[النساء 58] فدعا عثمان فقال: «خذوها يا بني شيبة خالدة مخلّدة» .
وفي لفظ: «تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم» .
وروى الأزرقي عن جابر ومجاهد قال: نزلت هذه الآية «إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها» في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة. فقبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة ودخل في الكعبة يوم الفتح، فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان، فدفع إليه المفتاح، وقال- صلى الله عليه وسلّم- «خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله- سبحانه وتعالى- لا ينزعها منكم إلّا ظالم»
[ (1) ] .
وقال عمر بن الخطاب: لمّا خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- من الكعبة خرج وهو يتلو هذه الآية، ما سمعته يتلوها قبل ذلك.
وروى أيضا نحوه عن سعيد بن المسيب قال: دفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة يوم الفتح، وقال: «خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا يظلمكموها إلّا كافر» .
وروى عبد الرزاق والطبراني عن الزهري: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لما خرج من البيت قال علي: «إنا أعطينا النّبوّة والسّقاية، والحجابة، ما قوم بأعظم نصيبا منّا فكره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مقالته، ثمّ دعا عثمان بن طلحة فدفع المفتاح إليه وقال: «غيبوه» .
وقال عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لعلي يومئذ حين كلّمه في المفتاح: «إنما أعطيتكم ما ترزؤون، ولم أعطكم ما ترزؤون» يقول:
«أعطيتكم السّقاية لأنكم تغرمون فيها، ولم أعطكم البيت» .
قال عبد الرزاق: أي أنهم يأخذون من هديّته.
وروى عبد الرزاق عن ابن أبي مليكة: أن العباس- رضي الله عنه- قال للنبي- صلى الله عليه وسلم-:
يا نبي الله!! اجمع لنا الحجابة مع السّقاية، ونزل الوحي على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقال: «ادعوا لي عثمان بن طلحة، فدعي له فدفع له النبي- صلى الله عليه وسلم- المفتاح، وستر عليه، قال: فرسول الله- صلّى الله عليه وسلم- أول من ستر عليه، ثم قال: «خذوها يا بني طلحة لا ينتزعها منكم إلا ظالم» .
ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلم- ركعتين في قبل الكعبة
عن السائب بن يزيد- رضي الله عنه- قال: حضرت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح صلى
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 11/ 120، وانظر المجمع 3/ 285 وابن سعد 2/ 1/ 99، وأبو نعيم في تاريخ أصفهان 1/ 248 والسيوطي في الدر المنثور 2/ 175.(5/245)
في قبل الكعبة، فخلع نعليه فوضعهما عن يساره، ثم استفتح سورة المؤمنين، فلما جاء ذكر موسى أو عيسى أخذته سعلة فركع. رواه ابن أبي شيبة في المصنف.
ذكر اطلاعه- صلى الله عليه وسلم- على ما قالته الأنصار- رضي الله عنهم بينهم لما أمن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قريشا
روى أبو داود الطيالسي، وابن أبي شيبة، والإمام أحمد، ومسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما فرغ من طوافه، أتى الصّفا فعلا منه حتّى يرى البيت، فرفع يديه، وجعل يحمد الله- تعالى- ويذكره. ويدعو ما شاء الله أن يدعو. والأنصار تحته، فقال بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته- قال أبو هريرة- رضي الله عنه- وجاء الوحي- وكان إذا جاء لم يخف علينا: فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى يقضى
فلما قضي الوحي، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا معشر الأنصار» قالوا:
لبيك يا رسول الله، قال: «قلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته، ورأفة في عشيرته» قالوا: قد قلنا ذلك يا رسول الله. قال: «فما أسمي إذن!! كلا، إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، المحيا محياكم والممات مماتكم» فأقبلوا إليه يبكون، يقولون: والله يا رسول الله ما قلنا الّذي قلنا إلا الضّنّ بالله وبرسوله. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم: «فإنّ الله ورسوله يعذرانكم ويصدقانكم»
[ (1) ] .
ذكر اطلاعه- صلى الله عليه وسلم- على ما هم به أبو سفيان وما أسره لهند بنت عتبة
روى ابن سعد عن أبي إسحاق السبيعي- رحمه الله تعالى- والحاكم في الإكليل، والبيهقي عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قالا: رأى أبو سفيان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يمشي والناس يطئون عقبه، فقال بينه وبين نفسه: لو عاودت هذا الرّجل القتال، وجمعت له جمعا؟ فجاء رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حتى ضرب بيده في صدره فقال: «إذن يخزيك الله» فقال:
أتوب إلى الله- تعالى- وأستغفر الله ممّا تفوّهت به، ما أيقنت أنك نبي حتى الساعة، إني كنت لأحدث نفسي بذلك
[ (2) ] .
وروى محمد بن يحيى الذهلي- بالذال المعجمة، واللّام في كتابه- جمع حديث الزهري- عن سعيد بن المسيب- رحمه الله تعالى- قال: لما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مكة
__________
[ (1) ] مسلم 3/ 1407 في الجهاد والسّير باب فتح مكة (86) والبيهقي في الدلائل 5/ 56 والطحاوي في المعاني 3/ 325.
[ (2) ] ذكره ابن عساكر كما في التهذيب 6/ 406، والبيهقي في الدلائل 4/ 102.(5/246)
ليلة الفتح، لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا فقالوا أبو سفيان لهند:
أترين هذا من الله؟ قالت: نعم هذا من الله قال: ثم أصبح فغدا أبو سفيان إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قلت لهند أترين هذا من الله؟ قالت: نعم هذا من الله»
فقال أبو سفيان: أشهد أنّك عبد الله ورسوله، والذي يحلف به ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله عز وجل وهند.
وروى ابن سعد، والحارث بن أبي أسامة، وابن عساكر عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم- رحمه الله تعالى- قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو سفيان جالس في المسجد فقال أبو سفيان: ما أدري بما يغلبنا محمّد؟ فأتاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فضرب صدره وقال: «بالله- تعالى- نغلبك» فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله
[ (1) ] .
وروى العقيلي وابن عساكر عن ابن عباس- رضي الله تعالى- عنهما- قال: لقي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن حرب في الطّواف فقال: «يا أبا سفيان هل كان بينك وبين هند كذا وكذا؟ فقال أبو سفيان: فشت عليّ هند سرّي، لأفعلن بها ولأفعلن، فلما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من طوافه لحق بأبي سفيان فقال: «يا أبا سفيان، لا تكلّم هندا فإنّها لم تفش من سرّك شيئا» فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
ذكر مبايعته- صلى الله عليه وسلّم- الناس على الإسلام
روى الإمام أحمد، والبيهقي عن الأسود بن خلف- رضي الله تعالى عنه- أنه رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يبايع النّاس يوم الفتح. قال: جلس عند قرن مسفلة، فبايع النّاس على الإسلام فجاءه الكبار والصّغار، والرّجال والنّساء، فبايعهم على الإيمان بالله- تعالى- وشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله [ (2) ] .
وقال الحافظ أبو جعفر محمد بن جرير- رحمه الله تعالى-: اجتمع الناس بمكّة لبيعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الإسلام، فجلس لهم- فيما بلغني- على الصفا، وعمر بن الخطاب أسفل من مجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذ على الناس السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا، فلما فرغ من بيعة الرّجال بايع النساء وفيهنّ هند بنت عتبة، امرأة أبي سفيان متنقّبة متنكّرة خوفا من رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أن يخبرها بما كان من صنيعها بحمزة، فهي تخاف أن يأخذها بحدثها ذلك، فلما دنين من رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قال: «بايعنني على ألا تشركن بالله
__________
[ (1) ] العقيلي في الضعفاء 1/ 226، 3/ 57، وابن عساكر كما في التهذيب 6/ 406، والطحاوي في المعاني 4/ 314 وابن حجر في اللسان 4/ 178.
[ (2) ] أحمد في 3/ 415.(5/247)
شيئا» فرفعت هند رأسها وقالت: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه على الرّجال فقال: «ولا تسرقن» فقالت: والله إني كنت أصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة، وما كنت أدري أكان ذلك حلالا أم لا؟ فقال أبو سفيان: - وكان شاهدا لما تقول- أمّا ما أصبت فيما مضى فأنت منه في حلّ- عفا الله عنك- ثم قال: «ولا تزنين» فقالت: يا رسول الله: أو تزني الحرة؟! ثم قال: «ولا تقتلن أولادكنّ» قالت: قد ربّيناهم صغارا وقتلتهم كبارا، فأنت وهم أعلم، فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وعمر، ثم قال: «ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن» فقالت: والله إنّ إتيان البهتان لقبيح ولبعض التجاوز أمثل، ثم قال: «ولا تعصين» فقالت: في معروف فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: لعمر: «بايعهنّ واستغفر لهنّ الله إن الله غفور رحيم» فبايعهن عمر، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم. لا يصافح النساء ولا يمس جلد امرأة لم يحلها الله- تعالى- له أو ذات محرم وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت لا والله ما مسّت يد رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يد امرأة قط وفي رواية ما كان يبايعهن إلا كلاما ويقول إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة
[ (1) ] .
ذكر أمره- صلى الله عليه وسلّم- بتكسير الأصنام
قالوا: ونادى منادى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنما إلا كسره [ (2) ] .
ذكر أذان بلال- رضي الله عنه- فوق الكعبة يوم الفتح وما وقع في ذلك من الآيات
روى أبو يعلى عن ابن عباس- رضي الله عنهما- وابن هشام عن بعض أهل العلم، والبيهقي عن ابن إسحاق، وعن عروة، وابن أبي شيبة عن أبي سلمة، ويحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، والأزرقيّ عن ابن أبي مليكة، ومحمد بن عمر عن شيوخه- رحمهم الله تعالى- إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لمّا حانت الظهر أمر- بلالا أن يؤذّن بالظهر يومئذ فوق الكعبة ليغيظ بذلك المشركين، وقريش فوق رؤوس الجبال، وقد فرّ جماعة من وجوههم وتغيّبوا، وأبو سفيان بن حرب، وعتّاب- ولفظ ابن أبي شيبة: خالد بن أسيد، والحارث بن هشام- جلوس بفناء الكعبة- وأسلموا بعد ذلك. فقال عتّاب- أو خالد- بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون يسمع هذا، فيسمع ما يغيظه، وقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه محق
__________
[ (1) ] أحمد 6/ 357 وانظر زاد المسير 8/ 145 وابن كثير في البداية 4/ 319.
[ (2) ] ابن سعد في الطبقات 2/ 1/ 99.(5/248)
لاتّبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا، لو تكلمت لأخبرت عنّي هذه الحصا، وقال بعض بني سعيد بن العاص، لقد أكرم الله سعيدا إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة. وقال الحكم بن أبي العاص: هذا والله الحدث العظيم أن يصيح عبد بني جمح على بنيّة أبي طلحة. وقال الحارث بن هشام: إن يكن الله- تعالى- يكرهه فسيعيّره، وفي رواية: إن سهيل بن عمرو. قال مثل قول الحارث،
فأتى جبريل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبره خبرهم، فخرج عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقال «قد علمت الّذي قلتم»
فقال الحارث وعتّاب: نشهد أنك رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك [ (1) ] .
ذكر أمره- صلى الله عليه وسلّم بتجديد الحرم يوم الفتح
روى الأزرقي عن محمد بن الأسود، ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا: أول من نصب أنصاب الحرم إبراهيم، كان جبريل- صلى الله عليه وسلم- يدلّه على مواضعها، فلم تحرك حتى كان إسماعيل- صلى الله عليه وسلّم- فجددها، ثم لم تحرك حتى كان قصي بن كلاب فجددها، ثم لم تحرك حتى كان يوم الفتح فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم تميم بن أسد الخزاعيّ فجدّد أنصاب الحرم.
ذكر إسلام السائب بن عبد الله المخزومي- رضي الله عنه
روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد عن مجاهد عن السائب: أنه كان شارك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قبل الإسلام في التجارة، فلما كان يوم الفتح أتاه فقال: «مرحبا بأخي وشريكي، كان لا يداري ولا يماري، يا سائب!! قد كنت تعمل أعمالا في الجاهلية لا تتقبّل منك وهي اليوم تتقبل منك» وكان ذا سلف وخلّة» .
وروى الإمام أحمد عن مجاهد عن السائب بن عبد الله قال: جيء بي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة فجعل عثمان وغيره يثنون عليّ، فقال رسول الله: «لا تعلموني به، كان صاحبي» .
ذكر إسلام الحارث بن هشام- رضي الله عنه
روى محمد بن عمر عن الحارث بن هشام قال: لما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة، دخلت أنا وعبد الله بن أبي ربيعة دار أمّ هانئ، فذكر حديث إن النبي- صلى الله عليه وسلم- أجاز جوار أم هانئ، قال: فانطلقنا، فأقمنا يومين، ثمّ خرجنا إلى منازلنا، فجلسنا بأفنيتها لا يعرض لنا أحد، وكنّا نخاف عمر بن الخطاب، فو الله إني لجالس في ملاءة مورّسة على بابي ما شعرت إلا بعمر بن الخطاب، فإذا معه عدة من المسلمين فسلّم ومضى،
وجعلت أستحي أن يراني رسول
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 78،(5/249)
الله- صلى الله عليه وسلّم- وأذكر رؤيته إيّاي في كلّ موطن مع المشركين ثم أذكر برّه ورحمته وصلته فألقاه وهو داخل المسجد، فلقيني بالبشر، فوقف حتى جئته فسلّمت عليه، وشهدت بشهادة الحقّ، فقال: الحمد لله الّذي هداك، ما كان مثلك يجهل الإسلام
قال الحارث: فو الله ما رأيت مثل الإسلام جهل [ (1) ] .
ذكر إسلام سهيل بن عمرو- رضي الله عنه
روى محمد بن عمر- رحمه الله- عن سهيل بن عمرو قال: لما دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكّة وظهر، اقتحمت بيتي وأغلقت بابي عليّ، وأرسلت إلى ابني عبد الله إن اطلب لي جوارا من محمد فإني لا آمن أن أقتل، فذهب عبد الله إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال:
يا رسول الله!! أبي تؤمنه؟ قال: «نعم، هو آمن بأمان الله فليظهر» ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لمن حوله: «من لقي سهيل بن عمرو فلا يحد إليه النّظر فلعمري إنّ سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه إنه لم يكن بنافع له» فخرج ابنة عبد الله إلى أبيه فأخبره بما قاله رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
فقال سهيل: كان والله برا صغيرا، برا كبيرا، فكان سهيل يقبل ويدبر آمنا وخرج إلى حنين مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو على شركه حتى أسلم بالجعرّانة [ (2) ] .
ذكر إسلام عتبة ومعتب ولدي أبي لهب- رضي الله عنهما
روى ابن سعد عن ابن عباس عن أبيه- رضي الله عنهما- قال: لما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة في الفتح قال لي: «أين ابنا أخيك عتبة ومعتّب ابني أبي لهب. لا أراهما» ؟
قلت: تنحّيا فيمن تنحّى من مشركي قريش، قال: «ائتني بهما» فركبت إليهما بعرنة فأتيت بهما، فدعاهما إلى الإسلام فأسلما وبايعا، ثم قام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخذ بأيديهما وانطلق بهما حتّى أتى الملتزم، فدعا ساعة ثم انصرف والسّرور يرى في وجهه، فقلت: يا رسول الله سرّك الله إنّي أرى السرور في وجهك، فقال: «إني استوهبت ابني عمّي هذين من ربي فوهبهما لي» .
ذكر إسلام عبد الله بن الزّبعري- رضي الله عنه
روى محمد بن عمر عن شيوخه قال: هرب عبد الله بن الزّبعرى إلى نجران، فأرسل حسان بن ثابت- رضي الله عنه- أبياتا يريد بها ابن الزّبعري:
__________
[ (1) ] الواقدي في المغازي 2/ 831.
[ (2) ] الواقدي في المغازي 2/ 848.(5/250)
لا تعدمن رجلا أحلّك بغضه ... نجران في عيش أحذّ لئيم
بليت قناتك في الحروب فألفيت ... خوّارة خوفاء ذات وصوم
غضب الإله على الزّبعري وابنه ... وعذاب سوء في الحياة مقيم
وذكر ابن إسحاق البيت الأوّل فقط فلمّا جاء ابن الزّبعري شعر حسّان، خرج إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو جالس في أصحابه، فلما نظر إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «هذا ابن الزّبعرى، ومعه وجه فيه نور الإسلام فلمّا وقف على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال السلام عليك يا رسول الله، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، الحمد لله الذي هداني للإسلام، لقد عاديتك، وأجلبت عليك وركبت الفرس والبعير، ومشيت على قدميّ في عدواتك، ثم هربت منك إلى نجران، وأنا أريد أن لا أقرّ بالإسلام أبدا، ثم أزادني الله منه بخير، وألقاه في قلبي، وحبّبه إليّ.
وذكرت ما كنت فيه من الضلالة واتباع ما لا ينبغي من حجر يذبح له ويعبد، لا يدرى من عبده، ولا من لا يعبده.
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «الحمد لله الذي هداك للإسلام، إنّ الإسلام يجب ما كان قبله»
وقال عبد الله حين أسلم:
يا رسول المليك إنّ لساني ... راتق ما فتقت إذ أنا بور
إذ أباري الشّيطان في سنن الغيّ ... ومن مال ميله مثبور
آمن اللّحم والعظام لربيّ ... ثمّ قلبي الشّهيد أنت النّذير
إنّني عنك زاجر ثمّ حيا ... من لؤيّ وكلّهم مغرور
وقال عبد الله أيضا حين أسلم:
منع الرّقاد بلابل وهموم ... واللّيل معتلج الرّواق بهيم
ممّا أتاني أنّ أحمد لامني ... فيه فبتّ كأنّني محموم
يا خير من حملت على أوصالها ... عيرانة سرح اليدين غشوم
إنّي لمعتذر إليك من الّذي ... أسديت إذ أنا في الضّلال أهيم
أيّام تأمرني بأغوى خطّة ... سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمدّ أسباب الرّدى ويقودني ... أمر الوشاة وأمرهم مشئوم
فاليوم آمن بالنّبيّ محمّد ... قلبي ومخطئ هذه محروم
مضت العداوة فانقضت أسبابها ... ودعت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والداي كلاهما ... زللي فإنّك راحم مرحوم
وعليك من علم المليك علامة ... نور أغرّ وخاتم مختوم(5/251)
أعطاك بعد محبّة برهانه ... شرفا وبرهان الإله عظيم
ولقد شهدت بأنّ دينك صادق ... حقّ وأنّك في العباد جسيم
والله يشهد أنّ أحمد مصطفى ... مستقبل في الصّالحين كريم
قرم علا بنيانه من هاشم ... فرع تمكّن في الذّرى وأروم
ذكر إسلام عكرمة- رضي الله عنه- ابن أبي جهل
روى محمد بن عمر عن شيوخه- رحمه الله تعالى- وإيّاهم: أن عكرمة- رضي الله عنه- قال: بلغني أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نذر دمي يوم الفتح، وكنت في جمع من قريش بأسفل مكّة- وقد ضوى إليّ من ضوى- فلقينا هناك خالد بن الوليد، فأوقع بنا، فهربت منه أريد والله- أن ألقي نفسي في البحر، وأموت تائها في البلاد قبل أن أدخل في الإسلام، فخرجت حتى انتهيت إلى الشّعيبة، وكانت زوجتي أمّ حكيم بنت الحارث امرأة لها عقل، وكانت قد اتّبعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدخلت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، أن ابن عمّي قد هرب يلقي نفسه في البحر فأمنه.
وروى ابن أبي شيبة وأبو داود، والنسائيّ عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله تعالى عنه، والبيهقي عن عروة- رحمه الله تعالى: أنّ عكرمة ركب البحر فأصابتهم ريح عاصف، فنادى عكرمة اللّات والعزّى، فقال أهل السّفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني من البحر إلّا الإخلاص لا ينجيني في البرّ غيره، اللهم لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آت محمّدا حتّى أضع يدي في يده، فلأجدنّه عفوّا غفورا كريما، فجاء وأسلم [ (1) ] .
وروى البيهقي عن الزهري، ومحمد بن عمر عن شيوخه: أن أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل قالت لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله: قد ذهب عكرمة عنك إلى اليمن، وخاف أن تقتله، فأمنه يا رسول الله، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «هو آمن»
فخرجت أمّ حكيم في طلبه، ومعها غلام لها روميّ، فراودها عن نفسها فجعلت تمنيه حتى قدمت به على حيّ من عكّ فاستعانتهم عليه، فأوثقوه رباطا، وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى البحر، فركب سفينة، فجعل نوتيّ يقول له: أخلص أخلص، قال: أي شيء أقول؟ قال: قل لا إله إلا الله، قال عكرمة: ما هربت إلا من هذا، وإن هذا أمر تعرفه العرب والعجم حتّى النّواتي! ما الدّين إلّا ما جاء به محمد، وغيّر الله قلبي، وجاءتني أمّ حكيم على هذا الأمر، فجعلت تليح إليّ وتقول: يا ابن
__________
[ (1) ] ابن سعد 3/ 261.(5/252)
عمّ، جئتك من عند أبرّ النّاس، وأوصل النّاس، وخير النّاس، لا تهلك نفسك، فوقف لها حتّى أدركته، فقالت له: إنّي قد استأمنت لك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمّنك، فرجع معها وقالت: ما لقيته من غلامك الرومي وأخبرته خبره فقتله وهو يومئذ لم يسلم.
فلمّا وافى مكّة قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا مهاجرا فلا تسبّوا أباه، فإنّ سبّ الميت يؤذي الحيّ ولا يبلغ الميت» فجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها فتأبى عليه وتقول: أنت كافر وأنا مسلمة، فقال: إنّ أمرا منعك منّي لأمر كبير قال ابن عقبة والزهري فيما رواه البيهقي وعروة وغيرهما: فلما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- عكرمة وثب إليه- وما علا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رداء فرحا بعكرمة، ثمّ جلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فوقف عكرمة بين يديه ومعه زوجته متنقّبة، فقال: يا محمد!! إنّ هذه أخبرتني أنّك أمّنتني، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم «صدقت فأنت آمن» قال عكرمة: فإلام تدعو يا محمد؟ قال: «أدعو إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، وتفعل وتفعل» حتى عدّ خصال الإسلام، فقال عكرمة: والله ما دعوت إلّا إلى خير وأمر حسن جميل، قد كنت فينا يا رسول الله قبل أن تدعونا- إلى ما دعوتنا إليه- وأنت أصدقنا حديثا، وأبرّنا برا، ثمّ قال عكرمة: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فسر بذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم قال:
يا رسول الله: علمني خير شيء أقوله، قال: «تقول أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله» ، قال عكرمة: ثم ماذا؟ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تقول: «أشهد الله وأشهد من حضر أنّي مسلم مجاهد مهاجر» ، فقال عكرمة ذلك
[ (1) ] .
ذكر إسلام صفوان بن أمية- رضي الله عنه
روى ابن إسحاق عن عروة بن الزّبير، والبيهقي عن الزهري، ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا: خرج صفوان بن أمية يريد جدّة ليركب منها إلى اليمن،
فقال عمير بن وهب: يا نبي الله- إن صفوان بن أمية سيّد قومي وقد خرج هاربا منك، ليقذف نفسه في البحر، فأمنه صلى الله عليك وسلم- قال: «هو آمن»
فخرج عمير حتّى أدركه- وهو يريد أن يركب البحر- وقال صفوان لغلامه يسار- وليس معه غيره- ويحك!! أنظر من ترى؟ قال: هذا عمير بن وهب، قال صفوان: ما أصنع بعمير بن وهب، والله ما جاء إلّا يريد قتلي قد ظاهر عليّ محمّدا، فلحقه فقال: يا أبا وهب جعلت فداك، جئت من عند أبرّ النّاس، وأوصل النّاس، فداك أبي وأمي الله الله في نفسك أن تهلكها، هذا أمان من رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قد جئتك به. قال: ويحك
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 2/ 851 والبيهقي في الدلائل 5/ 98.(5/253)
أغرب عني فلا تكلمني. قال: أي صفوان فداك أبي وأمي. أفضل النّاس وأبرّ النّاس وخير النّاس ابن عمّك، عزّه عزّك، وشرفه شرفك وملكه ملكك، قال: إني أخافه على نفسي. قال: هو أحلم من ذلك وأكرم، قال: ولا أرجع معك حتّى تأتيني بعلامة أعرفها، فقال: امكث مكانك حتّى آتيك بها، فرجع عمير إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن صفوان أبى أن يأنس لي حتّى يرى منك أمارة يعرفها، فنزع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عمامته فأعطاه إيّاها، وهي البرد الذي دخل فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- معتجرا به برد حبرة، فرجع معه صفوان حتى انتهى إلي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي بالمسلمين العصر في المسجد، فلما سلم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
صاح صفوان: يا محمد، إن عمير بن وهب جاءني ببردك، وزعم أنّك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمرا وإلا سيّرتني شهرين. فقال: «انزل أبا وهب» قال: لا والله حتّى تبيّن لي قال: «بل لك تسيير أربعة أشهر» فنزل صفوان، ولمّا خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إلى هوازن وفرق غنائمها فرأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صفوان ينظر إلى شعب ملآن نعما وشاء ورعاء، فأدام النّظر إليه، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرمقه فقال: «يا أبا وهب يعجبك هذا الشّعب؟» قال: نعم قال: «هو لك وما فيه» فقبض صفوان ما في الشعب،
وقال عند ذلك: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلّا نفس نبيّ، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله. وأسلم مكانه [ (1) ]
ذكر إسلام هند بنت عتبة وما وقع في ذلك من الآيات رضي الله عنها
عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قالت هند بنت عتبة: يا رسول الله ما كان على ظهر الأرض خباء أو قالت من أهل خباء أريد أن يذلّوا من أهل خبائك ثم ما أصبح اليوم على ظهر الأرض خباء أو قالت من أهل خباء أحب إلي من أن يعزّوا من أهل خباء أو قالت: خبائك، رواه الشيخان [ (2) ] .
وروى محمد بن عمر عن عمر بن عبد العزيز- رحمه الله تعالى- قال: سمعت مولاة لمروان بن الحكم تقول: سمعت هندا بنت عتبة بن ربيعة تقول وهي تذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فتقول: أنا عاديته كلّ العداوة، وفعلت يوم أحد ما فعلت من المثلى بعمّه وأصحابه، وكلّما سيرت قريش مسيرة فأنا معها بنفسي أو معينة لقريش، حتّى أن كنت لأعين كلّ من غزا إلى محمد، حتّى تجردت من ثيابي، فرأيت في النّوم ثلاث ليال ولاء بعد فتح مكة، رأيت كأني
__________
[ (1) ] انظر المصدرين السابقين:
[ (2) ] أخرجه البخاري 7/ 175 (3825) ، والبيهقي في الدلائل 5/ 100.(5/254)
في ظلمة لا أبصر سهلا ولا جبلا، وأرى تلك الظّلمة انفرجت عليّ بضوء كأنّه الشّمس، وإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدعوني، ثمّ رأيت في اللّيلة الثّانية، كأنّي على طريق يدعوني، وإذا هبل عن يميني يدعوني، وإذا إساف عن شمالي يدعوني،
وإذا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين يديّ يقول: «هلمّي إلى الطّريق، ثمّ رأيت اللّيلة الثّالثة كأنّي واقفة على شفير جهنم، يريدون أن يدفعوني فيها،
وإذا بهبل يقول أدخلوها فالتفتّ فأنظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ورائي آخذ بثيابي، فتباعدت من شفير النّار فلا أرى النّار، ففزعت فقلت: ما هذا، وقد تبيّن لي، فغدوت من ساعتي إلى صنم في بيت كنّا نجعل عليه منديلا، فأخذت قدوما فجعلت أفلذه وأقول: طالما كنّا منك في غرور، وأسلمت.
وروى أيضا عن عبد الله بن الزبير- رضي الله عنهما- أنّ هندا أتت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو بالأبطح، فأسلمت، وقالت: الحمد لله الذي أظهر الدّين الّذي اختاره لنفسه لتمسني رحمتك يا محمد، إني امرأة مؤمنة بالله، مصدّقة به ثم كشفت عن نقابها، فقالت: أنا هند بنت عتبة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «مرحبا بك»
فقالت يا رسول الله: والله ما كان على وجهه الأرض من أهل خباء أحب إلي من أن يذلّوا من خبائك، ولقد أصبحت وما على الأرض أهل خباء أحب إلي أن يعزّوا من خبائك.
وروى أيضا عن أبي حصين الهذليّ قال: لمّا أسلمت هند بنت عتبة، أرسلت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بهديّة- وهو بالأبطح- مع مولاة لها بجديين مرضوفين وقد، فانتهت الجارية إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك هذه الهديّة، وهي تعتذر إليك وتقول: إنّ غنمنا اليوم قليلة الوالدة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «بارك الله لكم في غنمكم وأكثر والدتها» وكانت المولاة تقول: لقد رأينا من كثرة غنمنا ووالدتها ما لم نكن نرى قبل ولا قريبا، فتقول هند: هذا بدعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثمّ تقول: لقد كنت أرى في النّوم أنّي في الشّمس أبدا قائمة والظلّ منّي قريب لا أقدر عليه، فلمّا دنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأيت كأنّي دخلت الظّلّ.
ذكر سبب خطبته- صلى الله عليه وسلّم- ثاني يوم الفتح وتعظيمه حرمة مكة
روى ابن أبي شيبة عن الزهري، ومحمد بن عمر عن شيوخه، قالوا: خرج غزيّ من هذيل في الجاهليّة وفيهم جنيدب بن الأدلع الهذلي يريدون حيّ أحمر بأسا من أسلم- وكان أحمر بأسا رجلا من أسلم شجاعا لا يرام، وكان لا ينام في حيّه إلّا ينام خارجا من حاضره، وكان إذا نام غطّ غطيطا منكرا لا يخفى مكانه، وكان الحاضر إذا أتاهم فزع صرخوا: يا أحمر بأسا. فيثور مثل الأسد، فلمّا جاءهم ذلك الغزيّ من هذيل قال لهم جنيدب بن الأدلع: إن كان(5/255)
أحمر بأسا قد قيّل في الحاضر فليس إليهم سبيل، وإنّ له غطيطا لا يخفى، فدعوني اتسمّع فتسمع الحسّ فسمعه، فأتاه حتّى وجده نائما فقتله، وضع السّيف على صدره، ثم اتكأ عليه فقتله ثم حملوا على الحيّ فصاح الحيّ يا أحمر بأسا، فلا شيء لأحمر بأسا، قد قتل- فنالوا من الحيّ حاجتهم، ثم انصرفوا وتشاغل النّاس بالإسلام، فلما كان بعد الفتح بيوم دخل جنيدب بن الأدلع الهذلي مكّة يرتاد وينظر والناس آمنون، فرآه جندب بن الأعجم الأسلميّ فقال: جنيدب بن الأدلع قاتل أحمر بأسا؟ قال: نعم فمه، فخرج جندب يستجيش عليه حيّه، فكان أول من لقي خراش بن أميّة الكعبي فأخبره. فاشتمل خراش على السّيف ثمّ أقبل إليه- والنّاس حوله، وهو يحدّثهم عن قتل أحمر بأسا فبينما هم مجتمعون عليه إذ أقبل خراش بن أميّة فقال: هكذا عن الرجل. فو الله ما ظنّ النّاس إلّا أنه يفرّج النّاس عنه لينصرفوا، فانفرجوا فحمل عليه خراش بن أميّة بالسّيف فطعنه به في بطنه وابن الأدلع مستند إلى جدار من جدر مكّة، فجعلت حشوته تسيل من بطنه، وإن عينيه لتزنّقان في رأسه، وهو يقول: فعلتموها يا معشر خزاعة؟ فانجعف فوقع فمات.
فسمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك فقال: «يا معشر خزاعة» ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد كثر القتل، لقد قتلتم قتيلا لأدينّه، إنّ خراشا لقتّال- يعيبه بذلك.
لو كنت قاتلا مؤمنا بكافر لقتلت خراشا
[ (1) ] .
وروى الشيخان والترمذي عن ابن شريح خويلد بن عمرو العدوي، والشيخان عن ابن عباس، وابن منيع بسند صحيح، وابن أبي عمرو. والإمام أحمد، والبيهقي عن ابن عمر، وابن أبي شيبة، والشيخان عن أبي هريرة- رضي الله عنهم- وابن أبي شيبة عن الزهري، وابن إسحاق عن بعض أهل العلم، ومحمد بن عمر عن شيوخه، قالوا: لمّا كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه- وهو مشرك- فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- خطيبا بعد الظهر، وأسند ظهره إلى الكعبة.
وعند ابن أبي شيبة عن أبي هريرة: أنه- صلى الله عليه وسلّم- ركب راحلته فحمد الله وأثنى عليه، وقال: «أيها الناس أن الله تعالى حرّم مكة يوم خلق السموات والأرض ويوم خلق الشّمس والقمر، ووضع هذين الجبلين، ولم يحرمها الناس، فهي حرام إلى يوم القيامة، فلا يحلّ لامرء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ولا يعضد فيها شجرا، لم تحل لأحد كان قبلي، ولم تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلّ لي إلّا هذه السّاعة غضبا على أهلها- ألا قد رجعت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلّغ الشّاهد منكم الغائب، فمن قال لكم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قد قاتل فيها فقولوا له: إن الله تعالى قد أحلّها لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولم يحلّها لكم،
__________
[ (1) ] أخرجه الطحاوي في المعاني 3/ 327 وانظر الفتح 12/ 206 والبداية 4/ 305.(5/256)
أيها الناس، إن أعدى الناس على الله من قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهليّة، يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل فقد والله كثر إن نفع، فقد قتلتم قتيلا لأدينّه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النّظرين إن شاءوا فديته كاملة، وإن شاءوا فقتله ثم ودى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك الرّجل الّذي قتلته خزاعة. قال ابن هشام: مائة ناقة. قال ابن هشام:
وبلغني أنه أول قتيل وداه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
[ (1) ] .
ذكر قوله- صلى الله عليه وسلم- في قريش انها لا تقتل صبرا
روى مسلم عن عبد الله بن مطيع بن الأسود عن أبيه- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول يوم فتح مكة: «لا يقتل قريشيّ صبرا بعد اليوم إلى يوم القيامة»
[ (2) ] .
وروى محمد بن عمر عن أبي حصين الهذلي قال: لما قتل النفر الذين أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بقتلهم سمع النّوح عليهم بمكّة، وجاء أبو سفيان بن حرب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقال: فداك أبي وأمي البقيّة في قومك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا يقتل قريشيّ صبرا بعد اليوم»
قال محمد بن عمر: يعني على الكفر [ (3) ] .
وروى أيضا عن الحارث بن البرصاء- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «لا تغزى قريش بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة على الكفر»
[ (4) ] .
ذكر استسلافه- صلى الله عليه وسلّم- مالا وتفريقه على المحتاجين ممن كان معه
روى محمد بن عمر عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي قال: أرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح، فاستسلف من عبد الله ابن أبي ربيعة بن المغيرة أربعين ألف درهم، فأعطاه، فلما فتح الله تعالى هوازن، وغنّمه أموالها ردّها، وقال: «إنّما جزاء السّلف الحمد والأداء» ، وقال: «بارك الله لك في مالك وولدك»
[ (5) ] .
__________
[ (1) ] انظر المغازي للواقدي 2/ 844.
[ (2) ] أخرجه مسلم في الجهاد باب 33 حديث (88) ، والدارمي 2/ 198 والحميدي (568) . والطبراني في الكبير 7/ 88 وأحمد 3/ 412، والطحاوي في المعاني 3/ 326 والبيهقي في الدلائل 5/ 79 وابن أبي شيبة 12/ 173، 14/ 90.
[ (3) ] المغازي للواقدي 2/ 862.
[ (4) ] الواقدي 2/ 862 وابن سعد 2/ 1/ 99، والطبراني في الكبير 3/ 292 وابن أبي شيبة 14/ 490 والبيهقي في الدلائل 5/ 75.
[ (5) ] الواقدي 2/ 863 والنسائي في البيوع باب 97 والبيهقي في السنن 5/ 355، وأبو نعيم في الحلية 7/ 111 والبخاري في التاريخ 5/ 10 وابن السني 272، وأحمد 4/ 36 وابن ماجة (2424) .(5/257)
وروى أيضا عن أبي حصين الهذلي قال: استقرض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ثلاثة نفر من قريش، من صفوان بن أمية خمسين ألف درهم فأقرضه. ومن عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم، ومن حويطب بن عبد العزّى أربعين ألف درهم، فكانت ثلاثين ومائة ألف درهم، فقسّمها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين أصحابه من أهل الضّعف، قال أبو حصين، فأخبرني رجال من بني كنانة كانوا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في الفتح أنه قسّم فيهم دراهم فيصيب الرجل خمسين درهما أو أقل أو أكثر من ذلك [ (1) ] .
ذكر نهيه- صلّى الله عليه وسلم- عن ثمن الخمر والخنزير وعن الميتة وبعض فتاويه وأحكامه
روى ابن أبي شيبة عن جابر- رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الفتح يقول: «إن الله تعالى حرّم بيع الخمر والخنازير والميتة والأصنام» فقال رجل: يا رسول الله!! ما ترى في شحوم الميتة فإنّه يدهن بها السّفن والجلود، ويستصبح بها؟ قال: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرّم عليهم شحومهما أخذوها فجمدوها ثمّ باعوها وأكلوا ثمنها»
[ (2) ] .
وروى ابن أبي شيبة عن عبد الرّحمن بن الأزهر- رضي الله عنه- قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام الفتح- وأنا غلام شاب- ينزل عند منزل خالد بن الوليد، وأتي بشارب فأمرهم فضربوه بما في أيديهم، فمنهم من ضرب بالسوط، وبالنّعل، وبالعصا وحثا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التّراب [ (3) ] .
وروى الشيخان عن عائشة أنّ هندا بنت عتبة سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك، فهل من حرج أن أطعم من الذي له عيالنا؟ فقال لها: «لا عليك أن تطعميهم بالمعروف»
[ (4) ] .
وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كان عتبة بن أبي وقّاص عهد إلى أخيه سعد أن يقبض عبد الرحمن بن وليدة زمعة، وقال عتبة: إنّه ابني، فلما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة في الفتح رأى سعد الغلام فعرفه بالشّبه فاحتضنه إليه وقال: ابن أخي وربّ الكعبة، فأقبل به إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وأقبل معه عبد بن زمعة، فقال سعد بن أبي وقاص: هذا ابن أخي عهد إليّ
__________
[ (1) ] المغازي 2/ 863.
[ (2) ] أخرجه من حديث جابر البخاري 4/ 424 (2236) ومسلم 3/ 1207 (71/ 1581) ومن حديث ابن عمر البخاري 4/ 414 (2223) ومسلم 3/ 1207 (72/ 1582) .
[ (3) ] البيهقي 8/ 319.
[ (4) ] أخرجه البخاري 9/ 507 (364) ومسلم 3/ 1338 (7/ 1714) .(5/258)
أنّه ابنه، فقال عبد بن زمعة: يا رسول الله، هذا أخي، هذا ابن زمعة ولد على فراشه، فنظر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى ابن وليدة زمعة فإذا هو أشبه النّاس بعتبة بن أبي وقاص فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «هو» - أي الولد «لك هو أخوك يا عبد بن زمعة، من أجل أنه ولد على فراشه، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة، لما رأى من شبه عتبة بن أبي وقّاص بالولد.
رواه البخاري
[ (1) ] .
وعن عروة بن الزبير عن عائشة- رضي الله عنها-: أن امرأة سرقت في عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلّم فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-؟ فقيل: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؟ ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعون به إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما كلّمه أسامة فيها تلوّن وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقال: «أتكلّمني» وفي لفظ «أتشفع في حدّ من حدود الله؟!» قال أسامة: يا رسول الله استغفر لي فلما كان العشي قام رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- خطيبا فأثنى على الله- تعالى- بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد فإنّما أهلك الناس» وفي لفظ «هلك بنو إسرائيل» وفي لفظ «الذين من قبلكم» أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف وفي لفظ الوضيع قطعوه» وفي لفظ: أقاموا عليه الحدّ، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» ثم أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بتلك المرأة وفي رواية النسائي «قم يا بلال، فخذ بيدها فاقطعها» فحسنت توبتها بعد ذلك، وتزوّجت رجلا من بني سليم، قالت عائشة: فكانت تأتيني بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رواه الإمام أحمد والشيخان والنسائي والبيهقي
[ (2) ]
ذكر من نذر أن فتح الله تعالى مكة على رسوله ان يصلوا ببيت المقدس
عن جابر- رضي الله عنه- أن رجلا قال يوم الفتح، إنّي نذرت إن فتح الله عليك مكّة أن أصلّي في بيت المقدس، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «صلّ ههنا» فسأله فقال: «صلّ ههنا» فسأله: فقال شأنك إذن، رواه الإمام أحمد، وأبو داود بإسناد صحيح والحاكم
وقال: على شرط مسلم، والإمام أحمد وأبو داود
وفي رواية عن بعض الصحابة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «والذي بعث محمدا بالحقّ لو صليت ههنا لقضى عنك ذلك كلّ صلاة في بيت المقدس»
[ (3) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 371 (2745) ومسلم 2/ 1080 (36/ 1457) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 6/ 513 (3475) ومسلم 3/ 1315 (8/ 1688) احمد 3/ 363.
[ (3) ] أحمد 3/ 363 وأبو داود (3305) ، والبيهقي 10/ 82 والدارمي 2/ 185 والطحاوي في المعاني 3/ 115 والبخاري في التاريخ 6/ 170 والحاكم 4/ 304.(5/259)
ذكر قوله- صلى الله عليه وسلم- لا تغزى مكة بعد اليوم
عن الحارث بن مالك- رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول يوم فتح مكة: «لا تغزى هذه بعد اليوم إلى يوم القيامة» رواه الإمام أحمد، والترمذي،
وقال: حديث حسن صحيح. قال العلماء: معنى قوله: «لا تغزى» يعني على الكفر.
ذكر إرساله- صلى الله عليه وسلّم- السرايا لهدم الأصنام التي حول مكة، والإغارة على من لم يسلم
روى محمد بن عمر عن عبيد بن عمير- رحمه الله تعالى- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في يوم فتح مكة: لم تحل لنا غنائم مكة
[ (1) ] . وروى أيضا عن يعقوب بن عتبة قال:
لم يغنم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكة شيئا، وكان يبعث السّرايا خارجة من الحرم، وعرفة، والحل، فيغنمون ويرجعون إليه، قالوا: بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد لهدم العزّى، وخالد بن سعيد بن العاص قبل عرنة، وهشام بن العاص قبل يلملم، وسعد بن زيد الأشهلي إلى مناة، وغيرهم، وسيأتي بيان ذلك مبسوطا في السرايا- أن شاء الله تعالى
ذكر قوله- صلى الله عليه وسلم- لا هجرة بعد الفتح
وذلك أن مكة شرفها الله تعالى كانت قبل الفتح دار حرب، وكانت الهجرة منها واجبة إلى المدينة، فلما فتحت مكّة صارت دار إسلام، فانقطعت الهجرة منها.
عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح فتح مكة: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونيّة وإذا استنفرتم فانفروا» رواه الشيخان.
وعن عطاء بن أبي رباح- رحمه الله تعالى- قال: زرت عائشة- رضي الله عنها- مع عبيد بن عمير الليثي، وهي مجاورة بثبير فسألها عن الهجرة فقالت: «لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفرّ أحدهم بدينه إلى الله ورسوله مخافة أن يفتن عنه، فأمّا اليوم فقد أظهر الله تعالى الإسلام، فالمؤمن يعبد ربّه حيث كان، ولكن جهاد ونيّة» . رواه الشيخان.
وعن يعلى بن صفوان بن أمية- رضي الله عنهما- قال: جئت بأبي يوم الفتح، فقلت: يا رسول الله بايع أبي على الهجرة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «بل أبايعه على الجهاد، فقد انقضت الهجرة» . رواه الإمام أحمد والنسائي.
وروى ابن أبي أسامة عن مجاهد- مرسلا. قال: جاء يعلى بن صفوان بن أمية- رضي
__________
[ (1) ] أحمد 6/ 466.(5/260)
الله عنهما- بعد الفتح فقال: يا رسول الله- اجعل لأبي نصيبا في الهجرة، فقال: «لا هجرة بعد اليوم» فأتى العباس فقال: يا أبا الفضل، ألست قد عرفت بلائي؟ قال: بلى، وماذا؟ قال: أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بأبي ليبايعه على الهجرة فأبى، فقام العباس معه في قيظ ما عليه رداء، فقال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أتاك يعلى بأبيه لتبايعه على الهجرة فلم تفعل، فقال: إنه لا هجرة اليوم» قال: أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعه، فمدّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده فبايعه فقال: «قد أبررت عمّي ولا هجرة» .
ذكر قدر إقامته- صلى الله عليه وسلّم- بمكة
عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: أقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمكة تسعة عشر يوما يصلّي ركعتين، وفي لفظ «أقمنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم بمكة تسعة عشر نقصر الصّلاة [ (1) ] » رواه البخاري. وأبو داود، وعنده سبعة عشر بتقديم السّين على الموحدة وعن عمران بن حصين- رضي الله عنهما- قال: غزوت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الفتح، فأقام بمكّة ثماني عشرة ليلة لا يصلّي إلّا ركعتين» . رواه أبو داود.
وعن أنس- رضي الله عنه- قال: «أقمنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- عشرة نقصّر الصّلاة» .
رواه البخاري في باب مقام النبي- صلى الله عليه وسلم- بمكة زمان الفتح وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أقام بمكة عام الفتح خمس عشرة يقصر الصّلاة» رواه أبو داود من طريق ابن إسحاق، والنسائي من طريق عراك بن مالك كلاهما عن عبيد الله، وصحّحه الحافظ.
ذكر إخباره- صلّى الله عليه وسلم- ذا الجوشن بانه سيظهر على قريش
روى ابن سعد عن ابن إسحاق السبيعي- رحمه الله تعالى- قال: قدم ذو الجوشن الكلابي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له: «ما يمنعك من الإسلام؟» قال: رأيت قومك كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر، فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتّبعك، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «يا ذا الجوشن لعلّك إن بقيت قليلا أن ترى ظهوري عليهم [ (2) ] » قال فو الله إني لبضريّه إذ قدم علينا راكب من قبل مكة، فقلنا ما الخبر؟ قال: ظهر محمد على أهل مكّة،
فكان ذو الجوشن يتوجّع على تركه الإسلام حين دعاه إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قلت:
وأسلم بعد ذلك، وروى عن النبي- صلى الله عليه وسلم.
__________
[ (1) ] سيأتي في هديه- صلّى الله عليه وسلم- في قصر الصلاة.
[ (2) ] أحمد في المسند 4/ 68 وابن أبي شيبة 14/ 375 وابن سعد 6/ 31.(5/261)
ذكر بعض ما قيل من الشعر في فتح مكة- زادها الله تعالى شرفا
قال حسان بن ثابت- رضي الله عنه- في غزوة الحديبية مشيرا إلى الفتح، وبعضها في الجاهلية، كما ورد ذلك عنه، وهو ما أسقطته منها في وصف الخمر:
عفت ذات الأصابع فالجواء ... إلى عذراء منزلها خلاء
ديار من بني الحسحاس قفر ... تعفّيها الرّوامس والسّماء
إلى أن قال:
عدمنا خيلنا إن لم تروها ... تثير النّقع موعدها كداء
ينازعن الأعنّة مصغيات ... على أكتافها الأسل الظّماء
تظلّ جيادنا متمطّرات ... يلطّمهنّ بالخمر النّساء
فإمّا تعرضوا عنّا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وإلّا فاصبروا لجلاد يوم ... يعين الله فيه من يشاء
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
وقال الله قد أرسلت عبدا ... يقول الحقّ إن نفع البلاء
شهدت به فقوموا صدّقوه ... فقلتم لا نقوم ولا نشاء
وقال الله قد سيّرت جندا ... هم الأنصار عرضتها اللّقاء
لنا في كل يوم من معدّ ... سباب أو قتال أو هجاء
فنحكم بالقوافي من هجانا ... ونضرب حين تختلط الدّماء
ألا أبلغ أبا سفيان عنّي ... مغلّظة فقد برح الجفاء
بأنّ سيوفنا تركتك عبدا ... وعبد الدّار سادتها الإماء
هجوت محمّدا وأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء ... فشرّ كما لخيركما الفداء
هجوت مباركا برّا حنيفا ... أمين الله شيمته الوفاء
أمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
فإنّ أبي ووالدتي وعرضي ... لعرض محمّد منكم وقاء
فسوف يجبّكم عنه حسام ... يصوغ المحكمات كما يشاء
لساني صارم لا عيب فيه ... وبحري لا تكدّره الدّلاء
وقال كعب بن مالك- رضي الله عنه-:
قضينا من تهامة كلّ إرب ... وخيبر ثمّ أجملنا السّيوفا(5/262)
نخبّرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهنّ دوسا أو ثقيفا
فلست لحاضن إن لم تروها ... بساحة داركم منّا ألوفا
وننتزع العروس ببطن وجّ ... وتصبح داركم منكم خلوفا
ويأتيكم لنا سرعان خيل ... يغادر خلفه جمعا كثيفا
إذا نزلوا بساحتكم سمعتم ... لها ممّا أناخ بها رجيفا
بأيديهم قواضب مرهفات ... يزرن المصطلين بها الحتوفا
كأمثال العقائق أخلصتها ... قيون الهند لم تضرب كتيفا
تخال جديّة الأبطال فيها ... غداة الزّحف جاديّا مذوفا
أجدّهم أليس لهم نصيح ... من الأقوام كان بنا عريفا
يخبّرهم بأنّا قد جمعنا ... عتاق الخيل والنّجب الطّروفا
وأنّا قد أتيناهم بزحف ... يحيط بسور حصنهم صفوفا
رئيسهم النّبيّ وكان صلبا ... نقيّ القلب مصطبرا عزوفا
رشيد الأمر ذا حكم وعلم ... وحلم لم يكن نزقا خفيفا
نطيع نبيّنا ونطيع ربّا ... هو الرّحمن كان بنا رؤوفا
فإن تلقوا إلينا السّلم نقبل ... ونجعلكم لنا عضدا وريفا
وإن تأبوا نجاهدكم ونصبر ... ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا
نجالد ما بقينا أو تنيبوا ... إلى الإسلام إذعانا مضيفا
نجالد لا نبالي من لقينا ... أأهلكنا التّلاد أم الطّريفا
وكم من معشر ألبوا علينا ... صميم الجذم منهم والحليفا
أتونا لا يرون لهم كفاء ... فجدّعنا المسامع والأنوفا
بكلّ مهنّد لين صقيل ... نسوقهم بها سوقا عنيفا
لأمر الله والإسلام حتّى ... يقوم الدّين معتدلا حنيفا
وتنسى اللّات والعزّى وودّ ... ونسلبها القلائد والشّنوفا
فأمسوا قد أقرّوا واطمأنّوا ... ومن لا يمتنع يقبل خسوفا
وقال أنس بن زنيم الديلي- رضي الله عنه-: يعتذر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مما كان قال فيه عمرو بن سالم الخزاعي- رضي الله عنه:
أأنت الّذي تهدى معدّ بأمره ... بل الله يهديهم وقال لك اشهد
وما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمة من محمّد
أحثّ على خير وأسبغ نائلا ... إذا راح كالسيف الصّقيل المهنّد(5/263)
وأكسى لبرد الخال قبل ابتذاله ... وأعطى لرأس السّابق المتجرّد
تعلّم رسول الله إنك مدركي ... وأنّ وعيدا منك كالأخذ باليد
تعلّم رسول الله إنك قادر ... على كل صرم متهمين ومنجد
تعلّم بأنّ الرّكب ركب عويمر ... هم الكاذبون المخلفو كلّ موعد
ونبّوا رسول الله إني هجوته ... فلا حملت سوطي إليّ إذا يدي
سوى أنّني قد قلت ويل أمّ فتية ... أصيبوا بنحس لا بطلق وأسعد
أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفاء فعزّت عبرتي وتبلّدي
وإنّك قد أخفرت إن كنت ساعيا ... بعبد بن عبد الله وابنة مهود
ذؤيب وكلثوم وسلمى تتابعوا ... جميعا فإلّا تدمع العين أكمد
وسلمى وسلمى ليس حيّ كمثله ... وإخوته أو هل ملوك كأعبد
فإنّي لا ذنبا فتقت ولا دما ... هرقت تبيّن عالم الحقّ واقصد
ويرحم الله تعالى الإمام أبا محمد عبد الله بن أبي زكرياء الشقراطسي حيث قال:
ويوم مكّة إذ أشرفت في أمم ... تضيق عنها فجاج الوعث والسّهل
خوافق ضاق ذرع الخافقين بها ... في قاتم من عجاج الخيل والإبل
وجحفل قذف الأرجاء ذي لجب ... عرمرم كزهاء السّيل منسحل
وأنت صلّى عليك الله تقدمهم ... في بهو اشرق نور منك مكتمل
ينير فوق أغرّ الوجه منتجب ... متوّج بعزيز النّصر مقتبل
يسمو أمام جنود الله مرتديا ... ثوب الوقار لأمر الله ممتثل
خشعت تحت بهاء العزّ حين سمت ... بك المهابة فعل الخاضع الوجل
وقد تباشر أملاك السّماء بما ... ملّكت إذ نلت منه غاية الأمل
والأرض ترجف من زهو ومن فرق ... والجوّ يزهر إشراقا من الجذل
والخيل تختال زهوا في أعنّتها ... والعيش تنثال رهوا في ثنى الجدل
لولا الّذي خطّت الأقلام من قدر ... وسابق من قضاء غير ذي حول
أهلّ ثهلان بالتّهليل من طرب ... وذاب يذبل تهليلا من الذّبل
الملك لله هذا عزّ من عقدت ... له النّبوّة فوق العرش في الأزل
شعبت صدع قريش بعد ما قذفت ... بهم شعوب شعاب السّهل والقلل
قالوا محمّد قد زادت كتائبه ... كالأسد تزأر في أنيابها العصل
فويل مكّة من آثار وطأته ... وويل أمّ قريش من جوى الهبل
فجدت عفوا بفضل العفو منك ولم ... تلمم ولا بأليم اللّوم والعذل(5/264)
أضربت بالصّفح صفحا عن طوائلهم ... طولا أطال مقيل النّوم في المقل
رحمت واشج أرحام أتيح لها ... تحت الوشيج نشيج الرّوع والوجل
عاذوا بظلّ كريم العفو ذي لطف ... مبارك الوجه بالتّوفيق مشتمل
أزكى الخليقة أخلاقا وأطهرها ... وأكرم النّاس صفحا عن ذوي الزّلل
زان الخشوع وقار منه في خفر ... أرقّ من خفر العذراء في الكلل
وطفت بالبيت محبورا وطاف به ... من كان عنه قبيل الفتح في شغل
والكفر في ظلمات الرّجس مرتكس ... ثاو بمنزلة البهموت من زحل
حجزت بالأمن أقطار الحجاز معا ... وملت بالخوف عن خيف وعن ملل
وحلّ أمن ويمن منك في يمن ... لمّا أجابت إلى الإيمان عن عجل
وأصبح الدّين قد حفّت جوانبه ... بعزّة النّصر واستولى على الملل
قد طاع منحرف منهم لمعترف ... وانقاد منعدل منهم لمعتدل
أحبب بخلّة أهل الحقّ في الخلل ... وعزّ دولته الغرّاء في الدّول
أمّ اليمامة يوم منه مصطلم ... وحلّ بالشّام شؤم غير مرتحل
تفرّقت منه أعراف العراق ولم ... يترك من التّرك عظما غير منتثل
لم يبق للفرس ليث غير مفترس ... ولا من الجيش جيش غير منجفل
ولا من الصّين سور غير مبتذل ... ولا من الرّوم مرمى غير منتضل
ولا من النّوب جدم غير منجدم ... ولا من الزّنج جزل غير منجدل
ونيل بالسّيف سيف البحر واتّصلت ... دعوى الجنود فكلّ بالجهاد صلي
وسلّ بالغرب غرب السّيف إذ شرقت ... بالشّرق قبل صدور البيض والأسل
وعاد كلّ عدو عزّ جانبهم ... قد عاد منكم ببذل غير مبتذل
أصفى من الثّلج إشراقا مذاقته ... أحلى من اللّبن المضروب في العسل
تنبيهات
الأول: لا خلاف أن هذه الغزوة كانت في رمضان، كما في الصحيح، وغيره، وعن ابن عباس قال: ابن شهاب كما عند البيهقي من طريق عقيل: لا أدري أخرج في شعبان فاستقبل رمضان، أو خرج في رمضان بعد ما دخل؟ ورواه البيهقي من طريق ابن أبي حفصة عن الزّهري بإسناد صحيح. قال: صبّح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان.
وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد- رضي الله عنه- قال: خرجنا مع(5/265)
رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- عام الفتح لليلتين خلتا من شهر رمضان، وهذا يدفع التردّد الماضي، ويعيّن يوم الخروج، وقول الزهري يعيّن يوم الدخول، ويعطي أنه أقام في الطريق اثني عشر يوما.
قال الحافظ: وأما ما قاله الواقديّ أنّه خرج لعشر خلون من رمضان فليس بقويّ لمخالفته ما هو أصحّ منه، قلت: قد وافق الواقديّ على ذلك ابن إسحاق وغيره، ورواه إسحاق بن راهويه بسند صحيح عن ابن عبّاس، وعند مسلم أنه دخل لست عشرة، ولأحمد لثماني عشرة، وفي أخرى لثنتي عشرة، والجمع بين هاتين بحمل إحداهما على ما مضى والأخرى على ما بقي، والّذي في المغازي: دخل لتسع عشرة مضت وهو محمول على الاختلاف في أوّل الشّهر.
ووقع في أخرى: بالشكّ في تسع عشرة أو سبع عشرة وروى يعقوب بن سفيان من طريق الحسن عن جماعة من مشايخه: أنّ الفتح كان في عشرين من رمضان، فإن ثبت حمل على أن مراده أنّه وقع في العشر الأوسط قبل أن يدخل الأخير.
الثاني: اختلفت الرّوايات فيمن أرسله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليأتي بكتاب حاطب: ففي
رواية أبي رافع عن عليّ قال: بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنا والزّبير والمقداد.
وفي رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن علي قال: بعثني رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وأبا مرثد الغنوي، والزبير بن العوام، قال الحافظ: فيحتمل أن يكون الثلاثة كانوا معه، وذكر أحد الرّاويين عنه ما لم يذكر الآخر، ثم قال: والذي يظهر، أنه كان مع كل واحد منهما آخر تبعا له.
الثالث: جزم ابن إسحاق بأن جميع من شهد الفتح من المسلمين عشرة آلاف. ورواه البخاري في صحيحه عن عروة، وإسحاق بن راهويه من طريق آخر بسند صحيح عن ابن عباس، وقال عروة أيضا والزهري وابن عقبة كانوا اثني عشر ألفا، وجمع بأن العشرة آلاف خرج بها من نفس المدينة. ثم تلاحق الألفان الرابع: وقع في الصحيح من رواية معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس «وذلك على رأس ثمان سنين ونصف من مقدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة» قال الحافظ: وهو وهم، والصّواب على رأس سبع سنين ونصف، وإنّما وقع الوهم من كون غزوة الفتح كانت في سنة ثمان، من أثناء ربيع الأول إلى أثناء رمضان نصف سنة سواء، والتحرير أنها سبع سنين ونصف ويمكن توجيه رواية معمر: بأنه بناء على التّاريخ بأول السّنة من المحرّم، فإذا دخل من السنة الثانية شهران أو ثلاثة أطلق عليها سنة مجازا، من تسمية البعض باسم الكل، ويقع ذلك في آخر ربيع الأوّل. ومن ثمّ إلى رمضان(5/266)
نصف سنة سواء، ويقال: كان آخر شعبان تلك السّنة آخر سبع سنين ونصف، أو أن رأس الثمان كان أول ربيع الأول وما بعده نصف سنة.
الخامس: ورد أنه- صلى الله عليه وسلّم- أفطر بالكديد، وفي رواية بغيره كما سبق في القصة، والكلّ في سفرة واحدة، فيجوز أن يكون فطره- صلى الله عليه وسلّم- في أحد هذه المواضع حقيقة إما كديد، وإما كراع الغميم، وإما عسفان، وإما قديد، وأضيف إلى الآخر تجوّزا لقربه منه، ويجوز أن يكون قد وقع منه- صلى الله عليه وسلّم- الفعل في المواضع الأربعة، والفطر في موضع منها، لكن لم يره جميع النّاس فيه، لكثرتهم، وكرّره ليتساوى النّاس في رؤية الفعل، فأخبر كل عن رؤية عين وأخبر كل عن محلّ رؤيته.
السادس: وقع في الصّحيح: ثم جاءت كتيبة، وهي أقلّ الكتائب، أي عددا فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال القاضي- رحمه الله تعالى-: كذا لجميع رواة الصحيح بالقاف، وقد وقع في الجمع للحميديّ «أجلّ» بالجيم بدل القاف- من الجلالة، قال القاضي: وهو أظهر انتهى.
وكل منهما ظاهر لا خفاء فيه ولا ريب كما في مصابيح الجامع للدّماميني: أن المراد قلة العدد لا الاحتقار، هذا ما لا يظنّ بمسلم اعتقاده وتوهّمه، فهو وجه لا محيد عنه، ولا ضير فيه بهذا الاعتبار. والتّصريح بأن النبي- صلّى الله عليه وسلم- كان في هذه الكتيبة الّتي هي أقل عددا ممّا سواها من الكتائب قاض بجلالة قدرها، وعظم شأنها، ورجحانها على كل شيء سواها، ولو كان ملء الأرض بل وأضعاف ذلك.
السابع: وقع في الصحيح عن عروة قال: وأمر النبي- صلى الله عليه وسلم- يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكّة من كداء- أي بالمدّ- ودخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أسفل مكة من كدّى، أي بالقصر. وهذا مخالف للأحاديث الصّحيحة. ففي الصّحيح وغيره أن خالد بن الوليد دخل من أسفل مكّة، ودخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أعلاها، وبه جزم ابن عقبة، وابن إسحاق وغيرهما.
الثامن: الحكمة في نزول النبي- صلى الله عليه وسلّم- بخيف بني كنانة الّذي تقاسموا فيه على الشّرك، أي تحالفوا عليه من إخراج النبي- صلى الله عليه وسلّم- وبني هاشم إلى شعب أبي طالب، وحصروا بني هاشم وبني المطّلب فيه، كما تقدم ذلك في أبواب البعثة، ليتذكّر ما كان فيه من الشّدّة فيشكر الله- تعالى- علي ما أنعم عليه من الفتح العظيم، وتمكنه من دخول مكّة ظاهرا على رغم من سعى في إخراجه منها، ومبالغة في الصّفح عن الّذين أساءوا، ومقابلتهم بالمنّ والإحسان، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.(5/267)
التاسع: قال القاضي أبو بكر بن العربي- رحمه الله تعالى- إنّما أنكر العباس على أبي سفيان ذكر الملك مجرّدا من النبوة، مع أنه كان في أول دخوله الإسلام، وإلّا فجائز أن يسمّى مثل هذا ملكا وإن كان لنبيّ، فقد قال الله سبحانه وتعالى في داود وَشَدَدْنا مُلْكَهُ [ص 20] وقال سليمان وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص 35] غير أن الكراهة أظهر في تسمية حال النبي- صلى الله عليه وسلم- ملكا، لما جاء في الحديث: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- خير بين أن يكون نبيا عبدا، أو نبيا ملكا، فالتفت إلى جبريل، فأشار إليه أن تواضع، فقال: بل نبياً عبداً، أشبع يوما وأجوع يوما» . وإنكار العبّاس على أبي سفيان يقوّي هذا المعنى، وأمر الخلفاء الأربعة بعده أيضا يكره أن يسمّى ملكا، لقوله- صلى الله عليه وسلّم «تكون بعدي خلفاء، ثم تكون أمراء، ثم يكون ملوك، ثم يكون جبابرة» .
العاشر: السّاعة الّتي أحلّ للنبي- صلى الله عليه وسلّم- القتل فيها بمكّة من صبيحة يوم الفتح إلى العصر كما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله تعالى عنهما.
الحادي عشر: لا مخالفة بين حديث نزوله- صلى الله عليه وسلّم- بالمحصّب، وبين حديث أمّ هانئ، أنه- صلى الله عليه وسلم- نزل في بيت أم هانئ، لأنه- صلى الله عليه وسلم- لم يقم في بيت أم هانئ وإنّما نزل به حتى اغتسل وصلّى، ثم رجع إلى حيث ضربت خيمته عند شعب أبي طالب، وهو المكان الّذي حصرت فيه قريش المسلمين قبل الهجرة كما تقدم بيان ذلك.
الثاني عشر: اختلف في قاتل ابن خطل، روى ابن أبي شيبة من طريق أبي عثمان النهدي: أن أبا برزة الأسلميّ قتل ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة وإسناده صحيح مع إرساله، وله شاهد عند ابن المبارك في كتاب البرّ والصّلة من حديث أبي برزة نفسه. ورواه الإمام أحمد من وجه آخر. قال الحافظ: وهو أصحّ ما ورد في تعيين قاتله، وبه جزم البلاذري وغيره من أهل العلم بالأخبار. وتحمل بقيّة الرّوايات على أنهم ابتدروا قتله، فكان المباشر له منهم أبو برزة، ويحتمل أن يكون غيره شاركه فيه، فقد جزم ابن هشام بأن سعيد بن حريث وأبا برزة الأسلمي اشتركا في قتله، وقد قيل: قتله الزبير بن العوام. وقيل شريك بن عبدة العجلاني.
الثالث عشر: وقع في حديث أم هانئ عند البخاري: إن النبي- صلى الله عليه وسلم- اغتسل في بيتها، وفي حديثها عند مسلم: أنّها ذهبت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وهو بأعلى مكّة، فوجدته يغتسل، وفاطمة تستره، ويجمع بينهما بأن ذلك تكرّر منه، ويؤيده ما رواه ابن خزيمة من طريق مجاهد عن أم هانئ وفيه: أن أبا ذر ستره لمّا اغتسل، ويحتمل أن يكون نزل في بيتها بأعلى مكّة وكانت هي في بيت آخر بمكّة، فجاءت إليه فوجدته يغتسل، فيصحّ القولان، وأما المتستر فيحتمل أن يكون أحدهما ستره في ابتداء الغسل، والآخر في أثنائه.(5/268)
الرابع عشر: قال السّهيلي: ولا يجهر فيها بالقراءة أي صلاة النبي- صلى الله عليه وسلم- في بيت أم هانئ في ثمان ركعات، وهي صلاة الفتح، تعرف بذلك عند أهل العلم، وكان الأمراء يصلونها إذا فتحوا بلدا. قال أبو جعفر بن جرير: صلّى سعد بن أبي وقّاص حين افتتح المدائن ثمان ركعات في إيوان كسرى، قال: وهي ثمان ركعات لا يفصل بينها، ولا تصلى بإمام، قال السهيلي: ولا يجهر فيها بالقراءة.
الخامس عشر: وقع في رواية العلاء بن عبد الرحمن عن ابن عمر: أنّه سأل أسامة وفي رواية أبي الشعثاء عن ابن عمر قال: أخبرني أسامة إن النبي- صلى الله عليه وسلم- صلى فيه ههنا، وفي رواية خالد بن حارث عن ابن عوف عن نافع عن ابن عمر: فقلت: أين صلّى؟ فقالوا، ههنا. قال الحافظ: فإن كان محفوظا حمل على أنه ابتدأ بلالا بالسّؤال، ثم أراد زيادة الاستثبات في مكان الصّلاة، فسأل أسامة، وعثمان أيضا. ويؤيد ذلك رواية ابن عوف عند مسلم: «ونسيت أن أسألهم كم صلّى» بصيغة الجمع قال الحافظ: وهذا أولى من جزم القاضي بوهم الرّواية الّتي عند مسلم، وكأنه لم يقف على بقيّة الروايات.
السادس عشر: قول من زعم أن يحيى بن سعيد القطّان غلط في قوله ركعتين لقول ابن عمر: نسيت وأنّ الوهم دخل عليه من ذكر الرّكعتين بعد خروجه- صلى الله عليه وسلّم- « [والمغلّط] هو الغالط، وكلامه مردود، فإنّ يحيى ذكر الركعتين قبل وبعد، فلم يهم من موضع إلى موضع، ولم ينفرد يحيى بن سعيد بذلك حتّى يغلط، بل تابعه من سبق ذكرهم في القصّة، والعجب من الإقدام على تغليط جبل من جبال الحفظ بقول من خفي عليه وجه الجمع بين الحديثين، فقال بغير علم، ولو سكت لسلم.
السابع عشر: قال الحافظ: رحمه الله تعالى- جمع بين روايتي فليح، وأيوب، وابن عون عن نافع عن ابن عمر أنه قال: «نسيت أن أسأل بلالا» وفي لفظ: «أسألهم كم صلّى» وبين رواية غير نافع عن ابن عمر أنه سأل عن ذلك، فقيل له ركعتان باحتمال أن ابن عمر اعتمد في قوله في رواية مجاهد، وابن أبي مليكة وغيرهما عنه ركعتين على القدر المتحقّق، وذلك أن بلالا أثبت له أنّه صلّى، ولم ينقل إن النبي- صلى الله عليه وسلم- تنفل في النّهار بأقل من ركعتين، وكانت الركعتان متحقّقا وقوعهما، لما عرف بالاستقراء من عادته- صلى الله عليه وسلّم- وعلى هذا فقوله: ركعتين من كلام ابن عمر، لا من كلام بلال، قال الحافظ: ووجدت ما يؤيد هذا، ويستفاد منه جمع آخر بين الحديثين، وهو ما أخرجه عمر بن شبة في كتاب مكة من طريق عبد العزيز بن أبي داود عن نافع عن ابن عمر في هذا الحديث: «فاستقبلني بلال فقلت: ما صنع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ههنا؟ فأشار بيده أن صلّى ركعتين بالسّبابة والوسطى» ، فعلى هذا فيحمل قوله: «نسيت أن(5/269)
أسأله كم صلّى على أنه لم يسأله لفظا ولم يجبه لفظا وإنما استفاد منه صلاة ركعتين بإشارته لا بنطقه، وأما قوله في رواية أخرى: ونسيت أن أسأله كم صلى» فيحمل على أن مراده أنّه لم يتحقق هل زاد على ركعتين أولا؟، وقال شيخه الحافظ أبو الفضل العراقي: فيحتمل أن ابن عمر وإن كان سمع من بلال أنّه صلّى ركعتين لم يكتف بذلك في أنه لم يصل غيرهما، لأنّ من صلّى أربعا أو أكثر، يصدق عليه أنه صلى ركعتين على القول بأنّ مفهوم العدد ليس بحجّة كما هو المرجّح في الأصول، فلعلّ الذي نسي أن يسأل عنه بلالا في أنّه هل زاد على ركعتين بشيء أم لا؟. قال الحافظ ابن حجر: وأمّا قول بعض المتأخرين: يجمع بين الحديثين بأن ابن عمر سأل بلالا، ثم لقيه مرّة أخرى، فسأله، ففيه نظر من وجهين: أحدهما أنّ الذي يظهر أنّ القصّة وهو سؤال ابن عمر عن صلاته في الكعبة لم يتعدد، لأنه أتى في السّؤال بالفاء المعقّبة في الرّوايتين معا، فدل على أن السؤال عن ذلك كان واحدا في وقت واحد. ثانيهما أنّ راوي قول ابن عمر «نسيت» هو نافع مولاه، ويبعد مع طول ملازمته له إلى وقت موته أن يستمرّ على حكاية النسيان، ولا يتعرض لحكاية التذكر لقدر صلاته- والله تعالى أعلم.
الثامن عشر: قال الحافظ: لا يعارض إثبات أسامة في رواية ابن عمر عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلّم- صلّى في البيت ما رواه ابن عبّاس عن أسامة إن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يصلّ في البيت لإمكان الجمع بينهما، لأن أسامة حين أثبتها اعتمد في ذلك على غيره، وحيث نفاها أراد ما في علمه بكونه لم يره- صلى الله عليه وسلّم- حين صلّى، وقال الحافظ في موضع آخر: تعارضت الرواية عن أسامة في ذلك فتترجّح رواية بلال من جهة أنه مثبت وغيره ناف، ومن جهة أنه لم يختلف عليه في الإثبات، واختلف على من نفى.
وقال الإمام النووي وغيره: يجمع بين إثبات بلال، ونفي أسامة بأنهم لمّا دخلوا الكعبة اشتغلوا بالدّعاء، فرأى أسامة النبي- صلى الله عليه وسلّم- يدعو، فاشتغل أسامة بالدّعاء في ناحية، والنبي- صلى الله عليه وسلم- في ناحية، ثم صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فرآه بلال لقربه منه ولم يره أسامة لبعده منه واشتغاله بالدّعاء، ولأن بإغلاق الباب تكون ظلمة مع احتمال أن يحجبه بعض الأعمدة، فنفاها عملا بظنه.
وقال الإمام المحب الطبريّ: يحتمل أن يكون أسامة غاب عنه بعد دخوله لحاجة فلم يشهد صلاته- انتهى. ويشهد له ما رواه أبو داود الطيالسي في مسنده بإسناد جيد رجاله ثقات عن ابن أبي ذؤيب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة قال:
«دخلت مع النبي- صلى الله عليه وسلم- في الكعبة فرأى صورا، فدعا بدلو من ماء، فأتيته به، فضرب به الصّور» ، قال القرطبي فلعله [استصحب النّفي] بسرعة عوده انتهى قلت: هو مفرّع علي إن هذه(5/270)
القصّة وقعت عام الفتح، فإن لم يكن فقد روى عمر بن شبة في كتاب مكة من طريق علي بن بذيمة بالموحدة، وزن عظيمة التّابعي، قال: «دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الكعبة. ودخل معه بلال، وجلس أسامة على الباب، فلمّا خرج وجد أسامة قد احتبى، فأخذ بحبوته فحلها» .
الحديث فلعله احتبى فاستراح فنعس، فلم يشاهد صلاته، فلما سئل عنها نفاها مستصحبا للنفي، لقصر زمن احتبائه، وفي كل ذلك إنما نفى رؤيته، لا ما في نفس الأمر. وبعض العلماء حمل الصلاة المثبتة على اللّغويّة، والمنفيّة على الشّرعيّة، ويردّ هذا الحمل ما تقدم في بعض طرقه الصحيحة: أنه صلى ركعتين، فظهر أنّ المراد الشّرعية لا مجرد الدعاء. وقال المهلب [ (1) ] شارح البخاري: يحتمل أن يكون دخول البيت وقع مرّتين. صلّى في إحداهما ولم يصلّ في الأخرى، وقال ابن حبان: الأشبه عندي في الجمع، أن يجعل الخبران في وقعتين، فيقال، لمّا دخل الكعبة في الفتح صلّى فيها على ما رواه ابن عمر عن بلال، ويجعل نفي ابن عباس الصّلاة في الكعبة في حجته التي حج فيها، لأن ابن عبّاس نفاها وأسند ذلك إلى أسامة وأخيه الفضل، وابن عمر أثبتها، وأسند ذلك إلى أسامة، وإلى بلال وأسامة أيضا، فإذا حمل الخبر على ما وصفنا بطل التعارض. قال الحافظ: وهو جمع حسن لكن تعقّبه النووي بأنه لا خلاف أنه- صلى الله عليه وسلم- دخل يوم الفتح لا في حجة الوداع، ويشهد له ما رواه الأزرقي عن سفيان بن عيينة عن غير واحد من أهل العلم: أنه- صلى الله عليه وسلم- إنما دخل الكعبة مرة واحدة عام الفتح، ثم حجّ فلم يدخلها، وإذا كان الأمر كذلك فلا يمتنع أن يكون دخلها عام الفتح مرّتين ويكون المراد بالواحدة الّتي في خبر ابن عيينة واحدة السّفر لا الدّخول، وقد وقع عند الدّارقطني من طريق ضعيفة ما يشهد لهذا الجمع. قلت: قال الدّارقطني في سننه: واعتمد القاضي عز الدين بن جماعة ذلك. واستدلّ له أيضا بأن الإمام أحمد قال في مسنده: حدثنا هشيم قال: أخبرنا عبد الملك عن عطاء، قال: قال أسامة بن زيد: دخلت مع النبي- صلى الله عليه وسلم البيت فجلس فحمد الله تعالى وأثنى عليه وهلله وكبّره، وخرج ولم يصلّ، ثم دخلت معه في اليوم الثّاني، فقام، ودعا ثمّ صلّى ركعتين، ثم خرج فصلى ركعتين خارج البيت مستقبل وجه الكعبة، ثم انصرف، فقال: «هذه القبلة» ورواه أحمد بن منيع. قلت: لم أقف على هذا الحديث في مجمع الزوائد للهيثمي، ولا في إتحاف المهرة للأبوصيري، لا في كتاب الصلاة، ولا في كتاب الحج فالله أعلم. والّذي
في مجمع الزوائد عن ابن عباس قال: دخل النبي- صلى الله عليه وسلم- الكعبة، فصلّى بين السّاريتين ركعتين، ثم خرج وصلّى بين الباب وبين الحجر ركعتين، ثم قال: «هذه القبلة» ثم
__________
[ (1) ] هو المطلب بن أحمد بن أسيد الأسدي من تصانيفه شرح الجامع لصحيح البخاري توفي سنة 435، انظر معجم المؤلفين 13/ 32.(5/271)
دخل مرة أخرى، فقام يدعو ولم يصلّ. رواه الطبراني في الكبير،
قال الهيثمي: فيه أبو مريم، روى عن صغار التّابعين، ولم أعرفه، وبقية رجاله موثقون، وفي بعضهم كلام.
وروى الأزرقي عن عبد المجيد بن عبد العزيز عن أبيه قال: بلغني أنّ الفضل ابن عباس دخل مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ- أي يوم الفتح- فقال: لم أره صلّى فيها، قال أبي: وذلك فيما بلغني أن النبي- صلى الله عليه وسلّم- استعانه في حاجة فجاء وقد صلّى ولم يره. قال عبد المجيد: قال أبي، وذلك أنه بعثه فجاء بذنوب من ماء زمزم يطمس به الصّور الّتي في الكعبة، فلذلك لم يره صلّى. قلت: وأيضا أنه- صلى الله عليه وسلم- أرسله وأسامة في ذلك- كما تقدّم في أسامة- واعتمد الإمام تقيّ الدّين الفاسي في تاريخه من هذه الأجوبة ما رواه أبو داود الطيالسي عن أسامة، وتعقب ما سواه بكلام نفيس جدا فراجعه فإنّك لا تجده في غير كتابه، وذكره هنا ليس من غرضنا.
التاسع عشر: تقدّم أنه- صلى الله عليه وسلم- صلى في الكعبة، وأنه جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه، وفي رواية جعل عمودا عن يساره وعمودين عن يمينه وفي أخرى عمودا عن يساره وعمودا عن يمينه وفي رواية بين العمودين اليمانيين، وفي أخرى بين العمودين تلقاء وجهه، وبين العمودين المقدمين، قال المحب الطبري في الأحكام الكبرى: وهذا يؤيد رواية من روى أنه جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره لأن الباب قريب من الحجر الأسود، جانح إلى جهة اليمين، ويفتح في جهة المشرق فإذا دخل منه وصلى تلقاء وجهه بين العمودين المقدمين اليمانيين والبيت يومئذ على ستة أعمدة فقد جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره، وثلاثة أعمدة وراءه، وصلّى إلى جهة المغرب، وقوله اليمانيّين قد يشكل فإنها ثلاثة صفّ وجعل اثنين منها يمانيين ليس بأولى من جعلهما شامييّن، والجواب: أنه إنّما جعل اثنين منهما يمانيين لأنّ مقرّ الثلاثة بصفة يمانيّ وبصفة شاميّ، فمن وقف بين المتمحض يمانيا وبين المشترك بين اليمن والشام جاز أن يقال فيه: وقف بين اليمانيين باعتبار ما نسب منه إلى اليمن تجوّزا ومن وقف بين المتمحض شاميا وبين المشترك جاز أن يقال فيه: وقف بين الشّاميين لما ذكرناه، أو تقول لما وقف بينهما كان هو إلى جهة اليمن أقرب، فأطلق عليهما يمانيين اعتبارا به، والأول أظهر، ولا تضادّ بين هذا وبين قوله عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره، فإنّ من ضرورة جعل عمودين عن يمينه أن يكون عمودا عن يمينه والآخر مسكوتا عنه، وليس في اللّفظ ما ينفيه، وقال الحافظ: ليس بين رواية: جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره مخالفة، لكن قوله في رواية مالك: وكان البيت يومئذ على ستّة أعمدة مشكل، لأنه يشعر بكون ما عن يمينه أو يساره كان اثنين، ويمكن الجمع بين الرّوايتين بأنّه حيث ثنّى أشار إلى ما كان عليه البيت في زمن النبي- صلى الله عليه وسلّم- وحيث أفرد أشار إلى ما صار إليه بعد ذلك، ويرشد إلى ذلك(5/272)
قوله: وكان البيت يومئذ، لأنّ فيه إشعارا بأنّه تغيّر عن هيئته الأولى. قال الكرماني: لفظ العمود جنس يشمل الواحد والاثنين فهو مجمل بيّنته رواية «وعمودين» ويحتمل أن يقال: لم تكن الأعمدة الثّلاثة على سمت واحد، بل اثنان على سمت، والثالث على غير سمتهما، ولفظ المقدّمين في الحديث السابق مشعر به قال الحافظ: ويؤيده رواية مجاهد عن ابن عمر عند البخاري في باب «واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى» ، «فإن فيها بين السّاريتين اللّتين عن يسار الدّاخل» وهو صريح في أنه كان هناك عمودان على اليسار، وأنّه صلّى بينهما، فيحتمل أنه كان ثمّ عمود آخر عن اليمين، لكنّه بعيد أو على غير سمت العمودين فيصحّ قول من قال:
جعل عن يمينه عمودين، وقول من قال: جعل عمودا عن يمينه، وجوّز الكرماني احتمالا آخر، وهو أن يكون هناك ثلاثة أعمدة مصطفّة، فصلّى إلى جنب الأوسط فمن قال: جعل عمودا عن يمينه وعمودا عن يساره لم يعتبر الّذي صلّى إلى جنبه، ومن قال: عمودين اعتبره وجمع بعض المتأخّرين باحتمال تعدّد الواقعة، وهو بعيد لاتحاد مخرج الحديث، وقد جزم البيهقيّ بترجيح رواية أنه جعل عمودين عن يمينه وعمودا عن يساره. وقال المحب الطبري في صفوة القرى إنه الأظهر.
العشرون: لا خلاف في دخوله- صلّى الله عليه وسلّم- الكعبة يوم الفتح، وتقدم في التنبيه الثامن عشر: أنه دخل في ثاني الفتح، وذكر بعضهم أنّه دخلها في عمرة القضية، والصّحيح خلافه، فقد قال البخاري عن عبد الله بن أبي أوفى- رضي الله عنه- أنه لم يدخلها، وذكر بعضهم أنّه دخلها في عمرة القضية وحجة الوداع، وسيأتي هناك تحقيق ذلك أن شاء الله تعالى.
الحادي والعشرون: اختلف في قدر إقامته- صلى الله عليه وسلّم- بمكة كما تقدم في القصة، وجمع الإمام البيهقي بين هذا الاختلاف بأن من قال تسع عشرة عدّ يوم الدّخول والخروج، ومن قال سبع عشرة حذفهما، ومن قال ثماني عشرة عدّ أحدهما. وأما رواية خمس عشرة فضعفّها النّوويّ من الخلاصة. قال الحافظ: وليس بجيّد لأنّ رواتها ثقات، ولم ينفرد بها ابن إسحاق كما تقدم بيانه في القصة، وإذا ثبت أنّها صحيحة فلتحمل على أن الرّاوي ظنّ أنّ الأصل سبع عشرة فحذف منها يومي الدّخول والخروج، فذكر أنها خمسة عشر، واقتضى ذلك أن رواية تسع عشرة، أرجح الرّوايات، ويرجّحها أيضا أنّها أكثر الرّوايات الصّحيحة، قال الحافظ: وحديث أنس لا يعارض حديث ابن عباس أي السابق في آخر القصّة، لأن حديث ابن عباس في الفتح وحديث أنس كان في حجة الوداع، وبسط الكلام على بيان ذلك، وقال في موضع آخر: الذي أعتقده أنّ حديث أنس إنما هو في حجّة الوداع فإنها هي السفرة الّتي أقام فيها بمكّة عشرة أيام، لأنّه دخل اليوم الرابع وخرج اليوم الرابع عشر، ثم قال الحافظ: ولعل(5/273)
البخاري أدخله في هذا الباب إشارة إلى ما ذكرت، ولم يفصح بذلك تشحيذا للأذهان، ووقع في رواية الإسماعيلي: فأقام بها عشرا يقصر الصّلاة حتى رجع إلى المدينة، وكذا هو في باب قصر الصّلاة عند البخاري، وهو يؤيد ما ذكرته، فإنّ مدّة إقامتهم في سفرة الفتح حتّى رجعوا إلى المدينة أكثر من ثمانين يوما.
الثاني والعشرون: في بيان غريب ما سبق.
الأطناب: جمع طنب- بضم الطاء المهملة والنون حبل الخباء- بكسر الخاء المعجمة أي الخيمة.
الجوزاء- بفتح الجيم وسكون الواو، وبالزّاي والمدّ: نجم يقال إنها تعرض في جوز السّماء، أي وسطها.
الأفواج والأفاويج- جمع فوج: الجماعة من الناس.
الابتهاج: السرور.
خزاعة- بضم الخاء المعجمة وتخفيف الزاي وعين مهملة الدئل- بكسر الدال المهملة، وسكون الهمزة وتسهل.
رزن- براء تفتح وتكسر- كما ذكره صاحبا المحكم والباهر- فزاي ساكنة، وتفتح، كما في الإملاء، فنون.
ذؤيب: تصغير ذئب.
سلمى- بفتح السين المهملة.
كلثوم- بضم الكاف، وسكون اللّام، وبالثّاء المثلثة.
أنصاب الحرم- بالنون، والصاد المهملة: حجارة تجعل علامات بين الحل والحرم.
منخر بني كنانة- بنون، فخاء معجمة، فراء: أي المتقدّمون منهم: لأن الأنف هو المتقدّم من الوجه.
كنانة- بكسر الكاف.
يودون- بضمّ التّحتيّة، وبالمهملة: من الدية.
بنو- بكر- بفتح الموحدة، وسكون الكاف.
حجز الإسلام: منع.
الحديبية: تقدم الكلام عليها في غزوتها.(5/274)
الحلفاء: جمع حليف، وهو المحالف على النّصرة.
السّروات- بفتحات: جمع السّراة، كذلك جمع سرى- وهو الرّئيس.
ما أشرق: أي مدّة إشراقه.
ثبير- بثاء مثلثة، فموحدة، فتحتية، وزن عظيم: جبل بمكّة.
حراء- بكسر الحاء المهملة: تقدم الكلام عليه في المبعث.
السّرمد: الدّائم.
الحلف- بكسر الحاء المهملة، وسكون اللام، والمحالفة: المؤامرة والمناصرة بالحلف على ذلك.
شرح غريب ذكر نقض قريش العهد
قوله: «بنى نفاثة» : بنون مضمومة، ففاء مخفّفة، فألف، فثاء مثلثة.
الثّأر- بالثّاء المثلّثة: طلب دم القتيل.
ناشدوهم بأرحامهم: ذكّروهم وسألوهم بها.
الكراع- بضم الكاف، وبالراء، والعين المهملة: جماعة الخيل خاصّة.
الوتير: بفتح الواو، وكسر الفوقيّة، وسكون التّحتية، وآخره راء: اسم موضع أو ماء في ديار خزاعة.
حويطب- بضم الحاء المهملة، وفتح الواو، وسكون التحتية، وكسر الطاء المهملة، وبالموحدة.
مكرز- بكسر الميم، وحكى ابن الأثير فتحها، وسكون الكاف، وكسر الراء وآخره زاي.
أجلبوا: استعانوا.
بيّتوهم: قصدوهم ليلا من غير أن يعلموا فأخذوهم بغتة.
إلهك إلهك- بنصبهما بفعل محذوف، أي اتّق.
عماية الصبح: بقية ظلمة الليل.
شرح غريب ذكر إعلامه- صلّى الله عليه وسلم- بما حصل لخزاعة
أترى- بفتح أوله، وضم ثانيه: أي أتظن.(5/275)
تجترئ عليه: تسرع بالهجوم عليه من غير تروّ.
خير: خبر مبتدإ محذوف، أي هو خير.
المتوضّأ- بميم مضمومة، فمثناة فوقية، فهمزة فضاد معجمة مفتوحات: مكان الوضوء.
لبّيك: يأتي الكلام عليه مبسوطا في حجة الوداع.
الرّاجز: قائل الرجز، وهو نوع من الشعر بنو كعب بن عمرو: بطن من خزاعة.
استصرخني: استغاثني.
وائل- بكسر التّحتيّة.
شرح غريب ذكر قدوم عمرو بن سالم
ظاهرت: عاونت.
بين ظهري النّاس: أي بينهم.
عمرو بن سالم: يجوز في عمرو الضمّ، وفي ابن الفتح، ويجوز فتحهما وضمهّما.
ناشد: طالب ومذكر.
الأتلدا- بفتح أوله، وسكون الفوقية، وفتح اللّام وبالذال المهملة: القديم.
ولدا- بضمّ الواو، وسكون اللّام: أي ولدا وذلك أن بني عبد مناف أمّهم من خزاعة، وكذلك أمّ قصي.
ثمّت: حرف عطف، أدخل عليه تاء التأنيث.
أسلمنا- قال السهيلي: من السلم، لأنهم لم يكونوا أسلموا بعد، وقال غيره: إنه قال:
ركّعا وسجّدا فدل على أنه كان فيهم من صلّى فقتل، وقال غيره: أن قوله بعد «وقتّلونا ركّعا وسجّدا» ينافيه إلا أن يحمل ذلك على المجاز، وقال بعضهم: مراده بقوله: «ركّعا وسجّدا» أنّهم حلفاء الّذين يركعون ويسجدون، قال الحافظ في الإصابة: ولا يخفى بعده.
لست- بفتح الفوقية على الخطاب، وبالضّم، ووجهه ظاهر.
بيّتونا: أخذونا بياتا، أي ليلا ونحن غافلون.
هجّدا- بضم الهاء، وتشديد الجيم المفتوحة: جمع هاجد، وهو النّائم هنا.
كداء- بفتح الكاف وبالمد: الثنية التي بأعلى مكة.
الرّصد: الطالب المراقب.(5/276)
عتدا- بعين مهملة مفتوحة، ففوقية مكسورة، فدال مهملة: والعتيد الشيء الحاضر المهيأ، ويحتمل أن يكون من القوة، ويروي نصرا أبدا من التّأبيد.
تجرّدا- من رواه بحاء مهملة أراد: غضب، ومن رواه بالجيم أراد شمرّ وتهيّأ لحربهم.
سيم- بكسر السين المهملة، وسكون التّحتية، وبالميم، وبالبناء للمفعول.
خسفا- بفتح الخاء المعجمة، وضمها، وسكون السين المهملة، وبالفاء: يقال سمته خسفا إذا أوليته ذلّا، ويقال كلفته مشقة.
تربّدا- بفوقيّة- مفتوحة، فراء فموحدة- يقال اربدّ وجهه: أي تغير إلى الغبرة.
الفيلق- بفاء مفتوحة، فتحتية ساكنة، فلام مفتوحة، فقاف: العسكر الكثير.
مزبدا- بميم مضمومة، فزاي ساكنة، فموحدة مفتوحة، فمهملة.
القرم- بفتح القاف: السّيّد، وأصله الفحل من الإبل الّذي أقرم، أي ترك من الرّكوب والعمل وودّع للفحلة.
الأصيد: الّذي يرفع رأسه كثيرا، ومنه قيل للملك أصيد، وأصله البعير يكون به داء في رأسه يرفعه، وقيل إنّما قيل للملك أصيد، لأنه لا يلتفت يمينا وشمالا.
ما برح: ما زال.
عنانة: واحدة العنان- بفتح العين المهملة، ونونين بينهما ألف، وهو السّحاب.
تستهل: تبشر.
بديل- بضم الموحدة، وفتح الدّال، وسكون التّحتية، وباللّام.
مرّ- بفتح الميم، وتشديد الراء.
الظّهران- بفتح الظاء المعجمة المشالة، وسكون الهاء، بلفظ تثنيه ظهر، اسم أضيف إليه مرّ: اسم مكان قرب مكة.
شرح غريب ذكر ما قيل- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما بلغه خبر خزاعة
تهمتكم: من تتّهمونه.
ظنّتكم: من تظنّون، وهو بمعنى ما قبله.
قصرة- بضمّ القاف، وسكون الصاد المهملة: أي خاصة.
ننبذ إليه على سواء: نطرح عهده وننقضه.(5/277)
الأندية: جمع ناد وهو متحدّث القوم.
قرظة- بفتح القاف، والرّاء، والظاء المعجمة المشالة.
فيهم عرام- بضم العين المهملة: الشدّة والقوّة والشّراسة، يقال رجل عارم خبيث شرّير.
السّبد- بسين، فموحدة مفتوحتين، فدال مهملة: الشّعر.
اللَّبد- بفتح اللّام والموحدة: أي الصّوف، أي ما يبقى لنا شيء.
شرح غريب ذكر اخبار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأن أبا سفيان سيقدم
قوله: الهدنة: الصّلح.
يروعكم: يفزعكم.
الحجون- بحاء مفتوحة مهملة، فجيم: الجبل المشرف على مقبرة مكّة.
الخندمة- بفتح الخاء المعجمة، وسكون النون، وفتح الدّال المهملة: جبل بمكّة.
مليا: زمانا.
تحرّجوا: وقعوا في الحرج، وهو الضّيق، وفي لفظ: رهبوا- بكسر الهاء، خافوا.
عسفان: بعين مضمومة، فسين ساكنة، مهملتين، ففاء ونون.
تمور: جمع تمر.
تهامة- بالكسر.
قائلهم: اسم فاعل من قال، قيلا ومقيلا، وقيلولة: نام القائلة، وهي الظهيرة.
ائتمرت قريش: آمر بعضهم بعضا.
أم حبيبة: زوج النبي- صلى الله عليه وسلم: تأتي في تراجم الأزواج- رضي الله عنهن.
مشرك نجس: أي نجس الاعتقاد، لا أنّه نجس العين.
الذّرّ: النمل الصّغار، وليس قول عمر: فو الله لو لم أجد إلّا الذّر لقاتلتكم عليه بكذب وإن كان الذّرّ لا يقاتل به لأنه جرى في كلامهم كالمثل.
أخلقه الله- بالقاف: أبلاه ومحقه.
المتين: القويّ.
أمسّ القوم بي رحما: أقربهم رحما.(5/278)
البحيرة: من أسماء المدينة، تقدم بيانه فيها.
ويح: كلمة ترحّم وتوجّع، تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، وقد يقال بمعنى التّعجّب والمدح، وهو منصوب على المصدر.
أجر بين الناس- بفتح الهمزة، وكسر الجيم، وسكون الراء: من الإجارة.
يدبّ بكسر الدال المهملة، وتشديد الموحّدة: يمشي على هينة.
أو ترى- بتحريك الواو على الاستفهام، ويجوز فتح الفوقيّة وضمها.
يخفرني- بالخاء المعجمة، والفاء: ينقض عهدي.
النجح: الفوز بالمطلوب.
إساف- بكسر الهمزة ونائلة: أي أسماء صنمين.
أبّى: أي امتنع.
أدنى العدو: أقرب أعدائنا عداوة.
لعمر الله- بفتح اللّام والعين، وضمّ الرّاء: بقاء الله تعالى.
الحجر: جمع حجرة وهي البيت.
شرح غريب ذكر جهاز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكتاب حاطب
الجهاز- بفتح الجيم وكسرها.
بغتة: فجأة، تقول بغته الأمر، وفجأه إذا جاءه ولم يعلم به.
الأنقاب- جمع نقب: الطريق.
سلمة: سالمة لا حرس فيها.
المحجّة: الطّريق المسلوك.
الفلوق- كذا ذكره محمد بن عمر ولم أر له ذكرا في مختصر معجم البلدان، ولا في النهاية، والصحاح، وتاريخ المدينة، ومعجم البكري.
العقيق: واد من أودية المدينة.
أبو مرثد- بفتح الميم، والثّاء المثلّثة، وسكون الرّاء بينهما.
روضة خاخ- بخاءين معجمتين بينهما ألف: على بريد من المدينة، وصحّفه أبو عوانة كما في الصحيح فقال: حاج بحاء مهملة وجيم، ووهم في ذلك.(5/279)
الظّعينة: الهودج كانت فيه امرأة أو لم تكن، والجمع الظعن بضمتين وتسكن [العين] وظعائن. والظعينة: المرأة ما دامت في الهودج، وكل بعير يوطّأ للنّساء ظعينة، وقال في النهاية:
الظعينة المرأة في الهودج، ثم قيل للمرأة بلا هودج وللهودج بلا امرأة.
الخليقة- بالقاف كسفينة: منزل على اثني عشر ميلا من المدينة.
بطن رئم- بكسر الراء، وسكون التّحتية، بالهمز وتركه: واد بالمدينة.
الجدّ- بكسر الجيم، وتشديد الدال المهملة: ضد الهزل.
قرون رأسها: ضفائر شعر رأسها، وفي رواية عقاصها- بكسر العين المهملة، وبالقاف والصاد المهملة المكسورة: وهو الخيط الذي يعتقص به أطراف الذّوائب، والشّعر المضفور، وفي رواية: أخرجته من حجزتها- بضم الحاء المهملة، وسكون الجيم، وفتح الزاي: وهو معقد الإزار، قال في النور: وأيضا إن الكتاب كان في ضفائرها وجعلت الضفائر في حجزتها.
الملصق- بضم الميم وفتح الصاد المهملة: الرّجل المقيم في الحيّ والحليف لهم.
اغرورقت عيناه: امتلأتا دموعا.
شرح غريب شعر حسان
قوله عناني أهمني بطحاء مكة: ما بين الأخشبين.
تحزّ رقابها- بضم الفوقية وفتح الحاء المهملة، وبالزاي.
لم تجنّ- بالجيم والنون والبناء للمفعول: أي لم تستر، يريد أنهم قتلوا ولم يدفنوا.
ألا: حرف تنبيه واستفتاح.
ليت شعري: ليتني أعلم. أو ليت علمي، هل يكون كذا.
حرّها- بحاء مهملة مفتوحة فراء جمع للحرة بفتح الحاء: وهي الأرض ذات حجارة سود نخرة كالحرار، والحرات، والحرّين والأحرّين.
وعقابها- بعين مهملة مكسورة فقاف فألف فموحدة: جمع عقبة، وهي مرقّى صعبة من الجبال.
ابن أمّ مجالد: عكرمة بن أبي جهل.
أحتلبت- بسكون الحاء المهملة، وضمّ الفوقية، وكسر اللّام.
الصّرف- بكسر الصاد المهملة: اللبن الخالص هنا.
أعصل- بعين مهملة فصاد مهملة مفتوحة فلام: أعوج، والعصل اعوجاج الأسنان.(5/280)
النّاب- بنون، فألف فموحدة: السّن خلف الرّباعية، مؤنث.
أبو رهم- بضم الراء، وسكون الهاء.
كلثوم- بضمّ الكاف، وسكون اللّام.
حصين- بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين في كل الأسماء إلا حصين بن المنذر بن سنان فإنه بالضاد المعجمة، وهو فرد، والكنى بفتح الحاء وكسر الصاد.
شرح غريب ذكر خروجه- صلى الله عليه وسلّم- من المدينة
قوله- فما حل عقدة [أي ما استراح] الصلصل- بصادين مهملتين- مضمومتين، وسكون اللّام الأولى بينهما: جبل معروف في أثناء البيداء، وهو الشرف الذي قدام ذي الحليفة.
يستهل بنصر بني كعب: قبيلة.
العرج- بفتح العين، وسكون الراء المهملتين، وبالجيم: قرية جامعة قريب مكة على نحو ثلاث مراحل من المدينة بطريق مكة.
الطّلوب- بفتح الطاء المهملة: اسم ماء.
تهرّ: هرير الكلب صوته، وهو دون النّباح.
الجريدة: جماعة من الخيل جردت من سائرها.
العين: الجاسوس.
قديد- بلفظ التّصغير: قرية جامعة قريب مكة.
وكزهم- بفتح الواو، وسكون الكاف وبالزاي: طعنهم.
الحجفة- بضم الجيم- وسكون الحاء المهملة: قرية كبيرة على خمس مراحل وثلث مرحلة من المدينة.
شرح غريب ذكر فطره- صلى الله عليه وسلّم- وأمره به
الكديد- بفتح الكاف، وكسر الدال المهملة الأولى، بعدها تحتية فدال مهملة: موضع بين مكة والمدينة بين منزلتي أمج وعسفان، وهو اسم ماء، وهو أقرب إلى مكة من عسفان.
عسفان- بضمّ العين، وسكون السين المهملتين، وبفاء ونون، قرية جامعة على ثلاث مراحل من مكة.
أمج بفتح الهمزة والميم وبالجيم المخففة: اسم واد.(5/281)
كراع الغميم- بضم الكاف من كراع وفتح الغين المعجمة [من الغميم] موضع بن رابغ والحجفة يضاف إليه كراع: وهو جبل أسود بطرف الحرّة.
عزيمة: أمر واجب حقّ.
شرح غريب ذكر نزوله- صلى الله عليه وسلّم- بمر الظهران
عميت الأخبار- بفتح العين وكسر الميم، ويجوز ضم العين وكسر الميم المشدّدة.
يتحسب الأخبار: يتعرفّها.
الأراك- بفتح الهمزة: شجر معروف.
خمشتها- الحرب- بالخاء المعجمة، والجيم، والشين المعجمتين المفتوحات:
أحرقتها وهيّجتها، ومن رواه بالحاء، والسّين المهملتين، فمعناه: اشتدّت عليها، من الحماسة وهي الشّدّة والشّجاعة.
شرح غريب ذكر منام أبي بكر- رضي الله عنه
تشخب: تدرّ وتسيل.
كلبهم- بفتح الكاف واللام: شدّتهم.
درّهم- بفتح الدال المهملة: لبنهم.
شرح غريب ذكر اعلام- صلى الله عليه وسلّم- بأن أبا سفيان في الإدراك وارادة أبي سفيان الانصراف
خطم الجبل- بفتح الخاء المعجمة، وسكون الطاء المهملة، والعقبة، شيء يخرج منه ويضيق معه الطريق، وفي رواية في الصّحيح: حطم- بالحاء المهملة- الخيل- بالخاء المعجمة والتحتية: وهو موضع ضيّق تتزاحم الخيل فيه حتى يحطم بعضهم بعضا.
واصباح قريش: منادى مستغاث: يقال عند استنفار من كان غافلا عن عدوه العنوة- بفتح العين المهملة أخذ الشّيء قهرا.
الشهباء: البيضاء.
حطّابا بحاء فطاء مشددة مهملتين.
يشتدّ: يعدو.
اقتحمت: رميت بنفسي من غير رويّة.
أجرته- بالرّاء: أمّنته، فهو في أماني.(5/282)
لا يناجيه: لا يسارّه.
مهلا: يقال للمفرد والمثنّى والجمع، يعني أمهل.
أرحها: اتركها.
ألم يأن: يقرب.
الأوباش من النّاس: الأخلاط.
الرّحل بالحاء المهملة: المنزل والمأوى.
أفرخ لروعتي بالفاء والخاء المعجمة: أذهب لخوفي.
أربأ بهم عن الشّرك: أنزّه مقامهم وأرفعه عن الإقامة على الشّرك.
شرح غريب ذكر تعبئة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه ومن أمر بقتله
أرحلت: أعدت رحلها.
الأداة: الآلة.
الكتائب: جمع كتيبة وهي الطائفة من الجيش المجتمعة.
القادات: جمع قائد: وهو أمير الجيش.
على أثره بكسر أوله وسكون ثانيه، وبفتحهما.
أفناء العرب: جمع فنّو، وهو الذي لا يعلم ممن هو.
الكتيبة الخضراء: سمّيت بذلك لغلبة الحديد على أهلها، شبّه السّواد بالخضرة، والعرب تطلق الخضرة على السّواد.
سنابك الخيل: طرف حوافرها.
الحدق: العيون.
لعمر فيها زجل: صوت رفيع عال.
يزعها- بالزّاي، يقال: وزعه يزعه وزعا فهو وازع: وهو الذي يكفّ النّاس ويحمل أولهم على آخرهم.
رويدا: اسم فعل أمر، بمعنى أمهل.
اليوم يوم: برفع اليومين، ونصب الأول ورفع الثاني.(5/283)
الملحمة: الحرب وموضع القتال، والجمع ملاحم، مأخوذ من اشتباك الناس واختلاطهم فيها كاشتباك لحمة الثوب بالسّدى، وقيل هي من اللحم لكثرة لحوم القتلى فيهما.
تستحلّ- بالبناء للمفعول. الحرمة- بالرفع نائب الفاعل.
حبّذا- بحاء مهملة مفتوحة، فموحدة، فذال معجمة،: أي هو حبيب، جعل «حبّ» و «ذا» كشيء واحد، وهو اسم، وما بعده مرفوع به، ولزم «ذا» حبّ. الذمار- بالذّال المعجمة المكسورة، وتخفيف الميم، وبالرّاء: الهلاك أو حين الغضب للحريم والأهل، يعني الانتصار لمن بمكّة، قاله غلبة ومحجزا، وقيل: أراد حبّذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي من المكروه.
القصواء- كحمراء.
أنشدك الله- بفتح الهمزة، وضم الشين المعجمة- سألتك وأقسمت عليك به.
كذب سعد: أخطأ.
المرحمة: الرقة والتّعطّف.
صولة- بفتح الصاد المهملة، وسكون الواو: أي حملة.
شرح غريب شعر ضرار بن الخطاب- رضي الله عنه
لجأ إليه بالهمز وتركه للوزن.
لات حين لجاء: أي ليس الوقت وقت لجاء.
سعة الأرض- بفتح السّين.
حلقتا: تثنية حلقة.
البطان- بكسر الموحدة- للقتب: الحزام الّذي يجعل تحت بطن البعير، يقال التقت حلقتا البطان للأمر إذا اشتدّ.
نودوا- بالبناء للمفعول.
الصّيلم- بصاد مهملة مفتوحة، فتحتية ساكنة، فلام مفتوحة: الدّاهية.
الصّلعاء- بصاد مهملة مفتوحة، فلام ساكنة، فعين مهملة ممدودة، قال في النور: كأنه عطف الصّلعاء على الصّيلم، وحذف حرف العطف للنّظم، وهو جائز في غير النّظم أيضا.
قاصمة الظّهر: كاسرته.(5/284)
الحجون- بفتح الحاء المهملة، وضمّ الجيم المخففة: الجبل المشرف على مقبرة مكة.
البطحاء: الأبطح.
النّسر- بفتح النّون: النجم المعروف، وهما نسران، النّسر الطّائر، والنّسر الواقع.
العوّاء- بعين مهملة مفتوحة، فواو مشددة، ويقال بالعدوة من منازل القمر، وهي خمسة أنجم يقال لها ورك الأسد، ومن مدها فهي عنده من عويت الشيء إذا لويت طرفه.
وقال السّهيليّ: والأصحّ في معناها أن العوّاء من العوّة، وهي الدّبر، وكأنهم أسموها بذلك لأنها دبر الأسد من البروج.
وغر الصّدر- بفتح الواو وكسر الغين المعجمة، وبالرّاء: اسم فاعل، والوغرة: شدة توقد الحرّ.
لا يهم- بفتح التحتية وضم الهاء.
تلظّى: أصله تتلظّى: تلهب.
جاءت: أخبرت.
هند: هي بنت عتبة.
بالسّوءة السّوءاء، بالخلة القبيحة.
ابن حرب: هو أبو سفيان بن حرب.
أقحم اللّواء: الإقحام، إرسال في عجلة.
يا حماة الأدبار: جمع دبر، والمراد به هنا الظّهر.
ثابت- بثاء مثلثة وبعد الألف موحدة ففوقية ساكنة: أي رجعت.
البهم- بضم الموحدة، وفتح الهاء، قال أبو عبيدة البهمة بالضّمّ: الفارس الّذي لا يدرى من أين يؤتي من شدّة بأسه، والجمع بهم، ويقال أيضا للجيش بهمة.
الهيجاء- بالمد وتقصر: الحرب.
الفقعة- بفاء مكسورة، فقاف، فعين مهملة مفتوحة، جمع فقع- بكسر الفاء وفتحها وسكون القاف ضرب من الكمأة، وهي البيضاء الرّخوة، يشبه به الرجل الذّليل يقال هو فقع بقرقر [ (1) ] ، لأن الدّواب تنجله بأرجلها.
__________
[ (1) ] القرقر في الأراض المنخفضة اللينة، انظر المعجم الوسيط 2/ 736.(5/285)
القاع: المكان الواسع المستوي في وطاءة من الأرض.
الإماء: جمع أمة، وهي خلاف الحرّة.
انهينه: فعل أمر من نهى أكّد بالنّون.
الأسد- بضمّ الهمزة وسكون المهملة جمع أسد بفتح الهمزة والمهملة.
لدى: بمعنى عند.
الغاب، والغابات: جمع غابة، وهي هنا أجمة الأسد.
والغ- بالغين المعجمة: اسم فاعل من ولغ في الإناء.
الحيّة الصّماء: التي لا تسمع.
صنو أبيه، الصّنو: المثل.
أما والله- بفتح الهمزة، وتخفيف الميم.
ركبوها منه: [أي فعلوها معه] لأضر منّها عليهم نارا: أشعلها عليهم.
استبطنتم: يقال استبطن الوادي وتبطّنه: دخل بطنه.
أشهب بازل: أي رموا بأمر صعب شديد لا طاقة لهم به يقال يوم أشهب وسنة شهباء، وجيش أشهب: أي قويّ شديد، وأكثر ما يستعمل في الشّدّة والكراهة، وجعله بازلا لأن بزول البعير نهايته في الشدة والقوّة.
النجاء: السرعة، يقال هو ينجو نجاء إذا أسرع.
قبل- بكسر القاف وفتح الموحدة: أي طاقة وإنّما عطفها عليه لتغاير اللّفظ.
قاتله الله: أي قتله ولعنه، أو عاداه، وقد ترد بمعنى التّعجّب من الشّيء، كقولهم: تربت يداه، ولا يراد بها وقوع الشيء.
الحميت- بفتح المهملة، وكسر التّحتية، وبالفوقية- وهي في الأصل المتين من كل شيء، والمراد هنا: زقّ السمن.. بالسين والميم متن بالرّبّ ولا يسعر عليه، شبهته بنحى السّمن في لونه وسمنه.
الدّسم- بدال فسين مكسورة مهملتين: الكثير الودك.
ما الأحمس: الشّجاع.
قبح: القبح: ضد الحسن، وقد قبح قباحة فهو قبيح، ويقال قبّحه الله، أي نحّاه عن(5/286)
الخير، فيجوز في لفظ الكثرة قبح- بفتح القاف، وضم الموحدة، وقبّح بالبناء للمفعول.
الطّليعة: الذي يحرس القوم.
شرح غريب ذكر من أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بقتله وشرح غريب ذكر دخوله- صلّى الله عليه وسلم- مكة وأين نزل
الساعي هنا: الذي يأخذ الزكاة، وفي رواية مصدّقا- بفتح الصاد وتشديد الدّال مع كسرها، ويجوز إسكان الصّاد مع كسر الدّال المخفّفة.
القينة- بقاف مفتوحة فتحتية ساكنة فنون فتاء تأنيث: الأمة غنّت أو لم تغنّ والماشطة، وكثيرا ما يطلق على المغنية من الإماء.
المغفر- بكسر الميم، وسكون الغين المعجمة، وفتح الفاء، وبالراء: زرد ينسج منه الدّروع على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة.
ذو طوى- بتثليث الطّاء المهملة، والفتح أشهر: واد بمكّة، مقصور منون، وقد يمدّ، يصرف ولا يصرف.
المدجّج- بضم الميم، وفتح الدال المهملة والجيم الأولى المشددة.
شاك في السلاح تدجّج في شكته وحدّ في سلاحه.
القناة: الرّمح.
الأفواه: جمع فوه: وهو الفم.
المزاد- بفتح الميم، والمزايد جمع مزادة، وهي شطر الرواية.
الخندمة- بفتح الخاء المعجمة، وسكون النون، وفتح الدّال المهملة، فميم فتاء تأنيث:
اسم جبل بمكّة.
الرعدة- بكسر الرّاء.
فرس عاير- بعين مهملة فتحتية: ذاهب.
معتجرا، الاعتجار: التعمّم بغير ذؤابة.
شقة برد: نصفه.
حبرة- بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة: ضرب من ثياب اليمن.
استشرفه النّاس، قال في الصحاح: استشرفت الشّيء: رفعت نظرك لتنظر إليه، وبسطت كفك فوق حاجبك كالّذي يستظلّ من الشّمس.(5/287)
العثنون- بضم العين المهملة والنون وبينهما ثاء مثلثة ساكنة: اللّحية.
واسطة الرّحل: مقدمته.
تمعج: تسير في كل اتجاه.
ثابت- بثاء مثلّثة فألف، فموحدة ففوقية: رجعت.
عمامة خرقانيّة- بفتح الخاء المعجمة وضمّها، وسكون الراء، وبالقاف، وكسر النون، وتشديد التحتية، قال في النهاية كأنّه لواها ثم كوّرها كما يفعله أهل الرّساتق [ (1) ] ، ورويت بالحاء المهملة.
المرط- بكسر الميم، وسكون الراء، وبالطاء المهملة: كساء من صوف، أو خز، أو كتان، والجمع مروط.
مرحّل- بضم الميم، وفتح الراء والحاء المهملة المشددة: ضرب من برود اليمن، عليه تصاوير رحل وما أشبهه، وفي التكملة هو الموشى بالرحال، كما أنّ المسهّم الموشى تشبيها بالسّهام.
تثير: ترفع.
النّقع: الغبار.
الأعنّة: جمع عنان- بكسر العين وهو سير اللّجام.
مسرجات- بميم مضمومة، فسين مهملة فراء فجيم: مشدود عليها السّرج.
الخمر- بضم الخاء المعجمة، وبالرّاء: جمع خمار، وهو ثوب تغطّي به المرأة رأسها، والخمر- بفتح الخاء المعجمة، والميم: ما واراك من شجر.
مجنّبة الجيش- بميم مضمومة فجيم مفتوحة: فنون مكسورة مشددة فموحدة فهاء:
وهي التي تكون في الميمنة والميسرة وهما مجنّبتان، وقيل: هي الكتيبة تأخذ إحدى ناحيتي الطّريق، والأوّل أصح.
سليم- بضم السين المهملة.
غفار- بكسر الغين المعجمة.
مزينة- بضم الميم، وفتح الزّاي، وسكون التحتية، وبالنون.
اللّيط- بكسر اللّام الثّانية، وسكون التحتية، وآخره طاء مهملة.
__________
[ (1) ] الرساتق: فارسي معرب وهو السواد، انظر اللسان 3/ 1640.(5/288)
الحسّر- بضم الحاء، وفتح السّين المشددة المهملتين وآخره راء: وهم الّذين لا درع عليهم.
البياذقة بفتح الموحدة، وتخفيف التحتيّة، وبعد الألف ذال معجمة، فقاف، فتاء تأنيث:
وفسّر بالرجّالة، وهي لفظة فارسيّة معرّبة.
أقبل بالصّف من المسلمين ...
ينصبّ- بفتح التحتية، وسكون النون، وفتح الصّاد المهملة، وتشديد الموحّدة.
عنوة: يقال عنا عنوة: أخذ الشّيء قهرا وصلحا، والمراد هنا الأوّل.
ضوى إليه: آوى إليه وانضم.
هذيل- بضم الهاء، وفتح الذال المعجمة، وسكون التّحتية، وباللّام.
الديل- بكسر الدال المهملة، وسكون التّحتية.
فمالي علّة ...
وألّة- بفتح الهمزة، وتشديد اللّام المفتوحة، فتاء تأنيث: الحربة التي في نصلها عرض، وجمعها ألّ- بفتح الهمزة، وتشديد اللّام، والألّ كجفنة وجفان.
ذو غرارين بغين معجمة مكسورة، وراءين بينهما ألف: شفرتا السّيف وكل شيء له حدّ فحدّه غرره، والجمع أغرّة.
السلّة- بكسر السين المهملة، وتشديد اللّام المفتوحة فتاء تأنيث: الحالة من السّيف ومن أراد المصدر فتح. قال في الصحاح: أتيناهم عند السّلّة، أي عند إسلال السّيوف.
الحزورة: بحاء مهملة مفتوحة فزاي ساكنة فواو مفتوحة فراء: كانت سوقا بمكة وأدخلت في المسجد لمّا زيد فيه.
لجّة البحر- بضم اللام وتشديد الجيم: معظمه، ومنه بحر لجّيّ، واسع اللّجّة.
نال ...
الفارسيّة ...
الشّعار- ككتاب: العلامة في الحرب.
حماس- بكسر الحاء المهملة، وتخفيف الميم، وبعد الألف سين مهملة.
إنك- بكسر الكاف، خطاب المؤنث.
بو يزيد: حذف همزته تخفيفا، لضرورة الشّعر، وأراد به سهيل بن عمرو.(5/289)
المؤتمة- بميم، فواو، ففوقية مفتوحة: التي قتل زوجها وبقي لها أيتام، ومن رواه بكسر الفوقية: أراد لها أيتام، يقال منه أيتمت فهي مؤتمة.
الجمجمة: الرأس.
تسمع- بالبناء للمفعول. وفي كثير من النّسخ تسمعي.
الغمغمة- بغينين معجمتين مفتوحتين بعد كل واحدة ميم، الأولى ساكنة، والثّانية مفتوحة: أصوات غير مفهومة من اختلاطها. قال في الروض، وقال في الإملاء هي أصوات الأبطال في الحرب.
النّهيت- بفتح النون، وكسر الهاء، وسكون التحتية ففوقية: نوع من صياح الأسد كالزّئير إلا أنه دونه.
همهمة: صوت في الصّدر.
كرز- بكاف مضمومة، فراء ساكنة فزاي.
الفهريّ- بكسر الفاء، وسكون الهاء.
البارقة: لمعان السيوف.
فضض المشركين- بفاء وضادين معجمتين: كل متفرّق ومنتشر.
فأتى- رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فذكر له ببنائهما للمفعول.
وبّشت: بفتح الواو وبالموحدة المشددة وبالشين المعجمة: جمعت الأوباش الجموع من قبائل شتّى.
اهتف: صح والهاتف الصائح.
المناوشة في القتال: تداني الفريقين وأخذ بعضهم بعضا.
احصدوهم- بهمزة وصل، فإن ابتدأت ضممت، وبالحاء والصاد المهملتين: أي اقتلوهم وبالغوا في استئصالهم.
أبيدت- بالبناء للمفعول: أهلكت، وفي رواية أبيحت- بالبناء للمفعول أي انتهبت وتمّ هلاكها، والإباحة كالنّهب وما لا يردّ عنه.
خضراء قريش- بخاء مفتوحة فضاد ساكنة معجمتين وبالمد: جماعتهم وأشخاصهم والعرب تكنّي بالسّواد عن الخضرة، وبالخضرة عن السّواد ومنه سواد العراق.
لا قريش بعد اليوم: ...(5/290)
تقاسموا: تحالفوا.
الخيف: ما انحدر من غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء.
كنانة- بكسر الكاف، ونونين.
رجّع صوته- بفتح الراء، والجيم المشددة: ردده في القراءة، قال ...
مضطربا بالحجون: مقيما به.
شرح غريب ذكر اغتساله- صلى الله عليه وسلّم- ورن إبليس وإسلام أبي قحافة وغريب خطبته- صلى الله عليه وسلّم
سبحة الضحى- بضم السين المهملة، وسكون الموحّدة، وبالحاء المهملة: من التسبيح كالسحرة من التسحير، وأكثر استعمالها في التّطوع من الذكر والصّلاة.
الرّنّة- بفتح الرّاء والنّون: الصوت بحزن.
النّوح- بفتح النون، وواو ساكنة، فحاء مهملة: البكاء.
الشّرر- بشين معجمة مفتوحة فراءين أولاهما مفتوحة: ما تطاير من النار.
التّامّات: الكاملات فلا يدخلهنّ نقص ولا عيب، وقيل: النافعات الشّافيات.
لا يجاوزهنّ- بمثناة تحتية مضمومة، ثم جيم وزاي، لا يخلفهن ويتخطّاهن.
البرّ- بفتح الموحدة، والبار: الصادق أو التّقي، وهو خلاف الفاجر، وجمع الأوّل أبرار، والثّاني بررة.
الطّارق: الّذي يأتي ليلا.
حبشيّة: منسوبة إلى الحبشة.
شمطاء: خالط سواد شعرها بياض.
خمشت المرأة وجهها بظفرها خمشا من باب ضرب: جرحت ظاهر البشرة، ثم أطلق الخمش على الأثر، والجمع خموش مثل فلس وفلوس.
الويل: كلمة تقال لمن وقع في هلكة أو بليّة لا يترحّم عليه.
إساف بكسر الهمزة، ونائلة- بنون فألف، فهمزة على صورة الياء: اسما صنمين.
أبو قحافة- بضمّ القاف، وبالحاء المهملة، والفاء، عثمان بن عامر والد أبي بكر الصديق- رضي الله تعالى عنهما.
أشرفي بي، ارتفعي بي.(5/291)
الوازع- بالزّاي: الّذي يكفّ الجيش، أي يقدم بعضه على بعض يقال وزعته عن كذا إذا كففته عنه.
الطّوق هنا: القلادة.
الورق- بفتح الواو، وكسر الرّاء، الفضة.
الثّغامة- بثاء مثلّثة مفتوحة، فغين معجمة: شجرة إذا يبست ابيضّت أغصانها يشبّه بها الشّيب.
أنشد الله رجلا: أذكّره به وأستعطفه أو أسأله به مقسما.
أخيّة: تصغير أخت.
لم قاتلت: ما الاستفهامية دخلت عليها اللّام الجارة فحذفت ألفها.
رشقونا: رمونا.
وضعوا فينا السّلاح: حطوه.
خبطوهم- بخاء معجمة فموحدة فطاء مهملة: ضربوهم ضربا شديدا.
أبو أحيحة- بمهملتين- مصغر.
الجياد- بجيم مكسورة، فتحتية مفتوحة، فألف، فدال مهملة، جمع جيّد: ضد الرّديء.
متمطّرات- بضم الميم، وفتح الفوقية، وكسر الطاء المهملة المشددة، وبالراء، يقال:
تمطّر به فرسه: إذا جرى وأسرع، وجاءت الخيل متمطّرة، أي سبق بعضها بعضا.
المحجن- بميم مكسورة، فحاء مهملة ساكنة، فجيم مفتوحة فنون، وهي عصا مقنعة الرأس كالصولجان.
ارتجّت مكّة: اضطرب أهلها.
الرّصاص- بفتح الرّاء، والمفرد رصاصة.
هبل- بضم الهاء وفتح الموحّدة، وباللّام.
وجاه- بواو مكسورة فجيم: مقابل.
آخذ بمد الهمزة، وكسر الخاء، وبالذّال المعجمتين: اسم فاعل.
سية القوس- بكسر السين المهملة، وفتح التحتية المخففة: وهو ما عطف من طرف القوس.
يطعن- بضم العين وفتحها.(5/292)
الاستلام: افتعال من السّلام، كأنّه حيّاه بذلك، وقيل: هو افتعال من السّلام بكسر السّين، وهي الحجارة، ومعناه: لمسه.
الحجر- بفتح الحاء والجيم.
الملوّح بضم الميم وفتح اللّام، وتشديد الواو المفتوحة، فحاء مهملة.
إيه إيه ...
يستقسم: يضرب.
بالأزلام، جمع زلم- بضمّ الزّاي، ويقال: بفتحها، وهو السّهم.
حمامة من عيدان- بفتح العين المهملة، وسكون التحتية، جمع عيدانة، وهي النّخلة الطّويلة.
سطرين بسين مهملة، ووقع في رواية السهيلي بالشين المعجمة، وخطّأه القاضي.
قوله: وعند المكان الّذي صلّى فيه مرمرة- بسكون الرّاء بين الميمين المفتوحين، واحدة المرمر، وهو جنس من الرّخام لطيف نفيس معروف، وكان ذلك في زمن النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم غيّر بناء البيت بعد في زمن ابن الزّبير كما تقدّم.
برّة- بموحّدة مفتوحة، فراء مشددة فمثناة فوقية.
شرح غريب ذكر خطبته- صلى الله عليه وسلم- يوم الفتح
استكف له الناس- بفتح أوله، وسكون السين المهملة، وفتح الكاف، وبالفاء: أي استجمع، من الكافة، وهي الجماعة، وقد يجوز أن يكون استكفّ هنا بمعنى نظروا إليه، وحدقوا أبصارهم فيه، كالّذي ينظر في الشّمس، من قولهم: استكف بالشّيء إذا وضعت كفّك على حاجبك ونظرت إليه، وقد يجوز أن يكون استكف هذا بمعنى استمد، قاله في الإملاء.
وأول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث» قال السهيلي، وابن حزم، والبلاذري: كان لربيعة بن الحارث ابنا مسترضعا في بني سعد بن ليث فقتلته هذيل في الجاهلية، فأهدر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دمه في فتح مكة وسماه البلاذري، والزبير بن بكار، وابن حزم وغيرهم:
آدم، وقيل: اسمه ثمام، وقيل إياس.
الأحزاب: وهم الّذين تحزّبوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بالخندق من قريش وغيرهم.
لا تثريب: لا تعنيف ولا لوم.
الطلقاء- بطاء مهملة مضمومة، فلام مفتوحة فقاف: الّذين خلّى سبيلهم.(5/293)
مأثرة- بهمزة ساكنة فثاء مثلثة مفتوحة: الخصلة المحمودة التي تؤثر ويتحدّث بها.
سدانة البيت: بكسر السّين، وبالدّال المفتوحة المهملتين، وبعد الألف نون: خدمته.
النّخوة: العظمة والكبر.
لا يعضد- بالعين المهملة، والضّاد: لا يقطع.
عضاها، العضاة ككتاب شجر الشوك كالطلح والعوسج.
ولا يختلى- بضم التحتية وسكون الخاء المعجمة: لا يقطع.
الخلى- بالقصر: الرّطب من الحشيش، الواحدة خلاه.
وكان شيخا مجربا- بضم الميم، وفتح الجيم والراء: أي جرّبته الأمور وأحكمته.
الإذخر- بكسر الهمزة وسكون الذّال، وكسر الخاء المعجمتين: نبات معروف ذكيّ إذا جفّ ابيضّ.
القين- بفتح القاف، وسكون التحتية، وبالنّون: الحدّاد، ويطلق على كل صانع، والجمع قيون، مثل عين وعيون.
وللعاهر الحجر: أي إنما ثبت الولد لصاحب الفراش وهو الزوج، وللعاهر الخيبة ولا يثبت له نسب، وهو كما يقال: وله التّراب، أي الخيبة، لأنّ بعض العرب كان يثبت النسب من الزّاني، فأبطله الشرع.
لا جلب- بفتح الجيم واللّام، وبالموحّدة، فسّر بأنّ ربّ الماشية لا يكلّف جلبها إلى البلد ليأخذ السّاعي منها الزّكاة، بل تؤخذ زكاتها عند المياه.
ولا جنب- بفتح الجيم والنّون، وبالموحدة: أي إذا كانت الماشية في الأفنية فتترك فيها ولا تخرج إلى المرعى، فيخرج السّاعي لأخذ الزّكاة لما فيه من المشقّة. فأمر بالرّفق من الجانبين.
الأفنية: جمع فناء ككتاب: الوصيد، وهو سعة أمام البيت، وقيل: ما امتد من جوانبه.
اشتمال الصّماء: أي يجلّل جسده كله بكساء أو إزار لا يرفع شيئاً من جوانبه.
أخالكم: أظنكم.
خالدة: دائمة لكم.
تالدة- بالفوقية كصاحبة، والتّالد: القديم، قال المجبّ الطبري- رحمه الله تعالى-: إنّها لكم من أوّل ومن آخر، وتكون تالدة إتباعا لخالدة بمعناه.(5/294)
مضطبع بثوبه: اسم فاعل من الاضطباع: وهو أن يدخل ثوبه من تحت إبطه اليمنى ويلقيه على عاتقه الأيسر، ويتعدى بالباء، فيقال: اضطبع بثوبه، قال الأزهري: والاضطباع والتوشّح والتأبط سواء.
أمّا الرجل- بفتح الهمزة وتشديد الميم.
يقضى- بالبناء للمفعول، وكذلك قضي، والوحي، نائب للفاعل.
الضّنّ برسول الله- صلى الله عليه وسلم- بكسر الضاد المعجمة الساقطة، وتشديد النّون، أي بخلا به، وشحا أن يشاركنا فيه أحد غيرنا.
يطئون عقبه: يتبعونه، وموطأ العقب: سلطان يتّبع.
تفوّهت: تلّفظت.
قرن- بقاف مفتوحة، فراء ساكنة، وهي في الأصل: الجبل الصغير.
المسفلة- بميم مفتوحة فسين مهملة ساكنة ففاء، فلام مفتوحتين: موضع بأسفل مكة.
يوضع فيه: يسرع.
الجعرّانة- لا خلاف في كسر الجيم، وأهل الحديث يكسرون عينه، وأهل الأدب يسكنون العين ويخفّفون الرّاء.
قال في المراصد: والصحيح أنهما لغتان، قال علي بن المدني: أهل المدينة يثقّلون الجعرّانة، وأهل العراق يخفّفونها، وهي منزل بين الطائف ومكّة، وهي إليها أقرب.
عرنة- بضم العين المهملة وفتح الراء وبالنون: واد قرب عرفات.
شرح غريب ذكر إسلام عبد الله بن الزّبعري- رضي الله عنه
الزبعري هو بزاي، فموحّدة مكسورتين، فعين مهملة ساكنة، فألف مقصورة.
لا تعد بفتح الفوقية وسكون العين المهملة.
من حرف جرّ، وفي رواية لا تعد من من العدم، أكّد بالنّون، ورجلا- عليها- مفعول.
نجران- بنون مفتوحة، فجيم ساكنة، فألف فنون: مدينة باليمن.
الأحذ- بالحاء المهملة، والذّال المعجمة: القليل المنقطع، ومن رواه بالجيم والدال المهملة: فهو منقطع أيضا. وقد يجوز أن يكون معناه في عيش لئيم جداً بليت من البلى وهو العدم والقدم.
القناة: الرمح.(5/295)
خوّارة- بخاء معجمة مفتوحة، فواو مشددة فراء: ضعيفة.
جوفاء- بجيم مفتوحة فواو ساكنة ففاء فألف فهمز.: واسعة.
ذات وصوم- بواو مضمومة فصاد مهملة فواو فميم: فتور وكسل وتوان أجلب عليه: جمع ما قدر عليه من جنده.
يجب ما قبله: يقطعه ويمحاه.
لساني راتق: سادّ، تقول: رتقت الشّيء إذا سددته.
ما فتقت: أحدثت من ذنب، فكلّ إثم فتق وتمزيق، وكلّ توبة رتق البور- بالموحّدة: الهلاك..
أباري: أعارض، وأجاري.
سنن الغيّ: طرقه.
المثبور: الهالك.
البلابل: الوساوس.
الهموم: الأحزان.
معتلج: مضطرب يركب بعضه بعضا.
الرّواق: طائفة من الليل، وأرواقه: أثناء ظلمته.
البهيم: الّذي لا ضياء فيه.
عيرانة: ناقة تشبه العير في شدّته ونشاطه والعير- بفتح العين: حمار الوحش.
غشوم- بغين، فشين معجمة: ظلوم، يعني أن مشيها فيه خفاء، ومن رواه رسوم، فمعناه:
أنها ترسم الأرض وتؤثّر فيها من شدة وطئها، والرّسم: ضرب من سير اللّيل.
أسديت: صنعت وحكيت، يعنى ما قاله من الشّعر قبل إسلامه.
أهيم: أذهب على وجهي متحيرا.
أغوى بالغين المعجمة.
خطّة- بضم الخاء المعجمة، وبطاء مهملة: أي بأشرّ أمر وأقبحه.
سهم- بفتح السين المهملة، وسكون الهاء.
مخزوم- بالخاء والزاي المعجمتين.(5/296)
أسباب الردى: طرق الهلاك.
الوشاة- بضم الواو: جمع واش وهو النّمّام.
الأواصر: قرابة الرّحم من النّاس.
الحلوم- بضم الحاء المهملة، واللّام: العقول.
فدى- بكسر الفاء، وتفتح، قال في الصحاح: إذا كسر يمدّ ويقصر، وإذا فتح فهو مقصور انتهى والمفاداة: أن تدفع رجلا وتأخذ رجلا، فالفداء أن تشريه أو تنقذه بمال، وفديته بأبي وأمي كأنك اشتريته وخلّصته بهما، إذا لم يكن أسيرا، فإن كان أسيرا مملوكا قلت: فاديته، والمراد بالفداء هنا التّعظيم، لأنّ الإنسان لا يفدي إلا من يعظّمه. فيذل نفسه، ومن يعز عليه به.
زللي: خطيئتي.
علم- بفتح العين واللّام.
الجسيم: العظيم.
القرم- بفتح القاف، وسكون الرّاء: وأصله الفحل من الإبل.
الذّرى- بضم الذال المعجمة: الأعالي.
الأروم: الأصول.
شرح غريب ذكر إسلام عكرمة وصفوان بن أميّة وهند بنت عتبة
ضوى إليه بفتح الضاد المعجمة: مال.
الشّعيبة- بالشّين المعجمة، والعين المهملة تصغير شعبة: مرفأ السفن بجدة.
والمرفأ- بميم فراء فهمز: الموضع الذي تشدّ فيه السّفن.
عكّ- بفتح العين المهملة وتشديد الكاف: حيّ منسوب إلى عكّ بن عدنان- بضمّ العين، وسكون الدال المهملتين، وبالثّاء المثلّثة ابن عبد الله بن الأزد.
تليح بمثناة فوقية فلام فمثناة تحتية فحاء مهملة: تبصر، يقال لحته أبصرته، والاستلاح التّبصّر.
النّوتيّ: الملّاح الّذي يدبّر أمر السّفينة في البحر.
أغرب- بغين معجمة: أبعد.
الاعتجار بالعمامة: وهو أن يلفها على رأسه، ويردّ طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه.(5/297)
آمنه- بمدّ الهمزة وفتح الميم المخففة.
سيّره شهرين- بفتح السين والتحتية المشددة.
شفير النّار: جانبها.
القدوم- بقاف مفتوحة، فدال مضمومة تخفف وتشدد هنا: آلة النجار.
أفلذه- بهمزة مضمومة ففاء ساكنة فلام فذال معجمة: أقطعه.
مرضوفين- بميم فراء [فضاد] فواو ففاء مفتوحة: مشويين على الرّضف وهي الحجارة المحماة.
قدّ- بقاف مفتوحة فدال مهملة: جلد السّخلة.
شرح غريب ذكر خطبته- صلى الله عليه وسلّم- ثاني يوم الفتح
قوله غزيّ- بغين فزاي معجمتين، وتشديد التحتية: جماعة القوم الذين يغزون.
جنيدب بن الأدلع.
هذيل- بضم الهاء وفتح الذال المعجمة، وسكون التّحتية، وباللام.
الغطيط: ما يسمع من صوت الآدميّين إذا ناموا، وهو صوت من الحلق.
الحاضر: القوم الّذين ينزلون على الماء.
فمه: ما الاستفهامية أبدلت ألفها هاء في الوقف، والمعنى فما تريدون أن تضعوا [يستجيش عليه: بمثناة فسين مهملة فمثناة فوقية فجيم فتحتية: أقبل إليهم يطلب سكون الجأش بهمز وقد لا يهمز. وهو رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع وتنفس الإنسان] .
هكذا عن الرجل: هي هنا اسم سمّي به الفعل، ومعناه: تنحوا عن الرّجل، وعن متعلقة بما في هكذا من معنى الفعل.
الحشوة- بالحاء المهملة المفتوحة: ما اشتمل عليه البطن من الأمعاء وغيرها تسيل: تخرج.
تزنقان- بفوقية فزاي فنون فقاف أي قربتا أن تنغلقا، يقال زنقت الشمس إذا دنت للغروب وزنقه النّعاس إذا ابتدأه قبل أن تنغلق عينه انجعف- بنون فجيم فعين مهملة ففاء: سقط سقوطا ثقيلا.(5/298)
شرح غريب قصيدة حسان بن ثابت- رضي الله عنه
عفت: درست وتغيّرت.
ذات الأصابع، والجواء- بكسر الجيم، وتخفيف الواو، وعذراء بفتح العين المهملة، وسكون الذّال وراء وبالمد: الثلاثة مواضع بالشّام، والأخيرة قرية بقرب دمشق.
منزلها خلاء: فارغ.
الحسحاس- بحاء مفتوحة فسين فحاء فألف فسين مهملات: حيّ من بني أسد.
قفر- بفتح القاف، وسكون الفاء، وبالرّاء: المفازة الّتي لا نبت فيها ولا ماء.
تعفّيها- بضمّ الفوقية، وفتح العين المهملة، وكسر الفاء المشددة: تغيرها.
الرّوامس- بالرّاء والسّين المهملتين: الرّياح التي ترمس الآثار، أي تغطيها وتسترها.
السّماء- هنا- المطر.
تثير- بضم الفوقية وكسر الثّاء المثلّثة، وسكون التحتية وبالراء: ترفع.
النّقع- بفتح النون وإسكان القاف وبالعين المهملة: الغبار.
كداء- بفتح الكاف والمد.
الأعنّة: جمع عنان- بكسر العين المهملة: وهو سير اللجام.
مصغيات: مستمعات.
الأسل- بفتح الهمزة والسين المهملة: الرّماح.
الظّماء بكسر الظاء المعجمة المشالة وبالمد: العطاش.
الجياد- هنا: الخيل.
متمطّرات- بطاء مهملة مكسورة مشددة مصونات أو مسرعات يسبق بعضهن بعضا.
يلطمهن: يضربهن بالخمر- بضم الخاء المعجمة، والميم، جمع خمار.
إمّا- بكسر الهمزة، وتشديد الميم، أصله إن الشّرطية وما زائدة.
تعرضوا- حذف النون للجازم.
الجلاد- بكسر الجيم: الضّرب بالسّيوف ونحوها في القتال.
ليس له كفاء- بكسر الكاف وبالمد: أي مثلا.
وقال الله قد أرسلت عبدا: أي قال الله- تعالى- معناه، وليس هذا اللفظ في القرآن وكذا وقال الله قد سيّرت جندا.(5/299)
البلاء: الاختبار.
عرضتها- بضم العين المهملة، وسكون الرّاء وبالضّاء المعجمة- اللقاء: عادتها تعرض للقاء عدوها.
نحكم بالقوافي من هجانا- بضمّ النّون، وفتحها: أي نرد ونقدع، من حكمة الدّابة بفتح المهملة وسكون الكاف وهو لجامها، والمعنى: نغمهم ونخزيهم فتكون قوافينا كالحكمات للدّواب.
أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب- قيل أسلم في السفر، وهذا مما يقوّي أنّ بعض هذه القصيدة قالها قبل السفر للفتح.
مغلغلة- بغينين معجمتين، الأولى مفتوحة، والثانية مفتوحة أيضا وبعد كل منهما لام الأولى ساكنة والثانية مفتوحة وهي الرسالة المحمولة من بلد إلى بلد.
برح: زال.
الجفاء: الإعراض والتباعد.
برا- بفتح الموحدة والراء: وهو الكثير الخير.
الحنيف: المسلم، وسمي بذلك لأنه مال عن الباطل إلى الحق، والحنف: الميل.
الشّيمة- بكسر الشين المعجمة، وسكون التحتية: الخلق بضم الخاء المعجمة، واللّام وتسكن.
الكفو- بتثليث الكاف: المثل والنظير.
فشركما لخيركما الفداء: هذا نصف بيت قالته العرب، وهو من باب قوله- صلى الله عليه وسلم- شر صفوف الرجال آخرها، يريد نقصان حظّهم عن حظّ الصّفّ الأول، ولا يجوز أن يريد- صلى الله عليه وسلّم- التفضيل في الشّر. قال سيبويه- رحمه الله تعالى- تقول مررت برجل شر منك إذا نقص عن أن يكون مثله.
صارم: قاطع.
لا عيب- بالتحتية والموحدة- وهو الظاهر- ويروى بالفوقية أي لا لوم فيه.
الدّلاء- بكسر الدال المهملة: جمع دلو بفتحها.
شبيه وقع في صحيح مسلم في مناقب حسان رضي الله تعالى عنه في هذه القصيدة أبيات.(5/300)
أولها: هجوت محمدا إلى آخره، وثانيهما: هجوت محمدا برا تقيا، وثالثها: فإن أبي ووالدتي وعرضي، ورابعها: ثكلت بنيتي إن لم تروها تثير النقع غايتها كداء، وخامسها: يبارين الأعنّة مصعدات كذا في مسلم، وفي السّيرة مصغيات، وسادسها تظل جيادنا إلى آخره، وسابعها: فإن أعرضتم إلى آخره، وثامنها: وإلا فاصبروا لضراب يوم وتاسعها: قد أرسلت عبدا وقال الله يقول الحق ليس به خفاء.
وعاشرها: وقال الله قد سيّرت جندا، وحادي عشرها: تلاقي كل يوم من معدّ، وثاني عشرها: فمن يهجو، وثالث عشرها: وجبريل رسول الله فينا.
شرح غريب أبيات أنس بن زنيم- رضي الله عنه
وأبوه [زنيم] بضم الزّاي، وفتح النون وسكون التحتية.
الذمة- بكسر الذال المعجمة: العهد.
أحثّ بالحاء المهملة، والثّاء المثلثة: أسرع.
أسبغ- بالسين المهملة والموحدة والغين المعجمة: أكمل.
النّائل: العطاء.
المهنّد: السيف المطبوع من حديد الهند.
الخال- بالخاء المعجمة: ضرب من برود اليمن، سمّي بالخال الذي بمعنى الخيلاء قبل ابتذاله: [أي بلاه] السابق- هنا- الفرس.
المتجرد- بكسر الراء: اسم فاعل. الذي يتجرد من الخيل فيسبقها.
تعلّم- بفتحات واللّام مشدّدة: بمعنى اعلم.
الوعيد: التهديد.
الصرم- بكسر الصاد المهملة وسكون الرّاء وبالميم: البيوت المجتمعة.
المتهمون: الذين يسكنون بتهامة، وهو ما انخفض من أرض الحجاز.
المنجد: من سكن بنجد، وهو ما ارتفع من الأرض.
عويمر: تصغير عمرو، وهو بن سالم كذا في النور.
المخلفوا كلّ موعد- بجر كل بإضافة اسم الفاعل إليها، ويجوز نسبها في لغة.
نبّوا- بنون فموحدة مشدّدة: أخبروا.(5/301)
الطّلق- بفتح الطاء، وسكون اللّام: الأيام السّعيدة، يقال يوم طلق إذ لم يكن فيه برد ولا حرّ ولا شيء يؤذي، وكذلك ليلة طلق.
عزّت: اشتدّت.
العبرة- بفتح العين المهملة: الدّمعة.
التّبلّد: التحير تبلدي: تصبري، أخفرت: نقضت العهد أكمد: من الكمد وهو الحزن.
فتقت- بفاء ففوقية فقاف: أحدثت، أو خرجت.
شرح غريب أبيات الشقراطيسي- رحمه الله تعالى
وهو بشين معجمة فقاف ساكنة فراء مفتوحة فطاء فسين مهملات فتحتية.
يوم مكة- جوز الإمام أبو شامة- رحمه الله تعالى نصب يوم ورفعه وجره. إذ: ظرف زمان بدل من يوم.
أشرفت/ علوت عليها وظهرت على أخذها.
الأمم: جمع أمّة، وهي جماعة الحيوان على الإطلاق، ومن الزّمان وغير ذلك.
تضيق- بالفوقية والتحتية.
الفجاج- جمع فج: الطريق الواسع بين جبلين.
الوعث- بواو مفتوحة، فعين مهملة ساكنة، فثاء مثلثة: المكان الواسع.
الدّهس- بدال مهملة فهاء مفتوحتين فسين مهملة: مالان من الأرض وسهل، ولم يبلغ أن يكون رملا تغيب فيه الأقدام ويشقّ على من مشى فيه.
السّهل- بسكون الهاء- وفتحها ضرورة- وفي بعض النّسخ بضمّتين، جمع سهل وهو ما لان من الأرض، والمعنى أنّ جميع الطّرق تضيق عن ذلك الجيش.
الخوافق- بالصّرف للضّرورة، وبالجرّ بدل من أمم، أي أشرفت في أمم خوافق، يقال خفقت الرّاية تخفق وتخفق- بكسر الفاء وضمّها خفقا وخفقانا، وكذلك القلب إذا اضطرب، ويجوز أن تكون خوافق صفة لأمم لا بدل، وصفها بالمفرد بعد أن وصفها بالجملة، من قولهم خفق الأرض بنعله خفقا وهو صوت النّعل، وكلّ ضرب بشيء عريض خفق ومنه خفقه بالسّيف، وخفق في البلاد خفوقا: ذهب، وخفق البرق خفقا: لمع، وخفقت الريح خفقانا: وهو خفقها أي دويّ جريها، وخفق الطّائر، أي طار، وصف تلك الأمم بسرعة الطير والسير ولمعان(5/302)
الحديد، وصوت وقع الحوافر، وما يناسب ذلك مما يليق بالمعنى المقصود المستنبط من هذه الألفاظ. في اللغة، وفي بعض النسخ خوافق بالرفع جعل مبتدأ على تقدير لها خوافق يعنى رايات، أو خبرا أي هي خوافق، يعني الأمم، ويجوز أن يكون التّقدير في ذات خوافق وحذف المضاف، وكذا يجوز أن يكون التّقدير على إعراب خوافق بالجر أي ذوي خوافق، فمهما قدرنا حذف مضاف، أو قلنا هي مبتدأ أو جررناها على البدل، فالمراد بخوافق الرّايات، وإن جررناها صفة لأمم أو قلنا: التقدير هي خوافق فالخفق للأمم لا الرايات.
ضاق: ضعف.
ذرع الخافقين: وسعهما.
الخافقان: أفقا المشرق والمغرب، لأن اللّيل والنّهار يخفقان فيهما.
القاتم: المغبّر والقتام: الغبار.
العجاج- بالعين المهملة وجيمين: الغبار.
الجحفل- بالجرّ: وهو الجيش العظيم، قال في المحكم: ولا يكون الجيش جحفلا حتّى تكون فيه خيل.
قذف بفتح القاف والذّال المعجمة، وبضمهما: أي متباعد.
الأرجاء: النّواحي والأطراف.
اللّجب: الصّوت والجلبة.
العرمرم: الكثير.
زهاء السّيل- بضم الزّاي: قدره.
المنسحل- بضم الميم، وسكون النّون، وفتح السين، والحاء المهملتين: وهو الماضي في سيره، المسرع فيه. يتبع بعضه بعضا كأنه جار.
البهو: البناء العالي كالإيوان ونحوه، شبه النور، الذي يغشاه- صلى الله عليه وسلّم ببهو أحاط به.
مكتمل بضم الميم: تام.
ينير- بضم التحتية- أي النور المذكور ينير أي يضيء «أغر الوجه: أبيضه منتجب:
متخير من أصل نجيب أي كريم.
المتوّج: الّذي لبس التّاج وهو الإكليل الّذي تلبسه الملوك، وهو شبه عصابة تزيّن بالجواهر، وصف النبي- صلى الله عليه وسلم- بأنه أبدا متوج بعزة النصر. مقتبل- بضم الميم، وسكون(5/303)
القاف، وفتح الفوقية، وكسر الموحّدة: من اقتبل أمره أي استأنفه، واقتبل الخطبة أي ارتجلها، والاقتبال: الاستئناف.
يسمو- بالتحتية: يعلو.
أمام: قدّام.
جنود: جمع جند.
مرتديا: حال من الضمير في يسمو.
ثوب الوقار: مفعول مرتديا على إسقاط الخافض والوقار العظمة.
ممتثل: أي منتهج على مثاله، يقال: امتثل فلان الأمر إذا فعله على المثال الّذي رسم له.
خشعت: خضعت- حسا ومعنى.
البهاء: الحسن.
سمت: ارتفعت.
المهابة: الهيبة، فكلاهما مصدر هابه، ومعناها الإجلال والمخافة.
الوجل: الخائف، جمع النّاظم بينهما لاختلاف اللّفظ تأكيدا للمعنى، أي فعلت في زمان نهاية عزك ما يفعله الخائف الوجل.
تباشر القوم: بشّر بعضهم بعضا فرحا.
أملاك: جمع ملك مثل حمل وأحمال.
ملّكت- بضم الميم، وكسر اللّام المشدّدة، وفي بعض النّسخ بفتحهما من غير تشديد، وكلاهما واضح.
نلت: حصلت [غاية الأمل] : مطلوبك.
ترجف: تهتز.
الزّهو: الخفّة من الطّرب، يقال: زهاه الشيء ازدهاء: إذا استخفه، والزّهو أيضا: الكبر، وليس مرادا هنا.
الفرق: الفزع، يقال اهتزت الأرض فرحا بهذا الجيش وفرقا من صولته، أي كادت تهتزّ كما قال تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب 10] أي كادت تبلغ.
الجوّ: ما تحت السماء من الهواء.
يزهر: يضيء.(5/304)
الإشراق: الإضاءة.
الجذل- بفتح الجيم، والذال المعجمة: السّرور والفرح.
تختال: تتبختر في مشيتها.
زهوا: كبرا وإعجابا، وهذا غير معنى الزّهو السّابق، فليس بتكرار.
العيس- بكسر العين: الإبل في ألوانها عيس- بفتح العين والتحتية، وهو بياض مخالط بحمرة.
تنثال- بفوقية مفتوحة فنون ساكنة فثاء مثلثة ولام: أي تنصبّ من كلّ جهة، يقال تناثل النّاس إليه إذا انصبّوا.
رهوا بالرّاء: أي ذات رهو، وهو السّير السّهل.
ثنى- بكسر الثاء المثلثة، وفتح النّون، كأنّه جمع ثنى، لأنّ كلّ أحد له ثنى إلّا أنّ هذا الجمع غير مسموع، وفي بعض النّسخ بضمّ المثلّثة وكسرها كحليّ وحلى.
الجدل- بضم الجيم، والدال المهملة: جمع جديل، وهو الزّمام المجدول، أي المضفور المحكم الفتل، والزّمام ما كان في الأنف، والخطام غيره، وثنى الجدل ما أثني منها على أعناق هذه الإبل، أي انعطف وانطوى.
الحول- بكسر الحاء المهملة، وفتح الواو: التّحوّل، وهو الانتقال والتغيّر.
أهلّ- بفتحات واللّام مشدّدة: أي رفع صوته.
ثهلان- بثاء مثلّثة: جبل.
التّهليل: مصدر هلّل إذا قال: لا إله إلا الله.
ذاب- بفتح الذال المعجمة.
يذبل- بفتح التحتية، وسكون الذال المعجمة وضمّ الموحدّة وباللّام: جبل.
التّهليل- هنا: الجبن والفزع، يقال هلّ الرّجل عن الشيء إذا فزع منه فرقا وجبنا.
الذبل- بضم الذال المعجمة، والموحّدة: الرّماح الذّوابل الّتي لم تقطع من منابتها حتى ذبلت أي جفت ويبست، وإذا قطعت كذلك كانت أجود، وأصله لولا القدر الّذي خطّته الأقلام في اللوح المحفوظ، ولما سبق من قضاء الله فيه الّذي لا يتحوّل أن الجماد لا ينطق ولا يعقل لرفع ثهلان صوته فهلّل الله- تعالى- من الطّرب، ولذاب يذبل من الجزع والفرق.
عقدت: بالبناء للمفعول.(5/305)
الأزل- بفتح أوّله والزّاي: القدم بكسر القاف.
شعبت- بفتح الشين المعجمة، والعين المهملة، وسكون الموحدة، وفتح الفوقية: أي جمعت وأصلحت.
الصّدع: الشّقّ.
قذفت: رمت.
شعوب: اسم علم على المنيّة لا ينصرف، لأنه مشتق من شعب إذا تفرق، لأنّها تفرق الجماعات.
شعاب السهل، جمع شعب: الطريق في الجبل.
السّهل: خلاف الجبل، وهو ما سهل ولان من الأرض.
القلل: جمع قلّة، وهي أعلى الجبل، وقلة كل شيء أعلاه.
زادت: من الزّيادة.
الكتائب: جمع كتيبة، وهي الجماعة من الخيل.
الزئير- بالهمز: صوت الأسد في صدره.
العصل- بعين فصاد مهملتين: جمع أعصل، وهو النّاب الشّديد المعوجّ.
ويل: كلمة يعبر بها عن المكروه ويدعى بها فيه.
آثار وطئته: مصدر وطيء بقدمه يطأ وطأ ووطأة للمرة من ذلك، ويعبر بها أيضا عن موضع القدم، وعن الأخذة والوقعة، فالمعنى على الأول: من آثار وطأته الأرض، وعلى الثّاني من آثار نكايته.
الجوى- بفتح الجيم، في الأصل فساد الجوف، ثم سمي كل ما بطن من حزن أو هوى، أو همّ جوى.
الهبل بفتح الهاء، والموحدة: الثّكل، مصدر هبلته أمه، أي ثكلته.
جدت عفوا- يقال أعطاني فلان كذا عفوا، أي سهلا من غير عناء ولا كدّ في السّؤال والعفو: التّجاوز عن الذّنب، وترك العقوبة.
ولم تلمم من ألممت بالشّيء إذا دنوت منه ونلت منه نيلا يسيرا.
الأليم: الموجع.
اللّوم والعذل- بفتح الذال المعجمة وسكونها متقاربان، فلمّا اختلف اللّفظ حسن(5/306)
التكرير- يعني إن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يقابل أهل مكّة- ولم يعذلهم، بل عفا عنهم وصفح.
أضربت: أعرضت وتركت.
بالصّفح: بالعفو.
صفحا: أي إعراضا.
الطّوائل: جمع طائلة، أي عداوة، أي أعرضت عن نتاج طوائلهم وهي جنايتهم عليه- صلى الله عليه وسلّم.
طولا- بفتح الطّاء: المنّ والإنعام والتّفضّل.
المقيل في الأصل مصدر قال يقيل قولا ومقيلا وقيلولة: إذا نام في الظّهيرة أو استراح، وإن لم ينم، واستعار ذلك هنا للنّوم، وجعل له مقيلا في أعينهم، وكنّى بذلك عن لبثه واستقراره بسبب العفو عنهم والصّفح، وكان قبل ذلك نافرا عنهم بسبب الخوف من القتل والغمّ من الطرد.
المقل- بضم الميم، وفتح القاف، جمع مقلة، وهي شحمة العين الّتي تجمع السّواد والبياض.
واشج الأرحام- بشين معجمة مكسورة، فجيم: مختلطها ومشتبكها، من قولهم وشجت العروق والأغصان أي اشتبكت وتداخلت والتفّت وشجا ووشيجا.
أتيح- بضم أوله وكسر الفوقية، وسكون التّحتية وبالحاء المهملة: قدّر وقيّض.
الوشيج- بفتح الواو، وكسر الشين المعجمة، وسكون التحتية، وبجيم، ما نبت من القنا والقضب ملتفا، وقيل: سميت بذلك لأنها تنبت عروقها تحت الأرض، وقيل: هي عامة الرّماح.
النّشيج- بفتح النون وكسر الشين المعجمة، وسكون التّحتيّة، وبجيم: بكاء يخالطه شهيق وتوجّع.
الرّوع: الفزع، والوجل: الخوف- وهما متقاربان او مترادفان، عطف أحدهما على الآخر لمّا اختلف اللّفظان، ومعنى البيت: إنّ القوم الّذين رحمتهم فأمنتهم قرابتهم شديدة الاتصال بك.
عاذوا- بذال معجمة: لجئوا بالجيم.
اللّطف- بفتح اللّام- والطّاء المهملة، والفاء: اسم لما يبر به، يقال: ألطفه بكذا، أي برّه به، أي لجئوا مما كانوا فيه من حرّ الخوف، والغمّ إلى ظلّ عفو رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
أزكى: أكثر وأوسع وأطهر الخليقة: الخلائق.(5/307)
أخلاقا: جمع خلق- بضم الخاء المعجمة، واللّام: وهي السّجيّة.
الزّلل: التنحّي عن الحق.
زان- من الزّينة.
الخشوع: الخضوع.
الوقار: الحلم والرّزانة.
الخفر- بفتح الخاء المعجمة، والفاء: شدة الحياء.
العذراء: البكر.
الكلل- بكسر الكاف: جمع كلّة: وهي الصّومعة، وهي السّتر الرّقيق يخاط كالبيت.
محبورا: مسرورا منعما.
في شغل- بضمّ الشّين والغين المعجمتين: ممنوع من الوصول إليه.
الخزي: الهوان والذّل، ويروى الرّجس- وهو القذر- موضع الخزي.
الرّكس: ردّ الشّيء مقلوبا، ويروى منتكس، أي منقلب.
ثاو بثاء مثلّثة، مقيم.
البهموت: الحوت الذي عليه قرار الأرض.
زحل: نجم معروف.
حجزت: منعت.
الأقطار: النّواحي، واحدها قطر- بضم القاف الحجاز ارض خاصة في جزيرة العرب حاجز بين نجد وتهامة.
معا: ظرف لازم الإضافة، بمعنى المصاحبة، وموضعها نصب على الحال، ولمّا أن قطعت عن الإضافة نونت تنوين العوض.
ملت بالخوف: أي أملته ونحّيته، وفي نسخة بالحيف وهو الجور والظلم، والأوّل أحسن لمقابلة الأمن ويجانس الخيف بالخاء المعجمة: وهو ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء، ومنه خيف منى الذي فيه مسجد الخيف، وخيف بني كنانة الذي نزل فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع، وهو الأبطح.
ملل- بفتح الميم واللّام الأولى: موضع بين مكة والمدينة على سبعة عشر ميلا من المدينة.(5/308)
حل- بفتح الحاء المهملة وتشديد اللّام: نزل.
اليمن- بضمّ التحتية: البركة.
اليمن- بفتح التحتية: الإقليم المعروف.
حفّت جوانبه- بالبناء للمفعول، يقال حفّوا حوله، يحفّون حفا: أي طافوا به واستداروا.
الملل- بكسر الميم، وفتح اللام الأولى: الأديان واحدها ملة.
أطاع: انقاد.
المنحرف: المائل عن دين الحق، وهو هنا الإسلام.
المعترف: المقر بالشيء.
المنعدل- بضم أوله، وسكون النّون، وفتح العين المهملة وكسر الدال المهملة، وباللّام: الناكب عن طريق الهدى.
المعتدل- بوزنه لكن بعد العين مثنّاة فوقية، وهو المستقيم على طريق الهدى.
أحبب- بحاء مهملة وموحدتين.
الخلّة- بضم الخاء المعجمة: المودّة والصّداقة، وجمعها خلل- أي ما أحبها من خلة إلينا.
وعز دولته، أي أحبب بعزّ دولته، أي ما أحبها عزة.
الدّولة- بفتح الدال المهملة: بمعنى الإدالة وهي الغلبة.
الغرّاء: البيضاء الشريفة.
الدّول- بضمّ الدّال: جمع دولة.(5/309)
الباب الثامن والعشرون في غزوة حنين
[وتسمى أيضا غزوة هوازن، لأنهم الّذين أتوا لقتال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال محمد بن عمر الأسلمي: حدثني ابن أبي الزناد عن أبيه: أقامت هوازن سنة تجمع الجموع وتسير رؤساؤهم في العرب تجمعهم-] انتهى.
قال أئمة المغازي: لما فتح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة مشت أشراف هوازن، وثقيف بعضها إلى بعض، وأشفقوا أن يغزوهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقالوا: قد فرغ لنا فلا ناهية له دوننا، والرأي أن نغزوه، فحشدوا وبغوا وقالوا: والله إن محمدا لاقى قوما لا يحسنون القتال فأجمعوا أمركم، فسيروا في النّاس وسيروا إليه قبل أن يسير إليكم، فأجمعت هوازن أمرها، وجمعها مالك بن عوف بن سعد بن ربيعة النّصريّ بالصاد المهملة- وأسلم بعد ذلك، وهو- يوم حنين- ابن ثلاثين سنة، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ونصر وجشم كلها، وسعد بن بكر، وناس من بني هلال، وهم قليل. قال محمد بن عمر: لا يبلغون مائة، ولم يشهدها من قيس عيلان- أي بالعين المهملة- إلا هؤلاء، ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، مشى فيها ابن أبي براء فنهاها عن الحضور وقال: والله لو ناوأوا محمّدا من بين المشرق والمغرب لظهر عليهم.
وكان في جشم دريد بن الصّمّة وهو يومئذ ابن ستين ومائة. ويقال عشرين ومائة سنة، وهو شيخ كبير قد عمي، ليس فيه شيء إلّا التّيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخا مجرّبا قد ذكر بالشّجاعة والفروسيّة وله عشرون سنة، فلمّا عزمت هوازن على حرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- سألت دريدا الرياسة عليها فقال: وما ذاك وقد عمي بصري وما استمسك على ظهر الفرس، ولكن أحضر معكم لأن أشير عليكم برأيي على أن لا أخالف، فإن كنتم تظنون أني أخالف أقمت ولم أخرج قالوا: لا نخالفك، وجاءه مالك بن عوف، وكان جماع أمر الناس إليه، فقالوا له: لا نخالفك في أمر تراه.
فقال له دريد: يا مالك إنك تقاتل رجلا كريما، قد أوطأ العرب، وخافته العجم ومن بالشام، وأجلى يهود الحجاز، إمّا قتلا وإما خروجا على ذلّ وصغار، ويومك هذا الّذي تلقى فيه محمدا له ما بعده.
قال مالك: إني لأطمع أن ترى غدا ما يسرك.
قال دريد: منزلي حيث ترى، فإذا جمعت النّاس صرت إليك، فلما خرج من عنده طوى عنه أن يسير بالظعن والأموال مع الناس.(5/310)
فلما أجمع مالك المسير بالناس إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أمر النّاس فخرجوا معهم أموالهم ونساؤهم وأبناؤهم ثم انتهى إلى أوطاس، فعسكر به، وجعلت الأمداد تأتي من كلّ جهة، وأقبل دريد بن الصّمّة في شجار له يقاد به من الكبر، فلما نزل الشيخ لمس الأرض بيده وقال: بأيّ واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، ولا سهل دهس.
مالي أسمع بكاء الصّغير، ورغاء البعير، ونهاق الحمير، وبعار الشّاء وخوار البقر؟ قالوا: ساق مالك مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم فقال دريد: قد شرط لي ألا يخالفني فقد خالفني فأنا أرجع إلى أهلي وتارك ما هنا. قيل: أفتلقى مالكا فتكلمه؟ فدعي له مالك، فقال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام. مالي أسمع بكاء الصغير ورغاء البعير ونهاق الحمير وبعار الشاء وخوار البقر؟! قال: قد سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم، قال: ولم قال: أردت أن أجعل خلف كل إنسان أهله وماله يقاتل عنهم، فأنقض به دريد وقال: راعي ضأن والله، ماله وللحرب. وصفّق دريد بإحدى يديه على الأخرى تعجّبا وقال: هل يردّ المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلّا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك، يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة، بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئا، فارفع الأموال والنّساء والذّراري إلى عليا قومهم، وممتنع بلادهم، ثم الق القوم على متون الخيل والرجال بين أصفاف الخيل أو متقدمة دريّة أمام الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك الفاك ذلك، وقد أحرزت أهلك ومالك. فقال مالك بن عوف: والله لا أفعل ولا أغيّر أمرا صنعته، إنّك قد كبرت وكبر علمك، أو قال عقلك. وجعل يضحك مما يشير به دريد، فغضب دريد وقال: هذا أيضا يا معشر هوازن، والله ما هذا لكم برأي، إنّ هذا فاضحكم في عورتكم، وممكّن منكم عدوّكم ولا حق بحصن ثقيف وتارككم، فانصرفوا واتركوه، فسلّ مالك سيفه ثمّ نكّسه، ثم قال: يا معشر هوازن!! والله لتطيعنني أو لأتّكئنّ على هذا السّيف حتى يخرج من ظهري- وكره أن يكون لدريد فيها ذكر أو رأي- فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: والله- لئن عصينا مالكا ليقتلنّ نفسه وهو شابّ، ونبقى مع دريد وهو شيخ كبير لا قتال معه، فأجمعوا رأيكم مع مالك، فلما رأى دريد أنهم قد خالفوه قال:
يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع
أقود وطفاء الزّمع ... كأنّها شاة صدع
قال ابن هشام: أنشدني غير واحد من أهل العلم:
ثم قال دريد: ليتني فيها جذع يا معشر هوازن ما فعلت كعب وكلاب؟ قالوا: ما(5/311)
شهدها منهم أحد. قال: غاب الحدّ والجدّ، لو كان يوم علاء ورفعة، وفي لفظ: لو كان ذكرا وشرفا ما تخلّفوا عنه، يا معشر هوازن ارجعوا وافعلوا ما فعل هؤلاء، فأبوا عليه، قال: فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر، قال: ذانك الجذعان من بني عامر لا ينفعان ولا يضرّان، قال مالك لدريد: هل من رأي غير هذا فيما قد حضر من أمر القوم؟ قال دريد: نعم تجعل كمينا، يكونون لك عونا، إن حمل القوم عليك جاءهم الكمين من خلفهم، وكررت أنت بمن معك، وإن كانت الحملة لك لم يفلت من القوم أحد، فذلك حين أمر مالك أصحابه أن يكونوا كمينا في الشعاب وبطون الأودية، فحملوا الحملة الأولى التي انهزم فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قال دريد- من مقدّمة أصحاب محمد؟ قالوا: بني سليم، قال: هذه عادة لهم غير مستنكرة، فليت بعيري ينحى من سنن خيلهم، فنحيّ، بعيره مولّيا من حيث جاء.
ذكر استعماله- صلّى الله عليه وسلم- عتاب بن أسيد أميرا على مكة ومعاذ بن جبل- رضي الله عنهما- معلما لأهلها
قالوا: لما بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خبر هوازن وما عزموا عليه أراد التّوجّه لقتالهم، واستخلف عتاب بن أسيد أميرا على أهل مكة، ومعاذ بن جبل يعلمهم السّنن والفقه، وكان عمر عتّاب إذ ذاك قريباً من عشرين سنة.
ذكر استعارته- صلى الله عليه وسلّم- أدرعا من صفوان بن أمية
روى ابن إسحاق من رواية يونس بن بكير عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- وعن عمرو بن شعيب وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم والزهري: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لما أجمع السّير إلى هوازن ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدرعا وسلاحا، فأرسل إليه- وهو يومئذ مشرك- فقال: [يا أبا أميّة أعرنا سلاحك هذا نلقى فيه عدوّنا] فقال صفوان:
أغصبا يا محمد؟ قال: «لا بل عارية مضمونة حتّى نردّها إليك» قال: ليس بهذا بأس، فأعطى له مائة درع بما يكفيها من السلاح، فسأله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يكفيهم حملها، فحملها إلى أوطاس. ورواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن أمية بن صفوان،
وسيأتي في أبواب معاملاته- صلى الله عليه وسلّم- ويقال أنه- صلى الله عليه وسلّم- استعار منه أربعمّائة درع بما يصلحها.
قال السّهيلي: واستعار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة حنين من نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب ثلاثة آلاف رمح، فقال- صلى الله عليه وسلّم- كأني أنظر إلى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين.(5/312)
ذكر إرساله- صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن أبي حدرد ليكشف خبر القوم
روى ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير عن جابر بن عبد الله- رضي الله تعالى عنهما- وعمرو بن شعيب، وعبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم- رحمهم الله تعالى- إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لمّا سمع بخبر هوازن بعث عبد الله بن أبي حدرد- رضي الله عنه- فأمره أن يدخل في القوم فيقيم فيهم، وقال: «اعلم لنا علمهم» فأتاهم فدخل فيهم فأقام فيهم يوما وليلة أو يومين، حتّى سمع وعلم ما قد أجمعوا عليه من حرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسمع من مالك، وأمر هوازن وما هم عليه.
وعند محمد بن عمر أنه انتهى إلى خباء مالك بن عوف فيجد عنده رؤساء هوازن، فسمعه يقول لأصحابه: إن محمدا لم يقاتل قوما قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فيظهر عليهم، فإذا كان السّحر فصفّوا مواشيكم ونساءكم من ورائكم، ثم صفّوا، ثم تكون الحملة منكم، واكسروا جفون سيوفكم فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسورة الجفون، واحملوا حملة رجل واحد، واعلموا أنّ الغلبة لمن حمل أولا. انتهى.
ثم أقبل حتى أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأخبره الخبر،
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لعمر بن الخطاب «ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد» ؟ فقال: عمر: كذب، فقال ابن أبي حدرد: والله لئن كذبتني يا عمر لربّما كذبت بالحقّ. فقال عمر: ألا تسمع يا رسول الله ما يقول ابن أبي حدرد؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قد «كنت ضالّا فهداك الله» .
ذكر خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للقاء هوازن
روى البخاري عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم قال حين أراد حنينا «منزلنا غدا- إن شاء الله تعالى بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر. وفي رواية قال: منزلنا إن شاء الله تعالى إذا فتح الله الخيف حيث تقاسموا على الكفر»
[ (1) ] .
قال جماعة من أئمة المغازي: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم في اثني عشر ألفا من المسلمين، عشرة آلاف من المدينة وألفين من أهل مكة.
وروى أبو الشيخ عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير اللّيثي- رحمه الله تعالى- قال: كان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربعة آلاف من الأنصار، وألف من جهينة وألف من مزينة.
وألف من أسلم. وألف من غفار، وألف من أشجع، وألف من المهاجرين وغيرهم، فكان معه
__________
[ (1) ] تقدم.(5/313)
عشرة آلاف، وخرج باثني عشر ألفا، وعلى قول عروة والزهري وابن عقبة يكون جميع الجيش الذين سار بهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أربعة عشر ألفا، لأنهم قالوا: إنه قدم مكّة باثني عشر ألفا، وأضيف إليهم ألفان من الطّلقاء.
قال محمد بن عمر- رحمه الله تعالى- غدا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم السبت لستّ خلون من شوّال.
وقال ابن إسحاق لخمس، وبه قال عروة، واختاره ابن جرير، وروي عن ابن مسعود قال ابن عقبة، ومحمد بن عمر- رحمهم الله تعالى- ثم بعد فتح مكّة خرج رسول- صلى الله عليه وسلّم- لحنين وكان أهل حنين وفي رواية أهل مكة يظنون حين دنا منهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنّه مبادر بهوازن، وصنع الله لرسوله أحسن من ذلك، فتح له مكة وأقرّ بها عينه وكبت بها عدوّه، فلما خرج إلى حنين خرج معه أهل مكة لم يغادر منهم أحدا- ركبانا ومشاة حتى خرج معه النساء يمشين على غير دين نظّارا ينظرون ويرجون الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصّدمة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم.
وكان معه أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وكانت امرأته مسلمة وهو مشرك لم يفرق بينهما، وجعل أبو سفيان بن حرب كلما سقط ترس أو سيف أو متاع من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- نادى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: أن أعطنيه أحمله حتى أوقر بعيره.
قال محمد بن عمر: وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وزوجتاه أم سلمة وميمونة فضربت لهما قبة.
ذكر قول بعض من أسلم، وهو حديث عهد بالجاهلية: أجعل لنا ذات أنواط
روى ابن إسحاق، والترمذي- وصححه- والنسائي وابن أبي حاتم عن أبي قتادة الحارث بن مالك- رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى حنين- ونحن حديثو عهد بالجاهلية فسرنا معه إلى حنين، وكانت لكفار قريش ومن سواهم من العرب شجرة عظيمة، وعند الحاكم في الإكليل سدرة خضراء- يقال لها «ذات أنواط» ، يأتونها كل سنة، فيعلّقون أسلحتهم عليها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يوما، فرأينا ونحن نسير مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- سدرة خضراء عظيمة، فتنادينا من جنباب الطريق: يا رسول الله، اجعل لنا «ذات أنواط» كما لهم «ذات أنواط» فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «الله أكبر الله أكبر الله أكبر، قلتم- والذي نفسي بيده، كما قال قوم موسى لموسى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف 138] إنها لسنن، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة» .(5/314)
ذكر الآية في قول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما قيل له إن هوازن قد أقبلت
عن سهل بن الحنظلية- رضي الله عنه- إنهم ساروا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين فأطنبوا في السّير حتى إذا كان عشية حضرت صلاة الظهر عند رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فجاء رجل فارس فقال: يا رسول الله، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا، فإذا بهوازن قد جاءت عن بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشائهم، اجتمعوا، فتبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وقال:
«تلك غنيمة للمسلمين غدا إن شاء الله تعالى» . ثم قال: «من يحرسنا اللّيلة؟» قال أنس بن أبي مرثد: أنا يا رسول الله، قال: «فاركب» فركب فرسا له، وجاء إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: استقبل هذا الشّعب حتّى تكون في أعلاه ولا نغرّن من قبلك اللّيلة» . فلما أصبحنا خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إلى مصلّاه فركع ركعتين ثم قال: «هل أحسستم فارسكم؟» قالوا: يا رسول الله ما أحسسناه، فثوب بالصلاة فجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي وهو يلتفت إلى الشّعب، حتى إذا قضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلاته قال: «أبشروا فقد جاءكم فارسكم» فجعل ينظر إلى خلال الشجر في الشّعب، وإذا هو قد جاء حتى وقف على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال إنّي انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشّعب حيث أمرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما فنظرت فلم أر أحدا، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هل نزلت اللّيلة؟» قال: لا إلا مصلّيا، أو قاضي حاجة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «قد أوجبت فلا عليك أن لا تعمل بعدها» رواه أبو داود والنسائي
. ذكر شعر عباس بن مرداس- رضي الله عنه- ناصحا لهوازن
أبلغ هوازن أعلاها وأسفلها ... منّي رسالة نصح فيه تبيان
إنّي أظنّ رسول الله صابحكم ... جيشا له في فضاء الأرض أركان
فيهم سليم أخوكم غير تارككم ... والمسلمون عباد الله غسّان
وفي عضادته اليمنى بنو أسد ... والأجربان بنو عبس وذبيان
تكاد ترجف منه الأرض ترهبه ... وفي مقدّمه أوس وعثمان
قال ابن إسحاق: أوس وعثمان قبيلا مزينة.
ذكر الآية في حفظه- صلى الله عليه وسلم- ممن أراد الفتك به
روى محمد بن عمر عن شيوخه قالوا: قال أبو بردة- بضم الموحدة، وسكون الرّاء وبالدّال المهملة- بن نيار- رضي الله عنه- لمّا كنا بأوطاس نزلنا تحت شجرة ونظرنا إلى شجرة عظيمة فنزل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- تحتها وعلّق سيفه وقوسه، وكنت أقرب أصحابي إليه، فما(5/315)
راعني إلا صوته: يا أبا بردة، فقلت: لبيك يا رسول الله، فأقبلت سريعا فإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس وعنده رجل جالس، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إن هذا الرّجل جاءني وأنا نائم، فسلّ سيفي، وقام به على رأسي، فانتبهت وهو يقول: يا محمد من يمنعك منّي؟ فقلت: الله تعالى، قال أبو بردة: فسللت سيفي، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: شم سيفك فقلت: يا رسول الله، دعني أضرب عنق عدوّ الله، فإنّه من عيون المشركين. فقال لي: «اسكت يا أبا بردة» . قال: فما قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شيئا ولا عاقبه. قال: فجعلت أصيح به في العسكر لأشهره للنّاس فيقتله قاتل بغير أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأما أنا فقد كفّني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن قتله، فجعل النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: «يا أبا بردة كف عن الرجل: فرجعت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا أبا بردة إنّ الله مانعي وحافظي حتّى يظهر دينه على الدين كله»
[ (1) ] .
ذكر الآية التي حصلت لجواسيس المشركين في هذه الغزوة
روى أبو نعيم والبيهقي من طريق ابن إسحاق قال: حدّثني أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان أنه حدّث إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قد انتهى إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر خلون من شوال، وبعث مالك بن عوف ثلاثة نفر من هوازن ينظرون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وأصحابه، وأمرهم أن يتفرّقوا في العسكر فرجعوا إليه وقد تفرّقت أوصالهم، فقال:
ويلكم ما شأنكم، فقالوا: رأينا رجالا بيضا على خيل بلق، فو الله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، والله ما نقاتل أهل الأرض، إن نقاتل إلّا أهل السماوات وإن اطعتنا رجعت بقومك، فإنّ الناس إن رأوا مثل الذي رأينا أصابهم مثل ما أصابنا. فقال: أفّ لكم، أنتم أجبن أهل العسكر، فحبسهم عنده فرقا أن يشيع ذلك الرعب في العسكر، وقال: دلّوني على رجل شجاع، فأجمعوا له على رجل، فخرج ثم رجع إليه قد أصابه كنحو ما أصاب من قبله منهم، فقال: ما رأيت؟ قال: رأيت رجالا بيضا على خيل بلق، ما يطاق النظر إليهم، فو الله ما تماسكت أن أصابني ما ترى، فلم يثن ذلك مالكا عن وجهه [ (2) ] ، وروى محمد بن عمر نحوه عن شيوخه.
ذكر تعبئة المشركين عسكرهم
قال شيوخ محمد بن عمر: لما كان ثلثا الليل عمد مالك بن عوف إلى أصحابه فعبأهم في وادي حنين، وهو واد أجوف خطوط ذو شعاب ومضايق، وفرق النّاس فيها، وأوعز إليهم أن يحملوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وأصحابه حملة واحدة. وعبأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 892.
[ (2) ] البيهقي في الدلائل 5/ 123.(5/316)
وصفّهم صفوفا في السّحر، ووضع الألوية والرّايات في أهلها، ولبس درعين والمغفر والبيضة، وركب بغلته البيضاء، واستقبل الصفوف، وطاف عليهما بعضها خلف بعض ينحدرون، فحضهم على القتال وبشّرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، وقدّم خالد بن الوليد في بني سليم وأهل مكة، وجعل ميمنةً وميسرةً وقلباً، كان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم فيه
ذكر إعجاب المسلمين كثرتهم يوم حنين
روى يونس بن بكير في زيادات المغازي عن الربيع بن أنس قال: قال رجل يوم حنين:
لن نغلب من قلّة، فشق ذلك على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وكانت الهزيمة.
وروى ابن المنذر عن الحسن قال: لمّا اجتمع أهل مكّة وأهل المدينة قالوا: الآن نقاتل حين اجتمعنا، فكره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما قالوا مما أعجبهم من كثرتهم، فالتقوا فهزموا حتى ما يقوم أحد على أحد.
وروى أبو الشيخ والحاكم- وصححه- وابن مردويه والبزار عن أنس- رضي الله عنه- قال: لما اجتمع يوم حنين أهل مكة وأهل المدينة أعجبتهم كثرتهم فقال القوم: اليوم والله نقاتل، ولفظ البزّار، فقال غلام من الأنصار يوم حنين لن نغلب اليوم من قلة، لما هو إلا أن لقينا عدوّنا فانهزم القوم، وولّوا مدبرين [ (1) ] .
وروى محمد بن عمر عن ابن شهاب الزهري، قال رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لو لقينا بني شيبان ما بالينا، ولا يغلبنا اليوم أحد من قلة.
قال ابن إسحاق: حدثني بعض أهل مكة: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال حين فصل من مكة إلى حنين، ورأى كثرة من معه من جنود الله تعالى: «لن نغلب اليوم من قلّة» ،
كذا في هذه الرواية [ (2) ] .
والصّحيح أن قائل ذلك غير النبي- صلى الله عليه وسلم- كما سبق.
قال ابن إسحاق: وزعم بعض الناس أن رجلا من بني بكر قالها.
وروى محمد بن عمر عن سعيد بن المسيب- رحمه الله تعالى- أن أبا بكر- رضي الله عنه- قال: يا رسول الله لن نغلب اليوم من قلة كذا في هذه الرّواية، وبذلك جزم ابن عبد البر.
قال ابن عقبة: ولمّا أصبح القوم ونظر بعضهم إلى بعض، أشرف أبو سفيان، وابنه معاوية، وصفوان ابن أمية، وحكيم بن حزام على تلّ ينظرون لمن تكون الدائرة.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 6/ 181 باب غزوة حنين.
[ (2) ] المغازي للواقدي 3/ 896.(5/317)
ذكر كيفية الوقعة وما كان من أول الأمر من فرار أكثر المسلمين عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ثم كانت العاقبة للمتقين، وما وقع في ذلك من الآيات
قال ابن سعد: أشهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى حنين مساء ليلة الثلاثاء لعشر ليال خلون من شوال.
روى ابن إسحاق، والإمام أحمد وابن حبان عن جابر بن عبد الله، والإمام أحمد من طريقين، وأبو يعلى. ومحمد بن عمر عن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنهما- لما استقبلنا وادي حنين انحدرنا في واد أجوف خطوط له مضايق وشعاب، وإنما ننحدر فيه انحدارا، وفي عماية الصّبح، وقد كان القوم سبقونا إلى الوادي فمكثوا في شعابه وأجنابه ومضايقه وتهيّئوا، فو الله ما راعنا ونحن منحطّون إلّا الكتائب قد شدّوا علينا شدّة رجل واحد، وكانوا رماة.
قال أنس- رضي الله عنه- استقبلنا من هوازن شيء، لا والله ما رأيت مثله في ذلك الزمان قط، من كثرة السّواد، قد ساقوا نساءهم وأبناءهم وأموالهم ثم صفّوا صفوفا، فجعلوا النّساء فوق الإبل وراء صفوف الرجال، ثم جاءوا بالإبل والبقر والغنم، فجعلوها وراء ذلك لئلا يفرّوا بزعمهم فلما رأينا ذلك السّواد حسبناه رجالا كلهم، فلمّا انحدرنا في الوادي، فبينا نحن في غبش الصّبح إن شعرنا إلّا بالكتائب قد خرجت علينا من مضيق الوادي وشعبه، فحملوا حملة رجل واحد، فانكشفت أوائل الخيل- خيل بني سليم- مولّيه وتبعهم أهل مكة وتبعهم النّاس منهزمين ما يلوون على شيء وارتفع النقع فما منا أحد يبصر كفّه [ (1) ] .
وقال جابر: وانحاز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذات اليمين، ثم قال: «أيها الناس هلم إلى أيها الناس، هلم إليّ أنا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أنا محمد بن عبد الله»
[ (2) ] .
قال: فلا شيء وحملت الإبل بعضها على بعض، فانطلق النّاس.
وذكر كثير من أهل المغازي: أن المسلمين لما نزلوا وادي حنين تقدمهم كثير ممن لا خبرة لهم بالحرب، وغالبهم من شبّان أهل مكة، فخرجت عليهم الكتائب من كل جهة، فحملوا حملة رجل واحد والمسلمون غارون، فرّ من فرّ، وبلغ أقصى هزيمتهم مكة، ثم كرّوا بعد.
وفي الصحيح عن البراء بن عازب- رضي الله عنهما- قال: عجل سرعان القوم- وفي
__________
[ (1) ] انظر مجمع الزوائد 6/ 181.
[ (2) ] انظر المجمع 6/ 182- 183.(5/318)
لفظة: شبان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح، فإنّا لمّا حملنا على المشركين انكشفوا، فاقبل الناس على الغنائم، وكانت هوازن رماة فاستقبلتنا بالسهام كأنما رجل جراد، لا يكاد يسقط لهم سهم [ (1) ] انتهى.
قال: وكان رجل على جمل له أحمر، بيده راية سوداء على رمح طويل أمام هوازن، وهوازن خلفه، إذا أدرك طعن برمحه، وإن فاته النّاس، رفع رمحه لمن وراءه فاتّبعوه. فبينما هو كذلك إذ هوى له علي بن أبي طالب، ورجل من الأنصار يريدانه، فأتاه علي بن أبي طالب من خلفه فضرب عرقوبي الجمل، فوقع على عجزه، ووثب الأنصاريّ على الرّجل فضربه ضربة أطنّ قدمه بنصف ساقه، فانجعف عن رحله، واجتلد الناس، فو الله ما رجعت راجعة النّاس من هزيمتهم حتى وجدوا الأسرى مكتّفين عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: لما انهزم النّاس ورأى من كان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلّم منهم رجال بما في أنفسهم من الضّغن. قال أبو سفيان بن حرب وكان إسلامه- بعد- مدخولا: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإنّ الأزلام لمعه في كنانته، وصرخ جبلة بن الحنبل- وقال ابن هشام: كلدة بن الحنبل- وأسلم بعد ذلك، وهو مع أخيه لأمه صفوان بن أمية، وصفوان مشرك في المدة التي جعل له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: إلا بطل السّحر اليوم!! فقال له صفوان: اسكت فضّ الله فاك! والله أن يربّني رجل من قريش أحب إلي من أن يربّني رجل من هوازن.
وروى محمد بن عمر عن أبي بشير- ككريم- المازني- رضي الله عنهم- قال: لما كان يوم حنين صلّينا الصّبح، ثمّ رجعنا على تعبئة من رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فما شعرنا- وقد كاد حاجب الشّمس أن يطلع، وقد طلع- إلا بمقدمتنا قد كرّت علينا، قد انهزموا، فاختلطت صفوفنا، وانهزمنا مع المقدّمة، وأكر، وأنا يومئذ غلام شابّ، وقد علمت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- متقدّم فجعلت أقول: يا للأنصار، بأبي وأمّي، عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- تولّون؟ وأكرّ في وجوه المنهزمين، ليس لي همّة إلّا النظر إلى سلامة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى صرت إلى رسول لله- صلى الله عليه وسلّم- وهو يصيح: «يا للأنصار» فدنوت من دابّته، والتفتّ من ورائها، وإذا الأنصار قد كرّوا كرّة رجل واحد ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- واقف على دابّته في وجوه العدوّ، ومضت الأنصار أمام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقاتلون، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- سائر معهم يفرّجون العدوّ عنه، حتّى طردناهم فرسخا، وتفرّقوا في الشّعاب، حتّى فلّوا من بين أيدينا، فرجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى منزله وقبته، وقد ضربت له- والأسرى مكتّفون حوله، وإذا نفر حول قبّته، وفي قبته زوجاته أم
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 622 (4317) .(5/319)
سلمة وميمونة، حولها النّفر الّذين يحرسون رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم عباد بن بشر، وأبو نائلة، ومحمد بن مسلمة.
قال ابن عقبة: ومرّ رجل من قريش بصفوان بن أميّة فقال: أبشر بهزيمة محمّد وأصحابه، فو الله لا يجبرونها أبدا. فقال صفوان: أتبشّرني بظهور الأعراب» فو الله لربّ من قريش أحب إلي من ربّ من الأعراب، وغضب صفوان لذلك، وبعث صفوان غلاما له فقال: اسمع لمن الشّعار فجاءه فقال: سمعتهم يقولون: يا بني عبد الرحمن يا بني عبيد الله، يا بني عبد الله، فقال:
ظهر محمد وكان ذلك شعارهم في الحرب [ (1) ] .
وروى محمد بن عمر عن أبي قتادة- رضي الله عنه- قال: مضى سرعان النّاس من المنهزمين، حتى دخلوا مكّة، ساروا يوما وليلة- يخبرون أهل مكّة بهزيمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعتّاب بن أسيد بوزن أمير، على مكّة ومعه معاذ بن جبل، فجاءهم أمر غمّهم، وسر بذلك قوم من أهل مكة وأظهروا الشّماتة، وقال قائل منهم: ترجع العرب إلى دين آبائها، وقد قتل محمد وتفرّق أصحابه، فتكلم عتاب بن أسيد يومئذ فقال: إن قتل محمد، فإن دين الله قائم- والّذي يعبده محمد حي لا يموت، فما أمسوا من ذلك اليوم حتّى جاء الخبر إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أوقع بهوازن، فسرّ عتاب بن أسيد، ومعاذ بن جبل، وكبت الله- تعالى- من هناك ممّن كان يسرّه خلاف ذلك.
فرجع المنهزمون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فلحقوه بأوطاس وقد رحل منها إلى الطائف [ (2) ] .
ذكر ارادة شيبة بن عثمان- قبل أن يسلم- الفتك برسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما رآه في نفر قليل، وما وقع في ذلك من الآيات
روى ابن سعد وابن عساكر عن عبد الملك بن عبيد، وأبو القاسم البغوي، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن عساكر عن عكرمة- رحمهم الله تعالى- قالا: قال شيبة: لما كان عام الفتح دخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مكة عنوة، وغزا حنينا، قلت أسير مع قريش إلى هوازن، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غرّة، وتذكّرت أبي وقتله حمزة، وعمي وقتله علي بن أبي طالب، فقلت: اليوم أدرك ثأري من محمد، وأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها، وأقول:
لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمدا ما تبعته أبدا، فكنت مرصدا لما خرجت له، لا
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 910.
[ (2) ] انظر المصدر السابق.(5/320)
يزداد الأمر في نفسي إلا قوة، فلما اختلط الناس، اقتحم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن بغلته، وأصلتّ السّيف، ودنوت منه، أريد ما أريد- وفي رواية فلما انهزم أصحابه جئته من عن يمينه فإذا العبّاس قائم عليه درع بيضاء، فقلت: عمّه لن يخذله، فجئته من عن يساره، فإذا بأبي سفيان بن الحارث فقلت: ابن عمه لن يخذله، فجئته من خلفه، فلم يبق إلا أن أسوّره سورة بالسّيف إذ رفع إليّ فيما بيني وبينه شواظ من نار كأنّه برق. فخفت أن يتمحشني فوضعت يدي على بصري، خوفا عليه» ، ومشيت القهقري، وعلمت أنّه ممنوع. فالتفت إلي وقال: «يا شيب أدن مني» فدنوت منه، فوضع يده على صدري وقال: «اللهم أذهب عنه الشيطان» . فرفعت إليه رأسي وهو أحب إلي من سمعي وبصري وقلبي، ثم قال: «يا شيبة قاتل الكفّار» قال: فتقدّمت بين يديه أحبّ- والله- أن أقيه بنفسي كل شيء، فلما انهزمت هوازن رجع إلى منزله ودخلت عليه فقال: «الحمد لله الّذي أراد بك خيرا مما أردت» [ (1) ] ثم حدثني بما هممت به- صلى الله عليه وسلم.
ذكر ارادة النضير بن الحارث الفتك برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما وقع في ذلك من الآيات
قال محمد بن عمر: حدثنا إبراهيم بن محمد بن شرحبيل العبدري عن أبيه قال: كان النضير من أحلم قريش. وكان يقول: الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام ومنّ علينا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- ولم نمت على ما مات عليه الآباء، فذكر حديثا طويلا، ثم قال: خرجت مع قوم من قريش، هم على دينهم- بعد- أبو سفيان بن حرب، وصفوان بن أميّة، وسهيل بن عمرو، ونحن نريد إن كانت دبرة على محمد أن نغير عليه فيمن يغير، فلما تراءت الفئتان ونحن في حيز المشركين حملت هوازن حملة واحدة، ظننّا أنّ المسلمين لا يجبرونها أبدا، ونحن معهم وأنا أريد بمحمد ما أريد. وعمدت له فإذا هو في وجوه المشركين واقف على بغلة شهباء حولها رجال بيض الوجوه، فأقبلت عامدا إليه، فصاحوا بي: إليك، فأرعب فؤادي وأرعدت جوارحي. قلت: هذا مثل يوم بدر، إن الرجل لعلى حقّ، وإنه لمعصوم، وأدخل الله تعالى في قلبي الإسلام وغيّره عما كنت أهم به، فما كان حلب ناقة حتى كرّ أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كرّة صادقة، وتنادت الأنصار بينها: الكرة بعد الفرّة: يا للخزرج، يا للخزرج، فحطمونا حطاما، فرقوا شملنا، وتشتت أمرنا، وهمّة كلّ رجل نفسه فتنحيت في غبّرات الناس حتى هبطتّ بعض أودية أوطاس فكمنت في خمر شجرة لا يهتدي إلى أحد إلّا أن يدلّه الله- تعالى- علي، فمكثت فيه أيّاما وما يفارقني الرّعب مما رأيت، ومضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الطّائف، فأقام ما أقام، ثم رجع إلى الجعرّانة، فقلت: لو صرت إلى الجعرانة، فقاربت رسول
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 6/ 188، والمغازي للواقدي 3/ 910.(5/321)
الله- صلى الله عليه وسلّم- ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، فما بقي فقد رأيت عبرا، وقد ضرب الإسلام بجرانه، ولم يبق أحد، ودانت العرب والعجم لمحمد- صلى الله عليه وسلّم- فعزّ محمّد لنا عزّ، وشرفه لنا شرف، فو الله إني لعلى ما أنا عليه إن شعرت إلا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلقاني بالجعرانة كنّة لكنّة فقال: «النضير؟» قلت: «لبّيك، فقال: «هذا خير لك ممّا أردت يوم حنين ممّا حال الله بينك وبينه» فأقبلت إليه سريعا، فقال: «قد إن لك أن تبصر ما أنت فيه توضع قلت: قد أرى إن لو كان مع الله- تعالى- إلها غيره لقد أغنى شيئا، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنك رسول الله.
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم: «اللهمّ زده ثباتا»
قال النّضير: فو الله الّذي بعثه بالحقّ لكأنّ قلبي حجر ثباتا في الدين وبصيرة في الحق، وذكر الحديث [ (1) ] .
ذكر ثبات رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورميه الكفار، ونزوله عن بغلته، ودعائه ربه سبحانه وتعالى، وما وقع في ذلك من الآيات
روى ابن إسحاق، والإمام أحمد عن جابر بن عبد الله، وابن إسحاق، وعبد الرزّاق، ومسلم عن العباس عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم، قال العبّاس: شهدت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم: يوم حنين، فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم نفارقه، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- على بغلة له شهباء، قال عبد الرزاق: وربما قال معمر: بيضاء، أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي، قال فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون مدبرين، فطفق رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يركض بغلته قبل الكفّار، وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: أكفّها أن لا تسرع، وهو لا يألو ما أسرع نحو المشركين، وأبو سفيان بن الحارث آخذ، بركاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
وفي رواية بغرزه، وفي رواية بثغره، فالتفت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أبي سفيان بن الحارث وهو مقنّع في الحديد، فقال: «من هذا» فقال: ابن عمك يا رسول الله، وفي حديث البراء: وأبو سفيان ابن عمه يقود به، قال ابن عقبة- رحمه الله تعالى: وقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الرّكابين، وهو على البغلة، فرفع يديه إلى الله- تعالى- يدعو يقول: «اللهم إني أنشدك ما وعدتني.. اللهمّ لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا»
انتهى.
قال العباس: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «يا عباس!! ناديا معشر الأنصار، يا أصحاب السّمرة، يا أصحاب سورة البقرة»
[ (2) ] .
قال العبّاس- وكنت رجلا صيتا- فقلت بأعلى صوتي: أين الأنصار، أين أصحاب
__________
[ (1) ] انظر المغازي للواقدي 3/ 911.
[ (2) ] أخرجه الطبراني في الكبير 10/ 188 وانظر المجمع 6/ 82، 8/ 619 والبيهقي في الدلائل 5/ 31 وعبد الرزاق في المصنف (9741) والحميدي (459) وابن سعد 2/ 1/ 112 واحمد 1/ 207.(5/322)
السّمرة، أين أصحاب سورة البقرة، قال: والله لكأنما عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها.
وفي حديث عثمان بن شيبة عند أبي القاسم البغوي، والبيهقي «يا عبّاس، اصرخ بالمهاجرين الّذين بايعوا تحت الشّجرة، وبالأنصار الذين آووا ونصروا»
قال: فما شبهت عطفة الأنصار على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إلّا عطفة الإبل على أولادها. حتى ترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كأنه في حرجة، فلرماح الأنصار كانت أخوف عندي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من رماح الكفّار- انتهى. فقالوا: يا لبيك يا لبيك يا لبّيك. قال: فيذهب الرجل يثني بعيره ولا يقدر على ذلك، أي لكثرة الأعراب المنهزمين- كما ذكره أبو عمر بن عبد البر- فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ويأخذ سيفه وترسه ويقتحم عن بعيره، فيخلّي سبيله، فيؤمّ الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى إذا اجتمع منهم مائة، استقبلوا النّاس فاقتتلوهم والكفار، والدعوة في الأنصار يا معشر الأنصار، ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج، وكانوا صبّرا عند الحرب، وأشرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ركابيه، فنظر إلى مجتلدهم وهم يجتلدون وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم،
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «هذا حين حمي الوطيس، ثم أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: «انهزموا ورب محمد»
فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى، فو الله ما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدّهم كليلا وأمرهم مدبرا، فو الله ما رجع النّاس إلا وأسارى عند رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مكتّفون، قتل الله تعالى- منهم من قتل، وانهزم منهم من انهزم وأفاء الله تعالى علي رسوله أموالهم ونساءهم وأبناءهم [ (1) ] .
وروى ابن سعد، وابن أبي شيبة، والإمام أحمد، وأبو داود، والبغوي في معجمه، والطبراني وابن مردويه، والبيهقي برجال ثقات عن أبي عبد الرحمن بن يزيد الفهري- يقال اسمه كرز- رضي الله تعالى عنه- قال: كنت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في حنين في يوم قائظ شديد الحرّ، فنزلنا تحت ظلال السّمر، فلمّا زالت الشمس لبست لامتي، وركبت فرسي فأتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في فسطاطه، فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمته، الرواح قد حان، الرواح يا رسول الله، قال: «أجل» ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا بلال» فثار من تحت سمرة كأنّ ظلّه ظلّ طائر، فقال: لبّيك وسعديك، وأنا فداؤك. قال: «أسرج لي فرسي» فأتاه بسرج دفّتاه من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر، فركب فرسه، ثم سرنا يومنا، فلقينا العدوّ، وتشأمت الخيلان، فقاتلناهم فولّى المسلمون مدبرين كما قال الله تعالى، فجعل رسول
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 7/ 358 وابن عساكر كما في التهذيب 6/ 351.(5/323)
الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: «يا عباد الله. أنا عبد الله ورسوله، يا أيها الناس إنّي أنا عبد الله ورسوله» فاقتحم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن فرسه، وحدّثني من كان أقرب إليه منّي أنه أخذ حفنة من تراب فحثاها في وجوه القوم، وقال: «شاهت الوجوه» قال يعلى بن عطاء: وأخبرنا أبناؤهم عن آبائهم أنّهم قالوا: ما بقي منّا أحد إلّا امتلأت عيناه وفمه من التّراب، وسمعنا صلصلة من السّماء كمرّ الحديد على الطّست، فهزمهم الله تعالى
[ (1) ] .
وروى أبو يعلى والطبراني برجال ثقات عن أنس- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أخذ يوم حنين كفّا من حصى أبيض فرمى به وقال: «هزموا ورب الكعبة» وكان علي- رضي الله عنه- يومئذ أشدّ الناس قتالا بين يديه
[ (2) ] .
وروى أبو نعيم بسند ضعيف عن أنس- رضي الله عنه- والطبراني عن عكرمة- رحمه الله تعالى- قالا: لما انهزم المسلمون بحنين ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- على بغلته الشهباء- وكان اسمها دلدل- فقال لها رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «دلدل البدي» فألزقت بطنها بالأرض، فأخذ حفنة من تراب فرمى بها في وجوههم وقال: «حم لا ينصرون» فانهزم القوم، وما رمينا بسهم ولا طعنّا برمح، كذا في هذه الرواية اسمها دلدل،
والصّحيح أنّ دلدل أهداها المقوقس فهي غير التي أهداها فروة بن نفاثة [ (3) ] .
وروى أبو القاسم البغوي، والبيهقي، وأبو نعيم، وابن عساكر عن شيبة بن عثمان- رضي الله عنه-: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قال يوم حنين: يا عبّاس ناولني من الحصباء قال:
وأفقه الله- تعالى- البغلة كلامه، فانخفضت به حتّى كاد بطنها يمسّ الأرض، فتناول رسول الله- صلى الله عليه وسلم من البطحاء فحثا في وجوههم وقال: «شاهت الوجوه، هم لا ينصرون»
[ (4) ] .
وروى عبد بن حميد في مسنده، والبخاري في تاريخه، والبيهقي وابن الجوزي عن يزيد بن عامر السّوائي- رضي الله عنه- وكان شهد حنينا مع المشركين ثم أسلم- قال: أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين قبضةً من الأرض، ثم أقبل على المشركين فرمى بها في وجوههم وقال: «ارجعوا، شاهت الوجوه» قال: فما من أحد يلقى أخاه إلّا وهو يشكو القذى في عينيه ويمسح عينيه
[ (5) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (5233) وأحمد 1/ 255، 84، 3/ 438، 5/ 286، 372، 3881 وانظر الدر المنثور 5/ 205.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 6/ 180، 182 والمتقي الهندي في الكنز (30211، 30221) .
[ (3) ] انظر المجمع 6/ 183.
[ (4) ] أخرجه ابن عساكر كما في التهذيب 6/ 351 والطبراني في الكبير 7/ 359، والمجمع 6/ 184 وأبو نعيم في الدلائل 1/ 61 والبيهقي في الدلائل 5/ 141.
[ (5) ] البخاري في التاريخ 8/ 316 والطبري في التفسير 10/ 73 وابن حجر في المطالب (4372) ، والمجمع 6/ 182 والسيوطي في الدر 3/ 226.(5/324)
وروى الإمام أحمد، والطبراني، والحاكم، وأبو نعيم، والبيهقيّ برجال ثقات عن ابن مسعود- رضي الله تعالى عنه- قال: كنت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين، فولّى النّاس عنه، وبقيت معه في ثمانين رجلا من المهاجرين والأنصار، فقمنا على أقدامنا ولم نولّهم الدّبر، وهم الذين أنزل الله- تعالى- عليهم السّكينة، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- على بغلته لم يمض قدما، فحادت به بغلته فمال عن السّرج، فقلت له ارتفع رفعك الله. فقال: «ناولني كفا من تراب» فناولته، فضرب وجوههم فامتلأت أعينهم ترابا، ثم قال: «أين المهاجرون والأنصار؟» قلت: هم أولاء، قال: «اهتف بهم» فهتفت بهم، فجاؤوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشّهب، وولّى المشركون أدبارهم
[ (1) ]
وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي عن أنس- رضي الله عنه- قال: جاءت هوازن يوم حنين بالنّساء والصّبيان والإبل والغنم فجعلوهم صفوفا، ليكثروا على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فالتقى المسلمون والمشركون، فولّى المسلمون مدبرين- كما قال الله تعالى- وبقي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحده فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله» ونادى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نداءين لم يخلط بينهما كلاما، فالتفت عن يمينه فقال: «يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله» فقالوا: «لبيك يا رسول الله، نحن معك» ثم التفت عن يساره فقال: يا معشر الأنصار أنا عبد الله ورسوله، فقالوا: لبيك يا رسول الله نحن معك فهزم الله تعالى المشركين، ولم يضرب بسيف، ولم يطعن برمح
[ (2) ] .
وروى ابن سعد وابن أبي شيبة، والبخاري، وابن مردويه، والبيهقي من طرق عن أبي إسحاق السّبيعي- رحمه الله تعالى- قال: جاء رجل من قيس إلى البراء بن عازب- رضي الله عنهما- فقال: أكنتم ولّيتم؟ وفي رواية: أولّيت؟ وفي أخرى: أوليتم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم؟
وفي أخرى: أفررتم يوم حنين يا أبا عمارة؟ فقال: أشهد على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أنّه ما ولّى، وفي رواية: لا والله ما ولى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين دبره، ولكنه خرج بشبّان أصحابه وهم حسّر ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا، فأقبل النّاس على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام كأنها رجل جراد لا يكادون يخطئون، وأقبلوا هناك إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء، وأبو سفيان بن الحارث يقود به،
فنزل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ودعا واستنفر، وقال- صلى الله عليه وسلم-: «أنا
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 1/ 453 والطبراني في الكبير 10/ 209 وانظر المجمع 6/ 84، 183 والحاكم 2/ 117.
[ (2) ] أخرجه أحمد 3/ 190، 279، 5/ 286، وابن سعد 2/ 1/ 113 وابن أبي شيبة 14/ 530، 531 والبيهقي في الدلائل 5/ 141 وفي السنن 6/ 306 والدولابي في الكنز 1/ 42 وانظر الدر المنثور 3/ 224.(5/325)
النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب، اللهمّ أنزل نصرك»
[ (1) ] .
قال البراء: وكنا إذا أحمرّ البأس نتّقي برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإن الشجاع منا الذي يحاذيه:
يعني النبي- صلى الله عليه وسلم.
وروى البخاري، ومسلم، والبيهقي عن سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه- قال: غزونا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حنينا. فلما واجهنا العدوّ تقدمت فأعلو ثنيّة فاستقبلني رجل من المشركين فأرميه، بسهم، وتوارى عنّي فما دريت ما صنع، ثم نظرت إلى القوم فإذا هم طلعوا من ثنيّة أخرى، فالتقوا هم وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فولّى أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأرجع منهزما. وعليّ بردتان مؤتزراً بإحداهما مرتدياً بالأخرى، فاستطلق إزاري، فجمعتهما جميعا، ومررت برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا منهزم- وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «لقد رأى ابن الأكوع فزعا» فلما غشوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نزل عن بغلته ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم إنه استقبل به وجوههم، وقال: شاهت الوجوه» فما خلّى الله تعالى منهم إنسانا إلّا ملأ عينيه ترابا من تلك القبضة، فولّوا مدبرين. وقسّم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- غنائمهم بين المسلمين
[ (2) ] .
وروى أبو الشيخ عن عكرمة- رحمه الله تعالى- قال: لما كان يوم حنين ولّى المسلمون، وثبت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «إنا محمد رسول الله» ثلاث مرات، وإلى جنبه عمّه العبّاس-
الحديث [ (3) ] .
وروى ابن سعد، والبخاري في التاريخ، والحاكم، والبيهقي عن عياض بن الحارث- رضي الله عنه- قال: أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كفا من حصباء فرمى بها وجوهنا فانهزمنا [ (4) ] .
وروى البخاري في التاريخ، والبيهقي في الدلائل عن عمرو بن سفيان- رضي الله عنه- قال: قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين قبضة من الحصباء فرمى بها وجوهنا فانهزمنا، فما خيّل إلينا إلا أنّ كلّ حجر وشجر فارس يطلبنا. وروى ابن عساكر عن الحارث بن زيد مثله [ (5) ] .
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد- برجال الصحيح- عن أنس بن مالك- رضي الله
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 622 (4317) ، ومسلم 3/ 1400 (78) والبيهقي في الدلائل 5/ 134.
[ (2) ] أخرجه مسلم 3/ 1402 (81) ، والبيهقي في الدلائل 5/ 140، 141، وانظر الدر المنثور 3/ 221.
[ (3) ] انظر الدر المنثور للسيوطي 3/ 225.
[ (4) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 142.
[ (5) ] المصدر السابق 50/ 143 وابن كثير في البداية 4/ 332.(5/326)
عنه- قال: كان من دعاء النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين: «اللهمّ إنّك إن تشاء لا تعبد بعد اليوم»
[ (1) ] .
وذكر محمد بن عمر- رحمه الله تعالى- قال: كان من دعاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين انكشف عنه النّاس ولم يبق معه إلّا المائة الصّابرة «اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان» فقال له جبريل: «لقد لقنت الكلمات الّتي لقّن الله- تعالى- موسى يوم فلق البحر، وكان البحر أمامه وفرعون خلفه»
[ (2) ] .
ذكر ما قيل أن الملائكة قاتلت يوم حنين والرعب الذي حصل للمشركين
روى ابن أبي حاتم عن السدي الكبير- رحمه الله تعالى- في قول الله عزّ وجلّ:
وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها قال: هم الملائكة وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة 26] قال:
قتلهم بالسيف. وروى أيضا عن سعيد بن جبير- رحمه الله تعالى- قال: في يوم حنين أمدّ الله- تعالى- رسوله- صلى الله عليه وسلّم- بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين، ويومئذ سمّى الله تعالى الأنصار مؤمنين قال: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين [ (3) ] .
وروى ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن جبير ابن مطعم- رضي الله عنه- قال: رأيت قبل هزيمة القوم- والناس يقتتلون- مثل البجاد الأسود أقبل من السماء حتى سقط بين القوم، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوت قد ملأ الوادي، لم أشكّ أنها الملائكة، ولم يكن إلا هزيمة القوم.
وروى محمد بن عمر عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن عن شيوخ من قومه من الأنصار، قالوا: رأينا يومئذ كالبجد السّود هوت من السماء ركاما، فنظرنا فإذا رمل مبثوت، فكنا ننفضه عن ثيابنا، فكان نصر الله- تعالى- أيّدنا به.
وروى مسدّد في مسنده، والبيهقي. وابن عساكر عن عبد الرحمن مولى أم برثن قال:
حدثني رجل كان من المشركين يوم حنين قال: لمّا التقينا نحن وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يقوموا لنا حلب شاة أن كببناهم، فبينما نحن نسوقهم في أدبارهم إذ التقينا بصاحب البغلة- وفي رواية- إذ غشينا، فإذا هو رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فتلقّتنا عنده، وفي رواية: إذا بيننا وبينه رجال بيض حسان الوجوه قالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا، فرجعنا- وكانت إيّاها [ (4) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد 3/ 152 وابن أبي شيبة 10/ 351، 14/ 522 وابن سعد 2/ 1/ 52، وهو عند مسلم 3/ 1363 (23/ 1743) .
[ (2) ] الطبراني في الصغير 1/ 122 وانظر المجمع 10/ 183، والترغيب والترهيب 2/ 618.
[ (3) ] انظر الدر المنثور 3/ 225.
[ (4) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 143 وابن كثير في التاريخ 4/ 332.(5/327)
وروى ابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر عن مصعب بن شيبة بن عثمان الحجبيّ عن أبيه- رضي الله عنه- قال: خرجت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين، والله ما خرجت إسلاما، ولكن خرجت أنفا أن تظهر هوازن على قريش، فإني لواقف مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذ قلت: يا رسول الله إني لأرى خيلا بلقا، قال: «يا شيبة إنه لا يراها إلا كافر» فضرب بيده في صدري وقال: «اللهم اهد شيبة» فعل ذلك ثلاث مرات- فو الله ما رفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الثالثة حتى ما كان أحد من خلق الله تعالى أحب إلي منه، فالتقى المسلمون فقتل من قتل، ثم أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وعمر آخذ باللّجام، والعبّاس آخذ بالثّغر، فنادى العباس: أين المهاجرون، أين أصحاب سورة البقرة- بصوت عال- هذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأقبل المسلمون والنبي- صلى الله عليه وسلم- يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطّلب» فجالدوهم بالسيوف، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «الآن حمي الوطيس» .
وروى عبد بن حميد، والبيهقي عن يزيد بن عامر السّوائي- رضي الله عنه- وكان حضر يومئذ، فسئل عن الرعب فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطّست فيطنّ فيقول: أن كنّا نجد في أجوافنا مثل هذا.
روى محمد بن عمر عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: حدثني عدّة من قومي شهدوا ذلك اليوم يقولون: «لقد رمى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلك الرّمية من الحصى فما منّا أحد إلّا يشكو القذى في عينيه، ولقد كنا نجد في صدورنا خفقانا كوقع الحصى في الطاس ما يهدأ ذلك الخفقان، ولقد رأينا يومئذ رجالا بيضا، على خيل بلق، عليهم عمائم حمر، قد أرخوها بين أكتافهم، بين السماء والأرض كتائب كتائب ما يليقون شيئا، ولا نستطيع أن نتأملهم من الرّعب منهم.
وروى أيضا عن ربيعة بن أبزي قال: حدّثني نفر من قومي، حضروا يومئذ قالوا: كمنّا لهم في المضايق والشعاب، ثمّ حملنا عليهم حملة، ركبنا أكتافهم حتى انتهينا إلى صاحب بغلة شهباء، وحوله رجال بيض حسان الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا. فانهزمنا، وركب المسلمون أكتافنا، وكانت إيّاها، وجعلنا نلتفت وإنا لننظر إليهم يكدّوننا فتفرّقت جماعتنا في كل وجه، وجعلت الرّعدة تستخفّنا حتى لحقنا بعلياء بلادنا، فإن كنا ليحكى عنا الكلام ما ندري به، لما كان بنا من الرّعب، وقذف الله- تعالى- الإسلام في قلوبنا.
وروى أيضا عن شيوخ من ثقيف أسلموا بعد ما كانوا حضروا ذلك اليوم قالوا: ما زال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في طلبنا- فيما نرى- ونحن مولّون حتى إن الرجل ليدخل منّا حصن الطائف وإنه ليظنّ أنه على أثره من رعب الهزيمة.(5/328)
ذكر من ثبت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين
روى البيهقي عن حارثة بن النعمان- رضي الله عنه- قال: لقد حزرت من بقي مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين أدبر الناس، فقلت: مائة واحد.
وروى ابن مردويه عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: لقد رأينا يوم بدر وإن الفئتين لموليتان، وما مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مائة رجل.
وروى الإمام أحمد، والحاكم، والطبراني، والبيهقي، وأبو نعيم، برجال ثقات عن ابن مسعود قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين فولّى النّاس وثبت معه ثمانون رجلاً من المهاجرين والأنصار، فنكصنا على أعقابنا نحوا من ثمانين قدما، ولم نولّهم الدّبر إلى آخره، وتقدم.
قال محمد بن عمر يقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لمّا انكشف النّاس عنه يوم حنين- قال لحارثة «يا حارثة، كم ترى النّاس الّذين ثبتوا» قال: فما التفتّ ورائي تحرّجا، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فحزرتهم مائة، فقلت: يا رسول الله!! هم مائة فما علمت أنهم مائة حتّى كان يوم مررت على النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يناجي جبريل عند باب المسجد، فقال جبريل: «يا محمد من هذا؟» قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «حارثة بن النعمان» فقال جبريل: هو أحد المائة الصّابرة يوم حنين، لو سلم لرددت عليه، فأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حارثة، قال: «ما كنت أظنه إلّا دحية الكلبي واقفا معك» .
وروى ابن أبي شيبة عن الحكم بن عتيبة- بلفظ تصغير عتبة الباب- رحمه الله تعالى- قال: لمّا فرّ النّاس يوم حنين عن النبي- صلى الله عليه وسلّم- جعل يقول:
«أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب»
فلم يبق معه إلا أربعة، ثلاثة من بني هاشم، ورجل من غيرهم، علي بن أبي طالب، والعبّاس وهما بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من جانبه الأيسر، قال: فليس يقبل أحد إلّا قتل، والمشركون حوله صرعى، فمن أهل بيته عمّه العبّاس، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطّلب، وأخوه ربيعة أبناء عم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- والفضل بن العباس، وعلي بن أبي طالب، وجعفر بن أبي سفيان بن الحارث وقثم بن العباس- قال في الزهر: وفيه نظر، لأن المؤرّخين قاطبة فيما أعلم عدّوه فيمن توفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو صغير، فكيف شهد حنينا!! وعتبة ومعتّب ابنا أبي لهب، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وأخوه لأمه أيمن بن أم أيمن، وقتل يومئذ، ومن المهاجرين: أبو بكر- رضي الله عنه- وعمر بن الخطاب- رضي الله عنه-(5/329)
وعثمان بن عفان- رضي الله عنه- روى البزار عن أنس- رضي الله عنه-: أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا- رضي الله تعالى عنهم- ضرب كل منهم يومئذ بضعة عشر ضربة- وابن مسعود- رضي الله عنه- ومن الأنصار: أبو دجانة، وحارثة بن النعمان- قد ذكر في ذلك عند محمد بن عمر- وسعد بن عبادة، وأبو بشير- كما في حديثه عند محمد بن عمر- وأسيد بن الحضير، ومن أهل مكة: شيبة بن عثمان الحجبيّ- كما تقدّم- ومن نساء الأنصار: أم سليم بنت ملحان أم أنس بن مالك، وأم عمارة نسيبة بنت كعب، وأم الحارث جدّة عمارة بن غزيّة- بفتح العين، وكسر الزّاي المعجمتين- وأمّ سليط بنت عبيد- قال محمد بن عمر: يقال إنّ المائة الصّابرة يومئذ ثلاثة وثلاثون من المهاجرين وستّة وستّون من الأنصار.
ذكر ثبات أم سليم بنت ملحان، وام عمارة
نسيبة- بفتح النون، وكسر السين المهملة، وسكون التّحتية، وبالموحّدة: بنت كعب- رضي الله تعالى عنها.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رأى أم سليم بنت ملحان، وكانت مع زوجها أبي طلحة، وهي حامل بعبد الله بن أبي طلحة، وقد خشيت أن يغرّ بها الجمل، فأدنت رأسه منها، وأدخلت يدها في خزامه [ (1) ] مع الخطام، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أم سليم» ؟ قالت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أقتل المنهزمين عنك كما تقتل الّذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل» فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أو يكفي الله يا أم سليم» .
وعند محمد بن عمر: «قد كفى الله تعالى عافية الله تعالى أوسع» .
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، ومسلم عن أنس- رضي الله عنه- قال: اتخذت أمّ سليم خنجرا أيام حنين، فكان معها، فلقي أبو طلحة أم سليم ومعها الخنجر، فقال أبو طلحة:
ما هذا؟ قالت: إن دنا منّي بعض المشركين أبعج به بطنه، فقال أبو طلحة: أما تسمع يا رسول الله ما تقول أم سليم؟ فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أقتل من يعدونا من الطّلقاء، انهزموا عنك فقال: «إن الله تعالى قد كفى وأحسن يا أم سليم»
[ (2) ] .
وروى محمد بن عمر عن عمارة بن غزيّة قال: قلت أم عمارة: لما كان يوم حنين والناس منهزمون في كل وجه، وكنّا أربع نسوة، وفي يدي سيف لي صارم، وأم سليم معها خنجر قد حزمته على وسطها، وإنّها يومئذ حامل بعبد الله بن أبي طلحة، وأم سليط، وأم الحارث.
__________
[ (1) ] الخزام بكسر الخاء المعجمة حلقة تصنع من شعر وتجعل في أنف البعير، انظر اللسان (خزم) .
[ (2) ] أخرجه مسلم في الجهاد (134) ، وابن أبي شيبة 14/ 532 وأحمد 3/ 279، والبيهقي في السنن 6/ 307. المغازي 3/ 904.(5/330)
قال شيوخ محمد بن عمر: فجعلت أمّ عمارة تصيح يا للأنصار: أية عادة هذه. مالكم والفرار؟! قالت: وأنظر إلى رجل من هوازن على جمل أورق معه لواء يوضع جمله في أثر المسلمين، فأعترض له فأضرب عرقوب الجمل. فيقع على عجزه وأشد عليه، ولم أزل أضربه حتّى أثبتّه، وأخذت سيفا له.
ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- قائم، مصلت السيف بيده، قد طرح غمده ينادي: «يا أصحاب سورة البقرة» فكرّ الأنصار،
ووقفت هوازن قدر حلب ناقة فتوح، ثم كانت إيّاها، فو الله ما رأيت هزيمة قط كانت مثلها، قد ذهبوا في كل وجه، فرجع إليّ أبنائي جميعا:
حبيب وعبد الله أبناء زيد بأسارى مكتّفين، فأقوم إليه من الغيظ فأضرب عنق واحد منهم، وجعل الناس يأتون بالأسارى فرأيت في بني مازن ابني النجار ثلاثين أسيرا، وكان المسلمون بلغ أقصى هزيمتهم مكة، ثم كرّوا بعد وتراجعوا، فأسهم لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- جميعا، وكانت أم الحارث الأنصارية آخذة بخطام جمل الحارث زوجها، وكان يسمى المجسار فقالت: يا حار أتترك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والنّاس يولّون منهزمين؟! وهي لا تفارقه، قالت: فمر علي عمر بن الخطاب فقلت: يا عمر ما هذا؟ قال: أمر الله تعالى [ (1) ] .
ذكر انهزام المشركين
قال محمد بن عمر- رحمه الله تعالى- لما نادى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الأنصار كرّوا راجعين فجعلوا يقولون: يا بني عبد الرحمن، يا بني عبد الله، يا بني عبيد الله، يا خيل الله.
وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قد سمّى خيله خيل الله، وجعل شعار المهاجرين: بني عبد الرحمن، وجعل شعار الأوس: بني عبيد الله، وشعار الخزرج: بني عبد الله.
روى محمد بن عمر عن محمد بن عبد الله بن أبي صعصعة: أن سعد بن عبادة جعل يصيح يومئذ: يا للخزرج ثلاثا، وأسيد بن الحضير يصيح: يا للأوس- ثلاثا فثابوا من كل ناحية كأنهم النحل تأوى إلى يعسوبها، قال أهل المغازي فحنق المسلمون على المشركين فقتلوهم حتّى أسرع القتل في ذراري المشركين. فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما بال أقوام بلغ بهم القتل حتى بلغ الذريّة! ألا لا تقتل الذرية، ألا لا تقتل الذرية» ثلاثا [ (2) ]- فقال أسيد بن الحضير: يا رسول الله، أليس إنّما هم أولاد المشركين؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أليس خياركم أولاد المشركين! كلّ نسمة تولد على الفطرة حتّى يعرب عنها لسانها، فأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها» .
قال محمد بن عمر: قال شيوخ ثقيف، ما زال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في طلبنا، فيما نرى
__________
[ (1) ] المغازي 3/ 904.
[ (2) ] المغازي 3/ 905.(5/331)
- ونحن مولّون حتى إن الرجل منّا ليدخل حصن الطّائف وإنه ليظن أنّه على أثره، من رعب الهزيمة.
قال أنس بن مالك كما رواه الإمام أحمد: كان في المشركين رجل يحمل علينا فيدقنا ويحطمنا فلما رأى ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نزل، فهزمهم الله- تعالى- فولّوا، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين رأى الفتح، فجعل يجاء بهم أسارى رجل رجل، فيبايعونه على الإسلام، فقال رجل من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن علي نذرا لئن جيء بالرّجل الذي كان منذ اليوم يحطمنا لأضربنّ عنقه فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجيء بالرجل فلما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: يا نبي الله تبت إلى الله، فأمسك رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- عن مبايعته ليوفي الآخذ بنذره، وجعل ينظر إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ليأمره بقتله، وهاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم الرجل لا يصنع شيئا بايعه، فقال: يا رسول الله نذري؟ قال: «لم أمسك عنه إلّا لتوفي بنذرك» فقال: يا رسول الله ألا أومأت إليّ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: إنه ليس لنبي أن يومئ.
قالوا: وهزم الله تعالى أعداءه من كل ناحية، واتبعهم المسلمون يقتلونهم، وغنّمهم الله- تعالى- نساءهم وذراريهم وأموالهم، وفرّ مالك بن عوف حتّى بلغ حصن الطّائف. هو وأناس من أشراف قومه، وأسلم عند ذلك ناس كثير من أهل مكة حين رأوا نصر الله- تعالى- رسوله وإعزاز دينه.
قال ابن إسحاق: ولما هزم الله تعالى المشركين من أهل حنين، وأمكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهم، قالت امرأة من المسلمين- رضي الله عنها- وعنهم:
قد غلبت خيل الله خيل اللّات ... والله أحقّ بالثّبات
ويروى: وخيله أحقّ بالثبات.
زاد محمد بن عمر:
إنّ لنا ماء حنين فخلّوه ... إن تشربوا منه فلن تعلوه
هذا رسول الله لن تغلوه
ورجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من جهة المشركين بعد انهزامهم إلى العسكر، وأمر أن يقتل كل من قدر عليه، وثاب من انهزم من المسلمين.
روى البزار بسند رجاله ثقات عن أنس- رضي الله عنه-: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال يوم حنين: «اجزروهم جزرا» وأومأ بيده إلى الحلق
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] انظر المجمع 6/ 182.(5/332)
قال محمد بن عمر: وذكر للنبي- صلى الله عليه وسلم- إن رجلا كان بحنين قاتل قتالا شديدا، حتّى اشتدّت به الجراح، قال: «أنه من أهل النار» فارتاب بعض الناس من ذلك، ووقع في قلوب بعضهم ما الله تعالى به أعلم، فلما آذته جراحته، أخذ مشقصا من كنانته فانتحر به، فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بلالا أن ينادي: ألا لا يدخل الجنة إلّا مؤمن، أن الله- تعالى- يؤيد هذا الدين بالرّجل الفاجر»
[ (1) ] .
قال محمد بن عمر: وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بطلب العدوّ وقال لخيله إن قدرتم على «بجاد» رجل من بني سعد بن بكر فلا يفلتن منكم، وقد كان أحدث حدثا عظيما، كان قد أتاه رجل مسلم فأخذه فقطعه عضوا عضوا ثم حرّقه بالنار، وكان قد عرف جرمه فهرب فأخذته الخيل فضموه إلى الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى، أخت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الرّضاعة، وأتعبوها في السّياق، فتعبت الشّيماء بتعبهم، فجعلت تقول: إنّي والله أخت صاحبكم، فلا يصدّقونها، وأخذها طائفة من الأنصار، وكانوا أشد النّاس على هوازن- فأتوا بها إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا محمد!! إني أختك. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «وما علامة ذلك؟ فأرته عضّة بإبهامها، وقالت: عضة عضضتنيها وأنا متورّكتك بوادي السرر ونحن يومئذ نرعى البهم، وأبوك أبي، وأمك أمي، وقد نازعتك الثّدى، وتذكّر يا رسول الله حلابي لك عنز أبيك أطلان، فعرف رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- العلامة، فوثب قائما، فبسط رداءه، ثم قال: «اجلسي عليه» ورحّبّ بها، ودمعت عيناه، وسألها عن أمّه وأبيه، فأخبرته بموتهما فقال: «إن أحببت فأقيمي عندنا محبّبة مكرّمة، وإن أحببت أن ترجعي إلى قومك وصلتك ورجعت إلى قومك» [ (2) ] قالت: بل أرجع إلى قومي، فأسلمت، فأعطاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة أعبد وجارية وأمر لها ببعير أو بعيرين وقال لها: «ارجعي إلى الجعرانة تكونين مع قومك، فأنا أمضي إلى الطائف» فرجعت إلى الجعرانة، ووافاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالجعرانة فأعطاها نعما وشاء، ولمن بقي من أهل بيتها، وكلمته في بجاد أن يهبه لها ويعفو عنه ففعل- صلى الله عليه وسلّم.
ذكر قتل دريد بن الصمة
قال ابن إسحاق، ومحمد بن عمر، وغيرهما: لما هزم الله- تعالى- هوازن أتوا للطّائف ومعهم مالك بن عوف، وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجّه بعضهم نحو نخلة بنو عيرة من ثقيف، فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- خيلا تتبع من سلك نخلة ولم تتبع من سلك الثّنايا، وأدرك ربيعة بن رفيع بن أهبان بن ثعلبة من بني سليم دريد بن الصّمة، فأخذ بخطام جمله، وهو يظن
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 917.
[ (2) ] المغازي للواقدي 3/ 913.(5/333)
أنّه امرأة، وذلك أنه في شجار له، فإذا هو رجل، فأناخ به وهو شيخ كبير، ابن ستين ومائة سنة، فإذا هو دريد ولا يعرفه الغلام، فقال له دريد: ما تريد؟ قال: أقتلك. قال: وما تريد إلى المرتعش الكبير الفاني؟ قال الفتى: ما أريد إلّا ذاك، قال له دريد: من أنت؟ قال: أنا ربيعة بن رفيع السّلمي، قال: فضربه فلم يغن شيئا، فقال دريد: بئس ما سلحتك أمك، خذ سيفي من وراء الرحل في الشجار، فاضرب به وارفع عن العظم واخفض عن الدماغ، فإني كذلك كنت أقتل الرّجال، ثم إذا أتيت أمّك فأخبرها أنّك قتلت دريد بن الصّمّة، فربّ يوم قد منعت فيه نساءك.
فزعمت بنو سليم أنّ ربيعة لما ضربه فوقع تكشف للموت فإذا عجانه وبطون فخذيه مثل القرطاس من ركوب الخيل، فلمّا رجع ربيعة إلى أمه أخبرها بقتله إيّاه، قالت: والله لقد أعتق أمّهات لك ثلاثا في غداة واحدة، وجزّ ناصية أبيك، فقال الفتى: لم أشعر.
ووقف مالك بن عوف على ثنيّة من الثّنايا، وشبّان أصحابه، فقال: قفوا حتى يمضي ضعفاؤكم وتلتئم إخوانكم. فبصر بهم الزبير بن العوام- رضي الله عنه- فحمل عليهم حتى أهبطهم من الثنيّة، وهرب مالك بن عوف، فتحصن في قصر بليّة، ويقال دخل حصن ثقيف [ (1) ] .
ذكر من استشهد بحنين
أيمن بن عبيد الله بن زيد الخزرجي وابن أم أيمن، وسراقة بن الحارث الأنصاري، ورقيم بن ثابت بن ثعلبة بن زيد بن لوذان، وأبو عامر الأشعري أصيب بأوطاس، كما سيأتي في السرايا، ويزيد بن زمعة بن الأسود جمح به فرس يقال له الجناح فقتل. واستحرّ القتل من ثقيف في بني مالك، فقتل منهم سبعون رجلا تحت رايتهم، فيهم عثمان بن عبد الله بن الحارث، وكانت رايتهم مع ذي الخمار، فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله، فقاتل حتى قتل،
ولمّا بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قتله، قال: «أبعده الله، فإنّه كان يبغض قريشا
[ (2) ] .
وروى البيهقي عن عبد الله بن الحارث عن أبيه قال: قتل من أهل الطّائف يوم حنين مثل من قتل يوم بدر.
ذكر عيادته- صلّى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد رضي الله عنه- من جرح أصابه
وروى عبد الرزاق، وابن عساكر عن عبد الرحمن بن أزهر- رضي الله عنه- قال: كان
__________
[ (1) ] المغازي 3/ 914- 915.
[ (2) ] عبد الرزاق (19904) وابن أبي عاصم 2/ 638 وابن سعد 5/ 380، وابن أبي شيبة 12/ 173، والعقيلي في الضعفاء 4/ 350.(5/334)
خالد بن الوليد جرح يوم حنين، وكان على خيل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجرح يومئذ، فلقد رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد ما هزم الله تعالى الكفار، ورجع المسلمون إلى رحالهم- يمشي في المسلمين ويقول: «من يدلني على رحل خالد بن الوليد؟» فأتي بشارب فأمر من عنده فضربوه بما كان في أيديهم، وحثا عليه التّراب [ (1) ] .
قال عبد الرحمن: فمشيت، أو قال: سعيت بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا غلام محتلم، أقول: من يدل على رحل خالد، حتى دللنا عليه، فإذا خالد مستند إلى موخّرة رحله، فأتاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فنظر إلى جرحه، فتفل فيه فبرأ- رضي الله تعالى عنه-.
ذكر بركة يده- صلى الله عليه وسلم- في برء جرح عائذ بن عمرو- رضي الله عنه
روى الحاكم، وأبو نعيم، وابن عساكر عن عائذ بن عمرو- رضي الله عنه- قال:
أصابتني رمية يوم حنين في جبهتي، فسال الدم على وجهي وصدري، فسلت النبي- صلى الله عليه وسلم- الدم بيده عن وجهي وصدري إلى ثندؤتي، ثم دعا لي. قال حشرج والد عبد الله: فرأينا أثر يد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى منتهى ما مسح من صدره، فإذا غرّة سابلة كغرّة الفرس.
ذكر بركة يده- صلى الله عليه وسلم- في الماء بحنين
روى أبو نعيم عن سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه- قال: غزونا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- هوازن فأصابنا جهد شديد، فدعا بنطفة من ماء في إداوة، فأمر بها فصبت في قدح فجعلنا نطّهّر به حتّى تطهّرنا جميعا.
ذكر نهيه- صلّى الله عليه وسلم- عن قتل النساء يوم حنين
روى الإمام أحمد، وأبو داود عن رباح بن ربيع- رضي الله عنه- أنه خرج مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمرّ رباح وأصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على امرأة مقتولة مما أصابت المقدّمة، فوقفوا ينظرون إليها، يعني ويعجبون من خلقها- حتّى لحقهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على راحلته، فانفرجوا عنها. فوقف عليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما كانت هذه لتقاتل» فقال لأحدهم: «الحق خالدا وقل له لا تقتل ذرّيّة ولا عسيفا
[ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 88، 351، والحميدي (897) والبيهقي في الدلائل 5/ 140.
[ (2) ] أخرجه أحمد 3/ 488 وأبو داود 2/ 50 في الجهاد وابن ماجة (2842) والحاكم 2/ 122، والطبراني في الكبير 5/ 70 والطحاوي في المعاني 3/ 222.(5/335)
ذكر قوله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين أنا ابن العواتك
روى الطبراني عن سيابة بن عاصم السلمي- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال يوم حنين: «أنا ابن العواتك»
[ (1) ] .
ذكر قوله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين من قتل كافرا فله سلبه
روى ابن شيبة، والإمام أحمد، وابن حبان عن أنس- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من قتل قتيلا فله سلبه»
قال: فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا وأخذ أسلابهم.
وقال أبو قتادة: يا رسول الله إني ضربت رجلا على حبل عاتقه، وعليه درع فأجهضت عنه فانظر في أخذها، فقام رجل قال محمد بن عمر: اسمه أسود بن خزاعي الأسلمي، حليف بني سلمة- كذا قال وفي الصحيح كما سيأتي: أنه قرشي، فقال: يا رسول الله: أنا أخذتها فأرضه منها وأعطينها، قال: وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يسأل شيئاً إلا أعطاه، أو سكت، فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: والله لا يغنها الله تعالى علي أسد من أسد الله- تعالى- ويعطيكها، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم: «صدق عمر»
[ (2) ] .
وروى الشيخان، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة عن أبي قتادة الحارث بن ربعي- رضي الله تعالى عنه- قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة. فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلا من المسلمين. وفي رواية نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين وآخر من المشركين يختله فضربته من ورائه على حبل عاتقه بالسيف فقطعت الدّرع، وأقبل عليّ فضمّني ضمّة، وجدت منها ريح الموت، ثمّ أدركه الموت، فأرسلني، فلحقت-
وفي رواية- فلقيت عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- في النّاس الّذين لم يهزموا، فقلت: ما بال النّاس؟ قال: أمر الله تعالى، فرجعوا وجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال: «من قتل قتيلا له عليه بيّنة فله سلبه» فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثمّ جلست، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مثله. فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثمّ جلست، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مثله، فقال: «مالك يا أبا قتادة؟» فأخبرته
[ (3) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 7/ 201، وانظر المجمع 8/ 219 والبيهقي في الدلائل 5/ 135 وسعيد بن منصور (2840، 2841) وابن عساكر كما في التهذيب 1/ 289.
[ (2) ] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (3973) وأحمد 1/ 245 وابن أبي شيبة 2/ 125، 14/ 531 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (1671) والبيهقي 6/ 306 والطبراني في الكبير 12/ 216 والصغير 1/ 124.
[ (3) ] أخرجه البخاري 7/ 630 (4321) ومسلم 3/ 1370 (41/ 1751) ، وأبو داود في الجهاد باب (146) ، والبيهقي في السنن 6/ 306 والدلائل 5/ 148 والشافعي في المسند (223) ، ومالك في الموطأ (454) .(5/336)
وذكر محمد بن عمر: إن عبد الله بن أنيس شهد له فقال رجل: صدق سلبه عندي فأرضه مني- أو قال منّيه- فقال أبو بكر: لا ها الله إذا، لا تعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله- تعالى- ورسوله فيعطيك سلبه! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم: «صدق فأعطه إياه» فأعطانيه،
وعند محمد بن عمر فقال لي حاطب بن أبي بلتعة: يا أبا قتادة، أتبيع السلاح؟ فبعته بسبع أواق، فابتعت به مخرفا، وفي رواية: خرافا في بني سلمة، فإنّه لأول مال تأثّلته، وفي رواية:
اعتقبته- في الإسلام، زاد محمد بن عمر يقال له الرّديني قال في البداية في الرواية السابقة عن أنس: أن عمر قال ذلك، وهو مستغرب، والمشهور أن قائل ذلك أبو بكر كما في حديث أبي قتادة، وقال الحافظ: الراجح أن الذي قال ذلك أبو بكر كما رواه أبو قتادة، وهو صاحب القصة، فهو أتقن لما وقع فيها من غيره، قالا: فلعل عمر قال ذلك متابعة لأبي بكر ومساعدة له، وموافقة، فاشتبه على الراوي.
قال العلماء: لو لم يكن من فضيلة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- إلّا هذا لكفى فإنّه بثاقب علمه، وشدّة صرامته، وقوّة إنصافه، وصحّة توفيقه، وصدق تحقيقه بادر إلى القول بالحقّ، فزجر، وأفتى، وحكم، وأمضى، وأخبر في الشّريعة عن المصطفى بحضرته وبين يديه، وبما صدّقه فيه وأجراه على قوله.
وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع- رضي الله عنه- قال: غزونا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- هوازن فبينما نحن نتضحى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إذ جاء رجل على جمل أحمر، فأناخه، ثم انتزع طلقا من حقبه فقيّد به الجمل، ثم تقدم فتغدّى مع القوم وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقّة من الظهر، وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد فأتى الجمل فأطلق قيده، ثم أناخه ثم قعد عليه فاشتد به الجمل واتبعه رجل من أسلم من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على ناقة ورقاء، وفي رواية: أتى عين من المشركين إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في سفر، فجلس عند أصحابه يتحدث. انتهى. ثم انفتل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «اطلبوه واقتلوه» قال سلمة:
وخرجت أشتدّ فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتّى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدّمت حتّى أخذت بخطام الجمل، فأنخته، فلمّا وضع ركبته على الأرض، اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر، ثمّ جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والناس معه، فقال: «من قتل الرجل» ؟ قالوا: ابن الأكوع، قال: «له سلبه أجمع»
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في الجهاد (3051) ، وأحمد 4/ 51 وأبو داود (2653) ، والطبراني في الكبير 7/ 29 والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 6، 147، 306، والطحاوي في المشكل 4/ 140.(5/337)
ذكر جمع غنائم حنين
لما انهزم القوم أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم بالغنائم أن تجمع، ونادى مناديه: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يغّل، وجعل الناس غنائمهم في موضع حيث استعمل عليها رسول الله- صلى الله عليه وسلّم.
وروى الحاكم بسند صحيح عن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال: أخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين وبرة من بعير، ثم قال: «يا أيها الناس، إنه لا يحل لي مما أفاء الله- تعالى- عليكم قدر هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدّوا الخيط والمخيط، وإيّاكم والغلول فإنّه عار على أهله يوم القيامة»
وذكر الحديث [ (1) ] .
وكان عقيل بن أبي طالب دخل على زوجته وسيفه ملطّخ بدم، فقالت: إنّي علمت أنّك قاتلت اليوم المشركين، فماذا أصبت من غنائمهم؟ فقال: هذه الإبرة، تخيطين بها ثيابك، فدفعها إليها، ثم خرج فسمع منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: من أصاب شيئا من المغنم فليردّه، فرجع عقيل إلى امرأته وقال: والله ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت منك، فأخذها فألقاها في المغانم.
وجاء رجل بكبّة من شعر فقال: يا رسول الله أضرب بهذه برذعة لي: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك»
[ (2) ] .
وأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الناس يوم حنين في قبائلهم يدعوهم وأنه ترك قبيلة من القبائل وجدوا في برذعة رجل منهم عقدا من جزع غلولا، فأتاهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فكبّر عليهم، كما يكبّر على الميت.
وأصاب المسلمون يومئذ السّبايا، فكانوا يكرهون أن يقعوا عليهنّ ولهنّ أزواج فسألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، فانزل الله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء 24] وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ: «لا توطأ حامل من السّبي حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض»
[ (3) ] .
ولمّا جمعت الغنائم أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أن تنحدر إلى الجعرانة، فوقف بها إلى أن انصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- من حصار الطائف.
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 49 والبيهقي 6/ 303 والنسائي 7/ 131 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (1693) .
[ (2) ] أخرجه احمد 2/ 184، 218 والنسائي 6/ 263.
[ (3) ] أخرجه أبو داود (2157) واحمد 3/ 62 والحاكم 2/ 95 والبيهقي في السنن الكبرى 5/ 359، 7/ 449، 9/ 124، والدارمي 2/ 171 وانظر نصب الراية 3/ 233.(5/338)
قال ابن سعد وتبعه في العيون: كان السّبي ستة آلاف رأس، والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم أكثر من أربعين «ألف شاة، وأربعة آلاف أوقية فضة.
وروى الطبراني عن بديل- بموحدة مضمومة فدال مهملة فتحتية ساكنة فلام، بن ورقاء- رضي الله تعالى عنه-: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر أن تحبس السّبايا والأموال بالجعرانة حتّى يقدم فحبست [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: وجعل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- على الغنائم مسعود بن عمرو الغفاري، وروى عبد الرزاق عن سعيد بن المسيّب قال: سبى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يومئذ ستّة آلاف سبي بين امرأة وغلام، فجعل عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أبا سفيان بن حرب. وقال البلاذري:
بديل بن ورقاء الخزاعي- والله تعالى أعلم.
ذكر صلاته- صلى الله عليه وسلّم- الظهر بحنين وحكومته بين عيينة بن حصن والأقرع بن حابس في دم عامر بن الأضبط الأشجعي الذي قتله محلم بن جثامة
كما سيأتي
في نقل محمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الظهر يوما بحنين ثم تنحّى إلى شجرة فجلس إليها، فقام إليه عيينة بن حصن يطلب بدم عامر بن الأضبط الأشجعي وهو يومئذ سيد قيس ومعه الأقرع بن حابس يدفع عن محلم بن جثامة لمكانه من خندف فاختصما بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وعيينة يقول: يا رسول الله، والله لا أدعه حتى أدخل على نسائه من الحرب والحزن ما أدخل على نسائي، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «تأخذ الدّية؟» فأبى عيينة حتّى ارتفعت الأصوات وكثر اللّغط، إلى أن قام رجل من بني ليث يقال له مكيتل- قصير مجتمع عليه شكّة كاملة ودرقة في يده فقال: يا رسول الله، إني لم أجد لما فعل هذا شبها في غرّة الإسلام إلا غنما وردت فرمي أوّلها فنفر آخرها. فاسنن اليوم وغيره غدا فرفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده وقال تقبلون الدّية خمسين في فورنا هذا، وخمسين إذا رجعنا إلى المدينة» فلم يزل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بالقوم حتّى قبلوا الدّية
وفي رواية: فقام الأقرع ابن حابس فقال: يا معشر قريش، سألكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قتيلا تتركونه ليصلح به بين الناس فمنعتموه إياه، أفأمنتم أن يغضب عليكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم فيغضب الله- تعالى عليكم- لغضبه، أو يلعنكم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيلعنكم الله تعالى بلعنته، والله لتسلمنه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أولا يأتين بخمسين من بني
__________
[ (1) ] الطبراني في الكبير والأوسط والبزار قال الهيثمي 6/ 189 لم يسم ابن بديل وبقية رجاله ثقات.(5/339)
ليث كلهم يشهدون أنّ القتيل ما جلّي قط فلأبطلن دمه. فلما قال ذلك قبلوها. ومحلّم القاتل في طرف الناس، فلم يزالوا يؤزونه ويقولون: ائت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يستغفر لك، فقام محلم وهو رجل ضرب طويل آدم. محمر بالحناء عليه حلّة قد كان تهيأ فيها للقتل للقصاص،
فجلس بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعيناه تدمعان، فقال: يا رسول الله، قد كان من الأمر الذي بلغك وإني أتوب إلى الله، فاستغفر لي، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «ما اسمك» قال: أنا محلم بن جثامة. فقال «أقتلته بسلاحك في غرّة الإسلام؟! اللهم لا تغفر لمحلّم» بصوت عال ينفذ به الناس، قال فعاد محلّم فقال: يا رسول الله، قد كان الّذي بلغك، وإني أتوب إلى الله فاستغفر لي، فعاد رسول الله- صلى الله عليه وسلم لمقالته بصوت عال، ينفذ به النّاس «اللهمّ لا تغفر لمحلّم بن جثامة» حتّى كانت الثالثة، فعاد رسول الله- صلى الله عليه وسلم لمقالته، ثم قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم «قم من بين يدي» فقام من بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يتلقّى دمعه بفضل ردائه،
فكان ضمرة السلمي يحدث- وقد كان حضر ذلك اليوم- قال: كنا نتحدث فيما بيننا إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حرّك شفتيه بالاستغفار له، ولكنه أراد أن يعلم الناس قدر الدمّ عند الله تعالى [ (1) ] .
ذكر البشير الذي قدم المدينة بهزيمة هوازن
روى محمد بن عمر عن داود بن الحصين قال: كان بشير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أهل المدينة بفتح الله- تعالى- عليه وهزيمة هوازن، نهيك بن أوس الأشهلي، فخرج في ذلك اليوم ممسيا، فأخذ في أوطاس حتّى خرج على غمرة، فإذا الناس يقولون هزم محمد هزيمة لم يهزم هزيمة مثلها قط، وظهر مالك بن عوف على عسكره، قال: فقلت الباطل يقولون، والله لقد ظفّر الله- تعالى- رسوله- صلى الله عليه وسلّم وغنّمه نساءهم وأبناءهم، قال: فلم أزل أطأ الخبر حتى انقطع بمعدن بني سليم أو قريبا منها، فقدمت المدينة وقد سرت من أوّل أوطاس ثلاث ليال وما كنت أمسي على راحلتي أكثر مما كنت أركبها فلما انتهيت إلى المصلّى ناديت: أبشروا يا معشر المسلمين بسلامة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ولقد ظفّره الله- تعالى- بهوازن، وأوقع بهم، فسبى نساءهم، وغنم أموالهم، وتركت الغنائم في يديه تجمع، فاجتمع النّاس يحمدون الله- تعالى- علي سلامة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ثم انتهيت إلى بيوت أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم- فأخبرتهن، فحمدن الله- تعالى- علي ذلك.
قال وكانت الهزيمة الأولى التي هزم المسلمون ذهبت في كل وجه حتى أكذب الله- تعالى- حديثهم.
__________
[ (1) ] انظر المغازي 3/ 920.(5/340)
ذكر ما أنزل الله تبارك وتعالى في شأن هذه الغزوة
قال الله عز وجل يذكّر المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ [التوبة 25] للحرب «كثيرة» كبدر وقريظة والنّضير (و) اذكر «يَوْمَ حُنَيْنٍ» واد بين مكة والطّائف، أي يوم قتالكم فيه هوازن، وذلك في شوال سنة ثمان «إذ» بدل من يوم، (أعجبتكم كثرتكم) - فقلتم: لن نغلب اليوم من قلّة، وكانوا اثني عشر ألفا، والكفار أربعة آلاف- كذا جزم به غير واحد، وجزم الحافظ وغيره بأنّهم كانوا ضعف عدد المسلمين، وأكثر من ذلك كما سيأتي، فعلى هذا كان المشركون أربعة وعشرين ألفا، (فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) ما مصدرية أي مع رحبها أي سعتها. فلم تجدوا مكانا تطمئنون إليه لشدّة ما لحقكم من الخوف «ثمّ ولّيتم مدبرين» منهزمين وثبت النبي- صلى الله عليه وسلم- على بغلته البيضاء، وليس معه غير العباس، وأبو سفيان آخذ بركابه، (ثمّ أنزل الله سكينته) طمأنينته (على رسوله وعلى المؤمنين) فردوا إلى النبي لما ناداهم العباس بإذنه وقاتلوا (وأنزل جنودا لم تروها) ملائكة (وعذّب الّذين كفروا) بالقتل والأسر (وذلك جزاء الكافرين. ثمّ يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء) منهم بالإسلام (والله غفور رحيم) .
ذكر ما قيل في هذه الغزوة من الشعر
قال عباس بن مرداس السّلمي يذكر قارب بن الأسود وفرازه من بني أبيه وذا الخمار وحبسه قومه للموت.
ألا من مبلغ غيلان عنّي ... وسوف إخال يأتيه الخبير
وعروة إنّما أهدى جوابا ... وقولا غير قولكما يسير
بأنّ محمّدا عبدا رسول ... لربّ لا يضلّ ولا يجوز
وجدناه نبيا مثل موسى ... فكلّ فتى يخايره مخير
وبئس الأمر أمر بني قسيّ ... بوجّ إذا تقسمت الأمور
أضاعوا أمرهم ولكلّ قوم ... أمير والدّوائر قد تدور
فجئنا أسد غابات إليهم ... جنود الله ضاحية تسير
تؤمّ الجمع جمع بني قسيّ ... على حنق نكاد له نطير
وأقسم لو همو مكثوا لسرنا ... إليهم بالجنود ولم يغوروا
فكنّا أسد ليّة ثمّ حتّى ... أبحناها وأسلمت النّصور
ويوم كان قبل لدى حنين ... فأقلع والدّماء به تمور
من الأيّام لم تسمع كيوم ... ولم يسمع به قوم ذكور(5/341)
قتلنا في الغبار بني حطيط ... على راياتها والخيل زور
ولم تك ذو الخمار رئيس قوم ... لهم عقل يعاقب أو نكير
أقام بهم على سنن المنايا ... وقد بانت لمبصرها الأمور
فأفلت من نجا منهم جريضا ... وقتّل منهم بشر كثير
ولا يغني الأمور أخو التّواني ... ولا الغلق الصّريّرة الحصور
أمانهم وحان وملّكوه ... أمورهم وأفلتت الصّقور
بنو عوف تميج بهم جياد ... أهين لها الفصافص والشّعير
فلولا قارب وبنو أبيه ... تقسّمت المزارع والقصور
ولكنّ الرّياسة عمّموها ... على يمن أشار به المشير
أطاعوا قاربا ولهم جدود ... وأحلام إلى عزّ تصير
فإن يهدوا إلى الإسلام يلفوا ... أنوف النّاس ما سمر السّمير
وإن لم يسلموا فهم أذان ... بحرب الله ليس لهم نصير
كما حكّت بني سعد وحرب ... برهط بني غزيّة عنقفير
كأنّ بني معاوية بن بكر ... إلى الإسلام ضائنة تخور
فقلنا أسلموا إنّا أخوكم ... وقد برئت من التّرة الصّدور
كأنّ القوم إذ جاءوا إلينا ... من البغضاء بعد السّلم عور
وقال بجير بن زهير بن أبي سلمى:
لولا الإله وعبده ولّيتم ... حين استخفّ الرّعب كلّ جبان
بالجزع يوم حيالنا أقراننا ... وسوابح يكبون للأذقان
من بين ساع ثوبه في كفّه ... ومقطّر بسنابك ولبان
والله أكرمنا وأظهر ديننا ... وأعزّنا بعبادة الرّحمن
والله أهلكهم وفرّق شملهم ... وأذلّهم بعبادة الشّيطان
«قال ابن هشام ويروي فيها بعض الرّواة» .
إذ قام عمّ نبيّكم ووليّه ... يدعون يا لكتيبة الإيمان
أين الّذين هم أجابوا ربّهم ... يوم العريض وبيعة الرّضوان
«وقال عباس بن مرداس:
فإنّي والسّوابح يوم جمع ... وما يتلوا الرّسول من الكتاب
لقد أحببت ما لقيت ثقيف ... بجنب الشّعب أمس من العذاب(5/342)
هم رأس العدوّ من أهل نجد ... فقتلهم ألذّ من الشّراب
هزمنا الجمع جمع بني قسيّ ... وحكّت بركها ببني رئاب
وصرما من هلال غادرتهم ... بأوطاس تعفّر في التّراب
ولولا قين جمع بني كلاب ... لقام نساؤهم والنّقع كابي
ركضنا الخيل فيهم بين بسّ ... إلى الأوراد تنحط بالذهاب
بذي لجب رسول الله فيهم ... كتيبته تعرّض للضّراب
«وقال عباس بن مرداس أيضا» :
يا خاتم النّبّاء إنّك مرسل ... بالحقّ كلّ هدى السّبيل هداكا
إنّ الإله بنى عليك محبّة ... في خلقه ومحمّدا سمّاكا
إنّ الّذين وفوا بما عاهدتهم ... جند بعثت عليهم الضّحّاكا
رجلا به درب السّلاح كأنّه ... لمّا تكنّفه العدوّ يراكا
يغشى ذوي النّسب القريب وإنّما ... يبغي رضي الرّحمن ثمّ رضاكا
أنبيك إني قد رأيت مكرّه ... تحت العجاجة يدمغ الإشراكا
طولا يعانق باليدين وتارة ... يقري الجماجم صارما بتّاكا
[يغشى به هام الكماة ولو ترى ... منه الّذي عاينت كان شفاكا]
وبنو سليم معنقون أمامه ... ضربا وطعنا في العدوّ دراكا
يمشون تحت لوائه وكأنّهم ... أسد العرين أردن ثمّ عراكا
ما يرتجون من القريب قرابة ... إلّا بطاعة ربّهم وهواكا
هذي مشاهدنا الّتي كانت لنا ... معروفة ووليّنا مولاكا
«وقال عباس بن مرداس أيضا» :
عفا مجدل من أهله فمتالع ... فمطلى أريك قد خلا فالمصانع
ديار لنا يا جمل إذ جلّ عيشنا ... رخيّ وصرف الدّهر للحيّ جامع
حبيبة ألوت بها غربة النّوى ... لتبن فهل ماض من العيش راجع
فإن تبتغي الكفّار غير ملومة ... فإنّي وزير للنّبيّ وتابع
دعانا إليه خير وفد علمتهم ... خزيمة والمرّار منهم وواسع
فجئنا بألف من سليم عليهم ... لبوس لهم من نسج داود رائع
نبايعه بالأخشبين وإنّما ... يد الله بين الأخشبين نبايع
فجسنا مع المهديّ مكّة عنوة ... بأسيافنا والنّقع كاب وساطع(5/343)
علانية والخيل يغشى متونها ... حميم وآن من دم الجوف ناقع
ويوم حنين حين سارت هوازن ... إلينا وضاقت بالنّفوس الأضالع
صبرنا مع الضّحّاك لا يستفزّنا ... قراع الأعادي منهم والوقائع
أمام رسول الله يخفق فوقنا ... لواء كخذروف السّحابة لامع
عشيّة ضحّاك بن سفيان معتص ... بسيف رسول الله والموت كانع
نذود أخانا عن أخينا ولو نرى ... مصالا لكنّا الأقربين نتابع
ولكنّ دين الله دين محمّد ... رضينا به فيه الهدى والشّرائع
أقام به بعد الضلالة أمرنا ... وليس لأمر حمّه الله دافع
«وقال عباس بن مرداس أيضا» :
ما بال عينك فيها عائر سهر ... مثل الحماطة أغضى فوقها الشّفر
عين تأوّبها من شجوها أرق ... فالماء يغمرها طورا وينحدر
كأنّه نظم درّ عند ناظمة ... تقطّع السّلك منه فهو منبتر
يا بعد منزل من ترجو مودّته ... ومن أتى دونه الصّمّان فالحفر
دع ما تقدم من عهد الشّباب فقد ... ولّى الشّباب وزار الشّيب والزّعر
واذكر بلاء سليم في مواطنها ... وفي سليم لأهل الفخر مفتخر
قوم همو نصروا الرّحمن واتّبعوا ... دين الرّسول وأمر النّاس مشتجر
لا يغرسون فسيل النّخل وسطهم ... ولا تحاور في مشتاهم البقر
إلّا سوابح كالعقبان مقربة ... في دارة حولها الأخطار والعكر
تدعى كفاف وعوف في جوانبها ... وحيّ ذكوان لا ميل ولا ضجر
الضّاربون جنود الشّرك ضاحية ... ببطن مكّة والأرواح تبتدر
حتّى رفعنا وقتلاهم كأنّهم ... نخل بظاهرة البطحاء منقعر
ونحن يوم حنين كان مشهدنا ... للدّين عزا وعند الله مدّخر
إذ ركب الموت مخضرا بطائنه ... والخيل ينجاب عنها ساطع كدر
تحت اللّواء مع الضّحّاك يقدمنا ... كما مشى اللّيث في غاباته الخدر
في مأذق من مجرّ الحرب كلكلها ... تكاد تأفل منه الشّمس والقمر
وقد صبرنا بأوطاس أسنّتنا ... لله تنصر من شئنا وننتصر
حتّى تأوّب أقوام منازلهم ... لولا المليك ولولا نحن ما صدروا
فما ترى معشرا قلّوا ولا كثروا ... إلّا قد أصبح منّا فيهم أثر(5/344)
وقال عباس بن مرداس أيضا:
يا أيّها الرّحل الّذي تهوي به ... وجناء مجمرة المناسم عرمس
إمّا أتيت على النّبيّ فقل له ... حقا عليك إذا اطمأنّ المجلس
يا خير من ركب المطيّ ومن مشى ... فوق التّراب إذا تعدّ الأنفس
إنّا وفينا بالّذي عاهدتنا ... والخيل تقدع بالكماة وتضرس
إذ سال من أفناء بهثة كلّها ... جمع تظلّ به المخارم ترجس
حتّى صبحنا أهل مكّة فيلقا ... شهباء يقدمها الهمام الأشوس
من كلّ أغلب من سليم فوقه ... بيضاء محكمة الدّخال وقونس
يروي القناة إذا تجاسر في الوغى ... وتخاله أسدا إذا ما يعبس
يغشى الكتيبة معلما وبكفّه ... عضب يقدّ به ولدن مدعس
وعلى حنين قد وفى من جمعنا ... ألف أمدّ بها الرّسول عرندس
كانوا أمام المسلمين دريئة ... والشّمس يومئذ عليهم أشمس
نمضي ويحرسنا الإله بحفظه ... والله ليس بضائع من يحرس
ولقد حبسنا بالمناقب محبسا ... رضي الإله به فنعم المحبس
وغداة أوطاس شددنا شدّة ... كفت العدوّ وقيل منها: يا احبسوا
تدعو هوازن بالإخاوة بيننا ... ثدي تمدّ به هوازن أيبس
حتّى تركنا جمعهم وكأنّه ... عير تعاقبه السّباع مفرّس
وقال عباس بن مرداس أيضا:
نصرنا رسول الله من غضب له ... بألف كميّ لا تعدّ حواسره
حملنا له في عامل الرّمح راية ... يزود بها في حومة الموت ناصره
ونحن خضبناها دما فهو لونها ... غداة حنين يوم صفوان شاجره
وكنّا على الإسلام ميمنة له ... وكان لنا عقد اللّواء وشاهرة
وكنّا له دون الجنود بطانة ... يشاورنا في أمره ونشاوره
دعانا فسمّانا الشّعار مقدّما ... وكنّا له عونا على من يناكره
جزى الله خيراً من نبيّ محمّدا ... وأيّده بالنّصر والله ناصره
«وقال عباس بن مرداس أيضا» :
من مبلغ الأقوام أن محمدا ... رسول الإله راشد حيث يمّما
دعا ربّه واستنصر الله وحده ... فأصبح قد وفّى إليه وأنعما(5/345)
سرينا وواعدنا قديدا محمّدا ... يؤم بنا أمرا من الله محكما
تمادوا بنا في الفجر حتّى تبيّنوا ... مع الفجر فتيانا وغابا مقوّما
على الخيل مشدودا علينا دروعنا ... ورجلا كدفّاع الأتيّ عرمرما
فإنّ سراة الحيّ إن كنت سائلا ... سليم وفيهم منهم من تسلّما
وجند من الأنصار لا يخذولونه ... أطاعوا فما يعصونه ما تكلّما
فإن تك قد أمّرت في القوم خالدا ... وقدّمته فإنّه قد تقدّما
بجند هداه الله أنت أميره ... تصيب به في الحق من كان أظلما
حلفت يمينا برّة لمحمّد ... فأكملتها ألفا من الخيل ملجما
وقال نبيّ المؤمنين تقدّموا ... وحبّ إلينا أن تكون المقدّما
وبتنا بنهي المستدير ولم تكن ... بنا الخوف إلّا رغبة وتحزّما
أطعناك حتّى أسلم النّاس كلّهم ... وحتّى صبحنا الجمع أهل يلملما
يضلّ الحصان الأبلق الورد وسطه ... ولا يطمئنّ الشّيخ حتّى يسوّما
لدن غدوة حتّى تركنا عشيّة ... حنينا وقد سالت دوامعه دما
سمونا لهم ورد القطا زفّة ضحى ... وكلّ تراه عن أخيه قد أحجما
إذا شئت من كلّ رأيت طمرّة ... وفارسها يهوي ورمحا محطّما
وقد أحرزت منّا هوازن سربها ... وحبّ إليها أن نخيب ونحرما
تنبيهات
الأول: قال أهل المغازي: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إلى حنين لستّ خلت من شوال، وقيل: لليلتين بقيتا من رمضان، وجمع بعضهم بأنه بدأ بالخروج من أواخر رمضان، وسار سادس شوّال، وكان وصوله إليها في عاشره.
قال في زاد المعاد: كان الله- تعالى- قد دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو الصّادق الوعد أنه إذا فتح مكّة دخل الناس في دينه أفواجا، ودانت له العرب بأسرها، فلمّا تمّ له الفتح المبين، اقتضت حكمة الله- تعالى- أن أمسك قلوب هوازن ومن تبعها عن الإسلام وأن يتجمّعوا ويتأهبوا لحرب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ليظهر أمر الله- سبحانه وتعالى- وتمام إعزازه، لرسوله- صلى الله عليه وسلّم- ونصره لدينه، ولتكون غنائمهم شكرا لأهل الفتح، ليظهر الله ورسوله وعباده وقهره لهذه الشوكة العظيمة التي لم يلق المسلمون مثلها، فلا يقاومهم بعد أحد من العرب. ويتبين ذلك من الحكم الباهرة التي تلوح للمتأملين واقتضت حكمته(5/346)
- تعالى- أن أذاق المسلمين أولا مرارة الهزيمة والكبوة مع كثرة عددهم وعددهم وقوّة شوكتهم ليطأ من رؤوس رفعت بالفتح ولم تدخل بلده وحرمه كما دخله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- واضعا رأسه منحنيا على فرسه، حتّى إنّ ذقنه تكاد أن تمسّ سرجه تواضعا لربه تبارك وتعالى، وخضوعا لعظمته، واستكانة لعزته أن أحلّ له حرمة بلده، ولم يحله لأحد قبله، ولا لأحد بعده، وليبيّن عزّ وجلّ لمن قال: لن نغلب اليوم من قلّة أن النّصر إنما هو من عنده، وأنه من ينصره فلا غالب له، ومن يخذله فلا ناصر له غيره، وأنه- تعالى- هو الذي تولّى نصر رسوله ودينه لا كثرتكم التي أعجبتكم، فإنها لم تغن عنكم شيئا فولّيتم مدبرين فلما انكسرت قلوبهم أرسلت إليها خلع الجبر مع مزيد ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [التوبة 26] وقد اقتضت حكمته- تبارك وتعالى- أن خِلع النّصر وجوائزه إنما تفضى على أهل الانكسار وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ [القصص 5، 6] .
الثاني: وافتتح الله- سبحانه وتعالى- غزو العرب بغزوة بدر، وختم غزوهم بغزوة حنين، ولهذا يقرن هاتين الغزاتين بالذكر فيقال «بدر وحنين» وإن كان بينهما سبع سنين والملائكة قاتلت بأنفسها مع المسلمين بهاتين الغزاتين، والنبي- صلى الله عليه وسلم رمى وجوه المشركين بالحصا فيهما، وبهاتين الغزاتين طفئت جمرة العرب لغزو رسول الله- صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فالأولى خوفتهم وكسرت من حدتهم. والثّانية: استفرغت قواهم، واستنفدت سهامهم، وأذلت جمعهم، حتّى لم يجدوا بدا من الدّخول في دين الله- تعالى- وجبر الله تبارك وتعالى أهل مكّة بهذه الغزوة، وفرّحهم بما نالوا من النّصر والمغنم، فكانت كالدّواء لما نالهم من كسرهم، وإن كان عين جبرهم وقهرهم تمام نعمته عليهم بما صرفه عنهم من شرّ من كان يجاورهم من أشراف العرب من هوازن وثقيف، بما أوقع بهم من الكسرة، وبما قيّض لهم من دخولهم في الإسلام، ولولا ذلك ما كان أهل مكّة يطيقون مقاومة تلك القبائل مع شدّتها. ومن تمام التوكّل استعمال الأسباب التي نصبها الله سبحانه وتعالى لمسبباتها قدرا وشرعا فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أكمل الخلق توكّلا، فقد دخل مكّة والبيضة على رأسه، ولبس يوم حنين درعين، وقد أنزل الله- سبحانه وتعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 67] وكثير ممن لا تحقيق عنده يستشكل هذا ويتكايس في الجواب، تارة بأنّ هذا فعله- صلى الله عليه وسلم- تعليما لأمّته، وتارة بأنّ هذا كان قبل نزول الآية!! لو تأمل أن ضمان الله- سبحانه وتعالى- له العصمة لا ينافي تعاطيه لأسبابها فإنّ هذا الضمان له من ربه- تبارك وتعالى- لا ينافي احتراسه من الناس ولا ينافيه، كما أن إخبار الله- عز وجل- له بأنه يظهره على الدين كله ويعليه، لا يناقض أمره(5/347)
بالقتال، وإعداد العدة والقوّة، ورباط الخيل، والأخذ بالجدّ والحذر، والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب، والتورية، فكان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها، وذلك لأنه إخبار من الله- تعالى- عن عاقبة حاله وماله فما يتعاطاه من الأسباب التي جعلها الله- تعالى- بحكمته موجبة لما وعده به من النّصر والظّفر، وإظهار دينه وغلبته عدوّه انتهى.
الثالث: اختلف العلماء في العارية هل تضمن إذا تلفت، فقال الشافعي وغيره يضمن، وقال أبو حنيفة وغيره: لا يضمن، وفي بعض طرق الحديث «بل عارية مضمونة، وقد اختلفوا في هذا القيد وهو مضمونة، أنه صفة موضحة أو مقيّدة، فمن قال بالأول قال: تضمن، ومن قال مقيدة قال: لا إلا بشرط، قاله في النّور.
الرابع: تضمّن قول السّائل للبراء في الرواية الثانية أولّيتم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وفي الثالثة أفررتم مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وقول البراء رضي الله عنه- فأشهد على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إنه لم يولّ، وقوله في الرّواية الثانية «لكنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يقر إثبات الفرار، لكن لا على طريق التعميم، وأراد أنّ إطلاق السّائل يشمل الجميع حتّى النبي- صلى الله عليه وسلّم- بظاهر الرّواية الثانية، ويمكن الجمع بين الثّانية والثّالثة بحمل المعية على ما قبل الهزيمة فبادر إلى استثنائه، ثم أوضح ذلك وختم حديثه بأنه لم يكن أحد يومئذ أشد من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويحتمل أن البراء فهم أنّ السائل اشتبه عليه حديث سلمة بن الأكوع، ومررت برسول الله- صلى الله عليه وسلم- منهزما، فلذلك حلف البراء إن النبي- صلى الله عليه وسلم- لم يولّ، ودلّ ذلك على أن منهزما حال من سلمة، ولهذا وقع في طريق أخرى «ومررت على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- منهزما وهو على بغلته» فقال: لقد رأى ابن الأكوع فزعا، ويحتمل أن يكون السائل أخذ العموم من قوله تعالى: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ [التوبة 25] فبيّن البراء أنه من العموم الذي أريد به الخصوص.
الخامس: يجمع بين قول أنس- رضي الله عنه-: بقي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحده وبين الأخبار الدّالة أنه بقي معه جماعة بأن المراد بقي وحده متقدما مقبلا على العدو، والذين ثبتوا كانوا وراءه، أو الوحدة بالنسبة لمباشرة القتال، وأبو سفيان بن الحارث وغيره كانوا يخدمونه في إمساك البغلة، ونحو ذلك.
السادس: لا تخالف بين قول ابن عمر، لم يبق مع النبي- صلى الله عليه وسلم- مائة رجل، وبين قول ابن مسعود، ثبت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ثمانون من المهاجرين والأنصار فإن ابن عمر نفى أن يكونوا مائة، وابن مسعود أثبت أنهم كانوا ثمانين.
وذكر النووي أن الذين ثبتوا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- اثنا عشر رجلا، ووقع في شعر(5/348)
العباس بن عبد المطلب- رضي الله عنه- أن الذين ثبتوا معه كانوا عشرة فقط، وذلك لقوله:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة ... وقد فرّ من قد فرّ عنه فأقشعوا
وعاشرنا لاقى الحمام بنفسه ... لما مسّه في الله لا يتوجّع
قال الحافظ: ولعل هذا هو الأثبت، ومن زاد على ذلك يكون عجل في الرجوع فعدّ فيمن لم ينهزم.
السابع: البغلة البيضاء: وفي مسلم عن سلمة بن الأكوع الشهباء التي كان عليها يومئذ أهداها له فروة- بفتح الفاء، وسكون الراء، وفتح الواو، وبالهاء ابن نفاثة بنون مضمومة ففاء مخففة فألف فثاء مثلثة، ووقع في بعض الروايات عند مسلم فروة بن نعامة بالعين والميم، والصحيح المعروف الأول، ووقع عند ابن سعد وتبعه جماعة ممن ألف في المغازي أنه- صلّى الله عليه وسلم- كان على بغلته دلدل، وفيه نظر، لأن دلدل أهداها له المقوقس. قال القطب: ويحتمل أن يكون النبي- صلى الله عليه وسلّم- ركب يومئذ كلّا من البغلتين، وإلّا فما في الصّحيح أصح.
الثامن: قال العلماء: ركوبه- صلى الله عليه وسلّم- البغلة يومئذ دلالة على النهاية في الشجاعة والثبات، لأن ركوب الفحولة مظنّة الاستعداد للفرار والتولّى، وإذا كان رأس الجيش قد وطّن نفسه على عدم الفرار والأخذ بأسباب ذلك كان ذلك أدعى لاتباعه.
التاسع: وقع في الصحيح حديث البراء وأبو سفيان ابن عمه يقود به، وفي حديث العباس أنه كان آخذا بلجام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأبو سفيان آخذ بركابه، ويجمع بأن أبا سفيان كان آخذا أولا بزمام البغلة، فلما ركضها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى جهة الكفار خشي العبّاس وأخذ بلجام البغلة يكفّها، وأخذ أبو سفيان بالركاب وترك اللّجام للعباس إجلالا له لأنه كان عمه.
العاشر: وقع في حديث ابن عبد الرحمن الفهري- رضي الله عنه- أن رسول- صلى الله عليه وسلم- اقتحم عن فرسه «فأخذ كفا من تراب» انتهى قلت: وهي رواية شاذة، والصحيح أنه- صلى الله عليه وسلم- كان حينئذ على بغلة.
الحادي عشر: في
قوله- صلى الله عليه وسلم- «أنا النبي لا كذب»
إشارة إلى صفة النّبوة يستحيل معها الكذب، وكأنه- صلى الله عليه وسلم- قال: لأنا النبي، والنبي لا يكذب، فلست بكاذب فيما أقول حتى أنهزم، وأنا متيقن أنّ الذي وعدني به الله من النصر حق فلا يجوز عليّ الفرار، وقيل معنى قول «لا كذب» أي أنا النبي حقا لا كذب في ذلك.
الثاني عشر:
قوله- صلى الله عليه وسلم- أنا النبي لا كذب»
بسكون الموحّدة من كذب وهذا وإن وقع موزونا لا يسمّى شعرا لأنه غير مقصود كما سيأتي بسط ذلك في الخصائص.(5/349)
الثالث عشر: انتسب- صلى الله عليه وسلّم- إلى عبد المطلب دون أبيه عبد الله لشهرة عبد المطّلب بين النّاس لما رزق من نباهة الذّكر وطول العمر، بخلاف عبد الله فإنه مات شابا ولهذا كان كثير من العرب يدعونه ابن عبد المطلب كما في حديث حماد في الصحيح وقيل لأنه كان اشتهر بين الناس أنه يخرج من ذرية عبد المطلب. رجل يدعو إلى الله ويهدي الله- تعالى- الخلق على يديه، ويكون خاتم الأنبياء، فانتسب ليتذكر ذلك من كان يعرفه، وقد اشتهر ذلك بينهم، وذكره سيف بن ذي يزن قديما لعبد المطلب قبل أن يتزوج عبد الله آمنة وأراد- صلى الله عليه وسلّم- تنبيه أصحابه بأنه لا بد من ظهوره، وإن العاقبة له لتقوى قلوبهم إذا عرفوا أنه- صلى الله عليه وسلم- ثابت غير منهزم.
الرابع عشر: في إشهاره- صلى الله عليه وسلم- نفسه الكريمة في الحرب غاية الشجاعة وعدم المبالاة بالعدو.
الخامس عشر: في تقدمة- صلى الله عليه وسلّم- قبل الكفار نهاية الشجاعة، وفي نزوله- صلى الله عليه وسلم- عن البغلة حين غشوة مبالغة في الثّبات والشّجاعة والصبر، وقيل: فعل ذلك مواساة لمن كان نازلا على الأرض من المسلمين.
السادس عشر: في حديث سلمة بن الأكوع وغيره «إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- نزل عن البغلة ثم قبض قبضة من تراب» إلخ.
وفي حديث ابن مسعود أن رسول- صلى الله عليه وسلم- قال له حين انهزم أصحابه «ناولني كفا من تراب» فناوله،
وفي حديث ابن عباس عن البراء أن عليا ناول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التّراب فرمى به في وجوه الكفّار، والجمع بين ذلك إن النبي- صلى الله عليه وسلم- أولا قال لصاحبه «ناولني» فناوله، فرماهم، ثم نزل عن البغلة فأخذ بيده فرماهم أيضا، فيحتمل أن الحصى في إحدى المرتين وفي الأخرى التّراب، وأن كلا ممن ذكر ناوله.
السابع عشر: في رميه- صلى الله عليه وسلّم- الكفار، وقوله: «انهزموا وربّ الكعبة» إلخ، معجزتان ظاهرتان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- إحداهما فعليّة، والأخرى خبرية، فإنه- صلى الله عليه وسلم- أخبر بهزيمتهم ورماهم بالحصى فولوا مدبرين. وفي رواية استقبل وجوههم فقال «شاهت الوجوه» . وهنا أيضا معجزتان فعلية وخبرية.
الثامن عشر: في قول العباس: فو الله لكأن في عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها. إلخ دليل أنّ فرارهم لم يكن بعيدا.
التاسع عشر: في عقر علي- رضي الله عنه- بعير حامل راية الكفّار دليل على جواز عقر فرس العدو ومركوبه إذا كان ذلك عونا على قتله.
العشرون: في انتظار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقسم غنائم هوازن إسلامهم جواز انتظار(5/350)
الإمام بقسم الغنائم إسلام الكفار ودخولهم في الطاعة فيه وردّه عليهم غنائمهم ومتاعهم.
الحادي والعشرون: اتفقوا على أنه لا يقبل قول من ادّعى السّلب إلّا ببيّنة تشهد له.
ونقل ابن عطيّة عن أكثر الفقهاء أنّ البيّنة هنا شاهد واحد يكتفي به.
الثاني والعشرون: قال في العيون أخذا من الرّوض فرار من كان معه- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين قد أعقبه رجوعهم إليه بسرعة وقتالهم معه حتى كان الفتح، وفي ذلك نزل وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة 25: 27] كما قال فيمن تولّى يوم أحد (ولقد عفى الله عنهم) أن اختلف الحال في الوقعتين. وقال الحافظ:
العذر لمن انهزم من غير المؤلفة أن العدوّ كانوا ضعفهم في العدد وأكثر من ذلك، وكذا جزم في النور بأنّ هوازن كانوا أضعاف الذين كانوا معه- صلى الله عليه وسلّم.
الثالث والعشرون: في بيان غريب ما سبق:
حنين- بحاء مهملة ونون مصغر: واد إلى جنب ذي المجاز قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا، قال أبو عبيد البكري سمي باسم حنين بن قانية بن مهلائيل.
والأغلب عليه التذكير، لأنّه اسم ماء. وربما أنثته العرب، لأنه اسم للبقعة. فسمّيت الغزوة باسم مكانها.
هوازن- بفتح الهاء وكسر الزّاي، قبيلة كبيرة من العرب، فيها عدة بطون، وهي:
هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة- بخاء معجمة فصاد مهملة ففاء مفتوحتان- بن قيس عيلان- بعين مهملة، بن إلياس بن مضر أبو الزّناد- بكسر الزّاي، وبالنّون، وبالدّال المهملة.
ثقيف- بثاء مثّلثة بوزن أمير: اسمه قسيّ- بفتح القاف وكسر السين المهملة وتشديد الياء- بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة- بفتح الخاء المعجمة، والصّاد المهملة، وبالفاء- ابن قيس عيلان.
أشفقوا: خافوا.
لا ناهية له: أي نهي: أي مانع.
حشدوا: اجتمعوا.
أجمعوا أمرا: أي عزموا عليه.
نصر- بفتح النون، وسكون الصاد المهملة، وبالراء: اسم قبيلة.
جشم- بضم الجيم وفتح الشين المعجمة: لا ينصرف للعلمية والعدل عن جاشم: أبو قبيلة كبيرة، وهو معاوية بن بكر بن هوازن بن قيس عيلان- بفتح المهملة، لقب قيس باسم عبد كان يملكه، وقيل باسم فرس له(5/351)
كعب وكلاب بن أبي براء- بفتح الموحدة وتخفيف الراء وبالمد. وحكى القصر.
ناوأه: عاداه.
دريد- بضم الدال المهملة، وفتح الرّاء، وسكون التحتية وبالدال المهملة.
الصّمة- بكسر الصاد المهملة، وتشديد الميم- واسمه، الحارث بن بكر أو ابن الحارث بن بكر بن علقمة بن معاوية بن بكر هوازن الجشمي- بضم الجيم وفتح الشين- من بني محرب- بكسر الميم وإسكان الحاء المهملة ثم راء مفتوحة ثم موحدة يقال رجل محرب- بكسر الميم: صاحب حروب أوطأ العرب: علاهم وقهرهم.
أجلى يهود: أخرجهم.
الذّل- بضم الذال المعجمة: الضعف والهوان.
الصّغار- بفتح الصاد المهملة: الضيم.
يومك هذا له ما بعده.
طوى عنه الخبر: كتمه.
الظّعن- بضمّ الظاء المعجمة المشالة، والعين المهملة.
أوطاس- بفتح أوله وسكون الواو وبالطاء والسين المهملتين: واد في ديار هوازن، والصحيح أنه غير وادي حنين، وسيأتي بيان ذلك في السّرايا.
عسكر- موضع كذا: جمع عسكره به.
الأمداد: جمع مدد بفتحتين، وهو الجيش.
الشّجار- بكسر الشين المعجمة وبالجيم والراء: مركب مكشوف دون الهودج. ويقال له شجر أيضا.
مجال الخيل- بفتح الميم، وبالجيم المخففة، وباللّام.
الحزن- بفتح الحاء المهملة، وسكون الزّاي، وبالنّون: ما غلظ من الأرض الضّرس- بكسر الضاد المعجمة، وسكون الراء، وبالسين المهملة: الأكمة الخشنة، وفي الإملاء: هو الموضع فيه حجارة محدّده.
السهل: ضد الحزن.
دهس- بفتح الدال المهملة، والهاء، وبالسّين المهملة. والدهاس مثل اللّيث واللّباث:(5/352)
المكان السّهل اللّيّن الذي لا يبلغ أن يكون رملا وليس هو بتراب. ولا طين، وفي الإملاء: ليّن كثير التراب.
رغاء الإبل- بضم الراء وبالغين المعجمة والمد: صوتها.
نهاق الحمير بضم النون وتخفيف الهاء وبالقاف: صوتها.
بعار الشّاء- بضمّ التّحتية وبالعين المهملة المخففة وبالراء: صوتها.
خوار البقر- بضم الخاء المعجمة، وبالواو والراء: صوتها.
ولم- بفتح الميم: على الاستفهام.
فأنقض به- بفتح الهمزة، وسكون النون، وفتح القاف، وبالضّاد المعجمة السّاقطة قال في الروض: صوّت بلسانه من فيه، من النقيض وهو الصّوت، وقيل: الإنقاض بالإصبع الوسطى والإبهام كأنه يدفع بهما شيئا، وفي الإملاء، أي زجره كما تزجر الدابة، والإنقاض للدابة أن تلصق لسانك بحنكك الأعلى وتصوت به.
راعي ضأن: يجهّله بذلك.
فضح- بالبناء للمفعول.
البيضة هنا- الجماعة، وبيضة الثانية بالجر بدلا من الأولى.
عليا- بضم العين المهملة مقصور.
ممتنع- بضم الميم الأولى، وسكون الثّانية وفتح الفوقية، وكسر النون وبالعين المهملة.
الصّبّاء- بضم الصاد المهملة، وتشديد الموحدة، قال في الإملاء: جمع صابئ، وهم المسلمون عندهم كانوا يسمونهم بهذا الاسم لأنهم صبئوا من دينهم أي خرجوا وقال في النور: أي الّذين يشتهون الحرب ويميلون إليها، ويحبون التّقدّم فيها والبراز: قاله في النهاية.
المتون- جمع متن: الظّهر.
بين أضعاف الخيل: بين أثنائها أو متقدمة دريئة.
ألفاك ذلك- بالفاء أي وجدك أو صادفك.
كبر عقلك- بكسر الموحدة: يشير إلي إنه قد خرف.
الجذع- بفتح الجيم، والذال المعجمة، وبالعين: ما قبل الثّنى، والجمع جذعان وجذاع مثل جبل وجبال، والأنثى جذعة، والجمع جذعات- بضم الجيم وكسرها: أي يا ليتني في هذه الحرب جذع، أي شاب.(5/353)
الخبب: ضرب من السّير وهو خطو فسيح دون العنق.
الوضع: ضرب من السّير وهو الإسراع، قال الفراء: هو مثل الخبب.
الوطفاء بفتح الواو وبطاء مهملة ساكنة وبالفاء والمد: الطويلة الشعر.
الزّمع- بفتح الزّاي، والميم، وبالعين المهملة: الشعر الذي فوق مربط قيد الدّابة، يريد فرسا صفتها كذا، وهو محمود في وصف الخيل.
الشّاة- هنا الوعل- بفتح الواو، وكسر العين المهملة، وتسكّن، وباللام: ذكر الأروى وهي الشّاة الجبلية والجمع: وعول مثل: فلس وفلوس، والأنثى: وعلة- بكسر العين، وسكونها، والجمع: وعال، مثل كلبة وكلاب.
صدع- بفتح الصّاد، والدّال، وبالعين المهملات: وصف للوعل، وهو الوسط منها، وليس بالعظيم ولا الصّغير، ولكنّه وعل بين الوعلين.
الحدّ- بفتح الحاء وبالدال المهملة: المنع.
الجد- بجيم مكسورة: الشّجاعة والجرأة.
يوم علاء- بفتح العين المهملة وبالمد- الرفعة، وإنّما عطفها عليه لاختلاف اللفظ.
ذانك: تثنية ذا اسم إشارة.
الجذعان: تثنية جذع، يريد أنّهما ضعيفان في الحرب بمنزلة الجذع في سنه الكمين: الجيش المستخفي في مكمن- بفتح الميمين- بحيث لا يفطن به ثم ينهض على العدوّ وعلى غفلة منهم، وجمعه كمناء، كأمير وأمراء، يقال كمن كمونا، من باب قعد قعودا: توالى واستخفى.
كرّ- بفتح الكاف والراء المشددة: رجع.
الحملة لك: الغلبة.
لم يفلت- بضمّ التحتية وسكون الفاء.
مقدمة الجيش- بكسر الدال وقد تفتح: الجماعة تتقدمه.
بنو سليم: بالتصغير.
ينحّى يعدل به.
السّنن- بفتح السين المهملة والنون الأولى: الطريق.(5/354)
شرح غريب استعماله- صلّى الله عليه وسلّم- عتابا، واستعارته من صفوان بن أمية أدرعا، وبعثه عبد الله بن أبي حدرد، وخروجه للقاء هوازن
عتّاب- بفتح العين المهملة، والفوقية المشددة، وبالموحدة.
أسيد- بالسّين والدّال المهملتين وزن أمير.
أجمع السّير: عزم عليه.
ذكر له: بالبناء للمفعول.
أعرنا- بفتح أوله.
أبو حدرد- بمهملات كجعفر، واسمه سلامة بن عمير.
الخباء- بكسر الخاء المعجمة ككتاب: واحد الأخبية من وبر أو صوف، ولا يكون من شعر، وهو على عمودين أو ثلاثة، وما فوق ذلك فهو بيت.
الأغمار- بفتح أوله، وبالغين المعجمة: جمع غمر بضمتين وتسكن الميم: وهو الرّجل الّذي لم يجرّب الأمور.
الجفون- بضم الجيم: جمع جفن- بفتح الجيم، وهو هنا غلافة السّيف، وقد يجمع على أجفان.
الخيف- بفتح الخاء المعجمة، وسكون التحتية وبالفاء، وهو في الأصل المنحدر من غلظ الجبل، قد ارتفع من مسيل الماء، فليس شرفا ولا حضيضا.
كنانة- بكسر الكاف، وبنونين مخفّفا.
تقاسموا: تحالفوا وتعاهدوا جهينة- بالجيم: مصغّر.
مزينة: مصغر، بالزّاي والنّون.
أسلم بهمزة مفتوحة، فسين مهملة ساكنة، فلام مفتوحة، فميم غفار- بكسر الغين المعجمة وبالفاء.
أشجع- بفتح أوله، وبالشّين المعجمة، والعين المهملة: الجميع أسماء قبائل.
الطّلقاء- بضم الطاء المهملة، وفتح اللام: الذين أسلموا يوم فتح مكة من أهلها ممّن غلبهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأطلقهم أو خلّى سبيلهم دنا: قرب.(5/355)
بدأ بكذا: قدمه.
كبت الله عدوّك: أخزاه وأذلّه وصرفه وغاظه وأهلكه.
لم يغادر: لم يترك.
النّظّار- بضم النون: جمع ناظر.
الصّدمة- بفتح الصاد المهملة.
أوقر بعيره: حمّله.
ذات أنواط: شجرة عظيمة قرب مكة، كانت الجاهلية تأتيها كل سنة تعظمها وتعلّق عليها سلاحها ويذبح عندها. يقال ناط الشّيء ينوطه نوطا علّقه، وكل ما علّق من شيء فهو نوط- بفتح النّون، والجمع: أنواط، وهي المعاليق.
يعكفون عليها: يلزمونها ويواظبون على خدمتها.
الحذو- بفتح الحاء المهملة، وسكون الذال المعجمة.
القدر- بفتح القاف، وسكون الدال.
القذّة بالقذة- بكسر القاف فيها أخص من القدّ: وهو سير يقدّ من جلد غير مدبوغ.
أطنبوا السّير: بالغوا فيه.
عن بكرة أبيهم- بفتح الموحدة، وسكون الكاف: هذه كلمة للعرب يريدون بها الكثرة وتوفّر العدد، وأنهم جاءوا جميعا لم يتخلف منهم أحد، وليس هناك بكرة في الحقيقة، وهي الّتي يستقى عليها الماء، فاستعيرت في هذا الموضع.
أبو مرثد- بفتح الميم، وسكون الرّاء، وبفتح الثّاء المثلّثة، وبالدّال المهملة.
نغرّن- بضم النون وفتح الغين المعجمة والراء المشددة.
قبلك- بكسر القاف، وفتح الموحدة، واللّام: أي من جهتك.
ثوّب بالصّلاة: التّثويب هنا إقامة الصّلاة، والأصل في التثويب أن يجيء الرّجل مستصرخا فيلوح بثوبه ليرى ويشتهر، فسمّي الدّعاء تثويبا لذلك، وكلّ داع مثوّب، وقيل إنما سمي تثويبا من ثاب يثوب إذا رجع، فهو رجوع- إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة، فإن المؤذّن إذا قال حي على الصلاة، فقد دعاهم إليها، فإذا قال بعده: الصّلاة خير من النّوم فقد رجع إلى كلام معناه المبادرة إليها.
خلال الشّجر: أي الفرج بينها.(5/356)
أوجبت: أي عملت موجبا للجنّة.
التّبيان: البيان.
سليم- بضم السين المهملة، وفتح اللام، وسكون التحتية.
غسّان- بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة، قال النّوويّ: المسموع في كتب [أهل] الحديث ورواياتهم غير منصرف وذكره ابن فارس في باب غسن، وهذا تصريح بأنه يجوز صرفه.
العضادة- بكسر العين المهملة، وبالضّاد المعجمة: جانب الشيء.
الأجربان: سماهم بذلك تشبيها بالأجرب الذي يغرّب.
عبس- بفتح المهملة وسكون الموحدة: بطن من غطفان ومن الأزد بن مراد.
ذبيان- بضم الذال المعجمة وكسرها من زبيت شفته أي ذبلت من العطش، وهو إذا فعلان ينصرف للعلمية والزيادة «شمر سيفك» أدخله في غمده «عيون المشركين» جمع عين وهو الجاسوس، يقال جسّ الأخبار وتجسسها تتبعها لأنه يتبع الأخبار ويفحص عن بواطن الأمور، ثم استعير لنظر العين «تفرقت أوصالهم» : أي مفاصلهم جمع وصل بالكسر، وهو كل عظم على حدة لا يكسر ولا يخلط به غيره «الذعر» بضم الذال المعجمة: الخوف.
لم يثنه الأمر: لم يرده.
واد أجوف: متسع.
خطوط- بخاء مفتوحة فطاء مضمومة، فواو ساكنة فطاء أخرى مهملات منحدر، أوعز إليه بالعين المهملة والزّاي: تقدم إليه.
ربيع بن أنس بلفظ اسم الشهرة.
بنو شيبان- بفتح الشين المعجمة، وسكون التّحتية، وبالموحّدة، والنون: هو شيبان بن ذهل، قبيلة من بكر بن وائل.
فصل من مكّة: خرج.
حزام- بالزّاي والد حكيم، وكذا كل مكي قرشي، وحرام بالراء في الأنصار.
شرح غريب ذكر كيفية الوقعة
مضايق- جمع مضيق.
عماية الصبح- بفتح العين المهملة وتخفيف الميم: بقية ظلمته.(5/357)
شعابه- جمع شعب: وهو ما انفرج بين الجبلين.
أجنابه: جوانبه.
راعنا: أفزعنا.
الكتائب- بالفوقية جمع كتيبة: وهي الطائفة المجتمعة من الجيش شدوا علينا: حملوا يقتلوننا.
سواد العسكر: ما يشتمل عليه من الدّواب والمضارب وغيرهما.
الغبش- بفتح الغين المعجمة، وسكون الموحدة، وبالمعجمة: ظلامه.
إن شعرنا: ما علمنا.
انكشف الخيل وتبعهم الناس منهزمين هذا مجاز، لم ينهزم كل الناس، ولا نعرف في موطن من المواطن أن كل الناس انهزموا.
ما يلوون على شيء: لا يبقون عليه.
النّقع- بفتح النون، وسكون القاف: الغبار.
انحاز: إلى كذا تنحّى إليه.
هلمّ إلى: اسم فعل في لغة الحجازيين فلا يبرز فاعلها، وفعل في لغة تميم فيقولون هلمّ وهلمّي وهلمّوا وهلممن.
الشّبّان- بضم الشين: جمع شاب، وهو سن قبل الكهولة.
سرعان الناس- بفتح السين والراء: أوائلهم.
كأنّها رجل جراد بكسر الراء وسكون الجيم، الجماعة الكثيرة من الجراد خاصته، وهو جمع على غير لفظ الواحد.
أطنّ قدمه بنصف ساقه: قطعها، يراد بذلك صوت القطع.
انجعف: وقع.
اجتلد الناس: تضاربوا بالسّيوف.
الجفاة- جمع جاف: وهو الغليظ الطبع، والمراد هنا- والله أعلم- من كان غليظا على الإسلام. ممّن لم يتمكن الإيمان في قلبه.
الضّغن- بكسر الضّاد، وإسكان الغين- المعجمتين- وبالنون- الضغينة بالفتح- وهما:
الحقد.(5/358)
الأزلام: القداح التي كانت في الجاهليّة، واحدها زلم- بفتحات- عليها مكتوب الأمر والنهي، إفعل ولا تفعل، كان الرجل من المشركين يضعها في وعاء له، فإذا أراد سفرا أو زواجا أو أمرا مهما أدخل يده وأخرج منها زلما، فإن خرج الأمر مضى لشأنه، وإن خرج النّهي كفّ عنه فلم يفعله.
الكنانة: جعبة السهام.
جبلة: كذا عند ابن إسحق، وهو تصحيف، وصوابه كلدة- بفتح الكاف واللام بن الحنبل بفتح الحاء المهملة وسكون النون وبالموحدة، ويقال: ابن عبد الله بن الحنبل، أسلم بعد ما قال بحنين ما قال.
فضّ الله فاه: أسقط أسنانه، والفضّ: الكسر بالتفرقة.
يربّني- بضم الراء: يملكني ويدبر أمري ويصير لي ربّا أي سيّدا.
المازني- بكسر الزاي والنون.
كاد: قرب.
حاجب الشمس: ناحيتها.
يا للأنصار- بفتح اللام.
عبّاد- بفتح العين المهملة وبالموحدة المشددة.
بشر بكسر الموحّدة، وسكون المعجمة.
أبو نائلة- بهمزة بعد الألف على صورة الياء.
لا يجبرونها: أي: لا مجبر منها.
الشّعار- بكسر الشين المعجمة، والعين المهملة: العلامة التي كانوا يتعارفون بها.
شرح غريب ذكر ارادة شيبة بن عثمان والنضير بالتصغير بن الحرث الفتك برسول الله- صلى الله عليه وسلم
الفتك: القتل على غفلة، أو القتل مطمئنا مجاهرة.
عنوة- بعين مهملة مفتوحة، فنون ساكنة، فواو مفتوحة، فتاء تأنيث: قهرا وغلبة.
المرصد- بكسر الصاد المهملة: اسم فاعل.
اقتحم عن بغلته: ألقى نفسه عنها.
أصلت السّيف: سله من غمده.(5/359)
أسوّره- بفتح السين المهملة وكسر الواو المشددة: أعلوه.
سورة- بفتح السين المهملة، وسكون الواو، وفتح الرّاء، وسورة الخمر وغيره: حدّتها، والمجد أثره وعلامته وارتفاعه، والبرد شدّته، والسطان شدته واعتداده.
الشّواظ- بضم الشين المعجمة وكسرها: اللهب الّذي لا دخان فيه.
يتمحّشني- بتحتية ففوقية مفتوحتين، فميم مفتوحة، فحاء مشددة وشين معجمة:
يحرقني.
مشيت القهقرى: المشي إلى خلف من غير أن يعيد وجهه إلى جهة مشيه.
يا شيب: منادى مرخّم، ويجوز فيه ضم الموحدة وفتحها.
شرحبيل- بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء المهملة، وكسر الموحدة، وباللام.
العبدري، بفتح العين المهملة، وسكون الموحّدة، وآخره راء فياء نسب.
الدّبرة- بفتح الدال المهملة وبالموحدة وتسكن: الهزيمة، وهو اسم من الإدبار.
الفئتان- تثنية فئة بكسر الفاء وبالهمز: الفرقة من النّاس جمعها فئون وفئات.
الحيز- بالحاء المهملة المفتوحة والتحتية الساكنة وبالزاي الناحية.
عمدت له: قصدت.
إليك إليك: اسم فعل بمعني الزم أو انتبه الرّعب: الفزع.
حلب ناقة: أي قدر ذلك.
يا للخزرج- بفتح اللّام.
أرعدت جوارحي: ارتعشت.
غبّرات الناس بضم الغين المعجمة وفتح الموحدة المشددة: جمع غبر كذفر: وهو جمع غابر، وهو هنا بمعنى الباقي.
خمر الشجر- بفتح الخاء المعجمة والميم وبالراء: ما وراك منه.
الجعرانة- بكسر الجيم وسكون العين- خفّف الأكثر الراء وشدّدها غيرهم: موضع على سبعة أميال من مكة من جهة الطائف.
العبر- بكسر العين المهملة وفتح الموحدة جمع عبرة بفتح أوله وكسر ثانيه: وهي الاعتبار والتفكر في عواقب الأمور.(5/360)
لقيته كفّة كفّة- بكسر الكاف فيهما، أي كفاحا، وذلك إذا استقبلته مواجهة، وهما اسمان جعلا واحدا وبنيا على الفتح مثل خمسة عشر.
آن لك وحان أي قرب فيه.
توضع: تسرع.
شرح غريب ذكر ثبات رسول الله- صلى الله عليه وسلم
فروة: بلفظ اسم الملبوس.
نفاثة- بضم النون وتخفيف الفاء وآخره ثاء مثلثة.
الجذامي بضم الجيم، وبالذال المعجمة.
طفق: شرع.
قبل- بكسر القاف، وفتح الموحدة: تلقاءه أي جهته.
يركض: يسرع.
آخذ- بمد أوّله، وكسر الخاء المعجمة.
الحكمة- بفتح الحاء المهملة، والكاف، والميم، وبتاء تأنيث: حديدة في اللجام تكون على أنف الفرس، وحنكيه تمنعه من مخالفة راكبه.
شجرتها- بشين معجمة، أي ضربتها بالحكمة حتى فتحت فاها.
المقنّع- بضم الميم وفتح القاف، والنّون المشددة، وبالعين المهملة: الذي على رأسه البيضة.
أنشدك ما وعدتني: أسألك ذلك.
لا يظهروا علينا: يغلبونا.
أصحاب السّمرة، يشير بذلك إلى أصحاب بيعة الحديبية، لأنّهم بايعوا تحت الشّجرة، وكانت سمرة.
يا أصحاب سورة البقرة: خصّت بالذّكر حين الفرار لتضمنها كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة 249] أو لتضمنها وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة 40] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ [البقرة 207] .
الحرجة- بفتح الحاء المهملة والرّاء، وبالجيم: مجتمع شجر ملتف كالغيضة، والجمع حرج وحراج.(5/361)
يثني بعيره بفتح أوله: يدير رأسه صوب رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
الدرع من الحديد: مؤنثة، ولهذا قال فيقذفها، أي يرميها.
يؤم الصوت: يقصده.
صبّر عند اللقاء- بضم الصاد المهملة، وتشديد الموحدة المفتوحة: أي أشداء أقوياء.
مجتلدهم- بميم مضمومة، فجيم ساكنة، فمثناة فوقية، فلام مفتوحتين: موضع جلادهم، أي ضرابهم.
المتطاول: الذي مدّ عنقه لينظر إلى الشيء يبعد عنه.
الوطيس: هو شيء كالتنور يخبز فيه شبه شدة الحرب به، وقيل: حجارة مدوّرة إذا حميت منعت الوطء عليها، فضرب مثلا للأمر يشتد.
حدّهم- بفتح الحاء: قوّتهم.
كليلا: ضعيفا.
أفاء الله على رسوله أموالهم: غنّمه ذلك.
الفهري- بكسر الفاء، وسكون الهاء.
كرز- بضمّ الكاف، وسكون الرّاء، وبالزّاي.
قائظ: شديد الحر.
اللأمة: الدّرع.
الفسطاط- بضمّ الفاء وتكسر بيت من شعر:
حان الرواح: قرب.
أجل: كنعم، وزنا ومعنى.
دفتاه: دفّ الرّجل ودفّته- بالفتح، وتشديد الفاء جانب كور البعير وهو سرجه، والدّف والدفة: الجانب من كل شيء.
الأشر- بفتحتين: البطر وكفر النّعمة وعدم شكرها. قال الراغب: الأشر: أبلغ من البطر، والبطر: أبلغ من الفرح، فإنّ الفرح وإن كان في أغلب أحواله مذموما كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القصص 76] فقد يحمد تارة إذا كان على قدر ما يجب، وفي الموضع الذي يجب قال تعالى: فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس 58] وذلك أن الفرح قد يكون من سرور بحسب قضيّة العقل فليس بمكروه، والأشر لا يكون إلا فرحا بحسب قضيّة الهوى.(5/362)
تسامت الخيلان: [تبلدت وتطاولت] حثاها: ألقاها.
شاهت وجوههم: تشوّهت وقبحت.
الصّلصلة: صوت كل ذي صوت.
الطست: تقدم الكلام عليه في الرضاع وفي الكلام على شق صدره الشريف فراجعه.
دلدل- بضم الدّالين المهملتين، وسكون اللام الأولى بينهما، وسيأتي الكلام عليها في ذكر بغاله- صلى الله عليه وسلّم.
حم: أشبعت الكلام على الحروف المقطعة في أوائل كتاب «القول الجامع الوجيز الخادم للقرآن العزيز» فراجعه.
السوائي- بضم السين المهملة، وتخفيف الواو والهمزة بعد الألف.
القذى- بالقاف والذال المعجمة: ما يقع في العين والماء والشراب من تراب أو طين أو وسخ أو غير ذلك: جمع قذاة، وجمع القذى أقذاء.
اهتف بهم: صح وادعهم.
الشهب: جمع شهاب.
السّبيعي- بفتح السين المهملة وكسر الموحدة فتحتية فعين مهملة.
حسر- بضم الحاء وفتح السين المهملتين وبالراء.
الثّنيّة: كلّ عقبة مسلوكة.
احمرّ البأس- بكسر أوله، وسكون الحاء المهملة، وفتح الميم، وتشديد الراء: اشتدت الحرب.
غشوه: ازدحموا عليه وكثروا.
شرح غريب ما قيل أن الملائكة قاتلت يوم حنين
قوله مسوّمين: معلمين.
البجاد- بكسر الموحّدة، وتخفيف الجيم، وبالدّال المهملة: الكساء، جمعه أبجد نمل مبثوت: متفرق.
أم برثن- بضم الموحدة، وسكون الراء، وضمّ الثّاء المثلثة، وبالنون- وقيل بالميم كببناهم: قلبناهم راجعين.(5/363)
تطن- بفوقيّة، فطاء مهملة، تصوّت.
الخفقان: الاضطراب والتحرك.
الطّساس- جمع طست وتقدم الكلام عليه في الكلام على شق صدره الشريف.
الكتائب- جمع كتيبة بفتح الكاف، وكسر الفوقيّة: وهي الطّائفة المجتمعة من الجيش.
ما يليقون- بيائين تحتيين بينهما لام مكسورة فقاف، يقال: لا يليق بك: لا يعلق.
الرّعدة- بالكسر: اسم من ارتعد إذا اضطرب.
شرح غريب ذكر من ثبت معه- صلّى الله عليه وسلم- يومئذ
حارثة بن النعمان- بحاء مهملة، فألف، فراء، فمثلّثة.
نكص على عقبه بنون، فكاف، فصاد مهملة مفتوحات رجع.
الحكم- بفتحتين.
عتبة بن أبي لهب- بضم العين المهملة، وسكون الفوقية، وبالموحدة.
معتّب- أخوه بضم الميم، وفتح العين المهملة وكسر الفوقية المشددة وبالموحدة.
أبو دجانة- بضم الدال المهملة، وبالجيم المخففة، والنون.
أبو بشير المازنيّ كأمير.
الحضير- بضم الحاء المهملة، وكسر الضاد المعجمة، وسكون التحتيّة أم سليم- بضمّ أوّله.
ملحان- بكسر الميم، وفتحها، قال في المطالع: والأوّل أشهر، وعليه اقتصر ابن الأثير والنووي.
نسيبة ككريمة وقيل بالتصغير.
يغر بها الجمل بالغين المعجمة.
الخزام- بكسر الخاء المعجمة.
برة- بضمّ الموحّدة، وتخفيف الراء: حلقة من صفر ونحوه يشد في أنف النّاقة، يشد بها الزمام.
الخطام- بكسر الخاء المعجمة: ما يقاد به الجمل.
الخنجر- بفتح الخاء المعجمة وكسرها سكّين كبير.(5/364)
بعج بطنه: شقه.
جمل أورق: في لونه بياض إلى السّواد، أو يضرب لونه إلى الخضرة.
يوضع به جمله: يسرع.
أثبته: أصاب مقتله.
مصلت السيف: مخرجه من غمده.
الغمد- بكسر الغين المعجمة: قراب السّيف.
ناقة فتوح- بفتح الفاء، وضم الفوقية المخففة: واسعة الإحليل.
بنو مازن- بكسر الزّاي.
الشّعار: العلامة في الحرب.
صعصعة بمهملات وفتح أوله، وسكون ثانيه.
اليعسوب- بفتح التحتية، وسكون العين، وضمّ السّين المهملتين وبالموحدة: ملك النحل.
النّسمة- بفتحات: الإنسان.
لن تعلوه: لن تشربوا منه مرّة ثانية.
لن تغلوه: لن تعذبوه.
ثاب- بالمثلّثة: رجع.
اجزروهم: استأصلوهم.
المشقص- بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة، وفتح القاف: سهم فيه نصل عريض.
الكنانة- بكسر الكاف: ما يجعل فيه السّهام.
بجاد- بفتح الموحدة وبالجيم والدال المهملة، ولم أر له ذكرا في الصحابة وكأنه لم يسلم.
الشّيماء: تقدم الكلام عليها في الرّضاع.
وما علامة ذلك- بكسر الكاف: خطاب المؤنث.
متورّكتك: أي جعلتك على وركي.
وادي السّرر- بكسر السين المهملة وبضمّها وفتح الرّاء: على أربعة أميال من مكة.(5/365)
البهم بفتح الموحدة.
أطلان بفتح الطاء المهملة وباللّام.
محبّبة- بضم الميم، والموحدة المشددة اسم مفعول وكذا مكرّمة.
وافاها: [لحق بها] عسكروا بأوطاس: اجتمعوا.
نخلة- بالخاء المعجمة: اسم موضع.
بنو غيرة- بكسر الغين المعجمة، وفتح التحتية، وبالرّاء: بطن من ثقيف.
ربيعة- براء، فموحدة، فمثناة، فعين مهملة.
رفيع بالتصغير.
أهبان- بضم أوله.
العجان- بكسر العين المهملة، وبالجيم، والنّون: ما بين الخصية وحلقة الدّبر.
الثّنيّة: الطريق في الجبل.
ليّة- بكسر اللام، وفتح التحتية المشدّدة: جبل بالطائف، كان به حصن مالك بن عوف سراقة- بضم السين المهملة.
رقيم- بضمّ الرّاء، وفتح القاف.
لوذان- بفتح اللام، وسكون الواو، وبالذال المعجمة.
زمعة- بفتح الزّاي والميم وبسكونها، وبالعين المهملة.
جمح به فرسه: استعصى عليه.
الجناح- بلفظ جناح الطّائر.
استحرّ القتل: اشتدّ وكثر. وهو استفعل من الحرّ.
ذو الخمار: اسمه سبيع بن الحارث بن مالك لم يعلم له إسلام.
شرح غريب ذكر بركة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في برء جرح عائذ بن عمرو وفي الماء، ونهيه عن قتل النساء، وقوله: أنا بن العواتك
عائذ- بهمزة بعد الألف، فذال معجمة.
الثّندؤة- بالثّاء المثلّثة، وسكون النون، وضم الدّال المهملة ومن ضمّ الثّاء: همز، ومن فتحها لم يهمز كالثّدي للمرأة.(5/366)
حشرج- بفتح الحاء المهملة، وسكون الشين المعجمة، وفتح الراء وبالجيم.
سابلة: مستطيلة عريضة.
غرّة الفرس: بياض في جبهته فوق الدّرهم.
النّطفة- بضمّ النّون: والمراد بها هنا الماء الصّافي القليل.
الإداوة بكسر أوّله وبالدّال المهملة: المطهرة.
رباح- بفتح الرّاء، وتخفيف الموحّدة، وبالحاء المهملة.
ربيع بفتح الراء.
العسيف: الأجير لفظا ومعنى، وهو أيضا المملوك.
سيابة- بفتح السين المهملة وتخفيف التحتية وبالموحدة.
شرح غريب ذكر قوله- صلى الله عليه وسلم- من قتل قتيلا فله سلبه
السّلب- بفتح السين المهملة، واللّام: ما يسلب، أي ينزع.
حبل العاتق: وهو الوريد، والعاتق: موضع الرّداء من المنكب.
أجهضت عنه: غيبت عنه وأزيلت.
أسود بن خزاعيّ- بضم الخاء المعجمة.
ربعي بكسر الراء.
الجولة: حركة فيها اختلاط.
يختله- بفتح التحتية، وسكون الخاء المعجمة، وكسر الفوقية: يأخذه على غرّة.
فقطعت الدّرع: أي الّتي كان لابسها، وخلصت الضربة إلى يده فقطعتها.
وجدت منها ريح الموت: أي شدّتها.
أرسلني: أطلقني.
أمر الله: حكمه وقضاؤه.
لاها الله- قال الجوهري: «ها» للتنبيه، وقد يقسم بها، يقال: ها الله ما فعلت كذا، قال ابن مالك: فيه شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التّنبيه، قال: ولا يكون ذلك إلّا مع الله، أي لم يسمع لاها الرّحمن، كما سمع لا والرّحمن، قال: وفي النّطق بها أربعة أوجه، أحدها: ها لله باللّام بعد الألف، بغير إظهار شيء من الألفين، ثانيها مثله، لكن بإظهار ألف واحدة بغير همز، ثالثها بثبوت الألفين وبهمزة قطع، رابعها بحذف الألف وثبوت همزة القطع، انتهى. والمشهور في الرّواية الثّالث ثم الأوّل.(5/367)
إذا- قال الحافظ أقوال كثيرة ممّن تكلّم على هذا الحديث: أنّ الذي وقع فيه بلفظ إذا خطأ، وإنّما هو ذا تبعا لأهل العربية، ومن زعم أنّه ورد في شيء من الرّوايات خلاف ذلك فلم يصب، بل يكون ذلك من إصلاح بعض من قلّد أهل العربية، قد ثبت في جميع الرّوايات المعتمدة والأصول المحقّقة من الصّحيحين وغيرهما بكسر الألف، ثم ذال معجمة منونة، قال الطيبي: ثبت في الرّوايات «لاها الله إذن» والحديث صحيح، والمعنى صحيح، وهو كقولك لمن قال لك: أفعل كذا؟ فقلت: لا والله إذن لا أفعل، فالتّقدير: والله إذن لا يعمد إلى أسد..
إلخ. قال أبو العباس القرطبيّ: الّذي يظهر لي أن الرّواية المشهورة صواب وليست بخطأ، وذلك أنّ الكلام وقع على جواب إحدى الكلمتين للأخرى، والهاء هي التي عوّض بها عن واو القسم، وذلك أنّ العرب تقول في القسم: الله لأفعلنّ، بمدّ الهمزة وبقصرها، فكأنّهم عوضوا من الهمزة هاء فقالوا «ها لله» لتقارب مخرجيها، وكذلك قالوا: «ها» بالمدّ والقصر، وتحقيقه أنّ الّذي مد مع الهاء كأنّه نطق بهمزتين أبدل من إحداهما ألفا، استثقالا لاجتماعهما، كما تقول:
«الله» . والّذي قصر كأنه نطق بهمزة واحدة كما تقول: «الله» . وأمّا إذا فهي بلا شك حرف جواب وتعليل، وهي مثل الّذي وقعت في قوله- صلى الله عليه وسلم-، وقد سئل عن بيع الرطب بالتّمر فقال «أينقص الرّطب إذا جفّ» قالوا: نعم قال: «فلا إذن» فلو قال: فلا والله إذا كان مساويا لما وقع هنا- وهو قوله: «لاها الله إذا» من كل وجه، لكنّه لم يحتج هنا إلى القسم فتركه، قال: فقد وضح تقدير الكلام ومناسبته واستقامته معنى ووضعا من غير حاجة إلى تكلّف بعيد يخرج عن البلاغة، ولا سيّما من ارتكب وأبعد وأفسد، فجعل «الهاء» للتّنبيه «وذا» للإشارة، وفصل بينهما بالمقسم به، قال: وليس هذا قياسا فيطرد، ولا فصيحا فيحمل عليه الكلام النّبوي، ولا مرويا برواية ثابتة. قال: وما وجد للعذرى والهروي في مسلم «لا ها الله ذا» فإصلاح ممّن اغترّ بما حكي عن بعض أهل العربية، والحق أحق أن يتّبع.
وقال أبو جعفر الغرناطي نزيل حلب- رحمه الله تعالى- استرسل جماعة من القدماء في هذا الإشكال إلى أن جعلوا المخلص من ذلك أن اتهموا الإثبات في التصحيف فقالوا:
الصّواب «لاها الله ذا» باسم الإشارة، قال: ويا عجبا من قوم يقبلون التّشكيك على الرّوايات الثّابتة. ويطلقون لها تأويلا، وجوابهم أنّ «ها الله» لا يستلزم اسم الإشارة. كما قال ابن مالك، وأمّا من جعل لا يعمد جواب فأرضه فهو سبب الغلط وليس بصحيح ممن زعمه وإنما هو جواب شرط مقدّر يدلّ عليه قوله «إن صدق فأرضه» فكان «أبو بكر» قال: إذا صدق في أنه صاحب السّلب إذا لا يعمد إلى السّلب فيعطيك حقه، فالجزاء على هذا صحيح لأنّ صدقه سبب الا يفعل ذلك، قال: وهذا واضح لا تكلّف فيه، قال الحافظ: فهو توجيه حسن، والّذي قبله أقعد ويؤيده كثرة وقوع هذه الجملة في كثير من الأحاديث. وسردها الحافظ، وبسط الكلام على(5/368)
هذا اللفظ هو والشيخ في شرح الموطأ، فمن أراد الزّيادة على ما هنا فليراجع كلامهما رحمهما الله تعالى.
لا يعمد بالتحتية للأكثر، وللنووي بالنون: أي لا يقصد رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلى رجل كأنه أسد في الشّجاعة يقاتل على دين الله ورسوله- فيأخذ حقه ويعطيكه بغير طيبة من نفسه.
كلّا: حرف ردع وزجر.
أصيبغ بمهملة، ثم معجمة عند القابسي. وبمعجمة ثم مهملة عند أبي ذر، قال ابن التين: وصفه بالضعف والمهانة. والأصيبغ نوع من الطّير، أو شبّهه بنبات ضعيف يقال له الصيغا إذا طلع من الأرض يكون أوّل ما يلي الشمس منه أصفر، ذكر ذلك الخطابي، وهذا على رواية القابسي، وعلى الرواية الثانية تكون تصغير الضّبع على غير قياس، كأنه لمّا عظّم أبو قتادة» بأنه أسد صغّر خصمه وشبهه بالضّبع لضعف افتراسه، وما يوصف به من العجز، وقال ابن مالك:
أضيبع- بمعجمة وعين مهملة- تصغير أضبع، ويكنى به عن الضعيف.
ويدع- بالرفع والنصب والجزم أي يترك.
صدق: أي القائل.
فأعطه- بصيغة الأمر، يقول: اعترف بأن السّلب عنده.
المخرف- بفتح الميم، والرّاء، وسكون الخاء المعجمة بينهما، ويجوز كسر الراء، أي بستانا سمي بذلك لأنه يخترف منه التّمر أي يجتنى، وأما بكسر الميم فهو اسم الآلة الّتي يخترف بها.
في رواية خرافا- بكسر الخاء: وهو التّمر الذي يخترف أي يجتنى، وأطلقه على البستان مجازا فكأنه قال: بستان خراف.
في بني سلمة- بكسر اللّام: بطن من الأنصار، وهم قوم أبي قتادة.
تأثّلته بالفوقية والثّاء المثلّثة: أي تأصّلته، وأثلة كل شيء أصله.
اعتقدته جعلته عقدة، والأصل فيه من العقد لأن من ملك شيئا عقد عليه.
نتضحّى معه: نأكل وقت الضّحى.
انتزع طلقا: قيدا من جلود.
من حقبه- بفتح المهملة والقاف: حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير ممّا يلي ثيله.
رقة من الظهر: ضعف.(5/369)
ناقة ورقاء في لونها بياض إلى السواد ويضرب لونها إلى الخضرة.
اخترط سيفه: سلّه من غمده، وهو افتعل من الخرط.
الوبرة من البعير- بفتح الواو والموحدة.
عيينة- بضم العين المهملة وكسرها وفتح التحتية الأولى وسكون الثانية.
حصن- بكسر الحاء، وسكون الصّاد المهملتين، وبالنون.
ابن الأضبط- بوزن الأحمر بالضّاد المعجمة، والموحدة، والطاء المهملة.
محلّم- بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وكسر اللّام المشددة، وبالميم.
جثامة- بفتح الجيم، وتشديد الثّاء المثلّثة وبعد الألف ميم مفتوحة وتاء تأنيث واسمه زيد بن قيس.
خندف- بكسر الخاء المعجمة وسكون النون، وكسر الدّال المهملة، وبالفاء.
مكيتل- بضم الميم، وفتح الكاف، وسكون التحتية، وكسر الفوقيّة، واللّام، ويروى بكسر الثّاء المثلّثة، وباللّام.
الشّكة بكسر الشين المعجمة: السلاح.
والرّجل المجتمع: الذي بلغ أشدّه.
غرّة الإسلام بالغين المعجمة أوله «فورنا» بفتح الفاء وسكون الواو وبالراء هنا: الوقت الحاضر: الذي لا تأخير فيه، ثم استعمل في الحالة التي لا بطء فيها.
يؤزونه- بالزّاي يغرون ويهيجون.
ضرب- بفتح الضاد المعجمة وسكون الرّاء، وبالموحّدة، وهو هنا الخفيف اللّحم الممشوق المستدق.
آدم- بالمد: أسمر.
ينفذ به النّاس- بالنّون، والفاء، والذّال المعجمة: يسمعهم.
الحصين- بضم الحاء، وفتح الصاد المهملتين مصغر.
نهيك- ككريم- آخره كاف.
غمرة- بغين- معجمة مفتوحة، فميم ساكنة: منهل من مناهل طريق مكّة، يصل بين تهامة ونجد.
أطأ الخبر: أعلنه وأبينه.(5/370)
معدن- بفتح الميم، وكسر الدّال المهملة.
سليم- بضم السين.
المصلّى- بضم الميم، وفتح الصّاد المهملة، واللّام المشدّدة: موضع الصّلاة، وهو موضع مصلّى النبي- صلى الله عليه وسلم في الأعياد خارج المدينة بالعقيق معروف.
شرح غريب شعر العباس بن مرداس رضي الله عنه
الرّابية: المكان المرتفع.
إخال- بالخاء المعجمة.
يخايره: يقول أنا خير منه.
المخير- بفتح الميم وكسر الخاء المعجمة: يغلبه في الخير.
قسيّ- بفتح القاف، وكسر السين المهملة، وتشديد التّحتية: تقدم.
وجّ- بفتح الواو وتشديد الجيم: موضع بالطائف.
الغابات- جمع غابة.
ضاحية- بالضّاد المعجمة، والحاء المهملة: بارزة لا تخفى نؤمّ: نقصد.
الحنق- بالحاء المهملة والنّون: الغضب.
يغوروا- بالغين المعجمة: يذهبوا.
ليّة- بكسر اللام تقدم.
ثمّ- بفتح الثاء المثلثة.
النّصور- بضم النون، والصاد المهملة: يعني بني نصر.
تمور: تسيل.
ويروى قوله: بني خطيط بالخاء المعجمة والحاء المهملة، وبطاءين مهملتين بينهما تحتية.
زور- بضمّ الزّاي: مائلة.
سنن المنايا- بفتح السين والنون: طرقها.
الجريض- بفتح الجيم، وكسر الرّاء، وسكون التحتيّة، وبالضّاد المعجمة السّاقطة:
المنخنق بريقه.(5/371)
التّواني: الفترة، والإبطاء والكسل.
الغلق- بفتح الغين المعجمة، وكسر اللّام: الكثير الحرج كأنّه تنغلق عليه أموره.
الصّريّرة- تصغير صرورة: وهو الذي لا يأتي النساء وهو في الإسلام الذي لم يحج.
الحصور- بفتح الحاء، وضمّ الصّاد المهملتين: وهو هنا العييّ.
أحانهم: أهلكهم.
تميح: تمشي مشيا حسنا.
الفصافص- بفتح الفاء، وكسر الثّانية بعد كلّ صاد مهملة جمع فصفصة: وهو النّبات الذي تأكله الدّواب.
عمّموها- بضمّ العين وكسر الميم الأولى: أسندت إليهم وقدّموا لها.
يمن بضم التحتية وسكون الميم.
الجدود: الحظوظ.
أنوف النّاس: المقدّمون فيهم.
ما سمر السّمير: أي أهله، فحذف المضاف ويكون فيهم السمير، أسماء الجماعة السّمّار.
غزيّة- بفتح الغين المعجمة، وكسر الزّاي، وتشديد التحتية.
العنقفير بفتح العين المهملة، وسكون النون، وفتح القاف، وكسر الفاء، وسكون التّحتية، وبالرّاء: من أسماء الدّاهية.
شرح غريب قصيدة العباس بن مرداس- رضي الله عنه- العينية
عفا: درس.
المجدل- بكسر الميم، وسكون الجيم، وفتح الدال المهملة، وباللّام: وهو هنا بلد طيب بالخابور إلى جانبه، عليه قصر، والأصل فيه اسم القصر، ويقال الحصن.
ومتالع- بضم الميم، وكسر اللّام: جبل بنجد، وبناحية البحرين بين السودة والإحساء، وقيل: جبل لغنيّ، وقيل: لبني عبيلة، وقيل: اسم ماء في شرقيّ الظّهران عند الفوّارة في جبل القنان.
المطلى- بكسر الميم، وسكون الطّاء المهملة يمد ويقصر: أرض تقعد الرجل عن المشي.(5/372)
أريك- بفتح الهمزة، وكسر الرّاء، وسكون التحتيّة، وبالكاف: موضع في ديار غنىّ أو ذبيان.
المصانع- بفتح الميم، وتخفيف الصّاد المهملة، وبعد الألف نون، فعين مهملة:
مواضع تصنع للماء، تشبه الصّهاريج.
جمل- بجيم مضمومة، فميم ساكنة، فلام: اسم امرأة، لا ينصرف للعلمية والتأنيث المعنوي.
جلّ- بضمّ الجيم: معظم.
الرّخيّ: الواسع.
صرف الدّهر: تغيره.
حبيبيّة- بضم الحاء المهملة، وفتح الموحّدة، وسكون التحتانيّة الأولى وكسر الموحّدة، وفتح التحتيّة المشددة: منسوبة إلى بني حبيب بالتصغير، وحبيبة منسوبة إلى بني حبيب بوزن عليم وحبيبيّة تصغير حبيبة، وكلها روايات.
ألوت: ذهبت.
غربة- بفتح الغين المعجمة، وسكون الرّاء، وفتح الموحّدة، فتاء تأنيث: بعد.
النّوى: الفراق.
ملومة- من اللّوم: وهو العتاب.
خزيمة- بضم الخاء المعجمة وفتح الزاي، وسكون التحتية بن جزيء بفتح الجيم وقيل بضمها وكسر الزاي، وآخره بعد المدّ همزة، أو تسهل فتصير الياء مدغمة كذا ذكر الحافظ في التبصير.
وقال في الإصابة: إنّه بكسر الزّاي. وقال في التّقريب: بفتح الجيم، وسكون الزّاي، بعدها همزة: صحابي.
والمرّار- بفتح الميم، وتشديد الرّاء، وبعد الألف راء أخرى ابن صحابي.
وواسع: صحابي أيضا لم أقف على اسم أبويهما الثلاثة سليميون. وفدوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم.
لبوس- بفتح اللّام، وضمّ الموحّدة المخففة.
رائع- براء، وبعد الألف تحتية، وبعين مهملة: معجب.(5/373)
الأخشبان- بالخاء، والشين المعجمتين فموحدة، يضافان مرّة إلى مكّة، ومرّة إلى منّى، وهما واحد، أحدهما أبو قبيس، والآخر قعيقعان، ويقال بل الجبل المشرق الأحمر هنا لك وقال. ابن وهب: الأخشبان: الجبلان اللّذان تحت العقبة بمنّى فوق المسجد.
يد الله- منصوب على التعظيم.
نبايع: نقدم عليه.
جسنا: وطئنا، قال تعالى ... فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ... [الإسراء 5] : تخلّلوها فطلبوا ما فيها عنوة- بفتح العين المهملة: قهرا.
النقع- بفتح النون، وسكون القاف، وبالعين المهملة: الغبار.
كاب- بالموحدة: مرتفع.
ساطع: متفرق.
علانية- بعين مهملة مفتوحة فلام فألف فنون مكسورة فتحتية مفتوحة فتاء تأنيث: أي جهرا من غير استخفاء.
الخيل مبتدأ. متونها: مفعول مقدم، والفاعل: حميم، وهو هنا العرق.
آن- بمد الهمزة: الدّم المسخّن الحار.
ناقع- بنون وبعد الألف قاف مكسورة فعين مهملة: طري، وقال أبو ذر: كثير.
الأضالع- جمع ضلع، بضاد معجمة مكسورة، فلام مكسورة وقد تسكن تخفيفا فعين مهملة سمي بذلك من الضّلع وهو الاعوجاج.
الضحّاك بن سفيان السلمي وليس الكلبي كما ذكره ابن البرقي.
لا يستفزّنا: يستخفنا.
قراع الأعادي- بقاف مكسورة فراء فألف فعين: ضربهم.
أمام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قدّام.
يخفق: يضطرب.
الخذروف- بضم الخاء، وسكون الذال المعجمة فراء مضمومة، فواو ساكنة، ففاء:
البرق اللامع المتقطع منها، وقال أبو ذر: خذروف السحابة طرفها، وأراد به هنا السّرعة في تحرك هذا اللواء واضطرابه.(5/374)
معتص بالسّيف- بميم مضمومة، فعين مهملة ساكنة، ففوقية مفتوحة، فصاد مهملة، قال في الإملاء: أي ضارب، يقال: اعتصوا بالسيوف إذا ضاربوا بها، وفي الصحاح: العصي مقصور مصدر قولك عصي- بالكسر- بالسيف يعصى: إذا ضرب، وفلان يعتصي على عصى: أي يتوكّأ عليها، ويعتصي بالسيف: أي يجعله عصى.
كانع- بنون مكسورة، فعين مهملة: حاضر نازل، وفي الإملاء أنه يقال: كنع به عند الموت إذا دنا.
نذود أخانا من أخينا: أي يريد أنه من سليم، وسليم من قيس كما أنّ هوازن من قيس كلاهما ابن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس، والمعنى: نقاتل إخوتنا ونذودهم، أي نمنعهم عن إخوتنا من سليم.
ولو نرى: أي حكم الدّين.
مصالا- بفتح الميم، وبالصّاد المهملة: من الصّولة.
لكنّا الأقربين: يعني هوازن.
نتابع بنون ففوقية.
ولكنّ- بتشديد النّون.
دين الله بالنصب- اسم لكن.
دين محمد بالرفع: خبرها.
حمّه الله- بفتح الحاء المهملة، وتشديد الميم فهاء حمّه: أي قصده، يقال حمتت حمّك، أي قصدت قصدك.
شرح غريب قصيدة العباس الرائية
قوله: العائر- بعين مهملة وبعد الألف تحتية وبالراء: وجع العين.
سهر- بكسر الهاء: اسم فاعل من السّهر، وهو امتناع النّوم، وجعله سهرا، وإنما السهر أمر جميل لأنه لم يفتر فكأنّه قد سهر ولم ينم.
الحماطة- بفتح الحاء وتخفيف الميم وبعد الألف طاء مهملة فتاء تأنيث: وهي هنا بزّة تكون في جفن العين، وقال في الروض: هي من ورق الشجر ما فيه خشونة.
أغضى- بالغين، والضّاد المعجمتين وزن أعطى.
الشّفر- بضم الشين المعجمة، والفاء. قال في الإملاء: جفون العين.(5/375)
تأوّبها- بفوقية، فهمزة مفتوحة، فواو مشدّدة مفتوحة فموحدة،: جاءها مع الليل.
الشّجو- بفتح الشين المعجمة، وسكون الجيم وبالواو: الحزن.
الأرق- بفتح الهمزة والراء والقاف: السهر، وهو امتناع النوم.
والماء: المراد به هنا الدّمع.
يغمره- بالغين المعجمة وضم الميم: يغطيه.
طورا: تارة.
السّلك- بكسر السين المهملة، وسكون اللّام، وبالكاف: الخيط الذي ينظم فيه.
منبتر- بميم مضمومة، فنون ساكنة فموحدة مفتوحة ففوقية مثناة: أي منقطع، ويروى منتثر- بالنون ففوقية فثاء مثلثة.
الصّمّان- بضم الصاد المهملة، وتشديد الميم، وبعد الألف نون: موضع إلى جنب أرض عالج، أي بالعين المهملة، فألف، فلام مكسورة فجيم: مكان بالبادية كثير الرّمال.
الحفر- بفتح الحاء المهملة والفاء، كما ذكره أبو عبيد البكري، والحازمي وخلائق:
اسم لعدّة مواضع والله أعلم أيّها أراد العباس. وقول من قال يعني به: حفر الذي بالكوفة أو بالبصرة ليس ببيّن لأن العباس قال هذه القصيدة في غزوة حنين، والبصرة والكوفة حدثتا بعد النبي- صلى الله عليه وسلم- بدهر.
الزّعر- بفتح الزاي والعين: قلة الشّعر، وفي نسخة: الذّعر- بالذّال المعجمة والعين المهملة المضمومتين: وهو الفزع.
البلاء- بفتح الموحدة: الصّنع.
سليم الأولى والثانية- بضمّ السين المهملة وفتح اللام.
مفتخر- بالخاء المعجمة.
مشتجر- بكسر الجيم.
لا يغرسون فسيل النّخل- بفتح الفاء وكسر السّين المهملة، فتحتية ساكنة، فلام والجمع فسلات، وهو الوديّ بفتح الواو، وكسر الدال وتشديد التحتية: النّخل.
وسطهم- بإسكان السّين، وإن جاز فيه الفتح من حيث اللغة، لكنه ساكن لأجل الوزن مضموم الميم يعير بذلك أهل المدينة الشريفة.
ولا تخاور- بفوقية، فخاء معجمة، فألف، فواو مفتوحة وبالراء من الخوار، وهو أصوات(5/376)
البقر، ويروى: يجاور بالجيم والراء، ويحاوز بالحاء المهملة والزاي، وصوّب في الإملاء الأول.
السّوابح- بفتح السين المهملة وبعد الألف موحدة مكسورة: جمع سابح يقال: سبح الفرس في جريه فهو سابح.
العقبان- جمع كثرة للعقاب، وهو طائر من الجوارح، ولفظه مؤنث.
مقرب- بضم الميم، وسكون القاف وفتح الرّاء وبالموحدة، الفرس الذي يدنى ويكرم والأنثى مقربة ولا تترك أن ترود وإنما يفعل ذلك بالإناث لئلا يقرعها فحل لئيم.
الدارة: أخص من الدار.
الأخطار- جمع خطر- بكسر الخاء المعجمة وإسكان الطاء المهملة والراء، وهو القطيع من الإبل.
العكر- بفتح العين المهملة والكاف، ويجوز إسكانها، وهنا محركة لا غير للوزن: جمع عكرة: وهو القطيع الضّخم من الإبل ما بين الخمسين إلى المائة، وقيل: الخمسون إلى الستين إلى السبعين، وقيل إلى المائة، وقيل ما فوق الخمسمائة من الإبل، يقال: أعكر الرّجل إذا كان عنده عكرة.
خفاف- بضمّ أوله، وتخفيف الفاء- بن عمير بن الحارث بن رشيد السلمي المعروف بابن ندبة- بنون- وهي أمه، كان من فرسان قيس وشعرائها المذكورين، شهد حنينا، وثبت على إسلامه في الرّدّة.
وعوف بن مالك بن أبي عوف الأشجعي شهد الفتح وكانت معه راية أشجع- رضي الله عنه.
وحيّ ذكوان- بفتح الذال المعجمة وسكون الكاف.
الميل: بكسر الميم وإسكان التحتية وباللام جمع أميل: وهو الذي لا سلاح معه.
الضّجر- بضم الضاد المعجمة والجيم، جمع ضجور، والضّجر: الحرج وسوء الاحتمال.
الضاربون: جمع ضارب.
جنود- بالنّصب: مفعول اسم الفاعل.
ضاحية- بفتح الضّاد المعجمة، وبعد الألف حاء مهملة مكسورة، فتحتية فتاء تأنيث:
منكشفة بارزة.
الظّاهر بالظاء المعجمة المشالة وهو من الأرض ما غلظ منها.(5/377)
منقعر: منقلع من أصله.
ينجاب- بفتح التّحتيّة وسكون النون وبالجيم والموحدة: ينكشف.
السّاطع هنا: الغبار.
كدر: متغير إلى السّواد.
تحت اللّواء مع الضّحّاك، يقدمنا: كذا في الرّواية، وقال في الإملاء، ورواه الخشنيّ:
تحت اللوامع. والضّحّاك هو ابن سفيان السلمي.
الليث- بالثاء المثلّثة من أسماء الأسد.
الخدر: الدّاخل في خدره، والخدر هنا غابة الأسود.
المأزق- بهمزة ساكنة: بعد الميم، والزّاي المكسورة وبالقاف: موضع الحرب، وأصله الضيق.
الكلكل- بفتح الكافين وإسكان اللّام الأولى: الصّدر.
يكاد يقرب: يأفل- بضم الفاء: يغرب.
تأوّب- بتشديد الواو المفتوحة وبالموحدة: رجع.
منازلهم: بالنّصب.
إلا قد أصبح بالنقل للوزن.
شرح غريب قصيدته السينية
قوله: تهوي به: تسرع.
الوجناء- غليظة الوجنات بارزتها، وذلك يدلّ على غور عينيها، وهم يصفون الإبل بغور العينين عند طول السّفاد، ويقال في الوجنة من الآدميين رجال موجنة وامرأة موجنة، ولا يقال وجناء.
مجمرة: مجتمعة منضمة.
المناسم- جمع منسم، بفتح الميم، وسكون النون وكسر السين المهملة، وهو مقدم طرف خف البعير.
العرمس- بكسر العين المهملة، وسكون الراء، وكسر الميم وبالسّين المهملة: الحجارة الصلبة، تشبّه بها النّاقة الشّديدة الجلدة، وهي المراد هنا.
المطيّ- جمع مطية: البعير لأنه يركب مطاه أي ظهره.(5/378)
تقدع- بفتح الفوقية، وسكون القاف، وفتح الدّال، وبالعين المهملة: تكف.
الكماة- بضم الكاف. الشجعان واحدهم كمي.
تضرس- بضم الفوقية، وسكون الضّاد المعجمة، وفتح الرّاء، وبالسين المهملة، قال في الإملاء: تجرّح، وقال في الروض: تضرب أطرافها باللجم، يقال ضرس أي أصيبت أضراسه، كما تقول: رأس أي أصبت رأسه.
سال: ارتفع.
الأفناء- كأحمال: هنا أخلاط الناس.
بهثة- بفتح الموحدة وسكون الهاء، وبالثّاء المثلثة، وبتاء التأنيث: قبيلة من سليم.
المخارم- بالخاء المعجمة والراء: الطرق في الجبال، واحدها مخرم.
ترجس- بالجيم: تهتزّ وتتحرك.
الفيلق- بالفاء المفتوحة فالتحتية الساكنة، فاللام، فالقاف: الجيش.
شهباء: كثيرة السّلاح.
الهمام- بضم الهاء: السيّد.
الأشوس- بفتح أوله وسكون الشّين المعجمة، وفتح الواو، وبالسين المهملة: الذي ينظر بمؤخر عينيه متكبرا.
الأغلب: الشّديد الغليظ.
محكمة: متقنة.
الدّخال- بكسر الدال المهملة وبالخاء المعجمة واللّام: يعني نسيج الدروع.
القونس- بفتح القاف، وسكون الواو، وفتح النون وبالسين المهملة: أعلى بيضة الخوذة.
يروي- بضم التحتية، وسكون الراء.
القناة- بالقاف والنون: الرّمح.
الوغى- بفتح الواو، والغين المعجمة: الحرب.
تخاله: تظنه.
العضب- بفتح العين المهملة، وسكون الضّاد المعجمة السّاقطة وبالموحدة: السيف القاطع.(5/379)
لدن- بفتح اللام وسكون الدال المهملة اللّين من كل شيء:
مدعس: بكسر الميم وسكون الدال، وفتح العين وبالسين المهملتين- الشديد من الرماح الغليظ.
العرندس- بفتح العين وبالسين المهملتين الأسد الشديد.
دريئة- من روى دريئة بالهمز فمعناه: مدافعة، ومن رواه دريّة بتشديد التحتية فمعناه:
تستر، وفي الروض الدريّة: الحلقة التي يتعلم عليها الرمي، أي كانوا كالدرية للرماح.
والشّمس يومئذ عليهم أشمس، يريد لمعان الشمس في كلّ بيضة من بيضات الحديد كأنها شمس، وهو معنى صحيح وتشبيه مليح.
كفت: قلبت ومنعت.
الإخاوة: مصدر أخا وآخى، والمعنى طلب اتخاذ الأخوة.
العير- بفتح المهملة: حمار الوحش.
تعاقبه السباع: مفرّس- بضم الميم، وفتح الفاء، والراء المشددة وبالسين المهملة: تعتور فرسته السّباع.
شرح غريب قصيدته الهائية
قوله: الحواسر: الجموع الذين لا درع عليهم، ويقال: رجل حاسر إذا لم يكن عليه درع.
عامل الرّمح: أعلاه.
يذود- بالذّال المعجمة، وبعد الواو المهملة: يطرد.
حومة الموت: معظمه.
شاجره: مخاصمه ومخالطه، ويحتمل أن يكون شاجره هنا مخالطه بالرّمح، يقال شجرته بالرّمح إذا طعنته به وشجرت الرّماح إذا دخل بعضها في بعض.
بطانة الرّجل: من كان حاط به مطّلعا على سرّه.
الشّعار: ما يلي جسد الإنسان من الثّياب، فاستعاره هنا.
شرح غريب قصيدته الميمية
قوله قديدا: تصغير قد، اسم موضع.
تماروا بنا: شكّوا فينا.(5/380)
فتيان- جمع فتىّ.
الغاب بالمعجمة هنا: الرّماح.
دفّاع- بضم الدال المهملة وتشديد الفاء.
الأتيّ- بفتح أوله، وكسر الفوقيّة، وتشديد التحتية: السّيل يأتي من بلد إلى بلد.
العرمرم: الكثير الشّديد.
سراة: سادتهم.
تسلّما- بتشديد اللام، يريد في سليم من اعتزى أي انتهى إليهم من حلفائهم فتسلّم بذلك كما تقول تقيّس الرجل إذا اعتزى إلى قيس.
وحبّ إلينا- بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة فعل ماض وأصله حبب- بضمّ الموحدة، ثم أسكنت وأدغمت في الثانية.
النّهي- بفتح النّون، وكسرها، وسكون الهاء، وآخره تحتية: الغدير من الماء.
يلملما- بفتح التحتية، واللّامين، وسكون الميم بينهما: اسم موضع.
الحصان- بكسر الحاء المهملة: الفرس العتيق، ثم كثر حتّى سمّي به كلّ ذكر من الخيل.
الورد- بلفظ المشموم، ما بين الكميت والأشقر.
يسوّما- بضم التحتية وتشديد الواو: يعلم نفسه بعلامة يعرف بها.
لدن: ظرف مكان بمعنى عند.
غدوة- بالنّصب والتنوين.
دوافعه: مجاري السيول فيها.
زفّه- بالزّاي، والفاء: ساقه سوقا رفيقا.
قد أحجما- بحاء مهملة، فجيم: رجع وانقبض. وأحجم بالجيم فالحاء بمعناه.
الطّمرّة: الفرس السريعة الوثّابة.
محطم: مكسّر.
السّرب- بفتح السين وسكون الرّاء: المال الرّاعي.(5/381)
الباب التاسع والعشرون في غزوة الطائف
لمّا قدم فلّ ثقيف الطائف رمّوا حصنهم وأغلقوا عليهم أبواب مدينتهم، وتهيئوا للقتال، وكانوا أدخلوا فيه قوت سنة لو حصروا وجمعوا حجارة كثيرة، وأعدوا سككا من الحديد وأدخلوا معهم قوما من العرب من عقيل وغيرهم، وأمروا بسرحهم أن يرفع في موضع يأمنون فيه، وقدّم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بين يديه خالد بن الوليد في ألف من أصحابه إلى الطائف، فأتى خالد الطائف فنزل ناحية من الحصن، وقامت ثقيف على حصنها بالرّجال والسّلاح، ودنا خالد في نفر من أصحابه فدار بالحصن من كان متنحيا عنه، ونظر إلى نواحيه، ثم وقف في ناحية من الحصن فنادى بأعلى صوته: ينزل إليّ بعضكم أكلّمه وهو آمن حتى يرجع، أو اجعلوا لي مثل ما جعلت لكم، وأدخل عليكم حصنكم أكلمكم. قالوا: لا ينزل إليك رجل منا ولا تصل إلينا، وقالوا: يا خالد إنّ صاحبكم لم يلق قوما يحسنون قتاله غيرنا. قال خالد: فاسمعوا من قولي، نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بأهل الحصون والقوة بيثرب وخيبر، وبعث رجلا واحدا إلى فدك فنزلوا على حكمه، وأنا أحذركم مثل يوم بني قريظة، حصرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أيّاما، ثم نزلوا على حكمه، فقتل مقاتلتهم في صعيد واحد ثمّ سبى الذّرية، ثم دخل مكة فافتتحها وأوطأ هوازن في جمعها، وأنتم في حصن في ناحية من الأرض، لو ترككم لقتلكم من حولكم ممن أسلم. قالوا: لا نفارق ديننا، ثم رجع خالد بن الوليد إلى منزله.
وسار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد خالد ولم يرجع إلى مكة، ولابها عرج على شيء إلا على غزو الطائف قبل أن يقسم غنائم حنين وقبل كل شيء وترك السّبي بالجعرانة وملئت عرش مكة منهم.
وكان مسيره في شوال سنة ثمان، وقال شدّاد بن عارض الجشميّ- رضي الله عنه- في مسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
لا تنصروا اللّات إنّ الله مهلكها ... وكيف ينصر من هو ليس ينتصر؟
إنّ الّتي حرّقت بالسّدّ فاشتعلت ... ولم تقاتل لدى أحجارها هدر
إنّ الرّسول متى ينزل بلادكم ... يظعن وليس بها من أهلها بشر
قال ابن إسحاق- رحمه الله تعالى- فسلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعني من حنين إلى الطائف على نخلة اليمانية، ثم على قرن ثم على المليح، ثم على بحرة الرّغاء من ليّة، فابتنى بها مسجدا فصلّى فيه، وأقاد يومئذ ببحرة الرّغاء حين نزلها بدم، وهو أوّل دم أقيد به في الإسلام، أتي برجل من بني ليث قتل رجلا من هذيل فقتله به. وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وهو بليّة بحصن مالك بن عوف فهدم. وصلّى الظّهر بليّة. ثم سلك في طريق يقال لها الضّيقة،(5/382)
فلمّا توجّه إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وسأل عن اسمها فقيل: الضّيقة، فقال: «بل هي اليسرى» فخرج منها على نخب حتّى نزل تحت سدرة يقال لها الصادرة قريبا من مال رجل من ثقيف، قد تمنّع فيه، فأرسل إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «أما إن تخرج وإمّا أن نحرق عليك حائطك» [ (1) ] فأبى أن يخرج فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بإحراقه.
ذكر إعلامه- صلى الله عليه وسلّم- بقبر أبي رغال، وما وقع في ذلك من الآيات
روى ابن إسحاق، وأبو داود، والبيهقي عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال:
سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يقول: «حين خرجنا معه إلى الطّائف فمررنا بقبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم يدفع عنه فلمّا خرج أصابته النّقمة الّتي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه أصبتموه» [ (2) ] . قال: فابتدره الناس فنبشوه فاستخرجوا منه الغصن.
ذكر محاصرته- صلى الله عليه وسلّم- الطائف
قال ابن إسحاق- رحمه الله تعالى-: ثم مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتّى نزل قريبا من الطّائف، فضرب عسكره، وأشرفت ثقيف على حصنهم- ولا مثال له في حصون العرب- وأقاموا رماتهم، وهم مائة رام، فرموا بالسّهام والمقاليع من بعد من حصنهم، ومن دخل تحت الحصن دلّوا عليه سكك الحديد محماة بالنّار يطير منها الشرر، فرموا المسلمين بالنّبل رميا شديدا، كأنه رجل جراد حتى أصيب ناس من المسلمين بجراح، وقتل منهم اثنا عشر رجلا، فارتفع- صلى الله عليه وسلم- إلى موضع مسجده اليوم، الذي بنته ثقيف بعد إسلامها، بناه أمية بن عمرو بن وهب بن معتب بن مالك، وكانت فيه سارية لا تطلع عليها الشمس صبيحة كل يوم حتى يسمع لها نقيض أكثر من عشر مرات، فكانوا يرون أن ذلك تسبيح، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب، فضرب لهما قبّتين وكان يصلّي بين القبّتين طول حصار الطائف كله، وقال عمرو بن أمية الثّقفي- وأسلم بعد ذلك، ولم يكن عند العرب أدهى منه- لا يخرج إلى محمد أحد إذا دعا أحد من أصحابه إلى البراز، ودعوه يقيم ما أقام، وأقبل خالد بن الوليد ونادى: من يبارز؟ فلم يطلع إليه أحد، ثم عاد فلم ينزل إليه أحد، ثم عاد فلم ينزل إليه أحد، فنادى عبد
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 925.
[ (2) ] أخرجه أبو داود (3088) وعبد الرزاق (20989) والبيهقي في السنن الكبرى 4/ 156 وفي الدلائل 6/ 297، 7/ 497.(5/383)
ياليل: لا ينزل إليك أحد، ولكنّا نقيم في حصننا، خبأنا فيه ما يصلحنا سنين، فإذا أقمت حتى يذهب هذا الطعام خرجنا إليك بأسيافنا جميعا حتى نموت عن آخرنا.
فقاتلهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالرمي عليهم وهم يقاتلونه بالرمي من وراء الحصن، فلم يخرج إليه أحد، وكثرت الجراحات له من ثقيف بالنّبل، وقتل جماعة من المسلمين.
ذكر بعثه مناديا ينادي: من نزل من العبيد فهو حر
قال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير: حدثني عبد الله بن المكرم الثقفي، ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا: نادى منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «أيّما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ» فخرج من الحصن بضعة عشر رجلا: المنبعث، وكان اسمه المضطجع فسمّاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المنبعث حين أسلم، وكان عبدا لعثمان بن عامر بن معتّب، وكان جوادا روميّا، والأزرق بن عقبة بن الأزرق وكان عبدا لكلدة- بفتح الكاف وسكون اللام، وبالدال المهملة- الثقفي ثم صار حليفا في بني أمية، ووردان وكان عبدا لعبد الله بن ربيعة الثّقفي، ويحنّس- بضم التّحتية وفتح الحاء المهملة والنون المشدّدة وبالسين المهملة- النّبّال وكان عبدا ليسار بن مالك الثّقفي، وأسلم سيّده بعد، فردّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليه ولاءه، وإبراهيم بن جابر، وكان عبدا لخرشة- بفتح الخاء المعجمة والراء والشين المعجمة الثّقفي، ويسار، وكان عبدا لعثمان بن عبد الله. وأبو بكرة نفيع- بضم النون وفتح الفاء وسكون التحتية- بن مسروح- بفتح الميم وسكون السين المهملة وضم الراء وبالحاء المهملة- وكان عبدا للحارث بن كلدة، وإنّما كنّي بأبي بكرة لأنه نزل في بكرة من الحصن، ونافع أبو السايب وكان عبدا لغيلان بن سلمة، فأسلم غيلان بعد، فردّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولاءه إليه، ونافع بن مسروح، ومرزوق غلام لعثمان بن عبد الله.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم الطّائف «من خرج إلينا من العبيد فهو حرّ» فخرج عبيد من العبيد فيهم أبو بكرة، فأعتقهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
[ (1) ] .
وروى الشيخان عن أبي عثمان النهدي قال: سمعت سعدا- وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله- وأبا بكرة- وكان قد تسوّر حصن الطائف قالا: سمعنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول:
«من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم فالجنة عليه حرام»
[ (2) ] . وفي رواية نزل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- ثلاثة
__________
[ (1) ] أخرجه احمد 1/ 248 وابن سعد 2/ 1/ 115، وانظر المجمع 4/ 245 والبداية 4/ 347.
[ (2) ] أخرجه البخاري 12/ 54 (6766) ، ومسلم 1/ 80 (115/ 63) .(5/384)
وعشرون من الطائف- فشق ذلك على أهل الطّائف مشقة شديدة، واغتاظوا على غلمانهم- فأعتقهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ودفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كل رجل منهم إلى رجل من المسلمين يمونه ويحمله فكان أبو بكرة إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وكان الأزرق، إلى خالد بن سعيد بن العاص، وكان وردان إلى أبان بن سعيد بن العاص، وكان يحنّس النّبال إلى عثمان بن عفّان، وكان يسار بن مالك إلى سعد بن عبادة، وكان إبراهيم بن جابر إلى أسيد بن الحضير، وأمرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أن يقرئوهم القرآن، ويعلموهم السنن، فلما أسلمت ثقيف تكلمت أشرافهم في هؤلاء المعتقين، منهم الحارث بن كلدة يردونهم إلى الرّق،
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أولئك عتقاء الله، لا سبيل إليهم»
[ (1) ] .
ذكر رميه- صلى الله عليه وسلّم- حصن الطائف بالمنجنيق
قال محمد بن عمر: قالوا: وشاور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فقال له سلمان الفارسي- رضي الله عنه-: يا رسول الله أرى أن تنصب المنجنيق على حصنهم، فإنّا كنّا بأرض فارس ننصب المنجنيقات على الحصون. وتنصب علينا، فنصيب من عدوّنا ويصيب منّا بالمنجنيق، وإن لم يكن منجنيق طال الثّواء، فأمره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعمل منجنيقا بيده، فنصبه على حصن الطائف، وهو أول منجنيق رمي به في الإسلام.
وروى ابن سعد عن مكحول- رحمه الله تعالى- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نصب المنجنيق على أهل الطّائف أربعين يوما، ويقال: قدم به يزيد بن زمعة بن الأسود وبدبّابتين، ويقال:
الطفيل بن عمرو، ويقال: خالد بن سعيد قدم من جرش بمنجنيق وبدبّابتين، ونثر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الحسك، شقتين من حسك من عيدان حول حصنهم، ودخل المسلمون من تحت الدّبابة، وهي من جلود البقر. وذلك اليوم يقال له يوم الشّدخة لما شدخ فيه من الناس، ثمّ زحفوا بها إلى جدار الحصن ليحفروه، فأرسلت ثقيف بسكك الحديد المحماة بالنّار، فحرّقت الدّبّابة، فخرج المسلمون من تحتّها وقد أصيب منهم من أصيب، فرمتهم ثقيف بالنّبل، فقتل منهم رجال فأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بقطع أعنابهم ونخيلهم وتحريقها، قال عروة: أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كل رجل من المسلمين أن يقطع خمس نخلات وخمس حبلات، فقطع المسلمون قطعا ذريعا.
فنادت ثقيف: لم تقطع أموالنا؟ إمّا أن تأخذها إن ظهرت علينا، وإمّا أن تدعها لله وللرّحم فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: فإني أدعها لله وللرحم فتركها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وكان رجل يقوم على الحصن فيقول: روحوا رعاء الشاء روحوا جلابيب محمّد أتروننا نبتئس على أحبل أصبتموها من كرومنا؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «اللهمّ روّح مروّحا إلى النّار» .
__________
[ (1) ] انظر نصب الرابة 3/ 281.(5/385)
قال سعد بن أبي وقّاص فأرميه بسهم فوقع في نحره فهوى من الحصن ميّتا، فسرّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بذلك.
ذكر استئذان عيينة بن حصن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في إتيان أهل الطائف يدعوهم إلى الإسلام، وما وقع في ذلك من الآيات
روى أبو نعيم والبيهقي عن عروة بن الزبير- رحمه الله تعالى- قال استأذن عيينة ابن حصن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يأتي أهل الطائف يكلمهم لعل الله تعالى- أن يهديهم، فأذن له، فأتاهم ودخل في حصنهم، وقال بأبي أنتم تمسكوا بمكانكم فو الله لنحن بأذل من العبيد، وأقسم بالله لو حدث به حدث ليملكن العرب عزّا ومنعة، وإياكم أن تعطوا بأيديكم، ولا يتكاثر عليكم قطع هذا الشجر، ثم رجع إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال له: «ما قلت لهم يا عيينة؟» قال:
أمرتهم بالإسلام، ودعوتهم إليه، وحذّرتهم النّار، ودللتهم على الجنّة، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «كذبت، بل قلت لهم كذا وكذا» [ (1) ] وقصّ عليه قوله، فقال: صدقت يا رسول الله، أتوب إلى الله وإليك من ذلك.
ذكر اشتداد الأمر وحثه- صلى الله عليه وسلّم- على الرمي
قال: وعن عمرو بن عبسة- رضي الله عنه- حاصرنا قصر الطائف مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فسمعته يقول: «من بلغ بسهم فله درجة في الجنة» فبلغت يومئذ ستّة عشر سهما، وسمعته يقول: «من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرّر، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة، وأيّما رجل أعتق رجلا مسلما فإنّ الله سبحانه وتعالى جاعل كلّ عظم من عظامه وقاء كل عظم بعظم، وأيّما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله عز وجلّ جاعل كلّ عظم من عظامها وقاء كل عظم من عظامها في النّار» [ (2) ] رواه يونس بن بكير وأبو داود والترمذي وصححه النّسائي
. ذكر نهيه- صلّى الله عليه وسلم- عن دخول المخنثين على النساء
روى يونس بن بكير في زيادة المغازي، والشيخان عن أم سلمة- رضي الله عنها- قالت: كان عندي مخنّث- وهو في عرف السّلف: الذي لا همّ له إلى النّساء لا غير ذلك.
كما سيأتي:
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 157.
[ (2) ] أخرجه أبو داود (3965) وأحمد 4/ 384 والنسائي 7/ 104، والحاكم 3/ 50 واحمد 4/ 113، والبيهقي في الدلائل 5/ 159، وفي السنن 10/ 272.(5/386)
فقال لعبد الله أخي: إن فتح الله عليكم الطائف غدا فإني أدلّك على ابنه غيلان فإنّها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فسمع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قوله. فقال: «لا أرى هذا يعلم ما ها هنا لا تدخلنّ هؤلاء عليكن»
وكانوا يرونه من غير أولى الاربة من الرّجال، قال ابن جريج: اسمه هيت. قال ابن إسحاق: كان مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائد مخنّث يقال له ماتع يدخل على نساء رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ويكون في بيته ولا يرى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أنه يفطن لشيء من أمور النّساء ممّا يفطن الرّجال إليه، ولا يرى أن له في ذلك إربا، فسمعه
وهو يقول لخالد بن الوليد: يا خالد إن فتح رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الطّائف فلا تفلتنّ منك بادية بنت غيلان، فإنّها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حين سمع هذا منه «لا أرى الخبيث يفطن لما أسمع» ثم قال لنسائه «لا تدخلنه عليكن» فحجب عن بيت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-
[ (1) ] .
ذكر منام رسول الله صلى الله عليه وسلم الدال على عدم فتح الطائف حينئذ وإذنه بالرجوع واشتداد الرجوع على الناس قبل الفتح
قال ابن إسحاق: وبلغني أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لأبي بكر: «إنّي رأيت أني أهديت لي قعبة مملوءة زبدا فنقرها ديك، فهراق ما فيها» فقال أبو بكر: ما أظن أن تدرك منهم يومك هذا ما تريد، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «وأنا لا أرى ذلك» .
وروى محمد بن عمر عن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: لمّا مضت خمس عشرة من حصار الطّائف، استشار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نوفل بن معاوية الديلي- رضي الله عنه- فقال: «يا نوفل ما ترى في المقام عليهم» قال: يا رسول الله ثعلب في جحر إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.
قال ابن إسحاق: ثم إنّ خولة بنت حكيم السّلمية، وهي امرأة عثمان بن مظعون، قالت:
يا رسول الله، اعطني، إن فتح الله عليك الطائف- حليّ بادية بنت غيلان، أو حليّ الفارعة بنت عقيل- وكانتا من أحلى نساء ثقيف- فروى: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لها: «وإن كان لم يؤذن لنا في ثقيف يا خولة؟» فخرجت خولة، فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فدخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ما حديث حدّثتنيه خولة؟» زعمت أنك قلته؟ قال «قد قلته» قال «أو ما أذن فيهم» قال: «لا» قال: أفلا أؤذن الناس بالرّحيل؟ قال:
«بلى» فأذّن عمر بالرّحيل.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (4324، 4325) ، ومسلم 3/ 1715 (32) ، والبيهقي في السنن الكبرى 8/ 224، وفي الدلائل 5/ 161.(5/387)
وروى الشيخان عن ابن عمرو أو ابن عمر- رضي الله عنهم- قال: لمّا حاصر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الطائف ولم ينل منهم شيئا قال «إنّا قافلون غدا إن شاء الله تعالى» فثقل عليهم، وقالوا:
أنذهب ولا نفتح؟ وفي لفظ فقالوا: لا نبرح أو نفتحها، فقال: «اغدوا على القتال» فغدوا فقاتلوا قتالا شديدا، فأصابهم جراح، فقال: «إنّا قافلون غدا إن شاء الله تعالى» قال: فأعجبهم، فضحك رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قال عروة- رحمه الله تعالى- كما رواه البيهقي- وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الناس أن لا يسرّحوا ظهرهم، فلما أصبحوا، ارتحل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ودعا حين ركب قافلا وقال: «اللهمّ اهدهم واكفنا مؤنتهم»
[ (1) ] .
وروى الترمذي- وحسنه عن جابر- رضي الله عنه- قال: قال يا رسول الله أحرقتنا نار ثقيف، فادع الله- تعالى- عليهم فقال: «اللهم اهد ثقيفا وأت بهم»
[ (2) ] .
قال ابن إسحاق في رواية يونس وحدثني عبد الله بن أبي بكر، وعبد الله بن المكرم عمن أدركوا من أهل العلم: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حاصر أهل الطائف ثلاثين ليلة أو قريبا من ذلك ثم انصرف عنهم ولم يؤذن فيهم، فقدم وفدهم في رمضان فأسلموا، قلت: وسيأتي بيان ذلك في الوفود إن شاء الله تعالى. قال ابن إسحاق في رواية زياد: «وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة، وقيل: عشرين يوما وقيل: بضع عشرة ليلة» قال ابن حزم: وهو الصحيح بلا شك.
وروى الإمام أحمد، ومسلم عن أنس أنهم حاصروا الطائف أربعين ليلة واستغربه في البداية.
قال محمد بن عمر: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لأصحابه حين أرادوا أن يرتحلوا: «قولوا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده» فلما ارتحلوا واستقبلوا قال: «قولوا آئبون، إن شاء الله تائبون عابدون لربّنا حامدون» .
ذكر من استشهد من المسلمين بالطائف وهم اثنا عشر رجلا
سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية.
وعرفطة- بضم العين المهملة، وسكون الراء، وضم الفاء، وبالطّاء المهملة- ابن حباب- بضم الحاء المهملة، وتخفيف الموحدة.
ويزيد بن زمعة- بفتح الزّاي- وسكون الميم- ابن الأسود- جمح به فرسه إلى حصن الطّائف فقتلوه.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (4325) ومسلم في الجهاد باب غزوة الطائف (82) ، والبيهقي في الدلائل 5/ 169.
[ (2) ] أخرجه الترمذي (3942) وأحمد 3/ 343 وابن سعد 2/ 1/ 115 وابن أبي شيبة 12/ 201، 14/ 508 وانظر البداية 4/ 350، 352.(5/388)
وعبد الله بن أبي بكر الصديق- رضي الله عنهما- رمي بسهم فلم يزل جريحا حتّى مات بالمدينة بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وهو غير شهيد عند الشّافعية لأنه توفي بعد انقضاء الحرب بمدّة مديدة.
وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، رمي في الحصن.
وعبد الله بن عامر بن ربيعة.
والسّائب بن الحارث بن قيس السّهمي، وأخوه عبد الله بن الحارث بن قيس.
وجليحة- بضم الجيم، وفتح اللّام، وسكون التّحتية، وبالحاء المهملة، ابن عبد الله.
وثابت بن الجذع- بفتح الجيم والذّال المعجمة وبالعين المهملة، واسمه ثعلبة السّلمي- بفتح السّين، واللّام.
والحارث بن سهل بن أبي صعصعة.
والمنذر بن عبد الله بن نوفل.
وذكر في العيون هنا: رقيم بن ثابت بن ثعلبة مع ذكره له فيمن استشهد بحنين، تبع هناك ابن إسحاق، وهنا ابن سعد.
ذكر مسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الطائف إلى الجعرانة
قالوا: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- من الطائف فأخذ على دحنا، ثمّ على قرن المنازل، ثم على نخلة، ثم خرج إلى الجعرانة وهو على عشرة أميال من مكة، قال سراقة بن جعشم رضي الله عنه: لقيت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وهو منحدر من الطّائف إلى الجعرانة فتخلصت إليه- والنّاس يمضون أمامه أرسالا- فوقفت في مقنب من خيل الأنصار، فجعلوا يقرعونني بالرّماح ويقولون: إليك إليك، ما أنت؟ وأنكروني، حتّى إذا دنوت وعرفت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يسمع صوتي أخذت الكتاب الّذي كتبه لي أبو بكر فجعلته بين إصبعين من أصابعي، ثم رفعت يدي به وناديت: أنا سراقة بن جعشم، وهذا كتابي،
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «هذا يوم وفاء وبرّ، ادنوه فأدنيت منه، فكأني أنظر إلى ساق رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في غرزه كأنها الجمارة، فلمّا انتهيت إليه سلمت وسقت الصّدقة إليه، وما ذكرت شيئا أسأله عنه إلا أنّي قلت: يا رسول الله أرأيت الضالة من الإبل تغشى حياضي وقد ملأتها لإبلي هل لي من أجر إن سقيتها؟ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «نعم في كلّ ذات كبد حرّى أجر»
رواه قال محمد بن عمر: وقد كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كتب لسراقة كتاب موادعة سأل سراقة إياه، فأمر به فكتب له أبو بكر، أو عامر بن فهيرة، وتقدم بيان ذلك في أبواب الهجرة إلى المدينة.(5/389)
وروى محمد بن عمر عن أبي رهم الغفاري- رضي الله عنه- قال: بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسير وأنا إلى جنبه، وعليّ نعلان غليظان، إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأوجعته، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «أوجعتني أخّر رجلك» وقرع رجلي بالسوط فأخذني ما تقدم من أمري وما تأخر، وخشيت أن ينزل فيّ قرآن لعظم ما صنعت، فلمّا أصبحنا بالجعرانة، خرجت أرعى الظّهر وما هو يومي، فرقا أن يأتي رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ورسول الله يطلبني، فلمّا روّحت الرّكاب سألت: فقيل لي طلبك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقلت: إحداهن والله، فجئت وأنا أترقب، فقال «إنّك أوجعتني برجلك، فقرعتك بالسّوط فأوجعتك، فخذ هذه الغنم عوضا عن ضربي» قال أبو رهم: فرضاه عنّي كان أحب إلى من الدنيا وما فيها.
وقال ابن إسحاق في رواية سلمة: حدّثني عبد الله بن أبي بكر أن رجلا ممن شهد حنينا قال والله إني لأسير إلى جنب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على ناقة لي وفي رجلي نعل غليظة إذ زحمت ناقتي ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ويقع حرف نعلي على ساق رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأوجعته فقرع قدمي بالسّوط، وقال: «أوجعتني فتأخّر عنّي» فانصرفت، فلما كان من الغد إذا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يلتمسني، فقلت: هذا والله لما كنت أصبت من رجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالأمس، قال فجئته وأنا أترقب فقال «إنّك أصبت رجلي بالأمس فأوجعتني فقرعت قدمك بالسّوط فدعوتك لأعوّضك منها» فأعطاني ثمانين نعجة بالضربة التي ضربني.
قال ابن إسحاق وغيره: ونزل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الجعرانة فيمن معه، ومعه سبي هوازن ستّة آلاف من الذّراري والنساء، ومن الإبل والشاء ما لا ندري عدته. وذكر محمد بن عمر، وابن سعد، أن السّبي كان ستّة آلاف رأس. والإبل أربعة وعشرين ألف بعير، والغنم لا يدري عدّتها وقال ابن سعد: أكثر من أربعين ألفا، وأربعة آلاف أوقية فضة، فاستأنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالسّبي لكي يقدم عليه وفدهم.
قدوم وفد هوازن ورد السبي إليهم
قال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير عن ابن عمرو- رضي الله عنهما- قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بحنين، فلمّا أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم أدركه وفد هوازن بالجعرانة، وهم أربعة عشر رجلا، ورأسهم زهير بن صرد، وفيهم أبو برقان عم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة وقد أسلموا- فقالوا: يا رسول الله إنّا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك فامنن علينا منّ الله عليك.
وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله إن ما في الحظائر من السّبايا عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك. ولو أنا ملحنا- وقيل: منحنا- للحرث بن أبي(5/390)
شمر، أو للنّعمان بن المنذر ثمّ أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما وعطفهما، وأنت يا رسول الله خير المكفولين، ثم أنشأ يقول: فذكر بعض الشعر الآتي:
أخبرنا الأئمة المسندون، أبو فارس عبد العزيز. الحافظ عمر بن فهد الهاشمي العلوي بقراءتي عليه بالمسجد الحرام، وأبو الفتح جمال الدين بن الإمام أبو الفتح علاء الدين القلقشندي. قرأه عليه وأنا أسمع بمنزله بحارة بهاء الدّين من القاهرة، وأبو الفضل عبد الرحيم بن الإمام محب الدين بن الأوجاقي في إجازة خاصّة- الشّافعيّون رحمهم الله تعالى.
قال الأول: أخبرنا المشايخ الأربعة قاضي القضاة شهاب الدّين أبو جعفر محمد بن شهاب الدين أحمد بن عمر بن الضّياء القرشي الأموي الشهير بابن العجمي، وابن أمير الدّولة محمد بن علي بن عبد الرحمن بن عبد الغفور الحلبيان، وقاضي المسلمين عز الدّين أبو محمد عبد الرحيم بن ناصر الدين محمد بن عبد الرحيم بن الفرات الحنفي، والأصيلة أم محمد سارة بنت عمر بن عبد العزيز بن جماعة المصريان مكاتبة في كل منهم، قالوا: أنبأنا مسند الدّنيا صلاح الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أبي عمر الصّالحي- زاد ابن الفرات وسارّة فقالا: والنجم أحمد بن النجم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبي عمر، البهاء حسن بن أحمد بن هلال بن الهبل، وزين الدين أبو حفص عمر بن حسن بن يزيد بن أمية المراغي، وزاد ابن الفرات فقال: وأم محمد ستّ العرب ابنة محمد بن علي بن البخاري، قالوا: أخبرنا رحّالة الدّنيا فخر الدّين أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد الواحد بن البخاري، قالت حفيدته: حضورا- وقال الآخرون: أجازة، قال في رواية حفيدته: أنبأنا أبو جعفر محمد بن نصر الصيدلاني، وقال في رواية الآخرين: أنبأنا أبو القاسم عبد الواحد بن القاسم الصّيدلاني، وأم هانئ عفيفة ابنة أحمد الأصبهانية، وقال شيخنا الثاني: أخبرنا المسند الرحالة زين الدّين أبو زيد عبد الرحمن القباني إجازة مكاتبة وأم الحسن فاطمة ابنة الخليل بن أحمد وقريبتهما أم أحمد عائشة بنت علي بن أحمد الحنبليتان- إجازة، أن لم يكن سماعا، قالوا:
أخبرنا أبو الحزم محمد بن محمد القلانسي قال الأولون إجازة، وقالت الأخيرة قراءة وأنا حاضرة، أنبأتنا المسندة مؤنسة خاتون ابنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب قراءة عليها وأنا أسمع: أنبأنا أبو الفخر سعد بن سعيد بن روح. وأبو سعد أحمد بن محمد بن أبي نصر، وأم هانئ عفيفة بنت أحمد بن عبد الله الفارقاني، وأم حبيبة عائشة بنت معمر بن الفاخر، - إجازة- وقال شيخنا الثالث أخبرنا شهاب الواسطي- قراءة عليه وأنا أسمع- قال: أخبرنا مسند الوقت، الصدر أبو الفتح الميدومي عن أبي العباس أحمد بن عبد الدّايم بن يحيى بن محمود أخبره- أن لم يكن سماعا فإجازة- قالوا: أخبرتنا أم إبراهيم فاطمة بنت عبد الله بن أحمد(5/391)
الجوزدانية، زاد يحيى بن محمود ومحمد بن أحمد بن المظفر- حضورا- قالوا: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن المظفّر ريذة الضّبّي قال: أخبرنا الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني قال: حدثنا عبيد الله بن رماحس القيسي برمادة الرملة سنة أربع وسبعين ومائتين قال: حدثنا أبو عمر، وزياد بن طارق، وكان قد أتت عليه مائة وعشرون سنة قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي- رضي الله عنه- يقول: لما أسرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين ويوم هوازن وذهب يفرّق السّبي والشاء أتيته وأنشأت أقول هذا الشعر.
امنن علينا رسول الله في كرمٍ ... فإنّك المرء نرجوه وننتظر [ (1) ]
امنن على بيضة قد عاقها قدر ... مشتّت شملها في دهرها غير
أبقت لنا الدّهر هتّافا على حزن ... على قلوبهم الغمّاء والغمر
إن لم تداركها [ (2) ] نغماء تنشرها ... يا أرجح النّاس حلماً حين يختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك مملؤة من مخضها الدّرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنّا كمن شالت نعامته ... واستبق منّا فإنّا معشر زهر
إنّا لنشكر للنّعما إذا كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمّهاتك إنّ العفو مشتهر
يا خير من مرحت كمت الجيادبه ... عند الهياج إذا ما استوقد الشّرر
إنّا نؤمّل عفوا منك تلبسه ... هادي البريّة إن تعفوا وتنتصر
فاعف عفا الله عمّا أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظّفر
فلمّا سمع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- هذا الشّعر قال: «ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم»
[ (1) ] وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله. هذا حديث جيّد الإسناد عال جدّا، رواه الضّياء المقدس في صحيحه ورجع الحافظ بن حجر إنه حديث حسن. وبسط الكلام عليه في بستان الميزان.
قال ابن إسحاق: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «نساؤكم وأبناؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟»
[ (2) ] .
وفي الصحيح عن المسور بن مخرمة- رضي الله عنهما- ومروان بن الحكم: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «فيمن ترون؟ وأحبّ الحديث إليّ أصدقه، فاختاروا إحدى الطّائفتين، إمّا
__________
[ (1) ] تقدم.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في السنن 6/ 336، 9/ 75، وفي الدلائل 5/ 195 والبداية 4/ 353.(5/392)
السّبي، وإمّا المال وقد كنت استأنيت بكم» وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطّائف، فلمّا تبيّن لهم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- غير رادّ عليهم إلا إحدى الطّائفتين قالوا: يا رسول الله خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا؟ بل أبناؤنا ونساؤنا أحبّ إلينا، ولا نتكلم في شاة ولا بعير، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم، وإذا أنا صلّيت بالنّاس فأظهروا إسلامكم، وقولوا: إنا إخوانكم في الدّين، وإنّا نستشفع برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فإنّي سأعطيكم ذلك، وأسأل لكم النّاس» وعلمهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- التشهّد، وكيف يكلّمون النّاس. فلما صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بالنّاس الظّهر قاموا فاستأذنوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الكلام، فأذن لهم، فتكلّم خطباؤهم بما أمرهم به رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأصابوا القول فأبلغوا فيه ورغبوا إليهم في ردّ سبيهم، فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حين فرغوا ليشفع لهم. وفي الصحيح عن المسور ومروان: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قام في المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد فإنّ إخوانكم قد جاءونا تائبين، وإني قد رأيت أن أرد عليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إيّاه من أول فيء يفيئه الله علينا فليفعل» فقال الناس قد طبنا ذلك يا رسول الله، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» [ (1) ] فرجع الناس [فكلمهم] عرفاؤهم.
قال ابن إسحاق: وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «أمّا ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم» فقال المهاجرون وما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لله ولرسوله. فقال الأقرع بن حابس: أمّا أنا وبنو تميم فلا. وقال عيينة بن حصن: أمّا أنا وبنو فزارة فلا. وقال العباس بن مرداس: أمّا أنا وبنو سليم فلا. فقالت بنو سليم: ما كان لنا فهو لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال العباس بن مرداس: وهنتموني، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من كان عنده منهن شيء فطابت نفسه أن يردّه فسبيل ذلك، ومن أمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ستّ فرائض من أول فيء يفيئه الله فردّ المسلمون إلى الناس نساءهم وأبناءهم، ولم يتخلف منهم أحد غير عيينة بن حصن فإنّه أخذ عجوزا فأبى أن يردّها
كما سيأتي» .
قال محمد بن عمر ومحمد بن سعد: وكسى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- السبي قبطية، قال ابن عقبة كساهم ثياب المعقّد.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 627 (4318، 4319) .(5/393)
ذكر دعائه- صلى الله عليه وسلم- علي من أبى أن يرد شيئا من السبي أن يخيس
روى أبو نعيم عن عطية السعدي- رضي الله عنه- أنه كان ممن كلّم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في سبي هوازن، وكلّم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه، فردّوا عليهم سبيهم إلا رجلا واحدا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم أخس سهمه» فكان يمر بالجارية فيدع ذلك حتى مر بعجوز، فقال آخذ هذه فإنها أمّ حي فيفدونها عليه. فكبر عطية وقال: خذها.
خذها والله ما فوها ببارد ... ولا ثديها بناهد
ولا زوجها بواحد ... عجوز يا رسول الله مالها أحد
فلما رأى أنه لا يعرض لها أحد تركها.
وذكر ابن إسحاق ومحمد بن عمر واللفظ له: أن عيينة بن حصن حين أبى أن يردّ حظّه من السّبي خيّروه في ذلك، فنظر إلى عجوز كبيرة، فقال: هذه أمّ الحيّ، لعلهم أن يغلوا فداءها، فإنه عسى أن يكون لها في الحيّ نسب، فجاء ابنها إلى عيينة فقال: هل لك في مائة من الإبل؟ فقال عيينة: لا، فرجع عنه وتركه ساعة فقالت العجوز: ما أربك فيّ، بعد مائة ناقة، أتركه فما أسرع أن يتركني بغير فداء، فلمّا سمعها عيينة قال: ما رأيت كاليوم خدعة، قال: ثم مرّ عليه ابنها فقال له عيينة: هل لك في العجوز لما دعوتني إليه؟ قال ابنها: لا أزيدك على خمسين. قال عيينة: لا أفعل، قال: فلبث ساعة ثم مر به أخرى وهو يعرض عنه فقال له عيينة:
هل لك في العجوز بالّذي بذلت لي؟ قال الفتى: لا أزيدك على خمس وعشرين فريضة هذا الّذي أقوى عليه، قال عيينة: لا أفعل والله، بعد مائة فريضة خمس وعشرون!! فلمّا تخوّف عيينة أن يتفرّق الناس ويرتحلوا، جاء عيينة فقال: هل لك إلى ما دعوتني إليه إن شئت؟ فقال الفتى: هل لك في عشر فائض أعطيكها، قال عيينة: والله لا أفعل، قال الفتى:
والله ما ثديها بناهد ولا بطنها بوالد، ولا فوها ببارد، ولا صاحبها بواجد، فأخذتها من بين من ترى، قال عيينة: خذها لا بارك الله لك فيها، فقال الفتى: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قد كسا السّبي فاخطأها من بينهم بالكسوة، فهل أنت كاسيها ثوبا؟ فقال: لا والله ما ذلك لها عندي، قال: لا وتفعل، فما فارقه حتى أخذ منه سمل ثوب، ثم ولّى الفتى وهو يقول: والله إنّك لغير بصير بالفرض.
وذكر محمد بن إسحاق انّه ردها بستّ فرائض.
وروى البيهقي عن الإمام الشافعي- رضي الله عنه- أنه ردّها بلا شيء.(5/394)
ذكر قسمته- صلى الله عليه وسلّم- أموال هوازن بعد أن رد عليهم سبيهم
روى ابن إسحاق في رواية يونس عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لما فرغ من ردّ سبايا هوازن، ركب بعيره وتبعه الناس يقولون: يا رسول الله، اقسم علينا فيئنا حتّى اضطرّوه إلى شجرة فانتزعت رداءه، فقال: «يا أيها الناس، ردّوا عليّ ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعما لقسمته عليكم ثم ما ألقيتموني بخيلا ولا كذّابا» ، ثم قام رسول الله- إلى جنب بعيره، فأخذ من سنامه وبرة فجعلها بين إصبعيه فقال: «أيّها النّاس والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدّوا الخياط والمخيط وإيّاكم والغلول فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة» فجاء رجل من الأنصار بكبّة خيط من خيوط شعر، فقال: يا رسول الله، أخذت هذه الوبرة لأخيط بها برذعة بعير لي دبر، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أمّا حقّي منها فهو لك» فقال الرجل: أما إذ بلغ الأمر فيها هذا فلا حاجة لي بها، فرمى بها من يده
[ (1) ] .
وروى عبد الرزاق في جامعه عن زيد بن أسلم عن أبيه: أن عقيل بن أبي طالب- رضي الله عنه- دخل يوم حنين على امرأته فاطمة بنت شيبة وسيفه ملطّخ دما، فقال: دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك فدفعها إليها، فسمع منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أخذ شيئا فليرّده حتى الخياط والمخيط، فرجع عقيل وقال: ما أجد إبرتك إلّا ذهبت منك، فأخذها فألقاها في المغنم.
وعن عبادة بن الصامت- رضي الله عنه- قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم حنين إلى جنب بعير من المغانم فلمّا سلّم تناول وبرة بين أنملتين وفي رواية فجعلها بين إصبعيه ثم قال: «أيها النّاس، إن هذه من مغانمكم، وليس لي فيها إلا نصيبي معكم، الخمس، والخمس مردود عليكم فأدّوا الخيط والمخيط، وأكثر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا فإنه عار ونار وشنار على أهله في الدنيا والآخرة» رواه الإمام أحمد وابن ماجة.
وروى عبد الرزاق والبخاري عن جبير بن مطعم- رضي الله عنه- أنّه بينما هو مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ومعه النّاس مقفلة من حنين علقت الأعراب برسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسألونه، حتى اضطّروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ثم قال: «اعطوني ردائي فلو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته عليكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذّابا ولا جبانا»
[ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 6/ 337.
[ (2) ] أخرجه البخاري (2821) ، وأحمد 4/ 82 والطبراني في الكبير 2/ 135، وانظر البداية والنهاية 4/ 354.(5/395)
وعن أنس قال: كنت أمشي مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ فجذبه جذبة شديدة ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وهو يضحك، ثم أمر له بعطاء ورداء.
قالوا: وجمعت الغنائم بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فجاءه أبو سفيان بن حرب وقال: يا رسول الله أصبحت أكثر قريش مالا، فتبسم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-.
ذكر إعطائه- صلى الله عليه وسلّم- المؤلفة قلوبهم قبل غيرهم
قال ابن إسحاق: أعطى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- المؤلفة قلوبهم، وكانوا أشرافا من أشراف العرب، يتألفهم ويتألف بهم قومهم.
قال محمد بن عمر، وابن سعد: بدأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالأموال فقسمها، وأعطى المؤلفة قلوبهم أوّل الناس، قلت: فمنهم من أعطاه مائة بعير وأكثر، ومنهم من أعطاه خمسين، وجميع ذلك يزيد على الخمسين، وقد ذكرهم أبو الفرج ابن الجوزي في التّلقيح، وابن طاهر في مبهماته، والحافظ في الفتح، والبرهان الحلبي في النور، وهو أحسنهم سياقا وأكثرهم عددا، وعند كلّ منهم ما ليس عند الآخر، ولم يتعرض أحد منهم لما أعطى كلّ واحد، وقد تعرض محمد بن عمر، وابن سعد، وابن إسحاق لبعض ذلك كما سأنبّه عليه وهم: أبيّ- بضم الهمزة، وتشديد التحتية وهو الأخنس- بالخاء المعجمة والنون والسين المهملة، بن شريق- بالشين المعجمة والقاف.
أحيحة- بمهملتين مصغر- بن أميّة.
أسيد- بفتح أوله وكسر السين المهملة- بن جارية. بالجيم والتحتية- الثقفيّ، أعطاه مائة.
الأقرع- بالقاف والراء- ابن حابس- بالحاء المهملة وبالموحدة والسين المهملة- التميمي، أعطاه مائة.
جبير- بالجيم والموحّدة مصغر- بن مطعم- بضم الميم وسكون الطاء وكسر العين المهملتين.
الجدّ- بكسر الجيم وتشديد الدال المهملة- بن قيس الهميّ، كذا أورده التلقيح، ولم يذكره الحافظ في الفتح ولا في الإصابة، وإنما ذكره فيهما الجدّ بن قيس الأنصاريّ، ولم يتعرض لكونه من المؤلفة ولم يذكر في النور أنه سهميّ أو أنصاري، فإن صح أنه سهمي فهو وارد على الإصابة.
الحارث بن الحرث بن كلدة- بفتح الكاف واللام وبالدال المهملة. أعطاه مائة.
الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ، أعطاه مائة.(5/396)
حاطب بن عبد العزى العامري.
حرملة بن هوذة- بفتح الهاء وسكون الواو وبالذال المعجمة بن ربيعة بن عمرو بن عامر العامريّ.
حكيم- بوزن أمير- بن حزام- بكسر الحاء المهملة، وبالزاي- بن خويلد، أعطاه مائة، ثمّ سأله مائة أخرى، فأعطاه أياها.
روى الشيخان وغيرهما ومحمد بن عمر- واللفظ له- عن حكيم بن حزام- رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بحنين مائة من الإبل فأعطانيها ثم سألته مائة من الإبل فأعطانيها ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «يا حكيم إنّ هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالّذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السّفلى، وابدأ بمن تعول» فقال: والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحدا بعدك شيئا، فكان عمر بن الخطاب يدعوه إلى عطائه فيأبى، أن يأخذه، فيقول عمر: أيّها الناس أشهدكم على حكيم بن حزام، أدعوه إلى عطائه فيأبى أن يأخذه
[ (1) ] .
قال ابن أبي الزناد: أخذ حكيم المائة الأولى فقط وترك الباقي.
حكيم بن طليق- بوزن أمير- ابن سفيان.
حويطب- بضم المهملة، وفتح الواو، وسكون التحتية، وكسر الطاء المهملة وبالموحدة- ابن عبد العزّى القرشي العامريّ، أعطاه مائة.
خالد بن أسيد- بوزن أمير- ابن أبي العيص بن أميّة.
خالد بن قيس السهميّ.
خالد بن هوذة- بفتح الهاء وبالذال المعجمة- ابن ربيعة بن عامر العامري.
خلف بن هشام، نقله في النور عن بعض مشايخه عن الصغاني، ثم قال في النور: أنا لا أعرفه في الصحابة قلت: لم يذكره الذهبي في التجريد، ولا الحافظ في الإصابة، فإن صحّ فهو وارد عليه.
وذكر في العيون: رقيم بن ثابت بن ثعلبة، وتقدم أنه استشهد بحنين والله أعلم.
زهير بن أبي أمية بن المغيرة أخو أم المؤمنين أم سلمة.
زيد الخيل بن مهلهل الطائي، عزاه في الفتح لتلقيح ابن الجوزي، ولم أجده في نسختين.
السّائب بن أبي السائب.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (1472) .(5/397)
صيفي بن عائذ- بهمزة بعد الألف فذال معجمة- المخزومي.
سعيد بن يربوع بن عنكثة- بفتح العين المهملة- وسكون النون وفتح الكاف، والثاء المثلثة، أعطاه خمسين.
سفيان- بالحركات الثلاث في سينه وبسكون الفاء وبالتحتية- بن عبد الأسد المخزوميّ.
سهل بن عمرو بن عبد شمس العامريّ وأخوه سهيل بن عمرو، أعطاه مائة.
شيبة بن عثمان القرشي العبدريّ.
صخر بن حرب أبو سفيان، أعطاه مائة من الإبل وأربعين أوقية فضة.
صفوان بن أمية الجمحيّ، أعطاه مائة، وروى البخاري عن صفوان قال: ما زال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعطيني من غنائم حنين وهو أبغض الخلق إليّ حتى ما خلق الله- تعالى- شيئا هو أحب إلي منه. وفي صحيح مسلم أنه- صلى الله عليه وسلّم- أعطاه مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة [ (1) ] ،
قال محمد بن عمر: يقال إنّ صفوان طاف مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يتصفّح الغنائم إذ مرّ بشعب مملوء إبلا ممّا أفاء الله به على رسوله- صلى الله عليه وسلم- فيه غنم وإبل ورعاؤها مملوء، فأعجب صفوان وجعل ينظر إليه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أعجبك هذا الشّعب يا أبا وهب؟» قال: نعم. قال: «هو لك بما فيه» فقال صفوان: أشهد أنك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما طابت بهذا نفس أحد قط إلا نبي.
طليق بن سفيان والد حكيم السابق.
العباس بن مرداس- بكسر الميم وسكون الراء وبالدال المهملة. قال ابن إسحاق: أعطاه أباعر، وقال محمد بن عمر وابن سعد: أربعا من الإبل فسخطها.
وروى الإمام أحمد، ومسلم، والبيهقي عن رافع بن خديج- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أعطى المؤلفة قلوبهم من سبي حنين كل رجل منهم مائة من الإبل، فذكر الحديث فيه [ (2) ] : وأعطى العباس بن مرداس دون المائة، نقص من المائة ولم يبلغ به أولئك، فأنشأ العباس بن مرداس يقول:
أتجعل نهبي ونهب العب ... يد بين عيينة والأقرع
فما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
__________
[ (1) ] مسلم 2/ 737.
[ (2) ] أخرجه مسلم 2/ 737 (137/ 1060) .(5/398)
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فأتمّ له رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- المائة، ورواه البيهقي [ (1) ] عن ابن إسحاق رحمه الله بلفظه:
فقال العباس بن مرداس يعاتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
كانت نهابا تلافيتها ... بكرّي على المهر في الأجرع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا أهجع النّاس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبى ... د بين عيينة والأقرع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
وإلّا أفائل أعطيتها ... عديد قوائمها الأربع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في المجمع
وما كنت دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فبلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فدعاه وقال: «أنت القائل فأصبح نهبي، ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة؟» فقال أبو بكر الصديق: - رضي الله عنه- بأبي أنت وأمي لم يقل كذلك، ولا والله ما أنت بشاعر، وما ينبغي لك، وما أنت براوية. قال: «فكيف قال» ؟ فأنشده أبو بكر- رضي الله عنه- فقال النبي- صلى الله عليه وسلّم- «اقطعوا عنّي لسانه»
ففزع منها ناس، وقالوا: أمر بالعبّاس بن مرداس أن يمثّل به، وإنما أراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقوله: «اقطعوا عنّي لسانه» أي يقطعوه بالعطيّة من الشاء والغنم.
عبد الرحمن بن يربوع الثّقفي.
عثمان بن وهب المخزوميّ أعطاه خمسين.
عديّ بن قيس بن حذافة السّهميّ أعطاه خمسين.
عكرمة بن عامر العبدريّ.
عكرمة بن أبي جهل.
عمرو بن هشام، نقله في النور عن بعض مشايخه عن ابن التين.
علقمة بن علاثة- بضمّ العين والتخفيف، وبالثاء المثلثة- بن عوف- بالفاء عمرو بن الأهتم- بالفوقية.
عمرو بن بعكك- بموحدة، فعين مهملة، فكافين، وزن جعفر، أبو السّنابل- جمع سنبلة عمرو بن مرداس السّلميّ أخو عباس.
__________
[ (1) ] البيهقي في الدلائل 5/ 181.(5/399)
عمير- بضم أوله، وفتح الميم، وسكون التحتية- بن ودقة- بفتح الواو والدّال المهملة.
عمير بن وهب الجمحيّ، أعطاه خمسين.
العلاء بن جارية- بالجيم والتحتية- الثّقفيّ أعطاه خمسين. وقال ابن إسحاق: مائة.
عيينة- بضم العين المهملة، وكسرها، وفتح التحتية الأولى- بن حصن- بكسر الحاء، وبالصّاد المهملتين وبالنون- الفزاريّ، أعطاه مائة.
قيس بن عديّ السّهميّ، أعطاه مائة كذا ذكره ابن إسحاق، ومحمد بن عمر. وقال بعضهم: صوابه عديّ بن قيس- على العكس- وقال الحافظ: هما واحد فانقلب، أم اثنان؟
قلت: وهو الظّن، لاتّفاق ابن إسحاق والواقدي على ذلك.
قيس بن مخرمة- بفتح الميم، وسكون الخاء المعجمة، وفتح الراء، والميم- ابن المطلب بن عبد مناف.
كعب بن الأخنس نقله في النّور عن بعض مشايخه، ثم قال: ولا أعرفه أنا. قلت: لا ذكرته في التّجريد، ولا في الإصابة.
لبيد- بوزن أمير- بن ربيعة العامريّ.
مالك بن عوف بالفاء- النّصري بالنّون، والصّاد المهملة- رأس هوازن، أعطاه مائة.
مخرمة- بفتح الميم، والرّاء، وسكون الخاء المعجمة بينهما، - بن نوفل الزهريّ، أعطاه خمسين.
مطيع بن الأسود القرشيّ العدويّ.
معاوية بن أبي سفيان.
أبو سفيان صخر بن حرب، أعطاه مائة من الإبل وأربعين أوقية فضلة.
المغيرة بن الحارث أبو سفيان القرشي الهاشمي.
النّضير- بالضاد المعجمة والتصغير- بن الحرث بن علقمة، أعطاه مائة من الإبل.
نوفل بن معاوية الكنانيّ.
هشام بن عمرو القرشيّ العامريّ أعطاه خمسين.
هشام بن الوليد المخزوميّ.
يزيد بن أبي سفيان صخر بن حرب أعطاه مائة بعير وأربعين أوقية.
أبو الجهم بن حذيفة بن غانم القرشيّ العدويّ.(5/400)
أبو السنابل، اسمه عمرو، تقدم.
فهؤلاء بضع وخمسون رجلا لعلك لا تجدهم مجموعين محرّرين هكذا في كتاب غير هذا الكتاب والله الموفّق للصواب.
وروى البخاري عن أبي موسى الأشعري [ (1) ]- رضي الله عنه- قال: كنت عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو نازل بالجعرانة بين مكة والمدينة- ومعه بلال- فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أعرابيّ فقال: ألا تنجزني ما وعدتني؟ فقال له: «أبشر» فقال: قد أكثرت عليّ من البشر. فأقبل على أبي موسى وبلال كهيئة الغضبان فقال: «ردّ البشرى فاقبلا أنتما، قالا قبلنا» ثم دعا بقدح فغسل يديه ووجهه، ومج فيه، ثم قال: «اشربا منه وافرغا على وجوهكما ونحوركما، وأبشرا» فأخذا القدح ففعلا، فنادت أم سلمة من وراء الستر: أن أفضلا لأمكما، فأفضلا منه طائفة.
قالوا: ثم أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- زيد بن ثابت بإحضار الناس والغنائم، ثم فضّها على الناس فكانت سهامهم، لكل رجل أربع من الإبل أو أربعون شاة، فإن كان فارسا أخذ اثنتي عشرة من الإبل أو عشرين ومائة شاة، وإن كان معه أكثر من فرس واحد لم يسهم له.
ذكر بيان الحكمة في إعطائه- صلى الله عليه وسلّم- أقواما من غنائم حنين ومنعه آخرين
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التّيميّ، أنّ قائلا قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلّم- من أصحابه، قال محمد بن عمر: هو سعد بن أبي وقّاص: يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس مائة، وتركت جعيل بن سراقة الضّمريّ؟! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، ولكنّي تألّفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه» .
وروى البخاري عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- قال: أعطى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رهطا وأنا جالس فترك منهم رجلا هو أعجبهم إليّ، فقمت فقلت: مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمنا؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «أو مسلما» ذكر ذلك ثلاثا، وأجابه بمثل ذلك، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «إنّي لاعطي الرّجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبّه الله- تعالى- في النّار على وجهه»
[ (2) ] .
__________
[ (1) ] سيأتي في شرح الغريب أن الصواب بين مكة والطائف.
[ (2) ] البخاري 3/ 399 (1478) .(5/401)
وروى البخاري عن عمرو بن تغلب قال: أعطى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قوما ومنع آخرين فكأنهم عتبوا عليه فقال: «إني أعطي أقواما أخاف هلعهم وجزعهم، وأكل أقواما إلى ما جعل الله- تعالى- في قلوبهم من الخبر والغنى، منهم عمرو بن تغلب»
[ (1) ] .
قال عمرو: فما أحببت أنّ لي بكلمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حمر النّعم.
ذكر عتب جماعة من الأنصار على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حين أعطى قريشا ولم يعط الأنصار شيئا وجمعه إياهم واستعطافه لهم
روى ابن إسحاق، والإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري، والإمام أحمد، والشيخان من طريق أنس بن مالك، والشيخان عن عبد الله بن يزيد بن عاصم- رضي الله عنهم- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أصاب غنائم حنين، وقسم للمتألّفين من قريش وسائر العرب ما قسم، وفي رواية:
طفق يعطي رجلا المائة من الإبل، ولم يكن في الأنصار منها شيء قليل ولا كثير، فوجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم، حتى كثر فيهم القالة حتّى قال قائلهم: يغفر الله- تعالى- لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن هذا لهو العجب يعطي قريشا، وفي لفظ الطّلقاء والمهاجرين، ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، إذا كانت شديدة فنحن ندعى ويعطى الغنيمة غيرنا وددنا أنّا نعلم ممن كان هذا، فإن كان من أمر الله تعالى صبرنا، وإن كان من رأي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- استعتبناه [ (2) ] .
وفي حديث أبي سعيد: فقال رجل من الأنصار لأصحابه: لقد كنت أحدثكم أن لو استقامت الأمور لقد آثر عليكم. فردّوا عليه ردّا عنيفا. قال أنس: فحدّث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بمقالتهم،
وقال أبو سعيد: فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله: أن هذا الحيّ قد وجدوا عليك في أنفسهم. قال: «فيم» قال: فيما كان من قسمك هذه الغنائم في قومك وفي سائر العرب ولم يكن فيهم من ذلك شيء، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «فأين أنت من ذلك يا سعد» ؟ قال: ما أنا إلا امرؤ من قومي، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة، وفي لفظ في هذه القبّة، فإذا اجتمعوا فأعلمني» ، فخرج سعد يصرخ فيهم حتّى جمعهم في تلك الحظيرة.
وقال أنس: فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبّة من أدم ولم يدع غيرهم، فجاء رجال من المهاجرين فأذن لهم فيهم، فدخلوا، وجاء آخرون فردهم، حتى إذا لم يبق أحد من الأنصار إلّا اجتمع له. أتاه فقال يا رسول الله: قد اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 288 (3145) .
[ (2) ] أخرجه البخاري من حديث أنس (3147) .(5/402)
أجمعهم، فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقال: «هل منكم أحد من غيركم» ؟ قالوا: لا يا رسول الله إلا ابن أختنا، قال: «ابن أخت القوم منهم» فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلّالا فهداكم الله- تعالى- وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف بين قلوبكم، وفي رواية متفرّقين فألّفكم الله؟ - قالوا: بلى يا رسول الله، الله ورسوله أمنّ وأفضل.
وفي رواية قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ألا تجيبون يا معشر الأنصار؟» قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ وماذا نجيبك؟ المنّ لله- تعالى- ولرسوله- صلى الله عليه وسلّم-: «والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدّقتم، جئتنا طريدا فاويناك، وعائلا فأسيناك، وخائفا فأمّنّاك، ومخذولا فنصرناك، ومكذّبا فصدّقناك» فقالوا: المنّ لله- تعالى- ورسوله، فقال: «وما حديث بلغني عنكم؟» فسكنوا، فقال: «ما حديث بلغني عنكم» ؟ فقال فقهاء الأنصار: أمّا رؤساؤنا فلم يقولوا شيئا، وأمّا أناس منّا حديثة أسنانهم قالوا يغفر الله- تعالى- لرسوله- صلى الله عليه وسلّم- يعطي قريشا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم!! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «إنّي لأعطي رجالا حديثي عهد بكفر لأتألّفهم بذلك»
[ (1) ] .
وفي رواية إنّ قريشا حديثو عهد بجاهلية ومصيبة، وإني أردت أن أجبرهم وأتألّفهم، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لعاعة من الدّنيا تألّفت بها قوما أسلموا، ووكلتكم إلى ما قسم الله- تعالى- لكم من الإسلام، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب النّاس إلى رحالهم بالشّاة والبعير وتذهبون برسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى رحالكم تحوزونه إلى بيوتكم، فو الله لمن تنقلبون به خير ممّا ينقلبون به، فو الذي نفسي بيده لو أنّ النّاس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار.
وفي رواية لو سلك النّاس واديا وسلكت الأنصار شعبا- أنتم الشّعار والنّاس دثار، الأنصار كرشي وعيبتيّ، ولولا أنّها الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، اللهمّ ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا بالله ورسوله حظّا وقسما.
وذكر محمد بن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أراد حين إذ دعاهم أن يكتب بالبحرين لهم خاصة بعده دون الناس، وهي يومئذ أفضل ما فتح عليه من الأرض، فقالوا: لا حاجة لنا بالدنيا بعدك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «إنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض»
وكان حسان بن ثابت- رضي الله عنه- قال قبل جمع النبي- صلى الله عليه وسلم- الأنصار.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (3146، 3147، 3528، 3778، 3793، 4331، 4332، 4333، 4334) .(5/403)
زاد الهموم فماء العين منحدر ... سحّا إذا حفلته عبرة درر
وجدا بشمّاء إذ شمّاء بهكنة ... هيفاء لا ذنن فيها ولا خور
دع عنك شمّاء إذ كانت مودّتها ... نزرا وشرّ وصال الواصل النّزر
وائت الرّسول فقل يا خير مؤتمن ... للمؤمنين إذا ما عدّد البشر
علام تدعى سليم وهي نازحة ... قدّام قوم هموا آووا وهم نصروا
سمّاهم الله أنصارا بنصرهم ... دين الهدى وعوان الحرب تستعر
وسارعوا في سبيل الله واعترضوا ... للنّائبات وما خافوا وما ضجروا
والنّاس إلب علينا فيك ليس لنا ... إلّا السّيوف وأطراف القنا وزر
نجالد النّاس لا نبقي على أحد ... ولا نضيّع ما توحي به السّور
ولا تهرّ جناة الحرب نادينا ... ونحن حين تلظّى نارها سعر
كما رددنا ببدر- دون ما طلبوا- ... أهل النّفاق ففينا ينزل الظّفر
ونحن جندك يوم النّعف من أحد ... إذ حزّبت بطرا أحزابها مضر
فما ونينا وما خمنا وما خبروا ... منّا عثارا وكلّ النّاس قد عثروا
ذكر اعتراض بعض الجهلة من أهل الشقاق والنفاق على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في القسمة العادلة، وما وقع في ذلك من الآيات
روى الشيخان والبيهقي عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: لما قسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لنا هوازن يوم حنين آثر أناسا من أشراف العرب، قال رجل من الأنصار: هذه قسمة ما عدل فيها، وما أريد فيها وجه الله، فقلت: والله لأخبرنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فتغيّر وجهه حتى صار كالصّرف وقال: «فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله، رحمة الله على موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر» [ (1) ] .
والرجل المبهم: قال محمد بن عمر هو معتّب بن قشير.
قصة أخرى:
روى ابن إسحاق عن ابن عمرو، والإمام والشيخان عن جابر، والشيخان والبيهقي عن أبي سعيد- رضي الله عنهم- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بينا هو يقسم غنائم هوازن إذ قام إليه رجل- قال ابن عمر وأبو سعيد: من تميم يقال له ذو الخويصرة، فوقف عليه وهو يعطي الناس فقال: يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أجل، فكيف رأيت؟» قال: لم أرك عدلت، اعدل. فغضب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وقال: «شقيت إن لم
__________
[ (1) ] البخاري (1138) ومسلم 2/ 739 (140) .(5/404)
أعدل، ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟» فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أقتل هذا المنافق، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «معاذ الله أن يتحدّث النّاس أنّي أقتل أصحابي، دعوه فإنّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدّين حتّى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يوجد فيه شيء، ثمّ في القدح فلا يوجد فيه شيء، ثمّ في الفوق فلا يوجد فيه شيء، وفي لفظ ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نصيبه وهو قدحه، فلا يوجد فيه شيء ثمّ ينظر ألى قذذه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدّم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم» ولفظ رواية جابر: «إنّ هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرّميّة، آيتهم أن فيهم رجلا أسود، إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس» وفي رواية «على حين فرقة» .
قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، وأمر بذلك الرجل فالتمس حتى أتى به، حتّى نظرت إليه على نعت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الّذي نعت.
ذكر قدوم مالك بن عوف على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ومن يذكر معه
قالوا: وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لوفد هوازن: «ما فعل مالك بن عوف» قالوا يا رسول الله: هرب فلحق بحصن الطائف مع ثقيف. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «أخبروه أنّه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله، وأعطيته مائة من الإبل» وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أمر بحبس أهل مالك بمكة عند عمتهم أم عبد الله بنت أبي أمية، فقال الوفد: يا رسول الله- أولئك سادتنا وأحبنا إلينا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «إنّما أريد بهم الخير» فوقف مال مالك فلم يجر فيه السهام، فلما بلغ مالكا ما فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قومه وما وعده رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأن أهله وماله موفور وقد خاف مالك ثقيفا على نفسه أن يعلموا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال له ما قال، فيحبسونه، فأمر راحلته فقدّمت له حتى وضعت لديه بدحنا، وأمر بفرس له فأتي به ليلا فخرج من الحصن فجلس على فرسه ليلا، فركضه حتى أتى دحنا فركب بعيره حتى لحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأدركه بالجعرانة- أو بمكة- فرد عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أهله وماله، وأعطاه مائة من الإبل وأسلم فحسن إسلامه،
فقال مالك حين أسلم:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... في النّاس كلّهم بمثل محمّد
أوفى وأعطى للجزيل إذا احتذي ... ومتى تشأ يخبرك عمّا في غد(5/405)
وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها ... بالسّمهريّ وضرب كلّ مهنّد
فكأنّه ليث على أشباله ... وسط الهباءة خادر في مرصد
فاستعمله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على من أسلم من قومه، ومن تلك القبائل من هوازن وفهم وسلمة وثمالة. وكان قد ضوى إليه قوم مسلمون، واعتقد له لواء، فكان يقاتل بهم من كان على الشّرك ويغير بهم على ثقيف فيقاتلهم بهم، ولا يخرج لثقيف سرح إلا أغار عليه، وقد رجع حين رجع- وقد سرح الناس مواشيهم، وأمنوا فيما يرون حين انصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- عنهم، وكان لا يقدر على سرح إلا أخذه، ولا على رجل إلّا قتله، وكان يبعث إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بالخمس مما يغنم، مرة مائة بعير، ومرّة ألف شاة، ولقد أغار على سرح لأهل الطائف فاستاق لهم ألف شاة في غداة واحدة.
ذكر مجيء أم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وأبيه وأخيه من الرضاعة
روى أبو داود، وأبو يعلى، والبيهقي، عن أبي الطفيل- رضي الله عنه- قال: كنت غلاما أحمل نضو البعير ورأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقيم بالجعرانة وامرأة بدوية، فلمّا دنت من النبي- صلى الله عليه وسلم- بسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت: من هذه؟ فقالوا: أمّه التي أرضعته.
وروى أبو داود في المراسيل عن عمر بن السائب- رحمه الله تعالى- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالسا يوما، فجاء أبوه من الرضاعة فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمّه فوضع لها شقّ ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه ثم جاء أخوه من الرضاعة فقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأجلسه بين يديه.
ذكر رجوع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة
قال محمد بن عمر وابن سعد: انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة، وأمر ببقايا السبي فحبس بمجنّة بناحية مرّ الظهران. قال في البداية والظاهر أنه- صلى الله عليه وسلم- إنما استبقى بعض المغنم ليتألّف به من يلقاه من الأعراب بين مكة والمدينة: فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلا، فأحرم بعمرة من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى، ودخل مكة فطاف وسعى ماشيا، وحلق ورجع إلى الجعرانة من ليلته، وكأنه كان بائتا بها، واستخلف عتّاب- بالمهملة وتشديد الفوقية وبالموحدة- ابن أسيد بالدّال- كأمير- على مكة- وكان عمره حينئذ نيفا وعشرين سنة- وخلف معه معاذ بن جبل- زاد محمد بن عمر والحاكم: وأبا موسى الأشعري- رضي الله عنهم يعلّمان الناس القرآن(5/406)
والفقه في الدين، وذكر عروة بن عقبة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- خلف عتّابا ومعاذا بمكة قبل خروجه إلى هوازن، ثم خلّفهما حين رجع إلى المدينة.
قال ابن هشام: وبلغني عن زيد بن أسلم- رحمه الله تعالى- أنه قال: لمّا استعمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عتّابا على مكة رزقه كلّ يوم درهما، فقام فخطب الناس فقال: «أيها الناس، أجاع الله كبد من جاع على درهم!! فقد رزقني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- درهما كلّ يوم، فليست لي حاجة إلى أحد» .
قلت: ترجمته وبعض محاسنه في تراجم الإمراء.
قال محمد بن عمر وابن سعد: فلما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من أمره غدا يوم الخميس راجعا إلى المدينة، فسلك في وادي الجعرانة، حتى خرج على سرف، ثم أخذ في الطريق إلى مرّ الظّهران، ثم إلى المدينة يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة- فيما زعمه- أبو عمرو المدني.
قال أبو عمرو: وكانت مدة غيبته- صلى الله عليه وسلّم- من حين خرج من المدينة إلى مكة فافتتحها، وواقع هوازن، وحارب أهل الطائف إلى أن رجع إلى المدينة شهرين وستة عشر يوما.
ذكر بعض ما قيل من الشعر في هذه الغزوة
قال بجير بن زهير بن أبي سلمى- بضم أوائل الثلاثة- رضي الله عنه- يذكر حنينا والطائف:
كانت علالة يوم بطن حنين ... وغداة أوطاس ويوم الأبرق
جمعت بإغواء هوازن جمعها ... فتبدّدوا كالطّائر المتمزّق
لم يمنعوا منّا مقاما واحدا ... إلّا حبارهم وبطن الخندق
ولقد تعرّضنا لكيما يخرجوا ... فتحصّنوا منّا بباب مغلق
ترتدّ حسرانا إلى رجراجة ... شهباء تلمع بالمنايا فيلق
ملمومة خضراء لو قذفوا بها ... حصنا لظلّ كأنّه لم يخلق
مشي الضّراء على الهراس كأنّنا ... قدر تفرّق في القياد وتلتقي
في كلّ سابغة إذا ما استحصنت ... كالنّهي هبّت ريحه المترقرق
جدل تمسّ فضولهنّ نعالنا ... من نسج داود وآل محرّق
وقال كعب بن مالك- رضي الله عنه- في مسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف.
قضينا من تهامة كلّ ريب ... وخيبر ثمّ أجممنا السّيوفا
نخبّرها ولو نطقت لقالت ... قواطعهنّ دوسا أو ثقيفا(5/407)
فلست بحاضن إن لم تروها ... بساحة داركم منّا ألوفا
وننتزع العروش ببطن وجّ ... وتصبح دوركم منكم خلوفا
ويأتيكم لنا سرعان خيل ... يغادر خلفه جمعا كثيفا
إذا نزلوا بساحتكم سمعتم ... لها ممّا أناخ بها رجيفا
بأيديهم قواضب مرهفات ... يزدن المصطلين بها الحتوفا
كأمثال العقائق أخلفتها ... قيون الهند لم تضرب كتيفا
تخال جديّة الأبطال فيها ... غداة الزّحف جاديّا مدوفا
أجدّهم أليس لهم نصيح ... من الأقوام كان بنا عريفا
يخبّرهم بأنّا قد جمعنا ... عتاق الخيل والنّحت الطّروفا
وأنّا قد أتيناهم بزحف ... يحيط بسور حصنهم صفوفا
رئيسهم النّبيّ وكان صلبا ... نقيّ القلب مصطبرا عزوفا
رشيد الأمر ذا حكم وعلم ... وحلم لم يكن نزقا خفيفا
نطيع نبيّنا ونطيع ربّا ... هو الرّحمن كان بنا رءوفا
فإن تلقوا إلينا السّلم نقبل ... ونجعلكم لنا عضدا وريفا
وإن تأبوا نجاهدكم ونصبر ... ولا يك أمرنا رعشا ضعيفا
نجالد ما بقينا أو تنيبوا ... إلى الإسلام إذعانا مضيفا
نجاهد لا نبالي من لقينا ... أأهلكنا التّلاد أم الطّريفا
وكم من معشر ألبوا علينا ... صميم الجذم منهم والحليفا
أتونا لا يرون لهم كفاء ... فجذّعنا المسامع والأنوفا
بكلّ مهنّد لين صقيل ... نسوقهم بها سوقا عنيفا
لأمر الله والإسلام حتّى ... يقوم الدّين معتدلا حنيفا
ونفني اللّات والعزّى وودّا ... ونسلبها القلائد والشّنوفا
فأمسوا قد أقرّوا واطمأنّوا ... ومن لا يمتنع يقبل خسوفا
تنبيهات
الأول: الطائف بلد كثير الأعناب والنخيل على ثلاث مراحل من مكة من جهة المشرق، قال في القاموس: سمي بذلك لأنه طاف بها في الطوفان، أو لأن جبريل- صلى الله عليه وسلّم- طاف بها على البيت، أو لأنها كانت بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم- صلى الله عليه وسلم- أو لأن رجلا من الصدف أصاب دما بحضر موت ففرّ إلى وج، وحالف مسعود(5/408)
بن معتّب، وكان معه مال عظيم، فقال: هل لكم أن أبني لكم طرفا عليكم يكون لكم ردءا من العرب؟ فقالوا: نعم. فبناه بماله وهو الحائط المطيف به.
الثاني: اقتضت حكمة الله تعالى- تأخير فتح الطائف في ذلك العام لئلّا يستأصلوا أهله قتلا، لأنه تقدم في باب سفره إلى الطائف أنه- صلى الله عليه وسلم- لما خرج إلى الطائف دعاهم إلى الله- تعالى- وأن يؤوه حتى يبلّغ رسالة ربه تبارك وتعالى، وذلك بعد موت عمه أبي طالب فردّوا عليه ردّا عنيفا، وكذّبوه ورموه بالحجارة حتّى أدموا رجليه، فرجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مهموما فلم يستفق من همومه إلا عند قرن الثعالب [ (1) ] فإذا هو بغمامة وإذ فيها جبريل- صلى الله عليه وسلم- ومعه ملك الجبال- صلى الله عليه وسلّم- فناداه ملك الجبال،
فقال: يا محمد أن الله- تعالى- يقرئك السّلام، وقد سمع قولة قومك وما ردّوا عليك فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت» ، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «بل أستأني بهم لعلّ الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله- تعالى- وحده لا يشرك به شيئاً»
فناسب قوله: بل أستأني بهم أن لا يفتح حصنهم لئلا يقتلوا عن آخرهم، وإن يؤخّر الفتح ليقدموا بعد ذلك مسلمين في رمضان من العام القابل كما سيأتي في الوفود.
الثالث: لما منع الله سبحانه وتعالى- الجيش غنائم مكة فلم يغنموا منها ذهبا ولا فضة ولا متاعا ولا سبيا ولا أرضا، وكانوا قد فتحوها بأنجاب الخيل والرّكاب، وهم عشرة آلاف وفيهم حاجة إلى ما يحتاجه الجيش من أسباب القوة، حرّك الله- سبحانه وتعالى- قلوب المشركين في هوازن لحربهم، وقذف في قلب كبيرهم مالك بن عوف إخراج أموالهم ونعمهم وشابّهم وشيبهم معهم نزلا وكرامة وضيافة لحرب الله- تعالى- وجنده، وتمّم تقديره تعالى بأن أطمعهم في الظّفر، وألاح لهم مبادئ النصر ليقضي الله أمرا كان مفعولا. ولو لم يكن يقذف الله- تعالى- في قلب رئيسهم مالك بن عوف أن سوقهم معهم هو الصواب لكان الرأي ما أشار به دريد، فخالفه فكان ذلك سببا لتصييرهم غنيمة للمسلمين، فلما أنزل الله تعالى نصره على رسوله وأوليائه وردّت الغنائم لأهلها وجرت فيها سهام الله- تعالى- ورسوله، قيل لا حاجة لنا في دمائكم ولا في نسائكم وذراريكم، فأوحى الله- تعالى- إلى قلوبهم التوبة فجاءوا مسلمين. فقيل من شكران إسلامكم وإتيانكم أن تردّ عليكم نساؤكم وأبناؤكم وسبيكم وإِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنفال 70] .
الرابع: اقتضت حكمة الله- تعالى- أن غنائم الكفار لما حصلت قسّمت على من لم يتمكن الإيمان من قلبه من الطبع البشري من محبة المال، فقسّمه فيهم لتطمئن قلوبهم،
__________
[ (1) ] وقرن المنازل، وهو قرن الثعالب: ميقات أهل نجد تلقاء مكة، على يوم وليلة. مراصد الإطلاع 3/ 1082.(5/409)
وتجتمع على محبته، لأنها جبلت على حبّ من أحسن إليها، ومنع أهل الجهاد من كبار المجاهدين ورؤساء الأنصار مع ظهور استحقاقهم لجميعها، لأنه لو قسم ذلك فيهم لكان مقصورا عليهم بخلاف قسمه على المؤلفة لأن فيه استجلاب قلوب أتباعهم الذين كانوا يرضون إذا رضي رئيسهم، فلما كان ذلك العطاء سببا لدخولهم في الإسلام ولتقوية قلب من دخل إليه قبل، تبعهم من دونهم في الدخول، فكان ذلك مصلحة عظيمة.
الخامس: ما وقع في قصة الأنصار، اعتذر رؤساؤهم بأن ذلك من بعض أتباعهم وأحداثهم، ولمّا شرح لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ما خفي عليهم من الحكمة فيما صنعوا رجعوا مذعنين، وعلموا أن الغنيمة العظيمة: ما حصل لهم من عود رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى بلادهم.
فسلوا عن الشاة والبعير والسبايا بما حازوه من الفوز العظيم ومجاوره النبي الكريم حيّا وميّتا، وهذا دأب الحكيم يعطي كلّ أحد ما يناسبه.
السادس: رتّب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما من الله- تعالى- به على الأنصار على يديه من النّعم ترتيبا بالغا، فبدأ بنعمة الإيمان الّتي لا يوازنها شيء من أمور الدّنيا، وثنّى بنعمة الإيمان وهي أعظم من نعمة المال، لأن الأموال قد تبذل في تحصيلها وقد لا تحصل، فقد كانت الأنصار في غاية التّنافر والتقاطع لما وقع بينهم من حرب بعاث وغيرها، فزال ذلك بالإسلام كما قال تعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال 63] .
السابع:
قوله- صلى الله عليه وسلّم- «لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار» .
قال الخطابي: أراد بهذا الكلام: تأليف الأنصار واستطابة نفوسهم والثناء عليهم في دينهم، حتى رضي أن يكون واحدا منهم لولا ما منعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها ونسبة الإنسان تقع على وجوه: الولادة والاعتقادية والبلادية والصناعية، ولا شك أنه لم يرد الانتقال عن نسب آبائه لأنه ممتنع قطعا، وأما الاعتقادي فلا معنى للانتقال عنه فلم يبق إلا القسمان الأخيران، كانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمرا واجبا، أي لولا أن النسبة الهجرية لا يسعني تركها لانتسبت إلى داركم.
وقال القرطبي: معناه لتسميت باسمكم وانتسبت إليكم لما كانوا يتناسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة وترتيبها سبقت فمنعت ما سوى ذلك، وهي أعلى وأشرف فلا تبدل بغيرها.
الثامن:
قوله- صلى الله عليه وسلّم- «لسلكت وادي الأنصار» أو «شعب الأنصار»
أراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بهذا أو ما بعده التنبيه على جزيل ما حصل للأنصار من ثواب النّصرة والقناعة بالله(5/410)
ورسوله عن الدنيا، ومن هذا وصفه فحقّه أن يسلك طريقه ويتّبع حاله. قال الخطابي: لما كانت العادات أن المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه- وأرض الحجاز كثيرة الأودية والشّعاب- فإذا تفرقت في السفر الطرق سلك كلّ قوم منهم واديا وشعبا، فأراد أنه مع الأنصار قال: ويحتمل أن يريد بالوادي المذهب، كما يقال فلان في واد وأنا في واد.
التاسع: في شرح غريب ما سبق:
الفلّ- بفتح الفاء وتشديد اللّام: القوم المنهزمون.
رمّوا- بتشديد الميم المضمومة.
عقيل- بضم العين.
السرح- بفتح السين المهملة، وسكون الراء: المال السائم.
خيابر- لغة في خيبر، وتقدم ذلك في غزوتها.
فدك- بفتح الفاء والدال المهملة- مكان، قال ابن سعد: على ستة أميال من المدينة.
أرضنا هوازن: دخل أرضهم قهرا.
لم يعرّج عليه: لم يمل.
عرش- بضم العين والراء والشين المعجمة: جمع عريش.. بيوت مكة سميت بذلك لأنها كانت عيدانا تنصب ويظلّل عليها.
عارض- بالعين المهملة والضاد المعجمة بينهما راء مكسورة.
هرقت- بهاء مهملة فراء فقاف مفتوحات.
الهدر: الباطل الذي لا يؤخذ بثأره.
يظعن- بالظاء المعجمة المشالة: يرحل.
نخلة- بلفظ واحدة النخل بالخاء المعجمة: موضع على ليلة من مكة.
قرن- بفتح القاف وسكون الرّاء، وغلّطوا من فتحها، وهو قرن الثّعالب والمنازل يبعد عن مكة نحو مرحلتين.
المليح- بالحاء المهملة والتصغير واد بالطائف.
بحرة- بفتح الموحدة وسكون الحاء المهملة. وبالراء.
الرّعاء- براء مكسورة، فعين مهملة، فألف ممدودة: جمع راع.
ليّة: تقدم.
أقاد من القاتل: قتله بمقتوله.(5/411)
الضيقة: ضد الواسعة.
نخب- بفتح النون وكسر الخاء المعجمة، وقيل بسكونها، فموحدة: واد بالطائف قيل بينه وبينه ساعة.
الصادرة- بصاد ودال مهملتين بينهما ألف فراء فتاء موضع.
أبو رغال- بكسر الراء وبالغين المعجمة واللام.
الغصن- بضم الغين المعجمة: واحد الأغصان، وهي أطراف الشجر، والمراد به هنا قضيب من ذهب.
شرح غريب ذكر محاصرته- صلى الله عليه وسلّم- الطائف وذكر بعثة- صلّى الله عليه وسلّم- مناديا ينادي: من نزل من العبيد فهو حر وذكر رميه- صلى الله عليه وسلّم- حصن الطائف بالمنجنيق
رجل جراد- بكسر الراء وإسكان الجيم وهو الجراد الكثير، وتقدم بزيادة في غريب ألفاظ غزوة حنين.
السّارية: الأسطوانة.
النّقيض- بفتح النون وكسر القاف، وسكون التحتية وبالضاد المعجمة: الصوت.
عبد ياليل- بتحتيتين وكسر اللام الأولى.
معتّب- بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الفوقية المشددة وبالموحدة.
النّبّال- بفتح النون وتشديد الموحدة وباللام.
البكرة- بفتح الموحدة: وبالكاف وتسكن آلة يستقى عليها.
الغيظ- بالظاء المعجمة المشالة: الغضب.
يمونه: يقوم بأمره.
المنجنيق- بفتح الميم وقد تكسر، يؤنث وهو أكثر، ويذكر، فيقال: هي المنجنيق، وعلى التذكير: هو المنجنيق: ويقال: المنجنوق ومنجليق، وهو معرب، وأول من عمله قبل الإسلام إبليس حين أرادوا رمي سيدنا إبراهيم- صلى الله عليه وسلم- وهو أوّل منجنيق رمي به في الإسلام، أما في الجاهلية فيذكر أن جذيمة- بضم الجيم، وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية ابن مالك المعروف بالأبرش أول من رمى بها، وهو من ملوك الطوائف.
الثواء- بفتح الثاء المثلثة: الإقامة.(5/412)
ابن زمعة- بفتح الزاي والميم وبسكونها، فعين مهملة.
الدّبابة- بالدال المهملة: فموحدة مشددة، وبعد الألف موحدة فتاء تأنيث: آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرّجال فيندفعون بها إلى الأسوار لينقبوها.
جرش- بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة: من مخاليف اليمن من جهة مكة.
الحسك- بحاء فسين مهملتين فكاف مفتوحات: نبات تعلق ثمرته بصوف الغنم وورقه كورق الرجلة وأدوره وعند ورقه شوك ملوز صلب ذو ثلاث شعب.
والشّدخة- بفتح الشين المعجمة وسكون الدال المهملة، وفتح الخاء المعجمة فتاء تأنيث، والشدخ: كسر الشّيء.
الحبلات- بحاء مهملة، فباء فلام مفتوحات فألف فتاء جمع حبلة بفتحات وربما سكنت الباء: الأصل أو القضيب من شجر الأعناب.
النّفر: ما دون العشرة من الرجال.
الذريع- بالذال المعجمة: السريع.
الجلابيب- بالجيم [فاللام فألف] فموحدة فتحتية فموحدة- وزن دنانير- الغرباء.
يدعها الله- بفتح الدال: يتركها.
تبتئس: تحزن.
أحبل- بفتح أوله وسكون الحاء المهملة وضم الموحدة: جمع حبلة- بفتح الحاء والموحدة: شجر العنب.
تسوّر حصن الطائف: صعد إلى أعلاه ثم تدلى منه.
ثالث ثلاثة وعشرين بنصب ثالث.
شرح غريب ذكر اشتداد الأمر وما يذكر معه
عبسة بفتح العين المهملة والموحدة والسين المهملة.
عدل- بفتح العين وسكون الدال المهملة- مثل الأجر.
المحرر: المعتق.
المخنّث- بضم الميم، وفتح الخاء المعجمة، والنون المشددة- وكسرها أفصح، وفتحها أشهر- فمثلثة: وهو من فيه انخناث أي تكسّر وتثنّ كالنساء.
غيلان بن سلمة- بفتح الغين المعجمة، أسلم بعد فتح الطّائف.(5/413)
تقبل بأربع: أي من العكن- بضم العين المهملة جمع عكة وهي ما انطوى وتثنى من لحم البطن، سمنا، والمراد أطراف العكن التي في بطنها.
تدبر بثمان في جنبيها لم يقل ثمانية، والأطراف مذكرة لأنه لم يذكرها كما يقال هذا الثوب سبع في ثمان أي سبعة أذرع في ثمانية أشبار، فلما لم يذكر أشبار أنت لتأنيث الأذرع التي قبلها، قال الدماميني في المصابيح: أحسن من هذا أنه جعل كلّا من الأطراف عكنة تسمية للجزء باسم الكل، فأنث بهذا الاعتبار.
من غير أولي الإربة: الحاجة إلى النكاح.
جريج- بضم الجيم وفتح الراء وسكون التحتية وبالجيم.
هيت: بهاء وياء تحتية ففوقية، وضبطه ابن درستويه بهاء مكسورة فنون ساكنة فموحدة، وزعم أن ما سواه تصحيف.
عائذ- بالهمز والذّال المعجمة.
ماتع- بميم فألف ففوقية فعين مهملة.
أرى- بضم أوله: أظن.
فلا تفلتن- تطلقنّ- بالبناء للمفعول فيهما.
بادية- بموحدة فألف فدال مهملة مكسورة فتحتية، وقيل: بالنون بدل التحتية- أسلمت.
الخبيث: خلاف الطّيّب.
شرح غريب ذكر منام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الدال على عدم فتح الطائف وما يذكر معه
أهديت- بالبناء للمفعول.
القعبة: كالقصعة [ (1) ] .
هراق- بفتح الهاء.
الدّيلي- بكسر الدال المهملة وسكون التحتية.
الجحر- بضم الجيم وسكون الحاء المهملة.
__________
[ (1) ] القعب: القدح الضخم الغليظ الجافي، انظر اللسان (قعب) .(5/414)
خوله: بالخاء المعجمة.
حكيم- وزن أمير.
مظعون- بالظاء المعجمة المشالة-.
حليّ- بضم الحاء المهملة وكسر اللام.
الفارعة- بالفاء وكسر الرّاء.
عقيل- بوزن أمير.
زعمت- بزاي فعين مهملة فميم فتاء: تحدثت بما لا يوثق به.
أؤذن الناس: أعلمهم بالرحيل.
قافلون: راجعون إلى المدينة.
اغدوا على القتال، سيروا أول النهار لأجل القتال.
سرّح الظهر: أرسله.
آئبون: راجعون.
الأحزاب: أهل الخندق الذين تحزبوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من قريش وغيرهم، أو أحزاب الكفر.
جمح به فرسه: أسرع به نحو عدوّه.
شرح غريب ذكر مسير رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الطائف وما يذكر معه
/ قوله- دحنا- بفتح الدال وسكون الحاء المهملتين وبالنون، وبالقصر والمد: أرض بين الطائف والجعرانة.
الجعرانة- بكسر الجيم وسكون العين المهملة وقد تكسر وتشدد الراء.
سراقة- بضم السين المهملة.
جعشم- بضم الجيم وسكون العين المهملة وضم الشين المعجمة.
المقنب- بكسر الميم وسكون القاف وفتح النون وبالموحدة، جماعة الخيل والفرسان، وقيل: هي دون المائة.
إليك إليك- اسم فعل أمر: معناه تنحّ وابعد.
الغرز- بفتح الغين المعجمة وسكون الراء والزاي، ركاب الإبل.(5/415)
الجمارة- بضم الجيم: قلب النّخلة.
الضالة من الإبل: الضائعة.
تغشى: تأتي.
كبد حرّى: بتشديد الراء: تأنيث حرّان، وهما للمبالغة من الحرّ، يريد أنها لشدة حرها قد عطشت ويبست من العطش، والمعنى أن في سقي كلّ ذي كبد حرّى أجرا.
أبو رهم- بضم الراء وسكون الهاء «الغفاري» بكسر الغين المعجمة.
الفرق- بفتحتين: الخوف.
روّحت- بفتح الراء والواو المشددة والحاء المهملة.
الركاب: الإبل.
أترقب: أنتظر.
السبي: ما غنم من النساء والأولاد.
الذراري: الأولاد.
أستأني بهم: انتظر مجيئهم.
زهير- بضم الزاي وفتح الهاء وسكون التحتية.
صرد- بضم الصاد المهملة وفتح الراء وبالدال المهملة، وهو مصروف وليس معدولا.
أبو برقان- بفتح الموحدة وسكون الراء وبالقاف والنون، وهو عمه- صلى الله عليه وسلم- من الرضاعة.
إنا أصل وعشيرة- بعين مهملة مفتوحة فشين مكسورة فتحتية فراء: بنو الأب الأدنون أو القبيلة، والجمع: عشائر.
الحظائر- بالظاء المعجمة المشالة: جمع حظيرة وهو الزرب الذي يصنع للإبل والغنم ليكنها، وكان السبي في حظائر مثلها.
عماتك وخالاتك: أي من الرضاع.
حواضنك: يعني اللاتي أرضعن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحضنه من بني سعد هوازن.
ملحنا- بفتح الميم واللام وسكون الحاء المهملة: أرضعنا، والملح: الرضاع.
الحارث بن أبي شمر: ملك الشام من العرب.
النعمان بن المنذر: ملك العراق من العرب.(5/416)
عائديهما: فضلهما ونيلهما وشفقتهما.
الأوجاقي [ (1) ] .
الهبل [ (2) ] : ابن يزيد بالزاي والدال المهملة وزن أمير.
أمينة- بوزن عظيمة.
عفيفة بعين مهملة وفاءين وزن عظيمة.
الصيدلاني [ (3) ] بفتح الصاد المهملة وسكون التحتية وبالدال المهملة وبالنون.
القبابي- بكسر القاف وتخفيف الموحدة وبعد الألف موحدة أخرى.
مؤنسة روح- بفتح الراء.
الفارقاني: بالفاء وسكون الراء وفاء أخرى.
معمر- بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة.
الفاخر- بالفاء والخاء المعجمة.
الجوزدانية- بجيم مضمومة فواو ساكنة فزاي فدال مهملة فألف فنون.
ريذة- بكسر الراء وسكون التحتية وفتح الذال المعجمة فتاء تأنيث.
الضّبّي- بفتح الضاد وبالموحدة المشددة.
رماحس- بضم الراء وتخفيف الميم وبعد الألف حاء فسين مهملتين. قال في النور:
الذي يظهر أنه غير منصرف للعلمية والعجمة وليس فيما يظهر من أسماء العربية.
القيسيّ. بالقاف المفتوحة والتحتية الساكنة.
رمادة الرملة- بفتح الراء: قرية بقربها.
__________
[ (1) ] 127- (محمد) بن محمد بن أحمد بن عز الدين المحب أبو عبد الله القاهري الشافعي والد الرضى محمد وعبد الرحيم وأحمد المذكورين، ويعرف بابن الاوجاقي. ولد سنة سبعين وسبعمائة أو التي قبلها بالدرب المعروف بوالده في خط باب اليانسية خارج باب زويلة من القاهرة ونشأ بها فأخذ الفقه عن البلقيني والملقن وغيرهما. الضوء اللامع 9/ 549/ 50.
[ (2) ] الحسن بن أحمد بن هلال بن سعد بن فضل الله الصرخدي ثم الصالحي المعروف بابن هبل الطحان ولد سنة ثلاث وثمانين وستمائة وسمع من الفخر بن البخاري ومن التقي الواسطي وأجازا له وسمع بنفسه من التقي سليمان وأخيه وفاطمة بنت سليمان والدمشقي وعثمان الحمصي وعيسى المغاري وغيرهم وحدث بالكثير ورحل إليه الناس وتوفي في صفر، الشذرات 6/ 261، 262.
[ (3) ] الصّيدلاني [بفتح الصاد المهملة، وسكون الياء المنقوطة من تحتها باثنتين، وفتح الدال المهملة، وبعدها اللام ألف، والنون.. هذه النسبة لمن يبيع الأدوية والعقاقير.] واشتهر بهذه النسبة جماعة كثيرة، منهم: الأنساب 3/ 573.(5/417)
زياد بن طارق [بالزاي المكسورة والياء التحتية والألف الممدودة] والدال المهملة.
أبو جرول- بفتح الجيم وسكون الراء وفتح الواو ولام.
زهير- بالزاي والتصغير.
الجشمي- بضم الجيم وفتح الشين المعجمة.
امنن- بهمزة مضمومة فميم ساكنة فنون مضمومة وأخرى ساكنة، أي أحسن إلينا من غير طلب ثواب ولا جزاء.
المرء- بفتح الميم وبالراء والهمز: الرّجل، وأل هنا لاستغراق أفراد الجنس، أي أنت المرء الجامع للصفات المحمودة المتفرقة في الرجال.
البيضة هنا: الأهل والعشيرة.
الغير- بكسر الغين المعجمة: تغيير الحال وانتقالها عن الصلاح إلى الفساد.
هتّافا- بفتح الهاء وبالفوقية وبالفاء: أي ذا هتف، أي صوت.
الغمّاء- بفتح الغين المعجمة وتشديد الميم.
الحزن: سمي بذلك لأنه يغطي السرور.
الغمر- بغين معجمة مفتوحة وتكسر، فميم فراء: الحقد.
يختبر بالبناء للمفعول.
ترضعها- بضم الفوقية.
إذ: حرف تعليل.
فوك: فمك.
المحض- بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وبالضاد المعجمة الساقطة، اللبن الخالص.
الدرر- بكسر الدال المهملة وفتح الرّاء الأولى: جمع درة، وهي كثرة اللبن وسيلانه.
يزينك- بتحتية مفتوحة فزاي مكسورة فتحتية فنون.
تذر: تترك.
ولا تجعلنّا- بفوقية مفتوحة فجيم ساكنة فعين فلام مفتوحة فنون مشدّدة فألف.
شالت نعامته: أي هلكت والنعامة باطن القدم، وشالت: ارتفعت، ومن هلك ارتفعت رجلاه وسكن رأسه فظهرت نعامة قدمه.(5/418)
استبق: بسين مهملة فمثناة فتحتية موحدة فقاف.
زهر بضم الزاي والهاء.
نعماء- بنون مفتوحة فعين ساكنة فميم فألف ممدودة: النعمة.
كفرت- بضم الكاف وكسر الفاء وفتح الراء.
مدّخر- بميم مضمومة فدال مشددة فخاء معجمة مفتوحتين، أصله مذتخر، فلما أرادوا الإدغام ليخف النطق قلبوا التاء إلى ما يقاربها من الحروف، وهي الدال المهملة لأنهما في مخرج واحد فصارت متخر مدخر، والأكثر أن تقلب الذال المعجمة دالا مهملة ثم تدغم فيها فتصير دالا مشددة.
فألبس- بفتح الهمزة وكسر الموحدة.
مشتهر- بميم مضمومة فشين معجمة ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة فهاء مكسورة فراء:
ظاهر.
مرحت- بفتح الميم والراء والحاء المهملة: نشطت وخفت.
الكمت- بضم الكاف وسكون الميم ومثناة فوقية جمع كميت، وهو من الخيل.
يستوي فيه المذكّر والمؤنث من الكمتة وهي حمرة خالطتها قنوة، قال الخليل: إنما صغّر لأنه بين السواد والحمرة كأنه لم يخلص له واحدة منهما فأرادوه بالتصغير لأنه منها قريب.
الجياد تقدم تفسيره.
الهياج- بكسر الهاء وتخفيف التحتية وبالجيم: القتال.
استوقد بالبناء للمفعول.
الشرر: تقدم تفسيره.
نؤمّل: نرجو.
تلبسه- بضم الفوقية وسكون اللام وكسر الموحدة.
راهبة- بالموحدة خائفة.
يهدى- بالبناء للمفعول.
الظفر: الفوز.
المسور- بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو.
مخرمة- بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء.(5/419)
البضع- في العدد بكسر الموحدة، وبعض العرب يفتحه: من الثلاثة إلى التسعة، يقال بضع رجال وبضع نسوة ومن ثلاثة عشر إلى تسعة عشر بضعة مع المذكر وبضع مع المؤنث.
قفل- بفتح القاف والفاء: رجع.
الأحساب: جمع حسب بفتحتين: الشرف. قال الأزهري: له ولآبائه من الحساب. وهو عد المناقب لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدّ كل واحد مناقبه ومناقب آبائه.
العرفاء- جمع عريف وهو مدبر أمر القوم والقائم بأمر ساستهم.
يفيء الله علينا- بضم التّحتيّة وكسر الفاء، وهمز آخره.
سليم- بضم أوله وفتح اللام.
وهنتموني: ضعّفتموني.
فسبيل ذلك- بفتح اللام على أنه مفعول بفعل مقدّر وبضمها على أنه خبر مبتدأ محذوف.
الفرائض- جمع فريضة، وهو البعير المأخوذ في الزكاة، سمّي فريضة لأنه فرض، على ربّ المال، ثمّ اتسع فيه حتى سمّي البعير فريضة.
المعقّد- بضم الميم وفتح العين وتشديد القاف، وهو ضرب من برود هجر.
شرح غريب ذكر دعائه- صلى الله عليه وسلم- علي من أبى أن يرد شيئا من السبي أن يخيس سهمه
قال في الصحاح: خاست الجيفة أي أروحت، ومنه قيل خاس البيع والطعام كأنه كسد حتى فسد.
السهم هنا: النصيب.
قبطية- بضم القاف: ثياب بيض رقاق من كتان وقطن.
هل لك في كذا [هل تريد كذا] .
بناهد- بنون فألف فهاء فدال: يقال نهد الثّدى: كعب.
بواجد- من الوجد وهو الحزن: أي لا يحزن زوجها عليها لأنها عجوز كبيرة.
الدر: اللبن.
المالد: القربة هنا.
السّمل- بفتح السين المهملة والميم وباللام: الخلق- بفتح الخاء وكسر اللام.(5/420)
الفرص- بضم الفاء وفتح الراء وبالصاد المهملة جمع فرصة، وهي اسم من تفارص القوم الماء القليل لكل منهم نوبة وأطلق على النّهزة- بضم النون وسكون الهاء وبالزاي.
شرح غريب- ذكر قسمه- صلى الله عليه وسلّم- أموال هوازن
انتزعت رداءه: اقتلعته.
تهامة- بكسر الفوقية: ما انخفض من الأرض.
النّعم- بفتح النون والعين: المال الراعي، وأكثر ما يقع على الإبل.
ألفيتموني: وجدتموني.
السّنام: أعلى ظهر البعير.
الوبرة: واحد الوبر.
الخياط والمخيط: الإبرة.
الشّنار- بفتح الشين المعجمة وبالنون: أقبح العار.
الكبة من الشّعر ونحوه- بضم الكاف وتشديد الموحدة.
عبادة- بضم العين المهملة وتخفيف الموحدة.
الأنملة- بتثليث الهمزة مع تثليث الميم: العقد من الأصابع أو رؤوسها.
علقت به الأعراب: لزموه وجبذوا أثوابه.
اضطروه إلى شجرة: ألجئوه إليها وأحوجوه.
السّمرة- بفتح السين وضم الميم من شجر الطلح.
العضاة- ككتاب: شجر الشوك كالطلح والعوسج، والهاء أصلية، الواحدة عضة بالهاء والتاء، والأصل عضهة كعنبة.
برد نجراني- منسوب إلى نجران- بفتح النون وسكون الجيم وبالنون: إقليم معروف.
جذبه- بفتح الجيم وبالذال المعجمة: شده إلى نفسه: أي سحبه إليه.
شرح غريب ذكر إعطائه- صلى الله عليه وسلّم- المؤلفة قلوبهم وقول العباس بن مرداس
كانت: أي الإبل والماشية.
النهاب بكسر النون وبالهاء وبعد الألف موحدة جمع نهب- وهو ما ينهب ويغنم.
تلافيتها: تركتها.
الكرّ- بفتح الكاف وتشديد الراء: عود الفارس للقتال.(5/421)
المهر- بضم الميم وسكون الهاء: ولد الخيل.
الأجرع- بفتح أوله وسكون الجيم وفتح الراء وبالعين المهملة: المكان السهل.
الإيقاظ: مصدر أيقظه من نومه إذا نبّهه.
القوم- بالفتح مفعول.
هجع هنا: نام.
العبيد- بلفظ تصغير عبد- اسم فرسه.
ذو تدرأ- بضم الفوقية وسكون الدال المهملة وبالراء وبالهمز، أي ذو دفع من قولك درأه إذا دفعه.
الأفائل- جمع أفأل- بفتح أوله وسكون الفاء وبالهمز وهي الصغار من الإبل.
عديد قوائمها الأربع- بعين فدالين مهملات بينهما تحتية كالعدد اسمان للعدّ. وهو الإحصاء.
وما كان حصن: والد عيينة.
ولا حابس: والد الأقرع.
يفوقان- بتحتية ففاء فواو فقاف، يعلوان شرفا.
شيخي: يعني أباه مرداس، ومن قال شيخيّ تثنية شيخ فيعني أباه وجدّه، ويروى يفوقان مرداس.
بين مكة والمدينة كذا في الصحيح. والصواب بين مكة والطائف، وبه جزم النووي.
ألا تنجز لي ما وعدتني من غنيمة حنين، وكان ذلك وعدا خاصا به.
أبشر- بقطع الهمزة أي بقرب القسمة، أو بالثواب الجزيل على الصبر.
فأقبلا بفتح الموحدة.
مجّ فيه: بميم مفتوحة فجيم مشددة: رمى.
وأفرغا بقطع الهمزة وكسر الراء: صبّا.
أفضلا- بقطع الهمزة وكسر الضاد المعجمة.
لأمكما: تعني نفسها.
طائفة: بقية.(5/422)
شرح غريب ذكر بيان الحكمة في عطائه- صلى الله عليه وسلّم- أقواما
جعيل- بالتصغير.
سراقة- بضم السين.
طلاع الأرض- بكسر الطاء: ما ملأها حتى يطلع عنها ويسيل.
الرّهط- بفتح الراء وسكون الهاء وفتحها. ما دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة، أو منها إلى الأربعين.
مالك عن فلان: [ما صرفك عنه] .
تغلب- بفتح الفوقية وسكون الغين المعجمة وكسر الموحدة لا ينصرف.
الهلع: أشد الجزع.
الجزع كالتعب: ضد الصبر.
حمر النّعم [خيارها] .
شرح غريب ذكر عتب جماعة من الأنصار على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-
سائر الناس- هنا باقيهم، ويكون بمعنى جميعهم كما ذكره الجوهري وابن الجواليقي وابن برّيّ، وغلط من غلّط الجوهري، واستشهد له قال ابن ولّاد: سائر توافق بقية: نحو أخذت من المال وتركت سائره لأن المتروك بمنزلة البقية وتفارقها من حيث أن السائر- لما كثر والبقية لما قل: لهذا نقول: أخذت من الكتاب بقيته وتركت سائره، ولا نقول تركت بقيته.
وجدوا- بفتح الواو والجيم: حزنوا. وفي رواية وجد بضم الواو والجيم جمع واجد، ووجد عليه في نفسه: غضب.
القالة: الكلام الرديء.
يغفر الله لرسوله- صلى الله عليه وسلّم- قالوه توطئة وتمهيدا لما يرد بعده من العتاب لقوله تعالى:
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة 43] الطّلقاء بضم الطاء المهملة وفتح اللام وبالقاف والمد: جمع طليق، فعيل بمعنى مفعول- منقول وهم من منّ عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يوم فتح مكة ولم يأسرهم ولم يقتلهم.
وسيوفنا تقطر من دمائهم: جملة في محلّ النّصب على الحال مقررة لجهة الإشكال، وهو من باب عرضت النّاقة على الحوض.(5/423)
إذا كانت شديدة- بالرفع والنّصب.
استعتبناه: طلبنا منه العتبى- بضم العين وسكون التاء وفتح الباء: طلب الرضى.
فحدّث- بضم الحاء وكسر الدال مبنيا للمفعول، أي أخبر بمقالتهم.
أين أنت من ذلك.
الحظيرة- بالحاء المهملة والظاء المعجمة المشالة، يشبه الزرب للماشية والإبل.
في قبّة من أدم- بفتح الهمزة المقصورة والدال المهملة: جلد بلا دبغ.
فجاء رجل من المهاجرين.
ضلّالا بضم الضاد المعجمة وتشديد اللام الأولى: أي بالشّرك.
عالة- بعين مهملة فلام مخففة: فقراء لا مال لكم.
الله ورسوله أمنّ: من المنة وهي النعمة.
المخذول: الذي ترك قومه نصره.
حديثو عهد بجاهلية ومصيبة من نحو قتل أقاربهم وفتح بلادهم.
أجبرهم- بفتح الهمزة وسكون الجيم وضم الموحدة: من الجبر عند الكسر. وفي رواية أجيزهم- بضم الهمزة وكسر الجيم بعدها تحتية ساكنة فزاي: من الجائزة.
اللّعاعة- بضم اللام وبعينين مهملتين، بقلة خضراء ناعمة شبّه بها زهرة الدنيا ونعيمها في قلّة بقائها.
القسم- بكسر القاف: الحظّ والنّصيب.
الرحل هنا: منزل الرّجل ومسكنه وبيته الذي فيه أثاثه، ذكّرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ما غفلوا عنه من عظم ما اختصّوا به منه بالنسبة إلى ما اختصّ به غيرهم من عرض الدّنيا الفانية.
الشاة والبعير اسما جنس يقع كلّ منهما على الذكر والأنثى.
يحوزونه- بالحاء المهملة.
الشّعب- بكسر الشين المعجمة وسكون العين: الطريق في الجبل.
الوادي: المكان المنخفض، وقيل: الذي فيه ماء، والمراد بلدهم.
لو سلك الأنصار واديا أو شعبا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم، أشار- صلى الله عليه وسلم- بذلك إلى ترجيحهم بحسن الجوار والوفاء بالعهد لا وجوب متابعته إياهم إذ هو- صلى الله عليه وسلّم- المتبوع المطاع لا التّابع المطيع، فما أكثر تواضعه- صلى الله عليه وسلّم-.(5/424)
الشّعار- بكسر الشين المعجمة: الثوب الذي يلي الجسد.
الدثار- بكسر الدال المهملة وبالثاء المثلّثة المفتوحة: ما يجعل فوق الشّعار، أي أن الأنصار بطانته وخاصّته وأنهم أحقّ به وأقرب إليه من غيرهم، وهو تشبيه بليغ.
أخضلوا لحاهم- بفتح أوله وسكون الخاء وفتح الضاد المعجمتين: بلّوها بالدموع.
أثرة- بفتح الهمزة والثاء المثلثة، وبضم الهمزة وسكون المثلثة وبفتحتين، ويجوز كسر أوله مع إسكان ثانيه، أي يستأثر عليكم بمالكم فيه اشتراك في الاستحقاق.
فاصبروا حتى تلقوني على الحوض يوم القيامة فيحصل لكم الانتصاف ممّن ظلمكم على الثواب الجزيل على الصبر.
شرح غريب شعر حسان- رضي الله عنه
السّح- بفتح السين وتشديد الحاء المهملتين: الصّب، يقال: سحّ المطر إذا صبّ.
حفلته- بفتح الحاء المهملة والفاء واللام وسكون الفوقية: أي جمعته، ومنه المحفل وهو مجتمع الناس.
العبرة- بفتح العين المهملة وسكون الموحّدة: الدمع.
درر- بدال مهملة وراءين: سائلة.
الوجد: الحزن.
شمّاء- بشين معجمة مفتوحة فميم مشددة [فألف] فهمز: اسم امرأة.
البهكنة- بفتح الموحدة وسكون الهاء وفتح الكاف وبالنون: المرأة ذات الشباب غضة، وقال في الإملاء كثيرة اللّحم.
هيفاء: ضامرة الخاصرة، ومن روى قوله لا دنن بالدال المهملة فمعناه: تطامن الصّدر وغوره، ومن رواه بالمعجمة فمعناه: القذر بالقاف المفتوحة والذال المعجمة المكسورة، ومنه الذنين وهو ما يسيل من الأنف، ومن رواه لا أذن فمعناه: [الذي يسيل منخراه جميعا] .
الخور- بفتح الخاء المعجمة والواو وبالراء: الضعف.
دع: أترك.
النزر: القليل.
علام- حذفت ألف ما الاستفهامية لدخول حرف الجر عليها.
نازحة بالنون والزاي والحاء المهملة: بعيدة.(5/425)
الحرب العوان: هي التي قوتل فيها مرةً بعد مرة.
تستعر: تلتهب وتشتعل.
اعترفوا: صبروا.
النائبات: ما ينوب الإنسان وما ينزل به من المهمات والحوادث.
وما خاموا- بالخاء المعجمة ما جبنوا وما ضجروا، أي ما أصابهم حرج ولا ضيق.
الناس ألب- بهمزة مفتوحة فلام ساكنة فموحدة، أي مجتمعون على التدبير للعدو من حيث لا نعلم.
القنا- بالقاف والنون: الرماح.
الوزر- بفتح الواو والزاي: الملجأ.
نجالد الناس: نقاتلهم.
توحي- بمثناة فوقية مضمومة فواو ساكنة فحاء مهملة مفتوحة فتحتية من الوحي.
لا تهرّ- بفوقية مفتوحة فهاء مكسورة فراء: لا تكره.
جناة الحرب- بجيم مضمومة فنون فألف فتاء تأنيث: جمع جان.
النّادي- بالنون: المجلس.
تلظّى- بفوقية فلام فظاء معجمة مفتوحات فتحتية. تلتهب وتضطرم، وهو من لظى من أسماء النار لا ينصرف للعلمية والتأنيث.
نسعر: نوقد الحرب ونشعلها.
النعف- بفتح النون وسكون العين وبالفاء: أسفل الجبل.
حزّبت- بفتح الحاء المهملة وتشديد الزاي: أجمعت وأعان بعضها بعضا.
ما ونينا- بواو مفتوحة فنون فتحتية ساكنة فنون ما فترنا.
وما خمنّا: تقدم.
شرح غريب ذكر اعتراض بعض الجهلة من أهل الشقاق وما يذكر معه
قوله: الشقاق- بكسر الشّين: الخلاف والمعاندة.
الصّرف- بكسر الصاد، وهو هنا صبغ يصبغ به الأديم.
معتّب- بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الفوقية المشددة وبالموحدة.(5/426)
قشير- بقاف وشين معجمة وبالتّصغير.
ذو الخويصرة- بالخاء المعجمة تصغير خاصرة.
أجل: كنعم وزنا ومعنى.
شقيت- بشين معجمة مفتوحة فقاف مكسورة فتحتيّة فتاء، روي ضمّها وفتحها.
معاذ الله: أي أعوذ بالله معاذا، يقال: معاذ الله ومعاذة الله وعوذ الله وعياذة الله بمعنى واحد، أي أستجير بالله.
شيعة الرّجل- بشين معجمة مكسورة فمثناة تحتية فعين مهملة: أتباعه.
يتعمقون: يتبعون أقصاه، وعمق الشّيء بعد قعره، وهو بعين مهملة.
الرّمية- براء مفتوحة فميم مكسورة فتحتية مشددة فتاء تأنيث: الصيد: الذي ترميه فتصيده وينفذ فيه سهمك، وقيل: هي كل دابّة مرمية.
النّصل- حديدة السهم.
القدح- بكسر القاف: السّهم، قبل أن يراش ويركب نصله.
الفوق- بضم الفاء يذكر ويؤنث: طرف السهم الذي يباشر الوتر.
الرصاف- بكسر الراء وبالصاد المهملة والفاء عقب بفتحتين- يلوى على مدخل النصل في السهم.
النضي- بفتح النون وكسر الضاد المعجمة الساقطة: نصل السّهم، وقيل: هو السّهم قبل أن ينحت إذا كان قدحا. قال أبو موسى المديني وابن الأثير: وهو أولى، لأنه قد جاء في الحديث ذكر النّصل بعد النّضيّ، وقيل: هو من السهم ما بين الريش والنّصل قالوا سمي نضيّا لكثرة البري والنحت، فكأنه جعل نضوا أي هزيلا.
القذذ- بفتح القاف وفتح الذال المعجمة وآخره [ذال] أخرى: ريش السهم واحدتها قذذة.
الفرث: ما يوجد في كرش ذي الكرش.
الحناجر- جمع حنجرة: الحلقوم.
يمرقون من الدين يجوزونه ويخرقونه ويتعدونه كما يخرق السهم الشّيء المرمي به ويخرج منه.
آيتهم: علامتهم.(5/427)
العضد بتثليث العين كرجل- ويسكن وكبد وحمل، وبضمتين ويسكن: ما بين المرفق إلى الكتف.
الثدي- بمثلثة مفتوحة فدال مهملة ساكنة.
البضعة- بفتح الموحدة: القطعة.
تدردر- بفتح الفوقية والدال المهملة، وسكون الراء وبالدال المهملة آخره [راء] تترجرج. مضارع مرفوع حذفت منه التاء.
يخرجون على حين- بالحاء والنون.
فرقة- بضم الفاء: أي افتراق من المسلمين، وروي على خير بالمعجمة والراء، فرقة بالكسر: وهو علي وأصحابه.
شرح غريب ذكر قدوم مالك بن عوف- رضي الله عنه-
الموفور: الكثير.
دحنا- بضم الدال وتفتح وسكون الحاء المهملتين، بالقصر والمد: أرض بين الطائف والجعرانة.
ركضه: استحثه الجري.
العطاء الجزيل: العطاء الكثير.
إذا اجتدي- بضم أوله وسكون الجيم وضم الفوقية وكسر الدال المهملة: أي طلبت منه العطية.
الكتيبة- بالفوقية: الطائفة المجتمعة من الجيش.
عردت- بعين مهملة فراء فدال مهملة مفتوحات فتاء: اعوجّت.
أنيابها- جمع ناب: السّنّ خلف الرباعية، مؤنث.
السّمهري- بفتح السين المهملة وسكون الميم وفتح الهاء وبالراء: الرماح المنسوبة إلى سمهر: قرية بالهند.
المهنّد: السيف المطبوع من حديد الهند.
الليث: الأسد.
الأشبال: جمع شبل وهو: ولد الأسد.(5/428)
الهباءة: الغيرة، ويروى المباءة، بفتح الميم والموحدة والهمز: منزل القوم في كل موضع.
الخادر: الداخل في خدره، والخدر هنا غابة الأسد.
المرصد: الموضع الذي يرصد منه ويترقب.
فهم- بفتح الفاء وسكون الهاء.
سلمة- بكسر اللام.
ثمالة- بضم الثاء المثلثة.
قد ضوى: [أي انضم] .
اعتقد لواء: عقده.
السرح: [المال يسام في المرعى من الأنعام] .
شرح غريب ذكر رجوع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة
قوله مجنّة- بفتح الميم والجيم والنون المشدّدة.
مرّ- بفتح الميم وتشديد الراء مضاف إلى الظّهران تثنية ظهر الحيوان: موضع على مرحلة من مكة.
سرف- بفتح السين المهملة وكسر الراء وبالفاء: موضع.
شرح غريب شعر بجير
بجير- بموحدة مضمومة فجيم مفتوحة فتحتية ساكنة فراء.
زهير بالتّصغير ابن أبي سلمى- بضم السين المهملة وسكون اللام وفتح الميم.
العلالة: بضم العين المهملة «من العلل» ، وهو الشّرب بعد الشرب، وأراد به هنا معنى التكرار. وقال في الإملاء وفي الروضة: العلالة جرى بعد جري، أي قتال بعد قتال، يريد أن هوازن جمعت جمعها علالة في ذلك اليوم، وحذف التنوين من علالة ضرورة وأضمر في كانت اسمها وهو ضمير القصة.
يوم- بالخفض في عدة نسخ صحيحة من السيرة، وجاز على هذا في علالة النصب خبر كان، ويكون اسمها عائدا على شيء تقدم ذكره، ويجوز الرفع في علالة مع إضافتها إلى اليوم على أن تكون كان تامّة مكتفية باسم واحد، ويجوز أن تجعل اسما على المصدر مثل برّة وفجار، وبنصب يوما على الظرف.(5/429)
أوطاس: اسم موضع يأتي ذكره في السّرايا.
الأبرق: موضع، وأصله الجبل الذي فيه ألوان من الحجارة والرمل.
الإغواء- بالغين المعجمة: من الغي الذي هو خلاف الرّشد.
حسرانا: يعني الذين أعيوا منا من الحسير وقد يجوز أن يكون الحسرى هنا الذين لا درع لهم.
الرجراجة- بفتح الراء وسكون الجيم الأولى: الكتيبة التي يموج بعضها في بعض.
المنايا- جمع منيّة: وهي الموت.
الفيلق- بفتح الفاء وسكون التحتية وفتح اللام وبالقاف: الجيش الكثير الشديد.
ملمومة: مجتمعة.
خضراء: يعني من لون السلاح.
حضن- بفتح الحاء المهملة والضّاد المعجمة وبالنون: اسم جبل.
الضّراء- بكسر الضاد المعجمة الساقطة وبالراء: الأسود الضارية.
الهراس- بفتح الهاء والراء والسين المهملة: نبات به شوك.
فدر- بضم أوله والدال المهملة وتسكن وبالراء، فمن رواه بالقاف عنى خيلا تجعل أرجلها في موضع أيديها إذا مشت، ومن رواه بالفاء عنى الوعول، واحدها فادر.
القياد- بقاف مكسورة فتحتية فألف فدال مهملة.
السابغة بالغين المعجمة: الدرع الكاملة.
استحصنت: احتمت بالحصن.
النّهي- بكسر النون وسكون الهاء: الغدير من الماء.
المترقرق: المتحرك.
جدل- بضم الجيم والدال المهملة وباللام: جمع جدلاء: وهي: الدرع الجيدة النسج.
فضولهن: ما انجرّ منهن.
محرّق: لقب عمرو بن هند ملك الحيرة.
شرح غريب شعر كعب بن مالك- رضي الله عنه-
تهامة: ما انخفض من أرض الحجاز.(5/430)
الريب: الشك.
أجممنا: بالجيم: أرحنا.
الحاضن: المرأة التي تحضن ولدها.
ساحة الدار: وسطها، ويقال فناؤها.
العروش بالشين المعجمة: وهي هنا سقف بيوت مكة.
وجّ- بفتح الواو وتشديد الجيم: اسم موضع.
الخلوف- بضم الخاء المعجمة واللام وبالفاء: الغائبون، وفي غير هذا الموضع بمعنى الحاضرين، وهو من الأضداد.
السّرعان- بفتح السين والراء وبالعين المهملات: المتقدمون.
الكثيف- بالثاء المثلثة: الملتف، ومن رواه كشيفا بالشين المعجمة. فمعناه [مكشوف، أو منكشف، والكشف: رفعك الشيء عما يواريه ويغطيه] .
الرّجيف- براء مفتوحة فجيم مكسورة فتحتية ففاء: الصوت الشديد مع زلزال مأخوذ من الرجفة، ومن رواه: وجيفا بالواو والباقي كما تقدم: عنى سريعا يسمع صوت سرعته.
قواضب- بالقاف والضاد المعجمة والموحدة: السيوف القاطعة.
المرهفات: جمع مرهف وهو السيف المرقق الحواشي القاطع.
المصطلون: المبشرون لها.
العقائق- جمع عقيقة: وهي شعاع البرق هنا.
القيون- بالقاف: جمع قين، وهو الحداد.
الكتيف- بالفوقية- جمع كتيفة: وهي صفائح الحديد تضرب للأبواب وغيرها.
تخال- بالخاء المعجمة: تظن.
الجديّة- بفتح الجيم وكسر الدال وتشديد التحتية: الطريقة من الدم.
الجاديّ- بالجيم والدال المهملة المكسورة: الزعفران.
مدوفا- بالدال المهملة وتعجم: مختلطا.
أجدهم- بفتح الهمزة وفتح وكسر الجيم وتشديد الدال المهملة، أي:
العريف هنا- بمعنى عارف.
النّجب: جمع نجيب، وهو العتيق الكريم من الخيل.(5/431)
الطّروف- بضم الطاء المهملة: جمع طرف. وهو الكريم من الخيل أيضا.
الرّوع: الفزع.
الزّحف: دنوّ الناس بعضهم من بعض.
العزوف- بالعين المهملة والزاي وبالفاء: الصابر.
النّزق- بفتح النون وكسر الزاي: الخفيف الطائش.
الرّيف- بكسر الراء وبالفاء: الموضع الخصب الذي على الماء.
الرّعش: المتقلب غير الثابت.
الإذعان- بكسر أوله وبالذال المعجمة: الانقياد.
المضيف- بضم الميم وكسر الضاد المعجمة وبالفاء وهو هنا: المشفق الخائف، يقال أضاف من الأمر إذا أشفق منه وخاف.
التّالد- بالفوقية وكسر اللام وبالدال المهملة: المال القديم.
الطريف- بفتح الطاء المهملة وبالفاء: المال المحدث.
باء: رجع.
ألّبوا- بتشديد اللام، وبالموحدة جمعوا.
الصميم- مفعول ألبوا: وهو خلاصة الشيء.
الجذم- بجيم مفتوحة وذال معجمة ساكنة: الأصل.
الجذع- بالجيم والذال المعجمتين: القطع، وأكثر ما يستعمل في الأنوف، ويقال في المسامع صلمتا، فلما جمعهما، أعمل فيهما فعلا واحدا.
لين: مخفف ليّن بتشديد التحتية.
عنيف- بفتح العين وكسر النون وسكون التحتية وبالفاء: ليس برقيق.
الشّنوف بضم الشين المعجمة والنون جمع شنف: وهو القرط الذي يكون في الأذن.
الخسوف: الذّل.(5/432)
الباب الثلاثون في غزوة تبوك
ويقال إنها غزوة العسرة والفاضحة: اختلف في سببها، فقيل أن جماعة من الأنباط الذين يقدمون بالزيت من الشام إلى المدينة ذكروا للمسلمين أن الرّوم جمعوا جموعا كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجلبت معهم لخم وجذام وعاملة وغسّان وغيرهم من متنصّرة العرب، وجاءت مقدّمتهم إلى البلقاء ولم يكن لذلك حقيقة، ولمّا بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك ندب الناس إلى الخروج- نقله محمد بن عمر ومحمد بن سعد.
وروى الطبراني بسند ضعيف عن عمران بن حصين- رضي الله عنهما قال: كانت نصارى العرب كتبت إلى هرقل/: إن هذا الرجل الذي قد خرج يدّعي النبوّة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم. فإن كنت تريد أن تلحق دينك فالآن، فبعث رجلا من عظمائهم وجهّز معه أربعين ألفا فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمر بالجهاد [ (1) ] .
وقيل: إنّ اليهود قالوا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- يا أبا القاسم إن كنت صادقا فالحق بالشام فإنّها أرض الأنبياء، فغزا تبوك لا يريد إلّا الشام. فلما بلغ، تبوك أنزل الله تعالى الآيات من سورة بني إسرائيل: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء 76] رواه ابن أبي حاتم، وأبو سعد، النّيسابوري، والبيهقي بإسناد حسن.
وقيل: أن الله سبحانه وتعالى لما منع المشركين من قربات المسجد الحرام في الحج وغيره قالت قريش: لتقطعنّ عنا المتاجر والأسواق وليذهبنّ ما كنّا نصيب منها، فعوّضهم الله تعالى- عن ذلك بالأمر بقتال أهل الكتاب حتّى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة 28، 29] وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة 123] وعزم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على قتال الروم، لأنّهم أقرب الناس إليه، وأولى الناس بالدّعوة إلى الحق لقربهم إلى الإسلام رواه ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي شيبة وابن المنذر عن مجاهد، وابن جرير عن سعيد بن جبير.
__________
[ (1) ] انظر المجمع 6/ 194 وقال فيه العباس بن الفضل الأنصاري وهو ضعيف.(5/433)
ذكر عزمه- صلى الله عليه وسلّم- على قتال الروم وبيان ذلك للناس
لمّا عزم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على قتال الروم عام تبوك، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس وشدّة من الحرّ وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس، يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على تلك الحال من الزمان الذي هم عليه، وبيّن- صلى الله عليه وسلّم- للناس مقصده، وكان- صلى الله عليه وسلم- قل أن يخرج في غزوة إلا كنّى عنها وورّى بغيرها إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنّه بيّنها للناس لبعد الشّقّة وشدة الزمان وكثرة العدو الذي يصمد له، ليتأهّب الناس لذلك أهبته، فأمر النّاس بالجهاز، ودعا من حوله من أحياء العرب للخروج معه، فأوعب معه بشر كثير، وبعث إلى مكة، وتخلّف آخرون، فعاتب الله- تعالى- من تخلّف منهم لغير عذر من المنافقين والمقصرين، ووبّخهم وبيّن أمرهم، فقال سبحانه وتعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة 38، 39] ثم قال تعالى انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ. لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [التوبة 41، 42] إلى آخر الآيات.
وروى ابن شيبة، والبخاري، وابن سعد عن كعب بن مالك- رضي الله عنه- قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قلّما يريد غزوة يغزوها إلا ورّى بغيرها، حتى كانت غزوة تبوك فغزاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في قيظ شديد، واستقبل سفراً بعيدا، وغزّى وعددا كثيرا فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريده [ (1) ] .
ذكر حثه- صلى الله عليه وسلّم- على النفقة والحملان في سبيل الله تبارك وتعالى
في حديث عمران بن حصين- رضي الله عنهما- عند الطّبراني أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يجلس كلّ يوم على المنبر فيدعو فيقول: «اللهمّ أن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض. فلم يكن للناس قوة
[ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (2948) .
[ (2) ] أخرجه مسلم 3/ 1383، 1384 واحمد 1/ 32.(5/434)
قال محمد بن عمر- رحمه الله تعالى- حضّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الصّدقات فجاءوا بصدقات كثيرة، فكان أول من جاء أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- جاء بماله كله أربعة آلاف درهم فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «هل أبقيت لأهلك شيئا؟» [ (1) ] فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. وجاء عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- بنصف ماله، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «هل أبقيت لأهلك شيئا؟» قال: نعم مثل ما جئت به،
وحمل العباس، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن عبادة- رضي الله عنهم- وحمل عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- مائتي أوقية إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وتصدّق عاصم بن عدي- رضي الله عنه- بسبعين وسقا من تمر، وجهّز عثمان بن عفان- رضي الله عنه- ثلث ذلك الجيش حتى أنه كان يقال: ما بقيت لهم حاجة حتى كفاهم شنق أسقيتهم.
قلت: كان ذلك الجيش زيادة على ثلاثين ألفا، فيكون- رضي الله عنه- جهز عشرة آلاف.
وذكر أبو عمرو في الدرر، وتبعه في الإشارة: أن عثمان حمل على تسعمائة بعير ومائة فرس بجهازها، وقال ابن إسحاق- رحمه الله تعالى- أنفق عثمان في ذلك الجيش نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.
ونقل ابن هشام عمّن يثق به: أن عثمان- رضي الله عنه- أنفق في جيش العسرة ألف دينار قلت غير الإبل والزاد وما يتعلق بذلك. قال: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض» . وروى الإمام أحمد، والترمذي وحسّنه، والبيهقي عن عبد الرحمن بن سمرة- رضي الله عنه- قال: جاء عثمان إلى رسول- صلى الله عليه وسلّم- بألف دينار في كمّه حين جهز رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- جيش العسرة، فصبّها في حجر النبي- صلى الله عليه وسلّم- فجعل النبي- صلى الله عليه وسلّم- يقلّبها بيده ويقول: «ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم»
[ (2) ] يرددها مرارا.
وروى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند، والترمذي، والبيهقي عن عبد الرحمن بن خباب- بالمعجمة وموحدتين- رضي الله عنه- قال: خطب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فحثّ على جيش العسرة، فقال عثمان- رضي الله عنه- عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثمّ نزل مرقاة أخرى من المنبر فحثّ فقال عثمان- رضي الله عنه-: عليّ مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها ثم نزل مرقاة أخرى فحث فقال عثمان- رضي الله عنه-: عليّ مائة أخرى
__________
[ (1) ] الواقدي في المغازي 3/ 991.
[ (2) ] أخرجه الترمذي (3701) والحاكم 3/ 102 وابن أبي عاصم 2/ 587 (592) والبيهقي في الدلائل 5/ 215، وانظر البداية والنهاية 5/ 4.(5/435)
بأحلاسها وأقتابها. فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يقول بيده- هكذا- يحركها كالمتعجب «ما على عثمان ما عمل بعد هذا اليوم» أو قال: - بعدها-[ (1) ] .
وروى الطيالسي، والإمام أحمد، والنسائي عن الأحنف بن قيس- رحمه الله تعالى- قال: سمعت عثمان- رضي الله عنه- يقول لسعد بن أبي وقاص وعليّ والزّبير وطلحة:
أنشدكم الله، هل تعلمون أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من جهّز جيش العسرة غفر الله له» فجهزتهم حتى ما يفقدون خطاما ولا عقالا؟ قالوا: اللهم نعم
[ (2) ] .
ويأتي في ترجمة عثمان- رضي الله عنه- أحاديث كثيرة في ذلك.
قال محمد بن عمر- رحمه الله: وحمل رجال، وقوّى ناس دون هؤلاء من هم أضعف منهم، حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بيننا نعتقبه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج حتى إن كان النساء يبعثن بما يقدرن عليه، وحمل كعب بن عجرة واثلة بن الأسقع، وروى أبو داود، ومحمد بن عمر عن واثلة بن الأسقع، - رضي الله عنه- قال: نادى منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، فخرجت إلى أهلي- وقد خرج أوّل أصحابه- فطفت في المدينة أنادي: ألا من يحمل رجلا وله سهمه؟ فإذا شيخ من الأنصار- سمّاه محمد بن عمر: كعب بن عجرة- فقال: سهمه على أن تحمله عقبة وطعامه معنا؟ فقلت: نعم، فقال: سر على بركة الله تعالى، فخرجت مع خير صاحب حتى أفاء الله علينا.
قال محمد بن عمر: بعثه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة. قال:
فأصابني قلائص- قال محمد بن عمر: ستة- فسقتهن حتى أتيته بهن، فخرج فقعد على حقيبة من حقائب إبله ثم قال: سقهن مقبلات. فسقتهن، ثم قال: سقهن مدبرات، فقال: ما أرى قلائصك إلا كراما، فقلت: إنما هي غنيمتك التي شرطت لك، قال: خذ قلائصك يا ابن أخي، فغير سهمك أردنا.
ذكر بعض ما دار بين رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وبين بعض المنافقين وتثبيطهم الناس عن الخروج معه
روى ابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة عن ابن عباس وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهم- وابن عقبة، ومحمد بن إسحاق،
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (3700) وأحمد 4/ 75 وابن سعد 7/ 55، وأبو نعيم في الحلية 1/ 99، والدولابي في الكنى 2/ 17، والبخاري في التاريخ 5/ 247.
[ (2) ] أخرجه البيهقي 6/ 167 أو الدارقطني 4/ 200 والنسائي في الاحباس باب (4) والبيهقي في الدلائل 5/ 215.(5/436)
ومحمد بن عمر- رحمهم الله تعالى- عن شيوخهم [ (1) ] زاد ابن عقبة: أن الجدّ بن قيس أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد معه نفر، فقال: يا رسول الله ائذن لي في القعود، فإني ذو ضبعة وعلّة فيها عذر لي، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «تجهّز فإنّك موسر» ، ثم اتفقوا فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «تجهز تجهز فإنك موسر، لعلّك تحقب من بنات بني الأصفر؟» قال الجدّ: أو تأذن لي ولا تفتنّي، فو الله لقد عرف قومي ما أحد أشد عجبا بالنساء منّي، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألّا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وقال: «قد أذنّا لك»
زاد محمد بن عمر- رحمه الله تعالى- فجاءه ابنه عبد الله بن الجدّ- وكان بدريّا- وهو أخو معاذ بن جبل لأمه، فقال لأبيه: لم تردّ على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مقالته فو الله ما في بني سلمة أحد أكثر مالا منك، فلا تخرج ولا تحمل؟! فقال: يا بني ما لي وللخروج في الريح والحرّ الشديد والعسرة إلى بني الأصفر، فو الله ما آمن- خوفا- من بني الأصفر وأنا في منزلي، أفأذهب إليهم أغزوهم؟! إني والله يا بني عالم بالدوائر، فأغلظ له ابنه وقال: لا والله ولكنّه النفاق، والله لينزلن على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فيك قرآن يقرأ به، فرفع نعله فضرب به وجه ولده، فانصرف ابنه ولم يكلمه، وأنزل الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [التوبة 49] أي إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة أكبر بتخلفه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- والرغبة بنفسه عن نفسه، يقول: وإن جهنم لمن ورائه.
وجعل الجدّ وغيره من المنافقين يثبّطون المسلمين عن الخروج، قال الجدّ لجبّار بن صخر ومن معه من بني سلمة: لا تنفروا في الحر، زهادة في الجهاد، وشكّا في الحق، وإرجافا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ. فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة 81، 82] .
وروى ابن هشام- رحمه الله تعالى- عن عبد الله بن حارثة- رضي الله تعالى عنه- قال: بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت سويلم اليهودي يثبّطون الناس عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، فبعث إليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- طلحة بن عبيد الله- رضي الله عنه- في نفر من أصحابه، وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم اليهودي ففعل طلحة، واقتحم الضّحّاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله واقتحم أصحابه فأفلتوا.
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في السنن 9/ 33 وفي الدلائل 5/ 225 وانظر الدر المنثور 3/ 248.(5/437)
وجاء أهل مسجد الضّرار إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله قد بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة، ونحبّ أن تأتينا فتصلّي فيه، فقال لهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «أنا في شغل السّفر، وإذا انصرفت سيكون» .
ذكر خبر المخلفين والمعذرين والبكائين
قال ابن عقبة- رحمه الله تعالى-: وتخلّف المنافقون، وحدّثوا أنفسهم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لا يرجع إليهم أبدا، فاعتذروا. وتخلّف رجال من المسلمين بأمر كان لهم فيه عذر، منهم السقيم والمعسر.
قال محمد بن عمر: وجاء ناس من المنافقين إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ليستأذنوه في القعود من غير علة، فأذن لهم- وكانوا بضعة وثمانين رجلا.
وروى ابن مردويه عن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- استدار برسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجال من المنافقين حين أذن للجدّ بن قيس يستأذنون يقولون: يا رسول الله ائذن لنا فأنا لا نستطيع أن نغزو في الحرّ، فأذن لهم، وأعرض عنهم [ (1) ] .
وجاء المعذّرون من الأعراب فاعتذروا إليه فلم يعذرهم الله، قال ابن إسحاق: وهم نفر من بني غفار، قال محمد بن عمر، كانوا اثنين وثمانين رجلا، منهم، خفاف ابن أيماء.
وروى ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس- رضي الله عنه- وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي وابن إسحاق، وابن المنذر، وأبو الشيخ عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن محمد بن عمر بن قتادة وغيرهم: أن عصابة من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- جاءوه يستحملونه، وكلهم معسر ذو حاجة لا يحب التخلف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «لا أجد ما أحملكم عليه تولّوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألّا يجدوا ما ينفقون» ،
وهم سبعة، واختلفوا في أسمائهم، فالذي اتفقوا عليه سالم بن عمير من بني عمرو بن عوف الأوسي وعلبة- بضم العين المهملة وسكون اللام وبالموحدة- بن زيد- وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب. وهرمي- ويقال بإسقاط التحتية- ابن عبد الله- وهو بها- والذي اتفق عليه القرظي، وابن إسحاق، وتبعهم ابن سعد، وابن حزم، وأبو عمرو، والسهيلي ولم يذكر الأخير، والواقدي. عرباض- بكسر العين المهملة وسكون الراء وبالضاد المعجمة بن سارية بالمهملة وبالتحتية، وجزم بذلك ابن حزم، وأبو عمرو، ورواه أبو نعيم عن ابن عباس، والذي اتفق عليه القرظي وابن عقبة وابن إسحاق. عبد الله بن مغفّل- بميم
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 318، والدر المنثور 3/ 268.(5/438)
مضمومة فغين معجمة ففاء مشددة مفتوحتين- المزني، وفي حديث ابن عباس: عبد الله بن مغفل فيهم، وروى ابن سعد ويعقوب بن سفيان وابن أبي حاتم عن ابن مغفّل قال: إني لأجد الرهط الذين ذكر الله تعالى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ [التوبة 92] الآية.
والذين اتفق عليهم القرظي وابن عمر: سلمة بن صخر، ولفظ القرظي سلمان، والذي اتفق عليه القرظي وابن عقبة: عمرو بن عنمة بفتح العين المهملة والنون- ابن عدي- وعبد الله بن عمرو المزني- حكاه ابن إسحاق قولا بدلا عن ابن مغفّل، وانفرد القرظي بذكر عبد الرحمن بن زيد أبي عبلة من بني حارثة، وبذكر هرمي بن عمرو من بني مازن.
قال محمد بن عمر: ويقال أن عمرو بن عوف منهم.
قال ابن سعد: وفي بعض الروايات من يقول فيهم: معقل- بالعين المهملة والقاف ابن يسار، وذكر فيهم الحاكم حرمي بن مبارك بن النجار كذا في المورد ولم أر له ذكرا في كتب الصحابة التي وقفت عليها.
وذكر ابن عائذ فيهم: مهديّ بن عبد الرحمن، كذا في العيون، ولم أر له ذكرا فيما وقفت عليه من كتب الصحابة، وذكر فيهم محمد بن كعب: سالم بن عمرو الواقفي، قال ابن سعد: وبعضهم يقول: البكاءون بنو مقرّن السبعة، وهم من مزينة انتهى، وهم: النعمان، وسويد، ومعقل، وعقيل، وسنان وعبد الرحمن والسابع لم يسم، قيل اسمه عبد الله، وقيل النعمان، وقيل ضرار، وقيل [ ... ] وحكى ابن فتحون- قولا- أن بني مقرّن عشرة فيتعين ذكر السبعة منهم.
وذكر ابن إسحاق في رواية يونس وابن عمر: أن عبلة بن زيد لما فقد ما يحمله ولم يجد عند رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ما يحمله خرج من الليل فصلّى من ليلته ما شاء الله تعالى، ثم بكى وقال: اللهم إنك أمرتنا بالجهاد ورغّبت فيه، واني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في مال أو جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «أين المتصدق هذه الليلة» فلم يقم أحد، ثم قال: «أين المتصدق فليقم» فقام إليه فأخبره، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أبشر، فو الذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة» .
قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر: لما خرج البكاءون من عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد أعلمهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه لقي يامين بن عمرو النضريّ أبا ليلى وعبد الله بن مغفّل وهما يبكيان، فقال: ما يبكيكما؟، قالا: جئنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج، ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأعطاهما ناضحا له، وزوّد كل واحد منهما صاعين من تمر، زاد محمد بن عمر:(5/439)
وحمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين، وحمل عثمان بن عفان منهم ثلاثة نفر بعد الذي جهّز من الجيش.
ذكر حديث أبي موسى في حلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه لا يحملهم ثم حملهم
روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- قال: أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في نفر من الأشعريين ليحملنا، وفي رواية: أرسلني أصحابي إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أسأله لهم الحملان، فقلت: يا رسول الله إن أصحابي أرسلوني لتحملهم، فقال: «والله لا أحملكم على شيء، وما عندي ما أحملكم عليه» ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، فرجعت حزينا من منع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومن مخافة أن يكون رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وجد في نفسه، فرجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بالذي قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ثم جيء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بنهب إبل فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي: أين عبد الله بن قيس؟ فأجبته، فقال: أجب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يدعوك، فلما أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «خذ هذين القرينين وهذين القرينين وهذين القرينين» لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد، وفي رواية: فأمر لنا بخمس ذود غرّ الذّرى، فقال «انطلق بهن إلى أصحابك فقل إن الله- أو قال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يحملكم على هؤلاء فاركبوا» قال أبو موسى فانطلقت إلى أصحابي فقلت: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يحملكم على هؤلاء، ولكن والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين سألته لكم ومنعه في أوّل مرّة، ثم إعطائه إياي بعد ذلك، لا تظنوا إني حدثتكم شيئا لم يقله، فقالوا لي والله إنك عندنا لمصدّق ولنفعلن ما أحببت فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا مقالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من منعه إيّاهم ثم إعطائه بعد ذلك فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى، قال أبو موسى، ثم قلنا: تغفلنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يمينه، والله لا يبارك لنا، فرجعنا فقلنا له، فقال «ما أنا حملتكم ولكن الله حملكم» قال: «إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت التي هي خير وتحللتها» فقال: «كفّرت عن يميني»
[ (1) ] .
ذكر مجيء المعذرين من الأعراب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ليأذن لهم فلم يعذرهم
قال محمد بن عمر، وابن سعد: وهما اثنان وثمانون رجلا من بني غفار، وأنزل الله
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 11/ 601 (6718) ، ومسلم 3/ 1269 (7/ 1649) .(5/440)
- تبارك وتعالى- في ذلك كله وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ. لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ
[التوبة 86: 93] .
ذكر من تخلف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وهو صحيح الإيمان غير شاك
قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر رحمه الله تعالى: وكان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حتى تخلفوا عنه من غير شكّ ولا ارتياب منهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، وأبو خيثمة، وأبو ذر الغفاري. وكانوا نفر صدق لا يتهمون في إسلامهم- انتهى- وسيأتي أن أبا خيثمة، وأبا ذر لحقا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وستأتي قصة الثلاثة.
ذكر من استخلفه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على أهله، ومن استخلفه على المدينة
قال ابن إسحاق: وخلّف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- على أهله، وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له، وتخفّفا منه، فلما قالوا ذلك أخذ عليّ سلاحه وخرج حتى لحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو نازل بالجرف، فأخبره بما قالوا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «كذبوا، ولكني خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا على أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبيّ بعدي» فرجع عليّ إلى المدينة-
وهذا الحديث رواه الشيخان [ (1) ] ، وله طرق تأتي في ترجمة سيدنا علي- رضي الله عنه.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 71 (3706) ومسلم 4/ 1870 (30/ 2404) .(5/441)
واستخلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري- رضي الله عنه- قال: وذكر الدّراورديّ: أنه استخلف عام تبوك سباع بن عرفطة، زاد محمد بن عمر- بعد حكاية ما تقدم- ويقال ابن أم مكتوم، وقال: والثابت عندنا محمد بن مسلمة، ولم يتخلف عنه في غزوة غيرها، وقيل: علي بن أبي طالب، قال أبو عمرو وتبعه ابن دحية: وهو الأثبت، قلت:
ورواه عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- ولفظه:
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لما خرج إلى تبوك استخلف على المدينة علي بن أبي طالب، وذكر الحديث.
وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كل بطن من الأنصار والقبائل من العرب أن يتخذوا لواء وراية، وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- جيشه من الاستكثار من النعال،
وقال «إن الرجل لا يزال راكبا ما دام منتعلا»
[ (1) ] وأمر أبا بكر- رضي الله عنه- أن يصلي بمن تقدمه- صلى الله عليه وسلّم-.
ذكر خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأين عسكر؟ وخروج عبد الله بن أبي معه مكرا ومكيدة، ورجوعه أخزاه الله تعالى
قالوا: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في رجب سنة تسع فعسكر- صلى الله عليه وسلّم- في ثنية الوداع ومعه زيادة على ثلاثين ألفا، قال ابن إسحاق، ومحمد بن عمر، وابن سعد، ورواه محمد بن عمر ونقله ابن الأمين عن زيد بن ثابت، وروى الحاكم في الإكليل عن معاذ بن جبل قال:
خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفا، ونقل الحاكم في الإكليل عن أبي زرعة قال: كانوا بتبوك سبعين ألفا، وجمع بين الكلامين بأن من قال: ثلاثين ألفا لم يعدّ التابع. ومن قال سبعين ألفا عدّ التابع والمتبوع. وكانت الخيل عشرة آلاف فرس، وقيل بزيادة ألفين.
وروى عبد الرزاق وابن سعد عن كعب بن مالك- رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك يوم الخميس، وكانت آخر غزوة غزاها، وكان يستحب أن يخرج يوم الخميس، وعسكر عبد الله بن أبيّ معه على حدة، عسكره أسفل منه نحو ذباب، قال ابن إسحاق، ومحمد بن عمر، وابن سعد: وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين. قال ابن حزم:
وهذا باطل، لم يتخلف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إلا ما بين السبعين إلى الثمانين فقط، فأقام ابن أبيّ ما أقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما سار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نحو تبوك تخلف ابن أبيّ راجعا إلى المدينة فيمن تخلف من المنافقين، وقال: يغزو محمد بن الأصفر مع جهد الحال والحرّ
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في كتاب اللباس (66) .(5/442)
والبلد البعيد إلى ما لا طاقة له به، يحسب محمد أن قتال بني الأصفر معه اللعب، والله لكأني أنظر إلى أصحابه مقرنين في الحبال، إرجافا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبأصحابه.
قال عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب: خرج المسلمون في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير واحد. رواه البيهقي، وخرج مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ناس من المنافقين لم يخرجوا إلا رجاء الغنيمة.
ولما رحل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من ثنية الوداع عقد الألوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- ورايته العظمى إلى الزبير بن العوام، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن الحضير، وراية الخزرج إلى أبي دجانة، ويقال إلى الحباب بن المنذر، وأمر كل بطن من الأنصار أن يتخذ لواء، ورأى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- برأس الثنية عبدا متسلحا،
فقال العبد:
أقاتل معك يا رسول الله فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «ارجع إلى سيدك لا تقتل معي فتدخل النار» ،
ونادى منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا يخرج معنا إلا مقو فخرج رجل على بكر صعب فصرعه بالسّويداء، فقال الناس: الشهيد الشهيد فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مناديا: لا يدخل الجنة عاص.
وكان دليله- صلى الله عليه وسلّم- إلى تبوك علقمة بن الفغواء الخزاعي- رضي الله عنه-.
ذكر تخلف أبي ذر الغفاري- رضي الله عنه- لما عجز بعيره، وما وقع في ذلك من الآيات
وروى ابن إسحاق عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: لما سار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك جعل بتخلف عنه الرجل، فيقولون: يا رسول الله، تخلّف فلان، فيقول «دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله تعالى منه» حتى قيل: يا رسول الله، تخلف أبو ذرّ وأبطأ به بعيره، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله تعالى منه»
[ (1) ] وتلوّم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ماشيا، قال محمد بن عمر: قالوا: وكان أبو ذرّ الغفاري يقول: أبطأت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك من أجل بعيري.
وكان نضوا أعجف، فقلت أعلفه أيّاما ثم ألحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فعلفته أياما، ثم
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 221.(5/443)
خرجت فلما كنت بذي المروة أذمّ بي فتلوّمت عليه يوما فلم أر به حركة، فأخذت متاعي فحملته. قال ابن مسعود: وأدرك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض منازله،
قال محمد بن عمر: قال أبو ذر: فطلعت على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- نصف النهار وقد أخذ منّي العطش، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله، إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«كن أبا ذرّ» فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله، هو والله أبو ذرّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «رحم الله أبا ذرّ، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده»
فكان كذلك كما سيأتي في المعجزات في أبواب إخباره- صلى الله عليه وسلّم- بأحوال رجال،
فلما قدم أبو ذرّ على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أخبره خبره، فقال «قد غفر الله لك يا أبا ذر بكل خطوة ذنبا إلى أن بلغتني» [ (1) ] ووضع متاعه عن ظهره، ثم استقى فأتي بإناء من ماء فشربه.
قصة أبي خيثمة- رضي الله عنه-
روى الطبراني عن أبي خيثمة- رضي الله عنه- وابن إسحاق، ومحمد بن عمر عن شيوخهما قالوا: لمّا سار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أيّاما دخل أبو خيثمة على أهله في يوم حار، فوجد امرأتين له في عريشين لهما في حائطه، وقد رشت كل منهما عريشها وبرّدت له فيه ماء، وهيأت له فيه طعاما، فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له فقال:
سبحان الله! رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر في الضّحّ والريح والحر يحمل سلاحه على عنقه وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ، وامرأة حسنة، في ماله مقيم؟!! ما هذا بالنّصف! ثم قال: والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- فهيّئا لي زادا، ففعلتا، ثم قدّم ناضحه فارتحله، ثم خرج في طلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى أدركه حين نزل تبوك، وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطّريق يطلب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك
قال أبو خيثمة لعمير بن وهب:
إنّ لي ذنبا فلا عليك أن تخلّف عني حتى أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ففعل، حتى إذا دنا من رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قال الناس: هذا راكب على الطريق مقبل، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «كن أبا خيثمة» فقال رجل: هو والله يا رسول الله أبو خيثمة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أولى لك يا أبا خيثمة» ثم أخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الخبر، فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: خيراً، ودعا له بخير،
قال ابن هشام: وقال أبو خيثمة في ذلك:
لما رأيت النّاس في الدّين نافقوا ... أتيت الّتي كانت أعفّ وأكرما
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في التوبة باب 9 (53) والطبراني في الكبير 6/ 38، 19/ 43، 85 والبيهقي في الدلائل 5/ 223، 226، وانظر البداية لابن كثير 5/ 8 والطبري 11/ 43.(5/444)
وبايعت باليمنى يدي لمحمّد ... فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما
تركت خضيبا في العريش وصرمة ... صفايا كراما بسرها قد تحمّما
وكنت إذا شكّ المنافق أسمحت ... إلى الدين نفسي شطره حيث يمّما
ذكر إخباره- صلى الله عليه وسلم- بما قاله جماعة من المنافقين الذين خرجوا معه
قال محمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر- رحمهم الله تعالى- كان رهط من المنافقين يسيرون مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لم يخرجوا إلا رجاء الغنيمة منهم: وديعة بن ثابت أخو بني عمرو بن عوف.
والجلاس بن سويد بن الصامت.
ومخشّن بالنون- قال أبو عمرو وابن هشام مخشي بالتحتية- ابن حميّر من أشجع، حليف لبني سلمة، زاد محمد بن عمر: وثعلبة بن حاطب.
فقال بعضهم لبعض، عند محمد بن عمر: فقال ثعلبة بن حاطب: أتحسبون جلاد بني الأصفر كجلاد العرب بعضهم بعضا، لكأني بكم غدا مقرنين في الحبال، إرجافا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإرهابا للمؤمنين.
وقال الجلاس بن عمرو، وكان زوج أم عمير، وكان ابنها عمير يتيما في حجره: والله لئن كان محمد صادقا لنحن شرّ من الحمير، فقال عمير: فأنت شرّ من الحمير، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- صادق وأنت الكاذب، فقال مخشّن بن حميّر: والله لوددت أن أقاضي على أن يضرب كلّ رجل منّا مائة جلدة، وإننا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه!!.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لعمار بن ياسر-: «أدرك القوم فإنهم قد اخترقوا، فاسألهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل بلى قلتم كذا وكذا»
[ (1) ] فانطلق عمّار إليهم فقال لهم ذلك، فأتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- على ناقته وقد أخذ وديعة بن ثابت بحقبها ورجلاه تسفيان الحجارة وهو يقول: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [التوبة 65، 66] وحلف الجلاس ما قال من ذلك شيئا، فأنزل الله سبحانه وتعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التوبة 74] .
__________
[ (1) ] انظر المغازي للواقدي 3/ 1003، والدر المنثور للسيوطي 3/ 254.(5/445)
وقال مخشّن: يا رسول الله، قعد بي اسمي واسم أبي، فسمّاه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عبد الرحمن أو عبد الله، وكان الذي عفي عنه في هذه الآية، وسأل الله تعالى أن يقتل شهيدا ولا يعلم بمكانه، فقتل يوم اليمامة، ولم يعرف له أثر.
ذكر نزوله- صلى الله عليه وسلّم- بذي المروة، وما وقع في ذلك من الآيات
روى الطبراني عن عبد الله بن سلام- رضي الله عنه-: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما مرّ بالخليجة في سفره إلى تبوك قال له أصحابه: المبرك يا رسول الله الظل والماء- وكان فيها دوم وماء، فقال «إنها أرض زرع نفر» ، دعوها فإنها مأمورة- يعني ناقته- فأقبلت حتى بركت تحت الدومة التي كانت في مسجد ذي المروة
[ (1) ] .
ذكر مروره- صلى الله عليه وسلّم- بوادي القرى
قال أبو حميد الساعدي- رضي الله عنه- خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام تبوك حتى جئنا وادي القرى، فإذا امرأة في حديقة لها، فقال رسول- صلى الله عليه وسلّم- لأصحابه «اخرصوا» فخرص القوم وخرص رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عشرة أوسق، وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للمرأة «احفظي ما يخرج منها حتى أرجع إليك إن شاء الله تعالى» ولما أقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- من غزوة تبوك إلى وادي القرى قال للمرأة «كم جاءت حديقتك؟» قالت: عشرة أوسق خرص رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[ (2) ] رواه ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، ومسلم.
قال محمد بن عمر: ولما نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وادي القرى أهدى له بنو عريض اليهودي هريسة فأكلها وأطعمهم أربعين وسقا، فهي جارية عليهم إلى يوم القيامة قال محمد بن عمر: فهي جارية عليهم إلى الساعة.
ذكر نزوله- صلى الله عليه وسلّم- بالحجر، وما وقع في ذلك من الآيات
روى الإمام مالك، وأحمد، والشيخان عن عبد الله بن عمر، والإمام أحمد عن جابر بن عبد الله، الإمام أحمد بسند حسن عن أبي كبشة الأنماري، وابن إسحاق عن رواية ابن يونس عن الزهري، والإمام أحمد عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنهم: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لما مرّ بالحجر تقنع بردائه وهو على الرحل، فاتضع راحلته حتى خلّف أبيات ثمود، ولما نزل هناك سارع النّاس إلى أهل الحجر يدخلون عليهم، واستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا ونصبوا القدور باللحم، فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فلما اجتمعوا قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 6/ 196، وقال فيه راو لم يسم.
[ (2) ] أخرجه ابن أبي شيبة 14/ 540، ومسلم 4/ 1785 (11) ، وأحمد 5/ 424 والبيهقي 4/ 22 وفي الدلائل 4/ 239.(5/446)
تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم، ولا تشربوا من مائها ولا تتوضئوا منه للصلاة، واعلفوا العجين الإبل» ثم ارتحل بهم حتى نزل على العين التي كانت تشرب منها الناقة، وقال: «لا تسألوا الآيات. فقد سألها قوم صالح، سألوا نبّيهم أن تبعث آية، فبعث الله تبارك وتعالى لهم الناقة، فكانت ترد هذا الفجّ وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب مياههم يوما، ويشربون لبنها يوما، فعقروها فأخذتهم صيحة أهمد الله تعالى من تحت أديم السماء منهم إلا رجلاً واحداً كان في حرم الله تعالى، قيل: من هو يا رسول الله؟ قال «أبو رغال» فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه، ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم» فناداه رجل منهم:
تعجب منهم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «ألا أنبئكم بأعجب من ذلك؟ رجل من أنفسكم فينبئكم بما كان قبلكم وما هو كائن بعدكم فاستقيموا وسددوا، فإن الله تعالى لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي الله بقوم لا يدفعون عن أنفسهم بشيء، وإنها ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقومن أحد، ومن كان له بعير فليوثق عقاله، ولا يخرجن أحد منكم إلا ومعه صاحب له» ، ففعل الناس ما أمرهم به رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إلا رجلين من بني ساعدة، خرج أحدهما لحاجته والآخر في طلب بعيره، فأما الذي خرج لحاجته فإنه خنق على مذهبه- أي موضعه- وأما الذي خرج في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء اللذين يقال لأحدهما أجا ويقال للآخر سلمى، فأخبر بذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقال: ألم أنهكم عن أن يخرج منكم أحد إلا ومعه صاحبه ثم دعا للذي أصيب على مذهبه فشفي، وأما الآخر فإن طيئا أهدته لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين رجع إلى المدينة
[ (1) ] .
ذكر استسقائه- صلّى الله عليه وسلّم- ربه حين شكوا إليه العطش، وما وقع في ذلك من الآيات
روى البيهقي عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب رحمه الله تعالى- قال:
خرج المسلمون إلى تبوك في حر شديد فأصابهم يوم عطش حتى جعلوا ينحرون إبلهم ليعصروا أكراشها ويشربوا ماءها، فكان ذلك عسرة في الماء، وعسرة في النفقة، وعسرة في الظهر [ (2) ] وروى الإمام أحمد وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال عمر: خرجنا إلى تبوك في يوم قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع حتى إن كان الرجل يذهب يلتمس
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 8/ 125 (4419) ومسلم 4/ 2286 (38، 39/ 2980، وأحمد 2/ 9، 58، 72، 74، 113، 137، والبيهقي في الدلائل 5/ 233، وفي السنن 2/ 451 والحميدي (653) وعبد الرزاق (1625) والطبراني في الكبير 12/ 457 وانظر الدر المنثور 4/ 104.
[ (2) ] البيهقي في الدلائل 5/ 227.(5/447)
الرجل فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستقطع حتى إن كان الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد عوّدك في الدعاء خيرا، فادع الله تعالى لنا، قال «أتحب ذلك؟» قال نعم فرفع يديه نحو السماء فلم يرجعهما حتى قالت السماء فأظلت ثم سكبت، فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر [ (1) ] ، وروى ابن أبي حاتم عن ابن حرزة- رحمه الله تعالى- قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار في غزوة تبوك.
ونزلوا الحجر فأمرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: أن لا يحملوا من مائها شيئا ثم ارتحل، ثم نزل منزلا آخر وليس معهم ماء، فشكوا ذلك إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقام فصلى ركعتين، ثم دعا فأرسل الله سبحانه وتعالى سحابة فأمطرت عليهم حتى استقوا منها، فقال رجل من الأنصار لآخر من قومه يتّهم بالنفاق: ويحك قد ترى ما دعا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأمطر الله علينا السماء، فقال:
إنما أمطرنا بنوء كذا وكذا، فأنزل الله تعالى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة 82] ذكر ابن إسحاق أن هذه القصة كانت بالحجر، وروي عن محمود بن لبيد عن رجال من قومه قال: كان رجل من المنافقين معروف نفاقه يسير مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حيثما سار، فلما كان من أمر الحجر ما كان، ودعا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين دعا فأرسل الله تعالى السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس، قالوا أقبلنا عليه نقول ويحك، هل بعد هذا شيء؟ قال: سحابة مارة [ (2) ]
. ذكر إضلال ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما وقع في ذلك من الآيات
قال محمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر- رحمه الله تعالى: ثم إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- سار حتى إذا كان ببعض الطريق متوجها إلى تبوك فأصبح في منزل فضلّت ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قال محمد بن عمر: هي القصواء- فخرج أصحابه في طلبها وعند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عمارة بن حزم، وكان عقبيا بدريا، قتل يوم اليمامة شهيدا، وكان في رحله زيد بن اللّصيت، أحد بني قينقاع، كان يهوديا فأسلم فنافق وكان فيه خبث اليهود وغشهم، وكان مظاهرا لأهل النفاق، فقال زيد وهو في رحل عمارة بن حزم، وعمارة عند رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-:
محمد يزعم أنه نبي وهو يخبركم عن خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته!!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعمارة عنده: «أن منافقا قال هذا محمد يزعم أنه نبي ويخبركم بأمر السماء ولا يدري أين ناقته، وإني والله لا أعلم إلا ما علمني الله تعالى، وقد دلني الله عز وجل عليها، وهي في
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي 9/ 357 والدلائل 5/ 231 وابن خزيمة (101) وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (1707) وانظر المجمع 6/ 195.
[ (2) ] المغازي (3/ 1009) .(5/448)
الوادي في شعب كذا وكذا- لشعب أشار لهم إليه حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها» فذهبوا فجاءوا بها.
قال محمد بن عمر- رحمه الله تعالى- الذي جاء بها الحارث بن خزيمة الأشهلي، فرجع عمارة إلى رحله فقال: والله، العجب لشيء حدّثناه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- آنفا عن مقالة قائل أخبرها الله تعالى عنه، قال كذا وكذا للذي قال زيد، فقال رجل ممن كان في رحل عمارة- قال محمد بن عمر: وهو عمرو بن حزم أخو عمارة- ولم يحضر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زيد- والله- قائل هذه المقالة، قبل أن تطلع علينا، فأقبل عمارة على زيد يجأ في عنقه، ويقول: يا عباد الله، إن في رحلي لداهية وما أشعر، اخرج يا عدو الله من رحلي فلا تصحبني. قال ابن إسحاق: زعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك، وقال بعض الناس: لم يزل متهما بشرّ حتى هلك.
ذكر اقتدائه- صلى الله عليه وسلّم- بعبد الرحمن بن عوف في صلاة الصبح
روى ابن سعد بسند صحيح عن المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- قال: كنا فيما بين الحجر وتبوك ذهب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لحاجته وكان إذا ذهب أبعد، وتبعته بماء بعد الفجر وفي رواية قبل الفجر فأسفر الناس بصلاتهم، وهي صلاة الفجر حتى خافوا الشمس، فقدموا عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنه- فصلى بهم فحملت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أداوة فيها ماء، وعليه جبة رومية من صوف، فلما فرغ صببت عليه فغسل وجهه، ثم أراد أن يغسل ذراعيه فضاق كم الجبة فأخرج يديه من تحت الجبة فغسلهما، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: «دعهما فإنني أدخلتهما طاهرتين» فمسح عليهما، فانتهينا إلى عبد الرحمن بن عوف، وقد ركع ركعة، فسبّح الناس لعبد الرحمن بن عوف حين رأوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى كادوا يفتنون، فجعل عبد الرحمن يريد أن ينكص وراءه، فأشار إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أن أثبت، فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- خلف عبد الرحمن بن عوف ركعة، فلما سلم عبد الرحمن تواثب الناس، وقام رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يقضي الركعة الباقية ثم سلم بعد فراغه منها، ثم قال: «أحسنتم، أو- قد أصبتم- فغبطهم أن صلوا الصلاة لوقتها- إنه لم يتوفّ نبيّ حتى يؤمّه رجل صالح من أمته» ورواه مسلم بنحوه
[ (1) ] .
ذكر حكومته- صلى الله عليه وسلّم- في رجل عض آخر فانتزع ثنيته
عن يعلى بن أمية- رضي الله عنه- أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بأجير له قد نازع رجلا من العسكر فعضه ذلك الرجل فانتزع الأجير يده من فم العاضّ فانتزع ثنيته. فلزمه العاضّ فبلغ به رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وقمت مع أجيري لأنظر ما يصنع، فأتى بهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 1012.(5/449)
«أيعمد أحدكم فيعضّ أخاه كما يعضّ الفحل» فأبطل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ما أصاب من ثنيته، وقال «أفيدع يده في فيك تقضمها كأنها في فم فحل يقضمها؟» [ (1) ] رواه البخاري وغيره.
ذكر إردافه- صلى الله عليه وسلّم- سهيل بن بيضاء
عن سهيل بن بيضاء- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أردفه على رحله في غزوة تبوك، قال سهيل ورفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صوته «يا سهيل» كل ذلك يقول سهيل: يا لبيك يا رسول الله- ثلاث مرات- حتى عرف الناس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يريدهم فانثنى عليه من أمامه ولحقه من خلفه من الناس، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حرّمه الله على النار» [ (2) ] رواه الإمام أحمد والطبراني ومحمد بن عمر.
ما ذكر أن حية عظيمة عارضت الناس في مسيرهم إن صح الخبر
ذكر محمد بن عمر، وأقرّه أبو نعيم في الدلائل، وابن كثير في البداية، وشيخنا في الخصائص الكبرى قال: عارض الناس في مسيرهم حيّة- ذكر من عظمها وخلقها فانصاع الناس عنها، فأقبلت حتى واقفت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو على راحلته طويلا والناس ينظرون إليها، ثم التوت حتى اعتذلت الطريق، فقامت قائمة فأقبل الناس حتى لحقوا برسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال: «هل تدرون من هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال هذا أحد الرهط الثمانية من الجن الذين وفدوا إلي يستمعون القرآن، فرأى عليه من الحق- حين ألمّ به رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أن يسلم عليه، وها هو يقرئكم السلام، فسلّموا عليه فقال الناس جميعا: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته [ (3) ] .
ذكر نزوله- صلى الله عليه وسلّم- بتبوك وما وقع في ذلك من الآيات
روى الإمام مالك، وابن إسحاق، ومسلم عن معاذ بن جبل والإمام أحمد برجال الصحيح عن حذيفة- رضي الله عنهما- قال معاذ: أنه خرج مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عام تبوك قال: فكان يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، قال: فأخر الصلاة يوما ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا، ثم قال: «إنكم ستأتون غدا إن شاء الله تعالى- عين تبوك، وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمسّ من مائها شيئا حتى آتي»
وفي حديث حذيفة «بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنّ في الماء قلّة، فأمر مناديا ينادي في الناس أن لا يسبقني إلى الماء أحد» ، قال فجئناها وقد سبق إليها رجلان
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (4417) .
[ (2) ] أخرجه أحمد 5/ 318، 236، 318، وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد، وانظر المجمع 6/ 252.
[ (3) ] المغازي للواقدي 3/ 1015.(5/450)
والعين مثل الشراك تبضّ بشيء من مائها، فسألهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «هل مسستما من مائها شيئا» قالا: نعم. فسبّهما وقال لهما «ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا من العين قليلا قليلا حتى اجتمع في شنّ، ثم غسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيه وجهه ويديه ومضمض ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير. ولفظ ابن إسحاق فانخرق الماء حتى كان يقول من سمعه: إنّ له حسّا كحس الصواعق وذلك الماء فوارة تبوك. انتهى، فاستسقى الناس، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
«يا معاذ يوشك إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا ملئ جنانا» .
وروى البيهقي وأبو نعيم عن عروة أن النبي- صلى الله عليه وسلم- حين نزل تبوك- وكان في زمان قلّ ماؤها فيه فاغترف غرفة بيده من ماء فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ففارت عينها حتى امتلأت. فهي كذلك حتى الساعة [ (1) ] .
وروى الخطيب في كتاب الرواة عن الإمام مالك عن جابر- رضي الله عنه- قال: انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك وعينها تبضّ بماء يسير مثل الشراك فشكونا العطش، فأمرهم فجعلوا فيها ما دفعها إليهم فجاشت بالماء، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لمعاذ: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما ها هنا قد ملئ جنانا»
[ (2) ] .
ذكر نومه- صلى الله عليه وسلم- حتى طلعت الشمس قبل وصوله إلى تبوك
روى البيهقي عن عقبه بن عامر- رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، فلما كان منها على ليلة استرقد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلم يستيقظ حتى كانت الشمس قيد رمح قال «ألم أقل لك يا بلال اكلأ لنا الفجر» فقال يا رسول الله ذهب بي النوم، وذهب بي مثل الذي ذهب بك، قال: فانتقل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من منزله غير بعيد، ثم صلى، وسار مسرعا بقية يومه وليلته فأصبح بتبوك.
ذكر نزوله- صلى الله عليه وسلّم- تبوك واتخاذه مسجدا
قال شيوخ محمد بن عمر: لما انتهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى تبوك وضع حجرا قبلة مسجد تبوك وأومأ بيده إلى الحجر وما يليه ثم صلى بالناس الظهر، ثم أقبل عليهم فقال: «ما ها هنا شام، وما ها هنا يمن» .
__________
[ (1) ] البيهقي في الدلائل 5/ 226.
[ (2) ] أخرجه مسلم 4/ 1784- 1785 حديث (10/ 706) وأحمد 5/ 238 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (549) ، والبيهقي في الدلائل 5/ 236 وابن خزيمة (968) ومالك في الموطأ 144، وانظر كنز العمال (35398) .(5/451)
وروى الإمام أحمد: خطب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- عام تبوك وهو مسند ظهره إلى نخلة فقال:
«ألا أخبركم بخير الناس وشر الناس، إن من خير الناس رجلا يحمل في سبيل الله على ظهر فرسه أو على ظهر بعيره أو على قدميه حتى يأتيه الموت. وإن من شر الناس رجلا فاجرا جريئا يقرأ كتاب الله لا يرعوي إلى شيء منه»
[ (1) ] .
وروى البيهقي عن عقبه بن عامر- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لما أصبح بتبوك حمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أيها الناس أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنة محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص القرآن، هذا وخير الأمور عوازمها، وشر الأمور محدثاتها وأحسن الهدى هدى الأنبياء، وأشرف الموت قتل الشهداء، وأعمى العمى الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى، وشرّ المعذرة حين يحضر الموت، وشر النّدامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا دبرا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذاب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل، وخير ما وقر في القلوب اليقين، والارتياب من الكفر، والنّياحة من أعمال الجاهلية، والغلول من جثى جهنم، والسّكركة من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنّساء حبالة الشيطان، والشّباب شعبة من الجنون، وشرّ المكاسب كسب الرّبا، وشر المأكل مال اليتيم، والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، والأمر إلى الآخرة، وملاك العمل خواتمه، وشر الرؤيا رؤيا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتال المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله عز وجل، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتألّ على الله يكذّبه، ومن يغفر يغفر له، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرّزيّة يعوضه الله، ومن يبتغ السّمعة يسمّع الله به، ومن يصبر يضعّف الله له، ومن يعص الله يعذبه الله. اللهم اغفر لي ولأمتي- قالها ثلاثا- استغفر الله لي ولكم»
[ (2) ] .
وذكر ابن عائذ- رحمه الله تعالى- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نزل تبوك في زمان قلّ ماؤها
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 3/ 37، 58، 414، والحاكم 2/ 67 والنسائي 6/ 12.
[ (2) ] البيهقي 5/ 241 قال الحافظ ابن كثير في البداية 5/ 13، 14 هذا حديث غريب، وفيه نكارة، وفي إسناده ضعيف.(5/452)
فيه، فاغترف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- غرفة بيده من مائها فمضمض بها فاه ثم بصقه فيها ففارت حتى امتلأت، فهي كذلك حتى الساعة.
ذكر من استعمله- صلى الله عليه وسلّم- على الحرس بتبوك
قال شيوخ محمد بن عمر: استعمل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على حرسه بتبوك من يوم قدم إلى أن رحل منها عبّاد- بفتح العين المهملة وتشديد الموحدة- ابن بشر- بكسر الموحدة- رضي الله عنه- فكان عبّاد يطوف في أصحابه على العسكر، فغدا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوما فقال: يا رسول الله، ما زلنا نسمع صوت تكبير من ورائنا حتى أصبحنا، فولّيت أحدنا يطوف على الحرس، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «ما فعلت، ولكن عسى أن يكون بعض المسلمين انتدب» فقال سلكان- بكسر السين المهملة وسكون اللام- ابن سلامة: يا رسول الله، خرجت في عشرة من المسلمين على خيلنا فكنا نحرس الحرس فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «رحم الله حرس الحرس في سبيل الله، ولكم قيراط من الأجر على كل من حرستم من الناس جميعا أو دابة» .
ذكر أكله- صلّى الله عليه وسلم- من جبن أهداه له أهل الكتاب بتبوك
عن ابن عمر- رضي الله عنهما- قال: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بجبنة في تبوك فدعا بالسكين فسمّى وقطع [ (1) ] ، رواه أبو داود.
ذكر دعائه- صلى الله عليه وسلم- علي غلام مر بينه وبين القبلة وهو في الصلاة
روى الإمام أحمد، وأبو داود عن يزيد بن نمران- بكسر النون وسكون الميم- قال: رأيت رجلا بتبوك مقعدا، فقال: مررت بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأنا على حمار، وهو يصلي- فقال «اللهم اقطع أثره» فما مشيت عليها بعدها. وروى أيضا عن سعيد بن غزوان- بفتح المعجمة وسكون الزاي- عن أبيه أنه نزل بتبوك وهو حاج فإذا رجل مقعد قال:
سأحدثك حديثا فلا تحدث به ما سمعت إني حي، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نزل بتبوك إلى نخلة فقال: «هذه قبلتنا» ، ثم صلى إليها، فأقبلت وأنا غلام أسعى حتى مررت بينه وبينها، فقال:
«قطع صلاتنا قطع الله أثره» فما قمت عليها إلى يومي هذا
[ (2) ] .
__________
[ (1) ] الطبراني في الكبير 11/ 303.
[ (2) ] أخرجه أبو داود (701) و (705) ، وأحمد 4/ 64، والبيهقي في السنن 2/ 275، والدلائل 5/ 234 والبداية 5/ 14، والبخاري في التاريخ 8/ 366.(5/453)
ذكر الآية في التمر والأقط الذي جاء بهما بلال بتبوك
روى محمد بن عمر [ (1) ] عن شيوخه قالوا: قال رجل من بني سعد هذيم: جئت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو جالس بتبوك في نفر فقال «يا بلال أطعمنا» . فبسط بلال نطعا ثم جعل يخرج من حميت له فأخرج خرجات بيده من تمر معجون بسمن وأقط، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-:
«كلوا» فأكلنا حتى شبعنا، فقلت: يا رسول الله، إن كنت لآكل هذا وحدي، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معاء واحد» ، ثم جئت في الغد متحينا لغدائه لأزداد في الإسلام يقينا، فإذا عشرة نفر حوله فقال: «هات أطعمنا يا بلال» فجعل يخرج من جراب تمرا بكفه قبضة قبضة فقال: «أخرج ولا تخش من ذي العرش إقلالا» فجاء بالجراب ونشره. فقال: فحزرته مدّين، فوضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده على التّمر وقال: «كلوا باسم الله» فأكل القوم وأكلت معهم، وأكلت حتى ما أجد له مسلكا. قال: وبقي على النطع مثل الذي جاء به بلال كأنا لم نأكل منه تمرة واحدة. قال: ثم غدوت من الغد وعاد نفر فكانوا عشرة أو يزيدون رجلا أو رجلين. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «يا بلال أطعمنا» فجاء بلال بذلك الجراب بعينه، أعرفه، فنثره، ووضع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يده عليه وقال: «كلوا باسم الله» فأكلنا حتى نهلنا ثم رجع مثل الذي صبّ ففعل ذلك ثلاثة أيام.
قصة أخرى:
روى محمد بن عمر، وأبو نعيم، وابن عساكر عن عرباض بن سارية- رضي الله عنه- قال: كنت ألزم باب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الحضر والسفر، فرأيتنا ليلة ونحن بتبوك وذهبنا لحاجة فرجعنا إلى منزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد تعشى ومن معه من أضيافه، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريد أن يدخل قبته- ومعه زوجته أم سلمة- فلما طلعت عليه قال: أين كنت منذ الليلة؟ فأخبرته، فطلع جعال بن سراقة وعبد الله بن مغفّل المزنيّ فكنّا ثلاثة كلنا جائع إنما نغشى باب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- البيت فطلب شيئا نأكله فلم يجده، فخرج إلينا فنادى: «يا بلال هل من عشاء لهؤلاء النفر» فقال: والذي بعثك بالحق لقد نفضنا جربنا وحمتنا، قال: «انظر عسى أن تجد شيئا» ، فأخذ الجرب ينفضها جرابا جرابا، فتقع التمرة والتمرتان حتى رأيت في يده سبع تمرات، ثم دعا بصحفة فوضع التمر فيها، ثم وضع يده على التّمرات، وسمّى الله- تعالى- فقال: «كلوا باسم الله» فأكلنا، فحصيت أربعا وخمسين تمرة، أعدّها عدّا ونواها في يدي الأخرى، وصاحباي يصنعان مثل ما أصنع، وشبعنا، فأكل كل واحد منّا خمسين تمرة، ورفعنا أيدينا فإذا التمرات السبع كما هي. فقال: «يا بلال ارفعها فإنّه لا يأكل منها أحد إلّا نهل شبعا» فلما أصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة الصبح
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 1017.(5/454)
ثم انصرف إلى فناء قبّته فجلس وجلسنا حوله، فقرأ من «المؤمنون» عشرا فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «هل لكم في الغذاء؟» قال عرباض: فجعلت أقول في نفسي أي غداء، فدعا بلالا بالتمرات، فوضع يده عليهن في الصحفة، ثم قال: «كلوا بسم الله فأكلنا- فو الذي بعثه بالحق- حتى شبعنا وإنا لعشرة، ثم رفعوا أيديهم منها شبعا وإذا التمرات كما هي، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «لولا إني أستحي من ربي لأكلنا من هذا التمر حتى نرد المدينة عن آخرنا» ، وطلع عليهم غلام من أهل البدو فأخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- التّمرات فدفعها إليه فولى الغلام يلوكهن
[ (1) ] .
ذكر طوافه- صلى الله عليه وسلم- علي الناس بتبوك
قال شيوخ محمد بن عمر: كان رجل من بني عذرة يقال له عدي يقول: جئت رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بتبوك فرأيته على ناقة حمراء يطوف على الناس، يقول «يا أيها الناس، يد الله فوق يد المعطي ويد المعطي الوسطى، ويد المعطي السّفلى، أيها الناس فتغنوا ولو بحزم الحطب اللهم هل بلغت» ثلاثا فقلت: يا رسول الله إن امرأتيّ اقتتلتا، فرميت إحداهما فرمي في رميتي- يريد أنها ماتت- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «تعقلها ولا ترثها» فجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في موضع مسجده بتبوك فنظر نحو اليمين، ورفع يده يشير إلى أهل اليمن فقال «الإيمان يمان» ونظر نحو الشرق فأشار بيده إن الجفاء وغلظ القلوب في الفدادين أهل الوبر من نحو المشرق حيث يطلع الشيطان قرنيه
[ (2) ] .
ذكر إخباره- صلى الله عليه وسلم- بموت عظيم من المنافقين لما هبت ريح شديدة
قال محمد بن عمر رحمه الله تعالى: وهاجت ريح شديدة بتبوك فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «هذا لموت منافق عظيم النفاق» [ (3) ] فقدموا المدينة فوجدوا منافقا عظيم النفاق قد مات.
وروى محمد بن عمر عن شيوخه، قالوا: «قدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نفر من سعد هذيم فقالوا: يا رسول الله، إنا قدمنا إليك وتركنا أهلنا على بئر لنا قليل ماؤها، وهذا القيظ، ونحن نخاف إن تفرقنا أن نقتطع، لأن الإسلام لم يفش حولنا بعد، فادع الله تعالى لنا في مائها، فإنا إن روينا به فلا قوم أعز منّا لا يعبر بنا أحد مخالف لديننا. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ابغوا لي
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 1017.
[ (2) ] المغازي 3/ 1017.
[ (3) ] أخرجه أحمد في المسند 3/ 341.(5/455)
حصيات فتناول بعضهم ثلاث حصيات فدفعهن إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ففركهن بيده ثم قال:
«اذهبوا بهذه الحصيات إلى بئركم فاطرحوها واحدة واحدة وسموا الله تعالى» [ (1) ] فانصرف القوم من عند رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ففعلوا ذلك، فجاشت بئرهم بالرواء، ونفوا من قاربهم من أهل الشرك ووطئوهم فما انصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة حتى أوطئوا من حولهم غلبة ودانوا عليه بالإسلام.
ذكر قوله- صلى الله عليه وسلّم- بتبوك أعطيت خمسا ما أعطيهن أحد قبلي
روى محمد بن عمر عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بتبوك، فقام من الليل يصلي، وهو كثير التهجد من الليل ولا يقوم إلا استاك- فقام ليلة فلما فرغ أقبل علي من كان عنده فقال: «أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهنّ أحد قبلي:
بعثت إلى الناس كافة- وكان النبي يبعث إلى قومه- وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تيمّمت وصلّيت، وكان من قبلي لم يعطوا ذلك، وكانوا لا يصلّون إلا في الكنائس والبيع وأحلت لي الغنائم آكلها، وكان من قبلي يحرمونها، والخامسة هي ما هي، هي ما هي، هي ما هي،» ثلاثا- قالوا: يا رسول الله، وما هي؟ قال: «قيل لي سل فكلّ نبي قد سأل، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله»
[ (2) ] .
ذكر صلاته- صلّى الله عليه وسلم- علي معاوية بن معاوية المزني في اليوم الذي مات فيه بالمدينة
روى الطبراني- في الكبير والأوسط- من طريق نوح بن عمر الطبراني في الكبير- من طريق صدقة بن أبي سهيل عن معاوية بن أبي سفيان، وابن سعد والبيهقي من طريق العلاء أبو محمد الثقفي، وابن سعد وابن أبي يعلى والبيهقي عن طريق عطاء بن أبي ميمونة كلاهما عن أنس- رضي الله عنهم- قالوا كنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بتبوك، قال أنس: فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور لم أرها طلعت بمثلهم فيما مضى فأتى جبريل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «يا جبريل مالي أرى الشمس اليوم طلعت بضياء وشعاع ونور لم أرها طلعت بمثلهم فيما مضى» قال: «ذلك معاوية بن معاوية المزني مات بالمدينة اليوم، فبعث الله تعالى سبعين ألف ملك يصلون عليه، فهل لك في الصلاة عليه؟ قال: «نعم» ، فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يمشي، فقال جبريل بيده هكذا يفرج له عن الجبال والآكام، ومع جبريل سبعون
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 1034.
[ (2) ] المصدر السابق.(5/456)
ألف ملك، فصلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وصفّ الملائكة خلفه صفّين، فلما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لجبريل «بم بلغ هذه المنزلة» قال: «بحبه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يقرؤها قائما أو قاعدا، أو راكبا أو ماشيا وعلى كل حال»
قال الحافظ في لسان الميزان في ترجمة محبوب بن هلال: هذا الحديث علم من أعلام النبوة، وله طرق يقوي بعضها ببعض، وقال في فتح الباري، في باب الصفوف على الجنازة: إنه خبر قوي بالنظر إلى مجموع طرقه، وقال في اللسان في ترجمة نوح بن عمر طريقة أقوى طرق الحديث- انتهى. وأورد الحديث النووي في الأذكار في باب «الذكر في الطريق» فعلم من ذلك ردّ قول من يقول: إن الحديث موضوع لا أصل له [ (1) ] .
ذكر إرساله- صلّى الله عليه وسلّم- دحية إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام وقدوم [رسول] هرقل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وما وقع في ذلك من الآيات
لمّا وصل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تبوك كان هرقل بحمص، ولم يكن يهم بالذي بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنه من جمعه، ولا حدثته نفسه بذلك.
وروى الحارث بن أبي أسامة عن بكر بن عبد الله المزني- رحمه الله تعالى- قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من يذهب بهذا الكتاب إلى قيصر وله الجنة» ؟ فقال رجل: وإن لم يقبل؟
قال: «وإن لم يقبل» فانطلق الرجل فأتاه بالكتاب، فقرأه فقال: اذهب إلى نبيكم فأخبره أني متّبعه، ولكن لا أريد أن أدع ملكي، وبعث معه بدنانير إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فرجع فأخبره، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «كذب» وقسم الدنانير
[ (2) ] .
وروى الإمام أحمد. وأبو يعلى بسند حسن لا بأس به عن سعيد بن أبي راشد قال:
لقيت التّنوخي رسول هرقل إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بحمص، وكان جارا لي شيخا كبيرا قد بلغ المائة أو قرب، فقلت: ألا تحدثني عن رسالة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى هرقل؟ فقال: بلى، قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- تبوك، فبعث دحية الكلبي إلى هرقل، فلما أن جاء كتاب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- دعا قسّيسي الروم وبطارقتها، ثم أغلق عليه وعليهم الدار فقال: قد نزل هذا الرجل حيث رأيتم، وقد أرسل يدعوني إلى ثلاث خصال: أن اتبعه على دينه، أو أن أعطيه مالنا على أرضنا والأرض أرضنا، أو نلقي إليه الحرب. والله لقد عرفتم فيما تقرأون من الكتب ليأخذن
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 4/ 14.
[ (2) ] انظر الطبراني في الكبير 12/ 442 والمجمع 5/ 306.(5/457)
أرضنا فهلم فلنتبعه على دينه، أو نعطه مالنا على أرضنا، فنخروا نخرة رجل واحد حتى خرجوا من برانسهم وقالوا: تدعونا أن نذر النصرانية أو نكون عبيدا لأعرابي جاء من الحجاز؟ فلما ظن أنهم إذا خرجوا من عنده أفسدوا عليه الروم رقّاهم ولم يكد وقال: إنما قلت ذلك لأعلم صلابتكم على أمركم، ثم دعا رجلا من عرب تجيب كان على نصارى العرب قال. ادع لي رجلا حافظا للحديث عربيّ اللسان أبعثه إلى هذا الرجل بجواب كتابه، فجاءني فدفع إليّ هرقل كتابا، فقال: اذهب بكتابي هذا إلى هذا الرجل، فما سمعته من حديثه فاحفظ لي منه ثلاث خصال هل يذكر صحيفته التي كتب بشيء؟ وانظر إذا قرأ كتابي هذا هل يذكر الليل؟
وانظر في ظهره هل فيه شيء يريبك؟ قال: فانطلقت بكتابه حتى جئت تبوكا فإذا هو جالس بين ظهري أصحابه محتبيا على الماء، فقلت: أين صاحبكم؟ قيل ها هو ذا، قال فأقبلت أمشي حتى جلست بين يديه فناولته كتابي فوضعه في حجرة ثم قال: «ممن أنت؟» فقلت: أنا أخو تنوخ، فقال: «هل لك في الإسلام. الحنيفية ملة أبيك إبراهيم؟» فقلت: إني رسول قوم وعلى دين قوم [لا أرجع عنه] حتى أرجع إليهم. فضحك وقال إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص 56] يا أخا تنوخ، إني كتبت بكتاب إلى كسرى فمزقه، والله ممزّقه وممزّق ملكه، وكتبت إلى النجاشي بصحيفة فمزقها، والله ممزّقه وممزّق ملكه. وكتبت إلى صاحبك بصحيفة فأمسكها فلن يزال الناس يجدون منه بأسا ما دام في العيش خير قلت: هذه إحدى الثلاث التي أوصاني بها صاحبي، فأخذت سهما من جعبتي فكتبتها في جفن سيفي، ثم ناول الصحيفة رجلا عن يساره، قلت: من صاحب كتابكم الذي يقرأ لكم؟ قالوا: معاوية. فإذا في كتاب صاحبي: تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار؟
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «سبحان الله أين النهار إذا جاء الليل»
قال:
فأخذت سهما من جعبتي فكتبته في جفن سيفي، فلم فرغ من قراءة كتابي قال: «إن لك حقا، وإنك لرسول، فلو وجدت عندنا جائزة جوزناك بها، إنا سفر مرملون» قال قتادة فناداه رجل من طائفة الناس قال: أنا أجوزه ففتح رحله فإذا هو بحلة صفورية فوضعها في حجري، قلت من صاحب الجائزة؟ قيل لي: عثمان، ثم
قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «أيكم ينزل هذا الرجل؟» فقال فتى من الأنصار: أنا، فقام الأنصاري وقمت معه حتى إذا خرجت من طائفة المجلس ناداني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «تعال يا أخا تنوخ» فأقبلت أهوى حتى كنت قائما في مجلسي الذي كنت بين يديه، فحل حبوته عن ظهره وقال: «ها هنا امض لما أمرت له، فجلت في ظهره فإذا أنا بخاتم النبوة في موضع غضروف الكتف مثل المحجمة الضخمة»
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] قال الحافظ ابن كثير 5/ 16 «هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به، تفرد به الإمام أحمد» .(5/458)
قال محمد بن عمر: فانصرف الرجل إلى هرقل فذكر ذلك له. فدعا قومه إلى التصديق بالنبي- صلى الله عليه وسلّم- فأبو حتى خافهم على ملكه، وهو في موضعه بحمص لم يتحرك ولم يزحف، وكان الذي خبر النبي- صلى الله عليه وسلم- من تعبئة أصحابه ودنوه إلى وادي الشام لم يرد ذلك ولا همّ به.
وذكر السهيلي رحمه الله تعالى: أن هرقل أهدى لرسول الله- صلى الله عليه وسلّم- هدية- فقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هديته وفرقها على المسلمين.
ثم إن هرقل أمر مناديا ينادي: ألا إن هرقل قد آمن بمحمد واتبعه، فدخلت الأجناد في سلاحها وطافت بقصره تريد قتله، فأرسل إليهم: إني أردت أن أختبر صلابتكم في دينكم، فقد رضيت عنكم، فرضوا عنه.
ثم كتب إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كتابا مع دحية يقول فيه: إني معكم ولكني مغلوب على أمري، فلما قرأ رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كتابه قال: «كذب عدو الله، وليس بمسلم بل هو على نصرانيته» .
ذكر صلاته- صلّى الله عليه وسلم- علي ذي البجادين رضي الله عنه
روى ابن إسحاق، وابن منده عن ابن مسعود- رضي الله عنه- ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا: كان عبد الله ذو البجادين من مزينة، مات أبوه وهو صغير فلم يورّثه شيئا، وكان عمه ميّلا فأخذه فكفله حتى كان قد أيسر، وكانت له إبل وغنم ورقيق، فلما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام ولا يقدر عليه من عمّه، حتى مضت السنون والمشاهد كلّها، فانصرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من فتح مكة راجعا إلى المدينة، فقال عبد الله ذو البجادين لعمه: يا عمّ قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدا، فائذن لي في الإسلام، فقال: والله لئن اتبعت محمدا لا تركت بيدك شيئا كنت أعطيتكه إلا انتزعته منك حتى ثوبيك، فقال: وأنا والله متبع محمدا ومسلم وتارك عبادة الحجر والوثن، وهذا ما بيدي فخذه، فأخذ كلّ ما أعطاه حتى جرّده من إزاره، فجاء أمّه فقطعت بجادا لها باثنين فائتزر بواحد وارتدى بالآخر،
ثم أقبل إلى المدينة فاضطجع في المسجد، ثم صلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- الصبح، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح، فنظر إليه فأنكره، فقال «من أنت؟» فانتسب له، فقال: «أنت عبد الله ذو البجادين» ثم قال: «أنزل مني قريبا» فكان يكون في أضيافه ويعلمه القرآن، حتى قرأ قرآنا كثيرا، وكان رجلا صيّتا فكان يقوم في المسجد فيرفع صوته في القراءة، فقال عمر: يا رسول الله ألا تسمع هذا الأعرابي يرفع صوته بالقرآن حتى قد منع الناس القراءة؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «دعه يا عمر: فإنه قد خرج مهاجرا إلى الله تعالى وإلى رسوله» فلما خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إلى تبوك قال: يا رسول الله. ادع الله تعالى لي بالشهادة، فقال: أبلغني بلحاء سمرة فأبلغه بلحاء سمرة، فربطها رسول الله- صلى الله عليه وسلم-(5/459)
على عضده، وقال: «اللهم إني أحرم دمه على الكفّار» فقال: يا رسول الله، ليس هذا أردت فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «إنك إذا خرجت غازيا في سبيل الله فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد. وإذا وقصتك دابّتك فأنت شهيد لا تبالي بأية كان» فلما نزلوا تبوك أقاموا بها أياما، ثم توفي عبد الله ذو البجادين، فكان بلال بن الحارث المزني يقول: حضرت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومع بلال المؤذن شعلة من نار عند القبر واقفا بها، وإذا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في القبر، وإذا أبو بكر وعمر يدليانه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: «أدنيا لي أخاكما» فلما هيأه لشقّه في اللحد قال: «اللهم إني قد أمسيت عنه راضيا فارض عنه» فقال ابن مسعود: يا ليتني كنت صاحب اللحد
[ (1) ] .
وروى الطبراني برجال وثّقوا، وأبو نعيم عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه عن جده- رضي الله عنه- قال: خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى غزوة تبوك، وكنت على خدمته ذلك، فنظرت إلى نحي السمن قد قل ما فيه، وهيأت للنبي- صلى الله عليه وسلّم- طعاما فوضعت النحي في الشمس، ونمت فانتبهت بخرير النحي، فقمت فأخذت رأسه بيدي. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ورآني: «لو تركته لسال الوادي سمنا»
[ (2) ] .
ذكر مصالحته- صلى الله عليه وسلّم- ملك أيلة وأهل جربا وأذرح وهو مقيم بتبوك قبل رجوعه
لما بعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد إلى أكيدر بدومة- كما سيأتي بيان ذلك في السرايا- أشفق ملك أيلة يحنة بن رؤبة أن يبعث إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما بعث إلى أكيدر، فقدم على النبي- صلى الله عليه وسلم- وقدم معه أهل جربا وأذرح ومقنا وأهدى لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- بغلة.
قال أبو حميد المساعدي- رضي الله عنه- قدم على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأهدى إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بغلة بيضاء، وكساه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بردا وكتب له رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ببحرهم. رواه ابن أبي شيبة والبخاري.
روى محمد بن عمر عن جابر- رضي الله عنه- قال: رأيت يحنة بن رؤبة يوم أتي به رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وعليه صليب من ذهب، وهو معقود الناصية فلما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كفّر وأومأ برأسه فأومأ إليه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بيده أن ارفع رأسك، وصالحه يومئذ، وكساه
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 1014.
[ (2) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل (155) .(5/460)
بردا يمنية فاشتراه بعد ذلك أبو العباس عبد الله بن محمد بثلاثمائة دينار وأمر له بمنزل عند بلال انتهى.
قالوا: وقطع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الجزية جزية معلومة ثلاثمائة دينار كل سنة، وكانوا ثلاثمائة رجل،
وكتب لهم بذلك كتابا فيه:
بسم الله الرّحمن الرّحيم: هذا كتاب أمنة من الله تعالى ومحمد النبي رسول الله ليحنّة بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسائرهم السارح في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة رسوله- صلى الله عليه وسلّم- ولمن كان معهم من أهل الشام، وأهل اليمن، وأهل البحر، ومن أحدث حدثا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيّب لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يردونه من بر أو بحر.
هذا كتاب جهيم بن الصّلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-[ (1) ] .
وكتب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لأهل أذرح كتابا قال محمد بن عمر: نسخت كتابهم فإذا فيه: «بسم الله الرّحمن الرّحيم. هذا كتاب محمد النبي- صلى الله عليه وسلّم- لأهل أذرح وجربا، إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان إلى المسلمين، ومن لجأ من المسلمين من المخافة والتعزير إذا خشوا على المسلمين فهم آمنون، حتى يحدث إليهم محمد- صلى الله عليه وسلم- قبل خروجه»
قالوا: وأتى أهل جربا وأذرح بجزيتهم بتبوك فأخذها.
وصالح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أهل مقنا على ربع ثمارهم وربع غزولهم.
وروى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد، ومسلم عن أبي حميد الساعدي- رضي الله عنه- قال: جاء ابن العلماء صاحب أيلة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بكتاب وأهدى له بغلة بيضاء، فكتب له رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وأهدى له بردا [ (2) ] .
ذكر مشاورته- صلى الله عليه وسلم- أصحابه في مجاوزة تبوك إلى نحو دمشق
قال محمد بن عمر- رحمه الله تعالى: شاور رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أصحابه في التقدم، فقال عمر بن الخّطاب: يا رسول الله، إن كنت أمرت بالمسير فسر، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-:
«لو أمرت بالمسير لما استشرتكم فيه»
فقال: يا رسول الله إن للروم جموعا كثيرة، وليس بها
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 1032.
[ (2) ] أخرجه مسلم 3/ 1011 (503/ 1392) .(5/461)
أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا منهم، وقد أفزعهم دنوّك، فلو رجعنا هذه السنة حتى ترى أو يحدث الله لك أمرا.
وروى البيهقي وغيره بسند جيد عن عبد الرحمن بن غنم: أن اليهود أتوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوما فقالوا: يا أبا القاسم، إن كنت صادقا أنك نبيّ فالحق بالشام، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء، فصدّق ما قالوا، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا [الإسراء 76، 77] فأمره الله تعالى بالرجوع إلى المدينة وقال: فيها محياك ومماتك ومنها تبعث.
فرجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأمره جبريل فقال: اسأل ربّك عزّ وجلّ، فإن لكل نبيّ مسألة- وكان جبريل له ناصحا، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- له مطيعا، قال: «فما تأْمرني أَن أَسأَل» قال: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً
[الإسراء 80] [ (1) ] فهؤلاء الآيات أنزلت عليه في مرجعه من تبوك.
وفي هذه الغزوة قال- صلى الله عليه وسلم-
ما رواه عكرمة عن أبيه أو عن عمه عن جده- رضي الله عنه-: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال في غزوة تبوك: «إذا وقع الطّاعون بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا كنتم بغيرها فلا تقدموا عليها» [ (2) ] رواه الإمام أحمد والطبراني من طرق
قال في بذل الطاعون يشبه- والله أعلم- أن يكون السبب في ذلك أن الشام كانت قديم الزمان ولم تزل معروفة بكثرة الطواعين، فلما قدم النبي- صلى الله عليه وسلم- تبوك غازيا الشام لعله بلغه أن الطّاعون في الجهة التي كان يقصدها، فكان ذلك من أسباب رجوعه من غير قتال- والله أعلم. انتهى.
قلت: قد ذكر جماعة أن طاعون شيرويه أحد ملوك الفرس، كان في أيام النبي- صلى الله عليه وسلم- وإنه كان بالمدائن.
ذكر إرادة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الانصراف من تبوك إلى المدينة، وما وقع في ذلك من الآيات، وقدر إقامته- صلى الله عليه وسلّم- بتبوك
روى مسلم عن أبي هريرة. وإسحاق بن راهويه، وأبو يعلى، وأبو نعيم، وابن عساكر عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنهما- ومحمد بن عمر عن شيوخه قال شيوخ ابن عمر: ولمّا
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 254.
[ (2) ] أحمد 1/ 175، 3/ 416، 5/ 373، والطبراني في الكبير 1/ 90 وانظر المجمع 2/ 315 والدولابي في الكنى 1/ 100، والطحاوي في المعاني 4/ 306.(5/462)
أجمع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- السير من تبوك أرمل النّاس إرمالا، فشخص على ذلك من الحال.
انتهى.
قال أبو هريرة: فقالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فننحر نواضحنا فأكلنا وادّهنّا؟ قال شيوخ محمد بن عمر: فلقيهم عمر بن الخطاب وهم على نحرها فأمرهم أن يمسكوا عن نحرها، ثم دخل علي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في خيمة له ثم اتفقوا فقال يا رسول الله أأذنت للناس في نحر حمولتهم يأكلونها؟ قال شيوخ محمد: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «شكوا إلّي ما بلغ منهم الجوع فأذنت لهم ينحر الرّفقة البعير والبعيرين ويتعاقبون فيما فضل منهم فإنهم قافلون إلى أهليهم» - انتهى. فقال عمر: يا رسول الله لا تفعل، فإن يك في الناس فضل من الظّهر يكن خيرا، فالظهر اليوم رقاق انتهى. ولكن يا رسول الله ادع بفضل أزوادهم، ثم اجمعها، وادع الله تعالى فيها بالبركة لعل الله تعالى أن يجعل فيها البركة. زاد شيوخ محمد كما فعلت في منصرفنا من الحديبية حين أرملنا، فإن الله تعالى مستجيب لك انتهى، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «نعم» فدعا بنطع فبسط- قال شيوخ محمد: بالأنطاع فبسطت- ونادى منادي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
من كان عنده فضل من زاد فليأت به- انتهى فجعل الرجل يأتي بكف ذرة، ويجيء الآخر بكفّ تمر، ويجيء الآخر بكسرة. وقال شيوخ محمد: وجعل الرجل يأتي بالدقيق أو التمر أو القبضة من الدقيق والسويق والتمر والكسر فيوضع كل صنف من ذلك على حدة وكل ذلك قليل وكان جميع ما جاءوا به من السويق والدقيق والتمر ثلاثة أفراق حزرا- والفرق ثلثة آصع.
انتهى قال: فجزأنا ما جاءوا به فوجدوه سبعة وعشرين صاعا. قال شيوخ محمد: ثم قام رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فتوضأ وصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى أن يبارك فيه. قال عمر: فجلس رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إلى جنبه فدعا فيه بالبركة، ثم قال: «أيها الناس خذوا ولا تنتهبوا» فأخذوه في الجرب والغرائر، حتى جعل الرجل يعقد قميصه فيأخذ فيه، قال أبو هريرة- رضي الله عنه وما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه، وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة. قال شيوخ محمد بن عمر: قال بعض من الصحابة: لقد طرحت كسرة يومئذ من خبز وقبضه من تمر، ولقد رأيت الأنطاع تفيض، وجئت بجرابين فملأت أحدهما سويقا والآخر خبزا، وأخذت في ثوبي دقيقا كفاني إلى المدينة- قال: فأخذوا حتى صدروا. وإنه نحو ما كانوا يحرزون- قالوا كلهم: فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يأتي بها عبد غير شاك فيحجب عن الجنة» وفي لفظ (لا يأتي بها عبد محق إلا وقاه الله حر النار)
[ (1) ] ، وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما كما رواه ابن سعد أقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتبوك عشرين ليلة يقصر الصلاة
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 1038.(5/463)
وعلى ذلك جرى محمد بن عمر وابن حزم وغيرهم، وقال ابن عقبة، وابن إسحاق: بضع عشرة ليلة. والله أعلم.
ذكر بعض آيات وقعت في رجوع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من تبوك إلى المدينة
روى محمد بن عمر، وأبو نعيم عن أبي قتادة- رضي الله عنه- قال: بينا نحن نسير مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- في الجيش ليلا وهو قافل وأنا معه إذ خفق خفقة- وهو على راحلته فمال على شقه فدنوت منه فدعمته فانتبه، فقال: «من هذا؟» فقلت: أبو قتادة يا رسول الله، خفت أن تسقط فدعمتك، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «حفظك الله كما حفظت رسوله» ثم سار غير كثير ثم فعل مثل ذلك هذا فدعمته فانتبه فقال: يا أبا قتادة، هل لك في التعريس؟» فقلت: ما شئت يا رسول الله، فقال: «انظر من خلفك» فنظرت فإذا رجلان أو ثلاثة، فقال «ادعهم» فقلت: أجيبوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فجاءوا فعرسنا- ونحن خمسة- برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومعي إداوة فيها ماء وركوة لي أشرب فيها، فنمنا فما انتبهنا إلا بحرّ الشمس، فقلنا: إنّا لله فاتنا الصبح، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «لنغيظن الشّيطان كما غاظنا» فتوضأ من ماء الإداوة ففضل فضلة فقال: «يا أبا قتادة احتفظ بما في الإداوة والرّكوة، فإن لهما شأنا» وصلى- صلى الله عليه وسلّم- بنا الفجر بعد طلوع الشمس، فقرأ بالمائدة، فلما انصرف من الصلاة قال: «أما إنهم لو أطاعوا أبا بكر وعمر لرشدوا» وذلك أن أبا بكر وعمر أرادا أن ينزلا بالجيش على الماء فأبوا ذلك عليهما، فنزلوا على غير ماء بفلاة من الأرض، فركب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلحق الجيش عند زوال الشمس ونحن معه. وقد كادت أعناق الخيل والرجال والركاب تقطّع عطشا، فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بالرّكوة فأفرغ ما في الإداوة فيها. ووضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه، وأقبل الناس فاستقوا وفاض الماء حتى رووا، ورووا خيلهم، وركابهم، وكان في العسكر اثنا عشر ألف بعير، والناس ثلاثون ألفا، والخيل اثنا عشر ألف فرس، فذلك قول رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «احتفظ بالرّكوة والإداوة» .
قال ابن إسحاق، ومحمد بن عمر: قالوا: وأقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قافلا حتى إذا كان بين تبوك وواد يقال له: وادي الناقة- وقال ابن إسحاق: يقال له وادي المشقق- وكان فيه وشل يخرج منه في أسفله قدر ما يروي الراكبين أو الثلاثة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «من سبقنا إلى ذلك الوشل فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه» فسبقه إليه أربعة من المنافقين: معتّب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائيّ حليف في بني عمرو بن عوف، ووديعة بن ثابت، وزيد بن اللّصيت، فلما أتاه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وقف عليه فلم ير فيه شيئا. فقال «من سبقنا إلى هذا الماء؟» فقيل يا رسول الله فلان وفلان، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «ألم أنهكم؟» فلعنهم ودعا(5/464)
عليهم، ثم نزل ووضع يده تحت الوشل، ثم مسحه بإصبعيه حتى اجتمع منه في كفه ماء قليل، ثم نضحه به، ثم مسحه بيده، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو، فانخرق منه الماء- قال معاذ بن جبل: والذي نفسي بيده لقد سمعت له من شدّة انخراقه مثل الصواعق- فشرب الناس ما شاءوا، واستقوا ما شاءوا، ثم قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- للناس «لئن بقيتم. أو من بقي منكم» - لتسمعن بهذا الوادي وهو أخصب مما بين يديه ومما خلفه» [ (1) ] قال سلمة بن سلامة بن وقش:
قلت لوديعة بن ثابت: ويلك أبعد ما ترى شيء؟ أما تعتبر؟ قال: قد كان يفعل بهذا مثل هذا قبل هذا، ثم سار رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
وروى محمد بن عمر، وأبو نعيم عن جماعة من أهل المغازي قال: بينا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يسير منحدرا إلى المدينة، وهو في قيظ شديد، عطش العسكر بعد المرتين الأوليين عطشا شديدا حتى لا يوجد للشّفة ماء قليل ولا كثير، فشكوا ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فأرسل أسيد بن الحضير في يوم صائف، وهو متلثم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «عسى أن تجد لنا ماء» فخرج أسيد وهو فيما بين تبوك والحجر في كل وجه فيجد راوية من ماء مع امرأة من بليّ، فكلّمها أسيد، وأخبرها خبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: فهذا الماء، فانطلق به إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد وصفت له الماء وبينه وبين الطريق هنيهة، فلما جاء أسيد بالماء دعا فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ودعا فيه بالبركة، ثم قال: «هلم أسقيتكم» فلم يبق معهم سقاء إلا ملئوه، ثم دعا بركابهم وخيولهم، فسقوها حتى نهلت، ويقال أنه- صلى الله عليه وسلم- أمر بما جاء به أسيد فصبه في قعب عظيم من عساس أهل البادية فأدخل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيه يده، وغسل وجهه ويديه ورجليه، ثم صلى ركعتين، ثم رفع يديه مدا، ثم انصرف وإن القعب ليفور، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- للناس «ردوا» فاتسع الماء وانبسط الناس حتى يصنّف عليه المائة والمائتان فارتووا، وإن القعب ليجيش بالرّواء، ثم راح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مبردا مترويا
[ (2) ] .
وروى الطبراني بسند صححه الشيخ وحسنه الحافظ- خلافا لمن ضعّفه- عن فضالة ابن عبيد- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- غزا غزوة تبوك فجهد الظهر جهدا شديدا فشكوا ذلك إليه، ورآهم يزجون ظهرهم، فوقف في مضيق والناس يمرون فيه، فنفخ فيها وقال: «اللهم احمل عليها في سبيلك فإنك تحمل على القوي والضعيف والرطب واليابس في البر والبحر» فاستمرت فما دخلنا المدينة إلا وهي تنازعنا أزمتها [ (3) ] .
__________
[ (1) ] المغازي للواقدي 3/ 1039.
[ (2) ] المصدر السابق.
[ (3) ] الطبراني في الكبير 11/ 301 وابن حبان ذكره الهيثمي في الموارد (1706) وانظر المجمع 6/ 193 والبيهقي في الدلائل 6/ 155، وابن كثير في البداية 6/ 186.(5/465)
ذكر إرادة بعض المنافقين الفتك برسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة التي بين تبوك والمدينة واطلع الله تعالى نبيه- صلى الله عليه وسلم- علي ذلك
روى الإمام أحمد عن أبي الطّفيل، والبيهقي عن حذيفة، وابن سعد عن جبير بن مطعم- رضي الله عنهم- وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الضحاك والبيهقي عن عروة، والبيهقي عن ابن إسحاق. ومحمد بن عمر عن شيوخه- رحمهم الله تعالى- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- لما كان ببعض الطريق مكر به ناس من المنافقين وائتمروا بينهم أن يطرحوه من عقبة في الطريق. وفي رواية كانوا قد أجمعوا أن يقتلوا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فجعلوا يلتمسون غرته، فلما أراد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يسلك العقبة أرادوا أن يسلكوها معه، وقالوا: إذا أخذ في العقبة دفعناه عن راحلته في الوادي، فأخبر الله تعالى رسوله بمكرهم، فلما بلغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلك العقبة نادى مناديه للناس: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أخذ العقبة فلا يأخذها أحد، واسلكوا بطن الوادي، فإنه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي إلا النفر الذين مكروا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما سمعوا ذلك استعدوا وتلثموا، وسلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة ويقودها وأمر حذيفة بن اليمان أن يسوق من خلفه، فبينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسير من العقبة إذ سمع حسّ القوم قد غشوه، فنفّروا ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- حتى سقط بعض متاعه وكان حمزة بن عمرو الأسلمي لحق برسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالعقبة، وكانت ليلة مظلمة،
قال حمزة: فنوّر لي في أصابعي الخمس، فأضاءت حتى جمعت ما سقط من السوط والحبل وأشباههما، فغضب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأمر حذيفة أن يردهم، فرجع حذيفة إليهم، وقد رأى غضب رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ومعه محجن فجعل يضرب وجوه رواحلهم وقال: إليكم إليكم يا أعداء الله تعالى، فعلم القوم أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- قد اطّلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقال: اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمار، فأسرعوا حتى استوى بأعلاها، وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من العقبة ينتظر الناس وقال لحذيفة: هل عرفت أحدا من الركب، الذين رددتهم؟ قال: يا رسول الله قد عرفت رواحلهم، وكان القوم متلثمين فلم أبصرهم من أجل ظلمة الليل. قال: «هل علمتم ما كان من شأنهم وما أرادوا» ؟ قالوا: لا والله يا رسول الله. قال: «فإنهم مكروا ليسيروا معي فإذا طلعت العقبة زحموني فطرحوني منها- إن شاء الله تعالى- قد أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم وسأخبركم بهم إن شاء الله تعالى» قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاء الناس أن تضرب أعناقهم؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولوا: إن محمدا قد وضع يده في أصحابه فسماهم لهما ثم قال: «اكتماهم» فانطلق إذا أصبحت فاجمعهم لي، فلما أصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال(5/466)
له أسيد بن الحضير: يا رسول الله، ما منعك البارحة من سلوك الوادي؟ فقد كان أسهل من العقبة؟ فقال: «أتدري يا أبا يحي أتدري ما أراد بي المنافقون وما همّوا به» ؟ قالوا: نتبعه من العقبة، فإذا أظلم عليه الليل قطعوا أنساع راحلتي ونخسوها حتى يطرحوني عن راحلتي فقال أسيد: يا رسول الله، قد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كلّ بطن أن يقتل الرّجل الذي همّ بهذا، فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتله، وإن أحببت- والذي بعثك بالحق- فنبئني بأسمائهم فلا أبرح حتى آتيك برؤوسهم. قال «يا أسيد إنّي أكره أن يقول النّاس إنّ محمّدا قاتل بقوم حتّى إذا أظهره الله تعالى بهم أقبل عليهم يقتلهم» .
وفي رواية «إنّي أكره أن يقول النّاس إنّ محمّدا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه» فقال: يا رسول الله، فهؤلاء ليسوا بأصحاب، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله؟» قال: بلى [ولا شهادة لهم] قال: «أليس يظهرون أني رسول الله؟» قال: بلى. ولا شهادة لهم، قال: «فقد نهيت عن قتل أولئك»
[ (1) ] .
وقال ابن إسحاق في رواية يونس بن بكير: فلما أصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال لحذيفة:
«ادع عبد الله»
قال البيهقي [ (2) ] : أظن ابن سعد بن أبي سرح، وفي الأصل: عبد الله بن أبي سعد بن أبي سرح، لم يعرف له إسلام كما نبه إليه في زاد المعاد، قال ابن إسحاق: وأبا حاضر الأعرابي، وعامرا وأبا عمر، والجلاس بن سويد بن الصامت وهو الذي قال: لا ننتهي حتى نرمي محمدا من العقبة، ولئن كان محمد وأصحابه خيرا منا إنا إذا لغنم وهو الراعي، ولا عقل لنا وهو العاقل، وأمره أن يدعوا مجمع بن جارية، وفليح التيمي وهو الذي سرق طيب الكعبة وارتد عن الإسلام، وانطلق هاربا في الأرض فلا يدرى أين ذهب، وأمره أن يدعو حصين بن نمير الذي أغار على تمر الصدقة فسرقه،
فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ويحك، ما حملك على هذا؟» قال: حملني عليه أني ظننت أن الله تعالى لم يطلعك عليه أما إذا أطلعك عليه فإني أشهد اليوم أنك لرسول الله، فإني لم أؤمن بك قط قبل الساعة، فأقاله رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعفا عنه بقوله الذي قاله، وأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حذيفة أن يأتيه بطعمة بن أبيرق، وعبد الله بن عيينة، وهو الذي قال لأصحابه: اشهدوا هذه الليلة تسلموا الدهر كله، فو الله مالكم أمر دون أن تقتلوا هذا الرجل، فدعاه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقال: «ويحك ما كان ينفعك من قتلي لو أني قتلت يا عدو الله؟» فقال عدو الله: يا نبي الله، والله ما تزال بخير ما أعطاك الله تعالى النصر على
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 257، وانظر المغازي للواقدي 3/ 1043، 1044، والدر المنثور 3/ 259 وابن كثير في البداية 5/ 19.
[ (2) ] البيهقي في الدلائل 5/ 258.(5/467)
عدوك، فإنما نحن بالله وبك فتركه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال لحذيفة «ادع مرّة بن الربيع» وهو الذي ضرب بيده على عاتق عبد الله بن أبيّ ثم قال: تمطى، أو قال: تمططي والنعيم كائن لنا بعده، نقتل الواحد المفرد فيكون الناس عامة بقتله مطمئنين، فدعاه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فقال:
«ويحك، ما حملك على أن تقول الذي قلت؟» فقال: يا رسول الله إن كنت قلت شيئا من ذلك فإنك العالم به، وما قلت شيئا من ذلك.
فجمعهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهم اثنا عشر رجلا الذين حاربوا الله تعالى ورسوله، وأرادوا قتله، فأخبرهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بقولهم ومنطقهم وسرهم وعلانيتهم، وأطلع الله نبيه- صلى الله عليه وسلم- على ذلك يعلمه، وذلك قوله عز وجل: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا [التوبة 74] ومات الاثنا عشر منافقين محاربين الله تعالى ورسوله.
قال حذيفة- كما رواه البيهقي: ودعا عليهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: «اللهم ارمهم بالدّبيلة» قلنا: يا رسول الله. وما الدّبيلة؟ قال: «شهاب من نار يقع على نياط قلب أحدهم فيهلك»
[ (1) ] .
وروى مسلم عنه: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «في أصحابي اثنا عشر رجلا منافقا لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، ثمانية يكفيهم الدّبيلة، سراج من نار يظهر بين أكتافهم حتى ينجم من صدورهم»
[ (2) ] .
قال البيهقي: وروينا عن حذيفة- رضي الله عنه- أنهم كانوا أربعة عشر- أو خمسة عشر [ (3) ] .
ذكر قوله- صلى الله عليه وسلم- أن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا إلا كانوا معكم
روى البخاري وابن سعد عن أنس، وابن سعد عن جابر رضي الله عنهما أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: «إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم» فقالوا: يا رسول الله، وهم في المدينة؟ قال: «وهم بالمدينة حبسهم العذر»
[ (4) ] .
__________
[ (1) ] انظر المصدر السابق.
[ (2) ] أخرجه مسلم في صفات المنافقين (9) ، وأحمد 5/ 390 والبيهقي في الدلائل 5/ 261 وفي السنن 8/ 198 وانظر البداية 5/ 20.
[ (3) ] انظر الدلائل المصدر السابق.
[ (4) ] أخرجه البخاري 6/ 46 في الجهاد باب من حبسه العذر عن الغزو وفي المغازي (4423) وأبو داود (2508) وأحمد 3/ 103، 106، 182، 300 وابن ماجه 2/ 923 (2764) والبيهقي في الدلائل 5/ 267.(5/468)
ذكر قوله- صلى الله عليه وسلم- لما أشرف على المدينة «هذه طابة»
روى الإمام أحمد والشيخان عن أبي حميد الساعدي، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما، والإمام أحمد والبخاري عن أنس والإمام أحمد ومسلم عن جابر، وابن أبي شيبة في مسنده عن أبي قتادة- رضي الله عنهم- قالوا: أقبلنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- من غزوة تبوك حتى أشرفنا على المدينة قال: «هذه طابة- وزاد ابن أبي شيبة: أسكننيها ربّي- تنفي خبث أهلها كما ينفي الكير خبث الحديد» انتهى. فلما رأى أحدا قال «هذا أحد جبل يحبّنا ونحبه، ألا أخبركم بخير دور الأنصار» قلنا بلى يا رسول الله، قال «خير دور الأنصار بنو النجار، ثم دار بني عبد الأشهل، ثم دار بني ساعدة» فقال أبو أسيد: ألم تر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- خيرّ دور الأنصار فجعلنا آخرها دارا؟ فأدرك سعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله خيرّت دور الأنصار فجعلتنا آخرها دارا. فقال: «أو ليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟»
[ (1) ] .
ذكر ملاقاة النساء والصبيان رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
روى البخاري وأبو داود والترمذي عن السائب بن يزيد- رضي الله عنه- قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى ثنية الوداع مقدمه من تبوك [ (2) ] .
وروى البيهقي عن ابن عائشة- رحمه الله تعالى- قال: لمّا قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن:
طلع البدر علينا ... من ثنيّات الوداع
وجب الشّكر علينا ... ما دعا لله داع
[ (3) ]
وروى الطبراني، والبيهقي عن خريم بن أوس بن لام- رضي الله عنه- قال: هاجرت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منصرفه من تبوك فسمعت العباس ابن عبد المطلب يقول: يا رسول الله إني أريد أن أمتدحك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «قل لا يفضض الله فاك»
فقال:
من قبلها طبت في الظّلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثمّ هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا نطفة ولا علق
بل نطفة تركب السّفين وقد ... الجم نسراً وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم مضى طبق
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 8/ 125 (4422) ، ومسلم في الحج (503) والبيهقي في الدلائل 5/ 266 وفي السنن 6/ 372، وانظر الكنز (34993) وابن عساكر كما في التهذيب 7/ 226.
[ (2) ] أخرجه البخاري 6/ 191 (3082) ، وأبو داود 3/ 90 (2779) .
[ (3) ] البيهقي في الدلائل 50/ 266 وابن كثير في البداية 5/ 33.(5/469)
وردت نار الخليل مكتتما ... في صلبه أنت كيف يحترق
حتى احتوى بيتك المهيمن من ... حندق علياء تحتها النّطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأر ... ض فضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضّياء وفي ... النسّور وسبل الرشاد نخترق
ولما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- المدينة بدأ بالمسجد بركعتين، ثم جلس للناس كما في حديث كعب بن مالك.
قال ابن مسعود: ولما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- المدينة قال: «الحمد لله الذي رزقنا في سفرنا هذا أجرا وحسنة»
[ (1) ] وكان قدومه- صلّى الله عليه وسلم- المدينة في رمضان وكان المنافقون الذين تخلفوا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يخبّرون عنه أخبار السوء، ويقولون: إن محمدا وأصحابه قد جهدوا في سفرهم وهلكوا. فبلغهم تكذيب حديثهم وعافية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فساءهم ذلك، فأنزل الله تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التوبة 50] .
ذكر بيع المسلمين أسلحتهم وقولهم: قد انقطع الجهاد
قال ابن سعد: وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون: قد انقطع الجهاد فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فنهاهم وقال: «لا تزال عصابة من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدّجّال»
[ (2) ] .
ذكر أمر مسجد الضرار عند رجوع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك
روى ابن إسحاق عن أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق آخر. والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس- رضي الله عنه- وابن أبي حاتم وابن مروديه عن طريق آخر عن ابن عباس، وابن المنذر عن سعيد بن جبير ومحمد بن عمر عن يزيد بن رومان- رحمه الله تعالى- أن بني عمرو بن عوف بنوا مسجدا فبعثوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يأتيهم فيصلي فيه، فلما رأى ذلك ناس من بني غنم بن عوف فقالوا: نبني نحن أيضا مسجدا كما بنوا، فقال لهم أبو عامر الفاسق قبل خروجه إلى الشام: ابنوا مسجدكم واستمدوا فيه بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجيش من الروم فأخرج محمّدا وأصحابه، فكانوا يرصدون قدوم أبي عامر الفاسق، وكان خرج من المدينة محاربا لله تعالى ولرسوله- صلى الله عليه وسلّم- فلما فرغوا من مسجدهم أرادوا أن يصلّي فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ليروج لهم ما أرادوه من الفساد والكفر والعناد، فعصم الله تبارك وتعالى
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 267، 268، وابن كثير في البداية 5/ 27، 28.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد 2/ 1 (120) .(5/470)
رسوله- صلى الله عليه وسلّم- رسوله- صلى الله عليه وسلم- من الصلاة فيه،
فأتى جماعة منهم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يتوجه إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله إنا بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة والليلة المطيرة، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه قال: «إني على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا إن شاء الله صلّينا لكم فيه» [ (1) ] فلما رجع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من غزوة تبوك ونزل بذي أوان- مكان بينه وبين المدينة ساعة- أنزل الله سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً
[التوبة 107] الآية.
روى البيهقي في الدلائل عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما- في قوله تعالى:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً هم أناس من الأنصار، ابتنوا مسجدا، فقال لهم أبو عامر:
ابنوا مسجدكم واستمدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: فرغنا من بناء مسجدنا [ونحن نحب] أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة، فأنزل الله عز وجل: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ- يعني مسجد قباء- أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ إلى قوله: شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [التوبة 109] قال الحافظ بن حجر: والجمهور على أن المسجد المراد به الذي أسس على التقوى مسجد قباء، وقيل هو مسجد المدينة. قال: والحق أن كلا منها أسس على التقوى.
وقوله تعالى- في بقية الآية فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا يؤكد أن المسجد مسجد قباء.
قال الداودي وغيره: ليس هذا اختلاف، فإن كلا منهما أسس على التقوى، وكذا قال السهيلي وزاد أن قوله: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ يقتضي مسجد قباء، لأن تأسيسه كان من أول يوم وصل النبي- صلى الله عليه وسلّم- بدار الهجرة.
وروى ابن أبي شيبة، وابن هشام عن عروة عن أبيه قال: كان موضع مسجد قباء لامرأة يقال لها ليّه كانت تربط حمارا لها فيه، فابتنى سعد بن خيثمة مسجدا، فقال أهل مسجد الضرار: نحن نصلي في مربط حمار ليّه؟ لا لعمر الله، لكنا نبني مسجدا فنصلي فيه، وكان أبو عامر بريء من الله ورسوله، ولحق بعد ذلك بالشام فتنصر فمات بها، فأنزل الله تعالى:
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً [التوبة 107] . قال ابن النجار: هذا المسجد بناه المنافقون مضاهيا لمسجد قباء، وكانوا مجتمعين فيه يعيبون النبي- صلى الله عليه وسلّم- ويستهزئون به،
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل.(5/471)
وقال ابن عطية: روى عن ابن عمر أنه قال: المراد بالمسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- والمراد بقوله أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وهو مسجد قباء، وأن البنيان الذي أسس على شفا جرف هار فهو مسجد الضّرار بالإجماع.
قال ابن إسحاق، وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد، ومعتّب بن قشير من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن الأزعر من بني ضبيعة بن زيد، وعبّاد بن حنيف أخو سهل بن حنيف من بني عمرو بن عوف، وجارية بن عامر، وابناه مجمع بن جارية وزيد بن جارية، ونفيل بن الحرث من بني ضبيعة، وبحزج بن عثمان من بني ضبيعة، ووديعة بن ثابت من بني أمية بن عبد المنذر.
وقال بعضهم: أن رجالا من بني عمرو بن عوف وكان أبو عامر المعروف بالراهب- وسماه النبي- صلى الله عليه وسلّم- بالفاسق- منهم، فدعا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- مالك بن الدّخشم أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عديّ وأخاه عاصم بن عدي- زاد البغوي: وعامر بن السكن ووحشي قاتل حمزة، زاد الذهبي في التجريد: سويد بن عباس الأنصاري- فقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فهدّموه وحرّقوه» فخرجوا مسرعين حتى أتوا بني سالم بن عوف، فقال مالك لرفيقيه: أنظراني حتى أخرج إليكما، فدخل إلى أهله وأخذ سعفا من النخيل فأشعل فيه نارا، ثم خرجوا يشتدون حتى أتوا المسجد بين المغرب والعشاء، وفيه أهله وحرقوه وهدموه حتى وضعوه بالأرض وتفرق عنه أصحابه، فلما قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- المدينة عرض على عاصم بن عدي المسجد يتخذه دارا، فقال عاصم يا رسول الله: ما كنت لأتخذ مسجدا- قد أنزل الله فيه ما أنزل- دارا، ولكن أعطه ثابت بن أقرم فإنه لا منزل له، فأعطاه رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ثابت بن أقرم. فلم يولد في ذلك البيت مولود قط. ولم ينعق فيه حمام قط ولم تحضن فيه دجاجة قط.
وروى ابن المنذر عن سعيد بن جبير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن قتادة، وابن المنذر عن ابن جريج- رحمهم الله تعالى- قالوا: ذكر لنا أنه حفر في مسجد الضّرار بقعة فأبصروا الدخان يخرج منها.
ذكر ملاقاة الذين تخلفوا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-
قال ابن عقبة: لما دنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من المدينة تلقاه عامة الذين تخلفوا عنه، وقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لأصحابه «لا تكلموا رجلا منهم ولا تجالسوهم حتى آذن لكم»
[ (1) ] فأعرض
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 280.(5/472)
عنهم رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- والمؤمنون حتى إن الرجل ليعرض عن أبيه وأخيه، وحتى إن المرأة لتعرض عن زوجها، فمكثوا كذلك أياما حتى ركب الذين تخلفوا، وجعلوا يعتذرون إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بالجهد والأسقام، ويحلفون له فرحمهم وبايعهم واستغفر لهم.
ذكر حديث كعب بن مالك وأصحابه- رضي الله عنهم-
روى ابن إسحاق، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والإمام أحمد، والشيخان عن كعب بن مالك- رضي الله عنه- قال: لم أتخلف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت عن غزوة بدر ولم يعاتب الله أحدا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدت مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبّ أنّ لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكر- وفي رواية: وإن كانت بدر أكثر ذكرا في الناس منها. كان من خبري أني لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلّفت عنه في تلك الغزوة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يريد غزوة إلا ورّى بغيرها، وكان يقول: «الحرب خدعة» حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعددا كثيرا، فجلّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم- وفي لفظ أهبة عدوهم- فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كثيرون- وعند مسلم يزيدون على عشرة آلاف [ (1) ] .
وروى الحاكم في الإكليل عن معاذ- رضي الله عنه- قال: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى غزوة تبوك زيادة على ثلاثين ألفا [ (2) ] ، وقال أبو زرعة الرازي: لا يجمعهم كتاب حافظ- قال الزهري: يريد الديوان، قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلّا ظن أن سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي الله تعالى.
وغزا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- تلك الغزوة حين طابت الثمار والغلال في قيظ شديد، في حال الخريف والناس خارفون في نخليهم، وتجهّز رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتجهّز المسلمون معه، فخرج في يوم الخميس وكان يحبّ إذا خرج في سفر جهاد أو غيره أن يخرج يوم الخميس، فطفقت أغدوا لكي أتجهز معهم فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه، وفي رواية: وأنا أقدر شيئا في نفسي على الجهاد وخفة الجهاد، وأنا في ذلك أصبو إلى الظلال
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 8/ 113 (4418) ومسلم 4/ 2120- 2128 (53) ، والبيهقي في الدلائل 5/ 273، والمغازي للواقدي 3/ 997 والبداية 5/ 23.
[ (2) ] انظر البداية 5/ 23.(5/473)
والثمار، ولم يزل يتمادى بي الحاذ حتى اشتد بالناس الجدّ، فأصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- غاديا والمسلمون معه يوم الخميس، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين، ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أمعن القوم وأسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم- وليتني فعلت-!! فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه بالنفاق، أو رجلا ممّن عذّر الله- تعالى- من الضعفاء- وعند عبد الرزاق: وكان جميع من تخلّف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بضعة وثمانين رجلا- ولم يذكرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ تبوك. فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب ابن مالك؟» فقال رجل من بني سلمة، وفي رواية من قومي- قال محمد بن عمر: هو عبد الله بن أنيس السّلمي- بفتح اللام- لا الجهني: يا رسول الله حبسه برداه ونظره في عطفيه. فقال معاذ بن جبل- قال محمد بن عمر: وهو أثبت، ويقال: أبو قتادة: بئس ما قلت! والله يا رسول الله ما علمت عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله- صلى الله عليه وسلم-.
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أعد عذرا لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأهيئ الكلام، وأقول: بماذا أخرج من سخطه- صلى الله عليه وسلّم- غدا، واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد أطلّ قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لم أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وعرفت أنه لا ينجيني منه إلا الصدق، وأصبح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قادما،
قال ابن سعد: في رمضان، قال كعب: وكان إذا قدم من سفر لا يقدم إلا في الضحى فيبدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين ثم يدخل على فاطمة ثم على أزواجه، فبدأ بالمسجد فركعهما، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، فجئته، فلما سلمت عليه، تبسم تبسّم المغضب، فقال: «تعال» فجئت أمشي حتى جلست بين يديه- وعند ابن عائذ: فأعرض عنه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا نبي الله، لم تعرض عني؟
فو الله ما نافقت، ولا ارتبت، ولا بدّلت- قال كعب: فقال لي: «ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» فقلت: بلى إني والله يا رسول الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا، ولكني- والله- لقد علمت لئن حدّثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله تعالى أن يسخطك على، ولئن حدّثتك اليوم حديث صدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عفو الله عني، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «أمّا هذا فقد صدق، فقم(5/474)
حتى يقضي الله تعالى فيك ما يشاء» فقمت، فمضيت وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني،
فقالوا: ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بما اعتذر به إليه المخلّفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لك. فو الله ما زالوا يؤنّبوني، حتى أردت أن أرجع فأكذّب نفسي، فقلت: ما كنت لأجمع أمرين: أتخلف عن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وأكذبه، ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا:
نعم رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أميّة الواقفي.
وعند ابن أبي حاتم من مرسل الحسن أن سبب تخلف الأول أنه كان له حائط حين زها، فقال في نفسه: قد غزوت قبلها فلو أقمت عامي هذا؟! فلما تذكر ذنبه قال: اللهم أشهدك أني قد تصدقت به في سبيلك. وأن الثاني كان له أهل تفرقوا ثم اجتمعوا فقال: لو أقمت هذا العام عندهم. فلما تذكر قال: اللهم لك على أن لا أرجع إلى أهلي ولا مالي.
قال كعب: فذكروا رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي. ونهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا- وعند ابن أبي شيبة. فطفقنا نغدو في الناس لا يكلمنا أحد، ولا يسلم علينا أحد، ولا يرد علينا سلاما، وعند عبد الرزاق وتنكر لنا الناس حتى ما هم بالذي نعرف وتنكرت لنا الحيطان حتى ما هي بالتي نعرف انتهى. ما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي على رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- أو يموت فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد ولا يصلى على- حتى تنكرت في نفسي الأرض حتى ما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا، وقعدا في بيتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف الأسواق فلا يكلمني أحد، ولا يرد على سلاما وأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو في مجلسه بعد الصّلاة فأسلم عليه وأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه برد السلام عليّ أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل عليّ، فإذا التفت نحوه أعرض عني. حتى إذا طال على ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي: أي أنه من بني سلمة وليس هو ابن عمه أخو أبيه الأقرب، قال كعب: وهو أحب الناس إلي، فسلمت عليه فو الله ما رد عليّ، فقلت له: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمني أحبّ الله ورسوله؟ فسكت، فعدت له فنشدته فسكت [فعدت له فنشدته] فلم يكلمني، حتى إذا كان في الثالثة أو الرابعة قال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار، قال فبينما أنا أمشي في سوق المدينة إذا بنب طي من(5/475)
أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني دفع إلى كتابا من ملك غسّان، وعند ابن أبي شيبة: من بعض من بالشام كتب إلى كتابا في سرقة حرير فإذا فيه: أما بعد فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك فأقصاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فإن تك متحولا فالحق بنا نواسيك. فقلت: لما قرأتها: وهذا أيضاً من البلاء، قد طمع في أهل الكفر، فتيممت بها التّنّور فسجرته بها.
وعند ابن عائذ: أنه شكا قدره إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وقال: ما زال إعراضك عني حتى رغب فيّ أهل الشرك، قال كعب: حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يأتيني. قال محمد بن عمر: وهو خزيمة بن ثابت، وهو الرسول إلى مرارة وهلاك بذلك. قال كعب: فقال: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- يأمرك أن تعتزل امرأتك: أي عمرة بنت حمير ابن صخر بن أمية الأنصارية أو خيرة- بفتح الخاء المعجمة فالتحتانية- فقلت: أطلّقها أو ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك. فقلت لامرأتي الحقي بأهلك، فتكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال كعب: وجاءت امرأة هلال بن أمية، أي خولة بنت عاصم لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم- وعند ابن أبي شيبة: إنه شيخ قد ضعف بصره- انتهى. فهل تكره أن أخدمه؟ قال:
«لا، ولكن لا يقربك» قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء!! والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال كعب: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في امرأتك كما أذن لهلال بن أمية أن تخدمه، فقلت: والله لا أستأذن فيها رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وما يدريني ما يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب، فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- عن كلامنا.
وعند عبد الرزاق: وكانت توبتنا نزلت على النبي- صلى الله عليه وسلّم- ثلث الليل- فقالت أم سلمة:
يا نبي الله ألا نبشّر كعب بن مالك؟ قال: إذا يحطمكم الناس ويمنعونكم النوم سائر الليلة
قال:
وكانت أم سلمة تجيئه في ثاني عشرة بأمري فلمّا صلّيت الفجر صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال الذي ذكره الله تعالى قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعت صوتا صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر- وعند محمد بن عمر- رحمه الله تعالى- أن الذي أوفى على سلع أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فصاح: قد تاب الله- تعالى- على كعب، يا كعب:
أبشر. وعند ابن عقبة أن رجلين سعيا يريدان كعبا يبشرانه، فسبق أحدهما، فارتقى المسبوق على سلع فصاح يا كعب، أبشر بتوبة الله- تعالى- وقد أنزل الله- تعالى- عز وجل فيكم القرآن، وزعموا أن اللذين سعيا أبو بكر وعمر، قال كعب: فخررت ساجدا أبكي فرحا بالتوبة،(5/476)
وعرفت أن قد جاء فرج، وآذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بتوبة الله- تعالى- علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبيّ مبشرون، وركض إليّ رجل على فرس- وعند محمد بن عمر: هو الزبير بن العوام- رضي الله عنه- قال كعب: وسعى ساع من أسلم حتى أوفى على الجبل وعند محمد بن عمر: أنه حمزة بن عمرو الأسلميّ: قال كعب: وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته، وهو حمزة الأسلمي يبشرني، نزعت له ثوبيّ فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ. واستعرت ثوبين من أبي قتادة- كما عند محمد بن عمر- فلبستهما. قال: وكان الذي بشّر هلال بن أمية بتوبته سعيد بن زيد، فما ظننت أنه يرفع رأسه حتى تخرج نفسه، أي من الجهد، فقد كان امتنع عن الطعام حتى كان يواصل الأيام صياما لا يفتر عن البكاء، وكان الذي بشر مرارة بن الربيع بتوبته سلكان بن سلامة أو سلامة بن وقش.
قال كعب: وانطلقت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: لتهنك توبة الله- تعالى- عليك. قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا برسول الله- صلى الله عليه وسلم- جالس حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني.
والله ما قام إلى رجل من المهاجرين غيره ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلمّا سلّمت على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو يبرق وجهه من السرور [أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمّك] فقلت: يا رسول الله، أمن عندك أم من عند الله؟ قال: «لا بل من عند الله، إنكم صدقتم الله فصدقكم الله» وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- إذا سرّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك: منه، فلمّا جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إنّ من توبتي أن أنخلع من مالي كلّه صدقة إلى الله- تعالى- وإلى رسوله- صلى الله عليه وسلم- قال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: «أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» قلت: نصفه؟ قال «لا» قلت: ثلثه؟ قال: «نعم» قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر، وقلت: يا رسول الله إنما نجّاني الله- تعالى- بالصدق وإنّ من توبتي ألا أحدث إلّا صدقا ما بقيت، فو الله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله- تعالى- في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله- تعالى- فيما بقيت، فأنزل الله- تبارك وتعالى- على رسوله- صلى الله عليه وسلم-: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ إلى قوله: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة 117، 119] فو الله ما أنعم الله على من نعمة- بعد أن هداني للإسلام- أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تعالى قال في الذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا(5/477)
انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ إلي قوله: فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ
[التوبة 95، 96] .
قال كعب: وكنا قد تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمرنا حتى قضى الله سبحانه وتعالى فيه بذلك قال الله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة 118] وليس الذي ذكر الله مما خلّفنا عن الغزو وإنما تحليفه إيّانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه، فقبل منه.
وروى ابن عساكر عن كعب بن مالك- رضي الله عنه- قال: لما نزلت توبتي قبّلت يد رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-.
ذكر أقوام تخلفوا من غير عذر
روى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما. والبيهقي عن سعيد بن المسيّب رحمه الله- في قوله تعالى:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [التوبة 102] قال ابن عباس كانوا عشرة رهط تخلفوا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك منهم: أبو لبابة، وسمى قتادة منهم: جد بن قيس وجذام بن أوس. رواه ابن أبي حاتم.
فلما قفل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أوثق سبعة منهم أنفسهم بسواري المسجد، وكان ممرّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا رجع من المسجد عليهم، فلما رآهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «من هؤلاء الموثقون أنفسهم» قالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له تخلفوا عنك يا رسول الله، فعاهدوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم فترضى عنهم وتعذرهم، وقد اعترفوا بذنوبهم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- «وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى يكون الله تعالى هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين»
[ (1) ] فلما بلغهم ذلك قالوا:
ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله تبارك وتعالى هو الذي يطلقنا، فأنزل الله تبارك وتعالى:
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة 102] وعسى من الله واجب، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة 37] فلما نزلت أرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إليهم فأطلقهم وعذرهم.
قال ابن المسيب: فأرسل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى أبي لبابة ليطلقه، فأبى أن يطلقه أحد إلا رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- فجاءه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأطلقه بيده، فجاءوا بأموالهم فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدق بها عنا واستغفر لنا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «ما أمرت أن آخذ أموالكم»
فأنزل الله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يقول: استغفر لهم إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة 103]
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 272.(5/478)
يقول: رحمة لهم فأخذ منهم الصدقة، واستغفر لهم وكان ثلاثة نفر منهم لم يوثقوا أنفسهم بالسواري فأرجئوا سنة لا يدرون يعذبون أو يتاب عليهم، فأنزل الله تعالى: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة 117] إلى آخر الآية. وقوله: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا إلى قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة 118] يعني استقاموا فأنزل الله تبارك- وتعالى- في شأن هذه الغزوة كثيرا من سورة براءة تقدم كثير من ذلك في محالّه.
قال البيهقي: وزعم ابن إسحاق أن ارتباط أبي لبابة كان في وقعة بني قريّظة، وقد روينا عن ابن عباس وسعيد بن المسيّب ما دلّ على أن ارتباطه كان بتخلفه في غزوة تبوك.
تنبيهات
الأول: تبوك- بفتح الفوقية وضم الموحدة وهي أقصى أثر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهي في طرف الشام من جهة القبلة، وبينها وبين المدينة المشرفة اثنتا عشرة مرحلة. قال في النور:
وكذا قالوا، وقد سرناها مع الحجيج في اثنتي عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرة مرحلة. والمشهور ترك صرفها للعلمية والتأنيث. وفي حديث كعب السابق: ولم يذكرني رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ تبوكا كذا في جميع النسخ في صحيح البخاري وأكثر نسخ صحيح مسلم تغليبا للموضع، وكذا قال النووي والحافظ وجمع. قال في التقريب: وهو سهو لأن علّة منعه كونه على مثال الفعل «تقول» فالمذكر والمؤنث في ذلك سواء.
قال في الروض تبعا لابن قتيبة: سمّيت الغزوة بعين تبوك، وهي العين التي أمر رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- ألا يمسوا من مائها شيئا
فسبق إليها رجلان، وهي تبض بشيء من ماء فجعلا يدخلا فيها سهمين ليكثر ماؤها، فسبهما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال لهما رسول الله- صلى الله عليه وسلّم-: ما زلتما تبوكانها منذ اليوم، فلذلك سمّيت العين تبوك.
البوك كالنّقش والحفر في الشيء، ويقال:
منه باك الحمار الأتان يبوكها إذا نزا عليها. قال الحافظ: وقعت تسميتها بذلك في الأحاديث الصحيحة «إنكم ستأتون غدا عين تبوك» . رواه مالك ومسلم. قلت: صريح الحديث دال على أن تبوك اسم على ذلك الموضع الذي فيه العين المذكورة. والنبي- صلى الله عليه وسلم- قال هذا القول قبل أن يصل تبوك بيوم. وذكرها في المحكم في الثلاثي الصحيح، وذكرها ابن قتيبة والجوهري وابن الأثير وغيرهم في المعتل في بوك.
الثاني: وقع في الصحيح ذكرها بعد حجة الوداع. قال الحافظ: وهو خطأ، ولا خلاف أنه قبلها ولا أظن ذلك إلا من النّسّاخ، فإن غزوة تبوك كانت في رجب سنة تسع قبل حجة الوداع بلا خلاف. وعند ابن عائذ من حديث ابن عباس: أنها كانت بعد الطائف بسّتة أشهر،(5/479)
وليس مخالفا لقول من قال إنها في رجب إذا حذفنا الكسور لأنه- صلى الله عليه وسلم- قد دخل المدينة من رجوعه إلى الطّائف في ذي الحجة.
الثالث:
قول أبي موسى: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «خذ هذين القرينين وهذين القرينين، أي الجملين المشدودين أحدهما إلى الآخر»
لستة أبعرة، لعله قال: هذين القرينين ثلاثا، فذكر الرواة مرتين اختصارا. ولأبي ذرّ عن الحموي والمستملي: وهاتين القرينتين وهاتين القرينتين، أي الناقتين. وفي رواية في باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن في الصحيح:
فأمر لنا بخمس ذود. وفي باب الاستثناء في الأيمان بثلاثة ذود. والرواية الأولى تجمع بين الروايات، فلعل رواية الثلاثة باعتبار ثلاثة أزواج، ورواية الخمس باعتبار أن أحد الأزواج كان قرينه تبعا فاعتدّ به تارة ولم يعتد به أخرى، ويمكن أن يجمع بينهما بأنه أمر لهم بثلاثة ذود أوّلا ثم زادهم اثنين، فإن لفظ زهدم أحد رواة الحديث: ثم أتي بنهب ذود غر الذّرى فأعطانا خمس ذود فوقعت في رواية زهدم جملة ما أعطاهم، ورواية غيلان: مبدأ ما أمر لهم به ولم يذكر الزيادة، وأمّا رواية: خذ هذين القرينين ثلاث مرار، وفي رواية: ستة أبعرة، فعلى ما تقدم أن تكون السادسة كانت تبعا فلم تكون ذودتها موصوفة بذلك، قال الحافظ في رواية: ستة أبعرة إما أن يحمله على تعدد القصة أو زاداهم على الخمس واحدا.
الرابع: في رواية أبي موسى قال: أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- بنهب إبل فأمر لنا بخمس ذود. وفي رواية بعد
قوله «خذ هذين القرينين»
ابتاعهن من سعد ولم ينبه الحافظ على الجمع بين الروايتين فيحتمل- والله أعلم- أن يكون ما جاء من النهب أعطاه لسعد ثم اشتراه منه لأجل الأشعريين، ويحتمل على التعدد.
الخامس: قال الحافظ: إنما غلظ الأمر على كعب وصاحبيه وهو جروا، لأنهم تركوا الواجب عليهم من غير عذر لأن الإمام إذا استنفر الجيش عموما لزمهم النفير ولحق اللوم بكل فرد، أي لو تخلف قال ابن بطال: إنما اشتد الغضب على من تخلف وإن كان الجهاد فرض كفاية لكنه في حق الأنصار خاصة فرض عين لأنهم بايعوا على ذلك، ومصداق ذلك قولهم وهم يحفرون الخندق:
نحن الّذين بايعوا محمّدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
وكأن تخلفهم عن هذه الغزوة كبيرة لأنها كالنّكث لبيعتهم/ قاله ابن بطال: قال السّهيلي: ولا أعرف له وجها غير الذي قاله ابن بطال. قال الحافظ: قد ذكرت وجها غير الذي ذكره، ولعله أقعد ويؤيده قوله سبحانه وتعالى: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ الآية. وعند الشافعية: أن الجهاد كان فرض عين في(5/480)
زمنه- صلى الله عليه وسلّم- فعلى هذا فيتوجه العتاب على كل من تخلف مطلقا.
السادس: قول أبي قتادة لم سأله كعب: الله ورسوله أعلم. قال القاضي: لعل أبا قتادة لم يقصد بهذا تكليمه، لأنه منهى عن كلامه. وإنما قال ذلك لنفسه لمّا ناشده، فقال أبو قتادة مظهرا لاعتقاده لا ليسمعه.
السابع: قول كعب: قال لي بعض أهلي. قال في النور: الظن أن القائل له من بعض أهله امرأة، وذلك أن النساء لم يدخلن في النهي، لأن في الحديث «ونهى المسلمين عن خطابنا» وهذا الخطاب لا يدخل فيه النساء، وأيضا فإن امرأته ليست داخلة في النهي، فدل على أن المراد الرجال، وقال الحافظ: لعل القائل بعض ولده أو من النساء، ولم يقع النهي عن كلام الثلاثة للنساء اللائي في بيوتهن أو أن الذي كلمه كان منافقا أو الذي يخدمه. ولم يدخل في النهي.
الثامن: قال في النور: لعل الحكمة في هجران كعب وصاحبيه خمسين ليلة أنها كانت مدة غيبته- صلى الله عليه وسلّم- لأنه خرج في رجب على ما قاله ابن إسحاق، وقدم في رمضان، وقال بعضهم: في شعبان، وتقدم أنه أقام في تبوك بضعة عشر يوما، ويقال عشرين، هذا ما ظهر لي وأنت من روائها للبحث والتنقيب.
التاسع: دلّ صنع كعب بكتاب ملك غسّان على قوة إيمانه ومحبته لله- تبارك وتعالى- ورسوله- صلى الله عليه وسلم- وإلا فمن صار في مثل حاله من الهجر والإعراض قد يضعف عن احتمال ذلك، وتحمله الرغبة في الجاه والمال على هجران من هجره، ولا سيما مع أنه من الملك الذي استدعاه إليه، لأنه لا يكرهه على فراق دينه لكن لما احتمل عنده أنه لا يأمن من الافتتان حسم المادة وأحرق الكتاب ومنع الجواب، هذا مع كونه من البشر الذين طبعت نفوسهم على الرغبة ولا سيما مع الاستدعاء والحثّ على الوصول إلى المقصود من الجاه والمال، ولا سيما والذي استدعاه قريبه، ومع ذلك فغلب عليه دينه، وقوى عنده يقينه، ورجح ما فيه من النّكر والتعذيب على ما دعي إليه من الراحة والتنعيم حبّا في الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم- كما
قال- صلى الله عليه وسلم- «وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» .
العاشر: قال بعضهم: سبب قيام طلح لكعب رضي الله عنهما- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كان آخى بينهما لمّا آخى بين المهاجرين والأنصار، والذي ذكره أهل المغازي: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- كان أخا الزبير لكن كان الزبير أخا طلحة في أخوة المهاجرين فهو أخو أخيه.
الحادي عشر: استشكل إطلاق
قوله- صلى الله عليه وسلّم- «أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك»
بيوم إسلامه، فإنه مرّ عليه بعد أن ولدته أمه، وهو خير ما مر فقيل هو مستثنى تقديرا، وإن لم ينطق به لعدم خفائه، قال الحافظ: «والأحسن في الجواب أن يوم توبته يكمّل يوم إسلامه(5/481)
فيوم إسلامه بداية سعادته ويوم توبته مكمل لها، فهو خيرٌ من جميع أيامه، وإن كان يوم إسلامه خيرها فيوم توبته المضاف إلى إسلامه خير يوم من يوم إسلامه المجرد عنها» .
الثاني عشر: في بيان غريب ما سبق:
العسرة- بمهملتين الأولى مضمومة والثانية ساكنة، مأخوذ من قوله تعالى: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ [التوبة 117] أي الشدة والضيق.
الأنباط: نسبه إلى استنباط الماء واستخراجه، وهؤلاء كانوا في ذلك الوقت أهل الفلاحة، ويقال: إن النبط ينسبون إلى نبيط بن هانب بن أميم بن لاوذ بن سام بن نوح.
الروم- جيل من الناس معروف كالعرب والفرس، وهم الذين يسميهم أهل بلادنا الفرنج، من ولد روم بن عيص بن إسحاق، غلب عليهم اسم أبيهم فصار كالاسم للقبيلة، وإن شئت قلت: هو جمع رومي منسوبا إلى الروم بن عيص.
هرقل- بكسر الهاء وفتح الراء وبالقاف هذا هو المشهور، ويقال بكسر الهاء والقاف وسكون الراء، وهو اسم علم له، ولقبه قيصر، وهو أعجمي تكلمت به العرب.
أجليت- بالجيم، والبناء للمفعول.
لخم نائب الفاعل بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة.
جدام- بضم الجيم وبالدال المهملة.
البلقاء- بفتح الموحدة وسكون اللام وبالقاف والمدّ.
حصين- والد عمران- بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وسكون التحتية وبالنون.
السنون جمع سنة- بفتح السين المهملة، وهو الجدب ضد الخصب.
يستفزونك: يزعجونك ويقتلونك. والأرض هنا أرض المدينة.
قربان المسجد- بضم القاف وكسرها فراء ساكنة فألف فنون: الدنو منه.
لتقطعن: بضم الفوقية. والمتاجر نائب الفاعل.
عن يد: قهر وإذلال.
صاغرون: ذليلون مهانون.
زمان عسرة: شدة.
الجدب- بفتح الجيم وسكون الدال المهملة وبالموحدة: القحط.
المقام- بضم الميم وفتحها: الإقامة وعدم السفر.
الشّخوص- بضم الشين والخاء والمعجمتين: الذهاب، يقال شخص من بلد إلى بلد شخوصا إذا ذهب.
الشّقّة- بضم الشين المعجمة وتشديد القاف: وهو هنا السّفر البعيد.(5/482)
الجهاز- بكسر الجيم وفتحها ما يحتاجه المسافر في قطع المسافة.
أوعب معه: خرجوا بأجمعهم.
انفروا: أسرعوا.
اثّاقلتم إلى الأرض: اضطجعتم واطمأننتم، وأصله اتثاقلتم.
متاع الحياة الدنيا: المتاع كل شيء ينتفع به ثم يفنى، وأضيف إلى الحياة الدنيا إشارة إلى عدم بقائه.
خفافا: جمع خفيف.
وثقالا: جمع ثقيل، أي شبانا وشيوخا، أو ركبانا ومشاة وأغنياء وفقراء، وقيل غير ذلك.
عرضا قريبا- بفتح العين والراء: ناحية قريبة.
وسفرا قاصدا: قريبا أو غير شاق.
الشّقّة- بضم الشين المعجمة المشددة هي في الأصل السّفر البعيد، والمراد هنا الناحية التي ندبوا إليها.
ورّى بغيرها: سترها، وكنى عنها وأوهم أنه يريد غيرها، وأصله من الورى، أي ألقى البيان وراء ظهره.
شرح غريب حثه- صلى الله عليه وسلّم- على النفقة والحملان
الحملان- بضم الحاء المهملة وسكون الميم: أي الشيء الذي يركبون عليه ويحملهم.
العصابة- بكسر العين المهملة- هنا: الجماعة من الناس.
الأحلاس: جمع حلس- بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وبالسين المهملة: كساء يكون تحت البرذعة.
المرقاة والمرقى والمرتقى: موضع الرّقي- بفتح الميم وكسرها.
يقول بيده هكذا: تقدم في شرح غريب غزوة الفتح.
الطّيالسي- بفتح الطاء المهملة وكسر اللام.
الخطام- بكسر الخاء المعجمة: كل ما يقاد به البعير.
العقال- بكسر العين المهملة وبالقاف والألف واللام، يقال عقلت البعير أعقله- بالكسر: ثنيت ضبعه أي خفّه مع ذراعه فشددتهما معا في وسط الذراع بحبل.
الاحتساب: ادّخار أجر العمل وأن يحسبه العامل في حسناته.(5/483)
شرح غريب بعض ما دار بين رسول الله- صلى الله عليه وسلّم- وبين بعض المنافقين
الجد بن قيس- بفتح الجيم وتشديد الدال المهملة.
النّفر- بفتح النون والفاء: جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة أو إلى سبعة.
الضّبعة- بفتح الضاد المعجمة وسكون التحتية: واحدة الضّباع.
تحقب: تردف خلفك.
بنات بني الأصفر: يعني الروم، قال في الإملاء، يقال إنهم من أولاد عيص بن إسحاق، وكان فيما يقال مصفر اللون، وأما الروم القديمة فهم بزنان.
لجلاد- بكسر اللام وبكسر الجيم: الضراب بالسيوف.
الدوائر: جمع دائرة، وهي النائبة التي تنزل بالإنسان فتهلكه.
محيطة بالكافرين: مهلكتهم وجامعتهم.
ثبّطه عن أمره: عوقه عنه.
جبّار- بفتح الجيم وتشديد الموحدة.
صخر- بفتح الصاد المهملة وبالخاء المعجمة وبالراء.
الإرجاف: الخوض في الأخبار الكاذبة في الفتنة ليضطرب الناس.
عبد الله بن حارثة بالحاء المهملة وبالثاء المثلثة.
سويلم- بسين مهملة مضمومة فواو فتحتية ساكنة فلام مكسورة فميم.
اقتحم: ألقى نفسه.
مسجد الضرار- بكسر الضاد المعجمة، وفي الأصل فعال من الضّر- بفتح المعجمة:
أي مجازي من أضره بمثل فعله.
على جناح سفر: أي نريده.
شرح غريب خبر المخلفين والمعذرين والبكائين
المعذّرون- جمع معذر بتشديد الذال المعجمة، وقد يكون صادقا، وقد يكون كاذبا.
فالصادق أصله المعتذر ولكن التاء قلبت ذالا فأدغمت في الذال، والكاذب معذر على أصله وهو المعرض المقصر الذي يتعلل بغير عذر صحيح.
القرظي بضم القاف وفتح الراء وبالظاء المعجمة المشالة.(5/484)
هرمي- بفتح الهاء وكسر الراء ويقال هرم.
علبة- بضم العين المهملة وسكون اللام وبالموحدة وتاء تأنيث.
عرباض- بكسر العين المهملة وسكون الراء وبالموحدة وبالضاد المعجمة.
سارية- بالسين المهملة وكسر الراء وبالتحتية.
حمام- والد عمرو- بضم الحاء المهملة والتخفيف.
الجموح- بفتح الجيم وضم الميم وبالحاء المهملة.
عنمة: والد عمر بفتح العين المهملة والنون والميم.
مغفّل: والد عبد الله- بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد الفاء المفتوحة وباللام.
معقل بن يسار- بفتح الميم وسكون المهملة وكسر القاف، وأبوه بالتحتية والمهملة.
بنو مقرّن- بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة.
ابن يامين- كذا في نسخة من السيرة الهشامية، والعيون «ابن يامين» وصوابه «يامين» بإسقاط ابن.
النّضري- بفتح النون وسكون الضاد المعجمة.
الناضح- بنون وبعد الألف ضاد معجمة فحاء مهملة، وهو من الإبل الذي يستقي عليه الماء.
شرح غريب حديث أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه- وما بعده
لا أشعر: لا أعلم.
وجد عليه: حزن.
جيء- بالبناء للمفعول: أتي بضم الهمزة.
نهب إبل: بتنوين الموحدة واللام.
البث: امكث.
سويعة: تصغير ساعة من الزمان.
القرينين: الجملين المشدودين أحدهما إلى الآخر، وقيل النظيرين المتساويين، وفي رواية: هاتين القرينتين: أي الناقتين.
بخمس ذود- بفتح الذال المعجمة وسكون الواو وبالدال المهملة: ما بين الستة إلى التسعة من الإبل، وهي مؤنثة.(5/485)
غرّ- بضم الغين والراء.
الذّرى- بضم الذال المعجمة وفتح الراء: جمع ذروة، وهي أعلى كل شيء: أي بيض الأسنمة.
الجرف- بضم الجيم والراء وبالفاء على ثلاثة أميال من المدينة إلى جهة الشام.
سباع- بكسر السين المهملة وتخفيف الموحدة.
عرفطة- بضم العين المهملة وسكون الراء وضم الفاء وبالطاء المهملة.
شرح غريب ذكر خروج رسول الله- صلى الله عليه وسلم-
قوله: عسكر- بعين فسين مهملة فكاف فراء: جمع.
ثنية الوداع- تقدم الكلام عليها مبسوطا في أبواب دخوله- صلّى الله عليه وسلم- المدينة.
على حدة- بكسر الحاء وفتح الدال المهملتين: أي منفردا وحده بعسكره لم يختلط بعسكر النبي- صلى الله عليه وسلّم-.
ذباب- بذال معجمة وزن كتاب وغراب- لغتان: جبل بقرب المدينة.
مقرنين: مجعولين قرنا باليدين.
السويداء- تصغير سوداء: موضع على ليلتين من المدينة.
الفغواء- بفتح الفاء وسكون الغين المعجمة وبالواو.
الخزاعي- بضم الخاء المعجمة- وبالزاي.
أسيد- بضم أوله وفتح ثانيه وسكون ثالثه وبالدال المهملة.
وحضير- بالحاء المهملة والضاد المعجمة كذلك.
دجانة- بضم الدال المهملة وتخفيف الجيم وبالنون.
شرح غريب قصة تخلف أبي ذر وأبي خيثمة- رضي الله عنهما وإخباره صلى الله عليه وسلّم- بما قاله جماعة من المنافقين
نضو- بنون مكسورة فضاد معجمة فواو: الدابة التي اهتزلتها الأسفار، وأذهبت لحمها.
أعجف: ضعيف.
أذمّ بي- بفتح أوله والذال المعجمة وتشديد الميم: حبسني.
التّلوّم- بفتح الفوقية واللام وتشديد الواو وبالميم: الانتظار والمكث.(5/486)
أبطأ- بهمز أوله وآخره.
يتّبع- بالتخفيف والتشديد.
أثر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بفتح الهمزة والثاء المثلثة، وبكسر الهمزة وسكون الثاء، وحكى بتثليث الهمزة.
يمشي وحده، وكذا الباقي: أي منفردا.
كن أبا ذر- بلفظ الأمر، ومعناه الدعاء، كما تقول اسلم، أي سلمك الله.
العريش- بفتح العين وكسر الراء: كل ما استظل به.
الحائط: البستان من النخيل إذا كان عليه حائط.
الضّحّ بكسر الضاد المعجمة وتشديد الحاء المهملة، قال في الإملاء: الشمس، وفي النهاية هو ضوء الشمس إذا استمكن من الأرض وهو كالقمر، وهذا أصل الحديث ومعناه، وهو أشبه مما فسره به الهروي فقال: أراد كثرة الخيل والجيش، يقال: حافلان بالضح والريح، أي لما طلعت عليه الشمس وهبّت عليه الريح يعنون المال الكثير.
النّصف- بفتح النون والصاد المهملة وبالفاء.
أن تخلّف عني- بحذف إحدى التاءين وتشديد اللام المفتوحة.
أولى لك- قال في الإملاء: كلمة فيها معنى التهديد، وهي اسم سمي به الفعل، ومعناها فيما قاله المفسرون دين من الهلكة.
الرهط: ما دون العشرة من الرجال.
وديعة- بفتح الواو وكسر الدال وبالعين المهملة.
ثابت- بالثاء المثلثة وبالموحدة والفوقية.
الجلاس- بضم الجيم والتخفيف وآخره سين مهملة.
مخشي- بفتح الميم وسكون الخاء وكسر الشين المعجمتين بعدها ياء كياء النسبة.
ابن حميّر: بضم الحاء المهملة وفتح الميم المخففة وتشديد التحتية.
فليأت- بهمزة مفتوحة قبل تاء التأنيث الساكنة.
أقاضى- بضم الهمزة وفتح الضاد المعجمة بالبناء للمفعول.
حقب الناقة: عجزها.
فتسفان التراب: ترفعانه.(5/487)
عفي عنه: بالبناء للمفعول.
ولا يعلم مكانه: كذلك.
اليمامة- بفتح التحتية: بلد باليمن.
شرح غريب ذكر نزوله- صلى الله عليه وسلّم- بالمروة ونزوله بوادي القرى
ذي المروة بلفظ أخت الصفا من أعمال المدينة على ثمانية برد منها الخليجة.
الدوم- بفتح الدال المهملة: جمع دومة كذلك وهي ضخام الشجر، وقيل هو شجر المقل.
وادي القرى- بضم القاف وفتح الراء: جمع قرية.
الحديقة: كل ما أحاط به البناء من البساتين، ويقال للقطعة من النخل حديقة وإن لم تكن محاطا بها.
الخرص- بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء وبالصاد المهملة، وهو هنا الحزر الذي حزر ما على النخل من الرطب تمرا.
الوسق- بفتح الواو وكسرها: ستون صاعا.
بنو العريض- بفتح العين المهملة وكسر الراء وبالضاد المعجمة.
شرح غريب ذكر نزوله- صلى الله عليه وسلّم- بالحجر
[الحجر] بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم وبالراء: اسم ديار ثمود، بين المدينة والشام.
أبو كبشة- بفتح الكاف وسكون الموحدة وبالشين المعجمة.
الأنماري بفتح أوله وبالنون.
أبو حميد- بضم الحاء المهملة وسكون التحتية وبالدال المهملة.
تقنّع برادئه- بفتحات والنون مشددة: أي ستر رأسه.
أوضع راحلته- بالضاد المعجمة والعين المهملة: أسرع بها.
ثمود- إن أريد به اسم القبيلة لم ينصرف للعلمية والتأنيث المعنوي، وإن أريد به اسم الأب انصرف.
أن يصيبكم- بفتح الهمزة مفعول له، أي كراهة الإصابة.
أهريقوها: صبوا ما فيها.(5/488)
الفج- بفتح الفاء وتشديد الجيم: الطريق الواسع، والجمع فجاء بكسر الفاء.
تصدر: ترجع بعد ورود مياههم.
«عتوا عن أمر ربهم» : جاوزوا الحد في التكبر والتجبر وركوب البهتان.
أهمده الله تعالى: أهلكه.
أبو رغال- بكسر الراء وبالغين المعجمة واللام.
من أنفسكم: منكم.
لا يعبأ بعذابكم: ما يصنع به، أو ما يبالي به.
خنق- بضم الخاء المعجمة وبالنون والبناء للمفعول.
مذهبه- بفتح الميم والهاء وسكون الذال المعجمة بينهما: وهو الموضع الذي يتغوط فيه.
جبلي طيّء: هما أجأ بفتح الهمزة والجيم وهمز آخره، وبالقصر، وسلمى- بفتح السين المهملة وسكون اللام وبالقصر.
شرح غريب استسقائه- صلّى الله عليه وسلم- حين شكوا إليه العطش وأخباره بإضلال ناقته، وما بعد ذلك
قوله: القيظ- بفتح القاف وسكون التحتية وبالظاء المعجمة المشالة: شدة الحر.
الفرث- بفتح الفاء وسكون الراء وبالثاء المثلثة: السرجين في الكرش.
أبو حرزة الأنصاري- بفتح الحاء المهملة وسكون الراء بعدها زاي فتاء تأنيث.
النّوء- بفتح النون وبالهمز: مصدر نأى النجم ينوء نوءا، والمراد سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه من المشرق، وكانوا يعتقدون إنه لا بد عند ذلك من مطر أو ريح فمنهم من يجعله للطالع. لأنه ناء ومنهم من ينسبه للمغارب، فنفى- صلى الله عليه وسلم- ذلك، ونهى عنه، وكفر من اعتقد أن النجم فاعل ذلك، ومن جعله دليلا فهو جاهل بمعنى الدلالة، قال في النهاية: ومن أسند ذلك للعادة التي يجوز انخرامها فقد كرهه قوم وجوّزه قوم.
القصواء: كحمراء.
عقبيا: شهد بيعة العقبة.
اللصيت: والد زيد، تصغير اللصت بتثليث اللام وسكون الصاد وبالفوقية: وهو اللص في لغة طيء.(5/489)
قينقاع: تقدم في غزوتها.
الشعب- بكسر الشين وسكون العين المهملة: ما انفرج بين الجبلين.
الزمام- بكسر الزاي: المقود الذي تقاد به الدابة.
آنفا- بفتح أوله وكسر النون وبالفاء «والمد والقصر» : قريبا.
يجأ في عنقه: يطعن.
الإداوة- بكسر أوله: المطهرة.
نكص على عقبيه نكوصا، أي من باب قعد: رجع، قال ابن فارس: والنكوص الإحجام عن الشيء.
تواثب الناس: قاموا.
الغبطة: أن تحب أن يكون لك مثل ما أعجبك من أمر أخيك دون أن يسلبه.
الفحل: الذكر من الحيوان، والمراد هنا ذكر الإبل.
في في فحل- في الأولى حرف جر، والثانية اسم للفم.
يقضمها- بفتح الضاد المعجمة وضمها: أي يعضها، والقضم في الأصل الأكل بأطراف الأسنان، فاستعير هنا للعضّ.
انصاع الناس عنها- بكسر أوله وسكون النون وبالصاد والعين المهملتين: تفرقوا مسرعين.
شرح غريب ذكر نزوله- صلى الله عليه وسلم- بقرب تبوك وغريب نزوله بتبوك، وما بعد ذلك
قوله الشراك: للنعل- بكسر الشين المعجمة: سيرها الذي على ظهر القدم.
تبض: بفتح الفوقية وكسر الموحدة وبالضاد المعجمة وتهمل: تسيل.
الشّن بفتح الشين: القربة الخلق.
الجنان- بكسر الجيم جمع جنة بفتحها، سميت بذلك لجنها أي سترها الأرض بالشجر.
جاش الماء: ارتفع وجرى.(5/490)
استرقد: رقد، أي نام.
قيد رمح- بكسر القاف وبالدال المهملة: قدره.
اكلألنا: احفظنا وأرصد لنا الصبح.
أوثق: أحكم.
العرى- بضم العين المهملة: وفتح الراء: جمع عروة وهذا مأخوذ من قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [البقرة 256] تأنيث الأوثق أي المحكمة، قال الزجاج: معناه فقد عقد لنفسه عقدا وثيقا.
كلمة التقوى: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الملل- بكسر الميم: جمع ملّة.
السّنن: جمع سنّة، وهي الطريقة.
خير الأمور عوازمها: فرائضها التي عزم الله تعالى عليك بفعلها. والمعنى ذوات عزمها التي فيها عزم، وقيل، هي ما وكدت رأيك وعزمك عليه ووفيت بعهد الله فيه، والعزم: الجد والصبر.
لا يأتي الجمعة إلا ذبرا- بفتح الذال المعجمة وضمها وسكون الموحدة وضمها منصوب على الظرف: أي بعد ما يفوت وقتها.
إلا هجرا- بفتح الهاء وسكون الجيم: يريد الترك له والإعراض عنه.
وقر الشيء: تمكن وثبت.
الارتياب: الشك.
جثى جهنم- بضم الجيم وفتح الثاء المثلثة: جمع جثوة بتثليث الجيم وسكون الثاء المثلثة، وهي الشيء المجموع.
السّكركة بضم السين المهملة والكاف الأولى وسكون الراء نوع من الخمور، يتخذ من الذرة.
حبالة الشيطان- بكسر الحاء المهملة والجمع حبائل- بفتح الحاء: أي مصيدته التي يصيد بها.(5/491)
الشباب شعبة من الجنون: الشّعبة- بضم الشين وسكون العين المهملة: الطائفة. من الشيء والقطعة منه، وإنما جعل الشباب شعبة منه لأن الشباب يزيل العقل وكذلك الشباب قد يسرع إلى قلة العقل لما فيه من كثرة الميل إلى الشهوات والإقدام على المضار.
من يتألّ على الله يكذبه- بفتح أوله. وبعد الفوقية همزة فلام مشددة: أي من حكم عليه ويحلف، كقولك: فلان في الجنة وفلان في النار.
لا يرعوي بشيء منه: لا ينفك لا ينزجر، من رعا يرعو إذا كف عن الأمور، وقد ارعوى عن القبيح يرعوي ارعواء.
سعد هذيم- بإضافة سعد إلى هذيم- بضم الهاء- وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية وبالميم.
النطع: المتخذ من الأديم معروف، وفيه أربع لغات: فتح النون وكسرها ومع كل واحد فتح الطاء وسكونها، والجمع أنطاع ونطوع.
الحميت- بفتح الحاء المهملة وكسر الميم وسكون التحتية وبالفوقية: زق السمن.
الأقط ككتف- ويسكن، مثلث الهمزة: شيء يتخذ من اللبن المخض، قال ابن الأعرابي: من ألبان الغنم خاصة.
الأمعاء: جمع معا بالقصر مثل عنب وأعناب، وبالمد جمعه أمعية مثل حمار وأحمرة:
وهو المصران، قوله: يأكل في معاء واحد: مثل ضرب لزهد المؤمن وحرص الكافر، وهو خاص في رجل بعينه كان يأكل كثيرا، فأسلم كما في هذه القصة.
تحينّا لفدائه: طلبنا حينه وهو وقته.
الجراب- بالكسر: وعاء من جلد، وقد يفتح، ومنعه ابن السكيت، وعزاه الجوهري للعامة، والجمع جرب مثل كتاب وكتب وأجربة.
نثره نثرا- من بابي قتل وضرب: رمي به متفرقا.
تهجّد: قام، وصلى، والأخير المراد هنا.
بعثت إلى الناس كافة: تقدم الكلام عليه في الأسماء الشريفة في حرف الكاف.
هل لك: [أي هل تريد] .
الآكام: جمع أكم مثل جبل وجبال، وهو وأكمات جمع أكمة، مثل قصبة وقصبات وجمع آكام أكم ككتب وجمعه أكئام كأعناق: تل، وقيل شرفة كالرابية، وهو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد وربما غلظ وربما لم يغلظ.(5/492)
شرح غريب ذكر إرساله- صلّى الله عليه وسلم- دحية إلى هرقل
دحية- بكسر الدال المهملة وفتحها.
التّنوخي- بفتح الفوقية وضم النون المخففة وبالخاء المعجمة.
قسيسي الروم بكسر القاف: جمع قسيس كذلك حذفت النون للإضافة، وهو عالم النصارى، ويجمع بالواو والنون تغليبا لجانب الاسمية، والقس- بالفتح لغة فيه وجمعه قسوس مثل فلس وفلوس.
البطارقة- بفتح الموحدة وكسر الراء: جمع بطريق- بكسر الموحدة، وهو كالقائد من العرب.
نخروا- بالخاء المعجمة: تكلموا وكأنه كلام مع غضب ونفور، ونخر الحمار وغيره- ينخر بالضم- بخياشيمه.
رقاهم: من الرّقي- بضم الراء وهو الصعود.
لم يكد: لم يقرب.
تجيب- بفتح الفوقية وهو أكثر، وبضمها: قبيلة من كندة.
يريبك- بفتح التحتية وتضم: ما تشك فيه.
كسرى- بفتح الكاف وكسرها: وهو أفصح، وهو لقب من يملك من ملوك الفرس مزق الكتاب يمزقه- بالكسر- شقه، ومزّقه مشددا، ومزّقهم الله كلّ ممزّق: أهلكهم.
خرقت الثوب: قطعته، وخرّقته بالتشديد تخريقا مبالغة.
البأس: القوة.
الجعبة للنشاب- بفتح الجيم والجمع جعاب مثل كلبة وكلاب، وجعبات مثل سجدات.
سفر- بفتح السين المهملة وسكون الفاء: جمع مسافر كراكب وركب.
مرملون: بالراء: فرغ زادنا.
الحلّة- بضم الحاء المهملة: برد من برود اليمن لا يكون إلا ثوبين من جنس واحد.
صفورية- بصاد مهملة مضمومة ففاء فراء فمثناة تحتية مشددة: جنس من النبات فكأن الحلّة صبغت به.
أهوى: أقصد.
الغضروف- بضم الغين- وسكون الضاد الساقطة المعجمتين. رأس لوح الكتف.
المحجمة والمحجم- بالكسر: قارورة الحجام.
الضخمة: العظيمة.(5/493)
شرح غريب ذكر صلاته- صلّى الله عليه وسلم- علي ذي البجادين- رضي الله عنه- وما بعده
ميّلا: بميم فتحتية مشددة فلام مفتوحات فألف: ذا مال.
لتتوق نفسه إلى كذا- بمثناتين فوقيتين فواو فقاف: تشتاق.
البجاد- بكسر الموحدة فالجيم والدال المهملة، الكساء الغليظ الجافي.
يتصفح الناس: ينظر في صفحات وجوههم وهي جلدة بشرتها.
لحاء شجر- بكسر اللام وبالحاء المهملة والمد والقصر: ما على العود من قشر، ولحوت العود لحوا من باب قال، ولحيته لحيا من باب باع: قشرته.
سمرة- بفتح السين المهملة وضم الميم، ويجوز إسكانها.
وقصته دابته وقصا من باب وعد: رمت به فدقت عنقه، فالعنق موقوصة.
النّحي- بكسر النون وسكون الحاء المهملة والتحتية: سقاء السمن، والجمع أنحاء.
مثل حمل وأحمال، ونحاء أيضا مثل بئر وبئار.
الخرير- بالخاء المعجمة: صوت الماء، واستعير هنا للسمن.
شرح غريب ذكر مصالحته- صلى الله عليه وسلم- ملك أيلة وغريب ما بعده
قوله: أكيدر- تصغير أكدر.
دومة بضم الدال المهملة وفتحها وسكون الواو فيهما.
أشفق: بفتح أوله وسكون الشين المعجمة وفتح الفاء وبالقاف: خاف.
أيلة- بفتح الهمزة وإسكان التحتية: مدينة بالشام على النصف ما بين مصر ومكة على ساحل البحر.
يحنّة- بضم التحتية وفتح الحاء المهملة والنون المشددة وتاء تأنيث، ويقال: يحنّا بالألف بدل التاء، ولم أعلم له إسلاما، وكأنه مات على شركه.
رؤبة- بضم الراء وسكون الهمزة وبالموحدة.
جربا- بجيم مفتوحة فراء ساكنة فموحدة، تقصر وتمد: بلد بالشام تلقاء السراة.
أذرح- بفتح الهمزة وسكون الذال المعجمة وضم الراء وبالحاء المهملة: مدينة بالشام، قيل هي فلسطين، قال في القاموس: بجنب جربا، وغلطه من قال بينهما ثلاثة أيام.
مقنا: قرية قرب أيلة.(5/494)
البحر- هنا بلدهم وأرضهم.
الأمنة- بفتح الهمزة والميم والنون فتاء تأنيث: الأمان لسفنهم وسائرهم.
يمنعوا- بالبناء للمفعول.
جهيم- بضم الجيم وفتح الهاء وسكون التحتية.
الصّلت- بفتح الصاد المهملة وسكون اللام وبالفوقية.
شرحبيل- بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء المهملة وكسر الموحدة.
حسنة: ضد سيئة.
وافية: كاملة تامة.
شخص: رجع.
النواضح- بفتح النون وكسر الضاد المعجمة: جمع ناضح، وهو البعير الذي يستقى عليه الماء، ثم استعمل في كل بعير.
الحمولة- بفتح الحاء المهملة: الإبل التي تحمل.
رقاق: ضعاف.
الحديبية: تقدم في غروتها.
أرملنا- بالراء: أنفد زادنا، وأصله من الرمل كأنهم لصقوا بالرمل.
أفراق- بالفاء والقاف: جمع فرق بفتح الفاء والراء وتسكن: مكيال يسع ستة عشر رطلا، وهي اثنا عشر مدّا وثلاثة آصع.
آصع- بفتح أوله وضم الصاد المهملة جمع صاع: مكيال، وهو أربع أمداد، وهي خمسة أرطال وثلث بالبغدادي.
صدروا: رجعوا، والصدر الانصراف عن الورد وكل شيء.
شرح غريب ذكر بعض آيات وقعت في رجوع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من تبوك
قوله: قافل- بالقاف والفاء المكسورة: راجع.
خفق- بفتح الخاء المعجمة والفاء والقاف: أخذته سنة من النّعاس فمال برأسه دون سائر جسده.
دعمته- بفتح الدال والعين المهملتين وسكون الميم: أسندته لئلا يميل.(5/495)
التعريس: النزول ليلا.
الفلاة: البرية التي لا ماء بها.
المشقّق- بضم الميم وفتح الشين المعجمة فقافين الأولى مفتوحة: اسم ماء أو واد.
الوشل: بفتح الواو والشين المعجمة وباللام: الماء القليل، ووشل الماء وشلا إذا قطّر وفي الإملاء: الوشل حجارة جبل يقطر منه الماء قليلا، والوشل أيضا القليل من الماء.
سبقنا- بفتح الموحدة.
معتب- بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الفوقية وبالموحدة.
قشير- بالقاف والشين المعجمة.
نضحه- بالضاد المعجمة وبالحاء المهملة: رشه.
امرأة من بليّ بموحدة وكسر اللام وتشديد التحتية.
هنيهة- بضم الهاء وفتح النون وسكون التحتية وفتح الهاء وبتاء تأنيث: أي قليل من الزمان.
نهلت: رويت.
القعب- بفتح القاف وسكون العين المهملة وبالموحدة: قدح من خشب.
العساس- بعين فسين فألف فسين مهملات وزن سهام، والأعساس وزن أقفال: جمع عس- بضم العين وتشديد السين: وهو القدح الكبير.
يجيش: يفور.
الرواء- ككتاب جمعه ريّان وريّا.
فضالى- بفتح الفاء- وبالضاد المعجمة المخففة.
يزجون ظهرهم- بالزاي والجيم: يعوقون.
فاستمرت: قويت وسارت.
شرح غريب ذكر إرادة بعض المنافقين الفتك برسول الله- صلى الله عليه وسلم
قوله: الفتك: القتل غفلة.
يلتمسون: يطلبون.
غرته- بكسر الغين المعجمة: غفلته.(5/496)
إليكم إليكم: اسما فعل بمعنى تنحّوا.
سرح: بفتح السين المهملة وسكون الراء وبالحاء المهملة.
أبو حاضر: ضد غائب.
الجلاس- بضم الجيم وبالسين المهملة والتخفيف.
مجمّع- بالجيم بلفظ اسم الفاعل.
جارية: والد مجمّع- بالجيم والتحتية.
مليح: تصغير ملح.
حصين- بضم الحاء وفتح الصاد المهملة.
نمير- بوزنه.
أقاله عثرته: جبر زلته وسميت الزلة عثرة لأنها سقوط في الإثم.
طعمة- بضم الطاء المهملة وسكون العين المهملة.
أبيرق تصغير أبرق.
عيينة- والد عبد الله بلفظ تصغير عين.
مرّة بن الربيع- بلفظ ضد حلوة.
الدّبيلة- بضم الدال المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية: خراج أو دمّل كبير يظهر في الجوف تقتل صاحبها غالبا.
نياط القلب- بكسر النون. عرق علق به القلب من الوتين إذا قطع مات صاحبه.
شرح غريب أمر مسجد الضرار
قوله: أبو رهم- بضم الراء وسكون الهاء.
كلثوم- بضم الكاف- وبالثاء المثلثة.
الحصين- بلفظ تصغير حصن.
الغفاري- بكسر الغين المعجمة.
ابن عوف- بالفاء.
بني غنم- بفتح الغين المعجمة وسكون النون.
يرصدون قدومه: ينتظرونه.(5/497)
العلة: المرض.
جناح سفر: أي مفارقة الأوطان.
ذو أوان- بفتح الهمزة وتخفيف الواو وبالنون: موضع قريب من المدينة.
الدّخشم- بضم الدال المهملة وسكون الخاء وضم الشين المعجمتين وبالميم، ويقال بالنون بدلها، ويقال كذلك بالتصغير.
أنظرني- بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الظاء المعجمة المشالة: أي أخّرني ولا تعجلني، هكذا الرواية، ويصح أن يقرأ بضم الهمزة أن انتظرني.
السّعف- بضم السين والعين المهملتين وبالفاء: أغصان النخل ما دامت بالخوص، فإن زال الخوص عنها قيل جريدة، الواحدة سعفة.
شرح غريب ذكر حديث كعب بن مالك- رضي الله عنه-
لم يعاتب- بكسر الفوقية، ولم يعاتب الله تعالى أحدا، وفي رواية لم يعاتب بفتح الفوقية.
العير- بكسر العين، الإبل التي تحمل الميرة.
حين تواثقنا- بفوقية وثاء مثلثة فقاف: تعاهدنا وتعاقدنا.
وإن كانت بدر أذكر: أعظم ذكرا.
ورّى بغيرها- بفتح الواو والراء المشددة: أي أوهم غيرها، والتورية، أن يذكر لفظا يحتمل معنيين أحدهما أقرب من الآخر فيوهم إرادة القريب وهو يريد البعيد.
المفازة- بفتح الميم والفاء وبالزاي: الفلاة التي لا ماء فيها.
فجلّى- بالجيم واللام المشددة، ويجوز تخفيفها: أوضح.
الأهبة- بضم الهمزة والهاء: ما يحتاج إليه في السّفر والحرب.
كتاب- بالتنوين- حافظ: كذلك، وفي مسلم بالإضافة.
الديوان: بكسر الدال المهملة وتفتح.
يتغيب: يستخفي.
خارفون- بالخاء المعجمة: يقيمون في الحيطان وقت اختراف الثمار، وهو الخريف هنا.
طفقت- بكسر الفاء أفصح من فتحها: أخذت وشرعت.(5/498)
أغدو- بالغين المعجمة.
يتمادى- بتحتية ففوقية فميم مفتوحات فألف فدال مهملة.
الحاذ- بحاء مهملة وبعد الألف ذال معجمة: الحال وزنا ومعنى.
الجدّ- بكسر الجيم والرفع فاعل وهو الجهد في الشيء والمبالغة فيه، وفي رواية: حتى اشتدّ الناس الجدّ وضبطوا الناس بالرفع على أنه فاعل، والجد بالنصب على نزع الخافض.
أو نعت لمصدر محذوف أي اشتد الناس الاشتداد الجدّ.
أصبو: بصاد مهملة فباء موحدة: أميل.
جهازي- بفتح الجيم وكسرها.
غدوت- بالغين المعجمة.
فصلوا- بصاد مهملة: خرجوا.
تفارط- بالفاء فالراء والطاء المهملتين: فات وسبق.
يقدر- بالبناء للمفعول.
أني لا أرى- بفتح همزة إن، وهي وصلتها فاعل أحزنني خلافا لمن قال للتعليل.
مغموصا- بفتح الميم وسكون الغين المعجمة بعدها ميم أخرى مضمومة فواو فصاد مهملة، متهما أي يظن به النفاق.
بني سلمة- بكسر اللام.
السّلمي بفتحتين.
برداه: تثنية برد.
عطفيه- بكسر العين المهملة تثنية عطف: أي جانبه، كناية عن كونه معجبا في نفسه ذا زهو وتكبر، أو يكنى به عن مسيرته لتعجبه، والقريب الرداء وسمّي عطفا لوقوعه على عطف الرجل.
قافلا: راجعا.
قد أظل- بالظاء المشالة المعجمة: دنا.
زاح- بالزاي والحاء المهملة: زال.
أجمعت صدقه: جزمت به وعقدت عليه قصدي.
بضعة- بكسر الموحدة وسكون الضاد المعجمة: ما بين الثلاث إلى التسع على المشهور.(5/499)
بدأ- بفتح الهمزة.
المخلفون: الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم عن غزوة تبوك.
ووكل- بفتحات مع التخفيف.
المغضب- بفتح الضاد المعجمة.
خلّفك بتشديد اللام المفتوحة.
ابتعت ظهرك: شريته.
أن- بفتح الهمزة مخففة من الثقيلة.
سأخرج- بالضم.
جدلا- بفتح الجيم والدال المهملة: فصاحة وقوة كلام بحيث أخرج من عهدة ما نسب إلي مما يقبل ولا يرد.
يوشكن- بضم التحتية وكسر الشين المعجمة: يسرعن.
تجد- بكسر الجيم: تغضب.
أمّا هذا- بفتح الهمزة وتشديد الميم.
ثار رجال: وثبوا.
سلمة- بكسر اللام.
عجزت- بفتح الجيم أفصح من كسرها.
كافيك: خبر كان.
ذنبك: مفعول كافيك.
استغفار: اسم كان، وذكر بعضهم أن ذنبك منصوب بنزع الخافض، أي من ذنبك.
يؤنّبونني بهمزة مفتوحة فنون مشددة فموحدة مضمومة ونونين: يلومونني لوما عنيفا.
مرارة- بضم الميم وتخفيف الراءين.
الرّبيع- بفتح الراء.
العمري- بفتح العين المهملة وسكون الميم، نسبة إلى بني عمرو بن عوف.
الواقفي، بتقديم القاف على الفاء نسبة إلى بني واقف بن امرئ القيس بن مالك بن أوس.(5/500)
أسوة- بكسر الهمزة وضمها.
أيها الثلاثة- بالرفع، ومحله النصب على الاختصاص، أي خصوصا، الثلاثة، كقولهم اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، وقال أبو سعيد السيرافي: إنه مفعول فعل محذوف أي أريد الثلاثة أي أخص الثلاثة، وخالفه الجمهور وقالوا: إنه منادى، والثلاثة صفة له، وإنما أوجبوا ذلك لأنه في الأصل كان كذلك فنقل إلى الاختصاص، وكل ما نقل من باب إلى باب فإعرابه بحسب أصله كأفعال التعجب.
اجتنبنا [بهمزة وصل وجيم ساكنة وفوقية مفتوحة ونون وباء ونون مفتوحات: بعد عنا] .
الناس: فاعل اجتنب.
استكان: رجع.
أجلدهم: أقواهم.
أطوف: أدور.
أسارقه- بالسين المهملة والقاف- النظر: أنظر إليه في خفية.
جفوة الناس- بفتح الجيم وسكون الفاء: إعراضهم.
تسوّرت: علوت.
أنشدك- بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة: أسألك.
فنشدته- بفتح المعجمة: سألته به.
نبطي- بفتح النون والموحدة وكسر الطاء: فلاح، وكان نصرانيا، ولم يسم.
من أنباط الشام- بفتح الهمزة وسكون النون وفتح الموحدة.
يشيرون- بضم أوله.
غسّان- بفتح الغين وتشديد السين المهملة.
جبلة بن الأيهم، وهو الحرث بن أبي شمر.
السرقة- بسين مهملة فراء فقاف مفتوحات فهاء تأنيث: الأبيض من الحرير، أو الحرير عامة.
دار هوان: [ذلة ومهانة] .
مضيعة- بفتح الميم وسكون الضاد المعجمة، وفتح التحتية وبكسر الضاد وسكون التحتية: أي حيث يضيع حقك.(5/501)
متحوّلا- بالحاء المهملة وفتح الواو مكان تتحول فيه بفتح الحاء المهملة.
نواسيك- بضم النون وكسر السين المهملة من المواساة.
تيمّمت: قصدت.
التّنور- بفتح الفوقية: الذي يخبز فيه.
سجرته- بسين مهملة مفتوحة: أو قدته.
وأرسل إلّى صاحبيّ- بتشديد التحتية.
الحقي بأهلك- بفتح الحاء.
حتى كملت- بفتح الميم.
ضاقت عليّ نفسي [ضد اتسعت، كناية عن ما يعانيه من الشدة والحزن وضيق الصدر] .
ضاقت عليّ الأرض بما رحبت: أي بما هي عليه من السّعة.
صارخ- بالخاء المعجمة.
أوفى- بالفاء مقصورا: صعد.
سلع- بفتح السين المهملة وسكون اللام.
يا كعب بن مالك- بفتح كعب وابن، وضم كعب وفتح ابن وضمها.
أبشر- بهمزة.
قد جاء فرج- بالجيم.
آذن بالمد: أعلم.
وذهب قبل- بكسر القاف وفتح الموحدة: جهة.
صاحبيّ: مرارة وهلال.
ركض إليّ- بتشديد التحتية: استحثّ.
ثوبيّ: تثنية ثوب.
فوجا فوجا: جماعة جماعة.
لتهنك: بكسر النون.
توبة الله- بالرفع.
فقام إليّ- بتشديد التحتية.
يهرول: يسير بين المشي والعدو.
ولا أنساها لطلحة: أي هذه الخصلة، وهي بشارته إياي بالتوبة، أي لا أزال أذكر إحسانه إلي بذلك وكنت رهين مسرته.(5/502)
يبرق- بفتح أوله.
إذا سرّ- بضم السين وتشديد الراء، مبنيا للمفعول.
كأنه قطعة قمر: تقدم الكلام عليه في الصفات النبوية.
أن أنخلع: أخرج من مالي صدقة. قال الزركشي والحافظ والبرماوي هي مصدر، فيجوز انتصابه بأنخلع، لأن معنى انخلع أتصدق، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال، وتعقب ذلك الشيخ بدر الدين الدماميني: بأنا لا نسلم أن الصدقة مصدر وإنما هي اسم لما يتصدق به على الفقراء، فعلى هذا نصبها على الحال من مالي.
ما بقيت- بكسر القاف.
أبلاه الله- بالموحدة الساكنة: أنعم الله عليه.
أحسن مما أبلاني: أنعم عليّ، وفيه نفي الأفضلية لا نفي المساواة، لأنه شاركه في ذلك هلال بن أمية.
أن لا أكون كذبته- بتخفيف الذال وسكون الموحدة، ولا زائدة كقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف 12] أي حدّثته حديث كذب.
فأهلك بكسر اللام وفتح الكاف.
شرّ ما قال لأحد: أي قال قولا شرا- ما قال بالإضافة، أي شر القول الكائن لأحد من الناس.
أرجأ أمرنا- بالجيم والهمزة: أخّر.
مما خلّفنا- بضم الخاء المعجمة وكسر اللام المشددة- وسكون الفاء.
إرجاؤه: تأخيره وتركه.
شرح غريب ذكر أقوام تخلفوا من غير عذر
أبو لبابة- بضم اللام وتخفيف الموحدة الأولى.
جدّ بن قيس- بفتح الجيم وتشديد الدال المهملة.
جذام بن أوس ...
قفل- بفتح القاف والفاء واللام: رجع.
نجز الجزء الثاني من كتاب سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد يتلوه الجزء الثالث «جماع أبواب سراياه» أحسن الله تعالى عاقبتنا آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين آمين، والحمد الله رب العالمين- على يد الفقير الراجي عفو الله علي بن إبراهيم الباجي غفر الله له ولوالديه ولمشايخه آمين.(5/503)
[المجلد السادس]
بسم الله الرحمن الرحيم
جماع أبواب سراياه وبعوثه وبعض فتوحاته صلّى الله عليه وسلم
الباب الأول في عدد سراياه وبعوثه ومعنى السرية وفيه نوعان
الأول: قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: السرايا والبعوث ثمانيا وثلاثين وذكرها أبو عمر رحمه الله تعالى في أول الاستيعاب سبعا وأربعين. وذكرها محمد بن عمر رحمه الله تعالى ثمانيا وأربعين وأبو الفضل ستّا وخمسين. ونقل المسعودي عن بعضهم أنها ستون.
وعلى ذلك جرى الحافظ أبو الفضل العراقي رحمه الله تعالى في ألفيّة السيرة، وذكر فيها أن الإمام الحافظ محمد بن نصر [ (1) ] أوصلها إلى السبعين، وأن الإمام الحافظ أبا عبد الله الحاكم رحمه الله تعالى قال: إنه ذكر في الإكليل أنها فوق المائة. قال العراقي: ولم أجد هذا القول لأحد سواه. قال الحافظ رحمه الله تعالى: لعل الحاكم أراد بضم المغازي إليها.
قلت عبارة الحاكم كما رواها عنه ابن عساكر بعد أن روي عن قتادة أن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه كانت ثلاثا وأربعين. قال الحاكم: هكذا كتبناه. وأظنه أراد السرايا دون الغزوات، فقد ذكرت في كتاب الإكليل على الترتيب بعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه زيادة على المائة. قال: «وأخبرني الثقة من أصحابنا ببخارى أنه قرأ في كتاب أبي عبد الله محمد بن نصر السرايا والبعوث دون الحروب بنفسه نيفا وسبعين» . انتهى.
قال في البداية: وهذا الذي ذكره الحاكم غريب جدا، وحمله كلام قتادة على ما قال، فيه نظر فقد روى الإمام أحمد [عن أزهر بن القاسم الراسبي عن هشام الدستوائي] عن قتادة أن مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه ثلاث وأربعون: أربعة وعشرون بعثا وتسع عشرة غزوة.
قلت والذي وقفت عليه من السرايا والبعوث لغير الزكاة يزيد على السبعين كما سيأتي بيان ذلك مفصلا إن شاء الله تعالى.
__________
[ (1) ] محمد بن نصر المروزي، أبو عبد الله: إمام في الفقه والحديث. كان من اعلم الناس باختلاف الصحابة فمن بعدهم في الأحكام. ولد ببغداد. ونشأ بنيسابور، ورحل رحلة طويلة استوطن بعدها. سمرقند وتوفي بها. له كتب كثيرة، منها «القسامة» في الفقه، قال أبو بكر الصيرفي: لو لم يكن له غيره لكان من أفقه الناس، «والمسند» في الحديث، وكتاب «ما خالف به أبو حنيفة عليا وابن مسعود» . الأعلام 7/ 125.(6/3)
الثاني: في معنى السرية. قال ابن الأثير في النهاية: «السّرية: الطائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو، وجمعها سرايا سمّوا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم من الشيء السّريّ النفيس. وقيل سموا بذلك لأنهم ينفذون سرّا وخفية، وليس بالوجه لأن لام السّرّ راء وهذه ياء. انتهى.
وقال الإمام شهاب الدين أحمد بن علي الشّهير بابن خطيب الدهشة رحمه الله تعالى في كتابه المصباح [ (1) ] : «السّريّة: قطعة من الجيش، فعلية بمعنى فاعلة لأنها تسري في خفية والجمع سرايا وسريّات مثل عطية وعطايا وعطيات» انتهى.
فقوله: «خفية» أحسن من قول من قال «سرّا» لما ذكره ابن الأثير من أن لام السر راء وهذه ياء. وقال الحافظ: السرية: قطعة من الجيش تخرج منه وتعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة، فما زاد على خمسمائة يقال له: منسر بالنون والسين المهملة أي بفتح الميم وكسر السين وبعكسهما. فإن زاد على الثمانمائة سمّي جيشا، وما بينهما يسمى هيضلة، فإن زاد على أربعة آلاف سمى جحفلا بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وفتح الفاء، فإن زاد فجيش جرّار، بفتح الجيم وبراءين مهملتين الأولى مشددة. والخميس أي بلفظ اليوم: الجيش العظيم. وما افترق من السّريّة يسمى بعثا. فالعشرة فما بعدها حضيرة. والأربعون عصبة، وإلى ثلاثمائة مقنب بقاف ونون موحّدة أي بكسر الميم وسكون القاف وفتح النون. فإن زاد سمي جمرة بجيم مفتوحة وسكون الميم. والكتيبة- بفتح الكاف فتاء مكسورة وتحتية ساكنة فموحدة فتاء تأنيث- ما اجتمع ولم ينتشر، انتهى.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب أربعة.
وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش، أربعة آلاف، وما هزم قوم بلغوا اثني عشر ألفا من قلّة إذا صدقوا وصبروا» . رواه أبو يعلى وابن حبان وأبو داود والترمذي، دون قوله «إذا صدقوا وصبروا»
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 299 والبيهقي في السنن 9/ 156 والدارمي 2/ 215 وذكره الهيثمي في المجمع 5/ 258.(6/4)
الباب الثاني في أي وقت كان يبعث سراياه ووداعه بعضهم ومشيه مع بعضهم وهو راكب إلى خارج المدينة ووصيته صلى الله عليه وسلم لأمراء السرايا وفيه أنواع:
الأول: في أي وقت كان يبعث سراياه،
عن صخر- بصاد مهملة فخاء معجمة- ابن وداعة- بفتح الواو والدال المهملة- الغامدي- بغين معجمة فألف فميم مكسورة فدال مهملة فياء نسب- رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لأمتي في بكورها»
[ (1) ] . قال:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية بعثها أول النهار، وكان صخر رجلا تاجرا وكان لا يبعث غلمانه إلا من أول النهار فكثر ماله حتى لا يدرى أين يضع ماله. رواه الإمام أحمد والثلاثة وحسّنة الترمذي.
وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية أغزاها أول النهار وقال: «اللهم بارك لأمتي في بكورها» . رواه الطبراني.
الثاني: في وداعه صلى الله عليه وسلم بعض سراياه.
روى الإمام أحمد عن البراء بن عازب، والإمام أحمد وأبو يعلى بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى مع الذين وجهّهم لقتل كعب بن الأشرف إلى بقيع الغرقد. ثم وجههم وقال: «انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم» [ (2) ] ثم رجع.
البقيع بفتح الموحدة وكسر القاف وسكون التحتية وبالعين المهملة والغرقد بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وفتح القاف وبالدال المهملة. من شجر العضاة أو العوسج أو العظام منه.
وعن عبد الله بن زيد رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شيّع جيشا فبلغ عقبة الوداع قال: «أستودع الله تعالى دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم» [ (3) ] الحديث رواه ابن أبي شيبة رحمه الله.
الثالث: في مشيه صلّى الله عليه وسلم مع بعض أمراء سراياه، وذلك البعض راكب.
عن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن خرج معه يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي تحت ظل راحلته، فلما فرغ قال: «يا معاذ إنّك عسى ألّا تلقاني بعد
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (1212) وأبو داود (2606) وابن ماجة (236) وأخرجه أحمد في المسند 3/ 416- 417 والطبراني في الكبير 8/ 28، 10/ 257.
[ (2) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 66 حاكم 2/ 9 والطبراني في الكبير 11/ 221 وانظر البداية والنهاية 4/ 7.
[ (3) ] أخرجه أبو داود (2601) والحاكم 2/ 97 وذكره ابن حجر في المطالب (3194) والمتقي الهندي في الكنز (18136) .(6/5)
عامي هذا ولعلك أن تمر بمسجدي وقبري» فبكى معاذ رضي الله عنه جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر الحديث [ (1) ] ، رواه الإمام أحمد وأبو يعلى برجال ثقات
وسيأتي بتمامه في موضعه من السرايا والبعوث.
جشعا بفتح الجيم وكسر الشين المعجمة وبالعين المهملة أي جزعا لفراقه صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن عساكر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى معه ميلا ومعاذ راكب لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك.
النوع الرابع: في وصيته صلى الله عليه وسلم لأمراء السراياء.
عن بريدة بالموحدة والتصغير رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصّته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: «اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلّوا ولا تغدروا [ولا تمثلوا] ولا تقتلوا وليدا. وإذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيّتهنّ ما أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم وادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم، أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المؤمنين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكفّ عنهم، فإن هم أبوا فاستعن عليهم بالله وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمّة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمّة الله ولا ذمة نبيه. ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم وإن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمّة الله وذمّة رسوله. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا. ثم اقضوا فيهم بعد ما شئتم» [ (2) ] رواه مسلم وأبو داود والترمذي واللفظ لمسلم ورواه البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 235 والبيهقي في السنن 9/ 86 والبيهقي في الدلائل 5/ 404 وابن حبان (2504) وذكره الهيثمي في المجمع 3/ 36.
[ (2) ] أخرجه مسلم في كتاب الجهاد (3) وأبو داود (2613) وابن ماجة (2858) والترمذي (1408) وأحمد في المسند 4/ 240 والبيهقي في السنن 9/ 49 والحاكم في المستدرك 4/ 541 وعبد الرزاق (9428) وابن أبي شيبة في المصنف 12/ 362.(6/6)
قال: «اخرجوا باسم الله تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلّوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوالدين ولا أصحاب الصوامع» . [ (1) ] رواه ابن أبي شيبة والإمام أحمد وأبو يعلى.
وعن عبد الرحمن بن عائذ- رحمه الله تعالى- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا قال: «تألّفوا الناس وتأتّوهم ولا تغيروا عليهم حتى تدعوهم إلى الإسلام فما على الأرض من أهل بيت مدر ولا وبر إلا تأتوني بهم مسلمين أحب إلي من أن تقتلوا رجالهم وتأتوني بنسائهم» [ (2) ] . رواه مسدّد والحارث بن أبي أسامة مرسلا.
وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وجها، ثم قال لرجل الحقه ولا تدعه من خلفه فقل له: أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تنتظره وقل له: «لا تقاتل قوما حتى تدعوهم» [ (3) ] . رواه إسحاق بن راهويه بسند فيه انقطاع.
وعن أبي موسى رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: «بشّروا ولا تنفّروا ويسّروا ولا تعسّروا» [ (4) ] رواه مسلم.
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا قال: «انطلقوا باسم الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة، ولا تغلّوا، وضمّوا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحبّ المحسنين» [ (5) ] رواه أبو داود والترمذي.
وعن ابن عصام المزني- بالزاي والنون- رضي الله عنه عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشا أو سرية يقول: «إذا رأيتم مسجدا أو سمعتم مؤذنا فلا تقتلوا أحدا» [ (6) ] . رواه أبو داود والترمذي.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل معاذا وأبا موسى فقال: «تشاورا وتطاوعا ويسّرا ولا تعسّرا وبشّرا ولا تنفّرا» [ (7) ] رواه البزار.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو يعلى في المسند 4/ 423 (222- 2549) وأحمد في المسند 1/ 300 والبيهقي 9/ 90 والبزار (1677) والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 220 وذكره الهيثمي في المجمع 5/ 316 وعزاه لأحمد وأبي يعلى والبزار والطبراني في الكبير والأوسط وقال: وفي رجال البزار وإبراهيم بن إسماعيل بن حبيبة وثقه أحمد وضعفه الجمهور.
[ (2) ] ذكره ابن حجر في المطالب (1962- 1963) .
[ (3) ] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 12/ 363 والبخاري في التاريخ 3/ 377 وذكره في المجمع 5/ 305.
[ (4) ] أخرجه البخاري 1/ 27 ومسلم في كتاب الجهاد (6) وأبو داود (4835) وأحمد في المسند 4/ 399.
[ (5) ] أخرجه أبو داود (2614) والبيهقي في السنن 9/ 60 وعبد الرزاق (9430) .
[ (6) ] أخرجه أبو داود (2635) والترمذي (1549) وأحمد في المسند 3/ 448 وذكره الهيثمي في المجمع 6/ 210.
[ (7) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 260 وعزاه للبزار وقال: وفيه عمرو بن أبي خليفة العبدي ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح، والحديث في مسلم بنحوه.(6/7)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
لا تغدروا بكسر الدال المهملة.
ذمة الله بكسر المعجمة أمانه وعهده.
الوليد بفتح الواو الصبي.
على حكم الله قضاؤه.
المدر قطع الطين.(6/8)
الباب الثالث في اعتذاره عن تخلّفه عن صحبة السرايا صلى الله عليه وسلم وإعطائه سلاحه لمن يقاتل به
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لولا أن أشقّ على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة فيتبعوني، ويشقّ عليهم أن يقعدوا بعدي» - وفي لفظ: «ولا تطيب أنفسهم أن يتخلّفوا عني- «والذي نفسي بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله وأقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا» [ (1) ] بتكريره ست مرات، رواه الإمامان مالك وأحمد والشيخان والنسائي وابن ماجة.
وعن [جبلة بن حارثة] قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يغز أعطى سلاحه عليا أو أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما [ (2) ] ، رواه أحمد وأبو يعلى.
تنبيهات
الأول: الحكمة في بيان إيراد
قوله: «والذي نفسي بيده»
مرة ثانية عقب الأولى إرادة تسلية الخارجين في الجهاد عن مرافقته صلى الله عليه وسلم، فكأنه قال: الوجه الذي تسيرون فيه له من الفضل ما أتمنّى لأجله أن أقتل مرّات، فمهما فاتكم من مرافقتي والقعود معي من الفضل، يحصل لكم مثله أو فوقه من فضل الجهاد، فراعى خواطر الجميع. وقد خرج صلى الله عليه وسلم في بعض المغازي، وتخلف عن المشار إليهم وكان ذلك حيث [رجحت] مصلحة خروجه على مراعاة حالهم.
الثاني: استشكل صدور هذا التمني من النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بأنه لا يقتل، وأجيب بأن تمنّي الفضل والخير لا يستلزم الوقوع، فقد
قال صلى الله عليه وسلم: «وددت لو أن موسى صبر»
[ (3) ] ، فكأنه صلى الله عليه وسلم أراد المبالغة في بيان فضل الجهاد وتحريض المسلمين عليه.
الثالث: قال النووي رحمه الله تعالى: «في هذا الحديث حسن النية وبيان شدة شفقة النبي صلى الله عليه وسلم علي أمته ورأفته بهم واستحباب القتل في سبيل الله تعالى، وجواز قول وددت
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 20 (2797) والبيهقي في السنن 9/ 24.
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 286 وعزاه لأحمد والطبراني في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات.
[ (3) ] أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات (117) وأخرجه البخاري بنحوه 4/ 190.(6/9)
حصول كذا من الخير، وإن علم أنه لا يحصل، وفيه ترك بعض المصالح لمصلحة راجحة أو أرجح، أو لدفع مفسدة، وفيه جواز تمنّي ما يمتنع في العادة» .
الرابع: قال الطيبي رحمه الله تعالى ثم في
قوله: «ثم أقتل»
إلى آخره، وإن حملت على التراخي في الزمان هنا لكن الحمل على التراخي في الرّتبة هو الوجه، لأن التمني حصول درجات بعد القتل، والإحياء لم يحصل من قبل، ومن ثمة كررها لنيل مرتبة بعد مرتبة إلى أن ينتهي إلى المقام الأعلى منه
.(6/10)
الباب الرابع في سرية حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه طلى سيف البحر من ناحية العيص في شهر رمضان على رأس سبعة أشهر من الهجرة في ثلاثين رجلا من المهاجرين والأنصار
قال ابن سعد: «والمجمع عليه أنهم كانوا جميعا من المهاجرين، ولم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الأنصار مبعثا حتى غزا بهم بدرا، وذلك أنهم كانوا شرطوا له أنهم يمنعونه في دراهم. وهذا الثّبت عندنا» . وصححه في الموارد. وعقد له لواء أبيض حمله أبو مرثد كنّاز بن الحصين الغنويّ، حليف حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنهما، وهو أول لواء عقد في الإسلام كما قال عروة وابن عقبة ومحمد بن عمر وابن سعد وابن عائذ والبيهقي وابن الأثير والدمياطي والقطب وغيرهم وصححه أبو عمر رحمهم الله تعالى.
وذكر ابن إسحاق رحمه الله تعالى أن أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء عبيدة بن الحارث. ثم قال: «واختلف الناس في راية عبيدة وحمزة فقال بعض الناس كانت راية حمزة قبل راية عبيدة وقال بعض الناس راية عبيدة كانت قبل راية حمزة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيّعهما جميعا فأشكل ذلك على بعض الناس» . انتهى. فخرج حمزة رضي الله تعالى عنه بمن معه يعترض عير قريش التي جاءت من الشام تريد مكة، وفيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل وقيل في مائة وثلاثين، فبلغ سيف البحر ناحية العيص من أرض جهينة. فلما تصافّوا حجز بينهم مجديّ بن عمرو الجهني وكان حليفا للفريقين جميعا فأطاعوه وانصرفوا ولم يقتتلوا فتوجه أبو جهل في أصحابه وعيره إلى مكة وانصرف حمزة وأصحابه رضي الله تعالى عنهم إلى المدينة.
ولما عاد حمزة بمن معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بما حجز بينهم مجديّ بن عمرو وأنهم رأوا منه نصفة. وقدم رهط مجديّ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكساهم وقال صلى الله عليه وسلم فيما ذكره محمد بن عمر عن مجديّ أيضا: « [إنه- ما] علمت- ميمون النقيبة مبارك الأمر» أو قال: «رشيد الأمر» .
تنبيهات
الأول: ذكر ابن سعد هذه السرية والتي بعدها قبل غزوة الأبواء، وذكرهما ابن إسحاق قبل غزوة بواط.
الثاني: اختلف في أي شهر كانت؟ فقال المدائني: في ربيع الأول سنة اثنتين، وقال أبو عمرو: بعد ربيع الآخر.(6/11)
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
سيف البحر: بكسر السين المهملة، ساحله العيص: بكسر العين المهملة وسكون التحتية فصاد مهملة.
عبيدة: بضم أوله وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالهاء.
جهينة: بضم الجيم وفتح الهاء وسكون التحتية وبالنون. حجز: بفتح المهملة والجيم والزاي: فصل.
مجديّ: بفتح الميم وسكون الجيم فدال مهملة فياء كياء النّسب، لا يعلم له إسلام.
حليفا: أي محالفا ومسالما. أبو مرثد: بفتح الميم وسكون الراء وفتح الثاء المثلثة، واسمه كنّاز بفتح الكاف وتشديد النون وبالزاي.
الغنويّ: بفتح الغين المعجمة والنون وبالواو.
الحصين: بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين.
مأمون النقيبة: منجح الأفعال مظفّر المطالب، والنّقيبة: بفتح النون وكسر القاف وسكون التحتية وبالهاء. الخليقة والطبيعة أو النفس.(6/12)
الباب الخامس في سرية عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، رضي الله تعالى عنه إلى بطن رابغ في شوال من السنة الأولى في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ليس فيهم أنصاري
وكان لواؤه أبيض حمله مسطح بن أثاثة بن عبّاد بن المطلب بن عبد مناف رضي الله تعالى عنه. فخرج فلقي أبا سفيان بن حرب، في أناس من أصحابه على ماء يقال له أحياء من بطن رابغ [على عشرة أميال من الجحفة وأنت تريد قديدا على يسار الطريق، وإنما] نكبوا عن الطريق ليرعوا ركابهم. وأبو سفيان في مائتين وعلى المشركين أبو سفيان، قال محمد بن عمر:
وهو الثبت عندنا، وقيل مكرز بن حفص، وقيل عكرمة بن أبي جهل. فكان بينهم الرّمي، ولم يسلّوا سيفا ولم يصطفّوا للقتال، وإنما كانت بينهم المناوشة إلا أن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه رمى بسهم في سبيل الله فكان أول سهم رمي به في الإسلام فنثر كنانته وتقدّم أمام أصحابه وقد تترسوا عنه فرمى بما في كنانته وكان فيها عشرون سهما ما منها سهم إلا ويجرح إنسانا أو دابّة. ولم يكن بينهم يومئذ إلا هذا، ثم انصرف الفريقان على حاميتهم.
وفرّ من الكفار إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني حليف بني زهرة، وعتبة بن غزوان المازني حليف [بني نوفل] بن عبد مناف، وكانا مسلمين، ولكنهما خرجا ليتوصّلا بالمشركين.
تنبيهان
الأول: كذا ذكر غير واحد من أهل السّير أن هذه السرية كانت في السنة الأولى. وذكر أبو الأسود في مغازيه، ووصله ابن عائذ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى الأبواء بعث عبيدة بن الحارث في ستين رجلا، فذكر القصّة، فتكون في السنة الثانية، وصرّح به بعض أهل السير، فالله تعالى أعلم.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
بطن رابغ: بالموحدة المكسورة والغين المعجمة.
مسطح: بكسر الميم وسكون السين وفتح الطاء وبالحاء المهملات.
أثاثة: بضم أوله وثاءين مثلثتين مخففتين.
عبّاد: بفتح أوله وتشديد الموحدة.
أحياء: جمع حيّ ماء أسفل ثنية المرّة بكسر الميم وتشديد الراء وخفّفها ياقوت.(6/13)
مكرز: بكسر الميم وسكون الكاف وفتح الراء. لا يعلم له إسلام، وانفرد ابن حبّان بذكره في الصحابة، فإنه قال: يقال له صحبة، فإن صحّ ذلك فقد أسلم وإلا فلا.
الأخيف: بالخاء المعجمة والتحية وبالفاء وزن أحمد.
المناوشة في القتال تداني الفريقين وأخذ بعضهم بعضا.
الكنانة: بكسر الكاف جعبة السهام من أدم.
على حاميتهم: أي جماعتهم، والحامية الرجل يحمي القوم، وهو على حامية القوم أي آخر من يحميهم في مضيّهم.
المقداد: بكسر الميم وسكون القاف وبدالين مهملتين.
البهراني: بفتح الموحدة وسكون الهاء فراء فنون.
بنو زهرة: بضم الزاي وسكون الهاء.
عتبة: بضم العين المهملة وسكون الفوقية وبالموحدة.
غزوان: بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي وبالواو والنون.
المازني: بكسر الزاي والنون.(6/14)
الباب السادس في سرية سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه في عشرين رجلا من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم
وقيل: في ثمانية إلى الخزّاز في ذي القعدة على رأس تسعة أشهر من الهجرة.
وعقد له لواء أبيض حمله المقداد بن عمرو البهراني، وعهد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألّا يجاوز الخّزّاز، يعترض عيرا لقريش تمرّ بهم، فخرجوا على أقدامهم يكمنون النهار ويسيرون الليل حتى صبّحوا صبح خمس الخزّاز من الجحفة قريبا من خمّ فوجدوا العير قد مرّت بالأمس فانصرفوا إلى المدينة.
تنبيهان
الأول: ذكر محمد بن عمر وابن سعد هذه السرايا جميعها في السنة الأولى من الهجرة وجعلها ابن إسحاق في السنة الثانية.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
الخزّاز: بفتح الخاء المعجمة وتشديد الزاي الأولى، واد يصب في الجحفة. في ذي القعدة: بكسر القاف وفتحها. يكمنون: بضم الميم: يستترون.
الجحفة: بضم الجيم وسكون الحاء المهملة وبالفاء قرية كبيرة على خمس مراحل من مكة ونحو ثلثي مرحلة من المدينة الشريفة.
خمّ: بضم الخاء المعجمة اسم غدير أو واد بقرب الجحفة.(6/15)
الباب السابع في سرية فيها سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه
روى الإمام أحمد عنه قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له: إنك قد نزلت بين أظهرنا فأوثق لنا حتى نأتيك وقومنا. فأوثق لهم فأسلموا. قال: فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب [أي من السنة الثانية] ولا نكمل مائة. وأخبرنا أن نغير على حيّ من كنانة إلى جنب جهينة، فأغرنا عليهم، فكانوا كثيرا، فلجأنا إلى جهينة فمنعونا، وقالوا: لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟ فقال بعضنا: نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره. وقال قوم: لا بل نقيم ههنا. وقلت أنا في أناس معي: لا، بل نأتي عير قريش فنقتطعها.
فانطلقنا إلى العير [وكان الفيء إذ ذاك من أخذه فهو له] وانطلق أصحابنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه الخبر، فقام غضبان محمّرا وجهه فقال: «أذهبتم من عندي جميعا وقمتم متفرقين وإنما أهلك من كان قبلكم الفرقة، لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم، أصبركم على الجوع والعطش» [ (1) ] . فبعث علينا عبد الله بن جحش أميرا فكان أول أمير في الإسلام.
الباب الثامن في سرية أمير المؤمنين المجدّع في الله تعالى عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه في رجب من السنة الثانية إلى بطن نخلة
دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى العشاء فقال: «واف مع الصبح، معك سلاحك، أبعثك وجها» . قال: فوافيت الصبح وعليّ قوسي وسيفي وجعبتي ومعي درقتي. فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالناس، ثم انصرف، فيجدني قد سبقت واقفا عند بابه، وأجد نفرا من قريش. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فدخل عليه، فأمره فكتب كتابا، ثم دعاني فأعطاني صحيفة من أديم خولانيّ وقال: «قد استعملتك على هؤلاء النّفر، فامض حتى إذا سرت ليلتين فانظر كتابي هذا ثم امض لما فيه» . قلت: يا رسول الله: أي ناحية؟ قال: «اسلك النجدية تؤم ركبة» .
قال ابن إسحاق وأبو عمرو: وأرسل معه ثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم أنصاري وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وسعد بن أبي وقاص، وعكّاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله الليثي، وخالد بن البكير، وسهيل بن بيضاء.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 6/ 69 وعزاه لأحمد وقال: ورواه ابنه عنه وجادة ووصلة عن غير أبيه ورواه البزار وفيه المجالد بن سعيد وهو ضعيف عند الجمهور ووثقه النسائي في رواية وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.(6/16)
وذكر ابن عائذ فيهم: سهل بن بيضاء ولم يذكر سهيلا ولا خالدا ولا عكّاشة. وذكر ابن سعد فيهم المقداد بن عمرو- وهو الذي أسر الحكم بن كيسان- وقال ابن سعد: كانوا اثني عشر [من المهاجرين] كل اثنين يعتقبان بعيرا. وروى الطبراني بسند حسن عن زرّ [بن حبيش] رحمه الله تعالى قال: «أول راية رفعت في الإسلام راية عبد الله بن جحش» .
فانطلق عبد الله بن جحش حتى إذا كان مسيرة يومين فتح الكتاب فإذا فيه: «سر باسم الله وبركاته ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك على السير معك، وامض لأمري فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصّد عير قريش وتعلّم لنا أخبارهم» . فلما نظر في الكتاب قال: سمعا وطاعة.
وقرأه على أصحابه وقال: [قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشا حتى آتيه منهم بخبر] وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع. [فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم] » فقالوا أجمعون:
«نحن سامعون مطيعون لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولك، فسر على بركة الله» .
فسار ومعه أصحابه لم يتخلف منهم أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمكان بمعدن فوق الفرع يقال له بحران أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه، فتخلّفا في طلبه يومين، ولم يشهدا الموقعة، وقدما المدينة بعدهم بأيام. ومضى عبد الله بن جحش في بقية أصحابه حتى نزل بنخلة. فمرّت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما وتجارة من تجارة قريش جاءوا بها من الطائف، فيها عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة المخزومي وأخوه نوفل بن عبد الله، وقيل بل أخوهما المغيرة، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة.
فلما رآهم أصحاب العير هابوهم وأنكروا أمرهم، وقد نزلوا قريبا منهم. فحلق عكاشة بن محصن رأسه، وقيل واقد بن عبد الله، ثم وافى ليطمئن القوم. فلما رأوه قالوا: لا بأس عليكم منهم، قوم عمّار. فأمنوا وقيّدوا ركابهم وسرحوها وصنعوا طعاما.
فاشتور المسلمون في أمرهم وذلك في آخر يوم من رجب ويقال أول يوم من شعبان وقيل في آخر يوم من جمادى الآخرة. فشكّوا في ذلك اليوم أهو من الشهر الحرام؟ أم لا.
فقالوا: والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم فليمتنعنّ منكم به ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام. فتردد القوم وهابوا [الإقدام عليهم] . ثم شجّعوا أنفسهم. وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم.
فرمى واقد بن عبد اللَّه [التميمي] عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وشدّ المسلمون عليهم فأسروا عثمان بن عبد اللَّه بن المغيرة، والحكم بن كيسان، أسره المقداد بن عمرو،(6/17)
وأعجز القوم نوفل بن عبد اللَّه بن المغيرة، عند من يقول إنه كان معهم، ومن قال إن نوفلا لم يكن معهم جعل الهارب المغيرة.
وحاز المسلمون العير، وعزل عبد اللَّه بن جحش لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خمس تلك الغنيمة، وقسّم سائرها بين أصحابه، فكان أوّل خمس خمّس في الإسلام، وأوّل غنيمة، وأول قتيل بأيدي المسلمين عمرو بن الحضرمي، وأوّل أسير كان في الإسلام عثمان بن عبد اللَّه، والحكم بن كيسان.
وذلك قبل أن [يفرض الخمس من المغانم، فلما أحل اللَّه تعالى الفيء بعد ذلك وأمر بقسمه وفرض الخمس فيه] وقع على ما كان صنع عبد اللَّه بن جحش في تلك العير، وقال بعضهم: بل قدموا بالغنيمة كلها. وروى الطبراني بسند حسن عن زرّ [بن جيش] رضي اللَّه تعالى عنه قال: أول مال خمّس في الإسلام مال عبد اللَّه بن جحش.
ثم سار عبد اللَّه بالعير والأسيرين إلى المدينة، فلما قدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام» . فأوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا. ويقال أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أوقف غنائم، أهل نخلة حتى رجع من بدر فقسمها مع غنائم أهل بدر، وأعطى كل قوم حقهم. فلما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ذلك سقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا وعنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا.
وقالت قريش: «قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدماء، وأخذوا فيه الأموال، وأسروا فيه الرجال» . فقال: «من يرد عليهم من المسلمين ممن كان بمكة، إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان» ؟ وقال يهود تفاءل بذلك على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد اللَّه: عمرو، عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد بن عبد اللَّه، وقدت الحرب» .
فجعل اللَّه تعالى ذلك عليهم لا لهم. فلما أكثر الناس في ذلك أنزل اللَّه تعالى على رسوله صلى اللَّه عليه وسلم: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة 217] . أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدّوكم عن سبيل اللَّه مع الكفر به وعن المسجد الحرام وإخراجكم منه وأنتم أهله أكبر عند اللَّه من قتل من قتلتم منهم. وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وقد كانوا يفتنون المسلم في دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند اللَّه من القتل. فلما نزل القرآن بهذا الأمر، وفرّج اللَّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشّفق قبض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الغنيمة أو خمسها والأسيرين.(6/18)
وبعث إليه قريش في فداء الأسيرين
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا نفديكموها حتى يقدم صاحبانا- يعني سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان- فإنا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم» .
فقدم سعد وعتبة، فأفدى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الأسيرين عند ذلك بأربعين أوقية كل أسير، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه وأقام عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا. وأما عثمان بن عبد اللَّه فلحق بمكة فمات كافرا.
فلما تجلّى عن عبد اللَّه بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا: «يا رسول اللَّه أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين» ؟ فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة 218] فوضعهم اللَّه تعالى من ذلك على أعظم الرجاء.
تنبيهات
الأول: في هذه الغزوة سمي عبد اللَّه بن جحش أمير المؤمنين كما ذكره ابن سعد، والقطب وجزم أبو نعيم بأنه أول أمير أمّره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ويؤيده ما سبق عن سعد [بن أبي وقاص] في الباب قبله.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
بطن نخلة.
الأديم: بوزن عظيم الجلد.
خولاني: بفتح الخاء المعجمة.
أنشر كتابي: افتحه.
النّجدية: منسوبة إلى نجد، وهو ما ارتفع من أرض تهامة إلى العراق، وهو مذكّر. يؤمّ:
يقصد.
ركبة: بضم الراء وسكون الكاف وبالموحدة.
ابن عتبة: بضم العين المهملة وسكون الفوقية وبالموحدة.
عكّاشة: بضم العين المهملة وتشديد الكاف أفصح من تخفيفها.
محصن: بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين وبالنون.
البكير بالتصغير.
سهيل: بالتصغير ووقع في بعض نسخ العيون مكبّرا والصواب الأول.(6/19)
تعلّم بمعنى اعلم.
الحجاز ما بين نجد والسّراة.
الفرع: بضم الفاء وسكون الراء وبالعين المهملة من أضخم أعراض المدينة.
بحران، بضم الموحدة وسكون الحاء المهملة وبالراء والنون.
الحضرمي: بالحاء المهملة والضاد المعجمة.
واف: أشرف.
واقد: بالقاف والدال المهملة بلفظ اسم الفاعل.
كيسان: بفتح الكاف وسكون التحتية وبالسين المهملة وبالنون.
أمنوا: بفتح أوله وكسر الميم.
أفلت: بفتح الهمزة، القوم بالنصب مفعول أفلت.
نوفل: مرفوع فاعل.
عمّار: بضم العين المهملة وتشديد الميم.
سقط في أيديهم: بالبناء للمفعول، أي ندموا، يقال ذلك لكل من ندم.
وقال يهود تفاءل بذلك: بالفوقية المفتوحة وحذفت التاء الثانية، وبالفاء والهمزة من الفأل.
عمّرت الحرب: بضم العين المهملة وكسر الميم [المشددة وبالراء والتاء المفتوحة تاء الخطاب] . واللَّه تعالى أعلم.(6/20)
الباب التاسع في بعث عمير بن عدي الخطمي رضي اللَّه تعالى عنه لخمس ليال بقين من رمضان من السنة الثانية إلى عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد، زوجة يزيد بن زيد بن حصن الخطمي، وكانت تعيب الإسلام وتؤذي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتحرض عليه وتعيب الإسلام وتقول الشعر
وكانت تطرح المحايض في مسجد بني خطمة. فأهدر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم دمها فنذر عمير بن عدي لئن رجع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من بدر إلى المدينة ليقتلنّها فلما رجع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من بدر، جاء عمير ليلا حتى دخل عليها بيتها، وحولها نفر من ولدها نيام، منهم من ترضعه في صدرها، فجسّها بيده وكان ضرير البصر، فنحّى الصّبيّ عنها، ووضع سيفه على صدرها حتى أنفذه من ظهرها.
وروى ابن عساكر في ترجمة أحمد بن أحمد البلخي، من تاريخه عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: «ألا رجل يكفنا هذه» . فقال رجل من قومها: أنا، فأتاها وكانت تمّارة. فقال لها: أعندك أجود من هذا التّمر؟ قالت: نعم، «فدخلت إلى بيت لها، وانكبّت لتأخذ شيئا فالتفتّ يمينا وشمالا فلم أر أحدا فضربت رأسها حتى قتلتها» . انتهى.
ثم أتى المسجد فصلّى الصبح مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فلما انصرف نظر إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال: «أقتلت ابنة مروان؟» قال: نعم فهل عليّ في ذلك شيء؟ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا ينتطح فيها عنزان» فكانت هذه الكلمة أول ما سمعت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لأصحابه: «إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر اللَّه عز وجل ورسوله فانظروا إلى عمير بن عدي» . فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: «انظروا إلى هذا الأعمى الذي يسري في طاعة اللَّه تعالى» . فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا تقل الأعمى ولكن البصير» .
فسمّى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عميرا البصير. فلما رجع عمير وجد بنيها في جماعة يدفنونها. فقالوا: يا عمير أنت قتلتها؟ قال: «نعم، فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون، فو الذي نفسي بيده لو قلتم بأجمعكم ما قالت لضربتكم بسيفي هذا حتى أموت أو أقتلكم» . فيومئذ ظهر الإسلام في بني خطمة وكان يستخفي بإسلامه فيهم من أسلم فكان أول من أسلم من بني خطمة عمير بن عدي، وهو الذي يدعى القارئ.(6/21)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الخطميّ: بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء المهملة [وبالميم وياء النسب] .
عصماء: بفتح العين وسكون الصاد المهملتين.
جسّها: لمسها بيده.
تمّارة: أي تبيع التمر.
لا ينتطح فيها عنزان: [لا يعارض فيها معارض] يعني أن قتلها هيّن.(6/22)
الباب العاشر في بعثة صلّى اللَّه عليه وسلم سالم بن عمير رضي اللَّه تعالى عنه في شوال من السنة الثانية إلى أبي عفك اليهودي من بني عمرو بن عوف وكان شيخا كبيرا قد بلغ مائة وعشرين سنة
وكان يحرّض على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويقول الشعر
فقال رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم: «من لي بهذا الخبيث»
[ (1) ] . فقال سالم بن عمير، وكان قد شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأحد البكائين وتوفي في خلافة معاوية: «عليّ نذر أن أقتل أبا عفك أو أموت دونه» .
فأمهل يطلب له غرّة. فلما كانت ليلة صائفة نام أبو عفك بفناء منزله وعلم به سالم بن عمير، فأقبل ووضع السيف على كبده ثم اعتمد عليه حتى خشّ في الفراش وصاح عدو اللَّه فثاب إليه ناس ممن نجم نفاقهم وهم على قوله، فأدخلوه منزله وقبروه، فقالت أمامة المريديّة في ذلك:
تكذّب دين اللَّه والمرء أحمدا ... لعمر الذي أمناك أن بئس ما يمني
حباك حنيف آخر اللّيل طعنة ... أبا عفك خذها على كبر السّنّ
تنبيهات
الأول: ذكر هذه القصة محمد بن عمر وابن سعد، وتبعهما في المورد والإمتاع بعد التي قبلها. وقدّمها ابن إسحاق وأبو الربيع.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
أبو عفك: بفتح العين المهملة والفاء الخفيفة وبالكاف، يقال رجل أعفك بيّن العفك أي أحمق.
أحد البكّائين: تقدّم الكلام عليهم في أوائل غزوة تبوك.
الغرّة: بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء المفتوحة: الغفلة.
بفناء المنزل: بكسر الفاء وبالنون والمدّ، ما امتدّ من جوانبه.
صائفة: حارّة.
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 5/ 221.(6/23)
خشّ في الفراش: دخل فيه.
ثاب: بالثاء المثلثة وبالباء الموحدة: أي اجتمع.
نجم: بفتح النون والجيم أي ظهر وطلع.
أمامة: بضم أوله ويقال فيه أسامة.
المريدية: بضم الميم وكسر الراء كذا في التبصير تبعا للذهبي، وقال في الأنساب بفتحها، وعليه جرى ابن الأثير، وبسكون التحتية وبالدال المهملة بعدها تحتية مشدّدة، بطن من بليّ.
لعمر زيد: أي وحياته.
حباك: بفتح المهملة والموحدة أي أعطاك.
حنيف: مسلم.
على كبر السّنّ: تقدم أنه بلغ مائة وعشرين سنة.(6/24)
الباب الحادي عشر في سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه إلى كعب بن الأشرف وذلك لأربع عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول في السنة الثالثة
كان كعب يهوديّا.
قال ابن عقبة هو من بني النضير، يكنى أبا نائلة. وقال ابن إسحاق وأبو عمر هو من بني نبهان من طىء، وأمه من بني النضير. وكان شاعرا يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويهجو الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ويحرّض عليهم الكفّار.
وروى ابن سعد عن الزهري في قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً [آل عمران 186] قال هو كعب بن الأشرف فإنه كان يحرّض المشركين على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه يعني في شعره يهجو النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأصحابه.
ولما قدم زيد بن حارثة وعبد اللَّه بن رواحة بالبشارة من بدر بقتل المشركين وأسر من أسر منهم، قال كعب: «أحقّ هذا؟ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمّي هذان الرجلان؟ - يعني زيدا وعبد اللَّه بن رواحة- فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، واللَّه لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها» . فلما تيقّن عدوّ اللَّه الخبر، ورأى الأسرى مقرّنين كبت وذل ثم قال لقومه: «ما عندكم؟» قالوا: «عداوته ما حيينا» . قال: «وما أنتم وقد وطئ قومه وأصابهم. ولكن أخرج إلى قريش فأحرضها وأبكي قتلاها لعلهم ينتدبون فأخرج معهم» . فخرج حتى قدم مكة، فوضع رحله عند المطلب بن أبي وداعة [بن ضبيرة] السّهمي، وعنده عاتكة بنت أسيد بن أبي العيص، وأسلمت هي وزوجها بعد ذلك. فأنزلته وأكرمته، وجعل يحرّض على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر.
قال محمد بن عمر رضي اللَّه تعالى عنه: ودعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حسان بن ثابت وأخبره بنزول كعب على من نزل عليه فقال حسّان:
ألا أبلغن عنّي أسيدا رسالة ... فخالك عبد بالشراب مجرّب
لعمرك ما أوفى أسيد لجاره ... ولا خالد وابن المفاضة زينب
وعتّاب عبد غير موف بذمّة ... كذوب شئون الرّأس قرد مدرّب(6/25)
وذكر ابن عائذ أن كعبا حالف قريشا عند أستار الكعبة على قتال المسلمين. وروي عن عروة أن قريشا قالت لكعب: أديننا أهدى أم دين محمد؟ قال: دينكم.
فلما بلغها هجاؤه نبذت رحله وقالت: ما لنا ولهذا اليهودي ألا ترى ما يصنع بنا حسّان؟
فتحوّل، فكلما تحول عند قوم دعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حسّانا فقال: «ابن الأشرف نزل على فلان» .
فلا يزال يهجوهم حتى ينبذ رحله. فلما لم يجد مأوى قدم المدينة. انتهى.
قال ابن إسحاق: ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبّب بنساء المسلمين حتى آذاهم.
وروى عبد اللَّه بن إسحاق الخراساني في فموائده عن عكرمة أن كعبا صنع طعاما وواطأ جماعة من اليهود أن يدعو النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى وليمة، فإذا حضر فتكوا به. ثم دعاه فجاء ومعه بعض أصحابه. فأعلمه جبرئيل عليه السلام بما أضمروه فرجع فلما فقدوه تفرّقوا. انتهى.
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «اللهم اكفني بن الأشرف بما شئت في إعلانه الشّرّ» [ (1) ] .
وقال صلى اللَّه عليه وسلم، كما في الصحيح: «من لي بكعب بن الأشرف فقد آذى اللَّه ورسوله» [ (2) ] .
وفي رواية: «فقد آذانا بشعره وقوّى المشركين علينا» . فقال محمد بن مسلمة: أنا لك به يا رسول اللَّه، أنا أقتله. قال: «أنت له فافعل إن قدرت على ذلك» .
[وفي رواية عروة عند ابن عائذ فسكت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فإن قلت (بهذا) احتمل أن يكون سكت أولا ثم أذن] . فرجع محمد بن مسلمة، فمكث ثلاثا لا يأكل ولا يشرب إلا ما تعلق به نفسه. فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فدعاه فقال له: «لم تركت الطعام والشراب؟» فقال: يا رسول اللَّه قلت لك قولا لا أدري هل أفينّ لك به أم لا. فقال: «إنما عليك الجهد» .
وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «شاور سعد بن معاذ في أمره» فشاوره فقال له: توجّه إليه واذكر له الحاجة وسله أن يسلفكم طعاما.
فاجتمع [في قتله] محمد بن مسلمة، وعباد بن بشر، وأبو نائلة سلكان بن سلامة، والحارث بن أوس بن معاذ، بعثه عمّه سعد بن معاذ، وأبو عبس بن جبر، فقالوا: «يا رسول اللَّه نحن نقتله فأذن لنا فلنقل شيئا فإنه لا بدّ لنا من أن نقول:» . فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «قولوا ما بدا لكم فأنتم في حلّ من ذلك» .
فخرج أبو نائلة كما قال جلّ أئمة المغازي وكان أخا كعب من الرّضاعة. وفي الصحيح خرج إليه محمد بن مسلمة.
فلما رآه كعب أنكر شأنه وذعر منه. فقال أبو نائلة أو محمد بن مسلمة: حدثت حاجة.
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 3/ 191.
[ (2) ] أخرجه البخاري 7/ 390 (4037) ومسلم في كتاب الجهاد (119) وأبو داود (2768) .(6/26)
فقال كعب وهو في نادي قومه وجماعتهم: ادن إليّ فخبّرني بحاجتك. فتحدثنا ساعة، وأبو نائلة أو محمد بن مسلمة يناشده الشعر. فقال كعب: ما حاجتك، لعلك تحب أن تقوم من عندنا. فلما سمع القوم قاموا.
فقال محمد بن مسلمة أو أبو نائلة: «إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، ونحن لا نجد ما نأكل، وإنه قد عنّانا» . قال كعب: «وأيضا واللَّه لتملّنّه» . وفي غير الصحيح: فقال أبو نائلة: «إني قد جئتك في حاجة أريد أن أذكرها لك فاكتم عنّي» . قال: «أفعل» . قال: «كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل، حتى ضاع العيال وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا» . فقال كعب بن الأشرف: «أما واللَّه لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول، ولكن اصدقني ما الذي تريدون من أمره؟» قال: «خذلانه والتنحي عنه» .
قال: «سررتني ألم يأن لكم أن تعرفوا ما عليه من الباطل؟» . فقال له أبو نائلة أو محمد بن مسلمة: «معي رجال من أصحابي على مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك تمرا وطعاما وتحسن إلينا، ونرهنك ما يكون ذلك فيه ثقة» . وفي صحيح مسلم [ (1) ] : «وواعده أن يأتيه بالحارث وأبي عبس بن جبر، وعبّاد بن بشر. قال [كعب] : «أما واللَّه ما كنت أحب يا أبا نائلة أن أرى بك هذه الخصامة وإن كنت من أكرم الناس، على ماذا ترهنوني؟ [أترهنوني] أبناءكم؟» قال: «إنا نستحي أن يعيّر أبناؤنا فيقال، هذا رهينة وسق، وهذا رهينة وسقين» . قال:
«فارهنوني نساءكم» . قال: «لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا، أنت أجمل الناس ولا نأمنك، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك، ولكنا نرهنك من السلاح والحلقة ما ترضى به، ولقد علمت حاجتنا إلى السلاح اليوم» . قال كعب: «أن في السلاح لوفاء» . وأراد أبو نائلة ألّا ينكر السلاح إذا جاءوا به. فسكن إلى قوله وقال: «جيء به متى شئت» .
فرجع أبو نائلة من عنده على ميعاد. فأتى أصحابه فأخبرهم، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده. ثم أتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عشاء فأخبروه فمشى [معهم] .
وروى ابن إسحاق والإمام أحمد بسند صحيح عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مشى معهم إلى بقيع الفرقد، ثم وجّههم وقال: «انطلقوا على اسم اللَّه، اللهم أعنهم» وعند ابن سعد: «امضوا على بركة اللَّه وعونه» .
ثم رجع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى بيته في ليلة مقمرة مثل النهار، ليلة أربع عشرة من شهر ربيع الأول.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم في الموضع السابق في باب قتل كعب بن الأشرف.(6/27)
فمضوا حتى انتهوا إلى حصن ابن الأشرف. وفي الصحيح: فقال محمد بن مسلمة- وفي كتب المغازي أبو نائلة- لأصحابه: «إذا ما رآكم كعب فإني قائل بشعره فأسمّه فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فاضربوه» .
فهتف أبو نائلة، وكان ابن الأشرف حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفة، فأخذت امرأته بناحيتها وقالت: «إنك امرؤ محارب وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة» .
فقال: «إنه ميعاد عليّ وإنما هو أخي أبو نائلة لو وجدني نائما لما أيقظني» . فقالت: «واللَّه إني لأعرف في صوته الشّرّ» . فكلّمهم من فوق البيت. وفي رواية: «أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدّم» .
قال: فقال لها كعب: «إن الكريم لو دعي إلى طعنة ليلا لأجاب» . ثم نزل إليهم متوشحا بملحفة وهو ينفح منه ريح الطيب. فجاءهم ثم جلس فتحدث معهم ساعة حتى انبسط إليهم.
فقالوا: «هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه؟» فقال: «إن شئتم» . فخرجوا يتماشون فمشوا ساعة. فقال أبو نائلة: «نجد منك ريح الطّيب» .
قال: «نعم تحتي فلانة من أعطر نساء العرب» . قال: أفتأذن لي أن أشم [رأسك] ؟» قال: نعم.
فأدخل أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شمّ يده فقال: «ما رأيت كالليلة طيبا أعطر قط» .
وإنما كان كعب يدهن بالمسك الفتيت بالماء والعنبر حتى يتلبّد في صدغيه وكان جعدا جميلا. ثم مشى أبو نائلة ساعة ثم عاد لمثلها [حتى اطمأن إليه وسلسلت يده في شعره] فأخذ بقرون رأسه وقال لأصحابه: «اضربوا عدوّ اللَّه» . فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئا وردّ بعضها بعضا. ولصق بأبي نائلة. قال محمد بن مسلمة: «فذكرت مغولا كان في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئا، فأخذته وقد صاح عدو اللَّه عند أول ضربة صيحة لم يبق حولنا حصن من حصون يهود إلا أوقدت عليه نار» . قال: «فوضعته في ثنّته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته فوقع عدو اللَّه» .
وعند ابن سعد: فطعنه أبو عبس في خاصرته وعلاه محمد بن مسلمة [بالسيف] وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ فجرح في رجله، أصابه بعض أسياف القوم. فلما فرغوا حزّوا رأس كعب ثم خرجوا يتستّرون، وهم يخافون من يهود، الإرصاد حتى سلكوا على بني أمية بن زيد، ثم على قريظة، وإن نيرانهم في الحصون لعالية، ثم على بعاث، حتى إذا كانوا بحرّة العريض تخلّف الحارث فأبطأ عليهم فناداهم: «أقرئوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مني السلام» . فعطفوا عليه فاحتملوه حتى أتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فلما بلغوا بقيع الفرقد كبّروا.
وقد قام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم تلك الليلة يصلّي، فلما سمع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم تكبيرهم بالبقيع(6/28)
كبّر وعرف أن قد قتلوه. ثم أتوه يعدون حتى وجدوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم واقفا على باب المسجد.
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أفلحت الوجوه» . فقالوا: «ووجهك يا رسول اللَّه» ورموا برأسه بين يديه. فحمد اللَّه تعالى على قتله. ثم أتوا بصاحبهم الحارث، فتفل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على جرحه فلم يؤذه، فرجعوا إلى منازلهم.
فلما أصبح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: «من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه» [ (1) ] .
فخافت اليهود، فلم يطلع عظيم من عظمائهم وخافوا أن يبيّتوا كما بيّت ابن الأشرف.
وعند ابن سعد: فأصبحت اليهود مذعورين فجاؤوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا: قتل سيدنا غيلة، فذكّرهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صنيعة، وما كان يحضّ عليهم ويحرّض في قتالهم ويؤذيهم.
ثم دعاهم إلى أن يكتبوا بينه وبينهم صلحا [أحسبه] . فكان ذلك الكتاب مع علي رضي اللَّه تعالى عنه بعد.
تنبيهات
الأول: قال العلماء ورحمهم اللَّه تعالى «في حديث كعب بن الأشرف دليل على جواز قتل من سبّ سيدنا محمد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أو انتقصه أو آذاه، سواء أكان بعهد أم بغير عهد، ولا يجوز أن يقال إن هذا كان غدرا وقد قال ذلك رجل كان في مجلس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه، فضرب عنقه. وإنما يكون الغدر بعد أمان، وهذا نقض العهد، وهجا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وسبّه. وقد كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عاهده ألّا يعين عليه أحدا، فنقض كعب العهد، ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ولا رفقته بحال، وإنما كلمه في أمر البيع والرهن إلى أن تمكّن منه.
الثاني: وقع في صحيح مسلم في قول كعب بن الأشرف: «إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعه وأبو نائلة» [ (2) ] . قال القاضي [عياض] قال لنا شيخنا القاضي الشهيد: صوابه أن يقول: «إنما هذا محمد بن مسلمة ورضيعة أبو نائلة» أي بإسقاط الواو، كذا ذكر أهل السّير أن أبا نائلة كان رضيعا لمحمد بن مسلمة» . ووقع في صحيح البخاري: «ورضيعي أبو نائلة» [ (3) ] .
قال: «وهذا له عندي وجه إن صحّ أنه كان رضيعا لكعب.
الثالث: وقع في الصحيح أن الذي خاطب كعبا هو محمد بن مسلمة وجلّ أهل المغازي على أنه أبو نائلة وأومأ الدمياطي إلى ترجيحه، قال الحافظ: ويحتمل بجمع أن يكون
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي 3/ 256 والحاكم 3/ 434 وعبد الرزاق (5382) وانظر البداية والنهاية 4/ 139.
[ (2) ] أخرجه مسلم في باب قتل كعب بن الأشرف في الموضع السابق.
[ (3) ] في البخاري في كتاب المغازي باب قتل كعب بن الأشرف (4037) .(6/29)
كل منهما كلّمه في ذلك لأن أبا نائلة أخوه من الرضاعة، ومحمد بن مسلمة هو ابن أخت كعب كما رواه عبد اللَّه بن إسحاق الخراساني في فوائده.
الرابع: وقع في الصحيح عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار أن محمد بن مسلمة جاء معه برجلين، قال سفيان. وقال غير عمرو: وأبو عبس بن جبر، والحارث بن أوس، وعبّاد بن بشر. قال الحافظ: فعلى هذا كانوا خمسة وهو أولى من رواية من روى أنهم كانوا ثلاثة فقط ويمكن الجمع بأنهم كانوا مرة ثلاثة وفي أخرى خمسة.
الخامس: في بيان غريب ما سبق:
الأشرف: بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وفتح الراء وبالفاء.
النّضير: بالضاد المعجمة وزن عليم.
نائلة: بنون وبعد الألف تحتية.
طيّء: بفتح الطاء وتشديد التحتية وآخر همزة.
اليقين: العلم وزوال الشّكّ.
مقرونين: مجعولين قرنا بالشّدّ والإثبات، يقال قرّنهما تقرينا أي جعلهما قرنين.
كبت: بضم أوله وكسر الموحدة: أذلّة اللَّه وصرفه عن مراده.
أبو وداعة: اسمه الحارث بن صبيرة بضم الصاد المهملة.
السّهمي: بفتح السين المهملة وسكون الهاء.
العيص: بكسر العين المهملة وسكون التحتية وبالصاد المهملة، واد من ناحية ذي المروة على أربع ليال من المدينة.
القليب: البئر.
فشبّب بنساء المسلمين: تقوّل فيهن وذكرهنّ بسوء.
من لكعب؟: أي من الذي ينتدب لقتله؟.
يتعلق به نفسه: مأخوذ من العلقة والعلاق أي بلغة من الطعام إلى وقت الغذاء يعني ما يسدّ به رمقه من الغذاء ... ذكر ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالبناء للمفعول. الجهد: بفتح الجيم وضمها: الطاقة.
عبّاد: بفتح العين المهملة وتشديد الموحدة.
ابن بشر: بكسر الموحدة وسكون الشين المعجمة.(6/30)
سلكان: بكسر السين المهملة وإسكان اللام.
أبو عبس: بفتح العين المهملة وبعد الموحدة الساكنة سين مهملة واسمه: عبد الرحمن ابن جبر، بفتح الجيم وسكون الموحدة والجبر ضد الكسر.
من أن نقول: حقّه أن يقول، يريد نفتعل قولا نحتال به، قال السهيلي: يعني الكذب أباحه له لأنه من خدع الحرب.
ما بدا لكم، بلا همز. أي ظهر.
عنّانا: بمهملة وتشديد النون الأولى من العناء وهو التعب.
وأيضا: أي وزيادة على ذلك وقد فسّره بقوله ولتملّنّه: بفتح الفوقية والميم وتشديد اللام من الملال وهو السآمة.
الوسق: بفتح الواو وكسرها.
ارهنوني: ادفعوا إليّ شيئا يكون رهنا على الشيء الذي تريدونه.
نرهنك: بفتح أوله وثالثه من الثلاثي، ويجوز من الرباعي نرهنك فيضم أوله ويكسر ثالثه.
قائل: باللام.
بشعره: بفتحتين من إطلاق القول على الفعل.
هتف: صاح.
محارب: بفتح الراء وكسرها.
ينفح: بالفاء والحاء المهملة.
المغول: بميم مكسورة فغين معجمة ساكنة فواو مفتوحة قال في الإملاء.
الحلقة: السلاح كله وأصله في الدّرع، ثم سمّي السلاح كله حلقة.
الّلأمة: بتشديد اللام وسكون الهمزة. قال ابن عيينة كما في الصحيح: يعني السلاح، وقال أهل اللغة الدّرع.
بعاث: بضم الموحدة وبالعين المهملة وبثاء مثلثة.
العريض: بعين مهملة فتحتية فضاد معجمة تصغير عرض اسم واد شاميّ بالحرّة الشرقية قرب قناة أبطا بفتح همز أوله وآخره.(6/31)
الباب الثاني عشر في سرية زيد بن حارثة رضي اللَّه تعالى عنه إلى القردة في أول جمادى الآخرة سنة ثلاث
وهي أول سرية خرج فيه زيد أميرا. وسببها أن قريشا لما كانت وقعة بدر خافوا طريقهم الذي كانوا يسلكونه إلى الشام، فسلكوا طريق العراق. فخرج منهم تجّار فيهم أبو سفيان بن حرب، ومعه فضّة كثيرة، وهي عظم تجارتهم، وخرج صفوان بن أمية بمال كثير نقر فضّة وآنية فضّة وزن ثلاثين ألف درهم، وأرسل معه أبو زمعة ثلاثمائة مثقال ذهب ونقر فضّة، وبعث معه رجال من قريش ببضائع، وخرج معه عبد الله بن أبي ربيعة، وحويطب بن عبد العزى في رجال من قريش. واستأجروا فرات بن حيان. قال ابن إسحاق: من بني بكر بن وائل. وقال محمد بن عمر، وابن سعد، وابن هشام: من بني عجل وزاد ابن هشام حليف لبني سهم.
فخرج بهم على طريق ذات عرق. فبلغ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أمرهم، فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب فاعترضوا لها بالقردة، فأصابوا العير، وأفلت أعيان القوم، وأسروا رجلين أو ثلاثة، وقدموا بالعير على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فخمسّها، فبلغ الخمس قيمة عشرين ألف درهم، وقسّم الباقي على أهل السرية. وكان في الأسارى فرات بن حيان، وكان أسر يوم بدر، فأفلت على قدميه، فكان الناس عليه أحنق شيء. وكان الذي بينه وبين أبي بكر حسنا، فقال له: «أما آن لك أن تقصير؟. قال: «إن أفلتّ من محمد هذه المرّة لم أفلت أبدا» . فقال له أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه: «فأسلم» . فأتى به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه فأسلم فتركه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
تنبيهان
الأول: ذكر ابن إسحاق هذه السرية قبل سرية كعب بن الأشرف، وذكرها محمد بن عمر، وابن سعد، والقطب بعدها.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
حارثة: بالحاء المهملة والثاء المثلثة.
القردة كسجدة بالقاف ويقال بالفاء، ماء من مياه نجد.
تجار: بكسر الفوقية وتخفيف الجيم، وبضم الفوقية وتشديد الجيم.
عظم تجارتهم: بضم العين المهملة وإسكان الظاء المعجمة المشالة أي أكثرها.(6/32)
نقر فضّة: جمع نقرة بنون مضمومة فقاف ساكنة فراء: القطعة المذابة من الذهب أو الفضة.
حويطب: بضم الحاء المهملة وفتح الواو وسكون التحتية وكسر الطاء المهملة وبالموحدة.
فرات: بضم الفاء وبالفوقية.
ابن حيّان: بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية.
وأيل: بكسر التحتية.
حليف: معاهد.
سهم: بلفظ واحد السهام.
ذات عرق: بكسر العين المهملة وسكون الراء وبالقاف.
أفلت: بالبناء للفاعل.(6/33)
الباب الثالث عشر في سرية أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد رضي اللَّه تعالى عنه إلى قطن في أول المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
وسببها إن رجلا من طيء اسمه الوليد بن زهير بن طريف قدم المدينة زائرا ابنة أخيه زينب، وكانت تحت طليب بن عمير بن وهب، فأخبر أن طليحة، وسلمة ابني خويلد تركهما قد سارا في قومهما ومن أطاعهما يدعوانهم لحرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فنهاهم قيس بن الحارث بن عمير. فقال: «يا قوم واللَّه ما هذا برأي، ما لنا قبلهم وتر، وما هم نهبة لمنتهب [إن دارنا لعبيدة من يثرب، وما لنا جمع كجمع قريش، مكثت قريش دهرا تسير في العرب تستنصرها، ولهم وتر يطلبونه، ثم ساروا قد امتطوا الإبل وقادوا الخيل وحملوا السلاح مع العدد الكثير، ثلاثة آلاف مقاتل سوى أتباعهم] وإنما جهدكم أن تخرجوا في ثلاثمائة رجل إن كملوا فتفرّون بأنفسكم وتخرجون من بلادكم [ولا آمن من أن تكون الدّبرة عليكم] فعصوه.
فلما بلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم دعا أبا سلمة رضي اللَّه تعالى عنه وقال: «أخرج في هذه السرية فقد استعملتك عليها» . وعقد له لواء، وقال: «سر حتى ترد أرض بني أسد بن خزيمة، فأغر عليهم قبل أن تلاقى عليكم جموعهم» .
وأوصاه بتقوى اللَّه تعالى وبمن معه من المسلمين خيرا. فخرج معه في تلك السرية خمسون ومائة رجل، ومعه الرجل الطائي دليلا، فأغذّ السير ونكب بهم عن سنن الطريق، وسار بهم ليلا ونهارا فسبقوا الأخبار وانتهوا إلى ذي قطن: ماء من مياه بني أسد وهو الذي كان عليه جمعهم. فأغاروا على سرح لهم فضمّوه وأخذوا رعاء لهم مماليك ثلاثة وأفلت سائرهم. فجاؤوا جمعهم فأخبروهم الخبر وحذروهم جمع أبي سلمة، وكثّروه عندهم، فتفرّق الجمع في كل وجه، وورد أبو سلمة الماء، فوجد الجمع قد تفرّق. فعسكر وفرّق أصحابه في طلب النّعم والشّاء. فجعلهم ثلاث فرق. فرقة أقامت معه وفرقتان أغارتا في ناحيتين شتى وأوعز إليهما ألا يمعنوا في الطلب وألا يبيّتوا إلا عنده إن سلموا، وأمرهم ألا يفترقوا واستعمل على كل فرقة عاملا منهم فآبوا إليه جميعا سالمين قد أصابوا إبلا وشاء ولم يلقوا أحدا. فانحدر أبو سلمة بذلك كله راجعا إلى المدينة ورجع معه الطائي.
فلما ساروا ليلة قسّم أبو سلمة الغنائم وأخرج صفيّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عبدا وأخرج الخمس وأعطى الطائي الدليل رضاه من المغنم ثم قسم ما بقي بين أصحابه فأصاب كل إنسان سبعة أبعرة، وقدم بذلك إلى المدينة ولم يلق كيدا. وذكر أبو عمر، وأبو عبيدة أن مسعود بن عروة قتل في هذه السرية.(6/34)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
عبد الأسد: بسين مهملة. قطن: بفتح القاف والطاء المهملة وبالنون جبل أو ماء بنجد.
فيد: بفتح الفاء وسكون التحتية وبالدال المهملة.
طليب: بضم الطاء المهملة وفتح اللام وسكون التحتية وبالموحدة، وأبوه عمير بوزنه وعين وراء مهملتين.
طليحة: بالتصغير وأسلم بعد ذلك.
وسلمة: لم يسلم.
قيس بن الحارث: لا أعلم له إسلاما.
عميرة: بفتح العين المهملة وكسر الميم.
الوتر: بكسر الواو وسكون الفوقية: الجناية التي يجنيها الرجل على غيره من قتل أو نهب أو سبي.
النّهبة: بضم النون وسكون الهاء وبالموحدة وتاء التأنيث والنّهبى بألف التأنيث المقصورة اسم للمنهوب.
أغذّ السّير: بفتح الهمزة والغين والذال المشدّدة المعجمتين أي أسرع.
نكب عن الطريق بالنون والكاف المخففة وزن نصر وفرح نكبا بالفتح والسكون عدل عنه.
السّنن: هنا بفتح السين المهملة وبضمها وبضم أوله وفتح ثانيه جهة الطريق ونهجه.
السّرح: بفتح السين وسكون الراء وبالحاء المهملات: المال السائم.
أفلت: بالبناء للفاعل.
سائرهم: أي باقيهم.
شتّى: أي متفرقون يقال شتّ الشيء إذا تفرق.(6/35)
الباب الرابع عشر في بعثة صلّى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه بن أنيس بن أسعد الجهني القضاعي الأنصاري السلمي، بفتحتين حليف بني سلمة. من الأنصار، رضي اللَّه تعالى عنه إلى سفيان بن خالد [بن نبيح] بعرنة
روى أبو داود بإسناد حسن، والبيهقي [ (1) ] وأبو نعيم عن عبد اللَّه بن أنيس رضي اللَّه تعالى عنه، ومحمد بن عمر عن شيوخه، والبيهقي وأبو نعيم عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب، وعن عروة قال شيوخ محمد بن عمر: خرج عبد اللَّه بن أنيس من المدينة يوم الاثنين لخمس خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من مهاجر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قالوا- واللفظ لمحمد بن عمر- «بلغ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي ثم اللّحياني، وكان ينزل عرنة وما والاها في أناس من قومه، وغيرهم يريد أن يجمع الجموع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فضوى إليه بشر كثير من أفناء الناس» .
قال عبد اللَّه بن أنيس رضي اللَّه تعالى عنه: «دعاني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: «إنه بلغني أن سفيان بن خالد بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني وهو بنخلة أو بعرنة فأته فاقتله» . فقلت: يا رسول اللَّه صفه لي حتى أعرفه فقال: «آية ما بينك وبينه أنك إذا رأيته هبته وفرقت منه ووجدت له قشعريرة وذكرت الشيطان» . قال عبد اللَّه وكنت لا أهاب الرجال فقلت: يا رسول اللَّه، ما فرقت من شيء قط. فقال: «بلى آية ما بينك وبينه ذلك أن تجد له قشعريرة إذا رأيته» . قال: واستأذنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن أقول. فقال: «قل ما بدا لك» . وقال: «انتسب لخزاعة» . فأخذت سيفي ولم أزد عليه وخرجت أعتزي لخزاعة حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي ووراءه الأحابيش. فلما رأيته هبته وعرفته بالنعت الذي نعت لي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فقلت: صدق اللَّه ورسوله، وقد دخل وقت العصر حين رأيته، فصليت وأنا أمشي أومي برأسي إيماء. فلما دنوت منه قال: «من الرجل؟» .
فقلت: «رجل من خزاعة سمعت بجمعك لمحمد فجئتك لأكون معك عليه» . قال:
«أجل إني لفي الجمع له» . فمشيت معه وحدّثته فاستحلى حديثي وأنشدته وقلت: «عجبا لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث، فارق الآباء وسفّه أحلامهم» . قال: «لم ألق أحدا يشبهني ولا يحسن قتاله» . وهو يتوكأ على عصا يهدّ الأرض،. حتى انتهى إلى خبائه وتفرّق عنه أصحابه إلى منازل قريبة منه، وهم يطيفون به. فقال: «هلمّ يا أخا خزاعة فدنوت منه. فقال:
«اجلس» فجلست معه حتى إذا هدأ الناس ونام اغتررته.
وفي أكثر الروايات أنه قال: «فمشيت
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في السنن 3/ 256 وفي الدلائل 4/ 42 وابن حبان (591) .(6/36)
معه حتى إذا أمكنني حملت عليه السيف فقتله وأخذت رأسه. ثم أقبلت فصعدت جبلا.
فدخلت غارا وأقبل الطلب من الخيل والرجال تمعج في كل وجه وأنا مكتمن في الغار، وضربت العنكبوت على الغار.
وأقبل رجل معه إداوته ونعله في يده وكنت خائفا. فوضع إداوته ونعله وجلس يبول قريبا من فم الغار، ثم قال لأصحابه: ليس في الغار أحد، فانصرفوا راجعين، وخرجت إلى الإداوة فشربت ما فيها وأخذت النعلين فلبستهما. فكنت أسير الليل وأكمن النهار حتى جئت المدينة،
فوجدت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في المسجد، فلما رآني قال: «أفلح الوجه» . فقلت: وأفلح وجهك يا رسول اللَّه» . فوضعت الرأس بين يديه وأخبرته خبري، فدفع إليّ عصا وقال: «تخصّر بها في الجنة فإن المختصّرين في الجنة قليل» .
فكانت العصا عند عبد اللَّه بن أنيس حتى إذا حضرته الوفاة أوصى أهله أن يدرجوا العصا في أكفانه. ففعلوا ذلك. قال ابن عقبة: فيزعمون أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أخبر بقتل عبد اللَّه بن أنيس، سفيان بن خالد، قبل قدوم عبد اللَّه بن أنيس رضي اللَّه تعالى عنه.
تنبيهان
الأول: تردّد الإمام محب الدين الطبري رحمه اللَّه تعالى في عبد اللَّه بن أنيس قاتل سفيان بن خالد لا معنى له، لأنه هو الجهني بلا تردد، وهو أشهر ذكرا من الخمسة الذين وافقوه في الاسم واسم الأب من الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
أنيس: بضم أوله وفتح النون وسكون التحتية.
الجهني: بضم الجيم وفتح الهاء وبالنون، القضاعي: بضم القاف وبالضاد المعجمة الساقطة وبالعين المهملة، وجهينة في قضاعة.
الحليف: كأمير المحالف.
بنو سلمة: بكسر اللام.
سفيان: بالحركات الثلاث بعدها فاء.
نبيح: بضم النون وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالحاء المهملة.
الهذلي: بضم الهاء وفتح الذال المعجمة.
عرنة: بضم العين المهملة وفتح الراء والنون فتاء تأنيث موضع بقرب عرفة موقف الحجيج.(6/37)
ضوى إليه: بالضاد المعجمة يضوي. الماضي بالفتح والمستقبل بالكسر ضويّا أوى إليه.
أفناء الناس: كأحمال: أخلاطهم، يقال للرجل إذا لم يعرف من أي قبيلة هو: من أفناء القبائل.
نخلة: بفتح النون وسكون الخاء المعجمة وباللام وتاء التأنيث اسم مكان.
الآية: العلامة.
فرقت: بفتح الفاء وكسر الراء فزعت.
القشعريرة: انقباض الجلد واجتماعه.
أن أقول: بسطت الكلام عليه في سرية كعب بن الأشرف.
بدا لك: بلا همز أي ظهر لك.
اعتزى: بالزاي انتمى.
خزاعة: بضم الخاء المعجمة والزاي والعين المهملة: قبيلة كبيرة من العرب.
الأحابيش: أحياء من القارة انضموا إلى بني ليث في محاربتهم قريشا، وتقدم في أحد مبسوطا.
أجل: بالجيم واللام كنعم وزنا ومعنى.
الخباء: بكسر الخاء المعجمة وبالموحدة والمدّ: بيت من بيوت الأعراب، قال أبو عبيد رحمه اللَّه تعالى لا يكون إلا من صوف أو وبر ولا يكون من شعر.
هلمّ: اسم فعل بمعنى الدعاء إلى الشيء كما يقال تعال.
يا أخا خزاعة: يا واحدا منهم.
هدأ الناس: بهمزة مفتوحة في آخره: ناموا وسكنوا.
اغتررته: بالغين المعجمة، أي أخذته في غفلة والغرّة الغفلة.
يمعج: بفتح الفوقية وسكون الميم وفتح العين المهملة وبالجيم، قال في الصحاح المعج سرعة السير.
الإداوة: بكسر أوله المطهرة.
التّخصّر: بفتح الفوقية والخاء المعجمة وتشديد الصاد المهملة الاتكاء على قصب ونحوه.(6/38)
الباب الخامس عشر في سرية الرجيع
كانت في صفر سنة ثلاث. واختلف في سببها وفي عدد رجالها فقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه كما في الصحيح وعروة، وابن عقبة كما رواه البيهقي عنهما أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث عشرة عيونا إلى مكة ليأتوه بخبر قريش وجزم ابن سعد بأنهم عشرة وسمى منهم سبعة:
1- عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح.
2- ومرثد بن أبي مرثد [ (1) ] كنّاز بن [حصين بن يربوع بن طريف الغنوي] .
3- وعبد اللَّه بن طارق [حليف بني ظفر] .
4- وخبيب بن عديّ [ (2) ] [أحد بني جحجبي بن كلفة بن عمرو بن عوف] .
5- وزيد بن الدثنة [ (3) ] [بن معاوية أخو بني بياضة بن عمرو بن زريق] .
6- وخالد بن البكير [ (4) ] [الليثي] .
7- ومعتّب بن عبيد ويقال ابن عوف.
وذكرهم محمد بن عمر رحمه اللَّه تعالى ثم قال: «ويقال كانوا عشرة» . انتهى. والظاهر أن الثلاثة كانوا تبعا فلم يحصل الاعتناء بتسميتهم. وذكر ابن إسحاق أنهم كانوا ستة وهم [من ذكرنا] ما عدا معتّب. وذكر ابن عقبة، وابن إسحاق، ومحمد بن عمر، وابن سعد وغيرهم، ولفظ محمد بن عمر أحسن سياقا.
__________
[ (1) ] (مرثد) بن أبي مرثد الغنوي ... صحابي وأبوه صحابي واسمه كناز- بنون- ثقيلة وزاي- ابن الحصين وهما ممن شهد بدرا
قال ابن إسحاق: استشهد مرثد في صفر سنة ثلاث في غزاة الرجيع وجاءت عنه رواية عند أحمد بن سنان القطان في مسنده والبغوي والحاكم في مستدركه والطبراني في الأوسط من طريق القاسم بن أبي عبد الرحمن السامي عن مرثد بن أبي مرثد وكان بدريا قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «ان سركم أن تقبل منكم صلاتكم فليؤمكم خياركم»
وفي رواية الطبراني: فليؤمكم علماؤكم فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم»
قال ابن عبد البر قال القاسم السامي في حديثه:
حدثني أبو مرثد وهو وهم لأن من يقتل في حياة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لا يدركه القاسم وإنما هو مرسل قلت: الوهم ممن قال عن القاسم حدثني مرثد وإنما الصواب أنه قال عن مرثد كذا عند جمهور من أخرج الحديث المذكور بالعنعنة واللَّه تعالى أعلم قاله الحافظ في الإصابة 6/ 78.
[ (2) ] خبيب بن عدي بن مالك بن عامر بن مجدعة بن جحجي بن عوف بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي شهد بدرا واستشهد في عهد النبي صلّى اللَّه عليه وسلم وذكر القيرواني من حلى العلي أن خبيبا لما قتل جعلوا وجهه إلى غير القبلة فوجدوه مستقبل القبلة فأدركوه مرارا ثم عجزوا فتركوه. الإصابة 2/ 103.
[ (3) ] زيد بن الدثنة- بفتح الدال وكسر المثلثة بعدها نون- ابن معاوية بن عبيد بن عامر بن بياضة الأنصاري البياضي.. شهد بدرا وأحدا وكان في غزوة بئر معونة فأسره المشركون وقتلته قريش بالتنعيم انظر الإصابة 3/ 27.
[ (4) ] خالد بن البكير بن عبد يا ليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن بكر بن ليث بن عبد مناة الليثي.. حليف بن عدي بن كعب مشهور من السابقين وشهد بدرا وهو أحد الإخوة الإصابة 2/ 86.(6/39)
قال نقلا عن شيوخه: «مشت بنو لحيان من هذيل، بعد قتل سفيان [بن خالد] بن نبيح الهذلي إلى عضل والقارة، وهما حيّان، فجعلوا لهم فرائض أن يقدموا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فيكلّموه فيخرج إليهم نفرا من أصحابه يدعونهم إلى الإسلام. قالوا: فنقتل من أردنا ونسير بهم إلى قريش بمكة، فنصيب بهم ثمنا، فإنه ليس شيء أحب إليهم من أن يؤتوا بأحد من أصحاب محمد يمثلون به ويقتلونه بمن قتل منهم ببدر. فقدم سبعة نفر من عضل والقارة [وهما حيّان إلى خزيمة] مقرّين بالإسلام. فقالوا: (يا رسول اللَّه، إن فينا إسلاما فاشيا، فابعث معنا نفرا من أصحابك يقرئوننا القرآن ويفقّهوننا في الإسلام) . فبعث معهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سبعة نفر، وأمّر عليهم مرثد بن أبي مرثد، ويقال عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. قلت وهو الصحيح، فقد رواه البخاري عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه. فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا بالهدّة- وفي رواية بالهدأة بين عسفان ومكة.
قال أبو هريرة وعروة وابن عقبة: فغدروا بهم فنفروا لهم، وفي لفظ، فاستصرخوا عليهم قريبا من مائة رام، وفي رواية في الصحيح في الجهاد: «فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل» .
والجمع واضح بأن تكون المائة الأخرى غير رماة. وذكر أبو معشر في مغازيه أن الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم نزلوا بالرجيع سحرا، فأكلوا تمر عجوة فسقط نواة في الأرض وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون النهار. فجاءت امرأة من هذيل ترعى غنما فرأت النّويّ فأنكرت صغرهن، وقالت هذا تمر يثرب، فصاحت في قومها: «قد أتيتم، فاقتصوا آثارهم حتى نزلوا منزلا فوجدوا فيه نوى تمر تزوّدوه من المدينة فجاءوا في طلبهم فوجدوهم قد ركنوا في الجبل، انتهى. فلم يرع القوم إلا بالرجال بأيديهم السيوف قد غشوهم. فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى فدفد، وفي لفظ قردد، بواد يقال له غران.
وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا: «لكم العهد والميثاق أن نزلتم إلينا ألّا نقتل منكم رجلا، إنّا واللَّه لا نريد قتلكم، إنما نريد أن نصيب منكم شيئا من أهل مكة» . فقال عاصم: «أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم إني أحمي لك اليوم دينك فاحم لحمي، اللهم أخبر عنا رسولك» .
قال إبراهيم بن سعد كما رواه أبو داود الطيالسي: «فاستجاب اللَّه تعالى لعاصم فأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خبره وخبر أصحابه بذلك يوم أصيبوا» . وفي حديث أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه كما في الصحيح: [ (1) ] وأخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوم أصيبوا خبرهم، فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصما في سبعة [في نفر النّبل] . وبقي خبيب، وزيد، وعبد اللَّه بن طارق كما عند ابن
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 437 (4086) .(6/40)
إسحاق. قال ابن إسحاق وغيره: «فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد [بن شهيد] ، وأسلمت بعد ذلك، وكانت قد نذرت حين قتل ابنيها مسافع والجلاس ابني طلحة بن أبي طلحة العبدري، وكان عاصم قتلهما يوم أحد، لئن قدرت على رأس عاصم لتشربنّ الخمر في قحفه، وجعلت لمن جاء به مائة ناقة، فمنعته الدّبر. وفي حديث أبي هريرة في الصحيح: «وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر» ، قال الحافظ: «لعله عقبة بن أبي معيط فإن عاصما قتله صبرا بإذن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، بعد أن انصرفوا من بدر، وكأن قريشا لم تشعر بما جرى لهذيل من منع الدّبر لها من أخذ رأس عاصم، فأرسلت من يأخذه أو عرفوا بذلك ورجوا أن تكون الدّبر تركته فيتمكنوا من أخذه» . انتهى.
فبعث اللَّه عليه مثل الظلة من الدّبر يطير في وجوههم ويلدغهم فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء. انتهى. فلما حالت بينهم وبينه، قالوا دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه، فبعث اللَّه تبارك وتعالى الوادي فاحتمله فذهب به. وكان عاصم رضي اللَّه تعالى عنه قد أعطى اللَّه عهدا ألّا يمس مشركا ولا يمسّه مشرك، فبرّ اللَّه عز وجل قسمه، فلم يروه ولا وصلوا منه إلى شيء.
وكان عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه يقول حين بلغه خبره: «يحفظ اللَّه تبارك وتعالى العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته» . وصعد خبيب وزيد، وعبد اللَّه الجبل، فلم يقدروا عليهم حتى أعطوهم العهد والميثاق، فنزلوا إليهم، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال عبد اللَّه بن طارق: «هذا أول الغدر واللَّه لا أصحبكم إن لي بهؤلاء القتلى أسوة» فجرّروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه، كذا في الصحيح [ (1) ] .
وعند ابن إسحاق. وأما زيد بن الدّثنة وخبيب بن عديّ وعبد اللَّه بن طارق فلانوا ورقّوا ورغبوا في الحياة فأعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظّهران انتزع عبد اللَّه بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبروه بالظّهران، وانطلقوا بزيد وخبيب فباعوهما بمكة، قال والذي باعهما زهير، وجامع الهذليّان. قال ابن هشام باعوهما بأسيرين من هذيل [كانا بمكة] وقال محمد بن عمر: بيع الأول بمثقال ذهبا ويقال بخمسين فريضة، وبيع الثاني بخمسين فريضة ويقال اشترك فيه ناس من قريش ودخلوا بهما في شهر حرام في ذي القعدة فحبسوهما حتى خرجت الأشهر الحرم.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في الموضع السابق.(6/41)
ذكر قتل زيد بن الدثنة رضي اللَّه تعالى عنه
قال ابن إسحاق وابن سعد: فاشترى زيدا صفوان بن أمية، وأسلم بعد ذلك ليقتله بأبيه أمية بن خلف وحبسه عند ناس من بني جمح ويقال عند نسطاس غلامه. فلما انسلخت الأشهر الحرم بعثه صفوان مع غلامه نسطاس إلى التنعيم وأخرجه من الحرم ليقتله، واجتمع رهط من قريش، منهم أبو سفيان بن حرب. فقال أبو سفيان حين قدّم ليقتل: «أنشدك اللَّه يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك؟» قال: «واللَّه ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي» . فقال أبو سفيان: «ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا» . ثم قتله نسطاس، وأسلم بعد ذلك. وذكر ابن عقبة أن زيدا وخبيبا قتلا في يوم واحد وأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سمع يوم قتلا وهو يقول: «وعليكما السلام» .
ذكر قصة قتل خبيب بن عدي رضي اللَّه تعالى عنه وما وقع في ذلك من الآيات
قال أبو هريرة كما في الصحيح [ (1) ] : «فاشترى خبيبا بنو الحارث بن عامر بن نوفل» .
وقال ابن عقبة: «واشترك في ابتياع خبيب، زعموا أبا إهاب بن عزيز، وعكرمة بن أبي جهل، والأخنس بن شريق [ (2) ] ، وعبيدة بن حكيم بن الأوقص، وأمية بن أبي عتبة، وصفوان بن أمية وبنو الحضرمي، وهم أبناء من قتل من المشركين يوم بدر» وقال ابن إسحاق: «فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل، وكان أخا الحارث بن عامر لأمه» . وقال ابن هشام: كان ابن أخته لا ابن أخيه عقبة بن الحارث بن عامر ليقتله بأبيه الحارث. قال أبو هريرة كما في الصحيح: «وكان خبيب بن عدي قتل الحارث يوم بدر» . انتهى. فجلس خبيب في بيت امرأة يقال لها ماويّة مولاة حجير بن أبي إهاب، وأسلمت بعد ذلك فأساؤوا إساءة. فقال لهم: «ما يصنع القوم الكرام هنا بأسيرهم» فأحسنوا إليه بعد.
وروى ابن سعد عن موهب مولى الحارث أنهم جعلوا خبيبا عنده، فكأنه كان زوج ماويّة. قالت ماوية كما عند محمد بن عمر، وموهب كما عند ابن سعد أنهما قالا لخبيب:
«ألك حاجة؟» فقال: «نعم لا تسقوني إلا العذاب ولا تطعموني ما ذبح على النّصب وتخبروني إذا أرادوا قتلى» .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في الموضع السابق (4086) .
[ (2) ] الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزيز بن غيرة بن عوف بن ثقيف الثقفي أبو ثعلبة حليف بني زهرة ... اسمه أبي وإنما لقب الأخنس لأنه رجع ببني زهرة من بدر لما جاءهم الخبر إن أبا سفيان نجا بالعير فقيل: خنس الأخنس ببني زهرة فسمي بذلك ثم أسلم الأخنس فكان من المؤلفة وشهد حنينا ومات في أول خلافة عمر ذكره أبو موسى عن ابن شاهين. الإصابة 1/ 23.(6/42)
وروى البخاري عن بعض بنات الحارث بن عامر، قال خلف في الأطراف: اسمها زينب، وابن إسحاق ومحمد بن عمر عن ماويّة قالت زينب: «ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة، وأنه لموثق في الحديد، وما كان إلا رزقا رزقه اللَّه تعالى خبيبا» .
وقالت ماويّة: «اطلعت عليه من صير الباب وإنه لفي الحديد وإن في يده لقطفا من عنب مثل رأس الرّجل يأكل منه وما أعلم في أرض اللَّه تعالى عنبا يؤكل» . زاد محمد بن عمر:
كان خبيب يتهجّد بالقرآن فكان يسمعه النساء فيبكين ويرفقن عليه.
فلما انسلخت الأشهر الحرم، وأجمعوا على قتله قالت ماوية كما عند محمد بن عمر:
«فأتيته فأخبرته فو اللَّه ما اكترث بذلك» . وقال: «ابعثني بحديدة أستصلح بها» . قالت: «فبعثت إليه بموسى مع أبي حسين بن الحارث» . قال محمد بن عمر: وكانت تحضنه ولم يكن ابنها.
فلما ولّى الغلام قلت: «واللَّه أدرك الرجل ثأره، أيّ شيء صنعت؟ بعثت هذا الغلام بهذه الحديدة، فيقتله ويقول: رجل برجل» . فلما ناوله الحديدة أخذها من يده ثم قال: «لعمرك أما خافت أمك غدري حين بعثتك بهذه الحديدة؟» ثم خلّى سبيله. فقلت: «يا خبيب إنما أمنتك بأمانة اللَّه» فقال خبيب: «ما كنت لأقتله وما نستحلّ في ديننا الغدر» .
وفي الصحيح عن أبي هريرة [ (1) ] : « [فمكث عندهم أسيرا حتى إذا أجمعوا قتله] استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدّ بها فأعارته، قالت فغفلت عن صبي لي حتى أتاه، فوضعه على فخذه، فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني، وفي يده الموسى. فقال:
«أتخشين أن أقتله؟ ما كنت لأفعل ذلك إن شاء اللَّه» . قال الحافظ: والجمع بين الروايتين أنه طلب الموسى من كل منهما، وكان الذي أوصله إليه ابن أحدهما. وأما ابن الذي خشيت عليه حين درج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه، فهذا غير الذي أحضر إليه الحديدة. واللَّه تعالى أعلم.
فأخرجوه في الحديد حتى انتهوا به إلى التنعيم، وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكة. فلم يتخلّف أحد إمّا موتور فهو يريد أن يتشفّى بالنظر من وتره، وإما غير موتور فهو مخالف للإسلام وأهله. فلما انتهوا به إلى التنعيم أمروا بخشبة طويلة فحفروا لها.
فلما انتهوا بخبيب إليها قال: «هل أنتم تاركي فأصلّي ركعتين؟» قالوا: نعم. فركع ركعتين أتمّهما من غير أن يطوّل فيهما. ثم أقبل على القوم فقال: «أما واللَّه لولا أن تظنوا أني إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة» .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (4086) .(6/43)
وذكر ابن عقبة رحمه الله تعالى أنه صلى الركعتين في موضع مسجد التنعيم. قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، كما في الصحيح [ (1) ] : «فكان خبيب رضي الله تعالى عنه أول من سنّ هاتين الركعتين عند القتل» انتهى. ثم قال خبيب: «اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا» . قال معاوية بن أبي سفيان: «لقد حضرت مع أبي سفيان، فلقد رأيتني وإن أبا سفيان ليضجعني إلى الأرض فرقا من دعوة خبيب» . وكانوا يقولون أن الرجل إذا دعي عليه فاضطجع لجنبه زالت عنه. وقال حويطب بن عبد العزّى: وأسلم بعد ذلك: «لقد رأيتني أدخلت إصبعي في أذنيّ وعدوت هاربا فرقا أن أسمع دعاءه» ، وكذلك قال جماعة منهم.
فلما صلى الركعتين جعلوه على الخشبة ثم وجّهوه إلى المدينة وأوثقوه رباطا، ثم قالوا له: «ارجع عن الإسلام نخل سبيلك» . قال: «لا والله ما أحب أني رجعت عن الإسلام وأن لي ما في الأرض جميعا» . قالوا: «أفتحب أن محمدا في مكانك وأنت جالس في بيتك؟» قال: «لا والله ما أحب أن يشاك محمد شوكة وأنا جالس في بيتي» . فجعلوا يقولون: «ارجع يا خبيب» .
فقال: «لا أرجع أبدا» . قالوا: «أما واللات والعزى» لئن لم تفعل لنقتلنّك. فقال: «إن قتلى في الله لقليل» . ثم قال: «اللهم إني لا أرى إلا وجه عدو، الله إنه ليس هنا أحد يبلغ رسولك عني السلام، فبلّغه أنت عني السلام» . فلما رفع على الخشبة استقبل الدعاء. وروى محمد بن عمر عن أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا في أصحابه فأخذته غمية كما كانت تأخذه فلما نزل عليه الوحي سمعناه يقول: «وعليه السلام ورحمة الله وبركاته» . ثم قال: «هذا جبريل يقرئني من خبيب السلام» .
وفي رواية أبي الأسود عن عروة: «فجاء جبرئيل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فأخبره فأخبر أصحابه بذلك» . قال ابن عقبة رحمه اللَّه تعالى: فزعموا أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال ذلك اليوم وهو جالس:
«وعليك السلام، خبيب قتلته قريش» .
ثم دعا المشركون أربعين ولدا ممن قتل آباؤهم ببدر كفّارا، فأعطوا كل غلام رمحا وقالوا:
هذا الذي قتل آباؤكم، فطعنوه برماحهم طعنا خفيفا فاضطرب على الخشبة، فانقلب فصار وجهه إلى الكعبة، فقال: «الحمد للَّه الذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه» ثم قتلوه رحمه اللَّه تعالى.
وفي حديث أبي هريرة: «ثم قام إليه أبو سروعة» - واسمه كما في الصحيح في غزوة بدر عن أبي هريرة، وجزم جماعة من أهل النسب أنه أبو سروعة أخو عقبة بن الحارث، وأسلم
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري (4086) .(6/44)
بعد ذلك- (فقتله) وذكر أبو عمر في الاستيعاب أن أبا صبيرة بن العبدري قتل خبيبا مع عقبة وصوابه أبو ميسرة كما عند ابن إسحاق رحمه اللَّه تعالى. وروى ابن إسحاق بسند صحيح عن عقبة بن الحارث قال: «لأنا كنت أضعف من ذلك، ولكن أبا ميسرة العبدري أخذ الحربة فجعلها في يدي، ثم أخذ بيدي وبالحربة. ثم طعنته بها حتى قتلته» وذكر محمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر وغيرهما أن خبيبا رضي اللَّه تعالى عنه حين رأى ما صنعوا به قال:
لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا ... قبائلهم واستجمعوا كلّ مجمع
وكلّهم مبدي العداوة جاهد ... علي لأنّي في وثاق مضيّع
وقد جمّعوا أبناءهم ونساءهم ... وقرّبت من جذع طويل ممنّع
وقد خيّروني الكفر والموت دونه ... وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إنّي لميّت ... ولكن حذاري حرّ نار تلفّع
إلى اللَّه أشكو غربتي ثمّ كربتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبّرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع
لعمرك ما آسي إذا متّ مسلما ... على أي جنب كان في اللَّه مصرعي
فلست بمبد للعدوّ تخشّعا ... ولا جزعا إنّي إلى اللَّه مرجعي
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه أن خبيبا رضي اللَّه تعالى عنه قال:
فلست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في اللَّه مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزّع
وروى الإمام أحمد بن عمرو بن أمية رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثه وحده عينا إلى قريش قال: «فجئت خشبة خبيب وأنا أتخوّف العيون فرقيت- وفي لفظ فصعدت فيها- فحللت خبيبا فوقع إلى الأرض فانتبذت غير بعيد، فسمعت وجبة خلفي فالتفتّ فلم أر خبيبا، وكأنما ابتلعته الأرض فلم أر لخبيب أثرا حتى الساعة» وذكر أبو يوسف رحمه اللَّه تعالى في كتاب اللطائف عن الضحاك رحمه اللَّه تعالى أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أرسل المقداد والزبير في إنزال خبيب عن خشبته ودخلا إلى التنعيم فوجدا حوله أربعين رجلا نشاوى فأنزلاه فحمله الزبير على فرسه وهو رطب لم يتغير منه شيء، فنذر بهم المشركون فلما لحقوهم قذفه الزبير فابتلعته الأرض فسمّي بليع الأرض.
وذكر القيرواني في حلى العليّ أن خبيبا لما قتل جعلوا وجهه إلى غير القبلة فوجدوه مستقبلا لها فأداروه مرارا ثم عجزوا فتركوه. وروى ابن إسحاق عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى(6/45)
عنهما قال: «لما أصيبت السريّة التي كان فيها مرثد وعاصم بالرجيع قال رجال من المنافقين:
يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا، لا هم قعدوا في أهليهم ولا هم أدّوا رسالة صاحبهم» . فأنزل اللَّه عز وجل في ذلك من قول المنافقين: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ [البقرة 204] وهو مخالف لما يقوله بلسانه، وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ [البقرة 204] ، أي ذو جدال إذا كلمك وراجعك وَإِذا تَوَلَّى أي خرج من عندك سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ [البقرة 205] أي لا يحب عمله ولا يرضاه. وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ [البقرة 206] . كذا ذكر ابن إسحاق أن هذه الآيات نزلت في شأن هذه السرية، وذكر غيره أنها نزلت في الأخنس بن شريق واللَّه تعالى أعلم.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ أي يبيع نفسه في الجهاد ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [البقرة 207] قالوا نزلت هذه الآية في صهيب رضي اللَّه تعالى عنه.
تنبيهات
الأول: وقع في الصحيح في حديث: «وكان خبيب هو قتل الحارث بن عامر يوم بدر» .
واعتمد على ذلك البخاري، فذكر خبيب بن عدي فيمن شهد بدرا قال في الفتح وهو اعتماد متجه. وتعقب الحافظ أبو محمد الدمياطي، وتبعه في العيون بأن أهل المغازي لم يذكر أحد منهم أن خبيب بن عدي ممن شهد بدرا ولا قتل الحارث بن عامر، إنما ذكروا أن الذي قتل الحارث بن عامر ببدر هو خبيب بن إساف، وهو غير خبيب بن عدي وهو خزرجي، وخبيب بن عديّ أوسي. قال الحافظ: «ويلزم من الذي قال ذلك ردّ هذا الحديث الصحيح، فلو لم يقتل خبيب بن عدي الحارث بن عامر، ما كان لاعتناء آل الحارث بن عامر بأسر خبيب معنى، ولا بقتله مع التصريح في الحديث الصحيح أنهم قتلوه به. ولكن يحتمل أن يكونوا قتلوا خبيب بن عدي لكون خبيب بن إساف- بهمزة مسكورة وقد تبدل تحتية وبسين مهملة- قتل الحارث بن عامر، على عادتهم في الجاهلية بقتل بعض القبيلة عن بعض، ويحتمل أن يكون خبيب بن عدي شرك في قتل الحارث والعلم عند اللَّه.
الثاني: قال أبو هريرة كما في الصحيح: «فكان أول من سنّ الركعتين عند القتل» وجزم بذلك خلائق لا يحصون. وقدمه في الإشارة ثم قال: وقيل أسامة بن زيد حين أراد المكري الغدر به، قلت كذا في نسختين من الإشارة: أسامة، وصوابه زيد بن حارثة والد أسامة كما في الروض: «قال أبو بكر بن أبي خيثمة حدثنا يحيى بن معين قال أخبرنا يحيى [بن عبد اللَّه] بن بكير قال حدثنا الليث بن سعد رحمه اللَّه تعالى قال: «بلغني أن زيد بن حارثة اكترى من رجل(6/46)
بغلا إلى الطائف واشترط عليه المكري أن ينزله حيث شاء قال فمال به إلى خربة فقال له انزل، فنزل فإذا في الخربة قتلى كثيرة. قال فلما أراد أن يقتله قال له: دعني أصلّي ركعتين. قال:
صلّ، فقد صلّى هؤلاء قبلك فلم تنفعهم صلاتهم شيئا. قال فلما صلّيت أتاني ليقتلني. قال فقلت: «يا أرحم الراحمين» . قال فسمع صوتا قال: لا تقتله. قال: فهاب ذلك فخرج يطلب أحدا فلم ير شيئا، فرجع إليّ، فناديت: يا أرحم الراحمين، ففعل ذلك ثلاثا. فإذا أنا بفارس على فرس في يده حربة من حديد في رأسها شعلة من نار فطعنه بها فأنفذها من ظهره فوقع ميتا. ثم قال لي: «لما دعوت المرّة الأولى يا أرحم الراحمين كنت في السماء السابعة. فلما دعوت المرة الثانية يا أرحم الراحمين كنت في السماء الدنيا فلما دعوت المرة الثالثة يا أرحم الراحمين أتيتك» . انتهى فهذا كما ترى غير متصل فلا يقاوم ما في الصحيح.
الثالث: قال السهيلي رحمه اللَّه تعالى: «وإنما صار فعل خبيب رضي اللَّه تعالى عنه سنّة [حسنة] . والسنّة إنما هي أقوال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأفعاله وإقراره غيره على قول أو فعل لأن خبيبا فعلهما في حياة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فاستحسن ذلك من فعله.
الرابع: قال في الروض: «فإن قيل: فهل أجيبت فيهم دعوة خبيب؟ والدعوة على تلك الحال من مثل ذلك العبد مستجابة. قلنا: أصابت منهم من سبق في علم اللَّه أن يموت كافرا، ومن أسلم منهم فلم يعنه خبيب ولا قصده بدعائه، ومن قتل منهم كافرا بعد هذه الدعوة فإنما قتلوا بددا غير معسكرين ولا مجتمعين كاجتماعهم في أحد، وقبل ذلك في بدر، وإن كانت الخندق بعد قصة خبيب فقد قتل فيها منهم آحاد متبدّدون، ثم لم يكن لهم بعد ذلك جمع ولا معسكر غزوا فيه فنفذت الدعوة على صورتها وفيمن أراد خبيب رحمه اللَّه تعالى وحاشا له أن يكره إيمانهم وإسلامهم.
الخامس: قول سيدنا خبيب: «ذلك في ذات الإله» إلى آخره قال أبو القاسم الراغب:
«الذات تأنيث ذو وهي كلمة يتوصّل بها إلى الوصف بأسماء الأجناس والأنواع وتضاف إلى الظاهر دون المضمر وتثنّى وتجمع ولا يستعمل شيء منها إلا مضافا وقد يسبقها لفظ الذات لعين الشيء، واستعملوها مفردة ومضافة وأدخلوا عليها الألف واللام وأجروها مجرى النفس والخاصة [فقالوا ذاته ونفسه وخاصته] وليس ذلك من كلام العرب» . وقال القاضي: ذات الشيء نفسه وحقيقته. وقد استعمل أهل الكلام «الذات» بالألف واللام وغلّطهم أكثر النحاة وجوزه بعضهم لأنها ترد بمعنى النفس وحقيقة الشيء، وجاء في الشعر لكنه شاذّ. وقال ابن برهان- بفتح الباء الموحدة- «إطلاق المتكلمين الذات في حق اللَّه تعالى من جهلهم لأن ذات تأنيث ذو، وهو جلّت عظمته لا يصح له إلحاق تأنيث، ولهذا امتنع أن يقال علّامة وإن كان(6/47)
أعلم العالمين» . قال: «وقولهم الصفات الذاتية جهل منهم أيضا لأن النسب إلى ذات دور» .
وقال التاج الكندي في الرد على الخطيب ابن نباتة [ (1) ] في قوله: كنه ذاته، ذات بمعنى صاحبة تأنيث ذو، وليس لها في اللغة مدلول غير ذلك، وإطلاق المتكلمين وغيرهم الذات بمعنى النفس خطأ عند المحققين. وتعقّب بأن الممتنع استعمالها بمعنى صاحبة، أما إذا قطعت عن هذا المعنى واستعملت بمعنى الاسمية فلا محذور كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [آل عمران 119] أي بنفس الصدور.
وقد حكى المطرزيّ [ (2) ] رحمه اللَّه تعالى أن كل ذات شيء وكل شيء ذات. وقال الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في تهذيبه: «مراد الفقهاء بالذات الحقيقية» وهذا اصطلاح المتكلمين وقد أنكره بعض الأدباء عليهم وقال إنه لا يعرف في لغة العرب ذات بمعنى الحقيقة [وإنما ذات بمعنى صاحبة] وهذا الإنكار منكر بل الذي قاله الفقهاء والمتكلمون صحيح فقد قال الإمام أبو الحسن الواحدي [في أول سورة الأنفال] في قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ قال: [أبو العباس أحمد بن يحيى] ثعلب: معنى ذات بينكم أي الحالة التي بينكم فالتأنيث عنده للحالة [وهو قول الكوفيين] وقال الزّجّاج: معنى ذات بينكم حقيقة وصلكم والمراد بالبين الوصل فالتقدير: فأصلحوا حقيقة وصلكم. قال الواحدي: فذات عنده بمعنى النفس [كما يقال ذات الشيء ونفسه] . انتهى.
وعلى جواز ذلك مشى الإمام البخاري فقال في كتاب التوحيد من صحيحه: (باب ما يذكر في الذات والنعوت) [ (3) ] . فاستعملها على نحو ما تقدم من أن المراد بها نفس الشيء وحقيقته على طريقة المتكلمين في حق اللَّه تعالى، ففرّق بين النعوت والذات واستدل البخاري على ذلك بقول خبيب السابق. وتعقبه السبكي رحمه اللَّه تعالى بأن خبيبا لم يرد بالذات الحقيقة التي هي مراد البخاري، وإنما مراده: في سبيل اللَّه أو في طاعته.
__________
[ (1) ] عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة الفارقي، أبو يحيى: صاحب الخطب المنبرية. كان مقدما في علوم الأدب، وأجمعوا على أن خطبه لم يعمل مثلها في موضوعها وسكن حلب فكان خطيبها. واجتمع بالمتنبي في خدمة سيف الدولة الحمداني. وكان سيف الدولة كثير الغزوات، فأكثر ابن نباتة من خطب الجهاد والحث عليه. وكان تقيا صالحا. توفي بحلب. له «ديوان خطب» الأعلام 3/ 347، 348.
[ (2) ] ناصر عبد السيد أبي المكارم بن علي، أبو الفتح، برهان الدين الخوارزمي المطرزي: أديب، عالم باللغة، من فقهاء الحنفية. ولد في جرجانية خوارزم سنة 528 هجرة ودخل بغداد حاجا سنة 601 وتوفي في خوارزم سنة 610 هجرة كان رأسا في الاعتزال ولما توفي رثي بأكثر من 300 قصيدة من كتبه الإيضاح في شرح مقامات الحريري والمصباح في النحو والمعرب في اللغة شرحه ورتبه في كتابه «المغرب في ترتيب المعرب» وغير ذلك ... انظر الأعلام 7/ 348.
[ (3) ] البخاري 13/ 393.(6/48)
قال الكرماني: وقد يجاب بأن غرضه إطلاق الذات في الجملة، قال في الفتح:
والاعتراض أقوى من الجواب. واستدل غيره
بقوله صلى الله عليه وسلم: «لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله عز وجل» [ (1) ] .
وفي رواية «كل ذلك في ذات الله تعالى» .
وبحديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه: «لا يفقه كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله تعالى»
[ (2) ] . رواه برجال ثقات إلا أن فيه انقطاعا. يقول حسان بن ثابت:
وإنّ أخا الأحقاف إذ قام فيهم ... يجاهد في ذات الإله ويعدل
ونعقب بما تعقب به البخاري بأن المراد بالذات هنا الطاعة أو بمعنى حق أو من أجل فهي كقوله تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر 56] .
وأصرح من ذلك كله
حديث ابن عباس مرفوعا: «تفكّروا في كل شيء ولا تفكّروا في ذات اللَّه»
[ (3) ] . فإن الطاعة وما ذكر معها لا تأتي هنا. قال في الفتح: «فالذي يظهر جواز إطلاق ذات لا بالمعنى الذي أحدثه المتكلمون ولكنه غير مردود إذا عرف أن المراد به النفس لثبوت لفظ النفس في الكتاب العزيز» . قلت حديث ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما صريح بما ذهب إليه المتكلمون.
السادس: في بيان غريب ما سبق:
الرّجيع: بفتح الراء وكسر الجيم وسكون التحتية وبالعين المهملة: وهو ماء لهذيل.
العيون: جمع عين، وهو هنا الجاسوس.
ثابت: بالثاء المثلثة والموحدة والفوقية.
الأقلح: بالقاف والحاء المهملة.
مرثد: بفتح الميم وسكون الراء. وفتح المثلثة وبالدال المهملة ابن أبي مرثد اسمه.
خبيب: بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالموحدة.
الدّثنة: بفتح الدال المهملة وكسر الثاء المثلثة وتسكن فنون فتاء تأنيث من قولهم دثّن الطائر إذا طاف حول وكره ولم يسقط.
ابن البكير: بضم الموحدة وفتح الكاف وسكون التحتية وبالراء.
معتّب: بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الفوقية المشددة، ويقال بدله مغيث بغين معجمة فتحتية فثاء مثلثة، والأول أصح.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 4/ 171 ومسلم في كتاب الفضائل (154) .
[ (2) ] انظر إتحاف السادة 4/ 527.
[ (3) ] ذكره العجلوني في كشف الخفا 1/ 371 وعزاه للأصبهاني في ترغيبه وأبي نعيم.(6/49)
لحيان: بفتح اللام وكسرها وبالحاء المهملة وبالنون، وهو ابن هذيل بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية وباللام وهو ابن مدركة بن إلياس بن مضر. وذكر الهمذانيّ النسابة أن أصل بني لحيان من بقايا جرهم دخلوا في هذيل فنسبوا إليهم.
عضل: بفتح العين المهملة والضاد المعجمة وباللام بطن من بني الهون.
القارة: بالقاف والراء المخفّفة بعد الألف فتاء تأنيث بطن من بني الهون أيضا وينسبون إلى الدّسّ أيضا بدال وسين مهملتين.
الفرائض: جمع فريضة وهو البعير المأخوذ في الزكاة، سمّي فريضة لأنه فرض واجب على ربّ المال، ثم اتّسع فيه حتى سمّي البعير فريضة في غير الزكاة.
مثلث بالقتيل: مثلا من باب قتل وضرب إذا جدعته وظهر آثار فعلك عليه تنكيلا، والتشديد مبالغة.
البعث: اسم للمبعوث إليه أي المرسل والموجّه من باب تسمية المفعول بالمصدر.
النّفر: بفتح النون والفناء جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة أو إلى تسعة.
الهدّة: بفتح الهاء والدال المهملة تشدّد وتخفف، المفتوحتين، موضع بين عسفان ومكة. والهدأه لأكثر رواة الصحيح بسكون الدال بعدها همزة مفتوحة، وللكشميهنيّ بفتح الدال وتسهيل الهمزة.
عسفان: بضم العين وسكون السين المهملتين وبالفاء قرية جامعة على نحو أربعة برد من مكة.
نفروا لهم: خرجوا لقتالهم.
استصرخوا عليهم: استغاثوا.
أبو معشر: بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الشين المعجمة وبالراء.
وظلّوا يكمنون: يستترون.
أتيتم: بالبناء للمفعول.
اقتصّ أثره وتقصّصه: تتبّعه.
ركنوا في الجبل: من الركون وهو السكون إلى الشيء والميل إليه.
لم يرعهم إلا بالرجال: لم يبغتهم ويفجأهم.
غشوهم: بغين فشين معجمتين.(6/50)
أحسّ بهم: علم، هذه لغة القرآن، ووقع في بعض نسخ السيرة حسّ.
لجأوا إليه: بالهمزة في آخره: تحرّزوا واعتصموا.
الفدفد: بفاءين مفتوحتين ودالين مهملتين الأولى ساكنة: وهي الرابية المشرفة.
القردد: بقاف فاء ودالين مهملتين وهو الموضع المرتفع.
غرّان: بضم الغين المعجمة وتشديد الراء والنون: واد بين أمج وعسفان منازل بني لحيان.
في ذمة كافر: بكسر الذال المعجمة وتشديد الميم أمانته وعهده.
حمى: زيد عمرا إذا أجاره ومنعه.
سلافة: بضم السين المهملة وتخفيف اللام وبالفناء بنت سعد بن شهيد بضم الشين المعجمة وفتح الهاء، وصحّف من قال سلامة بالميم بدل الفاء.
مسافع: بضم الميم وسين مهملة وفاء مكسورة.
الجلاس: بضم الجيم وتخفيف اللام وبالسين المهملة.
العبدريّ: بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح الدال المهملة وبالراء.
قحف الرأس: بكسر القاف وسكون الحاء المهملة وبالفاء أعلى الدّماغ.
الدّبر: بفتح الدال المهملة وسكون الموحدة وبالراء، وهو هنا الزّنابير والنّحل.
الظّلّة: بضم الظاء المعجمة المشالة وتشديد اللام المفتوحة هي السحابة.
حمته: بفتح الحاء المهملة والميم منعته منهم. بعث اللَّه تعالى الوادي أي السّيل.
صعد الجبل: علاه.
الغدر: هو ترك الوفاء بالعهد.
الأسوة: بكسر الهمزة وضمها القدوة.
القران: بكسر القاف وتخفيف الراء الحبل وهو القرن بفتح القاف والراء.
الظّهران: بفتح الظاء المعجمة المشالة وسكون الهاء، وهو مر الظهران وهو الذي تسميه العامة بطن مرّ.
دخل بهما: في شهر حرام بالبناء للمفعول.
ذو القعدة: بفتح القاف وتكسر شهر كانوا يقعدون فيه عن الأسفار.(6/51)
شرح غريب ذكر قتل زيد وخبيب رضي اللَّه تعالى عنهما
جمح: بجيم فميم فحاء مهملة مفتوحات، اغتر وغلب.
نسطاس: [بنون مفتوحة وسين وطاء مهملتين وألف وسين مهملة] .
التنعيم: بفتح أوله والفوقية وسكون النون وكسر العين المهملة وسكون التحتية وبالميم وهو المكان الذي يقال له الآن مساجد عائشة سمّي بذلك لأن عن يمينه جبلا يقال له نعيم وعن شماله جبل يقال له ناعم والوادي نعمان، وهو من الحلّ بين مرّ وسرف على فرسخين من مكة نحو المدينة.
الرّهط: بفتح الراء وسكون الهاء وفتحها وبالطاء المهملة، دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة ومنها إلى الأربعين رجلا.
أنشدك باللَّه تعالى: بفتح الهمزة وضم الشين المعجمة أي أسألك به.
حجير: بضم الحاء المهملة وفتح الجيم وسكون التحتية وبالراء.
إهاب: بكسر أوله وبالموحدة.
ابن عزيز: ضد ذليل.
الحليف: بفتح الحاء المهملة المعاهد بكسر الهاء.
نوفل: بنون مفتوحة فواو ساكنة ففاء مفتوحة فلام.
ماويّة: بواو مكسورة وتشديد التحتية في رواية يونس بن بكير عن ابن إسحاق، وفي رواية غيره عنه بالراء والتخفيف.
تسقوني العذب: أي الماء العذب.
النّصب: بفتح النون والصاد المهملة والموحدة.
القطف: بكسر القاف العنقود.
الثّمرة: بفتح الثاء المثلثة والميم.
صير الباب: بكسر الصاد المهملة وسكون التحية وبالراء أي شقّ الباب.
يتهجّد بالقرآن: أي يصلّي به في الليل.
يرققني: بتحتية مفتوحة فراء ساكنة فقافين الأولى مكسورة عليه أي برحمه.
انسلخت: أي الأشهر الحرم فرغت وخرجت.
أجمعوا على قتله: أي عزموا عليه.(6/52)
ما اكترث بذلك: بفوقية فراء فثاء مثلثة أي ما بالي به ولا يستعمل إلا في النفي.
بنو الحضرمي: العلاء وعامر وعمرو، وقتل عمرو كافرا في سرية عبد اللَّه بن جحش قتله واقد بن عبد اللَّه.
الاستحداد: حلق العانة بالحديد.
الموسى: يذكّر ويؤنّث ويجوز تنوينه وعدم تنوينه.
أبو حسين: هو ابن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف.
تحضنه: تضمّه إليها.
أدرك ثأره: لحقه والثأر بالثاء المثلثة وسكون الهمزة يقال ثأرت القتيل وثأرت به إذا قتلت قاتله.
لعمرك: بفتح اللام والعين المهملة أي وحياتك.
غفل: عن كذا بغين معجمة ففاء مفتوحتين شغل عنه وتلهّى.
درج الصبي: هو أبو حسين بن الحارث بن عامر.
الموتور: بالفوقية الذي قتل له قتيل.
وتر وترا: بكسر الواو وفتحها ومعناه هنا قتلت له قتيلا.
أما واللَّه: بفتح أوله وتخفيف الميم.
الجزع: كالتّعب ضد الصبر.
أحصهم عددا: بفتح الهمزة وبالحاء والصاد المهملتين أي أهلكهم بحيث لا تبقي من عددهم أحدا.
بددا: بفتح الموحدة ودالين مهملتين مفتوحتين أي متباعدين متفرقين عن أهليهم وأوطانهم ويحتمل أن يكون من قولهم بايعته بددا أي معارضة والمعنى عارضهم بقتلهم كما فعلوا بنا، ومن قولهم: مالك به بدّة أي طاقة والمعنى خذهم بحولك أخذة رابية، لكنه إنما أورده اللغويون منفيّا. قال في النهاية: «ويروى بكسر الباء جمع بدّة وهي الحصّة والنصيب أي اقتلهم حصصا مقسّمة لكل واحد منهم حصته ونصيبه [ويروى بالفتح] أي متفرقين في القتل واحدا بعد واحد من التبديد» .
قال ولا طائل تحت هذا المعنى. وقال في الروض: «فمن رواه بكسر الباء فهو جمع بدّة وهي الفرقة والقطعة من الشيء المتبدد ونصبه على الحال من المدعو عليهم، ومن رواه بفتح(6/53)
الموحدة فهو مصدر بمعنى التبدى أي ذوي بدد أي أصابت دعوة خبيب رضي اللَّه تعالى عنه من سبق في علم اللَّه تعالى أن يموت كافرا بعد هذه الدعوة فإنما قتلوا بددا غير معسكرين ولا مجتمعين، وإن كانت قصة الخندق بعد قصة خبيب رضي اللَّه تعالى عنه وحاشا للَّه أن ينكر إيمانهم وإسلامهم» .
لا تغادر: لا تترك.
الفرق: بالفاء والراء والقاف: الفزع بلفظه ومعناه.
رعي عليهم: بالبناء للمفعول.
حويطب: بضم الحاء المهملة وفتح الواو وسكون التحتية وكسر الطاء المهملة وبالموحدة.
أخذته غمية: كما كان يأخذه إذا أنزل عليه الوحي.
أبو سروعة: بفتح السين المهملة أكثر من كسرها وبسكون الراء وفتح الواو وبالعين المهملة.
الأحزاب: جمع حزب وهي الطائفة. والأحزاب الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ألّبوا: أجمعوا.
القبائل: جمع قبيلة.
مجمع: مكان الاجتماع.
مجزع: بالجيم والزاي والعين المهملة من الجزع ضد الصّبر.
وما بي حذار الموت: أي ليس كلامي هذا خوفا من الموت.
تلمع: أي تضيء.
الكربة: بالضم اسم من كربة الأمر يكربه بالضم كربا إذا أخذ بنفسه والجمع كرب مثل غرفة وغرف.
أرصد: أعدّ.
بضّعوا: بتشديد الضاد المعجمة وبالعين المهملة قطّعوه، ويجوز بالتخفيف.
ياس: [لغة في بئس] انقطع رجاؤه.
مطمعي: أملي.(6/54)
الذات: هنا بمعنى الطاعة أو السبيل كما ذكره السبكي والكرماني لا بمعنى الحقيقة كما تقدم بسطه.
الأوصال: بالصاد المهملة واللام. الأعضاء.
الشّلو: بكسر الشين المعجمة وإسكان اللام وبالواو: العضو من اللحم، قاله أبو عبيدة.
وقال الخليل رحمه اللَّه تعالى هو الجسد لقوله في أوصال يعني أعضاء جسد إذ لا يقال أعضاء عضو.
الممزّع: بضم الميم الأولى وفتح الثانية والزاي المشددة وبالعين المهملة: المقطّع.
ما آسى: أي ما أحزن.
صعدت: بكسر العين في الماضي وبفتحها في المستقبل.
انتبذت: انفردت.
الوجبة: بفتح الواو وسكون الجيم وتاء التأنيث المربوطة.
حسبه جهنم: كافيه.
المهاد: أي بئس ما مهّد لنفسه في معاده، يقال مهّد لنفسه بالتخفيف والتشديد أي جعل لها مكانا ووطنا ممهّدا.
يشري نفسه: أي يبيعها بالجنة يبذلها بالجهاد.
الحرث: بحاء فراء مهملتين فمثلثة: الزّرع.
النّسل: بنون فسين مهملة فلام: الولد.
العزّة: بعين مهملة مكسورة فزاي: القوة.
شرح غريب شعر حسان رضي اللَّه تعالى عنه
وافاه: أشرف عليه.
ثمّ: بفتح المثلثة بمعنى هناك.
الحمام: بكسر الحاء وتخفيف الميم نذر الموت.
المنسكب: المرسل السائب.
لم يؤب: لم يرجع.
الصّقر: من الجوارح جمعه أصقر [وصقور] وصقورة وقال بعضهم الصقر ما يصيد من الجوارح كالشّاهين وغيره. وقال الزّجّاج يقع الصقر على كل صائد من البزاة والشواهين، وشبّه الرجل الشجاع به.(6/55)
السّجيّة: بفتح السين المهملة وكسر الجيم وسكون التحتية: الغريزة والجمع سجايا.
المحض: بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وبالضاد المعجمة: بالخالص وأراده هنا.
المؤتشب: بضم الميم وسكون الهمزة وفتح الفوقية وكسر الشين المعجمة وبالموحدة:
المختلط، والأشواب من الناس الأوباش، قال في التقريب وهم الضروب المتفرقون وقال في النهاية الأخلاط من الناس والرعاع بضم الراء. قال في المجمل هم السّفلة من الناس الحمقى.
هاج: تحرّك.
علّات: مشقّات.
العبرة: الدّمعة.
النّصّ: بفتح النون وبالصاد المهملة المشددة من النّصّ في السير وهو أرفعه.
كهيبة: بضم الكاف وفتح الهاء وسكون التحتية وفتح الموحدة وبتاء تأنيث. قال في الإملاء قبيلة. وفي الروض: «جعل كهيبة كأنه اسم علم لأمّهم وهذا كما يقال بنو ضوطرى.
وبنو الغبراء وبنو درزة وهذا كله اسم لمن يسبّ وعبارة عن السّفلة من الناس، وكهيبة من الكهبة وهي الغبرة» .
الطيّة: بطاء مهملة مكسورة فتحتية مشدّدة ما انطوت عليه نيّتك من الجهة التي تتوجّه إليها.
الوعيد: التهديد.
لقحت الحرب: ازداد شرّها.
محلوبها: لبنها.
الصّابّ: العلقم.
تمرى: تمسح لتحلب.
المعصوصب: بميم مضمومة فعين فصادين بينهما واو مهملات فموحدة وهو هنا الجيش الكثير الشديد.
اللّجب: بالجيم: الكثير الأصوات.(6/56)
الباب السادس عشر في سرية المنذر بن عمرو [الساعدي] رضي الله تعالى عنه إلى بئر معونة وهي سرية القراء رضي الله تعالى عنهم، في صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً من الهجرة
روى الشيخان والبيهقي عن أنس، والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، والبخاري عن عروة بن الزبير، ومحمد بن إسحاق عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وغيرهما، ومحمد بن عمر عن شيوخه، قال أنس في رواية قتادة كما في الصحيح أنّ رعلا وذكوان وعصيّة وبني لحيان أتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فزعموا أنهم قد أسلموا واستمدوه على عدوّهم. ورواه البخاري والإسماعيلي في مستخرجه في كتاب الوتر، واللفظ للإسماعيلي أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث ناسا يقال لهم القراء وهم سبعون رجلا إلى أناس من المشركين بينهم وبين رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عهد فقتلهم قوم مشركون دون أولئك. وقال ابن إسحاق عن مشايخه، وموسى بن عقبة عن ابن شهاب أسماء الطائفتين وإن أصحاب العهد بنو عامر، ورأسهم أبو براء عامر بن مالك، وإن الطائفة الأخرى من بني سليم وكان رأسهم عامر بن الطفيل العامري، وهو ابن أخي أبو براء.
فروى ابن إسحاق عن المغيرة بن عبد الرحمن، وعبد اللَّه بن أبي بكر وغيرهما، ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا: قدم عامر بن مالك بن جعفر أبو براء ملاعب الأسنة العامري على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأهدى إليه فرسين وراحلتين، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا أقبل هدية من مشرك» [ (1) ] .
وفي رواية: «إني نهيت عن زبد المشركين» [ (2) ] . وعرض عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الإسلام فلم يسلم ولم يبعد، وقال: «يا محمد إني أرى أمرك هذا حسنا شريفا وقومي خلفي، فلو أنك بعثت معي نفرا من أصحابك لرجوت أن يتّبعوا أمرك فإنهم إن اتّبعوك فما أعزّ أمرك» .
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إني أخاف عليهم أهل نجد» .
فقال عامر: لا تخف إني لهم جار إن يعرض لهم أحد من أهل نجد. وخرج عامر بن مالك إلى ناحية نجد فأخبرهم أنه قد أجار أصحاب محمد صلى اللَّه عليه وسلم فلا تعرضوا لهم. وكان من الأنصار سبعون رجلا شببة يسمّون القرّاء.
كانوا إذا أمسوا أتوا ناحية من المدينة إلى معلّم لهم فتدارسوا القرآن وصلّوا حتى إذا كان وجه الصبح استعذبوا من الماء وحطبوا من الحطب فجاءوا به إلى حجر أزواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني 3/ 216 والبخاري في التاريخ 5/ 304 وذكره المتقي الهندي في كنز العمال (14473) .
[ (2) ] أخرجه أبو داود في كتاب الخراج (3057) والترمذي (1577) والطبراني في الكبير 17/ 364 وابن عبد البر في التمهيد 2/ 12.(6/57)
وفي رواية يحتطبون فيبيعونه ويشترون به [الطعام] لأهل الصّفّة وللفقراء. وفي رواية: ومن كان عنده سعة اجتمعوا واشتروا الشاة فأصلحوها فيصبح ذلك معلّقا بحجر أزواج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
فكان أهلوهم يظنون أنهم في المسجد، وكان أهل المسجد يظنون أنهم في أهليهم [ (1) ] .
وذكر ابن عقبة رحمه اللَّه تعالى أنهم أربعون. وقال أنس كما في الصحيح أنهم سبعون كما سيأتي بيان ذلك. فبعثهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبعث معهم كتابا، وأمّر عليهم المنذر بن عمرو الساعدي. فخرج المنذر بن عمرو بدليل من بني سليم يقال له المطّلب [السّلمي] فخرجوا حتى إذا كانوا على بئر معونة عسكروا بها وسرحوا ظهرهم مع عمرو بن أمية الضّمري، والحارث بن الصّمّة فيما ذكره أبو عمر، وذكر ابن إسحاق وتبعه ابن هشام بدل الحارث المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح.
وبعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل في رجال من بني عامر، فلما انتهى عامر إليهم لم يقرأوا الكتاب، ووثب عامر بن الطفيل في رجال من بني عامر على حرام فقتلوه. وفي الصحيح عن أنس [ (2) ] : «فتقدمهم خالي حرام بن ملحان ورجل أعرج قال ابن هشام اسمه كعب بن زيد، زاد البيهقي ورجل آخر من بني فلان. فقال لهما خالي حرام بن ملحان: «إذا تقدّمكم فكونا قريبا مني فإن أمنتوني حين أبلغهم عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأتيا، وإن قتلوني لحقتما بأصحابكما» .
فتقدم فأمّنوه فبينما هو يحدثّهم عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا أومأوا إلى رجل منهم، فأتى من خلفه فطعنه فأنفذه فقال: «اللَّه أكبر فزت وربّ الكعبة» . ثم قال: «بالدم هكذا» فنضحه على وجهه [ (3) ] . ونجا كعب بن زيد لأنه كان في جبل. واستصرخ عامر بن الطفيل عليهم ببني عامر فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم وقالوا: لن نخفر جوار أبي براء وقد عقد لهم عقدا وجوارا.
فلما أبت بنو عامر أن تنفر مع عامر بن الطفيل استصرخ عليهم قبائل من بني سليم:
غصيّة ورعل وذكوان وزعب. فنفروا معه ورأسوه عليهم. فقال عامر بن الطفيل: أحلف باللَّه ما أقبل هذا وحده. فاتبعوا أثره حتى وجدوا القوم. فلما استبطئوا صاحبهم أقبلوا في أثرهم فلقيهم القوم. والمنذر بن عمرو معهم فأحاطوا بهم في رحالهم. فلما رآهم المسلمون أخذوا سيوفهم ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم. وفي رواية قتادة عن أنس: فلما كانوا ببئر معونة قتلوهم
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 1/ 36.
[ (2) ] انظر صحيح البخاري مع الفتح 7/ 446.
[ (3) ] انظر البخاري الموضع السابق (4092) .(6/58)
وغدروا بهم. قال ابن إسحاق: «إلا كعب بن زيد أخا بني دينار بن النّجار فإنهم تركوه وبه رمق فارتثّ من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا» .
وقال محمد بن عمر: وبقي المنذر بن عمرو فقالوا له: إن شئت آمنّاك. فقال: لن أعطي بيدي ولن أقبل لكم أمانا حتى آتي مقتل حرام [ثم برئ مني جواركم، فآمنوه حتى أتى مصرع حرام] ثم برئوا إليه من جوارهم. ثم قاتلهم حتى قتل. فذلك قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أعنق ليموت» . وأقبل المنذر بن محمد بن عقبة كما ذكره ابن إسحاق وغيره. وقال ابن عمر:
الحارث ابن الصّمّة، وعمرو بن أمية بالسّرح، وقد ارتابا بعكوف الطير على منزلهم [أو قريب من منزلهم] فجعلا يقولان: قتل واللَّه أصحابنا فأوفيا على نشز من الأرض، فإذا أصحابهما مقتولون وإذا الخيل واقفة. فقال المنذر بن محمد بن عقبة أو الحارث بن الصّمّة [لعمرو بن أمية] : «ما ترى؟» قال: «أرى أن نلحق برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فنخبره الخبر» . فقال الآخر: «ما كنت لأتأخر عن موطن قتل فيه المنذر، ما كنت لتخبرني عنه الرجال» . فأقبلا فلقيا القوم فقاتلهم الحارث حتى قتل منهم اثنين، ثم أخذوه فأسروه وأسروا عمرو بن أمية. وقالوا للحارث: «ما تحب أن نصنع بك؟ فإنا لا نحب قتلك» . قال: «أبلغوني مصرع المنذر بن عمرو، وحرام بن ملحان ثم برئت مني ذمتكم» . قالوا: «نفعل» . فبلغوا به ثم أرسلوه فقاتلهم فقتل منهم اثنين، ثم قتل، وما قتلوه حتى شرعوا له الرماح فنظموه فيها. وأخبرهم عمرو بن أمية وهو أسير في أيديهم إنه من مضر ولم يقاتل، فقال عامر بن الطفيل: «أنه قد كان على أمّي نسمة فأنت حرّ عنها» .
وجزّ ناصيته.
ذكر مقتل عامر بن فهيرة وما وقع في ذلك من الآيات
روى البخاري من طريق هشام بن عروة قال أخبرني أبي قال: «لما قتل الذين قتلوا ببئر معونة وأسر عمرو بن أمية، قال عامر بن الطفيل لعمرو من هذا؟ وأشار إلى قتيل فقال هذا عامر بن فهيرة فقال: لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى إني لأنظر إلى السماء بينه وبين الأرض ثم وضع» .
وروى محمد بن عمر عن أبي الأسود عن عروة أن عامر بن الطفيل قال لعمرو بن أمية:
هل تعرف أصحابك؟ قال: نعم، قال فطاف في القتلى وجعل يسأله عن أنسابهم. فقال: هل تفقد منهم أحدا؟ قال: أفقد مولى لأبي بكر يقال له عامر بن فهيرة فقال: كيف كان فيكم؟
قال: قلت: كان من أفضلنا ومن أول أصحاب نبينا فقال: ألا أخبرك خبره؟ وأشار إلى رجل فقال هذا طعنه برمحه ثم انتزع رمحه فذهب بالرجل علوا في السماء حتى ما أراه. وكان الذي طعنه رجل من بني كلاب يقال له جبّار بن سلمى وأسلم بعد ذلك. وذكر أبو عمر في الاستيعاب(6/59)
في ترجمة عامر بن فهيرة أن عامر بن الطفيل قتله، مع ذكره في ترجمة جبّار أنه هو الذي قتل ابن فهيرة واللَّه أعلم.
وروى البيهقي عنه أنه قال لما طعنته: فزت ورب الكعبة، قلت في قلبي: ما معنى قوله:
«فزت» ، أليس قد قتلته؟ قال: فأتيت الضحّاك بن سفيان الكلابي، فأخبرته بما كان وسألته عن قوله فزت، فقال بالجنة. فقلت ففاز لعمر اللَّه. قال وعرض عليّ الإسلام فأسلمت ودعاني إلى الإسلام ما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة من رفعه إلى السماء علوا. وكتب الضحّاك بن سفيان إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يخبره بإسلامي وما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
«إن الملائكة وارت جثته وأنزل علّيّين»
[ (1) ] قال البيهقي رحمه اللَّه تعالى: يحتمل أنه رفع ثم وضع ثم فقد بعد ذلك، ليجتمع مع رواية البخاري السابقة عن عروة، فإن فيها ثم وضع، فقد رويناه في مغازي موسى بن عقبة في هذه القصة. قال فقال عروة لم يوجد جسد عامر، يروون أن الملائكة وارته. ثم رواه البيهقي عن عائشة موصولا بلفظ (لقد رأيته بعد ما قتل رفع إلى السماء حتى أني لا نظر إلى السماء بينه وبين الأرض) [ (2) ] ولم يذكر فيها ثم وضع. قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: فقويت الطرق وتعددت لمواراته في السماء.
وقال ابن سعد: أخبرنا الواقدي حدثني محمد بن عبد اللَّه عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنهم: قالت: «رفع عامر بن فهيرة إلى السماء ثم لم توجد جثته يروون أن الملائكة وارته ورواه ابن المبارك عن يونس عن ابن شهاب الزهري عن عروة.
ذكر إعلام اللَّه تبارك وتعالى رسوله صلى اللَّه عليه وسلم بخبر أصحابه وما نزل في ذلك من القرآن ووجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عليهم.
روى الشيخان والإمام أحمد والبيهقي عن أنس، والبيهقي عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنهم، والبخاري عن عروة أن ناسا جاءوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا: ابعث معنا رجالا يعلّمونا القرآن والسنة. فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لها القراء، فتعرضوا لهم وقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان. قالوا: «اللهم بلغ عنا نبينا- وفي لفظ إخواننا- إنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا» فأخبرنا جبرئيل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بذلك فقام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فحمد اللَّه وأثنى عليه فقال: «إن إخوانكم قد لقوا المشركين واقتطعوهم فلم يبق منهم أحد، وإنهم قالوا: ربنا بلغ قومنا إنا قد رضينا ورضي عنا وأنا رسولهم إليكم إنهم قد رضوا ورضي عنهم» .
قال أنس: فكنا نقرأ أن بلّغوا قومنا عنا أن قد لقينا ربّنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخ بعد،
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 1/ 37.
[ (2) ] أخرجه البخاري في الموضع السابق من كتاب المغازي باب غزوة الرجيع.(6/60)
فدعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أربعين صباحا على رعل وذكوان وبني لحيان وبني عصيّة الذين عصوا اللَّه ورسوله. وفي رواية عن أنس في الصحيح: «فدعا عليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم شهرا في صلاة الغداة بعد القراءة، وفي رواية بعد الركوع، وذلك بعد القنوت وما كنا نقنت» . وفي رواية الإمام أحمد قال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: فما رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وجد على شيء وجده عليهم، فلقد رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كلما صلى الغداة رفع يده فدعا عليهم. فلما كان بعد ذلك، إذا أبو طلحة يقول: «هل لك في قاتل حرام؟» قلت: ما له؟ فعل اللَّه تعالى به وفعل. قال: مهلا فإنه قد أسلم.
ذكر من استشهد يوم بئر معونة رضي اللَّه تعالى عنهم
1- عامر بن فهيرة [ (1) ] : بضم الفاء وفتح الهاء وسكون التحتية وبالراء وتاء التأنيث، [مولى أبي بكر الصديق، أسلم قبل أن يدخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم] .
2- الحكم بن كيسان [ (2) ] : الحكم بفتحتين وكيسان بفتح الكاف وسكون التحتية وبالسين المهملة وبالنون مولى بني مخزوم.
3- المنذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح: المنذر بلفظ اسم الفاعل والدال المعجمة، وأحيحة بمهملتين مصغّر. وذكر ابن عائذ أنه استشهد ببني قريظة.
4- أبو عبيدة بن عمرو بن محصن: محصن بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين وبالنون.
5- الحارث بن الصّمّة: [بن عمرو بن عتيك الأنصاري الخزرجي ثم النجاري ولقبه مبذول بن مالك] والصّمّة بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم.
6- أبيّ بن معاذ بن أنس بن قيس: أبيّ بضم أوله وفتح الموحدة وتشديد التحتية.
7- وأخوه أنس: وابن إسحاق وابن عقبة يسمّيانه أوسا ومحمد بن عمر يقول إن أنسا هذا مات في خلافة عثمان.
8- أبو شيخ بن أبي ثابت: عند ابن إسحاق، وقال ابن هشام أبو شيخ اسمه أبيّ بن ثابت فعلى قول ابن إسحاق هو ابن أخي حسان بن ثابت وعلى قول ابن هشام هو أخوه.
__________
[ (1) ] عامر بن فهيرة التيمي مولى أبي بكر الصديق أحد السابقين.. وكان ممن يعذب في اللَّه له ذكر في الصحيح الإصابة 4/ 14.
[ (2) ] الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي والد أبي جهل ... أسر في أول سرية جهزها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من المدينة وأميرها عبد اللَّه بن جحش فأسر الحكم المذكور فقدموا به على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. الإصابة 2/ 30.(6/61)
9- 10- حرام بن ملحان: حرام بفتح الحاء والراء المهملتين وسليم بن ملحان:
سليم بالتصغير ابنا ملحان بفتح الميم وكسرها وهو أشهر، واسمه مالك، وهما خالا أنس بن مالك.
11- 12- سفيان بن ثابت: سفيان بالحركات الثلاث في السين المهملة وبالفاء ومالك بن ثابت وهما ابنا ثابت من بني النّبيت بفتح النون وكسر الموحدة وسكون التحتية انفرد بذكرهما محمد بن عمر.
13- عروة بن أسماء بن الصلت: عروة بضم العين المهملة والصّلت بفتح الصاد المهملة وسكون اللام والفوقية.
14- قطبة بن عبد عمرو بن مسعود بن عبد الأشهل: قطبة بضم القاف وسكون الطاء المهملة وبالموحدة والأشهل بالشين المعجمة.
15- المنذر بن عمرو بن خنيس: بضم الخاء المعجمة وفتح النون وسكون التحتية وبالسين المهملة.
16- معاذ بن ماعص بن قيس: ما عص بعين فصاد مهملتين وزن عالم، ذكره محمد بن عمر فيهم. وغيره يقول جرح معاذ ببدر ومات بالمدينة.
17- وأخوه عائذ: بالتحتية والذال المعجمة وقيل مات باليمامة.
18- مسعود بن سعد بن قيس [ (1) ] : ذكره محمد بن عمر، وأما ابن القدّاح فقال مات بخيبر.
19- خالد بن ثابت بن النعمان [ (2) ] : وقيل استشهد بمؤتة.
20- سفيان بن حاطب بن أمية: حاطب بالحاء والطاء المكسورة المهملتين وبالموحدة.
21- سعد بن عمرو بن ثقف: بفتح الثاء المثلثة فقاف ساكنة ففاء، واسمه كعب بن مالك.
22- 23- وابنه الطفيل، وابن أخيه: سهل بن عامر بن سعد بن عمرو بن ثقف.
24- عبد اللَّه بن قيس بن صرمة بن أبي أنس: صرمة بكسر الصاد المهملة والراء والميم وتاء مربوطة.
__________
[ (1) ] مسعود بن عبد سعد بن عامر هو مسعود بن عامر ... جعله أبو عمر اثنين وهو واحد واختلف في تسمية أبيه.
الإصابة 6/ 202.
[ (2) ] خالد بن ثابت بن النعمان بن الحارث بن عبد رزاح بن ظفر الأنصاري الظفري ... الإصابة 2/ 87.(6/62)
25- نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي: وفيه يقول عبد الله بن رواحة يرثيه:
رحم الله نافع بن بديل ... رحمة المبتغي ثواب الجهاد
صابرا صادق اللّقاء إذا ما ... أكثر القوم قال قول السّداد
ووقع في بعض نسخ العيون فوات الجهاد بالفاء أخت القاف وهو تصحيف من الناسخ.
وهذا ما ذكره أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه ذيل المذيل. وزاد ابن سعد الضحاك ابن عبد عمرو بن مسعود، وهو أخو قطبة. وزاد ابن القدّاح عمير بن معبد بن الأزعر، بالزاي والعين المهملة وسماه ابن إسحاق عمرا. وزاد ابن الكلبي: خالد بن كعب بن عمرو بن عوف. وزاد أبو عمر [النمري في الاستيعاب] سهيل بن عامر بن سعد، قال في العيون: «وأظنه سهل بن عامر الذي ذكرناه [على أنه ذكر ذلك في ترجمتين إحداهما في باب سهل والأخرى في باب سهيل] والمختلف في قتله [في هذه الواقعة مختلف في حضوره] فأرباب المغازي متفقون على أن الكل قتلوا إلا عمرو بن أمية الضّميريّ، وكعب بن زيد بن قيس فإنه جرح يوم بئر معونة ومات بالخندق» . انتهى. ونقل في الإصابة عن عروة أن سهيلا عم سهل أو أخوه. فصحّ ما قاله أبو عمر النّمريّ.
ذكر رجوع عمرو بن أمية الضميري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره خبر أصحابه
ورجع عمرو بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان بالقرقرة من صدر قناة أقبل رجلان من بني عامر ثم من بني كلاب أو من بني سلمة، حتى نزلا معه في ظل هو فيه. وكان مع العامريين عقد من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وجوار، ولم يعلم به عمرو. فسألهما حين نزلا: ممّن أنتما؟ فقالا من بني عامر. فأمهلهما حتى إذا ناما عدا عليهما فقتلهما، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثؤرة من بني عامر فيما أصابوا من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
فلما قدم عمرو بن أمية على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أخبره الخبر فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لقد قتلت قتيلين لأدينّهما» ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارها متخوفا» .
فبلغ ذلك أبا براء، فشقّ عليه إخفار عامر بن الطفيل إياه وما أصاب أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بسببه وجواره. وقال حسان بن ثابت رضي اللَّه تعالى عنه يحرّض بني أبي براء على عامر بن الطفيل:
بني أمّ البنين ألم يرعوكم ... وأنتم من ذوائب أهل نجد
تهكم عامر بأبي براء ... ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي ... فما أحدثت في الحدثان بعدي(6/63)
أبوك أبو الحروب أبو براء ... وخالك ماجد حكم بن سعد
قال ابن هشام: أم البنين [ (1) ] بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وهي أم أبي براء وحكم بن سعد من القين بن جسر. قال ابن إسحاق: فحمل ربيعة بن عامر بن مالك، على عامر بن الطفيل فطعنه بالرمح، فوقع في فخذه فأشواه ووقع عن فرسه، فقال: هذا عمل أبي براء، إن أمت فدمي لعمّي فلا يتبعنّ به وإن أعش فسأرى رأيي فيما أتى إليّ.
وقال حسان بن ثابت يبكي قتلى بئر معونة:
على قتلى معونة فاستهلّي ... بدمع العين سحّا غير نزر
على خيل الرسول غداة لاقوا ... ولاقتهم مناياهم بقدر
أصابهم الفناء بعقد قوم ... تخوّن عقد حبلهم بغدر
فيا لهفي لمنذر إذ تولّى ... وأعنق في منيّته بصبر
فكائن قد أصيب غداة ذاكم ... من ابيض ماجد من سرّ عمرو
تنبيهات
الأول: ذكر أبا براء في الصحابة خليفة بن خياط- بالخاء المعجمة والتحتية المشددة- والبغوي وابن البرّقي، والعسكري، وابن نافع، والباوردي- بالموحدة- وابن شاهين، وابن السّكن، وقال الدارقطني [ (2) ] : له صحبة.
وروى عمر بن شبة [ (3) ]- بفتح الشين المعجمة وتشديد الموحدة- في كتاب الصحابة له عن مشيخة من بني عامر، قالوا: قدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خمسة وعشرون رجلا من بني جعفر، ومن بني بكر، فيهم عامر بن مالك الجعفري، فنظر إليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: «قد استعملت عليكم هذا» وأشار إلى الضحّاك بن سفيان الكلابي وقال لعامر بن مالك بن جعفر: «أنت على بني جعفر» وقال للضحّاك:
«استوص به خيرا»
قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: «فهذا يدل على انه وفد بعد ذلك مسلما» . إذا علمت ذلك فقول الذهبي في التجريد الصحيح: إنه لم يسلم، فيه نظر.
__________
[ (1) ] أم البنين بنت عيينة بن حصين الفزاري لوالدها صحبة ولها إدراك وتزوجها عثمان وله معها قصة. من طبقات ابن سعد الإصابة 8/ 216.
[ (2) ] علي بن عمر بن أحمد بن مهدي، أبو الحسن الدارقطني الشافعي: إمام عصره في الحديث، وأول من صنف القراءات وعقد لها أبوابا من تصانيفه كتاب «السنن» و «العلل الواردة في الأحاديث النبوية» و «المجتبى من السنن المأثورة» و «المؤتلف والمختلف» و «الضعفاء» توفي 385. الأعلام 4/ 314.
[ (3) ] عمر بن شبة (واسمه زيد) بن عبيدة بن ريسطة النميري البصري أبو زيد: شاعر، راوية مؤرخ، حافظ للحديث من أهل البصرة توفي بسامراء له تصانيف منها «كتاب الكتاب» والنسب وأخبار بني نمير وغير ذلك توفي 262 هجرة الأعلام، 5/ 47، 48.(6/64)
الثاني: في الصحيح أن القرّاء كانوا سبعين رجلا وعند ابن إسحاق أربعين قال الحافظ:
ووهم من قال إنهم ثلاثون، وما في الصحيح هو الصحيح. ويمكن الجمع بأن الأربعين كانوا رؤساء، وبقيّة العدّة كانوا أتباعا وجرى على ذلك في الغرر وزاد أن رواية القليل لا تنافي رواية الكثير وهو من باب مفهوم العدد وكذا قول من قال ثلاثين.
الثالث: انفرد المستغفري [ (1) ] بذكر عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر الكلابي في الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم. قال الحافظ: (وهو خطأ صريح فإن عامرا مات كافرا وقصته معروفة [ (2) ] أي كما سيأتي بيان ذلك. وقال في النور: أجمع أهل النقل على أن عامر بن الطفيل مات كافرا وما ذكره المستغفري خطأ) انتهى.
الرابع: قول أنس: «ثم نسخ بعد» قال السهيلي: «فثبت هذا في الصحيح وليس عليه رونق الإعجاز. فيقال إنه لم ينزل بهذا النظم معجز كنظم القرآن، فإن هذا خبر، والخبر لا يدخله النسخ. قلنا لم ينسخ منه الخبر وإنما نسخ منه الحكم فإن حكم القرآن أن يتلى به في الصلاة وألّا يمسّه إلا طاهر، وأن يكتب بين اللوحين، وأن يكون تعلّمه من فروض الكفاية.
فكل ما نسخ ورفعت منه هذه الأحكام وإن بقي محفوظا فإنه منسوخ [فإن تضمّن حكما جاز أن يبقى ذلك الحكم معمولا به] ، وإن تضمن خبرا جاز أن يبقى ذلك الخبر مصدّقا به وأحكام التلاوة منسوخة عنه» .
الخامس: وقع في الصحيح في رواية أنس: «دعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على الذين قتلوا أصحاب بئر معونة ثلاثين صباحا، على رعل ولحيان وعصيّة» [ (3) ] إلى آخره. قال الحافظ أبو محمد الدمياطي وتبعه في العيون كذا وقع في هذه الرواية، وهو يوهم أن بني لحيان كانوا ممن أصاب القرّاء يوم بئر معونة وليس كذلك، وإنما أصاب هؤلاء رعل وذكوان وعصيّة ومن صحبهم من سليم. وأما بنو لحيان فهم الذين أصابوا بعث الرجيع. وإنما أتى الخبر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عنهم كلهم في وقت واحد، فدعا على الذين أصابوا الصحابة في الموضعين دعاء واحدا. وذكر محمد بن عمر أن خبر بئر معونة وخبر أصحاب الرجيع جاء إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في ليلة واحدة.
__________
[ (1) ] جعفر بن محمد بن المعتز بن محمد بن المستغفر النسفي أبو العباس فقيه له اشتغال بالتاريخ من رجال الحديث كان خطيب نسف (من بلاد ما وراء النهر) وتوفي بها له «الدعوات» في الحديث والتمهيد في التجويد وغير ذلك ورجال الحديث يأخذونه عليه رواية الموضوعات من غير تنبيه. الأعلام 2/ 128.
[ (2) ] أخرجه البخاري 7/ 446 عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه ... كان رئيس المشركين عامر بن الطفيل خيّر- النبي صلى اللَّه عليه وسلم- بين ثلاث خصال فقال: «يكون لك أهل السهل ولي أهل المدر، أو أكون خليفتك، أو أغزوك بأهل غطفان بألف وألف» فطعن عامر في بيت فلان فقال: «غدة كغدة البكر ... » .
[ (3) ] أخرجه البخاري 7/ 446 (4091) .(6/65)
السادس: في بيان غريب ما سبق:
بئر معونة: بميم مفتوحة فعين مهملة مضمومة فواو ساكنة فنون فتاء تأنيث، موضع في بلاد هذيل بين مكة وعسفان.
رعل: بكسر الراء وسكون العين المهملة وباللام، بطن من بني سليم ينسبون إلى رعل بن عوف- بالفاء- ابن مالك بن إمرئ القيس بن بهثة بضم الموحدة وسكون الهاء وبالثاء المثلثة فتاء تأنيث.
ذكوان بفتح الذال المعجمة وسكون الكاف وبالواو والألف، بطن من بني سليم أيضا.
عصيّة. بضم العين وفتح الصاد المهملتين وتشديد التحتية فتاء تأنيث: قبيلة.
لحيان: بفتح اللام وكسرها وسكون الحاء المهملة وبالتحتية والنون.
استمدّه: طلب منه مدّه.
أبو براء: بفتح الموحدة وبالراء والمدّ ملاعب الأسنة: وهي الرماح لقّب بذلك مبالغة في وصفه بالشجاعة.
زبد المشركين: الزّبد بفتح الزاي وسكون الباء الرّفد والعطاء يقال منه زبده يزيده بالكسر فأما يزبده بالضم فهو إطعام الزّبد. قال الخطّابي: يشبه أن يكون هذا الحديث «إنا لا نقبل زبد المشركين» منسوخا لأنه قد قبل هدية غير واحد من المشركين [أهدى له المقوقس مارية والبغلة وأهدى له أكيدر دومة فقبل منهما] وقيل إنما ردّ هديته ليغيظه بردّها فيحمله ذلك على الإسلام، وقيل ردّها لأن للهديّة موضعا من القلب ولا يجوز عليه أن يميل بقلبه إلى مشرك، فردّها قطعا لسبب الميل، وليس ذلك مناقضا لقبوله هدية النجاشي والمقوقس وأكيد لأنهم أهل كتاب» .
وقال السهيلي في غزوة تبوك: قال صلى اللَّه عليه وسلم: «إني نهيت عن زبد المشركين»
ولم يقل عن هديتهم. لأنه إنما كره ملاينتهم ومداهنتهم إذا كانوا حربا له لأن الزّبد مشتقّ من الزّبد كما أن المداهنة مشتقّة من الدّهن فعاد المعنى إلى معنى اللين والملاينة ووجوب الجدّ في حربهم والمخاشنة وسيأتي في سيرته صلّى اللَّه عليه وسلم في الهدية زيادة على ذلك.
ولم يبعد: بفتح أوله وضم العين.
رجوت: بضم التاء على المتكلم.
نجد: ما أشرف من الأرض.(6/66)
أنا لهم جار: أي هم في ذمامي وعهدي وجواري.
أن يعرض: بفتح الهمزة.
شببة: بفتح الشين المعجمة والموحدتين، جمع شاب وهو من دون الكهولة.
استعذبوا الماء: استقوه عذبا.
الحجر: بضم الحاء المهملة وفتح الجيم جمع حجرة وهي البيت.
المنذر: بالذال المعجمة بلفظ اسم الفاعل.
السّاعدي: بسين وعين ودال مهملات.
من بني سليم: بضم السين المهملة وفتح اللام.
عسكروا بها: جمعوا عسكرهم أي جيشهم بها.
سرحوا: أرسلوا.
الظّهر: أي الركاب التي تحمل الأثقال في السفر.
حرام: ضد حلال.
ملحان: بفتح الميم وكسرها وهو أشهر.
عامر بن الطفيل: بن مالك ابن أخي أبي براء مات كافرا.
أومئوا: الإيماء الإشارة ببعض الأعضاء كالرأس واليد والعين والحاجب، يقال أومأت إليه بالهمز أومئ إيماء ووميت لغة فيه ولا يقال أوميت.
أنفذه: أي الرمح حتى خرج منه من الجانب الآخر.
الفوز: بفاء فواو فزاي: النجاة والظّفر بالخير أي فاز بالشهادة.
ثم قال بالدم: من إطلاق القول على الفعل وفسّره بأنه نضحه على وجهه بنون فضاد معجمة فحاء مهملة مفتوحات أي رشّه عليه.
استصرخ عليه: استغاث.
لن نخفر: بضم النون وكسر الفاء، يقال أخفره إذا نقض عهده وذمامه، رباعي. وخفره ثلاثي إذا أوفى بعهده وحفظه.
الجواز: بضم الجيم وكسرها الأمان.
زعب: بكسر الزاي وسكون العين المهملة وبالموحدة، بطن من سليم ينتسبون إلى زعب.(6/67)
رأسوه: عليهم براء مفتوحة فهمزة مشددة فسين مهملة مضمومة أي شرّفوه وعظّموا قدره.
حتى قتلوا: بالبناء للمفعول.
الرمق: بفتح الراء والميم وبالقاف: بقية الحياة.
ارتثّ: بهمزة وصل فإن ابتدأت بها ضممتها فثاء وبالبناء للمفعول أي حمل من المعركة رثيثا أي جريحا وبه رمق.
بريء من كذا: بفتح الموحدة وكسر الراء وبالهمز، تخلّص وتنزّه وتباعد.
المعنق ليموت: بضم الميم وسكون العين المهملة وكسر النون وبالقاف: أي المتقدم أو المسرع وإنما لقّب بذلك لتقدمه أو لإسراعه إلى الشهادة.
السرح: بسين مفتوحة وحاء مهملتين بينهما راء ساكنة: المال السّائم.
ارتابا: خافا.
عكوف الطير: إقامتها.
أوفيا: بفتح أوله وسكون الواو وفتح التحتية: أشرفا.
النّشز: بفتح النون والشين المعجمة وقد تسكّن وبالزاي: المرتفع من الأرض.
مصرع حرام: مكان صرعه أي قتله.
أشرعوا الرماح: أمالوها إليه.
نظموه بها: اختلعوه بالرماح.
من مضر: بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وبالراء: حيّ من العرب.
النّسمة: بفتح النون والميم والسين المهملة بينهما: المراد به الإنسان هنا.
جزّ: قطع الناصية والناصية منبت الشعر من مقدّم الرأس ويطلق على الشعر وهو المراد هنا.
شرح غريب ذكر مقتل عامر بن فهيرة رضي اللَّه تعالى عنه وإعلامه تبارك وتعالى بذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم علوا في السماء
جبار: بفتح الجيم والموحدة المشدّدة وبالراء.
سلمى: بضم السين المهملة وسكون اللام وبالقصر.
لعمر اللَّه: أي بقاؤه ودوامه، وهو رفع بالابتداء، والخبر محذوف تقديره لعمر اللَّه قسمي(6/68)
أو ما أقسم به. واللام للتوكيد. فإن لم تأت اللام نصبته نصب المصادر: عمر اللَّه وعمرك اللَّه أي بإقرارك للَّه وتعميرك له بالبقاء.
وارت: أخفت وسترت.
الجثّة: الجسد قال في المصباح المنير: «الجثة للإنسان إذا كان قاعدا أو نائما فإن كان منتصبا فهو طلل» .
علّيون: اسم لأعلى الجنّة.
اقتطعوهم: أي حالوا بينهم وبين النجاة.
وجد عليه: حزن عليه.
الغداة: صلاة الصبح.
هل لك في كذا تقدّم تفسيره.
مهلا: بفتح الميم وسكون الهاء منصوب بفعل محذوف أي اتّئد في أمرك ولا تعجل.
شرح غريب ذكر رجوع عمرو بن أمية الضمري رضي اللَّه تعالى عنه
القرقرة: بقافين مفتوحتين بعد كل منهما راء، الأولى ساكنة.
قناة: بضم القاف وبالنون واد بأرض المدينة الشريفة.
سليم بضم السين المهملة.
معه عقد: بفتح العين المهملة أي عهد.
جوار: بضم الجيم وكسرها: الذّمام والعهد.
أمهله: سكّنه وأخّر أمره.
عدا عليه: بالعين المهملة عدوا وعدوّا وعداء وعدوانا ظلم وتجاوز الحد.
يرى: بضم التحتية يظنّ.
الثّؤرة: بضم الثاء المثلثة فهمزة ساكنة والثّأر بالهمز ويجوز تخفيفه.
الذّحل: بفتح الذال المعجمة وبالحاء المهملة واللام الحقد بكسر الحاء المهملة ويجمع أذحال مثل سبب وأسباب ويسكن فيجمع على ذحول مثل فلس وفلوس، يقال ثأرت القتيل إذا قتلت قاتله.
أم البنين: هي أم أبي براء واسمها ليلى بنت عامر قاله في الروض. وقال في الإملاء يريد(6/69)
قول لبيد: (نحن بني أم البنين الأربعة) وكانوا نجباء فرسانا. ويقال إنهم كانوا خمسة لكن لبيد جعلهم أربعة لإقامة الوزن.
يرعكم: بمثناة تحتية مفتوحة فراء مضمومة مهملة يفزعكم.
الذوائب: بالذال المعجمة وهي هنا الأعالي.
التهكم: الاستهزاء.
عامر بن الطفيل بضم الطاء المهملة وكسر الفاء وسكون التحتية ثم لام.
ليخفره: بضم التحتية [وتسكين الخاء المعجمة وكسر الفاء] أي لينقض عهده.
ربيعة: هو ابن أبي براء ذكره الحافظ في الإصابة وذكر ما يدل على إسلامه.
المساعي: جمع مسعاة وهي السعي في طلب المجد والمكارم.
الحدثان: بكسر الحاء وسكون الدال المهملتين مصدر حديث حدثانا كالوجدان وهو قريب العهد.
حكم بن سعد: بحاء مهملة وكاف مفتوحتين لا يعلم له إسلام.
القين: بفتح القاف وسكون التحتية وبالنون الحدّاد والقينة الأمة مغنية كانت أم لا والماشطة وكثيرا ما تطلق على المغنية من الإماء.
جسر: بفتح الجيم وسكون السين وبالراء المهملتين.
أشواه: بهمزة مفتوحة فشين معجمة أي لم يصب المقتل.
فلا يتبعنّ به: بالبناء للمفعول.
أتي إليّ: بالبناء للمفعول.(6/70)
الباب السابع عشر في سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى عنه إلى القرطاء
[وهي بطون من بني بكر من قيس عيلان] وكانوا ينزلون البكرات بناحية ضريّة، على رأس تسعة وخمسين شهراً من الهجرة.
روى محمد بن عمر بن جعفر بن محمود قال: قال محمد بن مسلمة: خرجت لعشر ليال خلون من المحرم فغبت عشرين ليلة إلا ليلة وقدمت المدينة لليلة بقيت من المحرم.
وروى محمد بن عمر عن شيوخه، وابن عائذ عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث محمد بن مسلمة في ثلاثين رجلا ركبانا، فيهم عباد بن بشر، وسلمة بن سلامة بن وقش، والحارث بن خزيمة إلى بني بكر بن كلاب، وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار، وأن يشنّ الغارة عليهم حتى إذا كان بالشّربّة لقي ظعنا فأرسل رجلا من أصحابه يسأل: من هم؟ فذهب الرجل ثم رجع إليه فقال: قوم من محارب. فنزلوا قريبا منه وحلوا وروحوا ماشيتهم فأمهلهم حتى إذا عطنوا أغار عليهم فقتل نفرا منهم وهرب سائرهم، فلم يطلب من هرب واستاق نعما وشاء ولم يتعرّض للظّعن. ثم انطلق حتى إذا كان بموضع يطلعه على بني بكر بعث عائذ بن بسر إليهم فأوفى على الحاضر فأقام. وخرج محمد في أصحابه فشنّ عليهم الغارة فقتل منهم عشرة واستاقوا النّعم والشاء، ثم انحدر إلى المدينة فما أصبح إلا بضريّة مسيرة ليلة أو ليلتين، ثم حدر بالنّعم وخاف الطلب فطرد الشاء أشد الطرد فكانت تجري معهم كأنها الخيل حتى بلغ العدّاسة فأبطأ عليهم الشاء بالرّبذة فخلّفه مع نفر من أصحابه وطرد النّعم، فقدم المدينة على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ووصل بعده الشاء فخمّس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما جاء به ثم فضّ على أصحابه ما بقي فعدلوا الجزور بعشر من الغنم. وذكر البلاذري والحاكم إنها كانت في المحرم سنة ست وأن ثمامة بن أثال الحنفي أخذ فيها، وذكر حديث إسلامه.
روى الشيخان والبخاري مختصرا ومسلم مطوّلا وابن إسحاق عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيّد أهل اليمامة ولا يشعرون من هو حتى أتوا به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال: «أتدرون من أخذتم؟ هذا ثمامة بن أثال الحنفي، أحسنوا إسارة» . فربطوه بسارية من سواري المسجد» .
وروى البيهقي عن ابن إسحاق أن ثمامة كان رسول مسيلمة إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قبل ذلك وأراد اغتياله، فدعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ربه تبارك وتعالى أن يمكنه منه، فدخل المدينة معتمرا وهو مشرك فدخل المدينة حتى تحيّر فيها فأخذ، انتهى. ورجع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى أهله فقال:
«اجمعوا ما كان عندكم من طعام فابعثوا به إليه» . وأمر بلقحته أن يغدى عليه بها وبراح، فجعل(6/71)
لا يقع من ثمامة موقعا ويأتيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فيقول: «ما عندك يا ثمامة؟» فيقول: «عندي خير يا محمد» . وفي لفظ: «أسلم يا ثمامة» . فيقول: «أيها يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر وإن ترد الفداء فسل منه ما شئت» . فتركه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى إذا كان الغد فقال: «ما عندك يا ثمامة؟» قال: عندي ما قلت لك. وذكر مثله: فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أطلقوا ثمامة» فأطلقوه فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: «أشهد ألا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا محمد واللَّه ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه كلها إليّ، واللَّه ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحبّ الدين كله إليّ، واللَّه ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحبّ البلاد كلها إليّ، وإن خليلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟» فبشّره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأمره أن يعتمر. فلما أسلم جاءوه بما كانوا يأتونه به من الطعام وباللّقحة فلم يصب من حلابها إلا يسيرا فعجب المسلمون من ذلك. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم [حين بلغه ذلك] : «ممّ تعجبون؟ أمن رجل أكل أوّل النهار في معى كافر وأكل في آخر النهار في معى مسلم؟ إنّ الكافر يأكل في سبعة أمعاء وإن المسلم يأكل في معى واحد» .
قال ابن هشام رحمه اللَّه تعالى: فبلغني أنه خرج معتمرا حتى إذا كان ببطن مكة لبّى فكان أول من دخل مكة يلبّي. فأخذته قريش فقالوا: لقد اجترأت علينا. فلما قدّموه ليضربوا عنقه قال قائل منهم: دعوه فإنكم تحتاجون إلى اليمامة لطعامكم فخلّوه. فقال الحنفي في ذلك:
ومنّا الذي لبّى بمكّة معلنا ... برغم أبي سفيان في الأشهر الحرم
وقالوا: أصبوت يا ثمامة؟ فقال: لا ولكني أسلمت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم اتّبعت خير دين، دين محمد وو اللَّه لا تصل إليكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا منها شيئا إلى مكة حتى أكلت قريش العلهز.
فجاء أبو سفيان إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وفي رواية قال: «ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟» قال: «بلى» . قال: «فقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع» .
وفي رواية: فكتبوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إنك تأمر بصلة الرّحم وإنك قد قطعت أرحامنا» . فكتب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إليه أن يخلّي بينهم وبين الحمل، وأنزل اللَّه عز وجل: وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون 76] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
القرطاء: بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة وهم قرط بضم القاف وسكون الراء(6/72)
وقريط بفتح الراء وقريط بكسرها بنو عبد بغير إضافة [ابن عبيد] وهو أبو بكر ابن كلاب من قيس عيلان- بعين مهملة وسكون التحتية وذكره أبو محمد الرشاطي رحمه اللَّه تعالى.
البكرات: بفتح الموحدة وسكون الكاف فراء فألف فمثناة فوقية جمع بكرة، كذا فيما وقفت عليه من كتب المغازي قال الصفاني رحمه اللَّه تعالى: «البكرة ماء لبني ذؤيب من الضّباب وعندها جبال شمّخ يقال لها البكرات» . وذكر شيئا آخر، والبكران يعني بالموحدة وسكون الكاف وآخره نون بلفظ التثنية موضع بناحية ضريّة- بفتح الضاد المعجمة وكسر الراء وفتح التحتية المشددة فتاء- قرية لبني كلاب، وتبعه في المراصد. قال في النور: ولعل ما في العيون بلفظ التثنية وتصحّف على الناسخ فذكرها بلفظ الجمع. انتهى ولم يذكر أبو عبيد البكري في معجمة بحمى ضريّة إلا بكرة بالإفراد. قلت وهو بعيد جداً لتوارد ما وقفت عليه من كتب المغازي.
ضريّة: بفتح الضاد المعجمة الساقطة وكسر الراء وفتح التحتية المشددة فتاء تأنيث، قرية لبني كلاب.
بشر: بكسر الموحدة وسكون الشين المعجمة.
وقش: بفتح الواو والقاف وبالشين المعجمة.
خزمة: بفتح الخاء المعجمة وسكون الزاي وقيل بفتحها وبه جزم في الإصابة وقيل بالتصغير.
يكمن النهار: يستتر فيه ويختفي.
ويشنّ: بفتح التحتية وضم الشين المعجمة وبالنون، يفرّق.
الغارة: وهي الخيل المغيرة، والغارة الاسم من الإغارة على العدو.
الشّربّة: بشين معجمة فراء فموحدة مشددة مفتوحات فتاء تأنيث، اسم موضع.
الظّعن: بضمتين ويسكّن، والظعائن جمع ظعينة قال في النهاية وهي المرأة في الهودج ثم قيل للمرأة بلا هودج ثم قيل للهودج بلا امرأة.
محارب: بميم مضمومة فحاء مهملة فألف فراء مكسورة فموحدة، بطن من قريش ومن عبد القيس.
حلوا: بفتح الحاء المهملة وضم المشددة: نزلوا.
روّحوا ماشيتهم: بفتح الراء والواو المشددة، أرسلوها للمرعى.
أمهلهم: تركهم.(6/73)
عطّنوا: بفتح العين والطاء المشددة المهملتين وبالنون، أناخوا الإبل وبرّكوها حول الماء.
النّعم: بفتح النون والعين المهملة.
والشّاء: عطف الأخصّ على الأعمّ.
يعرض: بكسر الراء.
أوفى: أشرف.
الحاضر: بالحاء المهملة والضاد المعجمة الساقطة المكسورة: القوم النّزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه.
العدّاسة: بفتح العين والدال المشددة بعد الألف سين مهملات، كذا في نسخة صحيحة من مغازي محمد بن عمر الأسلمي، ولم أر لها ذكرا فيما وقعت عليه من كتب الأماكن والبلدان.
الرّبذة [ (1) ] : بفتح الراء والموحدة وبالذال المعجمة اسم بلد.
البلاذري [ (2) ] : بفتح الموحدة والذال المعجمة نسبة إلى البلاذر المعروف.
ثمامة: بضم الثاء والمثلثة وميمين.
أثال: بهمزة مضمومة فثاء مثلثة مخففة وبالصّرف.
الحنفي: من بني حنيفة.
نجد [ (3) ] : بفتح النون وسكون الجيم موضع مشرف، وهو ضدّ تهامة [ (4) ] .
لا يشعرون: أي لا يعلمون.
اليمامة [ (5) ] : بفتح التحتية مدينة معروفة باليمن.
__________
[ (1) ] الربذة بفتح أوله وثانية، ودال معجمة مفتوحة: من قرى المدينة، على ثلاثة أميال ومنها قريبة من ذات عرق على طريق الحجاز وثلاثمائة بالقرامطة مراصد الاطلاع 2/ 601.
[ (2) ] البلاذري بفتح الباء الموحدة وبعدها لام ألف وضم الذال المعجمة وفي آخرها الراء هذه النسبة إلى البلاذر وهو معروف الأنساب 1/ 423.
[ (3) ] نجد بفتح أوله وسكون ثانية قال النضر: النجد قفاف الأرض وصلابيها وما غلظ منها وأشرف، والجماعة النجاد، ولا يكون إلا قفا أو صلاية من الأرض من ارتفاع من الجبل معترضا بين يديك يرد طرفك عما وراءه معجم البلدان 5/ 303.
[ (4) ] انظر مراصد الاطلاع 14/ 283.
[ (5) ] اليمامة واحد اليمام، وهو طائر، وهو بلد كبير، فيه قرى وحصون ونخل، وكان اسمها أولا جوّا.
واليمامة هي الزرقاء التي يضرب بها المثل في النظر البعيد. قلع تبع عينيها وصلبها على باب جوّ، فسمّيت بها. مراصد الاطلاع 3/ 1483.(6/74)
الإسار: بكسر الهمزة القيد.
السارية: الأسطوانة بضم الهمزة والطاء المهملة.
الاغتيال: أن يوصّل إليه الشّرّ أو القتل من حيث لا يعلم.
تحيّر: بفتح الفوقية والحاء المهملة والتحتية المشددة وبالراء.
اللّقحة: بكسر اللام وفتحها الناقة ذات اللّبن.
يغدو: يصبح. يراح: يمسي.
الحلاب: بكسر الحاء المهملة وهو هنا اللّبن.
إن تقتل تقتل ذا دم: بدال مهملة على الصحيح أي صاحب يشتفى بقتله ويدرك به قاتله ثأره فاختصر اعتمادا على مفهوم الكلام. ورواه بعضهم: ذا ذمّ بذال معجمة وفسّره بالذّمام والحرمة في قومه إذا عقد ذمّة وفّي له ولم يخفره. وقال القاضي: وكونه بالمهملة أصح لكونه ذا ذمام لم يجز قتله. قال في المطالع: وكان شيخنا القاضي حمله على الذّمّة أي انتقل من عقدت له ذمة وهذا لا يليق بالحديث.
إن تنعم بضم أوله وكسر ثالثه.
الفداء: بكسر الفاء وبالمدّ وبالفتح والقصر وهو أن تشتري الرجل أو تنقذه بمال.
أطلقوا: بفتح الهمزة وكسر اللام.
نخل: بفتح النون وسكون الخاء المعجمة، هكذا الرواية أي إلى نخل فيه ماء فاغتسل منه، وذكره ابن دريد بالجيم وهو الماء الجاري.
ممّ تعجبون؟ أصله ممّا، حذفت ألف ما الاستفهامية لدخول الجار.
المعى كعنب ويمدّ، المصران [مذكر وقد يؤنث] وتذكيره أكثر. وقوله: والكافر يأكل (في سبعة أمعاء) . قال في النهاية والتقريب: هو مثل ضربه لزهد المؤمن وحرص الكافر. وهو خاصّ في رجل بعينه كان يأكل كثيرا فأسلم فقلّ أكله.
بطن مكة: قبل الحديبية، وقيل وادي مكة، وقيل التنعيم.
اجترأ عليه: معلنا: بضم الميم وسكون العين المهملة وكسر اللام: مظهرا.
برغم فلان: بفتح الموحدة وتثليث الراء [في المصدر] يقال رغم أنفه، كذلك التصق(6/75)
بالرّغام وهو [التراب] . هذا هو الأصل ثم استعمل في الذّل والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره.
صبأ: بالهمز.
العلهز: بكسر العين المهملة وسكون اللام وكسر الهاء وبالزاي، شيء كانوا يتخذونه في سني المجاعة يخلطون فيه الدم بأوبار الإبل ثم يشوونه بالنار ويأكلونه وقيل كانوا يخلطون فيه القردان ويقال للقراد الضّخم علهز.
استكان: خضع.
تضرّعوا: ذلّوا وخشعوا.(6/76)
الباب الثامن عشر في سرية عكاشة بن محصن [بن حرثان الأسدي] رضي اللَّه تعالى عنه
إلى غمر مرزوق [ (1) ] ، ماء لبني أسد في شهر ربيع الأول سنة ست روى محمد بن عمر رحمه اللَّه تعالى عن القاسم بن محمد رحمه اللَّه تعالى قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً منهم ثابت بن أقرم [ (2) ] ، وذكر ابن عائذ أنه كان الأمير، وشجاع بن وهب [ (3) ] ، ويزيد بن رقيش [ابن رئاب بن يعمر] زاد ابن عائذ: ولقيط بن أعصم حليف بني عمرو بن عروة، ثم من بني معاوية بن مالك بن بليّ. فخرج سريعا يغذ السّير، ونذر القوم بهم، فهربوا من مالهم، فنزلوا علينا بلادهم، فانتهوا إلى الماء. فوجد الدار خلوفا. فبعث شجاع بن وهب طليعة يطلبون خبرا، أو يرون أثرا، فرجع شجاع بن وهب فأخبره أنه رأى أثر نعم قريبا، فتحملوا فأصابوا ربيئة لهم قد نظروا ليلة يسمع الصوت، فلما أصبح قام، فأخذوه وهو نائم، فقالوا: أتخبر عن الناس؟ قال: وأين الناس؟ قد لحقوا بعليا بلادهم. قالوا:
فالنّعم؟ قال: ما معهم. فضربه أحدهم بسوط في يده فقال: أتؤمنوني على دمي وأطلعكم على نعم لبني عمّ له لم يعلموا بمسيركم إليهم. قالوا: نعم. فآمنوه فانطلقوا معه فأمعن حتى خافوا أن يكون ذلك غدرا منه لهم فقالوا: واللَّه لتصدّقنا أو لنضربنّ عنقك. فقال: تطلعون عليهم من هذا الظريب فدنوا فإذا نعم رواتع فأغاروا عليها وأصابوها وهربت الأعراب في كل وجه، ونهى عكّاشة عن الطلب. واستاقوا مائتي بعير، فحدروها إلى المدينة، وأرسلوا الرجل. وقدموا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ولم يصب منهم أحد ولم يلقوا كيدا.
تنبيهات
الأول: قول من قال أن ثابت بن أقرم أصيب فيها ليس بشيء فإنه استشهد أيام الرّدّة.
الثاني: وقع في نسخة أبي الفتح من الإكليل للحاكم بعث سباع من وهب طليعة،
__________
[ (1) ] وردت بلفظ غمرة. قال في المراصد: غمرة منهل من مناهل طريقة مكة فصل ما بين تهامة ونجد. انظر المراصد الاطلاع 24/ 1001.
[ (2) ] (ثابت) بن أقرم بن ثعلبة بن عدي بن العجلان البلوي حليف الأنصار ... ذكره موسى بن عقبة في البدريين وقال ابن إسحاق في المغازي: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن مروة قال: ثم أخذ الراية يعني في غزاة مؤتة ثابت بن أقرم بعد قتل ابن رواحة فدفعها إلى خالد بن الوليد وكذا رواه ابن مندة من حديث أبي اليسر بإسناد ضعيف الإصابة 1/ 197، 198.
[ (3) ] شجاع بن وهب ويقال: ابن أبي وهب بن ربيعة بن أسد بن صهيب بن مالك بن كثير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي ذكره ابن إسحاق في السابقين الأولين وفيمن هاجر إلى الحبشة وفيمن شهد بدرا وكذا ذكره موسى بن عقبة وابن الكلبي وعروة وقال ابن أبي حاتم: شجاع بن وهب أخو عقبة من المهاجرين الأولين استشهد باليمامة وكنيته أبو وهب. الإصابة 3/ 194.(6/77)
والذي في النسخ منه شجاع بن وهب، ولا وجود لسباع بن وهب في الصحابة.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
عكّاشة: بضم العين المهملة وتشديد الكاف وقد تخفّف.
محصن: بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين وبالنون.
الغمر: بفتح الغين المعجمة وسكون الميم وبالراء.
مرزوق: بلفظ اسم المفعول.
ثابت: بالثاء المثلثة والموحدة والفوقية.
ابن أقرم: بفتح الهمزة وسكون القاف وفتح الراء وبالميم.
ابن عايذ: بتحتية وذال معجمة.
لقيط بن أعصم: بألف فعين فصاد مهملتين فميم كذا في العيون عن ابن عائذ ولم أر فيما وقفت عليه من كتب الصحابة من اسمه لقيط واسم أبيه أعصم والذي رأيته لقيط بن عصر.
يغذّ: بضم التحتية وكسر الغين وبالذال المشددة المعجمتين: يسرع.
نذر به القوم، بفتح النون وكسر الذال المعجمة وبالراء علموا.
عليا الشيء: بضم العين المهملة أعلاه.
الدار: المحل: مجمع البناء.
والعرصة: الدارة وقد يذكّر.
الخلوف: بخاء معجمة فلام مضمومة ففاء الغيّب. وفي الكلام حذف تقديره وجد أصحاب الدار خلوفا.
طليعة القوم: يبعثون أمام الجيش يعترفون طلع العدو، وبالكسر أي خبره.
الرّبيئة: براء مفتوحة فموحدة مكسورة فهمزة مفتوحة ممدودة فتاء تأنيث.
فآمنوه: بمدّ الهمزة وفتح الميم المخففة من الأمان.
أمعن في الطلب: بالغ في الاستقصاء.
الظّريب: بظاء معجمة مشالة مضمومة فراء مفتوحة فتحتية ساكنة فموحدة، تصغير ظرب بفتح الظاء وكسر الراء وهو ما نتأ من الحجارة وحدّد طرفه أو الجبل المنبسط أو الصغير.
رواتع: جمع رتوع وهي الدّابة الراعية كيف شاءت.
لم يلق كيدا: حربا.(6/78)
الباب التاسع عشر في سرية محمد بن مسلمة رضي الله تعالى
عنه إلى بني معوية وبني عوال بذي القصة [ (1) ] طريق الربذة في أول ربيع الآخر سنة ست روى محمد بن عمر رضي الله تعالى عنه عن شيوخه قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في عشرة نفر منهم: أبو نائلة، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر [ (2) ] ، ونعمان بن عصر، ومحيّصة بن مسعود، وحويّصة أخوه، وأبو بردة بن نيار [ (3) ] ، ورجلان من مزينة، [ورجل] من غطفان، فوردوا عليهم ليلا. فكمن القوم لمحمد بن مسلمة وأصحابه حتى ناموا، فأحدقوا بهم وهم مائة رجل، فما شعر المسلمون إلا بالنّبل قد حاطهم، فوثب محمد بن مسلمة ومعه قوس فصاح في أصحابه [السّلاح] ، فوثبوا فتراموا ساعة من الليل. ثم حملت الأعراب عليهم بالرماح فقتلوا من بقي. ووقع محمد بن مسلمة جريحا، يضرب كعبه فلا يتحرك وجردوهم الثياب وانطلقوا. فمر رجل [من المسلمين] على القتلى فاسترجع. فلما سمعه محمد بن مسلمة تحرّك له، فعرض عليه طعاما وشرابا وحمله حتى ورد به المدينة. فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح إلى مصارعهم فلم يجد أحدا، ووجد نعما وشاء فساقه ورجع فخمّسه وقسّم أربعة أخماسه فيهم. قال محمد بن مسلمة: فلما كانت غزوة خيبر نظرت إلى أحد النفر الذين كانوا ولّوا ضربي يوم ذي القصّة فلما رآني قال إني أسلمت وجهي، فقلت: أولى.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
مسلمة: بفتح الميم وسكون السين المهملة وفتح اللام المخففة وبالميم وبتاء تأنيث.
معوية: بفتح الميم والعين المهملة وكسر الواو وسكون التحتية وبتاء تأنيث.
بنو عوال: بعين مهملة مضمومة فواو مخففة، هم من العرب من بني عبد اللَّه بن غطفان، ووقع في بعض نسخ العيون غزال وهو تصحيف.
ذو القصّة: بفتح القاف والصاد المهملة وحكى في العيون إعجام الصاد، موضع قريب
__________
[ (1) ] ينظر معجم البلدان 4/ 416.
[ (2) ] أبو عبيس بن جبر بن عمرو بن زيد بن جشم بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي.. قيل: كان اسمه في الجاهلية عبد العزى وقيل: معبد فسماه النبي صلى اللَّه عليه وسلم عبد الرحمن الإصابة 7/ 126.
[ (3) ] (هانئ) بن نيار بن عمرو بن عبيد بن كلاب بن دهمان بن غنم بن ذئبان بن همين بن كاهل بن ذهل بن بلي البلوي أبو بردة بن نيار حليف الأنصار خال البراء بن عازب مشهور بكنيته ... الإصابة 6/ 278.(6/79)
من المدينة، بينه وبين المدينة أربعة وعشرون ميلا.
الرّبذة: بفتح الراء والموحدة والذال المعجمة وبتاء التأنيث موضع قريب من المدينة الشريفة.
أبو نائلة: بالنون وهمزة بعد الألف على صورة التحتية وباللام.
أبو عبس: بفتح العين والسين المهملتين وسكون الموحدة بينهما.
ابن جبر: بجيم مفتوحة فموحدة ساكنة فراء.
عصر: بفتح العين والصاد والراء المهملات، وقيل بكسر العين وقيل بفتحها وسكون الصاد بينهما.
محيّصة: بميم مضمومة فحاء مهملة فتحتية مشددة فصاد مهملة مفتوحات فتاء تأنيث.
حويّصة: بالحاء المهملة وزن الذي قبله.
أبو بردة: بضم الموحدة.
ابن نيار: بنون وتخفيف التحتية وبالراء.
مزينة: بضم الميم وفتح الزاي وسكون التحتية وبالنون.
غطفان: بفتح الغين المعجمة والطاء المهملة والنون بعد الألف.
كمن: استتر.
أحدقوا بهم: أحاطوا.
ما شعر: ما علم.
النّبل: بفتح النون وسكون الموحدة: السهام العربية، وهي مؤنثة ولا واحد لها من لفظها. بل الواحد سهم فهي مفرد اللفظ مجموعة المعنى.
انحاز إلى القوم: تحيّز إليهم أي مال.
الكعب: كل مفصل للعظام، والعظم الناتئ فوق القدم والناشز من جانبها مباشرة.(6/80)
الباب العشرون في سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي اللَّه تعالى عنه إلى ذي القصّة أيضا
روى محمد بن عمر عن شيوخه رحمهم اللَّه تعالى قالوا: أجدبت بلاد بني ثعلبة وأنمار.. ووقعت سحابة بالمراض إلى تغلمين. فسارت بنو محارب وبنو ثعلبة وأنمار إلى تلك السحابة، وكانوا قد أجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة، وسرحها يرعى يومئذ ببطن هيفاء.
فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلاً، صلّوا المغرب ليلة السبت لليلتين بقيتا من ربيع الآخر سنة ست. فباتوا ليلتهم يمشون حتى وافوا ذا القصّة مع عماية الصبح، فأغاروا عليهم فأعجزوهم هربا في الجبال، وأخذ رجلا واحدا، ووجد نعما من نعمهم فاستاقه ورثّة من متاع القوم، فقدم به المدينة. وغاب ليلتين، وأسلم الرجل فتركه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وخمّس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما قدم به أبو عبيدة وقسّم الباقي عليهم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الجدب: بفتح الجيم وسكون الدال المهملة نقيض الخصب.
المراض: بضاد معجمة كسحاب.
تغلمين: بفتح الفوقية وسكون الغين المعجمة وفتح اللام والميم وسكون التحتية وبالنون، كذا ألفيته مضبوطا في نسخة صحيحة من مغازي محمد بن عمر الواقدي ولم أجد له ذكرا فيما وقفت عليه من الكتب الأماكن والجبال والمياه.
محارب: بضم الميم وكسر الراء وبالموحدة.
أجمعوا: اتفقوا.
أن يغيروا: يدفعوا الخيل.
على السّرح: بفتح السين وسكون الراء وبالحاء المهملات: المال الراعي.
وافوا: أشرفوا.
عماية الصبح: بفتح العين المهملة وتخفيف الميم وبالقصر.
هربا: بفتح الهاء والراء وبالموحدة.
رثّة: بكسر الراء وتشديد الثاء المثلثة وبتاء تأنيث- السّقط من متاع البيت من الخلقان.(6/81)
الباب الحادي والعشرون في سرية زيد بن حارثة رضي اللَّه تعالى عنهما إلى بني سليم بالجموم في شهر ربيع الآخر سنة ست
روى محمد بن عمر عن الزهري رحمه اللَّه تعالى قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم زيد بن حارثة إلى بني سليم في سرية حتى ورد الجموم فأصابوا امرأة من مزينة يقال لها حليمة، فدلّتهم على محلّة من محالّ بني سليم فأصابوا في تلك المحلّة نعما وشاء وأسرى، فكان فيه زوج حليمة المزنية. فأقبل زيد بن حارثة بما أصاب، ووهب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم للمزنيّة نفسها وزوجها.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
سليم: بضم السين المهملة وفتح اللام وسكون التحتية.
الجموم: بفتح الجيم وضم الميم المخففة ناحية ببطن نخلة من المدينة على أربعة برد.
مزينة: بضم الميم وفتح الزاي وسكون التحتية.
سحلّة: بفتح الميم والحاء المهملة وتشديد اللام وتاء تأنيث: منزل القوم.(6/82)
الباب الثاني والعشرون في سرية زيد بن حارثة رضي اللَّه تعالى عنهما في سبعين ومائة راكب إلى العيص فأخذوا العير وما فيها وأخذوا يومئذ فضة كثيرة لصفوان بن أمية وأسروا ناسا منهم أبو العاص بن الربيع
قال ابن إسحاق: لما كان قبل الفتح خرج أبو العاص بن الربيع تاجرا بمال له وأموال لرجال من قريش أبضعوها معه. فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا لقيته سريّة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأصابوا ما معه. وذكر الزّهري وتبعه ابن عقبة أن الذين أخذوا هذه العير وأسروا من فيها أبو بصير وأبو جندل وأصحابهما بمنزلهم بسيف البحر، وأنهما لم يقتلا منهم أحدا لصهر أبي العاص.
قال ابن إسحاق، ومحمد بن عمر: إنه هرب منهم من السرية. فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله أقبل أبو العاص تحت الليل حتى دخل على امرأته زينب بنت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فاستجار بها فأجارته قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر: فلما صلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم الصبح فكبّر وكبّر الناس معه صرخت زينب من صفة النساء، وعند محمد بن عمر: قامت على بابها فنادت بأعلى صوتها وقالت: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع.
قال: فلما سلم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من الصلاة أقبل على الناس فقال: «يا أيها الناس هل سمعتم ما سمعت؟» قالوا: نعم. قال: «أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم، المؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم» زاد محمد بن عمر:
«وقد أجرنا من أجارته» .
انتهى.
قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر: ثم دخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى منزله، فدخلت عليه زينب فسألته أن يرد علي أبي العاص ما أخذ منه فقبل. وقال لها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أي بنيّة أكرمي مثواه ولا يخلصنّ إليك فإنك لا تحلّين له» .
وبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص فقال لهم: «إن هذا الرجل منا حيث علمتم وقد أصبتم له مالا، فإن تحسنوا وتردّوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء اللَّه الذي أفاء عليكم فأنتم أحقّ به» . فقالوا: يا رسول اللَّه بل نردّه عليه.
وعند ابن عقبة: فكلّمها أبو العاص في أصحابه الذين أسرهم أبو جندل وأبو بصير وما أخذا لهم. فكلمت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في ذلك، فزعموا أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قام،
فخطب الناس وقال: «إنّا صاهرنا ناسا وصاهرنا أبا العاص فنعم الصّهر وجدناه وإنه أقبل من الشام في أصحاب له من قريش فأخذهم أبو جندل وأبو بصير فأسروهم وأخذوا ما كان معهم ولم يقتلوا منهم أحدا وأن زينب بنت رسول اللَّه سألتني أن أجيرهم فهل أنتم مجيرون أبا العاص وأصحابه؟»
فقال(6/83)
الناس: نعم. فلما بلغ أبا جندل وأصحابه قول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في أبي العاص وأصحابه الذين كانوا عنده من الأسرى، ردّ إليهم كل شيء حتى العقال. قال ابن إسحاق ومحمد بن عمر:
فردّوا عليه كل شيء حتى إن الرجل ليأتي بالدّلو ويأتي الرجل بالشّنّة والإداوة حتى إن أحدهم ليأتي بالشظاظ حتى ردّوا عليه ماله بأسره لا يفقد منه شيئا.
قال ابن هشام: حدثني أبو عبيدة أن أبا العاص بن الربيع لمّا قدم من الشام ومعه أموال المشركين قيل له: هل لك أن تسلم وتأخذ هذه الأموال فإنها أموال المشركين؟ فقال أبو العاص: بئس ما أبدأ به إسلامي أن أخون أمانتي. قال ابن هشام: وحدثني عبد الوارث بن سعيد التّنّوري [ (1) ] عن [داود] بن أبي هند [ (2) ] ، عن أبي عمرو وعامر بن شراحيل الشعبي بنحو من حديث أبي عبيدة عن أبي العاص قلت: هذا سند صحيح، رواه أبو عبد اللَّه الحاكم في الكنى بسند صحيح عن الشعبي رحمه اللَّه تعالى أن المسلمين قالوا لأبي العاص: يا أبا العاص إنك في شرف من قريش وأنت ابن عم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وصهره، فهل لك أن تسلم وتغنم ما معك من أموال أهل مكة؟ فقال: بئس ما أمرتموني به أن أفتتح ديني بغدرة.
قال ابن إسحاق، ومحمد بن عمر، والشعبي: ثم احتمل أبو العاص إلى مكة فأدى إلى كل ذي حق حقه. ثم قام فقال: «يا أهل مكة هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ يا أهل مكة هل أوفيت ذمتي؟» قالوا: اللهم نعم، فجزاك اللَّه خيرا فقد وجدناك وفيّا كريما. قال:
«فإني أشهد ألا إله إلا اللَّه وأن محمداً عبده ورسوله، واللَّه ما منعني من الإسلام عنده إلا أني خشيت أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم فلما أدّاها اللَّه إليكم وفرغت منها أسلمت» .
ثم خرج حتى قدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم المدينة. قال ابن عباس: ردّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم زينب على النكاح الأول لم يحدث شيئا. وفي رواية عنه ردّها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعد ست سنين. وفي رواية بعدها: ستة بالنكاح الأول وفي الرواية: ولم يحدث نكاحا. رواه ابن جرير.
تنبيهات
الأول: كذا ذكر محمد بن عمر، وابن سعد، والبلاذري، والقطب، والعراقي، وجرى عليه في العيون أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أرسل زيد بن حارثة لأهل هذه العير. واقتضى كلام ابن
__________
[ (1) ] عبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة التنوري، مولى بني العنر، أحد الحفاظ. روى عن أيوب، ويزيد الرّشك، وطبقتهما. وعنه مسدّد، وحميد بن مسعدة، وأبو معمر المقعد، وخلق. وكان يضرب المثل بفصاحته، وإليه المنتهى في التثبت. إلّا أنه قدري متعصّب لعمرو بن عبيد. وكان حماد بن زيد ينهى المحدثين عن الحمل عنه للقدر. وقال يزيد بن زريع: من أتى مجلس عبد الوارث فلا يقربني. ميزان الاعتدال 2/ 677.
[ (2) ] داود بن أبي هند، القشيري مولاهم، أبو بكر أو أبو محمد البصري ثقة متقن، كان يهم بآخره من الخامسة مات سنة أربعين وقيل قبلها. التقريب 1/ 235.(6/84)
إسحاق أن سريّة من السرايا صادفت هذه العير لأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أرسل السرية لأجلها.
الثاني: صرّح محمد بن عمر ومن ذكر معه أن هذه السرية كانت سنة ست قبل الحديبية، وإلا فبعد الهدنة لم تتعرض سرايا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لقريش أصلا، وجزم به الزهري وتبعه موسى بن عقبة كما رواه البيهقي عنهما بأن الذي أخذ هذه العير أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما الذين كانوا بسيف البحر لما وقع صلح الحديبية، ولم يكن ذلك بأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، لأنهم كانوا منحازين عنه بسيف البحر، وكان لا يمرّ بهم عير لقريش إلا أخذوها، كما سبق ذلك في غزوة الحديبية. وقول ابن إسحاق إن هذه السرية كانت قبل الفتح يشعر بما ذهب إليه الزهري وصوّبه في زاد المعاد واستظهر في النور.
قلت: ويؤيد قول الزهري
قوله صلى اللَّه عليه وسلم فيما ذكره محمد بن إسحاق، ومحمد بن عمر، وغيرهما لزينب: «لا يخلص إليك فإنك لا تحلّين له» .
فإن تحريم المؤمنات على المشركين إنما نزل بعد صلح الحديبية.
الثالث: قول ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: «ردّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم زينب على أبي العاص بالنكاح» . يأتي الكلام عليه في ترجمة السيدة زينب رضي اللَّه تعالى عنها.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
العيص: بكسر العين المهملة وسكون التحتية وبالصاد المهملة: واد من ناحية ذي المروة على ليلة منه وعلى أربع من المدينة.
الغابة: بفتح الغين المعجمة فألف فموحدة فتاء تأنيث واد في أسفل سافلة المدينة.
العير: بكسر العين المهملة: الإبل تحمل الميرة ثم غلب على كل قافلة، وهي مؤنثة.
أبضعوها معه: بفتح أوله وسكون الموحدة وفتح الضاد المعجمة وضم العين المهملة:
دفعوها.
قفل: بفتح القاف والفاء واللام: رجع.
أبو بصير: بموحدة مفتوحة فصاد مهملة مكسورة فتحتية ساكنة فراء.
أبو جندل: بجيم مفتوحة فنون ساكنة فدال مهملة مفتوحة فلام.
سيف البحر: بكسر السين المهملة: ساحلة.
صفّة النساء: بضم الصاد المهملة وبالفاء، الموضع المظلّل للجلوس.
المؤمنون يد على من سواهم يجير عليهم أدناهم.
يجير: بضم الياء وكسر الجيم وسكون التحتية وبالراء، يحمي ويمنع.(6/85)
أدناهم: أقلهم.
المثوى: بفتح الميم وسكون الثاء المثلثة وفتح الواو: الإقامة.
لا يخلص إليك: لا يطؤك.
العقال: بكسر العين المهملة وبالقاف ما يعقل به البعير.
الشّنّة: بشين معجمة مفتوحة فنون مشددة السّقاء البالي.
الإداوة: بكسر الهمزة وبالدال المهملة: المطهرة التي يتطهر بها.
الشّظاظ: بشين معجمة مكسورة فظاءين معجمتين مشالين بينهما ألف، عود معقّف في عروة الغرارة.
بأسره: بجميعه.
التنور: بفتح الفوقية وتشديد النون وبالراء.
وأنت ابن عم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أراد بهذين العمومة إذ أن جده عبد شمس بن عبد مناف، فيلتقي معه النبي صلى اللَّه عليه وسلم في عبد مناف.
الغدرة: بضم الغين المعجمة: الغدر وهو نقض العهد وعدم الوفاء.
احتمل: ارتحل.(6/86)
الباب الثالث والعشرون في سرية زيد بن حارثة رضي اللَّه تعالى عنهما إلى الطرف في جمادى الآخرة سنة ست
روى محمد بن عمر قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم زيد بن حارثة إلى الطرف إلى بني ثعلبة بن سعد فخرج في خمسة عشر رجلا، حتى إذا كان بالطّرف أصاب نعما وشاء، وهربت الأعراب وخافوا أن يكون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قد سار إليهم. فانحدر زيد بن حارثة بالنّعم حتى أصبح في المدينة، وخرجوا في طلبه فأعجزهم فقدم بعشرين بعيرا وغاب أربع ليال، ولم يلق كيدا وكان شعارهم أمت أمت.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الطّرف: بفتح الطاء وبالراء المكسورة وبالفاء: ماء قريب من المراض دون النخيل على ستة وثلاثين ميلا من المدينة كما في ذيل الصّغاني وقال: هو بطريق العراق على خمسة وعشرين ميلا من المدينة، والراضة بالراء والضاد المعجمة كسحاب.
الشّعار: بكسر الشين المعجمة وبالعين المهملة وبالراء: العلامة التي يتعارفون بها عند القتال.
أمت أمت: أمر بالموت والمراد القتال بالنصر بعد الأمر بالإماتة مع حصول الغرض للشّعار فإنهم جعلوا هذه الكلمة علامة بينهم يتعارفون بها لأجل ظلمة الليل.(6/87)
الباب الرابع والعشرون في سرية زيد بن حارثة رضي اللَّه تعالى عنهما إلى جذام من أرض حسمى وراء وادي القرى في جمادى الآخرة سنة ست
روى ابن إسحاق عمّن لا يتهم عن رجال من جذام كانوا علماء بها، ومحمد بن عمر عن شيوخه وموسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن شيخ من بني سعد هذيم كان قديما يخبر عن أبيه، قال ابن إسحاق رحمه اللَّه تعالى أن رفاعة بن زيد الجذاميّ لما قدم على قومه من عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بكتابه يدعوهم إلى الإسلام فاستجابوا له. ثم لم يلبث أن قدم دحية بن خليفة الكلبيّ من عند قيصر صاحب الروم حين بعثه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إليه وقد أجازه وكساه. فلقيه الهنيد بن عوص وابنه عوص [بن الهنيد] كما عند ابن إسحاق فيهما، وقال ابن سعد عارض فيهما: [الهنيد بن عارض وابنه عارض بن الهنيد] الصّلعيّان- والصّليع بطن من جذام- فأصابا كل شيء كان مع دحية ولم يتركوا عليه إلا سمل ثوب. فبلغ ذلك قوما من بني الضّبيب رهط رفاعة بن زيد ممن كان أسلم وأجاب، فنفروا إلى الهنيد وابنه فاقتتلوا واستنقذوا لدحية متاعه.
وقدم دحية على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخبره خبره، واستسقاه دم الهنيد وابنه فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم زيد بن حارثة في خمسمائة رجل وردّ معه دحية. فكان زيد يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليل له من بني عذرة.
وقد اجتمعت بطون، منهم: غطفان كلها ووائل ومن كان من سلامان وسعد بن هذيم حين جاءهم رفاعة بن زيد بكتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، حتى نزلوا حرّة الرّجلاء ورفاعة بكراع ربّة لم يعلم. وأقبل الدليل العذريّ بزيد بن حارثة وأصحابه حتى هجم بهم مع الصّبح على الهنيد وابنه ومن كان في محلّتهم فأغاروا عليهم وقتلوا فيهم. فأوجعوا وقتلوا الهنيد وابنه. وأغاروا على ماشيتهم ونعيم ونسائهم فأصابوا من النّعم ألف بعير ومن الشاء خمسة آلاف شاة ومن السّبي مائة من النساء والصبيان.
فلما سمع بنو الضّبيب بما صنع زيد بن حارثة ركبوا فيمن ركب. فلما وقفوا على زيد بن حارثة قال حسان بن ملة: «إنا قوم مسلمون» . فقال زيد بن حارثة: «فاقرأ أم الكتاب» . فقرأها حسّان فقال زيد: نادوا في الجيش أن يهبطوا إلى ورائهم الذي جاءوا منه فأمسوا في ناديهم.
فلما أمسكوا ركبوا إلى رفاعة بن زيد فصبّحوه وقال له حسّان بن ملّة: «إنك لجالس تحلب المعزى ونساء جذام أسارى قد غرّك كتابك الذي جئت به» . فدعا رفاعة بجمل فشدّ عليه رحله وخرج معه أبو زيد [بن عمرو]- وعند ابن سعد أبو يزيد بن عمرو- وجماعة، فساروا(6/88)
ثلاث ليال، فلما دخلوا المدينة وانتهوا إلى المسجد دخلوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فلما رآهم ألاح لهم بيده أن تعالوا من وراء الناس فاستفتح رفاعة بن زيد المنطق، فقام رجل من الناس فقال: «يا رسول اللَّه، إن هؤلاء قوم سحرة» فردّدها مرتين فقال رفاعة بن زيد: رحم اللَّه من لم يحذنا في يومه هذا إلّا خيرا» .
ثم دفع رفاعة بن زيد كتابه إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الذي كان كتبه له، فقال: دونك يا رسول اللَّه [قديما كتابه حديثا غدره]
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «اقرأه يا غلام وأعلن» . فلما قرأ كتابه استخبرهم فأخبروه بما صنع زيد بن حارثة. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «كيف أصنع بالقتلى؟» ثلاث مرار. فقال رفاعة: «أنت يا رسول اللَّه أعلم، لا نحرّم عليك حلالا ولا نحلّ لك حراما» . فقال أبو زيد بن عمرو: «أطلق لنا يا رسول اللَّه من كان حيّا، ومن قتل فهو تحت قدمي هذه» . فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «صدق أبو زيد» . فقال القوم: فابعث معنا يا رسول اللَّه رجلا يخلي بيننا وبين حرمنا وأموالنا. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «انطلق معهم يا عليّ» . فقال علي:
«يا رسول اللَّه أن زيدا لا يطيعني» قال: «فخذ سيفي هذا» . فأخذه. فقال له علي: «ليس لي راحلة يا رسول اللَّه» . فحملوه على بعير لثعلبة بن عمرو ويقال له مكحال. فخرجوا حتى لقوا رافع بن مكيث الجهنيّ، بشير زيد بن حارثة يسير على ناقة من إبل القوم، فردها عليّ على القوم. ورجع رافع بن مكيث مع عليّ رديفا حتى لقوا زيد بن حارثة بفيفاء الفحلتين فقال علي:
«أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يأمرك أن تردّ على هؤلاء القوم ما كان بيدك من أسير أو سبي أو مال» . فقال زيد: «علامة من رسول اللَّه» فقال عليّ: «هذا سيفه» فعرفه زيد، فنزل وصاح في الناس، فاجتمعوا فقال: «من كان معه شيء من سبي أو مال فليردّه، فهذا [رسول] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
فرد على الناس كافّة كل ما كان أخذ لهم حتى كانوا ينزعون المرأة من تحت فخذل الرجل» .
وروى محمد بن عمر رحمه اللَّه تعالى عن محجن الديلي رضي اللَّه تعالى عنه قال:
«كنت في تلك السرية، فصار لكل رجل سبعة أبعرة أو سبعون شاة وصار له من السّبي المرأة والمرأتان حتى ردّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ذلك كله إلى أهله» . قال في زاد المعاد: «وهذه السرية كانت بعد الحديبية بلا شك» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
جذام: بجيم مضمومة فذال معجمة فميم، قبيلة بجبال حسمى من معد.
حسمى: بحاء مكسورة فسين ساكنة مهملتين، أرض بالبادية غليظة لا خير فيها ينزلها جذام، ويقال آخر ما نضب من ماء الطوفان حسمى فبقيت منه بقية إلى اليوم وفيها جبال(6/89)
شواهق ملس الجوانب لا يكاد القتام يفارقها قاله الجوهري في الصحاح.
وادي القرى: واد كثير القرى.
رفاعة: بكسر الراء وبالفاء وبالعين المهملة.
يلبث: يمكث.
دحية: بفتح الدال المهملة.
قيصر: لقب لكل من ملك الروم، واسمه هرقل.
هنيهة: بضم الهاء وفتح النون وسكون التحتية.
عوض: بكسر العين المهملة وفتح الواو وبالضاد المعجمة.
الصّليع: بضم الصاد المهملة وفتح اللام وسكون التحتية وبالعين المهملة.
سمل ثوب: بسين مهملة فميم فلا مثوب خلق بال.
الضّبيب: بضاد معجمة فموحدتين الأولى مفتوحة بينهما تحتية ساكنة.
استنقذوه: خلّصوه ونجّوه.
استسقاه دمه: طلب منه الإذن في قتله.
يمكن: يستتر.
عذرة: بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة، بطن من قضاعة.
غطفان: اسم قبيلة.
بهراء: بفتح الموحدة وسكون الهاء وبالراء والمدّ وقد تقصر، قبيلة.
الحرّة: بفتح الحاء المهملة والراء: أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار.
الرّجلى: بالجيم كسكرى ويمد، الرّجلاء أرض خشنة يترجّل فيها أو كثيرة الحجارة.
كراع ربّه: مكان، وربّة بفتح الراء وتشديد الموحدة.
ملّة: باللام وروي مكة بالبيت الحرام.
ختر: بخاء معجمة فمثناة فوقية فراء مفتوحات: غدى.
ألاح له بيده: لمع بها.
سحرة: أي عندهم فصاحة لسان وبيان.
يحذنا: [يقال أحذيته أي أعطيته] .(6/90)
دونك: [أمامك] .
أطلق لنا: بهمزة مفتوحة فطاء مهملة فلام مكسورة فقاف.
مكحال: بميم مكسورة فكاف ساكنة فحاء مهملة فألف فلام.
مكيث: بفتح الميم وكسر الكاف وسكون التحتية وبالثاء المثلثة.
فيفاء: بفاءين مفتوحتين بينهما تحتية ساكنة.
الفحلتين: بفتح الفاء وسكون الحاء المهملة وفتح اللام والفوقية وسكون التحتية وبالنون.
لبيد: بضم اللام وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالدال المهملة تصغير لبد.
محجن: بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح الجيم وبالنون.
الدّيلي: بكسر الدال المهملة وسكون التحتية وباللام.(6/91)
الباب الخامس والعشرون في سرية أبي بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنه وقيل زيد بن حارثة إلى بني فزارة بوادي القرى
روى الإمام أحمد ومسلم وابن سعد والأربعة والطبراني عن سلمة بن الأكوع رضي اللَّه تعالى عنه قال: غزونا فزارة وعلينا أبو بكر أمره علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلما كان بيننا وبين الماء ساعة أمرنا أبو بكر فعرّسنا، ثم شنّ الغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه فأنظر إلى عنق من الناس فيهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فرميت بسهم بينهم وبين الجبل فلما رأوا السهم وقفوا فجئت بهم أسوقهم وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم معها ابنة لها من أحسن العرب. فسقتهم حتى أتيت أبابكر. فنقّلني أبو بكر ابنتها، فقدمنا المدينة وما كشفت لها ثوبا.
فلقيني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في السوق فقال: «يا سلمة هب لي المرأة» . فقلت: «يا رسول اللَّه قد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا» . فسكت، حتى إذا كان من الغد لقيني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في السوق ولم أكشف لها ثوبا فقال: «يا سلمة هب لي المرأة للَّه أبوك» .
فقلت: هي لك يا رسول اللَّه، قال: فبعث بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى أهل مكة ففدا بها أسرى [من المسلمين] كانوا في أيدي المشركين.
وفي رواية عند احمد، وابن سعد: وكان شعارنا:
أمت أمت قال: فقلت بيدي سبعة- وعند الطبراني تسعة بتقديم الفوقية- أهل أبيات من المشركين.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
فزارة: بفتح الفاء وبالزاي والراء.
أمّره: بتشديد الراء، جعله أميرا.
التّعريس: النزول آخر الليل [للنوم] والاستراحة.
شنّ الغارة: فرّقها في كل وجه.
العنق من الناس: الطائفة منهم.
الذّراري: بالذال المعجمة جمع ذرّية وهي الأولاد الصغار، وفيها ثلاث لغات أفصحها ضم الذال والثانية كسرها والثالثة فتح الذال مع تخفيف الراء وتجمع على ذرّيّات.
القشع: بفتح القاف وكسرها وسكون الشين المعجمة وبالعين المهملة.
للَّه أبوك: إذا أضيف الشيء إلى عظيم شريف اكتسب عظما وشرفا كما يقال: بيت اللَّه، وناقة اللَّه، فإذا وجد من الولد ما يحسن موقفه ويحمد فعله قيل: للَّه أبوك في معرض المدح والتعجب، أي أبوك للَّه خالصا حيث أنجب بك وأتى بمثلك.(6/92)
الباب السادس والعشرون في سرية زيد بن حارثة رضي اللَّه تعالى عنهما إلى وادي القرى في رجب، كما ذكره ابن إسحاق والبلاذري وزاد وقد تجمع بها قوم من مذحج وقضاعة ويقال بل تجمع بها قوم من أفناء مضر، فلم يلق كيدا.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
وادي القرى: بضم القاف وفتح الراء، تقدّم.
البلاذري: بفتح الموحدة وضم الذال المعجمة.
مذحج: بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة، وبالجيم: قبيلة من اليمن.
الأفناء: بالفاء والنون كأحمال. الأخلاط: للرجل إذا لم يعرف من أي قبيلة.
الباب السابع والعشرون في سرية عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه تعالى عنهما إلى دومة الجندل في شعبان سنة ست
روى ابن إسحاق، ومحمد بن عمر عن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنهما أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم دعا عبد الرحمن بن عوف فقال له: «تجهّز فإني باعثك في سرية من يومك هذا أو من الغد إن شاء اللَّه تعالى» [ (1) ] . قال عبد اللَّه: فسمعت ذلك فقلت لأدخلنّ فلأصلّينّ مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الغداة ولأسمعنّ وصيته لعبد الرحمن بن عوف قال: كنت عاشر عشرة رهط من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في مسجده: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وعبد الرحمن بن عوف، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، وأبو سعيد الخدري [رضي اللَّه تعالى عنهم، وأنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم] إذ أقبل فتى من الأنصار فسلّم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثم جلس، فقال: يا رسول اللَّه أيّ المؤمنين أفضل؟ فقال: «أحسنهم خلقا» .
قال: فأيّ المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثرهم ذكرا للموت وأحسنهم استعدادا له قبل أن ينزل بهم، أولئك الأكياس» . ثم سكت الفتى وأقبل علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: «يا معشر المهاجرين:
خمس خصال إذا نزلن بكم وأعوذ باللَّه أن تدركوهنّ إنه لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلّا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا
__________
[ (1) ] أخرجه ابن عساكر في تهذب تاريخ دمشق 3/ 86 وذكره المتقي الهندي في كنزل العمال (30289) .(6/93)
المكيال والميزان إلّا أخذوا بالسّنين وشدّة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا الزّكاة من أموالهم إلّا أمسك اللَّه عنهم قطر السماء ولولا البهائم لم يسقوا، وما نقضوا عهد اللَّه وعهد رسوله إلا سلّط عليهم عدوّ من غيرهم فأخذ بعضهم ما كان في أيديهم وما حكم قوم بغير كتاب اللَّه إلّا جعل بأسهم بينهم» . وفي رواية: «إلّا ألبسهم شيعا وأذاق بعضهم بأس بعض» .
ثم قال: قد كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل. وكان رجاله معسكرين بالجرف وكانوا سبعمائة. فقال عبد الرحمن: «أحبّ يا رسول اللَّه أن يكون آخر عهدي بك وعليّ ثياب سفري» . فأقعده بين يديه ثم نفض عمامته بيده ثم عممه بعمام [من كرابيس] سوداء. فأرخى بين كتفيه منها أربع أصابع أو نحو ذلك.
ثم قال: «هكذا يا ابن عوف فاعتمّ فإنه أحسن وأعرف» [ (1) ] .
ثم أمر بلالا أن يدفع إليه اللّواء فدفعه إليه، فحمد اللَّه تعالى وصلّى على نفسه، ثم قال:
«خذه يا ابن عوف اغزوا باسم اللَّه، في سبيل اللَّه، قاتلوا من كفر باللَّه لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تنكثوا ولا تمثّلوا ولا تقتلوا وليدا فهذا عهد اللَّه وسنّة نبيكم فيكم» .
فأخذ عبد الرحمن اللواء وخرج حتى لحق بأصحابه، فسار حتى قدم دومة الجندل.
فلما حلّ بها دعاهم إلى الإسلام. فمكث ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام. وقد كانوا أبوا أول ما قدم ألّا يعطوا إلا السيف. فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي. وكان نصرانيا وكان رئيسهم وأسلم معه ناس كثير من قومه، وأقام من أقام منهم على إعطاء الجزية.
فكتب عبد الرحمن إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يخبره بذلك وأنه أراد أن يتزوج فيهم. وبعث الكتاب مع رافع بن مكيث الجهينيّ فكتب إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يتزوج بنت الأصبغ تماضر، فتزوجها عبد الرحمن وبنى بها، ثم أقبل بها وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن.
وذكر ابن إسحاق أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح في سرية إلى دومة الجندل كما سيأتي.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
دومة: بدال مهملة مضمومة وتفتح فواو ساكنة فميم فتاء تأنيث ويقال دوماء بالمدّ.
الجندل: بفتح الجيم وسكون النون وفتح الدال وباللام: حصن وقرى من طرف الشام بينها وبين دمشق خمس ليال وبينها وبين المدينة الشريفة خمس عشرة أو ست عشرة ليلة.
أكيس: يقال كاس الرجل في عمله لدنيا أو آخرة كيسا جاد عقله.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 123 وعزاه للطبراني في الأوسط وقال: إسناده حسن وانظر البداية والنهاية 5/ 220.(6/94)
السنين: جمع سنة وهي الجدب.
البأس: بالموحدة والهمز: الحرب.
ألبسهم شيعا: خلط أمرهم خلط اختلاف واضطراب لا خلط اتفاق.
أذاق بعضهم بأس بعض: ابتلاهم وعرّفهم شدته.
معسكرون: مجتمعون.
الجرف: بجيم مضمومة فراء- قال أبو عبيد البكري، والقاضي، والحازمي- مضمومة أيضا. قال صاحب القاموس بالضم ثم السكون. على ثلاثة أميال من المدينة.
الكرابيس: بفتح الكاف جمع كرباس وهي الثوب الخشن، فارسي معرّب.
أحسن وأعرف: [أفضل وأظهر] .
غلّ من المغنم: خان.
الغدر: ترك الوفاء.
الوليد: بفتح الواو: الصبي.
الأصبغ: بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الموحدة وبالغين المعجمة.
مكيث: بميم فكاف فتحتية فثاء مثلثة وزن عظيم.
تماضر: بفوقية مضمومة وتخفيف الميم وبعد الألف ضاد معجمة مكسورة فراء، لا ينصرف للعلمية والتأنيث.
بنى بها: دخل عليها. وقال ابن السكّيت: زفّت إليه: وأصله أن الرجل كان إذا تزوّج بنى للعرس خباء جديدا وعمره بما يحتاج إليه وبنى له تكريما، ثم كثر حتى كني به عن الجماع وهو لغة قال ابن درية: بنى عليها وبنى بها والأول أصحّ.(6/95)
الباب الثامن والعشرون في سرية زيد بن حارثة رضي اللَّه تعالى عنهما إلى مدين
روى ابن إسحاق عن فاطمة بنت الحسن بن علي رضي اللَّه تعالى عنهم أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث زيد بن حارثة نحو مدين ومعه ضميرة مولى علي بن أبي طالب وأخ له، قالت: فأصاب سبيا من أهل ميناء وهي السواحل وفيها جمّاع من الناس فبيعوا ففرّق بينهم. فخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهم يبكون فقال: «ما لهم؟» فقيل: يا رسول اللَّه فرّق بينهم فقال: «لا تبيعوهم إلا جميعا» .
قال ابن هشام: أراد الأمهات والأولاد.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
مدين: بفتح الميم وسكون الدال المهملة وفتح التحتية وآخره نون مدينة قوم شعيب صلى اللَّه عليه وسلم وهي تجاه تبوك على بحر القلزم بينهما ست مراحل وهي أكبر من تبوك.
ضميرة: بضم الضاد المعجمة وفتح الميم وسكون التحتية وبالراء وتاء التأنيث، كذا في سيرة ابن هشام مولى علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه، ولم أر له ذكرا فيما وقفت عليه من كتب الصحابة.
ميناء: بكسر الميم وسكون التحتية وبالنون. والمدّ والقصّر.
جمّاع الناس: بضم الجيم وتشديد الميم: أخلاطهم وهم الفرق المختلفة من قبائل شتى.
فرّق: بضم الفاء وكسر الراء المشددة.(6/96)
الباب التاسع والعشرون في سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إلى بني سعد بن بكر بفدك في شعبان سنة ست
روى محمد بن عمر عن يعقوب بن زمعة رحمهم الله تعالى قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا في مائة رجل إلى حيّ بن سعد بن بكر بفدك. قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعا يريدون أن يمدّوا يهود خبير. فسار عليّ الليل وكمن النهار حتى انتهى إلى الغمج، وهو ماء بين خيبر وفدك. فوجدوا به رجلا فقالوا: «ما أنت؟» فقال: «باغ» ، فقالوا: «هل لك علم بما وراءك من جمع بني سعد؟» قال: «لا علم لي به» . فشدّدوا عليه، فأقرّ أنه عين لهم بعثوه إلى خيبر يعرض على يهودها نصرهم على أن يجعلوا لهم من تمرهم كما جعلوا لغيرهم ويقومون عليهم فقالوا له: «فأين القوم؟» قال: «تركتهم قد تجمّع منهم مائتا رجل ورأسهم وبر بن عليم» . قالوا:
«فسر بنا حتى تدلنا» قال: «على أن تؤمنوني» . قالوا: (إن دللتنا عليهم أو على سرحهم آمنّاك وإلا فلا أمان لك) . قال: «فذاك» . فخرج بهم دليلا حتى ساء ظنّهم به وأوفى على فدفد وآكام ثم أفضى بهم إلى أرض مستوية فإذا نعم كثيرة وشاء فقال: «هذه نعمهم وشاؤهم» . فأغاروا عليها. فقال: «أرسلوني» . فقالوا: حتى نأمن الطلب. ونذر بهم رعاء النعم والشاء فهربوا في جمعهم [وتفرقوا] فقال الدليل: «علام تحبسني؟ قد تفرقت الأعراب» .
قال علي: «حتى نبلغ معسكرهم»
فانتهى بهم إليه فلم ير أحدا. فأرسلوه وساقوا النعم والشاء وكانت النعم خمسمائة بعير والشاء ألفي شاة. وعزل عليّ صفيّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لقوحا تدعى الحفدة ثم عزل الخمس وقسم سائر الغنائم على أصحابه وقدم عليّ ومن معه المدينة.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
فدك: بفتح الفاء والدال المهملة وبالكاف، قال المجد اللغوي إنها على يومين من المدينة وقال القاضي [عياض] يومين وقيل ثلاثة وقال ابن سعد على ست ليال من المدينة قال السيد وأظنه الصواب واستبعد صحته في النور وقال إنه سأل بعض أهل المدينة عنها فقال بينهما يومان.
يمدّوا: بضم التحتية وكسر الميم.
الغمج: من المياه ما لم يكن عذبا، وهي بغين معجمة وميم مكسورة وبالجيم.
العين: هنا الجاسوس.(6/97)
آمنوه: بمدّ الهمزة وفتح الميم من الإيمان.
وبر: بفتح الواو وسكون الموحدة وبالراء.
عليهم: بضم العين المهملة.
أوفى على كذا: أشرف.
الفدفد: بفاء ودال ثم فاء ودال مهملة: المكان الصلب الغليظ المرتفع من الأرض، والأرض المستوية.
لقوحا: بفتح اللام وضمّ القاف المخففة وبالحاء المهملة واحدة اللقاح وهي الحلوب.
الحفدة: بفتح الحاء المهملة وكسر الفاء وفتح الدال المهملة وتاء التأنيث وهي السريعة السير.(6/98)
الباب الثلاثون في سرية زيد بن حارثة رضي اللَّه تعالى عنهما إلى وادي القرى أيضا في رمضان سنة ست
قال موسى بن عائذ رحمه اللَّه تعالى: أخبرني الوليد بن مسلم عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة رضي اللَّه تعالى عنه قال: ارتثّ زيد بن حارثة من وسط القتلى. وقال محمد بن عمر: حدثنا عبد اللَّه بن جعفر عن عبد اللَّه بن حسين بن حسن علي بن أبي طالب قال: خرج زيد بن حارثة رضي اللَّه عنهما في تجارة إلى الشام وأبضع معه جماعة من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فلما كان دون وادي القرى ومعه ناس من أصحابه لقيه ناس كثيرون من بني فزارة من بني بدر فضربوه وضربوا أصحابه حتى ظنوا أنهم قد قتلوا، وأخذوا ما معهم. فقدموا المدينة ونذر زيد بن حارثة ألا يمسّ رأسه غسل من جنابة حتى يغزو بني فزارة. فلما استبلّ من جراحته
بعثه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في سريّة وقال لهم: «أكمنوا النهار وسيروا الليل» .
فخرج بهم دليل من بني فزارة وقد نذرت بنو بدر، فكانوا يجعلون ناظورا لهم حين يصبحون فينظر على جبل مشرف وجه الطريق الذي يرون أنهم يؤتون منه، فينظر قدر مسيرة يوم، فيقول اسرحوا فلا بأس عليكم.
فإذا أمسوا وكان العشاء أوفى على منظره ذلك فينظر مسيرة ليلة فيقول: ناموا فلا بأس عليكم هذه الليلة.
فما كان زيد بن حارثة وأصحابه على نحو مسيرة ليلة، أخطأ بهم الطريق دليلهم فأخذ بهم طريقا أخرى حتى أمسوا وهو على خطأ ففرجوا خطاهم، ثم صمدوا لهم في الليل حتى صبّحوهم، فأحاطوا بالحاضر، ثم كبّر وكبّر أصحابه. وخرج سلمة بن الأكوع رضي اللَّه عنه يطلب رجلا منهم حتى قتله وقد كان أمعن في طلبه. وقتل قيس بن المسحّر النعمان [وعبيد اللَّه] ابني مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر، وأسر عبد اللَّه بن مسعدة، وأخذت جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر وأمها أم قرفة واسمها فاطمة بنت ربيعة بن بدر وكانت عند حذيفة بن بدر، وهي عجوز كبيرة كانت في بيت شرف من قومها. وكانت العرب تقول: «لو كنت أعزّ من أم قرفة [ما زدت] لأنها كانت تعلق في بيتها خمسين سيفا كلهم لها ذو محرم.
وكان لها اثنا عشر ولدا كما في الزهر، كنّيت بابنها قرفة قتله النبي صلى اللَّه عليه وسلم، وسائر بنيها قتلوا مع طليحة في الردّة فلا خير فيها ولا في بنيها. فأمر زيد بن حارثة بقتل أم قرفة لسبّها سيدنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقتلت قتلا عنيفا.
قال محمد بن عمر، وابن سعد: ولما قدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك قرع باب النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقام إليه عريانا يجرّ ثوبه حتى اعنقه وقبّله فأخبره زيد بما ظفّره اللَّه تعالى به.(6/99)
وقدموا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بابنة أم قرفة وبعبد اللَّه بن مسعدة، فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وذكر له جمالها
فقال: «يا سلمة هب لي المرأة للَّه أبوك» .
فقال: يا رسول اللَّه جارية رجوت أن أفتدي بها امرأة منّا في بني فزارة فأعاد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الكلام مرتين أو ثلاثا حتى عرف سلمة أنه يريدها فوهبها له، فوهبها النبي صلى اللَّه عليه وسلم لخاله حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن [عمران] بن مخزوم، فولدت له [عبد الرحمن بن حزن] .
تنبيهان
الأول: ذكر ابن إسحاق، ومحمد بن عمر، وابن سعد، وابن عائذ هذه السرية وأن أميرها زيد بن حارثة رضي اللَّه عنهما وتقدم في سرية أبي بكر أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث بها إلى مكة ففدى بها أسرى كانوا في أيدي المشركين ولم أر من تعرضّ لتحرير ذلك.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
ابن عائذ: بالتحتية والذال المعجمة.
الوليد بن مسلم: أحد الأعلام، عالم أهل الشام.
ابن لهيعة: عالم مصر وقاضيها.
أبو الأسود: اسمه محمد بن عبد الرحمن بن نوفل.
ورد: بلفظ الرّيحان المشموم.
مرداس: بكسر الميم وسكون الراء وبالسين المهملة نسب ورد إلى جدّه وهو ورد بن عمرو بن مرداس أحد بني سعد بن هذيم، ذكره أبو جعفر بن جرير الطبري فيمن استشهد مع زيد بن حارثة في بعض سراياه إلى وادي القرى.
أرتثّ: بضم أوله وسكون الراء وضم الفوقية وبالثاء المثلثة، أي حمل من المعركة رثيثا أي جريحا وبه رمق.
وسط: بسكون السين المهملة وفتحها.
أبضع معه: [من أبضع الشيء جعله بضاعة] .
دون: وادي القرى بالقرب منه.
فزارة: بفتح الفاء وبالزاي وبعد الألف تاء تأنيث.
بدر: بفتح الموحدة وسكون الدال المهملة وبالراء.
نذر: ألا يمس رأسه غسل من جنابة إلخ. أي لا يأتي امرأته فكنى بالغسل عن ذلك.(6/100)
استبلّ: بكسر أوله وسكون السين المهملة وفتح الفوقية والموحدة واللام المشددة، يقال بلّ من مرضه يبلّ بالكسر بلا وبللا وبلولا أي صحّ منه وكذلك أبلّ واستبلّ.
نذرت: بفتح النون وكسر الذال المعجمة وفتح الراء: علمت.
الناظور: بظاء معجمة مشالة.
أوفي: أشرف.
صمد له: بفتح الصاد المهملة والميم [أي ثبت واستمر] .
مسعدة: بفتح الميم وسكون السين وفتح العين والدال المهملات وبتاء تأنيث.
حكمة: بفتح الحاء المهملة والكاف والميم وبتاء تأنيث.
قيس: بالرفع فاعل.
قتل المسخّر: بتقديم السين المهملة عند الطبري وبتقديم الحاء المهملة عند غيره وفتح السين ومن الناس من يكسرها.
قرفة: بكسر القاف وسكون الراء وبالفاء وتاء تأنيث.
قتلها قتلا عنيفا: أي لم يرفق بها.
لخاله حزن: بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وبالنون.
عايذ: بالتحتية والذال المعجمة، وأم فاطمة جدة النبي صلى اللَّه عليه وسلم أم أبيه هي بنت عايذ بن عمرو بن مخزوم. فهذه الخؤولة التي ذكرت.(6/101)
الباب الحادي والثلاثون في سرية عبد اللَّه بن عتيك إلى أبي رافع عبد اللَّه ويقال سلام بن أبي الحقيق بخيبر ويقال بحصن له بأرض الحجاز وهو الثابت في الصحيح عن البراء بن عازب رضي اللَّه تعالى عنهما.
قال ابن إسحاق: لما انقضى شأن الخندق وأمر بني قريظة، وكان سلام بن أبي الحقيق- وهو أبو رافع- فيمن حزّب الأحزاب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وكانت الأوس قبل أحد قد قتلت كعب بن الأشرف في عداوته لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتحريضه عليه استأذنت الخزرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في قتل سلّام بن أبي الحقيق. وهو بخيبر فأذن لهم. وكان مما صنع اللَّه به لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن هذين الحيين من الأنصار: الأوس والخزرج كانا يتصاولان مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم تصاول الفحلين، لا تصنع الأوس شيئا فيه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غناء إلا قالت الخزرج: واللَّه لا يذهبون بهذه فضلا علينا عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وفي الإسلام. فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلها.
وإذا فعلت الخزرج شيئا قالت الأوس مثل ذلك. ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف لعداوته لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قالت الخزرج: واللَّه لا يذهبون بها فضلا علينا أبدا- وكانوا رضي اللَّه عنهم يتنافسون فيما يزلف إلى اللَّه تعالى ورسوله صلى اللَّه عليه وسلم- فتذاكروا من رجل لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في العداوة كابن الأشرف؟ فذكروا ابن أبي الحقيق وهو بخيبر أو بأرض الحجاز.
قال ابن سعد: «قالوا: كان أبو رافع بن أبي الحقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب وجعل لهم الجعل العظيم لحرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
فاستأذن الخزرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في قتله فأذن لهم. فخرج إليه من الخزرج من بني سلمة خمسة نفر: عبد اللَّه بن عتيك، ومسعود بن سنان، وعبد اللَّه بن أنيس الجهني حليف الأنصار، وأبو قتادة الحرث بن ربعيّ، وخزاعي بن أسود. وعند محمد بن عمر، ومحمد بن سعد أسود بن خزاعي، حليف لهم من أسلم. زاد البراء بن عازب رضي اللَّه تعالى عنهما- كما في الصحيح [ (1) ]- عبد اللَّه بن عتبة- بضم العين المهملة وسكون الفوقية- فيكونون ستة. وزاد موسى بن عقبة والسهيلي أسعد بن حرام- بالراء- فيكونون سبعة. وأمر عليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عبد اللَّه بن عتيك ونهاهم عن أن يقتلوا وليدا أو امرأة.
فخرجوا حتى إذا قدموا خيبر أتوا دار ابن أبي الحقيق ليلا- وفي الصحيح من حديث البراء بن عازب رضي اللَّه تعالى عنه: «وكان أبو رافع يؤذي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويعين عليه، وكان
__________
[ (1) ] في البخاري 7/ 395 كتاب المغازي باب قتل أبي رافع.(6/102)
في حصن له بأرض الحجاز. فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم قال عبد اللَّه بن عتيك لأصحابه: امكثوا أنتم مكانكم فإني منطلق ومتلطّف للبوّاب لعلي أن أدخل فأقبل حتى دنا من الباب» .
قال ابن عتيك: فتلطّفت أن أدخل الحصن ففقدوا حمارا لهم فخرجوا بقبس يطلبونه فخشيت أن أعرف فغطيت رأسي ورجليّ فتقنّعت وجلست كأني أقضي حاجة. ثم هتف صاحب الباب، فدخلت ثم اختبأت، وفي لفظ: فكمنت في مربط حمار ورأيت صاحب الباب حيث وضع مفتاح الحصن في كوّة. وفي رواية: فلما دخل الناس أغلق الباب ثم علّق الأغاليق على وتد. وكان أبو رافع يسمر عنده، وكان في علاليّ له. فتعشّوا عنده وتحدّثوا حتى ذهبت ساعة من الليل ثم رجعوا إلى بيوتهم. وفي رواية فلما ذهب عنه أهل سمره وهدأت الأصوات فلا أسمع حركة خرجت وقمت إلى الأقاليد ففتحت باب الحصن. وقلت إن نذر بي القوم انطلقت على مهل ثم عمدت إلى أبواب بيوتهم فأقفلتها من ظاهر. ثم صعدت إلى أبي رافع فجعلت كلّما فتحت بابا أغلقته عليّ من داخل.
قلت: إن القوم نذروا بي لم يخلصوا إليّ حتى أقتله. فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم قد طفئ سراجه [وهو] في وسط عياله لا أدري أين هو من البيت. فقلت: يا أبا رافع فقال: من هذا؟ فعمدت- وفي لفظ- فأجويت نحو الصّوت فأضربه ضربة بالسيف وأنا دهش- أو قال: داهش فلم تغن شيئا، وصاح فخرجت من البيت فما مكثت غير بعيد ثم جئت فقلت: مالك يا أبا رافع؟ وغيّرت صوتي. فقال: «ألا أعجبك؟ لأمّك الويل، دخل عليّ رجل فضربني بالسيف» .
قال ابن عتيك: فعمدت له أيضا فأضربه أخرى فلم تغن شيئا. فصاح وقام أهله. ثم جئت وغيّرت صوتي كهيئة المغيث فإذا هو مستلق على ظهره فأضع ظبة السيف في بطنه ثم انكفئ عليها حتى سمعت صوت العظم فعرفت أني قتلته، ثم خرجت دهشا فجعلت أفتح الأبواب بابا بابا حتى انتهيت إلى درجة له. وفي لفظ: حتى أتيت السّلّم أريد أن أنزل.
فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي- وفي رواية فانخلعت رجلي- فعصبتها بعمامة ثم أتيت أصحابي أحجل فقلت: «النّجاء فقد قتل اللَّه أبا رافع» . وفي رواية: فقلت لهم: انطلقوا فبشّروا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فإني لا أبرح حتى أسمع الناعية فجلست على الباب حتى صاح الديك. وفي لفظ: فلما كان وجه الصبح صعد الناعية على السور فقال: أنعى أبا رافع تاجر أهل الحجاز. فقمت أمشي ما بي قلبة، فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى اللَّه عليه وسلم فبشرته. وفي رواية فحدّثته فقال لي: «ابسط رجلك» فبسطت(6/103)
رجلي فمسها فكأنها لم أشتكيها قط. هذا ما ذكره البخاري في الصحيح من حديث البراء بن عازب، وصرّح فيه بأن عبد اللَّه بن عتيك انفرد بقتله.
وذكر ابن عقبة وابن إسحاق، ومحمد بن عمر، وابن سعد، وغيرهم خلاف ذلك، أدخلت حديث بعضهم في بعض، قالوا: أن عبد اللَّه بن عتيك وأصحابه قدموا خيبر ليلا حين نام أهلها، وأتوا دار ابن أبي الحقيق فلم يدعوا بيتا في الدار إلا أغلقوه على أهله [وكان في علّية له فأسندوا فيها] حتى قاموا على بابه فاستأذنوا عليه. قال ابن سعد: وقدّموا عبد اللَّه بن عتيك لأنه كان يرطن باليهودية- وكانت أمه يهودية أرضعته بخيبر- فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ فقالوا: ناس من العرب نلتمس الميرة- وفي لفظ: فقال عبد اللَّه بن عتيك ورطن باليهودية: جئت أبا رافع بهديّة- ففتحت لهم وقالت: ذاكم صاحبكم. فأدخلوا عليه. قال: فما دخلنا أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوّفا أن تكون دونه مجادلة تحول بيننا وبينه. قالت:
فصاحت امرأته فنوهت بنا.
ولفظ ابن سعد: «فلما رأت السلاح أرادت أن تصيح فأشاروا إليها بالسيف فسكتت» وابتدرناه وهو على فراشه بأسيافنا، فو اللَّه ما يدلنا عليه في سواد الليل إلا بياضه كأنه قبطيّة ملقاة. قال: ولما صاحت بنا امرأته جعل الرجل منا يرفع عليها سيفه ثم يذكر نهى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فيكفّ يده ولولا ذلك لفرغنا منها بليل. قال: فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عليه عبد اللَّه بن أنيس [بسيفه] في بطنه حتى أنفذه وهو يقول: قطني قطني، أي حسبي حسبي.
قال: وخرجنا، وكان عبد اللَّه بن عتيك رجلا سيء البصر، فوقع من الدرجة فوثئت يده وثأ شديدا- ويقال رجله فيما قال ابن هشام- وحملناه حتى نأتي به منهرا من عيونهم فندخل فيه. وصاحت امرأته فتصايح أهل الدار بعد قتله، فأوقدوا النيران واشتدّوا في كل وجه يطلبوننا.
وعند ابن سعد أن «الحارث أبا زينب اليهودية التي سمّت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خرج في آثار الصحابة في ثلاثة آلاف يطلبونهم بالنيران فلم يروهم فرجعوا، ومكث القوم في مكانهم يومين حتى سكن الطلب. ثم خرجوا مقبلين إلى المدينة) . فلما أيس اليهود رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه وهو يفيض بينهم.
قال عبد اللَّه بن أنيس: فقلنا كيف لنا بأن نعلم بأن عدو اللَّه قد مات؟ فقال رجل منا- قال محمد بن عمر: هو الأسود بن خزاعي- أنا أذهب فانظر لكم. قال: فانطلق حتى دخل في الناس. قال: فوجدت امرأته ورجال يهود حوله وفي يدها المصباح تنظر في وجهه وتحدثهم وتقول: «أما واللَّه لقد سمعت صوت ابن عتيك ثم أكذبت نفسي وقلت: أنّى ابن عتيك بهذه البلاد» ؟ ثم أقبلت عليه تنظر في وجهه وتحديثهم ثم قالت: «فاظ وإله يهود» . فما سمعت كلمة كانت ألذّ إلى نفسي منها.(6/104)
ثم جاءنا فأخبرنا الخبر فاحتملنا صاحبنا فقدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم-
زاد بن عقبة، ومحمد بن عمر: وهو على المنبر- فقال: «فأفلت الوجوه» فقالوا: أفلح وجهك يا رسول اللَّه.
فأخبرناه بقتل عدو اللَّه. واختلفنا عنده في قتله، كلّنا يدّعيه. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «هاتوا أسيافكم» . فجئناه بها، فنظر إلى سيف عبد اللَّه بن أنيس فقال: «هذا قتله، أرى فيه أثر الطعام»
فقال حسان بن ثابت رضي اللَّه تعالى عنه يذكر بقتل كعب بن الأشرف وقتل سلّام بن أبي الحقيق:
للَّه درّ عصابة لاقيتهم ... يا بن الحقيق وأنت يا بن الأشرف
يسرون بالبيض الخفاف إليكم ... مرحا كأسد في عرين مغرف
حتّى أتوكم في محلّ بلادكم ... فسقوكم حتفا ببيض ذفّف
مستبصرين لنصر دين نبيّهم ... مستصغرين لكلّ أمر مجحف
تنبيهات
الأول: اختلفوا في وقت خروجهم متى كان فذكرها البخاري قبل غزوة أحد، وقال الزهري: كانت بعد قتل كعب بن الأشرف، ووصله يعقوب بن سفيان في تاريخه. قال ابن سعد: كانت في رمضان سنة ست. وقيل من ذي الحجة سنة خمس، وقدمه في الإشارة.
وقيل في ذي الحجة سنة أربع. وقيل في رجب سنة ثلاث واللَّه أعلم.
الثاني: وقع في الصحيح: وهو بخيبر، ويقال في حصن له بأرض الحجاز، فيحمل أن حصنه كان قريبا من خيبر في طرف أرض الحجاز. وقال في النور: خيبر من الحجاز.
الثالث: في حديث البراء رضي اللَّه تعالى عنه في الصحيح أن عبد اللَّه بن عتبة كان فيهم كما تقدم ذكره. قال الحافظ الدمياطي صوابه: عبد اللَّه بن أنيس. وقال في الزّهر: زعم البخاري أن عبد اللَّه بن عتبة كان معهم ولم أر من قاله غير البخاري حتى قال بعض العلماء في الصحابة: عبد اللَّه بن عتبة اثنان لا ثالث لهما. الأول الذّكواني وليس من هؤلاء بشيء لأنهم قالوا إن كلهم من الأنصار.
الرابع: عبد اللَّه بن عتبة ذكره بعضهم في الصحابة والأكثرون على أنه تابعي. قلت:
ظاهر كلام صاحب الزّهر أن البخاري ذكره من عند نفسه، وليس كذلك بل الذي قاله هو البراء بن عازب كما روى البخاري عنه، وكون عبد اللَّه بن عتبة ذكواني لا يخالف قول من قال إنهم من الأنصار لاحتمال أنه كان حليفا للأنصار. وفي الحديث: «وحليفنا منا» ، وعبد اللَّه بن أنيس كان معهم وليس هو من الأنصار قطعا بل هو جهني حالفهم. ولم يعرج في الفتح(6/105)
والإصابة على ما ذكره الدمياطي ومغلطاي والصحيح ما في الصحيح لصحة سنده واللَّه تعالى أعلم.
وقال ابن الأثير في جامع الأصول إنه عبد اللَّه بن عنبة بكسر العين المهملة وفتح النون.
قال الحافظ في الفتح: «وهو غلط منه فإنه خولاني لا أنصاري ومتأخر الإسلام، وهذه القصة متقدمة. والرواية بضم العين المهملة وسكون التاء الفوقية لا بالنون» .
الخامس: في حديث عبد اللَّه بن عتيك: فانكسرت ساقي، وفي الرواية عنه فانخلعت رجلي ويجمع بينهما بأنها انخلعت من المفصل وانكسرت من الساق.
السادس: قول عبد اللَّه بن عتيك: «فأدركت أصحابي قبل أن يأتوا النبي صلى اللَّه عليه وسلم فبشّرته» يحمل على أنه لما سقط من الدرجة وقع له جميع ما تقدم، لكنه من شدة ما كان فيه من الاهتمام بالأمر ما أحسّ بالألم وأعين على المشي أولا وعليه ينزل قوله: «فقمت أمشي ما بي قلبة» . ثم لما تمادى عليه المشي أحسّ بالألم فحمله أصحابه فلما أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مسح على رجله فزال عنه جميع الألم ببركته صلى اللَّه عليه وسلم.
السابع: ذكر ابن عتبة فيمن توجه لقتل ابن أبي الحقيق أسعد بن حرام. قال في الروض: ولا نعرف أحدا ذكره غيره. وفي الإكليل للحاكم عن الزهري أنه ذكر فيهم أسعد بن حرام. قال في الزهر: ولما ذكر ابن الكلبي عبد اللَّه بن أنيس قال هو أسعد بن حرام، فيحتمل إن يكون اشتبه على بعض الرواة عن هذين الإمامين يعني الزهري وابن عقبة. قلت الزهري شيخ ابن عقبة فهو متابع له.
الثامن: في بيان غريب ما سبق:
سلّام: اختلف في تشديد لامه وتخفيفها وجزم في الفتح بالتشديد.
الحقيق: بضم الحاء المهملة وفتح القاف وسكون التحتية وبقاف أخرى.
خيبر: تقدم الكلام عليها في غزوتها.
الحجاز: بكسر الحاء المهملة: مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها قال الإمام الشافعي.
وقال غيره ما بين نجد والسّراة. وقال الكلبي: ما حجز بين اليمامة والعروض، وما بين نجد والسّراة.
حزّب: بفتحتين والزاي مشددة: جمع.
الأحزاب: الطوائف التي تجتمع على محاربة الأنبياء صلى اللَّه عليهم وسلم.
يتصاولان: يقال تصاول الفحلان إذا حمل كل منهما على الآخر، وأراد بهذا الكلام أن(6/106)
كل واحد من الأوس والخزرج كان يدفع عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ويتفاخران بذلك، فإذا فعل أحدهما شيئا فعل الآخر مثله.
الفحل: بفتح الفاء وسكون الحاء المهملة وباللام: الذّكر من الإبل.
الغناء: بغين معجمة فنون كسحاب: النفقة.
يزلف: يقرّب.
أجلب عليه: بفتح أوله وسكون الجيم وفتح اللام والموحدة: جمع ما قدر عليه ممّن أطاعه.
غطفان: بفتح الغين المعجمة والطاء المهملة وبالفاء وبعد الألف نون: قبيلة نسبت إلى جدّها.
بنو سلمة: بكسر اللام.
عتيك: بفتح العين المهملة وكسر الفوقية وسكون التحتية وبالكاف.
سنان: بكسر السين المهملة وبالنون.
أنيس: بضم أوله وفتح النون وسكون التحتية وسين مهملة.
ربعيّ: بكسر الراء وسكون الموحدة وكسر العين المهملة.
خزاعيّ: بضم الخاء المعجمة وبالزاي وبعد الألف عين مهملة مكسورة فتحتية مشدّدة.
البراء: بفتح الموحدة المخففة وبالمدّ على المشهور، وحكى أبو عمر الزاهد القصر.
الوليد: بفتح الواو وكسر اللام وسكون التحتية والدال المهملة، وهو هنا الصّبي.
دنوا: قربوا.
راح: براء فألف فحاء مهملة: رجع هنا.
السّرح: بفتح السين وسكون الراء وبالحاء المهملات: المال السّائم من إبل وبقر وغنم.
القبس: بفتح القاف والموحدة وبالسين المهملة: الشّعلة من النار.
تقنّع ثوبه: بفتح الفوقية والقاف والنون المشددة وبالعين المهملة: تغطّى به ليخفي شخصه لئلا يعرف.
هتف: بفتح الهاء والفوقية والفاء: ناداه.
يا عبد اللَّه: لم يرد اسمه لأنه لو كان كذلك لكان قد عرفه، والواقع أنه كان مستخفيا منه، فالذي يظهر أنه أراد معناه الحقيقي لأن الجميع عباد اللَّه تعالى.(6/107)
كمنت: فتح الكاف والميم: اختبأت.
الكوّة: بفتح الكاف وتضمّ النّقب في الحائط. وقيل بالفتح غير النافذة وبالضم النافذة.
الأغاليق: بغين معجمة بفتح أوله ما يغلق به الباب والمراد هنا المفاتيح لأنه يفتح بها ويغلق وفي رواية في الصحيح بالعين المهملة وهو المفتاح.
الوتد: بفتح الواو ويقال فيه الودّ بفتح الواو وتشديد الدال المهملة.
يسمر عنده: بالبناء للمفعول أي يتحدثّ عنده ليلا.
العلاليّ: بفتح العين المهملة جمع علّيّة بضم العين وفتح اللام. وتشديد التحتية: الغرفة.
هدأت الأصوات: بالهمز: سكنت.
الأقاليد: بالقاف جمع إقليد وهو المفتاح.
نذر: بفتح النون وكسر الذال المعجمة والراء: علم.
المهل: بفتح الميم وسكون الهاء وباللام خلاف العجلة.
عمدت: بفتح العين المهملة والميم: قصدت.
إن القوم: بتخفيف إن وهي شرطية دخلت على فعل محذوف يفسره ما بعده مثل قوله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة 6] .
لم يخلصوا: بضم اللام.
إليّ: بتشديد التحتية.
أهويت نحو الصوت: قصدت صاحب الصّوت.
الدّهش: بفتح الدال المهملة وكسر الهاء وبالشين المعجمة: الحيران.
لأمّه الويل: أتى بالويل هنا للتعجب.
فأضربه: ذكره بلفظ المضارع مبالغة لاستحضاره صورة الحال وإن كان ذلك قد مضى.
لم تغن شيئا: أي لم تقتله.
ظبة السيف: بضم الظاء المعجمة المشالة وفتح الموحدة المخففة: حدّه ووقع في غير رواية أبي ذر في الصحيح.
ضبيب: بضاد معجمة وموحدتين وزن رغيف. قال الخطّابي: هكذا يروى وما أراه محفوظا وإنما هو ظبة السيف وهو حدّه، لأن الضبيب لا معنى له هنا لأنه سيلان الدم من الفم.(6/108)
قال القاضي عياض: هو في رواية أبي ذرّ بالصاد المهملة.
أرى: بضم أوله: أظنّ.
انخلعت رجله: انقلبت.
الحجل: بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم وباللام: أن يرفع رجلا ويقفز على الأخرى، وقد يكون بالرجلين إلا أنه قفز، وقيل الحجل مشي المقيّد.
النّجاء: بالنصب أي أسرعوا.
لا أبرح: لا أذهب.
الناعية: مؤنثة.
أنعى أبا رافع: كذا ثبت في روايات البخاري. قال ابن التين هي لغيّة والمعروف أنعو، والنّعي خبر الموت والاسم النّاعي.
القلبة: بقاف فلام فباء موحدة مفتوحات فتاء تأنيث الداء.
يدعوا: بفتح الفوقية والدال المهملة: يتركوا.
الميرة: بكسر الميم: طعام يمتاره الإنسان.
الحجرة: بضم الحاء المهملة وسكون الجيم [الغرفة] .
توّه به: رفع ذكره.
القبطيّة: بضم القاف وسكون الموحدة وكسر الطاء المهملة: ثوب من كتّان حرير يعمل بمصر نسبة إلى القبط على غير قياس فرقا بينه وبين الإنسان. قال الخليل إذا جعلت ذلك اسما قلت قبطيّة وأنت تريد الثوب بضم القاف وكسرها.
قطني: بفتح القاف وسكون الطاء المهملة فنون فتحتية: ومعناه حسبي أي كفايتي.
وثئت يده: بفتح الواو وكسر الثاء المثلثة فهمزة مفتوحة ففوقية. قال الحافظ: الصواب:
وثئت رجله. قال في الإملاء: يقال وثئت يده إذا أصابه شيء ليس بكسر. وقال بعض اللغويين الوثء إنما هو توجّع في اللحم لا في العظم. وقال في القاموس: الوثء والوثاءة وصم يصيب اللحم لا يبلغ العظم أو توجّع في العظم بلا كسر أو هو الفكّ.
المنهر: بفتح الميم والهاء وسكون النون بينهما.
اشتدّوا: بالشين المعجمة والفوقية: عدوا. وفي رواية بالمهملة والنون أي علوا.
يفيض بينهم: بتحتية ففاء مكسورة فتحتية ساكنة فضاد معجمة ساقطة، في لغة تميم،(6/109)
وفي لغة غيرهم بظاء معجمة مشالة: أي يموت.
أكذبت نفسي: بالهمزة والكاف والذال المعجمة والفوقية [ألفاها كاذبة] .
أنّي: بفتح أوله والنون المشددة.
فاظ: بفاء فألف فظاء معجمة مشاة في لغة غير تميم وتقدم.
اليهود: بفتح الدال المهملة لأنه لا ينصرف للعلمية والتأنيث لأنه اسم للقبيلة وفيه أيضا وزن الفعل.
ألذّ: بفتح أوله واللام والذال المعجمة المشددة.
أرى: بفتح الهمزة من رؤية العين.
العصابة: الجماعة من الناس.
البيض الرقاق: وفي لفظ الخفاف والمراد بذلك السيوف.
مرحا: المرح بفتح الميم والراء وبالحاء المهملة: النشاط هنا.
الأسد: بضم أوله وسكون السين والدال المهملتين.
العرين والعرينة: بعين فراء مهملتين فتحتية ساكنة فنون مأوى الأسد يقال ليث عرينة وليث غابة وأصل العرين جماعة الشجر.
المغرف: بضم الميم وسكون الغين المعجمة وكسر الراء وبالفاء: الشجر الملتف الأغصان.
ذفّف: بذال معجمة مضمومة ففاء مفتوحة مشددة وفاء أخرى: سريعة القتل.
المجحف: بضم الميم وسكون الجيم وكسر الحاء المهملة وبالفاء.(6/110)
الباب الثاني والثلاثون في سرية عبد اللَّه بن رواحة رضي اللَّه تعالى عنه إلى أسير أو يسير بن رزام بخيبر في شوال سنة ست.
لما قتل أبو رافع سلّام بن أبي الحقيق أمّرت يهود عليهم أسير بن رزام. فقام في يهود فقال: «واللَّه ما سار محمد إلى أحد من يهود ولا بعث أحدا من أصحابه إلا أصاب منهم ما أراد، ولكني أصنع ما لم يصنع أصحابي» . فقالوا: وما عسيت أن تصنع؟ قال: (أسير في غطفان فأجمعهم ونسير إلى محمد في عقر داره فإنه لم يغز أحد في عقر داره إلا أدرك منه عدوّه بعض ما يريد) . قالوا له: نعم ما رأيت. فسار في غطفان وغيرهم يجمعهم لحرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فوجّه عبد اللَّه بن رواحة في شهر رمضان ومعه ثلاثة نفر سرّا ليكشف له الخبر. فأتى ناحية خيبر فدخل في الحوائط وفرّق أصحابه في النطاة والشّق والكتيبة، فوعوا ما سمعوا من أسير بن رزام أو غيره، ثم خرجوا بعد مقام ثلاثة أيام. فرجع إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم لليال بقين من شهر رمضان فأخبره بكل ما رأى وسمع، وقدم عليه أيضا خارجة بن حسيل الأشجعي فاستخبره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما وراءه. فقال: تركت أسير بن رزام يسير إليك في كتائب يهود، فندب النبي صلى اللَّه عليه وسلم الناس فانتدب له ثلاثون رجلا.
وذكر ابن عائذ أن عبد اللَّه بن عتيك كان فيهم. وروى محمد بن عمر عن عبد اللَّه بن أنيس قال: «كنت فيهم فاستعمل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم علينا عبد اللَّه بن رواحة» . قال: «فخرجنا حتى قدمنا خيبر فأرسلنا إلى أسير إنّا آمنون حتى نأتيك فنعرض عليك ما جئنا له. قال: نعم ولي مثل ذلك منكم. قلنا. نعم. فدخلنا عليه فقلنا: «أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثنا إليك لتخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك» . فلم يزالوا به حتى خرج معهم. وطمع في ذلك. وشاور يهود فخالفوه في الخروج وقالوا: «ما كان محمد ليستعمل رجلا من بني إسرائيل» قال: «بلى قد مللنا الحرب» .
فخرج معه ثلاثون رجلا من يهود مع كل رجل رديف من المسلمين. قال ابن إسحاق:
وحمل عبد اللَّه بن أنيس أسير بن رزام على بعيره. قال عبد اللَّه بن أنيس: «فسرنا حتى إذا كنا بقرقرة ثبار وندم أسير وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت له ودفعت بعيري. وقلت: «أغدرا أي عدوّ اللَّه؟» فدنوت منه لأنظر ما يصنع، فتناول سيفي فغمزت بعيري وقلت: «هل من رجل ينزل يسوق بنا؟» فلم ينزل أحد، فنزلت عن بعيري فسقت بالقوم حتى انفرد لي أسير، فضربته(6/111)
بالسيف فقطعت مؤخرة الرجل وأندرت عامة فخذه وساقه، وسقط عن بعيره وفي يده مخرش من شوحط فضربني فشجني مأمومة، وملنا على أصحابه فقتلناهم كلهم غير رجل واحد أعجزنا شدّا. ولم يصب من المسلمين أحد. ثم أقبلنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم» .
وبينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يحدّث أصحابه إذ قالوا: «تمشّوا بنا إلى الثّنيّة لنبحث عن أصحابنا» ، فخرجوا معه. فلما أشرفوا على الثّنيّة إذ هم بسرعان أصحابنا فجلس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في أصحابه فانتهينا إليه فحدثناه الحديث
فقال: «قد نجّاكم اللَّه من القوم الظالمين» .
قال عبد اللَّه بن أنيس: «فدنوت من النبي صلى اللَّه عليه وسلم فنفث في شجّتي فلم تقح بعد ذلك اليوم ولم تؤذني، وكان العظيم قد نغل. ومسح وجهي ودعا لي، وقطع لي قطعة من عصاه
فقال: «أمسك هذه معك علامة بيني وبينك يوم القيامة أعرفك بها فإنك تأتي يوم القيامة متحصرا» .
فلما دفن عبد اللَّه بن أنيس جعلت معه على جلده دون ثيابه [ (1) ] .
تنبيهان
الأول: ذكر البيهقي وتبعه في زاد المعاد: هذه السرية بعد خيبر. قال: في النور: «وهو الذي يظهر فإنهم قالوا أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثنا إليك ليستعملك على خيبر، وهذا الكلام لا يناسب أن يقال إنها قبل الفتح واللَّه أعلم» . قلت: كونها قبل خيبر أظهر، قال في القصة أنه سار في غطفان وغيرهم لحرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بموافقة يهود ذلك، وذلك قبل فتح خيبر قطعا إذ لم يصدر من يهود بعد فتح خيبر شيء من ذلك. وقول الصحابة لأسير بن رزام أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثنا إليك ليستعملك على خيبر لا ينافي ذلك لأن مرادهم باستعماله المصالحة وترك القتال والاتفاق على أمر يحصل له بذلك واللَّه أعلم.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
أمرت: بفتح أوله والميم المشددة والراء وسكون حرف التأنيث.
أسير: بضم الهمزة وفتح السين وسكون التحتية وبالراء.
يسير: بضم التحتية وفتح السين المهملة وسكون التحتية والراء.
رزام: براء مكسورة فزاي مخففة وبعد الألف ميم.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في لطبقات 2/ 1/ 67.(6/112)
يغز: بتحتية مضمومة فغين معجمة فزاي.
عقر الدّار: بفتح العين المهملة وضمّها: أصلها.
غطفان: بفتح الغين المعجمة والطاء المهملة وبالفاء فألف فنون: قبيلة من مضر.
الحوائط: جمع حائط وهو هنا البستان.
النطاة: بفتح النون وبالطاء المهملة.
الشّق: بفتح الشين المعجمة أو بكسرها وبالقاف: من حصون خيبر أو موضع لها به حصون من حصونها.
الكتيبة: بفتح الكاف وكسر المثناة الفوقية. وقال أبو عبيدة بالثاء المثلثة حصن بخيبر.
وعوا ما سمعوا: حفظوه.
المقام بضم الميم.
خارجة: بخاء معجمة وبالراء والجيم، ولم أقف له على ذكر فيما وقفت عليه من كتب الصحابة.
حسيل: بضم الحاء وفتح السين المهملتين وسكون التحتية وباللام.
الأشجعي: بفتح أوله وسكون السين المعجمة وفتح الجيم وبالعين المهملة.
الكتائب: بالمثناة الفوقية.
ندب الناس: دعاهم.
عتيك: بعين مهملة مفتوحة ففوقية مكسورة وتحتية ساكنة وبالكاف.
القرقرة: بفتح القافين وبعد كل منهما راء الأولى ساكنة والثانية مفتوحة بعدها تاء تأنيث، وهي في الأصل الضّحك إذا استغرب فيه ورجّع وهدير البعير.
فطنت له: بفتح الطاء المهملة كما في الصّحاح.
دفعت بعيري: حثثته على سرعة المشي.
أغدرا: منصوب بفعل محذوف أي أتريد غدرا؟ أو أتغدر غدرا؟.
مؤخّرة الرّجل: بضم الميم وسكون الهمزة وتخفيف الخاء المعجمة وشدّدها بعضهم.
وأنددت عامة فخذه وساقه: ساقه بالنصب قال في النور ولا يجوز جرّه لأنه لا يصح المعنى.
المخرش: بميم مكسورة فخاء معجمة ساكنة فراء مفتوحة: عصا معوجة الرأس.(6/113)
شوحط: بفتح الشين المعجمة وسكون الواو وفتح الحاء وبالطاء المهملتين، وهو نوع من شجر الجبال تتّخذ منه القسيّ.
المأمومة: الشّجّة التي بلغت أمّ الرأس وهي الجلدة التي تجمع الدماغ.
أعجزنا: بفتح الجيم والزاي.
تقح: بفتح الفوقية وكسر القاف وبالحاء المهملة يقال قاح الجرح يقيح، وقيّح بالتضعيف وتقيّح. والقيح مدّة يخالطها دم.
نغل العظم: من باب تعب فهو نغل بالكسر وقد تسكّن للتخفيف.
المختصرة: اسم فاعل من اختصر العصا إذا أمسكها بيده. واتكأ عليها.(6/114)
الباب الثالث والثلاثون في سرية كرز بن جابر أو سعيد بن زيد رضي الله تعالى عنهما إلى العرنيين.
ذكر الإمام أحمد والشيخان، وابن جرير، وابن عوانة، وأبو يعلى، والإسماعيلي عن أنس، والبيهقي عن جابر [وروى البخاريّ والبيهقي] عن ابن عمر، وأبو جعفر الطبري عن جرير بن عبد الله، والطبراني بإسناده عن صالح، ومحمد بن عمر عن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنهم، ومحمد بن عمر عن يزيد بن رومان، وابن إسحاق عن عثمان بن عبد الرحمن رحمهم الله تعالى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب في غزوة بني محارب وبني ثعلبة عبدا يقال له يسار، فرآه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يحسن الصلاة فأعتقه وبعثه في لقاح له كانت ترعي في ناحية الحمى فقدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نفر، وفي حديث أنس عند البخاري في الجهاد [ (1) ] وفي الديات [ (2) ] أن ثمانية من عكل وعرينة وعند ابن جرير وأبي عوانة كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل فكان الثامن ليس من القبيلتين فلم ينسب. فقدموا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتكلموا بالإسلام. وفي رواية: فبايعوه على الإسلام وكان بهم سقم. وعند أبي عوانة أنه كان بهم هزال شديد وصفرة شديدة وعظمت بطونهم. فقالوا يا رسول اللَّه آونا وأطعمنا. فكانوا في الصّفّة.
فلما صلحوا اجتووا- وفي لفظ- استوخموا المدينة. وعند ابن إسحاق فاستوبأوا وطحلوا. وفي رواية: ووقع بالمدينة الموم وهو البرسام وقالوا: «هذا الوجع قد وقع وإن المدينة وخمة وإنا كنا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف فابغنا رسلا» . قال: «ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذّود» . وفي رواية: «نعم لنا» فأخرجوا فيها. وفي رواية: «فأمرهم أن يلحقوا برعاء فيفاء الخبار» وفي رواية:
«فأمر لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بذود» . وفي رواية: «فرخّص لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها» . فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فلما صحّوا ورجعت إليهم أبدانهم وانطوت بطونهم كفروا بعد إسلامهم عدوا على اللّقاح فاستاقوها. فأدركهم مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يسار ومعه نفر فقاتلهم فقطعوا يديه ورجليه وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات. وفي رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس عند مسلم: «ثم مالوا على الرّعاء فقتلوهم» [ (3) ] بصيغة الجمع. ونحوه لابن حبّان من رواية يحيى بن سعيد عن أنس، وانطلقوا بالسّرح، وفي لفظ: الصّريخ عند أبي عوانة، فقتلوا الراعيين وجاء الآخر فقال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل. وعند محمد بن عمر: فأقبلت امرأة من بني عمرو بن عوف على حمار لها
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 177 باب إذا حرق المشرك المسلم (3018) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 12/ 239 باب القسامة (6899) .
[ (3) ] أخرجه مسلم في كتاب القسامة 3/ 296 (9- 1671) .(6/115)
فمرّت بيسار تحت شجرة، فلما رأته ومرّت به وقد مات رجعت إلى قومها فأخبرتهم الخبر، فخرجوا حتى جاءوا بيسار إلى قباء ميتا. وعند مسلم: «وكان عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم شباب من الأنصار قريب من عشرين فأرسلهم» . وفي رواية: «فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في أثرهم عشرين فارسا سمّي منهم: سلمة بن الأكوع كما عند محمد بن عمر، وأبو رهم وأبو ذر الغفاريّان، وبريدة بن الحصيب، ورافع بن مكيث وأخوه جندب، وبلال بن الحارث، وعبد اللَّه بن عمرو ابن عوف المزنيّان، وجعال بن سراقة الثعلبي، وسويد بن صخر الجهني، وهؤلاء من المهاجرين.
فيحتمل إن يكون من لم يسمّه محمد بن عمر من الأنصار، فأطلق في رواية الأنصار تغليبا، أو قيل للجميع أنصار بالمعنى الأعم. واستعمل عليهم كرز بن جابر الفهري. وروى الطبراني وغيره من حديث جرير بن عبد اللَّه البجلي رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثه في آثارهم، وسنده ضعيف. والمعروف أن جريرا تأخّر قدومه عن هذا الوقت بنحو أربعة أعوام. وبعث معهم قائفا يقوف أثرهم ودعا عليهم فقال: «أعم عليهم الطريق واجعله عليهم أضيق من مسك جمل» . فعمّى اللَّه عليهم السبل، فأدركوا في ذلك اليوم فأخذوا. فلما ارتفع النهار جريء بهم إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
وقال محمد بن عمر: فخرج كرز وأصحابه في طلبهم حتى أدركهم الليل فباتوا بالحرّة ثم أصبحوا ولا يدرون أين سلكوا فإذا بامرأة تحمل كتف بعير فأخذوها فقالوا: ما هذا؟ قالت:
مررت بقوم قد نحروا بعيرا فأعطوني هذه الكتف وهم بتلك المفازة إذا وافيتم عليها رأيتم دخانهم. فساروا حتى أتوهم حين فرغوا من طعامهم. فسألوهم أن يستأسروا فاستأسروا بأجمعهم لم يفلت منهم أحد.
فربطوهم وأردفوهم على الخيل حتى قدموا المدينة فوجدوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالرغابة.
فخرجوا بهم نحو رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. قال أنس كما عند ابن عمر: خرجت أسعى في آثارهم مع الغلمان حتى لقي بهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالرغابة بمجتمع السيول، فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها. وفي رواية فسمرهم. وفي رواية فسمر أعينهم. قال أنس كما عند مسلم: «إنما سمل النبي صلى اللَّه عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرّعاء» . وفي رواية: «فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وسمل أعينهم وتركهم في الحرّة حتى ماتوا» . وفي رواية: «وسمرت أعينهم وألقوا في الحرّة يستسقون فلا يسقون» . قال أنس: «فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه من العطش» . وفي رواية: «ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة حتى ماتوا ولم يحسمهم» قال أبو قلابة: «فهؤلاء قتلوا وسرقوا وكفروا بعد إسلامهم وحاربوا اللَّه ورسوله» .(6/116)
قال ابن سيرين: كانت هذه القصة العرنيّين قبل أن تنزل الحدود. وعند ابن عوانة عن ابن عقيل عن أنس أنه صلب اثنين وسمل اثنين قال الحافظ: كذا ذكر ستة فقط فإن كان محفوظا فعقوبتهم كانت موزّعة. فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [المائدة 33] . فلم يسمل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عينا ولم يقطع لسانا ولم يزد على قطع اليد والرّجل ولم يبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثا بعد ذلك إلا نهاهم عن المثلة. وكان بعد ذلك يحث على الصدقة وينهى عن المثلة. قال محمد بن عمر وابن سعد: كانت اللّقاح خمس عشرة لقحة ذهبوا منها بالحناء.
تنبيهات
الأول: تقدم أن نفرا من عكل وعرينة بالواو العاطفة من غير شك. قال الحافظ: «وهو الصواب. وهي رواية البخاري في المغازي وإن وقع غيرها بأو» وزعم ابن التين تبعا للداودي أن عرينة هم عكل» . قال الحافظ. «وهو غلط بل هما قبيلتان متغايرتان: عكل قبيلة من تيم الرّباب بكسر الراء وتخفيف الموحدة: الأولى من عدنان، وعرينة من قحطان في بجيلة وقضاعة. فالذي في بجيلة- وهو المراد هنا- عرينة بن نذير- بفتح النون وكسر الذال المعجمة- ابن قسر- بقاف مفتوحة فسين مهملة ساكنة فراء- ابن عبقر، وعبقر أمّه بجيلة. والعرن حكّة تصيب الخيل والإبل في قوائمها.
ووقع عند عبد الرزاق بسند ساقط أن عكلا وعرينة من بني فزارة وهو غلط لأن بني فزارة من مضر، لا يجتمعون مع عكل وعرينة أصلا.
الثاني: ذكر ابن إسحاق أن قدومهم كان بعد غزوة ذي قرد، وكانت في جمادى الآخرة سنة ست. وذكرها البخاري بعد الحديبية، وكانت في ذي القعدة منها. وذكر محمد بن عمر إنها كانت في شوال منها، وتبعه ابن سعد، وابن حبّان وغيرهما.
الثالث: اختلف في أمير هذه السرية فقال ابن إسحاق والأكثرون: كرز- بضم الكاف وسكون الراء وزاي- ابن جابر الفهري- بكسر الفاء. وقال موسى بن عقبة إن أميرها سعيد- كذا عنده بزيادة ياء تحتية- والذي ذكره غيره سعد- بسكون العين- ابن زيد الأنصاري الأشهلي.
قال الحافظ، فيحتمل أنه كان رأس الأنصار، وكان كرز أمير الجماعة. وذكر بعضهم أن أمير هذه السرية جرير بن عبد اللَّه البجليّ، وتعقب بأن إسلامه كان بعد هذه السرية بنحو أربع سنين.(6/117)
الرابع: ظاهر بعض الروايات أن اللّقاح كانت لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وصرّح بذلك في رواية البخاري في المحاربين فقال: إلا أن تلحقوا بإبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وفي رواية: «فأمرهم أن يأتوا إبل الصدقة» . والجمع بينهم أن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى طلب هؤلاء النفر الخروج إلى الصحراء لشرب ألبان الإبل، فأمرهم أن يخرجوا مع راعية، فخرجوا معه إلى الإبل ففعلوا ما فعلوا، وظهر مصداق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن المدينة تنفي خبثها.
الخامس: احتج من قال بطهارة بول ما أكل لحمه بما في قصة العرنيّين من أمره لهم بشرب ألبانها وأبوالها، وهو قول الإمام مالك وأحمد، ووافقهم من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان والاصطخري والروياني. وذهب الإمام الشافعي والجمهور إلى القول بنجاسة الأبوال والأرواث كلها من مأكول اللحم وغيره. واحتج ابن المنذر بقوله توزن الأشياء على الطهارة حتى تثبت النجاسة. قال: ومن زعم أن هذا خاصّ بأولئك الأقوام لم يصب إذ الخصائص لا تثبت إلا بدليل. قال: وفي ترك أهل العلم بيع الناس أبعار الغنم في أسواقهم واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديما وحديثا من غير نكير دليل ظاهر قال الحافظ: وهو استدلال ضعيف لأن المختلف فيه لا يجب إنكاره فلا يدل ترك إنكاره على جوازه فضلا عن طهارته. وقد دلّ على نجاسة الأبوال
حديث أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: « [دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا معسّرين» ] .
وكان القاضي أبو بكر بن العربي الذي تعلق بهذا الحديث ممن قال بطهارة أبوال الإبل، وعورض بأنه أذن لهم في شربها للتداوي. وتعقب بأن التداوي ليس حال ضرورة بدليل أنه لا يجب، فكيف يباح الحرام بما لا يجب؟ وأجيب بمعنى أنه ليس بحال ضرورة، بل هو حال ضرورة إذا أخبره بذلك من يعتمد على خبره، وما أبيح للضرورة لا يسمى حراما وقد تأوّله لقوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ [الأنعام 119] فما اضطرّ إليه المرء فهو غير محرّم عليه كالميتة للمضطر، واللَّه تعالى أعلم. قال الحافظ وما تضمنه كلامه من أن الحرام لا يباح ولا الأمر واجب غير مسلم فإن الفطر في رمضان حرام، ومع ذلك فيباح لأمر جائز كالسّفر مثلا. وأما قول غيره: ولو كان نجسا ما جاز التداوي به
لقوله صلى اللَّه عليه وسلم: «أن اللَّه تعالى لم يجعل شفاء أمتى فيما حرم عليها» .
رواه أبو داود من حديث أم سلمة: فجوابه أن الحديث محمول على حالة الاختيار. وأما في حالة الضرورة فلا يكون حراما كالميتة للمضطر، ولا يردّ قوله صلى اللَّه عليه وسلم في الخبر إنها ليست بدواء، إنها داء في سؤال من سأل من التداوي بها فيما رواه مسلم فإن ذلك خاص بالخمر ويلتحق بها غيرها من المسكر.
والفرق بين المسكر وغيره من النجاسات أن الحديث باستعماله في حالة الاختيار دون غيره(6/118)
ولأن شربه يجرّ إلى مفاسد كثيرة لأنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون أن في الخمر شفاء فجاء الشرع بخلاف معتقدهم. قاله الطحاوي بمعناه.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: كان في الخمر منفعة في التداوي بها فلما حرّمت نزع اللَّه الدواء منها، وأما أبوال الإبل
فقد روى ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: «إن في أبوال الإبل شفاء للذّربة بطونهم» .
والذّرب بذال معجمة فساء المعدة. فلا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه، وبهذا الطريق يحصل الجمع بين الأدلة والعمل بمقتضاها.
السادس: لم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في ذكره في الإفراد، وكذا مسلم لكن عنده من رواية عبد العزيز بن صهيب عن أنس: «ثم مالوا على الرّعاء فقتلوهم» بصيغة الجمع، ونحوه لابن حبان من رواية يحيى بن سعيد عن أنس. فيحتمل أن إبل الصدقة كان لها رعاة فقتل بعضهم مع راعي اللّقاح، فاقتصر بعض الرواة على راعي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وذكر بعضهم معه غيره. ويحتمل أن يكون بعض الرواة ذكره بالمعنى فتجوّز في الإتيان بصيغة الجمع. قال الحافظ: وهو الراجح لأن أصحاب المغازي لم يؤكد أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار واللَّه تعالى أعلم.
السابع: في صحيح مسلم فيمن أرسلهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في طلب العرنيّين أنهم من الأنصار، فأنطلق الأنصار تغليبا، وقيل للجميع أنصار بالمعنى الأعمّ.
الثامن: استشكل القاضي عدم سقيهم بالماء بالإجماع على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع. وأجاب بأن ذلك لم يقع عن أمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم، ولا وقع منه نهي عن سقيهم.
قال الحافظ: وهو ضعيف جدا لأن النبي صلى اللَّه عليه وسلم اطلع على ذلك وسكوته كان في ثبوت الحكم وأجاب النووي بأن المحارب المرتد لا حرمة له في سقي الماء ولا غيره، ويدل عليه أن من ليس معه إلا ماء لطهارته ليس له أن يسقيه للمرتد ويتيممّ بل يستعمله ولو مات مطلقا.
وقيل أن الحكمة في تعطيشهم لكونهم كفروا نعمة سقي ألبان الإبل التي حصل لهم بها الشفاء من الجوع والوخم، ولأن النبي صلى اللَّه عليه وسلم دعا بالعطش على من عطّش آل بيته، في قصة رواها النّسائي، فيحتمل أنهم تلك الليلة منعوا إرسال ما جرت به العادة من اللبن الذي كان يراح به إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم كل ليلة كما ذكر ابن سعد.
التاسع: في رواية: «سمّر أعينهم» ، بتشديد الميم. وفي رواية بالتخفيف. ولم تختلف روايات البخاري في أنها بالراء ووقع عند مسلم: «فسمل» باللام. قال الخطّابي: «السّمل» هو فقء العين بأي شيء كان. والسّمر لغة في السّمل ومخرجهما متقارب وقد يكون من المسمار(6/119)
يريد أنهم كحلوا بأميال قد أحميت كما في رواية الصحيح: فكحلهم بها. فهذا يوضّح ما تقدم ولا يخالف رواية السّمل لأنه فقء العين بأي شيء كان.
العاشر: في بيان غريب ما سبق:
محارب: بضم الميم وبالحاء المهملة وكسر الراء وبالموحدة.
يسار: بفتح التحتية والسين المهملة وبالراء.
اللّقاح: بكسر اللام جمع لقحة بفتح اللام وكسرها وسكون القاف: الناقة ذات اللّبن. قال أبو عمر: ويقال لها ذلك إلى ثلاثة أشهر.
الحمى: بكسر الحاء المهملة وفتح الميم المخففة.
عكل: بضم العين المهملة وسكون الكاف بعدها لام.
عرينة: بعين مهملة فراء فتحتية فنون فهاء تأنيث مصغّر.
السّقم: بفتح السين المهملة وضمها طول مدة المرض.
الهزال: بضم الهاء وتخفيف الزاي ضدّ السّمن.
عظمت بطونهم: انتفخت.
الصّفّة: بضم الصاد المهملة وتشديد الفاء والمراد ههنا موضع مظلّل في آخر المسجد النبوي في شماليّة يسكنه الغرباء ممن ليس لهم موضع يأوون إليه ولا أهل اجتووا المدينة: قال الفزاري لم يوافقهم طعامها وقال أبو بكر بن العربي: هو بمعنى استوخموا. وقال غيره: داء يصيب الجوف.
استوخموا المدينة: لم يوافق هواؤها أبدانهم.
طحلوا: بضم الطاء وكسر المهملتين وباللام: أعيوا وهزلوا.
الموم: بضم الميم وسكون الواو [وهو] البرسام بكسر الموحدة سرياني معرّب، يطلق على اختلال العقل وعلى ورم الرأس وورم الصدر والمراد هنا الأخير.
الضّرع: بفتح الضاد المعجمة وسكون الراء وبالعين المهملة وهو لذات الظّلف كالثّدي للمرأة.
ابغنا: اطلب.
الرّسل: بكسر الراء وسكون السين المهملة وباللام: اللّبن.
الذّود: بفتح الذال المعجمة وسكون الواو وبالدال المهملة وهو [الإبل إذا كانت] ما(6/120)
بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل غير ذلك.
فيفاء: بفاءين الأولى مفتوحة بينهما تحتية ساكنة وبالألف الممدودة موضع ويقال له فيفاء الخبار كغزال وفيف من غير إضافة.
والخبار: بخاء معجمة مفتوحة فموحدة مخففة. وبعد الألف راء. قال في النهاية:
وبعضهم يقول بالحاء المهملة والتحتية المشددة.
عدوا عليه: ظلموه.
استاقوا: من السّوق وهو السير العنيف.
السّرح: بفتح السين المهملة وسكون الراء وبالحاء المهملة: المال السائم، وسرحتها أرسلتها ترعى.
الصّريخ: بفتح الصاد وكسر الراء المهملتين وبالخاء المعجمة، فعيل بمعنى فاعل أي صرخ بالإعلام بما وقع منهم. وهذا الصارخ أحد الراعيين.
آثارهم: جمع أثر أي: بقية الشيء أي في طلبهم.
الأكوع: بفتح أوله وسكون الكاف وفتح الواو وبعين مهملة.
أبو رهم: بضم الراء وسكون الهاء.
الغفاري: بكسر الغين المعجمة وتخفيف الفاء.
أبو ذرّ: بفتح الذال المعجمة.
بريدة: بضم الموحدة وفتح الراء وسكون التحتية وبالدال المهملة.
مكيث: بفتح الميم وكسر الكاف وسكون التحتية وبالثاء المثلثة.
جعال: بجيم مكسورة فعين مهملة فلام ككتاب.
سويد: بضم السين المهملة وفتح الواو وسكون التحتية وبالدال المهملة.
كرز: بضم الكاف وسكون الراء فزاي.
القايف: بالقاف والتحتية والفاء: الذي يتتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه والجمع القافة، يقال: قال الرجل الأثر قوفا من باب قال..
المسك: بفتح الميم وسكون السين المهملة: الجلد.
أدركوا: بالبناء للمفعول.
الحرّة: أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة وإنما ألقوا فيها لأنها أقرب إلى المكان(6/121)
الذي فعلوا فيه ما فعلوا.
الكتف: بفتح الكاف وكسر الفوقية والفاء: وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان من الناس والدواب.
الرّغابة: بكسر الراء وبالغين المعجمة والموحدة: أرض متصلة بالجرف بضم الجيم والراء كما قاله أبو عبيد البكري والقاضي والحازمي، وقال المجد اللغوي: «واد رغيب ضخم كثير الأخذ واسع كرغب بضمتين» مجتمع الأسيال.
سمّر: بفتح السين والميم المشددة وبتخفيفها ثم راء.
كسمل: بفتح السين المهملة والميم وباللام: فقأ أعينهم بأي شيء كان.
قطع يده ورجله من خلاف: أي إحداهما من جانب والأخرى من جانب آخر.
نبذ الشيء: طرحه.
كدم يكدم: بكسر الدال المهملة وضمها عضّ بمقدم أسنانه.
لم يحسمهم: لم يقطع سيلان دمائهم بالكيّ.
أبو قلابة: بكسر القاف والموحدة.
سيرين: بكسر السين المهملة وسكون التحتية وكسر الراء وتحتية وبالنون.
المثلة: بضم الميم وسكون المثلثة ويروى بفتح أوله ويروى بضمهما معا: وهي ما يفعل من التشويه بالقتلى وجمعه مثلات بضمتين. وقال أبو عمر: المثلة بالضم فالسكون والمثل بفتح أوله وسكون ثانية قطع أنف القتيل وأذنه.
الحنّاء: بحاء مهملة فنون مشددة.(6/122)
الباب الرابع والثلاثون في بعثة صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن أمية الضمري رضي اللَّه تعالى عنه ليفتك بأبي سفيان بن حرب قبل إسلامه.
روى البيهقي عن عبد الواحد بن عوف وغيره قالوا إن أبا سفيان قال لنفر من قريش: ألا أحد يغترّ محمدا فإنه يمشي في الأسواق. فأتاه رجل من الأعراب فدخل عليه منزله فقال: «قد وجدت أجمع الرجال قلبا وأشدّهم بطشا وأسرعهم شدّا فإن أنت قوّيتني خرجت إليه حتى أغتاله ومعي خنجر مثل خافية النّسر، فأسوره ثم آخذ في عير فأسير وأسبق القوم عدوا فإني هاد بالطريق خريت» . قال: «أنت صاحبنا» .
فأعطاه بعيرا ونفقة وقال: «اطو أمرك» . فخرج ليلا فسار على راحلته خمسا وصبّح ظهر الحرّة صبح سادسة. ثم أقبل يسأل عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى دلّ عليه، فعقل راحلته ثم أقبل إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو في مسجد بني عبد الأشهل. فلما رآه النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «إنّ هذا ليريد غدرا. واللَّه تعالى حائل بينه وبين ما يريد» . فذهب ليجني على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فجذبه أسيد بن الحضير بداخلة إزاره، فإذا بالخنجر فسقط في يديه وقال: دمي دمي فأخذ أسيد بلببه فدعته،
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «اصدقني ما أنت؟» قال: «وأنا آمن» . قال: «نعم» . فأخبره بأمره وما جعل له أبو سفيان.
فخلّى عنه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فأسلم وقال: «يا محمد واللَّه ما كنت أفرق الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت نفسي، ثم اطلعت على ما هممت به مما سبقت به الرّكبان ولم يعلمه أحد فعرفت أنك ممنوع وأنك على حق وأن حزب أبي سفيان حزب الشيطان» . فجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يتبسّم. فأقام الرجل أياما يستأذن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فخرج ولم يسمع له بذكر [ (1) ] .
وروى الإمام إسحاق بن راهويه عن عمرو بن أمية رضي اللَّه تعالى عنه قال: «بعثني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبعث معي رجلا من الأنصار» - قال ابن هشام هو سلمة بن أسلم بن حريس اللَّه إلى أبي سفيان بن حرب وقال: «إن أصبتما فيه غرّة فاقتلاه» . وقال ابن إسحاق: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عمرا بعد مقتل خبيب بن عدي وأصحابه وبعث معه جبّار بن صخر الأنصاري فخرجا حتى قدما مكة وحبسا جمليهما بشعب من شعاب يأجج. ثم دخلا مكة ليلا فقال جبّار- أو سلمة- لعمرو: «لو أنّا طفنا بالبيت وصلينا ركعتين» . فقال عمرو: «إن القوم إذا تعشّوا جلسوا بأفنيتهم وإنهم إن رأوني عرفوني فإني أعرف بمكة من الفرس الأبلق» . فقال: «كلا إن
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 1/ 68.(6/123)
شاء اللَّه» . فقال عمرو: «فأبى أن يطيعني» . [قال عمرو] : فطفنا بالبيت وصلّينا ثم خرجنا نريد أبا سفيان، فو اللَّه إنا لنمشي بمكة إذ نظر إلى رجل من أهل مكة فعرفني. قال ابن سعد: هو معاوية بن أبي سفيان. فقال معاوية: «عمرو بن أمية فو اللَّه إن قدمها إلا لشرّ» . فأخبر قريشا بمكانه فخافوه وطلبوه وكان فاتكا في الجاهلية وقالوا: «ولم يأت عمرو بخير» . فحشدوا له وتجمعّوا. قال عمرو: «فقلت لصاحبي: «النجاء» . فخرجنا نشتد حتى أصعدنا في جبل، وخرجوا في طلبنا حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا فرجعنا فدخلنا كهفا في الجبل فبتنا فيه وقد أخذنا حجارة فرضمناها دوننا فلما أصبحنا غدا رجل من قريش. قال ابن سعد هو عبيد اللَّه بن مالك بن عبيد اللَّه التّميمي. قلت قال ابن إسحاق هو عثمان بن مالك أو عبد اللَّه. يقود فرسا له ويخلي عليها فغشينا ونحن في الغار، فقلت إن رآنا صاح بنا فأخذنا فقتلنا. قال: ومعي خنجر قد أعددته لأبي سفيان فأخرج إليه فأضربه على ثديه ضربة وصاح صحيحة فأسمع أهل مكة، وأرجع فأدخل مكاني. وجاءه الناس يشتدّون وهو بآخر رمق فقالوا: من ضربك؟ فقال عمرو بن أمية: وغلبه الموت فمات مكانه ولم يدلل على مكاننا. ولفظ رواية إسحاق بن راهويه: فما أدركوا منه ما استطاع أن يخبرهم بمكاننا. فاحتملوه فقلت لصاحبي لما أمسينا: النّجاء.
فخرجنا ليلا من مكة نريد المدينة فمررنا بالحرس وهم يحرسون جيفة خبيب بن عدي، فقال أحدهم: «واللَّه ما رأيت كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية لولا أنه بالمدينة لقلت هو عمرو بن أمية» . قال: فلما حاذى الخشبة شدّ عليها فاحتملها وخرجا شدّا، وخرجوا وراءه حتى أتى جرفا بمهبط مسيل يأجج، فرمى بالخشبة في الجرف فغيبّه اللَّه تعالى عنهم فلم يقدروا عليه.
ولفظ رواية ابن إسحاق: ثم خرجنا فإذا نحن بخبيب على خشبة فقال لي صاحبي:
«هل لك أن تنزل خبيبا عن خشبته؟» قلت: «نعم فتنحّ عني فإن أبطأت فخذ الطريق» فعمدت لخبيب فأنزلته عن خشبته، فحملته على ظهري، فما مشيت به عشرين ذراعا حتى نذر بي الحرس.
ولفظ ابن أبي شيبة، وأحمد بن عمرو: «فخلّيت خبيبا، فوقع إلى الأرض فانتبذت غير بعيد فالتفت فلم أر خبيبا وكأنما الأرض ابتلعته فما رئي لخبيب رمّة حتى الساعة» . قال:
«وقلت لصاحبي: «النجاء النجاء حتى تأتي بعيرك فتقعد عليه وكان الأنصاري لا رجلة له» . قال:
«ومضيت حتى أخرج على ضجنان، ثم أويت إلى جبل فأدخل كهفا فبينا أنا فيه إذ دخل على شيخ من بني الدّيل أعور في غنيمة له فقال: «من الرجل؟» فقلت: «من بني بكر فمن أنت؟» قال: «من بني بكر» . فقلت: «مرحبا» فاضطجع ثم رفع عقيرته فقال:
ولست بمسلم ما دمت حيّا ... ولا دان بدين المسلمينا(6/124)
فقلت في نفسي: سيعلم. فأمهلته حتى إذا نام أخذت قوسي فجعلت سيتها في عينه الصحيحة، ثم تحاملت عليه حتى بلغت العظم، ثم خرجت النجاء حتى جئت العرج، ثم سلكت ركوبة حتى إذا هبطت النّقيع إذا رجلان من مشركي قريش كانت قريش بعثتهما عينا إلى المدينة ينظران ويتجسسان، فقلت: «استأسرا» . فأبيا فأرمي أحدهما بسهم فأقتله، واستأسر الآخر، فأوثقته رباطا وقدمت به المدينة. وجعل عمرو يخبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خبره ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يضحك، ثم دعا له بخير.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
فتك به: يفتك بكسر الفوقية وضمّها فتكا بتثليث الفاء وسكون الفوقية قتله على غفلة.
يغترّ: بفتح التحتية وسكون الغين المعجمة وفتح الفوقية وتشديد الراء: يأخذه غفلة.
الشّدّ: بفتح الشين المعجمة وتشديد الدال المهملة: هنا العدو والجري.
اغتاله: أخذه من حيث لا يدري وكذلك غالة.
الخنجر: بفتح الخاء المعجمة وكسرها وسكون النون وفتح الجيم وبالراء.
خافية النّسر: بخاء معجمة وبعد الألف فاء مكسورة فتحتية ساكنة فتاء تأنيث: ريشة صغيرة في جناحه، يريد أنه خنجر صغير.
النّسر: بفتح النون وسكون السين المهملة فراء: طائر معروف والمجمع أنسر ونسور.
أسوّره: بضم الهمزة وفتح السين المهملة وكسر الواو المشددة وبالراء فضمير غائب.
عير بفتح العين المهملة وسكون التحتية وبالراء: جبل بالمدينة كما أخبر بذلك من عرفه، ولا يلتفت لقول من أنكر وجوده بالمدينة.
الخرّيت: بكسر الخاء المعجمة والراء المشددة وسكون التحتية ففوقية مثنّاة.
الحرّة: بفتح الحاء المهملة والراء المشددة فتاء تأنيث: أرض ذات حجارة سود نخرة كأنها أحرقت بالنار والجمع حرار ككلاب وحرّتا المدينة لابتاها من جانبيها.
دلّ عليه: بضم الدال المهملة وتشديد اللام مبني للمفعول.
عبد الأشهل: بشين معجمة.
الغدر: بغين معجمة مفتوحة فدال مهملة ساكنة فراء: ضد الوفاء.
يجني عليه: يكسب.
أسيد: بضم أوله وفتح السين المهملة وسكون التحتية وبالدال المهملة.(6/125)
الحضير: بحاء مهملة مضمومة فضاد معجمة مفتوحة فتحتية ساكنة فراء.
داخلة الإزار: طرفه وحاشيته من داخل.
بلببه: بموحدتين الأولى مفتوحة.
فدعته: بدال مهملة وتعجم فعين مهملة ففوقية مفتوحات: خنقه أشدّ الخنق.
ما أنت؟ ما صفتك؟ أو خاطبه خطاب ما لا يعقل لأن هذا فعل ما لا يعقل.
آمن: بمدّ الهمزة وكسر الميم.
أفرق الرجال: أخافهم.
حريس: بحاء مهملة فراء فتحتية ساكنة فسين مهملة: قال الزمخشري في المشتبه: كل ما في الأنصار حريس فهو بالسين المهملة إلا حريش بن جحجبى بجيم مفتوحة فحاء مهملة ساكنة فجيم مفتوحة فموحدة.
غرّة: بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء فتاء تأنيث: غفلة.
جبّار: بفتح الجيم وتشديد الموحدة. الشّعب: بكسر الشين المعجمة وسكون العين المهملة فموحدة: الطريق في الجبل.
يأجج: بتحتية فهمزة فجيمين الأولى مفتوحة وقد تكسر: مكان قرب مكة.
الأفنية: جمع فناء ككتاب.
الوصيلة: بفتح الواو وكسر الصاد المهملة وهو سعة أمام البيت وقيل ما امتد من جوانبه.
حشدوا: بالحاء المهملة والشين المعجمة: جمعوا له.
النجاء: بالمدّ وقد تقصر: الإسراع في الذهاب.
يخلى عليها: يجرّ لها الخلا بالخاء المعجمة والقصر: النبات الرّطب الرقيق ما دام رطبا.
الرّمق: بفتح الراء والميم وبالقاف: بقية الحياة، وقد تطلق على القوة.
الجرف: بضم الجيم والراء وسكونها: مكان يأكله السّيل.
انتبذت: بفتح أوله وسكون النون وفتح الفوقية والموحدة وسكون الذال المعجمة:
تنحّيت.
ضجنان: بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم فنون فألف فنون: مكان قرب مكة.
الدّيل: بكسر الدال المهملة وسكون التحتية وباللام.(6/126)
العقيرة: بفتح العين المهملة وكسر القاف وسكون التحتية وبالراء: وأصله أن رجلا قطعت رجله فكان يرفع المقطوعة على الصحيحة ويصبح من شدة وجعلها بأعلى صوته فقيل لكل رافع صوته رفع عقيرته.
سية القوس: بكسر السين المهملة وفتح التحتية: ما عطف من طرفها والهاء عوض من الواو.
العرج: بفتح العين المهملة وسكون الراء والجيم: قرية جامعة على نحو ثلاث من المدينة بطريق مكة.
ركوبة: بفتح الراء وضم الكاف وسكون الواو وبالموحدة فتاء تأنيث.
النّقيع: بفتح النون وكسر القاف وسكون التحتية وبالعين المهملة.
العين: الجاسوس.
يتجسّسان الأخبار: يتعرفانها.(6/127)
الباب الخامس والثلاثون في سرية أبان بن سعيد بن العاص بن أمية رضي اللَّه تعالى عنه قبل نجد في جمادى الآخرة سنة سبع
روى أبو داود في سننه وأبو نعيم في مستخرجه وتمام الرازي في فوائده: موصولات البخاري في صحيحه تعليقا عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: «بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أبان بن سعيد على سريّة من المدينة قبل نجد، فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى اللَّه عليه وسلم بخيبر بعد ما افتتحها. وإن حزم خيلهم لليف. وفي رواية الليف قال أبو هريرة: «قلت يا رسول اللَّه: لا تقسم لهم» قال أبان: «وأنت بهذا يا وبر تحدّر من رأس ضأن» - وفي رواية «من رأس ضال» .
فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «يا أبان اجلس» ،
فلم يقسم لهم [ (1) ] .
تنبيهات
الأول: قال الحافظ: لا أعرف هذه السريّة.
الثاني: وقع في الصحيحين [ (2) ] عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: «أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو بخيبر بعد ما فتحها، فقلت: يا رسول اللَّه أسهم لي» . فقال بعض ولد سعيد بن العاص: «لا تسهم له يا رسول اللَّه» . فقلت: «هذا قاتل ابن قوقل» . فقال أبان بن سعيد بن العاص: «وا عجبا لوبر تدلّى علينا» . - وفي رواية: «وا عجبا لك وبر تدأدأ من قدوم ضأن ينعي عليّ قتل رجل أكرمه اللَّه على يدي ومنعه أن يهيني بيده» الحديث.
وابن سعيد هذا هو أبان بلا شك ففي هذه الرواية أن أبا هريرة سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يسهم له. وفي الرواية الأولى أن أبان هو السائل وأن أبا هريرة أشار بمنعه فلذلك قيل وقع في إحدى الروايتين ما يدخل في قسم المقلوب. ورجّح الإمام محمد بن يحيى الذّهلي الرواية السابقة ويريد وقوع التصريح فيها بقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «يا أبان اجلس» ولم يقسم له.
ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون أبان نعي عليه بأنه قاتل ابن قوقل وأن أبان احتج على أبي هريرة بأنه ليس ممن له في الحرب يد ليستحق بها النّفل فلا يكون فيه قلب.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
نجد: بفتح النون وسكون الجيم.
أبان: بالصرف وعدمه ورجّحه ابن مالك.
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 4/ 207.
[ (2) ] أخرجه البخاري 7/ 529 كتاب المغازي.(6/128)
خيبر: تقدم الكلام عليها في غزوتها.
حزم: بضم الحاء والزاي كما في الفتح وفي اليونينية بسكون الزاي جمع حزام.
اللّيف: بتشديد اللام معروف.
المسد: بفتح الميم وبالسين والدال المهملتين: حبل ليف أو من جلود [الإبل] والأول هو المراد هنا.
وأنت بهذا المكان: المنزلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مع إنك لست من أهله ولا من قومه ولا من بلاده.
يا وبر: بفتح الواو وسكون الموحدة دابّة صغيرة كالسّنّور وحشيّة تسمى غنم بني إسرائيل، ونقل أبو علي القالي- بالقاف واللام- عن أبي حاتم أن بعض العرب يسمي كل دابة من حشرات الجبال وبرا.
تحدّر: تدلّى بلفظ الماضي على طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة.
من رأس ضأن: بضاد معجمة ساقطة وبعد الهمزة نون: اسم جبل في أرض دوس قوم أبي هريرة، وقيل هو رأس الجبل لأنه في الغالب مرعى الغنم.
ضال: بضاد معجمة ساقطة ولام مخففة بدل النون من غير همز. قال الخطابي أراد تحقير أبي هريرة وأنه ليس في قدر من يشير بعطاء ولا منع وأنه قليل القدرة على القتال.
ابن قوقل: اسمه النّعمان بن مالك بن ثعلبة بن أصرم بصاد مهملة وزن أحمد، وقوقل:
بقافين مفتوحتين بينهما واو ساكنة وآخره لام وزن جعفر، لقب ثعلبة أو أصرم.
وا عجباه: بفتح العين المهملة والجيم وبالموحدة والهاء الساكنة: اسم فعل بمعنى أعجب.
تدأدأ: بفوقية ودالين مهملتين مفتوحتين بعد كل همزة الأولى ساكنة والثانية مفتوحة أي هجم علينا بغتة. وفي رواية تدارى براء بدل الدال الثانية بغير همز.
قدوم: بفتح القاف لأكثر رواة الصحيح وضم الدال المهملة المخففة وسكون الواو، وبالميم: الطّرف- بالفاء- ووقع في رواية الأصيلي بضم القاف.
تنعى: بفتح الفوقية وسكون النون فعين مهملة مفتوحة: تعيب، يقال نعا فلان على فلان أمرا إذا عابه ووبّخه عليه يهنيّ: بالتشديد، أصله يهنني بنونين فأدغمت إحداهما في الأخرى أي لم يقدّر موتي كافرا.(6/129)
الباب السادس والثلاثون في سرية أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى تربة في شعبان سنة سبع
قال محمد بن عمر، وابن سعد: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في ثلاثين رجلا إلى عجز هوازن بتربة، فخرج عمر معه دليل من بني هلال فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، فأتى الخبر إلى هوازن فهربوا وجاء عمر إلى محالّهم فلم يلق منهم أحدا. فانصرف راجعا إلى المدينة حين سلك النّجديّة، فلما كان بذي الجدر قال الهلالي لعمر: «هل لك في جمع آخر تركته من خثعم جاءوا سائرين قد أجدبت بلادهم؟» فقال عمر: «لم يأمرني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بهم إنما أمرني أن أصمد لقتال هوازن بتربة، وانصرف عمر راجعا إلى المدينة.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
تربة: بضم الفوقية وفتح الراء وبالموحدة وتاء التأنيث: واد بقرب مكة على يومين منها يصبّ في بستان ابن عامر، وقيل في مكان غير ذلك.
عجز هوازن: بفتح العين المهملة وضمّ الجيم وبالزاي: عجز الشيء آخره، هوازن: بفتح الهاء وكسر الزاي وبالنون.
محالّهم: بتشديد اللام المفتوحة جمع محلّة وهي منزل القوم.
النّجديّة: نسبة إلى نجد وهو اسم للأرض التي أعلاها تهامة واليمن وأسفلها العراق والشام.
الجدر: بفتح الجيم وسكون الدال المهملة وبالراء: مسرح الغنم على ستة أميال من المدينة بناحية قباء.
خثعم: بفتح الخاء المعجمة وسكون الثاء المثلثة وفتح العين.
الجدب: بفتح الجيم وسكون الدال المهملة ضد الخصب.
أصمد: بضم الميم: أقصد.(6/130)
الباب السابع والثلاثون في سرية أمير المؤمنين أبي بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنه إلى بني كلاب بنجد في شعبان سنة سبع.
قال محمد بن عمر رحمه اللَّه تعالى: حدّثني أحمد بن عبد الواحد، وقال ابن سعد:
أخبرنا هاشم بن القاسم [الكناني] قال حدثنا عكرمة بن عمّار [ (1) ] قال حدثنا إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: «بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أبا بكر وأمّره علينا قال حمزة: فسبينا هوازن، وقال هشام بن القاسم: فسبى ناسا من المشركين فقتلناهم، فكان شعارنا: أمت أمت، قال: فقتلت بيدي سبعة أهل أبيات من المشركين ثم روى ابن سعد من الطريق السالفة عن سلمة القصة السابقة في السرية إلى بني فزارة، وقتل أم قرفة بناحية وادي القرى، مع ذكره لها أولا، وتبعه على ذلك في العيون هنا، وشيخه الواقدي اقتصر على ما ذكرناه هنا عن سلمة فسلم من الوهم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
كلاب: بكسر الكاف وتخفيف اللام.
الشّعار: بكسر الشين المعجمة وبالعين المهملة.
أمت أمت: مرتين: أمر بالموت والمراد به التفاؤل بالنصر بعد الأمر بالإماتة مع حصول الغرض للشّعار فإنهم جعلوا هذه الكلمة علامة يتعارفون بها لأجل ظلمة الليل.
__________
[ (1) ] عكرمة بن عمّار الحنفي العجلي أبو عمار اليمامي أحد الأئمة. عن الهرماس بن زياد ثم عن عطاء وطاوس. وعنه شعبة والسفيانان، ويحيى القطان، وابن المبارك، وابن مهدي وخلق. وثقه ابن معين والعجلي، وتكلم البخاري وأحمد والنّسائي في روايته عن يحيى بن أبي كثير، وأحمد في إياس بن سلمة. مات سنة تسع وخمسين ومائة (قلت) روايته عن يحيى في (خ) معلقة) الخلاصة 2/ 239.(6/131)
الباب الثامن والثلاثون في سرية بشير بن سعد رضي اللَّه تعالى عنه إلى بني مرة بفدك في شعبان سنة سبع.
قال محمد بن عمر، وابن سعد رحمهما اللَّه تعالى: «بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بشير بن سعد في ثلاثين رجلا إلى بني مرة بفدك، فخرج يلقي رعاء الشّاء فسأل عن الناس فقالوا هم في بواديهم- والناس يومئذ شاتون لا يحضرون الماء- فاستاق النّعم والشّاء وانحدر إلى المدينة، فخرج الصّريخ فأخبرهم فأدركه الدّهم منهم عند الليل، فباتوا يرامونهم بالنّبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير، وأصبحوا فحمل المرّيّون عليهم فأصابوا أصحاب بشير وولّي منهم من ولّى، وقاتل بشير قتالا شديدا حتى ارتثّ، وضرب كعبه فقيل قد مات، ورجعوا بنعمهم وشائهم، وكان أول من قدم بخبر السريّة ومصابها علبة بن زيد الحارثي. واستمر بشير بن سعد في القتلى فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك فأقام عند يهود بها أياما حتى ارتفع من الجراح ثم رجع إلى المدينة.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
بشير: بموحدة فشين معجمة فتحتية فراء وزن أمير.
مرة: بضم الميم وتشديد الراء.
فدك: بفتح الفاء والدال وبالكاف.
البوادي: جمع بادية.
الدّهم: بفتح الدال المهملة وسكون الهاء وبالميم: العدد الكثير، وجمعه الدهوم بضم الدال.
ارتثّ: بضم أوله وسكون الراء وضم الفوقية وبالمثلثة: حمل من المعركة رثيثا أي جريحا وبه رمق.
غلبة: بضم العين المهملة وسكون اللام وفتح الموحدة وتاء تأنيث.(6/132)
الباب التاسع والثلاثون في سرية غالب بن عبد اللَّه الليثي إلى الميفعة في رمضان سنة سبع.
روى ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة رحمه اللَّه تعالى أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال له مولاه يسار:
«يا نبي اللَّه إني قد علمت غرة من بني عبد بن ثعلبة فأرسل معي إليهم» . فأرسل معه غالبا في مائة وثلاثين رجلا. قال ابن سعد رحمه اللَّه تعالى: قالوا بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غالب بن عبد اللَّه إلى بني عوال، وبني عبد بن ثعلبة وهم بالميفعة وهي وراء بطن نخل إلى النّقرة قليلا بناحية نجد [بينها وبين المدينة ثمانية برد] . بعثه في مائة وثلاثين رجلا، ودليلهم يسار مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فهجموا عليهم جميعا، ووقعوا في وسط محالّهم، فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا نعما وشاء فحدروه إلى المدينة ولم يأسروا أحد.
تنبيهات
الأول: ذكر ابن سعد وتبعه في العيون والمورد أن في هذه السريّة قتل أسامة بن زيد رضي اللَّه تعالى عنه نهيك، بن مرداس الذي قال: «لا إله إلا اللَّه» ،
فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «ألا شققت عن قلبه فتعلم أصادق هو أم كاذب؟» [ (1) ] إلخ
وسيأتي الكلام على ذلك في سريّة أسامة إلى الحرقات.
الثاني: خلط البيهقي وتبعه في البداية هذه السريّة بالسرية الآتية بالباب [الثاني والأربعين] والصحيح أنها غيرها.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الميفعة: بميم مكسورة فتحتية ساكنة ففاء مفتوحة فعين مهملة فتاء تأنيث، قال في النور والقياس فيها فتح الميم: اسم موضع.
يسار: بتحتية مفتوحة فسين مهملة.
بنو عوال: بعين مهملة مضمومة فواو وبعد الألف لام.
بنو عبد: بغير إضافة إلى معبود.
ثعلبة: بالثاء المثلثة.
نخل: بفتح النون فخاء معجمة ساكنة فلام: مكان من نجد من أرض غطفان ولا يخالف ذلك قول نصر والحازمي إنها بالحجاز.
النّقرة: بفتح النون وسكون القاف، وقيل بكسر القاف.
وسط: بفتح السين المهملة وبسكونها.
لم يأسروا: بكسر السين المهملة.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 207 وابن سعد في الطبقات والطبري في التفسير 5/ 129.(6/133)
الباب الأربعون في سرية بشير بن سعد رضي اللَّه تعالى عنه إلى يمن وجبار في شوّال سنة سبع
قال ابن سعد رحمه اللَّه تعالى: قالوا بلغ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن جمعا من غطفان بالجناب قد واعدهم عيينة بن حصن الفزاري- أي قبل أن يسلم- ليكون معهم ليزحفوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فدعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بشير بن سعد فعقد له لواء، وبعث معه ثلاثمائة رجل، وخرج معه حسيل بن نويرة دليلا، فساروا الليل وكمنوا النهار حتى أتوا يمن وجبار، وهما نحو الجناب- والجناب معارض سلاح- وخيبر ووادي القرى، فنزلوا سلاح ثم دنوا من القوم فأصابوا نعما كثيرا ونفر الرّعاء فحذروا الجمع وتفرقوا ولحقوا بعليا بلادهم. وخرج بشير بن سعد في أصحابه حتى أتى محالّهم، فيجدها وليس فيها أحد، فلقوا عينا لعيينة فقتلوه، ثم لقوا جمع عيينة وهو لا يشعر بهم فناوشوهم، ثم انكشف جمع عيينة، وتبعهم أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخذوا منهم رجلين فأسروهما ورجع الصحابة بالنّعم والرجلين إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأسلما فأرسلهما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
بشير: بالموحدة والشين المعجمة وزن أمير.
يمن: بفتح الياء آخر الحروف أو ضمّها. ويقال أمن بفتح أوله أو ضمه وسكون الميم وبالنون.
جبار: بفتح الجيم وبالموحدة والراء اسم موضع وصاحب القاموس يقتضي فتح الجيم.
عيينة: بضم العين المهملة وكسرها فتحتية مفتوحة فأخرى ساكنة فنون فتاء تأنيث.
حصن: بكسر الحاء وسكون الصاد المهملتين فنون.
حسيل: بضم الحاء وفتح السين المهملتين وسكون التحتية وباللام، وقيل بالتكبير.
نويرة: بضم النون وفتح الواو وسكون التحتية فراء فتاء تأنيث.
سلاح: قال البكري: بكسر السين المهملة وبالحاء المهملة وتبعه في العيون وقال في القاموس كقطام فاقتضى فتح أوله.
الرّعاء: بكسر الراء.(6/134)
عليا بلادهم: بضم العين المهملة وسكون اللام وبالقصر: نقيض السّفلى.
محالّهم: بفتح الميم والحاء المهملة وكسر اللام المشددة جمع محلّة وهي منزل القوم.
العين: الجاسوس.
ناوشهم: المناوشة في القتال تداني الفريقين وأخذ بعضهم بعضا.
انكشف جمعهم: انهزم.(6/135)
الباب الحادي والأربعون في سرية الأخرم بن أبي العوجاء السّلمي رضي اللَّه تعالى عنه إلى بني سليم في ذي الحجة سنة سبع.
قالوا: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ابن أبي العوجاء السّلمي في خمسين رجلا إلى بني سليم، فخرج إليهم وتقدّمه عين لهم كان معه فحذرهم. فجمعوا له جمعا كثيرا فأتاهم ابن أبي العوجاء وهم معدون له، فدعاهم إلى الإسلام. فقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتنا. فتراموا بالنّبل ساعة وجعلت الأمداد تأتي حتى أحدقوا بهم من كل ناحية. فقاتل القوم قتالا شديدا حتى قتل عامتهم. وأصيب ابن أبي العوجاء جريحا مع القتلى، ثم تحامل حتى بلغ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. ثم قدموا المدينة في أول يوم من صفر سنة ثمان.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الأخرم: بخاء معجمة فميم.
ابن أبي العوجاء: كذا ذكر ابن إسحاق وابن سعد [إثبات لفظ ابن وهو الذي عزاه في الإصابة والتجريد للزهري] وأغرب الذهبي في الكنى فقال «أبو العوجاء» ونقله عن الزهري.
سليم: بضم السين المهملة وفتح اللام.
العين: هنا الجاسوس.
معدون: بضم الميم وكسر العين وضم الدال المشددة المهملتين.
الأمداد: الأعوان والأنصار.(6/136)
الباب الثاني: والأربعون في سرية غالب بن عبد اللَّه الليثي رضي اللَّه تعالى عنه إلى بني الملوّح بالكديد في صفر سنة ثمان
روى ابن إسحاق والإمام أحمد وأبو داود من طريق محمد بن عمر، وابن سعد رحمهم اللَّه تعالى عن جندب بن مكيث الجهني رضي اللَّه تعالى عنه، قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غالب بن عبد اللَّه الليثي، ليث كلب بن عوف في سريّة كنت فيهم، وأمره أن يشنّ الغارة على بني الملوّح بالكديد، وهم من بني ليث. قال: فخرجنا حتى إذا كنّا بقديد لقينا الحارث بن البرصاء [الليثي] فأخذناه فقال: إنما جئت أريد الإسلام وإنما خرجت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقلنا لن يضرّك رباط يوم وليلة إن كنت تريد الإسلام وإن يكن غير ذلك فنستوثق منك. قال: فشددناه وثاقا وخلّفنا عليه رويجلا منا أسود، يقال له سويد بن منحر، وقلنا إن نازعك فاحترز رأسه. ثم سرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس، فكمنّا في ناحية الوادي، وبعثني أصحابي ربيئة لهم، فخرجت حتى أتيت تلّا مشرفا على الحاضر يطلعني عليهم حتى إذا أسندت فيه وعلوت رأسه انبطحت- وفي رواية، فاضطجعت على بطني- قال: فو اللَّه إني لأنظر إذ خرج رجل منهم من خباء له، فقال لامرأته: إني أرى على هذا التلّ سوادا ما رأيته عليه صدر يومي هذا فانظري إلى أوعيتك لا تكون الكلاب جرّت منها شيئا.
قال: فنظرت فقالت: واللَّه ما أفقد من أوعيتي شيئا. فقال لامرأته: ناوليني قوسي ونبلي. فناولته قوسه وسهمين معها، فأرسل سهما فو اللَّه ما أخطأ به جنبي- ولفظ ابن إسحاق، وابن سعد: بين عينيّ- قال: فانتزعته وثبت مكاني. ثم رمى بالآخر فخالطني به- ولفظ ابن إسحاق، وابن سعد، فوضعه في منكبي- فانتزعته فوضعته وثبتّ في مكاني. فقال لامرأته: واللَّه لو كان ربيئة لقد تحرّك بعد، لقد خالطه سهمان لا أبالك، فإذا أصبحت فابتغيهما لا تمضغهما الكلاب.
قال: ثم دخل الخباء، وراحت ماشية الحيّ من إبلهم وأغنامهم، فلما احتلبوا وعطنوا واطمأنوا فناموا شننّا عليهم الغارة فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية واستقنا النّعم والشّاء فخرجنا نحدرها قبل المدينة حتى مررنا بابن البرصاء فاحتملناه واحتملنا صاحبنا وخرج صريخ القوم في قومهم فجاءنا ما لا قبل لنا به، فجاءنا القوم حتى نظروا إلينا ما بيننا وبينهم إلا الوادي وهم موجّهون إلينا إذ جاء اللَّه تعالى بالوادي من حيث شاء بماء يملأ جنبتيه، وأيم اللَّه ما رأينا قبل ذلك سحابا ولا مطرا فجاء بما لا يستطيع أحد أن يجوزه، فلقد رأيتهم وقوفا ينظرون إلينا وقد أسندناها في المشلّل [نحدرها] وفي لفظ في المسيل- وفتناهم [فوتا] لا يقدرون فيه على طلبنا، ثم قدمنا(6/137)
المدينة، وروى محمد بن عمر، عن حمزة بن عمرو الأسلمي قال: كنت معهم وكنا بضعة عشر رجلا وكان شعارنا: أمت أمت.
تنبيهان
الأول: نقل في البداية عن الواقدي أنه ذكر هذه القصة بإسناد آخر وقال فيه: وكان معه من الصحابة مائة وثلاثون رجلا. والواقدي ذكر ذلك في سرية لغالب غير هذه.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
الملوّح: بميم مضمومة فلام مفتوحة فواو مشددة مكسورة.
الكديد: بفتح الكاف وكسر الدال المهملة فتحتية ساكنة فدال مهملة.
جندب: بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة وفتحها.
مكيث: بميم فكاف فتحتية فثاء مثلثة وزن أمير.
يشنّ: يفرّق من كل وجه.
الغارة: اسم من أغار ثم أطلقت الغارة على الخيل.
لقينا: بسكون التحتية.
الحارث: بالنصب مفعول لقينا.
ابن البرصاء: اسم أبيه مالك.
رويجلا: تصغير رجل.
الرّبيئة: بفتح الراء وكسر الموحدة وسكون التحتية وفتح الهمزة وبتاء التأنيث.
الحاضر: القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه [ويقال للمناهل المحاضر للاجتماع والحضور عليها] قال الخطّابي: ربما جعلوا الحاضر اسما للمكان المحضور يقال نزلنا حاضر بني فلان فهو فاعل بمعنى مفعول.
يطلعني: بضم أوله.
أسندت: بفتح أوله وسكون السين المهملة وفتح النون وسكون الدال المهملة أي صعدت.
الخباء: بكسر الخاء المعجمة وفتح الموحدة وبالمدّ، بيت من بيوت الأعراب.
لا أبا لك: بكسر الكاف هنا، ويذكر للحث على الفعل تارة بمعنى جدّ في أمرك وشمّر لأن من له أب اتكل عليه في بعض شأنه، وللمدح تارة أي لا كافي لك غير نفسك، وقد يذكر(6/138)
في معرض الذّمّ [كما يقال لا أمّ لك] وقد يذكر في معرض التعجب ودفعا للعين كقولهم لله درك وقد تحذف اللام فيقال لا أباك بمعناه.
تمضغهما: بضم الضاد المعجمة وفتحها.
نحدرها: بضم الدال المهملة.
واحتملنا صاحبنا: هو الرّويجل الأسود.
أدركنا: بفتح الكاف والضمير في محل النصب.
القوم: فاعل.
بالوادي: أي بالسّبيل في الوادي.
المشلل: بضم الميم وفتح الشين المعجمة وفتح اللام الأولى.
المسيل: موضع سيل الماء.
الشّعار: العلامة.
أمت أمت: تقدم الكلام عليها في سرية أبي بكر.(6/139)
الباب الثالث والأربعون في سرية غالب بن عبد الله رضي الله تعالى عنه إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد في صفر سنة ثمان
قال محمد عمر، وابن إسحاق في رواية يونس ومحمد بن سلمة رحمهم الله تعالى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ما حصل لبشير بن سعد وأصحابه هيّأ الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه وقال له: «سر حتى تنتهي إلى مصاب أصحاب بشير بن سعد فإن أظفرك الله بهم فلا تبق فيهم» [ (1) ] وهيّأ معه مائتي رجل وعقد له لواء.
فقدم غالب بن عبد الله اللّيثي من الكديد قد ظفره الله عليهم
فقال صلى الله عليه وسلم للزبير: «اجلس»
وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل فيهم أسامة بن زيد، وعلبة بن زيد الحارثي وأبو مسعود عقبة بن عمرو، وكعب بن عجرة فلما دنا غالب منهم بعث الطلائع.
فبعث علبة بن زيد في عشرة ينظرون إلى محالّهم، فأوفى على جماعة منهم ثم رجع إلى غالب فأخبره الخبر. فأقبل غالب يسير حتى إذا كان منهم بنظر العين ليلا وقد عطنوا وهدأوا قام غالب فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: «أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له وان تطيعوني ولا تعصوني ولا تخالفوا لى أمرا فإنه لا رأي لمن لا يطاع» .
ثم ألف بينهم فقال: «يا فلان أنت وفلان، يا فلان أنت وفلان لا يفارق رجل منكم زميله، وإياكم أن يرجع إلى رجل منكم، فأقول: أين صاحبك؟ فيقول لا أدري فإذا كبّرت فكبّروا وجرّدوا السيوف. فلما أحاطوا بالحاضر كبّر غالب فكبّروا وجردوا السيوف فخرج الرجال فقاتلوا ساعة ووضع المسلمون فيهم السيف حيث شاءوا. وروى ابن سعد عن إبراهيم بن حويصة بن مسعود عن أبيه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية مع غالب بن عبد الله إلى بني مرة فأغرنا عليهم مع الصبح وقد أوعز إلينا أميرنا ألا نفترق وواخى بيننا فقال: لا تعصوني فإنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني» ، وإنكم متى ما عصيتموني فإنما تعصون نبيكم. قال: فآخى بيني وبين أبي سعيد الخدري. قال: فأصبنا القوم وكان شعارهم أمت أمت.
قال محمد بن عمر: وفي هذه السرية خرج أسامة بن زيد في إثر رجل منهم يقال له نهيك بن مرداس أو مرداس بن نهيك وهو الصواب، فأبعد وقوي المسلمون على الحاضر وقتلوا من قتلوا، واستاقوا نعما وشاء. وذكر ابن سعد ذلك في سرية غالب إلى الميفعة. وتفقّد
__________
[ (1) ] أخرجه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 10/ 151.(6/140)
غالب أسامة بن زيد، فجاء أسامة بعد ساعة من الليل فلامه الأمير لائمة شديدة وقال: ألم تر إلى ما عهدت إليك؟ فقال خرجت في إثر رجل منهم يقال له نهيك جعل يتهكم بي حتى إذا دنوت منه قال: «لا إله إلا الله» . فقال الأمير: «أأغمدت سيفك» ؟ فقال: «لا والله ما فعلت حتى أوردته شعوب» . فقال: بئس ما فعلت وما جئت به تقتل امرءا يقول لا إله إلا الله. فندم أسامة وسقط في يده وساق المسلمون النّعم والشّاء والذّرية، وكانت سهمانهم عشرة أبعرة لكل رجل أو عدلها من الغنم وكانوا يحسبون الجزور بعشرة من الغنم.
تنبيهان
الأول: كذا ذكر ابن إسحاق في رواية يونس ومحمد بن عمر، أن قتلة أسامة لمرداس كانت في هذه الغزوة وسيأتي الكلام على ذلك في سرية أسامة بن زيد إلى الحرقات.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
مصاب: بضم الميم وبالصاد المهملة.
بشير: بموحدة وشين معجمة كأمير.
فدك: بفتح الفاء والدال المهملة.
هيّأ: بفتح الهاء والتحتية المشددة وبالهمز.
الكديد: بفتح الكاف وكسر الدال المهملة الأولى.
علبة: بضم العين المهملة وسكون اللام وبالموحدة وتاء التأنيث.
عقبة: بالقاف.
عجرة: بضم العين المهملة وسكون الجيم وبالراء وتاء التأنيث.
الطلائع: جمع طليعة من يبعث ليطّلع طلع العدوّ للواحد والجمع.
أوفى: أشرف.
الزّميل: بفتح الزاي وكسر الميم وسكون التحتية وباللام، وهو هنا الرفيق في السفر الذي يعينك على أمورك.
الحاضر: تقدم في الباب الذي قبله.
حويّصة: بضم الحاء المهملة وفتح الواو وتخفيف التحتية ساكنة وتشديدها مكسورة وبالصاد المهملة.
مرة: بضم الميم وفتح الراء المشددة.
أو عز إليه: بفتح أوله وسكون الواو وفتح العين المهملة والزاي تقدم.
أمت أمت: تقدم الكلام عليه في سرية أبي بكر رضي الله عنه.(6/141)
الباب الرابع والأربعون في سرية شجاع بن وهب الأسدي رضي الله تعالى عنه إلى بني عامر بالسي في ربيع الأول سنة ثمان.
روى محمد بن عمر رحمه الله تعالى عن عمر بن الحكم رحمه الله تعالى قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلا إلى جمع من هوازن بالسّيّ ناحية ركبة من وراء المعدن وهي من المدينة على خمس ليال، وأمره أن يغير عليهم فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى صبّحهم وهم غارّون، وقد أوعز إلى أصحابه ألّا يمعنوا في الطلب، فأصابوا نعما كثيرا وشاء واستاقوا ذلك حتى قدموا المدينة، [واقتسموا الغنيمة] فكانت سهمانهم خمسة عشر بعيرا لكل رجل وعدلوا البعير بعشر من الغنم، وغابت السرية خمس عشرة ليلة.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
شجاع: بضم الشين المعجمة.
السّيّ: بكسر السين المهملة ومدّ الهمزة.
ركبة: بضم الراء وسكون الكاف وبالموحدة.
المعدن: بفتح الميم وسكون العين وكسر الدال المهملتين وبالنون.
غارّون: بالغين المعجمة وبعد الألف راء مشددة مضمومة فنون: غافلون.
أوعز: بفتح أوله وسكون الواو وفتح العين المهملة والزاي، تقدم.
أمعن في طلب العدو، بالغ وأبعد.(6/142)
الباب الخامس والأربعون في سرية كعب بن عمير الغفاري رضي الله تعالى عنه إلى ذات أطلاح في شهر ربيع الأول سنة ثمان
قال محمد بن عمر حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلا حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعا من جمعهم كثيرا فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنّبل، فلما رأى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا، وأفلت منهم رجل جريح في القتلى فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فشقّ ذلك عليه وهمّ بالبعث إليهم، فبلغه أنهم قد ساروا إلى موضع آخر فتركهم.
قال محمد بن عمر حدثني ابن أبي سبرة عن الحرث بن فضيل قال: كان كعب بن عمير يمكن النهار ويسير الليل حتى دنا منهم فرآه صيدهم فأخذهم بعلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءوا إليهم على الخيول فقتلوهم قال أبو عمر: قتلوهم بقضاعة.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
عمير: بعين مهملة مضمومة فميم مفتوحة فتحتية ساكنة فراء.
الغفاري: بكسر الغين المعجمة وتخفيف الفاء.
أطلاح: بفتح الهمزة وسكون الطاء وبالحاء المهملة وهو من وراء وادي القرى.
محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن الزهري يروى عنه.
قتلوا: بالبناء للمفعول.
أفلت: وتفلت وانفلت أي تخلص ونجا.(6/143)
الباب السادس والأربعون في سرية مؤنة وهي بأدنى البلقاء دون دمشق في جمادى الأولى سنة ثمان
قال محمد بن عمر: حدثني محمد بن عبد الله عن الزهري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة في جمادى الأولى سنة ثمان واستعمل زيد بن حارثة، وقال: «إن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس فإن قتل فليرتض المسلمون منهم رجلا فليجعلوه عليهم» [ (1) ] .
قال محمد بن عمر رحمه الله عن عمر بن الحكم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صلّى الظهر جلس، وجلس أصحابه حوله، وجاء النعمان بن مهضّ اليهودي فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة فإن أصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون رجلا منهم فليجعلوه عليهم» .
فقال النعمان بن مهضّ:
«يا أبا القاسم إن كنت نبيّا فسمّيت من سمّيت قليلا أو كثيرا أصيبوا جميعا لأن أنبياء بني إسرائيل كانوا إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا إن أصيب فلان ففلان فلو سمى مائة أصيبوا جميعا» ثم إن اليهودي جعل يقول لزيد بن حارثة: «اعهد فإنك لا ترجع إلى محمد إن كان نبيا» . قال زيد: «فاشهد أنه رسول صادق بارّ» .
وعقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة وأوصاهم أن يأتوا مقتل الحارث بن عمير وأن يدعوا من هناك إلى الإسلام فإن أجابوا وإلا استعينوا عليهم بالله تبارك وتعالى وقاتلوهم.
ذكر طعن الصحابة في إمارة زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنه
روى البخاري عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد [ (2) ] فطعن [بعض] الناس في إمارته، وقالوا: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «قد بلغني أنكم قلتم في أسامة، إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله إن
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 583 (4261) .
[ (2) ] (ع) أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي أبو محمد وأبو زيد الأمير حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبّه وابن حاضنته أم أيمن. له مائة وثمانية وعشرون حديثا، اتفقا على خمسة عشر وانفرد كل منهما بحديثين، وعنه ابن عباس وابراهيم بن سعد بن أبي وقاص وعروة وأبو وائل وكثيرون أمّره النبي صلى الله عليه وسلم علي جيش فيهم أبو بكر وعمر، وشهد مؤتة، قالت عائشة: من كان يحب الله ورسوله فليحب أسامة. توفي بوادي القرى، وقيل بالمدينة سنة أربع وخمسين عن خمس وسبعين سنة الخلاصة 1/ 66.(6/144)
كان لخليقا للإمارة وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ وإن هذا لمن أحبّ النّاس إليّ بعده» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والنسائي وابن حبان في صحيحه، والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الأمراء وقال: «عليكم زيد بن حارثة فإن أصيب زيد فجعفر فأن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة» قال: فوثب جعفر رضي الله عنه وقال:
[بأبي أنت وأمي] يا رسول الله ما كنت أرهب أن تستعمل عليّ زيدا) فقال: «امض فإنك لا تدري أي ذلك خير» [ (2) ] .
ذكر مسير المسلمين ووداع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصيته إياهم
قال عروة بن الزبير [ (3) ] : «فتجهّز الناس ثم تهيّئوا للخروج وهم ثلاثة آلاف. فلما حضر خروجهم ودّع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّموا عليهم. فلما ودّع عبد الله رواحة مع من ودّع من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى، فقالوا: «ما يبكيك يا ابن رواحة؟» فقال: «أما والله ما بي حبّ الدنيا ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا [مريم 71] فلست أدري كيف لي بالصّدر بعد الورود؟» فقال المسلمون: «صحبكم الله ودفع عنكم وردّكم إلينا صالحين» . فقال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه:
لكنني أسأل الرّحمن مغفرة ... وضربة ذات فرغ تقذف الزّبدا
أو طعنة بيدي حرّان مجهزة ... بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا
حتّى يقال إذا مرّوا على جدثي ... يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
قال ابن إسحاق: ثم إن القوم تهيّئوا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه وسلم فودّعه ثم قال:
فثبّت الله ما آتاك من حسن ... تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
إنّي تفرّست فيك الخير نافلة ... الله يعلم أنّي ثابت البصر
أنت الرّسول فمن يحرم نوافله ... والوجه منك فقد أزري به القدر
هكذا أنشد ابن هشام هذه الأبيات وأنشدها ابن إسحاق بلفظ فيه إقواء قال ابن
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في كتاب المغازي (4468) .
[ (2) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 299 والبيهقي في الدلائل 4/ 367 وأبو نعيم في الحلية 9/ 26 وابن سعد في الطبقات 3/ 1/ 32.
[ (3) ] عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، أبو عبد الله المدني، أحد الفقهاء السبعة، وأحد علماء التابعين. [وقال الزهري: عروة بحر لا تكدره الدّلاء.] قال ابن شؤذب: كان يقرأ كل ليلة ربع القرآن، ومات وهو صائم. الخلاصة 2/ 231.(6/145)
إسحاق: «ثم خرج القوم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يشيّعهم حتى إذا ودّعهم وانصرف عنهم قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه:
خلف السّلام على امرئ ودّعته ... في النّخل خير مشيّع وخليل»
وروى محمد بن عمر عن خالد بن يزيد رحمه الله تعالى قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيّعا لأهل مؤتة حتى بلغ ثنيّة الوداع فوقف ووقفوا حوله فقال: «اغزوا باسم الله فقاتلوا عدوّ الله وعدوّكم بالشام وستجدون رجالا في الصوامع معتزلين الناس فلا تعرضوا لهم وستجدون آخرين للشيطان في رؤوسهم مفاحص فافلقوها بالسيوف، لا تقتلنّ امرأة ولا صغيرا ضرعا ولا كبيرا فانيا ولا تقربن نخلا ولا تقطعنّ شجرا ولا تهدمنّ بيتا» [ (1) ] .
وروى محمد بن عمر [الواقدي] عن زيد بن أرقم [رفعه] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرا، اغزوا باسم الله في سبيل الله من كفر بالله لا تغدروا ولا تغلّوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيتم عدوّكم من المشركين فادعوهم إلى إحدى ثلاث فأيّتهنّ ما أجابوكم إليها فاقبلوا منهم وكفّوا عنهم الأذى ثم ادعوهم إلى التّحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين فإن فعلوا فأخبروهم أن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحوّلوا منها فأخبروهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله [الذي يجري على المؤمنين] ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن فعلوا فاقبلوا منهم وكفّوا عنهم فإن هم أبوا فاستعينوا بالله عليهم وقاتلوهم وإن حاصرتم أهل حصن أو مدينة فأرادوكم أن تجعلوا لهم ذمة الله وذمّة رسوله فلا تجعلوا لهم ذمّة الله ولا ذمّة رسوله ولكن اجعلوا لهم ذمّتكم وذمّة آبائكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله» .
وذكر نحو ما سبق.
وروى محمد بن عمر عن عطاء بن مسلم [ (2) ] رحمه الله تعالى قال: «لما ودّع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة قال ابن رواحة: يا رسول الله مرني بشيء أحفظه عنك قال:
«إنك قادم غدا بلدا السجود فيه قليل فأكثر السجود» قال عبد الله بن رواحة: زدني يا رسول الله. قال: «اذكر الله فإنه عون لك على ما تطالب» . فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهبا رجع فقال: يا رسول الله إن الله وتر يحب الوتر فقال: «يا ابن رواحة ما عجزت فلا تعجزنّ إن
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في السنن 9/ 69.
[ (2) ] عطاء بن أبي مسلم مولى المهلب بن أبي صغرة أبو أيوب الخراساني نزيل الشام واحد الأعلام عن أبي الدرداء ومعاذ، وابن عباس مرسلا وروى عن يحيى بن يعمر ونافع وعكرمة وعنه وابن جريج والأوزاعي، ومالك وشعبة وحمّاد بن سلمة قال عبد الرحمن بن يزيد: كان يحيي الليل. وثقه ابن معين وأبو حاتم. قال ابنه عثمان: مات سنة خمس وثلاثين ومائة، عن خمس وثمانين سنة. قاله أبو نعيم الخلاصة 2/ 231.(6/146)
أسأت عشرا أن تحسن واحدة» [ (1) ] . قال ابن رواحة: لا أسألك عن شيء بعدها.
ذكر رجوع عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ليصلي الجمعة
روى الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول لله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مؤتة فاستعمل زيدا وذكر الحديث وفيه:
فتخلّف ابن رواحة فجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه، فقال: «ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟» قال: أردت أن أصلّي معك الجمعة ثم ألحقهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما أدركت غدوتهم» . وفي لفظ: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» [ (2) ] .
ذكر مسير المسلمين بعد وداع رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق، ومحمد بن عمر: ثم مضى الناس. قال محمد بن عمر: قالوا: كان زيد بن أرقم يقول- وقال ابن إسحاق: حدّثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدّث عن زيد بن أرقم قال:
«كنت يتيماً في حجر عبد الله بن رواحة فلم أر وليّ يتيم كان خيرا منه فخرجنا إلى مؤتة فكان يردفني خلفه على حقيبة رحله فو الله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو ينشد أبياته هذه:
إذا أدّيتني وحملت رحلي ... مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك أنعم وخلاك ذمّ ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وآب المسلمون وغادروني ... بأرض الشّام مشتهي الثّواء
وردّك كلّ ذي نسب قريب ... إلى الرّحمان منقطع الإخاء
هنا لك لا أبالي طلع بعل ... ولا نخل أسافلها رواء
قال: فلما سمعتهنّ منه بكيت فخفقني بالدّرّة وقال: «ما عليك بالكع أن يرزقني الله الشهادة فأستريح من الدنيا ونصبها وهمومها وأحزانها وترجع بين شعبتي الرّحل» . زاد ابن إسحاق: قال ثم قال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه في بعض شعره وهو يرتجز:
يا زيد زيد اليعملات الذّبّل ... تطاول اللّيل هديت فانزل
زاد محمد بن عمر: ثم نزل من الليل، ثم صلى ركعتين ودعا فيهما دعاء طويلا ثم قال:
يا غلام. قلت: لبّيك. قال: هي إن شاء الله الشهادة. قالوا: ولما فصل المسلمون من المدينة سمع العدوّ بمسيرهم فتجمّعوا لهم وقام فيهم شرحبيل بن عمرو فجمع أكثر من مائة ألف،
__________
[ (1) ] ذكره السيوطي في الدر 3/ 189 وعزاه لابن عساكر.
[ (2) ] أخرجه الترمذي (527) وأحمد في المسند 1/ 224 وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 7/ 393.(6/147)
وقدّم الطلائع أمامه. فلما نزل المسلمون وادي القرى بعث أخاه سدوس بن عمرو في خمسين من المشركين فاقتتلوا وانكشف أصحاب سدوس وقد قتل، فشخص أخوه. ومضى المسلمون حتى نزلوا معان من أرض الشام. وبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم وانضم إليهم مائة ألف أخرى من لخم وجذام وقبائل قضاعة من بلقين وبهراء وبليّ عليهم ورجل من بليّ ثم أحد إراشة يقال له مالك بن رافلة.
فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، وقالوا نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بكثرة عدونا فإما أن يمدّنا بالرجال وإما أن يأمرنا بأمر فنمضي له. فشجّع الناس عبد الله بن رواحة فقال: «يا قوم والله إن التي تكرهون للّتي خرجتم تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوّة ولا كثرة وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة وليست بشرّ المنزلتين» . فقال الناس: صدق والله ابن رواحة.
فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدوّ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها. فتعبّأ لهم المسلمون. وروى أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن القرّاب في تاريخه عن برذع بن زيد قال: قدم علينا وفد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مؤتة وعليهم زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، وخرج معهم منا عشرة إلى مؤتة يقاتلون معهم. قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يأتوا فركبت القوم ضبابة فلم يبصروا حتى أصبحوا على مؤتة. وروى محمد بن عمر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «شهدت مؤتة فلما دنا العدوّ منا رأينا ما لا قبل لأحد به من العدد والعدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب فبرق بصري فقال لي ثابت بن أقرم: «يا أبا هريرة كأنك ترى جموعا كثيرة» . قلت:
نعم. قال: إنك لم تشهد معنا بدرا، إنّا لم ننصر بالكثرة. قال ابن إسحاق: وتعبّأ المسلمون للمشركين، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من عذرة يقال له قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له عباية بن مالك-[قال ابن هشام] ويقال له عبادة بن مالك.
ذكر التحام القتال
قال ابن عقبة، وابن إسحاق، ومحمد بن عمر: ثم التقى الناس واقتتلوا قتالاً شديداً.
فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم. ثم أخذها جعفر بن أبي طالب فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعرقبها ثم قاتل القوم حتى قتل فكان جعفر أول رجل من المسلمين عرقب فرسا له في سبيل الله.(6/148)
وروى ابن إسحاق عن عباد بن عبد الله بن الزبير قال: حدثني أبي الذي أرضعني وكان أحد بني مرّة بن عوف، وكان في غزوة مؤتة قال: والله لكأني انظر إلى جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل وهو يقول:
يا حبّذا الجنّة واقترابها ... طيّبة وباردا شرابها
والرّوم روم قد دنا عذابها ... كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إذ لاقيتها ضرابها
وهذا الحديث رواه أبو داود من طريق ابن إسحاق ولم يذكر الشعر وفي حديث أبي عامر رضي الله تعالى عنه عند ابن سعد أن جعفرا رضي الله تعالى عنه لبس السلاح ثم حمل على القوم حتى إذا همّ أن يخالطهم رجع فوحّش بالسلاح ثم حمل على العدو وطاعن حتى قتل. قال ابن هشام: وحدثني من أثق به من أهل العلم أن جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله تعالى عنه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء. ويقال: إن رجلا من الروم ضربه يومئذ ضربة فقطعه نصفين. وروى البخاريّ والبيهقي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «كنت فيهم في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ووجدنا في جسده بضعا وستين من طعنة ورمية، وفي رواية عنه قال: «وقفت علي جعفر بن أبي طالب يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين من طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره» .
ذكر مقتل عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه
روى ابن إسحاق [يحيى بن] عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه الذي أرضعه قال: فلما قتل جعفر أخذ الراية عبد الله بن رواحة، ثم تقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال:
أقسمت يا نفس لتنزلنّه ... طائعة أو لتكرهنّه
أن أجلب النّاس وشدّوا الرّنّه ... مالي أراك تكرهين الجنّة
قد طال ما قد كنت مطمئنّة ... هل أنت إلا نطفة في شنّه
وقال أيضاً رضي الله تعالى عنه:
يا نفس إلّا تقتلي تموتي ... هذا حمام الموت قد صليت
وما تمنّيت فقد أعطيت ... إن تفعلي فعلهما هديت(6/149)
يريد صاحبيه زيدا وجعفرا، ثم نزل. فلما نزل أتاه ابن عمر له بعرق من لحم فقال: «شد بهذا صلبك فإنك لقيت في أيامك هذه ما لقيت» . فأخذه من يده، ثم انتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال: وأنت في الدنيا؟ ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله تعالى عنه. ووقع اللّواء من يده فاختلط المسلمون والمشركون وانهزم بعض الناس، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم يقتل الرجل مقبلا أحسن من أن يقتل مدبرا. قال سعيد بن أبي هلال رحمه الله تعالى: وبلغني أن زيدا وجعفرا وعبد الله بن رواحة دفنوا في حفرة واحدة. وفي حديث أبي عامر رضي الله تعالى عنه عند ابن سعد أن عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه لما قتل «انهزم المسلمون أسوأ هزيمة رأيتها قط حتى لم أر اثنين جميعا. ثم أخذ اللواء رجل من الأنصار ثم سعى به حتى إذا كان أمام الناس ركزه ثم قال: إليّ أيها الناس. فاجتمع إليه الناس حتى إذا كثروا مشى باللواء إلى خالد بن الوليد. فقال له خالد:
لا آخذه منك أنت أحقّ به فقال الأنصاري والله ما أخذته إلا لك» .
ذكر تأمير المسلمين خالد بن الوليد بعد قتل أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهزمه المشركين، وإعلام الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح
قال ابن إسحاق: ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد.
وروى الطبراني عن أبي اليسر الأنصاري رضي الله تعالى عنه قال: أنا دفعت الراية إلى ثابت بن أقرم لما أصيب عبد الله بن رواحة فدفعت إلى خالد وقال [له ثابت بن أقرم] أنت أعلم بالقتال مني. قال ابن إسحاق: «فلما أخذ الراية خالد بن الوليد دافع القوم وحاشى بهم ثم انحاز وانحيز عنه وانصرف بالناس» .
هكذا ذكر ابن إسحاق أنه لم يكن إلا المحاشاة والتخلص من أيدي الروم الذين كانوا مع من انضمّ إليهم أكثر من مائتي ألف والمسلمون ثلاثة آلاف. ووافق ابن إسحاق على ذلك شرذمة. وعلى هذا سمّي هذا نصرا وفتحا باعتبار ما كانوا فيه من إحاطة العدوّ وتراكمهم وتكاثرهم عليهم وكان مقتضي العادة أن يقتلوا بالكلّيّة وهو محتمل لكنه خلاف الظاهر من
قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى فتح الله عليكم» [ (1) ] .
والأكثرون على أن خالدا ومن معه رضي الله تعالى عنهم قاتلوا المشركين حتى هزموهم. ففي حديث أبي عامر عند ابن سعد أن خالدا لما أخذ
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 585 (4262) .(6/150)
اللّواء «حمل على القوم فهزمهم الله أسوأ هزيمة رأيتها قط حتى وضع المسلمون أسيافهم حيث شاءوا» .
وروى الطبراني برجال ثقات عن موسى بن عقبة قال: ثم اصطلح المسلمون بعد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على خالد بن الوليد المخزومي فهزم الله تعالى العدوّ وأظهر المسلمين. وروى محمد بن عمر الأسلمي عن عطاف بن خالد لما قتل ابن رواحة مساء بات خالد بن الوليد، فلما أصبح غدا وقد جعل مقدمته ساقته وساقته مقدمته وميمنته ميسرة وميسرته ميمنة، فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيأتهم وقالوا وقد جاءهم مدد فرعبوا وانكشفوا منهزمين. قال:
فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم. وذكر ابن عائذ في مغازيه نحوه.
وروى محمد بن عمر عن الحارث بن الفضل رحمه الله تعالى: لما أخذ خالد بن الوليد الراية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الآن حمي الوطيس» [ (1) ] .
وروى القرّاب في تاريخه عن برذع بن زيد رضي الله تعالى عنه قال: اقتتل المسلمون مع المشركين سبعة أيام. وروى الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما وهذا الذي ذكره أبو عامر والزهري، وعروة، وابن عقبة، وعطّاف بن خالد، وابن عائذ وغيرهم هو ظاهر
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس: «ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله على يديه» [ (2) ] .
وفي حديث أبي قتادة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً كما سيأتي. ثم أخذ خالد بن الوليد اللواء ولم يكن من الأمراء، هو أمّر نفسه.
ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصبعه، ثم قال: «اللهم إنه سيف من سيوفك فانصره» [ (3) ] .
فمن يومئذ سمّي خالد بن الوليد «سيف الله» ، رواه الإمام أحمد برجال ثقات ويزيده قوّة ويشهد له بالصحة ما رواه الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والبرقاني عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه قال: «خرجت [مع من خرج] مع زيد بن حارثة رضي الله تعالى عنهما في غزوة مؤتة ورافقتني مدديّ من المسلمين من اليمن، ليس معه غير سيفه. فنحر رجل من المسلمين جزورا فسأله المدديّ طائفة من جلد، فأعطاه إياه فاتخذه كهيئة الدّرقة، ومضينا ولقينا جموع الروم فيهم رجل على فرس له أشقر، عليه سرج مذهّب وسلاح مذهّب، فجعل الرومي يغزو المسلمين، فقعد له المدديّ خلف صخرة فمرّ به الرومي فعرقب فرسه بسيفه وخرّ الرومي فعلاه بسيفه فقتله وحاز سلاحه وفرسه. فلما فتح الله تعالى على المسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه بعض السّلب. قال عوف، فأتيت خالدا وقلت له: أما
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 3/ 1398 كتاب الجهاد (76- 1775) من حديث عباس وأحمد في المسند 1/ 207 وعبد الرزاق (9741) .
[ (2) ] أخرجه البخاري (4262) .
[ (3) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 4/ 368 وابن أبي شيبة في المصنف 14/ 513.(6/151)
علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالسّلب للقاتل؟ قال: بلى ولكني استكثرته. فقلت لتردّنّه أو لأعرفنّكها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأبي أن يرد عليه. قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المدديّ وما فعل خالد،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما صنعت؟» قال:
استكثرته. قال: «ردّ عليه ما أخذت منه» . قال عوف: دونكها يا خالد ألم أف لك؟ [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» فأخبرته] . فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا خالد لا ترد عليه هل أنتم تاركون أمرائي لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره» [ (1) ] .
ذكر بعض ما غنمه المسلمون يوم مؤتة
روى محمد بن عمر، والحاكم في الإكليل عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: أصيب بمؤتة ناس من المسلمين، وغنم المسلمون بعض أمتعة المشركين، وكان فيما غنموا خاتم جاء به رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتلت صاحبه يومئذ فنفّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقدم حديث عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه. وروى محمد بن عمر، عن خزيمة بن ثابت رضي الله تعالى عنه قال: «حضرت مؤتة فبارزني رجل منهم يومئذ فأصبته وعليه بيضة له فيها ياقوتة، فلم تكن همّتي إلا الياقوتة، فأخذتها. فلما رجعنا إلى المدينة أتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفّلنيها، فبعتها زمن عثمان بمائة دينار فاشتريت بها حديقة نخل» . قال في البداية: «وهذا يقتضي أنهم غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم وقتلوا من أمرائهم» . وروى البخاري عن خالد رضي الله تعالى عنه قال: «لقد اندقت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف وما ثبت في يدي إلا صفيحة يمانية» [ (2) ] وهذا يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم- إذ كان المسلمون ثلاثة آلاف والمشركون أكثر من مائتي ألف- وهذا وحده دليل مستقل والله أعلم.
وقد ذكر ابن إسحاق أن قطبة بن قتادة العذري الذي كان على ميمنة المسلمين حمل على مالك بن رافلة ويقال ابن رافلة، وهو أمير أعراب النصارى، فقتله، وقال قطبة يفتخر بذلك:
طعنت ابن رافلة ابن الإراش ... برمح مضى فيه ثمّ انحطم
ضربت على جيده ضربة ... فمال كما مال غصن السّلم
وسقنا نساء بني عمّه ... غداة رقوقين سوق النّعم
وهذا يؤيد ما نحن فيه لأن من عادة أمير الجيش إذا قتل أن يفرّ أصحابه، ثم إنه صرّح في شعره بأنهم سبوا من نسائهم، وهذا واضح فيما ذكرناه.
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 3/ 1473 كتاب الجهاد (43- 1753) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 7/ 588 كتاب المغازي (4265) .(6/152)
أسماء بنت عميس رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أصيب جعفر وأصحابه فقال: «ايتني ببني جعفر» . فأتيته بهم فشمهم وذرفت عيناه، فقلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: «نعم أصيبوا هذا اليوم» .
قالت: فقمت أصيح واجتمع إليّ النساء وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فقال: «لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم» .
وروى البخاريّ والبيهقي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر زيدا وجعفرا وابن رواحة للناس يوم أصيبوا قبل أن يأتيه خبرهم فقال: «أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب، وعيناه تذرفان، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله ففتح الله عليهم» [ (1) ] .
وروى النّسائي والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش الإمراء فانطلقوا فلبثوا ما شاء الله، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنودي: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
«أخبركم عن جيشكم هذا. إنهم انطلقوا فلقوا العدوّ فقتل زيد شهيدا، فاستغفر له ثم أخذ اللواء جعفر فشدّ على القوم حتى قتل شهيدا، فاستغفر له، ثم أخذه خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء، هو أمّر نفسه» . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إنه سيف من سيوفك فأنت تنصره» .
فمن يومئذ سمّي خالد: «سيف الله» .
وروى البيهقي عن ابن عقبة رحمه الله تعالى قال: «قدم يعلى بن أمية رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخبر أهل مؤتة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن شئت أخبرني وإن شئت أخبرك، بخبرهم» . قال: بل أخبرني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهم كله فقال: «والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وإن أمرهم لكما ذكرت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم ورأيتهم في المنام على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد اللَّه بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا وتردد بعض التردّد ثم مضى» [ (2) ] .
وروى عبد الرزاق عن ابن المسيب رحمه اللَّه تعالى مرسلا قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «مثل جعفر وزيد وابن رواحة في خيمة من درّ، فرأيت زيدا، وابن رواحة في أعناقهما صدودا، ورأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود، فسألت أو قيل لي إنهما حين غشيهما الموت اعتراضا أو كأنهما صدّا بوجهيهما وأما
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 2/ 92 وأحمد في المسند 3/ 113 والبيهقي في السنن 8/ 154 والحاكم في المستدرك 3/ 42 وابن سعد في الطبقات 4/ 1/ 25.
[ (2) ] انظر البداية والنهاية 4/ 247.(6/153)
جعفر فإنه لم يفعل وأن اللَّه تعالى أبدله جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء» .
وروى البخاري والنسائي عن عامر الشّعبي قال: «كان ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما إذا حيّا عبد اللَّه بن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين» [ (1) ] .
قال ابن إسحاق: «ولما أصيب القوم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم- فيما بلغني-: «أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا» . قال: ثم صمت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصاري وظنّوا أنه قد كان في عبد اللَّه بن رواحة بعض ما يكرهون ثم قال: «ثم أخذها عبد اللَّه بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا» ، ثم قال: «لقد رفعوا إليّ في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب» .
فذكر مثل ما سبق.
وروى ابن سعد عن أبي عامر رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما بلغه مصاب أصحابه شق ذلك عليه فصلّى الظهر ثم دخل وكان إذا صلى الظهر قام فركع ركعتين ثم أقبل بوجهه على القوم، فشق ذلك على الناس، ثم صلى العصر ففعل مثل ذلك، [ثم صلى المغرب ففعل مثل ذلك] ثم صلى العتمة ففعل مثل ذلك حتى إذا كان صلاة الصبح دخل المسجد ثم تبسّم، وكان تلك الساعة لا يقوم إليه إنسان من ناحية المسجد حتى يصلّي الغداة. فقال له القوم [حين تبسّم] : «يا نبي اللَّه بأنفسنا أنت لا يعلم إلا اللَّه ما كان بنا من الوجد منذ رأينا منك الذي رأينا» . قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «كان الذي رأيتهم مني أنه أحزنني قتل أصحابي حتى رأيتهم في الجنة إخوانا على سرر متقابلين، ورأيت في بعضهم إعراضا كأنه كره السيف ورأيت جعفرا ملكا ذا جناحين مضرّجا بالدماء مصبوغ القوادم» [ (2) ] .
وروى الحكيم الترمذي في الثالث والعشرين بعد المائة من فوائده عن عبد الرحمن بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: بعثني خالد بن الوليد بشيرا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوم مؤتة.
ذكر من استشهد بمؤتة من المسلمين رضي اللَّه تعالى عنهم
جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد اللَّه بن رواحة، ومسعود بن الأسود بن حارثة [بن نضلة] ، ووهب بن سعد بن أبي سرح، وعبّاد بن قيس- عبّاد بفتح المهملة وتشديد الموحدة، ويقال عبادة بضم أوله وتخفيف الموحدة وزيادة تاء التأنيث- والحارث بن النعمان [بن إساف بن نضلة] ، وسراقة بن عمرو بن عطية [بن خنساء] وزاد بن هشام نقلا عن ابن شهاب الزهري: أبا كليب- أو كلاب بكسر الكاف وتخفيف اللام- ابن عمرو بن زيد، وأخاه جابر بن عمرو بن زيد، وعمرو، وعامر ابنا سعد ابن الحارث [بن عباد بن سعد] وزاد الكلبي
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 94 (3709) .
[ (2) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 99.(6/154)
والبلاذري: هوبجة بن بجير بن عامر الضّبي- هوبجة بفتح الهاء وسكون الواو وفتح الموحدة وبالجيم وتاء تأنيث، وبجير بضم الموحدة وفتح الجيم وسكون التحتية وبالراء، والضّبي بفتح الضاد المعجمة وتشديد الموحدة- ولما قتل فقد جسده، ولا ذكر لهوبجة فيما وقفت عليه من نسخ الإصابة للحافظ ولا للقاموس مع ذكر الذهبي له في التجريد وأن له وفادة وهجرة.
وزاد ابن سعد، والعدوي، وابن جرير الطبري: زيد بن عبيد بن المعلّي الأنصاري. وزاد ابن إسحاق كما في الإصابة، وجزم به في الزهر: عبد اللَّه بن سعيد بن العاص بن أمية قال ابن الأثير، قتل باليمامة في الأكثر، وقال الذهبي الأصح ببدر وقيل باليمامة وقيل بمؤتة. وزاد ابن الكلبي، وابن سعد، والزبير بن بكّار: هبّار بن سفيان بن عبد الأسد المخزومي، وقال عروة، وابن شهاب الزهري وابن إسحاق وابن سعد استشهد بأجنادين، وقال سيف بن عمر: استشهد باليرموك. وزاد ابن عقبة: عبد اللَّه بن الربيع الأنصاري، ومعاذ بن ماعص- بالعين والصاد المهملتين، ووقع في نسخة من مغازي موسى بن عقبة أن الذي استشهد بمؤتة أخوه عبّاد.
وقال في البداية بعد أن ذكر جميع من قتل بمؤتة من المسلمين: « [فالمجموع على القولين] اثنا عشر رجلا، وهذا عظيم جدا أن يتقاتل جيشان متعاديان في الدين أحدهما وهو الفئة التي تقاتل في سبيل اللَّه عدّتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة عدّتها مائتا ألف مقاتل: من الروم مائة ألف، ومن نصارى العرب مائة ألف، يتبارزون ويتصاولون، ثم مع هذا كله لا يقتل من المسلمين سوى اثني عشر رجلا وقتل من المشركين خلق كثير هذا خالد وحده يقول:
«لقد اندقّت في يدي يومئذ تسعة أسياف وما صبرت في يدي إلا صفيحة يمانية» . فماذا ترى قد قتل بهذه الأسياف كلها؟ دع غيره من الأبطال والشجعان من حملة القرآن وهذا مما يدخل في قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران 13] .
ذكر رجوع المسلمين إلى المدينة وتلقي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمسلمين لهم
قال ابن عائذ رحمه اللَّه تعالى: وقفل المسلمون فمرّوا في طريقهم بقرية لها حصن كان [أهلها] قتلوا في ذهاب المسلمين رجلا من المسلمين فحاصروهم حتى فتحه اللَّه عليهم عنوة وقتل خالد مقاتلتهم.
وروى إسحاق عن عروة قال: لما أقبل أصحاب مؤتة تلقاهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمسلمون معه. قال: وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا(6/155)
فرّار فررتم في سبيل اللَّه. قال: فيقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «ليسوا بالفرّار ولكنهم الكرّار إن شاء اللَّه تعالى» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما قال: «كنت في سرية من سرايا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فحاص الناس وكنت فيمن حاص.
وفي رواية: فلما لقينا العدوّ في أول غادية فأردنا أن نركب البحر فقلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف؟
ثم قلنا لو دخلنا المدينة [قتلنا] ، فقدمنا المدينة في نفر ليلا فاختفينا. ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فاعتذرنا إليه، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا. فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: «من القوم؟» . قلنا نحن الفرّارون، قال: «بل أنتم الكرّارون وأنا فئتكم» . أو قال: «وأنا فئة كل مسلم» . قال: فقبّلنا يده [ (2) ] .
وروى ابن إسحاق عن أم سلمة [زوج النبي صلى اللَّه عليه وسلم] رضي اللَّه تعالى عنهما أنها قالت لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: ما لي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ومع المسلمين؟ قالت: واللَّه ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس: يا فرّار فررتم من سبيل اللَّه، حتى قعد في بيته فما يخرج، وكان في غزوة مؤتة.
وعن خزيمة بن ثابت رضي اللَّه تعالى عنه قال: «حضرت مؤتة وبرز لي رجل منهم فأصبته وعليه بيضة فيها ياقوتة فلم يكن همّي إلا الياقوتة فأخذتها. فلما انكشفنا رجعنا إلى المدينة فأتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فنفّلنيها، فبعتها زمن عثمان بمائة دينار فاشتريت بها حديقة نخل» . رواه البيهقي.
قال في البداية: لعل طائفة منهم فرّوا لما عاينوا كثرة جموع العدو على ما ذكروه مائتي ألف، وكان المسلمون ثلاثة آلاف، ومثل هذه يسوّغ الفرار، فلما فرّ هؤلاء ثبت باقيهم وفتح اللَّه عليهم وتخلّصوا من أيدي أولئك وقتلوا منهم مقتلة عظيمة كما ذكره الزهري وموسى بن عقبة والعطّاف بن خالد، وابن عائذ، وحديث عوف بن مالك السابق يقتضي أنهم غنموا منهم وسلبوا من أشرافهم وقتلوا من أمرائهم وقد تقدم فيما رواه البخاري أن خالدا رضي اللَّه تعالى عنه قال: «اندقت في يدي تسعة أسياف إلخ» يقتضي أنهم أثخنوا فيهم قتلا ولو لم يكن كذلك لما قدروا على التخلص منهم وهذا وحده دليل مستقل.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 1/ 93.
[ (2) ] أخرجه أبو داود 2/ 52 (2647) . والترمذي 4/ 186 (1716) . وأحمد في المسند 2/ 111 والبيهقي في السنن 9/ 78 وأبو نعيم في الحلية 9/ 57.(6/156)
تنبيهات
الأول: مؤتة: بضم الميم وسكون الواو وبغير همز لأكثر رواة الصحيح وبه جزم المبرّد، ومنهم من همز وبه جزم ثعلب، والجوهري، وابن فارس، وحكى صاحب الوافي الوجهين. وأما الموتة التي وردت الاستعاذة منها وفسّرت بالجنون فهي بغير همز والأولى قرية من قرى البلقاء وهي كورة من أعمال دمشق.
الثاني: المعروف بين أهل المغازي أن مسيرة مؤتة كانت سنة ثمان لا يختلفون في ذلك إلا ما ذكر خليفة بن خياط- بالخاء المعجمة وتشديد التحتية- في تاريخه أنها سنة سبع.
الثالث: وقع في جامع الترمذي في الاستئذان وفي الأدب في باب ما جاء في إنشاد الشعر أن غزوة مؤتة كانت قبل عمرة القضاء، قال في النور: وهذا غلط لا شك فيه. قلت:
وتقدم بيان ذلك مبسوطا في عمرة القضاء.
الرابع: عقر جعفر رضي اللَّه تعالى عنه فرسه، رواه أبو داود من طريق محمد بن سلمة عن ابن إسحاق قال عن يحيى بن عبّاد عن أبيه عباد بن عبد اللَّه بن الزبير قال حدثني أبي الذي أرضعني فذكره وقال: ليس هذا الحديث بالقوي. وقد جاء نهي كثير من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، [عن تعذيب البهائم وقتلها عبثا] كذا قال أبو داود: إنه ليس بقوي وابن إسحاق حسن الحديث وقد صرح بالتحديث في رواية زياد البكّائي فقال حدثني يحيى بن عبّاد، ويحيى وأبوه ثقتان، وجهالة اسم الصحابي لا تضرّ، ورواه أيضاً عن ابن إسحاق عبد اللَّه بن إدريس الأودي كما في مستدرك الحاكم فسند الحديث قوي. وإنما عقره لئلا يظفر به العدوّ فيتقوى به على قتال المسلمين. واختلف العلماء في الفرس يعقره صاحبه لئلا يظفر به العدو، فرخصّ فيه مالك وكره ذلك الأوزاعي والشافعي، واحتجّ الشافعي
بحديث النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «من قتل عصفورا فما فوقه بغير حقّه يسأله اللَّه تعالى عن قتله» .
واحتجّ بنهيه صلى اللَّه عليه وسلم عن قتل الحيوان إلا لمأكلة. قال: وأما أن يعقر الفرس من المشركين فله ذلك لأن ذلك أمر يجد به السبيل إلى قتل من أمر بقتله.
الخامس: في رواية سعيد بن أبي هلال كما في الصحيح عن أبي معشر كما في سنن سعيد بن منصور عن نافع عن ابن عمر أنه أخبره «أنه وقف على جعفر يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين بين طعنة وضربة ليس منها- أو قال فيها- شيء في دبره» .
وفي رواية عبد الله بن سعيد بن أبي هند الفزاري كما في الصحيح والعمري كما عند(6/157)
ابن سعد عن نافع عن ابن عمر قال: «التمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى في جسده بضع وتسعون من طعنة ورمية» . فظهر ذلك التخالف، قال الحافظ: ويجمع بأن العدد قد لا يكون له مفهوم أو بأن الزيادة باعتبار ما وجد فيه من رمي السهام فإن ذلك لم يذكر في الرواية الأولى أو الخمسين مقيّدة بكونها ليس فيها شيء في دبره أي ظهره، فقد يكون الباقي في بقية جسده، ولا يستلزم ذلك أنه ولّي دبره، وإنما هو محمول على أن الرّمي جاءه من جهة قفاه أو جانبيه، ولكن يريد الأول أن في رواية العمري عن نافع: فوجدنا ذلك فيما أقبل من جسده بعد أن ذكر العدد بضعا وتسعين. ووقع في رواية البيهقي في الدلائل بضع وسبعون- بتقديم السين على الموحدة- وأشار أن بضعا وتسعين بتقديم الفوقية على السين أثبت.
السادس: قوله: «فأثابه اللَّه تعالى جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء» . أي عوّضه اللَّه تعالى جناحين عن قطع يديه في تلك الوقعة حيث أخذ اللواء بيمينه فقطعت، ثم أخذه بشماله فقطعت ثم احتضنه فقتل. وروى البيهقي أحد رواة الصحيح عن البخاري أنه قال: يقال لكل ذي ناحتين جناحان، أشار بذلك إلى أن الجناحين ليس على ظاهرهما. وقال السهيلي:
« [ومما ينبغي الوقوف عليه في معنى الجناحين أنهما] ليسا كما يسبق إلى الوهم على مثل جناحي الطائر وريشه، لأن الصورة الآدمية أشرف الصور وأكملها ... فالمراد بالجناحين صفة ملكيّة وقوة روحانية أعطيها جعفر [كما أعطيتها الملائكة] وقد عبر القرآن عن العضد بالجناح توسعا في قوله تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى [طه 22] وقال العلماء في أجنحة الملائكة إنها ليست كما يتوهم من أجنحة الطير ولكنها صفات ملكّية لا تفهم إلا بالمعانية. فقد ثبت أن لجبريل ستمائة جناح ولا يعد للطائر ثلاثة أجنحة فضلا عن أكثر من ذلك، وإذا لم يثبت خبر في بيان كيفيتها فيؤمن بها من غير بحث عن حقيقتها» . انتهى.
قال الحافظ: «وهذا الذي جزم به في مقام المنع والذي نقله عن العلماء ليس صريحا في الدلالة على ما ادعاه ولا مانع من الحمل على الظاهر إلا من جهة ما ذكره من المعهود وهو من قياس الغائب على الشاهد وهو ضعيف وكون الصورة البشرية أشرف الصور لا يمنع من حمل الخبر على ظاهره لأن الصورة باقية» ، وقد روى البيهقي في الدلائل من مرسل عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري أن جناحي جعفر من ياقوت وجاء في جناحي جبرئيل أنهما من لؤلؤ، أخرجه ابن مندة في ترجمة ورقة بن نوفل من كتاب المعرفة.
السابع: أكثر الآثار تدل على أن المسلمين هزموا المشركين، وفي بعضها أن خالدا انحاز بالمسلمين، وقد تقدم بيان ذلك. قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن يكون المسلمون(6/158)
هزموا جانبا من المشركين وخشي خالد أن يتكاثر الكفّار عليهم. فقد مرّ أنهم كانوا أكثر من مائتي ألف، فانحاز عنهم حتى رجع بالمسلمين إلى المدينة.
وقال الحافظ ابن كثير في البداية يمكن الجمع بأن خالدا لما انحاز بالمسلمين بات ثم أصبح وقد غيّر بقيّة العسكر كما تقدم، وتوهم العدوّ أنهم قد جاءهم مدد، حمل عليهم خالد حينئذ فولّوا فلم يتبعهم، ورأى الرجوع بالمسلمين مع الغنيمة الكبرى.
الثامن: إنما ردّ صلى الله عليه وسلم السّلب إلى خالد بعد الأمر الأول بإعطائه للقاتل نوعا من النكير، ودعا له، لئلا يتجرأ الناس على الأئمة، وكان خالد مجتهدا في صنيعه ذلك، فأمضي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم اجتهاده لما رأى في ذلك من المصلحة العامة بعد أن خطّأه في رأيه الأول، ويشبه أن يكون النبي صلى اللَّه عليه وسلم عوّض المدديّ من الخمس الذي هو له وأرضى خالدا بالصفح عنه وتسليم الحكم له في السّلب.
التاسع: في بيان غريب ما سبق:
أدنى البلقاء من أرض الشام: أي أقرب.
البلقاء: بفتح الموحدة وسكون اللام وبالقاف وألف تأنيث مقصورة كورة ذات قرى ومزارع من أعمال دمشق.
لهب: بكسر اللام وسكون الهاء وبالموحدة: بطن من الأزد.
تلك بصرى: اسمه: [الحارث بن أبي شمر الغسّاني] .
غرض له: تصدّي له ومنعه من الذهاب.
شرحبيل: بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء المهملة وكسر الموحدة: اسم أعجمي لا ينصرف.
الغسّاني: بفتح الغين المعجمة وبالسين المهملة المشددة.
قتل صبرا: أمسك حيّا ثم رمي بشيء حتى مات.
ندب الناس: دعاهم.
الجرف: بضم الجيم والراء كما قال الحازمي وأبو عبيد البكري والقاضي وقال ياقوت وتبعه المجد اللغوي بالضم فالسكون: على ثلاثة أميال من المدينة لجهة الشام.
رواحة: بفتح الراء وتخفيف الواو وبالحاء المهملة.(6/159)
شرح غريب ذكر طعن بعض أصحابه في إمارة زيد بن حارثة وغريب ذكر سير المسلمين
قوله تطعنون: بضم العين وفتحها.
وأيم اللَّه: من ألفاظ القسم كقولك: لعمر اللَّه، وفيها لغات، وتفتح همزتها وتكسر، وهمزتها همزة وصل وقد تقطع.
لخليق: بفتح اللام والخاء المعجمة وكسر اللام الثانية وسكون التحتية وبالقاف أي حقيق وجدير.
أرهب: أخاف.
ودّع الناس: بالرفع فاعل.
أمراء: بالنصب مفعول، وبالعكس فإن من ودعك فقد ودّعته والأول أولى لما سيأتي.
ودّع عبد اللَّه: بالبناء للمفعول.
أما واللَّه: بتخفيف الهمزة وتخفيف الميم.
الصّبابة: بفتح الصاد المهملة: رقّة الشوق وحرارته، وهي بالرفع تقديره: ولا لي صبابة.
الورود: في الآية [مريم 71] الحضور والموافاة من غير دخول أو الدخول، والعرب تطلق الورود على هذين المعنيين.
الصّدر: بفتح الصاد والدال المهملتين وبالراء، اسم من قولك صدرت عن البلد أي رجعت.
ذات فرغ: بفتح الفاء وسكون الراء وبالغين المعجمة: أي واسعة.
تقذف: بالقاف والذال المعجمة والفاء: ترمي.
الزّبد: بفتح الزاي والموحدة وبالدال المهملة ما يعلو الماء [من الرغوة وكذلك] الدم.
حرّان: بفتح الحاء المهملة والراء المشددة وبالنون: تلهّب الجوف.
مجهزة: بميم مضمومة فجيم ساكنة فهاء مكسورة وبالزاي فتاء تأنيث: سريعة القتل.
الأحشاء: جمع حشاً وهو ما في البطن.
الجدث: بالجيم والدال المهملة وبالمثلثة: القبر والجمع أجداث وأجدث.
رشد: بفتح الشين المعجمة وكسرها.
نافلة: هبة من اللَّه وعطيّة منه، والنوافل العطايا والمواهب.(6/160)
أزرى به القدر: قصّر به تقول أزريت بفلان إذا قصّرت به.
خلف السّلام: دعاء منه للنبي صلى اللَّه عليه وسلم بالسلامة.
ثنيّة الوداع: تقدم الكلام عليها في شرح غريب الهجرة، وفي هذا دليل على أنها شاميّ المدينة.
المفاحص: جمع مفحص بفتح الميم والحاء المهملة بينهما فاء ساكنة، وبالصاد المهملة، وهو في الأصل مكان مجثم القطاة لتبيض، يقال فحصت القطاة فحصا من باب نفع حفرت في الأرض موضعا لتبيض فيه، فاستعير هنا لتمكن الشيطان منهم.
الإفحاص: الحفر.
الضّرع: بفتح الضاد المعجمة والراء والعين المهملة: والضارع بكسر الراء النحيف الضاوي الجسم.
الذّمّة: الأمانة.
غدا يغدو غدوّا من باب قعد: ذهب غدوة وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس.
الروحة: بفتح الراء وسكون الواو: وقت لما بين زوال الشمس إلى الليل.
شرح غريب ذكر مسير المسلمين بعد الوداع
أرقم: بفتح أوله وسكون الراء وبالقاف.
الحقيبة: بفتح الحاء المهملة وكسر القاف وسكون التحتية وبالموحدة وتاء تأنيث: ما يجعله الراكب وراءه.
الحسا: بكسر احلاء وبالسين المهملتين والمدّ. قال في المصباح: اسم موضع. وقال في المراحل: مياه لبني فزارة بين الرّبذة ونخل يقال لمكانها ذو حسّ. وقال في الإملاء:
الحساء جمع حسي وهو ماء يغور في الرّمل وإذا بحث عنه وجد.
فشأنك: أمرك.
أنعم: جمع نعمة أي إحسان.
وخلاك ذمّ بالخاء في خلاك والذال في ذم المعجمتين: فارقك فلست بأهل له.
ولا أرجع: مجزوم بالدعاء أي اللهم لا أرجع.
آب: بالمد رجع.
غادره: تركه.(6/161)
مشتهي الثّواء: بضم الميم وسكون الشين المعجمة وفتح الفوقية وكسر الهاء: أي لا أريد الرجوع، ومن رواه مستنهي بسين مهملة ففوقية فنون فهو مستفعل من النهاية والانتهاء حيث انتهى مثواه، والثّواء بالثاء المثلثة فواو فهمزة ممدودة: الإقامة.
البعل: بفتح الموحدة وسكون العين المهملة وباللام: الذي يشرب بعروقه من الأرض.
أسافلها رواء: من رواه بكسر الراء فمعناه ممتنعة من الماء ومن رواه بالرفع فهو إقواء.
خفقني: ضربني.
اللكع: بضم اللام: الأحمق والصغير وغير ذلك، والأول والثاني المراد به، كأنه قال: يا صبيّ.
النّصب: بنون فصاد مهملة مفتوحتين فموحدة: التّعب.
شعبتي الرّحل: طرفاه المقدّم والمؤخّر.
يا زيد: أي ابن أرقم كما ذكر ابن إسحاق، وقال غيره: بل أراد زيد بن حارثة، ويجوز فيه الضمّ والنّصب، وزيد الثاني بالنّصب.
اليعملات: بتحتية مفتوحة فعين مهملة ساكنة فميم مفتوحة جمع يعملة وهي الناقة النجيبة المطبوعة على العمل.
الذّبل: بذال معجمة مضمومة فموحدة مشدّدة مفتوحة وباللام جمع ذابل وهي التي أضعفها السّير فقلّ لحمها. قال في النور فسرها بالفرد وفيه نظر.
هديت: بضم الهاء وكسر الدال المهملة وفتح الفوقية على الخطاب.
معان: بفتح الميم كما في المراحل والقاموس وفي عدة نسخ من معجم أبي عبيد البكري بضم الميم، ونقل عنه في الزهر بباء موحدة بعد الألف وبغير همز، كذا قال، ونص في المراحل على أنه مهموز.
لخم: بفتح اللام وسكون الخاء المعجمة وبالميم.
جذام: بضم الجيم وبالذال المعجمة وبعد الألف ميم.
قضاعة: بضم القاف وبالضاد المعجمة وبعد الألف عين مهملة.
بلقين: [وهم بنو القين من قضاعة] .
بهراء: بفتح الموحدة وسكون الهاء وبالراء ومدّ الهمزة.
بليّ: بفتح الموحدة وكسر اللام وتشديد التحتية.(6/162)
إراشة: [من بليّ] .
رافلة: براء فألف ففاء مكسورة فلام فتاء تأنيث.
يمدّنا: بضم التحتية وكسر الميم.
التخوم: بضم الفوقية والخاء المعجمة جمع تخم بضم الفوقية وسكون الخاء المعجمة: الحدّ الذي يكون بين أرض وأرض. وقال ابن الأعرابي وابن السّكّيت: الواحد تخوم [والجمع تخم] كرسول ورسل.
مشارف: بفتح الميم وبالشين المعجمة المخففة وبعد الألف راء مكسورة ثم فاء، وظاهر كلام ابن إسحاق أنها غير مؤتة. وقال في الزهر: وليس كذلك بل هما اسمان على مكان واحد. وقال المبرّد: المشرفية سيوف نسبت إلى المشارف من أرض الشام وهو الموضع الملقّب بمؤتة الذي قتل به جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه.
الضّبابة: سحاب رقيق كالدخان.
الكراع: وزن غراب، وهو هنا جماعة الخيل خاصة.
برق بصره: بكسر الراء تحيّر فزعا وأصله من برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره وقوي، برق بفتح الراء من البريق أي لمع.
ثابت: بالثاء المثلثة فألف فموحدة ففوقية.
أقرم: بفتح أوله وسكون القاف.
فتعبّأ: بفتح الهمزة في آخره.
عذرة: بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة وبالراء وتاء تأنيث.
قطبة: بضم القاف وسكون الطاء المهملة وبالموحدة.
عباية: بفتح العين المهملة وتخفيف الموحدة وبالتحتية آخره.
شرح غريب ذكر التحام القتال
شاط في رماح القوم: قتل برماحهم.
ألحم الرجل واستلحم- بالبناء للمفعول- فيها إذا نشب في الحرب فلم يجد له مخلصا وألحمه غيره فيها ولحم إذا قتل فهو ملحوم ولحيم.
اقتحم الإنسان: رمى بنفسه في الأمر العظيم من غير رويّة، وقد قيل إن هذا يفعله الفارس من العرب إذا أرهق وعرف أنه مقتول فينزل ويجالد العدوّ راجلا.(6/163)
عرقب الدّابّة: قطع عرقوبها وهو الوتر الذي خلف الكعبين بين مفصل القدم وبالساق من ذوات الأربع، وهو من الإنسان فويق العقب.
العقر: بفتح العين المهملة وسكون القاف وبالراء، وهو هنا ضرب قوائم الدّابّة وهي قائمة بالسيف.
اختضنه بعضديه: أخذه بحضنه والحضن ما تحت العضد إلى أسفل منه.
قطّعه: بفتح القاف والطاء المهملة المشدّدة، وقطعه بمعنى واحد.
أجلب الناس: أصاحوا.
الزنّة: بفتح الراء وبالنون المشدّدة الصوت بحزن.
النّطفة: الشيء اليسير جدا من الماء.
الشّنّة: بفتح الشين المعجمة والنون المشددة: السقاء البالي فيوشك أن تهراق النّطفة وينخرق السقاء، ضرب ذلك مثلا له لنفسه في جسده.
الحمام: بكسر الحاء المهملة وتخفيف الميم.
صليت: بفتح الصاد المهملة وكسر اللام وسكون التحتية.
أعطيت: بالبناء للمفعول.
فعلهما: يعني زيد بن حارثة وجعفرا.
العرق: بفتح العين وسكون الراء وبالقاف: العظم بما عليه من بقية اللحم.
انتهس: بكسر أوله وسكون النون وفتح الفوقية وبالسين المهملة: أخذ اللحم بمقدم أسنانه.
الحطمة: بفتح الحاء وسكون الطاء المهملتين: ازدحام الناس وحطم بعضهم بعضاً.
ثابت: بثاء مثلثة وموحدة وفوقية.
أقرم: بفتح أوله وسكون القاف وبالراء والميم.
خاشى بهم: بالخاء والشين المعجمتين فاعل من الخشية أي أبقى عليهم وحذر [فانحاز] يقال خاشيت فلانا أي تاركته.
انحاز: تنحّى عن موضعه وانحيز عنه بالبناء للمفعول.
الشّرذمة: بالكسر القليل من الناس.
العطّاف: كشدّاد الذي يكرّ مرة بعد أخرى.(6/164)
ابن عايذ: بالتحتية والذال المعجمة.
الوطيس: شبه التنور أو الضراب في الحرب. والوطيس الذي يطس الناس أي يدقهم وقال الأصمعي هو حجارة مدوّرة إذا حميت لم يقدر أحد يطؤها، ولم يسمع هذا الكلام من أحد قبل النبي صلى اللَّه عليه وسلم [وهو من فصيح الكلام] عبّر به عن اشتباك الحرب وقيامها على ساق.
البرقاني: بضم الموحدة فراء فقاف.
الأشجعي: [بفتح أوله فشين معجمة فعين مهملة فتحتية] .
المددي: بدالين مهملتين جمعه أمداد، وهم من أهل اليمن أي الغزاة الذين يمدّون جيوش الإسلام.
صفو الشيء: خلاصته بفتح الصاد لا غير، فإذا ألحقوا التاء ثلثوا الصاد ومنه لكم صفوة أمرهم يعني أن مقاساة جمع المال وحفظ البلاد ومداراة الناس على الأمراء، وللناس أعطياتهم، ثم ما كان من خطأ في ذلك أو غفلة أو سوء فإنه على الأمراء، والناس منه براء.
الكدر: بفتح الكاف والدال المهملة ضد الصفاء.
في يدي: بكسر الدال.
اندقّت: انقطعت.
الصفيحة: بصاد مهملة مفتوحة ففاء مكسورة فتحتية ساكنة فحاء مهملة: السيف العريض.
يمانية: بتخفيف التحتية الثانية وحكي تشديدها.
ابن زافلة: بزاي فألف ففاء مكسورة.
الإراشة: منسوب إلى إراشة بكسر الهمزة وبالشين المعجمة.
انحطم: انكسر.
الجيد: العنق.
السّلم: بفتح السين المهملة واللام ضرب من الشجر الواحدة سلمة.
رقوقين: قال في الإملاء اسم موضع قال ويروى رقوفين بالفاء بعد الواو وقبل التحتية.
قلت ولم أجد له ذكرا فيما وقفت عليه من أسماء الأماكن.
يعلى: بفتح التحتية وسكون العين المهملة وفتح اللام.
منية: بضم الميم وسكون النون وفتح التحتية.(6/165)
المعترك: بضم الميم وسكون العين المهملة وفتح الفوقية والراء وبالكاف: المعركة بفتح الميم موضع القتال.
الازورار: العدول والانحراف.
الصّدود: الإعراض.
الفئة: بكسر الفاء وفتح الهمزة قال الراغب الطائفة المتضافرة التي يرجع بعضها إلى بعض، وقال ابن الأثير في الجامع: الفئة الجماعة الذين يرجع إليهم عن موقف الحرب، يجتمعون إليهم إي يفيئون إليهم، انتهى. ولا واحد لها من لفظها، وجمعها فئات، وقد تجمع بالواو والنون.
حاص الناس: بحاء وصاد مهملتين: جاءوا منهزمين.
العكّار: الكرّار إلى الحرب والعطّاف نحوها، يقال للرجل يولّي عن الحرب ثم يكرّ راجعا إليها عكر واعتكر.(6/166)
الباب السابع والأربعون في سرية عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه إلى ذات السلاسل في جمادى الآخرة سنة ثمان
قال ابن عقبة وابن إسحاق، وابن سعد، ومحمد بن عمر رحمهم الله تعالى واللفظ له:
«بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعا من قضاعة يريدون أن يدنوا إلى أطراف مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص بعد إسلامه بسنة» .
وعند ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عمرا يستنفر العرب إلى الشام، فعقد له لواء أبيض وجعل معه راية سوداء وبعثه في ثلاثمائة من سراة المهاجرين والأنصار، وأمره أن يستعين بمن مر به من العرب: من بليّ [ (1) ] ، وعذرة، وبلقين، وذلك أن عمرا كان ذا رحم فيهم، كانت أم العاص بن وائل بلويّة، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتألفهم بعمرو.
وفي حديث بريدة عند إسحاق بن راهويه أن أبا بكر قال: «إن عمرا لم يستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لعلمه بالحرب» . انتهى. وكان معه ثلاثون فرسا، فكان يكمن النهار ويسير الليل حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال له السلاسل ويقال السّلسل وبذلك سمّيت الغزوة ذات السلاسل بلغه أن لهم جمعا كثيرا فبعث عمرو رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره أن لهم جمعا كثيرا ويستمده. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح رضي الله تعالى عنه، وعقد له لواء، وبعث معه سراة المهاجرين كأبي بكر وعمر بن الخطاب، وعدّة من الأنصار رضي الله تعالى عنهم. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة أن يلحق بعمرو بن العاص وأن يكونا جميعا ولا يختلفا- وكان أبو عبيدة في مائتي رجل حتى لحق بعمرو- فلما قدموا أراد أبو عبيدة أن يؤمّ الناس فقال عمرو: «إنما قدمت عليّ مددا لي وليس لك أن تؤمني وأنا الأمير» .
فقال المهاجرون: «كلا بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه» . فقال عمرو:، «لا، أنتم مدد لنا» . فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف وكان رجلا ليّنا حسن الخلق سهلا هيّنا عليه أمر الدنيا، يسعى لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده قال: «يا عمرو تعلمنّ أن آخر شيء عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنّك» . وأطاع أبو عبيدة عمرا. فكان عمرو يصلي بالناس. وقال عمرو: «فإني الأمير عليك وأنت مددي» . قال: «فدونك» .
__________
[ (1) ] انظر معجم البلدان 1/ 586.(6/167)
وروى الإمام أحمد عن الشعبي مرسلا قال: «انطلق المغيرة بن شعبة إلى أبي عبيدة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعملك علينا وإن ابن فلان قد اتبع أمير القوم فليس لك معه أمر» . فقال أبو عبيدة: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نتطاوع فإنا أطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن عصاه عمرو» انتهى. فأطاع أبو عبيدة عمرا فكان عمرو يصلي بالناس، وصار معه خمسمائة، فسار حتى نزل قريبا منهم وهم شاقون، فجمع أصحابه الحطب يريدون أن يوقدوا نارا ليصطلوا عليها من البرد، فمنعهم، فشقّ عليهم ذلك، حتى كلمه في ذلك بعض المهاجرين فغالظه.
فقال له عمرو: «قد أمرت أن تسمع لي» . قال: نعم. قال: فافعل.
وروى ابن حبان، والطبراني برجال الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه في غزوة ذات السلاسل فسأله أصحابه أن يوقدوا نارا فمنعهم. فكلّموا أبا بكر رضي الله تعالى عنه، فكلّمه فقال: «لا يوقد أحد منهم نارا إلا قذفته فيها» [ (1) ] .
وروى الحاكم [ (2) ] عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص في سرية فيهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، فلما انتهوا إلى مكان الحرب أمرهم عمرو ألّا يوقدوا نارا فغضب عمر بن الخطاب وهمّ أن يأتيه، فنهاه أبو بكر وأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستعمله إلا لعلمه بالحرب. فهدأ عنه، فسار عمرو الليل وكمن النهار حتى وطئ بلاد العدو ودوّخها كلها حتى انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان به جمع فلما سمعوا به تفرّقوا، فسار حتى إذا انتهى إلى أقصى بلادهم ولقي في آخر ذلك جمعا ليسوا بالكثير، فاقتتلوا ساعة وحمل المسلمون عليهم فهزموهم وتفرّقوا ودوّخ عمرو ما هنا لك وأقام أياما لا يسمع لهم بجمع ولا مكان صاروا فيه [إلا قاتلهم] . وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنّعم فكانوا ينحرون ويأكلون ولم يكن أكثر من ذلك، لم يكن في ذلك غنائم تقسّم، كذا قال جماعة.
قال البلاذري فلقي العدوّ من قضاعة وعاملة، ولخم، وجذام، وكانوا مجتمعين ففضّهم وقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم. وروى ابن حبان والطبراني عن عمرو أنهم لقوا العدوّ، فأراد المسلمون أن يتبعوهم فمنهم. وبعث عمرو عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه بشيرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقفولهم وسلامتهم وما كان في غزاتهم.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 5/ 323 وقال: رواه الطبراني بإسنادين ورجال الأول رجال الصحيح.
[ (2) ] أخرجه الحاكم 3/ 42 في كتاب المغازي وقال: هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي.(6/168)
ذكر وصية أبي بكر رضي الله تعالى عنه لرافع بن أبي رافع بن عميرة الطائي رضي الله تعالى عنه
روى ابن إسحاق، ومحمد بن عمر، عن رافع رضي الله تعالى عنه قال: «كنت امرءا نصرانيا وسمّيت سرجس فكنت أدلّ الناس وأهداه بهذا الرمل، كنت أدفن الماء في بيض النعام بنواحي الرمل في الجاهلية، ثم أغير على إبل الناس فإذا أدخلتها الرمل غلبت عليها، فلم يستطع أحد أن يطلبني فيه حتى أمرّ بذلك الماء الذي خبّأت في بيض النّعام فأستخرجه فأشرب منه. فلما أسلمت خرجت في تلك الغزوة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل» .
قال: «فقلت والله لأختارنّ لنفسي صاحبا» . قال: «فصحبت أبا بكر رضي الله تعالى عنه فكنت معه في رحله. وكانت عليه عباءة فدكيّة فكان إذا نزلنا بسطها، وإذا ركبنا لبسها ثم شكّها عليه بخلال له. وذلك الذي يقول أهل نجد- حين ارتدّوا كفّارا- نحن نبايع ذا العباءة» .
قال: «فلما دنونا من المدينة قافلين قلت: يا أبا بكر رحمك الله، إنما صحبتك لينفعني الله تعالى بك، فانصحني وعلّمني» . قال: «لو لم تسألني ذلك لفعلت. آمرك أن توحّد الله تعالى ولا تشرك به شيئا وأن تقيم الصلاة وأن تؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحجّ البيت وتغتسل من الجنابة ولا تتأمّرنّ على رجلين من المسلمين أبدا» . قال: «قلت يا أبا بكر: أما ما أمرتني به من توحيد الله عز وجل فإني والله لا أشرك به أحدا أبدا، وأما الصلاة فلن أتركها أبدا إن شاء الله تعالى، وأما الزكاة فإن يكن لي مال أؤدّها إن شاء الله تعالى، وأما رمضان فلن أتركه أبدا إن شاء الله تعالى، وأما الحج فإن أستطع أحجّ إن شاء الله تعالى، وأما الجنابة فسأغتسل منها إن شاء الله تعالى، وأما الإمارة فإني رأيت الناس يا أبا بكر لا يصيبون هذا الشرف وهذه المنزلة عند الناس إلا بها فلم تنهاني عنها» ؟.
قال: «إنك استنصحتني فجهدت لك نفسي وسأخبرك عن ذلك أن شاء الله أن الله عز وجل بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الدين، فجاهد عليه حتى دخل الناس فيه طوعا وكرها، فلما دخلوا فيه أجارهم الله من الظلم، فهم عوّاذ الله وجيرانه وفي ذمته وأمانته، فإياك أن تخفر ذمّة الله في جيرانه فيتبعك الله تعالى في خفرته فإن أحدكم يخفر في جاره فيظل ناتئا عضله غضبا لجاره أن أصيبت له شاة أو بعير فالله أشدّ غضبا لجاره» . وفي لفظ: «فالله من وراء جاره» .
قال: ففارقته على ذلك، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر على الناس قدمت عليه فقلت له: يا أبا بكر ألم تك نهيتني عن أن أتأمّر على رجلين من المسلمين؟ قال:
«بلى وأنا الآن أنهاك عن ذلك» . فقلت له: «فما حملك على أن تلي أمر الناس؟» قال: «اختلف(6/169)
الناس وخشيت عليهم الهلاك» . وفي رواية: «الفرقة ودعوا إليّ فلم أجد بدّا من ذلك» .
ذكر احتلام عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه
روى محمد بن عمر، عن أبي بكر بن حزم رحمه الله تعالى قال: «احتلم عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه حين قفلوا في ليلة باردة كأشد ما يكون البرد، فقال لأصحابه: ما ترون؟ قد والله احتملت فإن اغتسلت متّ. فدعا بماء وتوضأ وغسل فرجه وتيمّم، ثم قام وصلى بالناس، فلما قدم عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن صلاته فأخبره وقال: والذي بعثك بالحق إني لو اغتسلت لمتّ، لم أجد بردا قط مثله، وقد قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [النساء 29] . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يبلغنا أنه قال له شيئا.
وروى أبو داود عن عمرو نحوه وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب؟» [ (1) ] .
ذكر قصة عوف بن مالك الأشجعي رضي الله تعالى عنه في الجزور
روى البيهقي من طريق ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب [ (2) ] قال: حدثت عن عوف بن مالك. ومن طريقين عن سعيد بن أبي أيوب [ (3) ] وابن لهيعة [ (4) ] عن يزيد بن أبي حبيب عن ربيعة بن لقيط [ (5) ] أخبره عن مالك بن هرم أظنه عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه واللفظ لابن إسحاق، قال: «كنت في الغزاة التي بعث فيها رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمرو بن العاص، وهي غزوة ذات السلاسل، فصحبت أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فمررت بقوم وهم على جزور قد نحروها وهم لا يقدرون على أن يبعّضوها. وكنت امرأ [لبقا] جازرا. فقلت
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (334) وأحمد في المسند 4/ 203 والبيهقي في السنن 1/ 225 والدلائل 4/ 402 والحاكم في المستدرك 1/ 117 والدارقطني 1/ 178.
[ (2) ] يزيد بن أبي حبيب مولى شريك بن الطّفيل الأزدي أبو رجاء المصري عالمها عن عبد الله بن الحارث بن جزء، وأبي الخير اليزني، وعطاء وطائفة. وعنه يزيد بن أبي أنيسة وحيوة بن شريح، ويحيى بن أيوب وخلعه قال ابن يونس: كان حليما عاقلا، وقال الليث: يزيد عالمنا وسيدنا. وقال ابن سعد: ثقة كثير الحديث مات سنة ثمان وعشرين ومائة الخلاصة 3/ 167.
[ (3) ] سعيد بن أبي أيوب الخزاعي مولاهم أبو يحيى بن مقلاص بكسر الميم، وسكون القاف وآخره صاد مهملة المصري.
عن جعفر بن ربيعة ويزيد بن أبي حبيب. وعنه ابن جريج، وابن وهب، وثقه ابن معين. وقال ابن يونس: توفي سنة إحدى وستين ومائة. الخلاصة 1/ 374.
[ (4) ] عبد الله بن لهيعة بن عقبة المصري الفقيه أبو عبد الرحمن قاضي مصر ومسندها. وروى عن عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، والأعرج، وخلق. وعنه الثوري، والأوزاعي، وشعبة وماتوا قبله، والليث وهو أكبر منه، وابن المبارك، وخلق. وثقه أحمد وغيره. وضعفه يحيى القطان وغيره. مات سنة أربع وسبعين ومائة طبقات السيوطي 107.
[ (5) ] ربيعة بن لقيط، ذكره أبو الحسن العسكري في الأفراد انظر أسد الغابة 3/ 217.(6/170)
لهم: أتعطوني منها عشيرا على أن أقسمها بينكم؟ قالوا: نعم. فأخذت الشّفرة فجزأتها مكاني وأخذت جزءا، فحملته إلى أصحابي فاطّبخناه وأكلناه. فقال لي أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما: أنى لك هذا اللحم يا عوف؟ فأخبرتهما. فقالا: والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا. ثم قاما يتقيّآن ما في بطونهما منه. فلما قفل الناس [من ذلك السفر] . كنت أوّل قادم على رسول الله صلى الله عليه وسلم-
وفي رواية مالك بن هرم: ثم أبردوني في فيج لنا فقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئته وهو يصلّي في بيته فقلت: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال: «أعوف بن مالك؟» فقلت: نعم، بأبي أنت وأمي. فقال: «أصاحب الجزور؟» ولم يزدني على ذلك شيئا.
وليس في رواية مالك بن هرم أنهما أكلا بل ذكر لأبي بكر فيها.
زاد محمد بن عمر: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فأخبرني» . فأخبرته بما كان من سيرنا وما كان بين أبي عبيدة بن الجرّاح وعمرو بن العاص ومطاوعة أبي عبيدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «يرحم الله أبا عبيدة بن الجراح» [ (1) ] .
وروى ابن حبان، والطبراني عن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أن الجيش لما رجعوا ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منعي لهم من إيقاد النار ومن اتّباعهم العدوّ فقلت: يا رسول الله إني كرهت أن يوقدوا نارا فيرى عدوّهم قلتهم وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فيعطفوا عليهم. فحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره.
وروى البخاري عن أبي عثمان النهدي رحمه الله تعالى، موقوفا عليه، ومسلم والإسماعيلي والبيهقي عنه قال: سمعت عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه يقول: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش ذي السلاسل، وفي القوم أبي بكر، وعمر، فحدثت نفسي إنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة عنده. قال: فأتيته حتى قعدت بين يديه وقلت: يا رسول الله من أحبّ الناس؟ قال: «عائشة» . قلت: إني لست أسألك عن أهلك.
قال: «فأبوها» . قلت: ثم من؟ قال: «عمر» . قلت: ثمّ من؟ حتى عدّ رهطا. قلت في نفسي لا أعود أسأل عن هذا، وفي رواية الشيخين: فسكتّ مخافة أن يجعلني في آخرهم [ (2) ] .
تنبيهات
الأول: السلاسل بسينين مهملتين الأولى مفتوحة على المشهور الذي جزم به أبو عبيد البكري، وياقوت، والحازمي، وصاحب القاموس، والسيد وخلق لا يحصون، والثانية مكسورة واللام مخففة. وقال ابن الأثير بضم السين الأولى. وقال في زاد المعاد بضم السين وفتحها لغتان كذا قال. وصاحب القاموس مع اطلاعه لم يحك في الغزوة إلا الفتح، وعبارته: «السّلسل
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 4/ 402 وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 1/ 50.
[ (2) ] أخرجه البخاري 5/ 6 ومسلم في كتاب الفضائل (7) وأحمد في المسند 4/ 203 والبيهقي في السنن 6/ 170.(6/171)
كجعفر وخلخال الماء العذب أو البارد كالسّلاسل بالضم» . ثم قال: «وتسلسل الماء جرى في حدور ... والسّلسلة اتصال الشيء بالشيء، والقطعة الطويلة من السّنام، ويكسر، وبالكسر دائر من حديد ونحوه. والسلاسل رمل يتعقد بعضه على بعض وينقاد.. وثوب مسلسل فيه وشيء مخطّط، وغزوة ذات السّلاسل هي وراء وادي القرى» .
وقال النووي في التهذيب: أظن أن ابن الأثير استنبطه من صحاح الجوهري من غير نقل عنده فيه ولا دلالة في كلامه. قلت وعبارة الجوهري: «وماء سلسل وسلسال سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه، والسّلاسل بالضّمّ مثله، ويقال معنى يتسلسل أنه إذا جرى أو ضربته الريح يصير كالسّلسلة» .
وقال ابن إسحاق وجمع: «هو ماء بأرض جذام وبه سمّيت الغزوة» . وقال أبو عبيد البكري: «ذات السّلاسل بفتح أوله على لفظ جمع سلسلة رمل بالبادية» . انتهى. فعلى هذا سمّي المكان بذلك لأن الرمل الذي كان به كان بعضه على بعض كالسّلسلة. وأغرب من قال: سميت الغزوة بذلك لأن المشركين ارتبط بعضهم إلى بعض مخافة أن يغزوا.
الثاني: ذكر الجمهور ومنهم ابن سعد إنها كانت في جمادى الآخرة سنة ثمان. وقيل كانت سنة سبع، وبه جزم ابن أبي خالد في صحيح التاريخ.
الثالث: نقل النووي في تهذيبه، والحافظ في الفتح عن الحافظ أبي القاسم بن عساكر أنه نقل الاتفاق، على أنها كانت بعد غزوة مؤتة إلا ابن إسحاق قال قبلها قال الحافظ: وهو قضيّة ما ذكر عن ابن سعد وابن أبي خالد. قلت: أما أنه قضيّة ما ذكر عن ابن سعد فغير واضح فإن ابن سعد قال كانت في جمادى الآخرة سنة ثمان، وذكر في غزوة مؤتة إنها كانت في جمادى الأولى سنة ثمان. وأما ما نقل عن ابن إسحاق فالذي في رواية زياد البكّائي تهذيب ابن هشام عن ابن إسحاق تأخر غزوة ذات السلاسل عن مؤتة بعدة غزوات وسرايا، ولم يذكر أنها كانت قبل مؤتة فيحتمل أنه نصّ على ما ذكره ابن عساكر في رواية غير زياد.
الرابع: ليس في تأمير رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرا على أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما تفضيله عليهما بل السبب في ذلك معرفته بالحرب كما ذكر ذلك أبو بكر لعمر كما في حديث بريدة، فإن عمرا كان أحد دهاة العرب، وكون العرب الذين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستعين بهم أخوال أبيه كما ذكر في القصة فهم أقرب إجابة إليه من غيره.
وروى البيهقي عن أبي معشر عن بعض شيوخه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّي لأؤمر الرجل على القوم وفيهم من هو خير منه لأنه أيقظ عينا وأبصر بالحرب» [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 4/ 400.(6/172)
الخامس: في حديث بريدة أن عمر أراد أن يكلم عمرا لما منع الناس أن يوقدوا نارا.
وفي حديث عمرو أن أبا بكر كلّم عمرا في ذلك. ويجمع بين الحديثين بأن أبا بكر سلّم لعمرو أمره ومنع عمر بن الخطاب من كلامه، فلما ألحّ الناس على أبي بكر في سؤاله سأله حينئذ فلم يجبه ويحتمل أن منع أبي بكر لعمر بن الخطاب كان بعد سؤال أبي بكر لعمرو.
السادس: قال في الروض: «إنما كره أبو بكر وعمر رضي اللَّه تعالى عنهما أجرة مجهولة لأن العشير واحد الأعشار على غير قياس. أو بمعنى العشر [كالثمين بمعني الثمن] ولكنه عاملهم عليه قبل إخراج الجزور من جلدها وقبل النظر إليها أو يكونا كرها أجر الجزّار على كل حال واللَّه أعلم» .
السابع: في بيان غريب ما سبق:
قضاعة: بضم القاف وبالضاد المعجمة والعين المهملة.
السّراة: بفتح السين المهملة جمع سريّ بفتح أوله وكسر الراء وهو الشريف أو ذو المروءة والسخاء.
بليّ: بفتح الموحدة وكسر اللام وتشديد التحتية.
عذرة: بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة وبالراء.
بلقيسن: بفتح الموحدة وسكون اللام وفتح القاف وسكون التحتية وبالسين والنون يعني بني القيس وهو من شواذ التخفيف وهم من بني أسد، وإذا نسبت إليهم قلت قيسيّ ولا تقل بقليس.
كمن النهار: استتر فيه واختفى.
رافع: بالراء والفاء.
مكيث: بفتح الميم وكسر الكاف وسكون التحتية وبالثاء المثلثة.
الجهني: بضم الجيم وفتح الهاء وبالنون.
المدديّ: منسوب إلى المدد وجمعه أمداد وهم الغزاة الذين يمدّون جيوش الإسلام.
الشيّمة: بكسر الشين المعجمة: الغريزة والطبيعة والجبلّة التي خلق عليها الإنسان.
يصطلون: يستدفئون والاصطلاء افتعال من صلا النار والتّسخن بها.(6/173)
قذف: الشيء: رماه.
بريدة: بضم الموحدة وفتح الراء وسكون التحتية.
هدأ عنه: بفتح الهاء والدال المهملة والهمز: سكن.
دوّخ البلاد: بفتح الدال المهملة وتشديد الواو وبالخاء المعجمة: قهر واستولى.
عاملة: بعين مهملة وبعد الألف ميم مكسورة حيّ من قضاعة.
فضّهم: بفتح الفاء والضاد المعجمة الساقطة المشددة أي فرّق جمعهم وكسرهم.
قفل: بفتح القاف والفاء واللام: رجع. والقفول بضم القاف والفاء: الرجوع.
سرجس: بفتح السين المهملة وسكون الراء وكسر الجيم وبالسين المهملة: اسم أعجمي لا ينصرف.
الرّحل: بفتح الراء وسكون الحاء المهملة وباللام، وهو هنا منزل الشخص ومسكنه وبيته الذي فيه أثاثه ومتاعه.
العباية: بالمثناة التحتية والعباة والعبا ممدودين: كساء معروف.
فدكيّة: من عمل فدك بفتح الفاء والدال المهملة وبالكاف.
شكّها: انتظمها.
الخلال: بالخاء المعجمة وزن كتاب: العود يخلّل به الثوب والأسنان وخللت الرداء خلّا من باب قتل ضممت طرفيه بخلال.
جهدت لك نفسي: أي [بذلت وسعي] .
العوّاذ: بضم العين المهملة وتشديد الواو وبالذال المعجمة: وهو (جمع العائذ) الملتجئ والمستجير.
الذمّة: العهد والأمان.
تخفر: بضم الفوقية وسكون الخاء المعجمة وكسر الفاء وبالراء: تنقض العهد يقال أخفرته نقضت عهده. وخفرته أخفره بكسر الفاء وأخفره بالضمّ خفارة مثلثة أجرته من ظالم فأنا خفير، أمّنته ومنعته وبالعهد وفيت له فهو من الأضداد.
يظلّ: بفتح التحتية والظاء المعجمة المشالة: يصير.(6/174)
ناتئا: منتفخا مرتفعا.
عضله: منعه ظلما، وعضل عليه ضيّق وبه الأمر اشتدّ.
لهيعة: بفتح اللام وكسر الهاء وسكون التحتية وفتح العين المهملة فتاء تأنيث.
ابن أبي حبيب: بالحاء المهملة.
لقيط: بفتح اللام وكسر القاف وسكون التحتية وبالطاء المهملة.
هرم: بفتح الهاء وكسر الراء.
الجزور: بفتح الجيم وضم الزاي وسكون الواو وبالراء الإبل خاصة تقع على الذكر والأنثى إلا أن اللفظ مؤنثة والجمع جزر بضمّتين.
بعّضوها: بعاضا أي أجزاء.
ابن حبّان: بكسر الحاء المهملة وبالموحدة.
النّهدي: بفتح النون المشددة وسكون الهاء وبالدال المهملة.(6/175)
الباب الثامن والأربعون في سرية أبي عبيدة بن الجراح رضي اللَّه تعالى عنه يرصد عيرا لقريش عند محمد بن عمر، وابن سعد، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أرسله ومن معه لحي من جهينة بالقبلية مما يلي ساحل البحر وتعرف بسريّة الخبط وسرية سيف البحر. قال جمهور أئمة المغازي كانت في رجب سنة ثمان.
روى البخاري من طرق عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تعالى عنهما، ومسلم من طرق أخر عنه، وابن إسحاق عن عبادة بن الصامت رضي اللَّه تعالى عنه قال جابر رضي اللَّه تعالى عنه: «بعثنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في ثلاثمائة راكب، زاد محمد بن عمرو ابن سعد، والقطب من المهاجرين والأنصار فيهم عمر بن الخطاب» [ (1) ] . انتهى.
قال جابر: وأمر علينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح نرصد عيرا لقريش، وزوّدنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره، فكنا ببعض الطريق، وفي رواية فأقمنا بالساحل نصف شهر ففني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع فكن مزود تمر، وكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا. وفي رواية فكان يعطينا قبضة قبضة، ثم صار يعطينا تمرة تمرة حتى فني. قيل كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: كنّا نمصّها كما يمصّ الصبي [الثدي] ، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل.
وفي رواية وهب بن كيسان قلت لجابر ما تغني عنكم تمرة، قال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت. وفي حديث عبادة بن الصامت: فقسمها يوما بيننا فنقصت تمرة عن رجل فوجدنا فقدها ذلك اليوم فأصابنا جوع شديد وكنا نضرب بعصيّنا الخبط ثم نبلّه بالماء. وفي رواية عبادة بن الوليد [ (2) ] بن عبادة ابن الصامت، رضي اللَّه تعالى عنهما، وكان قوت كل منا في كل يوم تمرة فكان يمصّها ثم يصرّها في ثوبه، وكنا نخبط بقسيّنا ونأكل حتى تقرّحت أشداقنا.
فأقسم أخطأها رجل منا يوما فإن انقلب به تنعشه، فشهدنا له أنه لم يعطها فأعطيها فقام فأخذها، انتهى، زاد محمد بن عمر: حتى أن شدق أحدهم بمنزلة مشفر البعير انتهى. فمكثنا على ذلك أياما، وعند أبي بكر، ومحمد بن الحسن بن علي المقري عن جابر: كنا نأكل الخبط ثلاثة أشهر، انتهى. حتى قال قائلهم لو لقينا عدوا ما كان بنا حركة إليه لما نالنا من الجهد.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في كتاب المغازي (61/ 43) .
[ (2) ] عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري المدني. عن جده، وأبيه، وأبي أيوب وجابر. وعنه يحيى بن سعيد، وعبيد اللَّه بن عمرو. وثقه أبو زرعة والنسائي. الخلاصة 2/ 33.(6/176)
وفي مغازي محمد بن عمر، والغيلانيات: فقال قيس بن سعد بن عبادة [ (1) ] : من يشتري مني تمرا بجزور نحرها هاهنا وأوفيه الثمن بالمدينة؟ فجعل عمر بن الخطاب يقول: وا عجباه لهذا الغلام لا مال له يدين في مال غيره. فوجد قيس رجلا من جهينة فقال قيس: بعني جزورا وأوفيك ثمنه من تمر بالمدينة. قال الجهني: واللَّه ما أعرفك فمن أنت؟ قال: أنا قيس بن سعد بن عبادة بن دليم. قال الجهنيّ: ما أعرفني: بنسبك إن بيني وبين سعد خلّة سيد أهل يثرب، فابتاع منه خمس جزائر كل جزور بوسق من تمر، واشترط عليه البدوي تمر ذخرة من تمر آل دليم، فقال قيس: نعم. قال الجهني: أشهد لي. فأشهد له نفرا من الأنصار ومعهم نفر من المهاجرين. فقال عمر بن الخطاب: لا أشهد، هذا يدان ولا مال له إنما المال لأبيه. فقال الجهنيّ: واللَّه ما كان سعد ليخني بابنه في شقة من تمر وأرى وجها حسنا وفعلا شريفا. فأخذ قيس الجزر فنحرها لهم في مواطن ثلاثة كل يوم جزورا. فلما كان اليوم الرابع نهاه أميره وقال:
تريد أن تخفر ذمتك ولا مال لك. وفي حديث جابر عن الشيخين: نحر ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر ثم ثلاث جزائر ثم أن أبا عبيدة نهاه.
وروى محمد بن عمر عن رافع بن خديج [ (2) ] رضي اللَّه تعالى عنه أن أبا عبيدة قال لقيس: عزمت عليك ألا تنحر، أتريد أن تخفر ذمّتك ولا مال لك؟ فقال قيس: يا أبا عبيدة أترى أبا ثابت وهو يقضي ديون الناس ويحمل الكلّ ويطعم في المجاعة لا يقضي عني شقّة من تمر لقوم مجاهدين في سبيل اللَّه؟ فكاد أبو عبيدة يلين له وجعل عمر يقول أعزم عليه فعزم عليه وأبي عليه أن ينحر فبقيت جزوران فقدم بهما قيس المدينة يتعاقبون عليهما. وبلغ سعد بن عبادة ما كان أصاب الناس من المجاعة فقال: «إن يكن قيس كما أعرف فسوف ينحر القوم» انتهى.
قال جابر: وانطلقنا على ساحل البحر فألقى إلينا البحر دابة يقال لها العنبر، وفي لفظ حوتا لم نر مثله كهيئة الكثيب الضخم، وفي رواية مثل الضريب الضخم فأتيناه فأكلنا منها.
وفي لفظ منه نصف شهر. وفي رواية عند البخاري ثماني عشرة ليلة. وفي رواية عند مسلم شهرا، ونحن ثلاثمائة حتى سمنّا وادّهنّا من ودكه حتى ثابت منه أجسادنا وصلحت ولقد رأيتنا
__________
[ (1) ] قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي أبو الفضل، صحابي له ستة عشر حديثا اتفقا على حديث، وانفرد البخاري له بطرف من حديث آخر. وعنه عبد الرحمن بن أبي ليلى وأبو تميم الجيشاني. قال: أنس كان قيس بين يدي النبي صلى اللَّه عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير. وقال عمرو بن دينار: كان إذا ركب الحمار خطبت رجلاه في الأرض.
مات في خلافة معاوية بالمدينة. وله في الجود حكايات. الخلاصة 2/ 356.
[ (2) ] رافع بن خديج بن رافع بن عديّ بن يزيد بن جشم بن حارثة الأوسي، صحابي شهد أحدا وما بعدها، له ثمانية وسبعون حديثا. اتفقا على خمسة. وانفرد (م) بثلاثة. وعنه ابنه رفاعة، وبشير بن يسار وسليمان بن يسار وطاوس. قال خليفة:
مات سنة أربع وسبعين. الخلاصة 1/ 314.(6/177)
نغترف من وقب عينيه بالقلال: الدهن وأخرجنا من عينيه كذا وكذا قلّة ودك ونقطع منه القدر كالثور أو كقدر الثور.
وأمر أبو عبيدة بضلع من أضلاعه فنصب. وفي رواية: ضلعين فنصبا، ونظر إلى أطول رجل في الجيش- أي وهو قيس بن سعد بن عبادة فيما يظنه الحافظ- وأطول جمل فحمله عليه ومرّ من تحته راكبا فلم يصبه أو يصبهما. وتزودنا من لحمه وسائق، وفي رواية أبي حمزة الخولاني وحملنا منه ما شئنا من قديد وودك في الأسقية انتهى.
قال جابر: فلما قدمنا المدينة أتينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فذكرنا له ذلك فقال: «رزق أخرجه اللَّه تعالى لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟»
قال: فأرسلنا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم منه فأكله، وفي رواية: فأتاه بعضهم بعضو منه فأكله.
وفي رواية أبي حمزة الخولاني أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: «لو نعلم أنا ندركه لم يروح لأجبنا لو كان عندنا منه» [ (1) ] .
وفي مغازي محمد بن عمر، والغيلانيات: فلما قدم قيس بن سعد بن عبادة لقيه أبوه فقال: ما صنعت في مجاعة القوم حيث أصابتهم؟ قال: نحرت، قال أصبت ثم ماذا؟ قال نحرت قال: أصبت ثم ماذا؟ قال نهيت. وفي الصحيح عن أبي صالح ذكوان السّمّان إن قيس بن سعد بن عبادة قال لأبيه. وفي مسند الحميدي عن أبي صالح عن قيس قلت لأبي: كنت في الجيش فجاعوا. قال: أنحرت؟ قال: نحرت. قال ثم جاعوا قال: أنحرت؟ قال: نهيت.
وفي مغازي محمد بن عمر، والغيلانيات قال: من نهاك؟ قال: أبو عبيدة بن الجراح. قال: ولم؟
قال: زعم أنه لا مال لي وإنما المال لأبيك. قال: لك أربعة حوائط أدنى حائط منها تجد منه خمسين وسقا. وكتب بذلك كتابا وأشهد أبا عبيدة وغيره. وقدم الجهني مع قيس فأوفاه أو سقه وحمله وكساه.
وعند ابن خزيمة عن جابر قال: بلغ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فعل قيس فقال: «إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت» .
انتهى. وجاء سعد بن عبادة إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: من يعذرني من ابن الخطاب يبخل عليّ ابني [ (2) ] .
تنبيهات
الأول: قال جماعة من أهل المغازي كانت هذه السرية سنة ثمان. قال في زاد المعاد، والبداية والنور: وفيه نظر لما رواه الشيخان من حديث جابر رضي اللَّه تعالى عنه أن
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 3/ 311 عبد الرزاق (8668) .
[ (2) ] ذكره العراقي في تخريجه على الأحياء 3/ 246 وقال: أخرجه الدارقطني وفيه من رواية أبي حمزة الحميري عن جابر ولا يعرف اسمه ولا حاله.(6/178)
رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثهم يرصدون عيرا لقريش، وظاهر هذا الحديث أن هذه السرية كانت قبل الهدنة بالحديبية، فإنه من حين صالح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قريشا لم يكن ليرصد لهم عيرا بل كان زمن أمن وهدنة إلى حين الفتح. ويبعد أن تكون سرية الخبط على هذا الوجه اتفقت مرتين مرة قبل الصلح ومرة بعده. قلت وسيأتي في الثالث من كلام الحافظ ما يروي الغليل.
الثاني: قال في الهدي: قول من قال إنها كانت في رجب وهم غير محفوظ، إذ لم يحفظ عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه غزا في الشهر الحرام ولا أغار فيه ولا بعث فيه سرية، وقد عيّر المشركون المسلمين بقتالهم في أول رجب في قصة العلاء بن الحضرمي، وقالوا: استحل محمد الشهر الحرام وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة 217] ولم يثبت نسخ هذا بنصّ يجب المصير إليه ولا أجمعت الأمة على نسخة. قال [البرهان] في النور: وهو كلام حسن مليح لكنه على ما اختاره من عدم نسخ القتال في الشهر الحرام وسلفه عطاء وأهل الظاهر وشيخه أبي العبّاس بن تيمية وهو خلاف ما عليه المعظم. وقوله في قصة العلاء بن الحضرمي صوابه عمرو بن الحضرمي أخو العلاء والعلاء ليس صاحب هذه السرية بل صاحبها وأميرها عبد اللَّه بن جحش.
الثالث: قال في الفتح: لا يغاير ما في الصحيح أن هذه السرية بعثها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لترصد عيرا لقريش، وما ذكره ابن سعد أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثهم لحيّ من جهينة وأن ذلك كان في شهر رجب لإمكان الجمع بين كونهم يتلقون عيرا لقريش ويقصدون حيّا من جهينة، ويقوّي هذا الجمع ما عند مسلم من طريق عبيدة اللَّه بن مقسم عن جابر قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثا إلى أرض جهينة، فذكر القصة. لكن تلقي عير قريش ما يتصوّر أن يكون في الوقت الذي ذكره ابن سعد في رجب سنة ثمان لأنهم حينئذ كانوا في الهدنة بل يقتضي ما في الصحيح أن تكون هذه السرية في سنة ست، أو قبلها قبل الهدنة يحتمل أن يكون تلقّيهم العير ليس لمحاربتهم بل لحفظهم من جهينة. ولهذا لم يقع في شيء من طرق الخبر أنهم قاتلوا أحدا بل أنهم أقاموا نصف شهر وأكثر في مكان واحد واللَّه تعالى أعلم.
الرابع: وقع في رواية أبي حمزة الخولاني عن جابر عن ابن أبي عاصم في كتاب الأطعمة أن أمير هذه السرية قيس بن سعد بن عبادة. قال الحافظ: والمحفوظ ما اتفقت عليه روايات الصحيحين أنه أبو عبيدة بن الجراح. وكان أحد الرواة ظنّ من صنيع قيس بن سعد في تلك الغزاة ما صنع من نحر الإبل التي نحرها أنه كان أمير السرية وليس كذلك.
الخامس: ظاهر قول جابر: «بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعثا فخرجنا وكنا ببعض الطريق فني(6/179)
الزاد إلخ» . أنه كان لهم زاد بطريق العموم وزاد بطريق الخصوص. فلما فني الذي بطريق العموم اقتضي رأي أبي عبيدة أن يجمع الذي بطريق الخصوص لقصد المساواة بينهم ففعل فكان جميعه مزودا واحدا.
ووقع عند مسلم في رواية الزبير عن جابر: «بعثنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأمّر علينا أبا عبيدة نتلقى عيرا لقريش وزودنا جرابا من تمر لم يجد لنا غيره. فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة [ (1) ] » .
وظاهره مخالف لهذه الرواية. ويمكن الجمع بأن الزاد العام كان قدر جراب. فلما تعدد وجمع أبو عبيدة الزاد الخاص اتفق أنه صار قدر جراب، ويكون كل من الروايين ذكر ما لم يذكر الآخر. وأما تفرقة ذلك تمرة تمرة، فكان في ثاني الحال. وقد روى البخاري في الجهاد من طريق وهب بن كيسان عن جابر: «خرجنا ونحن ثلاثمائة نحمل زادنا على رقابنا ففني زادنا حتى كان الرجل منا يأكل [كل يوم] تمرة» . وأما قول عياض: «يحتمل أنه لم يكن في أزوادهم تمر غير الجراب المذكور» فمردود لأن حديث جابر الذي صدر به البخاري صريح في أن الذي اجتمع من أزوادهم كان مزود تمر. ورواية أبي الزبير صريحة في أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم زوّدهم جرابا من تمر فيصح أن التمر كان معهم من غير الجراب. وأما قول غيره يحتمل أن يكون تفرقته عليهم تمرة تمرة كان من الجراب النبوي صلى اللَّه عليه وسلم قصدا للبركة، وكان يفرق عليهم من الأزواد التي اجتمعت أكثر من ذلك فبعيد من ظاهر السياق، بل في رواية هشام بن عروة عند ابن عبد البر. فقلّت أزوادنا حتى كان يصيب الرجل منا التمرة.
السادس: في رواية وهب بن كيسان عن جابر: «فأكل منه القوم ثماني عشرة ليلة» .
وفي رواية عمرو بن دينار: «فأكلنا منه نصف شهر» . وفي رواية أبي الزبير: «فأقمنا عليها شهرا» . ويجمع بين هذا الاختلاف بأن الذي قال: ثماني عشرة، ضبط ما لم يضبط غيره أو أن من قال نصف شهر ألغى الكسر الزائد وهو ثلاثة أيام، ومن قال شهرا جبر الكسر وضم بقية المدة التي كانت قبل وجدانهم الحوت إليها. ورجّح النووي رواية أبي الزبير لما فيها من الزيادة. قال ابن التين: إحدى الروايتين وهم. ووقع في رواية الحاكم: اثنا عشر يوما، وهي شاذّة وأشذ منها رواية الخولاني: أقمنا قبلها ثلاثا. ولعل الجمع الذي ذكرته أولى.
السابع: لا تخالف رواية أبي حمزة الخولاني رواية أبي الزبير في لحم الحوت لأن رواية أبي حمزة تحمل علي أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال ذلك ازديادا منه بعد أن أحضروا له منه ما ذكر، أو قال ذلك قبل أن يحضروا له منه، وكان الذي أحضروه معهم لم يروح فأكل منه صلى اللَّه عليه وسلم.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 3/ 1535 (17- 1935) .(6/180)
الثامن: وقع في آخر صحيح مسلم من طريق عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال:
خرجت أنا وأبي نطلب العلم. فذكر الحديث، وفيه فرأينا جابر بن عبد الله في مسجده.
الحديث. وفيه سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بطن بواط. الحديث. وفيه سرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكان قوت كل أحد منا في كل يوم تمرة. الحديث. وفي آخره: شكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «عسى اللَّه أن يطعمكم» . فأتينا سيف البحر، فزجر البحر زجرة فألقى دابّة، فأورينا على شقّها النار فاطّبخنا واشتوينا وأكلنا وشبعنا. قال جابر: فدخلت أنا وفلان حتى عدّ خمسة في فجاج عينها ما يرانا أحد، وأخذنا ضلعا من أضلاعها فقوّمناه ودعونا أعظم رجل في الرّكب وأعظم جمل في الركب وأعظم كفل في الركب فدخل تحته ما يطأطئ رأسه. قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: وظاهر سياقه أن ذلك وقع في غزوة لهم مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، لكن يمكن حمل قوله: فأتينا سيف البحر على أنه معطوف على شيء محذوف تقديره: فبعثنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، في سفر فأتينا إلخ، فتتحد مع القصة التي في صحيح البخاري.
التاسع: في بيان غريب ما سبق:
يرصد: بفتح التحتية.
العير: بكسر العين المهملة وبالراء الإبل تحمل الميرة ثم غلب على كل قافلة.
الحيّ الواحد من أحياء العرب يقع على بني أب كثروا أم قلّوا، وعلى شعب يجمع القبائل من ذلك.
جهينة: بضم الجيم وفتح الهاء وسكون التحتية وفتح النون فتاء تأنيث.
القبليّة: بفتح القاف والموحدة.
ساحل البحر: شاطئه وهو جانبه.
الخبط: بفتح الخاء المعجمة والموحدة ما سقط من ورق الشجر إذا خبط بالعصا لتعلفه الإبل.
سيف البحر: بكسر السين المهملة وسكون التحتية وبالفاء جانبه.
عبادة: بضم العين المهملة وتخفيف الموحدة.
الصامت: بلفظ اسم الفاعل.
الجراب: بكسر الجيم، قال في التقريب وقد تفتح.
المزود: بكسر الميم وعاء التمر من أدم.(6/181)
يقوتنا، بفتح الفوقية وضم القاف والتخفيف من الثلاثي، وبضم التحتية والتشديد من التقويت ومنعه ابن السّكّيت- بكسر السين المهملة والكاف المشددة وسكون التحتية فتاء.
العصيّ: بضم العين وكسر الصاد المهملتين جمع عصا.
يمصّها: بفتح الميم وحكى ضمها.
تخبط: الشجرة تضربها فيتحاتّ ورقها فتأكله (الإبل) .
القسيّ: بكسر القاف جمع قوس.
تقرّحت: تجرّحت من خشونة الورق وحرارته.
الشدق: بفتح الشين المعجمة وكسرها وسكون الدال المهملة وبالقاف جانب الفم.
فأقسم: أحلف.
أخطأها: فاتته ومعناه أنه كان للتمر قاسم يقسمه بينهم، فيعطي كل إنسان تمرة كل يوم، فقسم في بعض الأيام ونسي إنسانا فلم يعطه تمرته وظنّ أنه أعطاه فتنازعا في ذلك، فذهبنا معه وشهدنا له أن لم يعطها فأعطيها بعد الشهادة.
فنعشه: فرفعه وتقيمه من شدة الضعف والجهد أو معناه تشد جانبه في دعواه وتشهد له.
مشفر البعير: بكسر الميم كالجحفلة من الفرس وهو لذي الحافر كالشفة للإنسان.
ناله: أصابه.
الجهد: بفتح الجيم- وتضم- وبالدال: المشقة، وقيل بالفتح المشقة وبالضم الطاقة.
الغيلانيات: أجزاء من الحديث منسوبة لابن غيلان من المحدثين.
الجزور: بفتح الجيم من الإبل خاصة يقع على الذكر والأنثى والجمع جزر بضمتين.
شقّة من تمر [أي قطعة تشقّ منه] .
دليم: بضم الدال المهملة وفتح اللام وسكون التحتية وبميم.
أما: بفتح الهمزة وتخفيف الميم.
يخني به بضم التحتية وسكون المعجمة وبالنون يسلمه.
فعلا: بكسر الفاء وسكون العين. وفي نسخة من العيون فعالا بفتح الفاء أي الكرم ولهذا وصفه بالمفرد فقال شريفا. ولو أراد الفعال بكسر الفاء الذي هو جمع فعل لقال شريفة.
خديج: بخاء معجمة فدال مهملة فتحتية فجيم وزن عظيم.(6/182)
عزم عليه: أمره أمر جدّ بكسر الجيم.
أخفره: إذا نقض عهده واختفره إذا وفي له بالعهد والمراد الأول.
الذّمّة: بكسر الذال المعجمة تفسّر تارة بالعهد والأمان وتارة بالضمان.
أبو ثابت: بثاء مثلثة وموحدة: كنية سعد بن عبادة.
الكلّ: بفتح الكاف وتشديد اللام: وهو الإعياء ثم استعمل في كل ضائع وأمر ثقيل.
الدّابّة: بالدال المهملة وتشديد الموحدة: كل حيوان في الأرض ويطلق على الذكر والأنثى.
العنبر: بلفظ المشموم: حوت كبير بليغ طوله خمسون ذراعا فأكثر.
الحوت: اسم جنس لجميع السمك وقيل مخصوص بما عظم منها.
الكثيب: بفتح الكاف وكسر الثاء المثلثة التّلّ من الرمل.
الظّرب: بفتح الظاء المعجمة المشالة وكسر الراء وبالموحدة الجبل الصغير.
الضّخم: بفتح الضاد وسكون الخاء المعجمتين: العظيم.
الودك: بفتح الواو والدال المهملة: الشحم.
ثابت: بثاء مثلثة وموحدة ففوقية: رجعت.
الوقب: بفتح الواو وسكون القاف والموحدة النّقرة التي تكون فيها الحدقة.
القلال: بكسر القاف جمع قلّة وهي هنا [الحبّ العظيم] .
القدر: بكسر القاف وفتح الدال المهملة جمع قدرة بفتح فسكون: وهي القطعة من اللحم ومن غيره.
الثّور: بالثاء المثلثة الذكر من البقر، والأنثى ثورة والجمع ثيران وأثوار وثيرة مثل عنبة.
الضلع: بكسر الضاد المعجمة وسكون اللام تؤنّث وجمعها أضلع وضلوع وهي عظام الجنبين. وقوله بضلعين فنصبا، الوجه فنصبتا، وكأنه أوّله بعظمين أو عضوين. ونحو ذلك وأن التأنيث غير حقيقي فيجوز التذكير.
لم يروح: لم ينتن.
المجامعة: والمجموعة بفتح الميم من الجوع ضد الشّبع.
نهيت: بالبناء للمفعول.
ذكوان: بفتح الذال المعجمة.(6/183)
الحوائط: جمع حائط وهو هنا البستان.
أوفى: بمعنى أتمّ.
يجذّ: يقال جذذت التمر وغيره قطعته وهذا زمن الجذاذ.
الشّيمة: بكسر الشين المعجمة: الغريزة والطبيعة والجبلّة.
يبخّل عليّ ولدي [أي رماه بالبخل] .
الهدنة: بضم الهاء وسكون الدال المهملة وبضمها: الصلح والموادعة بين المتماريين.
الغليل: بفتح الغين المعجمة. العطشان.
مقسم: بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين المهملة.
الكفل: بكسر الكاف وسكون الفاء وباللام هنا الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط.(6/184)
الباب التاسع والأربعون في سرية أبي قتادة الأنصاري رضي اللَّه تعالى عنه إلى خضرة ووقعة ابن أبي حدرد في شعبان سنة ثمان.
روى ابن إسحاق، والإمام أحمد، ومحمد بن عمر عن عبد اللَّه بن أبي حدرد الأسلمي رضي اللَّه تعالى عنه قال: تزوجت ابنة سراقة بن حارثة النّجّاري وقد قتل ببدر، فلم أصب شيئا من الدنيا كان أحب إلى من نكاحها، وأصدقتها مائتي درهم، فلم أجد شيئا أسوقه إليها، فقلت: على اللَّه تعالى ورسوله صلى اللَّه عليه وسلم المعوّل. فجئت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخبرته، فقال: «كم سقت إليها؟» فقلت: مائتي درهم يا رسول اللَّه. فقال: «سبحان اللَّه واللَّه لو كنتم تغترفونه من ناحية بطحان- وفي رواية- «لو كنتم تغترفون الدراهم من واديكم هذا ما زدتم» . فقلت: يا رسول اللَّه أعنّي على صداقها. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «ما وافقت عندنا شيئا أعينك به ولكن قد أجمعت أن أبعث أبا قتادة في أربعة عشر رجلا في سرية فهل لك أن تخرج فيها؟ فإني أرجو أن يغنمك اللَّه مهر امرأتك» . فقلت: نعم [ (1) ] .
وعند ابن إسحاق: فلبثت أياما ثم أقبل رجل من بني جشم حتى نزل بقومه وبمن معه الغابة يريد أن يجمع قيسا على حرب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وكان ذا اسم وشرف في جشم.
فدعاني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ورجلين من المسلمين فقال: «اخرجوا إلى هذا الرجل حتى تأتوني منه بخبر وعلم» . وقدّم لنا شارفا عجفاء يحمل عليها أحدنا فو اللَّه ما قامت به [ضعفا] حتى دعمها الرجال من خلفها بأيديهم حتى استقلت وما كادت، ثم قال: «تبلّغوا عليها واعتقبوها» . وفي حديث محمد بن عمر، وأحمد واللفظ للأول: فخرجنا ومعنا سلاحنا من النّبل والسيوف فكنا ستة عشر رجلا بأبي قتادة وهو أميرنا. فبعثنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى غطفان نحو نجد. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «سيروا الليل واكمنوا النهار وشنّوا الغارة ولا تقتلوا النساء والصبيان» .
قال:
فخرجنا حتى جئنا ناحية غطفان.
وفي حديث أحمد: فخرجنا حتى جئنا الحاضر ممسين، فلما ذهبت فحمة العشاء قال محمد بن عمر قال: وخطبنا أبو قتادة وأوصانا بتقوى اللَّه تعالى وألّف بين كل رجلين وقال: «لا يفارق كل رجل زميله حتى يقتل أو يرجع إليّ فيخبرني خبره، ولا يأتينّ رجل فأسأله عن صاحبه فيقول لا علم لي به، وإذا كبّرت فكبّروا، وإذا حملت فاحملوا ولا تمعنوا في الطلب» .
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 3/ 448 والبيهقي في السنن 7/ 235 والحاكم في المستدرك 2/ 178 وذكره الهيثمي في المجمع 4/ 282.(6/185)
فأحطنا بالحاضر، فسمعت رجلا يصرخ: يا خضرة، فتفاءلت وقلت: لأصيبن خيرا ولأجمعنّ إليّ امرأتي، وقد أتيناهم ليلا.
قال فجردّ أبو قتادة سيفه وكبّر، وجردنا سيوفنا وكبّرنا معه فشددنا على الحاضر وقاتلنا رجالا، وإذا أنا برجل طويل قد جرد سيفه وهو يمشي القهقرى، مرة يقبل عليّ بوجهه، ومرّة يدبر عنّي بوجهه، كأنه يريد أن يستطردني فأتبعه، ثم يقول: يا مسلم هلم إلى الجنة فأتبعه، ثم قال:
إن صاحبكم لذو مكيدة أمره هذا الأمر، وهو يقول الجنة الجنة، يتهكم بنا، فعرفت أنه مستقتل فخرجت في أثره وناديت أين صاحبي؟ لا تبعد فقد نهانا أميرنا عن أن نمعن في الطلب فأدركته وملت عليه فقتلته، وأخذت سيفه، وقد جعل زميلي يناديني أين تذهب؟ إني واللَّه إن ذهبت إلى أبي قتادة فسألني عنك أخبرته. قال: فلقيته قبل أبي قتادة. فقلت: أسأل الأمير عني؟ قال:
نعم وقد تغيّظ عليّ وعليك. وأخبرني أنهم قد جمعوا الغنائم وقتلوا من أشرافهم. فجئت أبا قتادة فلا مني فقلت: قتلت رجلا كان من أمره كذا وكذا وأخبرته بقوله كله. ثم سقنا النعم وحملنا النساء وجفون السيوف معلّقة بالأقتاب، فأصبحت وبعيري مقطور بامرأة كأنها ظبي.
فجعلت تكثر الالتفات خلفها وتبكي، فقلت: إلى أي شيء تنظرين؟ قالت: انظر واللَّه إلى رجل لئن كان حيا لاستنقذنا منكم. فوقع في نفسي أنه هو الذي قتلت. فقلت: قد واللَّه قتلته، وهذا واللَّه سيفه معلّق بالقتب. قالت: فألق إليّ غمده. فقلت: هذا غمد سيفه. قالت: فشمه إن كنت صادقا. قال: فشمته فطبّق. قال: فبكت ويئست.
وفي حديث ابن إسحاق: قال عبد اللَّه بن أبي حدرد: فخرجنا ومعنا سلاحنا من النّبل والسيوف حتى إذا جئنا قريبا من الحاضر [عشيشية] مع غروب الشمس كمنت في ناحية وأمرت صاحبيّ فكمنا في ناحية أخرى من حاضر القوم، وقلت لهما: إذا [سمعتماني قد] كبّرت وشددت في ناحية العسكر فكبّرا وشدّا معي.
قال: فو اللَّه إنا لكذلك ننتظر غرّة القوم أو أن نصيب منهم شيئا غشينا الليل فذهبت فحمة العشاء، وكان راعيهم قد أبطأ عليهم حتى تخوفوا عليه. فقام صاحبهم رفاعة بن قبس فأخذ سيفه فجعله في عنقه ثم قال: واللَّه لأتبعنّ أثر راعينا هذا فلقد أصابه شرّ. فقال بعض من معه. نحن نكفيك فلا تذهب. فقال: واللَّه لا يذهب إلا أنا. فقالوا: ونحن معك. قال: واللَّه لا ينبعني أحد منكم. وخرج حتى مرّ بي، فلما أمكنني نفحته بسهم فوضعته في فؤاده فو اللَّه ما تكلم ووثبت إليه فاحتززت رأسه وشددت في ناحية العسكر وكبّرت وشدّ صاحباي وكبّرا.
فو اللَّه ما كان إلا النجاء ممن فيه عندك عندك بكل ما قدروا عليه من نسائهم وأبنائهم وما خفّ معهم من أموالهم واستقنا إبلا عظيمة وغنما كثيرة.(6/186)
وعند محمد بن عمر عن جعفر بن عمر: وقالوا: غابوا خمس عشرة ليلة وجاءوا بمائتي بعير وألف شاة وسبوا سببا كثيرا وجمعوا الغنائم فأخرجوا الخمس فعزلوه وعدل البعير بعشرين من الغنم.
وروى الإمام أحمد والشيخان وأبو داود عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سرية قبل نجد فخرجت فيها فغنمنا إبلا وغنما كثيرة فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا فنفّلنا أميرنا بعيرا بعيرا كل إنسان، ثم قدمنا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقسم علينا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثنا عشر بعيرا بعد الخمس، وما حاسبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع. وفي رواية نفلنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعيرا بعيرا فكان لكل إنسان ثلاثة عشر بعيرا [ (1) ] .
قال عبد اللَّه بن أبي حدرد: فأتينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وجئت برأس رفاعة أحمله معي فأعطاني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من تلك الإبل ثلاثة عشرة بعيرا فدخلت بزوجتي ورزقني اللَّه خيرا كثيرا.
وروى محمد بن عمر عن عبد اللَّه بن أبي حدرد قال: أصابنا في وجهنا أربع نسوة فيهن فتاة كأنها ظبي، بها من الحداثة والحلاوة شيء عجيب، وأطفال وجوار، فاقتسمنا السّبي وصارت تلك الجارية الوضيئة لأبي قتادة
فجاء محمية بن جزء الزبيدي فقال: يا رسول اللَّه إن أبا قتادة قد أصاب في وجهه هذا جارية وضيئة، وقد كنت وعدتني جارية من أول فيء يفيء اللَّه به عليك. فأرسل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى أبي قتادة. فقال: «هب لي الجارية» . فقال: نعم يا رسول اللَّه: فأخذها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فدفعها إلى محمية بن جزء الزبيدي.
تنبيهان
الأول: جعل في العيون سرية أبي قتادة إلى خضرة غير سرية عبد اللَّه بن أبي حدرد التي سأل فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الإعانة على مهر امرأته. وجعلهما محمد بن عمر [سرية] واحدة.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
خضرة: بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين: أرض لمحارب بنجد.
حدرد: بمهملات وزن جعفر.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 653 كتاب المغازي (4338) ومسلم 3/ 1368 (37- 1749) وأبو داود وأحمد في المسند 2/ 10- 62.(6/187)
سراقة: بضم السين المهملة.
حارثة: بالحاء المهملة والثاء المثلثة.
أسوقه إليها: أي أمهرها إياه.
سبحان اللَّه: أتى هنا بالتسبيح للتعجب.
بطحان: بضم الموحدة وسكون الطاء وبالحاء المهملتين، وقيل بفتح أوله وكسر ثانيه، وحكي فتح الأول وسكون الثاني: واد بالمدينة.
أجمعت: عزمت.
لبثت: بفتح اللام وكسر الموحدة وبالثاء المثلثة مكثت.
جشم: بضم الجيم وفتح الشين المعجمة.
الغابة: بالغين المعجمة وبالموحدة واد أسفل المدينة.
الشارف: المسنّ من الدواب.
العجفاء: بالمدّ المهزولة.
دعمها الرجال: بدال فعين مهملتين: قوّموها بأيديهم.
غطفان: بفتح الغين المعجمة والطاء المهملة وبالفاء.
شنّ الغارة: فرّقها من كل وجه.
الحاضر: القوم النّزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه.
فحمة العشاء: يقال للظّلمة التي بين صلاتي العشاء.
الزميل: العديل الذي حمله مع حملك على البعير، وقد زاملني عادلني، والزميل أيضا الرفيق في السفر الذي يعينك على أمورك، وهو الرديف أيضا.
فصرخ رجل منهم: يا خضرة: «يا» حرف نداء، وخضرة منادى. ووقع في العيون ما خضرة. قال في النور: «أي من خضرة، وتقع «ما» مكان (من) ، و «من» مكان (ما) . ولكن الأكثر على إطلاق (من) على من يعقل، و (ما) على ما لا يعقل» . انتهى. قلت: والذي وقفت عليه من كتب المغازي: يا خضرة كما ذكرته أولا.
القهقري: الرجوع إلى خلف. وفي النهاية المشي إلى خلف من غير أن يعيد وجهه إلى جهة مشيه.
استطرده: خادعه ليمسكه من طراد الصّيد.(6/188)
قبل أبي قتادة: بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهته.
جفون السيوف: بضم الجيم والفاء وأغمادها، واحدها جفن بفتح الجيم وسكون الفاء.
شام السّيف: سلّه وأغمده أيضا من الأضداد.
طبق: بطاء مهملة فموحدة مشددة فقاف: ساوى.
الغرّة: بكسر الغين المعجمة وتشديد الراء: الغفلة.
نفحه بسهم: بفتح النون والفاء وبالحاء المهملة: رماه به.
عندك عندك: بمعنى الإغراء.
فعدل: بالبناء للمفعول.
البعير: بالرفع: نائب الفاعل.
وضيئة بمدّ الهمزة المفتوحة: حسنة جميلة.
محمية: بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الميم الثانية وتخفيف التحتية.
جزء: بفتح الجيم وسكون الزاي وبالهمزة.
الزّبيدي: بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالدال المهملة.
عشيشية: تصغير عشية.
بطن: هو دون القبيلة.(6/189)
الباب الخمسون في سرية أبي قتادة رضي الله تعالى عنه أيضا إلى بطن إضم في أول شهر رمضان قبل فتح مكة.
قال محمد بن عمر: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم التوجه إلى مكة بعث أبا قتادة الحارث بن ربعيّ رضي الله تعالى عنه في ثمانية نفر إلى بطن إضم ليظنّ ظانّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توجّه إلى تلك الناحية ولأن تذهب بذلك الأخبار. وروى محمد بن إسحاق ومحمد بن عمر، وابن سعد، وابن أبي شيبة، والإمام أحمد والترمذي وحسنه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والخرائطي في مكارم الأخلاق، والطبراني، وأبو نعيم والبيهقي في دلائلهما رحمهم اللَّه تعالى، عن عبد الله بن أبي حدرد، والطبراني عن جندب البجلي، وابن جرير عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهم، وابن أبي حاتم عن الحسن، وعبد الرزاق: وابن جرير عن قتادة رضي اللَّه تعالى عنه، قال: بعثنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى إضم [في نفر من المسلمين] أميرنا أبو قتادة الحارث بن ربعيّ وفينا محلم بن جثامة الليثي وأنا، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له ومعه متيّع له ووطب من لبن.
قال: فلما مرّ بنا سلّم علينا بتحية الإسلام فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلم بن جثامة فقتله لشيء كان بينه وبين وسلبه بعيره ومتيّعه. فلما قدمنا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأخبرناه الخبر نزل فينا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ [النساء 94] .
فانصرف القوم ولم يلقوا جمعا حتى انتهوا إلى ذي خشب. فبلغهم أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قد توجه إلى مكة فأخذوا على يبين حتى لحقوا برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالسّقيا [ (1) ] .
فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم لمحلّم: «أقتلته بعد ما قال آمنت باللَّه؟» .
وفي حديث ابن عمر، والحسن: فجاء محلّم في بردين، فجلس بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أقتلته بعد ما قال إني مسلم؟» قال: يا رسول اللَّه إنما قالها متعوّذا. قال: «أفلا شققت عن قلبه؟» قال: لم يا رسول اللَّه؟ قال:
«لتعلم أصادق هو أم كاذب» . قال: وكنت عالما بذلك يا رسول اللَّه. هل قلبه إلا مضغة من لحم؟ قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إنما كان ينبئ عنه لسانه» . وفي رواية: فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا ما في قلبه تعلم ولا لسانه صدّقت» . فقال: استغفر لي يا رسول اللَّه. فقال: «لا غفر اللَّه لك» .
فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه. فما مضت سابعة حتى مات [ (2) ] .
__________
[ (1) ] انظر مراصد الاطلاع 2/ 72.
[ (2) ] ذكره السيوطي في الدر 2/ 201 وعزاه لابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن الحسن.(6/190)
وفي حديث ابن إسحاق: فما لبث أن مات فحفر له أصحابه، فأصبح وقد لفظته الأرض، ثم عادوا وحفروا له فأصبح وقد لفظته الأرض إلى جنب قبره. قال الحسن: فلا أدري كم قال أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كم دفناه مرتين أو ثلاثا.
وفي حديث جندب وقتادة: أما ذلك فوقع ثلاث مرات، وكل ذلك لا تقبله الأرض، فجاؤوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: «إن الأرض تقبل من هو شرّ من صاحبكم ولكن اللَّه تعالى [يريد أن] يعظكم فأخذوا برجليه فألقوه في بعض الشّعاب وألقوا عليه الحجارة.
وتقدم في غزوة حنين حكومته صلى اللَّه عليه وسلم بين عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس في دم عامر بن الأضبط.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق
إضم: بكسر الهمزة وفتح الضاد المعجمة وبالميم: واد وجبل بالمدينة بينه وبينها ثلاثة برد.
محلم: بميم مضمومة وحاء مهملة مفتحة فلام مكسورة مشددة وبالميم.
جثامة: بجيم مفتوحة فثاء مثلثة مشددة وبعد الألف ميم مفتوحة وبتاء تأنيث.
عامر بن الأضبط: بضاد معجمة ساكنة وموحدة مفتوحة فطاء مهملة تابعي كبير لأنه لم ير النبي صلى اللَّه عليه وسلم ويقال له مخضرم.
الوطب: بفتح الواو وسكون الطاء المهملة وبالموحدة: زقّ اللّبن خاصة.
فتبيّنوا: من التّبيّن، قال في الكشّاف: «وهما من التّفعّل بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر [وثباته] ولا تقتحموه من غير رويّة» . وقرأ حمزة والكسائي: فتثبّتوا من التّثبّت والتأنّي.
ألقى إليكم السلام: حيّاكم بتحية الإسلام، وقرأ نافع، وابن عامر، وحمزة: السلم بغير ألف أي الاستسلام والانقياد وفسّر به السلام أيضا.
عرض الدنيا: ما كان من مال قل أو كثر.
ذو خشب: بضم الخاء والشين المعجمتين وبالموحدة: واد على ليلة من المدينة.
يين: بتحتانيتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة وبالنون، وضبطه الصغاني بفتح التحتانيتين: واد به عين من أعراض المدينة.
السّقيا: بضم السين المهملة وسكون القاف قرية جامعة من عمل الفرع.(6/191)
الباب الحادي والخمسون في بعث أسامة بن زيد رضي اللَّه تعالى عنهما إلى الحرقات
روى الإمام أحمد، وابن أبي شيبة، والشيخان، وأبو داود، والنّسائي عن أسامة بن زيد رضي اللَّه تعالى عنهما، وابن جرير عن السدي، وابن سعد عن جعفر بن برقان الحضرمي رجل من أهل اليمامة قال أسامة رضي اللَّه تعالى عنه: بعثنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة.
قال: فصبّحناهم، وكان رجل منهم- قال السّدّي- يدعى مرداس بن نهيك، انتهى، إذا أقبل القوم كان من أشدهم علينا وإذا أوبروا كان حاميتهم، فهزمناهم، فغشيته أنا ورجل من الأنصار. وقال السّدي. وكان مع مرداس غنيمة له وجمل أحمر، فلما رآهم آوى إلى كهف جبل وتبعه أسامة.
فلما بلغ مرداس الكهف وضع غنمه. ثم أقبل إليهم. قال أسامة: فلما غشينا- قال السّدّي- قال: السلام عليكم. قال أسامة في رواية: فرفعت عليه السيف. فقال: لا إله إلا اللَّه- زاد السّدي- محمد رسول اللَّه. قال أسامة: فكفّ الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته، أي رفع عليه السيف فلما لم يتمكن منه طعنه بالرمح. قال السّدّي: فشدّ عليه أسامة من أجل جمله وغنيمته. قال أسامة: فلما قدمنا بلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وفي رواية: فوقع في نفسي من ذلك. وعند محمد بن عمر: قال أسامة: فلما أصبت الرجل وجدت في نفسي من ذلك موجدة شديدة حتى رأيتني ما أقدر على أكل الطعام حتى قدمت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقبّلني واعتنقني. وقال السّدي: وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا بعث أسامة أحب أن يثني عليه خيرا ويسأل عنه أصحابه. فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدّثون رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ويقولون: «يا رسول اللَّه لو رأيت أسامة، ولقيه رجل فقال الرجل لا إله إلا اللَّه فشدّ عليه وقتله» . وهو يعرض عنهم.
فلما أكثروا عليه رفع رأسه إلى أسامة وقال: «يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا إله إلا اللَّه؟»
وفي رواية: «فكيف تصنع بلا إله إلا اللَّه؟»
قال السّدّي: «كيف أنت ولا إله إلا اللَّه؟» قال أسامة: قلت يا رسول اللَّه إنما قالها خوفا من السلاح.
وفي رواية: إنما كان متعوّذا من القتل.
قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم؟»
قال السّدّي: فنظرت إليه [ (1) ] ،
وعن ابن سعد: «فتعلم أصادق هو أم كاذب؟»
وعن ابن إسحاق: «فو الذي بعثه بالحق ما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ»
وفي رواية «حتى تمنيت أني لم أسلم قبل ذلك اليوم»
وعن ابن إسحاق «وإني لم أقتله» وعن ابن سعد قال أسامة: «لا أقاتل أحدا يشهد أن لا إله إلا اللَّه»
وعن ابن إسحاق قلت: انظرني يا رسول اللَّه إني أعاهد اللَّه أن لا أقتل رجلا يقول لا إله إلا اللَّه.
قال: «تقول بعدي يا أسامة» . قال قلت: بعدك.
قال السّدّي: فأنزل اللَّه تعالى خبر هذا وأخبر
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 183 ومسلم في كتاب الإيمان (159) وانظر البداية والنهاية 4/ 222.(6/192)
إنما قتله من أجل جمله وغنمه فذلك حين يقول: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فلما بلغ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يقول: فتاب اللَّه عليكم. فحلف أسامة أن لا يقاتل رجلا يقول لا إله إلا اللَّه بعد ذلك وما لقي من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فيه.
وروى ابن أبي حاتم رضي اللَّه تعالى عنهما قال: أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لأهل مرادس بديته ورد ماله إليهم.
تنبيهات
الأول: قال الحافظ ليس في قول أسامة تعشيا إلخ قد يدل على انه كان أمير الجيش كما هو ظاهر قول البخاري «باب بعث أسامة بن زيد إلى الحرقات» وقد ذكر أهل المغازي سرية غالب بن زيد وسرية غالب بن عبد اللَّه الليثي إلى الميفعة في رمضان سنة سبع وقالوا: إن أسامة قتل الرجل في هذه السرية.
قال: ثبت أن أسامة كان أمير الجيش فالذي صنعه البخاري هو الصواب، لأنه ما أمر إلا بعد قتل أبيه بغزوة مؤتة وذلك في رجب سنة ثمان، وإن لم يثبت أنه كان أميرها رجح ما قاله أهل المغازي.
وقال في موضع آخر: هذه السرية يقال لها سرية غالب بن عبيد اللَّه، وكانت في رمضان سنة سبع فيما ذكره ابن سعد عن شيخه، وكذا ذكره ابن إسحاق في المغازي، قال: حدثني شيخ من أسلم عن رجال من قومه قالوا: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غالب بن عبيد اللَّه إلى أرض بني مرة وبها مرداس بن نهيك حليف لهم من بني الحرقة فقتله أسامة فهذا يبيّن السبب في قول أسامة «بعثنا إلى الحرقات [من جهينة والذي يظهر أن قصة الذي قتل ثم مات فدفن ولفظته الأرض غير قصة أسامة لأنه عاش بعد ذلك دهرا طويلا] وترجم البخاري في المغازي «باب بعث النبي صلى اللَّه عليه وسلم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة» فجرى الداودي في شرحه على ظاهره فقال فيه «تأمير من لم يبلغ» وتعقب من وجهين: أحدهما أنه ليس فيه تصريح بأن أسامة كان الأمير إذ يحتمل أن يكون جعل الترجمة باسمه لكونه وقعت له تلك الواقعة لا لكونه كان الأمير إلخ ما ذكره الحافظ قد قال بعض الشراح الصحيح ما ذكره أهل المغازي مخالفا لظاهر ترجمة البخاري أن أميرها أسامة ولعل المصير إلى ما في البخاري فهو الراجح بل الصواب انتهى.
وروى ابن جرير عن السدي قال بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد فذكر القصة وروى ابن سعد عن جعفر بن برقان قال حدثنا الحضرمي رجل من أهل اليمامة قال بلغني أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث أسامة بن زيد على جيش فذكر القصة.(6/193)
الثاني: قال النووي الفاعل في قوله: «أقالها» هو القلب ومعناه: أنك إنما كلفت العمل بالظاهر وما ينطق به اللسان وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه، فأنكر عليه العمل بما ظهر من اللسان فقال: «أفلا شققت عن قلبه لتنظر هل كانت فيه حين قالها واعتقدها أولاد» والمعنى أنك إذا كنت لست قادرا على ذلك فاكتف منه باللسان.
الثالث: قال الخطابي لعل أسامة تأوّل قوله تعالى: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ولذلك عذره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلم يلزمه دية ولا غيرها.
وقال الحافظ: لعله حمل نص النفع على عمومه دنيا وأخرى، وليس ذلك المراد للفرق بين المقامين أنه في مثل تلك الحالة ينفعه نفعا مقيدا بأن يجب الكف عنه حتى يختبر أمره هل قال ذلك خالصا من قلبه أو خشية من القتل، وهذا الخلاف ما لو هجم عليه الموت [ووصل خروج الروح إلى الغرغرة، وانكشف الغطاء فإنه إذا قالها لم تنفعه بالنسبة لحكم الآخرة] وهو المراد من الآية.
الرابع: قول الخطابي: لم يلزمه دية ولا كفارة فتوقف فيه الداودي وقال: لعله سكت عنه لعلم السامع أو كان قبل نزول آية الدية والكفارة.
وقال القرطبي: لا يلزم من السكوت عدم الوقوع، لكن فيه بعد، لأن العادة جرت بعدم السكوت عن مثل ذلك إن وقع قال فيحتمل أنه لم يجب عليه شيء، لأنه كان مأذونا من أجل القتل فلا يضمن ما أتلفه من نفس ولا مال كالخائن والطبيب، ولأن المقتول كان من العدو ولم يكن له ولي من المسلمين يستحق ديته.
قال وهذا يتمشى على بعض الآراء إلخ ما ذكره وتقدم عن ابن عباس أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أمر لأهل مرداس بدية.
الخامس: قول أسامة: «حتى تمنيت أني لم أكن أسلم قبل ذلك اليوم» أي أن إسلامي كان ذلك اليوم، لأن الإسلام يجبّ ما قبله فتمنى أن يكون ذلك الوقت أول دخوله في الإسلام ليأمن من جريرة تلك الفعلة ولم يرد به تمنى أنه لا يكون مسلما قبل ذلك قال القرطبي وفيه إشعار بأنه كان استصغر ما سبق له قبل ذلك من عمل صالح في مقابلة هذه الفعلة لما سمع من الإنكار الشديد، وإنما أورد ذلك على سبيل المبالغة.
السادس: في بيان غريب ما سبق:
الحرقات: بضم الحاء المهملة وفتح الراء والقاف والفوقية بطن من جهينة نسبة إلى الحرقة واسمه جهيش بن عامر بن ثعلبة بن مودعة الحضرمي بن جهينة قال ابن الكلبي: سمي بذلك لوقعة كانت بينهم وبين مرة بن عوف بن سعد فأحرقوهم بالسهام لكثرة من حرقوا منهم.(6/194)
برقان: بضم الموحدة وسكون الراء وبالقاف.
الحضرمي: بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وفتح الراء.
صبحنا القوم: هجمنا عليهم صباحا قبل أن يشعروا بنا.
مرداس: بكسر الميم.
نهيك: بفتح النون وكسر الهاء وسكون التحتية وهذا القول جرى عليه ابن الكلبي وجزم به ابن بشكول، قال ابن عبد البر: مرداس بن عمرو الفدكي وبه جزم أبو الفضل بن طاهر.
حاميتهم: ناصرهم ومانعهم.
فغشينا: بفتح الغين وكسر الشين المعجمتين: لحقنا به حتى تغطى بنا.
«أنا ورجل من الأنصار» قال الحافظ: لم أقف على اسم الأنصاري.
غنيمة له: بالتصغير.
آوى: لجأ الكهف.
انظرني: أخرني.(6/195)
الباب الثاني والخمسون في سرية خالد بن الوليد رضي اللَّه تعالى عنه إلى العزّى
قال ابن سعد: ثم سرية خالد بن الوليد إلى العزّى لخمس ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان، وكانت بيتا بنخلة. قال ابن إسحاق وابن سعد: وكان سدنتها وحجّابها بني شيبان من بني سليم حلفاء بني هاشم، وكانت أعظم أصنام قريش وجميع كنانة. وذلك أن عمرو بن لحيّ كان قد أخبرهم أن الرّبّ يشتّي بالطائف عند اللات ويصيّف عند العزّى، فعظّموها وبنوا لها بيتا وكانوا يهدون إليها كما يهدون للكعبة. وروى البيهقي عن أبي الطفيل رضي اللَّه تعالى عنه: وكانت بيتا على ثلاث سمرات، انتهى.
قال محمد بن عمر، وابن سعد: وبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوم فتح مكة خالد بن الوليد إلى العزّى ليهدمها. فخرج في ثلاثين فارسا من أصحابه. قال ابن إسحاق: فلما سمع سادتها السّلمي بسير خالد إليها علّق عليها سيفه وأسند في الجبل الذي هي فيه وهو يقول:
يا عزّ شدّي شدّة لا شوى لها ... على خالد القي القناع وشمّري
يا عزّ إن لم تقتلي المرء خالدا ... فبوئي بإثم عاجل أو تنصري
قال أبو الطّفيل، ومحمد بن عمر، وابن سعد: فأتاها خالد فقطع السّمرات وهدمها ثم رجع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخبره، فقال: «هل رأيت شيئا؟» قال: لا. قال: «فإنك لم تهدمها، فارجع إليها فاهدمها» . فرجع خالد وهو متغيّظ.
فلما رأيت السدنة خالدا انبعثوا في الجبل وهم يقولون: يا عزّى خبليه، يا عزّى عوّريه ولا تموتي برغم، فخرجت إليه [امرأة عجوز] سوداء عريانة ثائرة الرأس، زاد أبو الطفيل: تحثوا التراب على رأسها ووجهها. فضربها خالد وهو يقول:
يا عزّ كفر انك لا سبحانك ... إني رأيت اللَّه قد أهانك
فجزّ لها اثنتين، ثم رجع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخبره فقال: «نعم، تلك العزّى قد يئست أن تعبد ببلادكم أبدا» [ (1) ] .
تنبيهان
الأول: ذكر ابن إسحاق ومن تابعه هذه السرية بعد سرية خالد إلى بني جذيمة، وذكرها محمد بن عمر، وابن سعد، والبلاذري، وجرى عليه في المورد والعيون، وجزم به في الإشارة قبلها. وارتضاه في الزّهر وقال إن في الأول نظر من حيث أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان قد وجد على خالد في أمر بني جذيمة ولا يتّجه إرساله بعد ذلك في بعث. والذي ذكره غير واحد،
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 110- 111.(6/196)
منهم الواقدي وتلميذه محمد بن سعد أن سرية خالد إلى العزّى كانت لخمس ليال من شهر رمضان، وسرية خالد إلى بني جذيمة كانت في شوال سنة ثمان قلت إن صح ما ذكره ابن إسحاق من كون سرية خالد لهدم العزّى بعد سرية بني جذيمة فوجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي عليه وعذره في اجتهاده.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
العزّى: بضم العين المهملة وفتح الزاي.
نخلة: بلفظ الشجرة.
السّدنة: بفتح السين والدال المهملتين وبالنون: الخدمة.
الحجّاب: البوّابون.
شيبان: بفتح الشين المعجمة وسكون التحتية.
سليم: بضم السين المهملة وفتح اللام.
كنانة: بكسر الكاف.
لحيّ: بضم اللام وفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية.
يشتّي: بضم التحتية وفتح الشين المعجمة والفوقية المشددة.
السّمرات: بفتح السين المهملة وضم الميم جمع سمرة بفتح السين وضم الميم وفتح الراء وتاء التأنيث.
أسند في الجبل: ارتفع.
لا شوى لها: لا بقيا لها.
القناع: بكسر القاف.
باء: رجع.
انبعثوا: ذهبوا.
خبّليه: الخبال بالفتح الجنون والفساد، وأصله من النّقصان، ثم صار الهلاك خبالا.
الرغم: يقال رغم أنفه بفتح الراء وكسرها رغما، لصق بالرّغام بالفتح وهو التراب ذلا.
جزّلها: بفتح الجيم والزاي المشددة: قطعها.
أن تعبد: بالبناء للمفعول.(6/197)
الباب الثالث والخمسون في سرية عمرو بن العاص رضي اللَّه تعالى عنه لهدم سواع في شهر رمضان سنة ثمان في غزوة الفتح.
قال محمد بن عمر، وابن سعد: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم عمرو بن العاص إلى سواع صنم هذيل بن مدركة، وكان على صورة امرأة ليهدمه. قال عمرو: فانتهيت إليه وعنده السّادن.
فقال: ما تريد؟ فقلت: أمرني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن أهدمه. قال: لا تقدر على ذلك. قلت: لم؟
قال: تمنع. قلت: حتى الآن أنت على الباطل ويحك، وهل يسمع أو يبصر؟ قال: فدنوت منه فكسرته، وأمرت أصحابه فهدموا بيت خزانته فلم نجد فيه شيئا. ثم قلت للسادن كيف رأيت؟
قال: أسلمت للَّه تعالى.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
سواع: بسين مضمومة وعين مهملتين بينهما ألف سمي سواع بن شيث بن آدم صلى اللَّه عليه وسلم.
قال الجوهري [وسواع اسم صنم] كان لقوم نوح عليه السلام ثم صار لهذيل كان برهاط- بضم الراء قرية جامعة على ثلاثة أميال من مكة ساحل البحر- يحجّون إليه.
هذيل: بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية وباللام.
السّادن: بسين ودال مكسورة مهملتين وبالنون الخادم.
الخزانة: بكسر الخاء المعجمة.(6/198)
الباب الرابع والخمسون في سرية سعد بن زيد الأشهلي رضي اللَّه تعالى عنه إلى مناة وهو بالمشلل لست بقين من رمضان سنة ثمان في فتح مكة
قالوا: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين فتح مكة سعد بن زيد الأشهلي إلى مناة وكانت [بالمشلّل] للأوس والخزرج وغسّان. فلما كان يوم الفتح بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سعد بن زيد الأشهلي لهدمها فخرج في عشرين فارسا حتى انتهى إليها وعليها سادن. فقال السّادن: ما تريد؟ قال: هدم مناة. قال: أنت وذاك. فأقبل سعد يمشي إليها وتخرج إليه امرأة عريانة سوداء ثائرة الرأس تدعو بالويل وتضرب صدرها. فقال السادن: مناة دونك بعض غضباتك ويضربها سعد بن زيد الأشهلي فقتلها. ويقبل إلى الصنم معه أصحابه فهدموه. ولم يجد في خزانتها شيئا وانصرف راجعا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الأشهلي: بالشين المعجمة والهاء واللام والتحتية.
مناة: بفتح الميم.
المشلّل: بضم الميم وفتح الشين المعجمة فلام مفتوحة مشددة ثم لام أخرى: من ناحية البحر وهو الجبل الذي يهبط منه إلى قديد.
ثائرة: بثاء مثلثة أي منتشرة الشّعر.
السادن: الخادم.(6/199)
الباب الخامس والخمسون في بعثة صلّى اللَّه عليه وسلم خالد بن الوليد رضي اللَّه تعالى عنه إلى بني جذيمة من كنانة وكانوا أسفل مكة على ليلة بناحية يلملم في شوال سنة ثمان وهو يوم الغميصاء وذلك في غزوة الفتح.
روى ابن إسحاق عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي اللَّه عنهم، ومحمد ابن عمر عن ابن سعد قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خالد بن الوليد- حين افتتح مكة- داعيا ولم يبعثه مقاتلا، وبعث معه ثلاثمائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار [ومعه قبائل من العرب] سليم بن منصور، ومدلج بن مرّة فوطئوا بني جذيمة [بن عامر بن عبد مناة بن كنانة] فلما رآه القوم أخذوا السلاح فقال خالد: ما أنتم؟ قالوا: مسلمون قد صلّينا وصدّقنا وبنينا المساجد في ساحاتنا وأذّنّا فيها. قال: فما بال السلاح عليكم؟ قالوا: «إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا السلاح» . فقال خالد: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا. فقال رجل من بني جذيمة يقال له جحدم: «ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد، واللَّه ما بعد وضع السلاح إلا الإسار وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق، واللَّه لا أصنع سلاحي أبدا» أفأخذه رجال من قومه فقالوا: «يا جحدم أتريد أن تسفك دماءنا إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب أوزارها وأمن الناس» . فلم يزالوا به حتى نزعوا سلاحه ووضع القوم السلاح لقول خالد.
وروى الإمام أحمد، والبخاري والنسائي عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث خالدا إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره حتى إذا كان يوم «أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره» . قال ابن عمر: «فقلت واللَّه لا أقتل أسيري ولا يقتل أحد أمن أصحابي أسيره» . قال أبو جعفر محمد بن علي رضي اللَّه عنهم: فلما وضعوا السلاح أمرهم خالد عند ذلك فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم. وعند ابن سعد أنهم لما وضعوا السلاح قال لهم: استأسروا فاستأسر القوم فأمر بعضهم فكتف بعضا وفرّقهم في أصحابه. فلما كان السّحر نادى خالد: من كان معه أسير فليدافّه والمدافّة الإجهاز عليه بالسيف. فأما بنو سليم فقتلوا من كان في أيديهم. وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أساراهم.
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أنه حدث عن إبراهيم بن جعفر المحمودي قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «رأيت كأني لقيت لقمة من حيس فالتذذت طعمها فاعترض في حلقي منها شيء حين ابتلعتها فأدخل عليّ يده فنزعه» .
فقال أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه:(6/200)
يا رسول اللَّه هذه سرية من سراياك تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحب ويكون في بعضها اعتراض فتبعث عليا فيسهّله.
قال ابن إسحاق: ولما أبي جحدم ما صنع خالد قال: يا بني جذيمة ضاع الضّرب قد كنت حذرتكم ما وقعتم فيه.
قال وحدثني أهل العلم أنه انفلت رجل من القوم فأتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخبره الخبر فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «هل أنكر عليه أحد؟» قال: نعم قد أنكر عليه رجل أبيض ربعة فنهمه خالد فسكت عنه، وأنكر عليه رجل آخر طويل مضطرب فراعه فاشتدت مراجعتهما. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول اللَّه: أما الأول فابني عبد اللَّه وأما الآخر فسالم مولى أبي حذيفة.
قال عبد اللَّه بن عمر في حديثه السابق: «فلما قدمنا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ذكرنا ذلك له فرفع يديه وقال: «اللهم إني أبرأ إليك ممّا يصنع خالد» . مرتين رواه الإمام أحمد والبخاري والنسائي.
قال أبو جعفر محمد بن علي رضي اللَّه عنهم: فدعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم علي ابن أبي طالب رضوان اللَّه عليه فقال: «يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك» . فخرج عليّ حتى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فودى لهم الدماء وما أصيب لهم من الأموال حتى إنه لودى لهم ميلغة الكلب، حتى إذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلا وداه بقيت معه بقيّة من المال، فقال لهم عليّ حين فرغ منهم: «هل بقي لكم مال لم يؤدّ إليكم؟» قالوا: لا. قال: فإني أعطيكم من هذه البقية من هذا المال احتياطا لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مما لا يعلم ومما لا تعلمون» . ففعل ثم رجع إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخبره الخبر فقال: «أصبت وأحسنت» . ثم قام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فاستقبل القبلة شاهرا يديه حتى إنه ليرى ما تحت منكبيه يقول: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد» [ (1) ] . ثلاث مرات.
وروى ابن إسحاق عن ابن أبي حدرد الأسلمي، وابن سعد عن عبد اللَّه بن عصام [المزني] عن أبيه، والنسائي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهم قال ابن أبي حدرد: كنت يومئذ في خيل خالد بن الوليد. وقال عصام: لحقنا رجلا فقلنا له: كافر أو مسلم؟ فقال: إن كنت كافرا فمه؟ قلنا له: إن كنت كافرا قتلناك. قال: دعوني أقضي إلى النسوان حاجة. وقال ابن عباس:
فقال إني لست منهم إني عشقت امرأة فلحقتها فدعوني انظر إليها نظرة ثم اصنعوا بي ما بدا لكم. وقال ابن أبي حدرد: فقال فتى من بني جذيمة- وهو في سنّي وقد جمعت يداه إلى عنقه برمّة ونسوة مجتمعات غير بعيد منه- يا فتى. فقلت ما تشاء؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرّمّة فقائدي إلى هؤلاء النسوة حتى أقضي إليهن حاجة، ثم تردّني بعد فتصنعوا بي ما بدا لكم؟
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 4/ 122 والنسائي 8/ 237 وأحمد في المسند 2/ 151 والبيهقي في السنن 9/ 115.(6/201)
قال: قلت: واللَّه ليسير ما طلبت. فأخذت برمّته فقدته بها حتى أوقفته عليهن. قال عصام: فدنا إلى امرأة منهن. وقال: [سفيان] فإذا امرأة كثيرة النّحض- يعني اللحم-. وقال ابن عباس: فإذا امرأة طويلة أدماء فقال: اسلمي حبيش على نفد من العيش
أريتك إذ طالبتكم فوجدتكم ... بحلية أو ألفيتكم بالخوانق
ألم يك أهلا أن ينوّل عاشق ... تكلّف إدلاج السّرى والودائق
فلا ذنب لي قد قلت إذ أهلنا معا ... أثيبي بودّ قبل إحدى الصّفائق
أثيبي بودّ أن يشحط النّوى ... وينأى لأمر بالحبيب المفارق
زاد ابن إسحاق، ومحمد بن عمر رحمها اللَّه تعالى:
فإنّي لا ضيّعت سرّ أمانة ... ولا راق عيني عنك بعدك رائق
سوى أنّ ما نال العشيرة شاغل ... عن الود إلا أن يكون التّوامق
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر البيتين الأخيرين منها له. انتهى. ولفظ حديث ابن عباس: أما كان حقا أن ينوّل عاشق، أو أدركتكم بالخوانق. فقالت: نعم وأنت فحيّت سبعا وعشرا وترا وثمانيا تترى. قال ابن أبي حدرد: ثم انصرفت به فضربت عنقه. وقال عصام: فقرّبناه فضربنا عنقه، فقامت المرأة إليه حين ضربت عنقه فأكبّت عليه فما زالت تقبّله حتى ماتت عليه.
وقال ابن عباس: فشهقت شهقة أو شهقتين ثم ماتت، فلما قدموا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أخبره الخبر فقال: «أما كان فيكم رجل رحيم» [ (1) ] .
ذكر رجوع خالد بن الوليد إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وإنكار عبد الرحمن بن عوف على خالد بن الوليد رضي اللَّه عنهما.
روى محمد بن عمر، وأبو النيسابوري في الشرف، والحاكم في الإكليل، وابن عساكر عن سلمة بن الأكوع رضي اللَّه عنه قال: قدم خالد بن الوليد على النبي صلى اللَّه عليه وسلم بعد ما صنع ببني جذيمة ما صنع وقد عاب عبد الرحمن بن عوف على خالد ما صنع. قال: يا خالد، أخذت بأمر الجاهلية في الإسلام، قتلتهم بعمك الفاكه. وأعانه عمر بن الخطاب على خالد، فقال خالد:
أخذتهم بقتل أبيك، وفي لفظ: فقال: إنما ثأرت بأبيك. فقال عبد الرحمن: كذبت واللَّه لقد قتلت قاتل أبي، وأشهدت على قتله عثمان بن عفان. ثم التفت إلى عثمان فقال: أنشدك اللَّه هل علمت أني قتلت قاتل أبي؟ فقال عثمان: اللهم نعم. ثم قال عبد الرحمن: ويحك يا خالد ولو لم أقتل قاتل أبي أكنت تقتل قوما مسلمين بأبي في الجاهلية؟ قال خالد: ومن أخبرك أنهم
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 118 والطبراني في الكبير 11/ 370.(6/202)
أسلموا؟ فقال: أهل السّريّة كلهم يخبرونا أنك قد وجدتهم بنوا المساجد وأقرّوا بالإسلام، ثم حملتهم على السيف. قال: جاءني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إن أغير عليهم. وعند ابن إسحاق [وقد قال بعض من يعذر خالدا أنه] قال: ما قاتلت حتى أمرني بذلك عبد اللَّه بن حذافة السّهمي وقال أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قد أمرك أن تقاتلهم لامتناعهم عن الإسلام، انتهى. فقال عبد الرحمن: كذبت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وغالظ عبد الرحمن
قال ابن إسحاق: فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم انتهى.
فأعرض رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن خالد وغضب عليه وقال: «يا خالد ذر لي أصحابي، متى ينكأ المرء ينكأ المرء ولو كان لك أحد ذهبا تنفقه قيراطا قيراطا في سبيل اللَّه لم تدرك غدوة أو روحة من غدوات أو روحات عبد الرحمن» [ (1) ] .
وعند ابن إسحاق: غدوة رجل من أصحابي.
وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري- بالخاء المعجمة المضمومة وسكون الدال المهملة- رضي اللَّه عنه قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء فسبّه خالد، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لا تسبّوا أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» [ (2) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
جذيمة: بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة وبالتحتية.
كنانة: بكسر الكاف ونونين فتاء تأنيث.
يلملم: بفتح التحتية واللامين وإسكان الميم بينهما وبالميم في آخره.
الغميصاء: بضم الغين المعجمة وفتح الميم وسكون التحتية وبالصاد المهملة. موضع في بادية العرب قرب مكة كان يسكنه بنو جذيمة بن عامر.
سليم: بضم السين المهملة وفتح اللام.
مدلج: بضم الميم وسكون الدال المهملة وكسر اللام وبالجيم.
ما أنتم: قال في النهر: الظاهر أنه سألهم عن صفتهم: أي مسلمون أنتم أم كفّار؟ ولهذا أتى بما، ولو أراد غير ذلك لقال: من أنتم؟ وإنه استعمل «ما» فيمن يعقل وهو شائع.
جحدم: بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة وبالدال [المهملة] .
الإسار: بكسر الهمزة وهو القيد.
وضعت الحرب أوزارها: كناية عن الانقضاء، والمعنى على حذف مضاف، والتقدير
__________
[ (1) ] أخرجه ابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 5/ 103 وذكره المتقي الهندي في الكنز (33497) .
[ (2) ] أخرجه البخاري في كتاب المناقب (3673) وأحمد في المسند 3/ 11 والبيهقي في السنن 1/ 203.(6/203)
حتى تضع الحرب أثقالها، فأسند الفعل إلى الحرب مجازا وسمّى السلاح وزرا لثقله على لابسه.
صبأنا: من دين إلى دين يصبأ مهموز بفتحتين: خرج، فهو صابئ، وأرادوا هنا دخلنا في دين محمد.
كتف بعضهم بعضا.
عرضهم على السيف: قتلهم.
الدّفّ: بالدال المهملة وتعجم وبالفاء المشددة: الإجهاز على الأسير- بكسر الهمزة وسكون الجيم وبالزاي- الإسراع في قتله.
الحيس: خلط الأقط بالتمر والسّمن يعجن حتى يندر النوى منه وربما يجعل فيه السّويق، والأقط شيء يعقد من اللّبن.
الرّبعة من الرجال: بفتح الراء وسكون الموحدة وتفتح: المعتدل أي بين الطول والقصر.
نهمه: بنون مفتوحة فهاء فميم: زجره.
اجعل أمر الجاهلية تحت قدميك: ودى لهم قتلاهم: أعطاهم ديات قتلاهم لأنهم قتلوا خطأ.
ميلغة الكلب: بميم مفتوحة فتحتية ساكنة فلام فغين معجمة: شيء يحفر من خشب ويجعل فيه الماء ليلغ الكلب فيه أي يشرب.
المنكب: كمسجد مجتمع رأس العضد والكتف.
أبو حدرد: بمهملات كجعفر.
مه: اسم فعل بمعنى اكفف.
ما بدا له: بغير همز: ظهر.
الرّمّة: بضم الراء وفتح الميم المشدّدة: قطعة حبل بالية والجمع رمم ورمام وأصله أن رجلا دفع إلى رجل بحبل في عنقه فقيل لكل من دفع شيئا بجملته دفعه برمّته.
النّحض [المكتنز من] اللحم.
أدماء: بدال مهملة وبالمدّ. سمراء.
اسلمي: دعا لها بالسلامة.
حبيش: بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالشين المعجمة ترخيم(6/204)
حبشيّة.
النّفد: والنّفاد مصدر نفد الشيء كسمع نفادا ونفدا فني وذهب، وقال في الإملاء: على أنفد عيش، يريد على تمامه.
حلية: بحاء مهملة مفتوحة فلام ساكنة فمثناة تحتية فتاء تأنيث قال في الصحاح مأسدة بناحية اليمن.
الخوانق: بفتح الخاء المعجمة وتخفيف الواو وبعد الألف نون مكسورة وبالقاف: قال نصر: موضع عند طرف أجأ ملتقى الرمل والجلد.
الإدلاج: سير الليل.
السّرى: بضم السين المهملة وفتح الراء جمع سرية بضم السين وفتحها: الذهاب في الليل.
الودائق: جمع وديقة بفتح الواو وكسر الدال المهملة وسكون التحتية وبالقاف وتاء التأنيث: وهي شدة الحر في الظهيرة.
الصّفائق: بصاد مهملة مفتوحة ففاء فألف تحتية مكسورة وبالقاف: الحالات.
الشّحط: بشين معجمة مفتوحة فحاء ساكنة فطاء مهملتين هنا البعد يقال شحط المزار.
النّوى: بفتح النون: القصد والوجه الذي ينويه المسافر من قرب أو بعد وهي مؤنثة لا غير. ينأى: يبعد.
راق: ماء الحجب كذا في نسختين من الإملاء ولم أفهمه.
التوامق: بفوقية مفتوحة فواو فألف فميم مضمومة فقاف: الحبّ.
تترى: بفوقيتين الأولى مفتوحة والثانية ساكنة أي تتوالى.
أثأر: بالهمز ويجوز تخفيفه يقال ثأرت القتيل وثأرت من باب نفع إذا قتلت قاتله.(6/205)
الباب السادس والخمسون في سرية أبي عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه إلى أوطاس بين غزوة حنين وغزوة الطائف
روى الجماعة عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه، وابن إسحاق عن رجاله عن سلمة بن الأكوع، وابن هشام عمّن يثق به من أهل العلم، ومحمد بن عمر، وابن سعد عن رجالهم أن هوازن لما انهزموا يوم حنين ذهبت فرقة منهم فيهم رئيسهم مالك بن عوف النصري فلجأوا إلى الطائف فتحصنوا وصارت فرقة فعسكروا بمكان يقال له أوطاس: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه، سرية وأمر عليهم أبا عامر الأشعري رضي الله تعالى عنه. ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه الكريمة إلى الطائف فحاصرها، وتقدم ذلك في غزوة الطائف. قال أبو موسى رضي الله تعالى عنه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عامر الأشعري على جيش إلى أوطاس فلقي دريد بن الصّمّة، فقتل دريد وهزم الله تعالى أصحابه.
قال أبو موسى بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي عامر، قال سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه، وابن هشام رحمه الله تعالى: لما نزلت هوازن عسكروا بأوطاس عسكرا عظيما وقد تفرّق منهم من تفرّق وقتل من قتل وأسر من أسر فانتهينا إلى عسكرهم، فإذا هم ممتنعون، فبرز رجل معلم يبحث للقتال: فبرز له أبو عامر فدعاه إلى الإسلام ويقول اللهم اشهد عليه فقال الرجل: اللهم لا تشهدوا عليّ. فكفّ عنه أبو عامر فأفلت ثم أسلم بعد حسن إسلامه فكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا رآه يقول: «هذا شريد أبي عامر» . وقال ابن هشام: ورمى أبا عامر أخوان:
العلاء وأوفى ابنا الحارث من بني جشم بن معاوية فأصاب أحدهما قلبه والآخر ركبته فقتلاه.
قال أبو موسى: رمي أبو عامر في ركبته رماه جشمي. وعند ابن عائذ، والطبراني بسند حسن عن أبي موسى رضي اللَّه تعالى عنه: قتل ابن دريد بن الصّمّة أبا عامر قال ابن إسحاق: اسمه سلمة ولم أر له إسلاما.
وفي حديث سلمة أن العاشر ضرب أبا عامر فأثبته قال سلمة: فاحتملناه وبه رمق. وقال أبو موسى: فانتهيت إلى أبي عامر فقلت له: يا أبا عامر من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى وقال:
ذاكه قاتلي الذي رماني. وفي حديث سلمة بن الأكوع أن أبا عامر أعلم أبا موسى أن قاتله صاحب العصابة الصفراء. قال أبو موسى: فقصدت له فلحقته فلما رآني ولّى فاتّبعته وجعلت أقول له: ألا تستحي ألا تثبت؟ فكفّ فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته. ثم قلت لأبي عامر: قتل اللَّه صاحبك. قال: فانزع هذا السهم فنزعته، فنزا منه الماء. فقال: يا ابن أخي أقرئ النبي صلى اللَّه عليه وسلم(6/206)
السلام وقل له استغفر لي. قال أبو موسى: واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيرا ثم مات.
وفي حديث سلمة: وأوصى أبو عامر إلى أبي موسى ودفع إليه الراية وقال: ادفع فرسي وسلاحي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقاتلهم أبو موسى حتى فتح اللَّه تعالى عليه وانهزم المشركون بأوطاس وظفر المسلمون بالغنائم والسبايا، وقتل قاتل أبي عامر وجاء بسلاحه وتركته وفرسه إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال: إن أبا عامر أمرني بذلك.
وفي حديث أبي موسى رضي اللَّه تعالى عنه: «فرجعت فدخلت على النبي صلى اللَّه عليه وسلم في بيته وهو على سرير مرمل وعليه فراش قد أثّر رمال السّرير بظهره وجنبيه فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقال: قل له: استغفر لي، فدعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: «اللهم اغفر لعبيد أبي عامر» ورأيت بياض إبطيه ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس» . فقلت: ولي فاستغفر فقال:
«اللهم اغفر لعبد اللَّه بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما» [ (1) ] .
تنبيهات
الأول: أوطاس: بفتح أوله وسكون الواو وبالطاء والسين المهملتين قال القاضي: هو واد في ديار هوازن وهو موضع قرب حنين. قال الحافظ: وهذا الذي قاله ذهب إليه بعض أهل السّير والراجح أن وادي أوطاس غير وادي حنين ويوضح ذلك ما ذكره ابن إسحاق أن الوقعة كانت في وادي حنين وأن هوازن لما انهزموا صارت طائفة منهم إلى الطائف وطائفة إلى نخلية وطائفة إلى أوطاس. قال أبو عبيد البكري رحمه اللَّه تعالى: أوطاس واد في ديار هوازن وهناك عسكروا هم وثقيف ثم التقوا بحنين.
الثاني: أبو عامر اسمه عبيد- بالتصغير- ابن سليم- بضم السين وفتح اللام- ابن حضّار- بحاء مهملة مفتوحة وتشديد الضاد المعجمة الساقطة وبعد الألف راء- ابن حرب بن عنز- بفتح العين المهملة وسكون النون وبالزاي- ابن بكر- بفتح الموحدة وسكون الكاف- ابن عامر بن عذرة- بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة- ابن وائل- بكسر التحتية- ابن ناجية- بالنون والجيم والتحتية- ابن الجماهر- بالجيم والميم وكسر الهاء- ابن الأشعر، وهو عمّ أبي موسى. وقال ابن إسحاق هو ابن عمّه. قال الحافظ: والأول أشهر.
الثالث: اختلف في اسم الجشميّ الذي رمى أبا عامر فقال ابن إسحاق: زعموا أنه سلمة بن دريد بن الصّمّة فهو الذي رمى أبا عامر بسهم فأصاب ركبته. وعند ابن عائذ،
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 4/ 41 ومسلم 4/ 1944 (165- 2498) .(6/207)
والطبراني في الأوسط بسند حسن من وجه آخر عن أبي موسى الأشعري قال: لما هزم اللَّه المشركين يوم حنين بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على خيل الطلب أبا عامر الأشعري وأنا معه، فقتل ابن دريد أبا عامر فعدلت إليه فقتلته وأخذت اللواء.
الرابع: قال الحافظ في الفتح كما رأيته بخطه إن ابن إسحاق ذكر أن أبا عامر لقي يوم أوطاس عشرة إخوة فقتلهم واحدا واحدا حتى كان العاشر، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول: اللهم اشهد عليه فقال الرجل: اللهم لا تشهد عليّ. فكفّ عنه أبو عامر ظنّا منه أنه أسلم، فقتله العاشر ثم أسلم بعد، فحسن إسلامه فكأن النبي صلى اللَّه عليه وسلم يسميه: «شهيد أبي عامر» . ثم قال الحافظ: وهذا مخالف لحديث الصحيح في أن أبا موسى قتل قاتل أبي عامر، وما في الصحيح أولى بالقبول، ولعل الذي ذكره ابن إسحاق شرك في قتله. قلت: وما نقله الحافظ عن ابن إسحاق ليس في رواية البكّائي، وإنما زاده ابن هشام عن بعض من يثق به ولم يذكر أن العاشر قتل أبا عامر أصلا بل قال: ورمى أبا عامر أخوان: العلاء وأوفى ابنا الحارث بن جشم بن معاوية فأصاب أحدهما قلبه والآخر ركبته فقتلاه. ثم ظهر لي أن الحافظ لم يراجع السيرة وإنما قلّد القطب في المورد فإنه ذكره كذلك. وجزم محمد بن عمر، وابن سعد بأن العاشر لم يسّلم وأنه قتل أبا عامر وتقدم ذلك في القصة. وفي خط الحافظ «شهيد» بلفظ شهيد المعركة والذي رأيته في نسخ السّيرة «الشريد» بعد الشين المعجمة راء فتحتية فدال مهملة.
الخامس: قول ابن هشام: «وولّى الناس أبا موسى» يخالفه ما تقدم في القصة عن أبي موسى كما في الصحيح أن أبا عامر استخلفه، وكذا في حديث سلمة بن الأكوع وبه جزم ابن سعد.
السادس: في بيان غريب ما سبق:
مالك بن عوف: بالفاء.
النضري: بالنون والضاد المعجمة.
عسكروا: اجتمعوا.
دريد: بمهملات تصغير أدرد.
الصّمّة: بكسر الصاد المهملة وتشديد الميم.
قتل: بالبناء للمفعول.
برز رجل: ظهر.(6/208)
الشديد: الطويل.
العلاء: بفتح العين.
وأوفى: لم أر لهما إسلاما.
جشم: بضم الجيم وفتح الشين المعجمة.
فأثبته: بقطع الهمزة أي أثبت السّهم.
الرّمق: بفتحتين وبالقاف: بقية الحياة. اختلفا ضربتين: ضرب كل واحد منهما الآخر في غير الموضع الذي ضرب فيه.
تستحي: بكسر الحاء المهملة، وفي رواية تستحيي بسكونها وزيادة تحتية مسكورة: أي خجل.
نزا منه الدم: سال.
وقل له استغفر لي: بلفظ الطلب يعني أن أبا عامر سأل أبا موسى أن يسأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن يستغفر له.
سرير مرمل: بضم الميم الأولى وفتح الثانية بينهما راء ساكنة، وفي رواية بفتح الراء والميم الثانية مشدّدة أي منسوج بحبل ونحوه وهي حبال الحصر التي يضفّر بها الأسرّة.
وعليه فراش: نقل السفاقسي عن أبي الحسن وأظنه ابن بطّال أو القابسي أنه قال: الذي أحفظه في هذا: ما عليه فراش، قال إن «ما» سقطت هنا وقال ابن التين: أنكر قوله: «وعليه فراش» أبو الحسن وقال الصواب: «ما عليه فراش» . قال الحافظ: وهو إنكار عجيب فلا يلزم من كونه رقد على غير فراش كما في قصة عمر أنه لا يكون على سريره دائما فراش. قلت ويؤيد قول أبي الحسن قول أبي موسى: قد أثّر رمال السرير بظهره وجنبيه. واللَّه تعالى أعلم.
مدخلا: بضم الميم وفتحها وكلاهما بمعنى المكان والمصدر.
كريما: حسنا.(6/209)
الباب السابع والخمسون في سرية الطّفيل بن عمرو [الدوسي] رضي اللَّه تعالى عنه إلى ذي الكفين في شوال سنة ثمان.
قال ابن سعد: قالوا لما أراد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم المسير إلى الطائف بعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفّين صنم من خشب كان لعمرو بن حممة الدوسي، يهدمه، وامره أن يستمد قومه ويوافيه بالطائف، فخرج سريعا إلى قرية فهدم ذا الكفين وجعل يحيي النار في وجهه ويحرقه ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبّادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النّار في فؤادكا
وانحدر معه من قومه أربعمائة سراعا فوافوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالطائف بعد مقدمه بأربعة أيام وقدم بدبّابة ومنجنيق وقال: «يا معشر الأزد من يحمل رايتكم؟» فقال الطفيل: من كان يحملها في الجاهلية النعمان بن الرّازية اللهي. قال: «أصبتم» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الطّفيل: بضم الطاء وفتح الفاء وسكون التحتية.
ذو الكفّين: بلفظ تثنية كفّ الإنسان وخفّف في العشر للوزن.
حممة: بضم الحاء المهملة وفتح الميمين.
الدوسي: بفتح الدال وسكون الواو وبالسين المهملتين.
الدّبّابة: بدال مهملة مفتوحة فموحدة مشددة فألف فموحدة فتاء تأنيث: آلة من آلات الحرب يدخل فيها الرجال فيدبّون بها إلى الأسوار لينقبوها.
الأزد: بفتح أوله وسكون الزاي.
الرازية: براء فألف فزاي مكسورة فتحتية.
اللهبي: بفتح اللام(6/210)
الباب الثامن والخمسون في سرية قيس بن سعد بن عبادة رضي اللَّه تعالى عنهما لصداء ناحية اليمن
قال ابن إسحاق لما رجع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من الجعرانة سنة ثمان بعث قيس بن سعد بن عبادة إلى ناحية اليمن وأمره أن يطأ صداء، فعسكر بناحية قناة في أربعمائة من المسلمين. فقدم رجل من صداء فسأل عن ذلك البعث فأخبر به فجاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: «يا رسول اللَّه جئتك وافدا على من ورائي فاردد الجيش فأنا لك بقومي» . فردّهم من قناة وخرج الصدائي إلى قومه، فقدم منهم بعد ذلك خمسة عشر [رجلا] فأسلموا. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إنك مطاع في قومك يا أخا صداء» . فقال: بل اللَّه هداهم. ثم وافاه في حجة الوداع بمائة منهم.
وهذا الرجل هو الذي أمره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في سفر أن يؤذّن ثم جاء بلال ليقيم فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إن أخا صداء هذا أذّن ومن أذّن فهو يقيم» [ (1) ] .
واسم أخا صداء هذا زياد بن الحارث، نزل مصر.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
صداء: بضم الصاد وفتح الدال المهملتين وبالمدّ: حي من العرب.
الجعرانة: بكسر الجيم وسكون العين المهملة وتخفيف الراء [أو كسر العين المهملة] وتشديد الراء.
يطأ صداء: أي يدخل أرضهم.
عسكر: جمع عسكرة.
قناة: بفتح القاف وبالنون واد بالمدينة.
أنا لك بقومي: أتكفّل لك بقومي أي بمجيئهم مسلمين وفي رواية: وأنا لك بإسلام قومي وطاعتهم.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (514) والترمذي (199) وابن ماجة (717) وابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 63 والطحاوي في معاني الآثار 1/ 142 والبيهقي في الدلائل 4/ 127.(6/211)
الباب التاسع والخمسون في سرية عيينة بن حصن الفزاري رضي اللَّه تعالى عنه إلى بني تميم في المحرم سنة تسع وكانوا فيما بين السقيا وأرض بني تميم.
وسبب ذلك أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث رجلاً من بني سعد هذيم على صدقاتهم وأمره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يأخذ العفو ويتوقّى كرائم أموالهم. فخرج بشر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب، فأمر بجمع مواشي خزاعة ليأخذ منها الصدقة، فحشرت عليهم خزاعة الصدقة في كل ناحية فاستكثرت ذلك بنو تميم فقالوا: ما لهذا يأخذ أموالكم منكم بالباطل؟ فشهروا السيوف.
فقال الخزاعيون: نحن قوم ندين بدين الإسلام وهذا أمر ديننا. فقال التميميون: لا يصل إلى بعير منها أبدا. فهرب المصدّق وقدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخبره الخبر، فوثبت خزاعة على التميميين فأخرجوهم من محالهم وقالوا: لولا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم، ليدخلنّ علينا بلاء من محمد صلى اللَّه عليه وسلم حيث تعرّضتم لرسوله تردّونه عن صدقات أموالنا فخرجوا راجعين إلى بلادهم.
فقال صلى اللَّه عليه وسلم: «من لهؤلاء القوم؟»
فانتدب أول الناس عيينة بن حصن الفزاري فبعثه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في خمسين فارسا من العرب ليس فيهم مهاجري ولا أنصاري فكان يسير الليل ويكمن النهار فهجم عليهم في صحراء قد حلّوا [بها] وسرحوا مواشيهم. فلما رأوا الجمع دلّوا. فأخذ منهم أحد عشر رجلا ووجد في المحلّة إحدى وعشرين امرأة كذا في العيون. وقال محمد بن عمر وابن سعد وتبعهما في الإشارة والمورد إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبيا. فجلبهم إلى المدينة فأمر بهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فحبسوا في دار رملة بنت الحارث. فقدم فيهم عدّة من رؤسائهم كما سيأتي في الوفود في وفد بني تميم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
هذيم: بضم الهاء وفتح الذال المعجمة وسكون التحتية.
يأخذ العفو: ما فضل عن النفقة.
كرائم أموالهم: نفائسها وخيارها.
خزاعة: أبو حيّ من الأزد سمّوا به لأنهم تخزّعوا أي تقطّعوا عن قومهم وأقاموا بمكة.
الحشر: الجمع مع سوق، والمراد هنا أنهم جمعوا ماشيتهم لتؤخذ منها الزكاة.
شهروا السيوف: أخرجوها من أغمادها.
المحلّة: بفتح الميم والحاء المهملة وتشديد اللام المفتوحة.
حبسوا: بالبناء للمفعول.
رملة بنت الحارث بلفظ واحدة الرّمل: صحابية رضي اللَّه تعالى عنها.(6/212)
الباب الستون في بعثة صلّى الله عليه وسلم عبد الله بن عوسجه رضي الله تعالى عنه إلى بني حارثة بن عمرو في صفر سنة تسع.
روى أبو سعيد النيسابوري في الشرف، وأبو نعيم في الدلائل من طريق محمد بن عمر عن شيوخه: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عوسجة [إلى بني حارثة بن عمرو] يدعوهم إلى الإسلام. فأخذوا الصحيفة فغسلوها ورقعوا بها أسفل دلوهم، وأبوا أن يجيبوا فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما لهم؟ ذهب الله بعقولهم» فهم إلى اليوم أهل رعدة وعجلة وكلام مختلط وأهل سفه. قال محمد بن عمر: قد رأيت بعضهم عييّا لا يحسن يبين الكلام.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
عوسجة: بفتح العين والسين المهملتين بينهما واو، وبالجيم.
الرّعدة: بكسر الراء اسم من رعد يرعد بضم العين، وارتعد اضطرب.
العيّ: بكسر العين المهملة عدم الإفصاح بالكلام.(6/213)
الباب الحادي والستون في سرية قطبة بن عامر بن حديدة رضي الله تعالى عنه إلى خثعم بناحية بيشة قريبا من تربة في صفر سنة تسع.
قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلا إلى [حيّ من] خثعم، قال محمد بن عمر بناحية تبالة، وقال ابن سعد بناحية بيشة. وأمره أن يشنّ الغارة عليهم، فخرجوا على عشرة أبعرة يتعقبونها. فأخذوا رجلا فسألوه فاستعجم عليهم، وجعل يصيح بالحاضر ويحذّرهم فضربوا عنه. ثم أمهلوا حتى نام الحاضر فشنّوا عليهم الغارة فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثر الجراح في الفريقين جميعا، وقتل قطبة من قتل منهم وساقوا النّعم والشّاء والنساء إلى المدينة. وجاء سيل أتيّ فحال بينهم وبينه فما يجدون إليه سبيلا. وكانت سهمانهم أربعة [أبعرة] والبعير يعدل بعشر من الغنم بعد أن أخرج الخمس.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
قطبة: بضم القاف وسكون الطاء المهملة وبالموحدة.
خثعم: بفتح الخاء المعجمة وسكون الثاء المثلثة وفتح العين المهملة.
بيشة: بكسر الموحدة وسكون التحتية وفتح الشين المعجمة وبتاء تأنيث وحكى الجوهري الهمز [بئشة [ (1) ]] .
تربة: بضم الفوقية وفتح الراء وبالموحدة وتاء تأنيث.
تبالة [ (2) ] : بفتح الفوقية وبالموحدة المخفّفة بلد باليمن حصينة.
شنّ الغارة وأشنّها فرّق الجماعة من كل وجه.
استعجم عليهم: سكت لم يعلمهم بالأمر.
الحاضر: القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه.
__________
[ (1) ] وبيشة: من عمل مكة مما يلي اليمن من مكة على خمس مراحل، وبها من النخل والفسيل شيء كثير، وفي وادي بيشة موضع مشجر كثير الأسد، قال السمهري:
وأنبئت ليلى بالغريّين سلمت ... عليّ، ودوني طخفة ورجامها
فإنّ التي أهدت، على نأي دارها، ... سلاما لمردود عليها سلامها
عديد الحصى والأثل من بطن بيشة ... وطرفائها ما دام فيها حمامها
معجم البلدان 1/ 628.
[ (2) ] تبالة بالفتح، قيل: تبالة التي جاء ذكرها في كتاب مسلم بن الحجاج: موضع ببلاد اليمن وأظنها غير تبالة الحجاج بن يوسف، فإن تبالة الحجاج بلدة مشهورة من أرض تهامة في طريق اليمن قال المهلبي: تبالة في الإقليم الثاني، عرضها تسع وعشرون درجة، وأسلم أهل تبالة وجرش من غير حرب فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيدي أهلهما على ما أسلموا عليه. معجم البلدان 1/ 11110.(6/214)
الباب الثاني والستون في سرية الضحّاك بن سفيان الكلابي رضي الله تعالى عنه إلى بني كلاب.
قال محمد بن عمر، وابن سعد سنة تسع. وقال: الحاكم في آخر سنة ثمان، وقال محمد بن عمر الأسلمي في صفر.
وقال ابن سعد في ربيع الأول وجرى عليه في المورد والإشارة.
قالوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا إلى القرطاء عليهم الضحّاك بن سفيان الكلابي ومعه الأصيد بن سلمة بن قرط، فلقوهم بالزّج زج لاوة بنجد فدعوهم إلى الإسلام فأبوا فقاتلوهم فهزموهم. فلحق الأصيد أباه سلمة، وسلمة على فرس له في غدير بالزّجّ فدعا أباه إلى الإسلام وأعطاه الأمان، فسبه وسبّ دينه، فضرب الأصيد عرقوبي فرس أبيه، فلما وقع الفرس على عرقوبيه ارتكز سلمة على رمحه في الماء، ثم استمسك به حتى جاءه أحدهم فقتل سلمة ولم يقتله ولده.
تنبيهان
الأول: يشتبه بأصيد هذا أصيد بن سلمة السلمي أسلم هو وأبوه. ولم يذكر في التجريد تبعا لخلط ابن شاهين بالأول، والصواب التفرقة كما سيأتي بيان ذلك في الوفود.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
القرطاء: بضم القاف وفتح الراء والطاء المهملة، تقدم الكلام عليها في سرية محمد بن سلمة إليها.
الأصيد: بالصاد والدال المهملتين بينهما تحتية وزن أحمد، وهو في اللغة الملك ومن رفع رأسه كبرا والأسد.
الزّجّ: بضم الزاي وتشديد الجيم كما في المراصد والصحاح والنهاية والقاموس ووقع في العيون بالزاي والخاء المعجمة وهو سبق قلم وصوابه بالزاي المعجمة والجيم.
لاوة: بفتح اللام والواو ولم أجد لها ذكرا فيما وقفت عليه من كتب الأماكن.
ارتكز على رمحه: أثبته في الأرض واستمسك به.(6/215)
الباب الثالث والستون في سرية علقمة بن مجزز المدلجي رضي الله تعالى عنه إلى الحبشة
قال ابن سعد في شهر ربيع الآخر [سنة تسع] وقال محمد بن عمر الأسلمي، والحاكم:
في صفر. قال ابن سعد: قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ناسا من الحبشة تراءاهم أهل الشعيبة في ساحل جدّة بناحية مكة في مراكب. فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن مجزّز في ثلاثمائة فانتهى إلى جزيرة في البحر، وقد خاض إليهم في البحر فهربوا منه، فلما رجع تعجّل بعض القوم إلى أهليهم فإذن لهم.
وروى ابن إسحاق عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علقمة بن مجزّز. قال أبو سعيد الخدري وأنا فيهم حتى إذا بلغنا رأس غزاتنا أو كنا ببعض الطريق أذن لطائفة من الجيش واستعمل عليهم عبد الله بن حذافة السهميّ. وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت فيه دعابة. فنزلوا ببعض الطريق وأوقدوا نارا يصطلون عليها ويصطنعون. فقال: عزمت عليكم إلا تواثبتم في هذه النار. فقام بعضهم فتحجّزوا حتى ظنّ أنهم واثبون فيها. فقال لهم: اجلسوا إنما كنت أضحك معكم. فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: «من أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه» [ (1) ] .
وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا فأغضبوه في شيء فقال: اجمعوا لي حطبا، فجمعوا له، ثم قال: أوقدوا نارا. فأوقدوا نارا ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسمعوا لي وتطيعوا؟ قالوا: بلى. قال: فادخلوها. فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنا فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار. فكان كذلك حتى سكن غضبه، وطفئت النار. فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا» . وقال: «لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف» [ (2) ] رواه الشيخان.
ورجع علقمة بن مجزّز هو وأصحابه ولم يلق كيدا.
تنبيهان
الأول: قول سيدنا علي رضي الله تعالى عنه: واستعمل عليهم رجلا من الأنصار [وهم من بعض الرواة وإنما هو سهميّ] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن ماجة 2/ 955 (2863) وابن حبان (1552) وابن سعد في الطبقات 2/ 1/ 118 وذكره السيوطي في الدر 2/ 177.
[ (2) ] أخرجه البخاري في كتاب المغازي (4340) وأحمد في المسند 1/ 124 والبيهقي في الدلائل 4/ 312 وذكره السيوطي في الدر المنثور 2/ 177.(6/216)
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
علقمة [ (1) ] : بعين مهملة فلام فقاف فميم فتاء تأنيث.
مجزز: بميم مضمومة فجيم مفتوحة فزايين معجمتين الأولى مكسورة ثقيلة.
المدلجي: نسبة إلى بني مدلج قبيلة من كنانة.
الشّعبية: بضم الشين المعجمة وفتح العين المهملة وسكون التحتية وفتح الموحدة فتاء تأنيث.
جدّة: بضم الجيم وتشديد الدال المهملة.
حذافة: بضم الحاء المهملة وبالذال المعجمة.
السهمي: بفتح السين المهملة وسكون الهاء.
الدعابة: بضم الدال وبالعين المهملتين وبالموحدة: المزاح.
عزمت عليكم: أمرتكم أمرا جدا.
تحجّزوا: شمّروا ثيابهم إلى موضع حجزهم وهو موضع معقد الإزار.
تراءاهم: نظروهم ورأوهم.
كيدا: حربا.
__________
[ (1) ] علقمة بن مجزز بجيم وزايين معجمتين الأولى مكسورة ثقيلة- ابن الأعور بن جعدة بن معاذ بن عتوارة بن عمر بن مدلج الكناني المدلجي ... انظر الإصابة 4/ 267.(6/217)
الباب الرابع والستون في سرية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إلى الفلس صنم لطي ليهدمه في شهر ربيع الآخر سنة تسع.
قالوا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في خمسين ومائة رجل أو مائتين كما ذكره ابن سعد من الأنصار على مائة بعير وخمسين فرسا، ومعه راية سوداء ولواء أبيض إلى الفلس ليهدمه فأغاروا على أحياء من العرب وشنّوا الغارة على محلّة آل حاتم مع الفجر، فهدموا الفلس وخرّبوه وملأوا أيديهم من السّبي والنّعم والشّاء وكان في السّبي سفّانة أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، ووجد في خزانة الفلس ثلاثة أسياف: رسوب والمخدم- كان الحارث بن أبي شمر قلّده إياهما- وسيف يقال له اليماني وثلاثة أدرع.
واستعمل عليّ على السّبي أبا قتادة واستعمل على الماشية والرّقة عبد الله بن عتيك. فلما نزلوا ركك اقتسموا الغنائم وعزلوا للنبي صلى الله عليه وسلم صفيا رسوبا والمخذم ثم صار له بعد السيف الآخر، وعزل الخمس، وعزل آل حاتم فلم يقسمهم حتى قدم بهم المدينة. ومرّ النبي صلى الله عليه وسلم بأخت عدي بن حاتم، فقامت إليه وكلّمته أن يمن عليها فمنّ عليها فأسلمت وخرجت إلى أخيها فأشارت عليه بالقدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم عليه. وذكر ابن سعد في الوفود أن الذي أغار وسبى ابنة حاتم خالد بن الوليد.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الفلس: بالفاء واللام والسين المهملة قال في المراصد بضم أوله وسكون ثانيه وضبطه بعضهم بالفتح وسكون اللام قلت وضبطه بعضهم بضم أوله وسكون ثانية وجزم به في العيون والمورد.
شنّ الغارة: فرّق الجيش في كل وجه.
المحلّة: بفتح الميم مكان ينزل فيه القوم.
سفّانة: بفتح السين المهملة وتشديد الفاء وبعد الألف نون مفتوحة فتاء تأنيث.
وجد: بالبناء للمفعول.
في خزانته: بكسر الخاء المعجمة.
رسوب: بفتح الراء وضم السين المهملة وسكون الواو وبالموحدة.
المخذم: بكسر الميم وسكون الخاء وبالذال المعجمتين وبالميم.(6/218)
شمر: بكسر الشين المعجمة وسكون الميم وبالراء.
الرّقة: بكسر الراء وفتح القاف المخففة وبتاء التأنيث: الفضّة والدراهم المضروبة منها.
وأصل اللفظة الورق وهي الدراهم المضروبة خاصّة فحذفت الواو وعوّض عنها بالهاء.
عتيك: بالكاف بوزن كثير.
ركك: بفتح الراء والكاف الأولى. قال في المراصد: محلّة من محال سلمى أحد جبلي طيء. وقال الأصمعي اسم ماء، ووقع في كثير من نسخ السيرة غير مصروف فكأنه أريد به اسم البقعة.(6/219)
الباب الخامس والستون في سرية عكاشة بن محصن رضي الله تعالى عنه إلى الجباب أرض عذرة وبلي في شهر ربيع الآخر سنة تسع.
كذا ذكر ابن سعد ولم يرد وتبعه في العيون والمورد.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الجباب: بكسر الجيم وبموحدتين بينهما ألف.
عذرة: بضم العين المهملة وسكون الذال المعجمة: بطن من قضاعة بضم القاف وبالضاد المعجمة والعين المهملة.
بليّ: بفتح الموحدة وكسر اللام وتشديد التحتية قبيلة من قضاعة.
الباب السادس والستون في سرية خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إلى أكيدر بن عبد الملك
روى البيهقي عن ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر، والبيهقي عن عروة بن الزبير، ومحمد بن عمر عن شيوخه قالوا: لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة من تبوك بعث خالد بن الوليد في أربعمائة وعشرين فارسا في رجب سنة تسع إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل. وكان أكيدر من كندة وكان نصرانيا. فقال خالد: كيف لي به وسط بلاد كلب وإنما أنا في أناس يسيرين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك ستجده [ليلا] يصيد البقر فتأخذه فيفتح الله لك دومة فإن ظفرت به فلا تقتله وائت به إليّ فإن أبي فاقتله» .
فخرج إليه خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة صائفة وهو على سطح له ومعه امرأته الرّباب بنت أنيف بن عامر الكنديّة. فصعد أكيدر على ظهر الحصن من الحرّ، وقينة تغنّيه، ثم دعا بشراب. فأقبلت البقر الوحشية تحكّ بقرونها باب الحصن فأشرفت امرأته فرأت البقر فقالت ما رأيت كالليلة في اللحم. قال وما ذاك، فأخبرته فأشرف عليها.
فقالت امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا. قالت: فمن يترك هذا؟ قال: لا أحد، قال أكيدر:
والله ما رأيت بقرا جاءتنا ليلة غير تلك الليلة، ولقد كنت أضمّر لها الخيل، إذا أردت أخذها شهرا، ولكن هذا بقدر. ثم ركب بالرجال وبالآلة فنزل أكيدر وأمر بفرسه فأسرج وأمر بخيله فأسرجت وركب معه نفر من أهل بيته، معه أخوه حسّان ومملوكان له، فخرجوا من حصنهم بمطاردهم. فلما فصلوا من الحصن وخيل خالد تنظر إليهم لا يصون منها فرس ولا يجول،(6/220)
فساعة فصل أخذته الخيل، فاستأثر أكيدر وامتنع حسّان وقاتل حتى قتل وهرب المملوكان ومن كان معه من أهل بيته، فدخلوا الحصن، وكان على حسّان قباء من ديباج مخصوص بالذهب، فاستلبه خالد. وقال خالد لأكيدر: هل لك أن أجبرك من القتل حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أن تفتح لي دومة؟ فقال أكيدر: نعم. فانطلق به خالد حتى أدناه من الحصن.
فنادى أكيدر أهله أن افتحوا باب الحصن، فأرادوا ذلك، فأبي عليهم مضادّ أخو أكيدر.
فقال أكيدر لخالد: تعلم والله أنهم لا يفتحون لي ما رأوني في وثاقك فخلّ عنّي فلك الله والأمانة أن أفتح لك الحصن إن أنت صالحتني على أهلي. قال خالد: فإني أصالحك فقال أكيدر إن شئت حكّمتك وإن شئت حكّمتني. فقال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت. فصالحه على ألفي بعير وثمانمائة رأس وأربعمائة درع وأربعمائة رمح، على أن ينطلق به وبأخيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكم فيهما حكمه. فلما قاضاه خالد على ذلك خلّى سبيله، ففتح باب الحصن، فدخله خالد وأوثق مضادا أخا أكيدر، وأخذ ما صالح عليه من الإبل والرقيق والسلاح. ولما ظفر خالد بأكيدر وأخيه حسّان أرسل خالد عمرو بن أمية الضّمري بشيرا وأرسل معه قباء حسّان. قال أنس وجابر: رأينا قباء حسّان أخي أكيدر حين قدم به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل المسلمون يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتعجبون من هذا؟ فو الذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنّة أحسن من هذا» [ (1) ] .
ثم إن خالدا لما قبض ما صالحه عليه أكيدر عزل للنبي صلى الله عليه وسلم صفيّة له قبل أن يقسم شيئا من الفيء، ثم خمّس الغنائم بعد. قال محمد بن عمر: كان صفيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدا أو أمة أو سيفا أو درعا أو نحو ذلك.
ثم خمّس خالد الغنائم بعد، فقسمها بين أصحابه. قال أبو سعيد الخدريّ: أصابني من السلاح درع وبيضة وأصابني عشر من الإبل. وقال واثلة بن الأسقع: أصابني ست فرائض.
وقال عبد الله بن عمرو بن عوف المازني: كنا مع خالد بن الوليد أربعين رجلا من بني مزينة وكانت سهماننا خمس فرائض لكل رجل مع سلاح يقسم علينا دروع ورماح. قال محمد بن عمر: إنما أصاب الواحد ستّا والآخر عشرا بقيمة الإبل. ثم إن خالدا توجّه قافلا إلى المدينة ومعه أكيدر ومضاد. وروى محمد بن عمر عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: رأيت أكيدر حين قدم به خالد وعليه صليب من ذهب وعليه الديباج ظاهرا.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن ماجة (157) وأحمد في المسند 3/ 209 والحديث أخرجه البخاري 10/ 303 (5836) .(6/221)
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سجد له، فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده: لا لا مرّتين. وأهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم هديّة فيها كسوة، قال ابن الأثير: وبغلة وصالحه على الجزية. قال ابن الأثير:
وبلغت جزيتهم ثلاثمائة دينار وحقن دمه ودم أخيه وخلّى سبيلهما. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا فيه أمانهم وما صالحهم عليه، ولم يكن في يد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ خاتم فختم الكتاب بظفره.
قال محمد بن عمر حدثني شيخ من أهل دومة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له هذا الكتاب: «بسم الله الرحمن الرحيم» : هذا كتاب من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها: أنّ لنا الضّاحية من الضّحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة [والسلاح] والحافر والحصن ولكم الضّامنة من النّخل والمعين من المعمور بعد الخمس ولا تعدل سارحتكم ولا تعدّ فاردتكم ولا يحظر عليكم النبات تقيمون الصلاة لوقتها وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق، ولكم بذلك الصدق والوفاء، شهد الله تبارك وتعالى ومن حضر من المسلمين» [ (1) ] .
وقال بجير بن بجرة الطائي يذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم لخالد بن الوليد: «إنك ستجده يصيد البقر» .
وما صنعت البقر تلك الليلة بباب الحصن تصديقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تبارك سائق البقرات إنّي ... رأيت الله يهدي كلّ هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك ... فإنّا قد أمرنا بالجهاد
قال البيهقي بعد أن أورد هذين البيتين من طريق ابن إسحاق وزاد غيره وليس في روايتنا:
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفضض الله فاك» [ (2) ] .
فأتى عليه تسعون سنة فما تحرّك له ضرس.
وروى ابن منده وابن السكن وأبو نعيم، كلهم عن الصحابة، عن بجير بن بجرة قال: كنت في جيش خالد بن الوليد حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أكيدر دومة فقال له: «إنك تجده يصيد البقر» . فوافقناه في ليلة مقمرة وقد خرج كما نعته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذناه فلما أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشدته أبياتا، فذكر ما سبق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يفضض الله فاك» . فأتت عليه تسعون سنة وما تحرّك له سنّ.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 54.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 251 وذكره ابن حجر في المطالب (4065) وابن كثير في البداية والنهاية 5/ 17.(6/222)
تنبيهات
الأول: أكيدر: بضم الهمزة وفتح الكاف وسكون التحتية وكسر الدال المهملة وبالراء، هو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجنّ.
الثاني:
روى البيهقي عن موسى بن بكير عن سعيد بن أوس العبسي- بالموحدة- من بلال بن يحي رحمه الله تعالى قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على المهاجرين إلى دومة الجندل، وبعث خالد بن الوليد على الأعراب معه وقال: «انطلقوا فإنكم ستجدون أكيدر دومة يقنص الوحش فخذوه أخذا وابعثوا به إليّ ولا تقتلوه وحاصروا أهلها» [ (1) ] .
الحديث ورواه ابن منده من طريق بلال بن يحيى عن حذيفة موصولا. قلت: وذكر أبي بكر في هذه السّريّة غريب جدا لم يتعرض له أحد من أئمّة المغازي التي وقفت عليها فاللَّه أعلم.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
رومان: براء مضمومة كعثمان.
قفل: بفتح القاف والفاء واللام: رجع.
دومة: بضم الدال المهملة وفتحها وسكون الواو فيهما.
الجندل: [الصّخر العظيم] .
كندة: بكاف مكسورة فميم ساكنة فدال مهملة فتاء تأنيث ويقال كنديّ لقب ثور ابن عفير، أبو حيّ من اليمن لأنه كند أباه النعمة ولحق بأخواله والكند القطع.
وسط بلاد كعب- محرّكة ما بين طرفيها فإذا سكّنت كانت ظرفا.
الرّباب: براء فموحدتين بينهما ألف: اسم امرأة لشبهها بالرّباب وهو السحاب الأبيض.
أنيف: [بضم أوله وفتح النون وسكون التحتية وبالفاء تصغير أنف] .
القينة: بقاف مفتوحة فمثناة تحتية فنون: الأمة المغنية أو أعمّ.
أضمر لها الخيل وضمّرها أن يظاهر عليها بالعلف حتى تسمن ثم لا تعلف إلا قوتا لتخف.
أسرج له: بالبناء للمفعول.
حسّان: قتل على شركه.
المطارد: بميم مفتوحة مطرد كمنبر: رمح قصير يطعن به.
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 253 والحاكم 4/ 519.(6/223)
فصل: بفتح الفاء والصاد المهملة واللام: خرج.
استأثر [أسلم نفسه أسيرا] .
المخوّص: بضم الميم وفتح الخاء المعجمة والواو المشددة وبالصاد المهملة:
المنسوج فيه الذهب وقيل فيه طريق من ذهب مثل خوص النخل.
مضادّ: [بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وبالدال المهملة المشددة بعد ألف] .
قدم به: بالبناء للمفعول.
المناديل: جمع منديل بفتح الميم وكسرها: الذي يتمسّح به.
الصّفيّ: بصاد مهملة مفتوحة ففاء، ما يختار من الغنيمة قبل القسم.
واثلة: بواو فألف فمثلثة فلا فمثناة.
الأسقع: بهمزة فسين مهملة فقاف فعين مهملة.
الفرائض: جمع فريضة وهي هنا البعير المأخوذ في الزكاة سمّي فريضة لأنه فرض واجب على ربّ المال ثم أتّسع فيه حتى سمّي البعير فريضة في غير الزكاة.
المازني: نسبة إلى مازن أبو قبيلة. ومزينة كجهينة قبيلة والنسبة إليها مزنّي.
خلع بفتحات: نزع وترك.
الأنداد: جمع ندّ وهو المثل.
الأكناف: جمع كنف وهو ما أحاط بالشيء.
الضّاحية: ما ظهر من البلاد.
الضّحل: بضاد معجمة فحاء مهملة فلام المكان الذي يقلّ به الماء.
البور: بموحدة مضمومة فواو فراء: الأرض قبل أن تصلح للزّرع أو التي تجمّ سنة لتزرع من قابل.
الحلقة: بحاء مهملة مفتوحة فلام ساكنة فقاف فتاء تأنيث: الدّرع.
الحافر: المراد به هنا الخيل.
الحصن: بحاء مكسورة فصاد ساكنة مهملتين: كل موضع حصين لا يوصل إلى جوفه.
الضّامنة من النخل ما يكون في القرية أو ما أطاف به منها سورا للمدينة.
المعين: بفتح الميم وكسر العين المهملة: الظاهر الجاري.
لا تعدل: [سارحتكم: لا تمنع من المرعى] .(6/224)
والسارحة بسين فراء فحاء مهملات: المال من النّعم. لا تعدّ [فاردتكم أي لا تعدّ مع غيرها فتضمّ إليها ثم تصدّق] .
والفاردة المنفردة في المرعى.
لا يحظر عليكم النبات: [أي لا تمنعون من الزّرع] .
بجبير: كزبير.
بجرة: بضم الموحدة وسكون الجيم.
تبارك: تقدّس وتنزه.
فضّ اللَّه فاه: بفاء فضاد معجمة: كسره وفرّقه.
ابن مندة: بميم مفتوحة فنون ساكنة فدال مهملة فتاء.
ابن السّكن: بسين مهملة فكاف مفتوحتين فنون.
خيل رسول اللَّه: فرسان خيل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.(6/225)
الباب السابع والستون في بعثة صلّى اللَّه عليه وسلم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة رضي اللَّه تعالى عنهما لهدم الطاغية.
روى البيهقي عن عروة، ومحمد بن عمر عن شيوخه، وابن إسحاق عن رجاله، قالوا: إن عبد ياليل بن عمرو، وعمرو بن أمية أحد بني علاج الثقفيان لما قدما على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مع وفد ثقيف وأسلموا قالوا: أرأيت الرّبّة ماذا نصنع فيها؟ قال: اهدموها. قالوا: هيهات لو تعلم الرّبّة أنّا أو ضعنا في هدمها قتلت أهلنا. قال عمر بن الخطاب: ويحك يا عبد يا ليل ما أجمعك إنما الرّبّة حجر لا تدري من عبده ممن لم يعبده. قال عبد يا ليل: إنا لم نأتك يا عمر. وقالوا:
يا رسول اللَّه اتركها ثلاث سنين لا تهدمها. فأبى. فقالوا: سنتين فأبى فقالوا سنة. فأبى. فقالوا شهرا واحدا. فأبى أن يوقّت لهم وقتا، وإنما يريدون ترك الرّبّة خوفا من سفهائهم والنساء والصبيان، وكرهوا أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام. وسألوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يعفيهم من هدمها. وقالوا: يا رسول اللَّه اترك أنت هدمها فإنا لا نهدمها أبدا. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أنا أبعث أبا سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة يهدمانها» .
فذكروا الحديث [ (1) ] . فقال الوفد وأخبروا قومهم خبرهم وخبر الرّبّة.
فقال شيخ من ثقيف قد بقي في قلبه شرك بعد: فذاك واللَّه مصداق ما بيننا وبينه، فإن قدر على هدمها فهو محقّ ونحن مبطلون، وإن امتنعت ففي النفس من هذا بعد شيء. فقال عثمان بن أبي العاص رضي اللَّه عنه: «منّتك واللَّه نفسك الباطل وغرّتك الغرور الرّبّة، واللَّه ما تدري من عبدها ومن لم يعبدها» . وخرج أبو سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة وأصحابهما لهدم الرّبّة. فلما دنوا من الطائف قال المغيرة لأبي سفيان: تقدّم أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم، ودخل المغيرة في بضعة عشر رجلا يهدمون الرّبّة. فلما نزلوها عشاء باتوا ثم غدوا على الرّبّة يهدمونها.
فقال المغيرة لأصحابه الذين قدموا معه: «لأضحكنّكم اليوم من ثقيف» . فاستكفّت ثقيف كلها: الرجال والنساء والصبيان حتى خرج العواتق من الحجال حزنا يبكين على الطاغية، لا يرى عامة ثقيف أنها معدومة ويظنّون أنها ممتنعة. فقام المغيرة بن شعبة واستوى على رأس الدّابّة ومعه المعول، وقام معه بنو معتّب دريئة بالسلاح مخالفة أن يصاب كما فعل عمّه عروة بن مسعود. وجاء أبو سفيان وصمّم على ذلك فأخذ الكرزين وضرب المغيرة
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 302 وانظر البداية والنهاية 5/ 33.(6/226)
بالكرزين ثم سقط مغشيّا عليه يركض برجليه فارتج أهل الطائف بصيحة واحدة وقالوا:
أسعد اللَّه المغيرة قد قتلتم الرّبّة. زعمتم أن الرّبّة لا تمتنع بل واللَّه لتمنعنّ، وفرحوا حين رأوه ساقطا، وقالوا: من شاء منكم فليقترب وليجتهد على هدمها فو اللَّه لا يستطاع أبدا. فوثب المغيرة بن شعبة وقال: قبحكم اللَّه يا معشر ثقيف إنما هي لكاع، حجارة ومدر، فاقبلوا عافية اللَّه تعالى ولا تعبدوها ثم إنه ضرب الباب فكسره ثم سوّرها وعلا الرجال معه فما زالوا يهدمونها حجرا حجرا حتى سوّوها بالأرض، وجعل السادن يقول: ليغضبنّ الأساس فليخسفنّ بهم.
فلما سمع بذلك المغيرة حفر أساسها فخرّبه حتى أخرجوا ترابها وانتزعوا حليتها وكسوتها وما فيها من طيب وذهب وفضّة وثيابها. فبهتت ثقيف فقالت عجوز منهم: أسلمها الرضاع لم يحسنوا المصاع. وأقبل أبو سفيان والمغيرة وأصحابهما حتى دخلوا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بحلّيها وكسوتها وأخبروه خبرهم، فحمد اللَّه تعالى على نصر نبيّه وإعزاز دينه، وقسم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مال الطاغية من يومه،
وسأل أبو المليح بن عروة بن [مسعود بن معتّب الثقفي] رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن [يقضي] عن أبيه عروة دينا كان عليه من مال الطاغية. فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «نعم» . فقال له قارب بن الأسود، وعن الأسود يا رسول اللَّه فاقضه، وعروة والأسود أخوان لأب وأم. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «إن الأسود مات مشركا» . فقال قارب: يا رسول اللَّه لكن تصل مسلما ذا قرابة، يعني نفسه، إنما الدّين عليّ وإنما أنا الذي أطلب به.
فأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أبا سفيان أن يقضي دين عروة والأسود من مال الطاغية.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الطاغية: هي اللّات.
ياليل: بتحتيتين وبينهما لام مكسورة وآخره لام.
علاج: بكسر العين المهملة وبالجيم.
أرأيت: أخبرني.
الرّبّة: بفتح الراء.
أوضعنا: بفتح أوله وسكون الواو وفتح الضاد المعجمة الساقطة وسكون العين المهملة:
أسرعنا.
ذو الهرم: بفتح الهاء وسكون الراء: مال كان لعبد المطلب أو لأبي سفيان بالطائف.
استكفّ: اجتمع.(6/227)
المعول: بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الواو وباللام: الفأس التي يكسر بها الحجارة.
معتّب: بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الفوقية المشددة وبالموحدة.
الكرزين: والكرزن بفتح الكاف وكسرها الفأس والكرزم بالميم لغة.
يركض: يضرب الأرض برجله.
ارتجّ: [افتعل من الرّج وهو الحركة الشديدة] .
لكاع: بفتح اللام والكاف وكسر العين المهملة على البناء: لئيمة.
المدر: بفتح الميم والدال المهملة وبالراء جمع مدرة وهو التراب المتلبّد.
السّادن: بسين مهملة فألف فدال مهملة فنون. الخادم.
بهت: بضم الموحدة وكسر الهاء وبالفوقية. هذه اللغة الفصحى ويجوز أن تفتح الموحدة وتكسر الهاء أي دهش وتحيّر.
أبو المليح: بفتح الميم وكسر اللام وسكون التحتية وبالحاء المهملة.
قارب: بالقاف وكسر الراء وبالموحدة.
الحمق: بضمتين وتسكن الميم: قلة العقل.(6/228)
الباب الثامن والستون في بعثة صلّى اللَّه عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي اللَّه تعالى عنهما قبل حجة الوداع إلى اليمن.
روى البخاري من طريق سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى الأشعري، ومن طريق طارق بن شهاب كلاهما عن أبي موسى، ومن طريق عبد الملك بن عمير عن أبي بردة مرسلا.
قال أبو موسى: أقبلت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ومعي رجلان من الأشعريين أحدهما عن يميني والآخرة عن شمالي كلاهما يسأل العمل والنبي صلى اللَّه عليه وسلم يستاك، فقال: «ما تقول يا أبا موسى؟ أو قال: «يا عبد اللَّه بن قيس؟» قال: فقلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في نفسيهما وما شعرت أنهما يطلبان العمل. قال: فكأني أنظر إلى سواكه تحت شفتيه وقد قلصت. قال: «لن يستعمل على عملنا من يريده ولكن إذهب أنت يا أبا موسى، أو قال: يا عبد اللَّه بن قيس» . قال أبو موسى: فبعثني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ومعاذا إلى اليمن. قال أبو بردة: بعث كل منهما على مخلافه. قال: واليمن مخلافان، وكانت جهة معاذ العليا وجهة أبي موسى السفلى. قال أبو موسى: فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «ادعوا الناس وبشّرا ولا تنفّرا ويسّرا ولا تعسّرا وتطاوعا ولا تختلفا» . قال أبو موسى: يا رسول اللَّه أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن، قال: البتع وهو من العسل ينبذ ثم يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ ثم يشتد. قال: وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قد اعطي جوامع الكلم وخواتمه. قال: «أنهى عن كل مسكر أسكر عن الصلاة» . وفي رواية:
فقال: «كل مسكر حرام» [ (1) ] .
قال: فقدمنا اليمن وكان لكل واحد منا قبّة نزلها على حدة. قال أبو بردة. فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه، وكان قريبا من صاحبه أحدث به عهدا فسلّم عليه، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه فإذا هو جالس وقد اجتمع إليه الناس وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه فقال له معاذ: يا عبد اللَّه بن قيس أيّم هذا؟ قال: هذا يهودي كفر بعد إسلامه، أنزل وألق له وسادة فقال: لا أنزل حتى يقتل فأمر به فقتل. قال: إنما جيء به لذلك فانزل. قال: ما أنزل حتى يقتل، ثم نزل. فقال: يا عبد اللَّه كيف تقرأ القرآن؟ قال: «أتفوّقه تفوّقا. قال فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنا أوّل الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب اللَّه لى فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي» .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في كتاب المغازي (4344) .(6/229)
وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: «إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه فإن هم أطاعوا لك بذاك فأخبرهم إن اللَّه عز وجل قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم إن اللَّه قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم طاعوا لك بذلك فإيّاك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب» [ (1) ] . رواه الشيخان،
وروى البخاري عن عمرو بن ميمون أحد كبار التابعين المخضرمين رحمه اللَّه تعالى أن معاذا لمّا قدم اليمن صلّى بهم الصّبح فقرأ سورة النساء فلما قرأ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا [النساء 125] قال رجل من القوم: لقد قرّت عين أم إبراهيم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
العمل: بعين مهملة فميم مفتوحتين فلام: القيام بالأمور، والعامل للرجل القائم عنه في ملكه وعمله، ومنه قيل للذي يستخرج الزكاة: عامل.
شعرت: بشين معجمة مفتوحة فعين مهملة تفتح وتكسر فراء: علمت.
قلصت: بقاف مفتوحة فلام فصاد مهملة: ارتفعت.
المخلاف: بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وبالفاء المكسورة: الإقليم والرّستاق بضم الراء وسكون السين المهملة وفتح الفوقية، بلغة أهل اليمن.
يسّرا ولا تعسّر وبشّرا، ولا تنفّرا. الأصل أن يقال: بشّر ولا تنذرا، وآنسا ولا تنفّرا، فجمع بينهما ليعمّ البشارة والنذارة والتأنيس والتنفير، فهو من باب المقابلة [المعنوية] قاله الطيبي. قال الحافظ: ويظهر لي أن النكتة في الإتيان بلفظ البشارة وهو الأصل وبلفظ التنفير وهو اللازم، وأتى بالذي بعده على العكس للإشارة إلى أن الإنذار لا ينفى مطلقا بخلاف التنفير فاكتفى بما يلزم عن الإنذار وهو التنفير فكأنه قال: إن أنذرتم فليكن بغير تنفير كقوله تعالى:
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه 44] .
تطاوعا: كونا متفقين في الحكم.
البتع: بكسر الموحدة وسكون الفوقية فعين مهملة: نبيذ العسل.
ينبذ: يطرح.
يشتدّ: بشين معجمة يقوى.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 2/ 158 ومسلم في كتاب الإيمان (10) .(6/230)
المزر: بكسر الميم وسكون الزاي فراء: نبيذ الشّعير.
جوامع الكلم وخواتمه: يأتي الكلام على ذلك في الخصائص.
أسكر عن الصلاة: ألهى عنها بعد صحوه.
قبّة على حدة: بحاء مكسورة فدال مفتوحة مخففة: أي جانب متميّز عن صاحبه.
أحدث به عهدا: أي في الزيادة.
جمعت يداه إلى عنقه: [أي قيّدت] .
أيّم هذا: بفتح التحتية والميم وبغير إشباع أي أيّ شيء هو؟ وأصلها أيّما وأيّ استفهامية وما بمعنى شيء، فحذفت الألف تخفيفا. وضمّ أبو ذر الهروي التحتية في روايته.
الوسادة: بكسر الواو: المتّكأ.
أتفوّقه: بفتح أوله والفوقية والفاء والواو المشددة وبالقاف: أي اقرأه شيئا بعد شيء في آناء الليل والنهار، بمعنى القراءة مرة واحدة، بل أفرّق قراءته على أوقات، مأخوذ من فواق الناقة وهو الحلب ثم تترك ساعة حتى تدرّ ثم تحلب.
جزئي من النوم: بضم الجيم وسكون الزاي، بعدها همزة مكسورة فتحتية، أي أنه جزّأ الليل أجزاء جزءا للنوم وجزءا للقراءة والقيام.
فأحتسب: نومتي كما أحتسب قومتي: بهمزة قطع، وكسر السين من غير فوقية في «أحتسب» في الموضعين في غير رواية أبي ذرّ، وبهمزة وصل وفتح السين وسكون الموحدة.
وفي رواية أبي ذرّ عن الحموي والمستملي بصيغة الماضي فيهما.
كرائم الأموال: نفائسها أي احذر أخذ نفائس أموالهم.
قرّت عين [أم إبراهيم: أي سرّت بذلك وفرحت] .(6/231)
الباب التاسع والستون في بعث خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى بني عبد المدان، كذا عند ابن سعد في السرايا وهم من بني الحارث بن كعب بنجران في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر.
قالوا: بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، ثلاثة أيام. فإن استجابوا فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم. فخرج إليهم خالد حتى قدم عليهم.
فبعث الرّكبان يضربون في كل وجه، ويدعون إلى الإسلام ويقولون: «أيها الناس، أسلموا تسلموا» . فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه. فأقام فيهم خالد بن الوليد يعلّمهم شرائع الإسلام وكتاب الله عز وجل وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم. ثم كتب خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«بسم الله الرحمن الرحيم لمحمد النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم [من خالد بن الوليد] السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فإني أحمد إليك اللَّه الذي لا إله إلا هو. أما بعد يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليك، فإنك بعثتني إلى بني الحارث بن كعب، وأمرتني إذا أتيتهم ألا أقاتلهم ثلاثة أيام وأن أدعوهم إلى الإسلام فإن أسلموا قبلت منهم وعلّمتهم معالم الإسلام وكتاب اللَّه وسنة نبيه، وإن لم يسلموا قاتلتهم. وإني قدمت عليهم فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وبعث فيهم ركبانا ينادون: يا بني الحارث أسلموا تسلموا.
فأسلموا ولم يقاتلوا، وإني مقيم بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم اللَّه به وأنهاهم عما نهاهم اللَّه عنه، وأعلّمهم معالم الإسلام وسنّة النبي صلى اللَّه عليه وسلم حتى يكتب إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم [والسلام عليك يا رسول اللَّه ورحمته وبركاته] .
فكتب إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم من محمد النبي رسول اللَّه إلى خالد بن الوليد. سلام عليك فإني أحمد إليك اللَّه الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك يخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا وشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً عبده ورسوله، قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام وأن قد هداهم اللَّه بهداه، فبشّرهم وأنذرهم وأقبل وليقبل معك وفدهم والسلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
عبد المدان: [المدان] كسحاب صنم بنجران.
[نجران] : كفعلان موضع اليمن فتح سنة عشر، سمّى بنجران بن زيد بن سبا.
الرّكبان: جمع لراكب البعير خاصّة.
يضربون: يسيرون سراعا غازين.(6/232)
الباب السبعون في سرية المقداد بن الأسود رضي اللَّه عنه إلى أناس من العرب
روى البزار والدّارقطني في الإفراد، والطبراني والضياء في المختارة عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما، وابن أبي شيبة، وابن جرير عن سعيد بن جبير رحمه اللَّه تعالى، قال ابن عباس: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سرية فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرّقوا، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح، فقال: «أشهد ألا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له» .
فأهوى إليه المقداد فقتله. فقال له رجل من أصحابه: «قتلت رجلا شهد ألا إله إلا اللَّه، لأذكرنّ ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فلما قدموا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قالوا: يا رسول اللَّه إن رجلا شهد أن لا إله إلا اللَّه فقتله المقداد. فقال: «يا مقداد أقتلت رجلا يقول أن لا إله إلا اللَّه فكيف لك بلا إله إلا اللَّه غدا؟» فأنزل اللَّه عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء 94] .
قال: فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم للمقداد: «كان رجلا مؤمنا يخفي إيمانه مع قوم كفّار، فأظهر إيمانه فقتلته، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة» .
وقال سعيد بن جبير: فنزلت هذه الآية: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني الغنيمة.
تنبيهات
الأول: تقدم في قصة أسامة قتله لمرداس: بن نهيك.
الثاني: اختلف في سبب هذه الآية:
[أخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد والبخاري والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لحق ناس من المسلمين رجلا معه غنيمة له فقال: السلام عليكم. فقتلوه وأخذوا غنيمته، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا إلى قوله: عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا قال: تلك الغنيمة. قال: قرأ ابن عباس السَّلامَ.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والطبراني والترمذي وحسنه وعبد بن حميد وصححه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: «مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو يسوق غنما له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم علينا إلا ليتعوّذ منا،(6/233)
فعمدوا له فقتلوه، وأتوا بغنمه النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فنزلت الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ ...
الآية» .
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وابن جرير والطبراني وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن عبد اللَّه بن أبي حدود الأسلمي قال: «بعثنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى إضم، فخرجت في نفر من المسلمين فيهم الحرث بن ربعي أبو قتادة، ومحلم بن جثامة بن قيس الليثي، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضم، مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قعود له، معه متيع له وقطب من لبن، فلما مر بنا سلم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه وحمل عليه محلم بن جثامة لشيء كان بينه وبينه، فقتله وأخذ بعيره ومتاعه، فلما قدمنا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأخبرناه الخبر، نزل فينا القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ... الآية.
وأخرج ابن إسحاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبغوي في معجمه من طريق يزيد بن عبد اللَّه بن قسيط عن أبي حدرد الأسلمي عن أبيه نحوه، وفيه فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «أقتلته بعد ما قال: آمنت باللَّه!؟ فنزل القرآن» .
وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال: «بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم محلم بن جثامة مبعثا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم إحنة في الجاهلية، فرماه محلم بسهم فقتله، فجاء الخبر إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فجاء محلم في بردين، فجلس بين يدي النبي صلى اللَّه عليه وسلم ليستغفر له فقال: «لا غفر اللَّه لك» . فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه، فما مضت به ساعة حتى مات ودفنوه، فلفظته الأرض، فجاؤوا النبي صلى اللَّه عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال: «إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ولكن اللَّه أراد أن يعظكم، ثم طرحوه في جبل وألقوا عليه الحجارة، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ ... الآية» .(6/234)
الباب الحادي والسبعون في بعثة صلّى اللَّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى همدان ثم بعثه عليا رضي اللَّه عنهما.
روى البيهقي في السنن والدلائل والمعرفة عن البراء بن عازب رضي اللَّه تعالى عنهما قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أهل اليمن يدعوهم إلى الإسلام. قال البراء فكنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد فأقمنا ستة أشهر ندعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوا.
ثم إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم بعث علي بن أبي طالب مكان خالد وأمره أن يقفل خالدا وقال: «مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقّب معك فليعقّب ومن شاء فليقبل» .
قال البراء: فكنت فيمن عقّب مع عليّ. فلما دنونا من القوم خرجوا إلينا فصلّى بنا عليّ ثم صفّنا صفّا واحدا ثم تقدّم بين أيدينا وقرأ عليهم كتاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأسلمت همدان جميعا. فكتب عليّ إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بإسلامهم. فلما قرأ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الكتاب خرّ ساجدا ثم رفع رأسه وقال: «السلام على همدان» [ (1) ] مرتين رواه البخاري مختصرا. وعنده عن البراء قال: فغنمت أواق ذوات عدد» .
وروى الترمذي وقال حسن غريب عن البراء رضي اللَّه تعالى عنه قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى اليمن جيشين وأمّر عليّا على أحدهما وعلي الآخر خالد بن الوليد. وقال:
«إذا كان قتال فعليّ رضي اللَّه تعالى عنه الأمير» . قال: فافتتح عليّ حصنا فغنمت أواقي ذوات عدد، وأخذ عليّ منه جارية. قال: فكتب معي خالد إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم- الذي في جامع الترمذي «بشيء به» قال الترمذي: يعني النميمة- يخبره. قال: فلما قدمت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقرأ الكتاب رأيته يتغيّر لونه فقال: «ما ترى في رجل يحب اللَّه ورسوله ويحبّه اللَّه تعالى ورسوله؟» فقلت: أعوذ باللَّه من غضب اللَّه تعالى وغضب رسوله، إنما أنا رسول. فسكت. [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد، والبخاري والإسماعيلي، والنّسائي عن بريدة بن الحصيب رضي اللَّه تعالى عنه قال: «أصبنا سبيا فكتب خالدا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «ابعث إلينا من يخمّسه» . وفي السّبي وصيفة هي من أفضل السّبي. فبعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عليّا إلى خالد ليقبض منه الخمس، وفي رواية: ليقسم الفيء. فقبض منه فخمّس وقسم، واصطفى عليّ سبيّة، فأصبح وقد اغتسل ليلا. وكنت أبغض عليّا بغضا لم أبغضه أحدا، وأحببت رجلاً من قريش لم أحبّه إلا لبغضه عليّا. فقلت لخالد: ألا ترى إلى هذا؟ وفي رواية: فقلت يا أبا الحسن
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في السنن 2/ 366 وفي الدلائل 5/ 369 والبخاري 7/ 663 (4349) .
[ (2) ] أخرجه الترمذي 4/ 180 (1704) .(6/235)
ما هذا؟ قال ألم تر إلى الوصيفة فإنها صارت في الخمس ثم صارت في آل محمد ثم في آل عليّ فوقعت بها. فلما قدمنا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ذكرت له ذلك» [ (1) ] .
وفي رواية: فكتب خالد إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقلت ابعثني، فبعثني، فجعل يقرأ الكتاب وأقول صدق، فإذا النبي صلى اللَّه عليه وسلم قد احمر وجهه فقال: «من كنت وليّه فعليّ وليّه» . ثم قال: «يا بريدة أتبغض عليّا؟» فقلت: نعم. قال: «لا تبغضه فإن له الخمس أكثر من ذلك» . وفي رواية:
«والذي نفسي بيده لنصيب عليّ في الخمس أفضل من وصيفة وإن كنت تحبه فازدد له حبّا» .
وفي رواية: «لا تقع في عليّ فإنه مني وأنا منه وهو وليّكم بعدي» [ (2) ] . قال بريدة: فما كان في الناس أحد أحب إلي من عليّ.
تنبيهات
الأول: قال ابن إسحاق وغيره: غزوة علي بن أبي طالب إلى اليمن مرّتين قال في العيون: ويشبه أن تكون هذه السرية الأولى، وما ذكره ابن سعد هي السرية الثانية كما سيأتي.
الثاني: قال الحافظ: كان بعث عليّ بعد رجوعهم من الطائف وقسمة الغنائم بالجعرانة.
الثالث: قال الحافظ أبو ذر الهرويّ: إنما أبغض بريدة عليّا لأنه رآه أخذ من المغنم فظنّ أنه غلّ. فلما أعلمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه أخذ أقلّ من حقه أحبّه. قال الحافظ. وهو تأويل حسن لكن يبعده صدر الحديث الذي رواه أحمد، فلعلّ سبب البغض كان لمعنى آخر وزال، ونهى النبي صلى اللَّه عليه وسلم عن بغضه.
الرابع: استشكل وقوع علي رضي اللَّه تعالى عنه على الجارية وأجيب باحتمال أنها كانت غير بالغ، ورأى أن مثلها لا يستبرأ كما صار إليه غيره من الصحابة، أو أنها كانت حاضت عقب صيرورتها له ثم طهرت بعد يوم وليلة ثم وقع عليها، أو كانت عذراء.
الخامس: استشكل أيضا قسمته لنفسه، وأجيب بأن القسمة في مثل ذلك جائزة ممن هو شريكه فيما يقسمه كالإمام إذا قسم بين الرعية وهو منهم فكذلك ممن نصبه الإمام فإنه مقامه.
السادس: في بيان غريب ما سبق:
همدان: بسكون الميم وبالدال المهملة قبيلة معروفة. قال الأئمة الحفاظ: وليس في
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في كتاب النكاح (5210) .
[ (2) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 356 وذكره الهيثمي في المجمع 9/ 128 والمتقي الهندي في الكنز (42942) .(6/236)
الصحابة ولا تابعيهم ولا أتباع الأتباع أحد من البلدة التي هي بفتح الميم وبالذال المعجمة.
البراء: بفتح الموحدة وتخفيف الراء.
عازب: بعين مهملة فألف فزاي مكسورة وبالموحدة: ضدّ متزوّج.
أمره: بتخفيف الميم من الأمر.
يقفل خالدا: بضم التحتية وسكون القاف وسكون الفاء يرجعه ويردّه.
يعقّب: بضم التحتية وفتح العين المهملة وتشديد القاف: يرجع.
أواق: مثل جوار، وفي لفظ أواقيّ بتحتية مشددة وتخفّف.
ذوات عدد: [أي كثيرة] .
بريدة: بضم الموحدة وفتح الراء وسكون التحتية وبالدال المهملة.
الحصيب: بحاء مضمومة فصاد مفتوحة مهملتين فتحتية ساكنة فموحدة.
الوصيفة: بواو فصاد مهملة فتحتية ففاء الخادم.
السّبيّة: بفتح السين المهملة وكسر الموحدة وسكون التحتية فهمزة: الجارية من السّبي.
من كنت وليه فعليّ وليّه: قال الحافظ لهذا اللفظ طرق يقوي بعضها بعضا.
وهو وليكم بعدي: [أي يلي أمركم] .(6/237)
الباب الثاني والسبعون في سرية علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إلى اليمن المرة الثانية.
قال محمد بن عمر، وابن سعد [ (1) ] رحمهما الله تعالى واللفظ للأول: قالوا-: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّا إلى اليمن في رمضان وأمره أن يعسكر بقناة فعسكر بها حتى تتامّ أصحابه. فعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء وأخذ عمامته فلفها مثنية مربّعة فجعلها في رأس الرّمح ثم دفعها إليه وعمّمه بيده عمامة ثلاثة أكوار وجعل له ذراعا بين يديه وشبرا من ورائه وقال له:
«امض ولا تلتفت» .
فقال علي: يا رسول الله ما أصنع؟ قال: «إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك وادعهم إلى أن يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن قالوا نعم فمرهم بالصلاة فإن أجابوا فمرهم بالزكاة فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك، والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت» .
فخرج عليّ في ثلاثمائة فارس فكانت خيلهم أول خيل دخلت تلك البلاد. فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد من مذحج فرّق أصحابه فأتوا بنهب وغنائم وسبايا نساء وأطفالا ونعما وشاء وغير ذلك. فجعل عليّ على الغنائم بريدة بن الحصيب الأسلمي فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقى لهم جمعا. ثم لقي جمعهم، فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ورموا أصحابه بالنّبل والحجارة. فلما رأى أنهم لا يريدون إلا القتال صفّ أصحابه ودفع اللواء إلى مسعود بن سنان السّلمي فتقدم به، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى البراز، فبرز إليه الأسود بن خزاعي فقتله الأسود وأخذ سلبه. ثم حمل عليهم عليّ وأصحابه فقتل منهم عشرين رجلا فتفرّقوا وانهزموا وتركوا لواءهم قائما وكفّ عليّ عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام فأسرعوا وأجابوا. وتقدم نفر من رؤسائهم فبايعوه على الإسلام وقالوا نحن على من وراءنا من قومنا وهذه صدقاتنا فخذ منها حق الله تعالى. وجمع عليّ ما أصاب من تلك الغنائم، فجزّأها خمسة أجزاء فكتب في سهم منها لله ثم أقرع عليها، فخرج أول السّهمان سهم الخمس وقسم علي رضي الله تعالى عنه على أصحابه بقيّة المغنم، ولم ينفّل أحدا من الناس شيئا، وكان من كان قبله يعطون خيلهم الخاص دون غيرهم من الخمس ثم يخبرون رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فلا يردّه عليهم فطلبوا ذلك من عليّ فأبى وقال: الخمس أحمله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى فيه رأيه.
وأقام فيهم يقرئهم القرآن ويعلّمهم الشرائع وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا مع
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 1/ 122.(6/238)
عبد الله بن عمرو بن عوف المزني يخبره الخبر. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوافيه الموسم، فانصرف عبد الله بن عمرو بن عوف إلى عليّ بذلك فانصرف عليّ راجعا. فلما كان بالفتق تعجّل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره الخبر وخلّف على أصحابه والخمس أبا رافع، فوافى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قد قدمها للحج، وكان في الخمس ثياب من ثياب اليمن أحمال معكومة ونعم وشاء مما غنموا، ونعم من صدقة أموالهم. فسأل أصحاب عليّ أبا رافع إن يكسوهم ثيابا يحرمون فيها فكساهم منها ثوبين ثوبين. فلما كانوا بالسّدرة داخلين خرج عليّ ليتلقّاهم ليقدم بهم، فرأى على أصحابه الثياب
فقال لأبي رافع: ما هذا؟
فقال: «كلّموني ففرقت من شكايتهم وظننت أن هذا ليسهل عليك وقد كان من قبلك يفعل هذا بهم» . فقال: «قد رأيت امتناعي من ذلك ثم أعطيتهم وقد أمرتك أن تحتفظ بما خلّفت فتعطيهم» . فنزع عليّ الحلل منهم.
فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوه، فدعا عليّا، فقال: «ما لأصحابك يشكونك؟» قال: ما أشكيتهم، قسمت عليهم ما غنموا وحسبت الخمس حتى يقدم عليك فترى فيه رأيك. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: واحتفر قوم بئرا باليمن فأصبحوا وقد سقط فيها أسد، فنظروا إليه، فسقط إنسان بالبئر فتعلّق بآخر وتعلّق الآخر بآخر حتى كانوا في البئر أربعة فقتلهم الأسد، فأهوى إليه رجل برمح فقتله. فتحاكموا إلى علي رضي الله تعالى عنه. فقال: ربع دية وثلث دية ونصف دية ودية تامة: للأسفل ربع دية من أجل أنه هلك فوقه ثلاثة، وللثاني ثلث دية لأنه هلك فوقه اثنان وللثالث نصف دية من أجل أنه هلك فوقه واحد، وللأعلى الدّية كاملة.
فإن رضيتم فهو بينكم قضاء وإن لم ترضوا فلا حقّ لكم حتى تأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقضي بينكم. فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قصّوا عليه خبرهم، فقال: «أنا أقضي بينكم إن شاء الله تعالى» . فقال بعضهم: يا رسول الله إن عليّا قد قضى بيننا. قال: «فيم قضى؟» فأخبروه، فقال:
«هو كما قضى به» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
يعسكر: يجمع عسكره أي جيشه.
قناة: بفتح القاف وتخفيف النون وبعد الألف تاء تأنيث: واد من أودية المدينة.
ثلاثة أكوار: جمع كورة العمامة وهي إدارتها.
امض: بهمزة وصل.
السّاحة: عرصة الدار والمراد هنا المكان.
مذحج: بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة وبالجيم: قبيلة من اليمن.(6/239)
أدنى الناحية: أقربها.
النّهب: بفتح النون: غنائم [وغنائم] بدل من نهب فهو مجرور بالفتحة.
جمع إليه: بالبناء للمفعول.
السّبي: بسين مهملة مفتوحة فموحدة ساكنة فتحتية: الحمل من بلد لآخر.
الشّاء: بالمدّ جمع كثرة للشاة، وأما جمع القلّة فشياه.
النّبل: بفتح النون وسكون الموحدة: السّهام العربية.
مسعود بن سنان السّلمي. نسب أسليما ولذا فرّق بينهما ابن الأثير، وقال في الإصابة والنور لعله أسلمياف حليفا لبني سلمة بكسر اللام من الأنصار.
برز: ظهر بعد اختفائه.
البراز: بفتح الموحدة ثم راء: الخروج.
ابن خزاعيّ: [بضم الخاء المعجمة وبالزاي فألف فعين مهملة مكسورة فتحتية] .
السّلب: بالتحريك ما يؤخذ من القتيل.
كفّ عنه: بفتح الكاف والفاء المشددة.
على من وراءنا: بفتح الميم.
جزّأها: بفتح الهمزة بعد الزاي.
السّهمان: بضم السين المهملة جمع سهم وهو الحظ.
ابن عوف: بالفاء.
المزني: بضم الميم وفتح الزاي وبالنون فتحتية.
يوافيه: [يأتيه] .
الموسم: اجتماع الناس للحج.
الفتق: بفاء ومثنّاة مضمومة فقال: مكان بالطائف.
معكومة: مشدودة.
النّعم: بفتح النون والعين المهملة وقد تكسر عينه: الإبل والشّاء أو خاصّ الإبل.
السّدرة: [موضع قرب المدينة] .
ففرقت من شكايتهم: بفاء مفتوحة فراء مكسورة فقال: فزعت.
شكايتهم: بكسر الشين المعجمة أي ذكر ما بهم من مرض أو غيره.
ما أشكيتهم أي ما أزلت شكايتهم أي ما يشكونه.(6/240)
الباب الثالث والسبعون في سرية بني عبس.
ذكر ابن سعد في الوفود أن بني عبس وفدوا وهم تسعة. فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية لعير قريش، وذكر ابن الأثير أن فيهم ميسرة بن مسروق وأنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع ويأتي إن شاء الله تعالى في الوفود لذلك زيادة.
الباب الرابع والسبعون في بعثة صلّى الله عليه وسلم سرية إلى رعية السّحيمي
[ (1) ] رضي الله عنه قبل إسلامه.
روى ابن أبي شيبة، والإمام أحمد بسند جيّد عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه كتابا في أديم أحمر، فأخذ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقع به دلوه. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فلم يدعوا له سارحة ولا رائحة ولا أهلا ولا مالا إلا أخذوه، وانفلت عريانا على فرس له ليس عليه سترة حتى انتهى إلى ابنته وهي متزوجة في بني هلال وقد أسلمت وأسلم أهلها. وكان مجلس القوم بفناء بيتها، فدار حتى دخل عليها من وراء البيت. فلما رأته ألقت عليه ثوبا وقالت: ما لك؟
قال: «كل الشّرّ نزل بأبيك ما ترك له رائحة ولا سارحة ولا أهل ولا مال. قالت: دعيت إلى الإسلام؟.
قال: أين بعلك؟ قالت: في الإبل. فأتاه. قال: مالك؟ قال: كل الشر نزل بي ما تركت لي رائحة ولا سارحة ولا أهل ولا مال وأنا أريد محمدا قبل أن يقسم أهلي ومالي. قال: فخذ راحلتي برحلها. قال: لا حاجة لي فيها. قال فخذ قعود الراعي. وزوّده إداوة من ماء. قال:
وعليه ثوب إذا غطّي به وجهه خرجت استه وإذا غطّى استه خرج وجهه وهو يكره أن يعرف حتى انتهى إلى المدينة فعقل راحلته.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان بحذائه حيث يقبل. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الصبح قال: يا رسول الله ابسط يدك أبايعك، فبسطها. فلما أراد أن يضرب عليها قبضها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ويفعله.
فلما كانت الثالثة قال: «من أنت؟» قال: إنا رعية السّحيمي. قال: فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم عضده ثم رفعه ثم قال: «يا معشر المسلمين هذا رعية السّحيمي الذي بعثت
__________
[ (1) ] انظر ترجمته في الإصابة 2/ 208.(6/241)
إليه كتابي فرقع به دلوه» . فأخذ يتضرع إليه. قلت: يا رسول الله أهلي ومالي. قال: «أمّا مالك فقدم قسّم وأمّا أهلك فمن قدرت عليه منهم» .
فخرج فإذا ابنه قد عرف الراحلة وهو قائم عندها فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هذا ابني. قال: «يا بلال أخرج معه فسله أبوك هو؟ فإذا قال نعم فادفعه إليه» . فخرج إليه فقال: أبوك هذا؟ قال: نعم. فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما رأيت أحدا منهما استعبر لصاحبه. قال: «ذاك جفاء الأعراب» [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
رعية: بكسر الراء وسكون العين المهملتين وبالتحتية فتاء تأنيث، وقال الطبري بالتصغير.
السحيمي: بمهملتين مصغّر.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 286.(6/242)
الباب الخامس والسبعون في بعثة صلّى الله عليه وسلم أبا أمامة صدي بن عجلان رضي الله عنه إلى باهلة.
عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله عز وجل وأعرض عليهم شرائع الإسلام. فأتيتهم وقد سقوا إبلهم وجلبوها وشربوا. فلما رأوني قالوا: مرحبا بالصّدعي بن عجلان. وأكرموني وقالوا: بلغنا أنك صبوت إلى هذا الرجل.
فقلت: لا ولكن آمنت بالله ورسوله وبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أعرض عليكم شرائع الإسلام. فبينا نحن كذلك إذ جاءوا بقصعتهم فوضعوها واجتمعوا حولها يأكلونها وقالوا: هلمّ يا صديّ. قلت: ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرّم هذا عليكم إلا ما ذكّيتم كما قال الله تعالى. قالوا: وما قال؟ قلت: نزلت هذه الآية حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [المائدة 3] إلى قوله: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ، فجعلت أدعوهم إلى الإسلام فكذّبوني وزبروني وأنا جائع ظمآن قد نزل بي جهد شديد. فقلت لهم: ويحكم ايتوني بشربة من ماء فإني شديد العطش. قالوا: لا ولكن ندعك تموت عطشا. قال: فاعتممت وضربت برأسي في العمامة ونمت في حر شديد، فأتاني أت في منامي بقدح فيه شراب من لبن لم ير الناس ألذّ منه فشربته حتى فرغت من شرابي ورويت وعظم بطني. فقال القوم: أتاكم رجل من أشرافكم وسراتكم فرددتموه فاذهبوا إليه وأطعموه من الطعام والشراب ما يشتهي. فأتوني بالطعام والشراب فقلت: لا حاجة لي في طعامكم ولا شرابكم، فإن الله تعالى أطعمني وسقاني: فانظروا إلى الحال التي أنا عليها. فأريتهم بطني فنظروا فاسلموا عن آخرهم بما جئت به من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أبو أمامة: ولا والله ما عطشت ولا عرفت عطشا بعد تيك الشّربة، رواه الطبراني من طريقين إحداهما سندها حسن.(6/243)
الباب السادس والسبعون في سرية جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه إلى ذي الخلصة.
روى الشيخان عن جرير رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «ألا تريحني من ذي الخلصة؟» وكان بيتا لخثعم وبجيلة فيه نصب تعبد، تسمى الكعبة اليمانية. قال جرير:
فنفرت في مائة وخمسين راكبا من أحمس وكانوا أصحاب خيل، وكنت لا أثبت على الخيل، فضرب في صدري حتى رأيت أثر أصابعه في صدري وقال: «اللهم ثبّته على الخيل واجعله هاديا مهديا» . قال: فأتيناه فكسرناه وحرّقناه وقتلنا من وجدنا عنده. وبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يبشّره يكنى أبا أرطاة. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم [والذي بعثك بالحق] ما جئتك حتى تركناها كأنها جمل أجرب. قال: «فبرّك رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيل أحمس ورجالها خمس مرات» . قال جرير: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لنا ولأحمس، فما وقعت عن فرس بعد [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
ذو الخلصة: محرّكة وبضمتين بيت كان يدعى الكعبة اليمانية لخثعم كان فيه صنم اسمه الخلصة.
ألا: بمعنى هلا.
تريحني: أي تدخلني في الراحة وهي الرحمة.
خثعم: بفتح الخاء المعجمة وسكون الثاء المثلثة وفتح العين المهملة فميم.
بجيلة: [كسفينة حيّ باليمن من معد] .
نصب: بضمتين كل ما عبد من دون الله.
تعبد: بضم الفوقية وسكون العين المهملة وفتح الموحدة.
الكعبة: كل بيت مربع.
اليمانية: منسوبة إلى اليمن، محرّكة.
نفرت: بنون ففاء فراء: ذهبت.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في كتاب المغازي (4355) .(6/244)
أحمس: تقدم تفسيره.
لا أثبت على الخيل: [لا أتماسك عليها] .
أبو أرطاة: [الأرطاة واحدة الأرطى وهو ضرب من الشجر يدبغ به] .
كأنها جمل أجرب: أبي معبد. والجرباء الأرض المقحوطة.
برّك: دعا بالبركة وهي النّماء والزيادة والسعادة.(6/245)
الباب السابع والسبعون في بعثة صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وخالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن رضي الله عنهما.
روى محمد بن رمضان بن شاكر في مناقب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال: «وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، وخالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن وقال: «إذا اجتمعنا فعليّ الأمير وإن افترقتما فكل واحد منكما أمير» [ (1) ] .
فاجتمعا. وبلغ عمرو بن معد يكرب.
فابتدره عليّ مكانهما. فأقبل على جماعة من قومه. فلما دنا منهما قال: دعوني حتى آتي هؤلاء القوم فإني لم أسمّ لأحد قط إلا هابني. فلما دنا منهما نادى: أنا أبو ثور وأنا عمرو بن معد يكرب. فابتدره عليّ وخالد وكلاهما يقول لصاحبه: خلّني وإيّاه ويفديه بأمّه وأبيه. فقال عمرو إذ سمع قولهما: الغرب تفزع بي وأراني لهؤلاء جزرا. فانصرف عنهما. وكان عمرو فارس العرب مشهورا بالشجاعة وكان شاعرا محسنا» .
وروى محمد بن عثمان بن أبي شيبة من طرق قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن سعيد بن العاص إلى اليمن وقال له: «إن مررت بقرية فلم تسمع أذانا فاسبهم» [ (2) ]
فمرّ ببني زبيد فلم يسمع أذانا فسباهم. فأتاه عمرو بن معد يكرب فكلّمه فيهم فوهبهم له، فوهب له عمرو سيفه الصّمصامة فتسلمه خالد ومدح عمرو خالدا في أبيات له.
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 4/ 14.
[ (2) ] ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (11441) .(6/246)
الباب الثامن ومن السبعون في بعثة صلّى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى خثعم.
روى الطبراني برجال ثقات عن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. بعثه إلى أناس من خثعم، فاعتصموا بالسجود فقتلهم فوداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف الدية ثم قال: «أنا بريء من كل مسلم أقام مع المشركين لا تراءى ناراهما» [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
خثعم: تقدم الكلام عليها غير مرة.
لا تراءى ناراهما: [لا تتراءى ناراهما] .
الباب التاسع والسبعون في بعثة صلّى الله عليه وسلّم عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه إلى أبي سفيان بن الحارث قبل إسلامه.
عن عمرو بن عمرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جهينة ومزينة إلى أبي سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب وكان منابذا للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما ولّوا غير بعيد قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله بأبي أنت وأمي علام تبعث [هؤلاء] قد كادا يتفانيان في الجاهلية أدركهم الإسلام وهم على بقية منها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بردّهم حتى وقفوا بين يديه. فعقد لعمرو بن مرّة على الجيشين على جهينة ومزينة وقال: «سيروا على بركة الله» .
فساروا إلى أبي سفيان بن الحارث. فهزمه الله تعالى وكثر القتل في أصحابه. فلذلك يقول أبو سفيان بن الحارث: [ ... ] [ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 4/ 134.
[ (2) ] بياض بالأصل لم نستطع تكملته.(6/247)
الباب الثمانون في سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهم إلى أبني وهي بأرض الشرّاة بناحية البلقاء.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بعد حجته بالمدينة بقية ذي الحجة، والمحرّم، وما زال يذكر مقتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، ووجد عليهم وجدا شديدا.
فلما كان يوم الإثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتّهيّؤ لغزو الروم وأمرهم بالجدّ، ثم دعا من الغد يوم الثلاثاء لثلاث بقين من صفر أسامة بن زيد
فقال: «يا أسامة سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى [موضع] مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد ولّيتك هذا الجيش فأغر صباحا على أهل أبنى وحرّق عليهم وأسرع السّير تسبق الأخبار فإن أظفرك الله فأقلل اللّبث فيهم وخذ معك الأدلّاء وقدّم العيون والطلائع أمامك» .
فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر بدئ برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه فحمّ وصدّع.
فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء بيده.
ثم قال: «اغز بسم الله في سبيل الله فقاتل من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا تتمنّوا لقاء العدوّ فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم ولكن قولوا اللهم أكفناهم بما شئت واكفف بأسهم عنّا، فإن لقوكم قد جلبوا وضجّوا فعليكم بالسّكينة والصّمت ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم وقولوا اللهم إنا نحن عبيدك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك وإنما تغنيهم أنت واعلموا أن الجنة تحت البارقة» .
فخرج أسامة رضي الله تعالى عنه بلوائه [معقودا] ، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، وعسكر بالجرف فلم يبق أحد من [وجوه] المهاجرين الأوّلين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة منهم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، وسعد بن أبي وقاص، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله تعالى عنهم في رجال آخرين من الأنصار، عدّة مثل قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم بن حريش. فاشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ذلك، ثم وجد من نفسه راحة فخرج عاصبا رأسه
فقال: «أيها الناس أنفذوا بعث أسامة»
ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال رجل من المهاجرين- كان أشدهم في ذلك قولا- عياش بن أبي ربيعة [المخزومي] رضي الله تعالى عنه: «يستعمل هذا الغلام على المهاجرين» . فكثرت المقالة، وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعض ذلك فردّه على من تكلم به، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب غضباً شديداً. وخرج يوم السبت عاشر المحرّم سنة إحدى عشرة وقد(6/248)
عصّب رأسه بعصابة وعليه قطيفة ثم صعد المنبر فحمد الله، وأثنى عليه ثم
قال: «أما بعد أيها الناس فما مقالة «قد بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ولئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم الله كان للإمارة لخليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ وإنهما لمخيلان لكل خير فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم» [ (1) ] .
ثم نزل فدخل بيته، وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودّعون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ويمضون إلى العسكر بالجرف،
ودخلت أم أيمن رضي الله تعالى عنها فقالت: «يا رسول الله لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تتماثل فإن أسامة إن خرج على حالته هذه لم ينتفع بنفسه» . فقال: «أنفذوا بعث أسامة» .
فمضى الناس إلى المعسكر فباتوا ليلة الأحد.
ونزل أسامة يوم الأحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثقيل مغمور، وهو اليوم الذي لدّوه فيه، فدخل عليه وعيناه تهملان، وعنده الناس والنساء حوله فطأطأ عليه أسامة فقبّله والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة كأنه يدعو له. ورجع أسامة إلى معسكره.
ثم دخل يوم الإثنين وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقا وجاءه أسامة
فقال له: «اغد على بركة الله» .
فودّعه أسامة وخرج إلى معسكره لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفيقا. ودخل أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال: «يا رسول الله أصبحت مفيقا بحمد الله واليوم يوم ابنة خارجة فأذن لي» . فأذن له فذهب إلى السّنح. وركب أسامة إلى العسكر وصاح في أصحابه باللحوق بالعسكر، فانتهى إلى معسكره وأمر الناس بالرحيل وقد متع النهار.
فبينا هو يريد أن يركب أتاه رسول أمه أم أيمن يخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت فأقبل إلى المدينة وأقبل معه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجود بنفسه فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم. ودخل المسلمون الذي عسكروا بالجرف إلى المدينة ودخل بريدة بن الحصيب باللواء معقودا فغرزه عند باب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بويع لأبي بكر أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ليمضي لوجهه وألا يحله حتى يغزوهم وقال لأسامة: «أنفذ في وجهك الذي وجّهك فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم» . وأمر الناس بالخروج، فعسكروا في موضعهم الأول وخرج بريدة باللواء. فلما ارتدت العرب كلّم أبو بكر في حبس أسامة فأبي.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 1/ 136 وذكره المتقي الهندي في كنز العمال (30266) .(6/249)
ومشى أبو بكر إلى أسامة في بيته فكلّمه في أن يترك عمر وأن يأذن له في التخلف ففعل. وخرج ونادى مناديه عزمت لا يتخلّف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني لن أوتي بأحد أبطأ عن الخروج معه إلا ألحقته به ماشيا. فلم يتخلّف عن البعث أحد. وخرج أبو بكر يشيّع أسامة فركب من الجرف لهلال ربيع الآخر في ثلاثة آلاف فيهم ألف فارس، وسار أبو بكر إلى جنبه ساعة وقال: «أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يوصيك، فانفذ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لست آمرك ولا أنهاك عنه إنما أنا منفّذ لأمر أمر به «رسول الله صلى الله عليه وسلم» - فخرج سريعا فوطئ بلادا هادية لم يرجعوا عن الإسلام جهينة وغيرها من قضاعة. حتى نزل وادي القرى، فسار إلى أبنى في عشرين ليلة. فقدم له عين له من بني عذرة يدعى حريثا، فانتهى إلى ابني، ثم عاد فلقي أسامة على ليلتين من أبنى فأخبره أن الناس غارون ولا جموع لهم وحثّهم على السّير قبل اجتماعهم. فسار إلى أبني وعبأ أصحابه ثم شنّ عليهم الغارة فقتل من أشرف له وسبى من قدر عليهم وحرّق بالنار منازلهم وحرثهم ونخلعهم فصارت أعاصير من الدواخين وأجال الخيل في عرصاتهم وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم. وكان أسامة على فرس أبيه سبحة وقتل قاتل أبيه في الغارة، وأسهم للفرس سهمين وللفارس سهما وأخذ لنفسه مثل ذلك.
فلما أمسى أمر الناس بالرحيل ثم أغذّ السّير فورد وادي القرى في تسع ليال ثم بعث بشيرا إلى المدينة بسلامتهم ثم قصد بعد في السير فسار إلى المدينة ستّا حتى رجع إلى المدينة ولم يصب أحد من المسلمين. وخرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقّونهم سرورا بسلامتهم ودخل على فرس أبيه سبحة واللواء أمامه يحمله بريدة بن الحصيب حتى انتهى إلى باب المسجد فدخل فصلى ركعتين ثم انصرف إلى بيته. وبلغ هرقل وهو بحمص ما صنع أسامة فبعث رابطة يكونون بالبلقاء فلم تزل هناك حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
تنبيهان
الأول: ذكر محمد بن عمر، وابن سعد أن أبا بكر رضي الله عنه كان ممّن أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم- بالخروج مع أسامة إلى أبنى، وجرى عليه في المورد وجزم به في العيون، والإشارة، والفتح في مناقب زيد بن حارثة. وأنكر ذلك الحافظ أبو العباس بن تيمية فقال في كتابه الذي ردّ فيه على ابن المطهّر الرافضي: «لم ينقل أحد من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم- أرسل أبا بكر وعثمان في جيش أسامة، فقد استخلفه يصلّي بالمسلمين مدة مرضه إلى أن مات وكيف يتصوّر أن يأمره بالخروج في الغزاة وهو يأمره بالصلاة بالناس؟» وبسط الكلام على(6/250)
ذلك. فقلت: وفيما ذكره نظر من وجهين أولهما قوله: لم ينقل أحد من أهل العلم إلخ فقد ذكره محمد بن عمر، وابن سعد وهما من أئمة المغازي: ثانيهما قوله: وكيف يرسل أبا بكر في جيش أسامة؟ إلخ ليس بلازم، فإن إرادة النبي صلى الله عليه وسلم- بعث جيش أسامة كان قبل ابتداء مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم- فلما اشتد به المرض استثنى أبا بكر وأمره بالصلاة بالناس. وقال ابن سعد:
حدثنا عبد الوهاب بن عطاء العجلي قال حدثنا المعمري عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- بعث سريّة فيها أبو بكر وعمرو استعمل عليهم أسامة بن زيد، وكان الناس طعنوا فيه أي في صغره، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم- إلخ فذكر الحديث.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
أبنى: بضم الهمزة وسكون الموحدة وفتح النون فألف مقصورة.
الشّراة: بفتح الشين المعجمة والراء المخففة: جبل.
البلقاء: بفتح الموحدة وسكون اللام وبالقاف والمدّ.
أغر: بقطع الهمزة وكسر الغين المعجمة وبالراء: فعل أمر.
تسبق: بالجزم جواب شرط محذوف وحرّك بالكسر طلبا للخفّة.
اللّبث: بفتح اللام وسكون الموحدة الإقامة.
العيون: جمع عين وهو الجاسوس.
الأربعاء: بتثليث الموحدة والأفصح الكسر.
بدئ: بالبناء للمفعول وهمز آخره أي ابتدئ.
حمّ: بتشديد الميم والبناء للمفعول.
صدّع: بضم الصاد وكسر الدال المشددة وبالعين المهملات أي حصل له صداع في رأسه أي وجع ما.
فلما أصبح يوم الخميس: يجوز في «يوم» النّصب على الظرفية والرفع على أنه فاعل أصبح.
عسكر: جمع عسكره أي جيشه.
الجرف: بضم الجميم والراء وبالفاء موضع على ثلاثة أميال من المدينة.
انتدب: أسرع الخروج.
بريدة: بضم الموحدة وفتح الراء.(6/251)
الحصيب: بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وبالموحدة.
حريش: بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وسكون التحتية وبالشين المعجمة.
عصّب: بتشديد الصاد المهملة.
المقالة: بتخفيف اللام.
القطيفة: كساء له خمل.
وأيم الله: من ألفاظ القسم كقولك لعمرو الله، وفيها لغات كثيرة وتفتح همزتها وتكسر، وهمزتها همزة وصل وقد تقطع.
الخليق: بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام وسكون التحتية وبالقاف أي حقيق وجدير.
لمخيلان: بفتح الميم وكسر الخاء المعجمة وسكون التحتية أي لمظنة كل خير.
أنفذوا: بقطع الهمزة. وكسر الفاء.
المعسكر: بفتح الكاف: الموضع الذي فيه العسكر.
لدّوه: بفتح اللام- الدّواء- الذي يصبّ من أحد جانبي الفم وهما لديداه ولددته فعلت به ذلك.
طأطأ: بهمزة ساكنة بعد الطاء الأولى وهمزة مفتوحة بعد الطاء الثانية.
وأمر النّاس بالرحيل: الناس منصوب مفعول أمر وفاعله عائد على أسامة.
كلم أبو بكر: بالبناء للمفعول.
شنّ عليهم الغارة: فرّق عليهم الرجال من كل وجه.
حرّق: بتشديد الراء.
أعاصير: جمع إعصار وهو ريح يثير الغبار ويرتفع إلى السماء كأنه عمود.
التّعبئة: بفتح الفوقية وسكون العين المهملة وكسر الموحدة وفتح الهمزة فتاء تأنيث.
سبحة: بفتح السين المهملة وسكون الموحدة.
أغذّ السّير: بفتح الهمزة والغين والذال المعجمتين: أسرع.
وادي القرى: بضم القاف وفتح الراء والقصر.
حمص: مدينة معروفة من مشارق الشام لا تنصرف للعجمية والتأنيث والعلمية.
الرابطة: براء فألف فموحدة فطاء مهملة فتاء تأنيث: الجماعة الذين يحفظون من وراءهم من العدو.(6/252)
الباب الحادي والثمانون في ذكر بعض ما فتحه- صلّى الله عليه وسلم- من البلاد
البحرين:
روى عبد الرزاق عن جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: إن أبا أسد جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- بسبي من البحرين، فنظر النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى امرأة منهن تبكي، قال: «ما شأنك؟» قالت: باع ابني، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «أبعت ابنها؟» قال: نعم، قال: فيمن؟ قال: في بني عبس، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «اركب أنت بنفسك، فأت به [ (1) ] والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين حمدا طيبا كثيرا» .
__________
[ (1) ] ذكره الزيلعي في نصب الراية 4/ 24 وعزاه للبيهقي في المعرفة في كتاب السير(6/253)
جماع أبواب بعض الوفود إليه- صلّى الله عليه وسلم- وبارك عليه
الباب الأول في بعض فوائد سورة النّصر
قال ابن إسحاق: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وفرغ من تبوك وأسلمت ثقيف، وبايعت ضربت إليه وفود العرب من كل وجه قال ابن هشام رحمه الله تعالى: حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع وأنها كانت تسمّى سنة الوفود. قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى:
وإنما كانت العرب تربّص بالإسلام أمر هذا الحي من قريش وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم، وأهل البيت والحرم [وضريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام] وقادة العرب لا ينكرون ذلك، وكانت قريش هي التي نصبت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم- وخلافه، فما افتتحت مكة، ودانت له قريش، ودوّخها الإسلام، عرفت العرب أنه لا طاقة لهم بحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم- ولا عداوته، فدخلوا في دين الله كما قال الله عز وجل- أفواجا يضربون إليه من كل وجه.
وفي صحيح البخاري عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: «وكانت العرب تلوّم بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه فإنه إن ظهر عليهم فهو نبيّ صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم» . وذكر الحديث.
وقد أفرد الحافظ العلّامة الشيخ برهان الدين البقاعي رحمه الله تعالى الكلام على تفسير سورة النّصر إعلاما بتمام الدّين اللازم عن مدلول اسمها، اللازم عن موت النبي- صلى الله عليه وسلم- اللازم عنه العلم بأنه ما برز إلى عالم الكون والفساد إلا لإعلاء كلمة الله تعالى وإدحاض كلمة الشيطان، اللازم عنه أنه- صلى الله عليه وسلم- خلاصة الوجود وأعظم عبد للمولى الودود وعلى ذلك دلّ أيضا اسمها على التوديع وحال نزولها وهو أيام التشريق من سنة حجّة الوداع.
بِسْمِ اللَّهِ الذي له الأمر كله فهو العليم الحكيم، الرَّحْمنِ الذي أرسلك رحمة للعالمين، فعمّهم بعد نعمة الإيجاد بأن بيّن لهم إقامة معاشهم ومعادهم بك طريق النّجاة وغاية البيان بما أنزل عليك من معجز القرآن الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله الرَّحِيمِ الذي خصّ من أراده بالإقبال به إلى حزبه وجعله من أهل قربة [بلزوم الصراط المستقيم] لما دلّت التي قبلها على أن الكفار قد صاروا إلى حال لا عبرة لهم فيه ولا التفات إليهم، ولا خوف(6/254)
بوجه منهم ما دام الحال على المتاركة كأنه قيل فهل يحصل نصر عليهم وظفر بهم [بالمعاركة] فأجاب بهذه الصورة بشارة للمؤمنين ونذارة للكافرين.
ولكنه لما لم يكن ذلك بالفعل إلا عام حجّة الوداع يعني بعد فتح مكة بسنتين كان كأنه لم يستقرّ الفتح إلا حينئذ، فلم ينزل سبحانه هذه السورة إلا في ذلك الوقت وقبل منصرفه من غزوة حنين قبل ذلك. فقال تعالى: جاءَ] ولما كانت المقدرات متوجهة من الأزل إلى أوقاتها المعيّنة لها، يسوقها إليها سائق القدرة فتقرب منها شيئا فشيئا كانت كأنها آتية إليها فلذلك حصل التّجوّز بالمجيء عن الحصول فقال] : جاءَ أي استقرّ وثبت في المستقبل لمجيء وقته المضروب له في الأزل، [وزاد في تعظيمه بالإضافة ثم بكونها إلى اسم الذات فقال] : نَصْرُ اللَّهِ أي الملك الأعظم الذي لا مثل له ولا أمر لأحد معه على جميع النّاس في كل أمر تريده، ولما كان النصر درجات وكان قد أشار سبحانه بمطلق الإضافة إليه ثم بكونها إلى الإسم الأعظم إلى أن المراد أعلاها صرّح به فقال: وَالْفَتْحُ أي الذي نزلت سورته بالحديبية مبشّرة بغلبة حزبه الذي أنت قائدهم وهاديهم ومرشدهم [لا سيما] على مكة التي بها بيته ومنها ظهر دينه، وبها كان أصله وفيها مستقرّ عموده وعزّ جنوده، فذلّ بذلك جميع العرب، [وقالوا: لا طاقة لنا بمن أظفره الله بأهل الحرم] ففرّوا بهذا الذّلّ حتى كان ببعضهم هذا الفتح، ويكون بهم كلهم فتح جميع البلاد، وللإشارة إلى الغلبة على جميع الأمم ساقه تعالى في أسلوب الشرط ولتحققها عبّر عنه ب إِذا.
وَرَأَيْتَ النَّاسَ أي العرب كانوا حقيرين عند جميع الأمم فصاروا بك هم الناس وصار سائر أهل الأرض لهم أتباعا. يَدْخُلُونَ شيئا فشيئا محددا دخولهم مستمرا فِي دِينِ اللَّهِ أي شرع من لم تزل كلمته هي العليا في حال الخلق بقهره لهم على الكفر [الذي لا يرضاه لنفسه عاقل ترك الحظوظ] وفي حال طواعيتهم بقسره لهم على الطّاعة وعبّر عنه بالدّين الذي معناه الجزاء لأن العرب كانوا لا يعتقدون القيامة التي لا يتمّ الجزاء إلا بها.
أَفْواجاً أي قبائل وزمرا، زمرا وجماعات كثيفة كالقبيلة بأسرها، أمّة بعد أمة، في خفّة وسرعة ومفاجأة ولين، واحدا واحدا أو نحو ذلك، لأنهم قالوا: أما أذا ظفر بأهل الحرم، وقد كان الله تعالى أجارهم من أصحاب الفيل [الذين لم يقدر أحد على ردّهم] فليس لنا به يدان [فتبيّن من هذا القياس المنتج هذه النتيجة البديهية بقصّة أصحاب الفيل ما رتّبه الله إلا إرهاصا لنبوّته وتأسيسا لدعوته فألقوا بأيديهم وأسلموا قيادهم حاضرهم وباديهم] . ولما كان التقدير:
فقد سبّح الله تعالى نفسه بالحمد بإبعاد نجس الشّرك عن جزيرة العرب بالفعل قال: فَسَبِّحْ أي نزّه أنت بقولك وفعلك [بالصلاة وغيرها] موافقة لمولاك لما فعل تسبيحا ملبّسا بِحَمْدِ(6/255)
أي بكمال رَبِّكَ [الذي أنجز لك الوعد بإكمال الدّين وقمع المعتدين] المحسن إليك بجميع ذلك لأن كلّه لكرامتك وإلا فهو عزيز حميد على كل حال تعجّبا [لتيسر الله على هذا الفتح ما لم يخطر بالبال] وشكرا لما أنعم به سبحانه عليه من أنه أراه تمام ما أرسل لأجله ولأن كل حسنة يعملها أتباعه له مثلها.
«ولما أمره صلى الله عليه وسلم بتنزيهه عن كل نقص ووصفه بكل كمال مضافا إلى الرّبّ، أمره بما يفهم منه العجز عن الوفاء بحقّه لما له من العظمة المشار إليها بذكره مرّتين بالإسام الأعظم الذي له من الدلالة على العظيم والعلوّ إلى محلّ الغيب الذي لا مطمع في دركه مما تتقطّع الأعناق دونه فقال: وَاسْتَغْفِرْهُ أي اطلب غفرانه إنه كان غفّارا، إيذانا بأنه لا يقدر أحد أن يقدّره حقّ قدره لتقتدي بك أمّتك في المواظبة على الأمان الثاني لهم، فإن الأمان الأول الذي هو وجودك بين أظهرهم قد دنا رجوعه إلى معدنه في الرفيق الأعلى والمحلّ الأقدس، وكذا فعل صلى اللَّه عليه وسلم يوم دخل مكة مطأطئا رأسه حتى أنه ليكاد يمسّ واسطة الرّحل تواضعا للَّه تعالى وإعلاما لأصحابه أن ما وقع إنما هو بحول اللَّه تعالى، لا بكثرة من معه من الجمع وإنما جعلهم سببا لطفا منه بهم، ولذلك نبّه من ظنّ منهم أو هجس في خاطره أن للجمع مدخلا فيما وقع من الهزيمة في حنين أولا وما وقع بعد من النّصرة بمن ثبت مع النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهم لا يبلغون ثلاثين نفسا. ولما أمر بذلك فأرشد السّياق إلى أن التقدير: وتب إليه، علّله مؤكدا لأجل استبعاد من يستبعد مضمون ذلك من رجوع الناس في الرّدّة ومن غيره بقوله: إِنَّهُ أي المحسن إليك بخلافته لك في أمّتك، ويجوز أن يكون التأكيد دلالة ما تقدم من ذكر الجلالة مرّتين على غاية العظمة والفوت على الإدراك بالاحتجاب بأردية الكبرياء والعزّة والتّجبّر والقهر، مع أن المألوف أن من كان على شيء من ذلك بحيث لا يقبل عذرا ولا يقيل نادما. كانَ أي لم يزل تَوَّاباً أي رجّاعا لمن ذهب به الشيطان من أهل رحمته. فهو الذي رجع بأنصارك عمّا كانوا عليه من الاجتماع على الكفر والاختلاف بالعداوات، فأيّدك بدخولهم في الدّين شيئا فشيئا حتى أسرع بهم بعد سورة الفتح إلى أن دخلت مكة في عشرة آلاف، وهو أيضا يرجع بك إلى الحال التي يزداد بها ظهور رفعتك في الرفيق الأعلى، ويرجع بمن تخلخل من أمّتك في دينه بردّة أو معصية دون ذلك [إلى ما كان عليه من الخير ويسير بهم أحسن سير] .
«فقد رجع آخر السورة إلى أوّلها بأنه لولا تحقق وصفه بالتوبة لما وجد الناصر الذي وجد به الفتح، والتحم مقطعها أيّ التحام بمطلعها، وعلم أن كل جملة منها مسبّبة عما قبلها، فتوبة اللَّه تعالى على عبيدة نتيجة توبة العبد باستغفاره الذي هو طلب المغفرة بشروطه، وذلك ثمرة اعتقاده الكمال في ربه تبارك وتعالى، وذلك ما دلّ عليه إعلاؤه لدينه وفسّره للداخلين فيه(6/256)
على الدخول مع أنهم أشدّ الناس شكائم وأعلاهم همما وعزائم وقد كانوا في غاية الإباء له والمغالبة للقائم به، وذلك هو فائدة الفتح الذي هو آية النصر وقد علم أن بالآية الأخيرة من الاحتباك ما دلّ بالأمر بالاستغفار [على الأمر] بالتوبة وبتعليل الأمر بالتوبة على تعليل الأمر بالاستغفار» .
انتهى ما أوردته من كلام الشيخ برهان الدين البقاعي، وتأتي بقيّته في الوفاة النبوية إن شاء اللَّه تعالى.
تنبيهات
الأول: هذه السورة مدنية بلا خلاف، والمراد بالمدني ما نزل بعد الهجرة ولو بمكة على المعتمد. وروى البزار، وأبو يعلى، والبيهقي في الدلائل عن أبي عمر رضي اللَّه عنهما قال: نزلت هذه السورة إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أوسط أيام التشريق فعرف أنه الوداع، فأمر بناقته القصواء فرحلت، ثم فخطب خطبته المشهورة.
الثاني: روى مسلم والنسائي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: آخر سورة نزلت إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. وروى الترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح.
قال الشيخ في الإتقان: يعني: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. قال الحافظ: والجمع بينهما أن آخر آية النصر نزولها كاملة بخلاف براءة. قلت: ولفظ حديث ابن عمر، وعند الطبراني: آخر سورة نزلت من القرآن جميعا: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ.
الثالث: سئل عن قول الكشّاف أن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق فكيف صدرت ب إِذا الدّالّة على الاستقبال؟ وأجاب الحافظ بضعف ما نقله، وعلى تقدير صحته فالشرط لم يكتمل بالفتح لأن مجيء الناس أفواجا لم يكن كمل، فبقيّة الشرط مستقبل.
وقد أورد الطّيبي السؤال وأجاب بجوابين أحدهما أن إِذا قد ترد بمعنى إذ كما في قوله تعالى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً [الجمعة 11] الآية. ثانيهما أن كلام اللَّه تعالى قديم. قال الحافظ: وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى.
الرابع: قال الحافظ ابن كثير: «والمراد بالفتح ههنا فتح مكة قولا واحدا فإن أحياء العرب كانت تتلوّم بإسلامها فتح مكة يقولون [دعوه وقومه] فإن ظهر عليهم فهو نبيّ. فلما فتح اللَّه عليه مكة دخلوا في دين اللَّه أفواجا فلم تمض سنتان حتى استوثقت جزيرة العرب إيمانا ولم يبق من سائر قبائل العرب إلا مظهر للإسلام» . قلت: قد حكى غير واحد الخلاف في أن المراد فتح مكة أو فتح سائر البلاد.(6/257)
الخامس: في بيان غريب ما سبق:
تربّص: بمثناة فوقية فراء فموحدة مشددة مفتوحات فصاد مهملة مضمومة: تنتظر.
القادة: بقاف فألف فدال مهملة فهاء: الأشراف الذين يقودون الناس بتبعهم لهم.
نصبت الحرب: بنون فصاد مهملة فموحدة فمثناة فوقية: جدّت فيه.
دوّخها الإسلام: بدال مهملة فواو فخاء معجمة استولى عليها.
بدر: بموحدة فدال مهملة مفتوحات: عاجل.
تلوّم: بفوقية فلام فميم مفتوحات: تنتظر.
برز: بموحدة فراء فزاى مفتوحات: ظهر بعد خفاء.
الكون: بكاف مفتوحة فواو ساكنة فنون: الوجود والاستقرار.
أدحضه: بهمزة فدال فحاء مهملتين فضاد معجمة: أبطله.
فسره: بقاف فسين مهملة فراء مفتوحات: قهره وغلبه.
اليدان: القوّة.
المعدن: بميم مفتوحة فعين مهملة ساكنة فدال مهملة مكسورة فنون: مركز كل شيء والموضع الذي يستخرج منه جواهر الأرض كالذهب والفضة والنحاس.
الرفيق الأعلى: جماعة الأنبياء يسكنون أعلى علّيّين.
واسطة الرّحل: وسطه.
هجس: بهاء فجيم فسين مهملة: خطر بباله.
التحم: بفوقية فحاء مهملة فميم مفتوحات: اشتبك فلم يوجد له مخلص.
المقطع: بميم مفتوحة فقاف ساكنة فطاء مهملة مفتوحة فعين مهملة مصدر قطع إذا أبان.
الشكائم: بشين معجمة جمع شكيمة، يقال فلان شديد الشكيمة إذا كان عزيز النفس أبيّا قويا، وأصله من شكيمة اللّجام فإن قوّتها تدل على قوة الفرس.
الإباء: بهمزة مكسورة فموحدة: شدة الامتناع.
الاحتباك: [الشّدّ والإحكام] .
المطالع: بميم فطاء مهملة فألف فلام فعين مهملة: جمع مطلع بفتح اللام وكسرها مصدر طلع إذا ظهر. واسم لموضع الطلوع.
النتيجة: بنون مفتوحة ففوقية مكسورة فتحتية ساكنة فجيم.
العزائم: بعين مهملة فزاي مفتوحتين فألف فهمزة مكسورة فميم: الأمور الواجبة.(6/258)
الباب الثاني في تحمله صلى اللَّه عليه وسلم للوفود وإجازتهم ومعنى الوفد وفيه أنواع
الأول: في تحمله صلى اللَّه عليه وسلم للوفود:
عن جندب بن مكيث رضي اللَّه عنه قال: «كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا قدم عليه الوفد لبس أحسن ثيابه وأمر أصحابه بذلك، فرأيته وقد قدّم عليه وفد كندة وعليه حلّة يمانية، وعلى أبي بكر وعمر مثله» رواه محمد بن عمر الأسلمي، وأبو نعيم في المعرفة، وأبو الحسن بن الضّحّاك. وعن عروة بن الزبير رحمه اللَّه تعالى أن «ثوب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الذي كان يخرج فيه للوفود حضرميّ طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر، فهو عند الخلفاء قد خلق فطووه بثوب يلبسونه يوم الأضحى والفطر» . رواه ابن سعد.
الثاني: في إجازتهم:
الثالث: في معنى الوفد: قال في الصحاح: «وفد فلان على الأمير، أي ورد رسولا فهو وافد والجمع وفد مثل صاحب وصحب، وجمع الوفد أوفاد ووفود، والإسم الوفادة، وأوفدته أنا إلى الأمير أي أرسلته» وقال في المصباح: «وفد على القوم وفدا من باب وعد ووفودا فهو وافد وقد يجمع على وفّاد ووفد وعلى وفد مثل صاحب وصحب، وجمع الوفد أوفاد ووفود» . وقال في النهاية: «الوفد القوم يجتمعون ويردون البلاد واحدهم وافد، وكذلك الذين يقصدون الأمراء لزيارة واسترفاد وانتجاع وغير ذلك تقول وفد يفد فهو وافد وأوفدته فوفد، وأوفد على الشيء فهو موفد «إذا أشرف» . وقال في المورد: الوفد الجماعة المختارة من القوم ينتقونهم للقاء العظماء.
الرابع: قال الحافظ: «عقد ابن سعد في الترجمة النبوية من الطبقات بابا للوفود وكاد يستوعب ذلك بتخلّص حسن، وكلامه أجمع ما يكون في ذلك. ولم يقع له قصة نافع بن زيد الحميري مع أن ابن سعد ذكر وفد حمير» انتهى كلام الحافظ. قلت: قد ذكرت ما ذكره ابن سعد مع زيادة وفود كثيرة لم تقع له، ورتّبت جميع ذلك على الحروف ليسهل الكشف على من أراد شيئا من ذلك. ولمحمد بن عمر الأسلمي شيخ ابن سعد كتاب الوفود وفيه فوائد لم يلمّ بها ابن سعد.
الخامس: وفد جماعة قبل سنة تسع. قال في البداية: «فيجب التمييز بين السابق من هؤلاء الوافدين على زمن الفتح ممّن يعدّ وفوده هجرة، وبين اللّاحق لهم بعد الفتح [ممّن وعد اللَّه خيرا وحسنى] قال اللَّه سبحانه وتعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ(6/259)
أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الحديد 10] .
تنبيهان
الأول: اختلف في ابتداء الوفود عليه صلى اللَّه عليه وسلم فقيل بعد رجوعه من الجعرانة في آخر سنة ثمان وما بعدها، وقال ابن إسحاق: بعد غزوة تبوك، وقال ابن هشام: كانت سنة تسع تسمى سنة الوفود.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:
جندب: بجيم مضمومة فنون ساكنة فدال مهملة مضمومة وتفتح.
مكيث: بفتح الميم وكسر الكاف وسكون التحتية وبالثاء المثلثة.
كندة: تقدم تفسيره.
الحلّة: بضم الحاء المهملة، يأتي الكلام عليها.
حضرمي: بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة فراء فميم: نسبة إلى حضر موت.
خلق: بخاء معجمة فلام فقاف مفتوحات: بلي.(6/260)
الباب الثالث في وفد أحمس على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
قال ابن سعد رحمه اللَّه تعالى: قدم قيس بن غربة [ (1) ] الأحمسيّ في مائتين وخمسين رجلا من أحمس فقال لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «من أنتم؟» فقالوا: نحن أحمس اللَّه، وكان يقال لهم ذلك في الجاهلية. فقال لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «وأنتم اليوم للَّه» . وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، لبلال: «أعط ركب بجيلة وابدأ، بالأحمسيين» . ففعل
. وعن طارق بن شهاب رضي اللَّه تعالى عنه قال: قدم وفد بجيلة على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «اكتبوا البجليّين وابدأوا بالأحمسيين» . فتخلّف رجل من قيس، قال: حتى انظر ما يقول لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. قال فدعا لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فسمّى مرات: «اللهمّ جد عليهم، اللهمّ بارك فيهم» .
وفي رواية: قدم وفد أحمس ووفد قيس فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أبدأوا بالأحمسيّين قبل القيسيين» . ثم دعا لأحمس فقال: «اللهم بارك في أحمس وخيلها ورجالها» سبع مرات [ (2) ] ، رواه الإمام أحمد.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق.
أحمس: بألف فمهملة فميم فسين مهملة، تقدم في بجيلة.
__________
[ (1) ] قيس بن غربة بفتح المعجمة والراء بعدها موحدة ضبطه ابن الأثير وقيل بكسر الزاي بعدها مثناة تحتانية ثقيلة الأحمسي ... ذكره ابن السّكن في الصحابة وقال هو والد عروة بن قيس الذي روى عنه أبو وائل. الإصابة 5/ 262.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 78.(6/261)
الباب الرابع في وفد أزد شنوءة على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
روى ابن سعد رحمه اللَّه تعالى عن منير بن عبد اللَّه الأزدي قال: قدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صرد بن عبد اللَّه الأزدي في وفد من الأزد بضعة عشر رجلا، فنزلوا على فروة بن عمرو فحباهم وأكرمهم وأقاموا عنده عشرة أيام فأسلموا، وكان صرد أفضلهم، فأمّره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بهم من يليه من أهل الشّرك من قبائل اليمن. فخرج صرد يسير بأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، حتى نزل بجرش وهي يومئذ مدينة حصينة مغلقة، وبها قبائل من اليمن قد تحصّنوا بها، وقد ضوت إليهم خثعم فدخلوها معهم حين سمعوا بمسير المسلمين إليهم. فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا، فحاصرهم شهرا أو قريبا منه، وكان يغير على مواشيهم فيأخذها. ثم تنحّى عنهم إلى جبل يقال له شكر فظنّوا أنه قد انهزم، فخرجوا في طلبه حتى أدركوه.
فصفّ صفوفه فحمل عليهم هو والمسلمون فوضعوا سيوفهم فيهم حيث شاءوا وأخذوا من خيلهم عشرين فرسا. فقاتلوهم عليها نهارا طويلا.
وقد كان أهل جرش بعثوا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رجلين منهم يرتادان وينظران. فبينما هما عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عشيّة بعد العصر إذ قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «بأي بلاد اللَّه شكر» ؟ فقال الجرشيّان: يا رسول اللَّه ببلادنا جبل يقال له كشر بذلم يسمّيه أهل جرش. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «ليس بكشر ولكنه شكر» . قالا:
فما شأنه يا رسول اللَّه؟ قال: «إنّ بدن اللَّه لتنحر عنده الآن» . وأخبرهما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بملتقاهم وظفر صرد بهم. فجلس الرجلان إلى أبي بكر وعثمان رضي اللَّه عنهما فقالا لهما:
ويحكما أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لينعي لكما قومكما فقوما إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فسلاه أن يدعو اللَّه أن يرفع عن قومكما. فقاما إليه فسألاه أن يدعو اللَّه أن يرفع عنهم، فقال: «اللهم ارفع عنهم» .
فخرجا من عند رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم راجعين إلى قومهما فوجدا قومهما قد أصيبوا يوم أصابهم صرد بن عبد اللَّه في اليوم الذي قال فيه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما قال وفي الساعة التي ذكر فيها ما ذكر.
قال ابن سعد: فقصّا على قومهما [القصّة] فخرج وفد جرش حتى قدموا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأسلموا فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «مرحبا بكم أحسن النّاس وجوها وأصدقه لقاء وأطيبه كلاما وأعظمه أمانة، أنتم مني وأنا منكم» .
وجعل شعارهم مبرورا وأحمى لهم حمى حول قريتهم على أعلام معلومة للفرس والراحلة [وللمثيرة] بقرة الحرث، فمن رعاه من الناس فماله سحت [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 372- 373 وابن هشام في سيرته 4/ 197.(6/262)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
الأزد: بألف مفتوحة فزاي فدال مهملة، ويقال بالسين بدل الزاي وفي القاموس هي أفصح.
شنوءة: بشين معجمة مفتوحة فنون فهمزة بعد مدّ الواو، وقد تشدّد الواو قبيلة سميت بذلك لشنآن بينهم.
منير: [بضم الميم فنون مكسورة فتحتية فراء] .
صرد: وزن عمر لكنه ليس معدولا فهو مصروف.
حباهم: بحاء مهملة فموحدة فألف: أعطاهم.
جرش: بضم الجيم وفتح الراء وبالشين المعجمة: مخلاف من مخاليف اليمن.
وبفتحها بلدة بالشام.
مغلقة: بالغين المعجمة.
ضوى: بفتح الضاد المعجمة والواو: أوى.
يرتادان: يطلبان الأخبار.
شكر: بتقديم الشين المعجمة على الكاف المفتوحتين.
كشر: بكاف فشين معجمة مفتوحتين.
ويحه: بواو مفتوحة فتحتية ساكنة فحاء مهملة: كلمة ترحّم منصوبة بإضمار فعل.
النّعي: بنون مفتوحة فعين ساكنة فتحتية: إذاعة الموت.
راجعين: بفتح العين على التثنية لأنهما اثنان.
وأصدقه كلاما: تقدم الكلام على مثل هذا.(6/263)
الباب الخامس في وفد أزد عمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن سعد رحمه الله تعالى: أسلم أهل عمان فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي يعلّمهم شرائع الإسلام ويصدّق أموالهم. فخرج وفدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أسد بن بيرح الطّاحي. فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه أن يبعث معهم رجلا يقيم أمرهم. فقال مخربة العبدي- واسمه مدرك بن خوط- ابعثني إليهم فإن لهم عليّ منّة، أسروني يوم جنوب فمنّوا عليّ. فوجّهه معهم إلى عمان، وقدم سلمة بن عياذ الأزدي في أناس من قومه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عمّا يعبد وما يدعو إليه فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: «أدع الله لي أن يجمع كلمتنا وألفتنا» . فدعا لهم وأسلم سلمة ومن معه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم الوفد الأزد، طيّبة أفواههم، برّة أيمانهم، تقيّة قلوبهم» . رواه الإمام أحمد بسند حسن.
وعن طلحة بن داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم المرضعون أهل عمان» [ (1) ] .
يعني الأزد. رواه الطبراني برجال ثقات.
وعن بشر بن عصمة [الليثي] رضي الله تعالى عنه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الأزد منّي وأنا منهم،. غضب لهم إذا غضبوا [ويغضبون إذا غضبت] وأرضى لهم إذا رضوا [ويرضون إذا رضيت] » [ (2) ] رواه الطبراني.
وعن أبي لبيد قال: خرج رجل من أهل عمان يقال له بيرح بن أسد مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقدم المدينة فوجده قد توفي. فبينا هو في بعض طرق المدينة فرآه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال له من أنت؟ فقال: من أهل عمان. قال: من أهل عمان؟
قال: نعم فأخذ بيده فأدخله على أبي بكر، وقال: هذا من أهل الأرض التي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر أهلها من ... [ (3) ]
فقال أبو بكر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأعلم أرضا يقال لها عمان ينضح بناحيتها البحر [بها حي من العرب] لو أتاهم رسولي لم يرموه بسهم ولا حجر» [ (4) ] . رواه الإمام أحمد وأبو يعلى برجال الصحيح.
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 8/ 373 وعبد الرزاق (13987) وذكره الهيثمي في المجمع 10/ 50.
[ (2) ] أخرجه الطبراني في الكبير 2/ 52.
[ (3) ] بياض في الأصول.
[ (4) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 44 وأبو يعلى في المسند 101/ 106) وذكره الهيثمي في المجمع وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، غير لمازة بن زبار وهو ثقة.(6/264)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
عمان: بعين مهملة مضمومة فميم مخففة.
بيرح: بموحدة مفتوحة فتحتية ساكنة فراء فحاء مهملة.
الطّاحي: بالطاء والحاء المهملتين نسبة إلى بني طاحية.
مخربة: بميم مضمومة فخاء معجمة مشددة.
خوط: بخاء معجمة مضمومة وطاء مهملة [بينهما واو] .
يوم جنوب: بجيم مفتوحة فنون فواو فموحدة: من أيام العرب.
منّوا عليّ: أعتقوني. عياذ: بعين مهملة مكسورة فتحتية فألف فذال معجمة.(6/265)
الباب السادس في وفد بني أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي، وهشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه قالا: قدم عشرة رهط من بني أسد بن خزيمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول سنة تسع، فيهم حضرمي بن عامر، وضرار بن الأزور، ووابصة بن معبد، وقتادة بن القائف، وسلمة بن حبيش، وطليحة بن خويلد، ونقادة ابن عبد الله بن خلف ورسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مع أصحابه، فسلّموا وقال متكلمهم: يا رسول الله، إنّا شهدنا ألّا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله.
وقال حضرمي بن عامر: «أتيناك نتدرّع الليل البهيم في سنة شهباء، ولم تبعث إلينا بعثا» ، فنزلت فيهم: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا [الحجرات 17] . وروى النسائي والبزار وابن مردويه عن ابن عباس، وسعيد بن منصور وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن سعيد بن جبير، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه بسند حسن عن عبد الله بن أوفى، قال الأوّلان: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أسلمنا ولم نقاتلك كما قاتلك العرب، وفي رواية بنو فلان. فأنزل الله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا.
قال ابن سعد: وكان معهم قوم من بني الزّنية وهم بنو مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنتم بنو الرّشدة» . فقالوا: لا نكون مثل بني محوّلة، يعنون بني عبد الله بن غطفان. ومما سألوا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم- يومئذ العيافة والكهانة وضرب الحصى فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن ذلك كله. فقالوا يا رسول الله إن هذه الأمور كنا نفعلها في الجاهلية، أرأيت خصلة بقيت؟ قال: «وما هي؟» قال [صلى الله عليه وسلم] : «الخطّ، علمه نبي من الأنبياء فمن صادف مثل علمه علم» [ (1) ] .
وروى ابن سعد عن رجال من بني أسد ثم من بني مالك بن مالك بن أسد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال لنقادة بن عبد الله بن خلف بن عميرة بن مريّ بن سعد بن مالك الأسدي: «يا نقادة ابغ لي ناقة حلبانة ركبانة ولا تولّهها على ولد» . فطلبها في نعمه فلم يقدر عليها. فوجدها عند ابن عم له يقال له سنان بن ظفير، فأطلبه إيّاها، فساقها نقادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فمسح ضرعها ودعا نقادة فحلبها حتى إذا أبقى فيها بقيّة من لبنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم-: أي نقادة أترك دواعي اللّبن» . فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم- وسقى أصحابه من
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم بنحوه في كتاب المساجد (33) وكتاب السلام (121) والنسائي 3/ 16 وأبو داود في كتاب استفتاح الصلاة باب (56) وأحمد في المسند 2/ 394 والبيهقي 2/ 250.(6/266)
لبن تلك الناقة، وسقى نقادة سؤره وقال: «اللهم بارك فيها من ناقة وفيمن منحها» . قال نقادة:
قلت: وفيمن جاء بها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وفيمن جاء بها» [ (1) ] .
تنبيهات
الأول: قوله- صلى الله عليه وسلم- في الخطّ: «علمه نبي من الأنبياء إلخ» الخط بفتح الخاء المعجمة وبالطاء المهملة. قال في المطالع والتقريب: «فسروه بخطّ الرّمل ومعرفة ما يدل عليه» . وقال في النهاية: [قال ابن عباس: الخطّ] «هو الذي يخطّه الحازي، وهو علم قد تركه الناس، يأتي صاحب الحاجة إلى الحازي فيعطيه حلوانا فيقول له اقعد حتى أخطّ لك، وبين يدي الحازي غلام له معه ميل، ثم يأتي إلى أرض رخوة فيخط فيها خطوطا كثيرة بالعجلة لئلّا يلحقها العدد، ثم يرجع فيمحو منها على مهل خطّين خطّين، وغلامه يقول للتفاؤل: «ابني عيان أسرعا البيان» . فإن بقي خطّان فهما علامة النجح، وإن بقي خطّ واحد فهو علامة الخيبة. وقال الحربي: الخط هو أن يخط ثلاثة خطوط ثم يضرب عليهن بشعير أو نوى، ويقول يكون كذا وكذا، وهو ضرب من الكهانة» . قال ابن الأثير: الخطّ المشار إليه علم معروف، وللناس فيه تصانيف كثيرة وهو معمول به إلى الآن ولهم فيه أوضاع واصطلاح وأسام وعمل كثير ويستخرجون به الضمير وغيره وكثيرا ما يصيبون فيه.
الثاني: ضرب الرّمل حرام صرّح به غير واحد من الشافعية والحنابلة وغيرهم. وقال الإمام النووي في شرح صحيح مسلم في كتاب الصلاة: باب تحريم الكلام في الصلاة:
[فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النّهي عنه الآن] .
الثالث: قوله- صلى الله عليه وسلم-: «علمه نبي من الأنبياء» في حفظي أنه سيدنا إدريس عليه السلام ولا أعلم من ذكره فيحرّر.
الرابع: قوله: «فمن صادف مثل علمه فقد علم» وفي صحيح مسلم: «فمن وافق خطّه فذاك» أي فهو مباح له ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يباح [والمقصود أنه حرام لأنه لا يباح] إلا بيقين الموافقة وليس لنا يقين بها وإنما
قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «فمن وافق خطّه فذاك» .
ولم يقل هو حرام بغير تعليق على الموافقة لئلا يتوهّم متوهم أن هذا النّهي يدخل فيه ذاك النبي الذي كان يخطّ، فحافظ النبي- صلى الله عليه وسلم- علي حرمة ذاك النبي مع بيان الحاكم في حقنا، فالمعنى أن ذاك النبي لا منع في حقه، وكذا لو علمتم موافقته ولكن لا علم لكم بها» .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 39.(6/267)
الخامس: في بيان غريب ما سبق:
القرظي: بقاف مضمومة فراء مفتوحة فظاء معجمة.
السائب: بسين مهملة فألف فهمزة فموحدة.
الحضرمي: تقدم قريبا.
ضرار: بضاد معجمة مكسورة فراءين بينهما ألف.
الأزور: بهمز فزاي فواو فراء، من الزّور وهو الميل.
وابصة: بواو فألف فموحدة فصاد مهملة.
معبد: بميم مفتوحة فعين مهملة ساكنة فموحدة مفتوحة فدال مهملة.
قتادة: بقاف فمثناة فوقية مفتوحتين فألف فدال مهملة.
القايف: بقاف فألف فتحتية ففاء.
سلمة: بسين مهملة فلام فميم مفتوحات.
حبيش: بحاء مهملة مضمومة فموحدة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فشين معجمة.
طليحة: بطاء مهملة مضمومة فلام مفتوحة فتحتية ساكنة فحاء مهملة فتاء تأنيث.
خويلد: بخاء معجمة مضمومة فواو مفتوحة فتحتية ساكنة فلام مكسورة فدال مهملة.
نتدرّع: بنون فمثناة فوقية فدال مهملة مفتوحات فراء مشددة مفتوحة فعين مهملة: أي نجعله درعا لنا.
البهيم: بموحدة مفتوحة فهاء مكسورة فمثناة تحتية فميم: أي شديد الظلمة، وهو في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه.
السنة الشهباء: بشين معجمة مفتوحة فهاء ساكنة فموحدة أي ذات قحط وجدب، والشهباء الأرض البيضاء التي لا خضرة فيها لقلة المطر من الشّبهة وهي البياض [فسمّيت سنة الجدب بها] .
بنو الزّنية: بزاي تفتح وتكسر فنون ساكنة فتحتية مفتوحة، وهي آخر ولد المرأة والرجل، ولذلك سمّي بنو مالك به.
دودان: بدالين مهملتين أولاهما مضمومة فألف فنون.
الرّشدة: بفتح الراء وكسرها والفتح أفصح وسكون الشين المعجمة وفتح الدال المهملة.(6/268)
بنو محوّلة: [بضم الميم وفتح الحاء المهملة والواو المفتوحة المشددة فلام فتاء تأنيث] .
العيافة: بعين مهملة مكسورة فتحتية فألف ففاء: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرّها.
الكاهنة: بكاف فهاء فألف فنون: تعاطي خبر الكائنات في مستقبل الزمان.
حلبانة: بحاء مهملة مفتوحة فلام ساكنة فموحدة فألف فنون: غزيرة تحلب.
ركبانة: براء مفتوحة فكاف ساكنة فموحدة وألف فنون: ذلولة تركب.
لا تولّهها: [بمثناة فوقية مضمومة فواو مفتوحة فلام مشددة مكسورة فهاءين أولاهما ساكنة أي لا تجعل ناقتك والهة بذبحك ولدها] .
ظفير: [بظاء معجمة مضمومة ففاء مفتوحة فتحتية ساكنة فراء] .
دواعي اللّبن: بدال مهملة فواو مفتوحتين فعين مهملة مكسورة: لبن قليل يبقى في الضّرع، يدع ما وراءه فينزله، وإذا استقضى كل ما في الضّرع أبطأ درّه على حالبه.
السّؤر: بسين مهملة مضمومة فهمزة ساكنة فراء: بقية الطعام والشراب وغيرهما.
منحها: بميم فنون فحاء مهملة فهاء مفتوحات: أعطى الناقة أو الشاة لينتفع بلبنها أو وبرها أو صوفها مدّة ثم يردّها.(6/269)
الباب السابع في وفد أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن سعد رحمه الله تعالى: قدم عمير بن أفصى في عصابة من أسلم فقالوا: «قد آمنّا بالله ورسوله واتّبعنا منهاجك فاجعل لنا عندك منزلة تعرف العرب فضيلتها فإنا إخوة الأنصار، ولك علينا الوفاء والنصر في الشّدّة والرخاء» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أسلم سالمها الله وغفار غفر الله لها» .
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا لأسلم ومن أسلم من قبائل العرب ممّن يسكن السّيف والسّهل وفيه ذكر الصدقة والفرائض في المواشي. وكتب الصحيفة ثابت بن قيس بن شمّاس وشهد أبو عبيدة بن الجراح وعمر بن الخطاب. [ (1) ]
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
أفصى: [بهمزة مفتوحة ففاء ساكنة فصاد مهملة مفتوحة فألف مقصورة] .
العصابة: بكسر العين المهملة: هنا الجماعة من الناس.
المنهاج: بميم مكسورة فنون ساكنة فهاء فألف فجيم: الطريق.
السّيف: بكسر السين المهملة وسكون التحتية وبالفاء: الجانب.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد 2/ 116 وهو عند البخاري 2/ 33 ومسلم 4/ 1922.(6/270)
الباب الثامن في قدوم أسيد بن أبي أناس.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه لما بلغه أنه هجاه، فأتى أسيد الطائف فأقام بها. فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خرج سارية بن زنيم إلى الطائف، فقال له أسيد: ما وراءك؟ قال: «قد أظهر الله تعالى نبيه ونصره على عدوّه، فاخرج يا ابن أخي إليه فإنه لا يقتل من أتاه» .
فحمل أسيد امرأته وخرج وهي حامل تنتظر، وأقبل فألقت غلاما عند قرن الثعالب، وأتى أسيد أهله فلبس قميصا واعتمّ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسارية بن زنيم قائم بالسيف عند رأسه يحرسه،
فأقبل أسيد حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد أهدرت دم أسيد؟ قال: «نعم» . قال: تقبل منه إن جاءك مؤمنا؟ قال: «نعم» . فوضع يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هذه يدي في يدك، أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد ألا إله إلا الله. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يصرخ أن أسيد بن أبي أناس قد آمن وقد آمنة رسول الله. ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وألقى يده على صدره،
فيقال إن أسيدا كان يدخل البيت المظلم فيضيء. وقال أسيد رضي الله تعالى عنه:
أأنت الفتى تهدي معدّا لربّها ... بل الله يهديها وقال لك اشهد
فما حملت من ناقةٍ فوق كورها ... أبر وأوفى ذمة من محمّد
وأكسى لبرد الحال قبل ابتذاله ... وأعطى لرأس السّابق المتجرّد
تعلّم رسول الله إنك قادر ... على كل حيّ متهمين ومنجد
تعلّم بأنّ الرّكب ركب عويمر ... هم الكاذبون المخلفو كلّ موعد
أنبوا رسول الله أن قد هجوته ... فلا رفعت سوطي إليّ إذا يدي
سوى أنني قد قلت يا ويح فتية ... أصيبوا بنحس لا يطاق وأسعد
أصابهم من لم يكن لدمائهم ... كفيئا فعزّت حسرتي وتنكّدي
دويبا وكلثوما وسلما وساعدا ... جميعا بأن لا تدمع العين تكمد
فلما أنشده: «أأنت الذي تهدي معدّا لدينها»
، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل الله يهديها» ،
فقال الشاعر: «بل الله يهديها وقال لك اشهد» . رواه ابن شاهين عن المدائني عن رجاله من عدة طرق.
تنبيهات
الأول: هذه القصة والأبيات ذكرها الواقدي والطبراني لأنس بن زنيم قال الحافظ في(6/271)
الإصابة: «وقد رويت نظير قصّته لأنس بن زنيم كما سيأتي في ترجمته ويحتمل وقوع ذلك لهما» .
الثاني: قال دعبل بن علي في طبقات الشعراء قوله: فما حملت ناقة فوق كورها أعفّ وأوفى ذمة من محمد» . هذا أصدق بيت قالته العرب.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
أسيد: بفتح الهمزة كما ذكره العسكري والدّارقطني، وضمّها المرزبان، وردّه ابن ماكولا.
أناس: بضم الهمزة وبالنون.
زنيم: بزاي مفتوحة فنون فمثناة تحتية فميم: الدّعيّ في النسب الملحق بالقوم وليس منهم تشبيها له بالزّنمة وهو شيء يقطع من أذن الشاة ويترك معلّقا بها.
قرن الثعالب: قرن بقاف مفتوحة فراء ساكنة فنون. والثعالب بمثلثة فعين مهملة مفتوحتين فألف فلام فموحدة: موضع يحرم منه أهل نجد.(6/272)
الباب التاسع في وفد أشجع إليه صلّى الله عليه وسلم
قال ابن سعد رحمه الله تعالى: قدمت أشجع على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الخندق وهم مائة ورأسهم مسعود بن رخيلة، فنزلوا شعب سلع. فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر لهم بأحمال التمر. فقالوا: «يا محمد لا نعلم أحدا من قومنا أقرب دارا منك منّا ولا أقلّ عددا، وقد ضقنا بحربك وبحرب قومك فجئنا نوادعك» . فوادعهم. ويقال بل قدمت أشجع بعد ما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني قريظة، وهم سبعمائة، فوادعهم ثم أسلموا بعد ذلك.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
أشجع: بهمزة فشين معجمة ساكنة فجيم فعين مهملة.
رخيلة: براء مضمومة فخاء معجمة مفتوحة فمثناة تحتية فلام.
الباب العاشر في قدوم وفد الأشعريين إليه صلّى الله عليه وسلم وذكر إعلامه صلى الله عليه وسلم بقدومهم قبل وصولهم ودعائه لهم لما أشرفوا في البحر على الغرق.
قال عبد الرزاق: أخبرنا معمر قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جالسا في أصحابه يوما فقال: «اللهم انج أصحاب السفينة» . ثم مكث ساعة فقال: «استمدّت» . فلما دنوا من المدينة قال: «قد جاءوا يقودهم رجل صالح» قال: «والذين كانوا معه في السفينة الأشعريون والذين قادهم عمرو بن الحمق الخزاعي» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين جئتم؟» قالوا من زبيد. قال:
«بارك الله في زبيد» . قالوا: وفي زمع. قال: «وبارك الله في زبيد» . قالوا وفي زمع. قال: في الثالثة: «وفي زمع» [ (1) ] .
وروى ابن سعد والبيهقي وأحمد بن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقدم عليكم قوم هم أرق منكم قلوبا» .
فقدم الأشعريون فيهم أبو موسى الأشعري فلما دنوا من المدينة جعلوا يرتجزون يقولون:
غدا نلقى الأحبّة ... محمّدا وحزبه
__________
[ (1) ] أخرجه عبد الرزاق (19890) .(6/273)
وروى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أتاكم أهل اليمن هم أرقّ أفئدة وألين قلوبا الإيمان يمان، والحكمة يمانية السكينة في أهل الغنم والفخر والخيلاء في الفدّادين من أهل الوبر» [ (1) ] .
وعن جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أتاكم أهل اليمن كأنهم السّحاب وهم خيار من في الأرض» . فقال رجل من الأنصار: إلّا نحن يا رسول الله؟
فسكت ثم قال: ألا نحن يا رسول الله؟ فقال: «إلا أنتم كلمة ضعيفة» [ (2) ] .
رواه في زاد المعاد عن يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه. قال: ولما لقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلموا وبايعوا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الأشعريون في الناس كصرّة فيها مسك» [ (3) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
الأشعريون: بهمزة مفتوحة فشين معجمة ساكنة فعين مهملة مفتوحة فراء فتحتية فواو فنون.
الحمق: بحاء مهملة مفتوحة فميم مكسورة فقاف.
الخزاعي: بخاء معجمة مضمومة فزاى فألف فعين مهملة نسبة إلى خزاعة قبيلة سمّيت بذلك لتفرقهم بمكة.
زمع: [بفتح الزاي وسكون الميم وبالعين المهملة من منازل حمير باليمن] .
الفخر: بفاء مفتوحة فخاء معجمة ساكنة فراء: ادّعاء العظم والكبر والشرف.
الخيلاء: والخيلاء بضم الخاء المعجمة وكسرها: الكبر والعجب.
الفدّادون: بفاء مفتوحة فذال مهملة مفتوحة مشددة فألف فدال مهملة أخرى: الذين تعلوا أصواتهم في حروثهم ومواشيهم [واحدهم فدّاد يقال فدّ الرجل يفدّ فديدا إذا اشتدّ صوته] . وقيل هم المكثرون من الإبل وقيل هم الجمّالون والبقّارون والحمّارون والرّعيان.
وقيل بتخفيف الدال جمع فدان وهي البقرة التي يحرث بها وأهلها أهل جفاء وغلظة.
الوبر: بواو فموحدة مفتوحتين فراء، للإبل بمنزلة الشعر لغيره.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 219 وأحمد في المسند 2/ 235 والطبراني في الكبير 2/ 134 والبيهقي في السنن 1/ 386 والخطيب في التاريخ 11/ 377.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 353.
[ (3) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 79 وذكره المتقي الهندي في كنزل العمال (33975) .(6/274)
الباب الحادي عشر في قدوم أعشى بني مازن على النبي صلى الله عليه وسلم
روى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند، والشيرازي في الألقاب عن نضلة بن طريف، أن رجلا منهم يقال له الأعشى واسمه عبد الله بن الأعور كانت عنده امرأة يقال لها معاذة وخرج في رجب [يمير أهله من هجر فهربت امرأته بعده ناشزا عليه فعاذت برجل منهم يقال له مطرّف بن بهصل المازني فجعلها خلف ظهره فلما قدم لم يجدها في بيته وأخبر أنها نشزت عليه وأنها عاذت بمطرّف بن بهصل فأتاه فقال: يا ابن عمّ أعندك امرأتي معاذة فادفعها إليّ. قال: ليست عندي ولو كانت عندي لم أدفعها إليك. قال وكان مطرّف أعزّ منه. قال فخرج الأعشى حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فعاذ به وأنشأ يقول] : وروى عبد الله بن الإمام أحمد، وابن أبي خيثمة والحسن بن سفيان، وابن شاهين، وأبو نعيم عن الأعشى المازني أنه قال:
أتيت نبي الله صلّى الله عليه وسلم فأنشدته:
يا مالك النّاس وديّان العرب ... إنّي لقيت ذربة من الذّرب
غدوت أبغيها الطّعام في رجب ... فخلّفتني في نزاع وهرب
أخلفت العهد ولظّت بالذّنب ... وهنّ شرّ غالبا لمن غلب
[فكتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مطرّف: «انظر امرأة هذا معاذة فادفعها إليه» .
فأتاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرئ عليه فقال: «يا معاذة هذا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فيك وأنا دافعك إليه. قالت: خذلي العهد والميثاق وذمة النبي صلى الله عليه وسلم إلا يعاقبني فيما صنعت. فأخذ لها ذلك ودفعها إليه فأنشأ يقول:
لعمرك ما حبّي معاذة بالّذي ... يغيّره الواشي ولا قدم العهد
ولا سوء ما جاءت به إذ أذلّها ... غواة رجال إذ يناجونها بعدي [ (1) ]
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
ديّان: بدال مهملة فمثناة تحتية مشددة فألف فنون. القهّار من دان النّاس إذا قهرهم، وقيل الحاكم والقاضي.
ذربة: بذال معجمة مكسورة فراء ساكنة فموحدة مفتوحة: فاسدة من ذرب المعدة وهو فسادها.
غدوت: بغين معجمة فدال مهملة فواو فتاء، من الغدوّ وهو السّير أول النهار.
أبغيها [الطعام] : بهمزة قطع فموحدة ساكنة فغين معجمة فمثناة تحتية أي أطلب لها.
لظّت: بلام فظاء معجمة مشالة مفتوحتين [مع تشديد الظاء] فتاء: أكثرت وألحّت.
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 5/ 74.(6/275)
الباب الثاني عشر في قدوم الأشعث بن قيس عليه، زاده الله فضلا وشرفا لديه.
قال ابن إسحاق: وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشعث بن قيس في وفد كندة في ثمانين راكبا من كندة. فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده وقد رجّلوا جممهم وتكحّلوا عليهم جبب الحبرة، وقد كفّفوها بالحرير. فلما دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألم تسلموا؟» قالوا: بلى. قال: «فما بال هذا الحرير في أعناقكم؟» قال: فشقّوه منها، فألقوه. ثم قال له الأشعث بن قيس: يا رسول الله، نحن بنو آكل المرار [وأنت ابن آكل المرار] . فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «ناسبوا بهذا النّسب العباس بن عبد المطّلب، وربيعة بن الحارث» .
وكان العباس وربيعة تاجرين، وكانا إذا شاعا في بعض العرب فسئلا ممّن هما، قالا: نحن بنو آكل المرار يتعزّزان بذلك. وذلك أن كندة كانوا ملوكا ثم قال لهم: «لا، بل نحن بنو النضر بن كنانة [لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا] [فقال الأشعث بن قيس الكندي: «هل فرغتم يا معشر كندة؟] والله لا أسمع رجلا يقولها إلا ضربته ثمانين» [ (1) ] .
قال ابن هشام: الأشعث بن قيس من ولد آكل المرار من قبل أمه، وآكل المرار:
الحارث بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارك بن معاوية بن ثور بن مرتع بن كنديّ، ويقال كندة. وإنما سمّي آكل المرار لأن عمرو بن الهبولة الغسّاني أغار عليهم. فأكل هو وأصحابه في تلك الغزوة شجرا يقال له المرار.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
رجّلوا: براء فجيم مشددة مفتوحتين فلام.
جممهم: بجيم مضمومة فميمين مفتوحتين فهاء جمع جمّة وقد تقدم تفسيرها في أبواب صفة جسده الشريف.
جبب: بجيم مضمومة فموحدة مفتوحة فأخرى جمع جبّة، تقدم تفسيرها وكذلك الحبرة مرارا.
فكفّفوهما: بكاف ففاء مفتوحتين فأخرى مضمومة فواو [خاطوا حاشيتهما الخياطة الثانية بعد الشّل] .
آكل: بهمزة مفتوحة فألف فكاف مكسورة فلام.
المرار: بميم فراءين بينهما ألف.
شاعا: بشين معجمة فألف فعين مهملة فألف [انتشرا] .
الهبولة: [بهاء مفتوحة فموحدة مضمومة فواو فلام فتاء تأنيث] .
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 5/ 72 والطبقات الكبرى لابن سعد 1/ 2/ 64.(6/276)
الباب الثالث عشر في وفود بارق إليه صلى الله عليه وسلم.
قال ابن سعد رحمه الله تعالى: قدم وفد بارق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا وبايعوا، وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا كتاب من محمد رسول الله لبارق لا تجذّ ثمارهم ولا ترعى بلادهم في مربع ولا مصيف إلّا بمسألة من بارق ومن مرّ بهم من المسلمين في عرك أو جدب فله ضيافة ثلاثة أيام وإذا أينعت ثمارهم فلابن السبيل اللّقاط يوسع بطنه من غير أن يقتثم»
شهد أبو عبيدة بن الجراح، وحذيفة بن اليمان وكتب أبي بن كعب [ (1) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
بارق: بموحدة فألف فراء فقاف.
مربع: بميم مفتوحة فراء ساكنة فموحدة فعين مهملة: الموضع الذي ينزل فيه أيام الربيع، واسم جبل قرب مكة. وأما مربع بكسر الميم فمال بالمدينة في بني حارثة.
مصيف: بميم مفتوحة فصاد مهملة مكسورة فمثناة تحتية ففاء: مكان ينزل فيه أيام الصّيف.
عرك: [تجريد الأرض من المرعى] .
أينعت: بهمزة مفتوحة فتحتية ساكنة فنون فعين مهملة: أدركت ونضجت.
يقتثم: [يجتثّ ولم يبق له أصلا] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 115.(6/277)
الباب الرابع عشر في وفود باهلة إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن شاهين عن ابن إسحاق عن شيوخه، وابن سعد عن شيوخه قالوا: قد مطرّف بن الكاهن الباهلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح وافدا لقومه. فقال يا رسول الله أسلمنا للإسلام وشهدنا دين الله في سماواته وأنه لا إله غيره، وصدّقناك وآمنّا بكل ما قلت فاكتب لنا كتابا فكتب له:.
«من محمد رسول الله لمطرّف بن الكاهن ولمن سكن بيشة من باهلة. إنّ من أحيا أرضا مواتا فيها مراح الأنعام فهي له، وعليه في كل ثلاثين من البقر فارض، وفي كل أربعين من الغنم عتود، وفي كل خمسين من الإبل مسنّة [وليس للمصدّق أن يصدّقها إلا في مراعيها وهم آمنون بأمان الله] [ (1) ] »
الحديث ... وفيه فانصرف مطرّف وهو يقول:
حلفت بربّ الرّاقصات عشيّة ... على كلّ حرف من سديس وبازل
قال ابن سعد: ثم قدم نهشل بن مالك الوائلي من باهلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وافدا لقومه فأسلم وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمن أسلم من قومه كتابا فيه شرائع الإسلام وكتبه عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
باهلة: بباء موحدة وهاء مكسورة ولام مفتوحة.
مراح: [بضم الميم وفتح الراء فألف فحاء مهملة من أراح الإبل ردّها إلى المراح أي المأوى والماء] .
فارض: بالفاء والراء بينهما ألف فضاد معجمة: المسنّة من الإبل وقيل من البقر وهو المراد هنا.
عتود: بعين مهملة مفتوحة ففوقية مضمومة فواو ساكنة فدال مهملة: من أولاد المعز الصغير إذا قوي وأتى عليه حول.
مسنّة: بميم مضمومة فسين مهملة مكسورة فنون مشددة: من البقر والغنم ما دخل في السنة الثانية.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 49.(6/278)
الراقصات: قال في الإملاء أي الإبل ترقص في سيرها أي تتحرك والرّقصان ضرب من المشي.
سديس: بسينين بعد الأولى دال مهملات فتحتية: ما دخل في السنة الثامنة من الإبل.
بازل: بموحدة فألف فزاي فلام: هو من الإبل الذي تمّ ثماني سنين ودخل في التاسعة.(6/279)
الباب الخامس عشر في وفود بني البكّائي إليه صلى الله عليه وسلم.
روى ابن سعد عن عبد الله بن عامر البكائي وعن الجعد بن عبد الله بن عامر البكائي عن أبيه، وابن شاهين عن يزيد بن رومان، وعن الحسن وعن السدي عن أبي مالك وعن رجال المدائني وابن منده، وأبو نعيم من طريق أخرى، وابن شاهين من وجه آخر عن بشر بن معاوية بن ثور، وابن شاهين، وثابت في الدلائل.
قالوا: وفد من بني البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة تسع ثلاثة نفر: معاوية بن ثور بن عبادة البكّائي وهو يومئذ ابن مائة سنة ومعه ابن له يقال له بشر، والفجيع بن عبد الله بن جندح بن البكاء، ومعهم عبد عمرو، وهو الأصمّ. فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزل وضيافة، وأجازهم، ورجعوا إلى قومهم. وقال معاوية للنبي صلى الله عليه وسلم: «إني أتبرّك بمسّك وقد كبرت وابني هذا برّبي فامسح وجهه» . فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه بشر بن معاوية وأعطاه أعنزا عفرا وبرّك عليهن.
قال الجعد: فالسنة ربما أصابت بني البكاء ولا تصيب آل معاوية. وقال محمد بن بشر بن معاوية بن ثور بن عبادة بن البكّاء رضي الله تعالى عنه:
وأبي الذي مسح الرسول برأسه ... ودعا له بالخير والبركات
أعطاه أحمد إذ أناه أعنزا ... عفرا نواجل لسن باللجنات
يملأن رفد الحي كل عشية ... ويعود ذاك الملء بالغدوات
بوركن من منح وبورك مانحا ... وعليه مني ما حييت صلاتي
وسمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد عمرو الأصم عبد الرحمن وكتب له بمائة الذي أسلم عليه بذي القصّة. وكان عبد الرحمن من أصحاب الظّلّة يعني الصّفّة صفّة المسجد.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
الفجيع: بجيم مصغّر.
جندح: بضم الجيم والدال المهملة وسكون النون بينهما وآخره [حاء] مهملة.
العفر: بعين مهملة مضمومة ففاء ساكنة فراء: بياض ليس بالناصع.
اللّجنات: القليلات اللّبن.
ذو القصّة: بقاف فصاد مهملة مفتوحتين فتاء تأنيث موضع قريب من المدينة.(6/280)
الباب السادس عشر في وفود بني بكر بن وائل إليه صلى الله عليه وسلم
قال ابن سعد: قدم وفد بكر بن وائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رجل منهم: هل تعرف قسّ بن ساعدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هو منكم، هذا رجل من إياد تحنّف في الجاهلية فوافى عكاظا والناس مجتمعون فكلّمهم بكلامه الذي حفظ عنه» [ (1) ] .
وقد تقدم ذكره في أوائل الكتاب.
وكان في الوفد بشير بن الخصاصيّة، وعبد الله بن مرثد، وحسّان بن حوط [ (2) ] وقال رجل من ولد حسّان.
أنا ابن حسّان بن حوط وأبي ... رسول بكر كلّها إلى النّبي
وقد معهم عبد الله بن أسود بن شهاب بن عوف بن عمرو بن الحارث بن سدوس وكان ينزل اليمامة فباع ما كان له من مال باليمامة، وهاجر وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجراب من تمر، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
قسّ بن ساعدة وإياد وعكاظ: تقدم الكلام عليها أول الباب.
الحصاصية: بحاء فصادين مهملات بينهما ألف فمثناة تحتية.
حسّان: بفتح الحاء المهملة.
حوط: [بفتح الحاء المهملة وسكون الواو فطاء مهملة] .
سدوس: بسينين بعد الأولى دال مهملات فواو.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 79 وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 10/ 166.
[ (2) ] حسان بن خوط بن مسعر بن عنود بن مالك بن الأعور بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر الشيباني نسبه ابن الكلبي.. انظر الإصابة 2/ 9.(6/281)
الباب السابع عشر في وفود بليّ إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] عن رويفع بن ثابت البلويّ [ (2) ] رضي الله تعالى عنه قال: قدم وفد من قومي في شهر ربيع الأول سنة تسع فأنزلتهم في منزلي ببني جديلة، ثم خرجت بهم حتى انتهينا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه في بيته في الغداة. فسلّمت. فقال:
«رويفع» . فقلت: لبّيك. قال: «من هؤلاء القوم» . قلت: قومي. قال: «مرحبا بك وبقومك» .
قلت: يا رسول الله قدموا وافدين عليك مقرّين بالإسلام وهم على من وراءهم من قومهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من يرد الله به خيرا يهده للإسلام» . قال: فتقدّم شيخ الوفد أبو الضّبيب [ (3) ] فقال: «يا رسول الله إنّا قدمنا عليك لنصدّقك ونشهد أن ما جئت به حق، ونخلع ما كنا نعبد ويعبد آباؤنا» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي هداكم للإسلام فكل من مات على غير الإسلام فهو في النار» . وقال له أبو الضّبيب: يا رسول الله إني رجل لي رغبة في الضيافة فهل لي في ذلك أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم وكل معروف صنعته إلى غنيّ أو فقير فهو صدقة» . قال: يا رسول الله ما وقت الضيافة؟ قال: «ثلاثة أيام فما بعد ذلك فصدقة ولا يحلّ للضيف أن يقيم عندك فيحرجك» . قال: يا رسول الله أرأيت الضّالّة من الغنم أجدها في الفلاة من الأرض. قال: «لك ولأخيك أو للذئب» . قال: فالبعير. قال: «مالك وله، دعه حتى يجده صاحبه» . [قال رويفع] : وسألوا عن أشياء من أمر دينهم فأجابهم. ثم رجعت بهم إلى منزلي فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بحمل تمر يقول: «استعن بهذا التمر» . قال: فكانوا يأكلون منه ومن غيره.
فأقاموا ثلاثا، ثم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يودّعونه فأمر لهم بجوائز كما كان يجيز من كان قبلهم ثم رجعوا إلى بلادهم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
بليّ: بفتح الموحدة وكسر اللام وتشديد الياء حيّ من قضاعة.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 94.
[ (2) ] رويفع بن ثابت البلوي ... ذكره الطبري في وفد بليّ وأنهم نزلوا عليه سنة تسع وهو غير رويفع بن ثابت الأنصاري قاله ابن فتحون. الإصابة 2/ 214.
[ (3) ] أبو الضبيس البلوي
ذكره محمد بن الربيع الجيزي فيمن دخل مصر من الصحابة وذكر الواقدي من طريق محمد بن سعد مولى بني مخزوم عن رويفع بن ثابت البلوي قال: قدم وفد قومي في شهر ربيع الأول سنة تسع فبلغني قدومهم فأنزلتهم علي فخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال شيخ منهم يقال: له أبو الضبيس يا رسول الله إني رجل أرغب في الضيافة فهل لي من أجر في ذلك قال: «نعم وكل معروف إلى غني أو فقير صدقة»
الإصابة 7/ 1089.(6/282)
رويفع: براء مضمومة فواو فتحتية ففاء فعين مهملة.
أبو الضّبيب: بضم الضاد المعجمة الساقطة وفتح الموحدة وسكون التحتية وبالموحدة. ويقال فيه أبو الضّبيس.
فيحرجك: من الحرج أي يضيق صدرك وقيل يؤثّمك والحرج الإثم أي يعرّضك للإثم [حتى تتكلم فيه بما لا يجوز فتأثم] .(6/283)
الباب الثامن عشر في وفود بهراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى محمد بن عمر عن كريمة بنت المقداد رضي الله تعالى عنها قالت: سمعت أمي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب تقول: قدم وفد بهراء من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ثلاثة عشر رجلا. فأقبلوا يقودون رواحلهم حتى انتهوا إلى باب المقداد بن عمرو، ونحن في منازلنا ببني حديلة. فخرج إليهم المقداد فرحّب وأنزلهم وقدم لهم جفنة من حبس. قالت ضباعة: كنّا قد هيّأناها قبل أن يحلّوا لنجلس عليها، فحملها المقداد وكان كريما على الطعام.
فأكلوا منها حتى نهلوا وردّت إلينا القصة وفيها شيء فجمع في قصعة صغيرة ثم بعثنا بها مع سدرة مولاتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدته في بيت أم سلمة.
فقال صلى الله عليه وسلم: «ضباعة أرسلت بهذا؟» قالت سدرة: نعم يا رسول الله، قال: «ضعي» ثم قال: «ما فعل ضيف أبي معبد؟» قلت:
عندنا. فأصاب منها رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ومن معه في البيت حتى نهلوا وأكلت معهم سدرة.
ثم قال: «اذهبي بما بقي إلى ضيفكم» .
قالت سدرة: فرجعت بالقصعة إلى مولاتي. قالت:
فأكل منها الضيف ما أقاموا. فردّدها عليهم وما تغيض حتى جعل الضيف يقولون يا أبا معبد إنك لتنهلنا من أحبّ الطعام إلينا وما كنا نقدر على مثل هذا إلا في الحين. وقد ذكر لنا أن بلادكم قليلة الطعام إنما هو العلق أو نحوه ونحن عندكم في الشّبع. فأخبرهم أبو معبد بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أكل منها وردّها وهذه بركة أصابعه صلّى الله عليه وسلم. فجعل القوم يقولون: نشهد أنه رسول الله وازدادوا يقينا، وذلك الذي أراد صلى الله عليه وسلم فأتوه فأسلموا وتعلموا الفرائض وأقاموا أياما.
ثم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يودّعونه فأمر لهم بجوائز وانصرفوا إلى أهليهم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
بهراء: بفتح الموحدة وسكون الهاء وبالراء والمدّ.
بنو حديلة: بضم الحاء وفتح الدال المهملتين فتحتية ساكنة فلام.
رحّب بهم: قال لهم: مرحبا.
الجفنة: بفتح الجيم.
الحيس: بفتح الحاء وسكون التحتية وبالسين المهملتين: الأقط بالتمر والسّمن.
العلق: بعين مهملة مضمومة فلام ساكنة فقاف: جمع علقة وهي البلغة من الطعام.(6/284)
الباب التاسع عشر في وفود تجيب- وهم من السكون- إليه صلى الله عليه وسلم
قدم وفد تجيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثة عشر رجلا، وساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عز وجل، فسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وأكرم منزلهم.
وقالوا: يا رسول الله سقنا إليك حقّ الله في أموالنا. فقال صلى الله عليه وسلم: «ردّوها فاقسموها على فقرائكم» . قالوا: يا رسول الله ما قدمنا عليك إلا بما فضل من فقرائنا. فقال أبو بكر: يا رسول الله ما قدم علينا وفد من العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من تجيب. فقال صلى الله عليه وسلم: «أن الهدى بيد الله عز وجل، فمن أراد الله به خيرا شرح صدره للإيمان» .
وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء فكتب لهم بها، وجعلوا يسألونه عن القرآن والسّنن، فازداد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم رغبة وأمر بلالا أن يحسن ضيافتهم.
فأقاموا أياما ولم يطيلوا اللّبث. فقيل لهم: ما يعجلكم؟ قالوا: نرجع إلى من وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلامنا إيّاه، وما ردّ علينا ثم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يودّعونه فأمر بلالا فأجازهم بأرفع مما كان يجيز به الوفود وقال: «هل بقي منكم أحد؟» قالوا: غلام خلّفناه على رحالنا وهو أحدثنا سنّا. قال: «أرسلوه إلينا» . فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام:
انطلق إلى رسول الله فاقض حاجتك منه فإنّا قد قضينا حوائجنا منه وودّعناه.
فأقبل الغلام حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني غلام من بني أبذى من الرّهط الذين أتوك آنفا فقضيت حوائجهم فاقض حاجتي يا رسول الله. قال: «وما حاجتك؟» قال: «يا رسول الله إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم وإني والله ما أعلمني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي ويرحمني وأن يجعل غناي في قلبي» . فقال: صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر له وارحمه واجعل غناه في قلبه» . ثم أمر به بمثل ما أمر به لرجل من أصحابه.
فانطلقوا راجعين إلى أهليهم ثم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى سنة عشر فقالوا نحن بنو أبذى،
فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغلام فقالوا: يا رسول الله: والله ما رأينا مثله قط ولا حدّثنا بأقنع منه بما رزقه الله، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوها ولا التفت إليها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله إني لأرجو أن يموت جميعا» . فقال رجل منهم: أو ليس يموت الرجل جميعا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «تشعّب أهواؤه وهمومه في أودية الدنيا فلعل أجله يدركه في بعض تلك الأودية فلا يبالي الله عز وجل في أيّها هلك» .
قالوا فعاش ذلك الرجل فينا على أفضل حال وأزهده في الدنيا وأقنعه بما رزقه الله. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام قام في قومه فذكّرهم الله والإسلام فلم يرجع منهم أحد. وجعل أبو بكر(6/285)
رضي الله تعالى عنه يذكره ويسأل عنه حتى بلغه حاله وما قام به. فكتب إلى زياد بن لبيد يوصيه به خيرا.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
تجيب: بضم الفوقية وفتحها وكسر الجيم وسكون التحتية وبالموحدة.
السّكون: بفتح السين المهملة وضم الكاف وسكون الواو وبالنون: حيّ من اليمن.
سرّ: بضم السين المهملة وفتح الراء المشددة.
فضل: بفتح الضاد المعجمة وكسرها.
اللّبث: بفتح اللام وسكون الموحدة وبالثاء المثلثة: المكث.
يعجلك: بضم أوله وكسر الجيم.
من وراءنا: بفتح الميم.
برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: بفتح اللام، مفعول المصدر.
خلّفناه: بتشديد اللام.
بنو أبذى: بفتح الهمزة وسكون الموحدة وفتح الذال المعجمة وزن أعمى.
مذحج: بفتح الميم وسكون الذال المعجمة فحاء مهملة مكسورة فجيم.
موسم الحاجّ: بفتح الميم وسكون الواو وكسر السين المهملة وبالميم: معلم يجتمع إليه الناس، وكل مجمع من الناس موسم.
أعلمني من بلادي: وهو من إعمال المطيّ وهو حثّها وسوقها يقال أعملت الناقة فعملت كأنه يقول ما حثّني وساقني إلا ما ذكرت.
حدّثنا: بضم الحاء المهملة وكسر الدال المهملة مبني للمفعول.
تشعّب: حذف منه إحدى التاءين أي تشعّب.(6/286)
الباب العشرون في وفود بني تغلب إليه صلى الله عليه وسلم.
روى ابن سعد عن يعقوب بن زيد بن طلحة قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وفد بني تغلب ستة عشر رجلا مسلمين ونصارى عليهم صلب الذهب، فنزلوا دار رملة بنت الحارث.
فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم النصارى على أن يقرّهم على دينهم على أن لا يصبغوا أولادهم في النصرانية وأجاز المسلمين منهم بجوائزهم.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
تغلب: بمثناة فوقية مفتوحة فغين معجمة ساكنة فلام مكسورة فموحدة.
يصبغوا أولادهم في النصرانية بتحتية مفتوحة فصاد مهملة ساكنة فموحدة فغين معجمة مضمومتين: يغمسوا.
الباب الحادي والعشرون في وفود بني تميم إليه صلى الله عليه وسلم
وسبب مجيئهم أخذ عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري جماعة منهم كما تقدم في الباب السادس والخمسين من السرايا. فقدم فيهم عدّة من رؤساء بني تميم. فروى ابن إسحاق، وابن مردويه عن عطارد بن حاجب بن زرارة، والزّبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، والحبحاب بن يزيد، ونعيم بن يزيد، وقيس بن الحارث، وقيس بن عاصم، ورياح بن الحارث في وفد عظيم يقال: كانوا سبعين أو ثمانين رجلا. وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس كانا شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنينا والطائف، فلما قدم وفد بني تميم قدما معهم.
قالوا: فدخلوا المسجد وأذّن بلال بالظهر والناس ينتظرون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل وفد بني تميم واستبطئوه، فنادوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجراته: يا محمد اخرج إلينا، يا محمد اخرج إلينا، ثلاث مرات فآذى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من صياحهم. فخرج إليهم فقالوا: إن مدحنا لزين وإن ذمّنا لشين نحن أكرم العرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبتم بل مدحة الله عز وجل الزّين وذمّه الشّين، وأكرم منكم يوسف بن يعقوب» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد عن الأقرع بن حابس [ (2) ] ، وابن جرير بسند جيّد، وأبو القاسم
__________
[ (1) ] ذكره السيوطي في الدر 6/ 87 وعزاه لابن إسحاق وابن مردويه.
[ (2) ] ذكره السيوطي في الدر 6/ 86 وعزاه لأحمد وابن جرير وابن القاسم البغوي وابن مردويه والطبراني بسند صحيح.(6/287)
البغوي، والطبراني بسند صحيح، والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن البراء من عازب رضي الله تعالى عنهما قال البراء: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الأقرع إنه هو، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اخرج إلينا، فلم يجبه فقال: يا محمد إن حمدي لزين وإن ذمّي لشين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك الله عز وجل» . فقال: إنّا أتيناك لنفاخرك فأذن لشاعرنا وخطيبنا. قال: «قد أذنت لخطيبكم فليقل» .
فقام عطارد بن حاجب فقال:
«الحمد لله الذي له علينا الفضل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكا ووهب لنا أموالا عظاما، نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق وأكثره عددا وأيسره عدّة، فمن مثلنا في الناس؟
ألسنا برؤوس الناس وأولي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإنا لو شئنا لأكثرنا الكلام ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا [وإنا نعرف بذلك] . أقول هذا لأن تأتوا بمثل قولنا وأمر أفضل من أمرنا» . ثم جلس.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخي بني الحارث بن الخزرج: «قم فأجب الرجل في خطبته» .
فقام ثابت فقال: «الحمد لله الذي السماوات والأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره ووسع كرسيّه علمه، ولم يك شيء قط إلا من فضله، ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكا، واصطفى من خير خلقه رسولا أكرمه نسبا، وأصدقه حديثا. وأفضله حسبا فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله من العالمين، ثم دعا الناس إلى الإيمان به، فآمن برسول الله المهاجرون من قومه وذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا وأحسن الناس وجوها وخير الناس فعالا، ثم كان أول الخلق إجابة، واستجاب الله حين دعاه رسول الله نحن، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله ورسوله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه ومن كفر جاهدناه في الله أبدا، وكان قتله علينا يسيرا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي وللمؤمنين والمؤمنات والسلام عليكم» .
فقام الزّبرقان بن بدر فقال، وفي لفظ فقال الزبرقان بن بدر لرجل منهم: يا فلان قم فقل أبياتا تذكر فيها فضلك وفضل قومك فقام فقال:
نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا ... منّا الملوك وفينا تنصب البيع
وكم قسرنا من الأحياء كلّهم ... عند النّهاب وفضل العزّ يتّبع
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ... من الشّواء إذا لم يؤنس القزع
ونطعم النّاس عند المحل كلّهم ... من السّديف إذا لم يؤنس القزع
بما ترى النّاس تأتينا سراتهم ... من كلّ أرض هويّا ثمّ نصطنع
فنحر الكوم عبطا في أروقتنا ... للنّازلين إذا ما أنزلوا شبعوا(6/288)
فلا ترانا إلى حيّ نفاخرهم ... إلّا استفادوا فكانوا الرّأس يقتطع
فمن يفاخرنا في ذاك نعرفه ... فيرجع القوم والأخبار تستمع
إنّا أبينا ولا يأبى لنا أحد ... إنّا كذلك عند الفخر نرتفع
قال ابن هشام: ويروى: «منّا الملوك وفينا تقسم الرّبع» . ويروى: «من كل أرض هوانا ثم متّبع» . رواه لي بعض بني تميم [وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرها للزبرقان] .
قال ابن إسحاق: وكان حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه غائبا فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال حسّان: جاءني رسوله فأخبرني أنه إنما دعاني لأجيب شاعر بني تميم فخرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول:
منعنا رسول الله إذ حلّ وسطنا ... على أنف راض من معدّ وراغم
منعناه لمّا حلّ بين بيوتنا ... بأسيافنا من كلّ باغ وظالم
ببيت حريد عزّه وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
هل المجد إلّا السّؤدد العود والنّدى ... وجاه الملوك واحتمال العظائم
فلما فرغ الزبرقان
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسّان بن ثابت: «قم يا حسّان فأجب الرجل»
فقام حسّان فقال:
إنّ الذّوائب من فهر وإخوتهم ... قد بيّنوا سنّة للنّاس تتّبع
يرضى بهم كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع
قوم إذا حاربوا ضرّوا عدوهم ... أو حاولوا النّفع في أشياعهم نفعوا
سجيّة تلك منهم غير محدثة ... إنّ الخلائق فاعلم شرّها البدع
إن كان في النّاس سبّاقون بعدهم ... فكلّ سبق لأدنى سبقهم تبع
لا يرقع النّاس ما أوهت أكفّهم ... عند الدّفاع ولا يوهون ما رقعوا
إن سابقوا النّاس يوما فاز سبقهم ... أو وازنوا أهل مجد بالنّدى متعوا
أعفّة ذكرت في الوحي عفّتهم ... لا يطمعون ولا يرديهم طمع
لا يبخلون على جار بفضلهم ... ولا يمسّهم من مطمع طبع
إذا نصبنا لحىّ لم ندبّ لهم ... كما يدبّ إلى الوحشيّة الذّرع
نسمو إذا الحرب نالتنا مخالبها ... إذا الزّعانف من أظفارها خشعوا
لا يفرخرون إذا نالوا عدوّهم ... وإن أصيبوا فلا خور ولا هلع
كأنّهم في الوغى والموت مكتنع ... أسد بحلية في أرساغها فدع
خذ منهم ما أتى عفوا إذا غضبوا ... ولا يكن همّك الأمر الّذي منعوا(6/289)
فإنّ في حربهم فأترك عداوتهم ... شرّا يخاض عليه السّمّ والسّلع
أكرم بقوم رسول الله شيعتهم ... إذا تفاوتت الأهواء والشّيع
أهدى لهم مدحتي قلب يوازره ... فيما أحبّ لسان حائك صنع
فإنّهم أفضل الأحياء كلّهم ... إن جدّ بالنّاس جدّ القول أو شمعوا
قال ابن هشام: وأنشدني أبو زيد:
يرضي بها كلّ من كانت سريرته ... تقوى الإله وبالأمر الّذي شرعوا
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم بالشعر من بني تميم أن الزبرقان بن بدر لما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم قال:
أتيناك كيما يعلم النّاس فضلنا ... إذا اختلفوا عند احتضار المواسم
بأنّا فروع النّاس في كلّ موطن ... وأن ليس في أرض الحجاز كدارم
وإنّا نذود المعلمين إذا انتخوا ... ونضرب رأس الأصيد المتفاقم
فإنّ لنا المرباع في كلّ غارة ... نغير بنجد أو بأرض الأعاجم
فقام حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه فأجابه فقال:
هل المجد إلّا السّؤدد العود والنّدى ... وجاه ملوك واحتمال العظائم
نصرنا وآوينا النّبيّ محمّدا ... على أنف راض من معدّ وراغم
بحيّ حريد أصله وثراؤه ... بجابية الجولان وسط الأعاجم
نصرناه لمّا حلّ وسط ديارنا ... بأسيافنا من كلّ باغ وظالم
جعلنا بنينا دونه وبناتنا ... وطبنا له نفسا بفيء المغانم
ونحن ضربنا النّاس حتّى تتابعوا ... على دينه بالمرهفات الصّوادم
ونحن ولدنا من قريش عظيمها ... ولدنا نبيّ الخير من آل هاشمٍ
بني دارم لا تفخروا إنّ فخركم ... يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم ... لنا خول من بين ظئر وخادم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ... وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا ... ولا تلبسوا زيّا كزيّ الأعاجم
قال ابن إسحاق: فلما فرغ حسان بن ثابت من قوله قال الأقرع بن حابس: «وأبي إن هذا الرجل لمؤتّى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أعلى من أصواتنا» .
فلما فرغ القوم أسلموا وجوّزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم. وكان عمرو بن(6/290)
الأهتم قد خلّفه القوم في ظهرهم، وكان أصغرهم سنّا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما أعطى القوم.
وقال محمد بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز كل رجل منهم اثنتي عشرة أوقية إلا عمرو بن الأهتم فإنه أعطاه خمس أواق لحداثة سنة. قال ابن إسحاق: وفيهم نزل من القرآن:
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات 4] [
وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم] فقال: «هم جفاة بني تميم، لولا أنهم من أشد الناس قتالا للأعور الدّجّال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم» .
وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم، والزّبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم التميميون. ففخر الزبرقان وقال: يا رسول الله أنا سيّد تميم والمطاع فيهم والمجاب منهم آخذ لهم بحقوقهم وأمنعهم من الظلم وهذا يعلم ذلك. وأشار إلى عمرو بن الأهتم.
فقال عمرو بن الأهتم: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أدانيه. فقال الزبرقان: والله يا رسول الله لقد علم مني غير ما قال وما منعه أن يتكلم إلا الحسد. فقال عمرو ابن الأهتم: «أنا أحسدك، فو الله إنك للئيم الخال، حديث المال، أحمق الولد، مبغض في العشيرة، والله يا رسول الله لقد صدقت فيما قلت أولا وما كذبت فيما قلت آخرا، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعا» .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من البيان لسحرا» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
شرح غريب أبيات الزبرقان بن بدر رضي الله عنه تنصب: بضم الفوقية وسكون النون وفتح الصاد المهملة وبالموحدة المضمومة.
البيع: نائب الفاعل جمع بيعة بكسر الموحدة وهي أماكن الصلوات والعبادات للنصارى.
فسرنا: بالقاف والسين المهملة: قهرنا وأكرهنا.
النّهاب: بنون مكسورة فهاء فألف فموحدة: جمع نهب بمعنى منهوب.
يتّبع: بالبناء للمفعول.
القزع: جمع قزعة وهي السحاب يعني إذا كان الجدب ولم يكن في السماء سحاب يتقزّع والقزع تفرّق السحاب.(6/291)
السّراة: بفتح السين المهملة وتخفيف الراء: الأشراف جمع سريّ.
هويّا: بضم الهاء وكسر الواو وتشديد التحتية: سراعا.
نصطنع: بالبناء للمفعول.
الكوم: بضم الكاف وسكون الواو وبالميم جمع كوماء بفتح الكاف وسكون الواو وبالمدّ: وهي العظيمة السّنام.
عبطا: بعين مفتوحة وطاء مهملتين وسكون الموحدة بينهما والاعتباط الموت في الحداثة. قال الشاعر:
من لم يمت عبطة يمت هرما* للموت كأس والمرء ذائقها الأرومة: بفتح الهمزة وضم الراء: الأصل.
أنزلوا: بالبناء للمفعول.
استقادوا: بهمزة وصل فسين مهملة فمثناة فوقية فقاف، فدال مهملة طلبوا القود.
يقتطع: بالبناء للمجهول.
تستمع: بالبناء للمجهول كذلك.
شرح غريب شعر حسان رضي الله عنه.
أبينا: بهمزة مفتوحة فموحدة مفتوحة فتحتية ساكنة فنون: امتنعنا أشدّ الامتناع.
الذّوائب: بذال معجمة جمع ذؤابة وهي الشّعر المضفور من شعر الرأس، وذؤابة الجبل أعلاه ثم استعير للعزّ والشرف والمرتبة أي من الأشراف وذوي الأقدار.
فهر: بكسر الفاء وسكون الهاء وبالراء.
الأشياع: بهمزة مفتوحة فمعجمة ساكنة فتحتية فألف فمهملة.
السّجيّة: بفتح السين المهملة وكسر الجيم وتشديد التحتية: الخلق والطبيعة.
الخلائق: بخاء معجمة فلام مفتوحتين فألف فياء فقاف: وهم الناس والخليقة وهي البهائم وقيل هما بمعنى واحد.
سبّاقون: [بسين مهملة مفتوحة فموحدة مشددة فألف فقاف فواو فنون من سبقه يسبقه يسبقه تقدّمه ويقال سبّاق غايات أي حائز قصبات السّبق] .
لا يرقع الناس: [بمثناة مفتوحة فراء فقاف فعين مهملة من رقع الثوب إذا رمّمه] .
أوهت: بهمزة فواو ساكنة فهاء: أضعفت.(6/292)
الرقاع: براء مكسورة وقاف وآخره عين مهملة ما يكتب فيه الحقوق.
آذنوا: بهمزة مفتوحة ممدودة فذال معجمة فنون: أعلموا.
المجد: بميم مفتوحة فجيم ساكنة فذال مهملة: الشرف الواسع.
النّدى: بفتح النون وبالقصر: الجود والكرم.
متعوا: ارتفعوا من متع النهار ارتفع.
أعفّة: بهمزة مفتوحة فعين مهملة مكسورة ففاء جمع عفيف وهو الكافّ عن الحرام والسؤال من الناس.
الذّرع: بفتح الذال المعجمة والراء وبالعين المهملة ولد البقرة الوحشية وجمعه ذرعان، وبقرة مذرع، إذا كانت ذات ذرع.
ذكرت: بالبناء للمفعول.
لا تطبعون: بتحتية فطاء مهملة ساكنة فموحدة مفتوحة فعين مهملة فواو: لا يتدنسون، والطبع بفتح الطاء: الدّنس، يقال فيه طبع يودي.
نصبنا: أظهرنا العداوة ولم نسرّها.
ندبّ: بفتح النون وكسر الدال المهملة [وتشديد الموحدة: أي ندرج رويدا] .
الوحشيّة: بواو مفتوحة فحاء مهملة ساكنة فشين معجمة مكسورة فتحتية مشددة [من الوحشة] ضدّ الأنس والوحشة الخلوة والهمّ.
الزّعانف: بفتح الزاي والعين المهملة وبعد الألف نون مكسورة وبالفاء: وهم أطراف الناس وأتباعهم وأصله أطراف الأديم والأكارع.
الخور: بضم الخاء المعجمة وسكون الواو وبالراء: الضعفاء.
الهلع: بضم الهاء واللام الجبناء، الهلع أفحش الجزع.
الوغى: بفتح الواو والغين المعجمة وبالقصر. وهو في الأصل الجلبة والأصوات، وقيل للحرب وغى لما فيها من ذلك.
مكتنع: بميم مضمومة فكاف ساكنة ففوقية مفتوحة فنون مكسورة فعين مهملة. يقال اكتنع منه الموت إذا دنا منه وقرب.
الأسد: جمع أسد.
حلية: بحاء مهملة مفتوحة فلام ساكنة فتحتية. هذا هو الصواب- وقيل بالموحدة بدل(6/293)
التحتية- وحلية مأسدة بناحية اليمن.
الأرساغ: بفتح أوله وسكون الراء وبالسين المهملة- ويقال بالصاد المهملة بدل السين- وبعد الألف غين معجمة جمع رسغ بضم الراء وهو مفصل ما بين الكف والساعد، ومجتمع الساق والقدم.
الفدع: بفتح الفاء والدال وبالعين المهملتين: المعوجّ الرّسغ من اليد والرّجل، فيكون منقلب الكف، والقدم [إلى عظم الساق] . وذلك الموضع هو الفدعة.
أتوا: أعطوا.
عفوا: من غير مشقّة.
شرّا: اسم «إن» والخبر «في حربهم» ، وما بينهما اعتراض.
السّمّ: بالحركات الثلاث في سينه المهملة وتشديد الميم.
السّلع: بسين فلام مفتوحتين فعين مهملتين: نبات مسموم.
أهدى: بفتح الهمزة والدال المهملة فعل ماض.
مدحتي: بميم مكسورة فدال مهملة فحاء مهملة فتاء تأنيث مفعول مقدّم.
قلب: فاعل مؤخّر.
يوازره: يعاونه.
لسان: فاعل يوازره.
صنع: بصاد مهملة فنون مفتوحتين فعين مهملة: حاذق.
الجد: بكسر الجيم وتشديد الدال المهملة: ضد الهزل.
شمعوا: بشين معجمة فميم مفتوحتين وبالعين المهملة: ضحكوا ولعبوا ومنه الحديث:
«من يتتبع المشمعة يشمّع الله به» . يريد من ضحك من الناس وأفرط في المزاح [أصاره الله إلى حالة يعبث به ويستهزأ منه فيها] . وشمعت الجارية شمعا، لعبت وامرأة شموع: مزاحة.(6/294)
الباب الثاني والعشرون في وفود بني ثعلبة إليه صلى الله عليه وسلم
روى محمد بن عمر، وابن سعد [ (1) ] عن رجل من بني ثعلبة [عن أبيه] قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الجعرانة سنة ثمان قدمنا عليه أربعة نفر، وافدين مقرّين بالإسلام. فنزلنا دار رملة بنت الحارث، فجاءنا بلال فنظر إلينا فقال: أمعكم غيركم؟ قلنا: لا. فانصرف عنا، فلم يلبث إلا يسيرا حتى أتانا بجحفة من ثريد بلبن وسمن، فأكلنا حتى نهلنا. ثم رحنا الظّهر، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد خرج من بيته ورأسه يقطر ماء، فرمى ببصره إلينا، فأسرعنا إليه، وبلال يقيم الصلاة.
فسلّمنا عليه وقلنا: يا رسول الله نحن رسل من خلفنا من قومنا ونحن [وهم] مقرّون بالإسلام وهم في مواشيهم وما يصلحها إلا هم، وقد قيل لنا يا رسول الله: «لا إسلام لمن لا هجرة له» .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حيثما كنتم واتقيتم الله فلا يضرّكم» . وفرغ بلال من الآذان وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنا الظهر، لم نصل وراء أحد قط أتمّ صلاة ولا أوجه منه، ثم انصرف إلى بيته فدخل فلم يلبث أن خرج إلينا فقيل لنا: صلّى في بيته ركعتين. فدعا بنا فقال:
«أين أهلكم؟» فقلنا قريبا يا رسول الله هم بهذه السرية، فقال: «كيف بلادكم؟» فقلنا مخصبون.
فقال: «الحمد لله» .
فأقمنا أياما وتعلمنا القرآن والسنين وضيافته صلى الله عليه وسلم تجري علينا، ثم جئنا نودّعه منصرفين فقال لبلال: «أجزهم كما تجيز الوفود» . فجاء بنقر من فضّة فأعطى كل رجل منا خمس أواق وقال: ليس عندنا دراهم فانصرفنا إلى بلادنا.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 63.(6/295)
الباب الثالث والعشرون في وفد ثقيف إليه صلّى الله عليه وسلم
قال في زاد المعاد: قال ابن إسحاق: وقدم في رمضان منصرفه من تبوك وفد ثقيف، وكان من حديثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم اتّبع أثره عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه بالإسلام.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنهم قاتلوك» ،
وعرف أن فيهم نخوة الامتناع الذي كان منهم. فقال عروة: يا رسول الله أنا أحبّ إليهم من أبكارهم. وكان فيهم كذلك محبّبا مطاعا.
فخرج يدعو قومه إلى الإسلام رجاء إلّا يخالفوه لمنزلته فيهم. فلما أشرف لهم على علّية له، وقد دعاهم إلى الإسلام وأظهر لهم دينه رموه بالنّبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله.
فقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال: «كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها الله إليّ، فليس فيّ إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يرتحل عنكم، فادفنوني معهم» . فدفنوه معهم، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه: «إنّ مثله في قومه لكمثل صاحب يس في قومه» .
ثم أقامت ثقيف بعد قتل عروة أشهرا، ثم إنهم ائتمروا بينهم ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب من حولهم من العرب وقد بايعوا وأسلموا. وأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا كما أرسلوا عروة، فكلّموا عبد يا ليل بن عمرو بن عمير، وكان سنّ عروة بن مسعود وعرضوا عليه ذلك. فأبى أن يفعل وخشي أن يصنع به، إذا رجع كما صنع بعروة. فقال: لست فاعلا حتى ترسلوا معى رجالا.
فأجمعوا أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف وثلاثة من بني مالك فيكونوا ستة فبعثوا مع عبد يا ليل: الحكم بن عمرو بن وهب، وشرحبيل بن غيلان. ومن بني مالك: عثمان بن أبي العاص، وأوس ابن عوف، ونمير بن خرشة. فخرج بهم عبد ياليل، فلما دنوا من المدينة ونزلوا قناة ألفوا بها المغيرة بن شعبة. فاشتدّ ليبشّر بهم النبي صلى الله عليه وسلم. فلقيه أبو بكر فقال: أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكون أنا أحدثه. فدخل أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بقدومهم. ثم خرج المغيرة إلى أصحابه فروّح الظّهر معهم. وعلّمهم كيف يحيون رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأبوا إلا تحية الجاهلية. ولما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم قبّة في ناحية المسجد لكي يسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صلّوا.
وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب كتابهم بيده. وكانوا لا يأكلون طعاما يأتيهم من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأكل منه خالد حتى أسلموا. وكان فيما سألوا أن يدع لهم الطاغية وهي اللّات ولا يهدمها ثلاث سنين حتى سألوه(6/296)
شهرا فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمّى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم، ويكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام.
فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة لهدمها.
وقد كانوا سألوه أن يعفيهم من الصلاة وألّا يكسروا أوثانهم بأيديهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمّا كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه» .
فلما أسلموا وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا، أمّر عليهم عثمان بن أبي العاص، وكان من أحدثهم سنّا، وذلك أنه كان من أحرصهم على التّفقّه في الإسلام وتعلّم القرآن. وكان كما رواه عنه الطبراني برجال ثقات- رضي الله عنه- قال: قدمت في وفد ثقيف حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما حللنا بباب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: من يمسك رواحلنا؟ فكل القوم أحبّ الدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكره التخلف عنه، وكنت أصغرهم، فقلت إن شئتم أمسكت لكم على أن عليكم عهد الله لتمسكنّ لي إذا خرجتم، قالوا: فذلك لك.
فدخلوا عليه ثم خرجوا، فقالوا: انطلق بنا. قلت: إلى أين؟ قالوا: إلى أهلك فقلت:
«ضربت من أهلي حتى إذا حللت بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم أأرجع ولا أدخل عليه؟ وقد أعطيتموني ما علمتم» . قالوا: فاعجل فإنا قد كفيناك المسألة، لم ندع شيئا إلا سألناه.
فدخلت
فقلت: يا رسول الله ادع الله تعالى أن يفقهني في الدين ويعلّمني. قال: «ماذا قلت؟» فأعدت عليه القول. فقال: «لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أصحابك، اذهب فأنت أمير عليهم وعلى من تقدم عليه من قومك» .
وفي رواية: فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته مصحفا فأعطانيه.
ثم قال في زاد المعاد: لما توجه أبو سفيان والمغيرة إلى الطائف لهدم الطاغية أراد المغيرة أن يقدّم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه وقال: ادخل أنت على قومك. وأقام أبو سفيان بماله بذي الهرم.
فلما دخل المغيرة علاها ليضربها بالمعول، وقام قومه دونه، بنو معتّب خشية أن يرمى أو يصاب كما أصيب عروة. فلما هدمها المغيرة وأخذ مالها وحليها أرسل أبا سفيان بمجموع مالها من الذهب والفضة والجزع.
وقد كان أبو المليح بن عروة، وقارب بن الأسود قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفد ثقيف- حين قتل عروة- يريدان فراق ثقيف وألّا يجامعاهم على شيء أبدا، فأسلما،
فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تولّيا من شئتما» . فقالا: نتولّى الله ورسوله.
فلما أسلم أهل الطائف سأل أبو المليح رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقضي عن أبيه عروة دينا(6/297)
كان عليه من مال الطاغية فقال له: «نعم»
فقال له قارب بن الأسود: وعن الأسود يا رسول الله، فاقضه وعروة والأسود أخوان لأب وأمّ.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأسود مات مشركا» .
فقال قارب يا رسول الله، لكن تصل مسلما ذا قرابة- يعني نفسه- وإنما الدّين عليّ وأنا الذي أطلب به. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أبا سفيان أن يقضي دينهما من مال الطاغية [ (1) ] .
وكان كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لهم: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي رسول الله إلى المؤمنين: إنّ عضاه وجّ وصيده حرام لا يعضد [ولا يقتل صيده] فمن وجد يفعل شيئا من ذلك فإنه يجلد وتنزع ثيابه ومن تعدّى ذلك فإنه يؤخذ فيبلّغ النبي محمدا وإن هذا أمر النبي محمد رسول الله وكتب خالد بن سعيد بأمر من محمد بن عبد الله رسول الله [فلا يتعدّه أحد فيظلم نفسه فيما أمر به محمد رسول الله لثقيف] » .
هذا خبر ثقيف من أوله إلى آخره، هذا لفظه في غروة الطائف.
وذكر في وفد ثقيف زيادة على ما هنا قال: وكانوا يغدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل يوم ويخلّفون عثمان بن أبي العاص على رحالهم لأنه أصغرهم. فلما رجعوا عمد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الدين واستقرأه القرآن حتى فقه في الدين وعلم، فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبّه. فمكث الوفد يختلفون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعوهم إلى الإسلام فأسلموا.
فقال كنانة بن عبد يا ليل: هل أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا؟ قال: نعم إن أنتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم وإلا فلا قضيّة ولا صلح بيني وبينكم. قالوا: أفرأيت الزنا؟ فإنا قوم نغترب لا بدّ لنا منه. قال: وهو عليكم حرام، إن الله عز وجل يقول: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء 32] قالوا: أفرأيت الرّبا فإنه أموالنا كلّها؟ قال: لكم رؤوس أموالكم، أن الله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [البقرة 278] . قالوا: أفرأيت الخمر فإنه لا بد لنا منها؟ قال: إن الله تعالى قد حرّمها وقرأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة 90] .
فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض وكلّمه إلا يهدم الرّبّة، فأبى، فقال ابن عبد يا ليل: إنا لا نتولّى هدمها. فقال: «سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها» . وأمّر عليهم عثمان بن أبي العاص كما تقدم لما علم من حرصه على الإسلام. وكان قد تعلّم سورا من القرآن قبل أن يخرج لما سألوه أن يؤمّر عليهم.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 5/ 370.(6/298)
فلما رجع الوفد خرجت ثقيف يتلقّونهم فلما رآهم ساروا العنق وقطروا الإبل قال بعضهم لبعض ما جاء وفدكم بخير، وقصد الوفد اللّات، ونزلوا عندها. فقال ناس من ثقيف إنهم لا لا عهد لهم برؤيتنا، ثم رحل كل رجل منهم إلى أهله فسألوهم: ماذا جئتم به؟ قالوا: أيتنا رجلا فظّا غليظا قد ظهر بالسيف وداخ له العرب قد عرض علينا أمورا شدادا: هدم اللّات.
فقالت ثقيف: والله نقبل هذا أبدا.
فقال الوفد: أصلحوا السلاح وتهيّئوا للقتال. فمكثت ثقيف كذلك يومين أو ثلاثة يريدون القتال، ثم ألقى الله في قلوبهم الرّعب، فقالوا: والله ما لنا به من طاقة فارجعوا فأعطوه ما سأل. فلما رأى الوفد إنهم قد رغبوا واختاروا الإيمان قال الوفد: فإنا قاضيناه وشرطنا ما أردنا ووجدناه أتقى الناس وأوفاهم وأرحمهم وأصدقهم، وقد بورك لنا ولكم في مسيرنا إليه فاقبلوا عافية الله.
فقالت ثقيف: فلم كتمتمونا هذا الحديث؟ فقالوا: أردنا أن ننزع من قلوبكم نخوة الشيطان، فأسلموا مكانهم ومكثوا أياما. ثم قدم رسل النبي صلى الله عليه وسلم وعمدوا إلى اللّات ليهدموها، وخرجت ثقيف كلها حتى العواتق من الحجال لا ترى أنها مهدومة ويظنون أنها ممتنعة. فقام المغيرة فأخذ الكرزين فضرب ثم سقط فارتجّ أهل الطائف وقالوا: أبعد الله المغيرة قتلته الرّبّة وفرحوا وقالوا: والله لا يستطاع هدمها.
فوثب المغيرة وقال: «قبحكم الله يا معشر ثقيف إنما هي لكاع حجارة ومدر فاقبلوا عافية الله واعبدوه» . ثم ضرب الباب فكسره ثم علا سورها وعلا الرجال معه يهدمونها حجرا حجرا حتى سوّوها. وقال صاحب المفتاح: ليغضبنّ الأساس فليخسفنّ بهم. فلما سمع ذلك المغيرة قال لخالد: دعني أحفر أساسها، فحفره حتى أخرجوا ترابها. وأقبل الوفد حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحليّها وكسوتها، فقسمه من يومه، وحمد الله تعالى على نصرة نبيّه وإعزاز دينه.
وقال عثمان بن أبي العاص، كما رواه عنه أبو داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يجعل مسجد الطائف حيث كانت طاغيتهم. وقال عثمان: إنما استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم لأني كنت قرأت سورة البقرة،
فقلت: يا رسول الله إن القرآن ينفلت مني، فوضع يده على صدري وقال: «يا شيطان اخرج من صدر عثمان» .
فما نسيت شيئا بعده أريد حفظه.
وفي صحيح مسلم: قلت يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي، فقال: «ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوّذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثا» .
قال: ففعلت فأذهبه الله عني.(6/299)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
أثره: بضم الهمزة وتفتح وتكسر وسكون الثاء المثلثة.
النّخوة: الكبر والعظمة.
أبكارهم: بهمزة مفتوحة فموحدة ساكنة فكاف فألف فراء: أوّل أولادهم.
العلّيّة: بضم العين المهملة وكسرها وتشديد التحتية: وهي الغرفة، والجمع العلاليّ بتشديد التحتية وتخفيفها.
أوس بن عوف: أحد بني سالم.
فليس فيّ: بتشديد ياء الإضافة.
قتلوا: بالبناء للمفعول.
مثله كمثل صاحب يس: قال في العروض: يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم: «كمثل صاحب يس» يريد به المذكور في سورة ياسين الذي قال لقومه: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ [يس 20] فقتله قومه واسمه حبيب بن مرّي، ويحتمل أن يريد صاحب إلياس وهو اليسع فإن إلياس يقال في اسمه ياسين أيضا. وقال الطبري هو إلياس بن ياسين [وفيه قال الله تبارك وتعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ [الصافات 130] وقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ أيضا في صاحب مرّة بن الحارث لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني هلال فقتلوه.
عبد يا ليل: بمثناة تحتية فألف فلامين بينهما مثناة تحتية.
ابن عمرو بن عمير: كذا قال ابن إسحاق، وقال موسى بن عقبة، وابن الكلبي، وأبو عبيدة: مسعود بن عبد ياليل.
أن يصنع به كما صنع بعروة بن مسعود: ببنائهما للمفعول.
ابن معتّب: بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الفوقية المشددة وبالموحدة، ويجوز فيه سكون العين وكسر الفوقية.
شرحبيل: بشين معجمة فراء مفتوحتين فحاء مهملة ساكنة فموحدة مكسورة فمثناة تحتية فلام.
ابن غيلان: بفتح الغين المعجمة وسكون التحتية أسلم بعد، وكان تحته عشر نسوة، كذلك مسعود بن عمرو بن عمير، وعروة بن مسعود، وسفيان بن عبد الله، ومسعود بن معتب، وأبو عقيل بن مسعود بن عامر، وكلهم من ثقيف.
وهب بن جابر: [بفتح الواو وسكون الهاء وبالموحدة] .(6/300)
نمير بن خرشة: نمير بنون مضمومة فميم فمثناة تحتية فراء، خرشة: بخاء معجمة فراء فشين معجمة مفتوحات.
قناة: بفتح القاف وتخفيف النون وبعد الألف تاء تأنيث: واد من أودية المدينة.
ألفوا: بفتح الهمزة وسكون اللام وفتح الفاء وسكون الواو: وجدوا.
اشتدّ: عدا.
روح: بفتح الراء وتشديد الواو المفتوحة وبالحاء المهملة.
الظهر: الإبل.
تحية الجاهلية: عم صباحا محذوف من نعم ينعم بكسر الماضي وفتح المستقبل.
لا يطمعون: بفتح التحتية والميم وسكون الطاء المهملة بينهما.
الطاغية: ما كانوا يعبدون من الأصنام، والجمع الطواغي: والطاغوت جمعه طواغيت وهو الشيطان وما يزيّن لهم أن يعبدوه من الأصنام، والطاغوت يكون واحدا وجمعا.
يدعها: بفتح أوله وبالدال والعين المهملتين: يتركها.
يظهرون: بضم أوله وكسر الهاء: [يبيّنون] .
يسلموا: بفتح التحتية واللام: من السلامة.
الذّراري: بذال معجمة فراءين بينهما ألف فمثناة تحتية مشدّدة جمع ذرّيّة وهي اسم لنسل الإنسان من ذكر وأنثى: أصلها الهمز إلا أنهم لم يستعملوها إلا غير مهموزة.
يروّعوا: بضم التحتية وتشديد الواو المكسورة من الرّوع وهو الفزع.
فسنعفيكم منه: بضم النون وكسر الفاء.
أمّر عليهم: من التأمير.
تعلّم القرآن: بتشديد اللام المضمومة وهو مجرور.
بذي الهرم: بفتح الهاء وإسكان الراء فميم.
المعول: بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الواو فلام: الفأس العظيمة التي يقطع بها الصّخر والجمع المعاول.
معتّب: تقدم ضبطه.
أن يرمى: بالبناء للمفعول.
أو يصاب: بالبناء للمفعول كذلك.(6/301)
حسّرا: بضم الحاء وفتح السين المشددة وبالراء المهملات: متكشفات.
واها: قيل معنى هذه الكلمة التلهف، وقد توضع موضع الإعجاب بالشيء يقال: واها له، وقد ترد بمعنى التّوجّع.
حليّها: بضم الحاء المهملة وكسر اللام وتشديد التحتية جمع حلي بفتح الحاء وسكون اللام.
ومالها: أي الذي لها.
الجزع: بسكون الزاي خرز معروف.
أبو المليح بن عروة بن مسعود: بفتح الميم وكسر اللام وبالحاء المهملة بعد التحتية:
صحابي ابن صحابي.
قارب: بالقاف وبعد الألف راء مكسورة فموحدة: وهو ابن أخي عروة بن مسعود.
قتل عروة: بالبناء للمفعول.
وأطلب به: [بالبناء للمفعول] كذلك.
العضاه: بكسر العين المهملة وبالضاد المعجمة وبالهاء لا بالتاء وهو جمع، وهو كل شجر ذي شوك الواحدة عضة «بالتاء حذفت منه الهاء كشفة ثم ردّت في الجمع فقيل عضاه ويقال عضاهة أيضا وهو أقبحها.
وجّ: بفتح الواو وتشديد الجيم: قال في القاموس: «اسم واد بالطائف لا بلد به، وغلط الجوهري [وهو ما بين جبلي المحترق والاحيحدين] ومنه آخر وطأة وطئها الله تعالى بوجّ، يريد غزوة حنين لا الطائف وغلط الجوهري، وحنين واد قبل وجّ أما غزوة الطائف فلم يكن فيها قتال» . انتهى. قال في النور: قوله لم يكن فيها قتال فيه نظر إلا أن يريد توجهه [إلى موضع العدو وإرهابه] .
مصدّق: بفتح الدال [والتشديد وهو صاحب الماشية الذي أخذت صدقة ماله، وبكسر الدال المشددة عامل الزكاة الذي يستوفيها من أربابها] .(6/302)
الباب الرابع والعشرون في وفود ثمالة والحدّان إليه صلى الله عليه وسلم
قالوا: قدم عبد الله بن علس الثّمالي، ومسلمة بن هاران الحدّاني على رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قومهما بعد فتح مكة، فأسلموا وبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومهم. وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بما فرض عليهم من الصدقة في أموالهم كتبه ثابت بن قيس بن شماس، وشهد فيه سعد بن عبادة، ومحمد بن مسلمة.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
ثمالة: بثاء مثلثة مضمومة فميم فألف فلام فتاء تأنيث.
مسيلمة: بميم مضمومة فسين مهملة مفتوحة فمثناة تحتية فلام فميم.
هاران: بهاء فألف فراء فألف فنون.
الباب الخامس والعشرون في قدوم الجارود بن المعلّى، وسلمة بن عياض الأسدي إليه صلى الله عليه وسلم
قال أبو عبيدة معمر بن المثنّى: قدم الجارود العبدي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه سلمة بن عياض الأسدي، وكان حليفا في الجاهلية، وذلك أن الجارود قال لسلمة بن عياض الأسدي: إن خارجا خرج بتهامة يزعم أنه نبي، فهل لك أن نخرج إليه؟ فإن رأينا خيرا دخلنا فيه، فإنه إن كان نبيا فللسابق إليه فضيلة، وأنا أرجو أن يكون النبي الذي بشّر به عيسى ابن مريم. وكان الجارود نصرانيا قد قرأ الكتب.
ثم قال لسلمة: «ليضمر كل واحد منا ثلاث مسائل يسأله عنها، لا يخبر بها صاحبه، فلعمري لئن أخبر بها إنه لنبيّ يوحى إليه» . ففعلا.
فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الجارود: بم بعثك ربّك يا محمد؟. قال: «بشهادة ألا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله، والبراءة من كل ند أو وثن يعبد من دون الله تعالى، وإقام الصلاة لوقتها وإيتاء الزكاة بحقها وصوم شهر رمضان وحجّ البيت، مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 46] » .
قال الجارود: إن كنت يا محمد نبينا فأخبرنا عمّا أضمرنا عليه. فخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنها سنة ثم رفع رأسه وتحدّر العرق عنه فقال: «أما أنت يا جارود فإنك أضمرت على أن(6/303)
تسألني عن دماء الجاهلية وعن حلف الجاهلية وعن المنيحة، ألا وإن دم الجاهلية موضوع وحلفها مشدود. ولم يزدها الإسلام إلا شدّة، ولا حلف في الإسلام، ألا وإنّ الفضل الصّدقة أن تمنح أخاك ظهر دابّة أو لبن شاة، فإنها تغدو برفد، وتروح بمثله. وأما أنت يا سلمة فإنك أضمرت على أن تسألني عن عبادة الأصنام، وعن يوم السّباسب وعن عقل الهجين، فأما عبادة الأصنام فإن الله تعالى يقول: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [الأنبياء 98] وأما يوم السباسب فقد أعقب الله تعالى منه ليلة خير من ألف شهر، فاطلبوها في العشر الأواخر من شهر رمضان فإنها ليلة بلجة سمحة لا ريح فيها تطلع الشمس في صبيحتها لا شعاع لها، وأما عقل الهجين فإن المؤمنين إخوة تتكافأ دماؤهم يجير أقصاهم على أدناهم أكرمهم عند الله أتقاهم» .
فقالا: نشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبد الله ورسوله.
وعند ابن إسحاق عمّن لا يتّهم عن الحسن أن الجارود لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّمه فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، ودعاه إليه، ورغّبة فيه. فقال: يا محمد إني كنت على دين وإني تارك ديني لدينك أفتضمن لي ديني؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه» . فأسلم وأسلم أصحابه. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان فقال: «والله ما عندي ما أحملكم عليه» . فقال: يا رسول الله فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس- وفي لفظ المسلمين- أفنتبلّغ عليها إلى بلادنا؟ قال: «لا، إيّاك وإيّاها فإنما تلك حرق النار»
انتهى
فقال: «يا رسول الله ادع لنا أن يجمع الله قومنا» . فقال «اللهم اجمع لهم ألفة قومهم وبارك لهم في برّهم وبحرهم» . فقال الجارود: يا رسول الله أيّ المال اتّخذ ببلادي؟ قال: «وما بلادك؟» قال: مأواها وعاء ونبتها شفاء، وريحها صبا ونخلها غواد. قال: «عليك بالإبل فإنها حمولة والحمل يكون عددا. والناقة ذودا» .
قال سلمة: يا رسول الله أيّ المال اتّخذ ببلادي؟ قال: «وما بلادك؟» قال: مأواها سباح ونخلها صراح وتلاعها فياح. قال: «عليكم بالغنم فإن ألبانها سجل وأصوافها أثاث وأولادها بركة ولك الأكيلة والربا» .
فانصرفا إلى قومهما مسلمين. وعند ابن إسحاق فخرج من عنده الجارود راجعا إلى قومه وكان حسن الإسلام صليبا على دينه حتى مات وقد أدرك الرّدّة فثبت على إيمانه، ولما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينه الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر قام الجارود فشهد شهادة الحق ودعا إلى الإسلام فقال: أيها الناس إني أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وان محمداً عبده ورسوله وأكفّر من لم يشهد. وقال الجارود:(6/304)
شهدت بأنّ الله حقّ ... بنات فؤادي بالشّهادة والنّهض
فأبلغ رسول الله عنّي رسالة ... بأنّي حنيف حيث كنت من الأرض
وأنت أمين الله في كل خلقه ... على الوحي من بين القضيضة والقضّ
فإن لم تكن داري بيثرب فيكم ... فإنّي لكم عند الإقامة والخفض
أصالح من صالحت من ذي عداوة ... وأبغض من أمسي على بغضكم بغضي
وأدني الّذي واليته وأحبّه ... وإن كان في فيه العلاقم من بغض
أذبّ بسيفي عنكم وأحبّكم ... إذا ما عدوكم في الرفاق وفي النّقض
وأجعل نفسي دون كلّ ملمّة ... لكم جنّة من دون عرضكم عرضي
وقال سلمة بن عياض الأسدي رضي الله تعالى عنه:
رأيتك يا خير البرية كلّها ... نشرت كتابا جاء بالحقّ معلما
شرعت لنا فيه الهدى بعد جورنا ... عن الحقّ لمّا أصبح الأمر مظلما
فنورت بالقرآن ظلمات حندس ... وأطفأت نار الكفر لمّا تضرّ ما
تعالى علوّ الله فوق سمائه ... وكان مكان الله أعلى وأكرما
وروى سليمان بن عليّ عن علي بن عبد الله عن عبد اله بن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الجارود رضي الله تعالى عنه أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه في قومه:
يا نبيّ الهدى أتتك رجال ... طعت فدفدا وآلا فآلا
وطوت نحوك الصّحاصح طرّا ... لا تخال الكلال فيه كلالا
كلّ دهناء يقصر الطّرف عنها ... أرقلتها قلاصنا إرقالا
وطوتها الجياد تجمح فيها ... بكماة كأنجم تتلالا
تبتغي دفع بوس يوم عبوس ... أوجل القلب ذكره ثمّ هالا
تنبيهان
الأول: وقع في العيون: الجارود بن بشر بن المعلّى. قال في النور: والصواب حذف «ابن» ، يبقى الجارود بشر بن المعلّى.
الثاني: في بيان غريب ما سبق:.
الجارود بن المعلّى ويقال ابن عمرو بن المعلّى أبو المنذر ويقال أبو غياث بمعجمة ومثلثة على الأصح وقيل بمهملة وموحدة ويقال اسمه بشر بن حنش بحاء مهملة ونون مفتوحتين فشين معجمة.
أن قد: بفتح الهمزة.(6/305)
ضوالّ: بفتح الضاد المعجمة وتخفيف الواو وتشديد اللام: جمع ضالّة وهي الضائعة من كل ما يقتنى من الحيوان وغيره يقال ضلّ الشيء إذا ضاع وضلّ عن الطريق إذا حار، وهي في الأصل فاعلة ثم أتّسع فيها فصارت من الصفات الغالبة وتقع على الذكر والأنثى والاثنين.
والجمع والمراد بها في هذا الحديث الضّالّة من الإبل والبقر ممّا يحمي نفسه ويقدر على الإبعاد في طلب المرعى والماء بخلاف الغنم.
حرق النّار: بفتح الحاء المهملة والراء وبالقاف: لهبها [وقد يسكّن] والمعنى أن ضالّة المؤمن إذا أخذها إنسان ليتملّكها أدّته إلى النار.
صليبا على دينه: قويا ثابتا.
مع الغرور بن المنذر: بغين معجمة بلا ميم في أوله خلافاً لما وقع في بعض نسخ العيون: أسلم [الغرور] ثم ارتد بعد ارتداده، واسمه المنذر وسمّي بالأول لأنه غرّة قومه.
الفدفد: بفاءين مفتوحتين بعد كل فاء دال مهملة الأولى ساكنة: وهي الفلاة لا شيء فيها وقيل هي الأرض الغليظة ذات الحصى وقيل المكان المرتفع.
الآل: السراب وقال في الصحاح [والآل الشخص، والآل الذي تراه في أول النهار وآخره كأنه يرفع الشخوص وليس هو السراب] .
الصّحاصح: جمع صحصح بفتح الصاد وبعد كل صاد حاء الأولى ساكنة وهي مهملات: وهو والصحصاح [والصّحصحة] والصحصحان ما استوى من الأرض.
طرّا: بضم الطاء المهملة وتشديد الراء: جميعا.
الدّهناء: بفتح الدال المهملة وسكون الهاء وبالنون والمدّ والقصر: موضع ببلاد بني تميم. الإرقال: بكسر الهمزة وإسكان الراء وبالقاف وباللام: وهو ضرب من العد وفوق الخبب، وقد أرقل البعير وناقة مرقل إذا كانت كثيرة الإرقال.
القلاص: بكسر القاف وتخفيف اللام وبالصاد المهملة جمع قلوص بفتح القاف وضمّ اللام المخففّة: وهو الفتيّ من الإبل وهو في النّوق كالجارية في النساء.
جمح: بفتح الجيم والميم والحاء المهملة: أسرع.
الكماة: بضم الكاف وتخفيف الميم وبعد الألف بتاء [تأنيث] جمع كميّ وهو الشجاع المتكمي لأنه كمى نفسه أي سترها بالدّرع والبيضة.
أوجل القلب ذكره: القلب مفعول ذكره.
هاله: أفزعه.(6/306)
الباب السادس والعشرون في وفود جذام إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد عن رجاله [ (1) ] ، والطبراني عن عمير بن معبد الجذامي عن أبيه قال: وفد رفاعة بن زيد بن عمير بن معبد الجذامي، ثم أحد بني الضّبيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهدنة قبل خيبر، وأهدى له عبدا وأسلم. فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا: «هذا كتاب من محمد رسول الله لرفاعة بن زيد، إني بعثته إلى قومه عامة ومن دخل فيهم يدعوهم إلى رسوله، فمن آمن- وفي لفظ فمن أقبل منهم ففي حزب الله وحزب رسوله ومن أدبر- وفي لفظ من أبي فله أمان شهرين» .
فلما قدم على قومه أجابوه وأسلموا.
زاد الطبراني: ثم سار حتى نزل حرّة الرّجلاء. ثم لم يلبث أن قدم دحية الكلبي من عند قيصر حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بواد من أوديتهم يقال له شنار ومعه تجارة له أغار عليهم الهنيد بن عوص وابنه عوص بن الهنيد الضّلعيّان- والضّليع بطن من جذام- فأصابا كل شيء كان معه. فبلغ ذلك قوما من الضّبيب رهط رفاعة بن زيد ممن كان أسلم وأجاب فنفروا إلى الهنيد وابنه، فيهم من بني الضّبيب النّعمان بن أبي جعال حتى لقوهم فاقتتلوا، ورمى قرّة ابن أشقر الضّلعي، النّعمان بن أبي جعال بسهم فأصاب ركبته فقال حين أصابه: خذها وأنا ابن لبنى. وقد كان حسّان بن ملّة الضّبيبي قد صحب دحية بن خليفة قبل ذلك وعلّمه أمّ الكتاب.
واستنقذوا ما كان في أيديهم فردوه على دحية. ثم أن دحية قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر فاستسقاه دم الهنيد وابنه عوص، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وبعث معه جيشا. وقد وجّهت غطفان من جذام ووائل ومن كان من سلامان وسعد بن هذيم- حين جاءهم رفاعة بن زيد بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا الحرّة حرّة الرّجلاء، ورفاعة بكراع الغميم ومعه ناس من بني الضّبيب بوادي مدار من ناحية الحرّة.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
جذام: بضم الجيم.
عمير: بعين مهملة مضمومة فميم فمثناة تحتية فراء.
رفاعة: براء مكسورة ففاء فألف فعين مهملة.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 117 وذكره الهيثمي في المجمع 5/ 312 وعزاه للطبراني.(6/307)
ابن زيد: وقع في سرية زيد بن حارثة إلى حسمى: فدخل زيد بن رفاعة فأسلم، والصحيح ما هنا.
أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما: اسمه مدعّم كما سيأتي في ذكر مواليه صلّى الله عليه وسلم.
حزب الله وحزب رسوله: بالزاي.
الحرّة: بفتح الحاء المشددة المهملتين: أرض ذات حجارة سود.
الرّجلاء: بفتح الراء وسكون الجيم وبالمد، قال: في الصحاح: وحرّة رجلاء أي مستوية كثيرة الحجارة يصعب المشي فيها.(6/308)
الباب السابع والعشرون في وفود جرم إليه صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] عن سعد بن مرّة الجرميّ عن أبيه قال: وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان منّا يقال لأحدهما الأصقع بن شريح بن صريم بن عمرو بن رياح، والآخر هوذة بن عمرو ابن يزيد بن عمرو بن رياح فأسلما. وكتب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا.
وروى أيضا عن عمرو بن سلمة بن قيس الجرميّ رضي الله تعالى عنه أن أباه ونفرا من قومه وفدوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين أسلم الناس وتعلموا القرآن وقضوا حوائجهم. فقالوا له: من يصلّي بنا أولنا؟ فقال: «ليصلّ بكم أكثركم جمعا أو أخذا للقرآن» .
قال: فجاءوا إلى قومهم فسألوا فيهم فلم يجدوا أحدا أكثر وأجمع من القرآن أكثر مما جمعت أو أخذت. قال: «وأنا يومئذ غلام عليّ شملة، فقدّموني فصلّيت بهم، فما شهدت مجمعا من جرم إلا وأنا إمامهم إلى يومي هذا. قال: مسعر أحد رواته: وكان يصلي على جنائزهم ويؤمّهم في مسجدهم حتى مضى لسبيله.
وروى البخاري، وابن سعد، وابن منده عن عمرو بن سلمة رضي الله تعالى عنه قال:
كنا بحضرة ماء ممر الناس عليه، وكنا نسألهم ما هذا الأمر؟ فيقولون: رجل يزعم أنه نبي وأن الله أرسله وأن الله أوحى إليه كذا وكذا، فجعلت لا أسمع شيئا من ذلك إلا حفظته كأنما يغرى في صدري بغراء حتى جمعت فيه قرآنا كثيرا.
قال: وكانت العرب تلوّم بإسلامها الفتح: يقولون انظروا فإن ظهر عليهم فهو صادق وهو نبي. فلما جاءتنا وقعة الفتح بادر كل قوم بإسلامهم، فانطلق بأبي بإسلام حوائنا ذلك وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقيم. قال: ثم أقبل فلما دنا منّا تلقّيناه، فلما رأيناه قال: جئتكم والله من عند رسول الله حقّا، ثم قال: إنه يأمركم بكذا وكذا وينهاكم عن كذا وكذا وأن تصلّوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا، وإذا حضرت الصلاة فليؤذّن أحدكم وليؤمكم أكثركم قرآنا. قال: فننظر أهل حوائنا فما وجدوا أحدا أكثر قرآنا مني الذي كنت أحفظه من الرّكبان. فدعوني فعلموني الركوع والسجود، وقدموني بين أيديهم، فكنت أصلّي بهم وأنا ابن ست سنين. قال: وكان عليّ بردة كنت إذا سجدت تقلّصت عنّي، فقالت امرأة من الحيّ: ألا تغطون عنّا است قارئكم؟ قال: فسكوني قميصا من معقد البحرين. قال: فما فرحت بشيء أشد من فرحي بذلك القميص.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 99.(6/309)
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
جرم: بجيم مفتوحة فراء ساكنة فميم.
الأصقع: بهمزة مفتوحة فصاد مهملة ساكنة فقاف مفتوحة فعين مهملة.
شريح: بشين معجمة مضمومة فراء فمثناة تحتية فحاء مهملة.
صريم: بصاد مهملة مضمومة فراء مفتوحة فمثناة تحتية فميم.
هوذة: بهاء مفتوحة فواو ساكنة فذال معجمة فهاء.
يغري: بمثناة تحتية مضمومة فغين معجمة ساكنة فراء: أي يلصق.
تلوّم: بمثناة فوقية فلام فواو مشددة مفتوحات فميم: أي تنتظر.
تقلّصت: بمثناة فوقية فقاف فلام مشددة فصاد مهملة مفتوحات: أي ارتفعت.(6/310)
الباب الثامن والعشرون في وفود جرير بن عبد الله البجلي رضي الله تعالى عنه إليه صلى الله عليه وسلم
روى الطبراني والبيهقي وابن سعد [ (1) ] عن جرير رضي الله تعالى عنه قال: بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فقال: «ما جاء بك؟» قلت: جئت لأسلم فألقى إلي كساءه وقال: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدعوك إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله وأن تؤمن بالله واليوم الآخر، والقدر خيرة وشرّه، وتصلّي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم شهر رمضان، وتنصح لكل مسلم، وتطيع الوالي وإن كان عبدا حبشيا» .
وروى الإمام أحمد،: والبيهقي، والطبراني برجال ثقات عنه قال: لما دنوت من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم أنخت راحلتي وحللت عيبتي ولبست حلّتي ودخلت المسجد، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فسلّمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرماني الناس بالحدق فقلت لجليسي: يا عبد الله هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمري شيئا؟ قال: نعم، ذكرك بأحسن الذّكر، فبينا هو يخطب إذ عرض لك
فقال: «إنه سيدخل عليكم من هذا الباب- أو قال- من هذا الفج من خير ذي يمن وإن على وجهه لمسحة ملك» .
فحمدت الله على ما أبلاني.
وروى البزار، والطبراني عن عبد الله بن حمزة والطبراني عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال: بينا أنا يوما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة من أصحابه أكثرهم اليمن إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيطلع عليكم من هذه الثّنية» - وفي لفظ: «من هذا الفجّ- خير ذي يمن على وجهه مسحة ملك» . فما من القوم أحد إلّا تمنى أن يكون من أهل بيته، إذ طلع عليه راكب فانتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل على راحلته فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيده وبايعه وقال: «من أنت؟» قال: جرير بن عبد الله البجلي. فأجلسه إلى جنبه ومسح بيده على رأس ووجهه وصدره وبطنه حتى انحنى جرير حياء أن يدخل يده تحت إزاره، وهو يدعو له بالبركة ولذرّيّته، ثم مسح رأسه وظهره وهو يدعو له ثم بسط له عرض ردائه وقال له: «على هذا يا جرير فاقعد» .
فقعد معهم مليّا ثم قام وانصرف.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» [ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 110.
[ (2) ] أخرجه ابن ماجة (3712) والبيهقي في السنن 8/ 168 والطبراني في الكبير 2/ 370 والحاكم في المستدرك 4/ 292 وأبو نعيم في الحلية 6/ 205 وابن عدي في الكامل 1/ 181.(6/311)
وروى الطبراني برجال الصحيح عن جرير رضي الله تعالى عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أبايعك على الهجرة. فبايعني رسول الله صلى الله عليه وسلم واشترط عليّ والنّصح لكل مسلم، فبايعته على هذا. قال ابن سعد: وكان نزول جرير بن عبد الله على فروة بن [عمرو] البياضيّ.
تنبيهات
الأول: قال الحافظ في الإصابة:
روى الطبراني في الأوسط من طريق حصين بن عمرو الأحمسي عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أتيته فقال: «ما جاء بك؟ قلت: جئت لأسلم. فألقى إلي كساءه وقال: «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه» . الحديث.
قال الحافظ: «حصين فيه ضعف ولو صحّ لحمل على المجاز، أي [لمّا] بلغنا خبر بعث النبي صلى الله عليه وسلم أو على الحذف أي لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا إلى الله ثم قدم المدينة ثم حارب قريشا وغيرهم ثم فتح مكة ثم وفدت عليه الوفود» . قلت: هذا الحديث رواه البيهقي من هذا الطريق عن جرير بلفظ: «بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته» .
وهذه الرواية لا إشكال فيها، ولم أر الحديث في مجمع الزوائد في مناقب جرير.
الثاني: جزم أبو عمر بأن جريرا أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما قال الحافظ:
وهو غلط ففي الصحيحين عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في حجة الوداع: «استنصت الناس» [ (1) ] .
الثالث: جزم محمد بن عمر الأسلمي بأنه وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان سنة عشر وأن بعثه إلى ذي الخلصة كان بعد ذلك، وأنه وافى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع من عامه.
قال الحافظ: وعندي فيه نظر لأن
شريكا حدّث عن الشيباني عن الشعبي عن جرير قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أخاكم النجاشي قد مات» [ (2) ] .
الحديث أخرجه الطبراني فهذا يدل على أن إسلام جرير كان قبل سنة عشرة لأن النجاشي مات قبل ذلك.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:.
البجليّ: بموحدة فجيم مفتوحتين فلام فياء نسب.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 1/ 41 ومسلم في كتاب الإيمان (118) .
[ (2) ] أخرجه الطبراني في الكبير 2/ 367 والترمذي (1039) وابن ماجة (1535) والنسائي 4/ 69 وأحمد في المسند 4/ 360 وابن أبي شيبة 3/ 362.(6/312)
العيبة: بعين مهملة مفتوحة وتحتية ساكنة بعدها موحدة فتاء تأنيث: ما يجعل المسافر فيه ثيابه.
الحلّة: بحاء مهملة مضمومة فلام مفتوحة مشددة: البرد من برود اليمن، ولا يسمّى حلّة إلا أن يكون ثوبين من جنس واحد.
الحدق: بحاء فدال مهملتين مفتوحتين فقاف: جمع حدقة وهي العين.
الفجّ: تقدم الكلام عليه.
ذي يمن: [بمثناة تحتية وميم مفتوحتين فنون] .
مشحة: بميم مفتوحة فسين مهملة ساكنة فحاء مهملة مفتوحة فتاء تأنيث أي أثر ظاهر منه.(6/313)
الباب التاسع والعشرون في وفود جعدة إليه صلى الله عليه وسلم
[قال أخبرنا هشام بن محمد عن رجل من بني عقيل قال: وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرّقاد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة بن كعب. وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفلج ضيعة وكتب لهم كتابا وهو عندهم] .
الباب الثلاثون [في وفود جعفيّ إليه صلى الله عليه وسلم]
قال ابن سعد [ (1) ] رحمه الله تعالى: أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وعن أبي بكر بن قيس الجعفيّ قالا: كانت جعفيّ يحرّمون القلب في الجاهلية فوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان منهم: قيس بن سلمة بن شراحيل من بني مرّان بن جعفي، وسلمة بن يزيد بن مشجعة بن المجمّع، وهما أخوان لأمّ، وأمّهما مليكة بنت الحلو بن مالك من بني حريم بن جعفريّ. فأسلما. فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بلغني أنكم لا تأكلون القلب» . قالا:
نعم. قال: «فإنه لا يكمل إسلامكما إلا بأكله» ودعا لهما بقلب، فشوي، ثم ناوله سلمة بن يزيد، فلما أخذه أرعدت يده فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كله» فأكله.
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيس بن سلمة كتابا نسخته: «كتاب من محمد رسول الله لقيس بن سلمة بن شراحيل أنّي استعملتك على مرّان ومواليها، وحريم ومواليها، والكلاب ومواليها، [من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصدّق ماله وصفّاه» . قال الكلاب أود، وزبيد] وجزء ابن سعد العشيرة، وزيد الله بن سعد، وعائذ الله بن سعد، وبنو صلاة من بني الحارث بن كعب..
ثم قالا: يا رسول الله إن أمّنا ملكية بنت الحلو كانت تفكّ العافي وتطعم البائس، وترحم المسكين، وإنها ماتت وقد وأدت بنيّة لها صغيرة فما حالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«الوائدة والموؤدة في النار» . فقاما مغضبين. فقال: «إلي فارّجعا» . فقال: «وأمّي مع أمّكما» .
فأبيا ومضيا وهما يقولان: والله إن رجلا أطعمنا القلب وزعم أنّ أمّنا في النار لأهل ألّا يتّبع.
وذهبا. فلما كانا ببعض الطريق لقيا رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه إبل من إبل الصدقة فأوثقاه وطردا الإبل.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 89.(6/314)
فبلغ ذلك النبي صلى اللَّه عليه وسلم فلعنهما فيمن كان يلعن في قوله: «لعن اللَّه رعلا وذكوان وعصيّة ولحيان وابني مليكة بن حريم ومرّان» .
وروى ابن سعد [ (1) ] عن أشياخ قالوا: وفد أبو سبرة وهو يزيد بن مالك بن عبد اللَّه الجعفي على النبي صلى اللَّه عليه وسلم ومعه ابناه سبرة وعزيز. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لعزيز: «ما اسمك؟» قال عزيز. قال: «لا عزيز إلا اللَّه أنت عبد الرحمن» .
فأسلموا. وقال أبو سبرة: يا رسول اللَّه إن بظهر كفي سلعة قد منعتني من خطام راحلتي. فدعا له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم [بقدح، فجعل يضرب به على السّلعة ويمسحها فذهبت فدعا له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم] ولابنيه، وقال له: يا رسول اللَّه أقطعني وادي قومي باليمن، وكان يقال له حردان. ففعل.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
قوله في هذا الخبر: «وأمّي مع أمّكما» ، سبق الكلام عليه في باب وفاة آمنة أم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، والإسناد واه بمرّة.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 90.(6/315)
الباب الحادي والثلاثون في وفود جهينة إليه صلى اللَّه عليه وسلم
روى ابن سعد [ (1) ] عن أبي عبد الرحمن المدنيّ قال: لمّا قدم النبي صلى اللَّه عليه وسلم المدينة وفد إليه عبد العزى بن بدر بن زيد بن معاوية الجهنيّ من بني الرّبعة بن زيدان بن قيس بن جهينة، ومعه أخوه لأمه أبو روعة، وهو ابن عم له. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لعبد العزّى: «أنت عبد اللَّه» .
ولأبي روعة: «أنت رعت العدوّ إن شاء اللَّه» . وقال: «من أنتم؟» قالوا: بنو غيّان. قال: «أنتم بنو رشدان» .
وكان اسم واديهم غوى، فسمّاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: - رشدا- وقال لجبلي جهينة:
«الأشعر والأجرد: هما من جبال الجنّة لا تطؤهما فتنة» . وأعطى اللواء يوم الفتح عبد اللَّه بن بدر وخطّ لهم مسجدهم، وهو أول مسجد خطّ بالمدينة.
وروى ابن سعد عن رجل من جهينة من بني دهمان عن أبيه وقد صحب النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: قال عمرو بن مرّة الجهنيّ: كان لنا صنم وكنا نعظّمه وكنت سادنه، فلما سمعت برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كسرته وخرجت حتى أقدم المدينة على النبي صلى اللَّه عليه وسلم فأسلمت وشهدت شهادة الحق، وآمنت بما جاء به من حلال وحرام، فذلك حين أقول:
شهدت بأنّ اللَّه حقّ وأنّني ... لآلهة الأحجار أوّل تارك
وشمّرت عن ساقي الإزار مهاجرا ... إليك أجوب الوعث بعد الدّكادك
لأصحب خير النّاس نفساً ووالداً ... رسول مليّك الناس فوق الحبائك
قال: ثم بعثه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام فأجابوه إلا رجلاً واحداً، ردّ عليه قوله فدعا عليه عمرو بن مرة فسقط فوه فما كان يقدر على الكلام وعمي واحتاج.
وعن عمران بن حصين رضي اللَّه تعالى عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: «جهينة منّي وأنا منهم، غضبوا لغضبي ورضوا لرضائي، أغضب لغضبهم. من أغضبهم فقد أغضبني، ومن أغضبني فقد أغضب اللَّه» . رواه الطبراني برجال ثقات غير الحارث بن معبد فيحرّر حاله [ (2) ] .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
بنو الرّبعة: [بالتحريك حيّ من الأزد] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 97.
[ (2) ] أخرجه الطبراني في الكبير 18/ 108 وذكره الهيثمي في المجمع 10/ 48.(6/316)
زيدان: بلفظ تثنية زيد.
أبو روعة: [بفتح الراء وسكون الواو، وبالعين المهملة فتاء تأنيث] .
بنو غيّان: بغيم معجمة فمثناة تحتية مشددة فألف فنون.
أجوب: بألف فجيم مضمومة فواو موحدة: أكشف.
الوعث: [بفتح الواو وسكون العين المهملة وبالثاء المثلثة] .
الدّكادك: [ما تلبّد من الرّمل بالأرض] .
الحبائك: بحاء مهملة فموحدة مفتوحتين فألف فمثناة تحتية فكاف: الطرق واحدها حبيكة والمراد بها السماء لأن فيها طرق النجوم.(6/317)
الباب الثاني والثلاثون في وفود جيشان إليه صلى اللَّه عليه وسلم
نقل ابن سعد [ (1) ] عن عمرو بن شعيب قال: قدم أبو وهب الجيشاني على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في نفر من قومه، فسألوه عن أشربة تكون باليمن. قال: فسمّوا له البتع من العسل والمرز من الشعير. فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «هل تسكرون منها؟» قالوا: إن أكثرنا سكرنا.
قال: «فحرام قليل ما أسكر كثيرة» وسألوه عن الرجل يتّخذ الشّراب فيسقيه عمّاله، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «كلّ مسكر حرام» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:
جيشان: [بفتح الجيم وسكون المثناة التحتية فألف فنون: مخلاف باليمن] .
البتع: بموحدة فمثناة فوقية ساكنة وقد تحرّك فعين مهملة: نبيذ التمر وهو خمر أهل اليمن.
الباب الثالث والثلاثون في وفود الحارث بن حسان إليه صلّى اللَّه عليه وسلم
روى الإمام أحمد، والترمذي والنسائي وابن ماجة عن الحارث بن حسان البكري قال:
خرجت أشكو العلاء الحضرمي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فمررت بالرّبذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت: يا عبد اللَّه إنّ لي إلى رسول اللَّه حاجة فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها فأتيت المدينة فإذا المسجد غاص بأهله وإذا راية سوداء تخفق وبلال متقلّد السيف بين يدي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها. قال:
فجلست فدخل منزله فاستأذنت عليه فأذن لي.
فدخلت فسلّمت فقال: «هل كان بينكم وبين تميم شيء؟»
قلت: نعم، وكانت الدائرة عليهم ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها فسألتني أن أحملها إليك وها هي بالباب. فأذن لها فدخلت. فقلت: يا رسول اللَّه إن رأيت أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزا فاجعل الدّهناء. فحميت العجوز واستوفزت وقالت: يا رسول اللَّه أين يضطر مضرك؟ قال: قلت: إنّ مثلي ما قال الأول معزى حملت حتفها، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما أعوذ باللَّه ورسوله أن أكون كوافد عاد. قالت هي: وما وافد عاد؟ وهي
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 121.(6/318)
أعلم بالحديث منه ولكن تستطعمه. قلت: إنّ عادا قحطوا فبعثوا وافدا لهم. فمرّ بمعاوية بن بكر. فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان يقال لهما الجرادتان. فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة فقال: اللهم إنك تعلم لم أجيء إلى مريض فأداويه ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادا ما كنت تسقيه. فمرّت به سحابات سود، فنودي منها: اختر، فأومأ إلى سحابة منها سوداء فنودي منها: خذها رمادا ورمددا، لا تبق من عاد أحدا. قال: فما بلغني أنه أرسل عليهم من الريح إلا بقدر ما يجري في خاتمي هذا حتى هلكوا. قال أبو وائل: وكانت المرأة أو الرجل إذا بعثوا وافدا لهم قالوا: لا يكن كوافد عاد.(6/319)
الباب الرابع والثلاثون في وفود بني الحارث بن كعب إليه صلى اللَّه عليه وسلم
قال ابن إسحاق رحمه اللَّه تعالى إن خالد بن الوليد رضي اللَّه تعالى عنه لما انقاد له بنو الحارث بن كعب بنجران كتب بذلك كتابا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فكتب إليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يقبل ويقبل معه وفدهم، فأقبل وأقبل معه قيس بن الحصين ذي الغصّة، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المحجّل، وعبد اللَّه بن قراد الزيادي، وشدّاد بن عبد اللَّه القناني، وعمرو بن عبد الله الضّبابي.
وقال لهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «بم كنتم تغلبون من قاتلكم في الجاهلية؟» قالوا: لم نكن نغلب أحدا. قال: «بلى [قد كنتم تغلبون من قاتلكم] » قالوا: كنا نجتمع ولا نتفرّق، ولا نبدأ أحدا بظلم. قال: «صدقتم» .
وأمّر عليهم قيس بن الحصين فرجعوا إلى قومهم في بقية من شوّال أو في صدر ذي القعدة فلم يمكثوا بعد أن رجعوا إلى قومهم إلا أربعة أشهر حتى توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم [ (1) ] .
وكان بعث خالدا إليهم في شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة عشر وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا، فإن استجابوا فليقبل منهم وإلا فليقاتلهم فخرج خالد حتى قدم عليهم، فبعث الرّكبان في كل وجه يدعون إلى الإسلام ويقولون: أيها الناس أسلموا تسلموا» . فأسلم الناس ودخلوا فيما دعوا إليه وأقام خالد فيهم يعلّمهم الإسلام.
وكتب النبي صلى اللَّه عليه وسلم [كتابا نسخته: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من محمد النبي رسول اللَّه إلى خالد بن الوليد، سلام عليك فإني أحمد إليك اللَّه الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك تخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام وشهدوا أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا عبد اللَّه ورسوله وأن قد هداهم اللَّه بهداه فبشّرهم وأنذرهم وأقبل وليقبل معك وفدهم والسلام عليك ورحمة اللَّه وبركاته] » .
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 5/ 95.(6/320)
الباب الخامس والثلاثون في وفود الحجّاج بن علاط السّلمي وما وقع فيه من الآيات.
روى ابن أبي الدنيا في الهواتف وابن عساكر عن واثلة بن الأسقع رضي اللَّه تعالى عنه قال:
سبب إسلام الحجّاج بن علاط أنه خرج في ركب من قومه إلى مكة، فلما جنّ عليه الليل وهو في واد موحش مخوف فقال له أصحابه: قم يا أبا كلاب فخذ لنفسك ولأصحابك أمانا. فقام الحجّاج بن علاط يطوف حولهم يكلؤهم ويقول: أعيذ نفسي وأعيذ صحبي من كل جنّيّ بهذا النّقب حتى أؤوب سالما وركبي.
فسمع قائلاً يقول: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ [الرحمن 33] . فلما قدم مكة أخبر بذلك قريشا فقالوا: [صبأت واللَّه يا أبا كلاب] إن هذا فيما يزعم محمد أنه أنزل عليه [فقال:
واللَّه لقد سمعته وسمعه هؤلاء معي] . فسأل عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقيل له بالمدينة، فأتاه فأسلم.
الباب السادس والثلاثون في وفود حضرموت إليه صلى اللَّه عليه وسلم
قال ابن سعد [ (1) ] : قالوا: وقدم وفد حضر موت مع وفد كندة على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهم بنو وليعة ملوك حضر موت: جمد، ومخوس، ومشرح، وأبضعة فأسلموا. وقال مخوس: يا رسول اللَّه ادع اللَّه، أن يذهب عني هذه الرّتّة من لساني. فدعا له وأطعمه طعمة من صدقة حضر موت.
وروى ابن سعد عن أبي عبيدة من ولد عمار بن ياسر قال: وفد مخوس بن معدي كرب بن وليعة فيمن معه على النبي صلى اللَّه عليه وسلم، ثم خرجوا من عنده فأصابت مخوس اللقوة، فرجع منهم نفر فقالوا: يا رسول اللَّه سيد العرب ضربته اللقوة فادللنا على دوائه. فقال: «خذوا مخيطا فاحموه في النار ثم اقلبوا شفر عينه ففيها شفاؤه وإليها مصيره فاللَّه أعلم ما قلتم حين خرجتم من عندي» .
فصنعوا به فبرأ.
وروى ابن سعد عن عمرو بن مهاجر الكندي قال: كانت امرأة من حضرموت ثم من تنعة يقال لها: تهناة بنت كليب صنعت لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كسوة ثم دعت ابنها كليب بن أسد
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 112.(6/321)
ابن كليب. فقالت: انطلق بهذه الكسوة إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فأتاه بها وأسلم، فدعا له وقال كليب حين أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
من وشز برهوت يهوي بي عذافرة ... إليك يا خير من يحفى وينتعل
تجوب بي صفصفا غبرا مناهله ... تزداد عفوا إذا ما كلّت الإبل
شهرين أعملها نصّا على وجل ... أرجو بذاك ثواب اللَّه يا رجل
أنت النبيّ الذي كنّا نخبّره ... وبشّرتنا به التّوراة والرّسل
الباب السابع والثلاثون في وفود الحكم بن حزن الكلفي إليه صلى اللَّه عليه وسلم
روى الإمام أحمد، وأبو داود، والبيهقي، وأبو نعيم، واللفظ له عن الحكم بن حزن رضي اللَّه تعالى عنه قال: قدمنا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سابع سبعة أو تاسع تسعة، فإذن لنا فدخلنا، فقلنا: يا رسول اللَّه أتيناك لتدعو لنا بخير، فدعا لنا بخير، وأمر بنا فأنزلنا وأمر لنا بشيء من تمر، والشّأن إذ ذاك دون، فلبثنا أيّاما فشهدنا بها الجمعة مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقام متوكّئا على قوس أو عصا، فحمد اللَّه وأثنى عليه كلمات خفيفات طيّبات مباركات، ثم قال: «يا أيّها الناس إنكم لن تطيقوا أن تفعلوا كلّ ما أمرتم به ولكن سدّدوا وأبشروا» [ (1) ] .
__________
[ (1) ] انظر كنز العمال (5219) وأحمد في المسند 4/ 212.(6/322)
الباب الثامن والثلاثون في وفود حمير ورسولهم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
قال الإمام الهمداني في الأنساب: كتب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى الحارث بن عبد كلال بن غرب وأخيه نعيم، وأمر رسوله أن يقرأ عليهما لم يكن. ووفد عليه الحارث فأسلم فاعتنقه وأفرشه رداءه، وقال قبل أن يدخل عليه: «يدخل عليكم من هذا الفجّ رجل كريم الجدّين صبيح الخدّين فكأنه» انتهى.
قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: «والذي تضافرت به الروايات أنه أرسل بإسلامه وأقام باليمن» .
وروى ابن سعد رحمه اللَّه تعالى عن رجل من حمير أدرك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ووفد عليه قال: قدم على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مالك بن مرارة الرّهاوي رسول ملوك حمير بكتابهم [وإسلامهم] وهم الحارث بن عبد كلال، ونعيم بن عبد كلال والنّعمان قيل ذي رعين ومعافر وهمدان، وذلك في شهر رمضان سنة تسع. وقال ابن إسحاق: مقدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من تبوك.
فأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بلالا أن ينزله ويكرمه ويضيّفه.
وكتب إليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «أما بعد فإني أحمد إليكم اللَّه الذي لا إله إلا هو. أما بعد فإنه قد وقع بنا رسولكم مقفلنا من أرض الروم، فبلّغ ما أرسلتم به، وخبّر عمّا قبلكم، وأنبأنا بإسلامكم وقتلكم المشركين، فإن اللَّه تبارك وتعالى قد هداكم بهداه إن أصلحتم وأطعتم اللَّه ورسوله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغنم خمس اللَّه وخمس نبيّه وصفيّه، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر. إن في الإبل الأربعين ابنة لبون، وفي ثلاثين من الإبل ابن لبون ذكر، وفي كل خمس من الإبل شاة، وفي كل عشر من الإبل شاتان، وفي كل أربعين من البقر بقرة، وفي كل ثلاثين من البقر تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة،: وإنها فريضة اللَّه التي فرض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له، ومن أدّى ذلك وأشهد على إسلامه، وظاهر المؤمنين على المشركين فإنه من المؤمنين: له ما لهم وعليه ما عليهم، وله ذمّة اللَّه وذمّة رسوله، وإنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يردّ عنها، وعليه الجزية على كل حالم- ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد- دينار واف من قيمة المعافر أو عوضه ثيابا، فمن أدّى ذلك إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فإن له ذمّة اللَّه وذمّة رسوله، ومن منعه فإنه عدوّ للَّه ولرسوله.
أما بعد فإن رسول اللَّه محمدا أرسل إلى زرعة ذي يزن أن إذا أتاكم رسلي فأوصيكم(6/323)
بهم خيرا: معاذ بن جبل: وعبد اللَّه بن زيد، ومالك بن عبادة، وعقبة بن نمر، ومالك بن مرارة، وأصحابهم وأن اجمعوا ما عندكم من الصدقة والجزية من مخاليفكم، وأبلغوها رسلي، وإن أميرهم معاذ بن جبل فلا ينقلبنّ إلا راضيا.
أما بعد فإن محمدا يشهد ألا إله إلا اللَّه وأنه عبده ورسوله، ثم إن مالك بن مرارة الرّهاويّ قد حدثني أنك أسلمت من أول حمير، وقتلت المشركين فأبشر بخير، وآمرك بحمير خيرا، ولا تخونوا، ولا تخاذلوا، فإن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم هو مولى غنيّكم وفقيركم، وإن الصّدقة لا تحل لمحمد ولا لأهل بيته إنما هي زكاة يزكّى بها على فقراء المسلمين وابن السبيل، وإن مالكا قد بلّغ الخبر وحفظ الغيب وآمركم به خيرا وإني قد أرسلت إليكم من صالحي أهلي وأولي دينهم وأولي علمهم وآمركم بهم خيرا فإنهم منظور إليهم والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته» .
تنبيه: في بيان غريب ما سبق:.
حمير: بكسر الحاء المهملة وسكون الميم وفتح التحتية وبالراء: أبو قبيلة من اليمن.
وإن أردت القبيلة لم تصرفه، وهو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومنهم الملوك في الدهر الأول، واسم حمير العرنجج.
كلال: بضم الكاف وتخفيف اللام.
غريب: بغين معجمة وراء مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فموحدة.
أفرشه رداءه: بسطه له.
الفجّ: تقدم الكلام عليه.
تضافرت به الروايات: [تظاهرت] .
مرارة: بضم الميم وراءين مهملتين بينهما ألف، ووقع عند أبي عمر. مرّة وصوّبوا الأول.
الرّهاوي: بفتح الراء نسبة إلى قبيلة، وبالضم الرّها بلد بالجزيرة وليس مرادا هنا.
القيل: بفتح القاف وسكون التحتية وباللام وهو أحد ملوك اليمن دون الملك الأعظم، وفلان لا «ذو» له، وتقدّم الكلام عليها في الأسماء النبوية، وقيل ذو رعين أي ملكها، وهي قبيلة من اليمن تنسب إلى ذي رعين، وهو من «ذي» اليمن وملوكها قال في الصحاح: [وذو رعين ملك من ملوك حمير] ورعين حصن كان له، وهو من ولد الحارث بن عمرو بن حمير بن سبأ [وهم آل ذي رعين وشعب ذي رعين] ورعين تصغير رعن: أنف الجبل.
معافر: بفتح الميم وتخفيف العين المهملة وكسر الفاء وبالراء: حيّ من اليمن.
همدان: بفتح الهاء وسكون الميم وبالدال المهملة.(6/324)
زرعة: بضم الزاي وسكون الراء وفتح العين المهملة.
ذو يزن: [يزن محرّكة واد، وبطن من حمير، وذو يزن ملك لحمير لأنه حمى ذلك الوادي] ووقع عند أبي عمر زرعة بن ذي يزن، وصوّب ابن الأمين إسقاط «ابن» .
منقلبنا: بفتح اللام.
فلقينا: بفتح التحتية، والضمير في محل نصب مفعول.
قبلكم: بكسر القاف وفتح الموحدة.
الصّفيّ: يأتي الكلام عليه في الخصائص.
الغرب: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وبالموحدة: الدّلو.
ابنة لبون: بلام مفتوحة فموحدة مضمومة فواو فنون: من الإبل ما أتى عليه سنتان ودخل في الثالثة فصارت أمه لبونا، أي ذات لبن.
التّبيع: بفتح الفوقية وكسر الموحدة فمثناة تحتية فعين مهملة: ولد البقرة أوّل سنة.
الجذع: بالجيم والذال المعجمة المفتوحتين وعين مهملة: من الإبل ما دخل في السنة الخامسة، ومن البقر والغنم ما دخل في السنة الثانية، وقيل البقر في الثالثة.
سائمة وحدها: راعية وحدها.
ظاهر: عاون.
الذّمّة: الأمان والعهد.
لا يردّ: بالبناء للمفعول.
على كل حالم ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد: هذا لم يذكر له إسناد، ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أن لا جزية على امرأة ولا من رقّ.
رسلي: فاعل أتاكم.
معاذ: ومن بعده بالرفع بدل من رسلي، أو بالجرّ بدل من بهم.
عبادة والد مالك: بضم العين المهملة وتخفيف الموحدة.
مرارة: بضم الميم وتخفيف الراء.
المخالف: بميم فخاء معجمة فألف فلام فتحتية ففاء: جمع مخلاف، وهو في اليمن كالرّستاق في العراق.
أبشر بخير: بفتح الهمزة وكسر الشين المعجمة.
آمرك: بمدّ الهمزة.
لا تخاذلوا: بضم الفوقية وبالخاء والذال المكسورة المعجمتين أو بفتحهما.(6/325)
الباب التاسع والثلاثون في وفود بني حنيفة ومسيلمة الكذاب معهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال في زاد المعاد: [قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة بن حبيب الكذّاب] وكان منزلهم في دار امرأة من الأنصار من بني النجار، فأتوا بمسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستر بالثياب ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس مع أصحابه في يده عسيب من سعف النّخل، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يسترونه بالثياب كلّمه وسأله،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو سألتني هذا العسيب الذي في يدي ما أعطيتكه»
[ (1) ] . قال ابن إسحاق: فقال لي شيخ من أهل اليمامة من بني حنيفة إن حديثه كان على غير هذا، زعم أنّ وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلّفوا مسيلمة في رحالهم فلما أسلموا ذكروا له مكانه
فقالوا: يا رسول الله إنا قد خلّفنا صاحبا لنا في رحالنا وركابنا، يحفظها لنا. فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر للقوم، وقال: «أما إنه ليس بشرّكم مكانا» [ (2) ] .
يعني حفظه ضيعة أصحابه. [وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم] . قال: ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاءوا بالذي أعطاه. فلما قدموا اليمامة ارتدّ عدوّ الله وتنبّأ وقال: إنّي قد أشركت في الأمر معه، ألم يقل لكم حين ذكرتموني له: «أما إنه ليس بشرّكم مكانا» ؟ وما ذاك إلا لما كان يعلم أنّي قد أشركت في الأمر معه.
ثم جعل يسجع السّجعان فيقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا. ووضع عنهم الصلاة وأحلّ لهم الخمر والزّنا، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نبيّ فأصفقت معه بنو حنيفة على ذلك.
قال ابن إسحاق: وقد كان كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله: أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأمر، وليس قريش قوما يعدلون» . فقدم عليه رسوله بهذا الكتاب.
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب: سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين» [ (3) ] .
وكان ذلك في آخر سنة عشر.
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 330 وابن كثير في البداية 5/ 50.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 5/ 331 وابن كثير في البداية 5/ 52.
[ (3) ] ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 6/ 384.(6/326)
قال ابن إسحاق: حدثني سعد بن طارق عن سلمة بن نعيم بن مسعود عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءه رسولا مسيلمة الكذّاب بكتابه يقول لهما: «وأنتما تقولان بمثل ما يقول؟» قال: نعم فقال: «أما والله لولا أنّ الرّسل لا تقتل لضربت أعناقكما [ (1) ] .
وروى أبو داود والطياليسي في مسنده [عن عاصم] عن أبي وائل عن عبد الله [بن مسعود] قال: جاء ابن النّوّاحة، وابن أثال رسولين لمسيلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما: «تشهدان أني رسول الله؟» فقالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آمنت بالله ورسله، ولو كنت قاتلا رسولا لقتلتكما» [ (2) ] .
قال عبد الله [بن مسعود: فمضت السنّة بأن] الرّسل لا تقتل» .
وفي البخاري عن أبي رجاء العطاردي قال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم فسمعنا به لحقنا بمسيلمة الكذّاب بالنار، وكنّا نعبد الحجر في الجاهلية، فإذا وجدنا حجرا هو أحسن منه ألقينا ذلك وأخذناه، فإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب، ثم جئنا بغنم فحلبناها عليه ثم طفنا به، وكنّا إذا دخل رجب قلنا: جاء منصّل الأسنّة فلا ندع سهما فيه حديدة ولا حديدة في رمح إلا نزعناها وألقيناها [ (3) ] قلت: وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قدم مسيلمة الكذّاب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته، وقدمها في بشر كثير من قومه، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه ثابت بن قيس بن شمّاس،
وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريد حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: «لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها ولن تعدوا أمر الله فيك ولئن أدبرت ليعقرنّك الله وإني لأراك الذي أريت فيه ما رأيت، وهذا ثابت بن قيس يجيبك عني [ (4) ] .
ثم انصرف عنه.
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فسألت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك أرى الذي أريت فيه ما رأيت» ، فأخبرني أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا نائم رأيت في يديّ سوارين من ذهب فأهمّني شأنهما فأوحي إليّ في المنام أن أنفخهما فطارا، فأوّلتهما كذّابين يخرجان من بعدي أحدهما العنسي صاحب صنعاء والآخر مسيلمة صاحب اليمامة» [ (5) ] .
وهذا أصحّ من حديث ابن إسحاق المتقدم.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (165) والبيهقي 9/ 211 وذكره المتقي الهندي في الكنز (14779) وابن كثير في البداية 5/ 51.
[ (2) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 396، 404.
[ (3) ] أخرجه البخاري 6/ 4 (4376) .
[ (4) ] أخرجه البخاري 6/ 54 (3621) .
[ (5) ] أخرجه البخاري 5/ 216 ومسلم (1781) وذكره المتقي الهندي في الكنز (38361) وابن كثير في البداية 5/ 49.(6/327)