ورائه يغمراسن نفسه، وابن عمه يعقوب بن جابر. ولما سقط الخليفة الموحدي صريعاً، وقبل أن يلفظ أنفاسه، انحنى عليه يغمراسن وحياه، وأقسم له على براءته من مصرعه، ثم فاضت روح السعيد، وأمر يغمراسن بتكفينه وغسله، ثم حمل فدفن بمكان يعرف بالعباد خارج مدينة تلمسان، وانتهبت محلة السعيد، واستولى بنو عبد الواد على سائر ما فيها، وتفرق عسكره أيدي سبا، وارتدت فلولهم مسرعة إلى مراكش. ووقعت تلك النكبة المروعة. في يوم الثلاثاء آخر صفر سنة 646 هـ (23 يونيه 1248 م) (1).
وهكذا هلك الخليفة أبو الحسن على السعيد فجأة، وبصورة لم يكن يتوقعها أحد، وهو في إبان ظفره وطموحه، وقد كان حريا أن يسير في قواته الجرارة صوب إفريقية، وأن يفتتحها، وقد لاح مدى لحظة أن الخلافة الموحدية، قد نهضت من سباتها، وتداركت عثرتها، وأنها أضحت على وشك الظفر بخصومها، واسترداد كامل سلطانها، وكان يبدو أن ما يتصف به السعيد، من العزم والصرامة وقوة النفس، كانت كفيلة بتحقيق هذه الغاية الضخمة، بل لقد بدا أنها بدأت تتحقق بالفعل. حينما زحف السعيد في قواته الجرارة للقاء بني مرين، وحينما رأى بنو مرين، وهم أقوى وأخطر خصوم الخلافة الموحدية، أن ينحنوا أمام عزم السعيد وقوته، وأن ينسحبوا من معظم الأراضي، التي كانوا يحتلونها من أنحاء المغرب. ولو أتاح القدر للسعيد فرصته، ولو لم يسقط صريعا على هذا النحو المفاجىء، لكانت أمامه ثمة فرصة، بل فرص سانحة، لتحقيق برنامجه الضخم، في إقالة الدولة الموحدية من عثرتها، واستردادها لسابق تماسكها ومنعتها.
وتنوه الرواية بعزم السعيد، وهمته، وشجاعته، وتقول لنا إنه كان مهابا ذا إقدام ونجدة في الحروب، فاق بها من تقدم من آبائه، وهذا ما تدلى به في الواقع أعمال السعيد وحملاته الحربية المتوالية. وتصفه الرواية بأنه كان أسمر شديد السمرة، تام القد، معتدل القوام، سبط الشعر، مليح العينين (2).
_______
(1) الذخيرة السنية ص 78، والبيان المغرب ص 387 و 388، وابن خلدون ج 6 ص 58 وج 7 ص 82، وروض القرطاس ص 102، وهو يقدم إلينا مصرع السعيد في صورة حادث استكشاف خاص قام به السعيد في شعب الجبل، ففاجأته جماعة من بني عبد الواد، ومعهم يغمراسن، فقتلوه.
(2) روض القرطاس ص 171(4/527)
الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله
اختيار الخليفة الجديد. مبايعة السيد أبي حفص عمر المرتضى لأمر الله. تصرفاته الأولى. عصره نذير انهيار الدولة الموحدية. أثر مصرع السعيد في تحرك بني مرين. استيلاء الأمير أبي يحيى على رباط تازا. زحف أبي يحيى على فاس ومحاصرتها. تسليمها إليه صلحا. مبايعة أشياخها له. دخول أبي يحيى فاس. استتباب الأمن والسكينة. مغادرة أبي يحيى لفاس وخروجه إلى بلاد فازاز. مؤامرة الموحدين لخلع أبي يحيى. مؤازرة الجند الروم لهم. وثوبهم بالوالى المرينى وقتله. إعلانهم بالعودة لطاعة الخليفة الموحدي. عودة أبي يحيى إلى الزحف على فاس. تحرك يغمراسن لأخذ رباط تازا. مسير أبي يحيى لقتاله. هزيمة يغمراسن. عودة أبي يحيى إلى فاس وتشديد الحصار عليها. طلب أهل المدينة العفو والتسليم. موافقة أبي يحيى ودخوله المدينة. القبض على زعماء المؤامرة وإعدمهم. إلزام أهل المدينة برد المال المنهوب. وفاة أبي زكريا الحفصى خلال مسيره للغزو. صفاته وخلاله. صدى وفاته في موقف الأقلية المسلمة بصقلية. أحوال هذه الطائفة وتلاشيها. الثورة في سبتة والبطش بالولاة الحفصيين. خلع طاعة بني حفص وقيام القاضي العزفى في الرياسة. علاقة الخلافة الموحدية بالكرسى الرسولى. بدء نفوذ النصارى منذ أيام المأمون. قيام الكنيسة بمراكش. تضخم الجالية النصرانية بها. البابا يرسل أسقفاً إلى مراكش وخطابا إلى الخليفة السعيد. حثه الخليفة على اعتناق النصرانية وتخصيص حصون لحماية النصارى. عدم اكتراث السعيد برسالة البابا. الخليفة المرتضى يرسل رده إلى البابا مع الأسقف لوبى. إشارة الخليفة بوحدانية الله وحملته على التثليث. إشارته إلى كتب البابا، وما يوجبه الخليفة لمنصبه من الإجلال. تنويهه بتكريم البشب رسول البابا. رجاؤه أن يكون خلفه من ذوى العقل والخلق الراجح. مغزى كتاب الخليفة الموحدي ودلالاته. وفود بعض زعماء بني مرين المنشقين على المرتضى. تأهبه بتحريضهم لقتال بني مرين. خروجه في قوات الموحدين والعرب إلى سلا. الأمير أبو يحيى يكتب إلى المرتضى في طلب السلم. ضغط الوزراء على المرتضى وجنوحه إلى الحرب. مسيره إلى محلات بني مرين ونزوله بأميلولين. نشوب المعركة بين الفريقين. خدعة شيخ سفيان بإذاعة الصلح. أمر المرتضى بالعودة. هجوم المرينيين على مؤخرة الجيش الموحدي وانتهاب عتاده وأمواله. عود المرتضى إلى الحضرة. ثورة والي السوس علي بن يدر. عجز القوات الموحدية عن إخضاعه. محاولته الاستيلاء على تارودانت. ارتياب المرتضى في ابن يونس وأمره بإعدامه. توطيد بني مرين لحكومتهم في فاس. ما خسرته الدولة الموحدية من أراضيها. إخضاع أبي يحيى لبلاد فازاز. مسيره صوب سلا. المرتضى يدبر مصرع زعماء الخلط. ثورة زعيم بني جابر والقبض عليه. خروج المرتضى لمحاربة بني مرين. اللقاء بين الفريقين عند جبل بهلولة. هزيمة الموحدين وفرار المرتضى. الهدوء المؤقت. نية بني مرين في القضاء على الدولة الموحدية. افتتاحهم لسجلماسة ودرعة. اشتداد ثورة السوس. فشل الموحدين في إخمادها. وفاة الأمير أبي يحيى. الانقلاب في سجلماسة. عود زعيمها القطرانى إلى طاعة الموحدين. موافقة المرتضى ثم تدبيره لمصرعه. الخلاف على وراثة عرش بني مرين(4/528)
خلوص الأمر للأمير أبي يعقوب. افتتاح بني مرين لثغر سلا ورباط الفتح. مختلف الروايات في ذلك. خلع يعقوب بن عبد الله للطاعة واستقلاله بسلا. مخاطبته لألفونسو العاشر. ألفونسو يدبر مشروعا لغزو سلا. مقدم السفن القشتالية واعتداؤها الغادر على سلا. اهتمام السلطان أبي يوسف ومسيره إلى سلا. مقاتلته للنصارى وإجلاؤهم. استيلاؤه على سلا ورباط الفتح. انهيار مشروع ألفونسو العاشر. افتداء أسرى سلا. ما كان ينذر به هذا العدوان. سعى المرتضى إلى الصلح مع بني مرين. خروج أبناء إدريس المرينى بغمارة. استنزالهم واسترضاؤهم. أبو يوسف يرسل حملة لإنجاد الأندلس بقيادة عامر ابن إدريس. احتلالها لمدينة شريش. بداية عون بني مرين للأندلس. الخلاف بين ابن الأحمر والعزفى. أحوال عرب سفيان والخلط. ترددهم بين طاعة الموحدين وبنى مرين. موقف المرتضى. تدبيره لمصرع الزعماء الناكثين. عود المرتضى إلى التأهب لمحاربة بني مرين. مسير الموحدين لقتالهم. موقعة أم الرجلين. هزيمة الموحدين وتمزيق صفوفهم. محاولة جديدة لإخماد ثورة السوس وفشلها. حوادث طنجة وسبتة. مسير السلطان أبي يوسف لمحاصرة سبتة ثم عوده. مسير السلطان أبي يوسف إلى مراكش. القتال بينه وبين الموحدين. مصرع ولد السلطان. توقف القتال وتعهد المرتضى بدفع إتاوة سنوية. السيد أبو العلاء إدريس الملقب بأبي دبوس. الوحشة بينه وبين المرتضى. اختلاف الرواية في تعليل ذلك. فرار أبي دبوس والتجاؤه إلى السلطان أبي يوسف. موافقة أبي يوسف على مشروعه لفتح مراكش. إمداده بعسكر من بني مرين. مسير أبي دبوس ونزوله بهسكورة. التفاف القبائل حوله. توجس المرتضى ومطاردته لزعيم سفيان وقائد الروم. إنضمام العرب والروم إلى أبي دبوس. مسير أبي دبوس إلى أغمات ثم إلى مراكش. الاضطراب في المدينة وخلوها من القوات المدافعة. اقتحام رجال هسكورة للسور وفتحهم لباب الصالحة. دخول أبي دبوس المدينة وفرار المرتضى. مسيره إلى أزمور وغدر واليها صهره. مبايعة أبي دبوس بالخلافة وتلقبه بالواثق بالله. خلاله وصفته. وزراؤه. إجراءاته الأولى. نضوب الأموال. كتابه في ذلك ورد المرتضى. تأثره لمحنة المرتضى. نصح وزيره بالقضاء على المرتضى. إعدام المرتضى. المرتضى وتمام تفكك الدولة في عهده. صفاته. وزراؤه وكتابه. أدبه وشعره. ابن القطان يؤلف له تاريخه. شخصه. إعتقال أولاده. إطلاقهم والتجاؤهم إلى حماية ملك قشتالة. انتقالهم إلى غرناطة. ولده أبو حمارة. السيد أبو زيد أخو أبي دبوس. التجاؤه إلى ملك قشتالة وتنصره. تأملات عن هذه الظاهرة.
- 1 -
لما لقى الخليفة أبو الحسن السعيد مصرعه في شعب جبل تلمسان، في نهاية شهر صفر سنة 646 هـ، ووصل نبأ مصرعه ونكبة جيشه، إلى مراكش، كان لذلك أعمق وقع في البلاط الموحدي، وبادر السيد أبو زيد، أخو الخليفة القتيل ووالى مراكش، فاستدعى أشياخ الموحدين الموجودين بالحضرة، لبحث الموقف، واختيار الخليفة الجديد، فاتجه الرأي أولا إلى اختيار السيد أبي زيد نفسه، ولكنه امتنع واعتذر، فاقترح البعض أن يولى السيد أبو حفص عمر والي سلا، وذلك لعقله وورعه وصيانته، فوافق الموحدون على ذلك، وبايعوا السيد أبا حفص في غيبته، وتلقى الدعوة نيابة عنه، أخوه السيد أبو زيد. والسيد أبو حفص عمر هذا، هو ولد السيد أبي ابراهيم بن الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن(4/529)
أو بعبارة أخرى هو ابن أخ للخليفة يعقوب المنصور، وعم للمأمون والد السعيد. وكان من قبل والياً لأغمات، ثم عينه السعيد لولاية سلا ورباط الفتح. وعقدت له البيعة بجامع المنصور، في أوائل شهر ربيع الأول، وحمل كتابها إليه الحاكم ابن أصلماط، وكان مقبلا من سلا إلى تامسنا، في طريقه إلى الحضرة، مع بعض أشياخ الموحدين والعرب، فتلقى البيعة، وضربت له في الطريق قبة، قرئت فيها البيعة، وبايعه فيها من حضر، وذاع الأمر بين الناس. ثم نظم لركوبه موكب خلافى، سار فيه بعض السادة والوزراء والقرابة، وبعض حشود العرب والخدم، واستمر الموكب في سيره حتى قرب من العاصمة، فخرج إليه عندئذ أشياخ الموحدين، ومعهم الخيل والأجهزة والكسى، والطبل والبنود، فنزل الخليفة أولا بالبحيرة، ثم دخل الحضرة في موكبه الفخم، واجتمعت الناس على طاعته (1).
وتلقب الخليفة الجديد بالمرتضى لأمر الله. وكان كهلا في نحو الخمسين من عمره، هادئ الطبع، شديد الورع، قليل الأطماع. وكان أول ما قام به أن قدم أبا محمد ابن يونس للوزارة، ثم قدم لها أخاه السيد أبا اسحق، عندما وفد إليه من سجلماسة، وعين يعقوب بن كانون شيخاً لعرب بني جابر، وعمه يعقوب بن جرمون شيخاً لعرب سفيان، وأقر كلا منهما على بلاده. وكان في مقدمة أعماله أيضاً أن قبض على حاشية السعيد وخدمه، ولاسيما صاحبه ابن المسك، وسجن الحرّة عزونة أخت السعيد، واقتضى منها أموالا فادحة (2).
وكانت خلافة المرتضى، التي استطالت نحو تسعة عشر عاما، هي الفترة القاتمة التي تم فيها تفكك الإمبراطورية الموحدية، الذي مهدت إليه حوادث الحقبة السابقة، منذ انسلاخ إفريقية، وانهيار الأندلس، واستقلال تلمسان. ثم عجل بوقوعه، استمرار الحروب الأهلية بين الموحدين من جهة، واشتداد ساعد بني مرين من جهة أخرى. وسوف نشهد منذ الآن فصاعداً، كيف تتساقط أشلاء الإمبراطورية الموحدية الباقية، واحداً بعد الآخر، والخلافة الموحدية عاجزة عن أن تتدارك أية ضربة، من الضربات القاصمة الموجهة إليها. وقد ترتب على مصرع الخليفة السعيد، في الناحية الأخرى، أعني ناحية بني مرين، نتائج هامة. ذلك أن الأمير أبا يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين،
_______
(1) البيان المغرب 389 و 390، وروض القرطاس ص 173.
(2) البيان المغرب 391، وابن خلدون ج 6 ص 258(4/530)
ما كاد يقف على مصرع السعيد وتبدد جيشه، حتى نهض للعمل. وكان قد عقد الصلح مع السعيد وأمده بشطر من فرسانه، ضد بني عبد الواد أصحاب تلمسان، وأعطاه رهائن من قومه، أودعها السعيد برباط تازا. فلما انتهى السعيد وجيشه الجرار، سار أبو يحيى في قواته فوراً صوب تازا، وكان واليها هو السيد أبو علي، أخو السيد أبي العلا إدريس المسمى بأبي دبوس وهو الخليفة المستقبل، فبعث إلى أبي يحيى يطلب الاجتماع به، ولما اجتمعا تعهد أبو يحيى بأن يعمل على صون أهل تازا، وحمايتهم من كل أذى. وعندئذ غادر السيد أبو علي تازا بأهله وولده ومتاعه، ودخلها أبو يحيى وبنو مرين، وبايع أهل تازا وسائر أحوازها للأمير المرينى، وكانت تازا أول مدينة مغربية استولى عليها بنو مرين من أيدي الموحدين وذلك في أوائل شهر ربيع الأول سنة 646 هـ (يوليه 1248 م) (1).
ولم تمض على ذلك أسابيع قلائل، حتى وقعت الخطوة الثانية، في تقدم بني مرين داخل الإمبراطورية الموحدية، وكانت أخطر وأبعد مدى. ذلك أن الأمير أبا يحيى، ما كاد يرتب شئونه برباط تازا، ويرتب بها رسوم الإمارة، حتى سلمها لأخيه الأمير أبي يوسف، ثم غادرها وسار في قواته غربا صوب مدينة فاس، وهي العاصمة الثانية للإمبراطورية الموحدية، وافتتح في طريقه مدينة أجرسيف، وسائر حصون وادي ملوية (2). ثم نزل قبالة فاس معتزماً فتحها، وضرب حولها الحصار وقطع علائقها مع الخارج، فاشتد بأهلها الضيق، وطلبوا إلى أشياخهم مفاوضة الأمير أبي يحيى، وكان واليها الموحدي يومئذ هو السيد أبو العباس بن أبي حفص، وكان عاجزاً عن أي دفاع ولم يتلق أية نجدة، ولم يكن لديه سوى مائتي جندى من الروم، وفدوا إلى المدينة عقب مصرع السعيد، مع قائدهم شديد. ويقول لنا ابن عذارى إن هذه الفرقة من الروم دافعت وقت الحصار ضد بني مرين دفاعا شديداً، واضطر أشياخ المدينة نزولا على ضغط أهلها، أن يتقدموا إلى أبي يحيى بطلب الصلح، فتلطف أبو يحيى بهم، وتعهد لهم بحسن النظر، وإقامة العدل وحمايتهم، وكف الأذى عنهم، فتقبلوا عهده، وبايعوه على الطاعة، بالرابطة الواقعة خارج باب الشريعة، وكان في مقدمة من بايعه كبير فقهاء مراكش، الشيخ الورع أبو محمد الفشتالي، وسائر
_______
(1) البيان المغرب ص 392، وابن خلدون ج 6 ص 252، وروض القرطاس ص 195.
(2) الذخيرة السنية ص 79، وروض القرطاس ص 195(4/531)
الفقهاء والأشياخ، وأخلى القصبة، والي الخليفة الموحدي، السيد أبو العباس، وغادرها في أهله وولده، وأمنه أبو يحيى، وأعطاه خمسين فارساً يحرسونه حتى وادي أم الربيع، ثم دخل أبو يحيى مدينة فاس في اليوم السادس والعشرين من ربيع الآخر سنة 646 هـ، وذلك بعد وفاة الخليفة السعيد بنحو شهرين (1).
ولبث الأمير أبو يحيى بفاس أكثر من عام، وهو ينظم الشئون، ويضع القواعد والرسوم، لحكم مملكة بني مرين، التي أخذ طالعها يتألق في الأفق. وكانت الوفود تترى عليه من كل صوب، متقدمة لبيعته، والانضواء تحت رايته، وقد عم في سائر المنطقة جو من الهدوء، والاستبشار بالدعة والخير، بعد أن طال عهد الاضطراب والفوضى، فأمنت السبل، ونشط التعامل، وأخذ الناس في الحرث والعمارة والاستقرار. وكان استيلاء بني مرين على تلك المدينة العظيمة - حاضرة المغرب العلمية التالدة - وهي التي غدت فيما بعد، عاصمة لمملكتهم الزاهرة، بداية النهاية في خاتمة الدولة الموحدية. وفي شهر رجب سنة 647 هـ، غادر الأمير أبو يحيى فاس، بعد أن استخلف عليها مولاه المسعود ابن خرباش الحشمى، وخرج إلى بلاد فازاز وما يليها، يعمل على إخضاع قبائلها وتحصيل الجباية منهم، ولكنه ما كاد يبتعد عن فاس حتى أخذ بعض زعماء المدينة من الموحدين، وغيرهم من المعارضين، يحاول قلب الأوضاع الجديدة، والعود إلى طاعة الخلافة الموحدية، وخاطب أولئك المعارضون قاضي المدينة أبا عبد الرحمن المغيلى، في خلع أبي يحيى وقتل نائبه المسعود، وطرد أنصاره من المدينة، وعبثا حاول القاضي أن يردهم عن مشروعهم، فنظموا مؤامرتهم على ما رتبوه، من خلع أبي يحيى وقتل نائبه، وإعادة البيعة للخليفة المرتضى، وتفاهموا مع قائدى جند الروم الذين بالقصبة، وهما شديد وزنار، وكان أبو يحيى قد تركهم على ما كانوا عليه (2). وفي رواية أخرى أنه كان قد حبسهم عند دخول فاس (3). وعلى أي حال فقد كان قواد الجند الروم مع المتآمرين، وكانوا بطبيعتهم من أولياء
_______
(1) الذخيرة السنية ص 79، وروض القرطاس ص 195، وابن خلدون ج 7 ص 174. ويضع ابن عذارى دخول أبي يحيى فاس في 18 ربيع الآخر سنة 646 هـ (البيان المغرب ص 393).
(2) الذخيرة السنية ص 82.
(3) البيان المغرب ص 399(4/532)
الدولة الموحدية، المخلصين لها. وقصد أشياخ المدينة، وعلى رأسهم المشرف ابن جشّار وأخوه ابن أبي طاهر إلى القصبة، ومع قواد الروم، وبعد مشادة قصيرة مع المسعود بن خرباش، انقض عليه الروم وقتلوه مع عدة من أصحابه، واستولى الأشياخ على القصبة، وعلى ما فيها من المال والذخيرة، ورُفع رأس المسعود على رمح وطيف به، وأغلقت المدينة أبوابها، وتولى قائد الروم ضبطها، ونادى الأشياخ بطاعة الخليفة الموحدي، وبعثوا بها إليه، وطلبوا عونه ونصرته، فبعث المرتضى إليهم، يعدهم بالعون والقدوم. ووقع هذا الانقلاب بمدينة فاس في شهر شوال وقيل في العشرين من شعبان سنة 647 هـ (1).
ولكن المرتضى لم يسر إلى فاس، ولم يبعث إليها بمدد من جنده، وبقيت المدينة الثائرة مغلقة، تترقب مصيرها. ولما علم الأمير أبو يحيى بما حدث، وكان يغزو بلاد فازاز، تركها وارتد لمعاقبة أهل فاس على نكثهم، وضرب الحصار حول المدينة. وكان المرتضى حينما شعر بعجزه، عن تدارك فاس بعونه، قد بعث إلى يغمراسن بن زيان، يغريه على انتهاز الفرصة في بني مرين. فلما سار أبو يحيى إلى فاس، نهض يغمراسن في قواته إلى رباط تازا، يحاول الاستيلاء عليها، فاضطر أبو يحيى عندئذ، أن يترك بعض قواته لمتابعة حصار فاس، وأن يسير بنفسه لمحاربة يغمراسن. ولما وصل أبو يحيى إلى تازا، ارتد عنها يغمراسن، فسار أبو يحيى في أثره، ونشبت بين الفريقين في وادي إبسلى، على مقربة من وجدة، عدة معارك شديدة، انتهت بهزيمة يغمراسن، وسقوط محلته وأسلابه في أيدي العدو، فارتد في فلوله صوب تلمسان، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 647 هـ (2).
ثم سار أبو يحيى في قواته إلى فاس، وشدد في محاصرتها ومنازلتها، فلما رأى أهل المدينة أنه لا مناص من التسليم، بعثوا إلى أبي يحيى بطلب العفو والأمان، فأجاب ملتمسهم، ودخل فاس وذلك للمرة الثانية، في العشرين من جمادى الآخرة سنة 648 هـ (أكتوبر سنة 1250 م)، ونزل بالقصر، وألزم أشياخ المدينة، أن يردوا إليه ما سلب من الأموال والذخائر، وقدر ذلك بمائة ألف دينار، أو ثلاثمائة ألف وفقاً لابن عذارى، فماطل الأشياخ أو عجزوا، فقبض على زعمائهم
_______
(1) ابن خلدون ج 7 ص 174 و 175، والذخيرة السنية ص 81 و 82، والبيان المغرب ص 399، وروض القرطاس ص 196.
(2) ابن خلدون ج 7 ص 175، والذخيرة السنية ص 83(4/533)
وفي مقدمتهم القاضي أبو عبد الرحمن المغيلى، وابن جشار وأخوه ابن أبي طاهر وغيرهم، وأمر بقتلهم، وعلقت رؤوسهم على أبواب المدينة (رجب 648 هـ)، وألزم أهل المدينة، ومن بقى من شيوخهم، برد المال المنهوب، وساد على المدينة حكم إرهاب، خشعت له القلوب، وأخمدت كل نزعة إلى الفتنة والخروج (1).
- 2 -
وفي تلك الأثناء توفي عاهل إفريقية، الأمير أبو زكريا يحيى ابن الشيخ أبي محمد عبد الواحد الحفصى، وكان حينما وقع مصرع الخليفة السعيد، قد أخذ في الأهبة، لتحقيق ما كان يجيش به من أطماع، نحو الأقاليم المغربية، وخرج في جيشه من تونس، في أوائل سنة 647 هـ. فلما وصل إلى بلدة العناب على مقربة من بونة أصابه مرض مفاجىء، واشتد به حتى توفي، وذلك في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 647 هـ (1249 م)، وكان في التاسعة والأربعين من عمره. وكان أميراً عظيماً وافر الشجاعة والمقدرة والعزم، وهو الذي أنشأ الدولة الحفصية المستقلة بإفريقية، حسبما ذكرنا من قبل في موضعه، وكان فوق ذلك عالما أديبا، مجيداً للنثر والنظم، محباً للعلماء، مؤثراً لهم، وقد وفد عليه كثير من علماء الأندلس وأدبائها النازحين منها، حينما تغلب النصارى على قواعد الأندلس، وكان في مقدمة هؤلاء الفقيه الكاتب المؤرخ والشاعر الكبير ابن الأبار القضاعي.
ولما توفي أبو زكريا بويع ولده أبو عبد الله محمد بتونس، وتلقب بالمستنصر بالله، وهو الذي لقى ابن الأبار مصرعه على يديه، حسبما نفصل ذلك في ترجمته.
وكان لوفاة عاهل إفريقية، صدى فيما أصاب البقية الباقية من مسلمي صقلية، من اضطهاد وتشريد. وكانت الأقلية المسلمة، قد لبثت عصراً، بعد افتتاح النورمانيين للجزيرة، عنصراً من أهم عناصر سكانها، وأوفرهم تقدما وحضارة، يتمتعون في ظل الملك رجّار فاتح الجزيرة، وخلفائه الأوائل، بقسط كبير من الرعاية والحرية، ولكنهم غدوا بعد ذلك موضع الاضطهاد والمطاردة. وقد سبق أن أشرنا فيما تقدم، إلى ما كانت عليه أحوالهم، وأوردنا طرفا مما ذكره عنها الرحالة ابن جبير، وأشرنا إلى ما كان من وفود بعض أعيانهم على الشيخ أبي محمد الحفصى والي إفريقية، في نحو سنة 605 هـ، سعياً إلى الاستنصار بعون
_______
(1) ابن خلدون ج 7 ص 175، والذخيرة السنية ص 84، والبيان المغرب ص 395، وروض القرطاس ص 197(4/534)
الخليفة الموحدي محمد الناصر. بيد أن مسعاهم لم يسفر يومئذ عن أية نتيجة عملية، ْفلما استقلت إفريقية، وغدت في عهد أول أمرائها من بني حفص أبي زكريا يحيى، دولة قوية زاهرة، اتجه نظر مسلمي صقلية إلى غوث هذه الجارة المسلمة القوية، والظاهر مما تذكره لنا الرواية الإسلامية، أنه وقعت بين الأمير أبي زكريا، وبين ملك الجزيرة، وكان يومئذ الإمبراطور فردريك الثاني، مفاوضات بشأن مسلمي صقلية، أسفرت عن استردادهم لامتيازاتهم القديمة، من سكنى بلرم وضواحيها وبعض أماكن أخرى. بيد أنه لما توفي الأمير أبو زكريا عاد ملك صقلية إلى إضطهاد المسلمين ومطاردتهم. فاضطروا إلى مغادرة السهول، ولجأوا حسبما كانوا يفعلون من قبل، إلى الجبال والأوعار، ونصبوا عليهم أميراً من بني عباس. بيد أن هذه الثورة الأخيرة لمسلمى صقلية، لم تغنهم شيئاً، لأن ملك صقلية حاصرهم، واشتد في إرهاقهم حتى استنزلهم من الجبال، ثم أرغمهم على السكنى في منطقة لوجارا، ثم سار إلى جزيرة مالطة، وأخرج منها المسلمين، وألحقهم بإخوانهم، وكانت هذه الضربة الأخيرة لمسلمى صقلية، هي بداية انحلالهم وتلاشيهم النهائي، وغاضت آثار الإسلام من صقلية شيئاً فشيئاً، حتى انتهى أمره، من تلك الربوع، التي ازدهرت فيها حضارته زهاء أربعة قرون (1).
وكان من أصداء وفاة الأمير أبي زكريا أيضاً، ما وقع بثغر سبتة، من انقلاب جديد، وقيام دولة جديدة. وذلك أن سبتة، كانت قد قامت بالدعوة للأمير أبي زكريا، حسبما ذكر في موضعه، وأوفد إليها الأمير أبو زكريا، رجلين من قبله، للإشراف على شئونها، هما ابن أبي خالد وابن الشهيد، فلم يحسنا السيرة، وبرم بهما أهل المدينة. فلما توفي أبو زكريا تهيأت الفرصة لانقلاب جديد، في رياسة هذا الثغر، الذي لبث عصوراً من أهم الثغور الموحدية الشمالية، كما لبث عصوراً قاعدة رئيسية، لعبور الجيوش الموحدية إلى الأندلس. وذلك أن أهل سبتة، اضطرموا بالثورة، واتفق قاضي المدينة وكبير علمائها، أبو القاسم العزفى مع أمير البحر أبي العباس الرنداحى، وكان راسيا بسفنه في مياه سبتة، على تدبير الانقلاب المنشود. وكان ممن يخشى بأسهم بسبتة، غير رجال الأمير الحفصى، جماعة من فرسان الأندلس النازحين، وعلى رأسهم القائد شقّاف بطل إشبيلية السابق. فتم التفاهم على التخلص من الجميع. ودبر الرنداحي الأمر بإقامة وليمة
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 280(4/535)
كبيرة بمنزله، دعا إليها معظم القادة والجند، وبعث رجاله بالليل، فقاموا بقتل القائد شقاف وزملائه، ثم نفذوا إلى القصبة، فقتلوا ابن أبي خالد، وأخرجوا ابن الشهيد في زورق سيروه إلى الأندلس. وهكذا تم تدبير الانقلاب المنشود، وخلعت طاعة بني حفص، وتولى القاضي أبو القاسم العزفى زمام السلطة (647 هـ)، وكان أبو القاسم، وهو ولد العلامة الكبير الورع الزاهد أبي العباس العزفى، عالما جليلا، ورئيساً حازما، ورعا كأبيه، فضبط أمر سبتة بقوة وكفاية، وكان ذلك بداية رياسة هذه الأسرة العريقة، للثغر الموحدي القديم، واستمر العزفى في حكم سبتة، زهاء ثلاثين عاما، حتى توفي في سنة 677 هـ (1).
- 3 -
ولابد لنا أن نشير هنا، إلى حادث ذي مغزى عميق، من الناحيتين الدينية والأدبية، وإن لم يكن له نتائج مادية أو سياسية هامة، ذلك هو ما وقع من مكاتبة بين الخليفة الموحدي المرتضى لأمر الله، وبين البابا إنوسان الرابع، وقد انتهى إلينا لحسن الطالع، كتاب الخليفة الموحدي، إلى عميد النصرانية، وهو مايزال محفوظاً بأصله في مكتبة الفاتيكان الرسولية. بيد أنه يجدر بنا قبل أن نعرض إلى محتويات الكتاب المذكور، أن نشير إلى ما تقدم، من علاقات، بين الخلافة الموحدية، والكرسي الرسولي.
وقد بدأت هذه العلاقات منذ عصر الخليفة المأمون، وهو المسئول عن تشجيع الكرسى الرسولى، على محاولة بث نفوذه، داخل الإمبراطورية الموحدية. وذلك أن المأمون حينما دعا لنفسه بالخلافة، وهو بالأندلس، واعتزم العبور إلى المغرب، رأى أن يستنصر بفرناندو الثالث ملك قشتالة، لكي يمده بقوة من المرتزقة النصارى، يستعين بها على قتال خصومه. وقد رأينا فيما تقدم كيف أن فرناندو الثالث، اشترط على المأمون لمحالفته وإمداده، غير ما رغب في امتلاكه من الحصون الأندلسية، شروطاً أخرى منها أن يبنى للنصارى في مراكش كنيسة يقيمون فيها شعائرهم، وأنه إذا أسلم أحد من النصارى فلا يقبل إسلامه، بل يرد إلى إخوانه يقضون في أمره وفق ما يرون، وإن تنصر بالعكس أحد من المسلمين فليس لأحد عليه سبيل (2). ولما استطاع المأمون أن
_______
(1) البيان المغرب ص 402، وابن خلدون ج 7 ص 186.
(2) روض القرطاس ص 167. وراجع ص 368 من هذا الكتاب(4/536)
يتغلب على خصومه، بمعاونة أولئك الجند النصارى، أو الروم حسبما تنعتهم الرواية الإسلامية، كان في مقدمة ما عمله، أن ابتنى للنصارى في داخل مراكش كنيسة كبرى. وقد كانت أول كنيسة أقيمت بالعاصمة الموحدية، وكانت فيما يبدو أكثر من محل للعبادة، إذ كانت في أحيان كثيرة ملاذا للقادة والجند الروم، حسبما يستدل على ذلك من إشارات عديدة، وتكاثر أولئك الجند النصارى بما كان يفد إليهم من إخوانهم المرتزقة، من وراء البحر، ولبثوا أعمدة الخليفة الموحدي في مقارعة خصومه، وكانوا قوة يحسب حسابها، في سائر المنازعات والانقلابات السياسية والعسكرية.
وقد لفت قيام هذه الجالية النصرانية القوية، في العاصمة الموحدية، منذ البداية، نظر الكرسى الرسولى، ورأى فيها سنداً لتدخله، ومحاولة بث نفوذه. وكان أول ما وقع من ذلك أن بعث البابا إنوسان الرابع، بالقس لوبى فرنانديث إلى مراكش في سنة 1246 م، في عهد الخليفة السعيد، ليكون أسقفا بها، وكان السعيد كأبيه المأمون، يغمر الجند النصارى بعطفه وصلاته، ويعتبرهم ملاذ العرش الموحدي، وسنده القوي. وبعث البابا إلى الخليفة مع الأسقف كتابا يهنئه فيه، بانتصاراته على خصومه، في سجلماسة، وبلاد الغرب، ويشيد بالدور الذي قام به الجند النصارى في هذه الانتصارات، بل وينصح الخليفة، لما كان يعلمه من استعداده، لاستقبال طوائف جديدة من أولئك الجند، ولما كان يحبوهم به من عطف - ينصحه بأن يعتنق النصرانية لكي يغنم حماية الله والكرسى الرسولى، ثم يرجوه لضمان حماية النصارى، ولكى لا يتعرضوا إلى مثل ما حدث لهم أيام يحيى المنتصر، من القتل ومن حرق كنيستهم، أن يخصص لهم بعض الحصون المنيعة، الواقعة تحت سلطانه، لكي يلجأوا إليها عند الضرورة، وكتب البابا في نفس الوقت إلى أمراء تونس وبجاية وسبتة، يرجوهم أن يسهلوا لنصارى مراكش الاتصال بإخوانهم في تلك الثغور.
على أن رسانة البابا المتقدمة إلى الخليفة السعيد، لم يكن لها أي صدى. ذلك أن السعيد، بالرغم من حرصه على إرضاء جنده، لم يكن على استعداد، لكي يمنح للكرسى الرسولى ذاته، أية امتيازات أو حقوق من أي نوع. ومن المحقق أنه لم يلق أي التفاتة، لما دعاه إليه البابا، من اعتناق النصرانية، بل سوف نرى بالعكس، ما ورد في شأن ذلك من الاستنكار، في خطاب خلفه، الخليفة المرتضى إلى البابا(4/537)
وقد بعث الخليفة المرتضى كتابه، إلى البابا، مع الأسقف لوبى المتقدم ذكره وهو كتاب طويل، ومؤرخ في ختامه، في الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة 648 هـ، وفيه يوصف البابا بعد الديباجة " بمطاع ملوك النصرانية، ومعظم عظماء الأمة الرومية، وقيم الملة المسيحية، ووارث رياستها الدينية، البابا إينه سانس، أنار الله بصيرته، بتوفيقه وإرشاده، وجعل التقوى التي أمر عز وجل بها، عدته لمحياه ومعاده ".
ويفتتح الكتاب بالإشارة إلى المسألة الدينية الجوهرية، التي تفرق بين الإسلام والنصرانية، ويعرضها الكتاب بقوة وحسم، ردا على ما أشار به البابا إلى الخليفة الموحدي، من اعتناق النصرانية، فيقول ما يأتي:
" أما بعد فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، حمد من علم أنه الرب الواحد، الذي دلت على وحدانيته البراهين القاطعة والشواهد، ونزهته العقول الراجحة، عن أن يكون له ولد، أو يدعى أنه الوالد، تعالى الملك الرحمن عما يقول المثلث والمشبه والجاحد ".
ويلي ذلك الصلاة على النبي، ثم طلب الرضى عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، وعن الخلفاء الراشدين، ثم عن الخليفة المرتضى ذاته، موجه هذا الكتاب.
ويعرض الكتاب بعد الدعاء، والشكر لله تعالى، إلى موضوع المراسلة، ويشير إلى أنه كانت قد تبودلت كتب بين البابا والخليفة الموحدي، وذلك حينما يقول " فإنه سبقت منا إليكم مراجعات، عن كتبكم المؤثرة الواصلة إلينا " ثم يؤكد الخليفة للبابا، أنه يوجب لمنصبه " الذي أبر في ملتكم على المناصب حقه "، وأنه لذلك عند الخليفة " بالتكرمة الحفيلة ملحوظون، وبالعناية الجميلة محظوظون " على " ما توالى علينا من حسن إيثاركم لجانبنا وتردد ".
ثم يشير الكتاب بعد ذلك إلى أنه " قد انصرف عن حضرة الموحدين البِشُب، الذي كان قد وصل بكتابكم إلينا، انصرافا لم يعزه منّا فيه بر وإكرام، ولم يغبه فيه اعتناء به واهتمام " وأنه لبث طوال إقامته بالحضرة معززاً مكرماً، في حله وترحاله، وأنه رحل مختاراً، وهو يحمل كتاب الخليفة، تعريفاً بذلك. ويرجو الخليفة إلى البابا، أن يراعى في اختيار خلفه للإشراف على النصارى " المستخدمين ببلاد الموحدين " أن يكون من أهل العقل الراجح،(4/538)
صورة:
صورة فتوغرافية لخطاب الخليفة المرتضى إلى البابا إنوسان الرابع المحفوظ بمكتبة الفاتيكان الرسولية(4/539)
والسمت الحسن والنزاهة، وذوى الخلال المشكورة. ويختتم الكتاب بتوجيه الشكر إلى البابا " لما تذهبون إليه من تمشية الأغراض والمذاهب، والمساعدة الصادرة منكم عن كرم الضرائب " (1).
هذا هو ملخص كتاب الخليفة الموحدي إلى البابا، وهو كما تقدم مؤرخ في الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة 648 هـ الموافق العاشر من يونيه سنة 1250 م. ومن الأسف أننا لم نعثر في التواريخ العربية بأية إشارة، إلى هذه المكاتبات الهامة، بين الخلافة الموحدية، وبين الكرسي الرسولي (1).
وإذا كان لنا أن نعلق بشىء على هذا الكتاب، فهو أن ما يكشفه لنا من نقاش حول العقيدة الدينية، بين البابوية والخليفة الموحدي، وما جنح إليه الخليفة الموحدي في كتابه، من دحض نظريات ألوهية المسيح والتثليث، بقوة وعنف، يدل على ما حدث من أصداء عميقة، لدى الخلافة الموحدية، في أواخر عهدها من جراء ازدياد نفوذ الجالية النصرانية، ومحاولة استغلال البابوية لهذا النفوذ، بصورة انتهت إلى الاجتراء، على دعوة الخليفة الموحدي إلى نبذ دينه وعقيدته الإسلامية.
- 4 -
وفي نفس هذا العام أعني في سنة 648 هـ، وفد على الخليفة المرتضى، زعيمان من زعماء بني مرين، المنشقين على الأمير أبي يحيى، هما أبو عمران موسى ابن زيان المونكاسى، وأخوه علي بن زيان، فأكرم وفادتهما، ورتب لهما أموالا سخية، وشجعاه على النهوض لقتال بني مرين. فأخذ المرتضى في الأهبة، وبعث بعض رسله إلى الأندلس، ليحشدوا له فرقة جديدة من المرتزقة النصارى، فجمعوا له عدداً منهم. وفي سنة 649 هـ (1251 م) غادر المرتضى مراكش، في قوات الموحدين والعرب، ومعه علي بن زيان وأخوه، قاصداً محاربة بني مرين، ومنعهم من عبور وادي أبي رقراق، إلى أرض تامسنا. وكان خروجه في رمضان
_______
(1) نقلنا نص الكتاب الموحدي المشار إليه من محفوظات مكتبة الفاتيكان الرسولية وهو محفوظ بها تحت رقم A.A.L.XVIII. وقد قامت بنشر هذا الكتاب مجلة Bulletin de l'Institut de Hautes Etudes Marocaines - Hespéris في عددها الصادر سنة 1926 ونشرت صورة فوتوغرافية للكتاب المذكور وترجمة فرنسية، وعلق عليه الكردينال تسيران والأستاذ فييت في بحث طويل (ص 27 - 53) وقد نشرنا نصه الكامل في باب الوثائق كما نشرنا هنا صورته الفتوغرافية. ولم نجد بمحفوظات الفاتيكان أية وثيقة مغربية أو أندلسية أخرى من وثائق ذلك العصر(4/540)
من هذه السنة. فسار أولا إلى تينملّل حيث قام بزيارة قبر المهدي، وقبور أجداده، ثم عاد إلى طريق مراكش، واتجه صوب سلا. وكان واليها ابن أبي يعلى، قد استعد في حشوده للانضمام إليه. وأقام المرتضى أياما في سلا، يتعرف أخبار بني مرين، ثم خرج من سلا في حشود وافرة، قاصداً إلى مكان بني مرين. وكان الأمير أبو يحيى، حينما علم بخروج المرتضى إلى قتاله، قد جمع أشياخ بني مرين وحلفاءهم، وبحث الأمر معهم، فرأوا أن يجنحوا إلى المسالمة، فكتب أبو يحيى إلى المرتضى، يطلب إليه السلم والمهادنة، وكان المرتضى يميل إلى عقد السلم، ولكن وزراءه عارضوا في ذلك، وبينوا له خطورة مهادنة بني مرين، وإغفال أمرهم، فجنح المرتضى إلى الحرب، وسار في حشوده الزاخرة، إلى لقاء خصومه، ومعه أحمال كثيرة من المال برسم النفقة، حتى صار على مقربة من محلات بني مرين، ونزل بمكان يسمى أمن ملولنين (أو أميلولين) من أحواز مكناسة. وكان الأمير أبو يحيى وبنو مرين، قد استعدوا للقتال، وبدأ الموحدون المعركة، وهجم الموحدون وعلي بن زيان وجنوده، كل من ناحية، فتظاهر بنو مرين بالانسحاب، وكانوا قد رتبوا كمائنهم، في أماكن قريبة مستورة، ولكن الموحدين فطنوا إلى الخدعة، فلم يتبعوهم، وعندئذ أشاع حليف المرتضى، يعقوب بن جرمون، شيخ سفيان، بناء على خطاب تلقاه من أبي يحيى، في المحلة الموحدية، أن الصلح قد عقد بين الفريقين، فاقتنع المرتضى بورود هذا الخطاب على يعقوب، وإن لم يعقد صلح في الواقع، وأمر بالرحيل، وتحركت الجيوش الموحدية، عائدة صوب مراكش، فعندئذ تبع بنو مرين الجيوش المرتدة، وانتزعوا كثيراً من عتادها وأحمالها، واستولوا بالأخص على أحمال الخليفة وأمواله، واستمر انسحاب القوات الموحدية، في غير نظام، حتى ثغر أزمور، فاستراح بها المرتضى أياما، ثم غادرها إلى الحضرة. وكانت هزيمة دون قتال، وكانت دليلا جديداً على ما أصاب قوي الموحدين المعنوية من التخاذل والانهيار (1).
ولما عاد المرتضى إلى الحضرة عزل وزيره ابن يونس، وكان حاقداً عليه، لمعارضته في بيعته، وما يزال يسرها له (650 هـ).
وفي العام التالي - 651 هـ - ثار والي السوس علي بن يدِّر، وجاهر بالعصيان فبعث المرتضى حمله موحدية إلى السوس لإخضاعه، ولكنها عجزت عن ذلك،
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 258 وج 7 ص 176، والبيان المغرب ص 402 - 405(4/541)
فارتدت خائبة إلى مراكش، واستمر الأمر على ذلك حتى العام التالي، حيث تفاقم أمر الثورة في السوس، واشتد ساعد علي بن يدر، بمن انضم إليه من طوائف العرب، من عرب الشبانات وبنى حسان وغيرهم، ثم سار إلى حصار تارودانت عاصمة السوس، يبغى الاستيلاء عليها، فسارت من مراكش، حملة موحدية جديدة لقتاله، فترك تارودانت، وامتنع بالداخل، ولم يستطع الموحدون إليه سبيلا، فارتدوا عائدين إلى الحضرة، وعاد ابن يدر إلى مضايقة تارودانت والعيث في أحوازها (652 هـ). وحدث بعد ذلك أن وقف المرتضى، على بعض كتب صادرة من ابن يدر، إلى قريبه الوزير ابن يونس، تدل على أنه كان يمده بالمال والسلاح، فقبض على ابن يونس وأولاده، ثم أمر به المرتضى فقتل، وأفرج عن أولاده فيما بعد (653 هـ) (1).
وفي خلال ذلك، كان الأمير أبو يحيى وبنو مرين، يعملون على توطيد سلطانهم، وتنظيم حكومتهم بمدينة فاس، وهي التي سوف تغدو منذ الآن فصاعدا، حاضرة ملكهم الفتى، والواقع أن الإمبراطورية الموحدية، كانت قد فقدت بانسلاخ إفريقية عنها، ثم استقلال بني عبد الواد بمملكة تلمسان، سائر أقاليم المغرب الأوسط، ثم جاء بنو مرين فانتزعوا النصف الشمالي، من المغرب الأقصى، واستولوا من قواعده على تازة ووجدة وفاس ومكناسة، وأخضعوا سائر أقاليم تلك المنطقة، من جبال غمارة حتى وادي أبي رقراق، ولم يبق بيد الدولة الموحدية، سوى ما وراء ذلك جنوبا من الأقاليم القليلة الباقية، حتى بلاد السوس، تتوسطها مراكش. ولم يكن خافيا على ذوى النظر البعيد، من أشياخ الموحدين وغيرهم، أن مصير الدولة الموحدية أضحى يهتز في كفة القدر، وأنها وصلت، بما انتهت إليه من الضعف والتفكك، إلى مرحلة الاحتضار.
ولما انتهى أبو يحيى، من تنظيم الشئون بفاس، ارتد في بعض قواته إلى بلاد فازاز، ليتم إخضاعها، فافتتحها، وأخضع بطون زناتة النازلة في تلك المنطقة، وفرض الجباية عليهم جميعاً، وأخمد كل نزعة إلى الخروج والعصيان (2). ثم سار في قواته غرباً، في المنطقة الممتدة ما بين وادي أبي رقراق، ووادي أم الربيع، وكان من الواضح أنه يقصد الزحف إلى سلا ورباط الفتح، وقد
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 259، والبيان المغرب ص 408.
(2) الذخيرة السنية ص 87، وابن خلدون ج 7 ص 175(4/542)
أثارت هذه الحركة جزع البلاط الموحدي، فأخذ يستعد لمقاومتها بكل ما وسع. وكان المرتضى، وهو الشيخ الورع الهادئ يعكف خلال ذلك، على تدبير ضرباته، والانتقام من خصومه، وكان الدور بعد مصرع ابن يونس، على أشياخ الخلط، وكانت الريبة قد اتجهت عقب مصرع الخليفة السعيد، في شعب جبل تلمسان في سنة 646 هـ، إلى عرب الخلط، وقوى الظن بأنهم اشتركوا في مؤامرة قتله، وذلك لأنهم تخاذلوا في القتال أولا، ثم لما قتل السعيد، كانوا أول من بادر إلى نهب محلته، واستلاب ما فيها، وسلبوا فوق ذلك أموال أهله وأقاربه، وذلك قبل أن يصل بنو عبد الواد، إلى محلة الخليفة القتيل، وكان المرتضى يتوق إلى معاقبة زعمائهم، على ما ارتكبوه من الخيانة والغدر، فدبر كمينا لإهلاكهم، واحتال في دعوتهم إلى مراكش، بمختلف المعاذير، فلما وصل معظمهم، أذن لهم بالدخول إلى القصر، وكان قد كمن لإهلاكهم، عدد كبير من عبيد المخزن والجند، فلما تقدموا إلى داخل الدار، وأحيط بهم، قتلوا أشنع قتل، وقيل بل قتلوا بالسم، في الطعام الذي قدم لهم، وكان عدد من قتل من زعماء الخلط سبعون شيخاً، ووقع ذلك الحادث الدموى في سنة 652 هـ (1).
وفي نفس هذا العام، ثار يعقوب بن محمد بن قيطون، زعيم بني جابر، وخلع الطاعة، وكان المرتضى قد أكرمه، ومنحه إقطاعات واسعة، فبعث المرتضى إلى تامسنا، عسكراً بقيادة أبي الحسن بن يعلى، ليتفقد أحوالها، وليدبر مع يعقوب بن جرمون شيخ سفيان، طريقة القبض على ابن قيطون. ودعا أبو الحسن ومعه ابن جرمون، ابن قيطون للتفاهم معه، فلما حضر، أبرز ظهيرا بتقديم يعقوب بن جرمون، على سائر عرب المنطقة، فثار لذلك ابن قيطون، وحاول الانسحاب، ولكن قبض عليه وعلى وزيره ابن مسلم، وعاد أبو الحسن بهما مكبولين إلى مراكش (2).
وكان المرتضى، قد استطاع في تلك الأثناء، أن يتم أهباته لمحاربة بني مرين. وكان بنو مرين، وعلى رأسهم الأمير أبو يحيى من جهة أخرى، قد توطد أمرهم بفاس وأحوازها، وأطاعتهم سائر القبائل المجاورة، وعمد أبو يحيى إلى حشد الحشود، والاستكثار من العدة والسلاح، وكان من الواضح أن وقف تقدم
_______
(1) ابن خلدرن ج 6 ص 259، والبيان المغرب ص 409.
(2) البيان المغرب ص 410(4/543)
بني مرين، في قلب المغرب، أضحى بالنسبة للموحدين مسألة حياة أو موت. ومن ثم فإن المرتضى، عول على أن يسير بنفسه لقتال بني مرين، فقام بأداء الزيارة المأثورة إلى تينملل، ثم خرج من مراكش في حشود ضخمة، من الموحدين والمصامدة والعرب، وسار أولا إلى سلا، ثم غادرها في حشوده شرقاً صوب فاس، وكان أبو يحيى قد استعد كذلك في قواته للقاء الموحدين، وكان المرتضى يزمع من وراء ذلك الصراع، أن يسترد فاس وأحوازها، إذ كان بقاؤها في أيدي بني مرين، يمثل أعظم خطر على كيان الدولة الموحدية. ولما اقتربت القوات الموحدية من فاس، وقعت بين المرتضى وأبي يحيى، بعض مراسلات ومراجعات في سبيل الصلح، ولكنها لم تفض إلى أية نتيجة. ثم وقع اللقاء بين الفريقين، عند جبل بهلولة أو بني بهلول، على مقربة من فاس، وكانت معركة عنيفة، انتهت بهزيمة الموحدين، وتمزيق صفوفهم، فقتلت منهم جموع عظيمة، واستولى بنو مرين على محلتهم وعتادهم، ومؤنهم ودوابهم، واستولوا بالأخص على أحمال الأموال، وكانت مقادير طائلة، وكان أكبر عامل في تلك الهزيمة الشنيعة، خيانة العرب، وتراجعهم عند بدء المعركة. وفر المرتضى في بعض فلوله، إلى أزمّور، وهو في حالة سيئة، ولبث بها، حتى بعث إليه والي مراكش، أبي سعيد ابن تيجا، بما يلزم من ضروب الإسعاف، وكان وقوع تلك النكبة بالموحدين في سنة 653 هـ (1255 م) (1).
وكانت هذه ضربة قاصمة، لقوى الموحدين المادية والمعنوية، وجنح المرتضى بعد ذلك إلى الدعة والراحة، وعكف على تشييد القصور لأبنائه، وأنفق في ذلك أموالا طائلة، وقام بإصلاح جامع علي بن يوسف، وكان إصلاحه من قبل يعتبر عملا مكروها، في نظر الموحدين. ويقول لنا ابن عذارى فوق ذلك، إنه عقد الهدنة والسلم، مع الأمير أبي يحيى، وكانت تربطه بالفقيه أبي القاسم العزفى، صاحب سبتة، صلات ودية، بالرغم من خروجه على الموحدين، ودعوته لأمير إفريقية الحفصى، وكذلك بأبي الحجاج يوسف بن الأمين صاحب طنجة، وكان قد انضوى تحت لواء العزفى أولا، ثم استبد بحكم طنجة (2).
_______
(1) البيان المغرب ص 411، و 412 ص، وروض القرطاس ص 197، وابن خلدون ج 6 ص 259 وج 7 ص 176.
(2) البيان المغرب ص 414، و 415، وابن خلدون ج 7 ص 186(4/544)
على أن هذا الهدوء النسبى، الذي بسط ظلاله، على ما بقى من أقطار الدولة الموحدية، لم يستمر طويلا، لأن بني مرين، لم يكن في نيتهم، أن يقفوا عند حدود الرقعة الواسعة، التي انتزعوها من الموحدين، والتي أضحت تكون وحدها مملكة ضخمة، داخل المغرب الأقصى، وإنما كانت تحدوهم رغبة قوية في انتزاع ما بقى من أراضي المغرب، والقضاء على الدولة الموحدية بصورة نهائية، وإقامة مملكتهم الفتية على أنقاضها، مستقلة دون منازع.
ومن ثم فإنه لم يمض سوى قليل، على موقعة جبل بهلولة، حتى نهض بنو مرين لافتتاح قطر جديد، من أقطار الدولة الموحدية، ووجهت الضربة في هذه المرة، إلى سجلماسة ودرعة. وهنا تختلف الرواية في تاريخ هذا الفتح المرينى، ففي رواية أنه وقع في أواخر سنة 653 هـ (1)، وفي أخرى أنه كان في سنة 655 هـ (2). وتفصيل ذلك أن والي سجلماسة الموحدي أبا محمد عبد الحق الجنفيسي، كان يرابط مع جنده في قصبة سجلماسة، فدبر رجل من زعماء المدينة يسمى أبو يحيى محمد القطراني، مؤامرة للغدر بهم، وتسليم المدينة إلى بني مرين، واتصل القطرانى بأبي يحيى وأغراه بفتح سجلماسة، فبعث إليه أبو يحيى جملة من جنده، فتحيل القطرانى إدخالهم إلى المدينة، وهاجم القصبة وقبض على واليها الموحدي، وبعث به معتقلا إلى الأمير أبي يحيى، ثم وفد أبو يحيى بنفسه إلى سجلماسة، ودخلها، واستولى على ما كان بالقصبة من المال، وعين إلى جانب القطراني، واليا مرينيا للمدينة، ثم استولى على درعة في جنوب سجلماسة، وعاد إلى فاس. وثار الخليفة المرتضى لما وقع، وأبي أن يفتدى واليه أبا محمد عبد الحق من الأسر، لاتهامه إياه بالتقصير والتفريط (3).
وفي نفس الوقت تفاقم الأمر في بلاد السوس، واشتد أمر علي بن يدر، المتغلب عليها حسبما تقدم، فرأى المرتضى أن يبذل محاولة جديدة، لإخماد هذه الحركة، فبعث إلى السوس حملة موحدية جديدة، بقيادة أبي محمد بن أصناج، فسار إلى تارودانت ونزل بها، وكان علي بن يدر قد غادرها عندئذ، إلى حصن تيونوين، واعتصم به، فسار ابن أصناج لقتاله، فخرج إليه ابن يدر
_______
(1) هذه رواية صاحب الذخيرة السنية ص 89، وابن خلدون ج 7 ص 176.
(2) هذه رواية ابن عذارى في البيان المغرب ص 416، وروض القرطاس ص 197.
(3) البيان المغرب ص 417، وابن خلدون ج 7 ص 176، وروض القرطاس ص 197(4/545)
ْوهزمه، وقتل معظم عسكره، فارتد ابن أصناج في فلوله، منهزماً إلى مراكش، وبقى ابن يدر على سلطانه وطغيانه (1).
وأما في سجلماسة، فإن الأمر لم يقف في شأنها عند ما تقدم. ذلك أن الأمير أبا يحيى مرض، وتوفي بفاس في رجب من العام التالي (656 هـ)، ووقع الخلاف على ارتقاء العرش، بين ولده عمر وأخيه أبي يوسف يعقوب، فانتهز القطرانى هذه الفرصة، واستولى على حكم سجلماسة، واستطاع الوالي المرينى أن يغادر القصبة، في أهله وأصحابه، وبعث القطرانى إلى المرتضى، يعتذر عما حدث، وأنه سوف يقوم بالدعوة الموحدية، ولكن بشرط أن يبقى عاملا بسجلماسة، مستقلا بأمرها، فوافق المرتضى على ذلك، وبعث إليه بالفقيه أبي عمرو بن حجاج، ليكون قاضياً للمدينة، وبسرية من الجند الروم مع قائدهم، وزود القاضي والقائد بأوامر سرية معينة. واستمر القطرانى في رياسة المدينة حيناً، وفي ذات يوم وثب قائد الروم بالقطرانى فقتله، وكان هذا تنفيذا لأوامر المرتضى، فوقع الهرج بالمدينة، وبادر القاضي فأعلن للناس أن ما وقع إنما كان تنفيذا لأمر الخليفة، وعهد المرتضى إلى القاضي أبي عمرو بشئون المدينة، وكان هذا الحادث دليلا جديداً على ما كانت تتسم به وسائل المرتضى من شيم النكث والغدر (2).
ولما توفي عاهل بني مرين الأمير أبو يحيى، تولى ولده عمر بن أبي يحيى العرش مكانه، ولكن معظم أشياخ بني مرين، لم يكونوا راضين عن ولايته، وكانوا يؤيدون بالعكس ولاية عمه الأمير أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أخي أبي يحيى، وكان عند وفاة أخيه غائباً برباط تازا، فأسرع إلى حضرة فاس، والتف حوله أكابر المشيخة، ووقع الخلاف بين عمر وعمه، واعتصم عمر بالقصبة، وكان أبو يوسف يميل إلى حسم الأمر، بالبقاء في رباط تازا، ولكن ألح عليه أشياخ بني مرين، والتف حوله جمع كبير من الأنصار، وخرج عمر للقائه في أنصاره، في ظاهر فاس، فخذل عمر وهزمه أنصاره، وارتد إلى فاس مفلولا، وانتهى الأمر بالصلح بين عمر وعمه، على أن يرقى أبو يوسف العرش، وأن يتولى عمر أمر مكناسة وما إليها، ودخل أبو يوسف يعقوب ظافراً، وتولى الملك، وذلك في شهر شوال سنة 656 هـ (أواخر 1258 م) (3).
_______
(1) البيان المغرب ص 415.
(2) البيان المغرب ص 419.
(3) الذخيرة السنية ص 92 و 97، وابن خلدون ج 7 ص 177، والبيان المغرب ص 420 و 421(4/546)
لم يبق عندئذ، تحت سلطان الخلافة الموحدية، من إمبراطوريتها الشاسعة القديمة، بعد العاصمة وأحوازها، سوى المنطقة الواقعة بين وادي أبي رقراق ووادي أم الربيع، وفيها سهل تامسنا وثغرا سلا ورباط الفتح، فإلى هذه المنطقة، وإلى هذين الثغرين، اتجهت أنظار بني مرين. ففي سنة 657 هـ، سار كبير بني مرين يعقوب بن عبد الله بن عبد الحق، وهو ابن أخي السلطان أبي يوسف، متجهاً صوب تامسنا، مع قوة من الجنود المرينية، وذلك بحجة ممارسة الصيد والكلأ ونزل بعين عبولة، على مقربة من سلا. ويقول لنا صاحب الذخيرة السنية، إنه قام بهذه الرحلة، بإيعاز عمه السلطان أبي يوسف (1)، ولكن ابن خلدون بالعكس، يقدم إلينا رواية أخرى، خلاصتها أن الأمير أبا يحيى، كان قد افتتح سلا، من أيدي الموحدين، في سنة 649 هـ، واستعمل عليها ابن أخيه، يعقوبا المتقدم ذكره، ولكن الموحدين عادوا فاستردوا سلا، فأقام يعقوب مع صحبه، في بعض أحوازها، يترقب الفرص، ولما تولى عمه أبو يوسف الملك، غضب منه لبعض الأمور، وأخذ يدبر الحيلة في الاستيلاء على سلا (2). وعلى أي حال فقد دبر يعقوب خطة لافتتاح هذا الثغر الموحدي الهام. وكان والي سلا من قبل المرتضى يومئذ هو أبو عبد الله محمد بن أبي يعلى الكومي، وكان حينما اقترب يعقوب برجاله من سلا، قد اتخذ كل أهبة، ورتب الحراس على أبواب المدينة، ليلا ونهاراً، بيد أن الدفاع عن المدينة كان بالرغم من ذلك ضعيفاً، ولم يكن الاستيلاء عليها أمراً صعباً. وكان يعقوب بن عبد الله يعرف هذه الحقيقية، ويقول صاحب الذخيرة السنية، ويتابعه ابن خلدون، إن يعقوبا استطاع أن يدخل إلى قصبة رباط الفتح بالحيلة، وأن يخرج منها ابن أبي يعلى، فسار فارا بنفسه إلى أزمّور، واستولى يعقوب بذلك على سلا دون قتال (3). ولكن ابن عذارى يقول لنا بالعكس، إن يعقوبا طرق سلا مع رجاله بالليل، وركبوا السلالم على السور، أمام الباب، وقتل الحراس أو أسقطوا من عل، ثم كُسر الباب، ودخل يعقوب وصحبه إلى المدينة، ونهبوا دورها، ووقع الاضطراب، وفر الناس هنا وهنالك، وفر ابن أبي يعلى من القصبة في سفينة، إلى ثغر أزمور، وملك يعقوب سلا
_______
(1) الذخيرة السنية ص 102.
(2) ابن خلدون ج 7 ص 174 و 178.
(3) الذخيرة السنية ص 102، وابن خلدون ج 7 ص 178(4/547)
ورباط الفتح، وكان ذلك في أوائل سنة 658 (1).
وما كاد يعقوب بن عبد الله يستقر بسلا، حتى جاهر بخلع طاعة عمه السلطان أبي يوسف، والاستقلال بأمره، وأخذ في الأهبة والاستعداد، واقتناء السلاح والعدد، واستدرج شيوخ سلا إلى القصبة، ونزع سلاحهم، اتقاء لشرهم، وكتب إلى ألفونسو العاشر ملك قشتالة، يرجوه أن يمده بمائتين من المرتزقة النصارى، ليستعين بهم على مقاتلة أعدائه.
وعلى أن هذه المخاطبة لملك قشتالة، قد أسفرت عن مفاجأة مروعة، لم يكن يتوقعها أحد. وذلك أن ألفونسو العاشر، كان منذ بداية حكمه، يفكر في نقل الحرب الصليبية، التي اضطرمت عصوراً، في شبه الجزيرة الإسبانية، إلى إفريقية، وكان يشجعه في مشروعه، البابا إنوسان الرابع، ومن بعده خلفه البابا اسكندر الرابع، وكان ألفونسو قد أنشأ في إشبيلية أحواضاً كبيرة لبناء السفن، لتكون نواة لأسطول الغزو المنشود. فلما وردت عليه مكاتبة الأمير المرينى صاحب سلا، رأى أن ينتهز هذه الفرصة، وأن يرسل حملة بحرية صغيرة لافتتاح سلا، وجهزت سفن هذه الحملة في مياه إشبيلية، ووقف الفقيه العزفى صاحب سبتة، من عيونه، على هذه الأهبة، فبعث النذير إلى سائر ثغور المغرب، على المحيط، ينصحهم بالحذر والاستعداد. وسارت السفن القشتالية مشحونة بالمقاتلة، حتى رست في مياه سلا، فاعتقد أهل المدينة أنهم قدموا للمتاجرة، واعتقد يعقوب بن عبد الله، أنهم الجند الذين طلب إلى ملك قشتالة إرسالهم لإنجاده، ولم يخالج أحد شك، في حقيقة المشروع الغادر، الذي قدمت من أجله هذه السفن النصرانية. وجمع القشتاليون سفنهم تدريجيا، في خليج المدينة، ثم فاجأوها بالهجوم، ودخلوها بعنف، وقتلوا كثيراً من أهلها، وهم دون دفاع، وسبوا النساء والأطفال، في مناظر مروعة، واحتشد جماعة من أهل المدينة لمدافعة النصارى، وقاتلوا بكل ما وصل إلى أيديهم، من صنوف السلاح، فلم يغن ذلك شيئاً، وهلك معظمهم، وهرع الناس إلى مغادرة المدينة، في جموع متراصة، وهلك في الزحام كثير منهم. كل ذلك ويعقوب بن عبد الله ممتنع بالقصبة، لا يستطيع شيئاً، وهو يرى عاقبة تصرفه الشنيع، وجمع النصارى السبايا من النساء والأطفال بالجامع، واغتصبوا النساء والأبكار، وقتلوا الشيوخ، وخربوا المساجد، ولم تقف فظائعهم عند
_______
(1) البيان المغرب ص 422(4/548)
حد. وكان وقوع هذا الاعتداء المروع على ثغر سلا، في اليوم الثاني من شهر شوال سنة 658 هـ (10 سبتمبر 1260 م) (1).
وترامت هذه الأنباء المؤلمة، إلى السلطان أبي يوسف، وهو بفاس، فأهمته وأزعجته، فهرع في بعض قواته إلى سلا، وحاصر النصارى بها، واجتمعت من الأنحاء القريبة، طوائف كبيرة من المتطوعة، وقاتل النصارى من فوق الأسوار، وتبادل الفريقان الرمى بالنبال والأحجار، واستمر القتال على هذا النحو بضعة أيام، حتى اليوم الثالث عشر من شوال، وقتل عدد من النصارى، وأيقنوا أنهم لا يستطيعون الصمود، واضطروا أخيراً إلى مغادرة المدينة، ومعهم جملة كبيرة من أسرى المسلمين، وما نهبوه من المال والمتاع، واستقلوا سفنهم المرتبطة إلى الشاطىء، وأقلعوا بها على عجل، وذلك في اليوم الرابع عشر من شوال. وفي الحال استولى أبو يوسف على سلا ورباط الفتح، وأمر بإصلاح ما تهدم من سورها الغربي، وإصلاح جامعها ومساجدها، وكان يشترك مع كبراء قومه، في رفع الأحجار، ابتغاء الأجر.
وأما يعقوب بن عبد الله، فقد فر من القصبة، ولحق بحصن علودان من جبال غمارة، وامتنع به، فبعث أبو يوسف في أثره ولده الأمير أبا مالك، في قوة من الجند لمنازلته. وسار النصارى بسفنهم حذاء الشاطىء، دون أن يتزودوا، وهم يحاولون الحصول على الماء والطعام، والمسلمون يردونهم أينما حلوا، واستنقذ أهل العرائش منهم ثلاثة وخمسين أسيراً، نظير الماء، وانفصل بعض النصارى عن جماعتهم، وحصلوا على الأمان، والتحقوا بخدمة أبي يوسف، ودلت أنباء الطلائع المسلمة، على أن ملك قشتالة، كان قد جهز حشوداً أخرى، لإنجاد رجاله، ومعاونتهم على الاحتفاظ بسلا، فلما علم بانسحابهم، قرر معاقبة قائدهم خوان غرسية، ولكن خوان استطاع الفرار مع نفر من صحبه، إلى مياه أشبونة، ولم يعد إلى قاعدته في قادس (2).
وأما أسرى سلا، الذين حملهم النصارى معهم، في سفنهم، فقد بالغت الرواية في تقدير عددهم. وقيل إن ما أنزل منهم في إشبيلية، بلغ نحو ثلاثة آلاف من الجنسين كباراً وصغاراً، فافتدى أهل شريش المدجنون، منهم ثلاثمائة وثمانين،
_______
(1) الذخيرة السنية ص 103، والبيان المغرب ص 424.
(2) البيان المغرب ص 426 - 428، وابن خلدون ج 7 ص 178(4/549)
وبعث السلطان أبو يوسف، في أواسط شهر ذي الحجة من نفس العام، رسولا خاصا إلى الأندلس، هو أبو بكر بن يعلى، ليعمل على افتداء الأسرى، فافتدى معظمهم، ومنهم قاضي سلا. بيد أنه بقى منهم عدد لم يعرف مصيرهم (1).
وبعث الخليفة المرتضى بهذه المناسبة، إلى الفقيه العزفى صاحب سبتة، رسالة مؤرخة في الثالث من ذي القعدة سنة 658 هـ، يزجى إليه الشكر فيها، على ما قام به من تحذير أهل السواحل، ويشيد بخلاله وإخلاصه، ويرجوه أن يستمر، على التعريف بكل ما يقف عليه، من خطط العدو تجاه المغرب، وقد أورد لنا ابن عذارى نص على هذه الرسالة (2).
وقد كشف عدوان النصارى على سلا، عن وجود خطر جديد، يهدد سلامة المغرب، لم يكن متوقعا، ولم يحسب حسابه. ونستطيع القول بأن هذه المحاولة، من جانب إسبانيا النصرانية، كانت هي البداية الأولى، لتلك السلسلة المتوالية من حملات العدوان المنظم، التي اضطلعت بها إسبانيا النصرانية، والبرتغال فيما بعد، ضد شواطىء المغرب الشمالية والغربية، والتي بدأها البرتغاليون بالاستيلاء على ثغر سبتة في سنة 818 هـ (1415 م) ثم طنجة في سنة 869 هـ (1464 م).
ولبث السلطان أبو يوسف حينا بثغر سلا، ينظم أمورها ويصلح ما خرب منها، وكان النصارى قد أحرقوا وخربوا وأتلفوا معظمها، وقدّم على ولايتها أبا عبد الله بن أحمد الفنزارى، ثم غادرها، واستولى على بلاد تامسنا، وخضعت له سائر القبائل المجاورة (3).
ولما رأى الخليفة الموحدي - المرتضى بالله -، أنه لم يبق ثمة أمل في المقاومة، والكفاح ضد بني مرين، بعث إلى السلطان أبي يوسف هدية سنية، ومعها رسالة من أشياخ الموحدين، وسائر الفقهاء والصلحاء، يلتمسون إليه الصلح والموادعة، فاستجاب السلطان لرغبتهم في عقد السلم، وجعل وادي أم الربيع، حدا بينه وبين ما تبقى من مملكة الموحدين (4).
وكان من ذيول ثورة يعقوب بن عبد الله بسلا، أن حذا حذوه أبناء عمه أولاد إدريس، وهم أبناء أخي السلطان، فثاروا بقصر كتامة، تضامنا مع يعقوب، واجتمعوا تحت راية كبيرهم محمد بن إدريس، والتف حولهم جمع
_______
(1) البيان المغرب ص 428.
(2) البيان المغرب ص 425.
(3) الذخيرة السنية ص 104.
(4) الذخيرة السنية ص 104(4/550)
كبير من القرابة والصحب، واعتصموا بجبال غمارة، فبعث السلطان حملة، لقتالهم، ثم استنزلهم واسترضاهم، وعقد لأخيهم عامر بن إدريس، على جيش من نحو ثلاثة آلاف مقاتل، من بني مرين ومن المطوعة. وكانت رسائل ابن الأحمر صاحب غرناطة، تترى منذ حين على أبي يوسف، طلبا للعون والنصرة، والمشاركة في الجهاد في سبيل الله، فبعث أبو يوسف ذلك الجيش الصغير، إلى الجهاد بالأندلس، فعبروا إلى شبه الجزيرة، واستقبلهم ابن الأحمر بالضيافات والكرامات، وساروا أولا إلى مالقة، فاستقروا بها بقية سنة ستين. وفي العام التالي سنة 661 هـ، سار أولئك المجاهدون إلى أرض الفرنتيرة، وقصدوا إلى مدينة شَريش، وكانت قد دعت بطاعة ابن الأحمر، ولكن النصارى احتلوها، فانتزعها المرينيون من أيدي النصارى واحتلوها، ولكن لمدى قصير فقط. بيد أن عبور هذه الكتائب المرينية القليلة، إلى شبه الجزيرة، كان فاتحة لهذا التعاون القوي المثمر، الذي انعقد بين بني الأحمر ملوك غرناطة، وبين بني مرين، ضد إسبانيا النصرانية، واستمر عصراً يشد من أزر مملكة غرناطة، ويمكنها من الصمود ضد أعدائها (1).
أما يعقوب بن عبد الله، فقد استمر على ثورته وعصيانه، معتصما بمختلف النواحي، إلى أن قتله قائد المرينيين طلحة بن علي، بناحية أرض عبولة، على مقربة من ثغر سلا، في سنة 668 هـ، فلقى بذلك جزاءه وانتهى أمره (2).
وكان من حوادث هذا العام أيضاً - 659 هـ - أن بعث ابن الأحمر صاحب غرناطة سفنه لغزو سبتة، لسوء تفاهم وقع بينه وبين صاحبها العزفى، فلقيتها سفن سبتة، بقيادة الرنداحى، وهزم أسطول الأندلس وقتل قائده ظافر، وسمى هذا العام بعام ظافر (3).
- 6 -
في خلال هذه الفترة المليئة بالحوادث، من تاريخ بني مرين، والتي انتزعوا فيها رقاعاً وثغوراً جديدة هامة، من أشلاء الدولة الموحدية، وأخذ نجمهم يتألق في قلب المغرب الأقصى، كان الخليفة الموحدي المرتضى لأمر الله، عاكفاً في
_______
(1) الذخيرة السنية ص 112، والبيان المغرب ص 439، وابن خلدون ج 7 ص 179.
(2) ابن خلدون ج 7 ص 179.
(3) البيان المغرب ص 431(4/551)
حاضرته، التي قصت أطرافها، على معالجة الصغائر من الأمور، ومساجلة طوائف العرب ومصانعتها، وكان قد قدّم يعقوب بن جرمون على عرب سفيان حسبما ذكرنا من قبل، فأمر يعقوب لأمرٍ ما بقتل ابن أخيه كانون. فثار عليه إخوة القتيل، وتربصوا به وقتلوه، ورحلوا إلى بلاد بني مرين، ودخلوا في طاعتهم، فلما وقف المرتضى على ذلك، قدم على سفيان عبد الرحمن بن يعقوب، ولكنه لم يكن عاقلاً حريصاً كأبيه، ففي ذات يوم قام بنهب قوافل التجار المارة في وادي تانسيفت، على مقربة من مراكش، ولما خشى عواقب فعلته، جاهر بخلع طاعة الموحدين، وفر إلى أرض بني مرين، والتجأ إلى حمايتهم، فقدم المرتضى عندئذ على سفيان، مسعود بن كانون، وكان حازماً عاقلاً فاستقامت على يده الأمور.
ووفد عندئذ على مراكش عواج بن هلال، من زعماء الخلط، ناكثا لطاعة بني مرين، وكان معه عسكر كبير من قومه، فأكرم المرتضى وفادتهم، وأجزل صلاتهم، ولما علم بذلك عبد الرحمن بن يعقوب، بعث إلى الخليفة في طلب الصفح والأمان، فأجيب إلى طلبه، ووفد هو أيضاً إلى مراكش، في جمع كبير من قومه، فاستقبله الخليفة بالترحاب، ثم دبر الحيلة في التخلص منه، جريا على طريقته المأثورة، في إزهاق من يخرج على طاعته، فاستُدرج ذات يوم مع وزرائه، وقتلوا جميعا، وعلقت رؤوسهم على باب دُكاله، وبقى مسعود بن كانون أميراً على سفيان. وقدم اسماعيل بن يعقوب بن قيطون، أميراً علي بني جابر، وعلي بن أبي على، أميراً على عرب الخلط. أما عواج بن هلال فقد وشى به وأعدم (1).
على أن اشتغال المرتضى، بأمر أولئك الأعراب، لم ينسه المسألة الرئيسية، وهي الكفاح ضد بني مرين. ولم يكن ذلك الصلح الذي عقد بينه وبين أبي يوسف، عقب سقوط سلا ورباط الفتح، سوى هدنة مؤقتة، وسلام زائف، ولم يكن أبو يوسف من جانبه، ينوى التوقف عن مطاردة الموحدين، حتى يظفر بالقضاء على دولتهم بصورة نهائية. ومن ثم فإنه لم يمض سوى قليل، حتى خرج أبو يوسف من حضرته فاس، إلى أرض تامسنا، بقصد الرعى والكلأ، وتوطيد نفوذه بين القبائل الضاربة في تلك الأنحاء، مثل برغواطة وغيرها. وكان المرتضى من جانبه يتأهب لمحاولة جديدة لقتال بني مرين وصد تقدمهم. فحشد جيشاً مختاراً
_______
(1) البيان المغرب ص 432 و 433(4/552)
من الموحدين والعرب والأغزاز والروم (النصارى المرتزقة)، وعهد بقيادته إلى أبي زكريا يحيى بن وانودين. فسار هذا الجيش إلى وادي أم الربيع شمالي مراكش، وكان السلطان أبو يوسف قد استعد هنالك للقاء الموحدين أتم استعداد. ووقع اللقاء بين الجيشين، عند مكان من الوادي (النهر) تبدو فيه كدى، أو جزائر صغيرة، ينحسر عنها الماء وكأنها أرجل، ومن ثم فقد سميت الواقعة، التي نشبت هنالك بين الجيشين، موقعة " أم الرجلين ". وكانت موقعة عنيفة انتهت بوقوع الهزيمة على الموحدين، وتمزيق صفوفهم، ومقتل العدد الجم منهم. فولوا الأدبار واستولى بنو مرين على محلتهم وسائر عتادهم ومتاعهم. وكان ذلك في سنة 660 هـ (1262 م). وارتد ابن وانودين في فلوله إلى مراكش، واعتذر للخليفة بأن الهزيمة، ترجع إلى تخاذل عرب بني جابر وغدرهم. وكان للهزيمة أعمق وقع في العاصمة الموحدية وخشى الناس أن يزحف المرينيون إليها، فأغلقت بعض أبوابها، ثم ساد الهدوء بعد ذلك، بعد أن جاءت الأخبار بانصراف بني مرين إلى بلادهم (1).
وفي نفس هذا العام، خرجت عقب موقعة " أم الرجلين "، حملة موحدية جديدة، إلى بلاد السوس، بقيادة محمد بن علي بن آصلماط، وذلك لإخماد ثورة علي بن يدر، ولكنها ما كادت تشتبك مع قوات الثائر، حتى هزم الموحدون، وقتل قائدهم ابن آصلماط، فكان لتلك الكسرة الجديدة، أسوأ صدى. وعندئذ قدّم المرتضى على بلاد السوس أبا زيد بن يخيت أحد وزرائه، وبعث معه قائد الروم (النصارى المرتزقة) المسمى ذا اللب (دون لوبى) في قوة من جنده، واضطرمت الحرب بين الموحدين وبين علي بن يدر مرة أخرى، فصمد على ابن يدر، وافترق الجيشان دون حسم، وأبدى دون لوبى تهاونا وتخاذلا، وكان على غير تفاهم مع ابن يخيت، فكتب ابن يخيت بذلك إلى الخليفة، فاستدعاه وأمر سراً بقتله وزملائه، فقتلوا في طريق العودة على يد أبي زيد بن زكريا الجدميوى (2). وكان السلطان أبو يوسف يعتزم بعد موقعة (أم الرجلين)، أن يسير أخيراً إلى مراكش، لافتتاحها والقضاء على الدولة الموحدية المحتضرة،
_______
(1) الذخيرة السنية ص 105، وهو يضع تاريخ الموقعة في سنة 659 هـ، والبيان المغرب ص 431، وابن خلدون ج 6 ص 259 وج 7 ص 179، وكلاهما يضع تاريخها في سنة 660 هـ.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 260، والبيان المغرب ص 436(4/553)
ولكن أخّره عن ذلك حادث لم يكن في الحسبان. وذلك أن أبناء أخيه الأمير أبي يحيى وهم أبو مظهر وأبو سالم وأبو حديد، ساروا إلى طنجة في ثلاثمائة فارس من بني مرين وغيرهم، ونزلوا بها، فأكرم صاحبها ابن الأمين وفادتهم، ولكنهم غدروا به وقتلوه، فثار لذلك رجال ابن الأمين، وقتلوا من بالقصر من بني مرين واستدرجوا من كان منهم بالمدينة إلى القصبة، وقتلوهم تباعا، ووقع الهرج بالمدينة، وخشى أهلها من انتقام بني مرين، فخاطبوا الفقيه العزفى صاحب سبتة، فبعث إليهم بسفنه وعلى رأسها القائد الرنداحى، فاستولى على طنجة، وقبض على أولاد ابن الأمين وصحبه، واستاقهم إلى سبتة، وولي العزفى على طنجة واليا من قبله هو ابن حمدان. ولما وقف الأمير أبو يوسف على ما حدث من مقتل قرابته وفرسانه، وحماية العزفى لأهل طنجة، سار في بعض قواته إلى سبتة، فحاصرها وقتا، وقاتله أهلها من فوق السور، ولم يستطع أن ينال منها مأربا (662 هـ) (1).
- 7 -
وهنا أزفت الخطوة الحاسمة، واعتزم أبو يوسف أن يقوم بضربته الأخيرة، بالسير إلى مراكش، فسار في قواته وعبر وادي أم الربيع، واستمر في تقدمه، حتى نزل بجبل إيجليز، على مقربة من العاصمة الموحدية، وتقدمت عساكر الموحدين لصده، ونشبت عدة معارك محلية، كانت سجالا بين الفريقين، وقتل ولد أبي يوسف الأمير عبد الله، في إحدى هذه المعارك، وكانوا يسمونه برطانهتم " العجوب " أو" العجب "، وذلك لفائق جماله، وفروسته وشجاعته، وعلو همته. فوقف القتال، وساد الحزن والوجوم في المحلة المرينية، وبعث المرتضى رسولا خاصاً إلى أبي يوسف، يعزيه في فقد ولده، فتأثر أبو يوسف لذلك أيما تأثر، ووافق رسل المرتضى على الارتحال، على مال معلوم، يدفع إليه كل عام. وتضع الرواية تاريخ هذه الحملة في سنة إحدى وستين أو اثنتين وستين وهو الأرجح (2).
بيد أنه وقع حادث جديد، أذكى من عزم أبي يوسف، ومهد له السبيل
لتنفيذ مشروعه. وذلك أن السيد أبا العلاء إدريس بن السيد عبد الله بن السيد
_______
(1) البيان المغرب ص 439 و 440.
(2) البيان المغرب ص 440، والذخيرة السنية ص 108، وابن خلدون ج 7 ص 179(4/554)
أبي حفص بن الخليفة عبد المؤمن، وهو كما يبدو من نسبه، من أبناء عمومة المرتضى، ويعرف بالأخص بأبي دبوس لأنه كان وقت وجوده بالأندلس، يحمل الدبوس باستمرار فشهر به (1)، كان السيد أبو العلاء هذا أو أبو دبوس، ناقما على المرتضى، لأمور تختلف في شأنها الرواية، فمن ذلك ما يقوله روض القرطاس من أنه كان يخشى أن يقتله المرتضى، لوشاية رفعت إليه في حقه (2)، وما يقوله لنا ابن خلدون من أن أبا دبوس، كان من قادة الجيش الموحدي، في موقعة " أم الرجلين "، فلما وقعت الهزيمة على الموحدين، سعى بعض خصومه، في حقه لدى الخليفة، فشعر بهذه السعاية، وخشى سطوة المرتضى. ويزيد الأمر إيضاحا ما يقوله صاحب الذخيرة السنية، من أن السعاية في حق أبي دبوس للمرتضى، كانت تتلخص في أنه يكاتب بني مرين ويصانعهم، وأنه يفكر في القيام ضد المرتضى، ويعتمد في ذلك على محبة الناس له لشجاعته (3). وأخيراً يقول لنا ابن عذارى، إن نقمة أبي دبوس على المرتضى، كانت ترجع إلى " اهتضام جانبه في أحواله ". وهكذا اضطرب الجو بين الخليفة، وبين ابن عمه، وشعر أبو دبوس، أن حياته أصبحت في خطر، ففر من القصبة، مع ابن عمه السيد أبي موسى، وذلك في المحرم سنة 663 هـ، وقصد توا إلى فاس، ملتجئاً إلى السلطان أبي يوسف. فلما وقف المرتضى على ما حدث أمر بالقبض على أولاد السيدين الفارين، والتحوط على دورهما، ومطاردة كل من يشتبه في اتصاله بهما. وسأل أبو دبوس أبا يوسف العون والنصرة، وعرض عليه مشروعه، في أن يعينه بقوة من بني مرين، وما يلزم من النفقة، لافتتاح مراكش وأحوازها، وأنه يتمتع في ذلك بتأييد معظم الموحدين والكافة، وأن يكون هذا الفتح مشتركا، ومناصفة بينهما، فوافق أبو يوسف على مشروعه، وأمده بجيش من بني مرين، قوامه ألف فارس أو ثلاثة أو خمسة آلاف وفقاً لأقوال أخرى، وزوده بالخيل والعتاد والسلاح والمال، وبالكتب اللازمة، لحث زعماء العرب والقبائل، الذين في طريقه، للنهوض إلى معاونته. وخرج أبو دبوس في حشوده من فاس، في شهر ذي القعدة سنة 663 هـ (أغسطس 1265 م)، وسار أولا إلى مكناسة،
_______
(1) الحلل الموشية ص 127، والبيان المغرب ص 454.
(2) روض القرطاس ص 174.
(3) ابن خلدون ج 7 ص 179، والذخيرة السنية ص 123(4/555)
ثم إلى المعدن ثم إلى تادلا، ثم سار إلى هسكورة، في جنوب شرقي مراكش، فنزل بها، على زعيمها مسعود بن جلداسن، ولبث هنالك مدى حين (1).
وتوافد على أبي دبوس، خلال إقامته بجبال هسكورة، كثير من الأنصار من كل صوب، وأطاعته قبائل هزرجة، وسائر بطون هسكورة، ووفد عليه كثير من الموحدين، والجند الراغبين في خدمته، فقوى أمره بالجبل، وتوجس المرتضى لما بلغه من ذلك، وقبض على مسعود بن كانون شيخ سفيان، وزجه إلى السجن، وقبض كذلك على شيخ بني جابر، وقائد الروم غرسية، وذلك لشبهة تواطئهم مع أبي العلاء. على أنه لم يفعل شيئاً، للتحوط ضد الهجوم المنتظر، بل لقد بعث بعسكره في تلك الآونة الدقيقة، لقتال حاحة ورجراجة، والظاهر أن ذلك كان بتحريض الوزراء، الضالعين مع أبي دبوس، وذلك لكي تخلو العاصمة، من أسباب الدفاع. وكان من جراء مطاردة المرتضى للزعماء، والقبض عليهم، أن هرع كثير من جند سفيان وبنى جابر، وكذلك فر كثير من الجند الروم، مع قائدهم زنار، وانضموا إلى قوات أبي دبوس.
ولما وقف أبو دبوس، من أنصاره في مراكش على مجرى الحوادث، وعلم أن العاصمة أضحت بلا دفاع، وأنه من جهة أخرى قد استكمل أهباته، وكثرت حشوده وعساكره، عول على تحقيق مشروعه، في انتزاع العاصمة الموحدية، والاتشاح بثوب الخلافة. فسار في قواته صوب أغمات، فخرج إليه واليها أبو زيد ابن يخيت، في جند الموحدين، لصده عن أغمات، فهاجمتهم فرسان أبي دبوس، فهزموا شر هزيمة، وقتل ابن يخيت وجنده، وسار أبو دبوس بعد ذلك إلى مراكش، بعد أن تحقق من أخبار أنصاره وعيونه في العاصمة، أن الفرصة قد أضحت مؤاتية، وتقدمه عرب سفيان الموالين له، حتى وصلوا إلى باب الشريعة، فسرى الاضطراب إلى المدينة، كل ذلك والمرتضى صامت جامد، إلى أن قرر أخيراً مواجهة الموقف، وبعث رجاله فتفقدوا الأسوار فلم يجدوا بها حراسة ولا حراسا، وكان الوقت قد فات لاتخاذ أي إجراء مجدى، وصعد بعض رجال هسكورة إلى السور، وهبطوا إلى الداخل، وفتحوا باب الصالحة، الواقع في جنوبي المدينة، وكان أبو دبوس قد وصل إليها في حشوده، ووقف المرتضى
_______
(1) الذخيرة السنية ص 123 و 124، وروض القرطاس ص 174، ابن خلدون ج 7 ص 179، والبيان المغرب ص 441(4/556)
على ما تقدم، وشهد بنفسه اجتماع الجند القادمين بين الأبواب، وسمع قرع الطبول، وأدرك أنه لم يبق أمل في المقاومة، فقرر الفرار، وأخذ في الأهبة له. وقرر أبو دبوس من جانبه دخول المدينة، فدخلها من باب الصالحة أو باب الكحل، وذلك في ضحى يوم السبت الثاني والعشرين من المحرم سنة 665 هـ (أكتوبر سنة 1266 م)، ولكنه لم يستطع دخول القصبة حتى العصر، حينما أيقن بفرار المرتضى، وخلو القصر من عاهله، ودخل رجال هسكورة إلى المدينة، وانقضوا على القيسارية، ونهبوها وأحرقوها، ونهبوا الدور وعاثوا فيها (1).
أما المرتضى فإنه فر من القصر في عصر ذلك اليوم، وخرج من باب النحل، ومعه اثنان من وزرائه وبعض أولاده، وقصد إلى الجبل، صوب منازل كيك. ولكنه لم يجد بينهم نصيراً يلتجىء إليه، وألفى معظمهم بالعكس، قد انضم إلى جانب خصمه، فسار مع أولاده إلى مدينة أزمور، وكان واليها عبد العزيز ابن عطوش صهره، وكان قد افتداه من أسر بني مرين بمال كثير، ولكنه لم يستطع دخول المدينة، لأن واليها الغادر، كان قد بعث ببيعته إلى أبي دبوس، ولجأ المرتضى وأولاده، إلى غار على شاطىء البحر، حتى يظفر بمثوى أمين. وكان أبو دبوس مذ دخل القصر، قد أرسل في أثره جماعة من الخيل والرجال، فطاردوه حتى أزمور، وظفروا به، وكبله الوالي هو وأولاده، في انتظار إرسالهم إلى أبي دبوس (2).
وهكذا استولى أبو العلاء إدريس، أبو دبوس، على العاصمة الموحدية، وبويع بالخلافة بجامع المنصور، وبايعه كافة الموحدين، والأشياخ والوزراء والقضاة، وذلك في اليوم التالي لدخوله المدينة، يوم الأحد الثالث والعشرين من المحرم سنة 665 هـ، وتلقب بالواثق بالله. وكان هذا الأمير الموحدي، الذي شاء القدر، أن تنتهي على يديه الدولة الموحدية، حسبما تصفه الرواية، داهية شجاعا، وافر الفروسة، حازما مقداما في الأمور، وكانت أمه أم ولد رومية اسمها شمس الضحى. وكان أبيض اللون أشقر الشعر واللحية، أزرق العينين، طويل القامة، كبير اللحية، مهيب الطلعة (3).
_______
(1) البيان المغرب ص 444 - 446، والذخيرة السنية ص 125، وروض القرطاس ص 175، وابن خلدون ج 7 ص 180.
(2) البيان المغرب ص 448 و 449.
(3) روض القرطاس ص 174 والبيان المغرب ص 454(4/557)
ووزر للخليفة الجديد، السيد أبو زيد عبد الرحمن بن السيد أبي عمران، وأخوه السيد أبو موسى عمران بن أبي عمران، وكتب له أبو الحسن الرعينى، وأبو عبد الله التلمسانى، وهما من كتاب سلفه.
وما كاد الواثق بالله يستقر بالحضرة، حتى أجمع الناس على طاعته، وتوافدوا على الحضرة، من كل مكان، ورأى اجتذابا لعطف الشعب وتأييده، أن يرفع المغارم والكلف عن الناس، سواء في الحواضر أو البوادى، وأن يقتصر على الفروض الشرعية، التي جرى عليها العمل في بداية الدولة، وأمر بالعفو عن المجرمين. ولكن كانت تنقصه الموارد والأموال، ولم يجد شيئاً منها بالقصر أو بيت المال، فكتب وزيره السيد أبو موسى عمران عن لسانه، إلى الخليفة المعتقل - المرتضى - كتابا، يسأله عن مصير الأموال التي كانت بيده، وأن يعرفه بمكان إيداعها، إذ هي أموال المسلمين، وأنه إن فعل " شمله عفو أمير المؤمنين " فكتب إليه المرتضى بخطه، يؤكد أنه لا يعرف أي مستودع للمال، وأنه لم يودع ولم يدفن شيئاً، وأن المال كان كثيراً، وقت وصول المرينى، ولكنه نفد بعد ذلك، ثم يقسم له على صحة كلامه ويناشده أن يحقن دمه، ويبقى على حياته، ويسترحمه ويدعو له، في عبارات مؤثرة (1). فلما وقف الواثق بالله على كتابه، تأثر لمحنته، وبعث السيد أبا موسى عمران، مع أبي سرحان بن كانون، وجماعة من سفيان، للقيام باستقدام المرتضى، واستحضاره إليه. ولكن حدث بعد مسيرهم، أن نصح السيد أبو زيد إلى الواثق، بعدم الإبقاء على المرتضى، وحذره مما قد يترتب على مقدمه، من التأثير في موقف الجند والرعية، فبعث الواثق براءة بخطه، إلى السيد أبي موسى، وحملها إليه عمر بن آصلماط، تتضمن وجوب قتل المرتضى، في أول مكان يلتقى به فيه. فالتقى به في موضع يسمى " فرزغون " من أرض دكاله، وكان السيد أبو موسى، قد وصل إلى هذا المكان، ومعه المرتضى وأولاده، وهم في الأصفاد على الدواب، فلما وقف على أمر الخليفة الواثق، أخذ المرتضى جانبا، وأنزله عن دابته، وأعدم قتلا بالسيف، ودفن حيث قتل، وكان مصرعه في يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من صفر سنة 665 هـ (22 نوفمبر سنة 1266 م) (2)
_______
(1) نقل إلينا صاحب البيان المغرب نص كتاب أبي موسى إلى المرتضى، ونص رد المرتضى عليه ص 449 و 450.
(2) البيان المغرب ص 450 و 451(4/558)
وهكذا هلك الخليفة المرتضى بالله، بعد أن تولى الخلافة، زهاء تسعة عشر عاما، وهي فترة طويلة، لم تتح لخليفة موحدى آخر، من بعد عبد المؤمن وولده أبي يعقوب يوسف، وكانت فترة حاسمة في تاريخ الدولة الموحدية. ففي خلالها تم تفكك الإمبراطورية الموحدية الشاسعة، وأخذت أشلاؤها المقتطعة، تسقط تباعا في أيدي خصومها، فانفصلت سبتة وطنجة، وقامت في كل منهما حكومة مستقلة، ثم توالى استيلاء بني مرين، بعد انتزاعهم لرباط تازا، على حضرة فاس، ثم سجلماسة ودرعة، ثم على سلا ورباط الفتح، وقامت ببلاد السوس ثورة وحكومة مستقلة. وهكذا فقدت الإمبراطورية الموحدية، في عصر المرتضى سائر أقطارها وحواضرها الهامة، ولم يبق منها بيد الخلافة الموحدية، سوى حضرة مراكش، ورقعة تمتد بين وادي أم الربيع ووادي تانسيفت، حتى ثغر أزمور، ولقد حاول المرتضى غير مرة، أن يكافح وأن يصد بني مرين، وقد خاض أكثر من موقعة، ولكنه لم يبد في أية مرة، من صدق العزم والجلد، ما كان يبديه أسلافه، في الدفاع عن تراثهم وعن أراضيهم، وكان أكثر اهتماما بالدعة والاستقرار، وحياكة الدسائس، والبطش بخصومه بأساليبه الغادرة، التي جرى عليها طوال حكمه، ولم يكن للمرتضى خلال أو مناقب بارزة، يمكن أن يشيد بها المؤرخ، ولم يكن ما تذكره الرواية عن علمه وورعه وزهده، سوى ستار، يحجب ما يضطرم داخل نفسه، من مشاعر الحقد والضغن، وشهوة البطش والغدر.
ووزر المرتضى رجال غير لامعين، مثل أبي محمد بن يونس، وأبي عبد الله محمد الجنفيسى، وأبي زيد بن عزوز، وأخيه السيد أبي اسحق، وأبي محمد بن أصناج، وأبي يوسف بن تيجا الجدميوى، وأبي موسى بن عزوز الهنتاتى، وغيرهم، وقد صاهر المرتضى هذين الوزيرين الأخيرين، وزوج كل منهما ابنة من بناته. وكتب للمرتضى أبو الحسن الرعينى، وأبو عبد الله التلمسانى، وكلاهما من كتاب العصر البلغاء (1).
وكان الخليفة المرتضى فقيها عالما، وأديباً شاعراً. ويقول لنا ابن عذارى إنه قد وقف على مجلد من شعره ونثره، بيد أن شعره كان ضعيفاً، ثم يورد لنا شيئاً من نظمه. فمن ذلك قوله من قصيدة نظمها في شهر ربيع:
_______
(1) البيان المغرب ص 389(4/559)
وافى ربيع قد تعطر نفحه ... أذكى من المسك العتيق نسيما
بولادة المختار أحمد قد بدا ... يزهو به فخرا وحاز عظيما
وقوله في معنى الزهد:
ولما مضى العمر إلا الأقل ... وحان لروحى فراق الجسد
دعوت إلآهى مستعطفا ... ليصلح منى ما قد فسد
وكان شغوفا بالكتب والتصانيف، وكان ممن يتمتع بعطفه ورعايته، من علماء عصره، الفقيه أبو محمد ابن القطان، وقد ألف له جملة من الكتب، منها كتاب " نظم الجمان وواضح البيان فيما سلف من أخبار الزمان " وهو الذي انتفعنا به، وأشرنا إليه فيما تقدم. في غير موطن. وكتاب " شفاء الغلل في أخبار الأنبياء والرسل " ركتاب " الأحكام لبيان آياته عليه السلام " وكتاب " المناجاة " وكتاب " المسموعات " وفيه قصائد مختارة في فضائل المولد النبوى، وشهور رجب وشعبان ورمضان، وغير ذلك (1). وقد أشاد ابن القطان في كتابه " نظم الجمان " بذكر المرتضى ومديحه، مما يدل على أنه كان متمتعاً بسابغ رعايته وجزيل صلاته (2).
وتصف الرواية المرتضى، بأنه كان معتدل القامة، ساطع البياض، عالى الأنف، أسيل الخد، أشيب، لا يخضب بحناء أو غيرها (3).
أما أولاد الخليفة المرتضى، فقد زجهم أبو دبوس إلى السجن، فلبثوا معتقلين فيه طوال مدته، حتى أطلق سراحهم الأمير أبو يوسف المرينى، حينما دخل مراكش في أوائل سنة 668 هـ، إلاّ كبيرهم محمد، فكان قد قتل في سجنه بأمر أبي دبوس. ولما أطلق سراحهم، غادروا المغرب وعبروا إلى الأندلس، والتجأوا إلى حماية ألفونسو العاشر ملك قشتالة، وعاشوا بإشبيلية تحت كنفه أعواما طويلة، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى غرناطة، وأقاموا بها تحت رعاية ملكها ابن الأحمر، وأطلق لهم ملك غرناطة، ما يكفيهم من الأرزاق الشهرية. ويقول ابن عذارى إنهم كانوا بغرناطة حتى هذا الوقت الذي كتب فيه قصتهم. ويزيد على ذلك أن أخاهم أبا زيد، غادر الأندلس في سنة 684 هـ، وعبر إلى المغرب وسار إلى السوس راكبا على حمارة، وسمته العامة من أجل ذلك بأبي حمارة،
_______
(1) البيان المغرب ص 452 و 453.
(2) كتاب " نظم الجمان " المخطوط السابق ذكره لوحة 67.
(3) البيان المغرب ص 389(4/560)
وأنه نزل بجبل سكسا وعاش هنالك، وهو يرتزق من النسخ، وأنه كان مايزال بقيد الحياة، هو وأخوه محمد المقيم بغرناطة، حتى الوقت الذي كتب فيه ابن عذارى هذه السطور، وهو عام اثنى عشر وسبعمائة (1).
هذا، وتقدم إلينا الرواية الإسلامية، قصة أخرى عن أخ لأبي دبوس، آخر الخلفاء الموحدين، هو السيد أبو زيد بن السيد عبد الله، حفيد الخليفة عبد المؤمن، خلاصتها أن هذا السيد، أو السويد حسبما تنعته الرواية، كان مقيما بالأندلس، وكان قد لجأ إلى ملك قشتالة ألفونسو العاشر، وعاش تحت رعايته بمدينة إشبيلية. وفي أواخر سنة 659 هـ (1261 م)، أعلن هذا السويد اعتناقه لدين النصرانية، في حفل عام أقيم لهذا الغرض، فقام ملك قشتالة بحلق لحيته بيده، وكساه حلة ملوكية، وعندئذ صعد السويد الموحدي، إلى كرسى عال يشرف منه على الناس، ثم قال: " أشهدكم يا من حضر من المسلمين والنصارى واليهود، أننى قدمت على دين النصرانية منذ أربعين سنة، وكنت أكتمه، وأنا الآن قد أبحته وأظهرته، وأن دين المسيح بن مريم، هو الدين القديم الأزلى "، ثم تحدث ملك قشتالة، فأثنى على السويد وهنأه باعتناق النصرانية. على أن هذا السويد المتنصر لم يعش طويلا بعد تنصره، فقد توفي بإشبيلية بعد ذلك بأربعة أشهر فقط، وذلك في أوائل سنة 660 هـ (1262 م) (2).
وإنا لنقف قليلا، عند هذه الظاهرة الأليمة، التي تكررت بين بعض السادة من بني عبد المؤمن، وهي إقبالهم على اعتناق النصرانية، وخروجهم بهذه الطريقة المثيرة، على دين آبائهم وأجدادهم العريق، الذين جاهدوا في سبيل إعزازه أيما جهاد، وعلى إمامتهم الموحدية، ومقام خلافتهم العظيمة. وليس من شك في أن هذه الرِّدة، التي تكررت على يد أبي محمد عبد الله البياسى، وأخيه السيد أبي زيد والي بلنسية، ثم على يد هذا السويد أبي زيد، لم تكن ترجع إلى بواعث تتعلق بالإيمان أو العقيدة، وإنما كانت ترجع إلى بواعث مادية ودنيوية، وذلك حسبما تدلى به بالأخص حالة البياسى وأخيه السيد أبي زيد. ولا ريب أن في هذه الصفحة المؤلمة ما يصدع من هيبة الخلافة الموحدية، ومن عظمة تاريخها.
_______
(1) البيان المغرب ص 454. وهذه السطور تكشف لنا لأول مرة، عن جانب من حياة المؤرخ ابن عذارى، والعصر الذي عاش فيه، وقد امتد حسبما ينبئنا بنفسه، إلى ما بعد سنة 712 هـ، ومن ثم فقد عاصر المرحلة الأخيرة من حياة الدولة الموحدية، وشطراً كبيراً من حياة الدولة المرينية في مراحلها الأولى.
(2) الذخيرة السنية ص 106(4/561)
الفصل الرابع نهاية الدولة الموحدية وعوامل تفككها وسقوطها
مبايعة أبي العلاء إدريس الواثق. الوحشة بينه وبين زعيم هسكورة. خروج الواثق في قواته. تصرفاته ومحاولاته لدى هسكورة. مخاطبته ووعوده للأمير أبي يوسف. مؤامرة في مراكش ضد الواثق. ضبطها وإخمادها. تأهب الواثق للزحف على بلاد السوس. ورود مبايعة يغمراسن وتحذيره من بني مرين. مسير الواثق ونزوله في جبال السوس. مهاجمته لحصن تيزغت واقتحامه. مسيره إلى حصن تيوينوين. مهاجمة الحصن وصموده. علي بن يدر يتظاهر بعرض الطاعة. مسير الواثق إلى الحضرة في موكبه الخلافى الفخم. أبو يوسف يطالب الواثق بتنفيذه عهوده. شعور الواثق بقوته وكثرة حلفائه. رده الجاف على أبي يوسف. غضب أبي يوسف وزحفه على الحضرة الموحدية. استنجاد الواثق بيغمراسن. مهاجمة يغمراسن لأطراف الأراضي المرينية. ارتداد أبي يوسف لمحاربته. اللقاء بينهما في وادي تلاغ. المعركة العنيفة. هزيمة يغمراسن وفراره إلى تلمسان. عود أبي يوسف إلى التأهب لمحاربة الواثق. مسيره إلى مراكش وغزواته المخربة في طريقه. أبو دبوس يحشد سائر قواته. خروجه للقاء بني مرين. ارتداد أبي يوسف نحو الشمال ومطاولة الموحدين. اللقاء بين الفريقين في وادي غفو. المعركة المضطرمة. بلاء أبي دبوس وجيشه. صمود بني مرين. مصرع أبي دبوس وتمزيق قواته. تعليق رأسه على سور فاس. مسير أبي يوسف إلى مراكش. فرار الموحدين إلى تينملل. دخول أبي يوسف مراكش واستقباله ومبايعته. انتهاء الدولة الموحدية. سيطرة بني مرين على سائر المغرب الأقصى. أبو يوسف يرسل حملة لإخضاع بلاد السوس. خروجه لمطاردة العرب في قطاع درعة وإخماد حركتهم. عوده إلى مراكش. مطاردته لبقايا الموحدين. ظفره بالقبض على بعض أكابرهم وإعدامهم. أبو يوسف يعقد ولاية العهد لولده أبي مالك. مسيره صوب سبتة وطنجة. استيلاؤه على طنجة. إذعان العزفى صاحب سبتة وإقراره بالطاعة. مسير أبي يوسف إلى سجلماسة وافتتاحها. جهاد أبي يوسف بالأندلس ونصرته لمملكة غرناطة. كون هذا الجهاد استمرار لرسالة المغرب التاريخية. وفاة السطان أبي يوسف. الدولة الموحدية وعوامل تفككها. موقعة العقاب وآثارها. العوامل الأدبية. الحكومة الموحدية وصفتها الإقطاعية والعائلية. ضعف هذا النظام وقصوره. استطالة الممالك النصرانية على الأندلس. قصور الجيوش الموحدية عن حمايتها. التنافس على عرش الخلافة. خروج البياسى وأخيه السيد أبي زيد وما ترتب على ذلك. ثورة بني غانية وتخريبها لبلاد إفريقية. إنسلاخ إفريقية وقيام الدولة الحفصية. إنسلاخ تلمسان وسبتة وطنجة. نهوض بني مرين واستيلاؤهم تباعا على المغرب الأقصى. العوامل الأدبية. تحول الإمامة إلى ملك دنيوى. إلغاء الإمامة الموحدية ورسومها. ما خسرته الخلافة الموحدية بذلك. تقلب القبائل البربرية وطوائف العرب. الحرب الأهلية بين الخلفاء. انهيار الدولة الموحدية وكونه لم يحدث صدى قويا. انهيار الصرح القبلى الموحدي. عناصر هذا الصرح من القبائل والبطون. مصير هذه القبائل. اندثار هرغة قبيلة المهدي. قبر المهدي بتينملل. هنتاتة وفوزها بسلطان إفريقية. مصير جدميوه وغيرها.
- 1 -
لما دخل أبو العلي إدريس، الملقب بأبي دبوس حضرة مراكش في اليوم الثاني والعشرين من محرم سنة 665 هـ، واحتل القصر عقب فرار الخليفة المرتضى بايعه سائر الأشياخ والطلبة والكافة، وتلقب حسبما تقدم بالواثق بالله. وكان أول(4/562)
ما قام به أن ركب في اليوم التالي، وطاف بأحياء الحضرة، للعمل على توطيد السكينة والنظام، وتهدئة روع الناس، وقمع المعتدين والمفسدين، ثم كتب إلى حليفه، الأمير أبي يوسف عاهل بني مرين، ينبئه بما تم، وما انتهى إليه مجرى الحوادث، ولبثت المخاطبات بينهما مدى حين.
بيد أنه وقعت وحشة، بين الواثق وبين ابن جلداسن زعيم هسكورة، لم توضح لنا الرواية أسبابها، وكان ابن جلداسن من حلفائه، ومعاونيه في حركته إلى افتتاح مراكش، حسبما ذكر في موضعه، ومن ثم فإنه لم تمض بضعة أشهر حتى أخذ الواثق في الأهبة للحركة والخروج، فخرج في قواته من مراكش، في الثاني عشر من شعبان سنة 665 هـ، فنزل أولا بالبحيرة، ثم سار إلى بلاد هيلانة فوادى أغمات، ونزل فيه بمكان يسمى تادارت معطاسة، وهنالك وفد عليه بعض أشياخ هسكورة، ومنهم الشيخ حميدى بن مخلوف الهسكورى، وكان يقوم من قبل الواثق بالاتصال بالأمير أبي يوسف، ويتردد بينهما في مراسلات ومفاوضات مختلفة. وقدم الواثق أبا موسى بن عزوز على بلاد حاحة، ليقوم بالنظر في أعمالها وتحصيل جبايتها، وبعث رجلا من ثقاته، هو عبد العزيز بن عطوش إلى ابن جلداسن زعيم هسكورة، ليستطلع الأمر، وليحادثه في بعض الشؤون، فعاد هذا الرسول، وأبلغه ما وقف عليه، والظاهر أن الأمور كانت قد هدأت عندئذ ولم ير الواثق في موقف ابن جلداسن ما يستدعى الغضب والمؤاخذة، فتركه على حاله، وقنع منه بالطاعة، مؤثراً مودته على خصومته (1).
وسار الواثق بعد ذلك من تادارت إلى الولجة الواقعة في شرقها، وفي أثناء ذلك جاءت الأنباء بانصراف بني مرين، وإجازتهم لوادى أم الربيع ومسيرهم إلى بلادهم، وكان الأمير أبو يوسف يعقوب، قد خرج في حشوده من فاس، وسار إلى بلاد دُكاله وانتسف زروعها، نذيرا لأبي دبوس، فبعث إليه أبو دبوس الشيخ الصالح أبا العباس الهسكورى بهدية سنية، ليطمئنه وليؤكد له أنه سوف يفى بعهوده وينفذ ما اشترطه على نفسه، فتقبل أبو يوسف ذلك الوعد، وارتد منصرفا إلى بلاده. فكان ذلك من بواعث الارتياح في المحلة الموحدية (2). بيد أنه وصلت في نفس الوقت، أنباء تدل على أنه يخشى من وقوع أحداث في الحضرة، من جراء نشاط مريب، يقوم به السيد عبد العزيز بن الخليفة السعيد، فسار الواثق في
_______
(1) البيان المغرب ص 457 و 458.
(2) الذخيرة السنية ص 126(4/563)
ْجنده، إلى تاونزرت على مقربة من الحضرة، وبعث من هنالك بعض قواته لتحصيل الجباية من حاحة ورجراجة، وكان السيد عبد العزيز هذا، من ولد الخليفة الراحل السعيد، وكان يرى أن قيام الواثق في الخلافة، وهو ليس من عقب المنصور، اغتصابا يجب منعه، وانضم إليه في ذلك بعض الزعماء، وكاتب ابن جلداسن شيخ هسكورة سراً، ليقوم بمعاونته، ووقف الواثق على ذلك من صهره، السيد أبي زيد ابن السيد أبي عمران والي مراكش، وضبطت بعض كتب كانت مرسلة، من السيد عبد العزيز إلى جلداسن، وكان السيد عبد العزيز يلزم داره متحرزاً على نفسه، فعمل السيد أبو زيد على استدراجه واستدعائه، فقصد إليه مع بعض أشياخ الموحدين، فواجهه بما نسب إليه، وأبرز له كتبه المكتوبة بخطه، فأسقط في يده وبهت، وعندئذ قبض عليه، وأعدم بأمر الواثق، وأخمدت هذه المؤامرة في مهدها (1).
وعلى أثر ذلك أخذ الواثق في الأهبة للزحف على السوس، وفي خلال وجوده بوادي تانسيفت، وردت إليه هدية ومكاتبة، من الأمير يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان، يقدم فيها بيعته للخليفة الموحدي، ويحذره من أطماع بني مرين فيما بقى من أقطار الدولة الموحدية، ويعد بمحالفته، وتعهده بأن يكفيه شر بني مرين. وذاع أمر هذه البيعة الهامة بين الجند، وضربت الطبول ابتهاجا بها، وعم السرور لذلك في المحلة الموحدية (2). ثم تحرك الواثق صوب بلاد السوس، وتقدمه الشيخ أبو زكريا ابن وانودين، ليستنفر القبائل للخدمة، والحركة ضد علي بن يدر الثائر بالسوس، واستمرت الحملة في مسيرها حتى وصلت إلى جبال السوس (وهي شعبة من جبال الأطلس)، ونزلت هنالك في بعض البسائط، وهنالك قضى الواثق عيد الفطر.
وأخذت الحملة بعد ذلك في التنقل بين القبائل، وأصدر الواثق عدداً من الظهائر لبطون جزولة وغيرها، يبلغهم عزمه، على القضاء على ثورة علي بن يدِّر وتأمين أرجاء نواحي السوس. ثم مرت الحملة بتارودنت حاضرة السوس، وقد خرب أكثرها، ونزلت المحلة هنالك في واد أخضر، في أسفل حصن تيزغت المنيع، وكانت به حامية قوية، من جند علي بن يدر، فاستعد الجند لمهاجمته، ونشبت بينهم وبين حاميته معارك عنيفة، استمرت بضعة أيام، حتى اضطر قائده أخيراً، واسمه حمدين، إلى طلب الأمان، وقرر بأن علي بن يدر، على
_______
(1) البيان المغرب ص 459 و 460.
(2) الذخيرة السنية ص 127، والبيان المغرب ص 461(4/564)
استعداد لإعلان الطاعة، وقبل الواثق طلبه، ولكن لم يتم التسليم، وانتهى الأمر، بأن اقتحم الموحدون أحواز الحصن، بعد قتال شديد، ولجأت الحامية إلى الداخل، بعد أن قتل منهم عدد جم. وأخيراً اقتحم الحصن نفسه، وأبيدت حاميته قتلا وأسراً، وكانت أخت علي بن يدر ضمن الأسرى، وكتب بالفتح إلى الحضرة، وكان ذلك في 13 شوال سنة 665 هـ (1).
وفي اليوم الحادي والعشرين من شوال، استأنفت الحملة سيرها داخل بلاد السوس، وقدم عندئذ أبو زكريا بن وانودين مع جمع كبير من واوزجيت، وهم من خصوم علي بن يدر، وبعد يومين نزلت الحملة قرب تارودنت، وكان ابن يدر قد خرب حصنها الكبير وهدمه، فأمر الواثق بتجديده وإعادة بنائه، ولكن لم يتم أمره بذلك. واتجهت الحملة بعد ذلك، إلى حصن تيوينوين، وهو من أعظم حصون السوس وأمنعها، وكان في معظم الأحيان مركزاً للعصيان والثورة، فاستعدت حاميته القوية للدفاع، وهاجم الموحدون الحصن، وذلك في الثاني من ذي القعدة، فدافعت حاميته دفاعا شديداً، ووصل عندئذ كتاب من السيد أبي زيد والي مراكش، ومعه كتاب ببيعة أبي الحسن علي بن أبي على، من زعماء الخلط، ودخوله في الطاعة، فكان لذلك أطيب وقع. ولما رأى الواثق مناعة الحصن، وشدة بأس حاميته، قرر اتخاذ الأهبة لاقتحامه، بمعاونة من كان معه، من حشود العرب وزناتة، ولمطة وبني واوزجيت، وهوجم الحصن بشدة، وضرب بالمنجنيق، ولكن حاميته استمرت في المقاومة.
واستمر الأمر كذلك حتى مر عيد الأضحى. وفي الحادي والعشرين من ذي الحجة، وصل رسل علي بن يدر، يعرضون التوبة، ويعدون البيعة والطاعة، ولكن لم يتم شىء من ذلك، واستمر حصن تيوينوين على امتناعه. وورد على المحلة خلال ذلك كثير من عرب المعقل في أهلهم وأموالهم برياسة شيخهم عبد المؤمن بن أبي الطيب لتقديم بيعتهم، فتلقاهم الوزير أبو موسى ومعه العسكر، وأكرم الواثق وفادتهم، وأجزل صلاتهم، وسمح لهم برؤية إخوانهم من المعتقلين، فاطمأنوا عليهم، ووعدوا بتسريحهم، ثم عادوا إلى منازلهم (2).
وفي الثامن والعشرين من المحرم سنة 666 هـ، تأهب الواثق للعود إلى
_______
(1) البيان المغرب ص 465 و 466.
(2) الذخيرة السنية 126 و 127، والبيان المغرب ص 470(4/565)
حاضرته، وانتظم الموكب الخلافى، في أكمل وضع وأفخمه، على نسق المواكب الموحدية، فحمل المصحف الكريم (مصحف عثمان)، في هودجه بزينته القديمة، وجعلت قلائد الفضة في عنق الجمل الذي يحمله، وجملت البغال بالكسى الجميلة، وارتدى العبيد الذين يقودونها الثياب البيض، وسار الواثق وراء المصحف، ومعه الأهل والقرابة والحاشية، ومن بعدهم الوزراء في الساقة، ومعهم الأعلام الخلافية السبعة، وقبائل الموحدين كل منها رافعة علامتها التقليدية، وسار الموكب على هذا النمط حتى أشرف على الحضرة، فبرزت الناس والفرسان لاستقباله أعظم بروز، وهم يحملون البنود والطبول، واحتشد العرب من سائر البطون، وكان يوماً مشهوداً (1). ولم يكن يخطر يومئذ ببال أحد أن الخلافة الموحدية تشهر آخر مواكبها، وأنه سيكون لها بمثابة موكب الوداع، الذي تنهار من بعده، وتلفظ أنفاسها الأخيرة.
- 2 -
وكان قد مضى عندئذ زهاء عام، مذ دخل أبو العلى إدريس أو أبو دبوس حضرة مراكش، وتبوأ الخلافة، بمعاونة أبي يوسف، ولم تبدر أية بادرة من أبي دبوس، تدل على أنه يعتزم الوفاء بعهوده، وإشراك العاهل المرينى، فيما افتتحه من بقايا الدولة الموحدية القديمة، بمعاونة جنده وأمواله، وعندئذ كتب أبو يوسف إلى أبي دبوس ينذره بوجوب تنفيذ عهوده، وتمكينه من نصف البلاد التي غلب عليها، وفاء بعهوده. وكان أبو دبوس مذ وعده يغمراسن صاحب تلمسان بحلفه ومعاونته، ومذ توالت عليه بيعات القبائل من العرب والبربر، خلال زحفه على السوس، قد شعر بتوطد سلطانه، واشتداد ساعده، واعتزم أن يدافع عن عرشه، وعن تراث الدولة الموحدية. فلما جاءه نذير أبو يوسف، رد رسوله بجفاء، وطلب إليه أن يبلغ سيده، بأن يقنع بما في يده من البلاد، وإلا جرد عليه جنوداً لا قبل له بها، وكتب إلى أبي يوسف كتابا شديد اللهجة، يخاطبه فيه مخاطبة الخلفاء والرؤساء إلى عمالهم. فثار لذلك أبو يوسف، وخرج من فاس في حشود بني مرين والمغرب، وعبر وادي أم الربيع، وزحف على العاصمة
_______
(1) البيان المغرب ص 471 و 472. وهنا ينتهي المجلد الثالث من كتاب " البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب " لابن عذارى المراكشي وهو المخطوط الذي وجد في الخزانة الناصرية بثامجروت بالمغرب وأشرنا إليه في الفصل الخاص بالمصادر. وقد تم نشره بمدينة تطوان بعناية الأستاذ هويسى ميرانده ومساهمة الأستاذين محمد بن تاويت وابراهيم الكتانى (أواخر سنة 1963) وقد كان لنا خلال قيامنا بتأليف هذا الكتاب من أقيم مصادرنا، وأهمها، وأكثرها تفصيلا(4/566)
الموحدية، وهو ينتسف الزروع، ويخرب المنازل والضياع، فاضطربت الأحوال في مراكش، وانقطعت عنها الموارد، وقلت المؤن، وارتفعت الأسعار فامتنع أبو دبوس بالحضرة، وبعث إلى حليفه يغمراسن بن زيان أمير تلمسان، يستغيث به، ومع رسله إليه هدية سنية. فنهض يغمراسن في حشوده، منتهزاً فرصة ابتعاد أبي يوسف بالقوات المرينية، وأخذ يغير على أطراف المغرب الخاضعة لبني مرين، ولاسيما في وادي ملوية، أصل منازلهم، ويعيث فيها تخريباً ونهبا وسلبا. فلما وقف أبو يوسف على ذلك اعتزم لفوره، أن يترك أمر العاصمة الموحدية مؤقتا، وأن يسير لقتال يغمراسن، والقضاء على حركته أولا، ثم يعود لمناجزة الموحدين. ومن ثم فقد غادر وادي تانسيفت، وارتد راجعا في قواته إلى فاس، فأقام بها أياما يستكمل أهبته، ثم غادرها في جموع عظيمة، حسنة الأهبة والسلاح، وذلك في منتصف شهر ربيع الأول سنة 666 هـ وكان يغمراسن في تلك الأثناء قد استكمل من جانبه أهباته، وحشد سائر قواته لملاقاة المرينيين. وسار أبو يوسف نحو وادي ملوية، من طريق أجرسيف أو كرسيف، وكان اللقاء بوادي تلاغ، فنشبت بين الفريقين معركة عنيفة طاحنة، قاتل فيها كلاهما بمنتهى الإقدام والشجاعة، وامتازت بالأخص بمثول النساء في الهوادج والمراكب سافرات بين الفريقين، وتحريضهن للشجعان على الثبات والإقدام، وانتهت بانتصار بني مرين، وهزيمة يغمراسن وقومه بني عبد الواد، وتمزيق صفوفهم، ومصرع جماعة من أكابرهم، وفي مقدمتهم أبو حفص ولد يغمراسن. وفر يغمراسن بفلوله صوب تلمسان، وتبددت جموعه، واستولى بنو مرين على سائر ما في محلته، من السلاح والعتاد والأموال، ووقعت هذه الهزيمة الشنيعة على يغمراسن في الثاني عشر من جمادى الآخرة سنة 666 هـ (1).
وهكذا قضى أبو يوسف، على الجبهة المعادية في مؤخرته، بالقضاء على قوي أمير تلمسان، وارتد بقواته إلى فاس فاستراح بها حينا، وهو يستكمل أهباته للمعركة التالية. ثم غادر فاس في شهر شعبان من نفس العام (666 هـ) في حشود ضخمة، وعبر وادي أم الربيع، وهبط إلى البسائط المؤدية إلى مراكش، وهو يسرح جنده في كل ناحية لانتساف الزروع، وتخريب الضياع، والنهب والسبي، وأنفق بقية سنة 666 هـ في القيام بتلك الغزوات المخربة، ثم غزا عرب الخلط
_______
(1) الذخيرة السنية ص 131 و 132 وابن خلدون ج 7 ص 180(4/567)
ومنازلهم بناحية تادلا، وأثخن فيهم، ومزق جموعهم ثم غزا وادي العبيد، ونفذ إلى منازل صنهاجة، وهي الواقعة في شمالي وادي تانسيفت، وعاث فيها. واستغرقت هذه الغزوات المحلية عاما آخر هو عام 667 هـ (1268 م) (1).
وكان البلاط الموحدي خلال ذلك، قد ساده الاضطراب والجزع، وأخذ أشياخ الموحدين والعرب، يهيبون بأبي دبوس أن ينهض لرد بني مرين، ودفع عاديتهم، بعد أن تفاقم الأمر، وخربت الديار، وقتل الأهل والإخوة أو شردوا، ولم يكن أمام أبي دبوس في الواقع أي سبيل آخر سوى خوض هذه المعركة الحاسمة، فحشد سائر قواته من الموحدين والعرب والأغزاز وبقايا الروم، واجتمع له من ذلك جيش ضخم، وخرج في قواته من مراكش يريد لقاء بني مرين، وكان آخر الخلفاء الموحدين شجاعا مقداما، وكان يعرف أنه سوف يخوض المعركة الأخيرة والحاسمة، فإما أن يكتب له النصر علي بني مرين، وعندئذ يستطيع أن يردهم إلى منازلهم، فيما وراء وادي أم الربيع، وإما أن يلقى هزيمته الحاسمة ويسقط مدافعا عن عرشه وقومه الموحدين. ولما علم أبو يوسف بخروج أبي دبوس في قواته لمحاربته، رأى أن يلجأ إلى خطة لاستدراجه وإبعاده عن قواعده، فارتد في قواته صوب الشمال. وتصور لنا الرواية ارتداد بني مرين، أمام زحف أبي دبوس، في صورة الخدعة الحربية، وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكنه قد يدل من جهة أخرى على أن الأمير المرينى، وقف على ضخامة الجيش الموحدي وحسن استعداده، وأنه خشى أن يخوض معه المعركة الحاسمة، قبل العمل على مطاولته وإنهاكه. وعلى أي حال فقد ارتد أبو يوسف في قواته نحو الشمال، وسار الجيش الموحدي في أثره، وهو يطاوله من موضع لآخر، واعتقد أبو دبوس من جهة أخرى أنه يطارد جيشاً يخشى لقاءه، واستمرت هذه المطاردة حتى وادي غفو، وهنالك وقف بنو مرين واستعدوا للقاء الموحدين. ونشبت في وادي غفو بين الجيشين معركة عنيفة، قاتل فيها الفريقان بمنتهى الشجاعة والجلد، وكان الموحدون يوالون الهجوم علي بني مرين، وأبو دبوس يقود المعركة بنفسه، ولكن بنو مرين ثبتوا كالصخر وقاتلوا بشدة حتى اختلت صفوف الموحدين، وتمكنت جماعة من أنجاد فرسانهم، من تطويق أبي دبوس وصحبه الذين حوله، والتحمت بينهما معركة عنيفة، أثخن فيها أبو دبوس
_______
(1) روض القرطاس ص 204، وابن خلدون ج 7 ص 182(4/568)
خريطة:
تفكك الدولة الموحدية الكبرى والدول التي قامت مكانها في المغرب االأندلس 630 - 660 هـ = 1232 - 1262 م(4/569)
طعناً بالرماح، وسقط صريعا عن جواده، وقتل معه وزيره أبو موسى عمران، وكاتبه علي بن عبد الله المغيلى، ومزقت صفوف الموحدين وبدد شملهم، وسقطت محلتهم، بسائر ما فيها من الأمتعة والأموال، في أيدي بني مرين، واحتز رأس آخر الخلفاء الموحدين، وحمل إلى أبي يوسف، فخر ساجداً شكراً لله على ما أولاه من النصر، وأرسلت الرأس فعلقت على سور فاس " ليعتبر برؤيتها جميع الناس ". ووقعت هذه الهزيمة الساحقة على الموحدين وهلك آخر خلفائهم في يوم الأحد الثاني من شهر المحرم سنة 668 هـ (أول سبتمبر 1269 م) (1).
وعلى أثر هذا النصر الحاسم، سار الأمير أبو يوسف إلى مراكش، وكان قد فر من كان بها من قرابة الخليفة وأشياخ الموحدين، على أثر وقوفهم على نبأ النكبة المروعة، ولجأوا إلى جبال الموحدين في تينملل، وهنالك بايعوا بالخلافة السيد أبا اسحاق أخا الخليفة المرتضى. بيد أنها لم تكن سوى شبح باهت ومهزلة تدعو إلى الرثاء. وفي يوم الأحد التاسع من المحرم سنة 668 هـ، دخل عاهل بني مرين أبو يوسف يعقوب حضرة مراكش في موكب فخم، فاستقبله سائر الأكابر والوجوه، من الفقهاء والقضاة والأشياخ، وبايعوه بالطاعة، والتمسوا إليه الأمان والحماية، فأمنهم أبو يوسف وطمأنهم، وأذاع الأمان لسائر أهل المدينة، وأحوازها فاطمأن الجميع، وسادت السكينة والأمن، واستقرت الأمور، ونزل أبو يوسف بالقصبة، وتم له بفتح مراكش ملك المغرب الأقصى، وقامت على أنقاض الدولة الموحدية الأخيرة، دولة جديدة هي دولة بني مرين الفتية، تسيطر على سائر أنحاء المغرب الأقصى، من وادي ملوية وجبال الأطلس الوسطى شرقا، حتى المحيط الأطلنطى غربا، ومن رباط تازا وجبال غمارة شمالا حتى وادي تانسيفت جنوبا، وتسمى أبو يوسف منذ دخوله حضرة مراكش " بأمير المسلمين "، وخرجت كتبه إلى القبائل بهذا اللقب، وكان قبل ذلك يكتفي بلقب " الأمير " (2).
ولبث أمير المسلمين أبو يوسف يعقوب، مقيما بمراكش إلى شهر رمضان سنة 669 هـ، وهو ينظر في شئونها وينظم أحوالها، وترد إليه الوفود مهنئة من كل صوب، وفي خلال ذلك، بعث ابنه الأمير أبا مالك عبد الواحد في حملة قوية إلى بلاد السوس لغزوها، وإخضاع من بها، من الثوار والقبائل الخارجة
_______
(1) الذخيرة السنية ص 132 و 133، وروض القرطاس ص 205، وابن خلدون ج 6 ص 265 وج 7 ص 182.
(2) الذخيرة السنية ص 134(4/570)
عن الطاعة، فسار إليها، وغزا مختلف نواحيها، واستمر في توغله حتى ماسة، ثغر السوس الأقصى، وفرض الطاعة على سائر النواحي والقبائل، ثم عاد إلى الحضرة. وبعد ذلك خرج أبو يوسف بنفسه، إلى غزو طوائف العرب، التي بسطت سلطانها على منطقة درعة، وملكت حصونها، وعاثت فيها قتلا ونهبا، فسار إليهم في رمضان، واخترق منطقة درعة، واستنزلهم تباعا، وقتل منهم عدداً كبيراً، واستولى على أموالهم ودوابهم، وسبي نساءهم، وافتتح سائر بلاد درعة وحصونها، وقضى في غزوته هذه زهاء شهرين، ثم عاد إلى مراكش في منتصف شهر شوال، فأقام بها فترة قصيرة، وعقد عليها وعلى أعمالها لمحمد ابن علي بن يحيى، وهو من أكابر قرابته ووزرائه، وأنزله بالقصبة، وفوض إليه النظر في شئونها، وعهد إليه بالقضاء على آثار بني عبد المؤمن وتتبع آثارهم أينما كانوا (1). وكان من آثار هذه المطاردة أن قبض في سنة 674 هـ، بأحواز تينملل، على السيد إسحق بن السيد أبي ابراهيم، أخي الخليفة المرتضى، وكان قد نصبه الموحدون هنالك خليفة كما تقدم، وقبض كذلك على ابن عمه السيد أبي الربيع وغيره من القرابة، وسيقوا مع أولادهم إلى مراكش وقتلوا جميعا (2).
وغادر أبو يوسف مراكش في منتصف ذي القعدة (669 هـ) فسار إلى رباط الفتح، وقضى بها عيد الأضحى، ثم أخذ البيعة لولده الأمير أبي مالك بولاية عهده (3)، وعاد بعد ذلك إلى حاضرته فاس.
وعنى أبو يوسف بأمر سبتة وطنجة لما لهما من أهمية بارزة بموقعهما على المضيق، وكونهما معبر المغرب إلى الأندلس، ومعبر الأندلس إلى المغرب، ولاسيما بعد ما ظهر من نيات إسبانيا العدوانية نحو المغرب، منذ غزو سفنها لثغر سلا، فاعتزم الاستيلاء على هذين الثغرين الهامين، وكان ابنه الأمير أبو مالك قد زحف على طنجة في سنة 666 هـ، ولكنها امتنعت عليه، وكان يسيطر على كلا الثغرين، الفقيه العزفي حسبما تقدم ذكره. فسار أبو يوسف في قواته إلى طنجة في أوائل سنة 672 هـ، واستولى عليها، ومنح الأمان لأهلها، ثم بعث ولده الأمير أبا يعقوب في قوة كبيرة إلى سبتة فنازلتها أياما، ثم أذعن العزفى إلى الطاعة، وتعهد بأداء
_______
(1) الذخيرة السنية ص 134 و 138، وروض القرطاس ص 205 و 206، وابن خلدون ج 7 ص 182.
(2) ابن خلدون ج 7 ص 182.
(3) الذخيرة السنية ص 139، وروض القرطاس ص 206(4/571)
الجزية، فتقبل السلطان منه ذلك، وارتد عائداً في قواته إلى فاس (1).
ولم يكن باقيا من قواعد المغرب الأقصى دون فتح سوى سجلماسة، وكانت بيد يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان، وحلفائه من عرب المنبّات من بطون المعقل، فسار إليها أبو يوسف في جيش ضخم، وضرب حولها الحصار، ثم اقتحمها عنوة، وكان افتتاحها في شهر صفر سنة 673 هـ. وتم بذلك افتتاح بني مرين لسائر أمصار المغرب الأقصى وأقطاره، وبسطهم لسيادتهم عليه كاملة شاملة.
ووقعت قبل ذلك في سنة 670 هـ، حروب ومعارك طاحنة بين أبي يوسف ويغمراسن في أحواز تلمسان، ووجدة، كان النصر فيها لأبي يوسف، وهي أحداث ليس من موضوعنا أن نتناولها هنا، لأنها تتعلق بتاريخ بني مرين وبنى عبد الواد، ولا علاقة لها بتاريخ الدولة الموحدية.
أما عبور السلطان أبي يوسف إلى الأندلس بعد ذلك غير مرة، استجابة لنداء ابن الأحمر صاحب غرناطة، وجهاده بها ضد النصارى، وانتصاراته الباهرة في ذلك الميدان، وما كان بينه وبين ابن الأحمر طوراً بعد طور، من التحالف والقطيعة، فقد تناولناه مفصلا في كتابنا " نهاية الأندلس ". وإنما نود أن نشير هنا إلى أن نزول بني مرين ميدان الجهاد بالأندلس، إنما كان قياما بنفس الرسالة التاريخية، التي بدأ بها المغرب منذ عصر المرابطين، وأن بني مرين خلفوا الموحدين، في القيام بأعمال الجهاد في الأندلس، ولكن بعد فوات الوقت، وبعد سقوط معظم القواعد الأندلسية التالدة، في أيدي النصارى، خلال الفترة التي انهار فيها سلطان الدولة الموحدية، وتضاءلت قواها ومواردها بالأندلس ثم المغرب. بيد أن تدخل بني مرين في سير الحوادث بالأندلس، ومناصرتهم لمملكة غرناطة، آخر الممالك الإسلامية بالأندلس، عصراً امتد زهاء ثمانين عاما، كان أكبر عون لها في كفاحها ضد إسبانيا النصرانية، وفي صمودها الطويل، في ميدان الصراع، ولولا عون بني مرين وعبورهم المتوالى إلى شبه الجزيرة، ليشدوا بأزر المملكة الإسلامية الصغيرة، لما كتب لغرناطة كل هذا العمر الطويل الذي عاشته، والذى امتد بعد انهيار الأندلس الكبرى زهاء قرنين آخرين.
وتوفي السلطان أبو يوسف يعقوب المرينى، قاهر الدولة الموحدية ومبيدها
بعد حياة حافلة بالفتوح المظفرة، في أنحاء المغرب، وأعمال الجهاد الجليلة بالأندلس
_______
(1) ابن خلدون ج 7 ص 187(4/572)
وذلك بثغر الجزيرة الخضراء، في المحرم سنة 685 هـ (مارس سنة 1285 م) وقد أسبغت عليه انتصاراته الباهرة بالأندلس لقب المنصور بالله (1).
- 3 -
والآن نقف لحظة تأمل، نحاول فيها أن نستعرض بعض العوامل والأسباب التي أدت إلى سقوط الدولة الموحدية، بعد أن عاشت منذ قيامها، بإعلان المهدي ابن تومرت لإمامته ورياسته، في جبل إيجليز في رمضان سنة 515 هـ، حتى سقوط حاضرتها مراكش، في يد السلطان أبي يوسف يعقوب المرينى في المحرم سنة 668 هـ، مائة واثنتين وخمسين عاما، قضت منها زهاء نصف قرن، في القضاء على الدولة المرابطية بالمغرب، وافتتاح سائر أقطاره، ثم افتتاح إفريقية وثغورها، وافتتاح قواعد الأندلس بعد ذلك، والقضاء على ثورة ابن مردنيش والاستيلاء على مملكة مرسية، آخر مهاد الثورة والمقاومة بالأندلس، وذلك في سنة 567 هـ، وقامت الإمبراطورية الموحدية الكبرى من ذلك التاريخ، تمتد من لوبية وساحل تونس شرقا، حتى المحيط الأطلنطى غربا، ومن ضفاف نهر التاجُه بالأندلس شمالا، حتى وادي درعة وبلاد السوس ومشارف الصحراء الكبرى جنوبا. على أن هذه الإمبراطورية العظيمة المترامية الأطراف، لم تمكث على وحدتها وتماسكها أكثر من نحو نصف قرن، هو الذي يشغله الشطر الأخير من عهد الخليفة عبد المؤمن، وعهد ولده الخليفة أبي يعقوب يوسف، ثم عهد الخليفة المنصور. ومنذ عهد ولد المنصور، الخليفة محمد الناصر (595 - 610 هـ)، تعمل عوامل الانحلال والتفكك، التي بدأت قبل ذلك حتى في عهد المنصور، وحجبتها قوته وعزمه وانتصاراته الباهرة، عملها الفعال، في تقويض دعائم الدولة الموحدية، وتمزيق وحدتها. ويمكننا أن نعتبر موقعة العقاب المشئومة (صفر 609 هـ - يوليه 1212 م) أخطر العوامل الحاسمة، في تسرب هذا الانحلال، إلى ذلك الصرح الشامخ، فقد هزت هذه الكارثة العظيمة أسس الدولة الموحدية إلى الأعماق، وكان ما وقع فيها من إفناء مروع للجيوش الموحدية وسحق لقوى الدولة ومواردها العسكرية، نذيراً واضحاً بانحلالها، وتضعضع قواها، وتضاءل مواردها. ثم جاء عصر الخلفاء الأحداث والخلفاء الضعاف،
_______
(1) راجع في جهاد أبي يوسف وغزواته بالأندلس كتاب " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين " الطبعة الثانية ص 88 - 98(4/573)
وعصر التنافس على عرش الخلافة، والحروب الأهلية المستمرة، وذلك كله في ظل دولة تقتص أطرافها وتنهار مواردها تباعا.
على أن موقعة العقاب الحاسمة، جاءت لتعزز عوامل خطيرة أخرى، كانت تجتمع تباعا، لتحدث آثارها المخربة المادية والأدبية، في صرح الدولة الموحدية. وقد كانت هذه العوامل تعمل عملها حتى في ظل عصر النهضة، وعصر الخلفاء الأقوياء، وقد كان في مقدمة هذه العوامل، نظام الحكومة الموحدية ذاته، وأسلوب الحكم الموحدي. فقد كانت الحكومة الموحدية تقوم على أساس العصبية والقبيلة والأسرة، وكان الخليفة الموحدي وهو رأس الدولة، يجعل من أقطار الدولة وعمالاتها إقطاعات قبلية وعائلية، فلا يتولى الحكم في الأقطار والعمالات سوى السادة من أبناء الخليفة، وأبناء عمومته وقرابته، إلا في أحوال نادرة، وكانت هذه القاعدة تطبق في المغرب والأندلس في وقت واحد. ولم يكن أولئك السادة أو الحفاظ، أو الزعماء القبليين، الذين يتولون الحكم، في المقاطعات والمدن، يتمتعون دائما بمستوى عال، من الكفاية والحزم والنزاهة، وإن كان منهم في أحيان كثيرة، رجال من ذوى المقدرة، والنباهة والعفة، وقادة من أقدر رجال الحرب. ولا شك أن هذا الأسلوب الإقطاعى الضيق، في حكم العمالات والمدن، لم يكن دائماً كفيلاً بتحقيق النظام والأمن والرخاء، أو بالدفاع عن مختلف أقطار الإمبراطورية وثغورها، ومن ثم فقد كشفت حوادث الأندلس وإفريقية، غير بعيد، عن ضعف هذا النظام وقصوره. فأما في الأندلس فقد استطالت إسبانيا النصرانية والبرتغال على الأراضي الإسلامية، ونفذت قشتالة بغزواتها إلى ما وراء جبل الشارات (سيرّا مورينا)، ووصلت جيوشها إلى بسائط قرطبة وإشبيلية، ونفذت مملكة ليون الصغيرة حتى ضفاف نهر وادي يانه، واستطاعت مملكة البرتغال الناشئة من جانبها، أن تستولى على قواعد ما وراء التاجه، وأن تنفذ بغزواتها جنوبا حتى شلب، وشرقا حتى بطليوس. ولم تستطع القيادة الموحدية بالأندلس بالرغم مما كان لديها من الموارد والحاميات العديدة، وبالرغم مما كان يتدفق عليها من القوات من وراء البحر، أن تقمع هذا العدوان المستمر من جانب النصارى، أو أن تقف في وجه الغزوات النصرانية بطريقة ثابتة، بل لم يستطع الخلفاء الموحدون أنفسهم، بالرغم من عبورهم إلى شبه الجزيرة غير مرة، في جيوشهم الزاخرة، وعُددهم الهائلة، حماية الأندلس(4/574)
واسترداد قواعدها وثغورها المفقودة، وكان ما أصابهم من مرارة الإخفاق أكثر مما حققوا من الفتح والنجح، ولم يكن بين غزواتهم الموفقة اللامعة سوى غزوات المنصور وانتصاره الباهر في معركة الأرك العظيمة (شعبان 591 هـ - يوليه 1194 م) وهو انتصار لم تلبث أن محت آثاره هزيمة العقاب الساحقة (609 هـ). وتفاقمت هذه الآثار في الأندلس بقيام الخليفة العادل، خروجا على خلافة أبي محمد عبد الواحد بمراكش، ثم اضطرام ثورة البياسى (621 - 623 هـ)، وجنوحه إلى ممالأة ملك قشتالة، وتسليمه إليه عديد الأراضي والحصون، ثم خروج الخليفة المأمون على أخيه العادل 624 هـ، والتجائه إلى ملك قشتالة، واستعانته بالجند النصارى على تحقيق أمره، وتسليمه بدوره لملك قشتالة طائفة جديدة من الحصون الأندلسية. ويجب أن نضيف إلى ذلك مأساة السيد أبي زيد والي بلنسية وأخى عبد الله البياسى، فقد رأينا ما كان من أمر هذا السيد، حينما نهض الأمير أبو جميل زيان وانتزع منه حكم بلنسية، فقد التجأ إلى حماية ملك أراجون، واعتنق النصرانية وأصبح حربا على أمته ودينه، يسلم للنصارى ما كان بيده من الحصون، ويقودهم إلى غزو الأراضي الإسلامية. وقد كانت هذه الأحداث المبيرة كلها، نذيراً بانهيار الأندلس، وتمزيق وحدتها، وتفكك أوصالها، والتمهيد لسقوط قواعدها الكبرى، وكان في الوقت نفسه نذيراً بفقد الدولة الموحدية لهذا القطر العظيم من أقطارها. وأما في إفريقية، فقد كان غزو بني غانية لثغورها وقواعدها الغنية، وعيثهم في بسائطها، وقتلهم لسكانها وانتهابهم لأموالها، وذلك مدى ثلاثين عاما، وما اضطرت الخلافة الموحدية أن تخوضه من المعارك المستمرة في إفريقية، خلال هذه الفترة، وما تكبدته من الجهود والنفقات الهائلة، في سبيل هذه المعارك، وما هلك من جيوشها في ميدان القتال لمدافعة بني غانية، وللذود عن سلطانها في إفريقية: كان لذاك كله أثر بالغ في تقويض مواردها، وإضعاف قواها. وتخريب قطر من أعظم أقطارها، وأغناها وأزخرها بالموارد. وبالرغم من أن الخلافة الموحدية، استطاعت في النهاية أن تقضى على فورة بني غانية، وأن تسترد منهم سائر الثغور والأراضي الإفريقية، وأن تفتتح ميورقة موطنهم الرئيسي، ومثوى حكومتهم ورياستهم، فإن ذلك لم يكن كافيا لتوطيد سلطان الدولة الموحدية بإفريقية، ولم يكن ليحول دون تيار الحوادث الجارف، وقد كان يندفع بإفريقية إلى قدر آخر غير البقاء في ظل الدولة الموحدية(4/575)
وقد كان انسلاخ إفريقية عن الدولة الموحدية، وقيام الدولة الحفصية بها منذ سنة 627 هـ (1229 م) في الواقع نتيجة لفورة بني غانية، والأحداث العظيمة التي أثارتها، وكان هذا الانفصال، بعد ضياع الأندلس، أخطر ضربة أصابت الإمبراطورية الموحدية من الناحية الإقليمية، ثم تبعتها تلمسان فاستولى عليها يغمراسن بن زيان وقومه من بني عبد الواد، وقامت بها إمارة مستقلة، أخذت في التوطد والنماء، وبذلك فقدت الدولة الموحدية إفريقية والمغرب الأوسط وفقدت في نفس الوقت ثغرى سبتة وطنجة، حيث قامت كلتاهما أولا بالدعوة الحفصية، ثم استقلت سبتة برياسة الفقيه العزفى (سنة 647 هـ) وتبعتها طنجة، فاستقلت برياسة ابن الأمين. وبذلك فقدت الدولة الموحدية سائر ثغورها الشمالية. ثم كانت المرحلة الأخيرة في تفكك الدولة الموحدية، وهي المرحلة التي ظهر فيها بنو مرين، وقوى أمرهم بوادي ملوية، وغلبوا تباعا على أطراف المغرب الأقصى. وفي الوقت الذي شغلت فيه الخلافة الموحدية بمصانعة طوائف العرب من الخلط وغيرهم، ومعالجة غدرهم وخياناتهم، وبقمع الثورة في الأنحاء الجنوبية، كان بنو مرين يتوغلون تباعا في الأنحاء الشمالية. ولما شعر الموحدون بخطر بني مرين، على ما تبقى من إمبراطوريتهم الشاسعة، في المغرب الأقصى، كان الوقت قد فات للتغلب على تلك القوة الناهضة الدافعة، وكان سقوط مكناسة في أيدي بني مرين في سنة 643 هـ، بداية النهاية في ضياع أمصار المغرب الأقصى، وتلتها فاس عاصمة المغرب القديمة التالدة، فسقطت لأول مرة في أيدي بني مرين في سنة 646 هـ، ثم استولوا عليها نهائيا بعد ذلك بعامين، وكان سقوط فاس أعظم أمصار المغرب الأقصى بعد مراكش، عنوان الانهيار الأخير، فلم تمض عشرون عاما أخرى هي عهد الخليفة المرتضى، حتى اجتاح بنو مرين سائر أراضي المغرب الأقصى، فيما وراء وادي أبي رقراق ووادي أم الربيع، واستولوا على سائر تلك المنطقة، ثم كان استيلاؤهم على مراكش في المحرم سنة 668 هـ من يد صنيعتهم أبي دبوس، خاتمة ذلك الصراع المرير المؤلم، وكان خاتمة الدولة الموحدية.
وإذا تركنا العوامل والأسباب المادية جانبا، فإن العوامل الأدبية قد لعبت أيضاً، دوراً في هذه المأساة التاريخية. ذلك أن الدولة الموحدية، قامت على أسس الإمامة المهدية، والعقيدة الموحدية، وكانت هذه الأسس بغض النظر عن حقيقة أمرها، توثق أواصر الزعامة الموحدية، وتجمع كلمة الموحدين القبلية(4/576)
والعقيدية، حول إمامة واحدة، فلما تحولت الإمامة الموحدية، إلى خلافة دنيوية، وانحصرت في بني عبد المؤمن، ضعفت هذه الأواصر العقيدية، التي كانت توثق بين الزعامة الموحدية، ولم يبد الخلفاء الموحدون من بعد عبد المؤمن أية حماسة ظاهرة في تمجيد الإمامة المهدية. وكان الخليفة المنصور بالعكس، يبدى ريبه في صحة إمامة المهدي، وفي عصمته، ولكنه لم يجرأ على أن يحدث أي تغيير ظاهر، في رسوم الإمامة الموحدية. فلما تولى ولده أبو العلا إدريس المأمون الخلافة، كان في ذلك أشد منه جرأة وإقداما، فأصدر مرسومه الشهير بإلغاء الإمامة المهدية، ومحو رسومها وآثارها (627 هـ) وقام بذلك بثورة حقيقية في كيان العقيدة الموحدية. وكان من أثر هذا الاجتراء على محو تراث المهدي ووصيته الدينية، أن خرج معظم الأشياخ الموحدين على خلافة بني عبد المؤمن، ولجأوا إلى منازلهم في جبال المصامدة. وبالرغم من أن هذا الانفصام لم يكن له أثر مباشر من الناحية المادية، فقد كان له من الناحية الأدبية أعمق وقع، وفقدت خلافة مراكش من جرائه كثيراً مما كانت تتمتع به، من التأييد الروحى والقبلى، ولاسيما في منطقة جبال المصامدة وبلاد السوس. فلما كان عهد الرشيد ولد المأمون، وقع التقرب بين الزعماء الموحدين وبين الخلافة الموحدية، وأعاد الرشيد رسوم الإمامة المهدية، وتقاليدها السابقة، إرضاء لهؤلاء الزعماء، وجمعا للكلمة. ولكن الخلافة الموحدية لم تبرأ من ذلك الصدع الذي أصابها، ولم يكن ذلك التقرب الجديد بينها وبين أوليائها القدماء، وثيق العرى، بل كانت تغشاه الريب المتبادلة والحذر الدائم.
وكذلك كان أمر الروابط القبلية بين الخلافة الموحدية، وبين بعض القبائل البربرية القوية، وطوائف العرب من أنصارها القدماء. وقد كانت هسكورة وهي من أقوى هذه القبائل وأكثرها عدداً، تتردد بين تأييد الخلافة الموحدية وبين الخروج عليها، لا بسبب العقيدة أو المبدأ، ولكن لبواعث المصلحة الشخصية، وقد لعبت بذلك دورا هاما في المرحلة الأخيرة، من مصاير الخلافة الموحدية. وأما طوائف العرب مثل عرب الخلط وعرب المعقل وبنى جابر وغيرهم، فقد كان موقفهم من الخلافة الموحدية، موقفاً ذميما مؤلما، ولم يكن يحدوهم في تأييدها أية عاطفة من الولاء الثابت، أو شكر الصنيعة، مهما أغدقت عليهم، وكان تقلبهم في تأييد الجهات المختلفة، لا تمليه سوى البواعث المادية الوضيعة. وكانت أعمال التخريب والعيث والسفك والنهب، هي جل ما يستغرق نشاطهم أينما حلوا، وكانت خياناتهم(4/577)
وتخاذلهم عن نصرة حلفائهم، في مختلف المعارك، مضرب الأمثال، وقد عانت الخلافة الموحدية كثيراً من أعمال غدرهم ونكولهم، وذلك حسبما فصلناه في مختلف المواطن.
ويجب ألا ننسى تبعة الخلفاء الموحدين أنفسهم، في العمل على تقويض أسس سلطانهم ودولتهم. فقد رأينا الخلفاء، منذ وفاة يوسف المستنصر، ينحدرون إلى هاوية الحرب الأهلية، ويشتغلون بالصراع فيما بينهم، حول اغتنام العرش، ويبددون قوي الدولة ومواردها، في معارك أهلية عقيمة، وقد استغرقت معارك المأمون، ثم ولده الرشيد، ويحيى المعتصم، فترة طويلة وموارد زاخرة، في الوقت الذي كان فيه بنو مرين يتوغلون داخل أنحاء المغرب، ويوطدون سلطانهم فيها، وقد اجترأ الموحدون في أواخر عهدهم على قتل خلفائهم، فقتل الخليفة أبو محمد عبد الواحد، ثم قتل خلفه الخليفة العادل، وقتل المأمون أشياخ الموحدين، الذين نكثوا بيعته، وقد كانوا نحو مائة أو تزيد، وقد أفنيت بهذا العمل الدموى، خلاصة الزعامة الموحدية، وانهار نفوذها القوي في توجيه الشئون.
ومما تجدر ملاحظته أن الدولة الموحدية، جازت عهداً طويلا من الانحلال والتفكك، استطال زهاء ستين عاما، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتدرجت في هذا الانحلال أطواراً متعاقبة، فلم يكن سقوطها أمراً سريعاً مفاجئاً، كما حدث في أمر الدولة المرابطية، وإنما كانت كل مرحلة تنبىء عن المرحلة التالية، ومن ثم فإن سقوطها لم يحدث في الأمة المغربية هزة عميقة، كتلك التي أحدثها سقوط الدولة المرابطية، ولم يقع في مراكش أو غيرها من المدن المغربية، عند انهيار الحكم الموحدي، شىء من تلك المناظر المروعة، التي اقترنت بدخول الموحدين مراكش، وغيرها من الحواضر، واستقبلت الأمة المغربية دولتها الحاكمة الجديدة - دولة بني مرين - بشعور الاستبشار والرضى، ولم يلبث أن تألق الحكم الجديد، وسطعت دولة بني مرين الزاهرة، وساد الأمن والنظام، وعم اليسر والرخاء في الحواضر والبوادى، واختفت تلك الهزات والأحداث العنيفة، التي لبثت تعكر صفاء السلم والحياة الوادعة، أكثر من نصف قرن.
- 4 -
وعلى أثر انهيار الدولة الموحدية، انهار ذلك الصرح القبلى الشامخ، الذي كان ينتظم عقده، من سائر قبائل المصامدة، والموحدين، كلما جد الجد أو أقبل الجهاد، فيغدو عماد الجيوش الموحدية الجرارة، وكانت هذه القبائل تنقسم(4/578)
إلى مجموعتين: الأولى قبائل المصامدة، والثانية قبائل الموحدين. فأما المجموعة الأولى، فكانت تضم قبائل هسكورة ودُكالة وهيلانة وحاحة وغيرها، من قبائل المصامدة، وكانت هسكورة أكبر هذه القبائل عددا وأكثرها بطونا، ومن بطونها قبيلة جنفيسة (كنفيسة)، وكانت لضخامتها ووفرة حشودها، تحتل مكانة ملحوظة، بين قبائل الدولة الموحدية، بيد أن أهلها كانت تغلب عليهم البداوة، لا يخالطون الموحدين، فيما انغمسوا فيه من حياة الحضر والترف، بل يؤثرون التزام جبالهم المتشعبة من جبال الأطلس الشامخة، والممتدة في جنوب شرقي مراكش حتى مشارف السوس الأقصى. ولما غلب بنو مرين على الدولة الموحدية ومحوا آثارها، اضطهدوا هسكورة وفرضوا عليها المغارم الثقيلة، فلزموا السكينة، ولبثوا معتصمين بجبالهم، ولم يرتضوا خدمة الدولة الجديدة، ولم يدينوا بدعوتها، وكانت كلما اشتدت عليهم وطأة عسكر بني مرين ردوهم بدفع الإتاوات من آن لآخر. وكان رؤساؤهم يتمتعون بنوع من الاستقلال المحلى، ويحشدون حولهم الحشود لحماية سلطانهم، وتحصيل جباياتهم، ويستعينون أحيانا ببعض قبائل الجبل من أهل بسائط السوس من بطون هسكورة وجنفيسة، وكذلك ببعض بطون العرب مثل بني الحارث من سفيان، والشبانات من عرب المعقل. وهكذا لبثت هسكورة بعيدة عن الولاء لبني مرين، لا تدين بطاعتهم، إلا عن طريق الجزية، كما حدث أيام السلطان أبي الحسن المرينى، وأحيانا تناوئهم متى شعرت بضعف الدولة وتراخيها (1).
وكذلك استقلت بقية قبائل المصامدة غربي مراكش، مثل دكالة وهيلانة وحاحة، بأمرها ورياستها، وكانت منازلهم تمتد غربا حتى شاطىء المحيط (2).
وأما المجموعة الثانية فكانت تضم قبائل الموحدين، ومنازلها على مقربة من مراكش، وكانت منها سبع قبائل امتازت بالسبق والإيثار على غيرها، لاعتناقها دعوة المهدي ابن تومرت، قبل أن يتوطد أمره، أو بعبارة أخرى قبل افتتاح مراكش. وهذه القبائل السبع تنتمى إلى المصامدة، وهي هرغة قبيلة الإمام المهدي، وهنتاتة، وتينملّل وهم الذين بايعوه مع هرغة في بداية أمره، وجنفيسة، وهزرجة، وجدميوة (كدميوة) ووريكة. وتلحق بها قبيلة ثامنة، هي كومية قبيلة الخليفة عبد المؤمن ابن علي كبير صحابة المهدي. وكانت هذه القبائل الثمان لسبقها في البيعة والطاعة، تتمتع بمزايا الإيثار في السلطان والنفوذ، وتولى المناصب والقيام بمهام الأمور. فلما
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 262 و 263.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 264(4/579)
انهارت الدولة الموحدية ضعف أمرهم، وأضحوا من الرعايا العاديين للدولة الغالبة (1). وقد دثرت قبيلة هرغة - قبيلة المهدي - بعد سقوط الدولة بقليل، وفقدت كل مكانة ونفوذ، وكذا كان مصير قبيلة أو أهل تينملّل، وهم الذين نزل بينهم المهدي وأعلن إمامته، وأنشأ داره ومسجده، وكان لهم شأن في مناصب الدولة، وعمالاتها، ولكن رجالاتهم انقرضوا غير بعيد، وملك أمرهم غيرهم من زعماء المصامدة. وكان قبر المهدي لديهم بتينملّل، مايزال حتى العصر الذي كتب فيه ابن خلدون تاريخه، حوالى سنة 780 هـ، مايزال مزاراً مرموقاً، وعلى ما كان عليه من التجلة والتعظيم، يتلى به القرآن والأحزاب باستمرار ويقوم عليه الحجاب والحفاظ، وتترى إليه الوفود من كل فج، وتقدم الصدقات نذرا وتبركا. وكان أهل تينملل ومعهم كافة المصامدة، يعتقدون اعتقاداً جازماً، بأن أمر المهدي سيعود، وأن الدولة ستظهر على أهل المشرق، ويملأ المهدي الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وذلك وفق ما وعدهم به (2).
وأما هنتاتة، فكانت من أشد قبائل الموحدين بأسا وتمكنا في الدولة، وذلك لما كان عليه زعيمها الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتى، أحد الصحب العشرة، من مكانة ملحوظة لدى المهدي، وقد لبث آبناؤه يتبوأون أرفع مناصب الدولة، وانتهى زعيمهم أيام الناصر، الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص، بأن غلب على ولاية إفريقية، ومهد ملكها لعقبه، فأقاموا بها دولة مستقلة عظيمة. ولما انتهت الدولة الموحدية، لبثت هنتاتة في موطنها القديم بجبال درن، على مقربة من مراكش، وكانوا أيام بني مرين، من القبائل الخاضعة لسلطان الدولة الجديدة، يولون عليها من شاءوا لضبطها وتحصيل جبايتها.
وكانت قبيلة جدميوة تابعة لهنتاتة، وتينملل، وجبلهم بجوار جبل هنتاتة، فلما انهارت الدولة افترق أمرهم، وخضع بعضهم لبني مرين، وامتنع البعض الآخر عن الطاعة. وكانت وريكة كذلك من القبائل المجاورة لهنتاتة، وكانت بينهم فتن وحروب مستمرة هلك فيها كثير من الفريقين المتخاصمين (3).
وهكذا كانت الخاتمة المؤسية، لتلك المجموعة من القبائل البربرية والبدوية، التي هزتها دعوة المهدي ابن تومرت إلى الأعماق، ومكنتها من أن تنشىء دولة من أعظم الدول، في الغرب الإسلامي، هي الدولة الموحدية الكبرى.
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 266.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 267، وراجع ما ورد في القسم الأول بشأن قبر المهدي ص 198.
(3) ابن خلدون ج 6 ص 270 و 271(4/580)
الكتاب الحادي عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصْر الموحّدى(4/581)
الفصل الأول قشتالة وليون منذ عهد الفونسو الثامن حتى عهد فرناندو الثالث
ألفونسو الثامن الملقب بالنبيل. الممالك النصرانية الإسبانية في عهده. ألفونسو الثاني ملك أراجون. العلائق بين قشتالة وأراجون. اجتماع ألفونسو الثامن وألفونسو الثاني. تسوية العلائق بينهما وتحالفهما. زواج ألفونسو الثامن من إبنة ملك انجلترا هنري الثاني. ألفونسو الثامن يشهر الحرب على نافارا. غزوه للأراضي الإسلامية. استيلاؤه على قونقة. توثق العلائق بين قشتالة وأراجون. التحكيم بين قشتالة ونافارا. تنظيم فتوح الإسترداد بين قشتالة وأراجون. اضطراب العلائق بين قشتالة ونافارا. وفاة فرناندو ملك ليون. يخلفه ولده ألفونسو التاسع. غزوات القشتاليين لأراضي الأندلس حتى موقعة الأرك. غزوات الموحدين لأراضي قشالة. تحالف ملك قشتالة وبيدرو الثاني ملك أراجون. تعاونهما في محاربة نافارا وليون. استنصار سانشو ملك نافارا بالموحدين. عبوره إلى المغرب وزيارته للخليفة الناصر. غزو ملك قشتالة لنافارا واستيلاؤه على جيبوسكوا. اهتمام البابوية بالتجاء ملكى نافارا وليون إلى الموحدين. مطالبتها بإلغاء زواج ألفونسو التاسع من ابنة عمه برنجيلا. إلغاء هذا الزراج وآثاره. إهتمام ألفونسو الثامن بفتوح الإسترداد. سعيه في جمع كلمة الملوك النصارى. تكتل اسبانيا النصرانية ضد اسبانيا المسلمة. تأييد البابوية والنصرانية لهذا التكتل. عبور الناصر إلى الأندلس. موقعة العقاب ونتائجها المشئومة. غزوات ألفونسو الثامن لأراضي الأندلس. وفاته وخلاله. إصلاحاته الداخلية. ولده الطفل إنريكى يخلفه على العرش. وقوعه تحت وصاية آل لارا. مشروع لزواجه وإلغاء البابوية لهذا المشروع. وفاة إنريكى في حادث. الملكة برنجيلا تنصب ولدها فرناندو الثالث على عرش قشتالة. فرناندو الثاني ملك ليون. يعقد الصلح مع ألفونسو الثامن. وفاته وقيام ولده ألفونسو التاسع في العرش. عقده لمجلس الكورتيس. يعقد الصلح مع قشتالة والبرتغال. زواجه من الأميرة تريسا البرتغالية وإلغاء البابوية لهذا الزواج. تحالفه مع الموحدين. عقد التحالف بين نافارا وليون والموحدين. عود ألفونسو التاسع إلى التفاهم مع قشتالة. زواجه من الأميرة برنجيلا ثم إلغاء هذا الزواج. تردده بين مخاصمة قشتالة ومسالمتها. إجتماع كلمة الملوك النصارى تحت ضغط البابوية. غزوات القشتاليين لقطاع أبدة، ومحاصرة ألفونسو التاسع لقاصرش. قيام فرناندو الثالث في عرش قشتالة أثر وفاة ألفونسو الثامن. محاولة ملك ليون معارضته وانتزاع العرش منه. فشل هذه المحاولة. عقد السلام بين قشتالة وليون. عود ألفونسو التاسع لمحاصرة قاصرش وافتتاحها. استيلاؤه على ماردة وبطليوس. وفاته. يترك العرش لإبنتيه. تنازلهما عنه لفرناندو الثالث. عود اتحاد قشتالة وليون. فرناندو الثالث ملك قشتالة وليون، وخايمى الأول ملك أراجون. اهتمام فرناندو الثالث بفتوح الإسترداد. ظروف الأندلس تمهد لهذه الفتوح. غزوات فرناندو في الأندلس الوسطى. استيلاؤه على أبدة. استيلاؤه على قرطبة وأحوازها. تنافس ابن هود(4/582)
وابن الأحمر على مصانعته. وفاة ابن هود واحتواء ابن الأحمر على معظم تراثه. اهتمام فرناندو بالضغط على ابن الأحمر. ابن الأحمر يعقد الصلح مع فرناندو ويعترف بطاعته. أعظم أعمال فرناندو استيلاؤه على إشبيلية. استيلاؤه على بقية قواعد هذه المنطقة. عنايته بالشئون الداخلية. إصلاحه لنظم الحكم والإدارة. إنشاؤه لجامعة شلمنقة. إنشاؤه لدار الصناعة بإشبيلية. مشروعه في توحيد القوانين القشتالية. إتمام هذا المشروع في عهد ولده ألفونسو العاشر. وفاته وخلاله.
1 - مملكة قشتالة
انتهينا فيما تقدم، من تاريخ الممالك الإسبانية النصرانية حتى وفاة القيصر ألفونسو ريمونديس (1157 م) وما أعقب وفاته من تقسيم مملكته، بين ولديه سانشو وفرناندو، حيث اختص أكبرهما سانشو بعرش قشتالة، واختص الأصغر فرناندو بمملكة ليون وجلّيقية، وما حدث بعد ذلك من وفاة سانشو فجأة في سنة 1158 م، لعام فقط من حكمه، دون أن يترك لوراثة العرش سوى طفل في الثالثة من عمره هو ألفونسو، وما أثارته مسألة الوصاية على هذا الأمير الطفل في قشتالة من حرب أهلية مضطرمة بين أسرتى كاسترو ولارا، استمرت بضعة أعوام، وانتهت حينما بلغ الطفل الحادية عشر من عمره بإعلانه ملكاً على قشتالة، تحت كنف أسرة لارا القوية.
كما تحدثنا فيما تقدم، عن قيام جماعات الفرسان الدينية، في الممالك الإسبانية النصرانية، وعن قيام مملكة البرتغال، واشتداد ساعدها، في عصر ملكها ومنشئها الحقيقي ألفونسو هنريكيز.
ونود الآن أن نتابع تاريخ هذه الممالك الإسبانية النصرانية، خلال العصر الموحدي، وذلك في شىء من الإيجاز، ولاسيما فيما يتعلق بمراحل الصراع، بينها وبين الأندلس المسلمة، أو بعبارة أخرى بينها وبين الدولة الموحدية، صاحبة السيادة على الأندلس في تلك الفترة، وذلك لأننا تتبعنا مراحل هذا الصراع خلال كتابنا بإفاضة وافية.
بدأ ملك قشتالة الصبي ألفونسو الثامن، الملقب بألفونسو النبيل، حكمه حينما بلغ الرابعة عشرة في سنة 1169 م. وكانت إسبانيا النصرانية، تنقسم يومئذ إلى أربع ممالك، هي قشتالة وليون وأراجون ونافارا (نبرّة)، هذا عدا مملكة البرتغال، وكانت تشق طريقها الخاص في غربي شبه الجزيرة، وتتخذ لنفسها سياسة مستقلة، عن باقي الممالك الإسبانية. وكانت قشتالة، بالرغم من انفصال ليون عنها، وقيامها مملكة مستقلة، ما تزال أكبر المالك الإسبانية رقعة،(4/583)
وأوفرها قوة وموارد، تليها في ذلك مملكة أراجون التي اتسعت رقعتها، ونمت قوتها باتحاد إمارة قطلونية أو إمارة برشلونة معها، وذلك منذ سنة 1137 م حسبما سبق أن فصلناه في موضعه. وكانت ليون ثالثة الممالك الإسبانية، بيد أنها لم تكن في الواقع، بالرغم من استقلالها وانفصالها عن قشتالة، وفقاً لوصية القيصر ألفونسو ريمونديس، سوى إمارة ضعيفة تشق طريقها بصعوبة، ولم يكن لها كبير شأن، في سير الحوادث الهامة في شبه الجزيرة، وكان التوتر سائداً بينها وبين شقيقتها الكبرى قشتالة. وكانت نافارا وهي رابعة هذه الممالك كعهدها دائماً، مملكة صغيرة الرقعة، ولكن قوية الشكيمة، ممتنعة وراء جبالها الوعرة، وحرصها المأثور على استقلالها.
وكان على عرش أراجون في الوقت نفسه ملك فتى آخر، هو رامون برنجير الذي سمى ألفونسو الثاني، وقد تولى العرش عقب وفاة أبيه رامون برنجير الرابع في سنة 1162 م، ولقب كأبيه بملك أراجون وقطلونية، وكانت علائق أراجون وقشتالة، منذ أواخر عهد القيصر ألفونسو ريمونديس، على أتم صفاء ووفاق، وذلك لما كان يربط القيصر بعاهل أراجون رامون برنجير الرابع، من وشائج المصاهرة، بزواجه، من ابنته الملكة برنجيلا. وكان أول عمل قام به ألفونسو الثامن، أن اجتمع في ساهاجون بزميله الفتى ملك أراجون ألفونسو الثاني، وذلك في سنة 1170 م، وقد شهد هذا الاجتماع أكابر الأحبار، والأشراف من المملكتين، واتفق الملكان على تسوية سائر الشئون والخلافات القائمة بين المملكتين، وعقدا معا حلفا ضد باقي الملوك والأمراء، ما عدا ملك انجلترا هنري الثاني، وذلك لأن ألفونسو الثامن كان قد عقد خطبته على ابنته الأميرة إلينور، ثم سار الملكان إلى سرقسطة عاصمة أراجون، وقضى ألفونسو الثامن في سرقسطة زهاء شهرين في انتظار مقدم عروسه الأميرة الإنجليزية، وكانت قادمة من انجلترا في حاشية فخمة من الأحبار والفرسان الإنجليز والنورمان والغسقونيين، وكانت قد سارت بعثة ملكية قشتالية، على رأسها أسقف طليطلة حتى ثغر بوردو، وعادت بالأميرة الإنجليزية إلى اسبانيا. وسار الملكان إلى طرسونة حيث عقد زواج ألفونسو الثامن بالأميرة إلينور في حفلات باذخة، في تلك المدينة الأرجونية المتواضعة.
وكانت أول حركة قام بها ألفونسو الثامن هو شهره الحرب على نافارا،(4/584)
وكان سانشو السادس ملك نافارا قد انتهز فرصة قصر ألفونسو، وانتزع جزءاً كبيراً من أراضي قشتالة المجاورة، فلما عقد التحالف بين أراجون وقشتالة، زحف ألفونسو على نافارا في جيش ضخم في صيف سنة 1173 م، واستولى على بريفسكا ولوجرينو وناباريتي، وهزم ملك نافارا، وطارده حتى أحواز بنبلونة. وبعد ذلك بعامين عاد ملك قشتالة وحليفه ملك أراجون، فشهرا الحرب ضد نافارا، وأوقعا بها هزائم أخرى.
وكانت فكرة غزو الأراضي الإسلامية، هي الهدف الأول للسياسة القشتالية. ولم يشذ ألفونسو الثامن عن هذه القاعدة، ففي أواخر سنة 1176 م، خرج ألفونسو ووصيه السابق الكونت نونيو دي لارا، واتجها صوب حدود شرقي الأندلس، وكانت مدينة قونقة إحدى قواعد الحدود الإسلامية، هدف هذه الغزوة، خصوصاً وقد كان الموحدون، يتخذونها قاعدة للإغارة على أراضي شرقي قشتالة، واضطرت القوات القشتالية، نظراً لمناعة المدينة، أن تضرب حولها الحصار، واستمرت قونقة، صامدة نحو تسعة أشهر، ولم تستطع الأمداد الموحدية أن تصل إليها، حيث اعترضتها قوات ملك أراجون حليف ملك قشتالة، وسقطت المدينة المسلمة في النهاية، في أيدي القشتاليين، في سبتمبر سنة 1177 م، وذلك كله حسبما سبق أن فصلناه في موضعه (1).
وجدد ملك قشتالة وملك أراجون تحالفهما، بمناسبة ما أبداه ملك أراجون، من المعاونة في فتح قونقة، وأحلّ ملك قشتالة زميله الفتى، من عهد الولاء الذي كانت ترتبط به أراجون نحو قشتالة، منذ عهد رامون برنجير الرابع. وفي الوقت نفسه اتفق ملك قشتالة مع خصمه سانشو السادس ملك نافارا، على تسوية ما بينهما من خلاف، واتفقا على أن يخضعا في ذلك لتحكيم هنري الثاني ملك انجلترا، وبعث كل من الملكين سفراء إلى لندن، ليعرضا ما بينهما من أوجه الخلاف. وبعد أن درس هنري الثاني، وجوه النظر المختلفة، وأخذ رأى البرلمان في ذلك، أصدر قراره بأن يرد كل من الملكين إلى الآخر بعض القواعد والأراضي، التي كان يدعى كل ملكيتها، وأن يرد ملك قشتالة بالأخص إلى نافارا، لوجرينو وأوسيخو ووناباريتى، وأن يدفع ملك قشتالة لملك نافارا مدى عشرة أعوام ثلاثة آلاف مرافيدى كل عام، فقبل الملكان هذا القرار،
_______
(1) تراجع قصة حصار قونقة وسقوطها في ص 96، 97 من هذا الكتاب(4/585)
وعقد بينهما السلم لمدة عشرة أعوام.
وكانت فكرة التحالف بين قشتالة وأراجون، وهما أقوى الممالك الإسبانية النصرانية، تنطوى قبل كل شىء على التكتل ضد الجبهة الإسلامية في شبه الجزيرة، والتعاون في دفع حركة الإسترداد النصرانية La Reconquista ضد الأندلس، ومن ثم فقد كان لابد من تنظيم هذه الحركة، وتحديد مناطقها بالنسبة لكل من المملكتين، وقد عقد اتفاق جديد من هذا النوع بين الملكين في بلدة كسولا Cazola حيث التقيا، وذلك في سنة 1179 م، وفيه خصت مملكة أراجون بالفتوح في منطقة بلنسية الإسلامية جنوبا حتى ثغر لقنت، وخصت مملكة قشتالة بالفتوح في سائر الأراضي الواقعة جنوب هذا الثغر، وجاء هذا الاتفاق، مؤيداً لأول اتفاق عقد بهذا الشأن، بين القيصر ألفونسو ريمونديس، والكونت رامون برنجير، بمدينة كربون في سنة 1150 م، حسبما سبق أن أشرنا إليه في موضعه (1).
وعقد ملكا قشتالة وأراجون أيضاً، حلفاً جديداً ضد ملك نافارا، لأنه بدأ يعارض في قرارات التحكيم التي أصدرها ملك انجلترا، والتزم كل من الفريقين بتنفيذها، واضطر ملك قشتالة من جراء ذلك أن يحتل لوجرنيو وناباريتى وبريفيسكا وغيرها، وهي الأماكن التي تقرر ردها إلى نافارا، لأن ملك نافارا أبي من جانبه أن يرد الأماكن التي تقرر ردها إلى ملك قشتالة. وقد اقترح ملك أراجون، أن يعقد اجتماع جديد بين الملكين المتخاصمين، وعقد هذا الاجتماع بالفعل في جريدا، في سنة 1185 م، ولكنه لم يسفر عن نتائج حاسمة، واستمر التوتر في العلائق قائما بين نافارا وقشتالة.
وفي سنة 1188 م. توفي فرناندو الثاني ملك ليون وجليقية، وهو كما نذكر عم ملك قشتالة، وخلفه في الحكم ولده ألفونسو التاسع، ورأى ملك ليون الجديد، أن يعدل سياسة الخصومة التي كان يتبعها أبوه نحو قشتالة، وأن يعقد معها أواصر الود، فقابل ألفونسو الثامن في كريون، وقدم إليه طاعته، وأسبغ عليه ملك قشتالة ثوب الفروسية، وهكذا ارتدت ليون إلى التفاهم مع قشتالة، بعد أن لبثت حينا تناصبها العداء.
ولسنا في حاجة لأن نكرر هنا، الحديث عند الغزوات المتوالية، التي قام
_______
(1) راجع ص 509 من القسم الأول من هذا الكتاب(4/586)
بها القشتاليون في أراضي الأندلس، منذ استيلائهم على حصن شنتفيلة في سنة 1182 م، حتى غزوة مطران طليطلة وفرسان قلعة رباح لأراضي جيان وقرطبة في سنة 1191 م، وخروج ملك قشتالة في قواته لاختراق جبال الشارات، وغزو أراضي الأندلس مرة أخرى في سنة 1194 م، على أثر انتهاء أجل الهدنة التي سبق أن عقدها الخليفة يعقوب المنصور، منتهزاً فرصة انشغال المنصور بحوادث إفريقية، وما كان لهذا العدوان من أثر، في تحرك الخليفة الموحدي، وعبوره إلى الأندلس في جيوشه الزاخرة، لقمع هذا العدوان، وما تلا ذلك من نشوب موقعة الأرك العظيمة بين الموحدين وبين قوي قشتالة، وذلك في 18 يوليه سنة 1194 م (9 شعبان سنة 591 هـ)، وهي معركة انتهت بنصر الموحدين الباهر، وذلك كله حسبما فصلناه فيما تقدم من كتابنا.
وقد وضعت هزيمة الأرك، حدا مؤقتا، لتفوق قشتالة العسكرى في شبه الجزيرة، ولنشاطها المخرب في أراضي الأندلس، وكانت فرصة انتهزها سانشو ملك نافارا، فأغار على أراضي قشتالة من ناحية سُرية وعاث فيها، وهذا إلى ما قام به الموحدون من جانبهم، من استردادهم لقلعة رباح، ومن غزوات مخربة متوالية، في منطقة طلبيرة وطليطلة والقلعة، ووادي الحجارة وغيرها، وما قام به ألفونسو التاسع ملك ليون من غزو أراضي قشتالة بمعاونة الموحدين، واجتياحها حتى مدينة كريون، وهي غزوة تعاونت قوات قشتالة وأراجون في دفعها (1).
ولم يجد ملك قشتالة، إزاء هذه الخطوب المتوالية، ملاذا إلا في محالفة أراجون وكان ملكها ألفونسو الثاني قد توفي في سنة 1196 م، وخلفه ولده الملك بيدور الثاني، وتوثقت أواصر هذا الحلف مع أراجون، وغدا ملكها الجديد، أكبر عون لملك قشتالة. وبدت ثمار هذا الحلف في معاونة ملك أراجون لقشتالة في محاربة نافارا وليون وحلفائها الموحدين، وشهر الملكان الحرب على نافارا، ثم على ليون، ونفذت الجيوش المتحدة إلى ليون وعاثت فيها. وترتب على هذه الحرب أن ألغى مشروع زواج ألفونسو التاسع ملك ليون، من الأميرة برنجيلا إبنة ملك قشتالة، وكان ألفونسو الثامن قد جعل مهرها رد الأراضي والحصون التي اقتطعها من ليون.
_______
(1) راجع ص 233 من هذا الكتاب(4/587)
ولما شعر سانشو ملك نافارا، بما يتهدده من جراء هذا الحلف القوي، بين خصميه ملكي أراجون وقشتالة، فكر في الاستنصار بالموحدين على غرار ملك ليون، وعبر البحر وجماعة كبيرة من الفرسان إلى مراكش، ملتجئاً إلى الخليفة المنصور ومستنجدا به، ولكنه ما كاد يصل إلى العاصمة الموحدية حتى كان المنصور قد توفي، وخلفه ولده محمد الناصر (أواخر يناير سنة 1199 م) فاستقبل الناصر الملك النصراني بمنتهى الحفاوة والتكريم، وأمضى سانشو في مراكش زهاء عامين، وتوثقت علائقه بالخليفة الموحدي وبلاطه، حتى كاد وفقاً لقول الرواية الإسلامية، أن يعتنق الإسلام (1)، وفي الرواية النصرانية أن سانشو اشترك خلال إقامته بالمغرب، في حروب الناصر في إفريقية وأبلى فيها (2)، وهو ما لم نجد له أثراً في الرواية العربية.
ويجب أن نذكر أن هذه الزيارة من جانب ملك نافارا لبلاط مراكش، قد تلتها زيارته الأخرى للناصر، عقب عبوره إلى الأندلس في سنة 607 هـ (1210 م)، وقد زاره ملك نافارا خلال إقامته بإشبيلية، وهي الزيارة التي تقدمها إلينا الرواية العربية في عبارات غامضة رنانة في نفس الوقت، وقد سبق أن أشرنا إليها تفصيلا.
وفي خلال ذلك، انتهز ملك قشتالة الفرصة، وغزا أراضي نافارا، وكانت ولاية جيبوسكوا، بالرغم من كونها لبثت دهراً منضمة إلى قشتالة، قد احتلها ملوك نافارا، وضموها إلى مملكتهم، فلما نفذ ألفونسو الثامن بقواته، إلى أراضي نافارا، وحاصر مدينة فتورية، طلب إليه أهل جيبوسكوا، أن تعود ولايتهم إلى أراضي قشتالة، فترك حصار فتورية للدون دي هارو، وسار إلى جيبوسكوا واتفق مع زعمائها على شروط وضعها تحت حماية قشتالة، واحتلت قواته سان سبستيان، وفوانتى رابيا، وحصن بلاسكواجا ووادي اديارسون. كما استولى على مقاطعة ألبة (سنة 1200 م)، وعلى أثر ذلك سلمت فتورية، وذلك بموافقة سانشو نفسه، وكان نائبه أسقف بنبلونة قد عبر البحر إلى مراكش لينبئه بما حدث وعاد بموافقته، وبذلك فقدت نافارا شطراً كبيراً من أراضيها (3).
_______
(1) راجع ص 290 من هذا الكتاب.
(2) Lafuente: Historia General de Espana, T. III. p. 346
(3) Lafuente: ibid ; T. III. p. 346(4/588)
وحاول ملك أراجون في نفس الوقت أن يحصل على نصيبه من أراضي نافارا، فهاجمها بقواته، ولكنه لم يستطع أن بفتتح منها، إلا بضعة أماكن صغيرة. ودافعت بنبلونة، وغيرها من المدن الكبيرة، عن نفسها أعنف دفاع، واستطاعت أن ترد القوي المغيرة على أعقابها.
وقد أثار التجاء ملك ليون ألفونسو التاسع، وملك نافارا سانشو القوي، إلى الموحدين، صدى سيئاً في اسبانيا، واهتمت البابوية، بجنوح هذين الملكين النصرانيين إلى محالفة المسلمين أعداء الدين، وبعث البابا سلستينو الثالث، بسفير خاص من قبله، ليسدى النصح إلى الملكين الخارجين، وليهددهما بصدور القرار بنفيهما من الكنيسة، إذا لم يعدلا عن مسلكهما، فنزل سانشو مرغما على هذا الوعيد، وعقد هدنة مع خصميه، ملكى أراجون وقشتالة، ولكنه نقضها قبل بعيد، ثم توفي البابا سلستينو، وخلفه البابا إنوصان الثالث، فبعث إلى اسبانيا برسول جديد، ليرى على من تقع تبعة هذه الحروب الأهلية المتوالية، بين الملوك النصارى، وليعمل في نفس الوقت على إلغاء زواج ألفونسو التاسع من إبنة عمه الأميرة برنجيلا إبنة ألفونسو الثامن، وكان الزواج قد تم قبل ذلك ببضعة أعوام، واعتبرته البابوية باطلا لشدة القرابة بين الزوجين.
وقد أثارت مطالبة البابوية بإلغاء هذا الزواج، مشكلة قومية في ليون، وخصوصاً بعد أن أصدر البابا إنوصان الثالث قراره بالحرمان الكنسى، وانقسم الأحبار في شأنه، بين مؤيد له، ومنكر لصحته. ومع ذلك فقد عاد البابا، ووافق على تخفيف نصوص الحرمان، وسمح بتنصير أول ولد جاء من هذا الزواج في كنيسة ليون الكبرى. وقد كان هذا الإبن هو فرناندو الذي احتفل الكورتيس بتعيينه وليا للعهد (سنة 1204 م)، والذى غدا فيما بعد فرناندو الثالث ملك قشتالة الكبرى، وفاتح قرطبة وإشبيلية. وبعد ذلك ارتضت الملكة برنجيلا الطلاق من زوجها، وألغى البابا قرار الحرمان الكنسى، وانتهت بذلك مشكلة كانت تهدد سلام ليون وسكينتها.
وكاد الخلاف ينشب من جديد بين قشتالة وليون، بسبب طلاق الأميرة القشتالية، ومطالبة أبيها برد ما استولت عليه ليون من الحصون والأراضي مهراً لها، ولكن تغلب صوت العقل والسلم. وكان ألفونسو الثامن، يشعر بأن مهمته الأساسية هي أن يتفرغ لمقارعة الموحدين، وفتوح الإسترداد La Reconquista(4/589)
وأن يبذل كل ما في وسعه لجمع كلمة الملوك النصارى في شبه الجزيرة، للتعاون في تحقيق هذه المهمة الكبرى، وقد نجح ألفونسو في سعيه. ونحن نعرف أنه كانت تربطه بملك أراجون بيدرو الثاني أواصر التحالف الوثيق، ثم كان أن زاره سانشو السابع (القوي) ملك نافارا في وادي الحجارة (سنة 1207 م)، وتم التفاهم بين الخصمين القديمين، وعقدت بينهما الهدنة والتحالف لمدة خمسة أعوام، ووعد ملك قشتالة بتوسطه لدى بيدرو الثاني لكي يعقد مثل هذه الهدنة مع الملك سانشو (1)، وفي نفس الوقت عقد السلم بين ملكى قشتالة وليون على نسق ما تم في مؤتمر وادي الحجارة، وأخيراً تم التفاهم بين ألفونسو الثامن، وسانشو ملك البرتغال، وتوثق التحالف بينهما بزواج الأميرة أوراكا القشتالية، بألفونسو ولى
عهد البرتغال.
وهكذا اجتمعت الممالك الإسبانية النصرانية كلها في جبهة واحدة، تحت رعاية ملك قشتالة وقيادته.
وكان اجتماع كلمة إسبانيا النصرانية على هذا النحو، لا يقصد به فقط تحقيق سلامها الداخلى، بل كان ينطوي قبل كل شىء على المضي في تحقيق الهدف الرئيسي الذي تدخر له اسبانيا النصرانية كل مواردها وقواها، وهو محاربة اسبانيا المسلمة، ودفع تيار فتوح " الاسترداد " بأقصى ما يستطاع. ولم تكن اسبانيا النصرانية تقف وحدها إزاء هذا الهدف، بل كانت البابوية والنصرانية كلها، تحبو تلك الغاية بعطفها ومؤازرتها الفعلية، ولم تبخل البابوية بأن تسبغ الصفة الصليبية على أية طور من أطوار هذا الصراع، وكان البابا إنوصان الثالث، يشمل بنصحه ورعايته كل حركة تقارب واتحاد بين الملوك الإسبان، وكان فوق ذلك يوعز إلى الأحبار في جنوب فرنسا، أن يبثوا كل دعاية ممكنة، لحشد السادة والفرسان، للتطوع إلى هذه الحرب المقدسة. وقد سبق أن أشرنا في الفصل الذي خصصناه لموقعة العقاب إلى تلك الجهود في حشد قوي النصرانية كلها ضد اسبانيا المسلمة. وكان عبور الخليفة محمد الناصر في جيوشه الجرارة إلى الأندلس في أواخر سنة 607 هـ (1211 م) عاملا جديداً في إذكاء تلك الحركة الصليبية. ولم يلبث ملك قشتالة أن بدأ أهباته لشهر الحرب على الأندلس، وبدأ القشتاليون غزواتهم المخربة للأندلس، وذلك بالرغم من قيام الهدنة بينهم
_______
(1) راجع ص 288 من هذا الكتاب(4/590)
وبين الموحدين، وكان عبور الناصر رداً على هذا التحدى السافر، وبدأ الناصر بالعمل على وقف هذا العدوان، فزحف أولا نحو منطقة جيان واستولى على قلعة شلبطرّة، ثم عاد إلى إشبيلية وضاعف أهباته وحشوده، وخرج للمرة الثانية، من إشبيلية في المحرم سنة 609 هـ (يونيه 1212 م). وكان ألفونسو الثامن، وحلفاؤه الملوك الإسبان، قد استكملوا أهباتهم عندئذ، ووفد لمؤازرتهم سيل من الأحبار والفرسان، والمتطوعة من وراء البرنيه، واتخذت الحرب الصليبية شكلها الحقيقي، والتقت الجيوش النصرانية المتحدة بالجيوش الموحدية في هضبة العقاب أسفل جبال الشارات (سيرّا مورينا)، وكانت الموقعة المشئومة التي هزمت فيها الجيوش الموحدية شر هزيمة، ومزقت شر ممزق، وذلك في الخامس عشر من صفر سنة 609 هـ (16 يوليه 1212 م)، وذلك كله حسبما فصلناه فيما تقدم تفصيلا شافيا.
وكانت نكبة العقاب، نذير انحلال الجبهة الدفاعية الموحدية للأندلس، ونذير انهيار الأندلس ذاتها، وقد عجل بهذا الانهيار، ما اضطرمت به الأندلس على أثر ذلك من ثورات جديدة، ومن تبدد قواها ومواردها الباقية، في حروب أهلية جديدة، ومنافسات على الزعامة، كان لها أسوأ الأثر في تفكك وحدتها، وفي تمهيد الطريق إلى سقوط قواعدها، واقتطاع أراضيها.
ولم يفت اسبانيا النصرانية، بعد أن خرجت من موقعة العقاب، مكللة بغار الظفر الساحق، أن تعمل لاجتناء الفرصة السانحة، وخرج ألفونسو الثامن في ربيع سنة 1213 م، لغزو أراضي الأندلس، من ناحية قلعة رباح، واستولى على بلدة الكرس، وحول مسجدها إلى كنيسة.
وبالرغم مما حدث هذا العام في قشتالة، من تلف الزروع ونفق الماشية، وانتشار القحط، وموت الكثيرين من الجوع والمرض، فإن ملك قشتالة لم يحجم عن استئناف الغزو، وفي تلك المرة اخترق جبال الشارات، وسار منحدراً نحو بيّاسة، وضرب حولها الحصار، ولكن المسلمين كانوا قد أحكموا تحصينها، وطال الحصار، والمدينة صامدة، وحل القحط في المعسكر النصراني، فاضطر ملك قشتالة إلى رفع الحصار، وعاد في قواته إلى طليطلة. ولم تمض بضعة أشهر حتى غادر العاصمة، وسار غربا بقصد لقاء ملك البرتغال ومفاوضته، ولكنه ما كاد يصل إلى بلدة جوتيرى مونيوس، حتى مرض وتفاقم مرضه(4/591)
بسرعة، وتوفي في اليوم السادس من أكتوبر سنة 1214 م.
ويوضع ألفونسو الثامن في ثبت ملوك اسبانيا العظام، وقد أسبغ عليه انتصاره في موقعة العقاب هالة من المجد، وفي ظله احتفظت قشتالة بتفوقها السياسي والعسكرى، على باقي الممالك الإسبانية النصرانية، على نحو ما كانت عليه أيام فرناندو الأول وألفونسو السابع (ألفونسو ريمونديس). وكان هذا التفوق يتخذ أحيانا صفة السيادة على هذه الممالك، وكان يثير لديها كثيراً من المرارة والاحتجاج، ويحملها أحيانا على التحالف ضد قشتالة (1).
وكان ألفونسو الثامن، فضلا عما أحرزه من الظفر العسكرى الباهر، ملكاً مصلحاً، وكان من أثر عنايته بشئون الإصلاح، توسعه في إنشاء البلديات، وتوسيع مهامها واختصاصاتها، وإصداره القوانين الخاصة بذلك Fueros. وقد أنشأ ألفونسو أول جامعة إسبانية هي جامعة بالنسيا، Palencia وذلك في سنة 1209 م، وجلب إليها الأساتذة من فرنسا وإيطاليا. وكان حسبما تصفه الرواية الإسبانية، يتسم بالتقى والورع، وقد أنشأ عدداً من الأسقفيات الجديدة، والأديار الفخمة، وكان من بينها دير برغش الشهير المسمى بالدير الملكي (لاس هويلجاس)، وأسبغ على الكنائس والأديار امتيازات جمة.
وخلف ألفونسو الثامن على عرش قشتالة، ولده هنري الأول (إنريكى) ولما يبلغ الحادية عشرة من عمره، وتولت الوصاية عليه أمه الملكة إلينور، ولكن لأجل قصير فقط، إذ توفيت بعد ذلك بقليل، وعندئذ تولت الوصاية عليه أخته الملكة برنجيلا، مطلقة ألفونسو التاسع ملك ليون، بيد أنها لم تستطع مقاومة أطماع آل لارا الأقوياء في انتزاع الوصاية، وهم الكونت ألبارو نونيز وإخوته، فتنازلت إليهم عنها بشروط خاصة، أقسموا بالعمل على تنفيذها، وخلاصتها ألا يعلن الكونت دي لارا الحرب على أي ملك، ولا أن يعطى أو يتنازل عن الأراضي للاتباع، أو يفرض أية ضرائب دون موافقة الملكة برنجيلا، ولكن الكونت دي لارا لم يحترم عهوده، وكان مقصد آل لارا الأول أن يوطدوا نفوذهم على الملك الصبي، فلما اطمأنوا إلى ذلك، قرروا تزويجه من الأميرة مافالدا إبنة سانشو الأول ملك البرتغال، ولم يكن الملك الصبي قد جاوز
_______
(1) R. Altamira: Historia de Espana y de la Civilizacion Espanola ; T. I. p. 366(4/592)
الثانية عشرة من عمره، وكانت الأميرة قد جاوزت العشرين، ومع ذلك فقد عقد هذا الزواج بالفعل (سنة 1215)، في انتظار بلوغ الملك الصبي سن الرشد. ولكن الملكة برنجيلا وأكابر قشتالة، اعترضوا على هذا الزواج بشدة، ورفعوا أمره إلى البابا إنوصان الثالث، فأصدر البابا قرارا بإلغائه بسبب القرابة بين الزوجين، وعادت الأميرة البرتغالية إلى وطنها، ودخلت أحد الأديار.
وكان الملك الصبي يتوق إلى التحرر من نير آل لارا والعودة إلى أخته برنجيلا. ولكن الكونت ألبارو نونيز حال دون ذلك. ثم سار فضرب الحصار حول قلعة أوتليو وبها برنجيلا وبعض أنصارها، فاستغاثت برنجيلا بزوجها السابق ألفونسو التاسع ملك ليون، فبعث لإنجادها ولدها وولده فرناندو في بعض قواته، فرفع آل لارا الحصار عن الملكة، وساروا إلى بالنسيا، وكان الملك الصبي قد نزل في قصر أسقف بالنسيا، وكان يلعب في فنائه مع بعض صبية في سنه، فرماه أحدهم بحجر أصابه في رأسه بجرح بالغ، لم يلبث أن توفي منه، وذلك في يوم 6 يونيه سنة 1217 م.
فبادرت أخته دونيا برنجيلا باستدعاء ولدها فرناندو وصحبها المخلصين. وسارت إلى بلد الوليد، وهنالك أعلنت نفسها ملكة لقشتالة، ولكنها نزلت في الحال عن العرش لولدها فرناندو، وكان يومئذ فتى في الثامنة عشرة من عمره (أول يوليه 1217) وكان القدر يدخر لهذا الفتى الذي تولى الملك في تلك الظروف المؤسية، مستقبلاً باهراً، حيث غدا هو فرناندو الثالث، قاهر الأندلس، والمستولى على قواعدها الكبرى.
2 - مملكة ليون
لما توفي القيصر ألفونسو ريمونديس في سنة 1157 م، قسمت مملكته بين ولديه، فاختص ولده الأكبر سانشو بملك قشتالة، واختص ولده الأصغر فرناندو بملك ليون. وتوفي سانشو بعد عام واحد من حكمه في سنة 1158، وخلفه على عرش قشتالة ولده ألفونسو الثامن الذي أتينا على سيرته فيما تقدم. أما فرناندو الثاني فاستمر ملكاً على ليون حتى توفي في سنة 1188 م. وفرناندو الثاني هذا هو الذي تعرفه الرواية الإسلامية (بالببوج) وقد لبث خلال حكمه يتردد بين محالفة الموحدين وبين خصومتهم، وكان له في إنجاد الموحدين ببطليوس، وفي التحول إلى خصومهم مواقف متناقضة، سبق أن أتينا عليها(4/593)
في مواضعها. وكان من أهم أعماله تصفية الخصومة بين ليون والبرتغال. وكان ألفونسو الثاني ملك البرتغال قد غزا جليقية، واستولى على بعض مواضع فيها، فسعى فرناندو الثاني إلى عقد الصلح، واجتمع الملكان، واتفقا على أن يتزوج فرناندو بالأميرة أوراكا إبنة ألفونسو الثاني، وأن تكون المواضع التي استولى عليها البرتغاليون في جليقية مهرا لها. وكذلك انتهى فرناندو بأن عقد الصلح مع ألفونسو الثامن ملك قشتالة (سنة 1180 م) بمقتضى معاهدة خططت فيها الحدود النهائية بين المملكتين، ونظمت العلائق بينهما، وعقدت محالفة للتعاون على تحقيق فتوح " الاسترداد " وتعهدت كل منهما ألا تعقد أي صلح أو هدنة مع المسلمين. وكان من أبرز أعمال فرناندو العسكرية حصاره لقاصرش، ثم انسحابه عنها ليسير إلى نجدة البرتغاليين، حينما كان الخليفة أبو يعقوب يوسف يحاصر شنترين. وكانت هذه الحركة، وفقا لبعض الروايات، هي السبب الرئيسي في انسحاب الخليفة الموحدي، وفيما تلا ذلك من نكبة الجيش الموحدي (سنة 1184 م).
ولما توفي فرناندو الثاني في سنة 1188 م، خلفه على العرش ولده ألفونسو التاسع. وفي بداية حكمه وقعت في أنحاء ليون، اضطرابات كان يحركها ويغذيها ملك قشتالة، فدعا الملك لمعالجة الحالة إلى عقد مؤتمر بمدينة ليون، مثل فيه الأحبار والأشراف، ونواب المدن. ويعتبر المؤرخون الإسبان أن هذا المؤتمر كان أول " كورتيس " Cortes أو برلمان إسبانى حقيقي. وكان ألفونسو التاسع، يواجه كأبيه، مشكلة العلائق المتوترة مع جارتيه قشتالة والبرتغال. وكانت قشتالة في الواقع تحتل معظم القواعد الأمامية التي تؤلف خط الدفاع عن ليون، فسعى ألفونسو التاسع إلى الاجتماع مع ابن عمه ملك قشتالة، في كريون، حسبما قدمنا، وعقدت أواصر المودة والتفاهم بين الملكين. بيد أن ألفونسو التاسع لم يكن مخلصاً في هذا الاتجاه الودى نحو قشتالة، إذ كان يشعر دائماً أن قشتالة هي المتجنية على بلاده.
وأما فيما يتعلق بالبرتغال، وتسوية مشكلة الحدود بينها وبين ليون، فقد رأى ألفونسو التاسع أن يرتبط مع ملك البرتغال سانشو الأول، برباط المصاهرة، بعد أن كان قد قطع مثل هذا الوعد لملك قشتالة، وعقد بالفعل زواج ألفونسو التاسع بالأميرة تريسا إبنة سانشو (سنة 1191 م) وذلك بالرغم من القرابة الوثيقة بين الزوجين، إذ كانت أم ألفونسو دونيا أوراكا، هي أخت سانشو. ومن ثم فإن البابوية لم توافق على هذا الزواج، وأصدر البابا سلستينو قراره بإبطاله، وبالتحريم ضد المملكتين، واضطر(4/594)
ألفونسو التاسع أخيراً، بعد أن رزق من هذا الزواج، بثلاثة أولاد، أن ينزل عند إرادة البابوية، وأن ينفصل بالطلاق عن زوجته (1194 م).
وعاد ألفونسو التاسع، أسوة بما فعل أبوه إلى التحالف مع الموحدين. وكانت الممالك الإسبانية النصرانية الأخرى، تشعر كلها في الواقع بالنفور من قشتالة، لما يدعيه ملكها من السيطرة الأدبية عليها، وكان الموحدون في تلك الآونة قد عبروا في حشودهم الجرارة إلى اسبانيا بقيادة الخليفة المنصور، ووقع اللقاء في الأرك بين الجيوش القشتالية بقيادة ألفونسو الثامن وبين الموحدين، وأسفر عن هزيمة القشتاليين وظفر الموحدين الساحق (19 يوليه سنة 1195 م). وعلى أثر ذلك عقد التحالف بين ليون ونافارا، وبين ليون والموحدين، وهوجمت قشتالة من الشرق والغرب (ربيع سنة 1196 م)، ولكن ألفونسو استطاع بمعاونة أراجون في الشرق، والبرتغال في الغرب، أن يصمد ضد هذا الهجوم.
وفي ربيع العام التالي (1197 م) قام الموحدون بغزو أراضي طلبيرة والقلعة ومدريد وقونقة، وقام القشتاليون والبرتغاليون بغزو أراضي ليون وجليقية. ورأى ألفونسو التاسع عندئذ أن يعود إلى مسالمة قشتالة، وأن يعقد معها أواصر المودة والتفاهم. وقد تحقق ذلك بزواجه من الأميرة برنجيلا ابنة ألفونسو الثامن، ولكن البابوية عادت فاعترضت على هذا الزواج الثاني لملك ليون، وطالبت بإلغائه بسبب القرابة، وانتهى الأمر بإلغائه حسبما فصلنا ذلك من قبل.
ولبث ألفونسو التاسع يتردد حيناً بين خصومة قشتالة ومسالمتها، وانتهى الأمر، بعد أن بذلت البابوية ما بذلت من ضغط ووعيد، ومن جهود متوالية في التقريب بين الملوك النصارى، إلى أن نجح ألفونسو الثامن ملك قشتالة فيما بذل من سعى لجمع كلمة الملوك النصارى في شبه الجزيرة (سنة 1207 م) ونزل ألفونسو التاسع عند هذا المسعى، وتم التفاهم بينه وبين خصمه القديم ألفونسو الثامن، وكان من أثر ذلك أن وقف إلى جانبه في معركة العقاب (سنة 1212 م).
وكان ملك قشتالة ألفونسو الثامن، قد خرج في العام التالي لموقعة العقاب (1213 م) لغزو أراضي الأندلس الوسطى، وأقام حيناً على حصار مدينة بياسة، وكان قد اتفق مع زميله ملك ليون أن يقوم من جانبه بغزو قطاع إشبيلية، وأمده في ذلك بقوة من الفرسان القشتاليين. ولكن ألفونسو التاسع، بعد أن سار في قواته نحو قاصرش، وحاول الاستيلاء عليها عبثاً، ومضى في تقدمه نحو ماردة، قرر أن يوقف الغزو(4/595)
نظراً لاقتراب الشتاء، وأن يعود أدراجه. وسار حلفاؤه القشتاليون غاضبين ولحقوا بملكهم، وهو على حصار أبدة، ولكن المدينة المسلمة لبثت صامدة، واضطر القشتاليون بدورهم إلى الانسحاب، والعودة إلى بلادهم (يناير سنة 1214 م).
وفي هذا العام - سنة 1214 م - توفي دون فرناندو ولد ألفونسو التاسع وولي عهده، وهو فتى في الثانية والعشرين من عمره. وكان لألفونسو ولدين آخرين من مطلقته الملكة برنجيلا، هما فرناندو وألفونسو، ولكنه لم يقرر بصفة حاسمة من يخلفه منهما على العرش. ولما توفي ملك قشتالة الصبي هنري الأول في يونيه سنة 1217، بادرت أخته الملكة برنجيلا باستدعاء ولدها فرناندو، وأعلنت في الحال نفسها ملكة لقشتالة، ثم تنازلت على الأثر عن العرش لولدها فرناندو، فأصبح هو ملكاً لقشتالة. وهنا ثارت أطماع ألفونسو التاسع، ورأى وفقاً لنصح بطانته، أن يعلن نفسه إمبراطوراً لقشتالة وليون، وفي الحال دخل قشتالة بجيشه، ولكنه ما كاد يقترب من بلد الوليد، حتى علم بأن ولده فرناندو قد أعلن ملكاً لقشتالة. وبعثت إليه الملكة برنجيلا بعض أكابر الأحبار يرجونه احترام الأمر الواقع، والمحافظة على سلام المملكة، ولكنه لم يصغ إليهم ومضى في سيره نحو برغش. وهنا استعدت الملكة وولدها، وأكابر فرسان قشتالة، لرده، فعندئذ ارتضى ألفونسو، أن يعود أدراجه، بعد أن عقد مع ابنه الهدنة لمدة عامين (نوفمبر 1217 م) وتلتها بعد ذلك معاهدة سلام دائم بين قشتالة وليون عقدت في أغسطس سنة 1218 م. ولما استقر السلام على هذا النحو بين قشتالة وليون، اتجه ألفونسو التاسع إلى العناية بفتوح " الإسترداد " في القطاع الذي خصص من أراضي الأندلس لغزوات ليون. وكانت حملات الغزو من أي الممالك الإسبانية، تتخذ عندئذ صفة الحرب الصليبية، ويشترك فيها بالأخص فرسان الجمعيات الدينية، والمتطوعة الأجانب. ففي أواخر سنة 1217 م، سار ألفونسو التاسع في حملة مختلطة من قوات ليون وقشتالة، وبعض فرسان الجماعات الدينية، وضرب الحصار حول مدينة قاصرش، ولكنه لم يلبث أن رفع الحصار بعد أسابيع قلائل، وكرر ملك ليون وحلفاؤه بعد ذلك حملاتهم لافتتاح هذه القاعدة الإسلامية المنيعة، وانتهى الأمر بسقوطها في أيديهم في صيف سنة 1227 م.
وفي أواخر سنة 1229 م، قام ملك ليون بغزوة جديدة في أراضي الأندلس، واستولى في هذه المرة على حصن منتانجش على مقربة من ماردة، ثم ضرب الحصار حول ماردة، وفي خلال ذلك وصل المتوكل بن هود في قواته لإنجاد(4/596)
المدينة المحصورة، واشتبك الفريقان في معركة هزم فيها ابن هود وارتد في قواته نحو الشرق، وكان من أثر ذلك أن سقطت ماردة وبطليوس في أيدي الليونيين، وذلك في صيف سنة 1230 م (أواسط 627 هـ).
ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك حتى توفي ألفونسو التاسع ملك ليون، وذلك في يوم 24 سبتمبر سنة 1230 م، وكانت مسألة وراثة عرش ليون، هي أهم المسائل المعلقة في الأعوام الأخيرة من حكمه. ذلك أنه لم يرد أن يوصى بعرش ليون إلى ولده فرناندو الثالث ملك قشتالة، ولكنه أوصى به إلى ابنتيه سانشا ودولثى. ولكن هاتين الأميرتين ما لبثتا أن تنازلتا عن العرش إلى أخيهما فرناندو (أواخر سنة 1230 م)، وبذا وحدت مملكة قشتالة وليون مرة أخرى، كما كانتا قبل وفاة القيصر ألفونسو ريمونديس في سنة 1157 م، وعادت قشتالة كما كانت، أعظم ممالك اسبانيا النصرانية وأقواها.
3 - قشتالة وعهد فرناندو الثالث
لما جلس فرناندو الثالث على عرش قشتالة في يوليه سنة 1217 م، ثم على عرش ليون (1230 م) وفقاً للظروف التي شرحناها، وعادت قشتالة بذلك إلى حدودها ووحدتها القديمة، كان القدر يدخر لهذا الملك الفتى، عهدا حافلا بصنوف الفخار والظفر.
وكان من غرائب القدر، أن يقوم على عرش أراجون في نفس الوقت ملك فتىّ آخر، يدخر له القدر مثل هذا المستقبل الحافل، هو خايمى الأول، وبينما كان فرناندو يحقق فتوحه العظيمة المتوالية في أواسط الأندلس، كان خايمى يحقق مثل هذه الفتوح في شرقي الأندلس.
وكان أبرز ما في حكم فرناندو الثالث، هو غيرته في متابعة فتوح الإسترداد Reconquista في أراضي الأندلس، وتكريسه لها كل جهوده وموارده. وقد بدأ بها مبكراً، وكانت أحوال الأندلس التي شرحناها، من انهيار سلطان الموحدين بالأندلس، عقب موقعة العقاب، وما تلاها غير بعيد من اضطرام الحرب الأهلية بين بني عبد المؤمن حول الخلافة الموحدية، وما كان من ثورة البياسى وانضوائه تحت لواء ملك قشتالة، وما أقدم عليه الخليفة المأمون من الاستنصار بملك قشتالة، واستعانته على أمره بالجند النصارى، ثم ما كان بعد ذلك من قيام ابن هود في شرقي الأندلس، وابن الأحمر في الأندلس الوسطى،(4/597)
وتنافس هذين الزعيمين، كل في بسط سلطانه، وفي مصانعة ملك قشتالة وغلبة التفكك والفوضى على شئون الأندلس: كانت هذه الظروف كلها تفسح مجالاً طيباً لنشاط فرناندو ومحاولاته العدوانية ضد الأندلس. ففي سنة 1230 م، غزا فرناندو منطقة أندوجر وجيان، وتوغل في جنوب الأندلس. وفي سنة 1233، غزا أحواز قرطبة وإشبيلية وعاث فيها. وفي نفس هذا العام حاصر مدينة أبدة واستولى عليها. وكان من الواضح أن تضعضع قوي الأندلس، وما يمزقها من المعارك الأهلية، يفسح لأطماع فرناندو أعظم مجال. ومن ثم فإنا نراه، بعد ذلك بعامين يستولي على قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، وذلك في شوال سنة 633 هـ (يونيه 1236 م) ثم يستولي على سائر المدن والحصون القريبة منها، مثل إستجة والمدور وإشتبة وغيرها. ثم نرى ابن هود، وابن الأحمر كل يسعى إلى مصانعته والانضواء تحت لوائه. ولما توفي ابن هود في سنة 635 هـ (1237 م) وخلصت القواعد الجنوبية، غرناطة ومالقة وألمرية لابن الأحمر، كان فرناندو الثالث يلقى بكل ثقله ضد هذا الزعيم الأندلسي، خشية أن تلتف حوله كل القوي الباقية في الأندلس، فيغدو حجر عثرة ضد مشاريعه، ومن ثم نراه يكرر غزواته للأندلس الوسطى التي نشأ فيها ابن الأحمر، وبها موطنه ومثوى أسرته، أرجونة، ونراه يدفع غزواته جنوبا حتى غرناطة ذاتها، ونرى ابن الأحمر نزولا على هذا الضغط الخطير، يضطر إلى عقد الصلح مع ملك قشتالة، وإلى الاعتراف بطاعته، وإلى أن يسلمه مدينة جيان، وعدة كبيرة أخرى من القواعد والحصون (643 هـ - 1246 م)، وذلك كله حسبما فصلناه في مواضعه ولا حاجة بنا إلى تكراره. على أن أعظم أعمال فرناندو الثالث، هو افتتاحه لمدينة إشبيلية أعظم حواضر الأندلس، وذلك في سنة 1248 م (646 هـ)، ولم يكن فتح إشبيلية أمراً هيناً كفتح قرطبة، ولكنه كان محاولة عسكرية وبحرية ضخمة، قاومتها الحاضرة الإسلامية العظيمة، بمنتهى البسالة، وصمدت للحصار المرهق خمسة عشر شهراً، قبل أن تستسلم إلى قدرها المحتوم. وقد فصلنا أطوار هذه المأساة كلها في الفصل الذي خصصناه لذلك (1). وفتح إشبيلية هو الذي أسبغ على فرناندو الثالث أروع آيات مجده، الذي تطنب الروايات القشتالية في الإشادة به.
وقد سقطت على أثر افتتاح إشبيلية، في أيدي القشتاليين، سائر القواعد الواقعة في
_______
(1) وهو الفصل الرابع من الكتاب التاسع ص 465(4/598)
جنوبي الوادي الكبير، مثل أركش وشذونة وشلوقة (سان لوكار) وقادس وغيرها. وبالرغم من أن فرناندو الثالث، أنفق شطراً كبيراً من حكمه، في فتوح القواعد والأراضي الأندلسية، فإنه عنى في نفس الوقت بتنظيم الشئون الداخلية، فأصلح نظم الحكم والإدارة، وأصدر طائفة من القوانين البلدية لعديد من المدن، وعنى بتدعيم الجامعات وتقدمها، وأنشأ جامعة شلمنقة التي لبثت عصورا أعظم الجامعات الإسبانية، والتي ما زالت حتى يومنا تتمتع بكثير من سمعتها العلمية القديمة. ولما افتتح إشبيلية جعل منها عاصمة قشتالة، وأنشأ بها دار صناعة بحرية عظيمة لإنشاء السفن والقطائع الحربية، وفرناندو هو أول من عنى بإنشاء قوة قشتالة البحرية، وقد غدا الأسطول القشتالي منذ أيام ولده ألفونسو العاشر خطراً جديداً، يهدد شواطىء المغرب الشمالية والغربية. بيد أن أهم ما قام به فرناندو في مجال الإصلاح الداخلى، هو تنظيم القوانين وتوحيدها، وقد أنشأ لذلك مجلساً تشريعياً خاصاً من اثنى عشر مشرعاً من أعظم فقهاء الدولة سمى " مجلس قشتالة الملكى " وعهد إليه بأن يضع مجموعة موحدة من القوانين للمملكة كلها، وقطع هذا المجلس في تحقيق المشروع خطوات كبيرة، ولكن فرناندو توفي قبل إتمامه، فقام على إتمامه ولده ألفونسو العاشر، وسميت هذه المجموعة التشريعية " بالبنود السبعة " Siete Partidas وغدت وحدها مرجع التشريع في قشتالة (1).
وتوفي فرناندو الثالث في اليوم الثلاثين من مايو سنة 1254 م، في الرابعة والخمسين من عمره، بعد حكم دام ستة وثلاثين عاما. ويعتبر فرناندو الثالث بما قام به من فتوح واسعة في أراضي الأندلس، وبما استولى عليه من قواعدها العظيمة، ولاسيما قرطبة وإشبيلية، قاهر الأندلس الحقيقي، وتعتبره الرواية القشتالية أعظم ملوك قشتالة، وتشيد بخلاله أعظم إشادة، وقد لبثت سيرته مدى عصور نموذجا للبطولة النصرانية، حتى أن البابوية أسبغت عليه صفة القداسة، وتوج قديساً في سنة 1671 م، على يد البابا كليمنضوس العاشر، وسمى من ذلك التاريخ بالقديس فرناندو (سان فرناندو).
وخلف فرناندو الثالث على عرش قشتالة وليون، ولده ألفونسو العاشر، وهو الملقب بالعالم أو الحكيم El Sabio. وقد تحدثنا عن هذا الملك وعصره وعلائقه مع مملكة غرناطة وبنى مرين، في كتابنا " نهاية الأندلس " فلا حاجة بنا إلى تناوله هنا.
_______
(1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 96(4/599)
الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال منذ أواخر القرن الثاني عشر إلى أواخر القرن الثالث عشر
قيام مملكة أراجون الكبرى. ألفونسو الثاني ملك أراجون. سياسة قشتالة وأراجون الموحدة نحو فتوح الإسترداد. غزوة ألفونسو لأراضي بلنسية. شنتمرية الشرق تحول دون تقدمه. خروجه للغزو ثانية وإنشاؤه لقلعة طرويل. غزوته لأحواز بلنسية ورده. اتفاقه مع ملك قشتالة بشأن شنتمرية الشرق. اتفاق الملكين بشأن مناطق الفتح في شرقي الأندلس. تحالفهما ضد نافارا. فشل أراجون في غزو نافارا وتحالفها مع ليون والبرتغال. وفاة ألفونسو الثاني وجلوس ولده بيدرو مكانه. عقده لمجلس الكورتيس. اتفاقه مع ألفونسو الثامن على مسائل الحدود. تحالفهما في موقعة العقاب. مشروعه في زيارة رومة والتماسه لحماية البابا. البابا يقوم بتتويجه في رومة. اعترافه بطاعة أراجون للكرسى الرسولى. غضب الشعب الأرجونى لمسلكه. إتحاد الشعب والأشراف ضده. سحبه للاعتراف بالطاعة. سيطرة الأشراف الإقطاعيين على المملكة. سعى بيدرو في تخفيف هذا النظام. التنظيم القضائى. غزو بيدرو لأراضي بلنسية. تدخله في الحرب القائمة ضد الألبيين ومصرعه. ولده الطفل خايمى يخلفه. اجتماع الكورتيس واختياره للوصى. ثورة عميه ضده. الحرب بين الفريقين. انتصار خايمى على منافسيه. عقد السلم بين الخصوم. عناية خايمى بأمر الفتح. افتتاحه للجزائر الشرقية. غزواته لأراضي بلنسية. استيلاؤه على بلنسية وقواعد الشرق. تدخله في حوادث مرسية. افتتاحه إياها بالاتفاق مع صهره ألفونسو العاشر. مشروعه في إعداد حملة صليبية إلى المشرق. فشل هذا المشروع. صراع خايمى مع النبلاء. وفاته وخلاله. مصير مملكة نافارا. تربص جارتيها أراجون وقشتالة بها. سانشو السادس وإصلاحاته. ولده شانشو السابع الملقب بالقوى. خوضه لنفس المعارك القديمة ضد قشتالة وأراجون. التهادن والسلم بين الملوك النصارى. سانشو ووراثة العرش. اتفاقه مع خايمى ملك أراجون على أن يكون وارثه. تنحى خايمى وقيام الكونت تيوبالدو ابن أخت سانشو في العرش. تطور مصاير نافارا. عهد كونتات شمبانا. تيوبالدو الثاني وأمه الملكة مرجريتا. التجاؤها إلى حماية خايمى الثاني. مهاجمة قشتالة لنافارا ثم عقد الصلح بين الفريقين. تزوج تيوبالدو من ابنة لويس التاسع. مسيره معه إلى الحرب الصليبية في الشرق. وفاته وقيام أخيه إنريكى مكانه. وقوع نافارا تحت حماية فرنسا. مملكة البرتغال. ألفونسو هنريكيز وإصلاحاته. غزواته للأراضي الإسلامية. وفاته وقيام ولده سانشو الأول مكانه. غزوات سانشو للأراضي الإسلامية. استيلاؤه على شلب واستعادة المنصور إياها. الخلاف بينه وبين البابوية ورجال الدين. وفاته وجلوس ولده ألفونسو الثاني مكانه. الخلاف بينه وبين أخواته الأميرات. استيلاؤه على حصن القصر. النزاع بينه وبين البابوية. وفاته وقيام ولده سانشو الثاني مكانه. عقده الصلح مع رجال الدين ومع الأميرات. غزوه للأراضي الإسلامية. إستيلاؤه على إلفاس وشربه وجلمانية(4/600)
استيلاؤه على شلب وطبيرة. عود النزاع بينه وبين رجال الدين والأشراف. بواعث هذا النزاع. أخواه ألفونسو وفرناندو وعمه بيدرو يؤيدون الثورة ضده. إصدار البابوية قراراً بعزله وتنصيب أخيه ألفونسو مكانه. فراره والتجاؤه إلى ملك قشتالة فرناندو الثالث. محاولة فرناندو معاونته وفشل هذه المحاولة. استيلاء ألفونسو على شنتمرية الغرب وقضاؤه على سلطان المسلمين
في أراضي البرتغال.
1 - مملكة أراجون
قامت مملكة أراجون الكبرى باتحاد أراجون وقطلونية في سنة 1137 م، على يد الكونت رامون برنجير الرابع أمير برشلونة، ولما توفي هذا الأمير في سنة 1162 م، خلفه على العرش ولده ألفونسو الثاني. وبقيام هذا الأمير على رياسة أراجون، يعود إليها ثبت الملوك الأقوياء الذي انقطع بوفاة ألفونسو المحارب في سنة 1134 م. وكانت علائق قشتالة وأراجون على أتم وفاق وصفاء منذ عهد القيصر ألفونسو ريمونديس، وهكذا استمرت العلائق بينهما في عهد ألفونسو الثاني، وزميله الفتى ألفونسو الثامن ملك قشتالة. وكانت تجمع بينهما بالأخص سياسة موحدة نحو فتوح الإسترداد La Reconquista في أراضي الأندلس، وذلك وفق برنامج مشترك تحددت معالمه فيما بعد بين الملكين بمعاهدة كاسولا (سنة 1179 م) التي سبقت الإشارة إليها.
وبدأ ألفونسو الثاني غزواته في الأراضي الإسلامية مبكراً، ففي سنة 1170 م سار جنوبا نحو بداية الوادي الأبيض Guadalaviar، قاصداً أن يخترق مملكة بلنسية، ولكن حال دون تقدمه من تلك الناحية، أن شنتمرية الشرق (1)، وما حولها من المواقع والحصون كانت يومئذ تحت حكم الفارس بيدرو دي أساجرا، وهو من أشراف نبرّة، وكان الأمير محمد بن سعد بن مردنيش قد أقطعه هذه المدينة المسلمة وحصونها، لمعاونات قدمها إليه، ولم يعترف هذا الفارس بطاعة أراجون ولا قشتالة، ولكنه أعلن نفسه حاكماً مستقلا باسم " صاحب شنتمرية الشرق "، واستطاع أن يحصل على موافقة مطران طليطلة، على أن ينشىء بها أسقفية خاصة.
وفي العام التالي (1171 م) خرج ألفونسو الثاني في قواته إلى الوادي الأبيض
_______
(1) وتسمى بالإسبانية Albaracin نسبة إلى بني رزين، الذين حكموها أيام الطوائف، ومن ثم فإنها تسمى كذلك شنتمرية ابن رزين(4/601)
مرة أخرى، وأنشأ في تلك المرة عند منابع هذا النهر، قلعة سميت " طرويل " ومنح من يؤمها هي وأرضها من السكان النصارى، بعض المزايا المغرية، وتقوم اليوم مكانها مدينة طرويل الحديثة.
وفي سنة 1172 م، خرج ألفونسو الثاني في غزوة إلى أراضي بلنسية، منتهزاً فرصة ضغط الموحدين على ابن مردنيش أمير مملكة الشرق أو الملك لوبى كما تسميه الرواية الإسبانية. وفي بعض الروايات النصرانية أن ملك أراجون وصل في زحفه حتى شاطبة وحاصرها، وأن أمير بلنسية عرض أن يدفع إليه الجزية، وأن يساعده في فتح مملكة بلنسية. والحقيقة أن القوات الأندلسية استطاعت أن ترد القوات الغازية سواء في البر أو البحر، ولم تنل القوات الأرجونية من أراضي بلنسية مأربا (1).
وعقد ألفونسو الثاني مع زميله ملك قشتالة اتفاقا بشأن مقاطعة شنتمرية الشرق، نص فيه على أن تغدو مدينة شنتمرية الشرق ذاتها (البراثين) ملكاً لأراجون، وأن تكون حصونها ملكاً لقشتالة. وفي رواية أخرى أن الفارس بيدرو دي أساجرا صاحب شنتمرية الشرق، اعترف بطاعة ألفونسو الثامن.
وفي سنة 1179 م، غزا ألفونسو أراضي بلنسية بجيش ضخم، وحاصر ثغر مربيطر. وكانت هذه الغزوات الأرجونية المتكررة لأراضي شرقي الأندلس مثار التوجس والقلق لدى قشتالة، ومن ثم فقد استدعى ألفونسو الثامن زميله ملك أراجون إلى بلدة كسولا، وعقد الملكان اتفاقهما الذي سبقت الإشارة إليه، بتقسيم مناطق الفتح في شرقي الأندلس، كما عقدا معاً حلفاً لمتابعة الحرب ضد نافارا. ولكن الأمور ما لبثت أن تطورت، وبينما نجح القشتاليون في غزو نافارا من ناحية الغرب، إذ فشل الأرجونيون وردوا إلى أراضيهم بخسارة. وقد أحدث ذلك صدى سيئاً في نفس ألفونسو الثاني، وحقد على زميله الظافر ألفونسو الثامن. ثم ذهب إلى أبعد من ذلك فعقد حلفا مع سانشو ملك نافارا لمحاربة قشتالة (1190 م) وقد انضم إلى هذا التحالف ملكا ليون والبرتغال (1191 م)، ورأى ملك قشتالة في ذلك نذيراً خطراً، إذ كانت الأنباء تترامى إليه في تلك الآونة بالذات بما يقوم به الموحدون من استعدادات عظيمة للعبور إلى شبه الجزيرة، وقد رأينا ما انتهى إليه ألفونسو الثامن من اضطراره إلى لقاء الجيوش الموحدية في الأرك في القوات
_______
(1) راجع ص 52 من هذا الكتاب، وكذلك: A. P. Ibars: Valencia Arabe, p. 532(4/602)
القشتالية وحدها، وما أصيبت به يومئذ من هزيمة فادحة (18 يوليه 1195 م)، وتوفي ألفونسو الثاني في 25 أبريل سنة 1196 م، فخلفه في مملكة أراجون وإمارة قطلونية، ولده الصبي بيدرو، وخلفه في باقي الإمارات الفرنجية، وهي روسيون وبليارش ومونبلييه وغيرها ولده ألفونسو.
وبدأ الملك بيدرو حكمه تحت وصاية أمه دونيا سانشا. وكان أول ما عمله أن دعا إلى اجتماع ممثلى الأحبار والأشراف والفرسان وممثلى الولايات والمدن، بمدينة دروقة في هيئة "كورتيس ". وفي هذا الاجتماع وافق الملك على سائر الحقوق والامتيازات، التي منحها أسلافه لمختلف الهيئات والطبقات. بيد أنه سرعان ما دب الخلاف بين الملك وأمه، ثم سوى بينهما على أن تحتفظ الملكة بملكية البلاد والحصون الواقعة في قطلونية، والتي أوصى زوجها بتركها لها.
وكان ثمة بين أراجون وقشتالة خلاف على بعض مواقع الحدود، فاجتمع بيدرو الثاني وألفونسو الثامن ملك قشتالة على مقربة من طرسونة (1204 م) واتفقا على التحكيم في مسائل الحدود، وقام المحكمون بالمهمة، وسوى الخلاف بين المملكتين.
وقد رأينا فيما تقدم، أن الوئام كان سائداً بين أراجون وقشتالة، منذ عهد القيصر ألفونسو ريمونديس، وأن أواصر هذا الوئام قد توثقت بنوع خاص في عهد الملك بيدرو الثاني، وظهر ذلك في تحالف المملكتين على محاربة نافارا وليون، ثم ظهر في تحالفهما الوثيق ضد الموحدين في معركة العقاب (1212 م). وقد سبق أن أشرنا إلى الدور الذي اضطلع به الملك بيدرو في تلك الموقعة.
وشغل بيدرو الثاني وقتا بشئون أملاكه فيما وراء البرنيه، وهي ولاية بروفانص وبعض الإمارات الفرنجية الأخرى. ولكنه ما كاد يفرغ من هذه الشئون حتى اعتزم أن يزور رومة، وكانت له في مصانعة البابوية والانضواء تحت لوائها، فكرة لم ترق لشعبه. وذلك أنه سار إلى رومة، في عدة من السفن وعرج في طريقه على جنوة وبيزة، ويقال إنه كان يرمى إلى التفاهم مع هاتين الجمهوريتين البحريتين القويتين، على الاتفاق والتحالف على غزو الجزائر الشرقية، وانتزاعها من المسلمين. أما في رومة فقد كانت له أمنية أخطر وأبعد أثراً، وذلك أنه التمس إلى البابا إنوصان الثالث أن يقوم بتتويجه، وقد استجاب البابا لرغبته ومنحه الشارات الملكية، وأسبغ عليه درع الفروسية، وقام بتتويجه في كنيسة(4/603)
القديس بطرس (سنة 1204 م)، ومنحه هو وأعقابه من ملوك أراجون حق التتويج في سرقسطة عاصمة المملكة، وتعهد بيدرو نظير ذلك بأن يحمى الدين الكاثوليكى، وأن يحترم حريات الكنائس وامتيازاتها، وأن يطارد الكفرة، وأن يقيم العدل في سائر بلاده، واعترف ملك أراجون فوق ذلك بأنه تابع للبابا، وأنه يحكم أراجون وقطلونية بمثابة إقطاع من البابوية، وتعهد بأداء الجزية السنوية. وتعهد الكرسى الرسولى من جانبه بأن يدافع البابوات عن أراجون عن طريق سلطانهم الرسولى. وقد كان لذلك أسوأ وقع بين الأرجونيين والقطلان، وأنكروا على الملك أن يقوم بمثل هذا العمل دون موافقتهم، واتحد الأشراف والشعب ضد الملك، وأرغموه على أن يسحب اعترافه بالتبعية للبابوية، ومع ذلك فإن أراجون اضطرت أن تدفع إلى البابوية الجزية التي تعهدت بها. ومن جهة أخرى فقد بدأت معارضة السادة والفرسان فيما بعد لكثير من التشريعات التي حاول بيدرو سنها في شئون الضرائب وغيرها (1).
وكان السادة والنبلاء في أراجون يبسطون سيادتهم على سائر المدن والبلاد الهامة، ويستولون على دخولها، لكي ينفقوا منها على الفرسان التابعين لهم، والذين يقودونهم في الحرب، فكان الأشراف بذلك يسيطرون على قوي المملكة العسكرية، ولا يستطيع الملك أن يفعل بذلك شيئاً لا في السلم ولا في الحرب دون مشاورتهم وموافقتهم، وكانت هذه السيادة الإقطاعية تؤول إلى عقب أصحابها. وقد بذل بيدرو جهوداً شاقة في العمل على تخفيف أوضاع هذا النظام المرهق، ونجح في أن يعدل توزيع هذه السلطات بين الأشراف بصورة أقرب إلى العدالة مع السماح لهم بتوريثها لأعقابهم، ولكنه احتفظ للعرش بالسلطات القضائية، وكان الاختصاص القضائى يمنح للأشراف والفرسان، ولا يسترد منهم إلا لسبب جوهرى، ويُزاول القضاء بالنيابة عن الملك على يد الأساقفة والأشراف. وللمحكوم عليه حق الاستئناف إلى العرش. وكان الحق الوحيد الذي يحتفظ به الأشراف لممارسة القضاء هو أن يكونوا أعضاء في مجلس الملك، أو يعينهم الملك قضاة في المدن والبلاد التي تخضع لسيادتهم.
ولم يغفل بيدرو الثاني العناية بغزو الأراضي الإسلامية، وهي مهمة من مهام السياسة الأرجونية الأساسية، فخرج في حشوده سنة 1210 هـ، وسار جنوبا
_______
(1) R. Altamira: Historia de Espana, T. I. p. 345 & 346(4/604)
صوب أراضي بلنسية، واستولى بمساعدة فرسان الداوية على حصن الديموس، وعدة حصون أخرى من حصون منطقة شنتمرية الشرق.
واضطر بيدرو أن يتدخل في الحرب الصليبية التي شهرها سيمون دي مونفور وزملاؤه السادة الفرنسيون على الملاحدة الألبيين (1)، وذلك لحماية أملاكه فيما وراء البرنيه، وقد كانت مسرحا لهذه الحرب وخربت فيها عدة مدن. وكان من سوء حظه أن سقط في إحدى المواقع التي خاضها ضد سيمون دي مونفور، وذلك في 13 سبتمبر سنة 1213 م.
وترك بيدرو الثاني ولداً وحيداً هو دون خايمى، وكان عند وفاته طفلا حدثاً، وكان محجوزاً لدى سيمون دي مونفور، إذ كان ثمة قبل اضطرام الخصومة بين الفريقين، مشروع لتزويج خايمى بإبنة لسيمون، ولم يفرج سيمون عن خايمى إلا بتدخل شديد من البابوية، فأفرج عنه في العام التالي (1214 م)، واستقبل الأرجونيون والقطلان ملكهم الطفل بابتهاج وحماسة.
واجتمع نواب المملكة في (الكورتيس) في لاردة، واختاروا للوصاية على خايمى أستاذ فرسان الداوية جليم دي مونرادو. ولكن الأمور ما لبثت أن تعقدت إذ ثار عماه دون فرناندو ودون سانشو في محاولة لانتزاع العرش منه، ومن جهة أخرى فقد أعلن كثير من الأشراف استقلالهم، وأخذوا يحاربون بعضهم بعضاً، وعمت الفوضى في المملكة. واستطاع أنصار الملك خايمى أن ينتزعوه من وصيه أستاذ الداوية، وكان يعتقله بقلعة مونتشون، وكان قد بلغ التاسعة من عمره. واضطرم الصراع عندئذ بين حزب خايمى وبين خصومه، وكان يؤازره بالأخص الأشراف القطلان، ونواب الكورتيس، واستطاع خايمى أن يتغلب على منافسيه في العرش، بيد أنه استمر أعواما أخرى يكافح ضد الأشراف الخوارج، وانتهى الأمر بأن عقد بينهما سلم عام، وذلك في شهر مارس سنة 1227 م (2).
وكان الملك خايمي قد بلغ عندئذ نحو العشرين من عمره. وكان يشعر عندئذ أنه بعد أن فرغ من المشاغل الداخلية، يستطيع أن يوجه عنايته إلى تحقيق أطماع الفتح، واقتطاع ما يمكن اقتطاعه من الأراضي الإسلامية في قطاع بلنسية. بيد أنه كان يتوق إلى أن يحقق قبل ذلك أمنيته في افتتاح الجزائر الشرقية. ولقد
_______
(1) راجع الهامش في ص 289 من هذا الكتاب.
(2) A. Altamira: ibid ; T. I. p. 377 & 378(4/605)
تحدثنا فيما تقدم تفصيلا عما قام به خايمى من الاستعداد لافتتاح الجزائر، وما وفق إليه من افتتاحها بين سنتى 1229 و 1232 م. أما عن قطاع بلنسية فلم يكن بخاف على خايمى، ما تجوزه بلنسية، وسائر ثغور هذه المنطقة وقواعدها، من الضعف والفوضى، وافتراق الكلمة، وتوالى المعارك الأهلية الانتحارية. ولقد تحدثنا فيما تقدم كذلك تفصيلا عن حملات خايمى المتوالية على أراضي بلنسية، وافتتاحه تباعا لثغور الشرق وقواعده، وفوزه أخيراً بالاستيلاء على ثغر بلنسية العظيم وذلك في صفر سنة 636 هـ (أكتوبر سنة 1238 م)، ثم استيلائه بعد ذلك على دانية، ثم شاطبة، وجزيرة شقر، وغيرها من قواعد هذه المنطقة، مما كان يدخل في نطاق الفتوحات الأرجونية، وفقاً للاتفاقات التي عقدت لتقسيم مناطق الفتح، في شرقي الأندلس، بين أراجون وقشتالة، وهو ما سبقت الإشارة إليه في موضعه.
وأما مرسية وأحوازها، فقد كان من المتفق عليه أن يكون ضمن حظيرة الفتوح القشتالية. وقد أعلنت مرسية خضوعها بالفعل لملك قشتالة فرناندو الثالث منذ سنة 1241 م، واستقرت فيها حامية قشتالية صغيرة، ولكنها لبثت حينا تستقل بشئونها الداخلية، ويحكمها أعقاب بني هود وغيرهم من الزعماء المسلمين، حسبما سبق أن فصلناه. ولكن تطور الحوادث في مملكة بلنسية واضطراب الأحوال فيها، وثورة المدجَّنين بها، حملت ملك أراجون دون خايمى إلى أن يسعى إلى افتتاح مرسية، وذلك بالاتفاق مع صهره، زوج ابنته ألفونسو العاشر ملك قشتالة، وكانت ظروفه غير مسعفة له على القيام بهذا الفتح، وكان الملك خايمى يخشى من أن مرسية إن بقيت تحت حكم زعمائها المسلمين، تغدو مصدر خطر على سلامة بلنسية، ومن ثم فقد زحف خايمى في قواته على أراضي مرسية واحتل لقنت وألش وغيرهما من قواعدها الأمامية، ثم استولى على مرسية ذاتها، وذلك في سنة 1266 م (665 هـ) وانتهى بذلك حكم المسلمين في شرقي الأندلس.
وحاول خايمى بعد ذلك أن يسير إلى المشرق في حملة صليبية، وجهز بالفعل جيشاً وأسطولاً لتلك الغاية، وخرج في قواته البرية والبحرية متجهاً إلى الشرق في سنة 1269 م، ولكن العواصف الجامحة حطمت معظم السفن الأرجونية، ودفعت بباقيها إلى الشاطىء الفرنسى، فعدل الملك خايمى عن مشروعه وسارت بضع سفن فقط، بها قوة صغيرة من القطلان والأرجونيين وفرسان شنت ياقب،(4/606)
ووصلت إلى ثغر حيفا بالشام، وانضمت إلى من كان هناك من القوات الصليبية في محاربة المسلمين.
وكان الملك خايمي، طوال حكمه، يعانى من عنت النبلاء، ومعارضتهم لكثير من تصرفاته ومشاريعه، وقد لبث معهم في صراع مستمر، لكي يتغلب على عنتهم، ويحطم سلطانهم الإقطاعى القوي، ولكنهم قاوموه، ووقعت الحرب الأهلية بين الفريقين، ولم يهدأ ذلك الصراع إلا حينما تفاقمت الأحوال في مملكة بلنسية، واشتدت بها ثورات المدجنين، وخشى أن يؤدي ذلك إلى ضياع الفتوحات الأرجونية.
وتوفي الملك خايمي في 27 يوليه سنة 1276 م، بعد حكم طويل استطاع فيه أن يضاعف رقعة مملكته أراجون، وأن يقضى على دولة الإسلام في الجزائر وشرقى الأندلس، وهو ما لقب من أجله " بالفاتح ". ويعتبر خايمى الأول مؤسس مملكة أراجون الحقيقي، وموطد استقلالها، وقد قاوم في هذا السبيل مطامع البابوية، ورفض أن يعترف لها بأي نوع من التبعية كما فعل أبوه. وقد عمل كثيراً لإصلاح القوانين، وتنظيم الإدارة والشئون المالية بالمملكة، بيد أنه يوصف بالقسوة وغلبة الشهوات عليه، ومما يؤثر عنه أن كتب تاريخا لحكمه (1).
ولما توفي خايمي قسمت مملكته بين ولديه، فتولى حكم أراجون وقطلونية وبلنسية ولده الأكبر بيدرو، وتولى حكم الجزائر والإمارات الفرنجية فيما وراء البرنيه، ولده الأصغر خايمى، على أن هذا التقسيم لم يدم طويلا.
2 - مملكة نافارا (نبرَّة)
لبث الصراع قائماً دون انقطاع بين نافارا وبين جارتيها من الجانبين، أراجون وقشتالة. وقد تتبعنا فيما تقدم مصاير نافارا، منذ اتحادها مع أراجون تحت حكم ألفونسو المحارب، ثم انفصالها بعد ذلك عند وفاته في سنة 1134 م واستئنافها لحياتها المستقلة، تحت حكم ملكها غرسية راميريس حفيد سانشو الكبير. ولما توفي غرسية في سنة 1150 م، خلفه ولده سانشو السادس الملقب بالعالم. وقد خاض سانشو ضد قشتالة وأراجون بعض الأحداث المماثلة، إذ كان التربص بنافارا سياسة مرسومة تنفذ بالاعتداء عليها كلما سنحت الفرص. وعقد السلم حيناً بين قشتالة ونافارا، نتيجة لتدخل هنري الثاني ملك انجلترا، وتسوية
_______
(1) ويسمى تاريخ الملك خايمي Historia del Rey don Jaime(4/607)
المشاكل الإقليمية بينهما بصورة ارتضتها كل من البلدين (1). واستطاع سانشو بعد ذلك أن يتفرغ حينا لمعالجة الشئون الداخلية لمملكته، فأصدر لمختلف المدن طائفة من القوانين البلدية، وعنى بتنظيم التجارة وتوطيد الرخاء والأمن. ولما توفي سانشو السادس خلفه على العرش ولده سانشو السابع الملقب بالقوى El Fuerte. وقد خاض سانشو السابع نفس المعارك القديمة ضد أراجون وقشتالة وذلك حسبما فصلنا فيما تقدم. وقد أشرنا كذلك إلى ما سعى إليه سانشو من محالفة الموحدين والاستنصار بهم ضد ملكى قشتالة وأراجون، بعد أن تكرر ائتمارهما بنافارا واعتداءاتهم عليها، واقتطاع أراضيها من الجانبين، وإلى ما حدث بعد ذلك من تقارب بين ملوك اسبانيا النصرانية، ومن عقد الوئام والتحالف بين ملك قشتالة ألفونسو الثامن، وسانشو السابع وذلك في اجتماع وادي الحجارة في سنة 1207 م، ثم عقد السلم والتحالف كذلك بين ملكى نافارا وأراجون، وما كان لذلك من أثر في اجتماع كلمة الملوك النصارى، على لقاء الموحدين في جبهة موحدة في معركة العقاب (1212 م)، وهي التي خرجت منها الجبهة النصرانية مكللة بغار الظفر الباهر.
وقد شاء القدر أن تتطور مصاير نافارا على يد سانشو السابع. ذلك أنه لبث قائماً على عرشها بعد موقعة العقاب زهاء عشرين عاما أخرى. وكانت تزعجه مسألة وراثة العرش، لأنه لم يعقب بالرغم من زواجه. وكان يبغض مرشح العرش الوحيد وهو تيوبالدو ابن أخته الأميرة بلانكا وتيوبالدو الرابع كونت شامبانيا. وفي أواخر أيامه ارتد مريضاً إلى تطيلة، وبعث إلى ملك أراجون خايمى الأول يعرب له عن رغبته في تبنيه، وترشيحه لخلافته على العرش، فوافاه ملك أراجون، وعقدت بينهما في تطيلة معاهدة لتحقيق هذا الغرض (فبراير 1231). ثم توفي سانشو بعد ذلك بثلاثة أعوام (1234 م). على أن خايمى لم يحاول أن ينفذ معاهدة تطيلة، ولا أن يسعى للجلوس على عرش نافارا. ذلك أنه كان مشغولا بافتتاح مملكة بلنسية، وبمسائل داخلية كثيرة أخرى، وكان يخشى أن يعرضه الطموح إلى عرش نافارا لمشاكل كثيرة لا قبل له بها، ومن ثم فقد آل عرش نافارا إلى الكونت تيوبالدو دي شمبانيا، ابن أخت سانشو، وكان هذا التحول أول خطوة في انسلاخ نافارا عن حظيرة الممالك الإسبانية النصرانية، ووقوعها تحت نفوذ فرنسا، وابتعادها عن الاندماج في مشاكل شبه الجزيرة الإسبانية. واستمر
_______
(1) راجع ص 585 و 586 من هذا الكتاب(4/608)
حكم تيوبالدو حتى وفاته في سنة 1253 م. وكانت وفاته بالمشرق في الحرب الصليبية السادسة. وكانت أيام حكمه مليئة بالاضطرابات، والخلاف مع شعبه، لأنه لم يتبع في الحكم قواعده المأثورة، ولم يفهم روح الشعب النافارى. وترك تيوبالدو، ولده تيوبالدو وارث العرش طفلا في الخامسة من عمره تحت وصاية أمه الملكة مرجريتا. وعندئذ رأت مرجريتا، اتقاءا لمطامع قشتالة القديمة، أن تضع المملكة تحت حماية خايمى الثاني ملك أراجون، وقطع خايمى على نفسه العهد بحماية نافارا من كل أعدائها، وأن يزوج ابنته كونستنزا لتيوبالدو، فإذا توفي، تزوجت من أخيه الأصغر إنريكى. وتعهدت الملكة مرجريتا من جانبها أن تقف نافارا إلى جانب أراجون ضد سائر أعدائها خلا ملك فرنسا وامبراطور ألمانيا. ووقع ما توقعته الملكة مرجريتا، وقام ملك قشتالة بمهاجمة نافارا، وهرع خايمى في قواته لحمايتها وفقاً لعهوده، وكادت الحرب تنشب بين الملكين بالرغم مما كان يربطهما من رباط المصاهرة الوثيق، ولكن تدخل الأحبار، وعقدت الهدنة بين الفريقين، وهكذا استطاع الملك تيوبالدو الثاني أن يحكم مملكته في سلام (1). ولم يتزوج تيوبالدو إبنة الملك خايمى، ولكنه تزوج إبنة لويس التاسع ملك فرنسا (القديس لويس)، وصحبه إلى المشرق، وخاض معه الحرب الصليبية السابعة، ثم صحبه إلى تونس وتوفي هنالك سنة (1270 م). وحل محله في الحكم أخوه إنريكي
الأول خلال غيابه، فلما توفي أعلن ملكاً لنافارا، واستمر في الحكم أربعة أعوام أخرى ثم توفي سنة 1274 م. واستمرت نافارا بعد ذلك عصراً تحت حماية فرنسا.
3 - مملكة البرتغال
تحدثنا فيما تقدم من تاريخ الممالك النصرانية، عن نشوء مملكة البرتغال، ثم اشتداد ساعدها وتوطد أمرها، في ظل ملكها ألفونسو هنريكيز، وكيف استطاع هذا الملك أن يوطد استقلال مملكته، وأن يحميه ضد دعاوى قيصر قشتالة في السيادة. وقد كان للبابوية، فضل معاونته على اتخاذ صفة الملك المستقل، ومن ثم فقد كان للبابوية نفوذها على العرش البرتغالي. وقد أبدى ألفونسو هنريكيز فوق ذلك، غيرة ملحوظة في إنشاء جماعات الفرسان الدينية، للاستعانة بها في محاربة المسلمين وقام بتنظيم وراثة العرش، ووضع القوانين المدنية والجنائية التي تكفل تحقيق العدل.
_______
(1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 120 & 121 - Altamira: ibid ; T. I. p. 390 & 391(4/609)
وكرس ألفونسو هنريكيز معظم نشاطه لغزو الأراضي الإسلامية، وبدأ بمحاصرة أشبونة وافتتاحها (1147 م)، ثم استولى في نفس الوقت على مدينة شنترين حصنها الشمالي، واستولى على ثغر قصر الفتح أو قصر أبي دانس في سنة 1160 م، ولبث في أيدي البرتغاليين، حتى قام الخليفة يعقوب المنصور باسترداده في سنة 1191 م، ثم غزا بطليوس في سنة 1169 م، واستولى عليها بالفعل، ولكن الموحدين استردوها في الحال بمعاونة حليفهم فرناندو الثاني ملك ليون، واستولى أخيراً على مدينة باجة في سنة 1177 م. وقد أتينا على تفاصيل هذه الغزوات كلها في مواضعها من الكتاب.
ولما توفي ألفونسو هنريكيز في شهر ديسمبر 1185 م، خلفه ولده سانشو الأول. وكان سانشو كأبيه يضطرم حماسة لغزو الأراضي الإسلامية، والقضاء على بقايا الحكم الإسلامي في البرتغال، فقضى أعوام حكمه الأولى في إصلاح البلاد والحصون التي خربتها الحرب، ثم زحف نحو الجنوب، وقام بمحاصرة مدينة شلب أهم القواعد الإسلامية الباقية وافتتاحها، وذلك بمعاونة القوات الصليبية المسافرة إلى المشرق (سنة 1189 م) ولكنه لم يستطع الاحتفاظ بها أكثر من عامين، إذ قام الخليفة المنصور باستردادها من أيدي البرتغاليين في سنة 1191 م، وكان قد غزا أراضي البرتغال قبل ذلك، وقام بزحفه المظفر نحو الشمال (1).
ولم تقع خلال حكم سانشو حوادث خارجية ذات شأن، وهدأ الصراع حيناً بين البرتغاليين والمسلمين. ولبث المسلمون عصراً آخر يحتلون الرقعة الجنوبية من البرتغال، تتوسطها مدينة شلب، والرقعة المتصلة بولاية الغرب، وبها ميرتلة وعدة قواعد أخرى، وشغل سانشو معظم أعوام حكمه بما نشب بينه وبين البابوية من خلاف، أولا يسبب رفضه لأداء الجزية، التي تعهد والده ألفونسو هنريكيز بأدائها للكرسى الرسولى، نظير حمايته ضد دعاوى قشتالة، وثانيا بسبب النزاع المستمر بينه وبين الأحبار، ولاسيما أسقف بورتو، وأسقف قلمرية. وقد أصدر الأساقفة ضده أكثر من قرار بالحرمان الكنسى، وتوفي في مارس سنة 1211 م، ولم يرفع عنه قرار الحرمان إلا بعد موته. فخلفه ولده ألفونسو الثاني وهو الملقب بالبادن لبدانته المفرطة. وفي بداية حكمه نشب الخلاف بينه وبين أخواته. وكان والدهن قد أوصى لهن ببعض القلاع والأراضي، وأبين
_______
(1) راجع ص 170 - 174، وص 187 و 188 من هذا الكتاب(4/610)
أن يعترفن بسيادة أخيهن عليها، وقصدن إلى البابا لحمايتهن، ثم نشبت الحرب بعد ذلك بين الملك والأميرات، وتدخلت البابوية في الأمر، وأصدر مندوبو البابا قراراً بالحرمان ضد الملك، وكاد النزاع يتفاقم. وأخيراً تدخل البابا، وألغى قرار الحرمان، وقضى بأن يُعهد بالأماكن المتنازع عليها إلى فرسان الداوية على أن تكون خاضعة لسيادة الملك، وأن يعطى دخلها للأميرات، فارتضى الطرفان هذا الحل وعاد السلام إلى المملكة.
وكان أهم حدث حربي وقع في عصر ألفونسو الثاني، هو استيلاؤه بمعاونة القوات الصليبية المتجهة إلى المشرق، على ثغر قصر أبي دانس، وذلك في سنة 1217 م (614 هـ) وذلك حسبما فصلناه في موضعه.
وفي الأعوام الأخيرة من حكم ألفونسو، عاد النزاع بينه وبين البابوية بسبب مطاردته لمطران براجا، واعتدائه على امتيازات رجال الدين، وتدخل البابا مرة أخرى وهدد الملك بالحرمان، ولكنه لم يذعن للوعيد، وما لبث أن مرض وتوفي في مارس سنة 1223 م.
فخلفه ولده سانشو الثاني، وبدأ حكمه بأن عقد مجلساً نيابياً في قلمرية عنى بتسوية النزاع بين العرش ورجال الدين، وكذلك عقد الصلح بين الملك وعماته الأميرات وقرر أن يمنحهن مخصصات مجزية، على أن يعترفن بطاعته، وأن تؤول الأراضي والحصون التي لهن بعد وفاتهن إلى العرش. ثم تأهب سانشو بعد ذلك لمنازلة المسلمين، وانتزاع ما بقى بأيديهم من أراضي البرتغال. فاستولى على إلفاس (1226 م)، وافتتح حصني شربة وجلمانية وغيرهما من حصون الحدود الواقعة على ضفة وادي يانه. ثم استولى على ميرتلة، وسلمها لفرسان شنت ياقب، واستولى على شلب (1242 م) ثم استولى أخيراً على ثغر طبيرة (1243 م) في الجنوب، وكان سانشو يستعين في معظم فتوحه بالصليبيين الوافدين، وكانت البابوية، تمده بعونها الأدبى، وتسبغ الصفة الصليبية على حروبه ضد المسلمين. على أن سانشو لم يوفق إلى تدعيم السلام في مملكته. ذلك أن النزاع عاد يضطرم بينه وبين رجال الدين، لأسباب عديدة تلخص في محاولة العرش أن يحتفظ بسلطاته الدنيوية والقضائية، ومحاولة رجال الدين أن يحافظوا على سلطانهم وامتيازاتهم، واختصاصاتهم القضائية. وكانت مبالغة الأحبار في توسيع امتيازاتهم، ينعكس أثرها على امتيازات الأشراف، فيضطر العرش إلى إرهاقهم(4/611)
بمطالبه المالية والعسكرية، فكانت منهم كذلك طائفة كبيرة تنقم على العرش هذا الإرهاق، وكان سانشو يشعر بقصوره عن إخماد هذه النزعات الثورية ضد العرش، خصوصاً وأن البابوية كانت دائماً تصغى إلى شكوى الأحبار وتحريضهم. ومن جهة أخرى فإن سانشو كان دون ولد، وكان أخواه ألفونسو وفرناندو وعمه بيدرو، جميعاً يمالئون الحركة الثورية، سعياً إلى انتزاع العرش من سانشو، وكان أكثر هؤلاء حظاً من التأييد الإنفانت ألفونسو، وكان قد تزوج من الأميرة ماتيلدة صاحبة بولونيا بإيطاليا، وغدا بزواجه أميراً لهذه الولاية، وكان الأحبار، والأشراف الثوار يرون فيه أداة صالحة لتنفيذ خطتهم، خصوصاً وأنه كان يتمتع بعطف البابوية. وانتهى الأمر بأن نجح هؤلاء في سعيهم لدى البابوية، وأصدر البابا إنوصان الرابع في يوليه سنة 1245 م، قرارا بإقالة سانشو الثاني وتنصيب أخيه ألفونسو مكانه في العرش. فقطع ألفونسو على نفسه عهداً باحترام امتيازات رجال الدين، وركب البحر مع طائفة من الأحبار والأشراف البرتغاليين إلى ثغر أشبونة، وفي الحال أعلن ملكاً، واضطر سانشو إلى الفرار، والالتجاء إلى ملك قشتالة فرناندو الثالث، فوعده بتأييده، وبعث معه ولده ألفونسو في جيش جهزه لمقارعة خصومه، ولكن هذه المحاولة انتهت بالفشل، حيث استطاع ألفونسو ملك البرتغال الجديد، أن يقنع الأمير القشتالي، بأنه ارتقى العرش بأمر الكرسى الرسولى، وأن معظم الأحبار والأشراف والشعب إلى جانبه، فارتد القشتاليون أدراجهم دون قتال، وارتد سانشو معهم ليقضى أعوامه الأخيرة، في طليطلة، وهناك توفي في يناير سنة 1248 م.
وتأهب ألفونسو الثالث، بعد أن اطمأن إلى توطيد عرشه، إلى إتمام فتوح ما تبقى بأيدى المسلمين من أراضي البرتغال، وبدأ بحصار قلعة فارو أو شنتمرية الغرب، واستولى عليها في سنة 1249 م، ولم يكن بهذه القواعد الإسلامية الأخيرة سوى حاميات ضئيلة من الموحدين وغيرهم، ثم استولى ألفونسو تباعا على سائر ما كان باقيا بأيدى المسلمين من القواعد، والحصون بهذه المنطقة وبذلك تم القضاء على سلطان المسلمين نهائيا من الأراضي البرتغالية، ولم يكتف ألفونسو الثالث بذلك بل عبر في قواته نهر وادي يانه، ومضى في فتوحه في أراضي ولاية الغرب الأندلسية، ولكنه اضطر فيما بعد أن ينزل عما فتحه من الأماكن في تلك المنطقة لملك قشتالة، إذ كانت داخلة في نطاق الفتوح القشتالية(4/612)
الكتاب الثاني عشر نظم الدولة الموحديّة وخواص العصْر الموحدي(4/613)
الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس وأوضاعها السياسية والعسكرية والإدارية
الدولة الموحدية وقيامها على أسس دينية. الفرق بينها وبين الدولتين المرابطية والفاطمية. الحكومة الإمامية في عهد المهدي. تحول الإمامة الموحدية إلى خلافة دنيوية. صفة الإمامة الشكلية. الأساس القبلى لهيكل الدولة الموحدية. قبائل المصامدة وغيرهم. غلبة نفوذ المصامدة في تسيير الدولة. تصنيف عبد المؤمن لطوائف الموحدين. وضع أسس الحكم الدنيوى الجديد. تخليده في بني عبد المؤمن. اختيار عبد المؤمن لولى عهده. زعمه بأنه يحقق بذلك رغبة القبائل البربرية والعربية. تعيينه أولاده لحكم الولايات. اختصاصهم وأعقابهم بلقب السادة. إيثار القرابة والأصهار بمناصب الحكم والوزارة. ولايات المغرب والأندلس في ظل الدولة الموحدية. إشبيلية قاعدة الحكم الموحدي بالأندلس. بواعث هذا الاختيار. الأسس الأولى للحكم الموحدي حسبما وردت في رسالة عبد المؤمن. ظهور الخلافة الموحدية بحرصها على توطيد العدل. الوزارة الموحدية. نظامها أيام المهدي. خطة الوزارة منذ عبد المؤمن. الوزارة والكتابة. اضطلاع الأبناء والقرابة بالوزارة والحجابة. تعيين الوزراء العاديين. اختيارهم من خاصة القبائل الموحدية. الكتابة من أهم الخطط. اختيار أكابر الكتاب لهذه الخطة. معظمهم من أهل الأندلس. بعض الكتاب الأندلسيين والمغاربة. الخلفاء المتعاقبون وكتابهم. حرص الخلافة الموحدية على بلاغة الترسل. العلامة وديوان العسكر. منصب أشغال البرين وأهميته. وزراء الشئون المالية. ديوان الأعمال المخزنية واختصاصاته. متولى المجابى. متولى المستخلص. صاحب الشرطة. منصب مقدم إرسال ملوك الروم وإنزالهم والترجمة عنهم. سياسة الموحدين في شئون الجباية. رسائل عبد المؤمن في ذلك. تضخم الدولة وتطور سياسة الضرائب. تكسير عبد المؤمن لأراضي الدولة. فرض الخراج وغيره من المكوس. مضاعفة وزن الدينار الموحدي. الأحوال الاقتصادية في بداية الدولة. خراب إفريقية وأثره في تحطيم رخاء المغرب. موقعة العقاب وآثارها الاقتصادية المدمرة. اضطراب شئون الخلافة وأثره. عيث العرب وقبائل البربر. القحط والغلاء. تردد صدى هذه المحن بالأندلس. الحروب الأهلية وغزوات النصارى وآثارها المدمرة. المناصب الدينية. القضاء والتعيين في مناصبه. استئثار قضاة الأندلس بمناصبه في بلادهم. توليهم أحيانا قضاء الجماعة بالمغرب. خطة الشورى. خطة الأحكام. خطة المواريث. حسبة السوق. منصب الخطابة. صاحب الصلاة. متولى شئون طلبة الحضر. تحول الخلافة إلى ملك دنيوى. الاحتفاظ برسوم المهدي. تطور الفكرة المذهبية في عصر المنصور. مرسوم المأمون بإزالة رسوم المهدي ومحو أسطورته. فتكه بالزعامة الموحدية. الرشيد وعوده إلى استرضاء الأشياخ. إعادته لرسوم المهدي. القوة العسكرية الموحدية. الحشود القبلية مصدرها الرئيسي. بداية حشدها أيام المهدي. علم المهدي الأبيض. تضخم الجيوش في عهد عبد المؤمن. تأليف عبد المؤمن للحشود القبلية وتنسيقها. طريقة مسير الجيوش الموحدية. سلا ورباط الفتح مركز(4/614)
لتجمع الجيوش الموحدية. مراكز التموين. طريق العبور إلى شبه الجزيرة. خطة المربع الموحدي ومنعتها. طوائف العرب بعد الحشود القبلية. عبد المؤمن يضع خطته لاستمالة العرب. مساعى ولده الخليفة أبي يعقوب في ذلك. العرب يؤلفون جناحا خاصا في الجيوش الموحدية. هدف السياسة الموحدية في حشد العرب. تقلبهم وعدم ولائهم. دورهم في الحرب الأهلية. القوات الأندلسية ودربتها وولاؤها. الخليفة قائد الجيش العام. المؤتمرات الحربية. ساقة الجيش وقبة الخليفة. الاستعانة بالمرتزقة النصارى. البنود والطبول. الإنعام والبركات. المطوعة ونظامهم. القوي البحرية. عناية الموحدين بإنشاء القطائع. أهمية الأسطول ودوره في حماية الشواطىء. مراسى الأسطول. إدارة شئون الجيش. ديوان العسكر. ديوان التمييز. التمييز وتطور غايته. الحج إلى تينملل. الثغرات في الجيش الموحدي. فوضى القيادة. اختلال التموين. تفوق الموحدين في فنون الحصار والآلات المدمرة. المدافع البدائية. تفوقهم في فن التحصينات. موقعة العقاب وانهيار الدفاع بالأندلس. انشغال الموحدين بالتنافس على الخلافة. توثب الممالك النصرانية. الحكومة الموحدية بالأندلس. ميلها إلى الطابع المدنى. أقسام الأندلس الإدارية. السادة والقرابة يتولون حكم الولايات. إشبيلية مركز الحكم الموحدي والحاكم العام. البلاط الموحدي بإشبيلية. حكومات الولايات المحلية. عناصر هذه الحكومات. استخدام السادة لكتاب الأندلس. إشبيلية مركز تجمع الجيوش المحلية الغازية. القوات الأندلسية. قيادتها ودورها في الدفاع والحراسة. مملكة الشرق. احتفاظها بالطابع الأندلسي. كونها أول مركز لقيام الحركات القومية. اللون الانتحارى لهذه الحركات. مصانعة زعمائها للنصارى واستمدادهم. حكومة إشبيلية بعد انهيار سلطان الموحدين. الاضطراب والفوضى في الأندلس.
الآن وقد انتهينا من استعراض تاريخ الدولة الموحدية، بالمغرب والأندلس، منذ قيامها على يد إمامها المهدي ابن تومرت، حتى انحلالها وسقوطها، على يد آخر خلفائها، أبي العلى إدريس الملقب بأبي دبوس، فيما يملأ نحو قرن ونصف قرن، نحاول في هذا الفصل، أن ندرس طبيعة النظم، التي سارت عليها الدولة الموحدية، في حكم تلك الإمبراطورية العظيمة، خلال هذا المدى الطويل من الزمان.
قامت الدولة الموحدية، حسبما رأينا، على أسس دينية محضة، وهي في ذلك قرينة الدولة المرابطية، التي قامت كذلك على أسس دينية. ولكن شتان بين الحالتين. ذلك أن الأساس الدينى، الذي قامت عليه الدولة المرابطية، كان أساس العقيدة الدينية، والجهاد في سبيل نشرها. ولكن الدولة الموحدية، تمتاز باستنادها إلى أسس الإمامة الدينية، ونظرية المهدي المنتظر، وهي في ذلك تضارع الدولة العبيدية الفاطمية. بيد أنها بالرغم من اشتراكها مع الدولة الفاطمية في وحدة المصدر، وهو الدعوة الشيعية، تمتاز باستقلالها عن الحركة الشيعية المشرقية، وبصفتها المغربية المحلية.
وامتازت رياسة الدولة الموحدية، في البداية، بإمامة منشئها المهدي(4/615)
ابن تومرت، ولم تتخذ في حكمها مدى العشرة أعوام، التي لبثها المهدي على رياستها أي طابع آخر، وكانت هذه الإمامة مصدر السلطات الدينية والسياسية معاً. وكانت الحكومة الموحدية عندئذ، عبارة عن ثيوقراطية (حكومة دينية) يعاون الإمام فيها، صحبه العشرة الأوائل، المسمون بالجماعة، فيما يمكن أن نصفه بالوزارة، وكان هؤلاء يضطلعون بمشورة الإمام في جلائل الأمور، بيد أنه كان يوجد إلى جانب هؤلاء، أفراد آخرون من ذوى النفوذ، كان الإمام يرجع إليهم في تدبير الشئون، وذلك حسبما يخبرنا ابن القطان (1)، ثم كان هناك من صحب المهدي أهل خمسين، وهؤلاء يشتركون في بحث الشئون الأقل أهمية، ثم أهل سبعين، ويشتركون أيضاً في بحث الشئون العادية.
فلما توفي المهدي، في رمضان سنة 524 هـ (أغسطس سنة 1130 م) عقب هزيمة أنصاره الساحقة في موقعة البحيرة، بأشهر قلائل، وخلفه في رياسة الموحدين كبير صحبه وآثرهم لديه عبد المؤمن بن علي، وبزغ نجم الموحدين بعد ذلك على يد عبد المؤمن، واستمروا في صراعهم ضد المرابطين، حتى انتهوا بسحق دولتهم، وذلك بالاستيلاء على حضرة مراكش، في شوال سنة 541 هـ (مارس 1147 م)، واستكملت الدولة الموحدية بذلك سيادتها، على سائر أنحاء المغرب، لم يكن ثمة بد، من أن تتحول الإمامة الموحدية إلى خلافة دنيوية. وبالرغم من أن الإمامة الموحدية، لم تفقد في ظل هذا التحول صفتها الدينية، ولا اعتبارها كشعار للدولة الموحدية، فإنها لم تكن عندئذ سوى عنوان إسمى يتوج الخلافة الجديدة. والواقع أن الخليفة عبد المؤمن، هو المنشىء الحقيقي للدولة الموحدية الكبرى، وعلى يديه، توطد سلطانها بالمغرب وإفريقية والأندلس، وفي ظله تحولت الخلافة الموحدية شيئاً فشيئاً، من إمامة دينية إلى ملك سياسى باذخ، وذلك مع الاحتفاظ دائماً برسوم الإمامة المهدية، وتعاليم المهدي الدينية، والدعاء له في الخطبة، وفي المكاتبات الرسمية، ووصفه دائما "بالإمام المعصوم، المهدي المعلوم ". ومن ذلك الحين، نستطيع أن نتتبع ملامح النظم الموحدية، وطبائع الحكم الموحدي، بصورة واضحة. ويجب أن نذكر أولا، أن هيكل الدولة الموحدية الأساسى، كان يقوم منذ البداية، على أسس قَبَلية، وذلك سواء من الناحية المدنية أو العسكرية. وكانت القبائل، التي يرتكز إليها هذا الهيكل، ينتمي
_______
(1) نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره، لوحة 10 ب و 33 ب) وراجع ص 196 من هذا الكتاب(4/616)
معظمها إلى مصمودة، ومنها القبائل السبع الأولى، التي اتسمت بالصفة الموحدية، وكانت أسبق القبائل إلى مبايعة المهدي، وهي هرغة قبيلة الإمام المهدي ذاته، وهنتاتة، وأهل تينملل، وجنفيسة، وهزرجة، وجدميوة، ووريكة، ويلحق بهذه القبائل التي اكتسبت قبل غيرها صفة التوحيد، قبلة كومية وهي قبيلة الخليفة عبد المؤمن، وكذلك مجموعة أخرى من قبائل المصامدة القوية، مثل هسكورة، ودُكاله، وهيلانة، وحاحة، وغيرها، ومن غير المصامدة، زناتة تيفسرت وصنهاجة القبلية (1). وقد انضم بعض هذه القبائل، إلى العصبة الموحدية بطريق الفتح، مثل هسكورة وحاحة. وكان سلطان الدولة الموحدية يقوم على تأييد هذه القبائل، وتستأثر القبائل الموحدية السبع في الدولة، بأكبر قسط من النفوذ، وتحتل معظم المناصب الكبرى، من الوزارة والولاية والقيادة، وتغذى هذه المجموعة الكبيرة من القبائل الجيوش الموحدية الجرارة، بحشودها الزاخرة المدربة على القتال.
وقد وضع عبد المؤمن لتنظيم الموحدين نظاماً جديداً غير الذي وضعه المهدي ابن تومرت من قبل، وكان المهدي حسبما تقدم في موضعه، قد جعل من الجماعة أو الصحب العشرة، رأس الطوائف الموحدية، ومن بعدهم أهل خمسين ثم أهل سبعين، فطلبة العلم، فالحفاظ، فأهل الدار. بيد أنه لما تعاقبت الحوادث، وفُقد الكثير من أهل الجماعة، وأشياخ الموحدين، رأى عبد المؤمن أن يصنف الموحدين، إلى ثلاث طوائف: الأولى هي طائفة السابقين الأولين، وهم الذين سبقوا إلى مبايعة الإمام المهدي، وصحبوه أو غزوا معه، أو صلّوا خلفه، والذين اشتركوا في موقعة البحيرة الفاصلة. والثانية هي طبقة الموحدين، ممن دخلوا في زمرة الموحدين، منذ موقعة البحيرة حتى فتح وهران. والثالثة هي طبقة الذين دخلوا في التوحيد، منذ فتح وهران إلى ما هلم جرا، وهذا كله مع المحافظة على هيكل النظام القبلى الذي تقدم شرحه (2).
ولما توطد سلطان الخليفة عبد المؤمن، بما تم له من استكمال فتوح المغرب والأندلس، وإخضاع سائر القبائل الخصيمة، وغلب لون الخلافة الدنيوى، بتضخم صرحها السياسي، وتحولت في الواقع إلى ملك باذخ، وضعت القواعد الأولى لتنظيم هذا الملك، وتخليده في بني عبد المؤمن، كما وضعت الأسس التي
_______
(1) يقدم إلينا البيذق في أخبار المهدي ابن تومرت تفصيلا شاملا لبطون هذه القبائل (35 - 43).
(2) راجع الرسالة الثانية عشرة من رسائل موحدية ص 53 و 54، وراجع أيضاً ص 398، 399 من هذا الكتاب(4/617)
تحكم بمقتضاها، أقطار الدولة الموحدية وشعوبها. وبدأ عبد المؤمن في ذلك، باختيار أكبر أولاده أبي عبد الله محمد لولاية عهده (سنة 549 هـ)، وقد أوضحنا فيما تقدم كيف اختير عبد المؤمن للخلافة، عقب وفاة المهدي، وما أحاط بذلك الاختيار من ظروف خاصة. ولم يكن ثمة ما يؤذن عندئذ أو يسمح للخليفة، بأن يجعل من الخلافة أمراً وراثياً في عقبه، ومن ثم فقد أبدى عبد المؤمن، في رسائله الرسمية عن ولاية العهد، أنه لم يكن له في ذلك رغبة خاصة، وإنما حمل على تصرفه برغبة القبائل والعشائر البربرية والعربية المختلفة، وهي التي دفعته، إلى القيام باختيار ولده لولاية العهد. وقام عبد المؤمن في نفس الوقت باتخاذ الخطوة الثانية، لتنظيم الحكم، وتوكيد سيادة بني عبد المؤمن. فعين بقية أولاده، لحكم ولايات المغرب والأندلس، وذلك حسبما فصلنا في موضعه. وكان أولاد الخليفة ينعتون هم وأعقابهم بالسادة، وهو لقب اختصوا به طوال أيام دولتهم. وقد جرت الخلافة الموحدية، على نسق الدولة المرابطية، في تعيين الأبناء والقرابة والأصهار، لحكم الولايات والمدن، وأحيانا للقيادة والوزارة، هذا مع تعيين بعض الأشياخ والحفاظ المقربين أحيانا، في هذه المناصب الكبرى. وقد حرصت الخلافة الموحدية، على هذه القاعدة، حتى أواخر أيامها، سواء في المغرب أو الأندلس. وكانت ولايات المغرب أو عمالاته، في ظل الخلافة الموحدية، تشمل بلاد السوس، وسجلماسة، ومراكش، وفاس، وتلمسان، وبجاية، وإفريقية، ثم سلا فيما بعد، وكانت سبتة، أحيانا ولاية مستقلة، وأحيانا تلحق بمالقة والجزيرة الخضراء. وأما ولايات الأندلس، فكانت تشمل ولاية الغرب (شلب وأحوازها)، وإشبيلية، وقرطبة، وجيان، وغرناطة، ومالقة، ومرسية، وبلنسية.
وكانت قاعدة الحكومة الموحدية بالأندلس أولا إشبيلية، وذلك لأنها كانت أول قاعدة أندلسية كبرى، نادت بطاعة الموحدين، وبعثت بيعتها إلى عبد المؤمن على يد وفد من أعيانها، وثانيا لأنها كانت أول قاعدة كبرى استولى الموحدون عليها، ولكن عبد المؤمن، قبيل وفاته بقليل، أمر ولده السيد أبا يعقوب يوسف، وكان عندئذ واليا لإشبيلية، أن ينتقل منها إلى قرطبة، وأن يجعل بها قاعدة الحكم الموحدي، ومستقر الجيوش الموحدية، لأنها " مُوسَّطة الأندلس ". بيد أن هذا التغيير لم يطل أمده، ولم يمض سوى وقت قصير، حتى(4/618)
أعيد مركز الحكم الموحدي إلى إشبيلية، واستقر بها بعد ذلك، طوال عهد الدولة الموحدية، وذلك بالأخص لبعدها عن حدود قشتالة، وعن خطر الغزو النصراني، ولأنها باتصالها بالبحر، بواسطة مصب نهرها الوادي الكبير، ووفرة مواردها الزاخرة من وادي الشَّرف، كانت تعتبر خير قاعدة، لنزول الجيوش الموحدية، القادمة من وراء البحر، وغدت إشبيلية في ظل الحكم الموحدي، أعظم حواضر الأندلس، وازدانت بكثير من الصروح، والمنشآت العمرانية العظيمة، التي أتينا على ذكرها في موضعها.
1 - نظم الحكم الموحدي
وأما عن نظم الحكم الموحدي، فقد كان الخليفة عبد المؤمن أيضاً، هو أول من وضع أسسها الرئيسية، وكان ذلك نتيجة طبيعية، لتحول الخلافة الموحدية على يده، إلى ملك دنيوى، ووضعه لنظام ولاية العهد. ونجد هذه الأسس الأولى، لنظام الحكم الموحدي، مدونة في الرسالة التي وجهها عبد المؤمن، بتاريخ ربيع الأول سنة 543 هـ، إلى الطلبة والأعيان والمشيخة والكافة بالأندلس والتي أوردها لنا ابن القطان، ولخصنا ما تضمنته فيما تقدم (1). وتنحصر هذه الأسس في خمس نقط هي: وجوب التزام الدقة في تطبيق الأحكام الشرعية، ووجوب الكف عن اقتضاء أية مغارم أو مكوس، لا تبيحها الشريعة ولا تتفق مع قواعد العدل، وأنه لا يجوز الحكم في مواد الحدود بالإعدام، أو تنفيده قبل الرجوع إلى الخليفة، ليصدر هو قراره في هذا الشأن، وأنه يجب تحريم الخمر، ومطاردتها في سائر أنحاء الدولة، وأنه يجب حماية أموال " المخزن " (أموال الدولة)، وصونها وعدم التصرف في شىء منها، دون استئذان الخليفة. وقد حذا الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، حذو أبيه، بتأكيد هذه الأسس الدستورية، للحكم الموحدي، وذلك في رسالة شبيهة برسالة أبيه، وجهها في رمضان سنة 561 هـ، إلى أخيه السيد أبي سعيد والي قرطبة، وأصحابه الطلبة، وفيها يحث على وجوب تطبيق أحكام الشرع، أوامرها ونواهيها بدقة، واتباع الحق والعدل، في الفصل في قضايا العباد، وأنه فيما يتعلق بالدماء، فإنه يحظر على سائر عمال الموحدين أن يحكموا في الدماء من تلقاء أنفسهم، وأنه لابد من أن ترفع قضايا القتل إلى الخليفة، مشفوعة بتفاصيلها وأدلتها وشروحها، ويسرى ذلك حتى على القضايا
_______
(1) راجع ص 400 و 401 من القسم الأول من هذا الكتاب(4/619)
التي وقع فيها اعتراف بالقتل، أو دليل أو شهادة مقبولة، أو غير ذلك، فإنه يجب في سائر الأحوال، أن يرفع الأمر إلى الخليفة، وأن ما ورد في كتاب الله من الحظر المؤكد والوعيد الشديد، نحو إراقة الدماء، واستباحة الأموال، واستحلال الحرمات إلا بوجه صحيح، يوجب عليهم اتباع ما رسم، ووجوب التوقين والبيان والتعريف، هذا مع وجوب تقوى الله، وطاعة أوامره، والجرى على سننه. وتكرار هذا النصح، بالعف عن إراقة الدماء، والتحوط في تنفيذ أحكام الإعدام، هو صدى طبيعى، لما اتسمت به الدولة الموحدية، منذ قيام المهدي ابن تومرت، من المبالغة في استباحة دماء خصومها وإراقتها. وقد ذكرنا من ذلك، طائفة من الحوادث المروعة المثيرة، أيام المهدي، وخليفته الأول عبد المؤمن. فلما انتهت الدولة الموحدية، من القضاء على خصومها، ولما توطدت دعائمها، وضخم سلطانها، لم يبق ثمة موجب لهذا الإغراق في سفك الدم، وكان من حسن السياسة، أن تؤكد الخلافة الموحدية حرصها على احترام دماء الناس، وتمسكها بتنفيذ أحكام الشريعة، وحثها عمالها على مراعاة ذلك، وبالأخص على عدم التورط في إراقة الدم، إلا بموافقة الخليفة نفسه.
وكانت الخلافة الموحدية، تؤثر أن تبدو في نفس الوقت، حريصة على توطيد العدل، وقمع الظلم، وقد رأيناها منذ البداية، تتبع العمال الظلمة وتطاردهم وتقضى في أحيان كثيرة، بعزلهم ومحاسبتهم، وأحيانا باعتقالهم وإعدامهم. وقد كانت للخليفة عبد المؤمن، ولولده وخليفته أبي يعقوب يوسف، وحفيده يعقوب المنصور، في ذلك جهود ضخمة، ذكرناها في مواضعها، بل لقد حذا الخليفة الناصر نفسه، في ذلك حذو أبيه وجده، في مطاردة العمال الظلمة وإزالتهم، وكان تكرار هذه المطاردة للعمال الظلمة، وعمال المخزن وغيرهم، وتوقيع العقوبات الرادعة عليهم، مما يصل أحيانا إلى الإعدام والمصادرة، في ذاته دليلا، على ما كان يغشى الإدارة الموحدية، في بعض الأحيان، من ضروب الفساد، التي ترمى هذه المطاردة إلى قمعها.
وكانت الوزارة الموحدية، وهي أداة الحكم المباشر، أوسع نطاقا منها، في عهد الدولة المرابطية. وقد رأينا أن المهدي ابن تومرت، لم يكن له وزير خاص، وإنما كان يتخذ من الجماعة، وهم الصحاب العشرة الأوائل، أعضاء(4/620)
وزارته، ويبحث معهم شئون الحكم، وكان يجعل من باقي الصحب، وهم أهل خمسين، وأحيانا أهل سبعين، نوعا من الجمعية الاستشارية (1). ثم بدأت خطة الوزارة، في عهد عبد المؤمن أول الخلفاء الموحدين، وانتظمت على يده أداة الحكم، بصورتها التقليدية، من الاعتماد على معاونة وزير أو أكثر، يتولون أعباء الحكم والإدارة بتوجيه الخليفة وإرشاده، ويطالعونه بمختلف الشئون الهامة، وعلى معاونة كاتب أو أكثر من الكتاب المجيدين، يكونون ترجمانا لدعوته، ويضطلعون بتوجيه رسائله وتعليماته، إلى مختلف العمال والجهات. وكان الخليفة، يعهد في بعض الأحيان بوزارته، إلى أحد أولاده أو أخوته، فقد رأينا مثلا كيف عهد عبد المؤمن، في أواخر أيامه، بالوزارة إلى ولده السيد أبي حفص (2). ولما توفي عبد المؤمن، وخلفه ولده السيد أبو يعقوب يوسف، تولى شئون الحجابة مدى حين، أخوه السيد أبو حفص، وذلك على معنى الوزارة والإمارة (3). ثم لما توفي الخليفة أبو يعقوب، عقب موقعة شنترين، وخلفه ولده الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور، تولى حجابته أخوه كبيره السيد أبو حفص، والحجابة هنا معناها رياسة الوزارة. ثم تولى له الوزارة أخوه السيد أبو عبد الله محمد. وأحيانا كان يضطلع بالوزارة بعض القرابة، كما حدث أيام الخليفة المستنصر والرشيد. بيد أن تعيين الحجاب والوزراء من الأبناء والإخوة أو القرابة، لم يكن يحول دون تعيين الوزراء العاديين، للاضطلاع بتدبير الشئون، وقد كان أولئك الوزراء أيضاً، في الغالب، من خاصة القبائل الموحدية الموالية. وكانت الوزارة تبقى في الأسرة الواحدة أجيالا متعاقبة، كما حدث في أسرة بني جامع، التي تولى أبناؤها الوزارة، منذ خلافة عبد المؤمن، واستمروا في توليها فترات مختلفة، حتى عصر الناصر، وأسرة بني يوجان، التي تولى أبناؤها أيضاً الوزارة غير مرة.
وأما الكتابة، فقد كانت من أهم خطط الحكومة الموحدية. وكان الخليفة الموحدي، يحشد في بلاطه، أقطاب الكتاب المجيدين، وكان السادة من الولاة سواء بالمغرب أو الأندلس، يتخذون لكتابتهم أبلغ كتاب العصر. ومنذ عصر الخليفة عبد المؤمن، نرى ثبتاً طويلاً، من أئمة النثر والبلاغة، ينتظمون في
_______
(1) راجع ص 196 من ق 1 من هذا الكتاب.
(2) راجع ص 394 من ق 1 من هذا الكتاب.
(3) كتاب المن بالإمامة لوحة 48 ب(4/621)
بلاط مراكش، ليكونوا لسانا للخليفة الموحدي، وترجمانا له، في مخاطبة الولاة والقبائل والكافة، سواء بالمغرب أو الأندلس، وكان معظم هؤلاء الكتاب من أهل الأندلس، ومنهم كذلك عدة من أكابر الكتاب المغاربة. فكان من الأندلسيين في بلاط عبد المؤمن، أبو الحسن بن عياش القرطبي، وأخيل ابن إدريس الرندي، والخطيب أبو الحسن بن الإشبيلي. ومن المغاربة، أبو جعفر ابن عطية، وأخوه عقيل بن عطية، ولو أنهما ينتميان إلى أصل أندلسي. واستمر أبو الحسن ابن عياش في منصب الكتابة، في عهد أبي يعقوب يوسف. وكان يعاونه اثنان من ألمع الكتاب المغاربة في ذلك، هما أبو القاسم القالمي، وتلميذه أبو الفضل طاهر بن محشرة. وتولى الكتابة في عهد يعقوب المنصور، أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عياش البرشانى، وأبو الفضل بن محشرة. وكتب للناصر ولد المنصور، أبو عبد الله محمد بن عياش، وأبو الحسن على ابن عياش، ومن المغاربة أبو عبد الله محمد بن يخلفتن الفازازى، وكتب الأول كذلك للمستنصر. وحتى في أواخر عهد الدولة الموحدية حينما أدركها الانحلال والوهن، نجد مثل هذه العناية بمنصب الكتابة، والحرص على استخدام الكتاب البلغاء. فقد كتب للمأمون، وهو نفسه من الكتاب البلغاء، كاتب من أعظم أئمة البيان الأندلسيين، هو أبو المطرف بن عميرة المخزومي، وكتب معه أبو الحسن الرعينى، وأبو عبد الله بن عياش، ومن كتاب المغرب، أبو زكريا الفازازى. وكتب أبو المطرِّف بن عميرة وأبو زكريا الفازازى كذلك للرشيد. وهكذا نجد البلاط الموحدي، حتى أواخر عهد الدولة، حريصاً على الاحتفاظ لديوان الكتابة والترسل، بمستواه الرفيع، الذي بلغه منذ عهد الخليفة عبد المؤمن. وإنا لنجد ذلك الحرص، من جانب الخلافة الموحدية، على بلاغة الترسل المترجم عنها في تلك المجموعة من الرسائل، التي صدرت عن الخلفاء المتعاقبين، في مختلف الشئون، الشرعية، والإدارية، وعن سير الغزوات ْوالفتوحات الموحدية، والتي أشرنا إليها، واقتبسنا من محتوياتها، في مواطن عديدة، فيما تقدم، من فصول هذا الكتاب (1).
_______
(1) نود أن نشير هنا مرة أخرى إلى مجموعة الرسائل الموحدية التي نشرت بعناية العلامة الأستاذ ليفى بروفنسال (الرباط سنة 1941) والتي رجعنا إليها مراراً عديدة فيما تقدم، وكذلك إلى مختلف الرسائل الموحدية الأخرى التي جاء ذكرها في كتاب " المن بالإمامة "، وكتاب (البيان المغرب) مما سبقت الإشارة إليه في مواضعه. وقد نشرنا بعضها في نهاية الكتاب(4/622)
وكان مما يلحق بديوان الكتابة، كتب التوقيعات والظهائر وكل ما يمهر بالعلامة، وكذلك ديوان العسكر، وما انضاف إليه من التنفيذات السلطانية، وتقييد الجزيات العامة في أنواع النفقات (1). وكان لديوان العسكر كتابه المختصون به، وهم غير كتاب الديوان المختصين بالشئون الأخرى.
وكانت أداة الحكومة التنفيذية، تضم عدة مناصب هامة، في مقدمتها منصب " متولى أشغال البرين " أعني المغرب والأندلس، وكان لذلك المنصب أهمية خاصة، أيام عنفوان الدولة الموحدية وتماسكها، ويوصف اختصاصه " بالأعمال العلية والأشغال السلطانية ". فنراه أيام الخليفة المنصور، يسند إلى كبير الوزراء نفسه أبي زيد بن يوجان (2) ويوصف أحيانا " بإشراف البرين وضم الأعمال وتفقد الأشغال " ويسند إلى وزير أو أكثر يسمون " أصحاب الأشغال " (3) ويلى ذلك في الأهمية الوزراء المختصون بالشئون المالية، وهم " صاحب الأعمال المخزنية "، ومتولى المجابى، ومتولى أموال النفقات والمحاسبة، ومتولى أعمال المستخلص. وكان لصاحب ديوان الأعمال المخزنية، اختصاصات وسلطات واسعة في السهر على تحصيل الأموال العامة وإنفاقها، وفي رقابة العمال والمشرفين، ومحاسبتهم والقبض عليهم (4)، وكان له وكلاء في سائر المدن الكبرى، يسمون بالمشرفين، ويمثله في إشبيلية عاصمة الأندلس " صاحب المخزن "، وكان للمشرف بدوره خازن على المال، وخازن على الطعام، يتولى الإشراف على حركة الوارد والصادر بالمخازن العامة، وأحيانا يقع ضمن أعمال المشرف الرقابة على تقييد المجابى (5). وكان أولئك الوكلاء المشرفون على الأموال العامة يتحملون مسئوليات خطيرة، ونراهم من آن لآخر، عرضة لمختلف الاتهامات والمطاردات (6) وكان من التقاليد المأثورة أن يقوم الخليفة الجديد، في بداية ولايته بالعفو عن المسجونين، ورفع الأموال المتخلفة، عن عاتق العمال المبددين، وتأمينهم من العقاب (7). وأما متولى المجابى، فهو المختص بتحصيل الضرائب، والجزيات على مختلف صنوفها، وله عمال في المدن وفي البوادى. وكانت الحملات
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 231.
(2) البيان المغرب 201 و 236.
(3) البيان المغرب ص 227 و 283.
(4) البيان المغرب ص 131 و 201 و 237.
(5) راجع البيان المغرب ص 131 و 172.
(6) البيان المغرب ص 31 و 108 و 112، و 131، و 237.
(7) البيان المغرب ص 73(4/623)
العسكرية، تحشد أحيانا، لإرغام القبائل المتخلفة عن أداء الجباية، على أدائها، وذلك حسبما ذكرنا فيما تقدم غير مرة. وأما متولى المستخلص، فهو المشرف على الأموال الخليفية، والمحافظة عليها، وتحصيل ما يتعلق بها، من مختلف أبواب الدخل. وقد يتولى صاحب الأشغال المخزنية أحيانا، الإشراف على ما يتعلق " بالسهام السلطانية " أي أنصبة الخليفة أو حقوقه الشرعية في الغنائم وغيرها (1). وكان منصب صاحب الشرطة، من الناصب الإدارية الهامة، وكانت أهميته تبدو بنوع خاص في الأوقات المضطربة، وعند اضطرام الفتن، وكان يشغله أحيانا، رجال من ذوى المكانة الرفيعة في الدولة من أكابر الوزراء، كما حدث أيام الرشيد (2).
وبرز في أواخر العصر الموحدي، منصب هام في الحكومة الموحدية، هو منصب وزير يقوم فيه صاحبه، بالتقديم إلى إرسال ملوك الروم، والاشتغال بإنزالهم، وتضييفهم، والترجمة عنهم (3). ومن الواضح أن هذا المنصب، لم تبرز أهميته، إلا منذ أيام الخليفة المأمون، حينما عقد حلفه المشهور، مع فرناندو الثالث ملك قشتالة، وأمده هذا الملك النصراني، بفرقة كبيرة من جنده، ليعبر بها إلى المغرب، ويستعين بها على قتال منافسه في الخلافة، يحيى المنتصر. ومن ذلك التاريخ، يأخذ الروم بقسط بارز، في الحروب، التي يشهرها الخليفة الموحدي، على خصومه، ويقتضى أن يمثل في بلاط مراكش، شخص يتولى استقبال الوافدين من " الروم " (القشتاليين)، من أمراء وقادة وسفراء وغيرهم، ويتولى الإشراف على رعايتهم، والترجمة بينهم وبين الخليفة، وذوى الشأن من رجال الدولة. وقد أشرنا فيما تقدم، إلى سياسة الحكومة الموحدية في شئون الجباية، ووجوب التزام أحكام الشرع في شأنها، والاقتصار في ذلك، على ما يجيزه الشرع من الزكوات والأعشار. وقد نوه الخليفة عبد المؤمن، بوجوب التزام هذه السياسة، في رسائله الرسمية غير مرة، وكانت له شعاراً، في حملاته للقضاء على الدولة المرابطية، فنراه يذكرها في أولى رسائله الدستورية، وهي الرسالة الجامعة، التي وجهها إلى الطلبة والمشيخة والأعيان والكافة بالأندلس، في ربيع الأول سنة 543 هـ، وفيها يتحدث عن المغارم، والمكوس والقبالات،
_______
(1) البيان المغرب ص 201 و 227.
(2) البيان المغرب ص 283.
(3) البيان المغرب ص 234(4/624)
وتحجير المراسى، وغيرها من المظالم، ووجوب القضاء عليها، وإجراء العدل في شأنها (1)، ونراه بعد ذلك ببضعة أعوام، يعود إلى ذكرها، في رسالة إلى إلى أهل قسنطينة عن فتح بجاية في جمادى الأولى سنة 547 هـ، وفيها يتحدث عما فرضه " أهل الاختلاق والابتداع " من " القبالات والمكوس والمغارم وسائر تلك الأنواع " دون التفات إلى ما أوجب الله من الزكوات والأعشار، حتى قضى الله بإزالتهم، ورد الأمر إلى نصابه، بإجراء الشريعة على حقيقتها، وإراحة أهل البلاد المعمورة بالتوحيد من جميع هذه المغارم (2).
على أن هذه العهود الرسمية، التي كانت تستند في جوهرها، إلى تعاليم المهدي ابن تومرت، ودعايته ضد الدولة المرابطية، فيما جرت عليه من فرض المغارم والمكوس غير الشرعية، لم تكن سوى شعار مؤقت، تستظل به الدولة الموحدية في بداية عهدها، ذلك أنه لما توطدت دعائم الدولة الجديدة، واتسع نطاق مسئولياتها المدنية والعسكرية، سواء في المغرب والأندلس، كان من الواضح أن الاقتصار على تحصيل الفروض الشرعية في شئون الجباية، لا يمكن أن يفى بما تتطلبه نفقات الدولة، أو نفقات الجيوش الموحدية الضخمة في المغرب، أو فيما وراء البحر، ومن ثم فقد اضطرت الدولة الموحدية غير بعيد، أن تبحث عن وجوه أخرى، لتحقيق الجباية وتوفير النفقات، فكان مما فعله عبد المؤمن في ذلك، قيامه بمسح (أو تكسير) بلاد إفريقية والمغرب، من برقة إلى السوس الأقصى، وإسقاط مقدار الثلث من مساحتها، مقابل الجبال والأنهار والطرقات وغيرها، وفرض الخراج على ما بقى بعد ذلك، من الأراضي الصالحة للزرع، وألزمت كل قبيلة أن تؤدى قسطها من الزرع والمال (3). ومن جهة أخرى فإن الخلافة الموحدية، كانت إلى جانب ما يدخل خزائنها، من غنائم الفتوحات المظفرة، وأبواب المصادرة لأموال الخصوم، ومن يلحق بهم من العمال المنكوبين، لم تحجم عن أن تفرض مختلف الضرائب والمكوس، على مختلف أنواع المعاملات، من البيع والشراء، والصادر والوارد، وغير ذلك، مما كان متبعاً في سائر دول العصور الوسطى، وهذا إلى ما كانت تستولى عليه، من أموال
_______
(1) راجع ص 400 من القسم الأول من هذا الكتاب.
(2) راجع رسالة عبد المؤمن المذكورة في " رسائل موحدية " وهي الرسالة السابعة ص 21.
(3) راجع ص 377 من القسم الأول من هذا الكتاب(4/625)
النصارى واليهود، الذين بقوا في أراضي الدولة، ولاسيما خلال حركات الاضطهاد ْوالمطاردة، وقد كانت تحدث من آن إلى آخر.
وكان من الإجراءات المالية الهامة، التي قامت بها الخلافة الموحدية، مضاعفة وزن الدينار الموحدي، وقد تم ذلك في بداية عهد الخليفة المنصور، وكان له أثره في دعم طمأنينة التعامل، وتحسين الشئون الاقتصادية، بوجه عام. وقد لبثت الأحوال الاقتصادية بالمغرب والأندلس، في ظل الدولة الموحدية، أيام عنفوانها وقوتها، طيبة يدعمها الأمن والرخاء، وتقدم الزراعة والتجارة، وكان ذلك في عهد الخلفاء الأقوياء منذ عبد المؤمن، حتى أواخر عهد المنصور، وهي فترة دامت زهاء نصف قرن. ولم يكن يعكر هذا الرخاء، إلا فتنة محلية، أو محنة طبيعية، من جدب أو شرق أو غيره. بيد أنه لما اشتد عيث طوائف العرب بإفريقية، وخربوا مدنها، واجتاحوا بسائطها، وتفاقم هذا العيث والتخريب، أيام ثورة بني غانية، بما ترتب على مغامراتهم، من صنوف الدمار المطبق، وقطع السبل، ونهب التجار، وانقطاع المعاملات السلمية، أخذ خراب إفريقية، وهي أغنى أقطار الدولة، وأوفرها خصبا وموارد، يحدث أثره في اقتصاد المغرب، وفي تحطيم رخائه. ولما انتهت فتنة بني غانية في أوائل عهد الناصر، وعاد الأمن والرخاء لإفريقية، كانت حركة الناصر إلى الأندلس، تمهد لأعظم كارثة عسكرية، منيت بها الدولة الموحدية، ومنى بها المغرب. وكان لهزيمة العقاب الساحقة، فضلا عن آثارها العسكرية المدمرة، آثار اقتصادية بعيدة المدى، فقضى بفناء الجند على الأيدى العاملة، وانهارت الزراعة والتجارة، وعدمت الأقوات، وفشت المجاعة في المغرب والأندلس، وكان يذكى من هذه المحنة الاقتصادية، ضعف الحكومة وتواكلها، واحتجاب الخليفة، وعدم اهتمامه بآلام الشعب. وفي عهد المستنصر ولد الناصر، تفاقمت الأزمة الاقتصادية بالمغرب والأندلس، واشتدت الحال، وتناهى الغلاء (1)، واختلت أحوال الخلافة الموحدية، واضطرب الأمن، وقطعت السابلة، ووقع النهب على التجار، واستمرت هذه الأحوال طوال عهد المستنصر، وهو في غفلة عن كل ما يجرى، غير مهتم بشئون رعيته أو جاهل لها، لتواكل وزرائه، وإخفائهم عنه حقائق الشئون (2).
_______
(1) البيان المغرب ص 236 و 245.
(2) الذيل والتكملة لابن عبد الملك (المجلد الخامس من مخطوط المتحف البريطاني لوحة 19)(4/626)
ثم تفاقم الأمر، باضطراب شئون الخلافة الموحدية، ووقوع الفتنة والحروب الأهلية حول كرسى الخلافة، وتدخل بعض طوائف العرب، مثل عرب الخُلط وبعض القبائل البربرية القوية، مثل هسكورة، في هذا النزاع، وتقلبهم في مناصرة المتنافسين على العرش، وعيثهم بأحواز العاصمة، ومهاجمتها أحيانا، وكانت المجاعة تقع حيثما تضطرم الفتنة، ومن ذلك ما يقصه علينا صاحب البيان المغرب، من وقوع المجاعة في مراكش، حينما هاجمها عرب الخلط، وعاثوا في أحوازها، فعدمت الأقوات وارتفعت الأسعار، وتحطمت المرافق، وعانى الناس منتهى الشدة، ووصل الربع الواحد من الدقيق إلى ثلاثة دنانير (1). وحدثت مجاعة مماثلة، حينما اضطر الخليفة الرشيد، أن يغادر الحضرة، أمام ضغط عرب الخلط، فقاسى الناس أهوالا، وخلت الأسواق من كل شىء، ووصل المد من القمح إلى سبعة دراهم، وأكل الناس فيتور الزيتون، ونوار الخروب، وغير ذلك من النباتات الطفيلية، وكانت محنة مروعة (2). واستمرت الأزمات الاقتصادية، طوال أيام الفتنة، والحروب الأهلية بين الرشيد والخلط، والرشيد ويحيى بن الناصر، وخفت حدتها أيام السعيد والمرتضى، وكان القحط يقترن بوقوع الوباء. وفي سنة 647 هـ، وقعت بمدينة سبتة وأحوازها مجاعة عظيمة، وغلاء فاحش، وذلك بسبب الفتن والحروب الأهلية المستمرة (3). وكان صدى هذه الأزمات الاقتصادية، يحدث أثره في الأندلس. وكان من أثر المحن والأحداث السياسية في الأندلس، أن كانت أهوال الغلاء والجوع، تعصف بالناس من آن لآخر، وحدث ذلك في بلنسية حين حصارها، ووقعت شدة مماثلة بإشبيلية وقت حصارها ومات كثير من أهلها بسبب الجوع (4). وكانت الفترة التي تلت قيام ابن هود، في شرقي الأندلس، وقيام ابن الأحمر في أواسط الأندلس، ثم في الجنوب، وما تخلل ذلك من فتن وحروب أهلية، وما قام به النصارى، من غزوات لأراضي الأندلس، ومن استيلائهم على معظم قواعدها الكبرى، وذلك كله في النصف الأول من القرن السابع الهجري، فيما بن سنتى 620 و 650 هـ، كانت هذه الفترة المدلهمة من تاريخ الأندلس، وما اقترن بها من محن ونوائب، وتشريد لأهل القواعد المفتوحة، وضياع للأموال والثروات، مليئة بالأزمات الإقتصادية
_______
(1) البيان المغرب ص 307.
(2) البيان المغرب ص 315 و 316.
(3) البيان المغرب ص 347.
(4) البيان المغرب ص 381، 382(4/627)
وأهوال الغلاء والجوع والحرمان، والأوبئة، وكانت من أشد ما عانت الأمة الأندلسية عقب انهيار الحكم الموحدي، وما ترتب عليه، من انهيار خط دفاعها القديم، ووقوعها فريسة هينة للغزو النصراني.
...
وكانت المناصب الدينية تنحصر في القضاء، وهو أهمها، والشورى، وهي من متعلقات القضاء، والخطبة في المساجد الجامعة. وكان يعين في عاصمة كل ولاية قاض للجماعة، وهو يتولى اختيار نوابه في مناصب القضاء المحلية. وقد لبث القضاء في عهد الدولة الموحدية، سواء بالمغرب أو الأندلس، محتفظاً بأهميته وجلاله القديم. وكان الخليفة الموحدي، يقوم بتعيين قضاة الجماعة، في سائر المدن الكبرى، دون تدخل في ذلك من الولاة (1). وتتبع نفس القاعدة في تعيين قضاة الأندلس. ومما هو جدير بالذكر، أن الأندلسيين كانوا يستأثرون بمناصب القضاء في بلادهم، وذلك منذ أيام الدولة المرابطية، ولم تحاول الخلافة الموحدية أن تحيد عن ذلك التقليد الراسخ إلا في أحوال نادرة كان يتولى فيها القضاء بالأندلس بعض الممتازين من القضاة المغاربة (2). بل لقد كان الخليفة الموحدي، يختار لقضاء الجماعة بمراكش، بعض اللامعين من فقهاء الأندلس، كما حدث أيام الخليفة أبي يعقوب يوسف حينما تولى قضاء الجماعة بالعاصمة الموحدية، أبو محمد المالقي، ثم أبو جعفر بن مضاء، وتولاه أيام الخليفة المنصور أبو جعفر بن مضاء، وأبو القاسم أحمد بن بقى، وشغل أبو القاسم نفس منصبه أيام الخليفة الناصر، وذلك حسبما ذكرنا في مواضعه من قبل. ويرجع ذلك كما هو واضح، إلى تفوق الدراسات الشرعية في الأندلس، وتفوق القضاة الأندلسيين في الفقه المالكى، وفي ممارسة الأحكام وتطبيقها. وقد لبثت الأندلس محتفظة بهذا التفوق، سواء في الكتابة أو القضاء، حتى إبان انحلالها في أواخر العهد الموحدي. وأما خطة الشورى، فقد كانت أيضاً من المناصب القضائية، ولكنها كانت حسبما يبدو من مختلف الإشارات الخاصة بها، أقل في الرتبة من القضاء. ويختص
_______
(1) البيان المغرب ص 129 و 231.
(2) مثال ذلك ما يرويه لنا ابن الأبار في التكملة من أن أبا عبد الله محمد بن يخلفتن الفازازي التلمساني، ولى قضاء مرسية ثم قرطبة (التكملة رقم 1616)، وأن ابن جبل الهمداني من أهل وهران، ولى قضاء إشبيلية سنة 592 هـ (التكملة رقم 1719)(4/628)
صاحبها بإبداء الرأي والفتوى في مسائل الأحكام، ويشغلها على الأغلب أحد الفقهاء. وفي مواضع كثيرة من " التكملة " وغيرها، يوصف صاحب هذه الوظيفة بأنه كان " فقيهاً مشاوراً "، أو أنه كان فقيهاً يشاور في الأحكام، أو أنه ولى " خطة الشورى " (1). وقد أورد لنا ابن الأبار نص كتاب صادر عن أمير مرسية، بتولية أبي بكر بن أبي جمرة خطة الشورى، يبين لنا ماهية هذه الخطة واختصاصها (2).
وكانت خطة الأحكام، فيما يبدو أيضاً من شرح صاحب " التكملة "، وظيفة تابعة للقضاء، شبيهة بخطة الشورى، وكان صاحبها يضطلع بالفتيا أو إبداء الرأي في الأحكام الشرعية (3).
وقد كانت للمواريث خطة خاصة بالرغم من كونها داخلة في اختصاص القضاء العام. وهذا ما يشير إليه ابن الأبار في غير موضع من " التكملة "، وهذا ما يدل على أهمية المواريث، والعناية بالدقة في تطبيقها (4).
ويلحق بهذه المناصب القضائية منصب " حسبة السوق "، وقد أشار إليه ابن الأبار أيضاً، وهو في الحقيقة، ناحية، من نواحي الحسبة العامة، يتعلق بالإشراف على ضبط التعامل، وسلامة السلع المعروضة، وصحة الموازين، والمكاييل (5).
ويلحق بالمناصب الدينية الهامة منصب الخطابة بجوامع المدن الكبرى، وكان لا يلي هذا المنصب إلا الفقهاء المبرزين في فن الخطابة، ولاسيما في جوامع قواعد كإشبيلية وقرطبة وغرناطة ومالقة وبلنسية، وأهمها في الرتبة منصب الخطابة بجامع إشبيلية وجامع قرطبة (6). وكذلك كان يؤم الصلوات بجوامع المدن الكبرى " صاحب الصلاة " وكان منصبه يعتبر أيضاً من المناصب الدينية الكبيرة، ولاسيما إذا كان بجامع إشبيلية أو جامع قرطبة.
وكان منصب متولي شئون طلبة الحضر، من المناصب العلمية والدينية الرفيعة، وقد سبق أن أشرنا إلى نشأة هذه الطبقة من الطلاب الموحدين " المصامدة "
_______
(1) راجع التكملة لإبن الأبار (القاهرة) ج 1 ص 34 و 44 و 66 و 71 و 86 و 149 و 209 و 243.
(2) راجع التكملة ج 2 ص 562. وقد نشرنا هذا الكتاب في باب الوثائق.
(3) راجع التكملة ج 1 ص 71 و 228.
(4) راجع التكملة ج 1 ص 67.
(5) التكملة ج 1 ص 82.
(6) البيان المغرب ص 193(4/629)
وطلاب الحضر، منذ عصر الخليفة عبد المؤمن. وقد سما شأن هؤلاء الطلاب، ولاسيما في عهد الخليفة يعقوب المنصور، وكانت لهم لديه مكانة ملحوظة (1) وكان المقدم على طلبة الحضر بحضرة مراكش، ينتخب من أكابر العلماء، ويقوم الخليفة بتعيينه مباشرة، وقد تولى هذا المنصب علماء أجلاء، مثل أبي محمد المالقي، وأبيه عبد الرحمن المالقي من قبل (2).
2 - تطور الأساس الروحي للخلافة الموحدية
قامت الدولة الموحدية في بدايتها، حسبما قدمنا، على فكرة الإمامة والتوحيد، فلما توفي المهدي ابن تومرت، وقام في رياسة الدولة زعيم لا يتشح بثوب المهدية أو الإمامة الروحية، واتسعت رقعة الدولة، وعظمت صولتها العسكرية، والسياسية، تحولت الخلافة الموحدية على يد عبد المؤمن، إلى ملك دنيوى باذخ، وغاضت فكرة الإمامة المهدية شيئاً فشيئاً، وإن كانت الدولة الموحدية، قد لبثت حريصة على تقديس ذكرى المهدي، ونعته دائماً في الخطب والرسائل الرسمية " بالإمام المعصوم، المهدي المعلوم "، وذكر اسمه في السِّكة، والمناداة بشعائره البربرية القديمة في أوقات الصلاة. واستمر الأمر على ذلك حتى عهد الخليفة يعقوب المنصور، وفيه بلغت الدولة الموحدية أوج عظمتها وروعتها. وكان المنصور عالماً مستنيراً، متمكناً من الشريعة وعلوم الدين، ولم يكن حسبما تبين بعض من تصرفاته المذهبية، من الغلاة في تقدير العقيدة الموحدية، أو المؤمنين بعصمة المهدي ابن تومرت، بيد أنه بالرغم من عظيم هيبته وسلطانه، وبالرغم مما قام به من تغييرات مذهبية بعيدة المدى، مثل مطاردة كتب المذهب المالكى، وإحياء المذهب الظاهرى، فإن الخلافة الموحدية لبثت مع ذلك تنضوى من الناحية الدستورية تحت لواء " الدعوة المهدية "، ولبثت رسائلها الرسمية تتوج " بالرضا عن الإمام المعصوم المهدي المعلوم " (3).
على أنه لم يك ثمة شك، في أن العقيدة الموحدية لم تكن عندئذ، سوى
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 158، وراجع ص 244 من هذا الكتاب.
(2) البيان المغرب ص 233 و 234.
(3) راجع الرسائل الثانية والثلاثون والرابعة والثلاثون والخامسة والثلاثون من مجموعة " الرسائل الموحدية " وهي صادرة عن الخليفة المنصور (ص 199 و 219 و 229)(4/630)
شعار إسمي، وأن إبقاء الخليفة الموحدي، على رسوم المهدي ابن تومرت، لم يكن سوى إجراء شكلى، يقصد به إلى جمع كلمة الموحدين، تحت شعار موحد، وكانت هذه سياسة حكيمة من جانب الخلافة الموحدية، كان لها أثرها القوي في تدعيم أركان الدولة، وحمايتها من أخطار الفتنة والتفرق.
فلما كان عهد الخليفة أبي العُلي المأمون ولد الخليفة المنصور، وقع الحدث الحسم، في دستور الخلافة الموحدية، وشعارها الروحى، وأصدر المأمون مرسومه الشهير (627 هـ) بإزالة اسم المهدي من الخطبة، ومن السكة، ومن المخاطبات الرسمية، وقطع النداء عند الصلوات بشعائره البربرية، التي كان العمل جاريا باتباعها منذ بداية الدولة الموحدية، ولم يحجم المأمون عن أن يصرح في كتابه الرسمى الذي أنشأه بنفسه، أن وصف ابن تومرت " بالمهدي وبالإمام المعصوم " إنما هو نفاق وبدعة وأمر باطل، وأنه يجب نبذه والقضاء عليه (1).
وهكذا قضى بضربة جريئة على أسطورة المهدي ابن تومرت، وأسطورة إمامته وعصمته، وهي الأسطورة التي اتشح بها ابن تومرت، وبويع في ظلها بجبل إيجليز في رمضان سنة 515 هـ (ديسمبر سنة 1121 م)، وكانت هي الأساس الروحى لقيام الدولة الموحدية.
وفضلا عن ذلك فقد قضى المأمون على عصبة الموحدين، بقتله لزعمائهم الذين نكثوا بيعته، حتى فنى معظمهم، وفر الباقون ليعتصموا بجبالهم القديمة في تينملل، وبذلك ضربت الزعامة الموحدية في الصميم، وفقدت الخلافة الموحدية بذلك عضدا، كان له في عونها ومؤازرتها، قيمته الأدبية والمادية.
ثم كانت خلافة الرشيد، ولد المأمون، فوقع تطور جديد في رسوم الخلافة الموحدية وأسسها الروحية. وذلك أن الرشيد شعر بأهمية مؤازرة أشياخ الموحدين، واتجه إلى استرضائهم، واستعادتهم إلى جانب الخلافة الموحدية، وقبل الزعماء الموحدون، أن يعودوا إلى سابق ولائهم، وتعاونهم مع الخلافة، على أن تعود رسوم الدعوة المهدية كما كانت، من ذكر المهدي في الخطبة والسكة، والنداءات الموحدية في الصلوات، وغير ذلك مما كان العمل جاريا عليه، قبل أن يصدر المأمون مرسومه بإلغاء الدعوة المهدية. وقبل الرشيد ذلك، وقام بتنفيذه، وأعيدت رسوم الدعوة المهدية كما كانت. بيد أنها لم تكن يومئذ سوى
_______
(1) راجع مرسوم المأمون في البيان المغرب ص 267 و 268، وراجع ص 371 من هذا الكتاب(4/631)
إجراء شكلي، وشبح باهت، ولم تلبث الخلافة الموحدية، أن دخلت في مرحلة انحلالها الأخير، وأخذت تسير إلى قضائها المحتوم.
3 - النظم العسكرية
ليس ثمة شك في أن القوة العسكرية، كانت منذ البداية، عماد الدولة الموحدية الأول، وقد بلغت التنظيمات العسكرية في ظل الدولة الموحدية، من حيث الضخامة مبلغاً لم تبلغه في أية دولة أخرى، في الغرب الإسلامي.
وقد كانت الحشود القبلية، هي المصدر الرئيسي للجيوش الموحدية. وقد بدأت هذه الحشود بصورة متواضعة، حينما أعلن المهدي ابن تومرت إمامته، وبايعته القبائل الموحدية، وأخذ يتأهب لمحاربة المرابطين. وكان المهدي هو أول من وضع نظاما عسكريا لأنصاره الموحدين، فرتبهم صفوفا، وجعل لكل عشرة منهم نقيباً. والتقت هذه الحشود القبلية لأول مرة بالمرابطين، وهي قليلة ْالأهبة، قليلة العدة، ودون نظام عسكري محكم، فكانت الحماسة لديها تغنى عن السلاح والنظام، وكانت انتصاراتها في المعارك الصغيرة الأولى، التي نشبت بينها وبين المرابطين، تذكى من عزمها وإقدامها، وتساعد في تضخم جموعها. وهكذا بدأ الجيش الموحدي في التجمع والانتظام، وإذا استثنينا موقعة البحيرة، التي فنى فيها معظم الجيش الموحدي الأول تحت أسوار مراكش، فإن الجيوش الموحدية، لم تلبث أن نهضت من هذه الضربة، وعادت منذ خلافة عبد المؤمن إلى سابق منعتها وتضخمها.
واتخذ المهدي لجيشه منذ البداية علما أبيض، كتب على أحد وجهيه " الواحد الله. محمد رسول الله. المهدي خليفة الله "، وكتب على الوجه الثاني " وما من إله إلا الله. وما توفيقى إلا بالله. وأفوض أمرى إلى الله " (1). وقد لبث البياض شعار العلم الموحدي دهراً، ولكن مع تغيير الأدعية والآيات التي تكتب عليه، ثم غيرت ألوانه بعد ذلك فيما يبدو، في أواخر عهد الدولة الموحدية، حسبما يبدو ذلك من ألوان العلم الموحدي الذي غنمه القشتاليون في معركة العقاب 609 هـ، والذى يحفظ حتى اليوم في دير برغش الملكي (2).
وفي عهد عهد المؤمن بن علي، أول الخلفاء الموحدين، اتسع نطاق الجيوش الموحدية، وزادت حشودها زيادة هائلة، وذلك بعد أن دانت سائر
_______
(1) راجع ص 196 من القسم الأول من هذا الكتاب.
(2) راجع ص 317 من هذا الكتاب(4/632)
قبائل المغرب للطاعة، وأخذت تساهم بحشودها في الجيوش الموحدية، وبالرغم من أن الحشود كان يجرى تنظيمها على أساس قبلى محض، فقد استطاع عبد المؤمن بسياسته في تأليف القبائل المختلفة، أن يؤلف بين هذه الحشود القبلية، وأن يجعل منها وحدة عظيمة متناسقة كانت هي عماد الجيش الموحدي، وقد استطاع عبد المؤمن من أن يحشد لغزو إفريقية جيشاً جراراً تقدره الرواية بخمسة وسبعين ألف فارس وخمسمائة ألف راجل، وهو رقم هائل في ذلك العصر (1). وقد وصف لنا صاحب الحلل الموشية بهذه المناسبة، طريقة مسير الجيش الموحدي، وخلاصتها أن يبدأ السير عقب صلاة الصبح، على صوت طبل الرحيل، فإذا ركب الخليفة، اجتمع حوله الأشياخ والأعيان، ويسير على بعد منه نحو مائة فارس، ويتقدم الموكب الخليفى مصحف عثمان، وهو في تابوته المغلف بصفائح الذهب، والمرصع بالياقوت الأحمر، موضوع في هودج يحمله نجيب، ويتبعه الخليفة ومن ورائه أولاده، ثم البنود والطبول، فالوزراء وأكابر الدولة. وتسير الجيوش على ترتيبها، دون تزاحم، فلا يتعدى أحد طوره، فإذا كان وقت النزول، نزلت كل قبيلة في منزلها، وكانت محلة الجيش تضم إلى جانب موارد المؤن، جميع الصناع وسائر أرباب الحرف، وكل ما يحتاج إليه " كأن المسافر معهم مقيم " (2).
وكانت سلا ورباط الفتح، مركزاً لتجميع الجيوش الموحدية، سواء الذاهبة منها إلى إفريقية، أو تلك التي تقصد العبور إلى الأندلس، وكانت المنطقة الواقعة شمالا،، فيما بين سلا وسبتة، تحتوي عدة مراكز كبيرة متتالية لتخزين المؤن اللازمة لإمداد الجيوش الذاهبة والعائدة. وكان طريق العبور المفضل للجيوش الموحدية، إلى شبه الجزيرة، قصر مصمودة أو القصر الصغير، الواقع على مسافة قريبة غربي سبتة. وموضع نزولها المفضل في شبه الجزيرة، هو ثغر طريف أو الجزيرة الخضراء، وذلك بالرغم مما قام به الخليفة عبد المؤمن من إعداد جبل طارق لنزول الجيوش الموحدية، وتزويدها بالحصون والمرافق اللازمة.
وقد سبق أن أشرنا إلى رواية ابن اليسع عن ابتكار الموحدين، منذ عصر عبد المؤمن، لخطة المربع الموحدي، التي اتخذت من ذلك الوقت، أساسا لخطط
_______
(1) الحلل الموشية ص 115.
(2) الحلل الموشية ص 116(4/633)
الدفاع الموحدية، وخلاصتها أن " تصنع دارة مربعة في بسيط المعركة، يجعل فيها من جهاتها الأربع، صف من الرجال بأيديهم القنا الطوال، والطوارق المانعة، ومن ورائهم أصحاب الدروق والحراب صفاً ثانياً، ومن ورائهم أصحاب المخالى فيها الحجارة صفاً ثالثاً، ومن وراء هؤلاء الرماة صفاً رابعاً. وفي وسط المربعة، ترابط قوي الفرسان ". وكانت صفوف الفرسان تخصص لها أمكنة معينة، في جميع جوانب المربع، وتفتح لها مخارج سريعة تستطيع أن تنطلق منها، ثم تعود إلى أماكنها الداخلية، دون أن تخل بنظام الرجّالة (المشاة). ويقوم بالهجوم الأول قوات المتطوعة المجاهدة، تؤيدها القوات الخفيفة، فإذا استطاع العدو أن يرد هؤلاء، وأن يتقدم حتى مواقف الجنود الموحدية النظامية، وقف حملة الحراب أمامه كالسد الحديدى الذي لا يخترق، واستقبله الرماة من حملة القسى والنبال بسيل من السهام والحجارة، فإذا استطاع العدو أن يخترق الصف الأول وهم حملة الحراب، استقبله حملة السيوف والدروع متأهبين لرده، وبادر الفرسان إلى معاونتهم من الأماكن الداخلية، فإذا استطاع العدو بعد كل ما تقدم، أن يتغلب على القلب والجناحين، فعندئذ يقوم الجيش الموحدي بالضربة الأخيرة، وتتقدم قوات الضلع الرابع من المربع، وهي الساقة أو الاحتياطى، المكون من صفوة الجند، ولاسيما الحرس الخاص، ويقودها الخليفة بنفسه، وكثيراً ما كانت هذه الصفوف الاحتياطية، تساعد على إحراز النصر بشجاعتها وخبرتها. وكانت هذه القوات تمتنع أحيانا داخل نطاق من السلاسل الحديدية، تبرز من خلالها الحراب الطويلة، فتثخن بذلك في العدو متى اجترأ على الدنو منها (1).
وكان التجمع القبلى حسبما أشرنا من قبل، هو الدعامة الأولى لحشد الجيوش الموحدية، وكانت معظم الحشود تجمع من القبائل الموحدية الرئيسية، التي يرتكز إليها هيكل الدولة الموحدية، والتي ذكرناها فيما تقدم، ومعظمها ينتمى إلى مصمودة. ولما اتسع نطاق الغزوات الموحدية في المغرب والأندلس، ولم تعد القبائل البربرية تكفى وحدها، لإمداد الجيوش الموحدية، بما تحتاج إليه من الحشود الضخمة، عمدت الخلافة الموحدية إلى التفكير في استمالة طوائف
_______
(1) الحلل الموشية ص 98، وتاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ ص 448 و 489. وراجع ص 246 من القسم الأول من هذا الكتاب(4/634)
العرب النازحين لإفريقية، والاستعانة بهم في مختلف حروبها وغزواتها، ومن أول من فكر في ذلك الخليفة عبد المؤمن، وذلك حينما اصطدم بأولئك العرب لأول مرة عند افتتاحه لبجاية، ثم افتتاحه للمهدية، بيد أنه لم ينجح في ذلك نجاحا يذكر. فلما تولى الخلافة ولده أبو يعقوب يوسف، بذل في سبيل استنفار طوائف العرب، واستمالتها إلى المشاركة في الجهاد بالأندلس جهوداً مضاعفة، واستعان في ذلك بتوجيه القصائد الرنانة لهم، وكان ممن اشترك في توجيه الشعر إليهم طبيبه الفيلسوف ابن طفيل، فوجه إليهم قصيدته الرائعة التي مطلعها:
أقيموا صدور الخيل نحو المضارب ... لغزو الأعادي واقتناء الرغائب
ونجحت هذه المحاولة، في استمالة طوائف كبيرة، من عرب هلال وسُليم وزغبة ورياح وغيرهم، إلى الانضمام إلى الجيوش الموحدية المجاهدة، وغمرهم الخليفة بإنعاماته وصلاته، من المال والكساء والسلاح، وذلك كله حسبما سبق أن فصلناه في موضعه (1).
ومن ذلك الحين تؤلف طوائف العرب، جناحا هاما في الجيوش الموحدية، وتشترك في سائر الحروب والغزوات الموحدية بالمغرب والأندلس. بيد أنه تبين فيما بعد، في كثير من الوقائع، أن انضمام أولئك العرب إلى الجيش الموحدي، كان خطأ عسكرياً فادحاً، وأن ضررهم كان أكثر من نفعهم في مشاركته، وذلك لما كانوا يتسمون به من التقلب وعدم الولاء، وشغف انتهاز الفرص السانحة. وقد خذلوا الجيش الموحدي في كثير من الوقائع في إفريقية والأندلس. وقد كان اجتذاب الخلافة الموحدية، لهذه الطوائف العربية، يرمى إلى تحقيق غايتين: الأولى إنقاذ إفريقية من عيثهم وتخريبهم المستمر، والثاني الاستعانة بهم في أعمال الجهاد بالأندلس. ولكن تبين على ضوء الحوادث، أنهم لبثوا في إفريقية عامل تخريب ودمار، طوال أيام ثورة بني غانية، يتقلبون طول الوقت بين الفريقين المتحاربين، وأنهم كانوا في الحملات الموحدية بالأندلس عامل تثبيط وخذلان. على أن السياسة الموحدية لم تعدل عن المضي في سياستها، في استمالة العرب ومصانعتهم حتى النهاية. فنراهم في أواخر عهد الخلافة الموحدية يشغلون في شئونها، وفي تكييف مصيرها، مكانة ملحوظة. ونرى الخليفة الموحدي، عند اضطرام الحرب الأهلية بينه وبين منافسيه، يستعين بعرب الخُلط، وأحيانا
_______
(1) راجع ص 59 - 61 من هذا الكتاب(4/635)
بعرب سفيان وبنى جابر، ونراه يقوم بتعيين مشايخ هذه الطوائف، ونرى هذه الطوائف، تلعب في الأعوام الأخيرة الحاسمة، من حياة الدولة الموحدية، في مصايرها دوراً له خطره.
وكذا كانت القوات الأندلسية، تؤلف بالجيش الموحدي بالأندلس جناحا هاما، وتشترك في سائر الغزوات والحروب التي تشهرها الجيوش الموحدية ضد النصارى، سواء في البرتغال أو في الممالك الإسبانية. وكانت القوات الأندلسية، تمتاز بشجاعتها ودربتها، وولائها لقضية الإسلام بالأندلس، وكانت تقاتل في طليعة الجيوش الموحدية، لخبرتها بقتال النصارى، وتغدو في معظم الأحيان عاملا من عوامل النصر.
وكان الخليفة الموحدي، يقود جيوشه في الحملات والغزوات الكبرى، بالمغرب والأندلس، وكان قبيل نشوب المعركة، أو بداية الغزو، يعقد مؤتمراً حربياً لوضع خطة الغزو، ويستمع فيه إلى آراء قادته (1). وكان لآراء القادة الأندلسيين، في غزوات شبه الجزيرة رأى مسموع، وقد دلت الحوادث غير مرة، على سلامة آرائهم ونصحهم. ومتى عبىء الجيش تعبئة قتال، ضربت قبة الخليفة الحمراء، ورفع فوقها العلم الموحدي الأبيض، وأحيطت بالسلاسل الحديدية الضخمة، وكانت تضرب عادة في ساقة الجيش، ويحف بها الحرس الخليفى، وهو يتألف عادة من الجند العبيد، ونخبة من الجند البربر، يحملون الرماح الطويلة، وكان الخليفة، متى رأى قواته خلال المعركة في حاجة إلى العون، يقود الساقة بنفسه، ويشد أزر قواته، ويعاونها بذلك على إحراز النصر، وقد تقع الكارثة فيهلك الخليفة، كما حدث لأبي يعقوب يوسف في نكبة شنترين، أو يلجأ إلى الفرار، كما حدث للناصر في موقعة العقاب.
وعلى غرار ما حدث للجيوش المرابطية، في أواخر عهدها، من الاستعانة بالمرتزقة النصارى، لجأ الخليفة الموحدي، إلى حشد المرتزقة النصارى في جيشه وذلك منذ أيام الخليفة المأمون. ونحن نعرف قصة التجاء المأمون إلى ملك قشتالة فرناندو الثالث، والثمن الفادح الذي دفعه إليه، لقاء عونه إياه بفرقة من الفرسان النصارى، لكي يعبر بها إلى المغرب، ويستعين بها على مقاتلة خصمه يحيى المنتصر، وانتزاع الخلافة منه، ومنها أن تقام كنيسة كبيرة للنصارى في مراكش،
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 41 أ(4/636)
وكانت هذه الفرقة، وعددها نحو خمسمائة فارس، هي أساس القوة النصرانية أو جيش الروم بالجيش الموحدي. وقد لعب الجند النصارى في عهد المأمون، وولده الرشيد أدوارا حاسمة، في المعارك التي خاضتها الخلافة الموحدية يومئذ ضد خصومها، وقامت بمراكش تحت رعاية الفرقة النصرانية، جالية نصرانية كبيرة، وقد استعملت البنود والطبول بالجيش الموحدي منذ البداية، وكذلك بالأساطيل الموحدية، وكان لها فرق خاصة، ونظم معينة تجرى عليها، وكانت تستعمل عند الرحيل، وعند بدء المعركة، وعند كل إجراء عام يجب أن يقوم به الجند، وكان منها الطبل الكبير الذي يضرب للرحيل، وهو مستدير الشكل يبلغ دوره خمسة عشر ذراعا من خشب أخضر اللون، مذهب الحافة، وكان يضرب للرحيل ثلاث مرات، ويسمع على مسيرة نصف يوم، من مكان مرتفع في يوم لا ريح فيه (1). وكانت الرسائل تستعمل لإذاعة الأوامر والنواهى، والانتصارات. وعند النصر يقترن ذلك بالاحتفال والإطعام.
وكانت الإنعامات والبركات من أخص امتيازات الجيش الموحدي، ولاسيما في إبان ازدهار الدولة وقوتها، وكان ذلك يشتمل فضلا عن منح الأجور والأعطية للجند، على إقامة المآدب للطعام، وتوزيع الأسلحة والكسى، وكان كساء الفارس عبارة عن طقم كامل من عفارة وعمامة وكساء وقسطة وشقة. وهذا عدا مبالغ من النقود الذهبية تصل للقادة والأعيان أحيانا إلى مائة دينار لكل منهم (2)، وكذلك لأشياخ العرب مائة دينار لكل منهم، وللفارس عشرون دينارا، وكان النظام القبلى، هو حسبما قدمنا، أساس حشد الجيوش الموحدية، فتقدم كل قبيلة ما يتعين عليها من الفرسان والرجّالة، عند الاستنفار العام.
وكان نظام التطوع يقوم كذلك إلى جانب نظام الحشد الجبرى، فتحشد أعداد كبيرة من الجند على سبيل التطوع دون تكليف، ويسمى هؤلاء بالمطوعة (3) وتعنى الخلافة الموحدية في نفس الوقت، وعند الاستعداد للجهاد، باستجلاب الخيل والعدد والأسلحة والرماح والبيضات والدروع والتروس وكذلك الكسى، وتوزيعها على الفرسان والجند وفق نظام معين.
ولم تغفل الخلافة الموحدية عن أهمية القوي البحرية، وخصوصاً منذ
_______
(1) الحلل الموشية ص 115.
(2) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة ص 74 أ.
(3) البيان المغرب ص 174(4/637)
استولت على إفريقية والأندلس. ومنذ عصر عبد المؤمن أول الخلفاء الموحدين، نرى الخلافة الموحدية، فضلا عما آل إليها من بقايا الأسطول المرابطي، تعنى بإنشاء القطائع البحرية سواء في مياه المغرب، أو إفريقية أو الأندلس. وقد أنشأ عبد المؤمن في أواخر عهده عدداً ضخماً من هذه القطائع بلغ نحو ثلاثمائة أو أربعمائة، كانت عماد الأسطول الموحدي الكبير، وكان الأسطول، فضلا عن قيامه بنقل الجيوش الموحدية الزاخرة، وعتادها الهائل، عبر المضيق إلى الأندلس في الذهاب والأوبة، يقوم بحراسة الشواطىء الأندلسية، من مياه البرتغال جنوبا، حتى مياه بلنسية والجزائر الشرقية، وشواطىء المغرب الشمالية حتى مياه تونس والمهدية. وكانت للأسطول الموحدي وحدات كبيرة، ترابط في المعمورة وسبتة، وتونس، ومالقة وقادس، وأحيانا في مياه البرتغال الجنوبية. وقد لعب الأسطول الموحدي أدواراً هامة في معارك الخلافة الموحدية مع البرتغال، وكذلك في افتتاح المهدية، وحوادث الصراع مع بني غانية، وفي افتتاح الجزائر الشرقية، وغيرها من مواطن الصراع بينها وبين خصومها.
وكانت شئون الجيش، توكل إلى ديوانين أو وزارتين هامتين: الأول هو ديوان العسكر، وعلى رأسه وزير، يكون في الغالب من الجند، يشرف على كل ما يتعلق بشئون الجيش (1). والثاني هو ديوان التمييز. وقد رأينا كيف بدأ التمييز في بداية الدولة الموحدية، إجراء تعسفياً لاستبعاد الخصوم أو المارقين أو إعدامهم، وتطهير صفوف الجيش منهم، ثم تطور هذا الإجراء بمضى الزمن، وأصبح ينصرف إلى اختيار الصفوة من الجند، وكان يجرى التمييز قبيل كل غزوة أو حرب هامة، يضطلع بها الخليفة الموحدي، ويعمل بالتمييز زمام، ويقرن بالإنعام والبركات على الجند الذين فازوا بالتمييز. وكان يتولى ديوان التمييز، وزير يسمى كاتب ديوان التمييز (2)، وكان للجيش في نفس الوقت، في ديوان الكتابة، كاتب أو أكثر يختصون بالكتابة في شئونه.
وكان حج الخليفة الموحدي إلى قبر المهدي وقبور آبائه بتينملّل، من الرسوم المأثورة، وكان الخليفة يقوم بهذه الزيارة حينما يعتزم الغزو، أو الاضطلاع بعظائم الأمور، وكانت تعتبر دائما حركة مباركة، وعنوان التشجيع والتيمن.
بيد أنه بالرغم مما بلغه الجيش الموحدي، في ظل الخلفاء الأقوياء منذ عبد المؤمن
_______
(1) البيان المغرب ص 141.
(2) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 150 ب(4/638)
حتى نهاية عهد المنصور، من الضخامة والقوة، فإنه كانت توجد به ثمة ثغرات، تعرضه من آن لآخر إلى وقوع الكوارث المؤلمة. ومن ذلك فوضى القيادة، فإنه لم تكن للجيش من بعد عبد المؤمن قيادة قوية حازمة، وكان اختيار القادة يتوقف على الظروف، ويتم غالبا قبيل وقوع الغزو أو المعركة المرتقبة، هذا مع اعتبار الخليفة دائماً هو القائد الأول لجيشه، وكان استئثار الخليفة بالقيادة، وعدم استماعه للخبراء من قادته، ينتهي بالفشل كما حدث في غزوة وبذه، أو بالكارثة كما حدث في موقعة شنترين. ولم يوفق المنصور إلى نصره الباهر في معركة الأرك، إلا بفضل حزمه ونصح قادته، ولاسيما القادة الأندلسيين، وكان اختيار القادة يتأثر غالبا بصلات القربى والمصاهرة، مما يترتب عليه استبعاد القادة الأكفاء. وكان حظ القيادة الأندلسية، على كفايتها وخبرتها بحروب شبه الجزيرة ضئيلا، وقد أدت هذه الفوضى في تنظيم القيادة الموحدية واختيارها، إلى هزيمة الجيش الموحدي غير مرة، في ظروف كان يلوح فيها أن النصر قريب منه.
وكان اختلال التموين في الجيوش الموحدية، يحدث كذلك أثره السىء في كفاية هذه الجيوش ومقدرتها. وقد كان امتداد خطوط التموين من أعماق المغرب عبر البحر إلى الأندلس، مسافات طويلة، أهم سبب في هذا الاختلال. وبالرغم من إقامة قواعد التموين الهائلة فيما بين سلا وسبتة، ولاسيما في وادي سبو، فإن الجيوش الموحدية، كانت حينما تعبر إلى شبه الجزيرة، وتتوغل في أراضي العدو، تشعر بنقص في تموينها، وكان هذا النقص، يؤدي في بعض الأحيان إلى اختلال نظام الجيش كله، وإلى انشغال معظم الجند بالبحث عن القوت. وقد تحدثنا فيما تقدم، غير مرة، عن هذه الظاهرة المؤسفة في نظام الجيش الموحدي.
وكان من أهم ما تمتاز به الجيوش الموحدية، تفوقها في فن الحصار، ومقدرتها على اقتحام المدن المنيعة، بالآلات الفتاكة. وقد كانت تتفوق في ذلك تفوقاً واضحاً، على الجيوش المرابطية، وكانت أمنع الأسوار والتحصينات تتحطم تحت ضربات هذه الآلات المدمرة. وقد دلل الموحدون على هذا التفوق في حوادث كثيرة، سواء في إفريقية أو في اسبانيا أو البرتغال، حينما كانت تنهار تحصينات المدن والقلاع المنيعة، أمام قصف مجانقهم وآلاتهم المدمرة، ولنا من ذلك أمثلة بارزة في حوادث حصار وهران والمهدية بإفريقية. وطرُّش وحصن(4/639)
القصر أو قصر أبي دانس وشلب بالبرتغال. ومن جهة أخرى، فإنه مما يلفت النظر، أن الموحدين لم يقتصروا على استعمال الآلات القديمة وتحسينها، بل كانوا يستعملون آلات جديدة قاذفة، تقذف الحجارة والكرات الحديدية الملتهبة. وفي أواخر العهد الموحدي بالأندلس نرى الموحدين في لبلة حين حصارها، يطلقون على القوات النصرانية المحاصرة، آلات تقذف الحجارة والحديد، ويصحبها دوى كالرعد، تشبه المدافع البدائية (1). وكان الموحدون في نفس الوقت يتفوقون في تشييد الحصون والمنشآت الدفاعية، ومازالت أطلال قصبة بطليوس العظيمة، وقلعة جابر، والأسوار الموحدية في إشبيلية ولبلة، تقوم شاهداً على هذا التفوق في فنون التحصينات.
ولما وقعت نكبة العقاب المشئومة، وسحقت الجيوش الموحدية، وتعذر على الخلافة الموحدية أن تبعث حشودها إلى الأندلس، انهارت الجبهة الدفاعية الأندلسية، ونهضت الممالك الإسبانية النصرانية لتجنى ثمار نصرها، وتلتهم من أشلاء الأندلس المهيضة ما استطاعت، وشغل الولاة الموحدون، وشغلت القوات الموحدية القليلة الباقية، بما نشب حول كرسى الخلافة الموحدية من خلاف، بدأ بالمغرب، وتردد صداه بالأندلس، فنهض أبو محمد عبد الله بن يعقوب المنصور، المتلقب بالعادل، أولا بإشبيلية، ونادى لنفسه بالخلافة ضد عمه أبي محمد عبد الواحد، وقام من بعده أيضاً بإشبيلية أخوه أبو العلى إدريس المتلقب بالمأمون، مدعيا الخلافة لنفسه، وتركت الأندلس لمصيرها، بعد أن تخلت عنها الخلافة الموحدية، تحاول بمواردها وقواها المضعضعة، أن تقف في وجه السيل المتدفق عليها، من جيوش الفتح الإسبانية، ولكن هيهات، فقد كانت مصاير الأندلس كلها، ترتجف في كفة القدر، وكان أن فقدت الأندلس، سائر قواعدها الكبرى، في أقل من ربع قرن.
4 - الحكومة الموحدية بالأندلس
كانت نظم الحكم المرابطية للأندلس، يغلب عليها الطابع العسكرى، وكان معظم حكام الولايات الأندلسية، من قادة الجيش البارزين، مثل سير بن أبي بكر اللمتوني، ومحمد بن الحاج، ومزدلي بن تيولتكان، ويحيى بن غانية، وغيرهم من أكابر القادة. ولكن النظم الموحدية، كانت أميل إلى الطابع المدنى، وكانت
_______
(1) راجع ص 493 من هذا الكتاب(4/640)
الأندلس، أو شبه جزيرة الأندلس كما كانت تنعت في الرسائل الموحدية الرسمية، تعتبر خلال العصر الموحدي، مثلما كانت عليه في العهد المرابطي، قطراً من أقطار الدولة الموحدية الكبرى. وكانت تنقسم إلى عدة ولايات أو عمالات، هي ولاية الغرب (شلب وأحوازها)، وباجة ويابره، وبطليوس وماردة وأحوازهما، وإشبيلية وكانت أعظمها رقعة، وتشتمل على قواعد شريش وشذونة وأركش وقرمونة وإستجه، وقرطبة وأحوازها، وجيان وأحوازها، وتشتمل على بياسة وأبدة، وغرناطة وتشتمل على وادي آش وبسطة والمنكب وألمرية وأحوازها، ومالقة وأحوازها، وكانت عمالاتها تضم أحيانا إلى سبتة والجزيرة الخضراء (1)، وبلنسية وتشتمل على قواعد قسطلونة، والجزيرة وشاطبة ودانية والجزائر الشرقية (وذلك قبل أن يستقل بها بنو غانية)، ومرسية وتشتمل على لقنت، وأوريولة ولورقة. وكان يتولى حكم هذه الولايات عادة أبناء الخليفة وإخوته أو قرابته وأصهاره. وكانت مدينة إشبيلية هي مركز الحكومة الموحدية العامة بالأندلس لما تقدم شرحه من الأسباب والبواعث، العمرانية والجغرافية والعسكرية، وقد نقلت منها الحكومة إلى قرطبة في أواخر عهد عبد المؤمن، ولكن لفترة قصيرة فقط، ثم أعيدت إلى إشبيلية، وبقيت بها حتى نهاية العهد الموحدي. وكان يتولى منصب الحاكم العام للأندلس، على الأغلب واحد من أبناء الخليفة أو إخوته، وكان أول من تولاه من أبناء الخليفة السيد أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وذلك في سنة 551 هـ، وذلك تحقيقاً لرغبة أشياخ إشبيلية (2). وفي إشبيلية، كان ينتظم حول ولد الخليفة، أو أخيه، بلاط موحدى صغير، كان يسطع أحيانا بمن يلتف حول السيد الحاكم، من أكابر الشخصيات الأندلسية المعاصرة، وقد كان هذا شأن بلاط السيد أبي يعقوب يوسف حينما كان يتولى حكم إشبيلية، ثم بعد ذلك لما عاد إليها بعد وفاة أبيه، متشحا بثوب الخلافة، وأقام بها بضعة أعوام. وكذلك سطع البلاط الموحدي بإشبيلية، أيام أن أقام بها ولده الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور، وحظيت إشبيلية في عهد أبي يعقوب وولده المنصور بطائفة من الصروح والمنشآت العمرانية العظيمة مثل جامع إشبيلية الأعظم، وصومعته الرائعة (لاخيرالدا)، والقصور والبساتين الموحدية خارج باب جهور، وحصن الفرج، وقنطرة طريانة، وغيرها مما سبق أن فصلناه في موضعه.
_______
(1) راجع ص 339 ق 1 من هذا الكتاب.
(2) راجع ص 348 ق 1 من هذا الكتاب(4/641)
وكان لكل ولاية أندلسية حكومتها المحلية، تضم إلى جانب الوالي الموحدي، الوزير والكاتب وصاحب العمل، والمشرف على الجباية، هذا عدا المناصب الدينية من القضاء والخطبة والشورى وغيرها. وكانت تؤلف هذه الحكومات المحلية عادة من أهل الأندلس، وهم يختصون عادة بمناصب الكتابة والقضاء. وكان بعض السادة من أبناء الخليفة أو إخوته، يستخدمون في حكوماتهم المحلية أكابر كتاب الأندلس، جريا على سنة بلاط مراكش، فنرى مثلا السيد أبا سعيد ابن الخليفة عبد المؤمن، حين ولايته لغرناطة، يستخدم لكتابته، الكاتب والشاعر الكبير أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسى (1). ونرى في أواخر العهد الموحدي، السيد أبا زيد بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن والي بلنسية، يستخدم لوزارته وكتابته، كاتبا من أعظم كتاب الأندلس وشعرائها هو ابن الأبار القضاعى (2). بيد أنه كانت تسند بعض المناصب الحساسة، إلى الموحدين، مثل الإشراف على الجباية والأعمال. أما حكم القواعد فكان يسند على الأغلب إلى حكام من الأندلسيين، الموثوق بولائهم وإخلاصهم للحكم الموحدي.
وكانت إشبيلية فضلا عن كونها مركز الحكومة الموحدية العامة، تتخذ في نفس الوقت، مركزاً لتجمع الجيوش الموحدية، القادمة من وراء البحر، أو العائدة من الغزو، لتعبر البحر مرة أخرى إلى أوطانها بالمغرب.
وكانت القوات الأندلسية، حسبما ذكرنا في موضعه، تؤلف جناحاً خاصاً في الجيوش الموحدية الوافدة إلى شبه الجزيرة، وكانت تقوم بحراسة كثير من الحصون في مناطق الحدود، إما مستقلة، وإما بالاشتراك مع بعض الحاميات الموحدية. وكان لجند الأندلس قيادتها الأندلسية الخاصة، إلى جانب القيادة الموحدية، وكانت هذه القيادة الأندلسية تلعب أدواراً هامة في التوجيه والإرشاد في بعض المعارك الكبرى.
ومما هو جدير بالذكر أن مملكة الشرق، أعني منطقة بلنسية ومرسية، كانت خاضعة قبل سقوطها في أيدي الموحدين في سنة 567 هـ (1171 م) لحكومة أندلسية محضة، كانت تقوم بحكمها وفقاً للتقاليد الأندلسية الخالصة، وقد لبثت هذه المنطقة دائماً، حتى بعد استيلاء الموحدين عليها، تحتفظ بطابع أندلسي قوي، يميزها عن بقية المناطق الأندلسية في الوسط وفي الغرب. ويرجع ذلك من بعض
_______
(1) الإحاطة في أخبار غرناطة (1956) ج 1 ص 224.
(2) راجع ص 396 من هذا الكتاب(4/642)
الوجوه إلى حظوة آل مردنيش بعد وفاة عميدهم محمد بن سعد، لدى الخليفة الموحدي، وإلى موافقة الخليفة على استبقاء آل مردنيش لسلطانهم ونفوذهم في تلك المنطقة مدى حين. ولما تضعضع سلطان الحكومة الموحدية، بعد ذلك بنحو ثلث قرن، على أثر نكبة الجيوش الموحدية في موقعة العقاب (609 هـ) وضعفت الحاميات الموحدية المحلية، كان شرقي الأندلس كذلك، أول المناطق التي قامت بها الحركة التحريرية الأندلسية، على يد المتوكل بن هود، في مرسية وأحوازها، والرئيس أبي جميل زيان بن مردنيش في بلنسية. ولم يكن ذلك سوى تجديد للحركة القومية الأندلسية، التي اضطرمت ضد الحكم الموحدي في شرقي الأندلس، على يد محمد بن سعد بن مردنيش، ولبثت صامدة زهاء ربع قرن. بيد أن هذه المرحلة الأخيرة من الحركة القومية الأندلسية، كانت ضعيفة، ولم يكتب لها الصمود، إزاء توثب الممالك النصرانية وهجماتها المتوالية، فكانت بداية المحنة ونذير الانهيار.
ونهض محمد بن الأحمر في أواسط الأندلس، فكانت ثمة حركة قومية أندلسية أخرى. وكانت هذه الحركات القومية الأندلسية المحلية، في الظروف الدقيقة التي كانت تعمل فيها، وبالرغم من صفتها القومية والتحريرية، تصطبغ بلون انتحارى مؤلم، وكانت الزعامات والقوى الموحدية، التي بقيت في شبه الجزيرة تشغل بمشاريعها الخاصة، وأطماعها في عرش مراكش، الذي أحاقت به الخلافات والفتن، عن الاهتمام بقضية الأندلس، أو التفكير في مدافعة أعدائها المتربصين بها، أعني النصارى الإسبان، بل كانت بالعكس تصانع أولئك الأعداء، وتستمد عونهم، وتقطعهم ما بيدها من حصون الأندلس وأراضيها. وقد لبثت إشبيلية حتى بيعة المأمون بالخلافة، مركز الحكم الموحدي بالأندلس، ولكنها مذ غادر المأمون شبه الجزيرة إلى المغرب (626 هـ)، قامت بها حكومة محلية في ظل الخلافة الموحدية، ثم أخذت تتردد بين الاستقلال، وبين الانضواء تحت حكم ابن هود تارة، وتارة تحت ظل الخلافة الموحدية، وأخيراً تحت ظل الدولة الحفصية بإفريقية. وكان حكم الأندلس في تلك الفترة العصيبة، كله اضطراب وفوضى، ولم تكن ثمة حكومة موحدة، في أية منطقة من المناطق، بل كانت ثمة حكومات محلية عديدة في منطقة الشرق، وفي أواسط الأندلس، وفي إشبيلية وقواعد الغرب، حسبما فصلناه كله في مواطنه(4/643)
الفصل الثاني الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي
القسم الأول
الدولة المرابطية دولة دينية عسكرية. الحركة الفكرية في ظلها امتداد لها في عصر الطوائف. إزدهار الحركة الفكرية خلال العصر الموحدي. المهدي ابن تومرت وسمته العلمية. الخلفاء الموحدون العلماء. رعايتهم للعلماء والحركة العلمية. الخلافة الموحدية وإطلاقها لحرية البحث. دور الأندلس في إذكاء الحركة الفكرية في الغرب الإسلامي. تقاطر علماء الأندلس على العدوة. أثر ذلك في تقدم الحركة الفكرية بالمغرب. إزدهار الحركة الفكرية خلال العصر الموحدي. تماوج الحركة الفكرية الأندلسية من جراء سقوط القواعد الاندلسية. نزوح علماء الشرق إلى إفريقية. إتجاه الحركة الفكرية خلال عصر الانهيار إلى العلوم الدينية. إزدهار العلوم الدينية والآداب حتى خلال عصر الانهيار. ضعف الحركة العلمية. كثرة علماء الدين والفقه والأدب بالأندلس خلال العصر الموحدي. الفقهاء والمحدثون وعلماء الدين الذين ظهروا في أوائل هذا العصر. نماذج من أعلامهم. أبو عبد الله بن الفرس. ابن الجد الفهرى. أبو عبد الله بن الفجار. ابن ذي النون الحجرى. ابن أبي جمرة. ابن أبي زمنين. ابن عون الله المعروف بالحصار. عبد الله بن سليمان بن حوط الله الأنصارى. أخوه داود بن سليمان بن حوط الله. الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعى. محمد بن ابراهيم المهرى. ابن زرقون الإبن. علماء الدين الذين جمعوا بين الحديث والفقه والأدب والشعر واللغة. نماذج من هؤلاء. عبد الله بن عمر الحضرمى. ابن الأشيرى. محمد بن إدريس العبدرى. محمد بن أحمد المنتانجشى. محمد بن خير الإشبيلي. عبد الله بن يحيى بن صاحب الصلاة. ابن صاف اللخمى. محمد بن جعفر بن حمدين الأموى. ابن زرقون الأب. ابن نجبة الرعينى. أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء. ابن عيسى التادلى. أحمد بن عتيق الذهبى. ابن خلف الأموى الخطيب. ابن عمران القيسى الميرتلى. ابن نوح الغافقي. أبو عمر أحمد بن عات النفرى. أحمد بن خلف الشنتيالى. ابن خلصة الحميرى. ابن عبد العزيز الأنصارى النحوى. ابن حزم الأموى النحوى. ابن عبد المؤمن القيسى الشريشى. من نبغ في أواخر العصر الموحدي من العلماء الذين جمعوا بين علوم الدين واللغة والأدب والشعر. محمد بن يخلفتن الفازازى التلمسانى. أحمد بن يزيد بن بقى بن مخلد الأموى. ابن أصبغ الأزدي. ثابت بن خيار الكلاعي. محمد بن جابر السقفي. ابن السقاء. من ظهر من هؤلاء وقت الانهيار. ابن مطروح التجيبي. ابن عسكر المالقي. ابن الصفار الضرير. ابن أبي حجة. أحمد بن علي بن أحمد الأنصاري. عبد الله بن خلف اللخمى الحرار. ابن محرز. أكابر المتصوفة. أحمد بن عمر المعافرى المعروف بابن إفرندو. ابن مراد السلمى. محمد بن عبد الله بن العربى المعافرى. ابن سيدبونه الخزاعى. محمد بن عبد الله بن قاسم الأنصارى. ابن مهيب اللخمى. الشيخ محيى الدين الطائى ابن عربي(4/644)
لم تكن الدولة المرابطية، حسبما وضح من تاريخها، سوى دولة دينية عسكرية، استمدت حياتها ومنعتها خلال عهدها القصير، مما كانت تتسم به من صفات البداوة والخشونة، وكانت روح التزمت التي تغلب عليها، وتدفعها إلى تجاهل القيم الفكرية والأدبية، تحول دون تفتح الحركات العقلية وتقدمها، ولم تكن تلك الحركة الفكرية التي ازدهرت في ظلها، والتي استعرضنا بعض ملامحها فيما تقدم، سوى امتداد طبيعى، واندفاع حتمى، لتلك الحركة الفكرية العظيمة التي ازدهرت في ظل دول الطوائف، والتي أسبغ عليها ملوك الطوائف كل تشجيع ورعاية، ثم جاءت الدولة المرابطية، فاحتضنت بعض جوانبها الرسمية، بمن كانت تحشدهم حولها من الوزراء العلماء، والكتاب البلغاء، ليكونوا لسانا لها، لدى الشعوب المحكومة، سواء بالمغرب، أو الأندلس، ولكى يستكمل البلاط المرابطي، بعد أن ضخمت الدولة وتوطد سلطانها، ما ينقصه من أسباب الهيبة والبهاء. أما الدولة الموحدية فكان لها شأن آخر. ذلك أن عصر الدولة الموحدية، الذي استطال زهاء قرن ونصف قرن من الزمان، كان من أحفل عصور التاريخ الأندلسي والمغربى بالحركات الفكرية. وإنه ليبدو من الغريب المدهش، أن نجد الحركة الفكرية الأندلسية، حتى في مرحلة الانحلال والانهيار، التي توالى فيها سقوط القواعد الأندلسية الكبرى، مستمرة في الاحتفاظ بنشاطها وعنفوانها، ونراها تنحدر عبر البحر من القواعد الأندلسية الذاهبة، إلى قواعد إفريقية والمغرب، تحمل معها تراثها الزاخر، وتزدهر هنالك حقبة أخرى.
ويجب قبل أن نتحدث عن هذه الحركة الفكرية الباذخة، التي ازدهرت بالمغرب والأندلس، خلال العصر الموحدي، أن نحاول أن نستكشف في ملامح الدولة الموحدية، بعض العوامل المشجعة، أو الدافعة لمثل هذه الحركة، إذ أنه لا ريب في أن الدولة الموحدية، بالرغم مما كان يقع في ظلها بين آونة وأخرى، من ضروب المطاردة الفكرية، كانت دولة حامية للعلوم والآداب والفنون.
لقد كان مؤسس الدولة الموحدية الروحى، المهدي محمد بن تومرت، من أقطاب علماء عصره، وقد أفسح في دعوته للعلم أيما مكانة، وحض على تحصيله بقوة وحماسة، في عبارته المشهورة، التي يفتتح بها كتابه وهي:
" أعز ما يطلب، وأفضل ما يكتسب، وأنفس ما يدخر، وأحسن ما يعمل، العلم الذي جعله الله سبب الهداية إلى كل خير، هو أعز المطالب، وأفضل(4/645)
المكاسب، وأنفس الذخائر، وأحسن الأعمال ".
وقد كان أول خلفاء المهدي، وهو عبد المؤمن بن علي، مؤسس الدولة الموحدية الحقيقي، وموطد دعائمها، كذلك كان عالما من ألمع علماء عصره، يلتف حوله العلماء والكتاب والشعراء من المغرب والأندلس، يبسط عليهم رعايته، ويغمرهم بصلاته، وهو الذي نظم جماعة الحفاظ الموحدين، وعنى بأمرها أشد عناية، حتى بلغت في أيامه نحو ثلاثة آلاف حافظ، يدرسون كتب المهدي وتعاليمه، وقد تولى الكثير منهم فيما بعد كثيراً من مناصب الثقة والمسئولية، في الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس.
وكان الخليفة أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، كذلك من أكابر علماء عصره، وكان أديباً متمكناً، وفقيهاً، ومحدثاً بارعاً، يشغف في نفس الوقت بالدراسات الفلسفية، ويجمع حوله طائفة من أعظم علماء العصر ومفكريه، وفي مقدمتهم أبو بكر ابن طفيل، وأبو الوليد بن رشد، وأبو بكر بن عبد الملك بن زهر، وهم أساتذة الفلسفة والطب في هذا العصر. وقد انتهى إلينا من آثاره كتابه في " الجهاد " وهو الملحق بكتاب المهدي ابن تومرت. وذلك حسبما أشرنا إلى ذلك في موضعه.
وكان ولده الخليفة يعقوب المنصور عالماً مستنيراً، متمكناً من الحديث والفقه واللغة، وكان مثل أبيه وجده، يجمع حوله العلماء والأدباء والشعراء، من المغرب والأندلس، ويجزل صلتهم، ويجرى المرتبات على الفقهاء والطلبة، وفقا لمراتبهم وطبقاتهم (1). وكان كذلك يجرى الرواتب المنتظمة، لكثير من الأطباء، والمهندسين والكتاب والشعراء وغيرهم (2)، وكان له بتمكنه من الفقه، دور فعال في تطور العقيدة الموحدية، وجنوحها إلى المذهب الظاهري.
ونجد حتى في أواخر الدولة الموحدية، حينما شاخت وأدركها الوهن، في الخلفاء الموحدين، من يتسم بالصفات العلمية البارزة، فقد كان الخليفة المأمون ابن المنصور، عالماً متمكناً من اللغة والأدب والشعر، وكان كاتباً مقتدراً، وكان الخليفة المرتضى لأمر الله، فقيهاً وأديباً وشاعراً. وكانت هذه الصفات العلمية للأواخر من الخلفاء الموحدين، تبرز على ما عداها، بالرغم مما كانت تتردى فيه الدولة، من الفتن والحروب الأهلية المتواصلة.
وقد كان لهذه النزعة العلمية التي غلبت على معظم الخلفاء الموحدين، أثر
_______
(1) روض القرطاس ص 143.
(2) المراكشي في المعجب ص 134(4/646)
كبير فيما جرت عليه الدولة الموحدية طوال أيامها، من رعاية للعلماء والمفكرين من كل ضرب، وحشدها لأعلام الكتاب والمفكرين حول البلاط الموحدي، سواء في مراكش أو إشبيلية.
ونستطيع أن نضيف إلى ذلك أن الخلافة الموحدية، تحملها هذه النزعة العلمية الأصيلة، قد جرت على سياسة إطلاق حرية البحث والتفكير، خلافا لما كانت عليه الدولة المرابطية، من تزمت وتقييد لحرية الفكر، ومطاردة منظمة لكتب الغزالى وأضرابها من كتب الأصول المشرقية. ولم تشذ الخلافة الموحدية عن هذا المبدأ الحر، إلا في أحيان قليلة، كان أهمها حادثان، هما اضطهاد العلامة الفيلسوف والطبيب اليهودى الرئيس موسى بن ميمون، ومحنة العلامة الفيلسوف والطبيب أبي الوليد بن رشد، وذلك حسبما نشير إليه فيها بعد عند الكلام على هذين المفكرين.
بيد أنه بالرغم من هذا التنويه، بما كان عليه الخلفاء الموحدون من الصفات العلمية، ورعاية العلوم والآداب، وما جرت عليه الخلافة الموحدية من إطلاق حرية الفكر، يجب ألا ننسى حقيقة هامة، وهي ذلك الدور الفعّال الذي لعبته الأندلس، وهي يومئذ إحدى ولايات الإمبراطورية الموحدية الكبرى، في إذكاء الحركة الفكرية العامة، بالغرب الإسلامي، خلال العصر الموحدي. وإذا تركنا جانبا ما كان يحشده البلاط الموحدي حوله، من أعلام الكتاب الأندلسيين، فإن تقاطر العلماء على اختلاف طوائفهم باستمرار من شبه الجزيرة الأندلسية، إلى العدوة، واستقرار الكثير منهم بالحاضرة الموحدية، أو بغيرها من قواعد المغرب، وعبور الطلاب والعلماء المغاربة من جهة أخرى إلى الأندلس، للدراسة بمعاهدها التالدة في إشبيلية، وقرطبة وغرناطة وبلنسية ومرسية، كان له أكبر الأثر في ازدهار الحركة الفكرية، بالقطرين العظيمين المغرب والأندلس. ولما انهار سلطان الموحدين بالأندلس، وأخذت قواعد الأندلس الكبرى، تسقط تباعا في أيدي النصارى، عبر كثير من علماء الأندلس، من أبناء القواعد الذاهبة، إلى ثغور إفريقية وقواعدها، ولاسيما تونس وبجاية وتلمسان، وقامت في شمال إفريقية في أواسط القرن السابع الهجرى، حركة فكرية وأدبية زاهرة. ومن ثم فإنه من الواضح، إزاء ذلك كله، أن الحركة الفكرية في الغرب الإسلامي، كانت خلال العصر الموحدي، تجوز، سواء بالمغرب أو الأندلس،(4/647)
فترة من القوة والازدهار. وإذا كان من الصعب علينا، خلال هذا البحث الذي خصص لتاريخ الدولة الموحدية السياسي، أن نستوعب سائر جوانب هذه الحركة الفكرية العظيمة، التي لا يمكن أن يتسع لتفاصيلها، سوى تاريخ خاص للآداب في هذا العصر، فإننا سوف نحاول مع ذلك، أن نلم بعناصرها بصفة عامة، وأن نستعرض الكثير من أعلامها، في مختلف العلوم والفنون، ولاسيما في شبه الجزيرة الأندلسية. هذا مع ذكر طائفة من أعلام التفكير المغاربة، الذين يقتضى المقام أن نذكرهم.
ومما يلاحظ في سير الحركة الفكرية الأندلسية في العصر الموحدي، تماوجها وعدم استقرارها، ولاسيما منذ أواخر القرن السادس الهجرى، وذلك حينما بدأت قواعد الغرب الإسلامية تسقط في أيدي النصارى، واتجهت هجرة العلماء وغيرهم، من أوطانهم القديمة، صوب منطقة إشبيلية. وحدث مثل هذا التقلقل في الأندلس الوسطى، وذلك حينما سقطت قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، وأعظم مراكز التفكير الأندلسي، في أيدي القشتاليين (633 هـ). وتلتها بقية قواعد المنطقة مثل جيان وغيرها، فعندئذ تحول مركز التفكير الأندلسي من هذه المنطقة إلى الجنوب، صوب غرناطة وغيرها من قواعد الأندلس الجنوبية، وكانت قد بدأت تجتمع في ظل زعامة إسلامية جديدة، هي زعامة ابن الأحمر، ثم لما وقع الانهيار العام في شرقي الأندلس، وسقطت بلنسية وشاطبة ودانية وغيرها من قواعد الشرق في أيدي النصارى (الأرجونيين) (636 - 641 هـ)، غادرها العلماء والخاصة، بعضهم إلى مرسية وأحوازها، ومعظمهم إلى ثغور إفريقية، ولاسيما تونس وبجاية، وكان في مقدمة هؤلاء علماء وكتاب أعلام، مثل ابن الأبار القضاعى، وأبي المطرف بن عميرة المخزومي، وأبي عبد الله بن الجنان وغيرهم. ولبثت مرسية وأحوازها، بعد سقوط بلنسية، زهاء ثلاثين عاما أخرى، مركزاً للعلوم الأندلسية، وإن كان ذلك في ظروف مقلقة، وتحت ضغط العدو المستمر، حتى سقطت بدورها في أيدي النصارى، وخبا بذلك آخر مشعل للعلوم الإسلامية في شرقي الأندلس، وتفرق بقية علماء الشرق، في مختلف القواعد الجنوبية، وقصد الكثير منهم إلى ثغور إفريقية وقواعد المغرب. وثمة ملاحظة أخرى تتعلق بعناصر الحركة الفكرية الأندلسية، في هذا العصر الذي اضطربت فيه أوضاع الحياة الإجتماعية بالأندلس، وهي أن هذه(4/648)
العناصر كانت تتجه قبل كل شىء إلى العلوم الدينية والآداب، بينما لا تحظى العلوم الدنيوية المحضة منها إلا بالقليل النادر، فلا نجد من علماء الطب والفلك والنبات مثلا سوى أفراد قلائل، ولا نجد، إذا استثنينا العالم النباتى الكبير أبا العباس ابن الرومية، شخصيات علمية بارزة، من طراز ابن زهر وابن طفيل وابن رشد. أما العلوم الدينية والآداب، فقد لبثت حتى خلال المحنة، محتفظة بمستواها الرفيع السابق، بل لقد بلغت الآداب، وقت الانهيار العام، مستوى عظيما من التفوق، لم تبلغه في عصور سابقة، وبلغ النثر والشعر منتهى الروعة. ذلك أن المحنة بسقوط الأوطان القديمة، وتبدد الشمل، وفقد المال والأهل والولد، وانهيار أركان الدين، وانطفاء نور الإسلام، في تلك الربوع العزيزة، كل ذلك قد أذكى لوعة الشعر والنثر، وصدرت عندئذ في بكاء الأندلس، من المراثى البليغة، من النظم والنثر، ما يهز أوتار القلوب، وما لا يزال يحتفظ حتى اليوم بكل روعته وتأثيره. والآن بعد أن استعرضنا بعض ملامح الحركة الفكرية الأندلسية، خلال العصر الموحدي، نحاول أن نستعرض ذلك الثبت الحافل من أعلام التفكير الأندلسي، الذين ظهروا في هذا العصر، وسوف نبدأ في ذلك بعلماء الدين، من فقهاء ومحدثين، ومن إليهم من علماء الكلام والأصول وغيرهم.
- 1 -
قلنا إن الحركة الفكرية الأندلسية، خلال العصر الموحدي، تمتاز بوفرة في دراسة علوم الدين والفقه والأدب، ومن ثم فإنا نجد أمامنا جمهرة كبيرة من علماء الدين والفقه يعدون بالمئات، ومن المتعذر علينا في هذا المقام المحدود، أن نذكرهم جميعاً، ولهذا فسوف نقتصر على ذكر الأعلام البارزين منهم.
ومن جهة أخرى فإن كثيراً من هؤلاء العلماء والفقهاء، الذين امتازوا بالتفوق في العلوم الدينية، كالحديث والأصول والتفسير والفقه، كانوا في نفس الوقت يمتازون بتمكنهم من الأدب وعلوم اللغة، وبعضهم ينظم الشعر، ومن ثم فإنا سوف نحاول أن نقدم منهم من غلب عليهم التفوق في العلوم الدينية، ثم نتبعهم بمن مزجوا بين علوم الدين والأدب، بيد أن مثل هذا التصنيف لا يمكن إلا أن يكون أمراً نسبياً.
ونود أن نشير كذلك، إلى مسألة الفارق الزمنى بين عصر المرابطين وعصر الموحدين. ذلك أننا أدرجنا ضمن أعلام التفكير الأندلسي في عصر المرابطين،(4/649)
بعض من امتدت حياتهم إلى صميم العصر الموحدي، إلى سنة 560 هـ، وأحيانا إلى سنة 570 هـ، وسوف ندرج هنا ضمن أعلام العصر الموحدي بعض من توفوا قبل ذلك، ممن أدركوا العصر المرابطي وظهروا فيه. والتفرقة هنا نسبية أيضاً، ولا ضير منهما، ما دمنا نعنى في كتابنا بعصر المرابطين والموحدين معا.
ونبدأ بذكر طائفة من الفقهاء والمحدثين وعلماء الدين، الذين ظهروا بالأندلس في أوائل العصر الموحدي، منذ منتصف القرن السادس الهجرى. ومن الواضح أن معظمهم ظهر كذلك في العصر المرابطي، قبل عبور الموحدين إلى شبه الجزيرة واستيلائهم عليها.
كان من هؤلاء ابراهيم بن الحاج أحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن خالد ابن عماره الأنصارى، من أهل غرناطة، وبها نشأ ودرس على أعلام عصره بها، وبقرطبة ومالقة، وألمرية، وكان ممن أخذ عنهم أبو بكر بن عطية، وأبو الحسن ابن الباذش، وابن عتاب، وابن رشد، وغيرهم من الأقطاب، وبرع في الفقه والحديث، والقراءات، ومارس عقد الشروط، وولي القضاء بعدة جهات من ولاية غرناطة، ولما انهار سلطان المرابطين بالأندلس غادر موطنه غرناطة، يتجول في البلاد، حتى استقر أخيراً بمدينة ميورقة في كنف أميرها إسحاق بن محمد بن غانية، فولاه قضاءها، وتصدر للدرس والإقراء وكان من أعلام دولة بني غانية. وتوفي بميورقة في جمادى الأولى سنة 579 هـ، ومولده بغرناطة سنة 495 هـ (1).
ومحمد بن عبد الرحيم بن محمد بن الفرج بن هاشم الأنصارى الخزرجى، ويعرف بابن الفرس، من أهل غرناطة، درس على أبيه أبي القاسم، وأبي بكر بن عطية، وأبي الحسن بن الباذش، وأبي القاسم بن ورد، ودرس في قرطبة على ابن عتاب وابن رشد، وابن الوراق وغيرهم من أعلام العصر. وعنى بالحديث والفقه والقراءات، والرواية، مع تمكن من الفتوى. غادر بلده غرناطة عند وقوع الفتنة بها على أثر انهيار سلطان المرابطين واستوطن مرسية، وولي بها خطة الشورى ثم تولى قضاء بلنسية، ولكنه غادرها منذ قيام ثورة ابن شلبان، وأدى اضطراب الأحوال إلى أن صرفه الأمير محمد بن سعد عما كان بيده من الخطط، ثم عاد فاسترضاه لما رأى من علمه وفضله وزهده، وكان في وقته من أعلام حفاظ الأندلس، مع مشاركة في الأدب. أخذ عنه الكثير
_______
(1) ترجمته في التكملة (القاهرة) رقم 400(4/650)
وانتفعوا به، وكانت وفاته بمدينة إشبيلية، عند وفوده عليها مع وجوه أهل مرسية لتحية الخليفة، وذلك في شوال سنة 567 هـ (1).
وبيبش بن محمد بن أحمد بن خلف بن بيبش العبدرى من أهل أندة، وسكن مع أبيه بلنسية، ودرس بها وبرع في الفقه، وولي الشورى ببلنسية، وكذلك خطة الأحكام، وكان بصيراً بعقد الشروط، مدركا لصحة الأحكام، وتطوع في جيش الخليفة أبي يعقوب يوسف حينما سار لغزو مدينة وبذة في سنة 567 هـ، ثم توفي عقب عوده من الغزو المذكور في سنة 568 هـ (2).
وعبد الله بن أحمد بن سعيد بن عبد الرحمن العبدرى من أهل بلنسية ويعرف بابن موجوال، درس الفقه والحديث والقراءات، ونزح إلى إشبيلية، فسكنها وأخذ عن أبي مروان الباجى، وأبي بكر بن العربى وغيرهما، وبرع بالأخص في دراسة الفقه، وكان بصيراً بالأحكام، وعرف فوق ذلك بالورع والزهد، وحدث عنه جماعة من الأعلام. ألف شرحاً في صحيح مسلم، ولكنه توفي قبل إتمامه، وله كذلك شرح لرسالة أبي زيد القيروانى. وتوفي في إشبيلية سنة 566 هـ (3). ومحمد بن عبد العزيز بن علي بن عيسى بن مختار الغافقي، من أهل قرطبة، ويعرف بالشقورى لأن أصله من شقورة. كان معنيا بصناعة الحديث، بصيراً بطرائقه، وكان فوق ذلك حافظا لأخبار الأندلس متمكنا من الفقه والأحكام. ولى قضاء شقورة بلده الأصلى، فحمدت سيرته، واشتهر بالعدل والنزاهة، وحدث وأخذ عنه الناس، وتوفي في المحرم سنة 579 هـ (4).
وأحمد بن يوسف بن عبد العزيز بن محمد القيسي الوراق من أهل قرطبة أخذ عن ابن عتاب وابن رشد والقاضي عياض وغيرهم من أقطاب عصره، وكان عالما بالحديث، حدث وأخذ عنه جماعة كبيرة، وكان أصم، وتوفي بمراكش سنة 582 هـ (5).
وأحمد بن عبد الصمد بن أبي عبيدة الخزرجي من أهل قرطبة، وسكن غرناطة وقتا، ثم نزح إلى بجاية، وكان محدثاً متمكناً من الرواية. وكتب في أحكام النبى كتابا سماه " آفاق الشموس وأعلاق النفوس " وكتابا آخر عنوانه " مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان "، وتوفي بمدينة فاس في شهر ذي الحجة سنة 582 هـ (6).
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 1394.
(2) ترجمته في التكملة رقم 609.
(3) ترجمته في التكملة رقم 2050.
(4) ترجمته في التكملة رقم 1436.
(5) ترجمته في التكملة رقم 222.
(6) ترجمته في التكملة رقم 223(4/651)
وبيبش بن محمد بن علي بن بيبش العبدرى من أهل شاطبة، درس الفقه والحديث والتفسير مع مشاركة في النحو ومارس الشورى والفتيا زمنا، وعرف بمقدرته وكفايته. ثم تولى قضاء شاطبة بلده. وألف في التعليق على صحيح البخاري كتابين، وأخذ عنه جماعة من أعلام عصره، توفي في جمادى الأولى سنة 582 هـ (1). وكان من أعظم فقهاء هذا العصر وحفاظه، ابن الجد الفهرى، وهو محمد ابن عبد الله بن يحيى بن فرج بن الجد، وأصله من لبلة وبها ولد سنة 496 هـ، وتلقى بها دراسته الأولى ثم درس بقرطبة، وأخذ فيها عن ابن عتاب، وابن رشد، وأخذ في إشبيلية عن أبي بكر بن العربى وغيره، وعنى لأول أمره بدراسة العربية فبرع فيها، وعزم على التخصص فيها، والتصدر لإقرائها، ولكنه مال بعدئذ بتوجيه أستاذه ابن رشد إلى دراسة الفقه والحديث، فبرع في هذا الميدان وبلغ فيه الذروة، وانتهت إليه رياسة عصره في الحفظ والفيتا، وقدم للشورى بإشبيلية مع أبي بكر بن العربى ونظرائه من الفقهاء البارزين يومئذ، وكان في عصره فقيه الأندلس والمغرب وحافظهما دون منافس ولا منازع، كما كان أبرع أهل عصره في التمكن من مذهب مالك. وكان فوق ذلك فصيحاً، وخطيباً مفوهاً، وذاع صيته في المغرب والأندلس، وتبوأ ذروة النفوذ والجاه في ظل الدولة الموحدية، ولكنه لم يترك من قلمه آثارا ذات شأن، وتوفي بإشبيلية في الرابع عشر من شوال سنة 586 هـ عن تسعين عاما، ولبثت أسرته عصراً تحتفظ بمكانتها ونفوذها، وتولى حفيده الفقيه أبو عمرو بن الجد زعامة إشبيلية وقتا، أيام الانهيار والفتنة، وتوفي قتيلا قبل سقوط إشبيلية بوقت قصير (2).
ومن الفقهاء والمتكلمين، صالح بن أبي صالح خلف بن عامر الأنصارى الأوسى من أهل مالقة، درس بها على أعلام عصره ثم رحل إلى تلمسان، ثم إلى تونس، والمهدية، وأخذ عن أقطابها سماعا وإجازة. وكان فقيهاً متمكناً من علم الكلام. وروى عنه الأخوان أبو محمد وأبو سليمان إبنا حوط الله، وتوفي في رمضان سنة 586 هـ (3).
ومنهم أحمد بن محمد بن أخلف بن عبد العزيز الكلاعي، من أهل إشبيلية
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 610.
(2) راجع ترجمة الحافظ ابن الجد في التكملة رقم 1469، وراجع ص 470 - 472 من هذا الكتاب.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1887(4/652)
ويعرف بالحوفي. درس الفقه والحديث، وسمع من أبي بكر بن العربي وغيره، وتولى قضاء إشبيلية، وعنى بنوع خاص بعلم الفرائض، وألف فيه كتابا حسنا وتوفي في شعبان سنة 588 هـ (1).
وأبو بكر بن خلف الأنصاري، من أهل قرطبة، ويعرف بالموافق، درس الحديث والفقه، ونزح إلى مدينة فاس، واشتهر بغزارة الحفظ، وتولى تدريس الفقه عصراً، واشتهر بمقدرته وتبحره، وعنى في الحديث بالتعليل والبحث عن الأسانيد والرجال، ولم يعن بالرواية، والتحق وقتا بخدمة الخليفة في مراكش، ونال جاهاً وثراءً، ثم ولى قضاء فاس، فلبث فيه حتى توفي في شوال سنة 590 هـ (2).
ومحمد بن ابراهيم بن خلف بن أحمد الأنصاري من أهل مالقة، وأصله من بلنسية، ويعرف بابن الفخار. كان إماما في الحديث، مقدما فيه، وفي المعرفة بسرد المتون والأسانيد، وتمييز الرجال. سمع من أبي بكر بن العربى، وأكثر عنه واختص به، وعن أبي مروان بن بونه، وأبي جعفر البطروجى، وشريح ابن محمد، وأبي طاهر السلفى. وكانت له فوق ذلك مشاركة في اللغة ومعرفة الشروط، وكان يتولى عقدها بباب قنتنالة، وكان يحفظ " صحيح مسلم "، وكان شديد الورع، جليل القدر، شديد التمسك بالعدل، مكرما لطلاب العلم. واستدعى في أواخر حياته من الخليفة يعقوب المنصور إلى مراكش ليسمع عليه بها، فقصد إليها، ولكنه توفي بها بعد قليل في شعبان سنة 590 هـ، ومولده بمالقة سنة 511 هـ (3).
وعبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن ذي النون الحجري، من أهل ألمرية، وأصلهم القديم من طليطلة، ولهم فيما يبدو صلة رحم ببنى ذي النون سادة طليطلة أيام الطوائف. درس الحديث والفقه ثم رحل إلى قرطبة، ثم إلى إشبيلية، ودرس فيهما على أعلام عصره، ولاسيما أبي القاسم بن بقى، وابن مغيث، وأبي بكر بن العربى، وشريح بن محمد، واشتهر بتبحره وغزارة حفظه. وكان آية في الصلاح والورع والفضل والعدالة، وولي الخطبة والصلاة بجامع بلده ألمرية، ودعى إلى القضاء، فاعتذر. ولما غلب النصارى على ألمرية في سنة
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 227.
(2) ترجمته في التكملة رقم 596.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1480(4/653)
542 هـ (1147 م) غادرها إلى مرسية، وعاش بها وقتا في خمول وضعة، ثم غادرها إلى مالقة، ولكنه لم يجد بها طيب المستقر، فعبر البحر إلى العدوة، ونزل بمدينة فاس وأقام بها مدة، ثم انتقل منها إلى سبتة، فاستوطنها، وهو عاكف على إقراء القرآن وتدريس الحديث، وسار ذكره، وبعد صيته، حتى قصد إليه الناس من كل صوب للأخذ عنه، واستدعاه الخليفة، أبو يعقوب يوسف، إلى مراكش، ليسمع بها، فقصد إليها وأقام بها مدة، ثم استأذن في العود إلى سبتة وقضى بها بقية حياته. حدث عنه عدد كبير من جلة العلماء من الأندلس والمغرب. وكان مولده بحصن قنجاير على مقربة من ألمرية في سنة 505 هـ، وتوفي بسبتة في شهر المحرم، وقيل في صفر سنة 591 هـ (1).
ومحمد بن عبد الكريم الفندلاوى من أهل مدينة فاس، ويعرف بابن الكتانى، كان إماما في علم الكلام وأصول الفقه، وعكف على تدريسهما طول حياته، وكان له معرفة بالآداب، وله رجز في أصول الفقه، وروى عنه جماعة من أهل المغرب، وتوفي سنة 596 هـ (2).
وأحمد بن سلمة بن أحمد بن يوسف بن سلمة الأنصارى من أهل لورقة، وسكن تلمسان، ويعرف بابن الصيقل. درس الحديث وبرع في صناعته، وروى عن ابن الدباغ، وابن بشكوال، وابن خير، وابن الجد، وغيرهم من الأقطاب، وكان من أهل الضبط والإتقان. حدث، وسمع منه الكثير، وذكر لنا ابن الأبار أن شيخه أبا الربيع بن سالم كبير علماء بلنسية في عصره، كان يطنب في الثناء عليه. وتوفي في المحرم سنة 598 هـ (3).
ومحمد بن أحمد بن عبد الملك بن موسى بن محمد بن مروان بن خطاب ابن عبد الجبار، ويعرف بابن أبي جمرة، من أهل مرسية. درس الفقه والحديث على أقطاب عصره، وعنى بالرأى وحفظه، وولي خطة الشورى، وهو شاب في الحادية والعشرين أيام إمامة القاضي ابن أبي جعفر، ثم في ظل إمارة محمد بن سعد، واستمر فيها وقتا، وكان أول من شاوره من القضاة أبو الحسن بن برطلة. ثم ولى قضاء مرسية وبلنسية وشاطبة وأوريولة في أوقات مختلفة. وكان حافظاً متقناً، وفقيهاً بارعاً، بصيراً بمذهب مالك، متخصصاً في تدريسه، عدلاً دقيقاً في
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 2080.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1718.
(3) ترجمته في التكملة رقم 238(4/654)
أحكامه، فصيحاً، حسن البيان. ومن مؤلفاته، كتاب " نتائج الأبكار، ومناهج النظار، في معانى الآثار "، ألفه بعد سنة 580 هـ، حينما قام الخليفة المنصور بمطاردة أهل الرأي، وأمر بإحراق المدونة وغيرها، من كتبه، وكتاب " إقليد التقليد المؤدى إلى النظر السديد ". وله برنامج عدد فيه الأعلام من علماء أسرته. وقد حمل عليه وعلى أسلافه بعض علماء عصره، ودافع عنه ابن الأبار، في ترجمته بالتكملة، ونوه بفضل بعض الأعلام من سلفه، تأييداً لدفاعه، واستشهد كذلك بأقوال بعض شيوخه مثل أبي عمر بن عات، وأبي سليمان بن حوط الله، وأبي بكر ابن وضاح وغيرهم. وكانت وفاته بمرسية مصروفا عن القضاء، في اليوم الثلاثين من المحرم سنة 599 هـ (1).
ومحمد بن علي بن مروان بن جبل الهمداني، من أهل وهران، وأصله أندلسي، ونشأ بتلمسان، ودرس بها، وولي قضاءها، ثم ولى قضاء الجماعة بمراكش في سنة 585 هـ، بعد أبي جعفر بن مضاء، ثم نقل إلى قضاء إشبيلية عام 592 هـ، ثم أعيد ثانية إلى قضاء مراكش بعد إقالة أبي القاسم بن بقى، وكان فقيهاً متمكناً، حميد السيرة، شديد الهيبة، عارفا بالأحكام، ميالا إلى العدل، وتوفي سنة 601 هـ. ويقول لنا صاحب التكملة إن أحداً لم يجلد طوال ولايته للقضاء، مما يدل على أن عقوبة الجلد، كانت مستعملة في هذا العصر، للمعاقبة على الذنوب التي يقضى فيها بالتعزير (2).
ومحمد بن أبي خالد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن .. بن محمد بن أبي زمنين عدنان بن بشير بن كثير المرّى الإلبيرى، من أهل غرناطة، كان من ألمع فقهاء عصره، وأخذ عن أبي مروان بن قزمان، وأبي الحسن الزهرى، وأبي القاسم بن بشكوال، وغيرهم من أقطاب عصره. ولى قضاء غرناطة، ثم قضاء مالقة، وكان فوق براعته في الفقه، محدثاً متقناً، بارعاً في الرواية، عارفاً بتاريخ من نزل بالأندلس قديماً من العرب. وحدث عنه جماعة ممن تبوؤوا الطليعة فيما بعد، ومنهم أبو سليمان بن حوط الله، وأبو القاسم الملاّحى، وأبو الربيع ابن سالم وغيرهم. توفي مصروفا عن القضاء في شهر ربيع الأول سنة 602 هـ. وكان مولده بغرناطة سنة 533 هـ (3).
_______
(1) أورد له ابن الأبار ترجمة مطولة في التكملة رقم 1514.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1719.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1530(4/655)
وإسحاق بن ابراهيم بن يعمر الجابري، من مدينة فاس، ودرس بها، ودرس كذلك بسبتة، ثم رحل إلى الأندلس، ودرس الفقه بمرسية. وولي قضاء فاس وسبتة، وكان متبحراً في الفقه المالكى، حافظا متقنا، ويقال إنه كان يستظهر المدونة. وولي قضاء بلنسية في أواخر عمره سنة ست وستمائة، ثم ولى قضاء جيان، وفقد في موقعة العقاب في شهر صفر سنة 609 هـ (1).
وأحمد بن علي بن يحيى بن عون الله الأنصاري، ويعرف بالحصّار. أصله من دانية وسكن بلنسية، ودرس القراءات وبرع فيها، وتبوأ رياستها في عصره، ولم يكن أحد يدانيه في صناعته في الضبط والتجويد والإتقان. وكان يقصده الطلاب من كل صوب للأخذ عنه، ويصفه تلميذه ابن الأبار، الذي ننقل عنه هذه الترجمة، بأنه كان " آخر المقرئين " بشرق الأندلس. وكانت وفاته ببلنسية في الثالث من شهر صفر سنة 609 هـ، قبيل كارثة العقاب بأيام قلائل، وقد قارب الثمانين من عمره (2).
وعبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري من أهل مالقة، ويعرف بابن القرطبي، لأن أصلهم من قرطبة. ودرس الحديث، وبرع فيه، وأخذ عنه جمهرة من أقطاب عصره مثل أبي بكر بن الجد، وابن زرقون، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن الفخار، وعنى بالرواية عناية شديدة، وأكثر من الرحلة في لقاء الشيوخ، وطلب العلم، وكان من أشهر أهل عصره في صناعة الحديث، والتصرف في فنونه، ولم يكن أحد يدانيه في حفظ التاريخ، إلا القلائل من أهل عصره، وكان فوق ذلك له مشاركة طيبة في علم العربية والآداب، إلا أن شهرته في الحديث كانت هي الغالبة عليه. وقد حدث ودرس وأخذ عنه الكثير، وألف مجموعة في " تلخيص أسانيد الموطأ " توفي بمالقة في شهر ربيع الآخر سنة 611 هـ (3).
وكان من أبرز أقطاب الحديث والفقه في أواخر العصر الموحدي بالأندلس، الأخوان عبد الله وداود، إبنا حوط الله الأنصاري الحارثي. وأكبرهما عبد الله، وهو عبد الله بن سليمان بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان بن عمرو بن خلف ابن حوط الله الأنصاري الحارثي، ولد بأندة من أعمال بلنسية في سنة 549 هـ،
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 517.
(2) ترجمته في التكملة رقم 261.
(3) ترجمته في التكملة رقم 2097(4/656)
وهي موطنهم وأصل دارهم، ودرس ببلنسية ومرسية وقرطبة. وتجول في سائر قواعد الأندلس الأخرى. وبرز في الحديث، والقراءات، وأخذ عن جمهرة من أقطاب العصر، منهم بمرسية أبو القاسم بن حبيش، وبقرطبة أبو القاسم ابن بشكوال، وأبو العباس المجريطي، وأبو الوليد بن رشد، وبإشبيلية أبو بكر ابن الجد، وأبو اسحق بن ملكون، وبمالقة أبو عبد الله بن الفخار وأبو القاسم السهيلى، وغير هؤلاء. وكان إماما في صناعة الحديث، متفوقاً في الرواية والضبط، حافظاً لأسماء الرجال، متمكناً من التعديل والتجريح، ولم يكن في وقته أبعد صيتا منه، ومن أخيه أبي سليمان في هذا الميدان، وكان فوق ذلك متفوقاً في علم العربية، كاتباً بليغاً، وخطيباً مقتدراً، وشاعراً محسناً. استدعاه الخليفة المنصور لتأديب بنيه فحظى لديه، ونال جاها ودنيا عريضة. وتولى في أوقات مختلفة قضاء قرطبة وإشبيلية ومرسية وسبتة وسلا وغيرها، وألف كتاباً في " تسمية شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والنسائى والترمذى " ولكنه لم يكمل، ووضع فهرسا حافلا لشيوخه. حدث وسمع منه الكثيرون من أعلام عصره. وتوفي بغرناطة، وهو في طريقه إلى مرسية، وذلك في الثاني من شهر ربيع الأول سنة 612 هـ، ثم نقل إلى مالقة ودفن فيها (1).
وأما أخوه داود بن سليمان بن داود، فقد ولد بأندة سنة 560 هـ، ودرس الحديث على أبيه وأخيه كبيره عبد الله، وبرع مثله في الحديث، وطاف بقواعد الأندلس طلباً للعلم، وأخذ من الجلة أينما حل، ورحل كذلك إلى سبتة وغيرها من بلاد العدوة، وكان خبيراً بعقد الشروط. وكان ممن أخذ عنهم أبو العباس المجريطى، وابن بشكوال، وأبو بكر بن الجد، وأبو عبد الله بن زرقون، وأبو عبد الله بن الفخار، وأبو العباس بن مضاء، وابن الفرس، وأبو بكر بن أبي زمنين وغيرهم وغيرهم. وتولى قضاء سبتة وألمرية والجزيرة الخضراء، ثم تولى قضاء بلنسية، ومالقة، وعرف أينما حل بالعلم والحلم والنزاهة، وكان ورعا متواضعا، لين الجانب، يشاطر أخاه الشهرة وعلو المكانة. وتوفي بمالقة في سادس ربيع الآخر سنة 621 هـ، ودفن بسفح جبل فاره إلى جانب أخيه (2).
ونختتم هذا الثبت من علماء الحديث والحفاظ بذكر إمامهم وشيخهم في وقته، العلامة الحافظ أبو الربيع بن سالم. وهو سليمان بن موسى بن سالم بن حسان
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 2099.
(2) ترجمته في الإحاطة (1956) ج 1 ص 511 - 514(4/657)
ابن سليمان الحميرى الكلاعى من أهل بلنسية، وأصله من بعض ثغورها الشرقية. درس القراءات والحديث، وأخذ وروى عن جماعة كبيرة من شيوخ عصره، مثل أبي العطاء بن نذير وأبي القاسم بن حبيش وأبي بكر بن الجد، وأبي الوليد بن رشد وأبي محمد بن الفرس وغيرهم. وبرع في الحديث والفقه والأدب. وكان حسبما يصفه تلميذه ابن الأبار " إماما في صناعة الحديث، بصيراً، حافظا حافلا، عارفا بالجرح والتعديل، ذاكراً للمواليد والوفيات، يتقدم أهل زمانه في ذلك وفي حفظ أسماء الرجال، مع الاستبحار في الأدب والاشتهار في البلاغة، فرداً في إنشاء الرسائل، مجيداً في النظم، خطيباً فصيحاً مفوهاً ". ويصفه ابن عبد الملك بأنه " بقية الأكابر من أهل العلم بصقع الأندلس الشرقي، حافظا للحديث مبرزاً في نقده، ضابطا لأحكام أسانيده، كاتباً بليغاً شاعراً مجيداً، خطيباً مصقعاً ". تولى الخطبة بجامع بلنسية غير مرة، وقدم إلى سماعه الطلاب من كل صوب. وكتب عدة مصنفات في الحديث والسير والآداب، منها حلية الأمانى في الموافقات العوالى، وتحفة الرواد في الغوالى البدلية والإسناد، والمسلسلات من الأحاديث، وكتاب الاكتفاء في مغازى رسول الله، ومغازى الثلاثة الخلفاء، وكتاب حافل في معرفة الصحابة والتابعين لم يكمله، وبرنامج مروياته، وجنى الرطب في سنى الخطب، جمع فيه طائفة كبيرة من خطبه، ومؤلفات أخرى في الأدب، ومجموع رسائله، وغير ذلك، وجمع شعره في ديوان. ومما يؤثر عنه أنه كان ينحى باللائمة على الإمام الغزالي في اختيار عنوان كتابه " إحياء علوم الدين " ويقول متى ماتت العلوم حتى نقول بإحيائها، فهى مازالت حية وسوف تبقى كذلك.
وكان فوق علمه الغزير، مجاهداً من أولى الإقدام والبسالة، وثبات الجأش. يحضر الغزوات والوقائع، ويشترك بنفسه في القتال، ويبلى البلاء الحسن، وكانت آخر وقيعة اشترك فيها هي وقيعة أنيشة التي اضطرمت بين المسلمين والنصارى في ظاهر بلنسية في اليوم العشرين من ذي الحجة سنة 634 هـ، ودارت فيها الدائرة على المسلمين، واستشهد منهم عدد جم بينهم كثير من الفقهاء والعلماء. وكان أبو الربيع في مقدمة من استشهد وهو يخوض المعمعة، ويحث إخوانه على القتال، وذلك حسبما سبق أن ذكرناه في موضعه. وقد رثاه تلميذه ابن الأبار، ومن سقط معه من علماء بلنسية،، بقصيدته الشهيرة التي مطلعها:
ألمّا بأشلاء العلى والمكارم ... تقد بأطراف القنا والصوارم(4/658)
وعوجا عليها مأربا وحفاوة ... مصارع غصت بالطلى والجماجم
وهي في نحو مائة بيت. وكان مولد أبي الربيع بن سالم في قرية من قرى مرسية في شهر رمضان سنة 565 هـ (1).
ومن الفقهاء الذين نبغوا في الأصول وعلم الكلام، محمد بن ابراهيم المهرى من أهل بجاية، وأصله من إشبيلية. رحل إلى المشرق، وأخذ عن جمهرة من أقطاب المحدثين، وبرز في علم الكلام، وأصول الفقه، حتى اشتهر بالأصولى، وكان علم وقته في هذا الميدان. وولي قضاء بجاية غير مرة، وعنى بإصلاح كتاب "المستصفى" لأبي حامد الغزالى، ورحل إلى الأندلس، واتصل بابن رشد وكان يدرس معه " علوم الأوائل ". ولما امتحن ابن رشد سنة 593 هـ، محنته المشهورة، التي سبق ذكرها في موضعها، امتحن معه المهرى، ونفى مثله من قرطبة، إلى بعض الجهات، ثم عفى عنه، وكف بصره في أواخر حياته، وتوفي سنة 612 هـ (2).
ومنهم عبد الله بن باديس بن عبد الله بن باديس اليحصبى من أهل جزيرة شقر، نشأ في بلنسية، ورحل إلى إشبيلية فأخذ بها عن أقطابها، ثم عبر البحر إلى فاس، وتبحر في الأصول وعلم الكلام على أشياخها، ثم عاد إلى بلنسية، وتصدر للتدريس بالمسجد الجامع، ونوظر في " المستصفى " لأبي حامد الغزالى، وكان من أساتذة ابن الأبار، أخذ عليه وصحبه وقتا، وتزهد في آخر حياته، وتوفي في شعبان سنة 622 هـ (3).
ومنهم محمد بن محمد بن سعيد .. بن مجاهد الأنصارى من أهل إشبيلية ويعرف بابن زرقون، وأصلهم من بطليوس، أخذ عن أقطاب عصره، وفي مقدمتهم أبو بكر بن الجد، وأبو جعفر بن مضاء. وكان فقيهاً مالكياً متبحراً في المذهب، متعصباً له، وأخذ عنه أهل عصره، وكان فوق ذلك يشارك في الأدب مشاركة طيبة، وينظم اليسير من الشعر. ومن مؤلفاته " الكتاب المعلى في الرد على المُحَلّى لابن حزم " وكتاب " قطب الشريعة في الجمع بين الصحيحين " واختصر كتاب " الأموال " لأبي عبيد، وغير ذلك. وكانت وفاته بإشبيلية في شوال سنة 621 هـ، ومولده بها في سنة 539 هـ (4).
_______
(1) ترجمته في التكملة لابن الأبار (الأندلسية) رقم 1991، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك، مخطوط الإسكوريال 1682 الغزيري - لوحة 23 وما بعدها، وعنوان الدراية ص 167 - 169.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1726.
(3) ترجمته في التكملة رقم 2109.
(4) ترجمته في التكملة رقم 1612(4/659)
- 2 -
وهنالك طائفة كبيرة من علماء الدين، الذين نبغوا في الفقه أو الحديث والقراءات، ونبغوا في نفس الوقت في الأدب والشعر أو اللغة، وقد رأينا أن نذكرهم مجتمعين في هذا القسم على النحو الآتي:
ْكان من هؤلاء عبيد الله بن عمر بن هشام الحضرمي، أصله من إشبيلية، ونزح أهله إلى قرطبة، وبها ولد ونشأ. ودرس القراءات والحديث، والعربية والآداب، على أقطاب عصره، وتحول في حواضر الأندلس في طلب الاستزادة والتمكن. وكان مقرئاً، نحوياً، أديباً شاعراً. عبر البحر إلى المغرب، وتصدر للإقراء وتعليم الآداب والعربية، وتنقل بين مراكش ومكناسة وتلمسان. ثم قفل إلى الأندلس، ونزل ألمرية حينا، ثم غادرها إلى مرسية وولي الخطبة بجامعها، وله تصانيف عدة، منها " كتاب الإفصاح في اختصار المصباح " وكتاب في " شرح مقصورة ابن دريد ". وكان انفصاله عن مرسية في سنة 550 هـ، ولا يعرف كم عاش بعدها. ومولده في سنة 489 هـ (1).
وعبد الله بن محمد عبد الله الصنهاجي المعروف بابن الأشيري، نسبة إلى أشير من أعمال المغرب الأوسط. درس الحديث والفقه بالأندلس، وأخذ بها عن أبي بكر بن العربى، وابن عساكر، وشريح بن محمد، وأبي الفضل عياض، وأبي الوليد بن الدباغ وغيرهم. وكان أديبا، وكاتبا بليغا، كتب لصاحب المغرب (وهو فيما يرجح علي بن يوسف)، فلما توفي استتر وغادر المغرب إلى المشرق وحج، وجاور حينا بمكة، ثم توجه في أواخر حياته إلى حلب، وحدث بها وهنالك توفي في سنة 561 هـ (2).
ومحمد بن عبد الله بن ميمون بن إدريس العبدري، من أهل قرطبة. درس الفقه والحديث على أقطاب عصره، مثل ابن عتاب، وابن رشد، وابن مغيث، وابن العربى، وابن الباذش وغيرهم، وبرع بنوع خاص في علم اللغة، وكان مشاركا في فنون كثيرة، حافظا متمكنا، وشاعراً محسناً. غادر قرطبة أيام الفتنة وعبر البحر إلى المغرب، ونزل بمراكش، فاقرأ بها العربية والآداب، وله شرح مشهور " لجمل الزجاجي "، ومعشرات في الغزل، ونظم في الزهد،
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 3172.
(2) ترجمته في التكملة رقم 2149(4/660)
وتوفي بمراكش سنة 567 هـ (1).
ومحمد بن أحمد بن محرز بن عبد الله بن أميه، من أهل بطليوس، واستوطن إشبيلية ويعرف بالمنتانجشى نسبة إلى حصن منتانجش. عنى بالقراءات والفقه والحديث، ودرس العربية على أبي عبد الله بن أبي العافية وأبي بكر بن القبطورنة وغيرهما، وكان فقيهاً مشاوراً، حافظاً، له حظ من الأدب والكتابة. وقد أخذ عنه عدة من الجلة مثل ابن خير، وأبي بكر بن أبي زمنين، وأبي الخطاب بن واجب وغيرهم، وتوفي في آخر سنة 569 هـ، ومولده في سنة 479 هـ سنة الزلاقة (2).
ومنهم وهو من أنبغهم، محمد بن خير بن عمر بن خليفة الأموي، مولى ابراهيم بن محمد بن يغمور اللمتونى من أهل إشبيلية. ودرس بها وبقرطبة وألمرية وغيرها، وشغف بالقراءات والحديث والفقه، وبرع فيها، وعنى عناية كبيرة بتقييد الرواية والآثار، وأخذ عن جمهرة كبيرة من أقطاب عصره، منهم أبو مروان الباجى، وأبو بكر بن العربى. وأبو اسحاق بن حبيش، وأبو القاسم ابن بقى، وابن مغيث، وابن أبي الخصال، وأبو الفضل عياض وغيرهم. وقد اشتهر بالإتقان والضبط، وكان فوق ذلك أديباً كبيراً، بارعاً في اللغة والنحو. وفي أواخر حياته ولى الصلاة بجامع قرطبة وتوفي بها في ربيع الأول سنة 575 هـ، ومولده في سنة 502 هـ. وقد اشتهر ابن خير بنوع خاص بفهرسه الجامع الذي ألفه عن شيوخه، وعن الكتب التي رواها وقرأها، عنهم، ومن هذا الثبت الحافل، نستطيع أن نكون فكرة جامعة عن الكتب الدراسية وكتب النصوص، التي كانت متداولة بمدارس الأندلس في القرن السادس الهجري (3).
ومنهم محمد بن عبيد الله بن أحمد .. بن نصر بن سالم الخشنى، من أهل رندة وسكن مالقة، ودرس بها، وبقرطبة، وبرع في القراءات واللغة والنحو، وأنفق حياته في إقراء القرآن وتعليم العربية، وكان كذلك محدثا حافظا، حدث، وأخذ عنه الكثيرون. وتوفي بمالقة في سنة 576 هـ (4). وعبد الله بن محمد بن عيسى الأنصاري، ويعرف بابن المالقي، لأن أصله
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 1395.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1400.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1424. وقد نشر فهرست ابن خير ضمن المكتبة الأندلسية، وهو يشغل المجلد العاشر منها، ونشر بعناية الأستاذين كوديرا وخوليان ربيرا (سنة 1893).
(4) ترجمته في التكملة رقم 1427.(4/661)
من مالقة، ودرس بإشبيلية وغيرها، ثم نزح إلى العدوة وسكن مراكش وكان فقيهاً متمكناً، وخطيباً مفوهاً، وأديباً كبيراً محسناً، ندبه الخليفة أبو يعقوب يوسف لرياسة طلبة الحضرة، ونال في ظل رعايته جاها ودنيا عريضة. وتوفي بمراكش في سنة 574 هـ، وعلى قول آخر في سنة 573 هـ (1).
وعبد الله بن يحيى بن عبد الله بن فتوح الحضرمي النحوي من أهل دانية، ويعرف بابن صاحب الصلاة. درس القراءات والعربية والأدب، ونزح إلى شاطبة فدرس بها الأدب والنحو زمانا، وكان أديبا متمكنا، مبرزاً في صناعة العربية، استدعاه ابن سعد أمير الشرق إلى بلنسية، وذلك لتأديب أولاده، وأخذ عنه كثير من أهل عصره، ومنهم أعلام مثل أبي الربيع بن سالم، وكان له كذلك حظ من قرض الشعر. ومن ذلك قوله:
وعجل شيبي أن ذا الفضل مبتلى ... بدهر غدا ذو النقص فيه مؤمّلا
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... بها الحر يشقى واللئيم ممولا
وتوفي ببلنسية في شهر رجب سنة 578 هـ ثم حمل إلى بلده دانية، ودفن بها. ومولده في سنة 517 هـ (2).
وأحمد بن محمد بن مفرج الأموي أصله من سرقسطة، ونزل مرسية، ويعرف بالملاّحى، عنى بالقرآن والحديث والعربية وبرع فيها، وأقرأ القرآن بمرسية، وحدث وأخذ عنه، وعلم العربية زمنا، وتوفي في سنة 582 هـ (3).
والحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري، من أهل قرطبة، ونزل مالقة، درس القراءات والحديث وبرع في الرواية، وأخذ عن عدة من أقطاب عصره، ومنهم أبو القاسم بن بشكوال، أخذ عنه كتاب الصلة، وكان متمكنا من العربية ومن علم العروض. وحدث عنه أهل عصره. وتوفي بمالقة في رمضان سنة 585 هـ، ومولده في سنة 518 هـ (4).
ومحمد بن خلف بن محمد بن عبد الله بن صاف اللخمي من أهل إشبيلية. عنى بالقراءات والعربية، ودرس ببلده إشبيلية، ثم رحل إلى جيان، فدرس على أبي بكر بن مسعود الخشني. واشتهر ببراعته في القراءات والعربية، وله شرح في أشعار الستة وفي تغلب. وكتاب في ألفات الوصل والقطع، وشروح
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 2058.
(2) ترجمته في التكملة رقم 2066.
(3) ترجمته في التكملة رقم 220.
(4) ترجمته في التكملة رقم 694(4/662)
لآيات من القرآن، وأجوبة لأهل طنجة في مسائل القراءات والنحو. حدث، وأخذ عنه جماعة. وتوفي في سنة 585 هـ وقيل في 586 هـ، ومولده سنة 512 هـ (1).
ومحمد بن جعفر بن أحمد بن خلف بن حميد بن مأمون الأموي، من أهل بلنسية. درس القراءات بإشبيلية وغرناطة على أقطاب عصره، ورحل إلى جيان فدرس بها العربية والآداب على أبي بكر بن مسعود. ثم رحل إلى ألمرية فدرس على من كان بها من أقطاب العصر. ثم قفل إلى بلده، وقد ذاع صيته، واشتهر بغزير علمه، فأقرأ وحدث وعلم العربية. ثم ندب لقضاء بلنسية فقضى في منصبه عدة أعوام، واشتهر بنزاهته وعدالته وحسن تصريفه، وهو في نفس الوقت يقرىء القرآن والعربية، مع حظ وافر من البلاغة والبيان والبديع. وانتقل إلى مرسية في أواخر حياته، وتولى بها الصلاة والخطبة، وتوفي في جمادى الأولى سنة 586 هـ ومولده في سنة 513 هـ (2).
ومحمد بن سعيد بن أحمد بن سعيد بن عبد البر بن مجاهد الأنصاري، من أهل إشبيلية ويعرف بابن زرقون. درس على أبيه، وعلى عدد من الجلة، مثل أبي محمد ابن عبدون، وأبي بكر بن القبطورنة، وأبي الفضل عياض، واختص به ولازمه كثيراً، وكتب له أيام ولايته لقضاء غرناطة. وكان متمكنا من الحديث والفقه، مع براعته في الأدب وقرض الشعر. ولى قضاء شلب، ثم قضاء سبتة، فحمدت سيرته، واشتهر بكفايته ونزاهته. وله عدة مؤلفات منها كتاب الأنوار، جمع فيه بين المنتقى والاستذكار، وجمع أيضاً بين مصنف الترمذى وسنن أبي داود، وكان الطلاب يرحلون إليه لعلو روايته. وتوفي بإشبيلية في رجب سنة 586 هـ. ومولده بشريش سنة 512 هـ (3).
ومفوز بن طاهر بن حيدرة المعافري، من أهل شاطبة، درس القراءات والفقه، وبرع فيهما، وكان فقيهاً مشاوراً، ولى قضاء شاطبة، زمنا فحمدت سيرته، وكان فوق ذلك متمكنا من الأدب، بليغاً حسن البيان، وله حظ من قرض الشعر، ومن نظمه:
وقفت على الوادي المنعم دوحه ... فأرسلت من دمعى هنالك واديا
وغنمت به ورق الحمام عشية ... فأذكرنا أياما مضت ولياليا
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 1465.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1467.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1468(4/663)
وتوفي بشاطبة في شعبان سنة 590 هـ، ومولده في سنة 517 هـ (1).
ونجبة بن يحيى بن خلف .. بن نجبة الرعيني من أهل إشبيلية، درس على أقطاب عصره مثل أبي مروان الباجي، وأبي بكر بن العربي، وأبي بكر بن طاهر، وأبي القاسم بن الرماك، وغيرهم. وكان إماما في القراءات والعربية، وقد تصدر لإقراء القرآن، وتعليم العربية زمانا، ثم عبر إلى المغرب، ونزل بمراكش استجابة لدعوة الخليفة، وهنالك أقرأ القرآن بالحاضرة الموحدية، وكان يرافق حملات الغزو الموحدية. وقد حدث عنه جماعة من الشيوخ، وتوفي على مقربة من شريش سنة 591 هـ، وهو مرافق لجيش المنصور المتجه إلى الغزو، وحمل إلى إشبيلية ودفن بها، ومولده في سنة 520 هـ (2).
وأحمد بن عبد الرحمن بن محمد .. ابن مضاء بن مهند بن عمير اللخمى، من أهل قرطبة، وأصله من شذونة، درس القراءات والحديث والعربية، وأخذ عن عدة من الجلة، مثل ابن أبي الخصال، وابن مسرة، وأبي بكر بن مدبر، وأبي بكر بن سمجون، وأخذ العربية بإشبيلية عن أبي القاسم بن الرماك، وسمع من أبي بكر بن العربى، وسمع بألمرية أبا محمد عبد الحق بن عطية، وأبا الفضل عياض، ومال إلى العربية وبرع فيها، ثم عبر إلى المغرب والتحق بخدمة الخلافة، وولي قضاء فاس، ثم نقل إلى قضاء الجماعة بمراكش. وكان له حظ وافر من الأدب، والبيان والشعر، وله في العربية كتاب سماه " بالمشرق " وكتاب " تنزيه القرآن عما لا يليق من البيان ". وتوفي بإشبيلية مصروفا عن القضاء في جمادى الأولى سنة 593 هـ، ومولده بقرطبة سنة 511 هـ (3).
وعبيد الله بن عبد الرحمن .. بن عيسى بن عبد الملك بن قزمان، من أهل قرطبة، واستوطن أشونة من أعمالها. درس الحديث والفقه، وسمع من عدة من الأقطاب، منهم أبوه القاضي أبو مروان، وأبو جعفر البطروجى، وأبو إسحق ابن فرقد، وغيرهم. وولي القضاء بعدة بلاد من أعمال قرطبة، وكان فقيهاً متمكناً بصيراً بالأحكام، وكان فوق ذلك أديباً محسناً وشاعراً، من بيت علم وأدب ونباهة. توفي بأشونة سنة 593 هـ، أو 594 هـ (4).
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 1844.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1879.
(3) ترجمته في التكملة رقم 234.
(4) ترجمته في الذيل والتكملة لابن عبد الملك المجلد الأول من مخطوط باريس لوحة 1765، وكذلك في التكملة رقم 2181(4/664)
ومنهم من علماء المغرب عبد الله بن محمد بن عيسى التادلى، من أهل فاس، ودخل الأندلس في أواخر العهد المرابطي، ودرس بإشبيلية، وسمع من القاضي عياض، وأجاز له ابن بشكوال، وتلقى الحديث عن ابن عتاب، وأبي بحر الأسدى، وكان فقيهاً متمكناً، أديباً محسناً، وله رسائل وأشعار عديدة، وولي قضاء بلده فاس في أواخر أيام الخليفة أبي يعقوب يوسف. وحدث عنه جماعة من أقطاب الأندلس، مثل أبي محمد بن حوط الله، وأبي الربيع بن سالم. وتوفي بمكناسة سنة 597 هـ. ومولده في سنة 511 هـ (1).
ومنهم أحمد بن عتيق بن الحسن بن زياد بن فرج، أصله من ألمرية، وسكن بلنسية، ويعرف بالذهبى، درس القراءات والفقه والآداب والعربية، ومهر في عدة فنون، وكان فقيهاً مبرزاً في علم الأصول، متبحراً في علوم الأوائل، ماهراً في العربية، وكان آية في الحفظ والذكاء والفهم، وحسن الاستنباط، والغوص على المعانى الدقيقة. حدث وأقرأ العربية، واستدعاه الخليفة المنصور إلى مراكش فحظى لديه، وكان من أبرز أعضاء مجلسه العلمى، وكان يتلقى عليه بعض العلوم النظرية. وقدمه للشورى والفتوى، فأبدى في هذا الميدان ما يشهد بتمكنه وغزارة علمه. ولما امتحن ابن رشد وزملاؤه محنتهم المشهورة في سنة 591 هـ، اختفى ابن فرج حينا خشية توجيه الاتهام إليه، ثم ظهر وطمأنه المنصور، وحظى بعد المنصور لدى ولده محمد الناصر، ونال جاها وثراء. وله تآليف، منها كتاب الإعلام بفوائد مسلم للمهدى الإمام، وكتاب حسن العبارة في فضل الخلافة والإمارة. وكانت وفاته بتلمسان في شوال سنة 601 هـ، أثناء مرافقته الجيش الموحدي المتجه إلى إفريقية (2).
والحسن بن علي بن خلف الأموي من أهل قرطبة، وسكن إشبيلية، ويعرف بالخطيب، أخذ عن عدة من أقطاب عصره، مثل ابن مغيث، وأبي بكر بن العربى، وابن مسرة، وأبي بكر بن مسعود، وابن أبي الخصال، وبرع في القراءات والحديث والأدب. وتولى الخطابة ببعض جهات إشبيلية، وله عدة مصنفات نفيسة، منها كتاب روضة الأزهار، وكتاب في الأنواء، وكتاب اللؤلؤ المنظوم في معرفة الأوقات بالنجوم، وكتاب روضة الحقيقة في بدء الخليقة، وكتاب تهافت
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 2155.
(2) ترجمته في التكملة رقم 247(4/665)
الشعراء وغيرها. توفي بإشبيلية سنة 602 هـ، ومولده بقرطبة سنة 514 هـ (1).
ومحمد بن يوسف بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن أبي زيد، من أهل لرية من عمل بلنسية، ويعرف بابن عياد. أخذ عن أبيه أبي عمر، وعدة من الأقطاب مثل أبي الحسن بن النعمة، وأبي عبد الله بن الفرس، وأبي القاسم ابن حبيش، وغيرهم، وعنى أشد العناية بالرواية، وتقييد الآثار والأخبار، والتواريخ. وكان له حظ وافر من الآداب والعربية، وله مشاركة في النظم، وحدث وأخذ عنه البعض، وله مجموع في مشيخة أبيه أبي عمر. توفي ببلده سنة 603 هـ، ومولده في سنة 544 هـ (2).
وموسى بن حسين بن موسى بن عمران القيسي، الميرتلي، نزيل إشبيلية، درس القراءات والآدب، وبرع فيهما، وصحب أبا عبد الله بن المجاهد، واختص به وسلك طريقته في الزهد والورع والعزلة والعبادة، وكان في ذلك منقطع القرين. وكان يلازم مسجده داخل إشبيلية، يقرىء ويعلم، وله حظ وافر من قرض الشعر، ومعظمه في الزهد والتخويف من سطوة الله. توفي في أوائل سنة 604 هـ، وقد تجاوز الثمانين. ومن نظمه قوله:
سليخة وحصير ... لبيت مثلى كثير
وفيه، شكراً لربى ... خبز وماء نمير
وفوق جسمى ثوب ... من الهواء ستير
إن قلت أني مقل ... إنى إذاً لكفور
قررت عينا بعيشى ... فدون حالى الأمير (3).
وأحمد بن محمد بن أحمد بن مقدام الرعيني، من أهل إشبيلية، أخذ عن ابن العربى، وأبي القاسم بن الرماك، وأبي الحسن بن عظيمة، وغيرهم، ومهر في القراءات والأدب، وكان أديبا حافظا، يستظهر شعر المعرى المدون بسقط الزند، ولما توجه ابن العربى على رأس وفد إشبيلية إلى مراكش لمقابلة الخليفة عبد المؤمن، صحبه في رحلته، وحضر وفاته عند عوده بفاس، وتوفي في أواخر سنة 604 هـ، ومولده سنة 516 هـ (4).
وإدريس بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي من أهل مرسية
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 698.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1533.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1731.
(4) ترجمته في التكملة رقم 252(4/666)
درس الحديث والفقه والأدب، وكان في مقدمة من أخذ عنهم أبو العباس بن الحلاّل صاحب الأحكام بمرسية، وكان ماهراً في شئون الوثائق والعقود، وولي قضاء شاطبة، ثم ولى الخطابة والصلاة بجامعها، وكانت له مشاركة طيبة في الأدب وله موجز في السيرة لابن إسحاق سماه " بالإشراق " وتوفي في سنة 606 هـ (1).
وأحمد بن عبد الودود بن عبد الرحمن .. بن صالح الهلالى، من أهل غرناطة وسكن المنكب حينا. ويعرف بابن سمجون. أخذ عن أبيه أبي محمد، وعدة من أقطاب عصره. وبرع في الحديث والفقه، وولي قضاء المنكب، ثم تولى الخطبة، بجامع قرطبة وقتا. وكان فوق ذلك أديبا محسنا في النثر والنظم، حدث وأخذ عنه بعض الشيوخ الجلة. وتوفي بغرناطة، في أوائل سنة 608 هـ، ومولده في سنة 528 هـ (2).
ومحمد بن أيوب بن محمد بن وهب .. بن نوح الغافقي من أهل بلنسية، ودار سلفه بسرقسطة. وكان من أشهر وأنبغ الفقهاء الذين جمعوا بين الفقه والأدب في تلك الفترة. درس القراءات والفقه والأدب، وأخذ عن عدة من الأقطاب، واستظهر المدوّنة، وأخذ العربية والآداب عن ابن النعمة. ولى خطة الشورى ببلنسية في حياة شيوخه، وتفوق عليهم في الحفظ والتحصيل، ولم يكن في وقته بشرقى الأندلس، أغزر منه علماً وتبحراً، وانتهت إليه الرياسة يومئذ في عقد الشروط والفتيا. وكان فوق براعته في الفقه والقراءات والتفسير، أديبا متمكنا، ماهراً في الغريب من اللغة، حافظا للأنساب والأخبار، متقنا لما استغلق من معانى الأشعار الجاهلية والإسلامية، مشاركا في فنون كثيرة أخرى. وولي بعد الشورى، قضاء بعض الكور ببلنسية، وخطب بجامعها وقتا. وكان له حظ متوسط من النظم. أسمع الحديث ودرس الفقه وعلوم العربية والآداب وأخذ عنه كثير من الناس، وسمع منه جلة من الشيوخ، ودرس عليه ابن الأبار، وهو يقول لنا إنه كان " أغزر من لقيت علماً، وأبعدهم صيتاً ". توفي في شوال سنة 608 هـ، ومولده سنة 530 هـ (3).
ومنهم، ومن أشهرهم، أبو عمر أحمد بن هارون بن أحمد بن جعفر بن عات النفزي، من أهل شاطبة، أخذ عن أبيه وغيره من شيوخ وقته، ورحل إلى
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 521.
(2) ترجمته في التكملة رقم 259.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1556(4/667)
المشرق، فأدى فريضة الحج، وسمع بمصر أبا طاهر السلفى، وغيره من الأقطاب وكان آية في الحفظ، يسرد المتون والأسانيد ظاهراً، ولا بخل بشىء منها، مع مشاركة طيبة في النظم والنثر، وكان موصوفا بالدراية والرواية، يغلب عليه الزهد والورع، حدث عنه بعض الشيوخ الجلة، وكان من العلماء المرافقين للجيش الموحدي في موقعة العقاب، وفيها لقى حتفه، وذلك يوم الاثنين منتصف صفر سنة 609 هـ، ومولده سنة 542 هـ (1).
وحيان بن عبد الله بن محمد بن هشام .. بن حيان الأنصاري الأوسى من أهل بلنسية، وأصلهم من أروش من عمل قرطبة، درس القراءات والنحو، وأقرأ وقتا بجامع بلنسية، وكان نحويا بارعا، متقنا لكتاب سيبويه، لغوياً، أديباً شاعراً ماهراً في الكتابة، يميل إلى استعمال العويص من اللغة، وكان من أساتذة ابن الأبار وتوفي سنة 609 هـ (2).
ومحمد بن أحمد بن خلف بن عياش الأنصاري الخزرجي، من أهل قرطبة، ويعرف بالشنتيالى، درس على أبي القاسم بن بشكوال، وأبي القاسم بن غالب الشراط، وأبي إسحاق بن طلحة، وأبي الحسن بن بقى، وأبي بكر بن خير، وأبي القاسم السهيلى وغيرهم، وبرع في علم القراءات، والحديث والفقه، والنحو، وكانت له كذلك مشاركة في الفرائض والحساب، تولى الصلاة بجامع قرطبة نحواً من ثلاثين سنة، وأقرأ به القرآن، وحدث زمنا، وأخذ عنه عدد من الشيوخ، وكان من أهل العلم والعمل، والصلاح والتواضع، توفي في شعبان سنة 609 هـ. ومولده في سنة 532 هـ (3).
وأحمد بن محمد بن إبراهيم بن يحيى بن إبراهيم بن خلصة الحميري، من أهل قرطبة، درس القراءات والعربية والآداب واللغة، وبرع فيها، وعين خطيبا للجامع الأعظم، وتصدر للإقراء به مدة طويلة، وعكف بالأخص على تدريس علوم اللغة، وكان متمكناً منها متفوقاً فيها، وكان له حظ من قرض الشعر. لبث دهراً يدرس علوم اللسان بجامع قرطبة، وتولى به الخطبة نحو ثلاثة أعوام وكانت وفاته وهو قائم يخطب فوق منبر الجامع الأعظم، وذلك في شهر صفر
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 262.
(2) ترجمته في التكملة رقم 774.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1560(4/668)
سنة 610 هـ، ومولده في سنة 524 هـ (1).
ومحمد بن محمد بن سليمان بن محمد بن عبد العزيز الأنصاري النحوى، من أهل بلنسية، وأصله من سرقسطة. عنى بالحديث والرواية، وبرع في علم اللسان والعربية، وكان من شيوخه عدة من الجلة مثل أبي الخطاب بن واجب، وأبي عمر ابن عات، وأبي بكر عتيق بن علي. وكان غزير العلم والمعرفة، حافظاً متمكناً، متفوقاً في صناعة العربية عاكفا على إقرائها وتعليمها، وكان فوق ذلك شاعراً مجيداً، حسن التصرف والذوق. وكانت وفاته في ربيع الأول سنة 610 هـ، ومولده في سنة 563 هـ (2).
وعبد الله بن عمرو بن محمد بن يوسف الخزرجى من أهل قرطبة، ونشأ بتلمسان، درس القراءات والعربية، وكان أديبا كاتبا بليغا، نزح إلى قرطبة، وعاش بها، وخدم بعض ولاتها الموحدين بالكتابة عنهم. ثم ولى القضاء وظهر بكفايته ونزاهته. وتوفي بقرطبة في رمضان سنة 613 هـ، وقد نيف على السبعين (3). ومحمد بن أحمد بن عبد العزيز بن سعادة من أهل شاطبة، درس القراءات والحديث، وأخذ عن أبي الحسن بن هذيل، وأبي بكر بن سيدبونه، وأخذ العربية والآداب عن أبي الحسن بن النعمة، وغيره من أقطاب العصر. وكان مقرئا بارعا، ونحويا متمكنا، ولغوياً محققاً. وقد أخذ عنه ابن الأبار وجماعة من أصحابه. وتوفي سنة 614 هـ (4).
وإبراهيم بن علي بن ابراهيم .. بن أغلب الخولاني، من أهل إسطبة من عمل قرطبة، يعرف بالزواتى، درس بأشونة على أبي مروان بن قزمان، وبإشبيلية على ابن فرقد، وأخذ كذلك عن ابن النعمة، وابن سعادة، وأبي الحسن الزهرى، وغيرهم. وتجول في مختلف البلاد في طلب العلم، وعنى بالأخص بالآداب واشتهر ببراعته فيها. وولي قضاء ألش من أعمال مرسية، وحدث وأخذ عنه. وكانت وفاته بمراكش في آخر سنة 616 هـ، ومولده في سنة 540 هـ (5).
ومحمد بن طلحة بن محمد بن عبد الملك .. بن حزم الأموي النحوى، سكن إشبيلية، وأصلهم من يابرة من أعمال الغرب (البرتغال)، عنى بالقراءات
_______
(1) ترجمته في الذيل والتكملة (مخطوط خزانة الرباط المصور) ج 1 لوحة 134 وفي التكملة لابن الأبار رقم 263.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1562.
(3) ترجمته في التكملة رقم 2100.
(4) ترجمته في التكملة رقم 1579.
(5) ترجمته في التكملة رقم 435(4/669)
والعربية، وأخذ عن أبي بكر بن صاف، وأبي اسحاق بن ملكون، وأبي بكر ابن الجد، وأبي زيد السهلى، وغلب عليه التخصص في العربية، والتمكن منها، والتحقق من غوامضها، فعكف على تعليمها، واعتبر في هذا الميدان أستاذ إشبيلية الذي لا يبارى، وقد انتفع به عدد من الشيوخ اللاحقين، مثل أبي على الشلوبين وغيره، وغلب عليه في أواخر حياته حب العزلة، فاعتكف عن الناس، وتوفي في صفر سنة 618 هـ. ومولده بيابرة في سنة 545 هـ (1).
وسليمان بن حكم بن محمد بن أحمد بن علي الغافقي من أهل قرطبة، درس القرآن والحديث واللغة، وأخذ عن جمهرة من أقطاب عصره، منهم ابن الفخار، وأبو عمر بن عات، وأبو القاسم بن بشكوال، وأبو جعفر بن يحيى وغيرهم. امتهن عقد الشروط بقرطبة مدة، وكان متقناً مبرزاً في العدالة والضبط، عارفاً بالأحكام، أديباً كاتباً وشاعراً مبرزاً في النظم، وضع أرجوزة جيدة في الفقه. وله غير ذلك من النظم. ولد بقرطبة سنة 546 هـ، وتوفي بها في ربيع الآخر سنة 618 هـ (2).
وأحمد بن عبد المؤمن بن موسى بن عبد المؤمن القيسي، من أهل شريش. درس الحديث والعربية على شيوخ عصره. عكف زمنا على تدريس اللغة. وله في هذا الميدان عدة مصنفات نفيسة، منها شرح الإيضاح للفارسى، والمجمل للزجاجى، وله تأليف في العروض، ومجموع في مشاهير قصائد العرب، ومختصر لنوادر أبي على القالى، ولكنه اشتهر بنوع خاص بشرحه لمقامات الحريرى. وله في ذلك ثلاث نسخ، كبرى، ووسطى، وصغرى. وأخذ عنه عدد من أقطاب العصر، ومنهم ابن الأبار حسبما يحدثنا في ترجمته. وقد نشرت شروحه على هامش المقامات مراراً، وما تزال هي عمدتنا في فهم غوامضها. وكانت وفاته ببلدته شريش سنة 619 هـ (3).
وعبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي بكر القضاعى، وهو والد ابن الأبار صاحب التكملة، أصله من أندة وسكن بلنسية، درس القراءات والأدب، وكان حسبما يصفه لنا ولده، " مقدما في حملة القرآن،
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 1595.
(2) ترجمته في الذيل والتكملة (مخطوط الإسكوريال 1682 الغزيري).
(3) ترجمته في التكملة رقم 281، وفي نفح الطيب ج 1 ص 376(4/670)
كثير التلاوة له، والتهجد به، ذاكراً للقراءات، مشاركاً في حفظ المسائل، آخذاً فيما يستحسن من الأدب معدَّلا عند الحكام ". وقد كان أول أساتذة ابنه في القراءات والأدب، وقد اطلع على جميع كتبه، وشاركه في الأخذ عن معظم شيوخه، وتوفي بأندة في ربيع الأول سنة 619 هـ، وولده المؤرخ يومئذ ببطليوس، ومولده بأندة سنة 571 هـ (1).
- 3 -
وظهرت من هذه الطبقة التي تجمع بين علوم الدين، وبين اللغة أو الأدب أو الشعر، إلى جانب من تقدم ذكرهم، جمهرة كبيرة أخرى، ممن نبغوا في أواخر العصر الموحدي، وفي خلال عهد الفتنة والانهيار بالأندلس نذكرهم فيما يلي: كان من هؤلاء عبد الله بن حامد بن يحيى بن سليمان بن أبي حامد المعافرى من أهل مرسية، درس الحديث على أبي القاسم بن حبيش، وأبي محمد بن حوط الله وغيرهما من أعلام عصره، ثم درس العربية وبرع فيها، وصحب الأديب الكبير أبا بحر صفوان بن إدريس، وغيره. وكان له حظ من قرض الشعر، والبراعة في الكتابة، وكان في وقته من رؤساء مرسية وأعيانها. وكانت وفاته في سنة 621 هـ (2).
ومحمد بن يخلفتن بن أحمد بن تنفليت الجنفيسي الفازازي التلمساني، نزح من المغرب إلى الأندلس، ودرس على عدة من الأعلام، وكان فقيهاً متمكناً، وأديباً مبرزاً، وكاتباً بليغاً، وشاعراً محسناً، ولى قضاء مرسية ثم قضاء قرطبة، وقيل إنه كان يحفظ صحيح البخاري أو معظمه. وتوفي بقرطبة سنة 621 هـ (3). وأحمد بن يزيد بن عبد الرحمن .. بن بقى بن مخلد بن يزيد الأموي، من أهل قرطبة، ومن أعرق بيوتاتها في العلم والنباهة، درس على جمهرة من أقطاب عصره ومنهم ابن بشكوال، وابن مضاء، وابن فرقد وغيرهم، وبرع في الفقه والحديث والأدب. وتولى قضاء الجماعة بمراكش حينا، وكذلك خطتى المظالم والكتابة العليا. وكان من أعلم رجالات عصره، وأوفرهم سراوة وجلالا. وعاش بمراكش معظم حياته، ثم غادرها إلى الأندلس وولي قضاء قرطبة قبل وفاته بيسير. وكان فوق تضلعه في الفقه أديباً كبيراً، وشاعراً مجيداً. وتوفي بقرطبة في شهر رمضان
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 2105.
(2) ترجمته في التكملة رقم 2107.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1616.(4/671)
سنة 625 هـ، ومولده في سنة 537 هـ (1).
واسماعيل بن أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري من أهل إشبيلية، ويعرف بابن السراج، درس القراءات والحديث، ودرس العربية على أبي اسحاق بن ملكون أستاذ عصره في ذلك الميدان، وولي قضاء بعض الكور، وكان عاكفا على عقد الشروط خبيراً بصناعتها. وتوفي بإشبيلية في حدود سنة 625 هـ (2).
وإبراهيم بن عيسى بن محمد بن أصبغ الأزدي من أهل قرطبة. درس الحديث والفقه، وأخذ العربية عن أبي ذر الخشنى، وبرع فيها وفي النحو، وولي قضاء دانية، ثم صرف عنه لما اضطرمت الفتنة ببلنسية في سنة 621 هـ، وسيق إلى بلنسية، واعتقل بها وقتا، ثم أطلق سراحه، فعبر البحر إلى مراكش. وله مؤلف حسن في " مسائل الخلاف بين النحويين "، وولي في أواخر حياته قضاء سجلماسة، وتوفي بها سنة 627 هـ (3).
وثابت بن محمد بن يوسف بن خيار الكلاعي من أهل لبلة بغرب الأندلس ونزل جيان، ثم سكن غرناطة. درس القراءات والحديث والفقه، وسمع بقرطبة، وإشبيلية، ووادي آش وغيرها، وأخذ عن عدة من الأقطاب مثل أبي القاسم بن بشكوال، وأبي بكر بن بيبش، وأبي بكر بن خطاب، وأبي الحسن بن كوثر، ودرس العربية والنحو وبرع فيهما. وأقرأ القرآن والعربية بجيان وغرناطة، وبها توفي سنة 628 هـ (4).
وأحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد الأزدي، من أهل لقنت من أعمال مرسية، عنى بالقراءات والفقه وولي القضاء بجزيرة شقر، ثم ولى قضاء دانية، وكان فوق ذلك أديباً، متحققاً من العربية. وتوفي في ربيع الأول سنة 629 هـ (5). ومحمد بن جابر بن علي بن سعيد الأنصاري من أهل إشبيلية، ويعرف بالسقطى. درس القرآن والحديث وأخذ في ذلك عن نجبة بن يحيى، وأبي الوليد بن نام، وأبي ذر الخشنى وغيرهم، ودرس العربية والأدب، وكان من أهل العناية بالرواية ولقاء الرجال، رحل إلى شرق الأندلس، وأخذ عن أبي الخطاب بن واجب وغيره ببلنسية. وكان يقرىء القرآن والعربية، وقد حُدث عنه. وتوفي بعد سنة 630 هـ (6).
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 292.
(2) ترجمته في التكملة رقم 495.
(3) ترجمته في التكملة رقم 440.
(4) ترجمته في التكملة رقم 626.
(5) ترجمته في التكملة رقم 297.
(6) ترجمته في التكملة رقم 1646(4/672)
وأحمد بن مليك بن غالب بن سعيد بن عبد الرحمن التجيبى من أهل أبدّة ويعرف بابن السقاء. درس القراءات والحديث، وأخذ عن جمهرة من أقطاب عصره مثل أبي محمد بن غلبون، وأبي الخطاب بن واجب، وابن عات، وابن بقى وغيرهم، وأخذ العربية واللغات عن أبي عبد الله بن يربوع وبرع فيها، وتصدر ببلده للإقراء والتدريس، ولما استولى القشتاليون على أبدة، غادرها إلى غرناطة واستوطنها، وتوفي بها بعد سنة 630 هـ (1).
وبسام بن أحمد بن حبيب .. بن شاكر الغافقي، من أهل جيان، وسكن مالقة، أخذ الحديث والفقه عن جماعة من الأقطاب مثل أبي عبد الله بن الفخار، وأبي جعفر بن مضاء، وأبي القاسم بن بشكوال وغيرهم، ودرس العربية والأدب، وولي قضاء ثغر المنكب وغيره، وكان له أيضاً حظ من قرض الشعر. توفي بمالقة في شعبان سنة 631 هـ، ومولده في سنة 557 هـ (2).
ومن هؤلاء الذين جمعوا بين علوم الدين واللغة والأدب والشعر أحيانا، جمهرة أخرى، ظهرت وقت انهيار سلطان الموحدين، ثم انهيار الأندلس الكبرى، وسقوط قواعدها، نذكرهم فيما يلي:
كان من هؤلاء المتأخرين، عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي يحيى بن مطروح التجيبى من أهل بلنسية، وأصله من سرقسطة. درس القراءات والفقه والعربية والآداب، وكان من أساتذته أقطاب مثل أبي عبد الله بن نوح، وأبي ذر الخشنى، وأبي الخطاب بن واجب، وأبي محمد بن حوط الله وغيرهم. وكان فقيها متمكنا عارفا بالأحكام، من أهل الشورى والفتيا. ولى القضاء بعدة كور من بلنسية، ثم ولى قضاء دانية، وكان فوق ذلك أديباً شاعراً، راوية. وكانت وفاته ببلنسية، أثناء حصار النصارى لها، في شهر ذي القعدة سنة 635 هـ ومولده سنة 574 هـ (3).
ومحمد بن ابراهيم بن محمد بن عبد الجليل .. بن غالب بن حمدون الأنصاري الخزرجى، من أهل ألش من عمل بلنسية. أخذ بمرسية وشاطبة عن أقطاب الشرق، مثل أبي الخطاب بن واجب، وأبي عمر بن عات، وأقطاب الغرب مثل أبي القاسم ابن بقى، وأبي سليمان بن حوط الله، وأبي القاسم الملاّحي، وغيرهم، وعنى
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 301.
(2) ترجمته في التكملة رقم 606.
(3) ترجمته في التكملة رقم 2117(4/673)
بالحديث والفقه أتم عناية، وكان له حظ من الأدب واللغة. ولى قضاء ألمرية، وتوفي بغرناطة في شهر صفر سنة 636 هـ (1).
ومحمد بن علي بن خضر بن هارون الغساني، من أهل مالقة، يعرف بابن عسكر، كان في مقدمة أعلام عصره في الفقه واللغة والأدب، فكان فقيهاً متمكناً، ماهراً في عقد الشروط، وكان حافظا للغة، أديبا، وكاتبا بليغا، وله كذلك حظ من قرض الشعر. ولى قضاء بلده مالقة مرتين. وكتب عدة كتب قيمة في اللغة والأدب منها كتاب " المشرع المروى في الزيادة على غريبى الهروى " وكتاب " نزهة الناظر في مناقب عمار بن ياسر " وكتاب " الجزء المختصر في السلو عن ذهاب البصر ". وله رسالة في الزهد عنوانها " ادخار الصبر في افتخار القصر والقبر ". وتوفي وهو يتولى قضاء مالقة في جمادى الآخرة سنة 636 هـ. ومولده في نحو سنة 584 هـ (2).
وابراهيم بن محمد بن ابراهيم، من أهل بطليوس، ونزح إلى إشبيلية، ويعرف بالأعلم. درس القرآن والحديث والعربية، وبرع فيها، وتصدر لإقرائها. وله شروح قيمة في كتب الإيضاح والجمل، والكامل، والأمالى، وغيرها. وألف أيضاً كتاباً في " آداب أهل بطليوس ". وتوفي في سنة 637 هـ (3).
وإسماعيل بن سعد السعود بن أحمد بن هشام .. بن عفير الأموي، من أهل لبلة، وسكن إشبيلية، وينتسب إلى موالى بني أمية، عنى بالحديث والفقه ودرس بقرطبة، وأخذ بها عن أبي بكر بن خير، وابن بشكوال، وابن فرقد، وغيرهم، وكان فقيها متمكنا، ولى قضاء مراكش أيام الفتنة. ثم صرف عنه وعاد إلى إشبيلية. وكان في نفس الوقت أديبا بارعا، وتوفي سنة 637 (4).
ومحمد بن اسماعيل بن محمد بن اسماعيل بن خميس الجمحي، من أهل قسنطانة من عمل دانية، درس الحديث والفقه، وصحب أبي عبد الله بن نوح ولازمه، وكتب للقضاة، ثم ولى قضاء بلنسية أيام الفتنة. وكان فوق براعته في الفقه، أديبا متمكنا له حظ من قرض الشعر، بصيراً في الأحكام وعقد الشروط، ثم غادر بلنسية مصروفا عن القضاء، وقدم إلى قضاء شاطبة، وكان من أساتذة ابن الأبار. وتوفي بشاطبة في صفر سنة 639 هـ (5).
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 1660.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1661.
(3) ترجمته في التكملة رقم 447.
(4) ترجمته في التكملة رقم 496.
(5) ترجمته في التكملة رقم 1638(4/674)
وسهل بن محمد سهل بن ملك الأزدري من أهل غرناطة. أخذ ببلده عن أبي عبد الله بن عروس، وأبي الحسن بن كوثر، وعبد المنعم بن الفرس، وأخذ بمالقة عن أبي عبد الله بن الفخار، وبإشبيلية عن أبي بكر بن الجد وأبي عبد الله بن زرقون وأبي العباس بن مضاء وأبي الوليد بن رشد، وأخذ عن غيرهم من أقطاب العصر. وبرع في الفقه والأصول والعربية، وكان كاتباً مقتدراً وشاعراً محسناً. نفى من وطنه غرناطة إلى مرسية بسعى بعض خصومه، وبقى بها حتى توفي المتوكل ابن هود بألمرية في سنة 635 هـ، فعندئذ سرح إلى بلده. وقد صدر عنه كثير من النثر والنظم الجيد، وصنف في العربية كتابا رتب الكلام فيه على أبواب كتاب سيبويه. ولد سنة 559 هـ، وتوفي بغرناطة سنة 639 هـ (1).
ومحمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن اسماعيل بن عمر الأنصاري الأوسي الضرير، من أهل قرطبة، ويعرف بابن الصفار. أخذ عن أبي القاسم بن بشكوال، وأبي بكر ابن الجد، وأبي عبد الله بن زرقون، وابن مضاء، وأبي ذر الخشنى، وغيرهم من أعلام العصر، وبرع في القراءات والحديث. ورحل إلى المشرق وأخذ عن بعض أقطابه، ثم عاد إلى المغرب، وسكن مراكش، وكان يقرىء العربية والآداب، ويسمع الحديث، واستقر أخيراً بمدينة تونس، وبها توفي سنة 639 هـ (2).
وعلي بن ابراهيم بن علي بن عبد الرحمن المعروف بابن الفخار من أهل أركش، درس الحديث والفقه على جماعة من أهل عصره مثل ابن الغزال وابن زرقون وغيرهما، وكان حافظاً متقناً، ذاكراً لأسماء الرجال وأحوالهم، بارعاً في الفقه والأدب، وكان على قول ابن عبد الملك " أعجوبة زمانه في حضور الذكر لذلك كله "، وكان مشاركاً في النظم. تولى القضاء برندة والجزيرة الخضراء وغيرهما، وتوفي بشريش في صفر سنة 642 هـ (3).
وأحمد بن محمد بن القيسي من أهل قرطبة، ويعرف بابن أبي حجة. أخذ عن أقطاب عصره، وفي مقدمتهم ابن بشكوال، وابن مضاء، وأبي العباس المجريطى، وبرع في علوم القرآن والعربية، وتصدر لإقرائها. وله عدة تآليف، منها كتاب منهاج العبادة، وكتاب تفهيم القلوب في آيات علام الغيوب، وكتاب
_______
(1) ترجمته في الذيل والتكملة (مخطوط الإسكوريال 1682 الغزيري).
(2) ترجمته في التكملة رقم 1668.
(3) ترجمته في الذيل والتكملة (السفر الرابع من مخطوط المتحف البريطاني)(4/675)
تسديد اللسان لذكر أنواع البيان، وغيرها. ولما سقطت قرطبة في أيدي النصارى غادرها إلى إشبيلية، وسكن بها حينا، ثم غادرها متجها إلى ميورقة، وأسرته الروم في البحر، وامتحن بالتعذيب، وتوفي على أثر ذلك بميورقة في سنة 643 هـ (1). وأحمد بن محمد بن وهب البكرى من أهل شاطبة، أخذ عن ابن نوح وابن عات وغيرهما، وبرع في الفقه والعربية، ومهر في عقد الشروط. وغادر شاطبة عند إجلاء النصارى لأهلها المسلمين، وذلك في سنة 645 هـ، وقصد إلى أوريولة، وهناك توفي في أواخر هذا العام (2).
وأحمد بن علي بن أحمد .. بن عبد الله الأنصاري من أهل قرطبة، درس الفقه والأدب بقرطبة وإشبيلية وجيان، وولي الأحكام ببعض الكور، وعنى بعقد الشروط، وكتب لوالى قرطبة وقتا. ولما سقطت قرطبة في أيدي النصارى غادرها، وعبر البحر إلى تونس، ونزل بها. وكان يقرىء بها اللغة والأدب، وممن أخذ عنه بها ابن الأبار، وكان قد استقر بها كذلك. ثم قصد إلى المشرق لتأدية فريضة الحج، ولكنه توفي بقوص وذلك في رجب سنة 646 هـ (3).
وعبد الله بن قاسم بن عبد الله بن محمد بن خلف اللخمي من أهل إشبيلية ويعرف بالحرار وبالحريرى. أخذ عن أبي الحسن الشقورى، وأبي محمد بن حوط الله وأبي القاسم الملاّحى، وابن زرقون، وابن عات، وغيرهم من الأقطاب. وبرع في الحديث، والأدب، وقرض الشعر. وله عدة مؤلفات منها، " حديقة الأنوار " وهو في تذييل " اقتباس الأنوار " في الأنساب للرشاطى، وكتاب " المنهج المرضى، في الجمع بين كتابى ابن بشكوال وابن الفرضى ". وكانت وفاته بإشبيلية خلال حصار النصارى لها في أوائل سنة 646 هـ، ومولده بجزيرة شقر، بلد أسلافه في سنة 591 هـ (4).
ومحمد بن محمد بن أحمد .. بن سليمان الزهري، من أهل بلنسية، ويعرف بابن محرز، درس على جماعة من أقطاب الشرق، مثل أبي عبد الله بن نوح، وأبي بكر بن جمرة، وأبي العطاء بن نذير، وغيرهم، وكان متمكنا من الحديث والفقه والأدب واللغة وحفظ الغريب، وله شعر رائق. ولما استولى النصارى على بلنسية، عبر البحر إلى إفريقية، ونزل ببجاية، واستوطنها وأخذ يقرىء بها
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 307.
(2) ترجمته في التكملة رقم 310.
(3) ترجمته في التكملة رقم 312.
(4) ترجمته في التكملة رقم 2121(4/676)
الحديث والفقه واللغة. وكانت له بين علمائها مكانة رفيعة، وبها توفي في سنة 655 هـ. ومولده سنة 569 هـ (1).
ومحمد بن ابراهيم بن محمد بن ابراهيم بن المفرح الأوسي المعروف بابن الدباغ الإشبيلي، برع في الفقه، وكان أوحد عصره في حفظ مذهب مالك، وفي عقد الوثائق، وكان في الوقت نفسه، عارفا بالنحو واللغة، أديبا بارعا، مشاركا في النظم والتاريخ. انتقل إلى غرناطة ولبث يقرىء بجامعها حينا، وتوفي في سنة 668 هـ (2).
...
وازدهرت في هذا العصر، الذي توالت فيه المحن على الأندلس، ومالت شمسها إلى الغروب، حركة التصوف، وظهر عدة من أكابر المتصوفة نذكرهم فيما يلي: كان من هؤلاء أحمد بن عمر المعافرى من أهل مرسية، وأصله من طبيرة من ولاية الغرب، ويعرف بابن إفرندو، أخذ عن أبي علي بن سكرة، وأبي بكر بن العربي، وأبي محمد الرُّشاطى وغيرهم، ورحل إلى المشرق، وأخذ عن بعض أقطابه، ومنهم بعض أصحاب الإمام الغزالى وكان محدثاً حافظاً، ومال إلى الزهد والتصوف، وأخذ عنه بعض أعلام العصر، مثل أبي الخطاب بن واجب وغيره. ولم نقف على تاريخ وفاته (3).
ومنهم ابراهيم بن محمد بن خلف بن سوار بن أحمد بن حزب الله، بن أبي العباس بن مرداس السلمى من أهل بلفيق من أعمال ألمرية، وبها ولد ونشأ، ويعرف بابن الحاج. درس القراءات والحديث، وأخذ في ذلك عن أبي محمد البسطى الخطيب، وابن كوثر، وابن عروس، وابن أبي زمنين وغيرهم. وكان فوق براعته في علوم السنة، مشاركا في الأدب، ومال إلى التصوف، وشغف به، وأقبل الناس إليه من كل صوب، وكثر الازدحام عليه، فنفاه الوالي إلى المغرب، وتوفي بمراكش في جمادى الآخرة سنة 616 هـ (4).
ومحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن العربي المعافري، من أهل إشبيلية ومن بيت القاضي أبي بكر بن العربي، درس بإشبيلية وقرطبة، ورحل إلى المشرق، فأخذ عن أبي طاهر السلفي بالإسكندرية، ورحل إليه ثانية، ودخل الشام،
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 1692، وفي عنوان الدراية للغبريني ص 170 - 173.
(2) ترجمته في الإحاطة - مخطوط الإسكوريال (1673 الغزيري) لوحة 107.
(3) ترجمته في التكملة رقم 190.
(4) ترجمته في التكملة رقم 434(4/677)
والعراق وبغداد، وأخذ عن أكابر علمائها، وجاور بمكة، وسمع الحديث من أكابر حفاظها. وعاد من رحلته الثانية إلى إشبيلية سنه 604 هـ، وأخذ عنه الطلاب عندئذ بإشبيلية وقرطبة. ثم رحل إلى المشرق للمرة الثالثة سنة 612 هـ، وجاور بالحرمين عدة أعوام، وحج مراراً، وسلك طريقة التصوف، وغلب عليه الزهد، وتوفي في طريق العود، بثغر الإسكندرية سنة 617 هـ (1).
ومن أشهرهم وأبعدهم صيتا، جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونه الخزاعى العابد، من أهل قسنطانة من عمل دانية. درس القراءات والحديث، وأخذ عن ابن هذيل، وابن النعمة، ورحل إلى المشرق، فأدى فريضة الحج، ودخل الإسكندرية فسمع السلفى، ثم عاد إلى بلده، ولزم العزلة والزهد، والإعراض عن الدنيا، وسلك طريقة التصوف، وكان شيخ المتصوفة بالأندلس في وقته، وعلا صيته، وذاع ذكره، في الزهد والورع، وتوفي عن نحو مائة عام في شهر ذي العقدة سنة 624 هـ، ولبث قبره حينا مزارا يتبرك به الناس (2). ومنهم محمد بن عبد الله بن محمد بن خلف بن قاسم الأنصاري من أهل بلنسية، وأصلهم من قلعة أيوب بالثغر الأعلى. درس القراءات والفقه والعربية والآداب، وأخذ عن أبي العطاء بن نذير، وأبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب ابن واجب وغيرهم. وعنى لأول أمره بعقد الشروط، ثم اعتزل الحياة وتزهد، وانقطع للعلم والعبادة، وتصدر لإقراء التفسير بجامع بلنسية، وغلب عليه التصوف. وألف كتاب " نسيم الصبا " في الوعظ، وكتاب " النفوس الزكية في الخطب الوعظية "، وكان من أساتذة ابن الأبار، أخذ عنه وكتب عنه بعض كتبه. ولما وقع حصار النصارى لبلنسية، وجهه أميرها إلى مرسية لاستنهاض همم أهلها. وتوفي بأوريولة في رجب سنة 640 هـ (3).
ومحمد بن مفضل بن حسن بن عبد الرحمن بن محمد بن مهيب اللخمى، أصله من طبيرة من أعمال الغرب، وسكن ألمرية. كان فقيهاً وأديباً وشاعراً، مائلاً إلى التصوف، ولى الخطبة بقصبة ألمرية حيناً، ثم نزح إلى تونس، ثم إلى سبتة وبها توفي سنة 645 هـ، ومن مؤلفاته كتاب " الجواهر الثمينة " (4).
ونختتم هذا الثبت القصير من متصوفة الأندلس في أواخر العهد الموحدي،
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 1593.
(2) ترجمته في التكملة رقم 643.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1671.
(4) ترجمته في التكملة رقم 1682(4/678)
بذكر قطبهم الأكبر الشيخ محيى الدين الطائي، الذي يعتبر شيخ المتصوفة على الإطلاق. وهو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله، الشيخ محيى الدين الطائى الحاتمى، ويكنى أبا محمد وأبا بكر، ويعرف بابن عربي تمييزاً له من العلامة أبي بكر بن العربي. ولد في شهر رمضان سنة 560 هـ بمدينة مرسية، وسكن إشبيلية وقتا، وأخذ بمرسية عن أشياخها، ومنهم ابن بشكوال، وكان يقيم بها يومئذ، وعبر إلى المغرب ونزل بجاية في رمضان سنة 597 هـ، وأخذ عن أشياخها، ثم رحل إلى المشرق حاجا، فأدى الفريضة، ولم يرجع بعدها إلى وطنه، وسمع بمكة وبغداد ودمشق، ودرس الحديث ومال إلى التصوف، وشغف به، حتى ملك عليه كل جوارحه، وكان ظاهرى المذهب، وكان يحدث بالإجازة العامة عن أبي طاهر السلفى. واشتهر ابن عربي، بانقطاعه إلى التصوف وتبحره في مذاهبه وطرائقه، حتى وصفه بعض مترجميه " بالبحر الزاخر في المعارف الإلهية "، وله ثبت حافل من المؤلفات الجليلة التي تدل على غزير علمه وسمو معارفه، نذكر منها " الفتوحات المكية " وهو مؤلف ضخم يعالج فيه طرائق الصوفية علاجا شاملا، " والتدبيرات الإلهية " و " فصوص الحكم "، " وتاج الرسائل ومنهاج الوسائل " و " كتاب العظمة "، و " المتجليات " و " مفاتيح الغيب "، و " كتاب الحق "، و " مراتب علوم الوهب "، و " الإعلام بإشارات أهل الإلهام "، و " العبادة والخلوة "، و " المدخل إلى معرفة الأسماء "، و " أسرار الخلوة "، و " عقيدة أهل السنة "، و " ناصحة النفس واليقين "، و " مشكاة الأنوار "، وكثير غيرها. وقد ذكر منها صاحب فوات الوفيات أكثر من خمسين مؤلفا. وكان ابن عربي يجاهر بكثير من الآراء الحرة التي تؤخذ عليه أحيانا، وتعتبر من ضروب الإلحاد، حتى أنه حينما كان بمصر، وصدرت عنه تلك الآراء أو الشطحات كما كان يصفها ابن عربي، اشتد العلماء المصريون في محاسبته، ورموه بالإلحاد والكفر، وطالبوا بإهدار دمه، لولا أن شفع له بعضهم ونجا من تلك المحنة. وكان ابن عربي آية في الذكاء والحافظة وسرعة الخاطر، فصيحا، بارع البيان، وعلى الجملة فقد كان قطبا من أعظم أقطاب عصره، وكان صيته يطبق أنحاء المشرق والمغرب. وتوفي ابن عربي في دمشق في نحو الثمانين من عمره، وقد اختلف في تاريخ وفاته، فذكر صاحب فوات الوفيات أنه توفي في الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة 638 هـ. وذكر ابن الأبار أنه توفي بعد الأربعين وستمائة(4/679)
وعنى كثير من أكابر المستشرقين بدراسة حياة ابن عربي وتراثه، ومن هؤلاء آسين بلاثيوس، وجولد سيهر، ومكدونالد.
وكان ابن عربي، فوق براعته في التصوف، شاعراً جزلاً ينظم الشعر الرقيق الجيد، ومن ذلك قوله في التعبير عن الشوق:
سلام على سلمى ومن هل بالحمى ... وحق لمثلى رقة أن يسلما
وماذا عليها أن ترد تحية ... علينا ولكن لا احتكام على الدمى
سروا وظلام الليل أرخى سدوله ... فقلت لها صبّا غريبا متيما
فأبدت ثناياها وأومض بارق ... فلم أدر من شق الحنادس منهما
وقالت أما يكفيه أني بقلبه ... يشاهدنى من كل وقت أما أما
وقوله:
درست عهودهم وإن هواهم ... أبدا جديد في الحشا ما يدرس
هذى طلولهم وهذى الأدمع ... ولذكرهم أبدا تذوب الأنفس
ناديت خلف ركابهم من حبهم ... يا من غناه الحسن ها أنا مفلس
يا موقدا نارا رويدا هذه ... نار الصبابة شأنكم فلتقبسوا (1).
_______
(1) راجع في ترجمة ابن عربي فوات الوفيات ج 2 ص 241 - 243، والتكملة لابن الأبار رقم 1673، وعنوان الدراية للغبرينى (طبع الجزائر 1338 هـ)، ص 97 - 99(4/680)
الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي
القسم الثاني
علماء اللغة والنحو والأدب. ابن سمحون الأنصاري. عبد الرحمن بن محمد السلمي. داود بن يزيد السعدى. ابن طاهر الأنصاري النحوي. ابن ملكون الحضرمي، عبد الله بن محمد بن عبيد البكرى. سليمان الحضرمي النحوي. أبو ذر الخشني. ابن خروف. ابن سعدون الأزدي. ابن وهب البكري. ابن البرذعي. ابن عامر الجزيري. أبو علي الشلوبين. نهضة الشعر الأندلسي خلال العصر الموحدي. أثر المحنة في اضطرابه. ابن حبوس. ابن أبي العافية الأزدي. ابن مغاور. ابن غلبون. ابن غالب البلنسي الرصافي. شىء من شعره. ابن عياض القرطبي. أبو بحر صفوان بن إدريس التجيبي. محمد ابن أحمد الصابونى. ابن المناصف. ابن حريق. محمد بن إدريس مرج الكحل، شىء من شعره. ابن حزمون. ابراهيم بن سهم الإشبيلي. شىء من شعره. أحمد بن محمد بن حجاج اللخمى. أبو العباس الجراوى. أبو بكر بن مجبر. أعلام الكتاب في العصر الموحدي. أبو القاسم بن خيرة المواعينى. ابن هرودس ابن سعد الخير الأنصاري. الحسن بن حجاج الهوارى. أبو الفضل بن محشرة. الرحالة ابن جبير. بنو عياش. أبو الحسن بن عياش. محمد بن عبد العزيز بن عياش. أبو الحسن علي بن عياش. أحمد بن عبد العزيز بن عياش. عزيز بن عبد الملك بن خطاب. أبو عبد الله بن الجنان. أحمد بن محمد القضاعى البلوى. ابن هيصم الرعينى. أبو المطرف بن عميرة المخزومي. الرواة والمؤرخون في العصر الموحدي. صلة ابن بشكوال ثم تكملة ابن الأبار ثم الذيل والتكملة، ثم صلة الصلة. عبد الملك بن صاحب الصلاة. عبد الواحد المراكشي. ابن مدرك الغسانى. أحمد بن محمد الأزدي. أبو القاسم الملاحى. عيسى بن سليمان الرعينى. ابن قسوم اللخمى. ابن الأبار القضاعى. آثاره وتراثه. ابن سعيد الأندلسي. بن فرتون السلمى. ابن عذارى المراكشي. ابن القطان. ابن الزبير. ابن عبد الملك المراكشي.
استعرضنا في الفصل السابق طائفة كبيرة من أعلام الفكر الأندلسي، ممن نبغوا في العلوم الدينية، ومن جمعوا بينها وبين اللغة والأدب، ومن برزوا في ميدان التصوف، خلال العصر الموحدي، وهم حسبما بينا فيما تقدم، الكثرة الغالبة في ميدان التفكير الأندلسي في ذلك العصر، الذي قدر أن تجوز فيه الأندلس محنتها الكبرى، بانهيار صرحها القديم الشامخ، وسقوط معظم قواعدها الكبرى، في يد اسبانيا النصرانية(4/681)
ونريد الآن أن نستعرض بقية أعلام الفكر الأندلسي في تلك الحقبة ممن ظهروا في ميادين التفكير الأخرى.
(1)
ونبدأ في ذلك بذكر طائفة من علماء اللغة والنحو والأدب وما إليها، وهم ليسوا من الناحية العددية كثرة تلفت النظر، ولكن ظهرت منهم شخصيات بارزة، لا تقل عن مثيلاتها في أي عصر، من عصور النهضة والاستقرار.
كان من هؤلاء، أحمد بن محمد القيسي، من أهل جيان ويعرف بالفندرى. درس ببلده، ثم نزح إلى مرسية، ودرس بها الآداب والعربية، وبرع فيها ثم انتقل إلى بلدة ألش من أعمالها، واستقر بها وقتا، وكانت له إلى جانب ذلك مشاركة في علم الطب، وتوفي بمرسية في شهر ربيع الأول سنة 559 هـ (1).
وأبو بكر بن سليمان بن سمحون الأنصاري، من أهل قرطبة، درس القراءات والعربية والآداب، وبرع في علم النحو حتى فاق سائر أقرانه، وكان يوصف بأنه أعلم معاصريه بالنحو، وكان يدرس العربية، وله مشاركة في علم الحساب، وأخذ عنه عدة من أعلام عصره، مثل أبي جعفر بن مضاء، وأبي محمد عبد الحق بن محمد الخزرجى، وأبي القاسم بن بقى، وتوفي بقرطبة سنة 563 هـ (2).
وعبد الرحمن بن محمد السلمي من أهل شرق الأندلس، وبه نشأ، ويعرف بالمكناسى. درس على أقطاب صقعه، وبرع في الآداب واللغات، ومعرفة أيام العرب ورجالها، وكان كاتبا جيد النظم، مقتدرا في إنشاء الرسائل اللزومية، وله منها طائفة جليلة. وتوفي بمراكش سنة 571 هـ (3).
وداود بن يزيد بن عبد الله السعدى النحوى، من أهل قلعة يحصب من عمل غرناطة، درس بغرناطة وأخذ بها عن أبي الحسن بن الباذش، واختص به، ثم رحل إلى قرطبة فسمع من أقطابها، وكان أستاذ النحويين في وقته، وكان ممن أخذ عنه أعلام، مثل أبي بكر بن أبي زمنين، وأبي الحسن بن خروف، وأبي القاسم الملاّحي، وتوفي عن سن عالية في سنة 573 هـ (4).
وعبد الله بن أحمد بن علي بن قرشى الحجري، من أهل قرطبة، ونشأ
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 178.
(2) ترجمته في التكملة رقم 591.
(3) نقلنا ترجمته من أوراق مخطوطة من صلة الصلة لابن الزبير عثرنا عليها بمكتبة القرويين.
(4) ترجمته في التكملة رقم 855(4/682)
بشرق الأندلس، وأخذ عن أبي الحسن بن النعمة، وأبي الوليد بن الدباغ، وأبي عبد الله بن سعادة، ومهر في صناعة العربية والآداب، وضبط اللغات، وتصدر لإقرائها زمنا. وكان له إلى جانب ذلك حظ من النثر والنظم. وتوفي بقرطبة سنة 575 هـ (1).
ومحمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري النحوي، من أهل إشبيلية. درس العربية على أبي القاسم بن الرماك، وأبي الحسن بن مسلم، وبرع فيها، وتفوق على أقران عصره، وعكف على تدريسها في مختلف البلاد. ودخل مدينة فاس محترفاً للتجارة، فرغب إليه أهلها في الإقراء، فاستجاب إليهم، وأقام بها وقتا، ثم رحل إلى المشرق ودرس بمصر وحلب والبصرة، وعاد بعد أداء الفريضة فنزل مدينة بجاية، وله تعليق جيد على كتاب سيبويه سماه " بالطرر ". وكان ممن أخذ عنه أقطاب مثل أبي ذر الخشني، وأبي الحسن بن خروف، وغيرهما. وتوفي ببجاية سنة 580 هـ (2).
وابراهيم بن محمد بن منذر بن أحمد بن سعيد بن ملكون الحضرمي النحوى، من أهل إشبيلية، أخذ بها عن أقطاب العصر، مثل أبي مروان الباجي، وشريح ابن محمد، وأبي الوليد بن حجاج، وأبي القاسم بن الرماك، وبرز في علم العربية والآداب، ومهر فيها، وقام على إقرائها، وكان ممن أخذ عنه الخليفة أبو يعقوب يوسف وعدة من الجلة، وله في اللغة والنحو عدة مؤلفات قيمة منها " إيضاح المنهج " وقد جمع فيه بين كتابى ابن جنى، ووضع شرحا لكتاب الجمل للزجاجى، وشرحا آخر لكتاب التبصرة للصميرى وغيرها. وتوفي بإشبيلية سنة 581 هـ (3).
وعبد الله بن محمد بن أبي عبيد بن عبد العزيز البكري، من أهل قرطبة، وأصلهم من لبلة، ومن سادة جزيرة شلطيش أيام الطوائف، وجده أبو عبيد البكرى، وهو العلامة الجغرافى اللغوى الشهير صاحب المسالك والممالك، ومعجم ما استعجم. ونبغ عبد الله كجده في اللغة والآداب وغريبها، وأخذ على أبي عبد الله ابن مكى، وأبي جعفر البطروجى، وأبي بكر بن عبد العزيز وغيرهم. وأخذ عنه الجلة مصنفات جده، وكانت وفاته بقرطبة في جمادى الأول سنة 581 هـ، ومولده في سنة 507 هـ (4).
ولب بن عبد الله بن لب بن أحمد الرُّصافي، نسبة إلى رُصافة بلنسية، أخذ
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 2060.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1447.
(3) ترجمته في التكملة رقم 406.
(4) ترجمته في التكملة رقم 2071(4/683)
العربية عن أبي الحسن بن النعمة وغيره، وبرع فيها، وقام بتعليمها، وبرع كذلك في النحو، وكان قائما على شرح ابن بابشاذ لجمل الزجاجى، وأخذ عنه كثير من شيوخ عصره، وتوفي نحو سنة 590 هـ (1).
وجابر بن محمد بن نام بن أبي أيوب، ويعرف بسليمان الحضرمي النحوى، من أهل إشبيلية. عنى بالحديث والرواية، ثم درس العربية على أبي القاسم ابن الرماك، وأبي الحسن بن مسلم، وبرع فيها وغاص على دقائقها وأسرارها، وتصدر لإقرائها، ولم يكن في وقته بإشبيلية أقدر منه على شرح كتاب سيبويه، وتوفي سنة 596 أو 597 هـ (2).
ومصعب بن محمد بن مسعود الخشني، من أهل جيان، ويكنى بأبي ذر، ويعرف بابن أبي ركب، درس العربية والآداب واللغات بالأندلس والمغرب دراسة مستفيضة، وكان في مقدمة أساتذته العلامة النحوى أبو اسحاق بن ملكون. وبرع في العربية وتبوأ رياستها في عصره، وقصده، الطلاب من كل صوب للأخذ عنه، هذا مع مشاركته في الآداب واللغات، وقرض الشعر. ولى الخطبة بجامع إشبيلية وقتا، وكان يقرىء العربية بمسجد ابن الرماك، ثم ولى قضاء جيان، واستوطن في أواخر حياته مدينة فاس. وتصدر بها لإقراء العربية، وله تأليف في " شرح غريب السير لأبي اسحاق "، ورسالة في العروض. وتوفي بمدينة فاس في شهر شوال سنة 604 هـ (3).
وعلي بن محمد بن علي بن خروف الحضرمي النحوي من أهل إشبيلية، ويعرف بابن خروف. درس الكلام والأصول، وأخذ عن أبي مروان بن قزمان، وأبي إسحاق بن ملكون، وداود بن يزيد السعدى، وبرع في العربية، وانقطع لها، وأصبح من أئمتها البارزين، وتصدر لإقرائها طول حياته، بإشبيلية وقرطبة ورندة، وبالمغرب بفاس وسبتة. ورحل إلى المشرق، وأقام مدة بحلب. وتفوق بالأخص في شرح كتاب سيبويه، وأخذه عنه جمهرة من الجلة. وألف شرحه المشهور عليه، ويقال إنه حمل منه نسخة إلى الخليفة الناصر بمراكش، فوصله عنها بألف دينار، وألف كذلك شرحا لكتاب الجمل للزجاجي، وكانت له مشاركة في علم الفرائض وفي القراءات. وكان ذا أسلوب بارع في الدرس والمحاضرة والمناظرة.
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 946.
(2) ترجمته في التكملة رقم 655.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1785.(4/684)
وأخذ عنه ولازمه كثير من شيوخ العصر. وتوفي بإشبيلية سنة 609 هـ (1).
وأحمد بن طلحة بن محمد بن عبد الملك الأموي، أصله من أهل يابرة، ونشأ بإشبيلية، أخذ العربية عن أخيه أبي بكر بن طلحة، وغيره، وبرع في الأدب والنحو والعروض، وله في ذلك تآليف وأخذ عنه. وتوفي في نحو سنة 620 هـ (2).
وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز .. بن سعدون الأزدي، من أهل بلنسية، درس العربية والآداب ومهر فيها، وكان من أهل المعرفة الكاملة بها وبفنونها، مبرزاً في العربية واللغة، متقناً، متحققاً، بديع الخط، وكان إلى جانب ذلك بارع النظم والنثر، وكتب عن بعض الرؤساء. وتوفي في آخر سنة 622 هـ (3).
وأحمد بن محمد بن وهب البكري، من أهل شاطبة، أخذ عن عدة من أقطاب عصره مثل ابن نوح وابن عات وغيرهما. ومهر في صناعة العربية، إلى جانب مشاركته في حفظ المسائل، وعقد الشروط. قال ابن الأبار " وكان صاحبا لأبي رحمه الله، اشتركا في الأخذ عن ابن نوح، وانفرد هو بالأخذ عن أبي بكر ابن عتيق ". وغادر موطنه شاطبة حينما قام النصارى بإجلاء أهلها عنها بعد نقض هدنتهم وذلك في رمضان سنة 645 هـ، وتوفي على أثر ذلك بمدينة أوريولة (4).
ومحمد بن يحيى بن هشام بن عبد الله بن أحمد الأنصاري الخزرجي، من أهل الجزيرة الخضراء ويعرف بابن البرذعى، درس القراءات والعربية، وأخذ العربية عن أبي ذر الخشنى، وأبي الحسن بن خروف، وأبي على الرندي وغيرهم، وأخذ كذلك عن القاضي ابن رشد، وأبي الحسن بن الصائغ، وأبي محمد بن حوط الله وأخيه، وأبي على الشلوبين وغيرهم، وكان إماما في صناعة العربية منقطعا إليها، مقدما فيها، وكان أستاذه الشلوبين يثنى عليه، ويشهد بتفوقه فيها، وله فيها عدة مؤلفات منها، " كتاب الإفصاح بفوائد الإيضاح " و " كتاب فصل المقال في تلخيص أبنية الأفعال "، وكتاب " غرة الإصباح في شرح أبيات الإيضاح ". وكان يشارك أيضاً في فنون شتى. ونزح في أواخر حياته إلى تونس، وهنالك لقيه ابن الأبار وأخذ عنه. وتوفي بتونس
_______
(1) ترجمته في صلة الصلة لابن الزبير رقم 245، وفي فوات الوفيات ج 3 ص 80، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك (الجزء الأول من مخطوط الرباط المصور).
(2) ترجمته في التكملة رقم 283.
(3) ترجمته في التكملة رقم 2110.
(4) ترجمته في التكملة رقم 310(4/685)
في شهر جمادى الأخرى سنة 646 هـ (1).
وإدريس بن محمد بن موسى الأنصاري، من أهل قرطبة، أخذ عن أبي جعفر بن يحيى الخطيب، وأبي محمد بن حوط الله، ومال إلى العربية والآداب، وبرع فيها، وتصدر لإقرائها بقرطبة، إلى أن تملكها القشتاليون في سنة 633 هـ، فغادرها وعبر البحر إلى سبتة، واستأنف بها الإقراء، وكانت له مشاركة في النظم والنثر، وتوفي سنة 647 هـ (2).
والحسن بن أحمد بن الحصين بن عطاف العقيلي، من أهل جيان، أخذ عن أبيه وغيره من أشياخ بلده، وبرع في اللغة والأدب، وكانت جيان من مناطق التفوق في دراسة العربية، وله شرح في " مقصورة ابن دريد ". ولم تذكر لنا تاريخ وفاته (3). ومحمد بن محمد بن مخلد النحوى، من أهل شاطبة، درس العربية وبرع فيها، ثم انتقل من بلده إلى غرب الأندلس. وله كتاب في شرح " الجمل للزجاجي " ولم تذكر لنا تاريخ وفاته (4).
وموسى بن علي بن عامر من أهل إشبيلية يعرف بالجزيري، لأن أصله من الجزيرة الخضراء، درس القراءات والحديث والعربية، ومهر في العربية وكان عمدة في النحو في عصره، يؤخذ عنه، ويؤثر به. وله شرح في كتاب "لحن العامة " للزبيدى، وشرح لكتاب " التبصرة " للصميرى، وكتاب آخر عنوانه " الاستيضاح في شرح الإيضاح " ولم نعثر كذلك على تاريخ وفاته (5).
ونختتم هذا الثبت من علماء اللغة والنحو بذكر إمامهم وقطبهم الأكبر في ذلك العصر، وهو العلامة عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأزدي الإشبيلي، أبو علي الشلوبين - قال ولده إنه سمى بالشلوبين، لأنه كان أشقر أزرق. وكان خبازا. ودرس الشلوبين القراءات والآداب واللغات وأخذ بقسط من رواية الحديث، وروى عن جمهرة من أقطاب عصره مثل ابن بشكوال، وأبي بكر بن زهر، وأبي محمد بن بونه، وأبي زيد السهلي، وابن مضاء، وابن حبيش، وابن كوثر وغيرهم. ولكن غلبت عليه دراسة العربية ونبغ فيها حتى غدا إمامها الذي لا يبارى، وتصدر لإقرائها بإشبيلية دهراً، وكانت تشد إليه الرحال من سائر
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 522.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1684.
(3) ترجمته في التكملة رقم 692.
(4) ترجمته في التكملة رقم 1548.
(5) ترجمته في التكملة رقم 1736(4/686)
الآفاق للأخذ عنه، والتضلع عليه، وذاع صيته في سائر أنحاء الأندلس والمغرب، وكان إمام العربية بالمشرق والمغرب دون مدافع، وكان ذا معرفة بنقد الشعر وغيره، بارعا في التعليم والإلقاء، أخذ عنه كثير من الجلة مثل القاضي أبي عبد الله ابن عياض، وأبي العباس الأزدي، وأبي بكر بن رشيق، وأبي عمر بن حوط الله وغيرهم. وكان منقطعاً بإشبيلية إلى ابن زهر. عبر البحر إلى مراكش أيام المنصور، وعاد إلى بلده، وكرس حياته للعربية، وقد لبث يقرئها زهاء ستين عاما، وله شرح للكراسة المنسوبة للجزولى، وألف كتاب التوطئة، إتماما للكراسة المذكورة. ولد بإشبيلية سنة 562 هـ، وتوفي بها في أواخر صفر سنة 645 هـ، أثناء حصار القشتاليين إياها (1).
- 2 -
ازدهر الشعر خلال العصر الموحدي بالأندلس والمغرب معا، وكان الخلفاء الموحدون يتذوقون الشعر الجيد، ويقدرون أثر الإشادة والمديح، في تأييد هيبة الدولة والخلافة، ومن ثم فقد أسبغوا رعايتهم على الشعراء، وأغدقوا عليهم الصلات. وكان للخلافة الموحدية شعراؤها الأثيرون لديها مثل الجراوى، وابن حزمون، وابن مجبر، وغيرهم، ينظمون قصائدهم في مختلف المواطن، والمناسبات السعيدة، من ولاية وفتوح ومقدم وإبلال وغيرها، يشيدون فيها بقوة الخلافة الموحدية ومجدها وسعدها.
وبلغ الشعر في الأندلس في تلك الفترة مستوى عاليا من الازدهار والقوة في ظل الخلافة الموحدية، التي قدرت قدره، وأظلته برعايتها، وتبارى الشعراء الأندلسيون، منذ عهد عبد المؤمن في مديح الخلافة الموحدية، والإشادة بذكرها. على أن نهضة الشعر الأندلسي، في أوائل العصر الموحدي لم تكن سوى امتداد طبيعى لنهضتها القديمة منذ الطوائف، وذلك إذا استثنينا عهد المرابطين القصير الذي لم يحظ فيه الشعر بشىء من التقدير والرعاية، من الدولة المرابطية. ولم تخب النهضة الشعرية القوية، حتى في عصر الانهيار، في أواخر العهد الموحدي، بل بالعكس فقد زادتها المحنة قوة واضطراما. وصدرت في الصريخ من المحنة وفي الأندلس ورثاء قواعدها الذاهبة، وشعبها المغلوب، من غرر القصائد المبكية، ما يشهد بأن الشعر
_______
(1) ترجمته في صلة الصلة لابن الزبير المنشور بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (الرباط سنة 1937) رقم 128، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك (الجزء الرابع من مخطوط المتحف البريطاني)(4/687)
الأندلسي، قد بلغ في تلك الفترة المؤسية من حياة الأمة الأندلسية، ذروة قوته وروعته. وسوف نستعرض فيما يلي، أهم الشعراء، الذين ظهروا في العصر الموحدي سواء بالأندلس أو المغرب، وقد كانت الخلافة الموحدية تجذبهم إليها أينما حلت، ولم تكن الأندلس يومئذ، سوى قطر من أقطار الدولة الموحدية الكبرى.
كان في مقدمة هؤلاء الشعراء، أبو عبد الله محمد بن حسين بن عبد الله ابن حبوس، وهو من أهل فاس، وكان عالماً محققاً، وشاعراً كبيراً، يقول لنا المراكشي إن طريقته في الشعر كانت على نحو طريقة ابن هانىء الأندلسي في تخير الألفاظ الرائعة. وظهر ابن حبوس في ميدان الشعر منذ أيام المرابطين، ومدح بعض أمرائهم، ولكن نقلت إليهم عنه بعض تهم وحماقات خشى منها على نفسه، ففر إلى الأندلس ونزل مدينة شلب حيناً، ولما غلب أمر الموحدين، انضوى تحت لوائهم، ولقى الخليفة عبد المؤمن بجبل طارق مع باقي الشعراء، وامتدحه بقصيدته التي أشرنا إليها في موضعها. وكثرت مدائحه من بعده لولده الخليفة أبي يعقوب يوسف، وأمراء بني عبد المؤمن. وجمع شعره في ديوان حافل، يدل على جزالته، وقوة شاعريته. وكانت وفاته في سنة 570 هـ عن سبعين عاما (1).
ومحمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن أبي العافية الأزدي، من أهل غرناطة، ويعرف بالكتندى لأن أصله من كتندة. كان أديباً كاتباً شاعراً، متمكناً من العربية، أخذ عن أقطاب عصره، وحدث عنه أبو سليمان بن حوط الله، وأبو القاسم الملاّحي وغيرهما، ومن شعره:
يا سرحة الحي يا مطول ... شرح الذي بيننا يطول
ماضٍ من العيش كان فيه ... ملبسنا ظلك الظليل
زال، وماذا عليك ماذا ... يا سرح، لو لم يكن يزول
حيَّا عن المدنف المُعنى ... منبتك القطر والقبول
وتوفي الكتندى سنة 583 هـ (2).
ومنهم عبد الرحمن بن محمد بن مغاور بن حكم بن مغاور من أهل شاطبة، كان من العلماء المحققين، وأخذ عن أبي على الصدفي وغيره، وكان من الكتاب البلغاء، والشعراء المجيدين، ومن شعره في الزهد:
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 1711، وراجع المعجب للمراكشي ص 117 و 118.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1458(4/688)
أيها الواقف اعتبارا بقربى ... استمع فيه قول عظيم رميم
أودعونى بطن الضريح وخافوا ... من ذنوب كلومها بأديم
قلت لا تجزعوا على فإنى حسن ... الظن بالرؤوف الرحيم
وتوفي ابن مغاور في صفر سنة 587 هـ (1).
وأبو رجال بن غلبون من أهل مرسية، وكان أيضاً كاتباً شاعراً بليغاً يجيد النثر والنظم، وأخذ عنه الأدب جماعة من الأقطاب، مثل أبي بحر صفوان، وأبي الربيع بن سالم، وكان يحمل عن أبي اسحاق بن خفاجة ديوان شعره ويرويه ويؤخذ عنه، وتوفي سنة 579 هـ (2).
وكان من أعلام الشعر في تلك الفترة من أوائل العصر الموحدي، وأعظمهم شأنا، أبو عبد الله محمد بن غالب البلنسى الرفاء المعروف بالرُّصافى، نسبة إلى رُصافة بلنسية. ولد ببلنسية، وسكن غرناطة ومالقة، وبرع في الشعر والأدب، وكان ظهوره في أواخر العصر المرابطي. وكان ممن مدح الخليفة عبد المؤمن عند وفوده على جبل طارق سنة 556 هـ، وألقى بين يديه قصيدته الغراء التي مطلعها:
لو جئت نار الهدى من جانب الطور ... قبست ما شئت من علم ومن نور
من كل زهراء لم ترفع ذؤابتها ... ليلا لسار ولم تشبب لمغمور
وقد أشرنا إليها في موضعها. وكان الرصافى يومئذ فتى في عنفوانه، ولكنه كان قد لمع في ميدان الشعر وكان له فيه افتنان وإبداع، ومع ذلك فقد كان كثير التواضع، لا يحب أن يشتهر بشعره، مع إجادته في كثير منه. وكان عزيز النفس موفور الكرامة، يعيش من صناعة الرفو، ولا يبتذل نفسه في خدمة أحد، ولا يتجر بشعره ولا يتخذه سبيلا إلى الزلفى، أو التقرب من أحد. ومن نظمه يصف نهر إشبيلية (الوادي الكبير):
ومهول الشطين تحسب أنه ... متسايل من درة لصفائه
فاءت عليه مع الهجيرة سرحة ... صدئت لفيأتها صفيحة مائه
فتراه أزرق في غلالة سمرة ... كالدارع استلقى بظل لوائه
ومن قوله:
وفتيان صدق كالنجوم تألقوا ... على الناس من شتى بروج وآفاق
_______
(1) ترجمته نقلناها من أوراق مخطوطة من صلة الصلة لابن الزبير.
(2) ترجمته في التكملة رقم 882(4/689)
على حين راق البرق في الجو مغمدا ... صباه ودمع المزن في جوه راق
وحانت بعينى في الرياض التفاته ... حبست وكاساتى قليل على الساق
على سطر خير ذكرتك فانثنى ... يميل بأعناق ويرنو بأحداق
ومن قصائده المشهورة، قصيدة طويلة، يتشوق فيها إلى وطنه بلنسية ويشيد بمحاسنها وفيها يقول:
خليلى ما لليد قد عبقت نسرا ... وما لرؤوس الركب قد رجحت سكرا
أظنك مفتونا بمدرجة الصبا ... أم القوم أجروا من بلنسية ذكرا
خليلى عوجابى قليلا فإنه ... حديث كبرد الماء في الكبد الحرّا
قفا غير مأمورين ولتضربا على ... بقية للمزن فاستبقيا القطرا
بجسر معان والرُّصافة أنه ... على القطران يسقى الرصافة والجسرا
بلادى التي ريشت قويدمتى منها ... صريحا وأدوانى قرارتها وكرا
لبسنا بها ثوب الشباب لباسها ... ولاكن عرينا من حلاه ولم تعرا
وتوفي الرصافى بمالقه في شهر رمضان سنة 572 هـ (1).
ومنهم محمد بن عيسى بن عياض القرطبي، كان من أقطاب الأدب وأفذاذ الشعراء والكتاب، وإليه تنسب المقامة العياضية الغزلية.
ومما ينسب إليه من الشعر قوله:
كم من أخ في فؤاده دغل ... أخوف من كاشح تجاهده
برء السقام الخفى أعسر من ... برء سقام بدت شواهده
ولم يذكر له تاريخ وفاة (2).
وأبو بحر صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبى، من أهل مرسية، درس الحديث والأدب، وبرع في النثر والنظم، وكان من أقطاب الكتاب البلغاء، والشعراء المجيدين، وله رسائل عديدة وقصائد جليلة. وجمع ما صدر منها في كتاب سماه " عجالة المحتفز، وبداهة المستوفز "، وألف كتابا آخر عنوانه " زاد المسافر ". وتوفي شابا ببلده مرسية في شوال سنة 598 هـ، ومولده سنة 561 هـ (3).
ومحمد بن أحمد بن الصابونى الصدفى من أهل إشبيلية. كان من أعظم أدباء
_______
(1) راجع المعجب ص 119 - 124، وابن خلكان ج 2 ص 10، والتكملة لابن الأبار رقم 1416.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1406.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1895(4/690)
عصره، وألمع شعرائه، ويقول ابن الأبار إن ابن الصابونى كان شاعر وقته، ويقول أيضاً إن الآداب ذهبت بذهابه، وختمت الأندلس شعراءها به. وهو قول يحمل طابع المبالغة. ورحل ابن الصابونى إلى المشرق فتوفى بالإسكندرية، وهو في طريقه إلى القاهرة، وذلك في سنة 640 هـ.
ومن نظمه قصيدته المشهورة في مدح عزيز بن عبد الملك بن خطاب والي مرسية، حين وفد عليه في سنة 632 هـ، وهذا مطلعها:
أهلا بطيف خيال منك منساب ... أزال عتبك عندى حين إعتابى
ومنها:
لا درّ درُّ ليالى البعد من زمن ... يطول فيه اجتراع الصب للصاب
نابت صروف نبابى عندها وطنى ... قرعت بابى لها من رحلى الناب
جوابة الأرض لا ألوى على سكن ... تشجى الركاب وتجرى بى لتجواب
ومن قوله من قصيدة:
أقسم فرق الليل عن سنة الضحى ... وأهبط خصر القاع من كفل الدعص
إلى أن أرى يرقا إذا شمت وجهه ... رأيت جبين البدر مكتمل القرص (1).
وطلحة بن يعقوب بن محمد بن خلف بن يونس بن طلحة الأنصاري من أهل شاطبة، وأصله من جزيرة شقر. كان كاتبا بليغا، وشاعراً مجيداً، أخذ عن أشياخ عصره، ورُوى عنه. وتوفي في رمضان سنة 618 هـ (2).
ومحمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ .. بن عيسى بن أصبغ، ويعرف بابن المناصف، أصلهم من قرطبة، وخرج أبوه منها أيام الثورة على المرابطين، واستوطن إفريقية، وبها نشأ ولده هذا. وكان عالما متمكنا من الفقه مع حظ وافر من اللغة والأدب، وقرض الشعر الجيد. وله أراجيز في عدة فنون منها " الدرة السنية في المعالم السنية ". وألف كتاب " الإنجاد في الجهاد " وكتاب " الأحكام "، وفي أواخر حياته ولى قضاء بلنسية، ثم قضاء مرسية، ولما صرف عن القضاء عاد إلى المغرب وتوفي بمراكش في شهر ربيع الآخر سنة 620 هـ (3).
وعلي بن محمد بن أحمد بن حريق من أهل بلنسية، كان بارعا في اللغة
والأدب، حافظا لأشعار العرب، وأيامها، شاعراً مجيداً، وافر الإنتاج، ذاع
_______
(1) ترجمته في فوات الوفيات ج 2 ص 168. وراجع الحلة السيراء ص 249 و 250.
(2) ترجمته في التكملة رقم 913.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1606(4/691)
شعره في الأندلس وتداوله الناس، وله عدة كتب في الأدب، ومن نظمه قوله:
يا صاحبى وما البخيل بصاحبى ... هذى الخيام فأين تلك الأدمع
أتمر بالعرصات لا تبكى بها ... وهي المعاهد منهم والأربع
يا سعد ما هذا القيام وقد نأوا ... أتقيم من بعد القلوب الأضلع
هيهات لا ريح اللواعج بعدهم ... زهر ولا طير الصبابة وقع
وتوفي ابن حريق ببلده بلنسية في سنة 622 هـ (1).
ومحمد بن علي بن حماد بن عيسى الصنهاجي، أصله من قلعة بني حماد، وسكن بجاية، وأخذ عن أشياخها ثم دخل الأندلس، فسمع بها، وولي قضاء الجزيرة الخضراء ثم قضاء سلا، وكان كاتبا بليغا، وشاعراً مجيداً، وله ديوان شعر معروف. وله أيضا كتاب " الإعلام بفوائد الأحكام " وشرح لمقصورة ابن دريد. وتوفي سنة 628 هـ (2).
ومنهم ومن أشهرهم وألمعهم، محمد بن إدريس بن علي بن ابراهيم بن القاسم من أهل جزيرة شقر، ويعرف بمرج الكحل، وكان من أعظم شعراء عصره مقدرة على الإبداع والتوليد والتجويد، وبرع في الأخص في الغزل، والشعر الوصفى المبتكر، وعاش حينا في غرناطة، وذاع صيته في سائر أنحاء الأندلس. وأخذ عنه عدة من أشياخ العصر، مثل أبي الربيع بن سالم، وأبي عبد الله بن أبي البقاء، وابن عسكر، ومترجمه ابن الأبار وغيرهم. ومن شعره قوله:
مَثَل الرزق الذي تطلبه ... مَثَل الظل الذي يمشى معك
أنت لا تدركه متَّبعا ... فإذا وليت عنه أتَّبعك
وقوله يصف عشة بنهر الفنداق الذي يمر بلوشة:
عرج بمنعرج الكثيب الأخضر ... بين الفرات وبين شط الكوثر
ولنغتبقها قهوة ذهبية ... من راحتى أحوى المراشف أحور
والروض ما بين مفضض ومذهب ... والزهر بين مدرهم ومدنر
والنهر مرقوم الأباطح والربا ... بمصندل من زهره ومعصفر
وتوفي مرج الكحل ببلده في شهر ربيع الأول سنة 634 هـ (3).
ومنهم أبو بكر بن هشام بن عبد الله بن هشام .. بن عبد الغافر الأزدرى
_______
(1) ترجمته في صلة الصلة لإبن الزبير رقم 263، وفوات الوفيات ج 2 ص 70.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1637.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1656(4/692)
من أهل قرطبة. درس الفقه والحديث على أقطاب عصره. وبرع في الأدب، وكان كاتبا بليغا وشاعراً مجيداً، كتب لبعض الولاة، وولي قضاء بعض الكور. وتوفي بالجزيرة الخضراء سنة 635 هـ (1).
ومن أشهرهم أيضاً علي بن عبد الرحمن بن حزمون، أصله من مرسية. وكان شاعراً مجيداً، متمكناً من الآداب والتواريخ، وكان بارع التصرف في النظم، مقذع الهجاء. قال ابن عبد الملك في الذيل والتكملة " وكان شديد القنا، وارد الأنف، أزرق حاد النظر، أسيل الوجه، بادى الشر، مهيبا ". ووقعت بينه وبين بعض أدباء عصره مخاطبات ومساجلات تشهد بتقدمه وتمكنه. دخل مراكش غير مرة، جاء في آخرها متظلما إلى الخليفة المستنصر من المجريطى والي مرسية، لاضطهاده، والاعتداء عليه وضربه بالسياط. ولما ظهرت براءته مما نسب إليه من هجو المجريطي، أصدر المستنصر أمره بإنصافه، وإعدايه على المجريطي، وتمكينه منه، حتى ينتصف لنفسه، وعاد ابن حزمون إلى الأندلس، يحمل أمر المستنصر بإنصافه، ولكنه ما كاد يصل إلى مرسية حتى ورد الخبر بوفاة المستنصر، وتحطم بذلك أمله من الانتصاف لنفسه، ومن نظمه قوله:
يا من له بالأنام أنسى ... وهو إلى اللهو ذو التفات
استغفر الله من ذنوب ... أنابها نازل الصفات
وقوله وهو مطلع قصيدته في الشكوى إلى الخليفة:
إليك إمام الحق جبت المفاوز ... وخلفت خلفى صبية وعجائزا
يرجين سبب الله ثم حنانكم ... إمام الهدى حتى يمتن عجائزا
وتوفي ابن حزمون حول سنة 630 هـ (2).
ومن ألمعهم أيام الانهيار، إبراهيم بن سهل الإشبيلي، وقد كان يهوديا واعتنق الإسلام، وبرع في الشعر ولاسيما في الموشحات. ومن أبدع قصائده، قصيدة نظمها في مدح النبى. وقد توفي غريقاً في النهر وهو شاب في عنفوانه، وذلك في سنة 649 هـ. ومن شعره، حينما حاصر النصارى إشبيلية في سنة 645 هـ واشتدت الحال بأهل إشبيلية، قصيدة مؤثرة، يحثهم فيها على الصبر والثبات، وفيها يقول:
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 598.
(2) ترجمته في الذيل والتكملة لابن عبد الملك، الجزء الرابع من مخطوط المتحف البريطاني.
وقد أورد لنا ابن عذارى كثيرا من شعره. وراجع البيان المغرب ص 74 - 77(4/693)
ورداً فمضمون نجاح المصدر ... هي عزة الدنيا وفوز المحشر
نادى الجهاد بكم بنصر مضمر ... يبدو لكم بين القنا والضمر
خلوا الديار لدار عز واركبوا ... عبر العجاج إلى النعيم الأخضر
وتسوغوا كدر المناهل في السرى ... ترووا بماء الحوض غير مكدر
ومن شعره قوله:
مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى ... أدارى بها همى إذا الليل عسعسا
أتانى حديث الوصل زورا على النوى ... أعد ذلك الزور اللذيذ المؤنسا
ويا أيها الشوق الذي جاء زائرا ... أصبت الأمانى خذ قلوبا وأنفسا
وقوله:
ليل الهوى يقظان ... والحب مترب السهر
والصبر لي خوان ... والنوم من عينى برى (1).
ومنهم أحمد بن محمد بن عيسى .. بن عبد الرحمن بن حجاج اللخمى من أهل إشبيلية، ويعرف بالأفيلح تصغير الأفلح وهو المشقوق الشقة السفلى، كان أديبا بارعا وشاعراَّ مجيداً، وزر للمتوكل ابن هود، وخاض معه حوادث إمارته، وحظى لديه. وله أرجوزة مخمسة في السير عنوانها " نظم الدرر ونثر الزهر " وهي من أحسن ما نظم في موضوعها. وله شعر جيد، وعدة مدائح في أمراء بني عبد المؤمن، ومن ذلك قوله يهنىء المأمون أبا العلاء إدريس.
هنأ الله بلاد العرب ... ما تتمناه بلاد المشرق
طلع المأمون فيها أمل ... الراجى وأمن التق
وكساها من سنا أنواره ... رونقا يدهش نور الحدق (2).
ومالك بن عبد الرحمن بن علي، يكنى أبا الحكم ويعرف بابن المرحل، درس الفقه والأدب، وامتهن صناعة التوثيق حيناً، وولي القضاء بغرناطة وغيرها، وكان شاعراً رقيقاً مطبوعاً، وله شعر كثير أورد لنا منه ابن الخطيب في الإحاطة عدة قصائد. ولد سنة 604 هـ وتوفي عن سن عالية في سنة 699 هـ (3).
ومن شعراء الخلافة الموحدية الأثيرين، شاعران، اختصا عصراً بمدائح
_______
(1) راجع نفح الطيب ج 4 ص 304.
(2) ترجمته في الذيل والتكملة، الجزء الأول من مخطوط الرباط المصور لوحة 110 و 111.
(3) ترجمته ومقتطفات من شعره في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال لوحات 189 - 196)(4/694)
الخلفاء الموحدين، منذ عصر أبي يعقوب يوسف حتى عصر الناصر، وهما أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي، وأبو بكر بن عبد الجليل بن مُجبر، وقد سبق أن أشرنا في غير موضع إلى مدائح هذين الشاعرين. وكان الجراوى، وأصله من تادلا، وسكن مراكش، شاعراً مبرزاً، عالماً بالآداب، حافظاً لأصول البلاغة، ورحل إلى الأندلس مراراً. وقد وضع للخليفة المنصور كتابه الذي سماه " صفوة الأدب وديوان العرب " في مختار الشعر، وانتشر هذا الديوان في المغرب انتشارا عظيما، وكان لديهم ككتاب الحماسة عند أهل المشرق (1). وكذلك جمعت مدائح بن مجبر للمنصور في ديوان وأورد لنا منها ابن خلكان قصيدته التي مطلعها: أتراه يترك الغزلا ... وعليه شب واكتهلا
كلف بالغيد ما عقلت ... نفسه السلوان مذ عقلا (2).
ومن شعراء الخلافة الموحدية أيضاً أبو الحسن الرعيني، وأبو زيد الفازازى،
وعبد الرحمن الجزولي وغيرهم. وقد أورد لنا صاحب البيان المغرب كثيراً من
مدائح هؤلاء الشعراء للخلفاء الموحدين في غير موضع (3).
ولدينا ثبت آخر من أكابر الشعراء، مثل ابن طفيل الوادي آشى، وابن الأبار القضاعى، وأبي المطرف بن عميرة المخزومي، ولكنا رأينا أن نضع هؤلاء في مواضع هم أكثر ارتباطا بها وألصق، فابن الأبار، بالرغم من إنتاجه الشعرى الرائع، أكثر انتسابا إلى ميدان التاريخ، وابن عميرة أكثر انتسابا إلى الكتابة، وابن طفيل موضعه الحقيقي بين الفلاسفة والعلماء.
- 3 -
ولنعرض الآن إلى أكابر الكتاب خلال العصر الموحدي. ولدينا من ذلك ثبت حافل يصعب علينا أن نستوعبه في هذا المقام المحدود، ولكنا سوف نحاول أن نذكر ألمعهم في هذا الميدان.
كان من هؤلاء أبو القاسم محمد بن ابراهيم بن خيرة، ويعرف بالمواعينى من أهل قرطبة، وسكن إشبيلية. سمع ابن مغيث، وابن مكى، وابن العربي،
_______
(1) ترجمة الجراوى في التكملة رقم 323، وقد أورد لنا ابن عذارى كثيراً من شعر الجراوي (يراجع البيان المغرب ص 81 و 93 و 114 و 151 و 154).
(2) ابن خلكان ج 2 ص 432 و 494.
(3) راجع البيان المغرب، القسم الثالث ص 226 و 227 و 232 و 258 و 260 و 266 و 268(4/695)
وابن أبي الخصال وغيرهم، وبرع في الأدب، وكان كاتباً بليغاً، وشاعراً مجيداً. كتب أولا للسيد أبي اسماعيل الوالي بغرناطة، ثم كتب من بعده للسيد أبي جعفر بن عبد المؤمن وحظى عنده، ونال جاها عريضا. وله عدة مؤلفات تاريخية وأدبية منها: " ريحان الإعراب وريعان الشباب " و " الوشاح المفصل " وكتاب في " الأمثال السائرة "، وكتاب في الأدب نحى فيه منحى ابن عبد البر في " بهجة المجالس ". وتوفي بمراكش سنة 564 هـ، أو نحو سنة 570 هـ، وفقاً لرواية ابن الأبار (1).
وأبو الحكم إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن محمد الأنصاري، أصله من وادي آش وسكن مالقة، ويعرف بابن هرَوْدس. كان عالما متمكنا، وكاتبا بليغا، وله حظ من قرض الشعر. كتب أيام الفتنة لأحمد بن ملحان الطائى القائم بوادي آش، إلى جانب العلامة ابن طفيل. وتوفي في سنة 573 هـ (2). ومنهم أبو عبد الرحمن بن طاهر، زعيم مرسية أيام الفتنة، وقد سبق أن أتينا على ترجمته بين الكتاب الذين ظهروا في العصر المرابطي (3).
ومنهم علي بن ابراهيم بن محمد عيسى بن سعد الخير الأنصاري من أهل بلنسية، وأصله من بلدة قشتيل من أعمالها، كان إماما بارعا في علوم اللسان والأدب وكاتباً بليغاً وشاعراً محسناً، بديع التشبيه. وكتب عن السيد أبي الربيع سليمان ابن عبد الله بن عبد المؤمن. وله مصنفات أدبية عديدة منها اختصاره للعقد الفريد، وجمع طرر أبي الوليد الوقشى، وكتاب مشاهير الموشحين بالأندلس، وهم عشرون، ذكرهم بصفاتهم ومحاسنهم، على طريقة الفتح في القلائد والمطمح، وابن بسام في الذخيرة. وله رسائل عديدة. وسار إلى إشبيلية مع مخدومه السيد أبي الربيع، حينما قدم إليها مهنئا ابن عمه الخليفة المنصور بفتح شلب، وارتجاعها من أيدي البرتغاليين، وهنالك توفي في شهر ربيع الآخر سنة 591 هـ (4).
والحسن بن حجاج بن يوسف الهوارى التجيبى، أصله من بجاية وسكن مراكش، ودخل الأندلس مرارا. وولي الخطبة بإشبيلية. وكان أديباً مبرزاً
_______
(1) ترجمته في الإحاطة مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى، لوحة 11، وفي التكملة رقم 1407.
(2) ترجمته في التكملة رقم 397.
(3) راجع ترجمة ابن طاهر في ص 445 من القسم الأول من هذا الكتاب.
(4) ترجمته في الذيل والتكملة، مخطوط المتحف البريطاني، السفر الرابع لوحات 41 - 43(4/696)
وكاتبا بليغا، أخذ عن أقطاب العصر، وأخذ عنه عدة من الجلة، منهم أبو الربيع ابن سالم، وتوفي بمدينة فاس سنة 598 هـ (1).
ومنهم أبو الفضل محمد بن علي بن طاهر بن تميم القيسي من أهل بجاية، ويعرف بابن محشرة. كان عالما متمكنا، وأديبا بارعا، وكاتباً مجيداً، وكان تلميذاً لأبي القاسم القالمي. استدعاه الخليفة أبو يعقوب يوسف ليتولى كتابة السر، فظهر في هذا المنصب بمقدرته، وروعة أسلوبه وبيانه. ولما توفي أبو يعقوب، كتب من بعده لولده الخليفة يعقوب المنصور. وفي مجموعة الرسائل الموحدية، عدد من الرسائل مدبجة بقلمه، تشهد بتفوقه، وتفننه في أساليب البلاغة، وكانت وفاته في سنة 598 هـ (2).
ونستطيع أن نضع بين أعلام كتاب الأندلس في العصر الموحدي، الرحالة ابن جبير، وهو محمد بن أحمد بن جبير بن محمد بن جبير الكنانى، أصله من بلنسية، ونزل أبوه شاطبة، وانتقل إلى غرناطة. ودرس ابن جبير القراءات والحديث، وبرع في الآداب، وبرز في الكتابة والنظم، وكتب في شبابه بسبتة للسيد أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن، ثم كتب لوالى غرناطة، ونال جاها وثراء. ثم تزهد ورحل إلى المشرق لأول مرة في سنة 578 هـ، لقضاء فريضة الحج، وسمع الحديث بمكة على أبي حفص اليانشى، وأخذ مقامات الحريرى بدمشق عن أبي طاهر الخشوعى. ثم عاد إلى الأندلس وأخذ بها عليه ما كان عنده، وحُمل عنه شعره في الزهد، وهو كثير. وقام برحلته الثانية إلى المشرق سنة 585 هـ، وعاد إلى المغرب. ثم رحل رحلته الثالثة بعد سنة 601 هـ ودرس بمكة والقدس، وحدث هناك وأخذ عنه. وتوفي بالإسكندرية في شهر شعبان سنة 614 هـ، ومولده ببلنسية، أو شاطبة سنة 540 هـ (3). ومن أشهر آثار ابن جبير رحلته القيمة المسماة " اعتبار الناسك، في ذكر الآثار الكريمة، والمناسك " أو بعبارة أخصر " رحلة ابن جبير " وفيها يدون مشاهداته وملاحظاته بأسلوب قوي شائق.
وظهر في أواسط العصر الموحدي في ميدان الكتابة بنو عيّاش، وهم من
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 722.
(2) ترجمته في " عنوان الدراية " ص 30، وراجع المعجب ص 149.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1581(4/697)
أقطاب الكتاب البلغاء. وهم أسرة أندلسية نزحت إلى المغرب، وكان أول من ظهر منهم في خدمة الخلافة الموحدية أبو الحسن بن عياش من كتاب الخليفة عبد المؤمن، ثم ولده الخليفة أبي يعقوب يوسف. ومحمد بن عبد العزيز بن عياش، كاتب الخليفة يعقوب المنصور، ثم ولده الناصر. وأبو الحسن علي بن عياش ابن عبد الملك كاتب الخليفة الناصر وولده يوسف المستنصر. وكان أنبههم، وأشهرهم، هو أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عياش التجيبى، وأصله من برشانة من أعمال ألمرية (1). ونزح إلى المغرب، وسكن مراكش، وبرع في الآداب وعلوم اللغة، وكان قطب عصره في البيان والبلاغة، خطيباً مصقعاً، وله حظ من قرض الشعر. وقد وصفه ابن عبد الملك في التكملة بقوله: " كان كاتباً بارعاً، فصيحاً، مشرفاً على علوم اللسان، حافظاً للغات والآداب، كبير المقدار، حسن الخلق، كريم الطباع، دفاعاً مجاهداً، كثير الاعتناء بطلبة العلم، والسعى الجميل لهم "، وتولى ابن عياش منصب الكتابة للخليفة المنصور، وظهر فيه برسائله المشرقة، وبيانه الرائع، عن أحوال الخلافة الموحدية ومراسيمها، وتحركاتها (2). وهو الذي دبج بقلمه المنشور الصادر بأمر المنصور ضد الفيلسوف ابن رشد وزملائه. ولما توفي المنصور، تولى منصب الكتابة لولده الخليفة الناصر، ثم ولده الخليفة يوسف المستنصر. وكان من آثر رجال الدولة، وأرفعهم مكانة لدى الخلافة الموحدية. وكان صديقاً شخصياً للخليفة المنصور، وله معه أخبار كثيرة. وتوفي أبو عبد الله ابن عياش بمراكش في شهر جمادى الآخر سنة 618 هـ، ومولده ببرشانة سنة 550 هـ (3). وتولى ولده، أحمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عياش، منصب الكتابة للخليفة يوسف المستنصر ثم للخليفة المأمون، وتولى قضاء تلمسان وسبتة، وكان كذلك كاتبا محسنا، مشرق البيان، بارع الطريقة، وتوفي في محرم سنة 629 هـ (4). ومن أشهر كتاب الأندلس في هذا العصر، الذي اضطرمت فيه الفتنة في كل
_______
(1) برشانة هي بالإسبانية Puchena.
(2) وردت في الرسائل الخامسة والثلاثين، والسادسة والثلاثين، والسابعة والثلاثين، من مجموعة رسائل موحدية نماذج بديعة من أسلوب ابن عياش.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1596، وفي الإحاطة - مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 50 - 59. وقد أورد لنا أيضاً نماذج من كتابته.
(4) ترجمته في التكملة رقم 300، وفي الذيل والتكملة (مخطوط باريس لوحة 174)(4/698)
ناحية، أبو بكر عزيز بن عبد الملك بن محمد بن خطاب القيسى، وهو سليل آل خطاب أعيان مرسية ورؤسائها أحيانا منذ القرن الرابع الهجرى. وكانت له كأسلافه مشاركة في العلوم، وتمكن من النثر والنظم. ولما تغلب ابن هود على مرسية في سنة 625 هـ، اختاره لرياستها نائبا عنه، فلبث على ولايتها حتى توفي ابن هود في أوائل سنة 635 هـ، وعندئذ، استبد عزيز بمرسية، ولكن لم يمض سوى قليل حتى تغلب عليه أبو جميل زيان أمير بلنسية السابق، وانتهى الأمر باعتقاله ثم قتله في رمضان سنة 636 هـ. قال ابن عبد الملك في حقه " كان وجيه أهل بلده وصدرهم المعظم لديهم، مشهور الفضل لديهم، أجمل الناس صورة، وأحسنهم شارة، زاهدا ورعا ناسكا عابدا .. حريصاً على نشر العلم، مثابراً على التدريس مستبحراً في المعارف، إلى بيان في الخطابة وبلاغة في النظم والنثر ". وكان يميل إلى طرائق الصوفية وله نظم حسن، ورسائل نثرية بليغة (1).
ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بابن الجنّان وهو من أهل مرسية، وكان محدثا راوية، وكاتبا بليغا، وشاعراً محسناً، ظهر بنثره البارع، وكتب لابن هود أيام إمارته، ثم استكتبه الرئيس أبو جميل زيان، أيام تغلبه على مرسية. ولما تغلب النصارى على مرسية سنة 640 هـ، غادرها إلى أوريولة، واستقر بها وقتاً، ثم نزح إلى إفريقية، مع من نزح إليها من أهل الشرق، ونزل ببجاية، وكانت بينه وبين كتاب عصره أمثال أبي المطرف بن عميرة وغيره مراسلات بليغة، ظهرت فيها براعة أسلوبه. وكانت وفاته ببجاية سنة 650 هـ (2). وأحمد بن محمد بن عبد الرحمن .. بن علي القضاعى ثم البلوى، من أهل إشبيلية، كان كاتبا مطبوعا بارعا في النثر والنظم. كتب في شبابه لبعض ولاة الأندلس من أبناء الخليفة عبد المؤمن وأحفاده، ثم ترك الكتابة، واشتغل بكتب الشروط. ونزح إلى مراكش في أيام الناصر، واستقر بها وقتا، وغادرها إلى إشبيلية، ثم عاد إلى مراكش مع وفد إشبيلية الذي يحمل بيعة أهلها إلى الخليفة السعيد، ومدحه بقصيدة فريدة وخطبة بارعة، وحظى لديه، وتوفي بمراكش سنة 657 هـ (3).
_______
(1) ترجمته في الحلة السيراء لابن الأبار ص 249 - 253، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك (مخطوط باريس).
(2) ترجمته في الإحاطة، مخطوط الإسكوريال (1673 الغزيرى) لوحة 14 - 18.
وكذلك في عنوان الدراية ص 213 - 215.
(3) ترجمته في الذيل والتكملة لابن عبد الملك المجلد الأول (مخطوط باريس) لوحة 171 و 172(4/699)
وعلي بن محمد بن علي بن هيصم الرعينى من أهل إشبيلية، كان محدثاً، وكاتباً بليغاً، مشاركاً في علوم كثيرة، وغلبت عليه الكتابة السلطانية، فبرع فيها، وانقطع لها، وكتب عن عدة من أمراء الأندلس والعدوة، فكتب للمتوكل ابن هود، ثم كتب بعد وفاته لمحمد بن الأحمر صاحب غرناطة، ووقعت مساجلات أدبية بينه وبين أبي عبد الله بن الجنان، وأبي المطرِّف بن عميرة، ينقلها إلينا صاحب التكملة. ثم نزح من الأندلس إلى العدوة، فكتب عن أمير سبتة، ثم عن الأواخر من الخلفاء الموحدين، خلفاً لشيخه أبي زيد الفازازى، وكان من شيوخ ابن عبد الملك صاحب الذيل والتكملة وتوفي بمراكش سنة 666 هـ (1).
ونستطيع أن نختتم هذا الثبت من الكتاب، بكاتب من أبرع وألمع كتاب الأندلس، في عصر الانهيار، هو أبو المطرِّف أحمد بن عبد الله بن الحسين بن عميرة المخزومي. وأصله من جزيرة شقر من أعمال بلنسية وبها ولد سنة 582 هـ. وسكن بلنسية ودرس بها الحديث والفقه، ولكنه شغف باللغة وعلومها، وبالأدب، وبرع في النثر. قال ابن عبد الملك: " وتفنن في العلوم، ونظر في العقليات وأصول الفقه، ومال إلى الأدب، فبرع فيه براعة عد بها في كبار مجيدى النظم. وأما الكتابة، فهو علمها المشهور، وواحدها الذي عجزت عن ثانيه الدهور "، وقال ابن الخطيب في وصفه " كان نسيج وحده إدراكا وتفننا، بصيراً بالعلوم، محدثاً مكثراً، راوية ثبتاً، متبحراً في التاريخ والأخبار، قائماً على العربية واللغة، جم العيون، غزير المعانى والمحاسن " (2). وأخذ ابن عميرة عن عدة من أقطاب عصره، منهم أبو الخطاب بن واجب، وأبو الربيع بن سالم، وأبو علي الشلوبين وأبو عمر بن عات، وأبو محمد بن حوط الله. وولي لأول أمره القضاء بأوريولة ثم شاطبة، ولكنه ظهر في ميدان الكتابة والترسل، وكتب عن الأمير أبي جميل زيان، وصدرت عنه في تلك الفترة المدلهمة من تاريه شرق الأندلس رسائل عديدة، منها ما هو موجه منه، وهو قاض بشاطبة إلى المتوكل بن هود، وما كتبه عن أبي جميل زيان أيام ولايته لمرسية إلى ملك قشتالة، وإلى أبي زكريا الحفصى أمير إفريقية، ومنها ما تبادله مع زميله وصديقه وقرينه في الشهرة والبراعة ابن الأبار
_______
(1) ترجمته في الإحاطة مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 328 و 329. وفي الذيل والتكملة المجلد الرابع من مخطوط المتحف البريطاني.
(2) الإحاطة لإبن الخطيب (1956) ج 1 ص 180(4/700)
القضاعى. وقد انتهى إلينا عدد كبير من هذه الرسائل التي دبجها ابن عميرة في تلك الفترة، وكلها تدلى بروعة بيانه، ومقدرته الفائقة في الترسل (1). وكان مما نقله إلينا صاحب " صبح الأعشى " من رسائله، رسالة كتبها عن " صاحب أرغون " إلى الخليفة الموحدي يوسف المستنصر، يخبره فيها بأن صاحب أرغون، قد وقع بينه وبين بلده خلاف، انتهى بنكبته، وإخراجه من بلاده، ففكر في " أن يلجأ إلى المقام الباهر الأنوار، العزيز الجوار، فقدم إلى بلنسية، التي صدرت منها هذه الرسالة، وبأنه إن وجد من الأمر العالي تأييداً، واستطاع أن ينتصر على خصومه، كانت لذلك نتائج هامة، خصوصاً وأن له في " أرغون " كثير من الزعماء والأقارب والفرسان المناصرين له " (2). وقد ظن بعض الباحثين أن ابن عميرة التحق بخدمة ملك أراجون، وكتب عنه هذه الرسالة وهو في خدمته. والحقيقة كما يبدو من نص الرسالة الواضح، أن ابن عميرة، كان وقت كتابة الرسالة مقيما ببلده بلنسية، وربما كان عندئذ يتولى الكتابة لواليها السيد أبي زيد، أما " صاحب أرغون "، الذي كتبت عنه هذه الرسالة، فالمرجح أنه الدون فرناندو الأرجونى عم ملك أراجون الصبي " خايمى "، وكان يحاول مع جماعة من أعيان أراجون أن يناوئه، وأن ينتزع العرش لنفسه (3)، ومن ثم كان قدومه إلى بلنسية، وتوجيه رسالة منها إلى الخليفة الموحدي، وكان ذلك، فيما يبدو حوالى سنة 618 هـ (1220 م)، في أواخر عهد المستنصر. ولما تفاقمت الحوادث في شرقي الأندلس، وشعر ابن عميرة أنه لم يبق له ثمة أمل في البقاء في الوطن المنكوب، عبر البحر إلى المغرب، والتحق بخدمة الخليفة الموحدي الرشيد، وكتب عنه في أواخر عهده. ثم ولى بعد ذلك قضاء سلا ومكناسة. ولما قتل الخليفة المعتضد (السعيد) لحق بسبتة، وهنالك انقض عليه جمع من بني مرين وسلبوه كل أمواله، فارتد في أسوأ حال إلى إفريقية، وسكن بجاية حينا، ثم رحل إلى تونس، وحظى لدى أميرها المستنصر بالله، فولاه قضاء قسنطينة ثم قضاء
_______
(1) نشرت عدة من رسائل ابن عميرة في صبح الأعشى ج 6 ص 534 وج 7 ص 98 و 94 و 116. ونشرت منها عدة بكتاب زواهر الفكر، لابن المرابط - مخطوط الإسكوريال رقم 518 الغزيرى، ورقم 520 ديرنبور. ونشر المقري بعضها في نفح الطيب ج 2 ص 596 - 601، وفي الروض المعطار - صفة جزيرة الأندلس ص 48 - 52، وكذلك الإحاطة ص 182.
(2) تراجع هذه الرسالة في صبح الأعشى ج 6 ص 534 - 535.
(3) M. Lafuente: Historia General de Espana ; T. IV, p. 69 & 70(4/701)
قابس، ثم كتب حينا عن المستنصر. وقد كان ابن عميرة إلى جانب براعته في الكتابة، شاعراً مجيداً له النظم الرائق. وله تأليف في " كائنة ميورقة " وسقوطها في أيدي النصارى، نحى فيه بأسلوبه المسجع منحى العماد الأصفهانى في الفتح القدسى. وكتاب في التعقيب على فخر الدين الرازى في كتاب المعالم في أصول الفقه، ومختصر في " ثورة المريدين " وغيرها. وجمع ابن هانىء السبتى رسائل ابن عميرة وشعره في كتاب في سفرين، وسماه " بغية المستطرف وغنية المتطرف، من كلام إمام الكتابة ابن عميرة أبي المطرِّف ". والخلاصة أن القاضي ابن عميرة، مثل زميله ابن الأبار، يمثل كلاهما، بشعره ونثره نفثة من نفثات الأندلس المحتضرة، ويودع كلاهما رسائله أنفس نماذج تراثها الأدبى الأخير. وتوفي ابن عميرة بتونس عن سن عالية، في شهر رمضان سنة 658 هـ، وقيل في ذي الحجة سنة 656 هـ (1).
- 4 -
وأما عن الرواة والمؤرخين الذين ظهروا في العصر الموحدي، فليس لدينا منهم سوى القليل، بيد أنه قد انتهى إلينا من تراث هذه الحقبة، عدد من المصادر القيمة الهامة، وفي مقدمتها تلك السلسلة النفيسة من تراجم العصرين المرابطي والموحدى، وهي التي بدأت بكتاب " الصلة " لابن بشكوال. وقد سبق أن ترجمنا لابن بشكوال ضمن مؤرخي العصر المرابطي، وجاء ابن الأبار القضاعى فوضع معجمه " التكملة " ليتم به معجم " الصلة " وليصل بما يتضمنه من التراجم إلى ما بعد سنة 650 هـ بقليل، وليقدم لنا بذلك ثبتاً حافلاً ضخماً من أعلام الفكر الأندلسي، في سائر ميادينه، خلال العصر الموحدي. وجاء من بعد ابن الأبار، العلامة المغربى الثقة، ابن عبد الملك المراكشي المتوفى أواخر القرن السابع، فوضع معجمه الضخم " الذيل والتكملة لكتابى الموصول والصلة " تكملة لهذه السلسلة النفيسة. مستدركا فيها الكثير مما فات سلفيه، ومتوسعا في كثير من التراجم المشتركة، هذا إلى ما يقدمه إلينا خلال هذه التراجم عن أحداث العصر الموحدي، سواء بالمغرب أو الأندلس من نبذ تاريخية قيمة، ومن وثائق فريدة أحيانا. وقد عاش ابن عبد الملك في أواخر العصر الموحدي، وأدرك نهايته، ثم توفي بعد ذلك بنحو ثلث قرن. وجاء أخيراً من بعد ابن عبد الملك
_______
(1) تراجع ترجمة ابن عميرة في الإحاطة (1956) ج 1 ص 179 - 186، وعنوان الدراية ص 178 - 180(4/702)
راوية ومؤرخ أندلسي، ولد في أواخر العصر الموحدي بالأندلس، هو أبو جعفر ابن الزبير المتوفى في سنة 708 هـ، فوضع لنا معجماً جديداً من التراجم الأندلسية والمغربية، سماه " صلة الصلة "، وبه يضيف إلى سلسلة المعاجم السابقة، مرحلة أخرى من تراجم العصر الموحدي.
وسوف نحاول التعريف بأولئك الرواة المؤرخين، أصحاب المعاجم المذكورة خلال حديثنا عن المؤرخين الذين ظهروا خلال العصر الموحدي.
كان من هؤلاء مؤرخان لا ينتميان فقط إلى العصر الموحدي، ولكن يعتبر كلاهما من أولياء الدولة الموحدية ومؤرخيها الأوائل، هما ابن صاحب الصلاة، وعبد الواحد المراكشي.
فأما ابن صاحب الصلاة، فهو عبد الملك بن محمد بن أحمد بن محمد بن ابراهيم الباجى، ويكنى أبا مروان وأبا محمد، ويعرف بابن صاحب الصلاة وصاحب التاريخ. وقد سبق أن أتينا على ترجمته، ووصف أثره التاريخى الهام عن الدولة الموحدية وهو كتاب " المن بالإمامة "، كما أشرنا إلى ما يوجد من خلاف حول تاريخ وفاته، وإلى ما يبدو بالرجوع إلى بعض شذور تاريخية من كتابه من أنه قد عاش حتى أواخر القرن السادس الهجرى، وتوفي فيما يرجح حوالى سنة 605 هـ (1).
وأما المراكشي فهو أبو محمد عبد الواحد بن علي التميمى المراكشي، ولد بمدينة مراكش، حسبما يحدثنا في سنة 581 هـ، وغادرها في صباه إلى فاس، وهناك درس القرآن والنحو، ثم عبر إلى الأندلس في سنة 603 هـ، وتجول بها حيناً، وعاد إلى مراكش، وبقى بها حتى سنة 611 هـ، ثم عبر إلى الأندلس مرة أخرى وهناك اتصل ببعض الولاة الموحدين، وغادرها في أواخر سنة 613 هـ إلى المشرق، وقضى بمصر حيناً. وكتب كتابه " المعجب في تلخيص أخبار المغرب "، وفيه يتحدث عن تاريخ الأندلس بإيجاز، ثم تاريخ المغرب خلال عصر المرابطين والموحدين، في شىء من التفصيل، ويبدى عناية خاصة بسرد أخبار الموحدين ويبدى في سردها إعجاباً وعطفاً، لما كان يربطه قبل مغادرته الأندلس والمغرب، من أواصر المودة ببعض الولاة والأمراء الموحدين. وبالرغم مما يبدو في تاريخه من ثغرات كثيرة، فإنه يعتبر من المصادر القيمة لتاريخ الدولة الموحدية، لما يحتويه من إشارات ونبذ قيمة عن تاريخ الخلافة الموحدية، منذ عهد عبد المؤمن
_______
(1) راجع القسم الأول من هذا الكتاب ص 9 و 10(4/703)
حتى محمد الناصر. ولم نعثر على تاريخ وفاته (1).
ومنهم محمد بن سعيد بن محمد .. بن مدرك الغسانى من أهل مالقة، درس الحديث والفقه على عدة من أعلام عصره، ومنهم أبو بكر بن العربي، وبرع في الرواية والتاريخ وتحقيق الأنساب، وكان يقتنى مكتبة من أكبر مكتبات بلده. ولم يذكر له تاريخ وفاة (2).
وأحمد بن محمد الأزدي المؤرخ من أهل قرطبة، كان من تلاميذ ابن بشكوال وأخذ عنه كثيراً، وكان يلازم المسجد الجامع، متعبداً متبتلاً، وقيد كثيراً من التواريخ والمواليد والوفيات، ولكن لم يصلنا من آثاره شىء، وتوفي سنة 611 هـ (3).
ومن أشهر مؤرخي العصر الموحدي بالأندلس، أبو القاسم محمد بن عبد الواحد بن ابراهيم بن مفرج بن حريث بن مروان الغافقي، من أهل غرناطة ويعرف بالملاّحى نسبة إلى " الملاحة " وهي قرية من أعمال إلبيرة على مقربة من غرناطة، وكان بها منزل سلفه. درس الحديث وشغف بالرواية والأدب والسير، وأخذ عن عدة من أقطاب عصره، مثل أبي الحسن بن كوثر، وأبي محمد ابن الفرس، وأبي عبد الله بن بونه، وأبي بكر بن أبي زمنين وغيرهم، وكان محدثا وراوية متقنا، وأديبا مؤرخا بارعا. وله عدة مؤلفات أشهرها كتابه " تاريخ علماء إلبيرة وأنسابهم وأنبائهم "، وهو مؤلف يقتبس منه المتأخرون بكثرة مثل ابن الخطيب وغيره. ومن مؤلفاته أيضاً " كتاب الشجرة في أنساب الأمم العرب والعجم " وكتاب " الأربعين حديثا "، وله استدراك على كتاب الصحابة لأبي عمر ابن عبد البر. توفي في شهر شعبان سنة 619 هـ، ومولده سنة 549 هـ (4).
ومنهم عيسى بن سليمان بن عبد الله بن عبد الملك الرعيني، ويعرف بالرندى، لأن أصله من رندة وسكن مالقة. عنى بالإسناد والرواية، وأخذ بالأندلس عن عدة من الأشياخ، ورحل إلى المشرق وحج، وأخذ هنالك عن كثيرين، وأنفق في المشرق نحو عشرين عاما، ثم عاد إلى بلده مالقة، وأخذ عنه الكثيرون، وكان ضابطا متقنا، عارفا بالرجال والأسانيد، وألف كتابا في " الصحابة " ووضع معجم أشياخه. وتوفي سنة 632 هـ (5).
_______
(1) راجع المعجب ص 130 و 187 و 189 و 203 حيث يشير المراكشي إلى بعض مراحل حياته.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1412.
(3) ترجمته في التكملة رقم 269.
(4) ترجمته في التكملة رقم 1604، وفي الإحاطة مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى لوحة 146.
(5) ترجمته في صلة الصلة لابن الزبير ص 51(4/704)
ومحمد بن عبد الله بن ابراهيم بن عبد الله بن قسوم اللخمى من أهل إشبيلية، كان أديباً شاعراً راوية. وعكف على الزهد والعبادة، فطار ذكره، وقصر شعره على الزهد والمراثى، وأخذ البعض عنه. وعنى بالسير، وألف كتابا سماه " محاسن الأبرار في معاملة الجبار " يشتمل على أخبار الصالحين من أهل إشبيلية. وتوفي في ذي الحجة سنة 639 هـ (1).
على أن أعظم أقطاب الرواية والتاريخ، في هذه الفترة القاتمة من تاريخ الأندلس، هو بلا ريب أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعى المعروف بابن الأبار. وقد آثرنا أن نضع هذا المفكر الأندلسي العظيم بين المؤرخين، لأن تراثه التاريخى هو أقيم ما انتهى إلينا من آثاره العديدة. ذلك أن ابن الأبار، هو علامة متعددة الجوانب، فهو فقيه راسخ، وكاتب بلغ ذروة البيان، وشاعر مبدع مبكى، ثم هو بعد ذلك كله مؤرخ محقق، وكان مولده بثغر بلنسية في سنة 595 هـ، في بيت علم ونبل، وأصلهم من أندة على مقربة من غربي بلنسية. ودرس ابن الأبار على أبيه عبد الله، وعلى عدة من أقطاب عصره، منهم أبو عبد الله ابن نوح، وأبو جعفر الحصار، وأبو الخطاب بن واجب، وأبو سليمان بن حوط الله، وكبير محدثى الأندلس يومئذ أبو الربيع بن سالم، وقد لازمه ابن الأبار أكثر من عشرين سنة، وهو الذي أشار عليه فيما بعد أن يضع معجمه الشهير " التكملة لكتاب الصلة ". وبرع ابن الأبار في اللغة والأدب، وشغف بالأخبار والسير، ورحل في مطلع شبابه إلى غربي الأندلس، فزار قرطبة، ثم إشبيلية، وهو يأخذ أينما حل عن أساتذة العصر. وتولى ابن الأبار في شبابه قضاء دانيه (2)، ولكن القدر كان يدخره لمهام أخطر. ذلك أنه تولى منصب الكتابة للسيد أبي زيد والي بلنسية الموحدي، ولما اضطرمت الثورة ببلنسية ضد الموحدين وغلب على بلنسية الرئيس أبو جميل زيان بن مردنيش، تولى ابن الأبار له منصب الكتابة، ولكنه لم يمكث طويلا في ذلك المنصب، وشاء القدر أن تسقط بلنسية في أيدي النصارى سنة 636 هـ، وأن يكون ابن الأبار يوم تسليمها إلى جانب أميره، وأن يقوم هو بتحرير شروط التسليم، وكان ذلك بعد أن عبر ابن الأبار البحر سفيراً إلى تونس يطلب إلى أميرها باسم أميره، وباسم الإسلام في الأندلس، الإنجاد
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 1669.
(2) هذا ما يستفاد من قول ابن الأبار في التكملة في الترجمة رقم 2117(4/705)
والغوث، وينشد بين يديه قصيدته السينية الرائعة التي مطلعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا
وقد أتينا على ذلك كله مفصلا في موضعه. ونود أن نضيف هنا أن ابن الأبار هزته هذه المحنة إلى الأعماق، فلم يطق البقاء في الوطن المنكوب، وغادر الأندلس وعبر البحر مرة أخرى إلى تونس، فوصلها في أواخر سنة 636 هـ (1). وعاش حيناً في كنف أميرها أبي زكريا الحفصى يتولى له كتابة العلامة، ثم أخذ يتردد بين تونس وبجاية يدرس هنا وهناك. ولما توفي الأمير أبو زكريا في سنة 647 هـ، وخلفه ولده المستنصر بالله، التحق ابن الأبار ببطانته العلمية، ولكنه لم يكن قريراً مطمئناً إلى هذه الحياة، لما كان يتخللها من غضب السلطان بسبب دسائس خصومه أحيانا، وبسبب تصرفاته الشخصية النزقة أحيانا أخرى. واستطاع خصوم ابن الأبار في النهاية أن يوقعوا به، ورفعت إلى السلطان بعض أقوال وأبيات شعر نسبت إليه طعناً في السلطان وتعريضاً به، فأمر المستنصر بجلده ثم بقتله، فجلد بالسياط، ثم قتل طعناً بالرماح، وأخذت كتبه وأحرقت في موضع قتله. ووقع مصرع ابن الأبار على هذا النحو المؤسى في الحادي والعشرين من شهر المحرم سنة 658 هـ (8 يناير سنة 1260 م)، واختتمت بذلك حياة أعظم شخصية في الأدب الأندلسي في القرن السابع الهجرى.
وقد ترك لنا ابن الأبار تراثا حافلا من المنثور والمنظوم، والمصنفات التاريخية الجليلة. وأقوى وأروع ما صدر عن ابن الأبار من نثر ونظم، هو ما كتبه أيام المحنة، أيام انهيار الأندلس، وأيام سقوط وطنه بلنسية، من القصائد والرسائل، التي مازالت تحتفظ حتى يومنا برنينها المبكى، الذي يتفطر له الفؤاد، وقد أشرنا إلى بعضها فيما تقدم من فصول هذا الكتاب. وأما تراثه التاريخي، فهو من أنفس ما انتهى إلينا عن تاريخ الأندلس، وتاريخ رجالاتها، ولاسيما في القرن السادس الهجرى، وأوائل القرن السابع، وقد كان ابن الأبار وزيراً وكاتباً، ومعاصراً لكثير من الحوادث التي يرويها. وأهم مصنفاته التاريخية هو بلا ريب كتاب " التكملة لكتاب الصلة " وهو موسوعة حافلة في التراجم، يتخللها كثير من النبذ التاريخية الهامة، وقد وضعه ابن الأبار تنفيذاً لإشارة أستاذه أبي الربيع بن سالم كبير علماء الشرق الأندلسي يومئذ، وأريد به أن يكون " تكملة " لكتاب الصلة
_______
(1) هذا ما يقوله ابن الأبار في التكملة في الترجمة رقم 1880(4/706)
لابن بشكوال القرطبي، ويقول لنا ابن الأبار إنه كان قد انتهى من وضع كتاب " التكملة " في سنة 636 هـ (1)، وهنالك ما يدل على أنه لبث ينقحها ويزيد فيها حتى أواخر سنة 655 هـ أعني إلى ما قبل وفاته بنحو عامين (2). وظاهر من محتويات " التكملة " أن ابن الأبار يعنى عناية خاصة بعلماء شرقي الأندلس، وأحداثه التاريخية، وهي المنطقة التي ولد فيها، وسلخ فيها شبابه، واكتمل نضجه، واتصل بالعدد الجم من علمائها. وكتاب " الحلة السيراء " وهو أيضاً مجموعة نفيسة من تراجم رجال الأندلس والمغرب وغيرهم، تبدأ من المائة الأولى للهجرة حتى أوائل المائة السابعة، وكتاب " المعجم في أصحاب القاضي أبي على الصدفى السرقسطى " ينحو نحو القاضي عياض في وضعه لمعجم شيوخه (3)، وهذه هي معاجم التراجم الكبيرة، التي انتهت إلينا من تراث ابن الأبار، وهناك ما يدل خلال بعض تراجم التكملة أن الأبار قد وضع معجما لشيوخه، ومعجما آخر في أصحاب ابن العربي. وانتهت إلينا من قلمه مجموعة صغيرة أخرى من التراجم عنوانها " إعتاب الكتاب " تشتمل على تراجم طائفة من كتاب الأندلس وبعض الكتاب المشارقة (4)، ولابن الأبار مؤلفات أخرى لم تصل إلينا منها كتاب " درر السمط في أخبار السبط "، وهو مؤلف يشير إليه المقري في نفح الطيب ويقتبس منه (5)، وكتاب " معدن اللجين في مراثى الحسين (6). ويوجد بمكتبة الإسكوريال كذلك مخطوط عنوانه " تحفة القادم " من تأليف ابن الأبار، يوصف بأنه " مقتضب من كتاب تحفة
_______
(1) راجع التكملة في الترجمة رقم 1690.
(2) هذا ما يبدو من مراجعة ما ورد في الترجمة رقم 1652.
(3) نشر كتاب التكملة في مجلدين بمدريد منذ سنة 1887 ضمن المكتبة الأندلسية. ونشر كذلك في طبعة ناقصة بالقاهرة (1955). ونشر كتاب المعجم في أصحاب القاضي أبي على الصدفى أيضا ضمن المكتبة الأندلسية (سنة 1886). ونشر كتاب الحلة السيراء بعناية المستشرق دوزى في طبعة ناقصة حذف منها كثير من التراجم (سنة 1851) نشر بعضها بمعرفة دوزى أيضاً في مجموعة " نصوص بني عباد " Historia Abbadidarum، والبعض الآخر بعناية المستشرق ميللر في: Beitrage. وقد قام أخيراً الدكتور حسين مؤنس بإصدار طبعة كاملة محققة من الحلة السيراء في مجلدين (القاهرة سنة 1964) وذلك أثناء قيامنا بطبع هذا الكتاب.
(4) وتوجد منه نسخة قديمة بالية، بمكتبة الإسكوريال رقم 1731 الغزيري.
(5) راجع نفح الطيب ج 2 ص 601 - 604 حيث يقتبس المقري منه عدة فصول.
(6) وقد ورد ذكره خلال الترجمة رقم 1654 من كتاب التكملة حيث يشير ابن الأبار نفسه إلى أنه ألف كتابا بهذا الإسم(4/707)
القادم " وهو حسبما يصفه ابن الأبار في الديباجة " اقتضاب من بارع الأشعار" وفيه يورد ابن الأبار تراجم بعض الشعراء الأندلسيين والغرباء، ومختارات من أشعارهم (1). وذكر لنا ابن الأبار في الحلة أن له مؤلفا آخر عنوانه " إيماض البرق في أدباء الشرق " (2).
وبعد فهذه لمحة في التعريف بابن الأبار وتراثه، حسبما وسع هذا المقام المحدود. وقد خلدت لنا آثار ابن الأبار صوراً حية من محنة الأندلس، وعوامل انهيارها، لم يستطع كاتب آخر من معاصريه، أن يقدم إلينا شيئاً يدانيها. ومازالت هذه الآثار حتى يومنا، أهم وأوثق مصادرنا عن تلك الفترة المشجية من التاريخ الأندلسي (3).
ومن الأدباء المؤرخين الذين نبغوا في تلك الفترة، علي بن موسى بن سعيد الأندلسي، المعروف بابن سعيد المغربى، وأصله من سادة قلعة يحصب من أعمال شمالي غرناطة، وهو أديب ورحالة وسليل أسرة من الأدباء والمؤرخين، تعاقب منها قبله خمسة في مدى قرن، على تصنيف مؤلف ضخم في فضائل مدن الأندلس والمغرب والمشرق، بضم كتابين كبيرين هما " كتاب المشرق في حلى المشرق "، وكتاب " المغرب في حلى المغرب " وأتمه علي بن موسى آخر من نبغ من هذه الأسرة. وقد ولد بغرناطة سنة 610 هـ، وتجول بقواعد الأندلس، والمغرب والمشرق، وتوفي بدمشق سنة 673 هـ، ومؤلفه أثر أدبى كبير، تاريخى جغرافي، بارع الأسلوب. وله كتب أخرى منها " المرقص والمطرب " و " ملوك الشعر "، و " الطالع السعيد في تاريخ بني سعيد "، و " لذة الأحلام في تاريخ أمم الأعجام "، و " نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب "، وغيرها (4).
ومن المؤرخين المغاربة في العصر الموحدي، أحمد بن يوسف بن أحمد ابن يوسف بن فُرتون السلمي، من أهل مدينة فاس، واستوطن سبتة، ويعرف
_______
(1) يحفظ هذا المخطوط بمكتبة الإسكوريال برقم 356 الغزيرى.
(2) الحلة السيراء ص 222.
(3) راجع ترجمة ابن الأبار في فوات الوفيات ج 2 ص 226 - 227، ونفح الطيب ج 2 ص 578 - 580، وعنوان الدراية ص 183 - 186، والزركشى في تاريخ الدولتين ص 27.
وراجع أيضاً في ترجمة ابن الأبار وتعداد آثاره Pons Boigues ; ibid , p. 291-296.
(4) ترجمته في فوات الوفيات ج 2 ص 89 - 91 وكذلك في: Pons Boigues ; p. 306(4/708)
بابن فرتون، عنى بالتاريخ والسير، وتراجم الرجال، إلى جانب عنايته بالحديث، وألف مجموعا في التراجم عنوانه " الذيل "، وتوفي بسبتة في شعبان سنة 660 هـ (1).
ونبغ في أواخر العصر الموحدي، وتجاوزه بقليل عدة من المؤرخين، وأصحاب المعاجم والسير، التي كانت من أخصب مصادرنا في كتابة تاريخ العصر الموحدي وتراجم رجاله، وفي مقدمة هؤلاء أبو عبد الله محمد المراكشي المعروف بابن عذارى صاحب الموسوعة الجليلة في تاريخ المغرب والأندلس، " البيان المغرب "، وهي التي كانت من أهم وأوثق مصادرنا. وقد أشرنا إليها وإلى أهميتها في بداية هذا الكتاب، في الفصل الذي كتبناه عن " المصادر ". أما عن حياة ابن عذارى فلسنا نعرف الكثير، ولا نعرف إلا أنه عاش في النصف الثاني من القرن السابع وأوائل القرن الثامن، وكان حيا في سنة 712 هـ، حسبما يذكر لنا ذلك في مؤلفه، وربما توفي بعد ذلك بقليل (2).
وابن القطان صاحب كتاب " نظم الجمان "، وقد كان حيا في عصر الخليفة المرتضى، وقد أشرنا إلى ذلك في فصل المصادر.
وأحمد بن ابراهيم بن الزبير بن الحسن بن الحسين بن الزبير، الشهير بابن الزبير، وهو أندلسي من أهل جيان ولد بها سنة 627 هـ، وتوفي بغرناطة سنة 708 هـ، وكان محدثا متقنا. وقد ترك لنا مجموعة نفيسة من التراجم عنوانها ْ" صلة الصلة " مذيلا بها على صلة ابن بشكوال، ومنها كثير من التراجم لرجال العصرين المرابطي والموحدي (3). وأبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن محمد بن سعيد الأنصاري الأوسي، المراكشي، وقد كان فقيهاً جليلاً، ومؤرخاً ثقة، تولى قضاء الجماعة حينا. ويصفه ابن الخطيب خلال ترجمته لولده " بقاضى القضاة، نسيج وحده الإمام العالم التاريخى المتبحر في الأدب " (4)، وقد ترك لنا ابن عبد الملك موسوعة من أجل موسوعات التراجم لرجالات المغرب والأندلس، تشغل عدة مجلدات كبيرة، وتوجد منها نحو خمسة مجلدات، مبعثرة بالمتحف البريطاني، والمكتبة الوطنية
_______
(1) ترجمته في مقدمة صلة الصلة (ص ط).
(2) راجع البيان المغرب القسم الثالث ص 454.
(3) نشر كتاب " صلة الصلة " بعناية المرحوم الأستاذ ليفى بروفنسال (الرباط سنة 1937)، ووردت به ترجمة ابن الزبير في المقدمة (ص هـ) منقولة عن تكملة ابن عبد الملك.
(4) في الإحاطة في ترجمة محمد بن عبد الملك ولد المؤرخ، مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى لوحة 67(4/709)
بباريس، ودار الكتب المصرية، ومنها قطعة بالإسكوريال، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الخاص بالمصادر. أما عن حياة مؤلفها فلسنا نعرف الكثير، ولا نعرف إلا أنه عاش في النصف الثاني من القرن السابع الهجرى، وتوفي أواخر هذا القرن وربما في أوائل القرن الثامن (1).
وتسمى موسوعة ابن عبد الملك " بالذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة " أي لكتابي " ابن الفرضي وصلة ابن بشكوال " وقد كتبت تراجمها بلغة أدبية ونقدية قوية، وتخللتها نبذ تاريخية عديدة هامة، انتفعنا بالكثير منها.
_______
(1) ذكر بونس بويجيس P. Boigues في معجمه في ترجمة ابن عبد الملك أنه كان معاصراً للعبدرى صاحب " الرحلة المغربية " التي كتبت في سنة 688 هـ، وأنه يجب أن يكون قد توفي في سنة 669 هـ (1270 م) Historiadores y Geograficos Arab. Espanoles ( ص 310 و 414).
وقد وهم هذا العلامة فيما استنتج. وقد وقفنا على ما يدحض هذا الوهم، أولا في الجزء المحفوظ من التكملة المحفوظ بمكتبة الإسكوريال (1682 الغزيرى) ففيه يترجم ابن بعد الملك لأبي الطيب صالح ابن شريف الرندي المتوفى سنة 684 هـ ويذكر في هذه الترجمة كما يأتى " وروى عنه جماعة من أصحابنا، وكتب إلى بإجازة ما رواه وألفه وأنشأه نظماً ونثراً " ومعنى ذلك أن ابن عبد الملك، أخذ عن الرندي وتتلمذ عليه، فهو بذلك متأخر عنه، وثانيا وقفنا في كتاب الإحاطة لابن الخطيب (مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى) على ترجمة لمحمد بن محمد بن عبد الملك وهو ابن صاحب التكملة، وفيها أنه توفي في وقيعة على المسلمين من جيش مالقة في شهر ذي القعدة سنة 743 هـ (لوحة 67 - 74 من المخطوط) وهو ما يؤيد مرة أخرى أن صاحب التكملة امتدت حياته فيما يرجح إلى أواخر القرن السابع أو أوائل القرن الثامن الهجرى(4/710)
الفصل الرابع الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي
القسم الثالث
إزدهار العلوم في ظل الدولة الموحدية. أعلام الطب في العصر الموحدي. أبو جعفر الغافقي القرطبي. ابن غلندة الأموي. أبو مروان بن جريول. محمد بن عبد الملك بن زهير. أبو جعفر ابن حسان القضاعى. عبيد الله بن الوليد المذحجى. محمد بن علي القرشى الزهرى. علماء النبات. أبو علي ابن مفرج البكرى الأشبونى. جودى بن عدنان القيسى. ابن مفرج الأموي المعروف بابن الرومية. ابن البيطار المالقي. علماء الرياضيات. ابن سهل الضرير. أبو اسحق البطروجى المراكشي. عبد الله ابن محمد بن حجاج. محمد بن بكر الفهرى. الحسن بن علي المراكشي. أبو بكر الرقوطى المرسى. العالم الزراعى ابن العوام الإشبيلي. عباقرة الطب والفلسفة. أبو بكر بن طفيل القيسى. رسالة " حى ابن يقظان ". أبو الوليد ابن رشد. تصانيفه الفلسفية والطبية. اتهامه ونكبته أيام المنصور. الرئيس موسى بن ميمون القرطبي. الفنون في ظل العهد الموحدي. تحول الخلافة الموحدية إلى ملك دنيوى باذخ. الإتجاه إلى استكمال مظاهر الأبهة الملوكية. إنشاء مدينة جبل طارق. رعاية الدولة الموحدية للفنون المعمارية. المنشآت الموحدية بإشبيلية. القصور الموحدية والجامع الأعظم وصومعته. قصر السيد أبي يحيى بقرطبة. قصر السيد أبي اسحق بغرناطة. بعض أقطاب الهندسة والفن في هذا العصر. صدى هذه الحركة العمرانية والفنية في العاصمة الموحدية. ضاحية الصالحة. صومعة الكتبية. الموسيقى وإغفال شأنها. فن كتابة المصاحف. تفوق الفنون الموحدية في المنشآت الدفاعية.
بقى علينا أن نستعرض من الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي، ناحية من أهم نواحيها، وهي ناحية العلوم والفنون. ففي هذا الميدان ميدان العلوم والفنون، تصل الحركة الفكرية الأندلسية إلى ذروة قوتها وازدهارها، وتسطع خلالها أسماء من أعظم شخصيات التفكير الأندلسي، بل من أعظم شخصيات التفكير الإسلامي، على الإطلاق، ويكفى أن يكون من بينها، عبقريات مثل ابن طفيل، وابن زهر، وابن رشد، وابن الرومية، وابن البيطار.
لم تكن الدولة الموحدية، بالرغم من صفتها الدينية الراسخة، من الناحية الفكرية، كالدولة المرابطية، دولة رجعية تطارد العلوم والفلسفة، بل كانت بالعكس حسبما بينا من قبل، دولة تفسح للتفكير مجالاته، لما كان يتصف به(4/711)
مؤسسها الروحى وخلفاؤه من الصفات العلمية البارزة، وإذا استثنينا بعض حوادث المطاردة الفكرية، مثل حادث اتهام ابن رشد وزملائه أيام المنصور، فإنا نستطيع أن نصف الدولة الموحدية، بأنها كانت دولة حامية للعلوم، كما كانت حامية للآداب، حامية للفنون في نفس الوقت، حماية تشهد بها منشآتها العمرانية العظيمة في المغرب والأندلس.
ولدينا في الواقع ثبت حافل، من أكابر العلماء الذين نبغوا في ذلك العصر في مختلف العلوم، في الطب والنبات والرياضة والفلك والهندسة وغيرها، وإذا كان هذا الثبت ليس مرتفعا من الناحية العددية، كما هو الشأن في ميدان العلوم الدينية والنظرية، فإنه يضم أقطابا من الطراز الأول، من أساتذة الطب والفلسفة والنبات في العصور الوسطى.
- 1 -
ولنبدأ بذكر أعلام الطب في هذا العصر، وقد كانت منهم ثمة جمهرة كبيرة، وأقطاب عظام.
كان من هؤلاء أبو جعفر أحمد بن محمد الغافقي القرطبي، برع في الطب والنبات، وتجول في أنحاء الأندلس وإفريقية، وجمع منها أصنافا عديدة من النباتات الطبية، وقام بتصنيفها من الناحية العلمية، وسجلها بأسمائها العربية واللاتينية والبربرية، وكان كتابه " الأدوية المفردة " من أهم المراجع الطبية في عصره. وتوفي سنة 561 هـ.
وعبيد الله بن غَلِندة الأموي، أصله من سرقسطة، وسكن إشبيلية. غادر أهله سرقسطة حين تغلب عليها النصارى في سنة 512 هـ، ونزلوا أولا بقرطبة، وبها درس عبيد الله، ثم رحل منها إلى إشبيلية واستقر بها، وبرع في الأدب والشعر. ولكنه برع في الطب في نفس الوقت، وذاع صيته كطبيب ماهر في العلاج. وفي أواخر حياته عبر البحر إلى المغرب، واستقر بمدينة مراكش، وبها توفي في سنة 581 هـ، وقد بلغ السابعة والتسعين من عمره (1).
ومنهم أبو مروان عبد الملك بن محمد بن جُرُّيول من أهل بلنسية، وسكن قرطبة ويعرف بابن كنبراط، كان من المبرزين في معرفة الطب، المتقدمين في صناعته، وعنه أخذ كثير من أقطاب العصر، وفي مقدمتهم العلامة
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 2180(4/712)
أبو الوليد بن رشد، وغيره. ولم يذكر تاريخ لوفاته (1).
وعبد الله بن سيد أمير اللخمي من أهل شِلب، من ناحية الغرب، برع في الحديث والنحو وكانت له مشاركة في علم الطب عرف بها، وانتفع به (2).
ومنهم، ومن أشهرهم وألمعهم، أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر ابن عبد الملك بن زهر الأيادى، سليل الأسرة الإشبيلية الشهيرة، ولد العلامة والطبيب العظيم أبي مروان عبد الملك، وحفيد أبيه وقرينه في النبوغ أبي العلاء ابن زهر. وقد سبق أن قمنا بالتعريف بالأب والجد في القسم الأول من هذا الكتاب (3). ودرس أبو بكر علم الطب على أبيه وجده، وبرع في نفس الوقت في الحديث والأدب واللغة، ولكنه تفوق في صناعة الطب، وبلغ الغاية منها، وحظى لدى حكومة الموحدين، منذ أيام أبي يعقوب يوسف، وتولى في بلده إشبيلية بعض المناصب الإدارية الهامة، ثم عين فيما بعد طبيباً خاصاً للخليفة أبي يعقوب المنصور، وبلغ في ظل الخلافة الموحدية ذروة الجاه والنفوذ، وتوفي بمراكش في أواخر شهر ذي الحجة سنة 595 هـ، وصلى عليه الخليفة (محمد الناصر) ودفن بروضة الأمراء، ومولده في سنة 507 هـ (4).
ومنهم أحمد بن داود بن يوسف الجذامى من أهل باغة من عمل غرناطة، كان أديباً نحوياً عالماً باللغة ومن العارفين بصناعة الطب. ومن مؤلفاته الأدبية شرحه لكتاب آداب الكتاب لابن قتيبة، وبدأ في وضع شرح لمقامات الحريرى ولم يتمه. وتوفي في سنة 598 هـ (5).
وأبو جعفر بن الحسن بن أحمد بن الحسين بن حسان القضاعى، أصله من أندة من عمل بلنسية، وولد بمرسية، ودرس الحديث، ورحل إلى المشرق مرافقاً لابن جبير في رحلته، وسمع معه في دمشق وبغداد وغيرهما، وعاد معه إلى المغرب وكانت أبرز خلة لدى أبي جعفر هي براعته في صناعة الطب، وتحققه من دقائقها، وقد وضع فيها تأليفاً مفيداً لم يذكر لنا عنوانه. وتوفي بمراكش سنة 599 هـ (6).
وعبيد الله بن محمد بن عبيد الله .. بن ابراهيم بن الوليد المذحجى، من أهل باغة، وسكن قرطبة ودرس بها الحديث والأدب والطب، وأخذ الطب بنوع
_______
(1) ترجمته في التكملة (الأندلسية) رقم 1714.
(2) ترجمته في التكملة رقم 2075.
(3) راجع ص 473 من القسم الأول من هذا الكتاب.
(4) ترجمته في التكملة رقم 1499.
(5) ترجمته في التكملة رقم 240.
(6) ترجمته في التكملة رقم 241(4/713)
خاص عن أبي مروان عبد الملك بن جُرُّيول البلنسى، وأبي نصر بن الحجام، ومحمد بن ظهير وغيرهم، وعنى بلقاء الشيوخ من المحدثين والأطباء، وكان فوق مهارته في الطب أديبا يجيد النظم والنثر. وذكر ابن الطيلسان أنه سليل أسرة من الأطباء تعاقب أبناؤها في المهنة منذ عهد عبد الرحمن الداخل. وتوفي ابن الوليد في ربيع الآخر سنة 612 هـ (1).
ومحمد بن علي بن أحمد بن عبد الرحمن القرشي الزهري من أهل إشبيلية، درس الحديث والرواية، ولكنه شغف بالطب، ومهر فيه، وكان يقصده الحكام والكبراء للعلاج، ولما مرض والي إشبيلية الموحدي، كان ممن شاركوا في علاجه، توفي سنة 623 هـ، وقد جاوز التسعين من عمره (2).
وأحمد بن عتيق بن علي بن خلف .. بن سعيد، من سلالة عبد الرحمن الداخل، أصله من سرقسطة. كان عالماً نابهاً متقناً للطب وعلوم الأوائل. ولى القضاء بشريش حيناً. ثم اتصل بأبي العلى المأمون أيام ولايته لإشبيلية فحظى لديه، ولما دعا المأمون لنفسه بالخلافة، وجهه إلى قبائل العدوة ليستميل شيوخها إلى بيعته، فنجح في مهمته. ثم صحب المأمون إلى العدوة، ولكنه لما شعر باضطراب الأحوال استأذن المأمون في العودة إلى الأندلس، ونزل بمالقة، فألفاها قد خلعت طاعة الموحدين وانضمت إلى ابن هود. واتجهت إليه الريبة عندئذ بأنه حضر إلى مالقة ليروج بها دعوة المأمون واعتقله الوالي، ولكن العامة ألحوا عليه في إخراجه وهددوه فأخرجه إليهم فقتلوه، وذلك في ربيع الآخر سنة 627 هـ (3).
ومحمد بن علي بن سليمان بن رفاعة من أهل شريش، عنى بالحديث والرواية والأدب، وكانت له مشاركة في الطب، وكان من أساتذته أبو بكر بن زهر، وتوفي سنة 636 هـ (4).
وعبد الله بن أحمد عبد الله .. بن حفص الأنصاري من أهل دانية، وسكن شاطبة، درس الحديث والعربية والأدب، ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية ودمشق والموصل، ومال إلى علم الطب وعنى به، ومهر فيه. وعاد من رحلته الأولى إلى المغرب ونزل بتونس حيناً، ثم رحل ثانية إلى المشرق، وتوفي بالقاهرة في سنة 646 هـ (5).
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 2184.
(2) ترجمته في التكملة رقم 1618.
(3) ترجمته في الذيل والتكملة لإبن عبد الملك - المجلد الأول من مخطوط باريس لوحة 67 و 68.
(4) ترجمته في التكملة رقم 1666.
(5) ترجمته في التكملة رقم 2122(4/714)
هؤلاء هم طائفة من الأطباء الذين ظهروا في العصر الموحدي، ولم نذكر من بينهم أقطاب الطب العظام مثل ابن طفيل، وابن رشد، وابن ميمون، لأننا آثرنا أن نذكر هؤلاء بين الفلاسفة، وهي الصفة الغالبة عليهم بالرغم من مثولهم بين أعظم الأطباء في العصور الوسطى.
- 2 -
ونبغ في هذا العصر عدة من علماء النبات، منهم اثنان من أعظم النباتيين في العصور الوسطى، وهما ابن الرومية الإشبيلي، وابن البيطار المالقي، ونحن نذكرهم فيما يلي: كان منهم أبو علي حسن بن أحمد بن عمر بن مفرج البكرى الأشبونى، لأن أصله من أشبونة عاصمة البرتغال الإسلامية، وسكن الجزيرة الخضراء، يعرف بالزرقالة، درس الحديث والأدب، ولكنه مهر في الطب والعلاج، وفي تمييز النبات والعشب، وفاق في ذلك أهل عصره، وكان يقرض الشعر في نفس الوقت وتوفي سنة 613 هـ (1).
وجودى بن عبد الرحمن بن جودى .. بن عدنان القيسى من أهل وادي آش، درس القرآن والعربية على جماعة من أقطاب عصره مثل أبي جعفر بن حكم، وأبي بكر بن أبي زمنين، وأبي القاسم بن سمجون وغيرهم، وكانت له معرفة بالنبات وتمييزه، مع اشتهاره بالأدب في نفس الوقت. وتوفي ببلده سنة 631 هـ (2).
على أن أعظم النباتيين والعشابين في العصر الموحدي، بل أعظم النباتيين المسلمين في سائر العصور، هو أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج الأموي، المعروف بابن الرومية، وبالعشاب، والنباتى. ولد بإشبيلية في المحرم سنة 561 هـ، وأصلهم من قرطبة، ودرس الحديث على جماعة من أقطاب العصر مثل أبي بكر ابن الجد وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي الوليد بن عفير، وعبد المنعم بن الفرس، وأبي ذر الخشنى وغيرهم، وتجول في طلب العلم، وسماع الحديث، حتى صار فيه إماماً حافظاً، ناقداً، ذاكراً تاريخ المحدثين وأنسابهم وموالدهم، ووفياتهم، وتعديلهم وتجريحهم. ومال إلى علم النبات ودراسته، وتمييزه، وتصنيفه، وتجول من أجل ذلك في ربوع الأندلس، والمغرب وإفريقية، ثم رحل إلى المشرق، بعد سنة 580 هـ، وتجول في مصر والشام والعراق والحجاز، فدرس الكثير من أصناف النباتات غير المعروفة، ووقف على كثير من غوامضها، قال
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 699.
(2) ترجمته في التكملة رقم 661(4/715)
ابن عبد الملك " حتى وقف من ذلك على ما يقف عليه غيره، ممن تقدم في الملة الإسلامية، فصار واحد عصره فرداً، لا يجاريه فيه أحد بإجماع ذلك الشأن " ووصفه ابن الخطيب بأنه " عجيبة نوع الإنسان في عصره، وما قبله، وما بعده في معرفة علم النبات، وتمييز العشب، وتحليلها، وإثبات أعيانها، على اختلاف أطوار منابتها بمشرق أو بمغرب، حساً، ومشاهدة وتحقيقاً، لا مدافع له في ذلك ولا منازع، حجة لا ترد ولا تدفع. قام على الصنعتين لوجود القدر المشترك بينهما وهما الحديث والنبات، إذ موادهما الرحلة والتقييد، وتصحيح الأصول وتحقيق المشكلات اللفظية، وحفظ الأديان والأبدان وغير ذلك ".
وكان ابن الرومية فقيهاً ظاهرى المذهب، من أنصار ابن حزم، وانتشرت على يديه تصانيف ابن حزم، بما أبداه من غيرة وعناية في إظهارها واستنساخها والإنفاق عليها، وكان إلى ذلك ورعا، زاهدا، وكان بعد أن عاد من رحلاته الدراسية بالمشرق قد استقر ببلده إشبيلية، وافتتح متجراً لبيع الأعشاب الطبية. قال ابن الأبار: " وهناك رأيته ولقيته غير مرة ".
ولإبن الرومية تصانيف عديدة في الحديث والنبات، منها في الحديث، رجالة المعلم بزوائد البخاري على مسلم، واختصار حديث مالك للدارقطنى، ونظم الدرارى فيما تفرد به مسلم عن البخاري، والحافل في تدليل الكامل وغيرها. ومن مصنفاته في النبات " شرح حشائش دياسقوريدس وأدوية جالينوس، والتنبيه على أوهام ترجمتها " و" التنبيه على أغلاط الغافقي "، و " الرحلة النباتية " و " المستدركة " وغيرها، وله كتاب في " الأدوية المفردة " على نمط كتب بني زهر في ذلك. ويعتبر ابن الرومية أعظم العشابين والنباتيين في العصور الوسطى، ولا يتقدمه أحد في هذا الشأن من القدماء سوى دياسقوريديس اليونانى، الذي عاش في القرن الأول للميلاد، والذى وضع ابن الرومية شرحه لحشائشه.
وتوفي ابن الرومية بإشبيلية في شهر ربيع الآخر سنة 637 هـ، قبل سقوطها في أيدي القشتاليين بنحو تسعة أعوام (1).
وجاء بعد ابن الرومية تلميذه ابن البيطار المالقي، فكان أعظم علماء النبات بعد أستاذه، وهو ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد، ولد بمالقة في أواخر القرن السادس الهجرى، ودرس على أستاذه ابن الرومية وبرع مثله في النبات
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 304، وفي الإحاطة لابن الخطيب (1956) ج 1 ص 215 - 221(4/716)
والوسائل العلاجية، ثم غادر الأندلس، وطاف بأنحاء المغرب باحثا عن الفصائل النباتية دارسا لخصائصها، ثم قصد إلى مصر أيام الملك الكامل فدخل طبيبا في خدمته، ثم خدم ابنه الملك الصالح من بعده، وعنى بدراسة النبات والأعشاب في مصر والشام وآسيا الصغرى، وبلاد اليونان. ووضع في ذلك كتابين، هما: " كتاب الجامع في الأدوية المفردة " تناول فيه الأدوية النباتية المعروفة في عصره، ورتبها على حروف المعجم، " وكتاب المغنى في الأدوية المفردة " وهو مرتب على أبواب معالجة الأعضاء. وله أيضاً كتاب " الأفعال الغريبة والخواص العجيبة ". وكان ممن تتلمذ على ابن البيطار ودرس عليه، العلامة الطبيب ابن أبي أصيبعة صاحب معجم طبقات الأطباء، وقد أشاد ببراعته وغزارة علمه، ودقة فهمه لكتب الأقدمين. وتوفي ابن البيطار بدمشق سنة 646 هـ (1).
ونبغ في تلك الفترة كذلك عدة من علماء الرياضيات والفلك، نذكر منهم: عبد الله بن محمد بن سهل الضرير، من أهل غرناطة. درس القراءات والحديث، وبرع في العربية والآداب. ولكنه مال كذلك إلى العلوم الرياضية، وأخذها من بعض أصحاب أبي بكر بن الصائغ (ابن باجة). واستدعاه الأمير محمد بن سعد أمير الشرق لتأديب ولده فسكن مرسية وقتا. ولما تفاقمت الحوادث شغل عنه، فبقى مضاعا إلى أن توفي بها في أواخر سنة 571 هـ (2).
وأبو اسحق نور الدين البطروجي المراكشي، تلميذ الفيلسوف ابن طفيل، وقد برع في العلوم الطبيعية والفلك، وحاول أن يصحح أخطاء الطريقة البطلمية في الأفلاك بوضع شرح جديد للدورة الفلكية، ويعرف البطروجى عند علماء الغرب باسمه اللاتينى Alpetragius، وقد توفي بإشبيلية في سنة 601 هـ.
وعبد الله بن محمد بن حجاج من أهل فاس، ويعرف بابن الياسمين، وهو من قبيلة أساسة البربرية النازلة في أحواز فاس، أخذ عن أبيه عبد الله بن قاسم علم الحساب والعدد وبرع فيه، وعبر إلى الأندلس فأتم بها دراسته. وله أرجوزة في علم الجبر، وخدم البلاط الموحدي بمراكش، وكانت له فيه حظوة. وتوفي قتيلا بمراكش سنة 601 هـ (3).
ومحمد بن بكر بن محمد عبد الرحمن بن بكر الفهري من أهل بلنسية، كان
_______
(1) ترجمته في فوات الوفيات ج 1 ص 204، ونفح الطيب ج 2 ص 44 و 45.
(2) ترجمته في التكملة رقم 2056.
(3) ترجمته في التكملة رقم 2156(4/717)
إماما في الحديث، ودرس على أقطاب عصره مثل أبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب ابن واجب، وأبي عمر بن عات، وامتاز ببراعته في علم الحساب، وتحققه من مسائله، وكان فضلا عن ذلك مشاركا في الطب، حافظا للتواريخ، وتوفي سنة 618 هـ (1).
وكان من أبرع علماء الفلك في أواخر العصر الموحدي، أبو علي الحسن بن علي ابن عمر المراكشي من أهل مراكش، اشتهر بكتابه المسمى " جامع المبادىء والغايات " وهو موسوعة جليلة في الفلك، وتشتمل كذلك على أوصاف الآلات الفلكية التي كانت معروفة في عصره، وبه جداول فلكية، وفهرس للنجوم عن سنة 622 هـ، وشروح لخطوط الطول والعرض لكثير من الأماكن. وبالجملة فقد كان أبو علي آية عصره في علمه وفنه، وتوفي في أواخر العصر الموحدي في سنة 661 هـ (1262 م).
ومن أواخر علماء شرق الأندلس أبو بكر محمد بن أحمد الرقوطى المرسى، وكان آية في المعرفة والبراعة، في المنطق والهندسة والرياضيات والطب والموسيقى، وكان فوق ذلك فيلسوفاً وطبيباً ماهراً، يتقن عدة لغات، وكان قد بقى في وطنه مرسية بعد تغلب النصارى عليها (664 هـ - 1266 م) ولم يقبل أن يغادرها فيمن غادرها من بني وطنه، وقدر المتغلب (خايمى الأول) قدره، وابتنى له مدرسة، يعلم فيها المسلمين والنصارى واليهود، وحاول عبثا أن يغريه باعتناق النصرانية، ثم غادر مرسية أخيراً، تلبية لدعوة ابن الأحمر سلطان غرناطة، فنزل بها، وأقبل عليه طلابها، وكان يدرس الطب، والرياضة والفلك وغيرها، ولم يذكر لنا تاريخ وفاة الرقوطى، ولكن المرجح أنه توفي أواخر القرن السابع (2). ونستطيع أن نضيف إلى هذا الثبت من علماء الرياضة والفلك، اسم عالم من علماء الزراعة، هو أبو زكريا يحيى بن أحمد بن العوام الإشبيلي، وقد عاش في إشبيلية في أواخر القرن السادس الهجرى (أواخر القرن الثاني عشر الميلادى) واشتهر بكتابه " الفلاحة " وقد اعتمد فيه بالأخص على كتاب الفلاحة لابن بصال الطليطلى، ويقدم إلينا ابن العوام في مؤلفه الضخم عرضا مستفيضا للفنون الزراعية وكيفية العمل في الزراعة والغراسة، وتسميد الأرض وإصلاحها، واختيار البذور والغراس الصالحة، والمواسم الملائمة لزراعة كل صنف،
_______
(1) ترجمته في التكملة رقم 1600.
(2) ترجمة الرقوطى في الإحاطة، مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى - لوحة 107(4/718)
وغير ذلك مما يؤدي إلى جودة الأرض ووفرة الإنتاج (1).
- 3 -
ونعود الآن إلى ذكر عباقرة الطب خلال العصر الموحدي، وهم الذين غلبت عليهم صفة الفلسفة قبل كل شىء، بالرغم من نبوغهم في الطب، واعتبارهم من أعظم الأطباء في العصور الوسطى.
هؤلاء هم ثلاثة، أبو بكر بن طفيل، وأبو الوليد بن رشد، وموسى بن ميمون القرطبي.
فأما ابن طفيل، فهو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن طفيل القيسى، من أهل وادي آش. ولسنا نعرف تاريخ مولده بالتحقيق، وربما ولد في الأعوام الأولى من القرن السادس الهجرى. ودرس ابن طفيل الحديث والفقه واللغة، على أبي محمد الرُّشاطى، وعبد الحق بن عطية، وغيرهما من أقطاب العصر. ولكنه مال إلى الحكمة وعلوم الأوائل، ودرس الحكمة على أبي بكر ابن الصائغ (ابن باجة) وغيره، وبرع في الفلسفة والطب، وكان عالماً محققاً، شغوفاً بالحكمة المشرقية، متصوفاً، طبيباً ماهراً في أصول العلاج، وفقيهاً بارع الإعراب. وكاتباً بليغاً، ناظماً ناثراً، مشاركاً في عدة فنون. وبدأ ابن طفيل حياته العامة بخدمة المتغلب على بلده وادي آش، أحمد بن ملحان الطائى في سنة 540 هـ. ولما سقطت حكومة ابن ملحان بعد ذلك بأعوام قلائل، انتقل ابن طفيل إلى خدمة الموحدين، وكتب لوالى غرناطة الموحدي. ولما ولى السيد أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن حكم إشبيلية، التف حوله جماعة من العلماء والمفكرين، كان منهم ابن طفيل. وكان الأمير يشغف بمجالس العلم، ويؤثر العلماء بصحبته. ولما تولى هذا الأمير الخلافة عقب وفاة أبيه في سنة 558 هـ، عين ابن طفيل طبيبه الخاص وكان فضلا عن ذلك يندبه لبعض المهام الخلافية الدقيقة، ومن ذلك أن عهد إليه بالسعى لتأليف طوائف العرب، وترغيبهم في الجهاد، وفي سبيل ذلك وضع ابن طفيل، وكان إلى جانب علمه الغزير، شاعراً مجيداً، قصيدته الشهيرة، يهيب فيها بالعرب أن ينهضوا للمشاركة في الجهاد، ومطلعها:
أقيموا صدور الخيل نحو المضارب ... لغزو الأعادى واقتناء الرغائب
_______
(1) نشر كتاب الفلاحة لابن العوام لأول مرة بمدريد سنة 1802 في مجلدين كبيرين من مخطوطه الموجود بمكتبة الإسكوريال، بعناية القس يوسف أنطونيو بانكيرى مقرونا بترجمة إسبانية(4/719)
ولما عبر الخليفة أبو يعقوب يوسف إلى الأندلس في أواخر سنة 566 هـ، واستطالت إقامته في إشبيلية بضعة أعوام، التف حوله رهط من صفوة العلماء، كان في مقدمتهم ثلاثة من أعظم الأطباء والفلاسفة المسلمين، هم طبيبه الخاص ابن طفيل، وتلميذه القاضي الفيلسوف أبو الوليد بن رشد، والعلامة الطبيب أبو بكر ابن زهر. وقد سبق أن أشرنا إلى شغف الخليفة أبي يعقوب يوسف بالدراسات الفلسفية، وشغفه بملازمة ابن طفيل، والأخذ عليه، كما أشرنا إلى الدور الذي قام به ابن طفيل في الإيعاز إلى تلميذه ابن رشد بعمل تلخيص جديد لشروح أرسطو. وكان ابن طفيل يقوم بمهمة السفارة بين الخليفة وبين العلماء، ويدعوهم باسمه من مختلف الأقطار، وينبه على أقدارهم لديه، ويحثه على إكرامهم والتنويه بهم، وهو الذي نوه بفضل تلميذه ابن رشد وبراعته لدى الخليفة حتى علت مكانته لديه. ولما توفي الخليفة أبو يعقوب يوسف في ربيع الآخر سنة 580 هـ، عقب نكبة جيشه في موقعة شنترين، استمر ابن طفيل في منصبه طبيبا خاصا لولده الخليفة الجديد أبي يوسف يعقوب المنصور، ولكنه لم يعش بعد ذلك طويلا إذ توفي بمراكش في أواخر سنة 581 هـ (1185 م)، وحضر الخليفة جنازته (1). وأشهر مؤلفات ابن طفيل رسالة " حى بن يقظان " أو " أسرار الحكمة المشرقية " و " الأرجوزة الطبية المجهولة " و " رسالة في النفس " وغيرها من مؤلفات ورسائل لم تصل إلينا. وقد انتهت إلينا لحسن الحظ رسالة " حى بن يقظان " وهي تلخيص فلسفى رائع لأسرار الطبيعة والخليقة، عرضت خلال حياة وأعمال طفل، خلق من " بطن الأرض " في جزيرة مجهولة من جزائر الهند جنوبي خط الإستواء، وهذا الطفل هو " حى ". وقد استطاع بالملاحظة والتأمل التدريجى لظروف الحياة، ومظاهرها الطبيعية، أن يصل إلى أسرار الطبيعة، وأسرار الحكمة العليا، وأن يتقرب في تأمله وصومه من الله. وبالرغم من صغر حجم هذه الرسالة الفلسفية، وهو لا يزيد عن خمسين صفحة، فقد لفتت بروعتها أنظار النقد الحديث، وترجمت إلى اللاتينية منذ القرن السابع عشر، كما ترجمت بعد ذلك إلى لغات أخرى (2). وأما ابن رشد، فهو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد
_______
(1) راجع في ترجمة ابن طفيل، الإحاطة مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى لوحة 50 - 57، والمعجب للمراكشي ص 134 - 135. وراجع ص 136 من هذا الكتاب.
(2) ترجمها إلى اللاتينية Pockocke، ونشرت بأكسفورد سنة 1671 بعنوان Philosophus Autodidacius ونشرت ترجمتها الإنجليزية في سنة 1708 بقلم Ockly والفرنسية سنة 1900 بقلم Gautier ونشرت ترجمتها الإسبانية سنة 1900 بقلم المستشرق Pons Boigues(4/720)
ابن رشد، وهو سليل بيت من بيوتات العلم والنباهة العريقة بقرطبة، وبها ولد سنة 520 هـ (1126 م)، ودرس بها دراسة حسنة، وأخذ الحديث عن أبيه أبي القاسم، وابن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، وغيرهم. درس الطب أولا على أبي مروان بن جرُّيول البلنسى، ثم بعد ذلك على أستاذه الأثير عبد الملك بن زهر، ودرس الفقه والأصول والكلام على أقطاب عصره. وبرع ابن رشد بالأخص في الحكمة والطب. ولما بلغ الثلاثين من عمره غادر موطنه قرطبة إلى إشبيلية، وكانت دولة المرابطين قد انهارت يومئذ، وخلفتها دولة الموحدين، وكان والي إشبيلية الموحدي يومئذ، هو حسبما قدمنا الأمير العالم، السيد أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، فاتصل به ابن رشد، وحظى برعايته، وكان من آثار هذه الرعاية أن وُلى ابن رشد قضاء مدينة إشبيلية، ثم ولى بعد ذلك قضاء قرطبة بعض الوقت. وكان من أنفس ما حظى ابن رشد خلال إقامته بإشبيلية، دراسته المستفيضة على أستاذه العلامة الطبيب العبقري عبد الملك ابن زهر، وهو الذي وصفه ابن رشد فيما بعد بأنه أعظم طبيب بعد جالينوس.
ولما تولى أبو يعقوب يوسف الخلافة، وقدم إلى إشبيلية وأقام بها، زادت مكانة ابن رشد وتوطدت في البلاط الموحدي، ولاسيما عن طريق أستاذه ابن طفيل طبيب الخليفة الخاص، وصديقه وناصحه الأثير لديه، وكان من آثار هذه الرعاية، أن عين الخليفة ابن رشد، طبيباً خاصاً له إلى جانب ابن طفيل. وكان ابن رشد ينتقل معظم الوقت مع بلاط الخليفة سواء بالمغرب أو الأندلس، ولما توفي الخليفة أبو يعقوب يوسف في سنة 580 هـ، وخلفه ولده الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور، بقى ابن رشد في منصب الطبيب الخاص. ولما توفي ابن طفيل، انفرد ابن رشد بمنصب الطبيب الخاص. وكان الخليفة المنصور صنو أبيه في الشغف بالعلوم والفنون، ومن ثم لقى ابن رشد لديه نفس التقدير والرعاية، ولبث على مكانته المرموقة في هذا الجو العلمي الرفيع.
وكان ابن رشد خلال ذلك قد بلغ ذروة مجده العلمي، وكتب كثيراً من مصنفاته الفلسفية والطبية. وأهم مؤلفات ابن رشد الفلسفية، هي شروح فلسفة أرسطو، ويقال إن الذي أوعز إليه بكتابتها أستاذه ابن طفيل (1)، وهي تشغل عدة مؤلفات ورسائل، هي جوامع كتب أرسطوطاليس في الطبيعيات والإلهيات،
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 136(4/721)
وتلخيص كتاب ما بعد الطبيعة، وتلخيص كتاب الأخلاق، وتلخيص كتاب البرهان، وتلخيص كتاب السماع الطبيعي، وشرح كتاب النفس وغيرها. وتشمل مؤلفات ابن رشد الطبية كذلك عدة مصنفات، منها شرح أرجوزة الطب للشيخ الرئيس ابن سينا، وتلخيص عدة كتب لجالينوس، منها كتاب المزاج، وكتاب القوي الطبيعية، وكتاب العلل والأعراض، وكتاب الحميات، وكتاب الأدوية المفردة، وغيرها. بيد أن أشهر مصنفات ابن رشد الطبية هي كتابه " الكليات " وفيه يتناول أبواب الطب الكلية أو الرئيسية، وذلك مقابل التفاصيل الجزئية التي يتناولها أستاذه عبد الملك بن زهر في كتابه " التيسير " (1). وله كتاب في الحيوان. ولإبن رشد كذلك، في الفقه والأصول عدة مصنفات، منها كتاب " تهافت التهافت " وفيه يرد على كتاب " التهافت " للغزالى، وكتاب " منهاج الأدلة في علم الأصول "، ورسالة في " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال "، وكتاب " المقدمات "، وكتاب " بداية المجتهد في الفقه "، وغيرها. وله فضلا عن ذلك عدة رسائل أخرى في الفلسفة والطب والأصول والمنطق لا يتسع المقام لذكرها. وقد عرف التفكير الغربي ابن رشد في عصر مبكر، وعرفه بالأخص فيلسوفا وطبيبا من أعظم الفلاسفة والأطباء المسلمين، بل من أعظم الفلاسفة والأطباء في كل قطر، وكل عصر، واشتهر ابن رشد في الغرب بالأخص بشروحه لفلسفة أرسطو، وهي شروح ترجمت إلى اللاتينية، وذاعت في دوائر التفكير الغربي منذ القرن الثالث عشر الميلادى.
ولبث ابن رشد على حظوته في البلاط الموحدي أعواما طويلة، ولكن الفقهاء والطلبة الموحدين، الذين ضاقوا ذرعا بتفكيره الدينى والفقهى المستنير، وبحوثه الفلسفية الرفيعة، عملوا على مناوئته، والوشاية به لدى الخليفة المنصور، واتهامه بالانحراف والمروق، وانتهى المنصور، بالرغم مما كان يكنه لابن رشد من التوقير والتقدير، أن ينزل عند تحريضهم، وأن يصدر قراره الشهير بمحاكمة الفيلسوف وبعض زملائه وتلاميذه، وأن يقضى بنفيه إلى بلدة اليسّانة على مقربة من غرناطة (سنة 591 هـ)، وصدر إلى جانب ذلك بيان للمنصور بقلم كاتبه أبي عبد الله بن عياش، بالحملة على ابن رشد وزملائه، واتهامهم بالمروق والزيغ.
_______
(1) رأينا خلال إحدى زياراتنا لغرناطة نسخة خطية نادرة من كتاب " الكليات " لابن رشد بمكتبة دير ساكرومنتى القريب من غرناطة. وقد طبع هذا المخطوط بأصله كما هو ألواحا مصورة(4/722)
وقضى ابن رشد في منفاه في اليسّانة نحو ثلاثة أعوام، ثم عفا عنه المنصور، ورده إلى سابق منصبه وحظوته (594 هـ). وعاد ابن رشد إلى مراكش، ولكنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، وتوفي في التاسع من شهر صفر سنة 595 هـ (10 ديسمبر سنة 1198 م) وهو في الخامسة والسبعين من عمره. وقد سبق أن أفضنا القول في اتهام ابن رشد ونكبته، وأوردنا نص المرسوم الموحدي الصادر بشأن اتهامه (1).
وكان من أعلام المفكرين والفلاسفة الأندلسيين في أوائل العهد الموحدي، العلامة اليهودي، موسى بن ميمون، واسمه العربي، أبو عمران موسى بن ميمون ابن عبد الله القرطبي الأندلسي الإسرائيلى، واسمه اليهودى موسى بن ميمون، وقد ولد بقرطبة سنة 530 هـ (1135 م) ودرس بها علوم الأوائل والرياضيات والفلسفة على أقطاب عصره، وبرع في الطب والفلسفة والدراسات التلمودية. ولما غلب الموحدون على الأندلس، وأصدر الخليفة عبد المؤمن في أواخر عهده قراره الشهير بنفى النصارى واليهود من المغرب والأندلس، إلا من اعتنق الإسلام منهم، ومن بقى ولم يعتنق الإسلام، حل ماله ودمه، تظاهر كثير من النصارى واليهود الذين آثروا البقاء باعتناق الإسلام، وكان من هؤلاء موسى بن ميمون وأسرته. وعبر ابن ميمون البحر إلى المغرب في سنة 557 هـ، وأنفق بضعة أعوام في فاس حاضرته العلمية، وهو يزاول مهنة الطب التي اشتهر بها، ويستتر في نفس الوقت بمزاولة شعائر الإسلام، ولكنه كان يرقب الفرصة لمغادرة المغرب إلى بلاد أوسع آفاقا ورزقا. فلما سنحت هذه الفرصة، سار مع أهله إلى مصر، ونزل بالقاهرة (سنة 561 هـ)، وأقام بالفسطاط بين أبناء دينه اليهود، مظهراً دينه الحقيقي، وأخذ يرتزق بتجارة الجوهر، وتزوج أختا لرجل يهودى من كتاب السلطان يدعى أبا المعالى، واتصل بواسطته بالبلاط، وأسبغ عليه القاضي الفاضل رعايته لما كان يتصف به من علم غزير وبراعة في الطب. وعين ابن ميمون طبيباً خاصاً للسلطان صلاح الدين، وغدا عميد الجالية اليهودية بالقاهرة. وكان يلقب بالرئيس لمكانته العلمية البارزة. ولما توفي صلاح الدين،
_______
(1) راجع ترجمة ابن رشد في التكملة لإبن الأبار رقم 1497، والمراكشي في المعجب ص 134 و 136 و 174 و 175، والبيان المغرب ص 202. وقد وردت في الذيل والتكملة لابن عبد الملك ترجمة ضافية لابن رشد، ذكر خلالها نص المرسوم الموحدي، وذلك في مخطوط المتحف البريطاني الجزء الخامس. وراجع ص 223 - 228 من هذا الكتاب(4/723)
خدم طبيبا لولده الملك الأفضل، وأخذ عليه بالقاهرة كثير من علمائها وأطبائها، ومنهم العلامة الطبيب عبد اللطيف البغدادى، وكان يقيم وقتئذ بالقاهرة، وتوفي ابن ميمون في سنة 602 هـ (1204 م). ويعتبر ابن ميمون من أعظم المفكرين اليهود في العصور الوسطى، ومن أعظم شراح الشريعة اليهودية، وقد ترك تراثاً حافلاً من المؤلفات الدينية والفلسفية والطبية، من ذلك شرح للتلمود، وعدة شروح لكتب جالينوس، " ودلالات الحائرين " في شرح فلسفة أرسطو، وهو أعظم كتبه الفلسفية، وتهذيب كتاب الإستكمال لابن هود في الرياضيات، ومقالة في صناعة المنطق، وكثير غيرها في أبواب الشريعة اليهودية. وكان لكتابات ابن ميمون الدينية والفلسفية تأثير عظيم في التفكير الأوربى في العصور الوسطى.
- 4 -
هذا، ونختتم هذا الحديث الطويل عن الحركة الفكرية الأندلسية وأعلامها، بكلمة موجزة عن سير الفنون خلال العصر الموحدي.
لقد امتاز العصر الموحدي بالأندلس والمغرب، بظهور حركة فنية مستقلة، تتمثل بالأخص في الصروح والمنشآت العظيمة، التي أقيمت خلال هذا العصر، سواء بالمغرب أو الأندلس، وتميزت بخصائصها المعمارية والفنية الخاصة، والتي بقيت منها حتى اليوم آثار عديدة، تشهد بتقدم العلوم الهندسية والفنون المعمارية في هذا العصر. وقد نشأت الدولة الموحدية في البداية على أسس دينية محضة، تباعد بينها وبين المظاهر الدنيوية البراقة. بيد أنه لما تحولت الخلافة الموحدية، على يد عبد المؤمن إلى ملك دنيوى باذخ، كان من الطبيعي أن تتجه الدولة الموحدية إلى استكمال مظاهر الفخامة والأبهة الملوكية. وبدأ ذلك الاتجاه منذ أواخر عهد عبد المؤمن بإقامة مدينة جبل طارق الملوكية، لتكون منزلا للخليفة أو السادة، عند عبورهم في جيوشهم إلى الأندلس، وكان هذا العمل الإنشائى العظيم مسرحا لظهور عبقرية بعض أعلام المهندسين الأندلسيين، الذين اقترن اسمهم فيما بعد بأعمال إنشائية جليلة أخرى، مثل الحاج يعيش المالقي. وظهرت رعاية الدولة الموحدية للفنون المعمارية بالأخص بمدينة إشبيلية، عاصمة الأندلس خلال العصر الموحدي، وهي التي كانت مسرحا لأعظم وأجمل المنشآت العمرانية الموحدية بالأندلس. وقد سبق أن تحدثنا عن إنشاء القصور الموحدية الفخمة خارج إشبيلية أمام باب جهور أيام الخليفة أبي يعقوب يوسف، وعن بساتينها اليانعة، كما(4/724)
تحدثنا عن إنشاء جامع إشبيلية الأعظم على يد الخليفة أبي يعقوب يوسف ثم ولده الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور، وعناية المنصور بإقامة صومعته العظيمة، (وهي التي يسميها الإسبان اليوم لاخيرالدا). وأقام الموحدون كذلك عدداً من المنشآت العمرانية بقرطبة عاصمة الخلافة القديمة، من قصور وغيرها. وكان قصر السيد أبي يحيى بن أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن خارج قرطبة على النهر الأعظم تحمله أقواس. وأنشأ ولده السيد أبو إبراهيم اسحق أيام أن كان واليا لغرناطة، قصره الفخم على مقربة من ضفة شَنيل، ومازالت تقوم حتى اليوم بعض أطلاله وعقوده (1). وقد كانت الخلافة الموحدية تبتعد في البداية عن مظاهر الترف والزخرف في منشآتها العمرانية، وتكتفى بمراعاة المتانة والجلال، ولكنها لما بلغت ذروة عظمتها الدنيوية أيام المنصور، أخذت تغدق على منشآتها أعظم مظاهر الفخامة والزخرف، فنرى المنصور يزود جامع إشبيلية بمنبره الفخم المرصع بالصندل المجزع والعاج وبصفائح الذهب والفضة، وبمقصورته المزينة بالفضة، ونراه يزود صومعة هذا الجامع بتفافيحها الذهبية الشهيرة (2). وفي خلال هذه الحركة العمرانية والفنية العظيمة، نرى عدداً من أقطاب الهندسة والفن مثل الحاج يعيش المالقي المتقدم الذكر، والعريف أحمد بن باسُه، والمعلم أبو الليث الصقلي، وغيرهم ممن اقترنت أسماؤهم بهذه المنشآت العظيمة، يتزعمون بالأندلس خلال العصر الموحدي حركة فنية زاهرة، ونرى أصداء هذه الحركة العمرانية والفنية الزاهرة، تتردد في نفس الوقت في المغرب، وفي عاصمة الخلافة الموحدية مدينة مراكش العظيمة، في إنشاء الخليفة المنصور في بداية عهده لضاحية الصالحة الملوكية، وقصورها الفخمة، جنوبي مراكش، وفي إنشاء أو إتمام صومعة جامع الكتبية، على نمط صومعة جامع إشبيلية العظيمة، وإنشاء صومعة حسان بمدينة رباط الفتح، وهي صومعة لم تكمل، وماتزال هذه الصوامع العظيمة، وهي من أبرز آثار العصر الموحدي الفنية، قائمة إلى يومنا، ومنها صومعة جامع إشبيلية التي تحول فقط جزؤها الأعلى، إلى برج للأجراس لكنيسة إشبيلية العظمى، التي أنشئت فوق موقع الجامع، بيد أنها لم تفقد بالرغم من ذلك سمتها الإسلامية، ومازالت زخارفها العربية، في مشارفها ونوافذها السفلى، تشهد بروعة الفنون الزخرفية خلال العصر الموحدي.
_______
(1) راجع ص 331 من هذا الكتاب.
(2) راجع ص 232 و 233 من هذا الكتاب(4/725)
ولم نجد في أخبار العصر الموحدي ما يدلنا على تطور الموسيقى الأندلسية، ومن المعروف أن الموحدين مهما بلغ تسامحهم وتشجيعهم، نحو فنون العمارة والزخارف المعمارية، فإنهم لم يكونوا بطبيعة نظامهم، وتزمتهم الدينى، حماة للفنون الجميلة المحضة من الموسيقى غيرها، ومن ثم فإننا لم نعثر على أحد من نبغ في الموسيقى في تلك الحقبة، اللهم إلا محمد بن أحمد الرَّقوطى المرسى، الذي جمع إلى براعته في الهندسة والمنطق، والفلسفة والطب، براعته في الموسيقى، وكان ظهوره في الشرق عقب انهيار سلطان الموحدين، وانهيار شرقي الأندلس، وسقوط قواعده في أيدي النصارى (1).
بيد أنه كان ثمة فن من الفنون الجميلة ازدهر خلال العصر الموحدي، هو فن كتابة المصاحف وتنميقها وزخرفتها، ونستطيع أن نذكر عدة ممن نبغوا في هذا الفن، فمنهم محمد بن عبد الله بن سهيل الأنصاري البلنسى المعروف بابن غطوس، والمتوفى في سنة 610 هـ، فقد وهب ابن غطوس حياته لكتابة كتاب الله، وبرع في تنميق المصاحف وزخرفتها براعة عظيمة، جعلت الملوك والأمراء يتنافسون في اقتنائها (2). ومنهم محمد بن محمد بن يحيى بن حسين من أهل جزيرة شقر، المتوفى نحو سنة 630 هـ، وكان أبرع أهل وقته في كتابة المصاحف (3)، ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز المعروف بابن حمنال، من أهل مرسية والمتوفى سنة 633 هـ (4)، ومنهم موسى بن عيسى اللخمى القرطبي المعروف بابن الفخار، وقد توفي في سنة 621 هـ (5)، وغير هؤلاء.
هذا وقد سبق أن أشرنا إلى تفوق الهندسة والفنون الموحدية، في إقامة المنشآت الدفاعية، من حصون وأسوار وأبراج، مازالت تشهد بروعتها حتى اليوم أطلال قصبة بطليوس، وقلعة جابر، وأسوار إشبيلية ولبلة الموحدية (6).
_______
(1) سبق أن أتينا على ترجمة الرقوطى في ص 218 من هذا الكتاب.
(2) ترجمة ابن غطوس في التكملة رقم 1571.
(3) ترجمته في التكملة رقم 1644.
(4) ترجمته في التكملة رقم 1652.
(5) ترجمته في التكملة رقم 1733.
(6) راجع ص 640 من هذا الكتاب(4/726)
وثائق موحّديّة(4/727)
1
رسالة الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن
إلى أخيه السيد أبي سعيد عثمان وأصحابه الطلبة بقرطبة، يوصى فيها بأن تجرى الأحكام وفقاً للعدل وتحرى الدقة، وألا يقضى في أمر الدماء إلا بعد رفعه إلى الخليفة، من إنشاء الوزير الكاتب أبي الحسن بن عياش، ومؤرخة في شهر رمضان سنة 561 هـ:
(منقولة عن كتاب " المن بالإمامة " لابن صاحب الصلاة مخطوط أكسفورد لوحات 79 ب - 82 ب. ونشرها العلامة جولدسيهر في بحثه:
Materialien zur Kenntniss der Almohaden Bewegung p. 134-138)
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم والحمد لله وحده
من الأمير يوسف بن أمير المؤمنين أيدهم الله بنصره، وأمدهم بمعونته، إلى الشيخ الأجل أخينا الأعز علينا، الأكرم لدينا، أبي سعيد وأصحابه، الطلبة الذين بقرطبة أعزهم الله، ودام كرامتهم بتقواه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإنا نحمد اليكم الله الذي لا إله إلا هو، ونشكره على آلاته ونعمه، ونصلى على محمد نبيه المصطفى ورسوله، ونرضى عن الإمام المعصوم المهدي المعلوم نجله وسليله، ونوالى الدعاء لسيدنا أمير المؤمنين القائم بأمره والداعى إلى سبيله. وإنا كتبناه إليكم أكرمكم الله بتقواه، وكلأ جانبكم وحماه، من حضرة مراكش حرسها الله. والذى نوصيكم به تقوى الله تعالى، والعمل بطاعته والاستعانة به والتوكل عليه، وموالاة شكره على ما هدى أولياء أمره، وأنصار دعوته، وحماة كلمته، من صرف أعنة المحبة والاهتمام، وإحكام منابر الأحكام، فيما وكله إليهم من أمور الإسلام، إلى أن تجرى على السداد، وتنسق على سبيل الإرشاد، وتستقيم على المهيع، وتمضى على المنهج، وتسير في الواضح، وتهتدى على اللاحب، ويسلك بها في الجدد، الذي من سلكه أحمدت منه الآثار وأمن عليه العثار، وارتضى له الإيراد والإصدار، فيكون العمل فيها على اليقين، الهادى إلى الصراط المستبين، المأمون في سلوكه من المزلة والضلال، المرجو في الاهتداء به حسن العاقبة وصلاح الحال، فنسئله تعالى جده عونا من قبله على هذا الغرض العام الجدوى يصاحب، وتوفيقاً من لدنه في هذا النظر الشامل المنفعة يجاور ويصاقب، وأنه أدام الله(4/728)
كرامتكم، لما كان مبانى هذا الأمر العزيز أدامه الله على التقوى مؤسسة، وأوامره ونواهيه على أمر الله ورسوله جرية مترقبة، وإليها في الأخذ والتركة مستندة، وبمقتضياتها في جميع الأحكام آخذة عاملة، إذ هي نور الحق وسراجه، وعمود الصدق ومعراجه، وسبيل الفوز ومنهاجه، ورائد الثواب وبشيره، وقائد العقاب ونكيره، فمن ائتم بكتاب الله، الذي هو الإمام المنادى والحق الواضح البدى، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، التي جعل العمل بها كالعمل بكتابه، والوقوف عند حدها كالوقوف عند حده، أمن من الغوائل، في العاجل والآجل، وبلغ من السلامة في الحالين إلى أقصى أمد الآمل، ولم يوجد للباطل إليه سبيلا، ولم يتمكن للشيطان أن يجد في تضليله واستهواءه صرفاً ولا حويلا، فتوفرت الدواعى على الدعاء إليها، وحمل الكافة عليها، وأخذ الجميع مما يفقههم لديها، وقد أمر الله تعالى، من أمر الناس بطاعته، أن يحكموا بالعدل، ويضعوا للعبد موازين القسط، فلم يكن لهم بد من امتثال أمره، والاستناد إلى حكمه، وكانت الوجوه التي تفضى إلى الحق، في فصل قضايا العباد متنقبة، والطرق المؤدية إلى مغنى الصدق ومعناه ملتبسة ومتشعبة، فخرج فيها بُنَيات تخطىء الصراط المستقيم، وتضل الضلال البعيد، فصار امضاءها من غير استناد إلى هذا الهدى المتبوع، والعلم المرفوع، خطراً على ممضيها، وإنفاذها على غير هذا السنن غررا على منفذيها، ولما كان الأمر كذلك، تعين ووجب وثبت وترقب، أن نخاطب جميع عمال بلاد الموحدين أعزهم الله، شرقاً وغربا وبعداً وقربا، خطابا يتساوى فيه جميعهم، ويتوازى في العمل فيه كافتهم، بألاّ يحكموا في الدماء حكماً من تلقائهم، ولا يريقوها بباد أو رأى من آرائهم، ولا يقدموا على سفكها بما يظهر إليهم، ويتقرر فيما يروقه لديهم، إلا بعد أن تُرفع إلينا النازلة على وجهها، وتؤدى على كنهها، وتشرح حسب ما وقعت عليه، وتنتهى بالتوثق والبيان إلى ما انتهت إليه، وتقيد بالشهود العدول، المعروفين في مواضعهم بالعدل والرضا، الموجبين للقبول، وتكتب أقوال المظلومين وحججهم، وإقرارهم واعترافهم، وحجج الظالمين في مقالاتهم واستظهارهم في بيناتهم، مُعطًى كل جانب حقه، موفى كل قائد قوله، فتكون مخاطبتكم أعزكم الله، ومخاطبة من يتناول هذا الكتاب وتوجه إليه هذا القصد، خطاب من تَحَمَّل الشهادة ويؤدى فيها الأمانة، على ما يجب من البيان الذي لا يعتوره التباس ولا يطمس وجهه إشكال، ويتوثقون في المطلوبين بالدماء بسجنهم(4/729)
وتثقيفهم، ويتوكفون ما تصلكم به المخاطبة، فتقفون عند مقتضاه، ولا يعدلون عن شىء من معناه، مراقبا كل منكم إلاهه ومولاه، علما بأنه يعلم سره ونجواه، وأنه يسمعه ويراه، واعلموا وفقكم الله وأسعدكم، أن هذا الحكم عام في جميع النوازل، التي أطلقت السُّنَة فيها القتل وسنته، وحكمت به وشرعته، كمن قتل نفساً وأقر بالقتل، أو شهد العدول عليه به، ومن بدَّل دينا وارتد عنه، ومن أتى الفاحشة بعد الإحصان، باعتراف أو دليل أو شهادة مقبولة، وما خيّر الأئمة فيه من قتل المحاربين والساعين في الأرض بالفساد، والمتأملين أمر الله بالاستهزاء والعناد، سواء سُنّ ذلك كله أو وقع فيه ضرب يشاكله مجراه، واحد في التوقف عن امضاءه، والتأخر عن تنفيذه، إلا بعد المطالعة، وتعرف وجه العمل من المجاوبة. وكذلك وفقكم الله يكون التوقف فيما عدا المذكور من النوازل، التي يكون [فيها] أحكام دون النفوس من قتل الخطأ وديات الشّجاج، وعقول الأعضاء، وأورش الجراحات، ووجه القصاص، والقطع في السرقات، إلى غير ذلك من القضايا المشكلة في الأموال وإطلاقها واستحقاقها، وفي الرقاب وإعتاقها واسترقاقها، وملتبسات المناكحات والمعاملات، وما أشبهها من الأمور التي الإقدام على الحكم فيها تهجم، والعمل فيها بغير استناد إلى ما يجب تسور، فتوقفوا أعزكم الله عن جميع ما فُسّر لكم، ولو أخفه توقف الساعى في نجاته، العامل لدنياه وآخرته، وقد ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله من الحظر الوكيد، والوعيد الشديد، في إراقة الدماء، واستباحة الأموال، واستحلال الحرمات إلا بوجه صحيح، لا يسلم إلا من طريق العصمة، ولا تهتدى إليه إلا أنوار الحكمة، ما يزع العقلاء، ويكف الألباء، ويحذرهم من سطو الله وعقابه، ويخوفهم من ألم عذابه، فعولوا على ما رسم في هذا الكتاب، من التعريف بما يبطن، وانهاء كل ما ينزل، ليتصلكم من التوقيف، والبيان والتعريف، لما يظهر لكم به بركة الاقتداء، وتستبرق منه عليكم أنوار الائتمام والاهتداء، ويتراءى لكم به الحق في صوره الصادقة، ومثله المطابقة، ومناظره الموافقة، ومطالعه المشرقة، بفضل الله ورحمته، وملاك ما يسدد مقاصدكم في جميع أحوالكم، ويوجب لكم الرضا في كافة أقوالكم وأفعالكم، تقوى الله في السر والجهر، وخيفته في الباطن والظاهر، وقدع النفس عن هواها، وكبحها بلجام النهى عن الركض، في ميدان رداها، وطاعة أمره العظيم والجرى على سننه المستقيم، فذلك عصمة من الزلل،(4/730)
وتوفيق في القول والعمل بفضل الله، وقد وجب أكرمكم الله لهذا الكتاب، بما انطوى عليه من الأغراض الشاملة المنفعة، العامة المصلحة، أن يعطى حقه من الإشاعة والتشهير، وينهض مقتضاه إلى الصغير والكبير، ويجمع الناس لقراءته وتلقى مضمنه، ويساوى فيه بين الغائب والشاهد، والبادى والحاضر، بإسماع من حضر ومخاطبة من غاب، ممن يتعلق بنظركم ويدخل تحت عملكم، فتوجهون بنسخ منه إلى كل جهة من جهاتكم، وعمل من أعمالكم، ليأخذ الجميع بقسطه من المسرة، وتعرف بركته واستشعار عائدته، وأنسه بما أمر به هذا الأمر العزيز، من إفاضة العدل، وبسط الدعة والأمن، وإقامة أمر الله تعالى على وجهه المتعين، وسننه الواضح المبين، إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، كتب في الثالث من شهر رمضان المعظم سنة إحدى وستين وخمسمائة.
2
بيعة أهل إشبيلية للخليفة أبي يعقوب يوسف
استكتبها ولده والي إشبيلية السيد أبو إبراهيم إسماعيل، ووجهها إلى الحضرة مع بعض أشياخ إشبيلية، وهي من إنشاء الفقيه أحمد بن محمد، ومؤرخه في جمادى الآخرة سنة 563 هـ
(منقولة عن كتاب " المن بالإمامة "، مخطوط اكسفورد لوحة 101 أوب. ونشرها العلامة جولدسيهر في بحثه الذي سبق ذكره ص 139 - 140).
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم
الحمد لله الذي جعل الإمامة قواما للحق، ونظاما للخلق، وتماما على الذي أحسن رعاية العدل والرفق، وأوجب الاعتصام بطاعتها، والانتظام بجماعها، والصلاة على محمد نبيه المبتعث بنور الحق، الساطع الأضواء، المبلغ عن الله سبحانه بأكمل وجوه التبليغ والإنهاء، وعلى آله وأصحابه الذين والوه بالنصر والإيواء، والرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، المخصوص بأثرة الاصطفاء والاجتباء، والدعاء لسيدنا ومولانا أمير المؤمنين الخليفة المرتضى، متمم أنوار الهدى، ومجلى غياهب الظلماء، والإمام الأعدل الأهدى، سيدنا ومولانا أمير المؤمنين أبي يعقوب بن أمير المؤمنين بدوام النصر والاستيلاء، واستصحاب الظهور والاعتلاء. أما بعد فإنه لما اجتمعت طائفة التوحيد، وهم الذين يحضرهم من الله حاضرة التوفيق، وينظر إليهم نظر الاقتداء والاهتداء من وراءهم من أهل الحق والتحقيق، على تجديد البيعة المباركة لسيدنا ومولانا(4/731)
أمير المؤمنين أبي يعقوب بن أمير المؤمنين خلد الله أمرهم، وأعز نصرهم بالإسم المبارك الكريم، الذي أول من دعى به الفاروق رضوان الله تعالى عليه، فعرف الله من يمنه ما فتح لملة الإسلام شرقاً وغربا، وأحال الدلو بيد ساقيهم فاستحالت غربا، حتى ضرب الدين بجرانه، وألقى الناس بعطن من يمنه وأمانه، جددنا من بيعته على الإسمية المباركة، فرضا أوجبه الشرع وجوب الإلزام، واقتضى الوفاء بشروطه المؤكدة على الكمال والتمام، فبايعنا على السمع والطاعة بيعة أمان وإيمان وعدل وعبادة، والتزمنا بها، في اليسر والعسر، والمنبسط والمكروه، واعتقدناها عصمة ديننا، وذخر معادنا، وتمسكنا بها بالعروة الوثقى، والعصمة التي من يعلق بحبلها، وأوى إلى ظلها، فقد اعتصم بالجانب الأمنع الأوفى، علما أنها البيعة الرضوانية، والدعوة التي تتكفل بنصرها وإعلاء أمرها، العناية الربانية، علينا بذلك عهد الله الأوكد الألزم، وميثاقه الأغلظ الأعظم، وذمته التي لا يقطع حبلها على مرور الزمان ولا يصرم، مستبصرين في هذه البيعة الكريمة بنور الاهتداء، سالكين في التزام الطاعة على الحجة البيضاء، عارفين بما أمر الله سبحانه من طاعة الخلفاء، والله سبحانه يحفظ بها أكناف الإسلام، ويجعلها كلمة باقية على مرور الأيام، بفضل الله ويمنه، وعلى مضمن ما نص فوق هذا، التزم أهل إشبيلية كافة، وكتبوا على ذلك شهادتهم في النصف من جمادى الآخرة سنة ثلث وستين وخمس ماية.
3
رسالة من الخليفة أبي يعقوب يوسف
إلى الطلبة الذين بغرناطة، يشير فيها إلى وصول بيعتهم مع أشياخ غرناطة، وينوه بولائهم ووفائهم، ويوصى بإكرامهم وبرهم.
(منقولة عن كتاب " المن بالإمامة " مخطوط أكسفورد لوحة 105 ب).
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم
والحمد لله وحده. من أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين أيده الله بنصره، وأعزه بمعونته. إلى الطلبة الذين بأغرناطة أكرمهم الله بتقواه. سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ونشكره(4/732)
على آلايه ونعمه، ونصلى على محمد نبيه المصطفى ورسوله، ونسأله الرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، القايم بأمر الله، والداعى إلى سبيله، ونوالى الدعاء لصاحبه وخليفته الإمام أمير المؤمنين مسنى أمره العزيز إلى غاية تتميمه وتكميله، فإنا كتبناه إليكم أكرمكم الله بتقواه من حضرة مراكش حرسها الله. والذى نوصيكم به تقوى الله والعمل بطاعته، والاستعانة به والتوكل عليه. وقد وصلنا كتابكم من عند الشيوخ من إغْرناطة، حرسها الله والموحدين، وفق الله جميعهم، ووفقنا عليه، ورأينا ما تحملوه عن الموحدين بأغرناطة وجيرانهم من انعقاد إجماعهم على ما أجمع عليه شيوخ أهل [الهدى] وأعيانهم من الأمر الذي أوجبوا على أنفسهم المبايعة عليه، وأعطاه صفقة اليد فيه، وقد وفقهم الله لما وفق إليه أهل أمره، وذوى العصمة من طايفته، والله تعالى يتقبل منهم عملهم ويعرفهم بركة ما التزموه، ويعينهم على القيام بواجبهم والوفاء بحقه. وقد انصرف هؤلاء الأشياخ المذكورين بعد إقامتهم بهذه الحضرة ونيلهم بركاتنا، ما يجدون أثره في أحوالهم [وسريان] الانتفاع به في أقوالهم وأعمالهم، فاعرفوا لهم حق وفادتهم ومكان رفادتهم وأحملوهم .. خيراً بهم على الرعاية المتصلة، والمبرة الحافلة المشتملة، إن شاء الله تعالى، والله ولى عونكم وصوبكم، لا رب غيره، والسلام الكريم العميم عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب في الثاني عشر من شوال عام ثلثة وستين وخمس مائة.
4
رسالة موجهة من السيد أبي اسحق إبراهيم بن الخليفة أبي يعقوب يوسف إلى الحافظ أبي عبد الله بن أبي ابراهيم والي غرناطة يبلغه فيها بدخول ابن همشك في الدعوة الموحدية وهي من إنشاء ابن مصادق.
(منقولة عن كتاب " المن بالإمامة " مخطوط أكسفورد لوحة 127 أوب و 128 أ).
بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم
الشيخ الأجل الحافظ الأعلى ولينا في الله تعالى، أبو عبد الله محمد بن ابراهيم أدام الله عزه وكرامته بتقواه.
وليكم في الله تعالى ابراهيم بن أمير المؤمنين، سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد حمد الله على ما أولى ومنح، والصلاة على محمد نبيه الذي تبين(4/733)
به دين الحق ووضح، والرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، معيد دين الله، بعد ما عفى رسمه ومضى، والدعاء لسيدنا أمير المؤمنين خليفته الذي طهر بعدله البلاد وفتح، ولسيدنا أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين الذي أثمر سعيه وأنجح، وكمل فيمن جلا فيه الأمور الدينية وأصلح، فكتبناه إليكم أدام الله كرامتكم بتقواه، من قرطبة حرسها الله، ولا جديد إلا ما عود الله بركة هذا الأمر العزيز من فتح، لا تزال تفتح أبوابه وتتصل أعتابه، وترفع قبابه، وتتعرف مع كل حين انهلال ما فيه وإسكانه. والحمد لله على ذلك حمداً كثيراً، يصفو به سربال إحسانه وجلبابه. وإن من النعم التي ببركة هذا الأمر العزيز حديدها، واقتضى بسعادته مزيدها، واتبع بطريقها تأييدها، وانجر فيها لأولياء الأمر العزيز الموعود، ووافقهم فيها الجد المصحب المسعد. وإن الشيخ أبا اسحق ابراهيم بن همشك وفقه الله، كشف له عن وجه هداه، وجلى عن موارد رواه، وتبين له أن هذا الأمر العزيز هو المركب المنجى، السابق له السعادة الباقية المزجى، الذي لا يؤخر عثار من صدف عنه ولا يرجى، فبادر إلى الدخول فيه بدار من خلصت سرائره، وطويت على موعبة ضمايره، ورأى أن ذلك يمحى به خطاياه ويغفر جرايره. وأذاع الدعوة المهدية في جميع بلاده، وأعلن بها، وأبدى الاعتلاق بعصمتها، والتمسك بسننها، ولقى الموحدين أيدهم الله بتقواه، ملاقاة اللايذ بظلهم، المتمسك بحبلهم، المستنيم، المستسلم، المنطوى على الولاء الأخلص، والود الأسلم، والحمد لله على ذلك حمداً تتوالى به فتوحه، ويتصل به مبذول إحسانه وممنوحه، وخاطبناكم بذلك أدام الله كرامتكم لتجروا شكر الله تعالى على ما أسبغ من نعمه وأولى، وتسلكوا معه سبيلا يكون أحرى بازديادها، ما من عفا وولي، والله تعالى يوالى لديكم آلاه، ويسبغ عليكم ظاهره وباطنه نعماه، والسلام الأتم عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
كتب في شهر رمضان المعظم عام أربعة وستين وخمس ماية.
5
رسالة الخليفة أبي يعقوب يوسف
إلى الطلبة والموحدين بجزيرة الأندلس، ينبههم فيها باهتمامه بأمر الأندلس، والعمل على نصرتها، ومجاهدة أعدائها، ويطمئنهم على تنفيذ هذا العزم، بما بعثه(4/734)
من عسكر موحدى تحت إمرة الشيخ أبي حفص، تمهيدا لجواز الموحدين إليها، من إنشاء أبي الحسن بن عياش، ومؤرخة في ربيع الآخر سنة 564 هـ.
(منقولة عن كتاب " المن بالإمامة " مخطوط أكسفورد لوحات 120 - 122).
بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم
والحمد لله وحده. من أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين أيده الله بنصره، وأمده بمعونته. إلى الطلبة والموحدين الذين بجزيرة الأندلس أدام الله توفيقهم وكرامتهم. سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد فانا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ونشكره على آلايه ونعمه، ونصلى على محمد نبيه المصطفى ورسوله، ونسأله الرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، القايم بأمر الله تعالى، والداعى إلى سبيله، ونوالى الدعاء لصاحبه وخليفته الإمام أمير المؤمنين، ممشى أمره العزيز إلى غاية تتميمه وتكميله. وأنا كتبناه إليكم وصل الله توفيقكم وكرامتكم بتقواه، من حضرة مراكش حرسها الله. والذى نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته، والاستعانة به، والتوكل عليه. وهذا الأمر العزيز بما وعده الله من النصر، وضمن له من التأييد، وتكفل له من التمكين، وزاد من تبسطه وامتداد علوايه، واتصال مضماره وخلوصه، إلى كافة الأرجاء، وتغلغله في كل الأنحاء، لإكمال دينه وإتمام نوره، وبث دعوته وتصديق وعده، لا تزال [موارده] الحافظة لصوره، المبقية لأثره، المثبتة لأركانه، الممكنة لقواعده، تشيع من الأسباب القوية واللطائف المنهضة، والمعانى المعينة على سريانه، المزعجة لتشربه وجريانه، مما يؤذن له بإنجازه موعوداته، وتتبع مضموناته، حتى يستوى على مداه الذي لا غاية بعده، ويقف على منتهاه الذي لا مطلع وراءه، يقينا اطمأنت بمقدمات العابه القلوب، وقرت على ظهور براهينه النفوس، وعضدته الآيات البينة، ونطقت به الآثار المفصحة، وناقدت شد أحواله لمن ألقى السمع وهو شهيد ..
وما زلنا وفقكم الله، على أتم العناية بتلكم الجزيرة مهدها الله، والحرص على غوثها، والانتواء لنصرتها، والعمل على قصد ذلك بالمباشرة والمشاهدة إشفاقا على ما استضام منها جيرتها الأعداء، وأبناؤها الأغفاء، مجمعين وردها، وما كادوها به من التلف والتحفيف والتنقيض، وفغر الأفواه، وكسر الثبوب والأرصاد، لغيض ما فض فيها من نور التوحيد، وخفض ما نصب من أعلام هذا الأمر، والمناصبة للمنحاشين إليه، المتعلقين بأسبابه، المستذمين بذمته، ممن صح(4/735)
ولاؤه، وصدقت طاعته، وخلص على السبك، ونصح على السبر، ونجعل لها من الفكر حظا، يستحق الصدق على ما سواه، من الأفكار، ويأخذ السبق على غيره من معنيات الأمور، ونراه من الأهم الأغنى، والأول الأولى، قياما بحق الله في جهاد أعدايها ومكابرى مناويها، ومن لم تنفعه العبر على مرورها على بصره، وتواردها على مشاهدته، وإدايتها به، ولم يرع سمعا دعوة الحق التي ملأت الخافقين، وقرع صوتها مسامع الثقلين، وتمكن أسباب التفرغ لذلك، والتوسع فيه، والنظر في أحكامه، فيعترض من أهل هذه المغارب، شواغب يثيرها الجهال، ويبغيها النعقة الضلال، فلا يسمع أسمالها، ولا يسوغ الإضراب عنها، قياما بحق الدين، وتوقياً من استشراء الشر، وتوقد أسباب الفتنة، فينصرف إليها من الالتفات والقصد، لحسم عللها، وإبراء أدوائها، ما يقشع غياباتها، ويطهر أقذاءها، ويفضى إلى المقصود الأول من التفرغ للجزيرة مهدها الله، والتوطيد لأمرها دوما .. الاشتغال بهذا الغرب يلط بأرجائه، ويشتمل على جوانبه، ويتخلل زواياه، وينتظم أوعاره وسهوله، حتى صفى الله مشاربه، وخلص من الشوب مشارعه. ووقف بأهل الانتزاء من أصناف مشغبية على تايب أنات بقلبه، وندم على ما فرط من ذنبه، وعلى شقى تمادى في غلوايه، ولج في تمرده فولى كل ما استحق، وسهم خطة ما رضى، ووجد التايب برد الأمان، وتبوأ كنف الإحسان، وحقت على العاصى كلمة العذاب، وأخذه التياب، والصيرورة إلى سوء المآل، وشر المآب، وما ربك بظلام للعبيد. ولما تولى الله هذه الجهات منة التمهيد، وبسط لها نعمة التمكين والتوطيد، انعطف النظر إلى محل مثاره، وسال سيل الاعتقاد إلى قراره، وتوجه حفل الاشتغال إلى الجزيرة مهدها الله، وتوفرت دواعى الاستعداد لنصرتها وجهاد عدوها، ورأينا في أثناء ما نحاوله من مروم هذه الغزوة المتممة المباشرة، أن نقدم بين أيدينا عسكراً مباركاً من الموحدين أعانهم الله، صحبة الشيخ الأجل أبي حفص أعزه الله، يكون تقدمه لجواز جمهور الموحدين، ومؤديا بما عزمنا عليه، والله المستعان، من التحرك لجملة أهل التوحيد، والقصد لهذا الغزو الميمون، الذي جعلناه نصب العين، وتجاه الخاطر، فتتعاونون مع إخوانكم الواصلين على بركة الله إليكم، على جهاد أعدايكم، إلى أن يوافيكم إن شاء الله هذا العزم، ويلم بكم هذا القصد، ويعتمدكم هذه الحركة المحكمة أسبابها، المبرمة أغراضها، التي انعقدت بها النية،(4/736)
واحتدمت لها في ذات الله الحمية، واستعانت بتوفيق الله في تأصيل أصولها الفكرة الموجهة والروية، وإنا لنرجو من المبلغ لآمال القلوب، المتفضل بإدراك كل مطلوب، أن يهب فيها من العون ما يتمم مبدأها، ويكمل منشأها، وتشفى به صدور أوليائه، بالنعمة في أعدايه، وإن فضله تعالى ليسمح ببلوغ هذه الأمنية، والإطلال منها على كل شرف وثنية، فما ذلك على الله بعزيز، وإذا طالعتم وفقكم الله هذه الأنباء، واستعلمتم ما في ضمنها من البشائر، وعنوانات الفتوح، وآثار هذه القصود، وحملتم ذلك على الثقة مما وعد الله هذا الأمر، والتلفت إلى ما عودة رأيتموها نعمى تحولتكم، ورحمى انتحتكم وأتتكم، وشرحتم لها صدوركم، وعمرتهم بها أحناكم، وشغلتم بها مشاهدكم، وسررتم بها غايتكم وشاهدكم، وأذعتموها إذاعة تثلج بها صدور الأولياء، وتحرج منها صدور الأعداء، ويكون للمؤمنين منها مطلع أمل، وللكافر مطلع هول ووجل، عرفكم الله شكر النعمة بها، وأعانكم على أداء واجبها، وبلغكم الغاية الجميلة منها بمنه ويمنه. وإذا وصلكم هذا الكتاب، فأشيعوه قراءة على من حضركم من أصناف الناس، وإرسالا بنسخه إلى من نأى عنكم، حتى يجد أثر الاستبشار به، ويترقب بمودعه الغايب والشاهد والحاضر والناءى إن شاء الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب في الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمس ماية.
6
ظهير الخليفة الرشيد بإسكان المهاجرين من أهل بلنسية
وجزيرة شقر وشاطبة وغيرهم من بلاد الشرق في مدينة رباط الفتح من إنشاء كاتبه أبي المطرِّف بن عميرة المخزومي.
(منقولة من كتاب " زواهر الفكر " مخطوط الإسكوريال رقم 520 الغزيرى لوحة 115 و 116)
هذا ظهير كريم أمر به أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين، أيدهم الله تعالى بنصره، وأمدهم بمعونته ويسره، للمنتقلين من أهل بلنسية وجزيرة شقر وشاطبة، ومن جرى من ساير بلاد الشرق مجراهم، وعراه من عبر الأيام ما عراهم، حين أنهى ذو الوزارتين الشيخ الأجل الأكرم، الأعز، الأفضل، أبو علي ابن الشيخ الأجل الأكرم، أبي جعفر بن خلاص، أدام الله تعالى أثرته وكرامته، ما أصابهم من البلاء، ْودهاهم من أمر الأعداء، وسعى لهم سعى من يقضى فيهم .. ، ويلتمس لهم(4/737)
مكانا للقرار، ومنزلا لإلقاء عصى التسيار. وعند ذلك أذن لهم، أعلى الله تعالى إذنه، وجدد مجده ويمنه، في النقلة إلى رباط الفتح عمره الله تعالى، بقضيضهم وقضهم، وأن يتخذوا مساكنه وأرضه بدلا من مساكنهم وأرضهم، ويعمروا منه بلداً بقبل منهم أولى من قبل، ويحملهم إن شاء الله تعالى، وخير البلاد ما حمل، فإنه مناخ التاجر والفلاح، وملتقى الحادي الملاح، والمرافق من بر أو بحر، موجودة في فصول السنة، مؤذنة لقاطنه بالمعيشة الهنية، والحال الحسنية، ولهم أفضل ما عهده رعايا هذا الأمر العزيز، أدامه الله تعالى، من التوسعة على قويهم، كى يزداد قوة، والرفق بضعيفهم حتى ينال يسارا وثروة، وأن يتوسعوا في الحرث، ففي أرضه هنالك متسع، ويتبسطوا في كل ما لهم منه مكافىء وبه منتفع، ويغرسوا الكروم وأنواع .. على عادتهم ببلادهم، ويتأثلوا الأملاك لأنفسهم وأولادهم، وأولاد أولادهم، وكل ما يعمرون من الضياع، ويقتنون من الأصول والركاع، فله حكم .. على الإطلاق والدوام، لا يلزمون فيه شيئاً من وجوه الإلزام، ولا يطلبون بغير حقوق الشرع، التي جعلها الله تعالى في أموال أهل الإسلام، وأقوالهم في مقاديرها مصدقة، وأمانيهم كلها لهم، واللاحقين بهم محققة، والولاة والعمال حفظهم الله تعالى، مأمورون بأن يحفظوهم من كل أذى يلم بجانب من جوانبهم، ويعوق عن مأرب صغير أو كبير من مآربهم، وأن يكرموا غاية الإكرام، نبهائهم وأعيانهم، ويولونهم من حسن الجوار، ما ينسيهم أوطانهم، حتى تدفع عنهم كل شبهة من شبه الحيف، ويجمع لهم بين الرعاية حرمة البلوى، والعناية بحق الضيف. احتسب منه على الله تعالى أمره، وأوزع شكره، ينسحب على جماعتهم وأفرادهم، ويحملهم على موجب اعتلامهم بهذا الأمر العلى، أدامه الله تعالى وملاه بهم، فمن وقف عليه من المكانة والعمال، أكرمهم الله تعالى، فليعمل بحسبه، ولا يعدل عن كريم مذهبه، إن شاء الله تعالى، وهو تعالى المستعان، لا رب سواه. كتب في الحادي والعشرين لشعبان المكرم من سنة سبع وثلاثين وستماية.
7
رسالة الخليفة المرتضى لأمر الله إلى البابا إنوصان الرابع
ينوه في بدايتها بدحض نظرية التثليث، ويشير فيها إلى ما ورد من كتب البابا إلى الخلافة الموحدية، ويرجوه أن يكون اختيار الحبر المكلف بالنظر في شئون(4/738)
النصارى بالمغرب من ذوى العقل الراجح، والأخلاق الحميدة، والنزاهة
الوافرة. مؤرخة في الثامن عشر من ربيع الأول سنة 648 هـ.
(وتحفظ الرسالة المذكورة بمحفوظات مكتبة الفاتيكان الرسولية برومة برقم A. A. I. XVIII (1802)
وهي الوثيقة الوحيدة من نوعها وعصرها، التي تحتفظ بها مكتبة الفاتيكان).
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله وحده من عبد الله عمر أمير المؤمنين بن سيدنا الأمير أبي ابراهيم بن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين أيدهم الله تعالى بنصره، وأمدهم بمعونته. إلى مطاع ملوك النصرانية ومعظم عظماء الأمة الرومية، وقيم الملة المسيحية ووارث رياستها الدينية، البابه إينه سانس أش، أنار الله تعالى بصيرته بتوفيقه وإرشاده، وجعل التقوى التي أمر عز وجل بها عدته لمحياه ومعاده، وأناله من سابق الهداية ما يفضى لمدى الغاية، بأتم انفساحه وامتداده، تحية كريمة نراجع بها ما تقدم من تحياتكم الواردة علينا، ويترجم لكم أرجها عما تعتمدكم به البار لدينا.
أما بعد فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، حمد من علم أنه الرب الواحد، الذي دلت على وحدانيته البراهين القاطعة والشواهد، ونزهته العقول الراجحة عن أن يكون له ولد أو يدعى أنه الوالد، تعالى الملك الرحمن عما يقول المثلث والمشبه والجاحد، ونصلى على سيدنا محمد رسوله المصطفى الكريم، الذي وضحت به للنجاة المذاهب والمقاصد، وخرقت له بظهور المعجزات الباهرة على يديه العوايد، ونصر بالرعب فألقى له يد الاستسلام كل من كان ينادى ويعاند، وعلى آله وصحبه الكرام، الذين ازدانت بهم المحاضر والمشاهد، ووصلت صوارمهم في مواقف الحروب السواعد، وأنجزت لهم في استيلاء الإسلام على مشارق الأرض ومغاربها المواعد. ونسئل الله عز وجل رضاه عن الإمام المعصوم المهدي المعلوم، الذي جذبه لدين الله تعالى الشباب المعاود، وأهلت بهدايته بعد إقفارها المعاهد، وباء بالخسران المخاتل لأمره والمكايد، وعن الخلفاء الراشدين المهتدين، الذين تولى منهم إتمام بدايته الإمام الراشد فالراشد، وعلت بهم لأمر الله تعالى المراقى والمصاعد، وعن سيدنا الأمير الطاهر أبي إبراهيم بن سيدنا الخليفة أمير المؤمنين بن سيدنا الخليفة أمير المؤمنين الذي طابت منه العناصر والمحاتد، واشتق من نبعة للخلافة مذ أورق نضارة وغضارة قنتها المآئد، وزهد(4/739)
في الدنيا الفانية، ورغب في الأخرى الباقية، فنعم الراغب الزاهد.
وبعد كتابنا كتب الله تعالى لنا حظوظا من رضاه، تزكو وتتوفر، واستعملنا وإياكم بكل ما نتهيأ به لإحراز الفوز لديه ونتيسر، من حضرة مراكش حرسها الله تعالى، ودين الله عز وجل عال مسماه ومصعده، والتوحيد حال بالظهور جيده ومقلده، والسعى معمل في ابتغاء [منِّ] الله تعالى موفقه ومسدده، والحمد لله رب العالمين حمداً يتوالى على الألسنة تكرره وتردده، ونستدعى به من مزيد النعماء أفضل ما وعد به تعالى من يشكره ويحمده، وإلى هذا يسر الله تعالى بتوفيقه إسعادكم، وجعل في طاعته التي تعبّد بها خلقه إصدار [كم] وإيرادكم، فإنه سبقت منا إليكم مراجعات عن كتبكم الموثرة الواصلة إلينا [وأرسلنا] نحوكم من الجواب عنها، ما تممنا به بركم ووفينا، وعرفناكم أنا نوجب لمنصبكم الذي أبز في ملتكم على المناصب، وأقر لرتبتكم فيه أهل دينكم، بالشفوف على سائر ما لهم من المراتب، فأنتم عندنا لذلكم بالتكرمة الحفيلة ملحوظون، وبالعناية الجميلة محظوظون، نؤكد من أسباب المواصلة لكم ما حقه أن يؤكد، ونجدد من عهود الحفاية بكم ما شأنه أن يجدد، ونشكر لكم ما توالى علينا من حسن إيثاركم لجانبنا وتردد. وفي سالف هذه الأيام انصرف عن حضرة الموحدين أعزهم الله، البِشُب الذي كان قد وصل بكتابكم إلينا، انصرافا لم يعده منا فيه بر وإكرام، ولم يغبه فيه اعتناء به واهتمام، كما أنه في المدة التي قضى له فيها لدينا بالمقام، لم نزل نتعهده أثناءها بالإحسان والإنعام، وتحمّل كتابنا إليكم تعريفاً بما اختار من انصرافه، وتوخياً في ما آثره من ذلك لإسعافه، وما قصر له في حالى مقامه ورحيله، ولا عدل به عن حفى البر وحفيله، وسنى المن وجزيله، ذهابا لتكريم إشارتكم السابقة في حقه، وسلوكاً به من البر على أوضح طرقه، والله تعالى يرشد في كل الأحوال لأزكى الأعمال لديه، وينجد من الأقوال والأفعال على ما يقرب إليه بمنه. ومتى سنح لكم أسعدكم الله تعالى بتقواه، أن توجهوا لهاولاء النصارى المستخدمين ببلاد الموحدين أعزهم الله، من ترونه برسم ما يصلحهم في دينهم ويجريهم على معتاد قوانينهم، فتخيروه من أهل العقل الراجح، والسمت الحسن وممن يستلذ في النزاهة على واضح السنن، وممن يتميز في الخدمة بالمذهب المستجاد والقصد المستحسن، وذلكم هو الذي إذا تعين من قبلكم مستجمعاً للصفات المذكورة، ومتحلياً بالخلال المشكورة، حسن في كل ما يستخدم، وتسنى له(4/740)
بذلك أجزل الخير وأوفره، وأنتم تفون بهذا المقصود في ما تعملون من اختياركم، متى ظهر لكم التوجيه بهذا الرسم لأحد، وتعتمدون فيه أجمل معتمد، وشكرنا لكم على كل ما تذهبون إليه في جانبنا من تمشية الأغراض والمذاهب، وتحتفلون فيه من المساعدة الصادرة فيكم عن كرم الضرايب، وتبادرون إلى بذله من المكارمة المناسبة لما لكم في نحلتكم من إناقة المناصب، مما نكافىء به صدق مصادقتكم، ونتوخى فيه ما لا يعدل عن موافقتكم، جزاء لبركم بأمثاله، واعتناء بما يقضى لولائكم بدوامه واتصاله، بحول الله تعالى وقوته، وهو سبحانه ييسرنا لنيل الحسنى، والزيادة من فضله، ويأخذ ما في ديننا ودنيانا على أقوم سبله، ويجعلنا وإياكم بما يمنحنا من التوفيق، في أول رعيل من حزب الحق وأهله، بمنه وكرمه، لا رب سواه. وكتب في الثامن عشر من شهر ربيع الأول عام ثمانية وأربعين وستمائة.
8
كتاب بتقليد خطة الشورى
صادر من أبي جعفر بن أبي جعفر بن أبي جعفر أمير مرسية إلى الفقيه أبي بكر بن أبي جمرة
هذا كتاب تنويه وترفيع، وإنهاض إلى مرقى رفيع، أمر بكتبه الأمير الناصر للدين، أبو جعفر بن أبي جعفر أدام الله تأييده ونصره، للوزير الفقيه الأجل المشاور الحسيب الأكمل، أبي بكر بن أبي جمرة أدام الله عزه، أنهضه به إلى الشورى، ليكون عند ما يقطع لأمر، أو يحكم في نازلة، يجرى الحكم بها على ما يصدر عن مشورته ومذهبه، لما علمه من فضله وذكائه، وجده في اكتساب العلم واقتنائه، ولكون هذه المرتبة ليست طريقة له، بل تليدة متوارثة عن أسلافه الكريمة وآبائه، فليتحملها تحمل المستقبل بأعبائها المحسن بأنبائها، العالم بمقاصدها المتوخاة المعتهدة وانحائها، والله يزيده تنويهاً وترفيعاً، ويبوئه من حظوته وتمجيده مكانا رفيعاً. وكتب في التاسع لذى حجة سنة 539، الثقة بالله عز وجل (1).
_______
(1) نقلنا هذا الكتاب من التكملة لابن الأبار (القاهرة) ج 2 ص 562؛، وقد فاتنا أن نلحقه بالوثائق المرابطية المنشورة بالقسم الأول فألحقناه هنا بالوثائق الموحدية(4/741)
استدراك
- 1 -
جاء في القسم الأول من هذا المؤلف (عصر المرابطين وبداية الدولة الموحدية) ص 352 عند الكلام عن مصرع الكاتب الشاعر أبي جعفر بن عطية، أنه كان عند مصرعه فتى في السادسة والعشرين. وهذا ما نقلناه عن " الإحاطة " لابن الخطيب، وعلقنا عليه في حاشية أبدينا فيها أن ما يذكره ابن الخطيب عن سن ابن عطية لا يتفق مع مراحل حياته. وقد وقفنا بعد ذلك على رواية أخرى هي رواية ابن الأبار، وهي أن ابن عطية كان وقت مصرعه في السادسة والثلاثين من عمره، وأن مولده في سنة 517 هـ (1) لا في سنة 527 هـ حسبما يقول لنا ابن الخطيب. وهذه الرواية أكثر تناسقاً واتفاقاً مع حياة ابن عطية، إذ يقال لنا إنه تولى الكتابة عن أمير المسلمين، علي بن يوسف، ثم عن ولده تاشفين، ثم عن حفيده ابراهيم.
- 2 -
قرأنا في مقدمة ابن خلدون عن ابن قسى زعيم ثوار الغرب ودعوته، فقرة فاتنا أن نشير إليها عند كلامنا عنه (ص 377 و 466 من القسم الأول من كتابنا). ويقول لنا ابن خلدون في حديثه في الفصل الذي عنوانه " فصل في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم " ما يأتي:
" وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة، فلا بد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح كما مر: " ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ". وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية. وقد وقع هذا لابن قسى شيخ الصوفية، وصاحب كتاب " خلع النعلين " في التصوف، ثار بالأندلس داعياً إلى الحق، وسمى أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي. فاستتب له الأمر قليلا لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحدين. ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدفعونه في شأنه، فلم يلبث حين استولى الموحدون على الغرب أن أذعن لهم، ودخل في دعوتهم، وكان أول داعية لهم بالأندلس، وكانت ثورته تسمى ثورة المرابطين (المقدمة ص 133).
_______
(1) تراجع رواية ابن الأبار في الحلة السيراء الطبعة الجديدة بتحقيق الدكتور حسين مؤنس ج 2 ص 238. وهي واردة في ترجمة عبد الله بن خيار الجيانى. وقد نقل الأستاذ بروفنسال هذه الترجمة كذلك في كتاب " أخبار المهدي ابن تومرت " ص 146 - 148 ووردت بها نفس الرواية(4/742)
ثبت المراجع
- 1 -
تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر (بولاق 1284 هـ).
مقدمة ابن خلدون (بولاق).
تاريخ ابن الأثير (الكامل) المطبعة الأهلية (1303 هـ).
نهاية الأرب للنويرى (القسم التاريخي) طبعة جسبار ريميرو Rev. del Cent.)
(de Est. Hist. Granada 1919
صبح الأعشى للقلقشندى (طبعة دار الكتب المصرية 1332 هـ).
وفيات الأعيان لابن خلكان (بولاق 1299 هـ).
فوات الوفيات لابن شاكر الكتبى (بولاق 1299 هـ).
نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقرى (القاهرة 1302 هـ).
أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض للمقرى (القاهرة 1939).
الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، لابن أبي زرع الفاسى المنشور بعناية كارل تورنبرج (أبسالة 1843). الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية (طبع تونس).
الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية (طبع الجزائر 1920).
المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي (القاهرة 1332 هـ).
الإحاطة في أخبار غرناطة لإبن الخطيب (القاهرة سنة 1904 و 1956).
أعمال الأعلام لابن الخطيب (طبع بيروت 1956).
اللمحة البدرية في تاريخ الدولة النصرية لابن الخطيب (1347 هـ). المغرب في حلى المغرب لابن سعيد الأندلسي المنشور بعناية الدكتور شوقى ضيف (القاهرة 1953).
قلائد العقيان للفتح بن خاقان (القاهرة 1283).
الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الشنترينى (طبعة جامعة القاهرة).
البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب (القسم الثالث) لابن عذارى المراكشي (المنشور بعناية معهد مولاى الحسن بتطوان 1960 - 1964)(4/743)
كتاب محمد بن تومرت أو كتاب " أعز ما يطلب " المطبوع بالجزائر سنة 1903،
مع مقدمة فرنسية للعلامة المستشرق إجناس جولد سيهر.
كتاب موطأ الإمام المهدي (ابن تومرت) المطبوع بالجزائر سنة 1905.
أخبار المهدي ابن تومرت وابتداء دولة الموحدين لأبي بكر الصنهاجي المكنى
بالبيذق، ومنشور بعناية الأستاذ ليفى بروفنسال (باريس 1928).
تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية للزركشى (تونس 1289 هـ).
مجموع رسائل موحدية المنشور بعناية الأستاذ ليفى بروفنسال (الرباط 1941).
الإستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للسلاوى (القاهرة 1306 هـ).
المؤنس في أخبار إفريقية وتونس لابن دينار (طبع تونس).
المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، المشتق من كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد البكرى (طبعة دي سلان).
وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس المشتق من كتاب نزهة المشتاق للإدريسي (طبعة دوزي).
الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) لإبن عبد المنعم الحميري المنشور بعناية الأستاذ ليفى بروفنسال (القاهرة 1937).
الاستبصار في عجائب الأمصار المنشور بعناية الدكتور سعد زغلول (جامعة الإسكندرية 1958).
رحلة التجّانى (أبو محمد عبد الله بن محمد) المطبوعة بعناية المطبعة الرسمية بتونس 1958.
رحلة ابن جبير المنشورة بعناية الدكتور حسين نصار (القاهرة 1955).
الروضتين في تاريخ الدولتين (القاهرة 1287 هـ).
مفرج الكروب في أخبار بني أيوب المنشور بعناية الدكتور جمال الدين الشيال (القاهرة 1953).
الرسالة المصرية لإبن أبي الصلت المنشورة بعناية الأستاذ عبد السلام هارون (القاهرة 1951).
المطرب من أشعار أهل المغرب لإبن دحية البلنسى (القاهرة 1954).
رسالة ابن عبدون في الحسبة المنشورة بعناية الأستاذ بروفنسال (طبع المعهد الفرنسى بالقاهرة)(4/744)
الفِصَل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم القرطبي (القاهرة 1321 هـ).
الملل والنحل للشهرستانى، المنشور على هامش كتاب " الفصل ".
المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالى (القاهرة 1309 هـ).
كتاب الحلة السيراء لابن الأبار (طبعة دوزى 1851).
كتاب الصلة لابن بشكوال (طبع القاهرة 1955).
كتاب التكملة لابن الأبار (طبع القاهرة 1956)، وضمن المكتبة الأندلسية
(مدريد 1886).
المعجم في أصحاب القاضي أبي على الصدفى لابن الأبار (ضمن المكتبة الأندلسية).
بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس للضبى (ضمن المكتبة الأندلسية).
كتاب صلة الصلة لابن الزبير المنشور بعناية الأستاذ بروفنسال (الجزائر 1937).
عنوان الدراية لأبي العباس الغبرينى (الجزائر 1328 هـ).
جذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام بمدينة فاس لابن أبي العافية (فاس 1309 هـ).
إخبار العلماء بأخبار الحكماء لجمال الدين القفطى (القاهرة 1326 هـ).
تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (الترجمة العربية 1958).
دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي لمحمد عبد الله عنان (القاهرة 1960)
نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين لمحمد عبد الله عنان (القاهرة 1958).
الآثار الأندلسية الباقية لمحمد عبد الله عنان (القاهرة 1961).
صحيفة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد (المجلدان السابع والثامن).
المصادر المخطوطة
سبق أن تناولنا في بداية القسم الأول من هذا الكتاب في الفصل الذي عقدناه بعنوان "بيان عن المصادر " أهم المصادر المخطوطة التي اعتمدنا عليها وانتفعنا بها، وذكرنا أوصافها، وأماكن وجودها. ولذا لا نرى حاجة لتكرار ذكرها في هذا الثبت.
- 2 -
F. Codera: Decadencia y Disparicion de los Almoravides en
Espana (Zaragoza 1899) .
Primera Cronica General, Ed. M. Pidal (Madrid 1956) .
Mariana: Historia General de Espana.
Sandoval: Historia de los Reyes de Castilla y de Leon.
Florez: Historia de las Reinas Catolicas.
Chronicon Lusitanum (Espana Sagrada Vol. XXIV) .
Chronique Latine des Rois de Castille(4/745)
M. Lafuente: Historia General de Espana.
A. de los Rios: Trofeos Militares de la Reconquista (Madrid 1893) .
F. J. Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana (Madrid 1896) .
Pons Boigues: Historiadores y Geograficos Arabigo-Espanoles
(Madrid 1898) .
R. Altamira: Historia de Espana y de Civilizacion Espanola
(Barcelona 1900) .
A. Campaner y Fuertes: Bosquejo Historico de la Dominacion
Islamita en las Islas Baleares (Palma 1888) .
P.y Vives: Los Reyes de Taifas (Madrid 1926) .
G. Palencia y M. Alarcon: Miscelenea de Estudios y Textos Arabes
(Madrid 1916) .
A. P. Ibars: Valencia Arabe (Valencia 1901) .
M. Gaspar Remiro: Historia de Murcia Musulmana (Zaragoza 1903) .
A. Huici Miranda: Historia Politica del Imperio Almohade (Tetuan
1957) .
A. H. Miranda: Las Grandes Batallas de la Reconquista (Madrid 1956) .
J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia
(Madrid 1946) .
Is. de las Cagigas: Sevilla Almohade y Ultimos Anos de su Vida
Musulmana (Madrid 1951) .
La Orden de Calatrava (Ciudad Real 1959) .
Al-Andalus: Revista de las Escuelas de Estudios Arabes de Madrid
y Granada.
M. Amari: Storia Dei Musulmani di Sicilia (Fierenze 1867) .
R. Dozy: Histoire des Musulmans d'Espagne (Leiden 1932) .
R. Dozy: Recherches sur l'Histoire et Littérature de l'Espagne
pendant le moyen age (Leiden 1881) .
Alfred Bel: Les Benou Ghania (Paris 1903) .
A. Muller: Der Islam im Morgen und Abendland (Berlin 1885) .
I. Goldziher: Materialien zur Kenntniss der Almohaden Bewegung
(Z. der Morg. Gesell. 1887) .
I. Goldziher: Le Livre de Mohamed ibn Toumert (Alger 1903) , Intro-
duction.
M. Muller: Beitrage zur Geschichte des Wesentlichen Araber(4/746)
فهرس الموضوعات
تصدير ................................................................ 3
الكتاب السادس
عصر الخليفة أبى يعقوب يوسف
الفصل الأول: عصر الخليفة أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ........... 10
الفصل الثانى: حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق .................. 33
الفصل الثالث: حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق فى غزوة وبذة ......... 58
الفصل الرابع: أحداث الأندلس والمغرب ................................ 94
الفصل الخامس: غزوة شنترين ومصرع الخليفة أبى يعقوب يوسف ...... 113
الكتاب السابع
عصر الخليفة يعقوب المنصور
حتى موقعة العقاب
الفصل الأول: عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بنى غانية ........ 140
الفصل الثانى: حوادث الأندلس وإفريقية ................................. 169
الفصل الثالث: موقعة الأرك ............................................. 196
الفصل الرابع: ما بعد الأرك حتى وفاة المنصور ............................ 222
الفصل الخامس: عصر الخليفة محمد الناصر ............................... 249
الفصل السادس: موقعة العقاب .......................................... 282
الكتاب الثامن
الدولة الموحدية
فى طريق الانحلال والتفكك
الفصل الأول: عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله وأوائل ظهور بنى مرين ... 328
الفصل الثانى: أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس ........ 348
الفصل الثالث: عصر الخليفة أبى العلى المأمون - إلغاء رسوم المهدى
ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية .................................... 367(4/747)
الكتاب التاسع
إنهيار الأندلس
وسقوط قواعدها الكبرى
الفصل الأول: الثورة فى مرسية وبلنسية ونذر الإنهيار الأولى .......... 388
الفصل الثانى: ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة .................... 410
الفصل الثالث: سقوط بلنسية وقواعد الشرق ........................ 437
الفصل الرابع: سقوط إشبيلية وقواعد الغرب ......................... 465
الكتاب العاشر
نهاية الدولة الموحدية
الفصل الأول: عصر الخليفة أبى محمد عبد الواحد الرشيد ............... 496
الفصل الثانى: عصر الخليفة أبى الحسن على السعيد ..................... 516
الفصل الثالث: عصر الخليفة المرتضى لأمر الله .......................... 528
الفصل الرابع: نهاية الدولة الموحدية .................................... 561
الكتاب الحادى عشر
الممالك الإسبانية النصرانية
خلال العصر الموحدى
الفصل الأول: قشتالة وليون منذ عهد ألفونسو الثامن حتى عهد
فرناندو الثالث .......................................................... 582
1 - مملكة قشتالة ....................................................... 583
2 - مملكة ليون ......................................................... 593
3 - قشتالة وعهد فرناندو الثالث ........................................ 597
الفصل الثانى: أراجون ونافارا والبرتغال، منذ أواخر القرن
الثانى عشر إلى أواخر القرن الثالث عشر ................................... 600
1 - مملكة أراجون ....................................................... 601
2 - مملكة نافارا (نبرّة) ................................................... 607
3 - مملكة البرتغال ....................................................... 609(4/748)
الكتاب الثانى عشر
نظم الدولة الموحدية
وخواص العهد الموحدى
الفصل الأول: الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس وأوضاعها
السياسية والعسكرية والإدارية ........................................ 614
1 - نظم الحكم الموحدى ............................................ 619
2 - تطور الأساس الروحى للخلافة الموحدية ......................... 630
3 - النظم العسكرية ................................................. 632
4 - الحكومة الموحدية بالأندلس ...................................... 640
الفصل الثانى: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدى-القسم الأول. 644
الفصل الثالث: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدى-القسم الثانى. 681
الفصل الرابع: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدى-القسم الثالث. 711
وثائق موحدية
1 - رسالة الخليفة أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بالتوصية بأن تجرى
الأحكام وفقاً للعدل، وبأن يرفع إليه أمر الدماء قبل البت فيه ........... 728
2 - بيعة أهل إشبيلية للخليفة أبى يعقوب يوسف ....................... 731
3 - رسالة الخليفة أبى يعقوب يوسف إلى الطلبة الذين بغرناطة ........... 732
4 - رسالة للسيد أبى إسحق ابراهيم يبلغ فيها عن دخول ابن همشك
فى الدعوة الموحدية ...................................................... 733
5 - رسالة الخليفة أبى يعقوب يوسف إلى الطلبة والموحدين بالأندلس
ينبئهم فيها باهتمامه بأمر الأندلس والعمل على نصرتها ..................... 734
6 - ظهير الخليفة الرشيد بإسكان المهاجرين من شرق الأندلس بمدينة
رباط الفتح ............................................................... 737
7 - رسالة الخليفة المرتضى لأمر الله إلى البابا إنوصان الرابع ................ 738
8 - كتاب بتقليد خطة الشورى .......................................... 741
استدراك .................................................................. 742
ثبت المراجع ............................................................... 743(4/749)
فهرست الخرائط والصور
1 - مواقع غزوات الموحدين لمملكة الشرق وغزوة وبذة ............... 49
2 - خط سير الجيش الموحدى والأسطول الموحدى إلى غزوة شنترين .. 120
3 - مواقع معركة شنترين ............................................ 120
4 - إفريقية والمغرب الأوسط، ومواقع الصراع بين بنى غانية والموحدين 163
5 - مواقع موقعة الأرك .............................................. 201
6 - رسم تخطيطى لميدان معركة الأرك حسبما يبدو اليوم .............. 205
7 - كنيسة الأرك - مجموعة أطلال قلعة رباح ........................ 207
8 - صومعة جامع المنصور بإشبيلية (لاخيرالدا) ........................ 231
9 - مواقع موقعة العقاب ............................................. 299
10 - أطلال حصن العقاب ........................................... 303
11 - نهر مجانيا كما يبدو فى أسفل الجبال .............................. 304
12 - منحدر دسبنيابروس ............................................ 304
13 - ممر بورتو دل مورادال .......................................... 307
14 - بسيط مائدة الملك (ميسا دل رى) ............................... 307
15 - رسم تخطيطى لموقعة العقاب خلال جبال سيرّا مورينا ............. 309
16 - صورة سهام أرضية عثر بها المؤلف فى ميدان الموقعة ............... 316
17 - صورة العلم الموحدى الذى غنمه الإسبان ........................ 319
18 - خطط قرطبة الإسلامية .......................................... 419
19 - قطاع بلنسية ومرسية ومواقع الفتوحات الأرجونية ............... 441
20 - مواقع حصار بلنسية ............................................. 445
21 - قطاع إشبيلية وأحوازها ومواقع الغزو القشتالى ................... 475
22 - حصار إشبيلية .................................................. 479
23 - خريطة تبين انهيار الأندلس وما كسبته الممالك النصرانية ........... 491
24 - صورة فتوغرافية لخطاب الخليفة المرتضى إلى البابا إنوصان الرابع ... 539
25 - خريطة تبين تفكك الدولة الموحدية والدول التى قامت مكانها ...... 569(4/750)
فهرست الشعر
أبو عمر بن حربون ..... بسعدك أضحى الدين جذلان باسما ............ 39
أبو بكر بن طفيل ..... أقيموا صدور الخيل نحو المضارب ............... 60
أبو الحسن بن عياش ..... أقيموا إلى العلياء عوج الرواحل .............. 61
أبو بكر بن المنخل ..... شرف الخلافة أن ملكت زمامها ................ 67
أبو بكر بن طفيل ..... ولما انقضى الفتح الذى كان يرتجى ............. 109
ابن صاحب الصلاة ..... خير البشائر صوغت حمل المنى ............... 109
شاعر من الجزائر ..... سلام على قبر الإمام الممجد .................... 110
أبو بكر بن مجبر ..... أسائلكم لمن جيش لهام ........................... 165
أبو العباس الجراوى ..... نار من الفتنة العمياء أطفأها .................. 180
أبو عبد الله الجزيرى ..... فى أم رأسى سر ............................. 180
عبد الرحمن بن منقذ ..... سأشكر بحراً ذا عباب قطعته ................. 185
أبو العباس الجراوى ..... إياب الإمام حياة الأمم ....................... 189
...... " ....... " .... بشائر نصر الله جاءتك سافرة ...................... 212
...... " ....... " .... هو الفتح أعيى وصفه النظم والنثرا ................. 216
على بن حزمون ..... حيتك معطرة النفس ............................. 216
أبو بكر بن مجبر ..... أتراه يترك الغزلا .................................. 244
عبد الرحمن بن الفرس ..... قولوا لأبناء عبد المؤمن بن على .............. 256
ابن يخلفتن الفازازى ..... هذى فتوح تفتحت أزهارها ................... 275
شاعر مرسى ..... موقعة عفص وطلياطة ................................ 355
ابن الأبار القضاعى ..... الحمد لله لا أهل ولا ولد ....................... 396
سعيد بن حكم الأموى ..... لا تمنع المعروف يوما معرضاً ومعرضا ....... 409
ابن الأبار القضاعى ..... ألما بأشلاء العلا والمكارم ........................ 442
....... " ....... " ... أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ......................... 446
أبو المطرف بن عميرة ..... ما بال دمعك لا ينى مدراره ................... 454(4/751)
شاعر من جيان ..... أودعكم أودعكم جيانى ........................... 469
إبراهيم بن سهل الإشبيلى ..... ورداً فمضمون نجاح المصدر ............. 482
أبو موسى بن هرون ..... يا حمص أقصدك المقدور حين رمى ............. 482
الخليفة المرتضى لأمر الله ..... وافى ربيع قد تعطر نفحه .................. 560
...... " ...... " .......... ولما مضى العمر إلا الأقل ....................... 560
عبد الله بن فتوح الحضرمى ..... وعجل شيبى أن ذا الفضل مبتلى ........ 662
مفوز بن حيدرة المعافرى ..... وقفت على الوادى المنعم دوحه ........... 663
موسى بن حسين الميرتلى ..... سليخة وحصير ........................... 666
الشيخ محيى الدين بن عربى ..... سلام على سلمى ومن هل بالحمى ........ 680
...... " ....... " ........... درست عهودهم وأن هواهم .................. 680
ابن أبى العافية الأزدى ..... يا سرحة الحى يا مطول ....................... 688
عبد الرحمن بن مغاور ..... أيها الواقف اعتباراً بقربى ....................... 689
ابن غالب البلنسى ..... لو جئت نار الهدى من جانب الطور ............... 689
....... " ..... " .... ومهول الشطين تحسب أنه .............................. 689
....... " ..... " .... وفتيان صدق كالنجوم تألقوا ........................... 689
....... " ..... " .... خليلى ما لليد قد عبقت نسرا ........................... 690
ابن عياض القرطبى ..... كم من أخ فى فؤاده دغل .......................... 690
ابن الصابونى الصدفى ..... أهلا بطيف خيال منك منساب ................... 691
ابن حريق ..... يا صاحبى وما البخيل بصاحبى ............................... 692
مرج الكحل ..... مثل الرزق الذى تطلبه ................................... 692
.... " ... " .... عرج بمنعرج الكثيب الأخضر .................................. 692
عبد الرحمن بن حزمون ..... يا من له بالأنام أنسى ............................ 693
...... " ...... " ........ إليك إمام الحق جبت المفاوز ........................... 693
إبراهيم بن سهل الإشبيلى ..... مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى ............ 694
...... " ...... " ............ ليل الهوى يقظان .................................. 694
ابن حجاج اللخمى ..... هنأ الله بلاد العرب .................................. 694
أبو العباس الجراوى ..... أتراه يترك الغزلا .................................... 695(4/752)