطلت في هذا الفصل لقول صاحب المحرّر إنه لم يظفر بعد طول التّتبّع على غير ما ذكره، وما ذكره ابن سعد من أنهم عشرون مجمع عليه وليس ثلاثة عشر، فإن البقية أتباع.
الثالث: قولهم: إلّا في شهر حرام، وفي لفظ: الشهر الحرام، والمراد به شهر رجب وكانت مضر تبالغ في تعظيمه ولذا أضيف إليهم في حديث أبي بكرة حيث قال: رجب مضر.
والظاهر أنهم كانوا يخصّونه بمزيد التعظيم مع تحريمهم القتال في الأشهر الثلاثة الأخر، ولذا ورد في بعض الروايات: الأشهر الحرم، وفي بعضها: إلّا في كل شهر حرام.
الرابع: قال الحافظ: كيف قال آمركم بأربع؟ والمذكورة خمس. وقد أجاب عنه القاضي عياض تبعا لابن بطال: كان الأربع ما عدا أداء الخمس. قال: وكأنه أراد إعلامهم بقواعد الإيمان وفروض الأعيان، ثم أعلمهم بما يلزمهم إخراجه إذا وقع لهم جهاد، لأنهم كانوا بصدد محاربة كفّار مضر، ولم يقصد إلى ذكرها بعينها لأنها مسبّبة عن الجهاد، ولكن الجهاد إذ ذاك كان فرض عين. قال: وكذلك لم يذكر الحجّ لأنه لم يكن فرض. ثم قال بعد أن ذكر غير ذلك، وما ذكره القاضي عياض رحمه الله تعالى المعتمد، والمراد شهادة ألا إله إلا الله، أي مع وأن محمدا رسول الله، كما صرح به في رواية عبّاد بن عبّاد في المواقيت.
الخامس: قال الحافظ: إنما أخبرهم ببعض الأوامر لكونهم سألوه أن يخبرهم بما يدخلون بفعله الجنّة، فاقتصر لهم على ما يمكنهم فعله في الحال، ولم يقصد إعلامهم بجميع(6/371)
الأحكام التي تجب عليهم فعلا وتركا، ويدلّ على ذلك اقتصاره في المناهي على الانتباذ في الأوعية، مع أن في المناهي ما هو أشد في التحريم من الانتباذ لكن اقتصر منها عليها لكثرة تعاطيهم لهذا.
السادس: قوله: «وأنهاكم عن أربع» جوابا عن الأشربة من إطلاق المحلّ وإرادة الحال، أي ما في الحنتم ونحوه. قال الحافظ: وصرّح بالمراد في رواية النّسائي من طريق قرّة فقال:
«وأنهاكم عن أربع ما ينبذ في الختم» . الحديث.
السابع: سبب وفودهم أن منقذ بن حبّان أحد بني غنم بن وديعة كان متجره إلى يثرب في الجاهلية، فشخص إلى يثرب بملاحف وتمر من هجر بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها. فبينا منقذ قاعد إذ مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم، فنهض منقذ إليه
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أمنقذ بن حبان كيف جميع هيأتك وقومك؟»
ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل، يسمّيهم بأسمائهم. فأسلم منقذ وتعلّم سورة الفاتحة واقرأ باسم ربك، ثم رحل قبل هجر. فكتب النبي صلى الله عليه وسلم معه إلى جماعة عبد القيس كتابا، فذهب به وكتمه أياما، ثم اطّلعت عليه امرأته وهي بنت المنذر بن عائذ- بالذال المعجمة- ابن الحارث، والمنذر هو الأشجّ سمّاه النبي به لأثر كان في وجهه.
وكان منقذ رضي الله تعالى عنه يصلّي ويقرأ، فأنكرت امرأته ذلك، وذكرته لأبيها المنذر، فقالت: «أنكرت بعلي منذ قدم من يثرب، إنه يغسل أطرافه ويستقبل الجهة تعني القبلة، فيحني ظهره مرّة، ويضع جبينه مرّة، ذلك ديدنه منذ قدم» فتلاقيا فتجاريا ذلك. فوقع الإسلام في قلبه.
ثم سار الأشجّ إلى قومه عصر ومحارب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه عليهم فوقع الإسلام في قلوبهم وأجمعوا على المسير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار الوفد فلما دنوا من المدينة
قال النبي صلى الله عليه وسلم لجلسائه: «أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق [وفيهم الأشجّ العصري غير ناكثين ولا مبدلين ولا مرتابين إذ لم يسلم قوم حتى وتروا] » .
الثامن: في بيان غريب ما سبق:.
الأشجّ: بهمزة فشين معجمة مفتوحتين فجيم.
عبد القيس: بقاف مفتوحة فتحتية ساكنة فسين مهملة.
ابن أفصى: بفتح الهمزة وبالفاء والصاد المهملة. ابن دعميّ بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وكانوا ينزلون البحرين: الخطّ والقطيف والسّفار والظّهران إلى الرّملة ما بين هجر إلى حد أطراف الدهناء.(6/372)
الرّكاب: تقدم الكلام عليها غير مرّة.
هرول: بهاء مفتوحة فراء ساكنة فواو فلام مفتوحتين: أي أسرع إسراعا بين المشي والعدو.
العيبة: تقدم الكلام عليها.
يستقى: بضم المثناة التحتية وسكون السين المهملة فمثناة فوقية فقاف.
المسوك: بميم مضمومة فسين مهملة فواو فكاف جمع مسك وهو الجلد.
الخلّة: بخاء معجمة مضمومة فلام مفتوحة فتاء تأنيث: الصداقة.
الحلم: بحاء مهملة مكسورة فلام ساكنة فميم العقل.
الأناة: بهمزة فنون مفتوحتين فألف فتاء تأنيث: التثبت وترك العجلة.
جبلني: بجيم فموحدة فلام مفتوحات: خلقني.
ثملت العروق: بمثلة مفتوحة فميم مكسورة فلام فمثناة فوقية: أي امتلأت.
النّوط: بنون مضمومة فواو ساكنة فطاء مهملة: الجلّة الصغيرة التي يكون فيها التّمر.
البرني: [بموحدة مفتوحة فراء ساكنة فنون مكسورة فمثناة تحتية: ضرب من.
أنضوا: بهمزة مفتوحة فنون ساكنة فضاد معجمة فواو] .
الحيّ: اسم لمنزل القبيلة لأن بعضهم يحيا ببعض ربيعة: فيه التعبير بالبعض عن الكلّ لأنهم بعض ربيعة.
مرحبا: منصوب بفعل مضمر أي صادفت رحبا بضم الراء أي سعة والرّحب بالفتح الشيء الواسع، وأوّل من قالها سيف بن ذي يزن.
غير خزايا: نصب على الحال: وخزايا بخاء معجمة وزاي جمع خزيان وهو الذي أصابه خزي، والمعنى أنهم أسلموا طوعا من غير حرب أو شيء يخزيهم ويفضحهم، ولا ندامي:
أصله نادمين جمع نادم لأن ندامى جمع ندمان خرج على الإتباع وحكى الفراء والجوهري وغيرهما من أهل اللغة أنه يقال نادم وندمان بمعنى فعلي هذا فهو على الأصل ولا إتباع فيه.
الوازع: بواو فألف فزاي فعين مهملة.
الشّقّة: بشين معجمة مضمومة فقاف مفتوحة مشدّدة فتاء تأنيث أي المسافة البعيدة، والسّفر الطويل أيضا.
الدبّاء: بضم الدال المهملة وتشديد الموحدة وبالمدّ: القرع.(6/373)
الحنتم: بحاء مهملة مفتوحة فنون ساكنة ففوقية مفتوحة فميم: جرار خضر مطليّة الواحدة حنتمة.
النّقير: بنون مفتوحة وقاف: أصل النخلة ينقر وينبذ فيه.
المزفّت: بزاي وفاء مشددة ورعاء يطلى بالزّفت.
المقيّر: بميم مضمومة فقال مفتوحة ومثناة تحتية مشددة مفتوحة وراء: طلي بالقير وهو نبت يحرق ويطلى به السّقاء وغيره كما يطلى بالزّفت. قال الحافظ: وفي مسند أبي داود الطيالسي عن أبي بكرة قال عن أبي بكرة قال: «أما الدّئل فإن أهل الطائف كانوا يأخذون القرع فيخلطون فيه العنب حتى يهدر ثم يمرث، وأما الحنتم فجرار كانت تحمل إلينا فيها الخمر، وأما المزفت فهذه الأوعية التي طليت بالزفت» . انتهى. وتعبير الصحابي أولى أن يعتمد عليه من تعبير غيره فإنه أعلم بالمراد، ومعنى النّهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها لأنه يسرع إليها الإسكار، فربما شرب منها من لا يشعر بذلك.
الجذع: بجيم فذال معجمة مفتوحتين فعين مهملة: الشاب.
القطيعاء: بقاف مضمومة فطاء مهملة مفتوحة فتحتية فعين مهملة فألف نوع من النّمر صغار يقال له الشهريز بالشين المعجمة والمهملة وبضمهما وبكسرهما.
هجر: بهاء فجيم فراء مفتوحات قرية من قرى المدينة تنسب إليها القلال الهجريّة، واسم بلد بالبحرين، وهو مذكّر مصروف.
الأدم: بهمزة فدال مهملة مضمومتين جمع أديم وهو الجلد الذي تمّ دباغه.
ثلاث: بتحتية مضمومة فلام مفتوحة فألف فمثلثة أي يلفّ الخيط على أفواهها ويربط به. وضبطه العبدري بالفوقية أي تلفّ الأسقية على أفواهها.
الجرذان: بجيم مكسورة فراء ساكنة فذال معجمة: جمع جرذ كصرد نوع من الفأر وقيل الذّكر منه.
جواثى: بجيم مضمومة فواو مفتوحة وبعدها ألف فثاء مثلثة: قرية بالبحرين.(6/374)
الباب السادس والستون في وفود بني عبس إليه صلى الله عليه وسلم
قالوا: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة رهط من بني عبس، وكانوا من المهاجرين الأولين:.
1- ميسرة بن مسروق.
2- الحارث بن الربيع وهو الكامل.
3- وقنان بن دارم.
4- بشر بن الحارث بن عبادة.
5- هدم بن مسعدة.
6- سباع بن زيد.
7- أبو الحصن بن لقمان.
8- عبد الله بن مالك.
9- وقرّة بن الحصين بن فضالة.
فأسلموا فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال: «ابغوني رجلا يعشركم أعقد لكم لواء» ،
فدخل طلحة بن عبيد الله التّيميّ فعقد لهم لواء وجعل شعارهم: يا عشرة.
وروى ابن سعد عن عروة بن أذينة اللّيثي قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عيرا لقريش أقبلت من الشام فبعث بني عبس في سريّة وعقد لهم لواء، فقالوا: يا رسول الله كيف تقسم غنيمة إن أصبناها ونحن تسعة؟ فقال: «أنا عاشركم» .
وروى ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قدم ثلاثة نفر من بني عبس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: إنه قدم علينا قرّاؤنا فأخبرونا أنه لا إسلام لمن لا هجرة له، ولنا أموال ومواش هي معاشنا فإن كان لا إسلام لمن لا هجرة له بعناها وهاجرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتّقوا الله حيث كنتم فلن يلتكم من أعمالكم شيئا ولو كنتم بصمد وجازان» وسألهم عن خالد بن سنان فقالوا: لا عقب له. فقال: «نبيّ ضيّعه قومه» .
ثم أنشأ يحدّث أصحابه حديث خالد بن سنان [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
عبس: بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وبالسين المهملة.
يلتكم: بفتح التحتية وكسر اللام وبالفوقية: ينقصكم.
خالد بن سنان: تقدم له ذكر والمراد ليس بينه وبين عيس عليه السلام نبي مرسل.
أنشأ: بهمزة آخره: ابتدأ.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 41 وانظر البداية والنهاية 5/ 88.(6/375)
الباب السابع والستون في وفود عدي بن حاتم إليه صلّى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه عن عباد بن حبيش، والبيهقي عن أبي عبيدة بن حذيفة عن رجل، والطبراني عن الشّعبي، والبيهقي عن علي، كلّهم عن عدي بن حاتم، والبيهقي عن ابن إسحاق واللفظ له. قال عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنّبوّة ولا أعلم أحدا من العرب كان أشدّ كراهية لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به منّي، أما أنا فكنت أمرأ شريفا وكنت نصرانيا، وكنت أسير في قومي بالمرباع، وكنت في نفسي على دين وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي، فلما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم كرهته أشد ما كرهت شيئا، فقلت لغلام كان لي عربي وكان راعيا لإبلي: لا أبالك أعدد لي من إلي أجمالا ذللا سمانا فاحتبسها قريبا مني، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطيء هذه البلاد فآذنّي. ففعل. ثم إنه أتاني ذات غداة فقال: يا عديّ ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد فاصنعه الآن، فإني رأيت رايات فسألت عنها فقالوا: هذه جيوش محمد، فقلت: قرب إليّ أجمالي، فقرّبها فاحتملت بأهلي وولدي، ثم قلت: ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام، فسلكت الجوشيّة.
وفي حديث أبي عبيدة رضي الله تعالى عنه: فخرجت إلى أقصى العرب مما يلي الروم، ثم كرهت مكاني أشد ما كرهت مكاني الأول. وعند ابن إسحاق قال عديّ: وخلّفت بنتا لحاتم في الحاضر. وفي حديث: جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا عمّي وناسا. قال: فلما قدمت الشام أقمت بها وتخالفني خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصيب ابنة حاتم فيمن أصابت، فقدم بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبايا من طيّء، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم هربي إلى الشام. قال:
فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا تحبس فيها، فمرّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت إليه، وكانت امرأة جزلة.
وفي حديث علي رضي الله تعالى عنه: لمّا أتي بسبايا طيّء وقفت جارية جمّاء حمراء، لعساء، ذلفاء، عيطاء، شمّاء الأنف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين، خدلّجة السّاقين، لفّاء الفخذين، حميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين. قال: فلما رأيتها أعجبت بها وقلت: لأطلبنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعلها في فيئي.
فلما تكلّمت أنسيت جمالها لما سمعت من فصاحتها.
فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلّي عنا ولا تشمت بنا أحياء العرب فإني ابنة سيّد قومي، وإنّ أبي كان يحمي الذّمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويكسو العاري ويقري الضّيف ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يردّ طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(6/376)
«يا جارية هذه صفة المؤمنين حقا، لو كان أبوك مسلما لترحّمنا عليه خلّوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله يحب مكارم الأخلاق» . وفي حديث ابن إسحاق: فقالت: يا رسول الله، هلك الوالد، وغاب الوافد فامنن عليّ من الله عليك. قال: «من وافدك؟» قالت:
عدي بن حاتم. قال: «الفار من الله ورسوله» . قالت: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركني، حتى إذا كان من الغد مرّ بي فقلت له مثل ذلك وقال لي مثل ما قال بالأمس. قالت: حتى إذا كان الغد مرّ بي وقد يئست منه فأشار إلى رجل من خلفه أن قومي فكلّميه. قالت: فقمت إليه فقلت: يا رسول الله هلك الوالد وغاب الوافد فامنن عليّ منّ الله عليك. فقال صلى الله عليه وسلم: «قد فعلت فلا تعجلني بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلّغك إلى بلادك ثم آذنيني» . فسألت عن الرجل الذي أشار إليّ أن أكلّمه فقيل علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
وأقمت حتى قدم ركب من بلي أو قضاعة. قلت: وإنما أريد أن آتي أخي بالشام. قالت:
فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ. قالت:
فكساني رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.
قال عديّ: فو الله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تصوّب إليّ تؤمّنا. قال:
فقلت: ابنة حاتم قال: فإذا هي هي. قال: فلمّا وقفت عليّ انسلحت تقول: القاطع الظالم، احتملت بأهلك وولدك وتركت بقيّة والدك عورتك. قال: قلت: أي أخيّة لا تقولي إلا خيرا فو الله ما لي من عذر، لقد صنعت ما ذكرت. قال: ثم نزلت فأقامت عندي. فقلت لها، وكانت امرأة حازمة: ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى والله أن تلحق به سريعا، فإن يكن الرجل نبيّا فللسابق إليه فضله، فقد أتاه فلان فأصاب منه وأتاه فلان فأصاب منه، وإن يكن ملكا فلن تذلّ في عزّ اليمن وأنت أنت. قال: قلت: والله إن هذا للرّأي.
وفي حديث الشّعبي: قال: فلما بلغني ما يدعو إليه من الأخلاق الحسنة وما قد اجتمع إليه من الناس خرجت حتى أقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلت عليه وهو في مسجده وعنده امرأة وصبيان أو صبيّ. وذكر قربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فسلّمت عليه فقال: «من الرجل؟» فقلت: عدي بن حاتم. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق بي إلى بيته، فو الله إنه لعامد بي إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته، فوقف لها طويلا فكلّمته في حاجتها فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك.
قال: ثم مضى بي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوّة ليفا فقدمها إليّ فقال: «اجلس على هذه» . قال: قلت: يا رسول بل أنت فاجلس عليها، قال: «بل(6/377)
أنت» فجلست عليها وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأرض. فقال: «يا عديّ أخبرك ألا إله إلا الله، فهل من إله إلا الله؟ وأخبرك أن الله تعالى أكبر، فهل من شيء هو أكبر من الله عز وجل؟» ثم قال: «يا عديّ اسلم تسلم» . فقلت: إني على ديني. فقال: «أنا أعلم منك بدينك» . فقلت:
أنت أعلم منّي بديني؟ قال: «نعم» يقولها ثلاثا. «ألست ركوسيّا؟» فقلت: بلى. قال: «ألست ترأس قومك؟» قلت: بلى. قال: «أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟» قلت: بلى والله، وعرفت أنه نبيّ مرسل يعلم ما يجهل. قال: «فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك» . ثم قال:
«يا عديّ لعلّك إنما يمنعك من الدخول في هذا الدّين أن رأيت خصاصة من عندنا، فو الله ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلّة عددهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت لا تخالف» .
وفي رواية قال: «هل رأيت الحيرة؟» قلت: لم أرها وقد علمت مكانها. قال: «فإن الظعينة سترحل من الحيرة تطوف بالبيت في غير جوار لا تخاف أحدا إلا الله عز وجل والذئب على غنمها» . قال: فقلت في نفسي فأين ذعار طيء الذين سعروا البلاد؟ قال: «فلعلّك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم والله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم» . وفي رواية: «فتفتحنّ عليهم كنوز كسرى بن هرمز» .
قلت: كنوز كسرى بن هرمز. قال: «كنوز كسرى بن هرمز» .
وفي رواية: «ولئن طالت بك حياة لتريّن الرجل يخرج بملء كفّه من ذهب أو فضّة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه، وليلقينّ الله أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنّم وينظر عن شماله فلا يرى إلا جهنم، فاتّقوا النار ولو بشقّ تمرة فإن لم تجدوا شقّ تمرة فبكلمة طيبة» . قال عدي رضي الله تعالى عنه: فأسلمت فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استبشر فقد رأيت الظعينة ترحل من الكوفة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلا الله عز وجل، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بكم حياة سترون ما قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي [بن أخزم بن أبي أخزم] بن ربيعة بن جرول- بفتح الجيم وسكون الراء- ابن ثعل- بضم الثاء المثلثة وفتح العين المهملة- ابن عمرو بن الغوث بن طيء الطائي، قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان سنة تسع كما ذكره الماوردي في حاويه، شهد مع علي رضي الله تعالى عنه حروبه، مات(6/378)
بالكوفة سنة تسع أو ثمان وستين وهو ابن مائة وعشرين أو مائة وثمانين. قال ابن قتيبة رحمه الله تعالى: «ولم يبق له عقب إلا من جهة ابنتيه [أسدة] وعمرة، وإنما عقب حاتم الطائي من ولده عبد الله بن حاتم» .
المرباع: بكسر الميم وسكون الراء: ربع الغنيمة كان سادات الجاهلية يأخذونه.
لا أبالك: بهمزة فموحدة مفتوحتين، أكثر ما يستعمل في المدح، وقد يذكر في معرض الذّم والتعجب، وبمعنى جدّ في أمرك وشمّر لأن من له أب اتّكل عليه في بعض شأنه، وقد تحذف اللام فيقال: أباك.
ذللا: بضم الذال المعجمة واللام جمع ذلول بفتح الذال المعجمة فلامين بينهما واو من الذّل بكسر الذال المعجمة: اللّيّن ضد الصّعب.
آذنّي: بمدّ الهمزة: أعلمني.
ألحق: بفتح الهمزة والحاء المهملة مرفوع، فعل مضارع.
خلّفت: بتشديد اللام.
بنتا لحاتم: اسمها سفّانة بفتح السين المهملة وتشديد الفاء وبعد الألف نون مفتوحة فتاء تأنيث.
الحاضر: بالحاء المهملة والضاد المعجمة: الجماعة النزول على الماء.
قدم بها: بضم القاف وكسر الدال المهملة: مبني للمفعول.
فجعلت ابنة حاتم: بالبناء للمفعول.
الحظيرة: بحاء مهملة وظاء معجمة مشالة: شيء يعمل للإبل من شجر ليقيها البرد والحر والريح.
تحبس: بالبناء للمفعول.
جزلة: بفتح الجيم وسكون الزاي: عاقلة.
جمّاء: بجيم فميم مشددة مفتوحتين: التي لا قرن لها.
حمراء: بحاء مهملة مفتوحة فميم ساكنة فراء: بيضاء.
لعساء: بلام مفتوحة فعين مهملة ساكنة فسين مهملة فهمزة ممدودة: في لونها سواد ومشربة بالحمرة، ويقال أيضا لمن في شفتها سواد، وللرجل ألعس.
ذلفاء: بذال معجمة مفتوحة فلام ساكنة ففاء فألف: من الذّلف وهو بالتحريك صغر الأنف واستواء الأرنبة وقيل ارتفاع في طرفه مع صغر أرنبته.(6/379)
عيطاء: بعين مهملة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فطاء مهملة فهمز ممدود: أي طويلة العنق في اعتدال.
شمّاء الأنف: بشين معجمة فميم فألف: أي مرتفعة قصبة الأنف مع استواء أعلاها وإشراف الأرنبة قليلا.
درماء الكفّين: بدال مهملة مفتوحة فراء ساكنة فميم فألف: لا حجم لعظامها.
خدلّجة الساقين: بخاء معجمة فدال مهملة مفتوحتين فلام مشددة مفتوحة فجيم:
متدانيتهما من السّمن.
لفّاء الفخذين: بلام ففاء مشددة مفتوحتين فهمز ممدود: متدانيتهما من السّمن.
خميصة الخصرين: بخاء معجمة مفتوحة فميم مكسورة فمثناة تحتية فصاد مهملة فتاء:
أي ضامرتهما.
ضامرة الكشحين: بضاد معجمة فألف فميم فراء فتاء تأنيث: أي قليلة لحمهما غير مرهّلة.
مصقولة المتنين: بميم فصاد مهملة فقاف فواو فلام أي مضمرتهما.
الدّمار: بدال مهملة فميم مفتوحتين فألف فراء: الهلاك.
عاب الوافد: بالواو والفاء، قال في العيون: وقال بعض الناس لا معنى له إلا على وجه بعيد، ووجدت الوقار بفتح الواو وبالقاف، وهو ذكره في كتابه بالراء وهو أشبه.
الفارّ: بتشديد الراء.
وأشار إلى رجل من خلفه: هو علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
من بليّ: بوزن عليّ.
الرّهط: ما دون العشرة من الرجال.
الظّعينة: بفتح الظاء المعجمة المشالة وكسر العين المهملة المرأة، والراحلة التي يرحل عليها ويظعن أي يسار.
تؤمنا: أي تقصدنا.
ابنة حاتم: بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هذه ابنة حاتم.
انسحلت: تقول إن كانت هذه اللفظة بالجيم فيقال أسجلت الكلام أي أرسلته، وإن(6/380)
كانت بالحاء المهملة يقال انسحل الخطيب بالكلام إذا جرى به وركب مسحله إذا مضى في خطبته، قاله في الصحاح. وقال أبو ذر في الإملاء قال في النور: ينبغي أن يحرّر هذه اللفظة، والظاهر أنها بالجيم يقال سجلت الماء فانسجل أي صببته فانصبّ ويحتمل أن يكون من أسجلت الكلام إذا أرسلته.
الرّكوسيّ: بفتح الراء وضم الكاف وتشديد التحتية نسبة إلى فرقة من النصارى والصابئين.
ترأس: بفتح المثناة الفوقية وسكون الراء وهمزة فسين مهملة أي تصير رئيسا.
خصاصة: بخاء معجمة وصادين مهملتين بينهما ألف: أي حاجة وفقر، وأصل الخصاس الخلل والفرج ومنه خصاص الأصابع وهي الفرج بينها.
القاطع الظّالم: بالرفع أي أنت القاطع أنت الظّالم.
عورتك: بالنّصب بدل من «بقيّة» ، وهو منصوب على أنه مفعول: «تركت» ، والعورة كل ما يستحى منه. وقول سفّانة أخته: «فإن لم يكن نبيا» ، قالته على سبيل العرض والتنزل لتحرّضه على مجيئه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنها قد أسلمت، ثم أطلقت.
إيه إيه: اسم سمّي به تقول للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل: إيه بكسر الهاء. قال ابن السّكّيت فإن وصلت نوّنت فقلت: إيه حدّثنا. قال الزجّاج رحمه الله: إذا قلت إيه يا رجل فإنما تأمره أن يزيدك من الحديث المعهود بينكما كأنك قلت: هات الحديث، وإن قلت إيه كأنك قلت هات حديثا إما لأن التنوين تنكير، قال في النور: والظاهر أن إيه في هذا المكان بالتنوين. قلت وكذلك هو في نسخ السّيرة.
أجل: كنعم وزنا ومعنى.
لم يجهل: بالبناء للمفعول.
القادسيّة: بالقاف وبعد الألف دال فسين مكسورتين مهملتين فتحتية مشددة فتاء تأنيث: بينها وبين الكوفة نحو مرحلتين.
الحيرة: بكسر الحاء المهملة: البلد القديم بظهر الكوفة ومحلّة معروفة بنيسابور.
ذعار: بذال معجمة مضمومة فعين مهملة فألف فراء: الذين يفزعونهم.
سعروا: بفتح السين والعين والمهملتين: أوقدوا.
بابل: بموحدتين الثانية مكسورة.
فتحت: بالبناء للمفعول وكذلك ما بعده [لتفتحن] .(6/381)
الباب الثامن والستون في وفود بني عذرة إليه صلى الله عليه وسلم
قال محمد بن عمر، وابن سعد رحمهما الله تعالى: قالوا: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفر سنة تسع وفد بني عذرة اثنا عشر رجلا فيهم جمرة بن النعمان العذري، وسليم، وسعد ابنا مالك، ومالك بن أبي رباح، فنزلوا دار رملة بنت الحديث النّجّارية. ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلّموا بسلام أهل الجاهلية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من القوم؟» فقال متكلمهم:
من لا ننكر، نحن بنو عذرة إخوة قصي لأمه، [نحن الذين عضدوا قصيّا] وأزاحوا من بطن مكة خزاعة وبني بكر ولنا قرابات وأرحام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مرحبا بكم وأهلا، ما أعرفني بكم فما يمنعكم من تحية الإسلام؟» قالوا: كنّا على ما كان عليه آباؤنا، فقدمنا مرتادين لأنفسنا ولقومنا. وقالوا: إلام تدعو؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وان تشهدوا أني رسول الله إلى الناس جميعا» أو قال: «كافّة» . فقال متكلمهم: فما وراء ذلك من الفرائض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له وان تشهدوا الصلوات تحسن طهورهن وتصليهن إلى مواقيتهن فإنه أفضل العمل» . ثم ذكر لهم سائر الفرائض من الصيام والزكاة والحج. فقال المتكلم: الله أكبر، نشهد ألا إله إلا الله وأنك رسول الله، قد أجبناك إلى ما دعوت إليه ونحن أعوانك وأنصارك، يا رسول الله إن متجرنا الشام وبه هرقل فهل أوحى إليك في أمره بشيء؟ فقال: «أبشروا فإن الشام ستفتح عليكم ويهرب هرقل إلى ممتنع بلاده» . ونهاهم صلى الله عليه وسلم عن سؤال الكاهنة. فقد قالوا: يا رسول الله إن فينا امرأة كاهنة قريش والعرب يتحاكمون إليها فنسألها عن أمور. فقال صلى الله عليه وسلم: «لا تسألوها عن شيء» . فقال متكلمهم: الله أكبر، ثم سأله عن الذّبح الذي كانوا يذبحون في الجاهلية لأصنامهم. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها. وقال: «لا ذبيحة لغير الله عز وجل، ولا ذبيحة عليكم في سنتكم إلا واحدة» . قال: وما هي؟ قال: «الأضحيّة ضحية العاشر من ذي الحجة، تذبح شاة عنك وعن أهلك» . وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء من أمر دينهم فأجابهم فيها. وأقاموا أياما. ثم انصرفوا إلى أهليهم وأمر لهم بجوائز كما كان يجيز الوفد، وكسا أحدهم بردا.
وروى ابن سعد رحمه الله تعالى عن مدلج بن المقداد بن زمل العذريّ وغيره قالوا: وفد زمل بن عمرو العذريّ على النبي صلى الله عليه وسلم فعقد له لواء على قومه وأنشأ يقول حين وفد على النبي صلى الله عليه وسلم:
إليك رسول الله أعملت نصّها ... أكلّفها حزنا وقوزا من الرّمل
لأنصر خير النّاس نصرا مؤزّرا ... وأعقد حبلا من حبالك في حبلي
وأشهد إن الله لا شيء غيره ... أدين له ما أثقلت قدمي نعلي(6/382)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
عذرة: بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة وبالراء: قبيلة من اليمن.
جمرة بن النّعمان: بفتح الجيم والراء.
قصيّ: بضم القاف وفتح الصاد المهملة وتشديد التحتية: وهو أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم.
أزاحوا: بالزاي بعدها ألف وحاء مهملة وواو: أذهبوا.
مرحبا بكم وأهلا: أتيتم سعة وأهلا فاستأنسوا ولا تستوحشوا.
الذّبح: بكسر الذال المعجمة، ما يذبح مصدر بمعنى اسم المفعول.
الحزن: بحاء مهملة مفتوحة فزاي ساكنة فنون: المكان الغليظ الخشن.
القوز: بقاف مفتوحة فواو ساكنة فزاي: العالي من الرّمل كأنه جبل.(6/383)
الباب التاسع والستون في وفود بني عقيل بن كعب إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] رحمه الله تعالى عن رجل من بني عقيل عن أشياخ قومه قالوا: وفد منا من بني عقيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ربيع بن معاوية بن خفاجة بن عمرو بن عقيل، ومطرّف بن عبد الله بن الأعلم بن عمرو بن ربيعة بن عقيل، وأنس بن قيس بن المنتفق بن عامر بن عقيل، فبايعوا وأسلموا، وبايعوه على من وراءهم من قومهم، فأعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم العقيق، عقيق بني عقيل، وهي أرض فيها عيون ونخل،
وكتب لهم بذلك كتابا في أديم أحمر: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أعطى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ربيعا ومطرّفا وأنسا، أعطاهم العقيق ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وسمعوا وأطاعوا» .
ولم يعطهم حقّا لمسلم [وكان الكتاب في يد مطرّف] .
قال: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو حرب بن خويلد بن عامر بن عقيل فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وعرض عليه الإسلام. فقال: أما وأيم الله لقد لقيت الله أو لقيت من لقيه، وإنك لتقول قولا لا نحسن مثله، ولكني سوف أضرب بقداحي هذه على ما تدعوني إليه وعلى ديني الذي أنا عليه، وضرب بالقداح فخرج عليه سهم الكفر، ثم أعاده فخرج عليه ثلاث مرات. فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هذا إلا ما ترى. ثم رجع إلى أخيه عقال بن خويلد، فقال له:
قلّ خيسك هل لك في محمد بن عبد الله يدعو إلى دين الإسلام ويقرأ القرآن وقد أعطاني العقيق إن أنا أسلمت. فقال له عقال: أنا والله أخطّك أكثر ممّا يخطّك محمد. ثم ركب فرسه وجرّ رمحه على أسفل العقيق فأخذ أسفله وما فيه من عين. ثم إن عقالا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، وجعل يقول له: «أتشهد أن محمدا رسول الله؟» فيقول: أشهد أن هبيرة بن المفاضة نعم الفارس، يوم قرني لبان. ثم قال: «أتشهد أن محمدا رسول الله؟» قال: أشهد أن الصّريح تحت الرّغوة. ثم قال له الثالثة: «أتشهد؟» قال: فشهد وأسلم. قال: وابن المفاضة هبيرة بن معاوية بن عبادة بن عقيل، ومعاوية هو فارس الهرّار، والهرّار اسم فرسه، ولبان اسم موضع.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
خفاجة: بخاء معجمة ففاء مفتوحتين فألف فجيم فتاء تأنيث.
المنتفق: بميم مضمومة فنون ساكنة ففاء فمثناة فوقية فقاف.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 66- 67.(6/384)
قل خيسك: بقاف مفتوحة فلام مشددة وخيسك بخاء معجمة مكسورة فتحتية ساكنة فسين مهملة: أي قلّ خيرك.
أحظّك: بهمزة فحاء مهملة فظاء معجمة مشالة.
الصّريح تحت الرّغوة: الصريح بصاد مهملة فراء فمثناة تحتية فحاء مهملة: اللّبن المحض الخالص، والرّغوة براء مضمومة فغين معجمة ما يعلو الّلبن من الزّبد، والله تعالى أعلم.(6/385)
الباب السبعون في وفود عمرو بن معدي كرب الزبيدي إليه صلى الله عليه وسلم
قدم عمرو بن معدي كرب في أناس من بني زبيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادي- وقيس بن أخته- يا قيس إنك سيّد قومك، وقد ذكر لنا أن رجلاً من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز يقول إنه نبيّ فانطلق بنا إليه حتى نعلم علمه، فإن كان نبيّا كما يقول فإنه لن يخفى عنك، إذا لقيناه اتّبعناه، وإن كان غير ذلك علمنا علمه. فأبي عليه قيس ذلك وسفّه رأيه، فركب عمرو بن معدي كرب حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وصدّقه وآمن به فلما بلغ ذلك قيسا أوعد عمرا [وتحطّم عليه وقال خالفني وترك رأيي] فقال عمرو في ذلك شعراً أوّله:
أمرتك يوم ذي صنعا ... ءأمرا باديا رشده
قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: فأقام عمرو بن معدي كرب في قومه من بني زبيد وعليهم فروة بن مسيك، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدّ عمرو. قال ابن سعد: ثم رجع إلى الإسلام وأبلى يوم القادسية وغيرها.
وذكر أبو عمرو من طريق ابن عبد الحكم قال: حدثنا الشافعي قال: وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وخالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن وقال: «إذا اجتمعتما فعليّ الأمير، وإذا افترقتما فكل واحد منكما أمير» .
فاجتمعا. وبلغ عمرو بن معدي كرب مكانهما، فأقبل في جماعة من قومه فلما دنا منهما قال: «دعوني حتى آتي هؤلاء القوم فإني لم أسمّ لأحد قط إلا هابني. فلما دنا منهما نادى: أنا أبو ثور أنا عمرو بن معدي كرب.
فابتدره عليّ وخالد رضي الله تعالى عنهما، وكلاهما يقول لصاحبه: خلّني وإياه، ويفديه بأبيه وأمّه. فقال عمرو، إذ سمع قولهما: العرب تفزّع بي وأراني لهؤلاء جزرة. فانصرف عنهما. وكان عمرو فارس العرب مشهورا بالشجاعة، وكان شاعرا محسنا فمما يستجاد من شعره قوله:
أعاذل عدتي يزني ورمحي ... وكلّ مقلّص سلس القياد
أعاذل إنّما أفنى شبابي ... إجابتي الصّريخ إلى المنادي
مع الإبطال حتى سلّ جسمي ... وأقرح عاتقي ثقل النّجاد
ويبقى بعد حلم القوم حلمي ... ويفني قبل زاد القوم زادي
تمنّى أن يلاقيني قييس ... وددت وأينما منّي ودادي
فمن ذا عاذري من ذي سفاه ... يرود بنفسه شرّ المراد(6/386)
أريد حباءه ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
يريد قيس بن مكشوح وأسلم قيس بعد ذلك، وله ذكر في الصحابة، وقيل كان إسلامه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شجاعا فارسا شاعرا وكان يناقض عمرا وهو القائل لعمرو:
فلو لاقيتني لاقيت قرنا ... وودّعت الحبائب بالسّلام
لعلّك موعدي ببني زبيد ... وما قامعت من تلك اللئام
ومثلك قد قرنت له يديه ... إلى اللّحيين يمشي في الخطام
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
المكشوح: بفتح الميم وسكون الكاف وضم الشين المعجمة وبالواو والحاء المهملة.
بنو زبيد: بضم الزاي وفتح الموحدة.
لم أسمّ: بضم الهمزة وفتح السين المهملة وتشديد الميم المفتوحة، مجزوم حرّك بالفتح طلبا للخفّة.
جزرة: بفتح الجيم وسكون الزاي وبالراء فتاء تأنيث وهي الشاة المسمّنة.
يستجاد: بالبناء للمفعول.
يزنيّ: أي برمح يزنيّ نسبة إلى ذي يزن، وفي بعض نسخ العيون بدني، قال في النور:
ولعلها الصواب والبدن الدّرع.
مقلّص: بكسر اللام المشددة وبالصاد المهملة: مشمّر طويل القوائم.
قييس: تصغير قيس وهو ابن المكشوح.
الوداد: بكسر الواو.
حباءه: بكسر الحاء المهملة وبالموحدة، وبالمدّ: العطاء.
عذيرك من فلان: بعين مهملة مفتوحة فذال معجمة فياء تحتية وفتح الراء: مفعول بفعل مقدّر أي هات من يعذرك، فعيل بمعنى فاعل.
القرن: بكسر القاف وسكون الراء وبالنون كف الشخص في الشجاعة.(6/387)
الباب الحادي والسبعون في وفود عنزة إليه صلى الله عليه وسلم
عن سلمة بن سعد رضي الله تعالى عنه أنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وجماعة من أهل بيته وولده فاستأذنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا فقال: «من هؤلاء؟» . فقيل له: هذا وفد عنزة. فقال: «بخ بخ بخ بخ» - أربعا- «نعم الحيّ عنزة، مبغيّ عليهم منصورون، مرحبا بقوم شعيب وأختان موسى، سل يا سلمة عن حاجتك» . قال: جئت أسألك عما افترضت عليّ في الإبل والغنم. فأخبره، ثم جلس عنده قريبا ثم استأذنه في الانصراف. فما عدا أن قام لينصرف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزق عنزة كفانا لا فوت ولا إسراف» . رواه الطبراني، والبزار، باختصار، وعنده: «اللهم ارزق عنزة لا فوت ولا سرف فيه» [ (1) ] .
وعن حنظلة بن نعيم رضي الله تعالى عنه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر قومك عنزة ذات يوم فقال أصحابه: وما عنزة فأشار بيده نحو المشرق فقال: «حيّ ههنا مبغيّ عليهم منصورون» . رواه أبو يعلى برجال ثقات، والبزار، والطبراني والإمام أحمد رحمهم الله تعالى إلا أنه قال عن الغضبان بن حنظلة إن أباه وفد إلى عمر ولم يذكر حنظلة [ (2) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
عنزة: بفتحات: الحربة.
بخ: بموحدة فخاء معجمة. كلمة عند المدح والرضا بالشيء وتكرّر للمبالغة وفيها لغات: إسكان الخاء وكسرها ومنوّنة وبغير تنوين، وبتشديدها وساكنا ومنوّنا واختار الخطّابي إذا كرّرت تنوين الأولى وتسكين الثانية.
أختان: بهمزة مفتوحة فخاء معجمة ساكنة فمثنّاه فوقية فألف فنون: من قبل المرأة، والأحماء من قبل الرجل، والصّهر يجمعهما.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 10/ 54 وعزاه للطبراني والبزار.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 10/ 54 وعزاه لأبي يعلى في الكبير والبزار بنحوه باختصار عنه والطبراني في الأوسط وأحمد وقال: وأحد إسناده أبي يعلي رجاله ثقات كلهم.(6/388)
الباب الثاني والسبعون في وفود رجل من عنس إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] [قال: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي، أخبرنا أبو زفر الكلبي] عن رجل من عنس بن مالك من مذحج قال: كان منا رجل وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه وهو يتعشّى فدعاه إلى العشاء، فجلس. فلما تعشّى أقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؟» فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فقال: «أراغبا جئت أم راهبا؟» فقال: أمّا الرّغبة فو الله ما في يديك مال، وأمّا الرّهبة فو الله إني لببلد ما تبلغه جيوشك، ولكني خوّفت فخفت وقيل لي آمن بالله فآمنت. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم فقال: «ربّ خطيب من عنس» . فمكث يختلف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء يودّعه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخرج» وبتّته أي أعطاه شيئا، وقال:
«إن أحسست شيئا فوائل إلى أدنى قرية» فخرج فوعك في بعض الطريق، فوأل إلى أدنى قرية فمات رحمه الله واسمه ربيعة. ورواه الطبراني عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم رحمه الله،
قال: إن ربيعة بن رواء العنسي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوجده يتعشّى، الحديث.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
عنس: [بعين مهملة مفتوحة فنون ساكنة فسين مهملة لقب زيد بن مالك بن أدد أبو قبيلة من اليمن ومخلاف عنس مضاف إليه وائل إلى أدنى قرية: [بواو فألف فهمزة مكسورة فلام ساكنة أي ألجأ] وقد [وأل] يئل فهو وائل أي التجأ إلى موضع ونجا] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 106.(6/389)
الباب الثالث والسبعون في وفود غامد إليه صلى الله عليه وسلم
قال في زاد المعاد: قال الواقديّ رحمه الله تعالى: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد غامد سنة عشر، وهم عشرة فنزلوا ببقيع الغرقد وهو يومئذ أثل وطرفاء ثم انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخلّفوا عند رحلهم أحدثهم سنّا، فنام عنه، وأتى سارق فسرق عيبة لأحدهم فيها أثواب له. وانتهى القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّموا عليه وأقرّوا له بالإسلام وكتب لهم كتابا فيه شرائع من شرائع الإسلام وقال لهم: «من خلّفتم في رحالكم؟» قالوا: أحدثنا سنّا يا رسول الله. قال: «فإنه قد نام عن متاعكم حتى أتى آت أخذ عيبة أحدكم» فقال رجل من القوم:
يا رسول الله ما لأحد من القوم عيبة غيري. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فقد أخذت وردّت إلى موضعها» . فخرج القوم سراعا حتى أتوا رواحلهم، فوجدوا صاحبهم فسألوه عما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فزعت من نومي ففقدت العيبة فقمت في طلبها، فإذا رجل قد كان قاعدا، فلما رآني صار يعدو منّي فانتهيت إلى حيث انتهى فإذا أثر حفر وإذا هو قد غيّب العيبة فاستخرجتها.
فقالوا: نشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد أخبرنا بأخذها وأنها قد ردّت. فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، وجاء الغلام الذي خلّفوه، فأسلم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه فعلّمهم قرآنا وأجازهم صلى الله عليه وسلم كما كان يجيز الوفود وانصرفوا.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
غامد: بعين معجمة فألف فميم فدال مهملة.
العيبة: تقدم تفسيرها.
الباب الرابع والسبعون في وفود غافق إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] : قالوا: وفد جليحة بن شجّار بن صحار الغافقي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجال من قومه فقالوا: يا رسول الله نحن الكواهل من قومنا، وقد أسلمنا وصدقاتنا محبوسة بأفنيتنا. فقال: «لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم» .
فقال: عوذ بن سرير الغافقي: آمنّا بالله واتّبعنا رسوله.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
غافق: بغيم معجمة فألف ففاء فقاف.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 115.(6/390)
الباب الخامس والسبعون في وفود غسّان إليه صلى الله عليه وسلم
قال في زاد المعاد: وقدم وفد غسّان على النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان سنة عشر، وهم ثلاثة نفر، فأسلموا وقالوا: لا ندري أيتّبعنا قومنا أم لا، وهم يحبّون بقاء ملكهم وقرب قيصر، فأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوائز وانصرفوا راجعين، فقدموا على قومهم فلم يستجيبوا لهم وكتموا إسلامهم. حتى مات منهم رجلان على الإسلام وأدرك الثالث منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عام اليرموك فلقي أبا عبيدة فأخبره بإسلامه، فكان يكرمه.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
اليرموك: [واد بناحية الشام في طرف الغور يصبّ في نهر الأردن] .
الباب السادس والسبعون في وفود فروة بن عمرو الجذامي صاحب بلاد معان بإسلامه على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: وبعث فروة بن عمرو الجذامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا بإسلامه، وأهدى له بغلة بيضاء، وكان فروة عاملا لقيصر ملك الروم على من يليه من العرب، وكان منزله معان وما حولها من أرض الشام. فلما بلغ الروم ذلك من أمر إسلامه طلبوه حتى أخذوه فحبسوه عندهم فقال في محبسه شعرا على قافية النون وهو ستة أبيات:
طرقت سليمي موهنا أصحابي ... والرّوم بين الباب والقروان
صدّ الخيال وساءه ما قد رأى ... وهممت أن أغفي وقد أبكاني
لا تكحلنّ العين بعدي إثمدا ... سلمى ولا تدننّ للإتيان
ولقد علمت أبا كبيشة أنني ... وسط الأعزة لا يحصّ لساني
فلئن هلكت لتفقدنّ أخاكم ... ولئن بقيت لتعرفنّ مكاني
ولقد جمعت أجلّ ما جمع الفتى ... من جودة وشجاعة وبيان
فلما أجمعت الروم على صلبه على ماء لهم بفلسطين يقال له عفراء قال:
ألا هل أتى سلمى بأنّ حليلها ... على ماء عفرى فوق إحدى الرّواحل
على ناقة لم يضرب الفحل أمّها ... مشذّبة أطرافها بالمناجل
فزعم الزّهريّ بن شهاب أنهم لما قدّموه ليقتلوه قال:
أبلغ سراة المسلمين بأنّني ... سلم لربّي أعظمي ومقامي
ثم ضربوا عنقه وصلبوه على ذلك الماء، والله تعالى أعلم.(6/391)
الباب السابع والسبعون في وفود فروة بن مسيك إليه صلّى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق، ومحمد بن عمر رحمهما الله تعالى: قدم فروة بن مسيك المراديّ رضي الله تعالى عنه وافدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مفارقا لملوك كندة ومتابعا للنبي صلى الله عليه وسلم وقال في ذلك:
لما رأيت ملوك كندة أعرضت ... كالرّجل خان الرّجل عرق نسائها
قرّبت راحلتي أؤمّ محمّدا ... أرجو فواضلها وحسن ثرائها
ثم خرج حتى أتى المدينة، وكان رجلا له شرف، فأنزله سعد بن عبادة عليه ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد فسلّم عليه
ثم قال: يا رسول الله أنا لمن ورائي من قومي. قال: «أين نزلت يا فروة؟» قال: على سعد بن عبادة.
وكان يحضر مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما جلس ويتعلّم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه.
وكان بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعة أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا حتى أثخنوهم في يوم يقال له يوم الرّدم. وكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك في ذلك اليوم. قال ابن هشام: الذي قاد همدان في ذلك اليوم بن حريم الهمداني.
قال ابن إسحاق: فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا فروة، هل ساءك ما أصاب قومك يوم الردم؟» قال: يا رسول الله، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومي يوم الردم ولا يسوءه ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا» [ (1) ] .
وفي ذلك اليوم يقول فروة بن مسيك:
مررن على لفات وهنّ خوص ... ينازعن الأعنّة ينتحينا
فإن نغلب فغلّابون قدما ... وأن نغلب فغير مغلّبينا
وما إن طبّنا جبن ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
كذاك الدّهر دولته سجال ... تكرّ صروفه حينا فحينا
فبينا ما نسرّ به ونرضى ... ولو لبست غضارته سنينا
إذا انقلبت به كرّات دهر ... فألفيت الألى غبطوا طحينا
فمن يغبط بريب الدّهر منهم ... يجد ريب الزمان له خؤونا
فلو خلد الملوك إذا خلدنا ... ولو بقي الكرام إذا بقينا
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 5/ 71.(6/392)
فأفنى ذلكم سروات قومي ... كما أفنى القرون الأولينا
واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم فروة بن مسيك على مراد وزبيد ومذحج كلها، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصّدقة فكان معه في بلاده حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
فروة: بفاء مفتوحة فراء ساكنة فواو وفتاء تأنيث.
مسيك: بضم الميم وفتح السين المهملة وسكون التحتية وبالكاف.
النّساء: بفتح النون وبالسين المهملة، مقصور، وجاء مدّه في الشّعر، وأنكره بعضهم وربما صحّ في الحديث عرق النّساء، ويقول فروة بإن العرق أعمّ من نساء فهو من إضافة الشيء إلى محلّه وموضعه.
أؤمّ محمدا: أي أقصده.
أرجو فواضلها: يعني الرّاحلة.
همدان: بفتح الهاء وسكون الميم وبالدال المهملة: قبيلة معروفة. وأما همذان بفتح الهاء والميم وبذال معجمة: قبيلة معروفة بالعجم. وقال الأئمة الحفّاظ رحمهم الله: ليس في الصحابة ولا تابعيهم ولا أتباع التابعين أحد من هذه البلدة وأكثر المتأخرين منها.
الإثخان في الشيء: المبالغة فيه والإكثار منه والمراد به المبالغة في القتل.
الّردم: بفتح الراء وسكون الدال المهملة وبالميم.
الأجدع بن مالك بن حريم: حريم بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين كما ذكره الأمير والزمخشري وغيرهما وليس هو جدّ مسروق كما يذكره الوقشي وخطّأ من قال هو أبوه. وقول العيون: «قيل هو والد مسروق بن الأجدع» . وإنما قيل إنه جدّه، والجدأب. [كما ورد في القرآن] : وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي [يوسف 38] يا بَنِي آدَمَ [الأعراف 35] .
ناشح: بنون وبعد الألف شين معجمة فحاء مهملة:
جشم بن خيوان: خيوان بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية.
بنو معمر: بميمين مفتوحتين بينهما عين مهملة ساكنة.
مثل ما أصاب: فاعل يصيب.
لا يسؤه: بفتح التحتية فسين مهملة وهمزة مضمومة قبل الواو.
زبيد: بضم الزاي: قبيلة معروفة.
مذحج: بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة وبالجيم: قبيلة معروفة والله تعالى أعلم.(6/393)
الباب الثامن والسبعون في وفود فزارة إليه صلّى الله عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] ، والبيهقي عن أبي وجزة يزيد بن عبيد السّعدي رضي الله تعالى عنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك وكانت سنة تسع قدم عليه وفد بني فزارة، بضعة عشر رجلا، فيهم خارجة بن حصن، والحرّ بن قيس بن حصن وهو أصغرهم- وهم مسنتون- على ركاب عجاف، فجاءوا مقرّين بالإسلام. فنزلوا دار رملة بنت الحديث. وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلادهم،
فقال أحدهم: يا رسول الله، أسنتت بلادنا، وهلكت مواشينا، وأجدب جنابنا، وغرث عيالنا، فادع لنا ربّك يغيثنا، واشفع لنا إلى ربّك، وليشفع لنا ربّك إليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، ويلك، هذا أنا أشفع إلى ربي عز وجل فمن ذا الذي يشفع ربّنا إليه؟ لا إله إلا هو العليّ العظيم وسع كرسيّه السموات والأرض فهي تئط من عظمته وجلاله كما يئطّ الرّحل الجديد» . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل ليضحك من شففكم وأزلكم وقرب غياثكم» . فقال الأعرابي: يا رسول الله، ويضحك ربّنا عز وجل؟ فقال: «نعم» .
فقال الأعرابي: لن نعدمك من ربّ يضحك خيرا. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله، وصعد المنبر فتكلم بكلمات، وكان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلا في الاستسقاء. فرفع يديه حتى رئي بياض إبطيه وكان مما حفظ من دعائه: «اللهم اسق بلادك وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميّت، اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا طبقا واسعا، عاجلا غير آجل، نافعا غير ضارّ، اللهم اسقنا رحمة ولا تسقنا عذابا ولا هدما ولا غرقا ولا محقا، اللهم اسقنا الغيث وانصرنا على الأعداء» . فقام أبو لبابة بن عبد المنذر الأنصاري رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله، التّمر في المربد، وفي لفظ المرابد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقنا» فعاد أبو لبابة لقوله، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم لدعائه. فعاد أبو لبابة أيضا فقال: التمر في المربد يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانا يسدّ ثعلب مربده بإزاره» . قالوا: ولا والله ما نرى السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، فطلعت من وراء سلع سحابة مثل التّرس، فلما توسّطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال:
فلا والله ما رأينا الشمس سبتا. وقام أبو لبابة عريانا يسدّ ثعلب مربده بإزاره لئلّا يخرج التمر منه.
فجاء ذلك الرجل أو غيره فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السّبل فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فدعا ورفع يديه حتى رئي بياض إبطيه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا،
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 6/ 143. وابن سعد في الطبقات 2/ 92. وانظر البداية والنهاية 6/ 105.(6/394)
اللهم على الآكام والظّراب وبطون الأودية ومنابت الشّجر فانجابت السحابة عن المدينة انجياب الثّوب» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
خارجة: بالخاء المعجمة وبعد الألف راء مكسورة فجيم.
ابن حصن: بالحاء والصاد المهملتين وزن علم- ابن بدر.
الحرّ: بضم الحاء المهملة وتشديد الراء، ابن أخي عيينة، بالرفع بدل من الجر، وهو مرفوع على معطوف على المبتدأ قبله.
مشتون: بميم مضمومة فشين معجمة فتاء أي دخلوا في الشتاء وقيل بسين مهملة ساكنة فنون مكسورة: مسنتون.
عجاف: بكسر العين المهملة وتخفيف الجيم، والعجفاء هي التي بلغت في الهزال النهاية.
رملة بنت الحارث بن ثعلبة.
غرث: بفتح الغين المعجمة وكسر الراء وبالثاء المثلثة، يغرث بفتح الراء فهو غرثان إذا جاع، وقوم غرثى وغراثى وامرأة غرثى ونسوة غراث، والغرث بفتح أوله وثانية الجوع.
انجابت: بفتح الجيم وبعد الألف موجدة.
الجناب: ما قرب من محلّة القوم والجمع أجنبة يقال أخصب جناب القوم وفلان خصيب الجناب.
يغيثنا: بفتح أوله من الغيث، أو بضمّ التحتية من الإغاثة والإجابة.
شفعت: بفتح الفاء خلافا لمن أخطأ فكسرها.
وسع كرسيّه السّموات والأرض: بسطت الكلام على الكرسيّ في كتاب: «الجواهر والنّفائس في تكبير كتاب العرائس» . بما يراجع منه. والصواب أن الكرسي غير العلم خلافا لمن زعم أنه العلم.
تئطّ: بفتح الفوقية وكسر الهمزة وطاء مهملة مشددة، والأطيط صوت الرّحل والأقتاب، يعني أن الكرسي ليعجز عن حمله وعظمه، إذا كان معلوما أن أطيط الرّحل بالرّاكب إنما يكون لقوّة ما فوقه وعجزه عن احتماله، وهذا مثل لعظمة الله تعالى وجلاله، وإنما لم يكن أطيط(6/395)
وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله تعالى، والرّحل بالحاء المهملة.
شففكم: بفتح الشين المعجمة والفاء: اسم من الشّفّ، والشفف هنا أقصى ما وجدوه من الضيق.
الأزل: بفتح الهمزة وسكون الزاي وباللام: الضيق، وقد أزل الرجل بفتح الزاي يأزل بكسرها أزلا بإسكانها صار في ضيق وجدب.
لن نعدمك: بفتح النون وسكون العين وفتح الدال المهملتين.
صعد: بكسر العين المهملة في الماضي وفتحها في المستقبل.
وكان لا يرفع يديه في شيء من الدعاء إلى آخره: قد بسطت الكلام على ذلك في كتابي: «جامع الخيرات في الأذكار والدعوات» . وخلاصة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في الدعاء في الصحيحين أو أحدهما في نحو ثلاثين حديثا، وأجاب العلماء رحمهم الله تعالى بأن المراد لا يرفع يديه الرفع البالغ أو أن المراد لم يره رفع، أو أنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الاستسقاء، يعني ظهور كفيه إلى السماء، كما في مسلم، فيكون الحديث لا يرفع هذا الرفع إلا في الاستسقاء.
حتى رئى بياض إبطيه: بكسر الراء وفتح الهمزة، ورئي بضم الراء وكسر الهمزة وعليها فهو مبني للمفعول.
الغيث: بفتح الغين المعجمة وسكون المثناة التحتية فثاء مثلثة.
اسق: يجوز فيه وصل الهمزة وقطعها أسق ثلاثي ورباعي، كذا ما بعده.
الريّ: [بكسر الراء وفتحها وتشديد التحتية] .
مريعا: بفتح الميم وكسر الراء وسكون التحتية وبالعين المهملة من الرّيع وهو الخصب وروي مربعا بضم الميم وسكون الراء وبالموحدة المكسورة وبالعين المهملة. [وروي] مرتعا بالمثناة الفوقية من رتعت الدّابّة إذا أكلت ما شاءت.
طبقا: بفتح الطاء المهملة والباء الموحدة وبالقاف أي مستوعبا للأرض منطبقا عليها.
أبو لبابة: بضم اللام وفتح الموحدتين بينهما ألف.
المربد: بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة وبالدال المهملة والجمع مرابد بفتح الميم، والمربد هو الموضع الذي يجعل فيه التمر لينشف كالبيدر للحنطة.(6/396)
ثعلب: بلفظ اسم الحيوان المعروف، وهو مخرج ماء المطر من جرين التمر.
القزعة: بفتح القاف والزاي: القطعة الرقيقة من السحاب.
سلع: بفتح أوله وإسكان ثانيه: جبل بالمدينة.
ما رأينا الشمس سبتا: قال في المطالع أي مدّة. قال قاسم بن ثابت: والناس يحملونه على انه من سبت إلى سبت، وإنما السّيف قطعة من الدهر. وقال في النهاية: قيل أراد أسبوعا من السبت إلى السبت فأطلق عليه اسم اليوم، وقيل أراد بالسبت مدة من الزمان قليلة كانت أو كثيرة.
فجاء ذلك الرجل أو غيره: قال في النور إنه هو، وذلك لأن في الصحيح ما يؤيده ويرشد إلى أنه الرجل الأول، وقد سمّاه بعض حفّاظ هذا العصر خارجة بن حصن بن حذيفة، أخا عيينة بن حصن.
الأكمة: تل وقيل شرفة كالرابية وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد وربما غلظ وربما لم يغلظ والجمع أكم وأكمات مثل قصبة [وقصب] وقصبات، وجمع الأكم إكام مثل جبل وجبال وجمع الإكام أكم بضمتين مثل كتاب وكتب، وجمع الألم آكام مثل عنق وأعناق.
الظّراب: بكسر الظاء المعجمة المشالة جمع ظرب بفتح الظاء وكسر الراء وهي الروابي الصغيرة.
انجابت: انقطعت والجوب القطع.(6/397)
الباب التاسع والسبعون في وفود بني قُشير إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] عن علي بن محمد القرشيّ ورجل من بني عقيل قالا: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من بني قشير فيهم ثور بن عزرة بن عبد الله بن سلمة بن قشير فأسلم فأقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيعة وكتب له كتابا، ومنهم حيدة بن معاوية بن قشير، وذلك قبل حجة الوداع وبعد حنين، ومهم قرنة بن هبيرة بن سلمة الخير بن قشير، فأسلم فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكساه بردا وأمره أن يتصدّق على قومه أي يلي الصّدقة فقال قرّة حين رجع:
حباها رسول الله إذ نزلت به ... وأمكنها من نائل غير منفد
فأضحت بروض الخضر وهي حثيثة ... وقد أنجحت حاجاتها من محمّد
عليها فتى لا يردف الذّمّ رحله ... تروك الأمر العاجز المتردّد
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
قشير: بقاف مضمومة فشين معجمة مفتوحة فمثناة تحتية فراء.
عزرة: [بعين مهملة مفتوحة فزاي ساكنة فراء فتاء تأنيث] .
حيدة: [بحاء مهملة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فدال مهملة] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 67.(6/398)
الباب الثمانون في وفود قيس بن عاصم إليه صلّى الله عليه وسلم
عن غالب بن أبجر [المزني] قال: ذكرت قيس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله قيسا» . قيل: يا رسول الله أنترحّم على قيس قال: «نعم إنه كان على دين أبينا إسماعيل بن إبراهيم خليل الله، إن قيسا فرسان الله تعالى في الأرض، والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان ليس لهذا الدين ناصر غير قيس، إن قيسا خير الله تعالى في الأرض» [ (1) ] . يعني أسد الله. رواه الطبراني برجال ثقات والبزار.
وروى الطبراني [ (2) ] بسند جيّد عن قيس بن عاصم رضي الله تعالى عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآني قال: «هذا سيّد أهل الوبر» . فلما نزلت أتيته فجعلت أحدّثه، فقلت:
يا رسول الله، ما المال الذي ليست عليّ فيه تبعة من ضيف ضافني أو عيال كثروا عليّ؟ قال:
«نعم المال الأربعون، والأكثر الستّون، وويل لأصحاب المئين إلا من أعطى من رسلها ونجدتها، وأطرق فحلها، وأفقر ظهرها [ومنح غزيرتها] ونحر سمينها وأطعم القانع والمعترّ» .
قال: يا رسول الله، ما أكرم هذه وأحسنها، إنه لا يحلّ بالوادي الذي أنا فيه لكثرة إبلي. فقال:
«فكيف تصنع بالطّروقة؟» قال: قلت تغدو الإبل ويغدو الناس، فمن شاء أخذ برأس بعير فذهب به. قال: «فكيف تصنع في الإفقار؟ قلت: إني لأفقر النّاب المدبرة والضّرع الصغير. قال:
«فكيف تصنع في المنيحة؟» قلت: إني لأمنح في كل سنة مائة. قال: «فمالك أحب إليك أم مال مواليك؟» قلت: لا، بل مالي. قال: «إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت وسائره لمواليك» . فقلت: والله لئن بقيت لأقلّنّ عددها.
قال الحسن البصريّ رحمه الله تعالى: فعل والله، فلما حضرت قيسا الوفاء جمع بنيه فقال: يا بني خذوا عنّي فإنكم لن تأخذوا من أحد هو أنصح لكم مني. إذا أنا متّ فسوّدوا أكابركم ولا تسوّدوا أصاغركم فتسفهكم الناس وتهونوا عليهم وعليكم بإصلاح المال فإنه سعة للكريم ويستغنى به عن اللئيم، وإيّاكم والمسألة فإنها آخر كسب المرء، وإذا أنا متّ فلا تنوحوا عليّ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينح عليه وقد سمعته ينهى عن النّياحة، وكفّوني في ثيابي التي كنت أصلّي فيها وأصوم وإذا دفنتموني فلا تدفنوني في موضع يطّلع عليه أحد، فإنه قد كان بيني وبين بني بكر بن وائل حماسات في الجاهلية فأخاف أن ينبشوني فيصيبون في ذلك ما
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 10/ 52 وعزاه للطبراني في الكبير والأوسط ورجاله ثقات
[ (2) ] أخرجه الطبراني في الكبير 18/ 339.(6/399)
يذهب فيه دينكم ودنياكم. قال الحسن رحمه الله تعالى: نصح لهم في الحياة ونصح لهم في الممات.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق.
الوبر: بواو فموحدة مفتوحتين فراء: شعر الإبل، وأهل الوبر أهل البوادي لأن بيوتهم يتخذونها منه.
رسلها: براء مكسورة فسين مهملة ساكنة فلام: الّلبن: والهينة والرّفق.
نجدتها ورسلها: بنون فجيم فدال مهملة ففوقية أي الشدة والرخاء، يقول: يعطي وهي سمان حسان يشتدّ عليه إخراجها فتلك نجدتها، ويعطي في رسلها وهي مهازيل مقاربة، قاله في النهاية. والأحسن أن يكون المراد بالنّجدة: الشّدة والجدب، وبالرّسل الرّخاء والخصب، لأن الرّسل اللبن وإنما يكثر في حال الرّخاء والخصب فيكون المعنى أنه يخرج حق الله تعالى في حال الضّيق والسّعة، والجدب والخصب.
أفقر ظهرها: بهمزة مفتوحة ففاء ساكنة فقاف فراء.
القانع: بقاف ثم نون: هو السائل.
المعتر: بضم الميم وسكون العين المهملة وفتح الفوقية: الذي يعتريك أي يلم بك لتعطيه ولا يسأل.
الدبرة: بفتح الدال المهملة والموحدة وتسكن فراء مفتوحة فتاء تأنيث: الدولة والظفر والعزيمة ويقال على من الدبرة أي الهزيمة.
سوّدوا: بسين مهملة فواو مكسورة مشددة فدال مهملة أي اجعلوه سيّدا.
حماسات: بحاء مهملة مفتوحة فميم فألف فسين مهملة فتاء حماسة وهي الشدة والشجاعة.(6/400)
الباب الحادي والثمانون في وفود بني كلاب إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد في الطبقات [ (1) ] عن خارجة بن عبد الله بن كعب قال: قدم وفد بني كلاب في سنة تسع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ثلاثة عشر رجلا فيهم لبيد بن ربيعة، وجبّار بن سلمى فأنزلهم دار رملة بنت الحدث، وكان بين جبّار وكعب بن مالك خلّة، فبلغ كعبا قدومهم فرحّب بهم وأهدى لجبّار وأكرمه، وخرجوا مع كعب فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّموا عليه بسلام الإسلام، وقالوا: إن الضحّاك بن سفيان سار فينا بكتاب الله وبسنّتك التي أمرت بها، وإنه دعانا إلى الله فاستجبنا لله ولرسوله وإنه أخذ الصّدقة من أغنيائنا فردّها على فقرائنا.
الباب الثاني والثمانون في وفود بني كلب إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد [ (2) ] عن رجل من بني ماويّة من كلب عن أبي ليلى بن عطية الكلبي عن عمه قالا: قال عبد عمرو بن جبلة بن وائل بن الجلاح الكلبي: شخصت أنا وعاصم- رجل من بني رقاش من بني عامر- حتى أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فعرض علينا الإسلام فأسلمنا وقال: «أنا النبي الأمّيّ الصادق الزّكيّ، والويل كلّ الويل لمن كذّبني وتولّى عنّي وقاتلني، والخير كلّ الخير لمن آواني ونصرني، وآمن بي وصدّق قولي، وجاهد معي» .
قالا: فنحن نؤمن بك ونصدّق قولك، وأنشأ عبد عمرو ويقول:
أجبت رسول الله إذ جاء بالهدى ... وأصبحت بعد الجحد بالله أوجرا
وودّعت لذّات القداح وقد أرى ... بها سدكا عمري وللهو أهدرا
وآمنت بالله العليّ مكانه ... وأصبحت للأوثان ما عشت منكرا.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
أوجر: بهمزة مفتوحة فواو ساكنة فجيم فراء، يقال وجرته بالسيف وجرا أي طعنته. قال في النهاية: والمعروف في الطّعن أوجرته الرّمح ولعله لغة فيه.
القداح: بقاف مكسورة فدال مهملة فألف فحاء مهملة جمع قدح بكسرها أيضا وهو السّهم الذي كانوا يستقسمون به وهو المراد هنا وهو السّهم الذي يرمى به عن القوس.
سدكا: بسين فدال مهملتين فكاف أي مولعا.
أهدر: بهمزة مفتوحة فهاء ساكنة فدال مهملة فراء: أي أبطل.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 64.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 98.(6/401)
الباب الثاني والثمانون في وفود بني كنانة إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد في الطبقات عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة، في رجال آخرين من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض فيما ذكروا من وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وفد واثلة بن الأسقع الليثي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم، يتجهّز إلى تبوك فصلّى معه الصبح، فقال له: «ما أنت وما جاء بك وما حاجتك؟» فأخبره عن نسبه وقال:
أتيتك لأؤمن بالله ورسوله، قال: «فبايع على ما أحببت وكرهت» ، فبايعه ورجع إلى أهله فأخبرهم، فقال له أبوه: والله لا أكلمك كلمة أبدا، وسمعت أخته كلامه فأسلمت وجهزته، فخرج راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجده قد صار إلى تبوك، فقال: من يحملني عقبه وله سهمي؟ فحمله كعب بن عجرة حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهد معه تبوك، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع خالد بن الوليد إلى أكيدر، فغنم فجاء بسهمه إلى كعب بن عجرة، فأبى أن يقبله وسوّغه إيّاه وقال: إنما حملتك لله.
الباب الثالث والثمانون في وفود كندة إليه صلّى الله عليه وسلم منهم الأشعث بن قيس.
قال في زاد المعاد: قال ابن إسحاق: حدثني الزّهري قال: قدم الأشعث بن قيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمانين أو ستين راكبا من كندة، فدخلوا عليه مسجده، قد رجّلوا جممهم واكتحلوا ولبسوا جباب الحبرات مكثّفة بالحرير. فلما دخلوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو لم تسلموا؟» قالوا: بلى. قال: «فما هذا الحرير في أعناقكم؟» فشقّوه ونزعوه وألقوه. ثم قال الأشعث بن قيس: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار وأنت ابن آكل المرار. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «ناسب بهذا النّسب ربيعة بن الحارث، والعباس بن عبد المطلب» .
قال الزهري وابن إسحاق: كانا تاجرين، وكانا إذا سارا في أرض العرب فسئلا: من أنتما؟ قالا:
نحن بنو آكل المرار، يتعزّزان بذلك في العرب ويدفعان به عن نفسيهما لأن بني آكل المرار من كندة كانوا ملوكا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، بل نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا» .
وفي المسند من حديث حماد بن سلمة، عن عقيل بن طلحة، عن مسلم بن مسلم عن الأشعث بن قيس قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد كندة ولا يرون إلا أنّي أفضلهم، قلت: يا رسول الله، ألستم منّا؟ قال: «لا، نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا» .
فكان الأشعث يقول: لا أوتى برجل نفى رجلاً من قريش من النضر بن كنانة(6/402)
إلا جلدته الحدّ.
وروى الإمام أحمد، وابن ماجة، والحارث، والبارورديّ، ويسمّونه، وابن سعد، والطّبرانيّ في الكبير، وأبو نعيم، والضياء عن الأشعث بن قيس الكندي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في وفد كندة فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «هل لك من ولد؟» . قلت: غلام ولد مخرجي إليك من ابنة فلان ولوددت أن يشبع القوم. فقال: «لا تقولنّ ذا فإن فيهم قرّة عين وأجرا إذا قبضوا» . ثم قال: «إنهم لمجبنة مبخلة» [ (1) ] .
وروى العسكري عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «ما فعلت بنت عمّك؟» قلت: نفست بغلام والله لوددت أن لي سبية. فقال: «إنهم لمجبنة مبخلة وإنهم لقرّة العين وثمرة الفؤاد» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
رجلوا: بالجيم أن سرّحوا ونظّفوا شعورهم.
الجمم: جمع جمّة وهي من شعر الرأس ما سقط من المنكبين.
الحبرة: بالحاء المهملة والموحدة وزن عنبة وهي من البرود وما كان موشّى مخطّطا يقال له حبرة، وبرد حبرة على الوصف والإضافة، وهو برد يمانيّ.
كفّفوها بالحرير: أي جعلوا لكل جبّة كفّة من حرير وهي بضم الكاف وتشديد الفاء فتاء تأنيث وهي السّجاف.
بنو آكل المرار: وهو الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية من كندة ولقب بذلك لأكله المرار هو وأصحابه، والمرار شجر معروف. وللنبي صلى الله عليه وسلم جدّة من كندة وهي أمّ كلاب بن مرة واسمها دعد بنت شريد بن ثعلبة بن الحارث الكندي، وقيل بل هي جدّة كلاب أمّ أمّه هند.
لا نفقوا أمنا ولا ننتفي من أبينا: أي لا نتهمها ولا نقذفها وقيل معناه: لا نترك النسب إلى الآباء وننتسب إلى الأمهات.
القادسية: قرية قرب الكوفة [ (1) ] .
جلولاء: بفتح الجيم وضم اللام وبالمد نهاوند: [بفتح أوله ورابعه مدينة عظيمة في قبلة همذان] .
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 8/ 158 وعزاه لأحمد والطبراني وقال: وفيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف وقد وثق وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.(6/403)
الباب الرابع والثمانون في وفادة أبي رزين لقيط بن عامر العقيلي إليه صلى الله عليه وسلم
روى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند، والطبراني عن لقيط بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: خرجت أنا وصاحبي نهيك بن عاصم [بن مالك بن المنتفق] حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافيناه حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبا فقال:
«يا أيها الناس، ألا إني قد خبأت لكم صوتي منذ أربعة أيام لتسمعوا الآن، ألا فهل من امرئ قد بعثه قومه؟» فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا ثم رجل لعلّه أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه ضال، ألا وإني مسؤول هل بلّغت؟ ألا اسمعوا تعيشوا، ألا اجلسوا» .
فجلس الناس، وقمت أنا وصاحبي، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره قلت: يا رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ فضحك فقال: «لعمر الله» . وهزّ رأسه وعلم أني أبتغي سقطه، فقال: «ضنّ ربّك عز وجل بمفاتيح خمسة من الغيب لا يعلمها إلا الله» . وأشار بيده، فقلت: وما هي يا رسول الله؟ فقال: «علم المنية، قد علم متى منيّة أحدكم ولا تعلمونه، وعلم ما في غد، وما أنت طاعم غدا ولا تعلمه، وعلم المني حين يكون في الرّحم قد علمه ولا تعلمونه، وعلم الغيث يشرف عليكم آزلين مسنتين، فيظلّ يضحك قد علم أن غوثكم قريب» . قال لقيط:
قلت: لن نعدم من ربّ يضحك خيرا يا رسول الله قال: «وعلم يوم الساعة» . قلت: يا رسول الله، إني سائلك عن حاجتي فلا تعجلني، قال: «سل عمّا شئت» . قال: قلت يا رسول الله، علّمنا ممّا لا يعلم الناس وممّا تعلم فإنّا من قبيل لا يصدّقون تصديقنا أحدا، من مذحج التي تدنو إلينا، وخثعم التي توالينا وعشيرتنا التي نحن منها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم تلبثون ما لبثتم، يتوفّى نبيّكم، ثم تبعث الصّائحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات، والملائكة الذين مع ربك، فيصبح ربّك عز وجل يطوف في الأرض قد خلت عليه البلاد، فيرسل ربّك السماء تهضب من عند العرش، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها من مصرع قتيل ولا مدفن ميّت إلا شقّت القبر عنه حتى تخلفه من قبل رأسه، فيستوي جالسا، فيقول ربّك: مهيم- لما كان فيه- فيقول: يا ربّ، أمس اليوم ولعهده بالحياة يحسبه حديث عهد بأهله» .
فقلت: يا رسول الله، فكيف يجمعنا بعد ما تمزقنا الرياح والبلي والسباع؟ فقال: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، أشرقت على الأرض وهي مذرة بالية، فقلت لا تحيا هذه أبدا، ثم أرسل ربّك عليها فلم تلبث إلا أياما حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة، ولعمر إلهك لهو أقدر على(6/404)
أن يجمعكم من الماء على أن يجمع نبات الأرض، فتخرجون من الأصواء، ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم» .
قال: قلت: يا رسول الله، كيف ونحن ملء الأرض وهو عز وجل شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه؟ قال: «أنبئك بمثل ذلك في آلاء الله عز وجل: الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة [ولعمر إلهك أقدر على أن يراكم وترونه من أن ترونهما ويريانكم] لا تضارّون- وفي لفظ: لا تضامّون- في رؤيتهما» . قلت: يا رسول الله، فما يفعل بنا ربنا إذا لقيناه؟ قال: «تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم، فلعمر إلهك ما تخطئ وجه أحد منكم قطرة، فأما المسلم فتدع وجهه مثل الرّيطة البيضاء. وأما الكافر فتنضحه أو قال: فتحطمه بمثل الحمم الأسود، ثم ينصرف نبيّكم ويتفرّق على أثره الصالحون فتسلكون جسرا من النار، فيطأ أحدكم الجمر فيقول: حسّ، فيقول ربّك عز وجل: أو إنّه ألا فتطلعون على حوض نبيّكم لا يظمأ والله ناهله قط فلعمرو إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يطهّره من الطّوف والبول والأذى، وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما واحدا» .
قال: قلت يا رسول الله، فبم نبصر يومئذ؟ قال: «بمثل بصرك ساعتك هذه وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض وواجهته الجبال» . قال: قلت: يا رسول الله، فبم نجزى من سيئاتنا وحسناتنا؟ قال: «الحسنة بعشر أمثالها، والسّيّئة بمثلها إلا أن يعفو» . قال: قلت: يا رسول الله، فما الجنة وما النار؟ قال: «لعمر إلهك إن النار لها سبعة أبواب، ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما وإن للجنّة ثمانية أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما» . قال: قلت: يا رسول الله، فعلام نطّلع من الجنة؟ قال: «على أنهار من عسل مصفّى وأنهار من خمر ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه، وماء غير آسن، وفاكهة، ولعمر إلهك ما تعلمون، وخير من مثله معه أزواج مطهّرة» . قال: قلت: يا رسول الله، أو لنا فيها أزواج أو منهنّ صالحات قال: «المصلحات للصالحين» ، وفي لفظ: «الصالحات للصالحين تلذّون بهن مثل لذّاتكم في الدنيا ويلذذن بكم غير أن لا توالد» .
قال لقيط: قلت: يا رسول الله، أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه. فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: يا رسول الله، علام أبايعك؟ قال: فبسط رسول الله صلى الله عليه وسلّم يده وقال:
«على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال الشّرك فلا تشرك بالله إلها غيره» . قال: فقلت: يا رسول الله، وإن لنا ما بين المشرق والمغرب؟ فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده وظنّ أني أشترط عليه شيئا لا يعطينه.(6/405)
قال: قلت: نحلّ منها حيث شئنا ولا يجني على امرئ إلا نفسه؟ فبسط إليّ يده وقال:
«ذلك لك، تحلّ حيث شئت ولا يجزي عنك إلا نفسك» . قال: فانصرفنا عنه. فقال: «ها إن ذين ها إن ذين، مرّتين، من أتقى الناس في الأولى والآخرة» . فقال له كعب بن الخداريّة، أحد بني بكر بن كلاب: من هم يا رسول الله؟ قال: «بنو المنتفق أهل ذلك منهم» . قال: فانصرفنا وأقبلت عليه فقلت: يا رسول الله، هل لأحد ممّن مضى من خير في جاهليتهم؟ فقال رجل من عرض قريش: والله إن أباك المنتفق لفي النار، قال: فلكأنّه وقع حرّ بين جلدة وجهي ولحمه مما قال لأبي، على رؤوس الناس، فهممت أن أقول وأبوك يا رسول الله، ثم إذا الأخرى أجمل، فقلت: يا رسول الله وأهلك. قال: «وأهلي لعمر الله حيث ما أتيت على قبر عامري أن قرشي أو دوسيّ قل أرسلني إليك محمد فأبشر بما يسؤك تجرّ على وجهك وبطنك في النار» .
قال: قلت: يا رسول الله وما فعل بهم ذلك؟ وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه وكانوا يحسبون أنهم مصلحون. قال صلى الله عليه وسلم: «ذلك بأن الله تعالى بعث في آخر كل سبع أمم نبيا، فمن عصى نبيّه كان من الضالّين ومن أطاع نبيّه كان من المهتدين» .
رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند، والطبراني. وقال الحافظ أبو الحسن الهيثمي رحمه الله تعالى: أسنادها متصلة ورجالها ثقات. وإسناد الطبراني مرسل عن عاصم بن لقيط. وقال في زاد المعاد: «هذا حديث كبير جليل تنادى جلالته وفخامته وعظمته على أنه خرج من مشكاة النّبوّة، رواه أئمة السّنّة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد، ولم يطعن أحد منهم فيه ولا في أحد من رواته» . وسرد [ابن القيّم] من رواه من الأئمة، منهم البيهقي في كتاب البعث.
تنبيهات
الأول: قال في زاد المعاد: «
قوله عليه الصلاة والسلام: «فيظلّ يضحك» ،
هذا من صفات أفعاله سبحانه وتعالى التي لا يشبهه فيها شيء من مخلوقاته كصفات ذاته، وقد وردت هذه القصة في أحاديث كثيرة لا سبيل إلى ردّها، كما لا سبيل إلى تشبيهها وتحريفها وكذلك
قوله: «فأصبح ربّك يطوف في الأرض» ،
هو من صفات أفعاله كقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر 22] ، وقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام 158] . وينزل ربّنا كل ليلة إلى السماء الدنيا [ويدنو عشيّة عرفة فيباهي بأهل الموقف الملائكة] ، والكلام في الجميع صراط واحد مستقيم، إثبات بلا تمثيل وتشبيه، وتنزيه بلا تحريف وتعطيل.(6/406)
الثاني:
قوله: «ما تدع على ظهرها من شيء إلا مات والملائكة الذين مع ربّك» ،
قال في زاد المعاد: لا أعلم موت الملائكة جاء في حديث صريح إلا في هذا الحديث، وحديث إسماعيل بن رافع الطويل وهو حديث الصّور، وقد يستدلّ عليه بقوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر 68] .
الثالث:
قوله: «فلعمر إلهك» ،
هو قسم بحياة الله تعالى، وفيه دليل على جواز الإقسام بصفاته، وانعقاد اليمين بها وأنها قديمة وإنه يطلق عليه منها أسماء المصادر، ويوصف بها، وذلك قدر زائد على مجرّد الأسماء وأن الأسماء الحسنى مشتقّة من هذه المصادر دالة عليها.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
لقيط: بلام مفتوحة فقاف مكسورة فتحتية ساكنة فطاء مهملة.
نهيك: بفتح النون وكسر الهاء وسكون التحتية وكاف.
السقط من القول بسين مهملة فقاف مفتوحتين فطاء مهملة: رديئة.
ضنّ ربّك: بضاد معجمة فنون مفتوحتين أي لم يطّلع غيره عليها.
يشرف عليكم: بتحتية مضمومة فشين معجمة ساكنة فراء مكسورة ففاء.
آزلين: بهمزة مفتوحة فزاي مكسورة فلام فتحتية ساكنة فنون، من الأزل الشّدة والضيق.
مشفقين: بميم مضمومة فشين معجمة ساكنة ففاء مكسورة فقاف فتحتية ساكنة فنون، أي خائفين من الإشفاق وهو الخوف.
إن غوثكم قريب: بغين معجمة مفتوحة فواو ساكنة فثاء مثلثة: أي إعانتكم.
خثعم: بخاء معجمة مفتوحة فمثلثة ساكنة فعين مهملة مفتوحة فميم.
تهضب: بمثناة فوقية مفتوحة فهاء ساكنة فضاد معجمة مكسورة فموحدة: مطرت.
تخلفه من قبل رأسه: بفتح المثناة الفوقية وسكون الخاء المعجمة فلام مضمومة ففاء، أي تبقى بعده، من الخلف بالتحريك والسكون وهو كل من يجيء بعد من مضى إلا أنه بالتحريك في الخير وبالتسكين في الشّر.
مهيم: بميم مفتوحة فهاء ساكنة فتحتية مفتوحة فميم، كلمة يمانية معناها ما الأمر وما الشأن؟.(6/407)
أنبئك: بهمزة مضمومة فنون ساكنة فموحدة فهمزة: أخبرك.
آلاء الله: بألف فهمزة فلام مفتوحتين فهمزة أي نعمه.
مذرة: بميم مفتوحة فذال معجمة مكسورة فراء فتاء تأنيث، أي فاسدة بالية.
شربة واحدة: قال القتيبي: إن كان بالسكون فإنه أراد أن الماء قد كثر فمن حيث أردت أن تشرب شربت.
الأصواء: بالهمزة المفتوحة والصاد المهملة: القبور.
لا تضامّون في رؤيتهما: بفتح المثناة الفوقية والضاد المعجمة فألف فميم فواو فنون.
صفحاتكم: جمع صفحة وهي أحد جانبي الوجه، وهي بصاد مهملة ففاء فحاء مهملة مفتوحات جمع صفحة.
ينضخ: بتحتية مفتوحة فنون ساكنة فضاد معجمة فخاء معجمة: أي يرش قليلا من الماء.
الرّيطة: براء مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فطاء مهملة فتاء تأنيث: كل ملاءة ليست بلفقين وقيل: كل ثوب رقيق ليّن.
الحميم الأسود: دخان أسود.
الجسر: الصّراط.
حسّ: بحاء مكسورة فسين مشددة مهملتين: كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضّه وأحرقه غفلة كالجمرة والضّربة ونحوهما.
فيقول ربّك عز وجل: أو إنه: [أي وإنّه كذلك أو إنه على ما تقول وقيل إن بمعنى نعم والهاء للوقف] .(6/408)
الباب الخامس والثمانون في وفود محارب إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] رحمه الله تعالى عن أبي وجرة السعدي قال: قدم وفد محارب سنة عشر في حجة الوداع، وهم عشرة نفر منهم سواء بن الحارث، وابنه خزيمة بن سواء، فأنزلوا دار رملة بنت الحدث، وكان بلال يأتيهم بغداء وعشاء إلى أن جلسوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الظهر إلى العصر، فأسلموا وقالوا: نحن على من وراءنا، ولم يكن أحد في تلك المواسم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه فيها على القبائل يدعوهم إلى الله ولينصروه، أفظّ ولا أغلظ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم.
وكان في الوفد رجل منهم فعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمدّه النظر، فلما رآه المحاربي يديم النظر إليه قال: كأنك يا رسول الله توهمني، قال: «لقد رأيتك» . قال المحاربي: أي والله لقد رأيتني وكلّمتني وكلّمتك بأقبح الكلام ورددت عليك بأقبح الرّدّ بعكاظ وأنت تطوف على الناس. فقال صلى الله عليه وسلم: «نعم» فقال المحاربي [يا رسول الله ما كان في أصحابي أشدّ عليك يومئذ ولا أبعد عن الإسلام مني] فأحمد الله الذي أبقاني حتى صدّقت بك، ولقد مات أولئك النفر الذين كانوا معي على دينهم. فقال صلى الله عليه وسلم: «أن هذه القلوب بيد الله عز وجل» . فقال: يا رسول الله، استغفر لي من مراجعتي إياك. فقال صلى الله عليه وسلم: «أن الإسلام يجبّ ما كان قبله من الكفر» .
ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه خزيمة بن سواء فكانت له غرة بيضاء، وأجازهم كما يجيز الوفد وانصرفوا إلى أهليهم. وروى ابن شاهين وأبو نعيم في معرفة الصحابة، وأبو بكر بن خلّاد النصيبي في الجزء الثاني من فوائده عن أبان المحاربي ويقال له أبان العبدي قال: «كنت في الوفد فرأيت بياض إبط رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رفع يديه يستقبل بهما القبلة» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
أغلظ العرب وأفظّه: بالظاء المعجمة المشالة هما بمعنى شدّة الخلق وخشونة الجانب.
نائبين: بالنون في أوله من النيابة.
توهمني: حذف منه إحدى التاءين أي تتوهّمني. رأيتك: بضم الفوقية.
ورأيتني وكلّمتني: بفتح الفوقية فيهما على الخطاب.
عكاظ: بعين مهملة مضمومة وكاف مخففة وبعد الألف ظاء معجمة مشالة.
فأحمد الله: بفتح الهمزة والميم.
يجبّ: بفتح التحتية وضم الجيم وتشديد الموحدة يقطع.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 436.(6/409)
الباب السادس والثمانون في وفود مرة إليه صلّى الله عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] رحمه الله تعالى عن أشياخ من بني مرة قالوا: قدم وفد بني مرّة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من تبوك سنة تسع وهم ثلاثة عشر رجلا رأسهم الحارث بن عوف، فقالوا: يا رسول الله، إنا قومك وعشيرتك، ونحن قوم من بني لؤي بن غالب ... فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «أين تركت أهلك؟» قال: بسلاح وما والاها. قال: «وكيف البلاد؟» قال: والله إنهم لمسنتون فادع الله لنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اسقهم الغيث» . فأقاموا أياما ثم أرادوا الانصراف إلى بلادهم، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مودّعين له، وأمر بلالا أن يجيزهم فأجازهم بعشر أواق فضّة، وفضّل الحارث بن عوف فأعطاه اثنتي عشرة أوقية، ورجعوا إلى بلادهم فوجدوها قد أمطرت. فسألوا متى مطرتم؟ فإذا هو ذلك اليوم الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقدم عليه وهو يتجهز لحجة الوداع قادم منهم فقال: يا رسول الله، رجعنا إلى بلادنا فوجدناها مصبوبة مطرا في ذلك اليوم الذي دعوت لنا فيه، ثم قلّدتنا أقلاد الزّرع في كل خمس عشرة [ليلة] مطرة جودا ولقد رأيت الإبل تأكل وهي بروك، وإن غنمنا ما توارى من أبياتنا فترجع فتقبل في أهلنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي هو صنع ذلك» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
مرّة: بميم مضمومة فراء مشددة فتاء تأنيث.
الحارث: بحاء مهملة فألف فراء فمثلثة.
ابن عوف: بعين مهملة فواو ففاء.
سلاح: بسين مهملة مكسورة فلام فألف فحاء مهملة: ما أعددته للحرب من آلة الحديد مما يقاتل به، والسّيف وحده يسمى سلاحا.
وما والاها: يقال رباعيّا وثلاثيا.
الأوقيّة: أربعون درهما جمعها أواقي بالتشديد والتخفيف.
بروك: بموحدة فراء مضمومة فواو فكاف أي باركة.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 63.(6/410)
الباب السابع والثمانون في وفود مزينة إليه صلى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد [ (1) ] ، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم عن النعمان بن مقرّن رضي الله تعالى عنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعمائة من مزينة وجهينة، فأمرنا بأمره، فقال القوم: يا رسول الله ما لنا من طعام نتزوّده. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله تعالى عنه: «زوّد القوم» . فقال: يا رسول الله ما عندي إلا فضلة من تمر وما أراها تغني عنهم شيئا. قال: «انطلق فزوّدهم» . فانطلق بنا إلى علّية فإذا تمر مثل البكر الأورق. فقال: خذوا. فأخذ القوم حاجتهم.
قال: وكنت في آخر القوم فالتفتّ وما أفقد موضع تمرة، وقد احتمل منه أربعمائة وكأنّا لم نرزأه تمرة. وفي لفظ: فنظرت وما أفقد موضع تمرة من مكانها.
وروى ابن سعد [ (2) ] عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده قال: كان أول من وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مضر أربعمائة من مزينة، وذلك في رجب سنة خمس فجعل لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة في دارهم وقال: «أنتم مهاجرون حيث كنتم فارجعوا إلى أموالكم» ، فرجعوا إلى بلادهم.
وقال [ابن سعد: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي أخبرنا أبو مسكين وأبو عبد الرحمن العجلاني قالا] : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من مزينة منهم خزاعيّ بن عبد نهم، فبايعه على قومه مزينة، وقدم معه عشرة منهم، فيهم بلال بن الحارث، والنّعمان بن مقرّن، وأبو أسماء، وأسامة، وعبد الله بن بردة، وعبد الله بن درّة وبشر بن المحتفز، وكان منهم دكين ابن سعيد، وعمرو بن عوف.
قال: وقال هشام في حديثه: ثم إن خزاعيّا خرج إلى قومه فلم يجدهم كما ظنّ، فأقام، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه فقال: «اذكر خزاعيا ولا تهجه» [ (3) ]
فقال حسان بن ثابت:
ألا أبلغ خزاعيّا رسولا ... بأنّ الذّمّ يغسله الوفاء
وأنّك خير عثمان بن عمرو ... وأسناها إذا ذكر السّناء
وبايعت الرّسول وكان خيرا ... إلى خير وأدّاك الثّراء
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 445.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 38 وأحمد 4/ 55.
[ (3) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 38.(6/411)
فما يعجزك أو ما لا تطقه ... من الأشياء لا تعجز عداء
قال: وعداء بطنه الذي هو منه. قال: فقام خزاعيّ فقال: يا قوم، قد خصّكم شاعر الرجل، فأنشدكم الله. قالوا: فإنا لا ننبو عليك. قال: وأسلموا ووفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء مزينة يوم الفتح إلى خزاعيّ، وكانوا يومئذ ألف رجل وهو أخو المغفل أبي عبد الله بن المغفل، وأخو عبد الله ذي البجادين.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
البكر: بموحدة مفتوحة وكاف ساكنة فراء: الفتيّ من الإبل.
الأورق: بهمزة مفتوحة فواو ساكنة فراء فقاف هو الأسمر.
نرزأه: بنون مفتوحة فراء ساكنة فزاي مفتوحة فهمزة فهاء أي ننقصه.(6/412)
الباب الثامن والثمانون في وفود معاوية بن حيدة إليه صلّى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد، والبيهقي [ (1) ] عن معاوية بن حيدة رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دفعت إليه قال: «أما إني سألت الله عز وجل إن يعينني عليكم بالسنة فتحفيكم وبالرعب أن يجعله في قلوبكم» . فقال معاوية بن حيدة بيديه جميعا: أما أنّي خلقت هكذا وهكذا، أي لا أؤمن بك ولا أتبعك، فما زالت السنة تحفيني، وما زال الرّعب يرعب في قلبي حتى وقفت بين يديك فبالله الذي أرسلك بماذا بعثك الله به عز وجل؟ قال: «بعثني بالإسلام» . قال: وما الإسلام؟ قال: «شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة، أخوان نصيران، لا يقبل الله عز وجل من أحد توبة أشرك بعد إسلامه» .
قال: قلت: يا رسول الله، ما حقّ زوج أحد منّا عليه؟ قال: «يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى ولا يضرب الوجه ولا يقبّح ولا تهجر إلا في المبيت» . وفي رواية: ما تقول: في نسائنا؟ قال: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [البقرة 223] . قال: فينظر أحدنا إلى عورة أخيه. قال: «لا» . قال: فإذا تفرّقا. قال: «فضمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى فخذيه على الأخرى، ثم قال: «ههنا تحشرون ههنا تحشرون ههنا تحشرون- ثلاثا- يعني الشام- ركبانا ومشاة وعلى وجوهكم موفون يوم القيامة سبعين أمّة، أنتم آخر الأمم وأكرمها على الله تعالى، وعلى أفواهكم الفدام، وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
حيدة: بحاء مهملة مفتوحة فتحتية ساكنة فدال مهملة فتاء تأنيث.
تحفيكم: بفوقية مضمومة فحاء مهملة ساكنة ففاء فتحتية: تستأصلكم.
الفدام: بفاء مكسورة فدال مهملة فألف فميم: ما يشدّ على فم الإبريق والكوز من خرقة لتصفية الشّراب الذي فيه، والمعنى أنهم يمنعون الكلام بأفواههم حتى تتكلم جوارحهم فشبّه ذلك بالفدام.
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في السنن 7/ 295 والدلائل 5/ 278 وأحمد في المسند 5/ 3.(6/413)
الباب التاسع والثمانون في وفود مهرة إليه صلى الله عليه وسلم
قال ابن سعد [ (1) ] رحمه الله تعالى: قالوا: قدم وفد مهرة عليهم مهريّ بن الأبيض فعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلموا ووصلهم وكتب لهم: «هذا كتاب من محمد رسول الله لمهري بن الأبيض على من آمن به من مهرة ألّا يؤكلوا ولا يعركوا وعليهم إقامة شرائع الإسلام، فمن بدّل فقد حارب، ومن آمن به فله ذمّة الله وذمة رسوله، الّلقطة مؤدّاة، والسّارحة مندّاة، والنّفث السّيّئة، والرّفث الفسوق» .
وكتب محمد بن مسلمة الأنصاري. وروى ابن سعد عن معمر بن عمران المهري عن أبيه قال: وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مهرة يقال له زهير- وفي لفظ: ذهبن- ابن قرضم بن العجيل [ابن قثات] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنيه ويكرمه لبعد مسافته، فلما أراد الانصراف بتّته وحمله، وكتب له كتابا فكتابه عندهم [إلى اليوم] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
مهرة: [بميم مفتوحة فهاء ساكنة فراء فتاء تأنيث] .
لا يؤكلوا: أي لا يغار عليهم.
ولا يعركوا: [من عركت الماشية النبات أكلته أي يؤكل نباتهم] .
السّارحة: بسين مهملة مفتوحة فألف فراء فحاء مهملة فتاء تأنيث: الماشية تسرح إلى المرعى.
مندّاة: [التّندية أن يورد الرجل الإبل والخيل فتشرب قليلا ثم يردّها إلى المرعى ساعة ثم تعاد إلى الماء] .
زهير: [بضم الزاي وفتح الهاء فمثناة تحتية ساكنة فراء] .
ذهبن: [بذال معجمة مفتوحة فهاء ساكنة فموحدة مفتوحة فنون] .
قرضم: [بقاف مكسورة فراء ساكنة فضاد معجمة مكسورة فميم] .
العجيل: [بضم العين المهملة وفتح الجيم فمثناة تحتية ساكنة فلام] .
__________
[ (1) ] انظر الطبقات 2/ 117.(6/414)
الباب التسعون في قدوم نافع بن زيد الحميري عليه زاده الله تعالى فضلاً وشرفاً لديه.
ذكر ابن شاهين نافع بن زيد الحميري في الصحابة، وأخرج من طريق زكريا بن يحيى ابن سعيد الحميري عن إياس بن عمرو الحميري أن نافع بن زيد الحميري قدم وافدا على النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من حمير، فقالوا: أتيناك لنتفقّه في الدين ونسأل عن أول هذا الأمر، قال:
«كان الله ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، ثم خلق القلم فقال: اكتب ما هو كائن، ثم خلق السموات والأرض وما بينهما، واستوى على عرشه» .
الباب الحادي والتسعون في وفود علماء نجران إليه صلى الله عليه وسلم وشهادتهم له بأنه النبي الذي كانوا ينتظرونه وامتناع من امتنع عن ملاعنته.
روى البيهقي عن يونس بن بكير [عن سلمة بن يسوع] عن أبيه عن جدّه- قال يونس وكان نصرانيا فأسلم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه: طس [النمل 1] إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ [النمل 30] ، يعني النمل، «بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عباده العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام» .
فلما أتي الأسقف الكتاب وقرأه قطع به وذعرا شديدا، فبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة، وكان من همدان. ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة إلا الأيهم وهو السيّد والعاقب. فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل وقرأه، فقال الأسقف:
يا أبا مريم، ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما تؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل، ليس لي في النّبوّة رأي، ولو كان أمرا من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأي وجهدت لك. فقال له الأسقف: تنحّ فاجلس ناحية. فتنحّى شرحبيل فجلس ناحية.
فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل وهو من ذي أصبح من حمير، فأقرأه الكتاب وسأله ما الرأي؟ فقال نحوا من قول شرحبيل بن وداعة. فقال له الأسقف: تنحّ فاجلس، فتنحّى فجلس ناحية. ثم بعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يدعى(6/415)
جبّار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس، فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل بن وداعة، وعبد الله بن شرحبيل، فأمره الأسقف فجلس ناحية.
فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعا أمر الأسقف بالناقوس فضرب به، ورفعت النيران السرج في الصوامع وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا نهارا فإن فزعوا بالليل ضربوا بالناقوس ورفعوا النيران في الصوامع. فاجتمع حين ضرب بالناقوس ورفعت السّرج أهل الوادي أملاه وأسفله، وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع، وفيه ثلاث وسبعون قرية، ومائة ألف مقاتل، فقرأ عليهم الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألهم عن الرأي فيه. فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني، وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي، وجبّار بن فيض الحارثي فيأتوهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران، ستون راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم منهم العاقب وهو عبد المسيح والسّيّد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، وبنيه وخويلد، وعمرو، وخالد، وعبد الله، ويحنس، منهم ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم: العاقب أمير القوم وذو رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمه عبد المسيح والسّيّد ثمالهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم واسمه الأيهم.
وأبو حارثة بن علقمة أحد بني بكر بن وائل أسقفهم وحبرهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السّفر عنهم ولبسوا حللا لهم يجرّونها من حبرة وتختّموا بالذهب. وفي لفظ:
دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده [في المدينة] حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب.
فقال بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا وفدا مثلهم. وقد حازت صلاتهم. فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّون نحو المشرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوهم» . ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلّموا عليه فلم يردّ عليهم السلام، وتصدّوا لكلامه نهارا طويلا فلم يكلّمهم وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذّهب.
فانطلقوا يتّبعون عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما وكانوا(6/416)
يعرفونهما، فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس فقالوا لهما: يا عثمان ويا عبد الرحمن، أن نبيّكما كتب إلينا كتابا فأقبلنا مجيبين له، فأتيناه فسلّمنا عليه فلم يردّ سلامنا، وتصدّينا لكلامه نهارا طويلا فأعيانا أن يكلّمنا فما الرأي منكما؟ أنعود إليه أم نرجع إلى بلادنا؟.
فقالا لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو في القوم: ما الرأي في هؤلاء القوم يا أبا الحسن؟ فقال لهما: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إليه. ففعل وفد نجران ذلك ووضعوا حللهم ونزعوا خواتيمهم ولبسوا ثياب سفرهم ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّموا عليه فردّ عليهم سلامهم ثم قال: «والذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وأن إبليس لمعهم» .
ذكر دعائه صلى الله عليه وسلم وفد نجران إلى الإسلام وما دار بينه وبينهم:
روى الحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وابن سعد، وعبد بن حميد عن الأزرق بن قيس رحمه الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا وفد نجران إلى الإسلام فقال العاقب السيد، عبد المسيح، وأبو حارثة بن علقمة: قد أسلمنا يا محمد، فقال: «إنكما لم تسلما» .
قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما، يمنعكما من الإسلام ثلاث فيكما: عبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير وزعمكما أن لله ولدا» . ثم سألهم وسألوه، فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى ابن مريم؟ فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى، يسرّنا إن كنت نبيا أن نعلم قولك فيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عندي فيه شيء يومي هذا، فأقيموا حتى أخبركم بما يقول الله في عيسى» . وروى ابن جرير عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثبت بيني وبين أهل نجران حجاب فلا أراهم ولا يروني» ،
من شدّة ما كانوا يمارون رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس، وابن سعد عن الأزرق بن قيس، وابن جرير عن السّدّي، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي جريج: أن نصارى نجران قالوا: يا محمد، فيم تشتم صاحبنا؟ قال: «من صاحبكم» ؟ قالوا: عيسى ابن مريم تزعم أنه عبد. قال: «أجل إنه عبد الله وروحه وكلمته، ألقاها إلى مريم وروح منه» . فغضبوا وقالوا: لا ولكنه هو الله نزل من ملكه
فدخل في جوف مريم ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمره، فهل رأيت قط إنسانا خلق من غير أب؟.
فأنزل الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ [المائدة 17](6/417)
وأنزل الله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 59] أي في كونه خلق من غير أب كمثل آدم خلقه من تراب يابس فجعله بشرا:
لحما ودما ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ مثل عيسى عند الله كمثل آدم أي شأنه الغريب كشأن آدم عليهما السلام. خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسّرة للتمثيل لما له من الشّبه وهو أنه تعالى خلق آدم من تراب بلا أب ولا أمّ فشبّه حاله بما هو أغرب إفحاما للخصم وقطعا لمواد الشبهة، والمعنى خلق قالبه من تراب ثم قال له: كُنْ أي أنشأه بشرا سويا بقوله: كُنْ كقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون 14] . ويجوز أن تكون «ثمّ» لتراخي الخبر لا المخبر فيكون حكاية حال ماضية.
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [آل عمران 60] خبر محذوف أي الحقّ من الله عز وجل، فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لزيادة الثّبات أو لكل سامع. فلما أصبحوا عادوا فقرأ عليهم الآيات فأبوا أن يقرأوا. وفي ذكر طلبه صلى الله عليه وسلم مباهلة أهل نجران بأمر الله تعالى وامتناعهم من ذلك قال الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ [آل عمران 61] أي جادلك من النصارى في عيسى من بعد ما جاءك من البيّنات الموجبة للعلم. فَقُلْ تَعالَوْا [آل عمران 61] هلمّوا بالرّأي والعزم نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ [آل عمران 61] أي يدع كلّ منا ومنكم نفسه وعزّة أهله وألصقهم بقلبه أي المباهلة، وإنما قدّم على النّفس لأن الرجل يخاطر بنفسه لهم ويحارب دونهم، ثم نتباهل أي يلعن الكاذب منّا، والبهلة بالضّمّ [والفتح] اللّعنة وأصله التّرك من قولهم بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار. ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ [آل عمران 61] عطف فيه بيان.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران 62] أي ما ذكره من شأن عيسى حقّ دون ما ذكروه وما بعده خبر، واللام لأنه أقرب إلى المبتدأ من الخبر وأصلها أن تدخل على المبتدأ. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران 62] صرّح فيه «بمن» المزيدة للاستقراء تأكيدا للرّدّ على النصارى في تثنيتهم. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لا أحد يساويه في القدرة الثابتة والحكمة البالغة ليشاركه في الألوهية. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران 63] وعيد لهم وضع لهم موضع التميز ليدل على أن التّولّي عن الحجج والإعراض عن التوحيد إفساد للدّين والاعتقاد المؤدّي إلى فساد العلم.
وروى الحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن جابر، وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه، والبيهقيّ عن سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جدّه والشيخ،(6/418)
والترمذي، والنسائي عن حذيفة، وابن سعد عن الأزرق بن قيس، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم عن ابن عباس في الدلائل عن قتادة، وابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو نعيم عن الشعبي رضي الله تعالى عنهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآيات دعا وفد نجران إلى المباهلة فقال: «إن الله تعالى أمرني أن لم تقبلوا هذا أن أباهلكم» . فقالوا: يا أبا القاسم بل نرجع فننظر في أمرنا. وفي حديث ابن عباس عن أبي نعيم في الدلائل: فقالوا: أخّرنا ثلاثة أيام، فخلا بعضهم إلى بعض وتصادقوا. فقال السيد العاقب:
والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدا لنبيّ مرسل ولئن لاعنتموه ليخسفنّ بأحد الفريقين إنه للاستئصال لكم، وما لا عن قوم قط نبيا فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم. وفي رواية: فقال شرحبيل: لئن كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلا عنّاه لا يبقى على وجه الأرض منّا شعر ولا ظفر إلا هلك. وفي رواية: لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، وفي رواية: لئن لاعنتموه ليخسفنّ بأحد الفريقين. قالوا: فما الرأي يا أبا مريم؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلا لا يحكم شططا أبدا.
فقال السّيّد: فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل ثم انصرفوا إلى بلادكم. فلما انقضت المدة أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشتملا على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة، وله يومئذ عدة نسوة. فقال صلى الله عليه وسلم: «أن أنا دعوت فأمّنوا أنتم» . وروى مسلم، والترمذي، وابن المنذر، والحاكم في السنن عن سعد بن أبي وقّاص عن علي بن أحمر قالا: لما نزلت آية المباهلة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي [ (1) ] » . انتهى.
فتلقّى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد رأيت خيرا من ملاعنتك. فقال: «وما هو؟» فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح فما حكمت فينا فهو جائز. وأبوا أن يلاعنوه.
وروى عبد الرزاق، والبخاري، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال: لو باهل أهل نجران رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا.
وروي عن الشعبي مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد أراني البشير بهلكة أهل نجران حتى الطير على الشّجر ولو تمّوا على الملاعنة» .
وروي عن قتادة مرسلا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان العذاب لقد نزل على أهل نجران، أن لو فعلوا لاستؤصلوا من الأرض» .
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم 4/ 1871 (32- 2404) .(6/419)
ذكر مصالحة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران بعثه معهم أبا عبيدة:
رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد كتب لهم هذا الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما كتب محمد النبي رسول الله لأهل نجران- إذا كان عليهم حكمه- في كل ثمرة وفي كل صفراء وبيضاء ورقيق فأفضل ذلك عليهم، وترك ذلك كله [لهم] على ألفي حلّة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلّة، وفي كل صفر ألف حلّة، مع كل حلّة أوقيّة من الفضّة، فما زادت على الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب، وما قضوا من دروع أو خيل أو ركاب أو عروض أخذ منهم بالحساب، وعلى نجران مؤنة رسلي ومتعتهم ما بين عشرين يوما فما دون ذلك، ولا تحبس رسلي فوق شهر.
وعليهم عارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا إذا كان كيد ومعرّة، وما هلك ممّا أعاروا رسلي من دروع أو خيل أو ركاب [أو عروض] فهو ضمين على رسلي حتى يؤدّوه إليهم. ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وملّتهم وأرضهم وأموالهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم [وصلواتهم] [وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير] وألا يغيّروا مما كانوا عليه بغير حق من حقوقهم ولا ملّتهم، ولا يغيّر أسقف عن أسقفيّته ولا راهب من رهبانيته، وليس عليهم دنيّة ولا دم جاهلية ولا يحشرون ولا يعشرون ولا يطأ أرضهم جيش، ومن سأل منهم حقا فبينهم النّصف غير ظالمين ولا مظلومين. [على ألا يأكلوا الربا] فمن أكل الربا من ذي قبل فذمّتي منه بريئة ولا يؤخذ رجل منهم بظلم آخر، وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمّة النبي محمد رسول الله أبدا حتى يأتي الله بأمره ما نصحوا وأصلحوا ما عليهم غير مثقلين بظلم» .
شهد أبو سفيان بن حرب، وغيلان بن عمرو، ومالك بن عوف النّصري، والأقرع بن حابس الحنظلي والمغيرة بن شعبة.
وفي لفظ: أن الأسقف أبا الحارث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه السيد العاقب ووجوه قومه وأقاموا عنده يستمعون ما ينزل الله عز وجل
فكتب للأسقف هذا الكتاب ولأساقفة نجران بعده يقول فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول الله للأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم وأهل بيعهم ورقيقهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغيّر أسقف من أسقفيته وراهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته، ولا يغيّر حق من حقوقهم ولا سلطانهم ولا مما كانوا عليه، لهم على ذلك جوار الله تعالى ورسوله أبدا، ما نصحوا وأصلحوا غير مثقلين بظلم ولا ظالمين» .
وكتب المغيرة بن شعبة. فلما قبض الأسقف الكتاب استأذن في الانصراف إلى قومه ومن معه فأذن لهم فانصرفوا.(6/420)
وروى البيهقي بإسناد صحيح إلى ابن مسعود أن السيد العاقب وأبا الحارث بن علقمة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تلاعنه فو الله لئن كان نبيا فلاعنته لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. فقالا: يا أبا القاسم قد رأينا ألا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلا أمينا ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لأبعثنّ معكم رجلا أمينا حقّ أمين» فاستشرف لها أصحابه. فقال: «قم يا أبا عبيدة بن الجراح» . فلما قام قال: «هذا أمين هذه الأمة» . ورواه البخاري في صحيحه من حديث حذيفة بنحوه [ (1) ] .
ذكر محاجّة أهل نجران ويهود المدينة في إبراهيم وما نزل في ذلك من الآيات
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيم إلا يهوديا، وقالت النصاري: ما كان إلا نصرانيا. فأنزل الله عز وجلّ: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران 65- 68] .
فقال رجل من الأحبار: أتريد منا يا محمد إن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم؟
وقال رجل من نصارى نجران: أو ذلك تريد يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره، ما بذلك بعثني ولا أمرني» . فأنزل الله عز وجل في ذلك: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران 79- 80] . ثم ذكر ما أخذ عليهم وعلى آبائهم من الميثاق بتصديقه وإقرارهم به على أنفسهم، فقال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في كتاب أخبار الآحاد (7254) .(6/421)
رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران 81] .
ذكر رجوع وفد نجران إلى بلادهم وما وقع في ذلك من الآيات
ثم لما قبضوا كتابهم انصرفوا إلى نجران ومع الأسقف أخ له من أمه وهو ابن عمه من النسب يقال له بشر بن معاوية وكنيته أبو علقمة. فدفع الوفد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأسقف فبينا هو يقرأه، وأبو علقمة معه، وهما يسيران إذ كبت ببشر ناقته فتعس بشر غير أنه لا يكنّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الأسقف عند ذلك: قد والله تعست نبيا مرسلا. فقال له بشر: لا جرم والله لا أحلّ عقدا حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرف وجه ناقته نحو المدينة وثنى الأسقف ناقته عليه. فقال له: افهم عنّي إنما قلت هذا ليبلغ عني العرب مخافة أن يقولوا إنا أخذنا حقّه [أو رضينا بصورته] أو نجعنا بما لم تنجع به العرب، ونحن أعزّهم وأجمعهم دارا.
فقال له بشر: لا والله لا أقبل ما خرج من رأسك أبدا، فضرب بشر ناقته، وهو مولّي الأسقف ظهره وارتجز يقول:
إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النّصارى دينها
حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم ولم يزل معه حتى قتل بعد ذلك. قال: ودخل الوفد نجران فأتى الراهب ليث بن أبي شمر الزبيدي وهو في رأس صومعته. فقال له: إن نبيّا بعث بتهامة، فذكر ما كان من وفد نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه عرض عليهم الملاعنة فأبوا وإن بشر بن معاوية دفع إليه فأسلم. فقال الراهب: أنزلوني وإلا ألقيت نفسي من هذه الصومعة.
قال: فأنزلوه فانطلق الراهب بهدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منها هذا البرد الذي يلبسه الخلفاء والعقب والعصا. فأقام الراهب مدّة بعد ذلك يسمع الوحي والسنن والفرائض والحدود، ثم رجع إلى قومه ولم يقدّر له الإسلام ووعد أنه سيعود فلم يعد حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم.(6/422)
الباب الثاني والتسعون في وفود النّخع إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] عن أشياخ من النّخع قالوا: بعثت النخع رجلين منهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وافدين بإسلامهم: أرطأة بن شراحيل بن كعب بن بني حارثة بن سعد بن مالك بن النّخع، والجهيش واسمه الأرقم من بني بكر بن عوف بن النّخع. فخرجها حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرض عليهما الإسلام فقبلاه وبايعاه على قومهما، فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم شأنهما وحسن هيئتهما، فقال: «هل خلّفتما وراء كما قومكما مثلكما؟» فقالا: يا رسول الله، قد خلّفنا وراءنا من قومنا سبعين رجلا كلّهم أفضل منا، وكلّهم يقطع الأمر وينفذ الأشياء ما يشاركوننا في الأمر إذا كان.
فدعا لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقومهما بخير وقال: «اللهم بارك في النّخع» .
وعقد لأرطأة لواء على قومه، فكان في يده يوم الفتح، وشهد به القادسية، فقتل يومئذ فأخذه أخوه دريد فقتل رحمهما الله فأخذه سيف بن الحارث من بني جذيمة فدخل به الكوفة.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهذا الحيّ من النّخع، أو قال:
يثني عليهم، حتى تمنّيت أني رجل منهم. رواه الإمام أحمد برجال ثقات، والبزار والطبراني.
قصة أخرى: قال محمد بن عمر الأسلمي: كان آخر من قدم من الوفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد النّخع، وقدموا من اليمن للنصف من المحرم سنة إحدى عشرة، وهم مائتا رجل، فنزلوا دار رملة بنت الحدث ثم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرّين بالإسلام، وقد كانوا بايعوا معاذ بن جبل باليمن، فكان فيهم زرارة بن عمرو. قال: أخبرنا هشام بن محمد هو زرارة بن قيس ابن الحارث بن عديّ، وكان نصرانيا.
وروى ابن شاهين من طريق أبي الحسن المدائني عن شيوخه، ومن طريق ابن الكلبي قال: حدثني رجل من جرم عن رجل منهم قال: وفد رجل من النخع يقال له زرارة بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني رأيت في سفري هذا رؤيا هالتني، وفي رواية:
رأيت عجبا. قال: «وما رأيت؟» قال: رأيت أتانا تركتها في الحيّ كأنها ولدت جديا أسفع أحوى. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل لك من أمة تركتها مصرّة حملا؟» قال: نعم تركت أمة لي أظنّها قد حملت قال: «فإنها قد ولدت غلاما وهو ابنك» . فقال: يا رسول الله، ما باله أسفع أحوى؟ قال: «ادن مني» فدنا منه. فقال: «هل بك برص تكتمه؟» قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّا
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 109.(6/423)
ما علم به أحد ولا اطّلع عليه غيرك. قال: «فهو ذلك» . قال: يا رسول الله، ورأيت النعمان بن المنذر وعليه قرطان ودملجان ومسكتان. قال: «ذلك ملك العرب عاد إلى أحسن زيّه وبهجته» . قال: يا رسول الله، ورأيت عجوزا شمطاء خرجت من الأرض قال: «تلك بقية الدنيا» . قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، ورأيتها.
تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، أطعموني آكلكم آكلكم، أهلككم وما لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تلك فتنة في آخر الزمان» . قال: وما الفتنة يا رسول الله؟ قال: «يقتل الناس إمامهم ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه- يحسب المسيء أنه محسن ودم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء، إن مات ابنك أدركت الفتنة وإن متّ أنت أدركها ابنك» . فقال: يا رسول الله، ادع الله ألا أدركها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا يدركها» . فمات وبقي ابنه، وكان ممن خلع عثمان رضي الله تعالى عنه.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
النّخع: بفتح النون والخاء المعجمة وبالعين المهملة.
أرطاة: بهمزة مفتوحة فراء ساكنة فطاء مهملة فألف فتاء تأنيث.
الأتان: بفتح الهمزة ففوقية فألف فنون: الأنثى من الحمر.
المسكة: بفتح الميم والسين المهملة والكاف فتاء تأنيث: السّوار والخلاخيل من الذّبل وهي قرون الأوعال قاله ابن سيده.(6/424)
الباب الثالث والتسعون في وفود بني هلال بن عامر إليه صلى الله عليه وسلم
قالوا: وفد زياد بن عبد الله بن مالك على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما دخل المدينة توجه إلى منزل ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت خالة زياد- أمّه عزّة بنت الحارث- وهو يومئذ شاب. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو عندها. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب فرجع فقالت: يا رسول الله هذا ابن أختي فدخل إليها ثم خرج حتى أتى المسجد ومعه زياد، فصلّى الظهر ثم أدنى زيادا فدعا له ووضع يده على رأسه ثم حدّرها على طرف أنفه فكانت بنو هلال تقول ما زلنا نعرف البركة في وجه زياد وقال الشاعر لعلي بن زياد:
يا بن الذي مسح النبيّ برأسه ... ودعا له بالخير عند المسجد
أعني زيادا لا أريد سواءه ... من غائر أو متهم أو منجد
ما زال ذاك النّور في عرنينه ... حتى تبوأ بيته في الملحد
وروى ابن سعد عن علي بن محمد القرشي قال: قالوا: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر من بني هلال فيه عبد عوف بن أصرم بن عمرو، فسأله عن اسمه فأخبره فقال: «أنت عبد الله» ، فأسلم، ومنهم قبيصة بن المخارق قال: يا رسول الله، إني حملت عن قوي حمالة فأعنّي فيها قال: «هي لك في الصّدقة إذا جاءت» [ (1) ] .
وروى مسلم عن قبيصة بن مخارق الهلالي رضي الله تعالى عنه قال: تحمّلت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها فقال: «أقم حتى تأتينا الصّدقة فنأمر لك بها» قال: ثم قال:
«يا قبيصة إنّ المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالة فحلّت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش- أو قال سدادا من عيش- ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلانا فاقة فحلّت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش- أو قال: سدادا من عيش- فما سواهنّ [من المسألة] يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا» [ (2) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
عزّة: بعين مهملة مفتوحة فزاي مشددة فتاء تأنيث.
متهم: بميم مضمومة فمثناة فوقية ساكنة فهاء مكسورة فميم: يقال للذي أتى تهامة.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 74.
[ (2) ] أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (109) وأبو داود (1640) والنسائي 5/ 89.(6/425)
غائر: [بغين معجمة فألف فهمزة مكسورة فراء يقال للذي أتى الغور] .
منجد: بميم مضمومة فنون ساكنة فجيم مكسورة فدال مهملة: من أنجد أتى نجدا أو خرج إليه.
العرنين: بعين مهملة مكسورة فراء ساكنة فنونين بينهما تحتية: العرنين الأنف وقيل رأسه.
الملحد: [بميم مفتوحة فلام ساكنة فحاء مفتوحة فدال مهملتين: الملتجأ] .
المخارق: [بميم مضمومة فخاء معجمة فألف فراء ساكنة فقاف] .
الحمالة: حاء مهملة فميم مفتوحتين فألف فلام فتاء تأنيث: ما يتحمّله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة مثل أن يقع حرب بين فريقين يسفك فيها الدماء فيدخل بينهم رجل يتحمّل ديات القتلى ليصلح ذات البين، والتّحمّل أن يحملها عنهم على نفسه.
الفاقة: بفاء فقاف مفتوحتين بينهم ألف وآخرها تاء تأنيث: الفقر.
الحجى: بحاء مهملة مكسورة فجيم [فألف مقصورة] العقل لأنه يمنع الإنسان من الفساد ويحفظ من التّعرّض للهلاك.
القوام من العيش: بقاف مكسورة فواو فألف فميم: ما يقوم بحاجته لضرورته.
السّحت: بسين مضمومة فحاء ساكنة مهملتين وبضمّهما أيضا وآخره تاء مثناة فوقية:
هو الحرام وقيل: الخبيث من المكاسب.(6/426)
الباب الرابع والتسعون في وفود همدان إليه صلى الله عليه وسلم
قالوا: قدم وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليهم مقطّعات الحبرات مكفّفة بالديباج، وفيهم حمزة بن مالك من ذي مشعار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم الحيّ همدان ما أسرعها إلى النّصر وأصبرها على الجهد ومنهم أبدال وأوتاد الإسلام» .
فأسلموا وكتب لهم النبي صلى الله عليه وسلم كتابا بمخلاف خارف، ويام، وشاكر، وأهل الهضب، وحقاف الرّمل من همدان لمن أسلم منهم [ (1) ] .
وفي زاد المعاد: «وقدم عليه وفد همدان منهم مالك بن النّمط، ومالك بن أيفع، وضمام بن مالك، وعمرو بن مالك فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من تبوك وعليهم مقطّعات الحبرات والعمائم العدنية برحال الميس على الرواحل المهريّة والأرحبيّة، ومالك بن النّمط يرتجز بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول:
إليك جاوزن سواد الرّيف ... في هبوات الصّيف والخريف
مخطّمات بحبال اللّيف
وذكروا له كلاما حسنا فصيحا، فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا أقطعهم فيه ما سألوه وأمّر عليهم مالك بن النّمط واستعمله على من أسلم من قومه، وأمره بقتال ثقيف وكان لا يخرج لهم سرح إلا أغاروا عليه. وقد روى البيهقي بإسناد صحيح من حديث ابن إسحاق عن البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء: فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد، فأقمنا ستة أشهر يدعوهم إلى الإسلام. فلم يجيبوه، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأمره أن يعقّب خالدا إلا رجلا ممّن كان مع خالد أحبّ أن يعقّب مع عليّ فليعقّب معه. قال البراء: فكنت فيمن عقّب مع عليّ. فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا- فصلّى بنا عليّ ثم صفنا صفّا واحدا ثم تقدّم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت همدان جميعا.
فكتب. عليّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب خرّ ساجدا ثم رفع رأسه فقال: «السلام على همدان السلام على همدان» . وأصل الحديث في صحيح البخاري
[ (2) ] وهذا أصحّ مما تقدّم. ولم تكن همدان أن تقاتل ثقيفا ولا تغير على سرحهم فإن همدان باليمن وثقيفا بالطائف» .
وقال ابن إسحاق: «فقام مالك بن نمط بين يديه فقال: يا رسول الله نصيّة من همدان
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 74 وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 4/ 440 وذكره المتقي الهندي في الكنز (34030) .
[ (2) ] أخرجه البيهقي في السنن 2/ 266 وفي الدلائل 5/ 369 وأصله في البخاري كتاب المغازي 7/ 663.(6/427)
من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواح [متّصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم في الله لومة لائم من مخلاف خارف، ويام] وشاكر، أهل السّواد والقود، أجابوا دعوة الرسول، وفارقوا الآلهات والأنصاب، عهدهم لا ينقض [عن سنّة ما حل، ولا سوداء عنقفير] ما أقام لعلع، وما جرى اليعفور بصيلع» .
فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمخلاف خارف، وأهل جناب الهضب، وحقاف الرّمل، مع وافدها ذي المشعار مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها] ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون ظلافها، ويرعون عفاءها [لنا من دفئهم وصرامهم ما سلّموا بالميثاق والأمانة ولهم من الصّدقة الثّلب والتّاب والفصيل والفارض والدّاجن والكبش الحوريّ وعليهم فيها الصّالغ والقارح] لكم بذلك عهد الله وذمام رسوله، وشاهدكم المهاجرون والأنصار»
فقال في ذلك مالك بن نمط:
ذكرت رسول الله في فحمة الدّجى ... ونحن بأعلى رحرحان وصلدد
وهنّ بنا خوص طلائع تغتلي ... بركبانها في لا حب متمدّد
على كلّ فتلاء الذّراعين جسرة ... تمرّ بنا مرّ الهجف الخفيدد
حلفت بربّ الرّاقصات إلى منى ... صوادر بالرّكبان من هضب قردد
بأنّ رسول الله فينا مصدّق ... رسول أتى من عند ذي العرش مهتد
فما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ... أشد على أعدائه من محمّد
وأعطى إذا ما طالب العرف جاءه ... وأمضى بحدّ المشرفيّ المهنّد
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
همدان: بفتح الهاء وسكون الميم وبالدال المهملة: قبيلة معروفة. وقال الأئمة الحفّاظ:
ليس في الصحابة ولا تابعيهم ولا أتباع التابعين أحد من البلدة: [همذان] التي بفتح الميم وبالذال المعجمة.
المقطّعات: ثياب قصار لأنها قطعت عن بلوغ التمام، وقيل المقطّع من الثياب كل ما يفصّل ويخاط من قميص وغيره وما لا يقطع منها كالأزر والأردية.
الحبرات: بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة وبالراء جمع مصبغ باليمن.
الدّيباج: بدال مهملة مكسورة الثياب المتّخذة من الإبريسم فارسي معرّب وقد تفتح داله.
مشعار: بميم مكسورة وشين معجمة ساكنة وعين مهملة أو معجمة.
مخلاف: بميم مكسورة فخاء معجمة ساكنة فلام فألف ففاء، من اليمن كالرّستاق في العراق.(6/428)
خارف: بخاء معجمة مفتوحة فألف فراء ففاء: قبيلة.
يام: بمثناة تحتية فألف فميم: بطن من همدان.
شاكر: [بطن من ولد مالك بن زيد بن كهلان] .
حفاف: الرّمل بحاء مهملة مكسورة ففاءين بينهما ألف من أسماء بلادهم.
النّمط: بنون فميم مفتوحتين فطاء مهملة: نوع من البسط.
الخارفي واليامي: نسبة إلى خارف ويام.
الأرحبي: بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الحاء المهملة وبالموحدة نسبة إلى قبيلة من همدان.
أيفع: بهمزة مفتوحة فتحتية ساكنة ففاء فعين مهملة.
النّاعطي: بنون وبعد الألف عين مهملة مكسوة فطاء مهملة.
السّلماني: بفتح السين المهملة وسكون اللام.
عميرة: بفتح العين المهملة وكسر الميم فمثناة تحتية فراء فتاء تأنيث.
العدنيّة: بفتح العين والدال المهملتين: نسبة إلى عدن البلد المشهور.
الرّواحل: بفتح الراء وكسر الحاء المهملة وباللام جمع راحلة وهو البعير القويّ على الأحمال والأسفار والذي يختاره الرجل لمركبه ورحله على النجابة وتمام الخلق وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة الإبل فمركب، والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء في راحلة للمبالغة.
المهريّة: بفتح الميم وسكون الهاء وكسر الراء نسبة إلى مهرة.
حيدان بن عمرو بن الحافي بن قضاعة: حيدان بفتح الحاء المهملة وسكون التحتية وبالدال المهملة وبعدها ألف ونون.
الأرحبيّة: نسبة إلى أرحب بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح الحاء المهملة وبالموحدة.
يرتجز: أي يقول الرّجز وهو شعر على الصحيح.
السّواد: هنا القرى الكثيرة الشّجر.
الرّيف: براء مكسورة فتحتية ساكنة وآخره فاء: ما قارب الماء في أرض العرب وقيل هو الأرض التي فيه الزّرع والخصب وقيل غير ذلك.
الهبوات: بفتح الهاء والموحدة: جمع هبوة وهي الغبرة.
مخطّمات: جعل لها خطام وهي الجبال التي تشدّ في رؤوس الإبل وتميل أنوفها.
ليف النّخل: معروف.
سرح: بفتح السين وسكون الراء وبالحاء المهملات: المال السائم أي الراعي.(6/429)
فحمة: بفتح الفاء وسكون الحاء المهملة فميم مفتوحة فتاء تأنيث.
الدّجى: بدال مهملة مضمومة وجيم مفتوحة فألف مقصورة: ظلمة الليل.
رحرحان: براءين مفتوحتين بعد كل منهما حاء مهملات الحاء الأولى ساكنة: جبل بقرب عكاظ.
صلدد: بصاد مهملة مفتوحة فلام ساكنة فدالين مهملتين وزن جعفر: موضع باليمن.
خوص: بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وبالصاد المهملة.
قلائص: بقاف فلام فهمزة مكسورة فصاد مهملة: جمع قلوص وهو من النّوق الشّابّة وهي بمنزلة الجارية من النساء.
تغتلي: بغيم معجمة: تشتدّ في سرها، والاغتلاء الإسراع.
اللّاحب: بتشديد اللام وكسر الحاء المهملة وبالموحدة، واللّحب الطريق الواضح، واللاحب مثله وهو الأعلم بمعنى مفعول أي ملحوب.
الفتل: بفاء ففوقية مفتوحتين فلام: تباعد ما بين المرفقين عن جنبي البعير.
الجسر: بفتح الجيم وسكون السين المهملة وراء، العظيم من الإبل وغيرها والأنثى جسرة، قاله الجوهري رحمه الله، وفي الإملاء الجسرة الناقة القوية على السّير.
الهجفّ: بكسر الهاء وفتح الجيم وبالفاء المشددة، وهو كما في الصّحاح: الهجفّ من النّعام ومن الناس الجافي الثقيل.
الخفيدد: بفتح الخاء المعجمة، والفاء وسكون التحتية فدالين مهملتين الأولى مفتوحة: الخفيف من الظّلمان.
الرّاقصات: قال في الإملاء: هي الإبل ترقص في سيرها أي تتحرك، والرّقصان ضرب من المشي.
صوادر: أي رواجع.
الهضب: بفتح الهاء وسكون الضاد المعجمة وبالموحدة وهضبات جمع هضبة: الجبل المنبسط على وجه الأرض.
قردد: بفتح القاف وسكون الراء فدالين مهملتين الأولى مفتوحة: هو المكان الغليظ المرتفع من الأرض.
العرف: بضم العين المهملة وسكون الراء وبالفاء: ضدّ النّكر.
المشرفي: بفتح الميم.
المهنّد: بفتح النون المشددة.
الظّليم: بفتح الظاء المعجمة المشالة وكسر اللام: الذّكر من النعام والجمع ظلمان.(6/430)
الباب الخامس والتسعون في قدوم وائل بن حجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى البخاري رحمه الله تعالى في التاريخ، والبزار، والطبراني [ (1) ] ، والبيهقي عن وائل بن حجر رضي الله تعالى عنه قال: بلغنا ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في بلد عظيم ورفاهة عظيمة فرفضت ذلك، ورغبت إلى الله عز وجل وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قدمت عليه أخبرني أصحابه أنه بشّر بمقدمي عليهم قبل أن أقدم بثلاث ليال.
قال الطبراني: فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلّمت عليه فردّ عليّ، وبسط لي رداءه وأجلسني عليه، ثم صعد منبره وأقعدني معه ورفع يديه وحمد الله تعالى وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم واجتمع الناس إليه فقال لهم: «يا أيها الناس، هذا وائل بن حجر قد أتاكم من أرض بعيدة، من حضر موت، طائعا غير مكره، راغبا في الله وفي رسوله وفي دين بيته، بقيّة أبناء الملوك» . فقلت: يا رسول الله، ما هو إلا أن بلغنا ظهورك، ونحن في ملك عظيم وطاعة، وأتيتك راغبا في دين الله. فقال:
«صدقت» . وعن وائل بن حجر قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذا وائل بن حجر جاء حبا لله ولرسوله» وبسط يده وأجلسه وضمّه إليه وأصعده المنبر، وخطب الناس فقال: «ارفقوا به فإنه حديث عهد بالملك» . فقلت إن أهلي غلبوني على الذي لي فقال: «أنا أعطيكه وأعطيك ضعفه» .
الحديث. وذكر ابن سعد، وأبو عمر رحمهما الله بأبسط من هذا، زاد أحدهما على الآخر.
قال أبو عمر: هو وائل بن حجر بن ربيعة بن وائل الحضرمي يكنى أبا [هنيدة، الحضرمي] وكان قيلا من أقيال حضر موت، وكان أبوه من ملوكهم، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال إنه بشّر به أصحابه قبل قدومه فقال: «يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضر موت طائعا راغبا في الله عز وجل وفي رسوله وهو بقية أبناء الملوك» . فلما دخل عليه رحب به وأدناه من نفسه على مقعده.
وروى الطبراني، وأبو نعيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصعده إليه على المنبر، ودعا له، ومسح رأسه وقال: «اللهم بارك في وائل وولد ولده» [ (2) ] . ونودي: الصلاة جامعة، ليجتمع الناس سرورا بقدوم وائل بن حجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان أن ينزله منزلا بالحرّة فمشى معه، ووائل راكب، فقال له معاوية: أردفني خلفك [وشكا إليه حرّ
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 9/ 378 وعزاه للطبراني في الصغير والكبير وقال: وفيه محمد بن حجر وهو ضعيف.
[ (2) ] ذكره ابن كثير في البداية 5/ 79.(6/431)
الرّمضاء] قال: لست من أرداف الملوك. قال: فألق إليّ نعليك. قال: لا، أني لم أكن لألبسهما وقد لبستهما. قال: إن الرّمضاء قد أحرقت قدميّ. قال: امش في ظلّ ناقتي، كفاك به شرفا.
فلما أراد الشخوص إلى بلاده كتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يأتي ذكره في مكاتباته صلى الله عليه وسلم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
وائل بن حجر: [حجر بتقديم الحاء المهملة المضمومة على الجيم الساكنة فراء] .
الرّمضاء: بفتح الراء وسكون الميم، الأرض الشديدة الحرارة من وقع الشمس عليها.(6/432)
الباب السادس والتسعون في وفود واثلة بن الأسقع إليه صلّى الله عليه وسلم
روى ابن جرير عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: خرجت من أهلي أريد الإسلام فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فوقفت في آخر الصفوف وصلّيت بصلاتهم. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة انتهى إليّ وأنا في آخر الصلاة. فقال: «ما حاجتك؟» قلت: الإسلام. قال: «هو خير لك» ثم قال: «وتهاجر» قلت: نعم. قال: «هجرة البادي أو هجرة الباني؟» قلت: أيهما خير. قال: «هجرة الباني أن يثبت مع النبي وهجرة البادي أن يرجع إلى باديته» . وقال: «عليك بالطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك» قلت:
نعم، فقدّم يده وقدّمت يدي. فلما رآني لا أستثني لنفسي شيئا، قال: «فما استطعت» . فقلت:
فيما استطعت فضرب على يدي [ (1) ] .
الباب السابع والتسعون في وفود الجن إليه صلى الله عليه وسلم
قال الحافظ أبو نعيم رحمه الله تعالى: كان إسلام الجنّ ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم كوفادة الإنس فوجا بعد فوج وقبيلة بعد قبيلة بمكة وبعد الهجرة. وروى أبو نعيم من طريق عمرو بن غيلان الثّقفي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: إن أهل الصّفّة أخذ كل رجل منهم رجلا وتركت فأخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى إلى حجرة أم سلمة، ثم انطلق بي حتى أتينا بقيع الغرقد، فخطّ بعصاه خطّا ثم قال: «اجلس فيها ولا تبرح حتى آتيك» . ثم انطلق يمشي وأنا أنظر إليه من خلال الشّجر، حتى إذا كان من حيث أراه ثارت مثل العجاجة السوداء، فقلت: ألحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فإني أظن هذه هوازن مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه فأسعى إلى البيوت فأستغيث بالناس،
فذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني ألا أبرح مكاني الذي أنا فيه. فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعهم بعصاه ويقول: «اجلسوا» . فجلسوا حتى كاد ينشقّ عمود الصّبح ثم ثاروا وذهبوا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أولئك وفد الجنّ سألوني المتاع والزاد فمتّعهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة فلا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان عليه يومن أكل ولا روثة إلّا وجدوا عليها حبّها الذي كان يوم أكلت» [ (2) ] .
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 255 وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
[ (2) ] انظر نصب الراية 1/ 145 تفسير ابن كثير 7/ 282.(6/433)
قصة أخرى:
روى أبو نعيم عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال: «أيّكم يتبعني إلى وفد الجنّ الليلة؟» فخرجت معه حتى خنست عنا جبال المدينة كلها وأفضينا إلى أرض فإذا رجال طوال كأنهم الرماح مستثفرين ثيابهم من بين أرجلهم. فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة حتى ما تحملني رجلاي من الفرق، فلما دنونا منهم خطّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبهام رجله خطّا.
فقال: «اقعد في وسطه» فلما جلست ذهب عني كل شيء كنت أجده من ريبة، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيني وبينهم، فتلا قرآنا وبقوا حتى طلع الفجر ثم أقبل. فقال: «الحقني» .
فمشيت معه فمضينا غير بعيد فقال لي: «التفت وانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد؟» فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأرض عظما وروثة ثم رمى بهما وقال: «إنهم سألوا الزاد فقلت لهم لكم كل عظيم وروثة» [ (1) ] .
قصة أخرى: روى الإمام أحمد والترمذي ومسلم عن علقمة قال: قلت لابن مسعود رضي الله تعالى عنه: هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم من أحد ليلة الجنّ؟ قلت: ما صحبه منا أحد ولكن فقدناه ذات ليلة فالتمسناه في الأودية وفي الشّعاب فقلنا: اغتيل؟ استطير؟ ما فعل؟ فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء.
فقلنا: يا رسول الله، فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فقال: «إنه أتاني داعي الجنّ فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن. قال: فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم. وسألوه الزّاد فقال: «لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما كان لحما وكل بعرة أو روثة علف لدوابّكم» ، قال: «فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم من الجنّ»
وقال الشعبي رحمه الله تعالى: وكانوا من جن الجزيرة.
وفي رواية ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بت الليلة أقرأ على الجنّ واقفا بالحجون»
[ (2) ] . وقوله أنه لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم أصحّ مما
رواه ابن جرير على الزهري قال: أخبرنا أبو عثمان بن سنّة- بفتح المهملة وتشديد النون- الخزاعي أنه سمع عبد الله بن مسعود يقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهو بمكة: «من أحبّ منكم أن يحضر الليلة أثر الجنّ فليفعل» .
فلم يحضر معهم أحد غيري. قال: فانطلقنا فإذا كنا بأعلى مكة خطّ لي برجله خطّأ ثم أمرني أن أجلس فيه، ثم انطلق حتى إذا قام فافتتح القرآن
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 1/ 215 وقال: رواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن ليس فيه غير بقية وقد صرح بالتحديث.
[ (2) ] أخرجه الطبري في التفسير 26/ 21 وأحمد في المسند 1/ 416 وذكره ابن كثير في التفسير 7/ 275.(6/434)
[فجعلت أري أمثال النّسور تهوي وتمشي في رفرفها وسمعت لغطا وغمغمة حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم] . وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطّعون مثل قطع السحاب ذاهبين [ (1) ] .
وقد تقدّم بأبسط من هذا في باب إسلام الجنّ في أوائل الكتاب قبيل أبواب المعراج والله أعلم.
الباب الثامن والتسعون فيما روي عن اجتماع إلياس به إن صح الخبر، صلى الله عليه وسلم
قال أنس- واللفظ للحاكم- قال لي إلياس: من أنت؟ قلت: أنا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأين هو؟ قلت: هو يسمع كلامك. قال: «فأته فأقرئه مني السلام وقل له أخوك إلياس يقرئك السلام» . قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا معه حتى إذا كنا قريبا منه تقدّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأخرت. فتحدثا طويلا.
ولفظ الحاكم: «حتى جاءه فعانقه وسلّم عليه، ثم قعدا يتحدثان. فقال إلياس: «يا رسول الله، إني إنما آكل في السنة يوما، وهذا يوم فطري، فآكل أنا وأنت» . فنزل عليهم من السماء شبه السّفرة. قال ابن أبي الدنيا. فيها كمأة ورمّان وكرفس. وقال الحاكم: عليها خبز وحوت وكرفس. فأكلا وأطعماني وصلّيا، ثم ودّعه، وجاءت سحابة فاحتملته. وكنت انظر إلى بياض ثيابه تهوي به قبل الشام» .
الحديث في سنده يزيد بن يزيد الموصلي التيمي [مولى لهم] . قال ابن الجوزي والذهبي إنه حديث باطل واتهما به يزيد. قال الذهبي: إنما استحى الحاكم من الله تعالى أن يصحح مثل هذا الحديث، وقال في تلخيص المستدرك: هذا موضوع، قبّح الله من وضعه وما كنت أحسب أن الجهل يبلغ بالحاكم أن يصحح مثل هذا، وهو مما افتراه يزيد الموصلي.
قلت: كما أن البيهقي ذكره في الدلائل وقال: هذا الذي روي في هذا الحديث في قدرة الله جائز، وما خصّ الله به رسوله من المعجزات يثبته، إلا أن إسناد هذا الحديث ضعيف بما ذكرته ونبهت على حاله. ورواه ابن شاهين، وابن عساكر بسند فيه مجهول عن واثلة بن الأسقع أطول مما هنا وفيه ألفاظ منكرة. وعلى كل حال لم يصح في هذا الباب شيء. قال الشيخ في النكت البديعات: أخرجه الحاكم، والبيهقي في الدلائل وقال إنه ضعيف.
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 503 وأبو نعيم في الدلائل (129) .(6/435)
الباب التاسع والتسعون فيما ورد من اجتماع الخضر به إن صح الخبر، صلّى الله عليه وسلم.
روى ابن عدي والبيهقي عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد، فسمع كلاما من ورائه فإذا هو بقائل يقول:
اللهم أعنّي على ما تنجّيني مما خوّفتني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع ذلك: «ألا يضمّ إليها أختها» فقال الرجل: اللهم ارزقني شوق الصالحين إلى ما شوّقتهم إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأنس: «اذهب إليه فقل له: «يقول لك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تستغفر له» . فجاءه أنس فبلّغه.
فقال الرجل: يا أنس، أنت رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ؟ قال: نعم. قال: ذهب له إن الله عزّ وجلّ فضّلك على الأنبياء بمثل ما فضّل رمضان على سائر الشهور، وفضّل أمّتك على سائر الأمم بمثل ما فضّل يوم الجمعة على سائر الأيام، فذهب ينظر إليه فإذا هو الخضر عليه السلام [ (1) ] .
وروى الدارقطني في الإفراد، والطبراني في الأوسط، وابن عساكر من ثلاث طرق عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: خرجت ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم أحمل الطهور فسمع [مناديا ينادي فقال لي: «يا أنس صه» فسكتّ، فاستمع فإذا هو] يقول: اللهم أعنّي على ما ينجّيني مما خوّفتني منه. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « [لو قال أختها معها» . فكأن الرجل لقّن ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم فقال: وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوّقتهم إليه] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أنس دع الطهور وائت هذا فقل له: ادع لرسول الله أن يعينه على ما ابتعثه الله على ما ابتعته، وادع لأمّته أن يأخذوا ما آتاهم به نبيّهم من الحقّ» قال: فأتيته [فقلت: رحمك الله، ادع الله لرسول الله أن يعينه به وادع لأمّته أن يأخذوا ما آتاهم به نبيّهم من الحق. فقال لي: ومن أرسلك؟ فكرهت أن أخبره ولم أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت له: رحمك الله ما يضرّك من أرسلني؟ ادع بما قلت لك. قال:
لا، أو تخبرني من أرسلك. قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله، أبي أن يدعو لك بما قلت له حتى أخبره بمن أرسلني. فقال: «ارجع إليه فقل له أنا رسول الله» ] فرجعت إليه فقلت له فقال لي: «مرحبا برسول [رسول] الله إنا كنت أحقّ أن آتيه، اقرأ على رسول الله مني السلام وقل له: الخضر يقرأ عليك السلام ويقول لك: أن الله تعالى فضلك على النّبيّين كما فضّل شهر رمضان على سائر الشهور، وفضّل أمّتك على الأمم كما فضّل يوم الجمعة على سائر الأيام» قال: فلما ولّيت سمعته يقول: «اللهم اجعلني من هذه الأمة المرشدة المرحومة المتاب عليها [ (2) ] » .
__________
[ (1) ] ذكره السيوطي في اللآلئ 1/ 164 ووضعه.
[ (2) ] ذكره السيوطي في اللآلئ 1/ 85 وابن الجوزي في الموضوعات 1/ 194.(6/436)
قال الشيخ في النّكت البديعات: أورده البيهقي من طريق عمرو بن عوف المزني وقال فيه بشير بن جبلة عن أبيه عن جدّه، نسخة موضوعة، وعبد الله بن نافع متروك، ومن حديث أنس قال فيه الوّضّاح بن عبّاد الكوفي متكلّم فيه، قلت: حديث عمرو بن عوف أخرجه البيهقي في الدلائل وقال إنه ضعيف، وحديث أنس له طرق أخرى ليس فيها الوّضّاح بن عبّاد، وقال رياح [بن عبيدة] : رأيت رجلا يماشي عمر بن عبد العزيز [معتمدا على يده فقلت في نفسي أن هذا الرجل جاف، فلما صلّى قلت: يا أبا حفص، من الرجل الذي كان معك معتمدا على يدك آنفا؟ «قال وقد رأيته يا رياح؟» قلت نعم. قال: «إني لأراك رجلا صالحا، ذاك أخي الخضر، بشّرني أني سألي فأعدل» ] ، حديث [رياح] كالرّيح. قلت: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هذه القضية أصحّ ما ورد في بقاء الخضر عليه السلام.(6/437)
الباب الموفي المائة فيما ورد من قدوم هامة بن أهيم بن لا قيس بن إبليس وإسلامه إن صح الخبر.
روى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد، والعقيلي في الضعفاء، وابن مردويه في الفسير من طريق أبي سلمة محمد بن عبد اللَّه الأنصاري أحد الضعفاء، عن محمد بن أبي معشر، عن عبد العزيز بن أبي بجير أحد المتروكين، ثلاثتهم عن أبي معشر عن نافع عن ابن عمر، رضي اللَّه تعالى عنهم، وأبو نعيم في الحلية من طريق ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما، وأبي نعيم، والبيهقي معا في الدلائل، والمستغفري [في الصحابة وإسحاق بن إبراهيم] المنجنيقي من طريق أبي محصن الحكم بن عمار [عن الزهري عن سعيد بن المسيّب] قال:
عمر بن الخطاب. وأخرجه الفاكهي في كتاب مكة من طريق عزيز الجريجي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان على جبل من جبال تهامة خارج مكة إذ أقبل شيخ متوكّئ على عصا- وفي لفظ: بيده عصا- فسلم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فردّ عليه السلام، وقال: «نغمة الجنّ ومشيتهم» - وفي رواية: «جنّي ونغمته- من أنت؟» قال: أنا هامة بن الهيم بن لا قيس بن إبليس. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «ليس بينك وبين إبليس إلا أبوان» قال: نعم. قال: «فكم أتى عليك الدهر؟» قال: قد أفنت الدنيا عمرها إلا قليلا. كنت ليالي قتل قابيل هابيل غلاما ابن أعوام، أفهم الكلام، وأمرّ على الآكام، وآمر بإفساد الطعام وقطيعة الأرحام وأ أرشّ بين الناس [وأغري بينهم] فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «بئس لعمر اللَّه عمل الشيخ المتوسّم والفتى المتلوّم» .
قال: دعني من اللّوم، فقد جرت توبتي على يدي نوح عليه السلام، وكنت معه فيمن آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكى عليهم وأبكاني، وقال: لا جرم، إني على ذلك من النّادمين وأعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين.
وفي رواية عمر: قلت: يا نوح، إني ممّن شرك في ذم السعيد الشهيد هابيل ابن آدم فهل تجد لي من توبة؟ قال: يا هام، همّ بالخير وافعله قبل الحسرة والندامة، إني قرأت فيما أنزل اللَّه عزّ وجلّ على أنه ليس من عبد تاب إلى اللَّه بالغا ذنبه ما بلغ إلا تاب اللَّه عليه، قم فتوضّأ واسجد للَّه سجدتين. قال: ففعلت من ساعتي ما أمرني به، فناداني: ارفع رأسك فقد أنزلت توبتك من السماء. فخررت للَّه ساجدا.
وكنت مع هود عليه السلام في مسجده مع من آمن به من قومه، فلم أزل أعاتبه على دعوته على قومه حتى بكي عليهم وأبكاني، فقال: لا جرم، إني على ذلك من النادمين وأعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين.
وكنت أزور يعقوب، وكنت مع يوسف بالمكان المكين وكنت ألقى إلياس في الأودية(6/438)
وأنا ألقاه الآن. وكنت مع إبراهيم خليل الرحمن لما ألقي في النار، فكنت بينه وبين المنجنيق حتى أخرجه اللَّه منه، ولقيت موسى بن عمران فعلّمني من التوراة وقال لي: إن أنت لقيت عيسى ابن مريم فأقرئه مني السلام. وكنت مع عيسى فقال: إن لقيت محمدا فأقرئه مني السلام، وأنا يا رسول اللَّه قد بلّغت وآمنت بك. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «وعلى عيسى السلام» - وفي لفظ: - «وعليك يا هامة، ما حاجتك» فقال: موسى علّمني من التوراة، وعيسى علّمني من الإنجيل فعلّمني من القرآن فعلّمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سورة المرسلات وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كوّرت والمعوذتين وقل هو اللَّه أحد وفي لفظ عمر رضي اللَّه تعالى عنه: إذا وقعت الواقعة. وفي رواية علّمه عشر سور. وفي لفظ عمر: «وعليك يا هامة بأدائك الأمانة» .
قال: يا رسول اللَّه، افعل بي ما فعل موسى بن عمران فإنه علّمني من التوراة. فعلّمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال: «ارفع إلينا حاجتك يا هامة ولا تدع زيارتنا» . وقال عمر بن الخطاب:
فقبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولم ينعه إلينا ولسنا ندري أحيّ هو أو ميّت.
وقال البيهقي بعد أن رواه من طريق محمد بن أبي معشر عن أبيه أبي معشر: «روى عنه الكبار ألا إن أهل الحديث ضعّفوه» . قال: «وقد روي من وجه آخر أقوى منه» . وقال شيخنا رحمه اللَّه تعالى في الجامع الكبير: «طريق البيهقي أقواها وطريق العقيلي أوهاها» . وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق العقيلي فلم يصب وله شواهد من غريب أنس، وابن عباس وغيرهما تأتي في محلها. وقد بسط الكلام عليه في اللآلئ المصنوعة. وقال في النّكت البديعات: أورده من طريق عمر، وقال فيه إسحاق بن بشر الكاهلي كذّاب، وقال فيه محمد بن عبد اللَّه الأنصاري: لا يحتج به. قلت: أخرج البيهقي في الدلائل حديث عمر من وجه آخر ليس فيه إسحاق بن بشر الكاهلي، وقال عقبة في هذا الإسناد أبو معشر، روى عنه الكبار ألا إن أهل الحديث ضعّفوه. قال: وقد روي من وجه آخر أقوى منه، فأشار بذلك إلى طريق إسحاق، وله طريق ثالث عن عمر أخرجه أبو نعيم في الدلائل، ولحديث أنس طريق ثان ليس فيه أبو سلمة، أخرجه أبو نعيم. وبمجموع هذه الطرق يعلم أن الحديث ضعيف لا موضوع.(6/439)
الباب الحادي والمائة في وفود السابع إليه صلى اللَّه عليه وسلم
روى أبو سعيد بن منصور، والبزار، وأبو يعلى، والبيهقي عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: جاء ذئب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأقعى بين يديه وجعل يبصبص بذنبه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «هذا وافد الذئاب جاء يسألكم أن تجعلوا له من أموالكم شيئا» . فقالوا: لا واللَّه يا رسول اللَّه، لا نجعل له من أموالنا شيئا. فقام إليه رجل من الناس، ورماه بحجر، فسار وله عواء [ (1) ] .
وروى أبو نعيم، والبيهقي من طريق الزّهري عن حمزة بن أبي أسيد قال: خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في جنازة رجل فإذا ذئب مفترشا ذراعيه على الطريق فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «هذا معترض فافرضوا له» . قالوا: ما نرى يا رسول اللَّه. قال: «من كل سائمة شاة في كل عام» . قالوا: كثير فأشار إلى الذئب أن خالسهم، فانطلق الذئب.
وروى ابن سعد، وأبو نعيم عن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب قال: بينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جالس بالمدينة في أصحابه إذ أقبل ذئب فوقف بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فعوى [بين يديه] فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «هذا وافد السّباع إليكم، فإن أحببتم أن تفرضوا له شيئا يعدوه إلى غيره، وإن أحببتم تركتموه وتحرّرتم منه فما أخذ فهو رزقه» . فقالوا: يا رسول اللَّه، ما تطيب أنفسنا له بشيء. فأومأ إليه النبي صلى اللَّه عليه وسلم بأصابعه أن خالسهم فولّى وله عسلان [ (2) ] .
وروى الدارمي، وابن منيع في مسنده. وأبو نعيم من طريق شمر بن عطية عن رجل من مزينة أو جهينة قال: صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الفجر، فإذا هو بقريب من مائة ذئب قد أقعين [وكانوا] وفود الذئاب فقال لهم رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: «هؤلاء وفود الذئاب سألتكم أن ترضخوا لهم شيئا من فضول طعامكم وتأمنوا على ما سوى ذلك» فشكوا إليه حاجة، قال: «فادنوهنّ» .
فخرجن ولهم عواء.
وروى محمد بن عمر، وأبو نعيم عن سليمان بن يسار مرسلا قال: أشرف النبي صلى اللَّه عليه وسلم علي الحرّة فإذا ذئب واقف بين يديه فقال: «هذا يسأل من كل سائمة شاة» . فأبوا فأومأ إليه بأصابعه، فولّى.
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 6/ 166.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 86 وأبو نعيم في الدلائل (133) وانظر البداية والنهاية 5/ 95.(6/440)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
أقعى: بهمزة مفتوحة فقاف ساكنة فعين مهملة وبالمدّ. هو إلصاق الألية بالأرض ونصب الساق والفخذ ووضع اليدين على الأرض.
يبصبص: بتحتية مضمومة فموحدة مفتوحة فصادين مهملتين بينهما موحدة مكسورة أي يحرّك ذنبه.
عواء: بعين مهملة مضمومة فواو وبالمدّ، أي صوت السّباع وكأنه بالذئب والكلب أخصّ.
خالسهم: بخاء معجمة فألف فلام فسين مهملة. أي اذهب على غفلة.
عسلان: بعين فسين مهملتين فلام مفتوحة فألف فنون وهو سرعة المشي.
الحرّة: بحاء وراء مهملتين مفتوحتين هي أرض ذات حجارة سود، واللَّه أعلم.
نجز الجزء الثاني يتلوه جماع أبواب صفاته المعنوية، والصلاة والسلام على خير البريّة محمد النبي الأمي صلى اللَّه عليه وسلّم وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين، آمين والحمد للَّه رب العالمين.(6/441)
[المجلد السابع]
بسم الله الرحمن الرحيم
جماع أبواب صفاته المعنوية صلى الله عليه وسلم
الباب الأول في وفور عقله صلى الله عليه وسلم
قال وهب بن منبه رحمه الله تعالى: قرأت في واحد وسبعين كتاباً، فوجدت في جميعها: «أن الله تبارك وتعالى لم يعط جميع الناس من بدء الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقل محمد صلى الله عليه وسلم إلّا حبّة رمل من بين جميع رمال الدنيا، وان محمدا صلى الله عليه وسلم أرجح الناس عقلا» . رواه الحكيم الترمذي وأبو نعيم، وابن عساكر رحمهم الله تعالى.
وروى داود بن المحبر [ (1) ] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما رفعه: «أفضل الناس أعقل الناس» ، قال ابن عباس: وذلك نبيك صلى الله عليه وسلّم.
ونقل عن العوارف عن بعض الأكابر قال: اللّبّ، والعقل مائة جزء: تسعة وتسعون في النبي صلى الله عليه وسلم، وجزء في سائر الناس.
قال القاضي رحمه الله تعالى: ومن تأمل تدبيره صلى الله عليه وسلّم أمر بواطن الخلق، وظواهرهم، وسياسة الخاصة والعامة، مع عجيب شمائله، وبديع سيره، فضلا عما أفاضه من العلم، وقرره من الشرع، دون تعلّم سبق، ولا ممارسة تقدمت، ولا مطالعة للكتب، لم يمتر في رجحان عقله، وثقوب فهمه لأول وهلة. ومما يتفرع عن العقل ثقوب الرّأي وجودة الفطنة والإصابة، وصدق الظن، والنظر للعواقب، ومصالح النفس، ومجاهدة الشهوة، وحسن السياسة، والتدبير، واقتفاء الفضائل، واجتناب الرذائل، وقد بلغ صلى الله عليه وسلم من ذلك الغاية التي لم يبلغها بشر سواه صلى الله عليه وسلّم.
ومن تأمل حسن تدبيره للعرب الذين كالوحش الشارد، والطبع المتنافر المتباعد، كيف ساسهم؟ واحتمل جفاهم، وصبر على أذاهم، إلى أن انقادوا إليه، واجتمعوا عليه، وقاتلوا دونه أهليهم: آباءهم، وأبناءهم، واختاروه على أنفسهم، وهجروا في رضاه أوطانهم، وأحبابهم، من غير ممارسة سبقت له، ولا مطالعة كتب يتعلّم منها سنن الماضين، فتحقّق أنه صلى الله عليه وسلم أعقل الناس، ولما كان عقله صلى الله عليه وسلّم أوسع العقول لا جرم اتسعت أخلاق نفسه الكريمة اتساعا لا يضيق عن شيء.
__________
[ (1) ] داود بن المحبر بن قحذم، أبو سليمان البصري صاحب العقل، وليته لم يصنّفه. روى عن شعبة، وهمام، وجماعة، وعن مقاتل بن سليمان. وعنه أبو أمية، والحارث بن أبي أسامة، وجماعة.
قال أحمد: لا يدري ما الحديث. وقال ابن المديني: ذهب حديثه، وقال أبو زرعة وغيره: ضعيف. وقال أبو حاتم:
ذاهب الحديث، غير ثقة. وقال الدارقطني: متروك. توفي سنة ست ومائتين. ميزان الاعتدال 2/ 20.(7/3)
تنبيهات
الأول: العقل مصدر في الأصل مأخوذ من عقل البعير، وهو منعه بالعقال من القيام، أو مأخوذ من الحجر وهو المنع: قال تعالى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر: 5] لأنه يعقل صاحبه، ويحجره عن الخطأ، وهو مع البلوغ مناط التكليف.
الثاني: اختلف في محله، فالجمهور من المتكلمين والشافعية أنه في القلب.
روى البخاري رحمه الله تعالى في الأدب والبيهقي في الشعب، بسند جيد، عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال: العقل في القلب، والرحمة في الكبد، والرأفة في الطحال، والنّفس في الرّئة
[ (1) ] . وأكثر الأطباء والحنفية أنه في الدماغ، واستدل الأولون بقوله تعالى: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها [الحج 46] وقال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق 37] ،
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب»
[ (2) ] فجعل صلى الله عليه وسلّم صلاح الجسد وفساده تابعا للقلب، مع أن الدماغ من جملة الجسد، ويجاب عن استدلال الأطباء أنه في الدماغ بأنه إذا فسد فسد العقل، بأن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساد العقل عند فساد الدماغ، مع أن العقل ليس فيه، ولا امتناع في هذا.
الثالث: اختلف في ماهيته فقيل: هو التثبت في الأمور لأنه يعقل صاحبه عن التورّط في المهالك، وقيل: هو التمييز الذي يتميز به الإنسان عن سائر الحيوان.
وقال المحاسبي [ (3) ] رحمه الله تعالى: هو نور يفيد الإدراك، وذلك النور يقل، ويكثر، فإذا قوي منع ملاحقة الهوى.
وقال إمام الحرمين رحمه الله تعالى: العقل علوم ضرورية، يعطيها حواس السمع والبصر، والنطق، أو لا يكون كسبها من الحواس.
وقال صاحب القاموس العقل: العلم بصفات الأشياء من حسنها، وقبحها، وكمالها، ونقصانها، أو العلم بخير الخيرين وشرّ الشرين، أو يطلق لأمور لقوة بها يكون التمييز بين القبح والحسن، ولمعان مجتمعه في الذّهن، يكون بمقدمات تستتبّ بها الأغراض والمصالح، ولهيئة محمودة في الإنسان، في حركاته وسكناته، والحق أنه نور روحاني، به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية، وابتداء وجوده عند اجتنان الولد، ثم لا يزال ينمو إلى أن يكمل عند البلوغ.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (547) .
[ (2) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 270.
[ (3) ] الحارث بن أسد أبو عبد الله المحاسبي. أحد مشايخ الصوفية، وشيخ الجنيد إمام الطريقة، ويقال إنما سمي المحاسبي لكثرة محاسبته نفسه. مات ببغداد سنة ثلاث وأربعين ومائتين. انظر طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 1/ 59، 60.(7/4)
الرابع: قال بعض العلماء رحمه الله تعالى: العقل أنواع:.
الأول: غريزي: وهو في كل آدمي مؤمن وكافر.
الثاني: كسبي: وهو الذي يكتسبه المرء من معاشرة العقلاء، ويحصل للكافر أيضا.
الثالث: عطائي: وهو عقل المؤمن الذي اهتدى به للإيمان.
الرابع: عقل الزّهاد، وذكر الفقهاء: لو أومئ لأعقل الناس صرف للزهاد.
الخامس: شرفي: وهو عقل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أشرف العقول.
الخامس: اختلف في التفضيل بين العقل والعلم.
قال الشيخ الإمام العلامة محيي الدين الكافيجي [ (1) ]- وهو بفتح الفاء-: التحقيق أن العلم أفضل باعتبار كونه أقرب منه بالإفضاء إلى معرفة الله تعالى وصفاته، والعقل أفضل باعتبار كونه أصلا ومنبعا للعلم انتهى. ما في شرح الأسماء.
السادس: حديث أول ما خلق الله تعالى العقل، فقال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أشرف منك، فبك آخذ، وبك أعطي» - رواه ابن عدي والعقيلي في الضعفاء عن أبي أمامة وأبو نعيم عن عائشة، قلت: وهو من الأحاديث الواهية الضعيفة وقد بينته.
السابع: في بيان غريب ما سبق.
اللّبّ: بضم اللام وتشديد الموحدة: هو العقل السليم من شوائب الوهم.
الثّقوب: قوة الإدراك للطائف العلوم، ومهمات الأمور، وملمات الأحوال، كأنه يثقبها كما يثقب النجم الظلام بقوة ضوئه.
الفطنة: تهيؤ قوة النفس لتصوّر ما يرد عليها من المعاني.
السياسة: الملك للناس بقرائن العقل، ولهجته الصدق، ونهج الحق في القيام عليهم بما يصلحهم.
الرّذائل: الأفعال الرديئة، وتجنبها بمخالفة الهوى، والميل إلى منهج الهدى.
__________
[ (1) ] محمد بن سليمان بن سعيد بن مسعود المحيوي أبو عبد الله الرومي الحنفي ويعرف الكافياجي. وتوفي صبيحة يوم الجمعة رابع جمادى الثانية. انظر ترجمته في الضوء اللّامع 7/ 259.(7/5)
الباب الثاني في حسن خلقه صلى الله عليه وسلم
قال الله سبحانه وتعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ن 4] وروى ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب المفرد، ومسلم والترمذي والنسائي، وابن المنذر، والحاكم، والبيهقي، وابن مردويه عن يزيد بن بابنوس- وهو بموحدتين، بينهما ألف، ثم نون مضمومة، وواو ساكنة، وسين مهملة- أن عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم» ، وفي لفظ: «كأن أحسن الناس خلقاً كان خلقه القرآن، يرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، لم يكن فاحشا ولا متفاحشا ولا سخّابا في الأسواق، ولا يجزئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» ، ثم قالت: اقرأ سورة المؤمنين اقرأ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون 1] إلى العشر، فقرأ السائل: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، فقالت: هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن المبارك وعبد الله بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل عن عطية العوفي: في الآية مثال على أدب القرآن.
وروى الإمام أحمد والخرائطي، وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق [ (1) ] » رواه الإمام مالك عنه بلفظ: بعثت لأتمّ حسن الأخلاق» ورواه البزّار بلفظ بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» .
وروى ابن سعد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي [ (2) ] » .
وروى البزار عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى لم يبعثني متعنّتا ولكن بعثني معلّما وميسرا [ (3) ] » .
وروى الشّعبي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى [ (4) ] » ، وفي رواية مسلم
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 2/ 381 والبخاري في الأدب المفرد (273) وابن أبي شيبة 11/ 500 وابن سعد في الطبقات 1/ 1/ 128 وذكره الهيثمي في المجمع 8/ 191. وذكره المتقي الهندي في الكنز (31996) .
[ (2) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 98 وابن السني (160) .
[ (3) ] أخرجه مسلم من حديث جابر 2/ 1104 (29/ 1478) والبيهقي 7/ 38 وذكره المتقي الهندي في الكنز (31989، 32092) .
[ (4) ] أخرجه أبو داود 4/ 250 (4785) .(7/6)
قالت: «ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا بيده، ولا ضرب مولى له، إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى، وما نيل منه شيء فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله تعالى [ (1) ] » .
وروى يعقوب بن سفيان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفاحشا ولا صخابا في الأسواق [ (2) ] » .
وروى الإمام أحمد والشيخان عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفاحشا وكان يقول: «إنّ خياركم أحسنكم أخلاقا [ (3) ] » .
وروى البخاري عنه أيضا قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم موصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن، فذكر الحديث، وفيه: ليس بفظ ولا غليظ ولا سخّاب في الأسواق ولا يجزئ بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح» .
وروى الإمام أحمد والشيخان والخرائطيّ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، وفي لفظ: إحدى عشرة سنة، وأنا ابن ثمان سنين، في السفر والحضر، والله ما قال لي: أفّ قط، ولا لشيء صنعته لم صنعت هذا هكذا ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنع هذا هكذا؟ ولا لشيء صنعته: أسأت صنعته، أو لبئس ما صنعت، ولا عاب عليّ شيئا قط، ولا أمرني بأمر فتوانيت عنه، أو ضيعته فلا مني، ولا لامني أحد من أهله إلا قال دعوه فلو قدّر أو قال قضي أن يكون كان،
وأرسلني في حاجة يوما فقلت: والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهب لما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجت على صبيان وهم يلعبون في السوق، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد قبض بقفاي من ورائي، فنظرت إليه، وهو يضحك، فقال: «يا أنس، اذهب حيث أمرتك» فقلت له: أنا أذهب يا رسول الله [ (4) ] .
وروى البخاري عنه أيضا قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سبّابا ولا لمّاما ولا فاحشا، وكان يقول لأحدنا عند المعاتبة: «ماله ترب جبينه [ (5) ] » .
وروى الإمام أحمد والبخاري عنه أيضاً قال: كانت الأمة- زاد البخاري والعبد- لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت، ويجيب إذا دعي [ (6) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 1814 (79/ 2328) .
[ (2) ] أخرجه الترمذي 4/ 324 (2016) .
[ (3) ] أخرجه البخاري 10/ 470 (6035) والبيهقي 5/ 352/ 6/ 21 وذكره المتقي الهندي في الكنز (5205) .
[ (4) ] أخرجه البخاري 10/ 471 (6038) .
[ (5) ] أخرجه البخاري 10/ 467 (6031) .
[ (6) ] أخرجه البخاري 10/ 504 (6072) .(7/7)
وروى أبو داود عنه قال: ما رأيت رجلا التقم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحى رأسه عنه، حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، وما رأيت رجلا أخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك يده، حتى يكون الرجل هو الذي ينزع [ (1) ] .
وروى مسلم والحارث بن أبي أسامة عن معاوية بن الحكم رضي الله تعالى عنه قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الصلاة إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله، فحدّقني القوم بأبصارهم، قال: فقلت: يرحمك الله، فحدّقني القوم بأبصارهم، قال: قلت: وثكل أماه، ما لهم ينظرون إليّ، قال: فضرب القوم بأيديهم على أفخاذهم قال: فلمّا رأيتهم يسكّتوني سكتّ، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته دعاني، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله، ولا بعده أحسن تعليما منه، والله ما ضربني، ولا سبّني، ولا نهرني، ولكن قال: «إن صلاتك هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وتلاوة القرآن [ (2) ] » رواه مسلم.
وعن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم غلام شاب فقال: يا رسول الله ايذن لي في الزنا، فصاح الناس وقالوا: مه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أتحبّه لأمّك؟» فقال: لا، قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا، قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، قال: أتحبه لعمتك؟» قال: لا، قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم، فاكره لهم ما تكره لنفسك، وأحبّ لهم ما تحب لنفسك [ (3) ] » وذكر الحديث رواه أبو نعيم.
وروى أيضا عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ثيابنا في الجنة ننسجها بأيدينا أم تشقق من ثمر الجنة؟ فضحك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال الأعرابي: ممّ يضحكون؟ من جاهل يسأل عالما؟ فقال: صدقت يا أعرابي، ولكنها تشقق من ثمر الجنة [ (4) ] .
وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رهطا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالوا: «السلام عليك» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم» ، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ففهمنا فقلت: السّلام إلا عليكم، واللعنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة إن الله تعالى يحب الرفق في
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود 4/ 251 (4794) .
[ (2) ] أخرجه مسلم 1/ 381 (33/ 537) .
[ (3) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 256/ 257 والطبراني في الكبير 8/ 190/ 215.
[ (4) ] ذكره الهيثمي في المجمع 10/ 417/ 418 وعزاه لأبي يعلى والبزار.(7/8)
الأمر كله» ، قالت: يا رسول الله ألم تسمع لما قالوا؟ قال: «قد قلت: «عليكم» ، رواه عبد الرحمن بن حميد [ (1) ] .
وروى أبو يعلى عن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه كان يخطب فقال: أما والله قد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويشيّع جنائزنا ويغدو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير.
وروى ابن أبي شيبة والبخاري، وأبو الشيخ، والبيهقي عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: كان رجل من الأنصار يدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك الرجل عقد له عقدا، فألقاه في بئر، فصرع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه ملكان يعودانه، فأخبراه أن فلانا عقد له عقدا، وهي في بئر فلان، وقد اصفرّ من شدة عقده، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا فاستخرج العقد، فوجد العاقد اصفر، فحل العقد، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فما ذكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا رآه في وجهه قط، ولم يعاتبه حتى مات، وفي رواية: فلم يذكر له شيئا، ولم يعاتبه فيه، وفي رواية: فما رأيته في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ذكره له حتى مات.
وروى يعقوب بن سفيان عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صافحه الرجل لا ينزع يده من يده، حتى يكون الرجل ينزع، وإن استقبله بوجهه لا يصرفه عنه حتى يكون الرجل ينصرف، ولم ير مقدّما ركبتيه بين يدي جليس له [ (2) ] .
وروى الخطيب في الرواية عن مالك عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب الرفق في الأمور كلها.
وروى البيهقي عن ابن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دمثا، ليس بالجافي ولا المهين، لا يقوم لغضبه شيء إذا تعرض الحق، حتى ينظر له، وفي رواية لا تغضبه الدنيا، وما كان لها، فإذا تعرّض الحقّ لم يعرف أحدا، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، ولا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها [ (3) ] .
وروى الشيخان وابن سعد وأبو الشيخ عن أنس رضي الله تعالى عنه: قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، قال أنس: حتى نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم أثرت بها حاشية الثوب، من
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 3/ 241 وذكره في كشف الخفا 2/ 227.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في السنن 10/ 192 وفي دلائل النبوة 1/ 320.
[ (3) ] ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 37.(7/9)
شدة جبذته، فقال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، وأمر له بعطاء [ (1) ] .
وروى الطبراني بسند حسن عن صفية رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلم [ (2) ] .
وروى الإمامان والشافعي وأحمد والبخاري والأربعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن أعرابياً دخل المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فصلى ركعتين فقال: اللهم ارحمني ومحمدا، ولا ترحم معنا أحدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تحجّرت واسعا» ، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع الناس إليه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «تزرموه» ، فقضى حاجته، حتى فرغ من بوله وقال: «إنّما بعثتم ميسّرين، ولم تبعثوا معسّرين، علموا، ويسروا، ولا تعسروا، صبّوا عليه سجلا من ماء» زاد ابن ماجة: فقال الأعرابي بعد أن فقه: فقام إليّ بأبي وأمي صلى الله عليه وسلّم، فلم يؤنّب فقال: إن هذا المسجد لا يبال فيه، إنما بني لذكر الله تعالى وللصلاة [ (3) ] .
وروى الشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مه مه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«لا تزرموه، إنما بعثتم ميسّرين، ولم تبعثوا معسرين» ، فتركوه، حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعاه فقال: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، والقذر، إنما هي لذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، ثم أمر رجلا فجاءه بدلو من ماء فشنّه عليه [ (4) ] » .
وروى الإمام أحمد والشيخان عنه قال: جاء الطفيل بن عمرو الدّوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله أن دوسا قد عصت وأبت، فادع الله تعالى عليهم، فاستقبل القبلة، فرفع يده فقال الناس: هلكوا اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد دوسا، وأت بهم جميعا، ثلاثا [ (5) ] » .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 10/ 519 (6088) .
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 9/ 18 وعزاه للطبراني في الأوسط وأبي يعلى باختصار ورجالهما ثقات إلا أن الربيع ابن أخي صفية بنت حيي لم أعرفه.
[ (3) ] أخرجه البخاري 10/ 541 (6128) وأبو داود 1/ 103 (380) وأحمد 2/ 239، 283 والترمذي (147) والشافعي (43) والنسائي 3/ 14 والبيهقي 2/ 428 وعبد الرزاق (1658) وذكره المتقي الهندي في الكنز (3299) .
[ (4) ] أخرجه البخاري 1/ 387 (220) ومسلم 1/ 236، 237 (100/ 285) .
[ (5) ] أخرجه البخاري 11/ 199 (6397) ومسلم 4/ 1957 (197/ 2524) وأحمد 2/ 243، 448، 502 وابن عساكر 7/ 65، 66 والبيهقي في دلائل النبوة 5/ 359، 362 وابن سعد في الطبقات 4/ 1/ 176 وذكره المتقي الهندي في الكنز (34010) .(7/10)
وروى أبو الشيخ وأبو الحسن بن الضحاك عنه أيضاً قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينه في شيء فقال: يا محمد أعطني، فإنك لا تعطيني من مالك، ولا من مال أبيك. فأعطاه شيئاً، ثم قال: «أحسنت إليك؟» قال لا ولا أجملت، فغضب المسلمون، وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفّوا، ثم قام فدخل منزله، ثم أرسل إلى الأعرابي فدعاه إلى البيت، فأعطاه شيئا، فقال: «أرضيت؟» فقال: لا، ثم أعطاه أيضا، فقال: «أرضيت؟» فقال: نعم، نرضى، فقال: «إنك جئتنا، فسألتنا، فأعطيناك، فقلت ما قلت، وفي أنفس المسلمين شيء من ذلك، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب عن صدورهم ما فيها» ، قال:
نعم، فلما كان الغداة أو العشيّ جاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن صاحبكم هذا كان جائعا فسألنا، فأعطيناه، فزعم أنه رضي، أكذلك؟» فقال الأعرابي: «أي نعم، فجزاك الله تعالى عن أهل وعشيرة خيرا» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن مثلي ومثلكم كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه، فأتّبعها الناس، فلم يزيدوها إلا نفورا،
فناداهم صاحب الناقة: خلّوا بيني وبين ناقتي، فأنا أرفق بها، فتوجه لها صاحبها بين يديها، فأخذ لها من قمام الأرض، فجاءت واستناخت، فشد عليها رحلها، واستوى عليها، وأنا لو تركتكم حين قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار، فما زلت حتى فعلت ما فعلت [ (1) ] » .
وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجيب دعوة العبد، ويعود المريض، ويركب الحمار [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصّفا ذهبا، وأن ينحّي عنهم الجبال فيزرعون، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت أن نعطيهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم، قال: بل أستأني بهم [ (3) ] .
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قيل يا رسول الله ادع على
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 9/ 18، 19 وعزاه للبزار وفيه إبراهيم بن الحكم بن أبان وهو متروك.
[ (2) ] أخرجه أبو يعلى 7/ 238 (1488/ 4243) وإسناده ضعيف لضعف مسلم بن كيسان البراد الملائي الأعور وأخرجه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلّم وآدابه ص 64 وأبو نعيم في «حلية الأولياء» 8/ 131 من طريق أبي يعلى هذه والطيالسي 2/ 119 (2425) والبغوي في شرح السنة 13/ 241 (3673) من طريق شعبة والترمذي (1017) وفي الشمائل (325) وابن ماجه مختصرا (2296) وفي الزهد (4178) وأبو الشيخ ص (61، 62) من طرق عن جرير كلاهما عن مسلم البراد، بهذه الإسناد وقال الترمذي: هذا الحديث لا نعرفه إلا من حديث مسلم عن أنس ومسلم الأعور يضعّف وهو مسلم بن كيسان.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 7/ 53 وقال بعد ذكره رواية أخرى: ورجال الروايتين رجال الصحيح إلا أنه وقع في أحد طرقه عمران بن الحكم وهو وهم وفي بعضها عمران أبو الحكم وهو ابن الحارث وهو الصحيح وراه البزار بنحوه.(7/11)
المشركين فقال: «لم أبعث لعّانا، وإنما بعثت رحمة [ (1) ] » .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن زيد بن أسلم مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يتدافعون حجرا بينهم، وكأنه كره ذلك منهم، فلما جاوزهم رجع إليهم مستفسرا فقال: «ما هذا الحجر» فقالوا: يا رسول الله هذا حجر الأسد، فقال بعض أصحابه: لو نهرتهم يا رسول الله قال: «إنما بعثت ميسّرا، ولم أبعث منفرا» .
وروى الإمام أحمد عن تمّام بن العباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصفّ عبد الله وعبيد الله وكثيرا أبناء العباس رضي الله تعالى عنهم،
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سبق إليّ فله كذا وكذا وقال فيستبقون إليه، فيقعون على ظهره وصدره فيقبّلهم ويلتزمهم [ (2) ] » .
وروى ابن مردويه، وأبو نعيم، والواحدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ما دعاه أحد من أصحابه، ولا من أهل بيته إلا قال:
لبّيك، فلذلك أنزل الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ن 4] .
وروى أبو الشيخ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فقد رجلا من أصحابه ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده [ (3) ] .
وروى ابن سعد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في حاجة، قال: فرأيت صبيانا فقعدت معهم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم على الصبيان.
وروى البيهقي عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: كنت جار النبي صلى الله عليه وسلّم، وكنا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا.
وروى محمد بن عمر الأسلمي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما وعن غيرها أن أبا بكر قال: يا رسول الله- لمّا أراد حجّة الوداع- عندي بعير نحمل عليه زادنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فذاك إذن، فكانت زاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم وزاملة أبي بكر رضي الله تعالى عنه واحدة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بزاد دقيق وسويق، فجعل على بعير أبي بكر، وأعطاه أبو بكر لغلام له. فنام الغلام في بعض الطريق فذهب البعير، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 2006، 2007 (87/ 2599) .
[ (2) ] أخرجه أحمد 1/ 214 والطبراني في الكبير 19/ 188 وذكره الهيثمي في المجمع 5/ 163.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 2/ 298 وذكره المتقي الهندي في الكنز (18483) وذكره السيوطي في الدر المنثور 6/ 386 وانظر كشف الخفا 2/ 98.(7/12)
الغلام، وليس معه شيء، فقال له أبو بكر رضي الله تعالى عنه أين البعير؟ فقال: ضل، فقام إليه يضربه، ويقول: بعير واحد ضل منك لو لم يكن إلا أنا لهان الأمر، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأهله،
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم، ويقول: ألا ترون إلى هذا المحرم وما يصنع؟ فحمل جماعة جفنة من حيس وأقبلوا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى وضعوها بين يديه، فجعل يقول: يا أبا بكر هلمّ، فقد جاءك الله تعالى بغذاء طيب، وجعل أبو بكر يغتاظ على الغلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «هوّن عليك، فإن الأمر ليس عليك، ولا إلينا معك، قد كان الغلام حريصا أن لا يضل بعيره، وهذا خلف مما كان معه» ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأهله، ومن كان معه وكل من كان يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى شبعوا،
ذكر في سيرته الحديث.
وذكر المحب الطبري رحمه الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر، وأمر أصحابه بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله على ذبحها، وقال آخر: يا رسول الله عليّ سلخها، وقال آخر: يا رسول الله عليّ طبخها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وعليّ جمع الحطب» فقالوا يا رسول الله: نكفيك العمل، فقال: «قد علمت أنكم تكفوني، ولكن أكره أن أتميز عليكم، وأن الله تعالى يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه» .
تنبيهات
الأول: حقيقة حسن الخلق قوى نفسانية تسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة، والآداب المرضية، فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه، ويدخل في حسن الخلق التّحرّز عن الشّح، والبخل، والكذب، وغير ذلك من الأخلاق المذمومة، ويسهل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول والفعل، والبذل، وطلاقة الوجه، مع الأقارب، والأجانب، والتساهل في جميع الأمور، والتسامح فيما يلزم من الحقوق، وترك التقاطع، والتهاجر، واحتمال الأذى من الأعلى والأدنى، مع طلاقة الوجه، وإدامة البشر- في هذه الخصال تجمع محاسن الأخلاق، ومكارم الأفعال، ولقد كان جميع ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهذا وصفه الله تعالى بقوله عز وجل: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ن 4] .
الثاني: على في هذه الآية للاستعلاء، فدل اللفظ على أنه كان مستعليا على هذه الأخلاق، ومستوليا عليها، قال الإمام الجنيد رحمه الله تعالى: وإنما كان خلقه عظيما لأنه لم يكن له همّة سوى الله تعالى.
قال الإمام الحليمي عفا الله عنه: وإنما وصف خلقه بالعظم مع أن الغالب وصف الخلق بالكرم لأن كرم الخلق يراد به السّماحة والدّماثة، ولم يكن صلى الله عليه وسلّم مقصورا على ذلك، بل كان رحيما بالمؤمنين، رفيقا بهم، شديدا على الكفار، غليظا عليهم، مهيبا في صدورهم،(7/13)
منصورا عليهم بالرعب من مسيرة شهر، وكان وصف خلقه بالعظم ليشمل الإنعام والانتقام، وقيل: إنما وصف بالعظم لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، فإنه صلى الله عليه وسلّم أدّب بالقرآن، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها فيما تقدم أول الباب.
وقد وصف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما يرجع إلى قوته العلمية أنه عظيم: فقال تعالى وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
[النساء 113] ووصفه بما يرجع إلى قوته العلمية بأنه عظيم: فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ فدل مجموع هاتين الآيتين على أن روحه فيما بين الأرواح البشرية عظيمة الدرجة عالية.
الثالث: الخلق بضم أوله، وثانيه، ويجوز إسكانه: ملكة نفسية تسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة.
قال الإمام الراغب رحمه الله تعالى: الخلق والخلق- بالفتح والضم في الأصل- بمعنى واحد كالشّرب والشّرب، لكن خص الخلق الذي بالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصر وخص الخلق الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة، واختلف هل حسن الخلق بالضم غريزة أو مكتسب، وتمسك من قال بأنه غريزة
بحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «أن الله تعالى قسّم بينكم أخلاقكم كما قسّم أرزاقكم [ (1) ] » رواه البخاري.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى: الخلق جبلّة في نوع الإنسان، وهم في ذلك متفارقون، فمن غلب عليه شيء منها كان محمّدا محمودا، وإلا فهو المأمور بالمجاهدة فيه حتى يصير محمودا، وكذا إن كان ضعيفا، فيرتاض صاحبه حتى يقوى.
وروى الإمام أحمد والنّسائي والتّرمذي وابن حبان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال للأشج- أشجّ عبد القيس-: «إنّ فيك لخصلتين يحبّهما الله تعالى ورسوله: الحلم والأناة» ، قال: يا رسول الله قديما كان أو حديثا؟ قال: «قديما» ، قال: الحمد لله الذي جبلني على جبلّتين يحبّهما الله تعالى
» فترديد السؤال، وتقريره عليه، يشعر بأن من الخلق ما هو جبليّ وما هو مكتسب،
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم كما حسّنت خلقي فحسّن خلقي» رواه الإمام أحمد وابن حبّان رحمة الله عليهما،
وكان يقول في دعاء الافتتاح: «واهدني لأحسن الأخلاق، إنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت» . رواه مسلم.
الرابع: قال بعض العلماء: جعل الله تعالى القلوب محل السرور، والإخلاص الذي هو
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 1/ 48 (25/ 17) والترمذي (2011) وأبو داود (5225) وابن ماجة (4187) ومسند أحمد 3/ 23، 50، 4/ 206 والبيهقي 7/ 102 وابن حبّان (1393، 2267) وذكره الهيثمي في المجمع 9/ 388 والطبراني في الكبير 12/ 230 وذكره المتقي الهندي في الكنز (5811) .(7/14)
سر الله تعالى، يودعه قلب من شاء من عباده، فأول قلب أودعه قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه أول الأنبياء خلقا، وصورته آخر صورة ظهرت من صور الأنبياء، عليهم السلام، فهو أولهم وآخرهم، وقد جعل الله تبارك وتعالى أخلاق القلوب للنفوس أعلاما على أسرار القلوب، فمن تحقق قلبه بسر الله تعالى اتسعت أخلاقه لجميع خلق الله تعالى، ولذلك جعل الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم جثمانية اختص بها من بين سائر العالمين، فتكون علامات اختصاص جثمانية آيات دالة على أحوال نفسه الشريفة، وعظم خلقه، وتكون علامات عظم أخلاقه آيات على أسرار قلبه المقدس.
الخامس: قال الشيخ شهاب الدين السّهروردي رحمه الله تعالى في العوارف: لا يبعد أن قول عائشة رضي الله تعالى عنها: كان خلقه القرآن- فيه أمر غامض وإيماء خفي إلى الأخلاق الرّبّانية، فاحتشمت من الحضرة الإلهية أن تقول: كان متخلّقا بأخلاق الله تعالى، فعبرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القرآن، استحياء من سبحات الجلالة، وسترا للحال بلطف المقال، وهذا من موفور عقلها، وكما أدبها، وقال غيره: أرادت بذلك اتصافه بما فيه من الاجتهاد في طاعة الله تعالى، والخضوع له، والانقياد لأمره، والتشديد على أعدائه، والتواضع لأوليائه، ومواساة عباده، وإرادة الخير لهم، إلى غير ذلك من أخلاقه الفاضلة.
وقال آخر: فكما أن معاني القرآن لا تتناهي فكذلك أوصافه الحميدة الدالة على حسن خلقه العظيم لا تتناهى، إذ في كل حال من أحواله يتجدد له الكثير من مكارم الأخلاق، ومحاسن الشّيم، وما يفيضه الله عز وجل عليه من معارفه، وعلومه، مما لا يعلمه إلا الله تعالى، فإذن التعرض لحصر جزئيات أخلاقه الحميدة تعرض لما ليس من مقدور الإنسان، ولا من ممكنات عادته.
السادس: قول عائشة رضي الله تعالى عنها: ما انتقم صلى الله عليه وسلّم لنفسه أي خاصة، فلا يرد أمره بقتل عبد الله بن خطل، وعقبة بن أبي معيط [ (1) ] ، وغيرهما ممن كان يؤذيه، لأنهم كانوا مع ذلك ينتهكون حرمات الله تعالى.
وقيل أرادت أنه لا ينتقم إذا أوذي من جفاء من رفع صوته عليه، والذي جبذ بردائه، حتى أثر في كتفه، وحمل الدّاودي عدم الانتقام على ما يختص بالمال، قال: وأما العرض فقد اقتص ممن نال منه قال: واقتص ممن لدّه في مرضه بعد نهيه صلّى الله عليه وسلم عن ذلك، بأن أمر بلدّهم،
__________
[ (1) ] عقبة بن أبان بن ذكوان بن أمية بن عبد شمس: من مقدّمي قريش في الجاهلية. كنيته أبو الوليد، وكنية أبيه أبو معيط.
كان شديد الأذى للمسلمين عند ظهور الدعوة، فأسروه يوم بدر وقتلوه ثم صلبوه، وهو أول مصلوب في الإسلام.
توفي 2 هـ. الأعلام 4/ 240.(7/15)
مع أنهم كانوا من ذلك تأولوا، إنما نهاهم على عادة البشرية من كراهة النفس للدواء قال الحافظ رحمه الله تعالى: كذا قال.
السابع: في بيان غريب ما سبق:
الفاحش: أي ليس ذا فحش في كلامه.
ولا سخّابا: أي لا يرفع صوته بكثرة الصياح، لحسن خلقه، وكرم نفسه، وشرف طبعه، وروي بالصاد وهو بمعناه.
ليس بفظ: بالظاء المعجمة المشالة: أي ليس بسيّء الخلق، والخشن من القول.
الغليظ: بالمعجمة المشالة أي الجافي.
الدّمث: السهل اللين، وليس بالجافي، ولا المهين بضم الميم: يريد أنه لا يحقر الناس ولا يهينهم، ويروى ولا المهين بفتح الميم، فإن كانت الرواية هكذا فإنه أراد ليس بالفظ الغليظ الجافي، ولا الحقير الضعيف.
لا تزرموه: بفوقية مضمومة، فزاي فراء مكسورة، فميم: أي لا تقطعوا بوله.
السّجل: بسين مهملة مفتوحة، فجيم ساكنة: فلام: الدّلو الملأى.
يؤنب: بالبناء للمفعول: يلوم.
قمام الأرض: هو جمع قمامة: ما تقمقمه من المرعى وأصله الكناسة.
لدّه: بلام فدال مهملة مفتوحتين، فهاء: سقاه في أحد شقي الفم، والله تعالى أعلم.(7/16)
الباب الثالث في حلمه وعفوه مع القدرة له صلى الله عليه وسلم
قال الله سبحانه وتعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف 199] وقال عز وجل: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران 159] .
روى أبو نعيم عن قتادة رحمه الله تعالى قال: طهر الله تعالى رسوله من الفظاظة والغلظة، وجعله قريبا، رؤوفا بالمؤمنين رحيما [ (1) ] .
وروى ابن مردويه عن جابر وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن الشّعبي قال: لما أنزل الله عز وجل: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ الآية، قال: ما تأويل هذه الآية يا جبريل؟ قال: لا أدري حتى أسأل العالم، فصعد، ثم نزل، فقال: يا محمد أن الله تبارك وتعالى أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك.
وروى البخاري عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما في الآية مسائل:
الأولى: قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ بالعفو عن أخلاق الناس [ (2) ] .
وروى البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما قفل معه أدركتهم القائلة في واد كثير العضاة فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وتفرق الناس يستظلون بالشجر،
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم تحت سمرة فعلق سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: «إن هذا اخترط عليّ سيفي، وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده فقال: من يمنعك مني؟» فقلت: الله ثلاثا، ولم يعاقبه وجلس [ (3) ] .
__________
[ (1) ] ومعنى الآية: أنه عليه السلام لما رفق بمن تولى يوم أحد ولم يعنّفهم بيّن الرب تعالى أنه إنما فعل ذلك بتوفيق الله تعالى إياه. وقيل: «ما» استفهام. والمعنى: فبأيّ رحمة من الله لنت لهم، فهو تعجيب. وفيه بعد، لأنه لو كان كذلك لكان «فبم» بغير ألف. لِنْتَ من لان يلين لينا وليانا بالفتح. والفظ الغليظ الجافي. فظظت تفظّ فظاظة وفظاظا فأنت فظّ. والأنثى فظّة والجمع أفظاظ. وفي صفة النبي عليه السلام ليس بفظ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق، وأنشد المفضّل في المذكّر:
وليس بفظّ في الأدانيّ والأولى ... يؤمّون جدواه ولكنّه سهل
وفظّ على أعدائه يحذرونه ... فسطوته حتف ونائله جزل
وقال آخر في المؤنث:
أموت من الضّرّ في منزلي ... وغيري يموت من الكظّه
ودنيا تجود على الجاهلين ... وهي على ذي النهى فظّه
وغلظ القلب عبارة عن تجهّم الوجه، وقلّة الانفعال في الرّغائب، وقلة الإشفاق والرحمة، ومن ذلك قول الشاعر:
يبكى علينا ولا نبكي على أحد؟ ... لنحن أغلظ أكبادا من الإبل
[ (2) ] أخرجه البخاري في التفسير 8/ 155 (4643، 4644) .
[ (3) ] تقدم.(7/17)
وروى الإمام أحمد والطبراني عن جعدة [ (1) ] رضي الله تعالى عنه قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي برجل فقال: هذا أراد أن يقتلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لن تراع، لو أردت ذلك لم يسلطك الله عليّ»
[ (2) ] .
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد وعبد بن حميد ومسلم والثلاثة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم من قبل التنعيم متسلحين يريدون غرّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا عليهم، فأخذهم سلما فعفا عنهم، واستحياهم [ (3) ] .
وروى النّسائي، وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، ثم قام فقمت حين قام، فنظرنا إلى أعرابي قد أدركه، فجذبه بردائه، فحمّر رقبته، وكان رداؤه خشنا، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الأعرابي: احملني على بعيري هذين، فإنك لا تحملني من مالك، ولا من مال أبيك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، وأستغفر الله، لا وأستغفر الله، لا وأستغفر الله لا أحملك حتى تقيدني من جبذتك» وكل ذلك يقول الأعرابي: والله لا أقيدكها، فذكر الحديث، وفيه: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمر رضي الله تعالى عنه فقال: احمل له على بعيريه هذين- على بعير تمرا، وعلى الآخر شعيرا، - ثم التفت إلينا، فقال: «انصرفوا على بركة الله تعالى [ (4) ] » .
وروى أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة طاف بالبيت وصلّى ركعتين، ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال: «ما تقولون؟ وما تظنون؟» قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم قالوا ذلك ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أقول كما قال أخي يوسف لإخوته» - عليه السلام- لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف 92] فخرجوا، فكأنما نشروا من القبور، فأسلموا [ (5) ] .
وروى ابن عساكر عن الزهري عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم فتح مكة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صفوان بن أمية، وأبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، قال عمر رضي الله تعالى عنه فقلت: قد أمكنني الله عز وجل منهم اليوم، لأعرفنهم بما صنعوا،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثلكم كما قال يوسف عليه السلام لإخوته» :
__________
[ (1) ] جعدة بن خالد بن الصمّة الجشميّ، من بني جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، حديثه في البصريين. أسد الغابة 1/ 339.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 9/ 2170/ 10/ 200 وانظر الشفاء 1/ 226.
[ (3) ] أخرجه مسلم 3/ 1442 (133/ 1808) .
[ (4) ] أبو داود (4775) .
[ (5) ] تقدم.(7/18)
لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فانفضحت حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلّم كراهية أن يكون يدري، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال [ (1) ] .
وروى أبو الشيخ، وابن حبان عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يقبض يوم حنين من فضة في ثوب بلال، ويفرقها، فقال له رجل: يا رسول الله أعدل، فقال:
«ويحك، من يعدل إذا أنا لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن كنت لا أعدل» فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ألا أضرب عنقه فإنه منافق؟ فقال: «معاذ الله أن يتحدث أني أقتل أصحابي [ (2) ] » .
وروى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم حنين آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسا في القسمة ليؤلفهم، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى ناسا من أشراف العرب، وآثرهم يومئذ في القسمة، فقال رجل: إن هذه لقسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله تعالى، قال: فقلت: والله لأخبرنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته، فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصّرف، ثم قال: «فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال:
يرحم الله موسى عليه السلام، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر [ (3) ] » .
وروى ابن حبان، والحاكم، عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه: أن زيد بن سعية- وهو أحد علماء أهل الكتاب من اليهود- وقال النووي رحمه الله تعالى: هو أحد أحبار اليهود الذين أسلموا- قال: إنه لم يبق من علامات النّبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: أن يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه، فابتعت منه تمرا معلوما إلى أجل معلوم، وأعطيته الثمن، فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة، أتيته، فأخذت بجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، فقلت: يا محمد ألا تقضيني حقي؟ فو الله إنكم يا بني عبد المطلب لمطل، وقد كان لي بمخالطتكم علم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه:
أي عدوّ الله، أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع؟ فو الله لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي رأسك،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون، وتؤدة، وتبسم، ثم قال: «أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التّباعة اذهب يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعا، مكان ما رعته» ،
ففعل عمر رضي الله تعالى عنه، فقلت:
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] أخرجه مسلم في الزكاة (142) وأحمد 3/ 353 والطبراني في الكبير 2/ 201 وابن أبي عاصم 2/ 460 والبيهقي في الدلائل 5/ 186.
[ (3) ] تقدم.(7/19)
يا عمر، كلّ علامات النبوة قد عرفتها في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنتين لم أخبرهما منه، يسبق حلمه جهله، ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فقد خبرتهما، فأشهدك أني رضيت بالله تعالى ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلّم نبيا [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد، وأبو الشيخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم جزورا من أعرابي بوسق من تمر الذّخيرة، فجاء منزله، فالتمس التمر، فلم يجده، فخرج إلى الأعرابي فقال: «عبد الله، إنا قد ابتعنا منك جزورك هذا بوسق، من تمر الذّخيرة، ونحن نرى أن عندنا، فلم نجده» فقال الأعرابي: وا غدراه وا غدراه، فوكزه الناس وقالوا:
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم تقول هذا؟ فقال: «دعوه، فإن لصاحب الحقّ مقالا» فردد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرتين أو ثلاثا، فلما رآه لا يفقه عنه قال لرجل من أصحابه: «اذهب إلى خولة بنت حكيم بن أمية فقل لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول لك إن كان عندك وسق من تمر الذّخيرة فسلفينا حتى نؤديه إليك إن شاء الله تعالى» فذهب إليها الرجل ثم رجع قال: قالت: نعم هو عندنا يا رسول الله، فابعث من يقبضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم للرجل: «اذهب فأوفه الذي له» فذهب، فأوفاه الذي له، قال فمر الأعرابي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في أصحابه، فقال: جزاك الله خيرا، فقد أوفيت وأطيبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أولئك خيار الناس الموفون المطيّبون [ (2) ] » .
وروى الشيخان عن أبي هريرة أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتقاضاه فأغلظ له، فهمّ به أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «دعوه فإن لصاحب الحق مقالا، ثم قال: أعطوه شيئا مثل سنّه» ، فقالوا: يا رسول الله، لا نجد إلا أفضل من سنه، قال: «أعطوها، وخيركم أحسنكم قضاء [ (3) ] » .
وروى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها فجيء بها، فقيل: ألا تقتلها فقال: «لا» [ (4) ] .
وروى الشيخان عن عائشة وابن أبي حاتم عن عكرمة وروى أبو الحسن بن الضحاك عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: أبصرت عيناي، وسمعت أذناي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان بالجعرّانة [ (5) ] ، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يفضّها على الناس، فيعطيهم، فقال له
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم 2/ 3232/ 605 وأبو نعيم في الدلائل 1/ 23 وابن كثير في البداية 2/ 310.
[ (2) ] انظر المجمع 4/ 140.
[ (3) ] أخرجه البخاري 4/ 483 (2306) ومسلم 3/ 1225 (120/ 1601) .
[ (4) ] تقدم.
[ (5) ] الجعرّانة لا خلاف في كسر أوّله. وأصحاب الحديث يكسرون عينه ويشدّدون راءه، وأهل الأدب يخطئونهم ويسكّنون العين ويخفّفون الراء. والصحيح أنهما لغتان جيدتان.(7/20)
رجل: يا رسول الله اعدل، فقال: «ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أعدل» فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله دعني أقتل هذا المنافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «معاذ الله أن يتحدث الناس أنني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن، لا يجاوز حلوقهم أو قال: حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية [ (1) ] » .
وروى الإمام أحمد وعبد بن حميد، والبخاري والنسائي وأبو الشيخ، والبيهقي عن زيد ابن أرقم رضي الله تعالى عنه: سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، فأتاه جبريل عليه السلام، فقال إن رجلا من اليهود سحرك، فعل لذلك عقدا، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا رضي الله تعالى عنه فاستخرجها، فجاء بها فجعل كل ما حل عقدة وجد لذلك خفّة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم كأنما نشط من عقال، فما ذكر ذلك لليهودي، ولا رآه في وجهه [ (2) ] .
وروى البيهقي في شعب الإيمان، مرسلا عن عبد الله بن عبيد مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كسرت رباعيّته، وشجّ وجهه يوم أحد شق ذلك على أصحابه، وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إني لم أبعث لعّانا، ولكن بعثت داعيا ورحمة، اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون [ (3) ] » ، ورواه موصولا عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه مختصرا: «اللهم: اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون» ،
ولله در القائل حيث قال.
وما الفضل إلا أنت خاتم فضة ... وعفوك نقش الفصّ فاختم به عذري
ومن رحمته ورأفته صلى الله عليه وسلّم بأمته تخفيفه وتسهيله عليهم، وكراهيته أشياء مخافة أن تفرض عليهم
، كقوله صلى الله عليه وسلّم: «لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء، ومع كل صلاة، ولأخّرت العشاء إلى ثلث الليل» ،
وخبر قيام رمضان، ونهيه عن الوصال، وكراهته دخول الكعبة لئلا يعنت أمته، ورغبته لربه أن يجعل سبّته ولعنته رحمة لمن سبه وزكاة وطهورا.
تنبيهات
الأول: الحلم حالة توقير، وثبات في الأمور، وتصبّر على الأذى، لا يستثير صاحبه الغضب عند الأسباب المحركة، ولا يحمله على انتقام، وهو شعار العقلاء، وقد كان صلى الله عليه وسلم منه بالمحل الأعظم، كما يشهد له قول أبي سفيان وقد قال له: يا عمّ أما آن لك أن تسلم؟ «بأبي
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري من حديث أبي سعيد (6163) (3933) (3610) ومسلم 2/ 744 (148/ 1064) وأحمد 3/ 56، 353، 355 والبيهقي في الدلائل 5/ 185، 187 وابن ماجة (172) وانظر الدر المنثور 3/ 350.
[ (2) ] تقدم.
[ (3) ] وهو عند مسلم 4/ 2007 والبخاري في الأدب (321) والطبراني في الكبير 19/ 189 وانظر الدر المنثور 4/ 342.(7/21)
أنت وأمي ما أحلمك!» ، ولا تزيده كثرة الأذى إليه إلا حلما، بشهادة ما تقدم ومما حصل له يوم أحد.
الثاني: الصبر على الأذى جهاد النفس، وقد جبل الله تعالى النفس على التألم بما يفعل بها، ولهذا شقّ عليه صلى الله عليه وسلّم نسبة بعض المنافقين له الجور في القسمة، لكنه حلم وصبر لما علم من جبريل ثواب الصابرين، وأن الله تعالى يأجرهم بغير حساب، وصبره صلى الله عليه وسلّم على الأذى إنما هو فيما كان من حق نفسه، وأما إذا كان لله تعالى فإنما يمتثل فيه أمر الله تعالى من الشدة، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم 9] وقد وقع أنه صلى الله عليه وسلّم غضب لأسباب مختلفة، مرجعها إلى أن ذلك في أمر الله تعالى، وأظهر الغضب فيها ليكون أوكد في الزّجر، فصبره وعفوه إنما كان يتعلق بنفسه الشريفة صلّى الله عليه وسلم،
وقد قال صلى الله عليه وسلم لما شجّ المشركون وجهه: «اللهم اهد قومي»
وقال حين شغلوه عن الصلاة: «ملأ الله قلوبهم نارا» ،
فتحمّل الشّجّة الحاصلة في وجه جسده الشريف، وما تحمّل الشّجّة الحاصلة في وجه دينه المنيف، فإن وجه الدين هو الصلاة، فرجح حق خالقه على حقه صلى الله عليه وسلّم.
الثالث: قال القاضي في
قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» :
انظر ما في هذا القول من إجماع الفضل، ودرجات الإحسان، وحسن الخلق، وكرم النفس، وغاية الصبر والحلم، إذ لم يقتصر صلى الله عليه وسلّم على السكوت عنهم، حتى عفا، ثم أشفق عليهم، ورحمهم، ودعا، وشفع لهم، فقال: «اللهم اهد واغفر» ، ثم أظهر الشفقة والرحمة بقوله: «لقومي» ، ثم اعتذر عنهم لجهلهم، فقال: «إنهم لا يعلمون» .
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
العفو: المساهلة، وترك المؤاخذة، والبحث عن مذامّ الأخلاق: أي أخذ ما سهل من أخلاق الناس، وأفعالهم، من غير كلفة، ولا طلب ما يشقّ عليهم حذرا من أن ينفروا من حوله.
السّمرة: بسين مهملة مفتوحة، فميم مضمومة، فراء، فتاء تأنيث ضرب شجر الطّلح.
الغرّة: بغين معجمة مكسورة، فراء مشددة: الخدعة.
الصّرف: بصاد مهملة مكسورة، فراء ساكنة، ففاء: شجر أحمر يدبغ به الأديم.
زيد بن سعنة: بسين مهملة، فعين، فنون مفتوحتين، كما قيده به الحافظ عبد الغني، وجرى عليه الدّارقطني والأمير وبالمثناة التحتية ثبت في نسخ الشّفا، وأن مصنفه صحح عليه، وهو الذي ذكره ابن إسحاق، قال الذهبي في التجريد: والأول أصح.
تمر الذّخيرة: بذال، وخاء معجمتين، قال في النهاية: هو نوع من التمر معروف. الرميّة تقدم الكلام عليها والله أعلم.(7/22)
الباب الرابع في حيائه صلى الله عليه وسلم وعدم مواجهته أحدا بشيء يكرهه
روى الشيخان، وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا كره شيئا عرفناه في وجهه» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي وجه رجل صفرة فقال: لو أمرتم هذا أن يغسل هذه الصفرة، وكان لا يكاد يواجه أحدا في وجهه بشيء يكرهه» [ (2) ] .
ورواه البخاري في الأدب بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قل ما يواجه الرجل بشيء يكرهه، فدخل عليه يوما رجل وعليه أثر صفرة، فلما قام قال لأصحابه: لو غيّر، أو نزع هذه الصّفرة [ (3) ] .
وروى أبو داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن رجل شيئا لم يقل له: قلت: كذا وكذا قال: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا [ (4) ] » .
وروى عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيياً لا يسأل عن شيء إلا أعطى [ (5) ] .
وروى البيهقي عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خافض الطّرف، جل نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء، جلّ نظره الملاحظة [ (6) ] .
وروى البخاري في الأدب المفرد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: صنع رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا فرخص فيه، فتنزّه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخطب، فحمد الله تعالى، ثم قال: «ما بال أقوام يتنزّهون عن الشيء أصنعه؟ فو الله إني لأعلمهم بالله تعالى، وأشدهم له خشية» [ (7) ] .
وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياء
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 566 في المناقب (3562) (6102) ومسلم 4/ 1809 (67/ 2320) .
[ (2) ] أخرجه أحمد 3/ 154، 160 وأبو داود (4789) والبيهقي في الدلائل 1/ 317 والبداية والنهاية 6/ 44.
[ (3) ] البخاري في الأدب المفرد (433) .
[ (4) ] النسائي 6/ 60 وانظر الدر المنثور 2/ 307.
[ (5) ] انظر أخلاق النبوة (40) .
[ (6) ] تقدم.
[ (7) ] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (436) .(7/23)
من العواتق في خدورها [ (1) ] ورواه الإمام أحمد والبيهقي وأبو داود عن أبي سعيد بلفظ من العذارى.
تنبيهان:
الأول: الحياء بالمد، وهو من الحياة، ومنه الحيا للمطر، لكن هذا المقصور، وعلى حسب حياة القلب يكون في قوم خلق الحياة، وقلة الحياء من موت القلب والروح، وكلّما كان القلب حيّا كان الحياء أتمّ وهو في اللغة: تغيّر، وانكسار، يعتري الإنسان من خوف ما يعاب به، وقد يطلق على مجرد ترك الشيء بسبب، والترك إنما هو من لوازمه، وفي الشرع خلق يبعث على اجتناب القبيح، ويمنع عن التقصير في حق ذي الحق.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
الخدر: بكسر الخاء المعجمة، وسكون الدال المهملة: السّتر، وهو من باب التعميم لأن العذراء في الخلوة يشتد حياؤها أكثر ما تكون خارجة منه، لكون الخلوة مظنّة وقوع الفعل بها، فالظاهر أن المراد تقييده إذا دخل عليها في خدرها، لا حيث تكون منفردة فيه.
خفض الطرف: ضد رفعه.
جل الشيء بضم الجيم: معظمه.
الملاحظة: أن ينظر بلحظ عينه، هو شقها الذي يلي الصدغ والأذن، ولا يحدق إلى الشيء، وكانت الملاحظة معظم نظره، وهو دليل الحياء والكرم.
__________
[ (1) ] انظر الدر المنثور 6/ 251 وأخرجه البيهقي 10/ 192 وفي الدلائل 1/ 216 وأحمد 3/ 91271.(7/24)
الباب الخامس مداراته، وصبره على ما يكره صلى الله عليه وسلم
روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: جاء مخرّق بن نوفل يستأذن، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم صوته قال: «بئس أخو العشيرة الحديث» .
وروى الشيخان، والإمامان مالك وأحمد، والتّرمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رجلا استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، فلما دخل عليه ألان له القول وتطلّق في وجهه، وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل، قلت: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت: كذا وكذا، فلما دخل ألنت له القول، وتطلّقت في وجهه، وانبسطت إليه، فقال صلى الله عليه وسلم: «متى عهدتني فاحشا إن شر الناس عند الله تعالى منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه» وفي رواية اتقاء شرّه [ (1) ] .
وروى ابن الأعرابي عن صفوان بن أمية رضي الله تعالى عنه قال: والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ، وأعطى حكيم بن حزام مائة من الغنم، وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل [ (2) ] .
وروى ابن عدي، والحكيم والترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل أمرني بمداراة الناس، كما أمرني بالفرائض [ (3) ] » .
وروى ابن سعد عن إسماعيل بن عياش- بالتحتية والشين المعجمة- رحمه الله تعالى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبر الناس على أقذار الناس [ (4) ] .
وروى النّسائي، وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كنا قعودا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فإذا قام قمنا، فقام يوما، وقمنا معه، حتى بلغ وسط المسجد فأدركنا رجل، فجبذ بردائه من ورائه، وكان رداؤه خشنا، فحمّر رقبته فقال: يا محمد احمل لي على بعيري هذين الحديث [ (5) ] .
تنبيهات
الأول: هذا الرجل المبهم- قال ابن بطال والقاضي، والقرطبي، والنووي رحمهم الله
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (6054) (6131) .
[ (2) ] تقدم.
[ (3) ] ابن عدي 2/ 447 والذهبي في الميزان (1205) وابن حجر في اللسان 2/ 93 وانظر الدر المنثور 2/ 90.
[ (4) ] ابن سعد 1/ 2/ 99 وانظر الكنز (17818) .
[ (5) ] تقدم.(7/25)
تعالى هو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وكان يقال له: الأحمق المطاع.
الثاني: قال الخطابي: جمع هذا الحديث علما، وأدبا، وليس قوله صلى الله عليه وسلم لأمته في الأمور التي ينصحهم بها، ويضيفها إليهم من المكروه غيبة، وإنما يكون ذلك من بعضهم في بعض، بل الواجب عليه صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك، ويفصح به، ويعرف الناس أمرهم، فإن ذلك من باب النصيحة، والشفقة على الأمة، ولكنه لما جبل عليه من الكرم، وأعطيه من حسن الخلق، أظهر له البشاشة ولم يجبهه بالمكروه ليفتدي به أمته في اتقاء شرّ من هذا سبيله، وفي مداراته، ليسلموا من شره وغائلته.
الثالث: قال القرطبي: في هذا الحديث جواز غيبة المعلن بالفسق، أو بالفحش، ونحو ذلك مع جواز مداراته اتقاء شره، ما لم يؤد ذلك إلى المداهنة في دين الله تعالى، ثم قال تبعا للقاضي الحسين: الفرق بين المداراة والمداهنة أن المداراة بذل الدنيا، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بذل له من دنياه.
حسن عشرته، والرفق في مكالمته، ومع ذلك فلم يمدحه بقول يناقض قوله فيه فعله، فإن قوله فيه حق، وفعله معه حسن معاشرته، فيزول بهذا التقدير الإشكال.
وقال القاضي رحمه الله تعالى: لم يكن عيينة والله أعلم حينئذ أسلم، فلم يكن القول فيه غيبة، أو كان أسلم، ولم يكن إسلامه ناصحا، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبين ذلك لئلا يغتر به من لم يعرف باطنه، وقد كانت منه في حياة النبي صلى الله عليه وسلّم، وبعده، أمور تدل على ضعف إيمانه، فيكون ما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلّم من علامات النبوة، وأما إلانة القول له بعد أن دخل فعلى سبيل التألف له قال الحافظ: وقد ارتد عيينة في زمن الصديق رضي الله تعالى عنه وحارب، ثم رجع، وأسلم، وحضر بعض الفتوح في عهد عمر رضي الله تعالى عنه.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
المداراة: بميم مضمومة، فدال مهملة، فألف فراء، فألف، فتاء تأنيث غير مهموز، وقد يهمز: ملاينة الناس، وحسن صحبتهم، واحتمالهم، لئلا ينفروا عنك.
الصبر: حبس النفس عند الجزع من المصيبة، بأن يتصور ما خلق لأجله ورجوعه إلى ربه عز وجل، وتذكره للمنّة عليه، فيرى أن ما أبقى له أضعاف ما استرده منه، فيهون بذلك على نفسه.
تطلّق: بمثناة فوقية، فطاء مهملة، فلام مشددة فقاف مفتوحات: تسهّل، وانبسط وجهه، واستبشر.
الفحش: بفاء مضمومة، فحاء مهملة ساكنة، فشين معجمة،: التعدي في القول والجواب، والكثرة والزيادة من الكلام.
الأقذار: جمع قذر، بذال معجمة: الأوساخ، والأدناس حسية ومعنوية.(7/26)
الباب السادس في برّه وشفقته، ورحمته، وحسن عهده صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 107] قال بعض العارفين: من رحمه الله تعالى خلق الله عز وجل الأنبياء من الرحمة، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلّم وعليهم، عين الرحمة،
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجة، وابن مردويه عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه: قام صلى الله عليه وسلّم ليلة، فقرأ آية يردّدها، يركع بها، ويسجد، وبها يقوم، ويقعد، حتى أصبح إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة 118] فلما أصبح قلت: يا رسول الله، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، قال:
«فإني سألت ربي الشفاعة لأمتي، وهي نائلة- إن شاء الله تعالى- من لم يشرك بالله تعالى شيئا» قلت: فما أجبت؟ قال: «أجبت بالذي لو اطّلع كثير منهم لتركوا» ، قال: فإذا أبشّر الناس، قال: بلى، فقال عمر يا رسول الله إنك إن بعثت إلى الناس بهذا يتكلوا عن العبادة، فناداه أن ارجع [ (1) ] .
وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت أحدا كان أرحم بالعباد من رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وروى الشيخان عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني لأدخل في الصلاة، وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجاوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجدانه من بكائه [ (2) ] .
وروى مسلم، وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم 36] وقال في عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة 118] فرفع يديه، وقال: «اللهم أمتي، أمتي، وبكى» فقال الله عز وجل: «يا جبريل اذهب إلى محمد، فقل له، واسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلّم بما قال، وهو أعلم، فقال الله عز وجل: «يا جبريل اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك، ولا نشوؤك صلى الله عليه وسلّم» [ (3) ] .
وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها، والإمام أحمد عن زيد بن ثابت
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 5/ 149 والنسائي 2/ 177 وابن ماجة 1/ 429 (1350) والحاكم 1/ 241.
[ (2) ] سيأتي.
[ (3) ] أخرجه مسلم 1/ 191 والبيهقي 70/ 205 والطبري 13/ 151 وعبد الرزاق (2697) .(7/27)
رضي الله تعالى عنهما قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل يصلي في المسجد، فصلى رجال صلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد في الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، ففقدوا صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل بعضهم يتنحنح، ليخرج إليهم، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى خرج لصلاة الصبح،
فلما قضى صلاته أقبل على الناس، ثم تشهد وقال: «أمّا بعد: فإنه لم يخف عني شأنكم الليلة، ولكن خشيت أن تفرض عليكم صلاة، فتعجزوا عنها، فصلوا في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» [ (1) ] .
وروى الشيخان، والنسائي، وأبو الشيخ عن مالك بن الحويرث- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيما، رفيقا، فأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا،
فسألنا عمن تركنا عند أهلنا، فأخبرناه، فقال: «ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا عندهم» [ (2) ] .
وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس فخرج حسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، فعثر، فسقط على وجهه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر يريده، فأخذه الناس، فأتوه به فقال: «قاتل الله الشيطان، إن الولد فتنة، والله: ما علمت أني نزلت من المنبر حتى أوتيت به» [ (3) ] .
وروى الطبراني عن زيد بن هالة عن أبيه رضي الله تعالى عنه أنه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو راقد، فاستيقظ، فقام هالة إلى صدره، وقال: هالة، هالة، كأنه سرّ به لقرابته من خديجة [ (4) ] .
وروى البخاري في الأدب عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل منزلا فأخذ رجل بيض حمّرة، فجاءت ترفّ على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: «أيكم فجع هذه في بيضها؟» فقال رجل: أنا يا رسول الله أخذت بيضها، فقال: «اردده، رحمة لها» [ (5) ] .
وروى ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأقصر سورتين في القرآن، فلما قضى الصلاة، قال له أبو سعيد أو معاذ:
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 2/ 214 (731) ومسلم 1/ 539 (213/ 781) .
[ (2) ] أخرجه البخاري (631) (7246) مسلم في المساجد (2920) وابن خزيمة (397) والشافعي في المسند كما في البدائع 1/ 273 وأحمد 3/ 436 والدارقطني 1/ 273 والبيهقي 3/ 54.
[ (3) ] الطبراني في الكبير 3/ 34 وانظر المجمع 8/ 155 والدر المنثور 6/ 248.
[ (4) ] أخرجه الطبراني في الصغير 1/ 195 وانظر المجمع 9/ 377 والحاكم 3/ 640.
[ (5) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 6/ 32 والبداية 6/ 173.(7/28)
صليت صلاة ما رأيتك صليت مثلها قط، قال: «أنا سمعت بكاء الصبي خلفي وترصّف النساء، أردت أن تفرغ له أمه» .
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحسن ابن علي رضي الله تعالى عنهما، وعنده الأقرع بن حابس التّميمي فقال الأقرع: لي عشرةً من الولد، ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «إن من لا يرحم لا يرحم» [ (1) ] .
ورويا عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
إنكم تقبّلون الصبيان، وما نقبلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أو أملك لك أن نزع الله تعالى الرحمة من قلبك» [ (2) ] .
وروى محمد بن عمر الأسلمي في مغازيه عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم رضي الله تعالى عنه قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرج في فتح مكة رأى كلبة تهرّ على أولادها وهن حولها يرضعنها، فأمر رجلا من أصحابه يقال له جعيل بن سراقة أن يقوم حذاءها، لا يعرض أحد من الجيش لها، ولا لأولادها.
وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لولا أن أشق على أمتي لأحببت ألّا أتخلف خلف سرية تخرج في سبيل الله، ولكن لا أجد ما أحملهم عليه، ولا يجدون ما يتحملون عليه، وشق عليهم أن يتخلفوا بعدي.
الحديث» [ (3) ] .
وروى الإمام مالك رحمه الله تعالى وغيره عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء، ومع كل صلاة» [ (4) ] .
وروى ابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم استعذر أبا بكر من عائشة ولم يظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينال منها بالذي نال منها، فرفع أبو بكر يده، فلطمها، وصكّ في صدرها، فوجد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وقال: «يا أبا بكر ما أنا بمستعذرك أبدا» [ (5) ] .
وروى مسلم وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل معه على ابنه إبراهيم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبي فضمه إليه، وروى ما شاء الله أن يقول،
قال أنس: فلقد رأيته، وهو يكبد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 10/ 426 (5997) ومسلم 4/ 1808 (65/ 2318) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 10/ 426 (5998) والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 100.
[ (3) ] أخرجه البخاري 1/ 16، 4/ 64 طبعة دار الفكر وأحمد 2/ 384، 9/ 39 وعبد الرزاق (5929) والبيهقي.
[ (4) ] سيأتي.
[ (5) ] أخرجه ابن حبان وذكره الهيثمي في الموارد (1314) .(7/29)
«تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربّنا، وإنّا بك با إبراهيم محزونون» [ (1) ] .
وروى ابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو؟ فأغضباه، فلعنهما، وسبهما، فلما خرج قلت له: يا رسول الله من أصاب منك خيرا فما أصاب هذان منك خيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أو ما علمت ما عاهدت عليه ربي عز وجل؟» . قالت: قلت: وما عاهدت عليه ربك؟ قال: «قلت اللهم أيّما رجل سببته أو لعنته، أو جلدته فاجعلها له مغفرة، وعافية وكذا وكذا» [ (2) ] .
وروى الترمذي وصحّحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما غرت على أحد من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها، وما ذلك إلا لكثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم لها، وإن ليذبح الشاة فيتبع بها صدائق خديجة رضي الله تعالى عنها فيهديها لهن [ (3) ] .
وروى أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لقد دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «صنعت اليوم شيئا، وددت أني لم أصنعه، دخلت البيت، فأخشى أن يجيء رجل من أفق من الآفاق، فلا يستطيع دخوله، فيرجع، وفي نفسه منه شيء» [ (4) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
البرّ: بكسر الموحدة: كل فعل مرض.
الشفقة: بشين معجمة، ففاء، فقاف مفتوحتين، فتاء تأنيث.
الرحمة: الرفق والتعطف، فهو صلى الله عليه وسلّم رحيم بالمؤمنين.
العهد: بعين مهملة مفتوحة، فهاء ساكنة، فدال: الوصية، والتقدم إلى المرء في الشيء والموثق واليمين.
فقام هالة إلى صدره: أي ضمه.
حمّرة: بحاء مهملة مضمومة، فميم مشددة، فراء مفتوحتين، فتاء تأنيث: طائر صغير كالعصفور.
ترصّف النساء: بمثناة فوقية فراء مفتوحتين، فصاد مهملة مشددة ففاء: وجدهن على أولادهن.
كلبة تهرّ على أولادها تقدم الكلام عليه.
يكبد بنفسه: بتحتية مفتوحة، فكاف ساكنة، فموحدة مكسورة، فدال مهملة: أي يحصل له بسبب طلوعها ضيق وشدة.
__________
[ (1) ] سيأتي.
[ (2) ] انظر مسند أحمد 3/ 391 والبيهقي 7/ 61.
[ (3) ] أخرجه الترمذي (2017) (3875) .
[ (4) ] ابن نعيم في الحلية 7/ 115.(7/30)
الباب السابع في تواضعه صلى الله عليه وسلم
قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء 215] يعني ليّن جانبك، وأرفق بهم، أمره الله تبارك وتعالى بالتواضع، واللين، والرفق لفقراء المؤمنين، وغيرهم من المسلمين.
وروى أبو نعيم وابن عساكر من طرق عن ابن عباس موقوفا، وابن سعد عن عائشة، وأبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم مرفوعا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينما هو جالس، ومعه جبريل عليه السلام، إذ انشق أفق السماء، فأقبل جبريل يدنو من الأرض، ويدخل بعضه في بعض، ويتضاءل فإذا ملك قد مثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ: إن الله سبحانه تعالى أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ملكا من الملائكة حجزته تساوي الكعبة، ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل عليه السلام، فقال: «السلام عليك يا محمد، إن ربك يقرئك السلام، أنا رسول ربك إليك، أمرني أن أخيرك: إن شئت نبيا عبدا، وإن شئت نبيا ملكا» ، فنظرت إلى جبريل عليه السلام كالمستشير، فأشار إليّ جبريل بيده، إن تواضع، فقلت، «بل نبيا عبدا، يا عائشة لو قلت: نبيا ملكا، ثم شئت لسارت معي الجبال ذهبا» ، قالت عائشة: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يأكل متكئا ويقول: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد»
للحديث طرق تأتي في باب زهده صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن سعد عن حمزة بن عبيد الله بن عتبة قال: كانت في رسول الله خصال ليست في الجبّارين، كان لا يدعوه أحمر، ولا أسود، إلا أجابه، وكان ربما وجد تمرة ملقاة فيأخذها، فيرمي بها إلى فيه، وإنه ليخشى أن تكون من الصدقة، وكان يركب الحمار عريا، ليس عليه شيء.
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حمارا وأردفني خلفه.
وروى ابن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عقد عباءة بين كتفيه فلقيه أعرابي فقال: لم لبست هذا يا رسول الله؟ فقال: «ويحك، إنما لبست هذا لأقمع به الكبر» [ (1) ] .
وروى أبو داود والتّرمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم
__________
[ (1) ] ذكره الذهبي في الميزان (4530) (8790) وابن حجر في اللسان 6/ 340.(7/31)
أخذ بيد مجذوم، فأدخله معه في القصعة، ثم قال له: «كل باسم الله، وثقة بالله، وتوكلا عليه» [ (1) ] .
وروى ابن أبي شيبة وعلي بن عبد القدير البغوي عن عبد الرحمن بن جبر الخزاعي قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي مع أصحابه إذ أخذّ رجل منهم، فستره بثوب فلما رأى ما عليه، رفع رأسه، فإذا هو علاه قبلي ستر، فقال: «مه» ، فأخذ الثوب، فوضعه، وقال: «إنما أنا بشر مثلكم» [ (2) ] .
وروى الحارث بن أبي أسامة عن يزيد الرّقاشي رضي الله تعالى عنه قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رثّ وقطيفة تساوي أربعة دراهم، وقال: «اللهم حجة مبرورة، لا رياء فيها، ولا سمعة» [ (3) ] .
وروى بقي بن مخلد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقود راحلته، ويمشي هنيهة.
وروي أيضا عنه قال ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا قط، ولا حملت معه طنفسة.
وروى ابن الأعرابي عن أبي المثنى الأملوكي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام يمشون على العصا، يتوكئون عليها، تواضعا لله عز وجل.
وروى ابن سعد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار، ويردف بعده، ويجيب دعوة المملوك [ (4) ] .
وروى الحاكم عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يركب الحمار، ويلبس الصوف، ويعقل الشاة، ويأتي مدعاة الضعيف [ (5) ] .
وروى البخاري عن البزّار رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ينقل التراب، وقد وارى التراب بياض إبطه.
__________
[ (1) ] الترمذي (1817) وابن أبي شيبة 8/ 130 وابن السني (457) وانظر الدر المنثور 4/ 216.
[ (2) ] انظر المجمع 9/ 21.
[ (3) ] انظر ابن ماجة (2890، 2993) وأبو نعيم في الحلية 3/ 54 وابن أبي شيبة 4/ 106 وابن سعد 2/ 1/ 27 والعقيلي في الضعفاء 2/ 8 وابن سعد 2/ 1/ 27.
[ (4) ] بنحوه عند أحمد 3/ 122 وانظر المجمع 6/ 59 وابن سعد 1/ 2/ 94.
[ (5) ] أخرجه الحاكم 1/ 61 والبيهقي في الدلائل 1/ 229، 230 والبداية 6/ 52 والمجمع 9/ 20.(7/32)
وروى الدّارمي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة، ولا يأنف، ولا يستكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين يقضي لهما حاجتهما [ (1) ] .
وروى الخرائطي عنه أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يستنكف أن يمشي مع الضعيف، والأرملة، فيفرغ لهم من حاجاتهم [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل متّكئا، ولا يطأ عقبه رجلان [ (3) ] .
وروى أبو الشيخ عن ابن عباس، وابن سعد عن أنس رضي الله تعالى عنهم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك، زاد أنس: ويقول: «لو دعيت إلى ذراع لأجبت، ولو أهدي إليّ كراع لقبلت [ (4) ] .
وروى الخطيب في الرّواية عن مالك عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيب دعوة العبد إلى أي طعام دعا، ويقول: «لو دعيت إلى كراع لأجبت [ (5) ] » .
وروى الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يركب الحمار، ويعود المريض، ويشهد الجنازة، ويأتي دعوة المملوك، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، على إكاف من ليف [ (6) ] .
وروى الترمذي- وصحّحه- والبيهقي عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه وعن أمّه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يبدأ من لقيه بالسلام [ (7) ] .
وروى الإمام أحمد في الزهد، وابن عساكر- وقال هذا حديث مرسل- وقد جاء معناه في الأحاديث المسندة عن الحسن رضي الله تعالى عنه قال: والله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم
__________
[ (1) ] أخرجه النسائي في كتاب الجمعة باب (30) والحاكم 2/ 614 والبيهقي في الدلائل 1/ 329 والخطيب في التاريخ 8/ 5 وابن كثير في البداية 6/ 52.
[ (2) ] مكارم الأخلاق (18) والحاكم 2/ 614 وابن كثير في البداية 6/ 25.
[ (3) ] أحمد 2/ 165، 167 وأبو داود 4/ 141 (3770) وابن ماجة 1/ 89 وابن ماجة (244) .
[ (4) ] أخرجه البغوي في شرح السنة 1/ 288 وأحمد في الزهد (392) وانظر المعجم 9/ 20.
[ (5) ] أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 95 وابن أبي شيبة 3/ 64 وابن ماجة (2296) والحاكم 2/ 466 وأبو نعيم في الحلية 7/ 312.
[ (6) ] أخرجه الترمذي 3/ 337 (1017) وابن ماجة 2/ 1398 (4178) والحاكم في المستدرك 2/ 466 والبيهقي في الدلائل 4/ 204.
[ (7) ] انظر مناهل الصفا (20) وتقدم حديث هند.(7/33)
تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجاب، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح بها عليه، ولكنه كان بارزا، من أراد أن يلقى نبي الله صلّى الله عليه وسلم لقيه، كان يجلس على الأرض، ويطعم ويلبس الغليظ، ويركب الحمار، ويردف خلفه، ويلعق يده.
وروى ابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلّم رجلا فأرعد، فقال: «هوّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» [ (1) ] .
وروى ابن ماجه عن عبد الله بن بسر قال: أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم شاة فجثا على ركبتيه، فأكل، فقال أعرابي: يا رسول الله ما هذه الجلسة؟ فقال: «إن الله عز وجل جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا» [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانت امرأة في عقلها شيء قالت: يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: «يا أم فلان انظري أي الطرق شئت» قال:
«أقضي لك حاجتك» ، فقام معها يناجيها، حتى قضت حاجتها [ (3) ] .
وروى أبو بكر الشافعي وأبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم في طريق، ومعه ناس من أصحابه، فتعرضت له امرأة فقالت: يا رسول الله لي إليك حاجة، فقال: «يا أم فلان اجلسي في أدنى نواحي السكك، حتى أجلس إليك، ففعلت، فجلس إليها، حتى قضى حاجتها» [ (4) ] .
وروى ابن أبي شيبة عن يعقوب بن يزيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتّبع غبار المسجد بجريدة [ (5) ] .
وروى البخاري في الأدب عن عدي بن حاتم أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا عنده امرأة وصبيان، أو صبي، فذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فعرفت أنه ليس ملك كسرى وقيصر.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت من المدينة في الحاجة.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن ماجة (3312) والخطيب في التاريخ 6/ 277، 279 وانظر المجمع 9/ 20.
[ (2) ] أخرجه أبو داود (3773) وابن ماجه (3263) والبيهقي في الدلائل 6/ 34، 134.
[ (3) ] أخرجه مسلم 4/ 1812 في الفضائل (76) وأحمد في المسند 3/ 285 وابن كثير في البداية 6/ 46.
[ (4) ] أحمد في المسند 3/ 214 والكنز (32008) .
[ (5) ] أخرجه ابن أبي شيبة 1/ 398 وانظر الدر المنثور 5/ 51. أخرجه ابن عساكر كما في التهذيب 3/ 7 وانظر الكنز (42869) والتمهيد 6/ 253.(7/34)
وروى عبد بن حميد عن عدي بن حاتم قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في المسجد فقال القوم: هذا عديّ، وجئت بغير أمان ولا كتاب، فلما دفعت إليه أخذ بيدي، وقد كان قال قبل ذلك: إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي قال: فقام معي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا: لنا إليك حاجة، فقام معهما، حتى قضى حاجتهما.
وروى أبو ذر الهروي في دلائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أخبره أن مسكينة مرضت، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمرضها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعود المساكين، ويسأل عنهم.
وروى الإمام أحمد والبخاري وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إن كانت الأمة من المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتنطلق بها في حاجتها فلم ينزع يده من يدها، حتى تذهب به حيث شاءت [ (1) ] .
وروى ابن إسحاق الزجاجي في تاريخه عن عكرمة رحمه الله تعالى: قال العباس رحمه الله تعالى: يا رسول الله إني أراهم قد آذوك، وآذاك غبارهم، فلو اتخذت عريشا تكلمهم فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا أزال بين أظهرهم يطئون عقبي وينازعوني ثوبي، ويؤذيني غبارهم، حتى يكون الله هو الذي يرحمني منهم» [ (2) ] .
وروى أبو داود، وابن ماجة، وابن حبّان، وقاسم بن ثابت، والطبراني عن أبي سعيد وغيره من الصحابة قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بغلام- زاد الطّبراني أنه معاذ بن جبل يسلخ شاة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «تنحّ حتى أريك، فإني لا أراك تحسن تسلخ» ، فأدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بين الجلد واللحم، فدخس بها حتى ترادّت إلى الإبط، ثم قال: «يا غلام هكذا فاسلخ» [ (3) ] .
وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاءه خدم أهل المدينة بآنيتهم فيها الماء، فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه، فربما جاءوه في الغداة الباردة، فيغمس يده فيها [ (4) ] .
وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبيان، فسلم عليهم [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 10/ 489 (6072) .
[ (2) ] أخرجه الدارمي 1/ 36 وابن أبي شيبة 13/ 257 وانظر المجمع 9/ 21 والكنز (10992) (10993) .
[ (3) ] أخرجه أبو داود (185) وابن ماجه (3179) والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 22 وانظر الكنز 27542.
[ (4) ] أخرجه مسلم 4/ 1812 (74/ 2324) .
[ (5) ] ومسلم وأبي هريرة (13/ 2167) .(7/35)
وروى البخاري في الأدب المفرد عن حسنة بن خالد وسواء بن خالد رضي الله تعالى عنهما: أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعالج حائطا، أو بناء له.
وروى الحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة، وذقنه على رحله متخشّعا [ (1) ] .
وروى أبو يعلى عنه قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم مكة استشرفه الناس، فوضع رأسه على رحله متخشعا [ (2) ] .
وروى الحاكم عن عبد الله بن بريدة رضي الله تعالى عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحمار، وهو يمشي، فقال له: اركب يا رسول الله، فقال: «إن صاحب الدابة أحق بصدر دابته، إلا أن يجعل له» ، قال: قد فعلت [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد وابن عدي وابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخيط ثوبه، ويخصف نعله، وفي رواية لأحمد ويرقع دلوه، وعنده أيضا: يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه [ (4) ] .
وروى البخاري في الأدب عن حسنة بن خالد وسواء بن خالد أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعالج حائطا له، فأعاناه، وهذا يتعين حمله على أوقاته، فإنه ثبت إنه لو كان له خدم كفوه فتارة يكون بنفسه، وتارة يكون بغيره، وتارة يكون بالمشاركة.
وروى ابن عدي عن أنس أنه سئل عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويلبس الصوف، وإن أهدي إليه كراع قبل، وإن دعي إلى ذراع أجاب، وكان يعتقل البعير [ (5) ] .
وروى أبو داود عنه رضي الله تعالى عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يهنأ بعيرا له.
وروى ابن أبي شيبة عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتبع الجنازة، ويعود المريض، ويجيب دعوة المملوك، ويركب الحمار، وكان يوم خيبر على حمار، ويوم قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف، وتحته إكاف من لبد.
__________
[ (1) ] الحاكم في المستدرك 45/ 317.
[ (2) ] وأخرجه ابن عدي في الكامل (4/ 571) وانظر مجمع الزوائد 6/ 196.
[ (3) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 19 والحاكم 2/ 64 وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب (2615) وانظر الكنز (25000) .
[ (4) ] أخرجه احمد 6/ 121، 260 وابن سعد 1/ 2/ 9 وانظر الكنز 8/ 185.
[ (5) ] تقدم وانظر المجمع 9/ 20.(7/36)
وروى ابن المبارك عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يجلس للأكل محتفزا [ (1) ] .
وروى أبو داود الطيالسي عن ابنة خباب أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بشاة، فاعتقلها فحلبها، وقال: «ائتني بأعظم إناء لكم» فأتيناه بجفنة العجين، فحلب فيها حتى ملأها، قال: «اشربوا أنتم وجيرانكم» [ (2) ] .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عبد الله بن عبد العزيز العمري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مهما استكفى أهله من شيء لم يكن يستكفيهم صب الوضوء لنفسه، وإعطاءه المسكين بيده، ويكفيهم إجّانة الثياب.
وروى أبو الشيخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قلت يا رسول الله كل جعلني الله فداك متكئا، فإنه أهون عليك، قال: «آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد» [ (3) ] .
وروى الإمام البخاري في الأدب، وفي الصحيح عن أنس قال: ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم ولد، والنبي صلى الله عليه وسلم في عباءة يهنأ بعيرا له.
وروى الإمام أحمد، والشيخان، وأبو الشيخ عن الأسود بن يزيد قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: كان بشرا من البشر، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخيط ثوبه، ويخدم نفسه، ويخصف نعله، ويعمل ما تعمل الرجال في بيوتهم، ويكون في مهنة أهله، يعنى خدمة أهله، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة [ (4) ] .
وروى ابن سعد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم سعدا فقال عنده، فلما أبردوا جاءوا بحمار لهم عربيّ قطوف قال: فغطوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقطيفة عليه، وركب، فأراد سعد أن يردف ابنه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليرد الحمار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كنت باعثه فاحمله بين يدي» ، قال: بل خلفك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أهل الدابة هم أولى بصدرها» ، فقال سعد: لا أبعثه معك، ولكن ردّ الحمار، قال: «فنرده وهو هملاج فريغ لا يسابق» [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن المبارك في الزهد 2/ 53 وابن سعد 1/ 2/ 95.
[ (2) ] الطيالسي كما في المنجة (2457) والبيهقي في الدلائل 6/ 138.
[ (3) ] أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 95.
[ (4) ] الحديث عند أحمد 6/ 256 والبخاري في الأدب المفرد ص 188 (541) والترمذي في الشمائل (181) حديث (335) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد ص 524 (2136) وأبو نعيم في الحلية 8/ 331 (428) .
[ (5) ] أخرجه ابن سعد 1/ 1/ 116.(7/37)
وروى الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل وصافحه، لا ينزع يده من يده، حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه، حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير مقدّما ركبتيه بين يدي جليس له [ (1) ] .
وروى ابن سعد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل عمل البيت أكثر ما يعمل الخياطة [ (2) ] .
وروى أبو ذر الهروي في دلائله، وابن عساكر من طرق عن ابن عباس والإمام أحمد، وأبو يعلى، وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وابن عساكر عن عائشة، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، وجبريل معه على الصّفا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد كفّ سويق، ولا سفة من دقيق» ، فلم يكن كلامه بأسرع من أن يسمع هدّة من السماء أفظعته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أمر الله تعالى القيامة أن تقوم؟» فقال: لا ولكن هذا إسرافيل نزل إليك حيث سمع الله تعالى كلامك هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة،
وفي حديث ابن عباس، فأقبل جبريل يدنو من الأرض، ويدخل بعضه في بعض، ويتضاءل، قال أبو هريرة: فأتاه إسرافيل،
وفي حديث عائشة: أتاني ملك حجزته تساوي الكعبة فقال: إن الله تعالى سمع كلامك، وأمرني أن أعرض عليك- إن أحببت- أن أسير معك جبال تهامة زمردا، وياقوتا، وذهبا، وفضة فعلت، فإن شئت نبيا ملكا، وإن شئت نبيا عبدا، فالتفت إلى جبريل كالمستشير له، فأشار إليه جبريل بيده إن تواضع لربك، فعرفت أنه ناصح لي وقلت بل نبيا عبدا، ثلاث مرات، فشكر لي ربي عز وجل ذلك، فقال «أنت أول من تشق عنه الأرض، وأول شافع»
قال ابن عباس وعائشة: فما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم طعاما متّكئا حتى لقي ربه [ (3) ] .
وروى ابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام، فقلت: ألا تأكل وأنت متكئ أهون عليك؟ قالت فأصغى بجبهته، حتى كاد يمسح بها الأرض، قال: «آكل كما يأكل العبد، وأنا جالس» ، فما رأيته أكل متكئا حتى مضى لسبيله [ (4) ] .
وروى الدارقطني في الإفراد، وابن عساكر عن الحسن عن أنس رضي الله تعالى عنه
__________
[ (1) ] والبيهقي 10/ 192 والدلائل 1/ 320 وابن المبارك في الزهد (132) والطحاوي في المعاني 1/ 54.
[ (2) ] ابن سعد 1/ 2/ 91 وانظر الكنز (18520) .
[ (3) ] انظر اتحاف السادة المتقين 9/ 333.
[ (4) ] تقدم.(7/38)
قال: لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوف واحتذى المخصوف، وأكل بشعا، ولبس خشنا، قال الحسن: البشع غليظ الشعير.
وروى ابن عساكر عن حبيب بن أبي ثابت رحمه الله تعالى قال: قلت لأنس بن مالك:
حدثنا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تحدثنا عن غيره، وفي رواية عنه قال: سئل أنس عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يلبس الصوف، ويركب الحمار، ويجلس على الأرض، ويعتقل العنز، ويحلبها، ويأكل على الأرض،
ويقول: إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، -
وسمعته يقول: «لو دعيت إلى كراع لقبلت» ،
وثيابه عليها، قال: وأحسبه: ينام عليها.
وروى ابن عدي بسند ضعيف عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل متكئا، فقال: المتكئ من النعمة فاستوى قاعدا، فما رؤي بعد ذلك متّكئا، وقال: «إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد» .
وروى ابن عساكر- من طرق حسنها- عن يحيى بن سعد الأنصاري عن علي بن حسين رضي الله تعالى عنهما مرسلا قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو اتخذنا لك شيئا ترتفع عليه، تكلّم الناس، فقال: «لا أزال بينكم تطئون عقبي، حتى يكون الله عز وجل يرفعني، ثم قال: لا ترفعوني فوق حقي، فإن الله عز وجل اتخذني عبدا قبل أن يتخذني رسولا»
قال يحيى:
فذكرتها لسعيد بن المسيّب فقال: صدق، إن كان نبيا عبدا، وبعد ما اتخذه نبيا، كان عبدا.
وروى أيضا عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس الصوف، ويركب الحمار، ويأتي مدعاة الضعيف [ (1) ] .
وروى أيضا وأبو يعلى عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس الصوف، ويركب الحمار، ويخصف النعل، ويرقع القميص، ويقول: «من رغب عن سنتي فليس مني» [ (2) ] .
وروى أيضا وإسحاق بن راهويه وأبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعود المريض، ويتبع الجنازة، ويركب الحمار، ويردف معه، ويجيب دعوة المسكين ويوضع طعامه بالأرض، ويلعق أصابعه، وكان يوم خيبر على حمار، ويوم بني قريظة والنّضير على حمار خطامه من حبل من ليف، وتحته إكاف من ليف [ (3) ] .
وروى أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان في رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث
__________
[ (1) ] ابن سعد 1/ 2/ 150.
[ (2) ] انظر كنز العمال (18146) .
[ (3) ] انظر الشمائل للترمذي (173) .(7/39)
خصال ليست في الجبارين، كان يركب الحمار وكان لا يدعوه أسود ولا أحمر إلا أجابه، وكان يجد التّمرة ملقاة، فيلقيها في فيه [ (1) ] .
وروى ابن عساكر عنه قال: كان العبد الأسود يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فيأخذ بيده، فيمضي به حيث شاء، إلا قفل بحاجته.
وروى البخاري وابن عساكر عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويواسينا بالقليل والكثير.
وروى عن البيهقي وابن عساكر عن سهل بن حنيف رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأتي ضعفاء المسلمين، ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم [ (2) ] .
وروى ابن منده وابن عساكر عن عاصم بن حدرة قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على خوان قط، ولا مشى معه بسواد وما كان له بواب قط.
وروى ابن عساكر- وقال هذا حديث غريب جدا من حديث جرير- عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقام بين يديه، فاستقبلته رعدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «هوّن عليك فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: قلت لأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه: ما ترى فيما قد ظهر من هذا الملبس، والمشرب، والمطعم؟ فقال: يا ابن أخي: كل لله، واشرب لله، والبس لله، واركب لله، وكل شيء من ذلك دخله هوى ومدح، أو مباهاة، أو رياء، أو سمعة فهو معصية وسرف، وتعالج في بيتك من الخدمة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعالج في بيته، كان يعلف الناضح، ويعتقل البعير، ويقم البيت، ويحلب الشاة، ويخصف النعل ويرقع الثوب، ويأكل مع خادمه، ويطحن عنه إذا دعاه، ويشتري التمر من السوق، فلا يمنعه الحياء أن يعلقه بيده، أو يجعله في طرف ثوبه، فيبلغ به إلى أهله، ويصافح الغني والفقير والصغير والكبير، ويسلم مبتدئا على من استقبله من صغير أو كبير، أسود أو أحمر، حر أو عبد، من أهل الصلاة لا يستحي أن يجيب إذا دعي، وإن كان أشعث أغبر، ولا يحقر ما دعى إليه، وإن لم يجد إلا حشفة لا يرفع عشاء لغذاء، ولا غذاء لعشاء، يصبح سبعة أبياته ما بات لهم كسرة خبز، ولا شربة سويق، هيّن المؤنة، لين الخلق،
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 6/ 69.
[ (2) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 466 وانظر الكنز (18491، 18647) .(7/40)
كريم الطبيعة، جميل المعاشرة، طليق الوجه، بسّام من غير ضحك، محزون من غير عبوس، شديد من غير عنف، متواضع في غير مذلّة، جواد في غير سرف، رحيم بكل ذي قربى ومسلم، رقيق القلب، دائم الإطراق، لم يبشم قط من شبع، ولم يمد يده إلى طمع قط، قال أبو سلمة:
فحدثت عائشة بهذا الحديث كله عن أبي سعيد فقالت: ما أخطأك حرفا، ولقد قصّر أما أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يمتلئ شبعا قط، ولم يبث إلى أحد شكوى، وإن كانت الفاقة أحب إليه من اليسار، والغنى، إن كان ليظل جائعا يلتوي ليلته حتى يصبح فلا يمنعه ذلك من صيام يومه، ولو شاء أن يسأل ربه فيؤتى بكنوز الأرض وثمارها، ورغد عيشها، من مشارقها ومغاربها لفعل، قالت: وربما بكيت رحمة مما أراني له من الجوع فأمسح بطنه بيدي وأقول: نفسي لك الغداء لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقوتك، ويمنع الجوع، ويقول: يا عائشة: إن إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا، فمضوا على حالهم، فقدموا على ربهم، فأكرم مثابهم، وأجزل ثوابهم، أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي دونهم فالصبر أياما يسيرة أحب إلي مما ينقص حظي غدا في الآخرة، فما من شيء أحب إلي من اللّحوق إلى إخواني في سنده ميسرة بن عبد ربه.
تنبيهان
الأول: تقدم في حديث حسن أنه لم يكن له صلى الله عليه وسلّم بوّاب،
عن أنس قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بامرأة، وهي تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله، واصبري» ،
قالت: إليك عني، فإنك تخلو من مصيبتي، قال: فجاوزها، ومضى، فمر بها رجل فقال: ما قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قالت: ما عرفته؟ قال: إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجاءت إلى بابه، فلم تجد عليه بوابا ... الحديث، ولا يخالف هذا حديث أبي موسى أنه كان بوابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما جلس على القف، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا لم يكن في شغل من أهله، ولا انفراد من أمره، يرفع الحجاب بينه، وبين الناس، ويبرز لطالب الحاجة إليه، وفي حديث عمر بن الخطاب حين استأذن له الأسود في قصة حلف ألا يدخل على نسائه شهرا، ففيه أنه كان في وقت خلوته بنفسه يتخذ بوابا، ولولا ذلك لاستأذن عمر لنفسه، ولم يحتج إلى قوله: يا رباح استأذن لي، ويحتمل أن يكون سبب استئذان عمر أنه خشي أن يكون وجد عليه بسبب ابنته، فأراد أن يختبر ذلك باستئذانه عليه، فلما أذن اطمأن قاله الحافظ.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
التواضع: مصدر تواضع: هو هضم النفس من الملكات المرضية المورثة للمحبة من الله ومن خلقه.(7/41)
يتضاءل: بتحتية ففوقية فبضاد معجمة ممدودة فهمزة مهملة، فلام.
حجزته: بحاء مهملة مضمومة، فجيم، فزاي، موضع شد الإزار ثم قيل للإزار حجزة للمجاورة.
الأحداث: بهمزة مفتوحة، فحاء ساكنة، فدال مهملة، فألف فمثلثة: جمع حدث بفتح المهملتين الشاب أول عمره.
القطيفة: كساء له خمل، يجعل دثارا.
هنيهة: بهاء فنون مفتوحة فتحتية ساكنة، فهاء مفتوحة، فتاء تأنيث قليلا.
الطّنفسة: بتثليث الطاء، والفاء أيضا وقد تفتح الطاء وتكسر الفاء: اسم للبساط، ويطلق على حصير من سعف يكون عرضه ذراعا.
الكراع: بضم أوله، وهو ما دون الركبة من ساق الإنسان، وما فوق الخف والظلف والحافر من غيره.
جثى: بجيم مفتوحة فمثلثة مفتوحة: جلس.
تسلخ: بضم اللام وفتحها.
تنحى: بفتح النون، فحاء مهملة مشددة، أي زال عن مكانه.
أريك: أعلمك.
دحس: بمهملات مفتوحات، والدّحس بسكون الحاء: إدخال اليد بين جلد الشاة، وصفاقها: وهو الجلد الأسفل الذي تحت الجلد الذي عليه الشعر.
توارت: أي استترت بالجلد الذي عليها.
مهنة أهله: بفتح الميم وكسرها: أي خدمتهم.
يفلي: بياء تحتية مضارع [فلي] فلام ثلاثيا: أي يزيل قمله.
يخصف: يخرز طاقا على طاق، من الخصف، وهو الجمع والضم، ومنه وطفِقا يَخْصِفان [طه 121] .
الإكاف: بكسر الهمزة وضمها: البردعة، أو ما يشد فوقها.
اللبد: بلام مكسورة، فموحدة ساكن، فدال مهملة: ما يلبّد من شعر أو صوف.
محتفزا: بحاء فمثناة فوقية، ففاء، فزاي مستعجلا.
الهملاج: بهاء مضمومة، فميم ساكنة، وآخره جيم واحدة الهماليج: البرذون الحسن المشي بسرعة فارسي معرب.
الفريغ: بغين معجمة: أي واسع المشي.
هدّة: بهاء فدال، فمثناة فوقية: صوت يشبه الرعد.(7/42)
أفظعة: بهمزة مفتوحة، ففاء ساكنة، فظاء مشالة معجمة، فعين مهملة مفتوحتين: اشتد عليه وهابه.
احتذى: بهمزة مكسورة، فمهملة ساكنة، ففوقية، فذال معجمة مفتوحتين: انتعل.
المخصوف: بميم مفتوحة، فخاء معجمة ساكنة، فصاد مهملة، فواو، ففاء: من الخصف وهو الضم.
بشعا: بموحدة مفتوحة، فشين مكسورة، فعين مهملة: الخشن تقدم وهنا: غليظ الشعير.
مدعاة الضعيف.
الخوان: بخاء معجمة مكسورة، فواو فألف، فنون: ما يوضع عليها الطعام عند الأكل.
مشى بسواد: بسين مهملة، فواو مفتوحتين، فألف، فدال مهملة.
الرّعدة بكسر الراء وفتحها، وسكون العين المهملة، وبالدال: الاضطراب.
القديد: اللحم المملوح المجفف فعيل بمعنى مفعول.
الناضح: بنون فألف فضاد معجمة، فحاء مهملة، الجمل يسقى عليه الماء.
يقمّ البيت: بفتح التحتية، وضم القاف، وتشديد الميم: يكنسه.
حشف: بمهملة فمعجمة مفتوحتين ففاء،: الفاسد اليابس.
والدّقل: بمهملة فقاف مفتوحتين، فلام: الرديء من التمر.
طليق الوجه: بطاء مهملة مفتوحة، فلام مكسورة فتحتية فقاف: منبسط متهلل.
بسّام: بفتح الموحدة، وتشديد المهملة: كثير التبسم.
العنف: بعين مهملة مضمومة، فنون ساكنة ففاء: الشدة والمشقة، وكل ما فيه الرفق من الخير ففي العنف من الشر مثله.
لم يبشم: بتحتية مفتوحة فموحدة ساكنة فشين معجمة مفتوحة فميم: من البشم، وهي التخمة.
خلو من مصيبتي: بخاء معجمة مكسورة، فلام ساكنة، فواو: فارغ البال منها.
القف: بقاف مضمومة، ففاء مشددة: هنا: الدّكّة تجعل حول البئر وأصله ما غلظ من الأرض وارتفع حول البئر ويكون يابسا في الغالب، والقف أيضا: واد من أودية المدينة، عليه مال لأهلها.(7/43)
الباب الثامن في كراهيته للإطراء، وقيام الناس له صلى الله عليه وسلم
روى الشيخان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لا تطروني كما أطرى النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا:
عبد الله ورسوله» [ (1) ] .
وروى أحمد، والنّسائي وأبو القاسم البغوي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال:
يا محمد يا سيّدنا وابن سيدنا، وخيرنا، وابن خيرنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أيها الناس، قولوا بقولكم، ولا يستهويّنكم الشيطان» [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد، والبخاري في الأدب، والترمذي، وصححه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا، لما يعلمون من كراهته لذلك [ (3) ] .
وروى أبو داود عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقمنا إليه، فقال: «لا تقوموا كما يقوم الأعاجم، يعظم بعضهم بعضا» [ (4) ] .
وروى الحافظ وأبو نعيم عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه مرسلا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا ترفعوني فوق حقّي، وفي لفظ: قدري أن الله تعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا» [ (5) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الإطراء: قال في النهاية مجاوزة الحد في المدح، والكذب فيه.
استهواه الشيطان: ذهب به، وقيل استماله، وأضله، فهدى إلى ما دعاه إليه: أي أسرع في الجري.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 478 (3445) (6830) ومسلم 3/ 317 (5/ 1691) .
[ (2) ] أخرجه أحمد 4/ 25 وأبو داود 5/ 154 (4806) والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 248 (245، 247) .
[ (3) ] الترمذي 5/ 90 (2754) وقال حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
[ (4) ] أحمد في المسند 5/ 253 وأبو داود (5230) وابن ماجة 2/ 1261 (3836) في إسناده أبو غالب واسمه: حزور ويقال: نافع، ويقال سعيد بن الحزدر قال أبو حاتم: ليس بالقوي.
[ (5) ] أخرجه الطبراني في الكبير 3/ 139 وانظر المجمع 9/ 21.(7/44)
يستجريّنّكم: بفتح المثناة التحتية، وسكون السين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وسكون الجيم، وكسر الراء أو فتحها، وتشديد المثناة التحتية الجريّ وهو الوكيل، يقال أجريت جريّا، واستجريت جريّا أي اتخذت وكيلا، يقول: تكلموا بما يحضركم من القول:
ولا تتنطّعوا، ولا تسجعوا كأنكم تنطقون عن نيابة الشيطان.
الطول: بطاء مهملة مفتوحة، فواو ساكنة، فلام: الفضل والعلو.
الجفنة: بفتح الجيم، وسكون الفاء، قال ابن قتيبة: العرب تقول للسيد المطعم الطعام جفنة لأنه يضعها، ويطعم فيها، وإنما أنكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا منه لأنه تحية أهل الجاهلية، كانوا يثنون بها على رؤسائهم، فقال لهم: قولوا بقولكم أي بقول أهل دينكم، أمرهم أن يثنوا عليه بالدين، وأن يخاطبوه بالنبي والرسول، وقد يكون معناه كراهة التشديق في الخطب، وأمرهم بالاقتصاد في القول، وهذا كما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يقبل الثناء إلا من مكافئ، قال ابن قتيبة معناه إذا أنعم.
الغراء البيضاء: أي أنها مملوءة بالشحم والدهن.(7/45)
الباب التاسع في شجاعته، وقوته صلى الله عليه وسلم
قال الله سبحانه وتعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ، وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 84] استنبط بعض السلف من الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مأمور أن لا يفرّ من المشركين إذا واجهوه، ولو كان وحده.
وروى أبو زرعة الرازي في دلائل النبوة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلت على الناس بشدة البطش» [ (1) ] .
وروى ابن سعد عن محمد بن الحنفيّة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وقال: فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عري، في عنقه السيف، وهو يقول: لم تراعوا، لم تراعوا، ما وجدت من شيء، وقال للفرس: وجدناه بحرا، وإنه لبحر،
قال: وكان فرسه بطيئا فيه قطاف فما سبق بعد، وهذا من جملة معجزاته صلى الله عليه وسلم كونه ركب فرسا قطوفا بطيئا فعاد بحرا لا يسابق، ولا يجارى [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد، وابن ماجة عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كنا إذا حمي البأس ولقي القوم القوم، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه [ (3) ] .
وروى عنه أيضاً قال: لما كنا يوم بدر اتقينا المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس بأسا يومئذ، وما كان أحد أقرب من المشركين منه.
وروى ابن أبي شيبة عن البراء سأله رجل من قيس: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يفر، كانت هوازن ناسا رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بلجامها،
وهو يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب»
انتهى، وهذا ما يكون في غاية من الشجاعة التامة لأنه في مثل هذا اليوم في حومة الوغي، وقد انكشف عنه جيشه، وهو مع هذا مع بغلة ليست للجري، ولا تصلح لكر ولا فر ولا هرب، وهو مع ذلك يركضها إلى وجوههم، وينوّه باسمه، ليعرفه من ليس يعرفه صلى الله عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] الخطيب في التاريخ 8/ 70 وأورده ابن الجوزي 1/ 169 وانظر المجمع 8/ 269، 92/ 13 والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 213 وفي الدلائل 5/ 475 وانظر البداية 6/ 70.
[ (2) ] الحديث عند البخاري 5/ 240 (2627، 6033) ومسلم 4/ 1802 حديث (48/ 2307) وأحمد 3/ 147، 261.
[ (3) ] انظر الجامع الكبير للسيوطي 2/ 302.(7/46)
وروى أبو الشيخ عن عمران بن حصين: ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلّم كتيبة إلا كان أول من يضرب.
وروى الدارميّ عن ابن عمر قال: ما رأيت أحدا أنجد ولا أجود، ولا أشجع من رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وروى الإمام أحمد، ومسلم عن العباس رضي الله تعالى عنه قال: لقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا أنا وأبو سفيان بن الحارث، وهو على بغلة شهباء، فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكفها، وهو لا يألوها، يسرع للمشركين، وأبو سفيان آخذ بغرز رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل المسلمون واقتتلوا هم والكفار ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال هذا حين حمي الوطيس وذكر الحديث في غزوة حنين ويأتي.
وروى ابن أبي خيثمة عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحفر الخندق عرض لنا فيه صخرة عظيمة شديدة، لا يأخذ فيها المعول، فاشتكينا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما رآها أخذ ثوبه، وأخذ المعول، فقال: «باسم الله، فضرب ضربة فكسر ثلثها، ثم ضرب الثانية فثلغ الثلث الآخر» ثم ضرب الثالثة، فثلغ ثلث الصخر
- الحديث، ويأتي بكماله في المعجزات، وتقدم في واقعة الخندق، وقصة مصارعة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقدمت أوائل الكتاب.
وروى مسلم عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: كنا إذا اشتد البأس، وحمي الوطيس، استقبلنا القوم بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الشجاع منا ليحاذي الذي يحاذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الطبراني عن علي لما سئل عن موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قال: «كان أشدّنا من حاذى ركبته صلى الله عليه وسلّم.
تنبيهان
الأول: قال القاضي وغيره من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلّم هزم يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل، ولا يجوز ذلك عليه، إذ هو على بصيرة من أمره، ويقين من عصمته، وفرقوا بينه وبين من قال: إنه جرح أو أوذي بأن الإخبار عن الأذى نقص لا يحسب عليه والإخبار بالانهزام نقص له صلى الله عليه وسلم لأنه فعله، كما أن الأذى فعل المؤذي.(7/47)
وقال ابن دحية فإن قيل: كيف تغّيب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار؟ وظاهر: بين درعين يوم أحد قلنا: أما قصة الغار فلم يكن أذن له في قتال الكفار بعد، أما المظاهرة بين درعين فهو من باب الاستعداد للإقدام، وليقتدي به أصحابه، والمنهزم خارج عن الإقدام جملة، بخلاف المستعد له. [ (1) ]
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
الشجاعة: انقياد النفس في إقدامها مع قوة غضبية وملكة يصدر عنها انقيادها على ما ينبغي في زمن ينبغي، وحال ينبغي.
القوة: تمكن من مزاولة أفعال شاقة لاعتدال في الأعضاء.
البطش: بموحدة مفتوحة، فطاء مهملة ساكنة، فمعجمة: الأخذ القوي الشديد.
فرس بحر: إذا كان واسع الجري.
وفرس قطوف إذا ضايق بين خطوه في المشي، قال الأصمعي: فرس بحر إذا كان جوادا وقال أبو عبيدة: البحر: الفرس الذي كلما بعد جرى حتى آخر النجدة، وتثنيتها يبذلها عند طلب التثبيت والسكون إلى الفوت حيث يحمد فعلها. بلا خلاف.
الكتيبة: بمثناة فوقية: جماعة عظيمة من الجيش.
الوطيس: بواو مفتوحة، وطاء مكسورة ومثناة تحتية ساكنة، وسين مهملة، شيء يشبه التّنّور وقيد ذلك.
النجدة: بنون، فجيم: الشجاعة، وقوة البطش.
__________
[ (1) ] انظر المجمع 9/ 12 والكنز (29940) .(7/48)
الباب العاشر في كرمه وجوده صلى الله عليه وسلم
وروي عن الشيخين والإمام أحمد وابنه عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «لا» [ (1) ] ، ولله در الفرزدق حيث قال:
ما قال لا قطّ إلّا في تشهّده ... لولا التّشهّد كانت لاؤه نعم
وروى الخرائطي، والطبراني عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن شيء فأراد أن يفعله قال: «نعم» وإن أراد ألا يفعله سكت، وكان لا يقول لشيء لا [ (2) ] .
وروى أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي في دلائله عن محمد بن السّري العسقلاني [قال] : كنت أنا ورجل من أهل عسقلان نطلب المشايخ نقرأ عليهم القرآن فرأيت كأني وصاحبي اختلفنا في آية وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب 68] وقال صاحبي: كثيرا، فلقيت آدم بن أبي إياس فقلنا: نسألك، فقال: وهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان،
فقلت: يا رسول الله ادع لي، فسكت، فقلت: يا رسول الله، ما لك لا تدعو لي؟
فو الله لقد حدثني سفيان بن عيينة عن محمد بن المنذر عن جابر أنك ما سئلت عن شيء قط فقلت: لا، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا لي، فقلت: يا رسول الله: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [الأحزاب 68] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كبيرا كبيرا كبيرا» .
وروى الإمام أحمد، ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما سئل رسول الله شيئاً إلا أعطاه ولقد جاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى أهله فقال: يا قوم أسلموا، فإن محمداً صلّى الله عليه وسلم يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، وإن كان الرجل ليجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما يريد بذلك إلا الدنيا، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا وما بينها [ (3) ] ، ويرحم الله تعالى أبا عبد الله محمد المعروف بابن جابر حيث قال:
هذا الّذي لا يخش فقرا إذا ... يعطي ولو كثر الأنام وداموا
هذا من الأنعام أعطى أملا ... فتحيّرت لعطائه الأفهام
وأعطاه صلى الله عليه وسلّم ذلك، لأنه عليه الصلاة والسلام علم أن داءه لا يزول إلا بهذا الدواء، وهو الإحسان، فعالجه به حتى برأ من داء الكفر، وهذا من كمال شفقته، ورحمته ورأفته صلى الله عليه وسلّم، أي
__________
[ (1) ] أخرجه من حديث جابر البخاري 10/ 455 (6034) ومسلم 4/ 1805 (56/ 2311) .
[ (2) ] انظر المجمع 9/ 10213/ 171.
[ (3) ] أخرجه مسلم 4/ 1806 (58/ 2312) .(7/49)
عامله بكمال الإحسان، وأبعده من حر النيران، إلى برد لطيف الجنان.
وروى الدارمي عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيياً لا يسأل شيئاً إلا أعطى [ (1) ] ولقد أحسن ابن جابر حيث قال:.
يروى حديث النّدى والبشر عن يده ... ووجهه بين منهلّ ومنسجم
من وجه أحمد لي ندى ومن يده ... بحر ومن فمه درّ لمنتظم
يمّم نبيا يباري الرّيح نافلة ... والمزن من كل هامي الورد خير همي
لو عامت الفلك فيما فاض من يده ... لم تلق أعظم بحرا منه أن تعم
يحيط كفّاه بالبحر المحيط فلذ ... به ودع كلّ طامي الموج ملتطم
لو لم تحط كفّه بالبحر ... ما اشتملت كلّ الأنام وروّت قلب كلّ ظمي
وروى الترمذي عن الربيع بن عفراء قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقناع من رطب، وجرو زغب، فأعطاني ملء كفي حليّا، أو ذهبا، ويرحم الله ابن جابر حيث قال:.
لقد كان فعل الخير قرّة عينه ... فليس له فيما سواه مجال
فلو سألوا من كفّه ردّ سائل ... أجابهم هذا السؤال محال
ولو عرف المحتاج قبل سؤاله ... كفاه، وأغنى أن يكون شؤال
يبادر للحسنى ويبذل زاده ... ولو بات مسّ الجوع منه ينال
وروى البخاري، وابن ماجة، وابن سعد، والطبراني، والإسماعيلي والنّسائي عن سهل ابن سعد رضي الله تعالى عنه أن امرأة جاءت النبي صلى الله عليه وسلّم ببردة منسوجة فيها حاشيتها، قال سهل: أتدرون ما البردة؟ قالوا، الشّملة، قال: نعم، قالت نسجتها بيدي لأكسوكها فخذها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلّم محتاجا إليها فخرج إلينا وإنها لإزاره فقال الأعرابي: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي وفي لفظ، فقال: «نعم» ، فجلس ما شاء الله في المجلس، ثم رجع فطواها فأرسل بها إليه، ثم سأله، وعلم أنه لا يرد سائلا، وفي لفظ: لا يسأل شيئا فيمنعه قال: والله إني ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني، رجوت بركتها حين لبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سهل: فكانت كفنه، زاد الطبراني: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع له غيرها، فمات قبل أن تنزع [ (2) ] .
وروى الطبراني عن أم سنبلة قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بهدية، فأبى أزواجه أن يقبلنها، فأمرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذنها، ثم أقطعها واديا.
__________
[ (1) ] انظر أخلاق النبوة (40) .
[ (2) ] أحمد في المسند 5/ 333.(7/50)
وروى الدّارمي عن هارون بن أبان قال: قدّم للنبي صلى الله عليه وسلم سبعون ألف درهم، وهو أكثر مال أتي به قط، فوضع على حصير من المسجد، ثم قام بنفسه، فما رد سائلا، حتى فرغ منه، قالوا: ويحتمل أن يكون المراد بهذه الكثرة الدراهم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قسم بين رجلين من النّعم والشاء ما هو أكثر من هذا المال المذكور في هذا الحديث، وذكر ابن فارس في كتابه أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه في يوم حنين جاءت امرأة، فأنشدت شعرا تذكره أيام رضاعه في هوازن، فرد عليهم ما أخذ، وأعطاهم عطاء كثيرا، حتى قوّم ما أعطاهم فكان خمسمائة ألف، قال ابن دحية: وهذا نهاية الجود الذي لم يسمع بمثله في الجود ...
وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمال من البحرين فقال: انظروا يعني صبّوه في المسجد، وكان أكثر مال أتى به صلى الله عليه وسلم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد، ولم يلتفت إليه، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطى إلى أن جاء العباس فقال: يا رسول الله أعطني، فإني فأديت نفسي، وفأديت عقيلا، فقال: «خذ» فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقلّه فلم يستطع، فقال: يا رسول الله مر بعضهم يرفعه إليّ قال: «لا» ، قال: فارفعه أنت، قال: «لا أستطيع» ، ثم نثر منه، ثم ذهب يقلّه فلم يستطع، فقال: يا رسول الله: مر بعضهم يرفعه عليّ، قال: «لا» ، قال: فارفعه أنت» ، قال: «لا» ثم نثر منه فاحتمله، فألقاه على كاهله، فانطلق فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبا منه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وثمّ منها درهم، ورواه ابن أبي شيبة من طريق حميد ابن هلال مرسلا
أنه كان أرسل به العلاء بن الحضرمي من خراج البحرين قال: وهو أول مال حمل إليه.
وروى الشيخان عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فمر النبي صلى الله عليه وسلّم فضربه، ودعا له، فسار سيرا لم يسر مثله، ثم قال: «بعنيه بوقيّة» ، قلت: لا، ثم قال:
«بعنيه بوقيّة» ، فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي، فلما قدمنا المدينة أتيته بالجمل، ونقد لي ثمنه، ثم انصرفت، فأرسل إلي فقال: «ما كنت لآخذ جملك، هو لك»
وفي لفظ البخاري قال صلى الله عليه وسلّم لجابر في سفر: «بعني جملك» ، فقال: هو لك يا رسول الله، بأبي وأمي، فقال:
«بعنيه» فباعه إياه، وأمر بلالا أن ينقده ثمنه، فأنقده ثم قال صلى الله عليه وسلم: «اذهب بالثمن والجمل بارك الله لك فيهما» ،
انتهى، فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم مكافأة لقوله: بل هو لك، فأعطاه الثمن، ورد عليه الجمل، وزاد الدعاء بالبركة.
وروى الشيخان عن أبي عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقى جبريل، وكان يلقاه كل ليلة من رمضان،(7/51)
فيدارسه في القرآن. فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة [ (1) ] .
وروى التّرمذي والخرائطي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما عندي شيء أعطيك، ولكن استقرض، حتى يأتينا شيء فنعطيك، فقال عمر: ما كلفك الله هذا، أعطيت ما عندك، فإذا لم يكن عندك فلا تكلف، قال: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم قول عمر، حتى عرف في وجهه،
فقال الرجل: يا رسول الله، بأبي وأمي أنت، فأعط، ولا تخش من ذي العرش إقلالا، فتبسم وجه رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «بهذا أمرت» .
وروى ابن سعد عن أنس والتّرمذي عن علي قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس [ (2) ] .
وروى بقي بن مخلد وأبو يعلى عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم عن الأجود؟ الله الأجود، وأنا أجود ولد آدم، وأجودهم من بعدي رجل تعلم علما فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمة وحده، ورجل جاهد في سبيل الله حتى يقتل» [ (3) ] .
وروى ابن أبي خيثمة عن علي رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان أجود الناس كفا.
وروى ابن أبي شيبة عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس [ (4) ] .
وروى بزّار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل [ (5) ] .
وروى ابن أبي الدّنيا وغيره عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: دخل رجلان على رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسألانه عن ثمن بعير فأعانهما بدينارين، فخرجا من عنده، فلقيا عمر بن الخطاب، فأثنيا خيرا، وقالا معروفا، وشكرا ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بهما، فدخل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لكن فلانا أعطيته ما بين العشرة والمائة فلم يقل ذلك، إن أحدهم يسألني فينطلق بمسألته يتأبّطها، وما هي إلا نار» ، فقال عمر يا رسول الله، فلم تعطهم ما هو نار؟ فقال: «يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل» [ (6) ] .
وروى الإمام والخمسة عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه إن ناسا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، وقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدّخره
__________
[ (1) ] سيأتي في الصيام.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 93 والترمذي في الشمائل (190) .
[ (3) ] ذكره الحافظ الهيثمي في المجمع 1/ 166، 92/ 13 وفي المطالب (3077) والكنز (28771) وأخرجه ابن حبان في المجروحين 2/ 301 وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/ 123.
[ (4) ] ابن أبي شيبة 9/ 102 ابن سعد 1/ 2/ 99 وانظر المجمع 3/ 150.
[ (5) ] وبنحوه أخرجه أبو نعيم في تاريخ أصفهان 1/ 23.
[ (6) ] أخرجه ابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد 849، 2074) وانظر جمع الجوامع للسيوطي 1/ 1095، 2/ 657.(7/52)
عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير، وأوسع من الصبر» .
وروى ابن عدي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن لي مثل جبال تهامة ذهبا لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني كذوبا ولا بخيلا» [ (1) ] .
وروى البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه أنه بينما هو مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ومعه الناس، مقبلا من حنين علقت برسول الله صلى الله عليه وسلم الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاة نعم لقسمته عليكم لا بخيلا، ولا كذابا، ولا جبانا» [ (2) ] .
وروى أبو جعفر بن جرير الطبري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: حكيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلّة أنمار صوف أسود، فجعل حاشيتها بيضاء، وقام فيها إلى أصحابه، فضرب بيده إلى فخذه فقال: «ألا ترون إلى هذه ما أحسنها!» فقال أعرابي: يا رسول الله بأبي أنت وأمي هبها لي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يسأل شيئاً أبدا فيقول: لا، فقال:
«نعم» ، فأعطاه الجبة.
وروى مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما لأناس، فقلت: يا رسول الله لغير هؤلاء كانوا أحقّ بهذا القسم، فقال: «إنهم خيروني أن يسألوني بالفحش، أو يبخلوني، ولست بباخل» [ (3) ] .
وروى ابن الأعرابي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين سأله الناس، فأعطاهم من البقر والغنم والإبل، حتى لم يبق من ذلك شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ماذا تريدون؟ أتريدون أن تبخّلوني؟ فو الله ما أنا ببخيل، ولا جبان، ولا كذوب» ، فجذبوا ثوبه حتى بدت رقبته، فكأنما أنظر- حين مدّ يدا من منكبه- شقة القمر من بياضه [ (4) ] .
تنبيهات
الأول: قال الحافظ: قوله: ما قال: لا، ليس المراد أنه يعطي ما طلب منه جزما، بل المراد أنه لا ينطق بالرد بلا، إن كان عنده أعطاه، إن كان إلا إعطاء سابغا، وإلا سكت، قال:
__________
[ (1) ] أخرجه ابن عدي 3/ 964.
[ (2) ] أخرجه البخاري 6/ 35 (2821) (3148) .
[ (3) ] أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (127) وأحمد 1/ 35 وابن عساكر كما في التهذيب 6/ 212 وانظر الكنز (16712) .
[ (4) ] ابن عساكر كما في التهذيب 3/ 4289/ 133.(7/53)
وقد روينا بيان ذلك في حديث مرسل لابن الحنفية عند ابن سعد ولفظه: إذا سئل فأراد أن يفعل قال: نعم، وإن لم يرد أن يفعل سكت،. وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام لم يقل:
لا، منعا للإعطاء، ولا يلزم من ذلك أن يقولها اعتذارا كما في قوله تعالى: «لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ [التوبة 92] ولا يخفى الفرق بين قوله: (لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ وهو نظير ما في
حديث أبي موسى الأشعري لما سأله الأشعريون الحملان فقال صلى الله عليه وسلم: «ما عندي ما أحملكم»
لكن يشكل عليه أنه صلى الله عليه وسلم حلف لا يحملهم
فقال: «والله لا أحملكم» ،
فيمكن أن يخص من عموم حديث جابر ما إذا سئل ما ليس عنده، والسائل يتحقق أنه ليس عنده ذاك، حيث كان المقام لا يقتضي الاقتصار على السكوت من الحالة الواقعة، أو من حال السائل كأن لم يعرف العادة، فلو اقتصر على السكوت مع حاجة السائل تمادى في السؤال ويكون القسم على ذلك تأكيدا لقطع طمع السائل، والسر في
قوله: «لا أجد ما أحملكم»
وقوله: «والله لا أحملكم»
أن الأول لبيان أن الذي سأله لم يكن موجوداً عنده، والثاني أنه يتكلف الإجابة إلى ما سئل بالقرض مثلا، أو بالاستيهاب، إذ لا اضطرار حينئذ.
الثاني:
قوله صلى الله عليه وسلم: فخصها فلانا
أفاد المحب الطبري في كتاب الأحكام له أن الرجل السائل عبد الرحمن بن عوف، وعزاه للطّبراني، قال الحافظ: ولم أجد ذلك في معجمه الكبير، لا في مسند سهل، ولا في عبد الرحمن، نعم رواه الطبراني، وقال في آخره: قال قتيبة هو سعد بن أبي وقاص، وقد يقال: تعددت القصة، وفيه بعد.
الثالث:
قوله صلى الله عليه وسلم: الأجود
أفعل تفضيل من جاد يجود، جوداً فهو جواد، بتخفيف الواو، وقومٌ جودٌ، وأجاود، وأجواد. قال النحاس: الجواد: الذي يتفضل على من يستحقّ، ويعطي من لا يسأل، ويعطي الكثير، ولا يخاف الفقر، من قولهم مطر جواد إذا كان كثيراً، وفرس جواد يعدو كثيراً، قبل أن يطلب منه، ثم قيل: هو مرادفٌ للسّخاء، والأصحّ أن السخاء أدنى منه، ولذا يوصف الله تعالى به، والسخي اللّين عند الحاجات، من أرضٌ سخاوية: لينة التراب، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: قال القوم من أعطى البعض فهو سخيّ، ومن أعطى الأدنى، وأبقى لنفسه شيئاً، فهو جواد، ومن قاسى الضر، وآثر غيره بالبلغة فهو مؤثر، وقال السّهروردي في عوارفه: السخاء صفة غريزية، وفي مقابله الشّح. والشح من لوازم صفة النفس قال تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن 16] فحكم بالفلاح لمن وقي الشّحّ، وحكم بالفلاح أيضا لمن أنفق وبذل فقال: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة 5] والفلاح اسم لسعادة الدارين، وليس الشح من الآدمي بعجيب لأنه جبليّ فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة، والسخاء أتم وأكمل من الجود. وفي مقابله البخل، وفي مقابلة السخاء الشح، والجود(7/54)
والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة، بخلاف السخاء إذا كان ذلك من ضرورة الغريزة، فكل سخي جواد، وليس كل جواد سخي، والجود يتطرق إليه الرّياء، ويأتي به الإنسان متطلعا إلى غرض الخلق أو الحقّ، بمقابلة من الثناء، أو غيره من الخلق، أو الثواب من الله تعالى، ولا يتطرق الرياء من السخاء لأنه يقع من النفس الزكية المرتفعة عن الأغراض.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
الكرم: بفتحات الإنفاق بطيب نفس فيما يعظم قدره.
الجود: بضم الجيم: تجنب اكتساب ما لا يحمد وهو ضدّ التقتير.
الفاقة: بفاء فألف، فقاف: فقد الدنيا.
المنهل: بميم مفتوحة فنون ساكنة فهاء مفتوحة فلام: كل ما يطؤه الطريق، وما كان على غير الطريق لا يدعى منهلا، ولكن يضاف إلى موضعه، أو إلى من هو مختص به، فيقال منهل بني فلان، أو مشربهم، ومواضع نهلهم.
المنسجم: بميم مضمومة، فنون ساكنة، فسين مهملة فجيم فميم: السائل.
يباري: بتحتية مضمومة، فموحدة فألف فراء فتحتية: يعارض ويجاري ويسابق.
المزن: بميم مضمومة، فزاي ساكنة، فنون: الغيم والسحاب وقيل السحاب الأبيض.
الطّامي: بطاء مهملة فألف فميم: الكثير.
الملتطم: بميم مضمومة، فلام ساكنة، ففوقية مفتوحة، فطاء مهملة مكسورة، فميم:
دخل بعضه في بعض لكثرته.
القناع: بكسر القاف: طبق يؤكل عليه.
الجرو: بجيم مكسورة، فراء ساكنة، فواو: صغار القثاء وقيل الرمان أيضا.
زغب: بزاي، وغين معجمة، فباء: صغار عليها زغب أي وبر.
المجال: المجال.
الكاهل: بكاف فألف فهاء مكسورة فلام: أعلى الظهر.
الخراج. البحرين: معروفة.
الريح المرسلة: السريعة النفع، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف 57] .
البخل: بموحدة مضمومة، فخاء معجمة، فلام: ضد الكرم.
الجبن: بجيم مضمومة، فموحدة ساكنة، فنون: ضد الشجاعة.
حلّة أنمار: بهمزة مفتوحة، فنون، وآخره راء: بردة من صوف يلبسها الأعراب.(7/55)
الباب الحادي عشر في خوفه، وخشيته، وتضرعه صلى الله عليه وسلّم
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «قاربوا، وسدّدوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله»
وفي لفظ: لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» .
ورويا أيضا عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صنع شيئا فرخّص فيه، فتنزه عنه قوم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فخطب، فحمد الله، ثم قال: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فو الله إني لأعلمهم بالله، وأشدّهم له خشية» .
وروى ابن سعد عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرسل وصيفة له فأبطأت عليه، فقال: «لولا خوف القصاص لأوجعتك بهذا السواك» [ (1) ] .
وروى الإمام مالك عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الباب وأنا أسمع: يا رسول الله إني أصبحت جنبا، وأنا أريد الصوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «وأنا أصبح جنبا، وأنا أريد الصوم، فأغتسل وأصوم» ، فقال له الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا، قد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتّقي» [ (2) ] .
وروى مسلم عن عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أيقبّل الصائم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «سل هذه لأم سلمة» ، فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصنع ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إما أنا، والله إني لأتقاكم لله، وأخشاكم له» [ (3) ] .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن صفوان بن عوف قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتأوه ويقول: «أوه من عذاب الله أوه من قبل أن لا تنفع أوه» .
وروى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي صلى الله عليه وسلم علي ركبته، وقال: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» [ (4) ] .
__________
[ (1) ] وأخرجه الخطيب في التاريخ 2/ 40 وانظر المطالب (2211) والمجمع 10/ 352.
[ (2) ] وسيأتي في الصيام.
[ (3) ] سيأتي في الصيام.
[ (4) ] سيأتي.(7/56)
وروى ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح، أو سمع صوت الرعد تغير لونه، حتى عرف ذلك في وجهه [ (1) ] .
وروى سعيد بن منصور، والإمام أحمد وعبد بن حميد والشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا قط ضاحكا، حتى ترى لهواته إنما كان يتبسم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا رأى غيما تلون وجهه، وتغير، ودخل، وخرج، وأقبل، وأدبر، فإذا أمطرت سرّي عنه،
قالت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيت فيما عرف في وجهك الكراهة، فقال: «يا عائشة، وما يؤمنني أن يكون عذاب؟ قد عذب الله عز وجل قوما بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا [ (2) ] [الأحقاف 24] وفي لفظ: وما يدريك كما قال قوم فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ [الأحقاف 24] .
وروى الترمذي- وحسنه هو والحافظ المنذري وصححه الحاكم- عن ابن عباس وسعيد بن منصور، وابن عساكر عن أنس، والترمذي في الشمائل وأبو يعلى- برجال ثقات- عن أبي جحيفة، وابن عساكر عن عمران بن حصين، وابن سعد عن محمد بن علي بن الحسين، والطبراني وابن مردويه- بسند صحيح- قال ابن عباس: أن أبا بكر قال: وقال أنس: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا رسول الله شبت، قال: «شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشّمس كوّرت»
[ (3) ] . وهذا الحديث له طرق، وقد أخطأ من ذكره في الموضوعات [ (4) ] .
وروى البيهقي وابن عساكر عن أبي علي الشّبولي- بضم الشين المعجمة، والموحدة- أحد رواة الصحيح قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقلت: يا رسول الله ما روي عنك أنك قلت: شيبتني هود؟ قال: «نعم» قلت: ما الذي شيبك منها؟ قصص الأنبياء، وهلاك الأمم؟
قال: «لا، ولكن فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [ (5) ] [هود 112] .
وروى ابن مردويه، والطبراني- بسند صحيح- عن عقبة بن عامر أن رجلا قال: يا
__________
[ (1) ] انظر الدر المنثور 4/ 51 وتاريخ أصفهان 1/ 130.
[ (2) ] أخرجه البخاري 10/ 504 (6092) ومسلم 2/ 616 (16/ 899) .
[ (3) ] أخرجه التّرمذي (3297) والشمائل 27 والحاكم 2/ 343 والبيهقي في الدلائل 1/ 358 وابن أبي شيبة 10/ 554 وابن سعد 1/ 2/ 138 وانظر المجمع 7/ 37 وابن كثير في التفسير 4/ 2236 7/ 487 وفي البداية 6/ 69 وابن حجر في المطالب (3650) والدر المنثور 3/ 119.
[ (4) ] انظر تذكرة الموضوعات (82) .
[ (5) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 1/ 358.(7/57)
رسول الله قد شبت، قال: «شيبتني هود وأخواتها» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد في الزهد عن أبي عمران الجوني قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «شيبتني هود وأخواتها، وذكر القيامة وقصص الأنبياء والأمم» [ (2) ] .
وروى ابن أبي حاتم عن الحسن رحمه الله تعالى قال: لما نزلت هذه الآية فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «شمروا وأثمروا فما رئي ضاحكا» .
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا ولضحكتم قليلا» [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد والطبراني عن ابن عباس، وسعيد بن منصور، والإمام أحمد، والترمذي- وحسنه- عن أبي سعيد، وأبو نعيم عن جابر رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كيف أنعم، وصاحب الصور قد التقم القرن، وحنى جبهته، وأصغى بسمعه، ينتظر متى يؤمر فينفخ؟» قالوا: وماذا نقول يا رسول الله؟ قال: «قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل» [ (4) ] .
وروى الحاكم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم هَلْ أَتى [الإنسان 1] حتى ختمها، ثم قال: «إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السّماء، وحقّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله، لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصّعدات تجأرون إلى الله تعالى، والله إني لوددت أني شجرة تعضد» .
قال بعض الحفاظ قوله: لوددت أني إلخ مندرج في الخبر من قول أبي ذرّ [ (5) ] .
وروى أبو عبيدة في فضائله، وأحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين،
__________
[ (1) ] انظر تفسير ابن كثير 4/ 236 والدر المنثور 3/ 2319 6/ 153.
[ (2) ] انظر المجمع 7/ 37 والطبراني في الكبير 6/ 183 17/ 287 والخطيب في التاريخ 3/ 145 والبغوي في التفسير 3/ 260 وابن سعد 1/ 2/ 138.
وعبد الرزاق في المصنف (5997) وأبو نعيم في الحلية 4/ 350.
[ (3) ] أخرجه البخاري 11/ 319 (6485) (6637) .
[ (4) ] من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أحمد في المسند 3/ 7157 والترمذي 4/ 620 (2431) وفي التفسير (3243) وأخرجه أبو يعلى في مسنده 2/ 340 (110/ 1084) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد ص 637 حديث (2569) والحاكم 4/ 559.
[ (5) ] أخرجه الترمذي (2312) وأحمد 5/ 173 والحاكم 2/ 42510/ 544، 579 وابن ماجة (4190) وأبو نعيم في الدلائل 158 وفي الحلية 2/ 238.(7/58)
وابن جرير، وابن أبي داود في الشريعة [ (1) ] ، وابن عدي، وابن نصر، والبيهقي في الشعب عن حمران بن أعين [ (2) ] عن أبي حرب بن المسوّر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سمع رجلا يقرأ ولفظ هنّاد وعبد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرأ إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً [المزمل 12، 13] فلما بلغ إليها صعق.
وروى ابن أبي شيبة برجال ثقات، والطبراني عن أبي سعيد، وابن أبي الدّنيا عن أنس رضي الله تعالى عنهما، قال أبو سعيد: إنا يوما عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرأيناه كئيبا، فقال بعضنا:
يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «سمعت هدّة، ولم أسمع مثلها، فأتاني جبريل فسألته عنها، فقال: هذه صخرة هدّت من شفير جهنم، من سبعين خريفا، فهذا حين بلغت قعرها، أحبّ أن يسمعك صوتها» ، فما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ضاحكا ملء فيه حتى قبضه الله تعالى [ (3) ] .
وروى الحارث بن أبي أسامة عن النواس بن سمعان [ (4) ] رضي الله تعالى عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا مقلّب القلوب، ثبت قلبي على دينك» [ (5) ] .
تنبيهات
الأول:
روى عبد بن حميد عن الحسن رحمه الله تعالى قال: لما أنزل الله تعالى:
(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف 9] عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخوف فلما نزلت: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح 1، 2] الآية اجتهد، فقيل له: تجهد نفسك، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: أفلا أكون عبدا شكورا؟.
__________
[ (1) ] عبد الله بن سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني، أبو بكر بن أبي داود: من كبار حفاظ الحديث. له تصانيف.
كان إمام أهل العراق، وعمي في آخر عمره. ولد بسجستان، ورحل مع أبيه رحلة طويلة، وشاركه في شيوخه بمصر والشام وغيرهما، واستقر وتوفي ببغداد. من كتبه «المصاحف» و «المسند» و «السنن» و «التفسير» و «القراآت» و «الناسخ والمنسوخ» . توفي 316. الأعلام 4/ 91.
[ (2) ] حمران بن أبان مولى عثمان كان من النمر بن قاسط سبي بعين التمر فابتاعه عثمان من المسيب بن نجبة فأعتقه. أدرك أبا بكر وعمر روى عن عثمان ومعاوية. انظر تهذيب التهذيب 3/ 25.
[ (3) ] أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 92 أو ابن حجر في المطالب 4671.
[ (4) ] النواس بن سمعان بن خالد الكلابي أو الأنصاري، صحابي مشهور سكن الشام. التقريب 2/ 300.
[ (5) ] ابن حجر في المطالب (462، 4940) وهو عند الترمذي (214، 3522، 3587) وأحمد 3/ 112، 257، 6/ 91 والحاكم 2/ 288، 289 وابن أبي شيبة 10/ 36، 37، 209، 210، 11/ 37 والطبراني في الكبير 1/ 234، 72/ 375 وابن أبي عاصم 1/ 104 والطبري في التفسير 3/ 25 وابن ماجة (199) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (2419) وعبد الرزاق (19646) وأبو نعيم في الحلية 8/ 22 والدولابي في الكنز 2/ 91.(7/59)
الثاني: روى الترمذي وغيره عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوصلا لإخوانه، ليست له راحة، قال ابن القيم في زاد المعاد: وأما بكاؤه فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق، ولا رفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كان تدمع عيناه حتى يهملا، ويسمع لصدره أزيز، وكان بكاؤه تارة رحمة للميت، وتارة خوفا على أمته، وتارة من خشية الله، وتارة عند سماع القرآن، وهو بكاء اشتياق ومحبة وإجلال، يصاحب الخوف والخشية.
الثالث:
قوله: «وأشدّهم له خشية» ،
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: في هذا الحديث إشكال لأن الخوف والخشية حالةٌ تنشأ عن ملاحظة شدّة النّقمة الممكن وقوعها بالخائف، وقد دلّ القاطع على أنه صلى الله عليه وسلم غير معذّب، وقال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ [التحريم 8] فكيف يتصوّر منه الخوف؟ فكيف أشد الخوف؟ قال: والجواب أن الذهول جائز عليه صلى الله عليه وسلم، فإذا حصل الذهول عن موجبات نفي العقاب حدث له الخوف، ولا يقال: إن إخباره بشدة الخوف، وعظم الخشية عظم بالنوع لا بكثرة العدد، أي إذا صدر منه الخوف، ولو في زمن فرد كان أشدّ من خوف غيره.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
الخوف: بخاء معجمة مفتوحة، فواو ساكنة، ففاء: الفزع.
الخشية: بخاء معجمة مفتوحة، فشين معجمة، فتحتية مفتوحة، فتاء تأنيث: الخوف.
التضرع: بمثناة فوقية، فضاد معجمة مفتوحة، فراء، فعين مهملة: التذلل، والمبالغة في السؤال والرغبة.
الفضل: بفاء مفتوحة، فضاد معجمة ساكنة، فلام: الإعطاء لا عن إيجاب ولا وجوب.
الوصيفة: بواو فصاد مهملة مكسورة، فتحتية، ففاء فتاء تأنيث: الأمة.
أوه: بهمزة مفتوحة وواو ساكنة، فهاء مكسورة، وربما قلبوا الواو فقالوا: آه من كذا، وربما شدّدوا الواو وكسروها، وسكنوا فقالوا: أوّه، وربما حذفوا الهاء فقالوا: أوّ، وبعضهم بفتح الواو مع التشديد فيقول: أوهّ: وهي كلمة تقال عند الشكاية والتوجع.
خشي العارض: بعين مهملة، فألف، فراء مكسورة، فضاد معجمة: هنا السحاب الذي يعترض في الأفق.
أطّت: بهمزة مفتوحة، فمهملة مشددة: ملئت لكثرة ما فيها من الملائكة.
الصّعدات: الصّعدات بضم الصاد، والعين المهملة، وفتح: الطرقات.
تجأرون: بمثناة فوقية، فجيم، فهمزة مفتوحة: تتضرعون رافعي أصواتكم.
اللهوات: يأتي الكلام عليه في باب ضحكه.(7/60)
الباب الثاني عشر في استغفاره، وتوبته صلى الله عليه وسلم
وروى البخاري والترمذي والطّبراني بأسانيد حسنة، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة» [ (1) ] .
وروى الطبراني برجال الصحيح عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم مائة مرة» [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أستغفرك ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وأنت، المؤخر، وأنت على كل شيء قدير» ،
وفيه راو لم يسم، وهو في الصحيح بلفظ: اللهم اغفر لي ما قدمت إلى آخره [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب، ومسلم في الصحيح عن الأغرّ رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا أيها الناس، توبوا إلى الله تعالى، فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة» [ (4) ] .
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والحاكم عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين أنت من الاستغفار يا حذيفة؟ إني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة، وأتوب إليه» [ (5) ] .
وروى النّسائي- بسند جيد- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه» قبل أن يقوم من المجلس، مائة مرة [ (6) ] .
وروى ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب، وأبو داود والترمذي، وابن ماجة، والنسائي
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 2/ 282 وأبو داود في الدعاء باب (4) والترمذي (3259) والبغوي في التفسير 6/ 80 وابن ماجة (3816) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (3456، 2458) أبو نعيم في الحلية 2/ 188 والطحاوي في المعاني 4/ 289.
[ (2) ] الطبراني في الكبير 2/ 397، 402 وانظر المجمع 10/ 208 وابن ماجة (3815) وابن أبي شيبة 10/ 297، 13/ 461.
[ (3) ] أخرجه أحمد 4/ 391 والحاكم 1/ 511 وانظر المجمع 10/ 209.
[ (4) ] أخرجه مسلم في الصحيح في كتاب الذكر (42) وابن ماجة (78، 1081) وأحمد 4/ 211، 260.
[ (5) ] ابن أبي شيبة 10/ 297، 13/ 461 والحاكم 2/ 457.
[ (6) ] وأخرجه ابن السني (123، 134) وابن عساكر في التهذيب 5/ 142.(7/61)
أيضا قال: إنا كنا نعد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس: «رب اغفر لي، وتب عليّ، إنّك أنت التواب الرحيم، مائة مرة» ، وفي لفظ: التواب الغفور.
وروى ابن أبي شيبة ومسلم والأربعة عن الأغرّ بن مزينة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله،
وفي لفظ: وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» ،
وفي رواية: سمعته يقول: «توبوا إلى ربكم، فو الله إني لأتوب إلى ربي عز وجل مائة مرة في اليوم» .
وروى محمد بن يحيى بن عمر برجال ثقات عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لزم رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الكلمات قبل موته بسنة: «سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» ، قالت فقلت: يا رسول الله لقد لزمت هذه الكلمات، قال:
«إن ربي عهد إلي عهدا أو أمرني بأمر، فأنا أتّبعه» ، ثم قرأ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حتى ختم السورة.
تنبيهات
الأول: استشكل وقوع الاستغفار منه صلى الله عليه وسلم، وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية، وأجيب بأجوبة منها: أنه رأى الاشتغال بالأمور المباحة من أكل أو شرب أو جماع أو نوم أو راحة أو مخالطة الناس، والنظر في مصالحهم، ومحاربة عدوهم تارة، ومداراته أخرى، وتأليف المؤلفة، وغير ذلك مما يحجبه عن الاشتغال بذكر الله تعالى، والتضرع إليه، ومشاهدته، ومراقبته، ذنبا بالنسبة إلى المقام العلي، وهو الحضور في حظيرة القدس، ومنها: أن استغفاره تشريع لأمته، أو من ذنوب لأمته، فهو كالشفاعة لهم. وقال الشيخ شهاب الدين السّهروردي لما كانت روح النبي صلى الله عليه وسلم لم تزل في الترقي إلى مقامات القرب تستتبع القلب، والقلب يستتبع النفس، ولا ريب أن حركة الروح والقلب أسرع من نهضة النفس، وكانت خطى النفس تقصر عن مداهما في العروج، فمما نهضت به الحكمة إبطاء حركة القلب لئلا تتقطع علاقة النفس عنه، فيبقى العباد محرومين فكان صلى الله عليه وسلّم يفزع إلى الاستغفار، لقصور النفس عن ترقي القلب، ومنها: أن في الاستغفار والتوبة معنى لطيفا، وهو استدعاء لمحبة الله تعالى، فإحداثه الاستغفار والتوبة في كل حين استدعاء لمحبة الله تعالى.
الثاني: الغين، قال شعبة: سألت الأصمعي ما معنى ليغان على قلبي؟ فقال: عمّن يروى ذلك؟ قلت: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لو كان قلب غير النبي صلى الله عليه وسلم لفسرته، وأما قلبه صلى الله عليه وسلم فلا أدري، كان شعبة يتعجب منه، وسئل أبو عبيدة عنه فلم يفسره.
وقال الجنيد: لولا أنه حال النبي صلى الله عليه وسلم لتكلمت فيه، ولا يتكلم على حال إلا من كان(7/62)
مشرفا عليها، وجملة حاله لا يشرف على نهايتها أحد من الخلق، ونقل الإمام الرافعي رحمه الله تعالى في أماليه عن سيدنا الصديق رضي الله تعالى عنه، أنه مع علو مرتبته تمنى أن يشرف عليها، فقال: ليتني شهدت ما استغفر منه صلى الله عليه وسلم انتهى، وتكلم في معناه آخرون بحسب ما انتهى إليه فهمهم، ولهم منهجان: أحدهما حمل الغين على حالة جميلة، ومرتبة عالية اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد من استغفاره: خضوعه، وإظهار حاجته إلى ربه، وملازمته للعبودية، قال أبو سعيد الخرّاز [ (1) ] فيما نقله عنه الإمام الرافعي: الغين شيء لا يجده إلا الأنبياء، وأكابر الأبرار والأولياء، لصفاء أسرارهم، وهو كالغيم الرقيق الذي لا يدوم.
قال الرافعي [ (2) ] : وحمله على عارض غيره أكمل منه، فيبادر إلى الاستغفار، وعلى هذا كثرت التنزيلات والتأويلات، فقيل كان سبب الغين النظر في حال الأمة، واطّلاعه على ما يكون منهم، فكان يستغفر لهم. وقيل: سببه ما يحتاج إليه من التبليغ، ومشاهدة الخلق، فيستغفر منه ليصل إلى صفاء وقته مع الله تعالى. وقيل: ما كان يشغله من تمادي قريش وطغيانهم. وقيل: ما كان يجده من محبة إسلام أبي طالب. وقيل: لم يزل صلى الله عليه وسلّم مترقيا من رتبة إلى رتبة، فكلما رقي درجة التفت إلى ما خلفها، وجد منها وحشة لقصورها بالإضافة إلى التي انتهى إليها، وذلك هو الغين، فيستغفر منه، قال: وهذا ما كان يستحسنه والدي رحمه الله تعالى ويقرره.
ومن هؤلاء من نزل الغين على السكينة والاطمئنان، قال البيهقي في الشّعب: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت الأستاذ أبا سهل محمد بن سهل: يعني الصّعلوكي [ (3) ] أحد أئمة الشافعية يقول: في قوله: ليغان على قلبي وأيد أنّ أحدهما يختص به أهل الإشارة، وهو حملهم إياه على غشية السّكرة التي هي الصحو في الحقيقة، ومعنى الاستغفار على التجسر للكشف
__________
[ (1) ] أحمد بن عيسى الخراز، أبو سعيد: من مشايخ الصوفية بغدادي. نسبته إلى خيرز الجلود. قيل أنه أول من تكلم في علم الفناء والبقاء. له تصانيف في علوم القوم منها كتاب الصدق، أول الطريق إلى الله. ومن كلامه: إذا بكت أعين الخائفين، فقد كاتبوا الله بدموعهم. توفي 286 هـ. الأعلام 1/ 191.
[ (2) ] عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسين بن الحسن، الإمام العلامة إمام الدين، أبو القاسم القزويني الرافعي، صاحب الشرح المشهور كالعلم المنشور والذي نقوم بتحقيقه، وإليه يرجع عامة الفقهاء من أصحابنا في هذه الأعصار، في غالب الأقاليم والأمصار، ولقد برز فيه على كثير ممن تقدمه، وحاز قصب السبق، فلا يدرك شأوه إلا من وضع يديه حيث وضع قدمه. توفي في ذي القعدة سنة ثلاث، وعمره نحو ست وستين. الطبقات لابن قاضي شهبة 2/ 75، 76.
[ (3) ] محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن هارون الإمام، أبو سهل الصعلوكي الحتمي نسبا، ثم العجلي، النيسابوري.
الفقيه، المفسر، الأديب، اللغوي، النحوي، الشاعر، المفتي، الصوفي، حبر زمانه، وبقية أقرانه- هذا قول الحاكم فيه.
ولد سنة ست وتسعين ومائتين. وأخذ عن ابن خزيمة ثم عن أبي علي الثقفي وأفتى ودرس بنيسابور نيفا وثلاثين سنة.
انظر الطبقات لابن قاضي شهبة 1/ 150.(7/63)
عنها، وأهل الظاهر يحملونها على الخطرات العارضة للقلب، والطلبات الواردة الشاغلة له بهذه الغشية الملابسة.
وقال القاضي: هو ما يستغشي القلب، ولا يغطيه كل التغطية، كالغيم الرقيق الذي لا يمنع ضوء الشمس، ثم لا يفهم من الحديث أنه يغان على قلبه مائة مرة، وإنما هذا عدد الاستغفار لا الغين، فيكون المراد بهذا الغين الإشارة إلى غفلات قلبه، وفترات نفسه، وسهوها عن مداومة الذكر، ومشاهدة الحق، لما كان صلى الله عليه وسلم من مقامات البشر، وسياسة الأمة، ومعاناة الأهل، ومقاومة الولي والعدو، ومصلحة النفس، وأعباء الرسالة، وحمل الأمانة، وهو في هذا كله في طاعة ربه، وعبادة خالقه، ولكن لمّا كان صلى الله عليه وسلّم أرفع الخلق عند الله تعالى مكانة، وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حالة عند خلوص قلبه، وخلو همه، وتفرده بربه أرفع حاليه، رأى حاله فترته عنها، وشغله بسواها، غمضا من علّي حاله، ورفيع مقامه، فاستغفر من ذلك.
وقال الشيخ شهاب الدين السّهروردي: لا تعتقد أن الغين حاله نقص، بل هو حالة كمال، ثم مثل بجفن العين حين يسيل الدمع القذى عن العين مثلا، فإنه يمنع العين عن الرؤية، فهو من هذه الحيثية نقص، وفي الحقيقة هو كمال، هذا محصل كلامه بعبارة طويلة، قال:
فهكذا بصيرة النبي صلى الله عليه وسلم متعرضة للأغبرة الثائرة من أنفاس الأخيار، فدعت الحاجة إلى ستر حدقة بصيرته، صيانة لها، ووقاية عن ذلك، وقيل: هو حالة الخشية، وإعظام الاستغفار شكرها، ومن ثم قال المحاسبي: خوف المقربين خوف إجلال وإعظام، وقيل: هو السكينة التي تغشي قلبه، والاستغفار لإظهار العبودية والشكر لما أولاه.
وذكر ابن عطاء الله في كتاب لطائف المنن: أن الشيخ أبا الحسن الشاذلي [ (1) ] قدس الله سره قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسألته عن حديث: إنه ليغان على قلبي، فقال: «يا مبارك ذلك غين الأنوار» .
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الاستغفار: استدعاء المغفرة، وطلبها من الشفاعة، وإعداد الأسباب المقربة إلى الطاعة.
المقدّم: بميم مضمومة، فقاف مفتوحة، فدال مهملة مكسورة، فميم: الذي يقدم الأشياء، ويضعها في مواضعها: ضد المؤخر، فمن استحق التقديم قدمه.
المؤخر: بميم مضمومة، فهمزة مفتوحة، فخاء معجمة مكسورة، فراء: الذي يؤخر
__________
[ (1) ] علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن يوسف بن هرمز الشاذلي المغربي، أبو الحسن: رأس الطائفة الشاذلية، من المتصوفة، وصاحب الأوراد المسماة «حزب الشاذلي» . انظر الأعلام 4/ 305.(7/64)
الأشياء فيضعها في مواضعها: ضد المقدم.
القدير: القادر قدرة تصلح للخلق، قال: يوصف تعالى بالقدرة على الخلق، بخلاف قدرة المخلوقين، إذ أقدرهم على الكسب لا الخلق، وحقيقتها ما يتقدّر بها المواد المزاد على حسب تقدم الفاعل في الوقوع، فمن عرف أنه عز وجل قادر خشي من سطوات عقوبته عند مخالفته، وأمل لطائف نعمته ورحمته عند سؤاله وحاجته، لا بوسيلة طاعته، بل بكرمه ومنته، ولذلك من عرف أنه قادر سكن عن الانتقام، لعلمه بأن انتقامه وانتصاره له أتم من انتقامه لنفسه، ولذا قيل: احذروا من لا ناصر له غير الله.
الحيّ والحياة: صفة من صفات ذاته زائدة على بقائه، فهو الدائم الباقي، الذي لا سبيل عليه للفناء.
القيّوم: القديم الدائم الذي لا يزول، وليس عن قيامه على رجل.
التواب: بمثناة فوقية، فواو مشددة، فألف، فموحدة: الموفق لعباده التوبة والرجاع عليهم بفعله.
الرحيم: العظيم الرحمة.
الغفور: الكثير المغفرة، الساتر لذنوب عباده.(7/65)
الباب الثالث عشر في قصر أمله صلّى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد، وابن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يريد الماء فيتمسح بالتراب، فأقول: يا رسول الله إن الماء قريب، فيقول: «وما يدريني لعلي لا أبلغه؟» [ (1) ] .
وروى ابن أبي الدّنيا في قصر الأمل، وبقي بن مخلد عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: اشترى أسامة بن زيد وليدة بمائة دينار إلى شهر، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر؟ إن أسامة لطويل الأمل، والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى أقبض، ولا رفعت طرفي فظننت أني واضعه حتى أقبض، ولا لقمت لقمة إلا ظننت أني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت» ، ثم قال: «يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده» إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [ (2) ] [الأنعام 134] .
وروى الإمام أحمد، والبخاري، والنسائي، وابن سعد والبرقاني عن عقبة بن الحارث قال: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم من صلاة العصر فأسرع، ولم يدركه أحد، فعجب الناس من سرعته، فلما رجع إليهم عرف ما في وجوههم، فقال: «كان عندي تبر فكرهت أن أبيته عندي، فأمرت بقسمته» [ (3) ] .
وروى ابن سعد عن الحسن رضي الله تعالى عنه قال: أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما فعرف في وجهه أنه بات قد أهمه أمر، فقيل: يا رسول الله إنا لا نستنكر وجهك، كأنك قد أهمّك الليلة أمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ذاك من أوقيتين من ذهب الصدقة باتتا عندي، لم أكن وجهتهما» [ (4) ] .
وروى أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية دراهم بعد أن أمسى، فلم يزل قائما وقاعدا لا يأتيه النوم، حتى سمع سائلا يسأل، فخرج من عندي، فما عدا أن دخل، فسمعت غطيطه فلما أصبح قلت: يا رسول الله رأيتك أو الليلة قائما وقاعدا
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 1/ 288.
[ (2) ] أبو نعيم في الحلية 6/ 91 وابن عساكر في التهذيب 2/ 399 والدر المنثور 3/ 47 والترغيب والترهيب 4/ 242.
[ (3) ] سيأتي.
[ (4) ] ابن سعد 2/ 2/ 33.(7/66)
لا يأتيك نوم، حتى خرجت من عندي، فما عدا أن دخلت فسمعت غطيطك قال: «أجل، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية دراهم بعد أن أمسى، فما ظنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لو لقي الله وهي عنده» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى، وقاسم بن ثابت، برجال الصحيح عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ساهم الوجه، فحسبت ذلك من وجع، فقلت يا رسول الله: ما لك ساهم الوجه؟ قال: «من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا أمس أمسينا وهي في خصم الفراش، فأتتنا، ولم ننفقها» .
وروى الحميدي برجال ثقات- عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ذهبا كانت أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فتثاقل من الليل وهي أكثر من السبعة، وأقل من التسعة، فلم يصبح حتى قسمها، فقال: «ما ظنّ محمد بربه لو مات وهذه عنده» [ (2) ] .
وروى أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه والخلعي عن الحسن بن محمد رحمه الله تعالى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقبل ما لا عنده، ولا يبيته، قال ابن سلام: يعني إن جاءه غدوة لم ينتصف النهار حتى يقسمه، وإن جاءه عشيّة لم يبت حتى يقسمه [ (3) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الأمل: كجبل: الرجاء.
الوليدة: بواو فلام مكسورة، فمثناة تحتية، فدال مهملة: واحدة الولائد.
أسيغها: بهمزة مضمومة فسين مهملة، فتحتية، فغين معجمة: أي لم يدخل في حلقي سهلا.
أغص بهمزة مضمومة، فغين معجمة مفتوحة، فصاد مهملة: أشرق به، ويقف في حلقي.
الغطيط: بغين معجمة، وروي بخاء معجمة، وأنكرها ابن بطّال: الصوت الذي يخرج مع نفس النائم.
ساهم الوجه: بالمهملة: متغير اللون.
خصم الفراش: بمعجمة فمهملة: طرفه.
__________
[ (1) ] احمد 6/ 49، 6/ 86 وابن سعد 2/ 2/ 33 وانظر المجمع 10/ 240 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (2141) وابن كثير في البداية 6/ 63.
[ (2) ] البيهقي في السنن الكبرى 6/ 357 والدولابي في الكنز 2/ 99.
[ (3) ] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 357.(7/67)
الباب الرابع عشر في إعطائه القود من نفسه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد- بسند رجاله ثقات- عن عمرو بن شعيب قال: لمّا قدم عمر الشام أتاه رجل يستأذنه على أمير ضربه، فأراد عمر أن يقيده، فقال له عمرو بن العاص: أتقيده منه؟ قال:
نعم، قال: فلا نعمل لك عملا، قال: لا أبالي أن أقيده منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعطي القود من نفسه، قال: أفلا نرضيه؟ قال: أرضوه إن شئتم.
وروى إبراهيم الحربي عن عطاء قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبيده قضيب، فأصاب بطن الأعرابي، وزحم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي فخدشه، فقال: «اقتص» ، فأبى، فقال:
«لتقصن، أو لتأخذن تبعة الغير» [ (1) ] .
وروى ابن سعد عن سعيد بن المسّيب قال: أقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه وأقاد أبو بكر من نفسه وأقاد عمر من نفسه.
وروى ابن عساكر والحاكم عن حبيب بن مسلمة قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابيا لم يتعمده، فأتاه جبريل فقال: يا محمد إن الله لم يبعثك جبارا، ولا متكبرا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأعرابي فقال: «اقتص مني» ، فقال الأعرابي:
قد أحللتك، بأبي وأمي، وما كنت لأفعل ذلك أبدا، ولو أتيت على نفسي، فدعا له بخير [ (2) ] .
وروى ابن أبي شيبة، وأبو الحسن بن الضحاك عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقتص من نفسه،
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر عن رجل من العرب قال: زحمت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وفي رجلي نعل كثيفة، فوطئت بها على رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفحني بسوط في يده، وقال: «باسم الله أوجعتني» ، فبت لائما نفسي، أقول:
أوجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبحنا فإذا رجل يقول: أين فلان؟ فقلت هذا والله الذي كان مني بالأمس، فانطلقت، وأنا متخوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنك وطئت بنعلك رجلي بالأمس فأوجعتني، فنفحتك بسوط فهذه ثمانون نعجة فخذها بها» [ (3) ] .
وروى ابن حبان في صحيحه، وأبو الحسن بن الضحاك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في الجهاد، فاجتمعوا عليه حتى غمّوه، وفي يده
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 1/ 175 والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 49.
[ (2) ] أخرجه الحاكم 3/ 288، 4/ 331 وأبو نعيم في الحلية 6/ 137 والكنز (40217) .
[ (3) ] أخرجه الدارمي 1/ 35.(7/68)
جريدة سلّاها، وبقيت هكذا سلاة، ثم لم ينظروا إليها فقال: أخّروا عني، لهذا غميتموني، فأصاب النبي صلى الله عليه وسلّم بطن رجل فأدماه، فخرج الرجل، وهو يقول: هذا فعل نبيك، فسمعه عمر فقال: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان هو أصابك فسوف يعطيك من نفسه الحق، وإن كنت كذبت لأرغمك بعمامتك حتى يتحدث، فقال الرجل: انطلق بسلام، فلست أريد أنطلق معك، قال: ما أنا بوادعك، فانطلق، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «أحقا أنا أصبتك؟» قال: نعم، قال: «فما تريد؟» قال: فأستقيد منك، فأمكنه من الجريدة، وكشف عن بطنه، فألقى الجريدة من يده، وقبّل سرّته، وقال: «هذا أردت، لكي ما يقمع الجبار من بعدك» ، فقال عمر: أنت كنت أوثق عملا مني [ (1) ] .
وروى الدارمي وعبد بن حميد، وعبد الرزاق عن أبي هريرة أو أبي سعيد قال: كان رجل من المهاجرين، وكان ضعيفا، وكان له حاجة إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يلقاه على خلاء فيسأل حاجته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم معسكرا بالبطحاء [ (2) ] ، وكان يجيء من الليل، فيطوف البيت، حتى إذا كان في وجه السّحر صلّى بهم صلاة الغداة، فحبسه الطّواف ذات ليلة حتى أصبح، فما استوى على راحلته عرض له الرجل، فأخذ بخطام ناقته،
فقال: يا رسول الله، لي إليك حاجة، قال: إنك ستدرك حاجتك، فأبى، فلما خشي أن يحبسه خفقه بالسوط، ثم مضى، فصلى بهم صلاة الغداة، فلما انفتل أقبل بوجهه إلى القوم، وكان إذا فعل ذلك عرفوا أنه قد حدث أمر، فاجتمع القوم حوله، فقال: أين الرجل الذي جلدت آنفا؟ فأعادها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الرجل يقول: أعوذ بالله، ثم برسول الله، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول:
«ادنه ادنه» ، حتى دنا منه، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم بين يديه، وناوله السوط، فقال: «خذ بمجلدك فاقتص» . فقال: أعوذ بالله أن أجلد نبيه، فقال: «إلا أن تعفو» ، فألقى السوط وقال: قد عفوت يا رسول الله، فقام إليه أبو ذرّ فقال: يا رسول الله، تذكر ليلة العقبة، وأنا أسوق بك، وأنت نائم، كنت إذا سقتها أبطأت، وإذا سقتها اعترضت، فخفقتك خفقة بالسوط، وقلت: قد أتاك القوم، وقلت: «لا بأس عليك» ، فدعا برسول الله أن يقتص، قال: «قد عفوت» ، قال:
اقتص، فهو أحب إليّ، فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد رأيته يتضوّر من جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «أيها الناس اتقوا الله، فو الله لا يظلم مؤمن مؤمنا إلا انتقم الله تعالى منه يوم القيامة» [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه
__________
[ (1) ] انظر المجمع 6/ 289.
[ (2) ] انظر مراصد الاطلاع 1/ 203.
[ (3) ] انظر جمع الجوامع للسيوطي (9638) .(7/69)
قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسما أقبل رجل عليه، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه، فجرح في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «تعال فاستقد» [ (1) ] .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عبد الرحمن بن جبير الخزاعي قال: طعن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا في بطنه، إما بقضيب، أو بسواك، قال: أوجعتني، فأقدني، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم العود الذي كان معه، ثم قال: «استقد، فقبّل بطنه» ، وقال: بل أعفو عنك، لعلك أن تشفع في يوم القيامة [ (2) ] .
وروى ابن قاسم وأبو الحسن بن الضحاك عن سواد بن عمرو قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا متخلّق بخلوق فقال ورس: حطّ حطّ، وغشيني بقضيب في يده في بطني فأوجعني، فقلت: يا رسول الله القصاص، فكشف لي عن بطنه، فأقبلت أقبّله، فقلت يا رسول الله: دعني وأخّرها شفاعة لي يوم القيامة.
وروى ابن قانع عن عبد الله بن أبي الباهلي قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع فألقيته واقفا على بعيره، فكأنّ ساقه في غرزة الجمّارة، فاحتضنتها فقرعني بالسوط، فقلت: القصاص يا رسول الله، فرفع السّوط، فقبلت ساقه ورجله، وذكر محمد بن عمر الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بينما هو يسير في الطائف إلى الجعرّانة، وأبو رهم إلى جنبه على ناقته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته،
قال أبو رهم: فوقع حرف نعلي على ساقه، فأوجعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أوجعتني، أخر رجلك، وقرع رجلي بالسوط» ، فأخذني من الهم ما تقدم، وما تأخر، وخشيت أن ينزل في قرآن، لعظم ما صنعت، فلما أصبحنا بالجعرّانة خرجت أرعى ظهري، وما هو يومي، فرقا أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلّم يطلبني، فلما روّحت بالركائب سألت، فقالوا:
طلبك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجئته، وأنا أرتقب، فقال: «إنك أوجعتني برجلك، فقد نحيتك بالسوط، فخذ هذه الغنم عوضا من ضربتي» ، قال: فرضاه أحب إلي من الدنيا وما فيها.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
القود: بقاف، فواو مفتوحتين، فدال مهملة: القصاص.
القضيب: بقاف مفتوحة، فضاد معجمة مكسورة، فمثناة تحتية، فموحدة: الغصن.
زحم: بزاي فحاء مهملة مفتوحتين فميم.
خدشه: بخاء معجمة، فدال مهملة، فشين معجمة مفتوحات: قشره.
الغير: بكسر المعجمة، وفتح التحتية، قال ابن الأعرابي: الأرش والدية دون القود.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (4536) وأحمد 3/ 28 والنسائي في القسامة باب (22) وأحمد 3/ 28 والبيهقي 8/ 43، 48.
[ (2) ] البيهقي في السنن الكبرى 8/ 48 وانظر المجمع 6/ 289.(7/70)
السّوط: بسين مهملة مفتوحة، فواو ساكنة، فطاء مهملة: ما يجلد به.
غمّوه: بغين معجمة مفتوحة، فميم، فواو فهاء: حبسوا نفسه عن الخروج.
سلاها: بسين مهملة مضمومة فلام فألف: شوك النخل.
البطحاء: بموحدة مفتوحة، فطاء مهملة ساكنة، فحاء مهملة، فألف: الحصى اللين، والمراد بها بطحاء مكة.
الخطام: بخاء معجمة مكسورة، فطاء مهملة، فألف، فميم: ما يقاد به البعير.
خفقه: بخاء معجمة، ففاء، فقاف مفتوحات، فهاء: ضربه.
الشّراك: بشين معجمة مكسورة، فراء، فألف، فكاف: أحد سيور النعل.
غشيه: بغين مفتوحة، فشين مكسورة معجمة، فتحتية فهاء: جاءه.
الغرز: بغين، فزاي معجمتين، وبينهما راء مهملة: ركاب الرحل إذا كان من جلد.
الجمّارة: بجيم مضمومة، فميم، فراء: شحم النخل.
قرعني: بقاف، فراء، فعين مهملة مفتوحات، فنون: ضربني.
العرجون: بعين مهملة مضمومة، فراء ساكنة، فجيم، فواو فنون: شماريخ العذق.
الطائف والجعرّانة: تقدم الكلام عليهما.
الظهر: بظاء معجمة، فهاء ساكنة، فراء: الركاب.
فرقا: بفاء فراء فقاف مفتوحات: خوفا.(7/71)
الباب الخامس عشر في بكائه صلى الله عليه وسلم
وروى أبو داود والنسائي عن مطرف بن الشخير قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وفي صدره أزيز كأزيز الرحى من البكاء، ولفظ النّسائي: ولجوفه أزيز كأزيز المرجل يعني من البكاء [ (1) ] .
وروى أبو الشيخ عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لقد رأيتنا وما فينا قائم يصلي إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم تحت شجرة يصلي، وهو يبكي حتى أصبح يعني ليلته.
وروى عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلتي حتى دخل معي في لحافي، وألزق جلده بجلدي، فقال: «يا عائشة ائذني لي في ليلتي لربي» ، فقلت: إني لأحب قربك، فقام إلى ربه في البيت، فما أكثر صب الماء، ثم قام، فقرأ القرآن، ثم بكى، حتى رأيت دموعه قد بلغت حجره، ثم اتكأ على جنبه الأيمن، ثم وضع يده اليمنى تحت خده، ثم بكى حتى رأيت دموعه قد بلغت الأرض، قالت:
فجاء بلال فأذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله أتبكي وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: «أفلا أكون عبدا شكورا، وقال: ألا أبكي وقد أنزل الله تعالى الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إلى قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ؟ وويل لمن قرأ هذه الآيات ولم يتفكر فيها.
وروى عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً الآية فاضت عيناه [ (2) ] .
وروى الحكيم الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما قدم وفد اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالوا: أسمعنا بعض ما أنزل عليك، فقرأ: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا حتى بلغ إلى قوله: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ، فإنّ ما يبيضّ عرق وإن دموعه لتسبقه إلى لحيته، فقالوا له:
إنا نراك تبكي، أمن خوف الذي بعثك تبكي؟ قال: «بلى، من خوف الذي بعثني أبكي، إنه بعثني على طريق مثل حد السيف، إن زغت عنه هلكت، ثم قرأ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن صالح بن الخليل قال: ما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] سيأتي في أدب تلاوة القرآن الكريم.(7/72)
مبتسما أو ضاحكا، منذ أنزلت هذه الآية: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ.
وروى أيضاً ابن عديّ- بسند ضعيف- عن حمران بن أعين رحمه الله تعالى قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم رجالا يقرؤون: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً، وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ، وَعَذاباً أَلِيماً فصعق رسول الله صلى الله عليه وسلم [ (1) ] .
وروى ابن أبي الدّنيا وأبو الحسن بن الضحاك عن طريق الوليد بن مسلم قال: أخبرنا أبو سلمة ثابت الدّوسي، عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما- وسنده أبو الوليد جيد- قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم ارزقني عينين هطّالتين، تبكيان تذرفان الدموع، وتشبعاني من خشيتك، قبل أن تكون الدموع دما، والأضراس جمرا» [ (2) ] .
وروى أبو بكر الشافعي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن مظعون بعد موته، حتى رأيت دموعه تسيل على عينيه [ (3) ] .
وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعوده مع أسامة بن زيد فلما دخل وجده في غاشية أهله فقال:
قد قضى؟ قالوا: لا فبكى [ (4) ] .
وروى ابن عدي بسند ضعيف عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: لما جرد رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بكى، فلما رأى ما مثّل به شهق.
وروى أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا، فالتفت فإذا هو بعمر يبكي، فقال: «يا عمر ههنا تشكب العبرات» [ (5) ] .
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم صلى الله عليه وسلّم: «رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ (6) ] [إبراهيم 36] .
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] أخرجه ابن المبارك في الزهد (165) وأبو نعيم في الحلية 2/ 96 وابن عساكر كما في التهذيب 3/ 368.
[ (3) ] سيأتي في الجنائز.
[ (4) ] سيأتي.
[ (5) ] أخرجه ابن ماجة (2945) والحاكم 1/ 454 وانظر نصب الراية 3/ 38 والدر المنثور 1/ 135.
[ (6) ] أخرجه مسلم 1/ 191 (346/ 202) .(7/73)
وروى الشيخان وأبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ عليّ القرآن، فقلت: يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: أشتهي أن أسمعه من غيري [ (1) ] .
وروى أبو يعلى، وابن أبي شيبة، والنّسائي في الكبير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: اقرأ، فافتتح النساء حتى انتهى إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً الآية، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «حسبك» [ (2) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الأزيز: بزاءين بينهما مثناة تحتية: صوت ينشأ عن البكاء من كثرة الحزن.
الرّحى: براء، فحاء مهملتين: معروفة، مقصورة، مؤنثة، وتثنيتها رحيان والجمع: أرحاء، وأرح، وأنكر أبو حاتم أرح، ومن مد قال: رحاء ورحاءان وأرحية مثل غطاء، وغطاءان، وأغطية.
المرجل: بميم مكسورة، فراء ساكنة، فجيم مفتوحة: قدر من نحاس.
الشّهاب: بكسر المعجمة: الكوكب.
الثّاقب: المضيء.
هطّالتين: بهاء، فطاء مهملة مفتوحتين، فلام: بكاءين بدمع متتابع.
تذرف: بمثناة فوقية مفتوحة، فذال معجمة ساكنة، فراء، ففاء: يجري دمعها.
الثرى: بالمثلثة التراب.
__________
[ (1) ] سيأتي.
[ (2) ] سيأتي.(7/74)
الباب السادس عشر في زهده في الدنيا صلى الله عليه وسلّم، وورعه، واختياره الفقر، وسؤاله ربه تبارك وتعالى أن يكون مسكينا
قال الله سبحانه وتعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ، زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى.
وروى ابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب» [ (1) ] .
وروى أبو يعلى، وابن عساكر، والشيخان، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا» [ (2) ] .
وروى ابن سعد، والتّرمذي، وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وابن سعد وابن حبان عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرض عليّ ربي بطحاء مكة ذهبا، فقلت:
لا يا رب، ولكني أجوع يوما، وأشبع يوما، فإذا شبعت حمدتك، وشكرتك، وإذا جعت تضرعت إليك، ودعوتك» [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، فقال: «والذي نفسي بيده ما يسرني أن أحدا يحوّل لآل محمد ذهبا، أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت ما أدع منه دينارين، إلا دينارين أعدّهما لدين إن كان» [ (4) ] .
وروى البيهقي، وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو عندي مثل أحد ذهبا ما سرني أن يأتي علي ثلاث ليال، وعندي منه شيء إلا شيئا أرصده لدين» .
وروى البخاري، وغيره عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جلس على المنبر فقال: «إن عبدا خيّره الله تعالى أن يؤتيه من زهرة الدنيا وما عنده، فاختار ما عنده» ،
فبكى أبو بكر، وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا له فقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 101 والبغوي في التفسير 5/ 95 وانظر المجمع 9/ 19.
[ (2) ] أخرجه البخاري 11/ 283 (6460) ومسلم 4/ 2281 (18/ 1055) .
[ (3) ] أخرجه ابن المبارك في الزهد ص 54 غضب حديث (196) وأحمد في المسند 5/ 254 والترمذي 4/ 575 (2347) وقال: حسن.
[ (4) ] أخرجه أحمد 2/ 530، 5/ 149 والطبراني في الكبير 11/ 328 وانظر المجمع 3/ 120، 123، 10/ 239.(7/75)
يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيّر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو المخيّر، وكان أبو بكر أعلمنا به [ (1) ] .
وروى أبو ذر الهروي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على وسادة حشوها ليف، فقام وقد أثر بجلده، فبكيت فقال: «يا أم سلمة ما يبكيك؟» قلت: ما أرى من أثر هذه، فقال: «لا تبكي، لو أردت أن تسير معي هذه الجبال لسارت» .
وروى عن عطاء بن يسار رحمه الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتتني الدنيا خضرة حلوة، ورفعت إلى رأسها، وتزينت لي، فقلت لها: إني لا أريدك لا حاجة لي فيك، فقالت: إنك إن نلت مني لم ينفلت مني غيرك» [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد، وابن حبان عن أبي هريرة، ويعقوب بن سفيان وابن مردويه عن ابن عباس أن جبريل جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليهما، فنظر إلى السماء، فإذا ملك ينزل، فقال جبريل: إن هذا ملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد أن الله تعالى يخيرك بين أن تكون نبيا عبدا أو تكون نبيا ملكا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى جبريل كالمستشير له، فأشار جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تواضع لربك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بل أكون نبيا عبدا» ، قال ابن عباس: فما أكل بعد تلك طعاما متكئا حتى لقي ربه» [ (3) ] .
وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لقد هبط علي ملك من السماء ما هبط على نبي قبلي، ولا يهبط على أحد بعدي، وهو إسرافيل، فقال: أنا رسول ربك إليك أمرني أن أخيرك: إن شئت نبيا عبدا وإن شئت نبيا ملكا، فنظرت إلى جبريل فأومأ إلي أن تواضع، فلو أني قلت: نبيا ملكا لسارت الجبال معي ذهبا» [ (4) ] .
وروى البرقاني وابن أبي شيبة، وابن جرير، عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أن شئت أعطيناك خزائن الأرض، ومفاتيحها، ما لم يعط شيء قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، ولا ينقصك ذلك مما عند الله شيئا، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة، فقال: «اجمعوها لي في الآخرة» [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 3/ 327 (1465) ومسلم 2/ 728 (123/ 1052) .
[ (2) ] ذكره الرازي في العلل (1930) وأحمد في الزهد (399) .
[ (3) ] ابن المبارك في الزهد (265) والطحاوي في المشكل 3/ 16 والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 49 وابن كثير في البداية 6/ 56.
[ (4) ] الطبراني في الكبير 12/ 348 وأبو نعيم في الحلية 3/ 256 وانظر المجمع 9/ 19.
[ (5) ] أخرجه ابن جرير في التفسير 18/ 140 وابن كثير 6/ 104.(7/76)
وروى ابن المبارك عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرض علي ربي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا، فقلت: يا رب، ولكن أشبع يوما، وأجوع يوما، أو قال: ثلاثة، أو نحو هذا، فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك، وشكرتك.
وروى ابن المبارك والترمذي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: أحبّوا المساكين، فإني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» [ (1) ] .
وروى ابن عدي عنه أيضاً قال: يا أيها الناس، لا يحملنكم العسر على طلب الرزق من غير حلّه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم توفّني فقيرا، ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا، وعذاب الآخرة» [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى، وتمّام الرازي، وابن عساكر وأبو داود الطّيالسي، والترمذي- وصححه- عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر في جنبه، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه، فقلت: يا رسول الله ألا آذنتنا فبسطت شيئا يقيك منه، تنام عليه، فقال: «ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فقال تحت شجرة ثم راح وتركها» [ (3) ] .
وروى الشيخان وأبو الحسن بن الضحاك عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو متكئ على رمال حصير قد أثر في جنبه، فرفعت رأسي في البيت، فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد البصر، إلا أهب ثلاثة معلقة، وصبرة من شعير، فهملت عينا عمر فقال: ما لك؟ فقلت يا رسول الله أنت صفوة الله من خلقه، وكسرى وقيصر فيما هما فيه؟ فجلس محمرا وجهه، فقال: «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ثم قال: أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة؟» قلت:
بلى، يا رسول الله، فأحمد الله عز وجل، زاد أبو الحسن بن الضحاك: يا عمر لو شاء أن يسيّر الجبال الراسيات معي ذهبا لسارت [ (4) ] .
وروى ابن أبي شيبة عن رجل من بني سالم أو فيهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتي بهدية،
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] ابن عدي 3/ 884 وانظر الميزان للذهبي (2475) .
[ (3) ] ابن المبارك ص 54 (195) وأحمد 1/ 391 والترمذي 45/ 588 (2377) وقال حسن صحيح وابن ماجه 2/ 1376 (4109) والحاكم 4/ 310 وانظر كنز العمال (6142) .
[ (4) ] مسلم في الطلاق (34) وأحمد 1/ 34 وانظر الدر المنثور 6/ 242 والبداية لابن كثير 6/ 57.(7/77)
فنظر، فلم يجد شيئا يجعلها فيه، فقال: «ضعه في الحضيض، فإنما هو عبد يأكل كما يأكل العبد، ويشرب كما يشرب العبد، لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقي الكافر منها ماء [ (1) ] .
وروى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: خرج أبو بكر في الهاجرة إلى المسجد فسمع بذلك عمر فخرج، فقال: يا أبا بكر ما أخرجك في هذه الساعة؟ قال: لا، والله ما أخرجني إلا الجوع، فقال: أنا والذي نفسي بيده، ما أخرجني غيره،
فبينما هما كذلك إذ خرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم [فقال «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟» ] فقالا: الجوع فقال: «أنا والذي نفسي بيده ما أخرجني غيره،» فقاموا، فانطلقوا حتى أتوا باب أبي أيوب الأنصاري، فذكر الحديث في إتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر بيت أبي أيوب وذبحه لهم شاة، وطبخه لها، قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الشاة، ووضعه على رغيف، وقال: «يا أبا أيوب أبلغ هذا فاطمة، فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام» [ (2) ] .
وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأى أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في المسجد يتقلب على ظهر لبطن وأظنه جائعا وذكر الحديث.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما أعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من الدنيا، ولا أعجبه شيء من أمر الدنيا إلا أن يكون ذا تقى [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد، وأبو يعلى، والبيهقي بسند جيد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على سرير مرمول بالشّريط، وتحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، فدخل عمر بن الخطاب في نفر معه، فانحرف رسول الله صلى الله عليه وسلم انحرافة، فلم ير عمر بين جنبيه وبين الشريط ثوبا، وقد أثر الشريط بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فبكى عمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك يا عمر؟ فقال: والله ما أبكي إلا لكوني أعلم أنك رسول الله، أكرم على الله من كسرى وقيصر، وهما يعيشان في الدنيا فيما يعيشان فيه، وأنت رسول الله بالمكان الذي أرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا عمر أما ترضى أن تكون لهم الدنيا، ولنا الآخرة،» قال: بلى، قال: «فإنه كذلك» [ (4) ] .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل عمر على
__________
[ (1) ] أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 225 وانظر المجمع 5/ 24 والمطالب العالية (3855) .
[ (2) ] مسلم 3/ 1609 (140/ 2038) .
[ (3) ] أخرجه أحمد 6/ 69.
[ (4) ] أحمد 3/ 140 أو ابن سعد 1/ 2/ 158 وفي الدلائل للبيهقي 1/ 337 وانظر المجمع 10/ 326 والبداية 6/ 57.(7/78)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متكئ على حصير قد أثر في جنبه، فقال: يا رسول الله لو اتخذت فراشا أدثر من هذا، فقال: «ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب استظل في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها» [ (1) ] .
وروى البزار عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه إذا استسقى، فأتي بماء وعسل، فلما وضعه على يديه بكى وانتحب، حتى ظننا أن به شيئا، ولا نسأله عن شيء، فلما فرغ قلنا: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما حملك على هذا البكاء؟
قال: بينما أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأيته يدفع عن نفسه شيئا ولا أرى شيئا، فقلت: يا رسول [الله] ما الذي أراك تدفع عن نفسك، ولا أرى شيئا؟ قال: «الدنيا تطلعت لي،» فقلت:
إليك عني، فقال لي: «أما إنك لست بمدركي،» قال أبو بكر: فشق عليّ، وخشيت أن أكون قد خالفت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولحقتني الدنيا [ (2) ] .
وروى الحسن بن عرفة [ (3) ] في جزئه المشهور، وابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة خشنة، فانطلقت، فبعثت إلي بفراش حشوه الصوف، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا يا عائشة؟» فقلت: يا رسول الله فلانة الأنصارية دخلت، فرأت فراشك، فذهبت، فبعثت إليّ بهذا الفراش، فقال: «ردّيه،» قالت: فلم أردّه، وقد أعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال ذلك مرات، فقال: «ردّيه يا عائشة، فو الله لو شئت لأجرى الله معي الجبال ذهبا وفضة» [ (4) ] .
وروى الإمام أحمد في الزهد عن إسماعيل بن أميّة قال: صنعت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فراشين، فأبى أن يضطجع على واحد.
وروى ابن مردويه عن ابن مسعود، وابن مردويه والدّماميني عن أبي الدرداء، وأبيّ ذر، وسعيد بن منصور، وابن المنذر عن أبي مسلم الخولاني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أوحى الله إلى أن أجمع المال، وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي أن» فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [ (5) ] .
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] انظر مجمع الزوائد 10/ 254 والمنذري في الترغيب 4/ 207 والمتقي الهندي في الكنز (18597) .
[ (3) ] الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي، أبو علي البغدادي، صدوق، من العاشرة، مات سنة سبع وخمسين ومائتين، وقد جاوز المائة. التقريب 1/ 168.
[ (4) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 1/ 345 والخطيب في التاريخ 11/ 102 وانظر فتح الباري 11/ 292 والترغيب والترهيب 4/ 202 والبداية 6/ 62.
[ (5) ] أحمد في الزهد (391) وأبو نعيم في الحلية 2/ 231 والبغوي في التفسير 4/ 78 وابن عدي 5/ 1897، 3/ 939 والسيوطي في الدر المنثور 4/ 109.(7/79)
وروى الإمام أحمد، وابن عساكر عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال وهو يعظ: لقد أصبحتم، وأمسيتم ترغبون فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يزهد فيه، والله ما أتت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة من زهده إلا كان الذي عليه أكثر من الذي له.
وروى ابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: اتخذت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فراشين حشوهما ليف وإذخر فقال: «يا عائشة ما لي وللدنيا أنما أنا والدنيا بمنزلة رجل نزل تحت شجرة في ظلها، حتى إذا فاء الفيء ارتحل، فلم يرجع إليها أبدا [ (1) ] » .
وروى الإمام أحمد عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتّقي إلى فرش قط، إلا أني أذكر أن يوم مطر ألقينا تحته بتا فكأني أنظر إلى خرق فيه ينبع منه الماء [ (2) ] .
وروى سعيد بن منصور عنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فراش رثّ غليظ، فأردت أن أجعل له فراشا آخر ليكون أوطأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلته فقال: ما هذا يا عائشة؟» فقلت:
رأيت فراشك رثّا غليظا، فأردت أن يكون هذا أوطأ لك، فقال: «أخّريه، اثنتين، والله لا أقعد عليه حتى ترفعيه قال: فرفعت الأعلى الذي صنعت» [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم الشعير [ (4) ] .
وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير، قد أثر الشريط في جنبه، فقلت: لو نمت يا رسول الله على ما هو ألين من هذا، فقال: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب مر بأرض فلاة، فرأى شجرة، فاستظل تحتها، ثم راح وتركها» [ (5) ] .
وروى أبو عبد الرحمن السّلمي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حصير، قد أثر في جنبه، فقال: يا رسول الله لو اتخذت فراشا ألين من هذا، فقال: «ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب سار في يوم صائف، حتى أتى شجرة، ثم راح» .
وروى الإمام أحمد، والبيهقي في الشعب عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: كان
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] أحمد 6/ 58.
[ (3) ] البيهقي في الدلائل 1/ 345.
[ (4) ] أخرجه الترمذي (2360) وابن ماجة (3347) وأحمد 1/ 255، 374 والبغوي في التفسير 6/ 162 وابن سعد 1/ 2/ 113 وأحمد في الزهد (30) .
[ (5) ] تقدم.(7/80)
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة، فقدم من غزاة له، فأتاها، فإذا هو بمسح على بابها، ورأى على الحسن والحسين قلبين من فضة، فرجع، ولم يدخل لها، فلما رأت ذلك فاطمة ظنت أنه لم يدخل عليها من أجل ما رأى، فهتكت الستر، ونزعت القلبين من الصبيين، فقطعتهما، فبكى الصبيّان، فقسمته بينهما، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهما يبكيان، فأخذه صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا ثوبان، اذهب بهذا إلى بني فلان أهل بيت بالمدينة واشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارا من عاج قال: هؤلاء أهل بيتي، ولا أحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد، والبيهقي في الشعب، وابن أبي حاتم والدّيلمي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما، ثم طوى، ثم ظل صائما، قال: «يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد، ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها، والصبر على محبوبها، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم، فقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ واللَّه لأصبرن جهدي، ولا قوة إلا بالله» [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد، والشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيب التّمرة فيقول: «لولا أخشى أنها من الصدقة لأكلتها» [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد برجال ثقات عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجد تمرة تحت جنبه من الليل فأكلها، فلم ينم تلك الليلة، فقالت بعض نسائه: يا رسول الله أرقت البارحة، قال: «إني وجدت تمرة فأكلتها، وكان عندي تمر من تمر الصدقة، فخشيت أن تكون منه» [ (4) ] .
وروى الطبراني عن ابن حازم الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم بدر بنطع فقيل استظل به يا رسول الله فقال: «أتحبون أن أستظل بينكم بظل من نار يوم القيامة» [ (5) ] .
وروى الحميدي عن حبيب بن أبي ثابت عن خيثمة قال: قيل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 275.
[ (2) ] أخرجه البغوي في التفسير 6/ 171 وابن كثير 7/ 288 والسيوطي في الدر المنثور 6/ 45.
[ (3) ] أخرجه البخاري 4/ 293 (2055) ومسلم 2/ 752 (164/ 1071) .
[ (4) ] احمد 2/ 183، 193 وابن سعد 1/ 2/ 107 والحاكم 2/ 14 وانظر المجمع 3/ 89.
[ (5) ] انظر المجمع 5/ 339 والترغيب والترهيب 2/ 310.(7/81)
شئت أعطيناك خزائن الدنيا [ (1) ] ، ومفاتيحها لم نعطها أحدا قبلك، ولا نعطيها أحدا بعدك، لا ينقصك ذلك عند الله شيئا، فقال: «اجمعوها لي في الآخرة» ، فأنزل الله تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً [ (2) ] .
وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن عطاء بن يسار قال: تعرضت الدنيا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إني لست أريدك، قالت: إن لم تردني فسيريدني غيرك» [ (3) ] .
وروى أبو القاسم البغوي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن امرأة أهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرشا فأبى أن يقبله، وقال: «لو [شئت] أن تسير معي جبال الذهب والفضة لسارت» [ (4) ] .
وروى الإمام أحمد في الزهد، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، عن أم عبد الله بنت شداد بن أوس رضي الله تعالى عنها أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقدح لبن عند فطره، وهو صائم فرد إليها رسولها، أنى لك هذا اللبن؟ قالت: من شاة لي، فرد إليها رسولها، أنى لك الشاة؟ فقالت: اشتريتها من مالي، فشرب منه، فلما كان من الغد أتته أم عبد الله، فقالت: يا رسول الله بعثت إليك بلبن، فرددت إليّ الرسول فيه، فقال لها: «بذلك أمرت الرسل لا تأكل إلا طيبا، ولا تعمل إلا صالحا،
ونسأل الله التوفيق ويرحم الله «البوصيري» حيث قال:
وراودته الجبال الشّم من ذهب ... عن نفسه فأراها أيّما شمم
وأكّدت زهده فيها ضرورته ... إنّ الضّرورة لا تعدو على العصم
وكيف تدعو إلى الدّنيا ضرورة من ... لولاه لم تخرج الدّنيا من العدم
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الزهد: بزاي مضمومة، فهاء ساكنة، فدال: زهد في الشيء تركه مع الرغبة فيه.
الورع: بفتح الواو والراء: التحرّج ليخرج من الإثم والكف عما هو قاصده.
الفقر: بفاء مفتوحة، فقاف ساكنة، فراء: ضد الغنى، والفقير: من لم يجد كفاية عياله، أو لم يجد القوت، والمسكين: من أذله الفقر أو غيره من الأحوال، أو الصغير السن الذي لا حرفة له أوله حرفة لا تقع بحاجته موقعا، والمسكين: السائل، وله حرفة تقع موقعا ولا تغنيه، أو الفقير: من له بلغة والمسكين: لا شيء له، أو هو أحسن حالا من الفقير، أو هما سواء.
__________
[ (1) ] في أ: خزائن الأرض.
[ (2) ] تقدم.
[ (3) ] ابن أبي شيبة 13/ 217، 250.
[ (4) ] الحاكم 4/ 125، 126 والبخاري في التاريخ 6/ 133، 139، 339 وانظر الكنز (9250) .(7/82)
القوت: بقاف مضمومة، فواو ساكنة، فمثناة فوقية: المسكة من الرزق.
زهرة الدنيا: بزاي مفتوحة، فهاء ساكنة، فراء، فتاء تأنيث: حسنها، وبهجتها أو من خيرها.
الوسادة: بواو مكسورة، فسين، فدال مهملتين فمثناة فوقية: المتّكأ والمخدة، وجمعها وسد، ووسائد.
اللّيف: بلام مكسورة، فمثناة تحتية، ففاء: ورق النخل.
خضرة: بخاء مضمومة، فضاد ساكنة معجمتين، فراء مهملة، فتاء: معروفة، واحدة الخضر.
حلوة: بحاء مهملة مضمومة، فلام ساكنة، فواو مفتوحة، فتاء تأنيث: خزائن الأرض ومفاتيحها.
أرمال حصير: الرّمل: نسج الحصير، أو السرير بالسعف، وكلاهما يؤثر في جنب النائم من غير وطاء.
أهبة: بهمزة مضمومة، فهاء ساكنة، فموحدة مفتوحة، فتاء تأنيث: العدة.
الصّبرة: بصاد مهملة مضمومة فموحدة ساكنة، فراء مهملة، فمثناة فوقية: ما جمع من الطعام بغير كيل.
الحضيض: بحاء مهملة مفتوحة، فضادين معجمتين، أولاهما مكسورة، وبينهما تحتية:
قرار الأرض، وأسفل الجبل.
الرّقم: براء مفتوحة فقاف ساكنة فميم: النقش.
الاضطجاع: بهمزة مكسورة، فضاد معجمة ساكنة، فطاء مهملة، فجيم، فألف فعين مهملة: النوم.
الشريط أدثر: بهمزة مفتوحة، فدال مهملة ساكنة، فمثلثة فراء: أي أقدم.
الإذخر: بهمزة مكسورة، فذال ساكنة، فخاء مكسورة معجمتين، فراء: حشيشة طيبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب وهمزتها زائدة.
الفيء: بفاء مفتوحة، فتحتية ساكنة، فهمزة مضمومة: الظل بعد الزوال، لأنه يرجع من جانب المغرب إلى جانب المشرق.(7/83)
البتّ: قال مالك بن مغول [ (1) ] أحد رواته البت النطع.
الرّتّ: براء فمثلثة: الخلق البالي.
المسح: بكسر الميم وسكون المهملة لباس من شعر.
قلبين: بقاف فلام مضمومتين، فمفتوحة موحدة تثنية قلب بضمتين: وهو سوار المرأة.
القلادة: بقاف مكسورة فلام فألف فدال مهملة فتاء تأنيث.
العصب: بعين مهملة مفتوحة، فصاد ساكنة مهملتين، فموحدة قال الخطابي أن لم يكن البنات اليمانية، فلا أدري ما هي، وما أدري أن القلادة تكون منها، وقال أبو موسى:
يحتمل عندي أن الرواية إنما هي العصب بفتح الصاد: وهي أطناب الحيوانات، وهي شيء معدّ يحتمل أنهم كانوا يأخذون عصب بعض الحيوانات الظاهرة، فيقطعونه، ويجعلونه شبه الخرز، فإذا يبست يتخذون منه القلائد، قال في النهاية: ثم ذكرني بعض أهل اليمن أن العصب من دابة بحرية تسمى فرس فرعون، يتخذ منها الخرز، ونصاب سكين وغيره وقيل الشيء يتخذ من ظهر السلحفاة البحرية ويكون أبيض، فأما العاج بعين مهملة، فألف فجيم الذي هو عظم الفيل فنجس عند الشافعي، وطاهر عند أبي حنيفة.
__________
[ (1) ] مالك بن مغول، بكسر أوله وسكون المعجمة وفتح الواو، الكوفي، أبو عبد الله، ثقة ثبت، من كبار السابعة، مات سنة تسع وخمسين على الصحيح. التقريب 2/ 226.(7/84)
الباب السابع عشر في قناعته باليسير وسؤاله ربه تبارك وتعالى أن يجعل رزقه قوتا، ورغبته أن يكون مسكينا
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا» [ (1) ] .
وروى بقي بن مخلد في مسنده عن يونس بن أبي يعقوب عن أبيه عن ابن عمر أن عمر ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه دخل عليه وهو على مائدته، فأوسع له عن صدر المجلس فقال: باسم الله، ثم ضرب بيده، ولقم لقمة ثم ثنى بأخرى، ثم قال: إني لأجد طعم دسم، ما هو بدسم اللحم، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين إني خرجت إلى السوق أطلب السمين لأشتريه فوجدته غاليا، فاشتريت من المهزول بدرهم، وإني عملت عليه بدرهم سمنا، فقال عمر: ما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم قط إلا أكل أحدهما، وتصدق بالآخر، فقال عبد الله يا أمير المؤمنين: فلن يجتمعا عندي إلا فعلت ذلك، قال: ما كنت بالذي تفعل.
وروى ابن الجوزي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشاء لغذاء، ولا غذاء لعشاء، ولا يتخذ من شيء زوجين، لا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا من النعال، ولا رئي فارغا قط في بيته، إمّا يخصف نعلا لرجل مسكين أو يخيط ثوبا لأرملة [ (2) ] .
وروى ابن المبارك في الزهد عن الأوزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبالي ما رددت به عن الجوع» [ (3) ] .
وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة على أم هانئ بنت أبي طالب، وكان جائعا فذكر الحديث، وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «هل عندك طعام آكل» فقالت: إن عندي لكسرة يابسة، وإني أستحي أن أقدمها، قال: «هلمّيها فكسرها في ماء» ، فجاءته بملح، فقال: «ما من أدم؟» فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خل، فقال: «هلمّيه» ، فلما جاءت صبّه على طعامه، وأكل، ثم حمد الله تعالى، ثم قال:
«نعم الأدم الخل يا أم هانئ لا يفتقر بيت فيه خل» [ (4) ] .
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] انظر الوفا لابن الجوزي 2/ 476.
[ (3) ] ذكره العراقي في تخريجه على الإحياء 1/ 314 وانظر اتحاف السادة المتقين 7/ 101.
[ (4) ] تقدم.(7/85)
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن السائب بن يزيد عن خالته قالت: دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين يديه طبق خوص، فيه خبز وقديد، قالت: فلما فرغ انحرف إلى فخّارة فتوضأ منها، فابتدرنا وضوءه، فمنا من مضمض، ومنّا ما سكب على وجهه.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه قال: لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وما لنا طعام إلا أوراق الشجر، حتى تقرّحت أشداقنا.
وروى الإمام أحمد عن أسماء بنت عميس، وكانت صاحبة عائشة التي خبّأتها فأدخلتها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في نسوة، فما وجدنا عنده إلا قوتا، إلا قدحا من لبن، فتناول فشرب منه، ثم ناوله عائشة فاستحيت منه، فقلت: لا تردي يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأخذته فشربته، ثم قال:
«ناولي صواحبك» ، فقلت: لا نشتهيه، فقال: «لا تجمعن كذبا وجوعا» ، فقلت: إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهي، أيعد ذلك كذبا؟ فقال: «إن الكذب يكتب كذبا، حتى الكذيبة تكتب كذيبة» [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الرّغبة: براء مفتوحة، فغين معجمة ساكنة، فموحدة مفتوحة، فتاء تأنيث: الحرص على الشيء، والطمع فيه، والرغبة والسؤال والطلب.
الرّزق: براء مكسورة، فزاي ساكنة، فقاف: ما ينتفع به.
المائدة: سيأتي الكلام عليها مبسوطا.
الرّداء: براء مكسورة، فدال مهملة، فألف، فهمزة وهو ممدود: الثوب يجعله الإنسان على عاتقيه، وبين كتفيه فوق ثيابه.
الإزار: بهمزة مكسورة فزاي فألف فراء: الملحفة.
الأرملة: بهمزة مفتوحة فراء ساكنة فميم فلام مفتوحتين فتاء تأنيث: التي مات زوجها غنية كانت أو فقيرة.
الفخّارة: بفاء مفتوحة، فخاء معجمة، فراء: الجرّة.
ابتدرنا: بهمزة وصل فموحدة، فمثناة فوقية، فدال مهملة: عاجلنا.
تقرحت أشداقنا: بمثناة فوقية، فقاف، فراء، فحاء مهملتين: تخرقت.
القدح: بقاف فدال مفتوحتين، فحاء مهملة: آنية تروي الرجلين، أو اسم جمع يجمع الصغار والكبار.
__________
[ (1) ] أخرجه الحميدي (367) وأحمد 6/ 438، 452، 453، 458، 459 وانظر المجمع 4/ 51.(7/86)
الباب الثامن عشر في أنه كان لا يدّخر شيئاً لغد، وما جاء أنه ادخر قوت سنة لعياله صلى الله عليه وسلّم
روى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يدّخر شيئاً لغد [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أحد فقال: «ما يسرني أنه ذهب لآل محمد، أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت وعندي منه ديناران، إلا دينارين أعدهما للدّين إن كان» [ (2) ] .
وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يوما: «ما عندك شيء تطعمنا؟» قلت: نعم يا رسول الله، فضل من الطعام الذي كان أمس، قال: «ألم أنهك أن تدع طعام يوم لغد؟» .
وروى ابو سعد الماليني [ (3) ] ، والخطيب عنه أيضاً قال: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم طائران، وفي لفظ: طيران فقال: «ما هذا؟» قال بلال: خبأته لك يا رسول الله، فقال: «يا بلال لا تخف من ذي العرش إقلالا. أن الله تعالى سيأتي برزق كل غد، ألم أنهك أن تدخر شيئا لغد؟» [ (4) ] .
وروى ابن حبان والبيهقي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساهم الوجه قالت: حسبت ذلك من وجع، قلت: ما لي أراك صلى الله عليه وسلّم ساهم الوجه؟ قال: «من أجل الدنانير السبعة التي أتتنا بالأمس، ولم نقسمها» [ (5) ] .
وروى البيهقي، والبزار، والطبراني، وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على بلال فوجد عنده صبرة من تمر، فقال: «ما هذا يا بلال؟» فقال: تمر أدخره، فقال: «ويحك يا بلال، أو ما تخاف أن يكون له بخار في النار؟ أنفق يا بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا» .
وروى ابن سعد والبيهقي أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت لأبي أمامة بن سهل بن
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي 4/ 580 (2362) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (2139) .
[ (2) ] أخرجه أحمد 2/ 467.
[ (3) ] أبو سعد الماليني نسبة إلى مالين قرية مجتمعة من أعمال أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله الهروي الصوفي الحافظ الثقة المتقن طاووس الفقراء قال الخطيب كان ثقة متقنا صالحا وقال غيره: سمع بخراسان والحجاز والشام والعراق ومصر وحدث عن أبي أحمد بن عدي وطبقته وكتب الكتب الطوال وأكثر التطواق إلى أن مات بمصر في سابع عشر شوال سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. شذرات الذهب 3/ 195.
[ (4) ] انظر الكنز (16189) .
[ (5) ] تقدم.(7/87)
حنيف، وعروة بن الزبير: لو رأيتما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض له، وكانت عندي ستة دراهم أو سبعة، قالت: فأمرني نبي الله صلّى الله عليه وسلم أن أفرقها، قالت: فشغلني وجع النبي صلى الله عليه وسلم حتى عافاه الله، ثم سألني عنها، فقال: «ما فعلت، أكنت فرقت الستة الدنانير أو السبعة؟» فقلت: لا، والله، لقد كان شغلني وجعك، قالت: فدعا بها، فوضعها في كفه، فقال: «ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده؟»
وتقدمت أحاديث في باب فقراء مكة.
وروى البزار عن أبي سعيد، والبزار، والطّبراني عن سمرة بن جندب، والطبراني، والبزّار بسند حسن- والإمام أحمد، وأبو يعلى- برجال ثقات- والبزّار والإمام أحمد- بسند حسن- عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج على أصحابه ذات يوم، وفي يده قطعة من ذهب، فقال لعبد الله بن عمر: ما كان قال لربه إذا مات وهذه عنده؟ فقسمها قبل أن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتفت إلى أحد، فقال: «والذي نفسي بيده ما يسرني أن يحول هذا ذهبا وفضة لآل محمد، أنفقه في سبيل الله، أبقي بعد صبح ثلاثة، وعندي منه شيء، إلا شيئا أعده لدين» ، وفي لفظ:
«أموت يوم أموت أدع منه دينارين، إلا دينارين أعدهما لدين أن كان» ،
قال ابن عباس: فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ترك دينارا، ولا درهما، ولا عبدا، ولا وليدة، وترك درعه مرهونة عند رجل من اليهود رهنا بثلاثين صاعا من شعير، كان يأكل منها ويطعم عياله [ (1) ] .
وروى الطبراني والبزّار عن بلال رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعندي شيء من تمر، فقال: «ما هذا؟» فقلت: ادخرنا لشتائنا، فقال: «أما تخاف أن ترى له بخارا في جهنم؟» [ (2) ] .
وروى البزار، والطبراني- بسند حسن- عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على بلال، وعنده صبرة من تمر، فقال: «ما هذا يا بلال» ، قال:
أعددت ذلك لأضيافنا، قال: «أما تخشى أن يكون له بخار في نار جهنم؟ أنفق بلال، ولا تخش من ذي العرش إقلالا» .
وروى أبو ذر الهروي في دلائله عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بلال أطعمنا» ، قال: ما عندي إلا صبرة من خبز. خبأته لك، قال: «أما إن الله يجعل له بخارا في نار جهنم أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالا» .
وروى البخاري عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في صرّة المدينة فاستقبلنا أحدا، فقال: يا أبا ذر» ، قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: «ما يسرني أن
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 1/ 324.
[ (2) ] البيهقي في الدلائل 1/ 258.(7/88)
عندي مثل أحد ذهبا، تمضي على ثلاثة، وعندي منه دينار، إلا شيئا أرصده لدين، إلا أن أقول في عباد الله هكذا، وهكذا» ،
وروي عن أبي هريرة نحوه.
وروى أبو بكر الحميدي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار، فجعل يلتقط من التمر، ويأكل، فقال لي:
«يا ابن عمر ما لك لا تأكل؟» قلت يا رسول الله لا أشتهيه، قال: «لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة لم أذق طعاما، ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يحبون رزق سنتهم ويضعفون؟ قال: فو الله ما برحنا، ولا زمنا حتى نزلت: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [العنكبوت 60] فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لم يأمرني بكنز الدنيا، ولا اتباع الشهوات، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية، فإن الحياة بيد الله، ألا وإني لا أكنز دينارا، ولا درهما، ولا أخبّىء رزقا لغد» .
تنبيهات
الأول: قال الحافظ بن عبد الله البجلي: سألت نعيم بن حماد قلت: جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لم يشبع في يوم من خبز مرتين، وجاء عنه أنه كان يعد لأهله قوت سنة، فكيف هذا؟ قال: كان يعد لأهله قوت سنة، فتنزل النازلة، فيقسمه، فيبقى بلا شيء.
الثاني: قال الحافظ بن كثير: المراد أنه كان لا يدخر شيئا مما يسرع إليه الفساد كالأطعمة ونحوها، لما ثبت في الصحيحين عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، فكان يعزل نفقة أهله سنة، ثم يجعل ما بقي من الكراع والسلاح عدة في سبيل الله عز وجل، ومما يؤيد ما قلناه
ما رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى- برجال ثقات- عن أنس قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة طوائر فأطعم خادمه طائرا، فلما كان من الغد أتته به، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألم أنهك أن ترفعي شيئا لغد؟ فإن الله تعالى يأتي برزق كل غد» .
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الادخار: تقدم الكلام عليه.
ساهم الوجه: بالمهملة: متغيره، وقد تقدم الكلام عليه.
البخار: بموحدة مضمومة، فخاء معجمة: النتن في الفم، وكل رائحة ساطعة بحدة.
الدرع: تقدم الكلام عليه.
الصاع: بصاد فألف، فعين مهملتين: خمسة أرطال وثلث أو ثمانية أرطال.
أرصده: بهمزة مفتوحة، فراء ساكنة، فصاد مضمومة، فدال مهملات.(7/89)
الباب التاسع عشر في نفقته صلّى الله عليه وسلم
وروى أبو داود والبيهقي عن أبي عامر عبد الله قال: لقيت بلالا مؤذن النبي صلى الله عليه وسلّم بحلب فقلت: حدثني كيف كانت نفقة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان له شيء من ذلك، إلا أني الذي كنت آتي ذلك منه منذ بعثه الله تعالى، إلى أن توفي، فكان إذا أتاه الإنسان فرآه عاريا يأمرني فأنطلق، فأستقرض، فأشتري البردة، والشيء، فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال إن عندي سعة، فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت، فلما كان ذات يوم توضأت، ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك في عصابة من التجار، فلما رآني قال: يا حبشي قلت: لبيك فتجهّمني، وقال قولا غليظا، فقال: ألا ترى كم بينك وبين الشهر؟
قلت: قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع ليال، فآخذك بالذي عليك، فإني لم أعطك الذي أعطيتك من كرامتك، ولا من كرامة صاحبك، ولكن أعطيتك لتصير لي عبدا، فأذرك ترعى الغنم، كما كنت قبل ذلك، فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، فانطلقت، ثم أذنت بالصلاة، حتى إذا صليت العتمة، رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أهله، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، إن المشرك الذي قلت لك إني كنت أتديّن منه قد قال:
كذا وكذا وليس عندك ما تقضي عني، ولا عندي، وهو فاضحني، فأذن لي أن آتي بعض هؤلاء الأحياء الذين أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله ما يقضي عني، فخرجت حتى أتيت منزلي فحملت سيفي وجرابي ورمحي، ونعلي عند رأسي، واستقبلت بوجهي الأفق، فكلما نمت انتبهت، فإذا رأيت عليّ ليلا نمت، حتى انشق عمود الصبح الأول، فأردت أن أنطلق، فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت، حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أربع ركائب عليهن أحمالهن،
فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذنت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبشر يا بلال، فقد جاءك الله تعالى بقضائك، فحمدت الله تعالى» ، فقال: ألم تمر على الركائب المناخات الأربع؟ قال: فقلت: بلى؟ قال: فإن لك رقابهن، وما عليهن، فإذا عليهن كسوة، وطعام، أهداهن له عظيم فدك قال: فاقبضهن إليك، ثم اقض دينك،
قال:
ففعلت، فحططت عنهن أحمالهن، ثم عقلتهن، ثم عدت إلى تأذين صلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة الصبح، خرجت إلى البقيع، فجعلت أصبعي في أذني، فناديت، وقلت: من كان يطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلّم دينا فليحضر، فما زلت أبيع وأقضي حتى لم يبق على رسول الله صلى الله عليه وسلّم دين في الأرض، حتى فضل عندي أوقيتان، أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامة النهار، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قاعد في المسجد وحده(7/90)
فسلمت عليه، فقال لي: «ما فعل ما قبلك؟» قلت: قضى الله كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلم يبق شيء، فقال: «فضل شيء؟» قلت: نعم، قال: «انظر أن تريحني منها، فلست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منها، فلم يأتنا أحد» ، فبات في المسجد، حتى أصبح، وظل في المسجد اليوم الثاني، حتى إذا كان في آخر النهار جاء راكبان، فانطلقت بهما فكسوتهما وأطعمتهما، حتى إذا صلّى العتمة دعاني، فقال: «ما فعل ما قبلك؟» قلت: قد أراحك الله منه، فكبر، وحمد الله شفقا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم تبعته حتى جاء أزواجه، فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته فهذا الذي سألتني عنه [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
العصابة: بعين مكسورة، فصاد مفتوحة مهملتين، فموحدة: الجماعة من الناس.
تجّهمني: أي تلقاني بوجه كريه، وأغلظ عليّ القول.
العتمة: بعين مهملة، فمثناة فوقية، فميم مفتوحات، فتاء تأنيث: العشاء، سميت بذلك لأنها تعتّم، أي تطلق أعتمة الليل، وهي ظلمته.
جرابي: بجيم مكسورة، ولا تفتح أوله فيما حكاه النووي، والقاضي المذود أو الوعاء.
الركائب: براء فكاف مفتوحتين، فهمزة فموحدة: واحده ركاب ككتاب [وهي الرواحل] واحدها راحلة.
فدك: بفاء، فدال مهملة، فكاف مفتوحات: قرية بخيبر.
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 81 وفي الدلائل 1/ 260 والطبراني في الكبير 1/ 350 وانظر البداية والنهاية 6/ 65.(7/91)
الباب العشرون في صفة عيشه في الدنيا صلى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان يأتي علينا الشهر، وما نوقد فيه نارا، إنما هو التمر والماء، إلا أن نؤتى باللحم، وفي رواية: ما شبع آل محمد من خبز برّ ثلاثة، وفي رواية: أيام متتابعات، حتى قبض صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: ما أكل آل محمد أكلتين في يوم واحد إلا إحداهما تمر، وفي رواية: أنها كانت تقول لعروة: يا ابن أختي، إنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، قلت: يا خالة فما كان يعيّشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم جيران من الأنصار، وكانت لهم منائح، وكانوا يرسلون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من ألبانها، فيسقيناه، وفي رواية قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين شبع الناس من الأسودين، التمر والماء، وفي رواية، قالت: ما شبعنا من الأسودين التمر والماء، وفي رواية لمسلم، والإمام أحمد وابن سعد، قالت: والله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما شبع من خبز، وزيت في يوم واحد مرتين، وفي رواية عند الإمام أحمد أنها كانت تقول لعروة وايم الله، يا ابن أختي إن كان يمر على آل محمد الشهر لم يوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم نار، لا يكون إلا أن حوالينا أهل دور من الأنصار- جزاهم الله خيرا في الحديث والقديم- فكل يوم يبعثون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بغزيرة شياههم، فينال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، ولقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وما في رفّى من طعام يأكله ذو كبد إلا قريبا من شطر شعير، فأكلت منه حتى طال عليّ، لا تغني وكلته عني، فيا ليتني لم آكله، وأيم الله، وكان ضجاعه من أدم حشوه ليف [ (1) ] .
وروى ابن عساكر عنها قالت: ما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم غداء لعشاء، ولا عشاء لغداء قط، ولا اتخذ من شيء زوجين لا قميصين، ولا رداءين، ولا إزارين، ولا من النعال ولا رئي فارغا قط في بيته، إما يخصف نعلا لرجل مسكين أو يخيط ثوبا لأرملة [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم، والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: والذي نفسي بيده، ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله ثلاثة أيام تباعا من خبز حنطة، حتى فارق الدنيا [ (3) ] .
__________
[ (1) ] البخاري 11/ 287 (6458) .
البخاري 9/ 49، (5416) ومسلم 4/ 2282 (2970 26) .
[ (2) ] تقدم.
[ (3) ] من حديث أبي هريرة أخرجه البخاري (5414) ومن حديث عائشة أخرجه البخاري 9/ 460 (5416، 6454) ومن حديث أبي هريرة مسلم 4/ 2281 (32/ 2976) .(7/92)
وروى التّرمذي رضي الله تعالى عنه قال: ما كان يفضل عند أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبز الشعير [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد برجال ثقات غير سليمان بن رومان بنحو رجاله عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: والذي بعث محمدا بالحق نبيا ما رأى منخلا، ولا أكل خبزا منخولا، منذ بعثه الله إلى أن قبض، قيل، كيف كنتم تصنعون؟ قالت: كنا نقول أفّ أفّ [ (2) ] .
وروى الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: لم يكن ينخل لرسول الله صلى الله عليه وسلم دقيق قط [ (3) ] .
وروى البزار- بسند جيد- عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا، ولم يشبع هو، ولا أهله من خبز الشعير [ (4) ] .
وروى الطبراني عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم شبعتين حتى فارق الدنيا [ (5) ] .
وروى أبو يعلى برجال الصحيح غير طلحة النّضري مولى عبد الله بن الزبير فيجّر رجاله عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في قميص القطن [ (6) ] .
وروى الطبراني في الأوسط- بسند حسن- عنها قالت: ما كان يبقى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز الشعير قليل ولا كثير، وفي رواية، عنه: ما رفعت مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه، وعليها فضلة من طعام قط [ (7) ] .
وروى البخاري ومسلم والبيهقي عنها قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام تباعا حتى مضى لسبيله.
وروى الإمام أحمد، وابن سعد والترمذي- وصححه- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير [ (8) ] .
__________
[ (1) ] الترمذي (2359) .
[ (2) ] انظر المجمع 10/ 312.
[ (3) ] انظر المجمع 10/ 312.
[ (4) ] انظر المجمع 10/ 312.
[ (5) ] المجمع 10/ 312 وفيه عبد الحميد بن سليمان وهو ضعيف.
[ (6) ] قال الهيثمي- طلحة- لم أعرفه المصدر السابق.
[ (7) ] انظر المصدر السابق.
[ (8) ] الترمذي (2360) وابن ماجة (3347) وأحمد 1/ 255 وابن سعد 1/ 2/ 113 وأحمد في الزهد (30) وقد تقدم.(7/93)
وروى الإمام احمد وابن سعد والترمذي- وصححه- عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: ما كان يفضل من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خبز الشعير [ (1) ] .
وروى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما أكل محمد صلى الله عليه وسلم في يوم أكلتين إلا إحداهما تمر، وفي رواية: ما شبع محمد من خبز مأدوم حتى لقي الله تعالى [ (2) ] .
وروى مسلم والبيهقي عن سماك بن حرب قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: ألستم في طعام وشراب ما شئتم، لقد سمعت ابن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقول: لقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلّم يلتوي من الجوع، وما يجد من الدّقل ما يملأ بطنه [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد عن عمران بن حصين: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم من خبز مأدوم حتى مضى لسبيله.
وروى الطبراني عنه قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غداء وعشاء حتى لقي ربه [ (4) ] .
وروى الإمام أحمد، وابن سعد وأبو داود، والحارث بن أبي أسامة- برجال ثقات- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن فاطمة رضي الله تعالى عنها جاءت بكسرة خبز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذه الكسرة؟» قالت: قرصة خبزتها، فلم تطب نفسي إلا أن آتيك بهذه الكسرة، فقال: «أمّا إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام [ (5) ] » .
وروى البيهقي عن ابن مسعود، وأبو داود الطيالسي، وابن سعد عن واثلة بن الأسقع قال أضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ضيفا، فأرسل إلى أزواجه يبتغي عندهن طعاما، فلم يجد عند واحدة منهن شيئا، فقال: «اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت،» ، فأهديت إليه شاة مصليّة ورغف، فأكل منها أهل الصّفّة حتى شبعوا، فقال: «إنا سألنا الله تعالى من فضله ورحمته- فهذا فضله، وقد ادخر لنا رحمته» ، وفي لفظ: ونحن ننتظر الرحمة [ (6) ] .
وروى ابن عساكر عن مسروق قال: دخلت على عائشة يوما، فدعت بطعام فقالت لي:
كل فلقلّ ما أشبع من طعام، فأشاء أن أبكي إلا بكيت، قال: قلت لم يا أم المؤمنين؟ قالت:
أذكر الحال التي فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم مرتين من خبز شعير- وفي لفظ: خبز- برّ حتى لحق بالله.
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] تقدم.
[ (3) ] أخرجه مسلم 4/ 2284 (34/ 2977) والدقل: التمر الرديء.
[ (4) ] وأخرجه عبد الرزاق (20620) المجمع 10/ 313.
[ (5) ] أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 114.
[ (6) ] البيهقي 2/ 441، 442 وانظر البداية 6/ 138.(7/94)
وروى عنها قالت: ما شبع آل محمد ثلاثة أيام من خبز البرّ حتى ذاق رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت، وما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات أنصبت علينا صبا.
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، وأبو يعلى، والترمذي في الشمائل، وابن سعد- بإسناد صحيح- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجتمع له غداء ولا عشاء من خبز ولحم إلا على ضفف [ (1) ] .
وروى الطّبراني، واللفظ له، والبزّار، ورواته ثقات- عن طلحة بن عمرو، والطبراني عن فضالة الليثي رضي الله تعالى عنهما قالا: كان الرجل إذا قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن له عريف في المدينة نزل بأصحاب الصّفّة، قال الأول: وكان لي بها قرناء، وقال الثاني: نزلت الصّفّة، قال الأول: فكان يجري علينا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم اثنين مدّان من تمر، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الصلوات إذ ناداه مناد- وقال الثاني: - يوم الجمعة- فقال: يا رسول الله أحرق بطوننا التمر وتخرقت عنا الخنف
فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصلاة قام فحمد الله، وأثنى عليه، ثم ذكر ما لقي من قومه من الشدة، قال: «مكثت أنا وصاحبي بضعة عشر يوما، ما لنا طعام غير البرير حتى قدمنا على إخواننا من الأنصار فواسونا في طعامهم ومعظم طعامهم التمر واللبن، والذي لا إله إلا هو، لو أجد لكم الخبز واللحم لأطعمتكموه دثورا الحديث» [ (2) ] .
وروى ابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لو أردت أن أخبركم بكل شبعة شبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، لفعلت.
وروى أيضا عنها قالت: إنه ليأتي على آل محمد الشهر ما يختبزون خبزا ولا يطبخون طبخا.
وروى ابن سعد والإمام أحمد برجال الصحيح وابن عساكر وابن الجوزي عنها قالت:
أهديت لنا ذات يوم يد شاة من بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فو الله إني لأمسكها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويحزّها، أو يمسكها على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأحزّها، قيل على غير مصباح؟
قالت: لو كان عندنا دهن مصباح لأكلناه، إن كان ليأتي على آل محمد الشهر ما يخبزون فيه خبزا، ولا يطبخون فيه برمة.
__________
[ (1) ] انظر المجمع 5/ 20.
[ (2) ] انظر المجمع 10/ 322 وأحمد 3/ 487.(7/95)
وروى ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يشبع هو، ولا أهله من خبز الشعير.
وروى ابن سعد عنه قال: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكسر اليابسة، حتى فارق الدنيا، وأصبحتم تهذرون الدنيا.
وروى ابن أبي الدنيا عن أم أيمن [ (1) ] رضي الله تعالى عنها أنها غربلت دقيقا تصنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما هذا؟» قالت: طعام نصنعه في أرضنا، فأحببت أن أصنع لك رغيفا، قال: «ردّيه [ (2) ] » .
وروى أبو الحسن بن الضحاك وابن سعد عن الحسن رحمه الله تعالى قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فقال: «والله ما أمسى في آل محمد صاع من طعام لتسعة أبياته، والله ما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم استقلالا لرزق الله تعالى، ولكن أراد أن تتأسى به أمته» .
وروى مسلم والبخاري، وأبو الشيخ، والبرقاني عن قتادة عن أنس قال: مشيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بخبز شعير وله هالة ولقد سمعته يقول: «ما أصبح لآل محمد، ولا أمسى في آل محمد إلا صاع، وإنهن يومئذ لتسعة أبيات» [ (3) ] .
وروى الترمذي وابن سعد عن نوفل بن إياس الهذلي قال: أتينا في بيت عبد الرحمن ابن عوف بصحيفة فيها خبز ولحم، فلما وضعت بكى عبد الرحمن، قلت: ما يبكيك؟ فقال:
مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يشبع هو ولا أهله من خبز الشعير، ولا أرانا أخّرنا لما هو خير لنا.
وروى ابن سعد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: شهدت وليمة للنبي صلى الله عليه وسلم ما فيها خبز ولا لحم.
وروى أيضا أن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه مر بالمغيرة بن شعبة وهو يطعم الطعام، فقال: ما هذا الطعام؟ قال: خبز النّقي واللحم للمسلمين قال: وما النقي؟ قال: الدقيق، فعجب أبو هريرة، ثم قال: عجبا لك يا مغيرة، رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضه الله تعالى، وما شبع من الخبز والزيت مرتين في يوم، وأنت وأصحابك تهذرون ههنا الدنيا بينكم ونقد بإصبعه، يقول كأنكم صبيان.
وروى أبو بشر محمد بن أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لقد رأيتنا نحبس
__________
[ (1) ] أم أيمن، مولاة النبي صلى الله عليه وسلّم وحاضنته.. قال أبو عمر اسمها بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن بن مالك بن سلمة بن عمرو بن النعمان وكان يقال لها أم الظباء.
[ (2) ] ابن سعد 1/ 2/ 157.
[ (3) ] أخرجه البخاري 4/ 302 (2069) .(7/96)
الكراع يعني من لحوم الأضاحي، فنأكله بعد خمسة عشر يوما، قال عابس [ (1) ] : فقلت: فما كان يحملكم على ذلك؟ فضحكت، وقالت: ما شبع آل محمد من خبز البرّ مأدوما يومين، حتى لحق بالله تعالى.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن يزيد الرّقاشي قال: قدم على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وفد من قبل البصرة فيهم الأحنف بن قيس، فرأوا طعاما خشنا وثوبين خلقين، فكلموا حفصة أن تكلمه في ذلك، فكلمته، فجعل عمر رضي الله تعالى عنه يناشدها الله، هل تعلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث عشرين سنة لم يشبع من خبز الشعير؟ لم يشبع ثلاثين يوما تباعا.
وروى ابن سعد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وما شبعنا من الأسودين.
وروى ابن سعد والدارقطني في الإفراد، وصححه عن أبي حازم [ (2) ] قال: قلت لسهل بن سعد: أكانت المناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما رأيت منخلا في ذلك الزمان، وما
أكل النبي صلى الله عليه وسلّم الشعير منخولا حتى فارق الدنيا، فإن قلت: كيف تصنعون؟ قال: «كنا نطحنها، ثم ننفخ قشرها، فيطير ما طار، ويتمسك ما استمسك» [ (3) ] .
وروى ابن سعد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلتوي يومه من الجوع، ما يجد من الدّقل ما يملأ به بطنه [ (4) ] .
وروى ابن سعد، والإمام أحمد وأبو يعلى وابن أبي شيبة في المصنف عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: احمدوا الله عز وجل فربما أتى علي رسول الله صلى الله عليه وسلّم اليوم يظل يلتوي ما يشبع من الدّقل، ولفظ ابن أبي شيبة ألستم في طعام وشراب ما شئتم فقد رأيت نبيكم صلى الله عليه وسلّم وما يجد الدّقل ما يملأ به بطنه.
وروى ابن أبي الدّنيا وأبو سعد الماليني وأبو الحسن بن الضحاك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي جالسا، قلت: يا رسول الله ما أصابك؟ قال: «الجوع» ، فبكيت قال: «لا تبك يا أبا هريرة، فإن شدة الجوع لا تصيب الجائع- يعني يوم القيامة- إذا احتسب في دار الدنيا» .
__________
[ (1) ] عابس بن ربيعة بن عامر العطيفي. الإصابة 4/ 2.
[ (2) ] أبو حازم واسمه عوف بن عبد الحارث بن عوف بن حشيش بن هلال بن الحارث بن رزاح بن كلب بن عمرو بن لؤي ابن دهم بن معاوية بن أسلم بن أحمس بن بجيلة وهو أبو قبيس بن أبي حازم. طبقات ابن سعد 6/ 110.
[ (3) ] تقدم.
[ (4) ] تقدم.(7/97)
وروى ابن سعد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم مرتين، حتى لقي الله تعالى، ولا رفعنا له فضل طعام عن شبع، حتى لقي الله، إلا أن يرفعه لغائب، فقيل لها: ما كانت معيشتكم؟ قالت: الأسودان الماء والتمر، قالت: وكان لنا جيران من الأنصار لهم ربائب منائح يسقونا من لبنها، جزاهم الله تعالى خيرا.
وروى الشيخان والإمام احمد وابن سعد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدموا المدينة ثلاثة أيام تباعا، حتى مضى لسبيله، زاد ابن سعد، والإمام أحمد: وما رفع عن مائدته كسرة قط حتى قبض [ (1) ] .
وروى أبو داود الطّيالسي، ومسلم، وابن سعد عنها قالت: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خبز شعير يومين متتابعين، حتى قبض، زاد ابن سعد: وإن كان ليهدي لنا قناع فيه كعب من إهالة فنفرح به.
وروى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما بطعام سخين، فأكل، فلما فرغ قال: «الحمد لله ما دخل بطني طعام سخين منذ كذا وكذا» [ (2) ] .
وروى عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فأرسل إلى أخرى، فقالت: مثل ذلك، حتى قال كلهن مثل ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يضيف هذا الليلة رحمه الله تعالى؟» فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فانطلق به إلى رحله. فقال لامرأته: أعندك شيء؟ فقالت: لا، إلا قوت صبياني [ (3) ] .
قال وروى ابن سعد عن مسروق قال: دخلت على عائشة، وهي تبكي، فقلت: يا أم المؤمنين ما يبكيك؟ قالت: ما ملأت بطني من طعام فشئت أن أبكي إلا بكيت، أذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان فيه من الجهد [ (4) ] .
وروى عنه قال: دخلت على عائشة وهي تبكي، فقلت: يا أم المؤمنين ما يبكيك؟
قالت: ما أشبع فأشاء أن أبكي إلا بكيت، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانت تأتي عليه أربعة أشهر ما يشبع من خبز برّ [ (5) ] .
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] أخرجه ابن ماجة (4150) وانظر البداية والنهاية 6/ 61.
[ (3) ] أخرجه البخاري 5/ 42 ومسلم في الأشربة 172 والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 185 والبغوي في التفسير 7/ 62.
[ (4) ] انظر المجمع 5/ 301.
[ (5) ] تقدم.(7/98)
وروى ابن سعد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع آل محمد غذاء ولا عشاء من خبز الشعير ثلاثة أيام متتابعات- رضي الله تعالى عنها- حتى لحق بالله عز وجل.
وروى الإمام أحمد، والبزار- بسند حسن- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
كان يمر بآل محمد صلى الله عليه وسلّم الهلال، ثم الهلال، لا يوقد في شيء من بيوته نار، لا لخبز، ولا لطبخ، قالوا: بأي شيء كانوا يعيشون يا أبا هريرة؟ قال: بالأسودين التمر والماء، قال: فكان لهم جيران من الأنصار- جزاهم الله خيرا- لهم منائح يرسلون بشيء من اللبن [ (1) ] .
وروى أبو يعلى برجال ثقات غير عثمان بن عطاء عنه قال: إن كان لتمر بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأهلّة ما يسرج في بيت واحدة منهن بسراج، ولا يوقد فيه نار، وإن وجدوا زيتا أدهنوا به وودكا أكلوه.
وروى البزار- بسند حسن- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ابن عمر قال له: قد علمت أن محمدا وأهله كانوا يأكلون القدّ قلت: بلى والله ... الحديث.
وروى أبو داود عن أبي صالح مرسلا قال: دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام فأكل فلما فرغ حمد الله تعالى ثم قال: «ما أكلت طعاما سخينا، أو ما ملأت بطني من طعام سخين منذ كذا وكذا» .
وروى سعيد بن منصور عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام متوالية من خبز برّ منذ هاجر إلى المدينة، حتى مضى لسبيله، لو شئت أن أحدثكم- وأعدّها عليكم- بكل شبعة شبعوها من خبز البرّ منذ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم لحدثتكم، فقال بعض القوم: أي أكل يا أم المؤمنين؟ قالت: يوم أجلى الله تعالى بني النّضير فتركوا البيوت مملأة من التمر والسلاح، خرجوا على أقدامهم، قالت: فشبع جميع المسلمين يومئذ من التمر عبدهم وحرّهم ذكرهم وأنثاهم، صغيرهم وكبيرهم.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بشعا ولبس خشنا، فسئل أبو الحسن ما البشع؟ قال: غليظ الشعير، وما كان يسفّه إلا بجرعة من ماء.
وروى أيضا عن جعفر بن سليمان عن الجريري [ (2) ] رحمه الله تعالى قال: بلغني أن
__________
[ (1) ] انظر المجمع 10/ 315.
[ (2) ] سعيد بن إياس الجريري، بضم الجيم، أبو مسعود البصري، ثقة، من الخامسة، اختلط قبل موته بثلاث سنين، مات سنة أربع وأربعين. التقريب 1/ 291.(7/99)
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالساً مع رجل من أصحابه، فغمز رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه، فقال له الرجل:
يا رسول الله بأبي أنت وأمي أتشتكي بطنك؟ فقال: «لا، إنما هو جعار الجوع» ، فقام الرجل ليدخل حيطان الأنصار، فرأى رجلا من الأنصار يسقي سقاية فقال له: هل لك أن أسقي لك بكل سقاية تمرة جيدة؟ قال نعم، قال: فوضع الرجل كساءه، ثم أخذ يسقي وهو رجل قوي، فسقي مليا، حتى ابتهر وعي فجعل يتروّح، ثم فتح حجره، وقال: عدّ لي تمري، قال: فعدّ له نحوا من المدّ فجاء به، حتى نثره بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم منه قبضة، ثم قال: اذهبوا بهذا إلى فلانة، واذهبوا بهذا إلى فلانة، فقال الرجل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أراك تأخذ منه، ولا ينقص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ألست تقرأ هذه الآية؟» قال فقلت آيّة آية يا رسول الله؟ قال: قول الله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ- 39] قال أشهد أنما هو من الله تعالى.
وروى أيضاً وابن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ربما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة هلمي إلى غذاءك المبارك، وربما لم يكن إلا التمرتين» .
وروى ابن سعد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى رغيفا مرقّقا بعينه، حتى لحق بربه، ولا شاة سميطا قط.
وروى أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما اجتمع في بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامان قط، إن أكل لحما لم يزد عليه، وإن أكل تمرا لم يزد عليه، وإن أكل خبزا لم يزد عليه.
وروى عبد بن حميد عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه قال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يشبع من خبز الشعير، فما أرانا أخّرنا لما هو خير لنا.
وروى الطبراني- بسند جيد- عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرأيته متغيرا، فقلت: بأبي أنت وأمي، ما لي أراك متغيرا؟ قال: «ما حصّل جوفي ما يدخل جوف ذات كبد منذ ثلاث» قال: فذهبت فإذا يهودي يسقي إبلا له، فسقيت له كل دلو بتمرة، فجمعت تمرا، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «من أين لك هذا يا كعب؟ فأخبرته فذكر الحديث» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى- برجال الصحيح- عن عليّ بن رباح رحمه الله
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع وقال الهيثمي 10/ 316 إسناده جيد.(7/100)
تعالى قال: كنت بالإسكندرية مع عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه، فذكروا ما هم فيه فقال رجل من الصحابة: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وما شبع أهله من الخبز الغليث قال موسى ابن علي: يعني الشعير والسّلت إذا خلطا [ (1) ] .
وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حائطا من حيطان المدينة، فجعل يأكل بسرا أخضر، فقال: «كلّ يا ابن عمر» ، فقلت ما أشتهيه يا رسول الله، قال: «ما تشتهيه؟ إنه لأول طعام أكله رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة أيام» [ (2) ] .
وروى الحسن بن الضحاك عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: إن كنا لنرفع لرسول الله صلى الله عليه وسلم الكراع فيأكله بعد شهر.
وروى الإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجه عن عتبة بن غزوان رضي الله تعالى عنه، قال:
لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما طعامنا إلا ورق الحبلة حتى تقرّحت أشداقنا [ (3) ] .
وروى ابن سعد رضي الله تعالى عنه عن عمران بن زيد المدني قال: حدثني أبي قال:
دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الدنيا، ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين، كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الشعير، وإذا شبع من الشعير لم يشبع من التمر.
وروى أيضا عن الأعرج قال: قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجوع، قلت لأبي هريرة: وكيف ذلك الجوع؟ قال: لكثرة من يغشاه، وأضيافه، وقوم يلزمونه لذلك، فلا يأكل طعاما قط إلا ومعه أصحابه، وأهل الحاجة يشبعون في المسجد، فلما فتح الله عز وجل خيبر اتسع الناس بعض الاتساع، وفي الأمر بعض ضيق، والمعاش شديد، وهي بلاد لا زرع فيها، إنما طعام أهلها التمر، وعلى ذلك أقاموا.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: احتفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق. وأصحابه قد شدوا الحجارة على بطونهم من الجوع. ذكر الحديث.
وروى البيهقي وابن عساكر عن جبير بن نفير قال: قال أبو البجير رضي الله تعالى عنه: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما الجوع، فوضع على بطنه حجرا، وقال: «يا ربّ نفس ناعمة طاعمة، جائعة عارية يوم القيامة» .
__________
[ (1) ] أحمد في المسند 4/ 198.
[ (2) ] انظر المجمع 10/ 321 والبغوي في التفسير 5/ 199.
[ (3) ] تقدم.(7/101)
وروى ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشد حبليه بالحجر من الغرث [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والشيخان وأبو يعلى- بسند جيد- وأبو نعيم في الحلية عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: مكث رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، وهم يحفرون الخندق ثلاثا لم يذوقوا طعاما، قال جابر: فحانت مني التفاتة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد شد على بطنه حجرا من الجوع، ولفظ أبي نعيم في الحلية. نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوجدته قد وضع بينه وبين إزاره حجرا ليقيم به صلبه من الجوع [ (2) ] .
وروى التّرمذي- بسند جيد قوي- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال أبو طلحة:
شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الجوع، ورفعنا عن حجر حجر، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم عن حجرين، وذكر الحافظ رحمه الله تعالى في تخريج أحاديث المشكاة أن التّرمذي صححه، ولم أقف على ذلك في النسخة التي وقفت عليها من التّرمذي.
وروى ابن أبي الدّنيا، والبيهقي في الزهد، وابن عساكر عن أبي البجير رضي الله تعالى عنه قال: أصاب النبي صلى الله عليه وسلّم جوع يوما، فعمد إلى حجر فوضعه على بطنه.
وروى مسلم والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فوجدته جالسا مع أصحابه يحدثهم، وقد عصب على بطنه بعصابة، قال أسامة: أنا أشدّ على حجر، فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله صلى الله عليه وسلم بطنه؟ قالوا: من الجوع ...
الحديث [ (3) ] .
وروى أبو نعيم وابن عساكر عن حصين بن يزيد الكلبي رضي الله تعالى عنه قال: ربما شد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بطنه الحجر من الجوع، ويرحم الله تعالى الإمام ابن جابر حيث قال:
طوى كشحه تحت الحجارة من طوى ... وإحسانه ما قلّ منه مثال
كأنّ عيال النّاس طراّ عياله ... فكلّهم ممّا لديه يعال
يبيت على فقر، ولو شاء حوّلت ... له ذهبا محضا ربى وجبال
وما كانت الدّنيا لديه بموقع ... فقد صرمت فيها لديه حبال
رأى هذه الدّنيا سريعا زوالها ... فلم يرض شيئا يعتريه زوال
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 114 وانظر كنز العمال (18415) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 7/ 456 (4101) .
[ (3) ] أخرجه مسلم 3/ 1612 (143/ 2039) وأحمد 1/ 51، 65.(7/102)
لعمرك ما الأعمار إلّا قصيرة ... ولكنّ آمال الرّجال طوال
أتته مفاتيح الكنوز فردّها ... وعافت يمين مسّها وشمال
وكان يفيض المال بين عفاته ... كما فضّت التّرب المهال شمال
فما كان للمال الشّديد بمائل ... وكم غرّ أرباب العقول فمالوا
به فرّج الله المضايق كلّها ... وبان حرام للورى وحلال
فأنصف مظلوما وأمّن خائفا ... وأغنم محتاجا ونعم مآل
بشير نذير صادق القول صادع ... لكلّ كلام جاء عنه كمال
بليغ يصوغ القول كيف يريده ... لكلّ مقام ينتحيه مقال
جميل جليل مانح غير مانع ... عليه وقار ظاهر وجلال
إذا أبصرته العين هابت فلم تكن ... لتملأ منه العين حين تجال
شفيع رفيع ناصر ناصح لنا ... رحيم رحيب العفو حين ينال
حبيب إلى ربّ الأنام محبّب ... إلى الخلق إلّا من لديه ضلال
لقد شهدت حتّى الوحوش ببعثه ... وصدّق ذيب قوله وغزال
وكان مصونا بالغمام مظلّلا ... إذا النّاس مالوا للظّلال وقالوا
وروى مسلم والأربعة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والبزّار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وابن حبان عن ابن عباس وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، والطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟» قالا: الجوع يا رسول الله، قال: «والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، فقوما» ، فقاما معه، فأتى منزل أبي أيوب الأنصاري، وقال ابن عمر منزل أبي الهيثم بن التّيهان، فلما انتهوا إلى داره قالت امرأته: مرحبا بنبي الله، وبمن معه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أين أبو أيوب؟» فقالت امرأته: يا نبي الله يأتيك الساعة، انطلق يستعذب الماء، فجاء أبو أيوب رضي الله تعالى عنه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني فانطلق فقطع عذقا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما أردت تقطع لنا هذا إلا اجتنيت لنا من تمره» ، قال: أحببت يا رسول الله أن تأكلوا من تمره، وبسره، ورطبه، ثم أخذ المدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إياك والحلوب» ، فذبح لهم، فشوى نصفه، وطبخ نصفه، فلما وضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخذ من الجدي، فجعله في رغيف، وقال: «يا أبا أيوب أبلغ بهذا فاطمة لأنها لم تصب مثل هذا منذ أيام» ، فذهب به أبو أيوب إلى فاطمة، فلما أكلوا وشبعوا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذا لهو النعيم الذي تسألون عنه، قال الله تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ(7/103)
النَّعِيمِ [التكاثر 8] فهذا النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة» ، فكبر ذلك على أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا باسم الله، فإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي هو أشبعنا، وأنعم علينا وأفضل، فإن هذا كفاف لهذا» فأخذ عمر رضي الله تعالى عنه العذق فضرب بها الأرض حتى تناثر البسر، ثم قال: يا رسول الله وأنا لمسئولون عن هذا يوم القيامة؟ قال: «نعم، إلا من ثلاث: كسرة يسد بها الرجل جوعته، أو ثوب يستر به عورته، أو حجر يدخل فيه من القرّ والحرّ» [ (1) ] .
تنبيهات
الأول: أنكر الإمام الحافظ أبو حاتم بن حبّان رحمه الله تعالى هذه الأحاديث التي في شده صلى الله عليه وسلّم الحجر على بطنه عند كلامه على
قوله صلى الله عليه وسلم: «لست كأحدكم، إني أطعم وأسقى» ،
قال: لأن الله تعالى كان يطعم رسوله، ويسقيه إذا واصل، فكيف يتركه جائعا حتى يحتاج إلى شد الحجر على بطنه؟ ثم قال: وماذا يغني الحجر من الجوع؟ ثم ادعى أن ذلك تصحيف ممن رواه، وإنما هي الحجز بالزاي جمع حجزة، قال الإمام الخطابي رحمه الله تعالى: قد أشكل الأمر في شده الحجر على البطن من الجوع على قوم، فتوهموا أنه تصحيف، وزعموا أنه الحجز- بضم الحاء وفتح الجيم، بعدها زاي- جمع الحجزة، وهي التي يشدّ بها الوسط، ومن أقام بالحجاز، وعرف عادتهم، عرف أن الحجر واحد الحجارة، وذلك أن المجاعة تعتريهم كثيرا، فإذا خوى البطن لم يمكن معه الانتصاب، فيعمل الشخص حينئذ إلى صفائح رقاق في طول الكف، أو أكثر، فيربطها على بطنه، ويشدها بعصابة فوقها، فتعتدل قامته بعض الاعتدال، والاعتماد بالكبد على الأرض مما يقارب ذلك، قال الحافظ رحمه الله تعالى: قد أكثر الناس من الرد على ابن حبان في جميع ذلك، فأبلغ ما يردّ به عليه أنه أخرج
في صحيحه حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أبا بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال: «ما أخرجكما؟» قالا: ما أخرجنا إلا الجوع، فقال: «أنا والذي نفسي بيده ما أخرجني إلا الجوع» ، الحديث،
فهذا يردّ ما تمسك به، وأما
قوله: «وما يغني الحجر من الجوع؟»
فجوابه: أنه يقيم الصلب، لأن البطن إذا خلا ربما ضعف صاحبه على القيام لانثناء بطنه، فإذا ربط عليه الحجر اشتد، وقوي صاحبه على القيام، حتى قال بعض من وقع له ذلك:
كنت أظن أن الرّجلين تحملان البطن، فإذا البطن هو الذي يحمل الرجلين.
وقال الحافظ رحمه الله تعالى في موضع آخر من الفتح: قال العلماء رحمهم الله تعالى:
__________
[ (1) ] تقدم.(7/104)
فائدة شد الحجر المساعدة على الاعتدال، وعلى الانتصاب، والمنع من كثرة التحلل من الغثاء الذي في البطن، يكون الحجر بقدر البطن، فيكون الضعف أقل، أو لتقليل حرارة الجوع، ببرد الحجر، أو كان فيه إشارة إلى كسر النفس.
قلت وسيأتي الكلام على حديث:
إني لست كأحدكم، إني أطعم وأسقى،
في باب وصاله من أبواب صيامه، ويدل على أن شد الحجر على البطن من عادة العرب، ما رواه الإمام أحمد، والبخاري، عن عبد الله بن عتيق قال: أقمت مع أبي هريرة رضي الله تعالى عنه سنة، فقال: لو رأيتنا، وإننا ليأتي على أحدنا الأيام ما يجد طعاما يقيم به صلبه، حتى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشد به على أخمص بطنه، ثم يشده بثوبه، ليقيم به صلبه.
قلت: وروى أبو داود الطيالسي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:
أصابني جوع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شددت على بطني حجرا ... الحديث.
وروى الحارث بن أبي أسامة عن عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية نخلة ومعنا عمرو بن سراقة، وكان رجلا لطيف البطن طويلا، فجاع، فانثنى صلبه، وكان لا يستطيع أن يمشي، فسقط علينا، فأخذنا صفحة من حجارة فربطناها على بطنه، ثم شددنا إلى صلبه، فمشى معنا، فجئنا حيا من العرب، فضيّفونا، فمشى معنا، قال:
كنت أحسب الرّجلين تحملان البطن، فإذا البطن يحمل الرّجلين.
الثاني: قال العلماء رحمهم الله تعالى كان فقر النبي صلى الله عليه وسلّم اختياريا.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
البرّ: بباء مضمومة، فراء: الحنطة.
جيران: بكسر الجيم.
المنائح: بحاء مهملة: جمع منيحة وهي عند العرب على وجهين: أحدهما العطية، كالهبة والصلة، والأخرى تختص بذوات الألبان، وهو أن يعطيه الشاة مثلا لينتفع بلبنها ويردها.
الغزيرة: بالغين المعجمة، والزاي: الكثيرة اللبن.
يمنحون: بفتح أوله وثالثه، ويجوز ضم أوله وكسر ثالثه: أي يجعلونها.
يعيشكم: بضم أوله: يقال أعاشه الله تعالى عيشة، وضبطه النووي بالمثناة التحتية.
الرّف: براء مفتوحة، ففاء مشددة، خشب يرفع عن الأرض إلى جنب الجدار يوقي به ما يوضع عليه.
شطر: بشين معجمة مفتوحة، فطاء مهملة ساكنة، فراء: قيل أراد نصف مكّوك وقيل أراد نصف وسق.(7/105)
الحنطة: بحاء مهملة مكسورة، فنون ساكنة، فطاء مهملة، فتاء تأنيث: البرّ.
الخميص: بخاء معجمة مفتوحة، فميم مكسورة، فتحتية ساكنة، فصاد مهملة: أي ضامر البطن.
المائدة: كل شيء يمد ويسط، وسيأتي له بسط كلام.
الدّقل: بدال مهملة، فقاف: حشف التمر.
المصليّة: بميم مفتوحة، فصاد مهملة ساكنة، فلام مكسورة، فتحتية مفتوحة مشددة، فتاء تأنيث: أي مشوية.
الكدرة: بكاف مفتوحة، فدال مهملة، فراء فتاء تأنيث: ضد الصافية.
الضفف: بضاد معجمة، ففاء مفتوحتين، ففاء أخرى: الجوع.
العريف: بعين مهملة مفتوحة، فراء مكسورة، فتحتية: القيم بأمور القبيلة، أو الجماعة من الناس يلي أمورهم، ويتعرف الأمير منه أحوالهم، فعيل بمعنى فاعل، والعرافة عمله، والمراد هنا: لم يكن له بالمدينة من هو عارف له أي من يعرفه.
القرناء: بقاف مضمومة، فراء مفتوحة، فنون، فألف: جمع قرين وهو الكفء والنظير.
المصباح: بكسر الميم: سراج مضيء.
البرمة: بموحدة مضمومة أو مكسورة فراء ساكنة، فميم، فتاء تأنيث: القدر مطلقا.
تهذرون: بفوقية مفتوحة، فهاء ساكنة، فذال معجمة، فراء: أي تتوسعون فيها، وتبذرونها، وتفرقونها في كل وجه، وروي: تهزون الدنيا، قال في النهاية وهو أشبه بالصواب، يعني تقتطعونها إلى أنفسكم، وتجمعونها، أو تسرعون إنفاقها.
الإهالة: بكسر الهمزة: كل ما يوقد به من الأدهان.
سنخة: بسين مهملة، فنون مكسورة فخاء معجمة، فتاء تأنيث: المتغيرة الرائحة.
نقد بإصبعه: بنون فقاف، فدال مهملة، مفتوحات: أي نقر.
قناع: بقاف مكسورة، فنون، فألف، فعين مهملة: أي طبق.
كعب من إهالة: بكاف مفتوحة، فعين مهملة ساكنة، فموحدة: قطعة من السمن والدهن.
المجهود: بميم مفتوحة، فجيم، فهاء مضمومة، فواو فدال مهملة: واجد المشقة.
الودك: بواو، فدال مهملة مفتوحتين، فكاف: دسم اللحم، ودهنه الذي يستخرج منه القدّ: الجلد.
جعار الجوع: بجيم مكسورة، فعين مهملة، فألف فراء: يبس الطبيعة بأن ييبس الثّفل في الدبر.(7/106)
ابتهر: بهمزة وصل، وموحدة ساكنة، فمثناة فوقية، فهاء، فراء: أي عسىّ.
رغيفا مرققا: براء فقافين، أي لم يكن يعمل له رقاق، لأنه لا يكون من شعير، وإنما يكون من البرّ.
السّلت: بسين مهملة مضمومة، فلام ساكنة، فمثناة فوقية: الشعير، أو ضرب منه أو الحامض.
ورق الحبلة: بحاء مهملة مضمومة، فموحدة ساكنة: ثمر السّمر يشبه اللوبياء وقيل هو ثمر العضاة.
البرير: بموحدة مفتوحة، فراءين: أولاهما ساكنة، وبينهما تحتية كأمير: الأول من ثمر الأراك.
تقرحت أشداقنا: تقدم الكلام على مثله.
الغرث: بغين معجمة مفتوحة، فراء مهملة ساكنة فمثلثة: الجوع.
الكشح: بكاف مفتوحة، ثم شين معجمة ساكنة، فحاء مهملة: ما بين الخاصر إلى الضلع الخلف.
ربى: براء مضمومة، فموحدة: جمع ربوة: بضم الراء، وسكون الموحدة: وهي ما ارتفع من الأرض.
العذق: بكسر العين المهملة، وإسكان الذال المعجمة، بعدها قاف: القنو وبفتح العين:
النخلة.
المدية: بميم مضمومة، فدال مهملة ساكنة، فتحتية مفتوحة، فتاء تأنيث: السكين والشفرة.
الحلوب: بحاء مهملة مفتوحة، ولام مضمومة، وواو، وموحدة: الحلوبة والله أعلم.(7/107)
الباب الحادي والعشرون في هيبته، ووقاره صلى الله عليه وسلم
وروى ابن سعد، وابن جرير عن قيلة بنت مخرمة قالت: لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم متخشعا في الجلسة أرعدت من الفرق، فقال جليسه: يا رسول الله أرعدت المسكينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم- «ولم ينظر إلي، وأنا عند ظهره- يا مسكينة، عليك بالسكينة» ، فلما قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم أذهب الله تعالى ما دخل قلبي من الرعب [ (1) ] .
وروى محمد بن أبي عمر، وأبو داود، والنسائي، والترمذي- وصححه- وابن حبّان عن يزيد بن الأسود السّوائي رضي الله تعالى عنه قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حجّة الوداع، فصلى بنا صلاة الصبح فانحرف فاستقبل الناس بوجهه صلى الله عليه وسلم فإذا هو برجلين من وراء الناس لم يصليا مع الناس فقال: «ائتوني بهذين الرجلين،» فأتي بهما ترعد فرائضهما، فقال: ما منعكما أن تصليا مع الناس؟» قالا يا رسول الله، إنا قد صلينا في رحالنا، فقال: «فلا تفعلا، إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معهم، فإنها له نافلة» [ (2) ] .
وروى أبو داود، وابن ماجة- بسند لا بأس به- عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: كنا نجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكلم النبي صلى الله عليه وسلم رجلا فأرعد، فقال: «هوّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» [ (3) ] .
وروى ابن عدي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كنا نجلس عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم كأنما على رؤوسنا الطير، ما يتكلم منا أحد، إلا أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما [ (4) ] .
وروى ابن سعد عن أبي رمثة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعي ابني، فقال: يا بني هذا نبي الله صلّى الله عليه وسلم، فلما رآه أرعد من هيبته.
وروى يعقوب بن سفيان عنه أيضاً قال: انطلقت مع أبي نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأيته، قال: هل تدري من هذا؟ قلت: لا قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقشعررت حين قال ذلك، وكنت أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لا يشبه الناس فإذا هو بشر.
وروى الترمذي في الشمائل عن علي رضي الله تعالى عنه قال: من رأى
__________
[ (1) ] ابن سعد 1/ 2/ 58 وانظر المجمع 6/ 11 والكنز (6403) والشفا 1/. 199
[ (2) ] أخرجه عبد الرزاق في المصنف 2/ 421 (3934) وأحمد 4/ 160، 161 والدارمي 1/ 317 وأبو داود 1/ 386 (575) والترمذي 1/ 424 (219) والنسائي 2/ 112 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (434) والحاكم 1/ 44.
[ (3) ] تقدم.
[ (4) ] ابن عدي في الكامل 5/ 1817 وانظر مجمع الزوائد 9/ 53.(7/108)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه.
وروى مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه قال: ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه [ (1) ] .
وروى ابن حبّان والحاكم، والذهبي، وأقره، عن أسامة بن شريك قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يتكلم منا متكلم، كأن على رؤوسنا الرّخم، ورواه الطبراني بسند صحيح بلفظ:
كأنما على رؤوسنا الطير، ما منا متكلم [ (2) ] ، ورواه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة بلفظ: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأصحابه حوله، وعليهم السكينة، كأنما على رؤوسهم الطير، فسلمت، ثم قعدت، وذكر الحديث، ورواه الطيالسي بسند صحيح، وابن أبي شيبة، وأحمد بن منيع عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة من الأنصار فانتهينا إلى القبر، ولمّا يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وجلسنا حوله، كأنما على رؤوسنا الطير.
وروى ابن حبان، والحاكم، وصححه الذهبي، وأقره، عن ابن بريدة عن أبيه قال: كنا إذا قعدنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم ترتفع رؤوسنا إليه إعظاما له.
وروى التّرمذي، والحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد لم يرفع أحد منا إليه رأسه غير أبي بكر، وعمر رضي الله تعالى عنهما، فإنهما كانا يبتسمان إليه، ويبتسم إليهما.
وروى الحاكم، وصححه الذهبي، وأقره، عن سلمان رضي الله تعالى عنه أنه كان في عصابة يذكرون الله تعالى، فمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام بعضهم، فجاء نحوهم قاصدا، حتى دنا منهم، فكلفوا عن الحديث إعظاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن سعد عن قيس بن أبي حازم، أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقام بين يديه، فأخذه من الرّعدة شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «هوّن عليك، فإني لست ملكا، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد» [ (3) ] .
وروى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد ألقيت عليه المهابة.
وروى قاسم بن ثابت عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بالطويل، ولا بالقصير، من رآه هابه: أي أكبره وعظمه.
__________
[ (1) ] لم أجده في صحيح مسلم في مظانه.
[ (2) ] انظر المجمع 9/ 53.
[ (3) ] تقدم.(7/109)
وروى وصححه الذهبي عن أبي مسعود، قال: إني كنت أضرب غلاما لي، إذ سمعت صوتاً من خلفي: أعلم أبا مسعود الله أقدر عليك منك عليه قال: فجعلت لا ألتفت إليه من الغضب، حتى غشيني، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فلما رأيته وقع السوط من بين يدي من هيبته.
وروى البيهقي عن أم معبد رضي الله تعالى عنها عنه صلى الله عليه وسلم: أن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، له رفقاء يحفّون به، أن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر ابتدروا إلى أمره، محفود محشود لا عابس ولا معتد.
وروى أيضا عن هند بن أبي هالة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخما مفخّما [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الهيبة: بهاء مفتوحة، فمثناة تحتية ساكنة، فموحدة: المخافة والتّقية.
الوقار: بواو، وقاف مفتوحتين، وراء: الرزانة.
قيلة: بفتح القاف، وسكون المثناة التحتية، بعدها لام.
مخرمة: بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة.
متخشعا: بميم مضمومة، ففوقية، فخاء معجمة مفتوحتين، فشين معجمة، فعين مهملة:
من الخشوع، وهو في الصوت، والبصر، كالخضوع في البدن: وهو الانقياد والطاعة.
الفرق: بفاء، فراء مفتوحتين، فقاف: الخوف والفزع.
السكينة: تقدم الكلام عليها، أوائل الكتاب، عند شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلّم.
الرعب: بضم الراء، وسكون المهملة، وبالباء الموحدة: الفزع.
الفرائص: بفاء، فراء مفتوحتين، فألف فهمزة مكسورة، فصاد مهملة: جمع فريصة: وهي اللحمة التي بين جنب الدابة وكتفها، لا تزال ترعد.
اقشعررت: بهمزة، فقاف، فشين معجمة، فعين مهملة، فراءين: ارتعد جلدي.
البديهة: مفاجأة وبغتة: يعني من لقيه قبل الاختلاط به هابه لوقارة وسكونه، وإذا جالسه وخالطه بأن له حسن خلقه.
محفود: بميم، فمهملة، ففاء، وآخره دال مهملة: مخدوم.
محشود: بميم مفتوحة، فمهملة، فمعجمة، فواو فمهملة: مطاع.
العابس: بعين مهملة، فألف، فموحدة، فسين مهملة.
معتد: بميم مضمومة، فعين مهملة ساكنة وتجاوز الحد.
فخما مفخما: بفاء فخاء معجمة أي عظيما معظما.
__________
[ (1) ] تقدم.(7/110)
الباب الثاني والعشرون في مزاحه، ومداعبته صلى الله عليه وسلم
وروى ابن عساكر عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفكه الناس، ورواه ابن الجوزي وزاد: مع صبي [ (1) ] .
وروى ابن عساكر عن حبشي بن جنادة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أفكه الناس خلقا [ (2) ] .
وروى الطبراني في الكبير، قال الذهبي رحمه الله تعالى- إسناده قريب من الحسن- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني لأمزح، ولا أقول إلا حقا» ، ورواه الخطيب عن أنس [ (3) ] .
وروى أبو الشيخ عن عبد الله بن الحارث بن جزء رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت أحداً أكثر مزاحا من رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وروى المعافي بن زكريا وفيه انقطاع عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مازحا، وكان يقول: «أن الله تعالى لا يؤاخذ المزّاح الصادق في مزاحه» .
وروى ابن ناصر الدين عن أم نبيط [ (4) ] رضي الله تعالى عنها قالت: أهدينا جارية لنا من بني النّجار إلى زوجها، وكنت مع نسوة من بني النجار، ومعي دف أضرب به، وأنا أقول:
أتيناكم أتيناكم، فحيونا نحييكم، ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم، فقالت: فوقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا يا أم نبيط؟» فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، جارية من بني النجار نهديها إلى زوجها، قال: «فتقولين ماذا؟» قلت: فأعدت عليه قولي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ولولا الحنطة السمراء ما سمنت عذاريكم» .
وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب، والتّرمذي، وصححه الذهبي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا؟ قال: «إني لا أقول إلا حقا» [ (5) ] .
وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخالطنا، حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير ما فعل النّغير؟ [ (6) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الصغير 2/ 39 وابن السني (413) والبيهقي في الدلائل 1/ 331 وابن كثير في البداية 6/ 53.
[ (2) ] انظر كنز العمال (17819) .
[ (3) ] الطبراني في الكبير 12/ 391 وانظر المجمع 9/ 17.
[ (4) ] أم نبيط اختلف في اسمها، ذكر أبو نعيم أنّ اسمها نائلة بنت الحصاص انظر الإصابة 8/ 285.
[ (5) ] أخرجه أحمد 2/ 340، 360 والترمذي 4/ 357 (1990) والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 248.
[ (6) ] أخرجه البخاري 10/ 526 (6129، 6203) ومسلم 3/ 1692 (30/ 2150) .(7/111)
وروى الحسن بن الضحاك عن أبي محمد عبد الله بن قتيبة قال: أخبرنا محمد بن عائشة منقطعا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب بلالا، ويمازحه، فرآه يوما وقد خرج بطنه، فقال:
«أمّ حسّ» .
وروى أبو سعيد بن الأعرابي، وأبو الحسن بن الضحاك، عن علي رضي الله تعالى عنه قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «أين لكع؟ ههنا لكع؟» قال: فخرج إليه الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما، وعليه لحاف قرنفلي، وهو مادّ يده، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده والتزمه، وقال: بأبي أنت وأمي، من أحبني فليحب هذا.
وروى الزبير بن بكّار في كتاب الفاكه، عن عطاء بن أبي رباح رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمزح؟ فقال ابن عباس:
نعم، فقال الرجل: فما كان مزاحه؟
فقال ابن عباس: إنه كسا ذات يوم امرأة من نسائه ثوبا، فقال لها: «البسيه واحمدي الله وجدي منه ذيلا كذيل الفرس» .
وروى فيه أيضاً عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها مزحت عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالت: أمها يا رسول الله بعض دعابات هذا الحي من بني كنانة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بل بعض مزحنا هذا الحي من قريش» .
وروى ابن إسحاق عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في غزوة ذات الرّقاع: «أتبيعني جملك؟» قال: قلت يا رسول الله، بل أهبه لك، قال: «لا، ولكن بعنيه» ، قلت: فسمنيه، قال: «قد أخذته بدرهم» ، قلت: لا، إذن تغبنني يا رسول الله، قال:
«فبدرهمين» ، قلت: لا، فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى بلغ الأوقية، فقال: «أفقد رضيت؟» فقلت: رضيت، قال: «نعم» ، قلت هو لك، قال «قد أخذته» .
وفي رواية فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمني ويمازحني، ثم قال: «يا جابر، هل تزوجت بعد؟» قلت: نعم يا رسول الله، قال: «أثيبا أم بكرا؟» قلت: بل ثيبا، قال: «أفلا جارية تلاعبك وتلاعبها» ، قلت: يا رسول الله إن أبي أصيب يوم أحد وترك بنات له سبعا، فنكحت امرأة تجمع رؤوسهن، وتقوم عليهن، قال: أصبت إن شاء الله، أما إنّا لو قد جئنا صرارا أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا امرأتك فنفضت نمارقها، قلت: يا رسول الله ما لنا نمارق، قال: «إنها ستكون، فإذا أنت قدمت فاعمل عملا كيّسا» ، قال: فلما جئنا صرارا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذلك، فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل، ودخلنا، فحدثت المرأة الحديث، وما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فدونك سمعا وطاعة [ (1) ] .
__________
[ (1) ] انظر السيرة لابن هشام 2/ 206.(7/112)
وروى البزار، وأبو الحسن بن الضحاك عن زياد بن سبرة قال: أقبلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى وقف على أناس من أشجع وجهينة، فمازحهم، وضحك معهم، قال:
فوجدت في نفسي، قلت: يا رسول الله تضاحك أشجع وجهينة؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ورفع يده تحت منكبي، ثم قال: «أما إنهم خير من بني فزارة، ومن بني بدر، وخير من بني الشّريد، وخير من قومك، أو لا أستغفر الله» فلما كانت الردة لم يبق من أولئك الذين خبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحد إلا ارتد، قال: وجعلت أتوقع قومي، أهمني ذلك مخافة أن يرتدوا، فأتيت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وكان لي صديقا، فقصصت عليه الحديث، والأمر الذي أخافه، فقال: لا تخافن أما سمعته يقول: «أو لا أستغفر الله» .
وروى أبو بكر الشافعي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا بني» .
وروى أيضا عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: له «مرحبا» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب، وأبو داود والترمذي وصححه عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنا حاملوك على ولد الناقة» ، فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«وهل تلد الإبل إلا النّوق» .
وروى أبو داود والترمذي- وقال حسن غريب- عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا ذا الأذنين» [ (2) ] .
وروى البخاري عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله إني أضع تحت رأسي خيطين، فلم يتبين لي شيء، فقال: «إنك لعريض الوسادة» ، وفي لفظ: لعريض القفا يا ابن حاتم، هو بياض النهار من سواد الليل، ورواه أبو نعيم،
وأدخله في باب مداعبته من أخطأ ليزول عن المخطىء بذلك الخجل [ (3) ] .
وروى أبو داود بإسناد جيد عن أسيد بن الحضير رضي الله تعالى عنه أن رجلا من الأنصار كان فيه مزاح فبينا هو يحدث القوم يضحكهم إذ طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصرته بعود كان في يده، فقال: يا رسول الله أصبرني، قال: «اصطبر» قال إن عليك قميصا، وليس
__________
[ (1) ] أحمد 3/ 267 وأبو داود 5/ 270 (4998) والترمذي 4/ 357 (1991) وفي الشمائل ص 120 (238) والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 248.
[ (2) ] أخرجه أحمد 3/ 127، 260 وأبو داود 5/ 272 (5002) والترمذي 4/ 358 (1992) وفي الشمائل ص 11 (235) والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 248.
[ (3) ] أخرجه البخاري 4/ 157 (1916، 4509، 4510) .(7/113)
علي قميص، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فاحتضنه، وجعل يقبل كشحه، قال: أردت هذا يا رسول الله [ (1) ] ،
فقال أبو محمد الحسن: أخبرنا ابن شهاب عن سفيان الثوري رضي الله تعالى عنه عن أبي الزبير به وروى الإمام أحمد وأبو يعلى- برجال الصحيح- وصححه الذهبي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «فأتني أزيهر أزيهر» وهو يقوم يبيع متاعه في السوق، وكان رجلا دميما، فاحتضنه من خلفه، ولا يبصره الرجل، فقال: أرسلني، من هذا؟
فالتفت فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله إذن والله تجدني كاسدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ولكن عند الله لست بكاسد» ، أو قال: «ولكن أنت عند الله تعالى غالب» .
وروى ابن عساكر، وأبو يعلى، برجال الصحيح، غير محمد بن عمرو بن علقمة، قال الهيثمي: وحديثه حسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحريرة قد طبختها، فقلت لسودة، والنبي صلى الله عليه وسلّم بيني وبينها: كلي، فأبت أن تأكل، فقلت: لتأكلين أو لألطّخنّ وجهك، فأبت فوضعت يدي فيها، فلطختها، وطليت وجهها فوضع فخذه لها وقال لها: «لطخي وجهها» فلطخت وجهي، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فمر عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا عبد الله، فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيدخل، فقال: «قوما، فاغسلا وجوهكما» ، فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لعائشة رضي الله تعالى عنها: «ما أكثر بياض عينيك» [ (2) ] .
وروى الزبير بن بكّار في كتاب الفاكه عن زيد بن أسلم مرسلا أن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي يدعوك، قال: «من هو؟ أهو الذي بعينيه بياض؟» فقالت:
أيّ يا رسول الله؟ والله ما بعينيه بياض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بل إن بعينيه بياضا» ، فقالت: لا ولله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وهل من أحد وإلا وبعينيه بياض؟» ، وجاءته امرأة أخرى فقالت: يا رسول الله احملني على بعير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «احملوها على ابن بعير» ، فقالت: ما أصنع به وما يحملني يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «هل يجيء بعير إلا ابن بعير؟» وكان مزح معها.
وروى الطبراني وابن عساكر برجال ثقات عن خوّات بن جبير، رضي الله تعالى عنه
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود في الأدب باب (160) عن عمرو بن عون، عن خالد، عن حصين، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أسيّد به.
[ (2) ] ذكره الذهبي في الميزان (390) وابن حجر في اللّسان 3/ 870.(7/114)
قال: نزلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم مرّ الظّهران فخرجت من خبائي فإذا نسوة يتحدثن، فأعجبنني، فرجعت، وأخرجت حلّة لي، فلبستها، ثم جلست إليهن، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبّته، فقال: «أبا عبد الله ما يجلسك إليهن؟» قال فهبت رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلطت، وقلت: يا رسول الله جمل لي شرود فأنا أبتغي له قيدا، قال: «فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبعته، فألقى إلي رداءه، ودخل في الأراك، فكأني أنظر إلى بياض قدميه في خضرة الأراك، فقضى حاجته، ثم توضأ، ثم جاء، فقال: «أبا عبد الله ما فعل شراد جملك؟» ثم ارتحلنا، فجعل لا يلحقني في مسير إلا قال: «السلام عليك أبا عبد الله ما فعل شراد جملك؟» قال: فتعجلت إلى المدينة، واجتنبت المسجد، ومجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما طال علي ذلك تحينت ساعة خلوة المسجد، فأتيت المسجد فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بعض حجره فجاء فصلى ركعتين خفيفتين، ثم جلس، وطولت الصلاة، رجاء أن يذهب، ويدعني، فقال: «طول أبا عبد الله ما شئت فلست بقائم حتى تنصرف» ، فقلت: والله لأعتذرن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فانصرفت، فقال: «السلام عليك أبا عبد الله ما فعل شراد جملك؟» فقلت: والذي بعثك بالحق نبيا ما شرد ذلك الجمل منذ أسلمت، فقال: «رحمك الله مرتين أو ثلاثا» ، ثم أمسك عني، فلم يعد لشيء مما كان [ (1) ] .
وروى ابن أبي خيثمة عن عون بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «عون؟» قلت: نعم يا رسول الله قال: «ادخل» ، قلت: كلي؟ قال:
«كلك» .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عبد الله بن بسر المازني رضي الله تعالى عنهما قال: بعثتني أمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقطف من عنب فأكلته، فسألت أمي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا» ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا رآني قال: «غدر غدر» .
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وأنا جارية لم أحمل اللحم، ولم أبدن، فقال للناس: «تقدموا» ، فتقدموا، ثم قال:
«تعالي حتى أسابقك» ، فسابقته، فسبقته، فسكت عني، حتى حملت اللحم، وبدنت، ونسيت، ثم خرجت معه في بعض أسفاره، فقال للناس: «تقدموا» ، ثم قال: «تعالي أسابقك» ، فسبقني، فجعل يضحك، ويقول: «هذه بتلك» [ (2) ] .
__________
[ (1) ] انظر المجمع 9/ 407.
[ (2) ] أخرجه أحمد 6/ 39، 264 والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 18.(7/115)
وروى ابن عساكر، وابن الجوزي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لعائشة ذات يوم: «ما أكثر بياض عينك!» .
وروى ابن الجوزي عن ابن أبي الورد عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه قال: فرأى رجلا أحمر، فقال: «أنت أبو الورد» .
وروى الترمذي، وابن الجوزي، عن أنس رضي الله تعالى عنهما أن عجوزا دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسألته عن شيء فقال لها ومازحها: «لا يدخل الجنة عجوز» ، وحضرت الصلاة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الصلاة، وبكت بكاء شديدا، حتى رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت عائشة: يا رسول الله إن هذه المرأة تبكي لما قلت لها: لا يدخل الجنة عجوز، فضحك، وقال: «أجل لا يدخل الجنة عجوز، ولكن الله تعالى قال: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً [الواقعة 35] وهذا لعجائز الرّمص» ، ورواه الطبراني في الأوسط عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب، ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم سليم ولها ابن من أبي طلحة، يكنى أبا عمير، وكان يمازحه، فدخل عليه فرآه حزينا فقال: «ما لي أرى أبا عمير حزينا؟» قالوا: يا رسول الله مات نغره الذي كان يلعب به فجعل يقول: «أبا عمير ما فعل النغير؟» .
وروى الحاكم في علوم الحديث عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ بيد الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما فيرفعه على باطن قدميه ويقول: «حزقّة حزقّة ترقّ عين بقه، اللهم إني أحبه فأحبه» [ (1) ] .
وروى ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلع لسانه للحسن بن علي فيرى الصبي لسانه فيهش إليه [ (2) ] .
وروي عن أبي هريرة قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فثقل على القوم بعض متاعهم، فجعلوا يطرحونه عليّ فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أنت زاملة» .
وروى البخاري في الأدب وابن عساكر عن سفينة رضي الله تعالى عنه قال: ثقل على القوم متاعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ابسط كساءك» ، فجعلوا فيه متاعهم فقال
__________
[ (1) ] انظر المجمع 9/ 176 وابن عساكر كما في التهذيب 4/ 205.
[ (2) ] انظر اتحاف السادة المتقين 7/ 501.(7/116)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احمل فأنت [ (1) ] سفينة» ، قال: فلو حملت من يومئذ وقر بعير، أو بعيرين، أو ثلاثة- حتى بلغ سبعة- ما ثقل علي [ (2) ] .
وروى أبو بكر الشافعي عن سفينة رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان إذا أعيا بعض القوم ألقى علي سيفه، ألقى علي ترسه، حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنت سفينة» [ (3) ] .
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة، وأبو سعيد بن الأعرابي، وأبو بكر الشافعي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ذا الأذنين» .
وروى ابن عساكر عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن ابن عليّ على ظهره، فإذا سجد نحاه.
وروي عن أبي ابن ليلى [ (4) ] رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجاء الحسن، فأقبل، ثم تمرغ عليه، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم قميصه فقبل زبيبته.
وروى ابن عساكر وأبو الحسن بن الضحاك، والحاكم عن أبي جعفر الخطمي أن رجلا كان يكنى أبا عمرة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أم عمرة» فضرب الرجل بيده إلى مذاكره، فقال: والله ما ظننت إلا أني امرأة لما قلت لي يا أم عمرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنما أن بشر أمازحكم» .
وروى الطبراني عن حصين والد عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيت فاطمة رضي الله تعالى عنها فخرج إليه الحسن أو الحسين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ارق بأبيك عين بقّة» ، وأخذ بإصبعه يرقى على عاتقه، ثم خرج الآخر:
الحسن أو الحسين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مرحبا ارق، بأبيك عين بقّة» ، وأخذ بإصبعه، فاستوى على عاتقه الآخر، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأقفيتهما حتى وضع أفواههما على فيه، ثم قال: «اللهم إني أحبهما فأحبهما، وأحب من يحبهما» [ (5) ] .
وروى أبو محمد الرّامهرمزي بسنده قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق بن يحيى
__________
[ (1) ] في: فإنما أنت.
[ (2) ] أخرجه أحمد 5/ 221 والطبراني في الكبير 7/ 97 والبيهقي في الدلائل 6/ 47 وانظر المجمع 9/ 366.
[ (3) ] أحمد 5/ 220 والطبراني في الكبير 7/ 97.
[ (4) ] عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري، المدني، ثم الكوفي، ثقة من الثانية، اختلف في سماعه من عمر، مات بوقعة الجماجم، سنة ست وثمانين، وقيل: غرق. التقريب 1/ 496.
[ (5) ] أخرجه الطبراني في الكبير 3/ 42 وانظر المجمع 9/ 180.(7/117)
المرسي، حدثنا أبو خالد يزيد بن خالد عن عبد الله بن وهب المصري حدثنا سروح بن شهاب عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والحسن والحسين على ظهره، وهو يقول: «نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما» ،
وقال أبو محمد: هذا من مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي منقبة تفرد بها الحسن والحسين، وتضمن من الفقه اطلاق تشبيه الإنسان بالبهيمة إذا شاركها في بعض فعلها.
وقال ابن عدي: حدثنا عمران بن موسى بن فضالة قال: حدثنا عيسى بن عبد الله بن سليمان قال: أخبرنا ابن شهاب عن سفيان الثوري عن أبي الزبير به.
تنبيهات
الأول: قال الخطّابي فيما رواه ابن عساكر: سئل بعض السلف عن مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كانت له مهابة، فكان يبسط الناس بالدّعابة، وأنشد ابن الإعرابي في نحو هذا يمدح رجلا:
يتلقّى النّدى بوجه صبيح ... وصدور القنا بوجه وقاح
فبهذا وذا تتمّ المعالي ... طرق الجدّ غير طرق المزاح
الثاني: قال في المورد: رأيت بخط بعض المحدثين أن العجوز المذكورة في حديث أنس هي صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
المزاح: بضم الميم وبالزاي: قال في الصحاح: المزاح الدّعابة، وقد مزح يمزح والاسم المزاح بالضم والمزاحة أيضا، أما المزاح بالكسر فهو مصدر مازحه.
المداعبة: بميم مضمومة، فدال مهملة، فألف فعين مهملة، فموحدة الممازحة.
أفكه الناس: بهمزة مفتوحة، ففاء ساكنة، فكاف مفتوحة، فهاء: أكثرهم مزاحا، والفاكه:
المازح، والاسم الفكاهة.
جبشي: بجيم مضمومة، فموحدة ساكنة، فشين معجمة، فتحتية.
جنادة: بجيم مضمومة، فنون، فألف فدال مهملة، فتاء تأنيث.
جزء: بجيم مفتوحة فزاي ساكنة فهمزة.
الدف: بدال مضمومة مهملة، ففاء: آلة من آلات الملاهي المعروفة.
الحنطة: تقدم.
السمراء: تقدم.(7/118)
العذاري: بمهملة مفتوحة، فمعجمة، فألف، فراء، فياء تحتية، جمع عذراء وهي الجارية البكر.
نغير: تصغير نغر بفتح النون والغين: عصفور صغير.
أمّ حس: بحاء مكسورة، فسين مهملتين، وجع يأخذ المرأة عند الولادة، وبعدها، أي أنه أشبه بمن ستلد، ويأخذها ذلك.
لحاف قرنفلي صرارا: بصاد مهملة، فراء، فألف، ثم راء: بئر قديمة على ثلاثة أميال من المدينة في طريق العراق وقيل موضع.
النمارق: بنون، فميم مفتوحتين، فألف، فراء، فقاف: جمع نمرقة: بضم النون والراء، وبكسرهما: بهاء وبغير هاء: الوسادة.
الخجل: بخاء معجمة، فجيم مفتوحتين، فلام: الكسل والتواني لأن الخجل يسكت ويسكن ولا يتحرك، وقبل أن يلتبس عليه أمره، فلا يدري كيف المخرج منه.
الخاصرة: بخاء معجمة فألف فصاد مهملة مكسورة فتاء تأنيث.
اصبرني: أي أقدني من نفسك.
اصطبر: أي استقد.
كشحه: بفتح الكاف، وسكون الشين المعجمة، وفتح الحاء المهملة: وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف.
الدّميم: بالدال المهملة في صورة الخلق، وبالمعجمة من الخلق.
الكاسد: بكاف، فألف، فسين مهملة مكسورة فدال، أي غير نافق.
الخزيرة: بخاء معجمة ثم زاي، وروي بحاء وراء مهملتين، الأولى من النخالة، والثانية من اللبن.
الأراك: بهمزة مفتوحة، فراء، فألف، فكاف: شجر معروف له حمل كعناقيد العنب اسمه الكباث بفتح الكاف، وبمثلثة وإذا يبس سمي المرد.
شراد جملك: بشين معجمة مكسورة، فراء، فألف، فدال مهملة.
قطف: بقاف مكسورة، فطاء مهملة، ففاء: العنقود.
الرّمص: براء مضمومة، فميم ساكنة، فصاد مهملة: من الرّمص: وهو البياض الذي تقطعه العين، ويجتمع في زوايا الأجفان، والرّمص: الرطب منه، والغمص: اليابس.(7/119)
النغير: بنون مضمومة، فغين معجمة مفتوحة، فتحتية ساكنة، فراء: طائر يشبه العصفور أحمر المنقار، ويجمع على نغران.
الحزقّة: المقارب الخطا، والقصير الذي تقرب خطاه.
عين بقّة: إشارة إلى البقة التي تطير، ولا شيء أصغر من عينها، قال الحاكم: في علوم الحديث، وأخبرني بعض الأدباء أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالبقة فاطمة رضي الله تعالى عنه فقال للحسن: يا قرّة عين بقة.
يدلع: بتحتية مفتوحة، فدال مهملة ساكنة، فلام، فعين مهملة: يخرج.
يهش: بتحتية مفتوحة، فهاء مكسورة فشين معجمة: يفرح، ويستبشر، ويرتاح ويخف للشيء.
الزاملة: بزاي، فألف، فميم مكسورة، فلام مفتوحة، فتاء تأنيث: البعير الذين يحمل عليه الطعام والمتاع، وأكثر ما يستعمل في حمل البغل والحمار.
وقر بعير: بواو مكسورة، فقاف ساكنة، فراء: حمل جمل.(7/120)
الباب الثالث والعشرون في ضحكه صلى الله عليه وسلّم، وتبسّمه صلى الله عليه وسلم
وروى التّرمذي- وصححه- وابن سعد عن الحارث بن جزء رضي الله تعالى عنه قال:
ما رأيت أحداً أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ما كان ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسما [ (1) ] .
وروى الشيخان وسعيد بن منصور، وأحمد وعبد وأبو داود وابن المنذر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى ترى لهواته إنما كان يبتسم [ (2) ] .
وروى الترمذي والبيهقي عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال: كان جل ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم التبسم ويفتر عن مثل حب الغمام [ (3) ] .
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا ضحك يتلألأ في الجدر [ (4) ] .
وروى الخرائطي عن عمرة قالت: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا خلا؟ قالت: كان كالرجل من رجالكم، إلا أنه كان أكرم الناس خلقا، كان ضاحكا بساما، ورواه أبو الحسن بن الضحاك بلفظ- قالت: كان ألين الناس، وأكرم الناس، ضحاكا بساما.
وروى أبو نعيم وابن عساكر عن حصين بن يزيد الكلبي رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ضاحكا، ما كان إلا مبتسما.
وروى الإمام أحمد عن أمّ الدرداء رضي الله تعالى عنها قالت: كان أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه لا يحدث بحديث إلا تبسم فيه، فقلت: إني أخشى أن يحمقك الناس فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يحدث بحديث إلا تبسم [ (5) ] .
وروى ابن المبارك عن عون بن عبد الله بن عتيبة بن مسعود رحمه الله كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يضحك إلا تبسما، ولا يلتفت إلا جميعا [ (6) ] .
__________
[ (1) ] أحمد في المسند 4/ 190 والترمذي 5/ 601 (3642) .
[ (2) ] البخاري 10/ 504 (6092) ومسلم 2/ 616 حديث (16/ 899) .
[ (3) ] تقدم.
[ (4) ] تقدم.
[ (5) ] انظر مجمع الزّوائد 1/ 131.
[ (6) ] ابن المبارك في الزّهد (47) وأحمد 5/ 97، 105 والترمذي (3645) وفي الشمائل (114) وابن أبي شيبة 9/ 114 وابن سعد 1/ 2/ 227 والحاكم 2/ 606.(7/121)
وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه في قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ [يس 65] قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، حتى بدت نواجذه، ثم قال:
«أتدرون مم ضحكت؟» فذكر الحديث.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأعلم أول رجل يدخل الجنة، وآخر رجل يخرج من النار، يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال: أعرضوا عليه صغار ذنوبه، ويخبّا عنه كبارها، فيقال له: عملت كذا وكذا، وهو يقرّ، لا ينكر، وهو يشفق من كبارها، فيقال: أعطوه مكان كل سيئة عملها حسنة، قال: فيقول أي ربّ، إن لي ذنوبا ما أراها ههنا» ،
قال أبو ذر رضي الله تعالى عنه: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ضحك، حتى بدت نواجذه.
وروى ابن أبي شيبة وأبو نعيم عن جرير رضي الله تعالى عنه قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني قط إلا تبسم في وجهي [ (1) ] .
وروى ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: بينا أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هلكت، قال: «ويحك، وما شأنك؟» قال: وقعت على أهلي في رمضان، قال: «أعتق رقبة» ، قال: لا أجد، قال: «فصم شهرين متتابعين» ، قال: ما أطيقه، قال: «فأطعم ستين مسكينا» ، ثم قال: ما بين ظهري المدينة أحوج إليه مني، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: «خذه، واستغفر ربك» [ (2) ] .
وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله كان يدخل على أم حرام بنت ملحان، فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فأطعمته، وجعلت تفلي رأسه [ (3) ] .
وروى ابن أبي الدّنيا عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ما أضحكك بأبي أنت وأمي؟ قال: «رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة، تبارك وتعالى، فقال أحدهما: يا رب، خذلي مظلمتي من أخي، قال الله تعالى: أعط أخاك مظلمته، فيقول: يا رب لم يبق من حسناتي شيء، قال: يا رب فليحمل من أوزاري، ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالبكاء، فقال: إن ذلك اليوم يوم عظيم، يوم يحتاج الناس فيه أن يحمل عنهم من أوزارهم، قال: فيقول الله تعالى: ارفع رأسك فانظر إلى الجنان،
__________
[ (1) ] الترمذي (3821، 3830) وابن أبي شيبة 12/ 152.
[ (2) ] وأخرجه البخاري 4/ 163 (1936) (6087) (6709) 6710) 6711) ومسلم 2/ 781 (81/ 1111) .
[ (3) ] البخاري 9/ 44 وأخرجه مسلم في الإمارة باب 49 (160) والترمذي (1645) والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 165.(7/122)
فرفع رأسه فقال: يا رب، أرى مدائن من فضة، وقصورا من ذهب، مكلّلة باللؤلؤ، لأي نبي هذا؟
لأي صدّيق هذا؟ قال الله تعالى: هذا لمن أعطاني الثمن، قال: يا رب ومن يملك ذلك؟ قال:
أنت تملكه، قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب قد عفوت عنه، قال الله عز وجل: خذ بيد أخيك فادخله الجنة» ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله، وأصلحوا ذات ببينكم، فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة» .
وروى عن العباس بن مرداس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا ربّه عشية عرفة لأمته.
وروى ابن عدي، وأبو بكر الشافعي عن حميد الطويل عن أبي الورد رضي الله تعالى عنه قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فرآني رجلا أحمر، فقال: «أنت أبو الورد» . وقال لخادمه أنس ابن مالك يمازحه: «يا ذا الأذنين» .
وروى قاسم بن ثابت في دلائله عن صهيب رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقباء وبين أيديهم تمر وبسر تمر، وأنا أشتكي إحدى عيني، فرفعت التمر آكله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أتأكل التمر على عينيك وأنت رمد؟» فقلت: إنما آكل على شقي الصحيح، وأنا أمزح مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى نظرت إلى نواجذه.
وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة فرفع رأسه متبسما فقيل.
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد في الزهد عن صالح أبي الخليل قال: لما نزلت:
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ [النجم 59، 60] فما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا تبسّما، ولفظ عبد بن حميد: فما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلّم ضاحكا، ولا مبتسما حتى ذهب من الدنيا.
وروى أبو الشيخ وابن حبان عن صهيب قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه.
وروى ابن أبي شيبة وأبو نعيم عن جرير بن عبد الله قال: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا ضحك [ (1) ] .
__________
[ (1) ] تقدم.(7/123)
تنبيهات
الأول: تقدم في أسمائه صلى الله عليه وسلم أن منها الضّحوك.
روى ابن الفارس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: اسمه في التوراة أحمد الضحوك، قال ابن الفارس: وإنما سمي الضحوك لأنه صلى الله عليه وسلم كان طيّب النّفس فكهاً، على كثرة من ينتابه ويفد عليه من جفاة العرب، وأجلاف أهل البوادي، لا يراه أحد ذا ضجر، ولا قلق، ولا جفاء، ولكن لطيفاً في المنطق، رفيقا في المساءلات.
الثاني: وروى أبو الحسن بن الضحاك عن ابن مسعود، وأبو الحسن بن الضحاك عن ... قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أخذه، وفي لفظ، إذا جرى به الضحك وضع يده على فيه
وروى ابن عدي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تبسم وضع يده على فيه، ويقول: «سمعت جبريل عليه السلام يقول ما ضحكت منذ خلقت جهنم» ، قال:
فما رأيت نواجذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضحك بعد ذلك، حتى قبضه الله عز وجل.
وروى أيضا عن أبي برزة رضي الله تعالى عنه قال: أكثر ما كان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تبدو رباعيته أو ترى.
الثالث: قال أبو الحسن بن الضحاك رحمه الله تعالى: صحت الأخبار، وتظاهرت، بضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير موطن، حتى تبدو نواجذه، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يضحك إلا تبسما، ويمكن الجمع بينهما بأن يقال: إن التبسم كان الأغلب عليه، فيمكن أن يكون الناقل عنه أنه كان لا يضحك إلا متبسما لم يشاهد من النبي صلى الله عليه وسلم غير ما أخبر عنه، ويكون من روي أنه ضحك، حتى بدت نواجذه قد شاهد ذلك في وقت ما فنقل ما شاهد، فلا اختلاف بينهما، لاختلاف المواطن والأوقات ويمكن أن يكون في ابتداء أمره كان يضحك حتى تبدو نواجذه في الأوقات النادرة، وكان آخر أمره لا يضحك إلا متبسما، وقد وردت عنه صلى الله عليه وسلم أحاديث تدل على ذلك، ويمكن أن يكون من روى عنه أنه كان لا يضحك إلا متبسما شاهد ضحكه، حتى بدت نواجذه نادرا، فأخبر عن الأكثر، وغلبته على القليل النادر، على أن أهل اللغة قد اختلفوا في النواجذ ما هي؟ فقال جماعة: إن النواجذ أقصى الأضراس من الفم، موضعا، فعلى هذا تتحقق المعارضة، ويمكن الجمع بين الأحاديث بما قلناه، ومنهم من قال:
النواجذ: هي الأنياب، وقال آخرون: هي الضواحك، فعلى هذا لا يكون في ظاهر الأخبار معارضة، لأن المتبسم يلزمه ذلك، قال في النهاية: النواجذ بكسر الجيم، وبالذال المعجمة، وهي من الأسنان الضواحك، وهي التي تبدو عند الضحك، والأكثر الأشهر أنها أقصى الأسنان، والمراد الأول لأنه ما كان يبلغ به الضحك حتى تبدو أضراسه، كيف وتقدم أن جل(7/124)
ضحكه التبسم؟ وإن أريد به الأواخر فالوجه فيه أن يراد به مبالغة مثله في ضحكه، من غير أن يراد ظهور نواجذه في الضحك، وهو أقيس القولين، لاشتهار النواجذ بأواخر الأسنان.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
الضحك: بضاد معجمة مفتوحة، فحاء مهملة، فكاف: التبسم.
مستجمعا: أي ما رأيته مستجمعا من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكا تاما، مقبلا بكليته على الضحك.
اللهوات: بفتح اللام: جمع لهاة، وهي اللحمة التي بأعلى الحنجرة من أقصى الفم، وهذا لا ينافيه، ما في حديث أبي هريرة من قصة المواقع أهله في رمضان بضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، رواه البخاري وهي بالجيم والذال المعجمة: الأضراس، ولا تكاد تظهر إلا عند المبالغة في الضحك، لأن عائشة رضي الله تعالى عنها إنما نفت رؤيتها، وأبو هريرة رضي الله تعالى عنه أخبر بما شاهد، والمثبت مقدم على النافي، وقد قال أهل اللغة: التبسم: مبادئ الضحك، والضحك: انبساط الوجه، حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت، وكان بحيث يسمع من بعيد فهو: القهقهة، وإلا فالضحك، وإن كان بلا صوت فهو: التبسم.
يفترّ: أي يتبسم.
حب الغمام: البرد، شبه ثغره الشريف به.
نختم: الختم التغطية على الشيء، والاستيثاق من أن لا يدخله شيء.
الجدر: بجيم، ودال مضمومتين: جمع جدار وهو الحائط، والله تعالى أعلم(7/125)
الباب الرابع والعشرون في معرفة رضاه، وسخطه صلى الله عليه وسلم
وروى أبو الشيخ عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سرّ استنار وجهه، كأنه دارة القمر [ (1) ] .
وروى أيضا عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غضب احمر وجهه [ (2) ] .
وروى عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم، إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه.
وروى أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته [ (3) ] .
وروى قاسم بن ثابت في غريبه عنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتد وجده مسح بيده على رأسه ولحيته، وتنفس الصّعداء، وقال: «حسبي الله ونعم الوكيل» فيعرف بذلك شدة غمه.
وروى البيهقي عن هند بن أبي هالة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم واسع الجبينين، أزج الحواجب، في غير قرن، بينهما عرق يدرّه الغضب، إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه [ (4) ] .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتنازع في القدر فغضب حتى احمر وجهه، كأنما ألقي على وجهه حبّ الرمّان، حتى أقبل علينا فقال: «أبهذا أمرتم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟ هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم أن لا تفعلوا» .
وروى أبو الشيخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه [ (5) ] .
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] تقدم.
[ (3) ] انظر اتحاف السادة المتقين 7/ 137.
[ (4) ] تقدم.
[ (5) ] تقدم.(7/126)
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كنا جلوسا بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم لبعض: ألم يقل الله تعالى: كذا وكذا، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فخرج فكأنما عصر على وجهه حبّ الرمان، فقال: «أبهذا أمرتم؟ أو لهذا خلقتم؟ لا تضربوا كتاب الله تعالى بعضه ببعض، إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا وانظروا إلى الذين نهيتم عنه فانتهوا عنه» [ (1) ] .
وروى الإسماعيلي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بما يستطيعون من العمل قالوا: يا رسول الله، إنا لسنا كهيأتك، أن الله تعالى قد غفر لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، فيغضب حتى يعرف ذلك في وجهه، ثم يقول: «أنا أتقاكم، وأعلمكم بالله» .
وروى الترمذي عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من بني عبد الأشهل على الصدقة فلما قدم سأله إبلا من الصدقة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى عرف الغضب في وجهه- أن تحمر عيناه- ثم قال: «إن الرجل ليسألني ما لا يصلح لي ولا له، فإن منعته كرهت المنع، وإن أعطيته أعطيته ما لا يصلح لي، ولا له» ، فقال الرجل: يا رسول الله لا أسألك شيئا منها [ (2) ] .
وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم منتصرا لنفسه قط، وكان إذا انتهك من محارم الله كان أشدهم في ذلك.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الرضا: مصدر رضي وهي في حق المخلوق: ميل النفس وانبساطها، وفي حق القديم:
عبارة عن إرادته تنعّم المرضي عنه.
السّخط: بضم السين المهملة، وسكون الخاء المعجمة، والقياس ضمها: تغير النفس، وانقباضها لأخذ الثأر، وفي حق الخالق تعالى: عبارة عن إرادته لتعذيب المغضوب عليه، فإرادته تعالى واحدة، قديمة متعلقة بما يتناهى من الإرادات، كما أن علمه واحد، ومعلوماته لا تتناهى.
الوجد: الغم: بغين معجمة مفتوحة فميم.
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي 4/ 386 (2133) ابن أبي عاصم 1/ 177 وابن حجر في المطالب (2933، 2924) وانظر المجمع 7/ 202.
[ (2) ] مالك في الموطأ (1000) .(7/127)
المس: التغطية.
الصّعداء: بضم الصاد، وفتح العين والدال المهملات: تنفس طويل.
الحواجب: تقدم الكلام عليه.
أشاح: بهمز وشين معجمة، وحاء مهملة بعد الألف: إذا بالغ في الإعراض، وجدّ فيه، ويقال أشاح إذا عدل بوجهه، وهذا معنى هذا الحرف في هذا الموضع وقيل الشيح البالغ في كل أمر أي إذا بلغ لم يكن ينتقم، ويؤاخذ، بل يقنع بالإعراض عمن أغضبه، وغض الطرف عند الفرح على نفي البطر والأشر.
غض طرفه بغين وضاد معجمتين: أي خفضه، ولم يرفعه من الحياء والخفر.(7/128)
جماع أبواب سيرته في كلامه وتحريكه يده حين يتكلم، أو يتعجب ونكشه الأرض بعود، وتشبيكه أصابعه وتسبيحه، وتحريكه رأسه، وعض شفتيه، وضربه بيده على فخذه عند التعجب صلّى الله عليه وسلم
الباب الأول في صفة كلامه صلى الله عليه وسلم
وفيه أنواع:
النوع الأول: في ترتّله.
روى أبو داود، وابن سعد عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيلا أو ترسيلا [ (1) ] .
وروى الترمذي، وابن سعد، والشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسرد الحديث كسردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام فصل، يحفظه من يجلس إليه، لو عده العادّ لأحصاه [ (2) ] .
وروى أبو داود عنها قالت: كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلا، يفهمه كل من يسمعه [ (3) ] .
وروى الخلعي عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم تكلم نزرا، وأنتم تنثرون الكلام نثرا [ (4) ] .
النوع الثاني: في إعادته صلى الله عليه وسلّم الكلمة ثلاثا لتعقل، وصح.
عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعيد الكلمة ثلاثا لتعقل عنه.
وروى أبو داود عن رجل خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حدث حديثا أعاده ثلاث مرات [ (5) ] .
وروى الإمام أحمد والبخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم سلم ثلاثا، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا [ (6) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (4838) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 6/ 567 (3568) ومسلم 4/ 1940 (160/ 2493) وأبو داود (3655) .
[ (3) ] أخرجه أبو داود (4839) .
[ (4) ] أخرجه البخاري 1/ 35 وأحمد 3/ 313 والطبراني في الكبير 8/ 342 والحاكم 4/ 273.
[ (5) ] أخرجه أبو داود (3653) .
[ (6) ] أخرجه البخاري 1/ 234، 8/ 67 والترمذي (2723) .(7/129)
وروى ابو سعد النيسابوري في شرف النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحدث بالحديث، أو سئل عنه كرره ثلاثا ليفهم عنه.
وروى أبو بكر الشافعي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم تكلم ثلاثا [ (1) ] .
النوع الثالث: في تبسمه صلى الله عليه وسلّم في حديثه.
روى أبو بكر بن أبي خيثمة عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث حديثا إلا وهو يتبسم في حديثه [ (2) ] .
وروى البخاري وابن الجوزي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم يرى كالنور من بين ثناياه.
النوع الرابع: في رفعه صلى الله عليه وسلم بصره إلى السماء إذا حدث.
روى أبو داود وقاسم بن إصبع، وبقيّ بن مخلد عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حدّث، وفي لفظ: إذا جلس يتحدث، يكبر ويرفع طرفه إلى السماء [ (3) ] .
النوع الخامس: في طول صمته، وقلة تكلمه لغير حاجة.
وروى التّرمذي وأبو الشيخ والبيهقي عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم في غير حاجة، طويل السّكت، يفتتح الكلام، ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم، فصلا لا فضول فيه، ولا تقصير [ (4) ] .
وروى الحارث بن أبي أسامة والبيهقي عن أم معبد رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سماه وعلاه البهاء، كان حسن المنطق.
وروى الإمام أحمد وأبو بكر الشافعي عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم كثير الصمت وفي لفظ طويل الصمت [ (5) ] .
النوع السادس: في كنايته صلى الله عليه وسلّم عما يستقبح ذكره.
وروى ابن ماجه ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن امرأة رفاعة القرظي جاءت
__________
[ (1) ] بنحوه عند أحمد 3/ 221.
[ (2) ] تقدم.
[ (3) ] أخرجه أبو داود (4837) .
[ (4) ] تقدم.
[ (5) ] أخرجه أحمد 5/ 91 وانظر المجمع 10/ 297.(7/130)
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أن رفاعة طلقني، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزّبير، وإنما معه مثل الهدبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة،؟ لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» [ (1) ] .
النوع السابع: في قوله صلى الله عليه وسلم مرحبا.
روى البخاري في الأدب عن علي رضي الله تعالى عنه قال: استأذن عمّار على النبي صلى الله عليه وسلم فعرف صوته، فقال: «مرحبا بالطّيّب المطيّب» [ (2) ] .
وروى فيه أيضاً عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أقبلت فاطمة رضي الله تعالى عنها تمشي- مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال: «مرحبا» ، ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله [ (3) ] .
تنبيهات
الأول: أراد هند رضي الله تعالى عنه بكونه صلى الله عليه وسلّم يفتح الكلام بأشداقه: رحب شدقيه، وأما ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في المتشدّقين، فإنه أراد به الذين يتشدقون إذا تكلموا فيميلون أشداقهم يمينا وشمالا، ويتنطعون في القول.
الثاني: قال في زاد المعاد: كان صلى الله عليه وسلّم أفصح خلق الله وأعذبهم كلاما وأسرعهم أداء، وأحلاهم منطقا، حتى كان كلامه يأخذ بالقلوب، وينعش الأرواح، وشهد له بذلك أعداؤه، وكان إذا تكلم تكلم بكلام فصل مفصل.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الترتيل: بفوقية مفتوحة، فراء ساكنة، ففوقية، فتحتية، فلام: التأني.
الترسيل: بفوقية مفتوحة، فراء ساكنة، فسين مهملة، فتحتية، فلام: الهنة والرفق والتأني.
يسرد الحديث: يسوق سياقا جيدا.
بكلام فصل: بفاء فصاد مهملة: بيّن ظاهر محكم، لا يعاب قائله، وحقيقته الفاصل بين الحق والباطل، والخطأ والصواب.
__________
[ (1) ] أخرجه من حديث ابن عباس البخاري 9/ 395 (5273) .
[ (2) ] أخرجه الترمذي (3798) وابن ماجة (146) والطبراني في الصغير 1/ 87 والحاكم 3/ 388 والخطيب في التاريخ 1/ 151، 6/ 155، 13/ 315 وأبو نعيم في الحلية 7/ 35.
[ (3) ] بنحوه أخرجه البخاري 4/ 248، 8/ 79 ومسلم 4/ 1905 (99) وابن ماجه (2621) وأحمد 6/ 282 والبخاري في الأدب المفرد (1030) وابن سعد 2/ 2/ 40 والطحاوي في المشكل 1/ 48 والبيهقي في الدلائل 6/ 364، 7/ 165 وأبو نعيم في الحلية 2/ 40.(7/131)
النزر: بنون فزاي: القليل.
السّكت: بفتح السين المهملة: السكون.
جوامع الكلم: القليلة الألفاظ، الكثيرة المعاني، جمع جامعة: وهي اللفظة الجامعة للمعاني، لا فضول فيه، والفضول من الكلام ما زاد على الحاجة وفضل، ولذلك عطف ولا تقصير.
الهدبة: بهاء مضمومة، فدال مهملة ساكنة، فموحدة: خمل الثوب.
عسيلته: بعين مهملة مضمومة، فسين مهملة مفتوحة، فتحتية ساكنة، فلام، فتاء تأنيث، وإنما أنث لأنه أراد قطعة من العسل، شبه لذة الجماع بذوق العسل، فاستعار لها ذوقا، وقيل على إعطائها معنى النّطفة، وقيل العسل في الأصل مذكر ومؤنث، فمن صغّره مؤنّثا قال عسيلة كقويسة وسمينة، وإنما صغره إشارة إلى النّزر القليل الذي يحصل به الحبل.
مرحبا: بميم مفتوحة، فراء ساكنة، فحاء مهملة، فباء موحدة: لقيت سعة.(7/132)
الباب الثاني في تكليمه بغير لغة العرب صلى الله عليه وسلّم
روى البخاري رحمه الله تعالى في باب من تكلم بالفارسية والرّطانة وأبو الشيخ وابن حبّان في باب تكلمه صلى الله عليه وسلّم بالفارسية من كتاب أخلاق النبوة [ (1) ] .
عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: قلت يا رسول الله: ذبحنا بهيمة لنا، وطحنت صاعا من شعير، فتعال أنت، ونفر، فصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع سورا فحيّ هلا بكم» [ (2) ] .
وروى أيضا عن أم خالد بنت خالد بن سعيد رضي الله تعالى عنهما قالت: قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع أبي، وعليّ قميص أصفر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «سنه سنه» ، وفي لفظ:
«سناه سناه» ، وهي بالحبشية حسنة قالت فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزبرني أبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «دعها» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أبلي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي»
قال عبد الله بن خالد بن سعيد- أحد رواته- فبقيت حتى ذكر [ (3) ] .
وروى أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كخ كخ، ألقها، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة؟» .
وروى الإمام أحمد وابن ماجه، وأبو الشيخ، بسند ضعيف، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وأنا أشتكي بطني فقال: «يا أبا هريرة أشكنب درد» ، قلت: نعم، قال: «قم فصل فإن في الصلاة شفاء» [ (4) ] .
تنبيهات
الأول: قال الإمام النووي، والطبري، والطيبي، وأبو الحسن بن الضحاك رحمهم الله تعالى: إن سورا لفظة فارسية، وقد تظاهرت أحاديث صحيحة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم بألفاظ فارسية، وهو يدل على جوازه، قال الطبري: السّور بغير همز الصنيع من الطعام الذي يدعى
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] أخرجه البخاري 4/ 290، 7/ 191، 197 وأبو داود (4024) وأحمد 6/ 365 وابن سعد 4/ 1/ 72، 8/ 170 وابن السني 264 والحاكم 2/ 63، 4/ 188 وابن عساكر كما في التهذيب 5/ 50.
[ (3) ] تقدم.
[ (4) ] ذكره الذهبي في الميزان (2698) وابن الجوزي في العلل المتناهية 1/ 170، 171.(7/133)
إليه، وقيل الطعام مطلقا، وهو بالفارسية، وقيل بالحبشية، وبالهمز بقية الشرب، والأول: هو المراد هنا، قال الإسماعيلي: السّور كلمة بالفارسية والعربية فقيل له: أليس هو الفضلة؟ فإن لم يكن هناك شيء فضل ذلك منه إنما هو بالفارسية من أتى دعوة.
الثاني: قال الحافظ رحمه الله تعالى: أشار البخاري رحمه الله تعالى إلى ضعف ما ورد من الأحاديث في كراهة الكلام بالفارسية كحديث: كلام أهل النار بالفارسية، وكحديث من تكلم بالفارسية زادت، أو نقصت مروءته، رواه الحاكم في مستدركه، وروى عنه أيضاً عن عمر مرفوعا من أحسن العربية فلا يتكلم بالفارسية وسنده واه.
الثالث: نازع الكرماني رحمه الله تعالى في كون هذه الألفاظ الثلاثة عجمية، لأن الأول يجوز أن يكون من توافق اللغتين، والثاني يجوز أن يكون أصله حسنة، فحذف أوله إيجازا والثالث من أسماء الأصوات.
وأجاب ابن المنير عن الآخر فقال: وجه مناسبته أنه صلى الله عليه وسلّم خاطبه بما يفهمه مما لا يتكلم به الرجل مع الرجل فهو كمخاطبة الأعجمي بما لا يفهم مما لا يكلمه من لقيه، قال الحافظ:
وبهذا يجاب عن الباقي، ويزاد بأن تجويز حذف أول جزء من كلمة لا يعرف.
الرابع: قوله لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أشكنب درد قال الشّمنّي في حاشيته الشفا: بفتح الهمزة، وسكون المعجمة، وفتح الكاف بعدها نون ساكنة، فموحدة، كذلك، فدالين مهملتين، أولاهما مفتوحة وبينهما راء: وأشكنب معناه بالفارسية البطن ودرد الوجع، لم يتعرض ابن الملقّن، ولا شيخنا الجلال الأسيوطي، في تعليقهما على سنن ابن ماجه بصحة ذلك، ولا ذكر له في النهاية لابن الأثير.
الخامس: قال أبو الفرج بن الجوزي في الجامع حديث أبي هريرة أي الأخير قد روي من طريق لا يعرف مدارها على ليث بن سليم، وكان قد اختلط في آخر عمره.
قال ابن الإصبهاني: ليس له، بل أبو هريرة لم يكن فارسيا، وإنما مجاهد فارسي، فعلى هذا يكون المتكلم بالفارسية أبو هريرة مع مجاهد، وقوله أشكنب درد فارسية ومعناها اشتكيت بطنك؟ انتهى، قلت: فيما قاله نظر، لأن في قوله أن أبا هريرة، لم يكن فارسيا، ثم قال: فعلى هذا يكون المتكلم بالفارسية أبا هريرة مع مجاهد تناقض فليتأمل.
السادس: في بيان غريب ما سبق:
الفارسية: بفاء، فألف، فراء، فسين مهملة مكسورة، فتحتية مفتوحة: لغة منسوبة إلى(7/134)
فارس، وهم جيل من الناس معروف.
الرّطانة: براء بفتح وبكسر، فطاء مهملة، فألف، فنون، فتاء تأنيث: كلام لا يفهمه الجمهور، إنما هو ملصق بين اثنين، أو جماعة، والعرب تحقق به كلام العجم.
سورا: بسين مهملة مضمومة، فواو، فألف: طعاما لفظة فارسية.
زبرني: بزاي، فموحدة، فراء مفتوحات، فنون، فتحتية، انتهرني، وأغلظ لي في القول.
أبلي وأخلقي كخ كخ: بفتح الكاف وكسرها، وسكون المعجمة، مثقّلا، ومخففا، وبكسرها منونة، وغير منونة فيخرج من ذلك ست لغات، والثاني، وهي كلمة تقال لردع الصبي عند تناوله ما يستقذر، وقيل: عربية، وقيل: أعجمية وزعم بعضهم أنها معربة، أوردها البخاري في باب من تكلم بالفارسية.(7/135)
الباب الثالث في تحريكه يده حين يتكلم، أو يتعجب، وتسبيحه، وتحريكه رأسه، وعضه شفتيه، وضربه يده على فخذه عند التعجب، ونكشه الأرض بعود، ومسحه الأرض بيده وتشبيكه أصابعه
وفيه أنواع:
الأول: في تحريكه يده حين يتكلم أو يتعجب.
روى الترمذي في الشّمائل وابن سعد، والبيهقي عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها، وضرب براحته اليمنى بطن إبهامه اليسرى، وفي رواية: يضرب بإبهامه اليمنى باطن راحته اليسرى [ (1) ] .
الثاني: في تسبيحه عند التعجب.
روى البخاري عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«سبحان الله ماذا أنزل من الخزائن؟ وماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجر» - يريد به أزواجه، حتى يصلين؟ «رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» [ (2) ] .
الثالث: في تحريكه رأسه وعضه شفته عند التعجب.
الرابع: في ضربه يده على فخذه عند التعجب.
روى الشيخان وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم طرقه، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا تصلون؟» فقلت: يا رسول الله فإذا شاء الله أن يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت ذلك، ولم يرجع إلي شيئا، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه، ويقول: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف 54] .
الخامس: في نكشه الأرض بعود.
روى البخاري عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حائط من حوائط المدينة، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم عود يضرب به في الماء، وفي لفظ: بين الماء والطين، فذكر الحديث.
وروي أيضاً عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فجعل ينكش الأرض بعود، فقال: «ليس منكم من أحد إلا وقد فرغ من مقرّه في الجنة أو النار»
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] أخرجه البخاري 13/ 20 (7069) وسيأتي.(7/136)
فقالوا: أفلا نتكل؟ قال: «اعملوا فكلّ ميسّر لما خلق له فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الآية [ (1) ]
[الليل 5] .
السادس: في مسحه الأرض بيده.
روي عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كذب عليّ فليشهد بجنبيه مضجعا من النار» وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول ذلك، ويمسح الأرض بيده.
السابع: في إشارته صلى الله عليه وسلم بإصبعيه السبابة والوسطى.
وروى الطبراني برجال ثقات عن ابن مسعود، والإمام أحمد برجال الصحيح، والبزّار عن بريدة، والإمام أحمد، والبزار، والطبراني برجال ثقات عن وهب السّوائي والطبراني عن سهل ابن سعد، والطبراني عن أنس والطبراني بسند جيد عن أبي جبيرة الأنصاري رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت أنا والسّاعة جميعا كهاتين وفي لفظ كهذه من هذه» ، وجمع بين السبابة والوسطى، وأشار بهما، «وإن كادت تسبقني» [ (2) ] .
الثامن: في تشبيكه أصابعه صلّى الله عليه وسلم.
روى البخاري عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه [ (3) ] .
روى الشيخان والبيهقي، والبخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العشاء، فصلى بنا ركعتين، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه.
وروى مسلم أيضا قال: شبّك بيدي أبو القاسم، وفي لفظ أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «خلق الله الأرض يوم السبت، والجبال يوم الأحد، والشجر يوم الاثنين والمكروه يوم الثلاثاء، والنّور يوم الأربعاء، والدواب يوم الخميس، وآدم يوم الجمعة» .
وروى البخاري في رواية حمّاد بن شاكر والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 211، 212، 8/ 59، 154 ومسلم في القدر 6/ 7 وأبو داود في الستة باب (16) والترمذي (2136) (3344) وأحمد 1/ 82، 140، 153 والطبراني في الكبير 4/ 280 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (1809) .
[ (2) ] تقدم.
[ (3) ] البخاري 10/ 449 في الأدب (6026) ومسلم 4/ 1999 في كتاب البر (65/ 2585) .(7/137)
قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بفناء الكعبة محتبيا بيده هكذا- زاد البيهقي وشبك بين أصابعه.
وروى أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة، ويبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا، وكانوا هكذا؟» وشبك بين أصابعه [ (1) ] .
وروى البزار عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنتم في قوم مرجت عهودهم وأيمانهم وأماناتهم وصاروا هكذا؟» وشبك بين أصابعه [ (2) ] .
وروى الطبراني عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: «كيف ترون إذا أخرجتم في زمان حثالة من الناس قد مرجت عهودهم ونذورهم فاشتبكوا فكانوا هكذا؟» وشبك بين أصابعه، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:
«تأخذون ما تعرفون، وتدعون ما تنكرون، ويقبل أحدكم على خاصّة نفسه، ويذر أمر العامة» [ (3) ] .
وروى الطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كنت في حثالة من الناس، واختلفوا حتى يكونوا هكذا؟» وشبك بين أصابعه، قال: الله ورسوله أعلم، قال: «خذ ما تعرف ودع ما تنكر» [ (4) ] .
وروى الإمام الشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي بسند صحيح على شرط مسلم عن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنا نحن وبنو المطلب شيء واحد» ، وشبك بين أصابعه.
وروى البيهقي في الزهد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيف أنت إذا كنت في حثالة من الناس؟» وشبك بين أصابعه، قلت: يا رسول الله ما تأمرني؟
قال: «اصبر اصبر اصبر» ثلاثا، «خالقوا الناس بأخلاقهم، وخالفوهم في أعمالهم» .
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دفن العبد الكافر يقول له القبر لا مرحبا ولا أهلا، ثم يلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه» ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصابع يديه فشبكها [ (5) ] .
وروى مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه جاء في حديث الحج قال: قام
__________
[ (1) ] أبو داود في كتاب الملاحم باب (17) وابن ماجة (3957) .
[ (2) ] انظر المجمع 7/ 283 والكنز (31142) .
[ (3) ] الطبراني في الكبير 6/ 253 وأبو داود في الملاحم وابن ماجة (3957) وانظر المجمع 7/ 279.
[ (4) ] انظر المجمع 7/ 275، 279 والعزلة للخطابي ص 9.
[ (5) ] أخرجه الترمذي (2460) .(7/138)
سراقة فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في الأخرى، وقال: «دخلت العمرة في الحج مرتين» [ (1) ] .
وروى ابن عساكر عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي المؤمنين أحلم؟» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «إذا اختلفوا» ، - وشبك بين أصابعه- «وأبرّهم أبصرهم بالحق، وإن كان في عمله تقصير، وإن كان يزحف زحفا» [ (2) ] .
تنبيهات
الأول:
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا إلى المسجد فلا يشبكن يده فإنه في صلاة،
وفي رواية للإمام أحمد عن كعب بن عجرة قال: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقد شبكت بين أصابعي، فقال لي: «يا كعب إذا كنت في المسجد فلا تشبك بين أصابعك، فأنت في صلاة ما انتظرت الصلاة» .
الثاني: قال الحافظ حديث أبي موسى دال على جواز التشبيك مطلقا، وحديث أبي هريرة دال على جوازه في المسجد، وإذا جاز في المسجد فهو في غيره أجوز، وبسط الكلام على ذلك، وقد ذكرته مع كلام غيره في كتاب سفينة السلامة.
الثالث: قال ابن المنير: التحقيق أنه ليس بين الأحاديث تعارض إذا النهي عن فعله على وجه العبث، جمع الإسماعيلي بأن النهي يقيد بما إذا كان في صلاة، أو قاصدا إليها، إذ منتظر الصلاة في حكم المصلى، وقيل إن حكمة النهي عنه لمنتظر الصلاة أن التشبيك يجلب النوم، وهو من نظام الحديث، وقيل: إن صورته تشبه صورة الاختلاف، فكره ذلك لمن هو في حكم الصلاة حتى لا يقع في النهي، وهو
قوله صلى الله عليه وسلم للمصلين: «ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم» ،
وقال الحافظ مغلطاي في شرح البخاري: زعم بعضهم أن هذه الأحاديث التي أوردها البخاري في هذا الباب معارضة بحديث النهي قال ابن بطال: إن حديث النهي يساوي هذه الأحاديث في الصحة، قال: الأكثر حديث النهي مخصوص بالصلاة، وهو قول مالك، روي عنه أنه قال: إنهم ينكرون تشبيك الأصابع في المسجد، وما به بأس، وإنما يكره في الصلاة، ورخص فيه ابن عمر، وسالم ابنه، وكانا يشبكان بين أصابعهما في الصلاة، ثم قال مغلطاي: والتحقيق أنه ليس بين حديث النهي عن التشبيك وبين تشبيكه صلى الله عليه وسلم بين أصابعه معارضة، لأن النهي إنما ورد
__________
[ (1) ] سيأتي في الحج.
[ (2) ] أحمد 4/ 244 والطبراني في الكبير 19/ 153 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (315) والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 231.(7/139)
فعله في الصلاة أو في المضي إليها، وفعله صلى الله عليه وسلّم ليس في صلاة، ولا في المضي إليها، ويبقى كل حديث على حياله انتهى.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
براحته: براء فألف فحاء مهملة مفتوحة فتاء تأنيث.
السّبّابة: بسين مهملة فموحدتين بينهما ألف مفتوحات فتاء تأنيث: الإصبع التي بين الوسطى والإبهام، سميت بذلك لأن العرب تشير بها عند السب.
فناء الكعبة: بفاء مكسورة فنون فألف: المتسع أمامها.
الاحتباء: بحاء مهملة فمثناة فوقية فموحدة فألف ممدودة، قال القاضي عياض: الاحتباء الجلوس قائم الركبتين جامعا يديه على ركبتيه، مشبكا بين أصابعهما، أو جامعا إحداهما بالأخرى، زاد غيره: أو بسيف أو بثوب أو غير ذلك.
الحثالة: بحاء مهملة مضمومة فمثلثة فألف فلام فتاء تأنيث الرديء من كل شيء.
مرجت عهودهم: بميم مفتوحة فراء مكسورة فجيم فتاء تأنيث: اختلطت.(7/140)
الباب الرابع في بعض ما ضربه من الأمثال صلّى الله عليه وسلم
وروى الإمام أحمد برجال ثقات عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم غرز بين يديه غرزا، ثم غرز إلى جنبه آخر، ثم غرز إلى جنبه الثالث فأبعده، ثم قال: «هل تدرون ما هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «هذا الإنسان، وهذا أجله، وهذا أمله، يتعاطى الأمل يختلجه الآجل دون ذلك» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد عن أبي رزين العقيلي رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ قال: «أمررت بأرض من أرضك مجدبة ثم مررت بها مخصبة؟» قال: نعم، قال: «كذلك النشور» [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد برجال ثقات عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سار في الشتاء، والورق يتهافت فقال: «يا أبا ذر» ، فقلت: لبّيك يا رسول الله قال: «إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله فتهافت عنه ذنوبه كما تهافت هذا الورق عن هذه الشجرة» [ (3) ] .
وروى الطبراني بسند جيد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب مثل الرزق كمثل حائط له باب فما حول الباب سهولة، وما حول الحائط وعر وعث فمن أتاه من قبل بابه أصابه كلّه وسلّم، ومن أتاه من قبل حائطه وقع في الوعر والوعث حتى إذا انتهى إليه لم يكن له إلا الرزق الذي يسره الله تعالى له.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: علقت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألف مثل.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
يختلجه الأجل: بتحتية مفتوحة فخاء معجمة ساكنة ففوقية فلام فجيم فهاء: أي يقتطعه، بمعنى أنه ينقطع وينقضي سريعا.
__________
[ (1) ]- أخرجه أحمد 3/ 18.
[ (2) ] ابن المبارك 2/ 31 وابن كثير في التفسير 5/ 394.
أحمد 5/ 179.
[ (3) ] انظر المجمع 2/ 248.(7/141)
الغصن: بغين معجمة مضمومة فصاد مهملة ساكنة فنون: واحد الأغصان، ويجمع أيضا على غصن، وهي أطراف الشجر ما دامت فيها ثابتة.
وعر: بواو مفتوحة فعين مهملة فراء ضد السهل.
وعث: بواو فعين مهملة مفتوحتين فمثلثة المكان السهل الدّهس تغيب فيه الأقدام والطريق العسر ككتف كالوعث.(7/142)
الباب الخامس في قوله صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه، ويحك وويلك، وتربت يداك، وأبيك، وغير ذلك مما يذكر
وروى البخاري في الأدب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يسوق بدنة فقال: «اركبها» ، فقال: يا رسول الله إنها بدنة فقال: «اركبها» ، فقال: إنها بدنة، فقال في الثالثة والرابعة: «اركبها ويحك» [ (1) ] .
وروى البخاري في الأدب عن حمنة بنت جحش رضي الله تعالى عنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما هي يا هنتاه؟» [ (2) ] .
وروى البخاري في الأدب عن أبي عقرب [ (3) ] رضي الله تعالى عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصوم قال: «صم يوما من كل شهر» ، قلت: بأبي أنت وأمي زدني، زدني قال: «صم يومين من كل شهر» ، قلت: بأبي أنت وأمي زدني، فإني أجدني قويا، قال: «إني أجدني قويا، إني أجدني قويا فأفحم حتى ظننت أنه يردّني» ، ثم قال: «صم ثلاثة من كل شهر» [ (4) ] .
وروى البخاري في الأدب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أيّ الصدقة أفضل أجرا؟ قال: «أمّك، وأبيك لتنبأنّ أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر، وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان» [ (5) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
حمنة: بحاء مفتوحة فميم ساكنة فنون فتاء تأنيث.
يا هنتاه: بهاء مفتوحة فنون تفتح وتكسر ففوقية فألف فهاء تسكن وتضم: أي يا هذه قاله الجوهري، وهذه التحتية للنداء وقيل معناها يا بلهاء.
شحيح: بخيل.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 3/ 536 (1689) ومسلم 2/ 960 (371/ 1322) .
[ (2) ] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (797) .
[ (3) ] أبو عقرب البكري.. من بني عريج بمهملة وجيم مصغرا ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة وقيل فيه ليثي وهو غلط مختلف في اسمه فقيل خالد بن بحير وقيل عويج بفتح أوله وبالواو ابن خالد.
[ (4) ] أخرجه النسائي 4/ 225 وأحمد 5/ 67.
[ (5) ] البخاري 3/ 284 (1419) ومسلم 2/ 716 (92/ 1032) .(7/143)
جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وسلّم في الاستئذان والسلام والمصافحة والمعانقة والتقبيل- زاده الله شرفاً وفضلاً لديه
الباب الأول في آدابه في الاستئذان
وفيه أنواع:
الأول: في أنه لم يكن يستقبل الباب بوجهه:
روى الإمام أحمد وأبو داود والبخاري في الأدب عن عبد الله بن بسر المازني رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم يمشي مع الجدار، ولم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر، ويقول: «السلام عليكم» ، فإن أذن له وإلا انصرف، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور [ (1) ] .
الثاني: في تعليمه من لا يحسن الاستئذان، وكراهته قول المستأذن أنا فقط.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن زيد بن حراش قال: جاء رجل من بني عامر فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في البيت فقال: أألج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لخادمه: «اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: قل السلام عليكم أأدخل؟» فسمع الرجل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم أأدخل؟ فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر دين كان على أبي، فدفعت الباب فقال: «من ذا؟» فقلت: أنا، فخرج وهو يقول: «أنا أنا» كأنه يكرهه [ (3) ] .
وروى الترمذي- وحسنه- والنّسائي عن كلدة بن حنبل أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبن وجذابة وضعابيس، والنبي صلى الله عليه وسلّم بأعلى الوادي، قال: فدخلت ولم استأذن فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارجع فقل السلام عليكم أأدخل؟» [ (4) ] .
الثالث: في إرادته صلى الله عليه وسلّم فقأ عين من اطلع من خصاصة الباب من غير استئذان.
روى البخاري في الأدب عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن أعرابيا أتى بيت
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (5186) وانظر الدر المنثور 5/ 39 وابن كثير في التفسير 6/ 37.
[ (2) ] أخرجه أبو داود (5177) والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 340.
[ (3) ] أخرجه البخاري 11/ 35 (6250) ومسلم 3/ 1697 (38/ 2155) .
[ (4) ] أبو داود (5176) والترمذي (2710) أحمد 3/ 414 والبيهقي 8/ 340 وابن السني 658 والبخاري في الأدب (1081) وفي التاريخ 7/ 241 وانظر الدر المنثور 5/ 38.(7/144)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاستفتح من خصاصة الباب، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم سهما أو عودا محدّدا فتوخّى الأعرابي ليفقأ عين الأعرابي، فذهب فقال: «أما إنك لو ثبت لفقأت عينك» [ (1) ] .
وروى البخاري في الأدب عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن رجلا اطلع من جحر في باب النبي صلى الله عليه وسلّم، ومع النبي صلى الله عليه وسلّم مدرى يحك به رأسه فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك» ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الاستئذان من أهل البصر» [ (2) ] .
الرابع: في كيفية استئذانه.
روي عن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما قال: زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته» ، فرد سعد ردا خفيّا قال: فقلت: ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذره يكثر علينا من السلام، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قضينا ما علينا» [ (3) ] .
الخامس: في رجوعه إذا استأذن ثلاثا فلم يؤذن له.
روى ابن أبي شيبة والإمام أحمد عن أم طارق مولاة سعد رضي الله تعالى عنه قالت: جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد فاستأذن فسكت سعد، ثم أعاد فسكت سعد، ثم أعاد فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فأرسلني سعد إليه وقال إنه لم يمنعنا أن نأذن لك إلا أردنا أن تزيد الحديث.
السادس: في قوله صلى الله عليه وسلّم لبيك لمن استأذن عليه.
وروى أبو يعلى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلا نادى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثلاثا، كل ذلك يرد عليه: «لبيك لبّيك» [ (4) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الجدار: بجيم مكسورة فدال مهملة فألف فراء: الحائط.
الستر: بسين مهملة مفتوحة فمثناة فوقية ساكنة فراء: التغطية.
الجذابة: بجيم فذال فموحدة مفتوحات فتاء تأنيث الجذب، وهو شحم النخل أحدها جذبة.
ضعابيس: بضاد معجمة فعين مهملة فألف فموحدة مكسورة فتحتية فسين مهملة:
صغار القثّاء واحدها ضعبوس.
الخصاصة: بخاء معجمة فصادين مهملتين بينهما ألف فتاء تأنيث: الفرجة.
توخى: بفوقية فواو فخاء مفتوحات فتحتية: قصد.
__________
[ (1) ] النسائي 8/ 60 والبخاري في الأدب (1091) والطبراني في الكبير 1/ 227 والطحاوي في المشكل 1/ 405.
[ (2) ]- البخاري في الأدب المفرد (1070) ومسلم في الأدب باب 9 (41240) . والحميدي (924) والدارمي 2/ 198.
والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 338. والشافعي كما في البدائع (1445) .
[ (3) ]- البخاري في الأدب المفرد (1073) .
[ (4) ]- انظر المجمع 9/ 20.(7/145)
الباب الثاني في آدابه صلّى الله عليه وسلم
وفيه أنواع:
الأول: في تكريره السلام.
روى البخاري والترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم سلم ثلاثا حتى يفهم عنه [ (1) ] .
الثاني: في سلامه على الأطفال والنساء.
وروى الشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه مر على صبيان فسلم عليهم وقال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفعله [ (2) ] .
وروى أبو داود عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على غلمان يلعبون فسلم عليهم [ (3) ] .
وروي أيضا عنه قال: انتهى إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلام في غلمان فسلم علينا، فأخذ بيدي، فأرسلني برسالة، وقعد في جدار، أو قال إلى جدار حتى رجعت [ (4) ] .
وروى أيضاً وابن ماجة عن أسماء بنت يزيد قالت: مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في نسوة فسلم علينا [ (5) ] .
وروى التّرمذي والبخاري في الأدب عنها قالت: مر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يوما ونحن عصبة من النساء قعود فألوى بيده في التسليم [ (6) ] .
وروى الإمام أحمد وابن أبي شيبة وأبو يعلى عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم مر بنساء فسلم عليهن [ (7) ] .
وروى البخاري في الأدب عن أسماء بنت يزيد الأنصارية رضي الله تعالى عنها قالت:
مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا في جوار أتراب لي فسلم علينا.
الثالث: فيما كان يقوله إذا بلّغ السلام عن أحد.
__________
[ (1) ]- تقدم.
[ (2) ]- تقدم.
[ (3) ]- قدم.
[ (4) ]- تقدم.
[ (5) ]- أخرجه أبو داود (5204) ومن حديث جزير أخرجه أحمد 4/ 357 وابن السني ص 63 (224) .
[ (6) ]- الترمذي (2697) والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 24.
[ (7) ]- أحمد 4/ 357 وابن السني ص 63 (224) .(7/146)
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن غالب القطّان عن رجل من بني نمير عن أبيه عن جده أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي يقرأ عليك السلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «عليك وعلى أبيك السلام» [ (1) ] .
الرابع: في كيفية رده على اليهود.
وروى الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: السام عليك، فقال: «عليكم» ، فقالت عائشة: السّام عليكم، ولعنكم الله، وغضب عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا عائشة عليك بالرفق، وإياك والفحش» ، قالت:
أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: «أو لم تسمعي ما قلت؟ أنا رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في» [ (2) ] .
وروى البخاري في الأدب عن أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في المسجد وعصبة من النساء قعود قال بيده اليمنى بالسلام- الحديث [ (3) ] .
وروى مسدد مرسلا برجال ثقات عن أبي برزة رحمه الله تعالى إن رجلا من المشركين كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسلام فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليه السلام.
الخامس: في إشارته بيده بالسلام.
روى البخاري في الأدب عن أسماء رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في المسجد وعصبة من النساء قعود قال بيده اليمنى بالسلام.
السادس: في تركه السلام وعدم رده على من اقترف ذنبا حتى يتبين توبته.
وروي عن أبي برزة رحمه الله تعالى إن رجلا من المشركين كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالسلام فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليه السلام.
وروى البخاري عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال في حديث تخلفه عن تبوك قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، وكنت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأسلم عليه فأقول في نفسي هل حرك شفتيه برد السلام أو لا؟ حتى قال حين ليلة، وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الصبح.
وروى أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: مر رجل عليه ثوبان أحمران فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يرد عليه.
__________
[ (1) ] أبو داود (5231) وأحمد 5/ 366 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 361 وابن السني (234) وابن أبي شيبة 9/ 122 وأبو نعيم في الحلية 7/ 258.
[ (2) ]- أخرجه البخاري 11/ 200 (6401) .
[ (3) ]- أخرجه النسائي 3/ 40، 41.(7/147)
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه قال: قدمت على أهلي ليلا وقد تشققت يداي فضمّخوني بالزعفران فعدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسلمت عليه، فلم يرد علي، ولم يرحب بي، وقال: «اغسل هذا عنك» ، قال: فذهبت فغسلته، ثم جئت فسلمت عليه فرد علي ورحب بي، وقال: «إن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر ولا المتضمّخ بالزعفارن ولا الجنب» .
وروى البخاري في الأدب عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: أقبل رجل من البحرين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم فلم يرد عليه، وفي يده خاتم ذهب وعليه جبة حرير، فانطلق الرجل محزونا فشكا إلى امرأته فقالت: لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم جبتك وخاتمك فألقها، ثم عد، ففعل فرد عليه السلام فقال جئتك آنفا فأعرضت عني، قال: «كان في يدك جمر من نار» .
الحديث.
وروي أيضاً في الأدب عن علي رضي الله تعالى عنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قوم فيهم رجل متخلّق بخلوق فنظر إليهم وسلّم عليهم وأعرض عن الرجل، فقال الرجل: أعرضت عني، فقال: «بين عينك جمرة» .
السابع: في تبلغيه السلام.
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتاني جبريل فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه طعام وإدام وشراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها من ربها السلام ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه. ولا نصب» .
وروى النسائي والحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أن الله تعالى يقرأ على خديجة السلام، فقالت: إن الله عز وجل هو السلام وعلى جبريل السلام ورحمة الله وبركاته.
الثامن: في رده من دخل ولم يسلم.
روى البخاري في الأدب عن كلدة بن حنبل [ (1) ] أن صفوان بن أمية [ (2) ] بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الفتح بلبن وجذابة وضعابيس، قال أبو عاصم، يعني البقل، والنبي صلى الله عليه وسلّم بأعلى الوادي قال: فدخلت ولم أسلم، ولم أستأذن، فقال: «ارجع فقل: السلام عليكم أأدخل؟» وذلك بعد ما أسلم صفوان [ (3) ] .
__________
[ (1) ] كلدة بن الحنبل، ويقال ابن عبد الله بن الحنبل الجمحي، المكّي، صحابي، له حديث، وهو أخو صفوان بن أمية لأمّه.
التقريب 2/ 136.
[ (2) ] صفوان بن أمية بن خلف بن وهب بن قدامة، بن جمح القرشي، الجمحي المكي، صحابي من المؤلفة، مات أيام قتل عثمان، وقيل سنة إحدى واثنتين وأربعين، في أوائل خلافة معاوية التقريب 1/ 367.
[ (3) ] أخرجه البخاري في الأدب (1081) وفي التاريخ 7/ 241 وأبو داود (5176) والترمذي (2710) وأحمد 3/ 414.(7/148)
التاسع: في رجوعه إذا سلم ثلاثا فلم يؤذن له.
روى ابن أبي شيبة والإمام أحمد عن أم طارق مولاة سعد رضي الله تعالى عنهما قالت:
جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد فاستأذن فسكت سعد ثم أعاد فسكت سعد ثم أعاد فسكت سعد فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فأرسلني سعد إليه أنه لم يمنعنا أن نأذن لك إلا أنا أردنا أن تزيد الحديث.
وروى البخاري في الأدب عن أبي موسى وابن مسعود وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهم قالوا: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد سعيد بن عبادة حتى أتاه فسلم فلم يؤذن له ثم سلم الثانية ثم الثالثة فلم يؤذن له فقال: قضينا ما علينا ثم رجع فأذن له سعد فقال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق نبيا ما سلمت من مرة إلا وأنا أسمع وأرد عليك، ولكن أحببت أن تكثر من السلام عليّ وعلى أهل بيتي.
العاشر: في صفة سلامه على المستيقظ بحضرة النائم.
روى البخاري في الأدب عن المقداد بن الأسود [ (1) ] رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيء من الليل فيسلم تسليما لا يوقظ نائما، ويسمع اليقظان [ (2) ] .
تنبيه: في بيان ما سبق:
العصبة: بعين مضمومة، فصاد ساكنة مهملتين، فموحدة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين.
تراب: بكسر المثناة الفوقية وأتراب جمع ترب بكسر المثناة الفوقية وسكون الراء: اللّدة والسن: أي كلهم من عمر واحد.
السّام: بفتح المهملة وسكون الألف: الحجارة.
ضمّخوني: بضاد معجمة فميم مفتوحتين، فخاء معجمة فواو فنون: نفحه أهله بالطيب.
آنفا: بهمزة ممدودة وكسر النون: أي الساعة أي في أول وقت يقرب منا.
القصب: بفتح القاف والمهملة بعدها موحدة أي قصب اللؤلؤ.
الصّخب: بفتح الصاد المهملة والخاء المعجمة فموحدة الصياح والمنازعة برفع الصوت.
النّصب: بفتح النون والصاد المهملة فالموحدة التعب.
__________
[ (1) ] المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة البهراني ثم الكندي، ثم الزهري، حالف أبوه كندة، وتبناه الأسود بن عبد يغوث الزهري، فنسب إليه، صحابي مشهور، من السابقين، لم يثبت أنه كان ببدر فارس غيره، مات سنة ثلاث وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة. التقريب 2/ 272.
[ (2) ] انظر فتح الباري 11/ 18.(7/149)
الباب الثالث في آدابه في المصافحة والمعانقة والتقبيل
وفيه أنواع:
الأول: في مصافحته.
روى الإمام أحمد عن أبي إسحاق قال: لقيت البراء بن عازب فسلم علي وأخذ بيدي وضحك في وجهي، وقال: أتدري لم فعلت هذا بك؟ قلت: لا أدري، ولكن لا أراك فعلت إلا الخير، قال: إنه لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ففعل بي مثل الذي فعلت بك، فسألني فقلت مثل الذي قلت لي،
فقال: «ما من مسلمين يلتقيان فسلم أحدهما على صاحبه ويأخذ بيده لا يأخذ بيده إلا الله، فلا يفترقان حتى يغفر لهما» [ (1) ] .
وروى النسائي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا لقي الرجل من أصحابه مسحه ودعا له [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد عن رجل من عنزة أنه قال لأبي ذر حين سيّر من الشام: إني أريد أن أسألك عن حديث من حديث رسول الله قال أبو ذر: إذن أخبرك إلا أن يكون سرا، قلت: إنه ليس بسر، هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إلى يوما ولم أكن في البيت فلما جئت أخبرت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته وهو على سرير، فالتزمني فكأنه تلك أجوب أجود [ (3) ] .
الثاني: في تقبيله وتقبيل يده ورجله.
روى ابن ماجة عن صفوان بن عسّال أن قوما من اليهود قبلوا يد النبي صلى الله عليه وسلم ورجليه [ (4) ] .
وروى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحسن بن علي [ (5) ] .
وروى الإمام أحمد والشيخان وابن ماجه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قدم ناس من الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا: أتقبلون صبيانكم؟ قالوا: نعم قالوا: لكنا والله ما نقبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولذلك أن الله تعالى نزع منكم الرحمة» [ (6) ] .
__________
[ (1) ]- أخرجه أحمد 4/ 289، 303.
[ (2) ]- أخرجه النسائي في الطهارة باب 169.
[ (3) ]- تقدم وانظر المسند 5/ 168.
[ (4) ]- ابن ماجة 1/ 1221 (3705) .
[ (5) ]- تقدم.
[ (6) ]- تقدم.(7/150)
وروى الشيخان في الأدب عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت أحدا كان أشبه حديثاً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة كانت إذا دخلت عليه قام إليها ورحب بها وقبلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده، ورحبت به، وقبلته وأجلسته في مجلسها، فدخلت عليه في مرضه الذي توفي فيه فرحب بها وقبلها [ (1) ] .
وروى البخاري في الأدب وأبو يعلى وابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة قلنا: كيف نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فررنا؟ فنزلت: إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ [الأنفال 16] فقلنا: لا نقدم المدينة، فلا يرانا أحدا، فقلنا: لو قدمنا فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة الفجر
فقلنا: يا رسول الله نحن الفرارون، قال: «أنتم العكارون» فقلنا: بلى قال: «أنا فئتكم» [ (2) ] .
وروى البخاري في الأدب عن الوازع بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: قدمنا فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخذنا بيديه ورجليه نقبلهما [ (3) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
المصافحة: بميم مضمومة فصاد مهملة فألف ففاء فحاء مهملة: الأخذ باليد.
التّرمني: اعتنقني.
التقبيل: القبلة اللّثمة والجمع قبل وفعله التقبيل.
حاص: بحاء فصاد مهملتين بينهما ألف: جال جولة عظيمة.
المتحرف: تقدم الكلام عليه في باب المغازي.
الناس: الجماعة.
__________
[ (1) ]- البخاري في الأدب (321) .
[ (2) ]- أحمد 2/ 100 والبخاري في الأدب (972) والدر المنثور 3/ 174.
[ (3) ]- انظر الأدب المفرد ص (339) .(7/151)
جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وسلّم في جلوسه واتكائه وقيامه ومشيه
الباب الأول في آداب جلوسه واتكائه صلى الله عليه وسلم
وفيه أنواع:
النوع الأول: في جلوسه حيث انتهى به المجلس.
روى أبو نعيم رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انتهى به المجلس جلس حيث انتهى به المجلس، ويأمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
النوع الثاني: في صفة جلسته واحتبائه وآدابه في ذلك
وفيه أنواع:.
الأول: في قعوده القرفصاء.
روى البخاري في الأدب وأبو يعلى عن قيلة- بفتح القاف وسكون المثناة التحتية بعدها لام- بنت مخرمة رضي الله تعالى عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قاعدا القرفصاء [ (1) ] .
وروى أبو نعيم عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلس القرفصاء.
الثاني: في تربعه.
روى البخاري في الأدب عن حنظلة بن خذيم رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته جالسا متربعا [ (2) ] .
وروى ابن أبي شيبة عن جابر بن صخرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه حتى تطلع الشمس حسنا.
الثالث: في احتبائه.
روى البخاري في الأدب عن سليم بن جابر الهجيمي رضي الله تعالى عنه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتب في بردة فإن هدّابها لعلى قدميه» الحديث.
وروى البخاري في الأدب والنسائي والبزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن
__________
[ (1) ]- أبو داود 5/ 176 (4847) والترمذي (2814) .
[ (2) ]- وأخرجه أبو داود (4846) .(7/152)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل يوما المسجد، وأنا معه، فجلس فاحتبى الحديث.
وروى أبو داود والترمذي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس احتبى بيديه، زاد البزّار ونصب ركبتيه.
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بفناء الكعبة محتبيا بيده هكذا.
وروى الحسن بن سفيان عن أبي بن كعب رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحتبي على ركبتيه، وكان لا يتكئ.
وروى ابن عدي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس في مجلس احتبى بيديه.
وروى أبو نعيم عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس احتبى بيديه، وقال بعض رواته بثوبه.
وروى الطبراني برجال ثقات غير أبي عروبة محمد بن موسى فيجر رجاله عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجه الكعبة محتبيا بيديه.
الرابع: في رفعه بصره إلى السماء إذا جلس يتحدث.
روى البيهقي عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا جلس كثيرا يتحدث رفع طرفه إلى السماء.
النوع الثالث: في اتكائه.
روى ابن سعد عن زر بن حبيش قال: جاء رجل من مراد يقال له صفوان بن عسّال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو متكئ على برد له أحمر.
وروى الدارمي والترمذي وصححه وأبو عوانة وابن حبان وابن سعد وابن عدي عن جابر ابن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته متكئا على وسادة على يساره.
وروى أبو الشيخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم متكئا على وسادة فيها صور.
النوع الرابع: في توسده صلى الله عليه وسلّم ببردته.
روى ابن أبي شيبة عن خبّاب رضي الله تعالى عنه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة. الحديث.
الخامس: في جلوسه صلى الله عليه وسلم على شفير البئر، وإدلائه رجليه في البئر، وكشفه عن ساقيه.(7/153)
وروى البخاري في الأدب عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما إلى حائط من حوائط الحاجة وخرجت في أثره، فلما دخل الحائط جلست على بابه، وقلت لأكونن اليوم بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى حاجته، وجلس على قفّ البئر وكشف عن ساقيه، وأدلاهما في البئر.
وروى الطبراني في الأوسط برجال موثّقين عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأعواف وبلال معه، فدلى رجليه في البئر وكشف عن فخذيه، فجاء أبو بكر يستأذن، فقال: يا بلال ائذن له، وبشره بالجنة، فجلس عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلى رجليه في البئر، وكشف عن فخذه، ثم جاء عمر يستأذن، فقال: يا بلال ائذن له، وبشره بالجنة، فدخل، فجلس عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ودلى رجليه في البئر، وكشف عن فخذه، ثم جاء عثمان، فقال: ائذن له يا بلال، وبشره بالجنة، على بلوى تصيبه، فدخل عثمان فجلس، فعدله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلى رجليه في البئر وكشف عن فخذه.
السادس: في جلوسه صلى الله عليه وسلّم مع أصحابه.
روى ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: ما أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتيه بين يدي جليس له قط، ولا يبادر يده أحد قط فيتركها حتى يكون هو يدعها، وما جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحد قط فقام حتى يقوم، وما وجدت شيئا قط أطيب ريحا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السابع في أين يجلس من أصحابه صلى الله عليه وسلم؟.
روى أبو الحسن بن الضحاك عن كعب بن زهير رضي الله تعالى عنه قال: كان يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه مكان المائدة من القوم حلقة ثم حلقة، وهو في وسطهم، فيقبل على هؤلاء فيحدثهم، ثم على هؤلاء، ثم على هؤلاء.
وروى النسائي عن أبي هريرة، وأبي ذر رضي الله تعالى عنهما قالا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجلس بين ظهراني أصحابه فتجيء العرب فلا تدري أين هو؟ حتى تسأل، فطلبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن نجعل له محلا فتعرفه العرب إذا رأوه، فبنينا له دكّانا من طين فكان يجلس عليه، وكنا نجلس بجانبه سماطين.
وروى أبو الحسن بن الضحاك رضي الله تعالى عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله.
الثامن: في استلقائه صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام أحمد عن عباد بن تميم عن عمه رضي الله تعالى عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مستلقيا في المسجد، واضعا إحدى رجليه على الأخرى.(7/154)
التاسع: فيما كان يقوله في مجلسه.
روى الترمذي- وحسنه- وابن السّنّي [ (1) ] والحاكم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلسه حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلّغنا به جنتك، ومن اليقين ما يهون علينا مصيبات الدنيا، ومتّعنا بأسماعنا وبأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا» [ (2) ] .
تنبيهان
الأول: قال القوساني استشكل العلماء هذا الحديث فقالوا: كيف يكون سمعه وبصره يرثانه بعده دون سائر أعضائه؟ فتأولوه على أنه أراد بذلك الدعاء لأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، بدليل أنهما من الدين بمنزلة السمع والبصر من الرأس، فكأنه دعا بأنه تمتع بهما في حياته، وأن يرثا خلافة النبوة بعد وفاته، ولم يجد العلماء رحمهم الله تعالى لهذا الحديث وجها ولا تأويلا غير هذا.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
الاحتباء: هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه إذا جلس، ويجمعهما بثوب إلى ظهره، ويشده عليه، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب.
القرفصاء: بضم القاف والفاء، بينهما راء ساكنة، ثم صاد مهملة ومد. قال الفراء رحمه الله تعالى إذا ضممت القاف والفاء مددت أو كسرت قصرت، قال أبو عبيدة وهي جلسة المحتبي، ويدير ذراعيه ويديه على ساقيه، وجزم بذلك البخاري رحمه الله تعالى.
التربع: بفوقية فراء مفتوحتين فموحدة مضمومة فعين مهملة: معروف خلاف الجثي والإقعاء.
البردة: بموحدة مضمومة فراء ساكنة فدال مهملة مفتوحة فتاء تأنيث: الشملة المخططة وقيل كساء أسود مربع فيه صفرة تلبسها الأعراب جمعها برد.
الهدّاب: بهاء مضمومة فدال مهملة فألف فموحدة.
__________
[ (1) ] ابن السنّي الحافظ الإمام الثقة أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الدّينوري.
مولى جعفر بن أبي طالب، صاحب «عمل اليوم والليلة» وراوي «سنن النسائي» ، كان دينا صدوقا، اختصر السنن وسماه «المجتبى» . مات سنة أربع وستين وثلاثمائة عن بضع وثمانين سنة. طبقات الحفاظ للسيوطي 380.
[ (2) ]- سيأتي في الدعوات.(7/155)
الطّرف: بطاء مهملة فراء مفتوحتين ففاء وهو الآخر.
الوسادة: بكسر الواو، ما يوضع عليه الرأس وقد يتوكأ عليها وهو المراد هنا قال في الهدى ربما اتكأ على الوسادة على يساره، وربما اتكأ على يمينه، وكان إذا احتاج في خروجه توكأ على أصحابه من ضعف، قال في زاد المعاد وكان صلى الله عليه وسلّم يجلس على الأرض، وعلى الحصير وعلى البساط.
قف البئر: تقدم تفسيره.
مائدة: يأتي الكلام عليها.
الدّكّان: بدال مهملة مضمومة فكاف فألف فنون الدكة المبنية للجلوس عليها، واختلف: هل النون أصلية أم زائدة.
الخشية: بخاء معجمة مفتوحة، فشين معجمة ساكنة، فتحتية مفتوحة، فتاء تأنيث:
الخوف.
الثأر: بمثلثة فألف فراء: أصله طلب الدم، والمراد به هنا طلب الحق ممن ظلم.
السّماط: بسين مهملة مكسورة فميم فألف فطاء مهملة: الجماعة من الناس والنحل.(7/156)
الباب الثاني في قيامه
وفيه نوعان:
الأول: فيما كان يفعله إذا قام وأراد العود.
روى أبو يعلى بسند ضعيف وأبو داود والطبراني عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس جلسنا حوله فأراد أن يعود ترك نعليه أو بعض ما يكون معه فيعرف بذلك أصحابه، فيثبتون، وأنه قام وترك نعليه فأخذت ركوة ماء فتتبعته فرجع، ولم يقض حاجته،
قلت: يا رسول الله ألم تكن لك حاجة؟ قال: بلى، ولكن أتاني آت من ربي عز وجل فقال: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً [النساء- 110]- وقد كانت شقّت عليهم الآية التي قبلها مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ-[النساء 123] فأردت أن أبشر أصحابي، قال: قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن زنا وإن سرق وإن زنا وإن سرق، ثم استغفر غفر له؟
قال: «نعم» ، قلت: يا رسول الله وإن زنا وإن سرق ثم استغفر غفر له؟ قال: «نعم» ، ثم ثلثت قال:
«نعم على رغم أنف عويمر» [ (1) ] .
الثاني: فيما كان يقوله ويفعله إذا قام من المجلس.
وروى عبد الرزاق في الجامع عن أبي عثمان الفقير، وابن أبي شيبة وأبو داود، والنسائي والحاكم، وابن مردويه عن أبي برزة الأسلمي، وابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن رجل من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والطبراني برجال ثقات عن رافع بن خديج، وابن أبي شيبة عن أبي العالية، قال أبو عثمان وأبو العالية: إن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه أن يقول
وقال أبو برزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول بأخرة إذا أراد أن يقوم من المجلس: «سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك»
[ (2) ] زاد أبو برزة فقال رجل: يا رسول الله إنك تقول قولا ما كنت تقوله فيما مضى؟ أكفارة لما يكون في المجلس؟ زاد الرجل: كلمات علمنيهن جبريل كفارات لخطايا المجلس.
وروى محمد بن يحيى بن أبي عمر برجال ثقات وابن أبي الدّنيا والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلسا أو صلى تكلم بكلمات، فسألته عن الكلمات فقال: «إن تكلم بخير كان طابعا عليهن إلى يوم القيامة، وإن تكلم بشر كان كفارة له، سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك، وأتوب إليك» ،
وزاد الأخير: أن يقولها حين يقوم من مجلسه إلا غفر له ما كان منه في المجلس.
__________
[ (1) ] المجمع 7/ 10.
[ (2) ] أخرجه أحمد 3/ 450، 4/ 420 والترمذي (3433) وعبد الرزاق (2879) والطبراني في الصغير 1/ 222 والدّارمي 2/ 283 وابن سعد 2/ 2/ 1.(7/157)
الباب الثالث في مشيه صلّى الله عليه وسلم
وفيه أنواع:
الأول: في هيأته.
روى الإمام أحمد والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما رأيت أحدا أسرع مشية من رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكأنما الأرض تطوى له: كنا إذا مشينا معه نجهد أنفسنا وأنه لغير مكترث [ (1) ] .
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في جنازة، أمشي فإذا مشيت سبقني فأهرول فأسبقه، فالتفت إلى رجل لجنبي فقلت: تطوى الأرض له وللخليل إبراهيم عليهما السلام.
وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى يتوكأ.
وروى ابن سعد وأبو الحسن بن الضحاك عن أبي الحكم سيار بن أبي سيار قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى مشي السّوقي، ليس بالعاجز ولا الكسلان [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى مشى مجتمعا ليس فيه كسل [ (3) ] .
وروى ابن سعد عن مرثد بن أبي مرثد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى أسرع حتى يهرول الرجل فلا يدركه [ (4) ] .
وروى ابن سعد عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحدر من صبب وإذا مشى كأنما يتقلّع من صخرة [ (5) ] .
وروى البخاري في الأدب وابن سعد عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحدر من صبب وإذا مشى فكأنما يمشي في صعد [ (6) ] .
وروى ابن سعد عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤا كأنما ينحطّ من صبب [ (7) ] .
__________
[ (1) ]- أحمد 2/ 350.
[ (2) ]- ابن سعد 3/ 48.
[ (3) ]- أحمد 1/ 328 وانظر المجمع 8/ 281.
[ (4) ]- ابن سعد 1/ 2/ 100.
[ (5) ]- انظر الإتحاف للزبيدي 7/ 54 والبداية لابن كثير 6/ 19- 21.
[ (6) ] انظر البداية 6/ 8.
[ (7) ]- أخرجه أحمد 3/ 270 والحاكم 2/ 606.(7/158)
وروي أيضا عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تقلّع كأنما ينحدر من صبب [ (1) ] .
وروى أيضا عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ.
وروى أيضا عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ.
وروى أيضا عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ حين يمشي في صعود.
وروى البيهقي عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى مال تقلّعا يتكفّأ تكفّؤا، ويمشي هونا ذريع المشية كأنما ينحط من صبب، وفي لفظ كأنما يهوي في صبب، إذا التفت التفت جميعا، يسوق أصحابه ويبدر، وفي لفظ: يبدأ من لقيه بالسلام.
وروى ابن الضحاك في الشمائل عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تقلّع كأنما يمشي في صعد.
وروى ابن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى مشى مجتمعا ليس فيه كسل.
وروى أيضا عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى هرول الناس وراءه.
وروى الإمام أحمد والبيهقي عن عبد الله بن عمر [و] عمر رضي الله تعالى عنهما قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم المغرب فرجع من رجع، وعقّب من عقّب، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم مسرعا قد حفزه النفس قد حسر عن ركبتيه، فقال: «أبشروا، هذا ربكم قد فتح بابا من أبواب السماء، يباهي بكم الملائكة» ، يقول: انظروا عبادي قد قضوا فريضة ربهم ينتظرون أخرى [ (2) ] .
الثاني: في التفاته.
روى ابن سعد عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إذا مشى، وكان ربما تعلق رداؤه بالشجرة أو بالشيء فلا يلفت، وكانوا يضحكون، وكانوا قد أمنوا التفاته.
وروى البخاري في الأدب، وابن سعد عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا التفت التفت جميعا.
__________
[ (1) ]- الترمذي في الشمائل (60) .
[ (2) ]- أخرجه ابن ماجة (801) وأحمد 2/ 197.(7/159)
وروى ابن سعد عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل جميعا، ويدبر جميعا.
وروى أيضا عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنها قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التفت التفت جميعا، وإذا أدبر أدبر جميعا.
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التفت التفت جميعا، وإذا أدبر أدبر جميعا.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عنها أيضا قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلمح بمؤخر عينيه ولا يلفت.
وروى ابن سعد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل معا، ويدبر معا.
وروى أيضا عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التفت التفت جميعا.
وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت إلا جميعا.
الثالث: في مشيه صلّى الله عليه وسلم حافيا وناعلا.
روى البزار برجال ثقات عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمشي حافيا وناعلا.
الرابع: في مشيه القهقرى لأمر.
روي عن علي رضي الله تعالى عنه وروى الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: جئت يوما من خارج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في البيت، والباب عليه مغلق فاستفتحت فتقدم ففتح لي، ثم رجع القهقرى إلى الصلاة، فأتم صلاته.
الخامس: في مشيه صلّى الله عليه وسلم آخذا بيد أصحابه، ومتكئا على بعضهم.
روى الإمام أحمد برجال ثقات عن بريدة الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: خرجت ذات يوم في حاجة، وإذا أنا بالنبي صلى الله عليه وسلم يمشي بين يديّ، فأخذ بيدي، فانطلقنا نمشي جميعا فذكر الحديث.
وروي أيضاً عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«يا أبا أمامة: من المؤمنين من يلين له قلبي» [ (1) ] .
__________
[ (1) ]- الطبراني في الكبير 8/ 177 وانظر المجمع 10/ 276.(7/160)
وروى أيضا عن أبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأشار إلي فأتيته فأخذ بيدي فانطلقنا نمشي جميعا، وذكر الحديث.
وروى الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب، فأخذ بيدي، فمشيت معه حتى بعد وذكر الحديث.
وروى الإمام أحمد والطبراني برجال ثقات عن بشير بن الخصاصية رضي الله تعالى عنه قال: كنت أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم آخذا بيده، فقال: «يا ابن الخصاصية ما أصبحت تنقم على الله تبارك وتعالى، وأصبحت تماشي رسوله آخذا بيده؟» قلت: ما أصبحت أنقم على الله تعالى شيئا، قد أعطاني الله تعالى كل خير [ (1) ] .
وروى الطبراني بسند جيد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد أبي ذر رضي الله تعالى عنه، فقال: «يا أبا ذر أعلمت أن بين أيدينا عقبة كؤودا لا يصعدها إلا المخفّون الحديث» [ (2) ] .
السادس: في مشيه صلّى الله عليه وسلّم وراء أصحابه.
روى أبو بكر بن أبي شيبة، والإمام أحمد، والحارث بن أبي أسامة عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون أمامه ويدعون ظهره للملائكة [ (3) ] .
وروى أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امشوا خلفي أو خلّوا ظهري للملائكة» [ (4) ] .
السابع: في إسراعه صلى الله عليه وسلّم المشي.
روى الإمام أحمد وأبو يعلى بسند ضعيف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجدار مائل فأسرع المشي فقيل له، فقال: «إني أكره موت الفوات» [ (5) ] .
وروى البخاري في الأدب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعا، ونحن قعود حتى أفزعنا سرعته إلينا فلما انتهى إلينا سلّم، ثم قال: «قد
__________
[ (1) ] أحمد 5/ 84283 والطبراني في الكبير 2/ 31 وانظر المجمع 9/ 398 والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 80 والبخاري في الأدب (429) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (790) (1946) .
[ (2) ] انظر المجمع 10/ 263.
[ (3) ] أحمد في المسند 3/ 302.
[ (4) ] أبو نعيم في الحلية 7/ 117 وجمع الجوامع (4469) والكنز (41618) .
[ (5) ] أخرجه أحمد 2/ 356 وانظر المجمع 2/ 318 والعقيلي في الضعفاء 2/ 61 والمجروحين لابن حبّان 1/ 105 والميزان للذهبي (34، 165) .(7/161)
أقبلت إليكن مسرعا لأخبركم بليلة القدر فنسيتها فيما بيني وبينكم، فالتمسوها في العشر الأواخر» [ (1) ] .
تنبيهات
الأول: قال في زاد المعاد كان صلى الله عليه وسلم يمشي حافيا ومنتعلا، قلت: أما مشيه منتعلا فهو أكثر مشيه، وأما حافيا فذكره الإمام الغزالي في الإحياء أيضا، واستدل له الحافظ العراقي بما رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في عيادته صلى الله عليه وسلم لسعد بن عبادة قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقمنا معه ونحن بضعة عشر ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص نمشي في السباخ،
وكان يماشي أصحابه فرادى وجماعة، يمشون بين يديه، وهو خلفهم ويقول: «دعوا ظهري للملائكة» ، ومشى في بعض غزواته مرة فأصاب حجر أصبعه فسال منه الدم، فقال: «هل أنت إلا أصبع دميت؟ وفي سبيل الله ما لقيت، وكان في السفر يعقب جميع أصحابه، ويقوى الضعيف أو يدعو له، ويحمل المنقطعين، ويردفهم بعض الأحيان خلفه» .
الثاني: دلت الأحاديث السابقة على أمرين أن مشيته صلى الله عليه وسلّم لم تكن مشية بتماوت ولا.
بمهانة.
الثالث: أراد بقوله: التفت جميعا أنه لا يسارق النظر، وقيل: لا يلوي عنقه يمنة ولا يسرة إذا نظر إلى الشيء، وإنما يفعل ذلك الطائش الخفيف، ولكن كان يقبل جميعا، ويدبر جميعا- قاله في النهاية-: وفيه أيضا حكمة طبية لأن الالتفات ببعض الجسد ربما كان سببا للقوة.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
مكترث: بميم مضمومة فكاف ساكنة فبمثناة فوقية فمثلثة: غير مبال.
الهرولة: بهاء مفتوحة فراء ساكنة فواو فلام مفتوحتين فتاء تأنيث: بين المشي والعدو.
التّكفّؤ: تمايل الماشي إلى قدام كالغصن إذا ذهبت به الريح.
السوقي: بسين مهملة مضمومة فواو ساكنة فقاف فتحتية.
الكسل: بكاف فسين مهملة مفتوحتين فلام: الفتور.
الصّبب: بفتح الصاد المهملة والباء الموحدة الأولى: الموضع المنحدر من الأرض، وذلك دليل على سرعة مشيه، لأن المنحدر لا يكاد يثبت في مشيه.
وصبوب: بضم الصاد المهملة جمع صبب: وهو المنحدر من الأرض، وبفتح الصاد:
__________
[ (1) ]- البخاري في الأدب المفرد (813) .(7/162)
اسم لما يصب على الإنسان من ماء أو غيره.
التّقلّع: الانحدار من الصّبب، والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض، أراد أنه كان يستعمل التثبت ولا يبين منه في هذه الحالة استعجال، ومبادرة شديدة، وأراد به قوة المشي، وأنه كان يرفع رجليه من الأرض رفعا قويا، لا كمن يمشي اختيالا، ويقارب خطوه، فإن ذلك من مشي النّساء.
الصّعد: بمهملات: المكان المرتفع.
الهون: بفتح الهاء وسكون الواو: المشي في لين ورفق، غير مختال، ولا معجب.
الذّريع: السريع أي أنه كان واسع الخطو، فيسرع مشيه، وربما يظن أن هذا غير الأول، ولا تضاد فيه، لأن معناه أي كأنه كان مع تثبته في المشي يتابع بين الخطوات، ويوسعها فيسبق غيره.
يهوي: يسقط من موضع عال.
الصوت: بمهملة مفتوحة فواو ساكنة فموحدة.
يسوق أصحابه: أن يقدّمهم أمامه، ويمشي وراءهم، ولهذا مزيد بسط في الخصائص أن شاء الله تعالى.
يبدر: بمثناة فموحدة فدال فراء: يعاجل.
كئود: بكاف مفتوحة فهمزة فواو فدال مهملة: صعبة والله تعالى أعلم
.(7/163)
جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وسلّم في أكله وذكر مأكولاته
الباب الأول في آداب جامعة
وفيه أنواع:
الأول: في أمره صلى الله عليه وسلم من أتى له بهدية أن يأكل منها قبل أن يأكل هو صلى الله عليه وسلم.
روى البزّار والطبراني ورجال ثقات عن عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل من هدية حتى يأمر صاحبها أن يأكل منها للشاة التي أهديت إليه بخيبر [ (1) ] .
وروى بقي بن مخلد والحميدي والحارث بن أبي أسامة عن ابن الحوتكية، قال:
قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فسألته عن الصيام فقال: من كان معنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالقاحة إذ أهدى الأعرابي الأرنب؟ فقال القوم جميعا: نحن كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: حدثوا حديثه،
قالوا: بينا نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالقاحة [ (2) ] إذ أتاه أعرابي بأرنب قد شواها وأطابها، فأهداها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «كل منها» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يأكل هدية أهديت إليه بعد الشاة التي أهديت له بخيبر حتى يأكل منها صاحبها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل منها» قال: إني صائم.
الحديث [ (3) ] .
الثاني: في صفة قعوده صلى الله عليه وسلّم حالة الأكل.
وروى البخاري وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وابن سعد عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل عنده: «لا آكل متكئا» أو قال: «وأنا متكئ» [ (4) ] .
وروى مسلم وأبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن بشر رضي الله تعالى عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه فأكل، فقال أعرابي: ما هذه الجلسة؟ فقال: «إن الله تعالى جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا» .
__________
[ (1) ]- انظر المجمع 5/ 8221/ 296 والكنز (18187) .
[ (2) ] انظر معجم البلدان 4/ 329، 3301.
[ (3) ]- انظر الكنز (24613، 24631) .
[ (4) ]- تقدم.(7/164)
وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الله تبارك وتعالى أنزل إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ملكا من الملائكة ومعه جبريل فقال الملك: إن الله تعالى يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا، وبين أن تكون ملكا، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى جبريل عليه السلام كالمستشير فأشار جبريل بيده إن تواضع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا بل أكون عبدا نبيا» ، فما أكل بعد تلك الكلمة طعاما متكئا.
وروى الترمذي عن عبد الله بن عبيد قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بطعام فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: يا نبي الله لو أكلت وأنت متكئ كان أهون عليك، فأصغى بجبهته إلى الأرض حتى كاد يمس بها الأرض، وقال: «بل آكل كما يأكل العبد وأنا جالس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد» قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحتفز.
وروى سعيد بن منصور مرسلا وابن سعد عن عطاء بن يسار رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بأعلى مكة يأكل متّكئا فقال له: يا محمد أأكل الملوك؟ فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمرو قال: ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل متكئا.
الثالث: في أكله صلّى الله عليه وسلّم متكئا وقتا يسيرا ثم تركه.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن خبّاب رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل قديدا في طبق متكئا، ثم قام إلى فخّارة فيها ماء فشرب.
وروى الحارث بن أبي أسامة عن عبد الله بن سعد عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال:
كنت دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يأكل متكئا.
وروى الطبراني من طريق بقيّة وهو غير ثقة مدلس عن عمر الشامي فيجر رجاله- وبقية رجاله ثقات- عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر جعلت له مائدة فأكل متكئا وأصابته الشمس فلبس الظلة.
وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقم أول لقمة قال: «يا واسع المغفرة» .
وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بتمر هدية فجعل يقسمه، وهو محتفز يأكل منه أكلا ذريعا.
وفي رواية رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسا مقعيا يأكل تمرا.
وروى مسلم وأبو داود عن مصعب بن سليم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بتمر فرأيته يأكل متكئا.(7/165)
الرابع: في أمره بتكثير المرق وإطعام الجيران صلى الله عليه وسلم.
روى أبو بكر بن أبي شيبة والإمام أحمد والبزّار عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشترى لحما قال لأهله: «أكثروا المرق» ، زاد الإمام أحمد والبزار «وتعاهد جيرانك» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعجبه الثّقل، قال عباد: يعني ثفل المرق [ (2) ] .
وروى الترمذي وابن ماجة عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا عملت مرقة فأكثر ماءها واغرف لجيرانك منها» [ (3) ] .
الخامس: في أحب الطعام إليه صلى الله عليه وسلم.
روى أبو يعلى والطبراني وأبو الشيخ عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن أحب الطعام إليّ ما كثرت عليه الأيدي» [ (4) ] .
السادس: في غسله يديه صلى الله عليه وسلم قبل الأكل.
روى محمد بن يحيى بن أبي عمر عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل غسل يديه [ (5) ] .
السابع: في مائدته وسفرته صلى الله عليه وسلّم.
روى البخاري في تاريخه وأبو الشيخ عن فرقد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل على مائدته.
وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على خوان ولا في سكرجّه، ولا خبز له مرقق، قال يونس فقلت لقتادة: فعلام كانوا يأكلون؟ قال على هذه السفرة قال البيهقي وأنس أخبر بما بلغه [ (6) ] .
وقد روينا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصة الضب قال: وأكل
__________
[ (1) ]- أخرجه أحمد 3/ 52377/ 149، 156.
[ (2) ]- أحمد 3/ 220 والحاكم 4/ 115، 116.
[ (3) ]- ابن ماجة (3362) وانظر مسلم 1/ 142 والدارمي 2/ 108 والبخاري في الأدب المفرد (114) .
[ (4) ]- أخرجه ابن عدي في الكامل 5/ 1983 وأبو نعيم في تاريخ أصفهان 2/ 81 والذّهبي في الميزان (5183) .
[ (5) ]- انظر سنن أبي داود في الطهارة باب (88) وابن ماجة (591) وأحمد (19216) وعبد الرزاق (1085) والطحاوي في المعاني 1/ 128.
[ (6) ]- أخرجه البخاري 9/ 530 (5386) (5415) .(7/166)
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأقط والسمن وترك الضب تقذرا، قال ابن عباس: وأكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان حراما ما أكل على مائدته، وفي هذا دليل على جواز الأكل على المائدة. ورواه الحارث بن أبي أسامة.
الثامن: في قصعته صلى الله عليه وسلم.
روى أبو الشيخ عن عبد الله بن بسر قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم جفنة لها أربع حلق.
وروى أبو داود وأبو بكر الشافعي عن عبد الله بن بشر رضي الله تعالى عنه أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم شاة، والطعام يومئذ قليل، فقال لأهله: «اطبخوا هذه الشاة، وانظروا إلى هذا الدقيق فاخبزوه، واطبخوا وأثردوا عليه» ، قال: وكانت للنبي صلى الله عليه وسلّم قصعة يقال لها الغرّاء، يحملها أربعة رجال، فلما أصبح وسبّحوا سبحة الضحى أتي بتلك القصعة، والتقوا عليها فإذا أكثر الناس حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أعرابي ما هذه الجلسة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى جعلني عبدا كريما، ولم يجعلني جبارا عنيدا» ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كلوا من جوانبها، ودعوا ذروتها يبارك لكم فيها» ، ثم قال: «خذوا فكلوا فو الذي نفسي بيده لتفتحن عليكم أرض فارس والروم حتى يكثر الطعام فلا يذكر عليه اسم الله تعالى» [ (1) ] .
التاسع: في سيرته صلّى الله عليه وسلم في الطعام الحار.
روى الطبراني بسند فيه راو لم يسم وبقيته بسند حسن عن جويرية رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الطعام الحار حتى يذهب فوره ودخانه [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد والطبراني عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما أنها كانت إذا ثردت غطته شيئا حتى يذهب فوره، ثم تقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إنه أعظم للبركة» [ (3) ] .
وروى الطبراني برجال الصحيح والبيهقي عن خولة بنت قيس رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلت له خزيرة فقدمتها إليه. فوضع يده فيها فوجد حرها، فقبضها فقال: «يا خولة لا نصبر على حر ولا برد» ،
وفي رواية فقربت له عصيدة في تور، فلما
__________
[ (1) ]- وأخرجه ابن عساكر كما في التهذيب 1/ 89، 7/ 310 وانظر الكنز (41707) وأبو داود في الأطعمة باب (18) وابن ماجة (3275) والحاكم 4/ 116.
[ (2) ] انظر المجمع 5/ 19.
[ (3) ]- أخرجه أحمد 6/ 350 والحاكم 4/ 118 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (1344) والبيهقي في السنن الكبرى 7/ 280 وانظر المجمع 5/ 19.(7/167)
وضع يده فيها احترقت فقال: «حسّ» ثم قال: «إن ابن آدم إن أصابه حر قال حس، وإن أصابه برد قال: حس» [ (1) ] .
وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى بصحفة تفور فأسرع يده فيها، ثم رفع يده فقال: «إن الله عز وجل لم يطعمنا نارا» [ (2) ] .
وروى أيضا في الأوسط عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه والدّيلمي في مسند الفردوس عن ابن عمرو الحاكم وصححه عن جابر، وعن أسماء، ومسدد عن أبي يحيى، وأبو نعيم في الحلية عن أنس رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أبردوا بالطعام الحار، فإن الطعام الحار لا بركة فيه» [ (3) ] .
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينفخ في الطعام ولا في الشراب [ (4) ] .
العاشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم ماشيا.
روى الطبراني برجال الصحيح خلا ابن لهيعة وسنده حسن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل حائطا لبعض الأنصار فجعل يأكل الرطب فيأكل وهو يمشي وأنا معه [ (5) ] .
وروى الحارث بن أبي أسامة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل قائما وقاعدا وينصرف عن يمينه وشماله.
الحادي عشر: في كراهته صلى الله عليه وسلّم أن يشم الطعام
- إن صح الخبر.
روى ابن عدي بسند ضعيف عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم كره شم الطعام وقال: «إنما يشم السباع» .
الثاني عشر: في آلات أكله صلّى الله عليه وسلّم وأمره بتغطية الإناء وأكله على الأرض.
روى الإمام أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى
__________
[ (1) ]- انظر المجمع 5/ 22.
[ (2) ]- الطبراني في الصغير 2/ 58 وابن عساكر كما في التهذيب 10/ 391 وانظر المجمع 5/ 20.
[ (3) ]- ذكره الهيثمي في المجمع وعزاه للطبراني في الأوسط وقال: فيه عبد الله بن يزيد البكري وقد ضعفه أبو حاتم المجمع 5/ 23.
[ (4) ]- الطبراني في الأوسط وقال الهيثمي: فيه حفص بن سليمان الأسدي وهو متروك ونقل عن وكيع أنه قال فيه ثقة ولكنه ضعيف جدا.
[ (5) ]- وذكره الهيثمي في المجمع 5/ 28.(7/168)
عنه قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على خوان، ولا في سكرجّة ولا خبز له مرقق، قال يونس فقلت لقتادة فعلام كان يأكل؟ قال على هذه السفرة [ (1) ] .
وروى البخاري في تاريخه وأبو الشيخ عن فرقد رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلت على مائدته.
وروى الحارث بن أبي أسامة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أكل الضّبّ على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم [ (2) ] .
وروى أبو الشيخ عن عبد الله بن بسر قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم جفنة لها أربع حلق.
وروى النسائي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيدي إلى منزله، فلما انتهينا أخرجوا لنا طبقا عليه فلق من خبز قال: «ما من أدم؟» قالوا: لا شيء غير خل، قال: «نعم الأدم الخل» ، قال جابر رضي الله تعالى عنه: فما زلت أحبه منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم [ (3) ] .
وروى أبو داود عن عبد الله بن بسر قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قصعة يقال لها الغراء يحملها أربعة رجال.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت:
صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي بكر سفرة- في بيت أبي بكر- حين أراد أن يهاجر إلى المدينة، فلم نجد لسفرته ولا لسقايته ما نربطهما به، فقلت لأبي بكر: والله ما أجد شيئا أربط به إلا نطاقي، قال: شقيه باثنين فاربطي بواحد السقاء، وبواحد السفرة، ففعلت ذلك، فلذلك سميت ذات النطاقين [ (4) ] .
وروى أبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من شعب في الجبل وقد قضى حاجته وبين أيدينا تمر على ترس أو حجفة فدعوناه فأكل معنا ولم يمس ماء [ (5) ] .
وروى البزار بسند فيه عبد الله بن زيد وأبي عبيد البصري ومجّاعة البصري بنحو رجالهم، وبقية رجاله ثقات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلا جاء إلى
__________
[ (1) ]- البخاري (5386، 5415، 6450) .
[ (2) ]- بنحوه عند البخاري (9/ 441، 5389) .
[ (3) ]- وأخرجه مسلم 3/ 1622 (166/ 2052) والنّسائي في الإيمان باب (21) .
[ (4) ]- أخرجه البخاري 9/ 440 (5388) .
[ (5) ]- أخرجه أبو داود في الأطعمة باب (12) وأحمد (3/ 397) .(7/169)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: ضعه بالحضيض أو بالأرض [ (1) ] .
وروى بسند ضعيف عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل على الأرض ويقول: أنا عبد آكل كما يأكل العبد.
وروى أبو يعلى برجال ثقات عن جابر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما أن رجلا يقال له أبو حميد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإناء فيه لبن من النقيع نهارا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «هلّا خمّرته؟ ولو أن تعرض عليه بعود» [ (2) ] .
الثالث عشر: في تسميته صلى الله عليه وسلم عند إرادة الأكل وأمره بها، وقبضه يد من لم يسم عند الأكل.
وروى الإمام أحمد عن رجل خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرب إليه طعامه قال: «باسم الله» .
وروى أبو الحسن بن الضحاك من طريق ميسرة عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل طعاما، يسمي عند ثلاث لقم، عند كل لقمة مرة، ثم يمضي فيه حتى يأتي عليه.
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما إنه لو سمّى لكفاكم، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله، فإن نسي أن يذكر اسم الله فليقل:
باسم الله أوله وآخره» [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة عن أبي رمثة وحبشي بن حرب رضي الله تعالى عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالوا: يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع، قال: «لعلكم تتفرقون» ، قالوا: نعم، قال: «اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله تبارك وتعالى يبارك لكم فيه» .
وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن حذيفة [ (4) ] رضي الله تعالى عنه قال: كنا إذا
__________
[ (1) ]- أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 225 وانظر المجمع 5/ 24 والمطالب (3855) .
[ (2) ]- الحديث عن مسلم 3/ 593 (94/ 2011) (95/ 2011) .
[ (3) ]- أخرجه أحمد 6/ 208، 246، 265 والدارمي 2/ 94 وأبو داود 4/ 139 (3767) والترمذي 4/ 288 (1858) والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 261 (281) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد ص 326 (1341) والحاكم وصححه 4/ 108.
[ (4) ]- أخرجه أحمد 3/ 501 وأبو داود 4/ 138 (3764) وابن ماجة 2/ 1093 (3286) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد ص 327 (1345) والحاكم في المستدرك 2/ 103.(7/170)
حضرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم طعاما لم يضع أحد منّا يده حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضع يده، ولقد حضرنا معه مرة طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدها ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فذهب ليضع يده في الطعام فأخذ بيده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يستحل الطعام الذي لا يذكر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه يستحل بها، فأخذت بيدها، فجاء هذا الأعرابي يستحل به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع أيديهما» [ (1) ] .
الرابع عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم بثلاث أصابع- ولعقهن إذا فرغ، وأمره بلعق الصفحة- وبيده اليمنى، وأمره بذلك ودعائه على من أكل بشماله.
روى البزار عن عامر بن ربيعة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاث أصابع، ويلعقهن إذا فرغ [ (2) ] .
وروى الطبراني برجال ثقات غير محمد بن كعب بن عجرة، والحسين بن إبراهيم العامري وابن سعد وأبو بكر الشافعي عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل بأصابعه الثلاث، بالإبهام والتي تليها والوسطى، ثم رأيته يلعق أصابعه الثلاث حين أراد أن يمسحها، قبل أن يمسحها، ويلعق الوسطى، ثم التي تليها، ثم الإبهام [ (3) ] .
وروى الطبراني بسند جيد عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أكل لعق أصابعه، وقال: «آه لعق الأصابع بركة» .
وروى مسلم وابن أبي شيبة وابن سعد وأبو بكر الشافعي عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل بثلاث أصابع، فإذا فرغ لعقها، ولفظ أبي بكر: يأكل بثلاث أصابع، ولا يمسح يده حتى يلعقها [ (4) ] .
وروى عبد الرزاق عن عروة بن الزبير رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم [ (5) ] كان إذا أكل طعاما لعق أصابعه الثلاث: الإبهام واللتين تليها.
وروى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله
__________
[ (1) ]- مسلم 3/ 1597 (102/ 2017) .
[ (2) ]- ذكره الهيثمي في المجمع وأعله بعاصم بن عبيد الله 5/ 28.
[ (3) ]- انظر المجمع 5/ 31.
[ (4) ]- أخرجه مسلم 3/ 1605 (131/ 2032) .
[ (5) ]- أخرجه البخاري 9/ 577 (5456) ومسلم 3/ 1605 (129/ 2031) (130/ 2031) .(7/171)
تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح أصابعه حتى يلعقها أو يلعقها» .
وروى الطبراني برجال الصحيح غير المسيّب بن واضح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الصحفة.
وروى أبو سعيد بن الأعرابي والحكيم التّرمذي عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل بثلاث أصابع، قال هشام بن عروة: الإبهام، والتي تليها، والوسطى.
وروى أبو بكر الشافعي عن عبد الله بن عامر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أكل أكل بثلاث أصابع، ويستعين بالرابعة.
وروى مسلم والثلاثة والبرقاني في صحيحه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أكل طعاما لعق أصابعه الثلاث، وقال: «إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط عنها الأذى، وليأكلها ولا يدعها للشيطان» ، وأمر بسلت القصعة وقال: «إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة» [ (1) ] .
وروى ابن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل الطعام والإدام أكل بثلاث أصابع.
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى برجال ثقات عن حفصة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكله وشربه ووضوئه وثيابه وأخذه وعطائه، وكان يجعل شماله لما سوى ذلك [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله [ (3) ] .
وروى الإمام مالك ومسلم واللفظ له عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأكل الرجل بشماله، أو يمشي في نعل واحدة، أو يشتمل بالعمامة أو يحتبي في ثوب واحد كاشفا عن فرجه [ (4) ] .
__________
[ (1) ]- أخرجه مسلم 3/ 1607 وأخرجه من حديث جابر رضي الله عنه (135/ 2033) .
[ (2) ] أخرجه أحمد 6/ 288.
[ (3) ]- أخرجه مسلم 3/ 1598 (105/ 2020) .
[ (4) ]- أخرجه مسلم 3/ 1598.(7/172)
وروى الإمام أحمد وابن ماجة واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ليأكل أحدكم بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعط بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويأخذ بشماله، ويعطي بشماله» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد ومسدّد عن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد رحمهما الله تعالى أن امرأة منهم قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا آكل بشمالي، وكنت امرأة عشراء فضرب يدي، فسقطت اللقمة فقال: «لا تأكلي بشمالك، قد أطلق الله عز وجل لك يمينك، فتحول شمالي يمينا» ، فما أكلت بها بعد [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد ومسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه أن رجلا يسمى بسر بن راعي العير أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: «كل بيمينك» قال: لا أستطيع قال:
«لا استطعت» - ما منعه إلا الكبر- فما رفعها إلى فيه [ (3) ] .
وروى الطبراني برجال ثقات عن حمزة بن عمر الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم طعاما فقال: «كل بيمينك، وكل مما يليك، واذكر اسم الله» [ (4) ] .
الخامس عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلم مما يليه إذا كان جنسا واحدا ونهيه عن مخالفة ذلك في الطعام، وعن الأكل من وسط القصعة.
روى الستة عن عمرو بن أبي سلمة رضي الله تعالى عنهما قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا غلام سم اسم الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك فما زالت تلك طعمتي» [ (5) ] .
وروى التّرمذي- واستغربه- وابن ماجة عن عبد الله بن عكراش بن ذؤيب عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق إلى بيت أم سلمة رضي الله تعالى عنها فقال: «هل من طعام» فأوتينا بجفنة كثيرة الثّريد والودك فأكلنا منها، فخبطت بيدي في نواحيها، وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه، فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى، ثم قال: «يا عكراش كل من موضع واحد فإنه طعام واحد» ، فأوتينا بطبق فيه ألوان التمر أو الرطب
__________
[ (1) ]- أخرجه ابن ماجة (3266) وابن عدي في الكامل (6/ 2305) .
[ (2) ]- أخرجه أحمد 4/ 5269/ 380 وانظر المجمع 5/ 26.
[ (3) ]- أخرجه مسلم 3/ 1599 (107/ 2021) وهذا الرجل هو بسر بن راعي العير الأشجعي كما ذكر ذلك النووي نقلا عن ابن مندة وأبي نعيم الأصبهاني وابن ماكولا وآخرين وهو صحابي مشهور.
[ (4) ]- انظر المجمع 5/ 29.
[ (5) ]- أخرجه البخاري 9/ 521 (5376) ومسلم 3/ 1599 (108/ 2022) .(7/173)
- شك عبد الله- فجعلت آكل من بين يدي، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الطبق فقال: «يا عكراش كل من حيث شئت فإنه غير لون واحد» [ (1) ] .
وروى الطبراني عن الحكم الغفاري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع يده في القصعة أو في الإناء لم تجاوز أصابعه موضع كفه [ (2) ] .
وروى البزار عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل الطعام لا تعدو يده ما بين عينيه إلى ما بين يديه، فإذا أتى بتمر جالت يده [ (3) ] .
وروى أبو بكر الشافعي وابن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل الطعام مما يليه، فإذا جيء بالتمر جالت يده.
وروى الطبراني برجال ثقات عن سلمى رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يأخذ من رأس الطعام [ (4) ] .
السادس عشر: في قطعه صلى الله عليه وسلّم اللحم بالسكين.
روى البخاري عن عمرو بن أمية رضي الله تعالى عنه أن أباه أخبره أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحتزّ من كتف شاة في يده، فدعي إلى الصلاة فألقاها والسكين الذي يحتز بها، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ [ (5) ] .
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: ضفت النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأمر بجنب فشوي، فأخذ الشفرة فجعل يحزّ لي منه، فجاء بلال رضي الله تعالى عنه يؤذنه بالصلاة، فألقى الشفرة وقال: ما له تربت يداه، وقام يصلي وكان شاربي وفاء، فقصه لي على سواك، أو قال أقصه لك على سواك [ (6) ] .
السابع عشر: في إخراجه صلى الله عليه وسلّم السوس من التمر حين أراد أكله.
وروى أبو داود وابن ماجة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بتمر عتيق، فجعل يفتّشه بإصبعه يخرج السوس منه [ (7) ] .
__________
[ (1) ]- أخرجه الترمذي 4/ 283 (1848) وقال حديث غريب وابن ماجة 2/ 1089 (3274) .
[ (2) ]- انظر المجمع 5/ 30 وقال فيه النعمان بن شبيل وهو ضعيف.
[ (3) ]- قال الهيثمي: فيه خالد بن إسماعيل وهو متروك. المصدر السابق.
[ (4) ]- انظر المجمع 5/ 30.
[ (5) ] أخرجه البخاري 1/ 311 (208) (5408) ومسلم 1/ 274 (93/ 355) .
[ (6) ] أخرجه أحمد 4/ 252 وأبو داود 1/ 131 (188) والترمذي في الشمائل ص 79 حديث (168) والنسائي كما في التحفة 8/ 492.
[ (7) ] أخرجه أبو داود 4/ 174 (3832) وابن ماجة 2/ 1106 (3333) .(7/174)
الثامن عشر: في كيفية إلقائه صلى الله عليه وسلّم نوى التمر.
روى مسلم والترمذي والنّسائي عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنهما قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي، فقربنا إليه طعاما ورطبا فأكل منهما [ (1) ] .
التاسع عشر: في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن لينفخ في الطعام والشراب ونهيه عن ذلك.
روى الطبراني وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفخ في طعام ولا شراب ولا يتنفس في الإناء [ (2) ] .
العشرون: في نهيه صلّى الله عليه وسلم عن القران في التمر.
روى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرن الرجل بين تمرتين إلا أن يستأذن أصحابه، قال شعبة: الإذن من قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما [ (3) ] .
الحادي والعشرون: في نهيه صلّى الله عليه وسلم أن يقام عن الطعام حتى يرفع.
روى ابن ماجة والبيهقي في الشعب، وقال: أنا أبرأ من عهدته عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يقام عن الطعام حتى يرفع [ (4) ] .
وروى أيضاً بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا وضعت المائدة فليأكل الرجل مما يليه، ولا يأكل مما بين يدي جليسه ولا من ذروة القصعة، فإنما تأتيه البركة من أعلاها، ولا يقوم رجل حتى ترفع المائدة، ولا يرفع يده وإن شبع حتى يفرغ القوم، وليعذر، فإن ذلك يخجل جليسه، فيقبض يده، وعسى أن تكون له في الطعام حاجة» .
الثاني والعشرون: في عرضه صلّى الله عليه وسلّم الطعام على نسوة.
وروى ابن ماجه عن أسماء بنت يزيد بن السكن رضي الله تعالى عنهما قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بطعام فقلنا لا نشتهيه، فقال: «لا تجمعن كذبا وجوعا» .
الثالث والعشرون:
في
قوله صلى الله عليه وسلم لمن تجشّأ عنده: «اكفف عنا جشاءك» .
روى الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: تجشأ رجل عند
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 3/ 1615 (146/ 2042) .
[ (2) ] انظر المجمع 5/ 23.
[ (3) ] أخرجه البخاري 5/ 131 (2489) ومسلم 3/ 1617 (151/ 2045) .
[ (4) ] ضعيف أخرجه ابن ماجة (3294) .(7/175)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: «كف عنا جشاءك، فإن أكثرهم شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة» [ (1) ] .
وروى الطبراني برجال ثقات غير محمد بن خالد الكوفي بنحو رجاله عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: أكلت ثريدة بلحم سمين فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أتجشّأ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اكفف عنا جشاءك، أبا جحيفة فإن أكثر الناس شبعا في الدنيا أطولهم جوعا يوم القيامة» ،
فما أكل أبو جحيفة ملء بطنه حتى فارق الدنيا، وكان إذا تغذى لا يتعشى وإذا تعشى لا يتغذى [ (2) ] .
الرابع والعشرون: في أمره صلى الله عليه وسلّم بغمس الذباب الذي يقع في الطعام فيه.
روى البخاري وأبو داود وابن ماجة والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء» [ (3) ] .
وروى الطبراني والإمام أحمد والنّسائي وأبو يعلى والحاكم والضياء عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله فيه، فإن في أحد جناحيه سما، وفي الآخر شفاء، وإنه يقدم السم، ويؤخر الشّفاء» [ (4) ] .
وروى ابن حبّان عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليمقله فيه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء» .
وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء، وإنه يبقي بجناحه الذي فيه الداء، فليغمسه كله، ثم لينزعه» [ (5) ] .
الخامس والعشرون: في أنه لم يكن يذم طعاما.
روى الخمسة والشيخان والحارث بن أبي أسامة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط إن اشتهاه أكله، وإلا تركه [ (6) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (2478) والرازي في العلل (1861) وابن ماجة (3350) .
[ (2) ] انظر المجمع 5/ 31 وانظر الميزان للذهبي (9391) وابن حجر في اللسان 6/ 794.
[ (3) ] أخرجه البخاري 10/ 250 (5782) وأحمد 3/ 340 وأبو داود (3844) .
[ (4) ] أخرجه الطيالسي في المسند ص 291 (2188) وأحمد 3/ 67 وابن ماجة 2/ 1159 (3504) .
[ (5) ] انظر المصادر السابقة.
[ (6) ] أخرجه البخاري 9/ 547 (5409) ومسلم 3/ 1632 (187/ 2064) .(7/176)
وروى الحاكم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه.
وروى الترمذي في الشّمائل عن هند بن أبي هالة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يذم ذواقا ولا يمدحه، أي كان لا يصف الطعام بطيب أو فساد، إن كان فيه والله أعلم.
السادس والعشرون: في أكله صلّى الله عليه وسلم مع المجذوم.
روى أبو داود والترمذي وابن ماجة عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فوضعها معه في القصعة وقال: «كل ثقة بالله تعالى، وتوكّلا عليه» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد ومسلم والبيهقي عن الشّريد بن سويد قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنا قد بايعناك» .
السابع والعشرون: في أكله مع امرأة من غير زوجاته في إناء واحد.
روى البخاري في الأدب عن أم صبيّة خولة بنت قيس رضي الله تعالى عنها قالت:
اختلفت يدي ويد رسول الله صلى الله عليه وسلّم في إناء واحد والله أعلم.
الثامن والعشرون: في امتناعه صلّى الله عليه وسلم من استعمال الجمع بين أدمين.
روى الطبراني برجال ثقات غير محمد بن عبد الكبير بن شعيب بنحو رجاله عن أنس ابن مالك رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإناء أو قعب فيه لبن وعسل فقال:
«أدمان في إناء لا آكله ولا أحرّمه» [ (2) ] .
التاسع والعشرون: في أمره صلى الله عليه وسلّم بالائتدام.
روى الطبراني برجال ثقات غير عزيز بن سفيان بنحو رجاله عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ائتدموا ولو بالماء» [ (3) ] .
الثلاثون: في غسل اليد والفم قبل الطعام وبعده.
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: قرأت في
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود 4/ 239 (3925) والترمذي 4/ 266 (1817) وابن ماجة 2/ 1172 (3542) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد ص 346 (1433) .
[ (2) ] أخرجه الحاكم 4/ 122 وانظر المجمع 5/ 34 والسيوطي في اللآلي 2/ 128.
[ (3) ] أخرجه الخطيب في التاريخ 7/ 340 وانظر الكنز (40987) .(7/177)
التوراة أن بركة الطعام الوضوء قبله، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «بركة الطعام بالوضوء قبله والوضوء بعده» [ (1) ] .
وروى ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دعا رجل من الأنصار من أهل قباء رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا معه فلما طعم غسل يده أو قال يديه.
وروى الترمذي وابن ماجة وأبو بكر الشافعي عن عكراش بن ذؤيب رضي الله تعالى عنه أنه أكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثريدا كثير الودك ثم أكل عقبه تمرا، قال: ثم أتينا بماء فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم مسح ببل كفيه ووجهه وذراعيه ورأسه.
وروى ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أحب أن يكثر خير بيته فليتوضأ إذا حضر غذاؤه، وإذا رفع»
[ (2) ] المراد بالوضوء هنا: غسل اليدين فقط.
وروى أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم كتف شاة فمضمض وغسل يديه.
الحادي والثلاثون: في مسحه صلى الله عليه وسلّم يديه بالحصباء بعد فراغه من الطعام.
روى الشيخان وابن ماجة عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن الوضوء مما مست النار قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلّم وقليلا ما نجد الطعام، فإذا وجدناه لم يكن لنا مناديل إلا أكفّنا وسواعدنا وأقدامنا، ثم نصلي ولا نتوضأ.
الثاني والثلاثون: فيما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أكله.
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي في الشّمائل وابن ماجة والنسائي في عمل اليوم والليلة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من طعامه، وفي لفظ: إذا أكل أو شرب قال: «الحمد لله الذي أطعمنا وأسقانا، وجعلنا مسلمين» [ (3) ] .
وروى أبو داود والنسائي عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل أو شرب قال: «الحمد لله الذي أطعم، وسقى وسوّغه وجعل له مخرجا» [ (4) ] .
وروى الإمام أحمد والشيخان والأربعة عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 5/ 441 وأبو داود 4/ 136 (3761) والترمذي 4/ 281 (1846) والحاكم 4/ 106- 107.
[ (2) ] أخرجه ابن ماجة (3260) وابن عدي في الكامل 6/ 2084.
[ (3) ] أخرجه أحمد 3/ 32، 98 وأبو داود 4/ 187 (3850) والترمذي 5/ 508 (3456) وفي الشمائل ص 89 (193) والنّسائي في عمل اليوم والليلة ص 265 وابن ماجة 2/ 1092 (3283) .
[ (4) ] أخرجه أبو داود 4/ 187 (3851) والنسائي في عمل اليوم والليلة ص 264 (285) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد ص 329 (1351) .(7/178)
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: «الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه» ، وفي رواية:
«الحمد لله الذي كفانا وآوانا غير مكفي، ولا مودّع، ولا مستغنى عنه ربنا» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد عن رجل خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من طعامه قال: «اللهم أطعمت وأسقيت وأغنيت وأقنيت وهديت وأحييت، فلك الحمد على ما أعطيت» [ (2) ] .
وروى البزار عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من طعامه قال: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، الحمد لله الذي كفانا وآوانا، الحمد لله الذي أنعم علينا وأفضل، أسألك برحمتك أن تجيرنا من النار» [ (3) ] .
وروى الطبراني عن الحارث بن الحارث رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند فراغه من طعامه: «اللهم لك الحمد، أطعمت وسقيت، وأرويت، لك الحمد غير مكفور، ولا مودّع، ولا مستغنى عنك ربنا» [ (4) ] .
وروى ابن أبي شيبة والبزار عن أبي سلمة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا فرغ من طعامه: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، الحمد لله الذي كفانا وآوانا، والحمد لله الذي أنعم علينا وأفضل، نسأله برحمته أن يجيرنا من النار، فربّ غير مكفيّ لا يجد منقلبا ولا مأوى» [ (5) ] .
وروى النّسائي والحاكم وابن عدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: دعا رجل من الأنصار أهل قباء رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقنا، فلما طعم وغسل يديه قال: «الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم، منّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا، وكل بلاء حسن أبلانا الحمد لله الذي غير مودّع ربي، ولا مكافأ ولا مكفور ولا مستغنى عنه، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام وسقانا من الشراب وكسانا من العري، وهدانا من الضلال، وبصّرنا من العمى، وفضلنا على كثير من خلقه تفضيلا، الحمد لله رب العالمين» [ (6) ] .
الثالث والثلاثون: فيما كان صلى الله عليه وسلم يقوله إذا أكل عند أحد.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 9/ 581 (5458) .
[ (2) ] أخرجه أحمد 4/ 62، 327 وابن السني (459) .
[ (3) ] انظر المجمع 5/ 29.
[ (4) ] الطبراني في الكبير 3/ 304 وعبد الرزاق في المصنف (2842) وانظر المجمع 5/ 29.
[ (5) ] انظر المجمع 5/ 29.
[ (6) ] أخرجه معمر بن راشد في الجامع 10/ 381 (19425) وأحمد 3/ 138 والبيهقي 7/ 287.(7/179)
روى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جاء إلى سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه فجاء بخبز وزيت فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلّت عليكم الملائكة» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنهما قال: نزل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث. وفيه فقال أبي: ادع لنا، فقال: «اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم» [ (2) ] .
تنبيهات
الأول: اختلف في إنكار سيدنا جبريل الأكل متكئا فقال القاضي عياض في الشّفاء رحمه الله تعالى: التمكن للأكل، والتقعد للجلوس له كالتّربع وشبهه من تمكّن الجلسات التي يعتمد فيها الجالس على ما تحته قال: والجالس على هذه الهيئة يستدعي الأكل ويستكثر منه، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان جلوسه للأكل جلوس المستوفز مقعيا، قال: وليس معنى الحديث في الاتكاء الميل على شق عند المحققين، وبما فسر به الاتكاء حكاه في الإكمال عن الخطّابي وقال: إنه خالف في هذا التأويل أكثر الناس، وإنهم إنما حملوا الاتكاء على أنه الميل على أحد الجانبين انتهى، وبهذا جزم ابن الجوزي رحمه الله تعالى، وعبارة ابن الأثير: المتكئ في العربية كل من استوى قاعدا على وطاء متمكنا، والعامة لم تعرف المتّكئ إلا من مال في قعوده معتمدا على أحد شقيه، ثم قال: ومن فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب أهل الطب، قال ابن القيم: وهو يضر بالآكل، فإنه يمنع مجرى الطعام الطبيعي على هيئته، ويعوقه عن سرعة نفوذه إلى المعدة بضغط المعدة، فلا تستحكم فتحها للغذاء، وأما الاعتماد على الشيء فهو من جلوس الجبابرة المنافي للعبودية، ولهذا
قال صلى الله عليه وسلّم: «آكل كما يأكل العبد» ،
فإن كان المراد بالاتكاء الاعتماد على الوسائد والوطاء الذي تحت الجالس كما نقل عن الخطّابي فيكون المعنى: أني إذا أكلت لم أقعد متكئا على الأوطئة والوسائد كفعل الجبابرة، ومن يريد الإكثار من الأكل لكن آكل بلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزا.
وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم أكل تمرا وهو مقع، وفي رواية وهو محتفز. رواه مسلم. والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (1352) وابن السني (479) والحاكم 1/ 546 وأبو نعيم في الحلية 6/ 242.
[ (2) ] أخرجه أبو داود (3854) وابن ماجة (1747) وأحمد 3/ 118 وعبد الرزاق (7907) وابن حبان الموارد (1353) وأبو نعيم في الحلية 3/ 72 وابن أبي شيبة 3/. 100(7/180)
واختلف السلف رحمهم الله تعالى في كراهة الأكل متمكنا:
قال الخطّابي: إذا ثبت كونه مكروها أي خلاف الأولى فالمستحب في صفة الجلوس للأكل أن يكون جاثياً على ركبتيه وظهور قدميه، أو يجلس وينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في الهدى: ويذكر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يجلس متورّكا على ركبتيه، ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر اليمنى تواضعا لله تعالى، وأدبا بين يديه، قال: وهذه الهيئة أنفع هيئات الأكل وأفضلها لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي الذي خلقه الله تعالى عليه انتهى.
الثاني: قال ابن القيّم: في كونه صلى الله عليه وسلّم يأكل بثلاث أصابع، وهذا أنفع ما يكون في الأكلات فإن الأكل بالأصبع الواحدة من أكل التكبر، ولا يستلذ به الآكل ولا يمريه ولا يسيغه إلا بعد طول، ولا يفرج آلات الطعام والمعدة بما ينويها في كل أكلة، فيأخذها على إغماض، كما يأخذ الرجل حقه حبة حبة أو نحو ذلك، فلا تلتذ بأخذه، والأكل بالخمسة والراحة يوجب ازدرام الطعام على آلاته، وعلى المعدة، وربما اشتدت الآلات فمات، وتغصب الآلات على دفعه، والمعدة على احتماله، ولا تجد له لذة ولا استمراء، فأنفع الأكل أكله صلّى الله عليه وسلّم وأكل من اقتدى به بالأصابع الثلاث، ولا عبرة بكراهة الجهال للعق الأصابع استقذارا، نعم لو كان ذلك في أثناء الأكل فينبغي اجتنابه، لأنه يعيد أصابعه، وعليها أثر ريقه، قلت: وهذا هو الأكثر من فعله صلى الله عليه وسلم، ووقع عند سعيد بن منصور عن ابن شهاب مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أكل يأكل بخمس، فيجمع بينه وبين ما تقدم باختلاف الحال.
الثالث: قول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما قط: قال في زاد المعاد: كان صلى الله عليه وسلم لا يرد موجودا، ولا يتكلف مفقودا، وما قرب إليه شيء من الطعام إلا أكله، إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم، ولا عاب طعاما قط، إن اشتهاه أكله، وإلا تركه، ولم يكن من عادته صلى الله عليه وسلّم حبس نفسه الشريفة على نوع واحد من الأغذية لا يتعداه إلى غيره، فإن ذلك يضر بالطبيعة جدا، ولو أنه أطيب، بل كان صلى الله عليه وسلّم يأكل ما جرت عادة أهل بلده بأكله من اللحم والفاكهة والخبز والتمر كما سيأتي، وكان صلى الله عليه وسلّم يراعي صفات الأطعمة، وطبائعه، واستعماله على قاعدة الطب فإذا كان في أحد الطعامين ما يحتاج إلى كسر وتعديل كسره وعدله بضده إن أمكن، كتعديله حرارة الرطب بالبطيخ كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وكان إذا فرغ من طعامه لعق أصابعه، ولم تكن لهم مناديل يمسحون بها أيديهم، ولم تكن عادتهم غسل أيديهم كلما أكلوا.(7/181)
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
القاحة: بقاف فألف فحاء مهملة مفتوحة فتاء تأنيث.
الأرنب: معروف يقال للذكر والأنثى.
الذريع: بذال معجمة مفتوحة فراء مكسورة فتحتية فعين مهملة: السريع.
الإقعاء: بكسر الهمزة وسكون القاف وعين مهملة: أن يلزق الرجل إلييه بالأرض، وينصب ساقيه ويضع يديه بالأرض كما يقعي الكلب، وفسره الفقهاء رحمهم الله تعالى بأن يضع إلييه على عقبيه بين السجدتين، قال أبو عبيدة والأول هو الأولى.
الفور: بفاء مفتوحة فواو ساكنة فراء: وهجها وغليانها.
الخزيرة: بخاء معجمة مفتوحة، ثم زاي مكسورة، وبعد التحتية الساكنة راء: ما يتخذ من الدقيق على هيئة العصيدة، لكنه أرق قاله الطبري، وقال ابن فارس: دقيق يخلط بشحم، وقال العتبي وتبعه الجوهري: أن يؤخذ اللحم فيقطع صغارا ويصب عليه ماء كثير، فإذا نضج ذرّ عليه الدقيق، فإن لم يكن لحم فهي عصيدة وقيل مرقة تصفى من سلالة النّخالة، وقيل الخزيرة بالإعجام من العجين والنّخالة، وبالإهمال من اللبن.
حسّن: بحاء مفتوحة فسين مهملتين: توجع.
الخوان: ما يؤكل عليه معرب وفيه ثلاث لغات كسر الخاء وهي أكثر، وضمها، وإخوان بهمزة مكسورة، قال الحكيم الترمذي: وهو شيء محدث فعلته الأعاجم، وكانت العرب يأكلون على السّفر واحدها سفرة، وهي التي تتخذ من الجلود، ولها معاليق تنضم، وتنفرج بالانفراج، سميت سفرة لأنها إذا حلّت معاليقها انفرجت، وأسفرت عما فيها فقيل سفرة.
السّكرّجة: بسين مهملة، فكاف مضمومتين، فراء مشددة مفتوحة، فجيم، فتاء تأنيث:
إناء صغير نأكل فيه بشيء من الأدم، لأنها أوعية الأصباغ، وهي الألوان ولم يكن من شأنهم الألوان، إنما كان طعامهم الثّريد عليها مقطّعات اللحم.
ولا خبز مرقّق: بميم مضمومة فراء فقافين: أي لأن عامة خبزهم كان الشعير، وإنما يتخذ الرّقاق من دقيق البرّ، وقلّ ما يمكن اتخاذه من الشعير.
المائدة قال في الصحاح: ماده ميدا أعطاه والمائدة مشتقة من ذلك، وهي فاعلة بمعنى مفعولة لأن المالك مادها للناس أي أعطاهم إياها، وقيل مشتقة من ماد يميد إذا تحرك، فهي فاعلة على الباب.(7/182)
قال الحكيم الترمذي رحمه الله تعالى: المائدة كل شيء يمد ويبسط مثل المنديل والثوب والسفرة، نسب إلى فعله فقيل مائدة، وكان حقه أن يكون مادّة- الدال مضاعفة فجعلوا إحدى الدالين ياء فقيل مايدة، والفعل واقع به، وكان ينبغي أن يكون ممدودا، ولكن خرج مخرج فاعل، كما قالوا: سرّ كاتم، وهو مكتوم، وعيشة راضية وهي مرضيّة.
السّقاء: بسين مهملة مكسورة فقاف فألف فهمزة: ظرف الماء من الجلد.
النّطاق: بنون فطاء فألف فقاف وتقدم تفسيره أوائل الكتاب.
الشّعب: بكسر الشين المعجمة وسكون المهملة.
التّرس: بمثناة فوقية مضمومة فراء ساكنة فسين مهملة: معروف واحد الأتراس.
الحضيض: بحاء مهملة مفتوحة فضادين معجمتين بينهما تحتية ساكنة: قرار الأرض، وأسفل الجبل.
الصّحفة: بصاد مهملة مفتوحة فحاء ساكنة ففاء فتاء تأنيث: إناء كالقصعة المبسوطة.
الوطيئة: بالياء المثناة التحتية والهمزة بوزن سفينة يأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى.
الجشاء: بجيم مضمومة فشين معجمة فألف فهمزة: تنفس المعدة.
الذوّاق: بذال معجمة: ما يذاق باللسان.
المنديل: الأكف: بهمزة مفتوحة فكاف مضمومة ففاء جمع كف وهو اليد أو إلى الكوع.
الساعد: بسين مهملة فألف فعين فدال مهملتين: الذراع والله تعالى أعلم.(7/183)
الباب الثاني في صفة خبزه وأمره بإدام الخبز، ونهيه عن إلقائه صلى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد ومسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كنت جالسا في ظل داري فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأشار إليّ فأتيته فأخذ بيدي فانطلقنا حتى أتى بعض حجر نسائه: زينب بنت جحش أو أم سلمة رضي الله تعالى عنهما، فدخل ثم أذن لي فدخلت، وعليها الحجاب، فقال: «هل من غذاء؟» قالوا: ثلاثة أقرصة من شعير فوضعت على شيء، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرصا فوضعه بين يديه، وأخذ الآخر فوضعه بين يدي، ثم أخذ الثالث فكسره ثنتين، فجعل نصفه بين يديه، ونصفه الآخر بين يدي،
وذكر الحديث [ (1) ] .
وروى ابن ماجة والحكيم التّرمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلّم البيت فرأى كسرة ملقاة فأخذها فمسحها ثم أكلها، وقال: «يا عائشة أحسني جوار نعم الله، فإنها قلّ ما نفرت عن أهل بيت فكادت ترجع إليهم» ، وفي رواية: «عن قوم فعادت إليهم» [ (2) ] .
وروى الطبراني عن أبي سكينة [ (3) ] والبزار والطبراني عن عبد الله بن أم حرام أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أكرموا الخبز، زاد أبو سكينة: فإن الله تعالى أكرمه، فمن أكرم الخبز أكرمه الله تعالى، زاد عبد الله: فإن الله تعالى أنزله من بركات السماء وسخر له بركات الأرض، ومن يتبع ما يسقط من السفرة غفر له» [ (4) ] .
وروى البزار بسند ضعيف والطبراني عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه» [ (5) ] .
قال إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد أحد رواته: سمعت بعض أهل العلم يفسرها قال: هنا تصغير الأرغفة، وقال في النهاية وحكي عن الأوزاعي أنه تصغير الأرغفة.
روى البخاري والترمذي عن سهل بن سعد أنه قيل له: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبز
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الأشربة (169) وابن ماجة (3318) وانظر المجمع 5/ 36.
[ (2) ] أخرجه ابن ماجة (353) وضعفه البوصيري وذكره ابن عراق في تنزيه الشريعة 2/ 236 وانظر الكنز (6455) وكشف الخفاء 1/ 194.
[ (3) ] أبو سكينة مصغرا وقيل بفتح أوله، ذكره عبد الصمد بن سعيد فيمن نزل حمص من الصحابة وقال اسمه محلم بن سوار الإصابة 7/ 88.
[ (4) ] أخرجه البخاري في التاريخ 8/ 12 وذكر الفتني في تذكرة الموضوعات (144) وابن الجوزي في الموضوعات 2/ 290، 291 والحاكم 4/ 122 وانظر المجمع 5/ 34.
[ (5) ] انظر المجمع 5/ 38.(7/184)
النقي؟ فقال: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم النقي حتى لقي الله، فقيل: هل كانت لكم مناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ما كانت لنا مناخل، قيل: كيف كنتم تصنعون بالشعير؟ قال:
كنا ننفخه فيطير منه ما يطير ثم نعجنه [ (1) ] .
وروى الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: ما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبزا مرقّقا [ (2) ] .
وروى أبو داود والترمذي في الشمائل عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة وقال: «هذه أدم هذه» ،
وروى ابن سعد عن سهل بن سعد أنه أهدي له صحفة نقي يعني حوّاري فقال: ما هذا؟ إن هذا الطعام ما رأيته، قيل: ما كان يأكله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، ولا رآه بعينه، إنما كان يطحن له الشعير، فينفخ نفختين، ثم يوضع فيأكله.
وروى أيضا عن سلمى قالت: ما كان لنا مناخل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كنا ننسف الشعير إذا نسفنا نسفا.
وروى أيضا عن أم رومان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما كانوا يأكلون الشعير غير منخول والله تعالى أعلم.
تنبيه:
قال شيخنا أبو الفضل أحمد بن الخطيب رحمه الله تعالى: قد تتبعت هل كانت أقراص خبزه صلى الله عليه وسلّم صغارا أم كبارا؟ فلم أجد في ذلك شيئا بعد الفحص، وأما حديث صغّروا الخبز، وأكثروا عدده يبارك لكم فيه فرواه الدّيلمي وسنده واه والله أعلم [ (3) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 9/ 549 (5413) وأحمد 5/ 332.
[ (2) ] أخرجه أبو داود 3/ 575 (3259) (3830) والترمذي في الشمائل ص 86 (185) .
[ (3) ] ذكره السيوطي في اللآلئ 2/ 117 وابن الجوزي في الموضوعات 2/ 292 وانظر تنزيه الشريعة 2/ 245 والأسرار المرفوعة 150، 151، 232 والتذكرة للفتني 143.(7/185)
الباب الثالث فيما أكله صلّى الله عليه وسلم من لحوم الحيوانات
وفيه أنواع:
الأول: في أكله لحم الشاة وما كان يختاره من الأعضاء.
روى البخاري والترمذي في الشمائل- وصححه-، وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي في الشمائل عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان أحب العراق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذراع ذراع الشاة، وكان يعجبه الذراع [ (1) ] .
وروى البزار برجال ثقات عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تذبح شاة فيقسمها بين الجيران قال: فوزعها بين الجيران، ورفعت الذراع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان أحب الشاة إليه الذراع،
فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما بقي عندنا منها إلا الذراع، قال: «بقي كلها إلا الذراع» [ (2) ] .
وروى الترمذي- وحسنه- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان الذراع أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لا يجد اللحم إلا غبّا وكان يعجل إليه لأنه أعجله نضجا [ (3) ] .
وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أحب اللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الكتف [ (4) ] .
وروى ابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: ما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لحم قط إلا أجاب، ولا أهدي له لحم إلا قبله [ (5) ] .
وروى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلحم بقر فقيل: هذا ما تصدق به على بريرة فقال: «هو لها صدقة ولنا هدية» [ (6) ] .
وروى عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأتى بلحم فجعل القوم يلقمونه اللحم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أطيب اللحم لحم الظهر» [ (7) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود في الأطعمة باب (21) .
[ (2) ] انظر ابن القيسراني (562) .
[ (3) ] أخرجه الترمذي (1839) .
[ (4) ] انظر اتحاف السادة المتقين 7/ 120 وانظر الكنز (18169) .
[ (5) ] ضعيف أخرجه ابن ماجة 2/ 1099 (3305) .
[ (6) ] أخرجه البخاري 9/ 404 (5279) ومسلم 2/ 1144 (14/ 1504) .
[ (7) ] أخرجه ابن ماجة (3308) وأحمد 1/ 204، 205 والحاكم 4/ 111 وانظر المجمع 9/ 170 والحميدي (539) .(7/186)
وروى الحاكم والبيهقي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: قدمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم عناقا فنظر إلي وقال: «قد علمت حبنا اللحم» .
وذكر الحديث.
وروى أبو نعيم عن أنس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قالا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الذراعان والكتف [ (1) ] .
وروى الطبراني عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مقدّمها [ (2) ] .
وروى الشيخان والحميدي عن عمر بن أمية أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحتز من كتف شاة في يده، يأكل منها، فدعي إلى الصلاة فألقاها، وألقى السكين التي كان يحتز بها، ثم قام فصلى، ولم يتوضأ.
وروى الإمام أحمد والنسائي والبيهقي عن ضبيعة بنت الزبير بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنها، أنها ذبحت في بيتها شاة، فأرسل إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أطعمينا من شاتكم، فقالت للرسول: ما بقي عندنا إلا الرقبة، وإني لأستحي أن أرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالرقبة، فرجع الرسول فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «ارجع إليها فقل: أرسلي بها فإنها هادية الشاة، وأقرب الشاة إلى الخير وأبعدها من الأذى» [ (3) ] .
الثاني: في أكله صلّى الله عليه وسلّم القديد.
روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لطعام صنعه، فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقرب إليه خبزا من شعير، ومرقا فيه دبّاء وقديد [ (4) ] .
وروى النسائي عن عبد الرحمن بن عابس عن أبيه قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها عن لحوم الأضاحي، قالت: كنا نخبئ الكراع لرسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا ثم يأكله [ (5) ] .
وروى ابن ماجه عنها قالت: لقد كنا نرفع الكراع فيأكله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خمسة عشر يوما من الأضاحي [ (6) ] .
وروى أبو الشيخ عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: أكلنا القديد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
__________
[ (1) ] انظر كنز العمال (18171) .
[ (2) ] انظر المجمع 5/ 36.
[ (3) ] أحمد في المسند 6/ 361.
[ (4) ] أخرجه البخاري 4/ 318 (2092) (5379، 5436) ومسلم 3/ 1615 (144/ 2041) .
[ (5) ] أخرجه النسائي 7/ 236.
[ (6) ] أخرجه الترمذي (1511) .(7/187)
وروى الأربعة عن رجل قال: ذبحت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة ونحن مسافرون، فقال: «أصلح لحمها، فلم أزل أطعمه منه إلى المدينة» [ (1) ] .
الثالث: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الشّواء.
روى الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي في الشمائل عن الحارث بن جزء الزبيدي رضي الله تعالى عنه قال: أكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد لحما قد شوي، فمسحنا أيدينا بالحصباء، ثم قمنا نصلي ولم نتوضأ [ (2) ] .
وروى أبو يعلى والنسائي في الكبرى عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: أمر أبي بحريرة فصنعت، ثم أمرني فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأتيته وهو في المسجد، فقال لي: «ماذا معك يا جابر؟ ألحم ذا؟» قلت: لا، فأتيت أبي، فقال: هل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قلت: نعم، قال لي: يا جابر ألحم ذا؟ قال: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون اشتهى اللحم، قال: فأمر بشاة لنا داجن فذبحت ثم أمر بها فشويت، ثم أمرني، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: «ماذا معك يا جابر؟» فأخبرته، فقال: «جزى الله تعالى الأنصار عنا خيرا ولا سيما عبد الله بن عمرو بن حرام، وسعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما» .
وروى الشيخان والنسائي عن أبي رافع رضي الله تعالى عنه قال: أشهد لكنت أشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطن الشاة، ثم صلى ولم يتوضأ.
وروى الترمذي- وحسنه- عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أنها قربت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جنبا مشويا فأكل منه، ثم قام إلى الصلاة وما توضأ.
وروى عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: ضفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فأمر بجنب فشوي، وأخذ الشفرة فجعل يحزّبها منه، فجاء بلال رضي الله تعالى عنه فأذنه بالصلاة، فألقى الشّفرة وقال: «ما له تربت يداه» .
الرابع: في أكله صلّى الله عليه وسلّم لحم الجزور.
روى النّسائي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان علي رضي الله تعالى عنه قدم بهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الهدي الذي قدم به صلى الله عليه وسلم، وعلى رضي الله تعالى عنه من اليمن مائة بدنة، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم منها ثلاثا وستين، ونحر علي رضي الله تعالى عنه سبعا وثلاثين، وأشرك عليا رضي الله تعالى عنه في بدنة، ثم أخذ من كل بدنة بضعة فجعلت في
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود في الضحايا باب (11) والحاكم في المستدرك 4/ 230 وهو عند مسلم في الأضاحي (35، 36) .
[ (2) ] أخرجه ابن ماجة 2/ 1097 (3300) (3311) .(7/188)
قدر فطبخت، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعلي رضي الله تعالى عنه من لحمها وشربا من مرقها [ (1) ] .
الخامس: في أكله صلّى الله عليه وسلّم سمك البحر المالح.
روى الشيخان وابن أبي عمر عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: غزونا جيش الخبط وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه فجعنا جوعا شديدا فألقى لنا البحر حوتا ميتا لم نر مثله يقال له العنبر، فقال أبو عبيدة: كلوا منه فأكلنا وادّهنّا، وأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته، وكان يجلس النفر الخمسة في موقع عينيه، فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «كلو رزقا أخرجه الله تعالى لكم، وأطعمونا، إن كان معكم» ، فأتاه بعضهم بشيء فأكله.
وروى الدارقطني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: غزونا فجعنا حتى إنا لنقسم التمر التمرة والتمرتين، فبينا نحن على شط البحر إذ رمى البحر بحوت ميتة، فاقتطع الناس ما شاءوا من شحم لحم، وهو مثل الظّرب
فبلغني أن الناس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخبروه فقال لهم: «معكم منه شيء؟» فقالوا: نعم، فأعطوه منه فأكله.
السادس: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الجراد.
روى الخمسة وأبو نعيم في الطب وابن حبان عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم سبع غزوات أو ست غزوات فكنا نأكل معه الجراد [ (2) ] .
وروى أبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يبعثني فألتقط لهن الجراد فيقلينه بالزيت ثم يطعمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السابع: فيما جاء في لحم الفرس.
روى الطبراني عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما أنهم نحروا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: فأكلنا نحن، وأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
الثامن: في أكله صلّى الله عليه وسلّم لحم الدجاج.
روى الشيخان عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل لحم الدّجاج [ (3) ] .
__________
[ (1) ] سيأتي في الحج.
[ (2) ] أخرجه البخاري 9/ 620 (5495) ومسلم 3/ 1546 (52/ 1952) .
[ (3) ] أخرجه البخاري 9/ 645 (5517) ومسلم 3/ 1270 (9/ 1649) .(7/189)
وروى ابن عدي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يأكل دجاجة أمر بها فربطت أياما، ثم يأكلها بعد ذلك.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل الدجاج حبسه ثلاثة أيام.
وروى الشيخان عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل لحم الدجاج.
التاسع: في أكله صلّى الله عليه وسلّم لحم الحبارى.
روى أبو داود والتّرمذي والبيهقي والمحاملي وابن عدي عن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لحم حبارى [ (1) ] .
وروى الدارقطني في الإفراد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: بعثتني أمي أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بطير مشوي، ومعه أربعة أرغفة، فأتيته به فقال: «يا أنس ادع لنا من يأكل معنا من هذا الطير» ،
فذكر الحديث، ويأتي في مناقب علي رضي الله تعالى عنه، قال أبو الحسن ابن الضحاك: قد ذكر عن أنس أن الطير كان حبارى مفسرا ولم يرد هنا مفسرا.
العاشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الأرنب.
روى الستة عن أنس رضي الله تعالى عنه نفجنا أرنبا بمر الظّهران فسعى القوم فلغبوا، فأدركتها فأخذتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها بمروة وشويتها فبعث معي أبو طلحة بعجزها، وفي لفظ بوركها، وفي لفظ بفخذها، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقبلها، ولفظ البخاري- في الهبة- فأكلها. وفي لفظ: فأكله، قيل له: أكله؟ قال: «قبله» [ (2) ] .
وروى الدّارقطني عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم أرنب وأنا نائمة، فخبأ لي منها العجز، فلما قمت أطعمني.
روى أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأرنب وأنا جالس، فلم يأكلها، ولم ينه عنها، وذكر أنها تحيض [ (3) ] .
وروى ابن ماجه عن خزيمة بن جزء رضي الله تعالى عنه أنه قال: يا رسول الله ما تقول في الأرنب؟ قال: «لا آكله، ولا أحرمه» ، قلت: فإني آكل ما لم تحرم، قلت: ولم يا رسول الله؟
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود 4/ 155 (2797) والترمذي 4/ 272 (1828) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 5/ 202 (2572) ومسلم 3/ 1547 (53/ 1953) .
[ (3) ] أبو داود (3792) .(7/190)
قال: «إن لها دما
وقال في زاد المعاد:» أكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم لحم الجزور، والضأن، والدجاج، ولحم الحبارى ولحم حمار الوحش، والأرنب، وطعام البحر [ (1) ] .
الحادي عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الحجل.
روى الترمذي والحاكم، وصححه، وابن السّني وأبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم حجل مشوي فقال: «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير» ، فجاء علي رضي الله تعالى عنه فأكل منه [ (2) ] .
الثاني عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم لحم شاة من الأروي.
روى أبو إسحاق المذكي في أماليه انتقاء الدارقطني عن حازم رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيد صدته: شاة من الأرويّ فأهديتها إليه فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكل منها وكساني عمامة عدنيّة وقال لي: «ما اسمك؟» قلت: حازم، قال: «لست بحازم، ولكنك مطعم» .
الثالث عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم لحم حمار الوحش.
روى البخاري عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: كنت جالسا مع رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل بطريق مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم نازل أمامنا، والقوم محرمون، وأنا غير محرم، فأبصروا حمارا وحشيا، وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا لو أني أبصرته، فالتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس، فأسرجته: ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه بشيء، فغضبت، فنزلت، فأخذتهما، ثم ركبت وشددت على الحمار فعقرته، ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكّوا في أكلهم إياه وهو حرم فرحنا، وخبأت العضد معي لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عن ذلك فقال: «معكم شيء؟» قلت: نعم، فناولته العضد، فأكلها حتى نفذها وهو محرم [ (3) ] .
الرابع عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم المخ.
روى أبو بكر أحمد بن مروان المالكي الدينوري في المجالسة عن معن بن كثير عن أبيه أن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه- قال- أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصحفة وجفنة مملوءة
__________
[ (1) ] ابن ماجة (3245) .
[ (2) ] الترمذي (3721) والطبراني في الكبير 1/ 226، 7/ 96 والخطيب في التاريخ 9/ 369 والحاكم 3/ 130 والبخاري في التاريخ 1/ 358، 2/ 3.
[ (3) ] أخرجه البخاري 4/ 22 (1821، 2854، 5490، 5491) ومسلم 2/ 855 (63/ 1196) .(7/191)
مخّا، فقال: «يا أبا ثابت ما هذا؟» فقال: والذي بعثك بالحق لقد نحرت وذبحت أربعين ذات كبد، فأحببت أن أشبعك من المخ، قال: فأكل، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم، بخير
قال إبراهيم بن حبيب: سمعت أن الخيزران حدثت بهذا الحديث، فقسمت قسما من مالها على ولد سعد بن عبادة، وقالت: أكافئ ولد سعد عن فعله برسول الله صلى الله عليه وسلم.
تنبيهات
الأول: الشك في عدد الغزوات في أكله صلّى الله عليه وسلّم الجراد من شعبة أحد رواة الحديث.
الثاني: قال التّوربشتي والحافظ وغيرهما يحتمل أنه يريد بالمعية مجرد الغزوات دون ما يتبعه من أكل الجراد، وقال التّروبشتي: أي أكلوه وهم معه، ويحتمل أنه يريد مع أكله، ويدل له رواية أبي نعيم عن ابن أبي أوفى السابقة، ورجح التروبشتي الأول لخلو أكثر الروايات عن هذه الزيادة، ولما
رواه أبو داود عن سلمان رضي الله تعالى عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد، فقال: لا آكله ولا أحرمه.
قال الحافظ والصواب أنه مرسل فإن قيل: كيف يترك الحديث الصحيح بمثل هذا الحديث؟ قلنا: لم نتركه، وإنما أولناه لما فيه من الاحتمال كي يوافق سائر الروايات، ولا يرد الحديث الذي أوردناه- وهو من الواضح الكلي- بما فيه خفاء والتباس.
قال الطّيّبي: التأويل الأول بعيد لأن المعية تقتضي المشاركة في الفعل كما في قوله:
غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد صرح به صاحب الكشاف، والرواية الخالية عنه مطلقة تحتمل الأمرين وهذه مقيّدة تحمل على المقيّد، وحديث سلمان ضعفه البغوي، ورواية من روي أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأكل الجراد إخبار عن عدم الأكل بأنه لم يكن معه، فلم يشاهد فيبقى الكلام في لفظة معه.
الثالث:
روى ابن عدي من طريق ثابت بن زهير عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الضّبّ فقال: «لا آكله ولا أحرمه» ، وسئل عن الجراد فقال: مثل ذلك،
قال الحافظ: هذا الحديث ليس بثابت، لأن ثابتا قال فيه النّسائي: إنه ليس بثقة.
الرابع: نقل النووي رحمه الله تعالى الإجماع على حل أكل الجراد، لكن فصّل ابن العربي في شرح التّرمذي بين جراد الحجاز وبين جراد الأندلس، فقال: في جراد الأندلس لا يؤكل لأنه ضرر محض.
قال الحافظ: إن ثبت أنه يضر آكله بأن يكون فيه سمة تخصه دون غيره من جراد البلاد تعين استثناؤه.(7/192)
الخامس: ادعى ابن الجوزي أن حديث أكله صلّى الله عليه وسلّم الحجل موضوع، ورد عليه الحافظ صلاح الدين العلاثي، وقال: إن له طرقا كثيرة وغالبها واه، ومنها ما فيه ضعف قريب، وربما يقوي بعضها بعضا إلى أن تنتهي إلى درجة الحسن، وقال: والحكم على الحديث بالوضع بعيد جدا، وبسط الحكم على ذلك.
السادس: في بيان غريب ما سبق:
الذراع: بذال معجمة مكسورة فراء فألف مهملة: هو الساعد.
العراق: بضم العين: جمع عرق بفتحها، فإسكان الراء: وهو العظم إذا خلى عنه معظم اللحم.
الغب: بغين معجمة مكسورة فموحدة من الزيارة كل أسبوع، ومن الحمّى ما تأخذ يوما بعد يوم.
والغبة: بالضم البلغة من العيش، وهو المناسب هنا والأولى.
العناق: بعين مهملة فنون مفتوحتين فألف فقاف: الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم له سنة.
الدّبّاء: بالمد تقدم الكلام عليها.
القديد: بقاف مفتوحة فدالين أولاهما مكسورة بينهما مثناة تحتية: اللحم المملوح المجفف في الشمس فعيل بمعنى مفعول.
الشّواء: الحصباء بحاء مفتوحة وصاد ساكنة مهملتين وموحدة وبالمد: الحصى.
الداجن: بدال مهملة فألف فجيم فنون الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم.
الجنب: بجيم مفتوحة ونون ساكنة وموحدة والجانب والجنبة محركة: شق الأسنان.
الخبط: بخاء معجمة مفتوحة ثم باء موحدة مفتوحة: الورق المخبوط، وسمي الجيش به لأنه لما اشتد جوعهم كانوا يضربون الخبط بعصيهم، ويبلونه ويأكلونه.
الدجاج: بفتح الدال وكسرها وحكى الضم أيضا.
الحبارى: بضم الحاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة وفتح الراء مقصور: طائر معروف نفجنا أرنبا بنون ففاء فجيم أي أثرناه من مكانه.
الحجل: بحاء مهملة فجيم فلام مفتوحات طائر معروف.
الأروى: بهمزة مضمومة فراء ساكنة فواو فتحتية جمع أروية وهي الشاة الواحدة من شياه الجبل، وهي أنثى الوعول وهي تيوس الجبل والله تعالى أعلم.(7/193)
الباب الرابع في أكله صلّى الله عليه وسلّم أطعمة مختلفة
وفيه أنواع:
الأول: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الطّفيشل.
قال الحافظ أبو الحسن البلاذري رحمه الله تعالى في تاريخه قيل لأم أيوب رضي الله تعالى عنها أي الطعام كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: ما رأيته أمر أن يصنع له طعام، ولا رأيته ذم طعاما قط، ولكن أبا أيوب أخبرني أنه تعشى معه ليلة من قصعة أرسل بها سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنها طفيشل، فرآه ينهكها نهكا، لم يره ينهك غيرها، فكنا نعمله له.
الثاني: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الهريسة.
قال أبو الحسن بن الضحاك حدثنا عبد الصمد بن أحمد بن سعيد وأحمد بن محمد قالا: أخبرنا أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ: حدثنا أحمد حدثنا صهيب حدثنا يحيى أبو محمد حدثنا عمران بن خالد الخزاعي عن مطر الورّاق [ (1) ] رحمهم الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا احتجم صنعت له هريسة، ونقل الحافظ البلاذري في تاريخه عن أم أيوب قالت: كنا نعمل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الهريس فنراه يعجبه، وكان يحضر عشاءه الخمسة إلى الستة إلى العشرة. وقال محمد بن عمر الأسلمي: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وادي القرى أهدى له بنو عريض اليهودي هريسا فأكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمهم أربعين وسقا فهي جارية عليهم، تقول امرأة من يهود: لهذا الذي صنع لهم محمد خير مما ورثوه من آبائهم، لأن هذا لا يزال جاريا عليهم إلى يوم القيامة.
وروي أن أسعد بن زرارة كان يتخذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم الهريس ليلة وليلة، فإذا كانت الليلة التي يتوقعها منها قال: «هل جاءت قصعة أسعد؟» فيقال: نعم، فيقول: «هلموا» ، فنعلم أنها تعجبه.
الثالث: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الحيس والوطيئة.
روى الحميدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هل من طعام؟» فقلت: نعم، فقربت إليه قعبا من حيس خبأناه له، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يده فأكل.
__________
[ (1) ] مطر، بفتحتين، ابن طهمان الورّاق، أبو رجاء السّلمي مولاهم الخراساني، سكن البصرة، صدوق، كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف، من السادسة، مات سنة خمس وعشرين، ويقال سنة تسع التقريب 2/ 252.(7/194)
وروي عنها قالت: أهدي لنا حيس فخبأت لرسول الله صلى الله عليه وسلم منه، وكان يحب الحيس فقلت: يا رسول الله أهدي لنا حيس، فخبأت لك منه فقال: «أذنيه، أما إني أصبحت وأنا صائم، وأكل منه» ، ثم قال: «إنما مثل صوم التطوّع مثل الرجل يخرج من ماله صدقة إن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها» .
وروى مسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن بسر قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي فقرب إليه طعاما ووطيئة فأكل منها.
الرابع: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الجشيشة.
روى مسلم عن عتبان بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قلت: يا رسول الله أن بصري قد ساءني وذكر الحديث وفيه فحبسنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على جشيشة صنعناها له [ (1) ] .
وروى أبو نعيم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: صنعنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخّارة فيها دشيشة.
الخامس: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الحريرة والعصيدة.
روى الطبراني برجال ثقات عن سلمى مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورضي الله عنها أنها صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حريرة وقربتها إليه فأكل، ومعه ناس من أصحابه فبقي منها قليل، فمر بالنبي صلى الله عليه وسلّم أعرابي، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخذها الأعرابي كلها بيده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ضعها ثم قل: باسم الله، وكل من أدناها فشبع منها، وفضل منها فضلة» .
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنهما قال: بعثني أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أدعوه إلى طعام، فجاء معي، فلما دنوت من المنزل أسرعت فأعلمت أبويّ فخرجا، فتلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورحبا به ووضع له قطيفة كانت عندنا زبيرية فقعد عليها، ثم قال أبي لأمي: هاتي طعامك، فجاءت بقصعة، فيها دقيق قد عصدته بماء وملح، فوضعته بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «خذوا باسم الله من جوانبها، وذروا ذروتها فإن البركة فيها» ، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأكلنا منه، وفضل منها فضل، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«اللهم اغفر لهم، وارحمهم، وبارك عليهم، ووسع عليهم في أرزاقهم» [ (2) ] .
السادس: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الثّريد.
روى أبو داود والحاكم- وصححه- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في المساجد (265) .
[ (2) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 188.(7/195)
أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الثريد من الخبز، والثريد من الحيس [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والحاكم والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعجبه الثّفل قال البيهقي: بلغني عن ابن خزيمة أن الثّفل- وقال غيره- هو الدقيق وما لا يشرب [ (2) ] .
وروى البخاري عنه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغلام له خياط، فقدم إليه قصعة فيها ثريد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع الدّبّاء الحديث.
وروى ابن عدي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقصعة من ثريد فقال: «كلوا من جوانبها، ولا تأكلوا من وسطها فإن البركة تنزل في وسطها» ، ورواه أبو القاسم البغوي عن ابن عباس.
روي عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: لم يدخل منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم هدية أي في قدومه المدينة، أول هدية دخلت بها عليه قصعة مثرودة خبزا وسمنا فأضعها بين يديه، فقلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت بهذه القصعة أمي، فقال: «بارك الله فيك، وفي أمك» ، فدعا أصحابه فأكلوا.
وروى أبو بكر الشافعي عن عكراش بن ذؤيب رضي الله تعالى عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فانطلق إلى منزل أم سلمة رضي الله تعالى عنها فقال: «هل من طعام؟» فأوتينا بجفنة كثيرة السمن والودك فأقبلنا نأكل منها، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما بين يديه وجعلت أخبط في نواحيها فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليسرى على يدي اليمنى، ثم قال: «يا عكراش كل من موضع واحد، فإنه طعام واحد» .
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: كنت من أهل الصّفّة فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوما بقرص فكسره في الصحفة ثم وضع فيها ماء سخنا ثم وضع فيها ودكا ثم سفسفها ثم لبّقها ثم صعنبها ثم قال: «اذهب فأت بعشرة، وأنت عاشرهم» ، فجئت بهم، وذكر الحديث [ (3) ] .
ورواه ابن عساكر وابن النجار عنه قال: كنت من أهل الصفة ... إلخ.
السابع: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الجبن الذي من عمل النصارى.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود 4/ 147 (3783) والحاكم 4/ 116.
[ (2) ] أحمد 3/ 220 والترمذي في الشّمائل ص 87 (186) الحاكم 4/ 116 وقال الترمذي الثفل: قال عبد الله- شيخ الترمذي- يعني ما بقي من الطّعام.
[ (3) ] أحمد في المسند 3/ 490.(7/196)
روى مسدد وأبو داود وابن حبان في صحيحه والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بجبنة في تبوك من عمل النصارى فقيل: هذا طعام تصنعه المجوس فدعا بسكين فسمى وقطع.
وروى الطيالسي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما فتح مكة رأى جنبة فقال: «ما هذا؟» فقالوا: طعام يصنع بأرض العجم فقال: «ضعوا فيه السكين وكلوا» .
وروى الإمام أحمد ومحمد بن عمر الأسلمي والبيهقي عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبنة في غزاة تبوك، فقال صلى الله عليه وسلم: «إني صنعت هذه؟» قالوا: بفارس، ونحن نرى أنه يجعل فيها ميتة فقال صلى الله عليه وسلّم: «أطعموا» . وفي رواية: «ضعوا فيها السكين، واذكروا اسم الله تعالى وكلوا» .
الثامن: في أكله صلّى الله عليه وسلّم خبز الشعير مع الإهالة السّنخة.
روى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى خبز الشعير وإلى إهالة سنخة [ (1) ] .
التاسع: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الخزيرة.
روى البخاري والبرقاني عن عتبان بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أنكرت بصري وإن السيل يأتيني فيحول بيني وبين مسجد قومي، ويشق علي اجتيازه فإن رأيت أن تأتي فتصلي في بيتي في مكان أتخذه مصلى فأصلي فيه، فقال: «أفعل» ، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بعد ما استمد النهار، فاستأذن، فأذنت له، فلم يجلس حتى قال: «أين تحب أن تصلي من بيتك؟» فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فكبر، وصففنا خلفه، فصلى لنا ركعتين، ثم احتبسته على خزيرة صنعت لهم- الحديث.
العاشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الزبد مع التمر.
روى أبو داود وابن ماجة عن ابني بسر السّلميّين رضي الله تعالى عنهما قالا: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقدمنا إليه زبدا وتمرا، وكان يحب الزبد والتمر [ (2) ] .
الحادي عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم اللبن بالتمر.
روى الإمام أحمد وأبو نعيم بسند حسن عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمجّع اللبن بالتمر ويسميها الأطيبين [ (3) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في البيوع باب (14) وأحمد 3/ 133 والترمذي في البيوع (7) .
[ (2) ] أخرجه أبو داود 4/ 176- 177 (3837) وابن ماجة 2/ 1106 (3334) .
[ (3) ] قال الهيثمي في المجمع 5/ 44 رجاله رجال الصحيح خلا أبا خالد وهو ثقة.(7/197)
وروى ابن السّني وإبراهيم والحاكم- وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسمي التمر واللبن الأطيبين [ (1) ] .
الثاني عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الفلفل والزيت.
وروى أبو يعلى، والطبراني- بإسناد جيد، والترمذي، عن عبد الله بن علي رحمه الله تعالى أن جدته سلمى رضي الله تعالى عنها أخبرته قالت: دخل علي الحسن بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، فقالوا: اصنعي لنا طعاما مما كان يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحسن أكله فقالت للحسن: يا بني لا تشتهيه اليوم، فأخذت شعيرا ونسفته، وجعلت منه خبزة، ثم جعلته في تور، وجعلت أدمه الزيت، ونثرت عليه فلفلا [ (2) ] ، وقربته إليهم، وقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب هذه، ويحسن أكلها.
الثالث عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الحلوى والعسل.
روى الترمذي- وصححه- وابن ماجة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب الحلوى والعسل [ (3) ] .
وروى ابن ماجه عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عسل، فقسم بيننا لعقة لعقة فأخذت لعقتي، ثم قلت: يا رسول الله أزداد أخرى، قال: «أخرى؟» قلت:
نعم [ (4) ] .
الرابع عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم المنّ.
روى ابن عدي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن أكيدر [ (5) ] دومة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم جرّة من منّ، فأعطى أصحابه قطعة قطعة، ثم رجع إلى جابر فأعطاه قطعة أخرى، فقال: يا رسول الله قد أعطيتني فقال: «هذه لبنات عبد الله» [ (6) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم 4/ 16 وانظر الكنز (18209) .
[ (2) ] انظر المطالب العالية للحافظ ابن حجر (3149) .
[ (3) ] الحديث عند البخاري 9/ 557 (5431) ومسلم 2/ 1101 حديث (21/ 1474) .
[ (4) ] ابن ماجة 2/ 1142 (3451) .
[ (5) ] أكيدر بن عبد الملك الكندي: ملك دومة الجندل [الجوف] في الجاهلية كان شجاعا مولعا باقتناص الوحش له حصن وثيق وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في (420) فارسا من المدينة فلما قارب حصنه رآه في نفر من رجاله يطاردون بقر الوحش فأحاط به، فاستأسر فأوثقه خالد فأقبل به على الحصن فافتتحه صلحا، وعاد خالد بالأكيدر إلى المدينة فقيل: أسلم ورده رسول الله إلى بلاده بعد أن كتب له كتابا يمنع المسلمين من التعرض لقومه ما داموا يؤدون الجزية ولما قبض رسول الله نقض أكيدر العهد فأمر أبو بكر خالد أن يسير إليه فقصده خالد وقتله وفتح دومة الجندل توفي سنة 12 هجرة الأعلام 2/ 6.
[ (6) ] أخرجه في المجمع 4/ 53، 5/ 44.(7/198)
الخامس عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الخبيص.
روى الحارث بسند منقطع عن عبد الله بن أبي عبد الله قال: صنع عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه خبيصا بالعسل والسمن والبر، فأتى به في قصعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا؟» قال: هذا شيء يا رسول الله تصنعه الأعاجم من البرّ والسمن والعسل، تسميه الخبيص قال: فأكل.
وروى الطبراني في الثلاثة ورجال الصغير والأوسط ثقات، وبقيّ بن مخلد والحاكم- وصححه- عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المربد فرأى عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يقود ناقة تحمل دقيقا حوّارى وسمنا وعسلا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أنخ» فأناخ، فدعا فيها بالبركة، ثم دعا ببرمة فنصبت على النار، وجعل فيها من السمن والعسل والدقيق، ثم أمر فأوقد عليها حتى نضج أو كاد ينضج، ثم أنزل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كلوا» ، ثم أكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «هذا شيء تسميه أهل فارس الخبيص» [ (1) ] .
السادس عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم السكر.
روى البرقاني- بسند واه- عن موسى بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل بطيخا بسكر.
السابع عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الخل.
روى ابن أبي شيبة، ومسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به قال:
فأشار إلي، فقمت إليه، فأخذ بيدي، فانطلقنا حتى دخل بعض حجر نسائه، فدخل، ثم أذن لي فدخلت وعليها الحجاب، فقال: «لأهله هل من غداء؟» قالوا: نعم، فأتى بثلاثة أقراص، فوضعن على شيء فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قرصا فوضعه بين يديه، وأخذ قرصا فوضعه بين يدي ثم أخذ الثالث فكسره بالثنتين، فجعل بعضه بين يديه، وبعضه بين يدي، ثم قال: «هل من أدم؟» فقالوا: ما عندنا إلا الخل، فدعا به، فجعل يأكل، ويقول: «نعم الأدم الخل، نعم الأدم الخل» ، قال جابر رضي الله تعالى عنه: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم [ (2) ] .
وروى مسلم والترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نعم الأدم أو الإدام الخل» .
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 17/ 336 والحاكم 4/ 110.
[ (2) ] أخرج مسلم 3/ 1622 (166/ 2052) وقد تقدم.(7/199)
وروى الترمذي- وحسنه- عن أم هانئ رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هل عندكم شيء؟» فقلت: لا، إلا كسر يابسة وخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «قربوه، فما أقفر بيت من إدام فيه خل» [ (1) ] .
وروى أحمد بن منيع عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم خلّ خمر.
وروى أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أحب الصّباغ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخل.
الثامن عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم السّويق.
روى الحميدي والبخاري والنسائي عن سويد بن النّعمان الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر حتى إذا كنا بالصّهباء أو بيننا وبينها روحة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالزاد، فلم يؤت إلا بسويق فلاكه صلى الله عليه وسلّم ولكناه معه، ثم مضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضمضنا معه، ثم صلّى المغرب، وصلينا معه، ولم نتوضأ.
التاسع عشر: في أكله صلّى الله عليه وسمل التمر بالخبز.
روى أبو يعلى والإمام أحمد عن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم أخذ كسرة من خبز شعير، ثم أتى بتمرة فوضعها عليها، ثم قال: «هذه إدام هذه» [ (2) ] .
وروى الطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الخبز بالتمر، ويقول: «هذا إدام هذا» .
العشرون: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الكسب والسّمسم.
روى أبو نعيم في الطّب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلّم سعد ابن معاذ رضي الله تعالى عنه على أتان، فأنزله وقرب إليه شيئا من سمسم، وشيئا من تمر، حتى إذا أكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأراد أن يقوم دعا له.
وروى فيه عنه أيضاً قال: قال سعد بن عبادة: يا رسول الله أعدل إلى المنزل، فعدل معه، فأتى بتمر وكسب، ثم أتاه بقدح من لبن فشرب منه.
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي 4/ 279 (1841) .
وقال حسن غريب ومن حديث جابر عند البيهقي في السنن الكبرى 6/ 38 وانظر التلخيص 3/ 35.
[ (2) ] أخرجه أبو داود (3259) والترمذي في الشمائل 94 والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 63.(7/200)
الحادي والعشرون: في أكله صلّى الله عليه وسلّم السمن والأقط.
وروى الشيخان والبرقاني وابن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم سمن وأقط وأضب، فأكل من السمن والأقط، ولم يأكل من الأضب تقذرا ثم قال: «إن هذا الشيء ما أكلته قط، فمن شاء أن يأكله فليأكله» ،
قال: وأكل على خوانة [ (1) ] .
وروى إبراهيم الحربي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم أكل ثور أقط ثم صلى، ولم يتوضأ، وقال الحربي: الثور من الأقط كهيئة اللقمة.
تنبيهات
الأول:
حديث حذيفة مرفوعا أن جبريل أطعمني الهريسة يشد بها ظهري لقيام الليل رواه الطبراني من طريق محمد بن الحجاج اللّخمي وهو الذي اختلقه،
وحديث أبي هريرة رواه الدّارقطني وقال: حديث منكر باطل، وموسى بن إبراهيم ومن دونهم ضعفاء لا يحتج بهم، وقال الخطيب: موسى بن إبراهيم مجهول، والحديث باطل، وحديث معاذ بن جبل وحديث جابر بن سمرة رواهما.
الثاني: قال الخطابي والقاضي في
حديث نعم الأدم الخل
معناه مدح الاقتصاد في المأكل، ومنع النفس من ملاذ الأطعمة، تقديره: ائتدموا بالخل، وما في معناه، مما تخف مؤنته، ولا يعز وجوده، ولا تنافسوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن، وتعقبه النووي رحمه الله تعالى فقال: الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه، وأما الاقتصاد في المطعم، وترك الشهوات فمعلوم من قواعد آخر، وقال ابن القيم، هذا ثناء عليه بحسب مقتضى الحال الخاص، لا تفضيل له على غيره، كما ظنه بعضهم.
الثالث: قال أبو سليمان: إنما أورد أبو داود حديث ابن عمر من أجل أن الجبن كان يعمله قوم من الكفار لا تحل ذكاتهم، وكانوا يعقدونها بالأنافح وكان من المسلمين من شاركهم في صنعة الجبن، فأباحه صلى الله عليه وسلّم على ظاهر الحال، ولم يمتنع من أكله من أجل مشاركة الكفار المسلمين فيه، قال: في الأمتاع: في دعوى أبي سليمان رحمه الله تعالى أن من المسلمين من كان يشارك المشركين في عمل الجبن يتوقف على النقل، ولم يكن إذ ذاك بفارس والشام أحد من المسلمين فتأمله، قلت: وهو ظاهر لا شك فيه.
الرابع: الحلوى بالقصر والمد: كل حلو، قال الخطابي رحمه الله تعالى: الحلوى لا يقع إلا على ما دخلته الصنعة، قال ابن سيده هي ما عولج من الطعام، وقد يطلق على الفاكهة،
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 3/ 1544 (46/ 1947) وأحمد 1/ 259 والخطيب في التاريخ 4/ 85.(7/201)
قال الخطابي: ولم يكن حبه للحلوى على معنى كثرة التشهي، وشدة نزاع النفس إليها، وإنما كان ينال منها إذا أحضرت إليه نيلا صالحا فيعلم بذلك أنها تعجبه، قال الحافظ: ووقع في كتاب فقه اللغة للثعالبي أن حلوى النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يحبها هي المجيع- بالميم والجيم بوزن عظيم- وهو: تمر يعجن باللبن.
الخامس: في بيان غريب ما سبق:
الطفيشل: بوزن سميدع نوع من الطعام كالهريسة.
الحيس: بحاء مهملة وتحتية وسين مهملة تمر وأقط معجون بسمن.
الوطيئة: بالواو والطاء والمثناة والهمزة على وزن سفينة: التمر يستخرج نواه ويعجن باللبن، والوطيئة الأقط بالسكر قال ابن دريد: رحمه الله تعالى، وقال في التقريب: الوطيئة طعام من التمر مطبوخ، وقيل مثل الحيس: تمر وأقط معجون بسمن، ومنه فقرّب إليه طعاما ووطيئة إلخ وضبطه النووي رحمه الله تعالى بالواو وإسكان الطاء وبعدها موحدة.
القعب: بقاف فعين مهملة، فموحدة: القدح الضخم الجافي، أو إلى الصغر أو يروي واحدا.
الجشيشة: بجيم مفتوحة فشينين، بينهما ياء تحتية، أولاهما مكسورة: هي أن تطحن الحنطة طحنا جليلا، ثم تجعل في القدور، ويلقى عليها لحم أو تمر ويطبخ، وقد يقال لها:
الدشيشة بالدال المهملة.
الحريرة: بحاء مهملة وراءين مهملات، بينهما تحتية: شيء يصنع من اللبن.
العصيدة: بعين مفتوحة، وصاد مهملتين، ومثناة تحتية، فدال مهملة فتاء تأنيث: شيء يعمل من الدقيق معروف.
الزبيرية: بزاي مضمومة فموحدة مفتوحة فتحتية ساكنة فراء فتحتية فتاء تأنيث.
الذّروة: بذال معجمة، فراء ساكنة، فواو، فتاء تأنيث، هي أعلى سنام البعير.
الثّريد: بفتح المثلثة: أن يثرد الخبز بمرق اللحم وقد يكون معه اللحم.
الخزيرة: بخاء معجمة مفتوحة، ثم زاي مكسورة، وبعد التحتية الساكنة راء تقدم الكلام عليها قريبا.
الزّبد: بزاي مضمومة، فموحدة ساكنة، فدال مهملة، وكرمان: زبد اللبن.
الفلفل اللّعقة: بلام مفتوحة، فعين مهملة ساكنة، فقاف، فتاء تأنيث: المرة من اللعق، وهو لعق ما في الأصابع والصحفة من أثر الطعام.(7/202)
المن: بميم مفتوحة، فنون: أي العسل الحلو الذي ينزل من السماء عفوا بلا علاج.
الخبيص الحوّار: بحاء مهملة فواو مشددة فألف فراء الدقيق الذي يحلّى مرة بعد أخرى.
السّويق: كأمير معروف يجعل من الشعير.
لاكه: بلام فألف فكاف فهاء أداره في فمه.
الكسب: بكاف مفتوحة فمهملة ساكنة، فموحدة: الرزق واكتسب طلبه.
السّمسم: بسين مهملة فميم ثم سين مهملة فميم حب معروف.
الأقط: بفتح الهمزة وكسر القاف، وتضم أيضا، وبكسر الهمزة والقاف معا، وبفتحها:
هو شيء يتخذ من مخيض اللبن الغنمي، والمراد هنا بالثور القطعة منه.
الأضب: جمع ضب والله تعالى أعلم.(7/203)
الباب الخامس فيما أكله صلّى الله عليه وسلم من الفواكه والقلوبات
وفيه أنواع:
الأول: فيما كان يقول ويفعل إذا أتي بالباكورة من الفاكهة.
روى مسلم والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤتى بأول الثّمر فيقول: «اللهم كما أريتنا أوله أرنا آخره» [ (1) ] .
وروى أبو سعيد بن الأعرابي واللفظ له والدّارقطني عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بباكورة الفاكهة وضعها على عينيه، ثم على شفتيه ثم قال: «اللهم كما أريتنا أوله أرنا آخره ثم يعطيه من يكون عنده من الصبيان» .
وروى الطبراني في الكبير والصغير من طرق- رجال طريقين منها رجال الصحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بالباكورة من الثمار قبلها، ووضعها على عينيه، ثم قال: «اللهم كما أطعمتنا أوله فأطعمنا آخره» ، ثم يأمر به للمولود من أهله، وفي رواية أصغر من يحضره من الولدان [ (2) ] .
وروى البرقاني برجال ثقات عن ابن شهاب رحمه الله تعالى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بالباكورة قبلها، ووضعها على عينه، أو على عينيه.
الثاني: فيما روي من أمره صلى الله عليه وسلّم بتهنئته إذا جاء الرطب.
روى البزار من طريق حسان بن سياه وفيه عن أنس وابن لال في مكارم الأخلاق عن أنس وعائشة معا رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله تعالى عنها:
«إذا جاء الرطب فهنئيني» ، وفي لفظ: «فنبئوني وإذا ذهب فعزوني» [ (3) ] .
الثالث: في أكله صلّى الله عليه وسلّم التمر.
روى أبو الحسن بن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بيت لا تمر فيه جياع أهله، وبيت لا خل فيه قفار أهله، وبيت لا صغار فيه لا بركة فيه، وخيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» .
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب الحج باب 85 (474) .
[ (2) ] أخرجه الطبراني في الكبير 11/ 116 وانظر المجمع 5/ 39.
[ (3) ] ذكره الشوكاني في الفوائد (181) وانظر المجمع 5/ 39 والميزان للذهبي (1806) وابن حبان في المجروحين 1/ 268 والسيوطي في اللآلي 2/ 232.(7/204)
وروى أبو داود الطيالسي بسند صحيح، وأبو يعلى عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه قال: «أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقت له أمي قطيفة فجلس عليها فأتته بتمر فجعل يأكل ويقول بالنوى هكذا، يضع النواة على السبابة والوسطى» .
وروى أبو داود عن يوسف بن عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة من خبز شعير فوضعها على تمرة، وقال: «هذه إدام هذه» ، ورواه الطبراني عن عبد الله بن سلام، ورواه أيضاً عن زيد بن ثابت وعن عائشة.
وروى ابن سعد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم تمر، فأخذ يهديه، ثم قال: رأيته يأكل مقعيا من الجوع [ (1) ] .
وروى أيضا عن علي بن الأثير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل تمرا، فإذا مر بحشفة أمسكها بيده فقال له قائل: أعطني هذه التي بقيت، فقال: «إني لست أرضي لكم ما أسخطه لنفسي» .
وروى ابن حبان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان أحب التمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم العجوة [ (2) ] .
وروى أبو داود وابن ماجة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بتمر عتيق فجعل يفتشه ويخرج السّوس منه.
الرابع: في أكله صلّى الله عليه وسلّم العنب.
روى ابن ماجة عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عنب من الطائف فدعاني فقال: «خذ هذا العنقود فأبلغه أمك» ، فأكلته قبل أن أبلغه إياها، فلما كان بعد ليال قال لي: «ما فعل العنقود؟ هل أبلغته إلى أمك؟» قلت: لا، فسماني غدر [ (3) ] .
وروى الطبراني وابن عدي وأبو بكر الشافعي بسند واه جدا، وأبو الشيخ والبيهقي- وقال إسناده قوي- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل العنب خرطا، وجاء في بعض الروايات بالصاد، ومعناهما واحد، وهو أن يأخذ العنقود ويضعه في فيه ويخرطه من حبه فيأكل الحب، ويخرج العرجون عاريا.
__________
[ (1) ] بنحوه أخرجه مسلم 3/ 1616 (148/ 2044) .
[ (2) ] انظر كنز العمال (18217) .
[ (3) ] ابن ماجة 2/ 117 (3368) .(7/205)
وروى ابن السني وأبو نعيم كلاهما في الطب عن أمية بن زيد العبسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يحب من الفاكهة العنب والبطيخ [ (1) ] .
الخامس: في أكله صلّى الله عليه وسلّم التين.
روى ابن السّنيّ وأبو نعيم كلاهما في الطب عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وسلم طبق من تين، فقال لأصحابه: «كلوا فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة بلا عجم لقلت هي التين، وإنه يذهب بالبواسير ينفع من النّقرس» .
السادس: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الزبيب.
روى الإمام أحمد عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه، أو غيره من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل بيت سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه فقرب إليه زبيبا، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما فرغ قال: «أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون» .
السابع: في أكله صلّى الله عليه وسلّم السّفر جل.
روى الطبراني برجال ثقات خلا على القرشي الراوي عن عمر بن دينار بنحو رجاله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاء جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسفرجلة قدم بها من الطائف فناوله إياها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنه ليذهب بطخاءة الصدر ويجلو الفؤاد» [ (2) ] .
وروى الطبراني والحاكم والضياء في المختارة وصححاه، عن طلحة رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده سفرجلة، فرماها إليّ، وقال لي: «دونكها يا طلحة، فإنها تجلو الفؤاد» ، وفي لفظ: «فإنها تشد القلب، وتطيب النفس، وتذهب بطخاءة الصدر» .
وروى ابن السني وأبو نعيم كلاهما في الطب عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سفرجلة من الطائف فأكلها، وقال: «كلوه، فإنه يجلو الفؤاد، ويذهب بطخاءة الصدر»
الثامن: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الرمان.
روى ابن حبان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم أتى برمّان يوم عرفة فأكل.
__________
[ (1) ] انظر الكنز (18204) والعراق على تخريج الإحياء 2/ 368.
[ (2) ] الطبراني من رواية علي القرشي عن عمرو بن دينار قال الهيثمي ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات المجمع 5/ 48.(7/206)
التاسع: في أكله صلّى الله عليه وسلّم التوت.
روى الخطيب عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل توتا في قصعة.
العاشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الكباث.
روى الإمام أحمد والشيخان والنسائي عن جابر بن عبد الله عنهما قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمر الظّهران نجني الكباث، وهو ثمر الأراك، وهو يقول: «عليكم بالأسود منه فإنه أطيب» - زاد ابن حبان وإني كنت آكله، زمن كنت أرعى، فقلت: أكنت ترعى الغنم؟ قال:
«وهل من نبي إلا رعاها» [ (1) ] .
الحادي عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الزّنجبيل.
روى الترمذي، وابن السنّي وأبو نعيم، وأبو سعيد بن الأعرابي رضي الله تعالى عنه وأبو أحمد الحاكم- وصححه- وابن عدي من طرق عن عمرو بن حكام قال: أخبرنا شعبة عن علي ابن زيد عن أبي المتوكل النّاجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: أهدى ملك الهند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم هدايا، فكان فيما أهدي له جرة فيها زنجبيل، فأطعم كل إنسان قطعة قطعة، وأطعمني قطعة.
الثاني عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الفستق واللّوز.
روى ابن عساكر من طريق السّبكي وسنده واه عن دحية قال: قدمت من الشام وأهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاكهة يابسة من فستق ولوز وكعك فقال: «اللهم ائتني بأحب أهلي يأكل معي» ، فطلع العباس رضي الله تعالى عنه فقال: «ادن يا عم» فجلس فأكل.
الثالث عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الجمار.
روى البرقاني وأبو القاسم البغوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يأكل جمّار، فقال: «إني لأعرف شجرة تؤتي أكلها كل حين مثل المؤمن.
وروى البخاري وعبد الرحمن بن حميد، وأبو سعيد بن الأعرابي والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل جمّار نخل،
وفي رواية قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل جمارة نخل [ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 9/ 575 (5453) ومسلم 3/ 1621 (163/ 2050) .
[ (2) ] أخرجه البخاري في العلم باب 14 وفي البيوع باب (94) وفي الأطعمة باب (42) ومسلم في المنافقين باب (63) وأحمد 2/ 12.(7/207)
الرابع عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم الرطب مفردا أو مع البطيخ.
روى الإمام أحمد وابن ماجة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: بعثتني أمي أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقناع عليه رطب فجعل يقبض قبضة فيبعث بها إلى بعض أزواجه، ثم جلس، وأكل بقيته أكل رجل يعلم أنه يشتهيه.
وروى الإمام أحمد عن أم المنذر سلمى بنت قيس الأنصارية رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه علي رضي الله تعالى عنه وعلى ناقه من مرض، ولنا دوال معلّقة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل منها، وقام علي رضي الله تعالى عنه يأكل منها الحديث [ (1) ] .
وروى ابن سعد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم طبق من رطب، فجثى على ركبتيه، فأخذ يناولني قبضة قبضة، ويرسل بها إلى نسائه، فأكلها أكل رجل يعلم أنه يشتهيه، وكان يلقي النوى بشماله، فمرت داجنة، فناولها فأكلت.
وروى أبو داود والترمذي- وحسنه- والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل البطيخ بالرطب، ويقول: «يكسر حرّ هذا برد هذا» [ (2) ] .
وروى ابن ماجة عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، كان يأكل الرطب بالبطيخ [ (3) ] .
وروى أبو داود الطيالسي والإمام أحمد عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكل عندهم رطبا وشرب ماء وقال: «هذا من النعيم الذي تسألون عنه» [ (4) ] .
وروى أبو يعلى والإمام أحمد والترمذي في الشمائل والنسائي في الكبرى والحاكم وابن سعد وسنده جيد بسند رجاله ثقات عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجمع بين البطيخ والرطب [ (5) ] .
وروى البرقاني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان أحب الفاكهة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الرطب والبطيخ.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 6/ 364 وأبو داود 4/ 193 (2856) والترمذي 4/ 382 (2037) وابن ماجة 2/ 1139 (3442) .
[ (2) ] أخرجه أبو داود 4/ 176 (3836) والترمذي 4/ 280 (1843) وقال حسن غريب والنسائي كما في التحفة 12/ 101.
[ (3) ] ابن ماجة (3326) البيهقي 7/ 281.
[ (4) ] أخرجه ابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (2531) والطبراني في الصغير 1/ 69 والطحاوي في المشكل 1/ 95.
[ (5) ] أخرجه الحميدي (255) .(7/208)
وروى النّسائي والإمام أحمد وابن السنّي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجمع بين الخربز والرطب ويقول: «يكسر حر هذا برد هذا وبرد هذا حر هذا [ (1) ] » .
وروى ابن حبان عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب أو البطيخ، والشك من شيخ شيخه أحمد بن جنيد.
وروى أبو الشيخ عنه قال: كنت إذا قدمت الرطب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكل الرطب وترك المذنّب.
وروى الطبراني وأبو الشيخ والحاكم والبيهقي- وضعفه- عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الرطب بيمينه، والبطيخ بيساره، فيأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحب الفاكهة إليه، ورواه ابن عدي من طريق يوسف بن عطية الصّفار وهو متروك [ (2) ] .
وروى ابن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان أحب الفاكهة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الرطب والبطيخ [ (3) ] .
الخامس عشر: في أكله صلّى الله عليه وسلّم القثّاء مفردا، ومع الرطب، ومع الملح، ومع الثّفل بالمجّاج.
روى الإمام مالك عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني أنمار، فبينا أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله هلم إلى الظل، قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقمت إلى غرارة لنا فالتمست فيها شيئا فوجدت جرو قثّاء فكسرته، ثم قربته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «من أين لكم هذا؟» فقلت: خرجنا به يا رسول الله من المدينة.
وروى الترمذي في الشمائل والطبراني عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب القثّاء [ (4) ] .
وروى بقي بن مخلد والتّرمذي عن الربيع بنت معوذ رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه القثّاء.
__________
[ (1) ] انظر الكنز (18202) .
[ (2) ] انظر المجمع 5/ 38.
[ (3) ] ابن القيسراني 869 وانظر الكنز 8/ 182.
[ (4) ] الترمذي في الشمائل (102) وانظر المجمع 8/ 113 والمطالب (3867) .(7/209)
وروى الإمام أحمد وأبو داود والطّيالسي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجمع بين الرطب والخربز زاد الطّيالسي رحمه الله تعالى: ويقول: هما الأطيبان.
وروى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل القثّاء بالرطب [ (1) ] .
وروى ابن عدي بسند ضعيف عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل القثّاء إذا أكله إلا بالملح.
وروى الخطّابي في غريبه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يأكل القثّاء والثّفل بالمجّاج.
تنبيهات
الأول: قال البيهقي في الشعب: الحكمة في إلقائه صلى الله عليه وسلّم النوى بإصبعيه نهيه صلّى الله عليه وسلم أن يجعل الأكل النوى على الطبق، وعلله الحكيم التّرمذي: بأنه قد يخالطه الريق ورطوبة الفم فإذا خالط ما في الطبق عافته الأنفس.
الثاني: حديث أتى جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقطف من عنب، وقال أن الله تعالى يقرئك السلام، وأرسلني إليك بهذا القطف لتأكله، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم- رواه الطبراني من طريق حفص بن عمر بن أبي العطّاف عن أنس، وعن ابن عباس، وحفص قال فيه:
وحديث أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يأخذ الرطب بيمينه، والبطيخ بيساره، فيأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحب الفاكهة إليه، رواه الطبراني في الأوسط وفي سنده يوسف بن عطية الصّفار وهو متروك قال فيه، ورواه عن عبد الله بن جعفر، وفي سنده أصرم بن حوشب وهو متروك قال فيه.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الباكورة: بموحدة فألف فكاف فواو فراء: المعجل الإدارك من كل شيء من الفاكهة.
قفار: بقاف ففاء مفتوحتين فراء أي غير مأدوم.
القطيفة: تقدم الكلام عليها.
السّبّابة: تقدم تفسيرها.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 9/ 564 (5440) ومسلم 3/ 616 (147/ 2043) .(7/210)
الوسطى: بواو مضمومة، فسين مهملة ساكنة، فطاء مهملة.
العنقود: معروف.
غدر: بمعجمة مضمومة، فدال مهملة فراء كصرد، والغدر ضد الوفاء.
العرجون: بعين مهملة مضمومة فراء ساكنة فجيم فواو فنون: العود الأصفر الذي فيه شماريخ العذق.
البواسير: بموحدة فواو فألف فسين فراء مهملتين بينهما تحتية علة تحدث بالمقعدة، ومن داخل الاست وتقال بالسين والصاد، وبالباء، والنون، فبالباء عجمي: وجع بالمقعدة وتورّمها من داخل، وخروج الثّآليل، وبالنون عربي: انفتاح عروقها وجريان مادتها.
النّقرس.
السفرجل.
طخاءة الصدر: الطخاء بطاء فخاء معجمة مفتوحتين: ثقل وغشاء، وأصله الظلمة والغنم.
تجم- بفوقية مفتوحة فجيم مضمومة فميم، الفؤاد: صلاحه، ونشاطه: أي تريحه، وقيل تجمعه وتكمله.
الكباث: كسحاب: النّضيج من ثمر الأراك.
الخربز: بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء وكسر الموحدة بعدها زاي نوع من البطيخ الأصفر، وبهذا يتبين أن المراد بالبطيخ في هذا الحديث الأصفر، وتعقّب بأن الأصفر فيه حرارة كما في الرطب، وأجيب بأن في الأصفر بالنسبة للرطب برودة، وإن كان لحلاوته طرف حرارة.
المذنّب: بميم مضمومة، فدال معجمة مفتوحة، فنون مشددة، فباء موحدة: الذي نصفه بسر.
جرو القثّاء: بجيم مكسورة فراء ساكنة فواو صغار القثّاء.
الثّفل: بثاء مثلثة ففاء الثريد.
المجّاج: بميم مضمومة فجيمين بينهما ألف: العسل، لأن النحل تمجّه أي تلقيه وتقذفه، وقيل: لا يكون مجّا حتى يتباعد به.(7/211)
الباب السادس فيما أكله صلّى الله عليه وسلم من الخضراوات وما يلتحق بها
وفيه أنواع:
الأول: في أكله صلّى الله عليه وسلّم البقل.
روى أبو الشيخ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم البقل، كذا أورده ابن الجوزي [ (1) ] رحمه الله تعالى، والظاهر أنه بالثاء المثلثة، وهو الثريد والله أعلم، رواه الحاكم عن أنس بلفظ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الثّفل، ثم قال:
سمعت أبا محمد يقول: سمعت أبا بكر محمد بن إسحاق يقول: الثّفل: هو الثريد.
الثاني: في أكله صلّى الله عليه وسلّم البصل مطبوخا.
وروى الإمام أحمد والبيهقي وأبو داود والنّسائي والترمذي في الشمائل عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: آخر طعام أكله صلى الله عليه وسلّم كان فيه البصل، زاد البيهقي أنه كان مشويا في قدر أي مطبوخا [ (2) ] .
وروى البخاري في المفرد وأبو الحسن بن الضحاك عنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكل البصل مشويا قبل أن يموت بجمعة.
الثالث: في أكله صلّى الله عليه وسلّم القلقاس.
قال في الإمتاع: قاله الدّولابي [ (3) ] : أهدى أهل أيلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم القلقاس فأكله وأعجبه، وقال: «ما هذا؟» فقالوا شحمة الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: «أن شحمة الأرض لطيبة» .
الرابع: في أكله صلّى الله عليه وسلّم القرع.
روى الإمامان مالك وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لطعام صنعه، قال أنس رضي الله تعالى عنه:
فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى ذلك الطعام فقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم خبزا من شعير، ومرقا فيه دبّاء وقديد، قال أنس: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتتبع الدّبّاء من حول الصحفة، فجعلت أتتبعه، وأضعه بين يديه ولا أطعمه، فلم أزل أحب الدّبّاء من يومئذ.
__________
[ (1) ] انظر تخريج الإحياء للحافظ العراقي 2/ 369 وكشف الخفا 1/ 560.
[ (2) ] أخرجه أحمد 6/ 89 وأبو داود 4/ 173 (3829) والنسائي كما في التحفة 11/ 394 (16068) .
[ (3) ] محمد بن الصّباح الدّولابي، أبو جعفر البغدادي، ثقة حافظ، من العاشرة، مات سنة سبع وعشرين، وكان مولده سنة خمسين. / ع التقريب 2/ 171.(7/212)
وروى الترمذي عن أبي طالوت [ (1) ] قال: دخلت على أنس وهو يأكل قرعا، وهو يقول:
يا لك من شجرة ما أحبّك إلا لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد وابن شيبة والنّسائي وأبو بكر بن أبي خيثمة عن أبي حكيم جابر بن مشرّق ويقال له جابر بن طارق رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده الدّبّاء تقطع، فقلت: ما هذا؟ فقال: «نكثر به طعامنا» [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد وأبو بكر بن أبي خيثمة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان أعجب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الدّبّاء [ (4) ] .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يا عائشة: إذا طبخت فأكثري فيه الدّبّاء فإنه يشد قلب الحزين» ، ورواه أبو بكر الشافعي من طريق آخر.
وروى ابن سعد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إذا كان عندنا دبّاء آثرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وروى الديلمي عنه أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من أكل الدّبّاء فقال: «إنه يكثر دهن الدماغ، ويزيد في العقل» [ (5) ] .
الخامس: في أكله صلّى الله عليه وسلّم السّلق مطبوخا مع الزيت، والفلفل، والتوابل، ودقيق الشعير.
روي عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: كنا نفرح بيوم الجمعة، قلنا: لم؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلي بضاعة فتأخذ من أصول السّلق فتطرحه في القدر وتكركر عليه حبات من شعير، والله ما فيه لحم ولا ودك فإذا صلينا الجمعة انصرفنا.
وروى الترمذي عن أم المنذر رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي رضي الله تعالى عنه ولنا دوال معلقّة فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل وعلي يأكل معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لعلي: «مه يا علي، فإنك ناقه» فجلس علي رضي الله تعالى عنه والنبي صلى الله عليه وسلّم يأكل، فجعلت لهم سلقا وشعيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا علي من هذا، فأصب، فإنه أوفق لك» .
__________
[ (1) ] أبو طالوت الشامي. عن أنس في أكل القرع. وعنه معاوية بن صالح الحضرمي. قلت: قال الذهبي: لا يدرى من هو.
تهذيب التهذيب 12/ 136.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 108 والترمذي (1849) .
[ (3) ] أخرجه الطبراني في الكبير 2/ 289 والحميدي (860) والترمذي في الشمائل (84) .
[ (4) ] أخرجه أحمد 3/ 153.
[ (5) ] انظر الكنز (41808) .(7/213)
تنبيهات
الأول: قال الحافظ أبو بكر البرقاني سألني الشيخ الإمام الحافظ أبو بكر إسماعيل رحمه الله تعالى كيف يجمع بين تتبع النبي صلى الله عليه وسلّم الدّبّاء في القصعة من حواليها، وبين قوله عليه السلام: «كل مم يليك؟» فلم يحضرني شيء فقلت: ما يقول: الشيخ؟ فقال: إن حديث الدّبّاء كان الرجل الخياط أصلح ذلك الطعام خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما كان هذا سبيله فجائز أكله على طريق التتبع، وما لم يكن كذلك فالأكل مما يلي الآكل.
وقال أبو الحسن بن الضحاك رحمه الله تعالى: ويحتمل أن يقال في الجمع بينهما إن النهي عن ذلك إنما هو من طريق التّقزز الذي يصيب من يأكل مع آخر في صحفة واحدة، والنبي صلى الله عليه وسلّم يتبرك بموضع يده حيث حل، وترجى بركتها، ويحرص على ملاقاتها للطعام حيث كان، ويتنافس في الأكل من الموضع الذي حلت فيه يده، فشتان بين يد طهرها بارئها، وكرمها خالقها ومنشئها، وبين يد لا تشاركها إلا في الاسمية، وتباعد منها في كل فضيلة سنية، والله تعالى يختص برحمته من يشاء، لا إله غيره انتهى.
الثاني: قال الحافظ أبو عمرو: من طريق الإيمان حبّ ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحبه، واتباع ما كان يفعله، ألا ترى أن قول أنس فلم أزل أحب الدّبّاء بعد ذلك اليوم.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
السّلق.
التوابل.(7/214)
الباب السابع فيما كان أحب الطعام إليه صلى الله عليه وسلم
وفيه أنواع:
الأول: الثّريد.
روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قال: كان أحب الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الثّريد من الخبز والثريد من الحيس.
الثاني: القرع.
روى الحارث بن أبي أسامة عن معاوية بن صالح قال: كان أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه يحب القرع، فقيل له: ما أشد حبك للقرع! فقال: إن شدة حبي له لما رأيت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه.
وروى أيضا عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان القرع يعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد عنه رضي الله تعالى عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانت تعجبه الفاغية، وكان أحب الطعام إليه الدّبّاء، وروى مسلم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يحب الدّبّاء.
الثالث: الحلوى والعسل.
روى البخاري وأبو بكر الشافعي وأبو سعيد بن الأعرابي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب الحلوى والعسل.
الرابع: الزبد والتمر.
روى أبو داود عن ابني بسر السلميين رضي الله تعالى عنهما قالا: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقدمنا له زبدا وتمرا.
الخامس: لحم الذراع.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه الحديث.
السادس: لحم الظهر.
روى الحميدي والطبراني عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خير أو أطيب اللحم لحم الظهر» .
وروى النسائي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان أحب العراق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عراق الشاة والجنب.(7/215)
وروى ابن السني وأبو نعيم في الطبّ، والبيهقي عن مجاهد مرسلا، والطبراني عن عبد الله بن محمد قال: كان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مقدّمها.
السابع: في أحب الفواكه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الرطب والبطيخ.
روى ابن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان أحب الفواكه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الرطب والبطيخ، ورواه أيضاً عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
تنبيهان
الأول: حديث بريدة مرفوعا: سيد الإدام في الدنيا والآخرة اللحم، وسيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء، وسيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية، - رواه الطبراني برجال ثقات غير سعيد بن عتيبة القطان فيجر رجاله.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
الفاغية: بفاء فألف فغين معجمة مكسورة فتحتية فتاء تأنيث نور الحنّاء، وقيل نور الرّيحان، وقيل نور كل نبت من أنواع نبات الصحراء التي لا تزرع، وقيل فاغية كل نبت نوره.
العراق: بعين مهملة مضمومة فراء فألف فقاف جمع عرق بفتح وسكون وهو العظم إذا أخذ عنه معظم اللحم، وهو جمع نادر.(7/216)
الباب الثامن فيما كان صلى الله عليه وسلّم يعافه من الأطعمة
وفيه أنواع:
الأول: فيما كرهه صلّى الله عليه وسلم من الخضراوات.
روى الإمام أحمد ومسلم واللفظ له عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على مزرعة بصل بخيبر هو وأصحابه، فنزل ناس منهم، فأكلوا، ولم يأكل آخرون، فرجعنا إليه، فدعا الذين لم يأكلوا، وأخر الآخرين حتى ذهب ريحها وتجمعا.
وروى الدّارقطني في «غرائب ملك» ، وابن عدي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يأكل الثوم، ولا الكراث، ولا البصل، من أجل أن الملائكة عليهم السلام تأتيه، ومن أجل أنه يكلم جبريل عليه السلام [ (1) ] .
وروى ابن سعد عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرسل إليه بطعام يعني حضره، وفيه بصل وكراث ولم ير فيها أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يأكله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أستحي من الملائكة وليس بمحرم» [ (2) ] .
وروى عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بطعام أصاب منه، ثم بعث به إلينا، فبعث إلينا بطعام لم يصب منه فقلت إن لهذا الطعام لشأنا، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: أنه لم يكن يأتينا من قبلك شيء إلا وقد أصبت منه ما شاء الله، فقال: «إن هذه بقلة أكرهها، ولكن كلوها» ، قال: إني أكره ما كرهت يعني الثوم.
وروى ابن سعد عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقصعة فيها ثوم، فوجد ريح الثوم، فكفّ يده، وكف معاذ رضي الله تعالى عنه يده، فكف القوم أيديهم، فقال لهم: «ما لكم؟» فقالوا: كففت يدك، فكففنا أيدينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «كلوا باسم الله، فإني أناجي ما لا تناجون» [ (3) ] .
وروى ابن سعد عن عبد الله بن وهب قال: سمعت أبا صخر، وعن يزيد بن قسيط قالا: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسويق لوز، فلما خيض له قال: «ماذا؟» قالوا: سويق اللوز قال: «أخروه عني هذا شراب المترفين» [ (4) ] .
__________
[ (1) ] أبو نعيم في الحلية 6/ 332 والخطيب في التاريخ 2/ 265 وابن عبد البر في التمهيد 6/ 418.
[ (2) ] الطبراني في الكبير 4/ 188 وابن خزيمة (1670) .
[ (3) ] أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 110.
[ (4) ] أخرجه ابن المبارك 2/ 55 وأحمد في الزهد (6) وابن سعد 1/ 2/ 110.(7/217)
الثاني: فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعافه من اللحوم.
روى الطبراني وابن عدي عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكره من الشاة سبعا: المرارة والمثانة والحياء والذكر والأنثيين والغدّة والدم [ (1) ] .
وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكره من الشاة سبعا: المرارة والمثانة والحياء والذكر والأنثيين والغدة والدم، وكان أحب الشاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مقدّمها.
وروى ابن السني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الكليتين لمكانهما من البول [ (2) ] .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره من لحوم الطير والوحش ما أكل الجيفة.
وروى مسدد برجال ثقات عن رجل من الأنصار رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل أدنى القلب.
وروى ابن أبي شيبة بسند ضعيف عن خزيمة بن جزء رضي الله تعالى عنه قال: قلت يا رسول الله جئتك أسألك عن أجناس الأرض فما تقول في الضب؟ قال: «لا آكله ولا أحرمه» ، قلت: فإني آكل ما لم تحرم، ولم يا رسول الله؟ قال: «فقدت أمة من الأمم، ورأيت خلقا رابني» قال: قلت يا رسول الله ما تقول في الأرنب؟ قال: «لا آكله ولا أحرمه» ، قال: قلت يا رسول الله فإني آكل ما لم تحرم، ولم يا رسول الله؟ قال: «نبئت أنها تدمي»
الحديث.
وروى أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: جيء بأرنب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنا جالس عنده، فلم يأكلها، ولم ينه عن أكلها، وقال: «إنها تحيض» .
وروى الإمام مالك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة، وكانت خالتها، فأتي بضبّ محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بيده فقال بعض النسوة في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه، فقيل له: إنه ضبّ يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يده،
فقيل: أحرام هو يا
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي 10/ 7 وانظر المجمع 5/ 36 وعبد الرزاق (8771) .
[ (2) ] ذكره الفتني في التّذكرة (145) والعراقي 2/ 370.(7/218)
رسول الله؟ قال: «لا، ذلك لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه» ،
فاجترّه خالد فأكله ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر [ (1) ] .
وروى ابن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم سمن وأقط وضب فأكل من السمن والأقط، وقال: «الضب، هذا شيء ما أكلته قط، فمن أراد أن يأكله فليأكله» ، قال: فأكل على خوانه.
وروى أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسبعة أضبّ في جفنة، وقد صب عليها سمن قال: «كلوا» ، ولم يأكل، فقال: يا رسول الله أنأكل، ولا تأكل؟ قال: «إني أعافها» .
وروى الطّبراني، ورجاله رجال الصحيح، عن امرأة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بضب فقال: «كلوه، لا بأس به، ولكنه ليس من طعام قومي» [ (2) ] .
وروى قاسم بن اصبغ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ذات يوم ليت عندنا خبزة بيضاء من برّة سمراء ملبّقة بسمن فنأكلها، فقام رجل فعملها، ثم جاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «فيم كان سمنك؟» قال: في عكّة ضب، فعافه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الطبراني من طريقين عن ميمونة أنها أهدي لها ضب، فأتاها رجلان من قومها، فأمرت به فصنع ثم قربته إليهما، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهما يأكلان، ثم أخذ ليأكل فلما أخذ اللقمة إلى فيه، قال: «ما هذا؟» قلت: ضب أهدي لنا، فوضع اللقمة، وأراد الرجلان أن يطرحا ما في أفواههما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تفعلا، إنكم أهل نجد تأكلونها وأما نحن أهل تهامة نعافها» .
وروى الشيخان والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الضب، وهو على المنبر، قال: «لا آكله ولا أحرمه» [ (3) ] .
وروى ابن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنا، وخالد بن الوليد، على ميمونة بنت الحارث فقالت: ألا أطعمكم من هدية أم عتيق؟ فقال:
بلى قال فجيء بضبين مشويين فتبزّق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد رضي الله تعالى عنه: كأنك تقذره قال: «أجل» .
__________
[ (1) ] الحديث عند البخاري 9/ 662 (5537) ومسلم 3/ 1542 (44/ 1946) .
[ (2) ] انظر المجمع 4/ 38 والكنز (40954) .
[ (3) ] البخاري 9/ 662 (5536) ومسلم 3/ 1542 (40/ 1943) .(7/219)
وروى أيضا عن محمد بن سيرين رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فقال: «إنا قوم قرويون وإنا نعافه» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
المزرعة.
الثوم.
المثانة: بميم مفتوحة فمثلثة فألف فتاء تأنيث العضو الذي يجتمع فيه البول داخل الجوف.
الحياء: الفرج من ذوات الخف والظلف.
الكلية:.
والغدة: بغين معجمة مضمومة، فدال مهملة، قيل: يأتيها طاعون الإبل وقلما تسلم منه.
البرّة: بضم الموحدة، فراء مشددة مفتوحة: تأنيث البرّ وهو القمح.
السمراء: بسين مهملة مفتوحة فميم ساكنة فراء فألف: نوع منه.
العكّة: بعين مهملة مضمومة فكاف مشددة مفتوحة فتاء تأنيث: وعاء من جلد مستدير يختص بالسمن والعسل، وهو بالسمن أخص.
تبزق: تنزه.(7/220)
جماع أبواب سيرته صلّى الله عليه وسلم في شربه وذكر مشروباته
الباب الأول فيما كان يستعذب له الماء، وذكر الآبار التي شرب وبصق فيها، ودعا فيها بالبركة صلى الله عليه وسلم
وفيه أنواع:
الأول: في أنه كان يستعذب له الماء.
روى الإمام أحمد وأبو داود وابن حبّان، والحميدي والبزّار عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستسقى له الماء العذب من بئر أو بيوت السّقيا، زاد فيه أبو داود: فقال قتيبة: وهي عين بينها وبين المدينة يومان، وزاد ابن حبان وأبو الشيخ: والسّقيا من أطراف الحرّة عند أرض بني فلان [ (1) ] .
وروى عن جعفر بن محمد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستعذب له من بئر غرس، ومنها غسّل [ (2) ] .
وروى ابن سعد ومحمد بن عمر الأسلمي عن سلمى امرأة أبي رافع قالت: كان أبو أيوب حين نزل عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من بئر مالك بن النضر والد أنس، ثم كان أنس وهند وجارية أبناء أسماء يحملون الماء إلى بيوت نسائه من بيوت السّقيا، وكان رباح الأسود مولاه يستسقي له من بئر غرس مرة وبيوت السّقيا مرة.
وروى ابن سعد عن الهيثم بن نصر بن رهم الأسلمي قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولزمت بابه في قوم محاويج، فكنت آتيه بالماء من جاسم بئر أبي الهيثم بن التّيّهان، وكان ماؤها طيبا.
الثاني: في شربه من المطاهر.
وروى الطبراني بسند جيد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يبعث إلى المطاهر فيؤتى بالماء فيشربه يرجو بركة أيدي المسلمين.
الثالث: في الآبار التي شرب منها وبصق فيها ودعا فيها بالبركة.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 6/ 100 وأبو داود 4/ 119 (3735) والحاكم 4/ 138.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 185.(7/221)
جملة الآبار التي ورد فيها ذلك إحدى وعشرون.
الأولى: بئر أريس كجليس نسبة إلى رجل من يهود اسمه أريس، وهو الفلاح بلغة أهل الشام قديما، وهي في حديقة بالقرب من مسجد قباء.
وروى البيهقي من حديث إبراهيم بن طهمان عن يحيى بن سعيد أنه حدثه أن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أتاهم بقباء فسأله عن بئر هناك، فدللته عليها، فقال: لقد كانت هذه، وإن الرجل لينضح حماره فتنزح فيستخرجها له، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأمر بذنوب للسقي فإما أن يكون توضأ منه أو تفل فيه، ثم أمر به فأعيد في البئر فما نزحت بعد.
قال السيد السّمهودي رحمه الله تعالى في تاريخه ولم يعد ابن شبّة ولا ابن زبالة بئر [أريس من الآبار التي كانت يستسقي منها النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذكرها] ابن شبّة رحمه الله تعالى في حديقة عثمان، وهذه البئر المعروفة اليوم تعد من أعذب آبار المدينة الشريفة. انتهى.
الثانية: بئر الأعواف إحدى الصدقات النبوية.
روى ابن شبّة عن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم على شفة بئر الأعواف، صدقته، وسال الماء فيها، ونبتت نابتة على أثر وضوئه، ولم تزل فيها حتى الساعة، قال السيد: قلت: والأعواف اليوم اسم لجزع كبير في قبلته المربوع، وفي شامية خفافة، وفيه آبار متعددة، فلا يعرف البئر المذكورة منها ولم يذكر المطري [ (1) ] ومن تبعه هذه البئر، ولا الثلاثة بعدها لسكوت ابن النجار عنها.
الثالثة: بئر أنا بضم الهمزة، وتخفيف النون كهنا، وقيل: بالفتح وكسر النون المشددة بعدها مثناة تحتية، وقيل: بالفتح والتشديد كحتى وضبطه في النهاية: بفتح الهمزة وتشديد الباء الموحدة كحتى، أو النون الخفيفة، وذكره في القاموس أيضا، وذكره ياقوت في المشترك له، وقال: كذا هو مضبوط بخط ابن الحسين بن الفرات، ثم قال: وذكر آخرون أنها بئر أنا بضم الهمزة والنون الخفيفة.
روى ابن زبالة [ (2) ] عن عبد الحميد بن جعفر قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّته حين حاصر بني قريظة على بئر أنا، وصلّى في المسجد الذي هناك وشرب من بئر [أنا] وربط دابته بالسّدرة التي في أرض مريم ابنة عثمان.
__________
[ (1) ] محمد بن أحمد بن محمد بن خلف الخزرجي الأنصاري السعدي المدني، أبو عبد الله، جمال الدين المطري:
فاضل، عارف بالحديث والفقه والتاريخ وهو من أهل المدينة المنورة، ولي نيابة القضاء فيها، وألف لها تاريخا سماه «التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة ومات فيها سنة 741 هجرة» الأعلام 5/ 325.
[ (2) ] انظر ترجمته في التهذيب 9/ 115.(7/222)
قال ابن إسحاق: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بني قريظة نزل على بئر من آبارها، وتلاحق الناس وهي بئر أنا.
وقال السيد رحمه الله تعالى: قلت: وهي غير معروفة اليوم، وناحية بني قريظة عند مسجدهم.
الرابعة: بئر أنس بن مالك بن النضر وتضاف أيضا لأبيه رضي الله تعالى عنه.
وروى ابن سعد عن مروان بن سعد بن العلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يشرب من بئر مالك بن النضر بن ضمضم، وهي التي يقال لها: بئر أبي أنس.
وروى أيضا عن محمود بن الربيع أنه يعقل مجّة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدلو من بئر أنس.
وروى ابن زبالة عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم استسقى فنزع له دلو من بئر دار أنس، فسكب على اللبن، فأتي به فشرب، وعمر بين يديه، وأبو بكر عن يساره، وأعرابي عن يمينه الحديث، وهو في الصحيح عن أنس رضي الله تعالى عنه بلفظ: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا هذه فاستسقى، فحلبنا له شاة لنا ثم شبته من بئرنا هذه، فأعطيته الحديث.
وروى ابن شبّة عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم شرب من بئر أنس رضي الله تعالى عنه.
وروى أبو نعيم عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بزق في بئر داره، فلم تكن بالمدينة بئر أعذب منها، قال: وكانوا إذا حوصروا استعذب لهم منها، وكانت تسمى في الجاهلية البرود.
قال السيد وهي غير معروفة اليوم، لكن تقدم عن ابن شبة في الأخبار أنه كان له شرب يخرج عند دار أنس بن مالك في بني جديلة.
الخامسة: بئر أهاب.
قال السيد: وفي نسخة عن ابن زبالة بئر ألهاب، والأول هو الصواب الذي اعتمده المحب.
روى ابن زبالة عن محمد بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بئر أهاب بالحرة وهي يومئذ لسعد بن عثمان فوجد ابنه عبادة بن سعد مربوطا بين القرنين يفتل، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يلبث سعد أن جاء، فقال لابنه: هل جاءك أحد؟ قال: نعم، ووصف له صفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فالحقه، فخرج عبادة حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلّم على رأس عبادة رضي الله تعالى عنه، وبرّك فيه،(7/223)
فقال: فمات وهو ابن ثمانين، وما شاب، قال: وبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئرها.
قال المطري: إن ابن زبالة رحمه الله تعالى ذكر عدة آبار أتاها النبي صلى الله عليه وسلّم، وشرب منها، وتوضأ لا يعرف الآن شيء منها.
قال: ومن جملة ما ذكر بئر بالحرة الغربية في آخر منزلة السّقيا، ومنها بئر أخرى، [إذا] وقفت على جادة الطريق كانت السّقيا على يسارك، وهذه عن يمينك بعيدة عن الطريق في سند من الحرة، قد حوط حولها بناء مجصص، لم يزل أهل المدينة يتبركون بها، ويشربون من مائها، وينقل إلى الآفاق منها كما ينقل من ماء زمزم، ويسمونها زمزم أيضا لبركتها، ولم أعلم أحداً ذكر فيها أثرا يعتمد عليه.
السادسة: بئر البصة بضم الموحدة وبالصاد المهملة.
قال المجد اللغوي [ (1) ] : إنها مشددة، قال السيد رحمه الله تعالى: الدائر على ألسنة أهل البلد تخفيفها.
قال المجد رحمه الله تعالى كأنه من بص الماء بصّا إذا رشح قال: وإن روي بالتخفيف فمن وبص يبص وبصا وبصة كوعد يعد وعدا أوعدة، ومن وبص لي من المال أي أعطاني.
روى ابن زبالة، وابن عدري من طريقه عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأتي الشهداء وأبناءهم ويتعاهد عيالاتهم، قال:
فجاء يوما أبا سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه فقال: هل عندك من سدر أغسل به رأسي فإن اليوم الجمعة؟ قال:
نعم، فأخرج له سدرا، وخرج معه إلى البصة، فغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وصب غسالة رأسه ومراقة شعره في البصة.
قال ابن النجار [ (2) ] رحمه الله تعالى: وهذه البئر قريبة من البقيع على طريق الماضي إلى قباء.
السابعة: بئر بضاعة بضم الموحدة على المشهور، وحكي كسرها، وبفتح الضاد
__________
[ (1) ] محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر الإربلي، مجد الدين، ابن الظهير: شاعر، أديب. من فقهاء الحنفية، ولد بإربل، وتنقل في العراق والشام، ومات بدمشق، له «تذكرة الأريب وتبصرة الأديب» و «مختصر أمثال الشريف الرضي» و «ديوان شعر» توفي 677 هجرة الأعلام 5/ 323.
[ (2) ] الحافظ الإمام البارع مؤرخ العصر مفيد العراق محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن بن النجار البغدادي صاحب التصانيف ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة ألف كتاب «القمر المنير في المسند الكبير» ذكر كل صحابي وما له من الحديث، وكتاب «كنز الإمام في السنن والأحكام» وكتاب «أنساب المحدثين إلى الآباء والبلدان» وغير ذلك توفي في خامس شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة رحمه الله تعالى تذكرة الحفّاظ 4/ 1428.(7/224)
المعجمة، وأهملها بعضهم، وبالعين المهملة ثم هاء.
روى ابن سعد عن مروان بن أبي سعيد المعلّى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يشرب من بئر بضاعة، وبصق فيها وبرّك فيها.
وروى ابن سعد عن محمد بن عمر الأسلمي قال: حدثني أبي عن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه، قال: سمعت عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو أسيد وأبو حميد وسهل ابن سعد رضي الله تعالى عنهم يقولون: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى بئر بضاعة فتوضأ في الدلو، ورده في البئر، ومج في الدلو مرة أخرى، وبصق فيها وشرب من مائها، وكان إذا مرض المريض في عهده يقول: اغسلوه من بضاعة، فيغسل كأنما حل من عقال.
وروى الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني برجال ثقات عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: لو أني سقيتكم من بئر بضاعة لكرهتم ذلك، قد- والله- سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من مائها.
وروى الطبراني عنه رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في بئر بضاعة وبصق فيها.
وروى الطبراني برجال ثقات عن أبي أسيد الساعدي رضي الله تعالى عنه أن له بئرا بالمدينة يقال لها: بئر بضاعة، قد بصق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فهي يتبرك بها، ويتيمن بها، وبئر جاسوم، ويقال جاسم بالجيم والسين المهملة فيهما.
وروى ابن سعد عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرب من جاسم بئر أبي الهيثم بن التّيّهان براتج.
وروى محمد بن عمر الواقدي عن الهيثم بن نصر الأسلمي رضي الله تعالى عنه، قال:
خدمت النبي صلى الله عليه وسلّم، ولزمت بابه، فكنت آتيه بالماء من بئر جاسم، وهي بئر أبي الهيثم بن التّيّهان، وكان ماؤها طيبا.
الثامنة: بئر جمل بلفظ الجمل من الإبل.
قال المجد رحمه الله تعالى وهي بئر معروفة بناحية الجرف بآخر العقيق، وعليها مال من أموال أهل المدينة، يحتمل أنها سميت بجمل مات فيها، أو برجل اسمه جمل حفرها.
قال السيد رحمه الله تعالى قلت: وهي غير معروفة اليوم، ولم أر من سبق المجد بكونها بالجرف غير ياقوت، وقوله: بآخر العقيق لم أره في السنن الصغرى للنّسائي، ويبعده ما رواه ابن زبالة عن عبد الله بن رواحة، وأسامة بن زيد قالا: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى بئر جمل، وذهبنا(7/225)
معه، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ودخل معه بلال، فقلنا: لا نتوضأ حتى نسأل بلالا كيف توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسح على الخفين والخمار- في صحيح البخاري حديث أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل مسلم عليه الحديث.
وفي رواية للدارقطني رحمه الله تعالى: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الغائط، فلقيه رجل عند بئر جمل، وفي أخرى له أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذهب نحو بئر جمل ليقضي حاجته، فلقيه رجل، وهو مقبل، فسلم عليه، وفي رواية للنّسائي أقبل من نحو بئر جمل بالعقيق.
وقال المطري عقب ذكر الآبار التي اقتصر عليها ابن النجار، ولم يعلم أنها ست والسابعة لا تعرف اليوم إلا ما يسمع من قول العامة إنها بئر جمل، ولم يعلم أين هي؟ ولا من ذكرها غير ما ورد في حديث البخاري رحمه الله تعالى، وذكر ما تقدم.
التاسعة: بيرحاء بكسر الباء وفتحها ممدودا اسم لحديقة نخل بقرب المسجد كانت لأبي طلحة، وقيل بفتح الموحدة والراء مقصورا والأول تصحيف، وروي بضم الراء في الرفع، وفتحها في النصب، وكسرها في الجر، على حسب العامل، وكسر مرخما، وجاء على هذا كما قيل: اسم رجل تنسب إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب.
قال أنس رضي الله تعالى عنه فلما نزلت هذه الآية قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أن الله تبارك وتعالى يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وإن أحب مالي إليّ بيرحاء وإنها صدقة لله عز وجل أرجو برها وذخرها عند الله تعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بخ بخ، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» ، وفي رواية: «فقراء أقاربك» ، فقال أبو طلحة رضي الله تعالى عنه: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه، وفي رواية فجعلها لحسان، وأبي بن كعب.
العاشرة: بئر حلوة بالحاء المهملة لم يذكرها ابن النجار وذكرها ابن زبالة.
فروي عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر عن أبيه قال: نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جزورا فبعث إلى بعض نسائه منها بالكتف، فتكلمن في ذلك بكلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«أنتن أهون على الله تعالى من ذلك» ، وهجرهن،
وكان يقيل تحت أراكة على حلوة: بئر كانت في الزّقاق الذي فيه دار آمنة بنت سعد، وبه سمي الزقاق زقاق حلوة، ويبيت في مشربة له، فلما مضت تسع وعشرون ليلة
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله تعالى عنها(7/226)
فقالت: يا رسول الله إنك آليت شهرا قال: «إن الشهر يكون تسعا وعشرين» .
قال السيد: قلت: وهذه البئر غير معروفة اليوم بعينها.
الحادية عشرة: بئر ذرع بالذال المعجمة وهي بئر بني خطمة.
روى ابن زبالة حديث أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بني خطمة، فصلى في بيت العجوز، ثم خرج منه فصلى في مسجد بني خطمة، ثم مضى إلى بئرهم، ذرع، فجلس في قفّها، فتوضأ وبصق فيها.
وروى ابن شبّة عن الحارث بن الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من ذرع بئر بني خطمة التي بفناء مسجدهم، وفي رواية فصلى في مسجدهم، وفي رواية عن رجل من الأنصار رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم بصق في بئر بني خطمة، قال السيد رحمه الله تعالى: وهذه البئر غير معروفة اليوم.
الثانية عشرة: بئر رومة بضم الراء وسكون الواو وفتح الميم بعدها هاء، وقيل رؤمة بهمزة ساكنة بعد الراء.
وروى ابن سعد عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرب من بئر رومة بالعقيق.
وروى ابن سعد عن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر رومة، وكانت لرجل من مزينة يسقي عليها بأجر، فقال: «نعم صدقة المسلم هذه، من رجل يبتاعها من المزني فيتصدق بها؟» فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه بأربعمائة دينار، فتصدق بها، فلما علق عليها العلق مر بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسأل عنها، فأخبر أن عثمان اشتراها وتصدق بها فقال: «اللهم أوجب له الجنة» ، ودعا بدلو من مائها فشرب منه، وقال صلى الله عليه وسلم: «هذا المتاع أما إن هذه الوادي ستكثر مياهه، وتعذب، وبئر المزني أعذبها» .
وروى أيضا عن المطلب بن عبد الله بن حنطب قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ببئر المزني، وله خيمة إلى جنبها، وجرة فيها ماء بارد، فسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء باردا في الصيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «هذا العذب الزلال» .
في أسانيد الجميع محمد بن عمر.
وروى البخاري عن عبد الرحمن السّلمي أن عثمان رضي الله تعالى عنه حيث حوصر أشرف عليهم فقال: أنشدكم الله تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حفر رومة فله الجنة» ،
فحفرتها الحديث، قال: وفيه فصدقوه بما قال، وللنّسائي من طريق الأحنف بن قيس أن الذين صدقوه بذلك سعد بن أبي وقاص وعليّ بن أبي طالب وطلحة والزبير.(7/227)
وبئر زمزم: على يمين السالك إلى العقيق سميت بذلك لبركتها، ولم تزل أهل المدينة قديما وحديثا يتبركون بها، ويشربون من مائها، وينقل إلى الآفاق منها، كما ينقل من زمزم بئر الحرم المكي.
الثالثة عشرة: بئر السّقيا بسين مهملة مضمومة فقاف ساكنة فتحتية.
روى ابن سعد عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرب منها.
وروى ابن شبّة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستسقى له الماء العذب من بئر السّقيا، وفي رواية من بيوت السّقيا، رواه أبو داود بهذا اللفظ، وسنده جيد، وصححه الحاكم.
الرابعة عشرة: بئر العقبة بالعين المهملة ثم القاف قال المجد رحمه الله تعالى ذكرها رزين العبدري في آبار المدينة، وقال: هي التي أدلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما أرجلهم فيها، ولم يعين لها موضعا، والمعروف أن هذه القصة إنما كانت في بئر أريس، قال السيد رحمه الله تعالى: والذي رأيته في كتاب رزين في تعداد الآبار المعروفة بالمدينة ما لفظه: وبئر أريس التي سقط فيها الخاتم، وبئر العقبة التي أدلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر أرجلهم فيها انتهى، قال: وقد قدمنا في بئر أريس ما يقتضي تعدد الواقعة.
الخامسة عشرة: بئر أبي عنبة بلفظ واحدة العنب.
قال ابن سيّد الناس في خبر نقله عن ابن سعد في غزوة بدر ما لفظه: وضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكره على بئر أبي عنبة، وهي على ميل من المدينة، فعرض أصحابه، وردّ من استصغر، ونقل الحافظ عبد الغني المقدسيّ رحمه الله تعالى أنه عرض جيشه عند بئر أبي عنبة بالحرة فوق هذه البئر أي السّقيا إلى الغرب، ونقل أنها على ميل من المدينة، قال السيد رحمه الله تعالى: قلت: ولعل العرض وقع أولا عند مرورهم بالسّقيا، ثم لما ضرب عسكره على هذه البئر أعاد العرض فرد من استصغر.
وقد روى ابن زبالة أن عمر وجدّته اختصما إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فقال: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ابني ويستسقي لي من بئر أبي عنبة، فدل على أن الماء كان يستعذب منها، قال المجد رحمه الله تعالى: وقد جاء ذكر هذه البئر في غير ما حدّثت والله تعالى أعلم بالصواب.
السادسة عشرة: بئر العهن بكسر العين المهملة، وسكون الهاء ونون.
لما ذكر المطري الآبار التي ذكرها ابن النجار، وهي أريس والبصة وبضاعة، ورومة(7/228)
والغرس وبيرحاء قال: والسابعة لا تعرف اليوم ثم قال: رأيت حاشية بخط الشيخ أمين الدين ابن عساكر على نسخة من الدرر الثمينة في أخبار المدينة للشيخ محب الدين بن النجار ما مثاله: العدد يقتصر على المشهورة وبقيت بئر واحدة لأن المثبت ست، والمشهور سبع، والسابعة بئر العهن، ولها اسم آخر مشهورة به، قال المطري: عنبة، وبئر العهن هذه بالعوالي وهي بئر مليحة جدا، منقورة في الجبل، ولا يكاد ينزف ماؤها، قال السيد رحمه الله تعالى:
قلت: ولم يذكروا شيئا يتمسك به في فضلها، ونسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لم يزل الناس يتبركون بها، والذي ظهر لي بعد التأمل أنها بئر اليسيرة الآتي ذكرها وأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل عليها، وتوضأ منها، وبصق فيها لأن اليسيرة بئر بني أمية من الأنصار عند منازلهم، وبئر العهن عند منازلهم.
السابعة عشرة: بئر غرس بضم الغين المعجمة وبالراء والسين المهملة.
روى ابن سعد عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرب منها وبرّك فيها، وقال: «هي عين من عيون الجنة» .
وروى أيضاً عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس على شفير بئر غرس: «رأيت الليلة أني جالس على عين من عيون الجنة» ، يعني هذه البئر.
وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بئر غرس من عيون الجنة» .
وروى أيضاً عن عمر بن الحاكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم البئر غرس، هي من عيون الجنة، وماؤها أطيب المياه» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستعذب له منها، وغسل منها.
وروى أيضا عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: جئنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم قباء فانتهينا إلى بئر غرس، وإنه ليستقي منها على حمار، ثم يقوم عامة النهار ما يجد فيها ماء، فتمضمض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدلو، ورده فيها، فجاشت بالرّواء. في أسانيده هذه كلها محمد بن عمر الأسلمي.
الثامنة عشرة: بئر القرضافة.
قال السيد رحمه الله تعالى: لعلها بالقاف والراء كما رأيت في بعض النسخ، وفي بعضها بعين بدل القاف.
روى ابن زبالة عن جابر بن عبد الله أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه عرض على غرماء(7/229)
أبيه القرضافة بما عليه من الدين فأبوا فقال: «دعهم حتى إذا كان جذاذها، فجذها في أصولها، ثم ائتني» ، فجاءه فأعلمه، فخرج صلى الله عليه وسلم فبصق في بئرها ودعا الله تعالى أن يؤدي عن عبد الله،
قال السيد: ويؤيده أن أصل حديث جابر في أرضه مذكور في الصحيح بطرق، وفي بعضها:
وكانت لجابر البئر التي بطريق رومة، وهذه الجهة بطريق رومة.
التاسعة عشرة: بئر القريصة بقاف وصاد مهملة مصغرة.
روى ابن زبالة عن سعد بن حرام، والحارث بن عبيد قالا: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من بئر في القريصة، بئر بني حارثة أي شرب منها وبصق فيها، وسقط فيها خاتمه، فنزع، ثم روى عقبة سقوط الخاتم في بئر أريس.
العشرون: بئر اليسيرة من اليسر ضد العسر.
وروى ابن سعد عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب من العسيرة بئر بني أمية بن زيد، وقف على يسارها فبصق فيها، وشرب منها، وبارك فيها، وسأل عن اسمها فقيل: العسيرة، فسماها: اليسيرة.
تنبيهات
الأول: قال ابن بطال رحمه الله تعالى: استعذاب الماء لا ينافي الزهد، ولا يدخل في التّرفّه المذموم، بخلاف تطييب الماء بالمسك ونحوه، فقد كرهه مالك رحمه الله تعالى، لما فيه من السرف، وأما شرب الماء الحلو وطلبه فمباح، وليس في شرب الماء الملح فضيلة.
الثاني: الذي اشتهر معرفته من الآبار سبع، ولذا قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في الإحياء: وكذلك تقصد الآبار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتوضأ منها، ويغتسل، ويشرب، وهي سبع آبار طلبا للشفاء، وتبركا به صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ العراقي في المغني: وهي بئر أريس، وبير حاء، وبئر رومة، وبئر غرس، وبئر بضاعة، وبئر البصة، وبئر السّقيا، أبو بئر العهن أو بئر جمل، فجعل السابعة مترددة بين الآبار الثلاثة، قال السيد رحمه الله تعالى: والمشهور اليوم عند أهل المدينة أن السابعة هن العهن، ولذا قال أبو اليمن المراغي شعرا:
إذا رمت آبار النّبيّ بطيبة ... فعدّتها سبع مقالا بلا وهن
أريس وغرس بضاعة ... كذا بصة قل بير حاء مع العهن
الثالث: بئر إهاب بهمزة.
قال ابن بطال رحمه الله تعالى: قول البخاري: عثمان اشتراها- قال الحافظ بن حجر(7/230)
رحمة الله تعالى: والمشهور في الروايات كما قال، لكن لا يتعين الوهم لحديث: وكانت لبني عمار عين يقال لها: رومة،
فقال عليه الصلاة والسلام: «لعينها عين في الجنة» ،
وذكر الحديث ثم قال: وإذا كانت أولا عينا فلا مانع من أن يحفر فيها عثمان رضي الله تعالى عنه بئرا، ولعل العين كانت تجري إلى بئر فوسعها، أو طولها، فنسب حفرها إليه انتهى.
الرابع: قال السيد رحمه الله تعالى: وقال أبو داود عقب روايته لحديث استعذاب الماء من بيوت السّقيا: عين بينها وبين المدينة يومان قلت: وما ذكره صحيح إلا أنه غير مراد هنا، وكأنه لم يطلع على أن بالمدينة بئرا تسمى بذلك، وقد اغتر به المجد فقال: السقيا قرية جامعة من عمل الفرع ثم أورد حديث أبي داود، وقول صاحب النهاية: السقيا منزل بين مكة والمدينة قيل على يومين إلخ مردود مع أن المعتمد عندي أن السّقيا التي جاء حديث الاستعذاب منها إنما هي سقيا المدينة لوجوده، فانظرها فيه إن شئت والله أعلم
.(7/231)
الباب الثاني في الآنية التي شرب منها صلّى الله عليه وسلم، وما كره الشرب منه،
وفيه أنواع:
الأول: في شربه من القوارير.
روى البزار وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أهدى المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدح قوارير، فكان يشرب منه [ (1) ] .
الثاني: في شربه من الفخّار.
روى ابن منده عن عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده خبّاب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأكل قديدا ثم يشرب من فخارة.
الثالث: في شربه من القدح الخشب.
روى البخاري عن عاصم الأحول عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: رأيت قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، وكان قد انصدع، فسلسله بفضة قال: وهو قدح عريض من فخّار، قال أنس رضي الله تعالى عنه: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح أكثر من كذا وكذا.
وروى عنه ابن سيرين أنه كان في حلقة من حديد، فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من فضة أو ذهب فقال أبو طلحة: لا تغيرن شيئا صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركه.
وروى ابن الجوزي عن عيسى بن طهمان قال: أخرج أنس بن مالك قدحا من خشب غليظا مضبّبا بحديد فقال: يا ثابت هذا قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الترمذي في الشمائل والبرقاني، وأبو الحسن بن الضحاك عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا القدح الشراب كله، اللبن والنبيذ والعسل والماء.
وروى أبو يعلى عن محمد بن إسماعيل رحمه الله تعالى قال: دخلت على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه فرأيت في بيته قدحا من خشب كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشرب منه ويتوضأ.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن ماجة في الأشربة (3435) وإسناده ضعيف.(7/232)
وروى النسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان لأم سليم قدح فقالت: سقيت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى عن حازم بن القاسم قال: رأيت أبا عسيب يشرب في قدح من خشب فقلت: ألا تشرب في أقداحنا هذه الرقاق؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشرب، يعني فيها.
وروى ابن شاذان [ (1) ] عن زهير بن محمد رحمه الله تعالى قال: اسم قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم القمر.
الرابع: في شربه صلى الله عليه وسلّم من النحاس.
روى الطبراني بسند ضعيف عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: كان لمعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قدح من صفر نحاس، فيه يسقي النبي صلى الله عليه وسلم إذا شرب وفيه يوضئه إذا توضأ.
الخامس: في شربه من القربة بيانا للجواز وهو قائم.
روى الإمام أحمد برجال الصحيح خلا البراء بن زيد ولم يضعف عن أم سليم وفي رواية كبشة امرأة كان في بيتها قربة معلقة قالت: فشرب من القربة قائما، فعمدت إلى فم القربة فقطعتها، وزاد فيه التّرمذي، فقمت إلى فمها فقطعتها، وقال: حسن صحيح، وابن ماجة، وعنده: فقطعت فم القربة تتبعا موضع بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى الترمذي وضعفه عن ابن عبد الله بن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قام إلى قربة فخنثها فشرب من فمها.
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن كبشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فشرب من فم قربة، فقامت إليه، فقطعته فأمسكته.
وروى ابن أبي شيبة عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سليم، وفي البيت قربة معلقة، فشرب منها، وهو قائم، فقطعت أم سليم فم القربة، وكان عندها.
وروى الإمام أحمد برجال ثقات عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على امرأة من الأنصار وفي البيت قربة معلقة فاختنثها فشرب وهو قائم.
__________
[ (1) ] أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن شاذان أبو بكر البزاز: محدّث بغداد في عصره. مولده ووفاته فيها، وأصله من دورق (من أعمال الأهواز) كان يتجر بالبزّ إلى مصر وغيرها له «مسلسلات» في الحديث توفي 383 هجرة انظر الأعلام 1/ 86.(7/233)
وروى مسدد مرسلا برجال ثقات عن عيسى الأنصاري رحمه الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دعا يوم أحد بماء، فأتاه رجل بإداوة من ماء، فقال: اجتث فم القربة واشرب، ورواه أبو داود موصولا من طريق عبيد الله بن عمر عن عيسى بن عبد الله- رجل من الأنصار- عن أبيه.
السادس: في شربه صلى الله عليه وسلّم من الدلو ومجّه في بعض الآنية.
وروى البزار برجال ثقات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزلنا، فناولته دلوا فشرب، ثم مجّ في الدلو.
السابع: فيما كره صلى الله عليه وسلّم الشرب منه.
روى محمد بن عمر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليتقي أن يشرب من الإناء العاري.
تنبيهات
الأول: قال في زاد المعاد كان له صلى الله عليه وسلم قدح يسمى الذّبال، ويسمى مغيثا، وركوة تسمى الغار.
الثاني: ورد النهي عن اختناث الأسقية، فقد روى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن اختناث الأسقية، قال في النهاية: إنما نهى عنه لأنه ينتنها، فإن إدارة الشرب هكذا مما يغير ريحها، وقيل لئلا يترشرش الماء على الثوب لسعة فم السّقاء، والمحذور على الأول مأمون، فإن نكهته الشريفة صلى الله عليه وسلم أطيب من كل طيب، ولا يخشى منه ما في غيره من تغير السّقاء ونتنه، وورد النهي عن الشرب من فم السّقاء، فقد روى الطبراني برجال ثقات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يشرب من السقاء قال: الخطابي رحمه الله تعالى:
إنما كرهه من أجل ما يخاف من أذى عساه يكون فيه لا يراه الشارب حتى يدخل في جوفه، فاستحب أن يشرب في إناء طاهر يبصره.
الثالث: روى البيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: لقد شرب رجل من فم سقاء فانساب في بطنه جان، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اختناث الأسقية، ومن هذا استفيد سبب النهي.
قال البيهقي رحمه الله تعالى: وأما ما روي في الرخصة في ذلك فأخبار النهي أصح إسنادا، وقد حمله بعض أهل العلم على ما لو كان السّقاء معلقا فلا يدخله هوام الأرض.(7/234)
الرابع: إنما قطعت أم سليم رضي الله تعالى عنها فم القربة رجاء بركتها، أو لئلا يتبدل موضع فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصنعت ذلك تكرمة له.
الخامس: في بيان غريب ما سبق:.
القوارير: بقاف فواو فراءين مهملتين بينهما تحتية: الزجاج.
النضار: بنون فضاد معجمة فألف فراء: الذهب.
القمر: بقاف مضمومة فميم ساكنة فراء.
السقيا: تقدم تفسيره.
الاختناث: بخاء معجمة فمثناة فوقية فنون فألف فمثلثة قال الخطابي: هو أن تنثني رؤوسها، وتعطف، ثم يشرب منها، وقال في النهاية اختنثته: إذا ثنيت فمه إلى خارج، وشربت منه، وقبعته: إذا ثنيته إلى داخل، وقال أبو الفرج الاختناث في الأسقية أن تنثني أفواهها، ثم تشرب منها وفي ذلك ثلاث آفات.
الأولى: أنه ينتنها.
الثانية: أنه ربما كان فيها هامة أو شيء فيسبق إلى حلقه.
الثالثة: أنه ربما أسرع جريان الماء فيحصل منه الشّرق.(7/235)
الباب الثالث في شربه صلى الله عليه وسلّم قاعدا كثيرا وشربه قائماً،
وفيه أنواع:
الأول: في شربه قاعدا وقائما.
روى ابن أبي شيبة والإمام أحمد بسند جيد عن علي رضي الله تعالى عنه، ومحمد بن أبي عمر وابن أبي شيبة عن ميسرة عن علي رضي الله تعالى عنه قال: لئن شربت قائما، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرب قائما وإن شربت قاعدا لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرب قاعدا.
وروى الترمذي وحسنه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشرب قائما وقاعدا [ (1) ] .
وروى الطبراني برجال ثقات وأبو الشيخ وأبو الحسن بن الضحاك عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشرب قائما وقاعدا.
الثاني: في شربه قائما للجواز.
روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم من ماء زمزم فشرب وهو قائم [ (2) ] .
وروى أبو يعلى برجال ثقات عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشرب قائما.
وروى محمد بن عمر وابن أبي شيبة عن ميسرة رحمه الله تعالى قال: رأيت عليا رضي الله تعالى عنه يشرب قائما، فقلت له: تشرب قائما؟ قال: إن أشرب قائما فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشرب قائما، وإن أشرب قاعدا فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشرب قاعدا.
وروى الطبراني برجال ثقات عن عائشة رضي الله تعالى عنها، والطبراني عن أبي هريرة وأحمد من طريق آخر عنه برجال ثقات عن سعد بن أبي وقّاص، والبزار، وأبو يعلى برجال الصحيح عن أنس رضي الله تعالى عنه، والطبراني برجال الصحيح عن أبي سعيد الخدري،
__________
[ (1) ] وفيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أحمد 2/ 12، 24، 29، 108 والدارمي 2/ 120 والترمذي 4/ 300 (1880) وقال حسن غريب وابن ماجة 2/ 98 (3301) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 3/ 492 (1637) (5617) ومسلم 3/ 1602 (120/ 2027) .(7/236)
والبخاري عن علي، وأبو بكر الشافعي عن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرب قائما [ (1) ] .
وروي نهيه عن الشرب قائما.
وروى البخاري وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما [ (2) ] .
وروى مسدد والإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار برجال ثقات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يشرب قائما، قال: «قئ» ، قال: لم؟ قال: «أتحب أن يشرب معك الهرّ؟» قال: لا، قال: «قد شرب معك شر منه الشيطان» .
وروى الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الذي يشرب قائما ما يجعل في بطنه لاستقاء» .
تنبيه
لا يكون مكروها بل البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلّم. وقوله فيء محمول على الاستحباب، والندب، فيستحب لمن شرب قائما أن يتقايأ للأحاديث الصحيحة، قاله الإمام النووي رحمه الله تعالى، ومن نظم الحافظ رحمه الله تعالى عليه:
إذا رمت تشرب فاقعد تقرّ ... بسنّة صفوة أهل الحجاز
وقد صحّحوا شربه قائما ... ولكنّه لبيان الجواز
وقال ابن القيم في الهدي: من هديه صلى الله عليه وسلّم الشرب قاعدا، كان هديه المعتاد، وصح عنه أنه نهى عن الشرب قائما، وصح عنه أنه شرب قائما، فقالت طائفة: لا تعارض بينهما أصلا، فإنما شرب قائما للحاجة فإنه جاء إلى زمزم، وهم يستقون منها، فاستقى فناوله الدلو فشرب وهو قائم، وهذا كان موضع الحاجة.
وللشرب قائما آفات عديدة: منها أنه لا يحصل الرّي التام ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء، وينزله بسرعة وحدة إلى المعدة، فيخشى منه أن يبرّد حرارتها، ويسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج، وكل هذا يضر بالشارب، فأما إذا، فعله نادرا أو لحاجة فلا، ولا يعترض على هذا بالعوائد فلها طبائع ثوان، ولها أحكام أخرى، وهي بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء رحمهم الله تعالى.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 10/ 18 (5616) .
[ (2) ] أخرجه مسلم 3/ 600 (113/ 2024) .(7/237)
الباب الرابع في آدابه صلّى الله عليه وسلم في شربه،
وفيه أنواع:
النوع الأول: في اختياره الماء البائت، وإرادته الكرع بفيه صلى الله عليه وسلّم.
روى البخاري والإمام أحمد وأبو داود والبرقاني عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل حائطا من الأنصار، ومعه رجل من أصحابه، وهو يحوّل الماء في حائطه فقال: «إن كان عندك ماء بات وإلا كرعنا» ، قال: عندي ماء بات في شن فانطلق إلى العريش فصب منه في قدح، وحلب عليه داجنا- يعني شاة- فسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد إلى العريش، ففعل مثل ذلك فسقى صاحبه [ (1) ] .
النوع الثاني: في أحب الشراب إليه صلى الله عليه وسلم.
روى مسدّد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الشراب أحب إليك؟ قال: «الحلو البارد» .
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح- ولم يسم التّابعي- عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قالا: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم أي الشراب أطيب؟ قال: «الحلو البارد» .
وروي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء في شجاب أو على جمارة من جريد.
النوع الثالث: في مناولته الإناء من عن يمينه.
روى البخاري وأبو الحسن بن الضحاك عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه حلبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة داجنا، وهو في دار أنس بن مالك ثم شاب لبنها بماء من البئر التي في دار أنس، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلّم يشرب منه، وعلى يساره أبو بكر، وعلى يمينه أعرابي، فجاء عمر رضي الله تعالى عنه، وخاف أن يعطيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعرابي، فقال: «أعط أبا بكر يا رسول الله، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم الأعرابي الذي على يمينه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الأيمن فالأيمن» [ (2) ] .
وروى الشيخان عنه أيضا قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا هذه فحلبنا له شاة ثم شبته
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 10/ 75 (5613) (5621) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 5/ 201 (2571) ومسلم 3/ 1604 (126/ 2029) .(7/238)
من ماء بئرنا هذه، فأعطيته، وأبو بكر عن يساره، وعمر تجاهه، وأعرابي عن يمينه، فلما فرغ قال عمر رضي الله تعالى عنه: هذا أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فأعطى الأعرابي، وقال: الأيمنون الأيمنون، قال أنس رضي الله تعالى عنه: فهي سنة [ (1) ] .
وروى الحميدي، ومحمد بن أبي عمر، والإمام أحمد، وابن سعد، وابن ماجة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنا وخالد بن الوليد على ميمونة رضي الله تعالى عنها، فجاءتنا بإناء من لبن، وفي رواية قالت: ألا أسقيكم من لبن أهدته لنا أم عقيق؟ كذا رواه، والمحفوظ أم حميد أو حفيد، قال: بلى فجيء بإناء من لبن، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا عن يمينه، وخالد عن شماله،
فقال: «المشربة لك، فإن شئت آثرت بها خالدا» ، فقلت: ما كنت لأوثر بسؤرك أحدا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أطعمه الله طعاما فليقل الّلهم بارك لنا فيه، وزدنا منه، فإني لا أعلم شيئا يجزئ عن الطعام والشراب غيره» .
وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد والطبراني بسند جيد عن محمد بن إسماعيل رحمه الله تعالى قال: قيل لعبد الله بن أبي حبيبة: ما أدركت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال: جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدنا بقباء، وأنا غلام، حتى جلست عن يمينه، وجلس أبو بكر رضي الله تعالى عنه عن يساره، ثم دعا بشراب فشرب منه، ثم أعطانيه، وأنا عن يمينه، فشربت منه، ثم قام فصلى فرأيته يصلي في نعليه.
النوع الرابع: في بدئه صلى الله عليه وسلّم بالأكابر.
روى الطبراني برجال الصحيح وأبو يعلى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سقى قال: «ابدؤوا بالكبرى أو قال بالأكابر» .
وروى الطبراني بسند جيد إلا أبا عبد الملك علي بن زيد الأزدي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة في نفر الصحابة رضي الله تعالى عنهم إذ أتى بقدح فيه شراب، فناوله رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة، فقال أبو عبيدة: أنت أولى به يا نبي الله، قال: خذ فأخذ أبو عبيدة القدح قال له قبل أن يشرب: خذ يا رسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اشرب، فإن البركة مع أكابرنا، فمن لم يرحم صغيرنا، ويجل كبيرنا فليس منا» .
وروى ثابت بن قاسم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: جلس
__________
[ (1) ] انظر المصادر السابقة.(7/239)
رسول الله صلى الله عليه وسلم في سقيفته التي عند المسجد، قال سهل بن سعد: فاستسقاني فقدمت له وطبة فشرب، ثم قال: «كانت الأولى أطيب من الأخرى» فقلت يا رسول الله هما من شنّ واحد، ثم نادى أبا بكر فشرب، وعمر عن يمينه.
النوع الخامس: في أمره صلى الله عليه وسلّم بالبداءة بمن انتهى إليه القدح.
روى الإمام أحمد برجال الصحيح- وفيه راو لم يسم- عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمت إليه عذق تمر نعلله به، وطبخت له، وسقيناهم، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسقى الذي عن يمينه، ثم أخذت القدح حين نفذ ما فيه فجئت بقدح آخر، وكنت أنا الخاتم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أعط القدح الذي انتهى» .
النوع السادس: في شربه صلى الله عليه وسلّم بعد أصحابه إذا سقاهم.
روى الإمام أحمد وأبو يعلى برجال ثقات عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عطش فنزلنا منزلا، فأتي بإناء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقي أصحابه، وجعلوا يقولون: اشرب، فيقول صلى الله عليه وسلّم: «ساقي القوم آخرهم شربا» حتى سقاهم كلهم [ (1) ] .
وروى أبو الشيخ وابن حبان عن أنس رضي الله تعالى عنهم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسقي أصحابه، قالوا: يا رسول الله لو شربت، فقال: «ساقي القوم آخرهم» .
وروى أبو يعلى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلا فبعث إليه امرأة مع ابن لها شاة، فحلب، ثم قال: «انطلق به إلى أمك» ، فشربت حتى رويت، ثم جاء بشاة أخرى، فحلب ثم سقي أبا بكر، ثم جاءه بشاة أخرى، فحلب، ثم شرب.
النوع السابع: في شربه مصّا وتنفسه ثلاثا.
وروى الطبراني عن بهز قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستاك عرضا ويشرب مصّا، ويتنفس ثلاثا ويقول: «هو أهنأ وأمرأ وأبرأ» [ (2) ] .
وروى أيضا عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعبّ يشرب مرتين أو ثلاثا.
وروى أبو بكر الشافعي عن ربيعة بن أكثم رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا، ويشرب مصّا، ويقول: هو أهنأ» .
__________
[ (1) ] وروي من حديث أبي قتادة أخرجه مسلم 1/ 474 (311/ 681) .
[ (2) ] وبنحوه أخرجه البخاري 10/ 92 (5631) ومسلم 3/ 1602 (123/ 2028) .(7/240)
وروى البغوي وابن القانع والطبراني في الكبير، وابن السّني وأبو نعيم في الطّب عن بهز والبيهقي عن ربيعة بن أكثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستاك عرضا ويشرب مصّا، ويتنفس ثلاثا، ويقول: «هو أهنأ وأمرأ وأبرأ» .
وروى الشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتنفس إذا شرب ثلاثا، زاد التّرمذي ومسلم: ويقول: «إنه أروى وأمرأ» [ (1) ] .
وروى عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشرب يوما، فشرب في ثلاثة أنفاس، فقلت: يا رسول الله تشرب الماء في ثلاثة أنفاس؟ فقال:
«هو أشفى وأمرأ وأبرأ» .
وروى البزار، والطبراني، وأبو الحسن بن الضحاك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا شرب تنفس في الإناء ثلاثا، يحمد الله تعالى في كل نفس، ويشكره عند آخرهن.
وروى ابن عدي عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرب جرعة، ثم قطع، ثم سمّى، ثم سمّى، ثم جرع، ثم قطع، ثم سمى، الثالثة: ثم جرع، ثم مضى فيه حتى فرغ منه، فلما شرب حمد الله تعالى عليه.
وروى أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شرابا قط إلا تنفس فيه ثلاثا، كلها يقول: «باسم الله والحمد لله» .
وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتنفس في طعام ولا شراب، ولا يتنفس في الإناء.
وروى البزار برجال ثقات عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتنفس في الإناء ثلاثا.
وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وعن نوفل بن معاوية الدّيلمي، والطبراني والبزّار عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرب بثلاثة أنفاس، يسمي الله تعالى في أولها إذا أدنى الإناء من فيه، ويحمده في آخرها إذا أخره.
النوع الثامن: في مضمضته إذا شرب اللبن.
روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنا فدعا بماء فمضمض، فقال: «إن له دسما» .
__________
[ (1) ] انظر التخريج السابق.(7/241)
وروى البخاري وابن ماجة والبرقاني في صحيحه عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلب شاة، وشرب من لبنها، ودعا بماء فمضمض فاه، وقال: «إن له دسما» .
النوع التاسع: في شربه صلى الله عليه وسلّم ولم يتمضمض.
روى أبو الحسن بن الضحاك بسند فيه ضعف عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرب ولم يتمضمض، ولم يتوضأ.
النوع العاشر: في شربه صلى الله عليه وسلّم من الإناء.
روى الطبراني برجال ثقات غير يحيى بن مطيع بنحو رجاله عن جرير رضي الله تعالى عنه روى: دخل عيينة بن حصن رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل فاستسقى، فأتى بماء فستره فشرب فقال: ما هذا قال: «الحياء والإيمان إن منحتموها أو منعتموها» .
النوع الحادي عشر: في أمره صلى الله عليه وسلّم بتخمير الإناء.
روى أبو يعلى برجال عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلا يقال له أبو حميد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بإناء فيه لبن من النّقيع نهارا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا خمّرته ولو أن تعرض عليه بعود» .
النوع الثاني عشر: في كراهته صلى الله عليه وسلّم أن ينفخ في شرابه.
روى الطبراني برجال ثقات إلا صالح مولى التّوأمة فإنه اختلف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كره أن ينفخ في شرابه.
تنبيهات
الأول: قال المهلب: الحكمة في طلب الماء البائت أن يكون أبرد وأصفى، وأما مزج اللبن بالماء البائت فلعل ذلك كان في يوم حار كما وقع في قصة أبي بكر مع الدّيلمي أي السابق في حديث الهجرة.
قال الحافظ رحمه الله تعالى لكن القصتان مختلفتان، فصنيع أبي بكر رضي الله تعالى عنه باللبن لشدة الحر، وصنيع الأنصاري رضي الله تعالى عنه أراد ألا يسقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ماء صرفا، فأراد أن يضيف إليه اللبن، فأحضر له ما طلبه منه، وزاد عليه من جنس جرت عادته بالرغبة فيه.
الثاني:
روى ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: مررنا على بركة نكرع فيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تكرعوا، ولكن اغسلوا أيديكم، ثم اشربوا بها»
- في سنده(7/242)
ضعيف فإن كان محفوظا فالنهي للتنزيه، وأراد الفعل لبيان الجواز، وحديث جابر رضي الله تعالى عنه قيل: قبل النهي، أو النهي في غير حال الضرورة، وهل الفعل كان لضرورة شرب الماء ليس ببارد فيشرب بالكرع.
وروى ابن ماجه أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشرب على بطوننا، وهو الكرع، وسنده أيضا ضعيف، فهو إن ثبت احتمل أن يكون نهيا خاصا بهذه الصورة، وهو أن يكون الشارب مضطجعا، ويحمل حديث جابر رضي الله تعالى عنه على الشرب بالفم من مكان عال لا يحتاج إلى الانبطاح.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الكرع: بالراء تناول الماء بالفم من غير إناء ولا كف، وإنما سمي كرعا لأنه فعل البهائم لشربها بأفواهها، والغالب أنها تدخل كراعها حينئذ في الماء.
الشّن: بمعجمة مفتوحة والنون مشددة: القربة العتيقة.
الداجن: الشاة الملازمة للبيت.
العريش: بعين مهملة مفتوحة، فراء مكسورة، فتحتية، فمعجمة: كل ما يستظل به.
الشّجب: بمعجمة فجيم فموحدة وبالسكون السقاء الذي خلق وبلى وصار شنّا.
الجمّارة من الجريد: هي ثلاث خشبات تسمر في رؤوسها، بعضها في بعض، وتقام ويعلق المسافر فيها قربته ومتاعه، وتسميها العامة سيباه.
السؤر: بمهملة فهمز فراء: فضلة الشراب.
الجرعة: بجيم مضمومة فراء ساكنة فعين مهملة فتاء تأنيث: اسم للشرب اليسير وبفتح الجيم الواحدة.(7/243)
الباب الخامس في ذكر مشروباته صلّى الله عليه وسلم
وفيه أنواع:
النوع الأول: في كراهته حلب المرأة.
وروى ابن أبي شيبة عن أبي شيخ قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا معشر [محارب] نصركم الله لا تسقوني حلب المرأة» [ (1) ] .
النوع الثاني: في شربه صلى الله عليه وسلّم اللبن الخالص.
روى الإمام مالك والبخاري عن أم الفضل بنت الحارث رضي الله تعالى عنها أن ناسا تماروا عندها يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: بعضهم هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم، فأرسلت إليه أم الفضل بقدح لبن، وهو واقف على بعيره، فشرب بعرفة.
وروى ابن أبي شيبة عن عمر بن الحكم رضي الله تعالى عنه قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «اللهم متعه بشبابه» [ (2) ] .
وروى أبو الشيخ وأبو نعيم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم اللبن.
وروى البخاري عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه معه، قال أبو بكر: مررنا براعي غنم، وقد عطش رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: فحلبت كثبة من لبن في قدح، فشرب حتى رضيت.
وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم شرب لبنا فمضمض، وقال: «إن له دسما» .
وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رفعت إلى سدرة المنتهى، فإذا أربعة أنهار: نهران ظاهران، ونهران باطنان، فأما الظاهران: فالنيل والفرات، وأما الباطنان فنهران في الجنة، فأوتيت بثلاثة أقداح: قدح فيه لبن، وقدح فيه عسل، وقدح فيه خمر، فأخذت الذي فيه اللبن، فشربت، فقيل: لقد أصبت الفطرة والله أعلم» .
النوع الثالث: في شربه صلى الله عليه وسلّم اللبن المشوب بالماء.
وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشرب لبنا، وأتى دارنا، فحلبت شاة، فشبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم من البئر، فتناول القدح فشرب، وعن يساره أبو بكر
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد 6/ 28 وانظر المجمع 5/ 83.
[ (2) ] انظر المجمع 9/ 406 والمطالب (4087) والكنز (37288) .(7/244)
رضي الله تعالى عنه، وعن يمينه أعرابي، وفي رواية: وأبو بكر تجاهه، فقال عمر رضي الله تعالى عنه- وخاف أن يعطيه الأعرابي: أعط أبا بكر، وفي رواية: هذا أبو بكر، فأعطى الأعرابي فضله، ثم قال: الأيمن فالأيمن.
وروى محمد بن عمر عن أبي الهيثم بن نصر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل في يوم صائف، ومعه أبو بكر على أبي الهيثم، فقال: «هل من ماء بارد؟» فأتاه بشجب ماء كأنه الثلج، فصب منه على لبن عنز له وسقاه.
فائدة: روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا ثلاثة لا ترد: اللبن والوسادة والدّهن وأنشد بعضهم يقول في ذلك:
قد كان من سيرة خير الورى ... صلّى عليه الله طول الزّمن
ألّا يردّ الطّيب والمتّكا ... واللّحم أيضا يا أخي واللّبن
النوع الرابع: في شربه صلى الله عليه وسلّم النبيذ وهو المعروف الآن بالأقسما، وصفته، وتحريم الخمر عليه أول ما بعث قبل تحريمها على الأمة.
روى أبو سعيد بن الأعرابي عن أم سليم رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أنبذ في جرار خضر فيجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشرب منها.
وروى أبو القاسم البغوي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تور من الحجارة.
وروى الإمامان الشافعي وأحمد ومسلم عن أبي الدرداء وابن ماجة، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينبذ له في سقاء، فإذا لم يجد سقاء ينبذ له في تور من الحجارة، وفي لفظ برام.
وروى الطبراني برجال ثقات عن ابن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه قال: كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تور من الحجارة.
وروى أبو القاسم البغوي عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان ينبذ له في تور من حجارة زاد ابن أبي شيبة في المصنف قال أشعث: والتور من لحاء الشجر.
وروى الطبراني برجال ثقات غير مزاحم بن عبد العزيز الثقفي فيجر رجاله عن عمير بن مسلم قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جرة خضراء فيها كافور، فقسمها بين المهاجرين والأنصار وقال: «يا أم سليم انتبذي لنا فيها» .(7/245)
وروى البخاري، عن سهل بن سعد قال: أتى أبو أسيد السّاعدي فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في عرسه فكانت امرأته خادمتهم، وهي العروسة، فقالت: أتدرون ما سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
ألقيت له تمرات من الليل في تور من حجارة.
وروى الإمام أحمد والأربعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكى عليه، فنأخذ قبضة من زبيب، أو قبضة من تمر، فنطرحها في السقاء، ثم نصب عليها الماء ليلا، فيشرب نهارا، أو نهارا فيشربه ليلا، وزاد أو داود: فإن فضل مما شرب على عشائه مما انتبذنا له بكرة سقاه أحدنا، ثم ننبذ له بالليل، فيشربه على غذائه، قال:
وكنا نغسل السقاء غدوة وعشية مرتين في يوم.
وروى مسلم والنسائي عن ثمامة بن حزن رحمه الله تعالى أنه سأل عائشة رضي الله تعالى عنها عن النبيذ، فدعت جارية حبشية فقالت: سل هذه، فإنها كانت تنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت الحبشية: كنت أنبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء من الليل فأوكيه وأعلقه فإذا أصبح شرب منه.
وروى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينبذ له زبيب من الليل، فيجعل في سقاء، فيشربه يومه ذلك، والغد بعد الغد، فإذا كان في آخر الثالثة سقاه أو شربه، فإذا أصبح منه شيء أهريق.
وروى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة ويشربه عشية، وننبذ له عشية ويشربه غدوة [ (1) ] .
وروى الطبراني برجال ثقات غير شيخه العباس بن الفضل الأسنائي فيجر رجاله عن المطلب بن أبي وداعة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بإناء نبيذ فصب عليه الماء حتى تدفق، ثم شرب منه.
وروى أيضا برجال ثقات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه رضي الله تعالى عنه، قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشرب نبيذا فوق ثلاث.
وروى الطبراني عن الفضل بن عباس قال: كان ينبذ للنبي صلى الله عليه وسلّم فيشربه الغد، وليلة الغد، وليلة اليوم الثالث ثم يمسك.
وروى البزار عن أبي الدرداء ومعاذ بن جبل، والطبراني عن أم سلمة رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أول شيء نهاني ربي بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر غيبات الرجال.
وروى الإمام أحمد والطّبراني، وفيه عبيد الله بن زحر عن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أن الله تبارك وتعالى حرم عليّ الخمر
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 3/ 1590 (85/ 2005) .(7/246)
والكوبة، والقنّينات، وإياكم والغبيراء فإنها ثلث خمر العالم» .
وروى البيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي، والبيهقي عن قيس بن سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن ربي حرّم عليّ الخمر والميسر والقنّين والكوبة» ، والقنين: العود.
النوع الخامس: في شربه صلى الله عليه وسلّم سويق الشعير.
روي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كنت أسقي [ (1) ] ...
النوع السادس: في رده صلى الله عليه وسلّم سويق اللوز.
وروى ابن سعد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، وأبي صخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أتى بسويق لوز فلما خيض له قال: «ماذا؟» قالوا: سويق اللوز، قال: «أخروه عني، هذا شراب المترفين» .
النوع السابع: في شربه صلى الله عليه وسلّم العسل.
روى أبو داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زبيب بنت جحش فيشرب عندها عسلا.
وروى مسلم والبرقاني عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القدح الشراب كله: العسل واللبن والماء المخلوط بالعسل.
روى برجال ثقات غير نعيم بن مورّع- وثقه ابن حبان، وضعفه غيره- عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح فيه لبن وعسل فقال: «شربتين في شربة، في قدح، لا حاجة لي به، أما أني لا أزعم أنه حرام، أكره أن يسألني ربي عن فضول الدنيا، أتواضع لله فمن تواضع لله رفعه الله، ومن تكبر وضعه الله، ومن اقتصد أغناه الله، ومن ذكر الموت أحبه الله» .
وروى الإمام أحمد والتّرمذي والحاكم عنها قالت: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحلو البارد، زاد ابن السّنّي وأبو نعيم في الطّب: بالعسل وقال: إنه يبرد فؤادي ويجلو بصري.
تنبيهات
الأول: إنما كانوا- يمزجون اللبن بالماء لأن اللبن يكون عند الحلب حارا، وتلك البلد في الغالب حارة، فكانوا يكسرون حر اللبن بالماء البارد.
الثاني: روى مسلم وأبو داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان
__________
[ (1) ] بياض في الأصول.(7/247)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيّت له الزبيب من الليل في السقاء، فإذا أصبح شربه يومه وليلته، ومن الغداء، فإذا كان مساء شربه، أو سقاه الخدم، فإذا فضل شيء أراقه.
قال الحافظ أبو بكر بن المنذر رحمه الله تعالى الشرب في المدة التي ذكرتها عائشة يشرب حلوا، وأما الصفة التي ذكرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ينتهي إلى الشدة والغليان لكن بحمل ما ورد من أمر الخدم بشربه على أنه لم يبلغ ذلك، ولكن قرب منه، لأنه لو بلغ ذلك لأسكر، ولو أسكر حرم تناوله مطلقا.
وقال الحافظ: ثبت أنه بدا فيه بعض تغير في طعمه بالحامض أو نحوه، فسقاه الخدم، وإلى هذا أشار أو داود فقال: بعد أن رواه: قوله سقاه الخدم يريد أنه يبادر به الفساد انتهى، ويحتمل أن تكون أوفي الخبر للتنويع، لأنه قال: سقاه الخدم وإن كان اشتد أمر بإهراقه، وبه جزم النووي رحمه الله تعالى فقال: هو على اختلاف حالتيه، إن ظهر فيه شدة صبه، وإن لم تظهر شده سقاه الخدم، لئلا يكون فيه إضاعة مال، وإنما يتركه هو تنزها، وجمع بين حديث ابن عباس وعائشة بأن شرب النّقيع في يومه لا يمنع شرب النقيع في أكثر من يوم، ويحتمل أن يكون باختلاف حال أو زمان، ويحمل الذي يشرب في يومه على ما إذا كان قليلا، وذاك على ما إذا كان كثيراً، فيفضل منها ما يشربه فيما بعد، وأمّا ما يكون في شدة الحر مثلا فيسارع إليه الفساد، وذلك في شدة البرد فلا يسرع إليه الفساد.
الثالث: قال في الهدي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا شرب ناول من على يمينه، وإن كان من على يساره أكبر منه، قلت: ويدل عليه الأحاديث السابقة.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
الكثبة: بكاف مضمومة فمثلثة ساكنة فموحدة فتاء تأنيث: كل قليل جمعته من طعام أو لبن أو غير ذلك.
الشّجب: بشين معجمة فجيم ساكنة فموحدة السّقاء الذي قد أخلق وبلى وصار شنا.
التّور: بمثناة فوقية مفتوحة فواو ساكنة، فراء إناء من صفر أو حجارة كالإجانة.
البرام: بموحدة مكسورة فراء فألف فميم جمع برمة بموحدة مضمومة وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف من أرض الحجاز واليمن.
أوكئه: بهمزة مضمومة، فواو ساكنة، فكاف مكسورة، فهمزة فهاء: أي أشد رؤوسها بالوكاء لئلا يدخلها حيوان، أو يسقط فيها شيء.
الكوبة: بكاف مضمومة فواو ساكنة فموحدة: الطبل الصغير المخصّر والفهر والبربط والرّند والشّطرانج.
الغبيراء: بغين معجمة مضمومة فمثناة فراء فألف وبالمد: السّكركة وهي من الذرة.(7/248)
جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وسلم في نومه وانتباهه
الباب الأول في سيرته صلّى الله عليه وسلم قبل نومه
وفيه أنواع:
الأول: في مسامرته أهله عند النوم صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة نساءه حديثا فقالت امرأة منهن: كأن هذا الحديث حديث خرافة فقال: «أتدرون ما حديث خرافة؟ كان رجل من بني عذرة أسرته الجن في الجاهلية فمكث فيهم دهرا، ثم ردوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب فقال الناس هذا خرافة» [ (1) ] .
الثاني: في سمره صلى الله عليه وسلّم عند أبي بكر رضي الله تعالى عنه في الأمر من أمور المسلمين.
روى مسدد برجال ثقات عن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يسمر عند أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين وأنا معه.
الثالث: فيما جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجلس في بيت مظلم إلا أن يسرج له فيه.
روى البزار عن شيخه إسحاق بن إبراهيم بن حبيب، وأبو الحسن بن الضحاك من طريق محمد بن عمار القرظي قالا: أخبرنا يحيى بن اليمان قال: حدثنا سفيان عن جابر عن أبي إسحاق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس في بيت مظلم إلا أن يسرج له فيه [ (2) ] .
وروى ابن سعد عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقعد في بيت مظلم حتى يضاء له بالسراج.
الرابع: فيما كان يفعل إذا أراد أن يرقد بالليل وهو جنب.
روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام، وهو جنب، غسل فرجه، وتوضأ للصلاة [ (3) ] زاد البيهقي: وتيمم، ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء، وقيل غير ذلك.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 6/ 157 وذكره الهيثمي في المجمع 4/ 315.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 8/ 64 وقال: رواه البزار وفيه بن جابر يزيد الجعفي وهو متروك.
[ (3) ] أخرجه البخاري 1/ 132 (288) .(7/249)
الخامس: في وضوئه قبل النوم.
روى أبو الشيخ وابن الجوزي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد أن ينام يتوضأ وضوءه للصلاة.
وروى ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قام من الليل فدخل الخلاء فقضى حاجته، ثم غسل وجهه وكفيه ثم نام.
السادس: في اكتحاله عند نومه.
روى أبو الحسن بن الضحاك عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم كحل أسود، فكان إذا أوى إلى فراشه اكتحل في ذي العين ثلاثا، وفي ذي العين ثلاثا.
روى الإمام أحمد وابن ماجة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد كل ليلة قبل أن ينام، وكان يكتحل في كل عين ثلاثة أميال [ (1) ] .
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عنه قال: كانت للنبي صلى الله عليه وسلّم مكحلة يكتحل منها عند النوم في كل عين ثلاثا، وفي هذا أحاديث تأتي في أبواب زينته.
السابع: في خروجه من البيت في الصيف، ودخوله إياه في الشتاء.
روى أبو الشيخ وابن حبان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الصيف خرج من البيت ليلة الجمعة، وإذا كان الشتاء دخل البيت ليلة الجمعة [ (2) ] .
الثامن: في استلقائه على ظهره ووضعه إحدى رجليه على الأخرى.
روى الإمام مالك والإمام أحمد والخمسة عن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مضطجعا في المسجد رافعا إحدى رجليه على الأخرى.
التاسع: في ركضه برجله من اضطجع على بطنه.
روى البخاري في الأدب عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل في المسجد منبطحا لوجهه فضربه برجله، وقال: «قم نومة جهنمية» .
العاشر: في صفة نومه.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 354 والحاكم 4/ 408.
[ (2) ] ذكره ابن الجوزي في العلل 2/ 208.(7/250)
روى البخاري في الأدب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفخ، وكنا نعرفه إذا نام بنفخه.
وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استثقل ورأيته ينفخ.
وروى الإمام أحمد عنها قالت: ما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل العشاء، ولا سمر بعده.
وروى الحميدي عنها قالت: ما كنت ألقى النبي صلى الله عليه وسلم من آخر الليل عندي إلا نائما.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
خرافة: بخاء معجمة مضمومة، فراء فألف، ففاء، فتاء تأنيث: هو رجل من بني عذرة استهوته الجن فكان يحدث بما رأى، فكذبوه، وقالوا حديث خرافة.
السّمر: بسين مهملة فميم مفتوحتين فراء: الحديث بالليل.
الإثمد: بهمزة مكسورة فمثلثة ساكنة فميم فدال مهملة: حجر الكحل.
الميل: بميم مكسورة، فتحتية، فلام هنا: الذي يكتحل به.(7/251)
الباب الثاني فيما كان يقوله ويفعله إذا أراد النوم
روى الإمام أحمد والتّرمذي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينام حتى يقرأ ألم تَنْزِيلُ [السجدة 1] ، وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك 1] .
وروى أبو يعلى برجال ثقات عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقرأ كل ليلة ألم تَنْزِيلُ السجدة [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اضطجع للنوم يقول: «باسمك ربي وضعت جنبي، فاغفر لي ذنبي [ (2) ] .
وروى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أخذ مضطجعه يقول: «الحمد لله الذي كفاني وآواني، وأطعمني وسقاني، والحمد لله» [ (3) ] .
وروى مسلم وأبو داود والترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أوى إلى فراشه: «الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وآوانا وكم ممّن لا مكافئ له ولا مؤوي» [ (4) ] .
وروى الإمامان مالك وأحمد، والشيخان، وأبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، فقرأ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ. وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات [ (5) ] .
وروى الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وقال: «باسمك اللهم أحيا وأموت» [ (6) ] .
__________
[ (1) ] ذكره ابن حجر في المطالب العالية (3700) .
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 10/ 126 وقال: رواه أحمد وإسناده حسن.
[ (3) ] أخرجه أبو داود (5058) وأحمد 2/ 117 والحاكم 1/ 545 وابن حبان (2357) .
[ (4) ] أخرجه مسلم في كتاب الذكر والدعاء (64) والترمذي (3396) 3457 وأبو داود في كتاب الأدب باب (106) وابن ماجة (3283) وأحمد 3/ 32، 98.
[ (5) ] أخرجه البخاري 6/ 233 وأبو داود (5056) والترمذي (3402) .
[ (6) ] سيأتي.(7/252)
وروى الإمام أحمد والتّرمذي عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما، والإمام أحمد وابن ماجه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه وضع يده اليمنى تحت خده الأيمن، وقال: «رب قني عذابك يوم تبعث» ، أو قال: «تجمع عبادك» .
وروى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي- وحسنه- والنسائي عن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد، وقال: «إنّ فيهن آية أفضل من ألف آية» ، ورواه ابن الضّريس عن يحيى بن أبي كثير مرسلا، وزاد قال يحيى فزادها الآية التي في آخر الحشر.
وروى الترمذي- وحسنه- عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ الزّمر، وبني إسرائيل.
وروى أبو داود عن أبي الأزهر الأنماري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أخذ مضطجعه من الليل: «باسم الله وضعت جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي وأخسئ شيطاني، وفك رهاني واجعلني في النّديّ الأعلى» .
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن حفصة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أوى إلى فراشه اضطجع على يده اليمنى، وفي رواية: وضع يده اليمنى تحت خده، ثم قال: «رب قني عذابك يوم تبعث عبادك ثلاث مرات» .
وروى أبو داود عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند مضطجعه: «اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وبكلماتك التامات، من كل دابة أنت آخذ بناصيتها، اللهم أنت تكشف المغرم والمأثم، اللهم لا ينهزم جندك، ولا يخلف وعدك، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ، سبحانك اللهم وبحمدك» .
وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد ومسلم وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم: «اللهم رب السموات السبع، وربّ العرش العظيم، ربّنا وربّ كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحبّ والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرّ كلّ شيء، أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر ليس فوقك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر» .
وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بفراشه فيفرش له، فيستقبل القبلة، فإذا أوى إليه توسد كفه اليمنى، ثم همس، لا ندري ما يقول، فإذا كان في(7/253)
آخر ذلك رفع صوته فقال: «اللهم رب السموات السّبع، وربّ العرش العظيم، إله أو رب كل شيء، منزل التّوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحبّ والنّوى، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول، فليس قبلك شيء، وأنت الآخر، فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين وأغننا من الفقر» .
وروى الطبراني عن خبّاب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأت فراشه قط إلا قرأ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ حتى يختمها.
ورواه أيضاً عن عباد بن أخضر أو أحمر.
وروى الطبراني برجال الصحيح غير حي بن عبد الله المعافري- وثقه جماعة وضعفه آخرون- عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين يريد أن ينام: «اللهم، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء، وإله كل شيء، أشهد أن لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وان محمدا صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك، والملائكة يشهدون، اللهم أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي إثما أو أجرّه على مسلم» .
وروى الإمام أحمد بإسناد حسن عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اضطجع للنوم يقول:
«باسمك ربي فاغفر لي ذنبي» .
وروى البزار بسند حسن عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام قال: «اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك» .
وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه قال: «اللهم إني أعوذ بك من الشر وأعوذ بك من الجوع ضجيعا» .
وروى الطبراني برجال ثقات عن علي رضي الله تعالى عنه قال: بت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فكنت أسمعه إذا فرغ من صلاته وتبوأ مضجعه يقول: «اللهم أعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بك منك، اللهم لا أستطيع ثناء عليك ولو حرصت، لكن أنت كما أثنيت على نفسك.
تنبيهان
الأول: قال: النّسائي رحمه الله تعالى عن معاوية بن صالح أن بعض أهل العلم يقولون:
المسبّحات ست سور: الحديد والحشر والحواريّون وسورة الجمعة والتّغابن وسبّح اسم ربّك الأعلى.(7/254)
قال الحافظ ابن كثير: الآية المشار إليها من قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قلت: وكذا قال يحيى بن كثير أحد رواته كما رواه ابن الضّريس كما تقدم.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
أوى: بهمزة، وواو مفتوحتين، غير ممدود: أراد المبيت.
الهمس: الصوت الخفي.
الولوع: بواو فلام مضمومتين فعين مهملة: الإغراء.
النّديّ الأعلى: بالتشديد: القوم المجتمعون في مجلس، فإن تفرقوا فليس بنديّ والمراد به الملأ الأعلى كما في الروايات الأخرى.(7/255)
الباب الثالث فيما كان يقوله ويفعله إذا استيقظ
روى الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي عن حذيفة ومسلم عن البراء رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ قال: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا، وإليه النشور» .
وروى أبو داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا استيقظ من الليل قال: «لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم أستغفرك لذنوبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب» .
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل يصلي يقول: «الحمد لله رب العالمين، القوي» ، ثم يقول: «سبحان الله وبحمده القوي» .(7/256)
الباب الرابع فيما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح، وإذا أمسى
روى مسدد والإمام أحمد والنّسائي في اليوم والليلة برجال ثقات عن عبد الرحمن بن أبزى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وملة أبينا إبراهيم عليه السلام، حنيفا مسلما، وما أنا من المشركين» .
وروى عبد بن حميد عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: «أصبحنا وأصبح الملك لله، الكبرياء والعظمة والخلق والليل والنهار، وما سكن فيها لله تعالى، وحده لا شريك له، اللهم اجعل هذا النهار أوله فلاحا، وأوسطه صلاحا، وآخره نجاحا، وأسألك خير الدنيا وخير الآخرة» .
وروى مسدد برجال ثقات عن عبد الله بن سعيد قال: سمعت أبي يقول: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح: «اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النّشور» ، وإذا أمسى قال: «اللهم بك أمسينا، وبك أصبحنا، وبك نحيا وبك نموت، وإليك النشور» .
وروى أبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهذه الدعوات إذا أصبح، وإذا أمسى: «اللهم إني أعوذ بك من فجاءة الخير، وأعوذ بك من فجاءة الشّر» .
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح: «اللهم بك أصبحنا، وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير» .
وروى البزار بسند حسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح: «أصبحنا والملك والحمد لله، لا شريك له، لا إله إلا هو، وإليه المصير» .
وروى الطبراني عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أدركه المساء في بيتي يقول: «أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد والحول والقوة والسلطان في السموات والأرض، وكل شيء لله رب العالمين، اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك النشور» .
وروى أيضا عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أصبح وأمسى: «أصبحنا وأصبح الملك لله لا إله إلا هو وحده لا شريك له، الّلهم إنا نسألك(7/257)
خير هذا اليوم، وخير ما بعده، ونعوذ بك من شر هذا اليوم، وشر ما بعده، اللهم إني أعوذ بك من شر الكبر وأعوذ بك من عذاب النار» .
وروى أيضا عبد الله بن أبي أوفى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أصبح: «أصبحت وأصبح الملك لله تعالى، والكبرياء والعظمة والخلق والنهار والليل وما سكن فيهما لله وحده، لا شريك له، اللهم اجعل أول هذا النهار فلاحا، وأوسطه صلاحا، وآخره نجاحا، أسألك خير الدنيا والآخرة، يا أرحم الراحمين» .
وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يدعو بهذه الدعوات إذا أصبح وإذا أمسى: «اللهم إني أعوذ بك من فجاءة الخير، وأعوذ بك من فجاءة الشر» .
وروى الإمام أحمد والطبراني برجال الصحيح عن عبد الرحمن بن أبزى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أصبح وإذا أمسى: «أصبحنا على فطرة الإسلام، وأمسينا على فطرة الإسلام، وعلى كلمة الإخلاص، وعلى دين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ملة أبينا إبراهيم عليه السلام، حنيفا مسلما، وما كان من المشركين» .
وروى الطبراني عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح وأمسى دعا بهذا الدعاء: «اللهم إنك أحقّ من ذكر، وأحقّ من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا يهلك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون التّصوّر، وأخذت بالنّواصي، وكتبت الآثار، ونسخت الآجال، القلوب لك مفضية، والسّر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما أحرمت، والدين ما أشرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله رؤوف رحيم، أسألك بنور وجهك الذي أشرقت به السموات والأرض، بكل حق هو لك، وبحق السائلين عليك، أن تقبلني بهذه القراءة، أو في هذه العيشة، وأن تجيرني من النار بقدرتك» .
وروى أيضا عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أمسى قال:
«أمسينا وأمسى الملك لله الواحد القهار، الحمد لله الذي ذهب بالنهار، وجاء بالليل ونحن في عافية، اللهم هذا خلقك قد جاء، فما عملت فيه من سيئة فتجاوز عنها، وما عملت فيه من حسنة فتقبلها، وضعّفها أضعافا مضاعفة، اللهم إنك بجميع حاجتي عالم، وإنك على نجحها قادر، اللهم أنجح الليلة كل حاجة لي، ولا تزدني في دنياي، ولا تنقصني في آخرتي» ، وإذا أصبح قال: مثل ذلك
والله أعلم.(7/258)
جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وسلّم في الرؤيا، وذكر بعض مناماته
الباب الأول في تقسيمه صلى الله عليه وسلّم الرؤيا، وأن الرؤيا الصالحة من أجزاء النبوة، وإنها من المبشّرات، وما يتعلق بالرؤيا من الآداب
وفيه أنواع:.
النوع الأول: في تقسيمه الرؤيا صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام إسحاق عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «الرؤيا على ثلاثة منازل، منها ما يحدث المرء نفسه وليس بشيء، ومنها ما يكون من الشيطان، فإذا رأى شيئا يكرهه فليستعذ بالله من الشيطان، وليبصق عن يساره، فإنها لن تضره من بعد ذلك، ومنها بشرى من الله تعالى، ورؤيا المسلم جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، فليعرضها على ذي رأي ناصح، فليقل خيرا، وليتأوله خيرا» ،
فقال عوف بن مالك: إذا كانت حصاة واحدة من عدد الحصى لكانت كثيرا، ورواه الشيخان من طريق باختصار، وفي هذا السياق زيادة ليست عندهم، ولا عندهم قول عوف.
وروى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، والإمامان مالك وأحمد، والشيخان وابن ماجة عن أنس رضي الله تعالى عنه، والإمام أحمد والشيخان عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، والإمامان مالك وأحمد والبخاري وابن ماجه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رؤيا الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس، والإمام أحمد، ومسلم، وابن ماجة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة» [ (2) ] .
النوع الثاني: في أن الرؤيا الصالحة من المبشرات.
روى الإمام أحمد عن أبي الطفيل والإمام مالك والبخاري وأبو داود عن أبي هريرة،
__________
[ (1) ] أخرجه من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه البخاري 12/ 373 (6987) ومسلم 4/ 1774 (7/ 2264) .
[ (2) ] أخرجه مسلم 4/ 1775 (9/ 2265) .(7/259)
والإمام أحمد والترمذي عن أنس، وابن ماجه عن ابن عباس، والإمام أحمد عن عائشة، والإمام أحمد عن ابن عمر والبزار رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي» ، لكن المبشّرات قالوا: يا رسول الله وما المبشّرات؟ قال:
«الرؤيا الحسنة الصالحة يراها الصالح أو ترى له» [ (1) ] .
النوع الثالث: في تحذيره صلى الله عليه وسلّم من الكذب في الرؤيا.
روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أعظم الفراء من يقول على ما لم أقل، ومن أرى عينيه في النوم ما لم تريا، ومن ادعى إلى غير أبيه» [ (2) ] .
النوع الرابع: في أمره صلى الله عليه وسلم من رأى رؤيا يكرهها ما يقوله ويفعله.
روى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأى أحدكم رؤيا يكرهها فليتحول عن يساره، وليسأل الله تعالى خيرها، وليتعوذ بالله تعالى من شرها» [ (3) ] .
وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن للرؤيا كنّى، ولها أسماء، فكنوها بكناها، واعتبروها بأسمائها، والرؤيا لأول عابر» [ (4) ] .
النوع الخامس: في أمره صلى الله عليه وسلّم بقص الرؤيا على عالم أو ناصح أو لبيب، وأنها على رجل طائر.
روى ابن ماجة عن أبي رزين العقيلي رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها، فإذا حدث بها وقعت، فلا تحدث بها إلا عالما، أو ناصحا أو لبيبا، وفي لفظ أو ذا رأي» [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري من رواية أبي هريرة 12/ 375 (6990) وابن عباس عند مسلم 1/ 348 (208/ 479) .
[ (2) ] أخرجه أحمد 4/ 106 وانظر الكنز (41456) .
[ (3) ] وهو عند مسلم من رواية جابر بن عبد الله 4/ 1772 (5/ 2262) .
[ (4) ] انظر جمع الجوامع (7006) .
[ (5) ] أخرجه أحمد في المسند 6/ 65 والترمذي 4/ 540 (2288) .(7/260)
الباب الثاني فيما عبر صلى الله عليه وسلّم من الرؤيا، أو عبّر بين يديه وأقره
روى ابن أبي شيبة والإمام أحمد وأحمد بن منيع وعبد بن حميد والحارث والنسائي في الكبرى، وابن حبان عن خزيمة بن ثابت الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين رضي الله تعالى عنه أنه رأى في النوم كأنه يسجد على جبين، - وفي لفظ- جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الروح لا تلقى الروح» فأقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، وفي لفظ فاضطجع له رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأمره فسجد من خلفه، وقال: صدق رؤياك فسجد على جبهة النبي صلى الله عليه وسلم [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رجل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا رأى رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكنت غلاما شابا عزبا أنام في المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم [ (2) ] .
وروى أبو يعلى والإمام أحمد من طريق ابن لهيعة عن عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما، أنه رأى في المنام كأن في إحدى أصبعيه عسلا، وفي الأخرى سمنا، فكان يلعقهما بإصبع، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن عشت تقرأ الكتابين التوراة والفرقان» ، فكان يقرؤهما [ (3) ] .
وروى ابن السّكن الحراني والطبراني من طريق سليمان بن عطاء القريشي الحرّاني عن سلمة بن عبد الله الجهني، قال الحافظ في الإصابة [ (5) ] : في إسناده ضعف، عن ابن زمل واسمه عبد الله، وقيل عبد الرحمن وقيل الضحاك الجهني رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قال- وهو ثان رجله-: «سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله، إن الله كان توابا، سبعين مرة» ، ثم يقول سبعين بسبعمائة،: «لا خير فيمن كانت ذنوبه في يوم واحد أكثر من سبعمائة» ، ثم يستقبل الناس بوجهه، وكان يعجبه الرؤيا، ثم يقول: «هل رأى أحد منكم شيئا؟» فقال ابن زمل فقلت: أنا يا نبي الله، قال: «خير تلقاه، وشر توقاه، وخير لنا، وشرّ لأعدائنا، والحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك» فقلت: رأيت جميع الناس على طريق رحب سهل لاحب، والناس على الجادة منطلقين، فبينما هم كذلك إذا أنا بذلك الطريق على
__________
[ (1) ] أحمد في المسند 5/ 214، 215 وابن سعد 4/ 2/ 91.
[ (2) ] أخرجه البخاري (7030) .
[ (3) ] انظر المجمع 7/ 187.
[ (5) ] انظر الإصابة 4/ 72.(7/261)
مرج لم تر عيني مثله، يرف رفيفا، يقطر ماؤه، وفيه من أنواع الكلأ، فكأني بالرعلة الأولى حين أشنفوا على المرج كبروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث، ومضوا على ذلك، ثم قدم عظم الناس، فلما أشفوا على المرج كبروا، وقالوا: هذا خير المنزل، وكأني أنظر إليهم يميلون يمينا وشمالا، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى آتي أقصى المرج، فإذا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل آدم مسبّل أقنى، إذا هو يتكلم يفرع الرجال طولا وإذا عن يسارك رجل ربعة نار أحمر كثير خيلان الوجه، كأنما عمّم شعره بالماء، إذا هو تكلم أصغيتم له إكراما له، وإذا أمامكم رجل شيخ أشبه الناس بك خلقا ووجها، كلكم تؤمونه تريدونه، وإذا أمامه ناقة عجفاء شارف، فإذا بك أنت يا رسول الله، كأنك تبعثها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أما ما رأيت من الطريق السهل الرحب اللاحب فذاك ما حملتكم عليه من الهدي الذي أنتم عليه، وأما المرج الذي رأيت فالدنيا وغضارة عيشتها، مضيت أنا وأصحابي لم نتعلق منها بشيء ولم تتعلق منا ولم نردها ولم تردنا، ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدنا، وهم أكثر أضعافا، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث، ونجوا على ذلك، ثم جاء عظم الناس فمالوا على المرج يمينا وشمالا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وأما أنت فمضيت على طريقة صالحة، فلم تزل عليها حتى تلقاني، وأما المنبر الذي رأيت فيه سبع درجات وأنا في أعلاها درجة، فالدنيا سبعة آلاف سنة، وأنا في آخرها ألفا، وأما الرجل الذي رأيت عن يميني الآدم المسبّل فذاك موسى بن عمران عليه السلام، إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله تعالى إياه، والرجل الذي رأيت عن يساري التار والرّبعة الكثير خيلان الوجه فذاك عيسى ابن مريم عليهما السلام، نكرمه لإكرام الله تعالى إياها، وإن الشيخ الذي رأيته أشبه الناس بي خلقا ووجها، فذاك أبي إبراهيم عليه السلام، كلنا نؤمه ونقتدي به، وأما الناقة التي رأيتها ورأيتني أبعثها فهي الساعة علينا تقوم، لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
رحب: براء مفتوحة فحاء مهملة ساكنة فموحدة: الواسع.
السّهل: بسين مهملة مفتوحة فهاء ساكنة فلام هنا: ضد الحزن.
اللاحب: بلام فألف ساكنة فمهملة فموحدة: الواضح.
الجادّة: بجيم فألف، فدال مهملة مفتوحة مشددة، فتاء تأنيث: السّواء والوسط.
المرج: بميم مفتوحة فراء ساكنة فجيم: الموضع ترعى فيه الدواب.
يرف: بتحتية مفتوحة، فراء مكسورة، ففاء: كثر ماؤه.
الكلأ: بكاف، فلام مفتوحتين، فهمزة مضمومة: العشب، والنبات رطبه ويابسه.(7/262)
الرّعلة: براء مفتوحة، فعين مهملة ساكنة، فلام، فتاء تأنيث: القطعة من الفرسان، ويقال لجماعة الخيل رعيل.
أشفوا: بهمزة مفتوحة، فشين معجمة ساكنة، ففاء، فواو: أي أشرفوا.
المرتع: بميم مضمومة، فراء ساكنة، ففوقية مكسورة، فعين مهملة: الذي يخلي ركابه ترتع.
الضّغث: بضاد معجمة مكسورة، فغين معجمة ساكنة، فمثلثة: قبضة من حشيش مختلط، والضّغث الخلط، وأضغاث أحلام: أي أخلاط.
الآدم والمسبّل والأقنى والربعة والتار والخيلان: تقدم تفسيرها في أبواب المعراج.
العجفاء: بعين مهملة مفتوحة، فجيم ساكنة، ففاء، فهمزة، بالمد: المهزولة من الغنم وغيرها.
الشّارف: بشين معجمة، فألف، فراء ففاء: الناقة المسنّة.
الغضارة: بغين، فصاد معجمتين، فألف، فراء، فتاء تأنيث: الطّيّب واللذة والخصب والخير انتهى.(7/263)
الباب الثالث في بعض مناماته صلى الله عليه وسلم
وروى أحمد بن منيع عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «رأيتني أدخلت الجنة فسمعت خشفة بين يديّ، فقلت: ما هذا؟ فقيل: هذا بلال، فنظرت، فإذا أعالي أهل الجنة فقراء المهاجرين، وذراري المسلمين، ولم أر أقلّ فيها من الأغنياء والنساء، فقلت: ما لي لا أرى فيها أقل من الأغنياء والنساء؟ فقيل لي: أما النّساء فألهاهنّ الأحمران: الذهب والحرير، وأما الأغنياء فهم هاهنا بالباب يحاسبون، ويمحّصون، فخرجت من أحد أبواب الجنة الثمانية، فجيء بكفة فوضعت فيها، وجيء بجميع أمتي فوضعت في كفة فرجحتها، ثم جيء بأبي بكر رضي الله تعالى عنه فوضع في كفة، وجميع أمتي في كفة، فرجحها أبو بكر، ثم جيء بعمر رضي الله تعالى عنه فوضع فيها فرجحها، فجعلت أمتي تمر عليّ أفواجا، حتى استبطأت عبد الرحمن بن عوف، فمر بي بعد الناس، فقال: بأبي وأمي، ما كدت أخلص إليك إلا من بعد المشاق، فقلت: لم ذاك؟ قال: من كثير مالي، ما زلت أحاسب بعدك وأمحّص» [ (1) ] .
وروى عبد بن حميد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذات غدوة فقال: «رأيت قبل صلاة الصبح كأني أعطيت المقاليد والموازين فأما المقاليد:
فهذه المفاتيح، وأما الموازين: فهي التي يوزن بها، فوضعت في إحدى الكفتين، ووضعت أمتي في الأخرى، فوزنتهم ورجحتهم، ثم جيء بأبي بكر، فوزن، فوزنهم، ثم جيء بعمر، فوزن، فوزنهم، ثم جيء بعثمان فوزن، فوزنهم، ثم استيقظت فرفعت» [ (2) ] .
وروى أبو يعلى والبزار عن أبي الطفيل رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أن أنزع الليلة إذا وردت على غنم سود وعفر، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا، أو ذنوبين فيهما ضعف، والله تعالى يغفر له، ثم عمر فاستحالت غربا تملأ الحياض، وأروى الواردة، فلم أر عبقريا من الناس أحسن نزعا منه، فأوّلت الغنم السود: بالعرب والعفر: بالعجم» [ (3) ] .
وروى ابن أبي شيبة برجال ثقات عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأولت الدرع: بالمدينة والبقر بقر والله خير الحديث» [ (4) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الحلية 1/ 150.
[ (2) ] المجمع 9/ 58 والبداية 7/ 205.
[ (3) ] المجمع 7/ 186 وقال فيه علي بن زيد وهو ثقة سيء الحفظ.
[ (4) ] أحمد 3/ 351 والدّارمي 2/ 129 وابن سعد 2/ 1/ 31.(7/264)
وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا، وكأن مقبض سيفي انكسر، فأولت أني أقتل صاحب الكتيبة، وأوّلت» ... قال عفان كان بعد هذا شيء لا يدري ما هو [ (1) ] .
وروى أبو يعلى برجال ثقات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رأى في المنام أن بني الحكم ينزون على منبره فأصبح كالمتغيظ، وقال: «ما لي رأيت بني الحكم ينزون على منبري نزو الغدرة» قال: فما رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم ضاحكا بعد ذلك حتى مات [ (2) ] .
وروى الطبراني في الكبير [ (3) ] برجال الصحيح، والبيهقي في كتاب عذاب القبر، والأصبهاني في الترغيب عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد صلاة الصبح فقال: «إني رأيت رؤيا هي حق تعقلونها، أتاني جبريل عليه السلام، فأخذ بيدي، فاستتبعني حتى أتى بي جبلا طويلا وعرا، فقال لي: ارق، فقلت: لا أستطيع، فقال:
سأسهّله لك، فجعلت كلما رقت قدمي وضعتها على درجة، حتى استوينا، على سواء الجبل، فانطلقنا، فإذا نحن برجال ونساء مشققة أشداقهم، فقلت: من هؤلاء قال: هؤلاء الذين يقولون ما لا يعلمون، ثم انطلقنا، فإذا نحن برجال ونساء ممدودة أعينهم وآذانهم، قلت: ما هؤلاء؟ قال:
الذي يرون أعينهم ما لا يرون، ويسمعون آذانهم ما لا يسمعون، ثم انطلقنا. فإذا نحن بنساء معلقات بعراقيبهن، مصوبة رؤوسهن، تنهش أثداءهن الحيات، فقلت: ما هؤلاء؟ قال: الذين يمنعن أولادهم من ألبانهن، ثم انطلقنا، فإذا نحن برجال ونساء معلقات بعراقيبهن، مصوّبات رؤوسهن، يلحسن من ماء قليل وحمأة قلت: ما هؤلاء؟ قال: الذين يصومون ويفطرون قبل تحلة صومهم، ثم انطلقنا فإذا نحن برجال ونساء أقبح شيء منظرا وأقبحه لبوسا، وأنتنه ريحا كأنما ريحهم المراحيض، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزانون والزناة، ثم انطلقنا، فإذا نحن بموتى أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحا، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى الكفار، ثم انطلقنا، فإذا نحن نرى دخانا، ونسمع عواء، قلت: ما هذا؟ قال: هذه جهنم، فدعها، ثم انطلقنا، فإذا نحن برجال نيام تحت ظلال الشجرة، قلت: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء موتى المسلمين، ثم انطلقنا، فإذا نحن بجوار وغلمان أحسن شيء وجها، وأحسنه لبوسا، وأطيبه ريحا، كأن وجوههم القراطيس، قلت ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الصديقون والشهداء والصالحون، ثم انطلقنا، فإذا نحن بثلاثة نفر
__________
[ (1) ] أحمد 3/ 267 وابن أبي شيبة 11/ 69.
[ (2) ] انظر المجمع 5/ 244 والمطالب العالية (4535) .
[ (3) ] الطبراني في الكبير 8/ 182 وانظر المجمع 1/ 76.(7/265)
يشربون خمرا، ويلعبون، فقلت: ما هؤلاء؟ فقال: ذاك زيد بن حارثة، وجعفر، وابن رواحة، فملت قبلهم، فقالوا: قدنا لك، قدنا لك، ثم رفعت رأسي، فإذا ثلاثة نفر تحت العرش قلت: ما هؤلاء؟ قال: ذاك أبوك إبراهيم، وموسى، وعيسى عليهم السلام، وهم ينتظرونك صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين» .
وروى ابن عدي عن بكر بن سعيد بن قيس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لن يدخل النار من يراني في المنام» .
وروى الحارث مرسلا برجال ثقات عن أبي مجلز رحمه الله تعالى قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت في المنام أن رأسي قطع، وأني جعلت أنظر إليه، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بأي عين كنت تنظر إلى رأسك إذا قطع؟» فلم يلبث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا قليلا حتى توفي، قال: فأولوا قطع رأسه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونظره باتباع سنته [ (1) ] .
وروى الطيالسي وأبو داود السّجستاني والترمذي عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعجبه الرؤيا الصالحة، ويسأل عنها فقال رجل: يا رسول الله، رأيت رؤيا، رأيت كأن ميزانا دلّي من السماء، فوزنت أنت بأبي بكر، فرجحت، ثم وزن أبو بكر بعمر، فوزن أبو بكر عمر، ثم وزن عمر بعثمان، فرجع عثمان، ثم رفع الميزان فاستاء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «خلافة نبويّة، ثم يؤتي الله تعالى الملك من يشاء» [ (2) ] .
وروى البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة: «إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي الصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده هاهنا، فيتبع الحجر، فيأخذه، فما يرجع إليه حتى يصبح رأسه كما كان، ثم يعود عليه ليفعل به مثل ما فعل المرة الأولى قال: قلت لهما: سبحان الله، ما هذا؟ قالا لي:
انطلق، فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم على رأسه بكلّوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينيه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصبح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل به في المرة الأولى قال:
قلت سبحان الله! ما هذا؟ قالا لي: انطلق، انطلق، فانطلقنا، فأتينا على مثل التّنّور فإذا فيه لغط
__________
[ (1) ] انظر المطالب العالية (2827) .
[ (2) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 44، 50 وابن ابن شيبة 11/ 61 والطّحاوي في المشكل 4/ 312.(7/266)
وأصوات، قال: فاطّلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضؤوا قال: قلت: ما هؤلاء؟ قال: انطلق، انطلق، فانطلقنا، فأتينا على نهر أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح ما سبح، ثم يأتي الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه، فيلقمه حجرا، فينطلق يسبح، ثم يرجع إليه، كلما رجع فغر له فاه..
فألقمه حجرا، قلت: ما هذان؟ قالا لي: انطلق، انطلق، فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما أنت راء، وإذا هو عنده نار له يحشّها، ويسعى حولها، قلت لهما: ما هذا؟ قالا لي:
انطلق، فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة، فيها من كل نور الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل، لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط، قالا لي: انطلق، فانطلقنا، فانتهينا إلى روضة عظيمة، لم أر روضة قط أعظم منها، ولا أحسن، قالا لي: ارق فيها، فارتقينا فيها، فانتهينا إلى مدينة بلبن من ذهب، ولبن من فضة، فأتينا باب المدينة، فاستفتحنا، ففتح لنا، فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فإذا نهر معترض يجري، كأن ماءه المحض في البياض، فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا، قد ذهب السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، فسما بصري صعدا، فإذا قصر مثل الرّبابة البيضاء، قالا لي: هذاك منزلك، قلت لهما: بارك الله تعالى فيكما، دعاني فأدخله، قالا:
أما الآن فلا، وأنت داخله، قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجبا، فما هذا الذي رأيت؟
قالا لي: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل الذي يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة، يفعل به إلى يوم القيامة، وأما الرجل الذي أتيت عليه يشر شر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، فيصنع به إلى يوم القيامة، وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل التّنّور فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر، ويأكل الحجارة، فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرآة الذي عنده النار يحشها فإنه مالك خازن النار، وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، وأما القوم الذين كانوا شطر منهم قبيح، فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا، وآخر سيّئا، فجاوز الله عنهم، وأنا جبريل وأنا ميكائيل عليهما السلام» [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الخشفة: بخاء فشين معجمتين ففاء مفتوحات، فتاء تأنيث: الحركة، وبسكون الشين:
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 12/ 439 (7048) .(7/267)
الحس والحركة، وقيل: هو الصوت، وبالتحريك: الحركة، وقيل هما بمعنى.
يمحّصون: بميم فحاء مفتوحتين، فصاد مهملة، فواو، فنون: أي يخلصون.
العفر: بضم العين المهملة، وسكون الفاء، وبالراء: ليست بالشديدة البياض.
الذّنوب بذال معجمة مفتوحة، فنون، فواو، فموحدة: الدلو وفيها ماء أو دون الملأى.
الغرب: بغين معجمة مفتوحة، فراء ساكنة، فموحدة الرواية، أو الدلو العظيمة.
العبقري: بمهملة فموحدة، فقاف، فراء: طنافس ثمان، قال أبو عبيدة رحمه الله تعالى:
تقول العرب لكل شيء من البسط عبقري، ويقال عبقر: أرض يعمل فيها الوشي، فنسب إليها كل شيء جيد، ويقال العبقري: الممدوح الموصوف من الرجال والفرش.
ينزون: بتحتية مفتوحة، فنون ساكنة، فزاي، فواو، فنون: يثبون.
الغدر: عدم الوفاء والغدر ثابت في الدين، زاد مسلم هو في الحديث، أو قاله ابن سيرين.
يهوى: بضم أوله.
يثلغ: بمثلثة ومعجمة بوزن يعلم: يشدخ.
التّدهده: بدالين مهملتين بينهما هاء: الدفع من علو إلى أسفل.
يشرشر: بمعجمتين وراءين: يقطع شقّا.
ضوضؤوا: بهمز، وبدونه: ماض من الضوضأة، وهي أصوات الناس ولغطهم.
يسبح: بمهملتين بينهما موحدة مفتوحة: أي يعوم.
فغر: بفاء ومعجمة وراء: فتح وزنا ومعنى.
المرآة: بفتح الميم وسكون الراء وهمزة ممدودة: المنظر.
يحشها: بفتح أوله وضم الحاء المهملة وتشديد المعجمة: يوقدها.
معتمة: بضم أوله وسكون المهملة وكسر المثناة، وتخفيف الميم، أي شديدة الخضرة.
معترض: بكسر الراء: عرضا.
المحض: بفتح الميم وسكون المهملة ومعجمة: اللبن الخالص من الماء.
سما: بالتخفيف نظر إلى فوق.
صعدا: بضم المهملتين يعني: ارتفاعا كثيرا.
الرّبابة: بفتح الراء وتخفيف الموحدتين: السحابة والله تعالى أعلم بالصواب.(7/268)
جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وسلّم في لباسه وذكر ملبوساته
الباب الأول في آدابه صلّى الله عليه وسلم في لباسه،
وفيه أنواع:
الأول: في بداءته بميامنه.
روى التّرمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا لبس قميصا بدأ بميامنه [ (1) ] .
الثاني: في وقت لبسه صلّى الله عليه وسلّم الثوب الجديد.
روى أبو الشيخ وأبو الحسن بن الضحاك عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوبا لبسه يوم الجمعة [ (2) ] .
الثالث: فيما كان يقوله صلى الله عليه وسلم إذا استجدّ ثوبا.
روى الإمام أحمد وأبو يعلى عن علي رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول عند الكسوة- وفي لفظ إذا لبس ثوبا جديدا: «الحمد لله الذي رزقني من الرّياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي» [ (3) ] .
وروى الطبراني عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا لبس ثوباً جديدا قال: «الحمد لله الذي وارى عورتي، وجمّلني في عباده» [ (4) ] .
الرابع: فيما كان يقوله صلى الله عليه وسلم لمن رأى عليه ثوبا جديدا.
روى أبو بكر بن أبي شيبة وعبد بن حميد، والإمام أحمد والنّسائي في اليوم والليلة، وابن ماجة، والطبراني والدّعّاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على عمر رضي الله تعالى عنه قميصا أبيض غسيلا فقال: «ثوبك هذا غسيل أم جديد؟» فقال: لا،
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (1766) .
[ (2) ] ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية 2/ 193 والمتقي الهندي في الكنز (18268) .
[ (3) ] أخرجه أحمد 1/ 158 وذكره الهيثمي في المجمع 5/ 119 وابن كثير في البداية 8/ 4 والمتقي الهندي في الكنز (41129، 41837) .
[ (4) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 122 وقال رواه الطبراني في الأوسط وفيه أبو داود الأعمى وهو متروك.(7/269)
بل غسيل يا رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «البس جديدا وعش حميدا ومت» ، وفي لفظ: «وتوفي شهيدا، يرزقك الله تعالى قرّة عين في الدنيا والآخرة» [ (1) ] .
الخامس: في كيفية ائتزاره وموضع إزاره عليه السلام.
روى الحسن بن سفيان وبقيّ بن مخلد عن عكرمة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان إذا ائتزر أرخى مقدم إزاره، حتى تقع حاشيته على ظهر قدميه، ويلفع الإزار من ورائه، فقلت له: لم تأتزر هكذا؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأتزر هذه الإزرة [ (2) ] .
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن أم الحصين الأحمسيّة رضي الله تعالى عنها قالت:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع ببرد، قد التفع به من تحت إبطيه.
وروى النسائي عن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمن يحدث عن عمر أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا إزاره إلى نصف الساق.
وروى الطبراني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوب متوشّحا فلم ينل طرفاه، فعقده [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد برجال ثقات عن أم الفضل بنت الحارث رضي الله تعالى عنها قالت: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبه متوشحا به [ (4) ] .
وروى ابن ماجة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسب أحدا، ولا يطوى له ثوب [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 2/ 89 وابن ماجة (3558) وعبد الرزاق (20382) وابن حبان 2183 وابن السني في عمل اليوم والليلة (262) والطبراني 12/ 284.
[ (2) ] أخرجه أبو داود 2/ 458 (4096) .
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 2/ 53 وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه من لم أجد من ترجمة.
[ (4) ] ذكره الهيثمي في المجمع 2/ 52 وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات.
[ (5) ] أخرجه ابن ماجة (3554) .(7/270)
الباب الثاني في سيرته صلّى الله عليه وسلم في العمامة والعذبة والتلحّي
وفيه أنواع:
الأول: في صفة عمامته صلى الله عليه وسلم.
قال في زاد المعاد: كانت له عمامة تسمى السّحاب، كساها عليا قلنسوة.
روى الطبراني والبيهقي وأبو موسى المدني- وإسناده على شرط الصحيح- إلا أبا عبد السلام- وهو ثقة- عن أبي عبد السلام بن أبي حازم رحمه الله تعالى قال: قلت لابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعتمّ؟ قال: كان يدير كور العمامة على رأسه يقرنها، وفي رواية ويغرزها من ورائه، ويرسل لها ذؤابة بين كتفيه [ (1) ] .
وروى ابن عساكر قال: أخبرنا أبو سعيد بن البغدادي أخبرنا أبو المظفّر محمود بن جعفر بن محمد، ومحمد بن أحمد بن إبراهيم بن سلمة قالا: أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن علي بن أحمد الشيرازي، أخبرنا أبو سمرة حدثنا: موسى بن نصر عن أبيه عن أبي هريرة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم جمعة إلا وهو معتم، وربما خرج في إزار ورداء، وإن لم تكن عمامته وصل الخرقة بعضها على بعض، واعتم بها، ورواه ابن عدي [ (2) ] الهيثم بن جميل عن موسى بن مطير عن أبيه عن عبد الله بن عمر، وأبي هريرة فذكره، قال ابن عساكر: هذا الإسناد أشبه، وكان الأول عن أبي هريرة، وبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسقطت الواو.
الثاني: في لبسه صلّى الله عليه وسلم العمامة السوداء، والدّسمة والحرقانية وغير ذلك.
روى الخطّابي وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم معتمّا بعمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين يديه.
وروى الحارث بن أبي أسامة، وأبو القاسم البغوي، وابن عدي، عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء- زاد في رواية:
بغير إحرام [ (3) ] .
وروى ابن عدي عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعتم بعمامة سوداء [ (4) ] .
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 123 وقال: رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح خلا أبا عبد السلام وهو ثقة.
[ (2) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 6/ 2338.
[ (3) ] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 5/ 67.
[ (4) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 6/ 2328.(7/271)
وروى مسلم والأربعة والترمذي في الشمائل عن عمرو بن حريث أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء، ولمسلم: قد أرخى طرفها بين كتفيه [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس وعليه عمامة دسمة.
وروى أيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه عمامة سوداء [ (2) ] .
وروى النسائي عن عمر بن حريث رضي الله تعالى عنه قال: رأيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمامة حرقانية.
وروى ابن عدي- بسند ضعيف- عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عمامة سوداء يلبسها في العيدين، ويرخيها خلفه.
وروى أبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه عمامة مطوية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدّم رأسه، ولم ينقض العمامة.
وروى ابن سعد عن الحسن رضي الله تعالى عنه قال: كانت عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء [ (3) ] .
الثالث: في لبسه صلّى الله عليه وسلم العمامة الصفراء وعصبه رأسه.
قال الإمام الغزالي في الإحياء: وربما لم تكن العمامة فيشد صلى الله عليه وسلّم العصابة على رأسه، وعلى جبهته.
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عصابة دسماء [ (4) ] .
وروى عن الفضل بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي توفي فيه، وعلى رأسه عصابة صفراء فسلمت عليه، فقال: «يا فضل» ، قلت:
لبّيك يا رسول الله، قال: «اشدد بهذه العصابة رأسي» ، ففعلت، ثم قعد، فوضع كفه على منكبي، ثم قام، فدخل المسجد
الحديث [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 2/ 990 (453/ 1359) وأبو داود في كتاب اللباس (20، 21) والترمذي في كتاب اللّباس (11) والنسائي في كتاب المناسك (107) وابن ماجة في كتاب اللباس (14) .
[ (2) ] أخرجه الترمذي 4/ 197 (1735) .
[ (3) ] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 8/ 234.
[ (4) ] أخرجه البخاري في كتاب اللباس 10/ 285.
[ (5) ] أخرجه الترمذي في الشمائل 66، 80.(7/272)
وروى الحاكم والطّبرانيّ عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثوبين مصبوغين بزعفران: رداء وعمامة [ (1) ] .
وروى ابن سعد عن يحيى بن عبد الله بن مالك مرسلا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصبغ ثيابه كلها بالزعفران: قميصه ورداءه وعمامته [ (2) ] .
وروى أيضا عن زيد بن أسلم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصبغ ثيابه كلها بالزعفران حتى العمامة [ (3) ] .
وروى ابن عساكر من طريق سليمان بن أرقم عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه قميص أصفر، ورداء أصفر، وعمامة صفراء.
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصبغ ثيابه بالصّفرة.
وروى ابن عساكر عن عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير أنه بلغه أن الملائكة نزلت يوم بدر عليهم عمائم صفر، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة صفراء.
الرابع: في سيرته صلّى الله عليه وسلم في العذبة.
روى الترمذي وحسنه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسدل عمامته بين كتفيه [ (4) ] .
وروى مسلم وأبو داود وابن حبان عن عمرو بن حريث رضي الله تعالى عنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- زاد أبو داود: على المنبر- انتهى وعليه عمامة سوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه [ (5) ] .
وروى مسلم وأبو داود وابن ماجه والنسائي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وعليه عمامة سوداء- زاد النّسائي: قد أرخى طرف العذبة بين كتفيه [ (6) ] .
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 132 بنحوه وعزاه للطبراني في الصغير وعزاه بلفظ المصنف لأبي يعلى.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 149.
[ (3) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 149.
[ (4) ] أخرجه الترمذي 4/ 197 (1736) .
[ (5) ] أخرجه مسلم 2/ 990 (453/ 1359) .
[ (6) ] أخرجه مسلم 2/ 990 (451/ 1358) والبيهقي في الدلائل 5/ 67 وابن أبي شيبة 8/ 237.(7/273)
وروى النسائي عن عمرو بن أمية الضمري رضي الله تعالى عنه قال: كأني أنظر الساعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المنبر وعليه عمامته السوداء، قد أرخى طرفها بين كتفيه.
وروى الطبراني من طرق الحجاج بن رشدين بن سعد عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا اعتم أرخى عمامته بين يديه ومن خلفه [ (1) ] .
وروى أبو نعيم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتم أرسل لها ذؤابة من خلفه.
وروى الطبراني من طريق عيسى بن يونس عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالعمائم فإنها سيماء الملائكة، وأرخوها خلف ظهوركم» [ (2) ] .
وروى الطبراني بسند ضعيف عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يولي واليا حتى يعممه ويرخي لها من الجانب الأيمن نحو الأذن [ (3) ] .
الخامس: في سيرته صلّى الله عليه وسلم في التلحّي وأمره صلى الله عليه وسلّم بالتلحي ونهيه عن الاقتعاط.
قال في زاد المعاد: كان صلى الله عليه وسلّم يتلحى بالعمامة تحت الحنك انتهى.
روى التّرمذي والنّسائي عن بلال رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين والخمار [ (4) ] .
وروى ابن سعد بسند جيد عن ابن طاوس عن أبيه إنه كان يعتم، ولا يجعل تحت حلقه ولحيته من العمامة شيئا.
وروى عبد الرزاق عنه أنه كان يكره أن يعتم، ولا يجعل تحت ذقنه شيئا، ويقول: «تلك لبسة الشيطان» .
السادس: لبس العمامة وإرخاء طرفها من سيماء الملائكة عليهم السلام.
قال الله سبحانه وتعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران 125] ، ذكر غير واحد من المفسرين أن السّومة- بضم السين- السّيماء: وهي العلامة.
روى الطبراني بسند فيه شهر بن حوشب- حسن له الترمذي وغيره وبقية رجاله ثقات-
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 123 وقال رواه الطبراني في الأوسط وفيه الحجاج بن رشدين وهو ضعيف.
[ (2) ] أخرجه الطبراني 12/ 383 وابن عدي 1/ 1/ 470 وذكره المتقي الهندي في الكنز (41140) والهيثمي في المجمع 5/ 123.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 123.
[ (4) ] أخرجه أحمد 6/ 14، 15 والطبراني 1/ 334، 349 وابن عساكر 3/ 462.(7/274)
عن عائشة قالت: رأيت جبريل عليه عمامة حمراء مرخيها بين كتفيه [ (1) ] .
وروى ابن جرير بسند حسن عن أبي أسيد السّاعدي، وهو بدري، قال: خرجت الملائكة يوم بدر في عمائم صفر، قد طرحوها بين أكتافهم.
وروى الحاكم في اللباس في مستدركه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم على برذون وعليه عمامة حمراء قد أرخى طرفها بين كتفيه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هل رأيتيه؟» قلت: نعم، قال: «ذاك جبريل عليه السلام فأمرني أن أمضي إلى بني قريظة» .
وروى أيضا عنها قالت: رأيت رجلا يوم الخندق على صورة دحية بن خليفة الكلبي على دابة يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة قد أسدلها خلفه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«ذاك جبريل أمرني أن أخرج إلى بني قريظة» انتهى [ (2) ] .
السابع: في تعميمه صلى الله عليه وسلّم بعض أصحابه.
روى أبو داود الطيالسي وابن أبي شيبة وابن منيع والبيهقي في الشعب عن علي رضي الله تعالى عنه قال: عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير [ (3) ] خمّ بعمامة سدلها خلفي [ (4) ] .
وروى أبو يعلى والبزار برجال ثقات، وابن أبي الدنيا والطبراني، والبيهقي في الزهد- وحسن إسناده أبو الحسن الهيثمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن بن عوف أن يتجهز لسرية يبعثه عليها فأصبح عبد الرحمن وقد اعتم بعمامة كراديس سوداء، فنقضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعممه وأرخى له أربع أصابع، أو قريبا من شبر، ثم قال: «هكذا فاعتم يا ابن عوف، فإنه أعرب وأحسن» [ (5) ] .
وروى الطبراني من طريق مقدام بن داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عوف، وأرخى له أربع أصابع، قال: «إني لمّا صعدت إلى السماء رأيت أكثر الملائكة عليهم السلام معتمّين» [ (6) ] .
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 133 وقال رواه الطبراني في الأوسط وفيه شهر بن حوشب وحديثه حسن وقد ضعف، وبقية رجاله ثقات.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 6/ 144 وقال: رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه مقدام بن داود وهو ضعيف.
[ (3) ] انظر مراصد الاطلاع 2/ 985.
[ (4) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 4/ 1490.
[ (5) ] أخرجه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 1/ 91 وذكره الهيثمي في المجمع 5/ 123 وقال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن.
[ (6) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 123 وقال: رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه مقدام بن داود وهو ضعيف.(7/275)
تنبيهات
الأول: قال العلماء رحمهم الله تعالى لم تكن عمامة النبي صلى الله عليه وسلّم بالكبيرة، التي تؤذي صاحبها، وتضعفه، وتجعله عرضة للآفات كما يشاهد من حال أصحابنا، ولا بالصغيرة التي تقصر عن وقاية الرأس من الحر والبرد، بل وسطا بين ذلك.
قال الحافظ رحمه الله تعالى في فتاويه: لا يحضرني في طول عمامة النبي صلى الله عليه وسلّم قدر محدود، وقد سئل عنه الحافظ عبد الغني فلم يذكر شيئا في فتاويه.
وقال الشيخ رحمه الله تعالى في ذلك لم يثبت في مقدار العمامة الشريفة حديث، ثم أورد الحديث السالف أول الباب، ثم قال: وهذا يدل على أنها عدة أذرع، والظاهر أنها كانت نحو العشرة أو فوقها بيسير.
وقال الحافظ أبو الخير السخاوي رحمه الله تعالى في فتاويه: رأيت من نسب لعائشة رضي الله تعالى عنها أن عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر كانت بيضاء، وفي الحضر كانت سوداء، وكل منهما سبعة أذرع.
قال السّخاوي: وهذا شيء ما علمناه.
قال ابن الحاج في المدخل: وردت السّنّة بالرّداء والعمامة والعذبة، وكان الرداء أربعة أذرع ونصف، ونحوها، والعمامة سبعة أذرع ونحوها، يخرجون منها التّلحية والعذبة، والباقي عمامة على ما نقله المطريّ في كتابه.
الثاني: قال في زاد المعاد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس العمامة بغير قلنسوة، وكان إذا اعتمّ أرخى طرف عمامته بين كتفيه، كما في حديث عمرو بن حريث، وفي حديث جابر السابق رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة، وعليه عمامة سوداء، ولم يذكر في حديثه الذّؤابة، فدل على أن العذبة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه، قال وقد يقال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه أهبة القتال، والمغفر على رأسه، فلبس في كل موطن ما يناسبه، قلت: لم يستحضر رحمه الله تعالى أن النسائي رحمه الله تعالى رواه- وزاد- قد أرخى طرف العذبة بين كتفيه، كما تقدم، ولا مخالفة بين هذا الحديث، وحديث البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه المغفر، لاحتمال أن يكون وقت دخوله كان على رأسه المغفر، ثم أزاله، ولبس العمامة بعد ذلك، فحكى كل منهما ما رآه، ويؤيده أن في حديث عمرو بن حريث رضي الله تعالى عنه أنه خطب عند باب الكعبة، وذلك بعد تمام دخوله، قال القاضي وقال غيره يجمع، بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر أو كانت تحت المغفر، وقاية لرأسه من صدأ الحديد.(7/276)
الثالث:
قال في زاد المعاد أيضا كان شيخنا أبو العباس في تيهته رحمه الله تعالى يذكر في سبب الذؤابة شيئا بديعا، وهو أنه صلى الله عليه وسلم إنما اتخذها صبيحة المنام الذي رآه بالمدينة، لما رأى رب العزة تبارك وتعالى فقال: «يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري، فوضع يده بين كتفيّ فعلمت ما بين السماء والأرض» الحديث.
رواه الترمذي،
وقال إنه سأل البخاري عنه فصححه، قال أبو العباس رحمه الله تعالى:
فمن تلك الغداة أرخى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذؤابة بين كتفيه صلى الله عليه وسلّم، وهذا من العلم الذي تنكره ألسنة الجهّال وقلوبهم، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ولم أر هذه الفائدة في شأن الذؤابة لغيره، وقال الحافظ أبو الفضل العراقي رحمه الله تعالى: لم نجد لما ذكره أصلا.
وقال الحافظ أبو ذرعة بن الحافظ أبي الفضل العراقيّ رحمهما الله تعالى في تذكرته بعد أن ساق ما تقدم عن ابن تيميّة، إن ثبت ذلك فهو وصفه، وليس يلزم منه التجسيم، لأن الكف يقال فيه ما قاله أهل الحق في اليد، فهم ما بين متأوّل وساكت عن التأويل، مع نفي الظاهر، كيفما كان فهو نعمة عظيمة، ومنّة جسيمة، حلّت بين كتفيه فقابلها بإكرام ذلك المحلّ الذي حطت فيه تلك النعمة، والمراد بالذؤابة ههنا القامّة لموافقة الحديث الذي قبله وأكثر اشتهارها على شعر الرأس، وقد تطلق على المتدلي من غيره.
الرابع: قال شيخ الإسلام كمال الدين بن أبي شريف رحمه الله تعالى في كتابه صوبة الغمامة، في إرساله طرف العمامة: إسبال طرف العمامة مستحبّ مرجح فعله على تركه، كما يؤخذ من الأحاديث السابقة خلافا لما أوهمه كلام النووي رحمه الله تعالى من إباحته بمعنى استواء الطرفين.
قال الإمام النووي في شرح المهذب: يجوز لبس العمامة بإرسال طرفها، بغير إرساله، ولا كراهة في واحد منهما، وذكر معناه في الروضة باختصار.
قال في شرح المهذب: ولم يصح في النهي عن ترك الإرسال شيء، وذكر أنه صحّ في الإرخاء حديث عمرو بن حريث رضي الله تعالى عنه أي السابق- هذا كلام الإمام النووي رحمه الله تعالى. قال ابن أبي شريف رحمه الله تعالى: ولم أر من تعقّبه، ويمكن أن يقال قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه بإرخاء طرف العمامة، وعلّله صلى الله عليه وسلّم لأنه أعرب وأحسن، فهو مستحب وأولى، وتركه خلاف الأولى والمستحب. والظاهر أن الإمام النووي أراد بالمكروه ما ورد فيه نهي مقصود، وليس الترك مكروها بهذا المعنى، ولا يمتنع كون الإرسال أولى أو مستحبا، وأما إن أراد بالمكروه ما يتناول خلاف الأولى، كما هو اصطلاح متقدمي الأصوليين، فلا نسلم كون الترك غير مكروه بهذا المعنى بل هو مكروه.(7/277)
بمعنى أنه خلاف الأولى كما بيّنّاه.
الخامس:
قال صاحب القاموس رحمه الله تعالى في شرح البخاري كما نقل عنه أنه قال فيه: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عذبة طويلة نازلة بين كتفيه، وتارة على كتفيه، وأنه ما فارق العذبة قط، وأنه قال: «خالفوا اليهود ولا تصمّموا فإن تصميم العمائم من زيّ أهل الكتاب» ، وأنه قال: «أعوذ بالله من عمامة صمّاء» ،
قال الشيخ رحمه الله تعالى في فتاويه التي بخط الشيخ عبد الجبار رحمه الله تعالى قوله: طويلة لم أره، لكن يمكن أن يؤخذ من أحاديث إرخائها بين الكتفين، وقوله: بين، وتارة على كتفه لم أقف عليه من لبسه، لكن من إلباسه، أي كما سيأتي في تعميمه عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه، وعليا رضي الله تعالى عنه، وأما حديث خالفوا اليهود إلخ، وحديث أعوذ بالله من عمامة صمّاء، فلا أصل لهما.
قال الشيخ في الفتاوى المذكورة: من العلم أن العذبة سنة وتركها استنكافا عنها إثم، أو غير مستنكف فلا.
السادس: اختلف في مكان العذبة على أقوال:
الأول: إرسالها من بين يديه، ومن خلفه.
روى الطبراني بسند ضعيف عن ثوبان رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتم أرخى عمامته بين يديه ومن خلفه.
وروى أبو موسى المدنيّ بسند ضعيف عن الحسن بن صالح، قال: أخبرني من رأى عمامة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، قد أرخاها من بين يديه ومن خلفه.
وروى أبو داود بسند ضعيف عن ابن خيربوذ قال: حدثنا شيخ من أهل المدينة قال:
سمعت عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه يقول: عمّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يديّ، ومن خلفي.
وورد من عدّة طرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لمّا عمّم عبد الرحمن بن عوف أرسل العذبة من خلفه.
وروى ابن سعد بسند ضعيف من طريق أبي أسد بن كريب عن أبيه قال: رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعتمّ فيرخي من عمامته شبرا بين كتفيه، ومن بين يديه.
وروى أبو موسى المدني عن محمد بن قيس قال: رأيت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يعتمّ بعمامة قد أرسلها بين يديه ومن خلفه، فلا أدري أيّهما أطول.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: أنه لم ير أحدا ممّن أدركه يرخيها بين كتفيه إلا بين(7/278)
يديه، ونقله ابن الحاج في المدخل، وهذا يدل على أن عمل التابعين على إرسال العذبة من بين أيديهم.
قال أبو عبد الله بن الحاج في المدخل: والعجب من قول بعض المتأخرين إن إرسال الذّؤابة بين اليدين بدعة، مع وجود هذه النصوص الصحيحة الصريحة من الأئمة المتقدمين عن السلف، فيكون هو قد أصاب السنة، وهم قد أخطئوها وابتدعوا، وتوقف بعض الحفّاظ في جعلها من قدّام لكونها من سنّة أهل الكتاب، وهدينا مخالف لهديهم وقولهم: بين يديه، ومن خلفه: يحتمل أن يكون بالنظر لطرفيها حيث يجعل أحدهما خلفه والآخر بين يديه ويحتمل أنه إرسال الطرف الواحد بين يديه، ثم ردّه من خلفه بحيث يكون الطرف الواحد بعضه بين يديه، وبعضه خلفه، كما يفعله كثيرون، ويحتمل أن يكون فعل كل واحد منهما في مرّة، وقد تكون العذبة من طرف العمامة، أو من غيرها، ويغرزها فيها، فقد نقل الحافظ أبو الخير السخاوي رحمه الله تعالى في فتاويه أن بعضهم نسب إلى عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
كانت العذبة في السفر من غير العمامة وفي الحضر منها، قال السخاوي: وهذا شيء ما علمناه.
الثاني: إرسالها من الجانب الأيمن.
روى الطبراني بسند ضعيف عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يولّي واليا حتى يعمّمه بعمامة، ويرخي لها عذبة من الجانب الأيمن نحو الأذن.
الثالث: إرسالها من الجانب الأيسر، وعليه عمل كثير من السادات الصوفية، لما قام عندهم في ذلك.
روى الطبراني بسند حسن، والضياء المقدسيّ رحمه الله تعالى في صحيحه عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليا رضي الله تعالى عنه إلى خيبر فعمّمه بعمامة سوداء، ثم أرسلها من ورائه، أو قال: على كتفه اليسرى، لكن روايه تردّد وما جزم بالثاني.
وسئل الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في مسند الصوفية في إرخاء العذبة على الشّمال فقال: لا يلزمهم بيانه، لأن هذا من جملة الأمور المباحة، فمن اصطلح على شيء منها لم يمنع منه، ولا سيّما إذا كان شعارا لهم انتهى.
الرابع: إرسالها خلف ظهره بين كتفيه، وهو الأكثر الأشهر الصحيح على تقدير صحته(7/279)
بأنه لم يرخ العذبة بين الكتفين، بل يقدّمها إلى جهة الكتف اليمنى أو اليسرى، وقولهم: بين كتفيه: المراد به إرسالها من خلف لا من قدام، ويستحب إرخاء العذبة للصلاة، ويكره تركها.
وندر تركه سدل العذبة في العمامة حال الصلاة.
التنبيه الخامس: اختلف في قدر العذبة على أنواع:
الأول: قدر أربع أصابع أو نحوها، وهو أكثر ما ورد في ذلك وأمثل إسنادا.
روى الطبراني في الأوسط بسند حسن عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمّر عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه على سريّة فأصبح عبد الرحمن وقد اعتم بعمامة من كراديس سوداء.
الثاني: إلى موضع الجلوس حكاه شرّاح الكنز.
الثالث: إلى الكعبين.
روى أبو موسى المدني عن خطّاب الحمصيّ قال: حدثنا بقيّة بن الوليد عن مسلم بن زياد القرشي رضي الله تعالى عنه قال: رأيت أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أبهر بن مالك، وأبا المنبعث، وفضالة بن عبيد، وروح بن سيّار أو سيّار بن روح رضي الله تعالى عنهم يلبسون العمائم ويرخونها من خلفهم، وثيابهم إلى الكعبين، قلت: تحرّر هل المراد الثياب إلى الكعبين أو العذبة؟.
السادس: قال الحافظ الذهبي في أحاديث اعتمامه بعمامة صفراء: لعل ذلك قبل أن ينهي عنه، وسيأتي بيان هذا في نوع ما لبس من الألوان.
السابع: فيما قيل من إدخال طرفها في العمامة.
روى أبو موسى المدني رحمه الله تعالى عن الحسن بن صالح عن أبيه قال: رأيت على الشّعبي عمامة بيضاء قد أدخل طرفها فيها.
قال الشيخ إبراهيم القدري رحمه الله تعالى: لم أقف على نقل في إدخال العذبة في العمامة، ولا نقل عن أحد من السلف إلا ما نقلوا عن الشعبي.
قال أبو عبيدة في الأمر بالتلحي والنهي عن الاقتعاط- أصل هذا في لبس العمائم، وذلك أن العمامة يقال لها: المقطّة فإذا لبسها المعتم على رأسه، ولم يجعلها تحت الحنك قيل اقتعطها، فهو المنهي عنه، فإذا أدارها تحت الحنك قيل: تلحاها، وهو المأمور بها، وكان طاوس رحمه الله تعالى يقول تلك عمّة الشيطان يعني الأولى.
التاسع: التلحي سنة فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلف الصالح.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: أدركت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين محنّكا أحدهم لو ائتمن على بيت مال لكان به أمينا، وفي لفظ لو استسقى بهم القطر لسقوا.(7/280)
وقال أبو عبد الله بن الحاج أحد أئمة المالكية بعد أن نقل كلام أئمة اللغة رحمهم الله تعالى في معنى الاقتعاط: قال القاضي أبو الوليد بن رشد رحمه الله تعالى: سئل مالك رضي الله تعالى عنه عن المعتم، ولا يدخل تحت ذقنه من العمامة شيئا، فكره ذلك، قال القاضي أبو الوليد: إنما كره ذلك مالك لمخالفته فعل السلف الصالح.
وقال الإمام أبو بكر الطّرطوشي [ (1) ] رحمه الله تعالى: اقتعاط العمائم هو التعميم دون حنك، وهو بدعة منكرة، وقد شاعت في بلاد الإسلام، ونظر مجاهد رضي الله تعالى عنه يوما إلى رجل معتم ولم يحتنك، فقال: اقتعاط كاقتعاط الشيطان تلك عمة الشيطان، وعمائم قوم لوط. قال عبد الملك بن حبيب في كتابه الواضحة: ولا بأس أن يصلي الرجل في داره وبيته بالعمامة دون التلحي، فأما بين الجماعات والمساجد فلا ينبغي ترك الالتحاد، فإن تركه من بقايا عمائم قوم لوط عليه السلام قال بعضهم: وقد شدد العلماء في الكراهة في ترك التحنيك، قال صاحب الجواهر وفي المختصر: روى ابن وهب عن مالك رحمه الله تعالى أنه سئل عن العمامة يعتم بها الرجل، ولا يجعلها تحت حلقه، فأنكرها، وقال: إنها من عمل القبط، قيل له:
فإن صلّى بها كذلك؟ قال: لا بأس، وليست من عمل الناس، وقال أشهب رحمه الله تعالى:
كان مالك رضي الله تعالى عنه إذا اعتم جعل منها تحت ذقنه، وأسدل طرفها بين كتفيه، وقال القاضي عبد الوهاب رحمه الله تعالى في كتابه المدوّنة: من المكروه ما يخالف زي العرب، وأشبه زيّ العجم، كالتعجم بغير حنك، قال: وقد روي أنها عمّة الشيطان.
وقال الحافظ عبد الحق الإشبيلي رحمه الله تعالى: وسنة العمامة بعد فعلها أن يرخي طرفها، ويتحنك به، فإن كان بغير طرف ولا تحنيك، فذلك يكره عند العلماء، والأولى أن يدخلها تحت حنكه، فإنها تقي العنق الحر والبرد، وهو أثبت لها عند ركوب الخيل والإبل والكرّ والفرّ، وقد أطنب ابن الحاج في المدخل في استحباب التحنك، ثم قال: وإذا كانت العمامة من باب المباح فلا بد فيها من فعل سنن تتعلق بها، من تناولها باليمين، والتسمية، والذكر الوارد إن كانت مما يلبس جديدا، أو امتثال السنة في صفة التعميم، من فعل التحنيك، والعذبة، وتصغير العمامة يعني سبعة أذرع أو نحوها، يخرجون منها التحنيك، والعذبة، فإن زاد من العمامة قليلا لأجل حر أو برد، فيتسامح فيه، ثم قال: فعليك أن تتعمم قائما وتتسرول قاعدا.
__________
[ (1) ] محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي الفهري الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي، ويقال له ابن أبي رندقة: أديب، من فقهاء المالكية، الحفاظ من أهل طرطوشة من كتبه «سراج الملوك» و «التعليقة» وفي الخلافيات، وغير ذلك توفي 520 هجرة الأعلام 7/ 133، 134.(7/281)
قال الشيخ برهان الدين الباجي حافظ الشام في كتابه قلائد العقيان فيما يورث الفقر والنسيان: إن التعمم قاعدا والتسرول قائما يورثان الفقر والنسيان.
وقال بعض العلماء رحمهم الله تعالى: السنة في العمامة أن يسدل طرفها إن شاء أمامه، وإن شاء بين يديه، وإن شاء خلفه بين كتفيه، قال: ولا بد من التحنك في الهيئتين.
وفي كتاب الفروع لابن مفلح [ (1) ] والإنصاف للمرداوي [ (2) ] رحمهم الله تعالى، من كتب الحنابلة، قال غير واحد من الأصحاب: يسن أن تكون العمامة محنّكة، وكره أحمد، والأصحاب رحمهم الله تعالى لبس زيّ الأعاجم كعمامة صمّاء.
وقال الشيخ عبد القادر الكيلاني [ (3) ] رحمه الله تعالى ونفع به في كتابه الغنية: يكره الاقتعاط، وهو التعمم بغير حنك، ويستحب التلحي، ويكره كلّ ما خالف زي العرب، وشابه زي العجم.
في فتاوى الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى: النهي عن الاقتعاط محمول على الكراهة لا على التحريم.
وقال القرافي [ (4) ]- بالقاف وبعد الألف فاء-: إنه ما أفتى به مالك رحمه الله تعالى حتى أجازه سبعون محنّكا، وذلك دليل على أن العذبة دون تحنيك يخرج بها عن المكروه لأن وصفهم بالتحنيك دليل على أنهم قد امتازوا به دون غيرهم، وإلا فما كان لوصفهم بالتحنيك فائدة، إذ الكل مجتمعون فيه، قد كان سيدي أبو محمد رحمه الله تعالى يقول: إنما المكروه
__________
[ (1) ] محمد بن مفلح بن محمد بن مفرج، أبو عبد الله، شمس الدين المقدسي الراميني ثم الصالحي: أعلم أهل عصره بمذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولد ونشأ في بيت المقدس، وتوفي بصالحية دمشق، من تصانيفه «كتاب الفروع والنكت والفوائد السنية على مشكل المحرر لابن تيمية» و «أصول الفقه» و «الآداب الشرعية الكبرى- توفي 763 هجرة الأعلام 7/ 107.
[ (2) ] علي بن سليمان بن أحمد المرداوي ثم الدمشقي: فقيه حنبلي، من العلماء. ولد في مردا (قرب نابلس) وانتقل في كبره إلى دمشق فتوفي فيها. من كتبه «الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. توفي 885 الأعلام 4/ 292.
[ (3) ] عبد القادر بن موسى بن عبد الله بن جنكي دوست الحسني، أبو محمد، محيي الدين الجيلاني، أو الكيلاني، أو الجيلي: مؤسس الطريقة القادرية، من كبار الزهاد والمتصوفين. ولد في جيلان (وراء طبرستان) وانتقل إلى بغداد شابا، سنة 488 هجرة، فاتصل بشيوخ العلم والتصرف، وبرع في أساليب الوعظ، وتفقه، وسمع الحديث، وقرأ الأدب، واشتهر. له كتب، منها «الغنية لطالب طريق الحق و «الفتح الرباني» و «فتوح الغيب» و «الفيوضات الربانية» توفي 561 هجرة الأعلام 4/ 47.
[ (4) ] أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن، أو العباس، شهاب الدين الصنهاجي القرافي: من علماء المالكية نسبته إلى قبيلة صنهاجة (من برابرة المغرب) وإلى القرافة (المحلة المجاورة لقبر الإمام الشافعي) بالقاهرة. وهو مصري المولد والمنشأ والوفاة، له مصنفات جليلة في الفقه والأصول، منها «أنوار البروق في أنواء الفروق» أربعة أجزاء، و «الإحكام في تمييز الفتاوي عن الأحكام وتصرف القاضي والإمام» و «الذخيرة» في فقه المالكية، وغير ذلك. توفي 684 هجرة الأعلام 1/ 94، 95.(7/282)
في العمامة التي ليست بهما فإن كانا معا فهو الكمال في امتثال الأمر، وإن كان أحدهما فقد خرج به عن المكروه.
العاشر: قال شيخ شيوخنا الإمام العلامة الشيخ كمال الدين بن الهمام [ (1) ] أحد أئمة السادة الحنفية في كتابه المياسرة: من استقبح من آخر جعل بعض العمامة تحت حلقه كفر، قاله تلميذه الإمام العلامة كمال الدين بن أبي شريف رحمه الله تعالى في شرحها.
الحادي عشر: في بيان غريب ما سبق:
العمامة: بالكسر المغفر والبيضة، وما يلف على الرأس، والجمع عمائم، وعمام، وقد اعتم وتعمم واستعم.
الذّؤابة: بذال معجمة فواو، وبعد الألف، موحدة: ما يرخى من شعر الرأس، وقد يطلق على كل ما يرخى.
الدّسمة: بدال مفتوحة، فسين مفتوحة، مهملتين، فميم، فتاء تأنيث: أي سوداء.
الحرقانية: بحاء مهملة مضمومة، فراء ساكنة، فقاف، فألف، فنون فتحتية فتاء تأنيث:
سوداء، قال الزمخشري رحمه الله تعالى: هي التي على لون ما أحرقته النار كأنها منسوبة، بزيادة الألف والنون إلى الحرق بفتح الحاء والراء.
التّلحّي: بفوقية فلام فحاء مهملة: جعل طرف العمامة تحت الحنك.
الخمار: بخاء معجمة وآخره راء: المراد به هنا العمامة، لأن الرجل يغطي بها رأسه كما أن المرأة تغطيه بخمارها، وذلك إذا كان قد اعتم عمة العرب، فأدارها تحت الحنك، فلا يستطيع نزعها في كل وقت، فتصير كالخفين، غير أنه يحتاج إلى مسح القليل من الرأس، ثم يمسح على العمامة، بدل الاستيعاب، وقد أشعر كلام ابن الأثير رحمه الله تعالى في تفسير الخمار بأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يداوم على التلحي، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن دائما يمسح على الخمار، بل كان يمسح جميع رأسه.
الاقتعاط: بهمزة مكسورة مهملة، فقاف ساكنة، ففوقية مكسورة، فعين مهملة وبعد الألف طاء مهملة: أن يتعمم من غير تحنيك.
__________
[ (1) ] محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود، السيواسي ثم الإسكندري، كمال الدين، المعروف بابن الهمام:
إمام، من علماء الحنفية، عارف بأصول الديانات والتفسير والفرائض والفقه والحساب واللغة والموسيقى والمنطق.
أصله من سيواس، ولد بالإسكندرية، ونبغ في القاهرة، وأقام بحلب مدة. وجاور بالحرمين، ثم كان شيخ الشيوخ بالخانقاه الشيخونية بمصر. وكان معظما عند الملوك وأرباب الدولة. توفي بالقاهرة، من كتبه «فتح القدير في شرح الهداية» و «التحرير في أصول الفقه» و «المسايرة في العقائد المنجية في الآخرة» و «زاد الفقير» توفي 861 هجرة الأعلام 6/ 255.(7/283)
الباب الثالث في قلنسوته صلى الله عليه وسلم
روى أبو داود والبزّار بسند ضعيف عن ركانة [ (1) ] رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الفرق بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس» [ (2) ] .
وروى أبو يعلى وأبو الشيخ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس قلنسوة بيضاء [ (3) ] .
وروى أبو علي بن السّكن في المعرفة عن فرقد- رجل من الصحابة- رضي الله تعالى عنهم قال: أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ورأيت عليه قلنسوة بيضاء، وفي رواية ورسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قلنسوة بيضاء شاميّة.
وروى أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس من القلانس في السفر ذوات الآذان، وفي الحضر المشمرة يعني الشامية [ (4) ] .
وروى ابن عساكر عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس من القلانس من ذوات الآذان.
وروى عنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلنسوة بيضاء يلبسها [ (5) ] .
وروى أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث قلانس، قلنسوة بيضاء مصريّة، وقلنسوة برد حبرة، وقلنسوة ذات آذان يلبسها في السفر، ربما وضعها بين يديه إذا صلّى [ (6) ] .
وروى الأربعة وأبو الشيخ وابن حبّان عن عبد الله بن بسر رضي الله تعالى عنه قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وله قلنسوة مصريّة، وقلنسوة لها آذان، وقلنسوة لاطئة.
__________
[ (1) ] ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف المطلبي مات في خلافة عثمان انظر الإصابة 2/ 212.
[ (2) ] أخرجه أبو داود في كتاب اللباس باب (24) والترمذي (1784) والحاكم 3/ 452 والطبراني في الكبير 5/ 68.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 124 وقال: رواه الطبراني وفيه عبد الله بن خراس وثقه ابن حبان وقال ربما أخطأ، وضعفه جمهور الأئمة، وبقية رجاله ثقات.
[ (4) ] انظر أخلاق النبوة 119.
[ (5) ] ذكره أبو حنيفة في جامع المسانيد 1/ 198.
[ (6) ] ذكره الفتني في تذكرة الموضوعات 155.(7/284)
وروى الدّمياطي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم كمّة بيضاء بطحاء.
وروى أبو الحسن البلاذري رحمه الله تعالى في تاريخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قلنسوة أسماط، يعني جلودا، وكان فيها ثقبة.
وروى الطبراني وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس كمّة بيضاء [ (1) ] .
وروى ابن عساكر بسند ضعيف عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس كمّة بيضاء، ورواه أيضاً عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وروى أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس القلانس البيض، والمزرورات، وذوات الآذان.
تنبيهان
الأول: قال في الإحياء: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس القلانس تحت العمامة، وبغير عمامة، وربما نزع قلنسوة من رأسه، فيجعلها سترة بين يديه، ثم يصلي إليها، قال في زاد المعاد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
القلنسوة والقلنسية إذا فتحت ضممت السين، وإذا ضممت كسرتها، تلبس في الرأس، والجمع قلانس وقلانس وقلنس، وأصله قلنسو إلا أنهم رفضوا الواو لأنه ليس اسم آخره حرف علة قبلها ضمة فصار آخره ياء مكسور ما قبلها، فكان كقاض، وقلاسيّ وقلاس وتصغيره قلينسة وقلينيسة وقليسية وقليسيّة، وقلنسته وقليسته فتقلنس وتقلسى: ألبسته إياها فلبس.
وقال محمود بن خطيب الدّهشة في التقريب [ (2) ] : بفتحتين وسكون النون وضم السين، والقلنسية بضم القاف بوزنها تلبس في الرأس، وجمعها قلانس وقلائس وقلاس.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 124 وقال رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه محمد بن حنيفة الواسطي وهو ضعيف ليس بالقوى.
[ (2) ] محمود بن أحمد بن محمد، الشيخ الإمام العلامة، القاضي، المصنف نور الدين الحموي المشهور بابن خطيب الدّهشة، قاضي حماة وعالمها ولد سنة ستين وسبعمائة، واشتغل ببلده على جماعة، فمن تصانيفه مختصر القوت للأذرعي سماه إعانة المحتاج إلى شرح المنهاج، ومختصر المطالع، وشرح الكافية لابن مالك، والتقريب في علم الغريب وغير ذلك ابن قاضي شهبة 4/ 108.(7/285)
قال القزّار [ (1) ] : غشاء مبطن يستر به الرأس.
شامية: نسبة إلى الشام.
المشمرة: بميم مضمومة، فمعجمة ساكنة، فميم، فراء المهيأة.
مصرية.
برد: بموحدة مضمومة، فراء ساكنة، فمهملة: ثوب مخطط.
حبرة: بحاء مكسورة، فموحدة، وراء مفتوحتين، عصب اليمن، وقال الداودي الحبرة ثوب أخضر.
لاطية: أي لاصقة بالرأس، أشار بذلك إلى قصرها، وإنما حدثت القلانس الطّوال في أيام الخليفة المنصور في سنة ثلاث وخمسين ومائة، أو نحوها، وفي ذلك يقول الشاعر:
وكنّا نرجّي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس
الكمّة: بضم الكاف وتشديد الميم قال العراقي رحمه الله تعالى: جمعها كمام بكسر الكاف، وهي القلنسوة، قال في المورد: هي قلنسوة منبطحة غير منبسطة.
بطحاء: بضم الموحدة، وسكون الطاء، وبالحاء المهملتين، وهي لازقة بالرأس غير ذاهبة في الهواء، هكذا فسره الهروي رحمه الله تعالى.
وقال في النهاية: يعني أنها كانت منبطحة غير منتصبة.
قال العراقي: وأما تفسير الترمذي لها بالواسعة فليس بجيد، وكأنه حمل الكمام هنا على أنه جمع كمّ القميص، وكذا فعل أبو الشيخ، وفي ذلك منهما نظر، والمعروف ما قدمناه.
الثقبة: الخرق النافذ.
أسماط بهمزة مفتوحة، فسين مهملة ساكنة، فميم، فألف فطاء مهملة لا وسم عليها أو لبس لها بطانة.
__________
[ (1) ] محمد بن جعفر التميمي، أبو عبد الله، القزاز: أديب، عالم باللغة من أهل القيروان، مولدا ووفاة. رحل إلى الشرق، وخدم العزيز بالله الفاطمي (صاحب مصر) وصنف له كتبا، وعاد إلى القيروان، فتصدر لتدريس العربية والأدب إلى أن توفي من كتبه «الجامع» في اللغة، كبير، و «الحروف عدة مجلدات في النحو» ، و «ضرائر الشعر» توفي سنة 415 هجرة الأعلام 6/ 71، 72.(7/286)
الباب الرابع في تقنعه صلى الله عليه وسلم
روى أبو داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: بينا نحن جلوس في بيت أبي بكر رضي الله تعالى عنه في نحو الظّهيرة، فقال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا متقنّعا [ (1) ] .
وروى البخاري والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ بالحجر قال: لا تسكنوا، ولا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم، ثم تقنّع بردائه، وهو على الرّحل [ (2) ] .
وروى الترمذي في الشّمائل، وابن سعد، والبيهقي عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكثر القناع [ (3) ] .
وروى ابن سعد والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر التقنّع، وفي لفظ القناع [ (4) ] .
وروى البلاذري عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر على بغلة شهباء، وعليه ممطر سيجان، وعليه عمامة، وعلى العمامة قلنسوة من الممطر السّيجان، قال هشام بن عمار: الساج الطيلسان الأسود.
وروى أبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكثر تسريح لحيته ورأسه بالماء، ثم تقنع كأن ثوبه ثوب زيّات [ (5) ] .
وروى بقي بن مخلد عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر التّقنّع، وهو من أخلاق الأنبياء، أو لبسة الأنبياء عليهم السلام، وقال ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم القناع عن رأسه، وأخرج وجهه، ثم قال: «هكذا الإيمان» ، ثم قنع رأسه وغطى وجهه، وأخرج إحدى عينيه وقال: «هكذا النفاق» .
وروى أبو عوانة في صحيحه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «كنت ألعب مع
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود 2/ 453 (4083) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 7/ 731 (4419) .
[ (3) ] الترمذي في الشمائل (61) وانظر الكنز (18278) والبداية 6/ 53.
[ (4) ] ابن سعد 1/ 2/ 154.
[ (5) ] انظر إتحاف السادة 4/ 241 والشمائل للترمذي (23) وابن سعد 1/ 2/ 170.(7/287)
الصبيان إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد قنّع رأسه بثوب، فسلم عليّ، ثم دعاني فبعثني في حاجة، وقعد في نخل حائط» الحديث.
وقال ابن سعد رحمه الله تعالى: أخبرنا الفضل بن دكين عن عبد السلام بن حرب قال:
حدثنا موسى الحارثي في زمن بني أميّة قال: وصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم الطّيلسان فقال: «هذا ثوب لا يؤدّى شكره» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والطبراني بسند حسن- عن أمامة بن زيد رضي الله تعالى عنه قال:
لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أدخل عليّ أصحابي» ، فدخلوا عليه، فكشف القناع، ثم قال: «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» [ (2) ] .
وروى أبو عبيدة في غريبه عن يحيى بن أبي كثير رحمه الله تعالى قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على إبل لحيّ يقال لهم بنو الملوّح، أو بنو المصطلق قد عبست في أبوالها من السّمن، فتقنّع بثوبه، ثم قرأ قول الله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ الآية.
وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد والبخاري في تاريخه، وأبو داود والنسائي وابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي اشتد ذلك عليه، وعرفنا ذلك منه، فتنحى منتبذا خلفنا، وجعل يغطّي رأسه بثوبه، فأتانا، فأخبرنا أنه قد أنزل عليه الوحي: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم متقنّعا بثوبه فقال: «يا أيها الناس، إن الناس يكثرون، وإن الأنصار يقلّون، فمن ولي منكم أمرا ينفع فيه أحد، فليقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم» [ (4) ] .
وروى الطبراني عن زيد بن سعد عن أبيه رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نعيت إليه نفسه خرج متقنّعا، حتى جلس على المنبر، فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال:
«أيّها الناس احفظوني في هذا الحي، من الأنصار فإنهم كرشي وعيبتي، أقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» [ (5) ] .
__________
[ (1) ] ابن سعد 1/ 2/ 155.
[ (2) ] أخرجه أحمد 1/ 218، 518، 2/ 216، 5/ 204، 6/ 34، 121، 255. وأبو عوانة 1/ 399 وهو عند البخاري 1/ 116، 2/ 11، 128 ومسلم في المساجد باب 3 (19، 21) .
[ (3) ] أحمد 1/ 564، 5/ 317، 318.
[ (4) ] أحمد 1/ 289.
[ (5) ] الطبراني في الكبير 6/ 40.(7/288)
وروى البلاذري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقنّع رأسه حتى ينظر إلى حاشية ثوبه.
وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «الأردية ألبسة العرب، والالتفاع لبسة الإيمان» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتلفّع.
وروى ابن عدي عن عون بن سلّام عن معلّى بن هلال [ (1) ] عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الله رضي الله تعالى عنهم قال: التلفّع والتّقنّع من أخلاق الأنبياء عليهم السلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتقنّع والأحاديث في هذه كثيرة.
تنبيهات
الأول: قال الحافظ رحمه الله تعالى: قول عائشة متقنّعا أي مطيلسا رأسه، وهو أصل في لبس الطّيلسان، وقال أيضاً في موضع آخر من الفتح: التّقنّع تغطية الرأس وأكثر الوجه برداء أو غيره.
وقال التّوربشتي في قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما تقنّع: أي لبس قناعا على رأسه، وهو شبه الطّيلسان.
الثاني: قول ابن القيم رحمه الله تعالى: لم ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لبسه أي الطّيلسان، ولا أحد من أصحابه، بل ثبت
في صحيح مسلم من حديث النواس بن سمعان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الدّجال، فقال: يخرج معه سبعون ألفا من يهود إصبهان عليهم الطيالسة،
ورأى أنس رضي الله تعالى عنه جماعة عليهم الطّيالسة فقال: ما أشبههم بيهود خيبر، ومن هنا كرهه جماعة من السلف، والخلف، لما
روى أبو داود والحاكم في المستدرك عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم»
وفي التّرمذي: «ليس منّا من تشبّه بغيرنا»
وأما ما جاء في حديث الهجرة أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه متقنّعا بالهاجرة فإنما فعله صلى الله عليه وسلّم تلك الساعة ليختفي بذلك للحاجة، ولم تكن عادته التقنع، وقد ذكر أنس رضي الله تعالى عنه أن كان صلى الله عليه وسلّم يكثر القناع، وهذا إنما كان يفعله للحاجة من حر ونحوه- انتهى كلامه، وهو مردود من وجوه:
التنبيه الأول: قوله لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلّم لبسه يرده ما رواه الترمذي في الشّمائل، وابن سعد والبيهقي عن يزيد بن أبان والخطيب عن الحسن بن دينار عن قتادة كلاهما عن أنس رضي الله تعالى عنهم، والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يكثر التّقنّع، ولفظ التّرمذي وسهل: القناع، ولفظ الخطيب: ما رأيت أدوم قناعا من
__________
[ (1) ] معلّى بن هلال بن سويد، أبو عبد الله الطحّان الكوفي، اتفق النقاد على تكذيبه. التقريب 2/ 266.(7/289)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، زاد أنس حتى كأنّ ثوبه ثوب زيّات أو دهّان.
ولفظ الخطيب كأن ملحفته ملحفة زيّات، وهذا الحديث باعتبار طرقه، وما له من الشواهد السابقة حسن، كما قاله الشيخ رحمه الله تعالى،
وقال ابن سعد أخبرنا الفضل بن دكين عن عبد السلام بن حرب قال: حدثني موسى الحارثي في زمن بني أمية قال: وصف لرسول الله صلى الله عليه وسلم الطّيلسان فقال: «هذا ثوب لا يؤدّى شكره- هذا مرسل» .
التنبيه الثاني: قوله: ولا أحد من أصحابه، يردّه أنه ورد فعله عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بحضرته صلى الله عليه وسلّم وبعد وفاته، منهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه،
وروى أبو يعلى وابن عساكر من طريق عبد الملك بن عمير عن ابن أبي المعلّى قال: صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فقال: «إن رجلي على ترعة من ترع الحوض» ، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت المنبر متوافرون، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه مقنّع في القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن عبدا من عبيد الله تعالى خيّره ربّه أن يعيش في الدنيا ما شاء أن يعيش فيها، وأن يأكل من الدنيا ما شاء أن يأكل منها، وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه» ، فلم يفطن أحد من القوم لما قال صلى الله عليه وسلم غير أبي بكر رضي الله تعالى عنه فانتحب باكيا، وروى ابن أبي شيبة في المصنف، والبيهقي في الشعب عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه خطب فقال: يا معشر المسلمين: استحيوا من الله تعالى، فو الذي نفسي بيده إني لأظلّ حين أذهب إلى الغائط في الفضاء متقنّعا بثوبي استحياء من الله عز وجل، ولفظ ابن أبي شيبة مغطيا رأسه وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه.
روى ابن عساكر عن زرّ بن حبيش رحمه الله تعالى قال: خرجنا مع أهل المدينة في يوم عيد في زمن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وهو يمشي متلثما ببرد قطريّ، وعثمان رضي الله تعالى عنه.
وروى ابن أبي شيبة في مسنده والتّرمذي، والحاكم، وصححه والبيهقي عن مرة بن كعب أو كعب بن مرة رضي الله تعالى عنه وابن عساكر عن عبد الله بن حوالة، والطبراني عن ابن عمر، والإمام أحمد عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنهم، واللفظ لابن حوالة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: «يا عبد الله كيف إذا ظهرت فتنة في أطراف الأرض كأنها صياصي بقر؟» قلت: ما خار الله تعالى ورسوله، قال: «فكيف بك يا عبد الله إذا ظهرت فتنة أخرى كأنها انتفاجة أرنب؟» قلت: ما خار الله تعالى ورسوله، ولفظ الباقين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم فتنة، قالوا كلهم: ومرّ رجل مقنّع بثوب، - وفي لفظ بردائه- فقال: هذا يومئذ على الهدى، قال ابن حوالة رحمه الله تعالى: فتبعته فأخذت بثوبه فأقبلت بوجهه على النبي صلى الله عليه وسلم فكشف قناعه قلت: هذا قال: هذا، فإذا هو عثمان رضي الله تعالى عنه، فقال ابن عجرة: فانطلقت حتى(7/290)
أخذت بضبعيه فحولت وجهه إليه، وكشفت عن رأسه فإذا هو عثمان رضي الله تعالى عنه.
وروى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الأم، وابن أبي شيبة عن عبد الرحمن التّيمي قال: قلت: لأغلبنّ الليلة على المقام، فقمت فإذا رجل يزحمني متقنّعا فنظرت فإذا هو عثمان ابن عفان رضي الله تعالى عنه، والآثار في تقنّع عثمان كثيرة، والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما.
روى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن سعد في الطبقات عن العلاء قال: رأيت الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يصلّي، وهو مقنّع رأسه.
وروى ابن سعد عن سليمان بن المغيرة قال: رأيت الحسن يلبس الطّيالسة.
وروى أيضا عن عمارة بن زادان قال: رأيت على الحسن طيلسانا أندقيّا، والآثار في ذلك عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كثيرة.
وأما عن التابعين فكثير منهم طاوس، قد قال هانئ بن أيوب الجعفي كان طاوس يتقنّع، رواه ابن سعد من طرق عنه، وعمر بن عبد العزيز رواه ابن سعد وابن عساكر، والحسن البصريّ، رواه ابن سعد من طرق، ومحمد بن واسع رواه ابن عساكر، وإبراهيم النّخعي رواه ابن أبي شيبة وميمون بن مهران رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، ومسروق رواه ابن أبي شيبة، وسعيد بن المسيّب رواه ابن أبي شيبة.
وروى البيهقي في الشّعب عن خالد بن خداش قال: جئت إلى مالك بن أنس رضي الله تعالى عنه فرأيت عليه طيلسانا فقلت: يا أبا عبد الله، هذا شيء أحدثته أم رأيت الناس عليه؟ قال: لا بل رأيت الناس عليه، والآثار عن السلف في ذلك كثيرة لا تنحصر وقد ذكر الشيخ منها جملة في كتابه الأحاديث الحسان، في فضل الطّيلسان، فمن أراد الزيادة على ما هنا فليراجعه.
الثالث: قال الحافظ رحمه الله تعالى: ما ذكره من قصة اليهود إنّما يصلح الاستدلال به في الوقت الذي تكون الطّيالسة من شعارهم، وقد ارتفع في هذه الأزمنة فصار داخلا في عموم المباح.
وقيل: إنما أنكر أنس رضي الله تعالى عنه ألوان الطيالسة لأنها كانت صفراء، وقال الحافظ- بعد أن أورد حديث أنس-: لا يلزم من ذلك كراهة لبس الطيلسان.
قال الشيخ رحمه الله تعالى: وهو واضح لأن الكراهة تحتاج إلى نهي خاص ولا وجود لها، وإذا لبس الكفار ملبوس المسلمين لا يكره للمسلمين لبسه.
قال الحافظ: وقيل المراد بالطّيالسة الأكسية، غير أن المراد في حديث أنس، وحديث سهل بن سعد الطّيلسان المقوّر.(7/291)
قال الشيخ رحمه الله تعالى: وهذا أصحّ القول في الحديثين، ويؤيد أن هذا هو المراد في الثاني
ما أخرجه أحمد في مسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الدّجّال فقال: «يكون معه سبعون ألفا من اليهود مع كل رجل منهم ساج وسيف» .
وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى في النهاية: الساج الطيلسان الأخضر، وقيل هو الطيلسان المقوّر، ينسج كذلك.
وقال القاضي أبو يعلى بن الفراء الحنبلي رحمه الله تعالى: لا يمنع أهل الذّمّة من الطّيلسان، وهو المقوّر الطرفين، المكفوف الجانبين، الملفوف بعضها إلى بعض، ما كانت العرب تعرفه، وهو لباس اليهود قديما، والعجم أيضا، والعرب تسميه ساجا، ويقال إن أول من لبسه من العرب جبير من مطعم، وكان ابن سيرين رحمه الله تعالى يكرهه.
وقال الزركشي رحمه الله تعالى في الخادم: ذكر جماعات من أهل اللغة أن الطّيلسان نوع من الثياب، وهو المراد من لبس اليهود في حديث الدّجّال، وليس هو معروف الآن.
الرابع: قوله لم يكن يفعل التّقنّع عادة بل للحاجة تعقبه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى بأن في حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يكثر التّقنّع، أخرجه الترمذي في الشمائل وتقدم وذلك.
التنبيه الثالث: قال القاضي رحمه الله تعالى في شرح مسلم في حديث تحويل الرداء في الاستسقاء، فيه دليل أن لبس النبي صلى الله عليه وسلّم للرداء كان على نحو لباس أهل بغداد ومصر والأندلس من كونه على رأسه ومنكبيه غير مشتمل به، ولا متعطف ثم قال: وقد جاء ما يصحح هذا، فقد
ذكر أبو سعد عبد الملك صاحب شرف المصطفى أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ألا أخبركم بلبسة أهل الإيمان» ، فلبس رداءه، وألقاه على رأسه، وتقنّع به، ورفع بيده اليمنى على منكبه الأيسر انتهى.
التنبيه الرابع: قال الحكيم الترمذي رحمه الله تعالى عقب إيراد حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: الأردية ألبسة أهل الإيمان إلخ- الالتفاع والالتحاف بمعنى واحد، وهو استتار، وإنما قيل ألبسة أهل الإيمان لأنه يقدر مع ذلك على التّقنّع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكثر التّقنّع، وذلك أن الذي يعلوه الحياء من ربه يلجأ إلى ذلك لأن الحياء في العين والفم، وهما من الرأس والحياء من عمل الروح، وسلطان الروح في الرأس.
وروي في الخبر أن أخلاق النبيين التّقنّع، فهذا من الحياء، وكذلك أهل اليقين من بعدهم، وهم الأولياء رضي الله تعالى عنهم، وهذا دأبهم وشأنهم.(7/292)
وقال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: إني لأدخل الخلاء فأقنّع رأسي حياءً من الله تعالى، فهذا لأهل اليقين، لأنهم أبصروا بقلوبهم أن الله تعالى يراهم،
فقال صلى الله عليه وسلّم: «الالتفاع أي الالتحاف بالثوب متقنّعا لبسة اهل الإيمان، وذلك أن الحياء من الإيمان، وما ازداد عبد بالله تعالى علما إلا ازداد منه حياء، فمن تقنّع فمن الحياء منه تقنع، لعلمه بأن الله تعالى يراه علم يقين لا علم تعليم» .
الخامس: قال الشيخ رحمه الله تعالى: حيث أطلق العلماء الطّيلسان وقالوا: إنه بدعة أو شعار اليهود فالطّرحة المراد لا الالتفاع، وتارة يقولون: المقوّر، وتارة يقولون: السّاج، والكل بمعنى، والطّرحة كانت غطاء القضاة في أوائل الدولة العباسية، وهلمّ جرّا فاحتاج العلماء يبينون أنها بدعة لا أصل لها في السنة، وقال في موضع آخر: قد كان الخلفاء أحدثوا ألبسة الطّرح السوداء على العمامة للخطباء، واستمر ذلك إلى زماننا فرأيناهم كثيرا يلبسونها في الأعياد فهذا هو الذي تكلم عليه ابن عطّار، حيث قال في شرح العمدة بعد أن نقل عن الأصحاب أن الإمام في الجمعة يزيد في التزين بالرداء ونحوه: وليس من زينته الطّيلسان، فإنه ليس شعار الإسلام، بل من شعار اليهود، وإلا فقد نص على استحباب الطيلسان أي التّقنّع من أصحابنا القاضي الحسين في تعليقه.
السادس: قال الثعالبي في فقه اللغة: أصغر ما يغطى به الرأس يقال له البخنق وهو خرقة تغطي ما أقبل من الرأس وما أدبر ثم الغفارة فوقها دون الخمار، ثم الخمار أكبر منها ثم المقنعة، ثم النّصيف، وهو كالنّصيف من الرّداء أو أكبر من المقنعة، ثم المعجر. وهو أكبر من المقنعة، وأصغر من الرداء، ثم القناع والرداء.
السابع: في بيان غريب ما سبق:
قال الحافظ في كتاب البيان معنى قوله: كأن ثوبه ثوب زيّات: معناه أنه كان يدهن شعر رأسه، ويتقنّع، وكأن الموضع الذي يصيب رأسه من ثوبه ثوب دهان.
نحو الظهيرة.
الممطر: بميمين الأولى مكسورة، والثانية ساكنة، فطاء مهملة، فراء: ثوب صوف يتوقّى به من المطر.
معافري: بميم مفتوحة، ولا يضم فعين فألف ففاء مكسورة، فراء: نسبة إلى معافر حيّ من همدان.
مثلبة: بميم مفتوحة، فمثلثة، فلام مفتوحة، وتضم، فموحدة: اللوم والعيب.(7/293)
الباب الخامس في قميصه، وإزاره، وجيبه صلى الله عليه وسلم
روى أبو داود والترمذي- وحسنه- عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان كمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرّسغ [ (1) ] .
وروى الحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لبس قميصا وكان فوق الكعبين، وكان كمّه إلى الأصابع [ (2) ] .
ولفظ أبي الشيخ يلبس قميصا فوق الكعبين، مستوى الكمّين بأطراف الأصابع.
وروى ابن ماجه، وابن سعد، وابن عساكر عنه أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس قميصا قصير اليدين والطول [ (3) ] .
وروى ابن سعد، ومسدّد، وأحمد بن منيع، وسعيد بن منصور، وأبو الشيخ، والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قميص من قطن، قصير الطول قصير الكم [ (4) ] .
وروى البزار برجال ثقات عن أنس ورواه أبو سعيد بن الأعرابي عن ابن عباس والنّسائي عن أسماء، وابن الأعرابي عن يزيد العقيلي رضي الله تعالى عنهم قالوا: كان كمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرسغ.
وروى ابن عدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لبس قميصا، وكان كمّاه مع الأصابع.
وروى ابن الأعرابيّ عنه أيضاً قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس قميصا فوق الكعبين، مستوى الكمّين بأطراف أصابعه.
وروى عبد بن حميد وابن عساكر وأبو طاهر المخلّص عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم له قميص قبطيّ قصير الطول قصير الكمّين.
وروى الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميص واحد [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي في السنن (1765) وابن سعد 1/ 2/ 153 وابن أبي شيبة 8/ 211.
[ (2) ] وأخرجه أبو نعيم في تاريخ أصفهان 2/ 347.
[ (3) ] ابن ماجة (3577) وابن سعد 1/ 2/ 153.
[ (4) ] انظر أخلاق النبوة (101، 102) .
[ (5) ] انظر المجمع 5/ 121.(7/294)
وروى أبو داود، وابن ماجه، وأبو القاسم البغوي في معجمه وابن حبان عن معاوية بن مرّة- رحمه الله تعالى- عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من مزينة فبايعناه، وإن قميصه لمطلق الإزار، ولفظ البغوي: لمحلول الإزار.
وروى أبو يعلى، والبزّار، وابن خريمة، والبيهقي، وابن حبان عن زيد بن أسلم- رحمه الله تعالى- قال: رأيت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما محلول الإزار، فسألته عن ذلك فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلّي كذلك.
وروى أبو نعيم، وأبو الحسن بن الضّحاك- من طريقه- عن عطاء بن أبي رباح، رحمه الله تعالى قال: قلت لعبد الله بن عمر أشهدت بيعة الرضوان مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم؟ قال:
نعم، قلت: فما كان عليه؟ قال: قميص من قطن، وجبّة محشوّة، ورداء وسيف، ورأيت النّعمان ابن مقرّن المزني قائما على رأسه، والناس يبايعونه.
وروى أبو الشيخ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ما اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصا فيه زرّ.
وروى أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثوبان غليظان، فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ثوبيك هذين خشنان ترشح فيهما فيثقلان عليك.
وروى أبو داود، والترمذي- وصححه- وابن حبّان عن قرّة بن إياس رحمه الله تعالى قال: لما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أدخلت يدي في جيب قميصه فمسست الخاتم.
تنبيهات
الأول: قال الشيخ في شرع السنن: وهذا الحديث أي حديث الكم إلى الرسغ مخصوص بالقميص الذي كان يلبسه في السفر، وكان يلبس في الحضر قميصا من قطن فوق الكعبين، وكمّاه مع الأصابع، ثم أورد حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما السابق.
الثاني: قال البخاري رحمه الله تعالى في الصحيح: باب جيب القميص عند الصدر وغيره، فأورد فيه حديث الجبّتين في مثل المتصدّق والبخيل، وفيه يقول بإصبعه هكذا في جيبه.
قال الحافظ: الظاهر أنه كان لأنس قميص، وكان في طوقه فتحة إلى صدره بل استدل به ابن بطال رحمه الله تعالى على أن الجيب في ثياب السلف كان عند الصدر قال ابن بطال رحمه الله تعالى، وموضع الدلالة منه أن البخيل إذا أراد أن يخرج يده أمسكت في الموضع(7/295)
الذي ضاق عليها، وهو الثدي والتراقي، وذلك في الصدر فقال لأنه لو كان في غيره لم يضطر يداه إلى ثديه وتراقيه.
قال الحافظ رحمه الله تعالى بعد إيراده: وفي حديث قرة بن إياس ما يقتضي أن جيبه كان في صدره لأن في أول الحديث إنه رآه مطلق القميص أي غير مزرور.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الرّصغ: بضم الراء، وسكون الصاد المهملة، وغين معجمة: لغة في الرسغ، وهو مفصل ما بين الكف والساعد.
الكعب: بكاف فعين مهملة، وآخره باء، معروف، وهو العظم الخارج آخر الساق.(7/296)
الباب السادس في لبسه صلّى الله عليه وسلّم الجبة
وفيه نوعان:
الأول: في لبسه صلّى الله عليه وسلم الجبة الرومية الضيقة الكمين في السفر.
روى ابن سعد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم وعليه جبّة شاميّة ضيّقة الكمّين.
وروى ابن ماجه عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه جبّة روميّة من صوف ضيّقة الكمّين فصلّى بنا فيها، ليس عليه شيء غيرها.
وروى الإمام أحمد، والشيخان، وابن عساكر عن المغيرة بن شعبة، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم غسل وجهه، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه، وعليه جبّة شاميّة، وفي لفظ: رومية، ضيقة الكمّين فذهب ليخرج يده من كمها، فضاقت فأخرج يده من أسفلها.
وروى أبو الشيخ عن دحية الكلبي رضي الله تعالى عنه أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم جبّة من الشام.
وروى أبو يعلى- برجال ثقات- عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عليه جبّة شاميّة، مفترق خصرها.
الثاني: في لبسه صلّى الله عليه وسلم الجبة غير الرومية.
روى مسلم والنسائي وابن سعد، عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم قال: أخرجت إلينا أسماء جبة من طيالسة لها لبنة من ديباج كسروانيّ وفي لفظ كسروانيّة وفروجها مكفوفة به، وفي لفظ وفرجاها مكطوفان بالديباج فقالت: هذه جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يلبسها، فلما توفي كانت عند عائشة، فلما توفيت عائشة قبضتها، نحن نغسلها للمريض منا إذا اشتكى، وفي لفظ للمرض، ونستشفي بها.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أسماء رضي الله تعالى عنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم جبّة طيالسة مكفوفة بالدّيباج، فكان يلقى فيها العدوّ.
وروى ابن أبي شيبة عن المغيرة بن زياد مولى أسماء قالت: رأيت ابن عمر رضي الله(7/297)
تعالى عنهما اشترى عمامة لها علم، فدعا بالجلمين فقصّه، فدخلت على أسماء، فذكرت ذلك لها فقالت: بؤسا لعبد الله، يا جارية هاتي جبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت بجبة مكفوفة الكمّين والجيب والفرج بالدّيباج.
وروى أيضا عن ابن عمر أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها أخرجت جبة مزرّرة بالديباج، فقالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس هذه إذا لقي العدو.
وروى أبو القاسم البغوي، وابن عساكر، وأبو الحسن بن الضحاك عن طارق بن عبد الله المحاربي رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وعليه جبة حمراء.
وروى أبو داود الطّيالسي عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم وله جبة صوف في الحياكة.
وروى أبو الشيخ عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبة من صوف أنمار فلبسها، فما أعجب بثوب ما أعجب به، فجعل يمسه بيده ويقول: «انظروا ما أحسنه!»
وفي القوم أعرابي فقال: يا رسول الله هبها لي، فخلعها، فدفعها في يده.
وروى النّسائي، وأبو سعيد بن الأعرابي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أهدي له أكيدر دومة جبّة من سندس منسوج فيها الذهب، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعجب الناس منها فقال: «أتعجبون من هذه؟ فو الذي نفسي بيده لمناديل سعد ابن معاذ في الجنة أحسن منها» ، وأهداها إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا رسول الله أتكرهها وألبسها، فقال: «يا عمر إنما أرسلت بها لتبيعها» وذلك قبل أن ينهي عن الحرير.
وروى ابن سعد عن علي بن زيد بن جدعان عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: أهدى ملك الروم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم جبّة من سندس فلبسها، فكأني أنظر إلى يديها متدليتين من طولهما، فجعل القوم يقولون: يا رسول الله أنزلت عليك من السماء؟ فقال: «وما تعجبون منها؟ فو الذي نفسي بيده إن منديلا من مناديل سعد بن معاذ في الجنة خير منها» ، ثم بعث بها إلى جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فلبسها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إني لم أعطكها لتلبسها» ، قال: فما أصنع؟ قال: «ابعث بها إلى أخيك النجاشي» .
وروى ابن قانع عن داود بن داود أن قيصر أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم جبّة من سندس، فاستشار أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقالا: يا رسول الله، نرى أن تلبسها، يكبت الله بها عدوّك، ويسر المسلمين، فلبسها، وصعد المنبر فخطب، وكان جميلا يتلألأ وجهه فيها، ثم نزل فخلعها، فلما قدم عليه جعفر وهبها له.(7/298)
وروى الطبراني عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه جبّة من سندس، فما رأيناه منذ زمان أحمد منه في ذلك اليوم، فقام فنزعها، ثم خرج في برد حبرة فقال: «الحرير لباس أهل الجنة، فمن لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» .
وروى الإمام أحمد- بسند جيد- عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن راهبا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم جبة سندس فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتى البيت فوضعها، وأحس بوفد، فأمر عمر رضي الله تعالى عنه أن يلبسها لقدوم الوفد فقال: «لا يصلح لنا لباسها في الدنيا، وتصلح لنا في الآخرة» الحديث.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الجبة: بجيم مضمومة فموحدة: ثوب معروف واحدة الجباب والجبب.
خصرها: وسطها.
طيالسة: هي نوع من الثياب لها علم.
الديباج: بمهملة مكسورة فمثناة تحتية فموحدة فألف فجيم: معرب وهو السندس.
مكفوفة: أي عمل على جيبها وكميها وفرجها كفاف من حرير وكفّة كل شيء بالضم طرفه وحاشيته.
الجلمان: المقراضان.(7/299)
الباب السابع في لبسه صلّى الله عليه وسلّم الحلة
روى أبو داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم أحسن ما يكون من الحلل.
ورواه بقي بن مخلد- بلفظ: أحسن ما يكون من اليمنية.
وروى الترمذي- وحسنه- عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعليه حلّة حمراء، وتقدم مبسوطا في باب حسنه صلى الله عليه وسلم.
وروى البزار وأبو القاسم البغوي عن قدامة الكلابي رضي الله تعالى عنه قال: رأيت عشية عرفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حلّة حبرة.
وروى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن مالكا ذا يزن أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حلّة أخذها بثلاثة وثلاثين ناقة فقبلها.
وروى الشيخان عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مربوعا، وقد رأيته في حلّة حمراء، ما رأيت شيئا أحسن منه صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو الشيخ عن عبد الله بن الحارث قال: اشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلّة بسبع وعشرين ناقة فلبسها.
ورواه ابن سعد عن علي بن زيد عن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بلفظ:
بسبع وعشرين أوقيّة، ورجاله ثقات إلا عليا وكذلك إسحاق، وعليّ متكلّم فيه.
وروى ابن سعد بسند رجاله ثقات، وهو مرسل، عن ابن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى حلّة، وإما قال: ثوبا بتسع وعشرين ناقة.
وروى الشيخان عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت بلالا رضي الله تعالى عنه جاء بعنزة فركزها، ثم أقام الصلاة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في حلّة حمراء سمراء الحديث.
وروى الزبير بن بكّار عن يزيد بن عياض رحمه الله تعالى قال: أهدى حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه للنبي صلى الله عليه وسلم في الهدنة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلّم وبين قريش حلّة ذي يزن اشتراها بثلاثمائة دينار، فردّها عليه، وقال: «إني لا أقبل هديّة مشرك» ، فباعها حكيم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من اشتراها له فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فلما رآه حكيم قال له:
يحبس الحكّام بالفضل بعد ما ... بدا سابق ذو غرّة وجحول(7/300)
وروى مسلم وابن عساكر رضي الله تعالى عنه قال: كان أحب الثياب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يلبسها الحبرة.
تنبيهان
الأول: قال ابن القيّم: وغلط من ظن أن الحلّة كانت حمراء بحتا لا يخالطها غيرها، وإنما الحلّة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود كسائر البرود اليمنية، وهي معروفة بهذا الاسم باعتبار ما فيها من الخطوط، وإلا فالأحمر البحت نهى عنه أشد النهي، وقال النووي رحمه الله تعالى: اختلف العلماء، رحمهم الله تعالى، في الثياب المعصفرة وهي المصبوغة بعصفر، فأباحها جميع العلماء من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم رضي الله تعالى عنهم، وبه قال الشافعي، وأبو حنيفة، ومالك رحمهم الله تعالى ولكنه قال: غيرها أفضل منها، وجاءت رواية عنه أنه أجاز لباسها في البيوت وأفنية الدور، وكرهه في المحافل والأسواق، وقال جماعة: هو مكروه كراهة تنزيه، وحملوا النهي على هذا لأنه صلى الله عليه وسلّم لبس حلّة حمراء.
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم صبغ بالصّفرة، وحمل بعضهم النهي على المحرم بالحج والعمرة، وقد أتقن البيهقي رحمه الله تعالى المسألة في معرفة السنن له فقال: نهى الشافعي رضي الله تعالى عنه الرجل عن المزعفر، وأباح له المعصفر، قال الشافعي: وإنما رخّصت في المعصفر لأني لم أجد أحدا يحكي عنه صلى الله عليه وسلّم النهي عنه، إلا ما
قال على: أنه صلى الله عليه وسلم نهاني.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
الحلّة: قال في القاموس: بالضم إزار ورداء برد أو غيره، ولا تكون حلّة إلا من ثوبين، أو ثوب له بطانة.
الحبرة: بكسر الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة: ثوب أخضر قال الداودي رحمه الله تعالى، وقال غيره: هي برود يؤتى بها من اليمن مخططة والله أعلم.(7/301)
الباب الثامن في لبسه صلّى الله عليه وسلم
وفيه نوعان:
الأول: في لبسه صلّى الله عليه وسلّم قباء الدّيباج المفرّج- قبل التحريم- ثم تركه له.
روى عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه قال: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فرّوج حرير فلبسه، فصلى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعا شديدا كالكاره له وقال: «لا ينبغي هذا للمتقين» .
وروى مسلم عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء ديباج أهدي له ثم أوشك أن نزعه فأرسل به إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقيل: قد أوشك ما نزعته يا رسول الله، فقال: «نهاني عنه جبريل عليه السلام» ، فجاءه عمر يبكي، فقال: يا رسول الله، كرهت أمرا وأعطيتنيه فما لي؟ فقال: «إني لم أعطكه لتلبسه، إنما أعطيتكه لتبيعه» ، فباعه عمر رضي الله تعالى عنه بألفي درهم.
الثاني: في إعطائه القباء لغيره.
روى النّسائي عن المسور بن مخرمة رضي الله تعالى عنهما قال: قسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبية، ولم يعط مخرمة شيئا، فقال مخرمة: يا بنيّ انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت معه فقال: ادخل فادعه لي، فدعوته، فخرج إليه وعليه قباء، فقال: خبّأت هذا لك، قال: فنظر إليه فقال: «رضي مخرمة» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
القباء فرّوج: بفاء فراء مشددة فواو وآخره جيم: القباء المفرّج من خلف.
وهذا الحديث أصل في لبس الخلفاء له، وإنما نزعه لكونه كان حريرا، وكان لبسه له قبل تحريم الحرير، فنزعه لمّا حرّم، وقد تقدم
في حديث مسلم إنه صلى الله عليه وسلم قال حين نزعها: «نهاني عنه جبريل» .(7/302)
الباب التاسع في إزاره وملحفته وكسائه وردائه وبردته وخميصته وشملته
روى الحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج، وهو متكئ على أسامة بن زيد، وعليه ثوب قطريّ قد توشح به، فصلّى بهم.
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه ملحفة متغطيا بها على منكبيه، وعليه عمامة دهماء.
وروى ابن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ملحفة مصبوغة بورس، كان يلبسها في بيته، ويدور فيها على نسائه، ويصلي فيها.
وروى أيضا عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ملحفة مورّسة يدور بها بين نسائه، فربّما نضحت بالماء ليكون أزكى لريحها.
وروى أبو الحسن البلاذري عن بكر بن عبد الله المزني قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ملحفة مصبوغة بورس وزعفران أو بزعفران، فإذا كان يوم إحداهن، يعني نساءه ذهب إليها، ورشّ عليها الماء لتوجد رائحتها.
وروى أبو داود عن عكرمة رحمه الله تعالى قال: رأيت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يأتزر فيضع حاشية إزاره من مقدمه على ظهره، ويرفع مؤخّره، قلت: لم تأتزر هذه الإزرة؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأتزرها.
وروى ابن سعد عن يزيد بن أبي حبيب رحمه الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرخي الإزار من بين يديه، ويرفعه من وراءه.
وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أرخى مقدّم إزاره حتى تقع حاشيتاه، ويرفع الإزار مما وراءه.
وروى أيضاً بسند فيه مبهم عنه: قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتزر تحت سرّته، وتبدو سرّته، ورأيت عمر رضي الله تعالى عنه يأتزر فوق سرته.
وروى أيضا عن عثمان، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتزر إلى أنصاف ساقيه.
وروى البزار عن عثمان رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتزر على نصف الساق.
وروى الشيخان وابن عساكر من طرق عن أبي برزة رضي الله تعالى عنه قال: أخرجت(7/303)
إلينا عائشة رضي الله تعالى عنها إزارا غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من هذه التي تدعى الملبّدة فأقسمت لي لقبض النبي صلى الله عليه وسلّم فيهما.
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن شهر بن حوشب رحمه الله تعالى قال: جئت أم سلمة أعزّيها بالحسين، رضي الله تعالى عنه، فحدثتنا أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بيتها فصنعت له فاطمة رضي الله تعالى عنها سخينة وجاءته بها فقال: «انطلقي فادعي ابن عمّك، وابنيك» ، فجاءته بهم، فأكلوا معه من ذلك الطعام، قالت:
فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فضل كساء لنا خيبريّ كان تحته، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللهم هؤلاء عترتي، وأهل بيتي، اللهم فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا» ، فقلت: يا رسول الله وأنا من أهلك؟ قال: «وأنت إلى خير» .
وروى الحارث بن أبي أسامة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في كساء أبيض في غداة، تارة يتقي بالكساء برد الأرض ليديه ورجليه.
وروى الترمذي عن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي تحدّثت عن عمّها قال: بينا أن أمشي في المدينة إذا إنسان خلفي يقول: ارفع إزارك، فإنّه أنقى، وأبقى فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنما هي بردة قال: «أما لك فيّ أسوة؟» فنظرت، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.
وروى الحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: دخل جرير بن عبد الله البجلي على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعنده أصحابه، فظل كلّ رجل بمجلسه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم رداءه، فألقاه إليه، فتلقّاه بنحره ووجهه فقبّله، ووضعه على عينيه، وقال: أكرمك الله يا رسول الله.
وروى ابن سعد عن داود بن الحصين عن شيخه ابن عبد الأشهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلّى في مسجد بني الأشهل ملتحفا بكساء، فكان يضع يديه على الكساء يقيه برد الحصى إذا سجد.
وروى الشيخان وابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه رداء نجرانيّ غليظ الحاشية.
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد- برجال ثقات- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يرى عضلة ساقه من تحت إزاره.
وروى الحارث بن أبي أسامة عن أبي ذرّ الغفاري رضي الله تعالى عنه قال: «أتيت(7/304)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في ظلّ الكعبة متوسّدا برداء له» ، الحديث.
وروى ابن عدي عن صفوان بن عسّال رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد متكئ على رداء له أحمر- الحديث.
وروى الحميدي عن خبّاب، رضي الله تعالى عنه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظلّ الكعبة» ، الحديث.
وروى ابن أبي خيثمة عن سليم بن جابر رضي الله تعالى عنه، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو محتب في بردة له، إنّ هدبها على قدميه.
وروى أبو داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعلينا شعارنا، وقد ألقينا فوقه كساء، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الكساء فلبسه، ثم خرج فصلى الغداة، الحديث.
وروى أبو داود وأبو الشيخ- واللفظ له عن سليم بن جابر رضي الله تعالى عنه، قال:
أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو جالس في أصحابه، وإذا هو محتب، ببردة قد وقع هدبها على قدميه.
وروى البخاري، وأبو داود، والنّسائي، وأبو بكر الإسماعيلي عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببردة، قال سهل: هل تدرون ما البردة؟ قالوا: نعم، هي الشّملة، منسوج في حاشيتها، قالت: يا رسول الله إنّي نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم محتاجا إليها، فخرج إلينا، وإنها لإزاره، فطلبها رجل من القوم فقال: «يا رسول الله أكسنيها» الحديث.
وروى أبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة، قد رقع هدبها على قدميه.
وروى ابن أبي شيبة والنسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لبس بردة سوداء، فقالت عائشة: ما أحسنها عليك يا رسول الله، يشرب بياضك سوادها، ويشرب سوادها بياضك، فبدت منها ريح الصوف فألقاها وكان يحب الريح الطّيّبة.
وروى الإمام مالك رحمه الله تعالى قالت: أهدى أبو جهم بن حذيفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم خميصة شاميّة لها علم، فشهد فيها الصلاة، فلما انصرف قال: «ردّوا هذه الخميصة إلى أبي جهم، فإني نظرت إلى علمها في الصلاة فكاد يفتنني» [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 2/ 349 وابن سعد 1/ 2/ 151.(7/305)
وروى البخاري عنها رضي الله تعالى عنها قالت: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما سلم قال: «اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم، فإنها ألهتني عن صلاتي، وائتوني بانجبانية أبي جهم» [ (1) ] .
وروى البخاري عن ابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهما، قالا: لمّا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حذيفة طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتمّ كشفها عن وجهه.
وروى أيضا عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أنذرتكم النار، حتى أن رجلا لو كان بالسوق لسمعه من مقامي له، حتى وقعت خميصة له كانت على عاتقه» [ (2) ] .
وروى أبو نعيم وابن عدي وابن الأعرابي من طريق الأحوص بن حكيم عن خالد بن معدان عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شملة أراد أن يتوشّح بها فضاقت، فعقدها في عنقه هكذا وأشار عبادة إلى قفاه ليس عليه غيرها.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عبد الله بن الغسيل قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر العباس رضي الله تعالى عنه فقال: يا عمّ اتبع بنيك، فقال له الهيثم بن عتبة بن أبي لهب: يا عمّ انتظرني حتى أجيئك، فلم يأتهم، فانطلق بستة من بنيه: الفضل، وعبد الله، وعبيد الله، وقثم، وعبد الرحمن، قال: فأدخلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وغطّاهم بشملة له سوداء مخطّطة بحمرة ثم قال: «اللهم إن هؤلاء أهل بيتي، وعترتي فاسترهم من النار كما سترتهم بهذه الشّملة» ، فما بقي في البيت مدرة ولا باب إلا أمّن [ (3) ] .
وروى أبو داود عن جابر بن سليم الهجيمي رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو محتب بشملة قد وقع هدبها على قدميه.
وروى ابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان طول ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع وشبرا في ذراع وشبر.
وروى عبد الله بن المبارك في الزهد عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنه أن ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يخرج به للوفد- رداؤه ثوب حضرمي طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر، وهو عند خلق بطّنوه بثوب يلبسونه يوم الفطر والأضحى.
__________
[ (1) ] وهو عن مسلم في كتاب المساجد (62) وأحمد 2/ 199 وعبد الرزاق (1389) .
[ (2) ] أخرجه أحمد 4/ 268، 272 والدارمي 2/ 330 والطيالسي كما في المنحة (693) والحاكم 1/ 287 والبيهقي في الكبرى 3/ 207.
[ (3) ] ابن عساكر كما في التهذيب 4/ 318 والسيوطي في الدر 5/ 198.(7/306)
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أبي محمد عبد الله بن محمد بن القاسم بن حزم البغويّ رحمه الله تعالى قال: رأيت بمعدموق وهو حصن قرب مدينة صور على الساحل سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة بردة للنبي صلى الله عليه وسلم وهي على صبيّ من ولد مبرور الأزدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهي ألوان مسمرّة نظيفة، ذكروا أن النجاشي كان أهداها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكساه إياها، وقد تقطع بعضها، وذكروا إن رجلا من الولاة أراد أخذها، فأدخلت في مطمورة تحت الأرض، فتقطعت، وإلا كانت صحيحة، وألوانها بحسنها، ولا ندري من أي شيء هي إن كانت قطنا أو وبرا أو حريرا، وما حقيقة الثوب.
تنبيهان
الأول: قال الإمام سراج الدين بن الملقّن وتلميذه الحافظ كلاهما في شرح البخاري:
ذكر الواقديّ رحمه الله تعالى أن طول رداء رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ستة أذرع في عرض ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبران في ذراع وشبر، كان يلبسها في الجمعة والعيدين، قالا:
ووقع في شرح الأحكام لابن بريدة ذرع الرداء كالذي ذكره الواقدي في ذرع الإزار، قال الحافظ رحمه الله تعالى: والأول أولى انتهى.
وروى ابن سعد عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنه أن طول رداء النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أذرع، وعرضه ذراعان وشبر.
وروى ابن عدي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس رداء مربعا.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
قطري: بكسر القاف وسكون الطاء وقد تخفف. ومع التخفيف: هو ضرب من البرود فيه حمرة، لها أعلام، فيها بعض الخشونة، وفسره بعضهم بأنه غليظ من قطن.
الملحفة الإزار: بهمزة مكسورة فزاي فألف فراء: الملحفة الملبّدة، عضلة ساقه.
الخميصة: بفتح الخاء والمعجمة، وبالصاد المهملة: ثوب بعلم من خزّ أو صوف.
انبجانية أبي جهم.
الشّملة: بشين معجمة، وميم: كساء أصفر من القطيفة يتشح بها.(7/307)
الباب العاشر في سراويله صلّى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد والأربعة وصححه، والترمذي وابن حبان عن سويد بن قيس رضي الله تعالى عنه قال: جلبت أنا ومخرمة العبداني البزّ من هجر، فأتينا مكة، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنىّ، فساومنا سراويل، فبعناه منه بوزن ثمنه،
قال للذي يزن: «زن وأرجح» [ (1) ] .
وروى النسائي والحاكم وأبو الحسن بن الضحاك عن أبي صفوان مالك بن عميرة الأسدي رضي الله تعالى عنه أنه باع من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر أو يرحل سراويل، فلما وزن له أرجح له.
وروى أبو يعلى بسند ضعيف وتابع ابن الجوزي رحمه الله تعالى فأورده في الموضوعات ونازعه في ذلك الشيخ، واقتصر الحافظ في الفتح، وغير واحد على تضعيفه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم اشترى سراويل بأربعة دراهم، فقلت: يا رسول الله إنّك لتلبس السراويل، فقال: «نعم في السفر والحضر، وبالليل والنّهار، فإني أمرت بالسّتر، فلم أجد شيئا أستر منه» .
تنبيهان
الأول: قال ابن القيم في حديث شرائه السراويل: والظاهر أنه اشتراه ليلبسه. قال الحافظ رحمه الله تعالى: ويحتمل أنه اشتراه لغيره، وفيه بعد انتهى.
ويؤيد كلام ابن القيم أن البيهقي في الشعب وابن الجوزي في الوفاء وغيرهما من العلماء رحمهم الله تعالى أوردوا الحديث في باب ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبسه.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
البزّ: بموحدة مفتوحة، فزاي مشددة: الثياب، أو متاع البيت من الثياب ونحوها وبائعه البزّاز، وحرفته البزازة.
هجر: بهاء، فجيم، فراء مفتوحة: بلدة باليمن بينه وبين عفر يوم وليلة مذكّر مصروف، وقد يؤنّث ويمنع، والنسبة إليه هجريّ والله تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] أحمد 4/ 352 وأبو داود (3336، 3337) والترمذي (1305) وابن ماجة (2220) والدارمي 2/ 260 والحاكم 2/ 30، 4/ 192 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (1440) وابن أبي شيبة 6/ 586.(7/308)
الباب الحادي عشر في أنواع من ملابسه غير ما تقدم
وفيه أنواع:
الأول: في لبسه الفروة.
روى ابن عساكر عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلّي على الفراء، ويستحبّ أن يصلّى على الفروة المدبوغة [ (1) ] .
الثاني: في لبسه صلّى الله عليه وسلم الصوف والشعر.
روى الطيالسي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كانت الأنبياء عليهم السلام يركبون الحمر، ويلبسون الصوف، ويحتلبون الشاة.
وروى ابن ماجه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوف، واحتذى المخصوف ولبس خشنا.
وروى الطيالسي عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وله جبّة صوف في الحياكة.
وروى ابن عدي عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصبح في شملة من صوف يتعقدها هكذا، وأشار يعني إلى قفاه [ (2) ] .
وروى أبو داود وابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: صنعت للنبي صلى الله عليه وسلّم بردة سوداء فلبسها، فلما عرق فيها وجد منها ريح الصّوف، فقذفها، وأحسبه قال: وكان يعجبه الريح الطيبة.
وروى ابن ماجه برجال ثقات عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فقلب جبّة صوف كانت عليه فمسح بها وجهه.
وروى مسلم وأبو داود والترمذي- وليس عنده مرحل- عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خر ذات غداة وعليه مرط مرحّل من شعر أسود [ (3) ] .
__________
[ (1) ] ابن عساكر كما في التهذيب 2/ 314 وبنحوه أخرجه أبو داود في الصلاة باب (91) والترمذي (331) والنسائي 2/ 57 وابن ماجة (1028) وأحمد 1/ 269، 309 وابن أبي شيبة 1/ 398 والطبراني في الصغير 1/ 211 وعبد الرزاق (1538) وأبو نعيم في الحلية 8/ 123 وفي التاريخ 2/ 141 وابن سعد 1/ 2/ 160.
[ (2) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 1/ 405، 406.
[ (3) ] أخرجه مسلم 3/ 1649 (36- 2081) .(7/309)
وروى الشيخان عن أبي برزة رحمه الله تعالى قال: دخلت على عائشة، فأخرجت إلينا كساء ملبّدا.
وروى ابن سعد عن الحسن قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ليلة باردة فصلّى في مرط امرأة من نسائه، مرط والله- يعني من صوف، ولا كشف ولا لبس.
وروى أيضا عن أبي بردة قال: دخلت على عائشة، فأخرجت إلينا كساء غليظا مما يصنع باليمن، وكساء من هذه البلدة، فأقسمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبض فيها، وتقدّم حديث سهل بن سعد في جبّته.
الثالث: في لبسه صلّى الله عليه وسلم النمرة.
وروى الطبراني برجال الصحيح عن عبد الله بن سرجس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلّى يوما وعليه نمرة، فقال لرجل من أصحابه: «اعطني نمرتك، وخذ نمرتي» فقال: يا رسول الله نمرتك أجود من نمرتي قال: «أجل، ولكن فيها خيط أحمر، فخشيت أن أنظر إليها، فتفتنني في صلاتي» .
وروى الطبراني برجال ثقات عن زمعة بن صالح، وأبو نعيم، وابن عساكر عن سهل بن سعد قال: حيكت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حلّة من أنمار من صوف أسود، وجعل لها ذؤابتان من صوف أبيض، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المجلس وهي عليه، فضرب على فخذه وقال: «ألا ترون ما أحسن هذه الحلة!» فقال أعرابي: يا رسول الله ألبسني هذه الحلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا سئل شيئا لم يقل لشيء يسأله لا قال: «نعم» ، فدعا بقطريتين فلبسهما، وأعطى الأعرابي الحلّة، وأمر بمثلها تحاك، فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في الحياكة.
الرابع: في لبسه صلّى الله عليه وسلم البرنس.
روى الطبراني برجال ثقات عن عاصم بن كليب عن أبيه عن خاله قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فوجدتهم يصلّون في البرانس والأكسية، وأيديهم فيها.
الخامس: في لبسه صلّى الله عليه وسلم القطن والكتان.
روى الطبراني بسند حسن عن ابن عباس قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب قطن، وفي يده عنزة وهو متكئ على أسامة بن زيد، ركزها بين يديه ثم صلى إليها.
وروى البزار برجال الصحيح عن أنس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مرضه الذي مات فيه متوكئا على أسامة بن زيد، مرتديا ثوب قطن، فصلّى بالناس.(7/310)
وروى البخاري عن ابن سيرين قال: حدثني من لا أتهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يلبس القطن، والكتان، واليمانية زاد أبو الشيخ: وسنة نبينا أحقّ أن تتّبع.
السادس: في لبسه صلّى الله عليه وسلم الثّوب المرقّع.
روى ابن أبي شيبة في المصنف عن الحسن قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يواسي الناس بنفسه، حتى جعل يرقع إزاره بالأدم، وما جمع بين غداء وعشاء ثلاثة أيام حتى قبضه الله تعالى [ (1) ] .
السابع: في لبسه صلّى الله عليه وسلم الحبرة.
روى البزار عن قدامة الكلابي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عشية عرفة، وعليه حلّة حبرة.
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح عن الحسن أن عمر أراد أن ينهي عن حلل الحبرة لأنه تصبغ بالبول، فقال أبي: ليس ذلك لك، قد لبسهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولبسناهن في عهده.
تنبيهات
الأول: قال الهيثمي إن الحسن لم يسمع من عمر، قلت: الحسن هذا هو ابن علي بن أبي طالب، يدل على ذلك فقال له أبي، وقال الهيثمي إن أبي الذي هو بفتح الهمزة قد أتى بضمها وليس كذلك، وقد سمع الحسن من جده.
الثاني: قال في زاد المعاد: كان أغلب لبسه صلّى الله عليه وسلم ما نسج بالقطن، وربما لبس من الصوف والكتان.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الريح الطيبة.
النمرة: بفتح النون، وكسر الميم: بردة من صوف يلبسها الأعراب.
العنزة: عصا في قدر نصف الرمح أو أكثر فيها سنان مثل سنان الرمح.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن أبي شيبة 13/ 257.(7/311)
الباب الثاني عشر في ألوان الثياب التي لبسها صلّى الله عليه وسلم
وفيه أنواع:
الأول: في لبسه صلّى الله عليه وسلّم الأخضر.
روى البزار والطبراني برجال ثقات عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان أحبّ الألوان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخضرة [ (1) ] .
وروى الثلاثة عن أبي رمثة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان، وفي لفظ بردان أخضران.
وروى بقي بن مخلد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعجبه الخضرة [ (2) ] .
وروى النسائي عن أبي راشد قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه ثوبان أخضران.
وروى أبو داود عن يعلى بن أمية قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطوف بالبيت مضطبعا ببرد أخضر [ (3) ] .
وروى ابن سعد عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له ثوب أخضر يلبسه للوفود.
الثاني: في لبسه صلّى الله عليه وسلم الأحمر.
وروى مسدّد والحاكم، والبيهقي عنه، وابن سعد، وابن عساكر عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة [ (4) ] .
وروى مسدد برجال ثقات عن عامر بن عمرو الذي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمنى يخطب على بغلة، وعليه برد أحمر وعليّ أمامه يعبّر عنه ما يقول.
وروى مسدد والإمام أحمد عن الأشعث بن سليمان عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سوق ذي المجاز، وعليه أحمران.
وروى ابن أبي شيبة عن أبي رمثة قال: حججت فقدمت المدينة، ولم أكن رأيت
__________
[ (1) ] ذكره المتقي الهندي في الكنز (18263) .
[ (2) ] ذكره الفتني في تذكرة الموضوعات 162.
[ (3) ] أخرجه أبو داود 2/ 378.
[ (4) ] أخرجه البيهقي 3/ 247، 280 وابن أبي شيبة 2/ 156 وابن سعد 1/ 2/ 148 وذكره المتقي الهندي في الكنز 18281.(7/312)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخرج وعليه ثوبان بردان أحمران.
وروى ابن سعد عن شيخ من كنانة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه بردان أحمران.
وروى وكيع بن الجراح عن طارق بن عبد الله المحاربيّ رضي الله تعالى عنه قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوق ذي المجاز وعليه جبّة حمراء.
الثالث: في لبسه صلّى الله عليه وسلم البياض، وأمره به.
روى ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن حبان والحاكم بسند صحيح عن طارق بن عبد الله المحاربيّ رضي الله تعالى عنه قال: أقبلنا في ركب من الرّبذة حتى نزلنا قريبا من المدينة، ومعنا ظعينة لنا، فبينما نحن قعود إذ أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبان أبيضان.
وروى الطبراني، والبزار، برجال ثقات عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالثياب البيض، فألبسوها أحياءكم، وكفنوا فيها موتاكم» [ (1) ] .
الرابع: في لبسه صلّى الله عليه وسلم الأسود.
روى مسلم والترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة، وعليه مرط من شعر أسود.
وروى الإمام أحمد وابن أبي شيبة ومسلم والأربعة عن جابر، وابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما وأبو بكر بن أبي حارث عن أنس رضي الله تعالى عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دخل يوم الفتح مكة، وعليه عمامة سوداء.
وروى مسلم وأبو داود والترمذي في الشمائل، والنسائي وابن ماجة عن جعفر بن عمرو ابن حريث عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلّم خطب الناس وعليه عمامة سوداء.
وروى ابن سعد وابن أبي شيبة عن الحسن قال: كانت عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء.
وروى ابن سعد عمّن سمع الحسن يقول: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء تسمّى العقاب، وعمامته سوداء [ (2) ] .
وروى ابن عدي عن جابر قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم عمامة سوداء يلبسها في العيدين، ويرخيها خلفه.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن أبي شيبة 3/ 266 والطبراني في الكبير 7/ 284 والبيهقي في السنن الكبرى 3/ 404.
[ (2) ] انظر ابن أبي شيبة 12/ 512 والمجمع 5/ 321.(7/313)
وروى أيضا عن أنس أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعتم بعمامة سوداء.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن زيد المازنيّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم استسقى وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله أعلاها فقلبها عليه، الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن.
الخامس: في لبسه صلّى الله عليه وسلم البرود الحمر.
روى أبو داود عن هلال بن عامر عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على بغلة وعليه برد أحمر، وعلي رضي الله تعالى عنه أمامه يعبّر عنه.
وروى ابن سعد عن محمد بن هلال قال رأيت على هشام، يعني ابن عبد الملك، برد النبي صلى الله عليه وسلم من جبرة له حاشيتان.
وروى أيضاً بسند صحيح عن أبي جحيفة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في قبّة له حمراء، وعليه حلّة حمراء فكأني أنظر إلى بريق ساقيه.
السادس: في لبسه صلّى الله عليه وسلم المصبوغ بالزّعفران والورس.
وروى الطبراني وأبو يعلى في مسنده عبد الله بن مصعب اليزيدي عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه ثوبان مصبوغان بالزّعفران، رداء وعمامته.
وروى محمد بن سعد والطبراني وابن حبان في الثقات قال: حدثنا عبد الله بن جابر بطرسوس حدثنا محمد بن يزيد، حدثنا ابن أبي فديك حدثنا زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع عن وكيع بن أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة عن أبيه عن أمه عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: ربّما صبغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ورداءه وإزاره بزعفران أو ورس، ثم يخرج فيها.
وروى ابن سعد عن هشام بن سعيد عن يحيى بن عبد الله بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصبغ ثيابه بالزعفران قميصه ورداءه وعمامته.
وروى أيضا عن هاشم بن القاسم قال: حدثنا عاصم بن عمر عن عمر بن محمد عن زيد ابن أسلم رحمه الله تعالى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ ثيابه كلها بالزعفران حتى العمامة.
وروى ابن وهب في موطّئه عن يحيى بن عبد الله بن مالك الدّاري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث بقميصه وعمامته إلى بعض أزواجه فيصبغ له بالزعفران، وكان يحبّ الزّعفران.(7/314)
وروى النسائي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يرسل بثيابه قميصه ورداءه وإزاره إلى بعض أهله، وأحبّهم إليه الذي يصبغها بالزّعفران.
وروى الترمذي والنّسائي عن قيلة بنت مخرمة رضي الله تعالى عنها قالت: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قاعد القرفصاء، وعليه أسمال مليّتين كانتا بزعفران، وقد نقصا.
وروى الطبراني من طريق نوفل بن إسماعيل عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ملحفة مصبوغة بالورس والزّعفران، يدور بها على نسائه، فإن كانت ليلة هذه رشها بالماء، وإن كانت ليلة هذه رشها بالماء.
وروى أيضاً بسند ضعيف عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ملحفة مصبوغة بورس، فكان يلبسها في بيته، ويدور فيها على نسائه، ويصلّي فيها.
وروى ابن سعد عن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعنا له غسلا فاغتسل، ثم أتيناه بملحفة ورسيّة، فاشتمل بها، فكأني أنظر إلى أثر الورس على عكنة.
وروى أيضا عن بكر بن عبد الله المزني رضي الله تعالى عنه قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ملحفة مورّسة، فإذا دار على نسائه رشّها بالماء.
وروى أيضاً بسند ضعيف عن إسماعيل بن أمية قال: رأيت ملحفة رسول الله صلى الله عليه وسلم مصبوغة بورس.
وروى أيضاً بسند جيّد عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه رداء وعمامة مصبوغين بالعسير، قال مصعب: والعسير عندنا الزعفران.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الظعينة.
الورس.
أسمال مليّتين.
الغسل.
العكن.(7/315)
الباب الثالث عشر فيما كرهه صلّى الله عليه وسلم من الألوان والملابس
روى الإمام أحمد عن رافع بن خديج رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى الحمرة قد ظهرت فكرهها.
وروى أيضا وأبو داود عنه أيضاً قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى على رواحلنا وعلى إبلنا أكسية فيها خيوط عهن حمر، فقال: «إن هذه الحمرة قد علتكم» ،
فقمنا سراعا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نفرت إبلنا، فأخذنا الأكسية فنزعناها عنها.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على رجل صفرة فكرهها الحديث، وتقدم في باب حيائه صلى الله عليه وسلم.
وروى الطبراني من طريقين في أحدهما يعقوب بن خالد بن نجيح البكريّ العبدي، وفي الآخر بكر بن محمد يرويان عن سعيد بن قتادة بنحو رجالهما عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إياكم والحمرة فإنّها أحبّ الزينة إلى الشيطان» .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن وكيع عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الحمرة، ويحبّ الخضرة،
قال وكيع: وحدثني مبارك عن الحسن رحمه الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمرة من زينة الشيطان، والشيطان يحبّ الحمرة» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد وابن أبي عمر عن رجال ثقات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتبع الحرير من الثوب فينزعه.
وروى الإمام أحمد برجال ثقات، وأبو يعلى والبزار والحاكم، وصححه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجاءه رجل من أهل البادية عليه جبّة من سيجان مزرورة بالدّيباج، فقام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ صاحبكم هذا يريد أن يرفع كلّ راع ابن راع، ويضع كلّ فارس ابن فارس، قال: فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمجامع جبته وقال: «اجلس فإني أرى عليك ثياب من يعقل، ما بعث الله تعالى نبيا قبلي إلا وقد رعى» ، قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: «نعم، على قراريط، وأنصاف قراريط» - الحديث [ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (19975) وانظر فتح الباري 10/ 306 وكنز العمال (41162) .
[ (2) ] انظر المطالب العالية للحافظ ابن حجر (3862) .(7/316)
الباب الرابع عشر في خفيه ونعليه
وفيه نوعان:
الأول: في خفيه.
روى الطبراني من طريق يحيى بن الضّريس عن عنبسة بن سيد عن الشّعبي غير عنبسة ابن سعيد بنحو رجاله وبقية رجال ثقات عن دحية رضي الله تعالى عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبّة صوف وخفّين، فلبسهما حتى تخرّقا، ولم يسأل أذكيّان هما أم لا.
وروى ابن أبي شيبة، والحارث بن أبي أسامة، والدّارقطني في الأفراد، والإمام أحمد وأبو داود والترمذي- وحسنه- وابن سعد وأبو الشيخ عن عبد الله بن بريدة بن الحصيب عن أبيه أن النّجاشيّ أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم خفّين أسودين ساذجين فلبسهما، ومسح عليهما.
وروى الترمذي عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: أهدى دحية بن خليفة الكلبيّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم خفّين فلبسهما حتى تخرقا، لا يدري النبي صلى الله عليه وسلّم أذكيان هما أم لا.
وروى أبو داود عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم توضأ ومسح على الجوربين والنّعلين.
وروى الطبراني بسند جيد- وصححه- والهيثمي عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بخفّين يلبسهما، فلبس إحداهما ثم جاء غراب فاحتمل الأخرى فرمى بها، فخرجت منها حية،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبسنّ خفيه حتى ينفضهما» [ (1) ] .
وروى الشيخان عن جرير رضي الله تعالى عنه أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم توضأ ومسح على خفيه.
الثاني: في نعليه.
روى ابن عساكر وأبو الحسن بن الضحاك عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان.
وروى أيضا عن همام قال: نظر هشام بن عروة إلى نعل الصّلت بن دينار ولهما قبالان، قال هشام رحمه الله تعالى: عندنا نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم معقّبة، مخصرة ملسّنة.
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 8/ 162 وانظر المجمع 5/ 140 والكنز (41612) .(7/317)
وروى أيضا عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان.
وروى الطبراني- وحسن الحافظ ابن الحسن بن الهيثمي إسناده- عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انقطع شسع نعله مشى في نعل واحدة، والأخرى في يده، حتى يجد شسعا.
وروى محمد بن يحيى بن أبي عمر عن القاسم قال: كان عبد الله رضي الله تعالى عنه يقوم إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزع نعليه من رجليه، ويدخلهما في ذراعيه، فإذا قام ألبسه إياهما، فيتمشى بالعصا أمامه، حتى يدخله الحجرة.
وروى مسدد عن معتمر عن أبيه قال: حدثني رجل قال: رأيت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم معقّبة لها قبالان.
وروى الحارث بن أبي أسامة عن أبي عمر زياد قال: دخلنا على شيخ يقال له مهاجر، وعليّ نعل له قبالان قال: وكنت قد تركته لشدّته فقال: ما هذا؟ فقلت: أردت تركه لشدته، قال: لا تتركه، فإن نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت هكذا.
وروى أيضا عن ابن عون رحمه الله تعالى قال: أتيت حذّاء بالمدينة قلت: أحذّ نعلي، فقال: إن شئت حذوتها هكذا، وإن شئت حذوتها كما رأيت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت:
وأنيّ رأيت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رأيتها في بيت فاطمة، قال: حسبة؟ قال: في بيت فاطمة بنت عبد الله بن العباس، قال: أحذّهما كما رأيت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فحذاها لها قبالان.
وروى النّسائي، وأبو نعيم عن عمرو بن حريث رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين مخصوفتين.
وروى البخاري عن عيسى بن طهمان قال: أخرج إلينا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه نعلين جرداوين لهما قبالان، قال: هذه نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو سعيد بن الأعرابي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حافيا، ومنتعلا [ (1) ] .
وروى الترمذي رحمه الله تعالى في الشمائل، وابن ماجة بسند قوي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لنعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان مثنّى شراكهما.
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن مطرف بن الشّخّير قال: قال أعرابي لنا: رأيت نعلي نبيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوفة.
__________
[ (1) ] ابن أبي شيبة 2/ 415.(7/318)
وروى ابن سعد رحمه الله تعالى عن جابر أن محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما أخرج نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأراني معقّبة مثل الحضرمية، لها قبالان.
وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: احتذى رسول الله صلى الله عليه وسلم المخصوف.
وروى الطبراني برجال ثقات، والبزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان، ولنعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه قبالان، ولنعل عمر رضي الله تعالى عنه قبالان، وأول من عقد عقدة واحدة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
وروى الطبراني رحمه الله تعالى عن ضباعة بنت الزبير رضي الله تعالى عنها قالت:
كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم نعل، لها خنصران.
وروى الإمام مالك والبخاري رحمه الله تعالى عليهما عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال السّبتية التي ليس لها شعر، ويتوضأ فيها.
وروى البخاري والنّسائي والإمام مالك رحمهم الله تعالى عن عبيد بن جريج رحمه الله تعالى أنه قال لعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تلبس النعال السّبتية، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس النعال السّبتية التي ليس بها شعر، ويتوضأ فيها، وأنا أحب أن ألبسها.
وروى ابن أبي خيثمة عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله تعالى عنه قال: قمت عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم نصف شهر فرأيته يصلي، وعليه نعلان متقابلتان.
وروى النّسائي رحمه الله تعالى عن عمرو بن أوس رضي الله تعالى عنه قال: كان لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان، ولنعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه قبالان، ولنعل عمر رضي الله تعالى عنه قبالان.
وروى الطبراني رحمه الله تعالى عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعله بالسّبّابة من أصبعه اليسرى.
وروى ابن شاذان عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بزمامين، وأول من شسّع عثمان رضي الله تعالى عنه.
وروى أبو الحسن بن الضحاك رحمه الله تعالى عن عبد الله بن الحارث رضي الله تعالى عنه قال: كانت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها زمامان شراكها مثنّى.
وروى الحارث بن أبي أسامة رحمه الله تعالى عن حميد رحمه الله تعالى عليه قال:(7/319)
حدثني من سمع الأعرابي يقول: رأيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نعلين من بقر.
وروى أبو الحسن بن الضحاك رحمه الله تعالى عن إسماعيل بن أمية رضي الله تعالى عنه قال: كانت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصّرة معقّبة، لها قبالان، سبتيّة.
وروى ابن عدي رحمه الله تعالى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كانت نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلتين، وقال مرة أخرى: مقابلين، قال ابن بكير رحمه الله تعالى: يعني بزمامين [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه- برجال الصحيح- عن يزيد بن الشخير رضي الله تعالى عنه عن الأعرابي رضي الله تعالى عنه أن نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مخصوفة.
وروى أبو الشيخ رحمه الله تعالى عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في نعلين مخصوفتين من جلود البقر.
وروى أيضا عن ثابت بن يزيد عن التّيمي رضي الله تعالى عنه قال: أخبرني من أبصر نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لهما قبالان معقّبين.
وروى الإمام أحمد في الزهد وأبو القاسم بن عساكر رحمهم الله تعالى عن زياد بن سعيد رضي الله تعالى عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يطلع من نعله شيء عند قدومه [ (2) ] .
وروى أبو الشيخ رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس نعليه بدأ باليمين، وإذا خلع خلع اليسرى [ (3) ] .
وروى ابن سعد رحمه الله تعالى قال: أخبرنا عتّاب بن زياد عن عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا مالك بن أنس رضي الله تعالى عنهم عن النّضر رضي الله تعالى عنه قال: انقطع شراك نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فوصله بشيء جديد، فجعل ينظر إليه، فلما قضى صلاته قال لهم:
«انزعوا هذا، واجعلوا الأول مكانه» ، قيل: كيف يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: «إني كنت أنظر إليه، وأنا أصلي» .
وروى أيضا عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينتعل قائما، وقاعدا.
__________
[ (1) ] بنحوه عن أحمد 3/ 122، 245، 269.
[ (2) ] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (1521) وابن عساكر كما في التهذيب 7/ 357.
[ (3) ] انظر المجمع 5/ 171 وأخلاق النبوة 136.(7/320)
وروى أيضا قال: أخبرنا الفضل بن دكين قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق حدثنا المنهال بن عمرو رحمه الله تعالى قال: كان أنس رضي الله تعالى عنه صاحب نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإداوته.
تنبيهات
الأول: ورد مشيه صلّى الله عليه وسلم في نعل واحدة، وقد ورد أيضا النهي عن المشي في نعل واحدة فيحتمل أن يقال: إنما فعله بيانا للجواز، والضرورة.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى في التمهيد: ربما انقطع شسع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتمشى في النعل الواحدة حتى يصلح.
الثاني: ورد أن طول نعله صلى الله عليه وسلّم كان شبرا، وأصبعين، وعرضه أو عرضها: مما يلي الكعبين سبع أصابع، وبطن القدم خمسة، وفوقها ستة، ورأسها محدد، وعرض ما بين القبالين أصبعان.
قال الحافظ الكبير زيد الدين العراقي رحمه الله تعالى في ألفية السيرة الشريفة النبوية صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم:
ونعله الكريمة المصونة ... طوبى لمن مسّ بها جبينه
لها قبالان بسير وهما ... سبتيّان سبقوا شعرهما
وطولها شبر وأصبعان ... وعرضها مما يلي الكعبان
سبع أصابع وبطن القدم ... خمس وفوق ذا ستّ فاعلم
ورأسها محدّد وعرض ما ... بين القبالين أصبعان ضبطهما
وهذه مثال تلك النّعل ... وذرعها أكرم بها من نعل
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الخف: معروف.
النعل: معروف.
القبال: بكسر القاف، وتخفيف الموحدة، وآخره لام، وهو السير الذي يعتقل فيه الشسع الذي يكون بين الأصابع الوسطى والتي تليها.
والشّراك: بكسر الشين المعجمة، فراء: هو أحد السيور التي تكون في النعل على ظهر القدم، والمراد أن لكل فردة قبالين، بدليل ما روى الطبراني برجال ثقات عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه فيما تقدم قال: كان لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبالان، ولنعل أبي بكر(7/321)
رضي الله تعالى عنه قبالان، ولنعل عمر رضي الله تعالى عنه قبالان، وأول من عقد عقدة واحدة عثمان رضي الله تعالى عنه، والنعل الأجود الذي ليس عليه شعر انتهى.
الجورب: بجيم مفتوحة، فواو ساكنة، فراء، فموحدة: ما كان علي شكل الخف.
المعقّبة: التي لها عقب.
المخصرة: بميم مكسورة، فمعجمة ساكنة، فمهملة، فراء: ما يتوكأ عليه كالعصا.
الشسع.
الحضرمية.
السّبتية: بكسر المهملة، وسكون الموحدة، بعدها مثناة: جلود البقر المدبوغة بالقرظ، تتخذ منها النعال، سميت بذلك لأن شعرها قد سبت عنها أي حلق وأزيل، وقيل لأنها انسبتت بالدباغ أي لانت، والله تعالى أعلم.(7/322)
جماع أبواب سيرته صلّى الله عليه وسلم في خاتمه الذي في يده
الباب الأول في أمر الله تبارك وتعالى له باتخاذ الخاتم- إن صح الخير- وسبب اتخاذه
روى الطبراني، والخطيب من طريق عمرو بن هارون- وهو ضعيف- عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت باتخاذ الخاتم والنعلين» [ (1) ] .
وروى ابن عدي عن أحمد بن محمد بن عبد الكريم، أبي عن حاتم الرازي، عن عبيد ابن أحمد السّكّري، عن خالد بن مجدوع أبي روح عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: سحر النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه جبريل عليه السلام بخاتم، فلبسه في يمينه، وقال: لا تخف شيئا ما دام في يمينك.
وروى البخاري وغيره عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى كسرى أو قيصر، فقيل له: إنهم لا يقبلون كتابا إلا مختوما، فاتخذ خاتما- الحديث.
وروى أبو مسلم الكجّي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى الأعاجم فقيل له: إنهم لا يقبلون كتابا إلا بخاتم، فاتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة نقشه: «محمد رسول الله» ، كأني أنظر إلى بصيصه.
وروى البخاري وأبو القاسم البغوي، من شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنهم قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى الروم قيل: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا أن يكون مختوما، فاتخذ خاتما من فضة فكأني أنظر إلى بياضه في يده.
تنبيه:
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في لبس الخاتم في الجملة، فأباحه كثيرون من غير كراهة، وبعضهم كرهه.
__________
[ (1) ] الطبراني في الصغير 2/ 203 والخطيب في التاريخ 8/ 448 وذكره ابن الجوزي في العلل 2/ 203 وابن عدي في الكامل 1/ 205 والذهبي في الميزان (530) وابن حجر في اللسان 1/ 795.(7/323)
الباب الثاني في لبسه صلّى الله عليه وسلم خاتم الذهب، ثم تركه له، وتحريمه لبسه
روى ابن سعد والأئمة إلا الإمام الشافعي، والدّارقطني، وابن عساكر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب، فلبسه ثلاثة أيام، فكان يجعل فصه في باطن كفه إذا لبسه في يده اليمنى، فصنع الناس خواتيم من ذهب،
فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المنبر فنزعه، وقال: «كنت ألبس هذا الخاتم، وأجعل فصه في باطن كفي، فرمى به، وقال: والله لا ألبسه أبدا» ،
ونبذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخاتم، فنبذ الناس خواتيمهم، زاد النّسائي: ولبسه ثلاثة أيام [ (1) ] .
ورواه البزّار وأبو مسلم الكجّي والطبراني بلفظ جيد بلفظ: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب ثلاثة أيام، فلما رأى أصحابه فشت عليهم خواتيم الذهب رمى به، فلم يدر ما فعل، فاتخذ خاتما من فضة، وأمر أن ينقش فيه «محمد رسول الله» ، فكان في يد النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات، وفي يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه حتى مات، وفي يد عمر رضي الله تعالى عنه حتى مات، وفي يد عثمان رضي الله تعالى عنه سنتين من عمله، فلما كثرت عليه الكتب دفعه إلى رجل من الأنصار، فكان يختم به، فخرج الأنصاري إلى قليب لعثمان فسقط منه، فلم يوجد، فأمر بخاتم مثله، ونقش عليه «محمد رسول الله» صلى الله عليه وسلم انتهى.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 8/ 165 ومسلم في كتاب اللباس (53) والنسائي في كتاب الزينة باب (77) .(7/324)
الباب الثالث في أيّ يد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم؟
فورد تختمه في يمينه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عند البخاري، وأنس عند مسلم، وابن عباس وعبد الله بن جعفر عند الترمذي، وجابر عنده في الشمائل، وعلي عند أبي داود والنّسائي، وعائشة عند البزّار، وأبي أمامة عند الطبراني، وأبي هريرة عند الدّارقطني في الغرائب، فهؤلاء تسعة من الصحابة.
روى أبو داود والنسائي عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يتختم في يمينه، وفي رواية كأني أنظر إلى بياض خاتم النبي صلى الله عليه وسلم في أصبعه اليسرى الخنصر [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والترمذي عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عبد الله بن جعفر كان يتختم في يمينه.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يمينه.
وروى أبو سعيد بن الأعرابي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه.
وروى ابن عدي عن الحسين بن علي عن معمر بن سهل عن سلمة بن عثمان عن سليمان بن محمد بن عبد الله بن عطاء عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه، ثم حوله في يساره.
وروى الحارث بن أبي أسامة عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلبس خاتمه في كفه اليمنى [ (2) ] .
وروى إسحاق عن عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه تختم في يمينه، وقال تختم رسول الله صلى الله عليه وسلم في يمينه.
وروى الطبراني برجال الصحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يمينه.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (4226) والترمذي 1744 وابن ماجة 3647 والنسائي في كتاب الزينة باب 45 وأحمد 1/ 204، 205 والطبراني في الكبير 8/ 291 وانظر المجمع 5/ 153 وابن أبي شيبة 8/ 286 وابن سعد 1/ 2/ 166.
[ (2) ] ذكره الحافظ ابن حجر في المطالب (2221) .(7/325)
وروى مسلم وأبو ذر الهروي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لبس خاتم فضة في يمينه [ (1) ] .
وروى الدّارقطني في غرائبه عن مالك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتختم في يمينه حتى قبض.
وورد التختم في اليسار من حديث أنس عند مسلم، وابن عمر عند أبي داود، وأبي سعيد عند ابن سعد.
وروى عبد بن حميد- بسند صحيح- عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: هكذا كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشار بيساره، ووضع إبهامه على ظهر خنصره.
وروى أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم في يساره [ (2) ] .
وروى النسائي وابن عدي عن ثابت رضي الله تعالى عنه أنهم سألوا أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كأني أنظر إلى وبيص حلقة من فضة، وروى:
في أصبعه اليسرى الخنصر، وعند ابن عدي: ورفع أنس يده اليسرى.
وروى ابن عدي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة فصّه منه، وكان يلبسه في خنصره اليسرى، ويجعل فصه مما يلي كفه.
تنبيه:
قال الحافظ: وردت رواية ضعيفة أنه كان تختم أولا في اليمين، ثم حوله إلى اليسار.
رواه ابن عدي من حديث ابن عمر، واعتمد عليها البغوي في شرح السنة، فجمع بين الأحاديث المختلفة بأنه تختم أولا في يمينه، ثم تختم في شماله، وكان ذلك آخر الأمرين، وقال ابن أبي حاتم: رسالة أبي زرعة عن اختلاف الأحاديث في ذلك فقال: لا يثبت هذا، ولكن يمينه أكثر.
وقال البيهقي في الأدب: يجمع بين الأحاديث بأن الذي لبسه في يمينه هو خاتم الذهب، كما صرح به في حديث ابن عمر، والذي لبسه في يساره هو خاتم الفضة، وجمع غيره: بأنه لبس الخاتم أولا في يمينه، ثم حوله إلى يساره، وفي المسألة عند الشافعية اختلاف، والأصح اليمين، قال الحافظ: ويظهر لي أن ذلك يختلف باختلاف الفعل، فإن كان اللبس
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 3/ 1656 (2092) .
[ (2) ] أبو داود (4227) .(7/326)
للتّزيّن فاليمين أفضل، وإن كان للختم فاليسار أولى، لأنه يكون كالمودع فيها، ويحصل تناوله باليمين، وكذا وضعه فيها، ويترجح الختم في اليمين مطلقا لأن اليسار آلة الاستنجاء، فيصان الخاتم إذا كان في اليمين عن أن تصيبه النجاسة، ويترّجح الختم باليسار بما أشرت إليه من التناول، ونقل النووي وغيره الإجماع على الجواز، ثم قال: ولا كراهة عند الشافعية، وإنما الاختلاف في الأفضل، والله تعالى أعلم.(7/327)
الباب الرابع فيما روي إلى أي جهة صلى الله عليه وسلّم كان يجعل فص خاتمه
روى مسلم وأبو بكر الإسماعيلي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لبس خاتم فضة في يمينه، فيه فص حبشيّ، كان يجعل فصه في بطن كفه.
وروى ابن عدي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة، فصه منه، وكان يلبسه في خنصره اليسرى، ويجعل فصه مما يلي كفه.
وروى ابن أبي شيبة عن أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ذهب، ثم ألقاه، فاتخذ خاتما من ورق،
ونقش على فصه «محمد رسول الله» وقال: «لا ينقش أحد على نقش خاتمي هذا» ،
فكان إذا لبسه جعل فصه مما يلي بطن كفه، وقد ورد جعله مما يلي ظهر كفه، قال شيخنا رحمه الله في شرح السنن: قال العلماء رحمهم الله تعالى: جعله صلى الله عليه وسلّم فص الخاتم في بطن كفه أصح وأكثر.(7/328)
الباب الخامس فيما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما لبس الخاتم يوماً واحداً، ثم تركه
روى البخاري ومسلم من طريق زياد بن سعد، وأبو داود، والنسائي، من طريق إبراهيم ابن سعد، عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم خاتما من ورق يوما واحدا، فصنع الناس، فلبسوا، وطرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطرح الناس، وقال رواه عن الزهري زياد ابن سعد، وشعيب، وابن مسافر، كلهم قال: من ورق.
وقال غير أبي داود، وكذلك قال الليث، وعقيل، ومحمد بن أبي عتيق، وموسى بن عقبة، وابن شهاب مثل ما تقدم.
وقال ابن لهيعة عن عقيل عن ابن شهاب خاتما من ذهب، ولم يتابع عليه، قال أبو الحسن بن الضحاك: والصواب ما روته الجماعة، قلت: وقد تقدم في الباب الثاني من هذا الجمّاع أن الحافظ ذكر عن هذا الحديث أجوبة فانظره.
وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم اتخذ خاتما فلبسه، ثم قال: «شغلني عنكم اليوم، إليه نظرة، وإليكم نظرة» ، ثم ألقاه [ (1) ] .
الباب السادس في آداب تتعلق بالخاتم
روى الأربعة وابن حبان، والحاكم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه [ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه النسائي 8/ 195 وأحمد 1/ 322 وابن حبان. ذكره الهيثمي في الموارد (1468) والطبراني في الكبير 2/ 40.
[ (2) ] أخرجه أبو داود (19) والترمذي (1746) والنسائي 8/ 178 وابن ماجه (303) والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 95.(7/329)
جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وسلّم في سيرته وخصال الفطرة
الباب الأول في خاتمه صلّى الله عليه وسلم
وفيه أنواع غير ما تقدم:
الأول: الفضة.
روى الإمام أحمد والشيخان وابن سعد والبرقاني عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، أو إلى الروم، ولم يختمه، فقيل له: إن كتابك لا يقرأ إلا أن يكون مختوما، فاتخذ خاتما من فضة فنقشه، ونقش «محمد رسول الله» فكأني أنظر إلى بياضه في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم [ (1) ] .
وروى ابن سعد عنه قال: اصطنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمه كله من فضة، وقال: «لا يصنع أحد على صنعته» [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد والبخاري [ (3) ] وابن سعد عنه قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة منه، زاد ابن سعد: قال زهير: فسألت حميدا عن الفص كيف هو؟ فأخبرني أنه لا يدري كيف هو؟.
وروى ابن سعد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة نقش فيه محمد رسول الله، فجعل فصه في بطن كفه [ (4) ] .
وروى ابن سعد من طريق عبد الله بن وهب عن أسامة بن زميل عن محمد بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه لما قدم من اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها قدم وفي يده خاتم من ورق نقشه «محمد رسول الله» صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا الخاتم؟» قال: يا رسول الله إني كنت أكتب إلى الناس، فأفرق أن يزاد فيها، وينقص منها، فاتخذت خاتما أختم به قال: «وما نقشه؟» قال: «محمد رسول الله» صلى الله عليه وسلّم، فقال
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 10/ 324 (5875) ومسلم 3/ 1657 (58/ 2092) .
[ (2) ] ابن سعد 1/ 2/ 162.
[ (3) ] أخرجه البخاري 10/ 322 (5870) .
[ (4) ] ابن سعد 1/ 2/ 65.(7/330)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «آمن كل شيء من معاذ حتى خاتمه» ، ثم أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فتختمه [ (1) ] .
وروى ابن عساكر قال: أخبرنا أبو غالب بن البنّاء، أخبرنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو الحسن بن عساكر عن علي بن محمد بن لؤلؤ [ (2) ] ، أخبرنا أحمد بن الوليد الأزدي، حدثنا الهيثم بن عدي، حدثنا يونس بن يزيد عن الزهري قال: حدثني أنس بن مالك أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بخاتم من اليمن، من ورق فصه حبشي، فكتب عليه «محمد رسول الله» فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتختم به، ويختم به أبو بكر، ويختم به عمر، ويتختم به عثمان ست سنين من إمارته، فبينا هو على بئر أريس إذ سقط من يده فترحت إليه فلم يوجد، قلت: قوله: بعث به أقرب إلى الصواب لأن معاذا لم يقدم من اليمن إلا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن سعد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن أبيه عمر رضي الله تعالى عنهما قال:
اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتما من ورق، فكان في يده ثم كان في يد أبي بكر بعده، ثم كان في يد عمر بعده، ثم كان في يد عثمان، حتى وقع في بئر أريس نقشه «محمد رسول الله» .
الثاني: في خاتمه صلّى الله عليه وسلّم الفضة الذي كان فصه منه.
روى أبو داود والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة فصه منه.
وروى ابن عديّ عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة فصه منه فكان يلبسه في خنصره اليسرى، ويجعل فصه مما يلي كفه.
الثالث: في نقش خاتمه صلّى الله عليه وسلم.
روى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما استخلف بعثه، وكتب له هذا الكتاب، وختمه بخاتم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر [ (3) ] .
وروى ابن سعد عن ابن سيرين قال: كان في خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم «باسم الله محمد رسول الله» [ (4) ] ، قال الحافظ رحمه الله تعالى: ولم يتابع على هذه الزيادة.
__________
[ (1) ] تقدم عند البخاري.
[ (2) ] علي بن محمد بن أحمد بن لؤلؤ الوراق. وثقه الأزهري وغيره. وقال البرقاني كان يأخذ على الرواية، وكان رديء الكتاب. ميزان الاعتدال 3/ 154.
[ (3) ] أخرجه البخاري 10/ 328 (5878) .
[ (4) ] أخرجه ابن سعد 1/ 2/ 164.(7/331)
وروى أبو الشيخ من طريق عروة بن السّرية عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان فص خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حبشيا، مكتوبا عليه «لا إله إلا الله محمد رسول الله» [ (1) ] ، قال الحافظ وهذه زيادة شاذة.
وروى ابن سعد عن أبي العالية قال: كان نقش خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله» ثم ألحق الخلفاء بعد «محمد رسول الله» [ (2) ] .
الرابع: في نهيه صلّى الله عليه وسلم أن ينقش أحد خاتمه على نقش خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من فضة نقش فيه «محمد رسول الله» وقال: «إني اتخذت خاتما من ورق، فلا ينقش أحد نقشه» .
وروى النسائي عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اتخذ حلقه من فضة فقال: «من أراد أن يصوغ عليه فليفعل، ولا تنقشوا على نقشه» .
وروى ابن سعد عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع خاتما فقال: «إنا قد اصطنعنا خاتما، ونقشنا نقشا، فلا ينقش أحد عليه» [ (3) ] .
الخامس: في معرفة من صنع خاتم النبي صلى الله عليه وسلم.
روى أبو الحسن علي بن محمد بن بشر أن الدّارقطني في الإفراد عن يعلى بن منيه قال: أنا صنعت للنبي صلى الله عليه وسلّم خاتما لم يشركني فيه أحد، نقش فيه «محمد رسول الله» صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ فيستفاد منه اسم الذي صاغ الخاتم.
السادس: فيما قيل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له خاتم يتختم به فيه تمثال أسد.
روى عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل أنه أخرج خاتما فزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتختم به فيه تمثال أسد.
السابع: في خاتمه الحديد الملوي عليه فضة.
روى أبو داود والنسائي بسند جيد وله شواهد عند ابن سعد، وابن سعد عن إبراهيم رحمه الله تعالى عن معيقب رضي الله تعالى عنه قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من
حديد ملوي عليه فضة، قال: فربما كان في يدي، وقال: وكان معيقب على خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أنه كان أمينا عليه [ (4) ] .
__________
[ (1) ] انظر أخلاق النبوة (128) وفتح الباري 10/ 322.
[ (2) ] ابن سعد 1/ 2/ 164، 165.
[ (3) ] أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 268 وأبو نعيم في التاريخ 2/ 70.
[ (4) ] أخرجه أبو داود (4224) والنسائي في الزينة باب (46) .(7/332)
وروى ابن سعد عن مكحول قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديد ملوي عليه فضة، غير أن فصه باد [ (1) ] .
وروى أيضاً وابن أبي خيثمة عن إسحاق بن سعيد عن أبيه عن خالد بن سعيد قال: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده خاتم له فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا الخاتم؟» فقال: خاتم اتخذته، فقال: «اطرحه إليّ» فطرحته، فإذا هو خاتم من حديد علوي عليه فضة، فقال: «ما نقشته؟» فقال: «محمد رسول الله» فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فهو الذي كان في يده.
وروى ابن سعد قال أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي المكّي، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد القرشي عن جده قال: دخل عمرو بن سعيد بن العاص حين قدم من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا الخاتم في يدك يا عمرو؟» فقال: هذه حلقة يا رسول الله قال:
«فما نقشها؟» قال: محمد رسول الله، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فتختمه،
فكان في يده حتى قبض، ثم في يد أبي بكر رضي الله تعالى عنه حتى قبض ثم في يد عمر رضي الله تعالى عنه حتى قبض، ثم لبسه عثمان رضي الله تعالى عنه فبينا هو جالس على شفتها يأمر بحفرها إذ سقط الخاتم، وكان عثمان يكثر إخراج خاتمه من يده وإدخاله، فالتمسوه فلم يقدروا عليه.
الثامن: في خاتمه الفضة الذي فصه حبشي.
روى مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورق، وكان فصه حبشيا [ (2) ] .
وروى ابن ماجه عن أنس قال: لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم فضة، فيه فص حبشي، كان يجعل فصه في بطن كفه.
وروى أبو القاسم البغوي، وابن عساكر عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من ورق، له فص حبشيّ، ونقشه «محمد رسول الله» .
وروى أبو يعلى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لبس خاتما من فضة في يمينه، فيه فص حبشي، كان يجعل فصه في بطن كفه.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن علي بن زيد قال: قال أنس بن مالك: حدثني ابني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كره أن يلبس الخاتم، ويجعل فصه من غيره. قلت: وهو حديث غريب تضمن شيئين غريبين: أحدهما: رواية الأب عن ابنه.
__________
[ (1) ] ابن سعد 1/ 2/ 163 وابن أبي شيبة 8/ 286.
[ (2) ] أخرجه مسلم 3/ 1658 (62/ 2094) .(7/333)
الثاني: رواية الرجل عمن يروي عن نفسه.
التاسع: في اتخاذه صلى الله عليه وسلّم خاتما من حديد، ثم من نحاس أصفر، ثم طرحه لهما.
روى ابن عدي من طريق خالد بن النّضر القرشي عن محمد بن موسى الحرشيّ عن عبد الله بن عيسى بن خالد عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب كتابا إلى الأعاجم، يدعوهم إلى الله تعالى فقال رجل:
يا رسول الله: إنهم لا يقرؤون كتابا إلا مختوما، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يعمل له خاتم، فعمل له خاتم من حديد، فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال انبذه من أصبعك، فنبذه من أصبعه، وأمر بخاتم آخر يصاغ له فعمل له خاتم من نحاس، فجعله في أصبعه، فقال له جبريل: انبذه من أصبعك فنبذه، وأمر بخاتم يصاغ له من ورق، فجعله في أصبعه، فأقره جبريل عليه السلام. الحديث.
تنبيهات
الأول: قال العراقي لم ينقل كيف كانت صفة الخاتم أمربّعا أم مثلّثا أم مدوّرا؟ إلا أن التربيع أقرب إلى النقش فيه، وحميد الراوي للحديث سئل عن ذلك، فلم يدر كيف كان، رواه أبو الشّيخ في الأخلاق النبوية.
الثاني: ما روى ابن سعد عن أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي حدثنا عطاف بن خالد [ (1) ] عن عبد الأعلى بن أبي فروة عن سعيد بن المسيب قال: ما تختم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمر حتى لقي الله تعالى.
وروى البزار والطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، ولا عمر، يلبسون خواتيمهم حتى قدم أبان على عمر رضي الله عنه بعد أن كانوا يتخذونها، ولا يلبسونها- رجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة.
قال أبو الحسن الهيثمي: وهو وإن كان حسن الحديث ما يحتمل هذا منه، كما خالف فيه الأثبات الذين رووا عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبس الخاتم.
وروى الطبراني برجال الصحيح غير ابن لهيعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبو بكر ولا عمر يلبسون الخواتم، ولا يطبعون كتابا حتى كتب زياد بن أبي سفيان إلى عمر: إنك تكتب إلينا بأشياء ما نجد لها طوابع، فاتخذ عند ذلك خاتما
__________
[ (1) ] عطّاف، بتشديد الطاء، ابن خالد بن عبد الله بن العاص المخزومي، أبو صفوان، المدني، صدوق يهم، من السابعة، مات قبل ذلك. التقريب 2/ 24.(7/334)
فطبع به. قال الهيثمي: وهو مخالف للأحاديث الصحيحة.
الثالث: قال بعض العلماء: كان في خاتمه صلّى الله عليه وسلم من السّر شيء، كما كان في خاتم سليمان عليه السلام، لما فقد خاتمه ذهب ملكه، وعثمان رضي الله تعالى عنه لما فقد خاتم النبي صلى الله عليه وسلّم انتقض عليه الأمر، وخرج عليه الخارجون، وكان ذلك ابتداء الفتنة التي أفضت إلى قتله، واتصلت إلى آخر الزمان.
الرابع: قال الحافظ: ونسبة سقوط الخاتم من عثمان رضي الله تعالى عنه مجازية، وإنما سقط من يد معيقيب فقد أخرج النّسائي عن نافع، وقال فيه: وكان في يد عثمان ست سنين من عمله، فلما كثر عليه الفتن دفعه إلى رجل من الأنصار، كان يختتم به، فخرج الأنصاري إلى قليب لعثمان فسقط منه فلم يوجد، وفي رواية أيوب بن موسى عن نافع عنه قال: وهو الذي سقط من معيقيب في بئر أريس.
الخامس: قال الحافظ: في كون نقش الخاتم ثلاثة أسطر كما تقدم، ظاهره أنه لم يكن فيه زيادة على ذلك، وأنه على هذا الترتيب لكن لم تكن كتابته على الترتيب العادي، فإن ضرورة الاحتياج إلى أن يختم به يقتضي أن تكون الأحرف المنقوشة ملوية ليطبع الختم مستويا، وأما قول بعض الشيوخ: إن كتابته كانت من فوق، يعني الجلالة أعلى الأسطر الثلاثة، ومحمد أسفلها، فلم أر التصريح بذلك من شيء من الأحاديث، بل رواية الإسماعيلي يخالف ظاهرها ذلك، فإنه قال: محمد سطر، والسطر الثاني رسول والثالث الله.
السادس: قال الحافظ: لا تعارض بين حديث الخاتم الذي فصه حبشي، والخاتم الذي فصه منه لأنه إما أن يحمل على التعدد، وحينئذ فمعنى قوله: حبشي أي كان حجرا من بلاد الحبشة أو على لون الحبشة أو كان جزعا أو عقيقا لأن ذلك يؤتى به من بلاد الحبشة، ويحتمل أن يكون فصه منه، ونسب إلى الحبشة لصفة فيه، إما الصناعة وإما النقش، قلت:
والأول أظهر، والله تعالى أعلم، لما قال البيهقي: هذا يدل على انه صلى الله عليه وسلم كان له خاتمان، أحدهما فصّه حبشي، والآخر فصّه منه، إن كان الزّهري حفظ حديث من ورق، والأشبه بسائر الروايات أن الذي كان فصه حبشيا هو الخاتم الذي اتخذه من ذهب، ثم طرحه، واتخذ خاتما من ورق انتهى، وذكر أنه لا يسمى خاتما إلا إذا كان له فص، فإن كان بلا فص فهو حلفة، والفص: مثلث الفاء كما ذكره ابن مالك رحمه الله تعالى في مثلثه.
السابع: ما
رواه الأربعة وصححه ابن حبان عن عبد الله بن بريدة عن أبيه وأخرجه الضياء في المختارة برجال الصحيح إلا عبد الله بن مسلم المعروف بأبي طيبة قال الحافظ في التقريب: صدوق اتهم، وعلى كل حال فالحديث حسن كما أشار إليه الحافظ في فتاويه عن(7/335)
بريدة بن الحصيب، واللفظ للأربعة أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم خاتم مشبّه فقال: «ما لي أرى عليك ريح الأصنام؟» فطرحه، ثم جاء، وعليه خاتم من حديد، فقال: «ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟ فقال: يا رسول الله من أي شيء اتخذه؟ قال: «اتخذه من ورق، ولا تتمه مثقالا فإن كان محفوظا حمل المنع على ما كان جديدا صرفا» .
وقد قال التّيفاشي في كتاب الأحجار: خاتم الفولاذ مطردة للشياطين إذا كان عليه فضة، فهذا يؤيد المغايرة في الحكم، والأصل في النهي كونه للتحريم، لأن الأصل في استعمال الفضة للرجال التحريم، إلا ما رخّص فيه، فإذا حدّ فيه حدّ وجب الوقوف عنده، وبقي ما عداه على الأصلي لكن قال الحافظ العراقي في شرح التّرمذي إن النهي في قوله: ولا تتمه مثقالا محمول على التنزيه، فيكره أن يبلغ به وزن مثقال، قال وفي رواية أبي داود عن الخطابي: ولا تتمه مثقالا، ولا قيمة مثقال أوّلت هذه الزيادة أنه ربما وصف الخاتم بالنفاسة في صنعته إلا أن تكون قيمته قيمة مثقال فهو داخل في النهي أيضا انتهى.
وأفتى شيخ الإسلام سراج الدين العبادي بأنه يجوز أن يبلغ به مثقالا، وإن ما زاد عليه حرام، وظاهر صنيع الشيخ سراج الدين بن الملقن في شرح المنهاج يقتضيه.
وقال الأزرقي: لم يتعرض أصحابنا رحمهم الله تعالى لمقدار الخاتم، ولعلهم اكتفوا بالعرف فما خرج عنه كان إسرافا، والصواب الضبط بما نص عليه في الحديث وليس في كلامهم ما يخالفه، وقال ابن المعاد في التّعقّبات: وإذا جاز لبس الخاتم فشرطه أن لا يبلغ به مثقالا انتهى.(7/336)
الباب الثاني في استعماله صلّى الله عليه وسلم الطيب ومحبته له
وفيه أنواع:
الأول: في كراهته صلى الله عليه وسلّم أن يوجد منه إلا ريح الطّيب.
روى ابن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكره أن يخرج إلى أصحابه يوجد منه إلا ريح طيبة [ (1) ] .
وروى أبو نعيم عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن يخرج إلى أصحابه تفل الريح، وكان إذا كان في آخر الليل مس طيبا.
وروى البزار عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل استنجى وتوضأ، ثم بعث يطلب الطيب من رباع نسائه [ (2) ] .
الثاني: في كونه من سنن الأنبياء.
روى أبو الحسن بن الضحاك عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أربع من سنن الأنبياء الختان والسواك والتّعطّر والنكاح» [ (3) ] .
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن مليح بن عبد الله الأنصاري عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «خمس من سنن المرسلين الحياء والحلم والحجامة والتعطر والسّواك» [ (4) ] .
الثالث: في أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب، وأمره بعدم رده.
روى البخاري والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يرد الطيب [ (5) ] .
وروى الطّيالسي والبزار وأبو يعلى بسند حسن عنه قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض عليه طيب قط فرده.
وروى مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من عرض عليه ريحان فلا يرده، فإنه خفيف الحمل طيب الريح» [ (6) ] .
__________
[ (1) ] انظر أخلاق النبوة (98) .
[ (2) ] انظر المجمع 2/ 263.
[ (3) ] الطبراني في الكبير 4/ 19 وأحمد 5/ 421.
[ (4) ] الطبراني في الكبير 11/ 186 انظر المجمع 2/ 99، 5/ 92 والدولابي 1/ 44 في الكنى.
[ (5) ] انظر الترمذي (2789) وأحمد 3/ 133 وابن سعد 1/ 2/ 113 وأبو نعيم في الحلية 9/ 46.
[ (6) ] مسلم في الأدب (20) .(7/337)
وروى الترمذي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة لا ترد الوسادة والدّهن والطيب» [ (1) ] .
وروى الحارث مرسلا بسند حسن عن أبي عثمان [ (2) ] رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ناول أحدكم ريحانا فلا يرده، فإنه خرج من الجنة» [ (3) ] .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدكم بالحلو فليأكل ولا يردها، وإذا أتى أحدكم بالرائحة الطيبة فليشمها» [ (4) ] .
الرابع: في محبته صلى الله عليه وسلّم للطيب وغيره من الرياحين.
وروى النسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «حبب إلي [من] دنياكم ثلاث: النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة» [ (5) ] .
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يعجبه من الدنيا ثلاث: الطعام، والنساء، والطيب، فأصاب اثنتين، ولم يصب واحدة أصاب النساء والطيب، ولم يصب الطعام [ (6) ] .
وروى أيضا برجال ثقات عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفاغية [ (7) ] .
وروى الطبراني برجال الصحيح غير عبد الله ابن الإمام أحمد، وهو ثقة مأمون، عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «سيد ريحان أهل الجنة الحنّاء» [ (8) ] .
__________
[ (1) ] انظر كنز العمال (25385) .
[ (2) ] عبد الرحمن بن ملّ بضم أوله وكسر اللام، ابن عمرو بن عدي النّهدي أبو عثمان الكوفي. أسلم وصدق ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم. عن عمر وعلي وأبي ذر. وعنه قتادة وأيوب وأبو التّيّاح والجريري وخلق. وثقه ابن المديني وأبو حاتم والنسائي. قال سليمان التّيمي: إني لأحسب أبا عثمان كان لا يصيب ذنبا، كان ليله قائما ونهاره صائما. وقيل إنه حج واعتمر ستين مرة. قال عمرو بن علي: مات سنة خمس وتسعين. وقال ابن معين: سنة مائة، عن أكثر من مائة وثلاثين سنة. الخلاصة 2/ 153.
[ (3) ] الترمذي (2791) وأحمد 2/ 320.
[ (4) ] انظر جمع الجوامع (989) .
[ (5) ] أخرجه النسائي 7/ 61 وأحمد 3/ 128 والحاكم 2/ 60 وانظر التلخيص الجبير 3/ 116.
[ (6) ] أحمد في المسند 6/ 72 وانظر المجمع 10/ 315.
[ (7) ] انظر المجمع 5/ 157 والكنز (18295) .
[ (8) ] الخطيب في التاريخ 5/ 56 وابن عدي 7/ 2498 والسيوطي في اللآلي 2/ 145 وانظر المجمع 5/ 157.(7/338)
وروى الطبراني بسند متماسك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بورد الحناء فقال: «يشبه ريحان الجنة [ (1) ] » .
الخامس: في استعماله صلّى الله عليه وسلم الطيب وما كان يتطيب به.
روى النسائي، وابن سعد عن محمد بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتطيب؟ قالت نعم بذكاوة الطيب، قلت: وما ذكاوة الطيب؟ قالت المسك والعنبر [ (2) ] .
وروى ابن أبي شيبة وأبو داود والنّسائي وبقيّ بن مخلد عن أنس رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانت له سكّة يتطيب منها [ (3) ] .
وروى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عنها قالت: لقد رأيت وبيص الطيب في رأس وفي رواية، في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ثالثة وهو محرم.
وروى أيضا عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأطيب ما كنت أقدر عليه قبل أن يحرم.
وروى الشيخان عنها قالت: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينضح طيبا عند إحرامه.
وروى الحارث بن أبي أسامة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال: رأيت المسك في رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام.
الخامس: في أن أطيب الطيب كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسك والعود.
قال في زاد المعاد: كان أحب الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسك، وكان يعجبه الفاغية وهو نور الحنّاء.
وروى الثلاثة وابن سعد والنسائي عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن امرأة من بني إسرائيل اتخذت خاتما من ذهب، وحشته مسكا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هو أطيب الطيب» ، ولفظ الثلاثة، وابن سعد أذكى المسك عند
__________
[ (1) ] الطبراني في الكبير 11/ 106.
[ (2) ] النسائي 8/ 150.
[ (3) ] أبو داود في كتاب الترجل باب (2) .(7/339)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أو ليس من أطيب الطيب؟» .
وروى ابن سعد عن عبيد بن جريج قال: قلت لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن رأيتك تحب هذا الخلوق، فقال كان أحب الطيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو القاسم البغوي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان أحب الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم العود.
وروى ابن عدي عنها قالت: كان أحب الطيب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم المسك والعود.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أحب العود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم القماري.
وروى مسلم والنسائي عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما إذا استجمر استجمر بالألوّة غير مطراة، وبكافور يطرحه مع الألوّة، ثم قالت: هكذا كان يستجمر صلى الله عليه وسلم.
السابع: في تطيبه صلى الله عليه وسلّم بالغالية.
روى أبو الحسن بن صخر عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: أهدى النّجاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قارورة وكانت أول ما عملت له.
تنبيهات
الأول:
حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، فجاء رجل في يده حزمة من ريحان، فطرحها بين يديه، فلم يمسها، ثم جاء رجل بحزمة من ريحان مزرنجوش فطرحها بين يديه، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فتناولها، ثم شمها، ثم قال: «نعم الريحان، نبت العرش، وماؤه شفاء من العين، رواه أبو جعفر العقيلي من طريق يحيى بن عباد كذبوه» .
وذكر ابن الجوزي حديثه في الموضوعات، وأقره الحافظ من بعده، وحديث دينار قال: أعجبني حديث حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أعجبني نبات رأيته ليلة أسري بي نبات حول العرش وهو المزرنجوش» ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بمرزنجوش شمه وأحبه، وقال:
«رأيته نابتا حول العرش» .
رواه من طريق دينار بن عبد الله وفي مسنده أيضا أحمد بن محمد بن غالب غلام خليل يعرف بوضع الحديث- أقر بذلك-
وحديث الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالورد بكلتا يديه فلما أدنيته من أنفي قال: «أما إنه سيد ريحان الجنة بعد الآس» .(7/340)
رواه أبو الحسن بن الضحاك من طريق قاسم بن أصبغ قال: حدثنا محمد بن غالب حدثنا محمد بن يزيد الأزدي، حدثنا محمد بن موسى البصري قال: أخبرنا حاتم بن عبيد الله الأدمي قال: أخبرني يحيى بن عبد الله بن إسحاق عن أبيه عن جده الحسن به.
الثاني: قال الشيخ في فتاويه في حديث أنس رضي الله تعالى عنه: جنب إلي من دنياكم ثلاث، السابق: لما كان المقصود من سياق الحديث بيان ما أصابه النبي صلى الله عليه وسلم من متاع الدنيا بأدبه كما
قال في الحديث الآخر: «ما أصابنا من دنياكم هذا إلا النساء» ،
ولما كان الذي حبب إليه من متاع الدنيا هو أفضلها وهو النساء بدليل
قوله في الحديث الآخر: «الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة»
ناسب أن يضم إليه أفضل الأمور الدينية، وذلك الصلاة، فإنها أفضل العبادات بعد الإيمان، فكان الحديث على أسلوب البلاغة من جمعه بين أفضل أمور الدنيا، وأفضل أمور الدين، وفي ذلك ضم الشيء إلى نظيره، وعبر في أمر الدين بعبارة أبلغ مما عبر في أمر الدنيا، وحيث اقتصر في أمر الدنيا على مجرد التحبب،
وقال في أمر الدين «جعلت قرة عيني في الصلاة» ،
فإن في قرة العين من التعظيم في المحبة ما لا يخفى.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
تفل الريح: بمثناة فوقية مفتوحة، ففاء مكسورة، فلام، من تفل بفتح المثناة الفوقية، وسكون الفاء: وهي الريح الكريهة.
يرتضح: بتحتية مفتوحة، فراء ساكنة، فمثناة فوقية مفتوحة، فصاد فحاء معجمتين.
الذّريرة: بذال مفتوحة، فراء مكسورة، ثم أخرى مفتوحة، بينهما تحتية ساكنة، فتاء تأنيث: نوع من الطيب مجموع من أخلاط.
السّكّة: بضم السين: نوع من الطيب معروف.
الاستجمار: التبخر، وهو استعمال من المجمرة التي توضع فيها النار والبخور.
الألوّة: بفتح الهمزة، وضمها: العود الذي يتبخر به.
المطرّاة: هو العود المطرّي أي الطيب المربّى والله تعالى أعلم.(7/341)
الباب الثالث في خضابه صلّى الله عليه وسلم
وفيه نوعان:
الأول: في كونه خضب.
رواه الإمام أحمد عن أبي رمثة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختضب بالحناء والكتم [ (1) ] .
ورواه النسائي بلفظ: أتيت أنا، وأبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان وقد لطّخ لحيته بالحناء، وفي رواية قد لطخ لحيته بالصفرة.
وروى يعقوب بن سفيان والحاكم عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه بردان أخضران، وله شعر قد علاه الشيب، وشيبه أحمر مخضوب بالحناء.
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخضب بالصفرة.
وروى يعقوب بن سفيان عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفر لحيته بالورس.
وروى الإمام أحمد والبخاري عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: أرسلني أهلي بقدح من ماء إلى أم سلمة رضي الله تعالى عنها فجاءت بجلجل من فضة فيه شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان الإنسان إذا أصابه عين أو شيء بعث إليها بإناء فخضخضت له فشرب منه، فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرات حمر.
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري رضي الله تعالى عنه أنه شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المنحر، ورجل من قريش، وهو يقسم أضاحي فلم يصبه شيء ولا صاحبه،
فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه في ثوبه فأعطاه، فقسم منه على رجال، وقلم أظافره، فأعطاه صاحبه قال: «فإنه لعندنا مخضوبا بالحناء والكتم» .
وروى ابن سعد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله تعالى عنهما قيل له: هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم.
ورواه الطبراني بلفظ: في أصداغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحنّاء.
وروى الشيخان وأبو يعلى عن ابن سيرين قال: سألنا أنسا هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخضب؟ قال: نعم، بالحناء والكتم، وفي لفظ قال: لم يبلغ الشيب إلا قليلا، وقد اختضب أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما بالحنّاء والكتم.
__________
[ (1) ] أحمد في المسند 3/ 223، 227، 262، 4/ 163.(7/342)
وروى ابن سعد عن أبي جعفر قال: شمط عارض رسول الله صلى الله عليه وسلم فخضبه بحناء وكتم.
وروى الإمام أحمد وابن سعد وابن ماجة والترمذي في الشمائل عن عثمان بن عبد الله ابن موهب قال: دخلنا على أم سلمة رضي الله تعالى عنها. فأخرجت إلينا صرة فيها شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم مخضوبا بالحناء، وفي لفظ بالحناء والكتم.
وروى ابن سعد عن أبي رمثة رضي الله تعالى عنه أنه وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذو وفرة فيها ردع من حنّاء.
وروى النسائي وابن عساكر عن عبيد بن جريج قال: رأيت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يصفر لحيته، فقلت له في ذلك، فقال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفر لحيته.
ورواه مالك والشيخان وأبو داود والنسائي من طريق مالك في حديثه، وفيه: ورأيتك تصبغ بالصّفرة فقال: وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصبغ بها.
وروى ابن سعد عن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يصفر لحيته بالخلوق، ويحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يصفر.
وروى أيضا عن عبد الرحمن الثّماني قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يغير لحيته بماء السّدر ويأمر بتغيير الشعر مخالفة للأعاجم.
وروى الطبراني برجال ثقات غير أبي توبة بشير بن عبد الله بنحو رجاله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يخضب أخذ شيئا من دهن، وزعفران فرشه بيده، ثم يمرسه على لحيته.
وروى أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يلبس النعال السّبتيّة، ويصفر لحيته بالزعفران والورس، وكان ابن عمر يفعل ذلك.
وروى النسائي عن زيد بن أسلم قال: رأيت ابن عمر يصفر لحيته بالخلوق فقيل له: يا أبا عبد الرحمن إنك تصفر لحيتك بالخلوق، قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفر بها لحيته، ولم يكن شيء من الصبغ أحب إليه منها، ولقد كان يصبغ بها ثيابه كلها.
وروى النسائي عن عبد الله بن دينار عن زيد بن أسلم عن عبيد هو ابن جريج قال:
رأيت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يصفر لحيته فقلت له في ذلك فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصفر لحيته.
وروى أبو داود والنسائي عن أبي رمثة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قد علاه الشيب. وقد غيره بالحنّاء.
الثاني: في كونه لم يخضب.
روى ابن عساكر عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخضب.(7/343)
وروى أيضا عن عبد الله بن همّام قال: يا أبا الدّرداء بأي شيء يخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: يا ابن أخي يا بني ما كان بلغ من الشيب أن يختضب به، ولكن قد كان منه شعرات، وكان يغسله بالحناء والسّدر.
وروى أيضاً بسند ضعيف عن بشر مولى الرّقاشيين قال: سألت جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما هل خضب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، ما كان شيبه يحتاج إلى الخضاب، كان وضح في عنفقته وناصيته، لو أردنا أن نحصيها أحصينا.
وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلّم شعرات بيض، وفي رواية عنده لم ير من الشيب إلا قليلا، وفي أخرى لو شئت أعد شمطات كن في رأسه، ولم يخضب، وفي رواية لم يخضب، إنما كان البياض في عنفقته، وفي الصدغين، وفي الرأس نبذ [ (1) ] .
تنبيهات
الأول: قال الشيخ عبد الجليل القصري: إنما صبغ صلى الله عليه وسلّم لأن النساء غالبا يكرهن الشيب، ومن كره من رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئا فقد كفر.
الثاني: اختلف العلماء رحمهم الله تعالى هل خضب النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ قال القاضي رحمه الله تعالى: الأكثرون- وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى أنه لم يخضب وقال النووي:
المختار أنه صبغ في وقت، وتركه في معظم الأوقات، فأخبر كل بما رأى، وهو صادق، قال:
وهذا التأويل كالمتعين، فحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الصحيحين لا يمكن تركه، ولا تأويل له قال الحافظ: والجمع بين حديث أبي رمثة وابن عمر، وحديث أنس أن يحمل حديث أنس على غلبة الشيب، حتى يحتاج إلى خضابه، ولم يتفق أنه رآه، وهو يخضب ويحمل حديث من أثبت الخضاب على أنه فعله، لإرادة الجواز، ولم يواظب عليه، وأما ما رواه الحاكم عن عائشة [أنها] قالت: «ما شانه الله تعالى ببيضاء» المحمول على أن تلك الشّعرات البيض لم يتغير بها شيء من حسنه صلى الله عليه وسلم، وقد أنكر الإمام أحمد إنكار أنس، وذكر حديث ابن عمر، ووافق الإمام مالك أنسا في إنكار الخضاب، وتأول ما ورد، قلت: وفي التأويل بعد.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الخضاب: ككتاب: ما يختضب به.
نبذ: بضم النون، وفتح الموحدة، وبفتح النون، وإسكان الموحدة: أي شعرات متفرقات.
__________
[ (1) ] مسلم في الفضائل باب (29) رقم (101) وأحمد 4/ 190 وابن أبي شيبة 8/ 258 وابن سعد 1/ 2/ 137.(7/344)
الباب الرابع في استعماله صلّى الله عليه وسلّم المشط، ونظره في المرآة واكتحاله
روى الطبراني والبيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: خمس لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدعهن في سفر ولا حضر المرآة والمكحلة والمشط والدهن والسّواك [ (1) ] .
وروى عنها أيضا قالت: كنت أزود رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفره دهنا ومشطا ومرآة ومقصّا ومكحلة وسواكا.
وروى أبو الشيخ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل استاك، وتوضأ، وامتشط.
وروى أيضاً ابن سعد عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكثر تأثير رأسه، ولحيته بالماء.
وروى الترمذي في الشمائل قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكثر دهن رأسه، وتسريح لحيته [ (2) ] .
وروى أيضاً بسند صحيح أو حسن عن صحابي لم يسم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يترجل غبّا [ (3) ] .
وروى أحمد بن عدي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان لا يفارق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة: سواك، وكان ينظر في المرآة أحيانا، ويسرح لحيته أحيانا ويأمر به [ (4) ] .
وروى الخطيب في الجامع عن الحسن مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يسرح لحيته بالمشط [ (5) ] .
وروى البيهقي وقاسم بن ثابت عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع عليه، وبيده مدرى يحك بها رأسه- الحديث- قال قاسم: المراد هو المشط.
وروى ابن سعد عن خالد بن معدان مرسلا قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مشط من عاج يتمشط به يسافر بالمشط والمرآة والدّهن والسواك والكحل.
__________
[ (1) ] انظر المجمع 5/ 171.
[ (2) ] أخرجه الترمذي في الشمائل 23 وابن سعد 1/ 2/ 170.
[ (3) ] أخرجه الترمذي في الشمائل 25.
[ (4) ] انظر المجمع 9/ 22.
[ (5) ] ذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة (199) .(7/345)
وروى أبو الحسن البلاذري عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسرح لحيته بالماء في كل يوم.
وروى ابن سعد عن ابن جرير قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مشط من عاج يتمشط به.
وروى البزار عن أنس والطبراني من طريق آخر عنه رجاله ثقات غير هاشم بن القاسم فيجر رجاله وأبو يعلى، والطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر في المرآة قال: «الحمد لله الذي حسن خلقي وخلقي وزان مني ما شان من غيري» [ (1) ] .
وروى الحسن بن الضحاك عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر في المرآة قال: «اللهم حسّنت خلقي فحسن خلقي، وأوسع علي في رزقي» .
روى أبو حميد بن عديّ والخرائطي عن أم سعد قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر لم تفارقه مكحلة ومرآة يكونان معه.
وروى أيضا أبو الشيخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سبع لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفارقهن في حضر ولا سفر القارورة والمشط والمكحلة والمقراض والسّواك والمدرى وفي لفظ ومقصّان، قال حسن بن علوان: قلت لهشام المنذري: ما باله قال حدثني أبي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له وفرة إلى شحمة أذنه، وكان يحركها بالمدرى؟.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن خالد بن يزيد قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مكحلة ومرآة.
وروى الشيخان عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: اطلع رجل في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلّم مدرى يحك به رأسه، فقال: «لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر» .
وروى ابن الجوزي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نظر وجهه في المرآة قال: «الحمد لله الذي سوّى خلقي فعدّله، وكرّم صورة وجهي وحسنها، وجعلني من المسلمين» [ (2) ] .
__________
[ (1) ] انظر المجمع 5/ 170، 10/ 139.
[ (2) ] ابن السني (160) وانظر المجمع 10/ 139.(7/346)
وروى أبو الشيخ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت أزوّد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغزاه أزوّده دهنا ومشطا ومرآة ومقصين ومكحلة وسواكا.
وروى الطبراني بسند ضعيف عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دهن لحيته بدأ بعنفقته [ (1) ] .
وروى ابن أبي شيبة والنسائي عن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يبدأ بمقدم رأسه، فكان إذا دهن ثم امتشط لم يتبين، وإذا شعث رأسه.
وروى أبو الحسن الحنفي وأبو الحسن بن الضحاك بسند جيد عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم كحل أسود، إذا أوى إلى فراشه اكتحل في ذي العين ثلاثا وفي ذي العين ثلاثا.
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مكحلة يكتحل بها عند النوم ثلاثا في كل عين [ (2) ] .
وروى أبو الحسن بن الضحاك بسند جيد له مرسل عن عمران بن أبي أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكتحل بالإثمد في اليمين ثلاثا، وفي اليسرى.
وروى أبو أحمد بن عدي عن ابن سيرين قال: سألنا أنسا عن كحل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كان يكتحل في اليمين اثنتين، وفي اليسرى اثنتين، وواحد بينهما.
تنبيهان
الأول: قال الشيخ في فتاويه لم يرد شيء عند القراء عن تسريح الذقن.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
المرآة: بميم مكسورة، فراء ساكنة، فهمزة ممدودة، فتاء تأنيث.
يترجل غبّا: قال ابن الأثير في النهاية: في الحديث الترجيل غبّا، والترجيل تسريح الشعر، وتضفيره، وتحسينه كأنه كره كثرة الترفه، والتنعم، قال: زر غبّا في الحديث تزدد حبّه.
الغبّ أي بكسر الغين في أوراد الإبل أن ترد الماء يوما، وتدعه يوما، فنقله إلى الزيارة، وإن جاء بعد أيام يقال: غبّ الرجل إذا جاء زائرا بعد اليوم، فقال الحسن في كل أسبوع.
المقتّت: بميم وقاف وتاءين.
__________
[ (1) ] انظر المجمع 5/ 170.
[ (2) ] الترمذي (2048) .(7/347)
الباب الخامس في قصه صلى الله عليه وسلّم شاربه، وظفره، وكذا أخذه من لحيته الشريفة صلى الله عليه وسلم أن صح الخبر، وسيرته في شعر رأسه
روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقص، أو يأخذ شاربه، ويقول: «إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان يقص شاربه» [ (1) ] .
وروى الطبراني بسند ضعيف عن أم عيّاش رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفي شاربه- أيضاً بسند ضعيف عن عبد الله بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحف شاربه.
وروى ابن سعد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفي شاربه.
وروى أيضا عن عبد الرحمن بن زياد عن أشياخ لهم قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأخذ الشارب من أطرافه [ (2) ] .
وروى البيهقي عن أبي جعفر مرسلا قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يستحب أن يأخذ أظفاره وشاربه يوم الجمعة.
وروى أيضا في الشعب عن أبي هريرة.
وروى ابن سعد عن عبد الله بن عبد الله قال: جاء مجوسي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أعفى شاربه، وأعفى لحيته، فقال: «من أمرك بهذا؟» قال: أبي، قال: لكن أبي أمرني أن أحفّ شاربي وأعفي لحيتي.
وروى أبو يعلى وابن عدي واللفظ له عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته، من طولها وعرضها بالسوية، ورواه الترمذي دون قوله بالسوية وقال: غريب وسمعت محمدا يقوله [ (3) ] .
روى أبو الحسن [بن] الضحاك عن أبي رمثة رحمه الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقص أظفاره وشاربه يوم الجمعة [ (4) ] .
__________
[ (1) ] أحمد 1/ 301.
[ (2) ] ابن سعد 1/ 2/ 147.
[ (3) ] أخرجه الترمذي (2762) وانظر الفتح 10/ 350.
[ (4) ] انظر تفسير القرطبي 2/ 104.(7/348)
روى البزار والطبراني وابن قانع عن سهل بن مسرّح الأشعري قال: رأيت أبي يقلم أظافره، ويدفنها وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يفعل ذلك.
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خمس من الفطرة الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط» [ (1) ] .
وروى البيهقي في شعب الإيمان- وصححه- من طريق سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان إبراهيم عليه السلام أول من اختتن، وأول من رأى الشيب، وأول من جزّ شاربه، وأول من قلم أظافره وأول من استحدّ [ (2) ] .
وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: وقّت لنا في قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط ألا نترك أكثر من أربعين يوما [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد، والشيخان، والترمذي في الشمائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره، وكان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون [ (4) ] .
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: سدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ما شاء الله أن يسدلها، ثم فرق بعد.
وروى مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل.
قال رجل في زاد المعاد كان هديه صلى الله عليه وسلّم تركه كله، أو حلقه كله، ولم يكن يحلق بعضه، ولم يحفظ أنه صلى الله عليه وسلّم حلق رأسه إلا في نسك انتهى.
فعلى هذا الخلاف فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه الشريفة بعد الهجرة أربع مرات كما ذكره الحافظ أبو الخير السّخاوي في فتاويه.
الأولى والثانية: في الحديبية، وعمرة القضاء، والمباشر لذلك منها خراش بن أمية بن ربيعة بن الفضل الخزاعي حليف بني مخزوم رضي الله تعالى عنه، ذكر جماعة منهم أبو عمر
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود في الترجل باب (16) والترمذي (2756) والنسائي 1/ 14، 7/ 129 وابن ماجة (292) وأحمد 2/ 229 والحميدي (936) وعبد الرزاق (20243) وأبو عوانة 1/ 190 وابن أبي شيبة 1/ 195، 9/ 58 والبخاري في الأدب المفرد (1257، 1293) .
[ (2) ] انظر الدر المنثور 1/ 115.
[ (3) ] وانظر الترمذي (2758) وابن ماجة (295) والبيهقي 1/ 150.
[ (4) ] البخاري 4/ 230 والنسائي 8/ 184 وأحمد 1/ 287 والطحاوي في المشكل 4/ 320 وفي المعاني 1/ 489.(7/349)
ابن عبد البر، والنّووي: أن خراشا حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية.
وروى ابن السّكن عنه قال: إنما حلقت رأس رسول الله صلى الله عليه وسلّم عند المروة في عمرة القضاء.
الثالثة: في غزوة الجعرّانة والمباشر لذلك- كما قال الحافظ أبو عبد الله الحاكم في الإكليل- أبو الهند الحجام مولى بني بياضة رضي الله تعالى عنه.
الرابعة: في حجّة الوداع والمباشر لذلك معمر بن عبد الله بن فضلة- بفتح النون، وسكون الضاد المعجمة- ابن نافع بن عوف- بالفاء- ابن عبيد بن جريج بن عدي القرشي العدوي رضي الله تعالى عنه.
وروى الإمام أحمد والطبراني عنه قال: لما نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه من منى أمرني أن أحلقه، فأخذت الموسى فقمت إلى رأسه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهي وقال لي: «يا معمر أمكنك رسول الله صلى الله عليه وسلم من شحمة أذنه وفي يدك الموسى» ، فقلت: أما والله يا رسول الله إن ذلك لمن نعمة الله تعالى على ومنّه قال: «إذا ترى ذلك» ، ثم حلقت رأس رسول الله صلى الله عليه وسلّم،
قلت: قوله: «إذا ترى ذلك» بتنوين إذا كما في بعض نسخ المسند، ومعناه أنك ترى ثمرة معرفتك إن هذه من الإكرام والإنعام، وفي بعضها مصححا عليه: «إذا أقرد لك» بتنوين إذا وفتح همزة أقرد، وسكون القاف، وكسر الراء، وبالدال المهملة: مضارع أقرد أي سكن، ولك جار ومجرور، والمعنى على هذه النسخة أسكن لك حتى تحلقني، والله تعالى أعلم أي ذلك قيل.
وروى الشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رأسه، وكان أبو طلحة أول من أخذ شعره، ولفظ مسلم إن النبي صلى الله عليه وسلّم ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم جاء أبو طلحة فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، فقال: «احلق» فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال:
«اقسمه بين الناس» .
تنبيهات
الأول: ذكر الحافظ بن بشكوال [ (1) ] ، بفتح الموحدة، وسكون الشين المعجمة، وضم الكاف، وفتح الواو، وباللام- رحمه الله تعالى في مبهماته أن الذي حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع خراش بن أمية، والذي جزم به البخاري في تاريخه الكبير، والحافظ أبو
__________
[ (1) ] خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال الخزرجيّ الأنصاري الأندلسي، أبو القاسم: مؤرخ بحاثة، من أهل قرطبة، ولادة ووفاة. ولي القضاء في بعض جهات إشبيلية. له نحو خمسين مؤلفا، أشهرها «الصلة» ، في تاريخ رجال الأندلس، جعله ذيلا لتاريخ ابن الفرضي. ومن كتبه «تاريخ» في أحوال الأندلس، نقل عنه صاحب نفح الطيب كثيرا، والغوامض والمبهمات. توفي 578 هـ. الأعلام 2/ 311.(7/350)
الفضل بن طاهر في مبهماته أنه معمر بن عبد الله، وقال النووي في شرح مسلم: إنه الصحيح المشهور، وجرى على ذلك خلائق لا يحصون.
الثاني: قال الطّيّبي: لا منافاة بين حديث الأخذ من لحيته الشريفة صلى الله عليه وسلّم وبين قوله اعفوا اللحيات، النهي عنه هو قصها كفعل الأعجام، والأخذ من الأطراف قليلا لا يكون من القص في شيء.
الثالث: قال في كتاب الأسفار عن قلم الأظفار: قال النووي في شرح التنبيه: قد ذكر الغزالي لتقليم الأظافر كيفية حسنة في الإحياء، وروى فيها حديثا وهو أنه يبدأ بالمسبّحة من اليد اليمنى، ثم الوسطى، ثم البنصر، ثم الخنصر، ثم الخنصر من اليد اليسرى، ثم البنصر، ثم الوسطى، ثم السّبّابة، ثم الإبهام، ثم يرجع إلى الإبهام اليمنى، ثم يبدأ بخنصر رجله اليمنى، ثم البنصر، ثم الوسطى إلى آخرها، ثم يبدأ بخنصر اليسرى إلى آخرها، ولقد روى حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه] فعل ذلك، ثم ذكر الحكمة في ذلك، وحاصل ما ذكره أن تقليم الأظافر يعتبر بطونها، وقد ذكر فيه غير هذه الهيئات، وأنكرها كلها ابن دقيق العيد، وقال: الاستحباب حكم شرعي لا بد له من دليل، وليس تسلسلها لذلك بصواب، وقال ابن دقيق العبد يحتاج لدليل شرعي استحباب تقديم اليد في القصّ على الرجل، فإن الخلاف يأبى ذلك، قال الحافظ ابن حجر أن يوجه بالقياس على الوضوء والجامع التنظيف.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
يحفّ: يأخذ منه ما تهيأ أو ما أمكن أخذه.
الباب السادس في تفلية أم حرام رأسه صلّى الله عليه وسلم
روى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فأطعمته، وجعلت تفلي رأسه.(7/351)
الباب السابع في استعماله صلّى الله عليه وسلّم النورة
روى ابن سعد وابن ماجة من طريقين قال ابن كثير: في كل منهما إسناده جيد عن حبيب بن أبي ثابت عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أطلى بدأ بعورته فطلاها بالنّورة وسائر جسده أهلة ورواه عبد الرزاق، من طريق النووي مرسلا، وإسناده جيد ورواه الخرائطي في مساوئ الأخلاق من طريق آخر. [ (1) ] .
وروى الخرائطي عن سليمان بن ناسرة قال: سمعت محمد بن زياد الألهاني يقول:
كان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلّم جارا لي، فكان يدخل الحمام، فقلت: وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم تدخل الحمام؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يدخل الحمام، وكان ينوّر، ورواه يعقوب بن سفيان عنه، ورواه ابن عساكر في تاريخه عن واثلة بن الأسقع قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر جعلت له مائدة فأكل متمكنا وأطلى، وأصابته الشمس، ولبس الظّلّة.
وروى سعيد بن منصور عن أبي معشر عن إبراهيم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطّلى ولي عانته بيده.
وروى ابن أبي شيبة في المصنف عن هشيم وشريك كلاهما عن أبي، وروى ابن منصور عن مكحول مرسلا قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أكل متكئا بنور.
وروى أبو داود في مراسيله عن أبي معشر عن زياد بن كليب أن رجلا نوّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ العانة كف الرجل ونوّر رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه.
وروى ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتنوّر كل شهر ويقلم أظافره كل خمسة عشر.
تنبيهات
الأول: لا يعارض هذا بما رواه ابن أبي شيبة عن الحسن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر لا يطّلون فإن مراسيل الحسن تكلم فيها، وكذا ما رواه البيهقي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم تنوّر، ورواه أبو داود في مراسيل عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يتنوّر ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان، وكلاهما منقطع، وروى البيهقي من طريق مسلم الملائي عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يتنور، فإذا كثر شعره حلقه قال ابن الجوزي والكلام فيه كالكلام في
__________
[ (1) ] انظر كنز العمال (18314) وابن سعد 1/ 2/ 142.(7/352)
الخضاب يعني استعمل هذا مرة، وهذا مرات، واستعمل الحلق في أكثر أوقاته، قال البيهقي:
أولا: مسلم الملائي ضعيف.
وثانيا: معارض بالأحاديث السابقة وهي أقوى منه سندا وأكثر عددا.
وثالثا: أن تلك مثبتة هنا قال: والقاعدة الأصولية عند التعارض تقديم المثبت على النافي.
ورابعا: أن التي روت الإثبات باشرت الواقعة.
وخامسا: وهي من أمهات المؤمنين، وهي أجدر بهذه القضية، فإنها مما تفعل في الخلوة غالبا لا بين أظهر الناس، وكل هذا من وجوه الترجيحات فهذه خمسة أجوبة.
وسادسا: وهو أنه على حسب قتادة كان يتنوّر، وتارة كان يحلق ولا ينوّر.
الثاني: روى الخرائطي في مساوئ الأخلاق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أيها الناس اتقوا الله، ولا تكذبوا فو الله ما أطّلى نبي قط، قال ابن الأثير وصاحب القاموس وغيرهما من أئمة اللغة: إنه لما مال إلى هواه وأصله من ميل الطّلى، وهي الأعناق، واحدهما طلاة يقال أطلى الرجل إطلاء إذا مالت عنقه إلى أحد الشقين انتهى.
وهذا الاختلاف فيه بين أئمة اللغة والغريب، وفي هذا النوع أحاديث وآثار أعرضنا عنها لأجل الاختصار.
الثالث:
قال الشيخ في فتاويه، روى البخاري في تاريخه، وابن عدي في الكامل، والطبراني في الكبير، والأوسط عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من صنعت له النّورة، ودخل الحمام، سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام» .
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قصة بلقيس: يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
فإذا هي شعراء فقال سليمان ما يذهبه المواسي، قال أثر المواسي قبيح، فجعلت الشياطين النّورة، فهو أول من جعلت له النّورة.
وروى سعد بن منصور وابن أبي شيبة عن عبد الله بن شداد وله طرق عن مجاهد وغيره.
وروى ابن أبي حاتم عن السدي في القصة أن الشياطين صنعوا له نورة من أصداف فطلوها فذهب الشعر.(7/353)
جماع أبواب آلات بيته صلّى الله عليه وسلم
الباب الأول في سريره، وكرسيّه صلّى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد برجال الصحيح غير مبارك بن فضالة- وثقه جماعة وضعفه آخرون.
وروى البخاري في الأدب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو على سرير مرمول بشريط، تحت رأسه وسادة من أدم، حشوها ليف، ما بين جلده وبين السرير ثوب، الحديث، وتقدم بتمامه في باب زهده.
وروى الطبراني عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم سرير مشبك بالبردي، عليه كساء أسود.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن محمد بن مهاجر الأنصاري عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه كان عنده سرير النبي صلى الله عليه وسلّم، وعصاه، وقدحه، وجفنة، ووسادة حشوها ليف، وقطيفة ورحل، فكان إذا دخل عليه نفر من قريش قال: «هذا ميراث من أكرمكم الله تعالى به، وأعزكم به، وفعل وفعل» .
وروى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي وسط السرير، وأنا مضجعة بينه وبين القبلة، تكون لي الحاجة، فأكره أن أقوم، فأستقبله، فأنسل انسلالا.
وروى الإمام أحمد ومسلم، وابن الجوزي في الأدب، والحارث بن أبي أسامة عن أبي رفاعة العدوي رضي الله تعالى عنه قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بكرسي- خلت قوائمه حديدا- زاد أحمد قال حميد- زاد خشبا أسود حسبه حديدا- قعد عليه فجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل.
وروى البلاذري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت قريش بمكة وليس شيء أحب إليها من السّرر تنام عليها، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة نزل منزل أبي أيوب،
قال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا أيوب أما لكم سرير؟» قال: لا والله،
فبلغ أسعد بن زرارة ذلك، فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بسرير له عامود، وقوائم صاج، فكان ينام عليه حتى توفي، وصلّى عليه، وهو فوقه، فطلب الناس يحملون موتاهم عليه، فحمل عليه أبو بكر وعمر والناس طلبا لبركته.(7/354)
وروى أبو الشيخ عن عمر بن مهاجر قال: كان متاع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند عمر بن عبد العزيز في بيت ينظر إليه كل يوم، وكانت إذا اجتمعت إليه الوفود أدخلهم ليروا تلك المتاع فيقول: هذا ميراث من أكرمكم الله تعالى، وأعزكم به، قال: وكان سريرا مرملا بشريط، ومرقعة من أدم محشوّة بليف وجفنة وقدحا، وقطيفة صوف، ورحىّ، وكنانة فيها أسهم، وكان في القطيفة أثر عرق رأسه، فأصيب رجل فطلبوا أن يغسلوا بعض ذلك العرق فيسقّط به فذكر ذلك لعمر فسقطه فبرأ.
تنبيهان
الأول: قال الواقدي: أجمع أصحابنا بالمدينة لا اختلاف بينهم في أن سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراه عبد الله بن إسحاق الأسجاني- من موالي معاوية بأربعة آلاف درهم.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
البردي: نبت معروف واحدته بردية.
خلت: بكسر الخاء وبالمثناة الفوقية، قال أبو محمد بن قتيبة رحمه الله تعالى، وهو الصواب، وصحفه بعضهم، فقال: خلب بضم الخاء وبالموحدة وفسره مصحّفه بالليف، قال ابن الجوزي، ولولا ما ذكرناه عن حميد لكان الأليق أن يكون من ليف قوائمه من جريد بالراء والجريد هو السعف والله تعالى أعلم.(7/355)
الباب الثاني في حصيره، وفراشه، ولحافه، ووسادته، وقطيفته، وبساطه، ونطعه صلى الله عليه وسلّم
روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحتجز حصيرا بالليل فيصلي عليه ويبسطه بالنهار، فيجلس عليه.
وروى ابن المبارك في الزهد عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر الحصير بجلده، فلما استيقظ جعلت أمسح عنه وأقول: يا رسول الله ألا أخبرتنا قبل أن تنام على هذا الحصير نبسط لك شيئا يقيك منه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا، ما أنا إلا كراكب استظل تحت، أو في ظل شجرة، ثم راح وتركها» .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: دخل عمر ابن الخطاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نائم على حصير، فأثر في جنبه، فقال: يا رسول الله، لو اتخذت فراشا أوثر من هذا، فقال: «ما لي وللدنيا، والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة، ثم راح وتركها» ،
تقدم في باب زهده بطرقه.
وروى سعيد بن منصور عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم رثّا غليظا، فأردت أن أجعل له فراشا آخر ليكون أوطأ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلته، فجاء فقال: «ما هذا يا عائشة؟» قلت: يا رسول الله رأيت فراشك رثّا غليظا فأردت أن يكون هذا أوطأ لك، فقال: «أخّريه اثنتين، والله لا أقعد عليه حتى ترفعيه» قالت: فرفعت الأعلى الذي صنعت.
وروى أبو بكر البزّار عنها قالت: ما رأيت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بكيت، أو ما كان إلا أدما حشوه ليف.
وروى مسلم وأبو مسلم الكجّي، والبرقاني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالت:
كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه من أدم، حشوه ليف.
وروى أبو داود بلفظ: كانت ضجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أدم، حشوها ليف.
وروى ابن سعد وأبو الشيخ والحسن بن عرفة عنها قالت: دخلت على امرأة من الأنصار، فرأت فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم عباءة مثنية، فانطلقت، فبعثت إليّ فراشا حشوه الصوف،(7/356)
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذا يا عائشة؟» قلت: إن فلانة الأنصارية دخلت عليّ فرأت فراشك، فذهبت فبعثت إليّ بهذا فقال: «ردّيه» فلم أردّه، وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال لي ذلك ثلاث مرات، فقال: «ردّيه يا عائشة، فو الله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة» ، قالت فرددته.
وروى ابن عدي عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم بارد في حاجة، فجئت، ومعه بعض نسائه في لحاف، فأدخلني في لحافه.
وروي عن أبي قلابة عن بعض آل أم سلمة قال: كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوا مما يوضع للإنسان في قبره، وكان المسجد عند رأسه.
وروى أبو بشر الدّولابي وابن عساكر عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان ضجاع رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ينام عليه بالليل وسادة من أدم، حشوها ليف.
وروى أبو بشر الدّولابي وأبو الشيخ وغيرهما عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم على رحل رثّ وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم، وقال: «اللهم حجّة لا رياء فيها ولا سمعة» .
وروى أبو نعيم عن أبي ذر وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما قال: إنا لجلوس ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه، إذا أقبل رجل من أحسن الناس وجها، وأطيب الناس ريحا، وأنقى الناس ثيابا، كأن ثيابه لم تدنّس، حتى سلم من طرف البساط، فقال: السلام عليك يا محمد فرد عليه السلام، وذكر الحديث في مجيء جبريل عليه السلام.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أنس رضي الله تعالى عنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم اضطجع على نطع فعرق، فقامت أم سليم فصنعته، فجعلته في قارورة، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
«ما هذا الذي تصنعين يا أم سليم؟» قالت: أجعل عرقك في طبي، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أيضاً عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل من مراد يقال له صفوان ابن عساكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو متكئ على بردعة حمراء في المسجد- الحديث.
وروى ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت وسادة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يتّكئ عليها من أدم، حشوها ليف.
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد، وذكر الحديث، وفيه قام بي حتى أتى داره، فألقت وليدة له وسادة، فجلس عليها، وجلست بين يديه.(7/357)
وروى أبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: دخل سلمان على عمر رضي الله تعالى عنهما، وهو متكئ على وسادة، فألقاها له فقال سلمان: الله أكبر صدق الله ورسوله فقال عمر: حدثنا يا أبا عبد الله
قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متكئ على وسادة، فألقاها إلي، ثم قال: «يا سلمان ما من مسلم يدخل على أخيه المسلم فيلقي له وسادة إكراما له إلا غفر الله له» .
وروى عبد بن حميد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: إنه استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: فدخلت وإنه لعلى خصفة مضطجع، وتحت رأسه وسادة محشوة ليفا، وإن فوق رأسه لإهاب- الحديث.
وروى الإمام أحمد عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فرأيته متكئا على وسادة.
وروى عنه أيضاً قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته متكئا على مرقعة.
وروى أبو الشيخ عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف.
وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو على حصير قد أثر في جنبه، وإذا تحت رأسه مرقعة من أدم حشوها ليف، وتقدم في صفة جلسته أحاديث فلتراجع.
وروى أبو الشيخ عن الربيع بن زياد أن عمر بن الخطاب قال لحفصة: أخبريني بألين فراش فرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
قالت: كان لنا كساء من هذه المائدة أصبناه يوم خيبر، فكنت أفرشه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل ليلة فينام، وإني ثنيته له ذات ليلة فلما أصبح قال: «ما كان فراش البارحة؟» قلت: فراشك كل ليلة، إلا أني ثنيته الليلة قال: «أعيديه لحالته الأولى فإنه منعني وطأته البارحة من الصلاة» فأرسل عمر عينيه بالبكاء.
وروى الترمذي عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: سألت عائشة ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتك؟ قالت: من أدم حشوه ليف، وسألت حفصة: ما كان فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: مسح ثنيته ثنيّتين، فينام عليه،
فلما كان ذات ليلة قلت: لو ثنيته له بأربع كان أوطأ له، فثنيته بأربع ثنيات، فلما أصبح قال: «ما فرشتم لي الليلة؟» قلنا: هو فراشك إلا أنا ثنيناه لأربع ثنيات، قلنا هو أوطأ لك قال: «ردّوه لحاله الأولى، فإنه منعني وطاءته صلاتي الليلة» .
وروى ابن سعد عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تفرش للنبي صلى الله عليه وسلّم عباءة(7/358)
باثنتين، فجاء ليلة وقد ربّعتها فنام عليها، فقال: «يا عائشة مال فراشي الليلة ليس كما يكون؟» قلت: يا رسول الله أربعتها لك قال: «فأعيديه كما كان» .
وروى أبو يعلى عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عليه طرف اللحاف، وعلى عائشة طرفه.
وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه بات عند خالته ميمونة فجاءت بكساء فطرحته، وفرشته للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم جاءت ميمونة بخرقة عند رأس الفراش، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صلّى العشاء الآخرة، فانتهى إلى الفراش، فأخذ الخرقة التي عند رأس الفراش فأتزر بها، وخلع ثوبه، فعلقها، ثم دخل معها في لحافها.
وروى الطبراني عن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بساط يسمى الكنّ.
وروى عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له بساط يسمى الكنّ، وكانت له عباءة تسمى النمرة، وكانت له ركوة تسمى الصادرة، وكانت له مرآة تسمى المرآة، وكان له مقراض يسمى الجامع، وكان له قضيب يسمى الممشوق.(7/359)
الباب الثالث في كراهته صلى الله عليه وسلّم ستر الجدار، وكذا الباب بشيء فيه صورة حيوان
روى أبو بكر الشافعي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها نصبت سترا فيه تصاوير، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزعه، قالت: فقطعه وسادتين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يترفق عليهما.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة، فوجد على بابها سترا، فلم يدخل، قال: وقلّ ما كان يدخل إلا بدأ بها، فجاء عليّ فرآها معتمة فقال: إن فاطمة اشتد عليها أنك جئتها فلم تدخل عليها، فقال: «ما أنا والدنيا» ، أو «ما أنا الرّقم» ، فذهب عليّ إلى فاطمة، فأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
تأمرني؟ قال: «قل لها فلترسل به إلى بني فلان» ، ورواه من طريق آخر، فقيل للحسن، وما كان ذلك الستر؟ قال: قرام عربي ثمنه أربعة دراهم، كانت تنشره في مؤخر البيت.
وروى البخاري وأبو داود عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك في بيته شيئا فيه تصاليب إلا هتكه، أو قال قصّه [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد عنها قالت لامرأة عليها خمرق فيها صليب: انزعي هذا من ثوبك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رآه في ثوب قصه.
وروى الإمام أحمد والخمسة عنها قالت: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم من سفر وقد سترت على بابي درنوكا، وفي لفظ نمطا فيه الخيل ذوات الأجنحة، فلما قدم ورأى النّمط عرفت الكراهة في وجهه فجذبه حتى هتكه أو قطعه، وقال: «إن الله لم يأمرنا أن نكسوا الحجارة والطين» ، قالت: فقطعنا منها وسادتين، وحشوتهما ليفا، فلم يعب ذلك عليّ [ (2) ] .
ورواه الإمام أحمد، والبيهقي عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر آخر عهد بإنسان من أهله فاطمة، وأول من يدخل عليها إذا قدم فاطمة، فقدم من غزاة له فأتاها، فإذا هو بمسح على بابها، فرجع ولم يدخل عليها- الحديث، وتقدم بتمامه في باب زهده.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الدّرنوك: بدال مهملة مضمومة، فراء ساكنة فنون مضمومة، فواو، فكاف: ستر له خمل، وجمعه درانك، وفي رواية درموك، وهو على التعاقب.
النّمط: بنون، فميم مفتوحتين، فطاء مهملة: ضرب من البسط.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 10/ 385 (5952) .
[ (2) ] البخاري 10/ 386 (5954) ومسلم 3/ 1666 (2107) .(7/360)
الباب الرابع في آنيته، وأثاثه صلّى الله عليه وسلم
روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كنت مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صدري أو قالت: في حجري، فدعا بالطّست فلقد انخنث في حجري، فما شعرت أن مات، وكان له صلى الله عليه وسلم قدح يسمى: الرّيّان، وآخر يسمى: مغيثا، وقدح مضبّب بسلسلة من فضة في ثلاثة مواضع.
وروى البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: إن قدح رسول الله صلى الله عليه وسلم انكسر فأخذ مكان الشّعب سلسلة من فضة.
وروى الحافظ الضّياء في الأحكام قيل: إن الذي سلسله أنس، وفي رواية الإمام أحمد رأيت عند أنس أربع حلق يحملها أربعة رجال.
وروى أبو الشيخ عن عبد الله بن بشر قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم جفنة لها أربع حلق.
وروى أبو داود يقال لها الغراء يحملها أربعة رجال، وتور من حجارة يسمى المخضّب وركوة تسمى الصّادرة.
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ركوة تسمى الصادرة، وقدح من خشب.
وروى أبو يعلى عن محمد بن إسماعيل رحمه الله تعالى قال: دخلت على أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه فرأيت في بيته قدحا من خشب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشرب منه ويتوضأ، وآخر من زجاج.
وروى والبزّار وابن ماجة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أهدى المقوقس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدحا من قوارير، فكان يشرب منه وآخر من فخار.
وروى ابن منده عن عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده خبّاب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يشرب من فخار وكان له تور من حجارة يسمى المخضّب، ومخضّب من نحاس، ومغتسل من صفر، ومدهن، وربعة انكسرت رأيته يجعل فيها المرآة أهداها له المقوقس مع مارية أم إبراهيم، ومشط من عاج.
وروى ابن سعد عن ابن جريج قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مشط من عاج يتمشط به والمكحلة والمقراض.
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم مقراض يسمى الجامع والسّواك وصاع ومدّ.(7/361)
جماع أبواب آلات حربه صلى الله عليه وسلم
الباب الأول في قسيّه صلّى الله عليه وسلم وهي ست
الأولى: الرّوحاء.
الثانية: شوحط: بشين معجمة مفتوحة ثم واو ساكنة ثم حاء مهملة وكانت تدعى البيضاء.
الثالثة: الصفراء- من نبع كسرت يوم أحد فأخذها قتادة بن النعمان.
روى ابن سعد عن مروان بن أبي سعيد المعلّى، وأبو الحسن بن الضحاك عن أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة قالا: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة من سلاح بني قينقاع.
الرابعة: السّداس: ذكرها جماعة وأسقطها غيرهم من السيوف.
روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قوس يسمى السّداس.
الخامسة: الزّوراء.
السادسة: الكتوم لانخفاض صوتها إذا رمى عنها، كسرت يوم أحد، فأخذها قتادة بن النعمان.
وروى ابن ماجه عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوس عربية، فرأى رجلا بيده قوس فارسية فقال: «ما هذه القناة؟ عليكم بهذه وأشباهها، ورماح القنا، فإنما يؤيد الله بكم الدين، ويمكن لكم في البلاد» .
وروى ابن عدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قائما على قوسه.
وروى أبو بكر الشافعي عن سعد القرظ رحمه الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يخطب الناس في الحرب إذا خطب، وهو متكئ على قوسه.
وروى ابن أبي شيبة عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فأصابتنا حاجة شديدة وأصبنا غنما فانتهبنا قبل أن نقسم وإن قدورنا لتغلي فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسه نحونا، فكفأها بقوسه، وقال: «ليست النّهبى بأحل من الميتة» .(7/362)
الباب الثاني في سيوفه صلّى الله عليه وسلم
وفيه نوعان:
الأول: في تحليته بعض سيوفه صلّى الله عليه وسلم.
روى أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كانت قبضة قوس رسول الله صلى الله عليه وسلم فضة، ورواه ابن سعد بلفظ: كانت نصل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبضته من فضة، وما بين ذلك حلق فضة.
وروى الترمذي- وقال غريب- عن بريدة القصري قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة.
وروى ابن سعد عن جعفر بن محمد بن أبيه قال: كانت نصل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبضته من فضة.
الثاني: في عدد سيوفه وهي أحد عشر سيفا:
الأول: المأثور- وهو أول سيف ملكه، ورثه من أبيه، وقدم به المدينة، وهو الذي يقال إنه من عمل الجنّ.
وروى ابن سعد عن عبد المجيد بن سهل قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في الهجرة بسيف كان لأبي [قثم] مأثور يعني أباه.
الثاني: ذو الفقار بكسر الفاء يقال بفتحها كان في وسطها مثل الفقرات غنمه يوم بدر- وكانت للقاضي ابن منبّه السهمي- وكان لا يكاد يفارقه في حروبه، وكان قائمته وقبضته وذؤابته وبكراته ونصله من فضة.
وروى ابن سعد والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم غنم سيفه ذا الفقار يوم بدر، وزاد في روايته: وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد.
وروى نحوه أيضا عن ابن المسيّب، وزاد فأقر النبي صلى الله عليه وسلّم اسمه.
وروى نحوه أيضا عن الشعبي قال: أخرج علي بن الحسين سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قبضته من فضة، وإذا حلقته التي يكون فيها الحمائل من فضة، وسلسلة، وإذا هو قد نحل كان لمنبه بن الحجاج السهمي، أصابه يوم بدر.
وروى الطبراني برجال ثقات عن أبي الحكم الصّيقل رضي الله تعالى عنه أنه صقل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا الفقار، وكانت له قبضة من فضة، وكان يسمى ذا الفقار.(7/363)
تنبيه: روى ابن عدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الحجّاج بن علاط أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ذا الفقار.
الثالث والرابع والخامس: أصابهم من سلاح بني قينقاع.
وروى ابن سعد عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى قال: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف: قلعيّة: بفتح القاف واللام ثم عين مهملة نسبة إلى مرج القلعة بالبادية، وسيف يدعى البتار، والبتار القاطع، وسيف يدعى الحتف: بالحاء المهملة، ثم تاء مثناة فوقية، ثم فاء.
روى ابن سعد عن مجاهد وزياد بن أبي مريم قالا: كان سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم الحتف له قرن.
السادس والسابع: أصابهما من صنم لطي.
وروى ابن سعد عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى قال: كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيف يدعى المخذم، وسيف يدعى رسوبا أصابهما من الفلس، بضم الفاء، وسكون اللام:
صنم لطي.
الثامن: العضب: بفتح العين المهملة، وسكون الضاد المعجمة، أرسل إليه به سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه عند توجهه إلى بدر.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أبي بكر بن أبي خيثمة أنه قال في تاريخه: يقال أنه صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، ومعه سيفان يقال لأحدهما العضب شهد به بدرا.
التاسع: القضيب بالقاف، والضاد المعجمة: أصابه من سلاح بني قينقاع.
العاشر: الصّمصامة: كانت لعمرو بن معد كرب الزّبيدي، فوهبها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي استعمله صلى الله عليه وسلّم وكانت مشهورة عند العرب.
الحادي عشر: اللّحيف وقد نظم بعض ذلك الحافظ أبو الفتح من قصيدة في ديوانه فقال:
وإذا هزّ حساما هزّه حتف الكماة ... من قضيب ورسوب رأس في الضّربات
أبيض البتّار قدّ حدّ الباترات ... خلت لمع البرق يبدو من سناء الفقرات
ولنار المخذم الماضي لهيب الجمرات ... وبما الحتف والعضب ظهور المعجزات
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
القيعة: بقاف مفتوحة، فمثناة، بعدها عين مهملة، قال ابن السّكّيت هي ما على رأس مقبض السيف من فضة أو حديد.
بكرة السيف بموحدة فكاف فراء الحلقة التي تكون في حلبة السيف.(7/364)
الباب الثالث في رماحه صلّى الله عليه وسلّم وحرابه وعنزته ومحجنه وقضيبه ومخصرته
وفيه أنواع:
الأول: في عدد رماحه وهي خمسة:
الأول: المثوي من المثوي أي المطعون به.
الثاني: المنثني.
الثالث والرابع والخامس: ثلاثة رماح أصابها صلى الله عليه وسلّم من سلاح بني قينقاع، ذكره ابن أبي خيثمة في تاريخه.
فائدة:
روى الإمام أحمد بسند جيد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «جعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الصّغار على من خالف أمري» .
النوع الثاني: في عدد الحراب وهي خمس:
الأولى: حربة يقال لها النّبعة.
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حربة تسمى النّبعة.
الثانية: البيضاء، وهي أكبر من الأولى.
روى النسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان يركز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة في العيد فيصلي إليها.
الثالثة: العنزة، وهي صغيرة شبه العكّازة يمشي بها بين يديه في الأعياد، حتى تركز أمامه، فتتخذ سترة يصلي إليها، وكان يمشي بها أحيانا.
وروى البلاذري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما هاجر الزبير إلى أرض الحبشة خرج النجاشي يقاتل عدوا له، فأعطاه النجاشي يومئذ عنزة يقاتل بها، فطعن بها عدّة حتى ظهر النجاشي على عدوه، وقدم الزبير بها فشهد بها بدرا، وأحدا وخيبر، ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ منصرفه من خيبر، فكانت تحمل بين يديه يوم العيد، يحملها بلال ابن رباح، ويخرج بها في أسفاره، فتركز بين يديه يوم العيد، يحملها بلال بن رباح يصلي إليها.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم تغرز له العنزة، ويصلي إليها قال عبد الله: وهي الحربة.(7/365)
الرابعة: الهدّ.
الخامسة: القمرة.
روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حربة تسمى القمرة [ (1) ] .
النوع الثالث: في محجنه وقضيبه ومخصرته وعصاته.
روى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له محجن يسمى الدّقن قدر ذراع، أو أطول، يمشي به، ويركب، ويلقى بين يديه على بعيره [ (2) ] .
وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قضيب يسمى الممشوق قيل: وهو الذي كان يتداوله الخلفاء.
وروى الترمذي عن قيلة بنت مخرمة رضي الله تعالى عنها أنها رأت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عسيب نخلة.
وروى البخاري عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد، وقعدنا حوله، ومعه مخصرة فجعل ينكث بمخصرته ... الحديث.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالمدينة، وهو يتكئ على عسيب له.
وروى أبو مسلم الكجّي عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم وبيده عصا فرأى أقناء معلّقة فطعن في قنو منها فإذا فيه حشف- الحديث.
وروى النسائي عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه أن رجلا كان جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه خاتم من ذهب، وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلّم مخصرة أو جريدة فضرب بها نبي الله صلّى الله عليه وسلم أصبعه- الحديث.
وروي أيضاً عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في يده خاتما من ذهب فجعل يقرعه بقضيب في يده معه فلما غفل النبي صلى الله عليه وسلّم ألقاه، قال: «ما أرانا إلا أوجعناك وأغرمناك» .
وروى الحميدي عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه هذه العراجين، يمسكها في يده، ويدخل المسجد، وهي في يده- الحديث.
__________
[ (1) ] انظر المجمع 5/ 272.
[ (2) ] انظر المصدر السابق.(7/366)
وروى أبو أحمد بن عدي عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألقى سوطه في السفر فصلى عليه.
تنبيهان
الأول:
حديث جعفر بن نسطور الرومي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فسقط منه السوط فدفعته إليه فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مد الله في عمرك» ،
ومد بها صوته- حديث باطل، ونسطور هذا ادعى الصحبة بسنة فكذبوه.
وروى الترمذي عن قيلة بنت مخرمة رضي الله تعالى عنها أنها رأت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عسيب نخلة.
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قضيب وسط يسمى الممشوق.
وروى أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: التوكؤ على العصاة من أخلاق الأنبياء، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عصاة يتوكأ عليها، ويأمر بالتوكؤ عليها.
وروى أبو داود والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يحب العراجين، ولا يزال في يده منها.
وروى البزار والطبراني- بسند ضعيف- عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن أتخذ العصا فقد اتّخذها أبي إبراهيم» .
وروى ابن ماجه عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو متكئ على عصاه.
وروى الطبراني عن عبد الله بن أنيس رضي الله تعالى عنه أنه أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عصا يتخصّر بها فناوله إياها.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
المحجن: بكسر الميم، وسكون الحاء المهملة، بعدها جيم مفتوحة: عصى ثخينة الرأس وهي العنزة.(7/367)
الباب الرابع في دروعه، ومغفره، وبيضته، ومنطقته صلى الله عليه وسلّم
كانت دروعه صلى الله عليه وسلّم سبعا:
الأولى: السّغديّة بضم السين المهملة، وسكون الغين المعجمة: وهي درع داود التي لبسها حين قتل جالوت.
الثانية: فضّة.
روى ابن سعد عن مروان بن أبي سعد بن المعلّى أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصابها والتي قبلها من سلاح بني قينقاع.
الثالثة: ذات الفضول: بالضاد المعجمة: سميت بذلك لطولها، أرسل بها إليه سعد بن عبادة حين سار إلى بدر، وكانت من حديد، وهي التي رهنها عند أبي الشّحم اليهودي على شعير، وكان ثلاثين صاعا، وكان الدين إلى سنة.
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له درع موشّحة بنحاس، تسمى ذات الفضول.
وروى قاسم بن ثابت عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه وأبو الحسن الخلعي عن علي رضي الله تعالى عنه قالا: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم درع يقال له ذات الفضول.
الرابعة: ذات الوشاح.
الخامسة: ذات الحواشي.
السادسة: البتراء سميت بذلك لقصرها.
السابعة: الخرنق.
روى الإمامان الشافعي وأحمد، وأبو داود، وابن ماجة، عن السائب بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ظاهر بين درعين يوم أحد.
وروى ابن سعد، وقاسم بن ثابت في غريبه عن الشعبي قال أخرج إلينا علي بن الحسين درع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يمانية رقيقة، ذات ذرافتين، إذا علقت بذرافتها شمّرت، وإذا أرسلت مست الأرض.
وروى ابن سعد عن محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد درعين إحداهما ذات الفضول، ورأيت عليه يوم حنين درعين: ذات الفضول والسّغديّة.(7/368)
وروى الترمذي عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلّم درعان يوم أحد.
وروى ابن سعد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: كان درع رسول الله صلى الله عليه وسلم حلقتان من فضة عند موضع الصدر، وفي لفظ الصدر، وحلقتان خلف ظهره من فضة، قال جعفر:
فلبستها فخبطت في الأرض.
وروى أيضاً عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم وإن درعه لمرهونة في ثلاثين صاعا، وفي رواية بستين صاعا من شعير رزقا لعياله.
وروى ابن سعد عن أسماء بنت يزيد قالت: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم توفي ودروعه مرهونة عند رجل من اليهود بوسق من شعير، وكان له صلى الله عليه وسلم مغفر، وهو ما يلبسه الدّارع على رأسه من الزّرد وغيره، كان له صلى الله عليه وسلم مغفر يقال له: السّبوغ أو ذا السّبوغ بالسين المهملة، ثم باء موحدة، ثم واو وغين معجمة، وآخر يسمى الموشّح وبيضة.
وروى الإمام مالك، والشيخان، وابن ماجه، وأبو الحسن بن الضحاك، وغيرهم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح، وعلى رأسه مغفر من حديد- الحديث وله طرق كثيرة.
وروى الإمامان الشافعي وأحمد، وأبو داود، وابن ماجة عن السائب بن يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ظاهر بين درعين يوم أحد، وكان له صلى الله عليه وسلم منطقة، وهي التي يشد بها الوسط من أديم منشور، فيها ثلاث حلق من فضة، والإبزيم الذي في رأس المنطقة من فضة، والطرف من فضة، ذكر ذلك الحافظ الدّمياطي.(7/369)
الباب الخامس في أتراسه وجعبته وسهامه صلى الله عليه وسلم كان له ثلاثة أتراس
الأول: الزّلوق.
الثاني: الفتق.
الثالث: كان فيه تمثال كبش أو عقاب.
روى البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم ترس فيه تمثال عقاب، أو كبش، فكرهه صلى الله عليه وسلّم، فأصبح وقد أذهبه الله تعالى.
وروى ابن سعد وابن أبي شيبة عن مكحول قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ترس فيه رأس كبش فكره صلى الله عليه وسلّم مكانه، فأصبح وقد أذهبه الله تعالى.
وروى أبو الحسن بن الضحاك رضي الله تعالى عنه عن حصين رحمه الله تعالى قال:
كان ترس رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثال عقاب فطمس.
وروى ابن داود عن عبد الرحمن بن حسنة رضي الله تعالى عنه قال: انطلقت أنا وعمرو ابن العاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه درقة استتر بها.
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان له ترس يسمى الجمع.
وروى الشيخان عن عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق- كل منهما حديث صاحبه- قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم زمن الحديبية وذكر الحديث بكماله، وفيه نزل أقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتربضه الناس تربضا، فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم العطش، فانتزع سهما من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش بالرّيّ حتى صدروا.
وروى أبو القاسم البغوي عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي فجاء رجل فاطلع في بيته، فأخذ سهما من كنانته، فسدده إليه، وانصرف الرجل.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الزّلوق: بزاي مفتوحة، فلام مضمومة، فواو، فقاف أي يزلق عنه السلاح فلا يخرقه.
الفتق.
الثمد: بمثلثة مفتوحة، وميم ساكنة، وتحرك، وككتابه القليل لا مادّ له أو ما يبقى في الأرض وما يظهر في الشتاء، ويذهب في الصيف.(7/370)
الباب السادس في ألويته، وراياته، وفسطاطه، وقبّته صلّى الله عليه وسلم
كان له صلى الله عليه وسلم لواء أبيض مكتوب عليه «لا إله إلا الله محمد رسول الله» وآخر أسود، وآخر أغبر، وكان له صلى الله عليه وسلم راية سوداء ربعة من صوف، لونها لون النّمرة، وتسمى العقاب، وأخرى صفراء كما في سنن أبي داود عن سماك بن حرب عن رجل من قومه عن آخر منهم.
وروى الإمام أحمد، والترمذي بسند جيد والطبراني- برجال الصحيح- غير حبّان بن عبيد الله عن بريدة وابن عباس، وابن عدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم قالوا: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض، زاد أبو هريرة وابن عباس- كما عند الطبراني- مكتوب فيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، رواه أبو الشّيخ عن ابن عباس.
وروى الترمذي وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة، ولواؤه أبيض.
وروى ابن عدي وأبو الحسن بن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء، ولواؤه أبيض، مكتوب فيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله» ورواه ابن عدي عن أبي هريرة أيضا.
وروى مسدد عن عون قال: حدثني شيخ أحسبه من بكر بن وائل قال: أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم شقّة خميصة سوداء ذات يوم فعقدها على رمح، ثم هزها فقال: «من يأخذها بحقها» ، فهابها المسلمون من أجل الشرط، فقال إليه رجل فقال: أنا آخذها بحقها، فما حقها؟
قال: «تقاتل مقدما ولا تغرب بها من كافر» .
وروى الطبراني- برجال ثقات- غير شريك النّخعي، وثّق وضعّف، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سوداء.
وروى أيضا برجال ثقات- غير محمد بن الليث الهدّاري فيجر رجاله- عن مزيدة العبدي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم عقد رايات الأنصار، فجعلهن صفرا.
وروى أيضا عن يزيد بن أسامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم عقد راية لبني سليم حمراء.
وروى الإمام أحمد، برجال الصحيح، غير عثمان بن زفر الشّامي، وهو ثقة، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تكون مع علي بن أبي طالب، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، وكان إذا استحر القتال كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما يكون تحت راية الأنصار.
وروى البخاري عن الحارث بن حسان قال: دخلت المسجد فإذا هو غاص بالناس،(7/371)
وإذا رايته سوداء، قلت: ما شأن الناس اليوم؟ قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يبعث عمرو بن العاص.
وروى البخاري عن نافع بن جبير قال: سمعت العباس يقول للزبير: يقول: هاهنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تركز الراية.
وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء مربعة لون نمرة.
وروى أبو داود عن سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم قال: رأيت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم صفراء.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى قال: كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد مرط أسود مرحّل كان لعائشة رضي الله تعالى عنها، وراية الأنصار يقال لها العقاب.
وروى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة عن الحارث بن حسان قال: قدمت المدينة فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قائما على المنبر، وبلال بين يديه، متقلدا سيفا، وإذا راية سوداء فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا عمرو بن العاص، قدم من غزاة.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تكون مع علي بن أبي طالب، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة، وكان إذا استحرّ القتال كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما يكون تحت راية الأنصار.
وروى أبو داود- وحسنه- عن يونس بن عبيد الله- مولى محمد بن القاسم- قال:
بعثني محمد بن القاسم إلى البراء عن عازب لأسأله عن راية رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانت؟ فقال:
كانت سوداء مربعة.
وروى البخاري عن عون بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من آدم.
وروى أبو سعيد بن الأعرابي عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في قبة حمراء مربعة.
وروى النسائي عن صفوان بن معلّى عن أبيه رضي الله تعالى عنه قال: ليس أرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ينزل عليه، فبينما نحن بالجعرّانة والنبي صلى الله عليه وسلم في قبّة فأتاه الوحي، فأشار إلى عمران، فقال: فأدخلت رأسي في القبّة.
وروى ابن أبي شيبة عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه أن النبي أمر بقبة من شعر- الحديث.(7/372)
وروى الحاكم عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبّة من أدم حمراء في نحو من أربعين رجلا فقال: «إنه مفتوح لكم، وإنكم منصورون وممضيون، فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف وينه عن المنكر، وليصل رحمه، ومثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل البعير يتردى، فهو يمد بذنبه» .
وروى مسدد وابن أبي شيبة وابن حبان عن أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ورجلان من بني عامر في الأبطح في قبة له حمراء فقال: «ممن أنتم؟» فقلنا من بني عامر، فقال: «مرحبا بكم أنتم مني» .
تنبيهات
الأول: قال الحافظ: الراية بمعنى اللواء، وهو العلم الذي يحمل في الحرب يعرف به صاحب الجيش، وقد يدفعه ليقدم العسكر، وصرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما، والأحاديث السابعة تدل على التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية.
الثاني: ذكر عروة في رواية أبي الأسود، وابن إسحاق، ومحمد بن عمرو وابن سعد أن أول ما وجدت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل إلا الألوية.
الثالث:
روى الطبراني برجال ثقات عن محارب قال: كتب معاوية إلى زياد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن العدو لا يظهر على قوم أراهم» ، أو قال: «رأيتهم مع رجل من بني بكر بن وائل» .
الرابع: روى أبو الحسن بن الضحاك عن زهير بن محمد قال: راية رسول الله صلى الله عليه وسلم العقاب، وفرسه المرتجز، وناقته العضباء والقصواء والجدعاء، وحماره: يعفور والسيف: ذو الفقار، والدرع: ذات الفضول، والرداء: الفتح والقدح: الغمر.
الخامس: في بيان غريب ما سبق:
اللواء: بلام مكسورة، فواو، فألف ممدودة: الراية.
الجعرّانة: ماء بين الطائف ومكة.
النمر: ككتف، وبكسر فسكون: سبع معرف.
مرحّل: فيه صور الرحال.
استحر القتال: بهمزة وصل، فسين مهملة ساكنة، فمثناة فوقية، فحاء مهملة، فراء مفتوحات: اشتد وكثر.(7/373)
الباب السابع في سرجه وإكافه وميثرته وغرزه صلّى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد وأبو داود وابن الجوزي عن أبي عبد الرحمن الفهري رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: «اسرج لي الفرس» ،
قال: فأخرج سرجا دفتاه من ليف، ليس فيه أشر ولا بطر.
وروى الطبراني رضي الله تعالى عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سرج الدّاج الموجز.
وروى الطبراني بسند جيد عن جريز أو حريز رضي الله تعالى عنه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فوضعت يدي على ميثرة رحله، فوجدته من جلد شاة ضائنة.
وروى ابن سعد والبغوي عن أبي ليلى الكندي قال: حدثني صاحب هذا الدار جريز أو حريز قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بمنى فوضعت يدي على رحله فإذا ميثرته جلد ضائنة.
تنبيه في بيان غريب ما سبق:
الدّفّة: الجنب من كل شيء.
الأشر: بهمزة فشين معجمة، مفتوحتين فراء: المرح.
البطر: بفتحات: النشاط والأشر، وقلة احتمال النعمة، والدّهش، والحيرة، والطغيان بالنعمة، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة.
الداج الموجز: اسم سرج الرسول.
الميثرة.
الغرز: بفتح الغين المعجمة، وسكون الراء، بعدها زاي: ركاب كور الجمل إذا كان من جلد أو خشب وقيل بل من أي شيء كان.(7/374)
جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وسلّم في ركوبه
الباب الأول في آدابه في ركوبه صلى الله عليه وسلم وفيه أنواع والله أعلم
الباب الثاني في حمله صلى الله عليه وسلم معه على الدابة واحدا أمامه والآخر خلفه
روى ابن أبي شيبة، وابن منده عن عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر تلقّي بصبيان أهل بيته، وأنه قدم من سفر فسبق بي إليه، فحملني بين يديه ثم جيء بأحد ابني فاطمة، فأردفه خلفه فدخلنا المدينة ثلاثة على دابة.
وروى مسدد عن مورّق عن مولى لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدم من سفره فاستقبله عبد الله بن جعفر، والحسين بن علي، فحمل أكبرهما خلفه، وحمل أصغرهما بين يديه.
وروى الإمام أحمد، والشيخان عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقد حمل قثما بين يديه، والفضل خلفه.
وروى ابن المبارك في الزهد عن عكرمة رضي الله تعالى عنه قال: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلّم دابة وأركب قثما بين يديه وأردف الفضل خلفه، والله تعالى أعلم.(7/375)
الباب الثالث فيمن حمله صلى الله عليه وسلم وهم نحو الخمسين أفرد أسماءهم الحافظ أبو زكريا يحيى بن عبد الوهاب ابن الحافظ الكبير ابن عبد الله بن مندة رحمهم الله تعالى في جزء لطيف وبلغ بهم أني زدت إليهم جماعة مزجت أسماءهم بصورة
وروى الإمام أحمد والبخاري وأبو يعلى عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر، وغزا أردف كل يوم رجلا من أصحابه.
الأول: جبريل.
الثاني: أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه.
وروى الإمام أحمد والبخاري عن محمد بن يحيى بن عمر وابن أبي شيبة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهو مردف أبا بكر فذكر حديث الهجرة وتقدم.
الثالث: أبو ذر رضي الله تعالى عنه.
وروى أبو داود عنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على حمار، والشمس عند غروبها فقال: «هل تدري أين تذهب» قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «فإنها تغرب في عين حمئة» .
الرابع: عثمان.
روى ابن منده عن خالد الزياد عمن أخبره أن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه تلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء عند مقدمه من بدر فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رجله من غرز الرّكاب، وقال لعثمان: «اركب فردفه» ، فنفخ عثمان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اسكت» ،
قال يوسف البهلول أحد رواته أي اسكت، فإن الله تعالى زوجك أختها.
الخامس: علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.
روى عن عرفة بن الحارث رضي الله تعالى عنه قال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأتي بالبدن فقال: «ادعوا لي أبا الحسن» ، فدعى علي رضي الله تعالى عنه فقال: خذ بأسفل الحربة، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بأعلاها، فطعن بها البدن، فلما فرغ ركب البغلة، وأردف عليا رضي الله تعالى عنه.
وروى عن عمرو بن رافع المزني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعد الظهر على بغلة، ورديفه علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه.(7/376)
السادس: عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال: أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على دابته، فلما استوى عليها كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، وحمد ثلاثا، وسبح ثلاثا. وهلل الله تعالى واحدة.
السابع: أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلة مردفا أسامة بن زيد وذكر الحديث.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركب على حمار عليه إكاف تحته قطيفة فركبه، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود عبادة بن الصامت في بني الحارث من الخزرج- الحديث.
الثامن: أبو المليح بن أسامة رضي الله تعالى عنه
وروى الحاكم في المستدرك والنّسائي واللفظ له عن أبي المليح بن أسامة رضي الله تعالى عنه، قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلّم فعثر بعيرنا فقلت: تعس الشيطان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقل تعس الشيطان، فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت، ويقول: بقوتي صرعته ولكن قل: باسم الله، فإنه يصغر حتى يصير مثل الذباب.»
التاسع: زيد بن ثابت.
العاشر: سهيل بن بيضاء رضي الله تعالى عنه وهو وهب بن ربيعة بن هلال بن وهب ابن ضبة توفي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد رضي الله تعالى عنه.
وروى الإمام أحمد والطبراني في الكبير، وابن أبي شيبة، وابن مندة، وعبد بن حميد وابن حبّان عنه قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأنا رديفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«يا سهيل بن بيضاء» ورفع صوته مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يجيبه سهيل، فسمع الناس صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا أنه يريدهم فحبس من كان بين يديه، ولحقه من كان خلفه حتى إذا اجتمعوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنه من شهد أن لا إله إلا الله حرمه الله عز وجل على النار، ووجبت له الجنة» .
الحادي عشر: معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه.
وروى البزار بسند رجاله ثقات عن أبي هريرة، والإمام أحمد، والشيخان عن أنس، والإمام أحمد، والشيخان، والترمذي عن معاذ رضي الله تعالى عنهم أن معاذا كان ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، ليس بينه، وبينه شيء إلا مؤخرة الرحل، فقال: «يا(7/377)
معاذ» فقال: لبيك يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسعديك، ثم سار ساعة، ثم قال: «يا معاذ بن جبل» : قال لبيك يا رسول الله، وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل» : فقال: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: هل تدري ما حق الله تعالى على العباد؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «فإن حق الله عز وجل على العباد أن العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئا» ، ثم سار ساعة ثم قال: «يا معاذ بن جبل» قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: «هل تدري ما حق العباد على الله؟» قال: الله ورسوله أعلم قال: «حق العباد على الله عز وجل ألا يعذبهم» قال: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا» ، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما.
الثاني عشر: حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنهما.
روى البزار برجال ثقات عنه رضي الله تعالى عنه قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا حذيفة: أتدري ما حق الله تعالى على العباد» قلت: الله ورسوله أعلم قال: «يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً» ، ثم قال: «يا حذيفة» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: أتدري ما حق العباد على الله تعالى إذا فعلوا ذلك؟ قلت الله ورسوله أعلم، قال: «يغفر لهم» .
الثالث عشر: الفضل بن العباس رضي الله تعالى عنهما.
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة الباهلي رضي الله تعالى عنه قال: لما كان في حجة الوداع قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو مردف الفضل بن العباس، فقال: «يا أيها الناس خذوا مني العلم، قبل أن يقبض العلم، أو قبل أن يرفع العلم» .
وروى الأئمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الفضل بن العباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجاءته امرأة من خثعم- الحديث ويأتي بتمامه في حجّة الوداع وفي النكاح إن شاء الله تعالى.
الرابع عشر: عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما.
وروى الإمام أحمد، ومسلم وأبو داود، وابن ماجه عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خلفه فأسر إليّ حديثا، لا أحدث به أحدا من الناس.
الخامس عشر: أبو هريرة رضي الله تعالى عنه،
ذكر المحب الطبري في سيرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركب حمارا عربا إلى قباء، وأبو هريرة معه، فقال: «يا أبا هريرة أحملك؟» فقال: ما شئت يا رسول الله، قال: «اركب» ، فوثب أبو هريرة ليركب فلم يقدر، فاستمسك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقعا جميعا، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «يا أبا هريرة أحملك؟» فقال: ما شئت يا رسول الله، قال: «اركب» ، فوثب أبو هريرة ليركب، فلم يقدر أبو هريرة على(7/378)
ذلك، وتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم فوقعا جميعا، ثم قال: «يا أبا هريرة أحملك؟» ، فقال: لا، والذي بعثك بالحق نبيا، لا أرميك ثلاثا.
روى عنه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا هريرة» ، أو «يا أبا هرّ هلك الأكثرون، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال: بالمال هكذا وهكذا» .
السادس عشر: قثم كما تقدم في باب حمله صلى الله عليه وسلّم واحدا أمامه، وواحدا خلفه، عن ابن عباس في رواية الإمام أحمد والشيخان حيث قال: أو قثم خلفه، والفضل بين يديه.
السابع عشر: زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه.
روي عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مردفني إلى نصب من الأنصاب وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته، وهو مردفني خلفه، فلما كان بأعلى مكة لقيه زيد بن عمرو بن نفيل فذكر الحديث.
الثامن عشر: ثابت بن الضحاك بن خليفة الأنصاري الأشهلي أبو زيد رضي الله تعالى عنه [قال] أبو زرعة الرازي- وهو من أهل الصفة، وممن بايع تحت الشجرة، وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الخندق، ودليله إلى حمراء الأسد.
التاسع عشر: الشّريد بن سويد الثقفي أبو عمرو رضي الله تعالى عنه.
روى البخاري في الأدب عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أما تروي لأمية بن أبي الصّلت» قلت: بلى قال: «هيه» .
العشرون: سلمة بن عمرو بن وهب بن سنان، وهو الأكوع الأسلمي رضي الله تعالى عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقته حتى دخلنا المدينة.
وروى الطبراني، برجال ثقات، عن سلمة رضي الله تعالى عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا، ومسح رأسي مرارا، واستغفر لي، ولذريتي عدد ما بيدي من الأصابع.
الحادي والعشرون: علي بن أبي العاص بن الربيع، قال مصعب الزبيري: أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، وقال الزبير بن بكّار: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أردف علي بن أبي العاص على راحلته يوم الفتح.
الثاني والعشرون: غلام من بني عبد المطلب.
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم مكة يوم الفتح استقبله غلامان من بني عبد المطلب، فحمل أحدهما بين يديه والآخر خلفه.
الثالث والعشرون: عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما عن أبي مليكة أن ابن(7/379)
الزبير قال لعبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنهما: أتذكر يوم تلقانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فحملني وتركك.
الرابع والعشرون: أسامة بن عمير الهذلي رضي الله تعالى عنه.
وروى الطبراني، برجال الصحيح، عنه قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فعثر بعيرنا فقلت: تعس الشيطان فقال: «لا تقل تعس الشيطان، فإنه يعظم حتى يصير مثل البيت، ويقول:
بقوتي صرعته ولكن قل: باسم الله، فإنه يصير مثل الذباب» .
الخامس والعشرون: رجل لم يسمّ يحتمل أنه أسامة الذي قبله، ويحتمل أنه غيره.
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم علي حمار فعثر فقلت تعس الشيطان- الحديث.
السادس والعشرون: رجل آخر لم يسم.
روى أبو داود عن عبد الرحمن بن يعمر الدّيلي قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة فجاءه ناس.
السابع والعشرون: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله تعالى عنه.
روى عنه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، فجعلت فمي على خاتم النبوة، فجعل ينفخ عليّ مسكا، ولقد حفظت منه تلك الليلة سبعين حديثا، ما سمعها أحد معي.
الثامن والعشرون: عبيد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأتاه رجل فقال: يا رسول الله أن أمه عجوز كبيرة إن حرمها خشي أن يقتلها، وإن حملها لم تستمسك فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج عنها.
التاسع والعشرون: عقبه بن عامر.
الثلاثون: أبو أمامة صدي بن عجلان الباهلي رضي الله تعالى عنه
قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث، الولد للفراش وللعاهر الحجر، وحسابهم على الله عز وجل» .
الحادي والثلاثون: أبو الدرداء عويمر بن مالك، ويقال ابن ثعلبة ابن مالك، ويقال غير ذلك رضي الله تعالى عنه
قال: كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أبا الدّرداء، من شهد أن لا إله إلا الله مخلصا وجبت له الجنة» .
الثاني والثلاثون: أبو إياس رضي الله تعالى عنه.
روى ابن مندة، والحارث بن أبي أسامة رضي الله تعالى عنه قال: كنت ردف(7/380)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «قل» ، فقلت: ما أقول؟ فقال: «قل هو الله أحد» حتى ختمها، وقال:
«قل أعوذ برب الفلق» وقال: «قل أعوذ برب النّاس» ثم قال: «يا أبا إياس ما قرأ الناس بمثلهن» .
الثالث والثلاثون: قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما
قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم دار سعد فقام على بابها فسلم فرد سعد وخافت، ثم سلم فرد سعد وخافت، ثم سلم فرد سعد وخافت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك انصرف راجعا، وخرج سعد يسعى في أثره، فقال:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما منعني أن أرد عليك إلا لتكثر لنا من السلام، فأدخل يا رسول الله فدخل فوضع له ماء يستبرد به، فاغتسل، ثم جلس فقال: «اللهم صلي على الأنصار، وعلى ذرية الأنصار، وعلى ذرية ذرية الأنصار» ، فلما أراد أن يرجع أتي بحمار وجعلت عليه قطيفة- ما هي بخز- وقرام عربي فأرسل ابنه معه ليرد الحمار، قال: «احمله بين يدي» ، فقال:
سبحان الله يا نبي الله أحمله بين يديك؟ قال: «نعم، هو أحق بصدر حماره» ، قال: هو لك يا رسول الله قال: «احمله إذا خلفي» .
الرابع والثلاثون: خوّات بن جبير الأنصاري رضي الله تعالى عنه، قال ابن مندة كان ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر، فرده من الرّوحاء لأنه اشتكى هذا آخر ما أورده ابن منده رحمه الله تعالى.
الخامس والثلاثون: الحسن أو الحسين رضي الله تعالى عنهما.
السادس والثلاثون: معاوية.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أردف معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنهما فقال له:
«ما يليني منك يا معاوية؟» قال: بطني، قال: «اللهم املأه حلما» ،
قال ابن عائذ: فذاكرت به أبا مسهر فقال: نعم فيه من صدقه أنه حشي حلما.
وروي عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان معاوية رضي الله تعالى عنه ردف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما يليني منك؟» قال: بطني قال: «ملأ الله بطنك حلما» .
السابع والثلاثون: صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: أقبلنا من خيبر، وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفيّة بنت حييّ قد حازها، وكنت أراه يجري، وأراه بعباءة، أو بكساء، ثم يردفها.
وروي عنه: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم هو وأصحابه فعثرت برسول الله صلى الله عليه وسلم ناقته وصفيّة رديفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثب أبو طلحة فقال: «أضررت؟ فقال: «لا» ، عليك بالمرأة» ، قال: فألقيت على وجهي ثوبا، فألقيته عليها.(7/381)
الثامن والثلاثون: امرأة من بني غفار رضي الله تعالى عنها.
روى الإمام أحمد وأبو داود عنها رضي الله تعالى عنها قالت: أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، فو الله لا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح فأناخ وتوليت من حقيبة رحله وإذا بها دم، وكانت أول حيضة حضتها قالت: فتقبّضت إلى الناقة، واستحيت، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما بي ورأى الدم، قال: «لعلك نفست؟» قلت: نعم، قال: «فأصلحي من شأنك، ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحا، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي لمركبك»
قالت: فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلّم خيبر وهب لنا من الفيء.
التاسع والثلاثون ...
الأربعون: بريرة.
الحادي والأربعون: خولة بنت قيس.
الثاني والأربعون: آمنة كما ذكر في النظم الآتي.
وقد نظم أسماءهم بعضهم فقال:
وإردافه جمّ غفير فمنهم ... عليّ وعثمان سويد وجبريل
أسامة والصّدّيق ثمّ ابن جعفر ... وزيد وعبد الله ثمّ سهيل
معاوية قيس بن سعد صفيّة ... وسبطاه ماذا عنهم سأقول
معاذ أبو الدّرد بريدة عقبة ... وآمنة إن قام ثمّ دليل
وأولاد عبّاس كذا قال شارح ... أسامة والدّوسيّ فهو نبيل
كذلك خوّات حذيفة سلمة ... كريم وأمّا وجهه فجميل
كذا بنت قيس خولة وابن أكوع ... وقدرهم في العالمين جليل
كذلك غلمان ثلاث وزاد أبا ... إياس وحسبي الله فهو وكيل
كذلك زيد جابر ثمّ ثابت ... فعن حبّهم والله لست أحول
وقد ذيلها بعضهم فقال:
هناك رجال لم يسمّوا حذيفة ... غفاريّة فاعلمه ثمّ أقول
صدي بن عجلان سويد أبو ذر ... فذلك حاز الفضل وهو جزيل
كذاك أبو هر رووه فكن له ... سميعا رواة النّقل ثمّ عدول
وعقبة بن عامر لم يروا له ... عليك بها يدعى لديّ نبيل(7/382)
جماع أبواب دوابّه صلى الله عليه وسلم
الباب الأول في محبته للخيل وإكرامه إياها ومدحه لها ووصيته بها ونهيه عن جز نواصيها وأذنابها، وما حمده أو ذمه من صفاتها
وفيه أنواع:
الأول: في محبته للخيل وإكرامه إياها.
روى النّسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعد النساء من الخيل، ولفظ من الخيل اللهم إلا النساء [ (1) ] .
وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد، وأبو يعلى- برجال ثقات- عن معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه قال: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الخيل اللهم إلا الإبل والنساء [ (2) ] .
وروى الإمام مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، ووصله أبو عبيدة في كتاب الخيل من طريق يحيى بن سعيد، عن شيخ من الأنصار، ورواه أبو داود وفي المراسيل عن نعيم بن أبي هند: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يمسح وجه فرسه بردائه، فسئل عن ذلك فقال:
«إن عوتبت الليلة في الخيل» .
وروى ابن أبي سعد عن عبد الله بن واقد: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نام فرسه فمسح وجهه بكم قميصه.
وروى أبو داود عن نعيم بن أبي هند رحمه الله تعالى قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بفرس، فقام إليه، فمسح وجهه، وعينيه، ومنخريه بكم قميصه، فقيل يا رسول الله: تمسح بكم قميصك؟ فقال: «إن جبريل عاتبني في الخيل» .
وروى الحارث بن أبي أسامة عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمسح وجه فرسه بكمه.
وروى أبو داود الطيالسي برجال ثقات، عن عروة البارقي رضي الله تعالى عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رئي يمسح خد فرسه، فقيل له ذلك، فقال: «إن جبريل عاتبني في الفرس» .
وروى أبو عبيدة عن عبد الله بن دينار رحمه الله تعالى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم رئي يمسح
__________
[ (1) ] انظر المجمع 4/ 258.
[ (2) ] انظر المجمع 4/ 258.(7/383)
وجه فرسه بردائه فقيل له ذلك، فقال: «إن جبريل بات الليلة يعاتبني في إذالة الخيل» ، أي امتهانها.
وروى الإمامان مالك وأحمد والشيخان والنسائي وابن ماجه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
وروى مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلوي ناصية فرسه بإصبعه، ويقول: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
وروى الطبراني عن سوادة بن الربيع الجرمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر لي بزود وقال: «عليك بالخيل» قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
وروى أبو مسلم الكجّي [ (1) ] في سننه عن عيينة بن عبد الله السّلمي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
وروى أبو مسلم والنّسائي عن سلمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها» ، ولفظ ابن مندة: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، والمنفق عليها كباسط كفيه بالصدقة» .
وروى أحمد عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير أبدا إلى يوم القيامة، فمن ربطها عدة في سبيل الله، وأنفق عليها إحسانا في سبيل الله فإن شبعها، وجوعها وريّها، وظمأها، وأرواثها، وأبوالها حسنات في ميزانه يوم القيامة» .
وروى ابن أبي عاصم في الجهاد والقاضي عمر بن حسن الأشناني [ (2) ] ، في بعض تخاريجه- واللفظ له- عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، فخذوا بنواصيها، وادعوا لها بالبركة وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار» .
وروى أبو عبيدة بن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الغنم بركة موضوعة، والإبل
__________
[ (1) ] الحافظ المسند إبراهيم بن عبد الله بن مسلم بن ماعز البصري صاحب كتاب السنن وبقية الشيوخ سمع أبا عاصم النبيل والأنصار والأصحاب وبدل بن المحبر ومسلم بن إبراهيم وخلقا كثيرا حدث عنه النجاد وفاروق الخطابي وحبيب القزاز وأبو بكر القطيعي وأبو القاسم الطبراني وأبو محمد بن ماسي وخلائق. وثقه الدارقطني وغيره، وكان سريا نبيلا عالما بالحديث مات ببغداد في المحرم سنة اثنتين وتسعين ومائتين وحمل إلى البصرة وقد قارب المائة. تذكرة الحفاظ 2/ 620، 621.
[ (2) ] عمر بن الحسن الأشناني القاضي، أبو الحسن ذاك المجلس. روى عن موسى الوشّاء، وابن أبي الدنيا. وعنه ابن بشران، وأبو الحسن بن مخلد ضعفه الدارقطني، والحسن بن محمد الخلال. مات في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. انظر ميزان الاعتدال 3/ 185.(7/384)
جمال لأهلها، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
وروى البزار عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الغنم بركة، والإبل عز لأهلها، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وعبدك أخوك، فأحسن إليه، وإن وجدته مغلوبا فأعنه» .
وروى الشيخان والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «البركة في نواصي الخيل» .
وروى الطبراني عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فرس فوهبه لرجل من بني الأنصار، وكان يسمع صهيله ثم إنه فقده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما فعل فرسك؟» قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم خصيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الخيل في نواصيها الخير، والمغنم إلى يوم القيامة، نواصيها وفاؤها، وأذنابها مذابّها» .
وروى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا جروش من جرش- حيّ من اليمن- فأعطاه رجلا من الأنصار فقال: «إذا نزلت فانزل قريبا مني فإني أنشرح إلى صهيله» ، فقعد ليلة يسأله عنه فقال: يا رسول الله إنا خصيناه، فقال:
«فعلت به، الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، أعرافها أدفاؤها، وأذنابها مذابّها التمسوا نسلها، وباهوا بصهيلها المشركين» .
وروى أبو عبيدة عن مكحول قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن جزّ أذناب الخيل، وأعرافها، ونواصيها، وقال: «أما أذنابها فمذابّها، وأما أعرافها فأدفاؤها، وأما نواصيها ففيها الخير» .
وروى أبو نعيم عن أنس رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تهلّبوا أذناب الخيل، ولا تجزوا أعرافها ونواصيها، فإن البركة في نواصيها وأذنابها مذابّها» .
وروى الطبراني برجال الصحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود بنواصي الخير إلى يوم القيامة، ومثل المنفق عليها كالمستكفّ بالصدقة» .
وروى البزار برجال ثقات عن سواد بن الربيع رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
وروى الطبراني برجال ثقات عن أبي كبشة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير، وأهلها معانون، والمنفق عليها كالباسط يديه بالصدقة» .
وروى أبو داود وأبو طاهر المخلّص عن ابن الحنظلية رضي الله تعالى عنه قال: سمعت(7/385)
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وصاحبها معان عليها كالباسط يده بالصدقة، لا يقبضها» .
وروى مسلم وأبو مسلم الكجّي عن جرير بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلوي ناصية فرسه بإصبعه وقال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» .
عن عمارة بن غزيّة رحمه الله تعالى قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبح ذات ليلة فقام إلى فرسه، فمسح عنقه، ووجهه بطرف ردائه، أوبكم قميصه، فقال له بعض أصحابه: صنعت اليوم شيئا ما رأيناك تصنعه، قال: «إنني بت الليلة وجبريل يعاتبني في سياسة الخيل» .
وروى الطبراني عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم ربما فتل عرف فرس بيده.
وروى الإمام أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عروة بن الجعد ويقال ابن أبي الجعد البارقي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل معقود في نواصيها الخير، والأجر، والمغنم إلى يوم القيامة» .
وروى الإمام أحمد والطبراني باختصار برجال ثقات عن جابر رضي الله تعالى عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الخيل في نواصيها الخير، والنّيل إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، فامسحوا بنواصيها، وادعوا لها بالبركة، وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار» .
وروى الإمام أحمد، والنسائي عن أبي وهب الجشمي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ارتبطوا الخيل، وامسحوا بنواصيها وأعجازها» ، وقال: «وأكفالها، وقلدوها، ولا تقلدوها الأوتار» .
وروى أبو عبيدة في كتاب الخيل عن راشد بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قلدوا الخيل، ولا تقلدوها أوتار القسيّ خوفا عليها من الاختناق بها» .
روى مالك في الموطأ، وأحمد في مسنده والشيخان رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، أما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنّت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له فهي كذلك أجر له، ورجل ربطها تعففا ونفقة ثم لم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر، ورجل ربطها فخرا ورياء لأهل الإسلام، فهي عليه وزر» ،
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال: «ما أنزل عليّ فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة(7/386)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الخيل فقال: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، والخيل لثلاثة هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فالرجل يتخذها في سبيل الله، ويعدها له، فلا يغيّب شيئا في بطونها إلا كتب له بها أجر، ولو سقاها من نهر كان له بكل قطرة تغيبها في بطونها أجر حتى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها، ولو استنّت شرفا أو شرفين كتب له بكل خطوة تخطوها أجر، وأما الرجل الذي له ستر فالرجل يأخذها تعففا، وتكرما، وسترا، ولم ينس حق ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها، وأما الذي عليه وزر فالذي يتخذها أشرا وبطرا وبذخا ورياء الناس فذاك الذي هي عليه وزر» ، قيل: يا رسول الله فالحمر قال: «ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الفاذّة فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» .
وروى الطبراني بسند ضعيف عن خبّاب بن الأرت رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخيل ثلاثة، ففرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان، فأما فرس الرحمن فما اتّخذ في سبيل الله، وقوتل عليه أعداء الله تعالى، وأما فرس الإنسان فما استبطن، ويحمل عليه، وأما فرس الشيطان فما روهن عليه وقومر عليه» .
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح عن رجل من الأنصار رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل ثلاثة، فرس يتربّطه الرجل في سبيل الله عز وجل فثمنه أجر، وركوبه وعلفه أجر، وفرس يغالق عليه الرجل ويقامر عليه ويراهن عليه، فثمنه وزر وعلفه وزر، وركوبه وزر، وفرس للاستبطان فعسى أن يكون سترا من الفقر إن شاء الله تعالى» [ (1) ] .
وروى أيضا برجال ثقات عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للإنسان، وفرس للشيطان، فأما فرس الرحمن فالذي يتربّط في سبيل الله عز وجل، فعلفه وبوله وروثه، وذكر ما شاء الله، وأما فرس الشيطان فالذي يقامر عليه، ويراهن عليه، وأما فرس الإنسان فالفرس يرتبطها يلتمس بطنها، فهي ستر من فقر» .
وروى ابن سعد في الطبقات، وابن أبي عاصم في الجهاد عن عريب المليكي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المنفق على الخيل كباسط يده بالصدقة لا يقبضها، وأبوالها وأرواثها عند الله تعالى يوم القيامة كذكي المسك» .
وروى البخاري والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من
__________
[ (1) ] أحمد 4/ 69.(7/387)
احتبسها في سبيل الله إيمانا وتصديقا بوعد الله كان سعيه وروثه حسنات في ميزانه يوم القيامة» .
وروى الواقدي عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من حبس فرسا في سبيل الله كان ستره من النار» .
وروى ابن أبي عاصم في الجهاد عن يزيد بن عبد الله عن عريب المليكي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخيل وأبوالها وأرواثها كفّ من مسك الجنة.
وروى ابن أبي عاصم وابن ماجة عن تميم الداري رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ارتبط فرسا في سبيل الله فعالج علفه بيده كان له بكل حبة حسنة» ، ورواه أحمد [ (1) ] وابن أبي عاصم بلفظ ما من امرئ مسلم ينقي لفرسه شعيرا ثم يعلفه عليه إلا كتب الله تعالى له بكل حبة حسنة.
وروى أبو عبيدة عن معاوية بن حديج قال: مر معاوية بأبي ذر بمصر وهو يمرغ فرسا له، فسلم عليه ووقف، ثم قال: ما هذا الفرس؟ قال: فرس لي لا أراه إلا مستجاب قال: وهل تدعو الخيل فتجاب؟ قال: ليس من ليلة إلا والفرس يدعو فيها ربه فيقول: رب إنك سخّرتني لابن آدم وجعلت رزقي في يده اللهم فاجعلني أحب إليه من أهله، وولده فمنها مستجاب ومنها غير المستجاب، ولا أرى فرسي هذا إلا مستجابا
ورواه النسائي عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من فرس عربي إلا يؤذن له عند كل سحر» ، وفي رواية- فجر- بدعوتين: اللهم خوّلتني من خولتني من بني آدم، وجعلتني له، فاجعلني أحب أهله وماله إليه، أو من أحب أهله وماله إليه.
وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن وهب بن منبه قال: بلغني أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الفرس قال لريح الجنوب: إني خالق منك خلقا أجعله عزا لأوليائي، ومذلّة لأعدائي، هي لأهل طاعتي، فقبض من الريح قبضة، فخلق منها فرسا، فقال: سميتك فرسا عربيا، الخير معقود بنواصيك والغنائم مجموعة على ظهرك والغنى معك وعطفت عليك صاحبك حيث كنت أرعاك بسعة الرزق على غيرك من الدواب، وجعلتك لها شبها، أو جعلتك تطير بلا جناحين، فأنت للطلب، وأنت للرّهب، وسأجعل عليك رجالا يسبحوني فتسبح بحمدي معهم إذا سبحوا، ويهللوني فتهلل معهم إذا هللوا، ويكبروني فتكبر معهم إذا كبروا، فلما هلل الفرس، قال: باركت عليك أرهب بهيأتك المشركين، أملأ منك آذانهم، وأرعب منك قلوبهم، وأذل أعناقهم، فلما عرض الخلق على آدم وسماهم قال الله: يا آدم اختر من
__________
[ (1) ] أحمد 5/ 162، 170.(7/388)
خلقي ما أحببت فاختار الخيل فقال الله تعالى: اخترت عزك وعز ولدك باقيا معهم ما بقوا، بركتي عليك وعليهم أولادا أولادا.
وروى محمد بن يعقوب الختلي في كتاب الفروسية أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أرجم بالليل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اربط فرسا عتيقا» قال فلم يرجم بعد ذلك.
الثاني: فيما حمده من صفاتها.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي وهب الجشمي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بكل كميت أغرّ محجّل، أو أشقر أغرّ محجل أو أدهم أغرّ محجّل» .
وروى الإمام أحمد برجال ثقات عن أبي وهب الكلاعي رحمه الله تعالى أنه سئل لم فضل الأشقر؟ قال: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعث سرية فكان أول من جاء بالفتح صاحب الأشقر.
وروى أبو داود والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا أردت أن تغزو فاشتر فرسا أغر محجلا مطلق اليمين، فإنك تسلم وتغنم» .
وروى الإمام أحمد والترمذي وصححه وابن ماجة والحاكم وصححه عن علي بن رباح عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخيل فقال: «أحسنها الأدهم الأقرح الأرثم المحجّل ثلاثا، مطلق اليمين أو كميت على هذا الشبه» ، وفي لفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم، ثم الأقرح المحجّل، طلق اليمين، فإن لم يكن أدهم فكميت» [ (1) ] .
وروى محمد بن عمر الأسلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «خير الخيل الشّقر والأقارح أغر محجل ثلاثا طلق اليمين» .
وروى سليمان بن بنين النحوي المصري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق تبوك، وقد قل الماء، فبعث الخيل في كل وجه يطلبون الماء فكان أول من طلع بالماء صاحب فرس أشقر، والثاني صاحب أشقر، وكذلك الثالث،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك في الشّقر» .
وروى الخطّابي وأبو عبيدة، وأبو الحسن بن الضحاك عن عطاء رحمه الله تعالى قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «خير الخيل الحوّ» .
__________
[ (1) ] أحمد 4/ 345.(7/389)
وروى ابن عرفة من طريق الواقدي عن نافع بن جبير رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اليمن في الخيل في كل أحوى أحمّ» .
وروى أبو عبيدة عن الشعبي مرسلا، وفي لفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوا الحوائج على الفرس الكميت الأرثم المحجّل الثلاث، المطلق اليد اليمنى» .
الثالث: فيما كرهه من صفاتها.
وروى مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يكره الشّكال من الخيل، والشّكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض. وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى، وفي رجله اليسرى، قال أبو داود أي مخالف، رواه النسائي وقال: والشّكال من الخيل أن يكون ثلاث قوائم محجلة، وواحدة مطلقة، أو تكون الثلاث مطلقة، وواحدة محجلة، وليس يكون الشّكال إلا في الرجل، ولا يكون في اليد [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد بسند جيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إياكم والخيل المنفّلة، فإنها إن تلق العدو تفر، وإن تغنم تغلل» [ (2) ] .
وروى الحافظ أبو الحسن الهيثمي، وكأنه صلى الله عليه وسلم أراد بالخيل أصحاب الخيل، والله تعالى أعلم.
الرابع: في آداب متفرقة.
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسمي الأنثى من الخيل فرسا [ (3) ] .
روى الإمام أحمد والنسائي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة فركبها فقال: «لو حملت الحمير على الخيل لكانت لنا مثل هذه» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون» [ (4) ] .
روى أبو داود في مراسيله عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أكرموا الخيل وجلّلوها» [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في الإمارة باب (27) رقم (101، 102) وأبو داود في الجهاد باب (46) والنسائي في الخيل باب 4 وابن ماجة (2790) وأحمد 2/ 250 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 330.
[ (2) ] أحمد 2/ 356.
[ (3) ] أبو داود (2541) والحاكم 2/ 144 والبيهقي 6/ 330.
[ (4) ] أبو داود (2565) والنسائي 6/ 224 وأحمد 1/ 98، 158، 4/ 311 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (1639) وابن أبي شيبة 12/ 540 والطحاوي في المشكل 1/ 83 وابن سعد 1/ 2/ 175.
[ (5) ] انظر الدر المنثور 3/ 197.(7/390)
وروى الحسن بن عرفة عن مجاهد قال: أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ضرب وجه فرسه ولعنه، فقال: «هذه متع معك لتمسّنّك النار إلا أن تقاتل عليه في سبيل الله» ، فجعل الرجل يقاتل عليه، ويحمل عليه إلى أن كبر وضعف.
وروى الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن خصاء الخيل والبهائم [ (1) ] .
وروى أبو علي بن شاذان عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن خصاء الخيل.
وروى البزار برجال الصحيح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
نهى عن صبر الروح وعن خصاء البهائم، نهيا شديدا [ (2) ] .
وروى أبو عبدة عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل، والإبل، والغنم [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد والطبراني برجال ثقات عن دحية رضي الله تعالى عنه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أحمل لك حمارا على فرس؟ قال: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون» .
وروى الطبراني بسند ضعيف عن أسامة، وابن منده عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي الدّحداح فلما رجع من الجنازة أتى بفرس، وفي لفظ، حصان معرور، وفي لفظ عري، فعقله رجل، فركبه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يتوقّص، فأقبل نتابعه، وفي رواية ونحو نتبعه، نسعى خلفه.
وروى الشيخان والنسائي في اليوم والليلة عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس قلبا، يخرج وقد فزع أهل المدينة، فركب فرسا لأبي طلحة عريا ثم رجع، وهو يقول: «لم تراعوا لم تراعوا» ثم قال «إني وجدته بحرا» .
تنبيهات
الأول: قال أبو الفرج بن الجوزي: في هذا- أي في حديث النهي عن تقليدها بالأوتار- ثلاثة أقوال:
أحدها: لا تقلدوها بالأوتار فتختنق.
__________
[ (1) ] ابن أبي شيبة 12/ 226 والمجمع 5/ 265 والدر المنثور 2/ 223.
[ (2) ] البيهقي 10/ 24 وأحمد 5/ 422 وابن ماجة (3186) .
[ (3) ] أخرجه ابن عدي 4/ 1482.(7/391)
الثاني: أنهم كانوا يقلدونها بالأوتار لئلا تصيبها العين، فأعلمهم إن ذلك لا يرد القدر.
الثالث: لا تطلبوا عليها الذحول التي وترتم بها في الجاهلية.
الثاني: قال بعض العلماء: وإن كان الخير في نواصيها فيبعد أن يكون فيها شؤم، فأما
ما أخرجه مالك وعبد الرزاق في جامعه، والشيخان والنسائي عن ابن عمر، وأبو داود عن سعد ابن أبي وقاص، والشيخان عن سهل بن سعد، ومسلم والنسائي عن جابر رضي الله تعالى عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار، وإن كان الشؤم في شيء ففي الدار، والمرأة، والفرس» ، فحمله على ظاهره، قال: «سمعت من يقر هذا الحديث يقول: شؤم المرأة إذا كانت غير ولود، وشؤم الفرس إذا كان يغز عليها، وشؤم الدار جار السوء» ،
وكذلك حمله مالك منه، قال ابن القاسم: سئل مالك عن الشؤم في الفرس والدار، قال: كم دار سكنها ناس فهلكوا ثم سكنها آخرون فهلكوا.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
السياسة: بسين مهملة مكسورة، فتحتية، فألف، فسين مهملة، فتاء تأنيث: القيام على الشيء بما يصلحه.
الكميت: بضم الكاف، وفتح الميم: الفرس الذي ليس بأشقر، ولا أدهم، بل يخالط حمرته سواد.
الأغر: بهمزة، فغين معجمة، فراء: الأبيض من كل شيء.
المحجل: بميم مضمومة، فحاء مهملة، فجيم مفتوحتين، فلام: وهو بياض يسير دون الغرة.
الأدهم: بهمزة مفتوحة، فدال مهملة ساكنة، فهاء، فميم: الأسود.
الأشقر: بمعجمة، فقاف، من الدواب الأحمر حمرة يحمرّ منها السبيب والعرف والناصية.
الأقرح الحوّ: بالواو سواد ليس بالشديد والنّعت منه أحوى، وهو الكميت الذي يعلوه سواد.
الأحم بالحاء المهملة: أقل سوادا من الحوّ.
والأحوى الأحم: المشاكل للدهمة والخضرة.
الشّية: بمعجمة، فتحتية، كل لون يخالط لون الفرس.(7/392)
الباب الثاني في رهانه عليها صلى الله عليه وسلّم ومسابقته بها
روى الإمام أحمد برجال ثقات عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سابق بين الخيل وراهن [ (1) ] .
وروى أبو داود والدارقطني قال: سابق نبي الله صلّى الله عليه وسلم بين القرّح، وفضل القرّح في الغابة.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والدّارقطني عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضمّر الخيل، زاد الأخير أن يسابق بها [ (2) ] .
وروى الطبراني برجال الصحيح والختلي في كتاب الفروسية عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم سابق بين الخيل، وجعل بينها سبقا، وجعل فيها محلّا، وقال: «لا سبق إلا في حافر أو نصل» .
وروى الإمام مالك، وأبو داود والترمذي والنّسائي والإمام أحمد عنه قال: أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ضمّر من الخيل من الحفياء إلى ثنية الوداع، وأجرى ما لم يضمّر من الثنية إلى مسجد بني زريق، قال ابن عمر: وكنت فيمن أجرى قال سفيان: من الحفياء إلى الثّنيّة خمسة أميال، وفي رواية ستة أو سبعة، ومن الثنية إلى مسجد بني زريق ميل أو نحوه، وعند الإمام أحمد، قال عبد الله: وكنت فارسا يومئذ فسبقت الناس فطفّف، وفي لفظ: فطفر بي الفرس مسجد بني زريق، وفي لفظ: اقتحم بي جرفا فصرعني، وفي لفظ: وثب بي المسجد، وكان جداره قصيرا.
وروى أبو عبيدة عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم سبّق بين الخيل وأعطى السّبق وأمر بها أن تضمّر، وجعل غايته الرّبع والخداع من القائمة، وأجرى التخرج من الحفياء وجعل الغاية المعلّى.
وروى الإمام أحمد برجال ثقات، والدارقطني، والطبراني عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم راهن على فرس يقال لها سبحة فجاءت سابقة، فهش لذلك وأعجبه.
وروى الطبراني عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمّر الخيل، وسابق بينها.
__________
[ (1) ] أبو داود (2575) وانظر المشكاة (3870) .
[ (2) ] أحمد 2/ 86 وأبو داود (2576) وأبو نعيم في تاريخ أصفهان 2/ 124.(7/393)
وروى البزار عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: ضمّر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل، ووقت لإضمارها وقتا، وقال: «يوم كذا وكذا، وموضع كذا وكذا» ، وأرسل الخيل التي ليست مضمّرة من دون ذلك.
وروى الإمام أحمد، والطبراني- برجال ثقات- عن أبي لبيبة رضي الله تعالى عنه قال:
راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس يقال لها سبحة، فسبق الناس، فهش لذلك، وأعجبه.
وروى الطبراني عن عروة بن مضرّس، رضي الله تعالى عنه أنه كان يسوق فرسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبارك الذي كفت حوافرهن، وسوافلهن» .
وروى الطبراني عن أبي عن حثمة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ركب فرسا فجرى به، فرجع إلينا فقال: «وجدناه بحرا» .
وروى أيضا عن عبد الله بن معقل رضي الله تعالى عنه قال: بينا نحن جلوس بالمدينة إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له، فانطلق حتى خفي علينا، ثم أقبل وهي تعدو- الحديث.
وروى الحافظ أبو القاسم تمام بن محمد بن عبد الله الرازي في فوائده عن واثلة بن الأسقع رضي الله تعالى عنه قال: أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسه الأدهم في خيول المسلمين في المحصّب بمكة، فجاء فرسه سابقا، فجثا على ركبتيه حتى إذا سرّ به، قال: «إنه لبحر»
فقال ابن الخطاب في قوله: ولو كان صابرا أحد عن الخيل لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى الناس بذلك حيث يقول:
وإنّ جياد الخيل لا تستفزّني ... ولا جاعلات العاج فوق المعاصم
تنبيهان
الأول: قال ابن عابدين: سابق صلى الله عليه وسلّم بين الخيل على حلل أثنية من اليمن، فأعطى السابق ثلاث حلل، والمصلّي حلّتين، والثالث حلّة، والرابع دينارا والخامس درهما، والسادس قطعة،
وقال: «بارك الله فيك، وفي كلكم» .
وروى أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري عن ابن سعد عن أبيه عن جده قال: أجرى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيل، فسبقت على فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم الظّرب، فكساني بردا يمانيا، قال: «وقد أدركت بعضه عندنا» .
وروى أيضا من هذا الطريق عن الزبير بن المنذر أن أبا أسيد السّاعدي سبق على فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم لزاز فأعطاه حلّة يمانية.(7/394)
وروى الختلي عن أبي علقمة- مولى بني هاشم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر بإجراء الخيل، وسبقها ثلاثة أعذق، من ثلاث نخلات، أعطى السابق عذقا، وأعطى المصلّي عذقا، ثم أعطى الثالث عذقا، قال: «وذلك رطب» .
وروى أيضا عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أجرى الخيل يوما، فجاء فرس له أدهم سابقا، وأشرف على الناس،
فقالوا: الأدهم الأدهم مرتين، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلّم على ركبته، ومر به وقد انتشر ذنبه، وكان معقودا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنه لبحر» .
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
القرّح: بضم القاف، وفتح الراء المشددة، وبالحاء المهملة: يقال قرح الحافر قروحا إذا انتهت أسنانه، وإنما تنتهي في خمس سنين، لأنه في السنة الأولى حولي ثم جذع ثم ثنى ثم رباع ثم قارح، يقال أجذع المهر وأثنى وقرّح وأربع هذا بغير ألف، والفرس قارح، والجمع قرّح.
راهن: يقال: راهنت فلانا على كذا مراهنة: خاطرته، وأرهنته به ولديّ إرهانا: أخطرته به خطرا.
السّبق: بسين مفتوحة مهملة فموحدة مفتوحة: وهو الجعل الذي يقع عليه السباق.
والسّبق بإسكان الموحدة: مصدر سبقه قال الخطابي: والرواية الصحيحة بفتح الموحدة، يريد أن العطاء والجعل لا يستحق إلا في سباق هذا الأشياء.
وحكى ابن دريد في الجمهرة لغتين في السبق بمعنى الجعل، فتح الباء، وإسكانها.
والخف: كناية عن الإبل والحافر كناية عن الخيل والنصل: كناية عن السهم، وذلك على حذف مضاف أي ذو خف، وذو حافر، وذو نصل.
والخطر بتحريك الطاء: السّبق الذي يتراهن عليه.
الحفياء: يمد ويقصر موضع بالمدينة.
اقتحم: بهمزة، فقاف ساكنة، فمثناة فوقية، فحاء مهملة.
الجرف: بجيم فراء مضمومتين: ما يجرفه السيل من الأودية.(7/395)
الباب الثالث في عدد خيله صلّى الله عليه وسلم
وفيه نوعان الأول المتفق عليه:
الأول: السكب بفتح السين المهملة وسكون الكاف وبالموحدة.
روى ابن سعد عن محمد بن يحيى بن سهل عن أبي حثمة- بحاء مهملة، فثاء مثلثة ساكنة، فميم فتاء تأنيث عن أبيه قال: أول فرس ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرس ابتاعه بالمدينة من رجل من بني فزارة بعشر أواق، وكان اسمه عند الأعرابي: الضّرس، فسماه النبي صلى الله عليه وسلّم السّكب، فكان أول ما غزا عليه أحدا، ليس مع المسلمين فرس غيره، وفرس لأبي بردة بن نيار يقال له: ملاوح، وروى أيضا عن يزيد بن حبيب قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فرس يدعى السّكب.
وروى أيضا عن علقمة بن أبي علقمة قال: بلغني أن اسم فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم السّكب، وكان أغّر محجّلا طلق اليمين، قال محمد بن حبيب البغدادي في كتابه في أخبار قريش: كان السّكب أغرّ محجّلا، مطلق اليمين، وذكر هو وابن عبدوس أنه كان كميتا قال:
وكان هو الذي يتمطّى عليه ويركب، وقال الإمام عز الدين علي بن محمد الأثير: كان أدهم، ويؤيده ما رواه الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرس أدهم يسمى السّكب، قال أبو منصور عبد الملك بن محمد الثّعالبي: إذا كان الفرس خفيف الجري سريعه فهو فيض، وسكب، شبّه بفيض الماء وإسكابه، وبه سمي أحد أفراس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: سبحة: بفتح السين المهملة، وسكون الموحدة، وبالحاء.
روى ابن سعد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس يقال له السّبحة، فجاءت سابقة، فهش لذلك، وأعجبه.
قال ابن بنين: هي فرس شقراء ابتاعها من أعرابي من جهينة بعشر من الإبل، وسابق عليها يوم خميس، ورد الخيل بيده، ثم خلى عنها، وسبح عليها، فأقبلت الشقراء- حتى أخذ صاحبها العلم- وهي تغبّر في وجوه الخيل، فسميت سبحة قال: غيره سبحة من قولهم فرس سابح إذا كان حسن مد اليدين في الجري، وسبح الفرس جريه قال: سبحة من سبح إذا علا علوا في اتساع، ومنه سبحان الله، وسبحان الله عظمته وعلوه، لأن الناظر المفكر في سبحاته يسبح في بحر لا ساحل له.(7/396)
الثالث: المرتجز:
روى ابن سعد، والطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فرس يقال له: المرتجز.
وروى أبو الحسن الخلعي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له الرتجز.
وروى ثابت بن قاسم في دلائله عن عبد بن حميد قال: كان اسم فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم المرتجز.
وروى ابن سعد عن محمد بن يحيى بن سهل عن أبي حثمة قال: المرتجز هو الذي اشتراه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعرابي هو الذي شهد له فيه خزيمة بن ثابت، وكان الأعرابي من بني مرّة، رواه أبو بكر بن أبي حثمة عن يزيد بن أبي جبير، وذكر العلماء أن الأعرابي اسمه سواء بن الحارث أو المحارب بن خصفة- بخاء معجمة، فصاد مهملة، ففاء مفتوحات، من قيس عيلان، ومرّة هو ابن عوف بن سعد بن ذبيان- بضم الذال المعجمة وكسرها-، قال ابن الأثير: كان أبيض، وقال بعض العلماء إنما سمي المرتجز لحسن صهيله، وهو مأخوذ من الرّجز الذي هو ضرب من الشّعر يقال: رجز الرّاجز وارتجز. وقيل: شبه بارتجاز الرعد.
الرابع: لزاز.
روى أبو سعيد بن الأعرابي عن ربىّ بن عباس بن سهل بن حنيف عن أخيه مصدّق بن عباس عن أبيه هكذا قال: إنه كان للنبي صلى الله عليه وسلّم فرس يقال له الظّرب وآخر يقال له: اللّزاز وسيأتي، وفي اللّحيف أن المقوقس أهداه لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن بنين: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم به معجبا لشدة دموجه، وكان عليه في كثير من غزواته، وذكر أيضا أنه كان عليه يوم بدر، وهو غير منجد لأن غزاة بدر كانت في السنة الثانية، وبعثه صلى الله عليه وسلّم للمقوقس، وغيره من الملوك كان حين رجوعه من الحديبية من ذي الحليفة سنة ست وحينئذ بعث إليه المقوقس ممّا بعث اللّزاز بكسر اللام، وبزاءين، بينهما ألف: من قولهم لأززته أي لاصقته، كأنه يلتزق بالمطلوب لسرعته، وقيل لاجتماع خلقه، واللّزاز المجتمع والخلق الشديد الأسر، قال السهيلي: معناه لا يسابق شيئا إلا لزّه أي أثبته.
الخامس: الظّرب بكسر الظاء المعجمة، وسكون الراء، وبالباء: وهو الكريم من الخيل، يقال فرس ظرب وخيل ظروب قاله الأصمعي، وقال أبو زيد: هو نعت للذكر خاصة، والظّرب أيضا: الكريم من الفتيان ويقال: الظّرب أيضا بظاء معجمة مفتوحة مشددة، فراء مكسورة، فموحدة واحد الظراب، وهي الروابي الصغار سمي به لكبره وسمنه، وقيل: لقوته وصلابة(7/397)
حافره، وسيأتي في اللّحيف أن مهديه فروة بن عمرو الجذامي.
السادس: اللّحيف بفتح اللام المشددة المفتوحة، وكسر الحاء المهملة، وسكون التحتية وبالفاء، فعيل بمعنى فاعل، كان يلحف الأرض بذنبه لطوله أي يغطيها، ويقال بالخاء المعجمة، حكاه البخاري في الصحيح، ويقال فيه اللّحيف بضم اللام، وفتح الحاء، وروي بالنون بدل اللام من النحافة.
روى البخاري عن ابن عباس بن سهل بن سعد بن مالك عن أبيه عن جده قال: كان للنبي صلى الله عليه وسلم في حائطنا فرس يقال له: اللّحيف.
وروى الطبراني عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنهما قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي ثلاثة أفراس: لزاز والظّرب واللّحيف، فأما لزاز فأهداه له المقوقس، وأما اللّحيف فأهداه له ربيعة بن أبي البراء، فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب، وأما الظّرب فأهداه له فروة ابن عمرو الجذامي.
وروى ابن منده من طريق عبد المهيمن بن عباس بن سهل عن أبيه عن جده قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفراس يعلفهن عن سهل بن سعد، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميهن اللّزاز والظّرب واللّحيف قال ابن بنين والظّرب أهداه له فروة بن عمرو، من أرض البلقاء، ثم حكى أن ابن أبي براء أهداه له.
السابع: الورد بفتح الواو، وسكون الراء، وبالدال المهملة: وهو بين الكميت الأحمر والأشقر.
روى ابن سعد عن ابن عباس بن سهل عن أبيه عن جده أن تميما الدّاري أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فرسا يقال له الورد، فأعطاه عمر، فحمل عليه عمر في سبيل الله فوجده يباع برخص.
النوع الثاني: في المختلف فيه:
الأول: النّجيب كالكريم لفظا ومعنى.
الثاني: البحر عدّه ابن بنين في خيل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: اشتراه من شعراء قدموا من اليمن، فسبق عليه مرات فجثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، ومسح وجهه، وقال: ما أنت إلا بحر، قال ابن الأثير: كان كميتا وقال الحافظ أبو محمد الدّمياطي: والظاهر أنه الأدهم، قال الثعالبي: إذا كان الفرس لا ينقطع ماؤه يسمى بحرا وأرمل من تكلم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في وصف فرس ركبه.(7/398)
الثالث: ذو اللّمة بكسر اللام وفتح الميم المشددتين، وذكره ابن حبيب في خيله صلّى الله عليه وسلّم واللّمّة: بين الوفرة والجمّة، فإذا وصل شعر الرأس إلى شحمة الأذن فهو وفرة، فإن زادت حتى ألمت بالمنكبين فهي لمّة، فإذا زادت: فهي حمّة.
الرابع: ذو العقّال بضم العين المهملة، وتشديد القاف، وتحقّق، ذكره بعض العلماء في خيله صلّى الله عليه وسلّم والعقّال: طلع يوجد في قوائم الدابة.
الخامس: السّجل بكسر السين المهملة، وسكون الجيم، قال أبو محمد الدّمياطي:
كذلك ألفيته مضبوطا، فإن كان محفوظا غير مصحف فلعله مأخوذ من قولك سجلت الماء فانسجل أي صببته فانصب وأسجلت الحوض ملأته.
السادس: الشّحّاء بالشين المعجمة والحاء المهملة المشددة المفتوحتين عده ابن الأثير في خيله صلّى الله عليه وسلّم، مأخوذ من قولهم فرس بعيد الشّحوة أي بعيد الخطوة، وجاءت الخيل شواحي فاتحات أفواهها، وشحا فاه يشحو شحوا إذا انفتح، يتعدى ولا يتعدى، قال أبو محمد الدّمياطي: وأخاف أن يكون السّجل مصحفا من الشّحّاء.
السابع: السّرحان عده ابن بنين نقلا عن ابن خالويه في خيله صلّى الله عليه وسلّم والسّرحان الذئب وهذيل تسمى الأسد سرحانا.
الثامن: المرتجل: بضم الميم، وسكون الراء وفتح الفوقية، وكسر الجيم، وباللام، ذكره ابن بنين نقلا عن ابن خالويه يقال: ارتجل الفرس ارتجالا إذا خلط العنق بشيء من الهملجة، فراوح بين شيء من هذا، وشيء من هذا، والعنق: بفتح العين، والنون: يباعد بين خطاه، ويتوسع في جريه، والهملجة: أن يقارب بين خطاه من الإسراع.
التاسع: الأدهم ذكره ابن بنين نقلا عن ابن خالويه.
العاشر: اليعسوب ذكره قاسم بن ثابت، وابن خالويه في خيله صلّى الله عليه وسلّم واليعسوب: طائر أطول من الجرادة، ولا يضم جناحيه إذا وقع، تشبه به الخيل في الضّمر.
الحادي عشر: اليعبوب واليعبوب الفرس الجواد، وجدول يعبوب: شديد الجري، قال يعقوب هو البعيد العدو في الجري، قال النّخعي هو الطويل أيضا.
الثاني عشر: الأبلق حمل عليه بعض أصحابه، والبلق سواد في بياض.
الثالث عشر: الكميت.
الرابع عشر: النّجيب ككريم لفظا ومعنى.
الخامس عشر: ملاوح والضّامر الذي يسمن، والسريع العدو، والعظيم الألواح، وهذا(7/399)
هو الملواح أيضا،
روى أبو داود عن الهذلي والنّسائي عن الزّهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلّم ليقضيه ثمن فرسه فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم في المشي، وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يساومون بالفرس، ولم يشعروا أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه به النبي فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم أن كنت مبتاعا هذه الفرس فابتعه، وإلا بعته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل قد ابتعته» ، فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلّم وبالأعرابي وهما يتراجعان فجاء خزيمة بن ثابت فسمع مراجعة النبي صلى الله عليه وسلّم ومراجعة الأعرابي فطفق الأعرابي يقول: هلمّ شهيدا يشهد أني قد بعتك، فقال خزيمة: أنا أشهد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخزيمة: «بم تشهد؟» فقال: بتصديقك يا رسول الله، وفي رواية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«أحضرتنا يا خزيمة؟» فقال: لا، فقال: «كيف شهدت بذلك؟» قال بأبي أنت وأمي أصدّقك على أخبار السماء، وما يكون في ابتياعك هذا الفرس؟ فقال صلى الله عليه وسلّم: «إنك لذو الشهادتين يا خزيمة» [ (1) ] .
السادس عشر: الطّرف بكسر الطاء المهملة، وتقدم في الظرب.
السابع عشر: الضّرس: بفتح الضاد المعجمة المشددة: الصّعب، السيء الخلق، روى ابن سعد أنه أول فرس ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقدم بتمامه أول الباب.
الثامن عشر: مندوب، روى الشيخان عن حماد بن زيد، والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما.
التاسع عشر: المرواح بكسر الميم، من أبنية المبالغة، مثل الملقام والمقدام، وهو مشتق من الريح، وأصلها الواو، وإنما جاءت الياء لانكسار ما قبلها، فيحتمل أنه سمي بذلك لسرعته كالريح، أو لتوسعه في الجري كالرّوح، وهو السعة أو لأنه يستراح به من الراحة، أو قولهم راح الفرس يراح راحة: إذا تحصّن، أي صار فحلا.
وروى ابن سعد عن زيد بن طلحة أن وفد الرّهاويين أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدايا منها فرس يقال لها: المرواح فسر به فشور بين يديه، فأعجبه وذكر ابن الكلبي في الجمهرة أن مرداس بن مؤيلك بن واقد رضي الله تعالى عنه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأهدى له فرسا.
وروى الطبراني في الصّغير أن عياض بن حمار المجاشعي أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم فرسا قبل أن يسلم، فقال: «إني أكره زبد المشركين وقال إن المهدي له نجيبة وكان صديقا له، إذا قدم عليه مكة لا يطوف إلا في ثيابه» ، فقال: أسلمت، قال: «إن الله تعالى نهاني عن زبد
__________
[ (1) ] أحمد 5/ 215.(7/400)
المشركين» ، فأسلم فقبلها منه، وقال يا رسول الله: الرجل من قومي أسفل مني يشتمني، فأنتصر منه، فقال عليه الصلاة والسلام: «المستبّان شيطانان يتهاتران يتكاذبان» .
وقد نظم الحافظ الكبير أبو الفضل عبد الرحيم بن الحسين العراقي رحمه الله تعالى أسماء ما وقف عليه من أسماء خيله صلّى الله عليه وسلّم وصدر بالسبعة المتفق عليها فقال.
خيل النبيّ عدّة لم تختلف ... في السّبع الأولى كلّها مركوب
سكب لزاز ظرب مرتجز ... ورد لحيف سبحة مندوب
أبلق ذو العقّال بحر ضرس ... مرتجل ذو اللّمّة اليعسوب
أدهم سرحان الشّحا مراوح ... سجل نجيب طرف اليعبوب
ملاوح عدّة أربعة تلي ... عشرين لم يحظ بها مكتوب
وقد نظم بعض ذلك الحافظ أو الفتح بن سيد الناس [ (1) ] فقال:
لم يزل في حربة ... ذا ثبات وثبات
ومضاء قصرت عنه ... مواضي المرهفات
كلفا بالطّعن والضّرب ... وحبّ الصّافنات
من لزاز ولحيف ... ومن السّكب المؤات
ومن المرتجز السّابق ... سبق الذّاريات
ومن الورد ومن سبحة ... مثل العاديات
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
السّكب: الخفيف الجري السريعة ويسمى القضّ قال أبو منصور الثّعالبي: شبه بقض الماء وإسكابه، وبه سمّي أحد أفراس رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فزارة: بفاء فزاي فألف فراء مفتوحات فتاء تأنيث.
يتمطى: بتحتية ففوقية فميم فطاء مفتوحات: يتمدد.
فهش، لذلك يهشّ هشّا إذا ارتاح له، وخف إليه، وكذلك هششت بفلان، بالكسر، أهشّ له هشاشة إذا خففت إليه وارتحت له ورجل هشّ.
شوّر: بضم الشين المعجمة، وكسر الواو المشددة، من قولهم شوّرت الدابة شورا
__________
[ (1) ] محمد بن محمد بن محمد بن أحمد، ابن سيّد الناس، اليعمري الربعي، أبو الفتح، فتح الدين: مؤرخ، عالم بالأدب. من حفاظ الحديث، له شعر رقيق. أصله من إشبيلية، مولده ووفاته في القاهرة. من تصانيفه «عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير» ومختصره «نور العيون وبشرى اللبيب في ذكرى الحبيب وتحصيل الإصابة في تفضيل الصحابة» .
توفي سنة 734 هـ. انظر الأعلام 7/ 34، 35.(7/401)
عرضتها على البيع، أقبلت بها وأدبرت، والمكان الذي تعرض فيه الدابة مشوّرا.
سبحة: سمي بذلك من قولهم فرس سابح إذا كان حسن مدّ اليدين في الجري.
المرتجز: قال ابن الأثير: كان أبيض وإنما سمي بذلك لحسن صهيله.
اللّزاز: تقدم تفسير ابن بنين، وقال الدّمياطي: اللّزاز من لاززته أي لاصقته، كان يلتزق بالمطلوب لسرعته، وقيل لاجتماع خلقه، ولملزّز المجتمع الخلق الشديد الأسر.
الظّرب: إنما سمي بذلك لكبره وسمنه، وقيل لقوته وصلابة حافره.(7/402)
الباب الرابع في بغاله، وحميره صلّى الله عليه وسلم
وفيه نوعان:
الأول: في بغاله صلى الله عليه وسلّم وهن سبع:
الأولى: دلدل لم يمت صلى الله عليه وسلّم عن شيء سواها.
وروى ابن سعد عن الزهري قال: أهدي دلدل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة بن عمرو الجذامي انتهى، كذا في هذه الرواية، والمشهور أن الذي أهداها له المقوقس كما سيأتي.
وروى أيضا عن علقمة بن أبي علقمة قال: بلغني والله أعلم أن اسم بغلة النبي صلى الله عليه وسلّم الدّلدل، وكانت شهباء، وكانت بينبع حتى ماتت.
وروى أيضا عن موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال: كانت دلدل بغلة النبي صلى الله عليه وسلم أول بغلة رئيت في الإسلام، أهداها له المقوقس، بقيت حتى كانت زمن معاوية.
وروى أيضا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بغلة شهباء، فهي أول بغلة كانت في الإسلام، فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجته أم سلمة، فأتته بصوف، وليف ثم فتلت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلّم لها رسنا وعذارا، ثم دخل البيت، فأخرج عباءة مطرّفة فثناها، ثم ربّعها على ظهرها، ثم سمى وركب، وردفني خلفه.
وروى ابن عساكر- من طرق- أنها بقيت حتى قاتل عليها علي بن أبي طالب في خلافته الخوارج، وذكر ابن إسحاق إنها كانت في منزل عبد الله بن جعفر يجشّ، أو يدق لها الشعير، وقال الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد القدسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يركب دلدل في الأسفار، وعاشت بعده حتى كبرت، رأيت أسنانها، وكان يجش لها الشعير، وماتت بينبع [ (1) ] ، والدّلدل: عظيم القنافذ والدّلدال: الاضطراب وقد تدلدل الشيء: أي تحرك متدليا.
الثانية: فضّة.
روى ابن سعد عن زامل بن عمرو إن فروة بن عمرو الجذامي أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بغلة يقال لها فضّة، فوهبها لأبي بكر.
وروى عبد بن حميد عن كثير بن العباس رضي الله تعالى عنهما قال: لزمنا
__________
[ (1) ] (ينبع) : بالفتح، ثم السكون، والباء موحدة مضمومة، وعين مهملة، مضارع نبع: حصن وقرية غنّاء على يمين رضوى لمن كان منحدرا من أهل المدينة إلى البحر على ليلة من رضوى.(7/403)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارق يعني يوم حنين، وهو على بغلة شهباء، وفي لفظ: بيضاء أهداها له فروة بن نعامة الجذامي.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه أن ملك أيلة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلّم بغلة بيضاء، وكساه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردة وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وروى عمر بن عبد الله الأنصاري في جزئه عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأخذ القوم في عقبة، أو ثنية قال: فكان الرجل إذا ما علاها قال: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أيها الناس إنكم لا تدعون أصم، ولا غائبا» ، وهو على بغلة يعرضها، فقال: «يا أبا موسى» ، أو «عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟» قلت: بلى، قال: «لا حول ولا قوة إلا بالله» [ (1) ] .
الثالثة: بغلة أهداها ابن العلماء وهو بفتح العين المهملة، وإسكان اللام، وبالمد، قاله النووي، والقرطبي، وزاد وهو تأنيث الأعلم، مشقوقة الشفة العليا.
وروى مسلم أول الفضائل والبخاري في كتاب الجزية والموادعة بعد الجهاد عن أبي حميد الساعدي رضي الله تعالى عنه قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بتبوك فذكر الحديث، وقال فيه وجاء رسول ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بكتاب، وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأهدى له بردة رواه أبو نعيم في المستخرج، ولفظه وأهدى ملك أيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم بغلة بيضاء، فكساه برداء، وقال أبو نعيم: بردة، وكتب له ببحرهم، قال علي بن محمد بن الحسين بن عبدوس: كانت طويلة محذوفة، كأنما تقوم على رمال، حسنة السير فأعجبته، ووقعت منه، وهي التي
قال له فيها علي بن أبي طالب حين خرج عليها: كأن هذه البغلة قد أعجبتك يا رسول الله، قال: «نعم» ، قال: «لو شئت لكان لك مثلها» ، قال: وكيف؟ قال: «هذه أمها عربية، وأبوها حمار ولو أنزينا حمارا على فرس لجاءت بمثل هذه» ، فقال: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون.
وروى ابن سعد عن علي رضي الله تعالى عنه قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة، فقلنا: يا رسول الله إنا أنزينا الحمر على خيلنا فجاءتنا بمثل هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون» .
الرابعة: بغلة أهداها له كسرى، فركبها بحبل من شعر، ثم أردف ابن العباس خلفه رواه في تفسير قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ من سورة الأنعام، قال
__________
[ (1) ] أحمد 4/ 407، 418.(7/404)
الحافظ أبو محمد الدّمياطي: وهو بعيد، لأنه مزّق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وأمر عامله باليمن بقتله، وبعث رأسه إليه فأهلكه الله تعالى بطغيانه وكفره، وأخبر عليه الصلاة والسلام عامله بقتله ليلة قتل، قلت: فيحتمل- إن صح ما ذكره الثعلبي- أن يكون الذي أرسل بالبغلة ولد المقتول وفي سند الثّعلبي عبد الله بن ميمون القداح- أبو حاتم متروك، وقال البخاري ذاهب الحديث.
الخامسة: من دومة الجندل [ (1) ] .
روى ابن سعد في آخر غزوة بني قريظة: بعث صاحب دومة الجندل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بغلة وجبّة من سندس، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتعجبون من حسن الجبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذه» .
وروى الإمام إبراهيم الحربي في كتاب الهدايا عن علي رضي الله تعالى عنه قال: أهدى يوحنا بن رؤبة بغلة بيضاء.
السادسة: من عند النجاشي.
السابعة: تسمى حمارة شامية.
روى ابن السكن عن بسر والد عبد الله المازني أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم، وهو راكب على بغلته البيضاء، ولم يمت صلى الله عليه وسلّم عن شيء منهن سوى الشهباء.
النوع الثاني: في حميره صلى الله عليه وسلّم وهي أربعة:
الأول: عفير، بضم العين المهملة، وفتح الفاء، وقيل بالغين المعجمة، قال النووي والحافظ: وهو غلط، مأخوذ من العفرة، وهو لون التراب، كأنه سمي بذلك لكون العفرة حمرة يخالطها بياض، أهداه له المقوقس قال ابن عبدوس: كان أخضر، قال أبو محمد الدّمياطي:
عفير تصغير عفر مرخما مأخوذ من العفرة، وهو لون التراب، كما قالوا في تصغير أسود أسيود، وتصغيره غير مرخم أعيفر كأسيود.
وروى أبو داود الطيالسي وابن سعد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كانت الأنبياء يلبسون الصوف، ويحلبون الشاة ويركبون الحمير، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمار يقال له عفير.
وروى ابن أبي شيبة، والبخاري، والبرقي عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه قال:
__________
[ (1) ] دومة الجندل بالضم، ويفتح. وأنكر ابن دريد الفتح، وعدّه من أغلاط المحدثين، وجاء في حديث الواقدي دوما الجندل. قيل: هي من أعمال المدينة، حصن على سبعة مراحل من دمشق بينها وبين المدينة. مراصد الاطلاع 24/ 542.(7/405)
كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير، وكان يسمى به تشبيها في عدوه باليعفور، وهو الظبي، وقيل: الخشيف: ولد البقرة الوحشية أيضا، العفير من الظباء التي يعلو بياضها حمرة، وهو أضعف الظباء عدوا، وعفير أهداه له المقوقس، وأما يعفور فأهداها له فروة ابن عمرو الجذامي، ويقال: إن حمار المقوقس يعفور، وحمار فروة عفير.
الثاني: يعفور بسكون العين المهملة وضم الفاء، وهو اسم ولد الظبي، سمي بذلك لسرعته، أهداه له فروة بن عمرو الجذامي.
روى ابن سعد عن زامل بن عمرو قال: أهدى فروة بن عمرو الجذامي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماره يعفورا، ويقال: بل أهدى الأول، وأهدى المقوقس الثاني، قال الحافظ: وهو عفير المتقدم، قال محمد بن عمر: نفق يعفور منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع، وذكر السّهيلي أن اليعفور طرح نفسه في بئر يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم فمات.
الثالث: حمار أعطاه له سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه، وذكر أبو زكريا بن مندة في كتاب أسامي من أردفه صلّى الله عليه وسلم من طريق عمرو بن سرجيس.
الرابع: حمار أعطاه له بعض الصحابة.
روي عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي إذ جاء رجل معه حمار فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلّم اركب فتأخر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا، أنت أحق بصدر دابتك مني إلا أن تجعله لي» قال: فإني قد جعلته لك، قال: فركب [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أحمد 5/ 353.(7/406)
الباب الخامس في لقاحه وجماله صلى الله عليه وسلم
وفيه أنواع:
الأول: في لقاحه صلى الله عليه وسلم.
روى ابن مسعود عن معاوية بن عبد الله بن أبي رافع قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاح وهي التي أغار عليها القوم بالغابة وهي عشرون لقحة، وكانت التي يعيش بها أهل محمد صلى الله عليه وسلّم، يراح إليه كل ليلة بقربتين من لبن، وكان فيها لقائح لها غرز كما في الهدى- خمس وأربعون، لكن المحفوظ من أسمائهن سنذكره.
الأولى: الحناء.
الثانية: السّمراء.
الثالثة: العريس.
الرابعة: السعدية.
الخامسة: البعوم، بالباء الموحدة، والعين المعجمة.
السادسة: اليسيرة كانت هي والسمراء والعريس يحلبن، ويراح إليه لبنهن كل ليلة، وكان فيها غلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى يسارا، فاستاقها العيّرنون وقتلوا يسارا ونحروا الحناء.
السابعة: الرّيّاء.
الثامنة: بردة كانت تحلب كما تحلب لقحتان غزيرتان، أهداها له الضحّاك بن سفيان الكلابي.
التاسعة: الحفدة.
العاشرة: مهرة أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بن عقيل.
الحادية عشرة: الشقراء أو الرّيّاء ابتاعها بسوق النّبط من بني عامر، وقيل كانت له لقحة تدعى سورة.
روى ابن سعد عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان عيشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أو قالت: كان أكثر عيشنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقائح بالغابة، كان قد فرقها على نسائه، فكانت لي منها لقحة تسمى العريس فكان لنا منها ما شئنا من اللبن، وكانت لعائشة لقحة تسمى السّمراء غزيرة، ولم تكن كلقحتي، فقرب راعيهن اللّقاح إلى مرعى الغابة(7/407)
تصيب من أثلها وطرفائها فكانت تروح على أبياتنا، فنؤتى بها فيحلبان فيأخذ لقحته يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أغزر منها بمثل لبنها أو أكثر [ (1) ] .
وروى عنها أيضا قالت: أهدى الضحّاك بن سفيان الكلابي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقحة تدعى بردة لم أر من الإبل شيئا قط أحسن منها، وتحلب ما تحلب لقحتان غزيرتان، فكانت تروح على أبياتنا ترعاها هند وأسماء يعتّقانها بأحد مرة وبالبيضاء مرة ثم تأوي إلى منزلنا معه وقد ملأ ثوبه بما يسقط من الشجر، ومما يهشّ من الشجر فتبيت في علق حتى الصباح، فربما أتى عليّ الضيافة، فيشربون حتى ينهلوا غبوقا، ويفرّق علينا بعض ما فضل، وحلابها صبوحا حسن.
وروى أيضا عن عبد السلام بن جبير عن أبيه قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سبع لقائح تكون بذي الجدري، وتكون بالحمى، وكان لبنها يأتي إلينا، لقحة تسمى: مهرة، وأخرى تدعى: الشّقراء، وأخرى تدعى الرّيّاء، وأخرى: تدعى بردة، والسمراء والعريس والحناء.
النوع الثاني: في ركائبه صلى الله عليه وسلم.
روى ابن سعد عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كان القصواء من نعم بني الحريش ابتاعها أبو بكر بأربعمائة، وكانت عنده حتى نفقت، وهي التي هاجر عليها، وكانت حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم المدينة رباعية، وكان اسمها القصواء والجدعاء والعضباء.
وروى أيضا عن ابن المسيب قال: كان اسمها العضباء، وكان في طرف أذنها جدع وكانت تسبق كلما وقعت في سباق.
وروى الإمام أحمد، والبخاري، وأبو داود، والنسائي وابن سعد عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء، لا تسبق، فقدم أعرابي على قعود له فسبقها، فسبقت، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «حقّ على الله تعالى أن لا يرفع شيئا في الدنيا إلا وضعه» ، ورواه الدّارقطني ولفظه قال: سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابيّ فسبقه، وكأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجدوا في أنفسهم من ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: «حقّ على الله تعالى أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا إلا وضعه» ، ورواه أيضاً عن أبي هريرة، لكنه قال: القصواء وفي رواية العضباء [ (2) ] .
وروى ابن سعد نحوه عن سعيد بن المسيّب وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الناس إذا
__________
[ (1) ] ابن سعد 2/ 82 ومغازي الواقدي 2/ 537.
[ (2) ] الحديث عند أبي داود (4802) والنسائي 6/ 228 والشافعي كما في البدائع (1189) والدارقطني 4/ 303 وابن أبي شيبة 12/ 58.(7/408)
رفعوا شيئا أو أرادوا رفع شيء وضعه الله تعالى» [ (1) ] .
وروى ابن سعد عن قدامة بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّته يرمي على ناقة صهباء.
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن أبي كاهل رضي الله تعالى عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بالناس يوم عيد على ناقة مخضرمة ورقاء، وحبشي يمسك بخطامها، قال وكيع: مخضرمة يقول: مقطوع طرف أذنها.
وروى أيضا عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يخطب الناس على ناقته الجدعاء في حجة الوداع.
وروى ابن عبدوس: وكانت العضباء شهباء.
النوع الثالث: في جماله صلى الله عليه وسلم.
روى ابن سعد عن سلمة بن نبيط عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حجته بعرفة على قعود أحمر.
وروى ثابت بن قاسم- في دلائله- عن عبد الملك بن عمير رضي الله تعالى عنه قال:
كان اسم جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عسكرا، وذكر أبو إسحاق التّغلبي في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث يوم الحديبية خراش بن أميّة الخزامي قبل عثمان إلى قريش بمكة، وحمله على جمل له يقال له الثّعلب ليبلغ أشرافهم عنه ما أجاء به، فعقروا جمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرادوا قتله، فمنعته الأحابيش فخلوا سبيله.
وروى الطبري في غزوة بدر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم غنم جمل أبي جهل، وكان سهريا أي منسوبا إلى سهرة بن حيدان، فكان يغزو عليه، ويضرب في لقاحه.
وروى ابن إسحاق عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أهدى عام الحديبية في هداياه جملا لأبي جهل، في رأسه برة من فضة ليغيظ بذلك المشركين.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
اللّقاح: جمع لقحة بالكسر والفتح: الناقة القريبة العهد بالنّتاج، وناقة لقوح إذا كانت غزيرة اللبن.
الغابة: بغين معجمة، فموحدة، فتاء: موضع بالحجاز.
__________
[ (1) ] الدارقطني 4/ 302 ابن سعد 1/ 2/ 177.(7/409)
الحناء العريس السّعدية الرّيّاء الحفدة: أسماء لقاح الرسول.
ينهلوا: بتحتية، فنون ساكنة، فهاء، فلام: يشربوا حتى يرووا لبنا منها.
الرّيّان والعطشان من الأضداد.
غبوقا: بغين معجمة مفتوحة، فموحدة مضمومة، فواو فقاف.
صبوحا: بصاد مهملة مفتوحة، فموحدة مضمومة، فواو فحاء.
العضباء: كحمراء: المقطوع من طرف أذنها، قال الجوهري: ولم يكن بها عضب ولا جذع.
ذي الجدر.
نفقت: بنون، ففاء، فقاف مفتوحات: ماتت.
العضباء: بعين مهملة، فضاد معجمة، فموحدة: المشقوقة الآذان.
الجذعاء: بجيم، فذال معجمة: المقطوعة الأنف أو اليد أو الشفة، ولم تكن عضباء، وإنما كان ذلك اسما لها، قال الجوهري: ولم تكن مقطوعة الأذن.
القعود: بقاف مفتوحة، فعين مهملة مضمومة، فواو، فدال مهملة: هي الإبل ما أمكن أن يركب، وأدناه أن يكون له سنتان، ثم قعود إلى أن يدخل في السنة السادسة ثم هو جمل.(7/410)
الباب السادس في شياهه، ومنائحه، صلى الله عليه وسلّم
وفيه نوعان:
الأول: في فضل الغنم.
روى أبو يعلى برجال ثقات عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: الغنم بركة.
وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «عليكم بالغنم، فإنها من دواب الجنة، فصلوا في مراحها، وامسحوا رعامها» قلت: ما الرّعام؟ قال:
«المخاط» .
وروى البزار عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: افتخر أهل الإبل والغنم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الفخر، والخيلاء في أهل الإبل، والسكينة، والوقار في أهل الغنم» ،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بعث موسى، وهو يرعى غنما على أهله، وبعثت أنا، وأنا أرعى غنما لأهلي بجياد» .
وروى الإمام أحمد برجال الصحيح والطبراني عن وهب بن كيسان قال: مر أبي على أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: أين تريد؟ قال: غنيمة لي قال: نعم، امسح رعامها، وأطب مراحها، وصل في جانب مراحها، فإنها من دواب الجنة، وأيسر بها.
وروى الإمام أحمد، وابن ماجة عن أم هانئ رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: «اتخذ غنما يا أم هانئ، فإنها تروح، وتغدو بخير» .
وروى البزار عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أكرموا المعز، وامسحوا رعامها، فإنها من دواب الجنة» .
وروى أيضاً عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحسنوا إلى المعز، وأميطوا عنها الأذى، فإنها من دواب الجنة» .
وروى أيضاً بإسناد لا بأس به عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «السكينة في أهل الشاة، والبقر» .
وروى أيضا مرفوعا وموقوفا عن علي رضي الله تعالى عنه قال: ما من قوم في بيتهم، أو عندهم شاة إلا قدّسوا كلّ يوم مرتين، وبورك عليهم مرتين، يعني شاة لبن.(7/411)
وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «استوصوا بالمعز خيرا، فإنها مال رقيق، وهو في الجنة، وأحب المال إلى الله تعالى الضأن» .
وروى أيضا عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أتقاه، ما أنقاه، راعي غنم على رأس جبل، يقيم الصلاة» .
الثاني: في عدد شياهه، ومنائحه صلى الله عليه وسلّم.
روى الإمامان الشافعي، وأحمد، وأبو داود عن لقيط بن صبرة رضي الله تعالى عنه قال: كنت وافد بني المنتفق أو في وفد بني المنتفق، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم نصادفه في منزله وصادفنا عائشة، فأوتينا بقناع فيه تمر، والقناع الطّبق، وأمرت لنا بخزيرة، فصنعت لنا، ثم أكلنا، فلم نلبث أن جاء رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: «هل أكلتم شيئا؟ هل أمر لكم بشيء؟» فقلنا:
نعم، فلم نلبث أن دفع الراعي غنمه إلى المراح فإذا شاة تيعر، فقال: «هيه يا فلان ما ولّدت؟» قال: بهمة، قال: «فاذبح لنا مكانها شاة» ، ثم انحرف إلي فقال: «لا تحسبنّ أن من أجلك ذبحناها، لنا غنم مائة، لا نريد أن تزيد، فإذا ولّد الراعي بهمة ذبحنا مكانها شاة» .
وروى ابن سعد عن إبراهيم بن عبد، من ولد عتبة بن غزوان قال: كانت منائح رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنم عشرا.
الأولى: عجوة.
الثانية: زمزم.
الثالثة: سقيا.
الرابعة: بركة.
الخامسة: ورسة.
السادسة: إطلال.
السابعة: إطراف.
الثامنة: قمرة.
التاسعة: غوثة أو غوثيّة، قال ابن الأثير: كانت له صلى الله عليه وسلم شاة تسمى غوثة، وقيل غيثة، وعنز تسمى اليمن.
روى ابن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعنز(7/412)
منائح، ترعاهن أم أيمن.
وروى أيضا عن محمد بن عبد الله بن الحصين قال: كانت منائح رسول الله صلى الله عليه وسلم ترعى بأحد وتروح كل ليلة على البيت الذي يدور فيه رسول الله صلى الله عليه وسلّم منها شاة تسمى قمرا، ففقدها يوما، فقال: «ما فعلت؟» فقالوا: ماتت يا رسول الله، قال: «ما فعلتم بإهابها؟» قالوا ميتة، قال: «دباغها طهورها» .
تنبيهان
الأول: قال في العيون: وأما البقر فلم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم ملك منها شيئا قلت: قد ورد أنه صلى الله عليه وسلّم ضحى عن نسائه بالبقر، فيحتمل إن يكون اشتراها حين إرادة الأضحية.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
تيعر: بفوقية مفتوحة، فتحتية ساكنة، فعين مهملة مكسورة.
هيه بهمة: بموحدة مفتوحة، فهاء ساكنة، فميم: الذكر والأنثى من ولد الضائنة.(7/413)
الباب السابع في ديكته صلى الله عليه وسلم
وفيه أنواع:
الديك: بكسر جمعه ديوك، وأدياك، وديكة كقردة، وقد يطلق على الدجاجة.
الأول: في نهيه صلّى الله عليه وسلم عن سب الديك.
روى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة بسند جيد عن زيد بن خالد الجهمي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة» .
وروى أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن ديكا خرج عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فسبه رجل، فلعنه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تلعنه، ولا تسبّه، فإنه يدعو إلى الصلاة» .
وروى الطيالسي برجال ثقات عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الديك، فإنه يدعو إلى الصلاة» .
وروي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا تسبوا الديك، فإنه يوقظ للصلاة» .
الثاني: في أمره صلى الله عليه وسلم بالدعاء عند صياح الديك.
روى الشيخان، والثلاثة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم صياح الديك فاسألوا الله تعالى من فضله، فإنها رأت ملكا» .
الثالث: في أمره صلى الله عليه وسلم باتخاذ الديك.
وروى البيهقي عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر باتخاذ الديك الأبيض، فإن دارا فيها ديك أبيض لا يقربها شيطان، ولا ساحر، ولا الدّويرات حولها.
وروى البيهقي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: الديك يؤذن للصلاة، من اتخذ ديكا أبيض حفظه الله تعالى من ثلاثة: من شرّ كلّ شيطان، وساحر وكاهن. أسانيد هذه الأحاديث ضعيفة.
الرابع: في سبب صياح ديكة الأرض.
روى ابن عدي، والبيهقي في الشعب من طريق ابن أبي عليّ المهلّبي- وهو متروك- عن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تعالى ديكا عنقه منطوية تحت العرش، ورجلاه تحت التّخوم، فإذا كانت هدأة من الليل صاح سبّوح قدّوس فصاحت الدّيكة» .(7/414)
وروى ابن عدي- من طريق يحيى بن رهم بن الحارث الغفّاري- قال ابن حبان: روى عن أبيه نسخة موضوعة لا يحل كتابتها إلا على جهة التعجب- وقال ابن عديّ: أرجو أنه لا بأس به، وقال أبو حاتم: أرجو أن يكون صدوقا، وقال الحافظ في حديث أعلّه به الذهبي: لعل الآفة من غيره- عن العرس بن عميرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تعالى ديكا براثنه في الأرض السفلى، وعرفه تحت العرش، يصرخ عند مواقيت الصلاة، ويصرخ له ديك السموات سماء سماء، ثم يصرخ بصراخ ديك السموات ديكة الأرض، سبّوح سبّوح قدّوس رب الملائكة والروح» .
وروى أبو الشيخ في كتاب العظمة، بسند جيد قوي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن لله عز وجل ديكا، رجلاه تحت سبع أرضين، ورأسه قد جاوز سبع سموات، يسمع في أوان الصلوات، فلا يبقى ديك من ديكة الأرض إلا أجابه» .
وروى الطبراني وأبو داود وأبو الشيخ في العظمة، وأبو نعيم في تاريخه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله تعالى ديكا أبيض، جناحاه مشوبان بالزبرجد، واللؤلؤ، جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، ورأسه تحت العرش، وقوائمه في الهواء» ، وفي لفظ «في الأرض السفلى، يؤذن في كل سحر» ، ولفظ أبي الشيخ «فإذا كان في السحر الأعلى خفق بجناحيه، ثم قال سبّوح قدّوس، ربنا الذي لا إله غيره، فيسمع تلك الصيحة أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين الإنس والجن، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: ضم جناحيك واخفض صوتك، فيعلم أهل السموات وأهل الأرض أن القيامة قد اقتربت» .
وروى أبو الشيخ في العظمة عن أبي راشد الحبراني قال: إن لله عز وجل ديكا- الحديث، فذكر من عظمة خلقه أمرا عظيما، سبح الله تعالى، يقول: سبحان الملك القدوس، الملك الدّيّان، فإذا انتفض صرخت الديوك في الأرض.
وروى أبو الشيخ، والطبراني، برجال الصحيح، والحاكم- وصححه- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن الله عز وجل أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه الأرض، ورأسه مثبتة تحت العرش، وهو يقول: سبحانك، ما أعظمك ربنا، فيرد عليه ما يعلم ذلك من حلف كاذبا» .
وروى أبو الشيخ- من طريق أيوب بن سويد- ضعفه أحمد وجماعة، وتركه النّسائي، وقال أبو حاتم: لين الحديث، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ، وبقية رجاله ثقات- عن ثوبان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن لله عز وجل ديكا براثنه في(7/415)
الأرض السفلى، وعنقه مثنى تحت العرش، وجناحاه في الهواء يخفق بهما سحرا ويقول:
القدوس ربنا الرحمن، لا إله غيره» .
وروى أيضا من طريق رشدين بن سعد- قال الحافظ ضعيف، قال ابن يونس: كان صالحا في دينه، فأدركته غفلة الصالحين، فخلط في الحديث- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن لله ديكا جناحاه مشوبان بالزّبرجد، واللؤلؤ، والياقوت، جناح له بالمشرق، وجناح له بالمغرب، وقوائمه في الأرض السفلى، ورأسه منثنية تحت العرش- لا إله غيره- فإذا كان في السّحر الأعلى خفق بجناحيه، ثم قال سبّوح قدّوس، ربنا الذي لا إله غيره فعند ذلك تضرب الدّيكة بأجناحها وتصيح، فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى: ضمّ جناحك، وغضّ صوتك، فيعلم أهل السموات والأرض أن الساعة قد اقتربت.
وروى أيضا الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن مما خلق الله تعالى ديكا براثنه في الأرض السابعة وعرفه منطو، تحت العرش، قد أحاط جناحاه بالأفقين، فإذا بقي ثلث الليل الآخر ضرب بجناحيه، ثم قال: سبّوح، سبّحوا الملك القدّوس، سبحوا ربّنا الملك القدّوس، سبحان ربّنا الملك القدّوس، لا إله لنا غيره، فيسمعها من بين الخافقين إلا الثقلين، فيرون أن الدّيكة إنما تضرب بأجنحتها، وتصرخ إذا سمعت ذلك» ،
قال شيخنا رحمه الله تعالى: في هذا الطريق أنه حسن صحيح، إذا علم ذلك تبين أن قول من قال: إن هذا الحديث موضوع ليس بصحيح، وقد بسطت الكلام على ذلك في كتاب الفوائد المجموعة، في بيان الأحاديث الموضوعة، أعان الله تعالى على إكماله وتحريره.
الخامس: في محبته صلى الله عليه وسلم الديك.
روى الحارث بن أبي أسامة عن عائشة، والحارث العقيلي عن أنس بن مالك، وابن حبان في الضعفاء عن ابن عمر وأبو بكر البرقي عن أبي زيد الأنصاري، وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «الديك الأبيض الأفرق صديقي، وصديق صديقي، وعدو عدوي» ،
زاد أبو زيد الأنصاري: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يبيته معه في بيته- هذه الطرق كلها ضعيفة، وإذا ضم بعضها إلى بعض أفاد قوة، ولم يوافق ابن الجوزي على وضعه كما بينت ذلك في الفوائد.
تنبيهات
الأول: قال الحافظ: زعم أهل التجربة أن الرجل إذا ذبح الديك الأبيض الأفرق لم يزل ينكب في ماله.(7/416)
الثاني: روى أبو القاسم علي بن محمد بن عبدوس العوفي في فوائده، عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: أخبرني واقد أن جنّيا عشق جارية لا أعلمه إلا قال: منهم أو من آل عمر، قال: وإذا في دراهم ديك، فلما جاءها صاح الديك، فهرب فتمثل في صورة إنسان، ثم خرج حتى لقي شيطانا من الإنس، فقال له: اذهب فاشتر لي ديك بني فلان بما كان، وأت به في مكان كذا، فذهب الرجل، فأغلى لهم في الديك فباعوه، فلما رآه الديك صاح فهرب وهو يقول: اخنقه، فخنقه خنقة صرعت الديك، فجاء، فحز رأسه، فلم يلبثوا يسيرا حتى صرعت الجارية.
وروى أيضا عن عثمان بن الهيثم المؤذن، قال: خرجت سحرا أؤذن في المنارة فإذا فتى عليه ثياب بياض، فقال: يا عثمان لي حاجة، لم أجد لها أهلا غيرك، قال قلت: ما هي؟ قال:
فإن عندنا عليلا، وقد وصف له ديك أفرق، وقد طفت الجدارين فما أصبت له ديكا أفرق، وقد بلغني أن عند جيران لك ديكا، فاشتره لي منهم، قلت: ومن أنت؟ وأين أراك؟ وأين أكون عندك في هذه الليلة؟ حتى أجيئك من هذا الوقت بواحد، فلما أصبحت جئت إلى القوم فقالوا: ما جاء بك، فأخبرتهم، فقالوا: أي وكرامة، فأخذته منهم، وجئت به إلى منزلي فأسقيته وأطعمته، فلما كان في الوقت الذي أخرج فيه أخذته، وخرجت، فلما صرت إلى باب المنارة لأصعد إذا هو قد وثب لي في تلك الصورة، فأخذت الديك، وسلمته إليه، فلما تناوله من يدي مال برأس الديك، فقطعها، ورمى به، فسمعت الصراخ في الدار التي كان فيها الديك، فدخلت المسجد فزعا لذلك، فلما صليت خرجت، فإذا الحصير على جدار القوم، والناس عليها، فقاموا لي فقالوا: كانت عندنا صبيّة مريضة فورثت الديك، فلما كان وقت أذانك طفيت.
وقال أبو الفرج في كتاب العرائس: إن بعض طلبة العلم سافر فرافق شخصا في الطريق، فلما كان قريبا من الطريق التي قصدها قال له: صار لي عليك حق، وذمام، وأنا رجل من الجان، ولي إليك حاجة قال: ما هي؟ قال: إذا دخلت إلى مكان كذا فإنك تجد فيه دجاجا، بينهن ديك أبيض، فاسأل عن صاحبه، واشتره واذبحه، فهذه حاجتي، فقلت: يا أخي، وأنا أسألك حاجة، قلت: إذا كان الشّيطان ماردا لا تعمل فيه العزائم، وإذا ألح بالآدمي فما دواؤه؟
قال: يؤخذ له وتر جلد يحمور، فيشد به إبهام المصاب من يده شدّا وثيقا، ويؤخذ من دهن السّداب البري فيقطر في أنفه الأيمن أربعا وفي الأيسر ثلاثا، فإن السالك له يموت، ولا يعود إليه أحد بعده، قال: فلما دخلت المدينة أتيت إلى ذلك المكان فوجدت الديك لعجوز فسألتها بيعه، فأبت، فاشتريته بأضعاف ثمنه، فذبحته، فخرج عند ذلك رجال ونساء يضربوني،(7/417)
ويقولون: يا ساحر، فقلت: لست بساحر، فقالوا: إنك منذ ذبحت الديك أصيبت شابة عندنا بجني، فطلبت منه وترا من جلد يحمور، ودهن السّداب البرّي، فلما فعلت به ذلك صاح وقال: إنما علمتك على نفسي، ثم قطرت في أنفه الدهن فخر ميتا من ساعته، وشفى الله تلك المرأة، ولم يعاودها بعده شيطان.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
التّخوم: بمثناة فوقية، فخاء معجمة مضمومة، فواو، فميم: مقابلها وحدودها واحدها تخم بفتح التاء، وسكون الخاء.
هدأة: بهاء مفتوحة، فدال مهملة ساكنة، فهمزة مفتوحة، فتاء تأنيث: السكون عن الحركات بعد ما يسكن الناس عن المشي والاختلاف في الطريق.
براثنه: بموحدة فراء مفتوحتين، فألف، فمثلثة، فنون: جمع برثن وهو المخلب.
عرفه: عرف الديك والفرس والدابة: منبت الشعر والريش من العنق.(7/418)
جماع أبواب سيرته صلى الله عليه وسلم في السفر والرجوع منه
الباب الأول في اليوم الذي كان يختاره للسفر صلّى الله عليه وسلم وما كان يقوله إذا أراد السفر، وإذا ركب دابته
روى البخاري والطبراني وأبو داود والخرائطي عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس، وفي رواية عنه قال: فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخرج في سفر إلا يوم الخميس، وفي رواية عن أبي طاهر المخلّص عنه أنه كان يقول: فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخرج إلى سفر، ولا يبعث عنه بعثا إلا يوم الخميس.
وروى الطبراني، وأبو الشيخ عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب أن يسافر يوم الخميس.
وروى أبو يعلى عن بريدة بن الحصيب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستحب إذا أراد سفرا أن يخرج يوم الخميس، رواه الطبراني بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا خرج يوم الخميس.
وروى الإمام أحمد، والشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر حمد الله عز وجل، وسبح، وكبر ثلاثا، ثم قال:
«سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ» الّلهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى اللهم هوّن علينا سفرنا هذا، واطو عنّا بعد الأرض، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال، وإذا رجع قالهن، وزاد فيهن: آئبون عابدون، لربنا ساجدون» .
وروى التّرمذي عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلّم وجيوشه إذا علوا الثّنايا كبروا، وإذا هبطوا سجدوا فوضعت الصلاة على هذا.
وروى الإمام مالك بلاغا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الغرز وهو يريد السفر يقول: «باسم الله، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم اطولنا(7/419)
الأرض، وهوّن علينا السفر، اللهم أعوذ بك من وعثاء السفر، ومن كآبة المنقلب، ومن سوء المنظر في الأهل والمال» .
وروى البزّار، والإمام أحمد- برجال ثقات- عن علي رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا قال: «اللهم بك أصول، وبك أجول، وبك أسير» .
وروى مسدد وابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والطبراني، والبزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان إذا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج في السفر قال: «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك الضّبنة في السفر، اللهم إني أعوذ بك من وعث السفر، وكآبة المنقلب، اللهم اقبض لنا الأرض، وهون علينا السفر» .
وروى أبو يعلى- برجال ثقات- عن البراء رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى سفر قال: «اللهم بلّغ بلاغا يبلغ خيرا، ومغفرة منك ورضوانا، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم هون علينا السفر، واطولنا الأرض، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب» .
وروى أبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرا قط إلا قال حين ينهض من جلوسه: «اللهم بك انتشرت، وإليك توجهت، وبك اعتصمت، اللهم أنت رجائي، اللهم اكفني ما أهمّني، وما لا أهتم له، وما أنت أعلم به مني، وزودني التقوى، واغفر لي ذنبي، ووجهني للخير حيث ما توجهت» .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أردفه على دابته، فلما استوى عليها كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، وحمد ثلاثا، وسبح ثلاثا وهلل الله واحدة، ثم استلقى عليه يضحك، ثم أقبل عليه، فقال: «ما من راكب دابته فيصنع كما صنعت إلا أقبل الله عز وجل يضحك إليه» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
بعد الأرض: بموحدة مضمومة، فعين ساكنة: ضد القرب.
وعث: بواو مفتوحة، فعين مهملة ساكنة، وبالثاء المثلثة: الشدة.
الضّبنة: بفتح الضاد المعجمة، وسكون الموحدة، وفتح النون: عيال لأنهم في ضبنة، والضّبن ما بين الكشح والإبط.
الكآبة: بالمد: تغير النفس من حزن ونحوه.
المنقلب: المرجع.(7/420)
الباب الثاني في صفة سيره، وشفقته على الضعيف
روى الشيخان عن عروة بن الزبير قال: سئل أسامة وأنا جالس كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسير في حجة الوداع؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نصّ، قال هشام:
والنص فوق العنق.
وروى الإمام أحمد، عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صعد أكمة ونشزا قال: «اللهم لك الشّرف على كل شرف، ولك الحمد على كل حال» .
وروى أبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتخلف في السير فيرجئ الضيف، ويردفه ويدعو لهم.
وروى أحمد، ومسلم، وأبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا جاء رجل على راحلة، فجعل يصرف بعيره يمينا وشمالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له» ، فذكر من أصناف المال ما ذكره، حتى يرينا أنه لا حق لأحد منه في فضل.
وروى الطبراني من طريق محمد بن علي المروزي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر في السفر مشى.
وروى النسائي عن عقبة رضي الله تعالى عنه قال: بينما أقود رسول الله صلى الله عليه وسلم في نقب من تلك النّقاب إذا قال: «ألا تركب يا عقبة؟» فأجللت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أركب مركبه، قال:
«ألا تركب عقبة؟» فأشفقت أن يكون معصية، فنزل وركبت هنيهة، ونزلت، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
العنق: بالتحريك: نوع من السير في إسراع.
الفجوة: بفاء مفتوحة، فجيم ساكنة، فواو: المتسع من الأرض.
النص: بنون مفتوحة: تحريك الدابة إلى أقصى سيرها.
الأكمة: بهمزة، فكاف، فميم مفتوحات فتاء تأنيث [الموضع الذي هو أشد ارتفاعا مما حوله] .
النّشز: مشددة فألف، فموحدة فتحتية.
الرّابية: براء: المكان المرتفع.(7/421)
الباب الثالث فيما كان يقوله إذا أدركه الليل في السفر، وما كان يقوله ويفعله إذا نزل منزلاً، وصفة نومه في السفر، وما كان يقوله في السحر، وفيه أنواع
الأول: فيما كان يقوله إذا أدركه الليل.
روى الخرائطي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر، فأدركه الليل قال: «يا أرض: ربي وربّك الله، أعوذ بالله من شرك، وشر ما فيك، وشر ما خلق فيك، وشر ما دب عليك، أعوذ بالله من شرّ كلّ أسد، وأسود، وحيه، وعقرب، ومن شر ساكن البلد، ومن والد وما ولد» .
وروى أبو يعلى برجال ثقات عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا علا نشزا من الأرض يقول: «اللهم لك الشرف على كل شرف، ولك الحمد على كل حال» .
الثاني: فيما كان يقوله ويفعله إذا نزل منزلا.
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والطبراني بسند جيد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى قرية يريد دخولها قال: «اللهم بارك لنا فيها ثلاث مرات، اللهم ارزقنا جناها، وحببنا إلى أهلها، وحبب صالح أهلها إلينا» .
وروى الطبراني بسند جيد عن أبي لبابة بن عبد المنذر، والطبراني برجال ثقات- فيهم راو لم يسم- عن أبي معتّب بن عمرو الطبراني- برجال ثقات- عن كعب الأحبار عن صهيب، وأبو يعلى والنسائي في الكبرى عن صهيب رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدخل قرية لم يدخلها حتى يقول- ولفظ أبي معتّب أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما أشرف على خيبر قال لأصحابه وأنا معهم: «تقدموا فقال: ثم اتفقوا، اللهم رب السموات السبع وما أقلت- ولفظ الآخرين- وما أظللت، ورب الأرضين السبع وما أقلت- ولفظهما وما أقللن- ورب الشياطين وما أضلت- ولفظهما وما أضللن- ورب الرياح وما ذرت- ولفظهما وما ذرين- إني أسألك خير هذه القرية، وخير أهلها وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها زاد صهيب: اقدموا باسم الله» .
وروى ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، والبيهقي في الكبرى، والحاكم من طريقين، والخرائطي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا لم يرتحل منه حتى يودّعه بركعتين.(7/422)
وروى الطبراني عن فضالة بن عبيد رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا في سفر أو دخل بيته لم يجلس حتى يركع ركعتين.
وروى الإمام أحمد، وأبو داود عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل حتى يصلي الظهر، قيل: يا أبا حمزة، وإن كان نصف النهار؟ قال:
وإن كان نصف النهار.
وروى البزار والطبراني، والإمام أحمد، ورجاله رجال الصحيح إلا محمد بن ربيعة- وهو ثقة- عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل مكة قال: «اللهم منايانا بها حتى تخرجنا منها» ،
كره صلى الله عليه وسلّم أن يموت في غير دار هجرته.
الثالث: في صفة نومه في السفر.
روى مسلم عن أبي قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فعرّس بليل اضطجع على يمينه، وإذا عرّس قبل الصبح نصب ذراعيه، ووضع رأسه على كفيه.
الرابع: فيما كان يقوله في السحر.
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان في سفر وأسحر يقول: «سمع سامع بحمد الله ونعمته وحسن بلائه علينا اللهم ربنا صاحبنا وأفضل علينا، عائذا بالله من النار» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
السحر: آخر الليل قبيل الصبح أو من ثلث الليل الآخر إلى طلوع الفجر.
أقلّت: بهمزة مفتوحة، فقاف، فلام مفتوحتين: حملت.
التّعريس: نزول المسافر بالليل للنوم والراحة، والله أعلم.(7/423)
الباب الرابع فيما كان يقوله إذا رجع من سفره، وما كان يفعله إذا قدم وما كان يقوله إذا دخل على أهله صلى الله عليه وسلّم
وروى الإمام أحمد، والشيخان، والإمام مالك، وأبو داود، والترمذي وغيرهم بدل «ساجدون: سائحون» ، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقبل من سفر غزو أو حج، أو عمرة، يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات، ثم يقول: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آئبون تائبون، عابدون ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» .
وروى البزار- برجال ثقات- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخرج من باب الشّجرة، ويخرج من طريق المعرّس.
وروى الشيخان عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يطرق أهله طروقا.
وروى الإمام أحمد، والطّبراني، وزاد يدخل غدوة أو عشيّا.
وروى أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل من حجّته دخل المدينة، وأناخ على باب مسجده، ثم دخل، فركع فيه ركعتين، ثم انصرف إلى بيته.
وروى الطّبراني والبزّار والإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد الرجوع قال: «تائبون عابدون لربنا حامدون» ، فإذا دخل على أهله قال: «توبا توبا لربنا أوبا لا يغادر علينا حوبا» .
وروى أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفر بات بالمعرّس حتى يتغدى.
وروى البخاري، وأبو داود عن كعب بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما دنا من المدينة قال: «آئبون تائبون عابدون لربنا حامدون، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال» .
وروى البزار والطبراني عن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل راجعا إلى المدينة يقول: «آئبون، لربنا حامدون، لربنا عابدون» .(7/424)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
باب الشجرة: موضع يضاف إليه مسجد ذي الحليفة.
المعرّس: بميم مضمومة، فعين مهملة، فراء مفتوحتين، فسين مهملة: مكان بذي الحليفة عرس به النبي صلى الله عليه وسلم وصلى فيه الصبح، ثم رحل، والتعريس نزول المسافر آخر الليل، والمعرّس مكان التّعريس.
الطّروق: بطاء مهملة فراء مضمومة فواو فقاف.
حوباء: بحاء مهملة مفتوحة فواو ساكنة فموحدة: إثما.(7/425)
الباب الخامس في آداب متفرقة تتعلق بالسفر
وفيه أنواع:
الأول: في وداعه من أراد سفرا.
روى الإمام أحمد، وأبو يعلى- بسند جيد- عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم معه يوصيه، ومعاذ راكب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راحلته- الحديث.
وروى مسدد عن رجل من الأنصار، عن أبيه رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ودع رجلا، فقال: «زوّدك الله التقوى، وغفر لك، ويسر لك الخير حيث ما كنت.
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي- وقال حسن صحيح- والنسائي، والحاكم، والبيهقي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلّم يودعنا، وفي رواية عنه أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة لي فأخذ بيدي، وقال: «أستودع الله دينك، وأمانتك، وخواتيم عملك» .
وروى الطبراني برجال ثقات عن قتادة الرّهاوي رضي الله تعالى عنه، قال: لما عقد لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم على قومي أخذت بيده فودعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «جعل الله التقوى رداءك، وغفر ذنبك، ووجهك للخير حيث ما توجهت» .
وروى أيضا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: جاء غلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد هذه الناحية للحج، قال: فمشى معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه إليه، فقال: «يا غلام زودك الله التقوى، ووجهك في الخير» ، في رواية: «للخير، وكفاك الهم» .
وروى ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: ودعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «استودعك الله الذي لا تضيع وودائعه» .
وروى الإمام أحمد، والترمذي- وحسنه- والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلّم: إني أريد أن أسافر فأوصني، قال: «عليك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف» ، فما ولّى الرجل قال: «اللهم أطوله البعيد، وهوّن عليه السفر» .
وروى الترمذي- وحسنه- قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد سفرا فزوّدني قال: «زودك الله التقوى» ، قال: زوّدني قال: «وغفر ذنبك» ، قال: زودني، بأبي أنت وأمي، قال: «ويسر لك الخير حيث ما كنت» .(7/426)
الثاني: في سيرته صلّى الله عليه وسلم في سلامه على من قدم من سفر.
وروى الترمذي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قدم زيد بن حارثة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتى زيد، فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم عريانا، يجر ثوبه، والله ما رأيته عريانا قبلها، ولا بعدها، فاعتنقه، وقبله.
وروى أبو داود عن الشعبي مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلقى جعفر بن أبي طالب، فالتزمه، وقبل ما بين عينيه.
وروى الطبراني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن غلاما حج، فلما قدم سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فرفع رأسه إليه، وقال: «يا غلام قبل الله حجك، وغفر ذنبك، وأخلف نفقتك» .
الثالث: في سؤاله صلى الله عليه وسلّم الدعاء من بعض المسافرين.
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي- وقال حسن صحيح- وابن ماجة عن أنس وابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن عمر استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن له، وقال:
«يا أخي: أشركنا في صالح دعائك، ولا تنسنا» .
الرابع: في جعله صلى الله عليه وسلّم آخر عهده بفاطمة.
وروى الإمام أحمد، والبيهقي في الشعب عن ثوبان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة، وأول من يدخل عليه إذا قدم فاطمة- الحديث.
الخامس: في اتخاذه الدليل، والحادي في السفر.
وروى الطبراني عن حسن بن خارجة الأشجعي رضي الله تعالى عنه قال: قدمت المدينة في جلب أبيعه فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أجعل لك عشرين صاعا من تمر، على أن تدل أصحابي على طريق خيبر» ، ففعلت فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم خيبر وفتحها جئت فأعطاني العشرين، ثم أسلمت.
السادس: في تنقله صلى الله عليه وسلّم على الراحلة.
وروى أبو داود عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته، ثم كبر، ثم صلى، وجه ركابه.
وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يسبح على ظهر ناقته حيث كان وجهه، يومئ برأسه، وكان ابن عمر يفعله.(7/427)
[المجلد الثامن]
بسم الله الرحمن الرحيم
جماع أبواب سيرته صلّى الله عليه وسلم في الطهارة للصلاة
الباب الأول في البئر التي توضأ أو اغتسل- صلى الله عليه وسلّم- منها
وفيه أنواع:
الأول: في تطهّره [ (1) ]- صلى الله عليه وسلّم- من بئر بضاعة [ (2) ] .
وروى الشافعي، وأحمد والثلاثة، وصحّحه أحمد، وابن منيع، وابن حزم، والبغوي في شرح السنة، عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه، وقاسم بن أصبغ [ (3) ] في مصنّفه، وصحّحه هو وابن القطّان، وصحّحه في مواضع أخر، وصوّبه عن سهل القطب الخيضريّ [ (4) ] في جزء جمعه في بئر بضاعة عن سهل بن سعد- رضي الله عنهما- قالا: قيل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنّه يستسقى لك من بئر بضاعة، ويلقى فيه لحوم الكلاب، وخرق الحائض، وعذر النّساء، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم: «إنّ الماء طهور لا ينجّسه شيء» [ (5) ] .
__________
[ (1) ] قوله: (الطهارة) : هي في اللغة، النظافة، وفي اصطلاح الفقهاء رفع حدث وإزالة نجس، أو ما في معناهما، وهو تجديد الوضوء، والأغسال المسنونة، والغسلة الثّانية والثّالثة في الوضوء، والنجاسة، والتيمم، وغير ذلك مما لا يرفع حدثا ولا نجسا، ولكنه في معناهما.
[ (2) ] انظر معجم البلدان 1/ 24.
[ (3) ] قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف البياني القرطبي: محدّث الأندلس. أصله من بيّانة، من أعمال قرطبة. سكن قرطبة ومات بها. وكان جده من موالي بني أمية. له «مسند مالك» و «بر الوالدين» و «الصحيح» على هيئة صحيح مسلم، و «الأنساب» و «أحكام القرآن» و «الناسخ والمنسوخ» و «بديع الحسن» و «المجتبى» على نحو كتاب المنتقى لابن الجارود، و «فضائل قريش» توفى 340 هـ- انظر الأعلام 5/ 173.
[ (4) ] محمد بن محمد بن عبد الله بن خيضر، قطب الدين أبو الخير ابن الخيضري الزّبيدي الدمشقي الشافعي: قاض، من العلماء بالتراجم والأنساب والحديث. أصله من عرب البلقاء. ولد في بيت لهيا (من قرى دمشق) وقرأ بدمشق وبعلبك والقدس ومصر ومكّة. وولي قضاء الشافعية وكتابة السر بدمشق، وتوفي بالقاهرة. له كتب، منها «الاكتساب في تلخيص كتب الأنساب- و «اللفظ المكرم بخصائص النبي الأعظم و «شرح ألفية العراقي» و «طبقات الشافعية» و «البرق اللموع» في الأحاديث الموضوعة، الأعلام 7/ 51، 52.
[ (5) ] أخرجه الشافعي عن ترتيب المسند 1/ 21، كتاب الطهارة باب في المياه، (35) . وأحمد في المسند 3/ 31، 86 في مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأبو داود في السنن 1/ 53، 54، كتاب الطهارة (1) ، باب ما جاء في بئر بضاعة (34) ، (66) . والترمذي في السنن 1/ 95- 96، كتاب الطهارة (1) ، باب أن الماء لا ينجسه شيء (49) ، (66) وقال: (حديث حسن) والنسائي في المجتبى من السنن 1/ 174 كتاب المياه (2) ، باب ذكر بئر بضاعة (1) .
وابن ماجة في السنن 1/ 173، كتاب الطهارة (1) ، باب الحياض (76) (519) والدارقطني في السنن 1/ 31،(8/3)
وروى ابن ماجة، عن أبي أمامة الباهلي- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «الماء لا ينجّسه شيء إلّا ما غلب على طعمه وريحه ولونه» [ (1) ] .
ورواه الدارقطني بلفظ: «إلّا ما غيّر ريحه أو طعمه» .
قال الشافعي: هذا الحديث لا يثبت أهل الحديث مثله: ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم خلافا.
قال أبو حاتم الرازي: الصحيح أنّه مرسل على راشد بن سعد [ (2) ] .
الثاني: في استعماله- صلّى الله عليه وسلّم- سؤر السّباع.
روى الدارقطني بسند ضعيف، فيه محمد بن علوان عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: خرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره، فسار ليلا فمرّوا على رجل جالس عند مقراة له، فقال له عمر: [يا صاحب المقراة أو لغت السّباع عليك اللّيلة في مقراتك؟ فقال له النبي- صلى الله عليه وسلّم-] : «يا صاحب المقراة لا تخبره هذا متكلّف، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور» [ (3) ] .
وروى الدارقطني عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الحياض الّتي تكون بين مكة والمدينة وقيل له: إنّ السّباع والكلاب ترد عليها، فقال:
«لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور» [ (4) ] .
وروى البيهقي عن أبي سعيد الخدري- رضي الله تعالى عنه- قال: سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الحياض الّتي تكون بين مكة والمدينة، [وقالوا]-: تردها السّباع
__________
[ () ] كتاب الطهارة، باب الماء المتغير، (15) ، واللفظ للترمذي.
[ (1) ] رواه ابن ماجة في الطهارة باب الحياض 1/ 174 والدارقطني 1/ 28 والبيهقي 1/ 259 وعزاه الحافظ في التلخيص 1/ 26 إلى الطبراني ورواه عبد الرزاق في المصنف 1/ 80 مرسلا وكذلك الطحاوي في شرح الآثار 1/ 16 وفيه رشدين بن سعد ضعفه عامة العلماء وقال ابن حجر في التلخيص 1/ 26 متروك وفي التقريب 1/ 251 ضعيف. مات سنة 188 وانظر ميزان الاعتدال 2/ 49 والحديث ضعفه أبو حاتم والشافعي والدارقطني والطحاوي وقال النووي: اتفق المحدثون على تضعيفه. انظر تلخيص الحبير 1/ 26 وبلوغ المرام ص 3 ونصب الراية 1/ 94.
[ (2) ] راشد بن سعد المقرائي ويقال الحبراني الحمصي. روى عن ثوبان وسعد بن أبي وقاص وأبي الدرداء وعمرو بن العاص وذي مخبر الحبشي.
قال الأثرم عن أحمد لا بأس به وقال الدارميّ عن ابن معين ثقة وكذا قال أبو حاتم والعجلي ويعقوب بن شيبة والنسائي وقال ابن المديني عن يحيى بن سعيد هو أحب إلي من مكحول وقال المفضل الغلابي من أثبت أهل الشام وقال ابن سعد كان ثقة مات سنة 108. التهذيب 3/ 225، 226.
[ (3) ] أخرجه الدارقطني 1/ 26 وفي إسناده محمد بن علوان قال أبو الفتح الأسدي: متروك انظر ميزان الاعتدال (7960) .
[ (4) ] أخرجه الدارقطني 1/ 31 بلفظ (ما في بطونها لها وما بقي فهو لنا طهور) .(8/4)
والكلاب والحمر- وعن الطّهارة بها، فقال: «لها ما حملت في بطونها ولنا ما غبر» [ (1) ] .
وروى الدارقطني- وضعفه- عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قيل يا رسول الله أنتوضّأ بما أفضلت الحمر؟ قال: «نعم. وما أفضلت السّباع» [ (2) ] .
الثالث: في وضوئه- صلى الله عليه وسلّم- بسؤر الهرّة.
روى ابن ماجة عن عائشة- رضي الله تعالى عنه- قالت: «كنت أتوضّأ أنا ورسول الله- صلى الله عليه وسلّم- من إناء واحد، قد أصابت منه الهرّة قبل ذلك» [ (3) ] .
وروى الطبراني برجال ثقات، والدارقطني عنها قال: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- تمرّ به الهرّة فيصغى له الإناء فيشرب منه ويتوضّأ بفضله» ورواه الدّارقطنيّ بلفظ: تمرّ به فيصغي لها [ (4) ] .
وروى أحمد وابن منيع والبخاري وأبو داود وابن ماجة عن عائشة ومسدد وأصحاب السنن وابن حبان عن أبي قتادة- رضي الله تعالى عنهما- «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- توضّأ من إناء شربت منه الهرّة» [ (5) ] وروى أبو داود والدارقطني عنها قالت: «ليست بنجسة وإنما هي من الطّوّافين عليكم وقد رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يتوضّأ بفضلها: يعني الهرّة» .
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي 1/ 258 وقال هكذا رواه إسماعيل بن أبي أويس عن عبد الرحمن وروى عن ابن وهب عن عبد الرحمن عن أبيه عن عطاء عن أبي هريرة وعبد الرحمن بن زيد ضعيف لا يحتج بأمثاله وقد روي من وجه آخر عن ابن عمر مرفوعا وليس بمشهور.
[ (2) ] أخرجه الشافعي في الأم 1/ 6 كتاب الطهارة باب الماء الراكد والدارقطني في السنن 1/ 62 كتاب الطهارة، باب الآسار (2) و (3) والبيهقي في السنن الكبرى 1/ 249- 250، كتاب الطهارة باب سؤر سائر الحيوانات سوى الكلب والخنزير.
[ (3) ] أخرجه ابن ماجة 1/ 131 (368) وقال البوصيري في الزوائد 1/ 155 هذا إسناد ضعيف لضعف حارثة بن أبي الرجال ورواه أبو داود والدارقطني من هذا الوجه بغير هذا اللفظ وله شاهد من حديث أبي قتادة رواه الترمذي وقال حسن صحيح فهو أحسن شيء في هذا الباب قال وهو قول أكثر العلماء من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلّم- والتابعين ومن بعدهم الشافعي وأحمد وإسحاق لم يروا بسؤر الهرة بأسا.
[ (4) ] أخرجه الدارقطني 1/ 16 وذكره الهيثمي في المجمع 1/ 221 وعزاه البزار والطبراني في الأوثق وقال رجاله موثقون.
قلت بل في رجال البزار مندل بن علي وهو ضعيف وله إسناد آخر فيه محمد بن عمر الواقدي وهو أضعف من مندل.
[ (5) ] أخرجه مالك في الموطأ 1/ 22- 23 كتاب الطهارة (2) باب الطهور للوضوء (3) الحديث (13) والشافعي في الأم 1/ 6- 7، كتاب الطهارة باب الماء الراكد وأحمد في المسند 5/ 303 في مسند أبي قتادة رضي الله عنه والدارمي في السنن 1/ 187- 188 كتاب الوضوء باب الهرة إذا ولغت في الإناء وأبو داود في السنن 1/ 60 كتاب الطهارة (1) ، باب سؤر الهرة (38) (75) والترمذي في السنن 1/ 153- 154 كتاب الطهارة (1) باب في سؤر الهرة (69) (92) والنسائي في المجتبى من السنن 1/ 55 كتاب الطهارة (1) باب سؤر الهرة (54) وابن ماجة في السنن 1/ 131 كتاب الطهارة باب الوضوء بسؤر الهرة (32) (367) ولفظ والطوافات عند أحمد في رواية وأبي داود والنسائي واللفظ عند الباقين أو الطوافات.(8/5)
الرابع: في استعماله فضل طهور المرأة:
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما قال: اغتسل بعض أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- من جنابة في جفنة، فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ليتوضّأ أو يغتسل، فقالت: إنّي كنت جنبا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «إنّ الماء لا يجنب» [ (1) ] ، ورواه الإمام أحمد برجال ثقات، وعنده لا ينجّسه شيء.
وروى عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- أنها اغتسلت في قصعة ثمّ جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فاغتسل فقالت: إنّي كنت جنبا فقال: «إنّ الماء لا يجنب» .
وروى الشيخان عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كان يغتسل من فضل ميمونة [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، وأبو يعلى برجال ثقات عن أمّ صبيّة- خولة بنت قيس الجهنيّة- رضي الله تعالى عنها- قالت: «اختلفت يدي ويدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الوضوء من إناء واحد» [ (3) ]
«تنبيه»
وروى الإمام أحمد عن رجل من الصحابة: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «نهى أن يغتسل الرّجل بفضل وضوء المرأة، والمرأة بفضل وضوء الرّجل» .
الخامس: في وضوئه- صلى الله عليه وسلّم- بما يقع فيه تمرات إن صح الخبر:
روى الترمذي عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-[ (4) ]
__________
[ (1) ] أخرجه من رواية ابن عباس عن ميمونة: أحمد في المسند 6/ 230 في مسند ميمونة بنت الحارث زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- والدارقطني في السنن 1/ 52، كتاب الطهارة، باب استعمال الرجل فضل وضوء المرأة، (3) وبمعناه مختصر أخرجه ابن ماجة في السنن 1/ 132، كتاب الطهارة (1) ، باب الرخصة بفضل وضوء المرأة (33) ، (372) ومن حديث ابن عباس قال «أجنب النبي- صلى الله عليه وسلّم- وميمونة فاغتسلت ميمونة في جفنة..» أخرجه أحمد في المسند 1/ 337، في مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنه. وعنه مختصرا «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كان يغتسل بفضل ميمونة» أخرجه مسلم في الصحيح 1/ 257، كتاب الحيض (3) ، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة ... وغسل أحدهما بفضل الآخر (10) (48/ 323) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 1/ 436 كتاب الغسل باب الغسل بالصاع (253) ومسلم 1/ 257 في كتاب الحيض باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة (48- 323) .
[ (3) ] أخرجه أبو داود 1/ 20 حديث (78) .
[ (4) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 450 في مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأبو داود في السنن 1/ 66 كتاب الطهارة (1) باب الوضوء بالنبيذ (42) الحديث (84) ولم يذكر «فتوضأ منه» والترمذي في السنن 1/ 147 كتاب الطهارة (1) باب الوضوء بالنبيذ (65) الحديث (88) وقال وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا تعرف له رواية غير هذا الحديث وابن ماجة في السنن 1/ 135 كتاب الطهارة (1) باب الوضوء بالنبيذ (37) الحديث (384) .(8/6)
ليلة الجنّ: «ما في إداوتك أو ركوتك» ؟، قلت: نبيذ، قال: «تمرة طيّبة وماء طهور، فتوضّأ منه» ، ورواه أبو داود ولم يذكر: فتوضّأ منه.
السادس: في وضوئه من ماء زمزم:
روى عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائده في رواية المسند عن علي- رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أتى في حجة الوداع بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضّأ [ (1) ] .
السابع: في وضوئه- صلى الله عليه وسلّم- بفضل سواكه:
روى البزار بسند ضعيف عن أنس- رضي الله تعالى عنه-: «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يتوضّأ بفضل سواكه» [ (2) ] .
الثامن: فيما يحمل الخبث من الماء:
روى الإمام الشافعي، وأحمد والأربعة وابن خزيمة وأبو داود والنسائي والحاكم وقال:
على شرط البخاري ومسلم وصحّحه الخطّابيّ، والطحاوي والبيهقي، عن عبد الله بن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: وهو يسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من الدّواب والسّباع فقال: «إذا كان الماء قلّتين لم يحمل الخبث» [ (3) ] .
وفي لفظ لابن ماجة «لم ينجّسه شيء» .
ولأبي داود «ولم ينجس» .
ورواه ابن عدي بلفظ [ (4) ] : «إذا بلغ الماء قلّتين بقلال هجر لم ينجّسه شيء» وليس في إسناده سوى المغيرة بن صقلاب [ (5) ] بكسر الصاد المهملة. وفي رواية الشافعي قال ابن جريج:
وقد رأيت قلال هجر، فالقلّة تسع قربتين أو قربتين وشيئا.
__________
[ (1) ] أخرجه في زوائد المسند 1/ 76.
[ (2) ] أخرجه البزار كما في كشف الأستار 1/ 144 حديث (274) .
قال البزار: رواه سعد بن الصلت عن الأعمش عن مسلم قال الهيثمي رواه البزار والأعمش لم يسمع من أنس وجمع الزوائد ص 216 ج 1.
[ (3) ] أخرجه الشافعي في الأم 1/ 4 كتاب الطهارة باب الماء الراكد وأخرجه أحمد في المسند 2/ 27 في مسند عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما- بلفظ «لم ينجسه شيء» والدارمي في السنن 1/ 187 كتاب الوضوء باب قدر الماء الذي لا ينجس وأبو داود في السنن 1/ 51 كتاب الطهارة (1) باب ما ينجس الماء (33) الحديث (63) والترمذي في السنن 1/ 97 كتاب الطهارة (1) باب الماء لا ينجسه شيء (50) الحديث (67) والنسائي في المجتبى من السنن 1/ 46 كتاب الطهارة (1) باب التوقيت في الماء (44) كلهم بلفظ «لم يحمل الخبث» وابن ماجة في السنن 1/ 172 كتاب الطهارة (1) باب مقدار الماء الذي لا ينجس (75) الحديث (517) و (518) .
[ (4) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 6/ 359 (220/ 1841) .
[ (5) ] مغيرة بن سقلاب. عن ابن إسحاق.
قال أبو جعفر النفيلي: لم يكن مؤتمنا. وقال ابن عدي: حراني منكر الحديث.(8/7)
التاسع: في الماء المشمّس والمسخّن.
روى الدارقطني من طريق خالد بن إسماعيل المخزومي- وهو متروك- عن عائشة- رضي الله تعالى عنهما- قالت: دخلت علي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد سخّنت ماء في الشّمس فقال: «لا تفعلي يا حميراء فإنّه يورث البرص» [ (1) ] .
وروى أيضا من طريق عمرو بن محمد [ (2) ] وقال: - منكر الحديث- عنها قالت: «نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أن يتوضّأ بالمشمّس أو يغتسل به، وقال: «إنّه يورث البرص» [ (3) ] .
وروى أيضا وصححه المحب الطبري عن عمر- رضي الله تعالى عنه- قال: «لا تغتسلوا بالماء المشمّس فإنّه يورث البرص» [ (4) ] ، قال صاحب الغرام: وأنّى له بالصحة مع الجهل باتصاله إلى عمر، فإن حسّان بن أزهر راويه عنه، وإنه ذكره ابن حبان في الثقات فقد قال الحافظ أبو الحجّاج المزّيّ، كما نقله عد الزركشي: إنه يجهّل، وإنّه لم يدرك عمر.
وروى أيضا وصححه عن أسلم رحمه الله تعالى، مولى عمر بن الخطاب، أنّ عمر كان يسخّن له الماء في قمقم ويغتسل به [ (5) ] .
__________
[ () ] الوليد بن عبد الملك الحراني، حدثنا المغيرة بن سقلاب، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر- مرفوعاً:
إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء. والقلة أربعة آصع.
أبو همام السكوني، حدثنا مغيرة بن سقلاب، عن معقل بن عبيد الله، عن عمرو بن دينار، عن جابر- مرفوعا: ما من صدقة أفضل من قول.
قال الأبار: سألت علي بن ميمون الرقي عن المغيرة بن سقلاب، فقال: كان لا يسوي بعرة. ميزان الاعتدال 4/ 163.
[ (1) ] رواه الدارقطني 1/ 38 وقال غريب جدا خالد بن إسماعيل متروك ورواه البيهقي 1/ 6 وقال هذا لا يصح وأورده السيوطي في اللآلي المصنوعة 2/ 5 وأودعه الشوكاني فوائده المجموعة ص 8 وقال له طرق لا تخلو من كذاب أو مجهول.
[ (2) ] عمرو بن محمد الأعسم. عن سليمان بن أرقم.
قال الدارقطني: منكر الحديث. وقال ابن حبّان: يروى عن الثقات المناكير. ويضع أسامي المحدثين. روي عن سليمان بن أرقم، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة- مرفوعا: من أتى امرأته وهي حائض فجاء ولده أجذم فلا يلومن إلا نفسه.
روى عنه أحمد بن الحسين بن عباد البغدادي أحاديث كلها موضوعة.
قال الخطيب: كان ضعيفا. وقال محمد بن حسان الأزرق: حدثنا عمرو بن محمد بن الحسن البصري، عن مطرف بن طريف، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، قال: من بنى لله مسجدا فليس له أن يبيعه ولا يبدله، ولا يمنع أحدا يصلي فيه إلا صاحب هوى أو بدعة. ميزان الاعتدال 3/ 286.
[ (3) ] أخرجه البيهقي 1/ 7 وقال عمرو بن محمد الأعسم منكر الحديث ولم يروه عن فليح غيره ولا يصح عن الزهري وقال الذهبي في المهذب قلت الأعسم منهم.
[ (4) ] أخرجه العقيلي في الضعفاء 2/ 176 وقال وليس في الماء المشمس شيء يصح مسند إنما يروى فيه شيء عن عمر رضي الله عنه. وانظر نصب الراية 1/ 102 وتلخيص الحبير 1/ 21 والموضوعات لابن الجوزي 2/ 79 والفوائد المجموعة للشوكاني (8) .
[ (5) ] أخرجه البيهقي 1/ 6 قال أبو الحسن هذا إسناد صحيح.(8/8)
العاشر: في الماء المستعمل ونية الاغتراف:
روى الشيخان عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه-: «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدّائم وهو جنب» ، فقيل: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا [ (1) ] .
وروى الشيخان عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: جاء رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يعودني وأنا مريض، لا أعقل، فتوضّأ، وصبّ وضوءه عليّ [ (2) ] .
تنبيه في بيان غريب ما سبق:
بئر بضاعة: حكى الجوهري وابن فارس كسر الموحدة وضمّها واقتصر.
عذر النّساء: بعين مهملة مفتوحة، وكسر الذال المعجمة، وروي أيضا بكسر العين وفتح الذال، وضم العين تصحيف والمراد بذلك الغائط.
مقراة: الحوض يجتمع فيه الماء.
الإداوة: بكسر الهمزة ودال مهملة إناء صغير من جلد.
السّجل- بفتح السين المهملة، وسكون الجيم. هو الدلو الممتلئ ماء.
قلال هجر: بقاف مكسورة، فلام، فألف فلام: جمع قلة وهي الحب- بالحاء المهملة- العظيم. وسميت القلة لأنها تقلّ وتحمل.
وهجر قرية من المدينة وليست هجر البحرين.
__________
[ (1) ] متفق عليه أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 346 كتاب الوضوء (4) باب البول في الماء الدائم (68) الحديث (239) ومسلم في الصحيح 1/ 235، كتاب الطهارة (2) باب النهي عن البول في الماء الراكد (28) الحديث (96/ 282) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 1/ 360 حديث (194) أطرافه في: 4577، 5651، 5664، 5676، 6723، 6743، 7309 وأخرجه مسلم 3/ 1234 (5- 1616) .(8/9)
الباب الثاني في آدابه- صلّى الله عليه وسلم- عند قضاء الحاجة
وفيه أنواع:
الأول: في بعده عن الناس، في الصحراء:
روى أبو داود، والنسائي، والحاكم بسند صحيح على شرط مسلم- وأقره الذهبي- عن المغيرة بن شعبة- رضي الله تعالى عنه- قال: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا ذهب المذهب أبعد» [ (1) ] .
وروى أبو داود وابن ماجة [عن جابر وابن ماجة عن يعلى بن مرة، وأبو يعلى عن أنس وابن ماجة] عن بلال بن الحارث والطبراني عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- والإمام أحمد وأبو داود والترمذي- وقال: حسن صحيح- عن المغيرة بن شعبة وأبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بن أبي قراد رضي الله تعالى عنهم، قالوا: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إذا أنطلق لحاجته تباعد حتّى لا يراه أحد» [ (2) ] .
وروى أبو يعلى والطبراني برجال ثقات عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال:
«كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يذهب لحاجته إلى المغمّس» [ (3) ] .
قال نافع: «وهو نحو ميلين عند مكة» .
وروى ابن ماجة عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سفر وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يأتي البراز حتّى يتغيّب فلا يرى [ (4) ] .
الثاني: في تبوئه لبوله:
روى ابن سعد والحارث بن أبي أسامة والطبراني برجال ثقات غير يحيى بن عبيد وأبيه فيحرر حالهما عن يحيى بن عبيد الجهضميّ عن أبيه قال: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يتبوّأ لبوله كما يتبوّأ لمنزله» [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود 1/ 1 حديث (1) والنسائي في الطهارة 1/ 21 وابن خزيمة حديث (50) وابن ماجة (331- 333) وأحمد في المسند (4/ 284) والبيهقي 1/ 93.
[ (2) ] أخرجه أبو داود في السنن 1/ 14 كتاب الطهارة (1) باب التخلي عند قضاء الحاجة (1) الحديث (2) وابن ماجة في السنن 1/ 121 كتاب الطهارة (1) باب التباعد للبراز في الفضاء (22) الحديث (335) .
[ (3) ] أخرجه الطبراني في الكبير 1/ 451 وقال الهيثمي في المجمع بعد عزوه له في الكبير والأوسط رجاله ثقات من أهل الصحيح انظر مجمع الزوائد 1/ 208 أول كتاب الطهارة.
[ (4) ] أخرجه ابن ماجة 1/ 131 حديث (335) أخرجه ابن سعد في الطبقات.
[ (5) ] أخرجه ابن حجر في المطالب العالية 1/ 15 حديث 36 وهو عند الطبراني في الأوسط من رواية يحيى بن عبيد عن أبيه عن أبي هريرة كما يظهر من مجمع الزوائد (1/ 204) قال الهيثمي لم أر من ذكرهما يعني يحيى بن عبيد بن دجى (كذا) وأباه قلت ذكر ابن أبي حاتم عدة ممن اسمه يحيى بن عبيد وكل واحد منهم روى عن أبيه.(8/10)
وروى الحارث بن أبي أسامة وأبو داود في المراسيل عن طلحة بن أبي قنان [ (1) ] بقاف مفتوحة فنونين بينهما ألف: «أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان إذا أراد أن يتبوّأ [قرارا عزازا] من الأرض أخذ عودا فنكت به الأرض حتّى يثير التّراب ثمّ يبول فيه» [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أبي موسى- رضي الله تعالى عنه- قال: «كنت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فأراد أن يبول، فأتى دمثا في أصل جدار فبال، ثم قال: «إذا أراد أحدكم أن يبول، فليرتد لبوله» [ (3) ] .
الثالث: في لبسه نعله وتغطية رأسه، ووضعه خاتمه قبل الدخول وغير ذلك مما يذكر:
روى ابن سعد عن حبيب بن صالح [ (4) ]- رحمه الله تعالى- قال: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد دخول المرفق لبس حذاءه وغطّى رأسه» [ (5) ] .
وروى الاربعة وابن حبان والحاكم وصححه عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «إذا دخل الخلاء وضع خاتمه» [ (6) ] .
وروى البيهقي بسند ضعيف، والترمذي- وقال: حسن صحيح غريب- عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء غطّى رأسه، وإذا أتى أهله غطّى رأسه» [ (7) ] .
__________
[ (1) ] طلحة بن أبي قنان. أرسل عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا أراد أن يبول فأتى عزازا من الأرض أخذ عودا فنكت به حتى يثرى ثم يبول ولا يدري من طلحة. ميزان الاعتدال 2/ 342.
[ (2) ] أخرجه أبو داود في المراسيل ص 71 حديث (1) وذكره ابن حجر في المطالب العالية 1/ 15 ونسبه للحارث بن أبي أسامة والحديث رجاله ثقات غير طلحة بن أبي قنان وهو العبدري الدمشقي فلم يوثقه غير ابن حبان على عادته في توثيق المجاهيل وقال أبو الحسن القطان لا يعرف.
[ (3) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 396 في مسند أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأبو داود في السنن 1/ 15 كتاب الطهارة (1) باب الرجل يتبوأ لبوله (2) الحديث (3) قال المنذريّ في مختصر سنن أبي داود 1/ 15 فيه مجهول.
[ (4) ] (د ت ق) حبيب بن صالح الطائي أبو موسى الحمصي. عن عبد الرحمن بن سابط، ويحيى بن جابر. وعنه حريز بن عثمان وبقية قال أبو زرعة: مشهور في بلده بالعلم والفضل. قال أبو داود: شيوخ حريز كلهم ثقات. قيل: توفي سنة سبع وأربعين ومائة. الخلاصة 1/ 193.
[ (5) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 103.
[ (6) ] أخرجه أبو داود في السنن 1/ 25 كتاب الطهارة (1) باب الخاتم يكون فيه ذكر الله تعالى يدخل الخلاء (10) الحديث (19) وقال هذا حديث منكر والترمذي في السنن 4/ 229 كتاب اللباس (25) باب ما جاء في لبس الخاتم في اليمين الحديث (1746) وقال هذا حديث حسن غريب والنسائي في المجتبى من السنن 8/ 178 كتاب الزينة (48) باب نزع الخاتم عند دخول الخلاء (53) وابن ماجة في السنن 1/ 110 كتاب الطهارة (1) باب ذكر الله عز وجل على الخلاء والخاتم في الخلاء (11) الحديث (303) .
[ (7) ] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 1/ 96 وقال وهذا الحديث أحد ما أنكر على محمد بن يونس الكديمي.(8/11)
الرابع: فيما كان يستتر به:
روى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود عن عبد الله بن جعفر- رضي الله تعالى عنهما- قال: «كان أحبّ ما استتر به رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لحاجته هدف أو حائش نخل. يعني حائط نخل» [ (1) ] .
وروى أبو داود والنسائي وابن حبان عند عبد الرحمن بن حسنة [ (2) ] رضي الله تعالى عنه- (وفي رواية الأوّلين عن عبد الرحمن عن أبي موسى) قال: «انطلقنا أنا وعمرو بن العاص إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فخرج ومعه درقة، ثمّ استتر بها ثمّ بال» [ (3) ] .
وروى الإمام أحمد وسنده جيد عن يعلى ابن سيابة- بسين مهملة مكسورة وتخفيف التحتية وهي أمه واسم أبيه مرّة بن وهب- رضي الله تعالى عنهما- قال: «كنت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في مسيرة له، فأراد أن يقضي حاجته فأمر ودبّتين فانضمّت (إحداهما) إلى الأخرى- ثمّ أمرهما فرجعتا إلى منابتهما» [ (4) ] .
وروى ابن ماجه عنه أيضا: عن أبيه قال: كنت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سفر فأراد أن يقضي حاجته فقال: «ائت تلك الاشاءتين، فقل لهما: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يأمركما أن تجتمعا» ، فاجتمعتا، فاستتر بهما فقضى حاجته ثمّ قال: «ائتهما فقل لهما: لترجع كلّ واحدة منكما إلى مكانها» ، فقلت لهما فرجعتا [ (5) ] .
الخامس: فيما كان يقوله إذا أراد قضاء الحاجة وأراد به عند الجلوس:
روى الجماعة عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء قال: «اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث» [ (6) ] .
وروى الطبراني في الأوسط عن جابر والترمذي وأبو داود عن أنس وابن عمر- رضي الله
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 1/ 68، حديث 79/ 342 وأحمد في المسند 1/ 204.
[ (2) ] عبد الرحمن بن حسنة أخو شرحبيل صحابي له حديث. وعنه زيد بن وهب. الخلاصة 2/ 130.
[ (3) ] أخرجه أبو داود 1/ 6 حديث ص 22 والنسائي 1/ 28 وابن ماجة 1/ 124- 346.
[ (4) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 172.
[ (5) ] أخرجه ابن ماجة 1/ 122 حديث 339 وقال البوصيري في الزوائد 1/ 144 هذا إسناد ضعيف لأن المنهال بن عمرو لم يسمع من يعلى بن مرة قال المزي في الأطراف رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع فلم يقل عن أبيه وهو الصواب قال البخاري: قال وكيع عن يعلى عن أبيه وهو وهم انتهى وله طرق أخرى عند أحمد من رواية يعلى ابن سيابة نحوه باسناد لا بأس به ويعلى ابن سيابة هو يعلى بن مرة سيابة أمه وله شاهد من حديث أنس ومن حديث ابن عمر رواهما الترمذي في الجامع.
[ (6) ] البخاري في الصحيح 1/ 242 كتاب الوضوء (4) باب ما يقول عند الخلاء (9) الحديث (142) ومسلم في الصحيح 1/ 283 كتاب الحيض (3) باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء (32) الحديث (122- 375) .(8/12)
تعالى عنهم- قالوا: «كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا أراد قضاء الحاجة، لم يرفع ثوبه حتّى يدنو من الأرض» [ (1) ] .
السادس: في استقبال القبلة واستدبارها في البنيان:
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي- وحسنه- وابن ماجة عن جابر- رضي الله تعالى عنه- قال: «نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها» [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد، والترمذي- وضعّفه- عن أبي قتادة- رضي الله تعالى عنه- «أنه رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبول مستقبل القبلة» [ (3) ] .
وروى الشيخان عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: ارتقيت فوق بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يقضي حاجته مستقبل الشّام، مستدبر القبلة [ (4) ] .
وفي رواية «رأيته على لبنتين مستقبلا بيت المقدس لحاجته» .
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الحارث الزبيدي قال: «رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مستقبل القبلة، وأنا أول من حدّث النّاس بذلك» [ (5) ] .
وروى الإمام أحمد وابن ماجة والدارقطني، من عدة طرق عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: «ذكر عند رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قوم يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القبلة، فقال:
«أراهم قد فعلوها، حوّلوا بمقعدتي القبلة» [ (6) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود في السنن 1/ 25 كتاب الطهارة (1) باب الخاتم يكون فيه ذكر الله تعالى يدخل الخلاء (10) الحديث (19) وقال هذا حديث منكر والترمذي في السنن 4/ 229 كتاب اللباس (25) باب ما جاء في لبس الخاتم في اليمين (16) الحديث (1746) وقال هذا حديث حسن غريب والنسائي في المجتبى من السنن 8/ 178 كتاب الزينة (48) باب نزع الخاتم عند دخول الخلاء (53) وابن ماجة في السنن 1/ 110 كتاب الطهارة (1) باب ذكر الله عز وجل على الخلاء والخاتم في الخلاء (11) الحديث (303) .
[ (2) ] أخرجه أبو داود 1/ 4 حديث (13) وأخرجه الترمذي 1/ 15 حديث (9) وابن ماجة 1/ 117 حديث 325 وقال الترمذي وفي الباب عن أبي قتادة وعائشة وعمار بن ياسر.
[ (3) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 300 والترمذي 1/ 15 حديث (10) وقال الترمذي وحديث جابر عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أصح من حديث ابن لهيعة. وابن لهيعة ضعيف عند أهل الحديث ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قبل حفظه.
[ (4) ] أخرجه البخاري في الصحيح 1/ 250 كتاب الوضوء (4) باب التبرز في البيوت (14) الحديث (148) ومسلم في الصحيح 1/ 225 كتاب الطهارة (2) باب الاستطابة (17) الحديث (62/ 266)
[ (5) ] أحمد في المسند 4/ 190.
[ (6) ] أحمد في المسند 6/ 37 وابن ماجة 1/ 117 (324) والدارقطني 1/ 59.(8/13)
وروى الدارقطني عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في كنيفه مستقبل القبلة [ (1) ] .
وروى الطبراني بسند ضعيف عن عمار بن ياسر- رضي الله تعالى عنهما- قال: «رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مستقبل القبلة بعد النّهي لغائط أو بول» [ (2) ] .
السابع: في بوله قاعدا وكذا قائما لعذر:
روى ابن سعد والحاكم (وقال: على شرطهما) عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: «ما بال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائما منذ أنزل [عليه] القرآن» [ (3) ] .
وروى الترمذي عنها قالت: «من حدّثكم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يبول قائما فلا تصدّقوه، ما كان يبول إلّا قاعدا» [ (4) ] .
ورواه النسائي بلفظ: «إلّا جالسا» [ (5) ] .
وروى الجماعة عن حذيفة- رضي الله تعالى عنه- قال: «أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- سباطة قوم» وفي رواية: كناسة قوم فبال قائما فتنحّيت عنه فقال: «ادنه فدنوت حتّى قمت عند عقبه» [ (6) ] .
وروى الحاكم عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- قال: «بال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائما من جرح بمأبضه» [ (7) ] .
وروى الطبراني عن سهل بن سعد- رضي الله تعالى عنه- «أنه رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبول قائما» [ (8) ] .
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن المغيرة بن شعبة- رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أتى سباطة بني فلان، وفي رواية سباطة قوم فبال قائما [ (9) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه الدارقطني في السنن 1/ 60.
[ (2) ] أخرجه الطبراني في الكبير كذا ذكره الهيثمي في المجمع (1/ 210) وقال فيه جعفر بن الزبير اجمعوا على ضعفه.
[ (3) ] الحاكم في المستدرك 1/ 181.
[ (4) ] أخرجه الترمذي 1/ 17 حديث (12) .
[ (5) ] انظر السنن 1/ 27.
[ (6) ] أخرجه البخاري 1/ 328 حديث (224) ومسلم 1/ 228 حديث (73/ 273) .
[ (7) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 1/ 182 وصححه وتعقّبه الذهبي بقوله حماد ضعفه الدارقطني.
[ (8) ] أخرجه الطبراني في الكبير 6/ 210 وقال الهيثمي 1/ 210 في المجمع بعد عزوه له في الأوسط فيه إبراهيم بن حماد ولم أر من ذكره.
[ (9) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 246 وابن ماجة 1/ 111 حديث (306) .(8/14)
وروى مسدد عن مجاهد- رحمه الله تعالى- مرسلاً، قال: «ما بال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائما غير مرّة في كثيب أعجبه» [ (1) ] .
الثامن: في بوله في إناء:
روى أبو داود والنسائي، وابن حبان، والحاكم وصححه، عن حكيمة بنت أميمة- بضم أوله وفتح الميم الأولى وسكون التحتية- بنت رقيقة بقافين وزن ما قبله- رضي الله تعالى عنهما- قالت: «كان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه من الليل» [ (2) ] .
وروى الشيخان والنسائي عن عائشة- رضي الله تعالى عنها- قالت: «يقولون أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أوصى إلى عليّ، لقد [دعا بالطّست ليبول فيها، فانخنثت نفسه] وما أشعر، فإلى من أوصى؟» [ (3) ] .
التاسع: في شدة تفريجه- صلى الله عليه وسلّم- بين وركيه حال قضاء الحاجة:
روى ابن ماجة عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال: «عدل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الشّعب فبال حتّى أنّي آوي له من فكّ وركيه حين بال [ (4) ] .
وروى الطبراني عن أبي موسى- رضي الله تعالى عنه- قال: «رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يبول قاعدا، قد جافى بين فخذيه حتّى جعلت آوي له من طول الجلوس، ثمّ جاء قابضا بيده على ثلاث وستّين، فقال: إنّ صاحب بني إسرائيل كان أشدّ على البول منكم، فإنّ معه مقراضا، فإذا أصاب ثوبه شيء من البول قصّه» [ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1/ 123.
[ (2) ] أخرجه أبو داود 1/ 7 حديث (24) والنسائي 1/ 31.
قال السندي في حاشيته على سنن النسائي 1/ 31، 32 من عيدان اختلف في ضبطه أهو بالكسر والسكون عيدان جمع عود أو بالفتح والسكون عيدان جمع عيدانة بالفتح وهي النخلة الطويلة المتجردة من السعف من أعلاه إلى أسفله وقيل الكسر أشهر رواية وورد بأنه خطأ معنى لأنه جمع عود وإذا اجتمعت الأعواد لا يتأتى منها قدح لحفظ الماء بخلاف من فتح العين فإن المراد حينئذ قدح من خشب هذه صفته ينقر ليحفظ ما يجعل فيه قال القارئ في المرقاة 1/ 295 والصواب الذي عليه المحققون أنها عيدان بفتح العين المهملة.
[ (3) ] أخرجه البخاري 5/ 420 (2741، 4459) ومسلم 3/ 1257 (19/ 1636) .
[ (4) ] أخرجه ابن ماجة 1/ 123 حديث (341) وقال البوصيري في الزوائد 1/ 144 هذا إسناد ضعيف محمد بن ذكوان قال فيه البخاري منكر الحديث وذكره ابن حبّان في الثقات ثم أعاد في الضعفاء وقال يسقط للاحتجاج به وضعفه النسائي والساجي والدارقطني.
[ (5) ] ذكره الهيثمي في المجمع 1/ 209.(8/15)