الأول: طهارة الفؤاد، وهي صرفه عما دون الله تعالى.
الثاني: طهارة السرّ، وهي رؤية المشاهدة.
الثالث: طهارة الصدر، وهي الرجاء والقناعة.
الرابع: طهارة الروح، وهي الحياء والهيبة.
الخامس: طهارة البطن، وهي الأكل من الحلال والعفة.
السادس: طهارة البدن، وهي ترك الشهوات.
السابع: طهارة اليدين، وهي الورع والاجتهاد.
الثامن: طهارة المعصية، وهي الحسرة والندامة.
التاسع: طهارة اللسان، وهي الذّكر والاستغفار.
العاشر: طهارة التقصير، وهي خوف سوء الخاتمة نسأل الله تعالى السلامة.
وسمّي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه المستجمع لجميع أنواع الطهارة، لأن الله تعالى طيّب باطنه وظاهره وزكّى علانيته وسرائره. وسيأتي في الخصائص القول بطهارة فضلاته صلى الله عليه وسلّم.
«الطّبيب»
«خا» «عا» فعيل بمعنى فاعل من الطب، وهو علاج الجسم والنفس بما يزيل السقم، أي الذي يبرئ الأسقام ويذهب ببركته الآلام.
«الطّراز المعلم» :
أي العلم المشهور الذي يهتدى به. والطّراز في الأصل- بكسر الطاء آخره زاي: علم الثوب، فارسي معرب. وسمي به صلى الله عليه وسلم لتشريف هذه الأمة به، كما يشرّف الثوب بالطراز. والمعلم بالبناء للمفعول: المرسوم من العلامة، وهي ما يحصل به امتياز الشيء عن غيره، صفة للطراز.
«طس» .
«طسم» .
ذكرهما «ذ» والنسفي، من أسمائه صلى الله عليه وسلم، وذكرهما جماعة في أسماء الله تعالى، وهذه الأسماء على ضربين: أحدهما: ما لا يتأتى فيه الإعراب نحو كهيعص. والثاني:
ما يتأتّى فيه الإعراب وهو نوعان: الأول ما كان اسماً مفرداً كصاد وقاف. فهو محكى لا غير.
والثاني: أن يكون أسماء عدة مجموعها بوزن اسم مفرد كحم وطس ويس، فإنها بوزن قابيل وهابيل فيجوز فيه الإعراب والحكاية، وكذلك «طسم» يتأتى أن تفتح نونها وتصير مضمومة إليها فيجعلا اسماً واحداً مركباً ك «دارا بجرد» لأنه مركب من «دارا» اسم الملك «وبجرد» اسم بلد.
«طه» :
ذكره خلائق في أسمائه صلى الله عليه وسلم وورد في حديث رواه ابن مردويه بسند ضعيف(1/484)
عن أبي الطفيل رضي الله تعالى عنه. وقيل أراد يا طاهر من العيوب والذنوب أو يا هادي إلى كل خير. ذكره الواسطيّ.
وقيل: إنه من أسماء الله تعالى وقد أشبعت الكلام على هذه الأسماء الواقعة في أوائل السور في كتابي «القول الجامع الوجيز الخادم للقرآن العزيز» .
«الطّهور» :
كصبور: الطاهر في نفسه المطهّر لغيره. وسمي بذلك لأنه صلى الله عليه وسلم سالم من الذنوب خالص من العيوب مطهّر لأمته من الأرجاس ومزكّيها من الأنجاس.
«الطيّب»
«ع د ح» بوزن سيّد: الطاهر أو الزكي. لأنه صلى الله عليه وسلم لا أطيب منه إذ سلم من حيث القلب حين أزيلت منه العلقة، ومن حيث القالب فهو كله طاعة.
روى الترمذي في الشمائل عن أنس رضي الله تعالى عنه قال: «ما شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرقه صلى الله عليه وسلّم» ولهذا مزيد بيان في باب طيب عرقه وريحه صلى الله عليه وسلم.
وورد إطلاق الطيّب على الله تعالى في حديث: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيّبا» رواه مسلم والله تعالى أعلم [ (1) ] .
حرف الظاء المعجمة
«الظاهر» :
«د» «عا» أي الجليّ الواضح أو القاهر من قولهم: ظهر فلان على فلان أي قهره. قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ والظهور: العلوّ والغلبة. وهو من أسمائه تعالى، ومعناه الجليّ الموجود بالآيات الظاهرة.
والقدرة الباهرة.
«الظّفور»
«خا» «عا» من ظفر: إذا أنشب ظفره في الشيء الغائر، فعول بمعنى فاعل صيغة مبالغة من الظفر وهو الفوز. والله تعالى أعلم.
حرف العين المهملة
«العابد» :
«د» اسم فاعل من عبد إذا أطاع. قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ومواظبته صلى الله عليه وسلم علي العبادة معروفة تواترت بها الأحاديث.
«العادل» :
المستقيم الذي لا جور في حكمه ولا عيل، من العدل ضد الجور. قال عمه أبو طالب يمدحه صلى الله عليه وسلم:
حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائش ... يوالي إلهاً ليس عنه بغافل
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 2/ 703 كتاب الزكاة (65- 1015) .(1/485)
«العارف» :
الصبور. قال في الصحاح: يقال أصيب فلان فوجد عارفاً أي صابراً. أو العالم، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري، قدّس الله تعالى سره: المعرفة على لسان العلماء هي العلم، فكل عارف بالله تعالى عالم، وعكسه، وعند هؤلاء يعني الصوفية المعرفة صفة من عرف الحقّ سبحانه في معاملاته ثم تنقى من أخلاقه الرّديّة وانقطع عن هواجس نفسه الأبية حتى صار من الخلق أجنبيّاً، ومن آفات نفسه برياً، فحينئذ يسمى عارفاً وحالته معرفة. ومن أماراتها حصول الهيبة، فمن زادت معرفته ازداد من الله تعالى هيبة فالهيبة من شرط المعرفة. قال الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كما أن الخوف من شرط الإيمان قال الله تعالى: وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ والخشية من شرط العلم. قال الله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ والمعرفة توجب السّكينة والعلم يوجب السّكون.
قال الشّبلي رحمه الله تعالى: ليس لعارف علاقة، ولا لمحبّ شكوى، ولا لراجٍ قرار، ولا من الله تعالى فرار.
وقال ذو النون المصري رحمه الله تعالى: ركضت أرواح الأنبياء في ميدان المعرفة فسبقت روح محمد صلى الله عليه وسلم إلى روضة الوصال.
فإن قيل: أيهما أفضل: العارف بالله تعالى أم العالم بأحكام الله تعالى؟ فالجواب قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام قدّس الله تعالى سره: العارف أفضل، لأن العلم يشرف بشرف معلومه، والمعرفة: العلم بصفات الله تعالى، والعلم بها أفضل من كل معلوم سواها لتعلّقه بأشرف المعلومات.
وأما قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ فالمراد العلماء العارفون به وبصفاته. كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، لا يجوز الحمل على من سواهم لأن الغالب عليهم عدم الخشية وخبر الله تعالى صدق فلا يحمل إلا على من عرفه وخشيه.
وقول بعضهم: العمل المتعدي خير من العمل القاصر يرده أن الإيمان أفضل الأعمال وهو قاصر، وقد قدّم عليه الصلاة والسلام التسبيح عقيب الصلوات وفضّله على التصدق بفضول الأموال مع تعدي نفعه إلى الفقراء.
«العاضد» :
«عا» المعين، اسم فاعل من عضده إذا أعانه، وأصله الأخذ بالعضد وهو ما بين المرفق إلى الكتف، ثم استعير للمعين، يقال: عضدته أي أخذت بعضده وقوّيته.
«العافي» :
«خا» «عا» المتجاوز عن السيئات الماحي للزّلات والخطيئات.
«العالم» .(1/486)
«العليم» :
جمع بينها «د» وأشار إليهما «يا» فالأول اسم فاعل من علم ومعناه: المدرك للحقائق الدنيوية والأخروية. والثاني: اسم فاعل للمبالغة. وهذان الاسمان من أسمائه تعالى، فالعالم معناه في حقه تعالى: المدرك لحقائق الأمور الدنيوية والأخروية والعليم بمعناه الذي له كمال العلم وثباته والعلم الكامل الثابت في نفسه ليس لغيره وسمّى بهما نبيه صلى الله عليه وسلم لما حازه من علم العليم وحواه من الاطلاع على ملكوت السموات والأرض، والكشف عن الأمور المغيبات، وأوتي علوم الأولين والآخرين، وأحاط بما في التوراة والإنجيل والكتب المنزلة وحكم الحكماء وسير الأمم الماضين مع احتوائه على لغة العرب وغريب ألفاظها والإحاطة بضروب فصاحتها والحفظ لأيامها وأمثالها وأحكامها ومعاني أشعارها، مع كلامه صلى الله عليه وسلم في فنون العلوم، كما سيأتي بيان ذلك كله إن شاء الله تعالى.
«العامل»
«ع» «ح» قال «ط» ولعله مأخوذ من قوله تعالى: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ وروى الترمذي في الشمائل عن علقمة رحمه الله تعالى قال: سألت عائشة رضي الله تعالى عنها: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص شيئاً من الأيام؟ قالت: «كان عمله ديمةً وأيكم يطيق ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يطيق» .
«العائل» :
«عا» : الفقير قال الله تعالى: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى أي فقيراً فأغناك بما أفاء الله عليك من الغنائم أو أغنى قلبك. قلت: وفي تسميته صلى الله عليه وسلم بالعائل بعد الغنى نظر.
«العبد» :
تقدم الكلام عليه في ترجمة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي لهذا مزيد بيان في بيان أبواب الإسراء.
«عبد الله» :
قال الله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ والكلام عليه كالكلام على ما قبله وقد أشبعت القول على لفظ الاسم الكريم في القول الجامع.
وروى أبو داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الأسماء إلى الله تعالى عبد الله وعبد الرحمن»
[ (1) ] .
ونقل الإمام الحسين بن محمد الدمغاني رحمه الله تعالى في كتابه «شوق العروس وأنس النفوس» عن كعب الأحبار رحمه الله تعالى قال: اسم النبي صلى الله عليه وسلم عند أهل العرش:
عبد الحميد وعند سائر الملائكة عبد المجيد، وعند الأنبياء عبد الوهاب، وعند الشياطين عبد القهّار وعند الجن عبد الرحيم، وفي الجبال عبد الخالق وفي البرّ عبد القادر وفي البحر عبد المهيمن، وعند الحيتان عبد القدوس، وعند الهوام عبد الغيّاث، وعند الوحوش
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود (4949) والخطيب في التاريخ 10/ 323.(1/487)
عبد الرزاق، وعند السّباع عبد السلام، وعند البهائم عبد المؤمن، وعند الطيور عبد الغفار، وكذا نقله في القول البديع وهو غريب جداً! ثم رأيت ابن الجوزي نقله في «التبصرة» عن كعب أيضاً.
«العدّة»
«عا» بضم العين: الذخيرة المعدّ لكشف الشدائد والبلايا والمرصد لإماطة المحن والرزايا.
وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه ذخر أمته في القيامة والمتكفّل لها بالنجاة والسلامة.
«العدل» :
الدائن الكافي في الشهادة أو المستقيم الصدر في الأصل، وهو من أسمائه تعالى ومعناه البالغ في العدل ضد الجور أو الاستقامة، أقصى غاياته. والذي يفعل ما يريد وحكمه ماض في العبيد.
«العربي» :
في أحاديث الإسراء أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: مرحباً بالنبي العربيّ. رواه الحسن بن عرفة في جزئه، وهو منسوب إلى العرب وهم خلاف العجم.
والعرب أقسام: عاربة وعرب وهم الخلّص، وهم تسع قبائل من ولد إرم ومن ولد سام بن نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام وهي: عاد وثمود وأميم وعبيد وطسم، بطاء مفتوحة فسين ساكنة مهملتين، وجديس، بجيم فدال مهملة فتحتية فسين مهملة وزن أمير، وعمليق، بعين مهملة مكسورة فميم ساكنة فلام فتحتية فقاف. وجرهم، بجيم مضمومة فراء ساكنة، ووبار بموحدة وراء مبنيّ على الكسر.
ومنهم تعلم إسماعيل صلى الله عليه وسلم العربية. قال عبد الملك بن حبيب رحمه الله تعالى: كان اللسان الأول الذي نزل به آدم من الجنة عربياً إلى أن بعد وطال العهد حرّف وصار سريانياً وهو منسوب إلى أرض سورنة وهي أرض الجزيرة، وبها كان نوح صلى الله عليه وسلم وقومه قبل الغرق. قال:
وكان يشاكل اللسان العربيّ إلا أنه محرّف وقد كان لسان جميع من في السفينة إلا رجلا واحدا يقال له جرهم فكان لسانه لسان العرب الأول فلما خرجوا تزوج إرم بن نوح بعض بناته وصار اللسان في ولده عوص بن عاد وعبيد وجاثر بجيم وثاء مثلثة وثمود وجديس. وسميت عاد باسم جرهم لأنه كان جدهم من الأم: وبقي اللسان السّرياني في ولد أرفخشذ بن سام إلى أن وصل إلى قحطان من ذريته وكان باليمن فنزل هناك بنو إسماعيل فتعلّم منه بنو قحطان اللسان العربيّ.
قال الشيخ رحمه الله تعالى: وعلى هذا يحمل قول الصّحاح: ويعرب بن قحطان أول من تكلم بالعربية أي من أهل اللسان السّرياني.
وبنو قحطان هم القسم الثاني من العرب وهم المتعرّبة. قال في الصحاح: وهم الذين ليسوا بخلّص.(1/488)
والثالث: المستعربة وهم الذين ليسوا بخلّص أيضاً. كما قال في الصّحاح.
قال ابن دحية: وهم بنو إسماعيل وهم ولد معد بن عدنان، وقال النحّاس رحمه الله تعالى: عربية إسماعيل هي التي نزل بها القرآن، وأما عربية حمير وبقايا جرهم فغير هذه العربية، وليست فصيحة، وإلى هذا مال الزّبير في كتاب النسب واحتج له ولم يعول على غيره، وكذلك أبو بكر بن أشتة في كتاب المصاحف.
وتقدم في ترجمة إسماعيل عليه الصلاة والسلام، ولهذا مزيد بيان يأتي.
«العروة الوثقى» :
العقد الوثيق المحكم في الدّين أو السبب الموصّل إلى رضا الله تعالى.
وحكى الشيخ أبو عبد الرحمن السّلمي رحمه الله تعالى في قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى أنه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هي الإسلام.
«العزيز» :
أي القوي، فعيل بمعنى فاعل من عزّ يعزّ عزّاً وعزّة وعزازة. وهي الحالة المانعة للإنسان من أن يغلب أو يقهر، من قولهم أرضٌ عزاز أي صلبة ممتنعة. أي هو الخطير الذي يقل وجوده ويكثر نفعه وجوده. أو الغالب من قولهم: «من عزّ بزّ» أي من غلب سلب. قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ أي الامتناع وجلالة القدر. وأما قوله تعالى: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فالمراد العزة الكاملة التي يندرج فيها عزّ الإلهية والخلق والإحياء والإماتة والبقاء الدائم، وما أشبه ذلك مما هو مختص به تعالى.
وهو ما سماه الله تعالى به من أسمائه، ومعناه في حقه تعالى: الممتنع الغالب. أو الذي لا نظير له. أو المعز لغيره. والمعاني صحيحة في حقه صلى الله عليه وسلم.
«العصمة»
«عا» بكسر العين وسكون الصاد: الذي يستمسك الأولياء بحبل كرامته ويلوذ العصاة بحمى شفاعته صلّى الله عليه وسلم. فالعصمة بمعنى عاصم، كقولهم رجل عدل بمعنى عادل.
روى ابن سعد والطبراني أن أبا طالب عمه صلى الله عليه وسلم استسقى به في صغره لمّا تتابعت عليهم السّنون فأهلكتهم فخرج به صلى الله عليه وسلم إلى أبي قبيس وطلب السّقيا بوجهه فسقوا، فقال يمدحه صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
ويجوز أن يكون بمعنى معصوم اسم مفعول من العصمة كاللقمة بمعنى الملقوم، وأصلها شيء يجعل في المعصم مثل السّوار وحقيقتها عندنا كما في «المواقف» في حقه صلى الله عليه وسلم وحق سائر الأنبياء: أن لا يخلق الله تعالى فيهم ذنباً.(1/489)
«عصمه الله تعالى» :
في «الفردوس» بلا سند عن أنس رضي الله تعالى عنه: «أنا عصمة الله أنا حجّة الله» .
«العطوف» :
«عا» الشّفوق صفة مشبّهة من العطف وهو الانثناء يقال: عطف الغصن إذا مال. وعطفا الإنسان جانباه من لدن رأسه إلى وركه ثم استعير للّين والشفقة إذا عدّي بعلى وإذا عدّي بعن كان على الضدّ من ذلك. وسمي به صلى الله عليه وسلم لكثرة شفقته بأمته ورأفته كما قال شاعره حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه يرثيه صلّى الله عليه وسلم:
عطوفٌ عليهم لا يثني جناحه ... إلى كنفٍ يحنو عليهم ويمهد
[ (1) ]
«العظيم» :
الجليل الكبير. وقيل عظمة الشيء كون الشيء كاملاً في نفسه مستغنياً عن غيره. وتقدم الفرق بينه وبين الجليل «يا» «د» : وقع في أول سفر من التوراة: «وسيلد عظيماً لأمة عظيمة» فهو عظيم وعلى خلق عظيم وهو مما سماه الله تعالى به من أسمائه ومعناه في حقه:
الجليل الشأن أو الذي كل شيء دونه أو البالغ أقصى مراتب العظمة، فلا تتصوره الأفهام ولا تحيط بكنهه الأوهام: أو الذي ليس لعظمته بداية ولا لكبريائه نهاية.
«العفو»
«يا» «د» هو مثل العافي إلا أنه أبلغ منه، يقال عفا عن الذنب فهو عاف وعفوّ.
فالأول يدل على أصل العفو فقط. والثاني يدل على تكريره وكثرته بالإضافة إلى كثرة الذنوب وتكررها حتى أن من لم يعف إلا عن نوع من الذنب فقط يسمّى بالأول دون الثاني.
والفرق بين العفو والحلم والاحتمال كما قاله القاضي: أن العفو ترك المؤاخذة، والحلم حالة توقّر وثبات عن الأسباب المحركة للمؤاخذة. والاحتمال: حبس النفس عن الآلام المؤذيات. ومثله الصّبر، ومرّ الفرق بينه وبين الصفح. وسيأتي الفرق بينه وبين الغفور.
وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك كما قال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
عفوٌّ عن الزلات يقبل عذرهم ... وإن أحسنوا فالله بالخير أجود
لأنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس عفواً وتجاوزاً كما سيأتي بيان ذلك في باب عفوه صلى الله عليه وسلم.
«العفيف»
«د» : الذي كفّ نفسه عن المكروهات، ومنعها عن اقتحام الشبهات، اسم فاعل من العفّة، وهي حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، يقال عفّ وكفّ فهو عفّ وعفيف، قال كعب رضي الله تعالى عنه يمدحه صلى الله عليه وسلم:
لنا حرمةٌ لا تستطاع يقودها ... نبيٌّ أتى بالحقّ عفٌّ مصدّق
قال ابن دحية: وهو موصوف به في الكتب المتقدمة، وقد كان صلى الله عليه وسلم أعفّ الناس، وقلّ
__________
[ (1) ] انظر ديوان حسان 62.(1/490)
ناسك إلا وكانت له في شبابه صبوة وفي أول أمره هفوة، طبع على ذلك البشر، إلا هو صلى الله عليه وسلم كما سيأتي ذلك في باب نشأته صلى الله عليه وسلم.
«العلامة»
«ط» «عا» بالتخفيف: الشاهد والعلم الذي يهتدى به ويستدلّ به على الطريق وسمّي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه دليل على طريق الهدى.
«العلم» :
«ع» بفتح أوله وثانية: العلامة التي يهتدى به أو العلم المشهور أو السيد المذكور.
«علم الإيمان» .
«علم اليقين» .
«العليّ»
«ع» «د» الكبير المرتفع الرتبة على سائر الرّتب الذي جلّ مقداره عن الشكوك والرّيب، وهو من أسمائه تعالى، ومعناه الذي علا عن الدرك ذاته وكبرت عن التصور صفاته، أو الذي تاهت الألباب في جلاله وكلت الألسن عن وصف جماله.
«العماد» :
«ع» السيد الذي يعتمد عليه ويهرع في الشدائد إليه.
«العمدة» :
«ع» السيد الشجاع، والبطل المطاع والركن الذي يعتمد عليه ويهرع في الشدائد إليه.
«العين» :
«ع» تطلق في الأصل بالاشتراك على معان، منها: الباصرة وحاسّة البصر، وسمّي به صلى الله عليه وسلم لأنه بصّر أمته بهدايته طرق الهدى، وجنّبهم سبل الردى، كما يستدل بحاسة البصر على ما فيه النفع والضرر. أو لشرف هذه الأمة به على سائر الأمم، كما قال تعالى:
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ كما شرف الرأس بالعين على سائر الجسد، وفي هذه الآية دليل على أفضلية نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء صلّى الله عليهم وسلم: آدم فمن دونه، من قبل أن خيرة أمته بحسب كمال دينه وذلك تابع لكمال نبيهم الذي يتّبعونه.
ومنها: الذهب والخيار من كل شيء وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك لكونه أفضل الأنبياء وأشرفهم، ومنه: فلان عين الناس أي خيارهم. والسيّد وسمّي به لأنه صلى الله عليه وسلّم سيد الناس. والكبير في قومه وسمي به صلى الله عليه وسلم لأنه أجلّ الخلق وأعظمهم. والإنسان. ومنه: «وما بها من عين» أي أحد وسمّي به صلى الله عليه وسلم من تسمية الخاص باسم العام. لكونه أشرفهم كما مرّ. والماء الجاري لأنه طاهر في نفسه مطهّر لغيره. والجماعة من الناس وسمي أي النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك لأنه لمهابته وشدة جلالته يحسبه الرائي في جماعة تخشى سطوتها وتهاب شوكتها، كما قال البوصيري رحمه الله تعالى:(1/491)
كأنه وهو فرد في جلالته ... في عسكر حين تلقاه وفي حشم
«وينبوع الماء» .
وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه منبع الحكمة ومعدن الرحمة. والشمس وسمي صلى الله عليه وسلم به كما مرّ لعلوّه وشرفه وكثرة النفع به صلى الله عليه وسلم وشرّف وكرّم.
«عين العزّ» .
حرف الغين المعجمة
«الغالب» :
أي القاهر، اسم فاعل من الغلبة وهي القهر، يقال غالبته غلباً فأنا غالب. وهو من أسمائه تعالى ومعناه في حقه البالغ مراده من خلقه أحبّوا أو كرهوا.
«الغطمطم» :
بطاءين مهملتين وزن زبرجد: الواسع الأخلاق أي الرّيّض الحسن الخلق الحليم.
«الغفور» :
جاء في التوراة من صفاته صلى الله عليه وسلم: «ولكن يعفو ويغفر» . وهو من أسمائه تعالى وهو بمعنى الغفار أي الستّار لذنوب من أراد من عباده المؤمنين فلا يظهرها بالعتاب عليها. قال الغزالي رحمه الله تعالى: والغفور ينبئ عن نوع مبالغة ليست في الغفار فإن الغفار ينبئ عن تكرار المغفرة وكثرتها والغفور ينبئ عن وجودها وكمالها فمعناه أنه تامّ الغفران كامله حتى يبلغ أقصى درجات المغفرة. قال أبو بكر بن طلحة من النحاة: صيغ المبالغة تتفاوت، ففعول لمن كثر منه الفعل، وفعّال لمن صار له كالصناعة. ومفعال لمن صار له كالآلة، وفعيل لمن صار له كالطبيعة، وفعل لمن صار له كالعادة والغفور أخص مطلقاً من العفوّ لأن الغفور يستر مع التجاوز لأنه مأخوذ من الغفر وهو الستر ومن لازمه التجاوز في الجملة، لأن عدمه يعدّ مؤاخذة والعفو يتجاوز وقد لا يستر لأنه مأخوذ من العفو وهو المحو، وذلك يصدق بترك المؤاخذة بالذنب بعد أن لا يستره. فكل عفوّ غفور ولا عكس. ويجوز أن يكون بينهما عموم من وجه لاشتراك الوصفين في من يستر الذنب ويمحوه فلا يؤاخذ به فيقال غفور عفوّ، وانفراد أحدهما عن الآخر فالذي يمحو بعد أن لا يستر هو العفوّ أو يستر ولا يمحو بل يؤاخذ سرّاً هو الغفور.
«الغني» :
قال تعالى: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى وهو من الغنى مقصوراً على ثلاثة أضرب: أحدها: ارتفاع الحاجات وليس ذلك إلا لله تعالى: الثاني قلّتها المشار إليه
بقوله صلى الله عليه وسلم: «الغنى غنى النفس»
[ (1) ] . والثالث: كثرة المال وهو المعنيّ بقوله تعالى: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ.
وهو من أسمائه تعالى ومعناه: الذي لا يحتاج إلى شيء ويحتاج إليه كل شيء. قال
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 11/ 271 كتاب الرقاق (6446) ، ومسلم 2/ 726 كتاب الزكاة (120- 1051) .(1/492)
الغزالي: ومعناه في الخلق: الذي لا حاجة له إلا إلى الله تعالى. وكذلك كان صلى الله عليه وسلم.
«الغوث» :
النّصير الذي يستغاث به في الشدائد والمهمات ويستعان به في النوازل والملمّات.
«الغياث» :
الغيث: المطر الكثير. وسمي به صلى الله عليه وسلم لأنه كان أجود بالخير من الريح المرسلة وقد استسقى صلى الله عليه وسلم فأمطروا لحينه بالمطر الجود العامّ. وقال فيه عمه أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
وسيأتي لهذا مزيد بيان في باب مثله صلى الله عليه وسلم ومثل ما بعثه الله به. والله تعالى أعلم.
حرف الفاء
«الفاتح» :
تقدم ذكره في حديث أبي الطفيل رضي الله تعالى عنه وسيأتي في حديث الإسراء «وجعلني فاتحاً وخاتماً» .
وروى عبد الرزاق في المصنف عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما بعثت فاتحاً وخاتماً وأعطيت جوامع الكلم وفواتحه» .
قال «يا» «د» وهو مما سماه الله تعالى به من أسمائه فإنه منها كما قال: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ. وقال تعالى: ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ، وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ومعناه: الحاكم بين عباده، فإن الفتح بمعنى القضاء، أو الفاتح أبواب الرزق والرحمة والمنغلق من أمورهم عليهم، أو فاتح قلوبهم وبصائرهم للحق، أو ناصرهم. وسمي النبي صلى الله عليه وسلم فاتحاً لأنه حاكم في الخلق بحكم الله حاملهم على المحجّة البيضاء مانعهم من التعدي والظلم. أو الفاتح لبصائرهم بالهداية، والدلالة على الخير والناصر لهم. وقيل لأنه يفتح خطاب الرب تبارك وتعالى. وقيل لأنه المبتدئ في هداية هذه الأمة ففتح لهم باب العلم الذي كان قد انغلق عليهم، كما قال علي رضي الله تعالى عنه: «الفاتح لما استغلق» . الأثر السابق في اسمه:
«الرافع» .
«ط» ويصح أن يكون صلى الله عليه وسلم فاتحاً لأنه فتح الرّسل بمعنى أنه أولهم في الخلق. أو فاتح الشّفعاء بقرينة اقترانه باسمه الخاتم، فيكون كاسمه الأول والآخر.
قلت: وكل هذه المعاني مجتمعة فيه صلى الله عليه وسلم.
«الفارق» :
قال «ع» : هو اسمه صلّى الله عليه وسلم في الزبور ومعناه: يفرق بين الحق والباطل وهو صيغة مبالغة. والفارق: اسم فاعل من الفرق وهو الفضل والإبانة.
«الفارقليط» :
تقدم في حرف الباء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه من(1/493)
أسمائه صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة. وضبطه ثعلب بالفاء أوله وقال: معناه الذي يفرق بين الحق والباطل. وقال محمد بن حمزة الكرماني رحمه الله تعالى في غريب التفسير: أي ليس بمذموم. وضبطه أبو عبيد البكري بالباء الموحدة غير صافية فيه فقال: البارقليط ومعناه روح الحق.
«الفاضل» :
الحسن الكامل العالم إذ الفضل يرد بمعنى العلم، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي علماً. أو الكثير الفضيلة وهي الدرجة الرفيعة في الفضل ضد النقص.
«الفائق» :
بالهمزة كقائد وصائن فأعلّ إعلالهما، لأن أصله فاوق فقلبت الواو ألفاً كما قلبت في ماضي فعله الذي هو اسم الفاعل محمول عليه في الإعلال لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم قلبت الألف همزة لقربها منها ولم تحذف لالتقاء الساكنين حذراً من الالتباس بالماضي، وتكتب مثل هذه الهمزة بصورة الياء ويرقم عليها بالهمزة ونقطها خطأ قبيح عند علماء الرسم، ولا ينطق بها إلا بَين بين وهو الخيار من كل شيء وفي الصحاح: يقال: فاق الرجل أقرانه يفوقهم أي علاهم بالشرف والفضل. وسمّي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه خيار الخلق وخيرة الخلق. أو لأنه أفضل الخلق نسباً وأكثرهم فضلاً وأدباً.
«الفتّاح» :
بمعنى الفاتح إلا أنه أبلغ منه. أو الناصر. ومنه قوله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أي النّصر. وهو من أسمائه تعالى. ومعناه. الذي لا يغلق وجوه النّعم بالعصيان ولا يترك اتصال الرحمة بالنسيان، أو الذي يفتح على النفوس باب توفيقه وعلى القلوب باب تحقيقه، أو الذي يفتح بعنايته كل مقفل ويكشف بهدايته ما أشكل.
«الفجر» :
وهو مصدر في الأصل، وهو الصبح لأن فجر الليل أي شقّه، وأصل الفجر شقّ الشيء شقّاً واسعاً، يقال فجرته فانفجر. وفجرته فتفجر، ونقل القاضي عن ابن عطاء في قوله تعالى وَالْفَجْرِ وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه منه تفجر الإيمان.
«الفخر» :
بالخاء المعجمة: العظيم الكبير.
«الفخم» :
بالخاء المعجمة: العظيم الجليل.
«الفدغم» :
بالدال المهملة والغين المعجمة بوزن جعفر: الحسن الجميل والعظيم الجليل.
«الفرد» :
المنفرد بصفاته الجميلة المتوحّد في خلقته الجليلة. وهو أخصّ من الواحد، الأخص من الوتر. لأنه الذي لا يختلط به غيره وجمعه فرادى.
«الفرط» :
بفتح الراء.
في حديث في صحيح البخاري: «أنا فرطكم وأنا شهيد(1/494)
عليكم»
[ (1) ] والفرط: الذي يسبق إلى الماء يهيئ للواردة الحوض ويستقي لهم، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً لمن تقدّم أصحابه يهيئ لهم ما يحتاجون إليه، كذا فسّره أبو عبيد، ويوافقه
رواية مسلم. «أنا الفرط على الحوض»
[ (2) ] وقيل: معناه أنا أمامكم وأنتم ورائي، وهو صلى الله عليه وسلم يتقدم أمته شافعاً لهم.
«الفصيح» :
فعيل من الفصاحة وهي لغة: البيان واصطلاحا خلوص الكلام من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد، وهذا باعتبار المعنى وأما باعتبار اللفظ فهو كونه على ألسنة الفصحاء الموثوق بعربيتهم وسيأتي في باب فصاحته صلى الله عليه وسلم ما يتعلق بذلك.
«الفضل» :
الإحسان سمي به صلى الله عليه وسلم لأنه فضل الله تعالى ومنّته على هذه الأمة بل وعلى غيرها. أو الفاضل أي الشريف الكامل.
«فضل الله» :
حكى الماوردي رحمه الله في قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا أقوالاً: أحدها: أنه هو النبي صلى الله عليه وسلم.
«الفطن» :
«عا» بكسر الطاء المهملة: الحاذق مأخوذ من الفطنة، وهي كما قيل الفهم بطريق الفيض، أو بدون اكتساب.
«الفلاح» :
قال «ع» هو اسمه صلّى الله عليه وسلم في الزبور، وتفسيره يمحق الله به الباطل «ط» : وكأنه غير عربي إذ الفلاح في اللغة: الفوز والنجاح، قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم: ليس في كلام العرب كلمة أجمع للخير من لفظ الفلاح ولا يبعد أن يكون هو اللفظ العربي. وسمي صلى الله عليه وسلم به لما جمع فيه من خصال الخير التي لم تجمع في غيره. أو لأنه سبب الفلاح.
«الفهم» :
«عا» ككتف: السريع الفهم وهو علم الشيء وعرفانه بالقلب، هذا حده لغة، وأما حده في الاصطلاح فهو كما نقل عن كتاب «البصائر» لابن سهلان: جودة تهيئ الذهن الذي هو قوة للنفس معدة لاكتساب الآراء لتصوّر ما يرد عليها من غيرها، كما أن الكفر:
حركة الذهن في المبادئ لتصير منها إلى المطالب، والحدس جودة حركته إلى اقتناص الحد الأوسط من تلقاء النفس، والذكاء: شدة استعداد هذه القوة لذلك، أو الفهم المدرك لدقائق المعاني والمزيل لقناع المشكلات عن وجه المباني فواتح الفوز.
«فاتح الكنوز» .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 9/ 83 كتاب الفتن (7049) .
[ (2) ] أخرجه مسلم 4/ 1802 كتاب الفضائل (45- 2305) .(1/495)
«فئة المسلمين» :
ذكره شيخنا وبيّض له. وكأنه أخذه من
حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان في سرية قال: فحاص الناس حيصة فكنت ممن حاص، فلما برزنا قلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانت لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا. فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج إلينا قمنا إليه فقبّلنا يديه فقلنا: نحن الفرّارون يا رسول الله. فقال: «بل أنتم العكارون» . فقلنا: إنا قد فررنا من الزحف. فقال: «أنا فئة المسلمين» .
رواه أبو داود والترمذي وحسنه النسائي.
والعكّارون: الكرارون إلى القتال والعاطفون نحوه.
قال الخطابي رحمه الله تعالى: يمهد بذلك عذرهم، وهو تأويل قوله تعالى: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ والله تعالى أعلم.
حرف القاف
«القاري» :
«عا» ، الكريم الجواد، اسم فاعل من القرى بكسر القاف مع القصر. وبالفتح مع المد، وهو البذل للأضياف.
روى الشيخان في حديث بدء الوحي: «كلا والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف» والمعنى كما قال العلماء: إنه لا يصيبه مكروه لما جمع الله تعالى فيه من هذه الصفات الحميدة الدالة على مكارم الشّيم وحسن الشمائل.
«القاسم» :
«ع د عا» الذي يقسم الأمور في جهاتها والمعطي. اسم فاعل من القسم وهو العطاء.
روى البخاري حديث: «إنما أنا قاسم والله المعطي» .
«القاضي» :
الحاكم، اسم فاعل من القضاء وهو فصل الأمر وبتّه. وسمي صلى الله عليه وسلم به لأن من خصائصه صلى الله عليه وسلم إنه كان له أن يقضي بغير دعوى ولا بيّنة كما قال ابن دحية واستدل بحديث رواه مسلم. وكان له صلى الله عليه وسلم أن يحكم لنفسه ولولده ويقبل شهادة من شهد له كما في قصة خزيمة. ولا يكره في حقه القضاء ولا الإفتاء في حال غضبه لأنه لا يخاف عليه من الغضب كما يخاف على غيره، لعصمته من الشيطان.
«القانت» :
«عا» الطائع اسم فاعل من القنوت، وهو لزوم الطاعة مع الخضوع أو الخاشع أو طويل القيام في صلاته.
«القائد»
«عا» بالهمز: الذي يقود الناس أي يقدمهم فيسلك بهم طريق الهدى ويعدل بهم عن سبيل الردى.(1/496)
وفي الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه مرفوعاً «وأنا قائدهم إذا فزعوا» .
«قائد الغرّ المحجّلين»
«يا» «عا» الغرّ: جمع أغرّ وهو من الخيل الذي له غرّة أي بياض في جبهته. والمحجّل: الذي به التحجيل وهو بياض في القوائم والمراد بهم أمته وهو قائدهم إلى الجنة.
روى الشيخان حديث «إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء»
ولهذا مزيد بسط في الخصائص.
«قائد الخير» :
أخذه «ط» من حديث ابن ماجة السابق في «الإمام» ومعناه أنه يقود الخير ويجلبه إلى أمته أو يقودهم إليه ويدلهم عليه.
«القائل» :
«عا» الحاكم لأنه ينفذ قوله. أو المحب بالحاء المهملة والباء الموحدة، من قال بالشيء أي أحبه واختص به.
«القائم» :
«خا» يأتي في القيم.
«القتّال» :
روى ابن فارس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: اسم النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة: «أحمد الضّحوك القتّال» الحديث ابن فارس: وإنما سمي صلى الله عليه وسلم به لحرصه على الجهاد ومسارعته إلى القراع وقلة إحجامه.
«القتول»
«خا» .
«قثم» :
بضم القاف وفتح المثلثة:
روي الإمام أبو إسحاق الحربي رحمه الله تعالى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني ملك فقال: أنت قُثَم وخلقك قيم ونفسك مطمئنة»
قال ابن دحية في اشتقاقه معنيان أحدهما: أنه من القثم وهو الإعطاء، يقال قثم له من العطاء إذا أعطى فسمي النبي صلى الله عليه وسلّم بذلك لجوده وعطائه.
الثاني: أنه من القثم وهو الجمع يقال للرجل الجموع للخير قثوم وقثم. وقد كان صلى الله عليه وسلم جامعا لخصال الخير والفضائل كلها.
«قثوم»
«خا» تقدم في الذي قبله.
«قدم صدق» :
في الصحيح عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قال: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن مردويه عن علي رضي الله تعالى عنه في الآية قال: محمد صلّى الله عليه وسلم شفيع لهم. وروى أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه مثله. ونقله «يا» عن الحسن وقتادة.
وقال القشيريّ رحمه الله تعالى: سابقة رحمة لهم أودعها في محمد صلى الله عليه وسلم.
والقدم: الجارحة. يذكّر ويؤنث، والمراد بها هنا السابقة في الخير والفضل ورفعة(1/497)
المحل وفي إضافته إلى الصدق دلالة على زيادة الفضل والشرف وأنه من السوابق العظيمة وإنما سميت السابقة قدماً لكونها يسعى ويستبق إلى الخير بها، كما سميت النعمة يداً لأنها يعطى بها.
«قدمايا» :
هو اسمه صلّى الله عليه وسلم في التوراة. كما سبق في «أخرايا» ، ومعناه الأول السابق.
«القرشيّ» :
«د» نسبة إلى قريش. وتقدم الكلام على ذلك في النسب الشريف.
«القريب» :
«د» : الداني من الله تعالى. قال الله عز وجل: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى أي دنا من ربه تبارك وتعالى حتى إنه صار في القرب منه كقرب الواحد من الآخر بقدر قاب قوسين أو أقل من ذلك، وإلا فالله سبحانه وتعالى منزّه عن المكان. وسيأتي الكلام على هذه الآية في باب المعراج.
أو القريب من الناس لتواضعه. والقرب على قسمين: أحدهما قرب العبد من ربه وهو التقرب إليه بطاعته والاتصاف في كل الأوقات بعبادته. وقيل قربه بإيمانه وتصديقه ثم بإحسانه وتحقيقه، الثاني: قرب الحق من الخلق وهو ما يخصهم به في الدنيا من العرفان وفي الآخرة ما يكرمهم به من الشهود والعيان، وسئل عبد الله بن حنيف رحمه الله تعالى عن القرب فقال:
قربك منه بملازمة الموافقات، وقربه منك بدوام التوفيق، وهو من أسمائه تعالى قال تعالى:
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أي قريب منهم بالعلم لا يخفى عليه شيء من أحوالهم.
«القسم» :
«عا» .
«القطب» :
«عا» بالضم: سيد القوم وملاك أمورهم ومدار حوائجهم وجمعه أقطاب وقطوب وقطبة كعنبة.
«القمر» :
«خا» «عا» الكوكب المعروف، وإنما يسمى بذلك إذا امتلأ ومضى عليه ثلاث ليال لأنه يقمر ضوؤه ضوء الكواكب حينئذ ويفوز.
وقبل ذلك يسمّى هلالاً. وسمي به صلى الله عليه وسلم لأنه جلا ظلمة الكفر بنور الهداية. وفي قصص الكسائي: أن الله تعالى قال لموسى عليه الصلاة والسلام أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو البحر الزاخر والقمر الباهر.
«القويّ» :
من الصفات المشبهة الشديد التمكن. قال تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ قيل: النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: جبريل عليه الصلاة والسلام وهو من أسمائه تعالى. قال في أنوار التنزيل: القوة تطلق على معان مترتبة أدناها الإمكان وأقصاها القدرة التامة، والله تعالى
قادرٌ له قدرة.(1/498)
«القيّم» :
بالمثناة التحتية قال «يا» :
روي في حديث «وأنا قيّم»
والقيم: الجامع الكامل.
كذا وجدته ولم أروه وأرى أن صوابه قثم بالمثلثة، وهو أشبه بالتفسير لكن في كتب الأنبياء أن داود عليه الصلاة والسلام قال: اللهم ابعث لنا محمداً يقيم السنة بعد الفترة. وقد يكون القيّم بمعناه «ط» . وذكر الآمديّ رحمه الله تعالى أن جريبة، - وهو بجيم مضمومة فراء مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فباء موحدة مفتوحة مصغر-، ابن اللثيم الأسدي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وقال:
بدّلت ديناً غير دينٍ قد يذمّ ... كنت من الذّنب كأنّي في ظلم
يا قيّم الدّين أقمنا نستقم ... فإن أصادف مأثماً فلن أثم
والقيّم من أسمائه تعالى، كما في حديث: «أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهن» «د» وهو بمعنى القائم. «عا» : والقيم أبلغ من قائم. والفرق بينه وبين القيّوم والقيّام: أنهما يختصان به تعالى لما فيهما من الأبلغية ولا يستعملان في غير المدح بخلاف القيّم والله تعالى أعلم.
حرف الكاف
«الكافّ» :
بتشديد الفاء. قال ابن عساكر: قيل معناه الذي أرسل إلى الناس كافة. وهذا ليس بصحيح لأن كافة لا يتصرف منه فعل فيكون اسم فاعل. وإنما معناه الذي كفّ الناس عن المعاصي.
«الكافة» :
«عا» : الجامع المحيط. والهاء فيه للمبالغة وأصله اسم فاعل من الكفّ وهو المنع وقيل مصدر كالعاقبة قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ قال الزمخشري: يعني إلا إرسالةً عامة محيطة بهم، لأنها إذا اشتملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد ولهذا مزيد بيان في الخصائص.
«الكافي» :
«عا» اسم فاعل من الكفاية وهو سدّ الخلّة وبلوغ المراد في الأمر.
وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه سدّ خلّة أمته بالشفاعة يوم الحساب، وبلّغهم مرادهم فيما أمّلوه من النصر على الأحزاب، أو لأنه كفي شرّ أعدائه من المشركين، كما قال تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ فيكون المراد بالكافي المكفي بفتح الميم وهو سائغ، لأنه قد يرد اسم فاعل بمعنى المفعول، نحو: ماء دافق وعيشة راضية. بمعنى: مدفوق ومرضية. وإن كان مؤوّلاً عند بعضهم بالحمل على النسب أي منسوبة إلى الرضا كالزارع والنابل أي يجعل إسناد الفعل لها مجازاً أي راضٍ أهلها.(1/499)
«الكامل» :
التام خلقاً وخلقاً.
«الكثير الصمت»
«عا» : أي القليل الكلام فيما لا يجدي نفعاً وسيأتي في صفاته المعنوية صلى الله عليه وسلم.
«الكريم» :
«يا» : الجواد المعطي. أو الجامع لأنواع الخير والشرف. أو الذي أكرم نفسه أي طهّرها عن التدنيس بشيء من المخالفات وتقدم أن أحد القولين في قوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ أنه النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد به جبريل عليه الصلاة والسلام. وعلى هذا فليس في ذلك مع قوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ما يقتضي تقاصر رتبته صلى الله عليه وسلم عن مرتبة جبريل خلافاً لما زعمه الزمخشري، لأن المراد بسلب تلك عنه: الرد على من زعم ثبوتها له من المعاندين لا بيان تفاوت المرتبتين.
وهو من أسمائه تعالى ومعناه: المتفضل. وقيل العفوّ. وقيل العليّ. وقيل: الكثير الخير، والمعاني صحيحة في حقه صلى الله عليه وسلم.
«الكفيل» :
السيد المتكفل بأمور قومه وإصلاح شأنهم. فعيل من الكفالة وهي الضمان، وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه متكفّل لأمته بالفوز والنجاة بما ادخره لهم من الشفاعة أو بمعنى مفعول كالجريح والكحيل.
وسمي به صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى تكفّل له بالنصر والظّفر. أو بمعنى الكفل وزن طفل. وهو الرحمة والنعمة سمي به صلى الله عليه وسلم لأنه رحمة للخلق ونعمة من الحق.
«كنديدة» :
قال «د» هو اسمه صلّى الله عليه وسلم في الزبور.
«الكنز» :
في الأصل المال أو الشيء النفيس. وسمي بذلك صلى الله عليه وسلم لنفاسته، أو لأنه حصل لنا به السعادة الدنيوية والأخروية.
«كهيعص» :
ذكره «د» . في أسمائه صلى الله عليه وسلم. وذكره غيره في أسماء الله تعالى. وقد بسطت القول على ذلك في «القول الجامع» .
«الكوكب» :
«عا» سيد القوم وفارسهم، أو النجم المعروف، وسمّي به صلى الله عليه وسلم لوضوح شرعته وسموّ ملته.
حرف اللام
«اللبيب» :
«عا» صفة مشبهة من لبب أي فطن وهو العاقل الفطن والذكي الفهم.
«اللسان» :
«دعا» في الأصل المقول. ويطلق على الرسالة وعلى المتكلم عن القوم وهو المراد هنا، يذكّر ويؤنث، وجمعه ألسنة وألسن ولسن بضمتين، واللسن بالفتح: الفصاحة(1/500)
والبلاغة، وسمي به صلى الله عليه وسلم لأنه لشدة بلاغته وفصاحته كان مجموعة لسان.
وحكى بعضهم أن المراد باللسان في قول السيد إبراهيم صلى الله عليه وسلم: وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ هو محمد صلى الله عليه وسلم. والمعنى إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى أن يجعل من ذريته من يقوم بالحق ويدل عليه فأجيبت دعوته بمحمد صلى الله عليه وسلم.
«اللسن» :
«عا» بوزن كتف الفصيح البليغ المصقع.
«اللوذعي» :
«عا» بذال معجمة فعين مهملة: الذكي الفصيح الحديد الذّهن، كأنه يلذع بالنار من توقد ذكائه. وتقدم في الحلاحل.
«الليث» :
بالمثلثة: الشديد القوي أو السيد الشجاع أو اللسن البليغ. والله تعالى أعلم.
حرف الميم
«المؤتمن» :
بفتح الميم الثانية الذي يؤتمن لأمانته ويرغب في ديانته اسم مفعول من الائتمان وهو الاستحفاظ. وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه حافظ للوحي مؤتمن عليه، أو على هذه الأمة أي شاهد عليها.
«المؤمّل» :
بفتح الميم أي المرجوّ خيره..
«المؤمّم» :
«عا» بالهمزة: المقصود الذي يؤمّ كل راجٍ حماه لغة في الميمّم بالياء.
«المؤيّد» :
بفتح التحتية: المنصور، اسم مفعول من أيّدته تأييداً إذا قويّته وأعنته قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ.
«المؤيّد»
بكسر المثناة: الناصر أو القوي أو الشديد.
«الماء المعين» :
بفتح الميم وهو الطاهر الجاري على وجه الأرض، فعيل: بمعنى فاعل.
«المأمون» :
«عا» بالهمز اسم مفعول من الائتمان وهو الاستحفاظ الذي يوثق به لأمانته في ديانته. وإنما سمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه لا يخاف منه شر.
«المؤمن» :
بالهمز وبإبدال همزته واواً تخفيفاً بسكونها بعد ضمة، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ ورش والسّوسيّ عن أبي عمرو. والهمز لغة تميم وهو المتّصف بالإيمان، قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أي يصدق، والإيمان مأخوذ من الأمن، لأن المؤمن يأمن العقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة.
«الماجد» :
المفضال الكثير الجود، أو الحسن الخلق السمح، أو الشريف. اسم فاعل من المجد وهو سعة الشرف وكثرة الفوائد. وأصله من قولهم مجدت الإبل: أي أصابت روضة(1/501)
أنقاً خصبة فأمجدها الراعي. قال إياس بن سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه:
سمح الخليقة ماجدٌ وكلامه ... حقٌّ وفيه رحمةٌ ونكال
وهو من أسمائه تعالى قال الغزالي رحمه الله تعالى: الماجد والمجيد: هو الشريف لذاته الحميد فعاله الجزيل عطاؤه، فهو جمع بين الجليل والوهاب والكريم.
الماحي:
تقدم
في حديث جبير في الباب الثاني «وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر»
قال القاضي: أي من مكة وبلاد العرب وما زوي له من الأرض ووعد أنه يبلغه ملك أمته، ويكون المحو: بمعنى الظهور والغلبة كما قال تعالى: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وفي طريق أخرى
عن جبير رواها الحاكم والبيهقي وإسنادها حسن متصل خلافاً لابن دحية، «وأنا ماحي»
فإنه صلى الله عليه وسلم محا سيئات من اتبعه.
«ماذ ماذ» :
هو اسمه صلّى الله عليه وسلم في الكتب السالفة، ومعناه طيّب طيب، وضبطه الإمام الشّمنيّ رحمه الله تعالى بفتح الميم وألف غير مهموزة وذال معجمة.
«المانح» :
المعطي اسم فاعل من منح، إذا أعطى الجزيل وأولى الجميل.
«المانع» :
الذي يمنع أهل الطاعة من الأعداء ويحوطهم وينصرهم، وهو من أسمائه تعالى، ومعناه الذي يمنع أسباب الهلاك والنقصان في الأديان والأبدان بما يلحقه من الأسباب المعدة للحفظ. أو يحرم من لا يستحق العطاء لقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا مانع كما أعطيت ولا معطي لما منعت» فمنعه سبحانه وتعالى حكمة، وإعطاؤه جود ورحمة.
«المبارك» :
العظيم البركة وهي الزيادة والنمو. وقيل: البركة لفظ جامع لأنواع الخير، ومنه قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ أي جامعة لأصناف الخير. وقال حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد
[ (1) ] وقال عباس بن مرداس رضي الله تعالى عنه:
فآمنت بالله الذي أنا عبده ... وخالفت من أمسى يريد المهالكا
ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا ... وبايعت بين الأخشبين المباركا
نبيٌّ أتانا بعد عيسى بناطقٍ ... من الحق فيه الفضل منه كذلكا
__________
[ (1) ] البيت من قصيدة من الكامل مطلعها:
ما بال عينك لا تنام كأنما ... كحلت مآقيها بكل الأرمد
انظر ديوان حسان ص 65، 66.(1/502)
«ع» وإنما سمي صلى الله عليه وسلم بذلك لما جعل الله تعالى في حاله من البركة والثواب وفي أصحابه من فضائل الأعمال. وفي أمته من زيادة القدر على الأمم. وفي تفسير قوله تعالى عن سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ أي نفّاعاً للناس.
«المبرّأ» :
المنزّه المبعد عن كل وصف ذميم. ولهذا مزيد بيان في باب طيب عرقه صلى الله عليه وسلم.
«المبتهل» :
المتضرع المتذلّل: اسم فاعل من الابتهال وهو التضرّع قال الله تعالى:
فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي نتباهل بأن نقول: بهلة الله على الكاذبين منكم، والبهلة بالفتح والضم: اللعنة، وبهله الله: لعنه، من أبهله إذا أهمله، هذا هو الأصل في كل دعاء بما يجتهد فيه وإن لم يكن التعاناً.
«المبشّر» :
اسم فاعل من البشارة وهي الخبر السارّ. وأما قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ فهو. بمعنى أنذرهم، استعيرت البشارة التي هي الإخبار بما يظهر سروراً في المخبر به للإنذار الذي هو ضدها بإدخال الإنذار في جنس البشارة على سبيل التهكّم والاستهزاء. وتقدم الكلام على ذلك في البشير.
«المبعوث بالحق» :
أي المرسل به اسم مفعول من البعث وهو الإرسال. وأصله إثارة الشيء وتوجيهه، وبعث صلى الله عليه وسلم للخلق كافة، كما سيأتي في الخصائص أن شاء الله تعالى.
«المبلّغ» :
الذي يؤدي الرسالة كما أمر، اسم فاعل من بلّغ الرسالة إذا أداها، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ.
«المبيح» :
الذي أباح لأمته ما حرّم على الأمم السابقة. كما سيأتي بيان ذلك في الخصائص.
المبيّن:
بتشديد التحتية: اسم فاعل من التبيين وهو الإظهار قال تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.
«المتبتّل» :
«ط» «عا» المخلص المنقطع إلى الله تعالى بعبادته. اسم فاعل من التبتل وهو الإخلاص والانقطاع إلى الله تعالى، قال تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي أخلص له العبادة. وأما
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا رَهبانيّة ولا تبتّل في الإسلام»
فالمراد به الانقطاع والرغبة عن النكاح. ومنه قيل لمريم: البتول.
«المتبسّم» :
«د» «عا» اسم فاعل من التبسم وهو البشاشة. وسمّي صلى الله عليه وسلم به لأنه كان يلقى الناس بالبشر، وطلاقة الوجه من حسن العشرة ولهذا مزيد بيان في باب ضحكه وتبسّمه صلى الله عليه وسلم.(1/503)
«المتَّبع»
«ط» «عا» اسم مفعول من الاتباع وهو الذي يتبعه غيره أي يقتدي به في أقواله وأفعاله، قال الله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ أمرنا الله تبارك وتعالى باتباعه صلى الله عليه وسلم والإقتداء به في أقواله وأفعاله فوجب علينا إتباعه في ذلك في أقواله فإنه لا ينطق عن الهوى وأفعاله فإنه لا يصدر منه محرّم لعصمته. ولا مكروه لندرته من غيره من أهل الكمال فكيف به منه. بل قيل: لا يتصور وقوع المكروه منه أيضاً لأنه فعل ما هو مكروه في حقنا أو خلاف الأولى كوضوئه صلى الله عليه وسلم مرةً مرة فذلك لبيان الجواز.
وقد حكى الإمام النوويّ عن العلماء أن وضوءه صلى الله عليه وسلم على تلك الصفة أفضل في حقّه من التثليث.
«المتربّص» :
ذكره الإمام شمس الدين البرماوي- رحمه الله تعالى- في رجال العمدة أخذاً من قوله تعالى، آمراً له أن يقول للكفار: تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أي انتظروا حصول ما تتمنونه لي فإني منتظر ما وعدني ربي من النصر عليكم والظّفر بكم.
«المترحّم» :
اسم فاعل من ترحم.
«المتضرّع في الدعاءِ» :
الخاضع لله وتقدم في الضارع.
«المتقن» :
اسم فاعل من الإتقان وهو إحكام الأمور أو الحاذق اللبيب والفطن الأريب، يقال أتقن الشيء فهو متقن وتقن بكسر القاف أي حاذق.
«المتّقي» :
اسم فاعل من اتقى. وقد تقدم الكلام على التقوى في اسمه الأتقى.
«المتلُوّ»
«عا» اسم مفعول من التلوّ وهو المتابعة لأنه يتّبع ويقتدى به.
«المتلو عليه» :
من التلاوة، لأن جبريل كان يتلو عليه القرآن ويدارسه به.
«المتمكّن» :
وجد مكتوباً على حجر في البيت في الهدمة الأولى فيه: «عبدي المنتخب المتمكّن المنيب المختار» ، ومعنى المتمكن: المستمكن في الأرض الذي أطاعه الناس واتبعوه وظهر دينه واشتهر. والتمكن صفة أهل الحقائق، والتكوين صفة أرباب الأحوال، فما دام العبد في الطريق فهو صاحب تكوين لأنه يرتقي من حال إلى حال، فإذا وصل تمكّن.
قال الأستاذ أبو علي الدقاق- رحمه الله تعالى-: كان موسى عليه الصلاة والسلام صاحب تكوين فرجع من سماع الكلام وأثر فيه الحال قال تعالى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب تمكين فرجع بعد أن وصل ولم يؤثر فيه ما شاهد، قال تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى.
«المتمّم لمكارم الأخلاق» :
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه-(1/504)
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»
[ (1) ] وهي من جملة الدين، والمكارم:
جمع مكرمة بضم الراء، والأخلاق جمع خلق بضمتين وهي السجيّة.
«المتمّم» :
مبنياً للمفعول: المكمّل خلقاً وخلقاً.
«المتهجّد» :
قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ وسيأتي الكلام عليه في أبواب عبادته.
«المتوسط» :
«خا» المتردّد في الشفاعة بين الله تعالى وبين الأمة.
«المتوكّل» :
قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ، وهو من أسمائه في التوراة كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو- رضي الله تعالى عنهما-. قال الإمام الشافعي- رضي الله تعالى عنه-: نزه الله تعالى نبيّه ورفع قدره بهذه الآية لأن الناس في التوكل على أحوال: متوكّل على نفسه أو على أهله أو على جاهه أو على سلطانه أو على صناعته أو على غلّته أو على الناس. وكل منهم متوكل مستند إلى حيّ يموت وإلى ذاهب ينقطع، فنزه الله تعالى نبيه عن ذلك كله وأمره بالتوكل عليه، وقال النّخشبي- وهو بنون مفتوحة فخاء ساكنة فشين مفتوحة معجمتين فباء موحّدة فياء نسب: التوكل: طرح البدن في العبودية، وتعلّق القلب بالربوبية، والطمأنينة بالله، فإن أعطاه شكر، وإن منعه صبر. وقيل: الثقة بالله تعالى والإيقان بقضائه لكن يجوز السّعي فيما لا بد منه تأسّياً بالسّنة.
وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري: التوكل محلّه القلب، والحركة بالظاهر لا تنافيه بعد أن تحقّق أن الكل من الله تعالى، فإن تعسّر شيء فبتدبيره وإن تيسّر شيء فبتيسيره.
وحكي أن إبراهيم بن أدهم سأل شقيقا البلخي عن مبدأ أمره فقال: رأيت في بعض الخلوات طائرا مكسور الجناحين فأتاه طائر صحيح الجناحين بجراده في منقاره فأطعمه إياها، فتركت التكسّب واشتغلت بالعبادة، فقال إبراهيم: ولم لا تكون أنت الطائر الصحيح الذي أطعم الطائر العليل حتى تكون أفضل منه؟!
قال صلى الله عليه وسلم: «اليد العليا خير من اليد السفلى»
[ (2) ] .
«المتين» :
«حا» «عا» القويّ الشديد ومنه حبل متين. وهو من أسمائه تعالى ومعناه القويّ السلطان البالغ أقصى مراتب القدرة والإمكان.
__________
[ (1) ] أخرجه مالك في الموطأ (904) ، والبيهقي في السنن 10/ 192 بلفظ «صالح الأخلاق» والحاكم في المستدرك 2/ 613 وذكره المتقي الهندي في الكنز (31969) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 3/ 294 كتاب الزكاة (1429) ، ومسلم 2/ 717 كتاب الزكاة (94/ 1033) .(1/505)
«المثبّت» :
«عا» بفتح الموحدة مبنيا للمفعول من الثبات وهو التمكن والاستقرار. قال الله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ وسمي بذلك لأن الله تعالى ثبّت قلبه على دينه.
«المثبِّت» :
«عا» بكسر الباء مبنيّاً للفاعل المثبت لمن اتبعه على دينه المجاب «خا» المعطى سؤله.
«المجادل» :
«عا» : المحكم المتقن للأمور أو المحاجج اسم فاعل من الجدال وهو المعارضة في القول على سبيل المنازعة والمغالبة لإظهار الحجة. وأصل الجدال الإحكام، ومنه جدلت الحبل والبناء إذا أحكمت صنعهما قال تعالى: وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بأحسن أطرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف.
«المجاهد» :
اسم فاعل من الجهاد. قال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ أي جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالاحتجاج أو بإقامة الحدود أو بإفشاء أسرارهم.
«المجتبى» :
اسم مفعول من الاجتباء وهو الاصطفاء. قال في الصحاح: اجتباه:
اصطفاه.
«المجتهد» :
المجدّ في الطاعة أو من قام به الاجتهاد. وهو بذل الوسع في طلب أمرٍ يقصد، افتعال من الجهد والطاقة.
«المجيب» :
اسم فاعل من أجاب.
«المجير» :
اسم فاعل من أجار، أي أنقذ من استجار به وأغاث من استغاث به.
«المجيد» :
بفتح الميم وكسر الجيم: الرفيع القدر العالي البركة، أو الكريم الشريف الفعال. فعيل بمعنى فاعل من المجد ونيل الشّرف، يقال مجد كنصر وكرم مجداً ومجادةً فهو ماجدٌ ومجيد. وهو من أسمائه تعالى، ومعناه: الكريم الجميل الفعال الكثير الأفضال، أو الذي لا يشارك في أوصاف جماله ولا يضاهى في علوّ شأنه.
«المحجّة» :
جادة الطريق، مفعلة من الحجّ وهو القصد، والميم زائدة، وجمعه المحاجّ. وسمّي بذلك صلى الله عليه وسلم لأن الناس تقصده.
«المحرّض» :
بكسر الراء المشددة فضاد معجمة: المحض على القتال والجهاد أو العبادة، أي المحثّ على ذلك، قال الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ.
«المحرِّم للظّلم» :
وهو مجاوزة الحق ولهذا مزيد بيان يأتي.(1/506)
«المحفوظ» :
اسم مفعول من الحفظ. وسمّي به لأنه محفوظ من الشيطان.
روى البخاري عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة فقال: «إن الشيطان عرض لي فشدّ عليّ ليقطع الصلاة علي فأمكنني الله منه» .
وفيه دليل على حفظه منه [ (1) ] .
فإن قيل: لم سلط عليه الشيطان أولاً، وهلاّ كان إذا سلك عليه الصلاة والسلام طريقاً هرب الشيطان منه كما وقع لعمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، فقد
روى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجّاً إلا سلك فجا غيره»
[ (2) ] .
الجواب: أنه لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوماً من الشيطان ومكره ومحفوظاً من كيده وغدره آمناً من وسواسه وشره كان اجتماعه به وهربه منه سيّان في حقه صلى الله عليه وسلم. ولما لم يبلغ عمر- رضي الله تعالى عنه- هذه الرتبة العليّة والمنزلة السنيّة كان هرب الشيطان منه أولى في حقه وأيقن لزيادة حفظه وأمكن لدفع شره، على أن يجوز أن يحمل الشيطان الذي كان يهرب من عمر غير قرينه أما قرينه فكان لا يهرب منه بل لا يفارقه لأنه وكّل به كغيره.
«المحكّم» :
«عا» بفتح الكاف المشددة: الحاكم وهو القاضي. قال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي يرضوا بحكمك لهم وعليهم.
«المحرم» :
مبيّن الحرام وهو ما نهى الله عنه ولم يرخص فيه.
«المحلّل» :
شارع الحلال وهو ما أذن في تناوله شرعاً.
«المحمود» :
«يا» «د» «ع» هو المستحق لأن يحمد لكثرة خصاله الحميدة. قال حسان بن ثابت- رضي الله تعالى عنه- يرثيه:
فأصبح محمودا إلى الله راجعا ... يبكيه حق المرسلات ويحمد
[ (3) ] وهو من أسمائه تعالى قال حسان أيضاً:
وشقّ له من اسمه ليجلّه ... فذو العرش محمودٌ وهذا محمّد
[ (4) ]
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 2/ 143 كتاب العمل في الصلاة (1210) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 4/ 256 كتاب بدء الخلق (3294) ، ومسلم 4/ 1864 كتاب الفضائل (22- 2396) .
[ (3) ] البيت في الديوان:
فأصبح محمودا إلى الله راجعا ... يبكيه جفن المرسلات ويحمد
الديوان ص 63.
[ (4) ] يعد البيت في الديوان:
نبيٌّ أتانا بعد يأس وفترة ... من الرسل والأوثان في الأرض بعد
الديوان ص 54.(1/507)
«المحيد» :
من حاد عن الشيء إذا عدل عنه، وسمّي بذلك لأنه حاد عن الباطل واتبع الحق. أو من أحاد لأنه عدل بأمته إلى جادّة الطريق المستقيم وسلك سبيل الدين القويم.
«المخبت» :
«خا» تقدم في الأوّاه. وفي الصحاح: الإخبات الخشوع والتواضع.
«المخبر» :
«د» المبلّغ عن الله ما أوحى إليه.
«المختار» :
اسم مفعول من الاختيار وهو الاصطفاء كما في الصّحاح. روى الدارمي عن كعب الأحبار قال في السّفر الأول: محمد رسول الله عبدي المختار لا فظ ولا غليظ ولا سخّاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة.
«المختص» :
اسم مفعول من الاختصاص بالشيء وهو الإيثار به، وسمي بذلك لأن الله تعالى اختصه لنفسه واستأثر به على خلقه، ويجوز أن يراد به اسم الفاعل، وسمي به لأنه اختص بملازمته عبادة ربه واستأثر بزيادة حبه وقربه.
«المختصّ بالقرآن» :
«عا» المستأثر به على غيره، يقال اختصه الله بكذا واختص نفسه بكذا فهو مختص فيهما. والقرآن في الأصل مصدر نحو كفران ورجحان سمي بذلك من بين كتب الله لكونه جامعاً لثمرة كتبه، بل لجمعه ثمرة جميع العلوم كما أشار إليه بقوله:
وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وقوله: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وقد خصّ بالكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وصار له كالعلم، كما أن التوراة لما أنزل على موسى والإنجيل لما أنزل على عيسى عليهما الصلاة والسلام. والقرآن: ضم بعض الحروف والكلمات إلى بعض في الترتيل.
وليس يقال ذلك لكل جمع، لا يقال قرأت القوم إذا جمعتهم.
«المختص بآيٍ لا تنقطع» :
الآي: جمع آية وهي العلامة والمراد بها المعجزة لأن منها القرآن، والمعنى أن آياته لا تبيد ولا تنقطع بل هي باقية إلى يوم القيامة تتجدّد ولا تضمحل لأن منها القرآن وهو باق إلى آخر الدهر بخلاف معجزات سائر الأنبياء صلّى الله عليهم وسلم فإنها انقرضت بانقراضهم، ولهذا مزيد بسط في المعجزات.
«المختّم» :
اسم مفعول من تختّم إذا اتخذ خاتماً، وسيأتي لهذا مزيد بيان في أبواب زينته. أو الذي ختم عليه بخاتم النبوة كما سيأتي بيانه في صفات جسده الشريف.
«المخصوص بالعزّ» .
«المخصوص بالمجد» .
«المخضم»
«عا» بضاد معجمة بوزن منبر: السيد الشريف العظيم المنيف.
«المخلص» :
«عا» الصادق في عبادته الذي ترك الرياء في طاعة الله تعالى، اسم فاعل(1/508)
من الإخلاص وهو الصدق وترك الرياء. قال الله تعالى: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي قال الأستاذ أبو القاسم القشيري- رحمه الله تعالى-: الإخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد، أو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين. والفرق بينه وبين الصدق أو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين. والفرق بينه وبين الصدق أنه التنقّي عن مطالعة النفس. والإخلاص: التوقّي عن ملاحظة الخلق. والمخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له.
«المدثّر» :
قال تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ
روى الشيخان عن جابر بن عبد الله- رضي الله تعالى عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث عن فترة الوحي: «بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسّي بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت دثروني دثروني»
[ (1) ] . وفي لفظ:
زمّلوني زمّلوني فانزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وهو اسم مشتق من الحالة التي كان عليها حين النزول. والمدثر: المتلفّف في الدثار وهو الثياب وأصله المتدثر لأنه من تدثّر فقلبت التاء دالاً وأدغمت. قال أبو القاسم بن الورد: وإنما نزل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ عقب قوله «زملوني» لأجل أن هذا التزمل أريد به الدثار من البرد الذي يعتري الروع لأنه كالمحموم مخاطبة بالمعنى المطلوب من تزمل أي يا أيها المزمل المدثر دع هذا الدّثار وخذ في الإنذار تأنيباً له من ذلك الروع وتنشيطاً على فعل ما أمر به. كما تقول لمن أرسلته في حاجة فتخوّف وجلس في بيته: يا أيها المتخوّف امض فيما وجّهتك. ولو قلت: يا أيها الجالس في بيته لاستقام لكن بدأه بالمعنى الذي من أجله جلس في بيته آنس له وآمن من تخوّفه وأبلغ في التنشيط له.
«المدنيّ» :
نسبة إلى المدينة الشريفة وسيأتي الكلام عليها في أبواب فضلها.
«مدينة العلم» :
روى الترمذي وغيره مرفوعاً: «أنا مدينة العلم وعلي بابها»
[ (2) ] والصواب الحديث حسن. كما قال الحافظان العلائي وابن حجر، وقد بسط الشيخ الكلام عليه في كتاب «تهذيب الموضوعات» . وفي «النكت» .
«المذكِّر» :
المبلغ الواعظ، اسم فاعل من التذكرة وهي الموعظة والتبليغ. قال تعالى:
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي ذكّر عبادي وعظهم بحجّتي وبلّغهم رسالاتي.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 284 كتاب التفسير (4925) ، ومسلم 1/ 193 كتاب الإيمان (255- 161) .
[ (2) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 126، والفتن في التذكرة (95) ، والذهبي في الميزان (429) ، والعقيلي في الضعفاء 3/ 150، والطبراني في الكبير 11/ 66، وابن كثير في البداية والنهاية 7/ 359، وذكره الهيثمي في المجمع 9/ 117، وعزاه للطبراني وقال: فيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف.(1/509)
«المذكور» :
«خا» : في الكتب السالفة.
«المرء» :
بتثليث الميم: الرجل الكامل المروءة، وهي بالهمز وتركه: الإنسانية. قال الجوهري. وسأل رجل الأحنف عن المروءة فقال: عليك بالخلق الفسيح والكفّ عن القبيح.
وقيل: أن تصون نفسك عن الأدناس ولا تشينها عند الناس. وقال الإمام جعفر الصادق: وهي أن لا تطمع فتذلّ ولا تسأل فتثقل ولا تبخل فتشتم، ولا تجهل فتخصم. وقيل: أن لا تعمل في السرّ ما تستحي منه في العلانية. وقيل: هي اسم جامع لكلّ المحاسن. وعن عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه-: المروءة مروءتان: مروءة ظاهرة وهي الرئاسة ومروءة باطنة وهي العفاف.
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عائشة مرفوعاً: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا في الحدود» ورواه الإمام الشافعي وابن حبان في صحيحه بلفظ: أقيلوا ذوي الهيئات زلاّتهم.
وقال الشافعي: وذوو الهيئات الذين يقالون عثراتهم: الذين لا يعرفون بالشر فيزلّ أحدهم الزلّة. وقال الماوردي: في عثراتهم وجهان: أحدهما: الصغائر. والثاني أول معصية زلّ فيها مطيع.
وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه منها بمكان قال له زهير بن صرد:
آمنن على رسول الله في كرمٍ ... فإنّك المرء نرجوه وندّخر
«المرتجى» :
«ط» [ (1) ] بفتح الجيم: اسم مفعول من الرجاء بمعنى الأمل لأنه الذي يرجوه الناس لكشف كروبهم وجلاء مصائبهم وأعظمها يوم القيامة في فصل القضاء.
«عا» : أو بكسرها: اسم فاعل، أي المؤمّل من الله تعالى قبول شفاعته في أمته.
روى الشيخان عن أبي هريرة- رضي الله تعالى عنه- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل نبي دعوةٌ مستجابة فتعجّل كلّ نبي دعوته وأني أختار دعوتي شفاعة لأمتي فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات لا يشرك بالله شيئاً» .
«المرتضى» :
الذي رضيه مولاه أي أحبه واصطفاه.
«المرتّل» :
بكسر المثناة الفوقية اسم فاعل من رتّل مضاعفاً وهو الذي يقرأ القرآن على ترسّل وتؤدة مع تبيين الحروف والحركات قال تعالى: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا.
روى الترمذي عن حفصة- رضي الله تعالى عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالسورة ويرتلها حتى تكون أطول من أطول منها. ولهذا مزيد بيان في أبواب قراءته صلى الله عليه وسلم.
«المرحوم» :
اسم مفعول من رحم. وتقدم بيان معنى الرحمة.
__________
[ (1) ] في أ (خا) .(1/510)
«مرحمة» :
روى أبو نعيم في «الحلية»
عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- مرفوعاً: «بعثت مرحمة وملحمة ولم أبعث تاجراً ولا زارعاً»
[ (1) ] أي بعثت رحمةً للمؤمنين وشدة على الكافرين. كما قال الله تعالى في حقه وحق أصحابه: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
«المرسَل» :
«ع» «د» . قال الله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا. قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ وهو مفعل من الرسالة والفرق بينه وبين الرسول أن الأوّل لا يقتضي التتابع في الإرسال، بل قد يكون مرة واحدة والرسول يقتضيه.
«المرشد» :
الهادي: اسم فاعل من أرشد أي دلّ على طريق الهدى.
«مرغمة»
«د» وقع في الصحاح: «بعثت مرغمةً» أي مذلاً للكفر حتى يلتصق بالرّغام وهو بالفتح التراب، ثم استعمل في الذل والعجز.
«المرغّب» :
«عا» اسم فاعل من رغّب مضاعفاً، لأنه يحث الخلق على طاعة الحق ويرغبهم فيما عنده من الخير، وقرأ زيد بن علي: وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ أي رغّب الناس إلى طلب مغفرته ومحبة مثوبته.
«المزكّي» :
«ط» قال تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ أي يطهرهم من الشرك ووضر الآثام.
«المزَّمِّل» :
أصله المتزمّل قلبت التاء زاياً وأدغمت لأنه من تزمّل. قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ ولهذا مزيد بيان في أبواب بعثته.
«المزمزم» :
«عا» بضم الميم الأولى وفتح الزاي الثانية أي المغسول قلبه بماء زمزم كما سيأتي الكلام على ذلك في أبواب صفة جسده الشريف في باب شق صدره صلى الله عليه وسلم.
«مزيل الغمّة» :
اسم فاعل من الإزالة وهي الكشف والإماطة. والغمة من الغم: الكرب والشدة. وأصله الستر ومنه الغمام لأنه يستر ضوء الشمس، وسمي بذلك لأنه جلى ظلمة الشك بنور اليقين، وأماط غمة الشّرك عن الدين المتين، ورفع حجب الغفلة عن قلوب المتقين.
«المسبّح» :
«ط» «عا» بسين مهملة فباء موحدة مهملة: المهلل الممجّد، اسم فاعل من التسبيح وهو تنزيه الحق عن أوصاف الخلق، وأصله المرّ بسرعة في الماء. قال «عا» : وفرّق بينه وبين التقديس والتنزيه بأن التقديس تبعيد الرب عما لا تليق به الربوبية، والتنزيه تبعيده عن أوصاف البشرية، والتسبيح تبعيده عن أوصاف جميع البريّة.
«المستجيب» :
«عا» المطيع اسم فاعل من استجاب بمعنى أجاب، وليست سينه
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الحلية 4/ 72، وذكره المتقي الهندي في كنز العمال (10500) .(1/511)
للطلب بل هو استفعل بمعنى أفعل قال كعب الغنويّ:
وداعٍ دعا يا من يجيب إلى النّدا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
ومنه: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أي فتجيبون ويجوز أن يكون المستجيب بمعنى مستجاب، فعيل بمعنى مفعول، وسمّي بذلك لأنه تجب علينا طاعته ويلزمنا إجابته إذا دعانا ولو في صلاتنا، ولا تبطل بإجابته كما سيأتي بيان ذلك في الخصائص.
«المستعيذ» :
«ط» اسم فاعل من العوذ وهو الالتجاء إلى الله تعالى والاستجارة به والانحياز إليه والاستعانة به، قال تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ واستعاذته صلى الله عليه وسلم عند القراءة وفي كل وقت من الشيطان وهمزه ونفثه ومن شر ما خلق وعند نزوله المنازل في السفر معلوم جاءت به الأحاديث الصحيحة وذكر بعضهم أن الاستعاذة كانت واجبة عليه صلى الله عليه وسلم وحده ثم تأسيناً به.
«المستغفر من غير مأثم» :
قال تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ
روى ابن السني عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنا نعدّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة يقولها قبل أن يقول شيئاً «ربّ اغفر لي وتب عليّ إِنك أَنت التوابُ الرحيم»
ولهذا مزيد بيان في باب استغفاره.
«المستغني» :
«خا» تقدم في الغنيّ.
«المستقيم» :
اسم فاعل من الاستقامة وستأتي وأصله مستقوم نقلت حركة الواو إلى ما قبلها ثم قلبت ياء، وهو الذي لا عوج فيه ينقصه، أو السالك الطريق المستقيم وهي طريق الحق فلا يحول عنها، وقد مرّ عن الحسن وأبي العالية أن الصراط المستقيم في قوله تعالى:
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي استقم استقامةً مثل الاستقامة التي أمرت بها على جادّة الحق غير عادل عنها، أي دوام على ذلك. قال الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها. وببلوغها حصول الخيرات ونظامها، وأول مدارجها: التقويم وهو تأديب النفس، ثم الاستقامة وهي تقرّب الأسرار.
وقيل: الاستقامة الخروج من المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات والقيام بين يدي الحق على قدم الصّدق.
«المسدّد» :
أخذه «ط» من قوله تعالى لشعيا صلى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن أبي حاتم عن وهب:
أسدّده لكل جميل.
«المسرى به» :
بضم الميم وسكون السين المهملة اسم مفعول من الإسراء كما سيأتي بيان ذلك في بابه.(1/512)
«المسعود» :
«د» «عا» اسم مفعول من أسعده الله تعالى أي أغناه وأذهب شقاوته فهو مسعود ولا تقل مسعد.
«د» : ويجوز أن يكون بمعنى فاعل، كالمحبوب. بمعنى محبّب من سعد كعلم وعني سعادة فهو سعيد ومسعود أي حصل له اليمن والبركة.
«المسلّم» :
«عا» بتشديد اللام المكسورة المفوّض من غير اعتراض، المتوكّل على الله تعالى في جميع الأعراض.
«المسيح» :
المبارك باليونانية، أو الذي يمسح العاهات فيبرئها فعيل بمعنى فاعل، أو الذي لا أخمص له. وسيأتي في باب صفة قدمه الشريف أنه صلى الله عليه وسلم كان مسيح القدمين ومعناه أنه كان أمسح الرجل ليس لرجله أخمص فالأخمص: ما لا يمسّ الأرض من باطن الرجل ولذلك سمي السيد عيسى صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه أقوالٌ يناسب النبي صلى الله عليه وسلم منها عشرة: الأول: أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ، وقد كان صلى الله عليه وسلم كذلك. كما سيأتي في المعجزات.
الثاني: سمي بذلك لحسن وجهه، والمسيح في اللغة الجميل، وقد كان صلى الله عليه وسلم من الحسن بمكان لا يدانيه فيه أحد، كما سيأتي بيان ذلك في حسنه.
الثالث: الكثير الجماع يقال مسحها إذا جامعها. قال ابن فارس. الرابع: الصّديق قاله الأصمعي. الخامس: المسيح قطعة الفضة وسمي به لأنه كان أبيض مشربا بحمرة وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في باب صفة لونه. السادس: المسيح: السيف قاله المطرّز.
ومعنى السيف في حقه صلى الله عليه وسلم واضح لأنه سيف الله كما تقدم. السابع: الذي يمسح الأرض أي يقطعها لأنه كان تارةً بالشام وتارةً بمصر وتارة بغيرهما. والنبي صلى الله عليه وسلم قطع السماوات السبع.
الثامن: لأن الله تعالى كان يمسح عنه الذنوب: التاسع: أن جبريل مسحه بالبركة ذكرهما أبو نعيم.
العاشر: أنه ولد كأنه ممسوح بالدّهن. وقد ولد صلى الله عليه وسلم مسروراً مختوناً. وقالت حاضنته أم أيمن: كان يصبح دهيناً رجلاً وغيره من الأولاد شعثاً.
قال أبو عبيد: وأظن المسيح أصله مشيح بالشين المعجمة فعرّب.
«المشاور» :
«عا» اسم فاعل من المشاورة وهي استخراج الآراء ليعلم ما عند أهلها.
قال تعالى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: «ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم» ولهذا مزيد بيان في باب مشاورته أصحابه.
«المشذّب» :
«عا» بمعجمتين آخره باء موحّدة: الطويل المعتدل القامة.(1/513)
«المشرّد» :
«عا» اسم فاعل من التشريد بالعدوّ وهو التنكيل والتسميع بعيوبه ويجوز إعجام ذاله وبه قرأ ابن مسعود في قوله تعالى: فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي فرّقهم عن محاربتك بقتلهم شرّ قتلة واجعلهم نكالا لمن يتعرض لك بعد ذلك بسوء حتى لا يجسر أحد عليك اعتباراً بهم واتعاظاً بحالهم.
«المشفّع» :
بفتح الفاء: الذي يشفع فتقبل شفاعته، وهو السؤال في طلب التجاوز عن المذنبين. ويأتي الكلام على شفاعته صلّى الله عليه وسلم في بابها.
«المشفوع» :
ذكره «د» قال الشيخ رحمه الله تعالى: ولم يظهر لي معناه لأنه لا يصح أن يكون من الشفاعة لأن اسم المفعول منها مشفّع من شفع.
«مشقّح» :
«يا» قال الشّمنيّ: هو بضم الميم وفتح الشين المعجمة والقاف المشددة وفي آخره حاء مهملة. وقال ابن دحية هو بالفاء وزن محمّد ومعناه، فإن الشّقح في اللغة:
الحمد. وقال ابن ظفر: وقع هذا الاسم في كتاب شعيا ونصه: عبدي الذي سرّت به نفسي أنزل عليه وحيي فيظهر في الأمم عدلي ويوصيهم بالوصايا ولا يضحك ولا يسمع صوته في الأسواق، يفتح العيون العور والآذان الصّمّ والقلوب الغلف وما أعطيه لا أعطي أحداً، مشقّح بحمد الله تعالى حمداً جديداً، يأتي من أقصى الأرض يفرح البرّية وسكانها يهللون الله ويكبّرونه على كل رابية، لا يضعف ولا يغلب ولا يميل إلى الهوى ولا يذل الصالحين الذين هم كالعصبة الضعيفة بل يقوّي الصّديقين، وهو ركن المتواضعين، وهو نور الله الذي لا يطفأ أثر سلطانه على كتفه.
قلت: قد راجعت عدة نسخ من «خير البشر» لابن ظفر فلم أره قد ضبط مشقّح بالفاء «إنما فيها نقطتان فوق الحرف» . وذلك مما يؤيد ضبط الشّمنيّ رحمه الله تعالى.
«المشهود» :
«د» اسم مفعول وهو الذي تشهد أوامره ونواهيه وتحضر.
قال تعالى: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ حكى القرطبي أن الشاهد: الأنبياء، والمشهود:
النبي صلى الله عليه وسلم قال: وبيانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ إلى قوله: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
«المشيح» :
بضم الميم وكسر الشين المعجمة وسكون المثناة التحتية آخره مهملة. أي مشيح الصدر أي باديه من غير تقعّس ولا تطامن، بل بطنه وصدره سواء. قال القاضي: ولعله بفتح الميم بمعنى عريض الصدر، كما وقع في الرواية الأخرى.
«المشير» :
اسم فاعل من أشار عليه إذا نصحه وبين له الصواب. وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه الناصح المخلص في نصحه.(1/514)
«المصافح» :
«عا» اسم فاعل من المصافحة وهي الأخذ باليد. قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: وهي عند التلاقي سنّة مجمع عليها ويستحب معها البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة ولهذا مزيد بيان في باب مصافحته صلى الله عليه وسلم.
«المصارع» :
«خا» «عا» الذي يصرع الناس لقوّته من الصّرع وهو الطّرح. روى البيهقي إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صارع أبا الأشدّ الجمحيّ واسمه كلدة فصرعه. وبلغ من شدة أبي الأشدّ أنه كان يقف على جلد البقرة ويجاذبه عشرة من تحت قدميه فيتمزّق الجلد من تحته ولا يتزحزح. ولهذا مزيد بيان في باب شجاعته صلى الله عليه وسلم وقوّته.
«المصباح» :
السّراج، وأحد أعلام الكواكب، وسمي به صلى الله عليه وسلم لأنه أضاءت به الآفاق.
«مصحّح الحسنات» :
لأن شرط صحتها الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
«المصدّق» :
«عا» بكسر الدال. اسم فاعل من صدّق مضاعفاً إذا أذعن وانقاد لما أمر به، وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه صدّق جبريل فيما أخبر به عن الله تعالى من الوحي. قال تعالى:
وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ قيل هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأنه جاء بالصدق وآمن به، ولما كان المراد هو وأمته ساغ الإتيان بضمير الجمع وإشارته في الآية فقال تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وقيل: الذي صفة لمحذوف بمعنى الجمع تقديره والفريق أو الفوج الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ أو لأنه صدّق ما بين يديه من الكتاب كما قال تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ.
«المصدّق» :
بفتح الدال مبنيا للمفعول لأن أمته صدّقته فيما أخبرهم به فهو بمعنى ما قرئ به في الآية وصدق بضم الصاد.
«المصدوق» :
تقدم في الصادق.
«المصطفى» :
هو من أشهر أسمائه صلى الله عليه وسلم وأصله «مصتفوٌ» لأنه مأخوذ من الصفوة وهو الخلوص، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً وأبدلت تاء الافتعال منه طاء لوقوعها بعد الصاد التي هي أحد حروف الإطباق، وتقدم في باب «فضل العرب» وفي باب طهارة أصله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة فيها أن الله اصطفاه على خلقه.
«المصلح» :
اسم فاعل من أصلح إذا أزال الإفساد وأوضح سبيل الرشاد، وتقدّم وروده في حرف التاء.
وهو صلى الله عليه وسلم مصلح للدّين بإزالة الشّرك والطغيان، مصلح للخلق بالهداية.
«المصلّى» :
بفتحها مبني للمفعول أي المصلّى عليه
.(1/515)
«المصون» :
الصيّن. وتقدم.
«المضخم» :
بمعجمتين بوزن منبر: السيد الشريف العظيم المنيف.
«المضري» :
«عا» بضاد معجمة نسبة إلى مضر أحد أجداده، وتقدم الكلام عليه في أبواب نسبه صلى الله عليه وسلم.
فائدة:
العرب لا تقول إلا ربيعة ومضر ولا تنطق بالعكس أصلاً مع أن مضر أشرف من ربيعة طلباً للخفّة إذ لو قدّمت مضر لتوالت حركاتٌ كثيرة فأخّر ليوقف عليه بالسكون.
«المضيء» :
«عا» بالمعجمة مهموز: اسم فاعل من أضاء إذا أنار، وسمّي صلى الله عليه وسلم بذلك كما سمي بالضياء، وقد مرّ الفرق بينه وبين النور مع مزيد كلام.
قال كعب يمدحه صلى الله عليه وسلم:
نورٌ يضيء له فضلٌ على الشّهب
«المطاع» :
المتّبع الذي يذعن وينقاد له، اسم مفعول من الطاعة. قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأحد القولين في قوله تعالى: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ أنه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
«المطهر» :
ونقله «د» عن كعب «ط» : ويحتمل ضبطه بكسر الهاء اسم فاعل لأنه صلى الله عليه وسلم طهر من دنس الشّرك. وبفتحها اسم مفعول لأنه صلى الله عليه وسلم طهر ذاتاً ومعنى ظاهراً وباطناً.
«المطيع» :
ورد في حديث ابن ماجة السابق في الأوّاه أي المنقاد لربه، اسم فاعل من الطّوع وهو الانقياد ومثله الطاعة. يقال طاع يطوع وأطاع يطيع فهو طائع ومطيع وأطعته فهو مطاع.
«المظفّر» :
«خا» المنصور على من عاداه.
«المعروف» :
«عا» بالبر والخير والإحسان أي معروف لله تعالى أي برّه وإحسانه لعباده أو صاحب المعروف.
«المعزّر» :
الموقّر. ذكرهما «د» قال تعالى: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وقال تبارك وتعالى:
فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ فأوجب الله تعالى تعزيره وتوقيره وإكرامه، ومعنى يعزّروه يجلّوه، وقيل: يبالغوا في تعظيمه، وقيل يعينوه، وقرئ بزاءين من العزّ، ومعنى يوقّروه: يعظموه.
ومن ذلك ما أوجبه الله تعالى من خفض الصوت عنده بقوله: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية. ولهذا مزيد بيان في باب وجوب تعظيمه وتوقيره صلى الله عليه وسلم.
«المعصوم» :
قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ولهذا مزيد بيان في باب عصمته صلى الله عليه وسلم.(1/516)
«المعطي» :
«د» الواهب المتفضل، اسم فاعل من العطاء وهو الإنالة وهو من أسمائه تعالى.
«المعظّم» :
بالبناء للمفعول أي العظيم ومعناه الجليل الشأن الكبير السلطان، أو الذي كل شيء دونه أو البالغ أقصى مراتب العظمة فلا تتصوره الأفهام ولا تحيط بكنهه الأوهام.
«المعقّب» :
«د» قال «ط» : وكأنه بفتح العين وكسر القاف المشددة بمعنى العاقب لأنه عقّب الأنبياء أي جاء بعدهم «عا» هو الذي يخلف غيره فهو بمعنى العاقب يقال: «نجم معقّب» إذا طلع بعد آخر، أو من أعقب إذا أخلف عقباً لأن له صلى الله عليه وسلم عقباً باقياً إلى يوم القيامة وهم أولاد السيدة فاطمة رضي الله تعالى عنهم.
ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم: إن أولاد بناته ينسبون إليه كما سيأتي بسط ذلك هنالك.
«المعلّم» :
بكسر اللام المشددة: أي المرشد للخير والدالّ عليه،
روى الدارميّ في حديث «إنما بعثت معلّماً»
وقال حسان رضي الله تعالى عنه:
معلم صدقٍ إن يطيعوه يهتدوا
[ (1) ]
«المعلّم» :
كمعظّم اسم مفعول من التعليم وهو تنبيه النّفس لتصوّر المعاني وتوقيفها لتدبّر المباني، والتعلّم تنبّهها لذلك يقال: علّمته تعليماً وأعلمته إعلاماً بمعنى واحد في الأصل، ثم اختص الإعلام كما قال الراغب بما كان بإخبار سريع، والتعليم بما كان بتكرير وتكثير حتى يحصل منه في النفس أثر، قال تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
أي أرشدك وهداك ودلّك على ما لم يكن لك به علم ولا سبق لك فيه معرفة من حوادث الأمور وضمائر القلوب وأسرار الغيوب وأمر الدّين والأحكام وشرائع الإسلام.
«معلّم أمته»
صلى الله عليه وسلم.
«المعلن» :
«د» المظهر بدعوته من العلانية ضد السر بالمهملة في حديث علي رضي الله تعالى عنه في صفة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: المعلن الحقّ بالحق.
«المعلّى» :
الذي رفع على غيره، اسم مفعول من التعلية وهي الرفعة.
«المعمّم» :
«عا» بالبناء للمفعول أي صاحب العمامة وهو من أسمائه صلى الله عليه وسلم في الكتب السالفة.
__________
[ (1) ] وأوله:
إمامٌ لهم يهديهم الحق جاهدا
انظر ديوان حسان بن ثابت ص 62.(1/517)
«المعين» :
«عا» الناصر، أو الكثير العونة وهي المعاضدة والمساعدة. قالت خديجة رضي الله تعالى عنها: «إنك تعين على نوائب الحق» أي تعين على خصال الخير وتساعد عليها.
«المغرم» :
بضم الميم وسكون الغين المعجمة- أي المحب لله تعالى من الغرام وهو الولوع بالشيء والاهتمام به.
«المغنم» :
بغين معجمة ونون كجعفر، مثل الغنيمة وهي الخيار من كل شيء.
«المغنِي» :
المحسن المتفضل، اسم فاعل من الإغناء وهو الإحسان والتفضل بما يدفع الحاجة قال تعالى: وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ وفي هذه الآية ما فيها من تشريف النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه والتنبيه على علوّ مقامه وعظم شأنه حيث ذكره معه في إيصال الصنع إلى عباده وجعله مغنياً لهم بما فتح على يديه وأفاءه من المغانم.
«المفتاح» :
الذي يفتح به المغلاق.
«مفتاح الجنة» :
لأنه أول من يفتح له صلى الله عليه وسلم.
«المفخّم» :
«عا» بالخاء المعجمة كمعظّم: الموقّر المعظّم في الصدور المهاب في العيون، وليس المراد فخامة الجسم وهو عظم الجثّة.
«المفضال» :
«د» صيغة مبالغة من الإفضال وهو الجود والكرم.
«المفضّل» :
«د» قال «ط» : يحتمل أن يكون بوزن المكرّم من أفضل يفضل فيكون بمعنى الذي قبله بوزن المقدّس، أي المفضّل على جميع العالمين «عا» : أي المشرّف على غيره، اسم مفعول من التفضيل وهو التشريف والتكريم. وسمّي صلى الله عليه وسلم بذلك لأن الله تعالى فضّله على سائر البريّة وخصّه بالرّتب السنيّة.
«المفلّج» :
بالجيم كمعظّم أي مفلج الثنايا وهو المتباعد ما بين الأسنان. وإن بنيت هذا الوصف من أفعل فلا بد من ذكر الأسنان فتقول كما في القاموس أفلج الثنايا.
«المفلح» :
«عا» اسم فاعل من الفلاح وهو الفوز والبقاء.
«المقتصد» :
بكسر الصاد المهملة اسم فاعل من الاقتصاد افتعال من القصد وهو استقامة الطريق أو هو العدل.
«المستقيم» :
«المقتفي» :
بقاف ففاء بمعنى قفى النبيين ذكره شيخنا أبو الفضل بن الخطيب.
«المقدّس» :
«يا» «ع» «د» بفتح الدال- سماه الله تعالى بذلك في كتب أنبيائه. ومعناه(1/518)
المطهّر من الذنوب المبرّأ من العيوب أو المطهّر من الأخلاق السيئة والأوصاف الذميمة.
وأصل التقديس التطهير أو البعد. يقال قدّس في الأرض إذا ذهب فيها. ومن أسمائه تعالى:
القدّوس وهو المطهّر مما لا يليق به من النقائص وسمات الحدوث.
«المقدّس» :
بكسر الدال أي المطهّر من اتبعه من أرجاس الشرك.
«المقدّم» :
بفتح الدال ضد المؤخّر، اسم مفعول من قدّم المتعدي. وسمي به صلى الله عليه وسلّم بذلك لأن الله تعالى قدّمه على غيره من الأنبياء خلقةً ورتبة وشرفاً. وما أحسن قول الأبو صيريّ في سياق قصة الإسراء:
وقدّمتك جميع الأنبياء بها ... والرّسل تقديم مخدومٍ على خدم
«المقدّم» :
بكسر الدال اسم فاعل من المتعدي لأن أمته قدّمت بسببه أي فضّلت على غيرها من الأمم وشرّفت من القدم.
«المقرئ» :
«عا» بالهمز الذي يقرئ غيره القرآن.
روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب رضي الله تعالى عنه: «أن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن»
[ (1) ] أي أعلّمك كما يقرأ الشيخ على الطالب ليفيده لا ليستفيد منه وفيه منقبة لأبيّ رضي الله تعالى عنه.
«المقسط» :
اسم فاعل من أقسط إذا عدل وهو من أسمائه تعالى. ومعناه العادل في حكمه المنصف المظلوم من الظالم.
«المقسّم» :
«لمقصوص» :
عليه: قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ.
«المقَفَّي» :
بضم الميم وفتح القاف وكسر الفاء المشددة. سبق في حديث حذيفة في الباب الثاني. ومعناه الذي ليس بعده نبيّ كالعاقب، وقيل المتّبع آثار من قبله من الأنبياء.
«المقوّم» :
«عا» بالفتح- المستقيم اسم مفعول من التقويم وهو الاستقامة أو بمعنى المقيم.
«مقيل العثرات» :
«مقيم السنّة» :
هو اسمه صلّى الله عليه وسلم في التوراة والزّبور. ففي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله تعالى عنهما: ولن يقبضه الله تعالى حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله،
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 1915، كتاب فضائل الصحابة (121- 799) .(1/519)
وفي رواية: «ولا يذهب حتى يقيم السّنّة العوجاء» وفي الزبور قال داود صلى الله عليه وسلم: «اللهم ابعث لنا محمدا صلى الله عليه وسلم يقيم لنا السّنّة بعد الفترة» . والسّنة: الطريقة، والملّة: الدين، ومعناهما واحد.
ومعنى إقامتها إظهار الإسلام. وسبق الكلام على ذلك في الباب الثالث من أبواب فضائله السابقة على مولده صلى الله عليه وسلم.
«المكتفي بالله» :
«عا» أي الذي سلم أموره إليه وتوكّل في كل الأحوال عليه.
«المكرّم» :
«عا» أي الذي سلم أموره إليه وتوكّل في كل الأحوال عليه.
«المكرَّم» :
«عا» بتشديد الراء مخففاً. قال «د» : لأنه صلى الله عليه وسلم كان أكرم الناس لجليسه.
«المكفي» :
«المكلّم» :
بفتح اللام مشددة- اسم مفعول. بمعنى المخاطب. فإن في حديث المعراج أنه صلى الله عليه وسلّم سمع خطاب الحق تبارك وتعالى كما سيأتي بيان ذلك.
فإن قيل: فإذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم مكلم وقام به هذا الوصف فلم لا يشتق له من الكلام اسم الكليم كما اشتق لموسى صلّى الله عليه وسلم؟
أجيب بأن اعتبار المعنى قد يكون لتصحيح الاشتقاق كاسم الفاعل، فيطرّد بمعنى أن كل من قام به ذلك الوصف اشتق له منه اسمٌ وجوباً، وقد يكون للترجيح فقط كالكليم والقارورة فلا يطرّد، وحينئذ فلا يلزم في كل من قام به ذلك الوصف أن يشتق له منه كما حققه القاضي عضد الدين رحمه الله تعالى.
«المكّي» :
نسبة إلى مكة أشرف بلاد الله تعالى. وتقدم الكلام على ذلك في باب أسمائها.
«المكين» :
أخذه جماعة من قوله تعالى: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ وهو فعيل من المكانة أي ذو مكانة عظيمة عند خالقه.
«الملاحمي» :
نسبة إلى الملاحم وستأتي.
«الملاذ» :
«عا» بالذال المعجمة: المجير. قال أبو طالب يمدحه صلى الله عليه وسلم:
يلوذ به الهلاك من آل هاشمٍ ... فهم عنده في نعمةٍ وفواضل
«الملبّي» :
بضم الميم وفتح اللام آخره موحّدة وهو المطيع أو المخلص أو المجيب أو المحب، اسم فاعل من لبّى يلبّي تلبيةً أي أقام على طاعة ربّه إلباباً بعد إلباب، أو أخلص فيها من قولهم: حسبٌ لبابٌ كغراب أي خالص، أو إجابة بعد إجابة. أو أحبّ، من قولهم:
امرأة ملبة أي محبة لزوجها. أو جعل تجاهه وقصده إليه، من قولهم: داري تلبّ داره أي تواجهها
.(1/520)
«الملجأ» :
بالجيم مهموز: الملاذ.
«الملحمة» :
بفتح الميم المعركة واحدة الملاحم، مأخوذة من لحمة الثوب لاشتباك الناس في الحرب واختلاطهم كاشتباك اللحمة بالسّدي. وقيل: من اللحم لكثرة لحوم القتلى في المعركة. وسمي به صلى الله عليه وسلّم بذلك لأنه بعث بالسيف والجهاد.
«ملقّي القرآن» :
أي الملقّي لما تلقّاه على لسان جبريل عليه الصلاة والسلام من القرآن وغيره من الوحي على أمته، أي المبلّغ ذلك إليهم، أو بمعنى المتلقي أي المتصدّي لسماعه حين ينزل.
قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي يلقى إليك وحياً.
«المليك» :
«د» فعيل من الملك بضم الميم أو بكسرها كما سيأتي من أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى، وهو من أسمائه تعالى، ومعناه في حقه تعالى: القادر على الإيجاد والاختراع، أو هو ضابط الأمور المتصرّف في الجمهور.
«الملك» :
بكسر اللام وهو الذي يسوس الناس ويدبّر أمرهم. أو هو ذو العز والسلطان وهو من أسمائه تعالى، ومعناه في حقه تعالى: المستغني في ذاته وصفاته عن الكون وموجوداته وليس يستغنى عن جوده أحدٌ من مخلوقاته، وقيل: هو القادر على الاختراع والإبداع من العدم إلى الوجود.
«المليء»
«عا» باللام مهموزاً: الغني بالله عما سواه أو الحسن حكمه وقضاؤه.
«الممنوح» :
«عا» : الذي منح من ربه كلّ خير دنيوي وأخروي، أو الذي منح أمته ذلك وساقه إليها من المنحة أي العطية لأنه، أي الله، منحه ذلك، أو أنه صلى الله عليه وسلم منح أمته ذلك.
«الممنوع» :
«عا» الذي له منعة وقوة تمنعه من الشيطان وتحميه من الأعداء. أو الذي منعه الله تعالى من العدا وحماه من السوء والرّدى.
«المنادي» :
بكسر الدال المهملة: الداعي إلى الله تعالى أو إلى توحيده. قال الله تعالى:
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ قال ابن جريج رحمه الله: هو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه ابن أبي حاتم.
«المنادى» :
«عا» بفتح الدال المهملة أي المدعوّ إلى الله تعالى ليلة الإسراء على لسان جبريل صلى الله عليهما وسلم
«المنتجب بالجيم»
«المنتخب» :
بالخاء المعجمة، كلاهما بمعنى المختار(1/521)
«المنتصر»
«المنجد» :
المعين الناصر، أو المرتفع القدر، اسم فاعل من أنجد إذا ارتفع وأعان
«المنحمنّا» :
قال ابن إسحاق: هو اسمه في الإنجيل ومعناه بالسريانية: محمد. وضبطه الإمام الشّمنيّ بضم الميم وسكون النون وفتح الحاء المهملة وكسر الميم بعدها نون مشددة مفتوحة وألف. وقال ابن دحية: إنه بفتح الميمين
«المنذر» :
قال تعالى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وهو من الحصر الخاص، أي لست بقادر على هداية الكفار، وليس من الحصر العام، لأنه عليه الصلاة والسلام له أوصاف أخرى كالبشارة، وهو وصفٌ من الإنذار وهو الإبلاغ، ولا يكون إلا مع تخويف
«المنزّل عليه»
«المنصف» :
بضم الميم وسكون النون وكسر الصاد المهملة: العادل. وكان صلى الله عليه وسلم أشد الناس إنصافاً
«المنصور» :
المؤيّد. اسم مفعول من النصر وهو التأييد
«المنقذ» :
بنون فقاف فذال معجمة: اسم فاعل من الإنقاذ وهو التخليص من ورطة الشدائد، وسمي بذلك لأنه ينقذنا بالشفاعة يوم القيامة، قال حسان رضي الله تعالى عنه يرثيه:
يدل على الرحمن من يقتدي به ... وينقذ من هول الخزايا ويرشد
[ (1) ] وأما قوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ فالمراد: إنك لا تقدر على إنقاذ من يستحق العذاب وإن اجتهدت في دعائه إلى الإيمان.
«منّة الله» :
قال الله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وإنما خصّهم بالذكر لأنهم المنتفعون بمبعثه، ووجه المنة به عليهم. أنه لمّا بعث سهل أخذ ما يجب عليهم أخذه عنه
«المنيب» :
تقدم في الأوّاه، وهو اسم فاعل من الإنابة وهي الإقبال على الطاعة، والفرق بينه وبين التائب والأوّاب: أن التائب من رجع عن المخالفات خوفاً من عذاب الله.
والمنيب: من رجع عنها حياء من الله. والأوّاب: من رجع تعظيماً للأوصاف المحمودة. ويقال الإنابة صفة الأولياء والمقرّبين. قال تعالى: وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ والتوبة صفة المؤمنين قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ والأوبة: صفة الأنبياء والمرسلين. قال تعالى:
نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
__________
[ (1) ] البيت في الديوان ص 62 وقبله:
يدل على الرحمن من يقتدي به ... وينقذ من هول الخزايا ويرشد(1/522)
«المنير» :
اسم فاعل من أنار إذا أضاء. أي المنوّر قلوب المؤمنين بما جاء به
«المهاب» :
بالضم: الذي يهابه الناس أي تخافه لعظم بأسه وسلطانه، اسم مفعول من الهيبة وهي الخوف والرّهبة.
قال في الإحياء: الهيبة: خوف مصدره الإجلال والتعظيم، فهي أخص من الخوف لوجوده بدون التعظيم، كالخوف من العقرب ونحوها من الأشياء الخسيسة، وعدم صدقها بدونه كالخوف من سلطانٍ معظم.
وسمي بذلك لأنه كان من مهابته أنه كان أعداؤه إذا كان بينه وبينهم مسيرة شهر هابوه وفزعوا منه، ولهذا مزيد بيان في الخصائص
«المهاجر» :
«ع» «ح» : لأنه صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة إلى المدينة، ولهذا مزيد بيان في أبواب الهجرة
«المهداة» :
بضم الميم وفتح الدال: اسم مفعول من أهدى الشيء يهديه فهو مهدىً.
قال صلى الله عليه وسلم: «إنما أَنا رحمة مهداة»
«المهدي» :
بضم الميم وكسر الدال اسم فاعل من أهدى بمعنى هدى، وهو المرشد والدالّ على طريق الخير، قال تعالى: وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. قال حسان رضي الله تعالى عنه يرثيه:
جزعاً على المهدي أصبح ثاويا ... يا خير من وطئ الحصا لا تبعد
[ (1) ]
«المهذّب» :
بالمعجمة: المطهّر الأخلاق الخالص من الأكدار اسم مفعول من التهذيب وهو الخلوص أيضاً
«المهيمن» :
قال «يا» سمّاه به عمّه العباس في الأبيات التي امتدحه بها ومنها:
حتّى احتوى بيتك المهيمن من ... خندف علياء تحتها النّطق
قال ابن قتيبة: قوله: «حتى احتوى بيتك المهيمن» أي يا أيها المهيمن «ط» : وقد ورد تسميته به في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ.
روى ابن جرير عن مجاهد رحمه الله تعالى قال: «ومهيمناً عليه» محمد صلى الله عليه وسلم مؤتمن على القرآن.
__________
[ (1) ] البيت في الديوان ص 95 وبعده:
وجهي يقيك الترب لهفي ليتني ... غيبت قبلك في بقيع الغرقد(1/523)
قال ابن جرير: وتأويل الكلام على هذا وأنزلنا الكتاب مصدّقاً الكتب قبله إليك «مهيمناً عليه» فيكون «مصدّقاً» حال من الكتاب ومهيمناً حال من الكاف التي في «إليك» وهي كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم عائدة على الكاف «ط» .
وعلى هذا في الآية لفّ ونشر غير مرتب، فمصدّقاً الحال الأول راجع إلى الكاف في إليك ومهيمناً الحال الثاني راجع إلى الكتاب المفعول الثاني «عا» .
ونوقش ابن جرير في ذلك بأنه معطوف على مصدّقاً الذي هو حال من الكتاب لا من الكاف، وإلا لقيل مصدقا لما بين يديك، وحمل ذلك على أنه من قبيل الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيدٌ من نظم القرآن كما قاله أبو حيّان، لكن جوّز ابن عطية أن يكون مصدّقاً ومهيمناً حالين من الكاف ولا يختص هذا بقراءة مجاهد لما مر عن ابن جرير بل يأتي على قراءة الجمهور.
ولفظ مهيمن عربي عند الأكثر وهو بكسر الميم الثانية اسم مفعول من هيمن يهيمن فهو مهيمن أي مراقب كما قرأ به الجمهور في الآية. فهاؤه على هذا أصلية وقيل إنها مبدلة من همزة وأصله مؤأمن بهمزتين، اسم فاعل من أمن فأبدلت الثانية ياء لكراهة اجتماع همزتين في كلمة، وقلبت الأولى هاء لاتحاد مخرجهما، وضعّف بأنه تكلّف لا حاجة إليه مع سماع أبنية تلحق بها.
قال ثعلب: وقول من قال: أصله مؤيمن تصغير مؤمن اسم فاعل من آمن بمعنى صدّق قلبت همزته هاء، رأي باطل لأن أسماء الله تعالى وما في معناها من الأسماء العظيمة لا يناسبها التصغير لأنه ينافي التعظيم.
أو بفتحها مبنيّاً للمفعول كما قرأ به مجاهد وابن محيصن في الآية.
وهذا الاسم من أسمائه تعالى، ومعناه: الشاهد والحافظ، وقيل الرّقيب، وقيل القائم على خلقه، وقيل المؤمن، وقيل الأمين.
والنبي صلى الله عليه وسلم مهيمن بالمعنى الأول والرابع والخامس
«المورود حوضه» :
اسم مفعول من الورود أي الذي يرد الناس حوضه يوم القيامة وسيأتي الكلام عليه في الخصائص، وفي أبواب بعثه وحشره صلى الله عليه وسلم
«الموصل» :
قال «عا» هو اسمه صلّى الله عليه وسلم في التوراة ومعناه: مرحوم
«المؤتى جوامع الكلم» :
يأتي الكلام على ذلك في الخصائص إن شاء الله تعالى
«الموحى إليه» :
«خا» سيأتي الكلام عليه في أبواب بعثته صلى الله عليه وسلم(1/524)
«المولى» :
«يا» : قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ
روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة فمن ترك مالاً فلعصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه»
[ (1) ] .
قال ابن الأثير: المولى يقع على ستة عشر معنى: الأقرب، والمالك، والسيّد، والمعتق والمنعم والناصر والمحب، والتابع، والخال، وابن العم، والحليف، والعقيل، والصّهر والعبد، والمنعم عليه والمعتق وكل من ولي أمراً أو قام به فهو مولاه ووليه. قال: وأكثر هذه المعاني جاءت في الأحاديث فيضاف كل معنى إلى ما يليق به. واللائق بهذا «المحلّ» : السيّد والمنعم والناصر والمحب.
وهذا الاسم من أسمائه تعالى ويزيد على هذه المعاني: المالك
«موذ موذ» :
قال «ع» : هو اسمه صلّى الله عليه وسلم في صحف إبراهيم صلى الله عليه وسلم
«الموعظة» :
ما يتّعظ ويتذكر به من الوعظ وهو كما مر عن الخليل التذكير بالخير بما [ (2) ] ترق له القلوب. وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأن الله تعالى وعظ بمبعثه العباد حيث جعله دليلاً على اقتراب يوم التّناد
«الموقّر» :
ذو الحلم والرزانة. وقد كان صلى الله عليه وسلم أوقر الناس في مجلسه لا يكاد يخرج شيء من أطرافه وتقدم في «المعزّر»
«الموقن» :
اسم فاعل من أيقن الأمر وتيقّنه واستيقنه إذا فهمه وثبت في ذهنه وارتفع عنه الشكّ. قال الراغب: وهو أعلى من المعرفة والدراية ولأنه من صفات العلم قال تعالى عِلْمَ الْيَقِينِ بخلافهما، فلا يقال معرفة اليقين ولا دراية اليقين.
وسمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه عقد قلبه بتوحيد الله تعالى والعلم به وبصفاته والإيمان بذلك وبما أوحي إليه على غاية المعرفة ووضوح المعرفة واليقين وانتفاء الشك والريب في كل شيء من ذلك والعصمة من كل ما يضاد المعرفة أو ينافيها. وهذا كما قال القاضي: ما وقع عليه إجماع المسلمين
«ميذ ميذ» :
قال «ع» هو اسمه صلّى الله عليه وسلم في التوراة
«الميزان»
«ط» : قيل في قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ أنه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم حكاه الإمام محمود بن حمزة الكرماني- رحمه الله تعالى- في غريبه.
__________
[ (1) ] أخرجه 5/ 75 كتاب الاستقراض (2399) .
[ (2) ] في أمما.(1/525)
فإن قيل: كيف يصح عطفه على الكتاب المنصوب بأنزل؟ فالجواب: هو كقوله تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا
«الميسّر» :
«ع» «ط» : المسهّل للدين اسم فاعل من اليسر ضد العسر وهو السهولة.
روى مسلم عن جابر- رضي الله تعالى عنه- في حديث تخييره نساءه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ الله بَعَثني ميسِّراً»
وقالت عائشة- رضي الله عنها-: «ما خيّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما»
«الميمّم» :
بفتح التحتية كمعظّم: المقصود اسم مفعول من التيمم وهو القصد، وأصله التعمّد والتوخّي من قولهم: يمّمتك وأممتك. وسمّي بذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الخلق تؤمّ حماه يوم القيامة وتقصد جاهه لنيل السلامة. والله تعالى أعلم.
حرف النون
«النابذ» :
اسم فاعل من النّبذ بسكون الباء وفتحها وهو إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به. قال الله تبارك وتعالى: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أي اطرح عهدهم على طريق مستوٍ بأن تظهر لهم نبذ العهد بحيث يعلمون أنه قطع ما بينك وبينهم، ولا تناجزهم بالحرب وهم يتوهّمون بقاء العهد، لأن مثل ذلك خيانة
«الناجز» :
«خا» : المنجز لما وعد، اسم فاعل من نجز الوعد كأنجزه إذا وفى به ولم يخلفه. وكان صلى الله عليه وسلم من ذلك بمكان
«الناس» :
قال الله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ روى عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم، عن عكرمة- رضي الله تعالى عنه- في الآية قال:
الناس في هذا الموضع النبي صلى الله عليه وسلم. وروى ابن جرير عن مجاهد- رحمه الله تعالى- نحوه ويسمى صلى الله عليه وسلم بذلك من تسمية الخاص باسم العام لأنه صلى الله عليه وسلم أعظمهم وأجلّهم أو لجمعه صلى الله عليه وسلم ما في الناس من الخصال الحميدة
«الناسخ» :
اسم فاعل من النّسخ وهو لغةً: إزالة شيء بشيء يعقبه. ومنه: نسخ الظلّ الشمس وعكسه. واصطلاحاً: رفع الحكم الشرعي بخطاب.
سمّي به صلى الله عليه وسلم لأنه نسخ بشريعته كلّ الشرائع «ط» . ومن ثم كان المختار في الأصول:
أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا مطلقا ولو لم يرد ناسخ له. وقيل: إذا لم يرد ناسخ في شرعنا له فهو شرع لنا. قال: وسمعت شيخنا شيخ الإسلام أبا زكريا المناويّ- رحمه الله تعالى- يقول في تقرير هذا القول: القول الذي يجب اعتقاده أن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم نسخت كلّ الشرائع مطلقاً(1/526)
ولا يمترى في ذلك. ومن قال شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يرد ناسخ فمعناه أنه شرع لنا بتقرير شرعنا له، لا أنّا متعبّدون بالشريعة الأولى.
تنبيه:
وصف الله تعالى نفسه بالنّسخ في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها.
«الناسِك» :
العابد، اسم فاعل من النّسك وهو العبادة.
«الناشر» :
المظهر للشيء بعد طيّه اسم فاعل من النشر وهو البسط ومنه نشر الصحيفة والحديث والسحاب، وسمّي به صلى الله عليه وسلم لأنه نشر الإسلام وأظهر شعائر الأحكام، أو بمعنى الحاشر، وقد تقدم.
«الناصب» :
ذكره «د» . قال «ط» ويحتمل أن يكون معناه المبيّن لأحكام الدّين من النّصب بضم النون وفتح الصاد المهملة وهي العلامات التي في الطريق يهتدى بها، أو المقيم لدين الإسلام من نصبت الشيء: إذا أقمته. ويحتمل أن يكون مأخوذاً من قوله تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي اتعب في الدعاء والتضرّع. «عا» ، الناصب المرتفع يقال: رجل ناصب أي مرتفع الصدر أو الناصب للحرب أي المقيم لها. والمجتهد المجدّ في الطاعة قال تعالى:
فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ أي إذا قضيت صلاتك فاجتهد في الدعاء كما قاله ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- وعن الحسن- رحمه الله تعالى-: فإذا فرغت من جهادك فاجتهد في العبادة.
ولما عدد الله تعالى علي نبيه صلى الله عليه وسلم نعمه السالفة ووعده رفع الآلام والمشقة من انشراح الصّدر ووضع الوزر وإعقاب العسر باليسر إلى غير ذلك، حثّه على الشكر وحضّه على الاجتهاد في العبادة والنّصب أي كدّ النفس فيها وأعقبها بأخرى وهلم جرا.
«الناصح» :
«د» مأخوذ من قول الأنبياء ليلة الإسراء مرحباً بالنبيّ الأميّ الذي بلّغ رسالة ربه ونصح لأمته.
قال الإمام الخطابي- رحمه الله تعالى-: النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة إرادة الخير للمنصوح له، وليس يمكن أن يعبّر عنه بكلمة واحدة بخصوصها. ومعناه في اللغة: الإخلاص.
وقال غيره: النصح فعل الشيء الذي به الصلاح والسلامة، مأخوذ من النصاح وهو الخيط الذي يخاط به الثوب. وقال آخر: النّصح سدّ ثلم الرأي للمنصوح مأخوذ من نصح الثوب إذا خاطه.
قال في النهاية: أصل النصح الخلوص: يقال نصحت العسل إذا خلصته من شمعة،(1/527)
فكأنهم شبّهوا فعل الناصح فيما يتحرّاه من صلاح المنصوح له وخلاصه من الغش بتخليص العسل من الخلط.
«ناصر الدين» :
«عا» بالإضافة أي مانعه ومنقذه من طعن الكفرة الجاحدين والفجرة المعاندين وجمعه نصراء كعالم وعلماء. والدّين مضاف إليه في الأصل: الطاعة والجزاء والملّة والعهد والشريعة والمراد به هنا: دين الإسلام وهو أشرف الأديان. قال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. وقال بعضهم هو تخصيص إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخيرات بالذات.
«الناضر»
«عا» بالضاد المعجمة الساقطة: الحسن، من النضارة وهي الحسن والرّونق.
«الناطق بالحق»
«خا» .
«الناظر من خلفه» :
بفتح الميم على أن من موصولة بمعنى الذي ونصب خلفه على الظرف أي ينظر الذي يكون وراءه. أو بكسرها فتكون من حرف جرّ للابتداء وخلفه بالكسر متعلّقها، أي يبصر من ورائه كما يبصر من أمامه. ولهذا مزيد بيان في باب صفة عينيه صلى الله عليه وسلم وفي الخصائص.
«الناهي» :
اسم فاعل من النهي وهو الزجر عن الشيء والأمر به وتقدم في الآمر.
«النبي»
صلى الله عليه وسلم. يأتي الكلام عليه في أبواب البعثة.
«نبيّ الراحة» :
بمهملتين رجوع النفس بعد الإعياء والتعب وسكونها أو السهولة.
سمي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه أراح أمته من نصب الشّرك أو لأنه خفّف بشريعته ما كان مشدّداً في شريعة غيره من التكاليف الشاقة كقتل النفس في التوبة وقرض موضع النجاسة لطهارة المحل إلى غير ذلك.
«نبيّ الرحمة» :
تقدم تفسير الرحمة.
«النبيّ الصالح» :
في حديث المعراج أن الأنبياء والملائكة قالوا له ليلتئذ: «مرحبا بالنبي الصالح» وتقدم الكلام على الصالح في الصاد.
«نبي الأحمر» .
«نبي الأسود» :
أي الإنس والجن أو العجم والعرب.
«نبيّ التوبة» :
وهي الرجوع والإنابة. وقال سهل- رحمه الله تعالى-: هي ترك التسويف وقال إمام الحرمين- رحمه الله تعالى-: «إذا أضيفت إلى العبد أريد بها الرجوع من الزلاّت إلى الندم عليها، وإذا أضيفت إلى الرب تبارك وتعالى أريد بها رجوع نعمه. وآلائه عليهم» .(1/528)
«نبيّ الحرمين» :
أي مكة والمدينة.
«نبيّ زمزم» :
تقدم الكلام على زمزم في أبواب فضائل البيت الشريف.
«نبيّ المرحمة» :
تقدم في الرحمة.
«نبيّ الملحمة» :
الحرب وموضع القتال مأخوذ من اشتباك الناس واختلاطهم فيها كاشتباك لحمة الثوب بالسّدى. وقيل: هو كثرة لحوم القتلى فيها، ومعنى نبي الملحمة نبي القتال، وهو كقوله الآخر:
«بعثت بالسيف» .
«نبيّ الملاحم» :
جمع ملحمة وسبق بيانها.
«النبأ» :
«عا» بنون فموحّدة مهموز: الشأن العظيم والخطب الجسيم قال تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ قيل المراد القرآن وقيل النبي صلى الله عليه وسلم.
«النّجم» :
«خا» معروف، وسمي به صلى الله عليه وسلم لأنه يهتدي به السالك في طريق الإيمان كما يهتدي بالنجم، قال الإمام جعفر بن محمد- رضي الله تعالى عنهما وعن آبائهما- في قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى محمد صلى الله عليه وسلم وهويّه: نزوله ليلة الإسراء.
«النجم الثاقب» :
المضيء الذى يثقب بنوره وإضاءته ما يقع عليه. قال السلمي- رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى النَّجْمُ الثَّاقِبُ: هو محمد صلى الله عليه وسلم.
«النجيب» :
الكريم الحسيب أو المنتخب المختار.
«النّجيد» :
بالجيم: الدليل الماهر، أو الشجاع الماضي فيما يعجز غيره عنه، فعيل بمعنى فاعل من نجد ككرم نجادة ونجدة فهو نجيد ومنجد ونجد محركاً ونجد ككتف.
«نجيّ الله تعالى» :
قال الراغب- رحمه الله تعالى-: النجيّ. المناجي: ويقال للواحد والجمع. قال تعالى: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا وخَلَصُوا نَجِيًّا وانتجيت فلاناً: استخلصته لسرّي.
وناجيته: ساررته، وأصله أن تخلو في نجوة من الأرض، وقيل أصله من النجاة وهو أن يعاونه على ما فيه خلاصة وأن تنجو بسرّك ممن يطلّع عليه.
«الندب» :
«عا» بنون مفتوحة فدال مهملة ساكنة فموحدة. النّجيب الظريف وجمعه ندوب وندباء.
«النذير» :
فعيل بمعنى فاعل وهو التخويف من عواقب الأمور، وبينه وبين الرسول من عموم من وجه لاجتماعهما في مخبر عن غيره بما يخاف منه وانفراد الرسول في مخبر عن غيره بغير تخويف: وانفراد النذير في المنذر عن نفسه بما يخاف منه، وسمّي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه يخوّف الناس العذاب ويحذّرهم من سوء الحساب. وقد سمّي بذلك كلّ مبلّغ لأحكام شرعته(1/529)
كما قال تعالى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ وقد يسمّى ذلك رسولاً أيضاً. قال تعالى: وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً أي مبشّراً للطائعين ونذيراً للعاصين.
«النسيب» :
ذو النّسب العريف، من النّسبة. وهي الاشتراك من جهة أحد الأبوين.
ونسبه صلى الله عليه وسلم أشرف الأنساب، وتقدم بيان ذلك.
النّصيح فعيل بمعنى فاعل من النّصح.
«النعمة» :
بكسر النون، الحالة الحسنة، وبناء النّعمة بالكسر بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة، والنّعمة بالفتح التنعم، وبناؤها بناء المرّة من الفعل كالضّربة، والنّعمة للجنس يقال للقليل والكثير، والإنعام إيصال الإحسان إلى الغير ولا يقال إلا إذا كان الموصّل إليه من الناطقين فإنه لا يقال: أنعم فلان على فرسه.
«نعمة الله» .
روى البخاري عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- في قوله تعالى: الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً قال: هم والله كفار قريش. قال عمر: هم قريش، ومحمد صلى الله عليه وسلم نعمة الله.
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله تعالى: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها النعمة هنا: محمدٌ صلى الله عليه وسلم يعرفون أنه نبي مرسل.
«النَّقِيّ» :
الخالص من الأدناس المنزّه عن الأرجاس، من نقي بالكسر فهو نقيّ أي نظيف.
«النقيب» :
ذكره جماعة أخذاً من
قوله صلى الله عليه وسلم لبني النجّار لما مات نقيبهم أبو أمامة أسعد بن زرارة وقالوا له: يا رسول الله اجعل لنا رجلاً مكانه. فقال لهم: «أنتم أخوالي وأنا نقيبكم»
«د» : وفيه أقوال: أحدها: الشهيد على قومه. والثاني: الأمين والثالث: الضمين وأصله في اللغة النقب الواسع، فنقيب القوم هو الذي ينقّب عن أحوالهم فيعلم ما خفي منها.
«النّور» :
قال الله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ قال جماعة: النور هنا محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ قال ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- فيما رواه ابن مردويه: المراد بالنور هنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وروى ابن جرير وابن المنذر إن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- سأل كعباً عن تفسير هذه الآية فقال:
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ هي الكوّة ضربها الله تعالى مثلاً لقلب محمد صلى الله عليه وسلّم «فيها مصباح» المصباح قلبه «في زجاجة» الزجاجة صدره «كأنها كوكب دري» يشبه صدر النبي صلّى الله عليه وسلم بالكوكب الدري وهو المضيء يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يتبين للناس ولو لم يتكلم كما يكاد الزيت يضيء بلا نار.(1/530)
وروى الطبراني وابن عساكر عن ابن عمر- رضي الله تعالى عنهما-: قال: المشكاة:
جوف النبي صلى الله عليه وسلم. والزجاجة: قلبه. والمصباح: النور الذي في قلبه يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ الشجرة: إبراهيم «زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» لا يهودية ولا نصرانية. ثم قرأ: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان. وقال عبد الله بن رواحة- رضي الله تعالى عنه-:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبيّنةٌ ... لكان منظره ينبيك بالخبر
قال القاضي: وسمّي بالنور لوضوح أمره وبيان نبوّته وتنوير قلوب المؤمنين والعارفين بما جاء به.
وهو من أسمائه تعالى ومعناه ذو النور أي خالقه، ومنوّر السموات والأرض بالأنوار ومنوّر قلوب المؤمنين بالهداية. والنور في الأصل: كيفية قائمة بالنفس لمقابلة المضيء لذاته. وفسّره الجوهري بالضياء وهو أشدّ منه. وقال: هو الضوء المنتشر الذي يعيّن على الإبصار. وهو ضربان: مدرك بعين البصيرة وهو ما انتشر من النور الإلهي كنور العقل والقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم.
ومدرك بعين البصر وهو ما كان منتشراً من الأجسام كالقمر والشمس ونحوهما. وقد ذكر الفرق بينه وبين الضوء فيما مرّ. وأما الفرق بينهما وبين الشعاع والبريق فهو كما في شرح المواقف أنهما شيء يتلألأ على الأجسام المستنيرة حتى كأنه يفيض منها ويكاد يستر لونها بخلاف الضوء والنور فإن الأول كيفية قائمة بالجسم لذاته والثاني كيفية قائمة به لغيره كما مر. ثم هذا التلألؤ واللمعان إن كان ذاتياً للجسم كالحاصل للشمس فهو الشعاع أو غير ذاتي للجسم بل مستفاداً من غيره كالحاصل للمرآة عند محاذاتها للشمس بالبريق، فعلم من ذلك أن الشعاع كالضوء ذاتي للجسم، وأن البريق كالنور ليس ذاتاً بل مستفاد من غيره.
فإن قيل: فإن كان الضياء أشدّ من النور فلم شبه الله تعالى به في قوله تبارك وتعالى:
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ولم يشبهه بالضياء؟.
فالجواب: أنه لو شبهه به لم يضل أحد من العقلاء، وقد سبق في علمه تعالى أن منهم:
شقيّ وسعيد ألا ترى أن النهار لا يضل فيه أحد لضوء الشمس الحاصل به، وربما ضل الطريق السائر ليلاً مع وجود القمر ومن هنا تؤخذ حكمة تسميته صلى الله عليه وسلم بالنور دون الضّوء، وإنما مثّله بنور المصباح ولم يمثّله بنور الشمس مع أن نورها أتمّ وأكمل وغير محتاج إلى مدد بخلاف نور المصباح لأن المقصود كما قال الإمام الرازي: تمثيل النور في القلب. والقلب في الصدر والصدر في البدن كالمصباح وهو الضوء في الفتيلة وهي في الزجاجة، والزجاجة في الكوّة(1/531)
التي لا منفذ لها. ولا يتمّ ذلك إلا بما ذكر، أو لأن نور المعرفة له آلات يتوقف على اجتماعها كالفهم والعقل واليقظة، كما أن نور المصباح يتوقف على اجتماع الزيت والزجاجة والفتيلة، ولأن نور الشمس يشرق متوجها إلى العالم السفلي ونور المعرفة يشرق متوجها إلى العالم العلوي كنور المصباح، ولأن نور الشمس يشرق نهاراً فقط، ونور المعرفة يشرق ليلاً كنور المصباح في وقت الحاجة إليه ولأن نور الشمس يعم جميع الخلق ونور المعرفة لا يصل إليه إلا بعضهم كنور المصباح.
«نور الأمم» :
«خا» : أي هاديها.
«نور الله الذي لا يطفأ» :
«خا» .
«نون» :
ذكر ابن عساكر في مهماته أن بعضهم قال في قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ أنه اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: من أسماء الله، والله تعالى أعلم.
حرف الهاء
«الهادي» :
«يا» اسم فاعل من هدى هداية وهي الدلاية إن تعدّت بحرف الجر.
والوصول إن تعدّت بنفسها قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو من أسمائه تعالى، ومعناه الذي بصّر عباده طريق معرفته حتى أقرّوا بربوبيته، أو هادي كل أحد من خليقته إلى ما لا بد له من معيشته. والهداية تطلق على خلق الاهتداء وذلك من وصفه تعالى خاصة وهو المنفيّ في قوله تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وعلى البيان والدلالة بلطف وهذه يتصف بها الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم وتطلق أيضاً على الدعاء. ومنه: وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي داع.
«الهاشمي» :
نسبة إلى جد أبيه هاشم بن عبد مناف، وتقدم الكلام عليه في النّسب.
«الهجود» :
كصبور: الكثير التهجّد وهو مجانبة الهجود بضم الهاء وقيام الليل في طاعة الملك المعبود، قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ أي زيادة على ما فرض الله تعالى عليك، قاله البغويّ- رحمه الله تعالى- ولهذا مزيد بيان في الخصائص.
«الهدى» :
الرشاد والدلالة، قال تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى وهو مصدر سمّي به صلى الله عليه وسلم مبالغة.
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة- رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للمؤمنين»
[ (1) ] .
«هدية الله» .
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 3/ 268، والطبراني في الكبير 8/ 232، وأبو نعيم في الدلائل 1/ 5، وذكره الهيثمي في المجمع 5/ 72 وعزاه لأحمد والطبراني وقال: فيه علي بن يزيد وهو ضعيف.(1/532)
«الهمام» :
«عا» بضم الهاء: الملك العظيم.
«الهمّة» :
بالكسر وتفتح واحدة الهمّ وهي ما هم به الشخص من أمر يفعل، يقال:
هممت بالشيء أهمّ همّاً إذا أردت فعله، ولا همّة لي بالفتح، وهمام كقطام أي أفضله أو السيد الشجاع أو السخيّ.
«الهيّن» :
«عا» : بفتح الهاء وسكون التحتية مخفّف هيّن بوزن سيّد: الساكن المتّئد، فيعل من الهون وهو بالفتح: السّكينة والوقار، أو بالضم وهو السهولة فعينه واو.
قال ابن الأعرابي: العرب تمدح بالهين اللّين مخفّفين، وتذم بهما مثقّلين «عا» : ولعل ذلك لكون المثقّلين يدلان على كثرة اللّين والسهولة المفضي ذلك إلى ارتكابهما فيما يطلب فيه الغلظة والشدة كما قال الله تعالى: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ بخلاف المخفّفين فإنهما لا يقتضيان ذلك وإنما يدلان على حصول أصل الوصف وذلك يحصل بأن يأتي بهما في محلهما، كما قال تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ أو لأن المخفّف من الهون بمعنى السهولة والمثقل من الهون وهو الذلة والمهانة والله تعالى أعلم.
حرف الواو
«الواجد» :
«عا» بالجيم: العالم أو الغني، اسم فاعل من الجدة وهو الاستغناء وهو من أسمائه تعالى، ومعناه العالم أو الغنيّ الذي لا يفتقر [إلى أحد] وكل أحد إلى معروفه ينتظر.
«الواسط» :
«د» قال في الصحاح: فلان وسيط في قومه إذا كان أوسطهم نسبا وأرفعهم محلاً. والواسط: الجوهر الذي وسط القلادة. وتقدم بيان شرف نسبه صلى الله عليه وسلم.
«الواعد» :
«د» اسم فاعل من الوعد وهو إذا أطلق كان في الخير. والوعيد في الشر إلاّ بقرينة على حد البشارة والنّذارة.
«الواسع» :
الجواد الكثير العطاء، من الوسع، مثلثة الواو، كالسّعة وهي الجدة والطاقة.
وهو من أسمائه تعالى، ومعناه: المحيط بكل شيء. أو الذي وسع رزقه جميع خلقه. أو الذي وسعت رحمته كلّ شيء أو المعطي عن غنى أو العالم أو الغني.
«الواضع» :
«عا» المزيل والقاطع، اسم فاعل من الوضع وهو أعم من الحطّ، قال تعالى:
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ أي يزيله ويقطعه عنهم. والإصر: الثّقل الذي يأصر صاحبه أي يحسبه عن الحركة وهو مثل ثقل تكليف بني إسرائيل وصعوبته، نحو اشتراط قتل النفس في صحة التوبة وقطع الأعضاء الخاطئة كما سيأتي في الخصائص.(1/533)
«الواعظ» :
«د» قال تعالى: إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ قال ابن فارس: والوعظ التخويف.
وقال الخليل هو التذكير بالخير وما ترق له القلوب. وقال الجوهري: هو النّصح والتذكير بالعواقب.
«الوافي» :
بمعنى الوفيّ من قولهم: درهم واف وكيل واف أي تامّ. وسمي صلى الله عليه وسلّم بذلك لكماله خلقاً وخلقاً ورجحانه على غيره عقلاً. قال حسان- رضي الله تعالى عنه- يمدحه صلى الله عليه وسلم:
وافٍ وماضٍ شهابٌ يستضاء به ... بدرٌ أنار على كلّ الأناجيل
«الوالي» :
المالك أو الملك أو الحاكم، اسم فاعل من الولاية وهي بالكسر فقط:
الإمارة. أو الشريف القريب من معالي الأمور، من الولاء بمعنى القرب كالولاية بالكسر والفتح.
وهو من أسمائه تعالى والمعنى ما مرّ.
«الوجيه» :
ذو الوجاهة والجاه عند الله تعالى.
«الورع» :
بكسر الراء: التقيّ، اسم فاعل من الورع وهو اتّقاء الشبهات، يقال: ورع الرجل يرع بالكسر فيهما ورعاً ووراعة فهو ورع أي متّقٍ وقال ابن يونس- رحمه الله تعالى-:
الورع: الخروج من كل شبهة ومحاسبة النفس مع كل طرفة ولهذا مزيد بيان في باب ورعه صلى الله عليه وسلم.
«الوسيم» :
بالمهملة والتحتية كأمير: الحسن الوجه الجميل.
«الوسيلة» :
ما يتقرب به ويتوسّل إلى ذي قدر. وهو صلى الله عليه وسلم وسيلة الخلق إلى ربهم.
«الوصيّ» :
«عا» بالمهملة: الخليفة القائم بالأمر من بعد غيره. سمّي صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه قام بأمر التبليغ والرسالة من بعد عيسى صلى الله عليهما وسلم الذي بشر به وأخبر برسالته وحضّ على اتباعه.
«الوفيّ» :
«د» : الكامل الخلق التام الخلق. وهو فعيل صيغة مبالغة من الوفاء.
وكان صلى الله عليه وسلم أوفى الناس بالعهد وأوفاهم ذمةً. وتقدّم قول القاضي في «الأبرّ» . وفي حديث هرقل قوله لأبي سفيان: فهل يغدر؟ قال: لا.
وهذا الاسم من أسمائه تعالى.
«وليّ الفضل» :
«عا» أي موليه وهو الإحسان والبرّ.
«الولي» :
الناصر أو الوالي أو المتولّي مصالح الأمة القائم بها، قال تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أو المحب لله أو المتصف بالولاية وهي عبارة عن كشف الحقائق وقطع العلائق وتصرّف في باطن الخلائق. قال القشيري: الوليّ له معنيان أحدهما: فعيل(1/534)
بمعنى مفعول وهو من يتولى الله تعالى أموره ولا يكله إلى نفسه لحظة.
الثاني: فعيل بمعنى فاعل، وهو الذي يتولى عبادة الله تعالى وطاعته فيجري بها على التوالي ولا يتخلل بينها عصيان.
وهو من أسمائه تعالى، قال الله عز وجل: وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ وقال تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا أي يتولى نصرهم ومعونتهم وكفايتهم ومصالحهم.
«الوهّاب» :
صيغة مبالغة من الهبة وهي بذل المال بغير عوض يقال: وهب يهب هبةً وموهبا. ولهذا مزيد بيان في باب كرمه وجوده صلى الله عليه وسلم.
وهو من أسمائه تعالى، ومعناه: الذي يعطي على قدر الاستحقاق ولا يغيض ما في يمينه من كثرة الإنفاق. والله تعالى أعلم.
حرف الياء
«اليتيم» :
اسم مفعول من اليتم وهو انقطاع الولد قبل بلوغه عن أبيه بموته وفي سائر الحيوانات الانقطاع من قبل الأمّ. وكل منفرد يتيمٌ، يقال درّة يتيمة تنبيها على أن قد انقطعت مادتها التي خرجت منها. وقد قيل بذلك في الآية. والمعنى عليه: ألم يجدك واحداً في قريش عديم النظير فيهم.
«يس» :
ذكره جماعة في أسمائه صلى الله عليه وسلم، وورد في حديث أبي الطفيل عن ابن مردويه، ورواه البيهقي عن محمد بن الحنفية- رحمه الله تعالى-. قال السّهيلي: لو كان اسماً له صلى الله عليه وسلم لقال: يا يس بالضم كما قال: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ قال تلميذه ابن دحية: وهذا غير لازم فإن الكلبي قرأه بالضم، أي على حذف حرف النداء.
«اليثربيّ» :
نسبة إلى يثرب، اسم المدينة الشريفة في الجاهلية. وقد ورد النهي عن تسميتها بذلك كما سيأتي في باب أسمائها في أبواب فضلها.
تنبيه:
قد علم مما تقدم أن الله سبحانه وتعالى سمي النبي صلى الله عليه وسلم بعده أسماء من أسمائه عز وجل. وسيأتي سردها في الخصائص أن شاء الله تعالى. والله تعالى أعلم.(1/535)
الباب الرابع في كناه صلى الله عليه وسلم وزاده شرفا وفضلاً لديه
قال الإمام العلامة أبو السعادات مجد الدين المبارك بن الأثير- رحمه الله تعالى- في كتابه «المرصع» : أما الكنية فأصلها من الكناية، وهي أن يتكلم بالشيء ويريد غيره، تقول كنيت وكنوت بكذا وعن كذا كنية وكنية والجمع الكنى، وآكتنى فلانٌ بأبي فلان وفلان يكنى بأبي الحسن، وكنيته أبا زيد وبأبي زيد، يخفّف ويثقل والتخفيف أكثر. وفلان كنّي فلان، كما تقول: سميّه: إذا اشتركا في الاسم والكنية. وإنما جيء بالكنية لاحترام المكنّى بها وإكرامه وتعظيمه كيلا يصرّح في الخطاب باسمه. ومنه قوله:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ... ولا ألقّبه والسّوأة اللقب
هذا مختص بالإنسان دون غير وهو الأصل.
ولقد بلغني أن أصل سبب الكنى في العرب أنه كان ملك من ملوكهم الأول ولد له ولد توسّم فيه أمارة النّجابة فشغف به فلما نشأ وترعرع وصلح لأن يؤدّب أدب الملوك أحب أن يفرد له موضعاً بعيداً من العمارة يكون فيه مقيماً يتخلّق بأخلاق مؤدّبيه ولا يعاشر من يضيع عليه بعض زمانه، فبنى له في البريّة منزلاً ونقله إليه ورتب له من يؤدبه بأنواع من الآداب العلمية والملكية وأقام له ما يحتاج إليه من أمر دنياه، ثم أضاف إليه من هو من أقرانه وأضرابه من أولاد بني عمه وأمرائه ليؤنسوه ويتأدبوا بآدابه ويحبّبوا إليه الأدب بموافقتهم له عليه. وكان الملك في رأس كل سنة يمضي إلى ولده ويستصحب معه من أصحابه من له عند ولده ولد ليبصروا أولادهم، فكانوا إذا وصلوا إليهم سأل ابن الملك عن أولئك الذين جاءوا مع أبيه ليعرفهم فيقال له: هذا أبو فلان وهذا أبو فلان، يعنون آباء الصبيان الذين عنده فكان يعرفهم بإضافتهم إلى أبنائهم، فمن هنالك ظهرت الكنى في العرب.
ثم ذكر ابن الأثير- رحمه الله تعالى- فوائد تتعلق بالكنى ليس هذا الكتاب محلاً لها وقد ذكرتها مع زيادات أخرى في كتابي «سفينة السلامة» .
إذا علمت ذلك: فللنبي صلى الله عليه وسلم عدّة كنى وهي:
«أبو القاسم»
صلّى الله عليه وسلم. وهو أشهرها.
روى الشيخان عن أنس بن مالك- رضي الله تعالى عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بالبقيع فسمع قائلاً يقول: يا أبا القاسم فرد رأسه إليه فقال الرجل: يا رسول الله إني لم أعنك إنما دعوت فلانا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فإني(1/536)
جعلت قاسماً أقسم بينكم»
[ (1) ] .
وظاهر هذا الحديث أنه إنما كني صلى الله عليه وسلم أبا القاسم لذلك.
وقال العزفيّ والوزير أبو الحسن سلام بن عبد الله الباهليّ رحمهما الله تعالى في كتابه «الذخائر والأعلاق في آداب النفوس ومكارم الأخلاق» : لأنه صلى الله عليه وسلم يقسم الجنة بين أهلها يوم القيامة. قال الشيخ- رحمه الله تعالى-: والذي جزم به الجماهير من أهل السير أنه إنما كني بابنه القاسم. وهو أول أولاده صلّى الله عليه وسلم ولادةً ووفاةً وسيأتي الكلام على تكنّي غير النبي صلى الله عليه وسلم بأبي القاسم في الخصائص.
«أبو إبراهيم» :
روى البيهقي في الدلائل عن أنس- رضي الله عنه- أنه لما ولد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية كاد يقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم منه حتى أتاه جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم.
«أبو الأرامل» :
ذكره ابن دحية وقال: ذكره صاحب الذخائر والأعلاق.
«أبو المؤمنين:
قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وقرأ أبي بن كعب- رضي الله تعالى عنه-: «وهو أبٌ لهم» أي كأبيهم في الشفقة والرأفة والحنوّ والله تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 1/ 64، من حديث أبي هريرة، كتاب العلم (110) ، ومسلم 3/ 1682، كتاب الآداب (1- 2131) .(1/537)
[المجلد الثاني]
بسم الله الرحمن الرحيم
جماع أبواب صفة جسده الشريف صلى الله عليه وسلم
أفرد الحافظ أبو الخطاب ابن دحية كتاباً سماه: «الآيات البينات فيما في أعضاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من المعجزات» وسأذكر خلاصته في المعجزات مع زوائد كثيرة، والمقصود منه هنا بيان صفة جسده الشريف صلى الله عليه وسلم فقط وقد أذكر شيئاً من الآيات لزيادة الفائدة.(2/3)
الباب الأول في حسنه صلى الله عليه وسلم
أعلم رحمني اللَّه وإياك أن اللَّه سبحانه وتعالى أنشأ النفوس مختلفة، فمنها الغاية في جودة الجوهر، ومنها المتوسط، ومنها الكدر. وفي كل مرتبة درجات. فالأنبياء صلى اللَّه عليهم وسلم هم الغاية، خلقت أبدانهم سليمة من العيب فصلحت لحلول النفس الكاملة، ثم يتفاوتون. فكان نبينا صلى الله عليه وسلم أصلح الأنبياء مزاجا وأكملهم بدنا وأصفاهم روحا، وبمعرفة ما نذكره من صفاته صلى الله عليه وسلم وأخلاقه يتبين ذلك إن شاء اللَّه تعالى.
روى الشيخان عن البراء بن عازب رضي اللَّه تعالى عنهما قال: لم أر شيئاً أحسن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. البراء بفتحتين مخففا.
وقال رجل من الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإذا هو رجل حسن الجسم.
وقالت أم معبد رضي اللَّه تعالى عنها: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجمل الناس [وأبهاه] من بعيد وأحلاه وأحسنه من قريب.
رواهما البيهقي.
وقال جابر بن سمرة- بسين مهملة مفتوحة فميم مضمومة فراء- رضي اللَّه تعالى عنه:
رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ليلة إضحيان وعليه حلة حمراء فجعلت أنظر إليه والقمر فلهو أحسن في عيني من القمر.
رواه الترمذي والنسائي.
وقال البراء رضي اللَّه تعالى عنه: ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم [ (1) ] .
رواه مسلم وأبو داود.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس صفة وأجملها.
رواه أبو الحسن بن الضحاك.
وقال طارق بن عبيد [ (2) ] رضي اللَّه تعالى عنه: أقبلنا ومعنا ظعينة حتى نزلنا قريبا من
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 1804 كتاب الفضائل (52- 2309)
[ (2) ] طارق بن عبيد بن مسعود الأنصاري. روى محمد بن مروان السدي في تفسيره عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال طارق بن عبيد بن مسعود وأبو اليسر ومالك بن الدخشم يوم بدر: يا رسول اللَّه إنك قلت من قتل(2/5)
المدينة، فأتانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقالت الظعينة: ما رأيت وجها أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه صلى الله عليه وسلم.
رواه إبراهيم الحربي [ (1) ] في غريبه وأبو الحسن بن الضحاك في الشمائل وابن عساكر.
وقال أبو إسحاق الهمداني- وهو بفتح الهاء وسكون الميم ودال مهملة- لامرأة حجت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: شبهيه لي: قالت: كالقمر ليلة البدر ولم أر قبله ولا بعده مثله.
رواه يعقوب بن سفيان.
وقال أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر للربيع بنت معوذ [ (2) ] رضي اللَّه تعالى عنها:
صفي لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قالت: يا بني لو رأيته لقلت الشمس طالعة.
رواه الدرامي ويعقوب.
قال الطيبي رحمه اللَّه تعالى: قولها: «لقلت الشمس طالعة» أي لرأيت شمسا طالعة، جردت من نفسه الشريفة شمسا وهي هي، نحو قولك: لئن لقيته لتلقين أسدا، وإذا نظرت إليه لم تر إلا أسدا.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: ما رأيت شيئاً قط أحسن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري. وفي لفظ: تخرج من وجهه.
رواه الإمام أحمد والترمذي وابن حبان وبقي بن مخلد. وسنده على شرط صحيح مسلم [ (3) ] .
قال الطيبي: شبه جريان الشمس في فلكها بجريان الحسن في وجهه صلى الله عليه وسلم. ومنه قول الشاعر:
__________
[ () ] قتيلا فله سلبه وقد قتلنا سبعين. الحديث في نزول قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ وقال ابن منده الذي أسر العباس ومعه أبو اليسر الأنصاري [انظر الإصابة 3/ 282] .
[ (1) ] إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن عبد اللَّه البغدادي الحربي، أبو إسحاق: من أعلام المحدثين. أصله من مرو، واشتهر وتوفى ببغداد، ونسبته إلى محلة فيها. كان حافظا للحديث عارفا بالفقه بصيرا بالأحكام، قيما بالأدب، زاهدا، أرسل إليه المعتضد ألف دينار فردها. تفقه على الإمام أحمد، وصنف كتبا كثيرة منها «غريب الحديث» و «إكرام الضيف» ، و «سجود القرآن» و «الهدايا والسنة فيها» و «الحمام وآدابه» و «دلائل النبوة» توفي سنة 285 هـ. [انظر الأعلام 1/ 32] .
[ (2) ] الرّبيّع بضم أوله وكسر التحتانية بنت معوّذ بن الحارث بن رفاعة بن الحارث بن سواد، ويعرف بابن عفراء وهي أمه الأنصارية شهدت الشجرة. لها إحدى وعشرون حديثاً. اتفقا على حديثين، وانفرد (خ) بحديثين. وعنها سليمان بن يسار، وأبو سلمة. وجماعة. [الخلاصة 3/ 381] .
[ (3) ] أخرجه أحمد في المسند 2/ 350.(2/6)
يزيدك وجهه حسنا ... إذا ما زدته نظرا
[ (1) ] وفيه أيضاً عكس التشبيه للمبالغة. ويجوز أن يقدر الخبر الاستقرار، فيكون من باب تناسي التشبيه، فجعل وجهه صلى الله عليه وسلم مقرا ومكانا لها. ويحتمل أن يكون فيه تناهي التشبيه جعل وجهه مقرا ومكانا للتشبيه.
وللَّه در القائل:
لم لا يضيء بك الوجود وليله ... فيه صباح من جمالك مسفر
فبشمس حسنك كل يوم مشرق ... وببدر وجهك كلّ ليل مقمر
وقال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: لم يقم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع شمس قط إلا غلب ضوؤه ضوء الشمس، ولم يقم مع سراج قط، إلا غلب ضوؤه ضوء السراج.
رواه ابن الجوزي.
وقالت أم معبد رضي اللَّه تعالى عنها: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسيما قسيما.
رواه الحارث بن أبي أسامة.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كل شيء حسن قد رأيت، فما رأيت شيئاً قط أحسن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
رواه ابن عساكر.
وقال أبو قرصافة- بكسر القاف وسكون الراء بعدها مهملة وفاء- واسمه جندرة- بفتح أوله ثم نون ساكنة ثم مهملة مفتوحة- ابن خيشنة بمعجمة ثم تحتانية ثم معجمة ثم نون رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حسن الوجه ولم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالفارع الجسم.
رواه ابن عساكر.
تنبيهان
الأول: قال ابن المنير والزركشي وغيرهما في قوله صلى الله عليه وسلم في يوسف: أعطي شطر الحسن: يتبادر إلى أفهام بعض الناس إن الناس يشتركون في الشطر الآخر. وليس كذلك، بل المراد أنه أعطي شطر الحسن الذي أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم، فإنه بلغ النهاية ويوسف بلغ شطرها.
ويحققه ما رواه الترمذي عن قتادة والدارقطني عن أنس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: ما بعث اللَّه نبيا إلا حسن الوجه حسن الصوت، وكان نبيكم أحسنهم وجها وصوتا» .
__________
[ (1) ] البيت لأبي نواس [انظر دلائل الإعجاز 296] .(2/7)
وقال نفطويه [ (1) ] رحمه اللَّه تعالى في قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ [النور 35] هذا مثل ضربه اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول: يكاد نظره يدل على نبوته وإن لم يتل قرآنا. كما قال ابن رواحة رضي اللَّه تعالى عنه:
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بداهته تنبيك بالخبر
وقال القرطبي رحمه اللَّه تعالى: قال بعضهم، لم يظهر لنا تمام حسنه صلى الله عليه وسلم لأنه لو ظهر لنا تمام حسنه لما طاقت أعيننا رؤيته صلى الله عليه وسلم. ويرحم اللَّه تعالى الشرف البوصيري حيث قال:
فهو الذي تم معناه وصورته ... ثم اصطفاه حبيبا بارى النسم
منزّهٌ عن شريكٍ في محاسنه ... فجوهر الحسن فيه غير منقسم
إلى أن قال رحمه اللَّه تعالى:
أعيا الورى فهم معناه فليس يرى ... للقرب والبعد فيه غير منفحم
كالشمس تظهر للعينين من بعدٍ ... صغيرة وتكل الطرف من أمم
وهذا مثل قوله رحمه اللَّه تعالى:
إنما مثلوا صفاتك للناس ... كما مثل النجوم المساء
ويرحم اللَّه تعالى الشرف ابن الفارض حيث قال:
وعلى تفنن واصفيه بحسنه [ (2) ] ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
[ (3) ] وسيدي علي بن أبي وفا حيث قال رحمه اللَّه تعالى:
كم فيه للأبصار حسن مدهش ... كم فيه للأرواح راح مسكر
سبحان من أنشاه من سبحاته ... بشرا بأسرار الغيوب يبشر
__________
[ (1) ] إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي العتكي، أبو عبد اللَّه، من أحفاد المهلب بن أبي صفرة: إمام في النحو. وكان فقيها، رأسا في مذهب داود، مسندا في الحديث ثقة، قال ابن حجر: جالس الملوك والوزراء، وأتقن حفظ السيرة ووفيات العلماء، مع المروءة والفتوة والظرف. ولد بواسط (بين البصرة والكوفة) ومات ببغداد وكان على جلالة قدره تغلب عليه سذاجة الملبس، فلا يعنى بإصلاح نفسه. وكان دميم الخلقة، يؤيد مذهب «سيبويه» في النحو فلقبوه «نفطويه» ونظم الشعر ولم يكن بشاعر، وإنما كان من تمام أدب الأديب في عصره أن يقول الشعر. سمّى له ابن النديم وياقوت عدة كتب، منها «كتاب التاريخ» و «غريب القرآن» و «كتاب الوزراء» و «أمثال القرآن» ولا نعلم عن أحدها خبرا. توفي سنة 323 هـ[الأعلام 1/ 61.]
[ (2) ] في أبوصفه.
[ (3) ] البيت من قصيدة مطلعها:
قلبي يحدثني بأنك متلفي ... روحي فداك، عرفت أم لم تعرف
ديوان ابن الفارض. دار الكتب العلمية ت: مهدي محمد ناصر الدين ص 142: 148.(2/8)
قاسوه جهلا بالغزال تغزلا ... هيهات يشبهه الغزال الأحور
هذا وحقّك ماله من مشبه ... وأرى المشبه بالغزالة يكفر
يأتي عظيم الذنب في تشبيهه ... لولا لربّ جماله يستغفر
فخر الملاح بحسنهم وجمالهم ... وبحسنه كل المحاسن تفخر
فجماله مجلى لكل جميلة ... وله منار كل وجه نير
جنات عدن في جنى وجناته ... ودليله أن المراشف كوثر
هيهات ألهو عن هواه بغيره ... والغير في حشر الأجانب يحشر
كتب الغرام علي في أسفاره ... كتبا تؤول بالهوى وتفسر
فدع الدعي وما أدعاه من الهوى ... فدعيه بالهجر فيه يهجر
وعليك بالعلم العليم فإنه ... لخطيبه في كل خطب منبر
الثاني: في تفسير غريب ما سبق.
إضحيان [ (1) ]- بهمزة مكسورة فضاد معجمة ساكنة فحاء مهملة مكسورة فمثناة تحتية:
أي مقمرة مضيئة من أولها إلى آخرها.
اللمة: بالكسر شعر الرأس المجاوز شحمة الأذن فإذا بلغ المنكبين فهو الجمة والجمع لمم. الظعينة: قال في النهاية: أصل الظعينة الراحلة التي ترحل ويظعن عليها أي يسار. وقيل للمرأة ظعينة لأنها تظعن مع الزوج حيثما ظعن، أو لأنها تحمل على الراحلة إذا ظعنت. وقيل:
الظعينة المرأة في الهودج، ثم قيل للهودج بلا امرأة، أو للمرأة بلا هودج: ظعينة.
الربيع: بالتصغير والتشديد. معوذ: بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الواو.
الوسيم: المشهور بالحسن كأن الحسن صار له علامة. وقال في النهاية: رجل قسيم.
الوجه أي جميل كله كأن كل موضع منه أخذ قسما من الجمال.
والوسيم: الحسن الوضيء الثابت.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 3/ 14.(2/9)
الباب الثاني في صفة لونه صلى الله عليه وسلم
قال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أزهر اللون ليس بالآدم ولا بالأبيض الأمهق. متفق عليه.
وفي رواية لمسلم: كان صلى الله عليه وسلم مشربا بحمرة.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبيض كأنما صيغ من فضة.
رواه الترمذي ورواه ابن عساكر من حديث أنس.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبيض مشربا بحمرة.
رواه الإمام أحمد والترمذي والبيهقي من طرق.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبيض مشربا بحمرة.
رواه ابن عساكر.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أزهر اللون ليس بالأبيض الأمهق.
رواه ابن عساكر من طرق.
وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبيض اللون مشربا حمرة. رواه ابن عساكر.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس لونا.
رواه ابن عساكر.
وقال جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تعالى عنهما: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبيض مشربا بحمرة.
رواه ابن سعد وابن عساكر.
وقال أبو أمامة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلا أبيض تخالطه حمرة.
رواه ابن عساكر.
وقال أبو الطفيل رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبيض مليح الوجه.
رواه البخاري وأحمد ومسلم ويعقوب بن سفيان.(2/10)
وفي رواية لأحمد: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبيض مليحا مقصدا.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أزهر اللون.
رواه البيهقي.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسن الناس لونا.
رواه ابن الجوزي.
وقالت أم معبد رضي اللَّه تعالى عنها: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ظاهر الوضاءة.
رواه البيهقي.
وقال هند بن أبي هالة [ (1) ] رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنور المتجرد.
رواه الترمذي والبيهقي.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها أهدي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شملة سوداء فلبسها، وقال:
كيف ترينها علي يا عائشة؟ قلت، ما أحسنها عليك يا رسول اللَّه! يشوب سوادها بياضك وبياضك سوادها [ (2) ] .
رواه ابن عساكر.
تنبيهات
الأول: روى الإمام أحمد ويعقوب بن سفيان والبزار وابن حبان والحاكم وصححه الحافظ عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسمر اللون.
ورواه البيهقي من وجه آخر بلفظ: كان بياضه إلى سمرة وعند الإمام أحمد بسند حسن: أبيض إلى سمرة.
وروى ابن أبي شيبة عن شيخه هوذة والإمام أحمد عن شيخه محمد بن جعفر وأبو نعيم عن روح قالوا: أنبأنا عوف بن أبي جميلة [ (3) ] عن يزيد الفارسي رحمه اللَّه تعالى قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المنام فذكرت ذلك لابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما فقال: صفه لي.
__________
[ (1) ] هند بن أبي هالة التميمي ربيب النبي صلى اللَّه عليه وسلم أمة خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم روى عنه الحسن بن علي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أخرجه الترمذي والبغوي والطبراني وغيرهم من طرق عن الحسن بن علي، قال الزبير بن بكار: قتل هند مع على يوم الجمل وكذا قال الدارقطني في كتاب الإخوة وقال أبو عمر كان فصيحا بليغا وصف النبي صلى اللَّه عليه وسلم فأحسن وأتقن. [الإصابة 6/ 293، 294.]
[ (2) ] أخرجه ابن عساكر في التهذيب 1/ 325 وذكره المتقي الهندي في الكنز (18528) .
[ (3) ] عوف بن أبي جميلة، بفتح الجيم، الأعرابي العبدي، البصري، ثقة، رمي بالقدر وبالتشيع، من السادسة، مات سنة ست أو سبع وأربعين، وله ست وثمانون. [التقريب 2/ 89] .(2/11)
فذكر الحديث: وفيه: أسمر إلى البياض. قال ابن عباس: لو رأيته في اليقظة ما استطعت أن تنعته فوق هذا.
وروى أبو بكر بن أبي خيثمة عن شيخه هوذة، وأبو نعيم من طريق الحارث بن أبي أسامة عن شيخه روح، كلاهما عن عوف عن يزيد. وذكر الحديث ولفظه: أحمر إلى البياض.
قال الحافظ: وتبين من مجموع الروايات أن المراد بالسمرة: الحمرة التي تخالط البياض، وأن المراد بالبياض المثبت: ما تخالطه الحمرة. والمنفي ما لا تخالطه، وهو الذي تكره العرب لونه وتسميه أمهق.
وقال ابن أبي خيثمة: ولونه صلى الله عليه وسلم الذي لا شك فيه: الأبيض الأزهر، المشرب من حمرة وإلى السمرة ما ضحى منه للشمس والريح، وأما ما تحت الثياب فهو الأبيض الأزهر.
وتعقبه بعضهم بأن أنسا لا يخفى عليه أمره حتى يصفه بغير صفته اللازمة له لقربه منه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم ملازما للشمس. نعم لو وصفه بذلك بعض القادمين ممن صادفه في وقت غيرته الشمس لأمكن، فالأولى حمل السمرة في هذه الرواية على الحمرة التي تخالط البياض، أي كما سبق في كلام الحافظ.
قلت: قوله أن أنسا لا يخفى عليه. إلخ يقال عليه: قد وصفه أنس بأنه صلى الله عليه وسلم أزهر اللون ليس بالآدم، كما تقدم أول الباب، وهو حديث أصح من هذه الروايات. وتابعه غيره على هذه الرواية.
وقال الحافظ أبو الفضل العراقي: في قوله: «أسمر اللون» : هذه اللفظة تفرد بها حميد عن أنس ورواها غيره عنه بلفظ «أزهر اللون» ثم نظرنا من روى صفة لونه صلى الله عليه وسلم غير أنس، فكلهم وصفوه صلى الله عليه وسلم بالبياض دون السمرة، وهم خمسة عشر صحابيا.
قلت: سمى أبو الحسن بن الضحاك في كتاب الشمائل منهم: أبا بكر وعمر وعليا وأبا جحيفة وابن عمر وابن عباس وهند بن أبي هالة والحسن بن علي وأبا الطفيل ومخرش الكعبي وابن مسعود والبراء بن عازب وسعد بن أبي وقاص وعائشة وأبا هريرة وذكر أحاديثهم وأسانيدهم العشرة. ثم قال: وما رواه أنس مما يوافق الجمهور أولى وأصح وهو الذي ينبغي أن يرجع إليه ويعول عليه.
وأما رواية أبي يزيد الفارسي: أنه صلى الله عليه وسلم أسمر إلى البياض: فخطأ في الرواية، والصواب الرواية الثانية.(2/12)
الثاني:
وقع في زيادات المسند لعبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل [ (1) ] ، عن علي رضي اللَّه تعالى عنه: أبيض شديد الوضح.
وفي حديث أبي هريرة عند البزار ويعقوب بن سفيان بسند قوي: كان صلى الله عليه وسلم شديد البياض. وهذا مخالف لقول أنس أول الباب: وليس بالأمهق. ولرواية مسلم عنه: أبيض مشرباً بحمرة: وهما أصح منهما. ويمكن الجمع بحمل ما ذكر على ما تحت الثياب مما لا يلقى الشمس.
الثالث: وقع عند أبي زيد المروزيّ أحد رواة الصحيح عن أنس: أمهق ليس بالأبيض واعترض الداودي الشارح هذه الرواية. وقال القاضي إنها وهم. وقال: لعل الصحيح رواية من روى أنه ليس بالأبيض ولا بالآدم.
قال الحافظ: وهذا ليس بجيد لأن المراد أنه ليس بالأبيض الشديد البياض ولا الآدم الشديد الأدمة وإنما يخالط بياضه الحمرة. والعرب قد تطلق على من كان كذلك أسمر.
ولهذا جاء في حديث أنس أي السابق: كان صلى الله عليه وسلم أسمر.
قال الحافظ: وتبين من مجموع الروايات أن رواية المروزي: «أمهق ليس بالأبيض» مقلوبة على انه يمكن توجيهها بأن المراد بالأمهق الأخضر اللون الذي ليس بياضه في الغاية ولا سمرته ولا حمرته. فقد نقل عن رؤبة أن المهق خضرة الماء فهذا التوجيه على تقدير ثبوت الرواية وقد جاء في عدة طرق أنه صلى الله عليه وسلم كان أبيض.
الرابع: نقل القاضي عن أحمد بن أبي سليمان صاحب سحنون رحمهما اللَّه تعالى أن من قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أسود. يقتل. انتهى.
قال بعضهم: وهذا يقتضي أن مجرد الكذب عليه في صفة من صفاته كفر يوجب القتل. وليس كذلك، بل لا بد من ضميمة ما تشعر بنقص كما في مسألتنا هذه فإن السواد مفصول.
الخامس: في بيان غريب ما سبق: الأزهر: الأبيض المستنير المشرق وهو أحسن الألوان أي ليس بالشديد البياض.
الآدم: الشديد السمرة.
الأمهق: الشديد البياض الذي لا يخالطه شيء من الحمرة وليس بنير كلون الجص أو نحوه.
__________
[ (1) ] عبد اللَّه بن أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أبو عبد الرحمن، ولد الإمام، ثقة، من الثانية عشرة مات سنة تسعين، وله بضع وسبعون [انظر التقريب 1/ 401.](2/13)
الإشراب [ (1) ] : خلط لون بلون كأن أحد اللونين سقى الآخر لونه، يقال: بياض مشرب حمرة بالتخفيف. فإذا شدد كان للتكثير والمبالغة.
المقصد: من الرجال الذي ليس بجسيم ولا طويل.
ظاهر الوضاءة: أي الحسن والجمال.
أنور المتجرد: بجيم وراء مشددة مفتوحتين: ما كشف عنه الثوب من البدن، يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان مشرق الجسد نير اللون فوضع الأنور موضع النير. واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 4/ 2224.(2/14)
الباب الثالث في صفة رأسه وشعره صلى الله عليه وسلم
قال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضخم الرأس.
رواه البخاري. ورواه أبو الحسن بن الضحاك عن جبير بن مطعم. ورواه أبو الحسن بن الضحاك وابن عساكر من طرق عن علي رضي اللَّه تعالى عنه. ورواه من طريق عنه بلفظ:
عظيم الرأس.
وروى الترمذي عن هند بن أبي هالة والبيهقي عن علي رضي اللَّه تعالى عنهما قالا: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عظيم الهامة رجل الشعر إن افترقت عقيقته فرق وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفره.
وقال أنس رضي الله تعالى عنه: لم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بجعد قطط ولا بسبط، كان رجلا.
رواه الشيخان والترمذي والنسائي.
وقال جبير بن مطعم رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كثير شعر الرأس رجله.
رواه ابن أبي خيثمة.
وقالت أم معبد رضي اللَّه تعالى عنها في صفته صلى الله عليه وسلم: ولا تزريه صعلة.
رواه الحارث بن أبي أسامة.
وقال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه لشيء وكان أهل الكتاب يسدلون شعورهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم. فسدل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم فرق بعده.
رواه الستة.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شعرا بين شعرين، ولا رجل سبط ولا جعد قطط، وكان بين أذنيه وعاتقه.
وفي رواية: كان شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أنصاف أذنيه.
متفق عليه.
وقال علي بن حجر رضي اللَّه تعالى عنه: لم يكن شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالجعد القطط ولا بالسبط كان جعدا رجلا.(2/15)
رواه مسلم والبيهقي.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: «أنا فرقت لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأسه صدعت فرقه عن يافوخه وأرسلت ناصيته بين عينيه.
رواه ابن إسحاق وأبو داود، وابن ماجة ولفظه: «كنت أفرق خلف يافوخ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم أسدل ناصيته» .
وقال البراء رضي اللَّه تعالى عنه: كان شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى منكبيه.
رواه الشيخان.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: كان شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة.
رواه أبو داود والترمذي.
وقالت أم هانئ رضي اللَّه تعالى عنها: قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وله أربع غدائر: يعني ضفائر.
رواه الترمذي وأبو داود بسند جيد.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا امتشط بالمشط كأنه حبل الرمال.
رواه أبو نعيم.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أذنيه وعاتقه.
رواه مسلم.
وروى عبد المجيد بن جعفر عن أبيه أن خالد بن الوليد فقد قلنسوة له يوم اليرموك فطلبها حتى وجدها وقال: اعتمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر الناس جوانب شعره فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة فلم أشهد قتالا وهي معي إلا رزقت النصر.
رواه سعيد بن منصور.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما رمى جمرة العقبة نحر نسكه ثم ناول الحالق شقه الأيمن فحلقه فأعطاه أبا طلحة ثم ناوله شقه الأيسر فقال: اقسمه بين الناس.
رواه الشيخان.
وفي رواية لمسلم: «فلقد رأيته والحلاق يحلقه فطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل.
وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذا وفرة.
رواه ابن عساكر.(2/16)
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حسن الشعر.
رواه ابن عساكر.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شديد سواد الرأس واللحية.
رواه ابن عساكر. ورواه أبو الحسن بن الضحاك وغيره عن رجل من الصحابة من بني كنانة.
وروى إسرائيل [ (1) ] عن عثمان بن عبد اللَّه بن موهب [ (2) ] : أرسلني أهلي إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بقدح من ماء- وقبض إسرائيل ثلاث أصابع- فجاءت بجلجل من فضة فيها شعر من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أصاب أحدا من الناس عين أو شيء بعث إليها بخضه، فاطلعت في الجلجل فرأيت شعرا حمرا.
رواه البخاري واللفظ للحميدي في جمعه.
تنبيهات
الأول: حاصل الأحاديث السابقة: أن شعره صلى الله عليه وسلم كان جمة وفرة لمة، فوق الجمة ودون الوفرة عكسه. فالوفرة- بفتح الواو وإسكان الفاء: ما بلغ شحمة الأذن. واللمة- بكسر اللام: ما نزل عن شحمة الأذن، والجمة- بضم الجيم وتشديد الميم- قال الجوهري رحمه اللَّه تعالى: هي مجتمع شعر الرأس وهي أكثر من الوفرة ما نزل عن ذلك إلى المنكبين.
هذا قول جمهور أهل اللغة وهو الذي ذكره أصحاب المحكم والنهاية والمشارق وغيرهم. واختلف فيه كلام الجوهري. فذكره على الصواب في مادة «لمم» فقال: واللمة- بالكسر: الشعر، المتجاوز شحمة الأذن، فإذا بلغت المنكبين فهي الجمة. وخالف ذلك في مادة «وفر» فقال: والوفرة إلى شحمة الأذن ثم الجمة ثم اللمة. وهي التي ألمت بالمنكبين [ (3) ] .
انتهى.
وقال الحافظ أبو الفضل العراقي رحمه اللَّه تعالى: ما قاله في باب الميم هو الصواب
__________
[ (1) ] إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق الهمداني السّبيعي أبو يوسف الكوفي. روى عن الأعمش، وسماك بن حرب، ويوسف بن أبي بردة، وعاصم الأحول. وعنه عبد الرزاق، وأبو داود الطيالسي، وأحمد بن أبي إياس، وابن مهدي، وأبو نعيم، والفريابي، ووكيع. وقال يحيى القطان: إسرائيل فوق أبي بكر بن عيّاش، وكان أحمد يعجب من حفظه. وقال أحمد: إسرائيل أصح حديثا من شريك إلا في أبي إسحاق، فإن شريكا أضبط. مات سنة اثنتين وستين ومائة. [طبقات الحفاظ 191.]
[ (2) ] عثمان بن عبد اللَّه بن موهب، التميمي مولاهم، المدني، الأعرج، وقد ينسب إلى جده، ثقة، من الرابعة، مات سنة ستين.
[التقريب 2/ 11] .
[ (3) ] في ألمت المنكبين.(2/17)
وهو الموافق لقول غيره من أهل اللغة. ولا جمع بين رواية: (فوق الجمعة، ودون الوفرة) وهي عند الترمذي، والعكس رواية أبي داود وابن ماجة، وهي الموافقة لقول أهل اللغة، إلا على المحمل الذي تؤول عليه رواية الترمذي، وذلك أنه قد يراد بقوله: «دون» بالنسبة إلى محل وصول الشعر. فرواية الترمذي محمولة على هذا التأويل: أن شعره كان فوق الجمة أي أرفع في المحل. فعلى هذا يكون شعره لمة، وهو ما بين الوفرة، والجمعة، وتكون رواية أبي داود وابن ماجة معناها: «كان شعره فوق الوفرة» أي أكثر من الوفرة ودون الجمة أي في الكثرة.
وعلى هذا فلا تعارض بين الروايتين. فروى كل راو ما فهمه من الفوق والدون.
وقال القاضي: والجمع بين هذه الروايات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه والذي يلي أذنيه وعاتقيه وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه. وقيل بل لاختلاف الأوقات فإذا غفل عن تقصير شعره بلغ المنكب وإذا قصره كان إلى أنصاف أذنيه فكان يقصر ويطول بحسب ذلك.
الثاني: قال ابن القيم رحمه اللَّه تعالى في زاد المعاد: لم يحلق صلى الله عليه وسلم رأسه الشريف إلا أربع مرات. ولهذا مزيد بيان في أبواب زينته صلى الله عليه وسلم ويأتي الكلام على ما شاب من شعره صلى الله عليه وسلم في الباب التاسع.
الثالث:
روى ابن عساكر من طريقين غير ثابتين عن علي رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: كان شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سبطا.
وقد تقدم من طريق صحيحة أنه لم يكن بالسبط ولا بالجعد القطط.
الرابع: قال ابن أبي خيثمة في تاريخه: إنما جعل شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورأسه غدائر أربعا ليخرج الأذن اليمنى من بين غديرتين يكتنفانها ويخرج الأذن اليسرى من بين غديرتين يكتنفانها ويخرج الأذنان بياضهما من بين تلك الغدائر كأنهما توقد الكواكب الدرية بين سواد شعره وكان أكثر شيبه صلى الله عليه وسلم في الرأس في فودي رأسه، والفودان خرفا الفرق، وكان أكثر شيبه صلى الله عليه وسلم في لحيته فوق الذقن وكان شيبه كأنه خيوط الفضة يتلألأ بين ظهري سواد الشعر الذي معه، إذا مس ذلك الشيب الصفرة- وكان كثيرا ما يفعل- صار كأنه خيوط ذهب يتلألأ بين ظهري سواد الشعر الذي معه.
الخامس: في بيان غريب ما سبق.
الهامة- بالتخفيف: الرأس.
رجل الشعر- بفتح الراء وكسر الجيم وفتحها وسكونها، ثلاث لغات ذكرها في المفهم لا شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما. قال القرطبي: وكان شعره صلى الله عليه وسلم بأصل الخلقة مسرحا.(2/18)
العقيقة: بقافين على المشهور: شعر الرأس، سمي عقيقة تشبيها بشعر المولود قبل أن يحلق فإذا حلق ونبت ثانيا فقد زال عنه اسم العقيقة، وربما سمي الشعر عقيقة بعد الحلق على الاستعارة. ومنه هذا الحديث. والمراد إن انفرقت عقيقته من ذات نفسها وإلا تركها معقوصة.
وروي: عقيصته- بقاف وصاد مهملة- وهي اسم للشعر المعقوص، مشتق من العقص وهو اللي.
وفره: بفتح الفاء المشدّدة أي جعله وفرة.
الجعد- بفتح الجيم وسكون المهملة. والجعودة في الشعر أن لا يتكسر ولا يسترسل.
القطط- بفتحتين: الشديد الجعودة الشبيه بشعر السودان.
السبط [ (1) ]- بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة وكسرها، المنبسط المسترسل الذي لا تكسير فيه، أي لم يكن شديد الجعودة ولا شديد السبوطة بل بينهما.
الصعلة- بصاد فعين مهملتين: صغر الرأس. ويروى بالقاف. ويأتي بيانه في صفة إبطه الشريف صلى الله عليه وسلم.
يسدل- بفتح المثناة التحتية وسكون السين وكسر الدال المهملتين، ويجوز ضم الدال أي يترك شعر ناصيته على جبهته. قال النووي. قال العلماء: المراد إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة أي بضم القاف وبعدها صاد مهملة وهو شعر الناصية.
يفرقون- بضم الراء وكسرها: أي يلقون شعر رؤوسهم إلى جانبيه ولا يتركون منه شيئاً على جبهتهم.
فرق- بفتح الفاء والراء: تقدم معناه قبله.
العاتق: ما بين المنكب والعنق وهو موضع الرداء يذكر ويؤنث، والجمع عواتق.
صدعت- بالتخفيف: نحيت. اليأفوخ: بهمز، وهو أحسن وأصوب، ولا يهمز، وهو وسط الرأس، ولا يقال يافوخ حتى يصلب ويشتد بعد الولادة.
الناصية والناصاة: منبت الشعر في مقدم الرأس، ويطلق على الشعر.
المنكب: مجتمع رأس العضد والكتف.
الغدائر: بغين معجمة ودال مهملة.
حبك الرمال- بضم أوله وثانيه جمع حبيكة وهي الطريق في الرمل وقال الفراء: الحبك
__________
[ (1) ] انظر اللسان 2/ 1922.(2/19)
تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة والماء الدائم إذا مرت به الريح والشّعرة الجيدة تكسّرها حبك.
القلنسوة [ (1) ]- بفتح القاف واللام وسكون النون وضم السين وفتح الواو. والجمع:
القلانس والقلاسي.
اليرموك- بفتح الياء: مكان قرب دمشق.
قوله: «وقبض إسرائيل ثلاث أصابع» أشار بذلك إلى صغر القدح.
قصة- بضم القاف وصاد مهملة لأكثر الرواة الصحيح. قال ابن دريد: كل خصلة من الشعر قصة. قال ابن دحية والصحيح عند المتقنين: «من فضة» بالفاء بواحدة وضاد معجمة وهو الأشبه والأولى لقوله بعد ذلك: «فاطلعت في الجلجل» وقد بينه وكيع في مصنفه فقال:
كان جلجلا من فضة صنع صونا لشعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] انظر المعجم الوسيط 2/ 754.(2/20)
الباب الرابع في صفة جبينه وحاجبيه صلى اللَّه عليه وسلم
قال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مفاض الجبين.
رواه البيهقي وابن عساكر.
وقال هند بن أبي هالة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واسع الجبين أزج الحواجب سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب.
رواه الترمذي.
وقال رجل من الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دقيق الحاجبين.
رواه البيهقي.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تعالى عنه: كان جبين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلتا.
رواه ابن ابن عساكر.
وقال الحافظ أبو أحمد بن أبي خيثمة رحمهما اللَّه تعالى: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجلى الجبين إذا طلع جبينه من بين الشعر أو طلع من فلق الشعر أو عند الليل أو طلع بوجهه على الناس تراءى جبينه كأنه السراج المتوقد يتلألأ، كانوا يقولون هو صلى الله عليه وسلم. كما قال شاعره حسان بن ثابت رضي اللَّه تعالى عنه:
متى يبد في الليل البهيم جبينه ... يلح مثل مصباح الدجى المتوقد
فمن كان أو من قد يكون كأحمد ... نظاما لحق أو نكالا لملحد
[ (1) ] .
قال أبو الحسن بن قانع عن سويد بن غفلة رضي اللَّه تعالى عنه قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم واضح الجبين أهدب مقرون الحاجبين.
تنبيهات
الأول: في حديث أم معبد: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أزج أقرن. قال ابن قتيبة وابن عساكر:
ولا أراه إلا كما وصف هند وصححه ابن الأثير والقطب رحمه للَّه تعالى.
قلت: وروى البيهقي وابن عساكر عن مقاتل بن حيان رحمه اللَّه تعالى قال: أوحى اللَّه تعالى إلى عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام: جد في أمري ولا تهزل إلى أن قال: صدقوا النبي العربي الصلت الجبين المقرون الحاجبين.
__________
[ (1) ] انظر الديوان ص 67.(2/21)
وروى ابن عساكر من طرق عن علي رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مقرون الحاجبين.
ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم كان أولا بغير قرن أو من جهة الرائي من قرب ومن بعد، وبأنه لم يكن بالأقرن حقيقة ولا بالأزج حقيقة بل كان بين الحاجبين فرجة يسيرة لا تتبين إلا لمن دقق النظر إليها. كما ذكر في صفة انفه الشريف صلى الله عليه وسلم فقال: يحسبه من لم يتأمله أشم ولم يكن أشم.
الثاني: في بيان غريب ما سبق.
مفاض الجبين- بميم مضمومة ففاء فألف فضاد معجمة مخففة أي واسعة، يقال درع مفاضة أي واسعة. الجبين ما فوق الصدغ. والصدغ ما بين العين إلى الأذن، ولكل إنسان جبينان يكتنفان الجبهة.
الزجج: تقوس في الحاجب مع طول في طرفه وامتداد. قاله في النهاية. وقال غيره:
الزجج دقة الحاجبين وسبوغهما إلى محاذاة آخر العين مع تقوس.
سوابغ- حال من المجرور وهو الحواجب جمع سابغ وهو التام الطويل أي أنها دقت في حال سبوغها. وضع الحواجب موضع الحاجبين لأن التثنية جمع.
القرن- بالتحريك: اتصال شعر الحاجبين.
يدره- بضم أوله وكسر ثانيه وتشديد ثالثه: أي يحركه ويظهره، كان صلى الله عليه وسلم إذا غضب امتلأ ذلك العرق دما كما يمتلئ الضرع لبنا إذا در فيظهر ويرتفع.
الصلت الجبين: أي واسعة، وقيل الصلت الأملس وقيل البارز. واللَّه أعلم.(2/22)
الباب الخامس في صفة عينيه صلى اللَّه عليه وسلم وبعض ما فيهما من الآيات
قال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أدعج العينين.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عظيم العينين أهدب الأشفار.
رواه الإمام أحمد ومسلم.
وقال أيضاً: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عظيم العينين أهدب الأشفار مشرب العين بحمرة.
رواه البيهقي وأبو الحسن بن الضحاك وابن عساكر من طرق.
وقال سماك بن حرب [ (1) ] : قال جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليه وسلم أشكل العين.
قال الرواي له عن سماك: ما أشكل العين؟ قال: طويل شق العين.
رواه مسلم وغيره. ورواه أبو داود بلفظ: أشهل العين.
وقالت أم معبد رضي اللَّه تعالى عنها: في أشفاره عطف وفي لفظ: وطف.
رواه الحارث بن أبي أسامة.
وقال أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبحر العينين.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبرج العينين.
رواهما أبو الحسن بن الضحاك.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أكحل العينين أهدب الأشفار.
رواه محمد بن يحيى الذهلي [ (2) ] في الزهريات.
وقال جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه: كنت إذا نظرت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قلت أكحل وليس بأكحل.
رواه الإمام أحمد بن حنبل ويعقوب بن سفيان.
__________
[ (1) ] سماك: بكسر أوله وتخفيف الميم، ابن حرب بن أوس بن خالد الذّهلي البكري الكوفي، أبو المغيرة، صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره، فكان ربما يلقن، من الرابعة، مات سنة ثلاث وعشرين. [التقريب 1/ 332.]
[ (2) ] محمد بن يحيى بن عبد اللَّه بن خالد بن فارس الذّهلي أبو عبد اللَّه النيسابوري، الحافظ، أحد الأعلام الكبار، عن ابن مهدي وعلي بن عاصم ويزيد بن هارون وعبد الصمد وخلائق، وله رحلة واسعة ونقد، وعنه (خ) ويدلسه، و (عم) ، وهو الذي جمع حديث الزهري في مجلدين. قال أبو حاتم: محمد بن يحيى إمام زمانه. وقال النسائي: ثقة مأمون.
قال الذهلي: أنفقت على العلم مائة وخمسين ألفا. قال أبو حامد بن الشرقي: مات سنة ثمان وخمسين ومائتين.
[الخلاصة 2/ 467.](2/23)
وقال مقاتل بن حيان رحمه اللَّه تعالى: أوحى اللَّه تعالى إلى عيسى أبن مريم جد في أمري ولا تهزل إلى أن قال: صدقوا النبي العربي الأنجل العينين.
رواه البيهقي وابن عساكر.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسود الحدقة أهدب الأشفار.
رواه الترمذي.
وقال أيضاً: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عظيم العينين مشرب العين حمرة أهدب الأشفار كث اللحية.
رواه ابن عساكر.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أدعج العينين.
رواه ابن عساكر.
فصل:
روى ابن عدي والبيهقي وابن عساكر عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها، والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قالا: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هل ترون قبلتي ها هنا، فواللَّه لا يخفى علي ركوعكم ولا سجودكم، إني لأراكم من وراء ظهري.
متفق عليه [ (1) ] .
قال الحافظ أبو بكر بن أبي خيثمة وتبعه أبو الحسن بن الضحاك في كتاب الشمائل له: كان فيه صلى الله عليه وسلم شيء من صور. والصور: الرجل الذي كأنه يلمح الشيء ببعض وجهه.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أيها الناس إنه إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود فإني أراكم من أمامي ومن خلفي [ (2) ] .
رواه مسلم.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إني لأنظر إلى ما وراء ظهري كما أنظر إلى أمامي» [ (3) ] .
رواه عبد الرزاق في الجامع وأبو زرعة الرازي في دلائله.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 1/ 182 كتاب الصلاة 418 ومسلم 1/ 319 كتاب الصلاة (109- 424) .
[ (2) ] أخرجه مسلم 1/ 320 (112- 426) .
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 2/ 92 بنحوه وعزاه للبزار وقال ورجاله ثقات.(2/24)
وقال مجاهد رحمه اللَّه تعالى: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرى من خلفه من الصفوف كما يرى من بين يديه.
رواه الحميدي وأبو زرعة الرازي في دلائله.
فائدة: ذكر القاضي رحمه اللَّه تعالى إنه صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثريا أحد عشر نجما.
وذكر السهيلي رحمه اللَّه تعالى أنه صلى الله عليه وسلم كان يرى فيها اثني عشر نجما. وبالأول جزم أبو عبد اللَّه القرطبي في كتاب «أسماء النبي صلى الله عليه وسلم» حيث نظم ذلك فقال رحمه اللَّه تعالى:
وهو الذي يرى النجوم الخافية ... مبينات في السماء العالية
إحدى عشر قد عد في الثريا ... لناظر سواه ما تهيا
قال في: «القول المكرم» وهذا لم أقف له على أصل يستند إليه. والناس يذكرون أن الثريا لا تزيد على تسعة أنجم فيما يرون. انتهى.
تنبيهات
الأول: قال القاضي: إنما حدثت هذه الآية له صلى الله عليه وسلم بعد ليلة الإسراء كما أن موسى صلى الله عليه وسلم كان يرى النملة السوداء في الليلة الظّلماء من مسيرة عشرة فراسخ بعد ليلة الطور.
الثاني: هذه الرؤية رؤية إدراك، والرؤية لا تتوقف على وجود آلتها التي هي العين عند أهل الحق ولا شعاع ولا مقابلة، وهذا بالنسبة إلى الباري تعالى. أما المخلوق فتتوقف صفة الرؤية في حقه صلى الله عليه وسلم، وخالق البصر في العين قادر على خلقه في غيرها.
قال الحراني رحمه اللَّه تعالى: وهذه الآية قد جعلها اللَّه تعالى دالة على ما في حقيقة أمره من الاطلاع الباطن، لسعة علمه ومعرفته، لما عرف بربه لا بنفسه أطلعه اللَّه تعالى على ما بين يديه مما تقدم من أمر اللَّه وعلى ما وراء الوقت مما تأخر من أمر اللَّه تعالى. فلما كان على ذلك من الإحاطة في إدراك مدركات القلوب جعل اللَّه تعالى له صلى الله عليه وسلم مثل ذلك في مدركات العيون، فكان يرى المحسوسات من وراء ظهره كما يراها من بين يديه.
ومن الغرائب ما ذكره بختيار محب بن محمود الزاهد شارح القدوري في رسالته الناصرية أنه صلى الله عليه وسلم كان له بين كتفيه عينان كسم الخياط يبصر بهما لا تحجبهما الثياب. وقيل:
بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم.
قال الحافظ: وهذا إن كان نقلا عن الشارع بطريق صحيح فمقبول وإلا فليس المقام مقام رأي، على أن الأقعد في إثبات كونها معجزة حملها على الإدراك من غير آلة.
وقال ابن المنير رحمه اللَّه تعالى: لا حاجة إلى تأويله لأنه في معنى تعطيل لفظ الشارع من غير ضرورة.(2/25)
وقال القرطبي: حمله على ظاهره أولى، لأن فيه زيادة كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي ولهذا مزيد بيان في الخصائص.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الدعج: شدة سواد العين في شدة بياضها.
الأهدب- بالدال المهملة: الطويل الأشفار.
الأشفار: جمع شفر وزن قفل وهو حرف الجفن الذي ينبت عليه الهدب. قال ابن قتيبة رحمه اللَّه تعالى: والعامة تجعل أشفار العين: الشعر وهو غلط، وإنما الأشفار حروف العين التي ينبت عليها الشعر.
الحدقة: بالتحريك، سواد العين والجمع حدق وحدقات. مثل قصبة، وقصب، وقصبات. وربما قيل حداق محل رقبة ورقاب.
قوله: مشرب العين بحمرة: هي عروق حمر رقاق وهي من علاماته صلى الله عليه وسلم التي في الكتب السالفة.
وقول سماك رحمه اللَّه تعالى: إن الشكلة طول شق العين: قال القاضي: إنه وهم من سماك باتفاق العلماء وغلط ظاهر، فقد اتفق العلماء وأصحاب الغريب أن الشهلة حمرة في سواد العين كالشكلة في البياض.
الغطف: بغين معجمة وتهمل هو أن يطول شعر الأجفان ثم ينعطف. الوطف: الطويل أيضاً.
الكحل: بالتحريك: سواد يكون في مفاوز أجفان العين خلقة.
الأنجل: يقال عين نجلاء أي واسعة.
الأبرج [ (1) ] العين: بهمزة فموحدة فراء فجيم: من البرج بالتحريك بياض العين محدقا بالسواد كله لا يغيب من سوادها شيء. واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 2/ 243.(2/26)
الباب السادس في سمعه الشريف صلى اللَّه عليه وسلم
كان صلى الله عليه وسلم يسمع ما لا يسمعه الحاضرون مع سلامة حواسهم من مثل الذي سمعه.
وروى ابن عساكر عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تام الأذنين.
وروى الترمذي وابن ماجة عن أبي ذر، وأبو نعيم عن حكيم بن حزام رضي اللَّه تعالى عنهما قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «تسمعون ما أسمع؟» قالوا ما نسمع من شيء قال: إني لأرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون، إني أسمع أطيط السماء وما تلام أن تئط وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم.»
وقال زيد بن ثابت [ (1) ] رضي اللَّه تعالى عنه: بينا النبي صلى الله عليه وسلم على بغلة له إذ حادت به فكادت تلقيه وإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة، فقال من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل:
أنا. فقال: متى مات هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، فأعجبه ذلك فقال: «أن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت اللَّه عز وجل أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع» .
رواه مسلم
[ (2) ] .
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حائطا من حيطان المدينة لبني النجار فسمع أصوات قوم يعذبون في قبورهم فحاصت البغلة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى دفن هذا؟ قالوا: يا رسول اللَّه دفن هذا في الجاهلية فأعجبه ذلك وذكر نحو الذي قبله.
رواه الإمام أحمد.
وقد ثبت أن الوحي كان يأتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحيانا في مثل صلصلة الجرس ويسمعه ويعيه ولا يسمعه أحد من الصحابة.
تنبيهان
الأول: إن قيل: كيف يكون صوت مسموع لسامع في محل لا يسمعه آخر معه وهو
__________
[ (1) ] زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد بن لوذان بمعجمة ابن عمرو النّجّاري المدني كاتب الوحي وأحد نجباء الأنصار، شهد بيعة الرضوان، وقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم، وجمع القرآن في عهد الصديق. وولي قسم غنائم اليرموك، له اثنان وتسعون حديثاً. اتفقا على خمسة، وانفرد (خ) بأربعة، و (م) بواحد، روى عنه ابن عمر وأنس وسليمان بن يسار، وابنه خارجة بن زيد وخلق. قال يحيى بن سعيد: لما مات زيد قال أبو هريرة: مات خير الأمة. توفي سنة خمس وأربعين.
وقيل: سنة ثمان. وقيل: سنة إحدى وخمسين. [الخلاصة 1/ 350.]
[ (2) ] أخرجه مسلم 4/ 2199 كتاب الجنة (67- 2867) .(2/27)
مثله سليم الحاسة عن آفة الإدراك؟
أجيب: بأن الإدراك معنى يخلقه اللَّه تعالى لمن يشاء ويمنعه لمن يشاء وليس بطبيعة ولا وتيرة واحدة.
الثاني: في بيان غريب ما تقدم:
الأطيط: صوت الأقتاب وأطيط الإبل أصواتها وحنينها، أي أن كثرة ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت.
قال في النهاية: وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة اللَّه تعالى.
قلت: وفيه نظر لقوله:
«إني لأسمع أطيط السماء» .
حادت: مالت عند نفارها عن سنن طريقها.
حاصت: بحاء فصاد مهملتين: نفرت وكرت راجعة من خوف ما سمعت.(2/28)
الباب السابع في صفة انفه الشريف وخديه صلى اللَّه عليه وسلم
روى الترمذي عن هند بن أبي هالة وابن عساكر عن علي رضي اللَّه تعالى عنهما قالا: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أقنى العرنين.
زاد هند: له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم وليس بأشم.
وقال رجل من الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دقيق الأنف. رواه البيهقي.
وقال هند بن أبي هالة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سهل الخدين. رواه الترمذي.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسيل الخدين.
رواه محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات وابن عساكر.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سهل الخدين دقيق العرنين.
رواه ابن عساكر من طرق.
وقال أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبيض الخد.
رواه ابن عساكر.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبيض الخدين.
رواه أبو الحسن بن الضحاك.
تفسير الغريب
العرنين: بكسر العين وسكون الراء المهملة وكسر النون: الأنف. والقنى فيه: طوله ودقة أرنبته مع ارتفاع في وسطه.
الشمم: ارتفاع قصبة الأنف واستواء أعلاها وإشراف الأرنبة قليلا، والمعنى أنه صلى الله عليه وسلم لحسن قنى أنفه واعتدال ذلك يحسب قبل التأمل أنه أشم وليس كذلك. قاله في النهاية.
السهل الخدين: أي ليس في خديه نتوء وارتفاع. وقيل أراد أن خديه صلى الله عليه وسلم أسيلان قليلا اللحم رقيقا الجلد، كما في حديث أبي هريرة.(2/29)
الباب الثامن في صفة فمه صلى اللَّه عليه وسلم وأسنانه وطيب ريقه وبعض الآيات فيه
قال هند بن أبي هالة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضليع الفم، أشنب [ (1) ] ، مفلج الأسنان، يفتر عن مثل حب الغمام.
رواه الترمذي وأبو الشيخ.
وقال جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضليع الفم.
رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم [ (2) ] .
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم براق الثنايا.
رواه ابن عساكر.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حسن الثغر.
رواه البيهقي.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مفلج الثنايا.
رواه ابن سعد وأبو الشيخ.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: شممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيب من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
رواه ابن سعد وأبو الشيخ.
وقال وائل بن حجر رضي اللَّه تعالى عنه: أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فشرب من الدلو ثم صب في البئر أو قال ثم مج في البئر. ففاح منها مثل رائحة المسك.
رواه الإمام أحمد وابن ماجة.
ورواه الإمام أبو الحسن بن الضحاك بلفظ: أتي بدلو فتوضأ منه فتمضمض ومج مسكا أو أطيب من المسك وانتشر خارجا منه.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا ضحك كاد يتلألأ في الجدر لم أر قبله ولا بعده مثله.
رواه محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات. وأبو الحسن بن الضحاك وابن عساكر.
__________
[ (1) ] في أ: أشهب.
[ (2) ] أخرجه مسلم 4/ 1820 كتاب الفضائل (97- 2339) .(2/30)
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: بزق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بئر بدار نا فلم يكن بالمدينة بئر أعذب منها.
رواه أبو نعيم.
وقالت عميرة بنت سمعود الأنصارية [ (1) ] رضي اللَّه تعالى عنه: دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنا وأخواتي وهن خمس فوجدنا يأكل قديدا فمضغ لهن قديدة ثم ناولني القديدة فقسمتها بينهن. وفمضغت كل واحدة قطعة فلقين اللَّه وما وجد لأفواههن خلوف.
رواه الطرانى.
وقالت أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد رضي اللَّه تعالى عنها: كنا نتطيب ونجهد لعتبة بن فرقد أن نبلغه فما نبلغه وربما لم يمسّ عتبة طيبا، فقلنا له فقال: أخذني البثر على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأتيت، فتفل في كفه ثم مسح جلدي، فكنت من أطيب الناس ريحا.
رواه البخاري في التاريخ والطبراني وأبو الحسن بن الضحاك.
وقال أبو أمامة رضي اللَّه تعالى عنه: جاءت امرأة بذيئة اللسان إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يأكل قديداً، فقالت: ألا تطعمني؟ فناولها مما بين يديه، فقالت: لا إلا الذي في فيك. فأخرجه فأعطاها فألقته في فمها فأكلته فلم يعلم منها بعد ذلك الأمر الذي كانت عليه من البذاء والذرابة رواه الطبراني.
وقال محمد بن ثابت بن قيس بن شماس [ (2) ] : أن أباه فارق أمه وهي حامل به، فلما ولدته حلفت أن لا تلبنه من لبنها. فدعا به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فبصق في فيه وقال اختلف به فإن اللَّه رازقه فأتيته به اليوم الأول والثاني الثالث.
رواه البيهقي.
ويرحم اللَّه تعالى القائل حيث قال:
__________
[ (1) ] عميرة بنت سمعود الأنصارية. ذكرها أبو نعيم وأبو موسى من طريقه ثم من طريق أبي عروبة الحراني حدثنا هلال بن بشر حدثنا إسحاق بن إدريس حدثنا إبراهيم بن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة أن جدته عميرة بنت مسعود حدثته أنها دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هي وأخواتها وهن خمس فبايعنه فوجدنه وهو يأكل قديداً فمضغ لهن قديدة ثم ناولهن فقسمنها بينهم فمضغت كل واحدة منهن قطعة فلقين اللَّه عز وجل ما وجدن في أفواههن خلوفا ولا اشتكين من أفواههن شيئا قاله الحافظ [انظر الإصابة 8/ 150]
[ (2) ] محمد بن ثابت بن قيس بن شمّاس الأنصاري، حنّكه النبي صلى الله عليه وسلّم وسمّاه. عن أبيه وسالم مولى أبي حذيفة. وعنه ابناه يوسف وإسماعيلى والزّهر. وثقه ابن حبان. قتل يوم الحرة [الخلاصة 2/ 386.](2/31)
بحر من الشهد في فيه مراشفه ... ياقوت من صدف فيه جواهره
ويرحم اللَّه تعالى القائل أيضا:
جني النّخل في فيه وفيه حياتنا ... ولكنه من لي بلثم لثامه
رحيق الثّنايا والثاني تنفست ... إذا قال عن فتح بطيب ختامه
وقال أبو جعفر محمد بن علي رحمه اللَّه تعالى: بينهما الحسن بن علي مع رسول اللَّه إذ عطش فاشتد ظمؤه فطلب له النبي صلى الله عليه وسلم ماء فلم يجد فأعطاه لسانه فمصه حتى روي.
رواه ابن عساكر. وهو منقطع. ورواه عن أبي هريرة وزاد: الحسين.
وقال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم أفل الثنيتين. زاد أبو الحسن بن الضحاك: والرّباعيّتين. انتهى.
إذ تكلم رئي كالنور يخرج من بين ثناياه.
رواه أبو زرعة الرازي [ (1) ] في دلائله والدارمي والترمذي وأب الحسن بن لضحاك وسنده جيد.
وقال سهل بن سعيد رضي اللَّه تعالى عنه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يفتح اللَّه على يديه، يحب اللَّه ورسوله ويحبه اللَّه ورسلوه. فلما أصبح الناس غدوا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها. قال:. ين بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه. فأتي به فبصق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في عينيه فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع. الحديث رواه الشيخان
[ (2) ] .
وقال أبو قرصافة- بكسر القاف رضي اللَّه تعالى عنه: بايعنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنا وأمي وخالتي فلما رجعنا قال أمي وخالتي: يا بني ما رأينا مثل هذا الرجل لا أحسن وجها ولا أنقى ثوبا ولا ألين كلاما، ورأينا كالنو. ر يخرج من فيه.
رواه البيهقي.
تنبيه في بيان غريب ما سبق
الضليع: بضاد معجمة وعين مهملة- قالوا في النهاية: أي عظيم الفم وقيل واسعه
__________
[ (1) ] عبد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ المخزومي بالولاء، أبو زرعة الرازي: من حفّاظ الحديث، الأئمة. من أهل الريّ. زار بغداد وحث بها، وحالس أحمد بن حنبل. كان يحفظ ألف حديث، ويقال: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة ليس له أصل. توفى بالريّ. سنة 264 هـ[الأعلام 4/ 194]
[ (2) ] أخرجه البخاري 5/ 87 (3701) ومسلم 4/ 1871 كتاب الضائل (32- 404)(2/32)
والعرب تمدح عظم الفم وتذم صغره.
قال الإمام النوري: وهذا قول الأكثر وهو الأظهر. والضليع: العظيم الخلق، الشديد وقال غيره: المهزول الذابل. وهو في صفته صلى الله عليه وسلم ذبول شفتيه ورقتهما وحسنها.
الشنب: بشين معجمة فنون مفتوحة فموحدة: البياض والبريق والتحديد في الأسنان وقيل هو بردها وعذوبتها.
الفلج بالتحريك: تباعد ما بين الثنايا والرباعيات.
يفتر- بمثناة تحتية ففاء ففوقية مضمومة أي يظهر أسنانه.
حب الغمام: البر بفتحتين به ثغره في بياضه وصفائه وبرده. الثّغر هنا: الثايا.
مج الماء من فيه: محاز من باب رمي: الخلوف: كالقعود تغير رائحة الفم.
الذّاربة: الفحش.
البذاء في المنطق. بالفتح والمد والذال المعجمة: السفه والفحش.
تلبنه: بالمثناة الفوقية فلام فموحدة فنون: ترضعه.
الثنايا: جمع ثنية وهي أربع من الأسنان.
بصق بالصاد المهملة ويقال بالسين أيضاً.(2/33)
الباب التاسع في صفة لحيته الشريفة وشيبه صلى الله عليه وسلم
قال هند بن أبي هالد رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كث اللحية.
رواه الترمذي ورواه ابن عساكر عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عظيم اللحية.
رواه البيهقي وابن عساكر وابن الجوزي
وقال جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضخم اللحية. رواه أَبو الحسن بن الضحاك.
وقال أَبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أَسود اللحية.
رواه البيهقي وابن عساكر.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شديد سواد الرأس واللحية.
رواه ابن عساكر.
وقال أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه: كانت لحية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا. رواه ابن عساكر.
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة رحمه اللَّه تعالى: كانت عنفقته صلى الله عليه وسلم بارزة ونبكاه حول العنفقة كأنهما بياض اللؤلؤة، في أسف عنفقته شعر منقاد حتى يقع انقيادها على شعر اللحية حتى يكون كأنه منها.
وقال أبو ضمضم رحمه للَّه تعالى: نزلت بالرّجيجح [ (1) ] فقيل ها هنا رجل يقال له أسعد بن خالد رأى النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته فقلت: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم رأيته كان رجلا مربوعا حسن السبلة.
رواه الدينوري وابن عساكر.
وقال. أيضاً كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كثير شعر الرأس واللحية.
رواه مسلم وابن أبي خيثمة واللفظ له.
__________
[ (1) ] رجيح: تصغير رجل أي تحرّك. موضع في بلاد العرب. [انظر معجم البلدان 3/ 33](2/34)
وقال جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه: شمط مقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولحيته وكان إذا ادهن لم يتبين فإذا لم يدهن تبين.
رواه مسلم.
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن [ (1) ] عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه: ليس في شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولحيته عشرون شعرة بيضاء.
رواه الشيخان.
وقال ثابت عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه: ما كان في رأس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولا لحيته إلا سبع عشرة أو ثماني عشرة شعرة بيضاء.
رواه ابن سعد بسند صحيح.
ورواه أبو الحسن بن الضحاك بلفظ أربع عشرة بيضاء.
وقال حميد عنه: لم يكن في لحية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشرون شعرة بيضاء.
قال حميد: كن سبع عشرة.
رواه ابن أبي خيثمة.
وقال قتادة عنه: لم يخضب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما كان في عنفقته وفي الصدغين وفي الر. س نبذ.
رواه مسلم.
وقال أبو بكر بن عياش [ (2) ] رحمه اللَّه تعالى: قلت لربيعة: جالست أنساً؟ قال: نعم.
وسمعته يقول: شاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عشرين شيبة هاهنا. يعني العنفقة.
رواه ابن خيثمة.
وقال ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما: كان شيب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليه نحوا من عشرين شعرة بيضاء في مقدمه رواه ابن إسحاق وابن حبان والبيهقي.
__________
[ (1) ] ربيعة بن أبي عبد الرحمن، التيمي مولاهم، أبو عثمان المدني، المعروف بربيعة الرأي، و. سم أبيه فروخ، ثقة، فقيه مشهور، قال ابن سعد 6 كانوا يتّقونه لموضع الرّي 7 من الخامسة، مات سنة سنت وثلاثين على الصحيح وقيل سنة ثلاث، قال الباجي سنة اثنتين وأربعين [التقريب 1/ 247]
[ (2) ] أبو بكر بن عيّاش: ابن سالم الأسدى، مولاهم الكوفي الحنّاط- المقري الفقيه، المحدث شيخ الإسلام، وبقية ال. علام، مولى واصل الأحدب. وفي اسمه أقوال: أشهرها شعبة 7 فإن أبا هاشم فإن أبا هاشم الرّفاعي، وحسن بن عبد الأول، سألاه عن اسمه، فقال: شعبة. وسأله يحيى بن آدم وغيره عن اسمه، فقال: اسمي كنيتي. قرأ أبو بكر القرآن، وجوده ثلاث مرات على عاصم بن أبي النّجود، وعرضه أيضا فيما بلغنا على عطاء بن السائب، وأسلم المنقري [انظر سير أعلام النبلاء](2/35)
وقال أبو جحيفة رضي اللَّه تعالى عنه: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورأيت بياضا تحت شفته السفلى العنفقة [ (1) ] .
رواه البخاري.
ورواه الإسماعيلي بلفظ: «من تحت شفته السفلى مثل موضع إصبع العنفقة» .
وفي لفظ له. رأيت النبي صلى الله عليه وسلم شابت عنفقته.
وقال عبد اللَّه بن بسر- بضم الموحدة وسكون المهملة- المازني رضي اللَّه تعالى عنه: كان في عنفقة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم شعرات بيض.
رواه البخاري.
وفي رواية عند الإسماعيلي: إنما كانت شعرات بيضا.
وقال أبو إياس رحمه اللَّه تعالى: سئل أنس عن شيب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: ما شانه اللَّه تعالى بيضاء.
رواه ابن عساكر. وقال: لعل أنسا أراد بلحية بيضاء. فقد روى عنه وعن غيره من الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم أنه شاب بعض شعره صلى اللَّه عليه وسلم وأشار إلى العنفقة.
وروى ابن سعد وأبو نعيم عن ابن سيرين [ (2) ] رحمه اللَّه تعالى قال: سئل أنس رضي اللَّه تعالى عنه عن خضاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لم يكن شاب إلا يسيرا ولكن أبا بكر وعمر خضابه بعد بالحناء والكتم.
وروى ابن عساكر عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم صفر لحيته وما فيها عشرون شعرة بيضاء.
وقال قتادة: سألت أنسا: هل خضب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ قال: لا إنما كان شيء في صدغيه.
رواه البخاري ولفظه: قال: لم يخضب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إنما كان البياض في عنفقته وفي صدغيه. نبذ: أي متفرّق.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 651 (3543) .
[ (2) ] محمد بن سيرين الأنصاري مولاهم أبو بكر البصري إمام وقته. عن مولاه أنس وزيد بن ثابت وعمران بن حصين وأبي هريرة وعائشة وطائفة من كبار التابعين. وعنه الشعبي وثابت، وقتادة وأيوب ومالك بن دينار وسليمان التّيمي وخالد الحذّاء والأوزاعي وخلق كثير قال أحمد: لم يسمع من ابن عباس. وقال خالد الحذّاء: كل شيء يقول يثبت عن ابن عباس إنما سمعه من عكرمة أيام المختار قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا عاليا رفيعا فقيها إماما كثير العلم ... وقال أبو عوانة: رأيت ابن سيرين في السوق فما رآه أحد إلا ذكر اللَّه تعالى وقال بكر المزني: واللَّه ما أدركنا من هو أورع منه قال حماد بن زياد مات سنة عشر ومائة. [انظر الخلاصة 2/ 412، 413](2/36)
وقال محمد بن سيرين رحمه اللَّه تعالى: سألت أنسا أكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يخضب؟
قال: لم يبلغ الخضاب.
رواه الشيخان.
ولمسلم عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه: «ولو شئت أن أعد شمطات كن في رأس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لفعلت» [ (1) ] .
فائدة
روى ابن سعد عن يونس بن طلق بن حبيب رحمه اللَّه تعالى أن حجاما أخذ من شارب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فرأى شيبة في لحيته فأهوى إليها، فأمسك النبي- صلى اللَّه عليه وسلم بيده وقال: «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة» .
تنبيهات
الأول: قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: عرف من مجموع الروايات أن الذي شاب في عنفقته صلى اللَّه عليه وسلم أكثر من الذي شاب في غيرها. وقول أنس لما سأله قتادة هل خضب؟: «إنما كان شيء في صدغيه» أراد أنه لم يكن في شعره ما يحتاج إلى الخضاب. وقد صرح بذلك في رواية محمد بن سيرين السابقة.
الثاني: اختلف في عدد الشعرات التي شابت في رأسه صلى اللَّه عليه وسلم ولحيته. فمقتضى حديث عبد اللَّه بن بسر [ (2) ] أن شيبه صلى اللَّه عليه وسلم كان لا يزيد على عشر شعرات لإيراده بصيغة القلة. وفي رواية ابن سعد: لم يبلغ ما في لحيته من الشعر عشرين شعرة. قال حميد: وأومأ إلى عنفقته سبع عشرة.
وروى أيضا عن ثابت عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه قال: ما كان في رأس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولحيته إلا سبع عشرة أو ثماني عشرة.
وروى ابن أبي خيثمة عن أنس رضي اللَّه تعالى قال: لم يكن في لحية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عشرون شعرة بيضاء. قال حميد: كن سبع عشرة.
وروى الحاكم من طريق عبد اللَّه بن محمد بن عقيل [ (1) ] عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 1821 (103- 2341) .
[ (2) ] عبد اللَّه بن بسر بن أبي بسر المازني السلمي أبو بسر. صحابي ابن صحابي له أحاديث انفرد البخاري بحديث ومسلم بحديث مات سنة ثمان وثمانين، وقيل: سنة ست وتسعين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة. [انظر الخلاصة 2/ 42] .(2/37)
قال: لو عددت ما أقبل من شيبه صلى اللَّه عليه وسلم في رأسه ولحيته ما كنت أزيدهن على إحدى عشرة.
وجمع العلامة البلقيني بين هذه الروايات بأنها تدل على أن شعراته البيض لم تبلغ عشرين شعرة، والرواية الثانية توضح أن ما دون العشرين كان سبع عشرة، فيكون كما ذكرناه:
العشرة في عنفقته والزائد عليها يكون في بقية لحيته لأنه قال في الرواية الثالثة: لم يكن في لحية رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عشرون شعرة بيضاء، واللحية تشمل العنفقة وغيرها. وكون العشرة في العنفقة بحديث عبد اللَّه [ (1) ] بن بسر والبقية بالأحاديث الأخر في بقية لحيته. وكون حميد أشار إلى عنفقته سبع عشرة ليس يعلم ذلك من نفس الحديث، والحديث لا يدل إلى على ما ذكرنا من التوفيق. وأما الرواية الرابعة فلا تنافي كون العشرة على العنفقة والزائد على غيرها. وهذا الموضع موضع تأمل. انتهى.
الثالث: سيأتي الكلام في خصائصه صلى اللَّه عليه وسلم في أبواب زينته.
الرابع: في بيان غريب ما سبق.
الكثه: بفتح الكاف وثاء مثلثة- أي فيها كثاثة واستدارة وليست بطويلة.
السبلة: بالتحريك- مقدم اللحية وما انحدر منها على الصدر. وقيل: هي الشعرات التي تحت اللحى الأسفل. وقيل: الشارب.
الرجيج [ (2) ] :
شمط: بالكسر شمطا: خالط سواد لحيته بياض فهو أشمط. والمرأة في رأسها كذلك فهي شمطاء.
أبو جحيفة: بجيم مضمومة فحاء مهملة ومثناة تحتية ساكنة ففاء- واسمه وهب بن عبد اللَّه السوائي بضم السين.
العنفقة: ما بين الذقن والشفة السفلى، سواء كان عليه شعر أم لا. ويطلق على الشعر أيضاً. وقوله: «تحت شفته السفلى العنفقة» بجر العنفقة بدل من الشفة. وبنصبها وإعراب عنفقة كما تقدم.
الصدغ: بالضم: ما بين لحظ العين إلى أصل الأذن ويطلق على الشعر المتدلي عليه والجمع أصداغ، مثل قفل وأقفال.
__________
[ (1) ] عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، بن أبي طالب الهاشمي، أبو محمد، المدني، أمه زينب بنت عليّ، صدوق، في حديثه لين، ويقال تغير بآخره، من الرابعة، مات بعد الأربعين [التقريب 1/ 447، 448] .
[ (2) ] بياض في الأصل. والرجيج تصغير رج، موضع ببلاد العرب [معجم البلدان 9/ 29] .(2/38)
الباب العاشر في صفة وجهه صلى اللَّه عليه وسلم
سئل البراء بن عازب رضي اللَّه تعالى عنه أكان وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مثل السيف؟ قال:
لا بل مثل القمر.
رواه البخاري والترمذي [ (1) ] .
وسئل جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه: أكان وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مثل السيف؟
قال: لا بل مثل الشمس والقمر مستديرا.
رواه مسلم [ (2) ] .
وقال البراء رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا.
رواه الشيخان [ (3) ] .
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: لم يكن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالمطهم ولا المكلثم، وكان في وجهه تدوير.
رواه البيهقي وابن عساكر من طرق.
وقال هند بن أبي هالة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر.
رواه الترمذي وغيره.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان في وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم تدوير.
رواه مسلم والبيهقي.
وقال أبو عبيد: يريد ما كان في غاية التدوير بل كان فيه سهولة وهي أحلى عند العرب.
وقالت أم معبد رضي اللَّه تعالى عنها: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة: متبلج الوجه.
رواه الحارث بن أسامة وغيره.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أحسن الناس وجها وأنورهم لونا.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 653 (6552) .
[ (2) ] أخرجه مسلم 4/ 1823 (109- 2344) .
[ (3) ] أخرجه البخاري 6/ 652 (3549) ومسلم 4/ 1819 (93- 2337.)(2/39)
رواه ابن الجوزي.
وقال أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه: كان وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كدارة القمر.
رواه أبو نعيم.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: ما رأيت أحسن من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كأن الشمس تخرج من وجهه.
رواه ابن الجوزي.
وقالت امرأة حجت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال لها أبو إسحاق الهمداني: شبهيه لي.
قالت: كالقمر ليلة البدر، لم أر قبله ولا بعده مثله.
رواه البيهقي.
ويروى عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: كنت أخيط الثوب فسقطت الإبرة فطلبتها فلم أقدر عليها، فدخل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فتبينت الإبرة بشعاع وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
رواه ابن عساكر.
ويروى عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما. قال: لم يكن لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ظل ولم يقم مع شمس إلا غلب ضوؤه ضوءة الشمس ولم يقم مع سراج إلا غلب ضوؤه ضوء السراج.
رواه ابن الجوزي.
وقال كعب بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا سر استنار وجهه كأنه قطعة قمر فكنا نعرف ذلك منه [ (1) ] .
رواه الشيخان وأبو داود والنسائي.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: أقبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه.
رواه الشيخان [ (2) ] .
وقال أنس كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا سر كأن وجهه المرآة، وكأن الجدر تلاحك وجهه.
أورده ابن الأثير في النهاية.
تنبيهات
الأول: قال الحافظ: قوله: «كأنه قطعة قمر» لعله صلى اللَّه عليه وسلم كان حينئذ متلثّما، والموضع
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في الموضع السابق (3556) ومسلم 4/ 2120 (53) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 6/ 653 كتاب المناقب (3555) ومسلم 2/ 1081 كتاب الرضاع (38- 1459) .(2/40)
الذي يتبين فيه السرور هو جبينه وفيه يظهر السرور، وكأن الشبه وقع على بعض الوجه فناسب أن يشبه ببعض القمر.
وقال في المغازي في قصة توبة كعب: ويسأل عن السر في التقييد بالقطعة مع كثرة.
ما ورد في كلام البلغاء من تشبيه الوجه بالقمر بغير تقييد. وقد تقدم تشبيههم له بالشمس طالعة وغير ذلك. وكان كعب قائل هذا من شعراء الصحابة وحاله في ذلك مشهور، وما قيل في ذلك من الاحتراز من السواد الذي في القمر ليس بقوي، لأن المراد بتشبيهه ما في القمر من الضياء والاستنارة وهو في تمامه لا يكون فيها أقل مما في القطعة المجردة. ويحتمل أن يكون أراد بقوله «قطعة قمر» القمر نفسه.
وقد روى الطبراني حديث كعب بن مالك من طرق في بعضها: «كأنه دارة قمر» .
وروى النسائي عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه في قصة صلاة النبي صلى اللَّه عليه وسلم يوم بدر وسؤاله ربه تبارك وتعالى قال: ثم التفت إلينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان شقة وجهه القمر فقال: هذه مصارع القوم العشية.
ووقع في حديث جبير بن مطعم عند الطبراني: التفت إلينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بوجهه مثل شقة القمر. فهذا محمول على صفته صلى اللَّه عليه وسلم عند الالتفات.
الثاني: هذه التشبيهات الواردة في صفاته صلى اللَّه عليه وسلم إنما هي على عادة الشعراء والعرب، وإلا فلا شيء من هذه المحدثات يعادل صفاته صلى اللَّه عليه وسلم.
ويرحم اللَّه تعالى القائل حيث قال:
كالبدر والكاف إن أنصفت زائدة ... فلا تظننها كافا لتشبيه
ويرحم اللَّه تعالى القائل أيضاً:
يقولون يحكي البدر في الحسن وجهه ... وبدر الدجى عن ذلك الحسن منحط
كما شبهوا غصن النقا بقوامه ... لقد بالغوا بالمدح للغصن واشتطوا
وقد تقدم في أبيات سيدي على وفا إشارة إلى هذا.
الثالث: قال الحافظ أبو الخطاب بن دحية رحمه اللَّه تعالى: كان وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مستديرا فأراد البراء أن يزيل ما توهمه القائل من معنى الطول الذي في السيف إلى معنى الاستدارة التي في القمر، لأن القمر يؤنس كل من شاهده ويجمع النور من غير أذى حر ويتمكن من النظر إليه بخلاف الشمس التي تعشي البصر فتمنع من الرؤية.
وقال الحافظ في الفتح: ويحتمل أن يكون أراد مثل السيف في اللمعان والصقالة فقال(2/41)
البراء: لا بل مثل القمر الذي فوق السيف في ذلك، لأن القمر يشمل التدوير واللمعان بل التشبيه به أبلغ وأشهر. وإنما قال جابر بن سمرة «كان مستديرا» لينبه على أنه جمع الصفتين لأن قوله مثل السيف يحتمل أن يريد به السائل الطول واللمعان، فرده المسؤول ردا بليغا، ولما جرى التعارف في أن التشبيه بالشمس إنما يراد به غالبا الإشراق، والتشبيه بالقمر إنما يراد به الملاحة دون غيرها أتى بقوله «وكان مستديرا» إشارة إلى أنه أراد التشبيه بالصفتين معا:
الحسن والاستدارة.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
المطهم: بميم مضمومة فطاء مهملة فهاء مشددة مفتوحتين: وهو المنتفخ الوجه.
المكلثم: بميم مضمومة فكاف مفتوحة فلام ساكنة فثاء مثلثة مفتوحة- وهي من الوجه القصير الحنك الداني الجبهة المستدير مع خفة اللحم.
فخما: بفاء مفتوحة فخاء معجمة ساكنة: أي عظيما.
مفخما: بميم مضمومة فخاء معجمة مفتوحة مشددة اسم مفعول: أي معظما في الصدور والعيون.
المتبلج والأبلج: الحسن المشرق المضيء، ولم ترد به بلج الحواجب لأنها وصفتها بالقرن.
دارة القمر: الهالة حوله.
سر: بضم أوله مبنيا للمفعول من السرور.
استنار: أضاء وتنور.
الأسارير: جمع أسرار، وهي جمع السرر، وهي الخطوط التي تكون في الجبهة.
وبرقانها يكون عند الفرح.
الملاحكة [ (1) ] بالفتح شدة الملاءمة، أي يرى شخص الجدر في وجهه صلى اللَّه عليه وسلم.
واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 5/ 4010.(2/42)
الباب الحادي عشر في صفة عنقه صلى اللَّه عليه وسلم وبعد ما بين منكبيه وغلظ كتده
قالت أم معبد رضي اللَّه تعالى عنها: كان في عنق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سطع.
رواه الحارث بن أبي أسامة.
وقال هند بن أبي هالة رضي اللَّه تعالى عنه: كان عنق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كجيد دمية في صفاء الفضة.
رواه الترمذي.
وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه فيما رواه ابن عساكر، وعلي بن أبي طالب فيما رواه ابن سعد وأبو نعيم والبيهقي: كأن عنق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إبريق فضة.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن البراء بن عازب رضي اللَّه تعالى عنه: والإمام أحمد والبيهقي عن أبي هريرة، والترمذي عن هند رضي اللَّه تعالى عنهم قالوا: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعيد ما بين المنكبين [ (1) ] .
وروى الترمذي عن علي رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جليل المشاش والكتد.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين سأله الناس فأعطاهم الحديث وفيه: فجذبوا ثوبه حتى بدا منكبه فكأنما أنظر حين بدا منكبه إلى شقة القمر من بياضه صلى اللَّه عليه وسلم.
رواه أبو الحسن بن الضحاك.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا وضع رداءه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضة.
رواه البزّار والبيهقي وابن عساكر.
وقال الحافظ أبو بكر بن أبي خيثمة في تاريخه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أحسن الناس عنقا، ما ظهر من عنقه للشمس والرياح فكأنه إبريق فضة مشرب ذهبا يتلألأ في بياض الفضة وحمرة الذهب. وما غيبت الثياب من عنقه فما تحتها فكأنه القمر ليلة البدر.
[تفسير الغريب]
السطع: بالتحريك طول العنق.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 652 (3551) ومسلم 4/ 1819 (91- 2337) .(2/43)
الجيد: بكسر الجيم وسكون المثناة التحتية: العنق.
الدمية- بضم الدال المهملة وإسكان الميم ومثناة تحتية مفتوحة- الصورة المصورة سميت بذلك، لأن الصانع يتفوق في صنعها وتحسينها، شبه عنقه صلى اللَّه عليه وسلم بالفضة في صفائها.
المنكب: بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه: مجتمع رأس العضد والكتف. وبعد ما بين المنكبين يدل على سعة الصدر والظهر.
المشاش: بضم الميم وشينين معجمتين: رؤوس العظام: كالمرفقين والكعبين والركبتين.
وقال الجوهري. رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها.
الكتد: بكاف فمثناة مفتوحتين فدال مهملة مجتمع الكتفين.
واللَّه تعالى أعلم.(2/44)
الباب الثاني عشر في صفة ظهره صلى اللَّه عليه وسلم وما جاء في صفة خاتم النبوة
قال محرش- بضم الميم وفتح المهملة وقيل معجمة وكسر الراء بعدها معجمة، ابن عبد اللَّه الكعبي رضي اللَّه تعالى عنه: اعتمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من الجعرانة ليلا فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة.
رواه الإمام أحمد ويعقوب بن سفيان.
فصل اختلف في صفة خاتم النبوة على أقوال كثيرة متقاربة المعنى.
أحدها: أنه مثل زر الحجلة.
روى الشيخان عن السائب بن يزيد رضي اللَّه تعالى عنه قال: قمت خلف ظهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وسلم فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زر الحجلة [ (1) ] .
الثاني: أنه كالجمع:
روى مسلم عن عبد اللَّه بن سرجس [ (2) ]- بفتح المهملة وسكون الراء وكسر الجيم بعدها مهملة- رضي اللَّه تعالى عنه قال: نظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند نغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال الثآليل [ (3) ] .
الثالث: أنه كبيضة الحمامة.
روى مسلم والبيهقي عن جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: رأيت خاتم النبوة بين كتفي النبي صلى اللَّه عليه وسلم مثل بيضة الحمامة يشبه جسده [ (4) ] .
وروى أبو الحسن بن الضحاك عن سلمان رضي اللَّه تعالى عنه قال: رأيت الخاتم بين كتفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مثل بيضة الحمامة.
الرابع: أنه شعر مجتمع.
روى الإمام أحمد والترمذي والحاكم وصححه وأبو يعلى والطبراني من طريق علباء
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 648 (3541) ومسلم 4/ 1823 (111- 2345) .
[ (2) ] عبد اللَّه بن سرجس بفتح أوله وكسر الجيم المزني حليف بني مخزوم البصري له سبعة عشر حديثا. انفرد له (م) بحديث. وعنه عثمان بن حكيم وعاصم الأحول وقتادة. [الخلاصة 2/ 60] .
[ (3) ] أخرجه مسلم في الموضع السابق (112- 2346) .
[ (4) ] أخرجه مسلم في الموضع السابق (110- 2344) .(2/45)
بكسر المهملة وسكون اللام بعدها موحدة- ابن أحمر- بحاء مهملة وآخره راء- عن أبي يزيد عمرو بن أخطب، بالخاء المعجمة، الأنصاري رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: اذن فامسح ظهري. فدنوت ومسحت ظهره ووضعت أصابعي على الخاتم. فقيل له: ما الخاتم؟ قال: شعر مجتمع عند كتفه [ (1) ] .
ورواه أبو سعد النيسابوري بلفظ شعرات سود.
الخامس: أنه كالسلعة.
روى الإمام أحمد وابن سعد والبيهقي من طرق عن أبي رمثة- بكسر الراء وسكون الميم فثاء مثلثة- رضي اللَّه تعالى عنه قال: انطلقت مع أبي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فنظرت إلى مثل السلعة بين كتفيه [ (2) ] .
السادس: أنه بضعة ناشزة.
روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه تعالى عنه قال: الخاتم الذي بين كتفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بضعة ناشزة.
وفي لفظ عند البخاري في التاريخ والبيهقي: لحمة نائتة ولأحمد: لحم ناشز بين كتفيه [ (3) ] .
السابع: أنه مثل البندقة.
روى ابن حبان في صحيحه من طريق إسحاق بن إبراهيم قاضي سمرقند: حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما قال: كان خاتم النبوة على ظهر النبي صلى اللَّه عليه وسلم مثل البندقة من لحم مكتوب فيها: محمد رسول اللَّه.
قال الحافظ أبو الحسن الهيثمي في «مورد الظمآن إلى زوائد ابن حبان» بعد أن أورد الحديث: اختلط على بعض الرواة خاتم النبوة بالخاتم الذي كان يختم به الكتب. انتهى.
ومن خطه نقلت وبخط تلميذه الحافظ على الهامش: البعض المذكور هو إسحاق بن إبراهيم قاضي سمرقند. وهو ضعيف.
وذكر الحافظ ابن كثير نحو ما قال الهيثمي. ولهذا مزيد بيان يأتي في ثامن التنبيهات.
الثامن: أنه مثل التفاحة.
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 17/ 27.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 1/ 214.
[ (3) ] أخرجه أحمد في المسند 3/ 69.(2/46)
روى الترمذي عن أبي موسى رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان خاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه صلى اللَّه عليه وسلم مثل التفاحة.
التاسع: أنه كأثر المحجم.
روى الإمام أحمد والبيهقي عن التنوخي رسول اللَّه هرقل رضي اللَّه تعالى عنه في حديثه الطويل قال: فإذا أنا بخاتم في موضع غضروف الكتف مثل المحجمة الضخمة.
العاشر: أنه كشامة سوداء تضرب إلى الصفرة.
روي عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: كان خاتم النبوة كشامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متراكبات كأنها عرف الفرس رواه أبو بكر بن أبي خيثمة من طريق صبح بن عبد اللَّه الفرغاني حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد [ (1) ] . وسيأتي في ثامن التنبيهات أنه غير ثابت أيضاً.
الحادي عشر: أنه كشامة خضراء محتضرة في اللحم، قليلا.
نقله ابن أبي خيثمة في تاريخه عن بعضهم. وسيأتي في ثامن التنبيهات أنه غير ثابت أيضاً.
الثاني عشر: أنه كركبة عنز:
روى الطبراني وأبو نعيم في المعرفة عن عباد بن عمر رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان خاتم النبوة على طرف كتف النبي صلى اللَّه عليه وسلم الأيسر كأنه ركبة عنز، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يكره أن يرى الخاتم.
سنده ضعيف.
الثالث عشر: أنه كبيضة حمامة مكتوب في باطنها: اللَّه وحده لا شريك له. وفي ظاهره: توجه حيث شئت فإنك منصور.
رواه الحكيم الترمذي وأبو نعيم، قال في المورد: وهو حديث باطل. ولهذا مزيد بيان في ثامن التنبيهات.
الرابع عشر: أنه كنور يتلألأ.
رواه ابن عائذ- بعين مهملة ومثناة تحتية وذال معجمة.
__________
[ (1) ] عبد العزيز بن عبد الصمد العمّي أبو عبد الصمد البصري الحافظ. عن أبي عمران الجوني ومطر الورّاق. وعنه أحمد وإسحاق وابن معين وخلق. وثقه أحمد وأبو داود، وقال: مات سنة سبع وثمانين ومائة. [الخلاصة 2/ 167] .(2/47)
الخامس عشر: أنه ثلاث شعرات مجتمعات.
ذكره أبو عبد اللَّه محمد القضاعي- بضم القاف وبضاد معجمة وعين مهملة- رحمه اللَّه تعالى في تاريخه.
السادس عشر: أنه عذرة [ (1) ] كعذرة الحمامة. قال أبو أيوب: يعني قرطمة الحمامة.
رواه ابن أبي عاصم في سيرته.
السابع عشر: أنه كتينة صغيرة تضرب إلى الدهمة.
روي ذلك عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها.
الثامن عشر: أنه كشيء يختم به.
روى ابن أبي شيبة عن عمرو بن أخطب أبي زيد الأنصاري رضي اللَّه تعالى عنه قال:
رأيت الخاتم على ظهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال هكذا بظفره. كأنه يختم.
التاسع عشر: أنه كان بين كتفيه صلى اللَّه عليه وسلم كدارة القمر مكتوب فيها سطران: السطر الأول: لا إله إلا اللَّه. وفي السطر الأسفل: محمد رسول اللَّه. رواه أبو الدحداح أحمد بن إسماعيل الدمشقي رحمه اللَّه تعالى في الجزء الأول من سيرته. قال في «المورد» و «الغرر» وهو باطل بين البطلان.
العشرون: أنه كبيضة نعامة. روى ابن حبان في صحيحه عن جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: رأيت خاتم النبوة بين كتفيه صلى اللَّه عليه وسلم كبيضة النعامة يشبه جسده [ (2) ] .
قال الحافظ أبو الحسن الهيثمي في «مورد الظمآن» روى هذا في حديث الصحيح في صفته صلى اللَّه عليه وسلم ولفظه: مثل بيضة الحمامة وهو الصواب [ (3) ] .
قال الحافظ: تبين من رواية مسلم «كركبة عنز» أن رواية ابن حبان غلط من بعض الرواة.
قلت: ورأيت في «إتحاف المهرة» للحافظ شهاب الدين البوصيري رحمه اللَّه تعالى بخطه: «كركبة البعير» وبيض لاسم الصحابي وعزاه لمسند أبي يعلى وهو وهم من بعض رواته كأنه تصحف عليه كركبة عنز بركبة بعير.
ثم رأيت ابن عساكر روى الحديث في تاريخه من طريق أبي يعلى وسمى الصحابي عباد بن عمرو.
__________
[ (1) ] في أ: غدة.
[ (2) ] أخرجه ابن حبان (514) باب خاتم النبوة حديث (2898) .
[ (3) ] انظر موارد الظمآن الموضع السابق.(2/48)
وقال الحافظ في الإصابة في سنده من لا يعرف. قلت: وقد تقدم عنه في الثاني عشر أنه كركبة عنز. ولم أظفر به في مجمع الزوائد للهيثمي.
الحادي والعشرون: أنه غدة حمراء.
روى أبو الحسن بن الضحاك عن جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان خاتم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم غدة حمراء مثل بيضة الحمامة.
تنبيهات
الأول: اختلف في موضع الخاتم من جسده صلى اللَّه عليه وسلم: ففي صحيح مسلم: أنه عند نغض كتفه الأيسر. وفي رواية شاذة عن سلمان أنه عند غضروف كتفه اليمنى عزى هذه الرواية الشيخ في الخصائص الكبرى والسخاوي في جمع طرق قصة سلمان من رواية أبي قرة الكندي [ (1) ] عنه لدلائل البيهقي ولم أر ذلك في نسختين منها، لا في الكلام على خاتم النبوة ولا في قصة سلمان، فكأنه في موضع آخر غيرهما.
الثاني: قال العلماء: هذه الروايات متقاربة في المعنى وليس ذلك باختلاف بل كل راو شبه بما نسخ له، فواحد قال كزر الحجلة وهو بيض الطائر المعروف أو زرار البشخاناه. وآخر كبيضة الحمامة. وآخر كالتفاحة وآخر بضعة لحم ناشزة. وآخر لحمة ناتئة. وآخر كالمحجمة.
وآخر كركبة العنز. وكلها ألفاظ مؤداها واحد وهو قطعة لحم.
ومن قال: شعر. فلأن الشعر حوله متراكب عليه كما في الرواية الأخرى.
قال أبو العباس القرطبي في «المفهم» : دلت الأحاديث الثابتة على أن خاتم النبوة كان شيئاً بارزا أحمر عند كتفه صلى اللَّه عليه وسلم الأيسر إذا قلل قدر بيضة الحمامة، وإذا كبر قدر جمع اليد.
وذكر نحوه القاضي وزاد: وأما رواية جمع اليد فظاهرها المخالفة، فتتأول على وفق الروايات الكثيرة، ويكون معناها: على هيئة جمع الكف لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة.
الثالث: قال السهيلي رحمه اللَّه تعالى: والحكمة في كون الخاتم عند نغض كتفه الأيسر أنه معصوم من وسوسة الشيطان، وذلك الموضع منه يوسوس لابن آدم.
قلت: روى أبو عمر بسند قوي عن عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه تعالى أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من ابن أدم فأري جسدا ممهى يرى داخله من خارجه، وأري
__________
[ (1) ] أبو قرة بن معاوية بن وهب بن قيس بن حجر الكندي ... ذكره ابن الكلبي وقال كان شريفا وفد على النبي صلى اللَّه عليه وسلم وذكر ابن سعد أن ابنه عمرو بن أبي قرة ولى قضاء الكوفة بعد شريح. [الإصابة 7/ 157] .(2/49)
الشيطان في صورة ضفدع عند كتفه حذاء قلبه له خرطوم كخرطوم البعوضة وقد أدخله في منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه فإذا ذكر اللَّه تعالى العبد خنس.
قال السهيلي: والحكمة في وضع خاتم النبوة على جهة الاعتبار أنه صلى اللَّه عليه وسلم لما ملئ قلبه إيمانا ختم عليه كما يختم على الوعاء المملوء مسكا أو درا، فجمع اللَّه تعالى أجزاء النبوة لسيدنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وتممه وختم عليه بختمه فلم تجد نفسه ولا عدوه سبيلا إليه من أجل ذلك الختم، لأن الشيء المختوم محروس، وكذلك تدبير اللَّه تعالى لنا في هذه الدار إذا وجد أحدنا الشيء بختمه زال الشك وانقطع الخصام فيما بين الآدميّين، فلذلك ختم رب العالمين في قلبه ختما يطمئن له القلب وألقى فيه النور ونفذت قوة القلب فظهر بين كتفيه كالبيضة.
الرابع: قال الحافظ: مقتضى الأحاديث أن الخاتم لم يكن موجودا عند ولادته صلى اللَّه عليه وسلم، وإنما وضع لما شق صدره عند حليمة وفيه تعقب على من زعم أنه صلى اللَّه عليه وسلم ولد به، وهو قول نقله أبو الفتح بلفظ: قيل ولد به وقيل حين وضع. ونقله مغلطاي عن ابن عائذ.
قال الحافظ: وما تقدم أثبت.
قلت: وصححه في «الغرر» وتقدمت الأحاديث التي فيها ذكر الختم في باب شق صدره الشريف صلى اللَّه عليه وسلّم فراجعها.
ومقتضاها والحديث السابق أول هذا الباب أن الختم تكرر ثلاث مرات: الأول وهو في بلاد بني سعد. والثانية: عند المبعث. والثالثة: ليلة الإسراء، ولم أقف في شيء من أحاديث شق صدره صلى اللَّه عليه وسلم وهو ابن عشر سنين على ذكر الخاتم. فاللَّه تعالى أعلم.
الخامس: سئل الحافظ برهان الدين الحلبي رحمه اللَّه تعالى: هل خاتم النبوة من خصائص النبي صلى اللَّه عليه وسلم؟ أو كلّ نبي مختوم بخاتم النبوة؟ فأجاب: لا أستحضر في ذلك شيئاً ولكن الذي يظهر أنه صلى اللَّه عليه وسلم خص بذلك لمعان منها: أنه إشارة إلى أنه خاتم النبيين وليس كذلك غيره. ولأن باب النبوة ختم به فلا يفتح بعده أبدا.
وروى الحاكم عن وهب بن منبه رحمه اللَّه تعالى قال: لم يبعث اللَّه نبيا إلا وقد كانت عليه شامة النبوة في يده اليمنى، إلا أن يكون نبينا صلى اللَّه عليه وسلم، فإن شامة النبوة كانت بين كتفيه صلى اللَّه عليه وسلم.
فعلى هذا يكون وضع الخاتم بظهر النبي صلى اللَّه عليه وسلم مما اختص به عن الأنبياء وجزم به الشيخ رحمه اللَّه تعالى في «أنموذج اللبيب» كما في النسخ الصحيحة خلافا لما وقع في غيرها مما يخالف ذلك.(2/50)
السادس: قال القاضي رحمه اللَّه تعالى: إن الختم هو أثر شق الملكين لما بين كتفيه.
وتعقبه النووي فقال: هذا باطل لأن الشق إنما كان في صدره صلى اللَّه عليه وسلم وبطنه، وقال القرطبي أثره- أي الشق- إنما كان خطا واضحا من صدره إلى مراق بطنه كما في الصحيح. ولم يثبت قط أنه بلغ الشق حتى نفذ من وراء ظهره، ولو ثبت لزم عليه أن يكون مستطيلا من بين كتفيه إلى بطنه أي أسفل بطنه لأنه الذي يحاذي الصدر من مسربته إلى مراقّ البطن. قال: فهذه غفلة من القاضي.
قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: كذا قال. وقد وقفت على مستند القاضي وهو حديث عتبة بن عبد السلمي وفيه أن الملكين لما شقا صدره صلى اللَّه عليه وسلم قال أحدهما للآخر خطه فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة. انتهى. فلما ثبت أن خاتم النبوة بين كتفيه كان ذلك أثر الختم.
وفهم النووي وغيره أن قوله: «بين كتفيه» متعلق بالشق، وليس كذلك بل هو متعلق بالختم ويؤيده ما في حديث شداد بن أوس عند أبي يعلى وأبي نعيم في الدلائل أن الملك لما أخرج قلبه وغسله ثم أعاده ختم عليه بخاتم في يده من نور فامتلأ نورا وذلك نور النبوة.
فيحتمل أن يكون ظهر من وراء ظهره عند كتفه الأيسر لأن القلب في تلك الجهة.
وفي حديث عائشة عند أبي داود الطيالسي وابن أبي أسامة وأبي نعيم في الدلائل أن جبريل وميكائيل لما تراءيا له عند المبعث «هبط جبريل فسلقني لحلاوة القفا ثم شق قلبي فاستخرجه ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده مكانه ثم لأمه ثم ألقاني وختم في ظهري حتى وجدت برد الخاتم في قلبي قال: اقرأ» [ (1) ] وذكر الحديث. هذا مستند القاضي رحمه اللَّه تعالى وليس بباطل.
قلت: وقد تقدم في التنبيه الثالث من كلام السهيلي ما يوضح ما ذكره القاضي فراجعه.
السابع: وقع في حديث شداد بن أوس [ (2) ] في مغازي ابن عائذ في قصة شق صدره صلى اللَّه عليه وسلم وهو في بلاد بني سعد بن بكر «وأقبل وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفيه وثدييه» وهذا قد يؤخذ منه أن الختم وقع في موضعين من جسده صلى اللَّه عليه وسلم والعلم عند اللَّه تعالى.
الثامن: قال الحافظ: ما قيل أن الخاتم كان كأثر المحجم أو كالشامة السوداء أو الخضراء مكتوب عليها: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه أو سر فإنك المنصور. ونحو ذلك فلم يثبت من ذلك شيء ولا يغير بما وقع في صحيح ابن حبان فإنه غفل حيث صحح ذلك.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل (175) .
[ (2) ] شداد بن أوس بن ثابت الأنصاري، أبو يعلى، صحابي، مات بالشام قبل الستين أو بعدها، وهو ابن أخي حسان بن ثابت. [انظر التقريب 1/ 347] .(2/51)
وقال القطب في «المورد» والمحب ابن الشهاب بن الهائم في «الغرر» : إنه حديث باطل. ونقل أبو الخطاب بن دحية رحمه اللَّه تعالى عن الحكيم الترمذي أنه قال: كان الخاتم الذي بين كتفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كأنه بيضة حمامة مكتوب في باطنها: اللَّه وحده. وفي ظاهرها: توجه حيث شئت فإنك منصور. قال ابن دحية: وهذا غريب واستنكروه.
وتقدم لهذا مزيد بيان في فصل: اختلف في صفة خاتم النبوة فراجعه.
التاسع: قيل أن الخاتم النبوي الذي كان بين كتفيه صلى اللَّه عليه وسلم رفع عند وفاته فكان بهذا عرف موته صلى اللَّه عليه وسلم. فروى أبو نعيم والبيهقي من طريق الواقدي عن شيوخه قالوا: شكوا في موت النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال بعضهم: قد مات. وقال بعضهم: لم يمت. فوضعت أسماء بنت عميس [ (1) ] .
رضي اللَّه تعالى عنها يدها بين كتفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالت: قد مات، قد رفع الخاتم من بين كتفيه. وكان بهذا عرف موته صلى اللَّه عليه وسلم.
ورواه ابن سعد عن الواقدي عن ام معاوية أنه لما مات رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فذكره.
والواقدي متروك بل كذبه جماعة.
وذكر في «الزهر» أن الحاكم روى في تاريخه عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها أنها لمست الخاتم حين توفي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فوجدته قد رفع. انتهى.
ووقع لي نصف تاريخ الحاكم فطالعته فلم أر فيه ذلك وكأنه فيما لم يقع لي. فلينظر سنده، وما أخاله صحيحا. وعلى تقدير كونه صحيحا قال في «الاصطفاء» فإن قيل: النبوة والرسالة باقيتان بعد موت النبي صلى اللَّه عليه وسلم حقيقة كما يبقى وصف الإيمان للمؤمن بعد موته لأن المتصف بالنبوة والرسالة والإيمان هو الروح وهي باقية لا تتغير بموت البدن كما صرح به النسفي فلم رفع ما هو علامة على ذلك؟
قلت: لأنه لما وضع لحكمة وهي تمام الحفظ والعصمة من الشيطان وقد تم الأمن منه بالموت فلم يبق لبقائه في جسده فائدة. وما ذكره النسفي من بقاء النبوة والرسالة بعد موت الأنبياء حقيقة هو مذهب أبي الحسن الأشعري رحمه اللَّه تعالى وعامة أصحابه، لا لما قال النسفي بل لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أحياء في قبورهم كما وردت به الأخبار وسيأتي تحقيق ذلك في باب حياته في قبره صلى اللَّه عليه وسلم.
العاشر: روى الحافظ إبراهيم الحربي في غريبه وابن عساكر في تاريخه، عن جابر
__________
[ (1) ] أسماء بنت عميس الخثعمية، صحابية، تزوجها جعفر بن أبي طالب ثم أبو بكر، ثم عليّ وولدت لهم، وهي أخت ميمونة بنت الحارث، أم المؤمنين لأمها، ماتت بعد عليّ. [التقريب 2/ 589.](2/52)
رضي اللَّه تعالى عنه قال: أردفني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خلفه فالتقمت خاتم النبوة بفيّ فكان ينم علي مسكا.
الحادي عشر: في بيان غريب ما سبق: زر الحجلة: اختلف في ضبط زر وفي الحجلة ومعنييهما. فقيل في «زر» إنه بتقديم الزاي على الراء المشددة والحجلة بفتح الحاء المهملة والجيم وعلى هذا فقيل المراد بالزر الذي يعقد به النساء عرى حجولهن كأزرار القميص والحجلة بيت من ثياب كالقبة يجعل بابه من جنبه يجعل فيه الزر والعروة. وقيل المراد بالزر البيض والحجلة الطائر المعروف. قال الترمذي رحمه اللَّه تعالى: ويساعده في ذلك رواية كبيضة حمامة. قال النووي: والصحيح المشهور هو الأول. وقيل المراد بالحجلة من حجل الفرس. نقله البخاري في الصحيح عن محمد بن عبيد اللَّه بن محمد بن أبي زيد [ (1) ] .
قال في المطالع وقيده بعضهم بضم الحاء وفتح الجيم. قال في المطالع: إن كان سمي البياض الذي بين عيني الفرس حجلة لكونه بياضا كما سمي بياض القوائم تحجيلا فما معنى الزر مع هذا؟ لا يتجه له فيه وجه.
وقال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: واستبعد السهيلي قول ابن عبيد اللَّه بأنه من حجل الفرس الذي بين عينيه بأن التحجيل إنما يكون في القوائم وأما الذي في الوجه فهو الغرة وهو كما قال: إلا أن منهم يطلقه على ذلك مجازا وكأنه أراد قدر الزر وإلا فالغرة لا زر لها.
وضبطه بعضهم بتقديم الراء على الزاي. حكاه الخطابي وفسره بأنه البيض من قولهم.
أرزت الجرادة بفتح الراء وتشديد الزاي إذا أدخلت ذنبها في الأرض لتبيض. فاستعار له الطائر.
قال في «المفهم» : لا يسمى العرب البيضة «رزة» ولا تؤخذ اللغة بالقياس.
النغض- بنون تضم وتفتح فغين ساكنة فضاد معجمتين- قال الجمهور: النغض والناغض: أعلى الكتف. وقيل هو العظم الدقيق الذي على طرفه [ (2) ] وقيل: ما يظهر عند التحرك.
السلعة. بكسر السين وسكون اللام وفتح العين: وهي هنا خراج كهيئة الغدة يتحرك بالتحريك.
البضعة: القطعة من اللحم والجمع بضع وبضعات. وبضع وبضاع. مثل تمرة وتمر وسجدات وبدر وصحاف.
__________
[ (1) ] محمد بن عبيد اللَّه بن محمد بن زيد مولى عثمان أبو ثابت المدني. عن مالك وإبراهيم بن سعد. وعنه (خ) وأبو حاتم. وقال: صدوق. [الخلاصة 2/ 424] .
[ (2) ] في أ: كتفه.(2/53)
ناشزة: بنون وشين مكسورة فزاي معجمتين: مرتفعة.
ناتئة- بالهمز وتركه: أي خارجة من موضعها من غير أن تبين.
جمع- بضم الجيم، وحكى ابن الجوزي وابن دحية كسرها وبه جزم في «المفهم» إسكان الميم أي مجمع الكف وهو صورته بعد أن تجمع الأصابع وتضمها يقال ضربه بجمع كفه.
خيلان- بخاء معجمة مكسورة فمثناة ساكنة: جمع خال وهو الشامة في الجسد.
الثآليل [ (1) ]- بالثاء المثلثة- جمع ثؤلول بهمزة ساكنة وزان عصفور ويجوز التخفيف:
حب يظهر في الجسد كالحمصة فما دونها. قال القرطبي في المفهم: نقط سود كانت على الخاتم شبهها بها لسعتها لا أنها كانت ثآليل.
الغضروف: رأس لوح الكتف. متراكبات: مجتمعات.
سلقني: ألقاني على ظهري. قال في النهاية ويروى بالصاد أيضاً وبالسين أكثر.
واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] انظر المعجم الوسيط 1/ 93.(2/54)
الباب الثالث عشر في صفة صدره وبطنه صلى اللَّه عليه وسلم
قال هند بن أبي هالة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عريض الصدر سواء البطن والصدر مشيح الصدر.
رواه الترمذي.
وقالت أم معبد رضي اللَّه تعالى عنها: لم تعبه ثجلة ولا تزريه صعلة.
رواه الحارث بن أبي أسامة.
وقالت أم هانئ رضي اللَّه تعالى عنها: ما رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلا تذكرت القراطيس المثنى بعضها على بعض.
رواه أبو داود الطيالسي وابن سعد.
وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة في تاريخه: كانت له صلى اللَّه عليه وسلم عكن ثلاث يغطي الإزار منها واحدة ويظهر اثنتان، ومنهم من قال: يغطي الإزار منها اثنتين ويظهر واحدة- تلك العكن أبيض من القباطي المطواة وألين مسا.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مفاض البطن.
رواه الترمذي والبيهقي.
وقال هند بن أبي هالة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنور المتجرد دقيق المشربة موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر.
رواه الترمذي.
وقال أبو أمامة رضي اللَّه تعالى عنه كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم متفتق الخاصرة.
رواه ابن عساكر.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أبيض الكشحين.
رواه ابن عساكر.
وقال علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم طويل المسربة.
رواه الترمذي وصححه.
وقال أيضاً: كان لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم شعر يجري من لبته إلى سرته كالقضيب ليس في صدره ولا بطنه شعر غيره.(2/55)
رواه ابن سعد وابن عساكر [ (1) ] .
وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم دقيق المسربة له شعرات من لبته إلى سرته كأنهن قضيب مسك أذفر، ولم يكن في جسده ولا صدره شعرات غيرهن.
رواه ابن عساكر.
[تفسير الغريب]
سواء: بالمد أي مستوي البطن والصدر يعني أن يظنه غير خارج فهو مساو لصدره.
وصدره عريض فهو مساو لبطنه.
مشيح- بميم مضمومة فشين معجمة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فحاء مهملة. أي بادي الصدر غير قعس، والقعس: نتوء الصدر خلقة.
ويروى: فسيح الصدر بالفاء ومهملتين أي واسع الصدر.
الثّلجة- بثاء مثلثة وجيم ساكنة فلام مفتوحة: عظيم البطن ويروى بالنون والحاء المهملة وهو النحول وهو الدقة وضعف التركيب.
ولا تزريه [ (2) ] . بضم أوله.
الصقلة. بالصاد المهملة والقاف: الدقة والنحول. وقيل أرادت أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يكن منتفخ الخاصرة جدا ولا ناحلا جدا.
القراطيس: جمع قرطاس.
مفاض البطن: أي واسعه. وقيل مستوى البطن مع الصدر.
أنور: من النور تريد شدة بياضه وحسنه.
المتجرد- بضم الميم وفتح التاء والجيم والراء المشددة: ما جرد عنه الثوب من بدنه وهو المجدد أيضاً.
المسربة- بفتح الميم وسكون السين المهملة وضم الراء وفتح الباء الموحدة فتاء تأنيث: الشعر المستدق ما بين اللبة إلى السرة.
اللبة- بفتح اللام وتشديد الموحدة المفتوحة: المنحر وهي التطامن الذي فوق الصدر
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد (1/ 2/ 133) .
[ (2) ] انظر اللسان 2/ 1830.(2/56)
وأسفل الحلق بين الترقوتين وفيها تنحر الإبل.
عاري الثديين إلى آخره: أي أن ثدييه وبطنه- ليس عليهما شعر سوى المسربة المتقدم ذكرها الذي جعله جاريا كالخط.
الأشعر: الذي عليه الشعر من البدن.
الكشح: الخصر. واللَّه اعلم.(2/57)
الباب الرابع عشر فيما جاء في شق صدره وقلبه الشريفين صلى الله عليه وسلم
قال اللَّه تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح 1] قال في الكشاف: استفهم عن انتفاء الشرح على وجه الإنكار مبالغة في إثبات الشرح وإيجابه فكأنه قيل: شرحنا لك صدرك.
ولذلك عطف عليه «ووضعنا» اعتبارا للمعنى.
قال الطيبي: أي أنكر عدم الشرح فإذا أنكر ذلك ثبت الشرح لأن الهمزة للإنكار، والإنكار نفي، والنفي إذا دخل على النفي عاد إثباتا، ولا يجوز جعل الهمز للتقرير.
قال الراغب رحمه اللَّه تعالى: أصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال شرحت اللحم وشرحته ومنه شرح الصدر وهو بسطه بنور إلهي وسكينة من جهة اللَّه وروح منه.
النقاش [ (1) ] : الشرح التوسعة وكل ما وسعته فقد شرحته.
الراغب: الصدر الجارحة وجمعه صدور. قال بعض الحكماء: حيثما ذكر اللَّه تعالى القلب فإشارة إلى العقل والعلم نحو: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق 37] وحيثما ذكر الصدر فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القوى من الشهوة والهوى ونحوهما وقوله:
تعالى: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه 25] سؤال لإصلاح قواه وكذا: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة 14] فإشارة إلى ذلك.
مكي: المراد بالصدر القلب، لأنه وعاء الفهم والعلم وإنما ذكر الصدر لقربه من القلب وامتزاجه به.
الحكيم الترمذي: ذكر الصدر دون القلب لأن محل الوسوسة في الصدر، فأزال اللَّه تلك الوسوسة وأبدلها بدواعي الخير وهي الشرح. وقيل القلب محل العقل والمعرفة وهو الذي
__________
[ (1) ] محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون الموصلي ثم البغدادي أبو بكر النقاش المقري المفسر، كان إمام أهل العراق في القراءات والتفسير. قرأ القرآن على هارون بن موسى الأخفش. وابن أبي مهران (1) وجماعة. وقرأ عليه خلائق.
منهم أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران، وأبو الحسين الحمامي وجماعة. وروى الحديث عن أبي مسلم الكجّيّ، ومطيّن. والحسن بن سفيان وآخرين. وروى عنه الدارقطني، وابن شاهين، وأبو أحمد الفرضيّ، وأبو علي بن شاذان وجماعة. ورحل وطوّف من مصر إلى ما وراء النهر في لقي المشايخ. وصنف التفسير وسماه «شفاء الصدور» وله «الإشارة في غريب القرآن» و «الموضح في معاني القرآن» و «دلائل النبوة» و «القراءات» بعلها، وأشياء آخر. ضعّفه جماعة. قال البرقاني: كل حديث النّقّاش منكر. وقال طلحة بن محمد بن جعفر: كان يكذب في الحديث. وقال الخطيب: في حديثه مناكير بأسانيد مشهورة. وقال الذهبي: متروك، ليس بثقة على جلالته ونبله. وقال هبة اللَّه اللاكائي: تفسير النقاش، إشفاء الصدور، ليس شفاء الصدور. طبقات لمفسرين للسيوطي 80، 81، وتذكرة الحفاظ 3/ 908.(2/58)
يقصده الشيطان فإن الشيطان يجيء الصدر الذي هو حصن القلب فإذا وجد مسلكا أغار عليه فيضيق القلب ولا يجد للطاعة لذة ولا للإسلام حلاوة فإذا طرد العدو في الابتداء حصل الأمن وزال الضيق وانشرح الصدر وتيسر له القيام بأداء العبودية.
الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه اللَّه تعالى: كان موسى صلى الله عليه وسلم مريدا إذ قال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وكان نبينا صلى الله عليه وسلم مرادا إذ قيل له أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ الإمام الرازي رحمه اللَّه تعالى: وإنما لم يقل: ألم نشرح صدرك دون «لك» لوجهين:
أحدهما: أراد شرحته لأجلك كما تفعل أنت الطاعة لأجلي. الثاني: أن فيه تنبيها على أن منافع الرسالة عائدة إليه عليه الصلاة والسلام، كأنه قيل إنما شرحنا لك صدرك لأجلك لا لأجلي.
وإنما قال «نشرح» بنون العظمة لأن عظمة المنعم تدل على عظمة النعمة، وكان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره من منازعة الجن والإنس فآتاه اللَّه تعالى من آياته ما اتسع لكل ما حمله صلى الله عليه وسلم.
واختلف المفسرون في معنى الآية على أقوال: فقال الإمام البيضاوي رحمه اللَّه تعالى:
ألف نفسحه حتى وسع مناجاة الحق ودعوة الخلق وكان غائبا حاضرا أو: ألم نفسحه بما أودعنا فيه من الحكم وأزلنا عنه ضيق الجهل. أو: بما يسرناه لك من تلقي الوحي بعد ما كان يشق عليك.
وقيل: إنه إشارة إلى ما روي أن جبريل أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في صباه أو يوم أخذ الميثاق فاستخرج قلبه فغسله فملأه إيمانا وعلما ولعله إشارة إلى نحو ما سبق انتهى.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى في حواشيه: إن أراد بقوله «يوم الميثاق» يوم أخذه في عالم الذر فلا أصل له. وإن أراد به يوم بعث ونبئ. وبيض الشيخ هنا. قلت: وكأنه أراد: فله أصل.
كما سيأتي في المرة الثالثة.
ولا منافاة بين هذه الأقوال السابقة وبين شق صدره صلى الله عليه وسلم فإن من جملة شرح صدره شقه وإخراج ما فيه من أذى كما أشار إلى ذلك الحافظان أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وابن كثير رحمهما اللَّه تعالى.
وقد تكرر شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم أربع مرات:
الأولى: وهو صلى الله عليه وسلم صغير في بني سعد.
روى البيهقي عن إبراهيم بن طهمان- بفتح الطاء المهملة رحمه اللَّه تعالى: قال:
سألت سعدا عن قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ فحدثني به عن قتادة عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه قال: شق بطنه صلى الله عليه وسلم من عند صدره إلى أسفل بطنه فاستخرج قلبه الخ.(2/59)
وروى الإمام أحمد ومسلم عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه فشق عن قلبه واستخرج القلب ثم شق القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك. ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه فأعاده مكانه. وجعل الغلمان يسعون إلى أمه- يعني ظئره- فقالوا: إن محمدا قد قتل فجاؤوه وهو منتقع اللون. قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.
وروى الإمام أحمد والدارمي والحاكم وصححه والطبراني والبيهقي وأبو نعيم، عن عتبة بن عبد- بغير إضافة- السلمي [ (1) ] رضي اللَّه تعالى عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا فقلت: يا أخي أذهب فائتنا بزاد من عند أمنا. فأنطلق أخي ومكث عند البهم فأقبل إلي طائران كأنهما نسران فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني للقفا فشقّاه بطني ثم استخرجا قلبي شقّاه فأخرجا منه علقتين سوداوين فقال أحدهما لصاحبه: إيتني بماء ثلج فغسلا به جوفي- ثم قال: إيتني بماء برد فغسلا به قلبي. ثم قال: إيتني بالسكينة فذراها في قلبي. ثم قال أحدهما لصاحبه حصه. فحاصه وختم عليه بخاتم النبوة. وذكر الحديث.
تفسير الغريب
الظئر ومنتقع اللون. تقدما في شرح غريب قصة الرضاع. المخيط بكسر الميم: ما يخاط به. البهم وزن فلس- جمع بهمة وهي الصغير من أولاد الغنم.
نسران: تثنية نسر- طائر معروف والجمع أنسر ونسور مثل فلس وأفلس وفلوس.
ذراها بذال معجمة: حشياها.
حصه بحاء مهملة مضمومة: أي خطه يقال حاص الثوب يحوصه حوصا إذا خالطه.
المرة الثانية: وهو صلى الله عليه وسلم ابن عشر سنين.
روى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند بسند رجاله ثقات، وابن حبان والحاكم وأبو نعيم وابن عساكر والضياء، في «المختارة» عن أبي بن كعب رضي اللَّه تعالى عنه أن أبا هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: يا رسول اللَّه ما أول ما ابتدئت به من أمر النبوة؟
قال: إني لفي صحراء أمشي ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي يقول أحدهما لصاحبه:
__________
[ (1) ] عتبة بن عبد، السّلمي، أبو الولية، صحابي شهير، أول مشاهده قريظة، مات سنة سبع وثمانين، ويقال بعد التسعين، وقد قارب المائة [التقريب 5/ 2] .(2/60)
أهو هو؟ قال نعم. فأخذاني فاستقبلاني بوجوه لم أرها لخلق قط وأرواح لم أرها من خلق قط، وثياب لم أرها على أحد قط، فأقبلا إلي يمشيان حتى أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسا. فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه. فأضجعاني بلا قصر ولا هصر وفي لفظ:
فقلباني لحلاوة القفا ثم شقا بطني. وفي لفظ فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره. فخوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع فكان أحدهما يختلف بالماء في طست من ذهب والآخر يغسل جوفي فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره فإذا صدري فيما أرى مفلوقا لا أجد له وجعا. ثم قال: شق قلبه فشق قلبي فقال: أخرج الغل والحسد منه. فأخرج شبه العلقة فنبذ به. ثم قال: أدخل الرأفة والرحمة في قلبه. فأدخل شيئاً كهيئة الفضة. ثم أخرج ذرورا كان معه فذره عليه ثم نقر إبهامي ثم قال: اغد واسلم. فرجعت بما لم أغد به من رحمتي للصغير ورأفتي للكبير [ (1) ] .
تفسير الغريب
الحجج: بكسر الحاء وفتح الجيم الأولى السنون.
الأرواح: جمع ريح بمعنى الرائحة وهي عرض يدرك بحاسة الشم وهي مؤنثة يقال ريح [ (2) ] ذكيُة.
بلا قصر: قصرت الثوب أي أرخيته بلا استرخاء. ولا هصر: قال في النهاية: هصر ظهره أي ثناه إلى الأرض. وأصل الهصر أن تأخذ برأس العود فتثنيه إليك وتعطفه.
حلاوة القفا: يأتي بيانه في بيان غريب المرة الثالثة.
خوى أحدهما إلى صدري: أي مال إليه.
ذرورا: بفتح الذال المعجمة.
المرة الثالثة: عند المبعث.
روى أبو داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما، والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل، عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نذر أن يعتكف شهرا هو وخديجة. فوافق ذلك شهر رمضان فخرج ذات ليلة فسمع: السلام عليك. قال: فظننت أنها فجاءة الجن، فجئت مسرعا حتى دخلت على خديجة فقالت: ما شأنك؟ فأخبرتها فقالت:
أبشر فإن السلام خير. ثم خرجت مرة أخرى فإذا أنا بجبريل على الشمس له جناح بالمشرق
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 226، وعزاه لعبد الله وقال ورجاله ثقات وثقه ابن حبان.
[ (2) ] في أ: رائحة.(2/61)
وجناح بالمغرب فهلت منه فجئت مسرعا فإذا هو بيني وبين الباب فكلمني حتى أنست منه ثم وعدني موعدا فجئت له فأبطأ علي فأردت أن أرجع فإذا أنا به وبميكائيل قد سد الأفق فهبط جبريل وبقي ميكائيل بين السماء والأرض، فأخذني جبريل فألقاني لحلاوة القفا ثم شق عن قلبي فاستخرجه ثم استخرج منه ما شاء اللَّه أن يستخرج ثم غسله في طست من ماء زمزم ثم أعاده مكانه ثم لأمه ثم أكفأني كما يكفأ الإناء ثم ختم في ظهري حتى وجدت مس الخاتم في قلبي. وذكر الحديث [ (1) ] .
تفسير الغريب فُجاءة الجن بالضم والمد، وفي لغة بوزن تمرة: بغتة.
هلت منه: خفت وزنا ومعنى.
الأفق. بضم الهمزة والفاء: الناحية والجمع آفاق.
حلاوة القفا: بتثليث الحاء المهملة وحلاواه. فإن ضممت قصرت وهي وسط القفا.
أكفأني: قلبني.
المرة الرابعة: ليلة الإسراء.
روى مسلم والبرقاني بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وبالقاف والنون، وغيرهما عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتيت وأنا في أهلي فانطلق بي إلى زمزم فشرح صدري، ثم أتيت بطست من ذهب ممتلئا حكمة وإيمانا فحشي بهما صدري. قال أنس والنبي صلى الله عليه وسلم يرينا صدره. فعرج بي الملك إلى سماء الدنيا.
وذكر حديث المعراج [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد والشيخان عن مالك بن صعصعة [ (3) ] رضي اللَّه تعالى عنه إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال: بينما أنا في الحطيم وربما قال قتادة: في الحجر.
مضطجعا إذ أتاني آت فجعل يقول لصاحبه: الأوسط من الثلاثة. فأتاني فشق ما بين هذه إلى هذه. يعني من ثغرة نحره إلى شعرته. فاستخرج قلبي. فأتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا وحكمة فغسل قلبي ثم حشي ثم أعيد. ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار.
ورواه البخاري من طريق شريك عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه
[ (4) ] واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل (171) .
[ (2) ] أخرجه مسلم 1/ 145 (259- 162) .
[ (3) ] مالك بن صعصعة بن وهب بن عديّ بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي الأنصاري النجاري. له خمسة أحاديث، اتفقا على حديث المعراج (5) . وعنه أنس. [الخلاصة 3/ 5] .
[ (4) ] أخرجه البخاري 6/ 348 (3207) ومسلم في الموضع السابق.(2/62)
ذكر أحاديث فيها شق صدره صلى الله عليه وسلم من غير تعيين زمان
عن أبي ذر رضي اللَّه تعالى عنه قال: قلت يا رسول اللَّه كيف علمت أنك نبي حتى علمت ذلك واستيقنت أنك نبي؟ قال: يا أبا ذر أتاني ملكان وأنا في بعض بطحاء مكة فوقع أحدهما بالأرض وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه، هو هو؟ فقال: هو هو. فقال: زنه برجل فوزنت برجل فرجحت. فقال: زنه بعشرة فوزنني بعشرة فوزنتهم. فقال:
زنه بمائة فوزنني بمائة فرجحتهم. ثم قال: زنه بألف. فوزنني بألف فرجحتهم فجعلوا ينتثرون علي من كفة الميزان. فقال أحدهما للآخر: لو وزنته بأمته رجحها. ثم قال أحدهما لصاحبه:
شق بطنه فشق بطني ثم قال أحدهما لصاحبه: اغسل قلبه فشق قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحهما ثم قال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاءة، ثم دعا بسكينة كأنها برهرة بيضاء فأدخلت قلبي، ثم قال احدهما لصاحبه: خط بطنه. فخاط بطني فجعلا الخاتم بين كتفي فما هو إلا أن وليا عني فكأنما أعاين الأمر معاينة.
رواه الدارمي والبزّار والرّوياني وابن عساكر والضياء في المختارة.
وروى البيهقي عن يحيى بن جعدة [ (1) ] رحمه اللَّه تعالى: مرسلا. قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن ملكين جاءاني في صورة كركيين معهما ثلج وبرد وماء بارد فشق أحدهما صدري ومج الآخر بمنقاره فيه فغسله.
وروى أبو نعيم عن يونس بن ميسرة بن حلبس [ (2) ] بمهملتين في طرفيه وموحدة وزن جعفر رحمه اللَّه تعالى- مرسلا. قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتاني ملك بطست من ذهب فشق بطني فاستخرج حشوة جوفي فغسلها ثم ذرّ عليه ذرورا ثم قال: قلب وكيع يعي ما وضع [ (3) ] فيه عينان [ (4) ] بصيرتان وأذنان تسمعان وأنت محمد رسول اللَّه المقفي الحاشر، قلبك سليم ولسانك صادق ونفسك مطمئنة وخلقك قيم وأنت قثم.
وروى الدارمي وابن عساكر، عن ابن غنم [ (5) ]- بغين معجمة مفتوحة فنون ساكنة- وهو
__________
[ (1) ] يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي، ثقة وقد أرسل عن ابن مسعود ونحوه. [التقريب 2/ 344] .
[ (2) ] يونس بن ميسرة بن حلبس بفتح المهملة والموحدة بينهما لام ساكنة وآخره مهملة الحميري الدّمشقي الزاهد عن معاوية وواثلة. وعنه الأوزاعي ومروان بن جناح. وثقة الدارقطني قتلته المسودة سنة اثنتين وثلاثين ومائة بدمشق.
[الخلاصة 3/ 194] .
[ (3) ] في: أ: وقع.
[ (4) ] في أ: عيناك.
[ (5) ] عبد الرحمن بن غنم، بفتح المعجمة وسكون النون، الأشعري، مختلف في صحبته، وذكره العجلي في كبار ثقات التابعين، مات سنة ثمان وسبعين. [التقريب 1/ 494] .(2/63)
مختلف في صحبته رضي اللَّه تعالى عنه قال: نزل جبريل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وسلم فشق قلبه ثم قال جبريل: قلبك وكيع فيه أذنان سميعتان وعينان بصيرتان محمد رسول اللَّه المقفي الحاشر خلقك قيم ولسانك صادق ونفسك مطمئنة.
ذكر غريب ما تقدم
ثغرة النحر: بالضم: وهي النقرة التي بين الترقوتين.
شعرته بكسر الشين المعجمة: العانة.
كفه الميزان: بتثليث الكاف والكسر أشهر.
مغمز الشيطان: بفتح الميم الأولى وإسكان الغين المعجمة وكسر الميم الثانية وآخره زاي، وهو الي يغمزه الشيطان من كل مولود، إلا عيسى ابن مريم وأمه لقول أمها حنة:
وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [آل عمران 36] قال السهيلي: ولا يدل هذا على أفضلية عيسى على نبينا صلى الله عليه وسلم فقد نزع ذلك منه وملئ حكمة وإيمانا بعد أن غسله روح القدس بالثلج والبرد.
الملاءة بالضم والمد: الإزار.
سكينة وبرهرة. سيأتي الكلام عليها.
حشوة بضم الحاء وكسرها: الأمعاء.
وكيع [ (1) ] قال في النهاية: قلب وكيع: واع: أي متين محكم ومنه قولهم: سقاء وكيع إذا كان محكم الخرز.
قيم بمثناة تحتية. وقثم: بمثلثة. وتقدم الكلام عليهما في الأسماء.
تنبيهات
الأول: قال الحافظ أبو الفضل العراقي رحمه اللَّه تعالى: في أول شرحه لتقريبه. قد أنكر صحة وقوع شق الصدر ليلة الإسراء ابن حزم وعياض وادعيا أنه تخليط من شريك. وليس كذلك فقد ثبت في الصحيحين من غير طريق شريك.
وقال الإمام أبو العباس القرطبي في المفهم: لا يلتفت لإنكار شق الصدر ليلة الإسراء لأن رواته ثقات مشاهير.
وقال الحافظ: قد أنكر شق الصدر ليلة الإسراء بعضهم ولا إنكار في ذلك، فقد تواترت به الروايات.
الثاني: قال القرطبي في المفهم والتوربشتي- بضم المثناة الفوقية وفتح الراء وكسر
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب [5/ 4908] .(2/64)
الموحدة وسكون الشين المعجمة بعدها مثناة فوقية- في شرح المصابيح والطيبي في شرح المشكاة والحافظ والشيخ وغيرهم رحمهم اللَّه تعالى أن جميع ما ورد في شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك مما يجب التسليم له دون تعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك. ويؤيده الحديث الصحيح أنهم كانوا يرون أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: وما وقع من بعض جهلة العصر من إنكار ذلك وحمله على الأمر المعنوي وإلزام قائله القول بقلب الحقائق، فهو جهل صريح وخطأ قبيح نشأ من خذلان اللَّه تعالى لهم وعكوفهم على العلوم الفلسفية وبعدهم عن دقائق السنة. عافانا اللَّه تعالى من ذلك.
الثالث: قال العلامة ابن المنير- بضم الميم وفتح النون وكسر التحتية المشددة رحمه اللَّه تعالى: وشق الصدر له صلى الله عليه وسلم وصبره عليه من جنس ما ابتلى به اللَّه الذبيح وصبر عليه، بل هذا أشق وأجل لأن تلك معاريض وهذه حقيقة، وأيضاً فقد تكرر ووقع له صلى الله عليه وسلم وهو صغير يتيم بعيد من أهله صلى الله عليه وسلم وزاده شرفا وفضلا.
الرابع: سئل شيخ الإسلام أبو الحسن السبكي رحمه اللَّه تعالى عن العلقة السوداء التي أخرجت من قلبه صلى الله عليه وسلم حين شق فؤاده وقول الملك: هذا حظ الشيطان منك.
فأجاب رحمه اللَّه تعالى: بأن تلك العلقة خلقها اللَّه تعالى في قلوب البشر قابلة لما يلقيه الشيطان فيها فأزيلت من قلبه صلى الله عليه وسلم فلم يبق فيه مكان لأن يلقي الشيطان فيه شيئاً. هذا معنى الحديث ولم يكن للشيطان فيه حظ. وأما الذي نفاه الملك هو أمر في الجبلات البشرية فأزيل القابل الذي لم يكن يلزم من حصوله حصول القذف في القلب.
قيل له: فلم خلق اللَّه تعالى هذا القابل في هذه الذات الشريفة، وكان يمكن أن لا يخلقه اللَّه تعالى فيها؟ فقال: إنه من جملة الأجزاء الإنسانية فخلقه تكملة للخلق الإنساني ولا بد منه ونزعه كرامة ربانية طرأت.
وقال غيره: لو خلق اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم سليما فيها لم يكن للآدميين اطلاع على حقيقته، فأظهره اللَّه تعالى على يد جبريل عليه الصلاة والسلام ليتحقق كمال باطنه كما برز لهم مكمل الظاهر.
الخامس: قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة [ (1) ]- وهو بجيم مفتوحة فراء مهملة
__________
[ (1) ] عبد الله بن سعد بن سعيد بن أبي جمرة الأزدي الأندلسي، أبو محمد: من العلماء بالحديث، مالكي. أصله من الأندلس ووفاته بمصر. من كتبه «جمع النهاية اختصر به صحيح البخاري، ويعرف بمختصر ابن أبي جمرة، و «بهجة النفوس» في شرح جمع النهاية، و «المرائي الحسان» في الحديث والرؤيا. توفي سنة 695 هـ[الأعلام 4/ 89] .(2/65)
رحمه اللَّه تعالى: الحكمة في شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم مع القدرة على أن يمتلئ قلبه إيمانا وحكمة من غير شق: الزيادة في قوة اليقين لأنه أعطي برؤية شق بطنه وعدم تأثره بذلك ما أمن معه من جميع المخاوف العادية، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم أشجع الناس حالا ومقالا ولذلك وصف بقوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم 17] .
السادس: اختلف: هل كان شق الصدر وغسله مختصا به صلى الله عليه وسلم أو وقع لغيره؟ صحح الشيخ رحمه اللَّه تعالى عدم المشاركة. وسيأتي في الخصائص أن الصحيح المشاركة.
السابع: في الحكمة في تكرره. قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى، بعد أن ذكر الأولى والثالثة والرابعة: ولكل من الثلاث حكمة، فالأولى كان في زمن الطفولية لينشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم عند المبعث زيادة في الكرامة ليتلقى ما يلقى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة.
قلت: وسكت عن حكمه المرة الثانية مع ذكره للمرة الثانية في كتاب التوحيد جازما بها ويحتمل أن يقال لما كان العشر قريبا من سن التكليف شق صدره صلى الله عليه وسلم وقدس حتى لا يلتبس بشيء مما يعاب على الرجال. واللَّه تعالى أعلم.
قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرة الثالثة كما هي في شرعه صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبي جمرة رحمه اللَّه تعالى: وإنما غسل قلبه صلى الله عليه وسلم وقد كان مقدسا وقابلا لما يلقى فيه من الخير. وقد غسل أولا وهو صغير السن وأخرجت منه العلقة إعظاما وتأهبا لما يلقى هناك. يعني في المعراج. وقد جرت الحكمة بذلك في غير ما موضع مثل الوضوء للصلاة لمن كان متوضئا لأن الوضوء في حقه إنما هو إعظام وتأهب للوقوف بين يدي اللَّه تعالى ومناجاته. وكذلك أيضاً الزيادة على الواحدة والثنتين إذا أسبغ بالأولى لأن الإجزاء قد حصل وبقي ما بعد الإسباغ إلى الثلاث عظاما لما يقدم عليه. وكذلك غسل الباطن هنا وقد قال تعالى: وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج 32] فكان الغسل له صلى الله عليه وسلم من هذا القبيل وإشارة لأمته بالفعل بتعظيم الشعائر كما نص عليه بالقول.
وقال البرهان النعماني رحمه اللَّه تعالى في سراجه: قد سن لداخل الحرم الشريف الغسل، فما ظنك بداخل الحضرة المقدسة؟! فلما كان الحرم الشريف من عالم الملك وهو ظاهر الكائنات أنيط الغسل له بظاهر البدن في عالم المعاملات، ولما كانت الحضرة القدسية من عالم الملكوت وهو باطن الكائنات أنيط الغسل بباطن البدن في التحقيقات، وقد عرج به صلى الله عليه وسلم لتفرض عليه الصلاة وليصلي بملائكة السموات، ومن شأن الصلاة الطهور فقدس ظاهرا وباطنا.(2/66)
فإن قلت: إن اللَّه تعالى خلقه نورا متنقلا من الأنبياء وفي صفاء النور ما يغني عن التطهير الحسي، ثم إن المرة الأولى لم تكن كافية في تطهير الباطن ويلزم عليه أنه بعد النبوة كان فيه شيء يحتاج إلى ذلك، وهو منزه عن أدران البشرية.
قلت: الغسلة الأولى لعين اليقين والثانية لعلم اليقين، والثالثة لحق اليقين.
الثامن: اختلف هل وقع له صلى الله عليه وسلم مع ذلك مشقة أم لا؟.
قال الحافظ: من غير مشقة وبه جزم ابن الجوزي فقال: شقه وما شق عليه. وقال ابن دحية: بمشقة عظيمة ولهذا انتقع لونه صلى الله عليه وسلم أي صار كلون النقع وهو الغبار، وهذه صفة ألوان الموتى.
قلت: رواية «انتقع لونه» حكاية، وقع في المرة الأولى وهو صغير في بني سعد. وأما ما وقع بعدها فلم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم تأثر لذلك. وقد تقدم في حديث أبي هريرة في المرة الثانية ما يؤيد ذلك فراجعه.
التاسع: وقع السؤال هل كان شق صدره الشريف صلى الله عليه وسلم بآلة أم لا: ولم يجب عنه أحد ولم أر من تعرض له بعد التتبع. وظاهر قوله: «فشق» أنه كان بآلة، ويدل لذلك قول الملك في حديث أبي ذر. «خط بطنه فخاطه» وفي لفظ عن عتبة بن عبد: «حصه فحاصه» ، وفي حديث أنس «كانوا يرون أثر المخيط في صدره صلى الله عليه وسلم» .
العاشر:
في حديث أبي ذر «وأتيت بالسكينة كأنها برهرهة فوضعت في صدري»
قال ابن الأنباري: «برهرهة» وهي السكينة المعوجّة الرأس التي تسميها العامة «المنجل» بالجيم.
وقال الخطابي: عثرت على رواية وفيها: أنه شق عن قلبه قال: فدعي بسكينة كأنها درهمة بيضاء، فوقع لي أنه أراد بالبرهرهة سكينة بيضاء صافية الحديد تشبيها بالبرهرهة من النساء في بياضها وصفائها.
ثم قال ابن دحية والصواب في هذه اللفظة السكينة- أي بالتخفيف لأنه قال بعد شق البطن، ثم أتيت بالسكينة كأنها برهرهة فوضعت في صدري، فإنما عني بها السكينة التي هي في الأصل اللغة فعيلة من السكون وهي أكثر ما تأتي في القرآن العظيم بمعنى السكون والطمأنينة.
الحادي عشر: خص الطست بما ذكر لكونه أشهر آلات الغسل عرفا.
قال السهيلي رحمه اللَّه تعالى: وفي ذكر الطست أيضاً وحروف اسمه حكم تنظر إلى قوله تعالى: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ [النمل 1] .(2/67)
الثاني عشر: قال السهيلي: خص الذهب لكونه مناسبا للمعنى الذي أريد به فإن نظرت إلى لفظ الذهب فمطابق للذهاب، فإن اللَّه تعالى أراد أن يذهب عنه الرجس ويطهره تطهيرا وإن نظرت إلى معنى الذهب وأوصافه وجدته أنقى شيء وأصفاه يقال في المثل: «أنقى من الذهب» وقالت بريرة في عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: ما أعلم عليها إلا ما يعلم الصائغ على الذهب الأحمر. وقال حذيفة رضي اللَّه تعالى عنه في صلة- بكسر الصاد المهملة- ابن أشيم- بالشين المعجمة- وزن أعلم: إنما قلبه ذهب. وقال جرير بن حازم رحمه اللَّه تعالى، وهو بالحاء المهملة والزاي، في الخليل بن أحمد: إنه لرجل من ذهب. يريد النقاء من العيوب.
فقد طابق طست الذهب ما أريد بالنبي صلى الله عليه وسلم من نقاء قلبه.
ومن أوصاف الذهب أيضاً المطابقة لهذا المقام: ثقله ورسوبه فإنه يجعل في الزئبق الذي هو أثقل الأشياء فيرسب. واللَّه سبحانه وتعالى يقول: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل 5] وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: إنما ثقلت موازين المحقين يوم القيامة لإتباعهم الحق وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلا. وقال في أهل الباطل بعكس ذلك.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أنزل عليه الوحي وهو على ناقته فثقل عليها حتى ساخت قوائمها في الأرض. فقد طابقت الصفة المعقولة الصفة المحسوسة.
ومن أوصاف الذهب أيضاً: أنه لا تأكله النار، وكذلك القرآن لا تأكل النار يوم القيامة قلبا وعاه ولا بدنا عمل به. قال عليه الصلاة والسلام: «لو كان القرآن في إهاب ثم طرح في النار ما احترق [ (1) ] » .
ومن أوصاف الذهب المناسبة لأوصاف القرآن والوحي: أن الأرض لا تبليه وأن الهواء لا يذريه وكذلك القرآن لا يخلق على كثرة الرد ولا يستطاع تغييره ولا تبديله.
ومن أوصافه أيضاً: نفاسته وعزته عند الناس. وكذلك القرآن والحق عزيزان، قال تعالى:
وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ [فصلت 41.]
فهذا إذا نظرت إلى أوصافه ولفظه فإن نظرت إلى ذاته وظاهره فإنه زخرف الدنيا وزينتها، وقد فتح بالقرآن والوحي على النبي صلى الله عليه وسلم وأمته خزائن الملوك وتصيير ذلك إلى أيديهم
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 155 والطبراني في الكبير 6/ 212 وابن عدي في الكامل 1/ 46 والعقيلي في الضعفاء 2/ 295 وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7/ 161 وعزاه لأحمد وأبو يعلى والطبراني وقال: فيه ابن لهيعة وفيه خلاف وفسره بعض رواة أبي يعلى بأن من جمع القرآن ثم دخل النار فهو شر من الخنزير.(2/68)
ذهبها وفضتها وجميع زخرفها وزينتها. ثم وعد بإتباع الوحي والقرآن قصور الذهب في الجنة قال صلى الله عليه وسلم: «جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما» وفي التنزيل: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف 71] فكأن ذلك الذهب يشعر بالذهب الذي يصير إليه من اتبع الحق والقرآن، وأوصافه تشعر بأوصاف الحق والقرآن، ولفظه يشعر بإذهاب الرجس. كما تقدم.
فهذه حكم بالغة لمن تأمل، واعتبار صحيح لمن تدبر.
وزاد غيره أن الذهب من جوالب السرور. وقال الشاعر:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
[ (1) ] .
الثالث عشر: قال النووي رحمه اللَّه تعالى: ليس في هذا الخبر ما يوهم جواز استعمال إناء الذهب والفضة لأن هذا فعل الملائكة واستعمالهم، وليس بلازم أن يكون حكمهم حكمنا ولأنه كان قبل تحريم النبي صلى الله عليه وسلم أواني الذهب والفضة. انتهى.
أي لأن التحريم إنما وقع بالمدينة كما نبه عليه الحافظ.
الرابع عشر: يؤخذ من غسل قلبه صلى الله عليه وسلم بماء زمزم أنه أفضل المياه وبه جزم الإمام البلقيني قال ابن أبي جمرة: إنما لم يغسل بماء الجنة لما اجتمع في زمزم من كون أصل مائها من الجنة ثم استقر في الأرض، فأريد بذلك بقاء بركته صلى الله عليه وسلم في الأرض.
وقال غيره: لما كان ماء زمزم أصل حياة أبيه إسماعيل صلى الله عليه وسلم وقد ربي عليه ونما عليه قلبه وجسده وصار هو صاحبه وصاحب البلدة المباركة، ناسب أن يكون ولده الصادق المصدوق كذلك. ولما فيه من الإشارة إلى اختصاصه بذلك بعده فإنه قد صارت الولاية إليه في الفتح فجعل السقاية للعباس وولده وحجابة البيت لعثمان بن شيبة وعقبه إلى يوم القيامة.
الخامس عشر: الحكمة في غسل صدره صلى الله عليه وسلم بماء الثلج والبرد هي مع ما فيهما من الصفاء وعدم التكدر بالأجزاء الترابية التي هي محل الأرجاس وعنصر الأكدار، الإيماء إلى أن الوقت يصفو له صلى الله عليه وسلم ولأمته ويروق بشريعته الغراء وسنته، والإشارة إلى ثلوج صدره أي انشراحه بالنصر على أعدائه والظفر بهم والإيذان ببرودة قلبه، أي طمأنينته على أمته بالمغفرة لهم والتجاوز عن سيئاتهم.
وقال ابن دحية: إنما غسل قلبه صلى الله عليه وسلم بالثلج لما يشعر به الثلج من ثلج اليقين إلى قلبه.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول بين التكبير والقراءة: «اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والبرد
[ (2) ] » وأراد
__________
[ (1) ] البيت لأبي نواس انظر الأغاني 4/ 200.
[ (2) ] أخرجه البخاري 11/ 180 حديث (6868) ومسلم 4/ 2078 حديث (48- 2705) .(2/69)
تعالى أن يغسل قلبه فيما حمل من الجنة في طست ملئ حكمة وإيمانا ليعرف قلبه طيب الجنة ويجد حلاوتها فيكون في الدنيا أزهد وعلى دعوة الخلق إلى الجنة أحرص، ولأنه صلى الله عليه وسلم كان له أعداء يتقولون عليه فأراد اللَّه تعالى أن ينفي عنه طبع البشرية من ضيق الصدر وسوء مقالات الأعداء، فغسل قلبه ليورث ذلك صدره سعة ويفارقه الضيق. كما قال تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ [الحجر 97] . فغسل قلبه غير مرة فصار بحيث إذا ضرب أو شج رأسه أو كسرت رباعيته كما في يوم أحد
يقول: «اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» .
السادس عشر: جاء في رواية: أن المغسول البطن. فقيل: المراد بالبطن هنا ما بطن وهو القلب، واستظهره بعضهم لأنه جاء في رواية ذكر القلب ولم يذكر البطن. ويحتمل أن تحمل كل رواية على ظاهرها، ويقع الجمع بينهما بأن يقال: أخبر صلى الله عليه وسلم مرة بغسل البطن ولم يتعرض لذكر القلب، وأخبر مرة بذكر القلب ولم يتعرض لذكر البطن، فيكون قد حصل فيهما معا مبالغة في تنظيف المحل.
قلت: تقدم التصريح بذلك في الأحاديث السابقة.
السابع عشر: قال السهيلي رحمه اللَّه تعالى: فإن قيل كيف يكون الإيمان والحكمة في طست من ذهب، والإيمان عرض من الأعراض لا يوصف بها إلا محلها والذي يقوم به، ولا يجوز فيها الانتقال لأن الانتقال من صفة الأجسام لا من صفة الأعراض؟ قلنا: إنما عبر عما في الطست- بالحكمة والإيمان كما عبر عن اللبن الذي شربه وأعطى فضله عمر بن الخطاب بالعلم، فكان تأويل ما أفرغ في قلبه صلى الله عليه وسلم إيمانا وحكمة ولعل الذي كان في الطست كان ثلجا وبردا كما ذكر في الحديث الأول، فعبر في المرة الثانية بما يؤول إليه وعبر عنه في المرة الأولى بصورته التي رآها، لأنه في المرة الأولى كان طفلا فلما رأى الثلج في طست الذهب اعتقده ثلجا حتى عرف تأويله بعد. وفي المرة الأخرى كان نبيا فلما رأى طست الذهب مملوءا ثلجا علم التأويل لحينه واعتقده في ذلك المقام حكمة وإيمانا، فكان لفظه في الحديثين [ (1) ] على حسب اعتقاده في المقامين. انتهى.
وقال النووي والحافظ: المعنى جعل في الطست شيء يحصل به الزيادة في كمال الإيمان وكمال الحكمة، وهذا المملوء يحتمل أن يكون على الحقيقة، وتجسد المعاني جائز كما جاء أن سورة البقرة تجيء يوم القيامة كأنها الظلة والموت في صورة كبش وكذلك وزن الأعمال، وغير ذلك من أحوال الغيب.
__________
[ (1) ] في أ: الحديث.(2/70)
وقال البيضاوي [ (1) ] رحمه اللَّه في شرح المصابيح لعل ذلك من باب التمثيل، إذ تمثيل المعاني وقع كثيرا كما مثلت له الجنة والنار في عرض الحائط- بضم العين المهملة، وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس.
وأشار النووي بقوله: جعل فيه شيء يحصل به زيادة في كمال الإيمان إلى آخره:
أنه صلى الله عليه وسلم كان متصفا بأقوى الإيمان.
الثامن عشر: المملوء الصدر أو البطن ففي رواية ذكر البطن وفي غيرها القلب. والظاهر أنهما ملئا معا وأخبر صلى الله عليه وسلم في رواية بالبطن وأخبر في أخرى بالقلب، ويحتمل أن يكون أراد القلب وذكر البطن توسعة لأن العرب تسمي الشيء بما قاربه وبما كان فيه. وقد قال تعالى:
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام 125] والمراد بالصدر في الآية القلب فسماه باسم ما هو فيه وهو الصدر.
التاسع عشر: اختلف في تفسير الحكمة فقيل: إنها العلم المشتمل على معرفة اللَّه تعالى مع نفاذ البصيرة وتهذيب النفس وتحقيق الحق للعمل به والكف عن ضده، والحكيم من حاز ذلك. قال الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى: هذا ما صفا لنا من أقوال كثيرة. انتهى.
وقد تطلق الحكمة على القرآن وهو مشتمل على ذكر ذكر ذلك كله، وعلى النبوة كذلك.
وقد تطلق على العلم فقط وعلى المعرفة فقط ونحو ذلك.
وقال الحافظ: أصح ما قيل فيها: أنها وضع الشيء في محله والفهم في كتاب اللَّه تعالى. وعلى التفسير الثاني قد توجد الحكمة دون الإيمان، وقد لا توجد. وعلى الأول فقد يتلازمان لأن الإيمان يدل على الحكمة.
العشرون: قال بعض العلماء: المراد بالوزن في قوله «زنه بعشرة من أمته» الوزن الاعتباري، فيكون المراد الرجحان في الفضل وهو كذلك. وهو فائدة فعل الملكين ذلك ليعلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك حتى يخبر به غيره ويعتقده، إذ هو من الأمور الاعتقادية.
وسألت شيخ الإسلام برهان الدين ابن أبي شريف رحمه اللَّه تعالى عن هذا الحديث
__________
[ (1) ] عبد الله بن عمر بن محمد بن على، قاضي القضاة، ناصر الدين، أبو الخير البيضاوي، صاحب المصنفات وعالم آذربيجان وشيخ تلك الناحية. ولي قضاء شيراز. قال السبكي: كان إماما مبرزا، نظارا، خيرا، صالحا، متعبدا. برع في الفقه والأصول، وجمع بين المعقول والمنقول. تكلم كل من الأئمة بالثناء على مصنفاته وفاه، ولو لم يكن له غير المنهاج الوجيز لفظه المحرر لكفاه. ولي أمر القضاء بشيراز، وقابل الأحكام الشرعية بالاحترام والاحتراز. توفي بمدينة تبريز، قال السبكي والإسنوي سنة إحدى وتسعين وستمائة. وقال ابن كثير في تاريخه والكتبي وابن حبيب: توفى سنة خمس وثمانين. [انظر الطبقات لابن قاضي شهبة 2/ 172، 173] .(2/71)
قبل وقوفي على الكلام السابق فكتب لي بخطه: هذا الحديث يقتضي أن المعاني جعلها اللَّه تعالى ذواتا فعند ذلك قال الملك لصاحبه: أجعله في كفة وأجعل ألفا من أمته في كفة. ففعل فرجح ماله صلى الله عليه وسلم رجحانا طاش معه ما للألف بحيث يخيل إليه أنه يسقط بعضهم عليه، ولما عرف الملكان منه الرجحان وأنه معنى لو اجتمعت المعاني كلها للأمة ووضعت في كفة ووضع ماله صلى الله عليه وسلم لرجح على الأمة، قالا: لو أن أمته وزنت به مال بهم، لأن مآثر خير الخلق صلى الله عليه وسلم وما وهبه اللَّه تعالى له من الفضائل يستحيل أن يساويها غيرها. واللَّه أعلم.(2/72)
الباب الخامس عشر في صفة يديه وإبطيه صلى الله عليه وسلم
قال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شثن الكفين سائل الأطراف سبط القصب [ (1) ] .
رواه الترمذي.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضخم الكفين [ (2) ] .
رواه أبو يعلى وابن عساكر.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بسط الكفين [ (3) ] .
رواه البخاري.
وقال الحافظ أبو بكر بن أبي خيثمة رحمه اللَّه تعالى: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عبل العضدين والذراعين طويل الزندين، وكان معمر الأوصال سبط القصب كأن أصابعه قضبان الفضة [ (4) ] .
رواه أبو الحسن بن الضحاك.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عبل الذراعين [ (5) ] .
رواه أبو الحسن بن الضحاك.
وقال هند بن أبي هالة كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أشعر الذراعين طويل الزندين رحب الراحة [ (6) ] .
رواه الترمذي.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم شبح الذراعين [ (7) ] .
رواه ابن سعد وابن عساكر.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 10/ 369 عن أنس بلفظ «كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم شاش القدمين والكفين» حديث (5910) .
[ (2) ] أخرجه البخاري عن أنس بلفظ «ضخم اليدين» (5907) .
[ (3) ] أخرجه البخاري حديث (5907) .
[ (4) ] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 1/ 305.
[ (5) ] العبل الضخم من كل شيء يقال هو عبل الذراعين وفرس عبل الشوي ضخم القوائم. [انظر المعجم الوسيط 2/ 587] .
[ (6) ] أخرجه الترمذي في الشمائل ص (19- 20) انظر مختصر الشمائل وعزاه صاحب المختصر للطبراني والبيهقي في الدلائل. والزندان الساعد والذراع والأعلى منهما هو الساعد والأسفل منهما هو الذراع مطرفهما الذي يلي الإبهام هو الكوع والذي يلي الخنصر هو الكرسوع والرسغ مجتمع الزندين من أسفل والمرفق مجتمعهما من أعلى. [انظر المعجم الوسيط 1/ 404] .
[ (7) ] أخرجه البيهقي في دلائل النبوة 1/ 44، وذكره المتقي الهندي في كنز العمال (17824) .(2/73)
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: ما مسست حريرا ولا ديباجا قط ألين من كف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم [ (1) ] .
رواه الإمام أحمد والشيخان.
وقال المستورد بن شداد [ (2) ] عن أبيه رضي اللَّه تعالى عنه: أتيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأخذت بيده فإذا هي ألين من الحرير وأبرد من الثلج.
رواه الطبراني.
وقال وائل بن حجر رضي اللَّه تعالى عنه: لقد كنت أصافح النبي صلى اللَّه عليه وسلم أو يمس جلدي جلده فأتعرفه بعد في يدي فإنه لأطيب رائحة من المسك.
رواه الطبراني والبيهقي.
وقال يزيد بن الأسود [ (3) ] رضي اللَّه تعالى عنه: ناولني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يده فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك.
رواه الشيخان.
وقال جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه: مسح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خدي فوجدت ليده بردا وريحا كأنما أخرجت من جؤنة عطار [ (4) ] .
رواه مسلم.
وقال المثنى بن صالح عن جدته رضي اللَّه تعالى عنها قالت: صافحت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلم أر واللَّه كفا ألين من كفه صلى اللَّه عليه وسلم.
رواه أبو الحسن بن الضحاك.
وقال سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تعالى عنه: اشتكيت بمكة فدخل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يعودني فوضع يده على جبهتي فمسح وجهي وصدري وبطني فما زلت يخيل إلي أني أجد برد يده على كبدي حتى الساعة [ (5) ] .
رواه الإمام أحمد.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 31 (3561) ومسلم 4/ 1814 حديث (81- 2330) .
[ (2) ] المستورد بن شداد بن عمرو القرشي الفهري: حجازي نزل الكوفة، له ولأبيه صحبة، مات سنة خمس وأربعين.
[التقريب 2/ 242] .
[ (3) ] يزيد بن الأسود أو ابن أبي الأسود، صحابي له حديث. وعنه ابنه جابر.
[ (4) ] أخرجه مسلم 4/ 1814 حديث (80- 2329) .
[ (5) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 161.(2/74)
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يرفع يديه في الدعاء حتى يرى بياض إبطيه.
رواه البخاري وغيره.
وقال جابر بن عبد الله رضي اللَّه تعالى عنهما: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا سجد يرى بياض إبطيه [ (1) ] .
رواه ابن سعد.
وقال رجل من بني حريش رضي اللَّه تعالى عنه: ضمني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فسال علي من عرق إبطيه مثل ريح المسك.
رواه البزار.
قال الحافظ محب الدين الطبري رحمه اللَّه تعالى: من خصائص النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن الإبط من جميع الناس متغير اللون غيره صلى اللَّه عليه وسلم.
وذكر القرطبي مثله وزاد: أنه لا شعر عليه. وجرى على ذلك الإمام الإسنوي رحمه اللَّه تعالى. وسيأتي الكلام على ذلك في الخصائص إن شاء اللَّه تعالى.
تنبيهات
الأول: وصف أنس وغيره كف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالليونة، وهو مخالف لوصف هند له بالشثن وهو الغلظ مع الخشونة كما قال الأصمعي.
قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: والجمع بينهما: أن المراد باللين في الجلد والغلظ في العظام، فيجتمع له نعومة البدن وقوته.
قال ابن بطال [ (2) ] رحمه اللَّه تعالى: كانت كفه صلى اللَّه عليه وسلم ممتلئة لحما غير أنها مع ضخامتها كانت لينة كما في حديث المستورد. وأما قول الأصمعي: الشثن غلظ الكف مع خشونة فلم يوافق على تفسيره بالخشونة، والذي فسر به الخليل أولى. وعلى تسليم ما فسر به الأصمعي يحتمل أن يكون وصف كف النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فكان إذا عمل في الجهاد أو مهنة أهله صار كفه خشنا للعارض المذكور، وإذا ترك ذلك رجع إلى أصل جبلته من النعومة.
وقال القاضي: فسر أبو عبيد الشثن بالغلظ مع القصر وتعقب بأنه ثبت في وصفه صلى صلى اللَّه عليه وسلم أنه كان سائل الأطراف. انتهى.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 233 وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2/ 225.
[ (2) ] عليّ بن خلف بن عبد الملك بن بطال، أبو الحسن: عالم بالحديث، من أهل قرطبة. له «شرح البخاري» توفي سنة 449 هـ[انظر الأعلام 4/ 285] .(2/75)
وقال الحافظ: ويؤيد كون كفه صلى اللَّه عليه وسلم ليّنا قوله في رواية النعمان: كان سبط الكفين بتقديم المهملة على الموحدة فإنه موافق لوصفها باللين.
والتحقيق في الشثن أنه غلظ من غير قصر ولا خشونة.
الثاني: زعم الحكيم الترمذي وتبعه أبو عبد الله القرطبي والدميري في شرح المنهاج أن سبابة النبي صلى اللَّه عليه وسلم كانت أطول من الوسطى. قال ابن دحية: وهذا باطل بيقين ولم ينقله أحد من ثقات المسلمين مع إشارته صلى اللَّه عليه وسلم بأصبعه في كل وقت وحين، ولم يحك ذلك عند أحد من الناظرين.
وفي مسلم عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «بعثت أنا والساعة كهاتين [ (1) ] » وفي رواية: فقرن شعبة بين إصبعيه المسبحة والوسطى كليهما.
وروى الترمذي وحسنه عن المسترود بن شداد يرفعه: «بعثت في نفس الساعة فسبقتها كما سبقت هذه هذه [ (2) ] » . لإصبعه السبابة والوسطى.
وقال الحافظ في فتاويه: ما قاله الترمذي الحكيم خطأ نشا عن اعتماد رواية مطلقة، ولكن الحديث في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود عن ميمونة بنت كردم رضي اللَّه تعالى عنهما قالت: رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمكة وهو على ناقة له وأنا مع أبي. فذكرت الحديث إلى قولها: فدنا منه أبي فأخذ بقدمه فأقر له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قالت: فما نسيت فيما نسيت طول إصبع قدمه السَّبابة على سائر أصابعه. الحديث. انتهى.
وقد جزم الإمام العلامة فتح الدين ابن الشهيد رحمه اللَّه تعالى بأن ذلك كان في سبابة قدمه صلى اللَّه عليه وسلم فقال في سيرته المنظومة التي لا نظير لها في بابها:
ووصف زينب بنت كردم ... فيما رأته عينها في القدم
فإنها سميت في الرواية ميمونة. وكذا في الباب بعده:
سبابة النبي كانت أطول ... أصابع النبي فاحفظ واسأل
كردم بوزن جعفر.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
شثن الكفين: بشين معجمة فثاء مثلثة ساكنة فنون: هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر، ويحمد ذلك في الرجال لأنه أشد لقبضتهم ويذم في النساء.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري في الصحيح 11/ 347 الحديث (6504) وأخرجه مسلم بتمامه في الصحيح 4/ 2268- 2269 الحديث (133/ 2951) .
[ (2) ] أخرجه الترمذي 4/ 429 الحديث (2213) وذكره المتقي الهندي في كنز العمال (38329) .(2/76)
سائل الأطراف: بسين مهملة وآخره لام، من السيلان أي ممتدها، يعني أنها طوال ليست بمتعقدة ولا منقبضة. ورواه بعضهم بالنون بدل اللام فقال سائن. قال ابن الأنباري: وهما بمعنى تبدل اللام من النون، أي طويل الأصابع.
سبط: بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة وكسرها، وحكي الفتح أيضاً وبالطاء المهملة: الممتد الذي ليس فيه تعقد ولا نتوء.
والقصب بقاف فصاد مهملة فباء موحدة جمع قصبة وهي كل عظم أجوف فيه مخ وأما العريض فيسمى لوحا، يريد بهما ساعديه وساقيه. وفي لفظ: العصب بالعين المهملة بدل القاف.
الزندان: بفتح الزاي: عظما الذراعين.
رحب الراحة: أي واسع الكف. وقال في النهاية: يكون بذلك عن السخاء والكرم.
فسيح- بفاء فسين وحاء مهملتين بينهما مثناة تحتية: أي بعيد ما بينهما لسعة صدره.
شبح الذراعين: بشين معجمة فباء موحدة فحاء مهملة أي عريض الذراعين.
مسست: بسينين الأولى مكسورة وتفتح والثانية ساكنة.
ولا ديباجا: من عطف الخاص على العام لأن الديباج نوع من الحرير.
ألين: أنعم.
الجؤنة: يأتي الكلام عليها في طيب عرقه وريحه صلى اللَّه عليه وسلم. واللَّه أعلم.(2/77)
الباب السادس عشر في صفة ساقيه وفخذيه وقدميه صلى الله عليه وسلم
قال جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان في ساقي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حموشة [ (1) ] .
رواه مسلم.
وقال سراقة بن مالك بن جعشم [ (2) ]- بضم الجيم والمعجمة بينهما عين مهملة- رضي اللَّه تعالى عنه: دنوت من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو على ناقته فرأيت ساقه كأنها جمارة نخل.
رواه يعقوب بن سفيان وإبراهيم الحربي.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: انحسر الإزار عن فخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو راكب في غزوة خيبر فإني لأرى بياض فخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
رواه ابن أبي خيثمة.
وقال أيضاً: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ضخم القدمين.
رواه الشيخان والبيهقي [ (3) ] .
وقال جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم منهوس العقب.
رواه مسلم [ (4) ] .
وقال أبو جحيفة رضي اللَّه تعالى عنه: خرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فكأني أنظر إلى وبيص ساقيه [ (5) ] .
رواه البخاري.
وقال هند بن أبي هالة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم شثن الكفين والقدمين سائل الأطراف سبط القصب خمصان الأخمصين فسيح القدمين ينبو عنهما الماء.
رواه الترمذي.
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي 5/ 562 الحديث (3645) وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه صحيح.
[ (2) ] سراقة بن مالك بن جعشم: بضم الجيم والمعجمة بينهما عين مهملة، الكناني، ثم المدلجي، أبو سفيان، صحابي مشهور، من مسلمة الفتح، مات في خلافة عثمان، سنة أربع وعشرين، وقيل بعدها. [التقريب 1/ 284] .
[ (3) ] تقدم.
[ (4) ] أخرجه مسلم 4/ 1820 الحديث (97- 2339) .
[ (5) ] أخرجه البخاري 6/ 651 كتاب المناقب- باب صفة النبي صلى اللَّه عليه وسلم.(2/78)
وتقدم تفسير غريبه إلا قوله «خمصان» فسيأتي.
وقال عبد اللَّه بن بريدة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أحسن البشر قدما.
رواه ابن عساكر.
وقالت ميمونة بنت كردم بوزن جعفر- رضي اللَّه تعالى عنها: إنها رأت سبابة قدم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أطول من سائر أصابعه.
رواه الإمام أحمد وغيره [ (1) ] .
ويرحم اللَّه تعالى من قال:
يا رب بالقدم التي أوطأتها ... من قاب قوسين المحل الأعظما
وبحرمة القدم التي جعلت لها ... كتف البرية في الرسالة سلما
ثبت على متن الصراط تكرما ... قدمي وكن لي منقذا ومسلما
واجعلهما ذخري ومن كانا له ... أمن العذاب ولا يخاف جهنما
تنبيهات
الأول: ذكر كثير من المداح إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا مشى على الصخر غاصت قدماه فيه.
ولا وجود لذلك في كتب الحديث البتة. وقد أنكره الإمام برهان الدين الناجي بالنون- الدمشقي رحمه اللَّه تعالى وجزم بعدم وروده، والشيخ رحمه اللَّه تعالى في فتاويه وقال إنه لم يقف له على أصل ولا سند ولا رأى من خرجه في شيء من كتب الحديث وناهيك باطلاع الشيخ رحمه اللَّه تعالى. وقد راجعت الكتب اللّاتي ذكرها في آخر الكتاب فلم أر من ذكر ذلك، فشيء لا يوجد في كتب الحديث والتواريخ كيف تسوغ نسبته للنبي صلى اللَّه عليه وسلم؟!.
الثاني: في حديث جابر بن سمرة قال: كانت خنصر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من رجله متظاهرة. رواه البيهقي. وفي سنده سلمة بن حفص السعدي. قال ابن حبان كان يضع الحديث لا يحل الاحتجاج به ولا الرّواية عنه، وحديثه هذا باطل لا أصل له، ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان معتدل الخلق.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
الحموشة: بضم الحاء المهملة وشين معجمة: الدقّة.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد بنحوه 8/ 283 وعزاه للطبراني وقال فيه من لم أعرفهم.(2/79)
الجمار- كرمان: قلب النخل حين يقطع يكون رطبة بيضاء.
منهوس: بإعجام السين وإهمالها أي قليل لحم العقب.
الوبيص: البريق واللمعان.
خصمان [ (1) ] . بضم الخاء المعجمة كما وجدته مضبوطا بالقلم في نسخة صحيحة من الصحاح والنهاية، لكن في بعض نسخ الشفاء المعتمدة بالفتح. قال في النهاية: الأخمص من القدم الموضع الذي لا يلصق بالأرض منها عند الوطء والخمصان المبالغ فيه. أي ذلك الموضع من أسفل قدميه كان شديد التجافي عن الأرض جدا.
وسئل ابن الأعرابي رحمه اللَّه تعالى عنه فقال: إذا كان خمص الإخمص بقدر لم يرتفع عن الأرض جدا ولم يستو أسفل القدم جدا، فهو أحسن الخمص بخلاف الأول.
مسيح القدمين: بميم مفتوحة فسين مهملة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فحاء مهملة أي ملساوان لينتان ليس فيهما تكسر ولا شقاق فإذا أصابهما الماء نبا عنهما سريعا لملاستهما فينبو عنهما ولا يقف، يقال نبا الشيء ينبو إذا تباعد. وأما رواية عبد الرزاق والبزار عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يطأ بقدمه جميعا. وفي لفظ كليهما ليس له أخمص فيحتمل. واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] انظر اللسان 2/ 1266.(2/80)
الباب السابع عشر في ضخامة كراديسه صلى الله عليه وسلم
روى الترمذي عن هند بن أبي هالة، والبيهقي وابن عساكر وابن الجوزي عن علي، وأبو الحسن بن الضحاك عن جبير بن مطعم رضي اللَّه تعالى عنهم قالوا: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ضخم الكراديس.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جليل المشاش.
رواه الترمذي والبيهقي.
الكراديس: رؤوس العظام واحدها كردوس قيل هو ملتقى كل عظمين كالركبتين والمرفقين والمنكبين، أراد أنه صلى اللَّه عليه وسلم ضخم الأعضاء.
المشاش: بضم الميم وبشينين معجمتين: رؤوس العظام كالمرفقين والكفين والركبتين وقال الجوهري: رؤوس العظام اللينة التي يمكن مضغها.
جليلهما: عظيمهما.(2/81)
الباب الثامن عشر في طوله واعتدال خلقه ورقة بشرته صلى الله عليه وسلم
قال البراء بن عازب رضي اللَّه تعالى عنهما: لم يكن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالطويل البائن ولا بالقصير [ (1) ] .
رواه الشيخان.
وقال أيضاً: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مربوعا [ (2) ] .
رواه الخمسة.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ربعة وهو إلى الطول أقرب.
رواه محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات وأبو الحسن بن الضحاك بسند حسن.
وقال هند بن أبي هالة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم معتدل الخلق بادن متماسك أطول من المربوع وأقصر من المشذب.
رواه الترمذي.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أحسن الناس قواما وأحسن الناس وجها وأحسن الناس لونا وأطيب الناس ريحا وألين الناس كفا.
رواه أبو الحسن بن الضحاك وابن عساكر [ (3) ] .
وقال أيضاً: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ربعة من القوم ليس بالطويل البائن ولا بالقصير [ (4) ] .
متفق عليه.
وقالت أم معبد رضي اللَّه تعالى عنها: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ربعة لا بائن من طوله ولا تقتحمه عين من قصر غصنا بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا.
رواه البيهقي.
وقال معاذ بن جبل رضي اللَّه تعالى عنه: أردفني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خلفه في سفر فما مسست شيئاً قط ألين من جلد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
رواه البزّار والطبراني.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 652 حديث (3549) وذكره مسلم 4/ 1818 حديث (92- 2337) .
[ (2) ] تقدم.
[ (3) ] ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (18555) .
[ (4) ] أخرجه البخاري 6/ 652 الحديث (3547) .(2/82)
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: لم يكن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالطويل الممغط ولا بالقصير المتردد كان ربعة من القوم.
رواه ابن عساكر.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: ما مشى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مع أحد إلا طاله.
رواه ابن عساكر.
وقال أبو الطفيل عامر بن وائلة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مقصدا [ (1) ] .
رواه مسلم.
وقال البراء رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أحسن الناس وجها وأحسنهم خلقا، ليس بالطويل ولا بالقصير [ (2) ] .
رواه الشيخان.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: لم يكن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، وكان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ولم يكن يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فإذا فارقاه نسب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى الربعة.
رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه والبيهقي وابن عساكر.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ليس بالذاهب طولا وفوق الربعة إذا جامع القوم غمرهم [ (3) ] .
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند والبيهقي ولفظه: إذا جامع القوم.
وقال أيضاً: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رقيق البشرة.
رواه ابن الجوزي.
وقال ابن سبع رحمه اللَّه تعالى: إنه صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا جلس يكون كتفه أعلى من جميع الجالسين صلى اللَّه عليه وسلّم.
تنبيه في بيان غريب ما سبق:
اعتدال الخلق: يناسب الأعضاء والأطراف، أي لا تكون متباينة في الدقة والغلظ والصغر والكبر والطول والقصر.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 1820 حديث (99- 2340) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 6/ 652 (3549) ومسلم 4/ 1818 حديث (92- 2337) .
[ (3) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 151 وابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 121 وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 275 وعزاه لعبد الله بإسنادين في أحدهما رجل لم يسم والأخر من رواية يوسف بن مازن عن علي وأظنه لم يدرك عليا واللَّه أعلم.(2/83)
البادن: بكسر الدال المهملة: الضخم الكثير اللحم. ولما قال ذلك أردفه بقوله متماسك وهو الذي يمسك بعضه بعضا فليس هو بمسترخ ولا متهدل، كأن لحمه لاكتنازه واصطحابه يمسك بعضه بعضا لأن الغالب على السمن الاسترخاء.
المربوع: الذي بين الطويل والقصير.
المشذب: بميم مضمومة فشين فذال مشددة معجمتين مفتوحتين فباء موحدة: البائن طولا مع نقص في لحمه، أي ليس بنحيف طويل، لا بل طوله صلى اللَّه عليه وسلم وعرضه متناسبان على أتم صفة.
ربعة: براء مفتوحة فموحدة ساكنة أي مربوع الخلق لا طويل ولا قصير، والتأنيث باعتبار النفس، يقال رجل ربعة وامرأة ربعة وقد فسره في الحديث بقوله: ليس بالطويل البائن المفرط في الطول مع اضطراب القامة.
البائن: الطويل في نحافة اسم فاعل من بان أي ظهر على غيره. قاله الحافظ وفي النهاية:
أي المفرط طولا الذي بعد عن قدر الرجال الطوال [ (1) ] .
الغصن والأغصان: أطراف الشجر ما دامت فيها نابتة.
النضارة: حسن الوجه والبريق.
الثلاثة: النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر وعامر بن فهيرة.
المُمَّغط [ (2) ] : بميمين الأولى مضمومة والثانية مفتوحة مشددة فغين معجمة مكسورة المتناهي في الطول، وامتغط النهار امتدّ ومغطت الحبل إذا مددته وأصله منمغط والنون للمطاوعة فقلبت ميما وأدغمت في الميم ويقال بالعين المهملة بمعناه.
القصير المردد: وهو الذي تردد من بعض خلقه على بعض فهو المجتمع الخلق الذي يضرب إلى القصر جدا.
مقصدا: بميم مضمومة فقاف فصاد مشددة مفتوحتين أي ليس بطويل ولا قصير لا جسيم، كأن خلقه صلى اللَّه عليه وسلم يجيء به القصد من الأمور.
اكتنفه الرجلان: أحاطا به من جانبيه.
غمرهم: أي كان فوق كل من معه.
سهمهم: طالهم.
واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
__________
[ (1) ] في أطوله.
[ (2) ] انظر اللسان 5/ 4241.(2/84)
الباب التاسع عشر في عرقه صلى الله عليه وسلم وطيبه
قال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كثير العرق [ (1) ] .
رواه أبو الحسن بن الضحاك.
وقال أيضاً: ما شممت ريحا قط أو عرقا قط أطيب من ريح أو عرق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
رواه الإمام أحمد والشيخان والترمذي. وزاد: ولا شممت مسكا- ولا عطرا أطيب من ريح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم [ (2) ] .
وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: كأن ريح عرق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ريح المسك بأبي وأمي! لم أر قبله ولا بعده مثله.
رواه ابن عساكر.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يأتي أم سليم فيقيل عندها فتبسط له نطعا فيقيل عليه وكان كثير العرق وكانت تجمع عرقه صلى اللَّه عليه وسلم فتجعله في الطيب والقوارير، فيستيقظ النبي صلى اللَّه عليه وسلم فيقول: ما هذا الذي تضعين يا أم سليم؟ فتقول: هذا عرقك نجعله لطيبنا وهو أطيب الطيب. وفي رواية قالت: هذا عرقك أدوف به طيبي.
رواه مسلم وغيره [ (3) ] .
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: كان عرق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في وجهه مثل اللؤلؤ أطيب ريحا من المسك الأذفر وكأن كفه كف عطار مسها طيب أو لم يمسها به، يصافحه المصافح فيظل يومها يجد ريحهها، ويضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان من ريحها على رأسه.
رواه أبو بكر بن أبي خيثمة وأبو نعيم مختصرا.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ.
رواه أبو بكر بن أبي خيثمة.
وقالت أم عاصم امرأة عتبة بن فرقد السلمي له: إنا لنجهد في الطيب ولأنت أطيب
__________
[ (1) ] ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (17828) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 6/ 654 حديث (3561) ومسلم 4/ 1814 حديث (81- 2330) .
[ (3) ] أخرجه مسلم 4/ 1816 حديث (85- 2332) .(2/85)
ريحا منا فمم ذلك؟ فقال: أخذني السرى على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأتيته فشكوت ذلك إليه فأمرني أن أتجرد فتجردت وقعدت بين يديه صلى اللَّه عليه وسلم وألقيت ثوبي على فرجي فنفث في يده ومسح ظهري وبطني بيده فعبق بي هذا الطيب من يومئذ.
رواه الطبراني.
وروي عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إني زوجت ابنتي وأحب أن تعينني بشيء فقال: ما عندي شيء ولكن ايتني بقارورة واسعة الرأس وعود شجرة. فأتاه بهما فجعل النبي صلى اللَّه عليه وسلم يسلت له فيها من عرقه حتى امتلأت القارورة، فقال خذها وأمر ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة وتطيب به. فكانت إذا تطيبت به يشم أهل المدينة رائحة ذلك الطيب [ (1) ] .
رواه الطبراني وأبو يعلى وابن عدي.
وقال وائل بن حجر [ (2) ] رضي اللَّه تعالى عنه: كنت أصافح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أو يمس جلدي جلده فأتعرّفه بعده في يدي وإنه لأطيب من ريح المسك.
رواه الطبراني.
وقال يزيد بن الأسود رضي اللَّه تعالى عنه: ناولني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يده فإذا هي أبرد من الثلج وأطيب ريحا من المسك.
رواه البيهقي.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كل ريح طيب قد شممت، فما شممت قط أطيب من ريح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وكل شيء لين قد مسست فما مسست شيئاً قط ألين من كف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
رواه ابن عساكر.
وقال جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه مسح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خدي فوجدت ليده بردا وريحا كأنما أخرج يده من جؤنة عطار.
رواه مسلم.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: كان عرق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في وجه اللؤلؤ، ولريح عرق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أطيب من ريح المسك الأذفر.
__________
[ (1) ] ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 286 وعزاه للطبراني في الأوسط وقال فيه حسن الكلبي هو متروك.
[ (2) ] وائل بن حجر، بضم المهملة وسكون الجيم، ابن سعد بن مسروق، الحضرمي، صحابي جليل، وكان من ملوك اليمن، ثم سكن الكوفة، مات في ولاية معاوية. [التقريب 2/ 329.](2/86)
رواه ابن سعد وابن عساكر.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أزهر اللون كأن عرقه اللؤلؤ [ (1) ] .
رواه مسلم.
وقال رجل من قريش كنت مع أبي حين رجم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما عز بن مالك، فلما أخذته الحجارة أرعبت، فضمني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فسال من عرق إبطه مثل ريح المسك.
رواه الدارمي.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كنا نعرف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا أقبل بطيب ريحه.
رواه ابن سعد وأبو نعيم.
وقال معاذ بن جبل رضي اللَّه تعالى عنه: كنت أسير مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال أدن مني فدنوت منه فما شممت مسكا ولا عنبرا أطيب من ريح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
رواه البزار.
وقال جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تعالى عنهما: كان في رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خصال: لم يكن يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه أو عرفه.
رواه البخاري في تاريخه والدارمي.
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا مر في طريق من طرق المدينة.
وجدوا منه رائحة الطيب فيقال مر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في هذا الطريق [ (2) ] .
رواه أبو يعلى والبزار.
ويرحم اللَّه تعالى القائل حيث قال:
ولو أن ركبا يمموك لقادهم ... نسيمك حتى يستدل به الركب
والقائل:
يروح على تلك الطريق التي غدا ... عليها فلا ينهى علاه نهاته
تنفّسه في الوقت أنفاس عطره ... فمن طيبه طابت له طرقاته
تروح له الأرواح حيث تنسمت ... لها سحرا من حبه نسماته
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 1815 حديث (82- 2330) .
[ (2) ] ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 285 وعزاه لأبي يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وقال: ورجال أبي يعلى وثّقوا.(2/87)
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كثير العرق [ (1) ] .
رواه مسلم.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها فيما رواه ابن عساكر وأبو نعيم: كنت قاعدة أغزل والنبي صلى اللَّه عليه وسلم يخصف نعله فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نورا فبهت فقال: مالك بهت؟
قلت: جعل جبينك يعرق وجعل عرقك يتولد نورا ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره حيث يقول في شعره:
ومبرأ عن كل غبر حيضة ... وفساد مرضعة وداء معضل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت بروق العارض المتهلل
[ (2) ]
تنبيهات
الأول: قال إسحاق بن راهويه رحمه اللَّه تعالى: أن هذه الرائحة الطيبة كانت رائحة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من غير طيب.
وقال النووي رحمه اللَّه تعالى: وهذا مما أكرمه اللَّه تعالى به.
قالوا: وكانت الريح الطيبة صفته صلى اللَّه عليه وسلم وإن لم يمس طيبا، ومع هذا كان يستعمل الطيب في أكثر أوقاته مبالغة في طيب ريحه لملاقاة الملائكة وأخذ الوحي ومجالسة المسلمين.
الثاني: مبدأ هذه الرائحة الطيبة بجسده صلى اللَّه عليه وسلم من ليلة الإسراء. روى ابن مردويه عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم منذ أسري به ريحه ريح عروس وأطيب من ريح عروس.
الثالث: ما اشتهر على ألسنة بعض العوام أن الورد خلق من عرق رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر وأبو زكريا يحيى النووي والحافظ والشيخ وغيرهم: إنه باطل لا أصل له. والحديث رواه الديلمي في مسند الفردوس من طريق مكي بن بندار وقد اتهمه الدارقطني بوضع الحديث. وله طرق بينت بطلانها في كتابي «إتحاف اللبيب في بيان ما وضع في معراج الحبيب» .
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 1815 حديث (82- 2330) .
[ (2) ] الأبيات من قصيدة مطلعها:
ولقد سريت على الظلام بمغشم ... جلد من الفتيان غير مهبّل
ورواية البيتين أيضا:
ومبرأ من كل غبر حيضة ... ورضاع مغبلة وداء معضل
فإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبر من العارض المتهلل
انظر الشعر والشعراء 2/ 670، 671، والحماسة 1/ 82- 90 وخزانة الأدب 3/ 466- 467.(2/88)
الرابع: في بيان غريب ما تقدم:
شممت [ (1) ] : بكسر الميم في الماضي وفتحها في المضارع ويجوز فتحها في الماضي وضمها في المضارع.
أو عرفا: شك من الراوي لأن العرف- بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها فاء- هو الريح الطيب.
ومن ريح: بكسر الحاء بلا تنوين لأنه في حكم المضاف تقديره من ريح النبي صلى اللَّه عليه وسلم أو عرقه. ووقع في بعض الروايات بفتح الراء وبالقاف فأو على هذا للتنويع.
قال الحافظ: والأول هو المعروف. وفي رواية ما شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: ضبط هذا اللفظ بوجهين: أحدهما بسكون النون بعدها موحدة. والآخر بكسر الموحدة بعدها مثناة تحتية والأول هو المعروف، والثاني طيب معمول من أخلاط يجمعها الزعفران. وقيل هو الزعفران. ووقع عند البيهقي ولا شممت مسكا ولا عبيرا ذكرهما جميعا.
يقيل: ينام في القائلة وهي شدة الحر.
القوارير: آنية من زجاج. أدوف بالدال المهملة أي أخلط. يقال: داف الشيء يدوفه.
دوفا وأدافه: خلطه. الأذفر [ (2) ] بذال معجمة أي طيب الرائحة والذفر بالتحريك يقع على الطيب والكريه ويفرق بينهما بما يضاف إليه ويوصف به.
السرى: بفتحتين- خراج صغار لها لذع شديد.
عبق به الطيب عبقا من باب تعب- ظهرت ريحه بثوبه أبو بدنه فهو عبق. قلت: ولا يكون العبق إلا للرائحة الطيبة الزكية.
جؤنة [ (3) ]- بضم الجيم وهمزة ساكنة، ويجوز تسهيلها، سفط مغشى بجلد يجعل فيه العطار طيبه.
__________
[ (1) ] انظر المصباح المنير 323.
[ (2) ] انظر لسان العرب 2/ 1504/ 1505 والمعجم الوسيط 1/ 312.
[ (3) ] انظر المعجم الوسيط 1/ 149.(2/89)
الباب العشرون في مشيه صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن يرى له ظل
قال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كنت مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في جنازة فكنت إذا مشيت سبقني، فالتفت إلي رجل إلى جنبي فقلت: تطوى له الأرض وخليل إبراهيم [ (1) ] .
رواه الإمام أحمد وابن سعد.
وقال يزيد بن مرثد- بميم مفتوحة فراء ساكنة فثاء مثلثة مفتوحة فدال مهملة- وهو من التابعين رحمه اللَّه تعالى: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا مشى أسرع حتى يهرول الرجل وراءه فلا يدركه [ (2) ] .
رواه ابن سعد.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: ما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا وإنه غير مكترث [ (3) ] .
رواه الإمام أحمد والترمذي في الشمائل والبيهقي وابن عساكر من طرق.
وقال ذكوان [ (4) ] رحمه اللَّه تعالى: لم ير لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ظل في شمس ولا قمر.
رواه الحكيم الترمذي. وقال: معناه لئلا يطأ عليه كافر فيكون مذلة له.
وقال ابن سبع رحمه اللَّه تعالى: في خصائصه: إن ظله صلى اللَّه عليه وسلم كان لا يقع على الأرض وإنه كان نوراً وكان إذا مشى في الشمس أو القمر لا يظهر له ظل.
قال بعض العلماء: ويشهد له قوله صلى اللَّه عليه وسلم في دعائه: «واجعلني نورا» [ (5) ] وستأتي صفة مشيه صلى اللَّه عليه وسلم في باب آدابه.
نجهد- بفتح النون وضمها، يقال: جهد دابته وأجهدها إذا حمل عليها فوق طاقتها.
مكترث: أي غير مبال، ولا يستعمل إلا في النفي وأما استعماله في الإثبات فشاذ.
واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 2/ 258.
[ (2) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 2/ 100.
[ (3) ] أخرجه أحمد في المسند 2/ 350 والترمذي 5/ 563 حديث (3648) وقال هذا حديث غريب.
[ (4) ] ذكوان، أبو صالح، السمان الزيات، المدني، ثقة ثبت، وكان يجلب الزيت إلى الكوفة، من الثالثة، مات سنة إحدى ومائة. [التقريب 1/ 238] .
[ (5) ] أخرجه البخاري في الصحيح 11/ 116 الحديث (6316) وأخرجه مسلم في الصحيح 1/ 525- 526 الحديث (187/ 763) .(2/90)
الباب الحادي والعشرون في الآية في صوته صلى الله عليه وسلم وبلوغه حيث لا يبلغه صوت غيره
روى ابن سعد عن قتادة وابن عساكر عنه، عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه قال: ما بعث اللَّه نبيا إلا بعثه حسن الوجه حسن الصوت حتى بعث اللَّه نبيكم صلى الله عليه وسلم فبعثه حسن الوجه حسن الصوت.
وقال علي رضي اللَّه تعالى عنه: ما بعث اللَّه تعالى نبيا قط إلا بعثه صبيح الوجه كريم الحسب حسن الصوت، إن نبيكم كان صبيح الوجه كريم الحسب حسن الصوت.
رواه ابن عساكر.
وقال جبير بن مطعم رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حسن النغمة.
رواه أبو الحسن بن الضحاك.
وقال البراء رضي اللَّه تعالى عنه: خطبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى أسمع العواتق في خدورهن.
رواه أبو نعيم والبيهقي.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: جلس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على المنبر فقال للناس:
اجلسوا، فسمعه عبد الله بن رواحة وهو في بني غنم فجلس مكانه.
رواه أبو نعيم والبيهقي.
وقال عبد الرحمن بن معاذ التميمي رضي اللَّه تعالى عنه: خطبنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بمنى ففتحت أسماعنا. وفي لفظ: ففتح اللَّه أسماعنا حتى أنا كنا لنسمع ما يقول ونحن في منازلنا.
رواه ابن سعد وأبو نعيم.
وقالت أم هانئ رضي اللَّه تعالى عنها: كنا نسمع قراءة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في جوف الليل وأنا على عريشي [ (1) ] .
رواه ابن ماجه.
وقال البراء رضي اللَّه تعالى عنه: قرأ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في العشاء وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين: 1] فلم أسمع صوتا أحسن منه [ (2) ] .
متفق عليه.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن ماجة 1/ 429 حديث (1349) وقال في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات ورواه الترمذي في الشمائل والنسائي في الكبرى.
[ (2) ] أخرجه البخاري 8/ 583 حديث (4952) ومسلم 1/ 339 حديث (177- 464) .(2/91)
وقالت أم معبد رضي اللَّه تعالى عنها: كان في صورته صلى اللَّه عليه وسلم صحل.
رواه ابن عساكر وغيره.
تفسير الغريب
العواتق: جمع عاتق يقال: عتقت الجارية عن خدمة أبويها وعن أن يملكها زوج فهي عاتق.
وفي البارع [ (1) ] : العاتق التي لم تبن عن أهلها والتي لم تتزوج.
وقال أبو زيد رحمه اللَّه تعالى: هي التي أدركت ما لم تعنس. وقال الأصمعي: هي فوق المعصر.
صحل [ (2) ]- بفتح الصاد والحاء المهملتين وباللام- شبه البحة وهي غلظ الصوت. وفي رواية: صهل بالهاء بدل الحاء وهو قريب منه لأن الصهل صوت الفرس، وهو يصهل بشدة وقوة.
وستأتي صفة كلامه صلى اللَّه عليه وسلم في أبواب آدابه.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 3/ 2798، 2799.
[ (2) ] انظر اللسان 3/ 2405 والمعجم الوسيط 1/ 509.(2/92)
الباب الثاني والعشرون في فصاحته صلى الله عليه وسلم
الفصاحة لغة: البيان.
واصطلاحا: خلوص الكلام من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد.
هذا باعتبار المعنى. وأما باعتبار اللفظ فهي كونه على ألسنة الفصحاء الموثوق بعربيتهم أدور واستعمالهم له أكثر.
والفرق بينهما وبين البلاغة: أن الفصاحة يوصف بها المفرد والكلام والمتكلم، والبلاغة يوصف بها الأخيران فقط.
ففصاحة المفرد: خلوصه من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس.
وفصاحة الكلام: خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد.
وبلاغته: مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته.
وفصاحة المتكلم: ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود. وبلاغته: ملكة يقتدر بها على وجوه تأليف الكلام البليغ. فالبلاغة أخص مطلقا، فكلّ بليغ فصيح ولا عكس، والبليغ الذي يبلغ بعبارته كنه ضميره.
وقال الإمام العلامة أبو سليمان أحمد الخطابي رحمه اللَّه تعالى: اعلم أن اللَّه تعالى لما وضع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم موضع البلاغ من وحيه ونصبه منصب البيان لدينه اختار له من اللغات أعذبها ومن الألسن أفصحها وأبينها، ثم أمده بجوامع الكلم التي جعلها ردءا لنبوته وعلما لرسالته، لينتظم في القليل منها عليم كثير يسهل على السامعين حفظه ولا يؤودهم حمله، ومن تتبع الجوامع من كلامه صلى اللَّه عليه وسلم لم يعدم بيانها.
وقال الإمام أبو السعادات المبارك ابن محمد بن الأثير رحمهم اللَّه تعالى في أول النهاية: قد عرفت أيدك اللَّه تعالى وإيانا بلطفه وتوفيقه، أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان أفصح العرب لسانا وأوضحهم بيانا وأعذبهم نطقا وأسدهم لفظا وأبينهم لهجة وأقومهم حجة، وأعرفهم بمواقع الخطاب وأهداهم إلى طريق الصواب، تأييدا إلهيا ولفظا سمائيا وعناية ربانية ورعاية روحانية، حتى لقد
قال له علي رضي اللَّه تعالى عنه وسمعه يخاطب وفد بني نهد: يا رسول اللَّه نحن بنو أب واحد، ونراك تكلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره فقال: «أدبني ربي فأحسن تأديبي وربيت في بني سعد»
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] ذكره العجلوني في كشف الخفا وعزاه العسكري وقال إسناده ضعيف جدا وإن اقتصر شيخنا يعني الحافظ بن حجر على الحكم عليه بالغرابة في بعض فتاويه ولكن معناه صحيح وجزم به الأثير في خطبه النهاية. قال ابن تيمية:(2/93)
فكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يخاطب العرب [ (1) ] على اختلاف شعوبهم وقبائلهم وتباين بطونهم وأفخاذهم وفصائلهم يخاطب كلا منهم بما يفهمون ويحادثهم بما يعلمونه، ولذلك قال صدق اللَّه تعالى
قوله: «أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم»
[ (2) ] . فكأن اللَّه تعالى قد أعلمه ما لم يكن يعلمه غيره من بين أبيه وجمع فيه ما تفرق ولم يوجد في قاصي العرب ودانيه، وكان أصحابه رضي اللَّه تعالى عنهم ومن يفد إليه من العرب يعرفون أكثر ما يقوله وما جهلوه يسألونه عنه فيوضحه لهم.
قلت: قوله: «ولذلك
قال: أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم» .
رواه الحسن بن سفيان في مسنده بسند ضعيف وله طرق تقويه.
وقال القاضي أبو الفضل عياض رحمه اللَّه تعالى: وأما فصاحة اللسان وبلاغة القول فقد كان صلى اللَّه عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبع وبراعة منزع وإيجاز مقطع ونصاعة لفظ وجزالة قول وصحة معان وقلة تكلف، أوتي صلى اللَّه عليه وسلم جوامع الكلم وخص ببدائع الحكم وعلم ألسنة العرب، يخاطب كل أمة بلسانها ويحاورها بلغتها ويباريها في منزع بلاغتها، حتى كان كثير من أصحابه صلى اللَّه عليه وسلم يسألونه في غير موطن عن شرح كلامه وتفسير قوله، من تأمل حديثه وسيره على ذلك وتحققه.
ففصاحة لسانه صلى اللَّه عليه وسلم غاية لا يدرك مداها ومنزلة لا يداني منتهاها وكيف لا يكون ذلك وقد جعل اللَّه تعالى لسانه سيفا من سيوفه يبين عنه مراده ويدعو إليه عباده، فهو ينطق بحكمة عن أمره، ويبين عن مراده بحقيقة ذكره، أفصح خلق اللَّه إذا لفظ وأنصحهم إذا وعظ، لا يقول هجرا ولا ينطق هذرا، كلامه كله يثمر علما ويمتثل شرعا وحكما لا يتفوه بشر بكلام أحكم منه في مقالته ولا أجزل منه في عذوبته، وخليق بمن عبر عن مراد اللَّه بلسانه وأقام الحجة على عباده ببيانه، وبين مواضع فروضه وأوامره ونواهيه وزواجره، أن يكون أحكم الخلق تبيانا وأفصحهم لسانا وأوضحهم بيانا، وبالجملة فلا يحتاج العلم بفصاحته إلى شاهد ولا ينكرها موافق ولا معاند.
قال القاضي رحمه اللَّه تعالى: أما كلامه المعتاد وفصاحته المعلومة وجوامع حكمه
__________
[ () ] لا يعرف له إسناد ثابت لكن قال في الدرر صححه أبو الفضل بن ناصر، وقال في اللآلئ: معناه صحيح لكن لم يأت من طريق صحيح، وذكره ابن الجوزي في الأحاديث الواهية فقال: لا يصح ففي إسناده ضعفاء لا مجاهيل.
والحديث أخرجه الفتني في تذكرة الموضوعات (87) وذكره المتقي الهندي في كنز العمال (31895) .
[ (1) ] في أ: يخاطب ألوفا.
[ (2) ] ذكره العجلوني في كشف الخفا وعزاه لأبي الحسن التيمي.(2/94)
المأثورة فقد ألف الناس فيها الدواوين وجمعت في ألفاظها ومعانيها الكتب. ومنها ما لا يوازى فصاحة ولا يبارى بلاغة.
كقوله صلى اللَّه عليه وسلم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم» [ (1) ] .
رواه أبو داود والنسائي عن علي رضي اللَّه تعالى عنه.
«المسلمون كأسنان المشط» [ (2) ] .
ابن الآل في مكارم الأخلاق عن سهل بن سعد رضي اللَّه تعالى عنه.
«المرء مع من أحب» .
الشيخان عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه.
«لا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له» [ (3) ] .
ابن عدي عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه.
«الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» [ (4) ] .
الشيخان عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه.
«ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه» [ (5) ] .
ابن السمعاني في تاريخه عن علي رضي اللَّه تعالى عنه.
«المستشار موتمن، وهو بالخيار إن شاء تكلم وإن شاء سكت.»
أحمد عن أبي مسعود عقبة بن عمرو وصدره عند الأربعة عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه.
«رحم اللَّه عبدا قال خيرا فغنم أو سكت عن شر فسلم» [ (6) ] .
أبو الشيخ في الثواب عن أبي أمامة والديلمي عن أنس رضي اللَّه تعالى عنهما.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 22 وأبو داود 4/ 666 (4530) والنسائي 8/ 24 كتاب القسامة وابن ماجة (1683) والبيهقي في السند 8/ 29 وعبد الرزاق في المصنف (403) .
[ (2) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 2/ 153 وقال: هذا الحديث وضعه سليمان على إسحاق ورواه ابن الجوزي في الموضوعات 3/ 80.
[ (3) ] أخرجه البخاري 10/ 557 (6169) ومسلم 4/ 2034 (165- 2640) .
[ (4) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 2/ 153 وابن حبان في المجروحين 1/ 88 والدولابي 1/ 168 وابن الجوزي في الموضوعات 3/ 80.
[ (5) ] أخرجه البخاري 6/ 525 (3493) ومسلم 4/ 1358 (199- 2526) .
[ (6) ] أخرجه أبو داود (5128) والترمذي (2822) وابن ماجة (3745- 3746) وأحمد في المسند 5/ 274 والبيهقي في السند 10/ 112 والدارمي 2/ 219 والطبراني في الكبير 12/ 409 والحاكم في المستدرك 4/ 131. وابن حبان (1991) وابن عدي في الكامل 1/ 201.(2/95)
«أسلم تسلم يؤتك اللَّه أجرك مرتين» .
الشيخان في قصة هرقل.
«إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساُ يوم القيامة أحسنكم أخلاقاُ الموطأون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون» [ (1) ] .
الترمذي عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه.
«لعله كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا يُغنيه» [ (2) ] .
البيهقي في الشعب عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه والترمذي نحوه.
«ذو الوجهين لا يكون عند اللَّه وجيها» [ (3) ] .
أبو داود بلفظ: ذو الوجهين في الدنيا ذو لسانين في النار.
«نهيه عن قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ومنع وهات، وعقوق الأمهات ووأد البنات» .
رواه الشيخان.
«اتق اللَّه حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» [ (4) ] .
رواه الإمام أحمد وغيره عن أبي ذر رضي اللَّه تعالى عنه.
«خير الأمور أوساطها» [ (5) ] .
ابن السمعاني في الذيل عن علي.
«أحبب حبيبك هوناً ما فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما» [ (6) ] .
البخاري في الأدب المفرد والترمذي عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه.
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي عن جابر 4/ 325 (2018) وعن أبي ثعلبة الخشني أخرجه أحمد في المسند 4/ 193 وابن حبان كذا في الموارد (1917) والطبراني في الكبير 22/ 221 (588) وأبو نعيم في الحلية 3/ 97 والبيهقي في المسند 1/ 193 وذكره المتقي الهندي في الكنز 3/ 15 (5213) وعزاه للخرائطي.
[ (2) ] أخرجه الترمذي 4/ 483 (2316) .
[ (3) ] ذكره باللفظ الأول القاضي عياض في الشفا 1/ 175 وبالثاني أبو داود 2/ 684 (4873) .
[ (4) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 153 والدارمي 2/ 323 والترمذي 4/ 355 (1987) وقال: حسن صحيح.
[ (5) ] أخرجه البيهقي في السنن 3/ 273) والفتني في التذكرة (189) وذكره العجلوني في الكشف 1/ 469 وقال: قال ابن الغزي ضعيف وقال في المقاصد: رواه ابن السمعاني في ذيل تاريخ بغداد لكن بسند فيه مجهول عن علي مرفوعا، وللديلمي بلا سند.
[ (6) ] أخرجه الترمذي 4/ 316 (1997) وابن حجر في لسان الميزان 4/ 310 والذهبي في الميزان (3624) والخطيب في التاريخ 11/ 428 وابن الجوزي في العلل 2/ 248 وابن عدي في الكامل 2/ 593.(2/96)
«الظلم ظلمات يوم القيامة» [ (1) ] .
البخاري عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما.
«اللهم إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي وتجمع بها شملي وتلم بها شعثي وتصلح بها غائبي وترفع بها شاهدي وتزكي بها عملي وتلهمني بها رشدي وترد بها ألفتي وتعصمني بها من كل سوء، اللهم إني أسألك الفوز في القضاء ومنازل الشهداء وعيش السعداء والنصر على الأعداء» [ (2) ] .
الترمذي عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما.
إلى غير ذلك مما روته الكافة عن الكافة من مقاماته صلى اللَّه عليه وسلم ومحاضراته وخطبه وأدعيته ومخاطباته وعهوده مما لا خلاف إنه نزل من ذلك مرتبة لا يقاس بها غيره وحاز منها سبقا لا يقدر قدره.
وقد جمعت من كلماته صلى اللَّه عليه وسلم التي لم يسبق إليها ولا يقدر أحد أن يفرغ في قالبه عليها
كقوله صلى اللَّه عليه وسلّم «حمى الوطيس» [ (3) ] قاله صلى اللَّه عليه وسلم يوم حنين. مسلم عن جابر رضي اللَّه تعالى عنه:
«مات حتف أنفه» [ (4) ] البيهقي عن عبد الله بن عتيك رضي اللَّه تعالى عنه.
قال: واللَّه إنها كلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبله صلى اللَّه عليه وسلم.
«لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» [ (5) ] البخاري عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما.
«السعيد من وعظ بغيره» [ (6) ] .
الدّيلمي عن عقبة بن عامر القضاعي عن ابن مسعود مرفوعا. ومسلم عن ابن مسعود موقوفا وزاد: والشقي من شقي في بطن أمه» [ (7) ] .
هذا ما ذكره القاضي.
وزاد الثعالبي [ (8) ] : «كل الصيد في جوف الفرا» الرامهرمزي في الأمثال وهو مرسل سنده جيد.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 100 (2447) ومسلم 4/ 1996 (57- 2579) .
[ (2) ] أخرجه الترمذي (3419) والذهبي في الميزان (2633) وابن خزيمة (1119) والطبراني في الكبير 10/ 343 وابن عدي في الكامل 6/ 957 وابن حبان في المجروحين 1/ 230.
[ (3) ] أخرجه مسلم 3/ 1399 (76- 1775) .
[ (4) ] عبد الله بن عتيك أو ابن عتيق. عن عبادة بن الصامت. وعنه ابن سيرين. [الخلاصة 2/ 77] .
[ (5) ] أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه 10/ 529 (6133) ومسلم 4/ 2295 (63- 2998) .
[ (6) ] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة 1/ 78 والفتني في التذكرة (200) وذكره السيوطي في الدر المنثور 2/ 225.
[ (7) ] في مسلم 4/ 2037 (3- 2645) .
[ (8) ] عبد الملك بن محمد بن إسماعيل، أبو منصور الثعالبي: من أئمة اللغة والأدب. من أهل نيسابور. كان فراء يخيط جلود الثعالب، فنسب إلى صناعته. واشتغل بالأدب والتاريخ، فنبغ. وصنّف الكتب الكثيرة الممتعة. من كتبه «يتيمة الدهر» و «فقه اللغة» و «سحر البلاغة» وغير ذلك توفي سنة 429 هـ[انظر الأعلام 4/ 163، 164] .(2/97)
«لا ينتطح فيها عنزان»
[ (1) ] .
«هدنة على دخن»
[ (2) ] .
«جماعة على قذى» .
«إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى»
[ (3) ] .
«نصرت بالرعب»
[ (4) ] .
«أوتيت جوامع الكلم»
[ (5) ] .
«إن مما أنبت الربيع يقتل حبطا أو يلم» [ (6) ] .
رواه البخاري.
قال ابن دريد: إنه من الكلام الفرد الوجيز الذي لم يسبق إلى مثله.
«الإيمان قيد الفتك»
[ (7) ] .
«يا خيل اللَّه اركبي»
[ (8) ] .
«اشتدي أزمة تنفرجي»
[ (9) ] . انتهى.
قال القاضي: إلى غير ذلك مما يدرك الناظر العجب في مضمنها ويذهب به الفكر في أدنى حكمها.
وقال أبو سعيد الخدري رضي اللَّه تعالى عنه: قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم «أنا النبي لا كذب أنا ابن
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 1/ 18 والخطيب في التاريخ 13/ 99 وابن الجوزي في العلل 1/ 175 وذكره العجلوني في الكشف 2/ 524 وعزاه لابن عدي عن ابن عباس.
[ (2) ] أخرجه أبو داود 2/ 497 (4245) والحاكم في المستدرك 4/ 433.
[ (3) ] أخرجه البيهقي في السند 3/ 18 وابن عبد البر في التمهيد 3/ 195 وذكره الهيثمي في المجمع 1/ 67 وعزاه للبزار وقال: فيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل وهو كذاب.
[ (4) ] أخرجه البخاري 1/ 435 (335) ومسلم 1/ 370 (3- 521) .
[ (5) ] انظر التخريج السابق.
[ (6) ] أخرجه البخاري 6/ 57 (2842) ومسلم 2/ 727 (121- 1052) .
[ (7) ] أخرجه أبو داود (2769) وأحمد في المسند 1/ 167 والطبراني في الكبير 19/ 319 والحاكم في المستدرك 4/ 352 والخطيب في التاريخ 1/ 387 والبخاري في التاريخ 1/ 403.
[ (8) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 2/ 1/ 88 والطبري في التفسير 6/ 133 وذكره العجلوني في الكشف 2/ 531 وعزاه لأبي الشيخ في الناسخ والمنسوخ. وقال: قال العسكري: قوله «يا خيل اللَّه اركبي» على المجاز والتوسع، أراد يا فرسان خيل اللَّه اركبي، فاختصر لعلم المخاطب بما أراد.
[ (9) ] أخرجه الذهبي في الميزان (2013) وابن حجر في لسان الميزان 2/ 1214 وذكره العجلوني في الكشف 1/ 141 وعزاه للعسكري والديلمي والقضاعي بسند فيه كذاب عن علي.(2/98)
عبد المطلب أنا أعرب العرب ولدتني قريش ونشأت في بني سعد بن بكر، فأنى يأتيني اللحن» .
رواه أبو الحسن بن الضحاك.
وقد قال له أصحابه فيما
رواه ابن أبي حاتم والبيهقي عند محمد بن إبراهيم التيمي والعسكري والرامهرمزي معا في الأمثال عنه عن أبيه عن جده قال: ما رأينا الذي هو أفصح منك. فقال: «وما يمنعني وإنما أنزل القرآن بلساني لسان عربي مبين وإني من قريش ونشأت في بني سعد بن بكر» .
قال: فجمع له بذلك قوة عارضة البادية وجزالتها وفصاحة ألفاظ الحاضرة ورونق كلامها.
وقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: يا رسول اللَّه ما لك أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: «كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظتها» [ (1) ] .
رواه أبو نعيم والبيهقي.
وقالت برة بنت عامر الثقفية سيدة نساء قومها لإخوتها: يا بني عامر أفيكم من أبصر محمدا صلى اللَّه عليه وسلم؟ فقالوا: كلّنا قد رأيناه أيام الموسم. فقالت: أفيكم من سمعه يتكلم؟ قالوا: نعم.
فقالت: كيف هو في فصاحته؟ قالوا: يا أختاه إن أقبح مثالب العرب الكذب، أما فصاحته فما ولدت العرب فيما مضى ولا تلد فيما بقى أفصح منه ولا أذرب منه إذا تكلم يعجز اللبيب كلامه ويخرس الخطيب خطابه.
رواه أبو الحسن أحمد بن عبد اللَّه محمد البكري في كتابه «أنس الواحش وري العاطش» .
وقال محمد بن عبد الرحمن الزهري عن أبيه عن جده قال: سئل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم:
أيدالك الرجل امرأته؟ قال: نعم. إذا كان ملقحاً. فقال له أبو بكر: يا رسول اللَّه لقد طفت في العرب وسمعت فصاحهم [ (2) ] فما سمعت أفصح منك. فقال: «أدبني ربي ونشأت في بني سعد بن بكر» .
رواه ابن عساكر.
دالكه: ماطله.
__________
[ (1) ] ذكره العراقي في تخريجه على الإحياء 2/ 367 وعزاه للحاكم.
[ (2) ] في أ: فصاحتهم.(2/99)
ملقحا- بضم الميم وفتح القاف اسم فاعل من ألقح الرجل فهو ملقح إذا كان فقيرا.
وهو غير مقيس. قاله في القاموس. وقال غيره: معناه أيداعب الرجل امرأته يعني قبل الجماع وسماه مطلا لكون غرضها الجماع- قال: إذا كان عاجزا فيكون ذلك محركا لشهوته ولعجزه يسمى مفلسا.
وقال زكريا بن يحيى بن يزيد السعدي رحمه اللَّه تعالى: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أنا أعرب العرب ولدت في قريش ونشأت في بني سعد فأني يأتيني اللحن» [ (1) ] .
رواه ابن سعد.
وقال بريدة رضي اللَّه تعالى عنه: «كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أفصح الناس وكان يتكلم بالكلام لا يدرون ما هو حتى يخبرهم» رواه أبو الحسن بن الضحاك وابن الجوزي.
[معرفته صلى الله عليه وسلم بلهجات العرب]
وليس كلامه صلى اللَّه عليه وسلم مع قريش والأنصار وأهل الحجاز ونجد ككلامه مع غيرهم، فانظر دعاؤه صلى اللَّه عليه وسلم لبني نهد وقد وفدوا عليه صلى اللَّه عليه وسلم في جملة الوفود
فقام طهفة بن رهم النهدي يشكو الجدب فقال: أتيناك يا رسول اللَّه من غور تهامة بأكوار الميس ترتمي بها العيس، نستحلب الصبير، ونستجلب الخبير ونستعضد البرير، ونستخيل الرهام، ونستجيل الجهام، من أرض غائلة النطاء، غليظة الوطاء، قد نشف المدهن ويبس الجعثن، وسقط الأملوج، ومات العسلوج، وهلك الهدي، ومات الودي، برئنا إليك يا رسول اللَّه من الوثن، والعنن، وما يحدث به الزمن، لنا دعوة السلام. وشريعة الإسلام، ما طما البحر، وقام يعار، وكنا نعم همل أغفال. ما تبل ببلال.
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «اللهم بارك لهم في محضها ومخضها ومذقها. وابعث رعاتها في الدّثر بيانع الثمر وافجر لهم الثمد، وبارك لهم في المال والولد، من أقام الصلاة، كان مسلما، ومن آتى الزكاة كان محسنا، ومن شهد أن لا إله إلا اللَّه كان مخلصا، لكم يا بني نهد ودائع الشرك ووضائع الملك لا تلطط في الزكاة ولا تلحد في الحياة ولا تثاقل عن الصلاة» [ (2) ] .
ثم كتب معهم كتابا إلى بني نهد: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللَّه إلى بني نهد بن زيد: السلام على من آمن باللَّه عز وجل ورسوله. لكم يا بني نهد في الوظيفة
__________
[ (1) ] ذكره العجلوني في الكشف 1/ 232 بنحوه وعزاه لابن سعد عن يحيى بن يزيد السعدي مرسلا.
[ (2) ] أخرجه ابن الجوزي في العلل 1/ 179 والقاضي عياض في الشفا 1/ 169 وذكره السيوطي في جمع الجوامع (9927) والمتقي الهندي في الكنز (21607) .(2/100)
الفريضة ولكم الفارض والفريش. وذو العنان الركوب والفلق الضبيس، لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا يحبس دركم، ما لم تضمروا الرماق. وفي لفظ: الأرماق. وتأكلوا الرباق من أقر بما في هذا الكتاب، فله من اللَّه الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى فعليه الربوة.
رواه أبو نعيم في المعرفة والديلمي في مسند الفردوس عن عمران بن حصين، وأبو نعيم عن حذيفة بن اليمان رضي اللَّه تعالى عنهم مختصرا.
وكتابه صلى اللَّه عليه وسلم لدى المشفار مالك بن نمط لما لقيه وفد همدان مقدمه من تبوك فقال مالك بن نمط: يا رسول اللَّه نصية من همدان، من كل حاضر وباد، أتوك على قلص نواج، متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، من مخلاف خارف ويام، لا ينقض عهدهم عن سنة ماحل، ولا سوداء عنقفير، ما أقام لعلع، وما جرى يعفور بصلع.
فكتب إليهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «هذا كتاب من محمد رسول اللَّه لمخلاف خارف وأهل جناب الهضب وجفاف الرمل، مع وافدها ذي المعشار مالك بن نمط ومن أسلم من قومه، على أن لهم فراعها ووهاطها وعزازها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة يأكلون علافها ويرعون عفاءها لنا من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والناب والفصيل والفارض والداجن والكبش الحوري، وعليهم فيه الصالغ والقارح» .
رواه أبو القاسم الزجاجي في أماليه عن ... معضلا.
وكتابه صلى اللَّه عليه وسلم لقطن بن حارثة ويقال حارثة بن قطن قال الشيخ في «مناهل الصفا» وهو المعروف: العليمي بن كلب: «هذا كتاب من محمد لعمائر كلب وأحلافها ومن ظأره الإسلام من غيرهم مع قطن بن حارثة العليمي بإقام الصلاة لوقتها وأداء الزكاة بحقها في شدة عقدها ووفاء عهدها بمحضر من شهود المسلمين وسمى جماعة منهم دحية بن خليفة الكلبي.
عليهم من الهمولة الراعية البساط الظئار، في كل خمسين ناقة غير ذات عوار، والحمولة المائرة لهم لاغية، وفي الشوي الوري مسنة حامل أو حائل وفيما سوى الجدول من العين المعين العشر، وفي العترى شطره بقيمة الأوسط، لا يزاد عليهم وظيفة ولا يفرّق. شهد على ذلك اللَّه ورسوله وكتب ثابت بن قيس بن شماس.
رواه ابن سعد عن ربيعة بن إبراهيم الدمشقي رحمه اللَّه تعالى.
وكتابه صلى اللَّه عليه وسلم لوائل بن حجر: «إلى الأقيال العباهلة والأرواع المشابيب من أهل حضر موت بإقام الصلاة المفروضة وأداء الزكاة المعلومة عند محلها، في التيعة شاة لا مقورة الألياط ولا ضناك وأنطوا الثبجة، وفي السيوب الخمس، ومن زنى مم بكر فاصقعوه مائة واستوفضوه عاماً، ومن زنى مم ثيب فضرجوه بالأضاميم ولا توصيم في الدين ولا غمة في فرائض اللَّه، وكل مسكر حرام، ووائل بن حجر يترفل على الأقيال أميراً أمره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.»(2/101)
رواه الطبراني في الصغير والخطابي في غريبه.
قال القاضي رحمه اللَّه تعالى: وأين هذه الألفاظ من كتابه صلى اللَّه عليه وسلم في الصدقة لأنس المشهور، فإنه بمحل من جزالة ألفاظ مألوفة وسلاسة تراكيب مأنوسة، وذلك بمحل من غلاقة ألفاظ غريبة وقلالة أساليب في النطق عسرة، لأنه لما كان كلام هؤلاء على هذا الحد أي غريبا غير مألوف وكانت بلاغتهم على هذا النمط وحشيا غير مأنوس، وكان أكثر استعمالهم هذه الألفاظ التي ليست بمألوفة ولا مأنوسة، استعملها معهم ليبين للناس ما نزل إليهم وليحدث الناس بما يعلمون ليفهموه.
وقد كان من خصائصه صلى اللَّه عليه وسلم إن يكلم كل ذي لغة بلغته على اختلاف لغة العرب وتركيب ألفاظها وأساليب كلمها، وكان أحدهم لا يجاوز لغته وإن سمع لغة غيره فكالعجمية يسمعها العربي وما ذلك منه صلى اللَّه عليه وسلم إلا بقوة إلهية وموهبة ربانية، لأنه صلى اللَّه عليه وسلم بعث إلى الكافة طرّا وإلى الخليقة سودا وحمرا، ولا يوجد متكلم بغير لغته إلا قاصرا في تلك الترجمة نازلا عن صاحب الأصالة في تلك، إلا هو صلى اللَّه عليه وسلم، فإنه كان إذا تكلم في كل لغة من لغة العرب كان أفصح وأنصع بلغاتها منا بلغة نفسها وجدير به ذلك، فإنه صلى اللَّه عليه وسلم قد أوتي جميع القوى البشرية المحمودة ومزية على الناس بأشياء كثيرة،
كقوله صلى اللَّه عليه وسلم، في حديث عطية السعدي رضي اللَّه تعالى عنه قال: قدمت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلما رآني قال: «ما أغناك اللَّه فلا تسأل الناس فإن اليد العليا خير هي المنطية واليد السفلى هي المنطاة وإن مال اللَّه مسؤول ومنطى» [ (1) ] . قال:
فكلمنا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بلغتنا.
رواه الحاكم وصححه البيهقي.
وقوله صلى اللَّه عليه وسلم لكعب بن عاصم الأشعري [ (2) ] رضي اللَّه تعالى عنه: «ليس من ام برّ ام صيام في أم سفر» .
رواه عبد الرزاق والحميدي، وابن القاسم البغوي.
أي ليس من البر الصيام في السفر، وهذه لغة صحيحة وأكثر ما يتكلم بها الأشعريون وهي في الغالب يمنية والأشعريون من اليمن، وإنما تكلم بها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رغبة في البيان وحسن التعلم والإفهام لهم بلغتهم.
وقوله في حديث العامري حين سأله فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «سل عنك» [ (3) ] .
رواه أبو نعيم عن شداد بن أوس رضي اللَّه تعالى عنه.
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 4/ 327 وذكره السيوطي في الدر 1/ 359.
[ (2) ] كعب بن عاصم الأشعري، يكنى أبا مالك، صحابي نزل الشام ومصر وله حديثان. [التقريب 2/ 134] .
[ (3) ] ذكره المتقي الهندي في الكنز (3559) .(2/102)
أي اسأل عما شئت، وهي لغة بني عامر.
تنبيهات
الأول: ما اشتهر على ألسنة كثير من الناس
أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال: «أنا أفصح من نطق بالضاد»
[ (1) ] فقال الحافظ عماد الدين ابن كثير- وتابعه تلميذه الزركشي- وابن الجوزي والشيخ والسخاوي: إنه لا أصل له ومعناه صحيح، والمعنى أنه صلى اللَّه عليه وسلم أفصح العرب لكونهم هم الذين ينطقون بها ولا توجد في لغة غيرهم.
الثاني: في شرح غريب ما سبق:
قول القاضي رحمه اللَّه تعالى «سلاسة طبع» : قال العلامة شمس الدين الدلجي في شرحه على «الشفا» - وهو فردٌ في بابه- نصب سلاسة بنزع الخافض أي مع أو بسهولة جبلة وانقياد طبيعة.
براعة منزع: أي ومنزعا بارعا، من برع الرجل بفتح رائه وضمها، أي فاق أقرانه، والمنزع- بفتح أوله وثالثه: المأخذ.
وإيجاز مقطع: أي ومقطعا موجزا، من أوجز: أتى بكلام قل لفظه وكثرت معانيه.
والمقطع- بفتح ميمه وطائه: تمام الكلام.
ونصاعة لفظ: أي ولفظا ناصعا- أي خالصا من شوائب تنافر الحروف وغرابة الألفاظ ومخالفة القياس.
وجزالة قول: أي قولا جزلا سالما من شوائب الركة وضعف التأليف قد نسجت حبره على منوال تراكيب العربية.
وصحة معان: أي ومعان صحيحة لا يتطرق إلى ألفاظها احتمال غير لائق.
وقلة تكلف: لو قال: وعدم تكلف كان أليق وأحسن.
أوتي جوامع الكلم: كالمؤكد لما قبله أو البدل منه ومن ثم فصله عنه، لأن من جبلت طبيعته على ما ذكر من الملكات فجدير أن يجوز الكلم الجوامع، جمع جامعة للمعاني الكثيرة.
وخص ببدائع الحكم: جمع حكمة وهي هنا كمال العلم وإتقان العمل. أي وبالحكمة البديعة، ومن أبدع إذا أتى بشيء بديع مخترع غير مسبوق بمادة وزمان، ويقابله التكوين لكونه مسبوقا بمادة، والإحداث لكونه مسبوقا بزمان.
__________
[ (1) ] أخرجه الفتني في التذكرة (87) وملا علي القاري في الأسرار المرفوعة (246) وقال: معناه صحيح، ولكن لا أصل له في مبناه كما قاله ابن كثير. [انظر البداية والنهاية 2/ 277] .(2/103)
يحاورها: يجاوبها.
ويباريها: يعارضها. يقال هو يباريه أي يعارضه ويفعل مثل فعله، وهما يتباريان.
ومن تأمل حديثه وسيره صلى اللَّه عليه وسلم: جمع سيرة وفي رواية: وسبره: بباء موحدة أي نظر في نصاعة أساليبه وصياغة تراكيبه.
تتكافأ: تتساوى. دماؤهم: أي في العصمة والحرمة فكل مسلم شريفا أو وضيعا أو ضعيفا كبيرا أو صغيرا حرا أو عبدا في ذلك سواء. أو في القصاص والدية لا فضل فيهما لمسلم على مسلم: فيقاد الدين بالوضيع، والكبير بالرضيع، والعالم بالجاهل، والذكر بالأنثى، وكذا حكم الدية فيخص منه العبد إذ لا يكافئ حرا.
بذمتهم: بعهدهم وأمانهم: أدناهم: كعبيد وامرأة فإذا أعطي أحدهم أمانا فليس لأحدهم نقض أمانه.
وهم يد على من سواهم: أي هم مع كثرتهم قد جمعتهم أخوة الإسلام وجعلتهم في وجوب الاتفاق تعاونا وتناصرا على من ناوأهم وعاداهم كيد واحدة لا يسعهم أن يخذل بعضهم بعضا بل يجب أن ينصر كل أخاه. قال اللَّه تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ كأسنان المشط تماثلا وتساويا أي فهم مستوون في إجراء الأحكام عليهم.
معدن كل شيء: أصله أي أن أصول بيوتهم الشريفة تعقب أمثالها ويسرى كرم أعراقها إلى فروعها لا يكون فيها خيار لمجرد ذلك، ومن ثم قيد بقوله إذا فقهوا- بضم القاف- أي مارسوا الفقه وتعاطوه، فأرشد أنه لا خيار فيه إلا بالفضل والتقوى فمن اتفق له مع ذلك أصل حميد شريف الأعراق كملت فضيلته وربا فضله عن غيره.
وهو بالخيار: أي بين أن يشير بالإصلاح وأن لا يشير به، بشهادة رواية أحمد: إن شاء تكلم وإن شاء سكت فإن تكلم فيجتهد رأيه.
ما لم يتكلم: أي ما لم يعزم المستشار على الإشارة له، فإذا عزم وجب أن يجتهد رأيه فإن أخطأ فلا غرم عليه.
الموطأون: من التوطئة بمعنى لين الجانب: أكنافا: جمع كنف أي جانب.
عن قيل وقال: أي عما يتحدث به في المجالس كقيل كذا وقال كذا. ويجوز بناؤهما على أنهما فعلان ماضيان في كل منهما ضمير ويجوز إعرابهما إجراء لهما مجرى الأسماء ولا ضمير فيهما.
ووأد البنات- بهمزة ساكنة بعد واو مفتوحة: أي: دفنهن حيات. هونا ما: بتشديد ما،(2/104)
والهون في الأصل: السكينة، نصب على المصدر لأن المعنى: أحب حبيبك حبا قليلا. فقليلا صفة لما اشتق منه أحبب. وما مزيدة لتأكيد معنى القلة أو على الظرف لأنه من صفات الأحيان أي أحبب في حين قليل ولا تسرف في حبه.
شعثي: ما تفرق من أمري. غائبي: باطني. ألفتي- بضم الهمزة وكسرها: مصدر بمعنى المفعول أي أليفي أو مألوفي أي ما كنت آلفه.
الكافة: الجماعة. وعن سيبويه منع استعمال الكافة معرفة، وهي نكرة منصوبة على الحال.
مرقبة- بقاف بعد راء- بمعنى مرتبة- بتاء بعدها هاء، كما في بعض النسخ.
حمى الوطيس: وهو في الأصل التنور شبه به الحرب لاستعار نارها وشدة وقدها فاستعار لها اسمه استعارة تحقيقية لتحقق معناها وقرنها بالحمو ترشيحا للمجاز.
مات حتف أنفه: أي بلا مباشرة قتال.
قوة عارضة: أي جلد وصرامة.
الجزالة: ضد الركاكة.
النصاعة: الخلوص. الرونق: الحسن.
كل الصيد- بضم الكاف واللام- مبتدأ. الفراء- بفتح الفاء: حمار الوحش.
لا ينتطح فيها عنزان: قال في النهاية: أي لا يلتقي فيها اثنان ضعيفان لأن النطاح من شأن التيوس والكباش لا العنوز، وهي إشارة إلى قضية مخصوصة لا يجري فيها حلف ولا نزاع.
الهدنة- بضم الهاء وسكون الدال المهملة: السكون. والهدنة الصلح والموادعة بين المسلمين والكفار وبين كل متحاربين.
على دخن- بفتح الدال المهملة والخاء المعجمة: أي على فساد واختلاف تشبيها بدخان الحطب الرطب، لما بينهم من الفساد الباطن تحت الصلاح الظاهر.
المنبت [ (1) ] قال في النهاية: يقال للرجل إذا انقطع به في سفره وعطبت راحلته: قد أنبت من البت وهو القطع، يريد أنه بقي في طريقه عاجزا عن مقصده لم يقض وطه وقد أعطب ظهره.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 1/ 204.(2/105)
حبطا- بفتح الحاء المهملة والموحدة والطاء المهملة: وهو انتفاخ البطن من كثرة الأكل حتى ينتفخ فيموت.
يلم: بضم المثناة التحتية أي يقرب من الهلاك، وهو مثل للمنهمك في جمع الدنيا المانع من إخراجها في وجهها.
الفتك [ (1) ]- بفتح الفاء وسكون المثناة الفوقية- قال في النهاية: هو أن يأتي الرجل صاحبه وهو غار غافل فيشد عليه فيقتله. والغيلة أن يخدعه ثم يقتله في موضع خفي.
شرح غريب الحديث الأول طهفة [ (2) ]- بطاء مهملة فهاء ساكنة ففاء أخت القاف مفتوحة.
الميس- بفتح الميم وسكون المثناة التحتية: شجر صلب يعمل منه أكوار الإبل ورحالها.
نهد- بفتح النون وإسكان الهاء ودال مهملة: قبيلة من اليمن.
نستحلب: بحاء مهملة. الصبير: بفتح الصاد المهملة وكسر الموحدة وهو سحاب أبيض متراكب متكاثف أي نستدر السحاب. نستخلب: بالخاء المعجمة.
الخبير- بخاء معجمة فموحدة: النبات والعشب، شبه بخبير الإبل وهو وبرها، واستخلابه احتشاشه بالمخلب وهو المنجل. والخبير يقع على الوبر والزرع والأكار.
نستعضد البرير- بفتح الموحدة والراء بينهما مثناة تحتية: ثمر الأراك إذا اسود وبلغ، وقيل هو اسم له في كل حال. أي نجنيه ونقطعه من شجره للأكل وكانوا يأكلونه في الجدب.
نستخيل: بالخاء المعجمة من أخال إذا ظن.
الرهام- بكسر الراء: الأمطار الضعيفة، واحدتها رهمة، أي نتخيل الماء في السحاب القليل، وقيل: الرهمة أشد دفعا من الديمة.
نستجيل: بالجيم أي نراه جائلا تذهب به الريح ها هنا وها هنا.
الجهام [ (3) ]- بفتح الجيم: السحاب الذي فرغ ماؤه. ومن رواه: نستخيل بالخاء المعجمة فهو نستفعل من خلت أخال إذا ظننت، أراد لا نتخيل في السحاب خيالا إلا المطر وإن كان جهاما لشدة احتياجنا.
__________
[ (1) ] انظر المصباح المنير 462.
[ (2) ] انظر لسان العرب 3/ 2714.
[ (3) ] انظر المعجم الوسيط 1/ 144.(2/106)
ومن رواه بالحاء المهملة وهو الأشهر: أراد أنه لا ننظر من السحاب في حال إلا إلى جهام من قلة المطر.
أرض غائلة: بالغين المعجمة.
النطا: بكسر النون أي مهلكة للبعيد، يقال بلد نطي أي بعيد. ويروى المنطي وهو مفعل منه.
المدهن- بضم الميم وسكون المهملة وضم الهاء: نقرة في الجبل.
الجعثن [ (1) ]- بجيم مكسورة فعين مهملة ساكنة فمثلثة مكسورة: أصل النبات ويقال:
أصل الصليان خاصة، وهو نبت معروف.
العسلوج- بعين مضمومة فسين ساكنة مهملتين آخره جيم: الغصن إذا يبس فذهبت طراوته، وقيل هو القضيب الحديث الطلوع، يريد أن الأغصان يبست وهلكت من الجدب، والجمع عساليج.
الأملوج [ (2) ]- بضم الهمزة فميم ساكنة فلام مضمومة: ورق شجر يشبه الطرفاء والسرو وقيل هو ضرب من النبات ورقه كالعيدان. وقيل هو نوى المقل. وفي رواية: ونط الأملوج.
هلك الهدي- بفتح الهاء وكسر الدال وبالتشديد كالهدي مخففا، وهو ما يهدى إلى البيت الحرام لينحر، فأطلق على جميع الإبل وإن لم تكن هديا تسمية للشيء باسم بعضه، يقال: كم هدي بني فلان؟ أي كم إبلهم.
مات الودي: بفتح الواو وكسر المهملة مشددا: فسيل النخل. يريد هلكت الإبل ويبست النخيل.
الوثن: الصنم.
العنن [ (3) ] : بفتح العين المهملة والنون الأولى: الاعتراض، يقال عن إلى الشيء: اعترض كأنه قال: برئنا إليك من الشرك والظلم وقيل أراد به الخلاف والباطل.
طما البحر: ارتفع بأمواجه.
تعار: بكسرة المثناة الفوقية وبالعين المهملة: اسم جبل يصرف ولا يصرف.
نعم همل: أي مهملة لا رعاء لها ولا فيها ما يصلحها ويهديها فهي كالضالة.
__________
[ (1) ] انظر اللسان 1/ 631.
[ (2) ] انظر اللسان 5/ 4254.
[ (3) ] انظر اللسان 4/ 3139.(2/107)
إبل أغفال: لا لبن فيها.
محضها- بالحاء المهملة والضاد المعجمة: أي خالص لبنها.
مخضها بالمعجمتين: ما تمخض من اللبن ويؤخذه زبده.
مذقها- بفتح الميم وسكون المعجمة وبالقاف: الممزوج بالماء.
الدثر [ (1) ] بدال مهملة فثاء مثلثة ساكنة فراء: المال الكثير. وقيل الخصب والنبات الكثير افجر لهم الثمد: بمثلثة مفتوحة: الماء القليل، أي صيره كثيرا.
ودائع الشرك: قيل المراد بها العهود والمواثيق، يقال توادع الفريقان إذا أعطى كل واحد منهم عهده للآخر لا يغزوه. وقيل: ما كانوا استودعوه من أموال الكفار الذين لم يدخلوا في الإسلام، أراد إحلالها لهم لأنها مال كافر قد قدر عليه من غير عهد ولا شرك.
وضائع الملك: جمع وضيعة وهي الوظيفة التي تكون على الملك، وهي ما يلزم الناس في أموالهم من الزكاة والصدقة، أي لكم الوظائف التي تلزم المسلمين لا تتجاوز عنكم ولا نزيد عليكم شيئاً.
لا تلطط [ (2) ] : بمثناة فوقية مضمومة فلام ساكنة فطائين مهملتين الأولى مكسورة والثانية مجزومة على النهي أي لا تمنعها.
لا تلحد: بمثناة فوقية مضمومة فلام ساكنة فحاء مهملة مكسورة فدال مهملة ساكنة:
أي لا تحد عن الحق ما دمت حيا.
لا تثاقل عن الصلاة: أي لا تتخلف. قال الحافظ أبو موسى المديني رحمه اللَّه تعالى:
هكذا رواه القتبي على النهي للواحد أي لا تلطط ولا تلحد. والذي رواه غيره: «ما لم يكن عهد ولا موعد ولا تثاقل عن الصلاة ولا تلطط في الزكاة ولا تلحد في الحياة» وهو الوجه، لأنه خطاب للجماعة واقع على ما قبله.
الوظيفة: الحق الواجب.
الفريضة: الهرمة المسنة، أي لا تأخذ في الصدقات هذا الصنف كما لا تأخذ خيار الأموال.
الفارض: بفاء فراء فضاد معجمة: المريضة.
الفريش: بفاء مفتوحة فراء فمثناة تحتية فشين معجمة، وهي من الإبل كالنفساء من بنات آدم، أي لكم خيار المال وشراره، ولنا وسطه.
__________
[ (1) ] اللسان 2/ 1327.
[ (2) ] اللسان 5/ 4034.(2/108)
ذو العنان: بكسر العين المهملة: سير اللجام.
الركوب: بفتح الراء: الفرس الذلول.
الضبيس: بضاد معجمة فباء موحدة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فسين مهملة: المهر العسر الصعب.
امتن عليهم بترك الصدقة في الخيل جيدها ورديئها.
لا يمنع: بضم المثناة التحتية وفتح النون.
سرحكم: بسين مهملة مفتوحة فراء ساكنة فحاء مهملة مضمومة: ما سرحتم من المواشي، أي لا يدخل عليكم أحد في مراعيكم.
ولا يعضد: لا يقطع.
طلحكم: جمع طلحة وهي شجر عظام من شجر العضاه.
لا يحبس دركم: أي لا تحبس ذوات الدر عن المرعى إلى أن تجتمع الماشية ثم تعد وإنما منعناه أن يأخذها لما في ذلك من الإضرار.
الإماق: بالميم أي ما لم تضمروا الغيظ والبكاء بما يلزمكم من الصدقة. قاله في القاموس. وقال الزمخشري: المراد إضمار الكفر والعمل على ترك الاستبصار في دين اللَّه.
وفي رواية الرماق، والمراد النفاق يقال رامقته رماقا وهو أن تنظر إليه شزرا نظر العداوة، يعني ما لم تضق قلوبكم عن الحق، يقال عيش رماق أي ضيق وعيش رمق ومرمق أي يمسك الروح، والرمق بقية الروح وآخر النفس.
تأكلوا الرّباق: براء مكسورة وموحدة مخففة أي لا تنقضوا العهد، واستعار الأكل لنقض العهد لأن البهيمة إذا أكلت الربق، وهو الحبل الذي تجعل فيه عرى وتشد، خلصت من الرباط.
الربوة: بتثليث الراء: الزيادة يعني من تقاعد عن إعطاء الزكاة فعليه الزيادة في الفريضة عقوبة له.
شرح غريب الحديث الثاني المِشر: بميم مكسورة فشين معجمة ساكنة فراء مهملة. الهمداني: بهاء مفتوحة فميم ساكنة فدال مهملة اسم قبيلة.
النصية: بنون مفتوحة ومشددة، فصاد مهملة مكسورة فمثناة تحتية مفتوحة من ينتصى من القوم أي يختار من نواصيهم وهم الرؤوس والأشراف، ويقال للرؤوساء نواص كما يقال للأتباع أذناب. وقد انتصيت من القوم رجلا أي اخترته.(2/109)
القلص [ (1) ] : بقاف ولام مضمومتين جمع قلوص بفتح القاف وهي الناقة الشابة.
النواجي: جمع ناجية، السريعة المشي.
حبائل الإسلام: عهوده وأسبابه.
المخلاف: بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وآخره فاء وهو في لغة اليمن الرستاق.
خارف- بخاء معجمة فألف فراء مكسورة ففاء- ويام- بمثناة تحتية- قبيلتان من اليمن.
عن سنة ما حل: أي لا ينقض بسعي ساع بالنميمة والإفساد، كما يقال: لا أفسد ما بيني وبينك بمذاهب الشرار وطرقهم في الفساد. والسنة: الطريقة أيضاً.
عنقفير: بعين مهملة مفتوحة فنون ساكنة فقاف مفتوحة ففاء مكسورة فمثناة تحتية:
الداهية أي لا ينقض عهدهم بسعي الواشي ولا بداهية تنزل.
لعلع: بلامين مفتوحتين بينهما عين مهملة وآخره أخرى: جبل.
اليعفور: بمثناة تحتية مفتوحة: الخشن من ولد البقر الوحشية وقيل هو تيس الظباء والجمع اليعافير.
بصلع: بباء موحدة هي حرف جر فصاد مهملة مفتوحة فلام مشددة فعين مهملة:
الأرض التي لا نبات فيها.
جناب: بكسر الجيم وبالنون: اسم موضع.
الهضب: بفتح الهاء وسكون الصاد المعجمة جمع هضبة. وهي هنا اسم موضع.
جفاف الرمل: بحاء مهملة مكسورة ففائين بينهما ألف أسماء بلادهم.
فراعها: بفاء مهملة مكسورة فراء فعين مهملتين: ما علا من الجبال والأرض.
وهاطها [ (2) ] : بكسر الواو وبطاء مهملة: المواضع المطمئنة.
عزازها بعين مهملة فزايين معجمتين مخففتين: ما صلب من الأرض واشتد وخشن وإنما يكون في أطرافها.
علافها بعين مهملة مكسورة فلام مخففة ففاء جمع علف وهو ما تأكله الماشية.
عفاها: بعين مهملة مفتوحة ففاء مخففة وبالمد: المباح ما ليس لأحد فيه ملك ولا أثره من عفا الشيء إذا خلص وصفا.
لنا من دفئهم: بدال مهملة مكسورة ففاء ساكنة وبالهمز: نتاج الإبل وما ينتفع به منها،
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 4/ 3722.
[ (2) ] انظر المعجم الوسيط 2/ 1060.(2/110)
سماها دفئا لأنها يتخذ من أصوافها وأوبارها ما يستدفأ به، وفصله عما قبله ملتفتا من الخطاب إلى التكلم لشبه انقطاع بينهما، إذ ذاك مما خصها به من أراضيهم وما يخرج منها وهذا مما خص به نفسه أو من معه من مواشيهم.
صرامهم: بصاد مهملة مكسورة: نخيلهم، سميت صراما لأنها تصرم أي تقطع، واحدتها صرمة بكسر أوله وراء ساكنة: أو من ثمرتهم.
قال شيخنا الإمام العلامة شمس الدين الدلجي: وعليهما يجوز فتح الصاد وأيضاً لأن الاسم عليهما مصدر، تقول صرمت النخل أو الثمر صراما بالكسر والفتح.
الثلب: بثاء مثلثة فلام ساكنة فباء موحدة: ما هرم من ذكور الإبل.
الناب: بالنون الموحدة الناقة الهرمة التي طال نابها.
الفصيل: أكثر ما يطلق على أولاد الإبل وقد يطلق أولاد البقر إذ هو ما فصل عن اللبن.
الفارض بالفاء: المسن من الإبل وقيل من البقر بشهادة لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ [البقرة 68.]
الداجن: بدال مهملة وجيم: الدابة التي تألف البيوت ولا ترسل إلى المراعي.
الحوري: بحاء مهمة فواو مفتوحتين فراء مكسورة منسوب إلى الحور وهو جلود الضأن وقيل ما دبغ من الجلود بغير القرظ.
الصالغ [ (1) ] : بصاد مهملة فلام فغين معجمة هو من البقر والغنم ما أكمل ست سنين ويقال بالسين.
القارح بالقاف والراء المكسورة: ما دخل من الخيل في خامس سنة. وفي القاموس: هو من ذي الحافر بمنزلة البازل من الإبل:
شرح غريب الحديث الثالث العمائر: جمع عمارة بالفتح والكسر وهو فوق البطن من القبائل، أولها الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ. وقيل: العمارة الحي العظيم يمكنه الانفراد بنفسه. فمن فتح فلالتفاف بعضهم على بعض كالعمارة وهي العمامة. ومن كسر فلأنهم عمارة الأرض.
الأحلاف: جمع حلف وهو في الأصل المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد.
ظأره الإسلام [ (2) ] : بالظاء المعجمة والهمز آخره راء أي عطفه عليه.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 3/ 2483.
[ (2) ] انظر مختار الصحاح 131، والمعجم الوسيط 2/ 575.(2/111)
الهمولة: بفتح الهاء: هي التي ترعى بأنفسها.
البساط: قال الهروي يروى بالفتح والكسر والضم وقال الجوهري والقتبي هو بالضم جمع بسط بكسر الباء كظئر وهي المرضع وجمعها ظئار. وقال الأزهري: هو بالكسر جمع بسط وهي التي تركت وولدها لا يمنع منها ولا تعطف على غيره.
وبسط بمعنى مبسوطة أي بسطت على أولادها التي معها أولادها.
الظئار بكسر الظاء المعجمة وبالهمز آخره راء: أن تعطف الناقة على غير ولدها.
الحمولة المائرة: بفتح الحاء الإبل التي تحمل عليها الميرة وهي الطعام ونحوه مما يجلب للبيع.
لهم لاغية: أي لا يؤخذ منها زكاة لأنها عوامل.
الشوي بشين معجمة مفتوحة فواو مكسورة فمثناة تحتية مكسورة مشددة اسم جمع للشاة.
الوري: بفتح الواو وكسر الراء وتشديد الباء: السمينة.
شرح غريب الحديث الرابع وائل بن حجر: بضم المهملة وسكون الجيم.
الأقيال: بقاف فمثناة تحتية ولام جمع قيل وهم رؤساء الملك الأعظم ووزراؤه.
العباهلة [ (1) ] : بعين مهملة مفتوحة فباء موحدة جمع عبهل هم الملوك الذين أجروا على ملكهم فلم يزالوا عنه وكذا كل شيء لا يمنع مما يريد ولا يؤخذ على يده فيما قصده: عبهل.
الأرواع: بفتح الهمزة وسكون الراء وآخره عين مهملة جمع رائع وهم الحسان الوجوه أو الذين يروعون الناس أي يفزعونهم بجمالهم ومنظرهم هيبة لهم.
المشابيب: بفتح الميم والشين المعجمة وموحدتين بينهما مثناة تحتية ساكنة: الرؤوس السادة الحسان المناظر الزهر الألوان كأنما وجوههم تتلألأ نورا.
التيعة: بمثناة فوقية مكسورة فتحتية ساكنة فعين مهملة: الأربعون من الغنم أو أدنى ما تجب فيه الزكاة كالأربعين منها والخمس من الإبل.
مقورة: بميم مضمومة فقاف مفتوحة فواو مشددة.
الألياط: بهمزة مفتوحة فلام ساكنة آخره طاء مهملة جمع ليط وهو في الأصل القشر اللائط بعود أي اللازق به شبه به الجلد لالتزاقه باللحم من الهزال، أي لا مسترخية الجلد لهزالها.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 3/ 2791.(2/112)
ضناك: بضاد معجمة مكسورة فنون مخففة: المكتنز للحم يستوي فيه المذكر والمؤنث.
أنطوا [ (1) ] : بقطع الهمزة أي أعطوا.
الثبجة: بمثلثة فباء موحدة فجيم مفتوحات. وقد تكسر الموحدة. ثبج كل شيء:
وسطه، أي أعطوا في الزكاة الشاة الوسطى التي ليست رديئة ولا خيارا. وألحق بها التاء لانتقالها من الاسمية إلى الوصفية.
السيوب: بسين مهملة مضمومة وآخره موحدة جمع سيب وهو الركاز. قال أبو عبيد:
ولا أراه إلا أخذ من معنى العطية، إذ السيب لغة العطاء، والركاز عطاء من اللَّه تعالى.
وقيل هي عروق الذهب والفضة تسيب في الأرض أي تكون فيها وتظهر. وقال الزمخشري هي المعدن والمال المدفون في الجاهلية لأنه من فضل اللَّه وعطائه لمن أصابه.
ومن زنى مم بكر: قال شيخنا الشمس الدلجي: بكر نكرة عامة لوقوعها في سياق الشرط فراؤها منونة وأبدلت فيه نون «من» ميم لكثرة استعمالهم ذلك لفظا نحو «مما أنزلنا» «مما أخرجنا» «مما كانا فيه» سيما إذا كان بعدها باء كما هنا ولو كان معرفة لقال بلغتهم: ومن زنى من بكر كما قال: «ليس من امبر امصيام في امسفر» .
و «من» الجارة تبعيضية أو بيانية مفسرة للاسم المبهم الشرطي وترجمة عنه، أي ومن زنى من الأبكار.
فاصقعوه: بهمزة وصل فصاد مهملة ساكنة فقاف مفتوحة فعين مهملة وأصله الضرب على الرأس وقيل ببطن الكف. أي اضربوه.
استوفضوه: بهمزة وصل وكسر الفاء وضم الضاد المعجمة، من استوفضت الإبل إذا تفرقت في رعيها أي اطردوه وانفوه أو غربوه.
فضرجوه: بضاد معجمة فراء مشددة مسكورة فجيم أي أدموه بالضرب بالأضاميم بفتح الضاد المعجمة جمع إضمامة لأن بعضها يضم إلى بعض كالجماعات من الناس، أي ارجموه بالحجارة حتى تدموه بالضرب بجمامير الحجارة.
لا توصيم في الدين [ (2) ] : بمثناة فوقية فصاد مهملة مكسورة أي لا كسل ولا تواني ولا محاباة في إقامة الحدود.
ولا غمة: بغين معجمة مضمومة فميم مشددة. وفي لفظ ولا عمة بعين مهملة فميم
__________
[ (1) ] انظر اللسان 5/ 4465.
[ (2) ] انظر اللسان 5/ 4853.(2/113)
مفتوحتين فهاء. وفي لفظ ولا غمد بمعجمة مكسورة فميم ساكنة فدال مهملة أي لا ستر ولا خفاء ولا إلباس.
يترفل على الأقيال: بفاء مفتوحة مشددة تشبيها لإمرته بالثوب فهي في تلبسه بها كهو، استعير لها ترفيله وهو إطالته وإسباله فكأنه يرفل فيها أي يجر ذيلها عليهم زهوا.(2/114)
الباب الثالث والعشرون في معرفة الذين كانت صفات أجسادهم تقرب من صفات جسده صلى الله عليه وسلم
وهم: آدم أبو البشر صلى اللَّه عليه وسلم. ذكره صاحب «استجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف» .
وإبراهيم نبي اللَّه ورسوله وخليله صلى اللَّه عليه وسلم: جاء في غير ما حديث صحيح أنه كان يشبهه صلى اللَّه عليه وسلم.
ومن أمته: أبو محمد الحسن وأبو عبد الله الحسين ابنا علي رضي اللَّه تعالى عنهم.
روى البخاري عن ابن سيرين عن أنس قال: كان الحسن بن علي أشبههم برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
وروى البخاري أيضاً عن الزهري عن أنس قال: لم يكن أحد أشبه بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم من الحسين بن علي. وفي لفظ لغيره: كان أشبههم وجها بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم.
قال الحافظ: قوله أشبههم أي أشبه أهل البيت. وقول أنس في رواية ابن سيرين يعارض قوله في رواية الزهري. ويمكن الجمع بأن يكون أنس قال ما قال في رواية الزهري في حياة الحسن لأنه كان يومئذ أشد شبها بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم من أخيه الحسين. وأما ما وقع في رواية ابن سيرين فكان بعد ذلك كما هو ظاهر من سياقه والمراد: من فضل عليه الحسين في الشبه كان من عبد الحسن. ويحتمل أن يكون كل منهما كان أشد شبها به في بعض أعضائه فقد
روى الترمذي وابن حبان من طريق هانئ بن هانئ عن علي قال: الحسن أشبه برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما بين الرأس إلى الصدر، والحسين أشبه بالنبي صلى اللَّه عليه وسلم ما كان أسفل من ذلك.
وفي رواية عن أنس: كان الحسن أشبههم وجها.
وهو يؤيد حديث علي انتهى.
وأم الحسن، السيدة فاطمة الزهراء أمهما رضي اللَّه تعالى عنهم.
وأخوها إبراهيم ابن سيد الخلائق صلى اللَّه عليه وسلم.
روى الخرائطي في «اعتلال القلوب» عن عبد الله بن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم دخل على مارية وهي حامل منه بإبراهيم فذكر حديثاً فيه أن جبريل صلى اللَّه عليه وسلم بشره أنه أشبه الخلق به.
وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين ابن عم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في صحيح البخاري أنه صلى اللَّه عليه وسلم قال له: أشبهت خلقي وخلقي [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 3/ 242 والترمذي (3765) وأحمد في المسند 1/ 98 والبيهقي في السنن 8/ 5 والحاكم 3/ 120 وعبد الرزاق (20394) .(2/115)
وابناه عون وعبد الله.
روى النسائي عن عبد الله بن جعفر أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال لأخيه عون: إنه أشبه خلقي وخلقي.
وقثم ابن سيدنا العباس عم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وصفه ابن السكن بذلك.
وأبو سفيان بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب رضي اللَّه عنه.
وابن ابنه عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب الملقب فيما ذكر في «المحبر» و «الاستيعاب» بذلك أمير البصرة.
وعبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب قال الزبير بن بكار: كان يشبه النبي صلى اللَّه عليه وسلم.
ومحمد ومسلم. ذكرهما ابن حبان في الثقات بذلك، ابنا عقيل بن أبي طالب.
والسائب بن يزيد، الجد الأعلى للإمام الشافعي رضي اللَّه تعالى عنهما، وصفه الزبير بن بكار بذلك.
روى الحاكم في مناقب الشافعي عن أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ذات يوم في فسطاط إذا جاء السائب بن عبيد الله ومعه ابنه فقال: «من سعادة المرء أن يشبه أباه»
[ (1) ] وهذا الابن هو شافع بن السائب- ويمكن أن يعد هذا الولد في الأشباه أيضاً لهذا.
وعبد الله بن عامر بن كريز العبشمي.
وكابس بن ربيعة بن عدي.
وعلي بن نجاد بنون مكسورة فجيم خفيفة- ابن رفاعة الرفاعي اليشكري- بمثناة تحتية مفتوحة ومعجمة ساكنة.
والقاسم بن عبد الله بن محمد بن عقيل.
وعبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب ذكره المزي في ترجمة والده بذلك.
والقاسم بن محمد. قال عبيد الله بن إسحاق فيما نقله العسكري كان أشبه الخلق برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
وإبراهيم بن عبد اللَّه بن الحسن بن الحسن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنهم.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل (119) .(2/116)
ويحيى بن القاسم بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنهم.
وعبيد الله بن أبي طلحة الخولاني.
ومسلم بن معتب بن أبي لهب.
قيل وعثمان بن عفان رضي اللَّه تعالى عنه لكن قال الحافظ: إن الأثر المحكي في ذلك موضوع وإن الثابت في صفته رضي اللَّه تعالى عنه خلاف ذلك.
وثابت البناني [ (1) ] وقتادة بن دعامة. ذكرهما صاحب «استجلاب ارتقاء الغرق» .
ومحمد بن عبد الله المهدي الذي يخرج في آخر الزمان.
ذكر غالب ذلك الحافظ في الفتح في مناقب السيدين الحسن والحسين رضي اللَّه تعالى عنهما.
وعده المهدي في الأشباه غلط. فقد
روى أبو داود عن علي رضي اللَّه تعالى عنه في صفة المهدي «يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق» .
وعبد الله بن عوانة شريف مغربي قدم الديار المصرية زمن السلطان الأشرف قايتباي.
أخبرني غير واحد من الأشياخ الذين كانت لهم معرفة بصفات النبي صلى اللَّه عليه وسلم أن هذا المغربي كانت صفته تقرب من صفة النبي صلى اللَّه عليه وسلم وسألت شيخنا الإمام العلامة شيخ الإقراء بدمشق وإمام جامعها أبا العباس أحمد شهاب الدين الرملي ثم الدمشقي الشافعي لما قدم الديار المصرية في آخر عمره أن ينظر أسماء المذكورين قبل أن أظفر بجماعة لبسوا في نظمه فأجاب إلى ذلك وسر بوقوفه على أسمائهم فقال:
بالمصطفى شبه بعض الناس ... فاحفظهم ولا تكن بالناسي
فاطمة الزهراء وابناها الحسن ... ثم حسين وكلاهما حسن
وابن رسول اللَّه إبراهيم ... ونوفل بن الحارث العظيم
وابن ابنه انشر بالجميل ذكره ... أبو محمد أمير البصرة
وجعفر وابناه عبد اللَّه ... وعونا اذكر لا تكن باللّاهي
__________
[ (1) ] ثابت بن أسلم البناني بضم الموحدة وبنونين مولاهم أبو محمد البصري أحد الأعلام. عن ابن عمر وعبد الله بن مغفّل.
وأنس وخلق من التابعين. وعنه شعبة والحمّادان ومعمر. قال ابن المديني: له نحو مائتين وخمسين حديثا. وقال حماد بن زيد: ما رأيت أعبد من ثابت. وقال شعبة: كان يختم في كل يوم وليلة ويصوم الدهر. وثقه النسائي وأحمد والعجلي. قال ابن عليه: مات سنة سبع وعشرين ومائة. وقيل: سنة ثلاث، عن ست وثمانين سنة. [الخلاصة 1/ 147] .(2/117)
وابنا عقيل وهما محمد ... ومسلم والسائب الممجد
ابن يزيد وهو جد الشافعي ... إمامنا الأعظم نجل شافع
والحبر عبد اللَّه ذا ابن عامر ... ابن كريز العبشمي الفاخر
وكابس والده ربيعه ... ابن عدي نسبة رفيعه
كذا علي بن علي بن نجاد ... ابن رفاعة الرفاعي الجواد
اليشكري وعد بعد اليشكري ... يحيى هو ابن القاسم بن جعفر
ابن محمد مولانا علي ... ابن حسين بن علي الولي
وولد العباس وهو قثم ... وابن معتب المسمى مسلم
والقاسم الثبت ابن عبد الله ... بن محمد عظيم الجاه
فجده عقيل الكريم ... كذا ابن عبد الله إبراهيم
وجده فالحسن بن الحسن ... ابن علي يا له من محسن
والسيد المهدي الذي سيظهر ... قبيل عيسى وبه يبشر
وابن أبي طلحة عبد الله ... وذاك خولاني بلا اشتباه
وابن عوانة الشريف المغربي ... أحمد لقب الشبيه بالنبي
قد جاء في تاسع قرن قد مضى ... ووجهه على البدور قد أضا
وقد رأيته لطيف الذات ... ممدحا بأحسن الصفات
وذكروا عثمان في التشبيه ... بالمصطفى وليس بالوجيه
وأثر فيه أتى موضوع ... مختلق في شبهه مصنوع
وهو جميل الذكر عالي الدرجه ... وبابنتيه المصطفى قد زوجه
صلى عليه ربنا وسلما ... والآل والصحب الكرام العظما
وقد تممّ ما أفاد الناظم أقل تلامذة المؤلف- هو شيخنا الشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن محب الدين أحمد بن أحمد القيسي المالكي فسح اللَّه تعالى في مدته آمين منبها على ما في النظم من مخالفة الأصل في تسمية أبي سفيان بن نوفل بنوفل فقال:
وعد في أشباهه الخليل ... وآدم المعظم الجليل
صلى عليهما الإله دائما ... مسلما ما لاح نجم في السما(2/118)
كذاك عبد الله بن نوفل ... كذا أبو سفيان أخوه المعتلي
وعده الناظم نوفلا بلا ... شك مخالف لما قد نقلا
كذلك المهدي أيضاً منتقد ... لما مضى في الأصل وهو المعتمد
وعد في الأشباه أيضاً ثابت ... هو البناني وكذا قتادة
ابن دعامة كذاك القاسم ... كذاك عبد الله أبوه العالم
وشافع ابن ذي الذكر الجميل ... والفضل والتبجيل مولانا عقيل
وشافع جد الإمام الشافعي ... لما مضى عن صاحب الشّرائع
صلّ عليه الرب ذو الجلال ... كذا الصحاب جملة والآل(2/119)
جماع أبواب بعض الأمور الكائنة بعد مولده وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم
الباب الأول في وفاة أمه آمنة بنت وهب وحضانة أم أيمن له
توفيت أمه وهو ابن أربع سنين. وقدمه في الإشارة. وقيل ست. وقيل سبع. وقيل تسع.
وقيل خمس. وقيل اثنتى عشرة سنة وشهر وعشرة أيام.
بالأبواء. وقيل بشعب أبي دب بالحجون. وغلط قائله.
قال ابن إسحاق: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب وجده عبد المطلب في كلاءة اللَّه وحفظه ينبته اللَّه نباتا حسنا لما يريد به من كرامته، فلما بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ست سنين توفيت أمه آمنة بالأبواء بين مكة والمدينة.
قال البلاذري: وزعم بعض البصريين أنها ماتت بمكة ودفنت في شعب أبي دب الخزاعي وذلك غير ثبت.
وقال ابن سعد: هو غلط وليس قبرها بمكة، قبرها بالأبواء وكانت أمه قدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم فماتت وهي راجعة به إلى مكة.
قال ابن هشام: أم عبد المطلب بن هاشم: سلمى بنت عمرو النجارية فهذه الخؤولة التي ذكر ابن إسحاق لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيهم.
وروى ابن سعد عن ابن عباس وغيره قالوا: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع أمه آمنة بنت وهب فلما بلغ ست سنين خرجت به إلى أخواله بني عدي بن النجار تزورهم به ومعه أم أيمن رضي اللَّه تعالى عنها تحضنه، وهم على بعيرين، فنزلت به في دار النابغة فأقامت به عندهم شهرا، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يذكر أمورا كانت في مقامه ذلك ولما نظر أطم بني عدي بن النجار عرفه فقال: كنت ألاعب أنيسة جارية من الأنصار على هذا الأطم، وكنت مع الغلمان من أخوالي نطير طائرا كان يقع عليه. ونظر إلى الدار فقال: ها هنا نزلت بي أمي وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله وأحسنت العوم في بئر بني عدي بن النجار.
وكان قوم من اليهود يختلفون إليه ينظرون إليه. قالت أم أيمن: فسمعت أحدهم يقول:
هذا نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته. فوعيت ذلك منه.(2/120)
ثم رجعت به أمه إلى مكة، فلما كانت بالأبواء توفيت أمه آمنة بنت وهب، فقبرها هناك فرجعت به أم أيمن إلى مكة وكانت تحضنه.
وروى أبو نعيم عن محمد بن عمر الأسلمي عن شيوخه مثله وزاد: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فنظر إلي رجل من اليهود يختلف ينظر إلي فقال: يا غلام ما اسمك؟ قلت:
أحمد، ونظر إلى ظهري فأسمعه يقول: هذا نبي هذه الأمة، ثم راح إلى أخوالي فأخبرهم فأخبروا أمي فخافت علي فخرجنا من المدينة. وكانت أم أيمن تحدث تقول: أتاني رجلان من يهود يوما نصف النهار بالمدينة فقالا أخرجي لنا أحمد. فأخرجته فنظر إليه وقبلاه مليا ثم قال أحدهما لصاحبه: هذا نبي هذه الأمة وهذه دار هجرته وسيكون بهذه البلدة من القتل والسبي أمر عظيم. قالت أم أيمن: ووعيت ذلك كله من كلامهما.
وروى أبو نعيم عن أم سماعة بنت أبي رهم عن أمها قالت: شهدت آمنة بنت وهب في علتها التي ماتت فيها ومحمد غلام يفع له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه ثم قالت:
علتها التي ماتت فيها ومحمد غلام يفع له خمس سنين عند رأسها فنظرت إلى وجهه ثم قالت:
بارك فيك اللَّه من غلام ... يا ابن الذي من حومة الحمام
نجا بعون الملك المنعام ... فودي غداة الضرب بالسهام
بمائة من إبل سوام ... إن صح ما أبصرت في منامي
فأنت مبعوث إلى الأنام ... من عند ذي الجلال والإكرام
تبعث في الحل وفي الحرام ... تبعث بالتحقيق والإسلام
دين أبيك البر إبراهام ... تبعث بالتخفيف والإسلام
أن لا تواليها مع الأقوام ... فاللَّه أنهاك عن الأصنام
ثم قالت: كل حي ميت وكل جديد بال وكل كبير يفنى وأنا ميتة وذكري باق وقد تركت خيرا وولدت طهرا. ثم ماتت وكنا نسمع نوح الجن عليها فحفظنا من ذلك:
نبكي الفتاة البرة الأمينة ... ذات الجمال العفة الرزينة
زوجة عبد اللَّه والقرينة ... أم نبي اللَّه ذي السكينة
وصاحب المنبر بالمدينة ... صارت لدى حفرتها رهينة
لو فوديت لفوديت ثمينه ... وللمنايا شفرة سنينه
لا تبقي ظعانا ولا ظعينة ... إلا أتت وقطعت وتينه
أما هلكت أيها الحزينة ... عن الذي ذو العرش يعلي دينه
فكلنا والهة حزينه ... نبكيك للعطلة أو للزينه
وللضعيفات وللمسكينة(2/121)
تنبيه
روى أبو حفص بن شاهين [ (1) ] في الناسخ والمنسوخ من طريق أحمد بن يحيى الحضرمي، والمحب الطبري في سيرته من طريق القاضي أبي بكر محمد بن عمر بن محمد بن الأخضر، والدارقطني وابن عساكر كلاهما في غرائب مالك، والخطيب في السابق واللاحق من طريق علي بن أيوب الكعبي، قالوا: حدثنا أبو غزية محمد بن يحيى الزهري، حدثنا عبد الوهاب بن موسى الزهري. قال الحضرمي وابن الأخضر عن عبد الرحمن بن أبي الزناد [ (2) ] . وقال الكعبي عن مالك بن أنس [ (3) ] ، قالا عن هاشم بن عروة [ (4) ] ، عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: حج بنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون وهو باك حزين مغتم فبكيت لبكاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم انه طفق يقول: يا حميراء استمسكي.
فاستندت إلى جنب البعير فمكث عني طويلا ثم عاد إلي وهو فرح مبتسم فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه! نزلت من عندي وأنت باك حزين مغتم فبكيت لبكائك ثم إنك عدت إلي وأنت فرح مبتسم فمم ذاك؟ قال: ذهبت لقبر أمي فسألت اللَّه أن يحييها فأحياها فآمنت بي وردها اللَّه [ (5) ] .
__________
[ (1) ] عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين، أبو حفص: واعظ علامة، من أهل بغداد. كان من حفاظ الحديث. له نحو ثلاثمائة مصنف، منها كتاب «السنّة» سماه صاحب التبيان «المسند» وقال: ألف وخمسمائة جزء، و «التفسير» في نحو ثلاثين مجلدا. و «تاريخ أسماء الثقات ممن نقل عنهم العلم» على حروف المعجم، و «معجم الشيوخ» و «الأفراد» و «كشف الممالك» و «ناسخ الحديث ومنسوخه» و «الترغيب» في فضائل الأعمال. [الأعلام 5/ 40] .
[ (2) ] عبد الرحمن بن أبي الزناد، عبد الله بن ذكوان، المدني، مولى قريش، صدوق، تغير حفطه لما قدم بغداد، وكان فقيها، من السابعة، ولي خراج المدينة، فحمد، مات سنة أربع وسبعين، وله أربع وسبعون سنة. [انظر التقريب 1/ 479، 480.]
[ (3) ] مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي أبو عبد الله المدني، أحد أعلام الإسلام، وإمام دار الهجرة. عن نافع والمقبري ونعيم بن عبد الله وابن المنكدر ومحمد بن يحيى بن حبّان وإسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وأيوب وزيد بن أسلم وخلق، وعنه من شيوخه الزهري ويحيى الأنصاري. قال الشافعي: مالك حجة اللَّه تعالى علي خلقه. قال ابن مهدي: ما رأيت أحدا أتمّ عقلا ولا أشد تقوى من مالك. وقال ابن المديني: له نحو ألف حديث. قال البخاري: أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر ولد مالك سنة ثلاث وتسعين، وحمل به ثلاث.
وتوفى سنة تسع وسبعين ومائة. ودفن بالبقيع [الخلاصة 3/ 3] .
[ (4) ] هشام بن عروة بن الزبير بن العوّام الأسدي أبو المنذر أحد الأعلام. عن أبيه وزوجته فاطمة بنت المنذر وأبي سلمة وخلق. وعنه أيوب وابن جريج وشعبة ومعمر وخلق. قال ابن المديني: له نحو أربعمائة حديث. وقال ابن سعد: ثقة حجة. وقال أبو حاتم: إمام. قال أبو نعيم: توفي سنة خمس وأربعين ومائة، وقيل سنة ست، وتكلم فيه مالك وغيره.
[الخلاصة 3/ 115] .
[ (5) ] قال المزي: كل حديث فيه يا حميراء فهو موضوع إلا حديث عن النسائي قال الزركشي في الإصابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة في أثناء تعديد خصائصها رضي اللَّه تعالى عنها «السابعة والعشرون» جاء في حقها. خذوا شطر دينكم عن الحميراء وسألت شيخنا الحافظ عماد الدين بن كثير رحمه اللَّه عن ذلك فقال: كان شيخنا حافظ الدنيا أبو الحجاج المزي رحمه اللَّه تعالى يقول: كل حديث فيه ذكر الحميراء باطل إلا حديث في الصوم في(2/122)
تفرد بهذا الحديث أبو غزية وتفرد عنه الكعبي بذكر مالك في إسناده. قال الدارقطني:
هذا كذب على مالك والحمل فيه على أبي غزية والمتهم بوضعه هو أو من حدث به عنه.
وهذا الحديث قد حكم بوضعه الحافظ أبو الفضل بن ناصر والجوزقاني وابن الجوزي والذهبي وأقره الحافظ في اللسان، وحكم بوضعه جماعة سبق ذكرهم في ترجمة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم. وجعله ابن شاهين ومن تبعه ناسخا لأحاديث النهي عن الاستغفار.
قلت: وهذا غير جيد لأن أحاديث النهي عن الاستغفار لهما بعض طرقها صحيح. رواه مسلم وابن حبان في صحيحيهما وهذا الحديث على تسليم ضعفه لا يكون ناسخا للأحاديث الصحيحة واللَّه تعالى أعلم.
قال أبو الخطاب بن دحية: الحديث في إحياء أبيه وأمه موضوع يرده القرآن والإجماع قال تعالى: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء 18] وقال: فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ [البقرة 217] فمن مات وهو كافر لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه، فكيف بعد الإعادة؟ وفي التفسير
أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ليت شعرى ما فعل أبواي [ (1) ] ؟» .
فنزلت وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ
[البقرة 119] .
قلت: لو اقتصر أبو الخطاب على الحكم بوضع الحديث فقط وسكت عما ذكره لكان جيدا وتأدبا مع النبي صلى الله عليه وسلم- في حق أبويه. وقد تعقبه القرطبي فقال: وفيما ذكره ابن دحية نظر. وذلك أن فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وخصائصه لم تزل تتوالى وتتتابع إلى حين مماته فيكون هذا مما فضله تعالى وأكرمه به، وليس إحياؤهما وإيمانهما به ممتنعا عقلا ولا شرعا، فقد ورد في الكتاب العزيز إحياء قتيل بني إسرائيل وإخباره بقاتله وكان عيسى صلى الله عليه وسلم يحيي الموتى وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم أحيا اللَّه تعالى على يديه جماعة من الموتى. وإذا ثبت هذا فما يمتنع من إيمانهما بعد إحيائهما زيادة في كرامته وفضيلته مع ما ورد من الخبر في ذلك ويكون مخصوصا ممن مات كافرا.
وقوله: «فمن مات كافرا»
إلى آخر كلامه مردود بما في الخبر أن اللَّه رد الشمس على نبيه صلى الله عليه وسلم بعد مغيبها حتى صلى علي العصر. ذكره الطحاوي وقال إنه حديث ثابت. فلو لم
__________
[ () ] «سند النسائي» وحديث آخر أخرجه النسائي عن أبي سلمة قال: قالت عائشة: دخل الحبشة المسجد يلعبون فقال لي: يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم وإسناده صحيح [انظر الإجابة 61- 62 المصنوع (211) ] .
[ (1) ] أخرجه الطبري في التفسير 1/ 409 وذكره السيوطي في الدر 1/ 111 وزاد نسبته لوكيع وسفيان بن عيينة وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.(2/123)
يكن رجوع الشمس نافعا وأنه لا يتجدد الوقت لما ردها عليه، فكذلك يكون إحياء أبوي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قبل اللَّه تعالى إيمان قوم يونس وتوبتهم مع تلبسهم بالعذاب كما هو أحد الأقوال وهو ظاهر القرآن.
وأما الجواب عن الآية فيكون ذلك قبل إيمانهما وكونهما في العذاب. انتهى كلام القرطبي. ونقله الحافظ في شرح الدرر ملخصا له. وأقره.
قال الشيخ رحمه اللَّه: استدلاله على عدم تجدد الوقت بقصة رجوع الشمس في غاية الحسن ولهذا حكم بكون الصلاة أداء وإلا لم يكن لرجوعها فائدة إذ كان يصح قضاء العصر بعد الغروب. قال: وقد ظفرت باستدلال أوضح منه، وهو ما ورد أن أصحاب الكهف يبعثون آخر الزمان ويحجون ويكونون من هذه الأمة تشريفا لهم بذلك.
وورد عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما مرفوعا: أصحاب الكهف أعوان المهدي.
رواه ابن مردويه في التفسير. فقد اعتد بما يفعله أصحاب الكهف بعد حياتهم عن الموت. ولا بدع في أن يكون اللَّه تعالى كتب لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم عمرا ثم قبضهما قبل استيفائه ثم أعادهما لاستيفاء تلك اللحظة الباقية وآمنا فيها فيعتد به ويكون تأخير تلك البقية بالمدة الفاصلة بينهما لاستدراك الإيمان، من جملة ما أكرم اللَّه بها نبيه صلى الله عليه وسلم، كما أن تأخير أصحاب الكهف هذه المدة من جملة ما أكرموا به، فيحوزون شرف الدخول في هذه الأمة.
وأما حديث:
«ليت شعرى ما فعل أبواي»
فإنه معضل ضعيف لا تقوم به حجة.
وقال الحافظ ابن سيد الناس في «العيون» بعد أن ذكر أنه روى أن اللَّه تعالى أحيا أبويه فآمنا به قال: وهو مخالف لما
أخرجه أحمد عن أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول اللَّه أين أمي؟ قال: أمك في النار. قلت: فأين من مضى من أهلك؟ قال: أما ترضى أن تكون أمك مع أمي.
قال: وذكر بعض أهل العلم في الجمع بين هذه الروايات ما حاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل راقيا في المقامات السنية صاعدا إلى الدرجات العلية إلى أن قبض اللَّه روحه الطاهرة لديه وأزلفه بما خصه به لديه من كرامة القدوم عليه، فمن الجائز أن تكون هذه كرامة حصلت له صلى الله عليه وسلم بعد أن لم تكن وأن يكون الإحياء والإيمان متأخرا عن تلك الأحاديث، فلا تعارض.
انتهى.
فصل في الكلام على أحاديث النهي عن استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لأبويه.
حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ليت شعرى ما فعل أبواي» فنزل إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ فما ذكرهما حتى توفاه اللَّه. ورواه ابن جرير وغيره(2/124)
عن محمد بن كعب القرظى مرسلا وسنده ضعيف لا تقوم به حجة. وروى أيضا عن داود بن أبي عاصم نحوه وهو معضل وسنده ضعيف لا تقوم به حجة.
ثم إن هذا السبب مردود بوجوه أخرى من جهة الأصول والبلاغة وأسرار البيان، وذلك أن الآيات من قبل هذه الآيات ومن بعدها كلها في اليهود من قوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة 40] إلى قوله: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ واختتمت القصة بمثل ما صدرت به وهو قوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ الآيتين فتبين أن المراد بأصحاب الجحيم كفار أهل الكتاب وقد ورد ذلك مصرحا به في الأثر. روى عبد بن حميد والفريابي عن مجاهد قال: من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية في نعت المنافقين، ومن أربعين آية إلى عشرين ومائة في بني إسرائيل.
ومما يؤيد ذلك أن السورة مدنية وأكثر ما خوطب فيها اليهود، ويرشح ذلك من حيث المناسبة أن الجحيم اسم لما عظم من النار كما هو مقتضى اللغة والآثار، روى ابن جرير عن مالك في الآية قال: الجحيم اسم لما عظم من النار.
وروى ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ قال:
أولها جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم، ثم الهاوية. قال: والجحيم فيها أبو جهل.
إسناده صحيح.
فاللائق بهذه المنزلة من عظم كفره واشتد وزره وعاند عند الدعوة، وبدل وحرف وجحد بعد علم، لا من هو بمظنة التخفيف.
وإذا كان قد صح في أبي طالب أنه أهون أهل النار عذابا لقرابته منه صلى الله عليه وسلم وبره به، مع إدراكه الدعوة وامتناعه من الإجابة وطول عمره، فما ظنك بأبويه اللذين هما أشد منه قربا وآكد منه حبا، وأبسط عذرا وأقصر منه عمرا؟ فمعاذ اللَّه أن يظن بهما أنهما في طبقة الجحيم وأن يشدد عليهما العذاب العظيم هذا لا يفهمه من له أدنى ذوق.
حديث: أنه صلى الله عليه وسلم استغفر لأمه فضرب جبريل في صدره وقال لا تستغفر لمن مات مشركا.
رواه البزار وفي سنده من لا يعرف فلا تقوم به حجة.
وأما ما يروى في سبب نزول قوله تعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: 113] من أن النبي صلى الله عليه وسلم استغفر لأمه فنزلت الآية. فرواه الحاكم عن ابن(2/125)
مسعود، وابن جرير من طريق عطية العوفي، والطبراني من طريق عكرمة، كلاهما عن ابن عباس وابن مردويه عن بريدة قال: وفيه أن قبرها بمكة.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: فأما حديث ابن مسعود وإن صححه الحاكم فقد تعقبه الذهبي في مختصره فقال: في سنده أيوب بن هانئ ضعفه ابن معين. فهذه علة تقدح في صحته. وله علة ثانية وهي مخالفته لما في صحيح البخاري وغيره أن هذه الآية نزلت بمكة عقب موت أبي طالب واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم له كما سيأتي في باب موت أبي طالب. وأما حديث ابن عباس فله علتان: مخالفته للحديث الصحيح كما سبق وضعف إسناده. وأما حديث بريدة فله علتان: إحداهما المخالفة في سبب نزول الآية. والثانية: قال ابن سعد بعد تخريجه:
هذا غلط وليس قبرها بمكة وقبرها بالأبواء.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: وأصح هذه الطرق أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه في ألفي مقنع فما رئي أكثر باكيا من ذلك اليوم. رواه الحاكم وصححه عن [بريدة] . وهذا القدر لا علة له، وليس فيه مخالفة لشيء من الأحاديث، ولا نهي عن الاستغفار، وقد يكون البكاء لمجرد الرقة التي تحصل عند زيارة الموتى من غير سبب تعذيب ونحو.
ثم قال الشيخ: وقد ظفرت بأثر يدل على أنها ماتت وهي موحدة. فذكر أثر أم سماعة- بنت أبي رهم عن أمها- السابق ثم قال: فهذا القول من أم النبي صلى الله عليه وسلم صريح في أنها موحدة إذ ذكرت دين إبراهيم وبعث ابنها صلى الله عليه وسلم بالإسلام من عند ذي الجلال والإكرام ونهيه عن عبادة الأصنام وموالاتها مع الأقوام وهل التوحيد شيء غير هذا؟ التوحيد الاعتراف باللَّه وإلهيته وإنه لا شريك له والبراءة من عبادة الأصنام ونحوها. وهذا القدر كاف في التبري من الكفر وصفة ثبوت التوحيد في الجاهلية قبل البعثة. وقد قال العلماء في حديث الذي أمر بنيه عند موته أن يحرقوه ويسحقوه ويذروه في الريح وقوله: «إن قدر اللَّه علي» إن هذه الكلمة لا تنافي الحكم بإيمانه لأنه لم يشك في القدرة ولكن جهل فظن أنه إذا فعل ذلك لا يعاد. ولا يظن بكل من كان في الجاهلية أنه كان كافرا، فقد كان جماعة تحنفوا وتركوا ما كان عليه أهل الشرك وتمسكوا بدين إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو التوحيد، كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل، فكلهم محكوم بإيمانه في الحديث ومشهود له بالجنة، فلا بدع أن تكون أم النبي صلى الله عليه وسلم منهم، كيف وأكثر من تحنف إنما كان سبب تحنفه ما سمعه من أهل الكتاب قرب زمنه صلى الله عليه وسلم من أنه قرب بعث نبي من الحرم صفته كذا، وأم النبي صلى الله عليه وسلم سمعت من ذلك أكثر مما سمعه غيرها، وشاهدت في حمله وولادته من آياته الباهرة ما يحمل على التحنف ضرورة، ورأت النور الذي خرج منها أضاءت له قصور الشام حتى رأتها كما ترى أمهات النبيين صلى اللَّه عليهم(2/126)
أجمعين وقالت لحليمة حين جاءت به وقد شق صدره وهي مذعورة: أخشيتما عليه الشيطان؟
كلا واللَّه ما للشيطان عليه سبيل وإنه لكائن لابني هذا شأن. في كلمات أخرى من هذا النمط، وقدمت به المدينة عام وفاتها وسمعت كلام اليهود فيه وشهادتهم له بالنبوة ورجعت به فماتت في الطريق. فهذا كله مما يؤيد أنها تحنفت في حياتها.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: فإن قلت كيف قررت أنها كانت موحدة في حياتها ومتحنفة وقد صح أنه استأذن ربه في الاستغفار لها فلم يؤذن له.
وقوله في الحديث «أمي مع أمكما»
يؤذن بخلاف ذلك وهبك أجبت عنهما فيما يتعلق بحديث الإحياء بأنهما متقدمان في التاريخ وذاك متأخر فكان ناسخا، فما تقول في هذا؟ فإن الموت على التوحيد ينفي التعذيب البتة؟.
قلت: أما حديث:
«أمي مع أمكما» وإن صححه الحاكم،
فقد تقرر في علوم الحديث أن الحاكم يتساهل في التصحيح. وقال الذهبي بعد قول الحاكم في هذا الحديث: أنه صحيح: قلت: لا واللَّه فإن عثمان بن عمير ضعفه الدارقطنيّ. فبين الذهبي ضعف الحديث وحلف عليه يمينا. وعلى تقدير أن يكون صحيحا فأحسن ما يقرر به الجواب أن يقال: إن قوله «أمي مع أمكما» صدر قبل أن يوحى إليه أنها من أهل الجنة، كما
قال صلى الله عليه وسلم: «لا أدري تبعا كان نبيا أم لا» [ (1) ] رواه الحاكم وابن شاهين من حديث أبي هريرة.
وقال صلى الله عليه وسلم بعد أن أوحى إليه في شأنه: «لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم» [ (2) ] رواه ابن شاهين في نسخه من حديث سهل ابن سعد وابن عباس.
وكأنه صلى الله عليه وسلّم أولا لم يوح إليه في شأنها شيء ولم يبلغه الذي قالته عند موتها ولا تذكره فإنه كان إذ ذاك ابن خمس سنين، فأطلق القول بأنها مع أمهما جريا على قاعدة أهل الجاهلية، ثم أوحى إليه في أمرها بعد ذلك.
ويؤيد ذلك أن في آخر الحديث نفسه
«ما سألتهما ربي»
فهذا يدل على إنه لم يكن بعد وقعت بينه وبين ربه مراجعة في أمرها ثم وقع بعد ذلك. وأما عدم الإذن في الاستغفار فلا يلزم منه الكفر بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان ممنوعا في أول الإسلام من الصلاة على من عليه دين لم يترك وفاء ومن الاستغفار له وهو من المسلمين، وعلل ذلك بأن استغفاره مجاب على الفور، فمن استغفر له وصل عقب دعائه إلى منزله الكريم في الجنة والمديون محبوس عن مقامه حتى يقضى دينه كما ورد في الحديث «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى» فقد تكون أمّ
__________
[ (1) ] ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 103.
[ (2) ] أخرجه أحمد في المسند 5/ 340 والطبراني في الكبير 6/ 250 وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 166 والسيوطي في الدر 6/ 31 والهيثمي في المجمع 8/ 76.(2/127)
النبي صلى الله عليه وسلم مع كونها متحنفة كانت محبوسة في البرزخ عن الجنة لأمور أخرى غير الكفر اقتضت أن لا يؤذن له في الاستغفار إذ ذاك بسببها إلى أن أذن اللَّه تعالى فيه بعد ذلك.
ويحتمل أن يجاب عن الحديثين بأنها كانت موحدة غير أنها لم يبلغها شأن البعث والنشور وذلك أصل كبير، فأحياها اللَّه تعالى له حتى آمنت بالبعث وبجميع ما في شريعته ولذلك تأخر إحياؤها إلى حجة الوداع حتى تمت الشريعة ونزل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة 3] فأحييت حتى آمنت بجميع ما أنزل وهذا معنى نفيس بليغ. وبسط الشيخ رحمه اللَّه تعالى الكلام على ذلك في كتابيه «الدرر الكامنة في إسلام السيدة آمنة» وفي «مسالك الحنفا في والدي المصطفى» والذي ذكرته خلاصتهما وفيه مناقشات ليس المقام لائقا لذكرها.
وتقدم في ترجمة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه مقنع.
وقد وقعت على فتوى بخط بعض علماء المغاربة بسط فيها الكلام على هذا المقام ورجح ما مشى عليه الشيخ، ومن جملة ما ذكره: أن المتكلم في هذا المقام على ثلاثة أقسام:
قسم يوجب تكفير قائله وزندقته وليس فيه إلا القتل دون تلعثم، وهو حيث يتكلم بمثل هذا الكلام المؤذي في أبويه صلى الله عليه وسلم قاصدا لأذيته وتعييره والإزراء به والتجسر على جهته العزيزة بما يصادم تعظيمه وتوقيره.
وقسم ليس على المتكلم به وصم وهو حيث يدعوه داع ضروري إلى الكلام به، كما إذا تكلم على الحديث مفسرا له ومقررا، ونحو ذلك مما يدعو إلى الكلام به من الدواعي الشرعية.
وقسم يحرم علينا التكلم فيه ولا يبلغ بالتكلم به إلى القتل، وهو حيث لا يدعوه داع شرعي إلى الكلام به فهذا يؤدب على حسب حاله ويشدد في أدبه إن علم منه الجرأة وعدم التحفظ في اللسان، ويعزل عن الوظائف الشرعية. واستدل بعزل عمر بن عبد العزيز عامله.
وسبق ذلك في ترجمة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: ولا ينبغي لعاقل إنكار ذلك. أي حديث إحياء أبويه صلى الله عليه وسلم- فكرامته صلى الله عليه وسلم على مولاه أعظم من ذلك، ولا يتشاغل في هذا المقام بكونه صحيحا، فقد قال العلماء: أحاديث الترغيب والترهيب لا يشترط فيها الصحة، فما بالك بهذا المقام؟ ولا مانع من صحته إن شاء اللَّه تعالى وذلك هو الذي يغلب على ظن كل محب للجناب الشريف صلى الله عليه وسلم.(2/128)
الباب الثاني في كفالة عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفته بشأنه.
لما توفيت آمنة أم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ضمه إليه جده عبد المطلب ورق عليه رقة لم يرقها على ولده.
قال ابن إسحاق: حدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله قال: كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة وكان لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتي حتى يجلس عليه فيذهب أعمامه يؤخرونه فيقول جده: دعوا ابني.
فيمسح ظهره ويقول: إن لابني هذا لشأناً.
وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما مثله. وزاد: دعوا ابني يجلس فإنه يحس من نفسه بشيء، وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده.
وروى ابن سعد وابن عساكر عن الزهري ومجاهد ونافع وابن جبير قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس على فراش جده فيذهب أعمامه ليؤخروه فيقول عبد المطلب: دعوا ابني ليؤنس ملكاً [ (1) ] .
وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به فإنا لم نر قدما أشبه بالقدم التي في المقام منه.
وقال عبد المطلب لأم أيمن: يا بركة احتفظي به لا تغفلي عنه فإن أهل الكتاب يزعمون أنه نبي هذه الأمة.
وروى المحاملي عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: سمعت أبي يقول: كان لعبد المطلب مفرش في الحجر لا يجلس عليه غيره وكان حرب بن أمية فمن دونه يجلسون حوله دون المفرش، فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوما وهو غلام لم يبلغ الحلم فجلس على المفرش فجذبه رجل فبكي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال عبد المطلب- وذلك بعد ما كف بصره: ما لابني يبكي؟ قالوا له: أراد أن يجلس على المفرش فمنعوه. دعوا ابني يجلس عليه فإنه يحس من نفسه بشرف وأرجو أن يبلغ من الشرف ما لم يبلغه عربي قبله ولا بعده.
وروى البلاذري عن الزهري ومحمد بن السائب أن عبد المطلب كان إذا أتي بالطعام أجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى جنبه وربما أقعده على فخذه فيؤثره بأطيب طعامه، وكان رقيقا
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 70.(2/129)
عليه برا به، فربما أتي بالطعام وليس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حاضرا فلا يمس شيئاً منه حتى يؤتى به.
وكان يفرش له في ظل الكعبة ويجلس بنوه حول فراشه إلى خروجه فإذا خرج قاموا على رأسه مع عبيده إجلالا له وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر فيجلس على الفراش فيأخذه أعمامه ليؤخروه فيقول عبد المطلب: دعوا ابني ما تريدون منه؟ إن له لشأنا. ويقبل رأسه ويمسح صدره ويسر بكلامه وما يرى منه.
وروى أبو نعيم عن محمد بن عمر الأسلمي عن شيوخه قالوا: بينا عبد المطلب يوما في الحجر وعنده أسقف نجران وهو يحادثه ويقول: إنا نجد صفة نبي بقي من ولد إسماعيل، هذا البلد مولده ومن صفته كذا وكذا. وأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنظر إليه الأسقف وإلى عينيه وإلى ظهره وإلى قدميه فقال: هو هذا، ما هذا منك؟ قال: هذا ابني. قال الأسقف: لا، ما نجد أباه حيا. قال: هو ابن ابني وقد مات أبوه وأمه حبلى به. قال: صدقت. قال عبد المطلب لبنيه:
تحفظوا بابن أخيكم ألا تسمعون ما يقال فيه؟.
وروى البخاري في تاريخه وابن سعد والحاكم وصححه، عن كندير بن سعيد بن حيوة [ (1) ] ويقال حيدة، عن أبيه، والبيهقي عن معاوية بن حيدة [ (2) ] قال الأول: خرجت حاجا في الجاهلية. وقال الثاني: خرجت معتمرا في الجاهلية. قالا: فإذا شيخ طويل يطوف بالبيت وهو يقول:
رد إلي راكبي محمدا ... اردده ربي واتخذ عندي يدا
فسألا عنه فقيل هذا سيد قريش عبد المطلب له إبل كثيرة فإذا ضل منها شيء بعث فيه بنيه يطلبونها فإذا غابوا بعث ابن ابنه ولم يبعثه في حاجة إلا أنجح فيها، وقد بعثه في حاجة أعيا عنها بنوه وقد أبطأ عليه. قالا: فلم نلبث حتى جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالإبل معه، فقال له عبد المطلب: يا بني حزنت عليك حزنا لا تفارقني بعد أبدا.
وروى ابن الجوزي عن أم أيمن رضي اللَّه تعالى عنها قالت: كنت أحضن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فغفلت عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسه يقول: يا بركة.
قلت: لبيك. قال: أتدرين أين وجدت ابني؟ قلت: لا أدري. قال: وجدته مع غلمان قريبا من السدرة، لا تغفلي عنه فإن أهل الكتاب يزعمون أنه نبي هذه الأمة وأنا لا آمنهم عليه.
__________
[ (1) ] كندير بن سعيد بن حيوة قال حججت في الجاهلية فإذا أنا برجل يطوف بالبيت وهو يقول «رد إلي راكبي محمدا» وروى عن أبيه روى عنه العباس بن عبد الرحمن سمعت أبي يقول ذلك.
[ (2) ] معاوية بن حيدة بن معاوية بن كعب القشيري، صحابي، نزل البصرة، ومات بخراسان، وهو جد بهز بن حكيم [التقريب 2/ 259] .(2/130)
الباب الثالث في استسقاء أهل مكة بجده وهو معهم وسقياهم ببركته
روى ابن سعد والبلاذري وابن أبي الدنيا والطبراني والبيهقي عن رقيقة بنت أبي صيفي ابن هاشم وكانت لدة عبد المطلب قالت: تتابعت على قريش سنون جدبة أقحلت الجلد وأدقت العظم، فبينا أنا نائمة أو مهومة إذا هاتف يصرخ بصوت صحل يقول: يا معشر قريش إن هذا النبي المبعوث منكم قد أظلتكم أيامه وهذا إبان مخرجه فحي هلا بالحيا والخصب، ألا فانظروا رجلا منكم وسيطا عظاما جساما أبيض بضا أوطف الأهداب سهل الخدين أشم العرنين له فخر يكظم عليه وسنة يهتدى إليها، فليخلص هو وولده وولد ولده، وليدلف إليه من كل بطن رجل، فليشنوا من الماء وليمسوا من الطيب ثم يستلم الركن، وليطوفوا بالبيت سبعا ثم ليرتقوا أبا قبيس فليستق الرجل وليؤمن القوم، ألا وفيهم الطيب الطاهر فغثتم إذا ما شئتم.
قالت: فأصبحت مذعورة قد اقشعر جلدي ووله عقلي واقتصيت رؤياي فنمت في شعاب مكة، فما بقي أبطحي إلا قال: هذا شيبة الحمد. وتتامت عنده قريش وانقض إليه من كل بطن رجل فشنوا من الماء ومسوا من الطيب واستلموا وطافوا ثم ارتقوا أبا قبيس فطفق القوم يدلفون حوله ما إن يدرك سعيهم مهلة، حتى قر لذروته، فاستكفوا جانبيه ومعه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ غلام قد أيفع أو كرب فقام عبد المطلب فقال: اللهم ساد الخلة وكاشف الكربة أنت عالم غير معلم ومسؤول غير مبخل وهذه عبادك وإماؤك بعذرات حرمك يشكون إليك سنتهم التي قد أقحلت الظلف والخف فأمطرنا اللَّه غيثا مريعا مغدقا. فما برحوا حتى انفجرت السماء بمائها وكظ الوادي بثجيجه فلسمعت شيخان قريش وهي تقول لعبد المطلب: هنيئا لك أبا البطحاء بك عاش أهل البطحاء.
وفي ذلك تقول رقيقة بنت أبي صيفي:
بشيبة الحمد أسقى اللَّه بلدتنا ... وقد فقدنا الحيا واجلوذ المطر
فجاد بالماء جوني له سبل ... سحا فعاشت به الأنعام والشجر
سيل من اللَّه بالميمون طائره ... وخير من بشرت يوما به مضر
مبارك الأمر يستسقى الغمام به ... ما في الأنام له عدل ولا خطر
تفسير الغريب
رقيقة: براء مضمومة وقافين مصغرة، بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد المطلب بن هاشم الهاشمية والدة مخرمة بن نوفل. ذكرها ابن سعد في المسلمات المهاجرات.(2/131)
لدة الرجل [ (1) ] : تربه الذي ولد هو وإياه في وقت واحد.
التتابع: بمثناتين فوقيتين فألف فمثناة تحتية فعين مهملة قال في النهاية: الوقوع في الشر من غير فكرة ولا روية والمتابعة عليه، ولا يكون في الخير. وقال غيره: التتابع بالموحدة يقال في الخير، والمثناة يقال في الشر.
السنون: جمع سنة وهي الجدب بفتح الجيم وسكون الدال المهملة نقيض الخصب.
أقحلت: بقاف فحاء مهملة: أيبست. مهومة: بضم الميم وفتح الهاء وكسر الواو المشددة قال في النهاية: التهويم: أول النوم. وهو دون النوم الشديد.
الهاتف: ما يسمع صوته ولا يرى شخصه.
بصوت صحل: بصاد مفتوحة فحاء مهملتين فلام أي غير حاد الصوت.
إبان الشيء بكسر الهمزة وتشديد الموحدة: وقته.
حي هلا: اسم فعل بمعني أقبلوا وأسرعوا، وهي كلمتان جعلتا كلمة فحي بمعني أقبل وهلا بمعنى أسرع.
الحيا: بالقصر الغيث.
الخصب: بالكسر نقيض الجدب.
وسيطا: يقال فلان وسيط قومه إذا كان أوسطهم نسبا وأرفعهم محلا.
عظاما [ (2) ] : بضم العين المهملة بمعنى عظيم. جساما: بضم الجيم بمعنى جسيم. بضا:
بموحدة فضاد معجمة مشددة قال في النهاية: البضاضة رقة اللون وصفاؤه الذي يؤثر فيه أدنى شيء.
الوطف: بفتح الواو والطاء المهملة: طول شعر العين مع سعتها.
الشمم: ارتفاع قصبة الأنف واستواء أعلاها وإشراف الأرنبة قليلا.
العرنين: بكسر العين المهملة وسكون الراء: الأنف وهذا اللفظ كناية عن الرفعة والعلو وشرف النفس.
يكظم عليه: بمثناة تحتية مفتوحة فكاف ساكنة فظاء مشالة مضمومة فميم أي لا يبديه ولا يظهره.
__________
[ (1) ] انظر المعجم الوسيط 2/ 822.
[ (2) ] انظر لسان العرب 3/ 2004.(2/132)
يدلفون: بدال مهملة وفاء: أي يقربون منه.
شنوا من الماء: اغتسلوا به. تتام القوم: جاءوا كلهم وتموا.
العذرات: بعين مهملة مفتوحة فذال معجمة فراء فتاء تأنيث جمع عذرة بفتح أوله وكسر ثانيه وهي فناء الدار، وهو سعة أمامها. وقيل: ما امتد من جوانبها.
الغدق بفتح الغين المهملة: المطر الكبار القطر، والمغدق: مفعل منه.
مريعا بفتح الميم: مخصبا.
الحيا: هنا بالقصر المطر.
اجلوذ المطر [ (1) ] : بجيم فلام مشددة مفتوحتين فذال معجمة قال في النهاية: امتد وقت تأخره وانقطاعه.
جوني: بفتح الجيم وسكون الواو وتشديد الياء منسوب إلى الجون وهو من الألوان يقع على الأبيض والأسود، والجمع جون بضم الجيم، وقيل الياء فيه للمبالغة كما يقال في الأحمر أحمري.
السبل: بسين مهملة فباء موحدة مفتوحتين المطر الجود الهاطل يقال أسبل المطر والدمع: إذا هطلا والاسم السبل بالتحريك.
سحا: بسين فحاء مهملة مشددة مفتوحتين: يقال سح المطر والدمع وغيرهما يسح بالضم سحوحا وسحا: سال. ويقال السح: الصب الكثير.
الميمون طائره: أي المبارك حظه ويجوز أن يكون أصله من الطير السارح والبارح.
العدل بكسر العين: المثل. الخطر بخاء معجمة: الشبيه والمثل.
__________
[ (1) ] اللسان 1/ 656.(2/133)
الباب الرابع فيما حصل له في سنة سبع من مولده
قال الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي في «الوفا» في سنة سبع من مولده صلى الله عليه وسلم أصابه رمد شديد فعولج بمكة فلم يغن فقيل لعبد المطلب: إن في ناحية عكاظ راهبا يعالج الأعين فركب إليه فناداه وديره مغلق فلم يجبه فتزلزل ديره حتى كاد أن يسقط عليه فخرج مبادرا فقال: يا عبد المطلب إن هذا الغلام نبي هذه الأمة ولو لم أخرج إليك لخر علي ديرى فارجع به واحفظه لا يقتله بعض أهل الكتاب. ثم عالجه وأعطاه ما يعالج به. وألقي له المحبة في قلوب قومه وكل من يراه.
عكاظ: بضم العين وآخره ظاء مشالة معجمة: مكان بقرب عرفات.(2/134)
الباب الخامس في وفاة عبد المطلب ووصيته لأبي طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم وما ظهر في ذلك من الآيات
اختلف في سن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين مات جده فقيل: وله ثمان سنين وقدمه في الإشارة. وقيل بزيادة شهر وعشرة أيام. وقيل تسع وقيل عشر وقيل ست.
ولعبد المطلب عشر ومائة سنة. وقدمه في الإشارة. وقيل اثنتان وثمانون سنة ويقال بلغ مائة وأربعة وأربعين سنة. ويقال خمسا وتسعين سنة. ويقال مائة وعشرين.
قال الواقدي: وليس ذلك بثبت.
وروى محمد بن عمر الأسلمي عن أم أيمن أنها حدثت أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يبكي خلف سرير عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين ودفن بالحجون.
وروى ابن سعد عن الواقدي عن شيوخه أنه قيل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتذكر موت عبد المطلب؟ قال: نعم أنا يومئذ ابن ثمان سنين.
قال ابن إسحاق وغيره: ولما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وحياطته والقيام عليه، وأوصى به إلى أبي طالب، لأن عبد الله وأبا طالب كانا لأم واحدة، فلما مات عبد المطلب كان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد جده.
وروى ابن سعد والحسن بن عرفة وابن عساكر عن ابن عباس وغيره قالوا: لما توفي عبد المطلب قبض أبو طالب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فكان يكون معه، وكان يحبه حبا شديدا لا يحبه ولده وكان لا ينام إلا إلى جنبه وصب به صبابة لم يصب مثلها قط، وكان يخصه بالطعام وكان عيال أبي طالب إذا أكلوا جميعا أو فرادى لم يشبعوا وإذا أكل معهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شبعوا. وكان أبو طالب إذا أراد أن يغديهم أو يعشيهم يقول: كما أنتم حتى يحضر ابني. فيأتي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيأكل معهم فيفضلون من طعامهم، وإن لم يكن معهم لم يشبعهم، وإن كان لبنا شرب أولهم ثم يتناول العيال القعب فيشربون منه فيروون عن آخرهم من القعب الواحد، وإن كان أحدهم ليشرب قعباً وحده فيقول أبو طالب: إنك لمبارك. وكان الصبيان يصيحون رمصاً شعثاً ويصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دهينا كحيلا.
وروى أبو نعيم عن أم أيمن قالت: ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شكا جوعا ولا عطشا لا في كبره ولا في صغره، وكان يغدو إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة فربما عرضنا عليه الغداء فيقول: أنا شبعان.(2/135)
وروى الحسن بن سفيان عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: كان أبو طالب يقرب للصبيان تصبيحهم فيضعون أيديهم فينتهبون ويكف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يده فلما رأى ذلك أبو طالب عزل له طعامه.
تفسير الغريب
صب به: يقال صب يصب بالفتح صبابة رق شوقه.
القعب: [ (1) ] قدح من خشب: الرمص بالتحريك وسخ يجتمع في الموق فإن سال فهو غمص وإن جمد فهو رمص.
الشَّعث: تلبد الشعر لقلة تعهده بالدهن.
واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] انظر المصباح المنير 510.(2/136)
الباب السادس في استسقاء أبي طالب برسول الله صلى الله عليه وسلم وعطش أبي طالب وشكواه ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
روى ابن عساكر عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكة وقريش في قحط، فقائل منهم يقول: اعتمدوا واللات والعزى. وقائل منهم يقول: اعتمدوا مناة الثالثة الأخرى فقال شيخ وسيم حسن الوجه جيد الرأي: أنى تؤفكون وفيكم بقية إبراهيم وسلالة إسماعيل. قالوا: كأنك عنيت أبا طالب؟ قال: إيها. فقاموا بأجمعهم وقمت معهم فدققنا عليه بابه فخرج إلينا رجل حسن الوجه عليه إزار قد اتشح به فثاروا إليه فقالوا: يا أبا طالب أقحط الوادي وأجدب العيال فهلم فاستسق لنا فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنه شمس دجنة تجلت عليه سحابة قتماء وحوله أغيلمة فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ بإصبعه الغلام وما في السماء قزعة فأقبل السحاب من هاهنا وها هنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب النادي والبادي. وفي ذلك يقول أبو طالب:
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشمٍ ... فهم عنده في نعمة وفواضل
وقال ابن سعد: حدثنا الأزرق، حدثنا عبد الله بن عون، عن عمرو بن سعيد أن أبا طالب قال: كنت بذي المجاز مع ابن أخي، يعني النبي صلى اللَّه عليه وسلم، فأدركني العطش فشكوت إليه فقلت: يا ابن أخي قد عطشت. وما قلت له ذلك وأنا أرى عنده شيئاً إلا الجزع قال: فثنى وركه ثم قال: يا عم عطشت؟ قلت: نعم. فأهوى بعقبه إلى الأرض فإذا أنا بالماء فقال اشرب فشربت.
وله طرق أخرى رواها الخطيب وابن عساكر.
تفسير الغريب
جلهمة: بجيم مضمومة ولام ساكنة وهاء مضمومة وميم مفتوحة.
أني: بمعنى كيف.
تؤفكون: تصرفون.
ثاروا إليه: بالمثلثة قاموا.
دجنة [ (1) ] بدال مهملة فجيم مضمومتين: الظلة والجمع دجنات. قتماء [ (2) ] : بقاف فتاء
__________
[ (1) ] انظر اللسان 2/ 1331.
[ (2) ] انظر المعجم الوسيط 2/ 715.(2/137)
مثناة فوقية: الغبراء، من القتام بالفتح وهو الغبار.
لاذ به: طاف.
قزعة: سحابة.
أغدق كذلك.
اغدودق: كذلك.
الثمال: تقدم الكلام عليه في أسمائه صلى اللَّه عليه وسلم.
ذو المجاز: مكان على فرسخ من عرفة.(2/138)
الباب السابع في سفره صلى الله عليه وسلم مع عمه الزبير بن عبد المطلب إلى اليمن
قال ابن الجوزي في «الوفا» لما أتت لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بضع عشرة سنة خرج في سفر مع عمه الزبير، فمروا بواد فيه فحل من الإبل يمنع من يجتاز، فلما رآه البعير برك وحك الأرض بكلكله، فنزل عن بعيره وركبه فسار حتى جاوز الوادي ثم خلى عنه، فلما رجعوا من سفرهم مروا بواد مملوء ماء يتدفق فوقفوا
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: اتبعوني.
ثم اقتحمه فاتبعوه فأيبس اللَّه الماء. فلما وصلوا إلى مكة تحدثوا بذلك فقال الناس: إن لهذا الغلام شأنا.
الكلكل والكلكال: الصدر.(2/139)
الباب الثامن في سفره صلى الله عليه وسلم مع عمة أبي طالب إلى الشام
روى ابن سعد وابن عساكر عن داود بن الحصين [ (1) ]- بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين- أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان ابن اثنتي عشرة سنة. قال البلاذري: وهو الثبت.
وروى أبو نعيم عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه وابن سعد وابن عساكر عن عبد الله بن محمد بن عقيل وابن سعد عن عبد الرحمن بن أبزى، والبزار والترمذي وحسنه عن أبي موسى الأشعري، وابن سعد عن داود بن الحصين، وأبو نعيم عن محمد بن عمر الأسلمي، والبيهقي عن محمد بن إسحاق قالوا: إن أبا طالب أراد المسير في ركب إلى الشام فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أي عم إلى من تخلّفني ها هنا؟ وصب به رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فرق له أبو طالب فلما سارا أردفه خلفه فخرج به فنزلوا على صاحب دير فقال صاحب الدير: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال: ما هو بابنك وما ينبغي أن يكون له أب حي. قال: ولم؟ قال: لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي. قال: وما النبي؟ قال: الذي يوحى إليه من السماء فينبئ أهل الأرض.
قال اللَّه أجل مما تقول. قال فاتق عليه اليهود.
ثم خرج حتى نزل براهب أيضاً صاحب دير فقال: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني قال:
ما هو بابنك وما ينبغي أن يكون له أب حي. قال: ولم؟ قال: لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي. قال: سبحان اللَّه! أجل مما تقول.
وقال أبو طالب للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: يا ابن أخي ألا تسمع ما يقولون؟ قال: أي عم لا تنكر للَّه قدرة.
خبر بحيرا فلما نزل الركب بصرى وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له قال ابن إسحاق: وكان أعلم أهل النصرانية. فلما نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك لا يكلمهم ولا يعرض لهم، حتى إذا كان ذلك العام نزلوا قريبا من صومعته فرأى وهو في صومعته رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في ركب حين أقبلوا وغمامة تظله من بين القوم ثم أقبلوا فنزلوا في ظل شجرة قريبا منه فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتهصرت أغصان الشجرة على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين استظل تحتها، فلما رأى بحيرا ذلك نزل من صومعته وجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وقال: هذا سيد العالمين هذا يبعثه اللَّه رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: وما علمك؟ قال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يمر بشجر ولا حجر إلا خر ساجدا ولا
__________
[ (1) ] داود بن الحصين، الأموي مولاهم، أبو سليمان المدني، ثقة، إلا في عكرمة، ورمي برأي الخوارج، من السادسة، مات سنة خمس وثلاثين. [التقريب 1/ 231] .(2/140)
يسجدان إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة في أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة. ثم رجع وأمر بطعام كثير فصنع ثم أرسل إليهم فقال: إني صنعت لكم طعاما يا معشر قريش وإني أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وحركم وعبدكم. فقال رجل: يا بحيرا إن لك اليوم لشأناً ما كنت تصنع هذا فيما مضى وقد كنا نمر بك كثيرا فيما شأنك؟ فقال بحيرا: صدقت قد كان ما تقول، ولكنكم ضيف وقد أحببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما تأكلون منه. فاجتمعوا إليه، فلما أتاهم به وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم راح مع من يرعى الإبل. وفي رواية: فتخلف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من بين القوم لحداثة سنه في رحال القوم، فلما نظر بحيرا لم ير الصفة التي يعرف ويجد عنده، فقال: يا معشر قريش لا يتخلف أحد منكم عن طعامي هذا قالوا: ما تخلف عنك أحد يأتيك إلا غلام هو أحدث القوم سنا تخلف في رحالنا. فقال: لا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام. فقام الحارث بن عبد المطلب فأتى به، فلما أقبل وعليه غمامة تظله فقالوا: انظروا إليه عليه غمامة تظله. فلما دنا من القوم وجدهم سبقوه إلى فيء الشجرة فلما جلس مال فيء الشجرة عليه، فقال: انظروا ما فيء الشجرة عليه هذا نبي هذه الأمة الذي يرسله اللَّه إلى الناس كافة.
وفي «الزهر» نقلا عن محمد بن عمر الأسلمي إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما فارق تلك الشجرة التي كان جالسا تحتها وقام انفلقت من أصلها حين فارقها وجعل يلحظه لحظا شديدا ينظر إلى أشياء من بدنه قد كان يجدها عنده في صفته وقال لقومه: هذه الحمرة التي في عينيه تأتي وتذهب أولا تفارقه؟ قالوا: ما رأيناها فارقته قط. فأقبل على النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يا غلام أسألك باللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه. وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: لا تسألني باللات والعزى فواللَّه ما أبغضت بغضهما شيئاً. فقال له بحيرا: فباللَّه إلا ما أخبرتني عما أسألك. فقال: سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء عن حال نومه ويقظته وجعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يخبره فوافق ذلك ما عند بحيرا من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته عنده فلما فرغ منه أقبل على عمه أبي طالب فقال: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. فقال بحيرا: ما هو بابنك وما ينبغي لهذا الغلام أن يكون له أب حي. قال: فإنه ابن أخي. قال: فما فعل أبوه؟ قال: مات وأمه حامل به. قال: صدقت ارجع بابن أخيك إلى بلدك واحذر عليه اليهود فواللَّه لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً فإنه كائن لابن أخيك شأن. فأسرع به إلى بلاده ولا تذهب به إلى الروم فإن الروم إذا رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد 1/ 1/ 100.(2/141)
والتفت عنه بحيرا فإذا هو بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم فقال: ما جاء بكم؟
قالوا: جئنا إلى هذا النبي الذي هو خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه ناس وإنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا. قال: أفرأيتم أمرا أراد اللَّه أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟
قالوا: لا فبايعوه وأقاموا معه. فأتى قريشا فقال: أنشدكم با اللَّه أيكم وليه قالوا: أبو طالب. فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وأرسل معه رجلا وزودهم الراهب من الكعك والزيت.
وقال: أبو طالب في هذه السّفرة قصائد منها ما ذكره ابن إسحاق وأبو هفان في ديوان شعر أبي طالب:
إن ابن آمنة الأمين محمدا ... عندي بمثل منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام رحمته ... والعيس قد قلصن بالأزواد
فارفض من عيني دمع ذارف ... مثل الجمان مفرق الأفراد
راعيت منه قرابة موصولة ... وحفظت فيه وصية الأجداد
وأمرته بالسير بين عمومة ... بيض الوجوه مصالت أنجاد
ساروا لأبعد طية معلومة ... فلقد تباعد طية المرتاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا ... لاقوا على شرك من المرصاد
حبرا فأخبرهم حديثاً صادقا ... عنه ورد معاشر الحساد
قوما يهودا قد رأوا ما قد رأى ... ظل الغمامة ثاغري الأكباد
ساروا لفتك محمد فنهاهم ... عنه وأجهد أحسن الإجهاد
فثنى زبيراء بحير فانثنى ... في القوم بعد تجادل وتعاد
ونهى دريسا فانتهى لما نهي ... عن قول حبر ناطق بسداد
ومنها:
بكى حزنا لما رآني محمد ... كأن لا يراني راجعا لمعاد
فبت يجافيني تهلل دمعه ... وعبرته عن مضجعي ووسادي
فقلت له قرب قتودك وارتحل ... لا تخش مني جفوة ببلاد
وحل زمام العيس وارحل بنا معا ... على عزمة من أمرنا ورشاد
رح رائحا في الرائحين مشيعا ... لذي رحم والقرم غير بعاد
فرحنا مع القوم التي راح ركبها ... يؤمون من غورين أرض إياد(2/142)
فما رجعوا حتى رأوا من محمد ... أحاديث تجلو رين كل فؤاد
وحتى رأوا أحبار كل مدينة ... سجودا له من عصبة وفراد
زبيرا وتماما وقد كان شاهدا ... دريس فهموا كلهم بفساد
فقال لهم قولا بحيرا فأيقنوا ... به بعد تكذيب وطول بعاد
كما قال للركب الذين تهودوا ... وجاهدهم في اللَّه حق جهاد
وقال ولم يترك له النصح رده ... فإن له أرصاد كل مضاد
فإني أخاف الحاسدين وإنه ... لفي الكتب مكتوب بأي مداد
ومنها:
ألم ترني من بعد هم هممته ... بفرقة حر الوالدين كرام
بأحمد لما أن شددت مطيتي ... برحلي وقد ودعته بسلام
بكى حزنا والعيس قد فصلت بنا ... وأمسك بالكفين فضل زمام
ذكرت أباه ثم رقرقت عبرة ... بحورا من العينين ذات سجام
فقلت تروح راشدا في عمومة ... مواسين في البأساء غير لئام
فرحنا مع العير الّتي راح أهلها ... شام الهوى والأصل غير شام
فلما هبطنا أرض بصرى تشرفوا ... لنا فوق دور ينظرون جسام
فجاء بحيرا عند ذلك حاشدا ... لنا بشراب طيب وطعام
فقال اجمعوا أصحابكم لطعامنا ... فقلنا جمعنا القوم غير غلام
يتيما فقال ادعوه إنَّ طعامنا ... كثير عليه القوم غير حرام
فلما رآه مقبلا نحو داره ... توقيه حر الشمس ظل غمام
حنى رأسه شبه السجود وضمه ... إلى نحره والصدر أي ضمام
وأقبل ركب يطلبون الذي رأى ... بحيرا من الأعلام وسط خيام
فثار إليهم خشية لغرامهم ... وكانوا ذوي مكر معا وغرام
دريس وتمام وقد كان فيهم ... زبير وكل القوم غير نيام
فجاءوا وقد هموا بقتل محمد ... فردهم عنه بحسن خصام
بتأويله التوراة حتى تفرقوا ... فقال لهم ما أنتم بطغام(2/143)
فذلك من أعلامه وبيانه ... وليس نهار واضح كظلام
[ (1) ]
تنبيهات
الأول: وقع في حديث أبي سعيد عن الترمذي: فلم يزل بحيرا يناشد جده حتى رده وبعث معه أبو بكر بلالا قال الحافظ شرف الدين الدمياطي وتبعه في المورد والعيون: في قوله:
«وأرسل معه أبو بكر بلالا» نكارة كيف وأبو بكر حينئذ لم يبلغ العشر سنين فإن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أسن من أبي بكر بأزيد من عامين وقد قدمنا ما كان سن النبي صلى اللَّه عليه وسلم حسين سافر هذه السفرة.
وأيضاً فإن بلالا لم ينتقل لأبي بكر إلا بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاما، فإنه كان لبني خلف الجمحيّين وعند ما عذب في اللَّه على الإسلام اشتراه أبو بكر رحمة له واستنقاذا له من أيديهم وسيأتي بيان ذلك.
وذكر نحو ذلك الحافظ في الإصابة وزاد أن هذا اللفظ مقتطع من حديث آخر أدرج في هذا الحديث وفي الجملة هو وهم من أحد رواته.
وروى ابن منده بسند ضعيف عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنه قال: إن أبا بكر صحب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبي صلى اللَّه عليه وسلم ابن عشرين سنة وهم يريدون الشام في تجارة، حتى إذا نزل منزلا فيه سدرة فقعد في ظلها ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرا يسأله عن شيء فقال له: من الرجل الذي في ظل السدرة فقال له: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فقال له: هذا واللَّه نبي هذه الأمة ما استظل تحتها بعد عيسى ابن مريم إلا محمد.
وذكر الحديث.
قال الحافظ: فهذا إن صح يحتمل أن يكون في سفرة أخرى بعد سفرة أبي طالب.
وذكر نحوه في «الزهر» وزاد: وقول ابن دحية: يمكن أن يكون أبو بكر استأجر بلالا حينئذ أو يكون أمية بن خلف بعثه: غير جيد لأمرين.
أحدهما: أن أبا بكر لم يكن معهم ولا كان في سن من يملك. وذكر نحو ما سبق في سن النبي صلى اللَّه عليه وسلم إذ ذاك.
ثانيهما: أن بلالا كان أصغر من أبي بكر فلا يتجه ما قاله بحال.
__________
[ (1) ] القصيدة في الأرض الأنف من البيت الأول إلى البيت العاشر.
ويروى البيت الثالث.
............... وأسكت
ويروى البيت السادس.
............... شآمي
ورواية الروض في البيت السادس خطأ لكسر عروض القصيدة بخلاف البيت الثالث [انظر الروض الأنف 1/ 208] .(2/144)
الثاني: قوله في الحديث: «فبايعوه» في «العيون» إن كان المراد فبايعوا بحيرا على مسالمة النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقريب. وإن كان غير ذلك فلا أدري ما هو.
وقال في «الغرر» الأول هو الظاهر ليوافق الضمير في فيه وفي «وأقاموا معه» ومعناه:
فبايعوه على أن لا يأخذوا النبي صلى اللَّه عليه وسلم ولا يؤذوه على حسب ما أرسلوا فيه، وأقاموا مع بحيرا خوفاً على أنفسهم إذا رجعوا بدونه. وهذا وجه حسن جدا.
الثالث: وقع في سير الزهري أن بحيرا كان حبرا من يهود تيماء. قال الحافظ عماد الدين ابن كثير: والظاهر من سياق القصة أنه كان نصرانيا.
قلت: وبذلك جزم ابن إسحاق. كما تقدم.
وقال المسعودي في تاريخه: كان بحيرا نصرانيا من عبد القيس.
وفي تاريخ ابن عساكر أنه كان يسكن ميفعة قرية وراء دير بالبلقاء. وذكر الإمام السروجي في مناسكه أن عند كفافة منزلة وادي الظباء بها شجر تمر الهندي تزعم العامة أن صومعة بحيراً كانت هناك. قال: ولا يوقف على حقيقة ذلك.
وذكر القتبي في «المعارف» أنه سمع قبل الإسلام بقليل هاتف يهتف: ألا إن خير أهل الأرض بحيرا ورئاب بن البراء الشني والثالث المنتظر. فكان الثالث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
قال ابن قتيبة: وكان قبر رئاب الشني وقبر ولده من بعده لا يزال يرى عليه طش والطش:
المطر الخفيف.
ثم إن بحيرا بباء موحدة مفتوحة فحاء مهملة مكسورة فراء فألف قال: غير واحد مقصورة ورأيت بخط مغلطاي وصاحب الغرر وغيرهما عليها مدة. فاللَّه تعالى أعلم.
قال المسعودي: واسمه سرجس. كذا فيما وقفت عليه من نسخ الروض. وفي النسخ التي وقفت عليها من الإشارة جرجيس بكسر الجيمين بينهما راء وبعد الثانية مثناة تحتية فسين مهملة. وهكذا رأيته بخط صاحبها في «الزهر» وصحح عليه. وكذلك هو في الإصابة للحافظ. وجزم الذهبي في ترجمة أبي الفتح سعيد بن عقبة من «الميزان» بأن بحيرا لم يدرك البعثة. وأقره الحافظ في اللسان. وهو غير مصروف للعجمة والعلمية. وهو في الأصل اسم نبي.
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
صب به- بصاد مهملة فباء موحدة: أي مال إليه ورق عليه. ويروى وضبث به بضاد معجمة فباء موحدة فمثلثة. أي تعلق به وأمسك.
الصومعة: منزل الراهب، سميت بذلك لأنها محددة الرأس من قولهم ثريدة مصمعة إذا دقت وحدد رأسها.(2/145)
تهصرت: مالت وتدلت عليه.
احتضنه: أخذه مع حضنه أي مع جنبه.
الغضروف- بضم الغين وإسكان الضاد المعجمتين فراء مضمومة فواو ساكنة ففاء: هو رأس لوح الكنف ويقال فيه غرضوف بتقديم الراء.
فبايعوه- بفتح المثناة التحتية وهو خبر لا أمر.
أنشدكم- بفتح الهمزة وضم الشين: أي أسألكم باللَّه.
العيس [ (1) ]- بعين مهملة مكسورة وسين مهملتين بينهما مثناة تحتية: إبل بيض في بياضها ظلمة خفية، والواحدة عيساء بفتح العين.
قلصن: ارتفعن.
ارفض: سال.
ذارف- بذال معجمة- يقال ذرف الدمع يذرف ذرفا وذرفانا: سال.
الجمان: بضم الجيم: جمع جمانة، حبة تعمل من الفضة كالدرة. الصلت: الواضح الجبين.
أنجاد: أقوياء.
على شرك: على طريق.
ثاغري الأكباد [ (2) ] : أي سقطت أكبادهم من سرعة المشي.
الفتك: البطش والقتل على غفلة.
القتود [ (3) ] والأقتاد جمع قتد: خشب الرحل.
من غورين: تثنية غور وهو ما انخفض من الأرض.
إياد: هم بنو إياد بن نزار من معد بن عدنان.
الرين [ (4) ] : الغشاء الذي على القلب من ظلمة الذنوب.
رقرقت: براءين مهملتين وقافين قال في الصحاح: رقرقت الماء فترقرق: أي جاء وذهب، وكذلك الدمع إذا ملأ الحملاق.
سجام: يقال سجم الدمع سجما وسجاما: سال.
__________
[ (1) ] لسان العرب 4/ 3189.
[ (2) ] انظر لسان العرب 1/ 486 والمصباح المنير 81، 82.
[ (3) ] انظر المعجم الوسيط 2/ 714.
[ (4) ] المفردات في غريب القرآن 208.(2/146)
الباب التاسع في حفظ الله تعالى إياه في شبابه عما كان عليه أهل الجاهلية واشتهاره بالأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة قبل بعثته وتعظيم قومه له صلى الله عليه وسلم.
قال داود بن الحصين، فيما رواه ابن سعد وابن عساكر، وابن إسحاق فيما رواه البيهقي وغيره: فشب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يكلؤه اللَّه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية ومعايبها، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا، وأكرمهم حسبا وأحسنهم جوارا، وأعظمهم حلما، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال تنزها وتكرما. ما رئي ملاحيا ولا مماريا أحدا حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين لما جمع اللَّه فيه من الأمور الصالحة.
وذكر أبو هاشم محمد بن ظفر في «خير البشر بخير البشر» : حج أكثم بن صيفي حكيم العرب، والنبي صلى اللَّه عليه وسلم في سن الحلم، فرآه أكثم فقال لأبي طالب: ما أسرع ما شب أخوك. فقال ليس بأخي ولكنه ابن أخي عبد الله. فقال أكثم أهو ابن الذبيحين؟ قال: نعم.
فجعل يتوسمه ثم قال لأبي طالب ما تظنون به؟ قال: نحسن به الظن وإنه لوفي سخي. قال؟
هل غير هذا؟ قال: نعم إنه لذو شدة ولين ومجلس ركين وفضل متين. قال فهل غير هذا؟ قال:
أنا لنتيمن بمشهده ونتعرف البركة فيما لمسه بيده. فقال أكثم: أقول غير هذا إنه ليضرب العرب قامطة- يعني جامعة- بيد حائطة ورجل لائطة ثم ينعق بهم إلى مرتع مريع وورد سريع فمن اخرورط إليه هداه ومن احروف عنه أرداه.
وروى ابن سعد عن الربيع بن خثيم [ (1) ] قال: كان يتحاكم إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الجاهلية قبل الإسلام.
قال ابن إسحاق: وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يحدث عما كان اللَّه يحفظه في صغره من أمر الجاهلية وأنه قال: لقد رأيتني في غلمان من قريش ننقل حجارة لبعض ما يلعب به الصبيان كلنا قد تعرى وأخذ إزاره وجعله على رقبته يحمل عليه الحجارة فإني لأقبل معهم وأدبر إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال: شد عليك إزارك. قال: فأخذته فشددته علي ثم جعلت أنقل الحجارة علي رقبتي وإزاري على من بين أصحابي.
__________
[ (1) ] الربيع بن خثيم الثوري من بني ثعلبة بن عامر بن ملكان بن ثور بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر ومات بالكوفة في ولاية عبيد الله بن زياد طبقات ابن سعد 6/ 219] .(2/147)
وهذه القصة شبيهة بما وقع عند بناء الكعبة.
روى الطبراني والبيهقي في الدلائل من طريق عمرو بن قيس، وابن جرير في التهذيب من طريق هارون بن المغيرة، وأبو نعيم في المعرفة من طريق قيس بن الربيع، وفي الدلائل من طريق شعيب بن خالد، كلهم عن سماك بن حرب، وأبو نعيم من طريق الحكم بن أبان، كلاهما عن عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: حدثني أبي العباس بن عبد المطلب قال: لما بنت قريش الكعبة انفردت رجلين ينقلون الحجارة، فكنت أنا وابن أخي فجعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا فبينا هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخص ببصره إلى السماء فقلت: يا بن أخي ما شأنك؟ قال نهيت أن أمشي عريانا. قال: فكتمته حتى أظهره اللَّه بنبوته.
وورد من حديث جابر وأبي الطفيل. ويأتيان.
وروى الترمذي وغيره عن أبي موسى أن بحيرا حين حلف النبي صلى اللَّه عليه وسلم باللات والعزى قال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: لا تسألني باللات والعزى شيئاً فو اللَّه ما أبغضت بغضهما شيئاً
[ (1) ] .
وعن علي رضي اللَّه تعالى عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمّون به من الغناء إلا ليلتين كلتاهما عصمني اللَّه منهما [ (2) ] . قلت ليلة لبعض فتيان مكة ونحن في رعاية غنم أهلنا فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر بها كما يسمر الفتيان. فقال: بلى فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا وغرابيل ومزامير. قلت ما هذا؟ قيل: تزوج فلان فلانة. فجلست أنظر. وضرب اللَّه على أذني، فو اللَّه ما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت: فقلت: ما فعلت شيئاً ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة. ففعل فدخلت فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة فجلست أنظر وضرب اللَّه على أذني فو اللَّه ما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت فقلت لا شيء ثم أخبرته بالذي رأيت فو اللَّه ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني اللَّه بنبوته.
رواه ابن إسحاق وإسحاق بن راهويه والبزار وابن حبان. قال الحافظ: وإسناده حسن متصل.
وعن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل (127) وابن سعد في الطبقات 1/ 1/ 100.
[ (2) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل 1/ 58 وابن حجر في المطالب (4253) وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 287.(2/148)
[الشعراء 214] نادى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في قريش بطنا بطنا فقال: «أرأيتم لو قلت لكم إن خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم ما جربنا عليك كذبا قط [ (1) ] .
رواه الشيخان.
وعن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يعيب كل ما ذبح لغير اللَّه فما ذقت شيئاً ذبح على النصب حتى أكرمني اللَّه برسالته [ (2) ] .
رواه أبو نعيم.
وعن علي رضي اللَّه تعالى عنه قال: قيل للنبي صلى اللَّه عليه وسلم: هل عبدت وثنا قط؟ قال: لا.
قالوا: فهل شربت خمرا قط؟ قال: «لا وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر وما كنت أدري ما الكتاب ولا الإيمان» .
رواه أبو نعيم وابن عساكر.
وعن أم أيمن رضي اللَّه تعالى عنها قالت: كان بوانة صنما تحضره قريش يوما في السنة فكان أبو طالب يحضره مع قومه وكان يكلم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إن يحضر ذلك معه فيأبى حتى رأيت أبا طالب غضب عليه ورأيت عماته غضبن عليه وقلن يا محمد ما تريد أن تحضر لقومك عيدا ولا تكثر لهم جمحا. فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب ما شاء اللَّه ثم رجع مرعوبا فزعا فقالت عماته: ما دهاك؟ قال: إني أخشى أن يكون بي لمم فقلن: ما كان اللَّه يبتليك بالشيطان وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيت؟ قال: إني كلما دعوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح بي: وراءك يا محمد لا تمسه قالت: فما عاد إلى عيد لهم.
رواه ابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر.
وعن جبير بن مطعم قال: لقد رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم في الجاهلية وهو يقف على بعير له بعرفات من بين قومه حتى يدفع معهم توفيقا من اللَّه تعالى له.
وعن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها وهم الحمس يقفون عشية عرفة بالمزدلفة ويقولون: نحن قطن البيت. وكانت بقية الناس والعرب يقفون بعرفات فأنزل اللَّه عز وجل: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ [البقرة 199] فتقدموا فوقفوا مع الناس.
رواه الشيخان.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 8/ 609 (4971) ومسلم 1/ 193 (355- 208) .
[ (2) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل 1/ 59 وذكره المتقي الهندي في الكنز (34080) .(2/149)
وروى يعقوب بن سفيان عن الزهري أن قريشا سمت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي فطفقوا ألا ينحروا جزورا إلا التمسوه فيه فيدعو لهم فيها.
وروى الشيخان من حديث عائشة في حديث بدء الوحي لما أتاه جبريل بالوحي قال لخديجة: لقد خشيت على نفسي وأخبرها الخبر. فقالت له: كلا أبشر فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
تنبيهات
الأول: ما ذكره ابن إسحاق من قصة تعريه صلى اللَّه عليه وسلم وأنه في صغره وأنه أمر بالستر قال السهيلي وتبعه ابن كثير وأبو الفتح والحافظ: إن صح حمل على أن هذا الأمر كان مرتين مرة في حال صغره ومرة في أول اكتهاله عند بنيان الكعبة. واستبعد ذلك مغلطاي في كتابيه «الزهر» و «دلائل النبوة» بأنه صلى اللَّه عليه وسلم إذا نهي عن شيء مرة لا يعود إليه ثانيا بوجه من الوجوه.
وأيضاً في حديث العباس- أي الآتي في باب بناء البيت- أنه لأول ما نودي.
وأما ما
رواه ابن سعد وأبو نعيم وابن عساكر من طريق النضر بن عبد الرحمن عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال كان أبو طالب يعالج زمزم وكان النبي صلى اللَّه عليه وسلم ينقل الحجارة وهو غلام يأخذ إزاره ويتقي به الحجارة فغشي عليه، فلما أفاق سأله أبو طالب فقال: أتاني آت عليه ثياب بيض فقال لي: استتر
فكان أول شيء رآه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من النبوة أن قيل له استتر وهو غلام. قال: فما رئيت عورته من يومئذ [ (1) ] . فقد قال الحافظ في الفتح: إن النضر ضعيف وقد خبط في إسناده وفي متنه فإنه جعل القصة في معالجة زمزم ولم يذكر العباس وقد قدمنا أن عكرمة والحكم بن أبان رويا القصة عن ابن عباس عن أبيه في قصة بناء البيت.
الثاني: روى أبو يعلى وابن عدي والبيهقي وابن عساكر عن جابر بن عبد الله رضي اللَّه تعالى عنهما قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يشهد مع المشركين مشاهدهم فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: اذهب بنا حتى نقوم خلف رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: كيف نقوم خلفه وإنما عهده باستلام الأصنام قبيل؟ فلم يعد بعد ذلك يشهد مع المشركين مشاهدهم.
وقول الملكين: وإنما عهده باستلام الأصنام قال الطبراني والبيهقي: يعني أنه شهد مع من استلمها. والمراد بالمشاهد التي شهدها مشاهد الحلف ونحوها لا مشاهد استلام الأصنام.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل (145) .(2/150)
وقال الحافظ في المطالب العالية: هذا الحديث أنكره الناس على عثمان بن أبي شيبة فبالغوا، والمنكر منه قوله عن الملك: «عهده باستلام الأصنام» فإن ظاهره أنه باشر الاستلام.
وليس ذلك مرادا، بل المراد أنه شهد مباشرة المشركين استلام أصنامهم. انتهى.
الثالث: في بيان غريب ما سبق.
ملاحيا: مخاصما لأحد ولا سابّا له. أكثم: بثاء مثلثة. ركين: أي له أركان عالية، أراد بذلك شدة قومه وركن الشيء جانبه.
قامطة [ (1) ] : أي جامعة. لايطة بمثناة تحتية مكسورة وطاء مهملة: أي لاصقة لازمة.
ينعق بهم: بكسر العين المهملة أي يصيح.
المرتع. بفتح الميم: مكان الخصب والسعة.
مريع: أي كثير النماء والزيادة. ورد سريع: مجيء قريب.
اخرورط [ (2) ] . بخاء معجمة فراء فواو ساكنة فراء مهملة فطاء مهملة: أي مال إليه وتبعه.
احرورف [ (3) ] . عنه: بحاء فراء مفتوحة مهملتين فواو ساكنة فراء ففاء أي عدل عنه.
أرداه: أهلكه. رأيتني، بضم التاء: أي رأيت نفسي. السمر: الحديث بالليل.
غناء بكسر الغين المعجمة وبالمد: معروف.
العزف قال في الصحاح: المعازف الملاهي والعازف اللاعب بها والمغني، وقد عزف عزفا.
الغرابيل: جمع غربال والمراد به هنا الدف سمي بذلك لأنه يشبه الغربال في استدارته.
سفح الجبل بالسين، وبالصاد أجواد، مضجعة. بوانة بضم الباء الموحدة وتفتح ثم واو مخففة وبعد الألف نون مفتوحة ثم باء تأنيث.
النصب: الأصنام التي كانوا يذبحون عليها الذبائح تقربا لها.
الحمس [ (4) ] . يقال حمس بالكسر فهو أحمس أي شديد صلب في الدين والقتال، ومنه حمس قريش ومن ولدت وكنانة وجديلة قيس.
قطن البيت: أي سكانه جمع قاطن.
__________
[ (1) ] انظر مختار الصحاح 206.
[ (2) ] انظر لسان العرب 2/ 1136.
[ (3) ] انظر لسان العرب 2/ 839 والمصباح المنير 130، والمعجم الوسيط 1/ 167.
[ (4) ] انظر مختار الصحاح 165.(2/151)
الباب العاشر في شهوده صلى الله عليه وسلم حرب الفجار
وكان في شوال. كما قاله الواقدي. وقيل في شعبان كما في الروض.
لما بلغ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أربع عشرة أو خمس عشرة فيما قال ابن هشام، وقال ابن إسحاق: عشرين سنة كان قبل المبعث بعشرين سنة هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان. وكان الذي هاجها أن عروة الرحال ابن عتبة أجار لطيمة للنعمان بن المنذر فقال البراض بن قيس أحد بني ضمرة: أتجيرها على كنانة؟ قال: نعم وعلى الخلق. فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض يطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام، فلذلك سمي الفجار. فأتى آت قريشا فقال: إن البراض قد قتل عروة وهم في الشهر الحرام بعكاظ. فارتحلوا وهوازن لا تشعر، ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم فاقتتلوا حتى جاء الليل ودخلوا الحرم فأمسكت عنهم هوازن ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما، وكان لكنانة وقيس فيه ستة أيام مذكورة: شمظة ويوم العبلاء وهما عند عكاظ، ويوم الشرب وهو أعظمها يوما وفيه قيد أبو سفيان وأمية وحرب أبناء أمية أنفسهم كي لا يفروا فسموا العنابس. ويوم الحريرة عند نخلة انهزمت قريش إلا بني نصر منهم فإنهم ثبتوا وشهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعض أيامهم أخرجه أعمامه معهم.
وروى ابن سعد إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: قد حضرته- يعني: حرب الفجار- مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وما أحب أني لم أكن فعلته وكنت أنبل على أعمامي
[ (1) ] .
وكان آخر أيام الفجار أن هوازن وكنانة تواعدوا للعام القابل بعكاظ فجاءوا للموعد، وكان حرب بن أمية رئيس قريش وكنانة، وكان عتبة بن ربيعة يتيما في حجره فضربه حرب وأشفق من خروجه معه فخرج عتبة بغير إذنه فلم يشعر إلا وهو على بعيره بين الصفين ينادي: يا معشر مضر علام تفانون؟ فقالت له هوازن: ما تدعو إليه؟ قال: الصلح على أن ندفع لكم دية قتلاكم وتعفوا عن دمائنا. قالوا: وكيف ذاك؟ قال: ندفع إليكم رهنا منا. قالوا: ومن لنا بهذا، قال أنا: قالوا، ومن أنت: قال: أنا عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. فرضوا ورضيت كنانة ودفعوا إلى هوازن أربعين رجلا فيهم حكيم بن حزام فلما رأت بنو عامر بن صعصعة الرهن في أيديهم عفوا عن الدماء وأطلقوهم وانقضت حرب الفجار.
وكان يقال: لم يسد من قريش مملق يعني فقيرا غير عتبة وأبي طالب فإنهما سادا بغير مال.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد 1/ 1/ 8.(2/152)
تنبيه: ذكر السهيلي إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم لم يقاتل في حرب الفجار. وقد تقدم عن ابن سعد أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قاتل فيه.
تفسير الغريب
الفجار بكسر الفاء بمعنى المفاجرة، كالقتال بمعنى المقاتلة، وذلك أنه كان قتالهم في الشهر الحرام ففجروا فيه جميعا فسمي الفجار. وكانت للعرب فجارات أربع ذكرها المسعودي.
عيلان: بفتح العين المهملة.
الرحال: براء مفتوحة فحاء مهملة مشددة.
البراض: بفتح الباء الموحدة والراء المشددة وآخره ضاد معجمة ساقطة.
تيمن: بفتح المثناةُ الفوقية بعدها مثناة تحتية فميم فنون.
يوم شمظة: بشين معجمة مفتوحة فميم ساكنة فظاء معجمة.
يوم العبلاء: بعين مهملة مفتوحة فباء موحدة ساكنة فلام فألف ممدودة.
يوم شرب: بشين معجمة فراء مفتوحتين فباء موحدة.
الحريرة: بحاء مهملة تصغير حرة.
الأربعة أسماء أماكن.
العنابس [ (1) ] : بعين مهملة فنون مخففة فألف فباء موحدة مكسورة فسين مهملة جمع عنبس وهو الأسد. قال في الصحاح: العنابيس من قريش: أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر وهم ستة حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو، وسموا بالأسد والباقون يقال لهم الأعياص بعين مهملة فمثناة تحتية فصاد مهملة وهم أولاد أمية بن عبد شمس الأكبر وهم أربعة:
العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص.
نخلة بلفظ واحدة شجر النخل: موضع قريب من مكة. في حجره: بكسر الحاء وفتحها.
ضن به: بضاد معجمة مفتوحة ساقطة فنون مشددة: بخل به.
أشفق: خاف.
يشعر: يعلم.
تفانون: بمثناة فوقية حذف منه أخرى مأخوذ من الفناء.
رهنا بضم الهاء والراء.
__________
[ (1) ] اللسان 4/ 3120.(2/153)
الباب الحادي عشر في شهوده صلى الله عليه وسلم حلف الفضول
كان هذا الحلف في ذي القعدة قبل المبعث بعشرين سنة منصرف قريش من الفجار ولرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يومئذ عشرون سنة. وكان أكرم حلف سمع به وأشرفه في العرب.
وكان أول من تكلم به ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب عم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وكان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة فاشتراها منه العاصي بن وائل السهمي وكان ذا قدر وشرف بمكة فحبس عنه حقه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف عبد الدار ومخزوماً وجمحاً وسهماً فأبوا أن يعينوا الزبيدي على العاصي بن وائل وزبروه ونهروه فلما رأى الزبيدي الشر رقى على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة فقال بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته ... ببطن مكة نائي الدار والنفر
ومحرم أشعث لم يقض عمرته ... يا للرجال وبين الحجر والحجر
إن الحرام لمن تمت مكارمه ... ولا حرام لثوب الفاجر الغدر
[ (1) ] .
فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال ألهذا مترك؟ فاجتمعت هاشم وزهرة وتيم في دار عبد الله بن جدعان فصنع لهم طعاما فحالفوا في القعدة في شهر حرام قياما فتعاقدوا وتعاهدوا ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة وما رسا حراء وثبير مكانهما، وعلى التآسي في المعاش. فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.
وقالوا: لقد دخل هؤلاء في فضول من الأمر. ثم مشوا إلى العاصي بن وائل. فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.
وروى ابن إسحاق عن طلحة بن عبيد الله وابن سعد والبيهقي عن جبير بن مطعم رضي اللَّه تعالى عنهما قالا قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعي به في الإسلام لأجبت»
[ (2) ] .
وروى البيهقي عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: ما شهدت حلفا لقريش إلا حلف المطيبين شهدته مع عمومتي وما أحب أن لي به حمر النعم وأني كنت نقضته.
قال بعض رواته: والمطيبون هاشم وزهرة ومخزوم.
__________
[ (1) ] الروض الأنف 1/ 156.
[ (2) ] أخرجه البيهقي 6/ 167 وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 291.(2/154)
قال البيهقي: كذا روى هذا التفسير مدرجا ولا أدري من قاله. وزعم بعض أهل السير أنه أراد حلف الفضول فإن النبي صلى اللَّه عليه وسلم لم يدرك حلف المطيّبين.
تفسير الغريب
الحلف: بكسر الحاء المهملة وإسكان اللام وهو العهد والبيعة.
الفضول: اختلفوا فيه فقيل سمي بذلك لأنه كان قد سبق قريشا فيما قاله ابن قتيبة إلى مثل هذا الحلف جرهم في الزمن الأول فتحالف منهم ثلاثة هم ومن تبعهم أحدهم: الفضل بن فضالة. والثاني: الفضل بن وداعة. والثالث: الفضل بن الحارث. هذا قول القتبي. وقال الزبير:
الفضل بن شراعة والفضل بن قضاعة فلما أشبه حلف الآخر فعل هؤلاء الجرهميين سمي حلف الفضول، والفضول جمع فضل وهي أسماء أولئك الذين تقدم ذكرهم.
قال السهيلي: وهذا الذي قاله ابن قتيبة حسن ولكن في الحديث ما هو أقوى منه.
روى الحميدي عن سفيان عن عبد الله بن محمد وعبد الرحمن بن أبي بكر قالا: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت به في الإسلام لأجبت تحالفوا أن يردوا الفضول على أهلها ولا يعز ظالم على مظلوم» .
قلت: الظاهر أن قوله: تحالفوا إلى آخره- مدرج من بعض رواته وليس بمرفوع، فلا دلالة حينئذ فيه.
وقيل: إنما سمي حلف الفضول لأنهم أخرجوا فضول أموالهم للأضياف.
منصرف: بفتح الراء.
جدعان: بضم الجيم وإسكان الدال فعين مهملتين فألف فنون.
ما بل بحر صوفة: يعني الأبد، أي ما قام في البحر ماء ولو قطرة.
حمر النعم: بحاء مضمومة فميم ساكنة والنعم هنا: الإبل خاصة.(2/155)
الباب الثاني عشر في رعيته صلى الله عليه وسلم الغنم
عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «ما بعث اللَّه نبيا إلا راعي غنم» . فقال له أصحابه: وأنت يا رسول اللَّه؟ قال: «وأنا رعيتها لأهل مكة بالقراريط [ (1) ] » .
رواه ابن سعد والبخاري وابن ماجة.
وعن جابر بن عبد الله رضي اللَّه تعالى عنهما قال: كنا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نجني الكباث، فقال: عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه فإني كنت أجنيه إذ كنت أرعى الغنم. قلنا:
وكنت ترعى الغنم يا رسول اللَّه؟ قال: نعم. وما من نبي إلا وقد رعاها [ (2) ] .
رواه الإمام أحمد وابن سعد والشيخان.
وروى أبو داود الطيالسي والبغوي وابن منده وأبو نعيم وابن عساكر عن بشر بن حرب البصري مرسلا، والإمام أحمد وعبد بن حميد عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه قالا: افتخر أهل الإبل والشاء، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «بعث موسى وهو راعي غنم وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا راعي غنم لأهلي بأجياد
[ (3) ] » .
تنبيهات
الأول: قال العلماء رضي اللَّه تعالى عنهم: الحكمة في إلهام رعي الغنم قبل النبوة: أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما سيكلفونه من القيام بأمر أمتهم، ولأن في مخالطتها ما يحصل الحلم والشفقة، لأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوها من سبع وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طباعها وشدة تفرقها مع ضعفها واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة وعرفوا اختلاف طباعها وتفاوت عقولها، فجبروا كسيرها ورفقوا بضعيفها وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة لما تحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف من غيرها ولأن تفرقها أكثر من تفرق الإبل والبقر لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة ومع أكثرية تفرقها فهي أسرع انقيادا من غيرها. وفي ذكر النبي صلى اللَّه عليه وسلم لذلك بعد أن علم أن أكرم الخلق على اللَّه
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 3/ 116 وابن ماجة (2149) والبيهقي في السنن 6/ 118 وأبو نعيم في الدلائل 1/ 55.
[ (2) ] أخرجه البخاري 4/ 191 ومسلم 3/ 1621 (163- 2050) وأحمد في المسند 3/ 326.
[ (3) ] أخرجه أحمد في المسند 3/ 96 وابن سعد في الطبقات 1/ 1/ 80 وابن المبارك في الزهد (415) .(2/156)
تعالى ما كان عليه من عظيم التواضع لربه والتصريح بمنته عليه وعلى إخوانه من الأنبياء صلى اللَّه عليه وسلم وعليهم أجمعين.
الثاني: في فتاوى الشيخ رحمه اللَّه تعالى نقلا عن الحنفية والمالكية والحنابلة ومقتضى مذهب الشافعي: أنه يعزر من قال: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم راعي غنم. إذا عير برعيها.
الثالث: في بيان غريب ما سبق.
رعيته بكسر الراء المراد: الهيئة. والغنم: منصوب مفعول المصدر وهو رعيته.
على قراريط: قال الحافظ: على بمعنى الباء، وهي للسببية. وقيل إنها للظرفية كما سيتبين. وفي رواية ابن ماجة، عن سويد بن سعيد، والإسماعيلي عن حسان بن محمد كلاهما عن عمرو بن يحيى: كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط قال سويد بن سعيد: يعني كل شاة بقيراط. يعني القيراط الذي هو جزء من الدينار أو الدرهم.
وقال الإمام أبو إسحاق الحربي: قراريط: اسم موضع بمكة ولم يرد القراريط من الفضة. وصوبه ابن الجوزي تبعا لابن ناصر وخطأ سويدا في تفسيره.
قال الحافظ: لكن رجح الأول بأن أهل مكة لا يعرفون بها مكانا يقال له قراريط. وزعم بعضهم أن في
قوله صلى اللَّه عليه وسلم في الرواية الأخرى: «وبعثت وأنا راعي غنم بأجياد»
رد لتأويل سويد لأنه ما كان يرعى بالأجرة لأهله، فتعين أنه أراد المكان فعبر تارة بأجياد وتارة بقراريط.
وليس الرد بجيد إذ لا مانع من الجمع بأن يرعى لأهله بغير أجرة ولغيرهم بأجرة. والمراد بقوله:
«أهلي»
أهل مكة فيتحد الخبران ويكون في أحد الحديثين بين الأجرة وفي الآخر بين المكان فلا تنافي في ذلك.
وقال بعضهم: لم تكن العرب تعرف القراريط الذي هو من النقد، ولذلك جاء في الصحيح: «ستفتحون أرضا يذكر فيها القيراط» وليس الاستدلال لما ذكر من نفي المعرفة بواضح. انتهى كلام الحافظ.
قلت: تأويل سعيد هو الذي فهمه الإمام البخاري وهو الأجرة، ولذا ذكره في الإجارة.
الكباث [ (1) ]- بكاف فباء موحدة مفتوحتين فألف فثاء مثلثة: النضيج من ثمر الأراك.
جياد: موضع بأسفل مكة معروف من شعابها، ذكره بغير همز البكري في معجمه.
أجياد: بفتح أوله وإسكان ثانيه وبالمثناة التحتية والدال المهملة: كأنه جمع جيد، موضع من بطحاء مكة من منازل قريش، فإذن يقال له جياد وأجياد بالهمز وعدمه.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 4/ 3805.(2/157)
الباب الثالث عشر في سفره صلى الله عليه وسلم مرة ثانية إلى الشام
قال ابن إسحاق: وله من العمر خمس وعشرون سنة.
زاد غيره: لأربع عشرة ليلة من ذي الحجة.
وروى ابن سعد وابن السكن وأبو نعيم عن نفيسة بنت منية [ (1) ] قالت: لما بلغ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خمسا وعشرين سنة وليس له بمكة اسم إلا الأمين لما تكامل فيه من خصال الخير، قال له أبو طالب: يا ابن أخي أنا رجل لا مال لي وقد اشتد الزمان علينا وألحت علينا سنون منكرة وليست لنا مادة ولا تجارة، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك في عيراتها فيتجرون لها في مالها ويصيبون منافع، فلو جئتها وعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك وفضلتك على غيرك، لما يبلغها عنك من طهارتك وإن كنت أكره أن تأتي الشام، وأخاف عليك من يهود، ولكن لا تجد من ذلك بدا.
وكانت خديجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام فيكون عيرها كعامة عير قريش، وكانت تستأجر الرجال وتدفع إليهم الأموال مضاربة، وكانت قريش قوما تجارا ومن لم يكن تاجرا من قريش فليس عندهم بشيء فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: فلعلها ترسل إلي في ذلك. فقال أبو طالب: إني أخاف أن تولي غيرك فتطلب أمرا مدبرا. فافترقا.
وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له وقبل ذلك ما كان من صدق حديثه وعظم أمانته وكرم أخلاقه، فقالت: ما علمت أنه يريد هذا.
ثم أرسلت إليه فقالت: إنه دعاني إلى البعث إليك ما بلغني من صدق حديثك وعظم أمانتك وكرم أخلاقك، وأنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلا من قومك.
ففعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. ثم لقي عمه أبا طالب فذكر له ذلك فقال: إن هذا لرزق ساقه اللَّه إليك.
فخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مع غلامها ميسرة، وقالت خديجة لميسرة: لا تعص له أمرا ولا تخالف له رأيا.
فخرج هو وميسرة وعليه غمامة تظله وجعل عمومته يوصون به أهل العير.
فخرج حتى قدم الشام فنزلا في سوق بصرى في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب يقال له نسطورا. فاطلع الراهب إلى ميسرة- وكان يعرفه- فقال: يا ميسرة من هذا الذي نزل
__________
[ (1) ] نفيسة بنت منية أخت يعلى ... تقدم نسبها في ترجمة أخيها قال: قال أبو عمر لها صحبة ورواية وقال ابن سعد أمها منية بنت جابر بن وهب أسلمت نفيسة بنت منية وهي التي مشت بين خديجة والنبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم حتى تزوجها [الإصابة 8/ 2] .(2/158)
تحت هذه الشجرة؟ فقال ميسرة: رجل من قريش. فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبي، أفي عينيه حمرة؟ قال ميسرة: نعم لا تفارقه. فقال الراهب: هو هو، وهو آخر الأنبياء، ويا ليت أني أدركه حيث يؤمر بالخروج.
وعند أبي سعد النيسابوري في الشرف: فلما رأى الغمامة فزع وقال: ما أنتم؟ قال:
ميسرة غلام خديجة، فدنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم سرا من ميسرة وقبل رأسه وقدميه وقال: آمنت بك وأنا أشهد أنك الذي ذكره اللَّه في التوراة. ثم قال: يا محمد قد عرفت فيك العلامات كلها خلا خصلة واحدة فأوضح لي عن كتفك. فأوضح له، فإذا هو بخاتم النبوة يتلألأ، فأقبل عليه يقبله ويقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أنك رسول اللَّه النبي الأمي الذي بشر بك عيسى ابن مريم فإنه قال: لا ينزل بعدي تحت هذه الشجرة إلا النبي الأمي الهاشمي العربي المكي صاحب الحوض والشفاعة وصاحب لواء الحمد. انتهى.
فوعى ميسرة ذلك.
ثم حضر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سوق بصرى فباع سلعته التي خرج بها واشترى، فكان بينه وبين رجل اختلاف في سلعة فقال الرجل: احلف باللات والعزى.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «ما حلفت بهما قط
[ (1) ] . فقال الرجل: القول قولك. ثم قال الميسرة وخلا به: يا ميسرة هذا نبي هذه الأمة والذي نفسي بيده إنه لهو تجده أحبارنا منعوتا في كتبهم، فوعى ميسرة ذلك.
ثم انصرف أهل العير جميعا، وكان ميسرة يرى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا كانت الهاجرة واشتد الحر، يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره. وكان اللَّه تعالى قد ألقى على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المحبة من ميسرة، فكأنه عبد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وعند أبي سعد في «الشرف» أنهم باعوا متاعهم وربحوا ربحا لم يربحوا مثله قط، فقال ميسرة: يا محمد اتجرنا لخديجة أربعين سنة ما رأيت ربحا قط أكثر من هذا الربح على وجهك.
فلما كانوا بمر الظهران قال ميسرة للنبي صلى الله عليه وسلم: هل لك أن تسبقني إلى خديجة فتخبرها بالذي جرى لعلها تزيدك بكرة إلى بكرتيك. فركب النبي صلى الله عليه وسلم قعودا أحمر فتقدم حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية لها معها نساء فيهن نفيسة بنت منية فرأت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين دخل وهو راكب على بعيره وملكان يظلان عليه فأرته نساءها فعجبن لذلك.
ودخل عليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فخبرها بما ربحوا فسرت بذلك وقالت: أين ميسرة؟
قال: خلفته في البادية.
قالت: عجل إليه ليعجل بالإقبال. وإنما أرادت أن تعلم أهو الذي رأت
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 1/ 83 وأبو نعيم في الدلائل 1/ 54.(2/159)
أم غيره. فركب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصعدت خديجة تنظر فرأته على الحالة الأولى فاستيقنت أنه هو، فلما دخل عليها ميسرة أخبرته بما رأت وأخبرها بقول الراهب نسطورا وبقول الآخر الذي خالفه في البيع.
قال ابن إسحاق: فلما رأت خديجة أن تجارتها قد ربحت أضعفت له ما سمت.
وكانت قد ذكرت لورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى وكان ابن عمها وكان نصرانيا قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس، ما ذكر لها غلامها ميسرة من قول الراهب وما كان يرى منه إذ كان الملكان يظلانه، فقال ورقة: يا خديجة إن محمدا لنبي هذه الأمة وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي ينتظر، هذا زمانه. أو كما قال:
وجعل ورقة يستبطئ الأمر وله في ذلك أشعار منها ما رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق:
أتبكر أم أنت العشية رائح ... وفي الصدر من إضمارك الحزن فادح
لفرقة قوم لا أحب فراقهم ... كأنك عنهم بعد يومين نازح
وأخبار صدق خبرت عن محمد ... يخبرها عنه إذا غاب ناصح
فتاك الذي وجهت يا خير حرة ... بغور وبالنجدين حيث الصحاصح
إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ... وهن من الأحمال قعص دوالح
فخبرنا عن كل حبر بعلمه ... وللحق أبواب لهن مفاتح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل ... إلى كل من ضمت عليه الأباطح
وظني به أن سوف يبعث صادقا ... كما أرسل العبدان هود وصالح
وموسى وإبراهيم حتى يرى له ... بهاء ومنشور من الذكر واضح
ويتبعه حيا لؤي بن غالب ... شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس أمره ... فإني به مستبشر الود فارح
وإلا فإني يا خديجة فاعلمي ... عن أرضك في الأرض العريضة نازح
[ (1) ] وقال أيضاً:
لججت وكنت في الذكرى لجوجا ... لهم طالما بعث النّشيجا
__________
[ (1) ] يروى في البيت العاشر
ويتبعه حيا لؤي جماعة...........
والحادي عشر
......... حتى يدرك الناس دهره..............
انظر الروض الأنف 1/ 220، 221 والبداية والنهاية 2/ 297.(2/160)
ووصف من خديجة بعد وصف ... فقد طال انتظاري يا خديجا
ببطن المكتين على رجائي ... حديثك أن أرى منه خروجا
بما أخبرتنا من قول قس ... من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود قوما ... ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور ... يقيم به البرية أن تموجا
فيلقى من يحاربه خسارا ... ويلقى من يسالمه فلوجا
فيا ليتي إذا ما كان ذاكم ... شهدت فكنت أولهم ولوجا
ولوجا في الذي كرهت قريش ... ولو عجت بمكتها عجيجا
أرجي بالذي كرهوا جميعا ... إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا
وهل أمر السفاهة غير كفر ... بمن يختار من سمك البروجا
فإن يبقوا وأبق تكن أمور ... يضج الكافرون لها ضجيجا
وإن أهلك فكل فتى سيلقى ... من الأقدار متلفة خروجا
تنبيهات
الأول: قول الراهب: «ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي» قال السهيلي: يريد ما نزل تحتها هذه الساعة قط إلا نبي. ولم يرد ما نزل تحتها قط إلا نبي لبعد العهد بالأنبياء قبل ذلك، وإن كان في لفظ الخبر قط فقد يتكلم بها على جهة التوكيد للنفي، والشجرة لا تعمر في العادة هذا العمر الطويل حتى يدرى أنه لم ينزل تحتها إلا عيسى أو غيره من الأنبياء، ويبعد في العادة أيضاً أن تكون شجرة تخلو من أن ينزل تحتها إلا عيسى أو غيره من الأنبيا، ويبعد في العادة أيضاً أن تكون شجرة تخلو من أن ينزل تحتها أحد حتى يجيء نبي، إلا أن تصح رواية من قال: لم ينزل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم. وهي رواية عن غير ابن إسحاق فالشجرة على هذا مخصوصة بهذه الآية. انتهى. وأقره في «الزهر» و «النور» .
وتعقبه الإمام العلامة عز الدين بن جماعة بأنه مجرد استبعاد لا دلالة فيه على امتناع ولا إحالة، وبأنه استبعاد يضعفه معارضة ظاهر الخبر وكون متعلقات الأنبياء مظنة خرق العادة، فلا يكون حينئذ ذلك من طول البقاء وصرف غير الأنبياء عن النزل تحتها ببعيد، وذلك واضح فتفطن.
قلت: ويؤيد ما ذكره الشيخ عز الدين ما سبق نقله عن أبي سعد، وما في أسباب النزول للإمام الواحدي أن أبا بكر رضي اللَّه تعالى عنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم في سفره إلى الشام فنزلوا منزلا فيه سدرة، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها وذهب أبو بكر يسأل عن الدين، فقال له الراهب:(2/161)
الرجل الذي في ظل الشجرة من هو؟. قال: محمد بن عبد الله. ابن عبد المطلب. قال: هذا واللَّه نبي. ما استظل تحتها أحد بعد عيسى ابن مريم إلا محمد ابن عبد الله.
وذكر العلماء بالنبات أن الزيتون قد تعمر الشجرة منه ثلاثة آلاف سنة وما يقارب ذلك واللَّه تعالى أعلم.
الثاني: قال في «النور» لم أر لميسرة ذكرا في كتب الصحابة، والظاهر أنه توفى قبل البعثة ولو أدرك النبي صلى الله عليه وسلم لأسلم واللَّه تعالى أعلم.
قلت: وذكره الحافظ في الإصابة في القسم الأول وقال: لم أقف على رواية صحيحة بأنه بقي إلى البعثة فكتبته على الاحتمال.
الثالث: في بيان غريب ما سبق.
نفيسة: صحابية رضي اللَّه تعالى عنها. منية بميم مضمومة فنون ساكنة فمثناة تحتية فتاء تأنيث.
ألحت علينا: أقبلت ودامت. مادة الشيء: ما يمده ويقويه.
السنون: القحوط.
عيراتها: جمع عير: الإبل التي تحمل الميرة.
المضاربة: والمقارضة والقراض بمعنى واحد. سميت مضاربة لأن كل واحد منهما يضرب في الربح بسهم. وقيل غير ذلك.
تجار- بكسر المثناة الفوقية وتخفيف الجيم ويجوز ضم التاء وتشديد الجيم، وهما لغتان: جمع تاجر. ويقال أيضاً: تجر كصاحب وصحب. والتجارة: تقليب المال وتصريفه لأجل النماء.
المحاورة: المجاذبة، والتحاور: التجاذب.
نسطورا- بنون مفتوحة فسين ساكنة فطاء مضمومة مهملتين. قال في النور: وألفه مقصورة كذا أحفظه.
مر الظهران: بفتح الميم وتشديد الراء وظاء معجمة مشالة بلفظ تثنية الظهر: واد بين مكة والمدينة وتسميه العامة بطن مرو.
في ساعة الظهيرة: هي شدة الحر نصف النهار، ولا يقال في الشتاء ظهيرة. والجمع ظهائر.
إضمارك: إخفاؤك.
الحزن: بفتح النون مفعول المصدر وهو إضمارك. فادح- بالفاء والدال والحاء المهملتين أي ثقيل وفي نسخة من الروض والعيون: بالقاف. قال في الصحاح: القادح(2/162)
الصّدع في العود.
نازح: بعيد. وأخبار: بفتح الهمزة وخفض الراء معطوف على فرقة وهو جمع خبر.
خبرت: بفتح الخاء المعجمة مبنى للفاعل. فتاك: أي غلامك ميسرة.
الغور: المطمئن من الأرض. النّجد: المرتفع منها.
الصحاصح [ (1) ] : بصادين وحائين مهملات: جمع صحصح وهو المكان المستوي.
الركاب: بكسر الراء المشددة: الإبل التي يسار عليها، الواحدة راحلة ولا واحد لها من لفظها، والجمع الركب مثل الكتب.
دوالج: بالجيم جمع دالج: السائر أول الليل.
الأباطح: جمع أبطح.
مسيل: متسع فيه دقاق الحصى.
كما أرسل: بالبناء للمفعول.
البهاء: بالمد الحسن. الأشيبون: بشين معجمة فمثناة تحتية فموحدة جمع أشيب وهو المبيض الرأس.
الجحاجح [ (2) ]- بجيم فحاء مهملة فألف فجيم مهملة جمع جحجاج وهو السيد.
النشيج- بنون مفتوحة فشين معجمة فمثناة تحتية فجيم: البكاء مع صوت.
القس- بضم القاف- واحد القسيسين وهم عباد النصارى.
وقوله ببطن المكتين: ثنّى مكة وهي واحدة لأن لها بطاحا وظواهر، على أن للعرب مذهبا في أشعارها في تثنية البقعة الواحدة، ومقصدهم في هذه الإشارة إلى جانبي كل بلدة والإشارة إلى أعلى البلد وأسفله فيجعلونها اثنتين على هذا المغزى.
تموج: أي يضرب بعضها في بعض.
الفلوج- بفاء فلام مضمومتين آخره جيم. الظهور على الخصم.
عجت: ارتفعت أصواتها. العروج: الصعود والعلو.
سمك: بفتحات: رفع.
يضج- بمثناة تحتية فضاد معجمة فجيم: أي يصيح.
متلفة: بميم مفتوحة فمثناة فوقية فلام ففاء مفتوحتين أي مهلكة.
الخروج- بخاء معجمة مفتوحة: أي الكثيرة التصرّف.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 3/ 2402.
[ (2) ] انظر لسان العرب 1/ 547.(2/163)
الباب الرابع عشر في نكاحه صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها
وسبب ذلك ما حدّثها به غلامها ميسرة وما رأته من الآيات وما ذكره ابن إسحاق في المبتدأ قال: كان لنساء قريش عيد يجتمعن فيه في المسجد فاجتمعن يوما فيه فجاءهن يهودي فقال: يا معشر نساء قريش إنه يوشك فيكن نبي فأيكن استطاعت أن تكون فراشا له فلتفعل. فحصبه النساء وقبحنه وأغلظن له. وأغضت خديجة على قوله ولم تعرض فيما عرض فيه النساء ووقر ذلك في نفسها. فلما أخبرها ميسرة بما رآه من الآيات وما رأته هي قالت: إن كان ما قاله اليهودي حقا ما ذلك إلا هذا.
واختلفوا في سبب الخطبة. فعند أبي سعيد النيسابوري في «الشرف» أن خديجة رضي اللَّه تعالى عنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى عمك فقل له: عجل إلينا بالغداة. فلما جاء قالت له: يا أبا طالب ادخل على عمرو عمي فكلمه يزوجني من ابن أخيك محمد بن عبد الله. فقال أبو طالب: يا خديجة لا تستهزئي. فقالت: هذا صنع اللَّه. فقام أبو طالب مع عشرة من قومه. فذكر الحديث.
وعند الزهري في سيرته إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل على خديجة ليتحدث عندها فلما قام من عندها جاءت امرأة فقالت: خاطبا يا محمد؟ فقال: كلا. فقالت: ولم؟ فواللَّه ما في قريش امرأة وإن كانت خديجة إلا تراك كفئا لها. فرجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خاطبا لخديجة مستحييا منها.
وعند يعقوب بن سفيان في تاريخه عن عمار قال: مررت أنا ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأخت خديجة فنادتني فانصرفت إليها ووقف لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: أما لصاحبك هذا من حاجة في تزويج خديجة؟ فقال عمار: فأخبرته. فقال: بلى لعمري. فذكرت لها، فقالت: اغدوا علينا إذا أصبحنا. فغدونا عليهم فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا خديجة حلة.
وذكر الحديث.
وعند ابن إسحاق في المبتدأ أنها قالت له: يا محمد ألا تتزوج؟ قال: ومن؟ قالت: أنا قال: ومن لي بك، أنت أيم قريش وأنا يتيم قريش. قالت: اخطبني.
وذكر الحديث.
وعنده في السيرة: فلما استقر عندها ذلك، أي ما أخبرها به ميسرة وما رأته وكانت امرأة حازمة شريفة لبيبة مع ما أراد اللَّه تعالى بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا وأعظمهن شرفا وأكثرهن مالا، وكل قومها حريص على نكاحها لو يقدر عليه، وعرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له فيما يزعمون: إني رغبت فيك لقرابتك وسطتك في قومك وأمانتك وحسن خلقك. فلما قالت له ذلك ذكره لأعمامه. وذكر الحديث.
وروى ابن سعد عن نفيسة بنت منية قالت: كانت خديجة بنت خويلد امرأة حازمة(2/164)
جلدة شريفة مع ما أراد اللَّه بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا وأعظمهم شرفا وأكثرهم مالا وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك قد طلبوها وبذلوا لها الأموال، فأرسلتني دسيسا إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام فقلت: يا محمد ما يمنعك أن تتزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى المال والجمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك؟
قالت: قلت: علي. قال: فأنا أفعل. فذهبت فأخبرتها فذكرت الحديث. قالت: فأرسلت إليه أن ائت ساعة كذا وكذا. فحضر وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها.
وعند ابن إسحاق إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دخل مع عمه حمزة. وعند النيسابوري في الشرف أن أبا طالب خرج مع عشرة من قومه حتى دخلوا على عمها فخطبها فزوجه. فقال عمرو بن أسد: هذا الفحل لا يقدع أنفه.
قال ابن هشام: أصدقها عشرين بكرة. قال البلاذري والدمياطي: اثنتي عشرة أوقية ونشا. قال المحب الطبري: ذهبا.
وذكر أبو الحسين بن فارس وغيره رحمهم اللَّه تعالى أن أبا طالب خطب يومئذ فقال:
الحمد للَّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضئ معد مضر، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا حكام الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل به شرفا ونبلا وفضلا وعقلا وإن كان في المال قلا فإن المال ظل زائل وأمر حائل وعارية مسترجعة، وهو واللَّه بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة وقد بذل لها من الصداق حكمكم عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية ونشا.
فقال عمرو بن أسد عمها: هو الفحل لا يقدع أنفه. وأنكحها منه. ويقال: إن ورقة هو الذي قاله.
قال ابن إسحاق في المبتدأ: وكان تزويجه لها بعد مجيئه من الشام بشهرين وخمسة وعشرين يوما عقب صفر سنة ست وعشرين.
قال الزهري: وقال راجز من أهل مكة في ذلك:
لا تزهدي خديج في محمّد ... نجم يضيء كما أضاء الفرقد
تنبيهات
الأول: ما تقدم من أن عمها هو الذي زوجها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذكره أكثر علماء أهل السير. قال السهيلي: وهو الصحيح، لما رواه الطبري عن جبير بن مطعم وابن عباس وعائشة(2/165)
كلهم قال: إن عمرو بن أسد هو الذي أنكح خديجة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وإن خويلد كان قد هلك قبل الفجار. ورجحه الواقدي وغلط من قال بخلافه.
وقال عمر بن أبي بكر المؤملي: المجتمع عليه أن عمها عمرو بن أسد هو الذي زوجها منه.
وذكر الزهري في سيرته أن خويلدا أباها الذي زوجها منه وكان قد سكر من خمر، فألقت عليه خديجة حلة وضمخته بخلوق فلما صحا من سكره قال: ما هذه الحلة والطيب؟
فقيل: إنك أنكحت محمدا خديجة وقد ابتنى بها. فأنكر ذلك ثم رضيه وأمضاه. ووافقه ابن إسحاق على ذلك، وذكر ابن إسحاق في آخر كتابه أن عمرو بن خويلد أخاها هو الذي زوجها. فاللَّه أعلم.
الثاني: اختلف في قدر عمر خديجة وعمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حينئذ فقيل: كان عمره صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين سنة. قال في «الغرر» وهو الصحيح الذي عليه الجهور. وقطع به أبو عمرو الحافظ عبد الغني المقدسي.
وقيل: إحدى وعشرين سنة وقدمه في «الإشارة» .
وقيل: تسعا وعشرين وقد راهق الثلاثين. قاله البرقي. وقيل ثلاثين وقيل سبعا وثلاثين.
وقيل غير ذلك.
قال في «الغرر» وهذه الأقوال الأربعة ضعيفة ليس لها حجة تقوم على ساق.
وقيل: كان عمرها رضي اللَّه تعالى عنها أربعين سنة. وصححه في «الغرر» وقيل خمسا وأربعين وقيل ثلاثين وقيل ثمانية وعشرين.
الثالث: ذكر الحافظ يعقوب بن سفيان في كتاب «ما روى أهل الكوفة مخالفا لأهل المدينة» أن عليا ضمن المهر وقال: هذا غلط.
قال في «الزهر» قد وجدنا ما ينفي الغلط وهو ما ذكره ابن إسحاق في المتبدإ: أن عليا قال: أرسلني أبي أنه يضمن لكم المهر فزوجوه. قال: فهذا يبين لك معنى ما أشكل على يعقوب ويوضحه.
وتعقبه الحافظ في الحاشية بأن عليا كان كما ولد أو لم يكن حينئذ ولد، على جميع الأقوال في مقدار عمره. وتعقب في «الغرر» كلام «الزهر» أيضاً بأن عليا لم يكن ولد كما سنذكر الخلاف في سنه حين أسلم. والصحيح أنه ثمانية وعند آخرين عشرة وعلى الأول يكون مولده سنة اثنتين وثلاثين من مولد النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الثاني يكون سنة ثلاثين. فيكون(2/166)
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم قبل مولده بسبع سنين أو خمس. واللَّه تعالى أعلم.
الرابع: في بيان غريب ما سبق.
جلدة- بفتح الجيم وإسكان اللام وبالدال المهملة: الصلبة القوية.
الحزم: ضبط الشخص أمره وأخذه بالثقة، وقد حزم الرجل بضم فهو حازم.
السطة- بسين مكسورة وطاء مفتوحة مهملتين. قال السهيلي: هي من الوسط مصدر كالعدة والزنة، يعني من الوعد والوزن. والكلمة أصلها الواو، والهاء عوض عنها.
والوسط من أوصاف المدح والتفضيل ولكن في مقامين: في ذكر النسب وفي ذكر الشهادة. أما النسب: فلأن أوسط القبيلة أعرقها وأولادها بالصميم وأبعدها عن الأطراف وأجدر أن لا تضاف إليه الدعوى، لأن الآباء والأمهات قد أحاطوا به من كل جانب فكان الوسط من أجل هذا مدحا في النسب لهذا السبب. وأما في الشهادة فنحو قوله تعالى: قالَ أَوْسَطُهُمْ [ن 28] وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة 143] وكان هذا مدحا في الشهادة لأن غاية العدالة في الشاهد أن يكون وسطا كالميزان لا يميل مع أحد بل يصمم على الحق تصميما، لا يجذبه هوى ولا تميل به رغبة ولا رهبة من هاهنا ولا من هاهنا فكان وصفه بالوسط غاية في التزكية والتعديل وظن كثير من الناس أن معنى الوسط الأفضل على الإطلاق، وقالوا معنى الصلاة الوسطى الفضلى، وليس كذلك بل هو في جميع الأوصاف لا مدح ولا ذم كما يقتضي لفظ التوسط فإذا كان وسطا في السمن فهو بين الممخة أي السمينة والعجفاء. والوسط في الجمال بين الحسناء والشّوطاء إلى غير ذلك من الأوصاف لا يعطي مدحا ولا ذما. غير أنهم قد قالوا في المثل: أثقل من مغن وسط على الذم لأن المغني إن كان مجيدا جدا أمتع وأطرب وإن كان باردا جدا أضحك وألهى وذلك أيضاً مما يمتع. قال الجاحظ: وإنما الكرب الذي يجثم على القلوب ويأخذ بالأنفاس الغناء الفاتر الوسط الذي لا يمتع بصوت. ولا يضحك بلهو.
وإذا ثبت هذا فلا يجوز أن يقال في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو أوسط الناس أي أفضلهم ولا يوصف بأنه وسط في العلم ولا في الجود ولا في غير ذلك إلا في النسب والشهادة.
دسيسا: بفتح الدال وسينين مهملتين الأولى مكسورة بينهما مثناة تحتية ساكنة يقال دسست الشيء في الشيء إذا أخفيته فيه. والدسيس إخفاء المكر.
الضئضئ [ (1) ] بكسر الضادين المعجمتين وبهمزتين الأولى ساكنة ويقال فيه ضئضيء
__________
[ (1) ] أنظر اللسان 3/ 2541.(2/167)
بوزن قنديل وضؤضؤ بوزن هدهد، وضؤضوء بوزن سرسور، ويقال أيضاً بصادين وسينين مهملتين، وهو في الجميع: الأصل والمعدن.
العنصر: بعين مهملة مضمومة فنون ساكنة وصاد مهملة مضمومة وقد تفتح: الأصل.
الفحل: بفاء فحاء مهملة: معروف.
لا يقدع: بمثناة تحتية مضمومة فقاف ساكنة فدال مفتوحة فعين مهملتين قال في الصحاح: قدعت فرسي أقدعه قدعا: كبحته وكففته، فهو فرس قدوع أي يحتاج إلى القدع ليكف بعض جريه. وهذا فحل لا يقدع أي لا يضرب أنفه، وذلك إذا كان كريما. وفي النهاية:
يقال: قدعت الفحل وهو أن يكون غير كريم فإذا أراد ركوب الناقة الكريمة ضرب أنفه بالرمح أو غيره يرتدع وينكف. ويروى بالراء.
التضمخ: التلطخ.
الخلوق: بفتح المعجمة طيب يخلط بزعفران.
النش: بنون مفتوحة فشين معجمة: نصف أوقية، والأوقية أربعون درهما، فيكون جملة الصداق خمسمائة درهم شرعي.(2/168)
الباب الخامس عشر في بنيان قريش الكعبة
وكان بناؤهم لها لأمور:
الأول: توهينها من الحريق الذي أصابها، وذلك أن امرأة جمرت الكعبة فطارت شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت.
الثاني: أن السيل دخلها وصدع جدرانها بعد توهينها.
الثالث: أن نفرا سرقوا حلي الكعبة وغزالين من ذهب. وقيل غزال واحد مرصع بدر وجوهر وكان في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده دويك مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة فقطعت قريش يده. وتزعم قريش أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك.
فأرادوا أن يشدوا بنيانها وأن يرفعوا بابها حتى لا يدخلها إلا من شاءوا، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم اسمه باقوم- بباء موحدة فقاف مضمومة- وكان بانيا فتحطمت، فخرج الوليد بن المغيرة في نفر من قريش إلى السفينة فابتاعوا خشبها وكلموا الرومي باقوم فقدم معهم فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيف الكعبة.
قال الأموي: كانت هذه السفينة لقيصر ملك الروم تحمل له آلات البناء من الرخام والخشب والحديد، سرحها قيصر مع باقوم إلى الكنيسة التي أحرقها الفرس بالحبشة، فلما بلغت مرساها من جدة بعث اللَّه تعالى عليها ريحا فحطمتها.
قال ابن إسحاق: وكان بمكة رجل قبطي نجار، فتهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية عظيمة تخرج من بئر الكعبة التي كان يطرح فيها ما يهدى لها فتشرق على جدار الكعبة، وكانت مما يهابون ذلك أنه لا يدنو منها أحد إلا اخزألت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها.
وحكى السهيلي عن رزين أن سارقا دخل الكعبة في أيام جرهم ليسرق كنزها فانهار البئر عليه حتى جاءوا فأخرجوه وأخذوا ما كان أخذه. ثم سكنت البئر حية كرأس الجدي وبطنها أبيض وظهرها أسود. فأقامت فيه خمسمائة سنة، وهي التي ذكرها ابن إسحاق.
قال ابن عقبة: وزعموا أنها إذا أحاطت بالبيت كان رأسها عند ذنبها.
فبينا هي ذات يوم تشرق على جدار الكعبة كما كانت تصنع بعث اللَّه تعالى طائرا فاختطفها فذهب بها فقالت قريش عند ذلك: إنا لنرجو أن يكون اللَّه تعالى قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب، وقد كفانا اللَّه تعالى الحية.
فلما أجمعوا أمرهم في أمرها وبنيانها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ. قال ابن إسحاق:
ابن عبد بن عمران. وقال ابن هشام: عائذ بن عمران ثم اتفقا فقالا: ابن مخزوم. وهو خال أبي(2/169)
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان شريفا فتناول حجرا من الكعبة فوثب من يده حتى رجع إلى مكانه فقال:
يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا لا يدخل فيها مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس.
وبعض الناس ينحل هذا الكلام إلى الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
ثم إن قريشا تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة. وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم. وكان ظهر الكعبة لبني جمح وبني سهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي، ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب، وهو الحطيم. فأمروا بالحجارة تجمع وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينقل معهم.
روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي اللَّه تعالى عنهما قال: لما بنيت الكعبة ذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم والعباس ينقلان الحجارة فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة. ففعل وكان ذلك قبل أن يبعث فخر إلى الأرض فطمحت عيناه إلى السماء فقال: إزاري. فشده عليه. وفي رواية: فسقط مغشيا عليه فما رئي بعد عريانا
[ (1) ] .
وروى عبد الرزاق والطبراني والحاكم عن أبي الطفيل رضي اللَّه تعالى عنه قال: كانت الكعبة في الجاهلية مبنية بالرضم ليس فيها مدر، وكانت قدر ما تقتحمها العناق، وكانت ثيابها توضع عليها تسدل سدلا، وكانت ذات ركنين كهيئة هذه الحلقة فأقبلت سفينة من الروم حتى إذا كانوا قريبا من جدة انكسرت فخرجت قريش لتأخذ خشبها فوجدوا الرومي الذي فيها نجارا، فقدموا به وبالخشب ليبنوا به البيت فكانوا كلما أرادوا القرب منه لهدمه بدت لهم حية فاتحة فاها، فبعث اللَّه تعالى طيرا أعظم من النسر فغرز مخالبه فيها فألقاها نحو أجياد، فهدمت قريش الكعبة وبنوها بحجارة الوادي فرفعوها في السماء عشرين ذراعا، فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل الحجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يضعها على عاتقه فبدت عورته من صغرها فنودي: يا محمد خمر عورتك. فلم ير عريانا بعد ذلك.
قال ابن إسحاق: ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه. فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدؤكم في هدمها. فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع. ويقال لم نرع، اللهم لا نريد إلا الخير. ثم هدم من ناحية الركنين، فتربص الناس تلك الليلة وقالوا: ننتظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء هدمنا فقد رضي اللَّه تعالى ما صنعنا. فأصبح الوليد من ليلته غاديا إلى عمله فهدم وهدم الناس حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 3/ 513 (1582) ومسلم 1/ 268 (76- 340) .(2/170)
الأساس أساس إبراهيم صلى الله عليه وسلم أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنمة آخذ بعضها ببعض، فأدخل رجل ممن كان يهدم عتلته بين حجرين منها ليقلع بها بعضها فلما تحرك الحجر تنقضت مكة بأسرها وأبصر القوم برقة خرجت من تحت الحجر كادت تخطف بصر الرجل فانتهوا عن ذلك الأساس.
ووجدت قريش في الركن كتابا بالسريانية فلم يدروا ما هو حتى قرأه لهم رجل من يهود فإذا هو: أنا اللَّه ذو بكّة، خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا يزول أخشباها يبارك لأهلها في الماء واللبن.
ووجدوا في المقام كتابا فيه: مكة اللَّه الحرام يأتيها من ثلاثة سبل، لا يحلها أول من أهلها.
ووجدوا آخر مكتوب فيه: من يزرع خيرا يحصد غبطة ومن يزرع شرا يحصد ندامة تعملون السيئات وتجزون الحسنات أجل كما يجتنى من الشوك العنب.
ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن فاختصموا فيه، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوزوا وتحالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة، فسموا لعقة الدم.
فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ثم إنهم اجتمعوا في المسجد، فتشاوروا وتناصفوا، فزعم
بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكان عامئذ أسن قريش كلها قال: يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم. فكان أول داخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه قالوا: هذا الأمين.
رضينا، هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوبا. فأتي به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا. ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم.
وكانت قريش تسمي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي الأمين.
قال في «الزهر» و «الإشارة» : وكان ذلك في يوم الاثنين.
وروى يعقوب بن سفيان عن ابن شهاب أن قريشا لما بنوا الكعبة فبلغوا موضع الركن اختصمت في الركن أي القبائل تلي رفعه فقالوا: نحكم أول من يطلع علينا. فطلع عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو غلام فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب ثم أخرج سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن فوضعه هو، ثم طفق لا يزداد على السن إلا رضا حتى دعوه الأمين قبل أن ينزل عليه الوحي، فطفقوا لا ينحرون جزورا إلا التمسوه فيدعو لهم فيها.(2/171)
وروى ابن سعد وأبو نعيم عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما، قال: لما وضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الركن ذهب رجل من أهل نجد ليناول النبي صلى الله عليه وسلم حجرا يشد به الركن فقال العباس: لا. وناول العباس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجرا فشد به الركن فغضب النجدي وقال: وا عجبا لقوم أهل شرف وعقول وأموال عمدوا إلى رجل أصغرهم سنا وأقلهم مالا فرأسوه عليهم في مكرمتهم وحرزهم كأنهم خدم له! أما واللَّه ليفرقنهم شيعا وليقسمن بينهم حظوظا وجدودا.
فيقال إنه إبليس- زاد غيره: فكاد يثير شرا فيما بينهم ثم سكنوا.
وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي حين جعلت قريش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حكما:
تشاجرت الأحياء في فصل خطة ... جرت طيرهم بالنحس من بعد أسعد
تلاقوا لها بالبغض بعد مودة ... وأوقد نارا بينهم شر موقد
فلما رأينا الأمر قد جد جده ... ولم يبق شيء غير سل المهند
رضينا وقلنا العدل أول طالع ... يجيء من البطحاء عن غير موعد
فلم يفجنا إلا الأمين محمد ... فقلنا رضينا بالأمين محمد
بخير قريش كلها أمر ديمة ... وفي اليوم مع ما يحدث اللَّه في الغد
فجاء بأمر لم ير الناس مثله ... أعم وأرضى في العواقب والبدي
أخذنا بأكناف الرداء وكلنا ... له حصة من رفعه قبضة اليد
فقال ارفعوا حتى إذا ما علت به ... أكف إليه فسر في خير مسند
وكان رضينا ذاك عنه بعينه ... وأعظم به من رأى هاد ومهتد
لتلك يد منه علينا عظيمة ... يروح بها ركب العراق ويغتدي
ولما بنت قريش الكعبة جعلت ارتفاعها من خارجها من أعلاها إلى الأرض ثمانية عشر ذراعا، منها تسعة أذرع زائدة على طولها حين عمرها الخليل صلى الله عليه وسلم واقتصروا من عرضها أذرعا جعلتها في الحجر لقصر النفقة الحلال التي أعدوها لعمارة الكعبة عن إدخال ذلك فيها، ورفعوا بابها ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، وجعلوا في داخلها ست دعائم في صفين، ثلاث في كل صف من الشق الذي يلي الحجر إلى الشق اليماني وجعلوا في ركنها الشامي من داخلها درجة يصعد منها إلى سطحها وجعلوه مسطحا وجعلوا فيه ميزابا يصب في الحجر.
تنبيهات
الأول: اختلف في سن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حينئذ.(2/172)
فقيل: كان ابن خمس وثلاثين. وقدمه في «الإشارة» .
وحكى الأزرقي قولا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنيت الكعبة كان غلاما.
قال الحافظ: ولعل عمدته ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: لما بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الحلم أجمرت امرأة الكعبة شرارة من مجمرها في ثياب الكعبة فاحترقت فذكر القصة.
وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن مجاهد أن ذلك قبل المبعث بخمس عشرة سنة وكذا رواه ابن عبد البر من طريق محمد بن جبير وبه جزم موسى بن عقبة في مغازيه. والذي جزم به ابن إسحاق أن بنيان قريش كان قبل المبعث بخمس سنين. قال الحافظ: وهو أشهر قال: ويمكن الجمع بينهما بأن يكون الحريق تقدم وقته على الشروع في البناء. وقيل: ابن خمس وعشرين، وغلط قائله.
الثاني: في بيان غريب ما سبق.
تجمرها [ (1) ] : بضم المثناة الفوقية وإسكان الجيم وكسر الميم يقال أجمر وجمر لغتان، أي تبخرها.
شرارة: واحدة الشرار وهو ما يتطاير من النار. وكذا واحدة الشرر: شررة. المجمرة:
بفتح الميم الأولى.
دويك: تصغير ديك. مليح: بضم الميم وفتح اللام وبالحاء المهملة.
باقوم بباء موحدة فقاف فواو.
العتلة: الهرواة الغليظة. تنقضت: بمثناة فوقية فنون مفتوحتين فقاف فضاد معجمة.
ساقطة: أي اهتزت.
مرسى السفينة: مكان وقوفها بالبر.
الرضم: الحجارة يجعل بعضها على بعض. تشرق: بمثناة فوقية فشين معجمة فراء مفتوحات فقاف، أي تبرز للشمس.
اخزألت [ (2) ] بخاء معجمة فزاي فهمزة مفتوحة فلام مشددة فتاء تأنيث أي رفعت ذنبها والمخزئل: المرتفع.
كشت [ (3) ] : صوتت. ويقال: الكشيش صوت جلدها.
البغيّ: الفاجرة.
__________
[ (1) ] انظر المصباح المنير 108، ومختار الصحاح 107.
[ (2) ] لسان العرب 2/ 859.
[ (3) ] لسان العرب 4/ 3881.(2/173)
الشق: هنا- بكسر الشين المعجمة الناحية والجانب. وأصل شق الشيء: نصفه يقال:
هذا شق الشيء وشقته، بمعنى.
الحطيم: سمي بذلك لأن الناس يزدحمون فيه حتى يحطم بعضهم بعضا. وقيل لأن الثياب كانت تجرد فيه عند الطواف.
فرقوا: خافوا.
تحاوزوا: بمثناة فوقية فحاء مهملة فألف فواو فزاي: أي انحازت كل قبيلة إلى جهة.
هلم: كلمة سمي بها فعل. وفيها لغتان فلغة أهل الحجاز لا يثنونها ولا يجمعونها ولا يؤنثونها ولغة غيرهم ضد ذلك. ومعناها: أقبل.
تجزأت: اقتسمت.
لم ترع: بمثناة فوقية فراء مفتوحة: أي لم تفزع، أي الكعبة. فأضمرها لتقدم ذكرها.
ويروى: لم نزغ بفتح النون وكسر الزاي وبالغين المعجمة أي لم نمل عن دينك ولا خرجنا عنه، يقال زاغ عن كذا إذا خرج عنه.
الأسنمة: جمع سنام، وهو أعلى الظهر. وأراد: أن الحجارة دخل بعضها في بعض كما تدخل عظام السنام بعضها في بعض، فشبهها بها. ومن رواه: كالأسنة جمع سنان: الرمح، شبهها بالأسنة في الخضرة.
حففتها: بحاء مهملة ففاءين ثانيهما ساكنة فتاء التكلم أحاطت الملائكة بها.
أخشبا مكة: جبلاها: أبو قبيس وقعيقعان.
السبل: جمع سبيل الطريق.
الغبطة: تمني حصول مثل الخير الذي فيه غيرك.
أجل: كنعم وزنا ومعنى.
الجفنة: كالقصعة، والجمع جفان بالكسر وجفنات بالتحريك.
موضع الركن: أي الحجر الأسود، سمي ركنا لأنه مبني في الركن.
الأحياء: جمع حي.
خطة: بالضم الأمر والقصة.
طيرهم: حظهم وبختهم.
موقد: بكسر القاف.(2/174)
جماع أبواب مبعثه صلى الله عليه وسلم
الباب الأول في بدء عبادة الأصنام والإشراك بالله تعالى
كان الناس قبل المبعث من زمن نوح صلى الله عليه وسلم إلى زمن المبعث عباد أصنام إلا من استجاب للرسل منهم وهذه الضلالة اشترك فيها العرب والعجم، وعبد كثير من العجم النار وهم المجوس فاتخذوا بيوت نيران لا تزال تقد أبدا، وكانت إلى هذه النيران صلاتهم وقرا بينهم ويعتقدون فيها النفع والضر. وعلى هذه الضلالة كانت ملوك الأكاسرة.
وعبدت طائفة منهم كواكب معلومة، وترى هذه الطوائف أن سائر ما في العالم السفلي المعبر عنه بالحياة الدنيا ناشئ وصادر عن الكواكب وأن الشمس هي المفيضة على الكل، واتخذت هذه الطائفة التماثيل من الجواهر والمعادن على أسماء الكواكب وعبدتها وصلت إليها وقربت لها القرابين واعتقدت أنها تجلب النفع وتدفع الضرر ويقال لهذه الطائفة الصابئة.
وقد بسط أبو جعفر ابن جرير والمسعودي وغيرهما الكلام على ذلك ومبدئه ولا حاجة بنا إلى ذكره.
وأما العرب، إلا القليل منهم، فإنهم اتخذوا الأصنام وعبدوها من دون اللَّه تعالى ويقال.
لهم: «الذين أشركوا» سمة لهم واسما لزمهم وإن كان غيرهم ممن تقدم شاركهم في عبادة غير اللَّه تعالى فإن هذا الاسم لا يطلق إلا على العرب.
وأول ما حدثت عبادة الأصنام في قوم نوح صلى الله عليه وسلم، فأرسله اللَّه تعالى إليهم ينهاهم عن ذلك فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما كما قص اللَّه خبره في عدة آيات واستمرت هذه الضلالة في زمن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وقد قص اللَّه تعالى نبأه مع قومه في عدة آيات. واستمر هذا الأمر الشنيع إلى أن بعث اللَّه سبحانه وتعالى فضلا منه ورحمة، عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم فدعا إلى عبادة اللَّه تعالى وحده فأنكر المشركون ذلك كما حكاه اللَّه تعالى عنهم في غير ما آية.
والسبب في عبادة الناس الأصنام ما رواه الفاكهي عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال:
أول ما حدثت الأصنام على عهد نوح، وكانت الأبناء تبر الآباء، فمات رجل منهم فجزع عليه ابنه فجعل لا يصبر عنه فاتخذ مثالا على صورته فكلما اشتاق إليه نظره، فمات ففعل به كما(2/175)
فعل حتى تتابعوا على ذلك فمات الآباء فقال الأبناء ما اتخذ هذه آباؤنا إلا أنها كانت آلهتهم.
فعبدوها.
وروى عبد بن حميد عن محمد بن كعب القرظى في قوله تعالى وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً [نوح 23] قال: كانوا قوما صالحين بين آدم ونوح فنشأ قوم بعدهم يأخذون في العبادة فقال لهم إبليس: لو صوّرتهم صورهم فكنتم تنظرون إليهم. فصوروا ثم ماتوا فنشأ قوم بعدهم فقال إبليس: إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها فعبدوها.
وروى أبو الشيخ في العظمة عن محمد بن كعب القرظي قال كان لآدم خمسة بنين ود وسواع ويغوث ويعوق ونسرا، فكانوا عبادا، فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزنا شديدا فجاءهم الشيطان فقال: حزنتم على صاحبكم هذا؟ قالوا نعم. قال: هل لكم أن أصور لكم مثله في قبلتكم إذا نظرتم إليه ذكرتموه؟ قالوا: نكره أن تجعل لنا في قبلتنا شيئاً نصلي إليه. قال فأجعله في مؤخر المسجد؟ قالوا: نعم. فصوره لهم حتى مات خمستهم فصور صورهم في مؤخر المسجد، فتنقضت الأشياء حتى تركوا عبادة اللَّه تعالى وعبدوا هؤلاء، فبعث اللَّه تعالى نوحا فقالوا «لا تذرن آلهتكم» إلى آخر الآية.
وروى عبد بن حميد عن أبي جعفر بن يزيد بن المهلب قال: كان ود رجلا مسلما وكان محببا في قومه فلما مات عسكروا حول قبره في أرض بابل وجزعوا عليه فلما رأى إبليس جزعهم عليه تشبه في صورة إنسان ثم قال: أرى جزعكم على هذا فهل لكم أن أصور مثله فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا: نعم فصوّر لهم مثله فوضعوه في ناديهم وجعلوا يذكرونه فلما رأى ما بهم من ذكره قال: هل لكم أن أجعل في منزل كل رجل منكم تمثالا فيكون في بيته فيذكر به؟ قالوا: نعم. فمثل لكل أهل بيت تمثالا مثله فجعلوا يذكرونه به وأدرك أبناؤهم فجعلوا يرون ما يصنعون به وتناسلوا ودرس أمر ذكرهم إياه حتى اتخذوه إلها يعبدونه من دون اللَّه تعالى فكان أول من عبد من دون اللَّه ود، الصنم الذي سموا بود.
وروى البخاري وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح تعبد، أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي كلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم.
ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت فلما كان أيام الطوفان دفنها الطين والتراب والماء فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطان إلى مشركي العرب.(2/176)
وكان أول من حمل العرب على عبادة الأصنام عمرو بن لحي- بضم اللام وفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية- ابن قمعة- بفتح القاف والميم وتخفيفها- وقيل غير ذلك، ابن خندف- بكسر الخاء المعجمة والدال المهملة ويجوز كسر الخاء وفتح الدال وآخرها فاء.
روى ابن إسحاق عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون الخزاعي: «يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا بك منه» فقال أكثم: عسى أن يضرني شبهه يا نبي اللَّه؟ قال: «لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه كان أول من غير دين إسماعيل فنصب الأوثان»
الحديث ويأتي [ (1) ] .
قال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أن عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره فلما قدم مآب من أرض البلقاء وبها يومئذ العماليق وهم ولد عملاق ويقال عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتمطرنا ونستنصرها فتنصرنا. فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنما فأسير به إلى العرب فيعبدونه. فأعطوه منها صنما يقال له هبل، فقدم به مكة فنصبه وأمر الناس بعبادته وتعظيمه.
وروى الفاكهي عن هشام بن السائب قال: كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن فأتاه فذكر له شعرا يأمره فيه بإخراج الأصنام من ساحل جدة فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وهي الأصنام التي عبدت زمن نوح وإدريس ثم إن الطوفان طرحها هناك، فسقى عليها الرمل، فاستخرجها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم فدعا إلى عبادتها فأجيب.
وقال ابن إسحاق: ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل: أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن منهم حين ضاقت عليهم والتمسوا والفسح في البلاد إلا حمل معه حجرا من حجارة الحرم تعظيما للحرم فحيثما نزلوا وضعوه فطافوا به كطوافهم بالكعبة، حتى سلخ ذلك منهم إلى أن كانوا يعبدون ما استحسنوا من الحجارة وأعجبهم حتى خلفت الخلوف ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل صلى اللَّه عليهما وسلم غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم من الضلالات وفيهم على ذلك بقايا من
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 632 (3520) .(2/177)
عهد إبراهيم يتمسكون بها من تعظيم البيت والطواف به والوقوف على عرفة والمزدلفة وهدي البدن والإهلال بالحج والعمرة مع إدخالهم فيه ما ليس منه، فكانت كنانة وقريش إذا أهلوا قالوا: لبيك اللهم لبيك. لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فيوحدونه بالتلبية ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده. يقول اللَّه تبارك لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف 106] أي ما يوحدونني بمعرفة حقي إلا جعلوا معي شريكا من خلقي.
قال ابن إسحاق: وكان لقوم نوح أصنام قد عكفوا عليها، فكان الذين اتخذوا تلك الأصنام من ولد إسماعيل أو غيرهم وسموها بأسمائها حين فارقوا دين إسماعيل، فاتخذ هذيل بن مدركة سواعا، وكان لهم برهاط، واتخذ كلب بن وبرة من قضاعة ودا بدومة الجندل، واتخذ كلب بن وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن عمران وأهل جرش من مذحج اتخذوا يغوث.
واتخذ خيوان، بطن من همدان، يعوق بأرض همدان من اليمن.
واتخذ ذو الكلاع من حمير نسرا بأرض حمير، واتخذ الأديم، بطن من خولان، صنما يقال له عم أنس يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين اللَّه تعالى بزعمهم، فما دخل في حق عم أنس من حق اللَّه تعالى الذي سموه له تركوه له، وما دخل في حق اللَّه تعالى من حق عم أنس ردوه عليه، فأنزل اللَّه تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الأنعام 136] .
وكان لبني ملكان بن كنانة بن خزيمة بن مدركة صنم يقال له سعد، صخرة بفلاة من أرضهم طويلة، فأقبل رجل من بني ملكان بإبل له مؤبلة ليقفها عليه التماس بركته فيما يزعم، فلما رأته الإبل وكانت مرعية لا تركب وكان يهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كل وجه، وغضب ربها الملكاني فأخذ حجرا فرماه به ثم قال: لا بارك اللَّه فيك! نفرت علي إبلي. ثم خرج في طلبها حتى جمعها فلما اجتمعت له قال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يدعى لغي ولا رشد
[ (1) ] واتخذت قريش صنما على بئر في جوف الكعبة يقال له هبل، واتخذوا إسافا ونائلة
__________
[ (1) ] الروض الأنف 1/ 104، والبداية والنهاية 2/ 191.(2/178)
على موضع زمزم ينحرون عندهما، وكان إساف ونائلة رجلا وامرأة من جرهم وهو إساف بن بغي. قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: ما زلنا نسمع أن إسافا ونائلة كانا رجلا وامرأة من جرهم أحدثا في جوف الكعبة فمسخهما اللَّه حجرين.
رواه ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: واتخذ أهل كل دار في دارهم صنما يعبدونه من دون اللَّه فإذا أراد الرجل منهم سفرا تمسح به حين يركب فكان ذلك آخر ما يصنع حين يتوجه إلى سفره، فإذا قدم من سفره تمسح به فكان أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله، فلما بعث اللَّه سبحانه وتعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بالتوحيد قالت قريش: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص 5] .
وذكر ابن إسحاق وغيره كثيرا من أسماء أصنام العرب. ولم أذكر ذلك إذ لا فائدة في ذكرها وذكرت منها ما سمي في القرآن العزيز مع زيادة.
تنبيه: قال الواقدي: كان ود على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة طائر.
قال في الفتح: وهذا شاذ، والمشهور أنهم كانوا على صورة البشر، وهو مقتضى الآثار في سبب عبادتها.
وقال المسعودي في مروج الذهب. كان كثير من أهل الهند والصين وغيرهم من الطوائف يعتقدون أن اللَّه تعالى جسم وأن الملائكة أجسام لها تمام وأن اللَّه تعالى احتجب بالسماء فدعاهم ذلك إلى أن اتخذوا تماثيل وأصناما على صورة الباري تعالى وبعضها على صورة الملائكة مختلفة القدور والأشكال في الصور، فمنها على صورة الإنسان ومنها على صورة غيره في الصور، فعبدوها وقربوا لها القرابين ونذروا لها النذور لشبهها عندهم بالباري تعالى وقربها منه، فأقاموا على ذلك برهة من الزمان وكثيرا من الأعصار حتى نبههم بعض ضلالهم على أن الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام إلى الباري- تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا، وأنها حية ناطقة وأن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما هو على قدر ما تجري به الكواكب عن أمر اللَّه تعالى فعظموها وقربوا لها القرابين لتنفعهم، ومكثوا على ذلك دهرا فلما رأوا الكواكب تخفى بالنهار وفي بعض أوقات الليل بما يعرض في الجو من السواتر، أمرهم بعض من كان فيهم من ضلّالهم أن يجعلوا أصناما وتماثيل على صورها وأشكالها وهيآتها، فجعلوا لها أصناما بعدد الكواكب المشهورة المتحيرة، فكل صنف منهم يعظم كوكبا منها ويقرب له نوعا من القربان. ولما طال عليهم العهد عبدوا الأصنام وألغوا عبادة الكواكب، فلم(2/179)
يزالوا كذلك حتى ظهر بعض ضلالهم بأرض الهند وكان هنديا خرج من أرض الهند إلى السند ثم دخل بلاد العجم، وهو أول من أظهر مذهب الصابئة وجوز للناس عبادة الأصنام والسجود لها لشبهة ذكرها وقرب إلى عقولهم عبادتها بضرب من الحيل.
قال المسعودي: وذكر ذوو الخبرة بشأن هذا العالم وأخبار ملوكه أن «جم» الملك أول من عظم النار ودعا الناس إلى تعظيمها وقال إنها تشبه ضوء الشمس والكواكب وجعل للنور مراتب، ثم تنازع هؤلاء بعده فعظم كل فريق منهم ما يرون تعظيمه من الأشياء.
ثم ذكر المسعودي بعض ما تقدم من خبر عمرو بن لحي. ثم ذكر المسعودي عبادة الفرس للنار وبيوت النيران في كل بلد وأطال النفس في ذلك.(2/180)
الباب الثاني في إخبار الأحبار والرهبان والكهان بمبعث حبيب الرحمن صلى الله عليه وسلم
قد تقدم في الباب التاسع أوائل الكتاب كثير من ذلك. وأذكر هنا ما لم أذكره هناك.
قال ابن إسحاق رحمه اللَّه تعالى: وكانت الأحبار من يهود والرهبان من النصارى والكهان من العرب قد تحدثوا بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، لما تقارب زمانه. أما الأحبار والرهبان فعما وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان عهد إليهم أنبياؤهم فيه. وأما الكهان فأتتهم به الشياطين من الجن، فيما يسترقون من السمع إذا كانت وهي لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم، وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منهما ذكر بعض أمور ولا تلقي العرب لذلك بالا حتى بعثه اللَّه تعالى ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها.
ذكر خبر زيد بن عمرو بن نفيل
ابن عبد العزى [ابن عبد الله] بن قرط بن رباح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، وورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزيز بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي، وعبيد الله بن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أنس بن خزيمة، وكانت أمه أميمة بنت عبد المطلب، وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزى بن قرط بن رباح.
قال ابن إسحاق:
واجتمعت قريش في عيد لهم عند صنم من أصنامهم. قال محمد بن عمر الأسلمي:
وهو بوانة، كانوا يعظمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويديرون به، وكان ذلك عيدا لهم في كل سنة يوما، فخلص منهم هؤلاء الأربعة نجيا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض. قالوا: أجل. فقال بعضهم لبعض: تعلموا واللَّه ما قومكم على شيء، لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نُطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم واللَّه ما أنتم على شيء.
فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية دين إبراهيم.
فأما ورقة بن نوفل فاستحكم في النصرانية واتبع الكتب من أهلها حتى علم علما من أهل الكتاب.
وأما عبيد الله بن جحش فأقام على ما هو عليه من الالتباس. حتى أسلم ثم هاجر مع المسلمين إلى الحبشة ومعه امرأته أم حبيبة ابنة أبي سفيان مسلمة فلما قدمها تنصر وفارق(2/181)
الإسلام حتى هلك نصرانيا. وكان يمر بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم بالحبشة فيقول: فقحنا وصأصأتم. أي أبصرنا وأنتم تلتمسون البصر لم تبصروا بعد. وذلك أن ولد الكلب إذا أراد أن يفتح عينيه للنظر صأصأ لينظر.
وأما عثمان بن الحويرث فقدم على قيصر ملك الروم فتنصر وحسنت منزلته عنده.
وأما زيد بن عمرو بن نفيل فوقف فلم يدخل في يهودية ولا نصرانية وفارق دين قومه فاعتزل الأوثان والميتة والدم والذبائح التي تذبح على الأوثان ونهى عن قتل الموءودة وقال:
أعبد رب إبراهيم وبادى قومه بعيب ما هم عليه.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنهما قالت: رأيت زيد بن عمرو شيخا كبيرا مسندا ظهره إلى الكعبة وهو يقول: يا معشر قريش والذي نفس زيد بن عمرو بيده ما أصبح منكم أحد على دين إبراهيم غيري. ثم يقول: اللهم لو أني أعلم أي الوجوه أحب إليك عبدتك به ولكني لا أعلمه. ثم يسجد على راحلته. وكان يحيى الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها أنا أكفيك مؤنتها فيأخذها فإذا ترعرعت قال لأبيها: إن شئت دفعتها إليك وإن شئت كفيتك مؤنتها.
رواه ابن إسحاق والنسائي وأبو بكر بن أبي داود وعلقه البخاري جازما به [ (1) ] .
وروى البخاري والبيهقي من طريق موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لقى زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح قبل أن ينزل عليه الوحي فقدمت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم فأبى أن يأكل منها ثم قال لزيد: إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم اللَّه عليه. وإن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها اللَّه تعالى وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم اللَّه تعالى! إنكارا لذلك وإعظاما له [ (2) ] .
وروى البخاري في المناقب وفي الذبائح من صحيحه والإسماعيلي والزبير بن بكار والفاكهي عن ابن عمر، إن زيد بن عمرو بن نفيل خرج إلى الشام يسأل عن الدين ويبتغيه.
وفي لفظ: ويتبعه. فلقي عالما من اليهود فسأله عن دينهم فقال: إني لعلى أن أدين دينكم.
فأخبرني. فقال: لا تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب اللَّه. فقال زيد: ما أفر إلا من غضب اللَّه ولا أحمل من غضب اللَّه شيئاً أبدا وأنا أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟ قال: ما
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 176 كتاب مناقب الأنصار.
[ (2) ] أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار 7/ 176 (3826) .(2/182)
أعلمه إلا أن تكون حنيفا. قال زيد: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا اللَّه، فخرج فلقي عالما من النصارى. فذكر مثله. فقال: لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة اللَّه. قل: ما أفر إلا من لعنة اللَّه ولا أحمل من لعنته ولا من غضبه شيئاً وأنا أستطيعه. فهل تدلني على غيره؟ فقال: ما أعلمه إلا أن تكون حنيفا. قال: وما الحنيف؟
قال: دين إبراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا ولا يعبد إلا اللَّه. فلما رأى زيد قولهم في إبراهيم خرج فلما برز رفع يديه فقال: اللهم أشهد أني على دين إبراهيم. [ (1) ]
وفي لفظ: فانطلق وهو يقول: لبيك حقا حقا تعبدا ورقا. ثم يخر ويسجد للكعبة.
قال ابن إسحاق: أن زيد بن عمرو بن نفيل خرج يطلب دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم ويسأل الرهبان حتى بلغ الموصل والجزيرة كلها ثم أقبل إلى الشام حتى انتهى إلي راهب بميفعة من أرض البلقاء وكان ينتهي إليه علم النصرانية، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم فقال: إنك لتطلب دينا ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلادك التي خرجت منها يبعث بدين إبراهيم الحنيفية، فالحق فإنه مبعوث الآن فهذا زمانه. وكان قد شام اليهودية والنصرانية فلم يرض شيئاً منها، فخرج سريعا حين قال له ذلك الراهب ما قال يريد مكة حتى إذا توسط بلاد لخم عدوا عليه فقتلوه، فقال ورقة بن نوفل يرثيه:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما ... تجنبت تنورا من النار حاميا
بدينك ربا ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا
وإدراكك الدين الذي قد طلبته ... ولم تك عن توحيد ربك ساهيا
فأصبحت في دار كريم مقامها ... تعلل فيها بالكرامة لاهيا
تلاقي خليل اللَّه فيها ولم تكن ... من الناس جبارا إلى النار هاويا
وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
[ (2) ]
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 176 (3827) .
[ (2) ] تروى هذه الأبيات في البداية والنهاية البيت الأول والثاني والسادس فقط، انظر البداية والنهاية 2/ 238.
ويروي ابن كثير أيضا بعد البيت الأول:
لدينك ربا ليس كمثله ... وتركك جنان الجبال كما هيا
أقول إذا أهبطت أرضا مخوفة ... حنانيك لا تظهر علي الأعاديا
حنانيك إن الحب كانت رجاءهم ... وأنت إلهي ربنا ورجائيا
لتدركن المرء رحمة ربه ... وإن كان تحت الأرض سبعين واديا
أدين لرب يستجيب ولا أرى ... أدين لمن لا يسمع الدهر واعيا
أقول إذا صليت في كل بيعة ... تباركت قد أكثرت باسمك داعيا
انظر البداية والنهاية 2/ 243.(2/183)
ولزيد عدة قصائد في التوحيد منها:
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور [ (1) ]
عزلت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا عزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمرو أزور
ولا غنما أدين وكان ربا ... لنا في الدّهر إذ حلمي يسير
عجبت وفي الليالي معجبات ... وفي الأيام يعرفها البصير
بأن اللَّه قد أفنى رجالا ... كثيرا كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببسر قوم ... فيربل منهم الطفل الصغير
وبينا المرء يعثر ثاب يوما ... كما يتروح الغصن النضير
ولكن أعبد الرحمن ربي ... ليغفر ذنبي الرب الغفور
فتقوى اللَّه ربكم احفظوها ... متى ما تحفظوها لا تبوروا
ترى الأبرار دارهم جنان ... وللكفار حامية سعير
وخزي في الحياة وإن يموتوا ... يلاقوا ما تضيق به الصدور
وروى أبو يعلى والطبراني والبزار بسند حسن عن زيد بن حارثة رضي اللَّه تعالى عنه قال: إن زيد بن عمرو بن نفيل مات ثم أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة»
[ (2) ] .
وروى أبو يعلى بسند حسن، عن سعيد بن زيد قال: سألت أنا وعمر بن الخطاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو، فقال: «يأتي القيامة أمة وحده»
[ (3) ] .
وروى الباغندي عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «دخلت الجنة فوجدت لزيد بن عمرو دوحتين» .
__________
[ (1) ] يروى البيت الأول، ورواية أخرى للأبيات تنظر في البداية والنهاية.
أرب واحد أم ألف رب
والثالث
فلا العزى أدين ولا ابنتيها
انظر البداية والنهاية 2/ 242.
[ (2) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 190.
[ (3) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 217.(2/184)
قال الحافظ ابن كثير: إسناده جيد قوي.
وروى محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن جابر بن عبد الله رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سئل عن زيد بن عمرو فقال، «يحشر ذلك أمة وحده بيني وبين عيسى ابن مريم [ (1) ] .
قال ابن كثير إسناده جيد قوي.
تنبيه: توفى زيد قبل المبعث بخمس سنين وقريش تبنى الكعبة.
تفسير الغريب
قرط: بضم القاف وإسكان الراء وبالطاء المهملة.
رياح: بالمثناة التحتية.
رزاح: روي بكسر الراء وبفتحها، وبه جزم الدارقطني.
النجي: الجماعة يتحدثون سرا عن غيرهم، ويقع للاثنين والجماعة بلفظ واحد. فقحنا:
بفاء فقاف مفتوحتين مشددة فحاء مهملة يقال فقح إذا فتح عينيه.
الموءودة: شيء كان يفعله بعض العرب، كان إذا ولد له بنت دفنها في التراب أو في الرمل حية، وأصل وأد: أثقل فسميت الموءودة لأنها أثقلت بالتراب.
بادى: بغير همز أي ظهر، وبه: ابتدأ.
ميفعة: بمثناة تحتية وزن منفعة، قرية من أرض البلقاء من الشام، وهي بفتح الموحدة ثم لام ساكنة ثم قاف ممدودة.
شام اليهودية: اسم فاعل من الشم ومعناه أنه استخبر، فاستعاره من الشم فنصب اليهودية نصب المفعول به. ومن خفض جعل شام اسم فاعل من شممت، والفعل أولى بهذا الموضع.
غنما: بفتح الغين المعجمة وسكون النون صنم كانوا يعبدونه.
يربل: بمثناة تحتية مفتوحة فراء ساكنة فموحدة مضمومة فلام، يقال ربل الطفل يربل إذا شب وعظم.
ثاب: رجع.
يتروح الغصن: يهتز.
لا تبوروا: لا تهلكوا.
يبعث أمة وحده: الأمة: الشخص المنفرد بدين، أي يقوم مقام جماعة.
__________
[ (1) ] ذكره المتقي الهندي في كنز العمال (37860) .(2/185)
خبر قس بن ساعدة
هو ابن ساعدة بن جذامة بن زفر بن زياد بن نزار الإيادي.
قال المرزباني: عاش ثلاثمائة وثلاثين سنة. وكثير من أهل العلم يذكر أنه عاش ستمائة سنة. وقد سمع النبي صلى اللَّه عليه وسلم حكمته. وهو أول من آمن بالبعثة من أهل الجاهلية، وأول من اتكأ على عصا في الخطبة، وأول من قال أما بعد. وأول من كتب: من فلان إلى فلان. وقد جاء أنه خطب الناس بعكاظ وبشرهم بمبعث النبي صلى اللَّه عليه وسلم وحثهم على إتباعه وذلك قبل البعثة.
روى الإمام محمد بن داود بن علي الظاهري في كتاب «الزهرة» حدثنا أحمد بن عبيد النحوي، حدثنا علي بن محمد المدائني حدثنا محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن سعد بن أبي وقاص. والطبراني والبزار من طريق محمد بن الحجاج، وهو متروك، والبيهقي من طريق سعيد بن هبيرة وهو متروك، والبيهقي من طريق أحمد بن سعيد بن فرسخ الأخميمي، عن شيخه القاسم بن عبد الله بن مهدي، وهما متهمان، عن ابن عباس. والبيهقي عن أنس وفي سنده من اتهم، وأبو نعيم والخرائطي عن عبادة بن الصامت، والأزدي عن أبي هريرة، وخلف بن أعين، رواه عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، والحسن البصري، رواه أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه: أن وفد إياد لما قدموا على النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأسلموا سألهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عن قس بن ساعدة فقالوا: يا رسول اللَّه مات. قال: كأني أنظر إليه في سوق عكاظ على جمل أحمر أورق وهو يخطب الناس وهو يقول كلاما ما أراني أحفظه.
فقال بعض القوم: نحن نحفظه يا رسول اللَّه. فقال: هاتوا. فقال قائلهم إنه قال: أيها الناس اسمعوا وعوا وإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، جميع وأشتات، وآيات بعد آيات، إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا، ليل داج وسماء ذات فجاء وبحار ذات أمواج، مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا، أقسم قس قسما حقا لا حانثا فيه ولا آثما، إن للَّه دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه ونبيا خاتما حان حينه وأظلكم أوانه وأدرككم إبانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه وعصاه.
ثم قال: تبا لأرباب الغفلة من الأمم الخالية والقرون الماضية، يا معشر إياد أين الآباء والأجداد وأين المريض والعواد، وأين الفراعنة الشداد، أين من بنى رشيد، وزخرف ونجد وغره المال والولد، أين من بغى وطغى وجمع فأوعى وقال: وقال: أنا ربكم الأعلى، ألم يكونوا أكثر(2/186)
منكم أموالا وأولادا وأبعد منكم آمالا وأطول منكم آجالا طحنهم الثرى بكلكله ومزقهم الدهر بتطاوله، فتلك عظامهم بالية وبيوتهم خالية عمرتها الذئاب العاوية كلا بل هو اللَّه الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود. قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: فأيكم يروي شعره؟ فأنشده أبو بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنه قال:
في الذاهبين الأولي ... ن من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
[ (1) ] .
هذا حاصل الطرق السابقة.
قال البيهقي بعد أن أورد بعضها: إذا ورد الحديث من أوجه وإن كان بعضها ضعيفا دل على أن للحديث أصلا [ (2) ] .
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير: هذه الطريق على ضعفها كالمتعاضدة على إثبات أصل القصة.
وقال الحافظ في الإصابة طرقه كلها ضعيفة: وقال الشيخ رحمه اللَّه تعالى في تهذيب موضوعات ابن الجوزي: أمثل طرقه الأول، فإن ابن أخي الزهري ومن فوقه من رجال البخاري ومسلم، وعلي بن محمد المدائني ثقة. وأحمد بن عبيد قال ابن عدي. صدوق له مناكير.
قلت: وقال الذهبي: صويلح. قال الحافظ: لين الحديث. انتهى.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: فإذا ضم طريق خلف بن أعين إليه حكم بحسنه بلا توقف. انتهى.
إذا علمت ذلك فالحديث ضعيف لا موضوع، خلافا لابن الجوزي ومن تبعه.
وقد رواه البيهقي من وجه آخر عن ابن عباس. فذكر حديثا طويلا مسجعاً فيه أشعار كثيرة.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: وآثار الوضع ظاهرة عليه.
وروى أبو نعيم عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 2/ 234.
[ (2) ] ذكره السيوطي في اللآلي 1/ 100 والمتقي الهندي في كنز العمال (34071- 30472) .(2/187)
سوق عكاظ فقال: سيعمكم حق من هذا الوجه. وأشار بيده إلى نحو مكة. قالوا له: وما هذا الحق؟ قال: رجل أبلج أحور من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص وعيش الأبد ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من سعى إليه.
تفسير الغريب
أورق: الورقة في الإبل: لون يضرب إلى الخضرة كلون الرماد. وقيل إلى السواد.
داج: مظلم.
رتاج [ (1) ] براء مكسورة ثم مثناة فوقية مخففة فألف فجيم: الباب.
المقام: بضم الميم وفتحها. قال في النور لكن هنا يتعين الضم لأن بعده قافا فهو من الرباعي.
أظلكم: أقبل عليكم ودنا منكم كأنه ألقى ظله عليكم.
تبا: خسرانا.
شيد: بفتح الشين المعجمة والمثناة التحتية المشددة: والشيد: كل ما طلي به الحائط من جص وغيره.
نجد: زين.
الكلكل والكلكال [ (2) ] : الصدر.
خبر العباس عن بعض أحبار اليمن
روى أبو نعيم عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: قال العباس رجت في تجارة إلى اليمن في ركب فيهم أبو سفيان بن حرب، فورد كتاب حنظلة بن أبي سفيان أن محمدا قائم بالأبطح يقول: أنا رسول اللَّه أدعوكم إلى اللَّه. ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن فجاءنا حبر من اليهود فقال: بلغني أن فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال. قال العباس: فقلت نعم.
قال: نشدتك هل كانت لابن أخيك صبوة؟ فقلت: لا واللَّه ولا كذب ولا خان، وإن كان اسمه عند قريش إلا الأمين قال: فهل كتب بيده؟ فأردت أن أقول نعم، فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويرد علي فقلت: لا يكتب. فوثب الحبر وترك رداءه وقال: ذبحت يهود وقتلت يهود.
قال العباس: فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان: يا أبا الفضل إن يهود تفزع من ابن
__________
[ (1) ] المصباح المنير 218.
[ (2) ] انظر المعجم الوسيط 2/ 796.(2/188)
أخيك. قلت: قد رأيت، فهل لك أن تؤمن به. قال: لا أومن به حتى أرى الخيل في كداء.
قلت: ما تقول؟! قال: كلمة جاءت على فمي، إلا أني أعلم أن اللَّه لا يترك خيلا تطلع على كداء.
قال العباس: فلما فتح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مكة ونظرنا إلى الخيل قد طلعت من كداء قلت:
يا أبا سفيان تذكر تلك الكلمة؟ قال: إي واللَّه إني لأذكرها.
كداء: كسحاب: الثنية العليا بأعلى مكة عند المقبرة، لا تنصرف. وقال النووي:
ويجوز الصرف على إرادة الموضع.
خبر أمية عن بعض أحبار الشام
روى البيهقي وأبو نعيم واللفظ له عن أبي سفيان بن حرب قال: خرجت أنا وأمية بن أبي الصلت تجارا إلى الشام فقال: هل لك في عالم من علماء النصارى إليه انتهى علم الكتاب نسأله. قلت له: لا أرب لي فيه. فذهب ثم رجع فقال: إني جئت هذا العالم فسألته عن أشياء ثم قلت: أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر. فقال: هو رجل من العرب قلت: من أي العرب؟
قال: من أهل بيت يحجه العرب من إخوانكم من قريش. قلت: صفه لي. قال: رجل شاب حين دخل في الكهولة، بدء أمره يجتنب المظالم والمحارم ويصل الرحم ويأمر بصلتها، وهو محوج كريم الطرفين متوسط في العشيرة أكثر جنده الملائكة. قلت ما آية ذلك؟ قال: قد رجفت الشام بعد عيسى ابن مريم صلى اللَّه عليهما وسلم ثلاثين رجفة كلها مصيبة، وبقيت رجفة عامة فيها مصائب. قال أبو سفيان: فقلت: هذا واللَّه الباطل. فقال أمية: والذي حلفت به إن هذا لهكذا.
ثم خرجنا فإذا راكب من خلفنا يقول: أصاب أهل الشام بعدكم رجفة دمرت أهلها وأصابتهم فيها مصائب عامة. قال أبو سفيان: فأقبل علي أمية فقال: كيف ترى قول النصراني؟
قلت: أرى واللَّه إنه حق.
وقدمت مكة فقضيت ما معي ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجرا فمكثت بها خمسة أشهر، ثم قدمت مكة فجاء الناس يسلمون علي ويسألون عن بضائعهم ثم جاءني محمد صلى اللَّه عليه وسلم فسلم علي ورحب بي وسألني عن سفري ومقام ولم يسألني عن بضاعته، ثم قال: فقلت لهند: واللَّه إن هذا ليعجبني! ما من أحد من قريش له معي بضاعة إلا وقد سألني عنها ما سألني هذا عن بضاعته. قالت: وما علمت بشأنه؟ إنه يزعم أنه رسول اللَّه. فوقذتني. وذكرت قول النصراني: قلت: لهو أعقل من أن يقول هذا. قالت: بلى واللَّه إنه يقول ذلك.(2/189)
خبر أبي سفيان عن أمية
روى الطبراني وأبو نعيم عن معاوية بن أبي سفيان عن أبيه قال: كنا بغزة [ (1) ] أو بإيلياء فقال لي أمية بن أبي الصلت: يا أبا سفيان أيه عن عتبة بن ربيعة؟ قلت: أيه عن عتبة بن ربيعة.
قال: كريم الطرفين ويجتنب المحارم والمظالم؟ قلت: نعم وشريف مسن. قال: السن أزرى به.
قلت: كذبت بل ما ازداد سنا إلا ازداد شرفا. قال: لا تعجل علي حتى أخبرك. فقال: إني أجد في كتبي نبيا يبعث من حرتنا هذه فكنت أظن أني هو، فلما دارست أهل العلم إذا هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحدا يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة، فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس به حين جاوز الأربعين ولم يوح إليه.
قال أبو سفيان: فرجعت وقد أوحى اللَّه إلى رسوله محمد صلى اللَّه عليه وسلم، فخرجت في ركب في تجارة فمررت بأمية فقلت له كالمستهزئ به: خرج النبي الذي كنت تنعته. قال: أما إنه حق فاتبعه وكأني بك يا أبا سفيان إن خالفته ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك فيحكم فيك.
واللَّه تعالى أعلم بالصواب.
خبر عبد الرحمن بن عوف عن عثكلان الحبر
روى ابن عساكر عن عبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه تعالى عنه قال: سافرت إلى اليمن قبل مبعث النبي صلى اللَّه عليه وسلم بسنة، فنزلت على عثكلان بن عواكن الحميري، وكان شيخا كبيرا وكنت لا أزال إذا قدمت اليمن أنزل عليه فيسألني عن مكة وعن الكعبة وزمزم ويقول:
هل ظهر فيكم رجل له نبه له ذكر؟ هل خالف أحد منكم عليكم في دينكم؟ فأقول: لا. حتى قدمت القدمة التي بعث فيها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فوافيته قد ضعف وثقل سمعه فنزلت عليه فاجتمع عليه ولده وولد وولده فأخبروه بمكاني فشدت عصابة على عينيه وأسند فقعد فقال لي: انتسب يا أخا قريش. فقلت: أنا عبد الرحمن بن عوف بن عبد عدي بن الحارث بن زهرة. قال: حسبك يا أخا زهرة ألا أبشرك ببشارة هي خير لك من التجارة؟ قلت: بلى. قال:
أنبئك بالمعجبة وأبشرك بالمرغبة، إن اللَّه تعالى بعث في الشهر الأول من قومك نبيا ارتضاه صفيا وأنزل عليه كتابا وجعل له ثوابا، ينهى عن الأصنام ويدعو إلى الإسلام يأمر بالحق ويفعله وينهى عن الباطل ويبطله فقلت: ممن هو؟ قال: لا من الأزد ولا ثمالة، ولا من سرو ولا تبالة، هو من بني هاشم وأنتم أخواله، يا عبد الرحمن أحسن الوقعة وعجل الرجعة ثم امض وآزره وصدقه
__________
[ (1) ] (غزّة) بفتح أوله وثانية وتشديده: مدينة في أقصى الشام من ناحية مصر، بينها وبين عسقلان فرسخان أو أقل في غربيها، من عمل فلسطين، وفيها مات هاشم (2) [جد النبي] (3) .(2/190)
واحمل إليه هذه الأبيات:
أشهد باللَّه ذي المعالي ... وفالق الليل والصباح
إنك في السر من قريش ... يا ابن المفدى من الذباح
أرسلت تدعو إلى يقين ... يرشد للحق والفلاح
أشهد باللَّه رب موسى ... أنك أرسلت بالبطاح
فكن شفيعي إلى مليك ... يدعو البرايا إلى النجاح
قال عبد الرحمن: فحفظت الأبيات وأسرعت في تقضي حوائجي وانصرفت فقدمت مكة فلقيت أبا بكر فأخبرته الخبر فقال: هذا محمد بن عبد الله قد بعثه اللَّه رسول اللَّه إلى خلقه.
فأتيته في نفر في بيت خديجة فلما رآني ضحك وقال: أرى وجها خليقا أرجو خيرا ما وراءك؟ قلت: وما ذاك يا محمد؟ قال: حملت إلي وديعة أم أرسلك مرسل إلى برسالة هاتها.
فأخبرته وأسلمت فقال: أما إن أخي حمير من خواص المسلمين ثم
قال: «رب مؤمن بي ولم يرني ومصدق بي وما شاهدني أولئك إخواني حقا» .
خبر عروة بن مسعود الثقفي عن بعض الكهان والكواهن
ذكر أبو هاشم بن ظفر في «خبر البشر» أن عروة بن مسعود الثقفي رضي اللَّه تعالى عنه قال: خرجت في تجارة لنجران قبل أن يظهر أمر محمد فجلست تحت سرحة منتبذا من أصحابي فإذا جاريتان تسوقان بهما إلى السرحة، فجلستا وأنا مضطجع فتناومت، فقالت إحداهما للأخرى: من هذا فيما تظنين يا ابنة الأكرمين؟ قالت الأخرى: هذا عروة بن مسعود سيد غير مسود، جود وعصر منجود. قالت: صدقت فمن أين هو وإلى أين؟ فقالت الأخرى:
أتى من المعقل المنيف، طائف ثقيف ينوي نجران ذات المخاليف فقالت: صدقت فما هو مصيب في سفره هذا؟ فقالت: يسهل طريقة وينفق سوقه ويعلو فوقه. قالت: صدقت فما عاقبة أمره؟ قالت: يعيش زعيما ويتبع نبيا كريما ويتعاطى أمرا جسيما. فقالت: صدقت وما هذا النبي؟
فقالت: داع مجاب، له أمر عجاب، يأتيه من السماء كتاب يبهر الألباب ويقهر الأرباب. قال عروة: ثم أمسكتا فغشيني النعاس، فلما استيقظت لم أر لهما أثرا فلما بلغت نجران قال أسقفها- وكان لي صديقا-: يا أبا يعفور هذا حين خروج نبي من أهل حرمكم يهدي إلى الحق، وحق المسيح إنه لخير الأنبياء وآخرهم فإن ظهر فكن أول من يؤمن به.
تفسير الغريب
السرحة- بسين مفتوحة فراء ساكنة فحاء مهملات: الشجرة العظيمة.(2/191)
منتبذا: منفردا.
البهم- بضم الباء الموحدة: صغار الغنم.
العصر [ (1) ] بعين وصاد مهملتين مفتوحتين- الملجأ.
المنجود: المكروب.
هوى: قصد أرضا غورا وأصله أن يخر من علو إلى سفل.
نوى: قصد.
المنيف: المرتفع.
المخاليف: قرى تخلف القرية العظيمة في المرافق وتنوب منابها، واحدها مخلاف.
يعلو فوقه- بضم الفاء وسكون الواو وضم القاف- هذا مثل يضرب للظفر والعلو والجد وأصله فوق السهم.
زعيما: سيدا.
خبر عمرو بن معدي كرب عن بعض الكهان
ذكر ابن ظفر أيضاً أن أبا ثور عمرو بن معدي كرب رضي اللَّه تعالى عنه قال: واللَّه لقد علمت أن محمدا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث. فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: فزعنا إلى كاهن لنا في أمر نزل بنا، فقال الكاهن: أقسم بالسماء ذات الأبراج والأرض ذات الأدراج والريح ذات العجاج إن هذا لإمراج ولقاح ذي نتاج. قالوا: وما نتاجه؟ قال: ظهور نبي صادق بكتاب ناطق وحسام ذالق. قالوا: أين يظهر وإلام يدعو؟ قال: يظهر بصلاح ويدعو إلى فلاح ويعطل الأقداح، وينهى عن الراج والسفاح وعن كل أمر قباح. قالوا: ممن هو؟ قال من ولد الشيخ الأكرم حافر زمزم ومطعم الطير المحرّم والسباع الضرم. قالوا: وما اسمه؟ قال: محمد، وعزه سرمد، وخصمه مكمد.
صلاح: من أسماء مكة. وتقدم ضبطه.
خبر ابن الهيبان
روى البيهقي عن عاصم بن عمرو بن قتادة عن شيخ من بني قريظة قال: هل تدري عما كان إسلام أسيد وثعلبة ابني سعية وأسيد بن عبيد، نفر من هذل لم يكونوا من بني قريظة ولا النضير، كانوا فوق ذلك. فقلت: لا.
__________
[ (1) ] لسان العرب 4/ 2971.(2/192)
قال: فإنه قدم علينا رجل من الشام. من يهود يقال له ابن الهيبان فأقام عندنا، واللَّه ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بسنين، فكنا إذا قحطنا وقل علينا المطر نقول: يا ابن الهيبان اخرج فاستق لنا. فيقول: لا واللَّه حتى تقدموا أمام مخرجكم صدقة. فنقول: كم؟ فيقول: صاع من تمر أو مدين من شعير. فنخرجه ثم يخرج إلى ظاهر حرتنا ونحن معه فيستقي فو اللَّه ما يقوم من مجلسه حتى تمر السحاب. قد فعل ذلك غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة. فحضرته الوفاة فاجتمعنا إليه فقال: يا معشر يهود ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قالوا: أنت أعلم. قال: فإنه إنما أقدمني هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه هذه البلاد مهاجرة فأتبعه فلا تسبقن إليه إذا خرج يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وسبي النساء والذراري ممن يخالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. ثم مات. فلما كانت الليلة التي فتحت فيها قريظة قال أولئك الفتية- وكانوا شبابا أحداثا- يا معشر يهود واللَّه إنه الذي ذكر لكم ابن الهيبان. فقالوا: ما هو به. قالوا: بلى واللَّه إنها لصفته. ثم نزلوا فأسلموا وخلوا أموالهم وأولادهم وأهاليهم في حصن مع المشركين، فلما فتح رد ذلك عليهم.
تفسير الغريب
أسيد: وقع في الرواية بضم الهمزة وفتحها وصوّبه الدارقطني وعبد الغني.
سعية- بسين مفتوحة فعين ساكنة مهملتين فمثناة تحتية ويقال بالنون بدلها.
أتوكف: انتظر وأستشعر.
أظل زمانه: أشرف عليكم وقرب.
خبر الحبر من جرهم
روى ابن أبي خيثمة عن عكرمة أن نفرا من قريش مروا بجزيرة من جزائر البحر فإذا هم بشيخ من جرهم. فقال: ممن أنتم؟ قالوا: من أهل مكة من قريش: فقال الشيخ ذات يوم: لقد طلع الليلة نجم لقد بعث فيكم نبي. فنظروا فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث تلك الليلة.
خبر الحبر من أهل بصرى
روى ابن سعد والبيهقي عن طلحة بن عبيد الله رضي اللَّه تعالى عنه قال: حضرت سوق بصرى فإذا راهب في صومعته يقول: سلوا أهل هذا الموسم هل فيهم أحد من أهل الحرم؟ فقلت: نعم أنا. قال: هل ظهر أحمد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه وهو آخر الأنبياء مخرجه من الحرم ومهاجرة إلى نخل وحرّة وسباخ، فإياك أن تسبق إليه. قال طلحة: فوقع في قلبي ما قال. فقدمت مكة فقلت:
هل كان من حدث؟ قالوا: نعم محمد بن عبد الله الأمين تنبأ وقد تبعه ابن أبي قحافة. فخرجت سريعا حتى قدمت على أبي بكر فأخبرته بما قال الراهب، فخرج أبو بكر حتى دخل على(2/193)
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبره، فسر بذلك وأسلم طلحة فأخذ نوفل بن العدوية أبا بكر وطلحة فشدهما في حبل واحد فلذلك سميا القرينين.
خبر رئيس نجران
قال ابن هشام: وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتبا عندهم، فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يمشي فعثر، فقال ابنه: تعس الأبعد.
يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبوه: لا تفعل فإنه نبي واسمه في الوضائع- يعني الكتب. فلما مات لم يكن همه إلا أن شد فكسر الخواتم فوجد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فاسلم وحسن إسلامه، فحج وهو الذي يقول:
إليك تعدو قلقا وضينها ... معترضا في بطنها جنينها
مخالفا دين النصارى دينها
تفسير الغريب
نجران: بفتح النون وإسكان الجيم.
عثر: بفتح المثلثة، والعثرة: الزّلّة.
تعس: - بفتح العين وكسرها- ومعناه: عثر وانكب لوجهه.
الوضائع- بفتح الواو وبالضاد المعجمة وبعد الألف مثناة تحتية ثم عين مهملة: يعني الكتب. زاد في النهاية: التي تكتب فيها الحكمة.
الوضين [ (1) ]- بفتح الواو وكسر الضاد المعجمة وسكون المثناة التحتية: بطان: منسوج بعضه على بعض يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج، أراد أنها قد هزلت ودقت للسير عليها.
__________
[ (1) ] لسان العرب 6/ 4861.(2/194)
الباب الثالث في حدوث الرجوم وحجب الشياطين من استراق السمع عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم
قال اللَّه سبحانه وتعالى: قُلْ يا محمد للناس: أُوحِيَ أخبرت بالوحي إِلَيَّ أَنَّهُ الضمير للشأن اسْتَمَعَ لقرآني نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ جن نصيبين أو نينوى، وكانوا سبعة أو تسعة وذلك في صلاة الصبح ببطن نخلة موضع بين مكة والطائف وهم الذين ذكروا في قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف 29] والنفر ما بين الثلاثة والعشرة.
«فقالوا» لقومهم لما رجعوا إليهم: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً وصف بالمصدر على سبيل المبالغة أي هو عجب في نفسه لفصاحة لفظه وحسن مبانيه ودقة معانيه وغرابة أسلوبه وبلاغة مواعظه وكونه مباينا لسائر الكتب، والعجب ما خرج عن أشكاله ونظائره.
يَهْدِي يدعو إِلَى الرُّشْدِ الإيمان والصواب فَآمَنَّا بِهِ أي القرآن.
ولما كان الإيمان به متضمنا الإيمان باللَّه تعالى وبوحدانيته وبراءته من الشرك. قالوا:
وَلَنْ نُشْرِكَ بعد اليوم بِرَبِّنا أَحَداً. وَأَنَّهُ الضمير للشأن فيه وفي الموضعين بعده تَعالى تعاظم جَدُّ رَبِّنا جلاله وعظمته عما نسب إليه مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً زوجة وَلا وَلَداً. بيان ذلك كأنهم سمعوا من القرآن ما نبههم على خطأ ما اعتقدوه من الشرك واتخاذ الصاحبة والولد.
وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا جاهلنا إبليس أو مردة الجن. عَلَى اللَّهِ شَطَطاً غلوّ في الكذب بوصفه بالصاحبة والولد.
ثم أخذوا يعتذرون عن إتباعهم للسفيه في ذلك: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ مخففة أنه لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً بوصفه بذلك، حتى تبينا كذبهم بذلك.
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ يستعيذون. بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ حين ينزلون في أسفارهم بمكان مخوف فيقول كل رجل أعوذ بسيد هذا المكان من شر سفهائه.
فَزادُوهُمْ بعوذهم بهم رَهَقاً طغيانا، فقالوا: سدنا الجن والإنس وَأَنَّهُمْ أي الجن:
ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ يا إنس أو بالعكس. والآيتان من كلام الجن بعضهم لبعض، أو استئناف من كلام اللَّه تعالى ومن فتح أَنْ فيهما جعلهما من الموحى به أي أنه لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً بعد موته، أو رسولا.(2/195)
قال الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ طلبنا استراق السمع منها. واللمس مستعار من المس للطلب: فَوَجَدْناها صادفناها مُلِئَتْ حَرَساً حراسا اسم جمع كخدم:
شَدِيداً قويا وهم الملائكة الذين يمنعونهم عنها وَشُهُباً جمع شهاب وهو المضيء المتولد من النار: وَأَنَّا كُنَّا قبل مبعثه نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ خالية عن الحرس والشهب أو صالحة للرصد والاستماع لِلسَّمْعِ صلة نقعد أو صفة لمقاعد. وفسر النبي صلى الله عليه وسلم كيفية قعود الجن أنهم كانوا واحدا فوق واحد فمتى احترق الأعلى طلع الذي تحته مكانه وكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون فيها ويزيد الكاهن مائة كذبة. فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ ظرف للحال ويستمع ظرف مستقبل فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً أي أرصد له ليرمى به. هذا لمن استمع وأما السمع فقد انقطع كما قال اللَّه تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء 212] .
ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بعدم استراق السمع بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً خيرا.
قال ابن إسحاق رحمه اللَّه تعالى: فلما سمعت الجن القرآن عرفت أنها منعت من السمع قبل ذلك لئلا يشكل الوحي بشيء من خبر السماء فيلتبس على أهل الأرض ما جاءهم من اللَّه فيه لوقوع الحجة وقطع الشبهة.
فآمنوا وصدقوا ثم وَلَّوْا رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ مخوفين قومهم العذاب إن لم يؤمنوا وكانوا يهودا. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً هذا القرآن أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ الإسلام وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ أي طريقة يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ أي بعضها وهو ما يكون في خالص حق اللَّه، فإن المظالم لا تغفر بالإيمان. وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم.
وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ [الأحقاف: 32] أي لا يعجز اللَّه بالهرب منه فيفوته وَلَيْسَ لَهُ لمن لا يجب مِنْ دُونِهِ أي اللَّه أَوْلِياءُ أنصارا يدفعون عنه العذاب أُولئِكَ الذين لم يجيبوا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بين ظاهر.
لطيفة: مناسبة سورة الجن لما قبلها أنه لما حكي تمادي قوم نوح صلى الله عليه وسلم في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام، وكان أول رسول إلى أهل الأرض، كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر رسول إلى أهل الأرض، والعرب الذين هو منهم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء، وكان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، من القرآن هاديا إلى الرشد(2/196)
وقد سمعته العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم، أنزل اللَّه سبحانه وتعالى سورة الجن إثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطأوا عن الإيمان، إذ كانت الجن خيرا منهم وأقبل إلى الإيمان، هذا وهم من غير جنس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فعند ما سمعوا القران استعظموه وآمنوا به للوقت وعرفوا كونه معجزا، وهم مع ذلك مكذبون له ولمن جاء به بغيا وحسدا أن ينزل اللَّه من فضله على من يشاء من عباده.
وروى الإمام أحمد والبيهقي عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إن الشياطين كانوا يصعدون إلى السماء فيستمعون الكلمة من الوحي فيهبطون إلى الأرض فيزيدون فلم يزالوا كذلك حتى بعث اللَّه تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم فمنعوا تلك المقاعد، فذكروا ذلك لإبليس فقال:
لقد حدث في الأرض حدث، فبعثهم فوجدوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتلوا القرآن قالوا: هذا واللَّه الحدث. وإنهم ليرمون فإذا توارى النجم عنكم فقد أدركه لا يخطئ أبدا ولكنه لا يقتله، يحرق جنبه وجهة يده.
وروى ابن سعد والبيهقي وأبو نعيم من وجه آخر عن سعيد عنه قال: كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون منه الوحي فيخبرون به الكهنة فلما بعث اللَّه تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم دحروا منه، فقالت العرب حين لم تخبرهم الجن: هلك أهل السماء. فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيرا وصاحب البقر ينحر كل يوم بقرة وصاحب الغنم ينحر كل يوم شاة، وقال إبليس: لقد حدث في الأرض حدث فأتوني من تربة كل أرض. فأتوه بها فجعل يشمها فلما شم تربة مكة قال: من هاهنا الحدث فنصتوا فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد بعث.
وروى البيهقي من طريق العوفي عنه قال: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وكان يقعدون منها مقاعد للسمع، فلما بعث اللَّه تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم حدست السماء حرسا شديدا ورجمت الشياطين.
وروى محمد بن عمر الأسلمي وأبو نعيم عن ابن عمرو قال: لما كان اليوم الذي تنبأ فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منعت الشياطين من خبر السماء ورموا بالشهب فذكروا ذلك لإبليس فقال: بعث نبي عليكم بالأرض المقدسة. فذهبوا ثم رجعوا فقالوا: ليس بها أحد. فخرج إبليس يطلبه بمكة فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بحراء منحدرا معه جبريل فرجع إلى أصحابه فقال: قد بعث أحمد ومعه جبريل.
وروى أيضا عن أبي بن كعب رضي اللَّه تعالى عنه قال: لم يرم بنجم منذ رفع عيسى حتى تنبأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رمى بها، فلما رأت قريش أمرا لم تكن تراه فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون أرقاءهم يظنون أنه الفناء وفعلت ثقيف مثل ذلك، فبلغ عبد ياليل فقال: لا تعجلوا(2/197)
وانظروا فإن تكن نجوما تعرف فهو عند فناء من الناس، وإن كانت نجوما لا تعرف فهو عند أمر قد حدث. فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال: هذا عند ظهور نبي فما مكثوا إلا يسيرا حتى قدم الطائف أبو سفيان بن حرب فقال: ظهر محمد بن عبد الله يدعي أنه نبي مرسل.
فقال عبد ياليل: فعند ذلك رمي بها.
عبد ياليل- بمثناتين تحتيتين وكسر اللام الأولى، وذكره ابن إسحاق فيمن وفد على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وفد ثقيف.
وروى سعيد بن منصور والبيهقي عن الشعبي قال: كانت النجوم لا يرمى بها حتى بعث اللَّه تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم فرمي بها فسيبوا أنعامهم وأعتقوا رقيقهم، فقال عيد ياليل: انظروا.
وذكر مثله.
وروى ابن إسحاق وابن سعد عن يعقوب بن المغيرة بن الأخنس قال: إن أول العرب فزع لرمي النجوم ثقيف فأتوا عمرو بن أمية أحمد بني علاج فقالوا: ألم تر ما حدث؟ قال: بلى، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدى بها ويعرف بها أنواء الصيف والشتاء انتثرت فهي طي الدنيا وذهاب هذا الخلق، وإن كانت نجوما غيرها فأمر أراد اللَّه تعالى، ونبي يبعث في العرب. فقد تحدث بذلك عمرو بن أمية هذا.
وروى ابن سعد وأبو نعيم عن الزهري قال: كان الوحي يستمع فلما كان الإسلام منعوا وكانت امرأة من بني أسد يقال لها سعير لها تابع من الجن فلما رأى الوحي لا يستطاع أتاها فدخل في صدرها وجعل يصيح: وضع العناق ورفع الشقاق وجاء أمر لا يطاق، أحمد حرم الزنا.
وروى محمد بن عمر الأسلمي وأبو نعيم عن نافع بن جبير قال: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب.
وروي أيضاً عن عطاء عن ابن عباس وعن مجاهد. وأبو نعيم عن حجاج الصواف، عن ثابت عن أنس. وأبو الشيخ عن عثمان بن مطر عن ثابت عن أنس قال ابن عباس: كانت الشياطين يستمعون الوحي قالوا: فلما بعث اللَّه محمدا صلى الله عليه وسلم منعوا فشكوا ذلك إلى إبليس فقال: لقد حدث أمر. فرقى فوق أبي قبيس فرأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلى خلف المقام فقال:
أذهب فأكسر عنقه. فجاء وعنده جبريل فركضه برجله فألقاه بوادي الأردن.
وروى الخرائطي في الهواتف عن سعيد بن جبير أن رجلا من بني تميم حدث عن بدء إسلامه فقال: إني لأسير برمل عالج ذات ليلة إذ غلبني النوم ونمت فنزلت عن راحلتي وأنختها ونمت وقد تعوذت قبل نومي. فقلت أعوذ بعظيم هذا الوادي من الجن. فرأيت في منامي رجلا بيده حربة يريد أن يضعها في نحر ناقتي، فانتبهت فزعا فنظرت يمينا وشمالا فلم أر شيئاً فقلت:(2/198)
هذا حلم. ثم عدت فغفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت فدرت حول ناقتي فلم أر شيئاً وإذا ناقتي ترعد، ثم غفوت فرأيت مثل ذلك فانتبهت فرأيت ناقتي تضطرب والتفت فإذا أنا برجل شاب كالذي رأيته في منامي وبيده حربة ورجل شيخ ممسك بيده يرده عنها، فبينما هما يتنازعان إذ طلعت ثلاثة أثوار من الوحش فقال الشيخ للفتى: قم فخذ أيها شئت فداء لناقة جاري الإنسي.
فقام الفتى فأخذ منها ثورا وانصرف ثم التفت إلي الشيخ وقال: يا فتى إذا نزلت واديا من الأودية فخفت هوله فقل: أعوذ باللَّه رب محمد من هول هذا الوادي. ولا تعذ بأحد من الجن فقد بطل أمرها. فقلت له: ومن محمد؟ قال: نبي عربي لا شرقي ولا غربي، بعث يوم الاثنين.
قلت: أين مسكنه؟ قال: يثرب. ذات النخل. فركبت راحلتي حين برق لي الصبح وجديت السير حتى أتيت المدينة فرآني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فحدثني قبل أن أذكر له شيئاً ودعاني إلى الإسلام فأسلمت.
وروى مسلم وابن إسحاق عن ابن عباس عن نفر من الأنصار، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لهم: «ما كنتم تقولون في هذا النجم الذي يرمى به في الجاهلية؟» قالوا: يا نبي اللَّه كنا نقول حين رأيناها يرمى بها: مات ملك، ملك ملك، ولد مولود مات مولود. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
«ليس ذلك كذلك، ولكن اللَّه سبحانه وتعالى كان إذا قضى في خلقه أمرا سمعه [ (1) ] حملة العرش فسبح من تحتهم لتسبيحهم، فسبح من تحت ذلك، فلا يزال التسبيح يهبط حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيسبحوا. ثم يقول بعضهم لبعض: مم سبحتم؟ فيقولون: سبح من فوقنا فسبحنا لتسبيحهم فيقولون: ألا تسألون من فوقكم مم سبحوا؟ فيقولون مثل ذلك حتى ينتهوا إلى حملة العرش فيقال لهم: مم سبحتم؟ فيقولون: قضى اللَّه تعالى في خلقه كذا وكذا للأمر الذي كان فيهبط به الخبر من سماء إلى سماء حتى ينتهي إلى السماء الدنيا فيتحدثون به، فتسرقه فتسترقه الشياطين بالسمع على توهم واختلاف، ثم يأتون به الكهان فيحدثونهم فيخطئون بعضا ثم إن اللَّه تعالى حجب الشياطين بهذه النجوم التي يقذفون بها فانقطعت الكهانة اليوم فلا كهانة» .
وروى عن لهيب بن مالك اللهبي قال: حضرت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: بأبي أنت وأمي نحن أول من عرف حراسة السماء والشياطين ومنهم من استراق السمع عند قذف النجوم، وذلك أنا اجتمعنا إلى كاهن يقال له خطر بن مالك، وكان شيخا كبيرا قد أتت عليه مائتا سنة وثمانون سنة فقلنا: يا خطر هل عندك علم من علم هذه النجوم التي يرمى بها فإنا قد فزعنا لها وخفنا سوء عاقبتها. فقال: ائتوني بسحر، أخبركم الخبر، الخير أم الضرر والأمن أم الحذر.
__________
[ (1) ] في أيسمعه.(2/199)
قال: فانصرفنا عنه يومنا، فلما كان من غد في وجه السحر أتيناه فإذا هو قائم على قدميه شاخص ببصره إلى السماء، فناديناه: يا خطر يا خطر. فأومأ إلينا أن أمسكوا فأمسكنا، فانقض نجم عظيم من السماء، فصرخ الكاهن رافعا صوته.
أصابه أصابه ... خامره عقابه
عاجله عذابه ... أحرقه شهابه
زايله جوابه
يا ويحه ما حاله ... بلبله بلباله
عاوده خباله ... تقطعت حباله
وغيرت أحواله
ثم أمسك طويلا وقال:
يا معشر بني قحطان ... أخبركم بالحق والعيان
أقسمت بالكعبة ذات الأركان ... [والبلد] المؤتمن السدان
لقد منع السمع عناة الجان ... بثاقب بكف ذي سلطان
من أجل مبعوث عظيم الشان ... يبعث بالتنزيل والقرآن
وبالهدى وفاصل الفرقان ... تبطل به عبادة الأوثان
فقلنا: يا خطر ما ترى لقومك؟ فقال:
أرى لقومي ما أرى لنفسي ... أن يتبعوا خير بني الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس ... يبعث في مكة دار الحمس
بمحكم التنزيل غير اللبس
[ (1) ] فقلنا: يا خطر وممن هو؟ فقال: والحياة والعيش، إنه لمن قريش، ما في حكمه طيش، ولا في خلقه هيش، يكون في جيش وأي جيش، من آل قحطان وآل أيش.
فقلنا: بين لنا من أي قريش هو؟
فقال: والبيت ذي الدعائم، إنه لمن نجل هاشم، من معشر أكارم، يبعث بالملاحم، وقتل كل ظالم.
__________
[ (1) ] الأبيات في الروض الأنف 1/ 240.(2/200)
ثم قال: هذا هو البيان أخبرني به رئيس الجان، ثم قال: اللَّه أكبر جاء الحق وظهر.
وانقطع عن الجن الخبر، ثم سكت وأغمى عليه فما أفاق إلا بعد ثالثة فقال: لا إله إلا اللَّه.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «سبحان اللَّه لقد نطق عن مثل نبوة وإنه يبعث يوم القيامة أمة واحدة» .
رواه أبو جعفر العقيلي في كتاب الصحابة.
والآثار في هذا كثيرة وفيما ذكر كفاية.
تنبيهات
الأول: قال القرطبي: اختلف في الشهاب هل يقتل أم لا؟ فقال ابن عباس: إنه لا يخطئ ولكن يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل.
وقال الحسن وطائفة: يقتل.
فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقائهم السمع إلى الجن قولان.
أحدهما: أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم. فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء وبذلك انقطعت الكهانة.
والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوا من السمع إلى غيرهم من الجن ولذلك ما يعودون إلى استراقه ولو لم يصل لانقطع الاستراق وانقطع الإحراق [ (1) ] . ذكره الماوردي. قال القرطبي: والأول أصح.
قلت:
روى سعيد بن منصور والبخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إذا قضى اللَّه تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الذي قال الحق وهو العليّ الكبير. فيسمعها مسترقوا السمع ومسترقوا السمع هكذا واحدا فوق آخر- وصف سفيان بيده وفرج بين أصابعه نصبها بعضها فوق بعض- فيسمع الكلمةُ فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه
__________
[ (1) ] في أ: الاحتراق.(2/201)
فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا. فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
انتهى [ (1) ] .
ففي قوله «فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه» إلى آخره، ما يجمع بين القولين السابقين.
وأما قول السهيلي رحمه اللَّه تعالى: لولا أن الشهاب قد يخطئ الشيطان لم يتعرض له، أي الاستماع، مرة أخرى. فجوابه- كما أشار إليه الحافظ في الفتح- أنه يجوز أن يقع التعرض مع تحقق الإصابة لرجاء اختلاف الكلمة وإلقائها قبل إصابة الشهاب ثم لا يبالي المختطف بالإصابة لما طبع عليه من الشر.
وقال أبو عثمان الجاحظ [ (2) ] : فإن قيل: كيف تعرض الجن لإحراق أنفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوما لهم؟ فالجواب: أن اللَّه تعالى ينسيهم ذلك حتى تعظم المحنة.
الثاني: قال بعضهم: ظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أن الرجم بالنجوم نفسها. وقال القرطبي: ليست الشهب التي يرجم بها من الكواكب الثوابت يدل على ذلك رؤية حركاتها، والثابتة لا تجرى ولا ترى حركاتها لبعدها. وقال في موضع آخر: قال العلماء نحن نرى انقضاض الكواكب فيجوز أن يكون ذلك كما نرى ثم يصير نارا إذا أدرك الشيطان، ويجوز أن يقال يرمون بشعلة من نار من الهواء فيخيل إلينا أنه نجم يرى.
وقال في موضع آخر: الكواكب الراجمة هي التي يراها الناس تنقض. قال النقاش ومكي: وليست بالكواكب الجارية في السماء لأن تلك لا ترى حركتها، وهذا الراجمة ترى حركتها لأنها قريبة منا.
وقال الإمام أبو عبد الله الحليمي في منهاجه: ليس فيما نتلوه من كلام ربنا عز وجل أن الشيطان يرمى بالكواكب أو النجوم. ثم أطال الكلام في تقرير أن الرمي إنما هو بالشهب وهي شعل النار، وجعل المصابيح كناية عن الشعل لا النجوم.
وقال الإمام شهاب الدين أبو شامة رحمه اللَّه تعالى: الشهاب في اللغة اسم للشعلة الساطعة من النار ثم أطلق على النجم المرصد لرجم الشياطين المسترقين للسمع لأنها لما عينت لرجم الشياطين وهي الشعل من النار، أطلق عليها لفظ الشهب لهذه الملابسة والمجاورة مجازا.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 100 والترمذي (3223) وابن ماجة (194) .
[ (2) ] في أالحافظ.(2/202)
وهذا ظاهر كلام الشقراطيسي فإنه لما جعل ثواقب الشهب رامية بالشعل دل على أن الشهب عنده هي النجوم المرصدة لذلك. ثم قال: والمصابيح هي النجوم التي جعلها اللَّه تعالى راجمة للشياطين بالشهب، لأن النجوم تنقض بأنفسها خلف الشياطين. ثم نقل كلام الحليميّ ثم قال: لا خفاء أنه قد جاء الرمي بالنجوم مصرحا في الأحاديث وفي شعر العرب القديم. ففي صحيح مسلم عن ابن عباس قال: أخبرني رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار قالوا: بينما هم جلوس مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رمي بنجم فاستنار [ (1) ] . الحديث.
وذكر عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن الزهري أنه سئل عن هذا الرمي بالنجوم أكان في الجاهلية قال: نعم ولكنه إذا جاء الإسلام غلّظ وشدّد.
ثم ذكر أبو شامة شاهدين من كلام العرب القدماء ثم قال: ففي الجمع بين هذين وما تقدم وجهان: أحدهما أن هذا جاء على حذف المضاف للعلم به وتقديره: رمي بنار نجم وانقض انقضاض نار الكواكب وهي الشعل المعبر عنها بالشهب. فقد أخبر اللَّه تعالى في كتابه أن الذي يتبع مسترق السمع شِهابٌ مُبِينٌ [الحجر 18] وقال في موضع آخر:
شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات 10] والشهاب عبارة عن شعلة نار وبها يحصل إحراق الجنِّي.
الوجه الثاني: أن يكونوا أطلقوا لفظ النجوم على الشهب تجوزا، كما أطلقوا لفظ الشهب على النجوم لملابسة كل واحد منهما الآخر على ما قدرناه من أن النجوم ترمي الجن بشعل النار.
وقال شيخه الشيخ عز الدين بن عبد السلام في أماليه: إن الذي يرجم به شهب تخلق عند الرجم. ولذا قال أبو علي في قوله تعالى وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك 5] الهاء عائدة على السماء، التقدير: وجعلنا شهبها. على حذف المضاف، فصار الضمير للمضاف إليه. انتهى.
الثالث: قال الإمام أبو عبد اللَّه الحليمي رحمه اللَّه تعالى: فإن قيل هذا القذف كان لأجل النبوة، فلم دام بعد النبي صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: أنه دام بدوام النبوة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ببطلان الكهانة، فلو لم تحرس السماء بعد موته فعادت الجن إلى تسمعها وعادت الكهانة، ولا يجوز ذلك بعد أن بطل لأن قطع الحراسة عن السماء إذا وقع لأجل النبوة فعادت الكهانة دخلت الشبهة في ضعفاء المسلمين ولم يؤمن أن يظنوا أن الكهانة إنما عادت لتناهي النبوة، فصح أن الحكمة تقتضي دوام الحراسة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 4/ 1750 (124- 2229) .(2/203)
وقال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: فإن قيل: إذا كان الرمي بها غلظ وشدد بسبب نزول الوحي، فهلا انقطع بانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نشاهدها الآن يرمي بها؟.
فالجواب: يؤخذ من
حديث الزهري المتقدم، ففيه عند مسلم قالوا: كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فإنها لا ترمي لموت أحد ولا حياته، ولكن ربنا إذا قضى أمرا أخبر أهل السموات بعضهم بعضا حتى يبلغ الخبر السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيقذفون به إلى أوليائهم
[ (1) ] .
فيؤخذ من ذلك أن سبب التغليظ والحفظ لم ينقطع لما يتجدد من الحوادث التي تلقى بأمره إلى الملائكة، وأن الشياطين مع شدة التغليظ عليهم في ذلك بعد المبعث لم ينقطع طمعهم من استراق السمع في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بما بعده؟ وقد قال عمر لغيلان لما طلق نساءه: إني أحسب أن الشياطين فيما تسترق من السمع سمعت بأنك ستموت فألقت إليك ذلك الحديث. رواه عبد الرزاق وغيره. فهذا ظاهر في أن استراقهم للسمع استمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يقصدون استماع الشيء مما يحدث فلا يصلون إلى ذلك إلا أن يخطف أحدهم بخفة حركته خطفة فيتبعه الشهاب فإن [ (2) ] أصابه قبل أن يلقيها لأصحابه مات وإلا سمعوها وتداولوها.
الرابع: هل كانت الشياطين تقذف بالشهب قبل المبعث أم حدث القذف بها بعده؟.
اختلف العلماء رضي اللَّه تعالى عنهم في ذلك على قولين:
نقل أبو عبد الله القرطبي رحمه اللَّه تعالى في تفسيره عن الأكثرين الأول. وبه جزم السهيلي والشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه اللَّه تعالى في أماليه وتلميذه الشيخ أبو شامة في شرح الشقراطيسية وغيرهم وصححه غير واحد واحتجوا بقوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ [الصافات 6: 8] وبقوله تبارك وتعالى: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ [الحجر 17، 18] .
قال الزركشي في شرح البردة: فهذه الآيات تدل على وجود الرجم قبل المبعث، لأنها خلقت لذلك. وكذا قوله تعالى وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً [الجن 8] وهذا إخبار عن الجن أنه كان الرجم موجودا لكنه ليس يستأصل وأنه زيد في حرس السماء حتى امتلأت.
__________
[ (1) ] ذكره المتقي الهندي في الكنز (17674) . وابن الجوزي في زاد المسير 4/ 389.
[ (2) ] في أفإذا.(2/204)
وقال الإمام العلامة شمس الدين الهروي في شرح مسلم: وفي هذه الآية دليل على أن الحادث هو الملأ والكثرة، وأنهم كانوا في الأول يقعدون من السماء مقاعد لاستراق السمع ويجدون بعض المقاعد غير خالية من الحرس والشهب، والآن ملئت المقاعد كلها ولم يبق مقعد من المقاعد خاليا. وأيضاً فإن اللَّه سبحانه وتعالى ذكر فائدتين في خلق الكواكب في قوله: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك 5] وفي قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ.
وروى عبد الرزاق في تفسيره عن معمر قال: قلت للزهري: أو كان يرمى به- أي النجم- في الجاهلية؟ قال نعم. قلت: يقول اللَّه عز وجل وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي: وهذا يوافق ظاهر القرآن لأنه خبرا عن الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً: وأخبرت الجن أنه زيد في حراسة السماء وشهبها حتى امتلأت منها ومنهم. وفي ذلك دليل على أنه كان قبل ذلك فيها حرّاس وشهب معدّة معهم.
واستدلوا أيضاً بما
رواه مسلم عن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار، فقال صلى الله عليه وسلم: «ما كنتم تقولون لمثل هذا في الجاهلية إذا رأيتموه؟»
وتقدم بتمامه.
واستدلوا أيضاً بما جاء في أشعار العرب القديمة من ذكر ذلك، كأوس بن حجر وعوف بن الجذع وبشر بن أبي خازم.
ورجح جماعة الثاني وهو الذي صح عن ابن عباس وبه قال أبي بن كعب والشعبي ونافع بن جبير وصححه أبو عثمان الجاحظ ومال إليه أبن الجوزي وغيره، واستدلوا بأن ذلك ظاهر الأخبار لإنكار الشياطين للرمي وطلبهم بسببه ولهذا كانت الكهانة فاشية في العرب ومرجوعاً إليها حكمهم، حتى قطع سببها بأن حيل بين الشياطين وبين استراق السمع.
وجمع المحققون بين الأخبار فقال القرطبي: يجمع بأنها لم يكن يرمى بها قبل المبعث رميا يقطع الشياطين عن استراق السمع، ولكن ترمى تارة ولا ترمى أخرى، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب، ولا ترمى من جميع الجوانب. ولعل الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ دُحُوراً.
وقال في موضع آخر: لا يبعد أن يقال: انقضاض الكواكب كان في قديم الزمان، ولكنه لم يكن رجوماً للشياطين ثم صار رجوماً حين ولد النبي صلى الله عليه وسلم انتهى وفي هذا نظر.(2/205)
وقال الحافظ: قد وجدت عن وهب بن منبه ما يرفع الإشكال ويجمع بين مختلف الأخبار. قال: كان إبليس يصعد إلى السموات كلهن يتقلب فيهن كيف شاء لا يمنع منذ أخرج آدم إلى أن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام فحجب من أربع سموات، فلما بعث نبينا صلى الله عليه وسلم حجب من ثلاث، فصار يسترق السمع هو وجنوده ويقذفون بالكواكب.
ويؤيده ما روى الطبري من طريق العوفي عن ابن عباس قال: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست حرسا شديدا ورجمت الشياطين فأنكروا ذلك.
ومن طريق السدي قال: إن السماء لم تكن تحرس إلا أن يكون في الأرض نبي أو دين ظاهر، وكانت الشياطين قد اتخذت مقاعد يستمعون فيها ما يحدث، فلما بعث محمد رجموا.
وقال الإمام زين الدين بن المنير رحمه اللَّه تعالى: ظاهر الخبر أن الشهب كانت يرمى بها، وليس كذلك لما دل عليه حديث مسلم. وأما قوله تعالى: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً فمعناه أن الشهب كانت يرمى بها فتصيب تارة ولا تصيب أخرى وبعد البعثة أصابتهم إصابة مستمرة فوصفوها لذلك بالرصد، فإن الذي يرصد الشيء لا يخطئه، فيكون المتجدد دوام الإصابة لا أصلها.
الخامس: في بيان غريب ما سبق:
الشهاب: تقدم بيانه.
علاء: بكسر العين المهملة والجيم. أنكرها: يروى بالنون وبالباء الموحدة، فمن رواه بالنون فمعناه: أدهاها رأيا من النكر بفتح النون وهو الدهاء. ومن رواه بالباء فمعناه: أشدهم ابتداء لرأي لم يسبق إليه، من البكور في الشيء.
معالم النجوم: يعني النجوم المشهورة.
الأنواء: جمع نوء وهو بفتح النون مهموز الآخر، وهو سقوط نجم من المنازل في المغرب من الفجر وطلوع رقيبه من المشرق يقابله من ساعته في كل ثلاثة عشر يوما. قال أبو عبيد: وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة ما خلا الجبهة فإن لها أربعة عشر يوما. قال أبو عبيد: ولم يسمع في الأنواء أنه السقوط إلا في هذا الموضع، وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها. وقال الأصمعي: إلى الطالع منها في سلطانه، فيقولون مطرنا بنوء كذا ونهى الشارع عن قول هذا اللفظ.
خطر: بخاء معجمة فطاء مهملة.(2/206)
الباب الرابع في بعض ما سمع من الهواتف وتنكس الأصنام
روى ابن سعد عن تميم الدري قال: كنت بالشام حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت إلى بعض حاجتي فأدركني الليل فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي فلما أخذت مضجعي إذا مناد يناديني لا أراه: عذ باللَّه فإن الجن لا تجير أحدا على اللَّه. فقلت: أيم تقول؟ فقال: قد خرج رسول الأميين رسول اللَّه وصلينا خلفه بالحجون وأسلمنا واتبعناه، وذهب كيد الجن ورميت بالشهب فانطلق إلى محمد وأسلم.
فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهبا وأخبرته الخبر فقال: صدق، نجده يخرج من الحرم ومهاجره الحرم، وهو خير الأنبياء فلا تسبق إليه.
قال تميم: فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
تفسير الغريب
مضجعي: بفتح الجيم، وحكي الكسر.
أيم: قال في النور: وجدته بخط ابن قرقول مضبوطا بفتح الباء وإسكان الميم وأظنه وهما، والصواب بفتح الهمزة وتشديد الياء وإسكانها وهما لغتان. والميم مفتوحة. قال في النهاية: أصله أي ما. أي: أي شيء هو، فخفف الياء وحذف ألف ما.
الحجون: بفتح الحاء وضم الجيم: جبل بمكة.
دير أيوب: قرية بحوران.
تسبق: بضم أوله وفتح الموحدة مبني للمفعول.
الشخوص: بضم الشين والخاء المعجمتين فواو ساكنة فصاد مهملة: يقال شخص من البلد شخوصا إذا ذهب. غيره: أزعجه.
وروى البخاري عن عبد الله بن عمر مختصرا، وابن إسحاق عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان، وابن الجوزي عن محمد بن كعب القرظي، وأبو يعلى، والبيهقي والخرائطي عن سواد بن قارب مطولا قال ابن عمر ومحمد: إن عمر بينما هو جالس في الناس في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من العرب، قال الخشني: وهو سواد بن قارب.
انتهى. داخل المسجد يريد عمر بن الخطاب، فلما نظر عمر إليه قال: إن الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد أو لقد كان كاهنا في الجاهلية. فسلم الرجل ثم جلس فقال له عمر: هل أسلمت؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فهل كنت كاهنا في الجاهلية؟ فقال له الرجل: سبحان اللَّه يا(2/207)
أمير المؤمنين! لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ما وليت.
فقال عمر: اللَّهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا، نعبد الأصنام والأوثان حتى أكرمنا اللَّه تعالى برسوله وبالإسلام. قال: نعم يا أمير المؤمنين كنت كاهنا في الجاهلية.
قال: فأخبرني ما جاءك به صاحبك.
قال: جاءني قبيل الإسلام بشهر أو شيعه. انتهى.
وقال سواد بن قارب [ (1) ] : بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب أتاك رسول من لؤي بن غالب، يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته.
فرفعت رأسي وجلست فأدبر وهو يقول:
عجبت للجن وتطلابها ... وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدي ... ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأدبارها
[ (2) ] قال: فقلت دعني أنام فإني أمسيت ناعسا.
قال: فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وأخبارها ... ورحلها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ليس ذوو الشر كأخيارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ما مؤمنو الجنّ ككفّارها
[ (3) ] .
__________
[ (1) ] سواد بن قارب الدوسي أو السدوسي. قال البخاري وأبو حاتم والبرزنجي والدارقطني. له صحبة. [الإصابة 3/ 148] .
[ (2) ] الأبيات في الروض الأنف 1/ 243.
[ (3) ] الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام 1/ 243 وتروى:
عجبت للجن وإبلاسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوى إلى مكانة تبغي الهدي ... ما مؤمنو الجن كأنجاسها
وتروى في الروض الأنف 1/ 243 وتروى:
عجبت للجن وإبلاسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكانة تبغي الهدي ... ما طاهر الجن كأنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس ذنابا الطير من رأسها(2/208)
قال: قلت دعني أنام فإني أمسيت ناعسا. فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتجساسها ... وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدي ... ما خير الجن كأنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... وارم بعينيك إلى رأسها
[ (1) ] فقمت وقلت: وقد امتحن اللَّه قلبي. فرحلت ناقتي ثم أتيت المدينة فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله فدنوت منه فقلت: اسمع مقالتي يا رسول اللَّه. قال: هات.
فأنشأت أقول:
أتاني رئيي بعد هدء ورقدة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة ... أتاك رسول اللَّه من لؤي بن غالب
فشمرت عن ذيل الإزار ووسطت ... بي الذعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن اللَّه لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى اللَّه يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا ... وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعا حين لا ذو قرابة ... بمغن قتيلا عن سواد بن قارب
[ (2) ] قال: ففرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رئي الفرح في وجوههم.
قال عبد الله: فقال عمر عند ذلك يحدث الناس: واللَّه إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش يقال لهم آل ذريح قد ذبح لهم رجل من العرب عجلا فنحن ننتظر قسمه ليقسم لنا منه إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت قط أنفذ منه وذلك قبل الإسلام بشهر أو شيعه وهو يقول يا آل ذريح. وفي لفظ. يا جلبح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول.
لا إله إلا اللَّه.
__________
[ (1) ] الأبيات في الروض الأنف 1/ 243.
عجبت للحين وتنفارها ... وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى كلمة تبغي الهوى ... ما مؤمنو الجن ككفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس قداماها كأدبارها
[ (2) ] الأبيات في الروض الأنف 1/ 244.(2/209)
وروى هشام بن محمد بن السائب عن عدي بن حاتم [ (1) ] قال: كان لي عسيف من كلب يقال له حابس بن دغنة فبينا أنا ذات يوم إذا به مروع الفؤاد فقال: دونك إبلك. فقلت: ما هاجك؟ فقال بينا أنا بالوادي إذا أنا بشيخ من شعب جبل تجاهي كأن رأسه رخمة فانحدر عما تزل عنه العقاب وهو مترسل غير منزعج حتى استقرت قدماه في الحضيض وأنا أعظم ما أرى فقال.
يا حابس بن دغنة يا حابس ... لا تعرضن لفعلك الوساوس
هذا سنا النور بكف قابس ... فاجنح إلى النور ولا تعابس
قال: ثم غاب فروحت إبلي وسرحتها إلى غير ذلك الوادي، ثم اضطجعت فإذا راكب قد ركضني فاستيقظت فإذا هو صاحبي وهو يقول:
يا حابس اسمع ما أقول ترشد ... ليس ضلول حائز كمهتد
لا تتركن نهج الطريق الأقصد ... قد نسخ الدين بدين أحمد
قال: فأغمي علي ثم أفقت.
وروى ابن دريد في الأخبار المنثورة عن ابن الكلبي قال: كان خنافر بن التوأم كاهنا، فنزل واديا مخصبا وكان له رئي في الجاهلية ففقده في الإسلام قال: فبينا أنا ليلة في الوادي إذ هوى علي هوي العقاب قال خنافر: فقلت: شصار؟ قال: اسمع أقل. قلت: قل أسمع. قال: عه تغنم لكل ذي أمد نهاية، وكل ذي ابتداء إلى غاية. قلت: أجل. قال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، وقد انتسخت النحل ورجعت إلى حقائقها الملل، إني آنست بالشام نفرا من آل العوام، حكاما على الحكام، يرددون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف. ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلعت، فقلت: بم تهينمون، وإلام تعتزون، فقالوا خطاب كبار. جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، لأصدق الأخبار، وأسلك واضح الأخيار، تنج من اوار النار.
فقلت: وما هذا الكلام؟ قالوا: فرقان بين الكفر والإيمان. أتى به رسول الله من مضر، ثم من أهل المدر، ابتعث فظهر. فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر.
__________
[ (1) ] عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعيد بن حشرج بن امرئ القيس بن عدي الطّائي الجواد ابن الجواد. وفد في شعبان سنة سبع، قيل: لما وفد نزع له النبي صلى الله عليه وسلم وسادة كانت تحته فألقاها له حتى جلس عليها. ولما ارتدّت العرب ثبت عدي وقومه على الإسلام، وشهد فتح المدائن، وشهد مع على حروبه. وكان أول صدقة قدم بها على أبي بكر صدقة عدي وقومه. وفقئت عينه يوم الجمل. عاش مائة وعشرين سنة. قال ابن سعد: توفي سنة ثمان وستين. [انظر الخلاصة 2/ 223/ 224.](2/210)
قلت: ومن هذا المبعوث بالآي الكبر. قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشبر، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر وأقبلت إليك أبادر فجانب كل نجس كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق. قال: فاحتملت حتى أتيت معاذ بن جبل بصنعاء فبايعته على الإسلام وفى ذلك أقول:
ألم تر أن اللَّه عاد بفضله ... وأنقذ من لفح الجحيم خنافرا
دعاني صار للتي لو دفعتها ... لأصليت جمراً من لظى الهول جائرا
وروى محمد بن عمر الأسلمي وأبو نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم، فبينما هم عند صنمهم إذ سمعوا هاتفا يقول:
يا أيها الناس ذوو الأجسام ... ومسندو الحكم إلى الأصنام
أكلكم أوره كالنعام ... ألا ترون ما أرى أمامي
من ساطع يجلو دجى الظلام ... ذاك نبي سيد الأنام
أعدل في حكم من الأحكام ... يصدع بالنور وبالإسلام
من هاشم في ذروة السنام ... مستعلن بالبلد الحرام
جاء بهدم الكفر بالإسلام ... أكرمه الرحمان من إمام
قال أبو هريرة: فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا، فلم يمض بهم ثلاث حتى فجأهم خبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قد ظهر بمكة.
وروى ابن شاهين عن أبي خيثمة عبد الرحمن بن أبي سبرة قال: كان لسعد العشيرة صنم يقال له قراض يعظمونه وكان سادنه رجلا منهم يقال له ابن وقشة قال عبد الرحمن فحدثني ذباب بن الحارث قال: كان لابن وقشة رئي من الجن يخبر بما يكون فأتاه ذات ليلة فأخبره بشيء فنظر إلي فقال: يا ذباب اسمع العجب العجاب، بعث محمد بالكتاب يدعو بمكة فلا يجاب. فقلت له ما هذا؟ قال: لا أدري كذا قيل لي. فلم يكن إلا قليل حتى سمعنا بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وثرت إلى الصنم فكسرته ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وقلت في ذلك:
تبعت رسول اللَّه إذ جاء بالهدى ... وخلفت قراضا بدار هوان
ولما رأيت اللَّه أظهر دينه ... أجبت رسول اللَّه حين دعاني
وروى الخرائطي عن سفيان الهذلي قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام، فلما كان بين(2/211)
الزرقاء ومعان وقد عرسنا إذا بفارس يقول وهو بين السماء والأرض: أيها النيام هبوا فليس هذا بحين رقاد، وقد خرج أحمد وطردت الجن كل مطرد. ففزعنا ونحن رفقة حزاورة كلهم قد سمع بهذا، فرجعنا إلى أهلنا فإذا هم يذكرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الطبراني وأبو نعيم والبيهقي عن عبد الله العماني أن مازنا الطائي كان بأرض عمان، وكان يسدن الأصنام لأهله، وكان له صنم يقال له بادر. قال مازن: فعترت ذات يوم عتيرة، وهي الذبيحة، فسمعت صوتا من الصنم يقول: يا مازن أقبل إلي أقبل، تسمع ما لا يجهل، هذا نبي مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كي تعدل، عن حر نار تشعل، وقودها بالجندل.
قال مازن: فقلت واللَّه إن هذا لعجب. ثم عترت بعد أيام عتيرة أخرى فسمعت صوتا أبين من الأول وهو يقول:
يا مازن اسمع تسر، ... ظهر خير وبطن شر
بعث نبي من مضر، ... بدين اللَّه الكبر
فدع نحيتا من حجر، ... تسلم من حر سقر
قال مازن: فقلت واللَّه إن لهذا لعجب وإنه لخير يراد بي. وقدم علينا رجل من الحجاز فقلت: ما الخبر وراءك؟ قال: خرج رجل بتهامة يقول لمن أتاه: أجيبوا داعي اللَّه يقال له أحمد.
فقلت: هذا واللَّه نبأ ما سمعت. فرحلت حتى أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشرح لي الإسلام فأسلمت وقلت:
كسرت بادر أجذاذا أو كان لنا ... ربا نطيف به ضلا بتضلال
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا ... ولم يكن دينه مني على بال
يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها ... أني لمن قال ربي بادر قالي
قال مازن: فقلت: يا رسول اللَّه إني امرؤ مولع بالشراب والطرب وشرب الخمر والهلوك من النساء وألحت علينا السنون فأذهبن الأموال وأهزلن الذراري والرجال وليس لي ولد، فادع اللَّه أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحيا ويهب لي ولدا. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
«اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وأته بالحيا، وهب له ولدا
[ (1) ] . قال مازن:
فأذهب اللَّه عني كل ما كنت أجد، وأخصب عمان وتزوجت أربع حرائر ووهب لي حيان بن
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل 1/ 33 والبيهقي في دلائل النبوة 12/ 36 وذكره الهيثمي في الجمع 8/ 248.(2/212)
مازن وأنشأت أقول:
إليك رسول اللَّه سقت مطيتي ... تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لي يا خير من وطئ الثرى ... فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في اللَّه دينهم ... فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي
وكنت امرأ بالزغب والخمر مولعا ... شبابي حتى آذن الجسم بالنهج
فبدلني بالخمر خوفا وخشية ... وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي
فأصبحت همي في الجهاد ونيتي ... فلله ما صومي ولله ما حجي
وروى ابن سعد وأبو نعيم عن نفيل بن عمرو الهذلي قال: ذبحت ذبيحة على صنم فسمعت من جوفه: العجب كل العجب، خرج نبي من بني عبد المطلب، يحرم الزنا ويحرم الذبح للأصنام، وحرست السماء ورمينا بالشهب. فتفرقنا فقدمنا مكة فلم نجد من يخبرنا بخروج محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لقينا أبا بكر الصديق فقلنا يا أبا بكر خرج بمكة أحد يدعو إلى اللَّه تعالى يقال له أحمد؟ قال: وما ذاك؟ فأخبرته الخبر، قال: نعم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وهو رسول اللَّه.
وروى أبو سعد النيسابوري في الشرف عن جندل بن نضلة أنه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: كان لي صاحب من الجن فأتاني فدهمني وقال:
هب فقد لاح سراج الدين ... بصادق مهذب أمين
فارحل على ناجية أمون ... تمشي على الصحصح والحزون
فانتبهت مذعورا فقلت: ماذا؟ فقال: وساطح الأرض، وفارض الفرض لقد بعث محمد في الطول والعرض، نشأ في الحرمات العظام، وهاجر إلى طيبة الأمينة، فسرت وإذا بهاتف يقول:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... نحو الرسول لقد وفقت للرشد
وروى البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول اللَّه خرجت في الجاهلية أطلب بعيرا لي شرد فهتف لي هاتف في الصبح يقول:
يا أيها الراقد في الليل الأجم ... قد بعث اللَّه نبيا في الحرم
من هاشم أهل الوفاء والكرم ... يجلو دجنات الدياجي والظلم
فأدرت طرفي فما رأيت له شخصا فقلت:(2/213)
يا أيها الهاتف في داجي الظلم ... أهلا وسهلا بك من طيف ألم
بين هداك اللَّه في لحن الكلم ... ماذا الذي تدعو إليه تغتنم
وإذا أنا بنحنحة قائل يقول: ظهر النور وبطل الزور وبعث محمد بالحبور ثم أنشأ يقول:
الحمد للَّه الذي ... لم يخلق الخلق عبث
أرسل فينا أحمدا ... خير نبي قد بعث
صلى عليه اللَّه ما ... حج له ركب وحث
ثم لاح الصباح فوجدت البعير.
وروى أبو سعد النيسابوري في الشرف عن الجعد بن قيس قال: خرجنا أربعة أنفس نريد الحج في الجاهلية، فمررنا بواد من أودية اليمن، فلما أقبل الليل استعذنا بعظيم الوادي وعقلنا رواحلنا فلما هدأ الليل ونام أصحابي إذا هاتف من بعض أرجاء الوادي يقول:
ألا أيها الركب المعرس بلغوا ... إذا ما وقفتم بالحطيم وزمزما
محمدا المبعوث منا تحية ... تشيعه من حيث سار ويمما
وقولوا له إنا لدينك شيعة ... بذلك أوصانا المسيح ابن مريما
وروى أبو نعيم عن خويلد الضمري قال: كنا عند صنم جلوسا إذ سمعنا من جوفه صائحا يصيح: ذهب استراق السمع ورمي بالشهب لنبي بمكة اسمه أحمد ومهاجره إلى يثرب يأمر بالصلاة والصيام والبر وصلة الأرحام فقمنا من عند الصنم فسألنا فقالوا: خرج نبي بمكة اسمه أحمد.
وروى ابن جرير والطبراني وابن أبي الدنيا وأبو نعيم والخرائطي عن العباس بن مرداس السلمي رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان أول إسلامي أن أبي لما حضرته الوفاة أوصاني بصنم له يقال له ضمار فجعلته في بيت وجعلت آتيه كل يوم، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم كنت في لقاح لي نصف النهار إذا طلعت علي نعامة بيضاء مثل القطن عليها راكب أبيض عليه ثياب بيض فقال:
يا عباس بن مرداس ألم تر أن السماء كفت حراسها، وأن الحرب جرعت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الذي جاء بالبر والتقى يوم الاثنين في ليلة الثلاثاء صاحب الناقة القصواء.
فخرجت مرعوبا قد راعني ما سمعت وما رأيت، حتى جئت وثنا ضمار وكنا نعبده ونكلم من جوفه، فدخلت فكنست ما حوله ثم تمسحت به وقبلته فإذا صائح من جوف الصنم بالليل وهو يقول:(2/214)
قل للقبائل من سليم كلها ... هلك الأنيس وعاش أهل المسجد
أودى ضمار وكان يعبد مرة ... قبل الكتاب إلى النبي محمد
إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدي
قال: فكتمته الناس فلم أحدث به أحدا فلما رجع الناس من غزوة الأحزاب، فبينا أنا في إبلي بطريق العقيق من ذات عرق راقد سمعت صوتا شديدا فرفعت رأسي فإذا رجل على جناح نعامة وهو يقول: النور الذي وقع يوم الاثنين ليلة الثلاثاء مع صاحب الناقة العضباء في دار بني أخي العنقاء. فأجابه هاتف على شماله أبصره:
بشر الجن وأبلاسها، أن المطي قد وضعت أحلاسها، وكلأت السماء حراسها.
قال: فوثبت مذعورا وعلمت أن محمدا مرسل.
وقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وأنشدته شعرا قلته وهو:
لعمرك إني يوم أجعل جاهلا ... ضمارا لرب العالمين مشاركا
وتركي رسول اللَّه والأوس حوله ... أولئك أنصار له ما أولائكا
كتارك سهل الأرض والحزن يبتغي ... ليهلك في كل الأمور المهالكا
فآمنت باللَّه الذي أنا عبده ... وخالفت من أمسى يريد المهالكا
ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا ... أبايع بين الأخشبين المباركا
نبي أتى من بعد عيسى بناطقٍ ... من الحق فيه الفضل فيه كذلكا
أمين على الفرقان أول شافع ... وأول مبعوث يجيب الملائكا
تلاقي عرى الإيمان بعد انتفاضها ... فأحكمها حتى أقام المناسكا
وروى أبو نعيم عن راشد بن عبد ربه قال: كان الصنم الذي يقال له سواع بالمعلاة تدين له هذيل وبنو ظفر من سليم فأرسلت بنو ظفر راشد بن عبد ربه بهدية بني سليم إلى سواع، قال: فأتيته فألفيت مع الفجر إلى صنم قبل سواع فإذا صارخ يصرخ من جوفه: العجب كل العجب، خروج نبي من بني عبد المطلب يحرم الزنا والربا والذبح للأصنام، وحرست السماء ورمينا بالشهب ثم هتف صنم آخر من جوفه: ترك الضمار وكان يعبد، وخرج نبي اسمه أحمد، نبي يصلي الصلاة ويأمر بالزكاة والصيام والصلة للأرحام. ثم هتف من جوف صنم آخر هاتف:
إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدي
قال راشد: فألفيت عند سواع مع الفجر ثعلبين يلحسان ما حوله ويأكلان ما يهدى إليه(2/215)
ثم يعرجان عليه ببولهما فعند ذلك يقول راشد:
أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب
وذلك عند مخرج النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن الجوزي عن بشير الهذلي قال: خرجنا من عيراتنا إلى الشام فلما كنا بين الزرقاء ومعان وقد عرسنا من الليل إذا نحن بفارس يقول: أيها الناس هبوا فليس هذا بحين رقاد، قد خرج أحمد وطرد الجن كل مطرد، ففزعنا ونحن رفقة حزاورة كلهم قد سمع هذا فرجعنا إلى أهلينا فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش بسبب نبي قد خرج من بني عبد المطلب اسمه أحمد.
وروى الروياني وابن عساكر عن خريم بن فاتك [ (1) ] ، والطبراني وابن عساكر من طريق آخر عنه، قال: بينا أنا في طلب نعم لي إذ جنني الليل بأبرق العذيب فناديت بأعلى صوتي:
أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهائه، وإذا هاتف يقول:
ويحك عذ باللَّه ذي الجلال ... منزل الحرام والحلال
ووحد اللَّه ولا تبالي ... ما كيد ذي الجن من الأهوال
إن تذكر اللَّه على الأميال ... وفي سهول الأرض والجبال
قد صار كيد الجن في سفال ... إلا التقى وصالح الأعمال
فقلت له:
يا أيها الهاتف ما تقول ... أرشد عندك أم تضليل
فقال:
هذا رسول اللَّه ذو الخيرات ... جاء بياسين وحاميمات
وسور بعد مفصلات ... يأمر بالصلاة والزّكاة
ويزجر الأقوام عن هنات ... قد كن في الأنام منكرات
فقلت: من أنت؟
فقال: أنا مالك بن مالك الجني.
وفي رواية الروياني عن عمرو بن أثال قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على جن نجد فانبعثت راحلتي فقلت:
__________
[ (1) ] خريم: بالتصغير، ابن فاتك الأسدي، أبو يحيى، وهو خريم بن الأخرم بن شداد بن عمرو بن فاتك، نسب لجد جده، صحابي، شهد الحديبية، ولم يصح إنه شهد بدرا، مات بالرّقة في خلافة معاوية. [التقريب 1/ 223.](2/216)
أرشدني راشد هديت ... لا جعت ولا عريت
ولا برحت سيدا مقيتا
قال فاتبعني وهو يقول:
صاحبك اللَّه وسلم نفسكا ... وبلغ الأهل وأدى حلكا
آمن به أفلح ربي حقكا ... وانصره أعز ربي نصركا
فقلت: لو كان لي من يكفيني إبلي هذه لأتيته حتى أومن به. قال: أنا أكفيكها حتى أؤديها إلى أهلك سالمة. فاعتقلت بعيرا منها ثم أتيت المدينة فوافيت الناس يوم الجمعة وهم في الصلاة فقلت: يقضون الصلاة ثم أدخل، فبينا أنا أنيخ راحلتي إذ خرج إلي أبو ذر. وعند الروياني: أبو بكر الصديق- فقال: ادخل فقد بلغنا إسلامك. قلت: لا أحسن الطهور فعلمني فدخلت المسجد ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر كأنه البدر وهو يقول: «ما من مسلم توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى صلاة يحفظها ويعقلها إلا دخل الجنة» [ (1) ] .
فلما رآني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ما فعل الشيخ الذي ضمن لك أن يؤدي إبلك إلى أهلك سالمة؟ أما إنه قد أداها إلى أهلك سالمة. قلت: رحمه اللَّه. قال: أجل رحمه اللَّه تعالى
[ (2) ] .
وروى الأموي والفاكهي وأبو نعيم عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه تعالى عنهما قالا: لما ظهر أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام رجل من الجن على أبي قبيس فقال:
قبح اللَّه رأي كعب بن فهر ... ما أرق العقول والأحلام
دينها أنها تعنف فيها ... دين آبائها الحماة الكرام
حالف الجن جن بصرى عليكم ... ورجال النخيل والآطام
توشك الخيل أن تروها تهادى ... تقتل القوم في حرام بهام
هل كريم منكم له نفس حر ... ماجد الوالدين والأعمام
ضارب ضربة تكون نكالا ... ورواحا من كربة واغتمام
فأصبح هذا الحديث قد شاع بمكة، وأصبح المشركون يتناشدونه بينهم وقالوا:
__________
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 4/ 251 وأبو نعيم في الدلائل 1/ 31 وذكره الهيثمي في المجمع 8/ 252 والمتقي الهندي في الكنز (18980- 37042) .
[ (2) ] أخرجه الطبراني في الكبير 4/ 252 والحاكم في المستدرك 3/ 621 وذكره الهيثمي في المجمع 8/ 251 والمتقي الهندي في الكنز (37041) .(2/217)
توانيتم حتى حرضتكم الجن وهموا بالمؤمنين
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هذا شيطان يكلم الناس يقال له مشعر ولم يعلن شيطان بتحريض نبي إلا قتله اللَّه تعالى.
فمكثوا ثلاثة أيام فإذا هاتف على الجبل يقول:
نحن قتلنا مسعرا* لما طغى واستكبرا وسفه الحق وسن المنكرا* بشتمه نبينا المطهرا قنعته سيفا جروفا أبترا* إنا نذود من أراد البطرا فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذاكم عفريت من الجن يقال له سمحج وقد سميته عبد الله آمن بي فأخبرني أنه في طلبه منذ أيام حتى قتله [ (1) ] .
وروى ابن عساكر عن زميل ويقال زمل بن عمرو العذري، قال: كان لبني عذرة صنم يقال له خمام، وكانوا يعظمونه وكان سادنه يقال له طارق وكانوا يعترون عنده، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم سمعنا صوتا يقول: يا طارق يا طارق، بعث النبي الصادق، بوحي ناطق، صدع صدعته بأرض تهامة، لناصرية السلامة ولخاذلية الندامة، هذا الوداع مني إلى يوم القيامة.
قال زمل: فوقع الصنم لوجهه. قال زمل: فابتعت راحلة ورحلت عليها حتى أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مع نفر من قومي فأنشدته شعرا قلته:
إليك رسول اللَّه أعملت نصها ... أكلفها نصا وقوزا من الرمل
لأنصر خير الخلق نصرا مؤزرا ... وأعقد حبلا من حبالك في حبلي
وأشهد أن اللَّه لا شي غيره ... أدين له ما أثقلت قدمي نعلي
وروى أبو نعيم عن أبي هريرة قال: لما بعث اللَّه تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أصبح كل صنم منكسا فأتت الشياطين إبليس فأخبروه قال: هذا نبي قد بعث فالتمسوه. فقالوا: لم نجده فقال:
أنا صاحبه. فخرج إبليس فوجده بمكة فرجع إلى الشياطين فقال: قد وجد ومعه جبريل.
وروى أيضاً عن مجاهد قال: رن إبليس أربع مرات: حين لعن وحين أهبط وحين بعث النبي صلى الله عليه وسلم وحين أنزلت الحمد للَّه رب العالمين.
والآثار في هذا الباب كثيرة.
تفسير الغريب
سواد: بفتح السين المهملة وواو مخففة فألف فدال مهملة.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل 1/ 30 وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 2/ 348.(2/218)
قارب: بقاف فألف فراء مكسورة فموحدة.
الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان ويدعي معرفة الأسرار.
شهر أو شيعة: بشين معجمة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة. فعين مهملة مكسورة يعني أو دونه بقليل.
يا سواد بن قارب: يجوز فتح سواد وضمه ونصب ابن وضمه وهو قليل.
تطلابها: بفتح المثناة الفوقية.
العيس: بعين مهملة مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فسين مهملة، وهي الإبل البيض مع شقرة واحدها أعيس وعيساء وهي منصوبة على أنها مفعول المصدر وهو الشد.
الصفوة: بتثليث الصاد، وهو خلاصة الشيء، وخياره، والمراد النبي صلى الله عليه وسلم.
أنام: هذا جائز في جواب الأمر والأكثر أنم وكذا التي بعدها.
اعقل: بكسر القاف، وكذا يعقل الثانية، والوصل.
لؤي: بالهمز وتركه.
تخبارها: بمثناة فوقية مفتوحة.
ككفارها: بضم الكاف.
تجساسها: بتاء مفتوحة فوقية فجيم فسين فألف فسين أخرى مهملتين والتجسس:
التفتيش عن بواطن الأمور.
الأحلاس [ (1) ] : بحاء وسين مهملتين جمع حلس وهو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب.
ما خير: بتشديد الياء وتخفيفها، ولا يجوز هنا للوزن.
رحلت ناقتي: بتخفيف الحاء أي جعلت عليها رحلها.
ثم أتيت المدينة: كذا في رواية. وفي رواية: حتى أتيت مكة. قال البيهقي: وهذه الثانية أقرب إلى الصحة من الأولى.
هات: بكسر التاء أي أعطني.
أنشأت: ابتدأت.
__________
[ (1) ] انظر اللسان 2/ 961.(2/219)
هدى: بهاء مفتوحة فدال مهملة ساكنة فهمزة. والهدى والهدأة بمعنى، تقول: جاءني بعد هدى وبعد هدأة. أي بعد ثلث من الليل أو ربعه وبعد ما هدأ الناس أي ناموا.
بلوت: اختبرت. الذعلب: بذال معجمة مكسورة فعين مهملة ساكنة فلام مكسورة فموحدة وهي الناقة السريعة وكذا الذعلبة.
الوجناء: بواو مفتوحة فجيم ساكنة فنون فألف ممدودة وهي الغليظة الصلبة وقيل العظيمة الوجنتين.
السباسب [ (1) ] : بسينين مهملتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبعد كل سين باء موحدة وهي المفازة أو الأرض المستوية.
أدنى: أقرب.
الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير.
آل ذريح: بذال معجمة مفتوحة فراء مكسورة فمثناة تحتية فحاء مهملة. قال السهيلي:
وكأنه نداء للعجل المذبوح كقولهم: أحمر ذريحي أي شديد الحمرة فصار وصفا للعجل الذبيح من أجل الدم. ومن رواه: «يا جليح» فمآله إلى هذا المعنى لأن العجل قد جلح أي كشف عنه الجلد.
وذكر قبله: يا جليح ونقل عن بعض أشياخنا أنه اسم شيطان، والجليح في اللغة: ما تطاير من رؤوس النبات وخف، كالقطن وشبهه، الواحدة جلحة، ثم ذكر ما تقدم.
وقال ابن الأثير في النهاية: جليح اسم رجل قد ناداه.
العسيف: الأجير.
دغنة: بدال مهملة فغين معجمة فنون فهاء.
مروع الفؤاد: خائف القلب.
هاجك: فزعك وأثارك من مكانك.
الحضيض: القرار. من الأرض عند منقطع الجبل.
القابس: طالب النار.
خنافر: بخاء معجمة فنون فألف ففاء فراء.
شصار: بشين معجمة فصاد مهملة مخففة.
__________
[ (1) ] انظر اللسان 3/ 1921.(2/220)
يتاح: يقدر.
حول: تحول.
انتسخت: زالت.
النحل: بكسر النون وفتح الحاء: الملل.
آنست: بمد الهمزة. أبصرت.
العدام.... الخفي.
الرونق: الحسن.
أصغيت: استمعت.
زجرت: بضم أوله من الزجر. تهينمون: الهينمة: الصوت الخفي.
إلام تعتزون: تنتسبون.
كبار: بضم الكاف يقال كبير وكبار بالتخفيف أي عظيم، فإذا أفرط في العظم قيل:
كبار. بالتشديد.
أوار النار [ (1) ] : بضم الهمزة: حرها. المدر هنا: القرى والأمصار.
ابتعث: بباء موحدة ساكنة فمثناة فوقية مضمومة من البعث.
بهر: غلب غيره وفضله.
النهج: الطريق الواضح.
دثر: درس. الشبر: بشين معجمة فباء موحدة مفتوحات فراء: العطية.
شايع: فعل أمر: تابع وانصر.
الأورة: بهمزة مفتوحة فواو ساكنة فراء مفتوحة فهاء لا تاء: هو الحمق وقيل الخرق ورجل أوره وامرأة ورهاء، وقد ورهت توره.
الكهام: بكاف مفتوحة فهاء مخففة: السيف الكليل. ولسان كهام أي عيي أو كليل لم يغن شيئاً. وفرس كهام: أي بطيء- وكأن ذا في الأصل- واللَّه تعالى أعلم- مأخوذ من هذا، فيكون معنى الكلام: أكلكم أحمق أو أخرق عيي أو كليل لم يغن شيئاً، أو بطيء عن الحق.
الدجا: بدال مهملة مضمومة فجيم فألف الليل المظلم.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 1/ 169 والمعجم الوسيط 1/ 32.(2/221)
الذروة: بضم الذال المعجمة وكسرها أعلى الشيء.
بهد: بفتح الهاء وتشديد الدال.
فجأهم بغتة: بجيم مكسورة فهمزة مفتوحة أي جاءهم بغتة.
قراض: بقاف فراء مشددة فألف فضاد معجمة ساقطة.
ذباب: بلفظ الطائر المعروف.
مازن: بميم فألف فزاي فنون.
الغضوبة: بغين مفتوحة فضاد معجمة فواو ساكنة فموحدة مفتوحة فتاء تأنيث.
السادن: الخادم.
العتيرة: بعين مهملة مفتوحة فمثناة فوقية فتحتية ساكنة فراء فتاء تأنيث وهي شاة كانوا يذبحونها في رجب لأصنامهم.
تسر: بضم المثناة الفوقية وفتح السين المهملة مبنى المفعول.
الكبر: بضم الكاف وفتح الموحدة جمع كبرى، وفي الكلام حذف مضاف محذوف تقديره شرائع دين اللَّه الكبر.
أقبل إلي أقبل: بفتح الهمزة وكسر الموحدة فيهما.
ما لا يجهل: بالبناء للمفعول.
فآمن به: بمد الهمزة وكسر الميم، من الإيمان.
يعدل: بالبناء للمفعول. وكذا تشعل.
وقودها: بفتح الواو ما توقد به النار كالحطب.
الجندل [ (1) ] : بجيم مفتوحة فنون ساكنة فدال مهملة: الحجارة.
الجذاذ [ (2) ] : بجيم مضمومة وتكسر وذالين معجمتين: أي قطعا وكسرا.
بادر: بباء موحدة وبعد الألف دال مهملة مكسورة ثم راء. قال في النور: كذا أحفظه.
ضلا [ (3) ] : بضم الضاد المعجمة الساقطة. يقال للباطل ضل بتضلال.
عمرا: أراد به بني الصامت وإخوتها.
__________
[ (1) ] لسان العرب 1/ 699.
[ (2) ] المفردات للراغب 90.
[ (3) ] المعجم الوسيط 1/ 543.(2/222)
قال: مبغض وإثبات الياء فيه للوزن.
مولع: بفتح اللام أي مغرم به.
الهلوك [ (1) ] : بفتح الهاء وضم اللام المخففة وآخره كاف. قال في الصحاح: الهلوك من النساء الفاجرة المتساقطة على الرجال فلا يقال رجل هلوك.
ألحت علينا السنون: أي دامت أيام الجدب.
الذراري: بفتح الياء وتشديدها.
الحيا: بفتح الحاء والقصر: المطر والخصب. ريا. بكسر الراء وتفتح.
العهر: بفتح العين المهملة وإسكان الهاء: الزنا.
حيان: بفتح الهاء المهملة وتشديد المثناة التحتية.
خبّت: بخاء معجمة مفتوحة فباء موحدة مشددة فمثناة فوقية كما في عدة نسخ من العيون: من السير الخبب وهو دون الإسراع.
تجوب: بالجيم والموحدة: تقطع.
الفيافي: بفتح الفاء الأولى وكسر الثانية: الصحارى الملس واحدها فيفاء.
الفلج: بضم الفاء وإسكان اللام وهو الفوز والظفر.
الشرج [ (2) ] : بشين معجمة فراء ساكنة فجيم، يقال ليس هو من شرجه: أي ليس من طبيعته وشكله.
الرغب [ (3) ] : بضم الراء وإسكان الغين المعجمة ثم موحدة سعة البطن وكثرة الأكل، ويروى بالزاي المفتوحة فعين مهملة ساكنة فموحدة: يعني الجماع: قال في النهاية: وفيه نظر.
يقال رغب المرأة إذا جامعها فملأها منيا، يزغبها كمنع يمنع.
آذن: بمد الهمزة: أعلم.
النهج: بفتح النون وإسكان الهاء وبالجيم: قال في النور: أي البلاء.
فلله ما صومي: ما في البيت مكررة زائدة في الموضعين، وتقديره فلله صومي وحجي.
ناجية: سريعة.
أمون: أي مأمون.
الحزون جمع حزن: ما غلظ من الأرض.
__________
[ (1) ] لسان العرب 6/ 4688.
[ (2) ] اللسان 4/ 2227.
[ (3) ] لسان العرب 2/ 1679.(2/223)
المزجي: السائق.
المطية: البعير، فعيلة بمعنى مفعولة لأنه يركب مطاه أي ظهره، ذكرا كان أو أنثى.
الليل الأجم: الطويل.
دجنات الظلم: بضم الدال المهملة والجيم وتشديد النون جمع دجنة، وهي الظلمة والدياجي: الليالي المظلمة.
الحبور: السرور.
السلمي: بضم السين المهملة.
ضمار: بضاد ساقطة معجمة مكسورة فميم مخففة فألف فراء مكسورة، ووقع في بعض نسخ السيرة بضم الضاد.
أودى: بدال مهملة: هلك.
زميل: بالتصغير ويقال زمل بكسر الزاي وإسكان الميم وباللام.
العذري: بعين مهملة مضمومة فذال معجمة فراء فياء نسب.
خمام: بخاء معجمة مضمومة فميم مخففة.
الشرك: بالنصب مفعول والإسلام فاعل.
هالنا: أفزعنا.
أعمل الناقة: حثها وساقها.
نصها [ (1) ] : بنون مفتوحة وصاد مهملة مشددة يقال نص في سيره: دفع وأسرع. والنص:
منتهى الغاية.
الحزن: بحاء مهملة مفتوحة فزاي ساكنة فنون وهو ما غلظ من الأرض.
قوزا [ (2) ] : بقاف مفتوحة فواو ساكنة فزاي وهو الكثيب الصغير، عند أبي عبيدة، والجمع أقواز وقيزان. وفي النهاية: القوز بالفتح: العالي من الرمل كأنه جبل.
حبلا: بالحاء المهملة واحد الحبال قال في النور: والظاهر أن مراده العهد والميثاق فإنهما يقال لهما حبل.
أدين له: بفتح الهمزة وكسر الدال: أطيع وأخضع.
__________
[ (1) ] انظر المصباح المنير 608.
[ (2) ] لسان العرب 4/ 2773.(2/224)
الباب الخامس في قدر عمر النبي صلى الله عليه وسلم وقت بعثته وتاريخها
قال الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في شرح مسلم: الصواب أنه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس الأربعين سنة، هذا هو المشهور الذي أطبق عليه العلماء.
وقال السهيلي رحمه اللَّه تعالى: إنه الصحيح عند أهل السير والعلم بالأثر.
وحكى القاضي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب رواية شاذة أنه بعث على رأس ثلاث وأربعين سنة والصواب الأول.
وقال شيخ الإسلام البلقيني رحمه اللَّه تعالى: كان سن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين جاءه جبريل في غار حراء أربعين سنة على المشهور. وقيل ويوما. وقيل وعشرة أيام. وقيل وشهرين وقيل وسنتين وقيل وثلاثة. وقيل وخمس.
قال: وكان ذلك يوم الاثنين نهارا.
واختلف في الشهر. فقيل شهر رمضان في سابع عشره وقيل سابعه. وقيل رابع عشره.
وقال الحافظ: ورمضان هو الراجح لما سيأتي من أنه الشهر الذي جاور فيه في حراء فجاءه الملك. وعلى هذا يكون سنه حينئذ أربعين سنة وستة أشهر.
وقيل في سابع عشر شهر رجب. وقيل في أول شهر ربيع الأول. وقيل في ثامنه.
وعند أبي داود الطيالسي ما يقتضي أن مجيء جبريل لرسول اللَّه عليهما الصلاة والسلام في حراء كان في آخر شهر رمضان. قال الحافظ: ولعله الراجح.
وروى الإمام أحمد والشيخان عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: أنزل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة [ (1) ] .
تنبيهات
الأول: قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد: بعثه اللَّه تعالى على رأس الأربعين وهي سن الكمال. قيل: ولها تبعث الرسل. وأما ما يذكر عن المسيح أنه رفع إلى السماء وله ثلاث وثلاثون فهذا لا يعرف به أثر متصل يجب المصير إليه. انتهى.
والأمر كما قال: فإن ذلك يروى عن وهب بن منبه قال: إن النصارى تزعم. فذكر الحديث إلى أن قال: وإنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة رواه الحاكم. وفي سنده
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 6/ 652 (3547) وقد تقدم تخريجه.(2/225)
عبد المنعم بن إدريس كذبوه، ولو صح سنده فإنه عن النصارى كما ترى. وعن الحسن رواه ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر وهو كذاب يضع [ (1) ] ، لكنه قال ابن أربع وثلاثين.
ورواه الحاكم عن سعيد بن المسيب وفي سنده علي بن زيد وهو ضعيف. ويأتي في الوفاة النبوية أحاديث صحيحة تدل على أنه رفع وهو أبن مائة وعشرين سنة.
الثاني: قال ابن الجوزي: حديث: «ما من نبي نبئ إلا بعد الأربعين» [ (2) ] موضوع. لأن عيسى عليه الصلاة والسلام نبئ ورفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فاشتراط الأربعين في حق الأنبياء ليس بشيء. انتهى.
وما ذكره في قدر عمر عيسى لما رفع يرده ما سبق عن ابن القيم وسيأتي في أبواب الوفاة حديث عائشة إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه لفاطمة إن جبريل كان يعارضني القرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني بالقرآن العام مرتين وأخبرني أنه لم يكن نبي إلا عاش نصف عمر الذي كان قبله وأخبرني أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة ولا أراني إلا ذاهبا على رأس الستين. رواه الطبراني ورجاله ثقات وله طرق تأتي في الوفاة.
والمشهور عند الجمهور كما قال الحافظان ابن كثير وابن حجر أنه صلى الله عليه وسلم بعث في شهر رمضان. وصححه الإمام علاء الدين علي بن محمد الخازن. زاد الحافظ: لما تقدم أنه الشهر الذي جاء فيه إلى حراء فجاءه الملك.
وعكس ابن القيم فقال في زاد المعاد: قيل إنه بعث لثمان مضين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل. وهذا قول الأكثرين.
ثم حكى أنه كان في رمضان.
وجمع بعضهم بين القولين بأنه صلى الله عليه وسلم نبئ بالرؤيا في شهر مولده ثم كانت مدتها ستة أشهر ثم أوحي إليه في اليقظة. ولهذا مزيد بيان في التنبيه السابع من الباب الثامن.
وكان ذلك يوم الاثنين.
وروى مسلم عن أبي قتادة رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذاك يوم ولدت فيه وفيه بعثت أو قال أنزل على فيه»
[ (3) ] .
__________
[ (1) ] في أ: يقع.
[ (2) ] ذكره القاري في الأسرار المرفوعة (808) ونقل وجزم ابن الجوزي بوضعه وقال: ويعارضه نص قوله تعالى في يحيى وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم 12] وقوله سبحانه في يوسف وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا
[يوسف 15] الآية. ولو ثبت يحمل على الغالب وذكره كذلك العجلوي في كشف الخفا 2/ 271 والسيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة (139) .
[ (3) ] أخرجه مسلم 2/ 819 (197- 1162) .(2/226)
وروى محمد بن عمر الأسلمي، عن أبي جعفر الباقر قال: كان ابتداء الوحي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان.
وروى الإمام أحمد وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان، وأنزل اللَّه القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان»
[ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 107 وذكره الهيثمي في المجمع 1/ 197 والسيوطي في الدر 1/ 9 والسيوطي في الجامع الكبير (4536) .(2/227)
الباب السادس في ابتدائه صلى الله عليه وسلم بالرؤيا الصادقة وسلام الحجر والشجر عليه، زاده الله فضلا وشرفا لديه
قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: أول ما بدئ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح [ (1) ] .
رواه البخاري.
وروى أبو نعيم عن علي بن الحسين رضي اللَّه تعالى عنه وعن آبائه قال: إن أول ما أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى شيئاً في المنام إلا كان كما رأى.
وروى أيضاً عن علقمة بن قيس قال: أن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدأ قلوبهم ثم ينزل الوحي.
وروى أيضاً البيهقي عن الزهري رحمه اللَّه تعالى قال: بلغنا أن أول ما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن اللَّه تعالى أراه رؤيا فشق ذلك عليه فذكرها لخديجة فقالت أبشر فإن اللَّه لن يصنع بك إلا خيرا.
وروى ابن سعد عن برة بنت أبي تجراة- بكسر الفوقانية وسكون الجيم- قالت: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أراد اللَّه كرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى لا يرى بيتا ويفضي إلى الشعاب وبطون الأودية فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه. وكان يلتفت عن يمينه وشماله وخلفه فلا يرى أحدا.
وروى الإمام أحمد ومسلم عن جابر بن سمرة رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إني لأعرف حجرا كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن»
[ (2) ] .
وقال عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان العلاء بن جارية- بجيم وراء- الثقفي، وكان واعية، عن بعض أهل العلم، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أراد اللَّه تعالى كرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وأوديتها فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه. فيلتفت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خلفه وعن يمينه وعن شماله فلا يرى إلا الشجر وما حوله من الحجارة وهي تحييه بتحية النبوة: السلام عليك يا رسول اللَّه.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 8/ 585 (4953) .
[ (2) ] أخرجه مسلم 4/ 1782 (2- 2277) وأحمد في المسند 5/ 89- 95.(2/228)
رواه ابن إسحاق.
وروى ابن سعد عن هشام بن عروة عن أبيه رحمهما اللَّه تعالى إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: يا خديجة إني أرى ضوءا وأسمع صوتا لقد خشيت أن أكون كاهنا. قالت: أن اللَّه تعالى لا يفعل ذلك بك إنك تصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتصل الرحم.
وروى ابن الجوزي عن ابن عباس قال: أقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة:
سبعا يرى الضوء والنور ويسمع الصوت، وثماني سنين يوحى إليه.
وقال الخازن [ (1) ] : وهذا إن صح فيحمل على سنتين قبل النبوة فيما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يراه من تباشير النبوة، وثلاث سنين بعد النبوة قبل إظهار الدعوة وعشر سنين معلنا بالدعوة بمكة.
تنبيهان
الأول: قال السهيلي في بعض السمندات: إن هذا الحجر الذي كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم هو الحجر الأسود.
وهذا التسليم الأظهر فيه أن يكون حقيقة ويكون اللَّه تعالى أنطقه إنطاقا، كما خلق الحنين في الجذع. ولهذا مزيد بيان في المعجزات.
الثاني: قال القاضي وغيره رحمهم اللَّه تعالى: وإنما ابتدئ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه بصريح النبوة بغتة فلا تحملها القوى البشرية، فبدئ بأوائل خصال النبوة وتباشير الكرامة ومن صدق الرؤيا وما جاء في الحديث الآخر من رؤية الضوءة وسماع الصوت وتسليم الحجر والشجر عليه بالنبوة حتى استشعر عظيم ما يراد به واستعد لما ينتظره فلم يأته الملك إلا بأمر عنده مقدماته. واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] علي بن محمد بن إبراهيم الشيحيّ علاء الدين المعروف بالخازن: عالم بالتفسير والحديث، من فقهاء الشافعية.
بغدادي الأصل، ولد ببغداد، وسكن دمشق مدة، وكان خازن الكتب بالمدرسة السميساطية فيها. وتوفي بحلب. له تصانيف، منها «لباب التأويل في معاني التنزيل» يعرف بتفسير الخازن، و «عدة الأفهام في شرح عمدة الأحكام» في فروع الشافعية، توفي 741 هـ[الأعلام 5/ 5] .(2/229)
الباب السابع فيما ذكر أن إسرافيل قرن به قبل جبريل صلى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد في تاريخه بسند صحيح عن عامر الشعبي قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة، عشرا بمكة وعشرا بالمدينة، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة.
وهذا يقتضي أن إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين، ثم جاءه جبريل.
قال الإمام أبو شامة [ (1) ] رحمه اللَّه تعالى: وحديث عائشة- أي الآتي في الباب بعده- لا ينافي هذا فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا، ثم وكل به إسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة ولا يقيم معه تدريجا وتمرينا، إلى أن جاءه جبريل فعلمه بعد ما غطه ثلاث مرات. فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل اختصارا للحديث، أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل. انتهى.
وذكر بعض العلماء في حكمة مجيء إسرافيل إليه أنه الموكل بالنفخ في الصور، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث قرب الساعة وكانت بعثته من أشراطها، فبعث إسرافيل لهذه المناسبة ولم يبعث إلى نبي قبله.
وقد أنكر الواقدي رحمه اللَّه تعالى خبر الشعبي وقال: لم يقرن به من الملائكة إلا جبريل.
قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه، فإن المثبت مقدم على النافي إلا إن صحب النافي دليل نفيه فيقدم. انتهى.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى في فتاويه: قد ورد ما يوهي أثر الشعبي، وهو ما رواه مسلم عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس وعنده جبريل إذ سمع نقيضا من السماء من فوق فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: يا محمد هذا ملك قد نزل لم ينزل إلى الأرض قط. قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة
__________
[ (1) ] عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الدمشقي، أبو القاسم، شهاب الدين، أبو شامة: مؤرخ، محدث، باحث.
أصله من القدس، ومولده في دمشق، وبها منشأه ووفاته. ولي بها مشيخة دار الحديث الأشرفية، له «كتاب الروضتين في أخبار الدولتين: الصلاحية والنورية» و «مختصر تاريخ ابن عساكر» خمسة مجلدات، و «المرشد الوجيز إلى علوم تتعلق بالكتاب العزيز» وغير ذلك. ووقف كتبه ومصنفاته جميعها في الخزانة العادلية بدمشق، فأصابها حريق التهم أكثرها. ولقب أبا شامة، لشامة كبيرة كانت فوق حاجبه الأيسر. توفى سنة 665 هـ[انظر الأعلام 3/ 299] .(2/230)
الكتاب وخواتيم سورة البقرة لن تقرأ حرفا منها إلا أوتيته [ (1) ] .
قال جماعة من العلماء إن هذا الملك إسرافيل. انتهى كلام الشيخ.
وروى الطبراني والبيهقي في الزهد بسند حسن عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم وجبريل على الصفا فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا جبريل والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفه دقيق ولا كف من سويق. فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفزعته فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أمر اللَّه القيامة أن تقوم؟ فقال: لا ولكن أمر إسرافيل فنزل إليك حتى يسمع كلامك فأتاه إسرافيل فقال: إن اللَّه تعالى بعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض وأمرني أن أعرض إليك أسير معك جبال تهامة زمردا وياقوتا وذهبا وفضة.
فقلت: فإن شئت نبيا ملكا وإن شئت نبيا عبدا؟ فأومأ إليه جبريل: أن تواضع. فقال بل نبياً عبداً. ثلاثاً [ (2) ] .
ورواه ابن حبان في صحيحه مختصرا من حديث أبي هريرة ولفظه: جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنظر إلي السماء فإذا ملك ينزل فقال له جبريل: هذا الملك ما نزل منذ خلق قبل الساعة. وذكر الحديث.
فظهر أن المعتمد ما مشى عليه الواقدي رحمه اللَّه تعالى.
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 1/ 554 (254- 806) .
[ (2) ] ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 5/ 157 حديث (112) وعزاه للطبراني بإسناد حسن والبيهقي في الزهد.(2/231)
الباب الثامن في كيفية بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قد ورد ذلك من حديث: خديجة رضي اللَّه تعالى عنها. رواه البيهقي.
وعائشة رضي اللَّه تعالى عنها. رواه الشيخان.
وعبيد بن عمير الليثي [ (1) ] . رواه ابن إسحاق. وابن الجوزي في الوفا.
وسعيد بن المسيب. رواه موسى بن عقبة.
وسليمان بن طرخان التيمي [ (2) ] . رواه أبو نعيم وابن عساكر.
وعمرو بن شرحبيل. رواه البيهقي وأبو نعيم.
وابن شهاب. رواه أبو نعيم والبيهقي.
وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم رواه الدولابي:
أن أول ما بدئ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة- وفي رواية: الصادقة- في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فرأى وهو بمكة أن آت أتاه ومعه صاحبان له فنظروا إليه فقالوا: هو هو ولم يأن له بعد. فهاله ذلك وذكره لعمه فقال: يا بن أخي ليس بشيء، حلمت. ثم رجع إليه بعد ذلك فقال: يا عم سطا بي الرجل الذي ذكرت لك فأدخل يده في جوفي حتى أجد بردها. فخرج به عمه إلى رجل من أهل الكتاب يتطيب بمكة فحدثه حديثه وقال عالجه فصوب به وصعد وكشف عن قدميه ونظر بين كتفيه وقال: يا عبد مناف ابنك هذا طيب طيب، للخير فيه علامات، إن ظفرت به يهود قتلته، وليس الرئي من الشيطان ولكنه من النواميس الذين يتحسسون القلوب للنبوة. فرجع به.
ثم رأى في منامه أن سقف بيته نزعت منه خشبة وأدخل فيه سلم من فضة ثم نزل إليه رجلان، فأراد أن يستغيث فمنع الكلام فقعد أحدهما إليه والآخر إلى جنبه، فأدخل أحدهما يده في جنبه فنزع ضلعين منه، فأدخل يده في جوفه ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يجد بردها فأخرج قلبه
__________
[ (1) ] عبيد بن عمير بن قتادة الليثي أبو عاصم المكي القاص مخضرم قال ثابت: أول من قص عبيد بن عمير وثقه أبو زرعة.
قيل: توفي سنة أربع وستين. [الخلاصة 2/ 203] .
[ (2) ] سليمان بن طرخان التيمي نزل فيهم، أبو المعتمر البصري أحد سادة التابعين علما وعملا عن أنس وأبي عثمان النّهدي وطاوس ويحيى بن يعمر. وعنه ابنه المعتمر وشعبة وابن المبارك وابن عليّة وخلق. قال ابن المديني: له نحو مائتي حديث. قال ابن سعد: ثقة كثير الحديث يصلي الليل كله بوضوء العشاء الآخرة. وقال حماد بن سلمة: كنا نرى أن سليمان لا يحسن يعصي اللَّه تعالى. ولم يضع جنبه بالأرض عشرين سنة. قال ابن سعد: توفي سنة ثلاث وأربعين ومائة، عن تسع وتسعين، قال ابنه المعتمر. [الخلاصة 1/ 414] .(2/232)
فوضعه على كفه فقال لصاحبه: نعم القلب قلب رجل صالح. فطهر قلبه وغسله ثم أدخل القلب مكانه ورد الضلعين، ثم ارتفعا ورفعا سلمهما فإذا السقف كما هو، فذكر لخديجة بنت خويلد فقالت له: أبشر فإن اللَّه لا يصنع بك إلا خيرا هذا خير فأبشر.
وفي حديث عبيد بن عمير أنه صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أيضاً جبريل ومعه نمط من ديباج فيه كتاب فقال له اقرأ. فقال له: ما أقرأ. فغته به حتى ظن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه الموت، ثم أرسله فقال: اقرأ. قال: ما أقرأ. فغته به حتى ظن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه الموت، ثم أرسله فقال له اقرأ.
قال: ماذا أقرأ- ما قال ذلك إلا افتداء منه أن يعود إليه بمثل ما صنع- قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 1] فقرأها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم انتهى فانصرف جبريل وهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من نومه، قال: فكأنما كتب في قلبي كتابا، فذكر ذلك الخديجة فقالت:
أبشر فإن اللَّه لا يصنع بك إلا خيرا.
ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو شهر رمضان بغار حراء- وفي لفظ يلحق- ومعه أهله فيتحنث- وفي لفظ: فيتحنف- فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل إن ينزع- وفي لفظ:
يرجع- إلى أهله ويتزود لذلك ويطعم من جاءه من المساكين، فإذا رجع من جواره كان أول ما يبدأ به إذا انصرف قبل أن يدخل بيته الكعبة، فيطوف بها سبعا أو ما شاء اللَّه، ثم يرجع إلى بيته فيتزود لمثلها.
فقال لخديجة يوما: لما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً فنظرت عن شمالي فلم أر شيئاً فرفعت رأسي فرأيت شيئاً بين السماء والأرض فقلت: دثروني دثروني وصبوا علي ماء باردا.
وفي رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت: كان أول شأنه يرى في المنام، وكان أول ما رأى جبريل بأجياد وصرخ جبريل: يا محمد أنا جبريل. فنظر يمينا وشمالا فلم يرى شيئاً فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال: يا محمد أنا جبريل. فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئاً، ثم خرج عنهم فناداه ثم هرب ثم استعلن جبريل من قبل حراء. انتهى.
وفي رواية: إني إذا خلوت وحدي أرى ضوءا وأسمع نداء: يا محمد أنا جبريل. وقد واللَّه خشيت أن يكون هذا أمرا. فقالت: معاذ اللَّه ما كان اللَّه ليفعل ذلك بك، إنك لتؤدي الأمانة وتصل الرحم وتصدق الحديث. فلما دخل أبو بكر ذكرت خديجة حديثه له وقالت:
اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل فإنه رجل يقرأ الكتب فيذكر له ما يسمع. فانطلقا إليه فقصا عليه فقال: إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي: يا محمد أنا جبريل. فأنطلق هاربا،(2/233)
فقال ورقة: سبوح سبوح! وما لجبريل يذكر في هذه الأرض التي يعبد فيها الأوثان، جبريل أمين اللَّه تعالى على وحيه بينه وبين رسله، لا تفعل إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني. فخرج ذات ليلة فسمع: السلام عليكم قال فظنها فجأة الجن، فجاء مسرعا حتى دخل على خديجة فقالت: ما شأنك فأخبرها، فقالت: أبشر فإن السلام خير. فخرج مرة أخرى إلى حراء. قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول: يا محمد أنت رسول اللَّه وأنا جبريل. فرفعت رأسي إلى السماء أنظر فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء فرفعت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أتأخر ورائي حتى بعثت خديحة رسلها في طلبي فبلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ثم انصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إليها فقالت: يا أبا القاسم أين كنت؟ فو اللَّه لقد بعثت رسلي في طلبك فبلغوا مكة ورجعوا إلي. ثم حدثتها بالذي رأيت فقالت: أبشر يا بن عم واثبت، فوالذي نفسي بيده إني أرجو أن تكون نبي هذه الأمة. ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ثم انطلقت إلى ورقة فأخبرته بما أخبرها به فقال ورقة: قدوس قدوس! والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت.
فرجعت خديجة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة، فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف فلقيه ورقة فقال له: يا بن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت. فأخبره فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتقاتلنه ولتؤذينه، ولئن أدركت ذلك لأنصرنَّ اللَّه نصرا يعلمه. ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه [ (1) ] .
وقالت خديجة لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا بن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي نفسي بيده إذا جاءك؟ قال: نعم. قالت: فإذا جاءك فأخبرني به. فجاءه جبريل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خديجة هذا جبريل قد جاءني فقالت: قم يا بن عمي فاجلس على فخذي اليسرى. فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجلس عليها، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم. قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى فتحول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجلس على فخذها اليمنى فقالت: هل تراه؟ قال نعم. فحسرت فألقت خمارها ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال:
لا. قالت يا بن عم اثبت وأبشر فواللَّه إنه لملك ما هذا شيطان.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 1/ 30 (3) .(2/234)
قال البراء بن عازب رضي اللَّه تعالى عنه: عرض جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة السبت وليلة الأحد، ثم أتاه بالرسالة ليلة الاثنين ففجأه الحق- وفي لفظ: فجاءه الحق- وهو في غار حراء
وفي رواية: فأتاه جبريل وميكائيل، فنزل جبريل وبقي ميكائيل واقفا بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: هو هو. قال: فزنه برجل. فوزنه به فرجحه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال: زنه بعشرة فوزنه فرجحهم. قال: زنة بمائة. فوزنه فرجحهم. قال: زنة بألف. فوزنه فرجحهم. ثم جعلوا يتساقطون عليه من كفة الميزان فقال ميكائيل: تبعته أمته ورب الكعبة. ثم أجلس على بساط كهيئة الدرنوك، فيه الياقوت واللؤلؤ، فقال أحدهما لصاحبه: شق بطنه.
فشقه فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحها فقال أحدهما لصاحبه: اغسل بطنه غسل الإناء واغسل قلبه غسل الملاء. ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه. فخاطه. ثم أجلساه فبشره جبريل برسالة ربه حتى اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له جبريل: اقرأ فقال: ما أنا بقارئ. فغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال له اقرأ قال: ما أنا بقارئ. فغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال له اقرأ قال: ما أنا بقارئ فغطه حتى بلغ منه الجهد.
ثم أرسله فقال: اقْرَأْ أوجد القراءة. مبتدئا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ الخلائق خَلَقَ الْإِنْسانَ الجنس مِنْ عَلَقٍ جمع عَلَقة وهي القطعة اليسيرة من الدم الغليظ وجمعها لأن الإنسان في معنى الجمع اقْرَأْ تأكيد للأول. وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الذي لا يوازيه كريم. الَّذِي عَلَّمَ الخط بِالْقَلَمِ وأول من خط إدريس صلى الله عليه وسلم.
ثم أفرد ما هو أشرف وأظهر صنيعا وتدبيرا وأدل على وجوب العبادة المقصودة من القراءة فقال: عَلَّمَ الْإِنْسانَ الجنس ما لَمْ يَعْلَمْ قبل تعليمه من الهدى والكتابة والصناعة وغيرها.
وهذا القدر من هذه السورة هو الذي نزل أولا بخلاف بقية السورة فإنما نزل بعد ذلك فرجع بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أهله ترجف بوادره. وفي لفظ: فؤاده. لا يلقاه حجر ولا شجر إلا قال: السلام عليك يا رسول اللَّه.
فرجع إلى بيته وهو موقن قد فاز فوزا عظيما فدخل على خديجة فقال: «زملوني زملوني» . فزملوه حتى ذهب عنه الروع. قال أرأيتك الذي كنت أخبرتك أني رأيته في المنام؟
فإنه جبريل استعلن لي أرسله إلي ربي. وأخبرها الخبر. وقال: لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة: كلا أبشر فو اللَّه لا يخزيك اللَّه أبدا إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتصدق الحديث وتؤدي الأمانة وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق، فاقبل الذي جاءك من اللَّه فإنه حق، وأبشر فإنك رسول اللَّه حقا.
ثم انطلقت حتى أتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانيا من أهل نينوى يقال(2/235)
له عداس، فقالت له يا عداس أذكرك اللَّه إلا ما أخبرتني هل عندكم علم من جبريل؟ فقال عداس: قدوس قدوس ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان. فقالت:
أخبرني بعلمك فيه. قال: هو أمين اللَّه بينه وبين النبيين، وهو صاحب موسى وعيسى.
فرجعت من عنده فانطلقت برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل بن أسد ابن عم خديجة وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العربيّ فيكتب من الإنجيل ما شاء اللَّه أن يكتب، وكان شيخا قد عمي، فقالت له خديجة: يا بن عم اسمع من ابن أخيك فقال له ورقة: يا بن أخي ماذا ترى. فأخبره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى فقال له ورقة: أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم. هذا الناموس الذي أنزل اللَّه على موسى. وفي لفظ: وإنك على مثل ناموس موسى، وإنك لنبي مرسل وستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك، يا ليتني فيها جذعا. وفي لفظ جذع. ليتني أكون حياً إذا يخرجك قومك ...
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أو مخرجي هم؟ فقال: نعم. لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي. وفي لفظ: أوذي. وفي رواية: لتكذبنه ولتؤذينه ولتقاتلنه، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه، ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
وقال ورقة في ذلك أشعاراً منها قوله:
يا للرجال وصرف الدهر والقدر ... وما لشيء قضاه اللَّه من غير
حتى خديجة تدعوني لأخبرها ... أمرا أراه سيأتي الناس من أخر
وخبرتني بأمر قد سمعت به ... فيما مضى من قديم الدهر والعصر
بأن أحمد يأتيه ويخبره ... جبريل أنك مبعوث إلى البشر
فقلت عل الذي ترجين ينجزه ... لك الإله فرجى الخير وانتظري
وأرسليه إلينا كي نسائله ... عن أمره ما يرى في النوم والسهر
فقال حين أتانا منطقا عجبا ... يقف منه أعالي الجلد والشعر
إني رأيت أمين اللَّه واجهني ... في صورة أكملت من أعظم الصور
ثم استمر فكاد الخوف يذعرني ... مما يسلم من حولي من الشجر
فقلت ظني وما أدري أيصدقني ... أن سوف تبعث تتلو منزل السور
وسوف أنبيك إن أعلنت دعوتهم ... من الجهاد بلاد من ولا كدر
[ (1) ] .
وقوله:
__________
[ (1) ] انظر الروض الأنف 1/ 217، 218 البداية والنهاية 3/ 11.(2/236)
فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي ... حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما ... من اللَّه وحي يشرح الصدر منزل
يفوز به من فاز فيها بتوبة ... ويشقى به الغالي القوي المضلل
فريقان منهم فرقة في جنانه ... وأخرى بأحواز الجحيم تعلل
فسبحان من تهوي الرياح بأمره ... ومن هو في الأيام ما شاء يفعل
ومن عرشه فوق السموات كلها ... وأقضاؤه في خلقه لا تبدل
[ (1) ]
تنبيهات
الأول: في رواية البخاري في التفسير: الرؤيا الصادقة وفي غيره: الصالحة. وهما بمعنى بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء. وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا فالصالحة في الأصل أخص، فرؤيا النبي كلها صادقة، وقد تكون صالحة، وهي الأكثر، وغير صالحة بالنسبة للدنيا كما وقع في الرؤيا يوم أحد.
وأما رؤيا غير الأنبياء فبينهما عموم وخصوص، إن فسرنا الصادقة بأنها التي لا تحتاج إلى تعبير، وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث فالصالحة أخص مطلقا.
قال الإمام نصر بن يعقوب الدينوري في التعبير القادري: الرؤيا الصادقة ما يقع بعينه أو ما يعبر في المنام أو يخبر به من لا يكذب. والصالحة ما يسر.
الثاني: قال البيضاوي رحمه اللَّه: شبه ما جاءه في اليقظة ووجده في الخارج طبقاً لما رآه في المنام بالصبح في إنارته ووضوحه، والفلق: الصبح، لكنه لما كان مستعملا في هذا المعنى وفي غيره أضيف إليه للتخصيص والبيان إضافة العام إلى الخاص، كقولهم عين الشيء ونفسه.
قال الطيبي رحمه اللَّه تعالى: وللفلق شأن عظيم ولذلك جاء وصفا للَّه تعالى في قوله:
«فالق الإصباح» وأمر بالاستعاذة برب الفلق لأنه ينبئ عن انشقاق ظلمة عالم الشهادة وطلوع تباشير الصبح بظهور سلطان الشمس وإشراقها في الآفاق، كما أن الرؤيا الصالحة مبشرات تنبئ عن وفود أنوار عالم الغيب وآثار مطالع الهدايات، شبه الرؤيا التي هي جزء يسير من أجزاء
__________
[ (1) ] القصيدة من بحر الطويل ويروى البيت الثالث:
............ ويشقى به العاني الغرير المضلل
ويروى قبل البيت الخامس:
إذا ما دعوا يا لويل فيها تتابعت ... مقامع في هاماتهم ثم كشعل
البداية والنهاية 3/ 11.(2/237)
النبوة وتنبيه من تنبيهاتها لمشتركي العقول على ثبوت النبوة، لأن النبي إنما سمي نبيا لأنه ينبئ عن الغيب الذي لا تستقل العقول بإدراكه.
وقال ابن أبي جمرة رحمه اللَّه تعالى: إنما شبهت رؤياه بفلق الصبح دون غيره، لأن شمس النبوة قد كانت الرؤيا مبادئ أنوارها، فما زال ذلك النور يتسع حتى أشرقت الشمس وتم نورها، فمن كان باطنه نوريا كان في التصديق كأبي بكر الصديق، ومن كان باطنه مظلما كان في التكذيب خفاشا كأبي جهل، وبقية الناس بين هاتين المنزلتين، كل منهم بقدر ما أعطي من النور.
الثالث: قال الخطابي رحمه اللَّه تعالى: هذه الأمور التي كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بدئ بها من صدق الرؤيا وحب العزلة عن الناس والخلوة في غار حراء والتعبد فيه ومواظبته عليه الليالي ذوات العاد إنما هي أسباب ومقدمات أرهصت لنبوته وجعلت مبادئ لظهورها، والخلوة يكون معها فراغ القلب وهي معينة على الفكر ومقطع لدعاوى الشغل، والبشر لا ينفك عن طباعه ولا يترك مألوفه من عاداته إلا بالرياضة البليغة والمعالجة الشديدة، فلطف اللَّه تعالى بينه محمد صلى الله عليه وسلم في بادية أمره فحبب إليه الخلوة وقطعه عن مخالطة البشر، ليتناسى المألوف من عاداتهم ويستمر على هجران ما لا يحمد من أخلاقهم وألزمه شعار التقوى وأقامه في مقام التعبد بين يديه ليخشع قلبه وتلين عريكته لورود الوحي فيجد منه مرادا سهلا ولا يصادفه حزنا وعرا، فجعلت هذه الأسباب مقدمات لما أرصد له من هذا الشأن ليرتاض بها ويستعد لما ندب إليه، ثم جاءه التوفيق والتبشير وأخذه بالقوة الإلهية، فجبرت منه النقائص البشرية وجمعت له الفضائل النبوية.
وقال غيره: من فوائد خلوة نفسه ما ألهمه اللَّه تعالى قبل ظهور الملك له ومخاطبته لما أراده اللَّه تعالى من صدوفه عن متعبدات قريش وعزوب نفسه الشريفة عن قرب أرجاس الأصنام وتبريه منه وبغضه لها وإقباله على التحنث وهو فعل البر والقرب.
الرابع: قال ابن أبي جمرة رحمه اللَّه تعالى: الحكمة في تخصيصه صلى الله عليه وسلم التخلي بغار حراء، أن المقيم فيه كان يمكنه رؤية الكعبة فيجتمع لمن يخلو فيه ثلاث عبادات: الخلوة والتعبد والنظر إلى البيت.
وقال الحافظ وكانت قريش تفعله كما كانت تصوم عاشوراء وإنما لم ينازعوا النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء مع مزيد الفضل فيه على غيره لأن جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش وكانوا يعظمونه لجلالته وكبر سنه، فتبعه على ذلك من كان يتأله، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يخلو مكان جده فسلم له ذلك أعمامه لكرامته عليهم.(2/238)
الخامس: قوله: فرأى بمكة أن آت أتاه. الخ قال السهيلي رحمه اللَّه تعالى: ليس ذكر النوم حديث عائشة، بل يدل ظاهرة على أن نزول جبريل حين نزل بسورة اقرأ قد كان في اليقظة وقد يمكن الجمع بين الحديثين بأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جبريل في المنام قبل أن يأتيه في اليقظة توطئة وتيسيرا عليه ورفقا به، لأن أمر النبوة عظيم وعبؤها ثقيل والبشر ضعيف، وسيأتي في حديث الإسراء من مقالة العلماء ما يؤكد هذا الفرض ويصححه.
قال في «الزهر» : والأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم هذا شأنهم، فلا حاجة إلى ما ذكره السهيلي بقوله: وقد يمكن الخ، لأن الرواية بذلك لا بأس بسندها. وبسط الكلام على ذلك.
السادس: قال السهيلي: في كون الكتاب في نمط من الديباج إشارة إلى أن هذا الكتاب به يفتح على أمته ملك الأعاجم ويسلبونهم الديباج والحرير الذي كان زيهم وزينتهم وبه ينال أيضاً ملك الآخرة ولباس الجنة وهو الحرير والديباج.
السابع: يؤخذ من قول عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: «فجاءه الملك فيه» - كما في كتاب التعبير من الصحيح- أي في الغار، دفع توهم من يظن أن الملك لم يدخل إليه الغار بل كلمه والنبي صلى الله عليه وسلم داخل الغار والملك خارجه على الباب.
قال الحافظ: وإذا علم أنه كان يجاور في غار حراء شهر رمضان وأن ابتداء الوحي جاءه وهو في الغار المذكور اقتضى ذلك أنه نبئ في شهر رمضان. ويعكر على قول ابن إسحاق أنه بعث على رأس الأربعين مع قوله: إنه ولد في شهر ربيع. ويمكن أن يكون المجيء في الغار كان أولا في شهر رمضان وحينئذ نبّيء وأنزل عليه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق 1] ثم كان المجيء الثاني في شهر ربيع الأول بالإنذار وأنزلت عليه: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر: 1] فيحمل قول ابن إسحاق: على رأس الأربعين: أي عند المجيء بالرسالة.
الثامن: فإن قيل: لم كرر: «أقرأ» ثلاث مرات؟
أجاب الإمام أبو شامة رحمه اللَّه تعالى بأنه يحتمل أن يكون قوله أولا:
«ما أنا بقارئ»
على الامتناع، وثانيا على الإخبار بالنفي المحض، وثالثا على الاستفهام. ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة إنه قال: كيف أقرأ. وفي رواية عبيد بن عمير عند ابن إسحاق ماذا أقرأ. وفي مرسل الزهري عند البيهقي كيف أقرأ وكل ذلك يؤيد أنها استفهامية.
وقال الحافظ: لعل الحكمة في تكرير «اقرأ» الإشارة إلى انحصار الإيمان الذي ينشأ الوحي بسببه في ثلاث: القول والعمل والنية، وأن الوحي يشتمل على ثلاث: التوحيد والأحكام والقصص.(2/239)
التاسع: الحكمة في غط جبريل له: شغله عن الالتفات لشيء آخر، أو لإظهار الشدة والجد في الأمر تنبيها على ثقل القول الذي سيلقى إليه، فلما ظهر أنه صبر على ذلك ألقى إليه، هذا وإن كان في علم اللَّه حاصل لكن المراد إبرازه للظاهر بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم وقيل ليختبر هل يقول من قبل نفسه شيئاً فلما لم يأت بشيء دل على أنه لا يقدر عليه.
ونقل الحافظ عن بعض من لقيه أن هذا يعد من خصائصه صلى الله عليه وسلم إذا لم ينقل عن أحد من الأنبياء أنه وقع له عند ابتداء الوحي مثل ذلك.
قال البلقيني: وكأن الذي حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عند تلقي الوحي من الجهد مقدمة لما صار يحصل له من الكرب عند نزول القرآن وبسط الكلام على ذلك، ويأتي بتمامه في باب شدة الوحي.
العاشر: الحكمة في تكرير الغط: المبالغة في التنبيه، ففيه أنه ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم وأمره بإحضار قلبه. وقيل الإشارة إلى التشديدات الثلاث التي وقعت له، وهي الحصر في الشعب، وخروجه إلى الهجرة، وما وقع له يوم أحد، وفي الإرسالات الثلاث إشارة إلى حصول التيسير له عقب الثلاث، أو في الدنيا، والبرزخ، والآخرة.
الحادي عشر: هذا القدر الذي ذكر من سورة اقرأ هو الذي نزل أولا بخلاف بقية السورة، فإنما نزل بعد ذلك بزمان.
والحكمة في هذه الأولية: أن هذه الآيات الخمس اشتملت على مقاصد القرآن، ففيها براعة الاستهلال وهي جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة، في أوله، وهذا بخلاف الفن البديعي المسمى بالعنوان فإنهم عرفوه بأن يأخذ المتكلم في فن فيؤكده بذكر مثال سابق.
وبيان كونها اشتملت على مقاصد القرآن: أنها تنحصر في علم التوحيد والأحكام والأخبار، وقد اشتملت على الأمر بالقراءة والبداءة فيها باسم اللَّه، وفي هذا الإشارة إلى الأحكام. وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته من صفات ذات وصفات فعل، وفي هذا إشارة إلى أصول الدين، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
وقال السهيلي: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم. اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فإنك لا تقرأ بحولك وقوتك ولا بصفة نفسك ولا بمعرفتك، ولكن اقرأ مفتتحا قراءتك باسم ربك مستعينا في جميع أمورك به، فهو يعلمك كما خلقك وكما نزع عنك علق الدم وعلمك ما لم تكن تعلم من أمور الدين ومصالح العباد وما تنطق به من المغيبات.
الثاني عشر: قال الحافظ: ذكر أكثر الأئمة أن هذا القدر المذكور في القصة من سورة(2/240)
اقرأ أول ما نزل من القرآن. وشذ صاحب الكشاف فقال: إن أكثر المفسرين على أن أول سورة نزلت الفاتحة. وهذا وهم بلا شك. وقال في موضع آخر: المحفوظ أن أول ما نزل: اقرأ باسم ربك وأن نزول الفاتحة كان بعد ذلك. وقال النووي: أول ما نزل من القرآن: اقرأ. هذا هو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف وقيل أوله: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ وليس بشيء.
الثالث عشر: إنما اضطرب فؤاده لما فجاء من الأمر المخالف للعادة والمألوف، فنفر طبعه البشري ولم يتمكن من التأمل في تلك الحالة، لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها.
الرابع عشر: قال البلقيني: الحكمة في العدول عن القلب إلى الفؤاد أن الفؤاد وعاء القلب كما قاله بعض أهل اللغة، فإذا حصل للوعاء الرجفان حصل للقلب فيكون في ذكره من تعظيم الأمر ما ليس في ذكر القلب.
الخامس عشر: الحكمة في طلب التزمل أن العادة جرت بسكون الرعدة بالتلفف.
السادس عشر: دل
قوله: «لقد خشيت على نفسي»
مع
قوله «ترجف بوادره»
وفي لفظ:
«فؤاده» على انفعال حصل له من مجيء الملك، ومن ثم
قال: «زملوني» .
والخشية المذكورة اختلف في المراد بها على اثني عشر قولا: أولاها بالصواب:
الموت من شدة الرعب. وقيل المرض. وقيل دوامه. وقيل تعييرهم إياه.
قال القاضي: ليس هذا من معنى الشك فيما آتاه اللَّه، لكنه صلى الله عليه وسلم عساه يخشى أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر ولا يقدر على حمل أعباء النبوة فتزهق نفسه أو ينخلع قلبه لشدة ما لقيه أولا عند لقاء الملك. قال: أو يكون قوله هذا الأول ما رأى التباشير في النوم واليقظة وسمع الصوت قبل لقاء الملك وتحقق رسالة ربه فيكون ما خاف أولا أن يكون من الشيطان، فأما منذ ما جاءه الملك برسالة ربه فلا يجوز عليه الشك ولا يخشى من تسلط الشيطان عليه.
قال: وعلى هذا يحمل كل ما ورد من مثل هذا في حديث البعث.
قال النووي: وهذا الاحتمال الثاني ضعيف، لأنه خلاف تصريح الحديث بأن هذا بعد غط الملك وإتيانه «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» .
السابع عشر: خص ورقة موسى بالذكر ولم يقل على عيسى، مع كون ورقة نصرانيا، لأن كتاب موسى مشتمل على أكثر الأحكام بخلاف عيسى، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه، بخلاف عيسى، وكذلك وقعت النقمة على يد النبي صلى الله عليه وسلم بفرعون هذه الأمة وهو أبو جهل ومن معه يوم بدر. أو قاله تحقيقا للرسالة، لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتابين بخلاف عيسى، فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته.(2/241)
قال الحافظ: وأما ما تمحل له السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم فهو محال لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه من لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمن بدل.
على أنه قد ورد عند أبي نعيم في الدلائل بسند حسن عن عروة في هذه القصة أن خديجة أو لا قد أتت ابن عمها ورقة فأخبرته الخبر، فقال: لئن كنت صدقتيني إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم. فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة: ناموس عيسى وتارة ناموس موسى، فعند إخبار خديجة له بالقصة قال لها ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية، وعند أخبار النبي صلى الله عليه وسلم له قال ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها، وكل صحيح.
الثامن عشر:
قال السهيلي: قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: لتكذبنه فلم يقل له شيئاً، ثم قال ولتؤذينه. فلم يقل له شيئاً. ثم قال: ولتخرجنّه فقال عليه الصلاة والسلام: أو مخرجي هم؟
ففي هذا دليل على حب الوطن وشدة مفارقته على النفس، وأيضاً فإنه حرم اللَّه تعالى وجوار بيته وبلدة أبيه إسماعيل، فلذلك تحركت نفسه عند ذكر الخروج ما لم تتحرك قبل ذلك، فقال: أو مخرجي هم؟
والموضع الدال على تحرك النفس وتحرقها: إدخال الواو بعد ألف الاستفهام مع اختصاص الإخراج بالسؤال عنه، وذلك أن الواو ترد إلى الكلام المتقدم وتشعر المخاطب بأن الاستفهام على جهة الإنكار والتفجع لكلامه والتألم منه.
قال الحافظ: ويحتمل أن يكون انزعاجه كان من جهة خشية فوات ما أمله من إيمان قومه باللَّه وإنقاذهم به من وضر الشرك وأدناس الجاهلية ومن عذاب الآخرة وليتمّ له المراد من إرساله إليهم. ويحتمل أن يكون انزعج من الأمرين معا.
وسبقه إلى ذلك الشيخ تقي الدين السبكي فقال: كما حكاه عنه ولده في الطبقات:
الأحسن أن يقال: تحركت نفسه، لما في الإخراج من فوات ما ندب إليه من إيمانهم، وهدايتهم، فإن ذلك مع التكذيب والإيذاء مترقب، ومع الإخراج منقطع، وذلك هو الذي لا شيء عند الإنسان أعظم منه، لأنه امتثال أمر اللَّه تعالى، وأما مفارقة الوطن فأمر جبلي والنبي صلى الله عليه وسلم أجل وأعلى مقاما من الوقوف عنده في هذا الموطن العظيم.
التاسع عشر: قال الإسماعيلي رحمه اللَّه تعالى: موه بعض الطاعنين على المحدثين فقال: كيف يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يرتاب في نبوته حتى يرجع إلى ورقة ويشكو لخديجة ما يخشاه؟
والجواب: إن عادة اللَّه سبحانه وتعالى جرت بأن الأمر الجليل إذا قضى اللَّه تعالى(2/242)
بإيصاله إلى الخلق أن يتقدمه تشريح وتأسيس، وكان ما يراه النبي صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة ومحبة الخلوة والتعبد من ذلك، فلما جاءه الملك فجأه بغتة أمر خالف العادة والمألوف فنفر طبعه البشري منه وهاله ذلك ولم يتمكن من التأمل في تلك الحال، لأن النبوة لا تزيل طباع البشرية كلها، فلا يتعجب أن يجزع مما لم يألفه وينفر طبعه منه، حتى إذا اندرج عليه وألفه استمر عليه، فلذلك رجع إلى أهله التي ألف أنسها فأعلمها بما وقع له، فهونت عليه خشيته مما عرفته من أخلاقه الكريمة وطريقته الحسنة، فأرادت الاستظهار بمسيرها به إلى ورقة لمعرفتها بصدقه ومعرفته وقراءته الكتب القديمة فلما سمع كلامه أيقن بالحق واعترف به، وأشار إلى أن الحكمة في ذكره صلّى الله عليه وسلم ما اتفق له في هذه القصة: أن يكون سببا في انتشار خبره في بطانته ومن يستمع لقوله ويصغي إليه طريقا في معرفتهم مباينة من سواه في أحواله لينبهوا [ (1) ] على محله.
العشرون: ورقة هو ابن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي ابن عم خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم. ذكره الطبري والبغوي وابن نافع وابن السكن وغيرهم في الصحابة.
وروى يونس بن بكير عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أحد كبار التابعين أن ورقة قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به عيسى ابن مريم وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل. فذكر الحديث وفيه: فلما توفي قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لقد رأيت القس في الجنة عليه ثياب بيض لأنه آمن بي وصدقني» [ (2) ] .
في سنده انقطاع.
ويعضده ما رواه الزبير بن بكار بسند جيد عن عروة بن الزبير قال: كان بلال لجارية من بني جمح، وكانوا يعذبونه برمضاء مكة يلصقون ظهره بالمرضاء لكي يشرك فيقول: أحد أحد. فمر به ورقة وهو على تلك الحال فيقول: أحد أحد يا بلال، واللَّه لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا.
فهذا المرسل يدل على أن ورقة عاش إلى أن دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام حتى أسلم بلال.
قال الحافظ: والجمع بين هذا وبين حديث عائشة: أن يحمل قولها: لم ينشب ورقة أن توفى. أي قبل أن يشتهر الإسلام ويؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد.
ولا يعكر على ذلك ما رواه ابن عائذ عن ابن عباس أن ورقة مات على نصرانيته لأن في
__________
[ (1) ] في ألينتبهوا.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 2/ 158- 221 وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 10.(2/243)
سنده عثمان بن عطاء وهو ضعيف.
وروى الإمام أحمد بسند حسن عن عائشة أن خديجة رضي اللَّه تعالى عنها سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ورقة فقال: قد رأيته فرأيت عليه ثيابا بيضا، فأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض
[ (1) ] .
وروى أبو يعلى بسند حسن عن جابر بن عبد الله رضي اللَّه تعالى عنهما إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سئل عن ورقة بن نوفل فقال: «أبصرته في بطنان الجنة وعليه، السندس»
[ (2) ] .
وروى البزار وابن عساكر بإسناد جيد عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين»
[ (3) ] .
الحادي والعشرون: في بيان غريب ما سبق:
أول ما بدئ به نكرة موصوفة، أي أول شيء.
من الوحي: أي من المبشرات من إيحاء الوحي بالرؤيا: أي مطلق ما دل على نبوته، فتقدمت له أشياء مثل تسليم الحجر والشجر ويحتمل أن تكون «من» للتبعيض، أي من أقسام الوحي. ويحتمل أن تكون بيانية ورجحه القزاز. واحترزت بقولها: «من الوحي» عما رآه من دلائل نبوته من غير وحي، وأول ذلك مطلقا ما سمعه من بحيرا الراهب وما سمعه عند بناء الكعبة حين قيل له: اشدد عليك إزارك. وكذلك تسليم الحجر والشجر عليه.
الرؤيا: ما يرى في المنام.
في النوم: صفة موضحة، أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازا.
فلق الصبح وفرقه بفتح اللام والراء: ضياؤه إذا تميز عن ظلمة الليل وظهور نوره، وفي الكلام حذف تقديره: جاء تأويلها كفلق الصبح، وإنما يقال هذا اللفظ في الشيء الواضح البين.
لم يأن [ (4) ] : لم يقرب.
هاله ذلك: أفزعه.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 65 وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 9.
[ (2) ] أخرجه أبو يعلى في المسند 4/ 41 (281- 2047) وذكره الهيثمي في المجمع 9/ 419 وعزاه لأبي يعلى وقال فيه مجالد وهذا مما مدح من حديث مجالد وبقية رجاله رجال الصحيح.
[ (3) ] ذكره الهيثمي في المجمع 9/ 419 وعزاه للبزار متصلا ومرسلا وقال: وزاد في المرسل كان بين أخي ورقة وبين رجل كلام فوقع الرجل في ورقة ليغضيه والباقي بنحوه ورجال المسند والمرسل رجال الصحيح.
[ (4) ] المفردات في غريب القرآن 29.(2/244)
سطا بي: غلبني.
من النواميس: جمع ناموس. يأتي بيانه.
يتحسسون: الإحساس: العلم بالحواس.
أبشر: بفتح الهمزة.
نمط: بنون فميم مفتوحتين فطاء مهملة: ضرب من البسط، والجمع أنماط.
فغته [ (1) ] : بغين معجمة مفتوحة فمثناة فوقية مشددة أي خنقه.
هب من نومه: استيقظ.
حبب: مبني للمفعول، وعبر به لعدم تحقق الباعث على ذلك وإن كان الكل من عند اللَّه، أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر، أو يكون ذلك من وحي الإلهام.
الخلاء: بالمد مصدر بمعنى الخلوة، أي الاختلاء وهو بالرفع نائب عن الفاعل.
الغار: النقب في الجبل.
حراء: بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد، وحكى الأصيلي فتحها والقصر، وعزاها في القاموس للقاضي وهي لغية، وهو مصروف إن أريد المكان وممنوع إن أريد البقعة، فهي أربعة: التذكير والتأنيث والمد والقصر. وقد ألغزه بعضهم فقال:
وما اسم أتت فيه وجوه عديدة ... أيؤنّث طورا ثم طورا يذكر
وقد جاء فيه الصرف أيضاً ومنعه ... ومن شاء يمدده ومن شاء يقصر
وكذا حكم قباء وقد نظم بعضهم أحكامهما فقال:
حرا وقبا ذكر وأنثهما معا ... ومد أو اقصر واصرفن وامنع الصرفا
وهو جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى.
يتحنث فيه: بحاء مهملة وآخره مثلثة في موضع الحال، إي يخلو بالغار متحنثاُ فيه.
وفي رواية: «فيتحنف» بالفاء فيكون عطفاً على يخلو، وهو من الأفعال التي معناها السلب أي اجتناب فاعلها لمصدرها، مثل تأثم وتحوب إذا اجتنب الإثم والحوب. أو هو بمعنى الرواية الأخرى: يتحنف بالفاء أي يتبع الحنيفية دين إبراهيم، والفاء تبدل ثاء، وهو عائد إلى مصدر يتحنف.
التعبد: يأتي الكلام على تعبده صلى الله عليه وسلم في أول أبواب عبادته. قال في «الزهر» : أخبرني
__________
[ (1) ] اللسان 4/ 3212.(2/245)
القدوة أبو الصبر أيوب السعودي، قال سألت سيدي أبا السعود بن أبي العشائر: بم كان سيدنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتعبد في حراء قال: بالتفكر.
الليالي: أي مع أيامهن، واقتصر عليهن للتغليب لأنهن آنس للخلوة.
وقال النووي: قوله الليالي متعلق بيتحنث، لا بالتعبد، والمعنى يتحنث الليالي، ولو جعل متعلقا بالتعبد فسد المعنى، فإن التحنث لا يشترط فيه الليالي بل يطلق على الكثير والقليل، ونصبها على الظرفية.
ووصف الليالي بقوله ذوات العدد قال الكرماني: لإرادة التقليل كما في قوله تعالى:
دراهم معدودة أو الكثرة لاحتياجها إلى العدد وهو المناسب.
قال الحافظ: أما كونه فمسلم، وأما الأول فلا، لأن عادتهم في الكثيرة أن يوزن في القليل أن يعد.
وقد جزم الشيخ ابن أبي جمرة بأن المراد به الكثرة لأن العدد على قسمين فإذا أطلق أريد به مجموع القلة والكثرة، فكأنها قالت: ليالي كثيرة أي مجموع قسمي العدد، وأبهم العدد لاختلافه بالنسبة إلى المدد التي تخللها مجيئه إلى أهله.
تنبيه هذا التفسير للزهري وأدرجه في الخبر، كما جزم به الطيبي، ورواية البخاري في التفسير تؤيده.
ينزع: بمثناة تحتية مفتوحة فنون فزاي مكسورة: يرجع وزنا ومعنى.
أهله: خديجة وأولاده ويحتمل أن يريد أقاربه.
التزود: استصحاب الزاد وهو الطعام الذي يحمله المسافر.
لمثلها: أي الليالي. كما رجحه الحافظ في كتاب التعبير من «الفتح» وإن كان رجح غيره في تفسير سورة اقرأ، لأن مدة الخلوة كانت شهرا، فكان يتزود لبعض ليالي الشهر فإذا نفد ذلك الزاد رجع إلى أهله فيتزود قدر ذلك ولم يكونوا في سعة بالغة من العيش، وكان غالب أدمهم اللبن واللحم، وذلك لا يدخر منه كفاية شهر لئلا يسرع الفساد إليه، ولا سيما وقد وصفه بأنه كان يطعم من يرد عليه.
حتى: هنا على بابها، من انتهاء الغاية، أي انتهى توجهه لغار حراء بمجيء الملك فترك ذلك.
فجئه: بفتح الفاء وكسر الجيم ثم همزة ويقال فجأه بفتح الجيم، لغتان، أي جاءه(2/246)
الوحي. قاله النووي قال: فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعا للوحي.
قال البلقيني: وفي إطلاق هذا النفي نظر، فإن الوحي كان جاءه في النوم مرارا، واستدل بما رواه ابن إسحاق عن عبيد بن عمير أنه صلى الله عليه وسلم وقع له في النوم نظير ما وقع له في اليقظة من الغط والأمر بالقراءة وغير ذلك. قال الحافظ: ففي كون ذلك يستلزم وقوعه في اليقظة حتى يتوقعه نظر، فالأولى ترك الجزم بأحد الأمرين.
الحق: قال الطيبي: أي الأمر الحق، وهو الوحي أو رسول الحق وهو جبريل. وقال البلقيني: أي الأمر البين الظاهر أو المراد: الملك بالحق، أي الأمر الذي بعث به.
فجاءه الملك: هو جبريل بلا خلاف كما قال البلقيني، واللام فيه لتعريف الماهية لا للعهد، إلا أن يكون المراد به ما عهده صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، لما كلمه في صباه، أو اللفظ لعائشة وقصدت به ما يعهده من تخاطبه به.
قال الإسماعيلي: هي عبارة عما عرف بعد أنه ملك، إنما الذي في الأصل: فجاءه جاء وكان ذلك الجائي ملكا، فأخبر صلى الله عليه وسلم عنه يوم أخبر بحقيقة جنسه، وكان الحامل على ذلك أنه لم يتقدم له معرفة به.
وقال البلقيني: والفاء يحتمل أن تكون سببية أي حتى قضي بمجيء الوحي، فبسبب ذلك جاءه الملك.
قال الحافظ: وهو أقرب من الذي قبله. وقال في مكان آخر هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيبية، لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى يعقب به بل هو نفسه، ولا يلزم من هذا التقدير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه، بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال وغيره من جهة التفصيل.
فقال «اقرأ» : يحتمل أن يكون هذا الأمر لمجرد التنبيه والتيقظ لما سيلقى إليه، وأن يكون على بابه من الطلب، ويحتمل أن صفة الأمر محذوفة أي قل: اقرأ، وإن كان الجواب ما أنا بقارئ فعلى ما فهم من ظاهر اللفظ، وكأن السر في حذفها لئلا يتوهم أن لفظ قل من القرآن.
قال أبو شامة: وقع في الصحيحين الأمر بالقراءة من غير ذكر المقروء
وفي حديث عبيد بن عمير قال صلى الله عليه وسلم: «فجاءني وأنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب فقال اقرأ» .
ففي هذه الرواية بيان المقروء، إلا أن الأشبه أن هذا المجيء غير الذي في حديث عائشة، لأن هذا صرح فيه أنه كان فيه مناما وحديث عائشة في اليقظة.(2/247)
ما أنا بقارئ: وفي لفظ: «ما أحسن أن أقرأ»
فما نافية واسمها أنا وخبرها بقارئ، ولو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء وإن حكي عن الأخفش جوازه فهو شاذ، والباء زائدة لتأكيد النفي، وتقدم في التنبيه الثاني ما يدل على أنها استفهامية وجزم به بعض الشراح.
فغطني: بغين معجمة فطاء مهملة أي عصرني وضمني. يقال غطه وغته بالغين المعجمة. وضغطه وخنقه وغمره، كله بمعني. وفي رواية الطبري: فغتني بتاء مثناة فوقية. وفي رواية عند أبي داود الطيالسي: فأخذ بحلقي.
حتى بلغ مني الجهد: يجوز فتح الجيم وضمها، وهو الغاية المشقة. ويجوز نصب الدال وضمها أي بلغ الغط مني الجهد أي غاية وسعي فهو مفعول حذف فاعله، ويروى بضم الجيم والدال أي بلغ مني الجهد مبلغه، فهو فاعل بلغ.
فأرسلني: أطلقني.
فرجع بها: أي رجع مصاحبا للآيات الخمس المذكورة.
يرجف: بضم الجيم: يخفق ويضطرب.
الفؤاد: قال الزمخشري: وسط القلب، سمي بذلك لتفؤده أي توقده وفسر الجوهري القلب بالفؤاد، ثم فسر الفؤاد بالقلب.
قال الزركشي: والأحسن قول غيره أن الفؤاد غشاء القلب والقلب حبته وسويداؤه، فإذا حصل للوعاء الرجفان حصل لما فيه فيكون في ذكره من تعظيم الأمر ما ليس في ذكر القلب.
ويؤيد الفرق
قوله صلى الله عليه وسلم «ألين قلوبا وأرق أفئدة»
وهو أولى من قول بعضهم أنه كرر لاختلاف اللفظ.
بوادره: قيل المراد بها اللحمة التي بين المنكب والعنق، وجرت العادة بأنها تضطرب عند الفزع، وعلى ذلك جرى الجوهري أي اللحمة المذكورة سميت بلفظ الجمع وتعقبه ابن بري فقال: البوادر جمع بادرة وهي ما بين المنكب والعنق يعني أنه لا يختص بعضو واحد، وهو جيد فيكون إسناد الرجفان إلى القلب لكونه محله، وإلى البوادر لأنها مظهره.
خشيت علي: بالتشديد وفي رواية على نفسي.
الروع: براء مفتوحة فواو ساكنة فعين مهملة: الفزع. والروع بضم الراء موضع الفزع من القلب.
كلا: قال النووي تبعا لغيره: هي كلمة نفي وإبعاد وقد تأتي بمعنى حقا وبمعنى الاستفتاح. وقال القزاز: هي هنا بمعنى الرد لما خشي على نفسه، أي لا خشية عليك، ويؤيده أن في رواية أبي ميسرة: فقالت معاذ اللَّه.
ومن اللطائف أن هذه الكلمة التي ابتدأت خديجة رضي اللَّه تعالى عنها النطق بها(2/248)
عقب ما ذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم من القصة التي وقعت له، هي التي وقعت عقب الآيات الخمس من سورة اقرأ في نسق التلاوة، فجرت على لسانها اتفاقا لأنها لم تكن نزلت بعد، وإنما نزلت في قصة أبي جهل، وهذا هو المشهور عند المفسرين.
لا يخزيك: بمثناة تحتية مضمومة فمعجمة فزاي فمثناة تحتية. وفي لفظ: يحزنك بحاء مهملة فزاي فنون ثلاثيا ورباعيا، قال اليزيدي: أحزنه: لغة تميم، وحزنه لغة قريش والحزن:
الوقوع في بلية وشهرة بذلُة.
نينوى: بنون، قال ياقوت في «المشترك» بنون مكسورة، فمثناة تحتية ساكنة فنون فواو فألف قال ياقوت: بلد قديم كان مقابل مدينة الموصل خرب وقد بقي من آثاره شيء وبه كان قوم يونس وجرجس عليهما الصلاة والسلام، وكذا وجد مضبوطا بكسر النون الأولى في نسخة صحيحة من كتاب «الذيل والصلة» لكتاب التكملة للصغاني وعليها خطه في مواضع كثيرة. وقال أبو ذر: روي بضم النون وبفتحها وهو أشهر.
قدوس: بضم القاف وتفتح: الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص. وفعول بالضم والتشديد من أبنية المبالغة. قال في النور: والظاهر أن معنى هذا الكلام التعجب مثلما يقول القائل: اللَّه اللَّه ويحتمل أن يريد: أنت قدوس أي طاهر منزه عن المعاصي يشير بذلك إلى أنه نبي.
عداس: بعين مفتوحة فدال مشددة وآخره سين مهملات.
الرحم: القرابة وصلتها بالإحسان إليها على حسب حال الواصل والموصول، فتارة يكون بالمال وتارة بالخدمة وتارة بالزيارة وغير ذلك.
الكل [ (1) ] : بفتح الكاف وتشديد اللام وهو الذي لا يستقل بأمره أو الثقل بكسر المثلثة وإسكان القاف.
تكسب المعدوم: بفتح المثناة الفوقية: أي تعطي الناس مالا يجدونه عند غيرك، فحذف أحد المفعولين، يقال: كسبت الرجل مالا واكتسبته بمعنى، وقيل معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه ما لا يصيبه غيرك وكانت العرب تتمادح بكسب المال لا سيما قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة محظوظا في التجارة كما سبق بيان ذلك، وإنما يصح هذا المعنى هنا إذا ضم إليه ما يليق به من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت من المكرمات.
وفي رواية: بضم المثناة الفوقية، من اكتسبت، أي تكسب غيرك المال المعدوم أي
__________
[ (1) ] انظر المعجم الوسيط 2/ 796.(2/249)
تتبرع له به، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، أو تعطي الناس مالا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق.
والرواية الأولى قال القاضي: أصح. وعلى الرواية الثانية قال الخطابي: الصواب المعدم بلا واو أي الفقير لأن المعدوم لا يكسب.
وأجاب صاحب التحرير بأنه لا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم، لكونه كالمعدوم الميت الذي لا تصرف له. والكسب هو الاستفادة فكأنها قالت: إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودا رغبت أنت أن تفيد رجلا عاجزا فتعاونه.
وقال قاسم بن ثابت في الدلائل: تكسب المعدوم: معناه ما يعدمه غيره ويعجز عنه ويصيبه وهو يكسبه، وأنشد على ذلك شاهدين من كلام العرب.
وفي تهذيب الأزهري عن ابن الأعرابي: رجل عديم: لا عقل له. ومعدوم: لا مال له.
قال الدماميني: كأنهم نزلوا وجود من لا مال له منزلة العدم.
تقرى الضيف: بفتح أوله بلا همز ثلاثيا قال الآبي: وسمع بضمها رباعيا، أي تهيئ له طعامه وشرابه.
نوائب الحق: حوادثه وإنما أضافت النوائب للحق لأنها تكون في الحق والباطل ورقة: بفتح الراء.
تنصر: صار نصرانيا.
الجاهلية: ما كان قبل البعثة.
فكان يكتب الكتاب العبراني: وفي رواية: العربي.
يكتب من الإنجيل بالعبرانية وفي رواية بالعربي والجميع صحيح، لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي لتمكنه من الكتابين واللسانين.
يا بن عم: هذا نداء على الحقيقة. ووقع في مسلم: يا عم. قال الحافظ: وهو وهم لأنه وإن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين، فتعين الحمل على الحقيقة.
الناموس: صاحب السر، كما جزم به البخاري في أحاديث الأنبياء، ويقال نمست السر بفتح النون والميم أنمسه بكسر الميم نمسا: كتمته. ونمست الرجل ونامسته: ساررته.
قال الحافظ: وزعم ابن ظفر وغيره أن الناموس صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، والأول الصحيح الذي عليه الجمهور وقد سوى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب.(2/250)
والمراد بالناموس هنا جبريل عليه الصلاة والسلام وسمي بذلك لأن اللَّه تعالى خصه بالغيب والوحي.
يا ليتني فيها: أي أيام الدعوة.
جذعا: بفتح الجيم والذال المعجمة، وروى في الصحاح بفتح العين وبضمها قال ابن بري: التقدير يا ليتني جعلت فيها جذعا. وقيل النصب على الحال إذا جعلت فيها خبر ليت، والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار، قاله القاضي والسهيلي، قال النووي:
وهو الصحيح الذي اختاره أهل التحقيق والمعرفة من شيوخنا. والجذع: الصغير من البهائم كأنه تمنى أن يكون عند ظهور النبي صلى الله عليه وسلم شابا ليكون أمكن لنصره.
أو مخرجي هم: بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج، فالياء الأولى ياء الجمع والثانية ضمير المتكلم، وفتحت للتخفيف لئلا يجتمع الكسر والياءان بعد كسرتين، فهم:
مبتدأ مؤخر، ومخرجي: خبر مقدم.
إلا عودي: وفي رواية: إلا أوذي.
لتكذبنه، إلى آخره: قال السهيلي لا ينطق بهذه الهاء إلا ساكنة لأنها هاء السكت وليست بهاء إضمار، وقال الخشني: الهاء للسكت. كذا جاءت الرواية بسكونها، ويحتمل أن تكون ضميرا منتصبا بالفعل ولكن كذا جاءت الرواية.
مؤزرا [ (1) ]- بالهمز للأكثر وتشديد الزاي بعدها راء من التأزير والتقوية وأصله من الأزر، والصواب موزرا بغير همز من وازرته موازرة إذا عاونته، ومنه أخذ وزير الملك، ويجوز حذف الألف فتقول نصرا موزرا. قال الحافظ ويرد عليه قول الجوهري: آزرت فلانا عاونته، والعامة تقول وازرته.
وقال الإمام أبو شامة: يحتمل أن يكون من الإزار، أشار بذلك إلى تشميره في نصرته.
قال الأخطل:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم. البيت.
اليافوخ- بمثناة تحتية فهمزة ففاء فواو فخاء معجمة: وسط الرأس، يقال في رأس الطفل حتى يشتد.
لم ينشب [ (2) ]- بفتح الشين المعجمة أي لم يلبث، وأصل النشوب التعلق، أي لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات.
__________
[ (1) ] لسان العرب 6/ 4823، 4824.
[ (2) ] المعجم الوسيط 2/ 920.(2/251)
الباب التاسع في كيفية إنزال الوحي
قال اللَّه سبحانه وتعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقال اللَّه تبارك وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
وقال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: فصل القرآن من الذكر ودفع إلى جبريل فوضعه في بيت العزة من السماء الدنيا في ليلة القدر جملة واحدة، وكان اللَّه ينزله على رسوله بعضه إثر بعض نجوما على مواقع النجوم رسلا لجواب كلام العباد وأعمالهم في عشرين سنة ثم قرأ:
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً. وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا.
رواه الحاكم والبيهقي من طريق سعيد بن جبير، والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي من طريق آخر، والطبراني من طريق آخر، والبزار من طريق آخر، وابن أبي شيبة من طريق آخر.
رسلا: أي رفقاء.
على مواقع النجوم: أي على مثل مساقطها. يريد: أنزل مفرقا يتلوا بعضه بعضا على تؤدة ورفق.
وهذا. قال الزركشي في البرهان والشيخ في الإتقان: إنه الأصح الأشهر، وقال الحافظ في الفتح: أنه الصحيح المعتمد.
وقيل: إنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين في كل ليلة ما يقدر اللَّه تعالى إنزاله في كل سنة، ثم نزل بعد ذلك منجما في جميع السنة.
وقيل إنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفات.
وقيل إنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، وإن الحفظة نزلته على جبريل في عشرين ليلة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة.
تنبيهات
الأول: قيل: السر في إنزاله جملة إلى السماء تفخيم أمره وأمر من أنزل عليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليهم لتنزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجما بحسب الوقائع(2/252)
لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن اللَّه باين بينه وبينها فجعل له الأمرين: إنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا تشريفا للمنزل عليه. ذكر ذلك أبو شامة رحمه اللَّه تعالى.
وقال الحكيم الترمذي رحمه اللَّه تعالى: إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا تسليما منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن بعثته كانت رحمة، فلما خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد وبالقرآن، فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حد الدنيا، ووضعت النبوة في قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وجاء جبريل بالرسالة ثم الوحي، كأنه أراد تعالى أن يسلم هذه الرحمة التي كانت حظ هذه الأمة من اللَّه تعالى إلى الأمة.
وقال الإمام أبو الحسن السخاوي في «جمال القرآن» في نزول القرآن إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنهم عند الملائكة وتعريفهم عناية اللَّه بهم ورحمته لهم، ولهذا المعني أمر سبعين ألفا من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام! وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له.
قال: وفيه أيضاً التسوية بين نبينا وبين موسى في إنزال كتابه جملة، والتفضيل لمحمد صلى الله عليه وسلم في إنزاله عليه منجما ليحفظه.
الثاني: قال أبو شامة رحمه اللَّه تعالى: الظاهر أنه نزل جملة إلى السماء الدنيا قبل ظهور نبوته صلى الله عليه وسلم. قال: ويحتمل أن يكون بعدها.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: والظاهر الثاني.
وسياق الآثار السابقة عن ابن عباس صريح فيه.
وقال الحافظ: قد أخرج أحمد والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، والزبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت منه» [ (1) ] . وفي رواية: «وصحف إبراهيم لأول ليلة» .
قال: وهذا الحديث مطابق لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة 185] ولقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر 1] فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أول اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 107 والطبري في التفسير 2/ 84 والبيهقي في الأسماء والصفات (234) .(2/253)
قال الشيخ: لكن يشكل على هذا ما اشتهر من أنه بعث في شهر ربيع الأول. ويجاب عن هذا بما ذكروه أنه صلى الله عليه وسلم نبئ أولا بالرؤيا في شهر مولده، ثم كانت مدتها ستة أشهر، ثم أوحى إليه في اليقظة، ذكره البيهقي وغيره.
الثالث: قال أبو شامة: إن قيل ما السر في نزوله منجما وهلا نزل كسائر الكتب جملة؟
قلنا: هذا سؤال قد تولى اللَّه جوابه فقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان 32] يعنون كما أنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله «كذلك» أي أنزلناه كذلك مفرقا «لنثبت به فؤادك» .
أي لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل. وقيل معنى «لنثبت به فؤادك» : أي لنحفظه لأنه عليه الصلاة والسلام كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ففرق عليه ليثبت عنده حفظه بخلاف غيره من الأنبياء فإنه كان كاتبا قارئا فيمكنه حفظ الجميع.
وقال غيره: إنما لم ينزل جملة واحدة لأن منه الناسخ والمنسوخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا، ومنه ما هو جواب لسؤال، ومنه ما هو إنكار على قول قيل أو فعل فعل، وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس: «ونزل به جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم» .
وبه فسر قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ [الفرقان 33] .
فالحاصل: أن الآية تضمنت حكمتين لإنزاله مفرقا.
الرابع: قال الأصفهاني: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام اللَّه تعالى منزل واختلفوا في معنى الإنزال، فمنهم من قال: إظهار القراءة، ومنهم من قال: أن اللَّه تعالى ألهم كلامه جبريل وهو في السماء وهو عال من المكان وعلمه قراءته، ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان.
وفي التنزيل طريقان: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل.
والثاني: أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه.
والأول أصعب الحالين.
وقال الحافظ: جرت العادة بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع(2/254)
بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.
وقال الطيبي: لعل نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم إن يتلقفه الملك من اللَّه تعالى تلقفا روحانيا، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه.
وقال القطب الرازي في حواشي الكشاف: الإنزال لغة بمعنى الإيواء وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى سفل، وكلاهما لا يتحققان في الكلام، فهو مستعمل فيه في معنى مجازي، فمن قال: القرآن معنى قائم بذات اللَّه تعالى: فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ، وهذا المعنى مناسب لكونه منقولا عن أول المعنيين اللغويين، ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ، وهذا مناسب للمعنى الثاني، والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يلقفها الملك تلقفا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم.
وقال الشيخ رحمه اللَّه تعالى في فتاويه: وسألت شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي عن كيفية التلقف الروحاني فقال لي: لا بكيف.
وقال البيهقي رحمه اللَّه تعالى في معنى قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يريد واللَّه تعالى أعلم: إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع، فيكون الملك منتقلا به من علو إلى سفل.
قال أبو شامة: هذا المعنى مطرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن أو إلى شيء منه يحتاج إليه أهل السنة المعتقدون قدم القرآن وأنه صفة قائمة بذات اللَّه تعالى.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: ويؤيد أن جبريل تلقفه سماعا من اللَّه تعالى ما أخرجه الطبراني من حديث النواس بن سمعان رضي اللَّه تعالى عنه مرفوعا: إذا تكلم اللَّه بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف اللَّه تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجدا فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه اللَّه تعالى بما أراد فينتهي به على الملائكة فكلما مر بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق. فينتهي به حيث أمر [ (1) ] .
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رفعه: إذا تكلم اللَّه تعالى بالوحي يسمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون ويرون أنه من أمر الساعة فذكر نحو ما سبق. وأصل الحديث في الصحيح [ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود 2/ 649 من حديث مسلم عن مسروق عن عبد الله مرفوعاً بنحوه.
[ (2) ] في البخاري 13/ 461 كتاب التوحيد.(2/255)
وقال الإمام العلامة شهاب الدين محمد بن أحمد بن الخليل الخولي- بضم الخاء المعجمة- رحمه اللَّه تعالى: كلام اللَّه تعالى المنزل قسمان: قسم قال اللَّه تعالى لجبريل قل للنبي الذي أنت مرسل إليه: إن اللَّه يقول افعل كذا وكذا وأمر بكذا وكذا- ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبي وقال له ما قال له ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به قل لفلان يقول لك الملك اجتهد في الخدمة واجمع جندك للقتال. فإن قال الرسول: يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي ولا تترك الجند يتفرق وحثهم على المقاتلة، لا ينسب إلى كذب أو تقصير في أداء الرسالة.
وقسم آخر قال اللَّه تعالى لجبريل: اقرأ على النبي هذا الكتاب. فنزل جبريل بكلام اللَّه تعالى من غير تغيير، كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ويقول اقرأه على فلان، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفاً.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنة، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن.(2/256)
الباب العاشر في شدة الوحي وثقله
قال اللَّه سبحانه وتعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل 5] .
وقال زيد بن ثابت رضي اللَّه تعالى عنه: أنزل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي فكادت فخذه ترض فخذي [ (1) ] .
رواه الشيخان.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: أن كان ليوحى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرى عنه. وتلت الآية.
رواه الإمام أحمد وعبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه.
وقال أبو أروى الدوسى- بفتح الدال المهملة- رضي اللَّه تعالى عنه: رأيت الوحي ينزل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإنه على راحلته فترغو وتفتل يديها حتى أظن أن ذراعها تنقصم، فربما بركت وربما قامت موتدة يديها حتى يسرى عنه عن ثقل الوحي، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان.
رواه ابن سعد.
وقال عبادة بن الصامت رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتربد وجهه وغمض عينيه [ (2) ] .
رواه مسلم.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى يقضى الوحي [ (3) ] .
رواه مسلم.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي يغط في رأسه ويتربد وجهه ويجد بردا في ثناياه ويعرق حتى لينحدر منه مثل الجمان.
رواه ابن سعد.
وقالت أسماء بنت يزيد رضي اللَّه تعالى عنها: كنت آخذة بزمام ناقة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين أنزلت عليه سورة المائدة فكاد ينكسر عضدها من ثقل السورة.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 1/ 166 كتاب الصلاة باب في الفخذ.
[ (2) ] أخرجه مسلم 4/ 1817 (88- 2334) .
[ (3) ] أخرجه مسلم 3/ 1405 (84- 1780) .(2/257)
رواه الإمام أحمد والطبراني.
وقال ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما: أنزلت على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها.
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: وثبت في الصحيحين نزول سورة الفتح على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وهو على راحلته، فكأنه يكون تارة وتارة بحسب الحال.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: لقد رأيته- تعني النبي صلى اللَّه عليه وسلم- ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا.
رواه البخاري.
وقال ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما: سألت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه هل تحسّ بالوحي؟ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك، فما مرّة يوحى إليّ إلا ظننت أن نفسي تقبض [ (1) ] .
رواه أحمد.
وروى ابن سعد عن عكرمة قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا أوحى إليه وقد لذلك ساعة كهيئة السكران.
وقال يعلى بن أمية [ (2) ] إنه كان يقول: «ليتني أرى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي فلما كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم بالجعرانة وعليه ثوب قد أظلّ عليه ومعه ناس من أصحابه فيهم عمر إذ جاءه رجل متضمّخ بطيب فقال: يا رسول اللَّه كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعد ما تضمخ بطيب فنظر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثم سكت، فجاءه الوحي فأشار عمر: أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا هو محمّر الوجه يغط كما يغط البكر، كذلك ساعة ثم سري عنه» الحديث [ (3) ] .
رواه الشيخان.
وقالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها في حديث الإفك: فأخذه- يعني رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم- ما كان يأخذه من البرحاء [ (4) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 2/ 222.
[ (2) ] يعلى بن أمية بن أبي عبيدة بن همّام التميمي، حليف قريش، وهو يعلى ابن منية، بضم الميم وسكون النون بعدها تحتانية مفتوحة، وهي أمه، وصحابي مشهور، مات سنة بضع وأربعين [التقريب 2/ 377] .
[ (3) ] أخرجه البخاري 3/ 718- 1789 ومسلم 2/ 836 (6- 1180) .
[ (4) ] أخرجه البخاري 8/ 306 (4750) ومسلم 4/ 2129 (56- 2770) .(2/258)
رواه الشيخان.
وقالت أيضا: وكان إذا أتاه الوحي أخذه السّبل.
رواه الحاكم.
وقال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي تربّد لذلك جسده ووجهه وأمسك عن أصحابه ولم يكلمه أحد منهم.
رواه أبو داود الطيالسي.
وقال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي صدع وغلّف رأسه بالحنّاء.
رواه أبو نعيم وله طرق تأتي- في طبّه صلى اللَّه عليه وسلم.
وقال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مما يعالج من التنزيل شدّة يحرّك به لسانه وشفتيه من حبّه إياه، فانزل اللَّه تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
قال: جَمْعه لك في صدرك ثم تقرؤه. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
فاستمع وأنصت. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ فكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إذا أتاه جبريل بعد ذلك استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى اللَّه عليه وسلم كما وعده اللَّه تعالى.
رواه الشيخان وابن سعد.
وروى الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع إليه طرفه حتى ينقضي الوحي.
تنبيهات
الأول: قال الإمام أبو شامة: وهذا العرق الذي كان يغشاه واحمرار الوجه والغطيط وثقله على الراحلة وعلى الفخذ لثقل الوحي، كما أخبره بذلك اللَّه تبارك وتعالى في ابتداء أمره بقوله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا وذلك لضعف قوى البشر عن تحمل مثل ذلك الوارد العظيم من ذلك الجناب الجليل.
قال ابن إسحاق: وللنبوة أثقال ومؤنة لا يحملها إلّا أهل القوة والعزم من الرسل بعون اللَّه تعالى.
الثاني: قال شيخ الإسلام البلقيني: هذا الذي كان يحصل له حين تلقي الوحي من الجهد حال يؤخذ فيه عن حال الدنيا من غير موت، وهو مقام برزخي يحصل له عند تلقي الوحي، ولما كان البرزخ العام ينكشف فيه للميت كثير من الأحوال خص اللَّه تعالى نبيه صلى اللَّه عليه وسلم(2/259)
ببرزخ في الحياة يلقي إليه فيه وحيه المشتمل على كثير من الأسرار، وقد يقع لكثير من الصلحاء عند الغيبة بالنوم أو غيره اطلاع على كثير من الأسرار، وذلك مستمد من المقام النبوي، ويشهد له
قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة»
[ (1) ] .
انتهى.
وثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي اللَّه تعالى عنها: لما نزلت آية الحجاب وأن سودة خرجت بعد ذلك إلى المناصع ليلا فقال عمر: قد عرفناك يا سودة، فرجعت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فسألته وهو جالس يتعشّى والعرق في يده، فأوحى اللَّه تعالى إليه والعرق في يده ثم رفع رأسه فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن.
قال ابن كثير: فدل هذا على أنه لم يكن عند الوحي يغيب عنه إحساسه بالكلية بدليل أنه جالس لم يسقط ولم يسقط العرق من يده. انتهى.
[تفسير الغريب]
المناصع- بفتح الميم وكسر الصاد المهملة: صعيد أفيح خارج المدينة.
العرق [ (2) ]- بعين مهملة مفتوحة فراء ساكنة فقاف: العظم الذي عليه اللحم والقطعة من اللحم. وسيأتي الكلام عليه في أبواب مناماته صلى اللَّه عليه وسلّم.
الثالث: قال ابن كثير: تحريكه صلى اللَّه عليه وسلّم لسانه عند إلقاء الوحي إليه كان في الابتداء كان صلى اللَّه عليه وسلم من شدة حرصه على أخذه من الملك ما يوحيه إليه عن اللَّه تعالى يساويه في التلاوة، فأمره اللَّه تعالى أن أنصت لذلك حتى يفرغ من الوحي، ولهذا قال: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [ (2) ] [طه 114] .
وقال الحافظ: اختلف في سبب تحريكه صلى اللَّه عليه وسلّم لسانه وشفتيه. ففي رواية: يخشى أن يتفلّت منه. وفي لفظ: خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره فيشتد عليه، وفي رواية أنه كان إذا نزل عليه جعل يتكلم من حبّه إياه.
قال الحافظ: وظاهر الرواية الثانية أن السبب في المبادرة حصول المشقة التي يجدها عند النزول، فكان يتعجل ما يأخذه لتزول المشقة سريعا. وظاهر الثالثة أنه كان يتكلم بما يلقي اللَّه منه أولا فأولا، من شدة حبه إياه فأمر أن يتأنّى إلى أن ينقضي النزول.
قال الحافظ: ولا بعد في تعدد السبب.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 9/ 39 ومسلم 4/ 1773 (6- 2263) .
[ (2) ] انظر لسان العرب 4/ 2906.(2/260)
الرابع: في بيان غريب ما سبق:
ترضّ فخذي: تدقه وتكسره.
الجران- بجيم مكسورة فراء: باطن العنق ومعناه: أنها تفعل ذلك لشدة الوحي وثقله.
يسرّى- بضم أوله وتشديد الراء المفتوحة والقصر: أي يكشف ذلك عنه ويزول.
ترغو- بغين معجمة: تصيح.
تفتل يديها: تديرهما من ثقل ما عليها.
تنقصم: تنكسر وتندق.
موتدة يديها- بضم الميم من الوتيد. قال الشيخ في مختصر النهاية: ووتيد الأرض:
صوت شدة الوطء على الأرض يسمع كالدويّ من بعد.
الجمان- بجيم مضمومة فميم مفتوحة: اللؤلؤ، شبّهت قطرات عرقه بالجمان لتشابهها في الصّفاء والحسن.
كرب لذلك- بضم الكاف وكسر الراء: أي أصابه الكرب أي الشدة فهو مكروب، والذي كربه كارب.
التربّد- بالراء ودال مهملة في آخره: كمودة في اللون وهي غبرة في سواد.
الغطّ- بغين معجمة وطاء مهملة مشددة، والغطيط: صوت يخرج من نفس النائم وهو ترديده حيث لا يجد مساغا.
يفصم عنه: بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة: أي يقلع وينجلي. ويروى بضم أوله من الرباعي وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد مبنيّا للمفعول، وأصل القصم القطع، وقيل الفصم بالفاء: القطع بلا إبانة. وبالقاف: القطع بإبانة فعبر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العلقة.
يتفصّد عرقا: أي يجري منه كما يجري الدم من الفصاد.
الصّلاصل: بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية: جمع صلصلة بفتح المهملتين بينهما لام ساكنة، وهي صوت وقع الأشياء الصّلبة اليابسة بعضها على بعض، ثم أطلق على صوت له طنين.
وقذ- بواو مضمومة فقاف مكسورة فذال معجمة مفتوحة: يقال وقذه النّعاس: إذا غلب عليه.(2/261)
الجعرانة- بكسر الجيم وسكون العين المهملة ونقل ابن المديني عن أهل العراق كسر العين وشدّ الراء. وقال الشافعي والخطابي: المحدّثون يخطئون في تشديدها وقد أولع أصحاب الحديث به، والصواب الأول: موضع على سبعة أميال من مكة إلى جهة الطائف.
متضمّخ: متلطخ.
البرحاء- بباء موحدة مضمومة فراء مفتوحة فحاء مهملة فألف ممدودة: شدة الحمى، وقيل شدة الكرب، وقيل شدة الحر.
السّبل- بفتح السين المهملة والموحّدة داء في العين شبه غشاوة كأنها نسج العنكبوت.
المعالجةُ: محاولة الشيء بمشقة إن كان العلاج ناشئا من تحريك الشفتين، أي مبدأ العلاج منه، وما موصولة، وأطلقت على من يعقل مجازا.
هكذا قرّره الكرماني. قال الحافظ: وفيه نظر، لأن الشدة حاصلة له قبل التحريك، والصواب ما قاله ثابت السّرقسطي أن المراد كان كثيرا ما يفعل ذلك، وورود «ممّا» في هذا كثير، ومنه حديث الرؤيا: «وكان ممّا يقول لأصحابه: من رأى منكم رؤيا» [ (1) ] .
قال الحافظ: ويؤيده رواية البخاري في التفسير عن عائشة ولفظها: «كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي فكان ممّا يحرك شفتيه» [ (2) ] فأتى بهذا اللفظ مجردا عن تقدّم العلاج الذي قدّره الكرماني فظهر ما قاله ثابت.
ووجه ما قاله غيره: أن «من» إذا وقع بعدها «ما» كانت بمعنى ربما، وهي تطلق على الكثير كما تطلق على القليل. وفي كلام سيبويه مواضع من هذا، منها قوله: اعلم أنهم مما يحذفون كذا. ومنه حديث البراء: كنا إذا صلّينا خلف النبي صلى اللَّه عليه وسلم مما يحب أن يكون عن يمينه.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 2/ 146.
[ (2) ] أخرجه البخاري 8/ 549 (4928) .(2/262)
الباب الحادي عشر في أنواع الوحي
قال العلماء رضي اللَّه تعالى عنهم: كان الوحي ينزل إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في أحوال مختلفة.
الأول: الرؤيا الصادقة في المنام. قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى. قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ [الصافات 102] فدل على أن الوحي كان يأتيهم في المنام كما كان يأتيهم في اليقظة.
وفي الصحيح عن عبيد بن عمير: «رؤيا الأنبياء وحي» وقرأ هذه الآية.
الثاني: أن ينفث الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه، كما
قال صلى اللَّه عليه وسلم: إن روح القدس نفث في روعي: لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا اللَّه وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية اللَّه فإن ما عند اللَّه لن ينال إلا بطاعته.
رواه ابن أبي الدنيا في كتاب القناعة والحاكم.
وقال كثير من المفسرين في قوله تعالى: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً [الشورى 51] : هو أن ينفث في روعه بالوحي. قال الحليمي: هذا هو الوحي الذي يخص القلب دون السمع.
الثالث: أن يأتيه مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليه، فيتلبّس به الملك حتى إن جبينه ليتفصّد عرقا في اليوم الشديد البرد وحتى إن راحلته لتبرك على الأرض.
روى الشيخان عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها أن الحارث بن هشام رضي اللَّه تعالى عنه سأل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه علي فيفصم عنّي وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول»
[ (1) ] .
وروى ابن سعد بسند رجاله ثقات عن أبي سلمة الماجشون إنه بلغه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يقول: «كان الوحي يأتيني على نحوين: يأتيني به جبريل فيلقيه عليّ كما يلقى الرجل الرجل فذاك يتفلّت منّي، ويأتيني في شيء مثل صلصلة الجرس حتى يخالط قلبي فذاك لا يتفلت مني»
[ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 1/ 3 (2) ومسلم 4/ 1516 (87- 2333) .
[ (2) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 197.(2/263)
قال الحافظ: وهذا محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
كما تقدم فإن الملك قد تمثّل رجلا في صور كثيرة ولم يتفلّت ما أتاه به، كما في قصة مجيئه في صورة دحية وفي صورة أعرابي، وغير ذلك، وكلها في الصحيح.
الرابع: أن يكلمه اللَّه تعالى بلا واسطة من وراء حجاب في اليقظة كما في ليلة الإسراء على القول بعدم الرؤية.
الخامس: أن يكلمه اللَّه تعالى كفاحا بغير حجاب على القول بالرؤية ليلة الإسراء.
وسيأتي بسط ذلك في أبوابه.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: وليس في القرآن من هذا النوع شيء فيما أعلم، نعم يمكن أن يعدّ منه آخر سورة البقرة وبعض سورة الضحى وألم نشرح، فقد
روى ابن أبي حاتم من حديث عدي بن ثابت قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «سألت ربي مسألة ووددت أني لم أكن سألته، قلت: أي ربّ اتّخذت إبراهيم خليلاً وكلّمت موسى تكليما، فقال يا محمد: ألم أجدك يتيما فآويت وضالا فهديت وعائلا فأغنيت، وشرحت لك صدرك وحططت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت معي»
[ (1) ] .
السادس: أن يكلمه اللَّه تعالى في النوم، كما
في حديث معاذ عند الترمذي: «أتاني ربي في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى»
ويأتي بتمامه في أبواب مناماته.
وذكر بعضهم من هذا سورة الكوثر لما
رواه مسلم عن أنس قال: بينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع بصره مبتسما فقرأ: بسم اللَّه الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ إلى آخرها.
وقال الإمام الرافعي رحمه اللَّه تعالى في أماليه: فهم فاهمون من الأحاديث أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة وقالوا من الوحي ما كان يأتيه في النوم لأن رؤيا الأنبياء وحي.
قال: وهذا صحيح لكن الأشبه أن يقال: القرآن كله نزل في اليقظة وكأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزلة في اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذي وردت فيه السورة فقرأها عليهم وفسّرها لهم.
قال: وورد في بعض الروايات أنه أغمي عليه وقد يحمل ذلك على الحالة التي تعتريه عند نزول الوحي ويقال لها برحاء الوحي.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: وهذا الذي قاله الإمام الرافعي في غاية الاتجاه، وهو الذي
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 7/ 63.(2/264)
كنت أميل إليه قبل الوقوف عليه، والتأويل الأخير أصح من الأول لأن قوله: أنزل علي آنفا يدفع كونها نزلت قبل ذلك، بل نقول: نزلت في تلك الحالة وليس الإغفاء إغفاءة نوم بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا. انتهى.
السابع: مجيء الوحي كدوي النحل.
روى الإمام أحمد والحاكم، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم «إذا أنزل عليه يسمع عند وجهه كدويّ النحل» [ (1) ] .
الثامن: العلم الذي يلقيه اللَّه تعالى في قلبه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام.
لأنه اتّفق على أنه صلى اللَّه عليه وسلم إذا اجتهد أصاب قطعا وكان معصوما عن الخطأ وهذا خرق للعادة في حقه صلى اللَّه عليه وسلم دون الأمة، وهو يفارق النّفث في الرّوع من حيث حصوله بالاجتهاد والنفث بدونه. قال في إرشاد الساري: ويعكر عليه أن الظاهر من كلام الأصوليين أن اجتهاده صلى اللَّه عليه وسلّم والوحي قسمان. انتهى.
هذا ما وقفت عليه من صفات الوحي.
وأما صفة حامله: فمجيء جبريل عليه الصلاة والسلام في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح يتناثر من أجنحته اللؤلؤ والياقوت، وقد وقع ذلك مرتين: مرة في السماء ليلة المعراج، ومرة في الأرض، كما سيأتي بسط ذلك في أبواب المعراج.
ومجيئه في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشّعر.
وفي صورة دحية الكلبي.
ومجيئه في صورة رجل غير دحية.
نزول الوحي على لسان ملك الجبال كما سيأتي بيان ذلك في باب سفره إلى الطائف ونزوله على لسان إسرافيل، كما تقدم بيان ذلك.
تنبيهات
الأول: ذكر الإمام الحليمي رحمه اللَّه تعالى أن الوحي كان يأتي النبي صلى اللَّه عليه وسلم على ستة وأربعين نوعا، فذكرها. قال الحافظ: وغالبها من صفة حامل الوحي ومجموعها يدخل فيما ذكر.
الثاني: استشكل تشبيه مجيء الوحي بصلصلة الجرس إذ المحمود لا يشبّه بالمذموم،
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 34.(2/265)
إذ حقيقة التشبيه: إلحاق ناقص بكامل، والمشبّه الوحي وهو محمود، والمشبّه به صوت جرس وهو مذموم، لصحة النّهي عنه والتّنفير من موافقة ما هو عليه والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة كما أخرجه مسلم، فكيف يشبّه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟
والجواب: بأنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبّه بالمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخسّ وصف له بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالمقصود هنا بيان الحسّ فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبا لأفهامهم، والحاصل أن الصوت له جهتان: جهة قوة وجهة طنين، فمن جهة القوة وقع التشبيه، ومن جهة الصوت وقع التنفير عنه، وعلّل بكونه مزمار الشيطان.
قيل: ويحتمل أن يكون النهي وقع بعد السؤال.
قال الحافظ: وفيه نظر.
قال ابن بطال: وعلى مثل هذه الصفة تتلقى الملائكة الوحي من اللَّه تعالى، وقال التوربشتي: وهذا الصوت من الوحي تشبيها بما يوحى إلى الملائكة على ما
رواه أبو هريرة عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «إذا قضى اللَّه في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنها سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم. قالوا: الحق وهو العليّ الكبير» .
رواه البخاري وغيره.
قال القاضي: ما جاء من مثل ذلك يجري على ظاهره وكيفية ذلك وصورته مما لا يعلمه إلا اللَّه تعالى أو من أطلعه اللَّه تعالى على شيء من ذلك من ملائكته ورسله، وما يتأوّل هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان، إذ جاءت به الشريعة ودلائل العقل لا تحيله انتهى.
والصلصلة المذكورة: قيل صوت الملك بالوحي. وقيل صوت حفيف أجنحة الملائكة. قال الخطّابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد.
قوله: خضعانا- بفتحتين، وبضم أوله وسكون ثانيه: مصدر بمعنى خاضعين.
كأنه: أي القول المسموع.
الصّفوان: الحجر الأملس.
الثالث: الحكمة في تقديم الصلصلة أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره، فلما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا بتدارك وقع التشبيه به دون غيره من الآلات.
الرابع: دلّ
قوله «وهو أشدّه عليّ»
أن الوحي كله شديد ولكن هذه الصفة أشدها، وهو(2/266)
واضح لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل لغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.
قال الإمام البلقيني: وسبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدّمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به، كما في حديث ابن عباس: كان يعالج من التنزيل شدة.
قال الإمام البلقيني: وسبب ذلك أن الكلم العظيم له مقدّمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به، كما في حديث ابن باس: كان يعالج من التنزيل شدة.
قال: وقال بعضهم: وإنما كان أشدّه عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع. انتهى.
الخامس: قيل إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد. قال الحافظ: وفيه نظر. والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبّة المتضمّخ بالطيب. وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزّلفى.
السادس: عبّر
بقوله: «فيفصم عنيّ وقد وعيت»
بالماضي وفي:
«فيكلّمني فأعي»
بالاستقبال. لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم، وفي الثاني حصل حالة المكالمة وإنه كان في الأول قد تلبس بصفات الملائكة فإذا عاد إلى حالته الجبلّية كان حافظا لما قيل له، فعبّر عنه بالماضي، بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة.
السابع: قال إمام الحرمين [ (1) ] : تمثّل جبريل رجلا معناه أن اللَّه تعالى أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه ثم يعيده إليه بعد.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام [ (2) ] : فإن قيل إذا أتى جبريل النبي صلى اللَّه عليه وسلم في صورة دحية فأين تكون روحه: أفي الجسد الذي يشبّه بجسد دحية؟ أم في الجسد الذي خلق عليه له ستمائة جناح؟ فإن كان في الجسد الأعظم فما الذي أتى إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم جبريل، لا
__________
[ (1) ] عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن محمد، العلامة إمام الحرمين، ضياء الدين، أبو المعالي بن الشيخ أبي محمد الجويني مولده في المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة. وتوفى أبوه وله عشرون سنة، فأقعد مكانه للتدريس فكان يدرس ويخرج إلى مدرسة البيهقي حتى حصل أصول الدين وأصول الفقه على أبي القاسم الاسفراييني الإسكاف. ومن تصانيفه «النهاية» جمعها بمكة وحررها بنيسابور و «الأساليب في الخلاف» و «البرهان» في أصول الفقه. الطبقات لابن قاضي شهبة 1/ 255، 256، وطبقات الشافعية للسبكي 3/ 249، ووفيات الأعيان 2/ 341.
[ (2) ] [عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، الشيخ الإمام العلامة، وحيد عصره، سلطان العلماء، عز الدين، أبو محمد، السلمي، الدمشقي ثم المصري] (1) . ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وتفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر (2) والقاضي جمال الدين بن الحرستاني (3) ، وقرأ الأصول على الآمدي (4) وبرع في المذهب، وفاق فيه الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والعربية، واختلاف الناس ومآخذهم، حتى قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد. قال الشيخ قطب الدين اليونيني: كان مع شدته فيه حسن محاضرة بالنوادر والأشعار. وقال الشريف عز الدين: حدث، ودرس، وأفتى، وصنف، وتولى الحكم بمصر مدة. [انظر الطبقات لابن قاضي شهبة 2/ 109، 110، 111، وطبقات الشافعية للسبكي 5/ 80] .(2/267)
من جهة روحه ولا من جهة جسده، وإن كانت في الجسد المشبّه بجسد دحية فهل يموت الجسد الذي له ستمائُة جناح كما تموت الأجساد إذا فارقتها الأرواح؟ أم يبقى حيّا خاليا من الروح المتنقلة بالجسد المشبّه بجسد دحية؟
قلت: لا يبعد أن يكون انتقالها من الجسد الأول غير موجب لموته لأن موت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلاً، وإنما هو بعادة مطّردة أجراها اللَّه في أرواح بني آدم، فيبقى ذلك الجسد حيّا لا ينقص، من معارفه وطاعاته شيء، ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف الطيور الخضر. انتهى.
وقال الشيخ سراج الدين البلقيني في كتابه «الفيض الجاري على صحيح البخاري» :
يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأول، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منفوشا، فإنه بالنفش تحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغيّر وهذا على سبيل التقريب.
وقال العلامة علاء الدين القونوي [ (1) ] شارح الحاوي في كتاب «الأعلام بإلمام الأرواح بعد الموت على الأجسام» : قد كان جبريل عليه الصلاة والسلام يتمثّل في صورة دحية وتمثّل لمريم بشرا سويّا، وفي الممكن أن يخص اللَّه بعض عباده في حال الحياة بخاصة لنفسه الملكيّة القدسية وقوة لها يقدر بها على التصّرف في بدن آخر غير بدنها المعهود مع استمرار تصرفها في الأول. وقد قيل في الأبدال: إنهم إنما سمّوا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر تشبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه، وقد أثبت الصوفية عالما متوسّطا بين عالمي الأجساد والأرواح، وبنوا على ذلك تجسّد الأرواح وظهورها في صور مختلفة من عالم المثال، وقد يستأنس لذلك بقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
فتكون الروح الواحدة كروح جبريل مثلا في وقت واحد مدبّرة لشبحه الأصلي، ولهذا الشبح المثال، وينحلّ بهذا ما قد اشتهر نقله عن بعض الأئمة أنه سأل بعض الأكابر عن جسم جبريل فقال: أين كان يذهب ما قد اشتهر نقله عن بعض الأئمة أنه سأل بعض الأكابر عن جسم جبريل فقال: أين كان يذهب جسمه الأول- الذي يسدّ الأفق بأجنحته لمّا تراءى للنبي صلى اللَّه عليه وسلم في صورته الأصلية- عند إتيانه إليه في صورة دحية؟ وقد تكلف بعضهم الجواب عنه بأنه يجوز أن يقال:
__________
[ (1) ] محمود بن علي بن إسماعيل بن يوسف، العالم، محب الدين أبو الثناء بن الإمام العلامة علاء الدين، التبريزي، القونوي الأصل المصري. ولد بمصر سنة تسع عشرة وسبعمائة، وتوفي والده وهو صغير، فاشتغل، وأخذ عن مشايخ العصر، ودرس وأشغل، وأفتى، وصنف. ذكره رفيقه الإسنوي في طبقاته، وبالغ في المدح له والثناء عليه، فقال: كان صاحب علم وعمل وطريقة لا عوج فيها ولا خلل. كان عالما بالفقه وأصوله، فاضلا في العربية والمعاني والبيان، صالحا، مجتهدا في العبادة والتلاوة، كثير الاشتغال والإشغال محافظا على أوقاته، توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وسبعمائة. الطبقات لابن قاضي شهبة 3/ 72، 73، وطبقات الشافعية للسبكي 6/ 247. وطبقات الأسنوي(2/268)
كان يندمج بعضه في بعض إلى أن يصغر حجمه فيصير بقدر صورة دحية، ثم يعود وينبسط إلى أن يصير كهيئته الأولى.
وما ذكره الصوفية أحسن، ويجوز أن يكون جسمه الأول بحاله لم يتغير، وقد أقام اللَّه له شبحا آخر وروحه متصرّفة فيهما جميعا في وقت واحد. انتهى.
وقال العلامة شمس الدين بن القيّم في كتاب الرّوح: للروح شأن غير شأن الأبدان، فتكون في الرفيق الأعلى وهي متصلة ببدن الميت بحيث إذا سلّم المسلّم على صاحبها رد عليه السلام وهي في مكانها هناك، وهذا جبريل رآه النبي صلى اللَّه عليه وسلم وله ستمائة جناح منها جناحان سدّ الأفق، وكان يدنو من النبي صلى اللَّه عليه وسلم حتى يضع ركبتيه على ركبتيه ويديه على فخذيه، وقلوب المؤمنين تتسع للإيمان بأن من الممكن أنه كان يدنو هذا الدنوّ وهو في مستقره من السموات.
وفي الحديث في رؤية جبريل: «فرفعت رأسي فإذا جبريل صافّ قدميه بين السماء والأرض يقول: يا محمد أنت رسول اللَّه وأنا جبريل، فجعلت لا أصرف بصري إلى ناحية إلا رأيته كذلك» .
وإنما يأتي الغلط هنا من قياس الغائب على الشاهد، فيعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره. وهذا غلط محض.
وقال الحافظ: إنّ تمثّل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنّسا لمن يخاطبه، والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط. واللَّه أعلم. انتهى.
الثامن: قال الحافظ: ودويّ النحل في حديث عمر لا يعارض صلصلة الجرس لأن سماع الدويّ بالنسبة إلى الحاضرين والصلصلة بالنسبة إلى مقامه صلى اللَّه عليه وسلّم.
التاسع: في بيان غريب ما سبق:
روح القدس: جبريل عليه الصلاة والسلام لأنه خلق من محض الطهارة.
نفث في روعي: يعني جبريل أوحى إليّ من النفث بالفم المثلثة، وهو شبيه بالنفخ، وهو أقل من التفل، لأن التّفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق.
الرّوع- بضم الراء: النّفس.
الصلصلة [ (1) ] : صوت الحديد إذا حرّك، يقال صلّ الحديد وصلصل، والصلصلة أشد من الصّليل.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 4/ 2486.(2/269)
الجرس: مثال يشبه الجلجل الذي يعلقه الجهّال في رؤوس الدواب.
يفصم عني: بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة أي يقلع وينجلي، ويروى بضم أوله من الرباعي وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمفعول وأصل الفصم القطع. وقيل بالفاء: القطع بلا إبانة وبالقاف القطع بإبانة، فعبّر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العلقة.(2/270)
الباب الثاني عشر في فترة الوحي وتشريف الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلّم بالرسالة بعد النبوة
روى ابن سعد عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما، والإمام أحمد والبخاري والبيهقي عن الزهري رحمه اللَّه تعالى، والشيخان عن جابر بن عبد الله رضي اللَّه تعالى عنهما، قال الأوّلان: إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لما نزل عليه الوحي بحراء مكث أياما لا يرى جبريل، فحزن لذلك حزنا شديدا- ولفظ الزهري: فتر الوحي فترة فيما بلغنا- غدا منه مرارا حتى يتردّى من رؤوس شواهق الجبال.
ولفظ ابن عباس: حتى كاد يغدو إلى ثبير مرة وإلى حراء مرة أخرى، يريد أن يلقي نفسه منه.
فبينا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كذلك عامدا لبعض تلك الجبال. قال الزهري: فكلما وافى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدّى له جبريل فقال له: يا محمد أنت رسول اللَّه حقا فيسكن لذلك جأشه وتقرّ عينه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبريل. فقال له مثل ذلك.
قال جابر: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: جاورت بحراء شهرا فلما قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي، فبينا أنا أمشي إذا سمعت صوتا فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، ثم نوديت فرفعت بصري إلى السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي- وفي لفظ: على عريش بين السماء والأرض فرعبت منه. - وفي لفظ فجثثت. وفي لفظ فجثثت- فرقا حتى هويت إلى الأرض. فرجعت حتى أتيت خديجة فقلت: زمّلوني زملوني، وفي لفظ دثّروني دثروني صبّوا علي ماء باردا، فانزل اللَّه تعالى يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أي المتلفّف بثيابه عند نزول الوحي عليه قُمْ فَأَنْذِرْ خوّف الناس بالنار إن لم يؤمنوا وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ عظّم عن إشراك المشركين وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ عن النجاسة، أو قصّر خلاف جرّ العرب ثيابهم للخيلاء فربما أصابتها النجاسة. وَالرُّجْزَ فسره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالأوثان. فَاهْجُرْ أي دم على هجره
[ (1) ] .
قال ابن عباس والزّهريّ: فتتابع الوحي وحمي.
قال ابن إسحاق ومتابعوه: وجاءه جبريل بسورة الضحى يقسم له ربه، وهو الذي أكرمه بما أكرمه ما ودّعه وما قاله فقال تعالى: وَالضُّحى أول النهار أو كله وَاللَّيْلِ إِذا سَجى
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 8/ 545 (4924) .(2/271)
غطّى بظلامه أو سكن ما وَدَّعَكَ تركك يا محمد رَبُّكَ وَما قَلى ما بغضك، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ لما فيها من الكرامات مِنَ الْأُولى الدنيا وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ في الآخرة من الخيرات عطاء جزيلا فَتَرْضى به.
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: «أذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار» .
وإلى هنا تمّ جواب القسم بمثبتين بعد منفيّين.
أَلَمْ يَجِدْكَ استفهام تقريري أي وجدك يَتِيماً بفقد أبيك قبل ولادتك فَآوى بأن ضمك إلى عمك أبي طالب وَوَجَدَكَ ضَالًّا عما أنت عليه من الشريعة فَهَدى أي هداك إليها وَوَجَدَكَ عائِلًا أي فقيرا فَأَغْنى بما قنَّعك به من الغنيمة وغيرها. وفي الحديث: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس» .
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ بأخذ ماله أو غير ذلك وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ تزجره لفقره وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ عليك بالنبوة وغيرها فَحَدِّثْ أخبر. وحذف ضميره صلى اللَّه عليه وسلم في بعض الأفعال لذكره أولا، رعاية للفواصل.
تنبيهات
الأول: قال الحافظ: فترة الوحي عبارة عن تأخرّه مدة من الزمان، وليس المراد بفترته بين نزول اقْرَأْ وأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ عدم مجيء جبريل إليه بل تأخر نزول الوحي فقط.
قلت: وفيه نظر، لما سبق أول الباب عن ابن عباس والزهري.
الثاني: الحكمة في فترة الوحي- واللَّه أعلم- ليذهب عنه ما كان يجده صلى اللَّه عليه وسلّم من الرّوع وليحصل له التشوق إلى العود.
الثالث: اختلف في مقدار مدة الفترة: فقال السّهيلي: جاء في بعض الأحاديث المسندة أنها كانت سنتين ونصف سنة. قال في «الزّهر» : ويخدش فيه ما ذكره ابن عباس في تفسيره أنها كانت أربعين يوما وفي تفسير ابن الجوزي ومعاني الزجّاج والفرّاء: خمسة عشر يوما. وفي تفسير مقاتل: ثلاثة أيام. ولعل هذا هو الأشبه بحاله عند ربه لا ما ذكر السهيلي واحتج لصحته.
وقال الحافظ فما رأيته بخطه في الفتح: وهذا الذي اعتمده السهيلي لا يثبت وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس: أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما. قال: وسيأتي مزيد لذلك في كتاب التعبير، إن شاء اللَّه تعالى.
قلت: راجعت كتاب التعبير من نسخة بغير خطه فألفيته قال: قوله: «وفتر الوحي» تقدم القول في مدة هذه الفترة في أول الكتاب. انتهى فليراجع خطه، فعله يكون الحق ذلك في(2/272)
نسخته بعد.
الرابع: وقع في بعض النسخ القديمة من الفتح وتبعه الشيخ وشيخنا القسطلاني في شرحيهما أن الإمام أحمد روى في تاريخه عن الشعبي أن فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وأن ابن إسحاق جزم بذلك.
قلت: وهذا وهم بلا شك، وعزو ذلك لجزم ابن إسحاق أشدّ، وكأنَّ الحافظ قلّد في ذلك ولم يراجع التاريخ المذكور، فإن الموجود فيه وفي الطبقات لابن سعد ودلائل البيهقي عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسان، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة.
الخامس: قال الحافظ ابن كثير في البداية: قال بعضهم: كانت الفترة قريبا من سنتين أو سنتين ونصف والظاهر واللَّه أعلم أنها المدة التي اقترن معه ميكائيل كما قال الشّعبي وغيره، ولا ينفي هذا تقدّم إيحاء جبريل إليه أولا: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ثم حصلت الفترة التي اقترن معه ميكائيل، ثم اقترن به جبريل بعد نزول: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ثم حمي الوحي بعد هذا وتتابع.
قلت: الثابت عن الشّعبي إنما هو إسرافيل كما تقدم لا ميكائيل، وإن كان ابن التّين جزم به، ولتتأمل عبارة الشّعبي إن كانت تفهم ما قال أنه الظاهر.
السادس:
روى البخاري في بدء الوحي وتفسير سورة اقرأ من طريق ابن شهاب: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو يحدث عن فترة الوحي: قال في حديثه: بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء ...
وذكر الحديث.
وفي تفسير سورة المزمّل من طريق علي بن المبارك، ومن طريق حرب بن شدّاد، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، قال سالت أبا سلمة بن عبد الرحمن: أيّ القرآن أنزل أول؟
فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ فقلت: أنبئت أنه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ فقال جابر: لا أخبرك إلا بما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «جاورت في حراء فلما قضيت جواري هبطت فنوديت»
فذكر الحديث السابق.
قال الحافظ: رواية الزّهري تدل على أن المراد بالأوّلية في قوله: أول ما نزل سورة المدثر. أولية مخصوصة بما بعد فترة الوحي، أو مخصوصة بالإنذار، لا أن المراد بها أوّلية مطلقة، وإنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق، كأنه قال عروة بكذا. أي بحديث عائشة في بدء الوحي ونزول سورة اقرأ.(2/273)
ثم قال الحافظ: ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة فإنها دالة على تقدم شيء عطفته، ودلّ
قوله: «عن فترة الوحي» وقوله: «الملك الذي جاءني بحراء»
على تأخر نزول يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ عن اقْرَأْ.
ولمّا خلت رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر، عن هاتين الجملتين أشكل الأمر فجزم من جزم بأن يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أول ما نزل. ورواية الزهري هذه الصحيحة ترفع ذلك الإشكال.
وقال في التفسير: والمشكل من رواية يحيى
قوله: «جاورت بحراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي فنوديت» إلى أن قال: «فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء، يعني جبريل، فأتيت خديجة فقلت: «دثّروني»
ويزيل الإشكال أحد أمرين: إما أن يكون سقط على يحيى أو شيخه من القصة مجيء جبريل بحراء ب اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وسائر ما ذكرته عائشة. وإما أن يكون جاور صلى الله عليه وسلّم بحراء شهرا آخر، ففي مرسل عبيد بن عمير عند البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان، وكان ذلك في مدة فترة الوحي، فعاد إليه جبريل بعد انقضاء جواره.
وقال الحافظ أيضا: فكأن من قال من أول ما نزل اقرأ أراد أولية مطلقة ومن قال يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ أراد بقيد التصريح بالإرسال.
وقال الكرماني: استخرج جابر أن أول ما نزل يا أيها المدثر باجتهاده وليس هو من روايته، والصحيح ما وقع في حديث عائشة.
السابع: قال عطاء الخراساني: إن سورة المزمل نزلت قبل سورة المدثر.
قال الحافظ: عطاء ضعيف وروايته معضلة. وظاهر الأحاديث الصحيحة تأخر المزمّل لأن فيها ذكر قيام الليل وغير ذلك مما تراخى عند ابتداء الوحي، بخلاف المدثر فإن فيها قُمْ فَأَنْذِرْ.
وقال في موضع آخر: يعرف من اتحاد الحديثين في نزول يا أيها المدثر عقيب
قوله: «دثّروني» و «زمّلوني»
أن المراد بزملوني دثروني، ولا يؤخذ من ذلك نزول يا أيها المزمل حينئذ، لأن نزول يا أيها المزمل تأخر عن نزول يا أيها المدثر بالاتفاق، لأن أول يا أيها المدثر الأمر بالإنذار، وذلك أول ما بعث، وأول المزمّل الأمر بقيام الليل وترتيل القرآن، فيقتضي تقدم نزول كثير من القرآن قبل ذلك.
الثامن: هذا القدر الذي نزل من المدثر فيه محصّل ما يتعلق بالرسالة.
ففي الآية الأولى المؤانسة بالحالة التي هو عليها من التدثّر، إعلاما بعظم قدره وتقدم في اسمه «المدّثر» و «المزمل» زيادة لذلك. فراجعه.(2/274)
وفي الثانية: الأمر بالإنذار قائما، وحذف المفعول تخفيفا.
والمراد بالقيام إما حقيقة، أي قم من مضجعك، أو مجازا، أي قم مقام تصميم.
وأما الإنذار فالحكمة في الاقتصار عليه هنا- فإنه أيضا بعث مبشّرا- لأن ذلك كان أول الإسلام، فمتعلّق الإنذار محقّق فلما أطاع من أطاع نزلت: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الأحزاب 45] .
وفي الثالثة: تكبير الربّ تمجيدا وتعظيما، ويحتمل الحمل على تكبير الصلاة، كما حمل الأمر بالتطهير على طهارة البدن والثياب، وهي الآية الرابعة.
أما الخامسة فهجران ما ينافي التوحيد وما يؤول إلى العذاب وحصلت المناسبة بين السورتين المبتدأ بهما النزول فيما اشتملتا عليه من المعاني الكثيرة باللفظ الوجيز في عدة ما نزل من كل منهما ابتداء.
التاسع: ما ذكره ابن إسحاق من سبب نزول سورة الضحى رواه الطبراني من طريق العوفي، وهو ضعيف، عن ابن عباس. ومن طريق إسماعيل مولى آل الزبير ذكره سليمان التّيمي في السيرة التي جمعها.
قال الحافظ: وكل هذه الروايات لا تثبت بحال، ويخالفها ما رواه الشيخان في سبب نزولها عن جندب بن سفيان البجلي رضي اللَّه تعالى عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اشتكى فلم يقم ليلتين أو ثلاثا فجاءت امرأة فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم يقربك منذ ليلتين أو ثلاث، فانزل اللَّه تعالى: وَالضُّحى إلى آخر السورة.
قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: والحق أن الفترة التي في سبب نزول سورة الضحى غير الفترة المذكورة في ابتداء الوحي فإنها دامت أياما وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا، فاختلطتا على بعض الرواة. وتحقيق الأمر ما بينته.
وذكر الحافظ ابن كثير نحوه.
قال الحافظ: ووقع في السيرة لابن إسحاق في سبب نزولها شيء آخر فإنه ذكر أن المشركين لما سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين وغيره ووعدهم بالجواب ولم يستثن، فأبطأ عليه جبريل اثنتي عشر ليلة، فضاق صدره وتكلّم المشركون فنزل جبريل بسورة الضحى وبجواب ما سألوا.
قال الحافظ: ونزول سورة الضحى هنا بعيد لكن يجوز أن يكون الزمان في القصتين متقاربا، فضمّ بعض الرواة إحدى القصتين إلا الأخرى، وكلّ منهما لم يكن في ابتداء المبعث، وإنما كان بعده بمدة.(2/275)
وعند الطبراني بإسناد فيه من لا يعرف أن سبب إبطاء جبريل كون جرو كلب تحت سريره صلى الله عليه وسلّم لم يشعر به، فأبطأ عنه جبريل كذلك.
وقضية إبطاء جبريل بسبب كون الكلب تحت سريره مشهورة، لكن كونها سبب نزول هذه السورة شاذ مردود بما في الصحيح، وكلّ ما خالفه فغير ثابت.
العاشر: قال الإسماعيليّ: كان من مقدّمات تأسيس النبوة فترة الوحي ليتدرّج فيه ويتمرّن عليه، فشق عليه فتوره إذا لم يكن خوطب عن اللَّه تعالى بعد: أنك رسول اللَّه ومبعوث إلى العباد، فأشفق أن يكون ذلك أمرا بدئ به ثم لم يرد استتمامه، فحزن لذلك، حتى إذا اندرج على احتمال أعباء النبوة والصبر على ثقل ما يرد عليه فتح اللَّه له من أمره بما فتح.
قال: ومثال ذلك ما وقع له من أول ما خوطب ولم يتحقق الحال على جليّتها مثل رجل سمع آخر يقول: الحمد للَّه. فلم يتحقق أنه يقرأ حتى إذا وصلها بما بعدها من الآيات تحقق أنه يقرأ، وكذا لو سمع قائلا يقول: خلت الديار ولم يتحقق أنه ينشد شعرا حتى يقول:
محلّها ومقامها. انتهى ملخصا.
ثم قال: وأما إرادة إلقاء نفسه من رؤوس الجبال بعد ما نبّئ فلضعف قوته عن حمل ما حمّله عن أعباء النبوة، وخوفا مما حصل له من القيام بها من مباينة الخلق جميعا، كما يطلب الرجل الراحلة من غم يناله في العاجل بما يكون فيه زواله عنه لو أفضى إلى هلاك نفسه عاجلا، حتى إذا تفكّر فيما في صبره على ذلك من العقبى المحمودة صبر واستقرّت نفسه.
قال الحافظ رحمه اللَّه تعالى: أما الإرادة المذكورة أولا: ففي صحيح الخبر أنه كانت حزنا على ما فاته من الأمر الذي بشّره به ورقة. وأما الإرادة الثانية بعد أن تبدّى له جبريل وقال له: أنت رسول اللَّه حقا فيحتمل ما قاله.
والذي يظهر لي أنه بمعنى الذي قبله. وأما المعنى الذي ذكره الإسماعيلي فوقع قبل ذلك في ابتداء مجيء جبريل، ويمكن أن يؤخذ مما
رواه الطبراني من طريق النعمان بن راشد عن ابن شهاب فذكر نحو حديث البخاري وفيه: فقال: يا محمد أنت رسول اللَّه حقا. قال:
فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق الجبل أي من علوّه.
انتهى.
الحادي عشر: في بيان غريب ما تقدم:
عدا: بعين مهملة: من العدو وهو الذهاب بسرعة، وبإعجامها من الذهاب غدوة.
يتردّى: يسقط.
شواهق: جمع شاهق وهو الجبل العالي.(2/276)
يغدو- بإعجام الغين وإهمالها.
ثبير- بثاء مثلثة مفتوحة فباء موحدة مكسورة فمثناة تحتية فراء.
عامدا: قاصدا.
بذروة جبل: بتثليث الذال: أعلاه.
تبدّى له جبريل: أي ظهر.
جأشه [ (1) ]- بجيم مفتوحة فهمزة ساكنة وقد تسهّل فشين معجمة، أي نفسه. قاله الخليل فعلى هذا فقوله:
تقرّ نفسه: بفتح المثناة الفوقية والقاف توكيد لفظي.
استبطنت الوادي: دخلت بطنه.
فرعبت: فزعت.
جئثت- بجيم مضمومة فهمزة مكسورة فمثلثة ساكنة فمثناة فوقية: أي فزعت، وفي رواية جثثت بمثلثتين من جثي الرجل كعني أيضا: فزع قال في التقريب: وما سواهما تصحيف.
فرقا: خوفا.
هويت إلى الأرض: سقطت.
__________
[ (1) ] اللسان 1/ 529 والمعجم الوسيط 1/ 103.(2/277)
الباب الثالث عشر في معنى الوحي والنبيّ والرسول والنبّوة والرسالة
الوحي: مصدر وحى إليه يحي من باب وعد، وأوحى إليه بالألف مثله، وجمعه وحيّ.
والأصل فعول مثل فلوس.
وبعض العرب يقول وحيت إليه ووحيت له وأوحيت إليه وله.
وهو هنا لغة: الإعلام في خفاء، وقيل الإعلام بسرعة.
وشرعا: الإعلام بالشرع. وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه أي الموحى، من إطلاق المصدر على المفعول. قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم 4] .
وهو كلام اللَّه المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم. وبسطت الكلام على الوحي ومعانيه في القول الجامع الوجيز فراجعه.
والرسول: إنسان ذكر أوحي إليه بالعمل والتبليغ، فعول من الرسالة، وهي قول اللَّه تعالى لمن اصطفاه: أرسلتك أو بعثتك فبلّغ عني. وقيل هي سفارة بين اللَّه وبين ذوي الألباب من خليقته.
وهي أفضل من النبوة، لأنها تثمر هداية الأمة، والنبوة قاصرة على النبي كالعلم والعبادة.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: النبوة أفضل لأنها الوحي بمعرفته تعالى وصفاته فهي متعلقة باللَّه من طرفيها، والرسالة الأمر بالتبليغ فهي متعلقة باللَّه من أحد الطرفين. وأجيب بأنها تستلزم النبوة فهي مشتملة عليها، لأنها كالرسول أخصّ من النبوة التي هي أعمّ كالنبي، وهو بمعنى المرسل فعول بمعنى مفعل، وذلك نادر.
وإرساله: أمر اللَّه تعالى له بالبلاغ إلى من أرسل إليهم، واشتقاقه من التتابع ومنه: جاء الناس أرسالا، إذا تبع بعضهم بعضا، فكأنه ألزم بتكرير التبليغ أو ألزمت الأمة اتباعه.
والنبي: إما أن يكون بمعنى منبّأ- بفتح الباء- لأن اللَّه تعالى أطلعه على غيبه وأعلمه أنه نبيّه، فهو فعيل بمعنى مفعول، أو بمعنى منبي أي مخبر للناس ما أوحى إليه فهو فعيل بمعنى فاعل، وهو بلا همز على الأكثر، قيل مخفف المهموز بقلب همزته ياء، وقيل إنه في الأصل من النّبوة- بفتح النون وسكون الباء- وهي الرّفعة لأن رتبته مرفوعة على سائر الخلق، وبالهمز من النبأ وهو الخبر لأنه مخبر عن اللَّه تعالى وقد لا يهمز على هذا أيضا للتسهيل.
وهو: إنسان ذكر أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، فإن أمر بذلك فهو رسول أيضا.
وقيل: وإن أمر بتبليغه ولم يكن له كتاب أو نسخ لبعض شرع من قبله فهو نبي، وإن كان له ذلك فهو رسول. فالرسول أخصّ من النبي على القولين. وقيل هما مترادفان لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج 52] فأثبت لهما الإرسال معا.(2/278)
وأجيب بأنهما لو كانا مترادفين لم يحسن تكرارهما في بليغ الكلام. وفي الآية إضمار تقديره: وما أرسلنا من رسول ولا نبَّأنا من نبيّ كما في قوله:
ورأيت روحك في الوغى ... متقلّدا سيفا ورمحا
أي وحاملا رمحا.
وقال الآمديّ [ (1) ] رحمه اللَّه تعالى- بعد حكايته مذهب الفلاسفة في النبوّة، وقول من قال إن النبي من علم كونه نبيّا وقول من قال: إن النبوة سفارة بين الحق والخلق وتزييف كل منها- والحقّ ما ذهب إليه أهل الحق من الأشاعرة وغيرهم من أن النبوة ليست راجعة إلى ذاتيّ من ذاتيات النبيّ ولا إلى عرض من أعراضه المكتسبة له، بل هي موهبة من اللَّه تعالى ونعمة منه عليه يجعله متأهّلا للرسالة، وحاصلها يرجع إلى قول اللَّه تعالى لمن اصطفاه من عباده: أرسلتك أو بعثتك فبلّغ عني. انتهى.
فعلم بذلك: أن النبوة والرسالة من الصفات الاعتبارية كالولاية للوليّ والإمامة للسلطان ونحو ذلك، لأن القول لا يوجب لمتعلّقه صفة كما صرح به القاضي عضد الدين.
تنبيهات
الأول: لا يلزم من كون الرسالة قول اللَّه: أرسلتك. أن تكون قديمة ضرورة قدم الكلام الرباني، لأن الرسالة ليست الكلام القديم فقط، بل الكلام القديم بصفة كونه متعلّقا بالمخاطب، والتعلق والمتعلّق- بفتح اللام- حادث غير قديم.
الثاني:
روى الحاكم أن رجلا قال: يا نبي اللَّه- أي بالهمز- فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم:
«لست نبيء اللَّه ولكني نبي اللَّه»
[ (2) ] قال الذّهبي: إنه حديث منكر وفي سنده حمدان بن أعين وليس بثقة، وعلى تقدير صحته فأجيب عنه بأن أبا زيد حكى: نبأت من أرض إلى أرض أخرى، أي خرجت منها إليها، فإذا قال: يا نبيء اللَّه احتمل أن يريد يا طريد اللَّه الذي أخرجه من بلده إلى غيرها فنهاه عن ندائه بلفظ النبيء مهموزا. ونظيره نهى المؤمنين عن قولهم له «راعنا» لأن اليهود وجدوا بذلك طريقا إلى سبّه.
__________
[ (1) ] علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي، سيف الدين الآمدي شيخ المتكلمين في زمانه ومصنف الأحكام. ولد بآمد بعد الخمسين وخمسمائة بيسير ورحل إلى بغداد وقرأ بها القراءات، وقرأ الهداية على مذهب الإمام أحمد.
واشتغل على أبي الفتح بن المنى الحنبلي ثم تحول شافعيا وصحب أبا القاسم بن فضلان (6) ، واشتغل عليه في الخلاف وبرع فيه، ويحكى عن ابن عبد السلام أنه قال: ما تعلمنا قواعد البحث إلا منه، وأنه قال: ما سمعت أحدا يلقي الدرس أحسن منه كأنه يخطب، وأنه قال: لو ورد على الإسلام متزندق يستشكل ما تعين لمناظرته غيره لاجتماع آلات ذلك فيه. توفى في صفر سنة إحدى وثلاثين وستمائة. [انظر الطبقات لابن قاضي شهبة 2/ 79، 80، وطبقات الشافعية للسبكي 5/ 129، ووفيات الأعيان 2/ 455.
[ (2) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 231 والعقيلي في الضعفاء 3/ 81 وذكره السيوطي في الدر 1/ 73.(2/279)
الباب الرابع عشر في مثله ومثل ما بعثه الله تعالى به من الهدى
قال أبو موسى الأشعري رضي اللَّه تعالى عنه: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إن مثلي ومثل ما بعثني اللَّه تعالى به من الهدي والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيّبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللَّه بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا- وفي لفظ وزرعوا- وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين اللَّه ونفعه اللَّه بما بعثني به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى اللَّه الذي أرسلت به.
رواه الشيخان
[ (1) ] .
ورويا أيضا والبيهقيّ عنه والإمام أحمد والرامهرمزي [ (2) ] في الأمثال عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم فنادى ثلاث مرات: أيها الناس إن مثلي ومثل ما بعثني اللَّه به كمثل قوم خافوا عدوّا أن يأتيهم فبعثوا رجلا يتراءى لهم، فبينما هو كذلك إذ أبصر العدوّ فأقبل لينذر قومه فخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه: أيها الناس أتيتم- ثلاث مرات- يا قوم إني رأيت الجيش بعيني وأنا النذير العريان فالنّجاء النجاء، فأطاعه، طائفة من قومه فأدلجوا فانطلقوا على مهلهم فنجوا وكذّب طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به من الحق، ومثل من عصاني وكذّب ما جئت به من الحق
[ (3) ] .
وروى الإمام أحمد والترمذي عن ابن مسعود والبخاري والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي اللَّه تعالى عنهما قال ابن مسعود: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وضع رأسه في حجري فنام وكان إذا رقد نفخ، فبينا أنا قاعد ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم متوسّد فخذي إذ أتى رجال- وفي لفظ إنَّ هنينا أتوا عليهم ثياب بيض اللَّه أعلم بما بهم من الجمال، فانتهوا إليه فجلس بعض منهم عند رأس النبي صلى الله عليه وسلّم، وطائفة منهم عند رجليه.
وفي رواية أخرى عن جابر: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 1/ 211 (79) ومسلم 4/ 1787 (15- 2282) .
[ (2) ] الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي الفارسي، أبو محمد: محدث العجم في زمانه. من أدباء القضاة. أول سماعه بفارس سنة 290 له «المحدث الفاصل بين الراوي والواعي» في علوم الحديث، قال الذهبي: ما أحسنه من كتاب! وله غير ذلك توفى نحو 360 هـ[الأعلام 2/ 194] .
[ (3) ] أخرجه البخاري 11/ 322 (6482) ومسلم 4/ 1788 (16- 2283) .(2/280)
فقال بعضهم لبعض: لقد أوتي هذا العبد خيرا، ما رأينا عبدا قط أوتي مثل ما أوتي، إنّ عينيه نائمتان وقلبه يقظان. ثم قال بعضهم لبعض: هلم فلنضرب له مثلا، فقال بعضهم: اضربوا مثلا ونؤوّل نحن أو نضرب نحن وتؤوّلون أنتم. فقال بعضهم: اسمع سمعت أذنك واعقل عقل قلبك، إن مثلك- وفي لفظ: مثله- كمثل ملك، وفي لفظ: رجل. وفي لفظ: سيّد ابتنى بنيانا حصينا ثم جعل فيه مأدبة وبعث داعياً- وفي لفظ: رسولا- يدعو الناس إلى طعامه وشرابه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه، فمن أجابه أكل من طعامه وشرب من شرابه، ومن لم يجبه عذّبه عذابا شديدا. أوّلوها له يفقهها. فقال الآخرون: فأما السيّد: فهو ربّ العالمين.
وأما البنيان: فهو الإسلام. والطعام: الجنة. والداعي: محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أطاع محمدا صلى الله عليه وسلم فقد أطاع اللَّه وكان في الجنة، ومن عصى محمدا صلى الله عليه وسلم فقد عصى اللَّه وكان في النار، محمد فرق بين الناس.
قال ابن مسعود: ثم إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استيقظ قال: ما رأيت يا بن أمّ عبد؟ هل سمعت ما قال هؤلاء؟ قال عبد الله: رأيت كذا وكذا. قال: هل تدري من هم؟ قلت: اللَّه ورسوله أعلم. قال: المثل الذي ضربوه: الرحمن، بنى الجنة ودعا إليها عباده، فمن أجابه دخل الجنة ومن لم يجبه عاقبه وعذّبه، ما خفي علي شيء مما قالوا، وهم نفر من الملائكة.
وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله جعل الجنادب والفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن- ويغلبنه فيقعن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها
[ (1) ] .
ولفظ مسلم: «فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم هلمّ عن النار فتغلبونني تقتحمون فيها» .
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى فيما يرى النائم ملكين قعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: اضرب مثل هذا ومثل أمته. فقال: مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذا أتاهم رجل في حلّة حبرة فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أتتبعوني؟ فقالوا: نعم فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء فأكلوا وشربوا وسمتوا فقال لهم: ألم ألقكم على تلك الحالة فجعلتم لي وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني؟ قالوا: نعم. فأوردهم
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 4/ 315 كتاب الأنبياء (3426) ومسلم 4/ 1789 كتاب الفضائل (17- 2284) .(2/281)
رياضا معشبة وحياضا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا. فقال لهم: ألم ألقكم على تلك الحالة فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء، أن تتبعوني؟ قالوا: بلى. قال: فإن بين يديكم رياضا أعشب من هذه وحياضا أروى من هذه فاتبعوني. فقالت طائفة: صدق واللَّه لنتبعنّه. وقالت طائفة: رضينا بهذا نقيم عليه.
تنبيهات في بعض فوائد الحديث
الأول: المثل: بفتح المثلثة والمراد به هنا: الصفة العجيبة الشأن، أي صفتي وصفة ما بعثني اللَّه به من الأمر العجيب الشأن كصفة رجل أتى قوما إلى آخره.
والهدى والعلم: أي الطريقة والعمل. روى: «من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من اللَّه إلا بعدا» .
والغيث: المطر، وإنما اختير الغيث على سائر أسماء المطر ليؤذن باضطرار الخلق إليه حينئذ. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا [الشورى 28] وقد كان الناس في الزمن الأول قبل المبعث وهم على فترة من الرسل قد امتحنوا بموت القلب وذهاب العلم حتى أصابهم اللَّه برحمة من عنده فأفاض عليهم سجال الوحي السماويّ، فأشبهت حالهم حال من توالت عليه السّنون وأخلفتهم المخايل حتى تداركهم اللَّه بلطفه وأرخت عليهم السماء عزاليها، ثم كان حظّ كل فريق من تلك الرحمة على ما ذكره من الأمثلة والنظائر.
قال القرطبي والنووي تبعا للقاضي: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدّين مثلا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيى البلد الميّت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبّه السامعين له بالأرض المختلفة التي نزل الغيث بها، فمنهم العالم المعلّم فهو بمنزلة الأرض الطيبة التي شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها.
ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله ولم يتفقّه فيما جمع لكنه أدّاه لغيره فهو بمنزلة الأرض التي يستقرّ فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله «نضر اللَّه امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها» [ (1) ] .
ومنهم من سمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السّبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.
__________
[ (1) ] أخرجه الشافعي في ترتيب المسند 1/ 16 والترمذي 5/ 34 (2658) وأبو داود 4/ 68 (3660) وابن ماجة 1/ 84 (230) وأحمد في المسند 5/ 183.(2/282)
قال الحافظ: وإنما أفرد الطائفتين الأولتين الممدوحتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النّفع بها.
ثم ظهر لي إن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه والثاني: الأول منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم، أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، وأشير إليها
بقوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يرفع بذلك رأسا»
[ (1) ] أي أعرض عنه فلم ينتفع به ولا نفع. والثانية منه: من لم يدخل في الدين أصلا بل بلغه فكفر به، ومثالها الأرض الصمّاء الملساء المستوية التي تمرّ عليها الماء فلا تنتفع به، وأشير إليها
بقوله صلى الله عليه وسلم: «ولم يقبل هدى اللَّه الذي أرسلت به» .
وقال الطّيبيّ: قال المطهّريّ: اعلم أنه ذكر في الأرض ثلاثة أقسام، وفي تقسيم الناس باعتبار قبول العلم قسمين: أحدهما من فقه في دين اللَّه إلى آخره. والثاني: من لم يرفع بذلك رأسا، يعني تكبّر ولم يقبل الدّين، يقال: لم يرفع فلان رأسه بهذا أي لم يلتفت إليه من غاية تكبّره، وإنما ذكره كذلك لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث إنه ينتفع به والثاني لا ينتفع به، وكذلك الناس قسمان: أحدهما من يقبل العلم وأحكام الدين.
والثاني: من لا يقبلهما، وهذا يوجب جعل الناس في الحديث على قسمين: أحدهما ينتفع به والثاني لا ينتفع به. وأما في الحقيقة فالناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من يقبل العلم بقدر ما يعمل به ولم يبلغ درجة الفتوى والتدريس وإفادة الناس فهو القسم الأول، ومنهم من يقبل من العلم بقدر ما يعمل به وبلغ أيضا درجة الفتوى والتدريس وإفادة الناس، فهو القسم الثاني، ومنهم من لا يقبل العلم، وهو القسم الثالث.
قال الطيبي: اتفق الشارحون على هذا الوجه الثاني، وظاهر الحديث ينصر الوجه الأول، لأن الشّطر الأول من التمثيل مركب من أمرين، وذلك أن
«أصاب منها طائفة»
معطوف على
«أصاب أرضا»
والضمير في منها يرجع إلى مطلق الأرض المدلول عليه بقوله أرضا، ثم قسمت الأرض الأولى بحرف التعقيب في
«فكانت»
وعطف كانت على كانت قسمين، فيلزم اشتمال الأرض الأولى على الطائفة الطيبة وعلى الأجادب، والثانية على عكسها، فالواو في
«وكانت»
ضمّت وترا إلى وتر، وفي «وأصابت» شفعا إلى شفع، نظيره قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ [فاطر 19] وقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الأحزاب 35] قال في الكشاف: الفرق بين عطف الإناث على الذكور وعطف الزوجين على الزوجين أن الإناث والذكور جنسان مختلفان إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسط العاطف بينهما، وأما العاطف الثاني فمن باب عطف الصفة على
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 1/ 211 (79) ومسلم 4/ 1787 (15- 2282) .(2/283)
الصفة بحرف الجمع وكأن معناه: إن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعدّ اللَّه لهم.
وأيضا أن أصل التمثيل مركّب من أمرين: الهدى والعلم لتغايرهما في الاعتدال، ويعضده مراعاة معنى التقابل بين الكلامين من إثبات الكلأ وإمساك الماء في إحداهما ونفيهما في الآخر على سبيل الحصر بقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما هي قيعان» ثم تعقيبهما بالتفصيل في
قوله: «فذلك مثل من فقه في دين اللَّه ونفعه»
إلى آخر الحديث لأنه ذكر المثل فيه مرتين.
ويؤيده ما ذكر النووي أن رعوا بالراء من الرعي. هكذا هو في جميع نسخ مسلم. ووقع في البخاري: «وزرعوا» وكلاهما صحيح. وإنما قلنا هذه الرواية تؤيد ما ذكرنا لأن في الكلام حينئذ لفّا ونشرا فإن
«رعوا»
مناسب لأنبتت الكلأ
و «فشربوا وسقوا»
للأجادب وأمسكت الماء.
فيكون الضمير في نفع اللَّه بها ل
«أرض»
[ (1) ] ومعنى كليهما صحيح، لأن زرعوا متعلّق بالأول لا بالأجادب فإنه لا تكفي الشرب والسّقي فضلا عن الزرع.
فعلى هذا يكون قد ذكر في الحديث الطرفان: الغالي في الاهتداء والغالي في الضلال، فعبّر عمن قبل هدى اللَّه والعلم بقوله: «فقه في الدين» إلى آخره. وكنى عمن أبى قبولهما بقوله «لم يرفع بذلك رأسا» وبقوله ولم يقبل هدى اللَّه لأن الثاني عطف تفسيريّ للأول، وترك الوسط وهو قسمان: أحدهما: الذي ينتفع بالعلم في نفسه فحسب، والثاني: الذي لم ينتفع هو بنفسه ولكن نفع الغير.
وفي الحديث إشعار بأن الاستعدادات ليست بمكتسبة، بل هي مواهب ربّانية يختصّ بها من يشاء، وكمالها أن يفيض اللَّه تعالى عليها من المشكاة النبوية، فإذا وجد من يشتغل بغير الكتاب والسّنة وما والاهما علم أنه تعالى لم يرد به خيرا، فلا يعبأ باستعداده الظاهر، وأن الفقيه هو الذي علم وعمل وعلّم وفاقد أحدها فاقد هذا الاسم، وأن العالم العامل ينبغي أن يفيد الناس بعلمه كما يفيدهم بعمله، ولو أفاد بالعمل فحسب لم يحظ منه بطائل كأرض معشبة لا ماء فيها فلا يمرى مرعاها ولو اقتصر على القول لأشبه السّقي مجرّدا عن الرعي، فيشبه أخذه المستسقي، ولو منعهما معا كان كأرض ذات ماء وعشب حماها بعض الظّلمة عن مستحقّيها كما قال القائل:
ومن منح الجهّال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
الطائفة، هنا: القطعة من الأرض.
قبلت: بفتح القاف وكسر الموحدة من القبول.
__________
[ (1) ] في ألأرضا.(2/284)
الكلأ: بالهمز بلا مد.
وقوله: العشب: من ذكر الخاص بعد العام، لأن الكلأ يطلق على النّبت الرّطب واليابس معا والعشب للرطب فقط.
أجادب [ (1) ]- بالجيم والدال المهملة جمع جدب بفتح الدال على غير قياس: وهي الأرض الصّلبة التي لا ينصبّ منها الماء.
فنفع اللَّه بها: أي الأجادب وفي رواية: «به» أي الماء.
رعوا: من الرعي وفي رواية: «زرعوا، من الزرع. قال النووي: كلاهما صحيح، ورجح القاضي الأول بلا مرجّح، لأن رواية زرعوا يدل على مباشرة الزرع ليطابق في التمثيل مباشرة طلب العلم، وإن كانت رواية رعوا مطابقة لقوله أنبتت، لكن المراد أنها قابلة للإنبات.
قيعان: بكسر القاف: جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت شيئا.
فقه: بضم القاف أي صار فقيها.
الثاني: في بعض فوائد الحديث الثاني:
قال الأشرف:
ذكر العينين إرشاد إلى أنه صلّى الله عليه وسلم متحقق عنده جميع ما أخبر عنه من الأمور تحقق من رأى شيئاً بعينه لا يعتريه وهم ولا يخالطه شك.
وقال القاضي والنووي والطّيبي:
قوله: «أنا النّذير العريان»
مثل سائر يضرب لشدة الأمر ودنوّ المحذور وبراءة المحذّر عن التّهمة. وأصله: أن الرجل إذا رأى العدو وقد هجم على قومه وأراد أن يفاجئهم، وكان يخشى لحوقهم عند لحوقه تجرّد عن ثوبه وجعله على رأس خشبة وصاح ليأخذوا حذرهم ويستعدوا قبل لحوقهم، وإنما يفعل ذلك لأنه أبين للناظر وأغرب وأشنع منظرا، فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهّب للعدو.
وقيل: الأصل فيه: أن رجلاً لقى جيشا فسلبوه وأسروه فانفلت إلى قومه فقال: إني رأيت الجيش وسلبوني فرأوه عريانا فتحققوا صدقه لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقه لهذه لقرائن، فضرب صلى الله عليه وسلّم لنفسه ولما جاء به بذلك لما أبداه من المعجزات والخوارق الدالة على القطع بصدقه. تقريبا لأفهام المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه.
__________
[ (1) ] اللسان 1/ 557.(2/285)
وقال الطيبي: وهذا التشبيه من التشبيهات المفرّقة، شبّه ذاته صلى الله عليه وسلّم بالرجل، وما بعثه اللَّه تعالى به من إنذار القوم بعذاب اللَّه القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبّح، وشبّه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن كذّب الرجل في إنذاره وصدّقه.
وفي قول الرجل: أنا النذير العريان إلخ أنواع من التأكيد: أحدها: «بعيني» لأن الرؤية لا تكون إلا بها. وثانيها: قوله: «إني» و «أنا» وثالثها:
«العريان»
فإنه دال على بلوغ النهاية في قرب العدوّ. وفي ذلك تنبيه على أنه الذي يختص في إنذاره بالصدق والذي لا شبهة فيه، وهو الذي يحرص جدا على خلاص قومه من الهلاك.
وقال في الفرقة الأولى:
«فأطاعني»
وقابله في الثانية ب
«كذّب»
ليؤذن بأن الطاعة مسبوقة بالتصديق، ويشعر بأن التكذيب مستتبع للعصيان، كأنه جمع في كل من الفرقتين بين المعنيين. وإلى المعنيين أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني» إلى آخره. وأتبع قوله:
«اجتاحهم»
قوله
«أهلكهم»
إعلاما بأنه أهلكهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد.
الجيش- بجيم فمثناة تحتية فشين معجمة.
بعيني: روى بالإفراد وبالتثنية.
النّجاء النجاء- بالمد فيهما، وبمد الأولى وقصر الثانية، وبالقصر فيهما تخفيفا، نصبا على المصدر أي أنجو النجاء أو على الإغراء أي اطلبوا النجاء تسرعوا الهرب.
أدلجوا: بهمزة فسكون أي ساروا أول الليل كله على الاختلاف في مدلول هذه اللفظة.
مهلهم- بفتحتين- والمراد به الهينة والسكون. وبفتح أوله وسكون ثانيه: الإمهال وليس مرادا هنا.
الطائفة هنا: الفرقة.
صبّحهم: أتاهم صباحا هذا أصله، ثم كثر استعماله حتى استعمل فيمن طرق بغتة في أي وقت كان.
اجتاحهم: بجيم فمثناة فوقية فألف فحاء مهملة أي استأصلهم من جحت الشيء أجوحه إذا استأصلته والاسم الجائحة وهي الهلاك، وأطلقت لأنها مهلكة.
الثالث: في بعض فوائد الحديث الثالث:
قال القاضي ناصر الدين البيضاوي في شرح المصابيح رحمه اللَّه تعالى: هذا الحديث يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون حكاية سمعها جابر من النبي صلى الله عليه وسلم فحكاها. وثانيهما: أن يكون إخبارا بما شاهده هو نفسه وانكشف له.
وقول بعض الملائكة: «إن العين نائمة والقلب يقظان» مناظرة جرت بيانا وتحقيقا لما أنّ النفوس القدسية الكاملة لا يضعف إدراكها بضعف الحواس واستراحة الأبدان.(2/286)
والفاء في «فمن أطاع محمدا» فاء السببية، أي لمّا كان الرسول يدعوهم إلى اللَّه تعالى بأمره وهو سفير من قبله فمن أطاع فقد أطاع اللَّه، ومن عصاه فقد عصى اللَّه.
وقال الطيبي: قوله: «مثل كمثل رجل» مطلع للتشبيه، وهو مبني على أن هذا التشبيه ليس من التشبيهات المفرّقة كقول امرئ القيس:
كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العنّاب والحشف البالي
شبّه القلوب الرطبة بالعناب، واليابسة بالحشف على التفريق، بل هو من التمثيل الذي ينتزع فيه الوجه من أمور معدودة متوهّمة منضمّ بعضها مع بعض إذا لو أريد التفريق لقيل: مثله كمثل داع بعثه رجل ومن ثمّ قدّمت الملائكة في التأويل الردّ على الداعي وعلى المضيف، وروعي في التأويل أدب حسن، حيث لم يصرح المشبّه بالرجل لكن لمّح في قوله: «من أطاع اللَّه» ما يدل على أن المشبّه من هو. ونظيره في التمثيل قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» قال في الكشاف: ولي الماء الكاف وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحّل لتقديره، ومما هو بين في هذا قول لبيد:
وما الناس إلا كالديار وأهلها ... بها يوم حلّوها وغدواً بلاقع
لم يشبّه الناس بالديار وإنما شبّه وجودهم فيها وسرعة زوالهم وفنائهم بحلول أهل الديار فيها ووشك نهوضهم عنها وتركها خلاء خاوية.
وتحريره أن الملائكة مثّلوا سبق رحمه اللَّه تعالى على العالمين بإرسال الرحمة المهداة للخلق كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 107] ثم إعداده الجنة للخلق ودعوته صلى الله عليه وسلّم إياهم إلى الجنة ونعيمها وبهجتها، ثم إرشاده للخلق بسلوك الطريق إليها واتباعهم إياه بالاعتصام بالكتاب والسنة المدليان إلى العالم السفلي، وكأن الناس واقعون في مهواة طبيعتهم، ومشتغلون بشهواتها، وأن اللَّه تعالى يريد بلطفه رفعهم فأدلى حبل القرآن والسنّة إليهم ليخلّصهم من تلك الورطة، فمن تمسك بها نجا وحصل في الفردوس والجناب الأقدس عند مليك مقتدر، ومن أخلد إلى الأرض هلك وأضاع نصيبه من رحمة اللَّه تعالى: بحال مضيف كريم بنى دارا وجعل فيها من ألوان الأطعمة المستلذّة والأشربة المستعذبة ما لا يحصى ولا يوصف ثم بعث داعيا إلى الناس يدعوهم إلى الضيافة إكراما لهم، فمن تبع الداعي نال من تلك الكرامة، ومن لم يتبع حرم منها.
ثم إنهم وضعوا مكان حلول سخط اللَّه تعالى بهم ونزول العقاب السّرمد عليهم قولهم:
«لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة» لأن فاتحة الكلام سيقت لبيان سبق الرحمة على(2/287)
الغضب فلم يطابق أن لو ختم بما يصرّح بالعذاب والغضب، فجاءوا بما يدل على المراد على سبيل الكناية.
وقولهم: «محمّد فرق بين الناس» كالتذييل للكلام السّابق، لأنه مشتمل على معناه ومؤكد له في حضور الملائكة ورجع بعض الكلام على بعض، وتمثيلهم ذلك ووضعهم المظهر موضع المضمر في مواضع من الحديث، وتكرير الألفاظ مرة بعد أخرى، وفي تقديم المجمل ممثّلا به وتأويله، دلالة على الإرشاد التام وإزاحة للعلل وإيقاظ للسامعين من رقدة الغفلة وسنة الجهالة، وحثّ لهم على الاعتصام بالكتاب والسّنة والإعراض عما يخالفهما من البدعة والضلالة.
المأدبة: قال ابن خطيب الدهشة في تقريبه بالفتح والضم: الطعام يدعى إليه الناس.
أوّلوها: أي فسّروا الحكاية أو التمثيل بمحمد صلى الله عليه وسلم، من أوّل تأويلا إذا فسّر بما يؤول إليه الشيء، والتأويل في اصطلاح العلماء: تفسير اللفظ بما يحتمله احتمالا غير بيّن.
فرّق: روى بالتشديد أي على صيغة الفعل وبالسكون على المصدر وصف به للمبالغة كالعدل، أي هو الفارق بين المؤمن والكافر والصالح والفاسق، إذ به تميزت الأعمال والعمّال.
الرابع: في بعض فوائد الحديث الرابع:
قوله صلى الله عليه وسلم:
«مثلي»
أي في دعاء الناس إلى الإسلام المنقذ لهم من النار ومثل ما تزيّن لهم أنفسهم من التمادي على الباطل
«كمثل رجل»
إلى آخره والمراد تفسير الجملة بالجملة، لا تمثيل فرد بفرد.
قال النووي: مقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلّم شبّه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك ومنعه إياهم، والجامع بينهما اتباع الهوى وضعف التمييز وحرص كل من الطائفتين على هلاك نفسه.
وقال القاضي: أبو بكر بن العربي: هذا مثل كثير المعاني، والمقصود أن الخلق لا يأتون ما يجرّهم إلى النار على قصد الهلكة، وإنما يأتونه على قصد المنفعة واتباع الشهوة، كما أن الفراش يقتحم النار لا ليهلك فيها بل لما يعجبه من الضياء، وقد قيل إنها لا تبصر بحال وهو بعيد. وإنما قيل إنها تكون في ظلمة فإذا رأت الضياء اعتقدت أنه كوّة يستظهر منها النور فتقصده لأجل ذلك فتحترق وهي لا تشعر، وقيل إن ذلك لضعف بصرها فتظن أنها في بيت مظلم وأن السراج كوّة فترمي نفسها إليها وهي من شدة طيرانها تجاوزه فتقع في الظّلمة فترجع فتحترق.(2/288)
وقيل: إنها تتضرر بشدة النور فتقصد إطفاءه فشدة جهلها تورّط نفسها فيما لا قدرة لها عليه.
وقال الغزالي: التمثيل واقع على صورة الإكباب على الشهوات من الإنسان بإكباب الفراش على التهافت في النار، ولكن جهل الآدمي أشدّ من جهل الفراش، لأنها باغترارها بظاهر الضوء إذا احترقت انتهى عذابها في الحال، والآدمي يبقى في النار مدة طويلة أو أبدا.
وقال الطيبي: تحقيق التشبيه الواقع في هذا الحديث يتوقف على معرفة معنى قوله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 229] وذلك أن حدود اللَّه هي محارمه ونواهيه كما في الحديث الصحيح: «إلا أن حمى اللَّه محارمه» ورأس المحارم حبّ الدنيا وزينتها واستبقاء لذتها وشهواتها، فشبّه صلى الله عليه وسلّم تلك الحدود ببياناته الشافية الكافية من الكتاب والسنة باستيقاد الرجل النار، وشبّه فشوّ ذلك الكشف في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد، وشبّه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان والكشف وتعدّيهم حدود اللَّه تعالى وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات ومنع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إياهم عنه بأخذ حجزهم: بالفراش اللاتي يقتحمن في النار ويغلبن المستوقد على دفعه إياها عن الاقتحام، وكما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاهتداء والاستدفاء وغير ذلك، والفراش بجهلها جعلته سببا لهلاكها: كذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة واحتماءها عما هو سبب هلاكهم، وهم مع ذلك لجهلهم جعلوها موجبة لتردّيهم.
وفي قوله:
«آخذ بحجزكم»
استعارة مثّلت حالة منعه صلى الله عليه وسلّم الأمة عن الهلاك بحالة رجل أخذ بحجزة صاحبه الذي يهوي. أن يهوي في قعر بئر مردية.
والفاء في قوله:
«فأنا آخذ بحجزكم»
فصيحة كما في قوله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات 12] . فإنه تعالى لما سأل بقوله: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» فأجابوا لا. قال: فإذا كان كذلك «فَكَرِهْتُمُوهُ» وكذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما
قال للناس: «مثلي ومثلكم»
أي صفتي وصفتكم. ثم شرع في بيان المشبّه بقوله:
«مثل رجل»
إلخ، وعلم منه ما يقابله من التشبيهات على ما بيّناها آنفا، أتى بما هو أهمّ وأولى منها وهو قوله:
«فأنا آخذ بحجزكم»
بالفاء. كأنه قيل: إذا صح هذا التمثيل وأنا مثل المستوقد وأنتم كالفراش تقتحمون في النار فأنا آخذ بحجزكم.
ولهذه الدقيقة التفت من الغيبة في قوله
«مثل الناس»
إلى الخطاب في قوله:
«فأنا آخذ بحجزكم»
كما أنك إذا أخذت في حديث من لك عناية بشأنه، والحال أنه مشتغل بشيء(2/289)
يورّطه في الهلاك، ثم إنك من غاية رأفتك عليه وشدة حرصك على نجاته تجد في نفسك أنه حضر عندك فتتحرى خلاصه.
استوقد: بمعنى أوقد، ولكن الأول أبلغ كعفّ واستعف.
والإضاءة: فرط الإنارة، واشتقاقه من الضوء وهو ما انتشر من الأجسام النيّرة يقال:
أضاءت النار وأضاءت غيرها يتعدى ولا يتعدى، فإن جعل متعديا يكون: ما حوله مفعولا به، وإن جعل لازما يجوز أن يكون ما حوله فاعلا له على تأويل الأماكن، ويجوز أن يكون فاعله ضمير النار، وما حوله ظرف، فيجعل حصول إشراق النار في جوانبها بمنزلة حصولها نفسها فيها مبالغة.
وحول الشيء، جانبه الذي يمكنه أن يحوّل إليه، أو سمي بذلك اعتبارا بالدوران والإطافة، ويقال للعام: حول. لأنه يدور.
وفي رواية مسلم: «ما حولها» فيكون الضمير راجعا إلى النار وفي رواية البخاري: «ما حوله» كما في التنزيل والضمير راجع إلى المستوقد.
الجنادب: جمع جندب وفيها ثلاث لغات: جندب بضم الدال وفتحها والجيم مضمومة فيهما. والثالثة حكاها القاضي جندب بكسر الجيم وفتح الدال. والجنادب هذه الصّرار التي تشبه الجراد. وقيل غير ذلك.
الفراش: اسم لنوع من الطير مستقل له أجنحة أكبر من جثته وأنواعه مختلفة في الكبر والصغر وكذا أجنحته.
وهذه الدواب: قال الحافظ: عطف الدواب على الفراش يشعر بأنها غير الجنادب والجراد. قال النووي وتبعه الطيبي: وقوله «وهذه الدواب» كقوله تعالى: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا وقول عائشة في حق عبد الله بن عمرو: «عجبت لابن عمرو هذا» فيؤنث كقوله تعالى:
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي [النحل 68] وتخصيص ذكر الدواب- والفراش لا يسمّى دابة عرفا- لبيان جهلها، كقوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ [الأنفال 22] كل ذلك تعريض بطالب الدنيا المتهالك فيها.
يتقحّمن: التقحم أصله القحم وهو الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت، ويطلق على رمي الشيء بغتة. واقتحم الدار: هجم عليها.
فأنا آخذ: بوزن اسم الفاعل، ويروى بصيغة المضارعة. قال النووي: والأول أشهر.
بحجزكم: بحاء مهملة مضمومة فجيم مفتوحة فزاي: جمع حجزة وهي معقد الإزار والسراويل.(2/290)
عن النار: وضع السبب موضع المسبّب، لأن المراد أنه يمنعهم من الوقع في المعاصي التي تكون سببا لولوج النار.
هلم: كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء كما يقال: تعال. قال الخليل: أصله: لمّ من الضمّ والجمع، ومنه لمّ اللَّه شعثه. وكأن المنادي أراد لمّ نفسك إلينا. وهاء للتنبيه، وحذفت الألف تخفيفا لكثرة الاستعمال وجعلا اسما واحدا. وقيل في أصلها غير ذلك. وأهل الحجاز ينادون بها بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع. وفي لغة نجد تلحقها الضمائر وتطابق. وتستعمل لازمة نحو «هلمّ إلينا» أي أقبل ومتعدية نحو هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ [الأنعام 150] أي أحضروهم.
فتغلبوني: بتشديد النون لأن أصله فتغلبونني، فأدغم أحد النونين في الأخرى، والفاء فيه سببية على التعكيس كاللام في فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 8] وتقديره: أنا آخذكم بحجزكم لأخلصكم عن النار فعكستم فجعلتم الغلبة مسبّبة عن الأخذ.
تقحّمون: بفتح المثناة الفوقية والقاف والحاء المهملة المشددة والأصل تتقحّمون فحذف إحدى التاءين.
الخامس: في بعض فوائد الحديث:
سفر- بفتح السين المهملة: جمع سافر كركب وراكب، يقال سفر الرجل سفرا من باب طلب خرج للارتحال فهو سافر.
المفازة: الفلاة بلا ماء من المهالك أو من النجاة تفاؤلا.
الحلّة: بضم الحاء لا تكون إلا من ثوبين.
حبرة [ (1) ] : كعنبة على الوصف أو الإضافة.
وردت بكم: يقال ورد الماء والشيء: حضره.
رياضا: جمع روضة وهي الموضع المعجب بالزهور.
معشبة: ذات عشب، وهو الكلأ الرّطب.
حياضا: جمع حوض وهو ما يجمع فيه الماء.
رواء: بوزن كتاب جمع ريّا يقال روي من الماء بكسر ريّا ويكسر. أو المكسور اسم فهو ريّان والمرأة ريّا كغضبان وغضبى وجمعهما رواء.
__________
[ (1) ] المصباح المنير 118.(2/291)
الباب الخامس عشر في مثله ومثل الأنبياء من قبله
روى الإمام أحمد والشيخان والبيهقي عن أبي هريرة، والإمام أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري، والإمام أحمد والشيخان عن جابر بن عبد الله، والإمام أحمد والترمذي وصححه عن أبي بن كعب رضي اللَّه تعالى عنهم، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله وأتمّه إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فجعل الناس يدخلون ويطوفون ويتعجبون له ويقولون: لولا موضع اللبنة. وفي لفظ: يقولون له:
هلا وضعت هذه اللبنة فيتمّ بنيانك، فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة، جئت فختمت الأنبياء»
[ (1) ] .
قال الحافظ: أن قيل المشبّه به واحد والمشبّه جماعة، فكيف صح التشبيه؟
وجوابه: أنه جعل الأنبياء كلّهم كرجل واحد، لأنه لا يتم ما أراد من التشبيه إلا باعتبار الكل، وكذلك الدار لا تتم إلا باجتماع البنيان. ويحتمل أن يكون من التشبيه التمثيليّ، وهو أن يؤخذ وصف من أوصاف المشبّه ويشبّه بمثله من أحوال المشبّه به، فكأنه شبّه الأنبياء وما بعثوا به من إرشاد الناس ببيت أسّست قواعده ورفع بنيانه وبقي منه موضع به يتم صلاح ذلك البيت، فنبيّنا صلى الله عليه وسلّم بعث لتتميم مكارم الأخلاق، كأنه هو تلك اللبنة التي بها إصلاح ما بقي من الدار.
وزعم ابن العربي إن اللبنة المشار إليها كانت في رأسّ الدار المذكورة، وأنها لولا وضعها لا نقضت تلك الدار. قال: وبهذا يتم المراد من التشبيه المذكور انتهى.
وهذا إن كان منقولا فحسن، وإلا فليس بلازم. نعم ظاهر السياق أن تكون اللبنة في مكان يظهر عدم الكمال في الدار بفقدها، وقد وقع في رواية همّام عند مسلم: «إلا موضع لبنة في زاوية من زواياها» فظهر أن المراد أنها مكمّلة محسّنة وإلا لاستلزم أن يكون الأمر بدونها كان ناقصا، وليس كذلك فإن شريعة كلّ نبيّ بالنسبة إليه كاملة، فالمراد هنا النظر إلى الأكمل بالنسبة إلى الشريعة المحمدية، مع ما تقدم من الشرائع الكاملة.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 24 (3534) ومسلم 4/ 1790 (23- 2287) .(2/292)
الباب السادس عشر في الوقت الذي كتب فيه نبينا صلى الله عليه وسلم
روى ابن سعد عن مطرف بن عبد الله بن الشخّير أن رجلا سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: متى كنت نبيا: قال: بين الروح والطين من آدم
[ (1) ] .
وروى أيضا عن عبد الله بن شقيق عن أبي الجدعاء قال: قلت يا رسول اللَّه متى كنت نبيا؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد» - رجاله ثقات-
وروى الترمذي وحسنه عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قالوا: يا رسول اللَّه متى وجبت لك النبوة؟ قال: «وآدم بين الروح والجسد» .
وتقدمت أحاديث في الباب الثالث أوائل الكتاب فراجعها.
واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 1/ 95 وذكره المتقي الهندي في الكنز (32115) .(2/293)
الباب السابع عشر في إعلام الوحش برسالته صلى الله عليه وسلم
روى الإمام أحمد عن مجاهد رحمه اللَّه تعالى قال: حدّثنا شيخ أدرك الجاهلية يقال له عنبس قال: كنت أسوق بقرة لآل لنا فسمعت من جوفها: يا آل ذريح، قول فصيح، رجل يصيح: لا إله إلا اللَّه.
قال: فقدمنا مكة فوجدنا النبي صلّى الله عليه وسلم قد خرج بمكة.
ذريح- بذال معجمة مفتوحة فراء مكسورة فمثناة تحتية فحاء مهملة.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى قال: جاء ذئب إلى راعي غنم فأخذ شاة فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، فصعد الذئب على تلّ فأقعى فقال: عمدت إلى رزق رزقنيه اللَّه انتزعته منّي؟ فقال الرجل: تاللَّه إن رأيت كاليوم! ذئب يتكلم! فقال الذئب: أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرّتين يخبركم بما مضى وما هو كائن. وكان الرجل يهوديا فجاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وأخبره الخبر وصدّقه النبي صلى الله عليه وسلم. الحديث.
ويأتي بتمامه في المعجزات ويأتي فيها قول الضبّ له: أنت رسول اللَّه.(2/294)
الباب الثامن عشر في شهادة الرضيع والأبكم برسالته صلى الله عليه وسلم
روى البيهقي عن معرض بن عبد الله بن معيقيب اليماميّ، عن أبيه عن جده رضي اللَّه تعالى قال: حججت حجة الوداع فدخلت دارا بمكة فرأيت فيها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم. ووجهه مثل دارة القمر ورأيت منه عجبا، جاءه رجل بغلام يوم ولد فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا غلام من أنا؟
فقال: أنت رسول اللَّه قال: صدقت بارك اللَّه فيك. قال: ثم إن الغلام لم يتكلم بعد حتى شب فكنا نسميه مبارك اليمامة.
وروى أيضا عن شمر بن عطية عن بعض أشياخه قال: جاءت امرأة بابن لها قد شبّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه إن ابني هذا لم يتكلم منذ ولد. فقال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: أدنيه منّي فأدنته منه فقال: من أنا؟ فقال: أنت رسول اللَّه.
وسيأتي في المعجزات زيادة على ذلك.(2/295)
جماع أبواب بعض الأمور الكائنة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم
الباب الأول في تعليم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة
عن أسامة بن زيد بن حارثة رضي اللَّه تعالى عنهما أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحى إليه فأراه الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء حثى حفنة من الماء فنضح بها فرجه.
رواه الإمام أحمد والدارقطني من طريق رشدين بن سعد وهو ضعيف، عن عقيل عن قرّة، عن عروة، عن أسامة. والحارث بن أبي أسامة، والدارقطني من طريق ابن لهيعة وهو ضعيف، عن عقيل، عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير، عن أسامة بن زيد، عن أبيه فذكره، ورواه الطبراني في الأوسط عن عقيل عن الزهري به. فينظر فيمن دون عقيل فإن كانوا ثقات فالحديث سنده جيد.
ورواه أبو نعيم من طريق النضر بن سلمة وهو ضعيف، عن عائشة. ورواه أبو نعيم والبيهقي من طريق [يزيد بن رومان] عن عروة بن الزبير، فذكر مجيء جبريل عليه السلام وحديث البعث، وفي آخره: ففتح جبريل عينا من ماء فتوضأ ومحمد صلى الله عليه وسلم ينظر إليه فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ومسح برأسه وغسل رجليه إلى الكعبين ثم نضح فرجه وسجد سجدتين مواجهة البيت ففعل محمد كما رأى جبريل يفعل.
ورواه أبو نعيم من طريق [يزيد بن رومان] عن الزهري عن عروة عن عائشة.
وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا. ويدل على أن للقصة أصلا.
وقد ذكر القصة ابن إسحاق ورواه البلاذري عن الزهري وقتادة والكلبي ومحمد بن قيس قالوا: إن جبريل علّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة واقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ أتاه وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي فانفجرت له منه عين فتوضأ جبريل ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ليريه كيف الطّهور للصلاة، ثم توضأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل يتوضأ، ثم أقام به جبريل فصلى به.
وفي حديث عائشة السابق أنه صلى به ركعتين نحو الكعبة واستقبل الحجر الأسود.
انتهى.(2/296)
وصلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بصلاته، ثم انصرف جبريل فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم خديجة فتوضأ لها يريها كيف الطّهور للصلاة كما أراه جبريل، فتوضأت كما توضأ لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم ثم صلّى لها كما صلى به جبريل، فصلّت بصلاته.
وروى الإمام أحمد والبيهقي وابن عبد البر عن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي عن أبيه، عن جده، قال: كنت امرأ تاجرا فقدمت الحج في الجاهلية، فأتيت العباس بن عبد المطلب لابتاع منه بعض التجارة فو اللَّه إني لعنده بمنى إذ خرج رجل مجتمع من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس فلما رآها مالت توضأ فأسبغ الوضوء ثم قام يصلي، ثم خرج غلام قد راهق الحلم من ذلك الخباء فقام يصلي معه، ثم لم ألبث إلا يسيرا حتى جاءت امرأة من ذلك الخباء فقامت خلفهما، ثم ركع الشاب وركع الغلام وركعت المرأة، ثم رفع الشاب ورفع الغلام ورفعت المرأة، ثم خرّ الشاب ساجدا وخرّ الغلام وخرّت المرأة فقلت للعباس: يا عباس ما هذا؟ قال: هذا محمد بن عبد المطلب ابن أخي. قلت: من هذه المرأة. قال: هذه امرأته خديجة بنت خويلد. فقلت: من هذا الفتى؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عمه قلت:
فما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلي، يزعم أنه نبي ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الفتى، وهو يزعم أنه ستفتح عليه كنوز كسرى وقيصر.
قال عفيف: فليتني كنت آمنت به يومئذ فكنت أكون ثانيا مع علي بن أبي طالب.
وهذا الحديث يردّ قول من قال: إن فرض الصلاة كانت بالغداة والعشيّ فقط.
تنبيهات
الأول: قال السهيلي رحمه اللَّه تعالى: الوضوء على هذا الحديث- يعني رواية الحارث بن أبي أسامة. عن زيد بن حارثة- مكيّ بالفرض مدنيّ بالتلاوة، لأن آية الوضوء مدنية وإنما قالت عائشة: فأنزل اللَّه آية التيمم ولم تقل آية الوضوء وهي هي لأن الوضوء قد كان مفروضا قبل، غير أنه لم يكن قرآنا يتلى حتى نزلت آية المائدة.
قلت: قال الحاكم رحمه اللَّه تعالى في المستدرك: أهل السّنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول المائدة. ثم ساق
حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا على قتلك فقال: ائتوني بوضوء فتوضأ ثم خرج إلى المسجد.
وذكر الحديث.
وقال أبو عمر رحمه اللَّه تعالى: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل منذ افترضت الصلاة إلا بوضوء، ولا يدفع هذا إلا جاهل أو معاند، قال: وفي قول عائشة رضي اللَّه(2/297)
تعالى عنها: «فأنزل اللَّه آية التيمم» إشارة إلى أن الذي طرأ إليهم من العلم حينئذ حكم التيمم لا حكم الوضوء.
قال: والحكمة في نزول آية الوضوء مع ما تقدم العمل به ليكون فرضه متلوا بالتنزيل.
وقال غيره: يحتمل أن يكون أول آية الوضوء نزل قديما فعملوا به، ثم نزل بقيتها وهو ذكر التيمم في هذه القصة. وإطلاق آية التيمم على هذا من إطلاق الكلّ على البعض.
قال الحافظ: لكن رواية عمرو بن الحارث عند البخاري في التفسير تدل على أن الآية نزلت جميعها في هذه القصة، فالظاهر ما قاله ابن عبد البر.
وقال القاضي رحمه اللَّه تعالى: اختلفوا متى فرضت الطهارة للصلاة؟ فذهب ابن الجهم إلى أن الوضوء في أول الإسلام سنة ثم نزل فرضه في آية التيمم وقال الجمهور: بل كان قبل ذلك فرضا. انتهى.
الثاني: قال الحافظ عماد الدين بن كثير رحمه اللَّه تعالى: صلاة جبريل هذه غير الصلاة التي صلاها به عند البيت مرتين، فبيّن له أوقات الصلوات الخمس أولها وآخرها فإن ذلك كان بعد فرضيّتها ليلة الإسراء، كما سيأتي بيان ذلك.
الثالث: زعم ابن حزم أن الوضوء لم يشرع إلا بالمدينة وتعقب بما تقدم.
الرابع: قال السهيلي: ذكر الحربيّ ويحيى بن سلّام أن الصلاة كانت قبل الإسراء صلاة قبل غروب الشمس وصلاة قبل طلوعها.
ونقل ابن الجوزي عن مقاتل بن سليمان قال: فرض اللَّه تعالى على المسلمين في أول الإسلام ركعتين بالغداة وركعتين بالعشيّ.
قال الحافظ بعد أن نقل ما ذكره الحربي: وردّه جماعة من أهل العلم. وقال قبل ذلك:
ذهب جماعة إلى إنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد.
الخامس: ذكر ابن إسحاق هنا حديث ابن عباس في إمامة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلّم وتعليمه إياه أوقات الصلوات الخمس في اليومين.
قال في الروض: ولم يكن ينبغي له ذكره في هذا الموضع، لأن أهل العلم متفقون علي إن هذه القصة كانت في الغد من ليلة الإسراء كما سيأتي بيان ذلك في موضعه.
السادس: في بيان غريب ما تقدم.
حتى صبّ الحفنة- بفتح الحاء المهملة: ملء الكفين.(2/298)
نضح: بالحاء المهملة: رشّ.
لهيعة: بفتح اللام وكسر الهاء.
عقيل: بضم العين وفتح القاف. همز: أي دفع:
بعقبه- بفتح العين وكسر القاف: مؤخر القدم.
الطّهور [ (1) ]- بضم الطاء: الوضوء ويجوز فيه الفتح والأكثر في الماء الفتح، ويجوز الضم.
عفيف- بعين مهملة بالتكبير: صحابي له في فضل عليّ حديث.
مجتمع- بميم مضمومة فجيم ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة فميم مكسورة: وهو الذي بلغ أشدّه ولا يقال ذلك في النساء.
إسباغ الوضوء: الوضوء هنا بالضم لأنه الفعل ويجوز فيه الفتح، والماء بالفتح ويجوز فيه الضم.
راهق: قارب الاحتلام. واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] لسان العرب 4/ 2712.(2/299)
الباب الثاني في إسلام خديجة بنت خويلد، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وأبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم، واختلاف الناس فيمن اسلم أولا
قال أبو عمر: اتفقوا على أن خديجة أول من آمن.
وقال أبو الحسن بن الأثير: خديجة أول خلق اللَّه أسلم بإجماع المسلمين، لم يتقدمها رجل ولا امرأة وأقره الذهبي. وقال محمد بن كعب القرظي: أول من أسلم من هذه الأمة برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: خديجة رضي اللَّه تعالى عنها.
رواه البيهقي.
وروى الدولابي عن قتادة والزّهريّ قالا: كانت خديجة أول من آمن باللَّه ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من النساء والرجال.
وحكى الإمام الثعلبي اتفاق العلماء على ذلك، وإنما اختلافهم في أول من أسلم بعدها.
وقال النووي: إنه الصواب عند جماعة من المحققين.
وقال ابن إسحاق: وآمنت به خديجة بنت خويلد وصدّقت بما جاء به من اللَّه. ووازرته على أمره، فكانت أول من آمن باللَّه ورسوله وصدّق بما جاء به، فخفف اللَّه بذلك عن رسوله، لا يسمع بشيء يكرهه من ردّ عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج اللَّه عنه بها إذا رجع إليها تثبّته وتخفّف عليه وتصدّقه وتهوّن عليه أمر الناس. يرحمها اللَّه تعالى.
وقال الواقديّ: أجمع أصحابنا أن أول المسلمين استجاب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم خديجة.
قال ابن إسحاق: ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وصدّق بما جاءه من اللَّه علي بن أبي طالب، كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وخديجة يصليّان سرّا ثم أن علي بن أبي طالب جاء بعد ذلك بيوم فوجدهما يصليان
فقال علي: ما هذا يا محمد؟ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: دين اللَّه الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله فأدعوك إلى اللَّه وحده لا شريك له وإلى عبادته وكفر باللات والعزى. فقال علي: هذا أمر لم أسمع به قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتّى أحدّث به أبا طالب. وكره رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يفشى عليه سرّه قبل أن يستعلن أمره، فقال له: يا عليّ إذا لم تسلم فاكتم هذا. فمكث عليّ تلك الليلة، ثم إن اللَّه تبارك وتعالى أوقع في قلب عليّ الإسلام فأصبح غاديا إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم حتى جاءه فقال: ماذا عرضت عليّ يا(2/300)
محمد: فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: تشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وتكفر باللات والعزى وتبرأ من الأنداد
[ (1) ] .
ففعل علي رضي اللَّه تعالى عنه وأسلم، فمكث عليّ يأتيه على خوف من أبي طالب وكتم إسلامه ولم يظهره.
قال مجاهد: وكان مما أنعم اللَّه على على أنه كان في حجر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قبل الإسلام، لما أراد اللَّه به الخير، وذلك أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة وكان أبو طالب ذا عيال كثير،
فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم للعباس عمه: وكان من أيسر بني هاشم: يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق فخفّف عنه من عياله فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما
[ (2) ] .
قال ابن هشام: ويقال: عقيلا وطالبا، فأخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عليّا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل علي مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى بعثه اللَّه نبيّا فأتبعه وصدّقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.
قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من عمه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه فيصلّيان الصلاة فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء اللَّه أن يمكثا،
ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان فقال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يا ابن أخي ما هذا الذي تدين به، قال: أي عم هذا دين اللَّه ودين ملائكته ورسله ودين أبينا إبراهيم- أو كما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم- بعثني اللَّه به رسولا إلى العباد وأنت أي عم أحقّ من بذلت له النصيحة ودعوته إلى الهدى وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه. أو كما قال. فقال أبو طالب: أي ابن أخي إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه، ولكن والله لا يخلص إليك شيء تكرهه ما بقيت [ (3) ] .
وذكروا أنه قال لعلي: أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وصدّقت بما جاء به وصلّيت معه، فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه.
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 2/ 161.
[ (2) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 2/ 162.
[ (3) ] أخرجه الطبري في تاريخه 2/ 313.(2/301)
وروى الإمام أحمد عن علي رضي اللَّه تعالى عنه قال: ظهر علينا أبو طالب وأنا أصلّي مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فقال: ماذا تصنعان؟ فدعاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى الإسلام فقال: ما بالذي تقول من بأس، ولكن واللَّه لا تعلوني استي أبدا.
وروى البيهقي عن محمد بن كعب القرظي قال: أول من أسلم من هذه الأمة خديجة وأول رجلين أسلما: أبو بكر وعلي، وأسلم عليّ قبل أبي بكر، وكان علي يكتم إيمانه خوفا من أبيه حتى لقيه أبوه قال: أسلمت؟ قال: نعم. قال: وازر ابن عمّك وانصره.
قال: وكان أبو بكر أول من أظهر الإسلام.
وروى الترمذي واستغربه وابن جرير عن جابر قال: بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يوم الاثنين وصلى عليّ يوم الثلاثاء.
وروى ابن جرير عن زيد بن أرقم قال: أول من أسلم مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على بن أبي طالب.
قال أبو عمر: وقد روي عن سلمان والمقداد وخبّاب وجابر وأبي سعيد الخدري وزيد ابن أرقم أن علي بن أبي طالب أول من أسلم. وبذلك قال ابن إسحاق والزّهري إلا أنه قال: من الرجال بعد خديجة. وهو قول الجميع في خديجة.
قال ابن إسحاق: ثم أسلم زيد بن حارثة بن شراحيل- بفتح الشين المعجمة والراء فألف فحاء مهملة مكسورة فمثناة تحتية فلام- ابن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي مولى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وكان أول ذكر أسلم وصلّى بعد علي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق: ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة.
روى البيهقي عن ابن إسحاق أن أبا بكر رضي اللَّه تعالى لقي رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال:
أحق ما تقول قريش يا محمد من تركك آلهتنا وتسفيهك عقولنا وتكفيرك إيانا؟ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم: بلى إني رسول اللَّه ونبيّه بعثني لأبلّغ رسالته، وأدعوك إلى اللَّه بالحق، فو الله إنه لحقّ فأدعوك يا أبا بكر إلى الله وحده لا شريك له ولا تعبد غيره والموالاة على طاعته. وقرأ عليه القرآن فلم يعزّ ولم ينكر بل أسلم وكفر بالأصنام وخلع الأنداد وأقرّ بحق الإسلام، ثم رجع إلى أهله وقد آمن وصدّق
[ (1) ] .
قال ابن إسحاق: بلغني إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده كبوة وتردّد ونظر إلا أبا بكر ما عكم عنه حين ذكرته له ولا تردّد
[ (2) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 2/ 164.
[ (2) ] ذكره ابن كثير في البداية والنهاية 1/ 108، 3/ 27.(2/302)
الكبوة- بكاف مفتوحة فموحدة ساكنة فواو فتاء تأنيث: قال أبو ذر: يعني تأخّرا وقلة إجابة من قولهم كبا الزّند: إذا لم يور نارا.
ما عكم- بعين مهملة فكاف مفتوحتين: أي ما تلبّث بل أجاب بسرعة.
قال البيهقي: وذلك لما كان يرى من دلائل نبوته ويسمع بشأنه قبل دعوته، فلما دعاه وقد سبق فيه تفكّره ونظره أسلم على الفور.
قال السهيلي رحمه اللَّه تعالى: وكان من أسباب ذلك توفيق اللَّه تعالى إياه فيما ذكروا أنه رأى رؤيا قبل، وذلك أنه رأى القمر نزل إلى مكة ثم رآه قد تفرّق على جميع منازل مكة وبيوتها فدخل في كل بيت شعبة، ثم كان جميعه في حجره. فقصّها على بعض أهل الكتابين فعبّرها له بأن النبي صلّى اللَّه عليه وسلم- المنتظر قد أظل زمانه، اتّبعه وتكون أسعد الناس به، فلما دعاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لم يتوقف.
وروى ابن الجوزي في صفوة الصفوة عن الشعبي قال: قال ابن عباس: أول من صلى أبو بكر وتمثيل بأبيات حسان بن ثابت رضي اللَّه تعالى عنه:
إذا تذكّرت شجوا من أخي ثقة ... فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خير البريّة أتقاها وأفضلها ... بعد النّبيّ وأوفاها بما حملا
والثّاني التّالي المحمود مشهده ... وأوّل النّاس منهم صدّق الرّسلا
[ (1) ] .
قال السّهيلي: وقد مدح حسان أبا بكر بما ذكر وسمعه النبي صلى اللَّه عليه وسلم ولم ينكره:
وفيه دليل على أنه أول من أسلم.
وقال إبراهيم النّخعي: أول من أسلم أبو بكر. رواه الإمام أحمد وصححه.
قال ابن كثير: قول النّخعي هو المشهور عند جمهور أهل السّنة.
وقال المحب الطبري تبعا لأبي عمرو بن الصلاح: الأولى التوفيق بين الروايات كلها وتصديقها فيقال: أول من أسلم مطلقا: خديجة. وأول ذكر أسلم علي بن أبي طالب وهو صبي لم يبلغ، وكان مخفيا إسلامه، وأول رجل عربيّ أسلم وأظهر إسلامه أبو بكر بن أبي قحافة، وأول من أسلم من الموالي: زيد. وقال: هذا متّفق عليه لا خلاف فيه، وعليه يحمل قول عليّ وغيره: أول من أسلم من الرجال أبو بكر. أي من الرجال البالغين.
ويؤيده ما
رواه خيثمة في فضائل الصحابة عن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه قال: أن أبا بكر سبقني إلى أربع لم أعتض بشيء منهن: سبقني إلى إفشاء الإسلام،
__________
[ (1) ] انظر الديوان ص 179، 180.(2/303)
وقدم الهجرة، ومصاحبته في الغار، وأقام الصلاة وأنا يومئذ بالشّعب يظهر إسلامه وأخفيه.
الحديث.
وجمع بعض المحققين بين الاختلاف بالنسبة إلى عليّ وأبي بكر بأن أبا بكر أول من أظهر إسلامه، وأن عليّا أول من أسلم بعد خديجة، ويحققه ما مرّ.
وقيل: أول رجل أسلم ورقة بن نوفل. ومن يمنع يدعى أنه أدرك نبوته عليه الصلاة والسلام لا رسالته، لكن جاء كما تقدم في بدء الوحي أنه قال لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أبشر فأنا أشهد أنك الذي بشر به ابن مريم، وأنك على مثل ناموس موسى، وأنك نبي مرسل، وأنك ستؤمر بالجهاد، وإن أدركت ذلك لأجاهدن معك. فهذا تصريح منه بتصديقه برسالة محمد صلى اللَّه عليه وسلم.
قال البلقيني: بل يكون بذلك أول من أسلم من الرجال. وعلى ذلك جرى الحافظ أبو الفضل العراقي في نكته على كتاب ابن الصلاح.
وقيل: أن خالد بن سعيد أسلم قبل علي رضي اللَّه تعالى عنهما.
تنبيه: في بيان غريب ما سبق.
وازرته كذا في نسخ السيرة. وقال الجوهري: الأزر: القوة إلى أن قال: آزرت فلانا:
عاونته، والعامة تقول: وازرته.
الحجر: بفتح الحاء وكسرها.
أزمة- بفتح الهمزة ثم زاي ساكنة: وهي الشدة والقحط، يقال أصابتهم سنة أزمتهم أي استأصلتهم. وأزم عليه الدّهر يأزم أزما اشتد وقلّ خيره.
الشّعاب [ (1) ]- بكسر الشين المعجمة: جمع شعب بكسرها أيضا، وهو ما انفرج بين الجبلين. وقيل هو الطريق في الجبل.
عثر عليهما، بفتح الثاء المثلثة: اطّلع.
لا يخلص، بالبناء للمفعول: أي لا يصل إليكم أحد بسوء.
الشّجو: الهم والحزن، هذا أصله قال في الرياض النضرة: هذا أصله ولا أرى له وجها هنا إلا أن يريد به ما كابده أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه، فأطلق عليه شجوا لاقتضائه ذلك، أو أراد حزن أبي بكر مما جرى على النبي صلى اللَّه عليه وسلم.
النواجذ: جمع ناجذ بالجيم والذال المعجمة وهو آخر الأضراس.
__________
[ (1) ] انظر المعجم الوسيط 1/ 483.(2/304)
الباب الثالث في ذكر متقدّمي الإسلام من الصحابة- رضي الله تعالى عنهم- تقدم علي وزيد بن حارثة
قال ابن إسحاق: فلمّا أسلم أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه أظهر إسلامه ودعا إلى اللَّه تعالى وكان رجلا مؤلّفا لقومه محبّبا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق حسن ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه فيما بلغني:
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف، بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
وسعد بن أبي وقاص مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
وطلحة بن عبيد اللَّه بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي.
ولما أسلم أبو بكر وطلحة أخذهما نوفل بن خويلد بن العدويّة فشدهما في حبل واحد ولم يمنعهما بنو تيم، وكان نوفل هذا يدعى أسد قريش، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة:
القرينين. وكان
النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: اللهم اكفنا ابن العدويّة
[ (1) ] .
فانطلقوا حتى أتوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ومعهم أبو بكر فعرض عليهم الإسلام وقرأ عليهم القرآن وأنبأهم بحق الإسلام وبما وعدهم اللَّه تعالى من الكرامة، فآمنوا وأصبحوا مقرّين بحق الإسلام.
قال ابن إسحاق: فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا في الإسلام فصلّوا وصدّقوا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فآمنوا بما جاءه من عند اللَّه.
وروى البخاري عن عمار بن ياسر رضي اللَّه تعالى عنهما قال: رأيت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 2/ 167 وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 29.(2/305)
وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر.
قال الحافظ: أما الأعبد فهم: بلال وزيد بن حارثة وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، فإنه أسلم قديما مع أبي بكر.
روى الطبراني عن عروة أن عامرا كان ممن يعذّب في اللَّه فاشتراه أبو بكر وأعتقه، وأبو فكيهة- بفاء مضمومة فكاف مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة: مولى صفوان بن أمية بن خلف، ذكر ابن إسحاق أنه أسلم حين أسلم بلال فعذبه أمية فاشتراه أبو بكر فأعتقه.
وأما الخامس فيحتمل أن يفسّر بشقران فقد نقل ابن السّكن في الصحابة عن عبد الله بن أبي داود إن النبي صلى اللَّه عليه وسلم ورثه من أبيه هو وأمّ أيمن.
وذكر بعض شيوخنا بدل أبي فكيهة عمار بن ياسر، وهو محتمل، وكان ينبغي أن يكون منهم أبوه، فإن الثلاثة كانوا ممن يعذّب في اللَّه.
وأما المرأتان: فخديجة، والأخرى أمّ أيمن أو سميّة.
وذكر بعض شيوخنا تبعا للدمياطي أنها أمّ الفضل زوج العباس، وليس بواضح لأنها وإن كانت قديمة الإسلام إلا أنها [لم] تذكر في السابقين ولو كان كما قال لعدّ أبو رافع مولى العباس لأنه أسلم حين أسلمت أمّ الفضل.
وكذا عند ابن إسحاق في هذا الحديث أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال الأحرار مطلقا، لكن مراد عمّار بذلك: ممن أظهر إسلامه وإلا فقد كان حينئذ جماعة ممن أسلم لكنهم كانوا يخفون إسلامهم من أقاربهم.
وروى البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي اللَّه تعالى عنه: قال لقد رأيتني وأنا ثلث الإسلام وما أسلم أحد إلا في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وأنا ثلث الإسلام.
قال الحافظ: قال ذلك سعد بحسب اطلاعه، والسبب فيه أن من كان أسلم في ابتداء الأمر كان يخفي إسلامه ولعله أراد بالاثنين الآخرين خديجة وأبا بكر، أو النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأبا بكر.
وقد كانت خديجة أسلمت قطعا، فلعله خصّ الرجال.
وبما ذكر يحصل الجمع بين حديث عمار بن ياسر وبين حديثي عمار وسعد، أو يحمل قول سعد على الأحرار البالغين ليخرج الأعبد المذكورون أو لم يكن اطلع على أولئك.
ويدل على هذا الأخير أنه وقع عند الإسماعيلي بلفظ: «ما أسلم أحد قبلي» وهو مقتضى رواية البخاري، وهي مشكلة لأنه قد أسلم قبله جماعة لكن يحمل ذلك على مقتضى ما كان اتصل بعلمه حينئذ.(2/306)
ورواه ابن منده بلفظ: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه وهذه لا إشكال فيها إذ لا مانع أن لا يشاركه أحد في الإسلام يوم أسلم.
لكن رواه الخطيب من الطريق التي رواها ابن مندة فأثبت «إلا» فتعين الحمل على ما قلته. انتهى.
وروى الإمام أحمد وابن ماجة عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه قال: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار بن ياسر، وأمه سميّة- بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد المثناة التحتية- وصهيب، وبلال، والمقداد، الحديث.
قال ابن إسحاق ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب- بضم الهمزة وفتح الهاء وسكون المثناة التحتية- ابن ضبّة- بفتح الضاد المعجمة الساقطة.
وتشديد الموحدة- ابن الحارث بن فهر.
وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة- بمثناة تحتية مفتوحة فقاف ساكنة فظاء معجمة مشالة- ابن مرة بن كعب بن لؤي.
وأسلم بعده عشرة أنفس فان الحادي عشر: عتبة بن غزوان- بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي فواو فألف فنون- ابن جابر بن وهب المازني.
حمزة بن عبد المطلب ويأتي الكلام على إسلامه في بابه.
مصعب بن عمير.
عياش بن أبي ربيعة [ (1) ] .
والأرقم بن أبي الأرقم عبد مناف بن أسد، وكان أسد يكنى أبا جندب، بن عبد اللَّه بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي.
وعثمان بن مظعون- بالظاء المعجمة المشالة- ابن حبيب- بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة- ابن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص- بضم الهاء وفتح الصاد المهملة المثناة تحتية ساكنة ثم صاد مهملة- ابن كعب بن لؤي.
وروى أبو الحسن خيثمة الأطرابلسي في فضائله أن هذه الأربعة أسلموا أيضا على يد أبي بكر.
وأخوا عثمان: قدامة وعبد الله ابنا مظعون.
وعبيدة- بضم أوله وفتح الموحدة- ابن الحارث بن المطلب، بن عبد مناف بن قصي بن
__________
[ (1) ] عياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي، واسم أبيه عمرو، يلقب ذا الرّمحين أسلم قديما، وهاجر الهجرتين، وكان أحد من يدعو له النبي صلى اللَّه عليه وسلم، من المستضعفين، واستشهد باليمامة وقيل باليرموك وقيل مات سنة خمس عشرة. [التقريب 2/ 95] .(2/307)
كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي.
وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن عبد الله بن قرط- بضم القاف وسكون الراء وبالطاء المهملة- ابن رياح- براء مكسورة فمثنّاه تحتية- ابن رزاح- براء مفتوحة فزاي وآخره حاء مهملة- ابن عدي بن كعب بن لؤي وامرأته فاطمة بنت الخطاب بن نفيل بن عبد العزى أخت عمر بن الخطاب.
روى البخاري عن سعيد قال: لقد رأيتني وعمر موثقي على الإسلام أنا وأخته، وما أسلم بعد.
وأسماء وعائشة بنتا أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنهم.
كذا ذكر ابن إسحاق. قال في الزهر والعيون والدّرر: وهو وهم لم تكن عائشة ولدت بعد فكيف تسلم وكان مولدها سنة أربع من النبوة؟
وخبّاب- بفتح الخاء المعجمة وتشديد الموحدة- ابن الأرت- بتشديد المثناة الفوقية، حليف بني زهرة. قال ابن هشام: خبّاب بن الأرت من بني تميم، ويقال من خزاعة.
وعمير بن أبي وقاص.
وعبد الله بن مسعود بن غافل- بغين معجمة وبعد الألف فاء مكسورة- ابن حبيب بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة- ابن شمخ- بفتح الشين المعجمة وسكون الميم وآخره خاء معجمة- ابن فار- بفاء وراء مخففة- ابن مخزوم بن صاهلة- بصاد مهملة وبعد الآلف هاء مكسورة- ابن كاهل- قيّده الوقشي بأنه سمّي من الفعل- من كاهل يكاهل. قاله في الرّوض. وسيأتي في المعجزات سبب إسلامه.
ومسعود ابن ربيعة- كذا قاله ابن عقبة وابن إسحاق. وقال أبو معشر والواقديّ ربيع القاريّ- بتشديد الياء منسوب إلى القارة- ابن عمرو بن سعد بن عبد العزى بن حمالة- بكسر الحاء المهملة وتخفيف الميم- ابن غالب، بن محلّم- بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر اللام المشددة- ابن عائذة- بالمثناة التحتية وبالذال المعجمة- ابن سبيع- بضم السين المهملة وفتح الموحدة مصغّر.
كذا قال ابن إسحاق وتبعه في العيون والنّور. وقال البلاذريّ يبثغ- بمثناة تحتية مفتوحة فأخرى ساكنة فمثلثة مفتوحة فغين معجمة- كذا وجدته مضبوطا بالقلم في نسخة صحيحة قوبلت ثلاث مرات. ابن الهون- بضم الهاء وإسكان الواو ثم نون. قال في الصحاح: الهون بالضم: وهون بن خزيمة بن مدركة انتهى.
وقال البلاذري: في الهون جد مسعود بن ربيعة: أنه بفتح الهاء. انتهى.
ابن خزيمة بن القارة- بالقاف وتخفيف الراء.(2/308)
وسليط- بفتح السين المهملة وكسر اللام ثم مثناة تحتية ساكنة ثم طاء مهملة- ابن عمرو بن عبد شمس بن ود بن نصر بن مالك بن حسل- بكسر الحاء وسكون السين المهملتين- ابن عامر بن لؤي.
وعيّاش- بمثناة تحتية وشين معجمة- ابن أبي ربيعة، واسم أبي ربيعة: عمرو، ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.
وامرأته أسماء بنت سلامة- بتخفيف اللام- ابن مخرّبة- بميم مضمومة فخاء معجمة مفتوحة فراء مشددة مكسورة فموحدة مفتوحة، فتاء تأنيث- ابن جندل بن أبير- بهمزة مضمومة فموحدة فمثناة تحتية ساكنة- ابن نهشل بن دارم الدارمية التميمية.
وخنيس- بخاء معجمة مضمومة فنون مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فسين مهملة- ابن حذافة- بحاء مهملة فذال معجمة- ابن عديّ بن سعيد بن سهم بن عمر بن هصيص بن كعب بن لؤي. كذا في السيرة خنيس بن عدي بن سعيد بن سهم. قال الأمير أبو نصر في القسم المختلف فيه: سعيد بن سهم أخو سعد بن سهم بن عمر بن هصيص، اسمه سعيد- بفتح السين وكسر العين، وقريش تصغّره سعيد تصغير سعد.
وقال السّهيلي ما نصه: وذكر ابن إسحاق في السابقين إلى الإسلام من بني سهم عبد الله بن قيس بن الحارث بن عديّ بن سعيد بن سهم، حيثما تكرر في نسب بني عدي بن سعد بن سهم. يقول فيه ابن إسحاق: سعيد والناس على خلافه، وإنما هو سعد وسيأتي في شعر عبد الله بن قيس شاهد على ذلك، وإنما سعيد بن سهم أخو سعد وهو جد آل عمرو بن العاصي بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم. وفي سهم سعيد آخر وهو ابن سعد المذكور، وهو جد المطّلب بن أبي وداعة عوف بن صبيرة بن سعيد بن سعد. وقد قيل في صبيرة: ضبيرة- بالضاد المعجمة.
وقال الخشني: قول ابن إسحاق في نسب خنيس هذا: ابن سعيد بن سهم. كذا وقع هنا وصوابه سعد، وإنما سعيد ابنه.
وعامر بن ربيعة العنزي- بإسكان النون، وهو فيما ذكر ابن الكلبي عامر بن ربيعة الأصغر، ابن حجير- بحاء مهملة مضمومة فجيم مفتوحة- ابن سلامان بن مالك بن ربيعة الأكبر- ابن رفيدة- براءة مضمومة ففاء مفتوحة فمثناة ساكنة فدال مهملة- ابن عبد الله وهو عنز بن وائل بن قاسط- بقاف وسين وطاء مهملتين- ابن هنب بهاء مكسورة فنون ساكنة فباء موحدة بن أفصى- بفتح الهمزة ففاء ساكنة فصاد مهملة مفتوحة- ابن دعميّ- بدال مضمومة فعين ساكنة مهملتين فميم مكسورة فمثناة تحتية مشددة تشبه ياء النّسب، ابن جديلة- بجيم مفتوحة فدال مكسورة- ابن أسد بن ربيعة بن نزار حليف آل الخطاب.(2/309)
وعبد الله بن جحش بن رئاب- براء مكسورة فمثناة تحتية فهمزة موحدة- ابن يعمر- بمثناة تحتية وميم مفتوحتين بينهما عين مهملة ساكنة، وقيل فيه بضم الميم وهو غير مصروف، ابن ضبيرة- بضاد معجمة وتهمل مضمومة فباء موحدة فمثناة تحتية ساكنة- ابن مرة بن كبير- بفتح الكاف وكسر الموحدة- ابن غنم- بغين معجمة مفتوحة فنون ساكنة- ابن دودان- بدالين مهملتين الأولى مضمومة بينهما واو ساكنة- ابن أسد بن خزيمة.
وأخوه أبو أحمد واسمه عبد بغير إضافة. وقيل عبد اللَّه وليس بشيء إنما عبد الله أخوه.
وجعفر بن أبي طالب وامرأته أسماء بنت عميس- بعين مضمومة وسين مهملة بلا خلاف- ابن النعمان بن كعب بن مالك بن خثعم.
كذا هو عند ابن إسحاق وعند أبي عمر: أسماء بنت عميس بن معد بوزن سعد أوله ميم. ووقع في الاستيعاب بفتح العين وتعقّب- ابن الحارث، بن تميم بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن ربيعة بن معاوية بن زيد بن مالك بن نسر- بنون مفتوحة فسين مهملة ساكنة- ابن عفرس- بعين مكسورة ففاء ساكنة فراء مكسورة فسين مهملتين- ابن وهب اللَّه بن شهران- تثنية أحد شهور السنة- ابن حلف- بفتح الحاء المهملة وإسكان اللام وبالفاء نقله الأمير عن ابن حبيب- ابن أفتل- بهمزة مفتوحة ففاء ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة فلام وهو جماع خثعم بن أنمار على الاختلاف في أنمار.
وقيل: أسماء بنت عميس بن مالك بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة بن عامر بن زيد بن نسر بن وهب اللَّه.
وحاطب- بحاء فطاء مهملتين غير مصروف- ابن الحارث بن معمر، بفتح الميمين- ابن حبيب بن وهب بن مالك بن حذافة بن جمح- بجيم مضمومة فميم مفتوحة فحاء مهملة.
وامرأته فاطمة بنت المجلّل- بجيم مفتوحة وزن اسم المفعول- ابن عبد الله بن قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل- بحاء مكسورة فسين ساكنة مهملتين فلام- ابن عامر بن لؤي.
وأخوه خطّاب بن الحارث.
وامرأته فكيهة- بضم الفاء وفتح الكاف وسكون المثناة التحتية وفتح الهاء آخره تاء تأنيث- بنت يسار- بمثناة تحتية فسين مهملة.
ومعمر- بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة- ابن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن دارم بن جمح.
والسائب بن عثمان بن مظعون.(2/310)
والمطّلب بن أزهر بن عبد عوف بن عبد- بغير إضافة- ابن الحارث بن زهرة.
وامرأته رملة، بلام، بنت عوف بن صبيرة- بصاد مهملة مضمومة فموحدة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة- ابن سعيد بضم أوله وفتح ثانيه- كما ضبطه الأمير- ابن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي.
والنحّام بنون فحاء مهملة مشددة، واسمه نعيم بن عبد الله بن أسيد- بوزن أمير- ابن عبد الله بن عوف بن عبيد- بفتح العين المهملة وكسر الباء الموحدة بعدها مثناة تحتية- ابن عويج- بعين مفتوحة مهملة فواو مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فجيم- ابن عدي بن كعب.
وعامر بن فهيرة- بضم الفاء وفتح الهاء وسكون المثناة التحتية وفتح الراء آخره تاء تأنيث، مولى أبي بكر الصديق.
وخالد بن سعيد بن العاصي بن أمية بن عبد شمس. وقد قيل إنه أسلم قبل أبي بكر.
وامرأته أمينة بهمزة مضمومة فميم مفتوحة فمثناة تحتية فنون فتاء تأنيث. كذا في عدة نسخ من العيون، وكذا وجد مضبوطا بخط الحافظ أبي الحجاج بن خليل.
وقال الحافظ: أميمة بميمين. ويقال اسمها أمينة بالنون بدل الميم. ويقال همينة بالهاء بدل الألف.
وقال أبو ذر: أميمة روى هنا بالميم، وأمينة بالنون وبالياء وهو الصواب.
بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبيع- بضم السين المهملة وفتح الباء- وقال أبو ذر: كذا وقع هنا وصوابه يثيع- بمثناة تحتية مضمومة فثاء مثلثة- قاله ابن الدبّاغ وغيره. ابن خثعمة- بخاء معجمة مفتوحة فمثلثة- قال أبو ذر: كذا وقع هنا وصوابه جعثمة- بجيم مكسورة فعين مهملة ساكنة فثاء مثلثة مكسورة- قاله ابن الدباغ. انتهى. وكذا وجد في نسخه من الإكمال بخط الحافظ أبي الحجاج بن خليل بن سعد.
ابن مليح- بميم مضمومة فلام مفتوحة- ابن عمرو بن خزاعة.
وحاطب- بالحاء المهملة- ابن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن عتبة بن ربيعة بن حسل بن عامر بن لؤي.
وأبو حذيفة، قال ابن هشام: اسمه مهشم- بكسر الميم وسكون الهاء.
وقال السهيلي: قول ابن هشام وهم عند أهل النسب فإن مهشما إنما هو أبو حذيفة بن المغيرة أخو هاشم، وهشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وأما أبو حذيفة بن عتبة فاسمه قيس فيما ذكروا. انتهى.(2/311)
وكذا ذكر أبو ذر. وقال في الزّهر: فيما ذكره السهيلي نظر، لأن الواقدي وأبا نعيم والعسكري والبغوي والحاكم وابن عبد البر سموه مهشما، زاد العسكري: ويقال أيضا هشيم، ويقال هشام- وعند الحاكم عن جماعة من القدماء حسل- بكسر الحاء وسكون السين المهملتين. وقيل بحشل- بفتح الباء وسكون المهملة. فينظر من النسّابون الذي سموه قيسا، وينظر من ذكر أبا حذيفة بن المغيرة في السابقين إلى الإسلام أو في الصحابة جملة.
قلت: لم يذكره الحافظ في الإصابة، فكأنه هلك كافرا.
وواقد- بالقاف والدال المهملة- ابن عبد الله بن عبد مناف بن عرين- بعين مهملة مفتوحة فراء مكسورة فمثناة تحتية فنون- ابن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم حليف بني عدي.
وخالد وعامر وعاقل- بعين مهملة فألف فقاف- وإياس بنو البكير- بضم الموحدة- ابن عبد يليل- بمثناة تحتية فلام مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فلام- ابن ناشب- بنون فألف فشين معجمة مكسورة فموحدة- ابن غيرة- بغين معجمة مكسورة فمثناة تحتية مفتوحة فراء فتاء تأنيث من بني سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة حلفاء بني عدي.
وعمّار- بعين مهملة مفتوحة فميم مشددة- ابن ياسر- بمثناة تحتية فألف فسين مهملة ابن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين- بحاء مهملة مضمومة فصاد مفتوحة مهملتين- ابن الوذيم- بواو مفتوحة فذال معجمة مكسورة فمثناة تحتية- ابن ثعلبة بن عوف بن حارثة- بحاء مهملة ومثلثة- ابن عامر الأكبر بن يام- بمثناة تحتية وزن سام- ابن عنس- بعين مهملة مفتوحة فنون ساكنة فسين مهملة- وهو زيد بن مالك بن أدد. ومالك جماع مذحج- بميم مفتوحة فذال معجمة ساكنة فحاء مهملة مكسورة فجيم- حليف بني مخزوم.
وصهيب- بضم الصاد وفتح الهاء وسكون المثناة التحتية وآخره موحدة- ابن سنان بن مالك بن عبد عمرو بن عقيل- بضم المهملة وفتح القاف. كما وجد بخط ابن الأمين. في حاشية الاستيعاب- ابن عامر بن جندلة- بجيم فنون فدال مهملة- ابن سعد بن جذيمة- بجيم فذال معجمة فمثناة تحتية- ابن كعب بن سعد بن أسلم بن أوس مناة، بن النّمر بن قاسط- بالقاف والسين المهملة. كذا هو عند ابن الكلبي وعند أبي عمر سنان بن خالد بن عبد عمرو، بن الطفيل بن عامر بن جندلة بن سعد بن خزيمة- بالخاء المعجمة والزاي- ابن كعب بن سعد. ومنهم من يقول ابن سفيان بن جندلة بن مسلم بن أوس بن زيد مناة بن النّمر بن قاسط. ويقال له الرومي، وكان مولى لعبد الله بن جدعان.(2/312)
وذكر أبو عمر فيهم: عتبة بن مسعود، أخو عبد الله بن مسعود.
وأبا نجيح عمرو بن عبسة- بعين مهملة فموحدة فسين مهملة مفتوحات وزن عدسة- ابن منقل- بميم مضمومة فنون ساكنة فقاف مكسورة فلام- ابن خالد بن حذيفة بن عمرو بن خلف بن حذيفة بن مازن بن مالك بن ثعلبة بن بهثة- بباء موحدة مضمومة فهاء ساكنة فمثلثة مفتوحة فتاء تأنيث- ابن سليم.
ومازن بن مالك، أمه بجلة- بفتح الباء وسكون الجيم وفتح اللام- بنت هناءة- بضم الهاء فنون فألف ممدودة فتاء تأنيث- ابن مالك بن فهم- بفتح الفاء وسكون الهاء- وإليها ينسب البجلي- بسكون الجيم- ذكره كذلك الرشاطيّ. وحكي عن ابن عمر في نسبه غير ذلك وصحح ما تقدم. وحكى عن أبي عمر في نسبه غاضرة- بغين وضاد معجمتين بينهما ألف وآخره راء بعدها تاء تأنيث- ابن عتاب- بعين مهملة فمثناة فوقية فألف فموحدة- وزعم أنه خطأ وأن الصواب في ذلك النسب: ناضرة بالضاد المعجمة الساقطة، كما استظهره في النور. ابن خفاف- بخاء معجمة مضمومة ففاء مخففة فألف ففاء أخرى.
روى الشيخان والبرقاني أن أبا أمامة قال لعمرو بن عبسة: بأي شيء تدّعي أنك ربع الإسلام؟ قال: كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على غير شيء وأنهم ليسوا بشيء وهم يعبدون الأوثان. قال فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مستخفيا جراء عليه قومه فتلطّفت حتى دخلت عليه بمكة فقلت له: ما أنت؟
قال: نبي. قلت: وما نبي؟ قال: أرسلني اللَّه. قلت: بأي شيء أرسلك؟ قال: أرسلني بصلة الرحم وكسر الأوثان وأن يوحّد اللَّه لا يشرك به. فقلت: من معك على هذا؟ قال: حرّ وعبد.
قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال.
وذكر أبو عمر أيضا أبا ذرّ جندب- بجيم مضمومة فنون ساكنة فدال مهملة تضم وتفتح- ابن جنادة بن سفيان بن عبد حرام- بفتح الحاء والراء المهملتين- ابن غفار- بغين معجمة ففاء مخففة فراء- ابن مليل بميم مضمومة ولامين الأولى مفتوحة بينهما مثناة تحتية- ابن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
روى الحاكم عنه: قال كنت ربع الإسلام، أسلم قبلي ثلاثة نفر وأنا الرابع.
قال أبو عمر: ولكنهما يعني أبا نجيح وأبا ذرّ رجعا إلى بلاد قومهما.
وأنيس أخو أبو ذر كما سيأتي.(2/313)
الباب الرابع في قصة إسلام أبي ذرّ وأخيه أنيس- رضي اللَّه تعالى عنهما-
روى أبو داود الطيالسي والإمام أحمد ومسلم عن عبد الله بن الصامت، والبخاري عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما، كلاهما عن أبي ذر، قال ابن الصامت عنه: قد صلّيت يا ابن أخي قبل أن ألقى النبي صلى اللَّه عليه وسلم ثلاث سنين. قلت: لمن؟ قال للَّه. قلت فأين توجّه؟ قال: حيث يوجّهني ربي عز وجل أصلي عشاء حتى إذا كان من آخر الليل ألقيت نفسي كأني خفاء حتى تعلوني الشمس. قال فقال لي أنيس أخي: إن لي حاجة بمكة فاكفني، فانطلق. ثم جاء.
وقال ابن عباس عنه: كنت رجلا من غفار فبلغنا أن رجلا قد خرج بمكة يزعم أنه نبي فقلت لأخي: انطلق إلى هذا الرجل فكلّمه وائتني بخبره فانطلق أنيس حتى أتى مكة فراث عليّ ثم جاء فقلت: ما عندك؟ فقال: واللَّه لقد رأيت رجلا يأمر بخير وينهى عن الشر. وفي رواية لقد رأيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن اللَّه أرسله ورأيته يأمر بمكارم الأخلاق. قلت: فما يقول الناس؟ قال: يقولون: شاعر كاهن ساحر. وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، واللَّه إنه لصادق وإنهم لكاذبون، قال: فقلت: لم تشفني من الخبر فاكفني حتى أذهب فأنظر. قال: نعم وكن على حذر من أهل مكة فإنهم قد شنفوا له وتجهّموه. قال: فحملت شنّة لي فيها ماء. وفي رواية: فأخذت جرابا وعصا ثم أقبلت إلى مكة فأتيت المسجد ألتمس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولا أعرفه وأكره أن أسأل عنه. وفي رواية ابن الصامت: فتضعّفت رجلا منهم فقلت: أين هذا الرجال الذي تدعونه الصابئي؟ فأشار إلى: فقال: الصابئي الصابئي فمال عليّ أهل الوادي بكل مدرة وعظم حتى خررت مغشيا عليّ. قال: فارتفعت حين ارتفعت كأني نصب أحمر، فأتيت زمزم فغسلت عن الدماء وشربت من مائها، ولقد لبثت ثلاثين بين ليلة ويوم وما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسّرت عكن بطني وما وجدت على كبدي سخفة جوع. فدخلت بين الكعبة وأستارها فبينا أهل مكة في ليلة قمراء إضحيان إذ ضرب على أصمختهم فما يطوف بالبيت أحد وامرأتان منهم تدعوان إحافا ونائلة فأتتا عليّ في طوافهما فقلت: أنكحوا إحداهما الأخرى. فما تناهتا عن قولهما، فأتتا عليّ فقلت: هنّ مثل الخشبة. غير أنى لا أكنّي. فانطلقتا تولولان وتقولان: لو كان هاهنا أحد من أنفارنا.
فاستقبلهما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر وهما هابطتان قالا: ما لكما؟ قالتا: الصابئ بين الكعبة وأستارها. قالا: ما قال؟ قالتا: إنه قال لنا كلمة تملأ الفم.
وجاء رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم حتى استلم الحجر وطاف بالبيت وهو وصاحبه، ثم صلّى، فلما(2/314)
قضى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم صلاته أتيت فقلت: السلام عليك يا رسول اللَّه، أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، فرأيت الاستبشار في وجه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. قال أبو ذر: فكنت أول من حيّاه بتحية الإسلام فقال: وعليك السلام ورحمة اللَّه. ثم قال: ممن الرجل؟ قلت: من غفار، فأهوى بيده فوضع أصابعه على جبهته فقلت في نفسي: كره أن انتميت إلى غفار. فذهبت آخذ بيده فقدعني صاحبي وكان أعلم به مني، ثم رفع رأسه فقال: متى كنت هاهنا؟ قلت:
كنت من ثلاثين بين ليلة ويوم. قال: فمن كان يطعمك؟ قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسّرت عكن بطني وما أجد على بطني سخفة جوع. قال: مباركة، إنها طعام طعم وشفاء سقم.
وفي رواية ابن عباس عن أبي ذر قال: أقبلت حتى أتيت مكة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد، واضطجعت. قال: فمر بي على فقال:
كأنّ الرجل غريب؟ قلت: نعم. قال: فانطلق إلى المنزل. قال فانطلقت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره فلما أصبحت احتملت قربتي وزادي إلى المسجد أسأل عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وليس أحد يخبرني عنه بشيء، فظللت ذلك اليوم حتى أمسيت فعدت إلى مضجعي فمر بي على فقال: أما نال للرجل أن يعرف منزله بعد؟ قلت: لا. قال: انطلق معي. فذهبت معه لا يسألني عن شيء ولا أخبره عن شيء، فلما كان اليوم الثالث فعل ذلك، فأقامه فذهب معه ثم قال له:
ألا تحدثني ما الذي أقدمك هذا البلد؟ فقلت له: إن كتمت عليّ أخبرتك. وفي رواية: إن أعطيتني عهدا وميثاقا لترشدنّي فعلت. ففعل فأخبرته فقال: أما إنك قد رشدت إنه حقّ وإنه رسول اللَّه، فإذا أصبحت فاتبعني فإن رأيت شيئا أخافه عليك قمت كأني أريق ماء. وفي رواية: قمت إلى الحائط كأني أصلح نعلي وامضي أنت، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي.
فمضى ومضيت معه حتى دخل ودخلت معه على النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقلت له: اعرض عليّ الإسلام، فعرض فأسلمت مكاني فقال: يا أبا ذر اكتم هذا الأمر وارجع إلى قومك فأخبرهم بأمري، فإذا بلغك ظهورنا فأقبل فقلت: والذي بعثك بالحق- وفي رواية: والذي نفسي بيده- لأصرخن بها بين ظهرانيهم.
فخرجت حتى أتى المسجد وقريش فيه فناديت بأعلى صوتي: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمد رسول اللَّه. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فثار القوم فضربت لأموت. وفي رواية حتى أضجعوني فأدركني العباس فأكبّ عليّ ثم قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار وأنه طريق تجارتكم عليهم؟! فأقلعوا عنّي.
فلما أصبحت الغد رجعت فقلت مثل ما قلت بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئي فصنع بي ما صنع بالأمس، وأدركني العباس فأكبّ عليّ وقال مثل مقالته بالأمس.(2/315)
وفي حديث ابن الصامت فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه ايذن لي في طعامه الليلة. فانطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وانطلقت معهما، ففتح أبو بكر بابا فجعل يقبض لنا من زبيب الطائف وكان ذلك أول طعام أكلت بها. ثم أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إني وجّهت لي أرض ذات نخل ولا أراها إلا يثرب فهل أنت مبلّغ عني قومك عسى اللَّه أن ينفعهم بك ويأجرك فيهم؟
قال: فأتيت أنيسا فقال ما صنعت؟ قلت: قد أسلمت وصدّقت. فقال: ما لي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت. فأتينا أمّنا فقالت: ما بي رغبة عن دينكما فإني قد أسلمت وصدقت، فاحتملنا حتى أتينا قومنا غفارا فأسلم نصفهم وقال نصفهم: إذا قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم المدينة أسلمنا. فقدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة وأسلم نصفهم الباقي وجاءت أسلم فقالوا: يا رسول اللَّه إخواننا نسلم على الذي أسلموا عليه. فأسلموا. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: «غفار غفر اللَّه لها وأسلم سالمها اللَّه» .
تنبيهات
الأول: قال الحافظ: قول أبي ذرّ لأخيه: ما شفيتني مغاير في الظاهر لما في حديث ابن الصامت. ويمكن الجمع بأنه أراد منه أن يأتيه بتفاصيل من كلامه وأخباره فلم يأته إلا بمجمل.
وفي حديث ابن عباس أن لقياه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان بدلالة عليّ، وفي حديث ابن الصامت أن أبا ذر لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في الطواف بالليل، كما هو مذكور في القصة، وأكثره يغاير ما في حديث ابن عباس هذا عن أبي ذر، ويمكن التوافق بينهما بأنه لقيه أولا مع علي ثم لقيه في الطواف، أو بالعكس، وحفظ كلّ منهما ما لم يحفظ الآخر.
الثاني: قال في المفهم: في التوفيق بين الروايتين تكلّف شديد لا سيما أن في حديث عبد الله بن الصامت أن أبا ذر أقام ثلاثين لا زاد له. وفي حديث ابن عباس أنه كان معه زاد وقربة ماء إلى غير ذلك.
قال الحافظ: ويحتمل الجمع بأن المراد بالزاد في حديث ابن عباس ما تزوّده لمّا خرج من أرض قومه. ففرغ لما أقام بمكة. والقربة التي كانت معه كان فيها الماء حال السفر، فلما أقام بمكة لم يحتج إلى ملئها ولم يطرحها. ويؤيده أنه وقع في رواية أبي قتيبة عند البخاري:
فجعلت لا أعرفه- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم وأكون في المسجد.
الثالث: في بيان غريب ما سبق(2/316)
الخفاء- بخاء معجمة وفاء- وزن كتاب: الكساء، أو رداء تلبسه المرأة أو العروس فوق ثيابها.
فأين كنت توجّه: بفتح التاء والجيم، وفي رواية توجّه بضم التاء وكسر الجيم- وكلاهما صحيح.
راث يريث بالمثلثة: أبطأ.
أقراء الشعر، بالقاف والراء وبالمد: طرقه وأنواعه. شنفوا له، بشين معجمة مفتوحة فنون مكسورة ففاء، أي أبغضوه يقال شنف له شنفا إذا أبغضه.
تجهموه- بالجيم: أي تلقوه بالغلظة والوجه الكريه.
الشّنّة. بفتح الشين المعجمة والنون المشددة: القربة البالية.
تضعّفت رجلا: أي نظرت إلى أضعفهم فسألته، لأن الضعيف مأمون الغائلة غالبا.
الصّابئ: من صبأ يصبأ، إذا انتقل من شيء إلى شيء وكانوا يسمون من أسلم صابئا.
مال عليه أهل الوادي: تحاملوا.
المدرة: القطعة من الطين.
النّصب- بضم الصاد المهملة وبسكونها: حجر نصب فعد من دون اللَّه وجمع أنصاب، كانوا يذبحون عليه فيحمرّ بالدم.
تكسّرت: تثنّت لكثرة السّمن وانطوت.
عكن [ (1) ] بطني: بضم العين المهملة وفتح الكاف وأعكانه جمع عكنة وهي الطيّ الذي في البطن من السّمن.
السّخفة- بفتح السين المهملة وسكون الخاء المعجمة: ما يعتري الإنسان من الخفّة عند الجوع. وبضم السين: الخفّة في العقل.
قمراء: مقمرة ليس فيها غيم.
إضحيان- بكسر الهمزة والحاء المهملة وإسكان الضاد المعجمة بينهما: أي مضيئة.
أصمخة- بالسين وبالصاد أيضا فخاء معجمة جمع صماخ وهي ثقب الأذن المتصل بالدماغ والمراد بالضرب هنا: النوم المانع من نفوذ الكلام إلى الأذن.
إساف- بكسر الهمزة ونائلة بالنون والمثناة التحتية المكسورة: صنمان كانا لهم في الجاهلية.
فما تناهيتا عن قولهما: أي ما انتهتا عن قولهما بل دامتا عليه.
__________
[ (1) ] اللسان 4/ 3062.(2/317)
الهن. والهنة- بفتح الهاء وتخفيف النون: كناية عن كل شيء وأكثر ما يستعمل كناية على الفرج والذّكر أي قال لهما: ذكر كالخشة في الفرج. وأراد بذلك سبّ إساف ونائلة وغيظ الكفار بذلك.
الولولة [ (1) ] : الدعاء بالويل.
الأنفار: جمع نفر أو نفير وهو الذي ينفر عند الاستغاثة أي لو كان هنا أحد من أنفارنا لانتصر لنا.
كلمة تملأ الفم: أي لا يمكن ذكرها وحكايتها كأنها تسدّ فم حاكيها وتملأه، لاستعظامها.
أما نال للرجل: يقال نال له إذا آن له كما في رواية بمد الهمزة، ويروى: أما أنى بالقصر وبفتح النون. وفي رواية مسلم: أما آن أن يعلم بمنزله. ويروى بدون همزة الاستفهام في اللفظ أي ما جاء الوقت الذي يعرف به منزل الرجل بأن يكون له مسكن معيّن.
قد رشدت: من رشد يرشد من باب علم يعلم رشدا بفتحتين. ورشد يرشد من باب نصر ينصر رشدا- بضم الراء وسكون الشين. والرشد: خلاف الغيّ.
بين ظهرانيهم- بفتح النون وبين أظهرهم أي وسطهم.
فثار القوم- بثاء مثلثة فراء أي نهضوا.
فضربت: بالبناء للمفعول.
لأموت: أي لأن أموت، يعني ضربوه ضرب الموت.
فأكبّ عليّ: أي رمى نفسه علي.
فأقلعوا عني: أي كفّوا عني.
قدعني [ (2) ]- بقاف فدال مهملتين أي كفني، يقال قدعه وأقدعه إذا كفّه.
طعم- بضم الطاء وإسكان العين أي تشبع شاربها كما يشبعه الطعام.
وجّهت لي أرض: أي رأيت جهتها.
لا أراها- بضم الهمزة وفتحها.
إلا يثرب- هذا كان قبل نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تسمية المدينة بذلك.
احتملنا: أي احتملنا أنفسنا ومتاعنا على إبلنا وسرنا.
ما بي رغبة عن دينك: أي لا أكرهه بل أدخل فيه.
__________
[ (1) ] اللسان 6/ 4920.
[ (2) ] انظر لسان العرب 5/ 3551.(2/318)
الباب الخامس في سبب دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم واستخفاء المسلمين حال عبادتهم ربّهم تبارك وتعالى
دخل النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم يعبد اللَّه تعالى فيها سرّا من قومه، ودخل معه جماعة حتى تكامل المسلمون أربعين رجلا وكان آخرهم عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه، فلما تكاملوا أربعين رجلا خرجوا فلما أسلم عمر
قال: يا رسول اللَّه علام نخفي ديننا ونحن على الحق ويظهر دينهم وهم على الباطل؟ فقال: يا عمر إنا قليل. فقال عمر:
فو الذي بعثك بالحق لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلا أظهرت فيه الإيمان.
وسيأتي بسط ذلك في إسلام عمر رضي اللَّه تعالى عنه.
روى الحافظ أبو الحسن سليمان بن خيثمة الأطرابلسي عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: لمّا اجتمع أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا ألحّ أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في الظهور، فقال: يا أبا بكر إنا قليل.
فلم يزل أبو بكر يلحّ حتى ظهر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم وتفرّق المسلمون في نواحي المسجد كلّ رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، جالس فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسوله صلى اللَّه عليه وسلم وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين فضربوا في نواحي المسجد ضربا شديدا، ووطئ أبو بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عتبة بن ربيعة فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرّقهما لوجهه من على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه، وجاءت بنو تيم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملت بنو تيم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكّون في موته ثم رجعت بنو تيم فدخلوا المسجد وقالوا: واللَّه لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة. فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تيم يكلّمون أبا بكر حتى أجاب فتكلم في آخر النهار فقال: ما فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ فمسّوا منه بألسنتهم وعذلوه وقالوا لأمه أم الخير انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه. فلما خلت به ألحّت عليه وجعل يقول: ما فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ فقالت: واللَّه ما لي علم بصاحبك فقال: اذهبي إلى أم جميل بنت الخطاب فاسأليها عنه. فخرجت حتى جاءت أمّ جميل فقالت: أن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله. فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله وإن كنت تحبين أن أذهب معك إلى ابنك. فقالت: نعم. فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا فدنت أمّ جميل وأعلنت بالصياح وقالت: واللَّه إنّ قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر وإني لأرجو أن ينتقم اللَّه منهم. قال: فما فعل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم؟ قالت: هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك(2/319)
منها. قالت: سالم صالح. قال: فأين هو؟ قالت: في دار الأرقم. قال: فإن للَّه على أن لا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا أو أتى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم. فأمهلنا حتى إذا هدأت الرّجل وسكن الناس خرجنا به يتكئ عليّ حتى أدخلناه على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم فأكبّ عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم يقبّله وأكبّ عليه المسلمون ورقّ له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي وأمي يا رسول اللَّه ليس بي بأس إلا ما نال الناس من وجهي وهذه أمي برّة بولدها وأنت مبارك، فعسى اللَّه أن يستنقذها بك من النار. فدعا لها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم ودعاها إلى اللَّه فأسلمت.
وأقاموا مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في الدار شهرا وهم تسعة وثلاثون رجلا، وقد كان حمزة بن عبد المطلب أسلم يوم ضرب أبو بكر.
ودعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لعمر بن الخطاب أو لأبي جهل بن هشام، فأصبح عمر وكانت الدعوة يوم الأربعاء فأسلم عمر يوم الخميس فكبّر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأهل البيت تكبيرة سمعت بأعلى مكة، فقام عمر فقال: يا رسول اللَّه علام نخفي ديننا فذكر نحو ما سبق.
وذكر إسلام عمر هنا غريب والصحيح أنه أسلم بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة.
قال ابن إسحاق: ودخل الناس أرسالا الرجال والنساء في دين اللَّه، حتى فشا الإسلام بمكة وتحدّث به. وكان أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا صلّوا ذهبوا في الشّعاب واستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم في شعب من شعاب مكة إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلّون فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بلحيي بعير فشجّه وكان أول دم أهريق في الإسلام.
تنبيهان
الأول: دار الأرقم هي الدار المعروفة الآن بدار الخيزران عند الصفا.
الثاني: في بيان غريب ما سبق.
ألحّ: ألحف في المسألة.
نعلين مخصوفين [ (1) ] : مطبقتين.
فمسّوا منه بألسنتهم: أي عنّفوه ونالوا منه.
__________
[ (1) ] لسان العرب 2/ 1174.(2/320)
الدّنف: ملازمة المرض.
أمهلنا: صبرنا.
هدأت الرّجل: سكنت.
أرسالا: بفتح الهمزة: جمع رسول بفتح الراء والسين، أي أفواجا وفرقا.
فشا، بغير همز: أي ظهر وذاع.
تحدّث: بالبناء للمفعول.
الشّعاب: جمع شعب.
بلحيي بعير: هو تثنية لحي وهو العظم الذي عليه الخدّ وهو من الإنسان: العظم الذي تنبت عليه الأسنان.
فشجّه: جرحه.(2/321)
الباب السادس في أمر الله سبحانه وتعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بإظهار الإسلام
قال اللَّه سبحانه وتعالى: فَاصْدَعْ فأظهر بِما تُؤْمَرُ بالقرآن وما فيه من الأحكام.
وأصل الصدع: الشق والبينونة أو أصله الشق في الشيء الصّلب كالزجاج ثم استعير لغيرها. أي اكشف الحقّ وأبنه عن غيره وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر 94] اكفف عنهم ولا تبال بهم والكف عنهم. نسخ بآية السيف.
وقال تعالى: وَأَنْذِرْ خوّف عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء 214] وهم بنو هاشم وبنو المطّلب وقد أنذرهم جهارا.
روى ابن سعد عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه قال: أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إن يصدع بما جاء به من عند اللَّه وأن يبادي الناس بأمره وأن يدعو إلى اللَّه تعالى، فدعا في أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفيا إلى أن أمر بظهور الدعاء.
وروى البلاذري عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها قالت: دعا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم سرّا أربع سنين.
وروي أيضاً عن جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم قال: لما نزلت على النبي: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ اشتد ذلك على النبي صلى اللَّه عليه وسلم وضاق به ذرعا، فمكث شهرا أو نحوه جالسا في بيته حتى ظن عماته أنه شاك فدخلن عليه عائدات فقال: ما اشتكيت شيئا لكن اللَّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فأردت جمع بني عبد المطلب لأدعوهم إلى اللَّه تعالى قلن: فادعهم ولا تجعل عبد العزّى فيهم- يعنى أبا لهب، فإنه غير مجيبك إلى ما تدعوه إليه. وخرجن من عنده فلما أصبح رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعث إلى بني عبد المطلب فحضروا ومعهم عدة من بني عبد مناف وجميعهم خمسة وأربعون رجلا وسارع إليه أبو لهب وهو يظن أنه يريد أن ينزع عما يكرهون إلى ما يحبّون، فلما اجتمعوا قال أبو لهب: هؤلاء عمومتك وبنو عمك فتكّلم بما تريد ودع الصلاة، واعلم أنه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة وإن أحبّ من أخذك فحبسك أسرتك وبنو أبيك إن أقمت على أمرك فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدّها العرب، فما رأيت يا ابن أخي أحدا قط جاء بني أبيه وقومه بشرّ مما جئتهم به.
فأسكت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلم يتكلم في ذلك المجلس ومكث أياما وكثر عليه كلام أبي لهب، فنزل عليه جبريل عليه السلام فأمره بإمضاء ما أمره اللَّه به وشجّعه عليه، فجمعهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثانية فقال: الحمد اللَّه أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له. ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله واللَّه لو كذبت الناس جميعا(2/322)
ما كذبتكم ولو غررت الناس ما غررتكم، واللَّه الذي لا إله إلا هو إني لرسول اللَّه إليكم خاصة وإلى الناس كافة، واللَّه لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون ولتحاسبنّ بما تعملون، ولتجزونّ بالإحسان إحسانا وبالسوء سوءا وإنها للجنة أبدا أو النار أبدا، وإنكم لأول من أنذر، ومثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف يا صباحاه. فقال أبو طالب: ما أحبّ إلينا معاونتك ومرافدتك وأقبلنا لنصحك وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون وإنما أنا أحدهم، غير أني واللَّه أسرعهم إلى ما تحب فامض لما أمرت به فو اللَّه لا أزال أحوطك وأمنعك، غير إني لا أجد نفسي تطوّع إلى فراق دين عبد المطلب حتى أموت على ما مات عليه.
وتكلم القوم كلاما ليّنا غير أبي لهب فإنه قال: يا بني عبد المطلب هذه واللَّه السّوءة خذوا على يديه قبل أن يأخذ على يديه غيركم فإن أسلمتموه حينئذ ذللتم وإن منعتموه قتلتم.
فقال أبو طالب: واللَّه لنمنعنّه ما بقينا.
وقالت صفية بنت عبد المطلب لأبي لهب: أي أخي أيحسن بك خذلان ابن أخيك وإسلامه؟ فواللَّه ما زال العلماء يخبرون أنه يخرج من ضئضئ عبد المطلب نبيّ فهو هو. فقال:
هذا واللَّه الباطل والأماني وكلام النساء في الحجال، إذا قامت بطون قريش كلها وقامت معها العرب فما قوّتنا بهم؟ فو اللَّه ما نحن عندهم إلا إكلة رأس.
وروى الشيخان والبلاذري عن ابن عباس، والشيخان عن أبي هريرة، ومسلم عن قبيصة ابن المخارق رضي اللَّه عنهم، إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لما أنزل عليه وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ قام على الصّفا فعلا أعلاها حجرا ثم نادى: يا صباحاه. فقالوا من هذا؟ وجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج يرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فاجتمعوا إليه، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا.
فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئاً، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئاً، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئاً، يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أغني عنكم من اللَّه شيئاً، يا عباس عم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أنقذ نفسك من النار فإني لا أغني عنك من اللَّه شيئاً، يا صفية عمة محمد، ويا فاطمة بنت محمد أنقذا أنفسكما من النار فإني لا أملك لكما من اللَّه شيئاً، غير أن لكما رحما سأبلّها ببلالها، إني لكم نذير بين يدي عذاب شديد.(2/323)
فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟
فنزلت: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ إلى آخرها [ (1) ] .
ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يا بني عبد المطلب إني واللَّه ما أعلم شابّا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به أني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة.
وروى ابن سعد والبيهقي وأبو نعيم عن علي وأبو نعيم عن البراء بن عازب رضي اللَّه تعالى عنهم قال: لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال: يا علي اصنع لنا رجل شاة على صاع من طعام. وفي رواية: مدّ. وأعدّ لنا عسّ لبن ثم اجمع بني عبد المطلب.
قال عليّ: ففعلت، فاجتمعوا له وهو يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه، منهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فقدّمت إليهم تلك الجفنة، فأخذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم منها حذية فشقّها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها وقال: كلوا باسم اللَّه. فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما ترى إلا آثار أصابعهم، واللَّه إن كان الرجل الواحد ليأكل مثل ما قدّمت لجميعهم. ثم قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتى رووا جميعا، واللَّه إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله. وفي رواية من يأكل المسنّة ويشرب العسّ.
فلما أراد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لهدّ ما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم يكلّمهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
فلما كان الغد قال يا علي عد لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ففعلت ثم جمعتهم إليه فصنع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كما صنع بالأمس فأكلوا وشربوا حتى نهلوا، ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يا بني عبد المطلب، واللَّه ما أعلم شابّا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، أني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة. ثم قال: من يؤازرني على ما أنا عليه؟ قال علي:
فقلت: أنا يا رسول اللَّه وإني أحدثهم سنّا وسكت القوم. ثم قالوا: يا أبا طالب ألا ترى ابنك.
قال: دعوه فلن يألوا ابن عمه خيرا
[ (2) ] .
تنبيه في بيان غريب ما سبق
يبادي: قال في النور: الظاهر أنه بالموحدة أي يجاهر.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 8/ 609 (4972) . ومسلم 4/ 2242 (91- 2927) .
[ (2) ] ذكره الهيثمي في المجمع 8/ 305 وعزاه للبزار وأحمد والطبراني في الأوسط وقال: ورجال أحمد وأحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير شريك وهو ثقة.(2/324)
ضاق به ذرعا: يقال ضاق بالأمر ذرعا أي عجز عن احتماله، وذرع الإنسان: طاقته التي يبلغها.
أسرة الرجل: وزان غرفة: رهطه.
يربأ أهله، بمثناة تحتية فراء فباء موحدة فهمزة، يقال ربأت القوم أربؤهم ربأ: كنت طليعة لهم فوق شرف خوفا أن يكبسهم العدوّ على غرّة.
الحذيّة [ (1) ] : تصغير حذوة بضم الحاء المهملة وكسرها وسكون الذال المعجمة: القطعة من اللحم. وقيل: إذا كسرت الحاء كانت بمعنى أن يقطع اللحم طولا.
المسنة: الشاة التي سقطت ثناياها.
العسّ [ (2) ] : بضم العين وبالسين المهملة المشددة: القدح الكبير.
نهلوا: بنون: أي شربوا حتى رووا.
لهدّ [ (3) ] : بفتح اللام والهاء والدال المشددة: كلمة يتعجب بها، فيقال: لهدّ الرجل أي ما أجلده، ويقال إنه لهدّ الرجل، أي لنعم الرجل وذلك إذا أثني عليه لجلده وشدة بأسه. واللام فيه للتأكيد والمعنى هنا: لنعم ما سحركم به.
__________
[ (1) ] انظر المعجم الوسيط 1/ 163.
[ (2) ] لسان العرب 4/ 2942.
[ (3) ] لسان العرب 5/ 4085.(2/325)
الباب السابع في مشي قريش إلى أبي طالب ليكفّ عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الزّهري وابن إسحاق: فلما بادى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره اللَّه لم يبعد منه قومه ولم يردّوا عليه، حتى ذكر آلهتهم وعابها.
قال العتقي: وكان ذلك سنة أربع.
فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا لخلافه وعداوته إلا من عصم اللَّه تعالى منهم بالإسلام وهم قليل مستخفون.
وحدب على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على أمر اللَّه مظهرا لأمره لا يردّه عنه شيء.
فلما رأت قريش إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه من فراقهم وعيب آلهتهم، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه وقام دونه ولم يسلمه لهم، مشى رجال من أشرافهم إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبّ آلهتنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلّل آباءنا فإما أن تكفّه وإما أن تخلّي بيننا وبينه فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه فنكفيكه. فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا وردّهم ردّا جميلا.
فانصرفوا عنه.
ومضى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم على ما هو عليه يظهر دين اللَّه ويدعو إليه ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا وأكثرت قريش من ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم بينها فتذامروا فيه وحضّ بعضهم بعضا عليه.
ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا له: يا أبا طالب إن لك سنّا وإن لك شرفا ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنّا وإنا واللَّه لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفّه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين. أو كما قالوا له. ثم انصرفوا عنه.
فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ولم يطب نفسا بإسلام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولا خذلانه، فأرسل خلقه فقال: يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا. للذي كانوا قالوا له. فأبق على نفسك وعليّ ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق.
فظن أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قد بدا لعمّه فيه بداء وأنه خاذله ومسلمه، وأنه قد ضعف عن(2/326)
نصرته والقيام معه.
فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: يا عمّ واللَّه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللَّه أو أهلك فيه ما تركته ثم استعبر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فلما ولّى ناداه أبو طالب: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فو اللَّه لا أسلمك لشيء أبدا.
ثم قال أبو طالب:
واللَّه لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتّى أوسّد في التّراب دفينا
فامضي لأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر وقرّ بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنّك ناصحي ... فلقد صدقت وكنت ثمّ أمينا
لولا الملامة أو حذاري سبّة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
[ (1) ] قال في الروض: خص رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الشمس باليمين لأنه الآية المبصرة وخصّ القمر بالشمال لأنه الآية الممحوّة. وخص صلى اللَّه عليه وسلّم النيّرين حين ضرب المثل بهما لأن نورهما محسوس، فالنور الذي جاء به من عند اللَّه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة 32] فاقتضت بلاغة النبوّة لمّا أرادوه على ترك النور الأعلى أن يقابله بالنور الأدنى وأن يخص أعلى النيرين وهي الآية المبصرة بأشرف اليدين وهي اليمين، بلاغة لا مثلها وحكمة لا يجهل اللبيب فضلها. انتهى.
قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وإسلامه، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتى في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتخذه ولدا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف ديننا ودين آبائك وفرّق جماعة من قومك وسفّه أحلامهم فنقتله فإنما هو رجل برجل.
قال: واللَّه لبئس ما تسومونني! أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه! هذا واللَّه ما لا يكون أبدا، أرأيتم ناقة تحنّ إلى غير فصيلها؟
فقال المطعم بن عدي بن نوفل: واللَّه يا أبا طالب لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلّص مما تكره، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا. فقال أبو طالب للمطعم: واللَّه ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليّ فاصنع ما بدا لك أو كما قال. فحقب الأمر وحميت الحرب وتنابذ القوم وبادر بعضهم بعضا.
فقال أبو طالب يعرّض بالمطعم بن عديّ يعمّ من خذله من بني عبد مناف ومن عاداه
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 3/ 42.(2/327)
من قبائل قريش ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم:
ألا قل لعمر والوليد ومطعم ... ألا ليت حظّي من حياطتكم بكر
من الخور خبخاب كثير رغاؤه ... رشّ على السّاقين من بوله قطر
تخلّف خلف الورد ليس بلاحق ... إذا ما علا الفيفاء قيل: له وبر
أرى أخوينا من أبينا وأمّنا ... إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
بلى لهما ولكن تجرجما ... كما جرجمت من رأس ذي علق صخر
أخصّ خصوصا عبد شمس ونوفلا ... هما نبذانا مثل ما نبذ الجمر
هما أغمزا للقوم في أخويهما ... فقد أصبحا منهم أكفّهما صفر
هما أشركا في المجد من لا أبا له ... من الناس إلا أن يرسّ له ذكر
وتيم ومخزوم وزهرة منهم ... وكانوا لنا مولى إذا بغي النّصر
فو اللَّه لا تنفكّ منّا عداوة ... ولا منهم ما كان من نسلنا شفر
[ (1) ] قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم الذين أسلموا، فوثبت كلّ قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع اللَّه تعالى رسوله صلى اللَّه عليه وسلّم بعمه أبي طالب.
وقد قام أبو طالب حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والقيام دونه فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عدوّ اللَّه الملعون.
فلما رأى أبو طالب من قومه ما سرّه في جدّهم معه وحدبهم عليه جعل يمدحهم ويذكر فضل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فيهم ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم وليحدبوا معه على أمره فقال:
إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر ... فعبد مناف سرّها وصميمها
وإن حصّلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يوما فإنّ محمّدا ... هو المصطفى من سرّها وكريمها
تداعت قريش غثّها وسمينها ... علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنّا قديما لا نقرّ ظلامة ... إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
__________
[ (1) ] انظر الروض الأنف 2/ 9 والبداية والنهاية 3/ 48، 49.(2/328)
ونحمي حماها كلّ يوم كريهة ... ونضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذّواء وإنّما ... بأكتافنا تندى وتنمى أرومها
[ (1) ]
تفسير الغريب
حدب عليه، بفتح الهاء وكسر الدال المهملتين فموحدة: أي عطف عليه ومنعه، وأصل الحدب انحناء في الظهر، ثم استعير فيمن عطف على غيره ورقّ له.
لا يعتبهم: بضم أوله وكسر المثناة فوق: أي لا يرضيهم.
سفّه أحلامنا: بتشديد الفاء وبالهاء، وهو فعل ماض، أحلامنا مفعوله أي قال إنا قليلو العقل.
رفيقا: براء ففاء فمثناة تحتية فقاف.
ثم شري الأمر بينه وبينهم: بفتح الشين المعجمة فراء مكسورة فمثناة تحتية مفتوحة أي كثر وتزايد، يقال شرى البرق يشرى إذا كثر لمعانه ويقال أشرى الرجل أيضا إذا غضب.
تضاغنوا: تعادوا، والضّغن: العداوة والحقد.
فتذامروا [ (2) ] : بالذال المعجمة: أي حضّ بعضهم بعضا على حربه وعداوته.
استنهيناك: أي طلبنا منك أن تنهاه.
أو ننازله وإياك: أي نحاربه وإياك.
يهلك: بكسر اللام.
فأبق: بقطع الهمزة فموحدة ساكنة: فعل أمر. بدا: يغير همز أي ظهر.
بداء: بفتح الموحدة ممدودا: أي نشأ له فيه رأى.
استعبر: أي دمعت عيناه.
أوسّد: أوضع.
غضاضة: أوضع.
غضاضة: نقصان.
الملامة: العذل.
السّبّة بالضم: العار.
__________
[ (1) ] انظر السيرة النبوية لابن هشام 2/ 10 البداية والنهاية 3/ 49.
[ (2) ] انظر المعجم الوسيط 1/ 315.(2/329)
خذلانه: أي تركه ونصرته.
إجماعه: عزمه.
بعمارة: بضم العين وتخفيف الميم: كان من أجمل الناس وله قصة مع النجاشي.
أنهد فتى [ (1) ] : بنون فهاء فدال مهملة: أي أشدّه وأقواه.
عقله بعين مهملة مفتوحة: أي ديته، وأصله أن القاتل كان إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل فعقلها بفناء أولياء المقتول أي شدها في عقلها ليسلمها إليهم.
تسومونني: تكلّفونني.. أغذوه- بالغين والذال المعجمتين.
المطعم، بكسر العين، هلك كافرا قبل وقعة بدر.
المظاهرة: بالظاء المعجمة المشالة: المعاونة.
ما بدا لك: بغير همز أي ظهر.
فحقب الأمر: بحاء مهملة فقاف مكسورة فموحدة: أي زاد واشتد.
وتنابذ القوم بموحدة مفتوحة فذال معجمة أي تركوا ما كان بينهم من عهد.
قول أبي طالب: ألا ليت حظي من حفاظكم: بكسر الحاء، الحفاظ والحفيظة:
الغضب. وقال بعضهم: لا يكون الحفاظ إلا في الحرب خاصة.
قال أبو ذر: والقول الأول هو الصحيح. ويروى: من حياطتكم وهي الحفظ.
البكر: الفتيّ من الإبل أي أنّ بكرا من الإبل أنفع لي منكم، فليته لي بدلا من حياطتكم.
الخور: بضم الخاء المعجمة: جمع أخور وهو الضعيف.
خبخاب [ (2) ] : يروى الخاء المعجمة وبالحاء المهملة وبالجيم. قال ابن السرّاج:
الجبجاب بالجيم: الكثيرة الكلام فاستعاره هنا للرغاء، والحبحاب- بالحاء المهملة: القصير.
وبالخاء المعجمة: الضعيف.
الفيفاء: القفر.
الورد بكسر الواو: الماء الذي ترده الإبل.
والوبر: دويّبة قدر الهر، أي يشبّه بالوبر لصغره. ويحتمل أن يكون أراد يصغر في العين.
لعلوّ المكان وبعده.
__________
[ (1) ] لسان العرب 6/ 4555.
[ (2) ] المعجم الوسيط 1/ 214.(2/330)
تجرجما [ (1) ] : بمثناة فوقية فجيم مفتوحتين فراء ساكنة فجيم: أي سقط وانحدر. يقال:
تجرجم الشيء إذا سقط.
ذو علق: بعين مهملة فلام مفتوحتين فقاف: جبل في ديار بني أسد، ترك صرف علق إما لأنه جعله اسم بقعة، وإما لأنه تركه لضرورة الشّعر.
أغمزا للقوم: أي سبّبا لهم الطعن فيهم، يقال: غمزت الرجل إذا طعنت فيه. الصّفر بكسر الصاد: الخالي.
إلا أن يرسّ له ذكر [ (2) ] : أي يذكر ذلك خفيّا، يقال رسست الحديث إذا حدّثت به في خفاء،.
شفر بفتح الشين المعجمة وسكون الفاء: أي أحد.
سرّها وصميمها: أي خالصها وكريمها.
غثّها وسمينها: أصل الغث: اللحم الضعيف، فاستعاره هنا لمن ليس نسبه هناك.
طاشت: ذهبت.
حلومها: عقولها.
ثنوا: عطفوا.
صعر الخدود: بالعين المهملة: أي مائلة، يقال صعّر خدّه إذا أماله إلى جهة، فعل المتكبّر. ونضرب عن أحجارها: بحاء مهملة فجيم: أي ندفع عن حصونها ومعاقلها، يريد عن مواضعها المانعة. ومن رواه بالجيم والحاء أراد عن منازلها وبيوتها. والحجر هنا مستعار.
انتعش: حيّ وظهرت فيه الخضرة، وأصل نعش: رفع، يقال نعشه اللَّه أي رفعه وبه سمى النّعش نعشا.
العود الذّواء [ (3) ] : بذال معجمة مشدّدة وبالهمز: الذي جفّت رطوبته ولم ينته إلى حد اليبس.
الأكناف: النواحي.
أرومها: جمع أرومة وهي الأصل.
__________
[ (1) ] اللسان 1/ 586.
[ (2) ] المعجم الوسيط 1/ 343.
[ (3) ] اللسان 2/ 1527.(2/331)
الباب الثامن في إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه
روى ابن أبي حاتم عن الأجلح [ (1) ] قال: كان حمزة بن عبد المطلب رجلا حسن الشعر حسن الهيئة صاحب صيد، وأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم مر على أبي جهل فولع به أبو جهل وآذاه، فرجع حمزة من الصيد وامرأتان تمشيان خلفه فقالت إحداهما: لو علم ذا ما صنع أبو جهل بابن أخيه أقصر عن مشيته. فالتفت إليهما فقال: وما ذاك؟ قالت: أبو جهل فعل بمحمد كذا وكذا.
فدخلته الحميّة فجاء حتى دخل المسجد وفيه أبو جهل فعلا رأسه بقوسه ثم قال: ديني دين محمد، إن كنتم صادقين فامنعوني. ووثبت إليه قريش فقالوا: يا أبا يعلى. يا أبا يعلى فانزل اللَّه تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ إلى قوله: وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الفتح 26.]
قال الأجلح: أراد حمزة بن عبد المطلب.
وروى ابن إسحاق قال: حدثني رجل من أسلم وكان واعية، والطبراني برجال ثقات، عن يعقوب عن عتبة بن المغيرة والطبراني برجال ثقات عن محمد بن كعب القرظي رحمهم اللَّه، إن أبا جهل مر برسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عند الصّفا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره فلم يكلّمه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ومولاة لعبد اللَّه بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى نادي قريش عند الكعبة فجلس معهم، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل متوشّحا قوسه راجعا من قنص له، وكان صاحب قنص يرميه ويخرج له، فكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمرّ على نادي قريش إلا وقف وسلّم وتحدث معهم، وكان أعزّ فتى في قريش وأشدّه شكيمة فلمّا مرّ بالمولاة وقد رجع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم إلى بيته قالت له: يا أبا عمارة: لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم ابن هشام، وجده هنا جالسا فآذاه وسبّه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلّمه محمد.
فاحتمل حمزة الغضب لما أراد اللَّه تعالى به من كرامته، فخرج يسعى لم يقف على أحد معدّا لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل
__________
[ (1) ] يحيى بن عبد الله [هو] أبو حجيّة الكندي الأجلح الكوفي الشيعي. عن الشعبي، وجماعة. وعنه شعبة، وعليّ بن مسهر، وطائفة. وقد مرّ بلقبه. قال ابن عدي: هو عندي صدوق إلّا أنه يعدّ في الشيعة. وهو مستقيم الحديث. وقال ابن معين: لا بأس به. وقال الجوزجاني: الأجلح مفتر. وقال أبو حاتم: لا يحتج به، ليس بقوي. [ميزان الاعتدال 4/ 388، 389.](2/332)
نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجّه بها شجة منكرة وقال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فردّ على ذلك أن استطعت.
فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني واللَّه قد سببت ابن أخيه سبّا قبيحا.
زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق: ثم رجع حمزة إلى بيته فقال: أنت سيّد قريش اتبعت هذا الصابئ وتركت دين آبائك؟ للموت خير لك مما صنعت. وقال: اللهم إن كان رشدا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلا فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجا. فبات بليلة لم يبت مثلها من وسوسة الشيطان، حتى أصبح فغدا على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إني قد وقعت في أمر لا أعرف المخرج منه وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو أرشد أم هو غيّ شديد فحدّثني حديثا فقد اشتهيت يا ابن أخي أن تحدّثني.
فأقبل رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فذكّره ووعظه وخوّفه وبشّره، فألقى اللَّه تعالى في قلبه الإيمان بما قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال: أشهد إنّكم لصادق فأظهر يا ابن أخي دينك فو اللَّه ما أحب أن لي ما أظلّته المساء وأني على ديني الأول.
وتمّ حمزة على إسلامه وعلى ما بايع عليه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلّم من قوله.
فلما أسلم حمزة عرفت قريش إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم عزّ وامتنع، فكفّوا عن بعض ما كانوا ينالون منه. وقال حمزة حين أسلم:
حمدت اللَّه حين هدى فؤادي ... إلى الإسلام والدّين الحنيف
لدين جاء من ربّ عزيز ... خبير بالعباد بهم لطيف
إذا تليت رسائله علينا ... تحدّر دمعه ذي اللّبّ الحصيف
رسائل جاء أحمد من هداها ... بآيات مبيّنة الحروف
وأحمد مصطفى فينا مطاع ... فلا تغسوه بالقول الضّعيف
فلا واللَّه نسلمه لقوم ... ولمّا نقض فيهم بالسّيوف
ونترك منهم قتلى بقاع ... عليها الطّير كالورد العكوف
وقد خبّرت ما صنعت ثقيف ... به فجزى القبائل من ثقيف
إليه النّاس شرّ جزاء قوم ... ولا أسقاهم صوب الخريف
[ (1) ]
__________
[ (1) ] انظر الروض الأنف 2/ 49، 50.(2/333)
تفسير الغريب
داعية: حافظا لما يسمع.
ابن جدعان: بضم الجيم وإسكان الدال، ثم عين مهملتين: هلك على كفره.
فعمد: بفتح الميم في الماضي وكسرها في المستقبل.
إلى ناد من قريش: أي أهل ناد من قريش.
القنص: بفتح القاف والنون وبالصاد المهملة: الصيد.
الشّكيمة [ (1) ] : بفتح الشين المعجمة وكسر الكاف فمثناة تحتية ساكنة فميم مفتوحة فهاء تأنيث، يقال فلان شديد الشكيمة إذا كان عزيز النفس أبيّا قويا وأصله من شكيمة اللجام وهي الحديدة المعترضة في فم الفرس.
آنفا: بمد الهمزة وقصرها أي الآن والساعة.
فاحتمل حمزة: مفعول مقدّم والغضب: فاعل مؤخر.
فشجّه أي أثّر في رأسه أثرا.
أتشتمه: بكسر المثناة الثانية ويجوز ضمها. حكاه ابن دريد. وعلى ما تابع: بالمثناة الفوقية وبعد الألف باء موحدة. وفي بعض النسخ الصحيحة: بايع بالموحدة وبالمثناة بعد الألف، من المبايعة، والأول أظهر من سياق القصة. واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] انظر لسان العرب 4/ 2313.(2/334)
الباب التاسع في إرسال قريش عتبة بن أبي ربيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عليه أشياء ليكف عنهم
روى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو يعلى والحاكم وصححه عن جابر بن عبد الله والبيهقي وابن عساكر عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهم قالا: اجتمع نفر من قريش يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسّحر والكهانة والشّعر فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا وشتّت أمرنا وعاب ديننا، فليكلّمه ولينظر ماذا يردّ عليه.
فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة.
وعند ابن إسحاق وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي: أن عتبة بن ربيعة قال يوما، وكان جالسا في نادي قريش، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيّها شاء ويكفّ عنا. وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم يزيدون ويكثرون. فقالوا: بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلّمه.
وروى أبو يعلى [ (1) ] بسند جيد عن جابر بن عبد الله رضي اللَّه تعالى عنهما قال: اجتمعت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم يوما فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشّعر فليأت هذا الرجل الذي فرّق جماعتنا وشتّت أمرنا وعاب ديننا فيكلّمه ولينظر ما يرد عليه فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة فقالوا: أنت أبا الوليد. انتهى.
فقام عتبة حتى جلس إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السّطة في العشيرة والمكان في النّسب وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرّقت به جماعتهم وسفّهت أحلامهم وعبت آلهتهم ودينهم وكفّرت من مضى من آبائهم، يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلّم نسمع قولك، إنا واللَّه ما رأينا سخلة قط أشأم على قومك منك، فرّقت جماعتنا وأشتّت أمرنا وعبت ديننا وفضحتنا في العرب، حتى طار فيهم أن في قريش ساحرا وأن في قريش كاهنا واللَّه ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا بعضا إليك بالسيوف حتى نتفانى، أيها الرجل فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو يعلى في المسند 3/ 349 (1818) وأبو نعيم في الدلائل (182) وذكره الهيثمي في المجمع 6/ 20 وعزاه لأبي يعلى وقال: فيه الأجلح الكندي وثقة ابن معين وغيره، وضعفه النسائي وغيره، وباقي رجاله ثقات.(2/335)
فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قل أبا الوليد أسمع.
قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعناه لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به الشّرف سّودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. أو كما قال له.
حتى إذا فرغ عتبة ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسمعه منه قال له: أقد فرغت أبا الوليد؟ قال: نعم.
قال: فاسمع مني قال: أفعل.
قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: بسم اللَّه الرحمن الرحيم حم اللَّه أعلم بمراده به. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مبتدأ كِتابٌ خبره فُصِّلَتْ آياتُهُ بيّنت بالأحكام والقصص والمواعظ قُرْآناً عَرَبِيًّا حال من الكتاب بصفته لِقَوْمٍ يتعلق بفصلت يَعْلَمُونَ يفهمون ذلك وهم العرب أو أهل العلم والنظر وهو صفة أخرى لقرآنا بَشِيراً للعالمين به وَنَذِيراً للمخالفين له فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبّره وقبوله فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تأمل وطاعة وَقالُوا للنبي. قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أغطية جمع كنان وَفِي آذانِنا وَقْرٌ صمم وأصله الثقل وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ خلاف في الدين فَاعْمَلْ على دينك إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا.
ومضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما، فسمع منه إلى أن بلغ: فَإِنْ أَعْرَضُوا أي كفار مكة من الإيمان بعد هذا البيان فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ خوَّفتكم صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت 13] منع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه أريد به القبيلة، أي عذابا يهلككم مثل ما أهلكهم.
فأمسك عتبة على فيه وناشده الرّحم أن يكفّ عنه، ثم انتهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى السّجدة منها فسجد ثم قال: قد سمعت أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك، فقال: ما عندك غير هذا؟ فقال: ما عندي غير هذا.
فقام عتبة ولم يعد إلى أصحابه واحتبس عنهم فقال أبو جهل: واللَّه يا معشر قريش ما نرى عتبة إلا قد صبا إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته فانطلقوا بنا إليه.
فأتوه. فقال أبو جهل: واللَّه يا عتبة ما جئناك إلا أنك قد صبوت إلى محمد وأعجبك أمره فإن كان لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد.(2/336)
فغضب وأقسم لا يكلّم محمدا أبدا وقال: لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته، فقصّ عليهم القصة.
قالوا: فما أجابك؟ قال: واللَّه الذي نصها بنيّة ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود فأمسك بفيه وناشدته الرحم أن يكفّ وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل عليكم العذاب.
قالوا: ويك يكلّمك الرجل بالعربية لا تدري ما قال؟! قال: والله ما سمعت مثله، واللَّه ما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي وخلّوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه فواللَّه ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزّه عزكم وكنتم أسعد الناس به، يا قوم أطيعوني في هذا الأمر واعصوني بعده، فو اللَّه لقد سمعت من هذا الرجل كلاما ما سمعت أذناي كلاما مثله وما دريت ما أردّ عليه.
قالوا: سحرك واللَّه يا أبا الوليد.
قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
تفسير الغريب
السّطة- بكسر السين وفتح الطاء المهملتين- أي من الوسط حسبا ونسبا، وأصل الكلمة الواو، والهاء عوض عن الواو كعدة من الوعد. وتقدم ذلك في سفره إلى الشام ونكاحه خديجة.
سفّهت أحلامنا: أي قلت إنهم صغير والعقل.
أعرض عليك: وهو مجزوم جواب شرط مقدّر ويجوز رفعه، وكذلك قوله أسمع.
رئيّا [ (1) ] : الرئي: التابع من الجن بوزن كمي، وهو فعيل أو مفعول سمي به لأنه يتراءى لمتبوعه أو هو من الرّأي من قولهم: فلان رئي قومه. إذا كان صاحب رأيهم وقد تكسر راؤه لإتباعها ما بعدها.
الطّب: مثلث الطاء: العلاج في النفس والجسم.
يداوى: يفتح الواو مبنى للمفعول.
أفعل: بالجزم جواب شرط مقدر ويجوز رفعه.
__________
[ (1) ] اللسان 3/ 1541.(2/337)
الباب العاشر في أسئلة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواعاً من الآيات وخرق العادات على وجه العناد لا على وجه الهدى والرشاد
فلهذا لم يجابوا إلى كثير مما سألوا لعلم اللَّه سبحانه وتعالى أنهم لو عاينوا أو شاهدوا ما أرادوا لاستمروا في طغيانهم يعمهون ولظلّوا في غيهم وضلالهم يتردّدون، فقد كانوا رأوا من دلائل النبوة ما فيه شفاء لمن أنصف.
قال اللَّه تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ [العنكبوت 51] .
وفي هذا المعنى قيل:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبيّنةٌ ... كانت بداهته تنبيك بالخبر
قال اللَّه تعالى: لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى كما طلبوا وَحَشَرْنا جمعنا عليهم كُلَّ شَيْءٍ طلبوه قُبُلًا بكسر القاف وفتح الباء أي معاينة، فنصبه مصدر في موضع الحال، وبضمها جمع قبيل أي فوجا فوجا، فنصبه حال من كلّ وإن كان نكرة نافية من العموم، أي: ولو جئناهم بالملائكة قبيلا قبيلا وبما طلبوا ورأوا ذلك معاينة ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء منقطع أو متصل أي ما كانوا ليؤمنوا إلا في حال مشيئة اللَّه وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي الكفار يَجْهَلُونَ. فيحلفون أنهم يؤمنون عند نزول الآيات. أو المؤمنون يجهلون أن الكافرين لا يؤمنون فيطلبون نزول الآيات ليؤمنوا.
قال في الروض: وكان سؤالهم تلك الآيات جهلا منهم بحكمة اللَّه تعالى في امتحانه الخلق وتعبّدهم بتصديق الرسل وأن يكون إيمانهم عن نظر وفكر في الأدلة، فيقع الثواب على حسب ذلك، ولو كشف الغطاء وحصل لهم العلم الضروري لطلب الحكمة التي من أجلها يكون الثواب والعقاب إذ لا يؤجر الإنسان على ما ليس من كسبه كما لا يؤجر على ما خلق فيه من لون وشعر ونحو ذلك، وإنما أعطاهم من الدليل ما يقتضي النظر فيه العلم الكسبي.
وروى ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي عن ابن عباس [ (1) ] أن أشراف قريش من كل قبيلة اجتمعوا عند غروب الشمس عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه فجاءهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سريعا، وهو يظن أن
__________
[ (1) ] ذكره السيوطي في الدر 4/ 202 وعزاه لابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وذكر ابن جرير في التفسير 15/ 110.(2/338)
قد بدا لهم فيما يكلمهم فيه بداء، وكان حريصا عليهم يحب رشدهم ويعزّ عليه عنتهم، حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وشتمت الآلهة وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلّا قد جئته فيما بيننا وبينك. أو كما قالوا له. فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تريد به الشرف فينا فنحن نسوّدك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا تراه قد غلب عليك- وكانوا يسمون التابع من الجن رئيّا- فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطبّ لك حتى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما بي ما تقولون، ما جئت به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن اللَّه تعالى بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلّغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا والآخرة وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر اللَّه حتى يحكم اللَّه بيني وبينكم. أو كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قالوا: يا محمد إن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضنا لك فإنك قد علمت أنه ليس أحد أضيق بلدا ولا أقلّ مالا ولا أشدّ عيشا منا، فاسأل لنا ربّك أنهارا كأنهار العراق والشام، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن ممن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخ صدق فنسألهم عما تقول: أحقّ هو أم باطل، فإن صدّقوك وصنعت ما سألناك صدّقناك وعرفنا منزلتك من اللَّه وأنه بعثك إلينا رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما بهذا بعثت لكم، إنما جئتكم من اللَّه بما بعثني به وقد بلّغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه أصبر لأمر اللَّه حتى يحكم اللَّه بيني وبينكم.
قالوا: فإذا لم تفعل فخذ لنفسك، سل ربّك يبعث معك ملكا يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس الرزق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك إن كنت رسولا.
فقال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي سأل ربّه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن اللَّه بعثني بشيرا ونذيرا أو كما قال. فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر اللَّه حتى يحكم اللَّه بيني وبينكم.(2/339)
قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: ذلك إلى اللَّه عز وجل، إن شاء أن يفعله بكم فعله.
قالوا: يا محمد فما علم ربّك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب إليك ما نطلب فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به؟ إنه قد بلغنا أنك إنما يعلّمك هذا رجل باليمامة يقال له: الرحمن، وإنا واللَّه لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد، وإنا واللَّه لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائلهم: نحن نعبد الملائكة وهي بنات اللَّه. وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا باللَّه والملائكة قبيلا.
فلما قالوا ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم قام عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أميمة بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وهو ابن عمته وهو لعاتكة بنت عبد المطلب، وأسلم بعد ذلك رضي اللَّه تعالى عنه، فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من اللَّه تعالى كما تقول ويصدّقوك ويتّبعوك فلم تفعل، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ومنزلتك من اللَّه فلم تفعل ثم سألوك أن تعجّل لهم بعض ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل. أو كما قال له. فو اللَّه لا أومن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلّما ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ثم تأتي بصكّ معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وأيم اللَّه إن لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدّقك، ثم انصرف عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم.
وانصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه، لما رأى من مباعدتهم إياه.
فلما قام عنهم قال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا، وإني أعاهد اللَّه لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله.
أو كما قال. فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه فأسلموني عند ذلك أو امنعوني، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم. قالوا: واللَّه لا نسلمك لشيء أبدا فامض لما تريد.
فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف، ثم جلس لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينتظره، وغدا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو وكان بمكة وقبلته إلى الشام، وكان إذا صلى صلى بين الركنين، الركن اليماني والحجر الأسود، وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم(2/340)
يصلي وقد غدت قريش وجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل، فلما سجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع مهزوما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره حتى قذف بالحجر من يده.
وقامت إليه رجال من قريش فقالوا: ما بك يا أبا الحكم؟ قال: قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل لا واللَّه ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فهمّ بي أن يأكلني.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك جبريل لو دنا لأخذه.
قال ابن إسحاق: وأنزل اللَّه تعالى فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وبعث من مضى من آبائهم: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ نقلت بِهِ الْجِبالُ عن أماكنها أَوْ قُطِّعَتْ شققت به الأرض فجعلت أنهارا وعيونا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بأن يحيوا وجواب لو محذوف اكتفي بمعرفة السامعين مراده وتقديره: لكان هذا القرآن أو وهم يكفرون بالرحمن وإن أجيبوا إلى سؤالهم من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ أي أمر خلقه جَمِيعاً فيتصرف فيهم كيف يشاء.
وأنزل أيضا: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ التي اقترحها أهل مكة إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ لما أرسلناها فأهلكناهم ولو أرسلناها إلى هؤلاء لكذّبوا بها واستحقّوا الإهلاك، وقد حكمنا بإمهالهم لإتمام أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: وأنزل اللَّه سبحانه وتعالى في قولهم: خذ لنفسك سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدّقك إلى آخره: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا هلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً يصدّقه أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ من السماء ينفقه ولا يحتاج إلى المشي في الأسواق لطلب المعاش أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ بستان يَأْكُلُ مِنْها أي من ثمارها فيكتفي بها وفي قراءة: نأكل بالنون أي نحن فيكون له علينا مزيّة بها. وَقالَ الظَّالِمُونَ أي الكافرون للمؤمنين إِنْ ما تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مخدوعا مغلوبا على عقله قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بالمسحور والمحتاج إلى ما ينفقه وإلى ملك يقوم معه بالأمر فَضَلُّوا بذلك عن الهدى فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا إليه تَبارَكَ تكاثر خير الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ الذي قالوا من الكنز والبستان جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي في الدنيا لأنه شاء أن يعطيه إياها في الآخرة وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً أيضا إلى قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ فأنت مثلهم في ذلك وقد قيل هم كما قد قيل لك وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً بلية ابتلي بها الغنيّ بالفقير والصحيح(2/341)
بالمريض والشريف بالوضيع يقول الثاني في كلّ: مالي لا أكون كالأول في كلّ أَتَصْبِرُونَ على ما تسمعون ممن ابتليتم بهم، استفهام بمعنى الأمر أي اصبروا وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن يصبر وبمن يجزع.
وأنزل اللَّه تعالى فيما قال عبد الله بن أبي أمية- وقد تقدم إنه أسلم بعد: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً عيناً ينبع منها الماء أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ بستان مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ، فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها وسطها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً قطعا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا مقابلة وعيانا فنراهم. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ذهب أَوْ تَرْقى تصعد فِي السَّماءِ بسلّم وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ لو رقيت فيها حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا منها كِتاباً فيه تصديقك نَقْرَؤُهُ قل لهم:
سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا كسائر الرسل والبشر ولم يكونوا يأتون بآية إلا بإذن اللَّه.
قال ابن إسحاق: وأنزل اللَّه تعالى في قولهم فيما قد بلغنا: إنما يعلّمك رجل باليمامة يقال له الرحمن: ولن نؤمن به أبدا، يعنون به مسيلمة بن حبيب الحنفي، روى وثيمة بن موسى عن سعيد بن المسيّب أن مسيلمة تسمّى بالرحمن في الجاهلية قبل أن يولد عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم كان من المعمّرين: كَذلِكَ أي مثل إرسالنا الرسل قبلك يا محمد أَرْسَلْناكَ ثم بين المرسل إليهم فقال: فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا لتقرأ عليهم الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن وشرائع الإسلام وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ، قل لهم يا محمد الرحمن الذي أنكرتم معرفته: هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ توبتي ومرجعي.
وأنزل اللَّه تعالى فيما عرضوا عليه من أموالهم: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ على الإنذار والتبليغ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ أي لا أسألكم عليه أجرا إن أَجْرِيَ ما ثوابي إِلَّا عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مطّلع يعلم صدقه.
وأنزل اللَّه تعالى فيما قال أبو جهل وما همّ به: أَرَأَيْتَ في مواضعها الثلاثة للتعجب الَّذِي يَنْهى هو أبو جهل عَبْداً هو النبي صلى الله عليه وسلم إِذا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ أي المنهي عَلَى الْهُدى أَوْ للتقسيم أَمَرَ بِالتَّقْوى. أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ أي الناهي النبيّ وَتَوَلَّى عن الإيمان. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى ما يصدر منه أي يعلمه فيجازيه عليه.
أي: أعجبت منه يا مخاطب، من حيث نهيه عن الصلاة، ومن حيث أن المنهيّ على الهدى آمر بالتقوى، ومن حيث أن الناهي مكذّب متولّ عن الإيمان.
كَلَّا ردع له لَئِنْ لام قسم لَمْ يَنْتَهِ عما هو عليه من الكفر لَنَسْفَعاً(2/342)
بالناصية لنجرّن بناصيته إلى النار ناصِيَةٍ بدل نكرة من معرفة كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ وصفها بذلك مجازا والمراد صاحبها. فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهل ناديه وهو المجلس ينتدى أي يتحدث فيه القوم. وكان قال للنبي صلى الله عليه وسلم لما انتهره حيث نهاه عن الصلاة: لقد علمت ما بها أكثر ناديا مني لأملأن عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردا، ورجالا مردا.
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ الملائكة الغلاظ الشداد لإهلاكه، في الحديث:
لو دعا نَاديهَ لأَخذته الزبانية عياناً.
كَلَّا ردع له لا تُطِعْهُ يا محمد في ترك الصلاة وَاسْجُدْ صلّ للَّه وَاقْتَرِبْ منه بطاعته.
وروى أبو يعلى وأبو نعيم عن الزبير بن العوام [ (1) ] رضي اللَّه تعالى قال: لما نزلت:
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صاح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على أبي قبيس: يا آل عبد مناف إني نذير. فجاءته قريش فحذّرهم وأنذرهم قالوا: تزعم أنك نبي يوحى إليك وإن سليمان سخّر له الريح والجبال، وإن موسى سخّر له البحر، وإن عيسى كان يحيي الموتى، فادع اللَّه أن يجعل هذه الصخرة التي تحتك ذهبا فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف فإنك تزعم أنك كهيئتهم. فبينا نحن حوله إذ نزل عليه الوحي فلما سري عنه قال: والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم ولو شئت لكان، ولكنه خيّرني بين أن تدخلوا باب الحرمة فيؤمن منكم وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلّوا عن باب الرحمة ولا يؤمن منكم، فاخترت باب الرحمة فيؤمن منكم، وأخبرني إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم به يعذبكم عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين.
فنزلت: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ حتى قرأ ثلاث آيات. وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ
الآية [ (2) ] .
وروى الإمام أحمد والنسائي والحاكم والضياء في صحيحه عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال: سأل أهل مكة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحّي عنهم الجبال فيزرعون، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح الصفا لهم ذهبا فمن كفر منهم بعد ذلك عذّبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، وإن شئت
__________
[ (1) ] الزبير بن العوام بن خويلد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، أبو عبد الله القرشي الأسدي، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، قتل سنة ست وثلاثين بعد منصرفه من وقعة الجمل. [التقريب 1/ 259.] وسيأتي مفصلا.
[ (2) ] أخرجه أبو يعلى في المسند 2/ 41 (14- 679) وذكره الهيثمي في المجمع 7/ 58 وقال: رواه أبو يعلى من طريق عبد الجبار بن عمر الأيلي عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم وكلاهما وثق وقد ضعفهما الجمهور وذكره السيوطي في الدر 4/ 62 وعزاه لأبي نعيم في الدلائل وابن مردويه.(2/343)
فتحت لهم باب التوبة والرحمة، قال: أي رب باب الرحمة.
وفي رواية: إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكتهم كما أهلكت من قبلهم من الأمم. قال: لا بل أستأني بهم. فأنزل اللَّه: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ
[ (1) ] .
وروى ابن جرير عن قتادة قال: قال أهل مكة فذكر نحوه وفيه: فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك. قال: بل أستأني بقومي، فانزل اللَّه تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ
الآية.
وأنزل اللَّه تعالى: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [ (2) ] .
تفسير الغريب
أصبر: بالسكون جواب الشرط.
اليمامة- بفتح المثناة التحتية: مدينة باليمن.
الصّكّ [ (3) ]- بفتح الصاد المهملة وتشديد الكاف: الكتاب.
وايم اللَّه: من ألفاظ القسم كقولك: لعمر اللَّه وعهد اللَّه وفيها لغات كثيرة، تفتح همزتها وتكسر، وهي همزة وصل وقد تقطع.
أسلموني: بقطع الهمزة المفتوحة.
ما بدا لهم: بغير همز أي ظهر.
منتقعا- بفتح القاف- امتقع لونه فهو منتقع لغة في انتقع أي تغير من حزن أصابه.
الفحل- بفتح الفاء وإسكان الحاء- الذكر من الحيوان والمراد به هنا من الإبل.
الحجر- بفتح الحاء والجيم.
هامته- بميم مخففة مفتوحة: الرأس.
القصر [ (4) ]- بفتح القاف والصاد المهملة والراء. والقصرة: أصل العنق. والجمع قصر بفتحهما. واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 285 وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 3/ 52 وذكره السيوطي في الدر وعزاه للنسائي وابن جرير وابن المنذر. والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة. الدر 1/ 190.
[ (2) ] أخرجه الطبري في التفسير 15/ 75 وذكره السيوطي في الدر 4/ 190 وعزاه لابن جرير عن قتادة وذكره ابن كثير في البداية والنهاية 4/ 352 والهيثمي في المجمع 7/ 50 والقرطبي في التفسير 10/ 281.
[ (3) ] اللسان 4/ 2475.
[ (4) ] انظر المعجم الوسيط 2/ 739.(2/344)
الباب الحادي عشر في امتحانهم إياه بأصياء لا يعرفها إلا نبي
قال ابن إسحاق: أن النضر بن الحارث، وكان من شياطين قريش، وكان ممن يؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم. والصواب أنه هلك ببدر وهو مشرك على يدي علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه. فقال: يا معشر قريش واللَّه لقد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم وأصدقكم حديثا وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم الشّيب في صدغيه وجاءكم بما جاءكم به قلتم: ساحر. ولا واللَّه ما هو بساحر، وقد رأينا السّحرة ونفثهم وعقدهم. وقلتم: كاهن، لا والله ما هو بكاهن، قد رأينا الكهنة تخالجهم وسمعنا سجعهم، وقلتم: شاعر، لا واللَّه ما هو بشاعر، لقد روينا الشّعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه ورجزه. وقلتم:
مجنون. لا واللَّه ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا تخليطه، يا معشر قريش انظروا في شأنكم فإنه واللَّه لقد نزل بكم أمر عظيم.
وكان النضر قد قدم الحيرة وتعلّم بها أحاديث ملوك الفرس، فكان إذا جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكّر فيه باللَّه وحذّر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة اللَّه عز وجل، خلفه في مجلسه إذا قام ثم قال: أنا واللَّه يا معشر قريش أحسن حديثا منه، فهلم إليّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه. ثم يحدثهم عن ملوك فارس ثم يقول: بماذا محمد أحسن حديثا مني؟ وما أحاديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما كتبتها.
قال ابن هشام: وهو الذي قال فيما بلغني: سأنزل مثل ما أنزل اللَّه.
قال ابن إسحاق: وكان ابن عباس يقول فيما بلغني: إنه أنزل فيه ثماني آيات من القرآن: قوله تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [القلم 15] وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن.
فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود المدينة وقالوا لهما: اسألاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء.
فخرجنا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم، ووصفا لهم أمره وأخبراهم ببعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة وقد أتيناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا. فقالت لهما أحبار يهود: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبيّ مرسل وإن لم يفعل فالرجل [متقوّل] فروا فيه رأيكم: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم، فإنه قد كان لهم حديث عجيب، واسألوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان(2/345)
نبؤه، واسألوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي مرسل، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل [ (1) ] فاصنعوا في أمره ما بدا لكم.
فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط حتى قدما مكة على قريش فقالا: قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبيّ وإن لم يفعل فالرجل مفتون فروا فيه رأيكم.
فجاؤوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسألوه في تلك الأشياء فقال لهم: أخبركم بما سألتم عنه غدا.
ولم يستثن. فانصرفوا عنه.
قال ابن إسحاق: ومكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما يذكرون خمسة عشرة ليلة وفي سير الزّهري وموسى بن عقبة: أن الوحي إنما أبطأ عنه ثلاثة أيام لا يحدث اللَّه تعالى في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمسة عشرة ليلة قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه. حتى أحزن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه وشقّ عليه ما يتكلم به أهل مكة.
ثم جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم من اللَّه عز وجل بسورة الكهف وفيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطّواف والروح.
قال ابن إسحاق: فذكر لي إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه: لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا. فقال له جبريل: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا فافتتح اللَّه سبحانه سورة الكهف بحمده وذكر نبوّة رسوله صلى الله عليه وسلم
فقال: الْحَمْدُ وهو الوصف بالجميل الثابت لِلَّهِ وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به أو الثناء به أو هما؟ احتمالات أفيدها الثالث الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ محمد الْكِتابَ القرآن وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي فيه عِوَجاً اختلافا وتناقضا قَيِّماً مستقيما لِيُنْذِرَ يخوف بالكتاب الكافرين بَأْساً عذابا شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ من قبل اللَّه وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً وهو الجنة وَيُنْذِرَ من جملة الكافرين الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ بهذا القول مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ من قبلهم القائلين له كَبُرَتْ عظمت كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ كلمة تمييز مفسّر للضمير المبهم، والمخصوص بالذم محذوف أي مقالتهم المذكورة إِنْ ما يَقُولُونَ في ذلك إلا قولا كَذِباً فَلَعَلَّكَ باخِعٌ مهلك نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ بعد
__________
[ (1) ] في أمقتول.(2/346)
تولّيهم عنك إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ القرآن أَسَفاً غيظا وحزنا منك لحرصك على إيمانهم إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الحيوان والنبات والشجر والأنهار وغير ذلك زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ لنختبر الناس ناظرين إلى ذلك أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا فيه أي أزهد له وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً فتاتا جُرُزاً يابسا لا ينبت.
ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوا عنه من شأن الفتية فقال: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ الغار في الجبل وَالرَّقِيمِ اللوح المكتوب فيه أسماؤهم وأنسابهم كانُوا في قصتهم مِنْ جملة آياتِنا عَجَباً خبر كان وما قبله حال، أي كانوا عجبا دون باقي الآيات وأعجبها؟ ليس الأمر كذلك.
اذكر إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ جمع فتى وهو الشاب الكامل خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ غيره إِلهاً، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي قولا ذا شطط، أي إفراط في الكفر إن دعونا إلها غير اللَّه فرضا.
هؤُلاءِ مبتدأ قَوْمُنَا عطف بيان اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً الخبر: لَوْلا هلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ على عبادتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بحجة ظاهرة فَمَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه تعالى إلى آخر القصة.
ثم قال تعالي: سَيَقُولُونَ أي المتنازعون فيهم في عدد الفتية في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أي يقول بعضهم: هم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ أي بعضهم: خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ والقولان لنصارى نجران رَجْماً بِالْغَيْبِ أي ظناً في الفتية عنهم، وهو راجع إلى القولين معا ونصبه على المفعول أي لظنهم ذلك. وَيَقُولُونَ أي المؤمنون سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ الجملة من المبتدأ والخبر صفة سبعة بزيادة الواو، وقيل تأكيد أو دلالة على لصق الصفة بالموصوف، ووصف الأوّلين بالرجم دون الثالث يدل على أنه مرضيّ صحيح قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ من الناس. قال ابن عباس: أنا من ذلك القليل. وذكر أنهم سبعة فَلا تُمارِ تجادل فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً بما أنزل إليك. وَلا تَسْتَفْتِ تطلب الفتيا فِيهِمْ مِنْهُمْ من أهل الكتاب اليهود أَحَداً. وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً أي فيما يستقبل من الزمان إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي إلا ملتبسا بمشيئة اللَّه بأن تقول: إن شاء اللَّه وَاذْكُرْ رَبَّكَ أي مشيئته معلّقا بها إِذا نَسِيتَ التعليق بها ويكون ذكرها بعد النسيان كذكرها مع القول. قال الحسن وغيره: ما دام في المجلس. وروى ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس في الآية قال: إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت. قال: وهي خاصة برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.(2/347)
وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا من خبر أهل الكهف في الدلالة على نبوّتي رَشَداً هداية وقد فعل اللَّه تعالى ذلك.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ اختلف في اسمه فقيل اسمه الصّعب. وبه جزم كعب الأحبار ونقله ابن هشام في التيجان عن ابن عباس. وقال الشيخ تقي الدين المقريزي في الخطط: إنه التحقيق عند علماء الأخبار. وقال الحافظ في الفتح بعد أن أورد قول أعشى بن ثعلبة:
والصّعب ذو القرنين أمسى ثاويا ... بالحنو في حديث هناك مقيم.
والحنو- بكسر الحاء المهملة وسكون النون فواو: مكان في ناحية المشرق. ثم ذكر شواهد أخر يؤخذ من أكثر هذه الشواهد أن الراجح في اسمه الصّعب. وقيل المنذر: وقيل غير ذلك.
ولقّب بذي القرنين قيل لأنه بلغ قرن الشمس من مغربها وقرن الشمس من مطلعها رواه الزبير بن بكار عن الزّهري. وقيل لأنه ملكهما. وقيل لأنه رأى في منامه أنه أخذ بقرني الشمس، وقيل لأنه كان له قرنان حقيقة. وهذا أنكره الإمام علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى. وقيل لأنه كان له ضفيرتان تواريهما ثيابه. وقيل كانت الغديرتان طويلتين من شعره حتى كان يطأ عليهما. وقيل لأنه دخل النور والظّلمة. وقيل لأنه عمّر حتى فني في زمانه قرنان من الناس. وقيل غير ذلك.
واختلف في نبوته: فقيل كان نبيّا. وبه جزم جماعة. وهو مرويّ عن عبد الله بن عمرو بن العاصي. قال الحافظ: وعليه ظاهر القرآن
وروى الحاكم من حديث أبي هريرة قال:
قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لا أدري ذو القرنين كان نبيّا أو لا»
وذكر وهب في المبتدأ إنه كان عبدا صالحا وأن اللَّه تعالى بعثه إلى أربعة أمم اثنتين منها طول الأرض، واثنتين منها عرض الأرض فذكر قصة طويلة ذكرها الثعلبي في تفسيره.
وروى الزبير بن بكّار وسفيان بن عيينة في جامعه والضياء المقدسي في صحيحه، كلاهما من طريق آخر بسند صحيح كما قال الحفاظ عن أبي الطفيل أن ابن الكوّاء قال لعلي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه: أخبرني عن ذي القرنين نبيّا كان أم ملكا؟ قال: لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان عبدا صالحا أحبّ اللَّه فأحبّه، ونصح للَّه فنصحه، بعثه إلى قومه فضربوه على قرنه ضربة مات فيها، ثم بعثه اللَّه إليهم فضربوه، ثم بعثه فسمّي ذا القرنين. قال الحافظ: وفيه إشكال لأن قوله: لم يكن نبيا مغاير لقوله: بعثه اللَّه إلى قومه إلا أن يحمل البعث على غير رسالة النبوّة.(2/348)
والأكثر: أنه كان من الملوك الصالحين. وذكره البخاري قبل ترجمة إبراهيم صلى الله عليه وسلم. قال الحافظ: وفي ذلك إشارة إلى توهين قول من زعم أنه الإسكندر اليوناني، لأن الإسكندر كان قريباً من زمن عيسى، وبين زمن إبراهيم وعيسى أكثر من ألفي سنة. والذي يظهر أن الإسكندر المتأخر لقب بذي القرنين تشبيها بالمتقدم لسعة مملكته وغلبته على البلاد الكثيرة، أو لأنه لما غلب على الفرس وقتل ملكهم انتظم له ملك المملكتين الواسعتين الرّوم والفرس فلقّب ذو القرنين بذلك.
والحق: أن الذي قصّ اللَّه نبأه في القرآن هو المتقدم، والفرق بينهما من أوجه: أحدها ما ذكرته. والذي يدلّ على تقدم ذي القرنين ما رواه الفاكهي عن عبيد بن عمير أحد كبار التابعين: أن ذا القرنين حجّ ماشيا فسمع به إبراهيم فتلقّاه.
وذكر ابن هشام في التيجان أن إبراهيم تحاكم إلى ذي القرنين في شيء فحكم له.
ثاني الأوجه: قال الإمام فخر الدين كان ذو القرنين نبيّا وكان الإسكندر كافرا ولكن الجمهور على خلاف قوله إنه كان نبيا.
ثالثها: كان ذو القرنين من العرب. وأما الإسكندر فهو من اليونان.
وشبهة من قال إن ذا القرنين هو الإسكندر: ما رواه ابن جرير بإسناد فيه ابن لهيعة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين فقال: كان من الروم فأعطي ملكا فسار إلى مصر وبنى الإسكندرية. إلى آخره.
وهذا لو صحّ لدفع النزاع، ولكنه ضعيف.
هذا خلاصة كلام الحافظ في الفتح.
وقال الشيخ تقي الدين المقريزي في الخطط: اعلم أن التحقيق عند علماء الأخبار أن ذا القرنين الذي ذكره اللَّه تعالى في القرآن اسمه الصّعب بن الحارث. وساق نسبه إلى قحطان بن هود بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وأنه ملك من ملوك حمير وهم العرب العاربة ويقال لهم أيضا العرب العرباء.
كان ذو القرنين تبّعا متوّجا ولما تولى الملك تجبّر ثم تواضع للَّه تعالى. وقد غلط من ظن أن الإسكندر هو ذو القرنين الذي بنى السّدّ فإن لفظة «ذو» عربية، وذو القرنين من ألقاب ملوك اليمن، وذاك رومي يوناني وبسط الكلام على ذلك وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير نحو ما سبق عن الحافظ وصوّب أن ذا القرنين غير الإسكندر اليوناني وبسط الكلام على ذلك. قُلْ سَأَتْلُوا سأقصّ عَلَيْكُمْ مِنْهُ من حاله ذِكْراً خبرا. إلى آخر القصة.(2/349)
وقال تعالى فيما سألوه عنه من الروح الذي يحيا به البدن: قُلِ لهم الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي علمه لا تعلمونه. وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بالنسبة إلى علمه تعالى.
وكلام ابن إسحاق يدل على أن هذه الآية مكّية. ورواه الترمذي عن ابن عباس، ورجاله رجال مسلم.
وفي الصحيحين أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح بالمدينة فنزلت هذه الآية.
قال الحافظ: ويمكن الجمع بأن يتعدّد النزول ويحمل سكوته في المرة الثانية على توقّع مزيد بيان في ذلك وإلا فما في الصحيح أصحّ.
قال ابن إسحاق: فلما جاءهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق، وعرفوا صدقه فيما حدّث وموقع نبوته فيما جاءهم من علم الغيب حين سألوه عنه، حال الحسد منهم له بينهم فقال قائلهم: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ أي اجعلوه لغوا باطلا وهزؤا لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ بذلك فإنكم إن ناظرتموه وخاصمتموه غلبكم بذلك.
فقال أبو جهل يوما، هو يهزأ برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وما أتى به من الحق: يا معشر قريش يزعم محمد إنما جنود اللَّه الذين يعذّبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر، وأنتم الناس عددا وكثرة، فيعجز كلّ مائة منكم عن رجل منهم؟
فانزل اللَّه تعالى في ذلك: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً فلا يطاقون كما تتوهّمون وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ضلالا لِلَّذِينَ كَفَرُوا بأن يقولوا: لم كانوا تسعة عشر لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي اليهود صدق النبي صلى الله عليه وسلم في كونهم تسعة عشر الموافق لما في كتابهم وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا من أهل الكتاب إِيماناً تصديقا لموافقة ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم لما في كتابهم. وَلا يَرْتابَ يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ من غيرهم في عدد الملائكة وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شكّ بالمدينة وَالْكافِرُونَ بمكة ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا العدد مَثَلًا سمّوه مثلا لغرابته وأغرب حالا.
كَذلِكَ أي مثل إضلال منكر هذا العدد وهدى مصدّقه يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ أي الملائكة في قوّتهم وأعوانهم إِلَّا هُوَ سبحانه وتعالى.
تنبيه في بيان غريب ما سبق:
النّضر: بنون وضاد معجمة.
مكث: مرفوع فاعل أحزن.(2/350)
الباب الثاني عشر في سبب نزول قوله تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا
[الإسراء 110] روى سعيد بن منصور والإمام أحمد والشيخان عن ابن عباس، وابن إسحاق وابن جرير عنه من طريق آخر في الآية قال: نزلت ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة متوار، فكان إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به وتفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه، وكان الرجل إذا أراد أن يستمع من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلوه وهو يصلي استرق السّمع دونهم فرقا منهم، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يستمع، فإن خفض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا، فانزل اللَّه تعالى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ بقراءتك فيها فيسبّ المشركون القرآن ويتفرقوا عنك وَلا تُخافِتْ تُسرّ بِها فلا ينتفع بها أصحابك ولا من أراد أن يسمعها ممن يسترق ذلك لعله يرعوي إلى بعض ما يستمع فينتفع به وَابْتَغِ اقصد بَيْنَ ذلِكَ بين الجهر والمخافتة سَبِيلًا طريقا وسطا [ (1) ] .
قال عروة بن الزبير فيما رواه ابن إسحاق عنه: أول من جهر بالقرآن بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمكة عبد الله بن مسعود، اجتمع يوما أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم فقالوا: واللَّه ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطّ، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد اللَّه بن مسعود: أنا. قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إذا أرادوه. قال: دعوني فإن اللَّه سيمنعني.
فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام ثم قال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ثم استقبلها يقرؤها وتأمَّلوه يقولون:
ماذا قال ابن أمَّ عبد؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه وجعل يقرأ حتى بلغ ما شاء اللَّه أن يبلغ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثّروا بوجهه فقالوا:
هذا الذي خشينا عليك. قال: ما كان أعداء اللَّه تعالى أهون عليّ منهم الآن ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا. قالوا: لا حسبك، قد أسمعتهم ما يكرهون.
لأغادينهم: أي آتيهم غدوة بذلك.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 8/ 257 (4722) ومسلم 1/ 329 (145- 446) .(2/351)
الباب الثالث عشر في اعتراف أبي جهل وغيره بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم
روى ابن إسحاق والبيهقي عن الزهري والحافظ محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات عن الزهري، عن سعيد بن المسيب بسند صحيح أنه حدّث إن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي من الليل في بيته، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يسمعه فيه وكلّ لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعهم الطريق فتلاوموا وقال بعضهم لبعض لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في قلبه شيئا. ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة. ثم انصرفوا.
حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل واحد منهم مجلسه، فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد أن لا نعود.
فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. ولفظ الذهلي:
إن أبا سفيان قال للأخنس: فما تقول أنت؟ قال: أراه الحق. انتهى. قال أبو سفيان: واللَّه يا أبا ثعلبة لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها قال الأخنس: وأنا واللَّه كذلك.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ما سمعت؟ تنازعنا وبنو عبد مناف الشرف فأطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الرّكب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه؟! والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدّقه.
تنبيه
اختلف في إسلام الأخنس بن شريق وسيأتي بسط الكلام على ذلك.
وروى البيهقي عن المغيرة بن شعبة قال: أول يوم عرفت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أني كنت أمشي مع أبي جهل بن هشام في أزقّة مكة إذ لقينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحكم هلمّ إلى اللَّه ورسوله أدعوك إلى اللَّه؟ فقال أبو جهل: يا محمد هل أنت منته عن سبّ آلهتنا هل تريد أن نشهد أنك قد بلّغت؟ فواللَّه لو أعلم أن ما تقول حق اتبعتك، فانصرف(2/352)
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم. فأقبل عليّ فقال: واللَّه إني لأعلم أن ما يقول حق، ولكن بني قصيّ قالوا فينا الحجابة. قلنا، نعم، ثم قالوا: وفينا النّدوة قلنا نعم. ثم قالوا: وفينا اللّواء. قلنا نعم. ثم قالوا: وفينا السّقاية. قلنا نعم. ثم أطعموا وأطعمنا حتى إذا تحاكّت الرّكب قالوا منا نبي! واللَّه لا أفعل
[ (1) ] .
تفسير الغريب
الأخنس: بفتح الهمزة فخاء معجمة ساكنة فنون مفتوحة فسين مهملة.
شريق: بشين معجمة مفتوحة فراء مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فقاف.
تجاذينا [ (2) ] : بمثناة فوقية مفتوحة فجيم فألف فذال معجمة مفتوحة فياء مثناة ساكنة فنون فألف: قال في الصحاح: الجاذي المقعي منتصب القدمين وهو على أطراف الأصابع والجمع جذاء مثل نائم ونيام. قال أبو عمرو جذا وجثا لغتان. قال ابن الأعرابي: الجاذي على قدميه والجاثي على ركبتيه.
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 2/ 207 وابن أبي شيبة في المصنف 14/ 91 وذكره المتقي الهندي في كنز العمال (37878) .
[ (2) ] اللسان 1/ 580.(2/353)
الباب الرابع عشر في تحيّر الوليد بن المغيرة فيما يصف به القرآن والآيات التي أنزلت فيه
روى ابن إسحاق ومقاتل في تفسيره وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي والواحديّ من طرق عن ابن عباس قال: لما أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم سورة غافر قرأها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعها الوليد ثم انطلق إلى مجلس بني مخزوم فقال: واللَّه لقد سمعت من محمد كلاما آنفا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إنّ أسفله لمغدق وإن أعلاه لمونق وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإنه يعلو ولا يعلى. ثم انصرف.
فقالت قريش: لقد صبأ الوليد، واللَّه لئن صبأ الوليد لتصبأن قريش كلها، وكان يقال للوليد ريحانة قريش. فقال أبو جهل: أنا أكفيكموه.
فانطلق حتى دخل عليه وهو حزين فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه فإنك أتيت محمدا تتعرّض لما قبله.
فقال: لقد علمت قريش أني من أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك «أنك كاره له» . قال: وماذا أقول فيه؟ واللَّه أنه ليس من كلام الإنس ولا من كلام الجن. فقال له أبو جهل: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
دعني أفكر فيه.
فلما اجتمع بقومه قال وقد حضر الموسم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضا. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس أقم لنا رأيا نقوله فيه. قال: بل أنتم فقولوا أسمع.
قالوا: نقول كاهن. قال: واللَّه ما هو بكاهن، فقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه.
قالوا: فنقول مجنون. قال: والله ما هو بمجنون فقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
قالوا: فنقول شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بشاعر.
قالوا: فنقول ساحر. قال: والله ما هو بساحر لقد رأينا السحّار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده.(2/354)
قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟
قال: واللَّه إن لقوله حلاوة وإن عليه طلاوة وإن أصله لمغدق وإن فرعه لمثمر وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا وأنا أعرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر، فما يقول سحر يفرق بين المرء وابنه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته.
فتفرّقوا عنه بذلك، وجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم لا يمرّ بهم أحد إلا حذّروه إياه وذكروه لهم.
وأنزل اللَّه تعالى في الوليد وفي ذلك من قوله: ذَرْنِي أي اتركني. وهي كلمة يقولها المغتاظ إذا اشتد غيظه وغضبه وكره أن يشفع لمن اغتاظ عليه. وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً أي منفردا بلا أهل ولا مال وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً واسعا متصلا من الزروع والضروع والتجارة. وَبَنِينَ عشرة أو أكثر شُهُوداً يشهدون المحافل وتسمع شهادتهم وَمَهَّدْتُ بسطت لَهُ في العيش والعمر والولد تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا لا أزيده على ذلك إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا أي القرآن عَنِيداً معاندا سَأُرْهِقُهُ أكلّفه صَعُوداً مشقة من العذاب أو جبلا من نار يصعد فيه ثم يهوى أبدا إِنَّهُ فَكَّرَ فيما يقوله في القرآن الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. وقدّر في نفسه ذلك. فَقُتِلَ لعن وعذّب كَيْفَ قَدَّرَ على أي حال كان تقديره. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة وثم للدلالة على أن الثانية أبلغ من الأولى وفيما يقدّر على الأصل. ثُمَّ نَظَرَ في وجوه قومه أو فيما يقدح به في القرآن. ثُمَّ عَبَسَ قبض وجهه وكلّحه ضيقا بما يقول وَبَسَرَ زاد في القبض والكلوح ثم ثُمَّ أَدْبَرَ عن الإيمان وَاسْتَكْبَرَ تكبر عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيما جاء به: إِنْ ما هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ينقل عن السحرة إِنْ ما هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ. كما قالوا: إنما يعلمه بشر سَأُصْلِيهِ أدخله سَقَرَ جهنم وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ تعظيم لشأنها لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ شيئا من لحم ولا عصب إلا أكلته ثم يعود كما كان لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ محرقة لظاهر الجلد.
قال ابن إسحاق: وأنزل اللَّه تعالى في النفر الذين كانوا معه يسفّون القول في رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وفيما جاء به: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أصنافا، وواحدة العضين عضة فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ
سؤال توبيخ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
قال ابن إسحاق: وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.(2/355)
تفسير الغريب
الطّلاوة: بضم الطاء المهملة وبفتحها: الحسن والقبول.
مونق [ (1) ] : حسن معجب.
الزّمزمة: كلام خفيّ لا يفهم.
السّجع: الكلام المنثور الذي له نهايات كنهايات الشعر.
بخنقه: يريد الاختناق الذي يصيب المجنون.
التخالج [ (2) ] : اضطراب الأعضاء وتحركها من غير إرادة.
الوسوسة: ما يلقيه الشيطان في نفس الإنسان.
الرّجز والهزج والقريض والمقبوض والمبسوط: هذه الخمسة أنواع من الشعر.
وقوله فيما هو بنفثه ولا بعقده إشارة إلى ما كان يفعل الساحر من أن يعقد خيطا ثم ينفث ومن ذلك قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ يعني الساحرات.
العذق: بعين مهملة مفتوحة فذال معجمة الكثير الشّعب والأطراف. هذه رواية ابن إسحاق قال في الروض: استعارة من النخلة التي ثبت أصلها وقوي وطاب فرعها إذا جنى.
وهذه الرواية أفصح من التي بعدها لأنها استعارة تامة يشبه آخر الكلام أوله وفي رواية ابن هشام بغين معجمة فدال مهملة: الماء الكثير.
وإن فرعها لجناة: أي فيه ثمر يجنى.
السّبل: بضم أوله وثانيه جمع سبيل وهو الطريق.
__________
[ (1) ] انظر المعجم الوسيط 1/ 30.
[ (2) ] انظر المصباح المنير 177.(2/356)
الباب الخامس عشر في عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة
قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر ممن استضعفوه منهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبهم ومنهم من تصلّب لهم ويعصمه اللَّه تعالى.
روى ابن إسحاق عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، واللَّه إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه [ (1) ] ويعطشونه حتى ما يقدر يستوي جالسا من شدة الضّرّ الذي نزل به حتى يقولوا له: اللات والعزّى إلهك من دون اللَّه؟ فيقول: نعم حتى إن الجعل ليمرّ بهم فيقولون له:
هذا الجعل إلهك من دون اللَّه فيقول نعم. افتداء منهم مما يبلغون من جهدهم.
وكان أبو جهل الخبيث هو الذي يغري بهم رجال قريش، إذا سمع بالرجل أسلم له شرف ومنعة أنَّبه [وأخزاه] فقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنفيِّلنَّ رأيك ولنضعن شرفك. وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.
فمن المستضعفين بلال رضي اللَّه عنه، وكان صادق الإسلام طاهر القلب.
قال ابن إسحاق وغيره: فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظّهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى فيقول وهو في ذلك البلاء. أحد أحد أنا كافر باللات والعزّى.
وروى البلاذري عن عمرو بن العاص قال: مررت ببلال وهو يعذّب في الرمضاء ولو أن بضعة لحم وضعت عليه لنضجت وهو يقول: أنا كافر باللات والعزى. وأمية مغتاظ عليه فيزيده عذابا فيقبل عليه فيدغت في حلقه فيغشى عليه ثم يفيق.
وروى ابن سعد عن حسان بن ثابت رضي اللَّه تعالى عنه قال: حججت- أو قال اعتمرت- فرأيت بلالا في حبل طويل يمده الصبيان وهو يقول: أحد أحد أنا أكفر باللات والعزى وهبل ونائلة وبوانة فأضجعه أمية في الرمضاء.
__________
[ (1) ] في أو يجوعونه.(2/357)
وروى البلاذري عن مجاهد قال: جعلوا في عنق بلال حبلا وأمروا صبيانهم أن يشتدّوا به بين أخشبي مكة- يعني جبليها- ففعلوا ذلك وهو يقول: أحد أحد.
وروى ابن سعد عن عروة قال: كان بلال من المستضعفين من المؤمنين وكان يعذّب حين أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون، وكان الذي يعذبه أمية بن خلف الجمحي.
وروى البلاذري عن عمير بن إسحاق قال: كان بلال إذا اشتدّ عليه العذاب قال: أحد أحد. فيقولون له: قل كما نقول فيقول: إن لساني لا ينطق به ولا يحسنه.
قال البلاذريّ: وروي أن بلالا قال: أعطشوني يوما وليلة ثم أخرجوني فعذّبوني في الرمضاء في يوم حارّ.
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمرّ ببلال وهو يعذّب وهو يقول: أحد أحد. فيقول ورقة: أحد أحد واللَّه يا بلال. ثم يقبل على أمية بن خلف ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول: أحلف باللَّه لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا.
حتى مرّ أبو بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنهما وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح فقال أبو بكر لأمية: ألا تتقي اللَّه في هذا المسكين حتى متى تعذبه؟ قال أنت أفسدته فأنقذه مما ترى. قال أبو بكر: أفعل. عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به. قال: قد قبلت. قال: هو لك. فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه.
وروى البلاذري بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال: لمّا أسلم بلال أخذه أهله فقمطوه وألقوا عليه من البطحاء، وجعلوا يقولون: ربّك اللات والعزى. فيقول أحد أحد. فأتى عليه أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه فقال: علام تعذّبون هذا الإنسان؟ فاشتراه بسبع أواقيّ وأعتقه.
فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قد اشتراه فقال: الشركة يا أبا بكر. فقال: قد أعتقته يا رسول اللَّه.
وروى البلاذري بسند جيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس قال: اشترى أبو بكر بلالا بخمس أواقي.
ومنهم خبّاب بن الأرتّ بالمثناة الفوقية.
قال البلاذري: قالوا كان الأرت سواديا، فأغار قوم من ربيعة على الناحية التي كان فيها فسبوه وأتوا به الحجاز فباعوه فوقع إلى سباع بن عبد العزى الخزاعي حليف بني زهرة. وزعم أبو اليقظان أن خبّابا كان أخا سباع لأمّه.
قال البلاذري: وخبّاب فيما يقول ولده: ابن الأرتّ بن جندلة بن سعد بن خزيمة، من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، وإنه وقع عليه سبي فصار إلى أم أنمار مولاته فأعتقته وإنه كانت به رتّة، كان ألكن إذا تكلم بالعربية فسمي الأرتّ.(2/358)
وروى البلاذري عن كردوس أن خبّابا أسلم سادس ستة.
وروى البلاذري عن الشّعبي قال: أعطوهم ما أرادوا حين عذّبوا إلا خبّاب بن الأرت فجعلوا يلصقون ظهره بالأرض على الرّضف حتى ذهب ماء متنه.
وروى البلاذري عن الشّعبي، ومن طريق آخر عن أبي ليلى الكندي قال، جاء خبّاب إلى عمر رضي اللَّه تعالى عنهما فقال له عمر: ادنه ادنه. فأجلسه على متّكئه وقال: ما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا رجل واحد. قال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: بلال- وفي رواية الشعبي، عمار بن ياسر قال: ما هو بأحق مني أن بلالا كان له في المشركين من يمنعه. اللَّه به، ولم يكن لي أحد، لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها ثم وضع رجل رجله على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري ثم كشف خبّاب عن ظهره فإذا هو قد برص.
وروى البلاذري عن أبي صالح قال: كان خباب قينا وكان قد أسلم، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم يألفه ويأتيه فأخبرت بذلك مولاته فكانت تأخذ الحديدة وقد أحمتها فتضعها على رأسه، فشكا ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم انصر خبّابا فاشتكت مولاته رأسها وهي أم أنمار فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها اكتوي فكان خباب يأخذ الحديدة قد أحماها فيكوي بها رأسها.
قال محمد بن عمر الأسلمي وكان الذي يعذّب خبابا حين أسلم ولازم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص. وقيل وهو الثبت الأسود بن عبد يغوث.
وروى البخاري ومحمد بن عمر الأسلمي والبيهقي عن خبّاب رضي اللَّه تعالى عنه قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة ولقد لقينا من المشركين شدة شديدة فقلت: يا رسول اللَّه ألا تدعو اللَّه لنا؟ فقعد محمرّا وجهه فقال: إن كان من كان قبلكم ليمشّط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأس أحدهم فيشقّ باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنّ اللَّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا اللَّه والذئب على غنمه
[ (1) ] .
ومنهم صهيب بن سنان الرومي.
روى ابن سعد عن عروة قال: كان صهيب من المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا يعذبون في اللَّه.
ومنهم عامر بن فهيرة.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 202 (3852) .(2/359)
قال البلاذري: قالوا كان عامر من المستضعفين فكان يعذّب بمكة ليرجع عن دينه حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه.
وروى ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي- بضم القاف وكسر الظاء المشالة المعجمة- قال: كان عامر بن فهيرة يعذّب حتى لا يدري ما يقول.
ومنهم أبو فكيهة واسمه أفلح ويقال يسار. وكان عبدا لصفوان بن أمية فأسلم حين أسلم بلال، فمرّ به أبو بكر رضي اللَّه عنه وقد أخذه أمية بن خلف فربط في رجله حبلا وأمر به فجرّ ثم ألقاه في الرمضاء فمر به جعل فقال: أليس هذا ربك فقال: اللَّه ربي خلقني وخلقك وخلق هذا الجعل فغلط عليه وجعل يخنقه ومعه أخوه أبي بن خلف يقول: زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره. فأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء ووضع على بطنه صخرة فدلع لسانه فلم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات، ثم أفاق فمرّ به أبو بكر رضي اللَّه عنه فاشتراه وأعتقه.
وروى ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: كان أبو فكيهة يعذّب حتى- لا يدري ما يقول.
ومنهم عمار بن ياسر وأبوه وأمه سميّة وأخوه عبد الله رضي الله عنهم.
روى البلاذري والبيهقي عن مجاهد قال: أول من أظهر الإسلام أبو بكر وبلال وخبّاب وصهيب وعمار، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأما الآخرون فألبسوا دروع الحديد وصهروا في الشمس حتى بلغ الجهد منهم، وجاء أبو جهل إلى سميّة فطعنها في قلبها فهي أول شهيدة في الإسلام.
وروى ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: أخبرني من رأى عمار بن ياسر متجردا في سراويل. قال: ونظرت إلى ظهره فإذا فيه حبط فقلت: ما هذا؟ قال: هذا ما كانت قريش تعذّبني في رمضاء مكة.
وروى البلاذري عنه أيضاً قال: كان عمار يعذّب حتى لا يدري ما يقول.
وروى البلاذري عن أم هانئ رضي اللَّه عنها أن عمار بن ياسر وأباه ياسرا وأخاه عبد الله ابن ياسر وسميّة بن عمار كانوا يعذّبون في اللَّه فمر بهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
فمات ياسر في العذاب وأغلظت سمية لأبي جهل فطعنها في قلبها فماتت، ورمي عبد الله فسقط [ (1) ] .
__________
[ (1) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 383 وأبو نعيم في الحلية 1/ 140 وذكره ابن حجر في المطالب (4034) والمتقي الهندي في الكنز (37366- 37368) وابن كثير في البداية والنهاية 3/ 59.(2/360)
ومنهم جارية بني المؤمل بن حبيب.
قال البلاذري: وكان يقال لها فيما ذكر أبو البختريّ: لبيبة، أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب فكان عمر يعذّبها حتى يفتر فيدعها ثم يقول: أما إني أعتذر إليك بأني لم أعدك إلا سآمة فتقول: كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم.
وروى ابن سعد عن حسان قال: قدمت مكة معتمرا والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يؤذون ويعذّبون، فوقفت على عمر وهو متوزر يخنق جارية بني عمرو بن المؤمل حتى تسترخي في يديه فأقول قد ماتت. فاشتراها أبو بكر فأعتقها.
ومنهم زنّيرة- بزاي فنون مشددة مكسورتين فمثناة تحتية ساكنة وهي في اللغة الحصاة الصغيرة ويروي: زنبرة بزاي مفتوحة فنون ساكنة فباء موحدة- الرومية كان عمر بن الخطاب وأبو جهل يعذّبانها.
قال البلاذري: قالوا وكان أبو جهل يقول ألا تعجبون لهؤلاء واتباعهم محمدا؟ فلو كان ما أتى به محمد خيرا وحقا ما سبقونا إليه أفسبقتنا زنّيرة إلى رشد وهي من ترون. وكانت زنيرة قد عذّبت حتى عميت فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزّى فعلتا بك ما ترين. فقالت، وهي لا تبصر: وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء وربيّ قادر على أن يرد بصري. فأصبحت تلك الليلة وقد رد اللَّه بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد فاشتراها أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه فأعتقها.
ومنهم أم عنيس- بعين مهملة مضمومة فنون فمثناة تحتية فسين مهملة- ويقال عبيس بباء موحدة فمثناة تحتية. أمة لبنى زهرة، وكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها فابتاعها أبو بكر.
ومنهم النّهدية وابنتها. وكانت مولّدة لبني نهد بن زيد فصارت لامرأة من بني عبد الدار فكانت تعذبهما وتقول: واللَّه لا أقلعت عنكما أو يعتقكما بعض من صبأ بكما. فمر بهما أبو بكر رضي اللَّه عنه وقد بعثتهما في طحين لها وهي تقول: واللَّه لا أعتقكما أبدا فقال: حل يا أم فلان فقالت حل أنت واللَّه أفسدتهما فأعتقهما. قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال: قد أخذتهما به وهما حرّتان أرجعا إليها طحينها قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها قال: أو ذاكما إن شئتما.
ومنهم أم بلال حمامة. ذكرها أبو عمر في الدّرر فيمن كان يعذّب في اللَّه فاشتراها أبو بكر وأعتقها. وأهملها أبو عمر في الاستيعاب واستدركوها على الاستيعاب.
والحاصل مما تقدم: أن أبا بكر رضي اللَّه عنه اشترى جماعة ممن كان يعذب في اللَّه تعالى، وهم بلال وأمه وعامر بن فهيرة وأبو فكيهة وجارية بني المؤمل والنهدية وابنتها وزنّيرة.(2/361)
وروى الحاكم وصححه عن عبد الله بن الزبير قال: قال أبو قحافة لأبي بكر رضي اللَّه عنهما: يا بني أراك تعتق رقابا ضعافا فلو أنك فعلت ما فعلت فأعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك؟ فقال أبو بكر رضي اللَّه عنه: يا أبت إنما أريد ما أريد للَّه عز وجل. فانزل اللَّه تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى [الليل 5] إلى آخر السورة.
قال عمار بن ياسر رضي اللَّه عنه يذكر بلالا وأصحابه الذين أعتقهم أبو بكر مما كانوا فيه من البلا وكان اسم أبي بكر عتيقا:
جزى اللَّه خيرا عن بلال وصحبه ... عتيقا وأخزى فاكها وأبا جهل
عشيّة همّا في بلال وصحبه ... ولم يحذرا ما يحذر المرء ذو العقل
بتوحيده ربّ الأنام وقوله ... شهدت بأنّ اللَّه ربّي على مهل
فإن تقتلوني تقتلوني ولم أكن ... لأشرك بالرّحمن من خيفة القتل
فيا ربّ إبراهيم والعبد يونس ... وموسى وعيسى نجّني ثمّ لا تمل
لمن ظلّ يهوى العزّ من آل غالب ... على غير حقّ كان منه ولا عدل
تفسير الغريب
رمضاء مكة: الحجارة التي أحرقتها الشمس.
الجعل [ (1) ]- بضم الجيم وسكون العين: دابة من الحشرات.
أنّبه: بالغ في توبيخه. الذّعت- بذال معجمة فعين مهملة: الخنق والدّعت بالدال والذال: الدفع العنيف. والدعت أيضا: المعك في التراب.
لأتخذنه حنانا: يعني لئن قتلتموه وهو على هذه الحالة لأتخذنه حنانا أي أتخذنّ قبره مسكنا ومسترحما، والحنان: الرحمة. كذا ذكر عروة قول ورقة هنا فدل على أنه عاش بعد البعثة. وتقدم الكلام على ذلك في باب بدء الوحي.
سواديّا: أي من أهل سواد العراق.
ماء متنه: بمدّ ماء قال في الصحاح: متن الشيء بالضم متانة فهو متين أي صلب. ومتنا الظهر: مكتنفا الصّلب عن يمين وشمال من عصب ولحم، يذكّر ويؤنث.
القين [ (2) ] : الحدّاد. صهروهم: أحرقوهم.
الرّضف: الحجارة المحمّاة.
جلداء بضم الجيم وبالمد جمع جلد بالفتح وهو القويّ الشديد.
__________
[ (1) ] انظر المعجم الوسيط 1/ 126.
[ (2) ] لسان العرب 5/ 3798.(2/362)
الباب السادس عشر في الهجرة الأولى إلى الحبشة وسبب رجوع من هاجر إليها من المسلمين وكانت في شهر رجب سنة خمس من المبعث
قال ابن إسحاق فلما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية من اللَّه تعالى ثم من عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق، حتى يجعل اللَّه تعالى لكم فرجا مما أنتم فيه.
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارا إلى اللَّه تعالى بدينهم فكانت أول هجرة كانت في الإسلام [ (1) ] .
وكانوا- فيما قيل- اثني عشر رجلا وامرأتين. وقيل عشرة رجال. وبه قال ابن إسحاق وابن هشام وقيل اثني عشر رجلا وثلاث نسوة. وقيل اثني عشر رجلا وأربع نسوة. وقيل: اثني عشر رجلا وخمس نسوة. وجزم به العراقي في الدرر.
وكان أول من هاجر منهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت سيدنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
روى يعقوب بن سفيان رحمه اللَّه تعالى عن أنس رضي اللَّه عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط.
وعبد الرحمن بن عوف. وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو. والزبير بن العوام بن ربيعة. ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم بن عبد الله بن عوف بن عبيد.
قال الحافظ الوقشي: كذا وقع وإنما هو غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بفتح العين المهملة- ابن عويج بفتح العين المهملة وكسر الواو فمثناة تحتية فجيم وأقره الخشني وذكر أبو عمر مثله.
وروى الطبراني بسند صحيح عن ليلى بنت أبي حثمة قالت: كان عمر بن الخطاب من أشد الناس علينا في إسلامنا، فلما تهيأنا للخروج إلى أرض الحبشة أتانا عمر بن الخطاب وأنا على بعيري وأنا أريد أن أتوجه فقال: أين يا أم عبد الله؟ فقلت: آذيتمونا في ديننا فنذهب في أرض اللَّه حيث لا نؤذى. فقال: صحبكم اللَّه. ثم ذهب فجاء زوجي عامر بن ربيعة
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية لابن كثير 3/ 66.(2/363)
فأخبرته بما رأيت من رقّة عمر فقال: ترجّين أن يسلم؟ واللَّه لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب! وسهيل بن بيضاء وأبو سبرة بن أبي رهم العامري ويقال بدله: حاطب بن عمرو العامري. زاد بعضهم: وأم كلثوم بنت سهيل بن عمرو امرأة أبي سبرة بن أبي رهم، وعبد الله بن مسعود وجزم ابن إسحاق بأنه إنما كان في الهجرة الثانية وصححه الحافظ.
قال ابن هشام وكان عليهم عثمان بن مظعون فيما ذكر لي وأنكر ذلك الزّهري وقال:
لم يكن لهم أمير.
فخرجوا متسلّلين سرّا حتى أتوا الشعيبية منهم الراكب ومنهم الماشي، ووفق اللَّه للمسلمين ساعة جاءوا سفينتين للتجار حملوهم فيهما بنصف دينار وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر حيث ركبوا فلم يدركوا منهم أحدا.
قالوا: وقدمنا أرض الحبشة فجاورنا بها خير جار أمنّا على ديننا وعبدنا اللَّه تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه.
وكان المشركون يقولون: لو ذكر محمد آلهتنا بخير قرّرناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالفه من اليهود والنصارى بمثل ما يذكر به آلهتنا من الشتم.
وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم قد اشتد عليه ما نال أصحابه من أذاهم وتكذبيهم وأحزنته ضلالتهم، وكان يتمنى هداهم، فاتفق أنه قرأ يوما سورة النجم وكان يرتل قراءته فلما بلغ:
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم 19، 20] ارتصده الشيطان في سكتة من سكتاته فألقى عندها: وإنهن الغرانيق العلا وإنّ شفاعتهن لترتجى. محاكيا نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قول النبي صلى الله عليه وسلم وأشاعها فوقعت في قلب كل مشرك بمكة وزلّت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا: إن محمدا قد رجع إلى ديننا.
فلما بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم آخر النّجم سجد وسجد معه كلّ مشرك غير الوليد بن المغيرة
كان شيخا كبيرا ملأ كفّه ترابا فسجد عليه فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود بسجود النبي صلى الله عليه وسلّم، وعجب المسلمون لسجود المشركين معهم ولم يكن المسلمون سمعوا ما ألقى الشيطان كما قاله موسى بن عقبة، وأما المشركون فاطمأنوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وأصحابه.
وفشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ومن بها من المسلمين.
ولما بلغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك ساءه فانزل اللَّه تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى قرأ أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أي في قراءته كما قال الفرّاء ويؤيده ما رواه ابن جرير وعلقه البخاري في صحيحه عن ابن عباس في قوله تعالى: إِذا(2/364)
تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ قال: إذا حدّث ألقى الشيطان في حديثه [ (1) ] فَيَنْسَخُ اللَّهُ يبطل ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ يثبتها وَاللَّهُ عَلِيمٌ بإلقاء الشيطان ما ذكر حَكِيمٌ [الحج: 52] في تمكينه منه يفعل ما يشاء إلى آخر الآية.
والذي قدمناه من قصة الغرانيق له طرق كثيرة ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتجّ مثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها بعضا روى الأول: ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
قلت: ورواه الحافظ ضياء الدين المقدسي في صحيحه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: رواه ابن جرير عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
والثالث: رواه ابن جرير عن أبي العالية.
قال الحافظ: وقد تجرّأ أبو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها. وهو إطلاق مردود عليه. وكذا قول القاضي: هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم إلى آخر كلامه. قال الحافظ: جميع ذلك لا يتمشّى على القواعد، فإنّ الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن للقصة أصلا [ (2) ] . انتهى وسيأتي الكلام على ذلك بأبسط مما هنا في أبواب عصمته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق فلما أن بلغ المسلمين الذين بأرض الحبشة ذلك وأن أهل مكة أسلموا حتى إن الوليد بن المغيرة وأبا أحيحة قد سجدا خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال القوم: فمن بقي بمكة إذا أسلم هؤلاء؟ وقالوا: عشائرنا أحبّ إلينا. فخرجوا راجعين حتى إذا كانوا دون مكة بساعة.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 8/ 292 كتاب التفسير وقال الحافظ: وصله الطبري من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس مقطعا.
[ (2) ] قال ابن حجر في الفتح 8/ 293 عند الكلام على حديث الغرانيق: أخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال في إسناده «عن سعيد بن جبير عن ابن عباس» فيما أحسب، ثم ساق الحديث، وقال البزار: لا يروى متصلا إلا بهذا الإسناد، تفرد بوصله أمية بن خالد وهو ثقة مشهور، قال: وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس انتهى. والكلبي متروك ولا يعتمد عليه، وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي، وذكره ابن إسحاق في السيرة مطولا وأسندها عن محمد بن كعب، وكذلك موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب الزهري، وكذا ذكره أبو معشر في السيرة له عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس وأورده من طريقه الطبري، وأورده ابن أبي حاتم من طريق أسباط عن السّدي، ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب عن يحيى بن كثير عن الكلبي عن أبي صالح وعن أبي بكر الهذلي وأيوب عن عكرمة وسليمان التيمي عمن حدثه ثلاثتهم عن ابن عباس، وأوردها الطبري أيضاً من طريق العوفي عن ابن عباس، ومعناهم كلهم في ذلك واحدا، وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف وإما منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوهن، والثاني ما أخرجه أيضاً من طريق المعتمر بن سليمان وحمّاد بن سلمة فرقهما عن داود(2/365)
من نهار لقوا ركبا من كنانة فسألوهم عن قريش وعن حالهم فقال الركب: ذكر محمد آلهتهم بخير فتابعه الملأ ثم رجع فعاد لشتم آلهتهم وعادوا له بالشرّ فتركناهم على ذلك.
فائتمر القوم بالرجوع إلى الحبشة ثم قالوا: قد بلغنا ندخل فنظر ما فيه قريش ويحدث عهدا من أراد بأهله ثم يرجع.
ولم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفيا إلا ابن مسعود فإنه مكث يسيرا ثم رجع إلى أرض الحبشة وكانوا خرجوا في رجب سنة خمس فأقاموا شعبان ورمضان، وكانت السجدة في رمضان وقدموا في شوال من السنة المذكورة.
__________
[ () ] ابن أبي هند عن أبي العالية، وقد تجرأ أبو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه. وكذا قول عياض هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده، وكذا قوله: ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب، وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية، قال وقد بين البزار إنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله، وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه. ثم رده من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم، قال: ولم ينقل ذلك انتهى، وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض، وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر وهو قوله «ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلّى الله عليه وسلّم أن يزيد في القرآن عمدا ما ليس منه، وكذا سهوا إذا كان مغايرا لما جاء به في التوحيد لمكان عصمته. وقد سلك العلماء في ذلك ما سلك، فقيل جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة وهو لا يشعر، فلما علم بذلك أحكم اللَّه آياته. وهذا أخرجه الطبري عن قتادة، ورد عياض بأنه لا يصح لكونه لا يجوز على النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا ولاية للشيطان عليه في النوم، وقيل: إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره، ورده ابن العربي بقوله تعالى حكاية عن الشيطان وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ الآية قال: فلو كان للشيطان قوة على لما بقي لأحد قوة في طاعة. وقيل: إن المشركين إذا ذكروا آلهتهم وصفوهم بذلك، فعلق ذلك بحفظه صلّى الله عليه وسلّم فجرى على لسانه لما ذكرهم سهوا. وقد رد ذلك عياض فأجاد.
وقيل لعله توبيخا للكفار، قال عياض: وهذا جائز إذا كانت هناك قرينة تدل على المراد، ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائزا. وإلى هذا نحا الباقلاني. وقيل إنه لما وصل إلى قوله وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى خشي المشركون أن يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به فبادروا إلى ذلك فخلطوه في تلاوة النبي صلّى الله عليه وسلّم على عادتهم في قولهم لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ونسب ذلك للشيطان لكونه الحامل لهم على ذلك، أو المراد بالشيطان شيطان الإنس. وقيل: المراد بالغرانيق العلى الملائكة وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات اللَّه ويعبدونها، فسيق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله تعالى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع وقالوا: قد عظم آلهتنا، ورضوا بذلك، فنسخ اللَّه تلك الكلمتين وأحكم آياته. وقيل: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات ونطق بتلك الكلمات محاكيا نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها. قال: وهذا أحسن الوجوه. ويؤيده ما تقدم في صدر الكلام عن ابن عباس من تفسير تَمَنَّى بتلا. وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل وقال قبله إن هذه الآية نص في مذهبنا في براءة النبي صلّى الله عليه وسلّم مما نسب إليه. قال: ومعنى قوله فِي أُمْنِيَّتِهِ أي في تلاوته، فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنته في رسله إذا قالوا قولا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، فهذا نص في أن الشيطان زاده في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم لا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاله قال: وقد سبق إلى ذلك الطبري لجلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب على هذا المعنى وحوم عليه.(2/366)
وكان من قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم ومنهم من أقام بها حتى هاجر إلى المدينة فشهد معه بدرا ومنهم من حبس عنه حتى فاته بدر وغيره، ومنهم من مات بمكة. ودخل عثمان بن مظعون بجوار من الوليد بن المغيرة.
فلما قدم أولئك النفر مكة اشتد عليهم قومهم وسطت عليهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدا.
ولما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم من البلاء وهو يغدو ويروح في أمان الوليد بن المغيرة قال: واللَّه إن غدوّي ورواحي آمنا بجوار رجل من أهل الشرك وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في اللَّه ما لا يصيبني لنقص كبير في نفسي.
فمشى إلى الوليد فقال يا أبا عبد شمس وفت ذمتك وقد رددت إليك جوارك. قال: لم يا بن أخي، لعله آذاك أحد من قومي؟ قال: لا ولكني أرضى بجوار اللَّه عز وجل ولا أريد أن أستجير بغيره. قال: فانطلق إلى المسجد فاردد عليّ جواري علانية كما أجرتك علانية. فانطلقا حتى أتيا المسجد فقال الوليد: هذا عثمان قد جاء يردّ عليّ جواري. قال: صدق قد وجدته وفيّا كريم الجوار ولكنني قد أحببت ألا أستجير بغير اللَّه عز وجل فقد رددت عليه جواره.
ثم انصرف عثمان ولبيد بن ربيعة بن مالك في مجلس من قريش ينشدهم قبل إسلامه، فجلس عثمان معهم فقال لبيد:
ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل
فقال عثمان: صدقت.
فقال لبيد:
وكلّ نعيم لا محالة زائل
[ (1) ] فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول. قال لبيد: يا معشر قريش واللَّه ما كان يؤذي جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه قد فارقوا ديننا فلا تجدنّ في نفسك من قوله. فردّ عليه عثمان حتى شري أمرهما فقام ذلك الرجل فلطم عينه فخضّرها والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال: أما واللَّه يا ابن أخي إن كانت عينك عمّا أصابها لغنيّة ولقد كنت في ذمة منيعة. فقال عثمان: بل واللَّه إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في اللَّه عز وجل وإني لفي جوار من هو أعزّ وأقدر يا أبا عبد شمس. فقال له الوليد: هلمّ يا ابن أخي إن شئت إلى جوارك فعد. فقال: لا.
ولما أجار أبو طالب أبا سلمة بن عبد الأسد مشى إليه رجال من بني مخزوم فقالوا له:
__________
[ (1) ] انظر الروض الأنف 2/ 120، والبداية والنهاية 3/ 92.(2/367)
يا أبا طالب هذا منعت ابن أخيك محمدا فمالك ولصاحبنا تمنعه؟ فقال: إنه استجار بي وهو ابن أختي وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي. فقام أبو لهب فقال: يا معشر قريش واللَّه لقد أكثرتم على هذا الشيخ ما تزالون توثّبون عليه في جواره من بين قومه، واللَّه لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد. قالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. وكان لهم وليّا وناصرا على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم فأبقوا على ذلك.
فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول ورجا أن يقوم معه في شأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب يحرّض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
إنّ امرءا أبو عتيبة عمّه ... لفي روضة ما إن يسام المظالما
أقول له وأين منه نصيحتي ... أبا معتب ثبّت سوادك قائما
ولا تقبلنّ الدّهر ما عشت خطّة ... تسبّ بها إمّا هبطت المواسما
وولّ سبيل العجز غيرك منهم ... فإنّك لم تخلق على العجز لازما
وحارب فإنّ الحرب نصف ولن ترى ... أخا الحرب يعطي الخسف حتّى يسالما
وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة ... ولم يخذلوك غانما أو مغارما
جزى اللَّه عنّا عبد شمس ونوفلا ... جماعتنا كيما ينالوا المحارما
كذبتم وبيت اللَّه نبزى محمّدا ... ولمّا تروا يوما لدى الشّعب قائما
[ (1) ]
تنبيهات
الأول: ظاهر كلام ابن إسحاق أن رجوع من هاجر إلى الحبشة كان بعد أن صار المسلمون هناك زيادة على الثمانين، فإنه بعد أن ذكر خروج أصحاب الهجرة الأولى ذكر خروج جعفر وأصحابه، ثم ذكر بعد ذلك أن المهاجرين إلى الحبشة بلغهم إسلام أهل مكة فأقبلوا لمّا بلغهم ذلك. فذكر نحو ما تقدم، وأن الراجعين: عثمان بن عفان، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وامرأته سهلة بنت سهيل، وعبد الله بن جحش، وعتبة بن غزوان، والزبير بن العوام، ومصعب بن عمير، وسويبط بن سعد، وطليب بن عمرو، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وامرأته أم سلمة، وشمّاس بن عثمان، وسلمة بن هشام بن المغيرة حبسه عمّه بمكة فلم يقدم إلا بعد بدر وأحد والخندق، وعيّاش بن أبي ربيعة، وعمار بن ياسر- شكّ فيه أكان خرج- ومعتّب بن عوف، وعثمان بن مظعون، وابنه السائب بن عثمان، وأخوا عثمان: قدامة وعبد الله، وخنيس بن حذافة،
__________
[ (1) ] البداية والنهاية 3/ 93.(2/368)
وهشام بن العاصي حبس بمكة بعد هجرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حتى قدم بعد بدر وأحد والخندق. وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة بن غانم وعبد الله بن مخرمة، وعبد الله بن سهيل بن عمرو وكان حبس عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم حين هاجر إلى المدينة حتى كان يوم بدر فانحاز من المشركين إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم فشهد معه بدرا، وأبو سبرة بن أبي رهم وامرأته أم كلثوم بنت سهل بن عمرو، والسّكران بن عمرو وامرأته سودة بنت زمعة، مات بمكة قبل مهاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وسعد بن خولة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن الحارث بن زهير وسهيل ابن بيضاء، وعمرو بن أبي سرح.
قال: فجميع من قدم مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا. انتهى.
وموسى بن عقبة ذكر أن الراجعين من أرض الحبشة للسبب السابق هم المهاجرون أولا وبه صرح في الطبقات والعيون والإشارة والمورد.
الثاني: ذكر موسى بن عقبة إن ابن مسعود مكث بمكة قليلا ورجع إلى الحبشة حتى قدم في المرة الثانية مع من قدم وتعقبه في زاد المعاد بأن عبد الله بن مسعود شهد بدرا وأجهز على أبي جهل، وأصحاب هذه الهجرة إنما قدموا المدينة مع جعفر وأصحابه بعد بدر بأربع سنين أو خمس. وبسط الكلام على ذلك. ثم قال: وقد ذكر- يعني ابن عقبة- في هذه الهجرة الثانية عثمان بن عفان وجماعة ممن شهدوا بدرا. فإما أن يكون هذا وهما وإما أن يكون لهم قدمة أخرى قبل بدر، فيكون لهم ثلاث قد مات: قدمة قبل الهجرة، وقدمة قبل بدر، وقدمة عام خيبر.
قلت: هذا هو الصحيح بلا شك.
قال: وعلى هذا فيزول الإشكال. انتهى ملخصا.
الثالث: في بيان غريب ما سبق.
الشّعيبة: بضم الشين المعجمة وفتح العين المهملة وسكون المثناة التحتية وكسر الموحدة تصغير شعبة مكان على ساحل البحر بطريق اليمن.
الغرانيق [ (1) ] : بالغين المعجمة ها هنا الأصنام وهي في الأصل الذّكور من طير الماء وقيل طير الماء مطلقا إذا كان أبيض طويل العنق واحدها غرنوق بضم الغين وفتح النون. وغرنيق بكسر الغين وفتح النون، سمّي به لبياضه وقيل هو الكركيّ. وكانوا يزعمون أن الأصنام تقرّبهم من اللَّه وتشفع لهم فشبّهت بالطيور التي تعلو في السماء وترتفع.
__________
[ (1) ] لسان العرب 5/ 3249.(2/369)
الباب السابع عشر في إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال ابن إسحاق: وكان إسلام عمر عقب الهجرة الأولى إلى الحبشة.
قال في «الزهر» : وكان إسلامه في ذي الحجة سنة ست من المبعث وله ست وعشرون سنة فيما ذكره ابن سعد عن ابن المسيب.
قال ابن الجوزي: سنة خمس. قال أبو نعيم: بعد إسلام حمزة بثلاثة أيام.
قال ابن إسحاق: وكانوا- أي المسلمون- قريبا من أربعين من رجال ونساء وتقدم ذكرهم في الباب الثالث من أبواب المبعث.
وقال ابن المسيّب فيما رواه ابن سعد: كانوا أربعين رجلا وعشر نسوة.
وروى إسحاق بن بشر عن ابن عباس أنهم كانوا يومئذ تسعة وتسعين رجلا وثلاثا وعشرين امرأة ثم إن عمر أسلم.
قال في الزهر: ولعل هذا هو الصواب، فقد كان في الحبشة ثلاثة وثمانون كما ذكر ابن إسحاق.
قلت: ابن إسحاق إنما ذكر ذلك في الذين هاجروا ثانيا وإسلام عمر كان بين الهجرتين كما تقدم عن ابن عباس، فالزيادة على الأربعين حصلت بعد إسلام عمر وإسحاق كذّاب يضع، لا يصادم ما رواه ما ذكره الثقات. واللَّه أعلم.
واختلف في سبب إسلامه كما سأبينه.
واختلف في سبب إسلامه كما سأبينه.
وقد روى قصة إسلامه ابن إسحاق، وابن سعد، وأبو يعلى، والحاكم عن أنس، والبزار والطبراني عن أسلم مولاه عنه، وأبو نعيم عن ابن عمر.
قال أسلم مولاه عنه: أتحبون أن أعلمكم بإسلامي؟ قلنا: نعم قال: كنت أشد الناس على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم، فجلست يوما مع أبي جهل بن هشام أو شيبة بن ربيعة، فقال أبو جهل: يا معشر قريش إن محمدا قد شتم آلهتكم وسفّه أحلامكم وزعم أن من مضى من آبائكم يتهافتون في النار، إلا ومن قتل محمدا فله عليّ مائة ناقة حمراء وسوداء وألف أوقية من فضة.
قال عمر: فخرجت متقلدا السيف متنكّبا كنانتي أريد النبي صلى الله عليه وسلّم، فمررت على عجل وهم يريدون ذبحه فقمت أنظر إليهم فإذا صائح يصيح من جوف العجل: يا لذريح، رجل يصيح، بلسان فصيح، يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه. قال عمر:
فقلت في نفسي إن هذا لأمر ما يراد به إلا أنا. قال: ثم مررت بغنم فإذا هاتف يهتف ويقول:
يا أيها الناس ذوو الأجسام ... ما أنتم وطائش الأحلام(2/370)
ومسند الحكم إلى الأصنام ... فكلّكم أوره كالكهام
أما ترون ما أرى أمامي ... من ساطع يجلو دجى الظلام
قد لاح للنّاظر من تهام ... أكرمه الرّحمن من إمام
قد جاء بعد الكفر بالإسلام ... والبرّ والصّلات للأرحام
ويزجر النّاس عن الآثام ... فبادروا سبقا إلى الإسلام
بلا فتور وبلا إحجام
قال عمر: فقلت واللَّه ما أراه إلا أرادني. ثم مررت بالضّمار فإذا هاتف يهتف من جوفه:
ترك الضمار وكان يعبد مرّة ... قبل الصّلاة مع النبي محمد
إن الذي ورث النبوة والهدى ... بعد ابن مريم من قريش مهتدي
سيقول من عبد الضّمار ومثله ... ليت الضّمار ومثله لم يعبد
فاصبر أبا حفص فإنّك امرؤ ... يأتيك عزّ غير عزّ بني عدي
لا تعجلنّ فأنت ناصر دينه ... حقّا يقينا بالّلسان وباليد.
قال عمر: فو اللَّه لقد علمت أنه أرادني. فلقيني رجل من قريش.
قال ابن إسحاق: هو نعيم بن عبد الله النحّام وكان قد أسلم وكان يخفي ذلك فرقا من قومه. فقال: أين تذهب يا ابن الخطاب؟ قلت: أريد هذا الصابئ الذي فرّق أمر قريش وسفّه أحلامها وعاب دينها وسبّ آلهتها فأقتله. فقال له نعيم: واللَّه لقد غرّتك نفسك من نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الأرض وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأيّ أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمر وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد واللَّه أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما. وإنما فعل ذلك نعيم ليصرف عمر عن أذى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه.
وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم إذا أسلم بعض من لا شيء له ضمّ الرجل والرجلين إلى الرجل ينفق عليه، وكان ضمّ رجلين من أصحابه إلى زوج أخت عمر فقرع عمر عليهم الباب وعندهم خبّاب بن الأرت معه صحيفة فيها طه يقرئهما إياها فلما سمعوا حسّ عمر تغيّب خبّاب في مخدع لهم أبو في بعض البيت وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها وقد سمع حين دنا من البيت قراءة خبّاب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئا. قال: بلى واللَّه لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه.(2/371)
وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته بنت الخطاب لتكفّه عن زوجها، فضربها فشجّها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا باللَّه ورسوله فاصنع ما بدا لك.
فلما رأى عمر مات بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. وكان عمر كاتبا فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها. قال: لا تخافي. وحلف لها بآلهته ليردّنها إذا قرأها إليها.
فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت: يا أخي أنت نجس على شركك وإنه لا يمسّه إلا الطاهر. فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فقرأها فلما قرأ صدرا منها فقال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.
وفي رواية أنه وجد في الصحيفة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فذكر من أين اشتق.
ثم رجع إلى نفسه فقرأ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حتى بلغ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فقال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأشهد أن محمدا رسول اللَّه. انتهى.
فلما سمع ذلك خبّاب خرج إليه فقال له يا عمر واللَّه إني لأرجو أن يكون اللَّه تعالى قد خصّك بدعوة نبيه فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم أيّد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فاللَّه اللَّه يا عمر. فذكر الحديث [ (1) ] .
وفي رواية مجاهد عمن روى أن عمر قال: كنت للإسلام مباعدا وكنت صاحب خمر في الجاهلية أصبها وأشربها وكان لنا مجلس يجتمع فيه رجال من قريش بالحزوّرة عند دور آل عمر بن عبد عمران المخزومي، فخرجت ليلة أريد جلسائي أولئك في مجلسهم ذلك فجئتهم فلم أجد فيه منهم أحدا فقلت في نفسي: فلو أني جئت فلانا الخمّار وكان بمكة يبيع الخمر، لعلي أجد عنده خمرا فأشرب منها فخرجت فلم أجده. فقلت في نفسي: فلو أني جئت الكعبة فطفت بها سبعا أو سبعين فجئت المسجد أريد أن أطوف بالكعبة فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم يصلي وكان إذا صلى استقبل الشام وجعل الكعبة بينه وبين الشام، فكان مصلّاه بين الركنين الركن الأسود والركن اليماني فقلت حين رأيته: واللَّه لو سمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول. فقلت لئن دنوت منه أستمع لأروّعنه فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثيابه فجعلت أمشي رويدا رويدا ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم يصلّي يقرأ القرآن حتى قمت في قبلته مستقبله ما بيني وبينه إلا ثياب الكعبة، فلما سمعت القرآن رقّ له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام، فلم أزل
__________
[ (1) ] أخرجه ابن عدي في الكامل 7/ 2487 وانظر البداية والنهاية 3/ 80.(2/372)
قائما في مكاني حتى قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم صلاته وانصرف، فتبعته حتى دخل بين دار عباس ودار ابن أزهر أدركته، فلما سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم حسّي عرفني فظن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنما تبعته لأوذيه فنهمني ثم قال: ما جاء بك يا بن الخطاب هذه الساعة؟ قلت: جئت لأومن باللَّه ورسوله وبما جاء من عند اللَّه. قال: فحمد اللَّه تعالى ثم قال: قد هداك اللَّه يا بن الخطاب. ثم مسح صدري ودعا لي بالثبات. ثم انصرفت عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم.
ودخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيته
[ (1) ] .
وفي رواية إن خبّابا لمّا قال لعمر: فاللَّه اللَّه يا عمر. قال له عمر عند ذلك: دلّني يا خبّاب على محمد حتى آتيه فأسلم. فقال خبّاب: هو في بيته عند الصفا معه نفر من أصحابه.
فأخذ عمر سيفه متوشحة ثم عمد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنظر من خلل الباب فرجع وهو فزع فقال:
يا رسول اللَّه هذا عمر بن الخطاب متوشّحا السيف، فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له فإن كان يريد خيرا بذلناه له وإن كان جاء يريد شرا قتلناه بسيفه. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: ائذن له فإن يرد اللَّه به خيرا يهده فأذن له الرجل وفتحوا له، وأخذ رجلان بعضديه حتى دنا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: أرسلوه. فأرسلوه، فنهض إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة وقال: ما جاء بك يا بن الخطاب؟ فو اللَّه ما أراك أن تنتهي حتى ينزل اللَّه بك قارعة. فقال: رسول اللَّه جئت لأومن باللَّه وبرسوله وبما جاء من عند اللَّه. فكبّر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن عمر قد أسلم، فكبّروا تكبيرة سمعت بطرق مكة وتفرّقوا من مكانهم وقد عزّوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة وعرفوا أنهما سيمنعان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وينتصفون بهما من عدوّهم.
وقال عمر حين أسلم.
الحمد للَّه ذي المنّ الّذي وجبت ... له علينا أياد كلّها عبر
وقد بدأنا فكذّبنا فقال لنا ... صدق الحديث نبيّ عنده الخبر
وقد ظلمت ابنة الخطّاب ثمّ هدى ... ربيّ وقالوا جميعا قد صبا عمر
وقد ندمت على ما كان من زللي ... بظلمها حين تتلى عندها السّور
لمّا دعت ربّها ذا العرش خالقها ... وأنّ أحمد فينا اليوم مشتهر
نبيّ صدق أتى بالحقّ من ثقة ... وافي الأمانة ما في وعده خور
[ (1) ]
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 3/ 81.(2/373)
وروى ابن إسحاق عن بعض آل عمر قال: قال عمر لمّا أسلمت تلك الليلة تذكّرت أي أهل مكة أشد لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أني قد أسلمت. قال: فقلت: أبو جهل.
فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه فخرج أبو جهل فقال: مرحبا وأهلا يا بن أختي ما جاء بك؟ قلت: جئت لأخبرك أني قد آمنت باللَّه ورسوله وصدّقت بما جاء به. فضرب الباب في وجهي وقال: قبحّك اللَّه وقبح ما جئت به.
وروى أيضاً بسند صحيح عن ابن عمر قال: لما أسلم عمر قال: أيّ قريش أنقل للحديث؟ قيل له: جميل بن معمر الجمحي. قال: فغدا عليه. قال عبد الله: وغدوت معه أتبع أثره وأنظر ماذا يفعل حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فو اللَّه ما راجعه حتى قام يجرّ رداءه وتبعه عمر، واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش- وهم في أنديتهم حول الكعبة- ألا إن ابن الخطاب قد صبأ. قال: يقول عمر من خلفه: كذب ولكني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا عبده ورسوله. وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم وطلع فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم فأحلف باللَّه أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها أو تتركونها لنا.
فبينا هو على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشّى حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر. قال: فمه، رجل اختار لنفسه أمرا فما تريدون منه؟
أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبكم؟ هكذا خلّوا عن الرجل. قال: فو اللَّه فكأنما كانوا ثوبا كشط عنه. فقلت لأبي بعد أن هاجر إلى المدينة: يا أبي من الرجل الذي زجر القوم عنك بمكة يوم أسلمت وهم يقاتلونك؟ قال: ذاك أي بنيّ العاصي بن وائل السهمي. ومات مشركا.
وروى البخاري عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: بينا عمر في الدار خائفا إذ جاءه العاصي بن وائل السهمي وعليه حلة حبرة وقميص مكفوف بحرير فقال: ما بك؟ قال: زعم قومك أنهم سيقتلونني لأنني أسلمت. قال: لا سبيل إليك أمنت. فخرج العاصي فلقي الناس قد سال بهم الوادي فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نريد ابن الخطاب الذي صبأ. قال: لا سبيل إليه. فكرّ الناس وتصدّعوا عنه. [ (1) ]
وروى البخاري عن ابن مسعود قال: ما زلنا أعزّة منذ أسلم عمر.
__________
[ (1) ] انظر الروض الأنف 2/ 100.(2/374)
وروى عنه قال: واللَّه ما استطعنا أن نصلي عند الكعبة ظاهرين حتى أسلم عمر.
وروى ابن ماجة عن ابن عباس قال: لما أسلم عمر نزل جبريل فقال: يا محمد لقد استبشر أهل السماء بإسلام عمر.
وروى الإمام أحمد والترمذي وقال حسن صحيح وابن حبان عن ابن عمر إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم أعز الإسلام بأحبّ هذين الرجلين إليك: بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب. وكان أحبّهما إليه عمر
[ (1) ] .
تنبيه في بيان غريب ما سبق
أوره: بهمزة مفتوحة فواو ساكنة فراء مفتوحة: وهو الحمق وقيل الخرق.
الكهام [ (2) ] : بفتح الكاف وتخفيف الهاء: السيف الكليل. ولسان كهام أي عيي، وفرس كهام: بطيء. وكأن ذا في الأصل واللَّه أعلم مأخوذ من هذا، فيكون معناه: أكلكم أحمق وأخرق عيي أو كليل لم يغن شيئاً أو بطيء عن الحق والخير.
والصّلات- بكسر الصاد: جمع صلة وهي الإحسان إلى الأقارب.
وتقدم بيان ذريح في الباب الرابع.
المخدع عندهم: البيت يكون في جوف البيت شبه البهو الذي يصنعه الناس في أوساط المجالس.
الهينمة [ (3) ] : صوت وكلام لا يفهم.
ارعوى: رجع، يقال ارعويت عن الشيء إذا رجعت عنه وازدجرت.
جبذه: بجيم فباء موحدة مفتوحتين جبذا من باب ضرب مثل جذب أي مدّه إلى نفسه.
الحزورة- بحاء مفتوحة مهملة فزاي ساكنة: سوق كانت بمكة وأدخلت في المسجد لمّا زيد فيه.
طلح [ (4) ] : بفتح الطاء المهملة وكسر اللام: فعل ماض أي أعيا.
نهمه: زجره.
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (3681، 3683) وأحمد في المسند 2/ 95 والحاكم في المستدرك 3/ 502 وأبو نعيم في الحلية 5/ 361 وابن سعد في الطبقات 3/ 1/ 173، 191.
[ (2) ] انظر المعجم الوسيط 2/ 803.
[ (3) ] لسان العرب 6/ 4712.
[ (4) ] المصباح المنير (375) .(2/375)
الحبرة: ضرب من برود اليمن.
هكذا عن الرجل: قال أبو ذر: هكذا: هنا اسم سمّي به فعل ومعناه: تنحوا ولا يحتاج معه إلى زيادة خلّوا. وقال في الرّوض: هكذا كلمة معناها الأمر بالتنحّي فليس يعمل فيها ما قبلها كما يعمل إذا قلت: جلست هكذا. أي على هذه الحال وإن كان لا بدّ من عامل إذا جعلتها للأمر لأنها كاف التشبيه دخلت على ذا وهاء التنبيه، فيقدّر العامل إذن مضمرا كأنك قلت: ارجعوا هكذا وتأخّروا هكذا واستغني بقولك: «هكذا» . عن الفعل كما استغني برويدا عن ارفق.
سال الوادي بالناس: أي امتلأ كامتلائه من السّيل في كثرتهم وسرعة مشيهم.(2/376)
الباب الثامن عشر في دخول بني هاشم وبني المطلب بني عبد مناف الشّعب وكتابة قريش الصحيفة الظالمة
قال أبو الأسود والزّهري وموسى بن عقبة وابن إسحاق: أن قريشا لما رأت أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم قد نزلوا بلدا. أصابوا فيه أمنا وقرارا، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم، وأن عمر قد أسلم، وكان رجلا ذا شكيمة لا يرام ما وراء ظهره امتنع به أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وبحمزة حتى عازّوا قريشا فكان هو وحمزة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، وجعل الإسلام يفشو في القبائل. فأجمعوا رأيهم واتفق رأيهم على قتل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقالوا:
قد أفسد علينا أبناءنا ونساءنا فقالوا لقومه: خذوا منّا دية مضاعفة وليقتله رجل من غير قريش ويريحنا وتريحون أنفسكم. فأبى قومه بنو هاشم من ذلك وظاهرهم بنو المطلب بن عبد مناف.
فلما عرفت قريش إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم قد منعه قومه فأجمع المشركون من قريش على منابذتهم وإخراجهم من مكة إلى الشّعب وأجمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على ألا ينكحوهم ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، ولا يقبلوا منهم صلحا ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للقتل.
فلما اجتمعوا لذلك كتبوا صحيفة ثم تعاهدوا وتعاقدوا على ذلك.
والذي كتب الصحيفة: قال ابن إسحاق: منصور بن عكرمة. قال ابن هشام: ويقال النضر بن الحارث. فدعا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم فشلّت بعض أصابعه. وقال غيره: بغيض بن عامر. فشلّت يده. وقال غيره: هشام بن عمرو بن الحارث العامري وأسلم بعد ذلك.
ويجمع بين هذه الأقوال باحتمال أن يكون كتب بها نسخ.
ثم علّقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم وقطعوا عنهم الأسواق ولم يتركوا طعاما ولا إداما ولا بيعا إلا بادروا إليه واشتروه دونهم.
فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطّلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمن دينا والكافر حميّة.
وخرج من بني هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم ولقي هند بنت عتبة بن ربيعة حين فارق قومه وظاهر عليهم قريشا فقال: يا بنت عتبة هل نصرت اللات والعزّى وفارقت من فارقها وظاهر عليها؟ قالت: نعم جزاك اللَّه خيرا يا أبا عتبة.
وروى البلاذري عن ابن عباس قال: حصرنا في الشّعب ثلاث سنين وقطعوا عنا الميرة حتى إن الرجل ليخرج بالنفقة فما يبايع حتى يرجع، حتى هلك من هلك.(2/377)
وقال أبو طالب فيما صنعت قريش من ذلك واجتمعوا له:
ألا بلّغا عنّي على ذات بيننا ... لؤيّا وخصّا من لؤيّ بني كعب
ألم يعلموا أنّا وجدنا محمّدا ... نبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب
وأنّ عليه في العباد محبّة ... ولا خير ممّن خصّه اللَّه بالحبّ
وأنّ الّذي لصّقتم في كتابكم ... لكم كائن نحسا كراغية السّقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثّرى ... ويصبح من لم يجن ذنبا كذي ذنب
ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا ... أواصرنا بعد المودّة والقرب
وتستجلبوا حربا عوانا وربّما ... أمرّ على من ذاقه حلب الحرب
فقلسنا وربّ البيت نسلم أحمدا ... لعزّاء من عضّ الزّمان ولا كرب
ولمّا تبن منّا ومنكم سوالف ... وأيد أثرت بالقساسية الشّهب
بمعترك ضنك ترى كسر القنا ... به والنسّور الطّخم يعكفن كالشّرب
كأنّ مجال الخيل في حجراته ... ومعمعة الأبطال معركة الحرب
أليس أبونا هاشم شدّ أزره ... وأوصى بينه بالطّعان وبالضّرب
ولسنا نملّ الحرب حتّى تملّنا ... ولا نشتكي ما إن ينوب من النّكب
ولكنّنا أهل الحفائظ والنّهى ... إذا طار أرواح الكماة من الرّعب
[ (1) ] قال ابن إسحاق وغيره: فأقاموا على ذلك ثلاث سنين حتى جهدوا، ولا يصل إليهم شيء إلا سرّا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش.
وقد كان أبو جهل لقي حكيم بن حزام معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة وهي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم في الشّعب، فتعلّق به وقال: أتذهب بالطعام إلى بني هاشم؟! لا تذهب أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة. فقال له أبو البختريّ ابن هشام بن الحارث- وهلك كافرا-: طعام كان لعمّته عنده أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلّ سبيل الرجل. فأبى أبو جهل حتى نال كل واحد منهما من صاحبه فأخذ أبو البختريّ لحي بعير فضربه به فشجّه ووطئه وطئا شديدا، وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وأصحابه فيشمتوا بهم.
وكان أبو طالب في طول مدتهم في الشّعب يأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيأتي فراشه كل ليلة حتى يراه من أراد به شرا أو غائلة فإذا نام أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمّه فاضطجع على فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إن يأتي بعض فرشهم فيرقد عليه.
__________
[ (1) ] انظر الروض الآنف 2/ 102، 103 والبداية والنهاية 3/ 87.(2/378)
فلم يزالوا إلى تمام ثلاث سنين.
وبعث اللَّه تعالى علي صحيفتهم الأرضة فأكلت أو لحست ما في الصحيفة من عهد وميثاق- وفي رواية أنها لم تترك في الصحيفة اسما للَّه إلا لحسته وأبقت ما كان من شرك أو ظلم أو قطيعة.
وأطلع اللَّه سبحانه وتعالى رسوله على ذلك فذكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، فقال عمه أبو طالب: أربّك أخبرك بهذا؟ قال: نعم. قال: فو اللَّه ما يدخل عليك أحد- وفي رواية قال: لا والثواقب ما كذبتني فانطلق بعصابة من بني هاشم وبني المطلب حتى أتوا المسجد وهم خائفون لقريش، فلما رأتهم قريش في جماعة أنكروا ذلك وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء ليسلموا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برمّته إلى قريش، فتكلم أبو طالب فقال: جرت أمور بيننا وبينكم لم نذكرها لكم، فأتوا بصحيفتكم التي فيها مواثيقكم فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح. وإنما قال ذلك أبو طالب خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها. فأتوا بصحيفتهم مجمعين لا يشكون إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدفع إليهم، فوضعوها بينهم وقالوا لأبي طالب: قد آن لكم أن ترجعوا عما أحدثتم علينا وعلى أنفسكم. فقال أبو طالب: إنما أتيتكم في أمر هو نصف بيننا وبينكم: أن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن هذه الصحيفة التي في أيديكم قد بعث اللَّه تعالى عليها دابّة فأبقت اسم اللَّه وأكلت غدركم وتظاهركم علينا بالظلم- وفي رواية: فلم تترك فيها اسما اللَّه تعالى إلا لحسته وتركت غدركم وتظاهركم علينا بالظلم فإن كان كما يقال فلا والله لا نسلمه حتى نموت من عند آخرنا، وإن كان الذي يقول باطلا دفعنا إليكم صاحبنا فقتلتم أو استحييتم. فقالوا: قد رضينا بالذي تقول. ففتحوا الصحيفة فوجدوا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد أخبر بخبرها قبل أن تفتح.
فلما رأت قريش صدق ما جاء به أبو طالب عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم قالوا: هذا سحر ابن أخيك. وزادهم ذلك بغيا وعدوانا. فقال أولئك النفر من بني هاشم وبني المطلب: إن أولانا بالكذب والسحر غيرنا، فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطعتنا أقرب إلى الجبت والسّحر.
وقال أبو طالب: يا معشر قريش علام نحصر ونحبس وقد بان الأمر وتبيّن أنكم أولى بالظلم والقطيعة والإساءة. ثم دخل هو وأصحابه بين أستار الكعبة فقال: اللهم انصرنا على من ظلمنا وقطع أرحامنا واستحلّ ما يحرّم عليه منا. ثم انصرفوا إلى الشّعب.
وكان أبو طالب لمّا خاف دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته اللامية التي تعوّذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها وتودّد إلى أشراف قومه وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لشيء أبدا حتى يهلك دونه.(2/379)
وقد أوردها ابن إسحاق وأبو هفّان عبد اللَّه بن أحمد المهزمي في جمعه لشعر أبي طالب بكماله وزاد على ابن إسحاق أبياتا كثيرة في أماكن متعددة، وقد أوردت هنا خلاصة ما ذكراه وهي:
خليليّ ما أذني لأوّل عاذل ... بصغواء في حقّ ولا عند باطل
خليليّ إنّ الرّأي ليس بشركة ... ولا نهنه عند الأمور البلابل
ولمّا رأيت القوم لا ودّ عندهم ... وقد قطعوا كلّ العرى والوسائل
قد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدوّ المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنّة ... يعضّون غيظا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
قياما معا مستقبلين رتاجه ... لدى حيث يقضي خلفه كلّ نافل
أعوذ برب الناس من كلّ طاعن ... علينا بسوء أو ملحّ بباطل
ومن كاشح يسعى لنا بمعيبة ... ومن ملحق في الدّين ما لم نحاول
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه ... وراق ليرقى حراء ونازل
وبالبيت حقّ البيت من بطن مكّة ... وباللَّه إنَّ اللَّه ليس بغافل
وبالحجر الأسود إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضّحى والأصائل
وموطئ إبراهيم في الصّخر رطبة ... على قدميه حافيا غير ناعل
ومن حجّ بيت اللَّه من كل راكب ... ومن كلّ ذيّ نذر ومن كلّ راجل
فهل بعد هذا من معاذ لعائذ ... وهل من معيذ يتّقي اللَّه عاذل
يطاع بنا العديى وودّوا لو أنّنا ... تسدّ بنا أبواب ترك وكابل
كذبتم وبيت اللَّه نترك مكّة ... ونظعن إلّا أمركم في بلابل
كذبتم وبيت اللَّه نبزى محمّدا ... ولمّا نطاعن حوله ونناضل
ونسلمه حتّى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الرّوايا تحت ذات الصّلاصل
وحتّى نرى ذا الضّغن يركب ردعه ... من الطّعن فعل الأنكب المتحامل
إنّا لعمر اللَّه إن جدّ ما أرى ... لتلتبسن أسيافنا بالأماثل
بكفّي فتى مثل الشّهاب سميدع ... أخي ثقة حامي الحقيقة باسل
وما ترك قوم لا أبالك سيّدا ... يحوط الذّمار غير ذرب مواكل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل(2/380)
يلوذ به الهلاك من آل هاشمٍ ... فهم عنده في نعمة وفواضل
جزى اللَّه عنّا عبد شمس ونوفلا ... عقوبة شرّ عاجلا غير آجل
بميزان قطّ لا يخيس شعيرة ... له شاهد من نفسه غير عائل
ونحن صميم من ذؤابة هاشم ... وآل قصيّ في الخطوب الأوائل
فكلّ صديق وابن أخت نعدّه ... لعمريّ وجدنا غبّه غير طائل
سوى أن رهطا من كلاب بن مرة ... براء إلينا من معقّة خاذل
ونعم ابن أخت القوم غير مكذّب ... زهير حساما مفردا من حمائل
أشمّ من الشّمّ البهاليل ينتمي ... إلى حسب في حومة المجد فاضل
لعمري لقد كلّفت وجدا بأحمد ... وإخوته دأب المحبّ المواصل
فلا زال في الدّنيا جمالا بأحمد ... وإخوته دأب المحبّ المواصل
فلا زال في الدّنيا جمالا لأهلها ... وزينا على رغم العدو المخاتل
فمن مثله في النّاس أيّ مؤمّل ... إذا قاسه الحكّام عند التّفاضل
حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائش ... يوالي إلهاً ليس عنه بغافل
فأيّده ربّ العباد بنصره ... وأظهر دينا حقّه غير ناصل
فو اللَّه لولا أن أجيء بسبّة ... تجرّ على أشياخنا في القبائل
لكنّا اتّبعناه على كلّ حالة ... من الدّهر جدّا غير قول التّهازل
لقد علموا أنّ ابننا لا مكذّب ... لدينا ولا يعنى بقول الأباطل
فأصبح فينا أحمد في أرومة ... يقصّر عنها سورة المتطاول
حدبت بنفسي دونه وحميته ... ودافعت عنه بالذّرى والكلاكل
[ (1) ] والقصيدة طويلة جدا وهذا الذي ذكرته منها عينها. قال الحافظ عماد الدين ابن كثير:
وهي قصيدة عظيمة بليغة جدا لا يستطيع أن يقولها إلا من نسبت إليه وهي أفحل من المعلّقات السّبع وأبلغ في تأدية المعنى، ذكر فيها ما يتعلق بالصحيفة الظالمة التي كتبتها قريش، والأشبه أن أبا طالب إنما قالها بعد دخولها الشعب فذكرها هنا أنسب. انتهى.
تنبيهات
الأول: تقدم الخلاف في كتابة الصحيفة، وجمع بين الأقوال باحتمال أن يكون كل ممن ذكر كتب بها نسخة.
الثاني: في رواية: أن الأرضة لحست اسم اللَّه تعالى وأبقت ما عداه. وفي رواية:
لحست ما فيها من ظلم وجور وأبقت اسم اللَّه تعالى. وجمع بين الروايتين: بأنهم كتبوا نسخا
__________
[ (1) ] انظر الروض الأنف 2/ 13، 14، 15، 16، والبداية والنهاية 3/ 54، 55، 56، 57.(2/381)
فأكلت الأرضة من بعض النسخ اسم اللَّه تعالى إشارة إلى أنه تعالى كره فعلهم ذلك فلم يترك اسمه مع ذكر ظلمهم، وأكلت من بعض النسخ ما عدا اسم اللَّه تعالى إشارة إلى أنه تعالى لم يرض هذا الفعل. واللَّه أعلم بحقيقة ذلك.
الثالث: في بيان غريب ما تقدم الشّعب: بكسر الشين المعجمة: وهو الطريق في الجبل ومسيل الماء في بطن أرض، والمراد به هنا شعب بني هاشم بن عبد مناف، فقسّمه بين بنيه حين ضعف بصره وصار للنبي صلى الله عليه وسلّم حظّ أبيه، وهو كان منزل بني هاشم غير مساكنهم، وهو الذي يعرف بشعب ابن يوسف. قاله في المطالع.
قال في النور: وقوله «صار إليه حظّ أبيه» فيه نظر لأن أباه توفي قبل جده عبد المطلب فلم ينتقل لعبد اللَّه شيء حتى يقال إنه ورثه عليه الصلاة والسلام، وحين توفي عبد المطلب حجب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأولاده، هذا شرعنا وما أظنهم كانوا يخالفون ذلك. ويحتمل أنه وصل إليه حظ أبيه بطريق آخر.
دية مضاعفة: الدية مائة من الإبل معروفة. والمضاعفة: قال الخليل: التضعيف أن يزاد على أصل الشيء فيجعل مثلين أو أكثر.
ظاهرهم: عاونهم.
منابذتهم: نقضهم العهد.
ذات بيننا: وصلنا.
ولا خير ممن خصه اللَّه بالحب: خير مخفف من خيّر كهين وميت. وممن متعلق بمحذوف كأنه قال لا خير أخير ممن خصه اللَّه بالحب.
السّقب: بسين مهملة مفتوحة فقاف ساكنة فباء موحدة وهو من الرّغاء وهو أصوات الإبل. والسّقب: ولد الناقة، وأراد به هنا ولد ناقة صالح صلى الله عليه وسلّم التي عقرها قدار، فرغا ولدها وصاح برغائه كلّ شيء له صوت، فهلكت ثمود عند ذلك فضربت العرب ذلك مثلا في كل هلكة.
الأواصر: بالصاد والراء المهملتين: أسباب القرابة والمودة.
حربا عوانا: أي قوتل فيها مرارا.
لعزّاء: بعين مهملة مكسورة أي لشدة.
عضّ الزمان: شدته.(2/382)
السوالف: بسين مهملة مفتوحة وفاء: صفحات الأعناق.
أترّت: بضم الهمزة وكسر المثناة الفوقية وفتح الراء المشددة فتاء تأنيث: أي قطعت.
القساسيّة: بقاف مضمومة فسين مهملة فألف فسين أخرى مكسورة: سيوف منسوبة إلى قساس وهو جبل فيه معدن الحديد.
المعترك: موضع الحرب.
ضنك: بضاد معجمة مفتوحة فنون ساكنة فكاف: أي ضيق.
الطّخم [ (1) ] : بطاء مهملة مفتوحة فخاء معجمة ساكنة: التي في لونها سواد.
يعكفن: يقمن ويلازمن.
الشّرب: بشين مشددة مفتوحة فراء ساكنة: الجماعة من القوم يشربون.
الحجرات: بحاء مهملة مضمومة وجيم فراء مفتوحتين.
المعمعة: بميم مفتوحة فعين مهملة ساكنة فميم فعين أخرى مفتوحتين، وهي الأصوات في الحرب وغيرها.
الجرب: بضم الجيم وسكون الراء: الإبل التي بها جرب فهي تحكّ بعضها بعضا.
أزره: بهمزة مفتوحة: وهي القوة والظهر أيضا أي ظهره.
الحفائظ: بالحاء المهملة: جمع حفيظة وهي الغضب في الحرب.
النّهى [ (2) ] : بضم النون: العقول.
الكماة: بضم الكاف: الشجعان.
الرّعب: الفزع.
الأرضة: بفتح الهمزة والراء والضاد المعجمة الساقطة فتاء تأنيث: دويّبة تأكل الخشب.
الثواقب: النجوم، جمع ثاقب وهو النجم المضيء.
ما اكذبتني: بتخفيف الذال المعجمة أي ما حدثتني بحديث كذب.
العصابة: بكسر العين: الجماعة.
برمّته: بضم الراء وتشديد الميم المفتوحة: قطعة من حبل بالية، والجمع رمم ورمام،
__________
[ (1) ] اللسان 4/ 2648.
[ (2) ] المفردات في غريب القرآن 507.(2/383)
وأصله أن رجلا دفع إلى عدوه بحبل في عنقه فقيل ذلك لكل من دفع شيئا بجملته.
معجبين: بفتح الجيم.
نصف [ (1) ] : بفتح النون والصاد المهملة: وهي في الأصل المرأة بين الحدثة والمسنّة أي في أمر وسط بيننا وبينكم لا فيه حيف علينا ولا عليكم.
تفسير غريب قصيدة أبي طالب اللامية.
خليليّ: تثنية خليل، وهو منادى مضاف حذف منه حرفه.
تصغو: بصاد مهملة وغين معجمة مائلة.
نهنه: يقال: نهنهت الرجل إذا كففته.
والبلابل بموحدتين: الأمور المهمّة.
العرى: جمع عروة. وأراد بها ها هنا العهود.
الوسائل: جمع وسيلة وهي القربة يقال: وسل إلى ربه وسيلة إذا تقرّب بعمله إليه، والوسيلة: المنزلة عند الملك.
صارحونا: واجهونا مكافحة.
المزايل: المحاول المعالج.
حالفوا: عاهدوا.
أظنة: جمع ظنين وهو المتهم.
الأنامل: أطراف الأصابع.
بسمراء سمحة: يعني قناة تسمح بالانعطاف عند هزّها.
العضب [ (2) ] : بالعين المهملة والضاد المعجمة: القاطع.
تراث: أصله وارث من ورثت، ولكن لا تبدل هذه الواو ياء إلا في مواضع مخصوصة والتراث: مال قد يورث وتوارثه قوم عن قوم.
المقاول [ (3) ] : بالقاف: الملوك بلغة حمير. ويقال: الذين يخلفون الملوك إذا غابوا.
رهطي: قومي وقبيلتي.
__________
[ (1) ] المصباح المنير 608.
[ (2) ] المعجم الوسيط 2/ 606.
[ (3) ] لسان العرب 5/ 3780.(2/384)
الوصائل: ثياب حمر فيها خطوط كان البيت يكسى بها.
الرّتاج: هنا بكسر الراء: والمراد به هنا الباب.
لدى: بمعنى عند.
نافل: بالنون والفاء: أي كل متبرّئ يقال: انتقل من كذا أي تبرأ منه، فاستعمل اسم الفاعل من الثلاثي غير المزيد قال الأعشى: لا تلفنا من دماء القوم ننتفل.
ثور: بثاء مثلثة وراء.
أرسى: أثبت.
وثبيرا: بثاء مثلثة مفتوحة فباء موحدة مكسورة فمثناة تحتية فراء.
وحراء: بكسر الحاء: وتقدم الكلام عليه في باب بدء الوحي. والثلاثة جبال بمكة.
راق: صاعد.
لبرّ: من البرّ. وفي بعض التصانيف ليرقى من الرقّى وصححوا الأولى وقالوا: الثانية تصحيف ضعيف المعنى، فإنه معلوم أن الراقي يرقى وإنما هو البرّ أي في طلب برّ وهو خلاف الإثم. أقسم بطالب البرّ بصعوده في حراء التعبدّ فيه وبالنازل منه.
نازل: من النزول.
ملحّ: مجحف يقل: ألحّ على الشيء إذا أقبل عليه مواظبا.
الكاشح: العدوّ.
بمعيبة: بالعين المهملة: أي منقصة.
وبالحجر الأسود: فيه زحاف ويسمى الكفّ، وهو حدف النون من مفاعلن وهو بعد الراء من الأسود.
ما لم يحاول: يريد.
اكتنفوه: أحاطوا به. وفي رواية: كثفوه بثاء مثلثة بعد الكاف: ازدحموا عليه من الشيء الكثيف وهو الملتفّ.
الأصائل: والأصل بضمتين جمع أصيل وهو ما بعد العصر إلى الغروب.
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة: يعني موضع قدميه حين غسلت امرأة ابنه رأسه وهو راكب فاعتمد بقدمه على الصخرة، أبقى اللَّه تعالى أثر قدمه آية. وقيل بل هو أثر قدمه حين رفع القواعد من البيت وهو قائم عليه.(2/385)
وترك: بضم التاء المثناة الفوقية وسكون الراء. وكابل بضم الباء الموحدة: جيلان من العجم.
نظعن: بظاء معجمة مشالة: نرحل.
في بلابل: يروى بمثناتين فوقيتين أي في حركة واضطراب وبموحدتين أي في وساوس الهموم، واحدها بلبال.
نبزى [ (1) ] : بنون مضمومة فباء موحدة ساكنة فزاي مفتوحة: معناه نسلب ونغلب عليه.
نناضل: نرامي بالسهام.
نذهل: نغفل.
الحلائل: الزوجات، واحدها حليلة.
الرّوايا: جمع راوية: الإبل التي تحمل الماء.
الصلاصل [ (2) ] : بفتح الصاد المهملة الأولى وكسر الثانية: بقية الماء.
الضّغن: بكسر الضاد وسكون الغين المعجمتين: العداوة.
يركب ردعه: براء مفتوحة فدال ساكنة فعين مهملتين أي يسقط على وجهه في دمه.
الطّعن بفتح الطاء وسكون العين المهملتين.
الأنكب: المائل إلى جهة.
المتحامل: المائل عن الحق.
لعمر اللَّه: بفتح العين: بقاء اللَّه.
جدّ: بجيم فدال مهملة: عظّم.
بالأماثل: بالخيار من القوم.
سميدع [ (3) ] : بفتح السين المهملة لا بضمها: السيّد.
الحقيقة: بحاء مهملة وقافين بينهما مثناة تحتية ما يحقّ على الرجل أن يحميه.
باسل: شجاع كريم.
لا أبا لك: ويقال لا أبا لك وهو مدح.
__________
[ (1) ] المعجم الوسيط 1/ 54.
[ (2) ] لسان العرب 4/ 2487.
[ (3) ] انظر المعجم الوسيط 1/ 448.(2/386)
الذّمار: بذال معجمة مكسورة. ما يلزم الرجل حمايته والدفع عنه ويلام على إضاعته.
الذّرب: بذال معجمة تفتح وتكسر: الفاسد.
مواكل: أي يتوكل على غيره.
ثمال اليتامى [ (1) ] : أي قائم بمصالحهم وغياثهم.
عصمة للأرامل: يمنعهن من الضياع والحاجة.
يلوذ: يلجأ.
الهلّاك: بضم الهاء وتشديد اللام.
غير عائل: مائل عن الحق.
الصّميم وزان كريم: الخالص. وصميم القلب وسطه.
من ذؤابة هاشم: الذؤابة بضم الذال المعجمة وبالهمزة وقد تبدل واوا وهي في الأصل الشّعر المضفور من شعر الرأس. وذؤابة الجبل: أعلاه ثم استعير للشرف والمرتبة.
الخطوب: جمع خطب وهو الأمر الشديد.
غبّه: بغين معجمة مكسورة فموحدة أي عاقبته.
غير طائل: أي غير رفيع ولا نفيس. وأصل الطائل النفع والفائدة، وهذا اللفظ يقال للشيء الخسيس مشتق من الطّول.
الرّهط: بسكون الهاء وتفتح: دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة أو منها إلى الأربعين.
براء: بموحدة مفتوحة فراء فمد فهمز أي بريء عن مساوئه.
المعقّة: العقوق.
الخاذل: بالخاء والذال المعجمتين: تارك النّصرة والإعانة.
أشمّ: بالشين المعجمة. عزيز.
البهاليل: السادة واحدهم بهلول بضم الموحدة وسكون الهاء.
الحومة: بفتح الهاء المهملة: من كل شيء معظمه.
الوجد: الحب.
__________
[ (1) ] اللسان 1/ 506.(2/387)
الدّأب: العادة.
على رغم العدو: بتثليث الراء: أي ألصقه اللَّه بالرّغام بفتح الراء وهو التراب، هذا هو الأصل ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره.
المخاتل [ (1) ] : بالخاء وكسر المثناة الفوقية: المخادع.
المؤمّل: بفتح الميم المشددة المرجو خيره.
طائش: خفيف العقل.
يوالى: يعبد.
السّبّة: الشتم.
غير ناصل: بنون وصاد مهملة أي زائل.
التهازل: الهزل وهو ترك الجدّ في قول أو فعل.
لا مكذّب: بفتح الذال المعجمة المشددة.
ولا يعنى: يشتغل.
الأرومة [ (2) ] : بفتح الهمزة وضم الراء: الأصل.
بسورة: روي بضم السين المهملة أي المنزلة: وبفتحها أي الشدة والبطش.
المتطاول: بكسر الواو من الطول بفتح الطاء وهو الفضل والعلوّ.
حدبت: بفتح الحاء وكسر الدال المهملتين أي عطفت ومنعت.
الذّرى: جمع ذروة بذال معجمة تضم وتفتح وهي أعلى ظهر البعير.
الكلاكل: جمع كلكل وهو معظم الصدر.
__________
[ (1) ] المعجم الوسيط 1/ 218.
[ (2) ] لسان العرب 1/ 65.(2/388)
الباب التاسع عشر في رجوع القادمين من الحبشة إليها والهجرة الثانية
قال ابن سعد: قالوا: لما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكة من الهجرة الأولى اشتدّ عليهم.
قومهم وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدا. فأذن لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الثانية أعظمها مشقة، ولقوا من قريش تعنيفا شديدا ونالوهم بالأذى واشتد عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم، فقال عثمان بن عفان: يا رسول اللَّه فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة ولست معنا؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: «أنتم مهاجرون إلى اللَّه تعالى وإليّ، لكم هاتان الهجرتان جميعا» .
قال عثمان: فحسبنا يا رسول اللَّه
[ (1) ] .
قال ابن إسحاق وابن سعد: وكان عدّة من خرج في هذه الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانين.
قال ابن سعد: ومن النساء إحدى [ (2) ] عشرة امرأة قرشية وسبع غرائب. وزاد غيرهما على ذلك كما سيأتي بيانه.
وقد روى قصتهم الإمام أحمد عن ابن مسعود، وأبو نعيم والبيهقي عن أبي موسى الأشعري، وابن إسحاق عن أم سلمة، والطبراني وابن عساكر عن جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنهم قالوا: لمّا نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشيّ، أمنّا على ديننا وعبدنا اللَّه تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا فينا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشيّ فيهم، ثم قدّما إلى النجاشي هداياه ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلّمهم.
فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يدفعا إلى النجاشيّ هديته ويكلّماه وقالا لكل بطريق منهم: أنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم،
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 1/ 138.
[ (2) ] سقط في أ.(2/389)
وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردّهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى وأعلم بما عابوهم فيه. فقالوا: نعم.
ثم إنهما لمّا دخلا على النجاشي سجدا له وقدّما له هداياهما فقبلها ثم قالا له: أيها الملك أن نفرا من بني عمنا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم جاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم عليهم فهم أعلى وأعلم بهم عينا وبما عابوا عليهم وبما عيّبوهم فيه.
ولم يكن شيء أبغض إلى عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد من أن يسمع النجاشيّ كلام جعفر وأصحابه فقال بطارقته: صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم. فأسلمهم إليهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم.
قال: فأين هم؟ قالا: في أرضك. فغضب النجاشي ثم قال: لاها اللَّه إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فاسألهم عما يقول هذان من أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
ثم أرسل إلى أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول واللَّه ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كان في ذلك ما هو كائن. فقال جعفر بن أبي طالب: أنا خطيبكم اليوم.
وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، فدخل جعفر وتبعه المسلمون فسلّم فقالوا: مالك لا تسجد للملك؟ قال جعفر: إنا لا نسجد إلا للَّه عز وجل. فقال النجاشي ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من أهل هذه الملل.
فقال جعفر: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القويّ الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث اللَّه إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى اللَّه لنوحّده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد اللَّه وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. فعدّد عليه أمور الإسلام. ثم قال: وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرّحم وحسن الجوار والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، فصدّقناه وآمنا به واتبعناه على ما(2/390)
جاء به من اللَّه تعالى، فعبدنا اللَّه تعالى وحده ولم نشرك به شيئاً وحرّمنا ما حرم اللَّه علينا وأحللنا ما أحلّ لنا فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللَّه وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به من شيء فقال له جعفر: نعم. قال فاقرأه عليّ.
فقرأ عليه صدرا من «كهيعص» فبكى واللَّه النجاشيّ حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما يتلى عليهم.
ثم قال له النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج عن مشكاة واحدة.
ثم قال النجاشي لعمرو: أعبيدهم لكم؟ قال: لا. قال: أفلكم عليهم دين؟ قال: لا.
قال: انطلقا فواللَّه لا أسلمهم إليكما أبدا ولا يكادون.
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: واللَّه لآتينّه عنهم غدا بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عمارة لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا. قال: واللَّه لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.
ثم غدا إلى النجاشي فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما فاسألهم عما يقولون فيه. فأرسل إليهم ليسألهم عنه فاجتمع المسلمون ولم ينزل بهم مثلها. فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ فقالوا: نقول واللَّه ما قال اللَّه تعالى وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن. فقال جعفر: لا يتكلم أحد أنا خطيبكم.
فلما دخلوا عليه فإذا هو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن شماله والقسيسون جلوس سماطين، فقال لجعفر وأصحابه: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا، نقول هو عبد اللَّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده الأرض فأخذ منها عودا ثم قال ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، يا معشر القسيسين والرهبان واللَّه ما يزيدون على الذي فيه. فتناحرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال: وإن نخرتم واللَّه.
ثم قال: مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول اللَّه وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، واللَّه لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه. وأمر لنا بطعام وكسوة، ثم قال: اذهبوا فأنتم آمنون. من سبّكم غرم، من سبّكم غرم، من سبّكم غرم. قالها ثلاثا. فما أحب أن لي جبلا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم.(2/391)
وفي رواية أن النجاشي قال للمسلمين: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم. فأمر مناديا ينادي: من آذى أحدا منهم فأغرموه أربعة دراهم. ثم قال: أيكفيكم؟ قلنا: لا. قال: فأضعفوها.
وعند موسى بن عقبة: من نظر إلى هؤلاء نظرة تؤذيهم فقد غرم. أي فقد عصاني.
ثم قال: ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها فو اللَّه ما أخذ اللَّه منيّ الرشوة حين ردّ عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه.
فخرجا من عنده مقبوحين مردود عليهما ما جاءا به.
ثم إن الحبشة اجتمعت فقالت للنجاشي: إنك فارقت ديننا- وخرجوا عليه فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيّأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا حيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة وصفّوا له صفين فقال: يا معشر الحبشة ألست أحقّ الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة؟
قال فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد، هو ابن اللَّه. فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى ابن مريم لم يزد على هذا. وإنما يعني ما كتب.
فرضوا عنه وانصرفوا.
قالت أم سلمة: فأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، فو اللَّه أنا على ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فو اللَّه ما حزنّا قطّ حزنا كان أشدّ من حزن حزنّاه عند ذلك تخوّفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. وسار إليه وبينهما عرض النّيل، فقال أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من رجل ينطلق حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام: أنا. قالوا: فأنت. وكان من أحدث القوم سنا. فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليهم حتى خرج إلى ناحية النّيل التي بها يلتقي القوم، ثم انطلق حتى حضرهم.
وقالت: ودعونا اللَّه للنجاشيّ بالظهور على عدوّه والتمكين له في بلاده.
قالت: فو اللَّه أنا على ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير بن العوام يسعى فلمع بثوبه وهو يقول: أبشروا فقد ظهر النجاشيّ وأهلك اللَّه عدوّه. قالت: فو اللَّه ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها. ورجع النجاشي وقد أهلك اللَّه عدوّه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة، وكنا عنده في خير منزل.
وروى الطبراني برجال الصحيح عن أبي موسى الأشعري، والطبراني وأبو الفرج الأموي(2/392)
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى واللفظ لأبي الفرج قال: وكان اللَّه سبحانه وتعالى قد ألقى العداوة بين عمرو وعمارة في مسيرهما قبل أن يقدما على النجاشي، وذلك أن عمرا كان رجلا دميما ومعه امرأته، وكان عمارة رجلا جميلا، فهوي امرأة عمرو وهويته، فعزما على دفع عمرو في البحر فدفع عمارة عمرا في البحر فسبح عمرو ونادى أصحاب السفينة فأخذوه فرفعوه إلى السفينة- فأضمرها عمرو في نفسه ولم يبدها لعمارة، بل قال لامرأته: قبّلي ابن عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه. فلما أتيا أرض الحبشة وردّهما اللَّه تعالى خائبين مكر عمرو بعمارة فقال له: أنت امرؤ جميل وهن النساء يحببن الجمال، فتعرّض لامرأة النجاشي فلعلها أن تشفع لنا عند الملك في قضاء حاجتنا. ففعل عمارة وتكرّر تردده إلى امرأة النجاشي وأخذ عطرا من عطرها، فلما رأى عمرو ذلك أتى الملك فذكر له أمر عمارة، فأدركت الملك عزة الملك وقال: لولا أنه جاري لقتلته، ولكن سأفعل له ما هو شر من القتل. فدعا بالسّواحر فأمرهن أن يسحرنه فنفخن في إحليله نفخة طار منها هائما على وجهه حتى لحق بالوحوش بالجبال، فكان إذا رأى آدميّا ينفر منه، وكان ذلك آخر العهد به إلى زمن عمر بن الخطاب، فجاء ابن عمة عبد الله بن أبي ربيعة إلى عمر بن الخطاب واستأذنه في المسير إليه لعله يجده، فأذن له عمر، فسار عبد الله إلى أرض الحبشة فأكثر النّشدة عنه والفحص عن أمره حتى أخبر أنه في جبل كذا يرد مع الوحوش إذا وردت ويصدر معها إذا صدرت، فسار إليه فكمن له في طريقه إلى الماء فإذا هو قد غطّاه شعره وطالت أظافره وتمزقت عنه ثيابه حتى كأنه شيطان، فقبض عليه عبد الله وجعل يذكّره بالرّحم ويستعطفه وهو ينتفض منه وهو يقول أرسلني يا بجير أرسلني يا بجير وأبي عبد الله إن يرسله حتى مات بين يديه.
قال الزهري: فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير فقال: أتدري ما قوله: «ما أخذ اللَّه الرشوة منيّ فآخذ الرشوة فيه ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه؟» فقلت: لا. قال عروة: فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه وكان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلا ولم يكن لأبي النجاشي ولد غير النجاشي، فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا: لو أنّا قتلنا أبا النجاشي وملّكنا أخاه فإن له اثني عشر رجلا من صلبه فتوارثوا الملك لبقيت الحبشة عليهم دهرا طويلا لا يكون بينهم اختلاف، فعدوا عليه فقتلوه وملّكوا أخاه. فمكثوا على ذلك حينا ونشأ النجاشيّ مع عمه فلا يدبّر أمر عمه غيره، وكان النجاشي حازما لبيبا من الرجال، فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا: قد غلب هذا الغلام على أمر عمه فما نأمن من أن يملّكه علينا، وقد عرف أنا قتلنا أباه، فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله، فكلّموه فيه فليقتله أو ليخرجه من بلادنا.
فمشوا إلى عمه فقالوا: قد رأينا مكان هذا الغلام منك، وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه، وإنا لا نأمن من أن يملّك علينا فيقتلنا، فإما أن تقتله وإما أن تخرجه من بلادنا. قال: ويحكم(2/393)
قتلتم أباه بالأمس وأقتله اليوم؟ بل أخرجه من بلادكم. فخرجوا به فوقفوه في السوق وباعوه من تاجر من التجار بستمائة درهم أو بسبعمائة درهم، فرفعه في سفينة فانطلق به، فلما كان العشاء هاجت سحابة من سحائب الخريف فخرج عمه يتمطّر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته ففزعوا إلى ولده فإذا هم محمقون ليس في أحد منهم خير، فمرج أمر الحبشة. فقال بعضهم لبعض: تعلمون واللَّه إن ملككم الذي يصلح أمركم الذي بعتم بالغداة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب. فخرجوا في طلبه فأدركوه فردّوه فعقدوا عليه التاج وأجلسوه على سريره وملكوه، فقال التاجر: ردّوا عليّ مالي كما أخذتم غلامي فقالوا: لا نعطيك. فقال التاجر: واللَّه لأكلمنّه فمشى إليه فكلّمه فقال: أيها الملك إني ابتعت غلاما فقبض ثمنه الذين باعونيه ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي ولم يردّوا عليّ مالي، فكان أول ما خبر من صلابة حكمه أن قال: لتردّن عليه ماله أو ليجعلن يد غلامه في يده فيذهب به حيث شاء. فقالوا: بل نعطيه ماله فأعطوه ماله.
فلذلك يقول: «ما أخذ اللَّه مني الرشوة فآخذ الرشوة فيه حين ردّ عليّ ملكي وما أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه» .
فأقام المهاجرون بأرض الحبشة عند النجاشي في أحسن جوار وتعجّل عبد اللَّه بن مسعود فرجع إلى مكة، فلما سمع المسلمون بمهاجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رجع منهم ثلاثة وثلاثون رجلا ومن النساء ثماني نسوة، فمات منهم رجلان بمكة وشهد بدرا منهم أربعة وعشرون رجلا. كما سيأتي بيان ذلك هناك. واللَّه تعالى أعلم.
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي
روى البيهقي عن ابن إسحاق قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشيّ في جعفر بن أبي طالب وأصحابه وكتب معه كتابا فيه: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم.
من محمد رسول اللَّه إلى النجاشي الأصحم. سلام عليك فإني أحمد إليك اللَّه الملك القدوس المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح اللَّه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى اللَّه وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بي وبالذي جاءني فإني رسول اللَّه، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفر بن أبي طالب ومعه نفر من المسلمين فإذا جاءوك فأقرهم ودع التجبر فإني أدعوك وجنودك إلى اللَّه وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي. والسلام على من اتبع الهدى» .
فكتب إليه النجاشي: إلى محمد رسول اللَّه من النجاشي الأصحم ابن الأبجر. سلام(2/394)
عليك يا نبي اللَّه من اللَّه ورحمته وبركاته، لا إله إلا الذي هداني إلى الإسلام، فقد بلغني كتابك يا رسول اللَّه فيما ذكرت من أمر عيسى فورب السماء والأرض إن عيسى لم يزد على ما ذكرت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا وقد مر بنا ابن عمك وأصحابه فأشهد أنك رسول اللَّه صادقا مصدّقا وقد تبعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه للَّه رب العالمين وقد أرسلت بابني أريحا بن أصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن أمرتني أن أجيء فعلت يا رسول اللَّه فإني أشهد أن ما تقول حقّ [ (1) ] .
تنبيهات
الأول: ذكر ابن إسحاق أن رفيق عمرو في هذه السّفرة عبد الله بن أبي ربيعة، قالوا:
والصحيح أن رفيق عمرو في هذه السفرة عمارة، وعبد الله كان رفيق عمرو في خروجهما بعد وقعة بدر.
الثاني: قول جعفر للنجاشي رضي اللَّه عنهما: «وأمرنا بالصلاة» أي التي كانت قبل فرض الصلوات الخمس. وقوله: «والزكاة» أراد مطلق الصدقة لأن زكاة المال إنما فرضت بالمدينة.
الثالث: في بيان غريب ما سبق:
البطريق: بالكسر كالقائد من العرب.
ضوى [ (2) ] : أوى، يقال ضويت إليه إذا أويت وانضممت.
لاها اللَّه إذن: الهاء بدل من الواو، أي لا واللَّه، هكذا جاء في الحديث لاها اللَّه إذن قيل: والصواب لاها اللَّه ذا: بحذف الهمزة ومعناه لا واللَّه لا يكون ذا. أو واللَّه الأمر ذا، فحذف الكلام واختصر تخفيفا لكثرة الاستعمال. ولك في ألفها مذهبان: أحدهما تثبت ألفها لأن الذي بعدها مدغم مثل دابّة. والثاني: أن تحذفها لالتقاء الساكنين قاله في النهاية.
وقال ابن مالك: في اللفظ بها أربعة أوجه:
أحدها: ها للَّه إذن: بهاء تليها اللام.
الثاني: ها للَّه: بألف ثابتة قبل اللام.
الثالث: الجمع بين ثبوت الألف وقطع الهمزة.
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 3/ 83.
[ (2) ] اللسان 4/ 2622.(2/395)
الرابع: أن تحذفه وتقطع همزة اللَّه.
والمعروف في كلام العرب ها اللَّه ذا، وقد وقع في هذا الحديث: إذن. وليس ببعيد انتهى.
الأساقفة: جمع أسقفّ بضم الهمزة وتشديد الفاء وتخفف، رأس من رؤوسهم.
ولا يكاد: بتحتية مضمومة فكاف فألف فدال مهملة من الكيد وهو الاحتيال وإرادة السوء ومنه سمّى الحرب كيدا.
خضلوا لحاهم: بلّوها بالدموع يقال خضل وأخضل إذا ندّى وأخضلته أنا.
المشكاة: الكوّة.
أستأصل: أي لا أدع لهم أصلا.
خضراءهم: سوادهم ومعظمهم.
القسّيسون جمع قسّ بفتح القاف: العالم العابد من رؤوس النصارى.
سماطين: جانبين.
العذراء: البكر.
البتول [ (1) ] : التي انقطعت عن الرجال.
ما عدا عيسى هذا العود: قال في الزهر: منصوب على الظرف تقديره: مقدار هذا العود أو قدر هذا العود.
تناخرت: قال في النهاية: أي تكلمت وكأنه كلام مع غضب ونفور.
الرّشوة: بكسر الراء وضمها: ما يعطيه الشخص الحاكم وغيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد.
عرم [ (2) ] : بعين وراء مثلثة مهملتين والعارم الخبيث الشرير.
هاجت سحابة: ثارت وطلعت.
الخريف: أحد فصول السنة. سمي بذلك لأنه تخترف فيه الثمار أي تقطع.
الرابع:
في معرفة أسماء الذين هاجروا الهجرة الثانية:
وفي ذلك فائدتان: إحداهما: معرفتهم. وثانيتهما: أنهم من أكابر الصالحين، فقد روى
__________
[ (1) ] انظر المعجم الوسيط 1/ 38.
[ (2) ] المصباح المنير 406.(2/396)
ابن الجوزي في مقدمة الصفوة عن سفيان بن عيينة رحمه اللَّه أنه قال: عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة.
وقد ذكرهم ابن إسحاق مرتّبا لهم على القبائل والبطون، فرأيت ذلك صعبا على من أراد الكشف عن اسم واحد منهم، فرتبت أسماءهم على حروف المعجم.
الألف أبان بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي. ذكره ابن إسحاق فيهم وخالفه في ذلك أهل العلم بالأخبار وقالوا: أسلم أيام خيبر وشهدها مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم بن الحارث بن خالد بن صخر القرشي التّيمي [ (1) ] هاجر مع أبيه.
الأسود بن نوفل بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي ابن أخي خديجة رضي اللَّه عنهما.
الباء الموحدة
بشر بن الحارث بن قيس بن عديّ القرشي السّهمي [ (2) ] .
التاء المثناة
تميم بن الحارث بن قيس بن عدي أخو بشر السابق.
الجيم
جابر بن سفيان بن معمر بن حبيب الجمحي [ (3) ] .
جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ أبو عبد الله رضي اللَّه عنه. قاله الحافظ عماد الدين بن كثير.
قلت: وفي ذلك نظر لأن ابن إسحاق ذكر أسماء الذين هاجروا الهجرة الأولى ثم ذكر الذين هاجروا ثانيا.
جنادة بن سفيان بن معمر بن حبيب القرشي الجمحي.
جهم بن قيس بن عبد شرحبيل العبدري
[ (4) ] .
__________
[ (1) ] إبراهيم بن الحارث بن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن تيم بن مرة القرشي ... قال البخاري هاجر مع أبيه.
[الإصابة 1/ 11، 12] .
[ (2) ] بشر بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم القرشي السهمي ... من مهاجرة الحبشة. [الإصابة 1/ 156] .
[ (3) ] جابر بن سفيان من بني زريق الخزرجي حليف معمر بن حبيب الجمحي. [الإصابة 1/ 221] .
[ (4) ] جهم بن قيس بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي العبدري ... أبو خزيمة ويقال له جهيم بالتصغير أخو جهم بن الصامت لأمه. [الإصابة 1/ 266] .(2/397)
الحاء المهملة
الحارث بن الحارث بن قيس بن عديّ القرشي السهمي، قال البلاذريّ: ذكر بعضهم أنه هاجر مع أخويه إلى الحبشة وليست هجرته بثبت.
الحارث بن حاطب بن الحارث بن معمر القرشي الجمحي. ذكر الزهري أنه ولد بأرض الحبشة، وفي كلام مصعب ما يدل على أن الحارث ولد قبل هجرة الحبشة.
الحارث بن خالد بن صخر بن عامر القرشي التيمي [ (1) ] .
الحارث بن عبد قيس بن لقيط بن عامر القرشي التّيمي الفهري [ (2) ] .
حاطب بن الحارث بن عديّ السّهميّ. قال أبو عمر: أسلم وهاجر إلى الحبشة وتعقبه ابن الأثير بأنه كان من المستهزئين. وقال الذهبي: لم يذكر احد أنه أسلم إلا أبو عمر. قال الحافظ: نعم ذكره فيهم أيضا أبو عبيدة ومصعب والطّبري وغيرهم، ولا مانع أن يكون تاب وهاجر، فلا تنافي بين القولين. وبسط الكلام على ذلك.
قلت: وذكره ابن الجوزي في التّلقيح في مهاجرة الحبشة، وقال: مات بها.
حاطب بن الحارث بن معمر القرشي الجمحي [ (3) ] مات بها.
حاطب بن عمرو بن عبد شمس القرشي العامريّ، يقال إنه أول من هاجر إلى الحبشة وبه جزم الزّهري. ورجع من الحبشة قبل الهجرة إلى المدينة.
الحجّاج بن الحارث بن قيس القرشي السهمي. ذكره ابن عقبة وابن إسحاق فيمن هاجر إلى الحبشة وأنكر ذلك ابن الكلبي والزبير بن بكار.
حطّاب- بالحاء والطاء المهملتين- ابن الحارث بن معمر القرشي الجمحي مات بها وهو أخو حاطب.
الخاء المعجمة
خالد بن حزام- بالحاء المهملة وبالزاي- ابن خويلد القرشي الأسدي. قال البلاذريّ وابن منده عن عروة: إنه هاجر إلى الحبشة فنهشته حية فمات في الطريق، فنزل فيه: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ الآية.
__________
[ (1) ] الحارث بن خالد بن صخر بن عامر بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة القرشي التيمي ... ذكره ابن إسحاق وغيره في مهاجرة الحبشة. [انظر الإصابة 1/ 290] .
[ (2) ] الحارث بن قيس بن لقيط بن عامر بن أمية بن الظرب بن الحارث بن فهر القرشي الفهري ... ويقال الحارث بن قيس ذكره ابن إسحاق وابن دأب في مهاجرة الحبشة. [الإصابة 1/ 290] .
[ (3) ] حاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي ثم الجمحي. ذكره ابن إسحاق في مهاجرة الحبشة وذكره الطبراني فيمن مات بالحبشة هو وأخوه خطاب [الإصابة 1/ 314، 315] .(2/398)
وروى ذلك مصعب الزبيري عن غير واحد من آل حزام. وجزم بذلك الواقدي.
قال الحافظ: لكن المشهور الذي نزلت فيه هذه الآية جندب بن ضمرة.
خالد بن سعيد بن العاصي بن أمية القرشي الأموي.
خالد بن سفيان بن معمر بن حبيب القرشي الجمحي.
خزيمة بن جهم بن عبد بن شرحبيل العبدري [ (1) ] .
خنيس- بضم الخاء المعجمة فنون مفتوحة فمثناة تحتية فسين مهملة- ابن حذافة بن قيس بن عدي القرشي السهمي.
الراء
ربيعة بن هلال بن مالك.
الزاي
الزبير بن العوام بن خويلد القرشي الأسدي أبو عبد اللَّه.
السين المهملة
السائب بن الحارث بن قيس القرشي السهمي [ (2) ] .
السائب بن عثمان بن مظعون الجمحي [ (3) ] .
سعد بن خولة القرشي العامري [ (4) ] .
سعيد بن الحارث بن قيس القرشي السهمي [ (5) ] .
سعيد بن عبد قيس بن لقيط القرشي الفهري [ (6) ] .
__________
[ (1) ] خزيمة بن جهم بن عبد بن شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصيّ العبدي ... ذكر الزبير بن بكار أنه هاجر إلى الحبشة مع أبيه وأخيه. [الإصابة 2/ 112] .
[ (2) ] السائب بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي السهمي ... أحد السابقين قال ابن إسحاق هاجر إلى الحبشة وذكره ابن إسحاق فيمن قتل بالطائف ذكر موسى بن عقبة بن شهاب ووافقه معمر عن ابن شهاب أنه خرج وأنه عاش بعد ذلك إلى أن استشهد بالأردن يوم فحل في أول خلافة عمر سنة ثلاث عشرة وكذا ذكر ابن سعد وزاد وأمه أم الحجاج كنانية. [الإصابة 3/ 58] .
[ (3) ] السائب بن عثمان بن مظعون بن حبيب الجمحي. قال ابن إسحاق أسلم في أول الإسلام وهاجر إلى الحبشة وشهد بدرا والمشاهد واستشهد باليمامة واستعمله النبي صلى اللَّه عليه وسلم على المدينة في غزوة بواط. [الإصابة 3/ 61] .
[ (4) ] سعد بن خولة القرشي العامري من بني مالك بن حسل بن عامر بن لؤي ... [الإصابة 3/ 74] .
[ (5) ] سعيد بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو القرشي السهمي ... ذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق في مهاجرة الحبشة وقال موسى بن عقبة استشهد بأجنادين وذكره ابن إسحاق وأبو الأسود عن عروة أنه استشهد باليرموك وكذا قال الزبير وسيف وابن سعد. [الإصابة 3/ 95] .
[ (6) ] سعيد بن عبد قيس وقيل سعيد بن عبيد بن قيس بن لقيط بن عامر بن أمية أو ربيعة بن طرب بن الحارث بن فهر القرشي الفهري ... ذكر ابن شاهين من طريق ابن الكلبي وغيره أنه أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة وذكر البلاذري أنه قدم المدينة قبل جعفر بن أبي طالب. [الإصابة 3/ 100] .(2/399)
سعيد بن عمر التّيمي [ (1) ]- ويقال اسمه معبد.
سفيان بن معمر [ (2) ]- بفتح الميمين وإسكان المهملة بينهما- ابن حبيب القرشي الجمحي.
السكران بن عمرو بن عبد شمس القرشي العامري [ (3) ] .
سلمة بن هشام بن المغيرة القرشي المخزومي [ (4) ] .
سليط بن عمرو بن عبد شمس القرشي العامري، ويقال إنه أول من هاجر إلى الحبشة.
سهيل ابن بيضاء وهي أمه واسمها دعد، واسم أبيه وهب بن ربيعة القرشي الفهري.
سويبط بن حرملة ويقال بن سعد بن حرملة، ويقال حريملة، القرشي العبدري.
الشين المعجمة
شرحبيل بن عبد الله المطاع ابن عبد الله الكندي ويقال التميمي ويعرف بأمه حسنة.
شمّاس بن عثمان بن الشّريد القرشي المخزومي واسمه عثمان بن عثمان، وإنما سمي شمّاسا، لأن شماسا من الشمامسة قدم مكة في الجاهلية وكان جميلا فعجب الناس من جماله فقال عتبة بن ربيعة وكان خال عثمان: أنا آتيكم بشماس أحسن منه. فجاء بابن أخته عثمان فسمي شمّاسا. والشماس من رؤوس النصارى يحلق وسط رأسه ويلزم البيعة وليس بعربي صريح.
الطاء المهملة
طليب- بالتصغير- ابن أزهر بن عبد عوف القرشي الزّهري.
طليب بن عمير- بالتصغير- أو عمرو بن وهب أبو عدي.
__________
[ (1) ] سعيد بن عمرو التيمي حليف بني سهم ... ذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق في مهاجرة الحبشة وقال موسى بن عقبة استشهد باجنادين. [الإصابة 3/ 101] .
[ (2) ] سفيان بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي ... ذكره ابن إسحاق وموسى بن عقبة عن ابن شهاب في مهاجرة الحبشة وكانت معه امرأته حسنة وهي والدة شرحبيل وقال الزبير بن بكار هو أخو جميل بن معمر. [الإصابة 3/ 108] .
[ (3) ] السكران بن عمرو بن شمس بن عبد ود بن مالك بن نصر بن حسل بن عامر بن لؤي القرشي العامري أخو سهيل بن عمرو ... ذكره موسى بن عقبة في مهاجرة الحبشة. [الإصابة 3/ 110] .
[ (4) ] سلمة بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي أخو أبي جهل والحارث يكنى أبا هاشم وذكر عروة وموسى بن عقبة أنه استشهد بأجنادين وبه جزم أبو زرعة الدمشقي وصوبه أحمد. [الإصابة 3/ 119، 120] .(2/400)
العين المهملة
عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك العنزيّ [ (1) ]- بفتح العين المهملة والنون- ويقال بفتح النون.
عامر بن أبي وقاص [ (2) ] ، واسم أبي وقاص مالك بن أهيب القرشي الزهري أبو عمرو أخو سعد.
عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال القرشي الفهري [ (3) ] ، أبو عبيدة.
عبد الله بن جحش بن رياب [ (4) ]- براء فمثناة تحتية فألف فباء موحدة- بن يعمر القرشي الأسدي.
عبد الله بن الحارث بن قيس القرشي السهمي [ (5) ] .
عبد الله بن حذافة بن قيس القرشي السهمي [ (6) ] .
عبد الله بن سفيان بن عبد الأسد القرشي المخزومي [ (7) ] .
عبد الله بن سهيل بن عمرو العامري، أبو سهيل [ (8) ] .
__________
[ (1) ] عامر بن ربيعة بن كعب بن مالك بن ربيعة بن عامر بن سعد بن عبد الله بن الحارث بن رفيدة بن عنز بن وائل العنزي ... كان أحد السابقين الأولين وهاجر إلى الحبشة ومعه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة ثم هاجر إلى المدينة أيضا وشهد بدرا وما بعدها وله رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبيه عبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير وأبي أمامة بن سهل وغيرهم وذلك في الصحيحين وغيرهما مات سنة اثنتين وثلاثين كذا قال أبو عبيدة وقال الواقدي كان موته بعد قتل عثمان بأيام وقيل في وفاته غير ذلك. [الإصابة 4/ 8] .
[ (2) ] عامر بن مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري ومالك وهو أبو وقاص يكنى أبا عمرو وهو أخو سعد ... ذكره الواقدي وقال أسلم بعد عشرة رجال. [الإصابة 4/ 16] .
[ (3) ] عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب ويقال وهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر القرشي الفهري أبو عبيدة بن الجراح مشهور بكنيته وبالنسبة إلى جده ... اتفقوا على أنه مات في طاعون عمواس بالشام سنة ثمان عشرة وأرخه بعضهم سنة سبع عشرة وهو شاذ. [الإصابة 4/ 11، 12، 13] .
[ (4) ] عبد الله بن جحش بن رياب براء تحتانية وآخره موحدة ابن يعمر الأسدي حليف بني عبد شمس ... أحد السابقين قال ابن حبان له صحبة وقال ابن إسحاق هاجر إلى الحبشة وشهد بدر. وكان قاتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق ودفن هو وحمزة في قبر واحد وكان له يوم قتل نيف وأربعون سنة. [الإصابة 4/ 46] .
[ (5) ] عبد الله بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سعد بن سهم القرشي السهمي.. ذكره ابن إسحاق وغره فيمن هاجر إلى الحبشة مات بالحبشة. [انظر الإصابة 4/ 52] .
[ (6) ] عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي السهمي أبو حذافة وأبو حذيفة وأمه بنت حربان من بني الحارث بن عبد مناة من السابقين الأولين ... يقال شهد بدرا وقال أبو نعيم: توفي بمصر في خلافة عثمان.
[الإصابة 4/ 55، 56] .
[ (7) ] عبد الله بن سفيان بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي ابن أخي أبي سلمة وأمه بنت عبد بن أبي قيس بن عبد الله من بني عامر بن لؤي ... [الإصابة 4/ 79] .
[ (8) ] عبد الله بن سهيل بن عمرو أبو سهيل أمه فاطمة بنت عامر بن نوفل بن عبد مناف ... قال ابن مندة لا يعرف له رواية وذكره ابن إسحاق في مهاجرة الحبشة وروى ابن مندة في مغازي ابن عائذ بسنده إلى ابن عباس قال وممن هاجر إلى الحبشة عبد الله بن سهيل بن عمرو. [الإصابة 4/ 83] .(2/401)
عبد الله بن شهاب بن عبد الله القرشي الزهري [ (1) ] .
عبد الله بن عبد أسد بن هلال القرشي المخزومي، أبو سلمة، هاجر الهجرتين، ويقال إنه أول من هاجر إلى الحبشة هو وامرأته.
عبد الله بن عرفطة- بضم العين وإسكان الراء ففاء مضمومة وطاء مهملة مفتوحة.
عبد الله بن قيس بن سليم أبو موسى الأشعري. ذكره فيهم ابن إسحاق. قال أبو عمر:
ليس كذلك ولكنه خرج في طائفة من قومه من أرضهم باليمن يريد المدينة فركبوا البحر فرمتهم الريح إلى الحبشة فأقام هناك حتى قدم مع جعفر.
قلت: وقد روى البيهقي وغيره بسند صحيح عن أبي موسى في حديث الهجرة إلى الحبشة وفيه: أمرنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم أن ننطلق مع جعفر إلى أرض الحبشة. فذكر الحديث.
قال البيهقي: وظاهره يدل على أن أبا موسى كان بمكة وأنه خرج مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة.
والصحيح ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي موسى قال: بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم ونحن باليمن فخرجنا فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب فأقمنا معه حتى قدمنا فوافقنا النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح خيبر، الحديث.
وقال الحافظ في الفتح: ويؤيد ما ذكره ابن إسحاق ما رواه الإمام أحمد بسند حسن عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا فيهم عبد الله بن مسعود وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون وأبو موسى الأشعري. فذكر الحديث.
وقد استشكل ذكر أبي موسى فيهم لأن المذكور في الصحيح أن أبا موسى خرج من بلاده هو وجماعة قاصدين النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فألقتهم السفينة بأرض الحبشة فحضروا مع جعفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر.
ويمكن الجمع بأن يكون أبو موسى هاجر أولا إلى مكة فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم مع من بعث إلى الحبشة فتوجه هو إلى بلاد قومه وهي مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحققوا استقرار النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة فألقتهم السفينة لأجل هيجان الرّيح إلى الحبشة.
فهذا محتمل، وفيه جمع بين الأخبار. فليعتمد واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن زهرة بن كلاب الزهري وهو الذي قبله وهو جد الزهري من قبل أمه ... وكان من السابقين ذكره الزهري والزبير وغيرهما فيمن هاجر إلى الحبشة ومات بمكة قبل هجرة المدينة. [الإصابة 4/ 85] .(2/402)
وعلى هذا قول أبي موسى: «بلغنا مخرج النبي صلى الله عليه وسلم» أي إلى المدينة وليس المراد:
بلغنا مبعثه. ويؤيده أنه يبعد كلّ البعد أن يتأخر علم مبعثه إلى مضيّ نحو عشرين سنة مع الحمل على مخرجه إلى المدينة فلا بد من زيادة استقراره بها وانتصافه ممن عاداه ونحو ذلك، وإلا فيبعد أن يخفى عليهم خبر خروجه إلى المدينة ست سنين.
ويحتمل أن إقامة أبي موسى بأرض الحبشة طالت لأجل تأخر جعفر عن الحضور إلى المدينة حتى يأتيه الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم بالقدوم.
عبد الله بن مخرمة القرشي العامري.
عبد الله بن غافل- بمعجمة وفاء- الهذلي.
عبد الله بن مظعون بن وهب القرشي الجمحي [ (1) ] أخو عثمان.
عبيد الله بن جحش، تنصّر هناك ثم توفي على النصرانية.
عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري.
عتبة بن غزوان- بغين معجمة مفتوحة فزاي ساكنة- ابن جابر المازني- بالزاي والنون.
عتبة بن مسعود الهذلي أخو عبد الله.
عثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب القرشي الجمحي [ (2) ] .
عثمان بن عبد غنم بن زهير بن أبي شداد القرشي الفهري [ (3) ] .
عثمان بن عفان بن أبي العاصي بن أمية القرشي الأموي.
عثمان بن مظعون- بالظاء المعجمة المشالة- ابن حبيب بن وهب القرشي الجمحي.
عدي بن نضلة- أو نضيلة بالتصغير- القرشي العدوي، مات بأرض الحبشة.
عروة بن أبي أثاثة- ويقال ابن أثاثة بإسقاط أبي- ابن عبد العزى القرشي العدوي.
__________
[ (1) ] عبد الله بن مظعون الجمحي يكنى أنا بمحمد وأمه مخيلة بنت النعمان بن وهبان ذكره ابن إسحاق وابن عقبة في البدريين وذكر ابن عائد في المغازي في مهاجرة الحبشة قدامة وعبد الله ابنا مظعون. [الإصابة 4/ 131] .
[ (2) ] عثمان بن ربيعة بن أهبان بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحي ... ذكره ابن إسحاق في مهاجرة الحبشة. [الإصابة 4/ 220] .
[ (3) ] عثمان بن عبد غنم بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحرث بن فهر القرشي الفهري ...
ذكره ابن إسحاق وغيره في مهاجرة الحبشة وقال البلاذري أقام بها حتى قدم مع جعفر بن أبي طالب. [الإصابة 4/ 222] .(2/403)
عمار بن ياسر بن عامر العنسي- بالنون- أبو اليقظان. اختلف في هجرته إلى الحبشة قال السهيلي: والأصح عند أهل السير كابن عقبة والواقدي وغيرهما إنه لم يكن فيهم.
عمرو بن رئاب بن حذيفة السهمي.
عمرو بن أمية بن الحارث الأسدي. مات بأرض الحبشة [ (1) ] .
عمرو بن جهم بن قيس العبدري [ (2) ] .
عمرو بن الحارث بن زهير الفهري [ (3) ] .
عمرو بن سعيد بن العاصي القرشي الأموي [ (4) ] .
عمرو بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد التيمي عم طلحة [ (5) ] .
عمرو بن أبي سرح [ (6) ]- بسين فراء ساكنة فحاء مهملات- ابن ربيعة الفهري.
عمير بن رئاب [ (7) ]- براء مكسورة فمثناة تحتية مهموزة- فموحدة- ابن حذيفة القرشي السّهمي.
عيّاش- بالمثناة التحتية والشين المعجمة- ابن أبي ربيعة [ (8) ] واسمه عمرو بن المغيرة القرشي المخزومي.
عياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة القرشي الفهري
[ (9) ] .
__________
[ (1) ] عمرو بن أمية بن الحرث بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي ... ذكره الواقدي والطبري وغيرهما فيمن هاجر إلى أرض الحبشة ومات بها. [الإصابة 4/ 285] .
[ (2) ] عمرو بن جهم بن قيس بن عبد شراحيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي العبدري ... ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى الحبشة. [الإصابة 4/ 291] .
[ (3) ] عمرو بن الحارث بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال الفهري يكنى أبا نافع وقيل اسمه جابر ... ذكره ابن إسحاق في مهاجرة الحبشة وذكره هو وموسى بن عقبة فيمن شهد بدرا. [الإصابة 4/ 291] .
[ (4) ] عمرو بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ... يكنى أبا عقبة القرشي الأموي وقال ابن منده كان من مهاجرة الحبشة قتل بأجنادين في خلافة أبي بكر قال ابن إسحاق لا عقب له. [الإصابة 4/ 300] .
[ (5) ] عمرو بن عثمان بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمي ... ذكره ابن إسحاق في مهاجرة الحبشة وأمه هند بنت الشاع الليثية وقال البلاذري وغيره استشهد بالقادسية سنة خمس عشرة وليس له عقب. [الإصابة 5/ 7] .
[ (6) ] عمرو بن أبي سرح بفتح المهملة ثم السكون وآخره مهملة ابن ربيعة بن هلال بن مالك بن ضبة بن الحرث بن فهر الفهري يكنى أبا سعد ... ذكره موسى بن عقبة وابن إسحاق فيمن هاجر إلى الحبشة وفيمن شهد بدرا مات سنة ثلاثين في خلافة عثمان. [الإصابة 4/ 299] .
[ (7) ] عمير بن رئاب بكسر الراء وتحتانية مثناة مهموزة ابن حذيفة بن مهشم بن سعيد بالتصغير ابن سهم القرشي السهمي ...
كذا نسبه ابن إسحاق والجمهور. [الإصابة 5/ 32] .
[ (8) ] عياش بن أبي ربيعة واسمه عمرو ويلقب ذا الرمحين ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي المخزومي ابن عم خالد بن الوليد بن المغيرة ... وكان من السابقين الأولين وهاجر الهجرتين مات سنة خمس عشرة بالشام في خلافة عمر وقيل استشهد باليمامة وقيل باليرموك. [الإصابة 5/ 47] .
[ (9) ] عياض بن زهير بن أبي شداد بن ربيعة بن هلال بن ضبة بن الحرث بن فهر القرشي الفهري ... ذكره موسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق وغيرهما فيمن هاجر إلى الحبشة وفي من شهد بدرا. [الإصابة 5/ 49] .(2/404)
الفاء
فراس- بالسين المهملة- ابن النضر بن الحارث العبدري
[ (1) ] .
القاف
قدامة بن مظعون بن حبيب القرشي الجمحي [ (2) ] .
قيس بن حذافة بن قيس القرشي السهمي [ (3) ] .
قيس بن عبد الله الأسدي
[ (4) ] .
الميم
مالك بن زمعة بن قيس العامري أخو أم المؤمنين سودة [ (5) ] .
محمد بن حاطب بن الحارث القرشي الجمحي [ (6) ] .
محمية- بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الميم الثانية بعدها مثناة تحتية مفتوحة- ابن جزء- بفتح الجيم وسكون الزاي ثم همزة- ابن عبد يغوث الزّبيدي- بضم الزاي وبالدال المهملة.
مصعب بن عمير بن هاشم العبدري، ويقال إنه أول من هاجر إليها.
المطّلب بن أزهر بن عبد عوف القرشي الزهري [ (7) ] .
__________
[ (1) ] فراس بن النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي العبدري يكنى أبا الحرث ...
ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى الحبشة وقتل يوم اليرموك شهيدا. [الإصابة 5/ 205] .
[ (2) ] قدامة بن مظعون بن حبيب بن وهيب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي أخو عثمان يكنى أبا عمرو ... كان أحد السابقين الأولين هاجر الهجرتين وشهد بدرا قال البخاري له صحبة وقال ابن السكن يكنى أبا عمرو أسلم قديما وكان تحته صفية بنت الخطاب أخت عمر مات سنة ست وثلاثين في خلافة علي وهو ابن ثمان وستين سنة وحكى ابن حبان فيه قولا آخر فقال: يقال إنه مات سنة سنت وخمسين. [الإصابة 5/ 232، 233، 234] .
[ (3) ] قيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم القرشي السهمي ... ذكره ابن إسحاق في مهاجرة الحبشة وكذا ذكره الواقدي قال وقدم بعد ذلك مكة وهاجر إلى المدينة. [الإصابة 5/ 249] .
[ (4) ] قيس بن عبد الله الأسدي ... ذكره موسى بن عقبة فيمن هاجر إلى الحبشة وكانت ابنته آمنة ظئر أم حبيبة زوج النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم وكان هو ظئر عبيد الله بن جحش زوج أم حبيبة الذي تنصر في الحبشة وقال ابن سعد كان قديم الإسلام بمكة وهاجر في الثانية إلى الحبشة ومعه امرأته بركة بنت يسار. [الإصابة 5/ 260] .
[ (5) ] مالك بن زمعة بن قيس بن عبد شمس العامري أخو سودة أم المؤمنين ... كان من مهاجرة الحبشة الهجرة الثانية ومعه امرأته عميرة بنت السعدي بن وقدان. [الإصابة 6/ 25]
[ (6) ] محمد بن حاطب بن الحرث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بين جمح أبو القاسم القرشي الجمحي وقيل أبو إبراهيم وقيل أبو وهب أمه أم جميل بنت المجلل العامرية ... [الإصابة 6/ 52] .
[ (7) ] المطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري ابن عم عبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف ... ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى الحبشة قال فمات بها. [الإصابة 6/ 104] .(2/405)
معبد بن الحارث بن قيس القرشي السهمي، ويقال اسمه معمر [ (1) ] .
معتّب بن عوف، يعرف بابن الحمراء الخزاعي [ (2) ] .
معمر بن الحارث. تقدّم في معبد.
معمر بن عبد الله بن نضلة [ (3) ] ، ويقال ابن عبد الله، بن نافع بن نضلة العدوى.
معيقيب- بميم مضمومة فعين مهملة مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فقاف مكسورة فمثناة تحتية فموحدة- ابن فاطمة الدوسى- بفتح الدال المهملة وسكون الواو.
المقداد بن الأسود الكندي. تبنّاه الأسود بن عبد يغوث الزهري وهو حليف له فنسب إليه وهو المقداد بن عمرو بن ثعلبة بن مالك البهراني- بفتح الموحدة وسكون الهاء وقبل ياء النسب نون.
النون
نبيه بن عثمان بن ربيعة القرشي الجمحي [ (4) ] .
النعمان بن عدي بن نضلة العدوي
[ (5) ] .
الهاء
هاشم بن أبي حذيفة بن المغيرة القرشي المخزومي، ويقال اسمه هشام [ (6) ] .
هبّار بن سفيان بن عبد الأسد بن هلال القرشي المخزومي [ (7) ] .
هشام بن عتبة. تقدم في هاشم.
__________
[ (1) ] معبد بن الحرث بن قيس بن عدي بن سعيد بن سهم القرشي السهمي ... ذكرها ابن إسحاق في مهاجرة الحبشة.
[الإصابة 6/ 127] .
[ (2) ] معتب بن عوف المعروف بابن الحمراء الخزاعي ... ذكره ابن إسحاق فيمن هاجر إلى الحبشة وفيمن شهد بدرا قال ابن البرقي يقال له ابن الحمراء ويقال له ميعانة. [الإصابة 6/ 122] .
[ (3) ] معمر بن عبد الله بن نضلة بن نافع بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي القرشي العدوي ... أسلم قديما وهاجر الهجرتين وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم وعن عمر روى عنه سعيد بن المسيب وبشر بن سعيد وعبد الرحمن بن جبير وعبد الرحمن بن عقبة مولاه. [الإصابة 6/ 127/ 128.
[ (4) ] نبيه بن عثمان بن ربيعة بن وهب بن حذافة بن جمح القرشي الجمحي ... ذكره الواقدي فيمن هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية قال وكان قديم الإسلام. [الإصابة 6/ 243] .
[ (5) ] النعمان بن عدي بن نضلة العدوي انظر ترجمته في الإصابة 6/ 243.
[ (6) ] هشام بن أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي. ذكره ابن إسحاق والزبير بن بكار فيمن هاجر إلى الحبشة وسماه الواقدي هاشما. [الإصابة 6/ 285] .
[ (7) ] هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشي الأسدي أمه فاختة بنت عامر بن قرظة القشيرية وأخواه لأمه حزن وهبيرة ابنا أبي وهب المخزوميان ... [انظر الإصابة 6/ 279] .(2/406)
هشام بن العاصي بن وائل بن هاشم [ (1) ] أخو عمرو.
الياء
يزيد بن زمعة بن الأسود القرشي الأسدي [ (2) ] .
يسار أبو فكيهة أحد المعذّبين في اللَّه.
الكنى
أبو الرّوم- بالراء- ابن عمير بن هاشم العبدري أخو مصعب.
أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى القرشي العامري [ (3) ] .
أبو سلمة بن عبد الأسد هو عبد الله [ (4) ] .
أبو عبيدة بن الجراح هو عامر بن عبد الله أبو فكيهة- بضم الفاء وفتح الكاف- هو يسار.
أبو قيس بن الحارث بن قيس بن عديّ السّهمي
[ (5) ] .
النساء
أسماء بنت عميس- بعين مهملة مضمومة فميم مفتوحة فمثناة تحتية ساكنة فسين مهملة- ابن معد- بميم مفتوحة فعين مهملة ساكنة وزن سعد- ابن الحارث الخثعمية.
أمينة: تأتي في همينة.
بركة بنت يسار مولاة أبي سفيان بن حرب.
حريملة بنت عبد الأسود [ (6) ] الخزاعية. ماتت بأرض الحبشة ويقال في اسمها حرملة بغير ياء.
__________
[ (1) ] انظر ترجمته في الإصابة 6/ 286.
[ (2) ] يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى القرشي الأسدي أمه قرينة بنت أبي أمية أخت أم سلمة ...
وكان من السابقين هاجر إلى أرض الحبشة قاله ابن الكلبي. [الإصابة 6/ 340] .
[ (3) ] أبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود بن نضر بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي القرشي العامري ... أحد السابقين إلى الإسلام وهاجر إلى الحبشة في الثانية ومعه أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو وشهد بدرا في قول جميعهم وأمّه برّة بنت عبد المطلب عمة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إلى أن مات في خلافة عثمان قال الزبير لا نعلم أحدا من أهل بدر رجع إلى مكة فسكنها غيره. [الإصابة 7/ 81] .
[ (4) ] أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المخزومي ... أحد السابقين إلى الإسلام اسمه عبد الله. [الإصابة 7/ 90] .
[ (5) ] أبو قيس بن الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم القرشي ... كان من السابقين إلى الإسلام ومن مهاجرة الحبشة شهد أحدا وما بعدها. [الإصابة 7/ 157، 158] .
[ (6) ] حريملة بنت عبد الأسود بن جذيمة بن قيس بن بياضة بن سبيع الخزاعية ... ماتت بأرض الحبشة كذا ذكرها الطبري وأوردها ابن عبد البر وقال ابن سعد حرملة بغير تصغير أسلمت قديما وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جهم بن قيس فولدت له عبد الله وعمرا وحرملة فكانت تكنى أم حرملة فهلكت هناك. [الإصابة 8/ 51] .(2/407)
حسنة بلفظ ضد السّيئة أم شرحبيل.
خزيمة بنت جهم بن قيس العبدريّة [ (1) ] .
رقيّة- بضم الراء وفتح القاف وتشديد المثناة التحتية- بنت سيد الخلائق. وذكر ابن قدامة أن نفرا من الحبش كانوا ينظرون إليها فتأذّت من ذلك فدعت عليهم فهلكوا جميعا.
رملة بنت أبي عوف القرشية السهمية [ (2) ] .
ريطة- بفتح الراء وسكون المثناة التحتية- بنت الحارث بن جبلة القرشية التميمية ويقال في اسمها رايطة.
سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشية العامرية [ (3) ] .
سودة بنت زمعة بن قيس القرشية العامرية أم المؤمنين.
عميرة- ويقال عمرة- بنت أسعد بن وقدان- بفتح الواو وسكون القاف القرشية العامرية.
فاطمة بنت صفوان بن أمية [ (4) ] .
فاطمة بنت علقمة بن عبد الله القرشية العامرية [ (5) ] .
فاطمة بنت المجلّل بضم الميم وفتح الجيم واللام المشددة- ابن عبد الله القرشية العامرية.
فكيهة بنت يسار السابق.
ليلى بنت أبي خيثمة بن غانم العدوية.
همينة بنت خلف بن أسعد الخزاعية ويقال في اسمها أمينة [ (6) ] .
__________
[ (1) ] خزيمة بنت جهم بن قيس العبدرية ... هاجرت مع أبيها وأمها خولة بنت الأسود أم حرملة إلى أرض الحبشة قاله أبو عمر. [الإصابة 8/ 64] .
[ (2) ] رملة بنت أبي عوف بن صبرة بن سعيد بن سهم زوج المطلب بن أزهر بن عوف الزهري ... ذكرها ابن إسحاق في تسمية من أسلم من أهل مكة وهاجر إلى الحبشة قال وولدت المطلب بن أزهر بن عوف الزهري هناك عبد الله بن المطلب قال: يقال إنه أول من ورث أباه في الإسلام. [الإصابة 8/ 86] .
[ (3) ] سهلة بنت سهيل بن عمرو القرشية العامرية. [انظر الإصابة 8/ 115] .
[ (4) ] فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرث بن حمل بن شق بن رقية بن محرج الكنانية امرأة عمرو بن أبي احيحة سعيد بن العاص ... ذكرها ابن إسحاق في تسمية من هاجر من بني أمية إلى الحبشة فقال وعمرو بن سعيد ومعه امرأته فاطمة بنت صفوان الكنانية وماتت بها. [الإصابة 8/ 162] .
[ (5) ] فاطمة بنت علقمة بن عبد الله بن أبي قيس أم قهطم العامرية ... هاجرت مع زوجها سليط بن عمرو إلى الحبشة فولدت له سليط بن سليط ... [الإصابة 8/ 164] .
[ (6) ] همينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبع الخزاعية ... قال ابن سعد أسلمت قديما وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها خالد بن سعيد فولدت له هناك سعيدا وأمية فتزوج ابن الزبير بعد أمية. [الإصابة 8/ 202] .(2/408)
هند بنت أبي أمية [ (1) ]- واسمه حذيفة، وقيل سهل بن المغيرة- القرشية المخزومية، أم المؤمنين أم سلمة.
أم حرملة بنت عبد الأسود بن خزيمة الخزاعية [ (2) ] .
أم كلثوم بنت سهيل بن عمرو القرشية العامرية.
من ولد بأرض الحبشة
عبد الله وعون ومحمد أولاد جعفر بن أبي طالب من أسماء بنت عميس.
سعيد وأمة- بفتح الهمزة والميم بغير إضافة- ابنا خالد بن سعيد من أمية بنت خلف.
عبد الله بن المطلب من رملة بنت أبي عوف.
محمد بن أبي حذيفة من سهلة بنت سهيل.
محمد والحارث ابنا حاطب من فاطمة بنت المجلّل.
روى الإمام أحمد والطبراني برجال الصحيح عن محمد بن حاطب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إني قد رأيت أرضا ذات نخل فاخرجوا. قال: فخرج حاطب وجعفر في البحر قبل النجاشي. قال: فولدت أنا في البحر في تلك السفينة.
موسى وعائشة وزينب أولاد الحارث بن خالد من ريطة.
__________
[ (1) ] هند بنت أبي أمية واسمه حذيفة وقيل سهل بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشية المخزومية أم المؤمنين أم سلمة مشهورة بكنيتها معروفة باسمها وكان أبوها يلقب زاد الراكب لأنه كان أحد الأجواد فكان إذا سافر لم يحمل أحد معه من رفقته زادا بل هو كان يكفيهم وأمها عاتكة بنت عامر كنانية من بني فراس وكانت تحت أبي سلمة بن عبد الأسد وهو ابن عمها ... وهاجرت معه إلى الحبشة ثم هاجرت إلى المدينة فيقال إنها أول ظعينة دخلت إلى المدينة مهاجرة ولما مات زوجها من الجراحة التي أصابته خطبها النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال الواقدي: ماتت في شوال سنة تسع وخمسين وصلى عليها أبو هريرة ولها أربع وثمانون سنة. [الإصابة 8/ 203، 204] .
[ (2) ] أم حرملة بنت عبد الأسود بن خزيمة بن أقش بن عامر بن بياضة الخزاعية. [الإصابة 8/ 223] .(2/409)
الباب العشرون في إرادة أبي بكر رضي الله عنه الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة
قالت عائشة رضي اللَّه عنها: لم أعقل أبويّ قط إلا وهما يدينان الدّين، ولم يمرّ علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم في النهار بكرة وعشية، فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدّغنّة وهو سيّد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي عز وجل- فقال ابن الدغنّة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج [ولا يخرج] إنك تكسب المعدوم وتصل الرحم وتحمل الكلّ وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار فارجع واعبد ربّك ببلدك.
وكان مع أبي بكر الحارث بن خالد، فقال أبو بكر: فإن معي رجلا من عشيرتي. فقال له ابن الدغنة: دعه فليمض لوجهه وارجع أنت إلى عيالك. فقال له أبو بكر: فأين حق المرافقة؟ فقال الحارث: أنت في حلّ فامض فإني سأمضي لوجهي مع أصحابي. فمضى حتى صار إلى الحبشة.
فرجع أبو بكر وارتحل معه ابن الدغنّة فطاف ابن الدغنة في أشراف كفار قريش فقال: أن أبا بكر لا يخرج مثله أتخرجون رجلا يكسب المعدوم ويصل الرحم ويحمل الكلّ ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق؟! فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدغنة. وفي رواية: فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة وآمنوا أبا بكر وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربّه في داره وليصلّ فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا. فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر.
فلبث أبو بكر كذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته ولا يقرأ في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره فكان يصلّي فيه فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلا بكّاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين وأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن بالصلاة والقراءة، وإنا قد خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فأته فإن أحبّ أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبي إلا أن يعلن بذلك فسله أن يردّ عليك ذمّتك فإنا قد كرهنا أن نخفرك ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان.
فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه، فإما أن تقتصر(2/410)
على ذلك وإما أن ترجع إليّ ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. فقال أبو بكر: فإني أردّ إليك جوارك وأرضى بجوار اللَّه تعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني أريت دار هجرتكم بسبخة ذات نخل بين لابتين، وهما الحرّتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر: هل ترجو ذلك؟ قال: نعم [ (1) ] .
وسيأتي بقية الحديث في باب الهجرة إلى المدينة.
رواه البخاري والبلاذريّ وغيرهما.
وروى ابن إسحاق عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: لقيه- يعني أبا بكر الصديق- حين خرج من جوار ابن الدغنة سفيه من سفهاء قريش وهو عامد إلى الكعبة فحثا على رأسه ترابا فمرّ بأبي بكر الوليد بن المغيرة أو العاصي بن وائل فقال له أبو بكر: ألا ترى ما يصنع هذا السفيه؟ فقال: أنت صنعت هذا بنفسك. قال وهو يقول: أي ربّ ما أحلمك، أي رب ما أحلمك، أي رب ما أحلمك! ثلاثا.
تنبيه في بيان غريب ما سبق
الدّين: بالنصب على نزع الخافض أي يدينان بدين الإسلام، أو هو مفعول به على التجوز.
ابتلي المسلمون: أي بأذى المشركين لما حصروا بني هاشم والمطلب في شعب أبي طالب وأذن النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه في الهجرة إلى الحبشة.
برك- بباء موحدة مفتوحة وتكسر فراء ساكنة فكاف. الغماد بغين معجمة مكسورة وقد تضم فميم مخففة فألف فدال مهملة: موضع على خمس ليال من مكة.
ابن الدّغنّة- بدال مهملة فغين مضمومتين فنون مشددة عند أهل اللغة، وعند أهل الرواية: بفتح أوله وكسر ثانيه وتخفيف النون. وثبت بالتخفيف والتشديد عند بعض رواة الصحيح وهي أمّه وقيل أم أبيه ومعنى الدغنّة: المسترخية، وأصلها الغمامة الكثيرة المطر.
واختلف في اسمه فقال الزهري، كما رواه البلاذري: الحارث بن يزيد. وحكى السّهيلي أن اسمه مالك.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 5/ 75 وانظر البداية والنهاية 3/ 184.(2/411)
القارة- بالقاف وتخفيف الراء- وهي قبيلة مشهورة من بني الهون- بالضم والتخفيف- ابن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر، ويضرب بهم المثل في قوة الرّمي. قال الشاعر:
قد أنصف القارة من راماها
أسيح- بسين وحاء مهملتين بينهما مثناة تحتية: أسير.
لا يخرج مثله. بفتح أوله أي من وطنه باختياره على نية الإقامة في غيره مع ما فيه من النفع المتعدّي لأهل بلده ولا يخرج بضم أوله أي ولا يخرجه أحد بغير اختياره للمعنى المذكور.
فلم تكذّب قريش: أي لم تردّ عليه قوله في أمان أبي بكر، وكل من كذّبك فقد ردّ عليك قولك، فأطلق التكذيب وأراد لازمه.
بجوار- بكسر الجيم وضمها وآخره راء.
الفناء- بكسر الفاء وتخفيف النون: سعة أمام البيت وقيل ما امتد من جوانبه.
بدا- ظهر له رأي غير الأول.
يتقصّف [ (1) ] : بمثناة تحتية فمثناة فوقية فقاف فصاد مهملة مشددة مفتوحتين: يزدحمون عليه حتى يسقط بعضهم على بعض فيكاد ينكسر، وأطلق يتقصّف مبالغة.
بكّاء: بالتشديد: كثير البكاء.
ذمتك: أمانك.
نخفرك [ (2) ]- بضم أوله وبالخاء المعجمة وبالفاء.
مقرّين لأبي بكر الاستعلان: أي لا نسكت عن الإنكار عليه للمعنى الذي ذكروه.
بجوار اللَّه: أي أمانه وحمايته.
قبل المدينة- بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة المدينة.
على رسلك: بكسر الراء: أي على مهلك، والرّسل السير الرفيق.
ودل قول أبي بكر رضي اللَّه عنه: ما أحلمك على جواز قول: ما أعظم اللَّه. وقد بسطت الكلام على ذلك في كتاب «رياض الأبرار في الدعوات والأذكار» واللَّه أعلم.
__________
[ (1) ] اللسان 4/ 3654.
[ (2) ] لسان العرب 2/ 1209.(2/412)
الباب الحادي والعشرون في نقض الصحيفة الظالمة
قال ابن إسحاق: ثم إنه قام في نقض الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني هاشم وبني المطلب جماعة من قريش، ولم يبل فيها بلاء أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن الحارث رضي اللَّه عنه. وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه، فكان هشام لبني هاشم واصلا، وكان ذا شرف في قومه فكان يأتي ليلا بالبعير قد أوقره طعاما بالليل وبنو هاشم وبنو المطلب بالشّعب حتى إذا أقبله فم الشّعب قلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فيدخل عليهم الشعب، ويأتي بالبعير وقد أوقره برّا فيفعل مثل ذلك.
قال ابن سعد: وكان أوصل قريش لبني هاشم حين حصروا في الشعب، أدخل عليهم في ليلة ثلاثة أحمال طعاما، فعلمت بذلك قريش فمشوا إليه حين أصبح فكلّموه في ذلك فقال: إني غير عائد لشيء خالفكم. فانصرفوا عنه. ثم عاد الثانية فأدخل عليهم ليلا حملا أو حملين فغالظته قريش وهمّت به. فقال أبو سفيان بن حرب: دعوه، رجل وصل أهل رحمه، أما إني أحلف باللَّه لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا.
ثم إن هشاما مشى إلى زهير بن أبي أمية رضي اللَّه عنه، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال له: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت لا يبايعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟ أما إني أحلف باللَّه أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه. فقال: ويحك يا هشام فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد واللَّه لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها. قال: قد وجدت رجلا. قال: من هو؟ قال: أنا: فقال له زهير: ابغنا رجلا ثالثا.
فذهب إلى المطعم بن عدي فقال له: يا مطعم أرضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه؟ أما واللَّه لئن مكّنتموهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم سراعا. فقال: ويحك فماذا أصنع إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانيا. قال:
من هو؟ قال: أنا. قال: ابغنا ثالثا. قال: قد فعلت. قال: من هو؟ قال زهير بن أبي أمية. قال: ابغنا رابعا.
فذهب إلى أبي البختريّ بن هشام فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدي فقال: وهل أحد يعين على هذا الأمر؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: زهير بن أمية والمطعم بن عديّ وأنا معك. قال: ابغنا خامسا.
فذهب إلى زمعة بن الأسود فكلّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم فقال: وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد؟ قال: نعم وسمّى له القوم.(2/413)
وعند الزبير بن أبي بكر: أن سهيل ابن بيضاء الفهري هو الذي مشى إليهم في ذلك، ويؤيده قول أبي طالب في قصيدته الآتية:
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا
وزاد ابن سعد في الجماعة: عديّ بن قيس. وأسلم منهم هشام وزهير وسهيل وعديّ ابن قيس.
فاتّعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك، فأجمعوا أمرهم وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤكم فأكون أول من يتكلم.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير وعليه حلّة فطاف بالبيت ثم أقبل علي الناس فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم؟ واللَّه لا أقعد حتى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
فقال أبو جهل، وكان في ناحية المسجد: كذبت واللَّه لا تشقّ.
قال زمعة بن الأسود: أنت واللَّه أكذب ما رضينا كتابتها حين كتبت.
قال أبو البختريّ: صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها ولا نقرّ به.
قال المطعم: صدقتما وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى اللَّه منها ومما كتب فيها.
وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك.
فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل تشوور فيه في غير هذا المكان.
وأبو طالب جالس في ناحية المسجد.
وقال المطعم بن عدي إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا: «باسمك اللهم» كما تقدم.
قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما: إنهم مكثوا محصورين في الشّعب ثلاث سنين.
رواه أبو نعيم.
وقال محمد بن عمر الأسلمي: سألت محمد بن صالح وعبد الرحمن بن عبد العزيز:
متى خرج بنو هاشم من الشعب؟ قالا: في سنة عشر يعني من المبعث قبل الهجرة بثلاث سنين.
وقال صاعد في الفصوص: أنه صلى الله عليه وسلم خرج من الشعب وله تسع وأربعون سنة قال ابن إسحاق: فلما مزّقت الصحيفة وبطل ما فيها قال أبو طالب فيما كان من أمر أولئك النفر الذين قاموا في نقضها يمدحهم:(2/414)
ألا هل أتى بحريّنا صنع ربّنا ... على نأيهم واللَّه بالنّاس أرود
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه اللَّه مفسد
ترواحها إفك وسحر مجمّع ... ولم يلف سحر آخر الدّهر يصعد
فمن ينس من حضّار مكّة عزّة ... فعزّتنا في بطن مكّة أتلد
نشأنا بها والنّاس فيها قلائل ... فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد
ونطعم حتّى يترك النّاس فضلهم ... إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
جزى اللَّه رهطا بالحجون تتابعوا ... على ملاء يهدي لحزم ويرشد
قعود لدى خطم الحجون كأنّهم ... مقاولة بل هم أعزّ وأمجد
أعان عليها كلّ صقر كأنّه ... إذا ما مشى في رفرف الدّرع أحرد
جريء على جلّى الخطوب كأنّه ... شهاب بكفّي قابس يتوقّد
من الأكرمين من لؤي بن غالب ... إذا سيم خسفا وجهه يتربّد
ألظّ بهذا الصّلح كلّ مبرّأ ... عظيم اللّواء أمره ثمّ يحمد
قضوا ما قضوا في ليلهم ثمّ أصبحوا ... على مهل وسائر النّاس رقّد
هم رجعوا سهل بن بيضاء راضيا ... وسرّ أبو بكر بها ومحمّد
متى شرك الأقوام في جلّ أمرنا ... وكنّا قديما قبلها نتودّد
فيا لقصيّ هل لكم في نفوسكم ... وهل لكم فيما يجيء به عد
فإنّي وإيّاكم كما قال قائل ... لديك بيان لو تكلّمت أسود
[ (1) ]
[تفسير الغريب]
البحريّ: هنا يراد به من كان هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر.
نأيهم: بعدهم. أرود: أرفق.
يراوحها بمثناة تحتية فراء فألف فواو فحاء مهملة أي تعتمد على الإفك مرة وعلى السّحر المجمع أخرى.
يلف: بالفاء: يوجد.
فمن ينس: أراد ينسى فحذف الألف.
أتلد: أقدم.
الخير: الكرم.
__________
[ (1) ] انظر الروض الأنف 2/ 124، 125 والبداية والنهاية 3/ 97، 98.(2/415)
المفيضون [ (1) ] : بميم مضموم ففاء مكسورة فمثناة تحتية فضاد معجمة: المراد بهم ها هنا: الضاربون بقداح الميسر، وكان لا يفيض معهم في الميسر إلا سخيّ.
الحجون: بحاء مهملة مفتوحة فجيم مضمومة: موضع بأعلى مكة.
خطم الحجون: قال في الصحاح الخطمة بالضم: رعن الجبل أي أنفه المتقدم. وقال في موضع آخر: أنف كل شيء أوله وأنف الجبل بارز يشخص منه.
الرّهط: بسكون الهاء وتحريكها دون العشرة من الرجال ليس فيهم امرأة أو منها إلى الأربعين.
الملأ: جماعة الناس وأشرفهم.
المقاولة: الملوك.
رفرف الدرع: ما فضل من درعها.
أحرد: بالحاء والدال المهملتين: بطيء المشي لثقل الدرع التي عليه.
جلّ الخطوب: معظمها ويروي جلّى وهي الأمر العظيم.
قابس: موقد.
سيم: بكسر أوله كلّف.
الخسف: بالخاء المعجمة والسين المهملة: الذل.
يتربّد: بالراء والباء الموحدة: يتغير إلى السواد.
ألظّ [ (2) ] : لزم ولحّ.
أسود: قال الخشني اسم رجل وأراد يا أسود، وهو مثل يضرب للقادر على الشيء ولا يفعله. وقال السهيلي: هو هنا اسم جبل كان قتل عنده قتيل لم يعرف قاتله، فقال أولياء المقتول هذه المقالة، يعنون بها أن هذا الجبل لو تكلّم لأبان عن القاتل ويعرف الجاني، ولكنه لا يتكلم فذهبت مقالتهم مثلا.
__________
[ (1) ] لسان العرب 45/ 3501.
[ (2) ] انظر المعجم الوسيط 2/ 827.(2/416)
الباب الثاني والعشرون في إسلام الطّفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه
روى ابن سعد عن أبي عون الدّوسي، والبيهقي عن ابن إسحاق، وابن جرير وأبو الفرج الأموي عن العباس بن هشام، عن أبيه إن الطفيل بن عمرو حدّث أنه قدم مكة ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بها، فمشى إليه رجال من قريش، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا فقالوا له: يا طفيل إنك قدمت بلادنا وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا وفرّق جماعتنا وشتّت أمرنا، وإنما قوله كالسّحر يفرّق بين المرء وأبيه وبين الرجل وأخيه وبين الرجل وزوجته، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما دخل علينا فلا تكلّمه ولا تسمع منه.
قال: فو اللَّه ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلّمه وحتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله.
فغدوت إلى المسجد فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قائم يصلي عند الكعبة فقمت قريبا منه، فأبى اللَّه تعالى إلا أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاما حسنا فقلت في نفسي: أني لرجل لبيب شاعر ما يخفى عليّ الحسن من القبيح، فما يمنعني من أن أسمع من هذا الرجل ما يقول، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلت وإن كان قبيحا تركت؟
فمكثت حتى انصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فتبعته فقلت: إنّ قومك قد قالوا لي كذا وكذا، وإني شاعر فاسمع ما أقول.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم هات. فأنشدته. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: وأنا أقول فاسمع. ثم قرأ:
أعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إلى آخرها وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ إلى آخرها وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ إلى آخرها وعرض عليّ الإسلام فلا واللَّه ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه فأسلمت وقلت: يا نبي اللَّه إني امرء مطاع في قومي، وإني راجع إليهم فداعيهم إلى الإسلام فادع اللَّه أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم. فقال: اللهم اجعل له آية.
فخرجت إلى قومي في ليلة مطيرة ظلماء حتى إذا كنت بثنيّة تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح. فقلت: اللهم في غير وجهي إني أخشى أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي فتحوّل فوقع في رأس سوطي كالقنديل المعلّق، وأنا أهبط عليهم من الثنيّة حتى جئتهم فلما نزلت أتاني أبي فقلت: إليك عني يا أبت فلست مني ولست منك. فقال: لم يا بني؟ فقلت: قد أسلمت وتابعت دين محمد. أي بنيّ فديني دينك. فقلت: اذهب فاغتسل وطهّر ثيابك ففعل ثم جاء، فعرضت عليه الإسلام فأسلم. ثم أتتني صاحبتي فقلت:(2/417)
إليك عنّي فلست منك ولست منّي قالت: ولم بأبي أنت وأمي؟ قلت: فرّق بيني وبينك الإسلام وتابعت دين محمد قالت: فديني دينك. فقلت: اذهبي فتطهّري ففعلت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت ولم تسلم أمي. ثم دعوت دوسا فأبطئوا عليّ ثم جئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي اللَّه إنه قد غلبني على دوس الزّنا فادع اللَّه عليهم. فقال: اللهم اهد دوسا وائت بهم. ارجع إلى قومك وارفق بهم
[ (1) ] .
فرجعت فلم أزل بأرض قومي أدعوهم حتى هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، ومضى بدر وأحد والخندق فقدمت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمن أسلم ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيبر، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.
وقال الطّفيل لمّا أسلم:
ألا بلّغ لديك بني لؤيّ ... على الشّنآن والغضب المردّي
بأنّ اللَّه ربّ النّاس فرد ... تعالى جدّه عن كلّ ندّ
وأنّ محمّدا عبد رسول ... دليل هدى وموضح كلّ رشد
رأيت له دلائل أنبأتني ... بأنّ سبيله يهدي لقصد
وأنّ اللَّه جلّله بهاء ... وأعلى جدّه في كل جدّ
وقالت لي قريش عدّ عنه ... فإنّ مقاله كالغرّ يعدي
فلمّا أن أملت إليه سمعي ... سمعت مقاله كمشهور شهد
وألهمني هدايا اللَّه عنه ... وبدّل طالعي نحسي بسعدي
ففزت بما حباه اللَّه قلبي ... وفاز محمّد بصفاء ودّي
تفسير الغريب
أعضل بنا: أي اشتد أمره، يقال أعضل الأمر إذا اشتد ولم يوجد له وجه منه الداء المعضل.
الكرسف: بضم الكاف وإسكان الراء وضم السين المهملة ففاء وهو القطن.
الثنيّة: الطريق في الجبل.
الحاضر: القوم النازلون على الماء.
أبطأوا: بهمزة مضمومة آخره أي تأخروا.
__________
[ (1) ] أخرجه ابن سعد 4/ 179.(2/418)
الباب الثالث والعشرون في قصتي الأراشيّ والزّبيديّ اللذين ابتاع أبو جهل إبلهما
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي وكان واعية، قال: قدم رجل من إراش بإبل له فابتاعها منه أبو جهل بن هشام، فمطله بأثمانها، فأقبل حتى وقف على نادي قريش ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام؟ فإني غريب وابن سبيل وقد غلبني على حقّي. فقال له أهل ذلك المجلس: أترى ذلك الرجل- لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم- يهزؤون به لما يعلمون بينه وبين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم من العداوة، اذهب إليه فهو يعينك عليه.
فأقبل الإراشيّ حتى وقف على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقام معه فلما قام معه قالوا لرجل ممن معهم: اتبعه فانظر ماذا يصنع. وخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ قال محمد. فاخرج إليّ. فخرج إليه وما في وجهه من رائحة فقد انتقع لونه، فقال: أعط هذا حقّه. قال: نعم لا تبرح حتى أعطيه الذي له. فدخل ثم خرج إليه بحقه فدفعه إليه.
فأقبل الإراشيّ حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه اللَّه خيرا فقد واللَّه أخذ لي بحقي.
وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا: ويحك ماذا رأيت؟ قال: رأيت عجبا من العجب! واللَّه ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال: أعط هذا حقّه. قال: نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقّه فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه.
ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء فقالوا: ويلك مالك؟ واللَّه ما رأينا مثل ما صنعته قط. قال:
ويحكم واللَّه ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي فسمعت صوته فملئت رعبا ثم خرجت إليه وإنّ فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، واللَّه لو أبيت لأكلني.
تفسير الغريب
الإراشي هذا: اسمه كهلة الأصغر ابن عصام بن كهلة الأكبر ينسب إلى جد له اسمه إراشة.
قال الرشاطيّ: رأيته بخط عبد الغني بن سعيد بفتح الهمزة، وضبطه ابن الأثير بكسرها في جامعه.
من رائحة أي بقية روح قال السهيلي: فكأن معناه روح باقية.(2/419)
انتقع لونه مبني للمفعول: أي تغير لونه.
هامته: بتخفيف الميم: الرأس. قصرته أصل عنقه.
وروى محمد بن عمر الأسلمي عن يزيد بن رومان، وأبو نعيم عن أبي يزيد المدني، وأبى فرعة الباهليّ، إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم بينما هو جالس في المسجد معه رجال من أصحابه إذ أقبل رجل من زبيد يقول: يا معشر قريش كيف تدخل عليكم المادّة أو يجلب إليكم جلب أو يحلّ تاجر بساحتكم وأنتم تظلمون من دخل عليكم في حرمكم؟ يقف على الحلق حلقة حلقة، حتى انتهى إلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أصحابه. فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ومن ظلمك؟
فذكر أنه قد قدم بثلاثة أجمال كانت خير إبله فسامه أبو جهل ثلث أثمانها، ثم لم يسمعه بها لأجل أبي جهل أحد شيئاً ثم قال: فأكسد عليّ سلعتي وظلمني.
قال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: وأين جمالك؟ قال هي هذه بالحزورة. فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وقام أصحابه فنظر إلى الجمال فرأى جمالا فرها فساوم الزّبيدي حتى ألحقه برضاه، فأخذها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فباع جملين منها بالثمن وأفضل بعيرا باعه وأعطى أرامل بني عبد المطلب ثمنه، وأبو جهل جالس في ناحية السوق لا يتكلم ثم أقبل إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو إياك أن تعود لمثل ما صنعت بهذا الأعرابي فترى مني ما تكره فجعل يقول: لا أعود يا محمد لا أعود يا محمد فانصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وأقبل أمية بن خلف ومن حضر فقالوا: ذللت في يدي محمد فإما أن تكون تريد أن تتبعه وإما رعب دخلك منه. فقال: لا أتبعه أبداً إن الذي رأيت مني لما رأيت معه، قد رأيت رجالا عن يمينه وشماله معهم رماح يشرعونها إليّ لو خالفته لكانت إياها. أي لأتوا على نفسي.
تفسير الغريب
زبيد: بزاي مضمومة فباء موحدة مفتوحة.
المادّة: بتشديد الدال.
أو يحل: بضم الحاء أي ينزل.
خير إبله: بتشديد المثناة التحتية وتخفيفها أي أفضلها.
الحزورة: بحاء مهملة مفتوحة فزاي ساكنة فواو فراء مفتوحتين فتاء تأنيث وزن قسورة وتقدم الكلام على ذلك بأبسط مما هنا.
فرها بضم الفاء وإسكان الراء والفارة: الحاذق بالشيء. يشرعونها: أي يميلونها.(2/420)
الباب الرابع والعشرون في وفد النصارى الذين أسلموا
قال ابن إسحاق: ثم قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلا أو قريبا من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه فكلّموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى اللَّه عز وجل وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا للَّه وآمنوا به وصدّقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره.
فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش فقالوا لهم: خيّبكم اللَّه من ركب! بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدّقتموه بما قال؟! ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قالوا لهم.
فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه، لم نأل أنفسنا خيرا.
ويقال إن النفر كانوا من أهل نجران. فاللَّه أعلم أيّ ذلك كان.
فيقال: واللَّه أعلم- إن فيهم نزلت هذه الآيات: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي القرآن. هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ موحّدين. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بإيمانهم بالكتابين بِما صَبَرُوا بصبرهم على العمل بهما وَيَدْرَؤُنَ أي يدفعون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ منهم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يتصدقون وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ الشتم والأذى من الكفار أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ سلام متاركة أي سلمتم منا من الشتم وغيره لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص 52: 55] لا نصحبهم.
قال ابن إسحاق: وقد سألت ابن شهاب الزهري عن هؤلاء الآيات فيمن نزلن فقال لي:
ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في النجاشي وأصحابه. والآيات من سورة المائدة قول اللَّه عز وجل: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى، ذلِكَ أي قرب مودتهم المؤمنين بِأَنَّ أي بسبب أن مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ علماء وَرُهْباناً عبّادا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن اتباع الحق كما يستكبر اليهود وأهل مكة وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ من القرآن تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة 82، 83] الآيات.(2/421)
تفسير الغريب
نجران: بفتح النون وإسكان الجيم: بلدة معروفة، كانت منزلا للنصارى، وهي بين مكة واليمن على نحو سبع مراحل من مكة.
الأندية: جمع ناد وهو متحدّث القوم.
يرتادون لهم: يطلبون لهم الأخبار.
الحمق: بإسكان الميم وضمها: قلّة العقل.
لم نأل أنفسنا خيرا: أي لم نقتصر بها عن بلوغ الخير، يقال ما ألوت، أي ما فعلت كذا وكذا، أي ما قصرت.(2/422)
الباب الخامس والعشرون في سبب نزول أول سورة «عبس»
روى الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن حبان عن عائشة وعبد الرزاق وعبد بن حميد، وأبو يعلى عن أنس وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس، وسعيد بن منصور عن أبي مالك، وابن سعد وابن المنذر عن الضحّاك. وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد، إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لقي رجلا من أشراف قريش فدعاه إلى الإسلام وهو يرجو أن يسلم. قال ابن إسحاق: وهو الوليد بن المغيرة. وقال أنس وأبو مالك: أمية بن خلف. وقالت عائشة ومجاهد: كان في مجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه ناس من وجوه قريش منهم أبو جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف فيقول لهم: أليس حسنا ما جئت به؟ فيقولون بلى واللَّه. وفي رواية هل ترون بما أقول بأسا؟ فيقولون: لا.
فجاء ابن أم مكتوم الأعمى وهو مشتغل بهم فسأله ولم يدر أنه مشغول بذلك وجعل يستقرئه القرآن ويقول: يا رسول اللَّه أرشدني علّمني مما علّمك اللَّه. فشق ذلك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أضجره. وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر أولئك النفر وما طمع فيه من إسلامهم، فلما أكثر على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم انصرف عن ابن أم مكتوم وتركه.
فعاتبه اللَّه تعالى في ذلك فقال عَبَسَ النبي صلى الله عليه وسلّم كلح وجهه وَتَوَلَّى أعرض لأجل أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى عبد الله ابن أم مكتوم.
قال السُّهيلي: وفي ذكره إياه بالعمى من الحكمة والإشارة اللطيفة التنبيه على موضع العتب لأنه قال: أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى فذكر المجيء مع العمى، وذلك كله ينبئ عن تجشّم كلفة ومن تجشّم القصد إليك على ضعفه فحقّك الإقبال عليه لا الإعراض عنه. وفائدة أخرى:
وهي تعليق الحكم بهذه الصفة متى وجدت وجب ترك الإعراض، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم معتوبا على تولّيه عن الأعمى فغيره أحقّ بالعتب.
وَما يُدْرِيكَ يعلمك لَعَلَّهُ أي الأعمى أو الكافر يَزَّكَّى فيه إدغام التاء في الأصل في الزاي أَوْ يَذَّكَّرُ أي يتعظ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى العظة المسموعة منك. وفي قراءة بنصب تنفعه جواب الترجّي.
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى بالمال. فأنت له تصدّى. وفي قراءة بتشديد الصاد وبإدغام الثانية في الأصل فيها، أي تقبل وتتعرّض وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى يؤمن وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى حال من فاعل جاء وَهُوَ يَخْشى اللَّه حال من فاعل يسعى وهو الأعمى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى فيه حذف التاء الأخرى في الأصل أي تتشاغل كَلَّا لا تفعل مثل ذلك.
فلما نزلت هذه الآيات دعاه النبي صلى الله عليه وسلّم فأكرمه، واستخلفه على المدينة ثلاث عشرة(2/423)
مرة كما ذكره أبو عمر. ويأتي بيانها في ترجمته عند ذكر مؤذّنيه صلى الله عليه وسلم، وكان يقول له إذا جاءه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي! ويبسط له رداءه.
تنبيهات
الأول: ما ذكرته عائشة ومجاهد جامع بين الأقوال السابقة في تفسير المبهم.
الثاني: قال الحافظ: لم يختلف السّلف في أن فاعل عَبَسَ النبي صلى الله عليه وسلّم وأغرب الداووديّ فقال: هو الكافر.
الثالث: من الغرائب قول القاضي أبي بكر بن العربي: قول علمائنا: إن الرجل المبهم الوليد بن الغيرة وقال آخرون إنه أمية بن خلف والقياس على هذا كله باطل وجهل من المفسرين، وذلك أن أمية والوليد كانا بمكة وابن أم مكتوم كان بالمدينة وما حضر معهما ولا حضرا معه، وكان موتهما كافرين أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر ولم يقصد قط أمية المدينة ولا حضر عنده مفردا ولا مع أحد كذا نقله عنه تلميذه السّهيليّ والقرطبي وأقرّاه.
وهو كلام خرج من القاضي من غير رويّة لأن ابن أم مكتوم من أهل مكة بلا خلاف، وهو ابن خال خديجة أم المؤمنين، أسلم قديما وكان من المهاجرين الأولين، قدم المدينة قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل بل بعده وصحّحوا الأول، وسورة عبس مكّية بلا خلاف، فأي شيء يمنع من اجتماع ابن أم مكتوم والوليد أو أمية؟
ثم القائل لذلك إنما هو الصحابة والتابعون كما تقدم، نقل ذلك عنهم وهم أعلم من غيرهم، ولو كانت سورة عبس نزلت بالمدينة أو أن ابن أم مكتوم أسلم بها لصح ما قاله، والحال أن الأمر بخلاف ذلك ولم أر من نبه على ذلك. وعجبت من سكوت صاحب الزّهر عن ذلك مع أنه يناقش في أسهل شيء.
الرابع: من الغرائب أيضا قول السّهيلي: إن ابن أم مكتوم لم يكن آمن بعد أي حين أنزلت سورة عبس وبسط الكلام على ذلك.
قال في الزهر: ينبغي أن يتثبّت في هذا الكلام، فإني لم أر من قاله جزما ولا نقلا من مؤرخ ومفسّر، فينظر قول جميعهم فيه: قديم الإسلام يردّه.
قال: ثم إن السّهيلي أكدّ بقوله: استدنيني يا محمد، ولم يقل يا رسول اللَّه. قال مغلطاي، ولفظة «استدنيني يا محمد» لم أرها، فتنظر.
قلت: أما لفظ السيرة التي شرحها السهيلي: فكلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وجعل يستقرئه القرآن. ولفظ رواية الترمذي وحسّنها وصححها ابن حبان عن عائشة: فجعل يقول يا رسول اللَّه أرشدني. إلخ ولفظ رواية ابن عباس عند ابن مردويه: فجعل عبد الله يستقرئ النبي صلى الله عليه وسلم آية من القرآن. قال يا رسول اللَّه علّمني مما علّمك اللَّه.(2/424)
الباب السادس والعشرون في سبب نزول قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ
روى ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس، وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن مينا، وعبد الرزاق عن وهب، وعن ابن إسحاق قالوا:
اعترض لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالكعبة الأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاصي بن وائل السهمي. وكانوا ذوي أسنان في قومهم فدعوه إلى أن يعطوه مالا فيكون أغنى رجل بمكة ويزوجوه ما أراد من النساء فقالوا: هذا لك يا محمد وكفّ عن شتم آلهتنا ولا تذكرها بسوء فإن لم تفعل فإنا نعرض عليك خصلة واحدة فيها صلاح. قال ما هي؟ قالوا: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة. وفي لفظ: هلمّ يا محمد فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد فنشترك نحن وأنت في الأمر، فإن كان الذي نعبده خيرا مما تعبد كنت قد أخذت منه بحظك وإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد كنا قد أخذنا منه بحظّنا.
فانزل اللَّه تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ في الحال ما تَعْبُدُونَ من الأصنام وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ/ في الحال ما أَعْبُدُ وهو اللَّه تعالى وحده وَلا أَنا عابِدٌ في الاستقبال ما عَبَدْتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ في الاستقبال ما أَعْبُدُ علم اللَّه تعالى منهم أنهم لا يؤمنون والإطلاق ما على اللَّه تعالى على جهة المقابلة لَكُمْ دِينُكُمْ الشّرك وَلِيَ دِينِ الإسلام، وهذا قبل أن يؤمر بالحرب، وحذف ياء الإضافة السبعة، وقفا ووصلا وأثبتها يعقوب في الحالين.(2/425)
الباب السابع والعشرون في سبب نزول أول سورة الروم
روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي والبيهقي والضياء المقدسي عن ابن عباس وابن جرير والبيهقي من وجه آخر عنه، وابن جرير عن ابن مسعود وأبو يعلى وابن أبي حاتم عن البراء بن عازب، والترمذيّ وصححه والطبراني عن نيار- بنون مكسورة فمثناة تحتية مخففة- ابن مكرم- بضم الميم وسكون الكاف وفتح الراء- وابن عبد الحكم في فتوح مصر، وابن أبي حاتم عن ابن شهاب، وابن جرير عن عكرمة: أن الروم وفارس اقتتلوا في أدنى الأرض، وأدنى الأرض يومئذ أذرعات بها التقوا، فهزمت الروم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهو بمكة، فشقّ ذلك عليهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح الكفار بمكة وشمتوا، فلقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنكم أهل كتاب وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إذا قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم.
فانزل اللَّه تعالى: الم [الروم 1: 6] اللَّه أعلم بمراده به غُلِبَتِ الرُّومُ وهم أهل كتاب غلبتها فارس وليسوا أهل كتاب بل يعبدون الأوثان فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أي أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة، التقى فيها الجيشان والبادئ بالغزو الفرس.
وَهُمْ أي الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أضيف المصدر إلى المفعول، أي غلبة أهل فارس إياهم سَيَغْلِبُونَ فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ هو ما بين الثالث إلى التسع أو العشر، فالتقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء الأول وغلبت الروم فارس.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ من قبل غلب الروم ومن بعده. المعنى أن غلبة فارس أولا وغلبة الروم ثانيا بأمر اللَّه أي بإرادته وَيَوْمَئِذٍ أي يوم يغلب الروم يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ إياهم على فارس، وقد فرحوا بذلك وعلموا به يوم وقوعه يوم بدر ونزول جبريل بذلك مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ نصرته وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب الرَّحِيمُ بالمؤمنين وَعْدَ اللَّهِ مصدر بدل من اللفظ بفعله والأصل وعدهم اللَّه النصر لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ به وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ كفار مكة لا يَعْلَمُونَ وعده تعالى بذلك.
فلما نزلت هذه الآيات قال المشركون لأبي بكر: إلا ترى إلى ما يقول صاحبك؟ يزعم أن الروم تغلب فارس. قال: صدق صاحبي. وفي رواية: فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا؟ فلا تفرحوا ولا يقرّ اللَّه عينكم فو اللَّه ليظهرنّ الروم(2/426)
على فارس أخبرنا بذلك نبينا فقام إليه أبي بن خلف فقال: كذبت. فقال أبو بكر: أنت أكذب يا عدو اللَّه. قال: أنّا حبك عشر قلائص منيّ وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين. ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال:
ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل. فخرج أبو بكر فلقي أبيّا فقال: لعلك ندمت؟ قال: لا. قال تعالى أزيدك في الخطر وأمادّك في الأجل فأجعلها مائة قلوص بمائة قلوص إلى تسع سنين. قال فعلت. وذلك قبل تحريم الرّهان، فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه ولزمه وقال: إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم كفيلا فكفله ابنة عبد الله. فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر وقال له: لا واللَّه لا أدعك تخرج حتى تعطيني كفيلا فأعطاه كفيلا. فخرج إلى أحد ثم رجع إلى مكة وبه جراحة جرحه النبي صلى الله عليه وسلم حين بارزه يوم أحد فمات منها بمكة، وظهرت الروم على فارس فغلب أبو بكر أبيّا وأخذ الخطر من ورثته، فجاء يحمله إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هذا سحت تصدّق به.
تفسير الغريب
أنا حبك [ (1) ] : بالحاء المهملة والباء الموحدة: أي أراهنك.
القلائص: بقاف فلام مفتوحتين فهمزة مكسورة فصاد مهملة: مفرده قلوص وهي الناقة الشابة.
__________
[ (1) ] المعجم الوسيط 2/ 95.(2/427)
الباب الثامن والعشرون في وفاة أبي طالب ومشي قريش إليه ليكف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل موت خديجة وكان موتهما في عام واحد قبل مهاجرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين.
وقال صاعد في كتاب «الفصوص» : بعد ثمانية وعشرين يوما من خروجهم من الشّعب.
وقال ابن حزم: توفي أبو طالب في شوال في النصف منه.
وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد والترمذي وصححه عن ابن عباس، وابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّي، والبخاري والبيهقي عن سعيد بن المسيب عن أبيه، ومسلم والبيهقي عن أبي هريرة: أن أبا طالب لما اشتكى وبلغ قريش ثقله قال بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فإنا واللَّه ما نأمن أن يبتزّونا أمرنا.
فمشوا إلى أبي طالب فكلّموه، وهم أشراف قومه، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوّفنا عليك وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه وخذله منا وخذ منه ليكفّ عنا ونكفّ عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه.
فبعث إليه أبو طالب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل إن جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم إلى أبي طالب أن يكون أرقّ عليه، فوثب أبو جهل فجلس في ذلك المجلس، فلم يجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمّه، فجلس عند الباب. فقال: يا بن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: نعم كلمة واحدة يعطونيها يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم. وفي رواية: تدين لهم بها العرب وتؤدّي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله. فقال القوم: كلمة واحدة؟ قال: نعم. فقال أبو جهل: نعم وأبيك عشر كلمات. قال:
تقولون لا إله إلا اللَّه وتخلعون ما تعبدون من دونه. فصفّقوا بأيديهم ثم قالوا: يا محمد تريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك لعجب.
ثم قال بعضهم لبعض: ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دينكم حتى يحكم اللَّه بينكم وبينه. ثم تفرقوا.(2/428)
فأنزل اللَّه فيهم أول سورة ص.
فقال أبو طالب لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: واللَّه يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شحطا. فلما قالها طمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول: أي عم فأنت فقلها أستحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة فلما رأى حرص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك قال: لولا مخافة السّبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرّك بها.
وذكر ابن الكلبي أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال:
يا معشر قريش أنتم صفوة اللَّه من خلقه وقلب العرب واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة ولهم به إليكم الوسيلة والناس لكم حرب وعلى حربكم إلب، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنيّة فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثباتا للوطأة، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها فإن في صلة الرحم منسأة في الأجل وزيادة في العدد، واتركوا البغي والعقوق ففيها هلكت القرون قبلكم، أجيبوا الداعي وأعطوا السائل فإن فيها شرف الحياة والممات، عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيهما محبة في الخاص ومكرمة في العامّ، وإني أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش والصدّيق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وايم اللَّه كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البرّ في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدّقوا كلمته وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعافها أربابا وأعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها وأصفت له فؤادها وأعطته قيادها، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم كونوا له ولاة، ولحربه حماة، واللَّه لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير لكفيت عنه الهزاهز ولدافعت عنه الدواهي.
ثم إن أبا طالب مات بعد ذلك.
وروى الشيخان عن المسيّب بن حزن رضي اللَّه عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن المغيرة فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: يا عم قل لا إله إلا اللَّه كلمة أشهد- وفي لفظ: أحاجّ- لك بها عند اللَّه فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان لتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملّة عبد المطلب. وأبى أن يقول:
لا إله إلا اللَّه بعد ذلك: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة 113] ونزل في أبي(2/429)
طالب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
[ (1) ] [القصص 56] .
ورويا أيضا عن العباس رضي اللَّه عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه أن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل ينفعه ذلك؟ قال: نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح منها [ (2) ] .
وفي لفظ: «ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» .
وروي البخاري عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول، وذكر عنده عمّه، فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه [ (3) ] .
وفي لفظ: «أمّ دماغه» .
وروى الشيخان وابن إسحاق عن النعمان بن بشير رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «أن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل يوضع في إخمص قدميه جمرة- وفي لفظ على إخمص قدميه جمرتان [ (4) ] .
وفي لفظ عند مسلم: له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه. وفي لفظ: يغلي دماغه من حرارة نعله [ (5) ] .
وفي لفظ عند ابن إسحاق: حتى يسيل على قدميه. وفي لفظ عند البخاري: لا يرى أن أحدا أشدّ عذابا منه وإنه لأهونهم.
وروى مسلم عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: «أهون أهل النار عذاباً أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه»
[ (6) ] .
وهذه الأحاديث الصحيحة تبين بطلان ما نقل عن العباس أنه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
يا بن أخي لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها.
قال البيهقي وأبو الفتح والذهبي: وقد أسلم العباس بعد وسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم عن حال
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 2/ 199 (1360) ومسلم 1/ 54 (39- 24) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 7/ 233 (3883) ومسلم 4/ 195 (358- 209) .
[ (3) ] أخرجه البخاري 7/ 233 (3885) ومسلم 1/ 195 (360- 210) .
[ (4) ] أخرجه البخاري 8/ 208 (6561- 6562) ومسلم 1/ 196 (362- 212) .
[ (5) ] عند مسلم في الموضع السابق (364- 213) .
[ (6) ] أخرجه مسلم في الموضع السابق (362- 212) .(2/430)
أبي طالب، أي كما تقدم قريبا.
ولو كانت هذه الشهادة عنده لأدّاها بعد إسلامه وعلم حال أبي طالب ولم يسأل عنه، والمعتبر حالة الأداء دون التحمّل.
وقال الحافظ: لو كان أبو طالب قال كلمة التوحيد ما نهى اللَّه تعالى نبيه عن الاستغفار له.
وروى عبد الرازق والفريابي والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ [الأنعام 26] نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وينأى عما جاء به.
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه عن علي رضي اللَّه عنه قال: لما مات أبو طالب أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول اللَّه مات عمّك الضالّ. وفي لفظ إن أبا طالب مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فواره. قال: فلما واريته جئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم.
قال اغتسل
[ (1) ] .
وبما ذكر أيضا تبين بطلان ما نقله المسعودي المؤرخ أنه أسلم، لأن مثل ذلك لا يعارض الأحاديث الصحيحة.
تنبيهات
الأول: قال السهيليّ: الحكمة في كون أبي طالب منتعلا بنعلين من نار أن أبا طالب كان مع النبي صلى الله عليه وسلم بجملته إلا أنه كان مثبّتا لقدميه على ملّة عبد المطلب حتى قال عند الموت: هو على ملّة عبد المطلب فسلّط العذاب على قدميه خاصة لتثبيته إياهما على ملة آبائه.
الثاني: قال الحافظ: الآية التي فيها النهي عن الاستغفار نزلت بعد موت أبي طالب بمدة وهي عامة في حقه وحق غيره، ويوضح ذلك ما عند البخاري في كتاب التفسير بلفظ:
فأنزل اللَّه بعد ذلك. إلى آخره.
الثالث: إنما عرض عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم الإسلام أن يقول لا إله إلا اللَّه. ولم يقل فيها:
محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم لأن الكلمتين صارتا كالكلمة الواحدة. ويحتمل أن يكون أبو طالب كان يتحقق أنه رسول اللَّه، ولكن كان لا يقرّ بتوحيد اللَّه تعالى ولهذا قال في أبياته النونية:
__________
[ (1) ] أخرجه النسائي 1/ 110 وأحمد في المسند 1 (130 والبيهقي في المسند 1/ 304 وذكره ابن الجوزي في العلل 1/ 180 وابن حبان في المجروحين 1/ 111.(2/431)
ودعوتني وعلمت أنّك صادق ... ولقد صدقت وكنت ثمّ أمينا
فاقتصر على أمره له بقول: لا إله إلا اللَّه، فإذا أقر بالتوحيد لم يتوقف عن الشهادة بالرسالة له.
الرابع: من عجيب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وهم:
أبو طالب واسمه عبد مناف، وأبو لهب واسمه عبد العزّى بخلاف من أسلم وهما حمزة والعباس رضي اللَّه عنهما.
الخامس: زعم بعض غلاة الرافضة أن أبا طالب أسلم، واستدل بأخبار واهية ردّها الحافظ في الإصابة في القسم الرابع من الكنى.
السادس: قوله: «لعله تنفعه شفاعتي» . ظهر من حديث العباس وقوع هذا الترجّي واستشكل قوله: «تنفعه شفاعتي» بقوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر 48] وأجيب بأنه خصّ ولذلك عدّوه في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: معنى المنفعة في الآية يخالف معنى المنفعة في الحديث، والمراد بها في الآية الإخراج من النار، وفي الحديث المنفعة بالتخفيف وبهذا الجواب جزم القرطبيّ.
وقال البيهقي في البعث: صحت الرواية في شأن أبي طالب فلا معنى للإنكار من حيث صحة الرواية.
ووجهه عندي أن الشفاعة في الكفار إنما امتنعت لوجود الخبر الصادق في أنه لا يشفع فيهم أحد، وهو عامّ في حق كل كافر، فيجوز أن يخص منه من ثبت الخبر بتخصيصه.
قال: وحمله بعض أهل النظر على أن جزاء الكافر من العذاب يقع على كفره وعلى معاصيه، فيجوز أن يضع اللَّه تعالى عن بعض الكفار بعض جزاء معاصيهم تطييبا لقلب الشافع لا ثوابا للكفر، لأن إحسانه صار بموته على الكفر هباء.
وقال القرطبي في المفهم: اختلف في هذه الشفاعة هل هي بلسان قوليّ أو بلسان حاليّ، والأول يشكل بالآية، وجوابه جواز التخصيص. والثاني أن يكون معناه أن أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي صلى الله عليه وسلّم والذبّ عنه جوزي على ذلك بالتخفيف فأطلق على ذلك شفاعة لكونها بسببه.
ويجاب عنه أيضاً: أن المخفّف عنه لم يجد أمر التخفيف، فكأنه لم ينتفع بذلك.
ويؤيد ذلك ما تقدم من أنه يعتقد أنه ليس في النار أشدّ عذابا منه، وذلك أن القليل من عذاب جهنم لا تطيقه الجبال، فالمعذّب لاشتغاله بما هو فيه يصدق عليه أنه لم يحصل له انتفاع بالتخفيف.
السابع: في بيان غريب ما سبق:(2/432)
يدين: أي يطيع ويخضع.
يبتزّونا أمرنا: بفتح التحتية فباء موحدة ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة فزاي معجمة مشددة مضمومة، يقال ابتزّه يبتزّه أي استلبه وبزّه يبزّه أي سلبه. ومنه: من عزّ بزّ أي من غلب أخذ السّلب.
شحطا [ (1) ] : بشين معجمة فحاء ساكنة فطاء مهملتين: أي بعدا. يقال شحط يشحط شحطا وشحوطا ويقال شحط المزار وأشحطته أبعدته، ومعنى الكلام: ما سألتهم شيئا بعيدا.
عليهم التماسه وتناوله، بل هو أمر قريب.
السّبة بسين مهملة مضمومة فباء موحدة مشددة مفتوحة فتاء تأنيث: العار الذي يسبّ به. ورجل سبّة أي تسبه الناس.
خرعا [ (2) ] : بخاء معجمة فراء فعين مهملتين: وهو الخور والضعف، وتروى بالجيم والزاي وهو الخوف.
وأما واللَّه: قال النووي: في كثير من الأصول أو أكثرها بالألف وغيرها: أم واللَّه بلا ألف، وكلاهما صحيح قال ابن الشجريّ في أماليه: «ما» المزيدة للتوكيد ركّبوها مع همزة الاستفهام واستعملوا مجموعهما على وجهين: أحدهما: أن يراد به معنى حقا في قولهم: أما واللَّه لأفعلن. والآخر: أن تكون افتتاحا للكلام بمنزلة ألا كقولك أما إن زيدا منطلق وأكثر ما تحذف الألف إذا وقع بعدها القسم ليدلّوا على شدة اتصال الثاني بالأول، لأن الكلمة إذا بقيت على حرف لم تقم بنفسها، فعلم بحذف ألف- «ما» افتقارها إلى الاتصال بالهمز.
الضّحضاح: بضادين معجمتين الأولى مفتوحة وحاءين مهملتين الأولى ساكنة، وهو في الأصل ما رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين فاستعاره للنار:
المرجل [ (3) ] بكسر الميم وسكون الراء وفتح الجيم: قدر من نحاس، وقيل يطلق على كل قدر يطبخ فيها.
__________
[ (1) ] اللسان 4/ 2207.
[ (2) ] اللسان 2/ 1137، 1138.
[ (3) ] انظر المصباح المنير 221.(2/433)
الباب التاسع والعشرون في وفاة السيدة خديجة رضي الله عنها
روى البخاري عن عروة قال: توفيت خديجة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم وروى البلاذري عنه قال: توفيت قبل الهجرة بسنتين أو قريب من ذلك.
وقال بعضهم: ماتت قبل الهجرة بخمس سنين. قال البلاذري: وهو غلط.
وروى ابن الجوزي عن حكيم بن حزام وثعلبة بن صعير- بصاد فعين مهملتين مصغّرا أنه كان بين وفاة أبي طالب ووفاة خديجة شهر وخمسة أيام.
وروى الحاكم أن موتها بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام.
وقال محمد بن عمر الأسلمي: توفيت لعشر خلون من رمضان وهي بنت خمس وستين سنة.
ثم روي عن حكيم بن حزام أنها توفيت سنة عشر من البعثة بعد خروج بني هاشم من الشّعب ودفنت بالحجون، ونزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم قبرها، ولم تكن الصلاة على الجنازة شرعت.
روى يعقوب بن سفيان عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: ماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة.
وكانت خديجة رضي اللَّه عنها وزيرة صدق للنبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام وكان يسكن إليها، وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة، وستأتي ترجمتها وبعض مناقبها في أبواب أزواجه صلى الله عليه وسلم.(2/434)
الباب الثلاثون في بعض ما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش بعد موت أبي طالب
قال ابن إسحاق: فلما مات أبو طالب نالت قريش من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم من الأذى ما لم تطمع فيه في حياة أبي طالب.
وروى ابن إسحاق عن عبد الله بن جعفر قال: لما مات أبو طالب اعترض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم بيته والتراب على رأسه فقامت إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: لا تبكي فإن اللَّه مانع أباك. ويقول بين ذلك: ما نالت قريش منّي شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب
[ (1) ] .
وروى الطبراني وأبو نعيم عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه قال: لما مات أبو طالب تجهّموا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك
[ (2) ] .
وروى البيهقي عن عروة إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ما زالت قريش كاعّين حتى مات أبو طالب [ (3) ] .
ورواه الطبراني والبيهقي من طريق آخر عن عائشة مرفوعا.
وروى ابن سعد عن حكيم بن حزام وثعلبة بن صعير [ (4) ] قالا: لما توفي أبو طالب وخديجة اجتمع على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم مصيبتان، فلزم بيته وأقلّ الخروج، ونالت قريش منه ما لم تكن تنال ولا تطمع فيه، فبلغ ذلك أبا لهب فجاء فقال: يا محمد امض لما أردت وما كنت صانعا إذ كان أبو طالب حيّا فاصنعه لا واللات والعزّى لا يوصل إليك حتى أموت.
وسبّ ابن الغيطلة النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه أبو لهب فنال منه فولّى وهو يصيح يا معشر قريش صبأ أبو عتبة: فأقبلت قريش حتى وقفوا على أبي لهب فقال: ما فارقت دين عبد المطلب ولكن أمنع ابن أخي أن يضام حتى يمضي لما يريد. قالوا: قد أحسنت وأجملت ووصلت الرحم.
فمكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك أياما يذهب ويأتي لا يعترض له أحد من قريش
__________
[ (1) ] أخرجه الطبري في التاريخ 2/ 344.
[ (2) ] أخرجه أبو نعيم في الحلية 8/ 308.
[ (3) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 2/ 622 والبيهقي في الدلائل 2/ 349 وذكره الهيثمي في المجمع 6/ 15.
[ (4) ] ثعلبة بن صعير بمهملات أو ابن أبي صعير مصغّرا العذري بذال معجمة. عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعنه ابنه. مختلف في صحبته. وقال عباس بن محمد عن ابن معين: له رواية والحديث مضطرب. [الخلاصة 1/ 152] .(2/435)
وهابوا أبا لهب، إلى أن جاء عقبة بن أبي معيط وأبو جهل بن هشام إلى أبي لهب فقالا له:
أخبرك ابن أخيك أين مدخل أبيك؟ فقال له أبو لهب: يا محمد أين مدخل عبد المطلب؟ قال:
مع قومه فخرج أبو لهب إليهما فقال: قد سألته فقال، مع قومه فقالا: يزعم إنه في النار. فقال: يا محمد أيدخل عبد المطلب النار؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نعم ومن مات على مثل ما مات عبد المطلب دخل النار. فقال أبو لهب: لا برحت لك عدوّا وأنت تزعم أن عبد المطلب في النار.
فاشتد عليه هو وسائر قريش.
قال ابن إسحاق وكان النفر الذي يؤذون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بيته: أبو لهب والحكم بن أبي العاصي بن أمية، وعقبة بن أبي معيط وعديّ بن الحمراء، وابن الأصداء الهذلي، وكانوا جيرانه لم يسلم منهم أحد إلا الحكم بن أبي العاصي، وكان أحدهم، فيما ذكر لي، يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلّي، وكان أحدهم يطرحها في برمته إذا نصبت له، حتى اتخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حجرا يستتر به منهم إذا صلى.
وروى البخاري وابن المنذر وأبو يعلى والطبراني عن عروة قال: سألت عمرو بن العاصي فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلّم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر رضي اللَّه عنه حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وقال:
أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ الآية.
زاد الأخيران: فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم فلما قضى صلاته مرّ بهم وهم جلوس في ظل الكعبة فقال: يا معشر قريش أما والذي نفسي بيده ما أرسلت إليكم إلا بالذّبح وأشار بيده إلى حلقه فقال أبو جهل: يا محمد ما كنت جهولا. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: أنت منهم.
وروى البزار وأبو يعلى برجال الصحيح عن أنس رضي اللَّه عنه: لقد ضربوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى غشي عليه فقام أبو بكر ينادي: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي اللَّه.
فقالوا: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر المجنون.
وروى الشيخان والبزار والطبراني عن عبد الله بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه قال «ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم دعا على قريش غير يوم واحد، فإنه كان يصلي ورهط من قريش جلوس وسلا جزور نحرت بالأمس قريبا فقالوا- وفي رواية فقال أبو جهل- من يأخذ سلا هذا الجزور فيضعه على كتفي محمد إذا سجد فانبعث أشقاهم عقبة بن أبي معيط فجاء به فقذفه على ظهره صلى الله عليه وسلّم، فضحكوا وجعل بعضهم يميل إلى بعض والنبي صلى الله عليه وسلم ما يرفع رأسه، وجاءت فاطمة رضي اللَّه عنها فطرحته عن ظهره ودعت على من صنع ذلك. فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم(2/436)
صلاته رفع رأسه فحمد اللَّه تعالى وأثنى عليه ثم دعا عليهم وكان إذا دعا دعا ثلاثا وإذا سأل سأل ثلاثا ثم قال: «اللهم عليك بالملإ من قريش، اللهم عليك بأبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط» . وذكر السابع فلم أحفظه. فوالذي بعثه بالحق لقد رأيت الذين سمّى صرعى ببدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر غير أمية بن خلف فإنه كان رجلا بادنا فتقطع قبل أن يبلغ به إليه [ (1) ] .
زاد البزار والطبراني في الأوسط: ثم خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من المسجد فلقيه أبو البختري ومع أبي البختري سوط يتخصّر به فلما رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم أنكر وجهه فقال:
مالك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خلّ عني قال: علم اللَّه لا أخلّي عنك أو تخبرني ما شأنك فلقد أصابك شيء. فلما علم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه غير مخلّ عنه أخبره قال: إن أبا جهل أمر فطرح عليّ فرث. قال أبو البختري: هلم إلى المسجد. فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وأبو البختري فدخلا المسجد ثم أقبل أبو البختري على أبي جهل فقال يا أبا الحكم أنت الذي أمرت بمحمد فطرح عليه الفرث؟ فقال: نعم. فرفع السّوط. فضرب به رأسه فثار الرجال بعضها إلى بعض وصاح أبو جهل: ويحكم إنما أراد محمد أن يلقي بيننا العداوة وينجو هو وأصحابه.
وروى ابن مردويه عن أنس رضي اللَّه عنه قال: لقد ضربوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى غشي عليه، فقام أبو بكر رضي اللَّه عنه فجعل ينادي: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي اللَّه.
وروى البزار وأبو نعيم في الفضائل عن علي رضي اللَّه عنه أنه قال: أيها الناس أخبروني بأشجع الناس. قالوا: لا نعلم، فمن؟ قال: أبو بكر، لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وأخذته قريش، هذا يجأه وهذا يتلتله وهم يقولون: أنت الذي جعلت الآلهة إلها واحدا. قال: واللَّه ما دنا منه منّا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويجالد هذا ويتلتل هذا ويقول: ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي اللَّه! ثم رفع عليّ بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم قال: أنشدكم اللَّه أمؤمن آل فرعون خير أم أبو بكر؟ فسكت القوم، فقال: ألا تجيبونني؟ فو اللَّه لساعة من أبي بكر خير من مثلي مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه.
وروى الدارقطني في الإفراد عن عمرو بن عثمان بن عفان عن أبيه قال: أكثر ما نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة أبي طالب.
تفسير الغريب
يجأه: بالمثناة التحتية والجيم والهمزة: أي يضربه.
يتلتله: بمثناة تحتية ففوقية فلامين بينهما مثناة فوقية ثم هاء: أي يخيسه ويذلله، وخاسه:
راضه واللَّه تعالى أعلم.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 4/ 127 ومسلم في كتاب الجهاد (108) وأحمد في المسند 1/ 417.(2/437)
الباب الحادي والثلاثون في سفر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
قال موسى بن عقبة وابن إسحاق وغيرهما: ولما هلك أبو طالب ونالت قريش من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم ما لم تكن تنال منه في حياته خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم إلى الطائف وحده ماشيا.
وفي حديث جبير بن مطعم عند ابن سعد: إن زيد بن حارثة كان معه، في ليال من شوال سنة عشر يلتمس النصر من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من اللَّه تعالى.
فلما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير بن عوف، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، وهي صفية بنت معمر بن حبيب بن قدامة بن جمح، وهي أم صفوان بن أمية.
فجلس إليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكلمهم بما جاء به من نصرته على الإسلام والقيام على من خالفه من قومه.
فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان اللَّه أرسلك!.
وقال الآخر: أما وجد اللَّه أحد يرسله غيرك.
وقال الثالث: واللَّه لا أكلّمك أبدا، لئن كنت رسول من اللَّه كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على اللَّه ما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف.
وقد قال لهم: إذ فعلتم فاكتموا عليّ. وكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه.
فأقام بالطائف عشرة أيام وقيل شهرا لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاء إليه وكلّمه، فلم يجيبوه وخافوا على أحداثهم منه فقالوا: يا محمد اخرج من بلدنا. وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس.
قال ابن عقبة: وقفوا له صفّين على طريقه، فلما مر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم بين الصفين جعل لا يرفع رجليه ولا يضعهما إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموا رجليه.
زاد سليمان التيمي: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أذلقته الحجارة يقعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه ويقيمونه فإذا مشى رجموه بالحجارة وهم يضحكون.
قال ابن سعد: وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شجّ في رأسه شجاجا.
قال ابن عقبة: فخلص منهم ورجلاه تسيلان دما فعمد إلى حائط من حوائطهم فاستظل في ظل حبلة منه وهو مكروب موجع وإذا في الحائط عتبة وشيبة ابنا ربيعة فلما رآهما كره(2/438)
مكانهما لما يعلم من عداوتهما للَّه ورسوله صلّى الله عليه وسلم، فلما اطمأن في ظل الجبلة قال ما سيأتي.
وروى الطبراني برجال ثقات عن عبد الله بن جعفر رضي اللَّه عنهما إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما انصرف عنهم أتى ظلّ شجرة فصلى ركعتين ثم قال: «اللهم إني أشكوا إليك ضعف قوّتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من تكلني إلى بعيد يتجهّمني أو إلى عدوّ ملكته أمري إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبال ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحلّ علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك» .
فلما رآه ابنا ربيعة وما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما يقال له عداس فقالا له: خذ له هذا القطف من هذا العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. ففعل عدّاس ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم قال له: كل. فلما وضع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم يده قال بسم اللَّه. ثم أكل فنظر عدّاس في وجهه ثم قال: واللَّه إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد. فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ومن أيّ البلاد أنت يا عدّاس وما دينك؟ قال: نصراني وأنا من أهل نينوى. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم من قرية الرجل الصالح يونس ابن متّى. قال له عدّاس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ واللَّه لقد خرجت منها- يعني من أهل نينوى- وما فيها عشرة يعرفون ما يونس بن متّى فمن أين عرفت أنت يونس بن متى وأنت أمّي وفي أمّة أمّيّة. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي. فأكبّ عدّاس على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم يقبل رأسه ويديه وقدميه فقال ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه: أمّا غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عدّاس قالا له: ويلك! ما لك تقبّل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟
قال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد أعلمني بأمر لا يعلمه إلا نبي. قال:
ويحك يا عدّاس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه.
وقال عدّاس لسيديه لما أرادا الخروج إلى بدر وأمراه بالخروج معهما فقال لهما: قتال ذلك الرجل الذي رأيت في حائطكما تريدان؟ فو اللَّه ما تقوم له الجبال. فقالا: ويحك يا عدّاس قد سحرك بلسانه.
فانصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عنهم وهو محزون لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة.
وقال خالد العدواني: إنه أبصر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سوق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ حتى ختمها قال فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الإسلام.
قال فدعتني ثقيف فقالوا ماذا سمعت من هذا الرجل فقرأتها عليهم. فقال من معهم من(2/439)
قريش: نحن أعلم بصاحبنا ولو كنا نعلم ما يقوله حقا لاتبعناه.
رواه الإمام أحمد [ (1) ] والبخاري في تاريخه.
وقالت عائشة رضي اللَّه عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشدّ عليك من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك وكان أشدّ ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال لم يجبني إلى ما أردت أحد، فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني وقال: إن اللَّه تعالى قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال فتأمره بما شئت فيهم. فناداني ملك الجبال فسلّم عليّ ثم قال: يا محمد إن اللَّه قد سمع قول قومك وأنا ملك الجبال قد بعثني اللَّه عز وجل لتأمرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج اللَّه عز وجل من أصلابهم من يعبد اللَّه عز وجل ولا يشرك به شيئا.
رواه الإمام أحمد والشيخان
[ (2) ] .
وقال عكرمة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: «جاءني جبريل فقال يا محمد إن ربك يقرئك السلام وهذا ملك الجبال قد أرسله وأمره ألّا يفعل شيئا إلا بأمرك. فقال له ملك الجبال: إن شئت رمهت عليهم الجبال، وإن شئت خسفت بهم الأرض فقال: يا ملك الجبال: فإني آنى بهم لعلهم أن يخرج منهم ذرية يقولون لا إله إلا اللَّه. فقال ملك الجبال: أنت كما سمّاك ربك رؤوف رحيم» .
رواه ابن أبي حاتم مرسلا.
وذكر الأموي وابن هشام أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما انصرف عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته أقام بنخلة أياما وأراد الرجوع إلى مكة فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وهم قد أخرجوك؟ فقال: يا زيد إن اللَّه جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن اللَّه مظهر دينه وناصر نبيه. ثم انتهى إلى حراء وبعث عبد الله بن أريقط إلى الأخنس بن شريق- وأسلم بعد ذلك فيما يقال- ليجيره فقال: أنا حليف والحليف لا يجير على الصّريح. فبعث إلى سهيل بن عمرو- وأسلم بعد ذلك- فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب. فبعث إلى المطعم بن عدي- ومات كافرا- فأجابه إلى ذلك وقال: نعم قل له فليأت. فرجع إليه فأخبره فدخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح
__________
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 335.
[ (2) ] أخرجه البخاري 4/ 237 كتاب بدء الخلق (3231) ومسلم 3/ 1420 (111- 1795) .(2/440)
خرج المطعم بن عدي وقد لبس سلاحه هو وبنوه ستة أو سبعة. فقال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: طف.
واحتبوا بحمائل سيوفهم بالمطاف فأقبل أبو سفيان إلى المطعم بن عدي فقال: أمجير أم تابع؟
قال: بل مجير. قال: إذن لا تخفر قد أجرنا من أجرت. فجلس معه حتى قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم طوافه، فلما انصرف إلى بيته وانصرفوا معه، فذهب أبو سفيان مجلسه.
فمكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أياما ثم أذن له اللَّه عز وجل في الهجرة، فلما هاجر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: توفى المطعم ابن عديّ بعده، ولأجل هذه السابقة التي سبقت للمطعم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لو كان المطعم بن عدي حيّا ثم كلمني في هؤلاء النّتنى- يعنى أسارى بدر لأطلقتهم له» .
تنبيهان
الأول: قال ابن الجوزي: ربما عرض لملحد قليل الإيمان فقال: ما وجه احتياج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أن يدخل في خفارة كافر وأن يقول في المواسم: من يؤويني حتى أبلّغ رسالة ربي.
فيقال له: قد ثبت أن الإله القادر لا يفعل شيئا إلا لحكمة، فإذا خفيت حكمة فعله علينا وجب علينا التسليم. وما جرى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما صدر عن الحكيم الذي أقام قوانين الكلّيات وأدار الأفلاك وأجرى المياه والرياح، كلّ ذلك بتدبير الحكيم القادر، فإذا رأينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يشدّ الحجر من الجوع ويقهر ويؤذى علمنا أن تحت ذلك حكما إن تلمّحنا بعضها لاحت من خلال سجف البلاء حكمتان.
إحداهما: اختيار المبتلى ليسكن قلبه إلى الرضا بالبلاء فيؤدّي القلب ما كلّف من ذلك والثانية: أن تبثّ الشبهة في خلال الحجج ليثاب المجتهد في دفع الشبهة.
الثاني: في بيان غريب ما سبق.
المنعة: بفتح النون: النّصرة والحماية.
عمد: بعين مهملة فميم مفتوحة في الماضي وفي المستقبل بكسرها: وعن الليلي كسرها أيضا في الماضي. يمرط: يمزّق.
أما وحقّ: بفتح الهمزة وتخفيف الميم: حرف تنبيه واستفتاح.
خطرا: بخاء معجمة مفتوحة فطاء مهملة فراء: القدر والمنزلة.
أغروا: سلّطوا. رضخوهما: شدخوهما.
أذلقته: بذال معجمة وقاف أي وجد ألمها ومسّها.(2/441)
شجّ في رأسه: الضمير عائد على زيد.
الحائط: البستان إذا كان عليه حائط، وهو الجدار، وجمعه حوائط.
حبلة بحاء مهملة فموحدة مفتوحتين وربما سكنت الباء وهي الأصل أو القضيب من شجر العنب.
يتجهّمني: يلقاني بالغلظة والوجه الكريه.
العتبي: بضم العين: الرضا.
عدّاس ونينوى تقدم الكلام عليهما في شرح بدء الوحي.
متّى: بفتح الميم وتشديد المثناة الفوقية مقصور.
يا سيّديّ: بتشديد الياء تثنية سيد.
ويحك: كلمة يتعجب بها العرب ولا يريدون بها الذمّ.
ابن عبد ياليل بمثناة تحتية فألف فلان مكسورة فمثناة تحتية ساكنة فلام واسمه كنانة ويقال مسعود.
ابن عبد كلال: بضم الكاف وتخفيف اللام.
كذا في الحديث ابن عبد ياليل والذي ذكره أهل المغازي أن الذي كلّمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عبد ياليل نفسه وعند أهل النسب أن عبد كلال أخوه لا أبوه قاله الحافظ.
قرن الثعالب: بفتح القاف وسكون الراء وهو قرن المنازل ميقات نجد تلقاء مكة على يوم وليلة منها، وأصله الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير.
الأخشبين: تثنية أخشب بفتح الهمزة فخاء فشين معجمتين فموحدة: الجبلان.(2/442)
الباب الثاني والثلاثون في إسلام الجن
قد تقدم في أبواب البعثة استماعهم لقراءة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن كثير وابن حجر: وقول من قال إن وفودهم كان بعد رجوع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الطائف ليس صريحا في أولية قدوم بعضهم، والذي يظهر من سياق الحديث الذي فيه المبالغة في رمي الشهب لحراسة السماء عن استراق السمع دالّ على أن ذلك كان بعد المبعث، وإنزال الوحي إلى الأرض، فكشفوا عن ذلك إلى أن وقفوا على السبب فرجعوا إلى قومهم.
ولما انتشرت الدعوة وأسلم من أسلم قدموا فسمعوا فأسلموا وكان ذلك بين الهجرتين، ثم تعدّد مجيئهم حتى في المدينة انتهى.
وروى محمد بن عمر الأسلمي، وأبو نعيم، عن أبي جعفر رضي اللَّه عنه وعن آبائه قال: قدم على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم الجنّ في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من النبوة.
قال ابن إسحاق وابن سعد وغيرهما: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف راجعا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلّي فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم اللَّه تعالى.
قال ابن إسحاق: وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من جن أهل نصيبين، فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. فقصّ اللَّه تعالى خبرهم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
وَاذكر إِذْ صَرَفْنا أملنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ جن نصيبين أو جن نينوى، وكانوا سبعة أو تسعة، وكان صلى الله عليه وسلّم ببطن نخلة يصلي بأصحابه الفجر.
رواه الشيخان.
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أي قال بعضهم لبعض: أَنْصِتُوا لاستماعه فَلَمَّا قُضِيَ فرغ من قراءته وَلَّوْا رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ مخوفين قومهم العذاب إن لم يؤمنوا وكانوا يهودا.
قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً هو القرآن أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي تقدّمه كالتوراة. يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ الإسلام وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ أي طريقة يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ اللَّه لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ [الأحقاف 29: 31] أي بعضها لأن منها المظالم ولا تغفر إلا برضا أربابها.
الآيات.(2/443)
وروى ابن شيبة وأحمد بن منيع والحاكم وصححه وأبو نعيم والبيهقي، عن ابن مسعود قال: هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا. قالوا: صه وكانوا تسعة أحدهم زوبعة فانزل الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ الآيات.
وروى ابن جرير والطبراني عن ابن عباس قالوا كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم.
وروى الشيخان عن مسروق قال: قلت لابن مسعود: من إذن النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ قال: آذنته بهم شجرة وفي لفظ: سمرة.
وروى محمد بن عمر الأسلمي وأبو نعيم عن كعب الأحبار قال: لما انصرف النفر التسعة من أهل نصيبين من بطن نخلة وهم فلان وفلان والأحقب جاءوا قومهم منذرين فخرجوا بعد وافدين إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وهم ثلاثمائة فانتهوا إلى الحجون فجاء الأحقب إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: إن قومنا قد حضروا الحجون يلقونك. فوعده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ساعة من الليل بالحجون.
وروى الإمام أحمد ومسلم والترمذي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ منكم أحد. قال: ما صحبه منا أحد ولكنا فقدناه ذات ليلة فقلنا استطير أو اغتيل فبتنا بشرّ ليلة باتها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول اللَّه إنا فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم. فقال: إنه أتاني داعي الجنّ فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن. فانطلق فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم
[ (1) ] .
وقال ابن مسعود أيضا: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم يقول: بتّ الليل أقرأ على الجن رفقا- وفي لفظ: واقفا- بالحجون.
رواه ابن جرير
[ (2) ] .
قلت: تبيّن من الأحاديث السابقة أن الجن سمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم بنخلة فأسلموا، فأرسلهم إلى قومهم منذرين، ثم أتوه وهم ثلاثمائة، فقرأ عليهم القرآن وهذه المرّة لم يحضرها ابن مسعود، بل حضر في مرة بعدها.
وروى ابن جرير الطبراني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم من طرق، عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة: من أحبّ منكم أن يحضر الليلة أمر الجن فليفعل. فلم يحضر منهم أحد غيري، فانطلقنا فقال: إن بني إخوة وبني عمّ يأتون الليلة فأقرأ
__________
[ (1) ] أخرجه مسلم 1/ 332 (150- 450) .
[ (2) ] أخرجه الطبري في التفسير 26/ 21 وأحمد في المسند 1/ 416 وابن كثير في التفسير 7/ 275.(2/444)
عليهم القرآن. فسرنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خطّ لي برجله خطّا ثم أمرني أن أجلس فيه وقال لي لا تبرح منه حتى آتيك. ثم انطلق حتى إذا قام فافتتح القرآن فغشيه أسودة كثيرة. وفي رواية فذكر هيئة كأنهم الزطّ ليس عليهم ثياب، ولا أرى سوأتهم طوالا قليلا، فجئتهم فرأيت الرجال ينحدرون عليه من الجبال، فازدحموا عليه فقال سيد لهم يقال له وردان: أنا أرحلهم عنك.
فقال: إني لن يجيرني من اللَّه أحد. فحالوا بيني وبينه حتى ما أسمع صوته فانطلقوا فطفقوا يتقطّعوه مثل السحاب ذاهبين حتى بقي رهط، ففرع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سمع الفجر، فنزل ثم أتاني فقال: أرسلت إلى الجن. فقلت: فما هذه الأصوات التي سمعتها قال: هذه أصواتهم حين ودّعوني وسلّموا عليّ. ما فعل الرهط؟ فقلت: هم أولئك يا رسول اللَّه. فسألوه الزاد فأخذ عظما وروثا فأعطاهم إياهما. فقال: لكم كلّ عظم عراق ولكم كل روثة خضرة. قالوا: يا رسول اللَّه يقدرهما الناس علينا. قلت: يا رسول اللَّه وما يغني ذلك عنهم؟ فقال: إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبّها يوم أكلت، فلا يتنقّينّ أحدكم إذا خرج من الخلاء بعظم ولا بعرة ولا روثة. فلما أصبحت رأيت مبرك ستين بعيرا
[ (1) ] .
قصة أخرى روى ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: هم اثنا عشر ألفا جاءوا من جزيرة الموصل.
وذكر أبو حمزة الثماليّ [ (2) ] قال: إن هذا الحي من الجن كان يقال لهم بنو الشّيصبان، وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم وكانوا عامة جند إبليس.
تنبيهات
الأول: روى سفيان الثّوري عن عاصم عن زرّ عن ابن مسعود قال: كانوا تسعة أحدهم زوبعة أتوه في أصل نخلة. وتقدم عنه أنهم كانوا خمسة عشر. وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة وتقدم أن اسم سيدهم وردان. وتقدم عن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا. ففي هذا الاختلاف دليل على تكرار وفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة كما سيأتي بيان ذلك هناك.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل (129) والحاكم في المستدرك 2/ 503.
[ (2) ] ثابت بن دينار الثمالي الأزدي بالولاء، أبو حمزة: من رجال الحديث الثقات عند الإمامية. وروى عنه بعض أهل السنة.
وهو من أهل الكوفة له كتاب في «تفسير القرآن» وكتاب «الزهد» وكتاب «النوادر» توفي 15 هـ[الأعلام 2/ 97] .(2/445)
الثاني: في من وقفت على اسمه من الجن الذين اجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم إن اسم النفر السبعة أو التسعة على الاختلاف. فقال مجاهد كانوا سبعة ثلاثة من أهل حرّان وأربعة من نصيبين وكانت أسماؤهم حسى ومنسى وشاصر وماصر والأرد وإينان والأحقب.
رواه ابن أبي حاتم.
وقال إسماعيل بن أبي زياد: هم تسعة: سليط وشاصر وخاضر وحسا ومسا والأرقم والأدرس وحاصر.
وروى البيهقي عن أبي معمر الأنصاري قال: بينا عمر بن عبد العزيز يمشي إلى مكة بفلاة من الأرض إذ رأى حية ميتة فقال عليّ بمحفار. فحفر له ولفّه في خرقة ودفنه، وإذا بهاتف يهتف لا يرونه: رحمة اللَّه عليك يا سرق فأشهد لسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: تموت يا سرق في فلاة من الأرض فيدفنك خير أمّتي. فقال عمر: من أنت يرحمك اللَّه؟ قال: أنا رجل من الجن، وهذا سرق ولم يبق ممن بايع النبي صلّى الله عليه وسلم أحد من الجن غيري وغيره، وأشهد لسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: تموت يا سرق بفلاة من الأرض ويدفنك خير أمتي
[ (1) ] .
وذكر ابن سلّام من طريق أبي إسحاق السّبيعيّ [ (2) ]- بسين مهملة مفتوحة فموحدة فمثناة تحتية- عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه ثم انقشع فإذا حية قتيلة، فعمد رجل منا إلى ردائه فشقّه وكفّن الحية ببعضه ودفنها، فلما جنّ الليل إذا امرأتان تسألان: أيكما دفن عمرو بن جابر فقلنا ما ندري ما عمرو بن جابر قالتا: إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه، إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو بن جابر وهو الحية التي رأيتم، وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن عبّاد بن موسى، العكليّ، حدثنا المطلب بن زياد الثقفي، حدثنا أبو إسحاق أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا في مسير لهم وإن حيتين اقتتلتا فقتلت إحداهما الأخرى فعجبوا من طيب ريحها وحسنها، فقام بعضهم فلفّها في خرقة ثم دفنها، فإذا قوم يقولون السلام عليكم- لا يرونهم- إنكم دفنتم عمرا إن مسلمتنا وكفارنا اقتتلوا فقتل الكافر المسلم الذي دفنتم، وهو من الرهط الذين أسلموا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في زوائد المسند والطبراني والحاكم عن صفوان بن
__________
[ (1) ] أخرجه البيهقي في الدلائل 6/ 494.
[ (2) ] عمرو بن عبد الله الهمداني، أبو إسحاق السّبيعي، بفتح المهملة وكسر الموحدة، مكثر، ثقة عابد، من الثالثة، اختلط بآخره، مات سنة تسع وعشرين ومائة، وقيل قبل ذلك. [التقريب 2/ 73] .(2/446)
المعطّل نحوه، وفيه: أنه كان آخر السبعة الذين أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا الحسن بن جهور، حدثنا ابن أبي إياس، وعن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عمه، عن معاذ بن عبد اللَّه بن معمر قال: كنت جالسا عند عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه فجاء رجل فقال: ألا أخبرك يا أمير المؤمنين عجبا؟ بينا أنا بفلاة كذا وكذا إذ إعصاران قد أقبلا أحدهما من هاهنا والآخر من هاهنا فالتقيا فتعاركا ثم تفرّقا وإذا أحدهما أكبر من الآخر فجئت معتركهما: فإذا من الحيات شيء ما رأت عيناي مثله قط، وإذا ريح المسك من بعضها، وإذا حية صفراء ميتة فقمت فقلبت الحيات كما أنظر من أيها هو فإذا ذلك من حية صفراء دقيقة، فظننت أن ذلك لخير فيها فلففتها بعمامتي ودفنتها، فبينما أنا أمشي ناداني مناد ولا أراه: يا عبد الله ما هذا الذي صنعت فأخبرته بالذي رأيت ووجدت، فقال: إنك قد هديت، ذانك حيّان من الجن بنو شيبان وبنو أقيش، التقوا فاقتتلوا وكان بينهم ما قد رأيت واستشهد الذي رأيت، وكان أحد الذين استمعوا الوحي من النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن أبي الدنيا وأبو نعيم من طريق بشر بن الوليد الكندي حدثنا كثير بن عبد الله أبو هاشم الناجي، قال دخلنا على أبي رجاء العطاردي فسألناه: هل عندك علم من الجن ممن بايع النبي صلّى الله عليه وسلم؟ فتبسّم فقال: أخبركم بالذي رأيت وبالذي سمعت، كنا في سفر حتى إذا نزلنا على الماء فضربنا أخبيتنا وذهبت أقيل، فإذا أنا بحية دخلت الخباء وهي تضطرب فعمدت إلى إداوتي فنضحت عليها من الماء فسكنت، فلما صلينا العصر ماتت، فعمدت إلى عيبتي فأخرجت منها خرقة بيضاء فلففتها فيها وحفرت لها ودفنتها، وسرنا بقية يومنا وليلتنا، حتى إذ أصبحنا ونزلنا على الماء وضربنا أخبيتنا وذهبت أقيل فإذا أنا بأصوات: السلام عليكم. مرتين لا واحد ولا عشرة ولا مائة ولا ألف أكثر من ذلك، فقلت: من أنتم؟ قالوا: الجن بارك اللَّه عليك قد صنعت ما لا نستطيع أن نجازيك. قلت: ما صنعت إليكم؟ قالوا: إن الحية التي ماتت عندك كأن أخر من بقي ممن بايع النبي صلّى الله عليه وسلم من الجن.
ورواه البارودي- بالموحدة- في معرفة الصحابة من طريق آخر وفيه أنه آخر من بقي من النفر الذين كانوا يستمعون القرآن. قال الحافظ في الإصابة: هذه القصة مغايرة لما قبلها وقد أثبت لكل منها الآخريّة، فيمكن أن الأول مقيّد بالتسعة، والثاني بمن استمع بناء على أن الاستماع كان من طائفتين مثلا.
قال: وقد وقع في قصة سرق أنه آخر من بايع، فتكون آخريّته مقيدة بالمبايعة.
وروى أبو نعيم في الدلائل عن إبراهيم النخعي قال: خرج نفر من أصحاب عبد الله يريدون الحج حتى إذا كانوا ببعض الطريق إذا هم بحية تتثنّى على الطريق، أبيض ينفح منه ريح المسك، فقلت لأصحابي امضوا فلست ببارح حتى انظر إلى ما يصير أمر هذه الحية. فما(2/447)
لبثت أن ماتت، فعمدت إلى خرقة بيضاء فلففتها فيها، ثم نحّيتها عن الطريق فدفنتها، ثم أدركت أصحابي. فو اللَّه إنا لقعود إذ أقبل أربع نسوة من قبل المغرب فقالت واحدة منهن: أيكم دفن عمرا؟ قلنا: ومن عمرو؟ قالت: أيكم دفن الحية؟ قلت: أنا. قالت: أما واللَّه لقد دفنت صوّاما قوّاما يأمر بما أنزل اللَّه ولقد آمن بنبيكم وسمع صفته في السماء قبل أن يبعث بأربعمائة سنة. فحمدنا اللَّه تعالى ثم قضينا حجنا، ثم مررت بعمر بن الخطاب بالمدينة فأنبأته بأمر الحية فقال: صدقت، سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: لقد آمن بي قبل أن أبعث بأربعمائة سنة
[ (1) ] .
وقال ابن أبي الدّنيا: حدثنا محمد بن عباد حدثني محمد بن زياد، حدثني أبو مصلح الأسدي، حدثني يحيى بن صالح، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي الجهم، عن حذيفة العدوي قال: خرج حاطب بن أبي بلتعة من حائط له يريد النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالمسحاء التفت إليه عجاجتان ثم أجلتا عن حيّة كيف الحوار، يعني الجلد، فنزل ففحص له بسية قوسه ثم واراه، فلما كان الليل إذا هاتف يهتف به:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... اربع عليك سلام الواحد الصّمد
رأيت عمرا وقد ألقى كلاكله ... دون العشيرة كالضّرغامة الأسد.
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ذاك عمرو بن الجوماية وافد نصيبين لقيه محصن بن جوشن النصراني فقتله، أما إني قد رأيتها- يعني نصيبين- فرفها إليّ جبريل، فسألت اللَّه تعالى أن يعذب نهرها ويطيب ثمرها ويكثر مطرها.
والآثار في هذا المعنى كثيرة ذكر طرفا منها الشيخ رحمه اللَّه تعالى في كتابه «لقط المرجان في أخبار الجان» .
الثالث: أنكر ابن عباس رضي اللَّه عنهما اجتماع النبي صلى الله عليه وسلّم بالجن. ففي الصحيحين عنه قال: ما قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم على الجن ولا رآهم، انطلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: مالكم؟ قالوا: قد حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشّهب. قالوا: ما ذاك إلا من شيء قد حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامد إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل (128) وذكره المتقي الهندي في الكنز (35368) .(2/448)
فانزل اللَّه تعالى على نبيه: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 1] وإنما أوحي إليه قول الجن.
قال الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه اللَّه تعالى: وهذا الذي حكاه ابن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجنّ قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم وعلمت بحاله ولم يرهم، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معهم وقرأ عليهم القرآن كما رواه مسلم عن ابن مسعود.
ويؤيد قول البيهقي أثر كعب السابق أول الباب.
قال البيهقي: وابن مسعود قد حفظ القصتين فرواهما.
وقال غيره: أثر ابن مسعود أثبت إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الجن ورآهم، فكان ذلك مقدّما على نفي ابن عباس.
وقد جاء عن ابن عباس ما يوافق ابن مسعود. فروى ابن جرير بسند جيد قوي عن ابن عباس في قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: 29] الآية. قال: كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم.
فهذا يدل على إن ابن عباس روى القصتين كابن مسعود.
الرابع: قال الحافظ: لا يعكر على قولنا حديث ابن عباس كان في أول البعثة، كما تقرر قوله إنهم رأوه يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فيحتمل أن يكون ذلك بعد فرض الصلوات ليلة الإسراء لأنه صلى الله عليه وسلم كان قبل الإسراء يصلي قطعا وكذلك أصحابه ولكن اختلف هل افترض قبل الخمس شيء من الصلاة أم لا فيصح هذا على قول من قال إن الفرض كان أولا صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها والحجة فيه قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق: 39] ونحوها من الآيات. فيكون إطلاق صلاة الفجر في هذا الحديث باعتبار الزمان لا لكونها إحدى الخمس المفترضة ليلة الإسراء فتكون قصة الجن متقدمة من أول البعثة.
وقد أخرج الترمذي والطبري هذا الحديث بسياق سالم عن الإشكال الذي ذكرته من طريق أبي إسحاق السّبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت الجن تصعد إلى السماء يستمعون الوحي. وتقدم هو وأحاديث أخر تدل على أن هذه القصة وقعت أول البعثة وهو الذي تظافرت به الأخبار وهو المعتمد.
الخامس: في بيان غريب ما سبق.
الإعصار: قال في الصحاح ريح تثير الغبار ويرتفع إلى السماء كأنّه عمود.
العكلي: بضم العين المهملة وسكون الكاف. الإداوة بالكسر: المطهرة.
أقيل: أنام وقت القيلولة وهي نصف النهار.(2/449)
العيبة [ (1) ] بفتح العين المهملة زنبيل من جلد وما يجعل فيه الثياب.
تتثنّى: تتقلب.
المطية: المطا، وزن العصا: الظهر ومنه قيل للبعير مطيّة فعيلة بمعنى مفعولة لأنه يركب مطاه ذكرا كان أو أنثى ويجمع على مطي ومطايا.
المزجي مطيته: سائقها.
اربع: فعل أمر، أي ارفق.
نصيبين: بلد معروف بأرض الجزيرة.
__________
[ (1) ] اللسان 4/ 3184.(2/450)
الباب الثالث والثلاثون في عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على القبائل ليؤووه وينصروه ودعائه الناس إلى التوحيد
قال جابر بن عبد الله رضي اللَّه عنهما: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم يعرض نفسه بالموقف، فيقول: ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي.
رواه أبو داود والترمذي وقال حسن صحيح
[ (1) ] .
قال محمد بن عمر الأسلمي: مكث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم ثلاث سنين من أول نبوته مستخفيا ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين، يوافي الموسم كلّ عام يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة، فلا يجد أحدا ينصره ولا يجيبه حتى أنه سأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة
ويقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا وتملكوا العرب وتذل لكم العجم وإذا آمنتم كنتم ملوكا في الجنة. وأبو لهب وراءه يقول: لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب، فيردون عليه أقبح الرد ويؤذونه ويقولون: قومك بك أعلم
[ (2) ] .
وقال ابن إسحاق: ثم قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم مكة أي من الطائف وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم يعرض نفسه في المواسم إذا كانت، على قبائل العرب يدعوهم إلى اللَّه عز وجل ويخبرهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدّقوه ويمنعوه حتى يبيّن عن اللَّه عز وجل ما بعثه به.
وروى ابن إسحاق والبيهقي والإمام أحمد وابنه عبد الله والطبراني برجال ثقات، عن ربيعة بن عباد- بكسر العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة- قال: إني لغلام شاب مع أبي بمنى ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقف على القبائل من العرب فيقول: يا بني فلان إني رسول اللَّه إليكم يأمركم أن تعبدوا اللَّه ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدّقوني وتمنعوني حتى أبيّن عن اللَّه عز وجل ما بعثني به. والناس متقصّفون عليه ما رأيت أحدا يقول شيئا وهو لا يسكت. قال: وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلّة عدنية فإذا فرغ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل: يا بني فلان إن هذا الرجل إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزّى من أعناقكم وحلفاءهم من الجن وبني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه. فقلت لأبي: يا
__________
[ (1) ] أخرجه الترمذي (2935) وأبو داود (4734) وابن ماجة (201) والبيهقي في الأسماء والصفات (187) .
[ (2) ] أخرجه أحمد في المسند 3/ 492، 4/ 341 والطبراني في الكبير 5/ 56 والدارقطني 3/ 45 والبيهقي في الدلائل 5/ 380 وابن حبان (1682) والعقيلي في الضعفاء 1/ 106.(2/451)
أبت من هذا الرجل الذي يردّ عليه ما يقول يتبعه حيث ذهب ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفرّ منه؟ قال:
هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب أبو لهب
[ (1) ] .
وروى الطبراني عن طارق بن عبد الله قال: إني بسوق ذي المجاز إذ مرّ رجل بي [ (2) ] عليه حلّة من برد أحمر وهو يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. ورجل خلفه قد أدمى عرقوبيه وساقيه يقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تطيعوه. فقلت: من هذا؟ قالوا: غلام بني هاشم الذي يزعم أنه رسول اللَّه وهذا عمه عبد العزى.
وروى الطبراني برجال ثقات من مدرك بن [منيب] رضي اللَّه عنه قال: حججت مع أبي فلما نزلنا منى إذا نحن بجماعة فقلت لأبي: ما هذه الجماعة؟ قال: هذا الصابئ. وإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا.
وروى البخاري في تاريخه والطبراني في الكبير واللفظ له عن مدرك بن منيب- بضم أوله وكسر النون وآخره موحدة- العامريّ عن أبيه عن جده رضي اللَّه عنه قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الجاهلية وهو يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا. فمنهم من تفل في وجهه ومنهم من حثا عليه التراب، ومنهم من سبّه، حتى انتصف النهار فأقبلت جارية بعسّ من ماء فغسل وجهه ويديه وقال: يا بنية لا تخشي على أبيك غلبة ولا ذلة. فقلت: من هذه؟ قالوا: زينب بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. وهي جارية وضيئة.
وروى الطبراني برجال ثقات نحوه عن الحارث بن الحارث.
وروى الإمام أحمد والبيهقي عن الأشعث بن سليم عن رجل من كنانة قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم بسوق ذي المجاز وهو يقول: يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا اللَّه تفلحوا. وإذا رجل خلفه يسفي عليه التراب، وإذا هو أبو جهل، وإذا هو يقول: يا أيها الناس لا يغرّنكم هذا عن دينكم فإنما يريد أن تتركوا عبادة اللات والعزى يتبعه حيث ذهب ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفرّ منه، وما يلتفت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إليه.
قال الحافظ: عماد الدين بن كثير: المحفوظ: أبو لهب. وقد يكون أبو جهل وهما، ويحتمل أن يكون ذا تارة وذا تارة، وأنهما يتناوبان على أذيّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قلت: وهذا هو الظاهر.
وذكر ابن إسحاق عرضه صلّى الله عليه وسلم نفسه الكريمة على كندة وكلب وبني عامر بن صعصعة وبني حنيفة. قال: ولم يكن أحد من العرب أقبح ردّا عليه منهم.
__________
[ (1) ] أخرجه الطبري في التاريخ 2/ 348 وأحمد في المسند 3/ 492 والطبراني في الكبير 5/ 58.
[ (2) ] في أشاب.(2/452)
زاد الواقدي: وعلى بني عبس وغسّان وبني محارب وبني فزارة وبني مرّة وبني سليم وبني نصر بن هوازن وبني ثعلبة بن عكابة- بضم العين المهملة وفتح الباء الموحدة- وبني الحارث بن كعب وبني عذرة وقيس بن الخطيم. وساق أخبارهم.
وروى محمد بن عمر الأسلمي عن عامر بن سلمة الحنفي وكان قد أسلم في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: نسأل اللَّه لا يحرمنا الجنة، لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم جاءنا ثلاثة أعوام بعكاظ ومجنّة وبذي المجاز، يدعونا إلى اللَّه- عز وجل- وأن نمنع له ظهره حتى يبلّغ رسالات ربه، ويشرط لنا الجنّة، فما استجبنا له ولا رددنا عليه ردّا جميلا فخشنّا عليه وحلم عنا. قال عامر: فرجعت إلى هجر في أول عام فقال لي هودة بن علي: هل كان في موسمكم هذا خبر؟ قلت: رجل من قريش يطوف على القبائل يدعوهم إلى اللَّه تعالى وحده وأن يمنعوا ظهره حتى يبلّغ رسالة ربه ولهم الجنة. فقال هودة: من أي قريش هو؟ قلت: هو من أوسطهم نسبا من بني عبد المطلب. قال هودة: أهو محمد بن عبد المطلب؟ قلت: هو هو. قال: أما إن أمره سيظهر على ما ها هنا. فقلت: هنا قط من بين البلدان؟ قال: وغير ما ها هنا. ثم وافيت السنة الثانية هجر فقال: ما فعل الرجل؟ فقلت: واللَّه رأيته على حاله في العام الماضي. قال: ثم وافيت في السنة الثالثة وهي آخر ما رأيته وإذا بأمره قد أمر وإذا ذكره كثر في الناس. الحديث.
وروى الحاكم والبيهقي وأبو نعيم وقاسم بن ثابت عن علي رضي اللَّه عنه قال: لما أمر اللَّه عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم إن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه. فذكر الحديث إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلّم فقال: من القوم؟
قالوا: من شيبان بن ثعلبة. فالتفت أبو بكر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال: بأبي وأمي هؤلاء عزر الناس وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ وابن قبيصة والمثنّى بن حارثة والنعمان بن شريك، وكان مفروق قد غلبهم لسانا وجمالا وكانت له غديرتان تسقطان على تربيته، وكان أدنى القوم مجلسا من أبي بكر فقال أبو بكر: كيف العدد فيكم؟ فقال مفروق: إنا لا نزيد على الألف ولن تغلب ألف من قلة. فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبا حين نلقى، وأشد ما نكون لقاء حي نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند اللَّه يديلنا مرة ويديل علينا أخرى، لعلك أخا قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم فها هو ذا. فقال مفروق إلام تدعونا يا أخا قريش؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأني عبد اللَّه ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني فإن قريشا قد تظاهرت على اللَّه وكذّبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.(2/453)
فقال مفروق وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش؟ فو اللَّه ما سمعت كلاما أحسن من هذا.
فتلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأَنعام 151] .
فقال مفروق: دعوت- واللَّه- إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذّبوك وظاهروا عليك.
ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا وصاحب ديننا.
فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش وإني أرى تركنا ديننا وإتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا لا أول له ولا آخر لذلّ في الرأي وقلة نظر في العاقبة، إن الزلّة مع العجلة وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدا ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر.
ثم كأنه أحب أن يشركه المثنّى بن حارثة فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا.
فقال المثنّى- وأسلم بعد ذلك- قد سمعت مقالتك يا أخا قريش والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك وإنا نزلنا بين صريين: أحدهما اليمامة والآخر السمامة.
فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ما هذان الصريان؟ قال: أنهار كسرى ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، وأما ما كان مما يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكرهه الملوك، فأن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب فعلنا.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق. وإن دين اللَّه عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم اللَّه تعالى أرضهم وديارهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم أتستحبّون اللَّه تعالى وتقدّسونه؟
فقال النعمان: اللهم فلك ذاك.
فتلا عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب 45] .(2/454)
ثم نهض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
[ (1) ] .
وروى سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في مغازيه عن أبيه، وأبو نعيم عن عبد الرحمن العامري عن أشياخ من قومه قالوا: أتانا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحن بعكاظ فقال: من القوم؟ قلنا: من بني عامر بن صعصعة بنو كعب بن ربيعة؟ فقال: إني رسول اللَّه إليكم وأتيتكم لتمنعوني حتى أبلّغ رسالة ربي ولا أكره أحدا منكم على شيء.
قالوا: لا نؤمن بك وسنمنعك حتى تبلّغ رسالات ربك.
فأتاهم بيحرة بن فراس القشيري فقال: من هذا الرجل الذي أراه عندكم أنكره؟ قالوا:
هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. قال: فما لكم وله؟ قالوا: زعم أنه رسول اللَّه فطلب إلينا أن نمنعه حتى يبلّغ رسالة ربه. قال: ما رددتم عليه؟ قالوا: بالرّحب والسعة نخرجك إلى بلادنا ونمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فقال بيحرة: ما أعلم أحدا من أهل هذه السوق يرجع بشيء أشر من شيء ترجعون به! أتعمدون إلى رهيق قوم طردوه وكذّبوه فتؤووه وتنصروه تنابذوا العرب عن قوس واحدة، قومه أعلم به فبئس الرأي رأيكم. ثم أقبل علي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:
قم فالحق بقومك فو اللَّه لولا أنك عند قومي لضربت عنقك.
فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم إلى ناقته ليركبها فغمز الخبيث بيحرة شاكلتها فقمصت برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فألقته. وعند بني عامر يومئذ ضباعة بنت عامر بن حوط كانت من النسوة اللاتي أسلمن بمكة جاءت زائرة إلى بني عمها فقالت: يا لعامر ولا عامر لي، أيصنع هذا برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بين أظهركم ولا يمنعه أحد منكم؟
فقام ثلاثة نفر من بني عمها إلى بيحرة واثنين أعاناه فأخذ كل رجل منهم رجلا فجلد به الأرض، ثم جلس على صدره ثم علوا وجوههم لطما.
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك على هؤلاء والعن هؤلاء. فأسلم الثلاثة الذين نصروه وقتلوا شهداء، وهم غطيف وغطفان ابنا سهل وعروة أو عزرة بن عبد الله، وهلك الآخرون
[ (2) ] .
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم أدركته السّنّ حتى لا يقدر أن يوافي معهم موسمهم، فكانوا إذا رجعوا إليه حدّثوه بما يكون في ذلك في الموسم، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم فقالوا: جاءنا فتى من قريش ثم أحد بني عبد المطلب يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا فوضع الشيخ يده على رأسه،
__________
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل (237) .
[ (2) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل (100) وابن كثير في البداية والنهاية 3/ 141.(2/455)
ثم قال: يا بني عامر هل لها من تلاف هل لذنا بها من مطلب! والذي نفسي بيده ما تقوّلها إسماعيليّ قط كاذبا وإنه لحقّ، فأين رأيكم كان عنكم.
وروى أبو نعيم عن خالد بن سعيد عن أبيه عن جده أن بكر بن وائل قدم مكة في الحج فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ايتهم واعرض عليهم. فأتاهم فعرض عليهم. فقالوا: حتى يجيء شيخنا حارثة. فلما جاء قال: إن بيننا وبين الفرس حربا فإذا فرغنا مما بيننا وبينهم عدنا فنظرنا فيما تقول فلما التقوا بذي قارهم والفرس قال لهم شيخهم: ما اسم الرجل الذي دعاكم إلى ما دعاكم إليه؟ قالوا: محمد. قال: فهو شعاركم. فنصروا على الفرس. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: بي نصروا.
وروى محمد بن عمر الأسلمي عن جهم بن أبي جهم إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقف على بني عامر يدعوهم إلى اللَّه تعالى، فقام رجل منهم فقال له: عجبا لك واللَّه قد أعياك قومك ثم أعياك أحياء العرب كلها حتى تأتينا وتتردّد علينا مرةً بعد مرة؟ واللَّه لأجعلنّك حديثا لأهل الموسم. ونهض إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وكان جالسا فكسر اللَّه ساق الخبيث، فجعل يصيح من رجله وانصرف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو نعيم عن عبد الله بن وابصة العبسي عن أبيه عن جده قال: جاءنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنى فدعانا فاستجبنا له، وكان معنا ميسرة بن مسروق العبسي فقال لنا:
أحلف باللَّه لو صدّقنا هذا الرجل وحملناه حتى نحلّ به وسط رحالنا لكان الرأي، فأحلف باللَّه ليظهرّن أمره حتى يبلغ كلّ مبلغ فأبى القوم وانصرفوا. فقال لهم ميسرة: ميلوا بنا إلى فدك فإن بها يهود نسألهم عن هذا الرجل. فمالوا إلى يهود فأخرجوا سفرهم فوضعوه ثم درسوا ذكر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم النبي الأمي العربي يركب الحمار ويجتزئ بالكسرة، وليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالجعد ولا بالسّبط في عينيه حمرة مشرب اللون. قالوا: فإن كان هو الذي دعاكم فأجيبوه وادخلوا في دينه فإنا نحسده ولا نتبعه ولنا منه في مواطن بلاء عظيم، ولا يبقى أحد من العرب إلا اتبعه أو قتله. فقال ميسرة: يا قوم أن هذا الأمر بيّن فأسلم ميسرة.
وروى أبو نعيم عن ابن رومان وعبد الله بن أبي بكر وغيرهما قالوا: جاء النبي صلى الله عليه وسلم كندة في منازلهم فعرض نفسه عليهم فأبوا. فقال أصغر القوم: يا قوم اسبقوا إلى هذا الرجل قبل أن تسبقوا إليه، فو اللَّه إن أهل الكتاب ليحدثونا إن نبياً يخرج من الحرم قد أظل زمانه فأبوا.
وروى البيهقي عن عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا: قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد إنما يسميه قومه الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وهو الذي يقول:
ألا ربّ من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري(2/456)
مقالته كالشّهد ما كان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغره النّحر
يسرّك باديه وتحت أديمه ... تميمة غشّ تبتري عقب الظّهر
تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الغلّ والبغضاء بالنّظر الشّزر
فرشني بخير طال ما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبري
[ (1) ] فتصدّى له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى اللَّه تعالى وإلى الإسلام. فقال له سويد: لعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك؟ قال مجلّة لقمان. يعني حكمته.
فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: اعرضها علي. فعرضها عليه. فقال: هذا كلام حسن والذي معي أفضل من هذا: قرآن أنزله اللَّه تعالى هو هدى ونور. فتلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليه القرآن ودعاه إلى الإيمان فلم يبعد منه وقال: أن هذا القول حسن.
ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان رجال قومه ليقولون: إنا لنراه قد قتل وهو مسلم.
وكان قتله قبل بعاث.
تنبيه [في بيان غريب ما سبق]
عكاظ- بضم العين المهملة: سوق بقرب مكة وراء قرن المنازل، يصرف ويمنع.
ذي المجاز- بالجيم والزاي: سوق كانت تقام في الجاهلية على فرسخ من عرفة.
مجنّة- بفتح الميم والجيم والنون المشددة: سوق أخرى.
مفروق- بفتح الميم ففاء ساكنة فراء مضمومة فواو ساكنة.
هانئ- بالهمزة في آخره.
قبيصة- بفتح القاف وكسر الباء الموحدة ومثناة تحتية آخره صاد مهملة.
مثنى بن حارثة- بالحاء المهملة والثاء المثلثة: أسلم المثنى بعد ذلك، وكان سببا في فتح العراق وأبلى فيه بلاء حسنا. رضي اللَّه عنه.
هودة- بفتح الهاء وسكون الواو وفتح الدال المهملة.
قطّ: أي حسب.
التّربية- بفتح المثناة الفوقية وكسر الراء: واحدة الترائب وهي عظام الصدر.
__________
[ (1) ] انظر الروض الأنف 1/ 265.(2/457)
رهيق قوم [ (1) ] : أي سفيههم.
ذو قار- بالقاف والراء: موضع به ماء معروف.
من تلاف.
لذناباها من مطلب: الذنابى: وزان الخزامى في الأصل لغة في الذّنب ويقال هو في الطائر أفصح من الذّنب، ثم استعارها هنا للقصة.
تقوّلها: أدعاها.
الشّعار- بكسر الشين المعجمة: العلامة في الحرب وهو ما ينادون به ليعرف بعضهم بعضا.
أدنى: أقرب.
المنعة- بفتح الميم والنون: قال في التقريب: أي في قوم يمنعونه ويحمونه جمع مانع، ككاتب وكتبة ويسكّن على معنى منعة واحدة والسكون عاميّ. وقال الزمخشري: يسكن في الشعر لا في غيره.
الجهد- بفتح الجيم وضمها: الطاقة.
الجد- بفتح الجيم: الحظ والسعادة. والمعنى أن علينا أن نجهد وليس علينا أن يكون لنا الظفر والنصر إنما هو من عند اللَّه.
لحين: الأكثر جرّ حين هنا، وهو ظرف زمان.
نلقى- بفتح النون وإسكان اللام وفتح القاف: مبني للفاعل ويجوز بناؤه للمفعول فيكون مضموم النون.
الجياد: جمع جواد، يقال جاد الفرس جوادا بالفتح وجودة بالضم صار جواد بالجري.
اللّقاح [ (2) ]- بكسر اللام المشددة وبالقاف والحاء المهملة: جمع لقحة وهي هنا ذوات الدّرّ من الإبل بعد الولادة بشهر أو شهرين ثم هي ذات لبون.
يديلنا- بضم المثناة التحتية وكسر الدال المهملة: أي ينصرنا.
أخو قريش: أي الذي هو منهم.
أوقد بلغكم- بفتح الواو على الاستفهام.
__________
[ (1) ] اللسان 3/ 1755.
[ (2) ] انظر المعجم الوسيط 2/ 833.(2/458)
ظاهرت: عاونت.
أفك- بفتح الهمزة والفاء: صرف عن الحق ومنع منه.
أن يشركه- بفتح أوله وثالثه ويقال رباعي أيضا: أي يجعله شريكه.
الصّريّين: بصاد مهملة فراء مفتوحتين فمثناتين تحتيتين الأولى مفتوحة مشددة والثانية ساكنة تثنية صرى- وفي بعض نسخ العيون صيرين تثنية صير- بكسر الصاد. قال في المصباح والتقريب: صرى الماء صرىّ من باب تعب: طال مكثه وتغيّره ويقال طال استنقاعه فهو صرى وصف بالمصدر. وقال في النهاية: الصير الماء الذي يحضره الناس وقد صار القوم يصيّروه إذا حضروا الماء.
اليمامة- بفتح المثناة التحتية: مدينة من اليمن على مرحلتين من الطائف وأربع من مكة.
السّمامة- بكسر السين المهملة وميمين مفتوحتين: ولم أر لها ذكرا في معجم البكري ولا في معجم البلدان لياقوت، ولا في كتاب الزمخشري في الأماكن ولا في كتاب نصر، ولا في القاموس الذي وقفت عليه.
يفري [ (1) ] : يقطع في عرضك.
المأثور: السيف الموشّى.
الثّغرة: الحفرة التي في الصدر.
تبتري [ (2) ]- بتاء مثناة فوقية فموحدة ساكنة فمثناة فوقية مفتوحة.
العقب: عصب الظهر.
الشزر: هو نظرة العدو.
فرشني: قوّني.
بريتني: أضعفتني.
المجلة: بفتح الميم والجيم واللام: الصحيفة هذا هو أصلها.
بعاث- بالعين المهملة ويقال بإعجامها: اسم موضع.
حاطه: كلأه ورعاه.
يفرشكم- بضم المثناة التحتية وكسر الراء.
__________
[ (1) ] المصباح المنير 471.
[ (2) ] المعجم الوسيط 1/ 53.(2/459)
الباب الرابع والثلاثون في خبر بعض المستهزئين برسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف كان هلاكهم
قال اللَّه سبحانه وتعالى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزئ بك. وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلّم فَأَمْلَيْتُ أمهلت لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعقوبة فَكَيْفَ كانَ عِقابِ [الرعد 32] أي فكيف رأيت ما صنعت بهم فكذلك أصنع بمن استهزأ بك.
وقال تبارك وتعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بأن أهلكناهم بآفة الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الحجر 95] صفة وقيل مبتدأ ولتضمّنه معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وَلَقَدْ للتحقيق نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من الاستهزاء والكذب فَسَبِّحْ متلبسا بِحَمْدِ رَبِّكَ أي قبل سبحان اللَّه وبحمده وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ المصلّين وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر 97: 99] الموت.
قال الجمهور ومنهم ابن عباس في أكثر الروايات عنه: كانوا خمسة. وقال في رواية:
كانوا ثمانية وصححه في الغرر وجزم به أبو عمرو العراقي في الدرر.
الأول: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن زهرة،
وهو ابن خال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
قال البلاذري: كان إذا رأى المسلمين قال لأصحابه: قد جاءكم ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى وقيصر. ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: أما كلّمت اليوم من السماء يا محمد. وما أشبه هذا القول. فخرج من عند أهله فأصابته السّموم فاسودّ وجهه حتى صار حبشيّا، فأتى أهله فلم يعرفوه وأغلقوا دونه الباب، فرجع متلدّدا حتى مات عطشا.
ويقال أن جبريل صلى الله عليه وسلم أومأ إلى رأسه فضربته الأكلة فامتخض رأسه قيحا ويقال أومأ إلى بطنه فسقى بطنه ومات حبنا. ويقال إنه عطش فشرب الماء حتى انشق بطنه.
قلت: والقول الأول رواه أبو نعيم بسند ضعيف عن ابن عباس، ورواه أيضاً عن الربيع بن أنس. وزاد: وكان رجلا أبيض حسن الجسم. والقول الثاني رواه الطبراني والبيهقي والضياء بسند صحيح. والقول الثالث رواه أبو نعيم من طريقين ضعيفين. والقول الرابع رواه [ (1) ] ...
وروى ابن أبي حاتم والبلاذري بسند صحيح عن عكرمة أن جبريل حنى ظهر الأسود حتى احقوقف صدره، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خالي خالي. فقال: دعه عنك يا محمد فقد كفيته.
ولا تخالف بين هذه الروايات لاحتمال أن جميعها حصل له.
امتخض: بالخاء والضاد المعجمتين: أي تحرك.
__________
[ (1) ] بياض في الأصول.(2/460)
احقوقف: انحنى.
الحبن- بحاء مهملة مفتوحتين: عظم البطن.
الثاني: الحارث بن قيس السهمي
وهو ابن العنطلة ينسب إلى أمه، وكان يأخذ حجرا يعبده فإذا رأى أحسن منه تركه وأخذه الأحسن.
وفيه نزلت: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي مهويّه قدّم المفعول الثاني لأنه أهم وجملة مَنِ مفعول أول لأرأيت أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان 43] حافظا تحفظه من اتباع هواه لا.
وكان يقول: لقد غرّ محمد نفسه وأصحابه أن وعدهم أن يحيوا بعد الموت، واللَّه ما يهلكنا إلا الدهر ومرور الأيام والأحداث. فأكل حوتا مملوحا فلم يزل يشرب عليه الماء حتى انقدّ بطنه. ويقال إنه أصابته الذبحة. وقال بعضهم: امتخض رأسه قيحا.
قلت: القول الأول رواه عبد الرازق وابن جرير وغيرهما عن قتادة ومقسم مولى ابن عباس.
الثالث: الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى.
قال البلاذري رحمه اللَّه: كان هو وأصحابه يتغامزون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويقولون:
قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على كنوز كسرى وقيصر ثم يمكّون ويصفّرون. وكلّم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بكلام شقّ عليه فدعا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يعمي اللَّه بصره ويثكله ولده فخرج يستقبل ابنه وقد قدم من الشام، فلما كان ببعض الطريق جلس في ظل شجرة فجعل جبريل صلى الله عليه وسلّم يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها خضراء وبشوك من شوكها حتى عمي فجعل يستغيث بغلامه. فقال له غلامه: ما أرى أحدا يصنع بك شيئا غير نفسك. ويقال أن جبريل صلى الله عليه وسلم أومأ إلى عينيه فعمي فشغل عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم. ولما كان يوم بدر قتل ابنه زمعة بن الأسود، قتله أبو دجانة ويقال قتله ثابت بن الجذع، قتل ابنه عقيل أيضا، قتله حمزة بن عبد المطلب وعلي رضي اللَّه عنهما اشتركا فيه. وقيل قتله عليّ وحده رضي اللَّه عنه.
الرابع: مالك بن الطّلاطلة
- بطائين مهملتين الأولى مضمومة والثانية مكسورة- ابن عمرو بن غبشان- بضم الغين المعجمة وسكون الباء الموحدة بعدها شين معجمة- ذكره فيهم ابن الكلبي والبلاذري، وكان سفيها فدعا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم واستعاذ باللَّه من شره فعصر جبريل بطنه حتى خرج خلاؤه من بطنه فمات.(2/461)
وقال البلاذري وقال غير ابن الكلبي، أشار جبريل إليه فامتخض رأسه قيحا وقال آخر:
هو عمر بن الطلاطل. وذلك باطل.
الخامس: العاصي بن وائل السهمي.
قال البلاذري: ركب حمارا له ويقال بغلة بيضاء فلما نزل شعبا من تلك الشعاب وهو يريد الطائف ربض به الحمار أو البغلة على شبرقة فأصابت رجله شوكة منها فانتفخت حتى صارت كعنق البعير ومات. ويقال إنه لما ربض به حماره أو البغلة لدغ فمات مكانه قلت: القول الأول رواه البلاذري والقول الثاني رواه أبو نعيم بسند ضعيف عن ابن عباس.
الشّبرقة- بكسر الشين المعجمة والراء: رطب الضّريع.
وروى الشيخان وابن إسحاق عن خبّاب بن الأرتّ قال: كنت قينا. أي حدّادا- في الجاهلية فعملت للعاصي بن وائل سيوفا- وفي رواية سيفا- فجئته أتقاضاه فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقلت: لا أكفر حتى يميتك اللَّه ثم تبعث. قال: وإني لميت ثم مبعوث؟! قلت: بلى. قال: دعني أموت وأبعث فنؤتي مالا وولدا فأعطيك هنالك حقك وو اللَّه لا تكون أنت وصاحبك يا خبّاب آثر عند اللَّه مني ولا أعظم حظّا. فانزل اللَّه تعالى فيه أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا العاصي بن وائل وقال لخبّاب بن الأرتّ القائل له: تبعث بعد الموت والمطالب له بمال: لَأُوتَيَنَّ على تقدير البعث مالًا وَوَلَداً فأقضيك. قال تعالى: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ: أي أعلمه وأن يؤتي ما قاله، واستغنى بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل فحذفت أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً بأن يوتي ما قاله كَلَّا أي لا يوتى ذلك سَنَكْتُبُ نأمر بكتب ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا نزيده بذلك عذابا فوق عذاب كفره وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ من المال والولد وَيَأْتِينا يومَ القيامة فَرْداً [مريم 77: 80] لا مال له ولا ولد.
السادس: الحكم بن أبي العاصي بن أمية.
قال البلاذري: كان ممن يؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم يشتمه ويسمعه ما يكره، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم يمشي ذات يوم وهو خلفه يخلج بأنفه وفمه فبقي على ذلك، وأظهر الإسلام يوم الفتح وكان مغموصا عليه في دينه، - فاطَّلع يوما على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في بعض حجر نسائه فخرج إليه بعنزة وقال: من عذيري من هذا الوزغة؟ لو أدركته لفقأت عينه أو كما قال صلى الله عليه وسلّم. ولعنه وما ولد وغرّبه من المدينة فلم يزل خارجا منها إلى أن مات عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه.
قلت: وروى أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: كان رجل(2/462)
خلف النبي صلى الله عليه وسلّم يحاكيه ويلمض فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال كذلك كن. فرجع إلى أهله فلبط به مغشيّا عليه شهرا ثم أفاق حين أفاق وهو كما يحاكي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
وهذا المبهم الظاهر أنه الحكم.
السابع: الوليد بن المغيرة:
قال البلاذري فمرّ الوليد برجل يقال له حرّاث- بفتح الحاء وتشديد الراء المهملتين- ابن عامر بن خزاعة، وهو الثّبت- وبعضهم يقول حرّاب بالحاء المهملة والباء الموحدة- وهو يريش نبلا له ويصلحها فوطئ على سهم منها فخدشته خدشا يسيرا، ويقال علق بإزاره فخدش ساقه خدشا خفيفا فأهوى إليه جبريل فانتفض الخدش وضربته الأكلة في رجله أو ساقه فمات.
الثامن: أبو لهب،
وكان من أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال البلاذريّ: وكان يطرح القذر والنتن على باب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرآه حمزة بن عبد المطلب وقد طرح من ذلك شيئاً فأخذه وطرحه على رأسه، فجعل أبو لهب ينفض رأسه ويقول: صابئ أحمق. فأقصر عما كان يفعل، لكنه كان يدسّ من يفعله.
قال:
وروى ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم كنت بين شرّ جارين، بين أبي لهب وعقبة بن أبي معيط، إن كانا ليأتيان بالفروث فيطرحانها على بابي.
قالت: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: يا بني عبد مناف أيّ جوار هذا؟ ثم يميطه عن بابه.
قالوا: وبعث أبو لهب ابنه عتبة بشيء يؤذي به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم فسمعه يقرأ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النجم: 1] فقال: أنا كافر برب النجم. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: سلط اللَّه عليك كلبا من كلابه، فخرج في تجارة فجاء الأسد وهو بين أصحابه نائم بحوران من أرض الشام فجعل يهمس ويشمّ حتى انتهى إليه فمضغه مضغة أتت عليه، فجعل يقول وهو بآخر رمق: ألم أقل لكم إن محمدا أصدق الناس؟! ثم مات.
قلت: صوابه عتيبة بالتصغير كما سيأتي بسط ذلك في أبواب إجابة دعواته.
ومات أبو لهب بداء يعرف- بالعدسة، كانت العرب تتشاءم به وتفرّ ممن ظهر به، فلما أصاب أبا لهب تركه أهله حتى مات ومكث مدة لا يدفن حتى خافوا العار فحفروا له حفرة فرموه فيها. كما سيأتي بيان ذلك.
وكانت امرأته أم جميل ابنة حرب تؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كثيرا وهي حمالة الحطب، وإنما سماها اللَّه تعالى بذلك لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه بالليل على طريق(2/463)
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حيث يمرّ هو وأصحابه لتعقرهم بذلك، فبينا هي ذات يوم تحمل حزمة أعيت فقعدت على حجر تستريح أتاها ملك فجذبها من خلفها بالحبل الذي في عنقها فخنقها به.
وروى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ صعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي لبطون من قريش، حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا ينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا قال: فإن لكم نذير بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا
[ (1) ] ! فانزل اللَّه تعالى: بسم اللَّه الرحمن الرحيم تَبَّتْ خسرت. والتباب: الخسران المفضي إلى الهلاك يَدا أَبِي لَهَبٍ جملته وعبر عنها باليدين مجازا لأن أكثر الأفعال تداول بهما، وكني بأبي لهب لحسنه وجماله وإنما كناه لأنه كان مشتهرا بكنيته دون اسمه وقيل لأن اسمه عبد العزى فلا يناسب في القرآن عبديّة شخص إلى غير اللَّه تعالى وهذه الجملة دعاء وَتَبَّ خسر هو، وهذه خبر كقولهم أهلكه اللَّه وقد أهلكه.
ولمّا خوّفه النبي صلى الله عليه وسلّم بالعذاب قال: إن كان ما يقول ابن أخي حقا فإني أفتدي منه بمالي وولدي فأنزل ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ وكسبه: أي ولده وأغنى بمعنى يغني سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ أي تلهّب وتوقد فهي مآل تكنيته وَامْرَأَتُهُ: عطف على ضمير يصلى سوّغه الفصل بالمفعول وصفته وهي أم جميل حَمَّالَةَ بالرفع الْحَطَبِ الشوك والسعدان تلقيه في طريق النبي صلى الله عليه وسلم فِي جِيدِها عنقها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي ليف وهذه الجملة حال من حمالة الحطب الذي هو نعت المرأته أو خبر مبتدأ مقدر.
ولهذا مزيد بيان- في المعجزات.
وذكر البلاذري ممن كان يؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أبو الأصداء وكان يقول لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إنما يعلمك أهل الكتاب أساطيرهم ويقول الناس هو معلّم مجنون فدعا عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإنه لعلى جبل إذ اجتمعت عليه الأروى فنطحته حتى قتلته.
وذكر ابن إسحاق فيهم: أمية بن خلف الجمحي.
قال ابن إسحاق: وكان إذا رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم همزه ولمزه فأنزل اللَّه سبحانه وتعالى:
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مالًا وَعَدَّدَهُ.
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 4/ 609 (4971) .(2/464)
قال ابن هشام: الهمزة: الذي يشتم الرّجل علانية ويكسر عينه عليه ويغمز به وجعه همزات. واللّمزة: الذي يعيب الناس سرّا ويؤذيهم.
النضر بن الحارث.
قال ابن إسحاق: ابن كلدة بن علقمة.
قال الخشنيّ: والصواب علقمة بن كلدة.
كان إذا جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مجلسا فدعا فيه إلى اللَّه وتلا عليهم القرآن وحذّر قريشا ما أصاب الأمم الماضية خلفه في مجلسه إذا قام فحدّثهم عن ملوك الفرس، ثم يقول: واللَّه ما محمد بأحسن حديثا منّي، وما أحاديثه إلا أساطير الأولين اكتتبها كما اكتتبتها فأنزل اللَّه:
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أكاذيبهم، جمع أسطورة بالضم اكْتَتَبَها انتسخها من القوم بغيره فَهِيَ تُمْلى تقرأ عَلَيْهِ ليحفظها بُكْرَةً وَأَصِيلًا غدوة وعشيا.
قال تعالى ردا عليهم: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ الغيب فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً للمؤمنين رَحِيماً بهم.
قال ابن إسحاق: وجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوما فيما بلغني مع الوليد بن المغيرة في المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم وفي المجلس غير واحد من رجال قريش فتكلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعرض له النّضر فكلّمه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليه وعليهم: إِنَّكُمْ يا أهل مكة وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره من الأوثان حَصَبُ جَهَنَّمَ وقودها أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ داخلون فيها لَوْ كانَ هؤُلاءِ الأوثان آلِهَةً كما زعمتم ما وَرَدُوها دخلوها وَكُلٌّ من العابدين والمعبودين فِيها خالِدُونَ لا خلاص لهم منها لَهُمْ للعابدين فِيها زَفِيرٌ صياح وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء 98: 100] ثم قام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم وأقبل عبد الله بن الزّبعرى- بزاي فباء موحدة مكسورتين فعين مهملة ساكنة فراء فألف مقصورة- وأسلم بعد ذلك، حتى جلس إليهم فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى واللَّه ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد وقد زعم محمد أنّا وما نعبد من- آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله: أما والله ولو وجدته لخصمته فسلوا محمدا أكلّ ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى ابن مريم. فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله ورأوا أنه قد احتجّ وخاصم.
فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كل من أحب أن يعبد من دون اللَّه فهو مع من عبده، إنهم إنما يعبدون الشياطين ومن أمرتهم بعبادته.
فانزل اللَّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا المنزلة الْحُسْنى وهي السعادة أو(2/465)
التوفيق للطاعة أو البشرى بالجنة ومنهم من ذكر أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لأنهم يرفعون إلى أعلى علّيين ولا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها صوتها: وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من النعيم خالِدُونَ دائمون لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وهو أن يؤمر بالعبد إلى النار وَتَتَلَقَّاهُمُ تستقبلهم الْمَلائِكَةُ عند خروجهم من القبول يقولون لهم هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء 101: 103] في الدنيا [ (1) ] .
تنبيه
قال السهيلي: لو تأمل ابن الزّبعرى وغيره من كفار قريش الآية لرأى أن اعتراضه غير لازم من وجهين:
أحدهما: أنه خطاب متوجه على الخصوص لقريش عبدة الأصنام، وقوله «إنا نعبد الملائكة» حيدة، وإنما وقع الكلام والمحاجّة في اللات والعزّى وهبل وغير ذلك من أصنامهم.
والثاني: أن لفظ التلاوة: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ولم يقل ومن تعبدون فكيف يلزم اعتراضه بالمسيح وعزير والملائكة، وهم يعقلون والأصنام لا تعقل؟ ومن ثم جاءت الآية بلفظ ما الواقعة على ما لا يعقل. انتهى.
وقال بعض العلماء: ان ابن الزبعرى من فصحاء العرب لا يخفى عليه موضع «من» من «ما» وإنما إيراده من جهة القياس والعموم المعنوي الذي يعمّ الحكم فيه لعموم علته أي إن كان كونه معبودا يوجب أن يكون حصب جهنم فهذا المعنى موجود في الملائكة والمسيح وعزير.
وأجيب بالفارق من وجوه:
الأول: الآية المتقدمة، لأن عزيرا والمسيح ممن سبقت لهم الحسنى فالتسوية بين الملائكة والأنبياء وبين الأصنام والشياطين من جنس التسوية بين البيع والرّبا وهو شأن أهل الباطل يسوّون بين ما فرّق الشرع والعقل والفطرة بينه، ويفرّقون بين ما سوى اللَّه عز وجل ورسوله بينه.
الثاني: الأوثان حجارة غير مكلّفة ولا ناطقة، فإذا حصب بها جهنم إهانة لها ولعابديها- لم يكن في ذلك تعذيب من لا يستحق العذاب.
الثالث: أن من عبد هؤلاء بزعمه فإنهم لم يدعوا إلى أنفسهم، وإنما عبد المشركون
__________
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 2/ 89 تفسير ابن كثير 5/ 375.(2/466)
الشياطين وتوهموا أن العبادة لهؤلاء، وقد برّأ اللَّه تعالى الملائكة والمسيح وعزيرا من ذلك، فما غير اللَّه إلا الشياطين.
وهذه كلها منتزعة من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى وإذا تأمل قوله تعالى: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [التحريم 6] فأخرج من خلاله أن معبودهم معذّبهم المشتعل عليهم، فهو أبلغ في النّكال وقطع الآمال.
الحيدة: بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية وهي العدول.
ومنهم الأخنس بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة وفتح النون فسين مهملة، ابن شريق- بفتح الشين المعجمة وبالقاف- الثقفي واسمه أبيّ وذكر غير واحد إنه أسلم بعد ذلك.
قال ابن إسحاق: وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه وكان يصيب من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم ويردّ عليه، فأنزل اللَّه تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف بالباطل مَهِينٍ حقير هَمَّازٍ عيّاب أي مغتاب مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ أي ساع بالكلام بين الناس على وجه الإفساد بينهم.
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يمنع الناس من الخير من الإيمان والإنفاق والعمل الصالح مُعْتَدٍ ظالم أَثِيمٍ كثير الإثم عُتُلٍّ غليظ جاف بَعْدَ ذلِكَ بعد ما عدّ من مثاليه زَنِيمٍ [القلم: 1- 13] دعيّ في قريش قاله ابن عباس وأنشد على ذلك قول الشاعر:
زنيم تداعاه الرّجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم أكارعه
[ (1) ] .
رواه عبد بن حميد وابن عساكر وبه قال عكرمة وأنشد قول الشاعر:
زنيم ليس يعرف من أبوه ... بغيّ الأمّ ذو حسب لئيم
وقيل إنه كان له زنمتان حقيقة.
وروى البخاري والنسائي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو رجل من قريش نعت فلم يعرف حتى قيل زنيم وكان له زنمة زائدة في عنقه يعرف بها.
تنبيه
ما جزم به ابن إسحاق من أن هذه الآيات أنزلت في حق الأخنس رواه ابن أبي حاتم عن السدي وابن سعد وعبد بن حميد عن الشعبي وعبد الرازق وابن المنذر عن الكلبي وقيل
__________
[ (1) ] انظر ديوان حسان ص 164.(2/467)
أنزلت في حق الأسود بن عبد يغوث. رواه ابن مردويه عن ابن عباس وابن أبي حاتم عن مجاهد وقيل أنزلت في الوليد بن المغيرة. ذكره يحيى بن سلام في تفسيره وجزم به غير واحد.
ومنهم أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط.
قال ابن إسحاق: وكانا متصافيين حسنا ما بينهما.
روى ابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل بسند صحيح من طريق سعيد بن جبير وعبد الرزاق في المصنّف وابن جرير وابن المنذر عن مقسم مولى ابن عباس كلاهما عنه، أن أبا معيط وفي رواية عقبة بن أبي معيط كان يجلس مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم بمكة ولا يؤذيه وكان رجلا حليما، وكان بقية قريش إذا جلسوا معه آذوه وكان لأبي معيط خليل غائب عنه بالشام.
وفي رواية أنه أمية بن خلف فقالت قريش: صبأ أبو معيط.
وفي رواية وكان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا أهل مكة كلهم فصنع طعاما ثم دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا اللَّه وأني رسول اللَّه. فقال: اطعم يا ابن أخي.
فقال: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول، فشهد بذلك وطعم من طعامه. وقدم خليله من الشام ليلا فقال لامرأته ما فعل محمد مما كان عليه؟ فقالت: أشدّ ما كان أمرا. فقال: ما فعل خليلي أبو معيط؟ فقال: صبأ. فبات بليلة سوء فلما أصبح أتاه أبو معيط فحيّاه فلم يرد عليه التحية فقال:
ما لك لا تردّ عليّ تحيتي. فقال: كيف أردّ عليك تحيتك وقد صبأت. قال: أوقد فعلتها قريش؟
لا واللَّه ما صبأت ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يأكل من طعامي إلا أن أشهد له. فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم، فشهدت له قال: ما أنا بالذي أرضى عنك حتى تأتيه فتبزق في وجهه.
وفي رواية: فقال: ما يبرئ صدورهم إن أنا فعلت؟ قال: تأتيه في مجلسه فتبزق في وجهه وتشتمه بأخبث ما تعلم من الشتم. ففعل فلم يزد النبي صلى الله عليه وسلم إن مسح وجهه من البزاق.
ونقل جماعة منهم أبو ذر الحسني عن أبي بكر النقّاش أن عقبة لمّا تفل في وجه النبي صلى الله عليه وسلم رجع ما خرج منه إلى وجهه فصار برصا. انتهى.
ثم التفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن وجدتك خارجا من جبال مكة ضربت عنقك صبرا.
وقال أبي بن خلف: واللَّه لأقتلن محمدا. فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله إن شاء اللَّه. فلما بلغ أبيّا ذلك أفزعه لأنهم لم يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم قولا إلا كان حقا.
فلما كان يوم بدر، وخرج أصحاب عقبة، أبي أن يخرج فقال له أصحابه: اخرج معنا.
فقال: قد وعدني هذا الرجل أن وجدني خارجا من جبال مكة أن يضرب عنقي صبرا. فقالوا:
لك جمل أحمر لا يدرك فلو كانت الهزيمة طرت عليه. فخرج معهم، فلما هزم اللَّه المشركين(2/468)
وحل به جمله في أخدود من الأرض فأخذه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أسيرا في سبعين من قريش وقدّم إليه أبو معيط فقال: أتقتلني بين هؤلاء؟ قال: نعم. فقام إليه علي بن أبي طالب فضرب عنقه.
ولم يقتل من الأسارى يومئذ غيره.
فلما كان يوم أحد خرج أبيّ مع المشركين فجعل يلتمس غفلة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليحمل عليه فيحول رجل بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينه، فلما رأى ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
قال لأصحابه: خلّوا عنه. فأخذ الحربة ورماه بها فوقعت في ترقوته فلم يخرج منه دم كثير واحتقن الدم في جوفه، فجعل يخور كما يخور الثّور فاحتمله أصحابه وهو يخور فقالوا: ما هذا الذي بك! فو اللَّه ما بك إلا خدش. فقال: واللَّه لو لم يصبني إلا بريقه لقتلني! أليس قد قال: أنا أقتله. واللَّه لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لقتلهم.
فما لبث إلا يوما حتى مات.
وأنزل اللَّه تعالى في أبي معيط: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ ندما وتحسّرا في القيامة قال سفيان الثوري: يأكل يديه ثم تنبت. رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو عمران الجوني:
بلغني أنه يعضهما حتى ينكسر العظم ثم يعود.
يقول: يا للتنبيه لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ محمد صلى الله عليه وسلم سَبِيلًا طريقا إلى الهدى يا وَيْلَتى الألف عوض عن ياء الإضافة أي ويلتي ومعناه هلكتي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا. لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ القرآن بَعْدَ إِذْ جاءَنِي بأن ردني عن الإيمان به. قال تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ الكافر خَذُولًا [الفرقان: 27- 29] بأن يتركه ويتبرأ منه عند البلاء.
تنبيهات
الأول: قال ابن سعد: قلت للواقدي قال اللَّه تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] وهذه السورة مكية؟ فقال: سألت مالكا وابن أبي ذئب عند هذا فقال: كفاه إياهم فبعضهم عمي وبعضهم مات فشغل عنه وبعضهم كفاه إياه إذ هيأ اللَّه له من أسباب مفارقته بالهجرة ما هيأه له.
وقال غيرهما: كفاه أمرهم فلم يضروه بشيء.
الثاني: قال البلاذري ذكر غير الواقدي أن المستهزئين جميعا هلكوا في وقت واحد وقول الواقدي أثبت.
الثالث: أكثر الروايات على أن عقبة بن أبي معيط هو الذي أسلم وأن أبيّا هو الذي ردّه.
وفي بعضها ضد ذلك. فاللَّه أعلم.
ومنهم أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.(2/469)
قال البلاذريّ: وغيره: كناه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بذلك وكان يكنى قبل ذلك أبا الحكم.
قال: وروي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال من قال لأبي جهل أبا الحكم فقد أخطأ خطيئة يستغفر اللَّه منها.
وروى عنه أنه قال: لكل نبي فرعون وفرعون هذه الأمة أبو جهل.
قال ابن إسحاق: ولقي أبو جهل بن هشام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم- فيما بلغني- فقال له:
واللَّه يا محمد لتتركن سبّ آلهتنا أو لنسبّنّ إلهك الذي تعبد. فانزل اللَّه تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام 108] فذكر لي إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم كفّ عن سبّ آلهتهم وجعل يدعوهم إلى اللَّه عز وجل.
ولما أنزل اللَّه عز وجل: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ [الدخان 43] تخويفا لهم بها قال أبو جهل: يا معشر قريش هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوّفكم بها محمد؟ قالوا: لا. قال:
عجوة يثرب بالزّبد! واللَّه لئن استمكنّا منها لنتزقّمنَّ منها. فانزل اللَّه تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ هي من أخبث الشجر المرّ بتهامة نبتها في الجحيم طَعامُ الْأَثِيمِ أي أبي جهل وأصحابه ذوي الإثم الكثير كَالْمُهْلِ أي كدرديّ الزيت الأسود خبر ثان يَغْلِي فِي الْبُطُونِ بالفوقانية خبر ثان وبالتحتانية حال من المهل كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان: 43- 47] الماء الحار الشديد الحرارة. الآيات.(2/470)
[المجلد الثالث]
بسم الله الرحمن الرحيم
جماع أبواب معراجه صلى الله عليه وسلّم
قد كنت أفردت كتابا حافلا في هذا الباب سمّيته: «الآيات البيّنات في معراج سيد أهل الأرض والسماوات» ، ثم ظفرت بأشياء لم يتيسّر الوقوف عليها إذ ذاك، فجمعت كتابا آخر سمّيته: «الفضل الفائق في معراج خير الخلائق» ، فاجتمع فيه فوائد ونفائس لا توجد مجموعة إلا فيه، فرأيت أن أذكر هنا خلاصته:(3/3)
الباب الأول في بعض فوائد قوله تعالى سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء 1] .
الكلام على هذه الآية من وجوه:
الأول: في سبب نزولها:
قال الإمام العالم العلامة أبو حيّان أثير الدين محمد بن يوسف الغرناطي- بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وبالطاء المهملة- في تفسيره المسمى بالنهر: «سبب نزولها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الإسراء به كذّبوه، فأنزلها الله تعالى» .
الثاني: في وجه اتصال هذه السورة بما قبلها:
قال الإمام فخر الدين الرازي، والبرهان النسفي: «وجه الاتصال بما قبلها أن في تلك السورة ذكر الخليل صلى الله عليه وسلم وذكر أوصافه الشريفة، وتشريعاته العليّة من الحضرة الأزلية، والأمر باتباع ملّة الحنيفية، والإقتداء به في العقائد الدينية، وفي هذه السورة ذكر من اتّبع ملّته بالصدق، وأقام سنّته على الحق، وفي آخر تلك السورة أمر نبينا صلى الله عليه وسلم: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل 125] . وأمره بعد ذلك بالصّبر فقال: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل 127] والصّبر هو التحمل للمكاره، والتّحمل من جملة ما يؤدّي إلى التّجمل، ومنه ما ذكر في أول هذه السورة.
النّهر: لما أمره الله تعالى بالصبر، ونهاه عن الحزن عليهم، وأن يضيق صدره من مكرهم، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسّخر والشّعر وغير ذلك مما رموه به، فأعقب الله تعالى ذلك بشرفه وفضله واحتفائه به وعلو منزلته عنده.
الشيخ رحمه الله تعالى في مناسباته: «هذه السورة والأربعة بعدها من قديم ما نزل، روى الشيخان عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال في سورة بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: هنّ من العتاق الأول وهنّ من تلادي» .
التّلاد- بكسر المثناة الفوقية وتخفيف اللام أي مما حفظ قديما، وهذا وجه في ترتيبها، وهو اشتراكها في قدم النزول وكونها مكيّات، وكلها مشتملة على القصص.
وظهر لي في وجه اتصالها بسورة النحل أنه سبحانه وتعالى لما قال في آخرها: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [النحل 124] . فسّر في هذه السورة شريعة أهل السبت وشأنهم، فذكر فيها جميع ما شرع لهم في التوراة.
كما روى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «التوراة كلها في خمس(3/4)
عشرة آية من بني إسرائيل» . وذكر عصيانهم وفسادهم وتخريب مسجدهم، ثم ذكر استفزازهم النبي صلى الله عليه وسلم وإرادتهم إخراجه من المدينة وسؤالهم إياه عن الروح. ثم ختم السورة بآيات موسى التسع، وخطابه مع فرعون. وأخبر أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض فأهلك. وأرّث بني إسرائيل الأرض من بعدهم. وفي ذلك تعريض بهم أنهم كما استفزوا النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة، فسيخرجون منها ويرثها هو وأصحابه كنظير ما وقع لهم مع فرعون لما استفزهم. وقد وقع ذلك أيضا. ولما كانت السورة مصدّرة بتخريب المسجد الأقصى افتتحت بذكر إسراء سيدنا محمد المصطفى إليه، تشريفا لحلول ركابه الشريف وجبرا لما وقع من تخريبه. انتهى.
الثالث: في حكمة استفتاحها بالتسبيح:
ابن الجوزي في زاد المسير: الحكمة في الإتيان به هنا وجهان: أحدهما: أن العرب تسبّح عند الأمر العجيب، فكأن الله تعالى عجّب خلقه بما أسدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإسراء به.
الثاني: أن يكون خرج مخرج الرد عليهم، لأنه صلى الله عليه وسلم لما حدّثهم عن الإسراء به كذّبوه، فيكون المعنى تنزّه الله تعالى أن يتّخذ رسولا كذّابا.
القاضي تاج الدين السبكي في تذكرته سأل الإمام: ما الحكمة في افتتاح سورة الإسراء بالتسبيح والكهف بالتحميد؟ وأجاب بأن التسبيح حيث جاء قدّم على التحميد نحو:
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [النصر 3] سبحان الله والحمد لله.
وأجاب ابن الزّملكاني- بفتح الزاي واللام-: [أن] سورة سبحان لما اشتملت على الإسراء وكذّب المشركون به النبي صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه تكذيب لله تعالى، أتي «بسبحان» لتنزيه الله عز وجل عما ينسب إليه من الكذب، وسورة الكهف لما نزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف وتأخير الوحي نزلت مبيّنة أن الله تعالى لم يقطع نعمته على نبيّه ولا على المؤمنين، بل أتم عليهم النعمة بإنزال الكتاب، فناسب افتتاحها بالحمد على هذه النعمة.
الرابع: في الكلام على سبحان الله:
محمود الكرماني في «برهانه» : «كلمة استأثر الله تعالى بها، فبدأ بالمصدر في بني إسرائيل ثم بالماضي في الصّفّ والحشر لأنه أسبق، ثم بالمضارع في الجمعة والتغابن، ثم بالأمر في الأعلى استيعابا لهذه الكلمة من جميع جهاتها» ، انتهى.
وقوله: «فبدأ بالمصدر» أي بالاسم الموضوع موضع المصدر.(3/5)
وروى الحاكم أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى «سبحان الله» ، فقال: «تنزيه الله من كل سوء» .
وروى ابن أبي حاتم عن علي رضي الله تعالى عنهما، قال: «سبحان الله، اسم يعظّم الله تعالى به نفسه ويتحاشى به عن السوء» .
الماوردي رحمه الله تعالى: «هو ذكر يعظّم الله تعالى به لا يصلح إلا له» .
وأما ما ذكره في قول الشاعر.
«سبحان من علقمة الفاخر» .
فعلى سبيل الشذوذ.
صاحب النّظم [ (1) ] : «السبّح- في اللغة- التباعد، يدل عليه قوله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا [المزمل 7] ، أي تباعدا طويلا. فمعنى سبح الله تعالى بعده عما لا ينبغي.
وللتسبيح معان أخر ذكرتها في كتاب: القول الجامع الوجيز الخادم للقرآن العزيز.
الإمام موفق الدين بن يعيش رحمه الله تعالى في شرح المفصّل: «اعلم أنهم قد علّقوا الأعلام على المعاني فأطلقوها على الأعيان، فمن ذلك قولهم: سبحان، وهو عندنا علم واقع على معنى التسبيح، وهو مصدر معناه البراءة والتنزيه وليس منه فعل، وإنما هو واقع التسبيح الذي هو المصدر في الحقيقة، جعل علما على هذا المعنى فهو معرفة لذلك، ولا ينصرف للتعريف وزيادة الألف والنون. وأما قول الشاعر: «سبحانه ثم سبحانا يعود له» ، ففي تنوينه وجهان: أن يكون ضرورة، والثاني: أن يكون أراد الفكرة» .
الضياء بن العلج رحمه الله، في البسيط: «لفظ المصدر لأنه مصدر سبّح إذا قال:
سبحان الله، ومدلول سبحان التنزيه لا اللفظ» .
قلنا: التسبيح بمعنى التنزيه أيضا لأن معنى سبّحت نزّهت الله تعالى، فتطابقا حينئذ على معنى التنزيه، فصحَّ تعليق سبحان على التسبيح، واستعماله علما قليل، وأكثر استعماله مضافا اما إلى فاعله أو إلى مفعوله. فإذا أضيف فليس بعلم لأن الأعلام لا تضاف.
قال: وقيل «سبحان» في البيت مضاف حذف المضاف إليه للعلم به وليس بعلم» .
__________
[ (1) ] أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن الجرجاني القاضي بجرجان ثم بالري ذكره الشيخ أبو إسحاق في طبقاته فقال: كان فقيها أديبا شاعرا وفيه يقول الصاحب بن عباد:
إذا نحن سلمنا لك العلم كله ... فدع هذه الألفاظ ننظم شذورها
انظر شذرات الذهب 3/ 56، 57.(3/6)
أبو عمرو بن الحاجب [ (1) ] رحمه الله تعالى في أماليه: «الدليل على أن سبحان علم للتسبيح قول الشاعر:
قد قلت لمّا جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر [ (2) ]
ولولا أنه علم لوجب صرفه لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية» .
الشهاب السمين رحمه الله تعالى في إعرابه: «قيل هو مصدر لأنه سمع له فعل ثلاثي، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة. وقد يفرد، وإذا أفرد منع من الصرف للتعريف، وزيادة الألف والنون كما في البيت السابق. وقد جاء منوّنا كقوله:
سبحانه ثمّ سبحانا يعود له ... وقبلنا سبّح الجودي والجمد [ (3) ]
فقيل ضرورة وقيل هو بمنزلة قبل وبعد، إن نوى تعريفه بقي على حاله، وإن نكّر أعرب، منصرفا. وهذا البيت يساعد على كونه مصدرا لا اسم مصدر لوروده منصرفا. ولقائل القول الأول أن يجيب عنه بأن هذا نكرة لا معرفة. وهو من الأسماء اللازمة النصب على المصدرية فلا تنصرف. والناصب له فعل مقدّر لا يجوز إظهاره» .
أبو شامة رحمه الله: «حيث جاء منصوبا نصب المفعول المطلق اللازم إضمار فعله، وفعله إما فعل أمر أو خبر. وهو في هذه السورة محتمل للأمرين أي سبّحوا الذي أسرى بعبده أو سبّح الذي أسرى بعبده، على أن يكون ابتداء ثناء الله تعالى علي نفسه كقول (الحمد لله رب العالمين) » .
القرطبي رحمه الله تعالى: «العامل فيه على مذهب سيبويه الفعل الذي من معناه لا من لفظه إذ لم يجيء من لفظه فعل، وذلك مثل قعد القرفصاء واشتمل الصّمّاء. فالتقدير عنده أنزّه الله تعالى تنزيها، فوقع «سبحان الله» مكان [ (4) ] قولك تنزيها» . انتهى.
الزمخشري رحمه الله تعالى: «سبحان علم للتسبيح كعثمان لرجل وانتصابه بفعل
__________
[ (1) ] عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، أبو عمرو جمال الدين بن الحاجب: فقيه مالكي، من كبار العلماء بالعربية.
كردي الأصل. ولد في أسنا (من صعيد مصر) ونشأ في القاهرة، وسكن دمشق، ومات بالإسكندرية سنة 646 هـ.
وكان أبوه حاجبا فعرف به. من تصانيفه «الكافية» في النحو، والشّافية» في الصّرف، و «منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل» . انظر الأعلام 4/ 211.
[ (2) ] البيت للأعشى ويروى
أقول لما جاءني فخره ... سبحان من علقمة الفاخر
انظر لسان العرب 2/ 1914.
[ (3) ] البيت لأمية بن أبي الصلت انظر اللسان 2/ 1915
[ (4) ] في أ: فهو بمنزلة.(3/7)
مضمر [متروك إظهاره، تقديره] أسبّح الله سبحان. ثم نزل منزلة الفعل فسدّ مسدّه ودلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله» .
الطيبي رحمه الله تعالى: «وذلك في جلب هذا المصدر في أصل هذا التركيب للتوكيد، وهو أسبّح تسبيحا ثم أسبح سبحان، ثم في حذف العامل وإقامته مقامه للدلالة على أن المقصود بالذات هو المصدر، والفعل تابع، فيفيد الإخبار بسرعة وجود التنزيه» .
وروى عن الكسائي أنه جعل منادى تقديره يا سبحانك، وأباه الجمهور.
السفاقسي والسمين [ (1) ] : «وردّ بأنه لم يسمع دخول حرف النداء عليه، وزعم بعضهم أن لفظه لفظ التثنية ومعناه كذلك كلبّيك. وهو غريب. ويلزمه أن يكون مفرده سبحا وألا يكون منصوبا بل مرفوعا، وأن نونه لم تسقط بالإضافة وأن فتحها يلزم» .
ومن الغرائب أيضا ما حكاه الماوردي عن أبان بن تغلب- بالمثناة الفوقية والغين المعجمة- أن سبحان كلمة أصلها بالنبطية «شبهانك» فعرّبت «سبحانك» . والذي أضيف إلى سبحان مفعول به لأنه المسبّح، ويجوز أن يكون فاعلا لأن المعنى تنزه الذي أسرى بعبده.
الخامس: في الكلام على «أسرى» :
البرهان النسفي: قال أهل اللغة: أسرى وسرى لغتان. زاد غيره: يختصان بسير الليل.
السمين: فيكون سرى وأسرى كسقى وأسقى. والهمزة هنا ليست للتعدية، خلافا لابن عطية، وإنما المعدّى الباء في «بعبده» . وتقدم في البقرة أنها لا تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول عند الجمهور، خلافا للمبرد. وبسط الكلام على ذلك هنا وفي البقرة.
السفاقسي: الباء للتعدية وترادف الهمزة عند الجمهور خلافا للمبرد والسهيلي في أنها تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول في الفعل بخلاف الهمزة حتى قال السهيلي: إذ قلت قعدت به فلا بد من مشاركة ولو باليد. وردّ عليهما بالآية: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة 17] لأن الله لا يوصف بالذهاب مع النور. وردّ عليهما أيضا بقول الشاعر:
__________
[ (1) ] أحمد بن يوسف بن محمد، وقيل: عبد الدائم، العلامة شهاب الدين أبو العباس الحلبي ثم المصري، النحوي المقرئ الفقيه، المعروف بابن السمين. قرأ النحو على أبي حيان، والقراءات على ابن الصائغ، وسمع وولي تصدير إقراء النحو بالجامع الطولوني، وأعاد بالشافعي، وناب في الحكم بالقاهرة، وولي نظر الأوقاف بها، وصنف تصانيف حسنة، منها تفسير القرآن مطول، وقد بقي منه أوراق قلائل، قال الحسيني: في عشرين سفرا، وإعراب القرآن سماه الدر المصون في أربعة أجزاء، ومادته فيه من تفسير شيخه أبي حيان إلا أنه زاد عليه، وناقشه في مواضع مناقشة حسنة وقد قمنا بتحقيقه، وأحكام القرآن وشرح التسهيل شرحا مختصرا من شرح أبي حيان، وشرح الشاطبية. قال الإسنوي: كان فقيها بارعا في النحو، والتفسير، وعلم القراءة، ويتكلم في الأصول خيرا دينا. توفي في جمادى الآخرة، وقيل: في شعبان سنة ست وخمسين وسبعمائة بالقاهرة. ابن قاضي شهبة 1813.(3/8)
ديار الّتي كانت ونحن على منى ... تحلّ بنا لولا نجاء الرّكائب [ (1) ]
أي تحلنا فالباء هنا للتعدية، ولم تقتض المشاركة لأن الديار لم تكن حراما فتصير حلالا، ولكون الباء بمعنى الهمزة لا يجمع بينهما، فلا يقال أذهبت بزيد.
وجزم ابن دحية- بفتح الدال وكسرها- وابن المنير، بما قاله المبرّد فقالا: «يؤخذ من قوله: «أسرى بعبده» ما لا يؤخذ إن قيل: بعث إلى عبده، لأن الباء تفيد المصاحبة، أي صحبه في مسراه بالإلطاف والعناية والإسعاف» . زاد ابن دحية: «ويشهد لذلك
قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أنت الصاحب في السفر» .
ويؤخذ من ذلك أن من قال: لله علي إن أحجّ بفلان، يلزمه الحجّ معه، بخلاف ما لو قال: لله علي إن أحجّ فلانا، فإنه يلزمه أن يجهّزه للحج من ماله. والفرق بين الصورتين ما تعطيه الباء من المصاحبة» . انتهى. وتقدم ردّ ذلك.
الحافظ: «أسرى مأخوذ من السّرى وهو سير الليل، فقول العرب أسرى وسرى إذا سار ليلا، هذا قول الأكثر» .
وقال الحوفي: أسرى سار ليلا، وسرى سار نهارا» .
قال الحافظ في موضع آخر: «وقيل أسرى سار من أول الليل، وسرى سار من آخره» وهذا أقرب. ولم يختلف القراء في أسرى، بخلاف قوله تعالى في قصة لوط: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ [هود 81] . فقرئت بالوصل والقطع، وفيه تعقيب على من قال من أهل اللغة: أن أسرى وسرى بمعنى.
قال السهيلي: «السّرى من سريت إذا سرت ليلا، يعني فهو لازم. والإسراء يتعدى في المعنى، لكن حذف مفعوله حتى ظنّ من ظنّ أنهما بمعنى واحد، وإنما معنى «أسرى بعبده» ، جعل البراق يسري به، كما تقول: أمضيت كذا أي جعلته يمضي، لكن حذف المفعول لقوة الدلالة عليه، والاستغناء عن ذكره، إذ المقصود بالذكر المصطفي لا الدابة التي سارت به.
وأما قصة لوط فالمعنى: سر بهم على ما يتحملون عليه من دابة ونحوها، هذا معنى قراءة القطع. ومعنى الوصل: سر بهم ليلا، ولم يأت مثل ذلك في الإسراء، إلا أنه لا يجوز أن يقال:
«سرى بعبده» بوجه من الوجوه» .
قال الحافظ والنسفي: «الذي جزم به هو من هذه الحيثية التي قصر فيها الإشارة إلى أنه سار ليلا على البراق. والآن لو قال قائل: سرت بزيد بمعنى صاحبته لكان المعنى صحيحا.
__________
[ (1) ] البيت لقيس بن الخطيم انظر اللّسان 1/ 972.(3/9)
السادس: في الكلام على العبد:
أجمع المسلمون على أن المراد بالعبد هنا سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لغة المملوك من نوع من يعقل. قال في المحكم: «العبد الإنسان حرّا كان أو رقيقا، لأنه مملوك لبارئه» . وقال غيره: «إنه مشتق من التعبد وهو التذلل» .
قال ابن الأنباري: «العبد الخاضع لله من قولهم: طريق معبّد إذا كان قد وطئها الناس» .
وللإمام جمال الدين بن مالك [ (1) ] بيتان في جموع عبد، وذيّل الشيخ رحمه الله عليهما بمثلهما ووطّأ قبلهما ببيت، فقال:
جموع لعبد لابن مالك نظمها ... وزدت عليها مثلها فاستفد وجد
عباد عبيد جمع عبد وأعبد ... أعابد معبودا معبّدة عبد
كذلك عبدان وعبدان أثبتا ... كذاك العبدّى وامدد إن شئت أن تمد
وقد زيد أعباد عبود عبدّة ... وخفّف بفتح والعبدّان إن تشد
وأعبدة عبدون ثمّت بعدها ... عبيدون معبودا بقصر فخذ تسد
الإسنوي [ (2) ] رحمه الله تعالى: «قال سيبويه: العبد في الأصل صفة، ولكنه استعمل استعمال الأسماء» .
الشيخ زكريا [ (3) ] رحمه الله تعالى في فتح الرحمن «قال تعالى: «بعبده» دون نبيه أو حبيبه لئلا تضل أمته أو لأن وصفه بالعبودية المضافة إلى الله تعالى أشرف المقامات» .
__________
[ (1) ] محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الجيّاني، أبو عبد الله، جمال الدين: أحد الأئمة في علوم العربية. ولد في جيان (بالأندلس) وانتقل إلى دمشق فتوفي فيها. أشهر كتبه «الألفية» في النحو، وله «تسهيل الفوائد» ، و «شرحه له» توفي سنة 672 هـ. الأعلام 6/ 233، بغية الوعاة 53، وغاية النهاية 2/ 180.
[ (2) ] عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن إبراهيم، الإمام العلامة، منقح الألفاظ، محقق المعاني، ذو التصانيف المشهورة المفيدة، جمال الدين أبو محمد القرشي، الأموي، الإسنوي المصري. ولد باسنا في رجب سنة أربع وسبعمائة، وقدم القاهرة سنة إحدى وعشرين وسبعمائة، وسمع الحديث، واشتغل في أنواع من العلوم، توفي فجأة في جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، ودفن بتربته بقرب مقابر الصوفية. ومن تصانيفه: جواهر البحرين في تناقض الحبرين والتنقيح على التصحيح- وشرح المنهاج للبيضاوي وهو أحسن شروحه وأنفعها- والهداية في أوهام الكفاية- والمهمات- والتمهيد- وطبقات الفقهاء- وطراز المحافل في ألغاز المسائل- ومن تصانيفه أيضا: كافي المحتاج في شرح منهاج النووي. انظر الطّبقات لابن قاضي شهبة 3/ 98، 99، 100، والبدر الطالع 1/ 352، والعقد المذهب لابن الملقن 287، والأعلام 4/ 119، وشذرات الذهب 6/ 224.
[ (3) ] زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري السنيكي المصري الشافعي، أبو يحيى: شيخ الإسلام. قاض مفسر، من حفاظ الحديث. ولد في سنيكة (بشرقية مصر) وتعلم في القاهرة وكف بصره سنة 906 هـ. نشأ فقيرا معدما، له تصانيف كثيرة منها «فتح الرحمن في التفسير» ، و «تحفة الباري على صحيح البخاري» و «فتح الجليل» تعليق على تفسير البيضاوي، و «شرح إيساغوجي» في المنطق، و «شرح ألفية العراقي» في مصطلح الحديث، و «شرح شذور الذهب» في النحو، و «تحفة نجباء العصر» . توفي سنة 926 هـ. الأعلام 3/ 46.(3/10)
الأستاذ أبو علي الدقاق [ (1) ] رحمه الله تعالى: «ليس للمؤمن صفة أتمّ ولا أشرف من العبودية، ولهذا أطلقها الله تعالى علي نبيه في أشرف المواطن، كقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء 1] ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف 1] ، فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم 10] ، تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ [الفرقان 1] .
الشيخ عبد الباسط البلقيني رحمه الله: «ومن هنا يؤخذ الجواب عن وصفه صلى الله عليه وسلّم بذلك ووصف يحيى عليه السلام بالسيادة في قوله تعالى: وَسَيِّداً، وَحَصُوراً [آل عمران 39] .
الأستاذ أبو القاسم القشيري [ (2) ] رحمه الله: «في معناه أنشدوا:
يا قوم قلبي عند زهراء ... يعرفه السّامع والرّائي
لا تدعني إلّا بيا عبدها ... فإنّه أشرف أسمائي»
العوفي رحمه الله: «والسبب في ذلك أن الإلهية والسيادة والربوبية إنما هي في الحقيقة لله عز وجل لا غير. والعبودية في الحقيقة لمن دونه. فإذا كان في مقام العبودية فهو في رتبته الحقيقية، والرتبة الحقيقة أشرف المراتب إذ ليس بعد الحقيقة إلا المجاز، ولا بعد الحق إلا الضلال» .
البرهان النسفي رحمه الله: «قيل لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في المعراج، أوحى الله تعالى إليه: يا محمد أشرفك؟. قال: يا رب تنسبني إلى نفسك بالعبودية، فانزل الله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ الآية.
وأقوال القوم في العبد والعبودية كثيرة، والألفاظ مختلفة معانيها، وكل أحد يتكلم
__________
[ (1) ] الحسين بن علي بن محمد، الأستاذ أبو الدقاق النيسابوري، الزاهد العارف، شيخ الصوفية. تفقه بمرو عند الخصري، وأعاد عند القفال وبرع في الفقه، ثم سلك طريق الصوفية، وصحب الأستاذ أبا القاسم النصرآباذي، وأخذ الطريقة عنه، وزاد عليه حالا ومقالا، واشتهر ذكره في الآفاق، وانتفع به الخلق، ومنهم أبو القاسم القشيري صاحب الرسالة، وحكى عنه أحوالا وكرامات. مات في ذي الحجة سنة ست وأربعمائة، وقيل: سنة خمس. انظر طبقات ابن قاضي شهبة 1/ 178.
[ (2) ] عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة بن محمد، الأستاذ أبو القاسم القشيري النيسابوري. أحد العلماء بالشريعة والحقيقة. أخذ الطريقة عن الشيخ أبي على الدقاق وأبي عبد الرحمن السلمي، ودرس الفقه على أبي بكر الطوسي حتى فرغ من التعليق وقرأ الكلام على أبي بكر بن فورك وأبي إسحاق الاسفراييني وبرع في ذلك، وحج مع البيهقي وأبي محمد الجويني. ذكره الخطيب البغدادي ومات قبله، وقال: كتبنا عنه وكان ثقة، وكان يقص، وكان حسن الموعظة، مليح الإشارة، وكان يعرف الأصول على مذهب الأشعري والفروع على مذهب الشافعي. وقال ابن السمعاني: لم ير أبو القاسم مثل نفسه في كماله وبراعته، جمع بين الشريعة والحقيقة. وقال ابن خلكان: صنف أبو القاسم التفسير الكبير، وهو من أجود التفاسير، وصنف الرسالة في رجال الطريقة، وذكر له الذهبي مصنفات أخر. ولد في ربيع الأول سنة ست وسبعين وثلاثمائة، وتوفي في ربيع الآخر سنة خمس وستين وأربعمائة عن تسع وثمانين سنة، ودفن إلى جانب أستاذه أبي علي بالمدرسة. ابن قاضي شهبة 11/ 254.(3/11)
بلسان حاله على قدر مقامه، فقال أبو حفص النيسابوري رحمه الله: «العبد هو القائم إلى أوامر سيده على حدّ النشاط حيث جعله محل أمره» .
ابن عطاء [ (1) ] رحمه الله: «العبد الذي لا ملك له» .
الجريري- بفتح الجيم-: «حقيقة العبد هو الذي يتخلّق بأخلاق ربّه» .
رويم رحمه الله تعالى: «يتحقق العبد بالعبودية إذا أسلم القياد من نفسه وتبرّأ من حوله وقوته، وعلم أن الكل له وبه» .
عبد الله بن محمد رحمه الله: «حزت صفة العبودية إن كنت لا ترى لنفسك ملكا، وتعلم أنك لا تملك لها نفعا ولا ضرا. ورحم الله من قال:
وكنت قديما أطلب الوصل منهم ... فلمّا أتاني الحلم وارتفع الجهل
تيقّنت أنّ العبد لا مطلب له ... فإن قرّبوا فضل وإن أبعدوا عدل
وإن أظهروا لم يظهروا غير وصفهم ... وإن ستروا فالسّتر من أجلهم يحلو
الإمام الرازي رحمه الله، دل قوله بعبده على إن الإسراء كان بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن العبد اسم للجسد والروح، قال تعالى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى، عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق:
9، 10] .
السابع: في الكلام على قوله تعالى: «ليلا» .
الحافظ رحمه الله تعالى: «ليلا ظرف للإسراء وهو للتأكيد، وفائدته رفع توهم المجاز، لأنه قد يطلق على سير النهار أيضا، ويقال بل هو إشارة إلى أن ذلك وقع في بعض الليل لا في جميعه، والعرب تقول: سرى فلان ليلا إذا سار بعضه، وسرى في ليلة إذا سار في جميعها. ولا يقال أسرى ليلا إلا إذا وقع سيره في أثناء الليل، وإذا وقع في أوله يقال أدلج، ومن هذا قوله تعالى في قصة موسى وبنى إسرائيل: فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا [الدخان: 23] ، أي من وسط الليل» .
أبو شامة رحمه الله تعالى: إنما نسب السّرى إلى الليل لما كان السّرى واقعا فيه كقوله تعالى: وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: 67] ، أي يبصر فيه، فهو من باب قوله: «ليل نائم وساهر، أي يحصل فيه النوم والسّهر، وهذا باب من أبواب المجاز معروف» .
__________
[ (1) ] أحمد بن محمد بن عبد الكريم، أبو الفضل تاج الدين، ابن عطاء الله الإسكندري: متصوف شاذلي، من العلماء. كان من أشد خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية. له تصانيف منها «الحكم العطائية- ط» في التصوف، و «تاج العروس- ط» في الوصايا والعظات، و «لطائف المنن في مناقب المرسي وأبي الحسن- ط» توفي بالقاهرة. وينسب إليه كتاب «مفتاح الفلاح» وليس من تأليفه.(3/12)
واستشكل كثير من الناس كون «ليلا» ظرفا للإسراء. ووجه الإشكال أنه قد تقدم أن الإسراء هو سير الليل، فإذا أطلق الإسراء فهم أنه واقع ليلا، فهو كالصّبوح في شرب الصباح، لا يحتاج إلى قوله: شربت الصّبوح صباحا.
وجوابه أن الأمر وإن كان كذلك إلا أن العرب تفعل مثل ذلك في بعض الأوقات إذا أرادت تأكيد الأمور. والتأكيد نوع من أنواع كلامهم وأسلوب منه. والعرب تقول: أخذ بيده، وقال بلسانه. وفي القرآن العزيز: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: 38] ، يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمران: 167] ، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 26] ، وقال جرير:
سرى نحوها ليلا كأنّ نجومه ... قناديل فيهنّ الذّبال المفتّل [ (1) ]
الذّبال: جمع ذبالة- بضم الذال المعجمة وهي الفتيلة.
الجوهري [ (2) ] : «وإنما قال ليلا، وإن كان السّرى لا يكون إلا بالليل للتأكيد، كقولهم:
سرت أمس نهارا والبارحة ليلا.
الزمخشري: [فإن قلت الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل؟ قلت] : أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه وقع السّرى في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، وذلك أن التنكير فيه قد دلّ على معنى البعضية، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة «من الليل» أي بعض الليل كقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ [الإسراء: 79] يعني الأمر بقيام الليل في بعض الليل.
قال أبو شامة: «وهذا الوجه لا بأس به، وقد زاد شيخنا أبو الحسن- يعنى السخاوي في تفسيره أيضا وتقريرا، فقال: وإنما قال: «ليلا» ، والإسراء لا يكون إلا بالليل، لأن المدة التي أسرى به فيها لا تقطع في أقل من أربعين يوما، فقطعت به في ليل واحد المعنى سبحان الذي أسرى بعبده في ليل واحد من كذا إلى كذا، وهو موضع التعجب» . قال: «وإنما عدل عن ليلة إلى ليل، لأنهم إذا قالوا: سرى ليلة، كان ذلك في الغالب لاستيعاب الليلة، فقيل: ليلا أي في ليل» .
وتعقّب صاحب الفوائد كلام الزمخشري بكلام تعقبه فيه الطيبي، ثم قال الطيبي:
__________
[ (1) ] انظر ديوان جرير (343) .
[ (2) ] إسماعيل بن حماد الجوهري، أبو نصر. لغويّ، من الأئمة. وخطه يذكر مع خط ابن مقلة. أشهر كتبه «الصحاح» - وله كتاب في «العروض» ومقدمة في «النحو» أصله من فاراب، ودخل العراق صغيرا، وسافر إلى الحجاز فطاف البادية، وعاد إلى خراسان، ثم أقام في نيسابور.. توفي 993 هـ الأعلام 1/ 313.(3/13)
«ويمكن أن يراد بالتنكير التعظيم والتفخيم، والمقام يقتضيه، ألا ترى كيف افتتحت السورة بالكلمة المنبئة عنه؟ ثم وصف المسرى به بالعبودية، ثم أردف تعظيم المكانين بالحرام وبالبركة لما حوله، يعظّم الزمان ثم يعظّم الآيات بإضافتها إلى صيغة التعظيم، وجمعها لتشمل جميع أنواع الآيات، وكلّ ذلك شاهد صدق على ما نحن بصدده، والمعنى ما أعظم شأن من أسري [به] ممّن حقّق له مقام العبودية، وصحّح له استنهاله للعناية السرمدية ليلا، أي ليل له شأن جليل.
ابن المنير رحمه الله تعالى: «وإنما كان الإسراء ليلا لأنه وقت الخلوة والاختصاص عرفا، ولأنه وقت الصلاة التي كانت مفروضة عليه في قوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] وليكون أبلغ للمؤمن في الإيمان بالغيب، وفتنة للكافر» .
ابن دحية رحمه الله: «كرم الله نبينا صلى الله عليه وسلم ليلا بأمور منها: انشقاق القمر، وإيمان الجنّ به، ورأى أصحابه نيرانهم، كما في صحيح مسلم، وخرج إلى الغار ليلا. والليل أصل، ولهذا كان أول الشهور، وسواده يجمع ضوء البصر، ويحدّ كليل النّظر، ويستلذّ فيه بالسّمر. وكان أكثر أسفاره ليلا. وقال عليه الصلاة والسلام: «عليكم- بالدّلجة فإن الأرض تطوى بالليل» .
والليل وقت الاجتهاد للعبادة. وكان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تورّمت قدماه. وكان قيام الليل في حقّه واجبا، فلما كانت عبادته ليلا أكرم بالإسراء [به] فيه ليكون أجر المصدّق به أكثر، ليدخل فيمن آمن بالغيب دون من عاينه نهارا، وقدّم الحق تبارك وتعالى اللّيل في كتابه على ذكر النهار، فقال عز وجل: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ [الإسراء: 12] ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان: 62] إلى غير ذلك من الآيات» .
وصحّ
أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربّنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث اللّيل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له» ،
الحديث [ (1) ] .
وهذ الخصيصة لم تجعل للنهار، نبّه بها صلى الله عليه وسلم لما في ذلك الوقت من الليل من سعة الرحمة ومضاعفة الأجر وتعجيل الإجابة، ولإبطال كلام الفلاسفة أن الظّلمة من شأنها الإهانة والشّرّ، لأن الله تعالى أكرم أقواما في الليل بأنواع الكرامات كقوله في قصة إبراهيم صلى الله عليه وسلم:
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ [الأنعام: 76] الآية. وفي لفظ بقوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ
__________
[ (1) ] أخرجه البخاري 2/ 66 (دار الفكر) ومسلم 1/ 521 (168- 758) وأبو داود (1315- 4733) وابن ماجة (1366) والبيهقي في السنن 3/ 2(3/14)
[هود: 81] . وفي موسى: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 142] وناجاه ليلا، وأمره بإخراج أهله ليلا.
بعض أهل الإشارات: «لما محا الله آية الليل، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:
12] انكسر الليل، فجبر بأن أسري فيه بمحمد صلى الله عليه وسلم» . انتهى.
أبو أمامة بن النّقّاش رحمه الله: «ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وليلة القدر أفضل في حق الأمة، لأنها لهم خير من عمل أكثر من ثمانين سنة ممن كان قبلهم.
وأما ليلة الإسراء فلم يأت في أرجحية العمل فيها حديث صحيح ولا ضعيف، ولذلك لم يعيّنها النبي صلى الله عليه وسلم» .
ويؤخذ من قول الإمام البلقيني رحمه الله في قصيدته التي مدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم:
أولاك رؤيته في ليلة فضلت ... ليالي القدر فيها الرّبّ أرضاكا
أن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر.
قال في الاصطفاء: «ولعل الحكمة في ذلك اشتمالها على رؤيته تعالى التي هي أفضل كل شيء، ولذا لم يجعلها ثوابا عن عمل من الأعمال مطلقا، بل منّ بها على عباده المؤمنين يوم القيامة تفضّلا منه تعالى.
تنبيه: اختلف هل الليل أفضل من النهار؟ فرجّح كلّا مرجّحون. وقد ألف الإمام أبو الحسين بن فارس [ (1) ] اللغوي كتابا في التفضيل بينهما فذكر وجوها في تفضيل هذا ووجوها في تفضيل هذا.
الثامن: في الكلام على قوله تعالى (من المسجد الحرام) :.
«من» ههنا لابتداء الغاية.
الزركشي رحمه الله في كتابه: «أعلام الساجد بأحكام المساجد» : المسجد لغة مفعل بالكسر اسم لمكان السجود وبالفتح اسم للمصدر» .
__________
[ (1) ] أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين: من أئمة اللغة والأدب. قرأ عليه البديع الهمذاني والصاحب ابن عباد وغيرهما من أعيان البيان. أصله من قزوين، وأقام مدة في همذان، ثم انتقل إلى الريّ فتوفي فيها سنة 395 هـ، وإليها نسبته. من تصانيفه «مقاييس اللغة- ط» «المجمل» ، و «الصاحبيّ» في علم العربية، ألفه لخزانة الصاحب بن عباد، و «جامع التأويل» في تفسير القرآن، أربعة مجلدات، و «النيروز» و «الإتباع والمزاوجة» و «الحماسة المحدثة» و «الفصيح» و «تمام الفصيح» و «متخير الألفاظ» و «ذمّ الخطأ في الشعر» و «اللامات» و «أوجز السير لخير البشر» الأعلام 1/ 193.(3/15)
قال أبو زكريا الفرّاء [ (1) ] : «كل ما كان على فعل يفعل كدخل يدخل، فالمفعل منه بالفتح اسما كان أو مصدرا، فلا يقع فيه الفرق مثل دخل مدخلا. ومن الأسماء ما ألزموها كسر العين منها: المسجد والمطلع والمغرب والمشرق وغيرها، فجعلوا الكسر علامة للاسم، وربما فتحه بعض العرب. وقد روى المسجد المسجد والمطلع المطلع» .
قال: «والفتح في كله جائز وإن لم نسمعه» .
قال في الصحاح: «والمسجد بالفتح جبهة الرجل حيث يصيبه السجود.
وقال أبو حفص الصقلى- بفتحتين- في كتاب تثقيف اللسان «ويقال مسجد بفتح الميم، حكاه غير واحد، فتحصلنا فيه على ثلاث لغات» .
والمسجد بكسر الميم الخمرة بضم الخاء المعجمة وهي الحصير الصغير، قاله العسكري.
وأما عرفا فكل موضع من الأرض
لقوله صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» .
قلت وسيأتي الكلام على هذا الحديث في الخصائص.
ولما كان السجود أشرف أفعال الصلاة لقرب العبد من ربه اشتقّ اسم المكان منه، فقيل مسجد، ولم يقولوا مركع. ثم إن العرف خصّص المسجد بالمكان المهيّا للصلوات الخمس حتى يخرج المصلّى المجتمع فيه للأعياد ونحوها، فلا يعطى حكمه، وكذلك الرّبط والمدارس فإنها هيّئت لغير ذلك.
التاسع: في الكلام على قوله: الحرام.
أبو شامة: أصل الحرام المنع، ومنه البيت الحرام، وفلان حرام أي محرم وهو ضد الحلال، وذلك لما منع منه المحرم مما يجوز لغيره، ولما منع في الحرم مما يجوز في غيره من البلاد.
الماوردي رحمه الله في كتاب الجزية من حاويه: «كلّ موضع ذكر الله تعالى فيه المسجد الحرام فالمراد به الحرم، إلا في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [البقرة: 144] فإنه أراد به الكعبة.
الحافظ رحمه الله تعالى: «لفظ المسجد الحرام في الأصل حقيقة الكعبة فقط، وهو
__________
[ (1) ] يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الديلمي، مولى بني أسد (أو بني منقر) أبو زكرياء، المعروف بالفراء: إمام الكوفيين، وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب. كان يقال: الفراء أمير المؤمنين في النحو. من كتبه «المقصور والممدود» ، و «المذكر والمؤنث» ، وكتاب «اللغات» . واشتهر بالفراء. ولما مات وجد «كتاب سيبويه» تحت رأسه فقيل: إنه كان يشيع خطأه ويتعمد مخالفته. توفي سنة 207 هـ. انظر الأعلام 8/ 145، 146. ووفيات الأعيان 2/ 288، وغاية النهاية 2/ 371.(3/16)
المغنيّ بقوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ [آل عمران: 96] ،
وبقوله صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو ذرّ عن أول مسجد وضع في الأرض فقال: «المسجد الحرام» .
واستعمله بعد ذلك في المسجد المحيط بالكعبة في
قوله: «صلاة في المسجد الحرام بكذا وكذا صلاة» ،
على وجه التغليب المجازي. وفي قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الإسراء: 1] على قول من يقول المراد به مكة، لأنه كان في بيت أم هانئ. وفي دور مكة والحرم حولها في قوله: «ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام» . كل ذلك من باب التغليب المسوغ للمجاز المتوسّع فيه وإلا لزم الاشتراك في موضع لفظ المسجد الحرام، والمجاز أولى منه، وكيف يقال بالاشتراك؟
والفهم ما تبادر عند الإطلاق إلى الكعبة، أو إليها مع المسجد حولها، ولا يتبادر إلى مكة كلها إلا بقرينة» . انتهى ملخّصا.
العاشر: في الكلام على الأقصى.
البرهان النسفي رحمه الله: «اتفقوا على أن المراد به مسجد بيت المقدس، وسمّي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام» .
الزمخشري رحمه الله: «سمّى الأقصى لأنه لم يكن وراءه مسجد» .
الكفيل: فثبت له هذا النّعت وإن كان وراءه بعد [ (1) ] مساجد هي أقصى منه، لأن العلمية إذا أثبتت لسبب لم يضرّ زوال السبب» .
ابن دحية رحمه الله: «وهو معدن الأنبياء من لدن الخليل صلى الله عليه وسلم، ولذا جمعوا له هناك كلهم، وأنهم في محلتهم ودارهم، ليدل ذلك على أنه الرئيس المقدّم، والإمام الأعظم صلى الله عليه وسلم» .
أبو شامة: «هو بيت المقدس الذي عمره نبي الله سليمان صلى الله عليه وسلّم بأمر الله عز وجل، وما زال مكرّما محترما، وهو أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال شرعا إلا إليها، أي لا تقصد بالزيارة والتعظيم من جهة أمر الشارع إلا هذه الثلاثة. وكان أبعد مسجد عن أهل مكة أو من النبي صلى الله عليه وسلم، والأقصى أفعل من القصيّ والقاصي هو البعيد» .
ابن أبي جمرة- بفتح الجيم وبالراء- رحمه الله: «والحكمة في إسرائه صلى الله عليه وسلم أولا إلى بيت المقدس، لإظهار الحق على من عاند، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء، لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا إلى البيان والإيضاح. فلما ذكر أنه أسرى به إلى بيت المقدس سألوه عن أشياء من بيت المقدس كانوا رأوها وعلموا إنه لم يكن رآها قبل ذلك. فلما أخبرهم بها
__________
[ (1) ] في أ: كانت بعد وراءه(3/17)
حصل التحقق بصدقه فيما ذكر من الإسراء به إلى بيت المقدس في ليلة. وإذا صحّ خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكر» . انتهى.
وقيل: ليحصل له العروج مستويا من غير تعويج لما روي عن كعب أن باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة يقابل باب بيت المقدس، قال: وهو أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا.
الحافظ: «وفيه نظر. وقيل ليجمع بين القبلتين، لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء فحصل له الرحيل إليه في الجملة ليجمع بين أسباب الفضائل. وقيل لأنه محل الحشر، فأراد الله تعالى أن تطأه قدمه ليسهل على أمته يوم القيامة وقوفهم ببركة أثر قدميه. وقيل أراد الله سبحانه وتعالى أن يريه القبلة التي صلى إليها مدة، كما عرفت الكعبة التي صلى إليها.
وقيل لأنه مجمع أرواح الأنبياء فأراد الله تعالى أن يشرّفهم بزيارته صلى الله عليه وسلم. وقيل لتفاؤل حصول التقدير له حساّ ومعنى.
ابن دحية: «ويحتمل أن يكون الحق سبحانه وتعالى أراد ألّا يخلي تربة فاضلة من مشهده ووطء قدميه، فتمّم تقديس بيت المقدس بصلاة سيدنا محمد فيه. فلما تمم تقديسه به، أخبر صلى الله عليه وسلم أنه: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام لأنه مولده ومسقط رأسه وموضع نبوّته، ومسجد المدينة، لأنه محل هجرته وأرض تربته، والمسجد الأقصى، لأنه موضع معراجه صلى الله عليه وسلم» .
رموز الكنوز: «فإن قيل الإسراء والمعراج كانا في ليلة واحدة، فهلّا أخبرهم تعالى بعروجه إلى السماء؟ قلت: استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا، فلما ظهرت أمارات صدقه، وصحّت لهم براهين رسالته، واستأنسوا بتلك الآية الخارقة، أخبرهم بما هو أعظم منها وهو المعراج، فحدّثهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى سورة النّجم» .
الإمام الرازي والبرهان: «اعلم أن كلمة «إلى» لانتهاء الغاية فمدلول قوله تعالى: إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أنه وصل إلى ذلك المسجد، ولا دلالة في اللفظ على أنه دخل» .
قلت: قال المحققون: إذا كانت «إلى» لانتهاء الغاية، فإن دلّت قرينة على دخول ما بعدها عمل بها، نحو قرأت القرآن من أوله إلى آخره. فالقرينة هنا ذكر الآخر وجعله غاية. وقيل القرينة هي كون الكلام مسبوقا لحفظ القرآن كله، وذلك مناف لخروج الغاية، فتعيّن دخولها، أو دلّت القرينة على خروج ما بعدها عمل بها نحو: أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة:
187] . والقرينة في آية الإسراء العلم لا يسرى به إلى البيت المقدس ولا يدخله وصرّحت السّنّة الصحيحة بما اقتضته القرينة من دخوله صلّى الله عليه وسلم بيت المقدس.(3/18)
الحادي عشر: معنى قوله: بارَكْنا حَوْلَهُ:
الراغب رحمه الله: «البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والمبارك ما فيه ذلك الخير» .
المصباح: «البركة الزيادة والنّماء، وبارك الله تعالى فيه فهو مبارك، والأصل مبارك فيه» .
الأنموذج: فإن قيل: كيف قال: بارَكْنا حَوْلَهُ، ولم يقل باركنا عليه أو فيه، مع أن البركة في المسجد تكون أكثر من خارج المسجد وحوله، خصوصا المسجد الأقصى؟ قلنا أراد البركة الدنيوية كالأنهار الجارية والأشجار المثمرة، وذلك حوله لا فيه. وقيل أراد البركة الدينية فإنه مقر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومتعبّدهم ومهبط الوحى والملائكة. وإنما قال: بارَكْنا حَوْلَهُ، لتكون بركته أعمّ وأشمل، فإنه أراد بما حوله ما أحاط به من أرض الشام وما قاربه منها، وذلك أوسع من مقدار بيت المقدس، ولأنه إذا كان هو الأصل، وقد بارك في لواحقه وتوابعه من البقاع كان هو مباركا فيه بالطريق الأولى بخلاف العكس. وقيل أراد بالبركة: الدينية والدنيوية ووجههما ما مرّ.
وقيل المراد: باركنا ما حوله من بركة نشأت منه، فعمّت جميع الأرض، لأن مياه الأرض كلها أصل انفجارها من تحت صخرة بيت المقدس» . انتهى.
الكفيل: «فإن قيل إذا كانت البركة حول المسجد الأقصى فماذا يتميز عليه المسجد الحرام؟ قلت: البركة حول المسجد الأقصى باعتبار الدنيا ورفاهيتها وخصبها، والبركة حول المسجد الحرام باعتبار الدين والفضل وتضعيف الحسنات فيه للطائفين والعاكفين والمتوطنين والوافدين، لأن الأجر يكون على قدر النّصب، وهو واد غير ذي زرع، نزهه الله عن خصب الدنيا وسعتها، لئلا يكون القصد إليه ممزوجا بقصد الدنيا، فهذه البركة الدينية أفضل من تلك البركة الدنيوية» . انتهى.
«وحوله» منصوب على الظرف أي أوقعنا البركة حوله، وقيل تقديره: باركنا ما حوله.
أبو عبيد الهروي رحمه الله تعالى: «رأيت الناس حوله وحواليه وحواله ويجمع أحوالا» .
الراغب: حول الشيء جانبه الذي يمكن أن يتحوّل إليه والضمير راجع إلى المسجد الأقصى» .
الثاني عشر: في الكلام على قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا.
السّمين وابن عادل [ (1) ] : «قرأ العامة بنون العظمة، جريا على «باركنا» ، وفيه التفات من
__________
[ (1) ] عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي، أبو حفص، سراج الدين: صاحب التفسير الكبير «اللباب في علوم الكتاب» توفي سنة 880. انظر الأعلام 5/ 58.(3/19)
الغيبة في قوله: أَسْرى بِعَبْدِهِ إلى التكلم في «باركنا» و «لنريه» ، وقرأ الحسن «ليريه» بالمثناة التحتية أي الله تعالى» .
وعلى هذه القراءة في الآية أربع التفاتات، لأنه التفت أولا من الغيبة في «أسرى» إلى التكلم في «باركنا» . ثم التفت ثانيا من التكلم في «باركنا» إلى الغيبة. «ليريه» ثم التفت ثالثا إلى التكلم في «آياتنا» . ثم التفت رابعا إلى الغيبة في إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
الزمخشري: «وطريقة الالتفات من طرق البلاغة.
الطيبي: «وذكرك أن قوله: «سبحان الذي أسرى بعبده» يدل على مسراه من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فهو بالغيب أنسب. وقوله: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ دالّ على إنزال البركات وتعظيم شأن المنزل، فهو بالحكاية على التفخيم أحرى. وقوله: «ليريه» بالياء إعادة إلى مقام السّرّ والغيبوبة من هذا العالم، فالغيبوبة بهما أليق. وقوله: «من آياتنا» عود إلى التعظيم على ما سبق وقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ إشارة إلى مقام اختصاصه بالمنح والزّلفى وغيبة شهوده في عين «بي يسمع وبي يبصر» فالعود إلى الغيبة أولى» انتهى.
ومعنى الرؤية هو ما أري تلك الليلة من العجائب والآيات الدّالة على قدرة الله تعالى ومنها ما ذكره في القصة.
أبو شامة: «من» هنا للتبعيض، وإنما أتي بها هنا تعظيما لآيات الله، فإن هذا الذي رآه محمد صلى الله عليه وسلم وإن كان جليلا عظيما فهو بعض بالنسبة إلى جملة آيات الله وعجائب قدرته وجليل حكمته. والآية العلامة الظاهرة على ما يلازمها، فمن علم ملازمة العلم للطريق المنهاج، ثم وجد العلم على أنه وجد الطريق، وكذا إذا وجد شيئا مصنوعا، فإنه يعلم إنه لا بد له من صانع، فآية الشيء علامته الظاهرة، ثم غلب ذلك على صدق الرسل، وعلى الإلهية وكرامات الأولياء وما أشبه ذلك» .
البرهان النسفي: «فإن قيل الآية تدل على أنه تبارك وتعالى ما أراه إلا بعض الآيات وقال في حق إبراهيم صلى الله عليه وسلم وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الانعام: 75] ، يدل على أنه تعالى أراه جميع الآيات، فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل من معراج محمد صلى الله عليه وسلم، فنقول: ملكوت السموات والأرض بعض آيات الله أيضا بعضا مخصوصا، والبعض المطلق أفضل من البعض المخصوص، إذ المطلق يصرف إلى الكامل. والجواب المشهور عنه هو أن بعض آيات الله أفضل من ملكوت السموات والأرض. انتهى.
الثالث عشر: في الكلام على قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
السمين: «الصحيح إن الضمير في «إنّه» لله تبارك وتعالى» .
الطيبي: «ولا يبعد أن يرجع الضمير إلى العبد، كما نقله أبو البقاء عن بعضهم، قال: إنه(3/20)
السميع» ، لكلامنا، «البصير» لذاتنا. وأما توسّط ضمير الفعل فللإشعار باختصاصه بهذه الكرامة وحده، ولعل السّرّ في مجيء الضمير محتملا للأمرين الإشارة إلى المطلوب وأنه صلّى الله عليه وسلم إنما رأى رب العزّة وسمع كلامه به» .
الماوردي: «في الحكمة بالإتيان بالسميع والبصير هنا وجهان أحدهما: أحدهما: أنه تعالى وصف نفسه بهما، وإن كانا من صفاته اللازمة لذاته في الأحوال كلها، لأنه حفظ لرسوله عند الإسراء به في ظلمة الليل، فلم يضرّه ألّا يبصر فيها، وسمع كلامه دعاءه فأجابه إلى ما سأل.
الثاني: أن قومه لما كذّبوه حين أخبرهم بإسرائه، فقال: السميع، يعني لما يقولونه من تصديق أو تكذيب. البصير، فيما يفعله من الإسراء والمعراج.
الزمخشري: «إنه هو السمّيع» لأقوال محمد، «البصير» بأفعاله، العالم بتهذّبها وخلوصها فيكرمه ويقرّبه على حسب ذلك.
ولم يتعقّب ذلك الطيبي ولا السّكوني- بالفتح والضمّ- في التمييز مع مبالغته في التنكيب [ (1) ] والاعتراض عليه. وقال صاحب الكفيل: «ذكر صفتي السمع والبصر تنبيهاً على أنه علم حيث يجعل رسالاته وكراماته، والبصير بآياته، وكما أنه أعلم فهو أسمع وأبصر. والمراد أنه السميع لمن صدّق بالإسراء البصير بمن كذّب به» ، ثم ذكر كلام الزمخشري السابق، ثم قال: «وفي كلامه هذا إيماء إلى القول بإيجاب الجزاء وتلويح إلى اعتقاده أن فضائل النبوة مكتسبة، فاحذر هذه العقيدة. انتهى.
الغزالي رحمه الله: المقصد الأسنى: «السميع هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع وإن خفي، فيسمع السّرّ والنجوى، بل ما هو أدق وأخفى، ويدرك دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصّمّاء، يسمع بغير أصمخة وآذان، وسمعه منزّه عن أن يتطرّق إليه الحدثان. ومهما نزّهت السمع عن تغير المسموعات وقدّسته عن أن يسمع بأذن وآلة علمت أن السمع في حقه عبارة عن صفة ينكشف بها كمال صفات المسموعات. ومن لم يدقق نظره فيه وقع بالضرورة في بحر التشبيه فخذ حذرك ودقّق فيه نظرك» .
وقال أيضا: «البصير هو الذي يشاهد ويرى ولا يعزب عنه ما تحت الثّرى، وإبصاره منزّة عن أن يكون بحدقة وأجفان، مقدّس عن أن يرجع عن انطباع الصور والألوان في ذاته تعالى، كما تنطبع في حدقة الإنسان، وأن ذلك من التغير والتأثير المقتضي للحدثان. وإذا نزّه عن ذلك كان البصر في حقه عبارة عن الصفة التي ينكشف بها كمال نعوت المصنوعات، والله تعالى أعلم بالصواب» .
__________
[ (1) ] التنكيب: التنحية. انظر المعجم الوسيط 2/ 958.(3/21)
الباب الثاني في تفسير أول سورة النجم
قال الله سبحانه وتعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالنَّجْمِ إِذا هَوى. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى. فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى. إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى. ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى.
لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 1: 18] .
الكلام على هذه الآيات من وجوه:
الأول: في سبب نزولها.
النهر: «سببه قول المشركين إن محمدا يختلق القرآن» .
الثاني: في مناسبة هذه السورة لما قبلها:
قال الإمام الرازي والبرهان النسفي رحمهما الله، قد قيل: إن السّور التي تقدمت وهي التي أقسم الله تعالى فيها بالأسماء دون الحروف: الصّافّات والذاريات والطور وهذه السورة بعدها، فالقسم في الأولى لإثبات الوحدانية، كما قال: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ [الصافات: 4] .
وفي الثانية لوقوع الحشر والجزاء، كما قال تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ [الذاريات: 5، 6] . وفي الثالثة لدوام العذاب بعد وقوعه كما قال تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ [الطور: 7، 8] . وفي هذه السورة لبيان النبوة كما قال تعالى:
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النجم: 1] إلخ. لتكمل الأصول الثلاثة: الوحدانية والحشر والنبوة» .
والوجه الآخر في المناسبة لما قبلها هو أن الكفرة بالغوا في المكابرة والمعاندة في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنوا فيما نطق به من الكلام، كما مرّ بيانه في تلك السورة، فقال في هذه ما يدل على صدقه في دعواه، وصدق ما نطق به وأجراه مؤكّدا بالقسم.
وأما مناسبة أول هذه السورة إلى آخر ما قبلها فمن وجوه: أحدها: أن اختتام تلك السورة بالنجم وافتتاح هذه السورة بالنجم مع القسم. ثانيها: أنه تعالى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر في آخر تلك السورة، كما قال تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ [الطور: 48] والصبر أمر صعب، فذكر في أول هذه السورة ما يدل على علو منزلته وعظم شأنه ليسهل عليه ذلك الأمر.
ثالثها: لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ
[الطور: 49] بيّن له أنه جزاه بخير، فقال: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النجم: 2] وزاد الشيخ رحمه الله(3/22)
تعالى، في مناسبته وجها آخر، وهو أن [سورة] الطور فيها ذكر ذرّية المؤمنين وأنهم تبع لآبائهم، وهذه فيها ذكر ذرّية اليهود في قوله تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [النجم: 32] .
فقد روى ابن المنذر وابن حبان عن ثابت بن الحرث الأنصاري قال: «كانت اليهود تقول إذا هلك لهم صبيّ صغير هو صدّيق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقيّ أو سعيد» .
فانزل الله تعالى عند ذلك: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ الآية. ولما قال الله تعالى هناك في المؤمنين: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور: 21] أي ما نقصنا الآباء مما أعطينا البنين مع نفعهم بعمل آبائهم، قال هناك في الكفار أو في الكبار: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: 39] ، خلاف ما ذكر في المؤمنين الصغار» . انتهى.
أبو حيان رحمه الله: «هذه السورة مكية، ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهر، لأنه تعالى قال: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ [الطور: 33] أي اختلق القرآن، ونسبوه إلى الشّعر، وقالوا هو كاهن، هو مجنون، فأقسم تعالى أنه صلى الله عليه وسلم ما ضلّ، وأن ما أتى به هو الوحي من الله. وهي أول سورة أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءتها في الحرم، والمشركون يسمعون، وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال يكفي هذا» . قلت: ذكر أبي لهب هنا غريب.
روى الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود قال: أول سورة نزلت فيها سجدة، النجم، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد الناس كلهم إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه، فرأيته قتل كافرا وهو أمية بن خلف. وروى ابن مردويه وابن خلف عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في النجم وسجد من حضر من الجن والإنس والشجر، زاد ابن أبي شيبة إلا رجلين من قريش أرادا بذلك الشهرة، وسمى أحد الرجلين المبهمين في الرواية السابقة، والثاني الوليد بن المغيرة كما عند ابن سعد. وروى البخاري عن ابن عباس قال:
سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس.
الثالث: في الكلام على القسم الواقع هنا.
الشيخ رحمه الله تعالى في الإتقان: [وقد قيل ما معنى القسم منه تعالى؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن] فالمؤمن يصدّق بمجرد الإخبار من غير قسم، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده، وأجيب بأن القرآن نزل بلغة العرب، ومن عادتها القسم إذا أرادت أن تؤكد أمرا.
وأجاب الأستاذ- بضم الهمزة وبالذال المعجمة- أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى(3/23)
بأن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها وذلك أن الحكم يفصل باثنين إما بالشهادة وإما بالقسم، فذكر تعالى في كتابه النوعين حتى لا يبقى لهم حجّة فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ [آل عمران: 18] وقال: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:
53] وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات: 22] فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات: 23] ، صاح وقال: من ذا الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين؟ ولا يكون القسم إلا باسم معظّم، وقد أقسم الله تعالى بنفسه، في القرآن في سبعة مواضع، بقوله: قُلْ إِي وَرَبِّي [يونس: 53] ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: 7] ، فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ [مريم 68] ، فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] ، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [النساء: 65] ، فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ [المعارج: 40] ، والباقي كله قسم بمخلوقاته. فإن قيل: كيف أقسم بالخلق وقد ورد النهي عن القسم بغير الله تعالى؟ قلنا أجيب عنه بأوجه: الأول أنه على حذف مضاف أي ورب النّجم. وكذا الباقي. الثاني: أن العرب كانت تعظّم هذه الأشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفونه. الثالث: أن الأقسام إنما تكون بما يعظّمه المقسم ويجلّه وهو فوقه. والله سبحانه وتعالى ليس فوقه شيء، فأقسم تارة بنفسه وتارة بموضوعاته لأنها تدل على بادئ وصانع.
ابن أبي الإصبع [ (1) ] رحمه الله تعالى في كتابه أسرار الفواتح: «القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل.
وروى ابن حاتم عن الحسن قال: «أن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وليس لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى ... والقسم إما ظاهر وإما مضمر وهو قسمان: قسم دلّت عليه اللام نحو لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ [آل عمران: 186] وقسم دلّ عليه المعنى نحو: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] تقديره: والله ... وأكثر الأقسام في القرآن المحذوفة الفعل لا تكون إلا بالواو، فإذا ذكرت الباء أتي بالفعل كقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ [الأنعام: 109] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ [النساء: 62] ولا تجد الباء مع حذف الفعل، ومن ثم أخطأ من جعل قسما
__________
[ (1) ] حرثان بن الحارث بن محرث بن ثعلبة، من عدوان، ينتهي نسبة إلى مضر: شاعر حكيم شجاع جاهلي. لقب بذي الإصبع لأن حية نهشت إصبع رجله فقطعها، ويقال: كانت له إصبع زائدة. وعاش طويلا حتى عدّ في المعمرين. له حروب ووقائع وأخبار. وشعره مليء بالحكمة والعظة والفخر، قليل الغزل والمديح، وهو صاحب القصيدة المشهورة التي يقول في أولها:
«أأسيد إن مالا ملكت ... فسر به سيرا جميلا»
انظر الأعلام 2/ 173.(3/24)
بالله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] ، بِما عَهِدَ عِنْدَكَ [الأعراف: 134] .
قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ [المائدة: 116] .
ابن القيم: «اعلم أن الله سبحانه وتعالى يقسم بأمور على أمور وإنما يقسم بنفسه الموصوفة بصفاته وآياته المستلزمة لذاته وصفاته. وأقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته، فالقسم إما على جملة خبرية وهو الغالب كقوله تعالى، فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات: 23] وإما على جملة طلبية كقوله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93] ، مع أن هذا القسم قد يراد به تحقيق المقسم عليه، فيكون من باب الخبر، وقد يراد به تحقيق القسم فالمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه، فلا بدّ أن يكون مما يحسن فيه ذلك كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها فأما الأمور المشهورة الظاهرة كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض، فهذه يقسم بها ولا يقسم عليها. وأما ما أقسم عليه الرّبّ فهو من آياته، فيجوز أن يكون مقسما به ولا ينعكس» .
الإمام الرازي رحمه الله تعالى: «أقسم تعالى في بعض السور بمجموع كقوله تعالى:
وَالذَّارِياتِ، وفي بعضها بإفراد كقوله وَالطُّورِ، ولم يقل والأطوار والبحار، والكلمة فيه أن أكثر الجموع أقسم عليها بالمتحركات. والريح الواحدة ليست بثابتة مستمرة حيث يقع القسم عليها، بل هي متبدّلة بأفرادها، مستمرة بأنواعها، والمقصود منها لا يحصل إلا بالتبدّل والتغيّر، فقال: وَالذَّارِياتِ إشارة إلى النوع المستمر لا إلى الفرد غير المستقر. وأما الجبل فهو ثابت غير متغيّر عادة، فالواحد من الجبال قائم زمانا ودهرا فأقسم في ذلك بالواحد.
وكذلك قوله: «وَالنَّجْمِ» ، ولو قال: والريح، لما علم المقسم به وفي الطور علم. والسّور التي افتتاحها القسم بالأسماء دون الحروف، كان القسم فيها لإثبات أحد الأصول الثلاثة وهي:
الوحدانية والرسالة والحشر وهي التي يتم بها الإيمان.
ثم إنه تعالى لم يقسم لإثبات الوحدانية إلا في سورة واحدة من تلك السور وهي:
الصّافَّات، حيث قال تعالى فيها: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ [الصافات: 4] ، وذلك لأنهم وإن كانوا يقولون: أجعل الآلهة إلها واحدا، على سبيل الإنكار فقد كانوا يبالغون في الشرك، لكنهم في تضاعيف أقوالهم وتصاريف أحوالهم كانوا يصرّحون بالتوحيد، وكانوا يقولون: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ [الزمر: 3] وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [العنكبوت: 61] .
فلم يبالغوا في الحقيقة والإنكار المطلوب الأوّل، فاكتفي بالبرهان ولم يكثر من(3/25)
الأيمان في سورتين منها أقسم لإثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكونه رسولا في إحداهما بأمر، وهو قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى [النجم: 1، 2] . وفي الثانية بأمرين وهو قوله تبارك وتعالى: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى [الضحى: 1، 2، 3] وذلك لأن القسم على إثبات رسالته قد كثر بالحروف والقرآن العظيم، كما في قوله تعالى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 1، 2، 3] . وقد ذكرنا الحكم فيه أن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فأقسم به ليكون في القسم إشارة واقعة إلى البرهان. وفي باقي السّور كان المقسم عليه الحشر والجزاء، وما يتعلق به يكون إنكارهم في ذلك خارجاً عن الحد، وعدم استيفاء ذلك في سور القسم بالحروف.
وأقسم تعالى بمجموع السلامة المؤنثة في خمس سور، ولم يقسم بمجموع السلامة المذكرة في سورة أصلا. فقال وَالصَّافَّاتِ [الصافات: 1] ، وَالذَّارِياتِ [الذاريات: 1] ، ولم يقل «والصالحين من عبادي» ، ولا المقربين، إلى غير ذلك، مع أن الذكور أشرف وذلك لأن المجموع بالواو والنون في الأمر الغالب، لمن يعقل.
وقد ذكرنا أن القسم بهذه الأشياء ليس لبيان التوحيد إلا في صورة ظهر الأمر فيه، وحصل الاعتراف منهم، ولا للرسالة لحصول ذلك في سورة القسم بالحروف والقرآن، بقي أن يكون المقصود إثبات الحشر والجزاء، لكن إثبات الحشر لثواب الصالح وعقاب الطالح، ففائدة ذلك راجعة إلى من يعقل فيلزم أن يكون القسم بغيرهم. والسّور التي أقسم فيها لإثبات الوحدانية أقسم في أول الأمر بالساكنات حيث قال: وَالصَّافَّاتِ وفي السّور الأربع الباقية أقسم بالمتحركات فقال: وَالذَّارِياتِ، وَالْمُرْسَلاتِ [المرسلات: 1] ، والنَّازِعاتِ [النازعات: 1] وَالْعادِياتِ، وذلك لأن الحشر فيه جمع وتفريق، وذلك بالحركة أليق. وفي السور الأربع أقسم بالرياح على ما بين، وهي التي تجمع وتفرّق، فالقادر على تأليف السحاب المتفرق بالرياح الذارية والمرسلة قادر على تأليف الأجزاء المتفرقة بطريق من الطرق التي يختارها بمشيئته تبارك وتعالى» .
وقال الإمام أيضا في موضع آخر: «اعلم أنه تعالى لم يقسم على الوحدانية ولا على النبوة كثيرا، لأنه أقسم على الوحدانية في سورة الصافات، وأما النبوة فأقسم عليها بأمر واحد في هذه السورة، وبأمرين في سورة «والضحى» ، وأكثر من القسم على الحشر وما يتعلق به.
فإن قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [الليل: 1] وقوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس:
1] وقوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ [البروج: 1] ، إلى غير ذلك، كلها في الحشر وما يتعلق به، وذلك لأن دلائل الوحدانية كثيرة، كلها عقلية كما قيل:(3/26)
وفي كلّ شيء له آية ... تدل على أنه واحد [ (1) ]
ودلائل النبوة أيضا كثيرة، وهي المعجزات المشهورة المتواترة، وأما الحشر فإمكانه يثبت بالعقل، وهذا أظهر، وأما وقوعه فلا يمكن إثباته إلا بالسمع، فأكثر فيه القسم ليقطع به المكلّف ويعتقده اعتقادا جازما.
الرابع: في الكلام على النَّجْمِ [النجم: 1] :
صاحب القاموس: «في المطلع النّجم الكوكب الطالع والجمع أنجم وأنجام ونجوم ونجم، والنّجم أيضا الثريّا، والنّجم من النبات ما نجم على غير ساق، والنّجم الوقت المضروب» .
اللباب لابن عادل: «سمّي الكوكب نجما لطلوعه، وكل طالع نجما» ، يقال: نجم السّنّ والقرن والنّبت إذا طلع، زاد القرطبي: «ونجم فلان ببلد كذا أي خرج على السلطان» .
ابن القيّم: «اختلف الناس في المراد بالنّجم، فقال الكلبي عن ابن عباس: أقسم بالقرآن إذ أنزل نجوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربع آيات وثلاث آيات والسورة، وكان بين أوله وآخره عشرون سنة، وكذلك روى عطاء عنه، وهو قول مقاتل والضحاك ومجاهد، واختاره الفرّاء» .
والهويّ على هذا القول النزول من أعلى إلى أسفل، وعلى هذا سمّي القرآن نجما لتفرقه في النزول. والعرب تسمي التفرق تنجّما والمتفرق منجّما. ونجوم الكتابة أقساطها، وتقول جعلت مالي على فلان نجوما منجّمة، كل نجم كذا وكذا. وأصل هذا أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر ومساقطها مواقيت لحلول ديونها وآجالها، فيقولون:
إذا طلع النجم يريدون الثّريّا- حلّ عليك كذا، ثم جعل كل نجم تفريقا وإن لم يكن موقّتا بطلوع نجم.
قال الإمام الرازي: «ففي هذا القسم استدلال بمعجزات النبي صلى الله عليه وسلم على صدقه، وهو كقوله تعالى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ، إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [يس: 1، 2، 3] وقال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وعطية: يعني الثّريّا إذا سقطت وغابت، وهويّها مغيبها، وهو الرواية الأخرى عن مجاهد، والعرب إذا أطلقت النّجم تعني به الثريا، قال الشاعر:
إذا طلع النجم عشاء ... ابتغى الرّاعي كساء [ (2) ]
وفي الحديث: «ما طلع نجم قط وفي الأرض من العاهة شيء إلا ارتفع» ، رواه الإمام
__________
[ (1) ] البيت لأبي العتاهية وقبله
فيا عجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاهد
ولله في كل بحر يابسة ... وفي كل تسكينة شاهد
انظر الديوان. دار الكتب العلمية ص 62.
[ (2) ] البيت في الكشاف 4/ 27.(3/27)
أحمد، وأراد بالنجم الثريا. وهذا القول اختاره ابن جرير والزمخشري. وقال السمين إنه الصحيح، لأن هذا صار علما بالغلبة» ، وقال عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النّجم في السماء الثريا ... والثّريا في الأرض زين النّساء
قال الإمام الرازي: «ومناسبة هذا القول إن الثريا أظهر النجوم عند الرائي لأن له علامة لا تلتبس بغيره في السماء ويظهر لكل أحد. والنبي صلى الله عليه وسلم يتميز عن الكل بآيات بيّنات، فأقسم به، ولأن الثريا إذا ظهرت من المشرق بالبلد حان إدراك الثمار، وإذا ظهرت بالشتاء أو الخريف تقل الأمراض. والنبي صلى الله عليه وسلم إذا ظهر، قلّ الشك والأمراض القلبية وأدركت الثمار الحكمية» .
وقال أبو حمزة، بالحاء المهملة والزاي: «والثمالي- بضم المثلثة وتخفيف الميم وباللام: يعني النجوم إذا انتثرت يوم القيامة. وقيل أراد به الشّعرى. وقال السدّي والثوري:
«أراد به الزّهرة» . وقال الأخفش: «أراد به النّبت الذي لا ساق له، ومنه قوله تعالى:
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن: 6] وهويّه سقوطه.
قال الإمام الرازي: «لأنّ النّبات به نبات القوى الجسمانية وصلاحها، والقوة العقلية أولى بالإصلاح، وذلك بالرسل، وإصلاح السبل، ومن هذا يظهر أن المختار هو النجوم التي في السماء لأنها أظهر عند السامع. وقوله تعالى: إِذا هَوى أدلّ عليه، ثم بعد ذلك القرآن لما فيه من الظهور، ثم الثريا.
وقال جعفر بن محمد- رضي الله عنهما-، كما نقله القاضي: «أراد به النبي- صلى الله عليه وسلم- إذ نزل ليلة المعراج والهويّ النزول» .
صاحب السراج: «ويعجبني هذا التفسير لملاءمته من وجوه، فإنه صلى الله عليه وسلم نجم هداية، خصوصا لما هدي إليه من فرض الصلاة تلك الليلة، وقد علمت منزلة الصلاة من الدين، ومنها أنه أضاء في السماء والأرض. ومنها التشبيه بسرعة السّير، ومنها أنه كان ليلا، وهو وقت ظهور النّجم، فهو لا يخفى على ذي بصر وأما أرباب البصائر فلا يمترون كأبي بكر الصديق- رضي الله عنه.» . انتهى.
وقال مجاهد في رواية عنه: «نجوم السماء كلها» . وجزم أبو عبيدة وقال: ذهب إلى لفظ الواحد بمعنى الجمع، قال الشاعر:
فبانت تعدّ النّجم في مستحيرة [ (1) ]
أي تعدّ النجوم. قال ابن جرير: «وهذا القول له وجه، ولكن لا أعلم أحدا من أهل التأويل قاله» . انتهى.
__________
[ (1) ] هذا شطر بيت للراعي النميري. انظر الكشاف 4/ 27.(3/28)
قلت: قد تقدم نقله عن مجاهد، ونقله الماوردي عن الحسن أيضا. وقال الإمام الرازي:
«ومناسبة ذلك أن النجوم يهتدى بها فأقسم بها لما بينهما من المشابهة والمناسبة» .
وقال ابن عباس في رواية عكرمة: أراد التي ترمى بها الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع. وهذا قول أبي الحسن الماوردي. وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم ورسولا، كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن، كان يخبرهم بالحوادث، فسألوه عنها فقال: انظروا إلى البروج الاثني عشر فإن انقضّ منها شيء فهو ذهاب الدنيا، وإن لم ينقضّ منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه، فانزل الله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى، هوى لهذه النبوة التي حدثت.
الإمام الرازي: «إن الرجوم تبعد الشياطين عن أهل السماء والأنبياء يبعدون الشياطين عن أهل الأرض.
ابن القيم: «وهذه الرواية عن ابن عباس أظهر الأقوال، ويكون الحق سبحانه وتعالى قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها آية وحفظا للوحي من استراق الشياطين له، على أن ما أتى به رسولا حق وصدق لا سبيل للشياطين ولا طريق لهم إليه، بل قد حرس بالنجم إذا هوى رصدا بين يدي الوحي وحرسا له، وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور، وفي المقسم به دليل على المقسم عليه، فإن النجوم التي ترمى بها الشياطين آيات من آيات الله تعالى، يحفظ بها دينه ووحيه، وآياته المنزّلة على رسله، بها ظهر دينه وشرعه، وأسماؤه وصفاته. وجعلت هذه النجوم المشاهدة خدما وحرسا لهذه النجوم الهادية.
وليس بالبيّن تسمية القرآن عند نزوله بالنجم إذا هوى ولا تسمية نزوله هويا، ولا عهد في القرآن بذلك فيحمل هذا اللفظ عليه وليس بالبين أيضا تخصيص هذا القسم بالثّريّا وحدها إذا غابت، وليس بالبيّن القسم بالنجوم عند تناثرها يوم القيامة، بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه بآياته، فلا يجعله نفسه دليلا لعدم ظهوره للمخاطبين ولا سيما منكرو البعث. فإنه سبحانه وتعالى إنما يستدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه، فأظهر الأقوال قول الحسن وابن كثير وهذا القول له اتجاه» .
الخامس: في الكلام على «هوى» :
السمين: «العامل في «إذا» إما فعل القسم المحذوف وتقديره: أقسم بالنجم وقت هويّة» . قال أبو البقاء وغيره: «وهو مشكل، فإن فعل القسم إنشاء، والإنشاء حال. و «إذا» لما يستقبل من الزمان، فكيف يتلاقيان؟.(3/29)
الطيبي نقلا عن المقتبس: «الوجه أن «إذا» قد انسلخ عنها معنى الاستقبال، وصار للوقت المجرد، ونحوه: آتيك إذا احمرّ البسر، أي وقت احمراره، فقد عرّي عن معنى الاستقبال لأنه وقت الغيبة عنه، بقوله: آتيك» .
قال الشيخ عبد القاهر: «إخبار الله تعالى بالمتوقع مقام الإخبار بالواقع، إذا لا تكلف فيه، فيجري المستقبل مجرى المحقّق الماضي» .
السمين: «وإما مقدّر على أنه حال من النّجم، إذ أقسم به حال كونه مستقرا في زمان هويّه. وهو مشكل من وجهين: أحدهما: أن النّجم جثّة والزمان لا يكون حالا عنها، كما لا يكون خبرا، الثاني: «إذا» للمستقبل، فكيف تكون حالا؟.
وأجيب عن الأول: المراد بالنجم القطعة من القرآن، والقرآن، نزل منجّما في عشرين سنة. وهذا تفسير ابن عباس وغيره. وعن الثاني: بأنها حال مقدّرة، وأما العامل فهو نفس النجم الذي أريد به القرآن، قاله أبو البقاء. وفيه نظر لأن القرآن لا يعمل في الظّرف، إذا أريد به أنه اسم لهذا الكتاب المخصوص. وقد يقال إن النّجم بمعنى المنجّم كأنه قيل: والقرآن المنجّم في هذا الوقت» .
المصباح: هوى يهوي من باب ضرب هويّا بضمّ الهاء وفتحها، وزاد ابن القوطية هواء بالمدّ، سقط من أعلى إلى أسفل قاله أبو زيد وغيره» . قال الشاعر:.
فشج بها الأماعز وهي تهوى ... هويّ الدّلو أسلمها الرّشاء [ (1) ]
يروى بالفتح والضّمّ.
الراغب: «الهوى سقوط من علو» . ثم قال: «والهويّ ذهاب في انحدار والهويّ ذهاب في ارتفاع» . وقيل: «هوى في اللغة مقصده السفل أو مصيره إليه وإن لم يقصده» . وقال أهل اللغة: هوى بفتح الواو يهوي هويا سقط من علو، وهوى يهوى هوى أي صبا.
القرطبي: هوى وانهوى فيه لغتان بمعنى وقد جمعهما الشاعر في قوله:.
وكم منزل لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلّة النّيق منهوي
النيق بكسر النون المشدّدة أرفع موضع في الجبل.
الإمام الرازي: «الفائدة في تقييد القسم بالنجم بوقت هويّه أنه إذا كان في وسط السماء بعيدا عن الأرض لا يهتدي به السّاري، لأنه لا يعلم به المشرق من المغرب ولا الجنوب من الشمال: فإذا زال تبين بزواله، وتميّز جانب عن جانب، كذلك النبي صلى الله عليه وسلم خفض جناحه
__________
[ (1) ] انظر ديوان زهير ص 89، 94.(3/30)
للمؤمنين، وكان على خلق عظيم وخصّ الهويّ دون الطلوع لعموم الاهتداء به في الدين والدنيا. أما الدنيوي فلما ذكر، وأما الديني فكما قال الخليل صلى الله عليه وسلم لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76] وفيه لطيفة وهي أن القسم بالنجم يقتضي تعظيمه، وقد كان من المشركين من يعبده، فنبّه بهويّه على عدم صلاحيته للإلهية، وهويّه أفوله.
السادس: في الكلام على قوله: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى:
[النجم: 2] السمين: «هذا جواب القسم» .
الإمام الرازي والبرهان النسفي: أكثر المفسّرين قالوا: لا نفرّق بين الضلال والغيّ. وقال بعضهم: إن الضلال في مقابله الهدى، والغيّ في مقابله الرّشد، قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف: 146] ، وتحقيق الفرق فيه أن الضلال أعمّ استعمالا في المواضع، تقول: ضلّ بعيري ورحلي ولا تقول: غوى، فالمراد من الضلال ألا يجد السالك إلى مقصده طريقا مستقيما. والغواية ألا يكون له إلى القصد طريق مستقيم، ويدل على هذا أنك تقول للمؤمن الذي ليس على طريق السّداد: إن سعيه غير رشيد، ولا تقول: إنه ضال. فالضّالّ كالكافر، والغاوي كالفاسق، فكأنه تعالى قال: ما ضَلَّ أي ما كفر، ولا أقل من ذلك، فما فسق، ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً:
[النساء: 6] الآية. أو يقال: الضلال كالعدم والغواية كالوجود الفاسد في الدرجة والمرتبة.
ويحتمل أن يكون معنى «ما ضلّ» أي ما جنّ، فإن المجنون ضالّ، وعلى هذا فهو كقوله تعالى ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم: 2] الآية. فقوله: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ [القلم: 3] ، إشارة إلى أنه ما غوى بل هو رشيد مرشد إلى حضرة الله تعالى. وقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4] ، إشارة إلى قوله هنا: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] ، فإن هذا خلق عظيم. وقد أشار قوله تعالى ما ضَلَّ إلى أنه على الطريق، وَما غَوى إشارة إلى أنه على الطريق المستقيم وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إلى أنه مسلك الجادّة، ركب من الطريق، فإنه إذا ركب متنه كان أسرع وصولا إلى المقصد، ويمكن أن يقال إن قوله وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى دليل على أنه ما ضلّ وما غوى، وتقديره: كيف يضلّ أو يغوي وهو لا ينطق عن الهوى؟ وإنما يضل من يتبع هواه، ويدل عليه قوله تبارك وتعالى: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: 26] .
القرطبي: وقيل ما غوى ما خاب مما طلب قال الشاعر:.
فمن يلق خيرا يحمد النّاس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما
أي من خاب في طلبه لامه الناس، ثم يجوز أن يكون إخبارا عما بعد الوحي، ويجوز أن(3/31)
يكون إخبارا عن أحواله على التعميم، أي كان أبدا موحّدا لله. وهو الصحيح.
ابن القيم: نفى الله سبحانه وتعالى عن رسوله الضلال المنافي للهدى والغيّ المنافي للرشد، ففي ضمن هذا النفي الشهادة له بأنه على الهدى والرشد، فالهدى في علمه والرشد في عمله، وهذان الأصلان هما غاية كمال العبد، وهما سعادته وصلاحه، وبهما وصف النبي صلى الله عليه وسلم خلفاءه، فقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي [ (1) ] .
«فالرّاشد ضد الغاوي، والمهدي ضد الضال وهو الذي زكت نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو صاحب الهدى ودين الحق، لا يشتبه الراشد المهدي بالضالّ الغاوي، إلا على أجهل الخلق وأعماهم قلبا وأبعدهم من حقيقة الإنسانية، ورحم الله القائل:
وما انتفاع أخي الدّنيا بناظره ... إذا استوت عنده الأنوار والظّلم
والناس أربعة أقسام: الأول: ضالّ في علمه، غاو في قصده وعمله، وهؤلاء سواد الخلق، وهم مخالفو الرسل. الثاني: مهتد في علمه غاو في قصده وعمله، وهؤلاء هم الأمة العصيّة ومن تشبّه بهم، وهو حال كل من عرف الحقّ ولم يعمل به. الثالث: ضال في علمه ولكن قصده الخير وهو لا يشعر، الرابع: مهتد في علمه راشد في قصده وهم ورثة الأنبياء، وهم وإن كانوا الأقلّين عددا فهم الأكثرون عند الله قدرا، وهم صفوة الله تعالى من خلقه.
وتأمّل كيف قال تعالى: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ، ولم يقل: محمدا، تأكيدا لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم، وهم أعلم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله، وأنهم لا يعرفونه بكذب ولا غيّ ولا ضلال، ولا ينقمون عليه أمرا واحدا قط. وقد نبّه تعالى على ذلك بقوله: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ [المؤمنين: 69] ، وبقوله: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22] .
السابع: في الكلام على قوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى: [النجم: 3] .
قال [تعالى] أولا: «ما ضلّ» و «وما غوى» ، بصيغة الماضي، وعبّر هنا بصيغة المستقبل، وهو ترتيب في غاية الحسن، أي ما ضلّ حين اعتزلكم وما تعبدون حين اختلى بنفسه. وما ينطق عن الهوى الآن حيث أرسل إليكم وجعل شاهدا عليكم، فلم يكن أولا ضالا ولا غاويا، وصار الآن منقذا من الضلالة ومرشدا وهاديا، والله سبحانه وتعالى يصون من يريد إرساله في صغره عن الكفر والمعايب، فقال تعالى: ما ضَلَّ في صغره لأنه لا ينطق عن الهوى.
__________
[ (1) ] أخرجه أبو داود 4/ 201 (4607) والترمذي [2676] وابن ماجة (42) وأحمد في المسند 4/ 126 والطبراني في الكبير 18/ 246 والبيهقي في السنن 10/ 114 وابن عبد البر في التمهيد 8/ 66.(3/32)
ابن عادل: «فاعل ينطق إما ضمير النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الظاهر، وإما ضمير القرآن كقوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ [الجاثية: 29] .
ابن القيّم: تنزّه تعالى عن نطق رسوله صلى الله عليه وسلم عن أن يصدر عن هوىّ، وبهذا الكمال هداه وأرشده، ولم يقل: وما ينطق بالهوى، لأن نفي نطقه عن الهوى أبلغ، فإنه يتضمّن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به؟ فتضمّن نفي الأمرين: نفي الهوى عن مصدر النّطق، ونفيه عن النطق نفسه، فنطقه بالحق، ومصدره الهدى والرشاد، لا الغيّ والضلال.
اللباب: قال النحاس [ (1) ] : «قول قتادة أولى وتكون» «عن» على بابها أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله تعالى، لأن بعده إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 4] .
وقيل: هو بمعنى الباء، أي ما ينطق بالهوى، أي ما يتكلم بالباطل، وذلك أنهم قالوا: إن محمدا يقول من تلقاء نفسه» . المصباح: الهوى مقصور مصدر هويته من باب تعب إذا أحببته وعلقت به، ثم أطلق على ميل النفس وانحرافها عن الشيء ثم استعمل في ميل مذموم فيقال اتّبع هواه» .
الإمام البيهقي: «وأحسن ما يقال في تفسير الهوى أنه المحبة، لكن من النفس، يقال هويته بمعنى أحببته. والحروف التي في هوي تدل على الدّنوّ والنزول والسقوط ومنه الهاوية، فالنفس إذا كانت دنيّة وتركت المعالي وتعلّقت بالسفاسف فقد هوت فاختص الهوى بالنفس الأمّارة بالسوء» .
الشعبي: «إنما سمّي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه» . وقال بعض الحكماء: «الهوى إله معبود، له شيطان شديد، يخدمه شيطان مريد، فمن عبد أوثانه، وأطاع سلطانه، واتّبع شيطانه، ختم الله تعالى علي قلبه، وحرم الرّشاد من ربّه، فأصبح صريح غيّه، غريق ذنبه، وقال عز من قائل أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ، وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً، فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23] وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50] .
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ثلاث منجيات وثلاث مهلكات، فالمنجيات: خشية الله في السر والعلانية، والحكم بالعدل في الرضا والغضب، والاقتصاد في الفقر والغنى، والمهلكات: شجّ
__________
[ (1) ] أحمد بن محمد بن إسماعيل المراديّ المصري، أبو جعفر النحاس: مفسر، أديب. مولده ووفاته بمصر. كان من نظراء نفطويه وابن الأنباري. زار العراق واجتمع بعلمائه. وصنف «تفسير القرآن» و «إعراب القرآن» و «تفسير أبيات سيبويه» و «ناسخ القرآن ومنسوخه» و «معاني القرآن» انظر الأعلام 1/ 208.(3/33)