إلى من عدده وبلده ما أولاني نعمه، ووالاني كرمه، حفظت تلك الحرمة، وشكرت لأستزيد من تلك النعمة، وأخذت في الاجتهاد في الجهاد عالقاً بسببه، آخذاً بمذهبه، وهيأت من ماله عندي جيشه الموضوع بيدي، وأجبت داعي الله بأعظم نية على أكرم طية، لعزمة بيمناه رأسها، وعلى تقواه أساسها وأصلها.
وسرت عن حاضرة غرناطة حرسها الله في العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم بجيش تصم صواهله، وتطم كواهله، راياته خافقة، وعزماته صادقة، ونبراته على ألسنة السعد ناطقة. ومررنا من طاعة أمير المسلمين وناصر الدين، على جهات سمعت منادينا، وتبعت هادينا، وانقادت وراءنا أعداد وأمداد، بروزاً من كمون، وتحركوا عن سكون، وانخنا بثغر بيّاسة، وقد توافد الجمع، وملىء البصر والسمع. وأخذت في الرأي أخمره، والعزم أضمره، والذيل أشمره، وجددت الاستخارة لله تعالى والاستجارة به، وابتهلت إليه داعياً ضارعاً، وعولت في جميع أموري على حكمه خاضعاً متواضعاً.
ولحقنا بطرف بلاد العدو أعادها الله، ووطئناها من هنالك، وقد بان عنوان الأهبة، والتأم بنيان الرتبة، وسرنا بجيش يفيض فيضاً، على أرض تغيض غيضاً، ولسيول الخيل إغراق، وليروق البواتر إشراق، وقد نطقت ألسنة الأعنة بقدّام قدّام، وأشرقت كواكب الأسنة في غمام القتام، وسدت الهموات كل نهج وسبيل، واستقلت الرايات عن قبيل فقبيل، وأفضت بنا الخيرة إلى المدينة الحصينة " أقليش " قاعدة القطر وواسطة الصدر، ذات العدد العديد، والسور المشيد، فبدر السابق وشفع اللاحق. وغدونا يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من شوال، فدرنا بها دور الحلقة بنقطها، واكتنفناها اكتناف السبحة بسبطتها، وبهت القوم، واتسع البحر عن العوم، وحاروا وحاموا، حين راموا، وجثنا بكل ضرب من الحرب، نخسف عاليها، وننسف هاويها، ونلزها بالرماح، ونهزها هز الغصن في أيدي الرياح، حتى فض الختام، وعض منهم الإبهام، وعجل الله بالنصر وفتحها بالقسر، ونفخ في صورهم، ودارت دائرة السوء بدورهم، ومحقتهم السيوف محق الربا، وأذرتهم ريح النصر فصاروا هبا، وبطحوا بطح زرع الحصيد، وبسطوا بسط كلب الوصيد، وأخذتهم فجأتنا أخدة، ونبذت بهم سطوتنا نبذة، فخروا إلى الأذقان، وسيقوا إلى الموت والإذعان، فما كدنا ننزل حتى كدنا ذلك المنزل، وما أنخنا حتى رضخنا،(3/534)
ولا وصلنا إليه حتى حصلنا عليه، فوردنا ما أردنا.
ولما استحر فيهم القتل، واجتث منهم الأصل، وضاق بهم المزدحم، وغص ذلك الملتحم، قصر الوقت المبغت، وشغل الأخيذ عن المفلت، وألهي الكثير عن من قل، ونام الجم الغفير عن الفل، وعادت بقاياهم بقصبة المدينة فولجوها، كما يلج العصفور، ويقوم العثور، قد غلقوا الأبواب، وأسدلوا الحجاب، ونحن نصل الجد، ونوحر لأفل غرب، ولا ملت حرب، نجتث الجراثم، ونحتز الغلاصم، ونخرب الديار وبنيانها، ونهدم البيع وصلبانها، ونتتاحفوا بهدايا السبابا، ونتكاشفوا عن بقايا الخبايا، ونصرحوا بنيانا صدعته الحتوف، وغلبته السيوف فلأطلاله هدم وعلى رسومه ردم، حتى علا على الشرك الإيمان، وبدل الناقوس بالأذان، وزحزحت الهياكل عن موضعها، وطرحت النواقيس عن بيعها، ولاذ بنا من هنالك من المسلمين عائذين بنا مستسلمين لنا، فناشدونا بالملة وحرمتها، وكشفوا لنا عن الخلة وسدتها، وفروا من الحملة إلى الحملة، فأوينا شاردهم، وأقمنا قاعدهم، فانجابت كربتهم، وعادت بعد البوار ومجاوبة الكفار بشرِّ دار ملتهم، وأنار لهم الإسلام على منار الإيمان المجدد، واشتهر فيهم التوحيد اشتهار الحسام المجرد، وكشف الدين عن مضمره، وخطب الحق المبين على منبره، وأقمنا بقية يومنا على ذلك إلى أن خام النهار، وحان من الشمس الاصفرار، فعند ذلك أرحنا البواتر، وغيضت تلك الدماء الهوامر، وغداً الخميس في الخميس، مبنياً على ذلك التأسيس، يجر أذيال الظفر في العدد الأوفر، يشفع الأوالي بالتوالي، ويشتري العوالي بالعوالي، فأصبحنا في عز وأنس، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم كأن لم يغنوا بالأمس، وتضامت تلك العصبة إلى تلك القصبة، والقوم في السجن والحصر، والحصن كالواحد في العالم، والأصبع في الخاتم، والمحصور مأسور، وصاحب الحائط مقهور، ولم نزل نوسعهم قتالا، ونوسعهم ضراً ونكالا مسافة اليوم، إلى أن جزر النهار مده، وبت الليل جنده، فعدنا إلى محلتنا، وقد أمل الكالّ أينه، وغلبت الساهر عينه، وكنت لم آل احتراساً للمحلة بطلائع تحرس جهاتها، وتدرأ آفاتها، وفي القدر ما يسبق النذر، ويفوت الحذر، لاكن كفاية الله خير من توقينا. وكان الطاغية زاده الله ذلا، قد حشد أقطاره وحشر أنصاره، وأبعد في الاستصراخ مضماره، وعبأ جيشاً قد أسرا إلى ذمر، وانطوى على(3/535)
غمر، فأقدم وصمَّم، وبئس ما تيمم، فاستسلمت جماعتهم على ابن الطاغية أذفونش، وشيخهم وزعيم فرسانهم غرسية أرذونش، وصاحب شوكتهم ألبر هانس، والقمط بقبدره وقواد بلاد طليطلة وصاحب " قلعة النسور " و" قلعة عبد السلام "، وكل قاص ودان، وعاجل ووان، أخزى الله جميعهم، وطلّ نجيعهم، ولا أقام صريعهم.
وهذا دعاء لو سكتُّ لكفيتُه ... لأني سألت الله ربي وقد فعل
وطرقوا من طرف مجتمعهم يريدون الغرة، ويظهرون صلفاً تحت الغرة، وتقدموا فتندموا، ودنوا فهووا، ووصلوا فحصلوا، وأرسل الله تعالى من جنده فتى كانوا قد سبوه صغيراً واقتنوه أسيراً، ولله تعالى فيه خبأة أعدها من عنده، وبعثها من جنده، ونزع الفتى إلينا من معسكرهم منبئاً بهم دالا عليهم، وكاشفاً بهم على النبأ العظيم، ومطلعاً منهم على المقعد المقيم، فعند ذلك ثارت ثائرتنا، ودارت على مركز التوفيق دائرتنا، وقام القاعد، وأشار البنان والساعد، وتضام القريب والمتباعد، والليل قد هدأ، والصبح قد بدأ، والدياجير ممدودة السرادق، مجموعة الفيالق، ولا جار إلا الغاسق، ولا مار إلا السما والطارق، وكنت قد استدنيت القائدين المجربين، ذوي النصيحة والآراء الصحيحة، أبا عبد الله محمد بن عائشة، وأبا محمد عبد الله بن فاطمة وليّيّ أعزهما الله، فجالا في مضمار وساع واضطلاع، بذرع وذراع، فاجتمعنا على كلمة الله متعاقدين، وخضعنا إلى حكمه مستسلمين، فعند ذلك حل يده المجتبي، وقيل يا خيل الله اركبي، فعادت الآراء بالرايات، وحكمت النهي في النهايات، والأسنة تجول في آمادها، والنصول تصول في أغمادها. وثرنا كما ثار الشهم بفرصته، وطار السهم لفوضته، وأمرت رجالا بلزوم المحلة، فسدوا فرج أبوابها، ولاذوا بأوتادها وأسبابها، فداروا كما دور السوار، وانتظموها انتظام الأسوار، قد شرعوا الأسنة من أطرافها، وأجالوا البواتر في أكنافها، وأضاقوا الأفنية، وقاربوا بين الأخبية.
وعبأنا الجيش يمناه ويسراه، وصدره ولهاه، وساقته وأولاه، ونهضنا بجملتنا من محلتنا، والصبر يفرغ علينا لامه، والنصر يبلغ إلينا سلامه، وتوجهنا إلى الله نقتفي سبيله، ونبتغي دليله، فما رفع الفجر من مُجابه، ولا كشر الصبح عن نابه، حتى ارتفعت ألوية الدين سامية الأعلام، واتسعت أقضية المسلمين ماضية الأحكام، وقيض الليل خمسه، وفضح الصبح نفسه، ولسن السنان لمعان،(3/536)
ولشباب العراك ريعان، ولأنفاق الإعلام ضراب أو طعان. وعند ذلك نجم " العجم " في سواد الليل وإزباد السيل، يهبطون إلى داعيهم، ويهرعون إلى ناعيهم، في دروع كالبواري، ورماح كالصواري، كأنما شجروا باللديد، وسجنوا في الحديد، يزحفون والحين يعجلهم، ويركبون والحتف يزحلهم، يتلمظون تلمظ الحيات، قد تحالفوا أن لا يتخالفوا، وتبايعوا أن يتشايعوا، ووصلوا إلى مقدمتنا، وكان هناك القائد " أبو عبد الله محمد بن أبي زنغي " مع جماعة، فصدمهم العدر بصدور غِرّة وقلوب أشرة، فانحوا بكلكل ورموا بجندل، وشدوا فما ردوا، وصادروا فما صدوا، وتقهقر القائد " أبو عبد الله " غير مول، وتراجع غير مخل إلى أن اشتد منا بطود، وزحم من جيشنا بعود. فتراءى الجمعان، وتدانا العسكران، وأمسكنا ولا جبن، ووقفنا والأناة يمن، فعند ذلك ثار النصر فمد يمناه، وأناط الصبر فأشرق محياه، ونزلت السكينة، وأخلصت القلوب المستكينة، واهتزت الفيالق مائجة، وهدرت الشقائق هائجة، وجحظت العيون غضباً، وطلبت البواتر سبباً، وأذن الحديد بالجلاد، وبرزت السيوف عن الأغماد، وتصاهلت الخيول، وتصاولت القيول، فعند ذلك تواقف القوم كوقفة العير، بين الورد والصدر، فبرز فارس من العرب، فطعن فارساً منهم فأذراه من مركبه، ورماه بين يدي موكبه، فانتهج، ما أرتج، وانفتح المبهم، وأفصح المعجم، فعند ذلك اختلطت الخيل، بل سال السيل، وأظلم الليل، واعتنقت الفرسان، واندقت الخرصان، ودجا ليل القتام، وضاق مجال الجيش اللهام، واختلط الحسام بالأجسام، والأرماح بالأشباح، ودارت رحى الحرب تغر بنكالها، وثارت ثائرة الطعن والضرب تفتك بأبطالها، فلثغر الصدور ابتراد، ولجزم القلوب انتهاد، فما وضح النهار، ولا مسح الغبار، حتى خضعت منهم الرقاب، وقبلت رؤوسم التراب، واتصل الهلك بالشرك، وعادت الضالة إلى الملك، وقلم ظافر الكفر، وطالت إيمان الإيمان، وفر الصليب سليباً، وعجم عود الإسلام فكان طيباً، وغمرهم الحيف فهمدوا، واطفأهم الحين فخمدوا، ومات جلهم بل كلهم، وما نجا إلا أقلهم، وحانوا فبانوا، وقيل كانوا، وكشفت الهبوات، وأنجلت تلك الهنات، عن رسوم جسوم قد قصفتها البواتر، ووطئتها الحوافر، خاضعة الخدود، عاثرة الجدود، وأخذت ساقتنا في الطلب، وضم السلب إلى السلب. وملئت الأيدي بنيل وافي الكيل،(3/537)
خيلا وبغالا وسلاحاً ومالا، ودروعاً، أكلّهم حملها، وأثقلهم جملها، فساءت ملبساً وصارت محبساً، فطرحوها كأنهم منحوها، وألقوها كأنهم أعطوها، احتزناها نهباً، وأخذناها كأن لم تكن غصباً، لقطة ولا نكر، وعطية ولغيرهم شكر، ثم أمرت بجمع الرؤوس، فاحتزت الدانية وزهد في جمع النائية، فكان مبلغها نيفاً على ثلاثة آلاف منهم غرسية أرذونش والقومط وقواد بلاد طليطلة، وأكابر منهم لم يكمل الآن البحث عنهم، وكانت كالهضب الجسيم، بل الطود العظيم، وأذن عليها المؤذنون، يوحدون الله ويكبرون، فلما جاء نصر الله، ووهب لنا فتح الله، شكرنا مولى النعم ومُسديها، ومُعيد المنن ومُهديها، وصدرت غانماً، وأبت سالماً، وبقى القائدان محاصرين لحصن أقليش آخذين بمخنّقهم، مستولين على رمقهم.
فخاطبت أمير المسلمين أدام الله سروره، ووصل حبوره، معلماً بالأمر، مهنياً بالنصر، لنحمد الله عز وجل، على ما وهب، ونشكره على ما سنى وسبب، والله يتكفل بالمزيد ويشفع القديم بالجديد، ويمن بالظفر والتأييد، فهو ولي الامتنان، والملبي الفضل والإحسان، لا رب غيره ولا معبود سواه.
3
رسالة
كتب بها قاضي سرقسطة والجمهور فيها إلى الأمير أبى الطاهر تميم بن يوسف بن تاشفين حين حاصرها ابن رذمير واستغلبها أعادها الله
(منقولة عن المخطوط رقم 488 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال لوحة 55 أ - 61 ب).
من ملتزمي طاعة سلطانه، ومستنجديه على أعداء الله، ثابت بن عبد الله، وجماعة سرقسطة من الجمل فيها من عباد الله.
أطال الله بقاء الأمير الأجل، الرفيع القدر والمحل، لحرم الإسلام يمنعه، ومن كرب عظيم على المسلمين، يزيحه عنهم ويدفعه.
كتابنا أيدك الله بتقواه، ووفقك لاشترا دار حسناه، بمجاهدة عداه، يوم الثلاثاء السابع عشر من الشهر المبارك شعبان، عن حال قد عظم بلاؤها، وادلهمت ضراؤها، فنحن في كرب عظيم، وجهد أليم، قد حل العزا والخطب،(3/538)
وأظلنا الهلاك والعطب، فياغوثاه، ثم ياغوثاه إلى الله، دعوة من دعاه، وأمله لدفع الضرر ورجاه، سبحانه المرجو عند الشدائد، الجميل الكرم والعوايد، ويالله، وياللإسلام، لقد انتهك حماه، وفضت عراه، وبلغ المأمول من بيضته عداه، ويا حسرتا على حضرة قد أشفت على شفي الهلاك، طالما عمرت بالإيمان، وازدهت بإقامة الصلوات وتلاوة القرآن، ترجع مراتع للصلبان، ومشاهد ذميمة لعبدة الأوثان، ويا ويلاه على مسجد جامعها المكرم، وقد كان مأنوساً بتلاوة القرآن المعظم، تطؤه الكفرة الفساق بذميم أقدامها، ويؤملون أن يدنسوه بقبيح آثامها، ويعمروه بعبادة أصنامها، ويتخذوه معاطن لخنازيرها، ومواطن لخماراتها ومواخيرها، تم يا حسرتاه على نسوة مكنونات عذارى، يعدن في أوثاق الأسارى، وعلى رجال أضحوا حيارى، بل هم سكارى، وما هم بسكارى، ولاكن الكرب الذي دهمهم شديد، والضر الذي مسهم عظيم جهيد، من حذرهم على بنيات قد كن من الستر نجيان الوجوه، أن يروا فيهن السوء والمكروه، وقد كن لا يبدون للنظار، فالآن حان أن يبرزن إلى الكفار، وعلى صبية أطفال قد كانوا نشئوا في حجور الإيمان، يصيرون في عبيد الأوثان، أهل الكفر وأصحاب الشيطان، فما ظنك أيها الأمير بمن يلوذ به بعد الله الجمهور، بأمة هي وقايد هذه العظام الفادحة، والنوائب الكالحة، هو المطالب بدمايها، إذا أسلمها في آخر ذمايها، وتركها أغراضاً لأعدايها، حين أحجم عن لقايها، فإلى الله بك المشتكا، ثم إلى رسوله المصطفى، ثم إلى ولي عهده أمير المسلمين المرتضي، حين ابتعثك بأجناده، وأمدك بالجم الغفير من أعداده، نادباً لك، إلى مقارعة العدو المحاصر لها وجهاده، والذب عن أوليائه المعتصمين بحبل طاعته، والمتحملين السبعة الأشهر الشدايد الهايلة في جنب موالاته ومشايعته، من أمة قد نهكهم ألم الجوع، وبلغ المدى بهم من الضر الوجيع، قد برح بهم الحصار، وقعدت عن نصرتهم الأنصار، فترى الأطفال بل الرجال جوّعاً يجرون، يلوذون برحمة الله ويستغيثون، ويتمنون مقدمك بل يتضرعون، حتى كأنك قلت أخسئوا فيها ولا تكلمون. وما كان إلا أن وصلت وصل الله برك بتقواه، على مقربة من هذه الحضرة، ونحن نأمل منك بحول الله أسباب النصرة، بتلك العساكر التي أقر العيون بهاؤها، وسر النفوس زهاؤها، فسرعان ما انثنيت وما انتهيت، وارعويت، وما أدنيت، خايباً عن اللقاء، ناكصاً على عقبيك عن الأعداء.(3/539)
فما أوليتنا غناء، بل زدتنا بلاء وعلى الداء داء، بل أدواء، وتناهت بنا الحال جهداً والتواء، بل أذللت الإسلام والمسلمين، واجترأت فضيحة الدنيا والدين، فيالله ويا للإسلام، لقد اهتضم حرمه وحماه أشد الاهتضام، إذ أحجمت أنصاره عن إعزازه أقبح الإحجام، ونكصت عن لقاء عدوه وهو في فئة قليلة، ولمة رذيلة، وطايفة كليلة، يستنصر بالصلبان، والأصنام، وأنتم تستنصرون بشعار الإسلام، وكلمة الله هي العليا ويده الطولا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وإن من وهن الإيمان، وأشد الضعف، الفرار عن الضِّعف، فكيف عن أقل من النصف، فيا قبح من رضى بالصغار وسما خطة الخسف، فما هذا الجبن والفزع، وما هذا الهلع والجزع، بل ما هذا العار. والضيع، أتحسبون يا معشر المرابطين، وإخواننا في ذات الله المؤمنين، إن سبق على سرقسطة القدر، بما يتوقع منه المكروه والحذر، أنكم تبلغون بعدها ريقاً، وتجدون في ساير بلاد الأندلس عصمها الله، مسلكاً من النجاة أو طريقاً، كلا والله ليسومنكم الكفار عنها جلاء وفراراً، وليخرجنّكم منها داراً فداراً، فسرقسطة حرسها الله، هي السد الذي إن فتق، فتقت بعده أسداد، والبلد الذي إن استبيح لأعداء الله، استبيحت له أقطار وبلاد، فالآن أيها الأمير الأجل، هذه أبواب الجنة قد فتحت، وأعلام الفتح قد طلعت، فالمنية ولا الدنية، والنار ولا العار، فأين النفوس الأبية، وأين الأنفة والحمية، وأين الهمم المرابطية، فلتقدح عن زنادها بانتضاء حدها، وامتضاء جدها واجتهادها، وملاقاة أعداء الله وجهادها، فإن حزب الله هم الغالبون، وقد ضمن تعالى لمن يجاهد في سبيله أن ينصره، ولمن حامى عن دينه أن يؤيده ويظهره، فما هذا أيها الأمير الأجل، ألا ترغب في رضوانه، واشترا جنانه، بمقارعة حزب شيطانه، والدفاع عن أهل إيمانه، فاستعن بالله على عدوه وحربه، واعمد ببصيرة في ذات الله إلى إخوان الشيطان وحزبه، فإنهم أغراض للمنايا والحتوف، ونهر للرماح والسيوف، ولا ترض بخطة العار، وسوء الذكر والصيت في جميع الأمصار. ولا تك كمن قيل فيه:
يجمع الجيش ذا الألوف ويغزوا ... ولا يرزأ من العدو فتيلا
ولن يسعك عند الله، ولا عند مؤمن، عذر في التأخر والارعواء عن مناجزة الكفار والأعداء. وكتابنا هذا أيها الأمير الأجل، اعتذار تقوم لنا به الحجة في جميع البلاد، وعند ساير العباد، في إسلامكم إيانا، إلى أهل الكفر والإلحاد،(3/540)
ونحن مؤمنون، بل موقنون إجابتك إلى نصرتنا، وإعدادك إلى الدفاع عن حضرتنا، وأنك لا تتأخر عن تلبية نداينا، ودعاينا إلى استنقاذنا من أيدي أعدائنا، فدفاعك إنما هو في ذات الله، وعن كَلِمه، ومحاماة عن الإسلام وحزبه، فذلك الفخر الأنبل لك في الأخرى والدنيا، ومورثٌ لك عند الله المنزلة العليا، فكم تحيى من أمم، وتجلى من كروب وغمم، وان تكون منك الأخرى، وهي الأبعد عن متانة دينك، وصحة يقينك، فاقبل بعسكرك على مقربة من سرقسطة، ْعصمها الله، ليخرج الجميع عنها، ويبرأ إلى العدو وقمه الله منها، ولا تتأخر كيفما كان طرفة عين، فالأمر أضيق، والحال أزهق، فعدِّ بنا عن المطل والتسويف، قبل وقوع المكروه والمخوف، وإلا فأنتم المطالبون عند الله بدماينا وأموالنا، والمسئولون عن صبيتنا وأطفالنا، لإحجامكم عن أعداينا، وتثبطكم عن إجابة نداينا، وهذه حال نعيذك أيها الأمير عنها، فإنها تحملك من العار ما لم تحمله أحداً، وتورثك وجميع المرابطين الخزى أبدا، فالله الله أتقوه، وأيدوا دينه وانصروه، فقد تعين عليكم جهاد الكفار، والذب عن الحرم والديار، قال الله، يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة الآية، ومهما تأخرتم عن نصرتنا، فالله ولي الثار لنا منكم، ورب الانتقام، وقد بريتم بإسلامنا للأعداء، من نصر الإسلام، وعند الله لنا لطف خفي، ومن رحمته ينزل الصنع الخفي، ويغنينا الله عنكم، وهو الحميد الغني. ومن متحملي كتابنا هذا، وهم ثقاتنا تقف من كنه حالنا على ما لم يتضمنه الخطاب، ولا استوعبه الإطناب بمنه، وله أتم الطول في الاصغاء إليهم واقتضاء ما لديهم، ان شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
4
رسالة
كتب بها أمير المسلمين إلى الأمير الأجل أبى محمد بن أبى بكر بهزيمة " القلعة " رحمهما الله
(منقولة عن المخطوط 488 إسكوريال السابق ذكره لوحة 71 ب - 72 أ).
كتابنا وفق الله رأيك وحسن هديك، ولا أمال عن الهدى والرشد سعيك.
من حضرة مراكش حرسها الله في السابع من شعبان المكرم سنة ثلث وعشرين(3/541)
وخمس مائة. وقبله وافى كتابك تذكر فيه المثيلة التي كانت للعدو- دمره الله - عليك في اليوم الذي واجهتموه فيه، بعد ان كان لكم صدره، وأتيح لكم نصره، فأواخر الأمور أبدا أوكد وأهم، والعواقب هي التي تحمد أو تذم، وإذا حسنت خواتم الأعمال فالصنع أبْها وأتم، وإن لسان العذر لتلك الحال لقصير، وإن الله على ذلك المشهد المضيع لمطلع بصير: توافقتم مع عدوكم، وأنتم أوفر منه عدة وأكثر جمعاً، وأحرى أن تكونوا أشد عن حريمكم منعاً، وأقوى دونه دفعاً، فثبت وزللتم، وجدّ ونكلتم، وشد عقد عزيمته وحللتم، وكنتم في تلك الوقعة قرة عين الحاسد، وشماتة العدو الراصد، وقد كانت نصبة توليكم بين يديه بشيعة هائلة، ودعامتكم لولا إنثناؤه عنكم ماثلة، فشغله عنكم من غررتموه من الرّجل الذي أسلمتموه للقتل، وفررتم، ونصبتموهم دريئة للرمح ثم طرتم، ولولا مكان من أوردتموه من المسلمين ولم تصدروه، وخذلتموه من المجاهدين ولم تنصروه، لانكشف دون ذلك الرماح جنتكم ووقاؤكم، وأصيبت بها ظهوركم وأقفاؤكم، عاقبكم الله بما أنتم أهله، فأنتم أشجع الناس أقفاء وظهوراً، وأجبنهم وجوهاً ونحوراً، ليس منكم من تدفع به كريهة، ولا عندكم في الرشد روية ولا بديهية، فمتى وأي وقت تفلحون، ولأي شىء بعد ذلك تصلحون؟ ونحمد الله عز وجهه كثيراً، فقد دفع بفضله الأهم الأكبر، وأجرى بأكثر السلامة القدر. فاكشفوا بعد أغطية أبصاركم، وقصروا حبل اغتراركم، وألبسوا منه جنة حذاركم، واعلموا أن وراء مجازاتنا إياكم جزاء توفونه، ويوماً عصيباً تلقونه، فكونوا بعد هذه الهناة لداعي الرشد بين مطيع وسامع، ومن كلمة الاتفاق والتآلف على أمر جامع، فإنكم لو خلصت غيوبكم، وحسنت سريرتكم، واطمأنت على التقوى قلوبكم، لظهر أمركم وعلا جدكم، ولما ذهب ريحكم ولا فل حدكم، فتوخوا في سبيل الله وطاعته أخلص النيات، وأصدق العزمات، واثبتوا أحسن الثبات، وكونوا من الحذر والتقوى على مثل ليلة البيات. وقد ذُكر أن للعدو دمره الله مدداً يأتيه من خلفه، والله يقطع به، فلتضعوا على مسالكه عيوناً تكلأ، ولتكن آذانكم مصيغة لما يطرأ، فإن كان له مدد كما ذكر، قطعتم به السبيل دون لحاقه، وأقمتم الحزم على ساقه، والله تعالى يفتح لكم فيهم الأبواب، ويأخذ بأزمتكم إلى الصواب، إنه الحميد المجيد، لا إله غيره.(3/542)
5
رسالة
وله (أي لأمير المسلمين) إلى الفقيه القاضي وسائر الفقهاء والوزراء والأعيان والكافة ببلنسية عند نزول ابن رذمير عليها
(منقولة عن المخطوط رقم 488 إسكوريال السابق ذكره لوحة 72 - 73 أ).
كتابنا أبقاكم الله، وأمدكم بتقواه، ووفقكم لما يرضاه، ولا أخلاكم من لطايف رضاه، وعوارف نعماه، من حضرة مراكش حرسها الله، لسبع خلون من شعبان المكرم سنة ثلث وعشرين وخمس مائة. وقد وصل إلينا كتاب الفقيه الخطيب القاضي أبى الحسن منكم أعزه الله بتقواه، مضمناً من ذكر ما بلغه الوجل من نفوسكم، ما لا نزال نتوخاً بحسبه ان شاء الله ما يفي بترفيهكم وتأنيسكم، فلا يذهبن بكم الجزع لما كان من انكشاف المسلمين هناك عن مراكزهم، وتصييرهم ما صيروه من محلتهم، فرصة لمناهزتهم، وانهزامهم بغير سبب سوى تخاذلهم المعتاد، مع ما كانوا عليه من تكاثر الأعداد، وتظاهر الأجناد، فحسبناهم جميعاً وقلوبهم شتى، ولشد ما وعظناهم في ذلك وذكرناهم، فما نجعت فيهم الموعظة، ولا نفعتهم الذكرى. وبعد فإنا لا ندعكم بحول الله لضياع، ولا نألوكم إلا اهتبالا يذهب بمشيئة الله ما نالكم من توقع وارتياع، فطيبوا أنفساً، واطمئنوا قلوباً، والله يجعل من دون ما توقعتموه فتحاً قريباً، إنه هو الفتاح العليم المنان الكريم، لا رب غيره. واعلموا أنه قد نفذت الآن كتبنا ثانية، إلى ولاة أعمالنا كلأهم الله وإياها، نأمرهم بتسريب الأقوات، وتعجيل إنفادها نحوكم من كل الجهات، وسيرد عليكم منها الكثير الموفور لأقرب الأوقات، ثم لا تزالون من بالنا بأحق مكان من المراعاة والمحاماة، ان شاء الله تعالى، وهو سبحانه يوفقنا لصالح نتوخاه من لم شعثكم، وسد خللكم، وإذهاب مكترثكم، وحسم عللكم، ويقضي بما يضم نشرهم، ويشد أزرهم، ويصلح أمرهم، ويسد ثغرهم، ويحفظ الألفة عليهم، ويربي النعمة لديهم برحمته، وتبلغوا أبقاكم الله سلاماً كثيراً أثيراً خطيراً موفوراً.(3/543)
6
رسالة
وله (أي لأمير المسلمين) إلى المذكورين مجاوباً لهم بهزيمة ابن رذمير إياهم في " القلاعة "
(منقولة عن المخطوط رقم 488 إسكوريال السابق ذكره لوحة 73 ب).
كتابنا أبقاكم الله وأكرمكم بتقواه، وكنفكم بعصمته وجعلكم في حماه، وأسبغ عليكم عوارفه ونعماه، من حضرة مراكش حرسها الله في الحادي عشر من شعبان المكرم من سنة ثلث وعشرين وخمس مائة، غب ما وافانا كتابكم الأثير مضمناً وصف اليوم الذي جرت به خزيه المقادير، فاستعرضناه وتقرر لدينا جميع ما حواه، وفي علمه سبحانه موقع ذلك لدينا وعزازة شأنه علينا، لكن لا مخرج عن القضاء وحكمه، ولا محيد عن القدر وحتمه، ولن يرد حول محتال ما سبق في علمه، وما ألونا، وهو عز وجهه أعدل الشاهدين، جداً وعزماً وكدحاً لإعلاء كلمة الإسلام، وحزماً ببذل الأموال وتخير الرجال، واعتيام الأسلحة والأفراس، والجمع بين الإيحاش والإيناس، في الوعد والوعيد والتخصيص والتأكيد، وعرض الآراء المتخيل فيها السداد، وبلوغ مدة جهاد في منحو والاجتهاد، لو كان العون موجوداً، ولم يكن التعذير ... حاضراً عتيداً، والله يخزى كل خاين ماين بأسخاطه تعالى داين جزاه، ويرد به برد مضمره ورداه، ويوشك مقارضته وارداه بحوله وطوله، وبالله القسم الأعظم لو أمكننا ان نكون لديكم حاضرين، لأسرعنا بذلك مبادرين، ولما ثنانا عن حمايتكم بأنفسنا ثان، ولا قعد بنا عن معالجة نصركم تراخ ولا توان. وقد جددنا الآن أحث نظر، ونحن نردفه بما يكون عليكم ألم وارد، وأسرع منتظر، فلتهدأ ضلوعكم ويسكن مروعكم، فمالنا والله يشهد هم سوى الذياد عنكم والدفاع، والانفراد لذلك والاستجماع، والاجتهاد، والتوفر عليه أتم الاضطلاع، والله عز وجل المعين المنجد، فم يزل يعضد على ما يرضيه ويؤيد، لا إله الا هو.(3/544)
7
رسالة
وجهها أمير المسلمين علي بن يوسف بتقريع قادته وجنده عقب هزيمتهم أمام ابن رذمير (ألفونسو المحارب) في أراضي بلنسية
(منقولة عن المخطوط رقم 538 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال لوحة 13 أ - 13 ب).
" من أمير المسلمين وناصر الدين، أما بعد،
يا فرقة خَبُثتْ سرايرها، وانتكثت مرايرها، وطايفة انتفخ سحرها، وغاض على حين مرَّة بحرها، فقد آن للنِّعم أن تفارقكم، وللأقدام أن تطأ مفارقكم، حين ركبتموها جلواء عارية، وأصبحتم في ادِّراع عارها أمثالا سواسية، واختلط المرعى منكم بالهمل، فما يتبين الأنقص من الأكمل، فطأطأتم لها رءوس عشايركم، وقضيتم بالفسولة على سايركم. لا جرم أن قد صرتم سمر الندى، والأحاديث المُلِعنة بالغداة والعشي، بما خامركم من الجبن والخور، واستهواكم من لقاء عدوكم بالجانب الأزور، لا تواجهونهم طرفة عين، ولا تعاطونهم حُمَة حين، بل تعطونهم الظهر هنياً مرياً، وتتخذونهم وراءكم ظهرياً، والرماح نحوكم لم تشرع، والخيل لم تسرع، والنفوس في حياض المنية لم تُكرع، فإنكم ثلة ذيابهم وفريسة أنيابهم، قد نعموا في بوسكم، وناهضوكم بلبوسكم، وحاربوكم عاماً على إثر عام، حتى ألزقُوكم، وتركوكم أسلح من حُبارى، وأشرد من نعام.
فالآن حين ملأتم أيديهم متاعاً، وواديهم سلاحاً وكراعاً، قد غزوكم في عقركم، وأذاقوكم وبال أمركم، فلذتم بالجدران، وبؤتم بالندامة والخسران.
بابغايا بني الأصفر، وسجايا ذوات الدَّلِّ والخفر، أكرهتم زَحَافهم، وكنتم - علم الله - أضعافهم؟ أفما لكم بالمعذرة، وأين؟ وقد فرض الله الواحد منكم بالإثنين، فقال: " إن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ". هذا، وعلمتكم العليى، وحلوبتكم الحياة الدينى، ماشئتم من صارم، وطرف ونحض وركايب وسوام، ونضايد وخيام.
فيا أسفاً للحق يدمغه الباطل، والحالي يبهره العاطل. لا بالحنيفية تحرّزتم، ولا إلى الحفيظة والإنابة تحيزتم. ليت شعري بماذا تقلدتموها هندية واعتقلتموها سمهرية خطية، وركبتموها جرداً سوابق، وملكتموها مغارب ومشارق؟(3/545)
ثاوين في غير عدادكم، منتزين على أضدادكم، يؤدون الإتاوة إليكم حين أشرقنموهم بالهوان، وأنتم فيهم غرباء الوجه واليد واللسان، وصيروكم عبيد العصى، ولستم بالأكثرين منهم حصى، بل شرذمة قليل نفعها، كثير نجعها. فيا عجباً لذهولكم، شبانكم وكهولكم، تأكلون تمرها، ولا تَصْلون جمرها، وتذهبون بحلوائها، ولا تصبرون على لأوائها؟ أي بني اللئيمة، وأعيار الهزيمة، إلى م يريعكم الناقد، ويردكم الفارس الواحد:
إلى م يريعكم الناقد ... ويردكم الفارس الواحد
ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد
تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد
فليت لكم بارتباط الخيول ... ضئاناً لها حالب قاعد
ومن لرعاة الإبل بالجد المقبل؟ لقِدماً ما أذهبتم التالد والطارف، وعجباً عجيباً من جذامي المطارف، وأنتم قد قدحتم في ملكنا، وأذِنتم بانتثار سلكنا، فلولا من لدينا من ذويكم، وضراعتهم إلينا فيكم، لألحقناكم عجلا بصحرايكم، وطهرنا الجزيرة من رُحَضايكم، بعد أن نوسعكم عقاباً، ونحدُّ أن لا تلووا على وجه نقاباً. فاللؤم تحت عمايمكم، والوهن والفشل، طي عزايمكم، لاكن ما جبلنا عليه من الأناة، وتوخيناه قدماً من إيقاظ ذوي الملكات، يكفنا عن استيصالكم، ويحملنا على شحذ نصالكم.
فاستنسروا يا بغاث الهيجا، واستيئسوا، بعد الرجا، واحذروا حلماً أغضبتموه، ووادياً من الصبر أنضبتموه، وتوقوا صدراً أحرجتموه، وليثاً من أجمته أخرجتموه، وأيم الله نقسم إنذاراً بكم، وإعذاراً لكم، لنوردنّ الفار منكم من الزحف، ما عافه من موارد الحتف، ولنتجاوزنّ السوط إلى السيف، ولنبدلنّ المعدلة فيكم بالحيف، فليعلم المقدم المحجم منكم عن الإقدام، أنه سلم من الحمام إلى الحمام، وتخطى مصرع الأسد الباسل إلى جذع مائل، وشهادة الأبرار إلى مشهد الذل والصغار، كما أن من أصيب منكم في حرب، أو أبلى بطعن أو ضرب، خلفناه في الأهل والولد، وبعناه الأثرة والكرامة يداً بيد، فاختاروا لأنفسكم وأعقابكم، وانضوا ثوب الخزي عن رقابكم، والسلام على من حمى الإسلام.
كمل ما كتب به الفقيه الأديب، الكاتب البليغ الأريب ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبى الخصال عن أمير المسلمين ".(3/546)
8
رسالة
لأبى عبد الله بن أبى الخصال عن بعض المرابطين إلى أمير المسلمين علي بن يوسف تتعلق بشئون حصن أرلبة (أوريخا)
(منقولة عن المخطوط رقم 519 الغزيري. مكتبة الإسكوريال لوحة 104 ب و 105 أ).
" أطال الله بقاء أمير المسلمين وناصر الدين، مؤيداً بجنوده، معاناً بتوفيقه وتسديده، ولا زال عدله ينعش الأمم، وسعده ينهض الهمم. كتبت أدام الله تأييده، من قرطبة حرسها الله، لست بقين من جمادى الآخرة، وقبل بثلاث وافيتها من الوجهة التي صحبني ومن معي فيها يمن أمره، واكتنفتنا عزة نصره، بعد أن أودعنا حصن أرلبة حماه الله، قوتاً موفوراً، ومرفقاً كثيراً، وحطت عندهم الأسعار وعم الاستبشار، وتسلم أبو الخيار مسعود الدليل، سلمه الله، الحصن، واحتوى عليه، وصار أمره إليه، ووافينا فلاناً أبقاه الله، قد استاق غنيمة ظاهرة، وجملة بن البقر وافرة، وقتل من العدو، قصمه الله عدداً، وقضى وطراً، وشفى وجداً، فتيمن الناس هناك، بولاية الأمير أبى يحيى أعزه الله، وبقيادة هذا القائد، الذي اقترن الفتح بمأتاه، وكانت [عند] مقدمنا هذا الحصن خيل طليطلة بددها الله، مجتمعة، فوقذهم الرعب وشملهم الصغار، والرغم، وتحققنا هناك أن مواشي تلك الجبال، قد أخذت في الإ ... نبساط والإسهال، والدنو من الوادي في طلب الخصب، وتحوله من البرد إلى الدفيء، والله يجعلها للمسلمين طعمة، ويزيدهم بها قوة بعزته، وأنباء العدو، قصمه الله، الآن خامدة، وعزايمهم هامدة، وأيديهم جامدة، استأصل الله، بحد أمير المسلمين نعمتهم، وقطف قممهم، وأداخ بلادهم، وانتسف طارفهم وتلادهم، وألفيت الحضرة حرسها الله، وقد أخذ السرور من أهلها كل مأخذ، وسرى فيهم كل مسرى ومنفذ، بولاية الأمير أبى يحيى أعزه الله، وكثر الدعاء لأمير المسلمين أيده الله، بما جدد لديهم من حسن نظر، وخلع عليهم من جمال سيرة، ولقيته فلقيت كل ما أبهج، وكان وفقاً لما انتشر، ومشاكلا لما استذاع وظهر، تمم الله النعمة، وظاهر عليه الكفاية والعصمة، ووافتنى كتبه الكرام بما بلغ الأمل، وحسم العلل، وأنا ممتثل في كل معنى ما يحره مجتهد، فيما يقيم ذلك الثغر ويسده، إن شاء الله عز وجل ".(3/547)
9
رسالة
موجهة من أمير المسلمين تاشفين بن علي بن يوسف إلى الفقهاء والوزراء والأخيار والكافة ببلنسية
(منقولة عن المخطوط رقم 538 إسكوريال السابق ذكره لوحة 11 أ - 12 ب).
" بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً. من أمير المسلمين وناصر الدين تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين.
إلى وليه في الله تعالى، الأعز الأكرم الأحظى في ذات الله لديه، أبى زكريا يحيى بن علي، والفقيه القاضي أبى محمد بن جحاف، وساير الفقهاء والوزراء والأخيار والصلحاء، والكافة ببلنسية، حرسها الله، وأدام كرامتهم بتقواه.
سلام مبرور كريم، مردد عميم على جميعكم، ورحمت الله وبركاته، وبعد.
فإن كتابنا إليكم، كتبكم الله ممن آثر الحق واتبع سننه، وادّرع الحزم ولبس جننه، وسمع القول واتبع أحسنه، وحافظ على كتاب الله الذي يسره للذكرى وبينه، وجعلنا وإياكم ممن جمّله بتقواه وزينه، من مناخنا بكرنطة، في العشر الأول من جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة، وبحمد الله من صحيفتنا هذه صدرها الأكرم، وكل قول فبعده يترتب ويتنظم. وقد جاء في الآثار: كل كلام لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أجذم.
وبعد أن نستوفي واجب الحمد والشكر، ونذكر نعمه السابغة، علينا أجل الذكر، فنسأل الله توفيقاً قايداً إلى الرشد، وقوة على طاعته نحمل بها من تلزمنا رعايته، على المنهج الأفضل والسنن الأحمد، ونستعيذه من قلب لا يخشع ودعاء لا يسمع، وموعظة لا تنفع، وسجية لا تطاع، وهواً يتبع، ونصلي على محمد نبيه ورسوله الذي طهره تطهيراً، وأرسله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ رسالة ربه وهداه، وصبر على مشقة البلاغ وأذاه، ولم يخش أحداً إلا الله الذي رجاه، إلى أن بلغ الكتاب أجله والدين مداه، وانتهى ملك أمته إلى ما كان الله له زَواه، صلى الله عليه وعلى صحبه الذين ذبوا عن هذا الدين وحموا حماه، ووالوا من والاه، وعادوا من عاداه.(3/548)
ولما كان، أعزكم الله، الدين ينعت بالنصيحة لله ولرسوله وللمسلمين، والذكرى تنفع المؤمنين، وجب أن نتخذ لكم من الموعظة به أنفسها الذي مُرُّها في العاقبة حلو، وأخفض مراتبها في الله علو، فاعلموا، أعلمكم الله، ولا أقامكم مقاماً يرديكم، أن أقرب الناس إلى الله أحناهم على عباده، وامحضهم للنصيحة لهم بمبلغ جده واجتهاده، وأن أولى الناس بنا من طاب خبره، وكرم أثره، وحسن مورده في الأمور ومصدره، وكذلك " العامل " منكم و " القاضي " وفقهما الله، إنما أقعدا بذلك المكان لخير يتوليانه وشر يردعانه، وعدل يقضيانه، فليقدما أولا تسديد أمرهما، ولينظرا في إصلاح أنفسهما، قبل إصلاح غيرهما، فمن لا يصلح أمر نفسه لا يصلح سواه، ومن لا يسدد أموره لا يسدد أمر من تولاه. وعليكم أجمعين بتقوى الله في السر والإعلان، والتمسك بعصم الإيمان، والاستعانة على حوايجكم بالكتمان، والتنزه عن فلتات اليد واللسان. ولم تخل أمة من جاهل وعليم، ومعوج وقويم، فليردع الجاهلَ العليم، ولينبه المعوجَ القويم، ولن يزال الناس بخير ما لم يتساووا، فإذا تساووا هلكوا.
وأهم أموركم الصلاة، التي هي سبيل النجاة لسالكها، ولا حظ في الإسلام لتاركها، فالزموها في جماعاتها، ولا تخلوا بشىء من مسنوناتها، ومفروضاتها، وأخلصوا فيها لله العلي الأكبر، واعلموا أنها كما قال سبحانه " إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ".
وعليكم وفقكم الله بإصلاح ذات البين، واعتماد الحق المخلص في الدارين، وتخير الرفقا وانتخاب الجلسا، فإن مثل الجليس كمثل القين، والصاحب الصالح قوة في الدين، وقرة في العين.
وانتدبوا واندبوا من قبلكم للجهاد، الذي هو من قواعد الإيمان والرشاد، أمر الرحمن، وفرض على الكفاية والأعيان، واتصال الهدو بفضل الله وللأمان. وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القايم الصايم الذي لا يفتر عن صلاة ولا صيام ".
والذي نأخذ به عهد الله على العامل منكم الرفق بالرعية، والحكم بالتسوية، وإجراء أمورها على السبيل الحميدة المرضية، فهي العنصر الذي منه الاستمداد، والأصل(3/549)
الذي بثبوته تعمر البلاد، وتتوفر الأجناد، ويتمكن الرباط في سبيل الله والجهاد، وليعلم أن العدل يقسطها، والجور يسخطها، وقلة المساواة تشتتها وتقنطها.
ولا سبيل أن يستعمل عليها إلا من يستَثَق جانبه وتحسن الأحدوثة عنه. وأن ظهر أحد منهم بنظر جميل فيه، وكان في نفسه ما يخفيه، فالبدار البدار إلى عزله وعقابه والتشديد فيما نأمر به.
واعلموا، رحمكم الله، أن مدار الفتيا ومجرى الأحكام والشورى، في الحضر والبُدا، على ما اتفق عليه السلف الصالح، رحمهم الله، من الاقتصار على مذهب ْإمام دار الهجرة أبى عبد الله مالك بن أنس، رضي الله عنه، فلا عدول لقاض ولا مُفت عن مذهبه، ولا يأخذ في تحليل ولا تحريم إلا به، ومن حاد عن رأيه بفتواه، ومال من الأئمة إلى سواه، فقد ركب رأسه واتبع هواه، ومتى عثرتم على كتاب بدعة، أو صاحب بدعة فإياكم وإياه، وخاصة وفقكم الله، كتب أبى حامد الغزالي، فليتتبع أثرها، وليقطع بالحرق المتتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الإيمان من يتهم بكتمانها.
والخمر، نزهكم الله عن خبايث الأمور، التي هي جماع الإثم والفجور، والباب المفضي إلى سواكن الفسق والشرور، فاجتهدوا في شأنها، وأوعزوا في جميع جهاتكم بإراقة دنانها، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله الخمر وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه ".
وكذلك نوكد العهد فيما نوصي به دايباً، مما أوجبه الله تعالى في حقوق المسلمين من الأعشار والزكوات، والأموال المفروضة للأرزاق المسماة، فليؤخذ ما فرض الله منها في نصابها المعلوم، وعلى سنة نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وكذلك نوكد عليكم أتم تأكيد أمر أهل الذمة ألا يتصرف أحد منهم في أمور المسلمين، لأنه من فساد الدين.
والسلام الأبر الأكرم الأخطر على جميعكم، ورحمة الله وبركاته، وعلى من هناك من المسلمين ".
(تمت الرسائل المرابطية)(3/550)
1
صيغة التوحيد التي وضعها المهدي ابن تومرت لأتباعه توحيد الباري سبحانه
(منقولة عن كتاب " أعز ما يطلب " ص 240 و 241)
لا إله إلا الذي دلت عليه الموجودات، وشهدت عليه المخلوقات، بأنه جل وعلا، وجب عليه الوجود على الإطلاق، من غير تقييد ولا تخصيص، بزمان ولا مكان، ولا جهة ولا حد، ولا جنس ولا صورة ولا شكل، ولا مقدار ولا هيئة ولا حال، أول لا يتقيد بالقبلية، آخر لا يتقيد بالبعدية، أحد لا يتقيد بالأينية، صمد لا يتقيد بالكيفية، عزيز لا يتقيد بالمثلية، لا تحده الأذهان، ولا تصوره الأوهام، ولا تلحقه الأفكار، ولا تكيفه العقول، لا يتصف بالتحيز والانتقال، ولا يتصف بالتغيير والزوال، ولا يتصف بالجهل والاضطرار، ولا يتصف بالعجز والافتقار، له العظمة والجلال، وله العزة والكمال، وله العلم والاختيار، وله الملك والاقتدار، وله الحياة والبقاء، وله الأسماء الحسنى، واحد في أزليته، ليس معه شىء غيره ولا موجود سواه، لا أرض ولا سماء ولا ماء ولا هواء، ولا خلاء ولا ملاء، ولا نور ولا ظلام، ولا ليل ولا نهار، ولا أنيس ولا حسيس، ولا رز ولا هميس، إلا الواحد القهار، انفرد في الأزل بالوحدانية، والملك والألوهية، ليس معه مدبر في الخلق، ولا شريك في الملك، له الحكم والقضاء، وله الحمد والثناء، ولا دافع لما قضى، ولا مانع لما أعطى، يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه ما يشاء، لا يرجو ثواباً، ولا يخاف عقاباً، ليس فوقه آمر قاهر، ولا مانع زاجر، ليس عليه حق، ولا عليه حكم، فكل منة منه فضل، ومنقمة منه عدل، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.(3/551)
2
رسالة الخليفة عبد المؤمن بن علي
(منقولة عن مخطوط كتاب نظم الجمان لابن القطان لوحة 56 ب - 65 أ).
" أمره رضى الله تعالى عنه، بالأمر بالمعروف، ونهيه عن المنكر وعدله ونهجه مناهج الحق وفضله "
(له رسالة جامعة لأنواع من الأوامر، خلدت في مآثره السنية، ووصاياه الحكيمة. وهي من إنشاء الكاتب أبى جعفر بن عطية، وهي بعد البسملة والصلاة).
من أمير المؤمنين أيده الله تعالى بنصره، وأمده بمعونته، إلى جميع الطلبة الذين بالأندلس، ومن صحبهم من المشيخة، والأعيان والكافة، وفقهم الله تعالى، واستعملهم بما يرضاه.
سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أما بعد، فالحمد لله، وهو اللطيف الكريم، الرؤوف الرحيم، الذي بعدله قامت السموات والأرض وبه تقوم، وعلى محمد نبيه المصطفى الصلاة المباركة والتسليم، ولأمته المخلصة في عليين كتابها المرقوم، والرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، الذي بعثه رحمة للمؤمنين، ينيلهم به الروح والنعيم، ويريهم رحيقها المختوم.
وكتابنا هذا - كتب الله تعالى لكم رأفة ورحمة، وسوغكم من اليمن والأمن أنعم نعمة، وجعلنا واياكم فيمن قدم لدار قراره ونعِمّه - من الحضرة العلية بتينملّل حرسها الله تعالى في سادس عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وقد وصلناها - والحمد لله - وجناح الرحمة منضوض، وطرف المكاره مغضوض، وفيض العدل والبذل منتشر مستفيض، وشأن الظلم - بإذن الله تعالى - مكفوف مقبوض، والحق أبلج لا كناية ولا تعريض.
وكان مقصودنا من هذه الوجهة المباركة زيارة قبر المكرم المهدي، رضى الله تعالى عنه، لتجديد عهد به تقادم، وشفاء شوق إليه لزم ولازم، والنظر في بناء مسجده المكرم تمتعاً ببركاته، ورجاء في تضاعف الأمر بكل لبنة من لبناته، وحرصاً على أن يتوافر به، حظ التوفيق وقسمه، ويعلو في الملأ الأعلى ذكره(3/552)
ورسمه، ورغبة في رفع بيت من أفضل البيوت، التي أمر الله عز وجل أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، ولتنعم الجوارح، بمشاهدة هذه المشاهد المنعمة، والمواسم المعظمة، وتتزود بالتطوف على معاهد ما عهدته من العوارف المتممة، كل ذلك غرضاً في ذات الله تعالى غرضه، وأمر يستحب المرء إليه طلب ذلك الخير ويستنهضه.
وقد تم - بحمد الله تعالى - هذا الوطر، واقتضى الإياب إلى النظر في المصالح، والرأي الجميل النظر، وتفجرت - بحمد الله تعالى - منابع الخير وفاضت، وعادت روابض الأمر إلى أشرف حالاته وآضت، وانبعثت موارد البركات بعد ما غارت في غير هذا الزمن المذكور وفاضت، ونسأل الله تعالى عوناً على شكر هذه النعم التي عمت ملابسها، ووعت الأفئدة نفائسها، وخاب عن رحماها خاسر الكلمة وبائسها.
وان الله تعالى، قد قضى بأن يكون شرف صاحبه به وامتساكه، وبين العدل والجور حياة العالم وهلاكه، فالسعيد من لقي ربه مبرأ من اتباع الهوى سليماً، والشقي من أتى مليماً، باكتساب الكبائر ملوماً، " ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه، وكان الله عليماً حكيماً "، والله سبحانه يهب الرحمة للمسترحمين، ويحب الرفق ويحل به كنفه الأمين، وفي الحض على ذلك يقول وهو أصدق القائلين " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " وبرحمته سبحانه بسط لعباده النعماء، وبرأفته كشف عنهم العماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما يرحم الله من عباده الرحماء.
وقد اتصل بنا - وفقكم الله تعالى - أن من لا يتقي الله ولا يخشاه، ولا يراقبه في كبيرة يغشاها وتغشاه، ولا يؤمن بيوم الحساب فيما أذاعه من المنكر وأفشاه، يتسلطون بأهوائهم على الأموال والأبشار، وينتشرون بالقتل بأعراض الدنيا أقبح الانتشار، يستحلون حرمات المسلمين من غير حلها، ويسارعون إلى نقض عقد الشرع وحلها، ويصفون الشدة والغلظة بطراً ورياءً في غير محلها، ويبتدعون من وجوه المظالم ما تضعف شواهق الجبال عن حملها، ويستنبطون من فواحش الآثام ما تذهب نفوس المؤمنين لأجلها، ويتسببون إلى قتل المسلمين، فضلا عن استباحة أموالهم وأعراضهم بتلبسات يسيئونها، ومزورات يضيفونها إليهم وينسبونها، وينظرون إلى اهتضام حق الله تعالى فيهم بأباطيل(3/553)
يعدونها ظلماً ويحسبونها، ويسعون في استئصال نفوسهم بكل قاطعة موجعة، ويعيثون فيهم بكل غاضبة للقلوب منتزعة، والنبي، صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم يقول: " من قتل عصفوراً بغير حق عبثاً، جاء يوم القيامة وله صراخ عند العرش يقول: يارب سل هذا فيم قتلني عبثاً من غير منفعة " ولا يلتفتون إلى عاقبته ولا ينظرون، ولا يحرون بآذانهم ما يفعل الله بأمثالهم ولا يخطرون " يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ".
هيهات هيهات، إنهم ساء ما كانوا يعملون، تالله ليأتينهم من العقاب الأليم في أقرب أمد ما يهدهم هداً، ويجعل بينهم وبن النجاة من اشتداد الهلكة سداً، ويتأصلهم بصواعق الانتقام فقد جاءوا شيئاً إداً. أما علموا أن الله تعالى يطلع على نجواهم، ويوقعهم في مهاوي بلواهم، ويلبسهم أردية سرائرهم فيما استهواهم الشيطان به. واستغواهم. أما علموا أن أمر المهدي رضى الله تعالى عنه تساوى في الحق به أضعف المسلمين وأقواهم، ألم يقل رسول الله صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم: " المسلمون تنكفي دماؤهم ويسعى لذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ". لقد أمنوا مكر الله جرأة عليه وإقداماً، وأعمت الشهوات بصائرهم إذهاباً لنور الحق من نفوسهم وإعداماً، وتالله لو تعين لنا فاعل ذلك وتشخص، لما خرج من حياله مكروه ولا تخلص، ولسارع إليه من أسرع عقابنا ما يمحو رسمه محو الفنا، ويكتب يديه بما قدمتا من الخنا. ولقد ذكر لنا من تلك المظالم المستغرقة لأنواع المآثم، الموبقة لأهلها حين يقرع سن الندم النادم، أن أولياءك الخائضين في غمرات أبحرها، المثيرين لأسباب منكرها، الصارمين لعلق الشريعة، القاطعين لأبهرها، يمدون أيديهم إلى ضرب الناس بالسياط، إبلاغاً في الانتهاء بكثرتها وإمجاشاً، ويتسببون بذلك إلى أخذ أموال الناس إيغالا للصدور وإيحاشاً، وذلك أمر معاذ الله أن يرضى به مؤمن بالله، أو يتجه إليه حق بنوع من الاتجاه، ما أبعد العدل - أصلحكم الله تعالى - عن هذه الأمثال والأشباه.
وقد علمتم أن عادتنا فيما يستوجب الضرب أو يستحقه، ممن يظلم الأمر الشرعي أو يعقه بحدود معلومة، دون إفحاش ولا انتهاك، ومواقف مرسومة تقابل كلا بمقتضى جرمه من أثيم أو أفاك.
ولقد ذكر لنا في أمر المغارم والمكوس والقبالات، وتحجير المراسي وغيرها(3/554)
ما رأينا أنه أعظم الكبائر جرماً وإفكاً، وأدناها إلى من تولاها دماراً وهلكاً، وأكثرها في نفس الديانة عبثاً وفتكاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون. هل قام هذا الأمر العالي، إلا لقطع أسباب الظلم وعلقه، وسد سبيل الحق وطرقه، وإجراء العدل إلى غاية شأوه وطلقه. اللهم إنا نشهدك أن سبيلنا سبيلك، وإنا نستعيذك مما استعاذك منه محمد رسولك. روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعوذ بالله من المغرم والمأثم " تنبيهاً على ما في أغرام الناس من الظلم المظلم. ولئن نقل إلينا - والله الشاهد - أن نوعاً من هذه الأنواع المحرمة أو صنفاً من تلك الأصناف المظلمة، يتولاه أحد هنالك من البشر أو يأمر بشىء من ذلك الفعل المستنكر، لنعاقبه بمحو أثره عقاباً يبقى [عظة] لمن اتعظ، وعبرة لمن تنبه لزاجر الحق واستيقظ.
وإن من ذلك الرأي الذميم والسعي المنقوم، ما ذكر لنا في أمر المسافرين، الذين يريدون الرجوع إلى أوطانهم وعمارتها، والطوائف المارة على البلاد لمعنى تجارتها، يتسبب إليه قوم من هؤلاء الظلمة الدخلاء، الذين يضعون الغش طي ما يوهمون به من النصيحة، ويستنبطون المكر في تصرفاتهم القبيحة، فيقولون للرجل منهم عندك من حقوق الله كيت وكيت، وإن للمخزن جميع ما به أتيت، ويقرنون بهذا من الوعيد والإغلاظ الشديد، ما يرضى له المذكور بالخروج عن جملة ماله، ويعتقد السلامة من ذلك الظالم الغاصب أعظم منالة، وإنها لداهية عاقرة، قاصمة للظهر فاقرة، ويا عجباً لكم معشر الطلبة والشيوخ وكافة الموحدين، فإنكم بذلك مطلوبون، وما حجتكم وما أنتم على حق، كيف تتكيف هذه الكبائر وأنتم للأمور هنالك رصد، أم كيف تجري هذه الظلمات وقد قام للحق أود، أم كيف تكون الدماء على هذه الصورة تسفك والحرمات تنتهك، ولا يمتعض لذلك منكم أحد، كلا ليعاقبنّ كل من جنى، وليظهرن ما قصد القاصد وما عنى، وإن من وراء قولنا لتتبعاً يبحث عن ذلك ويمحص، ونظراً يفرق بين المشكل منه ويخلص.
ولا شك - والله أعلم - في أن أسباب تلك المنكرات، ودواعي تغير تلك الأحوال المتغيرات، قوم يتوسطون بينكم وبين الناس، ويقولون ما لا يفعلون ذهاباً الى التدليس عليكم والإلباس، ويجعلون النفير بالظلم والعدوان بدلا من العقل والقول الجميل والإيناس، وذلك لغيب المباشرة ومباينتها، وبعدكم عن(3/555)
مشاهدة الأمور ومعاينتهما، والتحجب عن مطالعة الأمور داعية كبرى لفسادها واختلالها، وسبب قوي في اننقاضها وانحلالها، وفرصة لوسائط السوء بانهماكها في البواطل واسترسالها، فلا تكلوا النظر فيها إلى أحد سواكم، ولا تبعدوا بغلظ الحجاب عما قصدكم من الخير ونواكم، وباشروا الأحكام هنالك مباشرة المتعهد المتفقد، وعليكم بالتواضع لأمر الله تعالى وترك الاستعلاء المنتقد، وتحفظوا في جانب المسلمين من كل خفيف المقال، كثير الاضطراب في الباطل والانتقال، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال، وتثبتوا وفقكم الله تعالى في الأحكام، التي لا بد لكم من النظر فيها تثبت الحث [البحث]، عن حقائق الأمور والاستقصاء، وتعهدوا الناس بالتحذير من اللدد في الخصام وبالغوا في الإيصاء.
ولا تظنوا أن الاجتهاد في الأمور يؤدي إلى الهجوم عليها والاقتحام، ويخرج النظر عن التثبت في القضايا والأحكام، فاذهبوا فيها مذهباً وسطاً، واقصدوا الاعتدال مقصداً مقسطاً، ولا تجتهدوا في شىء لا تعلمون فيه حكماً، وشاورونا فيما يخفي عنكم وجهه، لنرسم لكم فيه رسماً، فليس كل مجتهد مصيباً برأيه، ولا كل هاجم على رأى منجحاً في سعيه، وبين طرفي الأحوال واسطة جميلة فيها معقد السياسة ومناطها، وخير الأمور - قال عليه الصلاة والسلام - أوساطها.
وعليكم أن تبحثوا بغاية جدكم عن أولئك المسببين لتلك القبائح، الساعين في صد ما يرضاه الله تعالى من المصالح، وتعرفونا بهم بعد تثقيفهم، لنشرد بهم من خلفهم، ونكف بعقابهم نوعهم الظالم وصنفهم، وقد استخرنا الله، في سد تلك الذريعة، وصد تلك الأفعال الشنيعة، فرأينا أن ترفعوا إلينا أحكام المذنبين للكبائر، وتعلمونا بنبأ كل من ترون أنه يستوجب القتل بفعله الخاسر، دون أن تقيموا الحد عليه، أو تبادروا بالعقاب إليه، ولا سبيل لكم إلى قتل أحد من كل من هو في بلاد الموحدين وأنظارهم، ومن هو منهم وداخل في مضمارهم، وكل من ترون أنه يستوجب القتل، ممن يريد المكر في أمر الله تعالى والختل، فعرفونا بجلية أمره وتصحيحه، وخاطبونا بميز أمره ومشروحه، لينفذ فيه من قبلنا ما يوجه الحق ويقتضيه، ونمضي في عقابه ما ينفذه الشرع ويمضيه، فإياكم من مخالفة أمرنا هذا في قتل أحد ممن ذكرنا كائناً من كان، كبر ذنبه عندكم أو هان، ولتبادروا(3/556)
إلى أعلامنا بذنبه بعد سجنه وتثقيفه، لنقابله بما نراه، ونجري الحق في مجراه.
وأنه أعلمنا بأن من يرضي بتلك الفواحش بما يرضاه ويستبيحه، ولا يبالي أحسن الفعل فيه أم قبيحه، يبتاع المرأة ويبيعها دون استبراء، ويعبث في ذلك بكل إقدام على الله تعالى واجتراء، ولا يتحفظ من مواقعة الزنا المحض، ومخالفة الواجب مع الفرض، وأن في ذلك من اطراح ما أمر الله تعالى به من اتباع الشرع، وإفساد الأصل من السنة والفرع، ما لا يحل سماعه، ولا يستقر بنفس مؤمنة استطلاعه، فلا سبيل لأحد ممن هنالك أن يبتاع شيئاً منهن أو يبيع، حتى يستأذن الحاكم لأمره منكم والشيوخ، لئلا يذهب الحق في ذلك ويضيع، ولتقدموا للنظر في أسواقهن من ترضون دينه وأمانته، وتتحققون ثقته وصيانته، فمن أبيح له البيع والابتياع، أحضره الأمين المذكور ليرتفع بشهادته الشك والنزاع، وتجري السنة مجراها ويمتثل الأمر المطاع. وكذلك فليتوقفوا عن بيع النساء في جميع من تغنموه منهن في تلك الأرجاء، حتى تخاطبونا بأصل أمرهن وكيفيته، وتعلمونا من ذلك بجليته، لنرسم لكم فيه ما يكون عليه اعتمادكم، ويجري إليه اقتضاؤكم.
والله الله في البحث على الخمور، وتقديم النظر في أمرها، فهو من أهم الأمور، فإنها مفتاح الشرور، ورأس الكبائر والفجور، وهي رابطة أهل الجرم، وجامعة أشتات الظلم. قال النبي صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم: " الخمر جماع الإثم " فجدوا في طلبها في المواطن المتهمة بشأنها، واجتهدوا في إراقتها وكسر دنانها، واعمدوا إلى السبب الذي يؤدي إلى التمكن منها، فارعوه، والحظوه، واطرحوا الإغفال لذلك والفظوه، وقدموا أمناء متخيرين للتطوف على مواضع الترتيب، يكون بالمحافظة على ذلك محل المكالىء الرقيب، ولا يكن منهم إلا من يفرق بين الحلال ويميز، ويعرف ما يجوز شربه، وما لا يجوز، ومروهم بالتعهد لمواضع بيع الرُّب واعتصاره، وخذوهم بتوقف جدهم على ذلك واقتصاره، فما حل منه أباحوه، وما كان غير ذلك قطعوه أصلا وفرعاً وأراقوه، (الحلال بيّن والحرام بيّن) ولقضايا الشرع نظام. قال رسول الله صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم: " ما أسكر كثيره فالجرعة منه حرام ".
وإن من يسعى في نوع من أنواع الفساد، ويستصحب الاضرار بالمسلمين في الإصدار والإيراد، هؤلاء الراقصين الذين يردون بالكتب ويصدرون، ويمشون فيما بيننا وبينكم وينفرون، فإنه ذكر لنا أنهم يأخذون الناس بالنظر في كلفهم،(3/557)
ويلزمونهم في زادهم من كل موضع وعلفهم، وهذا فعل كل فرقة منهم في سيرها، وسوء رأيهم بذلك في المخازن وغيرها، وأن من جملة ما حكى عنهم أنهم يتألفون في الطرق جموعاً، ويحلون بأفنية الناس حلولا شنيعاً، يكلفونهم مؤناتهم تكليف المجرم، ويتحكمون عليهم بحكم المغرم، حتى أنهم لا يرضون في ضيافاتهم إلا بأسمن الجزر، وناهيكم بهذا الاجتراء العظيم الضرر، فسارعوا وفقكم الله تعالى، إلى حسم هذه العلة من أصلها، وبادروا إلى قطع تلك العادة الذميمة وفصلها، وتخيروا لرسائلكم إرسالا، وانتقوا من أهل المقدرة على ذلك والثقة رجالا، وادفعوا إليهم زاداً يقوم بهم في المجىء والانصراف، ويقطع شأنهم من التكليف والإلحاف، وارسموا لهم أياماً معروفة العدد، معلومة الأمد، لينتهوا بها، إلى مواقف رسائلهم، ويوزعوها على مسافات مراحلهم، وحذروهم من تكليف أحد من الناس ولو مثقال ذرة، وأوعدوا من تسبب منهم إلى مسلم بمساءة أو مضرة، والله تعالى المستعان على دفع أسباب الجور، ونستعيذ به سبحانه من الخور.
وكذلك ذكر لنا - وفقكم الله تعالى - من التحكم في الأموال، وقلة المبالاة بالتفريق بين الحرام منها والحلال، أن أولئك الذين ذكرت خدعهم، ووصفت غرضهم الذميم ومنزعهم، يفعلون في أموال الناس ما تقدم ذكره، وشرح فكره، وتمتد أيديهم إلى المخازن هناك، فيعيثون فيها، ويتحكمون، ويجرؤون في التعدي عليها ملء شأوهم وأنفسهم يظلمون، واتقوا الله تعالى فيها، فإنها أمواله المخزونة في أرضه، وبادروا إلى كف كل معتد وقبضه، ولا سبيل لكم أن تنفذوا منها قليلا ولا كثيراً، إلا بعد استئذاننا وتعريفنا بالدقيق والجليل مما هنالك، وهذا أمر منا لكم، ولكل من وقف على كتابنا هذا من الطلبة والشيوخ والموحدين كافة أمراً دائماً لازماً، سنته بالاستمرار مستظلة، وصحته بفضل الله لا تدخلها تعله.
وقد خاطبنا بمثل ما خاطبناكم به، جميع الطلبة الموحدين، وكافة البلاد التي هي بالدعوة المهدية معمورة، وبكلمة الإيمان مشرقة منيرة، فأمرنا بجميع فصول كتابنا هذا إليكم ولسواكم شامل، وفي كافة أقطار الموحدين نافذ عامل، فمن خالفه بوجه من وجوه الخلاف، فقد تبين عناده وساء في العاجل والآجل مآله ومعاده، ومن لم يمتثله، بواجب الامتثال، ويكف يده عما رسمناه في كافة الأحوال، فقد تعرض لأشد العقاب وأوحاه، واستقبل من ارتكاب النهي ما يصده الانتقام به عن سواه منحاه، فاستصحبوا حدنا هذا استصحاباً مؤيداً،(3/558)
واتخذوه في كافة أحوالكم مستنداً ومعتمداً، وعلى كل من إلى نظركم من أهل تلك البلاد المنتظمة في سلك التوحيد، الآخذة بالمذهب الرشيد، عون الأمير - أيده الله تعالى - على بسط العدل وإفاضته على الكل، ورفع العبد المثقل، وكل أن يسلكوا في جميع تصرفاتهم سبيل الاستقامة، ويستمروا على استعمال الحقائق والمواصلة لذلك والاستدامة، ويتجافوا عن مواقع الظلم، فالظلم ظلمات يوم القيامة، وينقادوا للواجبات بداراً إليها وإسراعاً، ويكونوا في التساعد على الصلاح كالنفس الواحدة تألفاً واجتماعاً.
ولما كان هذا الأمر عندنا - وفقكم الله تعالى - أهم أمر وأوجبه، وأحق ما أدناه الحق وقر به، وكان اهتمامنا به، قد جعله على كل حالة مقدماً، وأنفذه بأمر الله تعالى إنفاذاً ملتزماً، رأينا أن نجعل في كتابنا هذا علامة بخط يدنا، وها هي قد رفعت الإشكال رفعاً بيناً، وأرتكم فرط اهتبالنا حقاً مبيناً، فبادروا إلى تلقيها بالامتثال والمسارعة، وصلوا ابتدار شأنها بالمواصلة والمتابعة، وأحضروا للاجتماع على هذا الكتاب جميع من في تلكم البلاد من الطلبة والعمال وكافة المقدمين للأعمال، ولا تقدموا أمراً من الأمور على إنفاذ جميع ما تضمنه، والاعتمال بكل ما شرحه وبينه، ولا تشتغلوا بشغل قبل الاشتغال بمعانيه، وبما أمركم به على قواعده ومبانيه، ومخاطبتنا بما يكون منكم في تلقيه، واتباع ما ينهيه إليكم ويلقيه، واقرأوه على الكافة أعالى المنابر، واستحضروا له وفود القبائل من البوادي والحواضر، وأسمعوا به افصاحاً وإعلاناً، وأشربوه قلوب الناس جماعات ووحداناً، وأحسنوا إيصال أغراضه إليهم، فإن الله تعالى يجزي الإحسان إحساناً.
فإذا تفرغتم من قراءته على الجماهير وبلغتم صحته بواجب التبليغ والتقرير، فاكتبوا منه نسخاً إلى كل قبيلة من قبائل ذلك النظر، وكل كورة من تلك الكور، وأكدوا عليهم فيما أكدنا عليكم فيه من تقديم العمل فيه على كل الوجوه، وامتثال مغنمه، على ما يحبه الله تعالى ويرتضيه، وحذروهم من التعرض لمخالفته، فلا عذر لمن لا يقصده على الفور ويأتيه، ونحن بمرصد التطلع والتسمع لما يكون منكم ومنهم، لنقابل بالواجب ما يصدر عنكم وعنهم.
وقد علم الله تعالى أن غرضنا بجميع المسلمين إشفاق وحنان، وجانبنا لهم دعة مستمرة وأمان، ولدينا من التراؤف بهم والرفق بجانبهم، شأن لا يفارقه من فضل الله تعالى شأن، وقد علمتم ذلك منا واختبرتموه، وجربتموه على مر الزمان(3/559)
وصبرتموه، فلتتلقوا كل من استرعاكم الله تعالى أمره بكل طلاقة ويسر، ولتنشروا عليهم جناح الرحمة أكمل نشر، ولتعلموا - رعاكم الله - ان من شملته كلمة التوحيد، في العهد القريب أو البعيد، في مضمار واحد من العدل محمولون، وأنكم عن كل من هنالك مسئولون، ولفظ الموحدين بيننا وبينهم جميعاً، والحق يسلك بينهم من التناصف مسلكاً مشروعاً، وقد ألفت الكلمة العلية بينهم، فبعضهم لبعض في الخير أسوة، وقد قال الله تعالى " إنما المؤمنون إخوة " فاعتقدوا فيهم هذا الاعتقاد الجميل، قصداً إلى مرضاة الله تعالى وإيقاناً، وكونوا عباد الله إخواناً، وحسنوا بهم - رعاكم الله - ظناً، وعودوهم الخبر لفظاً ومعنى، وتخلقوا معهم بمحاسن الأخلاق، وقولوا للناس حسناً، واستألفوا الناس بالتي هي أحسن، وابذلوا لهم من المساعدة في ذات الله تعالى غاية ما يتمكن، وانهجوا لهم من المبرات منهجاً يبدو به مضمركم الجميل ويتبين، وسروا بصالح عملكم وبشروا ويسروا - كما قال عليه الصلاة والسلام - ولا تعسروا وسكِّنوا، ولا تُنفِّروا.
واعلموا أن السعي في هذا الغرض واجب، والاعتمال في رفع ذلك المانع الحاجب، لا يتأتى لكم جملة واحدة، حتى تكون نفوسكم متآلفة عليه متساعدة، ْوتعاونوا على مرضاة الله تعالى تعاوناً يجمع في الصلاح آراؤكم، ويضمن التجمع التام لكم ولمن وراءكم، فعليكم بالمظافرة، والمناصرة والمؤازرة، فهي سواعد السعد وقواعد الود، وشيم الكرام المحافظين للعهد، وبها يعمر محل الرضا ونديه، وبه أوصى الله تعالى ورسوله ومهديه.
وقد نصحنا لكم فاقبلوها نصيحة، قصدت في ذات الله تعالى قصدها، وذكرنا لكم بهذه التذكرة، فاستقبلوها رشدها، ونبهناكم تنبيهاً بالغاً وللحال ما بعدها، جعلنا الله وإياكم ممن امتثل أمره المطاع بخالص نيته، وأفرغ الرحمة على قالب سجيته، وحفظ ما استرعاه الله تعالى، فكل راع مسئول عن رعيته.
وكان مما بعثنا - وفقكم الله تعالى - على تنبيهكم وإذكاركم، وإيقاظكم للنظر في تلك المصالح وإشعاركم، ما ألفيناه بحضرة مراكش - حرسها الله تعالى - من بعض تلك الأنواع، مما أحدثه فيها بعض أهل الابتداع، كنوع القبالة، وما يجري مجراها في وجوب الإزالة، والإحالة، فإنا كنا لا نبحث عن ذلك، لتخيلنا أنه لا يجرؤ أحد أن يسلك في هذا الأمر الذي أظهره الله تعالى تلك المسالك، فلما كان الحث(3/560)
عما يجب، وأزال عن وجه المشاهدة ما كان يحتجب، طلعنا على ذلك فأنكرنا ما كان نكيراً، وأزلنا بعون الله تعالى ما كان محذوراً بالشرع محظوراً، حتى تطهر ثوب الأمن من دنسه، وتجلى الوجه الخالص عن ملتبسه، واقتبس نور الحق من مقتبسه، وجرت الأمور على ما عهدناها عليه من الاعتدال والقوام، بحكم ما أحكمه الإمام المهدي رضى الله تعالى عنه في القضايا والأحكام، وإذا كان الافتيات في شىء من هذا ونحن على اقتراب، فكيف الأمر فيمن هو في حكم بعد عنا واغتراب.
فانظروا هذا - وفقكم الله تعالى - نظرة أولي الألباب، ولتسعوا جهدكم في رفع ذلك العمل المستراب، ولتذهبوا إلى إظهار أمر الله سبحانه، على موجب الكتاب.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(3/561)
فهرست الموضوعات
مقدمة .............................................................. 3
بيان عن المصادر .................................................... 7
تمهيد: الأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية فى عصر المرابطين
والموحدين ........................................................ 25
الكتاب الأول
الدولة المرابطية فى أوج سلطانها
الفصل الأول: يوسف بن تاشفين. خواص إمارته ولامع خلاله ..... 36
الفصل الثانى: أمير المسلمين على بن يوسف وأحداث عصره ....... 57
الفصل الثالث: سقوط سرقسطة ................................. 86
الفصل الرابع: الصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين ....... 105
1 - غزوة ألفونسو الكبرى للأندلس ........................... 105
2 - التعتيب والأسوار ........................................ 114
3 - موقعة القلاعة ............................................ 116
4 - موقعة إفراغة ............................................. 120
5 - خاتمة ملك بنى هود بالثغر الأعلى ......................... 126
الفصل الخامس: الأمير تاشفين بن على وغزواته وأعماله فى شبه الجزيرة 131
الفصل السادس: شرق الأندلس ............................... 148
الكتاب الثانى
المهدى محمد بن تومرت
والصراع بين المرابطين والموحدين
وقيام الدولة الموحدية بالمغرب
الفصل الأول: محمد بن تومرت، نشأته وظهوره ................ 156
الفصل الثانى: الصراع بين المرابطين والموحدين - المرحلة الأولى. 177(3/562)
الفصل الثالث: عقيدة المهدى ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية. 199
الفصل الرابع: الصراع بين المرابطين والموحدين - المرحلة الثانية ..... 218
الفصل الخامس: نهاية الدولة المرابطية فى المغرب .................... 254
الفصل السادس: الدولة الموحدية فى سبيل التوطد .................. 268
الفصل السابع: فتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية .............. 289
الكتاب الثالث
ثورة القوى الوطنية بالأندلس
وتغلب الموحدين على شبه الجزيرة
الفصل الأول: الثورة فى الأندلس وانهيار سلطان المرابطين .......... 304
الفصل الثانى: عبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة
وغرناطة وألمرية ................................................... 324
الفصل الثالث: الثورة فى شرقى الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش 353
الفصل الرابع: أعوام عبد المؤمن الأخيرة، وفاته وخلاله ............ 373
الكتاب الرابع
نظم الدولة المرابطية وخواص العهد المرابطى
الفصل الأول: طبيعة الحكم المرابطى وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية. 410
الفصل الثانى: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطى -
القسم الأول ..................................................... 438
الفصل الثالث: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطى -
القسم الثانى ...................................................... 455
الكتاب الخامس
الممالك الإسبانية النصرانية
خلال العصر المرابطى وأوائل العصر الموحدى
الفصل الأول: ألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة ............. 476
الفصل الثانى: الممالك الإسبانية النصرانية فى عصر القيصر ألفونسو
ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى ............................ 492
1 - وفاة ألفونسو المحارب وولاية أخيه الراهب راميرو ........... 493(3/563)
2 - اتحاد أراجون وقطلونية .......................................... 499
3 - غزوات القيصر ألفونسو ريمونديس وحروبه ...................... 502
4 - أعوام القيصر الأخيرة ووفاته .................................... 511
5 - قشتالة بعد وفاة ألفونسو ريمونديس .............................. 515
6 - قيام جماعات الفرسان الدينية ..................................... 518
الفصل الثالث: قيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز 521
وثائق مرابطية وموحدية
1 - رسالة الإمام الغزالى إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين .......... 530
2 - رسالة الوزير الكاتب ابن شرف إلى أمير المسلمين فى فتح أقليش .. 533
3 - رسالة قاضى سرقسطة والجمهور فيها إلى الأمير أبى الطاهر تميم
ابن يوسف حينما حاصرها ابن رذمير ................................. 538
4 - رسالة كتب بها أمير المسلمين إلى الأمير أبى محمد بن أبى بكر
بهزيمة القلعة ......................................................... 541
5 - رسالة لأمير المسلمين إلى الفقيه القاضى وسائر الفقهاء والوزراء
والأعيان والكافة ببلنسية ............................................ 543
6 - رسالة لأمير المسلمين إلى المذكورين مجاوباً لهم بهزيمة ابن رذمير
إياهم فى القلاعة ..................................................... 544
7 - رسالة وجهها أمير المسلمين على بن يوسف بتقريع قادته وجنده .. 545
8 - رسالة لأبى عبد الله بن أبى الخصال عن بعض المرابطين إلى
أمير المسلمين على بن يوسف ......................................... 547
9 - رسالة موجهة من أمير المسلمين تاشفين بن على بن يوسف إلى
الفقهاء والوزراء والأخيار والكافة ببلنسية ............................ 548
1 - صيغة التوحيد التى وضعها المهدى لأتباعه ....................... 551
2 - رسالة الخليفة عبد المؤمن بن على. أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
وعدله ونهجه مناهج الحق وفضله .................................... 552(3/564)
فهرست الشعر والشعراء
رثاء يوسف بن تاشفين .... : ملك الملوك وما تركت لعامل ........... 54
أبو جعفر بن وضاح المرسى: شمرت برديك لما أسيل الموانى .......... 125
........................... : أما وبيض الهند عنك خصوم .......... 138
أبو بكر بن الصيرفى ....... : يا أيها الملأ الذى يتقنع ................ 139
المهدى ابن تومرت ........ : تكاملت فيك أوصاف خصصت بها .. 221
........................... : فتح تفتح أبواب السماء له .......... 271
أبو العباس التيفاشى ....... : ما هز عطفيه بين البيض والأسل ..... 296
أحمد بن قسىّ ............. : وما تدفع الأبطال بالوعظ عن حمى ... 330
ابن المنذر ................. : لئن غض منك الدهر يوماً بأزمة ..... 331
مروان بن عبد العزيز ...... : قل للإمام أطال الله مدته ............ 350
أبو جعفر بن عطية ........ : فعفواً أمير المؤمنين فمن لا ........... 351
ابن مردنيش .............. : أكر على الكتيبة لا أبالى ............. 368
أبو عبد الله بن حبوس .... : بلغ الزمان بكم ما أملا .............. 384
القرشى المعروف بالطليق .. : ما للعدى جنة أوقى من الهرب ...... 384
ابن غالب الرصافى ........ : لو جئت نار الهدى من جانب الطور. 384
أحمد بن سعيد ............ : تكلم فقد أصغى إلى قولك الدهر .... 385
الخليفة عبد المؤمن ........ : هو الفتح لا يجلو غرائبه الشرح ..... 403
أحمد بن سعيد ............ : من يشترى منى الحياة وطيبها ........ 452
.......................... : أتانى كتاب منك يحسده الدهر ...... 452
محمد بن عبد الرحمن الجراوى: رحلوا الركايب موهنا ............ 453
عبد الملك بن قزمان ...... : قدر الله وساق الخناس .............. 454
.......................... : وعريش قد قام على دكان .......... 454
أحمد بن حسن الجراوى ... : وبين ضلوعى للصبابة لوعة ......... 465
أبو العباس بن العريف .... : سلوا عن الشوق من أهوى فإنهم .... 466(3/565)
ابن المنخل الشلبى ..... : تجاف عن الدنيا وعن برد ظلها ............. 467
أبو العباس بن الأقليشى: أسير الخطايا عند بابك واقف .............. 469
ابن السيد البطليوسى.: أخو العلم حى خالد بعد موته .............. 469
...................... : سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ........... 469
الفيلسوف ابن باجه .. : سلام وإلمام ووسمى مزنة ................... 471
...................... : ضربوا القباب على أقاصى روضة .......... 471
ابن أبى الصلت ....... : سكنتك يا دار الفناء مصدقاً ............... 472
أبو العلاء بن زهر .... : يا راشقى بسهام ما لها غرض ............... 473
فهرست الخرائط والصور
الثغر الأعلى وما يليه - مواقع حروب المرابطين والنصارى ............ 91
خط سير الذهاب والعودة لغزوة ألفونسو المحارب للأندلس .......... 109
مواقع غزوات المرابطين التى قام بها على وتاشفين فى أراضى قشتالة
والبرتغال .......................................................... 137
المغرب - البلاد ومنازل القبائل عند بداية الدولة الموحدية ........... 181
أسوار مراكش وأبوابها فى عهد المرابطين ............................ 187
محراب جامع المهدى وإحدى واجهات الجامع ...................... 197
المغرب - موقع غزوة عبد المؤمن الكبرى .......................... 239
إفريقية - مواقع غزوات عبد المؤمن لافتتاح بجاية والمهدية .......... 283
جبل طارق وبر العدوة ........................................... 379
منظر جبل طارق من البر الإسبانى ................................. 383
بقايا الحصن الأندلسى أعلى الصخرة .............................. 383
الممالك الإسبانية النصرانية فى عهد القيصر ألفونسو ريمونديس ..... 503(3/566)
دولة الإسلام فى الأندلس
تأليف
محمَّد عبد الله عِنَانْ
العصْرُ الثالث
عَصْرُ المرابطينَ والمُوَحّدينْ
فى المغرِبْ والأندَلسْ
القسْم الثانى
عصْر الموحِّدين
وانهيار الأندلسْ الكبرى
__________
الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة
الطبعة الثانية
1411 هـ = 1990 م(4/1)
الطبعة الثانية
1411 هـ = 1990 م
مطبعة المدني
المؤسسة السعودية بمصر
68 شارع العباسية. القاهرة. ت: 827851(4/2)
بسم الله الرحمن الرحيم
تصدير
تناولنا في القسم الأول من هذا الكتاب، تاريخ الدولة المرابطية بالمغرب والأندلس، منذ وفاة عاهلها ومؤسسها يوسف بن تاشفين في سنة 500 هـ (1106 م)، حتى سقوطها بعد ذلك بنحو أربعين عاماً، وقيام الدولة الموحدية، على يد داعيتها وإمامها المهدى ابن تومرت، واستكمال فتوحها، وتوطد دعائمها بالمغرب والأندلس، على يد أول خلفائه، عبد المؤمن بن علي، مؤسس الدولة الموحدية الكبرى.
وفى هذا القسم الثاني من الكتاب، نتناول عصر الموحدين في المغرب والأندلس، ونعرض تاريخ الدولة الموحدية الكبرى، منذ بداية عهد ثانى خلفائها، أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن في سنة 558 هـ (1163م)، حتى انحلالها وسقوطها في عهد آخر خلفائها إدريس الملقب بأبي دبوس، وذلك في سنة 668 هـ (1269 م)، وهي حقبة تزيد على قرن من الزمان، وهي حقبة حافلة بعظائم الحوادث والتطورات، سواء في المغرب أو الأندلس.
وبالرغم من أن الأندلس لم تكن في ظل الدولة الموحدية، سوى قطر من أقطارها العديدة، يتبع المغرب وحكومة مراكش، حاضرة الدولة الرئيسية، فإنها لبثت محتفظة بأهميتها السياسية والعسكرية، واستقلالها المعنوي والحضاري، ومن ثم فقد خصصنا تاريخ الأندلس، وتاريخ صراعها مع الدول النصرانية الإسبانية، في هذه المرحلة الطويلة من تاريخ الموحدين، بما يستحقه من العناية والإفاضة، ومضينا في استعراضه في ظل الحكم الموحدي، حتى قيام الدولة الهودية المتوكلية، في شرقي الأندلس وأواسطها، ثم قيام مملكة غرناطة، آخر دول الإسلام بالأندلس، على يد مؤسسها العبقري محمد بن الأحمر النصري، وأفضنا القول، بنوع خاص، فيما نزل بالأندلس، في هذه الفترة المدلهمة من تاريخها، من النوائب والمحن، بسقوط قواعدها الكبرى، التي أذكت لوعة الشعر الأندلسي، وأملت على أبي الطيب الرندي مرثيته الشهيرة التي مطلعها:(4/3)
لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغرُّ بطيب العيش إنسان
وراعينا في سرد أدوار هذه المأساة المشجية، من تاريخ دولة الإسلام في الأندلس، أن نبرز تفاصيل المأساة الأندلسية كاملة، على ضوء مصادرها العربية والقشتالية، وأن نصل بها إلى حيث بدأنا تاريخ مملكة غرناطة في كتابنا " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، وهو خاتمة هذه السلسلة الطويلة من عصور التاريخ الأندلسي، التي استغرقت من حياة مؤلفها أكثر من ربع قرن من الزمان.
وقد عنينا في كل من عصري المرابطين والموحدين حسبما نوهنا في مقدمة الكتاب، أن نتحدث في نهاية كل عصر، عن طبيعة نظم هذا العصر وخصائصه، وعن الحركة الفكرية الأندلسية خلاله. وقد تحدثنا في القسم الأول من هذا الكتاب، عما يخص العصر المرابطي من ذلك، وسوف نحاول أن نتحدث في خاتمة هذا القسم، عن نظم العصر الموحدي، وعن سير الحركة الفكرية الأندلسية خلاله وإن لم يكن ذلك بما كنا نبغي من التفصيل والإفاضة. ذلك أن الميدان شاسع، يستوعب المجلدات، وهو ليس في الواقع إلا تاريخ الحضارة الأندلسية، التي يقتضى استعراض مراحلها العظيمة الوضاءة، جهوداً شاقة، لم يسعفنا الوقت والجهد ببذلها.
وعنينا في هذا القسم أيضاً -عصر الموحدين- بتقديم طائفة من الخرائط والصور الأثرية، والرسوم الهامة، منها رسوم لميادين بعض المواقع التاريخية التي شهدناها بأنفسنا، ودرسناها على الطبيعة حسبما أشرنا إلى ذلك في مقدمة الكتاب وفيها صور لعدد من الآثار الموحدية الأندلسية التي ما زالت قائمة حتى يومنا، وأشهرها وأروعها جميعاً صومعة جامع المنصور " لاخيرالدا " لؤلؤة إشبيلية الأثرية.
ونحن نرجو، وقد من الله علينا آخر الأمر، وبعد أن قضينا هذه الأعوام الطويلة في ارتياد المعاهد والديار بالأندلس والمغرب، وذرفنا الدمع غير مرة على أطلال الإسلام بالأندلس، وقمنا بعديد الرحلات في طلب المصادر الأصيلة واستقصائها، وجمعنا من ذلك أغزر مادة يمكن الظفر بها - نرجو الله بعد ذلك كله، أن نكون قد وفقنا إلى أداء هذه الرسالة العلمية الجليلة التي اتخذناها شعاراً لحياتنا منذ خمسة وعشرين عاماً، على وجه يرضي العلم والتاريخ؛ ومثل هذا التوفيق، أن تحقق الرجاء، يكون لنا خير جزاء لما بذلناه خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن، من جهود مضنية في سبيل تحقيق هذه الغاية الكبرى.
القاهرة في: جمادى الأولى سنة 1384
الموافق: سبتمبر سنة 1964
محمد عبد الله عنان(4/4)
صفحتان من مخطوط كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين " لابن صاحب الصلاة، وهو المحفوظ بالمكتبة البودلية بأكسفورد برقم 1758
(فهرس المخطوطات الشرقية)(4/5)
صفحتان من مخطوط الجزء الثالث من كتاب " البيان المغرب " لابن عذارى المراكشي، وهو مخطوط الزاوية الناصرية بتامجروت، ويحفظ الآن بخزانة الرباط برقم 200 في قسم مخطوطات الزاويا(4/6)
صفحتان من مخطوط كتاب " زواهر الفكر " لابن المرابط المحفوظ بمكتبة الإسكوريال برقم 518 الغزيري (520 ديرفبور) وهما تضمان رسالة لأبي المطرف بن عميره المخزومي كتب بها عن أهل شاطبه إلى المتوكل ابن هود(4/7)
صفحتان من الجزء الخامس من مخطوط " كتاب الذيل والتكملة " لابن عبد الملك المراكشي المحفوظ بالمتحف البريطاني برقم 7940، وهما تضمان بداية نص المنشور الموحدي الذي صدر عن الخليفة يعقوب المنصور ضد الفيلسوف ابن رشد(4/8)
(4/9)
الفصل الأول
عصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن
ولاية أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الخلافة. تخلف بعض إخوته عن بيعته. موقف السيد أبي سعيد والي قرطبة والتوجس منه. مسير السيد أبي حفص إليه. اللقاء بين الأخوين في جبل الفتح. عود التفاهم والصفا. رواية أخرى عن بيعة أبي يعقوب يوسف. ولاية السيد أبي حفص للوزارة.
الثورة في غمارة وإخمادها. حملة لإمداد الأندلس. عبور قوات موحدية جديدة إلى الأندلس بقيادة السيد أبي حفص. مسيرها لمقاتلة ابن مردنيش. استيلاؤها على أندوجر. زحفها على بسطة ثم لورقة. استيلاؤها على حصن بلج. خروج ابن مردنيش لقتال الموحدين. مسير الموحدين إلى مرسية. نزولهم في فحص الجلاب. قدوم ابن مردنيش في قواته. الاشتباك بين الفريقين. عنف المعركة واضطرامها. هزيمة ابن مردنيش وفراره إلى مرسية. مسير الموحدين في أثره. تخريبهم لأحواز مرسية. إدريس بن جامع يتولى الوزارة للخليفة أبي يعقوب. عود الثورة إلى منطقة غمارة وإخمادها. احتلال الموحدين للأماكن المفتوحة في ولاية مرسية. عود القوات الموحدية إلى الأندلس. عود السيد أبي حفص إلى مراكش. خروج الخليفة لاستقبال أخيه. وصف للاحتفالات التي نظمت لذلك. المآدب والصلات. تعيين ولاة الأندلس. اتخاذ الخليفة للعلامة. رسالة الخليفة إلى أخيه السيد أبي سعيد والي قرطبة. الحث فيها على وجوب التدقيق في أحكام الإعدام وإراقة الدماء. عود الثورة إلى غمارة واستفحالها. مسير القوات الموحدية لإخمادها وفشلها في ذلك. مسير الخليفة بنفسه لمقاتلة الثوار. منازلة الثوار في جبال غمارة. تمزيقهم ومقتل زعيمهم، عود الخليفة إلى مراكش. رسالة الفتح. الثورة في جبل تاسررت وإخمادها. غزو والي غرناطة لحصن لبة واقتحامه. خطر البرتغال على قواعد الغرب. ملكها ألفونسو هنريكيز وأطماعه. تحالفه مع القوات الصليبية ومسيره لمحاصرة أشبونة. مناعتها وتفاني المسلمين في الدفاع عنها. ضغط الحصار وثلم الأسوار. المعركة الأخيرة. اقتحام النصارى للمدينة. الفتك بأهلها المسلمين واسترقاقهم. استيلاء البرتغاليين على شنترين. استيلاؤهم على قصر الفتح. غزوهم لباجة وتخريبها. جيرالدو سمبافور وغاراته على قطاع بطليوس. وصف ابن صاحب الصلاة له ولأعماله. غزوه لمدينة ترجالة. استيلاؤه على قاصرش وحصون منتانجش وشربه وجلمانية. انشغال الموحدين بقتال ابن مردنيش وبفتنة غمارة. تجديد بيعة الخليفة وتعليله. أقوال ابن صاحب الصلاة. كتاب الخليفة في ذلك. إنعام الخليفة واعطاؤه. تعيين السيد أبي إسحق لولاية قرطبة. إغارة جند ابن مردنيش النصارى على وادي شنيل. مسير والي قرطبة لقتالهم ونجاحه في تمزيقهم. افتتاح الموحدين لثغر طبيرة. مقدم فرناندو ردريجس إلى إشبيلية وطلبه محالفة الموحدين. سفره إلى مراكش وتعاهده مع الخليفة على الإخلاص في محالفته. الصلح بين فرناندو ملك ليون والموحدين. المنافسة بينه وبين ألفونسو هنريكيز. تعريف الرواية الإسلامية به. معاونة الموحدين له في مقاتلة صاحب طليطلة.(4/10)
- 1 -
لما توفي الخليفة عبد المؤمن بن علي بمحلته بثغر سلا في ليلة الجمعة العاشر من جمادى الآخرة سنة 558 هـ (15 مايو سنة 1163 م) خلفه على الأثر، ولده السيد أبو يعقوب يوسف، وعقدت له البيعة بمحلة أبيه في يوم الجمعة العاشر من جمادى الآخرة، وتولى تنظيمها أخوه شقيقه السيد أبو حفص عمر، والشيخ أبو حفص عمر الهنتاني كبير أشياخ الموحدين، تنفيذاً لوصية الخليفة الراحل، وذلك حسبما فصلناه فيما تقدم (1). وكان الخليفة الجديد عند ولايته فتى في الخامسة والعشرين من عمره، وكان مولده بتينملل في الثالث من شهر رجب سنة 533 هـ، وأمه حرة هي زينب بنت الفقيه القاضي موسى بن سليمان الضرير التينمللي (2) من أصحاب خمسين. ولما كملت البيعة سار الخليفة الجديد من سلا إلى مراكش، ونزل قصر الخلافة، وتولى الشيخ أبو حفص وعظ الموحدين على اختلاف مراتبهم، وحثهم على التزام فروض الطاعة. ثم أعلنت وفاة الخليفة الراحل، وحمل جثمانه إلى تينملل، حيث ووري إلى جانب إمامه المهدي ابن تومرت.
ولم يتخلف عن بيعة أبي يعقوب يوسف، سوى بعض أشياخ الموحدين وثلاثة من الإخوة، هم السيد أبو الحسن علي، والسيد أبو محمد والي بجاية، والسيد أبو سعيد والي قرطبة. فأما السيد أبو الحسن فقد كان حاضراً ليلة وفاة أبيه، وعقد البيعة لأخيه، ولما عاد من تينملل بعد مواراة الخليفة الراحل، لزم العزلة، وبرّحت به عوامل الغيرة والحقد، حتى مرض وتوفي غير بعيد وذلك في أواخر سنة 558 هـ. وأما السيد أبو محمد عبد الله والي بجاية، فقد لزم عاصمة إمارته، وكُتب الخليفة تتردد إليه بالاستعطاف والاستدعاء، وهو يتمهل، ويرد بالاعتذار والاستعداد للرحيل، واستمر في هذا التردد والتسويف نحو عام ونصف، وأخيراً اعتزم أمره، وغادر بجاية في حاشيته، قاصداً إلى مراكش، فأدركته
_______
(1) وذلك في الفصل الرابع من الكتاب الثالث (ص 394).
(2) المراكشي في المعجب ص 132، وروض القرطاس ص 134، ويسمى والدة أبي يعقوب عائشة، والحلل الموشية ص 120، وابن الخطيب في الإحاطة، (مخطوط الإسكوريال رقم 1673 الغزيري، لوحة 395).(4/11)
المنية في الطريق (سنة 560 هـ) فأسف أخوه الخليفة لفقده، وشمل أهله وبنيه بعطفه ورعايته. ونظر فيما يجب لضبط شئون بجاية حتى يعين لها والٍ جديد.
وكان تخلف السيد أبي سعيد مثار التوجس، ومختلف الأقاويل، لأنه كان بوجوده في رياسة الأندلس، الشطر الثاني من الإمبراطورية الموحدية، وبما يسيطر عليه بها من الموارد والقوى، حرياً بأن تحدثه نفسه بالخروج والعصيان. ومن ثم فقد بعث أخوه الخليفة لاستدعائه ثلاثة من الحفاظ الموحدين هم أبو عبد الله ابن أبي إبراهيم، وأبو يحيى بن أبي حفص، وأبو الربيع سليمان بن داود، فلما وصلوا إلى قرطبة، تمارض السيد أبو سعيد، ولم يستطيعوا مقابلته إلا بصعوبة، ولم يحصلوا منه إلا على وعود غامضة. ولما عاد هذا الوفد إلى مراكش، ولم يتحقق
ما وعد به السيد أبو سعيد من القدوم، وكثر التوجس والإرجاف من موقفه، اعتزم السيد أبو حفص عمر أن يسير بنفسه إلى استدعاء أخيه ولقائه في جبل الفتح (جبل طارق). فغادر مراكش في فاتحة ربيع الأول سنة 560 هـ في جملة من أشياخ الموحدين، منهم أبو يحيى بن أبي حفص، وأبو يعقوب بن يخيت، وإسحق بن جامع، ويوسف بن وانودين، وجماعة من زعماء ثوار الأندلس منهم سيدراى بن وزير، وابن الفخار صاحب لبلة، وجماعة من أشياخ لمتونة ومسّوفة، ومعه قوة من نحو أربعة آلاف فارس، خصصت لإمداد قوات الأندلس وتعزيزها. ولما وصل الركب إلى سلا، تقدم الجند للعبور إلى الأندلس، وأقام بها السيد أبو حفص شهراً، بعث خلاله إلى أخيه السيد أبي سعيد بقرطبة يخطره بمسيره إلى رؤيته، وبأن يكون اللقاء بينهما في جبل الفتح. ولما وصل ركب السيد إلى طنجة، استقل منها سفينة أقلته مع كاتبه عبد الملك بن عيّاش وبعض خاصته إلى سبتة، وسارت بقية الركب إلى سبتة، بطريق البر. وفى اليوم التالي لوصول السيد أبي حفص إلى سبتة، وصلت من الجزيرة الخضراء سفينة، أعلن من فيها وصول السيد أبي سعيد في خاصته وأشياخه إلى جبل الفتح في انتظار أخيه، فعبر السيد أبو حفص وصحبه البحر في نفس اليوم إلى جبل الفتح. ويقول لنا عبد الملك بن صاحب الصلاة، وقد كان من شهود هذا الحفل، ومن حملة الوافدين، أولاً وآخراً، إن اجتماع الأميرين قد تم على خير ما يرجى، بين قرع الطبول ونشر البنود، والسرور بالورود. وجاءت وفود قرطبة، وغرناطة وإشبيلية وغيرها من قواعد الأندلس، وكان على رأس وفد إشبيلية الفقيه الحافظ ابن الجد، والقاضي أبو بكر(4/12)
الغافقي، وصاحب المخزن محمد بن المعلم. وجلس السيد أبو حفص وأخوه السيد أبو سعيد في قصر الجبل لاستقبال الوفود، فتعاقبت في السلام، وإلقاء الخطب، وأنشد الشعراء قصائدهم، على نحو ما حدث أيام مقدم الخليفة عبد المؤمن، ودامت إقامة الأميرين بالجبل خمسة عشر يوماً، أغدقت فيها " الأعطيات والبركات والكسى". وصفا الجو، وارتفع الإرجاف، ثم انصرفت الوفود، وعبر السيدان أبو حفص وأبو سعيد كل في صحبه، البحر إلى سبتة، وأقاما بها ثلاثة أيام ريثما عبرت بقية الركب من الجبل ومن الجزيرة الخضراء، ثم سار السيدان إلى مراكش، فتلقاهما أخوهما الخليفة أبو يعقوب يوسف خارج الحضرة، وكان اجتماعاً بهجاً، ساده البشر والحبور، وكان وصول السيد أبي حفص وأخيه السيد أبي سعيد إلى مراكش في أول شهر رجب سنة 560 هـ، فاستقبل الجميع بالحضرة أروع استقبال، وأنشد الشعراء تهانيهم ومدائحهم. وهكذا تم التفاهم والتعاطف بين الخليفة وأخيه، وأسبل الستار بذلك على ما كان يحيط بموقف السيد أبي سعيد من التوجس والإرجاف (1).
هذا وقد اعتمدنا فيما تقدم ذكره عن تولية الخليفة أبي يعقوب يوسف وبيعته، وما حدث من تخلف بعض إخوته عن بيعته، على ما ذكره مؤرخا الموحدين المعاصران، البيذق وابن صاحب الصلاة، باعتباره أوثق ما يمكن الاعتماد عليه في هذا الشان (2). بيد أنه توجد إلى جانب ذلك رواية أخرى مفادها أن البيعة التي عقدت لأبي يعقوب عقب وفاة أبيه الخليفة عبد المؤمن، لم تكن بيعة تامة، إذ تخلف عنها بعض أشياخ الموحدين، وبعض إخوته، وأنه لذلك اكتفى باتخاذ لقب الأمير حتى تكمل بيعته، وصرف الجيوش التي كانت مجتمعة للجهاد، وعاد إلى مراكش، فأقام بها، وكتب إلى جميع عمالاته بالمغرب وإفريقية والأندلس في طلب البيعة، فوردت إليه من سائر النواحي، ما عدا قرطبة التي كانت لنظر
_______
(1) لخصنا ما تقدم عن رواية ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين (مخطوط أكسفورد السالف ذكره) لوحات 48 إلى 57، وأضربنا عن نقل ما أورده ابن صاحب الصلاة من مختلف قصائد المدح والتهنئة. وراجع في ذلك أيضاً " البيان المغرب " القسم الثالث، وهو يلخص كذلك عن ابن صاحب الصلاة (ص 59 - 62).
(2) الأول في كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 84، والثاني في كتاب " المن بالإمامة " لوحة 45.(4/13)
أخيه السيد أبي سعيد عثمان، وبجاية التي كانت لنظر أخيه السيد أبي محمد عبد الله. وفي سنة 559 هـ، وفد عليه أخواه السيد أبو سعيد، والسيد أبو عبد الله، كل في أشياخ إمارته، طائعين تائبين، وقدما إليه البيعة، وبذلك كملت بيعته. وذكر القاضي أبو الحجاج يوسف بن عمر، وهو من قضاة عبد المؤمن ومن مؤرخي الموحدين، أن أبا يعقوب يوسف بويع بيعة الجماعة واتفقت الأمة على بيعته في اليوم الثامن من ربيع الأول سنة 560 هـ، وذلك بعد وفاة أبيه بعامين، وبعد أن بايعه أخوه السيد أبو سعيد والي قرطبة، وتسمى من ذلك الوقت بأمير المؤمنين، بعد أن كان يتسمى بالأمير (1). وتولى السيد أبو حفص منذ البداية شئون الحجابة لأخيه السيد أبي يعقوب " على معنى الوزارة والإمارة " بتنفيذ الأوامر السلطانية باسمه وعن أمره، على نحو ما كان عليه عند أبيه الخليفة عبد المؤمن من تولي شئون وزارته. والظاهر مما تؤكده لنا الرواية من أن السيد أبا حفص كان يزاول سلطته عن رضى من أخيه السيد أبي يعقوب، وأن علائق الأخوين كانت يسودها الصفاء والمحبة، أن السيد أبا حفص، كان في منصبه يزاول سلطة مطلقة، وأنه كان هو الخليفة الفعلي، وأنه لم يترك لأخيه السيد أبي يعقوب سوى مظاهر الإمارة الشكلية. وكان الوزير إدريس بن إبراهيم بن جامع وهو من قرابة المهدي، يمثل بين أيديهما لرفع المسائل، وتوصيل رغبات الوافدين والسائلين، وكان يؤدي دوره في تنظيم الصلة بين الأميرين، وفي التوسط بينهما، ببراعة وكياسة (2). بيد أن السيد أبا حفص لم يمكث في منصبه هذا سوى فترة قصيرة لم تطل سوى عامين، وانفرد بشئون الحجابة والوزارة من بعده الوزير ابن جامع (3). وفي بداية عهد أبي يعقوب في سنة 559 هـ (1164 م) وقعت ثورة محلية في منطقة غُمارة، بزعامة مزيزدَغ الغماري الصنهاجي من صَنهاجة مفتاح، فتغلب على تلك المنطقة، والتفت حوله جموع غفيرة من غمارة، وصنهاجة،
_______
(1) راجع روض القرطاس ص 137.
(2) ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة " (المخطوط السالف الذكر لوحة 48 ب) وكذلك البيان المغرب، القسم الثالث ص 59.
(3) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 71 أ، والمعجب ص 137، والبيان المغرب القسم الثالث ص 65.(4/14)
وأورية، وضرب السكة باسمه، ثم سار إلى أراضي تاودا، على مقربة من فاس، وعاث فيها وقتل كثيراً من أهلها، فسير الخليفة أبو يعقوب لقتاله جيشاً موحدياً بقيادة يوسف بن سليمان. وفي رواية البيذق أن الموحدين قاتلوا مزيزدَغ، حتى بددت قواته، وأذعن للتوحيد، ثم سمح له بأن يجوز إلى الأندلس، وهنالك نزل بقرطبة. ولكن صاحب روض القرطاس، يقول لنا بالعكس إن الثائر قتل وحمل رأسه إلى مراكش (1).
وقد أشرنا فيما تقدم إلى الحملة التي جهزها السيد أبو حفص لإمداد قوات الأندلس، وذلك حين سيره لمقابلة أخيه أبي سعيد بجبل الفتح. وقد عبرت هذه الحملة، وقوامها نحو أربعة آلاف فارس، معظمهم من العرب، البحر بقيادة الشيخين أبي سعيد بن الحسن، وأبي عبد الله بن يوسف، وسارت تواً إلى إشبيلية. وأرسل منها نحو خمسمائة فارس إلى مدينة بطليوس لتعزيز حاميتها، وتصادف أن كانت ثمة قوة من النصارى من أهل شنترين تغير على تلك المنطقة، فقاتلها الفرسان الموحدون ومزقوا شملها، وأفنوا معظمها. وسار الشيخان أبو سعيد وأبو عبد الله ببقية العسكر من إشبيلية إلى قرطبة لتعزيز جبهتها الدفاعية، إزاء هجمات ابن مردنيش. وما كاد الموحدون يستريحون قليلاً، حتى خرجوا إلى أحواز قرطبة، وهنالك التقوا في وادي " لك " القريب منها بجمع من عسكر ابن مردنيش، وهم الذين ينعتهم مؤرخ الموحدين " بالأشقياء "، فنشبت بين الفريقين معركة عنيفة، أبلى فيها الموحدون أحسن البلاء واستمر القتال بينهما طوال اليوم على شرب الماء، وافترقا دون حسم، وكان ذلك في شعبان سنة 560 هـ (1165 م). وبعث الشيخان أبو سعيد وأبو عبد الله بأنباء المعركة إلى مراكش، ووصفا ما لقياه في القتال من هول ومشقة، وطلبا العون والإنجاد، فاهتم لذلك السيد أبو حفص وجهز في الحال جيشاً من الموحدين والعرب، وخرج من مراكش في قواته ومعه أخوه السيد أبو سعيد عثمان والي قرطبة، في أوائل شهر رمضان، وأسرع في السير وعبر البحر، ووصل بجموعه إلى إشبيلية، وهنالك اجتمع بزعماء الموحدين، وقر الرأى على محاربة ابن مردنيش في عقر أراضيه قبل أن يبادرهم بمهاجمة قرطبة (2).
_______
(1) راجع أخبار المهدي ابن تومرت ص 124، وروض القرطاس ص 137.
(2) ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة " لوحة 57 ب و 58 أ.(4/15)
وخرجت القوات الموحدية من إشبيلية في أول شهر ذي القعدة سنة 560 هـ، وسارت نحو الشمال الشرقي معرجة على قرطبة، حتى وصلت إلى أندوجر، وهي من معاقل ابن مردنيش التي تهدد سلامة قرطبة. فهاجمتها واستولت عليها في الحال عنوة، وبادر أهل الحصون المجاورة إلى إعلان الطاعة وطلب الأمان، وأغار الموحدون على أحواز أندوجر واستولوا على كثير من السبي والغنائم. ثم حشد السيد أبو حفص صفوة جنده من الموحدين والعرب وسار من أندوجر جنوباً، قاصداً إلى مرسية، من طريق السهل، فوصل إلى مشارف مدينة بسطة، دون أية مقاومة، وجنده تعيث في تلك المنطقة، وتنتزع الأقوات وتستاق الماشية، وهنالك على مقربة من بسطة وافته حشود غرناطة ومنهم فرقة من الرماة، وسار الجيش الموحدي بعد ذلك صوب لورقة، ماراً بحصن بلج أو بلش (1) وهو من أهم معاقل ابن مردنيش في تلك المنطقة، فسلم قائده العزفي وأصحابه بالأمان، ووضعت به حامية موحدية (2).
وكان محمد بن سعد بن مردنيش أثناء ذلك قد حشد قواته، ومنها جمع كبير من النصارى، وخرج من مرسية يزمع اعتراض الموحدين عند لورقة، ويحول دون سلوكهم منها إلى مرسية، فلما رأى الموحدون صعوبة اختراق هذا الطريق الجبلي الوعر تحولوا إلى غرب لورقة، وانحدروا إلى السهل المسمى " بالفندون " وهو السهل الواقع بين لورقة وقرطاجنة، وهو من أخصب بقاع هذه المنطقة، ثم اخترقوا السهل نحو مرسية. وهذا ما ورد في خطاب الفتح الذي أرسل فيما بعد إلى مراكش. ولكن البيذق يقول لنا بالعكس إن الموحدين غلبوا على لورقة، وقرطاجنة وبلّش، ووحد أهلها، وأن ابن مردنيش حينما قدم إلى لورقة كان بها الموحدون (3).
وكان ابن مردنيش في تلك الأثناء قد ارتد بجنده نحو مرسية من الطريق الجبلي. فلما كان يوم الجمعة السابع من ذي الحجة سنة 560 هـ (15 أكتوبر سنة 1164 م)، أشرف الموحدون عند الظهر على فحص مرسية، على بضعة أميال منها، ونزلوا
_______
(1) هو المسمى بالإسبانية Velez Rubio.
(2) وردت تفاصيل سير الحملة الموحدية في خطاب الفتح الذي أرسل إلى مراكش بعد موقعة فحص الجلاب ونقله إلينا ابن صاحب الصلاة وسنأتي على ذكره.
(3) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 126.(4/16)
بموضع فيه يعرف " بفحص الجلاّب ". وهنالك أشرف ابن مردنيش بقواته قبالتهم، فنظم الموحدون قواتهم من أهل هرغة وتينملل وهنتانة وجدميوه وباقي القبائل الموحدية، كما نظم الجند العرب من بني هلال ورياح والجشميين والرعينيين وحرس الأمير الأسود. ويبدو من خطاب الفتح السالف الذكر أن جيش الموحدين كان يضم عندئذ زهاء اثنى عشر ألف مقاتل من حامية غرناطة، من ذلك نحو أربعة آلاف هي التي كانت تحت إمرة الشيخين أبي سعيد وأبي عبد الله، وثمانية آلاف هي جملة الحملة التي عبر بها السيد أبو حفص وأخوه. وأما جيش ابن مردنيش فلم تذكر لنا الرواية جملته، ولكنها تقدر من كان به من النصارى المرتزقة بثلاثة عشر ألف مقاتل (1).
وتعاهد الموحدون على الصدق والثبات والصبر، والاستشهاد في سبيل الله، وبدأ ابن مردنيش الهجوم فانقضت قواته أولاً على الجند العرب، ثم تحول إلى مهاجمة الموحدين، فهاجمهم مرتين متواليتين، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة، قاتل فيها الموحدون والعرب أشد قتال وأروعه، واستمرت حتى مغيب الشمس، ورجحت كفة الموحدين في النهاية، ففتكوا بجيش مردنيش، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وسقط في الموقعة شيوخ العرب السبعة فيمن سقط من الموحدين، وارتد ابن مردنيش في فلول قواته إلى تل قريب إلى أن دخل الليل ففر مسرعاً إلى مرسية، وامتنع بداخلها. وفي صباح اليوم التالي الثامن من شهر ذي الحجة (16 أكتوبر)، سار الموحدون إلى مرسية، حتى اقتربوا منها، ونزلوا بساحتها، وأمضوا بها عيد الأضحى، وخرجت سرياتهم تدمر أحوازها وضياعها، ومنها بساتين ابن مردنيش اليانعة، مدى أيام، حتى امتلأت أيديهم بالغنائم والأقوات، ووصلت طلائعهم إلى أوريولة وألش. وبعث السيدان أبو حفص وأبو سعيد إلى أخيهما الخليفة أبي يعقوب بمراكش بكتاب الفتح والبشرى، من إنشاء الكاتب أبي الحسن بن عياش، فوصل إلى الحضرة في الثالث والعشرين من ذي الحجة، وقرىء على سائر الحاضرين من الأشياخ، والطلبة، ثم قرىء بعد ذلك بالمسجد الجامع على كافة الناس (2).
_______
(1) نشرنا في الفصل الثاني خريطة مملكة الشرق ومواقع غزوات الموحدين لها.
(2) أورد لنا ابن صاحب الصلاة تفاصيل الغزوة الموحدية لأندوجر، وسير الموحدين إلى مرسية، وموقعة فحص الجلاب في كتاب " المن بالإمامة " المخطوط السالف الذكر لوحة 58 أإلى لوحة 60 ب. كما أورد لنا نص الخطاب الذي أرسل بالفتح إلى مراكش (لوحة 60 ب إلى لوحة 63 أ) =(4/17)
وكانت هزيمة فحص الجلاب من أقسى الضربات التي أصابت ابن مردنيش، وكانت بداية انحلال ثورته، وانهيار سلطانه في شرقي الأندلس.
وحدث في مراكش خلال ذلك أعني في عام 560 هـ، وفي أثناء غياب السيد
أبي حفص بالأندلس، حدث هام، هو تولي الخليفة أبي يعقوب يوسف لسلطانه المباشر، واختصاصه للوزير أبي العلاء إدريس بن جامع بتدبير الشئون وتقريبه إياه، واختار ابن جامع لمعاونته صفوة من رجاله المخلصين، في مقدمتهم الخطيب أبو الحسن الإشبيلي، وأبدى في منصبه كفاية وغيرة ونزاهة، وبذل في تصريف الأمور وإقامة العدل، وتوطيد السكينة والأمن، جهوداً مشكورة، حتى كان الراكب وفقاً لقول المؤرخ " يسير حيث شاء من بلاد العدوة في طرقها من جبلها وسهلها آمناً في نفسه وماله لا يخاف إلا الله ". وأحسن لمن وفد عليه واستغاث به، من أجناد الأندلس المُضامين أو المأسورين، يفتديهم بماله، ويهبهم الخيل وآلات الحرب والكساء، وأسبغ رعايته على الموحدين المقيمين، وعلى طلبة الحضر الوافدين إلى العاصمة، وفرض الزكاة على حكم الكتاب والسنة، وأنفقها في وجوهها المشروعة (1).
وحدث في هذا العام أيضاً أن عادت الفتنة إلى منطقة غُمارة، وعادت بعض بطون صنهاجة إلى نقض الطاعة بقيادة سبع بن منعفاد. فخرج إليهم الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، في حملة من الموحدين، سارت إلى جبال غمارة، وضيقت على الثوار، حتى أذعنوا إلى طلب الأمان تائبين ضارعين، معلنين للطاعة والخضوع (2). بيد أنه كان، كما سنرى، خضوعاً خادعاً مؤقتاً.
- 2 -
على أثر انتصار الموحدين في موقعة فحص الجلاب، قام السيدان أو حفص وأبو سعيد، بوضع حاميات موحدية في الأماكن المفتوحة، وتنظيم حكمها،
_______
= وتراجع أخبار موقعة فحص الجلاب أيضاً في روض القرطاس ص 137، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 64 و 65، وكذلك في Huici Miranda: Imperio Almohade, V. I. p. 226 & 227 M. O. Remiro: Murcia Musulmana, p. 219 - A. P. Ibars: Valencia Arabe, p. 541
(1) كتاب " المن بالإمامة " المخطوط السالف الذكر لوحة 71 أوب، وكذلك البيان المغرب القسم الثالث - ص 65، و 66 وهو ملخص من كتاب " المن بالإمامة ".
(2) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 124، و " المن بالإمامة " لوحة 72 أ.(4/18)
وضبط الأمور فيها، ثم انصرفا من ظاهر مرسية، في القوات الموحدية، عائدين إلى الأندلس. ولما وصلا إلى قرطبة، تخلف بها السيد أبو سعيد بموافقة سابقة من أخيه الخليفة، ليستأنف بها مهام منصبه في الولاية عليها، وسار السيد أبو حفص إلى إشبيلية، ثم عبر البحر إلى العدوة، عائداً إلى حضرة مراكش، فوصل إليها في ضحى اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 561 هـ.
ويقدم إلينا ابن صاحب الصلاة وصفاً ضافياً لاحتفال الخليفة أبي يعقوب باستقبال أخيه في ظاهر مراكش، وما تلا ذلك من الحفلات والمآدب وتوزيع الصلات. ولا بد لنا أن ننقل هنا موجزاً لهذا الوصف، أولا كنموذج لحفلات الابتهاج الموحدية، وثانياً كنموذج لبعض نواحي الحياة الاجتماعية الرسمية، التي يصفها لنا ابن صاحب الصلاة خلال روايته من آن لآخر.
يقول ابن صاحب الصلاة، إن الأمير الإمام أبا يعقوب، خرج بنفسه لاستقبال أخيه، بعد أن كتّب كتائبه المنصورة الحاضرين معه بحضرة مراكش، وكسا حرسه الأسود بالثياب الزاهية، واصطفت الفرسان المدرعة من الموحدين وغيرهم، والرجال بالدورق والرماح، وجعل الرايات خلف ركابه، وحملة الطبول مع خاصة أصحابه، وهو راكب جواده، ووزيره أبو العلاء إدريس ابن جامع راجل لصق ركابه، وهو يحدثه، ويصدر الأمير أوامره، فينفذها الوزير، ثم يرجع إليه، وعلى عاتق الأمير رمح طويل. والتقى الأمير بأخيه في الساحة التي كانت قائمة عندئذ تجاه باب الشريعة، فلما التقى الأميران، تجاوبت الخيل بالحملات والحراب والطبول، ثم نزل الأخوان كل عن فرسه، والتقيا وتصافحا، ثم سلم الناس الواصلون على الأمير وعلى من حضر، ثم ركبوا إلى القصر العبيق في أعظم أبهة فوصلا إليه بعد العصر، واجتمعا به. وفي اليوم التالي، أقيمت المآدب الحافلة بالأطعمة والأشربة للموحدين والعرب الواصلين، ولجميع المقيمين، واستمر ذلك خمسة عشر يوماً. ثم وزعت الكسى من العمائم والبرانس والأكسية. وتسلم كل فارس طقماً كاملا من الكساء يتكون من عفارة وعمامة وكساء وقسطية وشقة، وأنعم على جميع الناس من الغازين والقاطنين وطلبة الحضر، ووزعت عليهم الأعطية المالية، من الذهب والدراهم، فخص الفارس سواء من الموحدين أو العرب، عشرون ديناراً، ولكل من أعيان الموحدين وأشياخهم وكذلك أشياخ العرب، مائة دينار، وعم بذلك البشر والحبور، واستمرت(4/19)
الطبول في قرعها خمسة عشر يوماً، ثم انصرف الغازون إلى قبائلهم (1).
وكان أول ما عنى به الخليفة أبو يعقوب بعد الانتهاء من هذه الحفلات، هو النظر في تعيين الولاة. وكانت بجاية وإشبيلية في مقدمة الولايات التي خلت رياستها، فقرر الخليفة بعد مشاورة أخيه السيد أبي حفص، أن يعين لولاية بجاية وأقطارها أخاه السيد أبا زكريا يحيى بن عبد المؤمن. فسار إليها من الحضرة في فاتحة جمادى الأولى سنة 561 هـ، ومعه جملة من أبناء الجماعة والحفاظ وعين لولاية إشبيلية الشيخ أبا عبد الله بن أبي إبراهيم إسماعيل، أحد أصحاب المهدي العشرة، وعين له وزيراً لمعاونته هو أبو زكريا بن سنان، وهو من أكابر علماء الدعوة المهدية، فغادر مراكش في صحبة من الحفاظ إلى مقر ولايته، في الحادى والعشرين من جمادى الآخرة، ووصل إلى إشبيلية في أول شهر رجب. وما كاد يصل إليها، حتى كانت جماعة من نصارى شنترين، قد اخترقت ولاية الغرب، ووصلت في غارتها إلى بلدة طلياطة، الواقعة جنوبي شرقي لَبلة. فجهز الشيخ أبو عبد الله حملة لردهم من الحفاظ والعرب وجند إشبيلية، بقيادة أبي العلاء بن عزون، فادركتهم وهزمتهم، واستنقذت منهم الغنائم والأسرى، وأسرت جملة منهم. وبعث الوالي الجديد بخبر هذه الموقعة إلى الخليفة فسر به، وبعث إليه بشكره.
ولم يمض على انفراد الشيخ أبي عبد الله بولاية إشبيلية سوى أشهر قلائل، حتى عين الخليفة أخاه السيد أبا إبراهيم إسماعيل بن عبد المؤمن والياً لإشبيلية، فوصل إليها في أول شهر ذي الحجة سنة 561 هـ، وتقرر أن يبقى معه الشيخ أبو عبد الله، على ما كان عليه، وأن يتولى الشئون العسكرية، وتوثقت أواصر المودة والتعاون بين الرجلين، واستمرا معاً في النظر في شئون إشبيلية، حتى وصل أمر الخليفة بندب الشيخ أبي عبد الله للقيام بولاية غرناطة وذلك في أواخر شعبان سنة 562 هـ، فغادر إشبيلية في صحبه من الحفاظ وغيرهم في أوائل شهر رمضان إلى غرناطة، واستقر في ولايتها، واستدعى الخليفة في نفس الوقت أخاه السيد أبا سعيد، والي قرطبة للقدوم إلى الحضرة، فغادرها في أوائل ذي القعدة سنة 561 هـ.
وفي نفس هذا العام أعنى سنة 561 هـ قرر الخليفة أبو يعقوب بالاتفاق
_______
(1) كتاب " المن بالإمامة " لوحة 73 أوب ولوحة 74 أ.(4/20)
مع أشياخ الموحدين، أن يتخذ العلامة الخلافية ونصها " والحمد لله وحده " وأن يكتبها بخط يده على المراسيم والأوامر، فتنفذ بمقتضاها. وصدرت أول رسالة ممهورة بالعلامة الخلافية في الثالث من شهر رمضان مدبجة بقلم الوزير الكاتب أبي الحسن بن عياش، وموجهة إلى أخي الخليفة السيد أبي سعيد وأصحابه الطلبة بقرطبة، على أن تنفذ منها نسخ إلى مختلف البلاد، وفيها بعد الديباجة الموحدية المعتادة، يوصي الخليفة بأن تجري الأحكام وفقاً للعدل، وأن تُرفع إليه أحكام الإعدام، فلا يقضى الموحدون في الدماء من تلقاء أنفسهم، ولا يريقوها بباد أو رأى من آرائهم، إلا بعد أن ترفع النازلة إلى الخليفة، وتشرح وتقيد بالشهود والعدول " وتكتب أقوال المظلومين وحججهم، وإقرارهم واعترافهم، وحجج الظالمين في مقالاتهم واستظهارهم في بياناتهم معطي كل ذي حق حقه، موفي كل قائل قوله "، وأن يدقق في الجرائم التي دون القتل، من ضرب أو جرح أو سرقة أو قتل خطأ، وكذلك في سائر المعاملات والأموال واستحقاقها وفي الرقاب وعتقها أو استرقاقها، وفي المناكحات فلا يبت في أمرها إلا بعد المطالعة، وتعرّف وجه الحق فيها، والاستناد إلى النصوص والأحكام الصحيحة، وأنه يجب التوقف ومراعاة أنه لا يقدم على إراقة الدماء، واستباحة الأموال، واستحلال الحرمات، إلا بوجه صحيح. ويختتم الخليفة رسالته بحثّ الموحدين على العمل بما جاء فيها، وأنه يجب عليهم في جميع الأحوال، تقوى الله في السر والجهر، وخيفته في الباطن والظاهر، والجرى على سنته، وأنه يجب إذاعة هذا الكتاب، والتشهير به، وجمع الناس لقراءته، وتعريف الحاضر والغائب بما فيه، وأن ترسل منه نسخ إلى سائر الجهات ليعمل الناس بما جاء " في هذا الأمر العزيز من إقامة العدل، وبسط الدعة والأمن، وإقامة أمر الله على وجهه المتعين وسننه الواضح البين " (1).
وإنه لما يلفت النظر في هذه الرسالة بنوع خاص، اهتمام الخليفة البين بمسألة أحكام الإعدام، وإراقة الدماء، وتشدده في المطالبة برفعها إليه، وفي
_______
(1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة النص الكامل لهذه الرسالة في كتاب " المن بالإمامة " لوحة 79 أإلى لوحة 82 أونقلها العلامة جولدسيهر في بحثه الذي سبقت الإشارة إليه Materialien zur Kenntniss der Almohaden Bewegung (Z. der Mog. Geselisch., 1887 p. 184-188) وقد نشرناها نحن في باب الوثائق الموحدية في نهاية الكتاب.(4/21)
وجوب تحري الدقة في شرحها، وتقييدها بالشهود والعدول، وإثبات أقوال المظلومين وحججهم، وأقوال الظالمين، أعني المدعين وحججهم، فهذا الاهتمام البالغ من أبي يعقوب، بالحرص على صون الدماء، والتنكيب عن إراقتها إلا بوجه الحق، ومنتهى الدقة والحذر، يحملنا على الاعتقاد بأن هذا الخليفة العالم، والفقيه البارع، قد تأثر أيما تأثر بما أبداه الموحدون منذ عهد المهدي، من خفة في سفك الدماء، ومن إسراف في إراقتها، وما اتسم به عهد أبيه الخليفة عبد المؤمن من سيطرة هذه الظاهرة الدموية المروعة، وأنه أراد برسالته أن يحمل زعماء الموحدين من أمراء وأشياخ وحكام، على التزام نوع من الحرص والاعتدال في إراقة الدماء، وفي تقرير أحكام الإعدام.
ولما وصلت رسالة الخليفة إلى أخيه السيد أبي سعيد بقرطبة، وجهت منها نسخ إلى سائر بلاد الأندلس التي تحت نظر الموحدين، وقرئت على الناس في الجوامع، وغادر السيد أبو سعيد قرطبة بعد ذلك بقليل، عائداً إلى حضرة مراكش نزولاً على رغبة الخليفة حسبما تقدم.
وفي أوائل سنة 562 هـ (1166 م) عادت الفتنة إلى جبال غمارة بين قبائل صنهاجة، وعاد زعيمها سبع بن منعفاد إلى الخروج والعصيان، وبسط سلطانه على سائر المنطقة الممتدة من بلاد الريف على شاطىء البحر الأبيض المتوسط شمالا حتى سبتة، وأخذ يعيث فساداً في تلك المنطقة، ويقطع الطرق، ويعتدي على السكان الآمنين قتلا وسبياً ونهباً، ووصل عيثه وعدوانه غرباً حتى منطقة القصر الكبير. وكان قيام الثورة في تلك المنطقة الحساسة، التي هي شريان المواصلة بين المغرب والأندلس من أخطر الأمور، التي يجب حسمها بقوة وبسرعة. ومن ثم فقد سير الخليفة جيشاً موحدياً بقيادة أبي سعيد يخلف بن حسين إلى بلاد صنهاجة من جهة القلعة، وكان الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، قد تقدم في عسكره إلى ناحية أخرى من منطقة الثورة، فقاوم الثوار أشد مقاومة، وامتنع سبع بن منعفاد بقواته في جبل الكواكب، ولم تنل القوات الموحدية من الثوار مأرباً. وعندئذ رأى الخليفة أن يسير بنفسه إلى مقاتلة الثوار، فخرج في جيش كثيف، ومعه أخواه السيدان أبو حفص وأبو سعيد، وسار إلى جبال غمارة، ونازلت القوات الموحدية الزعيم الثائر في أعماق معاقله، وأحاطت به وبسائر صحبه من كل ناحية، وأمعنت فيهم قتلا وأسراً، ومزقوهم تمزيقاً، واحتلوا(4/22)
أراضيهم، وقتل زعيم الثورة سبع بن منعفاد، وصلبت جثته، وأذعنت سائر صنهاجة في تلك المنطقة، وتضرعت إلى الصفح والأمان، فأُجيبت إلى ما طلبت. وتم قمع ثورة غمارة في أوائل شوال سنة 562 هـ (أغسطس سنة 1167 م). واستولى الموحدون على غنائم هائلة من الماشية ودواب الحمل، وأسروا من الثوار نحو أربعة آلاف. وعاد الخليفة أبو يعقوب في عساكره المظفرة إلى حضرة مراكش، وصدرت عن هذا الفتح رسالة مطولة بقلم الكاتب أبي الحسن بن عياش مؤرخة في الرابع عشر من شوال، ووجهت إلى سائر الموحدين والأشياخ والطلبة بالمغرب والأندلس (1)، وعين الخليفة أخاه السيد أبا الحسن على والياً على سبتة وسائر منطقة الريف وغمارة.
ومما هو جدير بالذكر أنه لم تمض على إخماد فتنة غمارة بضعة أشهر، حتى حدثت فتنة جديدة، وثار بعض البطون البربرية بجبل تاسررت، وأعلنوا خلع الطاعة، فسار إليهم السيد أبو حفص أخو الخليفة في عسكر وافر من الموحدين واشتد في قتالهم، حتى مزقهم واستأصل شأفتهم (2).
- 3 -
أشرنا فيما تقدم إلى ندب الخليفة أبي يعقوب للحافظ الشيخ أبي عبد الله بن أبي إبراهيم
لولاية غرناطة وذلك في شعبان سنة 562 هـ. وكان أول ما عنى به الوالي الجديد، أن يطهر أحواز غرناطة من عدوان المرتزقة النصارى من أحلاف ابن مردنيش، وكانت قوة منهم تحتل حصن " لبه " الواقع فيما بين غرناطة ووادي آش، وتعيث باستمرار في تلك المنطقة، وتبث فيها الخراب والروع، وتصل أحياناً إلى أسوار غرناطة، وتهدد أمنها وسلامتها، فحشد الحافظ أبو عبد الله قواته وسار إلى حصن لبه المذكور، وهاجمه بشدة، واقتحمه عنوة، ومزق حاميته من النصارى، وقضى بذلك على عيثها وشرها، وعاد ظافراً إلى غرناطة، وبعث إلى الخليفة ينبئه بسعيه، فبعث إليه الخليفة برسالة يعرب فيها عن شكره ورضاه.
على أن أهم حوادث الأندلس التي وقعت في تلك الفترة، كان مسرحها
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 82 أوب، وكذلك لوحة 96. والبيان المغرب القسم الثالث ص 69، و 70 و 71. وينقل إلينا ابن صاحب الصلاة رسالة الفتح بأكملها وهي تشغل اللوحات من 84 إلى 91.
(2) ابن صاحب الصلاة لوحة 113 ب.(4/23)
ولاية الغرب الأندلسية، وكان قيام مملكة البرتغال الناشئة، واشتداد ساعدها في عهد ملكها ألفونسو هنريكيز، يمثل الخطر الجديد على قواعد الأندلس الغربية المتاخمة لهذه المملكة الجديدة، وكان ألفونسو هنريكيز حينما اضطربت شئون الأندلس، وعمت الفتنة قواعد الغرب، قد انتهز هذه الفرصة للإغارة على القواعد الإسلامية المجاورة، وكان يتوق بالأخص إلى الاستيلاء على أشبونة لموقعها الفذ عند مصب نهر التاجُه، ولحصانتها، ولكونها كانت معقل المسلمين المنيع في قلب الأراضي البرتغالية. ولما لم يكن لديه قوى كافية لتنفيذ مشروعه فقد اتجه إلى الاستعانة بالقوات الصليبية المتجهة إلى المشرق من الإنجليز والألمان والفلمنك (الهولنديين)، واستطاع بالفعل أن يجذب منهم لمعونته طوائف كبيرة. وفي أوائل سنة 1147 م (أواخر 541 هـ) سار في قواته لمحاصرة أشبونة، ورابطت القوات الصليبية في البحر، في مدخل الميناء لتحول دون وصول أية أمداد إلى المدينة المحصورة. واستمر الحصار بضعة أشهر، وكانت أشبونة الإسلامية مدينة منيعة، تحميها من ناحية البر أسوار منيعة ضخمة، ولها عدة أبواب عظيمة، وبابها الغربي هو أعظم أبوابها، وقد عقدت عليه حنايا فوق حنايا، على عمد من الرخام، مثبتة على حجارة من رخام، ولها باب قبلي يسمى باب البحر، وباب شرقي يسى باب الحمة (1). ووقعت بين المسلمين والنصارى معارك عديدة، ودافع المسلمون عن ثغرهم أشد دفاع، ولكن الحصار كان شديداً مرهقاً، وقد نضبت موارد المدينة المحصورة تباعاً، وثلمت الأسوار في عدة مواضع. ثم استعد البرتغاليون للضربة الحاسمة. وخطب فيهم ملكهم ألفونسو، يحثهم على مضاعفة الجهود في القتال، وليقول لهم إن المدينة غنية بالأموال، التي تمكنهم من متابعة الحرب، وإنها معقل الأعداء وكنزهم، ومستودعهم الذي يزخر بالحلي والنفائس، فعليهم أن يقتحموا هذه الأسوار المثلومة، وأن يأخذوا المدينة.
وكانت المعركة الأخيرة قصيرة، ولكن دموية هائلة، ودافع المسلمون، بالرغم مما عانوا من أهوال الحصار، عن مدينتهم، دفاعاً مريراً. ولكن هذا الدفاع اليائس لم يغن شيئاً، واقتحم النصارى الأسوار، ودخلوا المدينة من بابها الشرقي - باب الحمة - وقتل من المسلمين مقتلة عظيمة، وأسر الأحياء منهم، وجعلوا رقيقاً، ونهب النصارى المدينة نهباً ذريعاً، وكان فيها من الأموال والنعم
_______
(1) الروض المعطار - صفة جزيرة الأندلس - ص 16.(4/24)
أعظم ما يتصور. وفي الحال حول مسجدها الجامع إلى كنيسة، وعين لها أسقف هو الأسقف جلبرتو، وكان استيلاء البرتغاليين على أشبونة في اليوم الخامس والعشرين، وقيل في الحادي والعشرين من أكتوبر سنة 1147 م (جمادى الأولى سنة 542 هـ) (1).
واستولى ألفونسو هنريكيز في نفس الوقت على مدينة شنترين الواقعة شمال ْشرقي أشبونة، ثم استولى على سائر الأراضي الإسلامية المتاخمة لتلك المنطقة، والتي تكون القسم الغربي من ولاية " استرامادوره ". ولم يكن من الميسور يومئذ على الموحدين، وقد شغلتهم حوادث المغرب، واضطرام الفتنة بالأندلس، أن يبادروا إلى إنجاد هذه القواعد الإسلامية النائية.
واستمر ألفونسو هنريكيز أعواماً يغير على أراضي ولاية الغرب من آن لآخر، ويترقب الفرص السانحة، وقد أشرنا من قبل إلى ما كان من محاولة ابن قسي زعيم فتنة المريدين، أن يحالفه، وأن يستعين به على مقاومة الموحدين، وما ترتب على هذه المحاولة من سقوط ابن قسي وهلاكه (سنة 546 هـ). ولما تفاقم عدوان ملك البرتغال على قواعد الغرب، عبر ابن وزير صاحب باجة ويابرة البحر إلى المغرب مستغيثاً بالخليفة عبد المؤمن (سنة 549 هـ)، ولكن عبد المؤمن اكتفى عندئذ ببذل وعوده في الإنجاد والعون.
وفي سنة 555 هـ (1160 م) استولى البرتغاليون بقيادة ألفونسو هنريكيز على الثغر الصغير المنيع المسمى بقصر الفتح أو قصر أبي دانس (2)، الواقع على مصب نهر سادو (شطوبر) على المحيط جنوبي شرقي أشبونة، بعد أن حاصروه مدى شهرين من البر والبحر، وكان سقوطه في 24 يونيه من العام المذكور (3).
وفي أواخر سنة 557 هـ (ديسمبر 1162) قبيل وفاة عبد المؤمن بقليل، قامت حملة قوية من نصارى شنترين بغزو مدينة باجة والاستيلاء عليها، ولبثوا فيها أربعة أشهر، ولم يغادروها إلا بعد أن خربوا ربوعها، وهدموا أسوارها (4).
_______
(1) Mariana: Historia General de Espana: Lib. Decimo Cap. XIX
(2) وهو بالبرتغالية Alcacer do Sal
(3) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 239 وكذلك H. Miranda: Imperio Almohade Vol. I. p. 266
(4) كتاب " المن بالإمامة " لوحة 118 ب.(4/25)
هذا وسوف نرى فيما بعد أن استيلاء البرتغاليين على باجة قد وقع وفق رواية أخرى بعد ذلك بعشرة أعوام.
ولم يمض قليل على ذلك، حتى بدأ نصارى البرتغال سلسلة جديدة من الاعتداءات على القواعد والأراضي الإسلامية. وكان منظم هذا العدوان وقائده مغامر يدعى جيرالدو، وينعت في التواريخ النصرانية " بالباسل " Geraldo sem Pavor ، وكان هذا المغامر الذي تعرفه الرواية الإسلامية " بالعلج جراندة الجليقي " قاطع طريق أو رئيس عصابة ناهبة، ألفى مجالا طيباً لنشاطه في الظروف التي كانت سائدة يومئذ في بلاد الغرب الأندلسية، وكان يغير بالأخص على المحلات والأراضي الإسلامية الواقعة في قطاع بطليوس ما بين نهري التاجُه ووادي يانه، ويعيث فيها قتلا وتخريباً ونهباً، وكان يقوم بهذه الغارات والغزوات لحساب نفسه، وفي أصحابه وعصبته، على نحو ما كان يفعل السّيد الكنبيطور (الكمبيادور) في شرقي الأندلس أيام الطوائف. بيد أنه لم يكن يبلغ من ْحيث شخصيته، ولا من حيث عصبته أو مكانته، مبلغ السّيد، وإن كان بعض البرتغاليين يعتبره قرين السيد، ويسميه " بالسيد البرتغالي ". وكان ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز يؤازره، ويعاونه بالمال والرجال، لما يترتب على نجاح حملاته وغاراته من إضعاف المسلمين، والتمهيد لمشاريعه الضخمة في افتتاح قواعدهم. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة -وهو الراوية المعاصر- أعمال جيرالدو ومغامراته في الفقرة الآتية: " كان أدفونش الرنك الغادر الجليقي، صاحب قلمرية، قد عاين من نجدة هذا الكلب جراندة، وتيقظه لغدر البلاد والحصون، ما أعانه على ذلك برجاله، وسلطه على المسلمين في الثغور بأرجاله، فكان الكلب يتسلل في الليالي المطرة الحالكة المظلمة، الشديدة الريح والثلج، إلى البلاد، وقد أعد آلات من السلالم من أطول العيدان، يعلو سور المدينة التي يؤم ويروم، فإذا نام السامر المسلم في برج المدينة، ألقى تلك السلالم إلى جانب البرج، ورقى عليها بنفسه أولا إلى البرج، وينقض على السامر، ويقول له، تكلم على ما كانت عادتك ليلا يشعر الناس بنا، فإذا استوفى طلوع حملته، ألزمه في أعلى سور المدينة، صاحوا بلغاتهم صيحة عظيمة منكرة، ودخلوا المدينة، وقتلوا من وجدوه(4/26)
واستلبوه، وأخذوا كل من فيها سبياً وفَنْياً " (1).
وكانت أول قاعدة إسلامية غزاها جيرالدو في ذلك القطاع من ولاية الغرب، هي مدينة تَرجالُه (2) الواقعة شمالي ماردة على مقربة من نهر التاجُه، فدهمها في شهر جمادى الأولى سنة 560 هـ (مايو سنة 1165 م)، ثم انقض على مدينة يابُرة في شهر ذي القعدة من نفس العام (سبتمبر 1165)، وباعها مع ترجالُه إلى النصارى. ثم سار إلى مدينة قاصرش (3) الواقعة غرب ترجالُه، واستولى عليها في صفر سنة 561 هـ (ديسمبر 1165)، وتبعها بالاستيلاء على حصن منتانجش الواقع في جنوبها الشرقي في جمادى الآخرة من نفس العام. واستولى أخيراً على حصن شرْبة، ثم حصن جلمانية (4) الواقع على مقربة من غربي بطليوس، واتخاذه قاعدة للإغارة عليها، والتضييق على أهلها. وكانت هذه الغزوات المتوالية التي وقعت بولاية الغرب في نفس الوقت الذي شغل فيه الموحدون بمقاتلة ابن مردنيش في شرقي الأندلس، مقدمة لغزو بطليوس وسقوطها، وتحريك الموحدين بذلك إلى المبادرة إلى خوض الصراع مع النصارى، لاسترداد بطليوس، وحماية ولاية الغرب الأندلسية من السقوط.
وشغل الخليفة أبو يعقوب في العام التالي - سنة 562 هـ - حسبما رأينا بقمع فتنة غمارة. وفي أوائل سنة 563 هـ (1167 م) اتفق رأي الموحدين على تجديد البيعة للخليفة. وليس في أقوال الرواية ما يوضح سبب هذا الإجراء في تجديد بيعة سبق عقدها عقب وفاة الخليفة عبد المؤمن، واستكمالها في سنة 560 هـ، حينما تمت بيعة السيد أبي سعيد والسيد أبي عبد الله لأخيهما الخليفة، وتسمى أبو يعقوب عقب ذلك بأمير المؤمنين، اللهم إلا أن يكون ذلك عنواناً لإجماع سائر البلاد والقبائل على الطاعة بعد إخماد ثورة غمارة التي شملت منطقة كبيرة حساسة في شمالي المغرب، والتي اقتضى إخمادها أن يسير إليها الخليفة بنفسه. ويزف ابن صاحب الصلاة إلينا هذا الإجراء كعادته في ألفاظ منمقة،
_______
(1) في كتاب المن بالإمامة لوحة 118 أ. وراجع أيضاً البيان المغرب القسم الثالث ص 78، وكذلك ابن خلدون ج 6 ص 239.
(2) هي بالإسبانية " Trujillo ".
(3) هي بالإسبانية " Caceres ".
(4) منتانجش بالإسبانية Montanchez، وشربه Serpa، وجلمانيه urumena.(4/27)
ويقول لنا في حوادث سنة 563 هـ، " في أول هذه السنة خنع الله القلوب بخلوص الضمائر المؤذنة بالسعود والبشاير، من الآراء الموفقة، والنفوس المصفقة بتجديد البيعة، والتسريح بالإسمية المستحق لسيدنا، فكمل ذلك بإجماع الموحدين، أعزهم الله ". ثم يقول لنا، إن هذا الأمر العزيز، قد نفذ بكتاب كريم، أرسل إلى أخي الخليفة السيد أبي إبراهيم إسماعيل والي إشبيلية، منبئاً له " بما اتفق من اجتماع الرأي السعيد، والفعل السديد، الذي اجتمعت عليه آراء الموحدين .. من تجديد البيعة الرضوانية والإسمية الإمامية للإمام أبي يعقوب ". وفي هذا الكتاب يأمر الخليفة بأن يأخذ الناس بما جاء فيه، وجميع الموحدين بإشبيلية، وسائر بلاد الأندلس التي تحت نظر الموحدين، مثل قرطبة وغرناطة ومالقة وغرب الأندلس، وذلك بعقد البيعة على أوفى شروطها. فوجه السيد أبو إبراهيم نسخة الكتاب إلى زميله الحافظ أبي عبد الله والي غرناطة، فاحتفل بقراءته من فوق المنابر، وهرع الناس إلى إعطاء بيعتهم، وسجلوها في كتاب أرسل إلى الخليفة. وكتب أهل إشبيلية كذلك بيعتهم، ووقعوها بخطوطهم، ووجهها السيد أبو إبراهيم إلى الخليفة. وقد نقل إلينا ابن صاحب الصلاة نص الوثيقتين المذكورتين، وقد أرخت كلتاهما في النصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وخمسمائة (1)، وأرسلت في نفس الوقت بيعات سائر القواعد الأخرى، سواء بالمغرب أو الأندلس، إلى حضرة مراكش.
ولما كملت البيعة الجديدة على هذا النحو تسمى الخليفة أبو يعقوب بأمير المؤمنين، وساد اليمن والبشر، وأصدر الخليفة عفوه عن المسجونين، وأمر برفع البقايا عن العمال الخائفين، وتأمينهم من المخاوف، فيما تقيد عليهم في الدواوين، وأغدق الصلات والأعطية، وأمر بأن يجرى " الإنعام والبركات " في سائر بلاد المغرب والأندلس، فكثرت النعم، وعم الرخاء ونمت الجبايات والخراج، وانتعشت حركة العمران في العاصمة الموحدية، وشرع الناس في إنشاء الدور الفخمة، والرياض اليانعة، وكثرت بهذه المناسبة مدائح الشعراء وتهانيهم. فمن ذلك قصيدة نظمها أبو عمر بن حربون شاعر الدولة الموحدية هذا مطلعها:
جاءتك تسحب ذيلها للموعد ... زهراء طالعة بسعد الأسعد
_______
(1) كتاب " المن بالإمامة "، لوحة 100 إلى 104 أ. وقد رأينا أن ننقل نص بيعة إشبيلية في باب الوثائق، فلتراجع هنالك.(4/28)
فاصدع أمير المؤمنين بدعوة ... لم تترك صمماً لسمع الجامد
يهنى الخلافة أن لبست رداءها ... وقعدت منها اليوم أشرف مقعد (1).
وفي أواخر هذا العام - سنة 563 هـ (1168 م) - ندب أبو يعقوب أخاه السيد أبا إسحاق إبراهيم والياً لقرطبة، وكانت بلا والٍ مذ غادرها واليها السابق السيد أبو سعيد عائداً إلى مراكش نزولاً على رغبة أخيه الخليفة، وذلك في شهر ذي القعدة سنة 561 هـ. وعبر السيد أبو إسحاق إلى الأندلس في عسكر ضخم من الموحدين وسار إلى قرطبة ليتقلد ولايتها. وكان عبوره فاتحة الحركة التي كانت تجتمع أسبابها منذ حين، لعبور الموحدين إلى شبه الجزيرة، للاضطلاع بمحاربة النصارى، وافتتاح عهد جديد من الجهاد، تُؤَمََنُ فيه الأندلس، ويقمع عدوان المعتدين عليها.
- 4 -
والواقع أن الموحدين كانت قد انعقدت نيتهم على الاضطلاع بهذه الخطوة، التي برهنت حوادث الأندلس على ضرورتها، وذلك سواء في الشرق أو الغرب. وقد أبلغ الخليفة أمر هذه النية، وما اتفق عليه رأى الموحدين بشأنها، إلى الشيخ الحافظ أبي عبد الله والي غرناطة، في رسالة خاصة وجهها إليه، مؤرخة في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة 563، وفيها يشير إلى ما تقرر من إرسال السيد أبي إسحاق في عسكر من الموحدين والعرب إلى قرطبة، وأنه سوف يتعاون بعسكره مع إخوانه الذين بإشبيلية، ويضطلع الجميع بالجهاد وحماية البلاد، وأن يستمر النظر للحافظ أبي عبد الله في شئون الآلات والأسلحة التي تحتاج إليها القوات الموحدية (2).
وحدث في نفس الوقت الذي وصلت فيه هذه الرسالة إلى غرناطة، أن أغارت قوة من النصارى المرتزقة من جند ابن مردنيش على وادي شَنيل غربي غرناطة، واندفعت جنوباً حتى وصلت إلى أحواز رُندة، وعاثت في تلك المنطقة، وانتهبت أموالها وماشيتها، فبادر السيد أبو عبد الله بتجهيز عسكر قوي
_______
(1) أوردها ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 107 أوب، ووردت كذلك في البيان المغرب، القسم الثالث ص 74.
(2) أورد لنا ابن صاحب الصلاة نص هذه الرسالة في " المن بالإمامة " لوحة 110 أوب و 111 أ.(4/29)
لردها وردعها، فالتقت بهم حين عودتهم على مقربة من وادي آش، فحاول النصارى الامتناع بجبل قريب، ولكن الموحدين دهموهم في أعلى الجبل، وقاتلوهم بشدة، حتى مزقت صفوفهم، وتساقطوا من حافات الجبل، وقد فنى معظمهم قتلا وأسراً، واستاق الموحدون الغنائم والأسلاب، ومعها ثلاثة وخمسين أسيراً من النصارى ضربت أعناقهم عند وصولهم إلى غرناطة (مارس سنة 1168 م)، وبعث السيد أبو عبد الله، بنبأ ذلك النصر إلى الخليفة، فرد عليه برسالة يزجى فيها الشكر، ويحمد الله على توفيقه (1).
وفي أواخر هذا العام استولى الموحدون على ثغر طبيرة، الواقع في جنوبي البرتغال غرب مصب نهر وادي يانه، وكانت طبيرة من القواعد التي ثارت بالغرب أيام أن اضطربت شئونه، وذلك في سنة 548 هـ، وكان الخليفة أبو يوسف، أيام أن كان والياً لإشبيلية، في أواخر عهد أبيه الخليفة عبد المؤمن، قد نازل طبيرة مرتين، ولم يظفر بفتحها، وكان صاحب طبيرة، عندئذ الثائر بها عبد الله ابن عبد الله، قد تفاقم شره وعدوانه، وكثر عيثه في تلك المنطقة، يعتدى على السكان الآمنين والسابلة، والتجار، بعصبته من أهل الشر وقطاع الطريق، سواء في البر أو البحر، فعندئذ عول الموحدون على أخذ طبيرة، وحسم دائها. فساروا إليها في حملة قوية، واحتلوا حصن قسطلة القريب منها، وحاصروها براً وبحراً، حتى أذعنت إلى التسليم، وذلك في شهر ذي القعدة سنة 563 هـ (سبتمبر سنة 1168 م) (2).
وفي أواخر هذا العام أيضاً وقع حادث ذو مغزى خاص، هو قدوم الزعيم القشتالي فرناندو ردريجيس صهر فرناندو الثاني ملك ليون وزوج أخته إبنة القيصر ألفونسو ريمونديس، مع أخويه إلى إشبيلية، والإعراب عن رغبته لأشياخ الموحدين بها، في أن يكون صديقاً وحليفاً لأمير المؤمنين، ومنابذاً لشيعة النصارى، فبعث الموحدون برغبته إلى الخليفة، فأذن له بالقدوم إلى مراكش، فقدم إليها، واستقبله الخليفة أبو يعقوب بترحاب بالغ، وأنزله ومن معه خير منزل، وأقام بالعاصمة الموحدية خمسة أشهر، معززاً مكرماً، " حتى كاد أن
_______
(1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة نص هذه الرسالة في " المن بالإمامة " لوحة 112 أوب.
(2) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 116 ب، والبيان المغرب القسم الثالث ص 77 و 78.(4/30)
يُسلم "، وقد عاهد الخليفة أن يكون حليفه وحليف المسلمين المخلص، لا يشهر عليه عدواناً قط. ثم عاد إلى بلاده وقد أمر الخليفة بأن يشمله الموحدون بأتم الرعاية. ويقدم لنا ابن صاحب الصلاة هذا الزعيم القشتالي باسم " فرناندو راس النصرانى " ويلقبه بصاحب ترجاله، ويصفه " بالشهير النسب والشهامة عند النصارى " (1).
وتلا ذلك عقد الصلح والتحالف بين فرناندو الثاني ملك ليون وبين الموحدين. وكانت الخصومة تضطرم بين فرناندو وملك البرتغال ألفونسو هنريكيز، بالرغم مما كان بينهما من أواصر المصاهرة، إذ كان فرناندو متزوجاً بالأميرة أورّاكا ابنة ملك البرتغال، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها أن فرناندو لم يستطع أن يزاول حق السيادة على البرتغال الذي ورثه عن أبيه القيصر ألفونسو ريمونديس. وكان فرناندو مذ فرغ من مشاغله وحروبه في قشتالة، يتجه بأطماعه نحو مملكة البرتغال، وينظر بعين الحسد والتوجس إلى ما كان يحرزه ألفونسو هنريكيز من انتصارات متوالية على المسلمين، ويخشى بنوع خاص أن تمتد فتوح ملك البرتغال إلى بعض القواعد والأراضي الإسلامية التي يرى فرناندو أنها من خاصة قشتالة وليون. وكان فرناندو قد عمد إلى تحصين مدينة ردريجو، (ثيوداد ردريجو) (2) الواقعة على حدود البرتغال، واتخذها قاعدة للإغارة على أراضي البرتغال القريبة، وأنشأ في نفس الوقت عدة قلاع وحصون منيعة على حدود البرتغال. كل ذلك استعداداً لأن يخوض مع ملك البرتغال صراعاً حاسماً. ثم رأى أخيراً أن يقوى جانبه بعقد التحالف مع الموحدين. وتسمى الرواية الإسلامية فرناندو، " بالبيبوج "، و " بصاحب السبطاط " وتسميه أحياناً صاحب " السبطاط وآبلة وليون وسمورة ". فأما " البيبوج " أو" الببوج " فهو تحريف للكلمة القشتالية El-Baboso، ومعناها الكثير اللعاب، وكذلك الأبله. وهذا ما لم يفت الرواية الإسلامية أن تشير إليه (3). وأما " صاحب السبطاط " فمعناه " صاحب ثيوداد ردريجو " وقد كانت وقتئذ
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 117 أ - والبيان المغرب القسم الثالث ص 78.
(2) وهي بالإسبانية Ciudad Rodrigo وبالقشتالية القديمة Cibdad ومنها حرفت التسمية العربية " سبطاط ".
(3) راجع المعجب ص 182.(4/31)
مقره وقاعدة تحركاته. وكانت أول ثمرات محالفة فرناندو للموحدين هو أنهم أمدوه بعسكر لمعاونته على قتال الكونت نونيو دى لارا حاكم طليطلة، والمسيطر على ابن أخيه الملك الصبي ألفونسو النبيل ملك قشتالة. وكانت هذه الحملة الموحدية التي حشدت في إشبيلية بقيادة أبي العلاء بن عزون والحافظ أبو علي عمر بن تمصلت، والحافظ موسى بن حمّو. ودخل الموحدون مع قوات فرناندو أراضي قشتالة، وحاربوا معه ضد خصومه، ثم ساروا معه حتى حدود الأسترياس (أشتريش)، وأقاموا في هذه الغزوة خمسة أشهر، ثم عادوا سالمين، وقد اغتبط ملك ليون بمؤازرتهم ونجدتهم، وقطع على نفسه العهد الوثيق، بأن يبادر إلى القتال مع أمير المؤمنين ضد النصارى، الذين يعتدون على أراضيه، وألا يتوانى في ذلك قط، وأقسم على ذلك في بيعة بلده. وقد أوفى بهذا العهد كما سنرى في حوادث بطليوس أتم وفاء (1).
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 117 و 118 أ، والبيان المغرب، القسم الثالث ص 78.(4/32)
الفصل الثاني حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق
اهتمام الموحدين بحوادث الأندلس. عزمهم على استئناف الغزو. رسالة الخليفة أبي يعقوب في ذلك. خطة ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال وجيرالدو سمبافور لافتتاح بطليوس. سقوط المدينة وامتناع الموحدين بالقصبة. تدخل فرناندو ملك ليون لإنجاد الموحدين. بواعث خصومته لملك البرتغال. القتال داخل المدينة بين الفريقين. هزيمة ملك البرتغال وأسره، ثم إطلاقه. فرناندو يسلم المدينة للموحدين. تدعيم الدفاع عن قرطبة. الشقاق بين ابن مردنيش وابن همشك. توحيد ابن همشك وانضمامه للموحدين. بعث ابن مردنيش قواته لقتاله. تعيين الحافظ أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص والياً لبطليوس. مهاجمة جيرالدو سمبافور لبطليوس. القتال بينه وبين الموحدين. هزيمة الموحدين وأسر أكابرهم. استدعاء ولاة قرطبة وإشبيلية وغرناطة إلى الحضرة ثم عودهم. غزو القشتاليين للأندلس. تقاعد الموحدين عن ردهم. بعض الأحداث الطبيعية. غارات جيرالدو على بطليوس. سعى الموحدين لإمدادها. معركة بين الموحدين وجيرالدو. هزيمة الموحدين ومقتل الحافظ أبي يحيى. مرض الخليفة وتأخر حركة الغزو. ترجيح البدء بمحاربة ابن مردنيش والقضاء على حركته. عبور السيد أبي حفص في القوات الموحدية. مسير السيد أبي سعيد في قواته لإنجاد بطليوس. مسير ملك ليون إليها لافتتاحها. لقاء السيد والملك النصراني. تفاهمهما على استبقاء التحالف والصلح. افتتاح السيد أبي سعيد لحصن جلمانية. ابن مردنيش وانحلال قواه. عوامل هذا الانحلال. مصادقة ابن مردنيش للنصارى. خروج قادته ووزرائه عليه. مسير الموحدين بقيادة السيد أبي حفص لقتال ابن مردنيش. استيلاؤهم على قيجاطة. زحفهم على مرسية. دخول لورقة في طاعتهم، ثم سقوطها في أيديهم. دخول ألش والجزيرة ثم بسطة في طاعتهم. مدافعة ابن مردنيش للموحدين. موقف أخيه يوسف والي بلنسية. محاولة النصارى غزو بلنسية. قيام محمد بن مردنيش ومحمد بن هلال بألمرية ودعوتهما للموحدين. اضطراب ابن مردنيش وتخاذله. وفاته وما قيل حولها. انهيار دولته. ثورة ابن مردنيش وصفتها الأندلسية القومية. شخصية ابن مردنيش ومعايبها. مقدرته وشجاعته. إعلان ولده هلال وقادته الطاعة للموحدين. رواية عن وصية ابن مردنيش بالتسليم. دخول السيد أبي حفص والموحدين مرسية. مسير هلال وأكابر الشرق إلى إشبيلية. مبايعتهم للخليفة أبي يعقوب. زواج الخليفة من ابنة ابن مردنيش. ابن همشك ونهايته.
لم يكن الخليفة أبو يعقوب وأعوانه من أشياخ الموحدين، بغافلين عن خطورة الحوادث التي وقعت في غربي الأندلس، وما اقترن بها من سقوط قواعد إسلامية جديدة في أيدي النصارى. وكان قد مضى على سقوط أشبونة وشنترين يد الملك(4/33)
ألفونسو هنريكيز نحو عشرين عاماً، وقد غلب النسيان نوعاً على فقد هاتين القاعدتين الهامتين من قواعد الغرب لموقعهما النائي، ولكن تقدم البرتغاليين نحو بطليوس وماردة، بسقوط ترجالُه وقاصرش ويابرة وجلمانية، وتهديدهم لسائر الأراضي الواقعة على ضفتى نهر وادي يانه، زاد من خطورة الموقف، ونبه الموحدين إلى وجوب البدار إلى إنجاد الأندلس، والعمل على حمايتها.
وقد حالت الأحداث والفتن التي وقعت بالمغرب، والتي فصلناها فيما تقدم، دون تنفيذ هذا العزم حيناً. فلما حلت سنة 564 هـ، هدأت تلك الفتن، واستتبت السكينة والسلام بالمغرب، لاح للخليفة ومعاونيه، أن الفرصة قد أزفت للعمل بالأندلس، فجهز أبو يعقوب جيشاً من الموحدين وغيرهم تحت إمرة الشيخ أبي حفص عمر بن يحيى كبير أشياخ الموحدين، وعبر هذا الجيش البحر إلى إشبيلية، ليكون مقدمة لحركة الجهاد العامة، التي اعتزم الموحدون القيام بها في الأندلس. ويبدو مما يقوله لنا ابن صاحب الصلاة، نقلاً عن أبي محمد سيدراي بن وزير، أن التعجيل بإرسال هذا الجيش، كان بسبب وصول الخبر بمهاجمة البرتغاليين لبطليوس، ومحاصرتهم للموحدين الممتنعين بقصبتها، وقد وقع الهجوم على بطليوس في شهر رجب سنة 564 هـ (أبريل سنة 1169 م). على أنه يبدو من نص الرسالة التي وجهها الخليفة بهذه المناسبة إلى الموحدين بالأندلس والتي أرخت في اليوم الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة 564 هـ. أن هذا الجيش الموحدي، قد جهز وأرسل إلى الأندلس، قبل حوادث بطليوس بنحو شهرين أو ثلاثة، ليكون طليعة لحركة الجهاد الكبرى، وليطمئن أهل الأندلس بوصوله وأنه فوجىء بحوادث بطليوس أثناء وجوده بإشبيلية.
وهذه الرسالة التي وجهها الخليفة أبو يعقوب " إلى الطلبة والموحدين الذين بجزيرة الأندلس " هي من إنشاء كاتبه أبي الحسن بن عياش، وهي تردد وتؤكد نفس الوعود التي قطعها الخلافة الموحدية على نفسها غير مرة، منذ أواخر عهد عبد المؤمن بالعمل على حماية الأندلس وغوثها ونصرتها (1)، وقد ورد فيما يلي بخصوص هذا الشأن:
" وما زلنا وفقكم الله على أتم العناية بتلكم الجزيرة، مهدها الله، والحرص
_______
(1) أشرنا من قبل إلى رسالة بهذا المعنى وجهها الخليفة عبد المؤمن إلى ولده السيد أبي يعقوب أيام أن كان والياً لإشبيلية وذلك في ربيع الأول سنة 555 هـ (القسم الأول ص 379).(4/34)
على غوثها، والانتواء لنصرتها، والعمل على قصد ذلك بالمباشرة، والمشاهدة، إشفاقاً على ما استضام منها جيرتها الأعداء، وأبناؤها الأغفاء، مجسمين وروما، وما كادوها به من التكلف والتحيف والتنقص، وفغر الأفواه، وكسر الثيوب والأرصاد، لغيض ما فاض فيها من نور التوحيد، وخفض ما نصب من أعلام هذا الأمر، والمناصبة للمنحاشين إليه، المتعلقين بأسبابه، المستذمين بذمته، ممن صح ولاؤه، وصدقت طاعته، وخلص على السبك، ونصح على السبر، ونجعل لها من الفكر حظاً يستحق الصدق على ما سواه من الأفكار، ويأخذ السبق على غيره من معنيات الأمور ".
ثم تقول الرسالة إيضاحاً لحركة الشيخ أبي حفص، وتأكيداً لنيات الخليفة في الاضطلاع بأعباء الجهاد:
" ورأينا في أثناء ما نحاوله من مروم هذه الغزوة الميممة المباشرة، أن نقدم بين أيدينا عسكراً مباركاً من الموحدين أعانهم الله، صحبة الشيخ الأجل أبي حفص أعزه الله، ليكون تقدمة لجواز جمهور الموحدين، ومؤذناً بما عزمنا عليه. والله المستعان من التحرك لجملة أهل التوحيد، والقصد لهذا الغزو الميمون، الذي جعلناه نصب العين وتجاه الخاطر، فتتعاونون مع إخوانكم الواصلين على بركة الله إليكم، على جهاد أعدايكم، إلى أن يوافيكم إن شاء الله هذا العزم، ويلم بكم هذا القصد، ويعتمدكم هذه الحركة المحكمة أسبابها، المبرمة أمراسها، التي انعقدت بها النية، واحتدمت لها في ذات الله الحمية، واستعانت بتوفيق الله في تأصيل أصولها الفكرة الموجهة والمروية، وإنا لنرجو من المبلغ لآمال القلوب، المتفضل بإدراك كل مطلوب، أن يهب فيها من العون ما يتمم مبدأها، ويكمل منشأها، وتشفى به صدور أوليائه بالنعمة في أعدايه، وإن فضله تعالى ليسمح ببلوغ هذه الأمنية، والإطلال منها على كل شرف وقنية، فما ذلك على الله بعزيز " (1).
وفي خلال ذلك كان ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال، قد وضع خطته للاستيلاء على مدينة بطليوس بالتعاون مع جيرالدوا " سمبافور" أو" جيرانده الجليقي " حسبما تسميه الرواية الإسلامية. وكان ملك البرتغال قد قام في سنة 1161 م
_______
(1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة نص هذه الرسالة في " المن بالإمامة " لوحات 120 - 122.(4/35)
(556 هـ) بمحاولة أولى لمهاجمة بطليوس، انتقاماً لما قام به الموحدون قبل ذلك بأعوام قلائل من غزو أراضيه. ولكنه رد على الأثر. وليس من الواضح ما إذا كانت بطليوس عندئذ ما تزال تحت حكم صاحبها ابن الحجام، أحد ثوار الغرب الموالين للموحدين، أم أنها كانت قد خلصت للموحدين، وهم الذين قاموا بالدفاع عنها. وكان جيرالدو سمبافور قد استولى، حسبما ذكرنا فيما تقدم، على حصن جلمانية الواقع على مقربة من غربي بطليوس، وحصن منتانجش على مقربة من شمالها الشرقي. ففي شهر رجب سنة 564 هـ (أبريل سنة 1169 م)، زحف جييرالدو سمبافور في جموعه على مدينة بطليوس، وهاجمها، ورأى واليها أبو على عمر بن تيمصلت أنه لا يستطيع بحاميته الضعيفة أن يدفع المهاجمين، فامتنع بالقصبة، وبعث بصريخه إلى الموحدين بإشبيلية. وما كاد جيرالدو يستولي على المدينة حتى أقبل ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز في قواته، ودخل بطليوس، وحاصر الموحدين في القصبة، وحدد لهم مهلة للتسليم. وكانت قصبة بطليوس من أعظم القصبات الأندلسية وأمنعها (1)، ومن ثم فإن ابن تيمصلت كان على يقين من أنه سوف يستطيع الصمود مع حاميته حتى تصل الأمداد الموحدية من إشبيلية. بيد أن النجدة جاءت لأهل بطليوس، وللموحدين المحصورين بقصبتها من طريق آخر لم يكن في الحسبان. جاءت على يد ملك ليون فرناندو الثاني.
ويجب لكي نفهم هذا الموقف الذي ترتب عليه اشتباك الملكين النصرانيين ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال، وفرناندو الثاني ملك ليون، داخل مدينة بطليوس، وتحت أسوار قصبتها، أن نرتد قليلا إلى الوراء، لنلقي بعض الضوء على علائق هذين الملكين المتنافسين، في هذه الفترة الدقيقة من حياة الحاضرة الأندلسية التالدة - بطليوس. وقد سبق أن شرحنا بإيجاز سبب الخصومة الرئيسي بينهما، وهو ما يتمسك به فرناندو الثاني من دعوى السيادة على البرتغال التي ورثها عن أبيه القيصر ألفونسو ريمونديس، ورفض ملك البرتغال أن يعترف بظل من هذه السيادة، وما اقترن بذلك من إنشاء فرناندو الثاني لمدينة ردريجو الحصينة على مقربة من حدود البرتغال، لكي يتخذها قاعدة للإغارة على أراضي
_______
(1) أتيح لي أن أزور مدينة بطليوس وأن أشاهد بقايا قصبتها العظيمة الواقعة فوق الربوة الصخرية المشرفة على نهر وادي يانه، والتي ما زالت تدل على ما كانت عليه هذه القصبة من الضخامة والمنعة.(4/36)
البرتغال. كل ذلك بالرغم مما كان يربط هذين الملكين من وشائج المصاهرة الوثيقة، إذ كان ملك ليون متزوجاً من ابنة خصيمه ملك البرتغال. وكان ألفونسو هنريكيز قد بعث ولده سانشو في جيش ليهاجم مدينة ردريجو ويخربها، فبادر إليها فرناندو في قواته، ورد البرتغاليين عنها، وهزمهم هزيمة شنيعة، وأسر عدداً وافراً منهم، بيد أنه أطلق في الحال سراحهم سعياً إلى استرضاء ملك البرتغال، وتهدئة خصومته. ولكن الأمر كان بالعكس، فقد عول ألفونسو هنريكيز على الانتقام لتلك الهزيمة، وخرج في أواخر سنة 1167 م من شمال البرتغال في جيش قوي، وهاجم جليقية من أراضي مملكة ليون واستولى على مدينة توي، ثم على مدينتي لميا وترونيو وما حولها من الأراضي، ووضع فيها حاميات برتغالية قوية، وذلك بحجة أن هذه المدن والأراضي كانت من أملاك أمه الملكة تيريسا، تلقتها عن أبيها ألفونسو السادس مهراً لزواجها.
وفي العام التالي، سنة 1168 م، وضع ألفونسو هنريكيز خطته لمحاربة المسلمين، والبدء بغزو مدينة بطليوس، أهم وأقرب القواعد الإسلامية إليه. ونفذ خطته بالفعل بالتعاون مع جيرالدو سمبافور في أبريل سنة 1169 م. وكان فرناندو ملك ليون، يرقب مشاريع ملك البرتغال وحركاته بمنتهى العناية، ويحرص بالأخص على ألا تمتد فتوحه إلى تلك المنطقة التي كان ملوك قشتالة وليون يعتبرونها منطقة لنشاطهم وفتوحهم. وكان سانشو الثالث ملك قشتالة، قد عقد مع أخيه فرناندو على أثر موت أبيهما القيصر ألفونسو ريمونديس، معاهدة لتقسيم أراضي اسبانيا المسلمة، إلى منطقتي نفوذ، يختص كل منهما بواحدة منهما، فيختص ملك ليون بالغزو والفتح في المنطقة التي تمتد من لبلة حتى أشبونة ومنتانجش وماردة وبطليوس ويابرة وشلب وكذلك نصف مدينة إشبيلية، وسائر الحصون الواقعة في تلك المنطقة، ويختص ملك قشتالة بالغزو والفتح في سائر ما تبقى من أراضي إسبانيا المسلمة، ولاسيما المنطقة الواقعة فيما بين الوادي الكبير وغرناطة، ومن ثم فإنه لما سار ألفونسو هنريكيز إلى غزو بطليوس، اعتبر فرناندو هذه الحركة اعتداء على حقوقه ومنطقة نفوذه، وما كاد ملك البرتغال يدخل بطليوس، حتى كان فرناندو قد سار بقواته في أثره، يحاول رده عن القاعدة الإسلامية. فلما اقترب من بطليوس بعث رسوله خفية إلى واليها ابن تيمصلت المحصور بالقصبة، وإلى أهل المدينة من الأندلسيين، ينبئهم بمقدم(4/37)
ملك ليون لإنجادهم، ويطلب إلى ابن تيمصلت أن يدله على الطريق الذي يمكن أن يسلكه لدخول المدينة. فبعث ابن تيمصلت بعض رجاله إلى مكان خفي من بعض أسوار القصبة، لم يفطن إليه البرتغاليون، فلما تحققوا من وصول القوات الليونية، نقبوا السور فخرج منه الموحدون إلى أقرب أبواب المدينة وفتحوه، وأدخلوا منه جند ليون، واجتمع الموحدون وجند ليون على قتال القوات البرتغالية داخل المدينة، وحمى القتال بين الفريقين، وأبدى الموحدون وحلفاؤهم الليونيون منتهى الإقدام والبسالة، في مقاتلة البرتغاليين، حتى مزقت صفوفهم.
واضطر ملكهم ألفونسو هنريكيز إلى الفرار، ولكنه عندما أراد أن يقتحم باب المدينة وهو في منتهى السرعة والذعر، اصطدمت ساقه اليمنى بعمود الباب بشدة أو علقت برتاج الباب على قول آخر، فسقط من فرسه، وقد كسرت ساقه، وأغمى عليه، فحمله أصحابه وهو فاقد الوعي، إلى بليدة، " قاية " الواقعة على مقربة من شمال المدينة فطاردتهم قوات فرناندو، وأسرت الملك الجريح، وعدة من أكابر أصحابه. وعامل فرناندو خصمه الملك بمنتهى الكرم والشهامة، فعهد إلى أطبائه بمعالجته، ثم أطلق سراحه، بعد أن تعهد له برد سائر الأماكن التي انتزعها من جليقية والتنازل عن كل دعوى بشأنها. وعاد ألفونسو هنريكيز إلى قلمرية، وقد فتت الهزيمة في عضده، وشلت ساقه، حتى أنه لم يستطع بعد ذلك اليوم أن يركب فرساً (1).
أما جيرالدو سمبافور فقد فر على أثر الموقعة، حسبما يذكر لنا ابن صاحب الصلاة. وفي رواية أخرى أنه أسر مع مليكه، ثم أطلق فرناندو سراحه بعد أن تعهد بالتنازل عن الأماكن والحصون التي استولى عليها شمالي بطليوس مثل ترجالُه، وقاصرش ومنتانجش، وقد استولى الموحدون على قاصرش وحصن شربة فيما بعد.
ووقعت هزيمة البرتغاليين وإخراجهم من بطليوس في اليوم الثاني والعشرين من شعبان سنة 564 هـ (21 مايو سنة 1169 م). وفي الحال سلم فرناندو المدينة إلى واليها ابن تيمصلت، وأوفى فرناندو في هذه المناسبة بعهوده للخليفة الموحدي أتم وفاء، وأبدى للموحدين إخلاصه وعرفانه لسابق عونهم وإنجادهم. واستولى
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 122 ب و 123 أ، والبيان المغرب القسم الثالث ص 80 و 81. وكذلك M. Lafuente: Hist. General de Espana, T. III. p.
329 & 330(4/38)
الموحدون على سائر ما تركه البرتغاليون وراءهم من العتاد والمتاع والمؤن، وكانت مقادير وفيرة. وعاد فرناندو في قواته ظافراً إلى ليون. ووصلت أنباء النصر إلى إشبيلية، على عجل، وتلقاها الشيخ أبو حفص عمر، بينما هو يستعد للسير في قواته إلى بطليوس لإنجادها. فكتب في الحال إلى الخليفة أبي يعقوب، رسالة بالفتح، فسر الخليفة بذلك أيما سرور، ورفع الشعراء مدائحهم وتهانيهم.
ومنها قصيدة لشاعر الدولة الموحدية أبي عمر بن حربون هذا مطلعها:
بسعدك أضحى الدين جذلان باسما ... وباسمك أمسى الشرك للشرك هادما
إلا أنها فيما وعدت لآية يدين بها ... من كان بالله عالما (1).
- 1 -
لما انتهت معركة بطليوس بهزيمة البرتغاليين، وتوكيد سيادة الموحدين على المدينة، غادر الشيخ أبو حفص عمر إشبيلية في قواته وسار إلى قرطبة، لمعاونة واليها السيد أبي إسحاق إبراهيم، على تقوية جبهتها الدفاعية. وكان يخشى دائماً أن تهددها قوات ابن مردنيش من ناحية الشرق، عن طريق جيّان قاعدة حليفه وصهره إبراهيم بن هَمُشك، وتهددها القوات القشتالية من الشمال. بيد أن الخطر من ناحية الشرق تضاءل منذ موقعة فحص الجلاب، التي هزم فيها ابن مردنيش وحطمت قواته. ومن جهة أخرى فقد وقع الشقاق بين ابن مردنيش وصهره ابن همشك، وذلك بسبب طلاق ابن مردنيش لزوجته صُبيحة ابنة إبراهيم، بعد أن بالغ في إهانتها وإيلامها، فغادرته إلى كنف أبيها، وأسلمت إليه ابنها منه، ومما يروى أنها سُئلت عن ولدها، وكيف تصبر عنه، فأجابت " جرو كلب، جرو سوء، من كلب سوء لا حاجة لي به " فأرسلت كلمتها في نساء الأندلس مثلا (2). وكانت الوحشة قد سادت قبل ذلك بين ابن مردنيش وصهره، وخشى ابن همشك على نفسه من غدر صهره، وراعه ما شهده بنفسه من إقدام ابن مردنيش على قتل وزيريه ابنى الجذع وبنائهما في الحائط، وغير ذلك من الأعمال المروعة، فاشتدت بينهما الوحشة، وانقلبا إلى خصمين لدودين، والظاهر من أقوال ابن الخطيب أنه قد وقعت بين ابن مردنيش وابن همشك على
_______
(1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة هذه القصيدة بأكملها في " المن بالإمامة " وتشغل
اللوحات من 124 إلى 126 أ.
(2) ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 310.(4/39)
أثر ذلك، معارك ومناوشات هلك فيها جماعة من أنصار الفريقين. وكان ابن همشك يسيطر على قطاع جيّان وبياسة وأبدة، نائباً عن صهره ابن مردنيش. فلما اضطرم العداء بينهما، أخذ ابن مردنيش يرهقه بغاراته، ويؤلب عليه قواده وجنوده، وابن همشك يقاوم ما استطاع.
على أن ابن هَمُشك لم يلبث أن جنح إلى قرار حاسم، فكتب إلى الشيخ أبي حفص بقرطبة رسالة يعلن فيها توبته واعتناقه لمذهب التوحيد، ويعرض تمكين الموحدين من بلاده، وهو ما يصفه ابن صاحب الصلاة " بتوحيد ابن همشك " وفي هذا التعبير ذاته ما يدلي بأن " التوحيد " لم يكن يقتصر على الناحية الدينية، ولكنه كان يعني بالأخص الخضوع السياسي لسلطان الدولة الموحدية. ثم شفع ابن همشك رسالته بالسفر إلى قرطبة، وذلك في رمضان سنة 564 هـ (يونيه 1169 م)، فاستُقبل من واليها السيد أبي إسحق ومن الشيخ أبي حفص، وأكابر الموحدين بترحاب ومودة. وأعلن ابن همشك أنه " قد عاهد الله تعالى بالتزام الأمر العزيز المطاع، والدخول في حكم التوحيد ". ثم كتب إلى الخليفة أبي يعقوب يسجل توبته ودخوله في الطاعة، ويلتمس العفو، وحسن المثاب. فرد الخليفة بحسن القبول، وأمر بتقريبه، وإكرامه، واتصلت القواعد والأراضي التي كانت بيد ابن همشك بأراضي الموحدين في أواسط الأندلس. وكان انضمام ابن همشك إلى الموحدين على هذا النحو، ضربة أصابت ابن مردنيش في الصميم، إذ كان ابن همشك ساعده الأيمن، وكان أقدر قواده وأشدهم وطأة على أعدائه، ومن ثم فقد عول ابن مردنيش على الانتقام من صهره ونائبه السابق، ومعاقبته على خيانته، فدفع سائر قواته المجاورة لأراضيه إلى قتاله، وهاجمت هذه القوات جيان واستمرت في مقاتلة ابن همشك وإرهاقه مدى عام، وهو يستصرخ الموحدين لإنجاده. ولكن الموحدين لم يروا أن يتدخلوا في تلك المعركة، إذ كانت لديهم خطة أخرى لمقاتلة ابن مردنيش في عقر بلاده (1).
وفي أثناء ذلك ورد أمر الخليفة بتعيين الحافظ أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص عمر والياً لمدينة بطليوس مكان ابن تيمصلت. وكان أبو يحيى من أنجب الحفاظ وأوفرهم فروسة وعلماً. وكان عندئذ مع أبيه بقرطبة. فسار إلى بطليوس في جملة
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 126 أوب، والبيان المغرب القسم الثالث ص 82.(4/40)
كبيرة من الموحدين والجند الأندلسيين، وتقلد ولايتها وأخذ في تأمينها وتحصين أطرافها. وقام بحفر بئر كبيرة داخل القصبة تنفيذاً لأمر الخليفة، يسرى إليها ماء نهر وادي يانه، وذلك تحوطاً واستعداداً لما قد يقع من حصار أو غيره من الطوارىء، وعرفت هذه البئر باسم " القيوراجة ". وكانت من خير ما عمل لتأمين القصبة الشهيرة وتحصينها. وكان المغامر البرتغالي جيرالدو سمبافور ما يزال مرابطاً بقواته في حصن جلِّمانية القريب من بطليوس، فانتهز فرصة انشغال الوالي الجديد بأعمال الحفر والتحصينات، وأخذ يرهق المدينة بغاراته المتوالية، والحافظ أبو يحيى يبذل جهده في مدافعته ورده بقواته. وأخيراً نظم جيرالدو حملة قوية، اشتركت فيها قوة كبيرة من نصارى شنترين، ورتب من جنده كمائن في مواضع مستورة ثم هاجم أحواز بطليوس القريبة، فخرج إلى لقائه الحافظ أبو يحيى في قواته، وما كاد الموحدون يحملون عليه، حتى تظاهر بالهزيمة والفرار، فتبعه الموحدون حتى وصل إلى مقر الكمائن، وعندئذ أطبق النصارى على الموحدين، وقاتلوهم بشدة، فانهزم الموحدون وأسر النصارى منهم جملة بينهم عدة من الأكابر، افتدى معظمهم فيما بعد، وكان ذلك في أواخر سنة 564 هـ (أواخر 1168 م) (1).
وفي هذه السنة أيضاً - سنة 564 هـ - استدعى الخليفة أخويه السيد أبا إبراهيم إسماعيل والي إشبيلية، والسيد أبا إسحق إبراهيم والي قرطبة، والشيخ الحافظ أبا عبد الله بن أبي إبراهيم والي غرناطة، إلى الحضرة فغادروا الأندلس في أوائل جمادى الأولى من هذا العام (فبراير 1169 م). والظاهر أن الغرض من هذا الاستدعاء، كان يدور حول الاستعداد للحملة الكبرى التي يزمع الخليفة تسييرها لمقاتلة ابن مردنيش. وأقام هؤلاء الولاة في الحضرة حتى أوائل سنة 565 هـ ثم انصرف السيدان أبو إبراهيم، وأبو إسحق إلى الأندلس، وصحبهما أخوهما، السيد أبو على الحسن الذي ندب والياً لسبتة، ومنطقة جبال غمارة، ليتقلد ولايته. وبقى الحافظ أبو عبد الله بالحضرة حيناً آخر، وسار السيد أبو إبراهيم إلى إشبيلية والسيد أبو إسحق إلى قرطبة. وكان معهما والٍ جديد عينه الخليفة، هو الحافط أبو يحيى زكريا بن يحيى بن شيبان أحد أبناء أشياخ خمسين، وقد عين والياً لطبيرة وشنتمرية الغرب، من أعمال ولاية الغرب الأندلسية، وكانت هذه المنطقة التي تقع في جنوب البرتغال، تضطرم بالفتنة من آن لآخر، فضبطها الحافظ
_______
(1) ابن صاحب الصلاة لوحة 128 أوب و 129 أ، والبيان المغرب ص 83.(4/41)
أبو يحيى بحزم وقوة، وقمع بذور الفتنة، واستمر في حكمها أعواماً طويلة، وقد ساد بها السلام والأمن.
وكان من أهم الأحداث في هذه السنة - سنة 565 هـ (1170 م) - إغارة القشتاليين على الأندلس. وكان عدوان القشتاليين على الأراضي الإسلامية قد انقطع حيناً منذ وفاة القيصر ألفونسو ريمونديس، واضطرام الحرب الأهلية بين الممالك الإسبانية النصرانية، وانشغال قشتالة بنوع خاص بالصراع بين أسرتي لارا وكاسترو القويتين. فلما انتهى هذا الصراع الذي اشترك فيه فرناندو ملك ليون إلى جانب آل كاسترو، بانتصار آل لارا وهزيمة آل كاسترو، بسط آل لارا سيادتهم على طليطلة عاصمة قشتالة، ووضعوا الملك الصبي ألفونسو الثامن تحت حمايتهم، وقام بالوصاية عليه كبير الأسرة الكونت نونيو دي لارا (سنة 1166 م). ولم يمض قليل على ذلك، حتى اعتزم الكونت نونيو - ويسميه ابن صاحب الصلاة، القمط نونه، ويصفه " بظئر أدفونش الصغير" - أن يقوم بغزوة للأراضي الإسلامية، يكون فيها تقوية سلطانه، وتعزيز هيبته. فخرج في قواته من طليطلة، واخترق موسّطة الأندلس، وسار جنوباً، وهو يثخن أينما حل، دون أن تعترضه أية قوة معارضة. ثم عبر الوادي الكبير، وشنيل، وانتهى في غزوته إلى فحص رُندة، وفحص الجزيرة الخضراء، أو أنه استطاع بعبارة أخرى، أن يخترق الأندلس من أقصاها إلى أقصاها دون أن يلقى أية مقاومة على نحو ما فعل ألفونسو المحارب قبل ذلك بنحو نصف قرن. ويقول ابن صاحب الصلاة، إنه وصل في سيره إلى البحر، وقتل المسلمين في تلك الأراضي، واستولى على كثير من السبي والغنائم والماشية، ونحن لا نستطيع أن نفسر جمود الموحدين إزاء مثل هذا العدوان الجرىء خصوصاً وقد كانت لديهم في قرطبة قوات كبيرة بقيادة الشيخ أبي حفص عمر، اللهم إلا حرصهم على قواتهم، وادخارها لمحاربة ابن مردنيش (1).
ويذكر لنا ابن صاحب الصلاة طائفة من الأحداث الطبيعية التي حدثت في تلك الفترة. منها تغير الهواء بمراكش أو بعبارة أخرى ظهور وباء مرض منه معظم السادات وكثير من الناس، وذلك في أواخر سنة 564 هـ. ومنها توقف المطر وحدوث الشّرَق بالأندلس حتى شهر ديسمبر سنة 1169، ثم سقوط
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 130.(4/42)
الأمطار بعد ذلك. وفي شهر جمادى الأولى من سنة 565 هـ، حدثت زلازل عظيمة عند طلوع الشمس وعند زوالها في عدة من مدن الأندلس، وتوالت بالأخص في مدينة أندوجر مدة أيام حتى كادت أن تغوص منها الأرض، ووقعت كذلك بقرطبة وغرناطة وإشبيلية. يقول ابن صاحب الصلاة، وكان من سكان إشبيلية " فكان الرائي يرى حيطان الديار تضطرب وتميل حتى الأرض، ثم ترتفع وترجع على حالها بلطف الله تعالى. وتهدمت من ذلك ديار كثيرة في البلاد المذكورة وصوامع مساجدها " (1).
وفي شهر رجب سنة 565 هـ (أبريل سنة 1170 م)، كثرت غارات جيرالدو سمبافور على مدينة بطليوس، واشتد في إرهاقها، وقطع المؤن عنها، حتى شعرت المدينة بالضيق، فلما علم بذلك الموحدون في إشبيلية، قرروا أن يرسلوا إليها مدداً وافراً من المؤن، فجهزت إليها قافلة من نحو خمسة آلاف دابة تحمل الطعام والسلاح والعلوفات، وقدم لحراستها الحافظ أبو يحيى زكريا بن علي في قوة من الجند الموحدين بإشبيلية، ولما اقتربت هذه الحملة من مدينة بطليوس، خرج إليها جيرالدو في قواته وقوات أهل شنترين، ونشبت بين الفريقين معركة حامية استمرت عدة ساعات وهزم فيها الموحدون أشنع هزيمة، وأبيدت صفوفهم، وسقط قائدهم الحافظ أبو يحيى ضمن القتلى، واستولى النصارى على قافلة المؤن كلها. وكان ذلك في يوم 26 شعبان سنة 565 هـ (14 مايو سنة 1170 م). ووقعت أنباء هذه النكبة على الموحدين بإشبيلية وقرطبة أسوأ وقع، وبعثوا بخبرها إلى الخليفة في مراكش (2).
وكان الخليفة أبو يعقوب يوسف مريض في ذلك الوقت، وقد بدأ مرضه منذ أوائل سنة 565 هـ، واستمر أكثر من عام. ونحن نذكر أن الخليفة كان منذ أوائل سنة 564 هـ يزمع تنظيم حركة الجهاد بالأندلس، وأنه وجه رسالته بذلك إلى الموحدين بها في ربيع الآخر من هذا العام، ويذكر لنا ابن صاحب الصلاة أن الخليفة أمر بهذه المناسبة بضرب الطبول والخروج، وركب بنفسه في هيئة الغزو، وخرج من مراكش، ونزل بوادي تانسيفت على مقربة منها، معلناً
_______
(1) ابن صاحب الصلاة لوحة 130 ب.
(2) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 131 أ، والبيان المغرب القسم الثالث، ص 84.(4/43)
عزمه على الجهاد بالأندلس، وأقام به ثلاثة أيام، وانتهى رأي الموحدين عندئذ إلى أن يتقدم الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى بعسكر ضخم من الموحدين. وقد عبر الشيخ البحر إلى الأندلس بعسكره، ونزل في إشبيلية في نفس الوقت الذي كانت قد أنقذت فيه بطليوس من خطر السقوط في أيدي البرتغاليين، بمعاونة ملك ليون، وذلك كله حسبما فصلناه في موضعه.
ثم جاء مرض الخليفة، فعاقه عن الاستمرار في تنفيذ حركة الغزو التي وعد بها الموحدين بالأندلس. بيد أنه استمر بالرغم من مرضه في استدعاء جموع العرب من إفريقية، وجموع الموحدين من كافة الأنحاء، وتزويدهم بالأعطية والكسى. وكان تطور الحوادث في الأندلس، يؤذن بضرورة القيام باستعدادات عسكرية عاجلة توجه إلى شبه الجزيرة، وذلك قبل أن تتم الأهبة لتنفيذ الغزوة الكبيرة التي يزمع الخليفة القيام بها. وكان موطن الصراع يبدو في ناحيتين، الأولى في شرقي الأندلس، حيث كان ابن همشك منذ دخوله في طاعة الموحدين، يتلقى ضربات صهره القديم ابن مردنيش باستمرار، ويفقد معاقله تباعاً، ويلح في طلب النجدة من حلفائه الجدد، الموحدين، ويبعث بصريخه المتوالي إلى الخليفة وإلى الشيخ أبي حفص بقرطبة، وقد أوفد إلى مراكش لهذا الغرض وزيره القدير أبا جعفر الوقّشي، وكان قد جنح مثله إلى طاعة الموحدين. ثم عبر ابن همشك بنفسه البحر إلى العدوة، وقصد إلى الخليفة بمراكش (565 هـ) مؤكداً طاعته ومكرراً صريخه. وكانت الناحية الثانية من مواطن الصراع، في غربي الأندلس، حيث تطورت الحوادث تطوراً سيئاً، وغدت مدينة بطليوس مرة أخرى، عرضة لتهديد النصارى المستمر. وكان يلوح أن حوادث شرقي الأندلس تتطلب تدخلا عاجلا، يكفل حماية ابن همشك وأراضيه إلى غدت جزءاً من أراضي الموحدين، والقضاء نهائياً على حركة ابن مردنيش والاستيلاء على بلاده، حتى تخضع الأندلس بذلك من أقصاها إلى أقصاها إلى سلطان التوحيد، وكان الشيخ أبو حفص يؤيد هذه السياسة، ويبعث من قرطبة إلى الخليفة بالحث على اتباعها ومن ثم فقد تقرر أن يسير السيد أبو حفص أخو الخليفة في جيش ضخم من الموحدين إلى جزيرة الأندلس لغزو ابن مردنيش وحلفائه النصارى، ومقاتلته في قلب بلاده، والاستيلاء على مرسية، قاعدته ومقر رياسته.
وخرج السيد أبو حفص في عسكره من حضرة مراكش في أول شهر(4/44)
ذي القعدة سنة 565 هـ (أغسطس سنة 1170 م) ومعه أخوه السيد عثمان أبو سعيد، وعدة من الأشياخ والحفاظ الموحدين، ومن زعماء الأندلس، أبو محمد سيدراى بن وزير، وأخوه أبو الحسن على بن وزير، وعدة من القادة الأندلسيين النازلين بمراكش، صحبهم لينتفع بخبرتهم ومشورتهم في تدبير شئون الجزيرة، وتنظيم الخطط العسكرية بها. فوصل في قواته إلى إشبيلية في أوائل سنة 566 هـ. ووافاه بها من قرطبة الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى ومعه إبراهيم بن همشك.
وعقد السيد أبو حفص وصحبه من الأشياخ والزعماء مؤتمراً لبحث شئون الحرب، تقرر فيه أن يبادر السيد أبو سعيد أولا في عسكر إلى مدينة بطليوس، لتقوية جبهتها الدفاعية. فسار إليها في جيش من الموحدين والعرب، ومعه من زعماء الأندلس سيدراى ابن وزير، وأبو العلاء بن عزون، وقد جاءت هذه الحركة في الواقع في الوقت المناسب، إذ كانت بطليوس في تلك الآونة بالذات عرضة لخطر غزو جديد.
ذلك أن فرناندو الثاني ملك ليون، لما رأى نشاط البرتغاليين المتكرر في مهاجمة بطليوس، وإلحاح جيرالدو سمبافور في إرهاقها، وما حل بقافلة الأمداد الموحدية من هزيمة ساحقة، خشى أن ينتهي الأمر بسقوط المدينة في أيدي البرتغاليين. وقد رأينا من قبل حرص ملوك قشتالة وليون على اعتبار بطليوس وما إليها داخلة في نطاق فتوحاتهم، وحرصهم على ألا يفوز البرتغاليون بأية فتوح في هذه المنطقة. ومن ثم فقد خرج فرناندو في قواته قاصداً إلى بطليوس ليقوم بالاستيلاء عليها، قبل أن تسقط في أيدي البرتغاليين ومليكهم ألفونسو هنريكيز، وفي الوقت الذي وصل فيه إلى سهل الزلاّقة الواقع شمال شرقي بطليوس على مقربة من نهر وادي يانه، اقترب الموحدون من المدينة، ولما علم السيد أبو سعيد بالموقف، أرسل سيدراى بن وزير، وأبا العلاء بن عزون، وبعض أشياخ الموحدين إلى المعسكر النصراني، ليتعرفوا نيات ملك ليون، وهل هو باق على صلحه ومحالفته للموحدين أم قد نقض هذا الصلح، فرحب بهم ملك ليون، وأجابهم بأنه خرج لحماية بطليوس، " وإمساكها لأمير المؤمنين " فاقترح الرسل أن يجتمع الملك النصراني بالسيد أبي سعيد، لتجديد الصداقة والصلح، فاستجاب فرناندو لدعوتهم، وسار في نفر من خاصته إلى مقربة من بطليوس، والتقى بالسيد أبي سعيد وكلاهما ممتطى صهوة جواده، وتم بينهما التفاهم وتوكيد أواصر المودة والصلح، وانصرف ملك ليون على أثر ذلك في قواته إلى بلاده.(4/45)
أما السيد أبو سعيد فقد سار في عسكره تواً إلى حصن جلِّمانية الواقع على مقربة من غربي بطليوس، والذى اتخذه البرتغاليون بقيادة جيرالدو سمبافور قاعدة للإغارة على المدينة وإرهاقها، ونازله واستولى عليه عنوة، ثم هدمه، وانقشعت بذلك غمته، وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة 566 هـ (نوفمبر 1170 م).
وعلى أثر ذلك عاد السيد أبو سعيد في صحبه وعسكره المظفر إلى إشبيلية (1).
- 2 -
وما كاد السيد أبو سعيد يصل إلى إشبيلية، حتى عقد السيد أبو حفص مؤتمراً حربياً جديداً حضره السيد أبو سعيد، والشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، واستقر فيه الرأي على القيام بمحاربة ابن مردنيش، وتحطيم سلطانه في شرقي الأندلس. وكان محمد بن سعد بن مردنيش، قد اضطربت شئونه خلال ذلك، وأخذت تخبو قواه، وموارده، ولاسيما منذ هزيمة فحص الجلاب الساحقة. وكان من أهم العوامل في انحلال سلطانه الشامخ الذي استمر منذ قيامه في شرقي الأندلس في سنة 542 هـ، نحو عشرين عاماً يتحدى سلطان الموحدين، وينتبذ سيادتهم ودعوتهم، دون هوادة، عاملان يتلخص أولهما في مصادقة ابن مردنيش للنصارى، وانخلاعه إليهم، واعتماده المطلق عليهم. وقد رأينا فيما تقدم كيف كان النصارى المرتزقة، يؤلفون معظم قوات ابن مردنيش في أية موقعة يخوضها. والثاني، فيما نشب من الشقاق بين ابن مردنيش ومعظم وزرائه وقادته.
فأما عن العامل الأول، وهو مصادقة ابن مردنيش للنصارى، فقد كان أمراً طبيعياً، تمليه الظروف المحيطة بابن مردنيش، وثورته على الموحدين. وقد كانت ثورة ابن مردنيش، تمليها فضلاً عن الأطماع السياسة، بواعث وطنية، هي التي دفعت سائر القواعد الأندلسية إلى الثورة على المرابطين، وقد كان الموحدون خلفاء المرابطين في التغلب على الأندلس، فكانت ثورة ابن مردنيش على الموحدين، وكفاحه ضدهم، امتداداً لنفس الثورة، ونزولا على نفس البواعث. وكان النصارى حلفاء طبيعيين لابن مردنيش في هذا الصراع ضد العدو المشترك، أعني الموحدين الوافدين على شبه الجزيرة من وراء البحر. ولم يغفل ابن مردنيش عن أهمية هذا العامل، في اجتذاب النصارى إلى محالفته،
_______
(1) ابن صاحب الصلاة لوحات 131 ب و 132 و 133، والبيان المغرب القسم الثالث ص 85 و 86.(4/46)
وحشدهم في صفوفه. وكانت تربط ابن مردنيش في البداية بسائر أمراء اسبانيا النصرانية، روابط المودة والصداقة، ولكنه لما توفي رامون برنجير الرابع ملك قطلونية وأراجون، وخلفه ولده ألفونسو الثاني في حكم مملكة أراجون المتحدة، تطورت الأمور، وساءت العلائق بينه وبين ابن مردنيش لإصراره على مطالبة ابن مردنيش بالجزية التي كان يدفعها لأبيه، ورفض ابن مردنيش لأدائها. وقد وصل العداء بين الأميرين، إلى حد أن ملك أراجون، بعث ببعض ضباطه وجنده للاشتراك مع الموحدين ضد ابن مردنيش في معركة فحص الجلاب (1). ثم تحسنت العلائق بعد ذلك بينهما حينما تدخل ملك قشتالة، وتعهد ابن مردنيش بأداء الجزية وتعهد ألفونسو الثاني بألا يساعد الموحدين أعداء ابن سعد بأية صورة. وأما علائق ابن سعد بقشتالة، فقد كانت على خير ما يرام، من المودة والصفاء، وكانت تربط ابن مردنيش بألفونسو الثامن ملك قشتالة صداقة متينة العرى.
وكان ابن مردنيش يحتفظ في بلنسية بحامية كبيرة من الجند القشتاليين، يعيثون في المدينة، وتغص بهم طرقها وأحياؤها، حتى ضاق بهم أهل المدينة المسلمين ذرعاً، وغادرها الكثير منهم إلى الضياع والقرى القريبة، وهم يضطرمون سخطاً على أميرهم المسلم، الذي مكن أعداءهم النصارى من دورهم وأموالهم ومرافقهم، وشردهم بذلك عن أوطانهم. وقيل إن ابن مردنيش هو الذي أخرج أهل بلنسية منها ليوسع لحلفائه النصارى (2). وقد كان لهذه السياسة في اصطفاء النصارى وما تقتضيه من إرهاق المسلمين بالمغارم والفروض، وهي السياسة التي سبق أن أشرنا إلى طرف من عناصرها ومظاهرها، وأثرها العميق في النيل من هيبة ابن مردنيش والسخط عليه، وتبرم أهل شرقي الأندلس برياسته وتمنيهم زوالها.
وأما العامل الثاني في تضعضع قوي ابن مردنيش، فهو خروج قادته ووزرائه عليه. وقد كان انشقاق صهره إبراهيم بن همشك عليه، وانضمامه للموحدين، بلا ريب أعظم ضربة هزت من رياسته وسلطانه. فقد كان ابن همشك ساعده الأيمن، وكان أقدر قادته، وأوسعهم حيلة وأبعدهم صيتاً، بل كان ابن همشك في الواقع بالرغم من صفاته المثيرة، ومن قسوته، وروعة وسائله، واستهانته بالدماء، من أعظم قادة إسبانيا المسلمة في هذا العصر، إن لم يكن
_______
(1) A. P. Ibars: Valencia Arabe, p. 542
(2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 236.(4/47)
أعظمهم جميعاً. وخرج على ابن مردنيش غير ابن همشك، عدة من قرابته ووزرائه، ومن هؤلاء صهره يوسف بن هلال، وكان فارساً شجاعاً حازماً، حظى لدى أميره فصاهره، وندبه لرياسة حصن مطرنيش القريب من بلنسية وما حوله من الأراضي، ثم فسد ما بينهما، فثار ابن هلال، ولحق بمورتله (مورادال) وتحالف مع أمير برشلونة على أن يكون تحت حمايته، فأيده بقوة من الفرسان، وأخذ يغير على أحواز بلنسية، وينتزع بعض حصونها. وأوقع الهزيمة بابن مردنيش. ولكن حدث لسوء طالعه أن وقع ذات يوم أسيراً في يد سرية جردها صهره على مورتلة، فأخذ إليه، فأسرع به إلى مورتلة، وطالبه بإخلائها، وإلا نزعت عينه، فأبى، فأمر ابن مردنيش فأخرجت عينه اليمنى بعود، ولما تمادى في رفضه نزعت عينه الأخرى، ثم أخذ إلى شاطبه، حيث بقى بها إلى أن توفي (1). وكانت هذه الوسائل المثيرة في الانتقام من أبرز نزوات ابن مردنيش، وقد سبق أن أشرنا إلى ما يرويه لنا ابن صاحب الصلاة، من أنه قتل وزيريه ابنى الجذع وذلك ببنائهما في الحائط.
كان ابن مردنيش يعانى من هذه الظروف العصيبة والمتاعب المضنية، حينما وضع الموحدون خطتهم لإنزال ضربتهم الأخيرة به.
ففي شهر رجب سنة 566 هـ (مارس سنة 1171 م) خرج السيد أبو حفص وأخوه السيد أبو سعيد، والشيخ أبو حفص في جموع الموحدين من إشبيلية، ومعهم إبراهيم بن همشك، فلما وصلوا إلى قرطبة، أقاموا بها أياماً، يضعون خططهم النهائية. ثم خرجت القوات الموحدية من قرطبة، وسارت شرقاً قاصدة إلى مرسية، وكانت أول قاعدة غزوها من قواعد ابن مردنيش مدينة قيجاطة (2) الواقعة شرقي جيان، بينها وبين لورقة. فاقتحموها بعد مقاومة قصيرة، وقبض على قائدها الشرقي وأعدم بإشارة ابن همشك، ثم اخترق الموحدون بعد ذلك بسائط الشرق في طريقهم إلى مرسية حتى وصلوا إلى فحصها، فنازلوها لاختبار مقدرتها الدفاعية، وتغلبوا على حصن الفرج في ظاهرها، وقد كان متنزه ابن مردنيش، ومنزل لهوه وأنسه، واستباحوا الرياض والبساتين، وسائر القوى والبسائط الخضراء في تلك المنطقة، وابن همشك يقود الموحدين ويدلهم
_______
(1) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 260 و 262.
(2) وهي بالإسبانية Quesada(4/48)
خريطة:
مواقع غزوات الموحّدين لمملكة الشرق (560 و 566 هـ) وغزوة وبذة (567 هـ).(4/49)
على خير الطرق والمسالك. وكان ابن مردنيش خلال ذلك يستجمع قواته الأخيرة، ويستصرخ حلفاءه النصارى لإمداده، فلم يلب منهم دعوته سوى أربعمائة فارس، بعث بهم إلى لورقة، وهي حصن مرسية الأمامي، لتأمين الدفاع عن قصبتها، وقد كانت بقيادة قائده الأثير وموضع ثقته أبي عثمان سعيد ابن عيسى، فضبطها أبو عثمان، وحصنها أمنع تحصين. ولكن الأمر طال عليه، وهو في عزلته، وذاع بين الناس ما يعانيه ابن مردنيش من اضطراب الأحوال والقلق، وشعروا أن عاقبته قد دنت، فعندئذ ثار أهل لورقة، ودعوا للموحدين، وهاجموا النصارى وأنصار ابن مردنيش، فالتجأ هؤلاء جميعاً إلى القصبة وامتنعوا بها. واتجه أهل لورقة إلى الموحدين في طلب الإنجاد، وبعثوا بصريخهم إلى السيد أبي حفص بمحلته بفحص مرسية، يعلنون دخولهم في دعوة التوحيد، ويستنصرون به على عدوهم، فسار السيد أبو حفص في بعض قواته صوب لورقة، ودخلها واحتلها، وبقيت حاميتها بقيادة أبي عثمان على حالها من الامتناع.
وحدث أن خرجت سرية موحدية تجول في الأنحاء المجاورة، فوقع في يدها ولد القائد، محمد بن أبي عثمان، فأمر السيد أبو حفص أن يحمل إلى مقربة من القصبة بمرأى من أبيه عسى أن يحمله ذلك على التسليم، فأبى القائد واستمر في امتناعه، حتى كادت الأقوات والماء أن تنفد، فعندئذ ألح عليه حلفاؤه النصارى في التسليم، وتوسط ابن همشك لأبي عثمان في النزول من القصبة مع جنده بالأمان، وهكذا سلمت القصبة، وانصرف القائد أبو عثمان مع صحبه إلى مرسية، وانصرف الجند النصارى إلى بلادهم، وتم بذلك فتح لورقة وخلوصها للموحدين.
وعلى أثر ذلك عاد السيد أبو حفص في قواته إلى مرسية، ليمضي في حصارها، وفي أثناء ذلك أعلن أهل ألش طاعتهم ودخولهم في دعوة التوحيد، وتبعهم في ذلك أهل معظم الحصون المجاورة، فمنحوا جميعاً الأمان، ثم جهز السيد أبو حفص حملة من الموحدين والعرب تحت إمرة الشيخ الحافظ أبي عبد الله بن أبي إبراهيم، سارت إن مدينة بسطة فافتتحتها ودخلت في طاعة الموحدين. وأعقبتها الجزيرة -جزيرة شقر- الواقعة على مقربة من جنوبي بلنسية فأعلن أهلها التوحيد بزعامة عميدهم أبي بكر أحمد بن محمد بن سفيان المخزومي، فطردوا النصارى الذين كانوا بها. وكان أبو بكر زعيماً نابهاً من بيت عريق، وزاهداً محسناً. وأديباً شاعراً،(4/50)
فلما رأى اختلال أمر ابن مردنيش وضغط الموحدين على قواعده، دعا للموحدين وانضم إليه جيرانه، فندب ابن مردنيش لقتاله، أخاه أبا الحجاج يوسف بن سعد نائبه في بلنسية، وبعث أبو الحجاج قوة من الفرسان قامت بمنازلة الجزيرة، ومحاصرتها والتضييق عليها، في منتصف شوال سنة 566 هـ، واستمر الحصار زهاء شهرين، وابن سفيان يقاوم ما استطاع، وابن سعد يوالي إرسال الجند لتشديد الحصار، ووصلت رسل الجزيرة إلى السيد أبي حفص بمحلته بمرسية في طلب الإنجاد، فوجه معهم قائدهم السابق أبا أيوب بن هلال الشرقي والياً عليهم، وكان قد دخل في دعوتهم للتوحيد واستطاع أبو أيوب أن يقتحم الجزيرة، وأن يقوم بضبطها وحمايتها أشهراً، حتى مرض ابن مردنيش ولحق بمرسية عليلا، وتنفس مخنق الجزيرة (1).
وكان ابن مردنيش أثناء ذلك، والموحدون قبالة مرسية، يخرج بقواته من آن إلى آخر، ويشتبك مع المحاصرين في معارك طاحنة، وكان أخوه الرئيس أبو الحجاج يوسف بن سعد، يتولى الدفاع عن بلنسية وأحوازها. وقد اختُلف في موقف يوسف من أخيه في هذا المأزق العصيب، ففي رواية أنه خرج على أخيه، وفر عنه إلى الموحدين (2)، ودخل في دعوتهم قبيل وفاة أخيه بنحو عام. وفي رواية أخرى، أنه لما رأى تجهم الحوادث دعا في بلنسية لبني العباس، وكاتب الخليفة المستنجد بالله، فكتب له بالعهد والولاية، ثم بايع للموحدين (سنة 566 هـ) (3). بيد أنه يبدو من جهة أخرى أن هذه الرواية غير صحيحة، وأن أبا الحجاج يوسف، استمر يعمل إلى جانب أخيه بإخلاص، وأنه اختص بالدفاع عن قطاع بلنسية، بينما تفرغ أخوه محمد (ابن مردنيش) لمدافعة الموحدين في مرسية. والواقع أن هذه الفترة الأخيرة من حياة ابن مردنيش يكتنفها شىء من الغموض، وفي بعض الروايات القشتالية، أن ألفونسو الثاني ملك أراجون انتهز فرصة ضغط الموحدين على ابن مردنيش، وغزا أراضي بلنسية، المتاخمة لحدود قطلونية، واستولى منها على عدة مواقع وحصون، وأنه أرسل حملة برية وبحرية لغزو بلنسية ذاتها، فتولى الرئيس أبو الحجاج مدافعة
_______
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 237.
(2) أعمال الأعلام ص 271.
(3) ابن خلدون ج 4 ص 166.(4/51)
القوات البرية، وتولى ابن قاسم قائد أسطول ابن مردنيش مدافعة السفن النصرانية فهزمها وأحرق عدداً منها (1).
وجاءت حوادث ألمرية ضربة أخرى لابن مردنيش، وكان ابن مردنيش قد انتزع ألمرية من الموحدين، وندب لولايتها قائده ابن مقدم. فلما اجتاح الموحدون منطقة الأندلس الشرقية، واستولوا على لورقة وبسطة، واقتربوا من ألمرية، قام بألمرية ابن عم وصهر لابن مردنيش على أخته، هو محمد ابن مردنيش المعروف بصاحب البسيط، وتعاون معه محمد بن هلال أحد القادة الخوارج على ابن مردنيش، وأعلنا بطاعة الموحدين، وبعثا إلى السيد أبي حفص في طلب العون والإنجاد، فوجه إليهم قوة من الجند الموحدين، فقبض على الوالي ابن مقدم وأعدم. فلما علم ابن مردنيش بما حدث، أمر بقتل أخته زوجة ابن عمه وكانت بمرسية، وقتل ابنته منها، فقتلا إغراقاً، فجاء هذا الحادث البشع، دليلا جديداً على ما كان يتسم به ابن مردنيش من بالغ القسوة، والاستهتار بسفك الدماء، لا تعوقه في ذلك صلة رحم أو أية عاطفة إنسانية. يقول ابن صاحب الصلاة: " واختل ذهن ابن مردنيش في أثر ذلك، وقل عونه من الله ومن الناس هنالك، وعاد صبحه كالليل الحالك، وفزع من أذلته أهله وقرابته وشيعته وخاصته، واختلت حياته وحالته " (2).
والواقع أن ابن مردنيش بما توالى عليه، في تلك الآونة العصيبة، من الضربات الأليمة، ومن انشقاق معظم قادته ووزرائه وقرابته، ومن استيلاء الموحدين على معظم قواعده، وتشددهم في حصاره وإرهاقه، قد بلغ ذروة اليأس والألم. وكانت الضربة الأخيرة والقاضية، ما بلغه من عبور الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف نفسه إلى الأندلس في جموع جرارة من الموحدين والعرب، ونزوله بإشبيلية، وذلك في شوال سنة 566 هـ، فأيقن عندئذ بأنه لم تبق مندوحة عن الهزيمة المطبقة والسقوط النهائي. وكان يستشف خلال يأسه وألمه، نذر الخاتمة المحتومة المروعة، بيد أنه لم يهن ولم يفكر في أن يختتم ثورته العتيدة وسلطانه العريض، الذي استطال زهاء ربع قرن، بالتسليم المهين، لمن كان يعتبرهم أعداء قومه وبلاده، على أنه لم يلبث أن انهارت بنيته المتينة، وحطمه الغم واليأس. ويبدو
_______
(1) A. P. Ibars: Valencia Arabe, p. 532
(2) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 136 و 137.(4/52)
من أقوال ابن صاحب الصلاة، أن ابن مردنيش قد انتهى به اليأس إلى نوع من الذهول والخبل، وزاد من ذهوله ما عمد إليه أخوه الرئيس أبو الحجاج يوسف من المبادرة إلى التوحيد. ثم جاء الموت فأنقذه من المصير المروع الذي كان ينتظره. وكانت وفاته حسبما يقول لنا ابن صاحب الصلاة، في العاشر من شهر رجب سنة 567 هـ (6 مارس سنة 1172 م) في الثامنة والأربعين من عمره، وهو تاريخ يحمل طابع الرجحان لأنه قول المؤرخ المعاصر (1).
وفي رواية أن ابن مردنيش لم يمت موتاً طبيعياً، وأنه انتحر بتناول السم (2)، أو أنه توفي مسموماً بيد والدته. ذلك أنه لما اشتد على أهله وكبراء دولته، وأساء إليهم، نصحته أمه، وأغلظت له القول، فنهرها وخافت بطشه، لما تعلمه من وحشية طباعه، فدبرت قتله بالسم (3). على أن هذه الرواية، لا تستند إلى أساس قوي، فإن ابن صاحب الصلاة وهو المؤرخ المعاصر، وشاهد العيان، لم يقل لنا شيئاً عنها. ومن جهة أخرى فإن ابن الأبار، وهو قريب من العصر، وقد عاش في بلنسية في عهد حفيد يوسف بن مردنيش، يذكر لنا أن ابن مردنيش، مرض خلال محاصرته، لجزيرة شقر، فغادرها عليلا إلى مرسية (4). ويقول لنا المراكشي أيضاً إن ابن مردنيش توفي " حتف أنفه " خلال حصار مرسية (5).
وهكذا هلك محمد بن سعد بن مردنيش. وكان موته نذيراً بانهيار دولته الشامخة، التي استطاع بعزمه وجرأته وشجاعته وبراعته، أن ينشئها في شرقي الأندلس، ما بين طرطوشة شمالاً وألمرية جنوباً، وما بين شاطىء البحر شرقاً وجيان غرباً، والتي لبثت زهاء ربع قرن تمثل سلطان الأندلس واستقلالها القومى، وتتحدى سلطان الموحدين وجيوشهم المتدفقة من وراء البحر، بل لقد لاح مدى حين أن ابن مردنيش يكاد يبسط سلطانه على الأندلس كلها، وذلك حينما استولى على جيّان وبياسة وأبدّة ووادي آش، واخترق أواسط الأندلس حتى
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة (لوحة 165). ويأخذ ابن الخطيب بهذه الرواية (الإحاطة ج 2 ص 90). ولكن ابن خلكان يقول لنا إن ابن مردنيش توفي في التاسع والعشرين من رجب سنة 567 هـ (27 مارس سنة 1172 م). راجع وفيات الأعيان ج 2 ص 493.
(2) M. Gaspar Remiro: Murcia Musulmana p. 228
(3) ابن خلكان ج 2 ص 493.
(4) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 237.
(5) المعجب ص 140.(4/53)
إشبيلية، وحينما اجتاح نائبه ومعاونه ابن همشك وادي قرطبة، وهدد قرطبة ذاتها، واستولى على قرمونة، ثم هزم الموحدين في مرج الرّقاد واستولى على غرناطة. ولو لم تضع موقعة السبيكة حداً لتقدمه، لكان سلطان الموحدين في الأندلس عرضة للانهيار، ولكللت ثورة ابن مردنيش بالظفر التام. ولقد كان ابن مردنيش في الواقع يمثل بثورته ضد الموحدين، كل ما كانت تبطنه الأندلس القديمة من الآلام والآمال القومية، التي لبثت تجيش بها منذ استولى المرابطون على قواعدها، وفرضوا سيادتهم عليها. ولم تغير سيادة الموحدين بعد المرابطين لشبه الجزيرة الأندلسية شيئاً من هذا الاتجاه القومي، فقد كان الموحدون كالمرابطين بالنسبة للأندلس، أجانب، وكانوا مثلهم من القبائل البربرية، التي لم تستطع منذ مثولها القوي في شئون الأندلس منذ أيام الحاجب المنصور، أن تحرز من الأمة الأندلسية كثيراً من العطف والتقدير. ولم تكن فكرة الجهاد التي كان يحمل لواءها المرابطون ثم الموحدون، وما كانت الجيوش المرابطية، ثم الموحدية، تبذله في سبيل حماية الأندلس، ومحاربة إسبانيا النصرانية، لتقضي تمام القضاء على الفكرة القومية الأندلسية، وإن كانت تلطف من آن لآخر من جذوتها واضطرامها. على أن ابن مردنيش لم يكن بالرغم من حصافته وجرأته وشجاعته، هو الشخصية المثلى لحمل لواء القومية الأندلسية، فقد كانت ثورته على الموحدين، تفقد كثيراً من قيمها المعنوية، بما كان يجنح إليه من الإفراط في مصادقة النصارى، والاستعانة بهم في حروبه، وتمكينهم من قواعده، وتشبهه بهم في زيه، وفي حياته الخاصة والعامة. وإلى جانب ذلك كان ابن مردنيش يتسم بطائفة من الخلال الذميمة، فقد كان مسرفاً في الشراب، واتخاذ الجواري، حتى " كان يراقد منهم جملة تحت لحاف واحد "، منهمكاً في حب القيان والزمر والرقص (1)، ثم كان بعد ذلك طاغية ظلوماً، بالغ القسوة، مسرفاً في الانتقام، مستهتراً بالدماء، وكان عماله على شاكلته من الظلم والجور (2).
وتضع الرواية الإسلامية ابن مردنيش في سلك ثوار الأندلس، وتنوه بذكائه وشجاعته، وقد وصفه بعضهم بأنه " كان بعيد الغور، قوي الساعد، أصيل الرأي، شديد العزم، بعيد العفو، مؤثراً الانتقام، مرهوب العقوبة ".
_______
(1) ابن الخطيب في الإحاطة (المطبوع) ج 2 ص 86، وفي أعمال الأعلام ص 260 و 261.
(2) الإحاطة ج 2 ص 87 و 88.(4/54)
وبالرغم من أن ابن صاحب الصلاة يقدمه لنا في كتابه " المن بالإمامة " في صور قاتمة، ويصف أصحابه دائماً بالأشقياء، فإنه في كتابه " ثورة المريدين " الذي يفصل فيه سير الأندلس، يصف ابن مردنيش بقوله " كانت له فروسية وشجاعة وشهامة ورياسة " (1).
أما ما حدث عقب وفاة ابن مردنيش، فتختلف الرواية في تصويره. ويبدو من أقوال ابن صاحب الصلاة، أنه على أثر وفاته، بادر قواده وأشياخه، بإعلان الطاعة للموحدين، وأقنعوا ولده أبا القمر هلالا بذلك، فصدع برأيهم، وبادر إلى إعلان توحيده، وطاعته، وسار إلى إشبيلية، ليؤكد ذلك لأمير المؤمنين أبي يعقوب. وقد سبق أن أشرنا إلى ما يذكره ابن صاحب الصلاة من أن أبا الحجاج يوسف أخا ابن مردنيش، قد أعلن توحيده، قبيل وفاة أخيه (2).
ويذكر لنا عبد الواحد المراكشي، أنه لما توفي ابن مردنيش، خلال الحصار، كتمت وفاته حتى قدم أخوه الرئيس أبو الحجاج يوسف من بلنسية، وتباحث مع أكبر أبناء أخيه، واتفق رأي الجميع على أن يدينوا بالطاعة لأمير المؤمنين أبي يعقوب، وأن يسلموا إليه البلاد. ويقرن ذلك برواية أخرى خلاصتها أن محمداً بن سعد حين شعر بدنو أجله جمع بنيه، وكان له من الولد الذكور ثمانية، هم هلال أبو القمر وهو أكبرهم، وإليه أوصى، وغانم، والزبير، وعزيز، ونصير، وبدر، وأرقم، وعسكر، وقال لهم أني أرى أمر هؤلاء القوم، من الموحدين، في صعود، وقد كثر أتباعهم، ودخلت معظم البلاد في طاعتهم، وأنه يظن أنه لا طاقة لهم بمقاومتهم، وأنه لذلك يحسن التسليم لهم طوعاً واختياراً فيحظوا بذلك عندهم، قبل أن ينزل بهم ما أنزل بغيرهم من أهل البلاد التي دخلوها عنوة، على أن عبد الواحد لا يجزم بصحة أي الروايتين (3).
وعلى أي حال فإنه يبدو من المقطوع به، أنه على أثر وفاة ابن مردنيش، بادر ولده أبو القمر هلال، بإعلان إذعانه وطاعته لأمير المؤمنين أبي يعقوب، وبالتخلى له عن مدينة مرسية قاعدة الإمارة. فوجه الخليفة أخاه السيد أبا حفص إلى مرسية ليتقبل طاعته وليتسلم المدينة، فسار إليها في عسكر منازل من الموحدين
_______
(1) الإحاطة ج 2 ص 86.
(2) كتاب " المن بالإمامة " لوحة 165.
(3) المعجب ص 140.(4/55)
فبادر أهلها بالخروج إليه، ثم دخل المدينة وآنس أهلها، ووعظهم وحثهم على طاعة الخليفة، ووعدهم بالخير ورفع المظالم عنهم. ثم سار هلال بنفسه إلى إشبيلية في مستهل شهر رمضان (567 هـ) ومعه أكابر دولة الشرق وقادتها وأعيانها، فاستقبله وصحبه خارج إشبيلية، أخو الخليفة أبو زكريا يحيى صاحب بجاية، وأبو إبراهيم إسماعيل وعلية أشياخ الموحدين، ثم استقبلهم الخليفة بالقصبة العتيقة أجمل استقبال، وقدم هلال وصحبه بيعتهم للخليفة بحضور السادة الإخوة وأشياخ الموحدين. ثم أنزلوا بقصر ابن عباد والدور المتصلة به، وقد غمرهم الخليفة بوافر عطفه وإكرامه. وفي اليوم التالي قدم قادة الشرق وأجناده، وفي مقدمتهم شيخهم أبو عثمان سعيد بن عيسى، بيعتهم وطاعتهم، وأبدوا رغبتهم إلى الخليفة أن يقوم بغزو من جاورهم من بلاد النصارى، وعينوا مدينة وبذة بالذات هدفاً لهذا الغزو، نظراً لضعف تحصيناتها وأسوارها، فوعد الخليفة بتحقيق هذه الرغبة (1).
وينقل إلينا ابن الخطيب بهذه المناسبة رواية خلاصتها أن الأمير محمداً بن سعد، لما أدركه اليأس، وأيقن بتصيير ملكه إلى الموحدين، أشهد على نفسه بإقامة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن -عدوه- وصياً على ولده وأهله، ورغب إليه قبول هذه الوصية، فلما نقل ذلك إلى الخليفة رق لهذا القصد، وتأثر بهذه الوسيلة، وتزوج زائدة ابنة ابن مردنيش وحفيدة ابن همشك. وكانت شقراء زرقاء العينين، رائعة الجمال، وتم زفافها إليه في ربيع الأول سنة 570 هـ، فحظيت لديه، وغدت أحب نسائه إليه، وأكثرهن نفوذاً لديه " حتى كان الناس على قول ابن الخطيب يضربون المثل بحب الخليفة للزرقاء (المردنيشية) ". وتزوج أختها صفية فيما بعد ولده، وولي عهده الأمير أبو يوسف يعقوب (2)، وأغدق الخليفة عطفه على آل مردنيش، واستبقى لهم سلطانهم في شرقي الأندلس، فعين أبا الحجاج يوسف بن سعد والياً لبلنسية وجهاتها، وعين غانم بن محمد ابن مردنيش قائداً لأساطيل العدوة بسبتة، واستبقى هلالا لديه، فعاش في كنفه، أثيراً، رفيع الرتبة (3).
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 165 ب و 166 أ.
(2) المراكشي في المعجب ص 140.
(3) أعمال الأعلام ص 271.(4/56)
وأما إبراهيم بن همشك، وهو الذي كان خروجه على صهره وحليفه ابن مردنيش، نذيراً بانهيار مملكة الشرق، فقد لبث مستقراً على ما كان عليه في جيّان وأراضيها، وأقره الخليفة على ولايته، وذلك حتى أوائل سنة 571 هـ، (1175 م)، ثم طلب إليه الخليفة أن ينصرف إلى العدوة، فعبر إليها بأهله وولده، وأسكن مدينة مكناسة وأُقطع بها إقطاعات يعيش منها، ولم يمض قليل على ذلك حتى أصيب بفالج غريب، شديد الأعراض، لم يلبث أن حمله إلى القبر، بعد أن قاسى أهوالا من آلامه المروعة (1).
_______
(1) الإحاطة (1956) ج 1 ص 311.(4/57)
الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق في غزوة وبذة
مرض الخليفة أبي يعقوب يوسف. عنايته باستدعاء العرب وحشدهم لمؤازرته. قصيدة ابن طفيل في حثهم على الجهاد. قصيدة ابن عياض في ذلك. استجابة العرب للنداء. مسير بعض طوائفهم إلى مراكش. شفاء الخليفة وجلوسه لاستقبال الوفود. خروج الخليفة وجيشه لاستقبال حشود العرب. المباريات الرياضية بين الفريقين. مبايعة العرب للخليفة. مآدب الطعام. تمييز عسكر العرب والتوسعة في أجورهم. تمييز الموحدين. توزيع الخيل والسلاح على الفريقين. الإنعام والبركة. خروج الخليفة في قواته من مراكش. وصف الموكب الخلافي. رباط الفتح. اتخاذها مركزاً لتجمع الجيوش الموحدية. تجديد منشآتها. تمييز جديد للجيش. استئناف السير إلى قصر مصمودة. العبور إلى الأندلس. المسير إلى إشبيلية ثم قرطبة. جلوس الخليفة للسلام والتهنئة. مسير الخليفة إلى إشبيلية. عزل ابن المعلم ومحاسبته. إنشاء قنطرة طريانة. إمداد بطليوس بالمؤن. إنشاء قصور البحيرة. إنشاء البستان. إجراء الماء إلى المدينة. إنشاء الجامع الأعظم. وصف ابن صاحب الصلاة لمراحل بناء الجامع وصنع منبره. تطور طراز المنشآت الموحدية. اقتراح أكابر الشرق غزو مدينة وبذة. موافقة الخليفة. خروجه في قواته من إشبيلية إلى قرطبة. مسيره صوب القصر فأندوجر. استيلاؤه على حصن بلج. تسليم حصن الكرس. المسير إلى وادي شقر. مسير السيد أبي سعيد في جيش إلى وبذة. معركة بين الموحدين والنصارى. وصول الخليفة في قواته إلى وبذة. هجوم الجيش الموحدي على وبذة. التفافه بالمدينة. انسحاب القشتاليين إلى الداخل وامتناعهم بالقصبة. فشل الهجوم الموحدي. محاصرة الموحدين للمدينة. عصف الرياح والأمطار. مقدم جنود الشرق. استئناف الموحدين للهجوم. فشلهم للمرة الثانية. حث الشيخ أبي محمد للناس على الجهاد. محاولة الموحدين إقناع القشتاليين بالتسليم. فشل هذا المسعى. قرار الخليفة بالرحيل. مهاجمة القشتاليين للجيش المنسحب. ارتداد الموحدين نحو قونقة. عطاء الخليفة لأهل قونقة. مسير الموحدين صوب نهر شقر. ظهور طلائع القشتاليين. إحجام الموحدين عن القتال. استئناف السير نحو أراضي بلنسية. الوصول إلى ركانة. اختلال الجيش وقلة الأقوات. تسريح جنود الشرق. الوصول إلى بلنسية ثم شاطبة فأوريولة فمرسية. نظر الخليفة في شئون مرسية. المسير إلى إشبيلية. نزول آل مردنيش بها. تكوين قوة من أهل الثغور للغزو. تأملات عن فشل الموحدين في حملة وبذة. عجز القيادة الموحدية. تفكك الجيش الموحدي. تقلب العرب وتخاذلهم. حوادث الغرب. الأحوال في مدينة باجة. تربص النصارى بها. مسير ألفونسو هنريكيز وجيرالدو لافتتاحها. مداهمة النصارى لها واستيلاؤهم عليها. تخريبهم لها ثم مغادرتها. عدم اكتراث الموحدين بسقوطها. اشتغال الخليفة في إشبيلية بإتمام الجامع والقصور. غزو القومس الأحدب لأحواز قرطبة. مسير الموحدين لرد النصارى. إدراكهم عند قلعة رباح. القتال بين الفريقين. هزيمة القشتاليين ومصرع(4/58)
القومس. الاحتفال بالنصر في إشبيلية. غزو الموحدين لأراضى قشتالة. وصولهم إلى طلبيرة وتخريب بسائطها. سعى النصارى إلى عقد المهادنة. عقد الهدنة بين الموحدين وبين صاحب طليطلة وملك قشتالة وملك البرتغال. دخول جيرالدو سمبافور وجنده في خدمة الخليفة. بقية أخباره ومصرعه. تعمير قواعد الغرب. تعمير مدينة باجة. نكث فرناندو ملك ليون وغزوه لأراضي الأندلس. مسير الموحدين إلى مدينة ردريجو. زواج الخليفة بابنة أمير الشرق محمد بن سعد. نكبة الخليفة لابن عيسى. تعيينه لأخيه أبي على والياً لإشبيلية وأخيه أبي الحسن والياً لقرطبة. مغادرة الخليفة لإشبيلية وعبوره إلى المغرب.
نرجع الآن قليلا إلى الوراء، لنتتبع مراحل الغزوة الأندلسية التي وعد بها الخليفة أبو يعقوب يوسف من بدايتها. وقد سبق أن أشرنا إلى مضمون الرسالة التي بعث بها الخليفة إلى الموحدين بالأندلس في شهر ربيع الآخر سنة 564 هـ، يؤكد فيها حرصه على إغاثة الأندلس والعمل على نصرتها، ونياته في استئناف الجهاد، وإلى ما قام به من إرسال جيش موحدي إلى الأندلس، تحت إمرة الشيخ أبي حفص عمر، ليكون تقدمة لهذا الجهاد. بيد أنه لم تأت أوائل سنة 565 هـ، حتى مرض الخليفة، واستطال مرضه زهاء أربعة عشر شهراً، حتى ربيع الأول سنة 566 هـ. وكان يتولى علاج الخليفة خلال تلك النازلة الخطيرة، طبيباه، أبو مروان بن قاسم وأبو بكر بن طفيل (1). وهذه أول مرة تقدم إلينا الرواية الموحدية فيها، الفيلسوف والطبيب الكبير ابن طفيل، باعتباره طبيب الخليفة الموحدي، وكان يتولى الاتصال به وزيره أبو العلاء إدريس بن جامع، يعرض عليه المخاطبات الواردة في مسائل الوفود، وأخبار الشئون المطمئنة، وتحجب عنه الأمور المكدرة، والقاضي أبو محمد عبد الله المالقي إذ كان يثق بعلمه وأمانته وحسن نصحه وتدبيره، وبعض الثقاة من أشياخ الموحدين. وكان أهم ما عنى به الخليفة أثناء مرضه. هو العمل على استدعاء العرب من إفريقية وترغيبهم للمشاركة في الجهاد. وقد سبق أن أشرنا إلى طوائف أولئك العرب الذين كانوا يحتلون بعض مناطق إفريقية (تونس) الجنوبية، وهم من بني هلال، وسُليم، وزغبة، ورياح، والأثبج، وإلى أسباب نزوحهم إلى إفريقية، وما كان من موقفهم من الخليفة عبد المؤمن، وما قام به عبد المؤمن من محاولة استمالتهم إلى المشاركة في الجهاد بالأندلس. وقد لبثت السياسة الموحدية من ذلك الحين تعمل على استمالتهم وحشدهم في صفوف الجيوش الموحدية، وذلك بالرغم مما جبلوا
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 138 ب.(4/59)
عليه من التقلب وعدم الولاء. ومن ثم فقد حذا الخليفة أبو يعقوب في ذلك حذو أبيه، وبذل بالرغم من مرضه جهوداً خاصة، في استمالة أولئك العرب إلى مؤازرته فيما ينتويه من الجهاد، والقيام بالغزوة العظمى في جزيرة الأندلس، وكان مما أشار به الخليفة يومئذ، وهو يعلم ما للشعر البليغ في نفس العربي من عميق الأثر، أن توجه إلى العرب قصيدة حماسية، يشاد فيها برفيع أصولهم وأرومتهم، وكونهم هم السيف الماضي في نصرة الدين، وقمع المارقين والكافرين. فنظم طبيبه الفيلسوف ابن طفيل، تحقيقاً لتلك الغاية، قصيدة طويلة تفيض بلاغة، وروعة، وتدل على ما كان للفيلسوف في نفس الوقت، من منزلة عالية في النظم، تضعه في صف أكابر الشعراء. وإليك بعض ما جاء في تلك القصيدة الرائعة التي أوردها لنا بتمامها ابن صاحب الصلاة:
أقيموا صدور الخيل نحو المضارب ... لغزو الأعادي واقتناء الرغائب
وأذكوا المذاكي العاديات على العدا ... فقد عرضت للحرب جرد السلاهب
فلا تقتني الآمال إلا من القنى ... ولا تكتب العليا بغير الكتائب
ولا يبلغ الغايات إلا مصمم ... على الهول ركّابٌ ظهور المصائب
ومنها في استمالة العرب والإشادة بهم:
ألا فابعثوها همة عربية ... تحف بأطراف القَنى والقواضب
أفرسان قيس من بني هلال بن عامر ... وما جمعت من طاعن ومضارب
لكم قبة للمجد شدوا عمادها ... بطاعة أمر الله من كل جانب
وقوموا لنصر الدين قومة ثائر ... وفيئوا إلى التحقيق فيئة راغب
دعوناكم نبغي خلاص جميعكم ... دعاء بريئاً من جميع الشوائب
نريد لكم ما نبغي لنفوسنا ... ونؤثركم زلفى بأعلى المراتب
لكم نصر الإسلام بدءاً فنصره ... عليكم وهذا عوده جد واجب
فقوموا بما قامت به أوائلكم ... ولا تغفلوا إحياء تلك المناقب
وقد جعل الله النبي وآله ... ومهديّه منكم بلا عيب عائب
ومن ذا الذي يسمع ليبلغ شأوكم ... إذا كنتم فوق النجوم الثواقب
ومنها في الختام:
وما الحزم إلا طاعة الله إنها ... هي الحَرَم المنّاع من كل طالب(4/60)
نعدكم السيف الذي ليس ينثني ... إذا ما نبا سيف بِرَاحة ضارب
ونجعلكم صدر القناة إذا غدت ... تأطّرُ ما بين الحشى والترائب
وليس خطيب الصدق من قال فانبرى ... ولكن فعل الحرِّ أصدق خاطب
وما خلق الأعْراب خلاف موعد ... ولكن صدق الوعد خلق الأعارب
سنعلم من أوفى ومن خان عهده ... ومن كان من آت إلينا وذاهب (1).
وأمر الخليفة أن تتبع قصيدة ابن طفيل بشعر آخر يوجه إلى العرب، استعجالا لهم واستنهاضاً لهممهم، فوجهت إليهم قصيدة ثانية من نظم ابن عيّاش هذا مطلعها:
أقيموا إلى العلياء عوج الرواحل ... وقودوا إلى الهيجاء جرد الصواهل
وقوموا لنصر الدين قومة ثائر ... وشدوا على الأعداء شدة صايل
ْفما العز إلا ظهر أجرد سابح ... يفوت الصبي في شده المتواصل
وأبيض مأثور كأن فرنده ... على الماء منسوج وليس بسائل
وأسروا بني قيس إلى نيل غاية ... من المجد تجنى عند برد الأصائل
تعالوا فقد شُدت إلى الغزو نية ... عواقبها مقصورة على الأوائل (2).
وقد كان لهذه الخاطبة الشعرية أثرها فيما يروى ابن صاحب الصلاة، في نفوس العرب في إفريقية، ولاسيما في منطقتي الزاب والقيروان، فاجتمع زعماؤهم، وحزموا أمرهم على المبادرة إلى الاستجابة لنداء الخليفة. وكان شيخ بني رباح وزعيمهم جبارة بن كامل بن أبي العيش، وهو الذي كان قد فر أيام عبد المؤمن من إفريقية، فيمن فر من أشياخ العرب، حين دهمتهم القوات الموحدية في جنوبي القيروان، قد عاد من المشرق في هذه الآونة بالذات بعد أن تجول في ربوعه حيناً، ورأى أن يقتدى بزملائه في الاستجابة إلى " الأمر العزيز ". فجمع قومه، وسار إلى بجاية، وقصد إلى أميرها السيد أبي زكريا يحيى أخي الخليفة، فأكرم وفادته، ولحق به بقية الزعماء والأشياخ، وتحرك الجميع في صحبة السيد
_______
(1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة تلك القصيدة في " المن بالإمامة " لوحات 139 أوب، و 140 أ، وهي تحتوي على أربعين بيتاً، ونقل ابن عذارى معظمها في البيان المغرب القسم الثالث ص 88 و 89. ونشرت في العدد الأول من مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد (سنة 1953).
(2) أوردها ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 140 ب. وورد قسم منها في المعجب ص 125.(4/61)
أبي زكريا إلى حضرة مراكش، ومعهم أموالهم وجملة كبيرة من عتاق الخيل، ولما وصلوا إلى تلمسان سار معهم واليها السيد أبو عمران موسى أخو الخليفة بمن عنده من العمال والأموال والخيل. وكان الخليفة أبو يعقوب قد شفى عندئذ من مرضه الطويل، فلما بلغته أنباء مقدم العرب، واقترابهم من الحضرة، سر بذلك أيما سرور، وخرج إلى المسجد الجامع يوم الجمعة السادس عشر من ربيع الأول سنة 566 هـ، في جو يسوده الحبور والبشر، وبعد ذلك بيومين جلس الخليفة لاستقبال أشياخ الموحدين وطلبة الحضر، والأجناد والخاصة من أهل الوفود والقضاة، وخطب في هذا الحفل الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن عمر، والقاضي أبو يوسف، والفقيه أبو محمد المالقي، وأمر الخليفة بإخراج الصدقات للضعفاء والمساكين والوافدين الغرباء، ثم صدر الأمر بأن يكون وصول العرب الوافدين، ومن معهم إلى حضرة مراكش في ضحى يوم السبت الثاني من شهر ربيع الآخر سنة 566 هـ.
وكانت الأوامر قد صدرت أثناء ذلك إلى جميع الجند الموحدين بالحضرة بالاستعداد واستكمال الزي والهيئة، وفرقت عليهم بهذه المناسبة الدروع، والبيضات والرماح والأسلحة والكسى والأعلام. وفي صبيحة يوم السبت المذكور بكر الحفاظ والطلبة من الموحدين وسائر الجند إلى باب السدّة، وانتظمت صفوفهم جُملا جُملا، تتقدمهم الطبول العديدة. ولما كمل ترتيب الموكب، برز الخليفة أبو يعقوب ممتطياً صهوة فرسه الأشقر، وإلى جانبه وزيره أبو العلا إدريس ابن جامع، سائراً على قدميه لصق ركابه، وهو يراجعه فيما يعن من الأمور، وفي ساقة الخليفة، يسير سائر الإخوة الصغار والبنين، ومن ورائهم حملة البنود، وأكابر الموحدين يحمل كل منهم علماً، وعليه درع سابغة لامعة تسطع تحت أشعة الشمس، وتتبعهم سائر الأجناد من الحشم والروم والعبيد. وتقرر أن يكون اللقاء في الفحص الشاسع القريب من المدينة، فلما وصل الموكب إلى الفحص المذكور، والطبول تقرع بشدة، والجيوش تبدو في أكمل هيئة، ضربت قبة الخليفة، ونزل فيها مع إخوته وبنيه. وأقبلت عساكر العرب وأهل إفريقية، ومعهم السيدان أبو زكريا يحيى، وأبو عمران موسى أخوا الخليفة. ولما التقى الموكبان على هذا النحو، أمر الخليفة أن يحمل الفريقان من العسكر كل على الآخر حملة مبارزة ورياضة ولعب، ففعلا، وتجاوبا وتصاولا حتى العصر، والطبول(4/62)
تقرع، وقد أبدع كل منهما في حركاته ومناوراته. ثم تقدم أخوا الخليفة وأشياخ الموحدين وأشياخ العرب وجميع الوافدين للسلام على الخليفة، وانصرف الخليفة بعد ذلك في عسكر الموحدين إلى المدينة، وضرب العرب محلتهم في الفحص. وفي اليوم التالي، الثالث من ربيع الأول، أمر الخليفة بدخول أشياخ العرب والوفود لمبايعته، وأخذ العهد عليهم، فأدخلوا واستغرقت بيعتهم أسبوعاً حتى العاشر من ربيع الأول.
وفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الأول، خرج الخليفة عقب الصلاة إلى البحيرة (البستان) خارج الحضرة، ومدت المآدب العظيمة لإطعام العرب والوافدين. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان من شهود هذه الحفلات كلها، هيئة الإطعام، فيقول إن كل طائفة من ثلاثة آلاف رجل كان يقدم لها الطعام، وكلما انتهت طائفة من الأكل، سارت إلى موضع الخليفة وسلمت ودعا لها. واستمر حفل الإطعام أياماً، وقد أربى ما كان يقدم فيه على ما تقدم من الإنعام المماثل. ولم يعكر صفو هذا الحفل سوى مشادة حدثت بين صبيان الموحدين وأتباع العرب، وقعت خلالها بعض الاعتداءات على النفس والمال، وبادر العرب بالاعتذار وطلب العفو من الخليفة لما وقع من أتباعهم، فصفح الخليفة عنهم، وأمر بالاستمرار في إطعامهم وإكرامهم (1).
وكانت آخر خطوة في هذه الأحداث المتعاقبة، إجراء التمييز لعسكر العرب والموحدين، ففي اليوم الثامن من جمادى الأولى أمر الخليفة بتمييز العرب الوافدين ومن وصل معهم، وأن يحضروا بين يديه في رحبة قصره بدار الحجر، ورتب دخولهم كل يوم بعدد معلوم من مختلف القبائل، فاستمر تمييزهم خمسة عشر يوماً، والخليفة جالس في مجلسه مع أشياخ الموحدين وأشياخ طلبة الحضر وأشياخ العرب، يحرض العرب والناس على الجهاد، ويحث على التفاني فيه. ولما انتهى التمييز، دعا الخليفة أشياخهم وكبراءهم، وأحضرت زمامات التمييز الأول، أيام الخليفة عبد المؤمن، فوجدت في التمييز الجديد زيادة كبيرة في الأجور. وكان قصد الخليفة من التوسعة على العرب، أن يمتنعوا عن عاداتهم الذميمة في الاعتداء على الأموال وخطف العمائم والثياب والسروج وغيرها،
_______
(1) يقدم إلينا ابن صاحب الصلاة وصفاً ضافياً لهذه الاستقبالات والحفلات في" المن بالإمامة " لوحات 146 ب إلى 149 ب.(4/63)
وأن يستميلهم إلى طاعته ومؤازرته، ثم بدىء بتمييز الموحدين من غرة جمادى الآخرة واستمر تمييزهم أيضاً خمسة عشر يوماً، وفق منازلهم وقبائلهم، ووزعت على أثر ذلك على الموحدين والعرب الخيل وعُدد الحرب من الرماح والدروع والبيض والسيوف وغيرها. واختتم التمييز بما يسمى في المراسيم الموحدية " بالإنعام بالبركة " وتوزيع الأعطية. وأقيم لذلك حفل ضخم جلس فيه الخليفة في مجلسه، ومن حوله أشياخ الموحدين وأشياخ العرب، وأحضرت الأموال بين يديه، أكواماً من الذهب والفضة، من دنانير ودراهم، وقُدم الموحدون في تنفيذ البركة، فأصاب الفارس الكامل منهم عشرة دنانير، وغير الكامل ثمانية، والراجل ْالكامل خمسة دنانير وغير الكامل ثلاثة. وحصل العرب على منح مضاعفة، فأصاب الفارس الكامل منهم خمسة وعشرين ديناراً، وغير الكامل خمسة عشر، والراجل سبعة دنانير، ومُنح أشياخ العرب خمسون ديناراً لكل منهم، ومنح كل رئيس قبيلة مائتا دينار، ووزعت على الجميع الكسى من القباطي والنفاير والعمائم، وزودوا بالسيوف المحلاة والدروع السابغات والبيض والقنا، وأمر لهم بثلاثة آلاف فرس وزعت على مختلف القبائل، وحصل الموحدون كذلك على جملة كبيرة من الخيل قسمت عليهم بحسب قبائلهم ومنازلهم. وكان يوماً مشهوداً، سادت فيه الغبطة والحماسة بين الأشياخ والجند، وارتفعت قواهم المعنوية، وأخذوا يتطلعون إلى الغزو المنشود في عزم وثقة (1).
- 1 -
وهكذا تمت أهبة الخليفة أبي يعقوب يوسف للغزوة الأندلسية التي اعتزمها، والتي عاقه المرض حيناً عن إتمامها، وعلى هذا النمط الذي أفاض في وصفه، ابن صاحب الصلاة، ولخصناه فيما تقدم، كانت تُحشد الجيوش الموحدية، ويجرى استعداد الخليفة الموحدي للغزو. وفي اليوم الرابع من شهر رجب سنة 566 هـ الموافق 13 مارس سنة 1171 م غادر أبو يعقوب حضرة مراكش في حشوده من الموحدين والعرب، وكان خروجه من باب دُكّاله، وقد هرعت الجموع الغفيرة لرؤيته، فسار وأمامه العلم الأبيض، ومن ورائه حملة الطبول، وقد قدم أمامه مصحف عثمان محمولا على جمل مرتفع، وعليه قبة صغيرة حمراء، وقد وضع في تابوته الفخم المرصّع بنفائس الجوهر والياقوت والزمرد، وأمام مصحف
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 150 ب و 151 أوب.(4/64)
عثمان، مصحف الإمام المهدي، وكان يسير إلى جانب حملة الأعلام والطبول، الوزير أبو العلاء إدريس بن جامع، ومعه الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن عمر صاحب المهدي، وأبو محمد عبد الله المالقي شيخ طلبة الحضر، وقاضي الجماعة أبو موسى عيسى بن عمران، وعدة آخرون من أشياخ الموحدين. ونزل الخليفة في وادي تانسيفت على قيد ثلاثة أميال من مراكش، وهو أول منازل الرحلة، وعساكره محدقة به من كل صوب. ثم غادره في اليوم التالي إلى جسر الخطابة إلى توبين، ثم إلى تودجين. واستمر في سيره على هذا النحو حتى وصل إلى وادي أم الربيع، وهو في كل مرحلة ينزل في الدار التي أعدت لنزوله، وجاز العسكر الوادي تباعاً فوق القنطرة التي عملت لذلك، وقد خصص يوم لجواز كل قبيلة. ثم استأنف السير حتى وصل إلى مقربة من المهدية، وهي التي سُمّيت عندئذ برباط الفتح. وكان موضع هذه المدينة التي غدت في عصرنا عاصمة المغرب، سهلا براحاً به مرافق لأهل سلا، وبعض أعيان إشبيلية، فاشتراه الخليفة عبد المؤمن من أصحابه. ولما وفد في قواته على سلا في سنة 545 هـ، لاستطلاع أحوال جزيرة الأندلس واستدعاء شيوخها وطلبتها من الموحدين، أمر حسبما تقدم، بأن ينشأ في ذلك الموضع قصبة حصينة على اللسان الممتد في البحر أمام سلا، وبأن ينشأ سرب لجريان الماء من عين عبولة، القريبة إلى محلته التي أنشأها، فتم ذلك في بضعة أشهر، وجرى الماء ليستقي منه الناس والدواب وتروى الأرض، وغرست الجنات والرياض، وأذن الخليفة للناس بالسكنى وإنشاء الديار والأسواق. وهكذا قامت مدينة رباط الفتح. وكانت الرباط، منذ عهد عبد المؤمن مركز تجمع الجيوش الموحدية الغازية سواء إلى إفريقية أو الأندلس. ولما تم فتح إفريقية غدت بالأخص مجاز الجيوش المسيرة إلى الأندلس. ولما وصل الخليفة أبو يعقوب إلى مقربة من الرّباط نزل في فحصها مع الوزراء والأشياخ والكبراء، وأمر بأن تُغرس في أركان تابوت مصحف عثمان الأربعة، أربع رايات، رفعت على أربع رماح صغار، في أعلى كل منها تفاحة من الذهب يسطع بريقها الوهاج، وللرايات ألوان أربعة، الخلدى والأحمر، والأصفر والأبيض. ثم اقتعد الخليفة غارب فرسه الأشقر، وسار على النظام الذي سبق وصفه، ومن ورائه حشود الموحدين والعرب وقد ملأت البسائط.(4/65)
فلما أشرف على الرباط، أمر بتقديم الطبول والرايات أمامه مع المصحفين تعظيماً لشأنهما، وتبعه الوزراء والأشياخ والكتاب والطلبة، حتى وصل إلى باب المدينة، فرد وجهه للناس واستقبلهم ودعا لهم، وأمرهم بالنزول في السهل الشاسع، ونزل بالدار المعدة لنزوله، وكان وصول الخليفة إلى رباط الفتح في اليوم العشرين من شهر رجب سنة 566 هـ، وبذا استغرقت رحلته إليها من مراكش، سبعة عشر يوماً (1).
وأمر الخليفة على أثر وصوله أن تجدد السقاية التي أنشأها والده عبد المؤمن، وكانت قد خربت، وأسن ماؤها، فجددت وأعيدت إلى حالتها الأولى، وأنشىء إلى جانبها صهريج عظيم ليمدها بالماء المتجمع فيه، وكذلك أمر بأن ينشأ جسر جديد فيما بين الرباط وسلا على نهر أبي رقراق، إلى جانب الجسر الذي كان قد أنشأه أبوه، ثم خرب بفعل الزمن، فأقيم جسر عظيم فوق القوارب، وغطى بالحجر والجيار الثابت. وأمر أخيراً بالبدء في بناء أسوار المدينة من جهتي الجنوب والغرب، وهي الأسوار التي أكملت فيما بعد في عهد ولده الخليفة يعقوب المنصور. وفي اليوم الثامن من نزوله أمر بتحرك العساكر، وأن يقام لهم تمييز جديد، وأشرف على تمييز العرب السيد أبو زكريا أخو الخليفة، وأبو محمد عبد الله المالقي لمعرفته بهم وبأنسابهم. ثم وزعت الكسى على الأشياخ من كل قبيل، وعلى طلبة الحضر، والعرب، وخُص كثير منهم بأخبية وخيل عتاق، وكذلك وزعت الصدقات على الضعفاء والمساكين، وقضيت حوائج الناس، ثم اتخذت الأهبات الأخيرة لاستئناف السير.
وفي عشية يوم الجمعة التاسع من شهر شعبان سنة 566 هـ، صدرت الأوامر بالحركة، وعبرت الجند البحر إلى سلا فوق الجسر الجديد. وفي صباح اليوم التالي تقدم الشيخ أبو سعيد يخلف بن الحسين بالموحدين حتى تم جوازهم، ثم تلاه السيد أبو زكريا بالعرب، واستغرق جواز العسكر خمسة أيام، وفي الخامس عشر من شعبان غادر الخليفة رباط الفتح، ومعه وزيره ابن جامع، والأشياخ والحفاظ والطلبة والعبيد، بنفس النظام الذي تقدم وصفه، ونزل بالموضع المعروف بالحمام على مقربة من وادي سبُو تجاه ثغر المعمورة، وتلاحق سائر العسكر إلى الوادي، فاجتمع من عسكر الموحدين عشرة آلاف فارس، واجتمع كذلك
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 152 أإلى 154 ب.(4/66)
من العرب عشرة آلاف فارس، وهذا غير المتطوعة والمجاهدين، فإذا ذكرنا أن الشيخ أبا حفص بن يحيى، كان قد تقدم الخليفة بجيش كبير إلى شبه الجزيرة في أوائل سنة 564 هـ، وأن السيد أبا حفص أخا الخليفة، تلاه في جيش كبير آخر عبر إلى شبه الجزيرة في أوائل سنة 566 هـ، وهو الجيش الذي اضطلع بمحاربة ابن مردنيش والقضاء على مملكة الشرق، أدركنا ضخامة الجيوش الموحدية التي أعدت للغزو بالأندلس.
ووصل الخليفة في قواته الجرارة إلى قصر مصمودة غربي ثغر سبتة (1)، وبدأ عبور الجند إلى شبه الجزيرة، عن طريق ثغر طريف، في مستهل رمضان من سنة 566 هـ (8 مايو سنة 1171 م) واستمر عبورها أكثر من أسبوعين، وفي اليوم السابع والعشرين من رمضان عبر الخليفة في خاصته، واستقبله في طريف زعماء الأندلس وأكابرها من سائر القواعد، ثم تحرك إلى إشبيلية، ودخلها في يوم الجمعة الثاني عشر من شهر شوال (18 يونيه) واستقبله الأشياخ والناس استقبالا حافلا، فاستراح بها عشرة أيام، ثم سار إلى قرطبة في الثاني والعشرين من شوال، فوصل إليها في غرة ذي القعدة (5 يوليه). ونزلت القوات الموحدية في داخل قرطبة وفي خارجها على ضفتي الوادي، مدة إقامة الخليفة بها، وقد استطالت إلى آخر ذي الحجة سنة 566 هـ. وفي يوم عيد الأضحى، خرج الخليفة للصلاة وألقيت الخطبة المعتادة، واحتفل بالنحر، ثم استقبل الأشياخ الموحدين وأبناء الجماعة، وانصرف إلى دار الإمارة. وفي اليوم التالي جلس بالقصر، مجلس السلام والتهنئة، وأقبل أشياخ الموحدين وأبناء الجماعة، وطلبة الحضر، والفقهاء والقضاة والكتاب، وأهل الوفود، وأعيان قرطبة، أقبلوا جميعاً للسلام، وأنشد الشعراء كالعادة مدائحهم وتهانيهم، وكان في مقدمتهم أبو بكر بن المُنخّل، وقد أنشد بين يدي الخليفة قصيدة طويلة أوردها لنا ابن صاحب الصلاة، ومما جاء فيها:
شرّف الخلافة أن ملكتَ زمامها ... يحمي جوانبها فكنتَ حسامها
_______
(1) قال الإدريسي في وصف قصر مصمودة " إنه يقع غرب سبتة على قيد 12 ميلا، وهو حصن كبير على ضفة البحر تنشأ به المراكب والحراريق التي يسافر فيها إلى بلاد الأندلس.
وهي على رأس المجاز الأقرب إلى ديار الأندلس " (وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ص 168).(4/67)
طبع الإله لها حساماً صارماً ... وغدوت من عقد الإمام إمامها
ورأت عداة الله أن حمامها ... من قيس عيلان فكنت حمامها
فعلى رماحك أن تشق صوبها ... وعلى سيوفك أن تفلّق هامها (1).
وفي خلال إقامة الخليفة بقرطبة سُيرت حملة موحدية بقيادة عبد الله بن أبي حفص ابن تفريجين وبعض أشياخ الموحدين نحو أراضي قشتالة، وكان القصد من تسييرها أن تقوم بغارة انتقامية لما ارتكبه القشتاليون بقيادة الكونت نونيو دي لارا من العيث والتقتيل في أراضي المسلمين، قبل ذلك بنحو عامين، فسار الموحدون شمالا، وعبروا نهر التاجُه، وعاثوا في منطقة كبيرة من أراضي قشتالة، وعادوا إلى قرطبة مثقلين بالسبي والغنائم، ونحن نذكر أن الجيوش الموحدية، كانت قبل ذلك ببضعة أشهر، قد سارت بقيادة السيد أبي حفص أخي الخليفة لحصار مرسية ومقاتلة ابن مردنيش في عقر أراضيه، والقضاء على سلطانه في شرقي الأندلس، وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه، وكانت الأنباء تتوالى على الخليفة، وهو بقرطبة، بما أنزله الموحدون بابن مردنيش من الضربات والهزائم، وما استولوا عليه من بلاده، وبما يؤذن بإحرازهم النصر النهائي في تلك المعركة الحاسمة.
- 2 -
غادر الخليفة أبو يعقوب يوسف قرطبة، بعد أن أقام بها شهرين، في آخر شهر ذي الحجة سنة 566 هـ، قاصداً إلى إشبيلية، فوصل إليها في الثاني من محرم سنة 567 هـ (5 سبتمبر 1171 م)، ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان شاهد عيان لكل ما تقدم من تنقلات الخليفة، إن الخليفة لم يحتل من دور إشبيلية سوى ستين داراً، وأنه اشترى بها مائة دار من ماله الخاص لتكون منزلا للوافدين إليه، وذلك رفقاً منه بأهل المدينة (2)، وكانت إشبيلية قد غدت عندئذ قاعدة الحكومة الموحدية بالأندلس، وذلك بعد أن ترددت هذه الحكومة حيناً بين قرطبة وغرناطة وإشبيلية. وكانت إشبيلية بموقعها على مقربة من البحر وعلى مقربة من العدوة، أصلح من الناحية الإستراتيجية من قرطبة، لاستقبال
_______
(1) تشغل هذه القصيدة من " المن بالإمامة " لوحة 159 ب و 160 أوب.
(2) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 156 ب.(4/68)
الجيوش الموحدية الوافدة، واستقبال عتادها وذخائرها ومؤنها، ومن جهة أخرى، فقد أثبتت الحوادث، منذ مقدم الموحدين إلى شبه الجزيرة، أن تيار الغزو النصراني للأندلس، قد تحول إلى ناحية الغرب، وأن قيام مملكة البرتغال الجديدة، واشتداد ساعدها، قد نقل الصراع الرئيسي بين إسبانيا المسلمة، وإسبانيا النصرانية إلى هذه الناحية من شبه الجزيرة، وهذا ما أيدته في الأعوام الأخيرة، معارك بطليوس، وغزوات ألفونسو هنريكيز، وهذا ما سوف تؤيده الحوادث فيما بعد، وهو مما يدل على بعد نظر السياسة الموحدية في هذا الشأن. وأخيراً فقد كانت إشبيلية، بعد الذي أصاب قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، من ضروب التخريب والعفاء منذ أيام الفتنة، ومختلف الحروب والثورات، كانت أرقى عمراناً، وأوسع رحاباً، ولاسيما منذ أيام بني عباد، حيث غدت أعظم حواضر الأندلس وأجملها. ولهذا كله اختار الموحدون أن تكون إشبيلية حاضرتهم وقاعدة حكومتهم بالأندلس.
وما كاد الخليفة يصل إلى إشبيلية، حتى أمر بعزل محمد بن سعيد المعروف بابن المعلم، وكان يتولى أعمال المخزن أو إدارة الشئون المالية بإشبيلية والأندلس، وأُمر بالسير إلى قرطبة لمحاسبته، والتحقيق في سير أعماله، وكانت قد علقت به وبتصرفاته في تنفيذ المنشآت والمشاريع العامة ريب كثيرة، وندب لمحاسبته الفقيه أبو محمد المالقي والكاتب أبو الحكم بن عبد العزيز، وانتهى الأمر باستصفاء أمواله، ثم إعدامه فيما بعد. وقدّم الخليفة مكانه على أعمال إشبيلية، أبا داود بلول ابن جلداسن. وقد كان للخليفة عند حلوله بإشبيلية برنامج ضخم من الأعمال الإنشائية، سوف يضطلع بلول، وزير المال الجديد، في تنفيذه بأعظم قسط.
وكان أول ما أشار به الخليفة من تلك الأعمال بناء قنطرة عظيمة على نهر الوادي الكبير، تصل ما بين إشبيلية وطريق طُريانة، ضاحيتها الغربية، وتيسر سبل المواصلات في اتجاه الغرب، فحشد لها العرفاء والصناع، وتم إنشاؤها في نحو شهر، في السابع من صفر سنة 567 هـ، وحضر الخليفة يوم إكمالها وافتتاحها، في حفل ضخم، رفعت فيه البنود وقرعت الطبول. وينوه ابن صاحب الصلاة بما كان لإنشاء هذه القنطرة العظيمة من حسن الأثر، وما حققته للناس من يسر ورخاء، إذ كان المرور بها دون قبالة أو رسوم.
وفي خلال ذلك، حضر السيد أبو حفص أخو الخليفة من حصن مرسية،(4/69)
وذلك قبل وفاة ابن مردنيش وانقضاء أمره بأشهر قلائل، فاستقبله الخليفة خارج إشبيلية، باحتفال بالغ. واجتمع الأخوان للبحث فيما يجب عمله لحماية الأندلس ورد عدوان النصارى عنها. وكان أول ما تقرر في ذلك أن ترسل حملة ضاربة من الموحدين تحمل الميرة والعتاد والمرافق اللازمة لمدينة بطليوس، فخرجت هذه الحملة في الثامن من شهر صفر، وجازت فوق القنطرة الجديدة إلى طريانة، فكانت أول عسكر يجوز عليها، وسارت إلى بطليوس. فلما اقتربت من المدينة، هاجمت حصن ليون الواقع على مقربة من شرقي بطليوس على ضفة وادي يانه، وكانت تحتله حامية من النصارى من جند جيرالدو سمبافور، واقتحمته عنوة، وأوصلت حمولتها من الميرة والسلاح إلى بطليوس، ثم عادت سالمة إلى إشبيلية.
ولما كللت حملة مرسية بالنجاح، وتوفي ابن مردنيش، وانتهت مملكة الشرق، قَدِم هلال بن مردنيش وأكابر الشرق إلى إشبيلية، في مستهل رمضان سنة 567 هـ، وقدموا خضوعهم وطاعتهم للخليفة، وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه.
وقد استطالت إقامة الخليفة أبي يعقوب يوسف بإشبيلية والأندلس زهاء خمسة أعوام، وبالرغم من أنه قام خلال إقامته بغزو أراضي النصارى، وذلك تحقيقاً لمشروعه الرئيسي في العبور إلى الأندلس، فإن أهم ما تميزت به تلك الفترة، هو اضطلاعه بالأعمال الإنشائية العظيمة بمدينة إشبيلية، وهي التي بدأها ببناء القنطرة على الوادي الكبير. والظاهر أن أبا يعقوب، كان يحبو هذه المدينة العظيمة، التي أنفق فيها أعواماً عديدة من شبابه حاكماً لها أيام أبيه عبد المؤمن، بكثير من الحب والإعجاب، ومن ثم فإنا نراه يعمل بهمة عظيمة على تحصينها وتجميلها، وتزويدها بالمنشآت الفخمة، والمياه الجارية. وكان أول ما عنى به بعد إنشاء القنطرة، هو إنشاء القصور الخليفية المعروفة " بالبحيرة ". وكانت إشبيلية تزدان بعدد من القصور الملكية، هي قصور بني عباد السالفة، وكانت ما تزال، في هذا العصر، بعد أكثر من مائة عام، تحتفظ بكثير من روعتها وفخامتها، ولكن الخليفة الموحدي، لم يرق له أن يتخذ من تلك القصور مقامه، واكتفى بتخصيصها لنزول الأمراء والكبراء الوافدين. وكان السيد أبو حفص، أخو الخليفة، قد ابتنى خلال زياراته لإشبيلية بعض الدور في وادي إشبيلية خارج باب الكُحل، فرأى الخليفة أن يقيم قصوره خارج باب جهور، في أرض الجنان المنسوب(4/70)
لأبي مسلمة القرطبي بعد أن عوض أصحابه جناناً في مكان آخر. وأقيمت في هذا الموضع طائفة من القصور والدور الفخمة للخليفة وحاشيته. وقام على إنشائها العريف أحمد بن باسُه عريف الأندلس، والخبير بشئون القصور، فجاءت على أبدع طراز، وأقيمت حولها من جميع الجهات أسوار من الجيار والرمل والحصى. وعهد الخليفة إلى أبي القاسم أحمد بن محمد الحوفي القاضي، وأبي بكر محمد ابن يحيى الجد، لما عرف عنهما من الأمانة والخبرة الهندسية والزراعية، أن يقوما بإنشاء بستان عظيم حول هذه القصور من أموال المخزن (الأموال العامة) تُجلب إليه الغراس من الزيتون والأعناب والفواكه وسائر الأنواع النادرة الغريبة من الأشجار والغراس، فقاما بتنفيذ أمره، وعُوّض أهل الأراضي التي أدخلت في البستان عن أراضيهم تعويضاً مرضياً. وعهد بأعمال الحفر والغراس إلى أبي داود بلول بن جلداس، متصرف إشبيلية وأعمالها وأمين الخليفة، وجلبت إلى البستان آلاف الغراس والأشجار من مختلف الأنحاء، وغُرست فيه على أجمل نسق. وحملت غراس التفاح والأجاص (الكمثرى) وغيرها من غرناطة ووادي آش، وكان الوزير أبو العلاء بن جامع وابنه يحيى يلازمان الجلوس للإشراف على العمل من الصباح إلى المساء، وكان الخليفة يخرج من قصره بإشبيلية مع أعيان الموحدين لمشاهدة الأعمال الجارية ومدى تقدمها. ويفيض ابن صاحب الصلاة كعادته في وصف هذه القصور وجمالها وفخامتها (1).
وكانت الخطوة التالية بعد إنشاء القصور والبستان، النظر في استجلاب الماء لتوفير السقاية والري. وكان يوجد خارج باب قرمونة، على الطريق المتجه إلى قرمونة، أطلال قنطرة رومانية قديمة، قد درست وعفت، ولم يبق منها سوى حجارتها المتساقطة. فقام المهندس الأندلسي البارع الحاج يعيش المالقي، وهو الذي تولى الإشراف على أعمال جبل طارق، بالحفر حول هذا الأثر، حتى تحقق لديه، أنه كان قنطرة رومانية تحمل الماء من سرب قديم إلى إشبيلية، ثم تتبع السرب بعد ذلك بالحفر حتى انتهى إلى مأخذه القديم من الوادي على مقربة من قلعة جابر (2)، وتم إجراء الماء من ذلك الموضع في سربه القديم إلى البحيرة،
_______
(1) المن بالإمامة لوحات 161 ب و 162 أوب و 163 أ.
(2) وهي تقع في جنوب شرقي إشبيلية على قيد نحو عشرة كيلومترات منها، ومكانها اليوم البلدة الإسبانية الصغيرة التي تسمى ( Alcala de Guadaira) .(4/71)
والقصور والرياض الخليفية، وأمر الخليفة بعد ذلك، بإجراء الماء إلى داخل المدينة لسقاية الناس، وتوفير مرافقهم، فقام الحاج يعيش بتنفيذ هذه الرغبة على أكمل صورة، وأنشىء داخل إشبيلية محبس للماء بحارة منور وهو نهاية جريانه، وتم توصيل الماء إلى المدينة على هذا النحو في اليوم الخامس عشر من جمادى الآخرة سنة 567 هـ، وحضر الخليفة حفل إجرائه في جماعة كبيرة من الجند والأشياخ والفقهاء والطلبة، وضربت الطبول، وساد البشر واليمن بين الناس.
على أن أعظم منشآت الخليفة أبي يعقوب يوسف بإشبيلية، هو الجامع الأعظم، الذي ما زالت تقوم منه حتى اليوم بعض البقايا الدارسة، إلى جانب كنيسة إشبيلية العظمى، التي أقيمت فوق أنقاضه. وكان البدء بإنشائه واختطاط موقعه في شهر رمضان سنة 567 هـ، فهدمت لذلك الغرض ديار كثيرة داخل القصبة تحت إشراف العريف أحمد بن باسُه، واجتمع بإشبيلية للقيام بأعمال الإنشاء، العرفاء، والبناؤون من أهل إشبيلية، ومن سائر قواعد الأندلس، ومن أهل العدوة ولاسيما مراكش وفاس، واجتمع معهم أمهر العمال من سائر الحرف المطلوبة. وكان الموحدون حينما افتتحوا إشبيلية قد أنشأوا لهم بقصبتها جامعاً صغيراً يؤدون فيه شعائرهم، ولكنه أضحى يضيق بهم، بعد أن تكاثروا وكثرت وفودهم، ومن جهة أخرى، فإن المدينة ذاتها كانت في أشد الحاجة إلى مسجد جامع يتفق مع ضخامة عمرانها، وأهميتها كمقر للحكومة الموحدية بالأندلس. وكان مسجد إشبيلية الجامع، المسمى بجامع العدبّس أو ابن عدبّس وهو المنسوب للقاضي عمر ابن عدَبّس، والمشيد في سنة 214 هـ، أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، قد ضاق برواده، نظراً لنمو المدينة وتكاثف سكانها، وكثرة الموحدين الوافدين عليها، ولم يفكر أحد من أمراء بني عبّاد أيام دولتهم، في إنشاء مثل هذا الجامع لانهماكهم في شئون الإمارة، وإنشاء القصور ودور القصف، وإهمالهم لشئون العبادة. يقول ابن صاحب الصلاة وقد كان من سكان إشبيلية، وكان شاهد عيان لإقامة هذه المنشآت كلها، إن أمير المسلمين الخليفة أبا يعقوب " قد حاز الذخر والأجر في بناء هذا المسجد الجامع الكبير توسعة للناس، فأسسه من الماء بالآجر والجيار والحصى والأحجار، على أعظم البناء والاقتدار، وأسس أرجله المعقودة بطاقات بلاطابية تحت الأرض، أطول مما فوق الأرض، وجمع عليه الفعلة بكثرة الرجال والخدام، وإحضار الآلات من الخشب المجلوب من سواحل العدوة(4/72)
مما لا يقدر عليه ملك من ملوك الأندلس قبله، فأعلى بنيته، وصقل صفحته بالإتقان لتشييده وتوثقه، وأنفذ أمره العالي ببنيانه في رمضان من سنة سبع وستين وخمسمائة المؤرخة، لم يرفع عنه البناء قط في فصل من فصول السنين مدة إقامته بإشبيلية، إلى أن كمل بالتسقيف وجاء في أبهى النظر الشريف، أعجز في بنيانه من تقدمه، وتفنن في ميزابه وخبره ورخمه مقدمه، قارب جامع قرطبة في السعة، وليس في الأندلس جامع على نده، وسعته وعدد بلاطاته ".
وتولى النظر على بناء الجامع وعرفائه العريف أحمد بن باسُه، والنظر على النفقة أبو داود بن جلداسن خاصة أمير المؤمنين، وكان من الحفاظ على البناء من أهل إشبيلية، أبو بكر بن زهر، وأبو بكر الساقي. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة مراحل إتمام الجامع على النحو الآتي: إن سرب المدينة كانت تشق بجريها تحت الأرض على مواضع اختطاط هذا الجامع، فنكبت عنه، وصرفت إلى جهة الجوف على سرب واسع، وعمل على توثيق البناء تحت الأرض، وعنى العرفاء ببناء القبة التي على محرابه وبنجارتها أعظم عناية، وأقاموا عن يسار المحراب، ساباطاً في الحائط، يشقه الخليفة من القصر إلى الجامع، لشهود صلاة الجمعة، وافتن الصناع في عمل المنبر وصياغته من أكرم الخشب، وفي إبداع نقوشه، وترصيعه بالصندل المجزع بالعاج، وأبنوسه يتلألأ بصفائح الذهب والفضة، " وأشكال في عمله من الذهب الإبريز، يتألق نوراً، ويحسبها الناظر لها في الليل البهيم بدوراً ". ثم عملت له مقصورة من الخشب مزينة بالفضة. وكان الخليفة يتفقد بناءه بنفسه في أكثر الأيام ومعه أشياخ دولته، ويشير للمشرفين عليه بالجد في البناء وإتقانه، حتى كملت جهاته الأربع بالبناء وعقد الأقواس، وكمال التسقيف، واستغرق بناؤه ثلاثة أعوام وأحد عشر شهراً، إلى أن حان موعد عودة الخليفة إلى حضرة مراكش في الرابع عشر من شعبان عام 571 هـ، وأمر بتسريح العرفاء والبنائين والصناع إلى مواطنهم. على أن هذا الجامع لم يفتتح للصلاة بصفة رسمية وتقام به الخطبة، إلا بعد ذلك بنحو سبعة أعوام، وأقيمت فيه الخطبة لأول مرة يوم الجمعة 24 ذي الحجة سنة 577 هـ (30 أبريل سنة 1182 م) وذلك على يد السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن الخليفة أبي يعقوب، ووالي إشبيلية عندئذ، وأزيلت الخطبة من جامع ابن عدبّس من ذلك التاريخ (1).
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة "، لوحة 167 أو 168 أوب 169 أ، وروض القرطاس ص 138، والبيان المغرب القسم الثالث ص 96.(4/73)
ومما تجدر ملاحظته بهذه المناسبة أن الموحدين في بداية أمرهم لم يعنوا بزخرفة المنشآت والصروح، ولاسيما المساجد، معتبرين هذا الزخرف من الأمور المكروهة من الناحية الدينية، وكان كل ما يراعى في هذه الصروح هو البساطة والمتانة.
بيد أنه لما استحالت الخلافة الدينية من بعد عبد المؤمن إلى ملك باذخ، وبلاط يمتاز بالفخامة والروعة، بدأ زخرف الصروح الموحدية وتجميلها بوفرة وسخاء، فكان منبر جامع إشبيلية المرصع بصفائح الذهب والفضة، وكان تزويد صومعته التي أنشئت فيما بعد بتفافيحها الذهبية الثقيلة (1).
وسنرى فيما بعد، كيف أنشئت منارة هذا الجامع، وهي المنارة الشهيرة التي ما زالت قائمة حتى عصرنا في مدينة إشبيلية، بعد أن حول جزؤها الأعلى إلى برج للأجراس لكنيسة إشبيلية العظمى.
- 3 -
ذكرنا فيما تقدم أنه لما وفد هلال بن مردنيش وأكابر الشرق وقادته على إشبيلية في مستهل رمضان سنة 567 هـ، ليقدموا خضوعهم وطاعتهم للخليفة أبي يعقوب، اقترح قادة الشرق، وفي مقدمتهم شيخهم أبو عثمان سعيد بن عيسى، على الخليفة أن يقوم بغزو أراضي النصارى من جهة بلادهم، وعينوا له بالذات مدينة وبذة هدفاً لهذا الغزو، وذلك لضعف تحصيناتها وأسوارها، ولأنها حسبما ينقل إلينا ابن صاحب الصلاة " حديثة البنيان قريبة الإسكان " (2) أو بعبارة أخرى لم يتأثل عمرانها، ولا أهباتها الدفاعية، وأن الخليفة وعدهم في نفس هذا المجلس بتحقيق رغبتهم متى انتهى شهر الصوم (3). وإنه ليبدو لنا من ذلك أن الخليفة حينما عبر إلى الأندلس بقصد الغزو والجهاد لم يكن لديه مشروع معين لهذا الغزو، ومن ثم كان قبوله لاقتراح قادة الشرق.
وعلى أي حال، فقد اتخذ الخليفة أهبته لتلك الغزوة، وخرج في قواته من إشبيلية في فجر يوم الاثنين الحادي عشر من شوال سنة 567 هـ (6 يونيه سنة 1172 م)، فوصل إلى قرطبة في السابع عشر منه، وأقام محلته في جبل
_______
(1) وقد أبدى العلامة جولدسيهر مثل هذه الملاحظة في بحثه Materialien zur Kenntniss der Almohaden Bewegung (Z. der Morgeni. Geselsch. 1887; p. 105)
(2) المن بالإمامة لوحة 166 أ.
(3) المن بالإمامة لوحة 166 أ.(4/74)
فحص السرادق المطل على براح أرض مدينة الزاهرة القديمة، وفي اليوم التالي
دخل قصر قرطبة القديم، وأقام به بضعة أيام. ثم غادر قرطبة في ظهر اليوم الخامس والعشرين من شوال، وسار في قواته صوب مدينة القصر (1)، فأندوجر ثم اتجه نحو الشرق حتى صار على مقربة من بياسة، وهنالك لحق به إبراهيم ابن همشك، وكان على حصار حصن بلج (2) القريب من بياسه، وكان من أعظم وأمنع حصون هذه المنطقة. وكان هذا الحصن من أملاك ابن همشك، فلما وقع الخلاف بينه وبين صهره ابن مردنيش، من جراء انضوائه تحت لواء الموحدين، استولى ابن مردنيش على هذا الحصن، ووضع به حامية من جنده المرتزقة النصارى، وكان ابن همشك يحاصره بقواته حينما قدم الخليفة في جيشه الضخم، فاقترح عليه ابن همشك أن يسير في الحال إلى الحصن لحصاره والاستيلاء عليه، فاستجاب الخليفة إلى دعوته، وسارت القوات الموحدية صوب الحصن، ونزلت في ظاهره، وعاين الموحدون ضخامته ومنعته، وروعت حاميته النصرانية بما شهدت من كثرة الجيوش الموحدية، فاستدعوا ابن همشك ورجوه أن يتوسط لهم لدى الخليفة ليمنحهم الأمان مقابل تسليم الحصن، فقام ابن همشك بتحقيق رغبتهم ووافق الخليفة، ورأى في تسليم الحصن فاتحة النجح والنصر، وتم تسليم الحصن في يوم السبت 30 شوال، وركب الخليفة إلى الحصن، وراقته ضخامته ومنعته، ورتب به حامية موحدية، وصرف أمره إلى ابن همشك. وفي اليوم الثاني من شهر ذي القعدة سار الخليفة في قواته شمالا نحو حصن الكَرَس (3) وكان ابن مردنيش قد فعل به ما فعل بحصن بلج، وسلمه إلى حامية من النصارى. وكان هذا الحصن يقع فوق ربوة عالية يحيط بها الماء والبسائط الخضراء، فلما اقترب منه الموحدون، عرض النصارى تسليمه بالأمان، على نحو ما تم بحصن بلج، فأجيبوا إلى مطلبهم، ونزلوا عن الحصن، وذلك في اليوم السادس من ذي القعدة، وصرف أمره كذلك إلى ابن همشك.
ويصف لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان من مرافقي هذه الحملة الموحدية (4)، سير الحملة وتنقلاتها بإفاضة، ويقول لنا إنه بعد الاستيلاء على هذين الحصنين، سار
_______
(1) وهي بالإسبانية Alcocer.
(2) وهو بالإسبانية Vilches.
(3) وهو بالإسبانية Alcaraz.
(4) وهو يذكر لنا ذلك في أكثر من موطن، " المن بالإمامة " لوحة 177 أ، 178 ب.(4/75)
الخليفة في قواته إلى الموضع المعروف ببلاط الصوف (1) وهو المتصل بفحص جنجاله، وقد كانت يومئذ مدينة الحدود بين الأندلس وبين قشتالة، ثم تقدم منه إلى الموضع المعروف بالغُدُر قرب منابع نهر وادي يانه، ونزل في سهل بلاط الصوف وقضى فيه يوماً تزود فيه العسكر والناس بالماء. ثم غادره إلى مرج البسيط، وأقام فيه يوماً آخر، وسار منه إلى مقربة من وادي شُقر، حيث ارتوى الناس والدواب من ماء النهر، وقضوا فيه يومهم للراحة. وفي يوم الخميس الثاني عشر من ذي القعدة، أمر الخليفة أخاه السيد أبا سعيد، أن يسير من وادي شُقر في عسكر ضخم من الموحدين والعرب، يبلغ نحو اثنى عشر ألف فارس، ومعهم قوة من الرّجالة والرماة، إلى أراضي قشتالة، صوب مدينة وبذة (2)، فسار السيد أبو سعيد في هذا الجيش ومعه أبو العلاء بن عزون " قاضى الدولة المهدية " في جنده، وإبراهيم بن همشك في جنده، فوصلوا في صباح اليوم التالي إلى أول بلاد قشتالة بموضع يسمى " برج جمل " وفيه حصن يحتله النصارى، فافتتحوه في الحال، وأفنوا حاميته قتلا وسبياً، وهدموه. وفي اليوم التالي - السبت - وصلوا إلى مدينة وبذة، والظاهر أن النصارى كانوا على أهبة لرد المغيرين، فما كاد الموحدون يصلون إلى ظاهر المدينة، حتى خرج إليهم القشتاليون. ونشبت بين الفريقين معركة تمهيدية، ظهر فيها تخاذل من بعض الجند العرب، فقتلوا، وأسفرت المعركة حسبما يقول لنا ابن صاحب الصلاة عن " ظهور الإسلام ". وعلى أثر ذلك نزل السيد أبو سعيد بعسكره فوق التل المطل على المدينة (3).
وفي خلال ذلك وصل الخليفة في قواته إلى وبذة في اليوم السابع عشر من ذي القعدة، وأمر الموحدين والعرب من سائر القبائل بالتأهب للحرب، فانحاز كل عسكر إلى قبيله، واجتمع تحت رايته، وأمر الجميع بالسير، والصعود إلى التل الذي نزل به السيد أبو سعيد بجنده، ليتم اجتماع القوات المحاربة، فصعد الجند على الترتيب المذكور، وصعد بعدهم الخليفة في كتيبته، ومعه أبناء الجماعة، وأبناء أهل خمسين وأهل الدار والعبيد، وخلفه السيد أبو حفص وباقي الإخوة، ومن ورائهم الرايات والطبول وعددها مائة، وفي الحال بدأ الهجوم تحت قرع الطبول وصيحات التكبير، بين الموحدين والقشتاليين، واستولى الموحدون على
_______
(1) وهو بالإسبانية Balazete
(2) وبذة هي بالإسبانية Huete.
(3) تراجع مواقع غزوة وبذة في الخريطة المنشورة في ص 49.(4/76)
ما كان لصق السور من مداخل أرباض المدينة، وأحرقت الدور وهدمت، وارتد القشتاليون إلى الداخل، ونزل الموحدون بخيولهم في الجنات والكروم المتصلة بالمدينة، وقطعوا عنها ماء الوادي. وفي مساء نفس اليوم طاف السيد أبو حفص ومعه الإخوة والأشياخ والزعماء، وقوة كبيرة من الموحدين بجوانب المدينة الأربعة، وقسم جهاتها على الجند، يختص كل عسكر بجهة ويقوده سيد من الإخوة، ويختص العرب بجمعهم منها بجهة. وكان النصارى في أثناء ذلك قد حفروا على عجل خندقاً خارج المدينة، ووضعوا له زرباً من الخشب، وذلك ليعوقوا اقتحام الموحدين للمدينة. وفي صباح اليوم التالي خرج الخليفة راكباً فرسه، ومن حوله الكتائب الجرارة، وقد اتخذت أهبتها للقتال، وقرعت الطبول، وخفقت الرايات، وإلى جانبه أخوه السيد أبو حفص وأشياخ الموحدين، ولما وصل إلى مقربة من الخندق، نزل فوق ربوة تشرف عليه، واستدعى إلى قبته الفقهاء والقضاة المرافقين للحملة، وهم الحافظ أبو بكر بن الجد، والفقيه أبو محمد المالقي، والقاضي أبو موسى عيسى بن عمران، والقاضي أبو الوليد ابن رشد وأقبل الإخوة والأشياخ، وبايعه الجميع على الثبات على الجهاد، وكانت العساكر قد احتل كل فريق مكانه المعين، وقسمت السهام على الرماة، وأعدت سائر الآلات، ثم قرعت الطبول إيذاناً ببدء القتال، فهجم الموحدون على القشتاليين واضطرمت بين الفريقين معركة عنيفة، فارتد القشتاليون حتى لصق السور وإلى داخل البيوت، وامتنع معظمهم بالقصبة، ولم يثبتوا إلا في الجهة الغربية، حيث عجز أبو العلاء بن عزون وقواته عن ردهم. فحاول أن يستنجد بالخليفة ليمده، فأعرض عنه لاشتغاله في قبته بالمناقشة مع الطلبة. وهدم الموحدون كنيسة المدينة، وانتزعوا نواقيسها، وقتل من تصدى من النصارى لاستردادها. ويقول ابن صاحب الصلاة " ودام القتال على انحلال وضعف وملال إلى بعد أذان الظهر، وارتفع، وما نفع الجيش الكثير عديده، ولا الجمع، إذ كان في نحو ماية ألف بين فارس وراجل، وانصرف أمير المؤمنين، وانصرف الناس إلى أخبيتهم، وقد همهم الحال " (1).
وهكذا فشل هجوم الموحدين الأول على وبذة، وبالرغم مما يبدو من مبالغة ابن صاحب الصلاة في تقدير عدد الجيش المهاجم، فإنه كان بلا ريب جيشاً وافر
_______
(1) المن بالإمامة لوحة 178 أ.(4/77)
العدد، وقد كان من جراء هذا الفشل، أن اتجه الخليفة إلى حصار المدينة. وفي اليوم التالي اجتمع الأشياخ والقواد، وأمر الخليفة أن يخرج ربع الناس من جميع العساكر لزرع الغلات والعلوفات وتحصيل الأقوات، استعداداً لحصار المدينة، فخرج الناس لذلك، وطوق الموحدون المدينة، ومنعوا عنها ماء الوادي، وأمر الخليفة بصنع السلالم والأبراج الخشبية لمقاتلة النصارى في جوانب المدينة. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة إن رسولا من النصارى جاء في ذلك اليوم يعرض تسليم المدينة بالأمان، فلم يلتفت إليه، فكرر مسعاه في مساء نفس اليوم، فصرف بغير طائل.
وفي صبيحة يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة (14 يوليه) هبت ريح صيفية عاصفة، فأوقعت الاضطراب بمعسكر الموحدين، واقتلعت الأخبية، وفاضت الغدور، وقضى الموحدون ليلتهم في التحوط ضد عصف الريح. وفي صباح اليوم التالي قدم الشيخ أبوحفص عمر بن يحيى من مرسية في جند أهل الشرق، ومعه أبو الحجاج يوسف بن مردنيش وأهل بلنسية والثغر، فخرج إليه الخليفة وسائر الإخوة والأشياخ والزعماء والطلبة، واستقبل استقبالا حافلا. ثم نزل جند الشرق بالجبل المجاور لوبذة ليعاونوا في تشديد الحصار، وشهد القشتاليون من مدينتهم مقدم هذا الجيش الجديد في توجس وفزع. وفي مساء نفس اليوم، هبت ريح عاصفة أخرى أشد من السابقة، فاقتلعت خيام الموحدين، ومزقتها، ثم تلاها مطر وابل ورعد قاصف وبرق. وكانت فرصة طيبة للنصارى أن ارتووا من مياه الأمطار. ويلاحظ ابن صاحب الصلاة أن هذه الرياح قد عصفت، والأمطار قد هطلت " في أشد ما يكون من الحر " في شهر يونيه العجمى (وصحته يوليه).
وفي صباح اليوم التالي - الاثنين الثالث والعشرين من ذي القعدة - هاجم الموحدون القشتاليين على الأسوار، ولكنهم ما كادوا يبدأون القتال، حتى أظلمت السماء، وقصف الرعد والبرق، وهطل المطر غزيراً كالسيل، فأغرقت ثياب الموحدين وعجزوا عن القتال، وفزع الناس من تكرر هذه الظاهرة، واعتبروها سخطاً من الله، ورغبوا في التوبة إليه، وارتد الخليفة والناس، وقد اكتسحت السيول الهضبة، وعند الظهر أشرقت السماء، وارتفع المطر، فعاد الموحدون إلى القتال وفق ترتيبهم السابق، ودام القتال حتى المساء، ولكن دون جدوى.
وفي ليلة الأربعاء، قام القشتاليون بهجوم مفاجىء من القطاع الذي يحتله جند هسكورة، ففروا منه منهزمين، فلما علم الخليفة في الصباح، أمر بضربهم(4/78)
بالسباط عقاباً لهم. وفي صباح يوم الخميس، أمرت الفرق المختلفة، أن يخرج من كل ثلثها للبحث عن الأقوات والعلوفات، واجتمع أولئك الجند تحت إمرة الحافظ أبي محمد عبد الله بن أبي تفريجين، وإبراهيم بن همشك، ولكن هذه الحملة فشلت في مهمتها، فلم تجمع شيئاً من المؤن والعلف، فارتفعت الأسعار في المعسكر الموحدي، وكاد أن ينعدم فيه القوت.
هذه الأحداث المكدرة المثبطة للهمم، حملت الشيخ أبا محمد عبد الواحد ابن عمر، أن يدعو الناس، وأن يخطب فيهم، تارة بالعربية، وأخرى بالبربرية، يعظهم، ويستنهض هممهم للجهاد، وكان مما قاله لهم: " قد كنتم بمراكش تقولون لو كنا غزونا النصارى لجاهدنا لله واجتهدنا، فلما حضرتم معهم، قصرتم وجبنتم وحنثتم الله عز وجل، ونكلتم وما نصحتم، ما أنتم بمؤمنين ولا موحدين، أن تسمعوا النواقيس تضرب، وتعاينوا الكفر، ولا تدفعوا المنكر. إن أمير المؤمنين ليس يقدر أن يراكم لتفريطكم في حق الله تعالى من الجهاد على كثرتكم من الأعداء " (1).
وبذلت عندئذ محاولة يائسة لحمل القشتاليين على التسليم بالأمان، فوُجه عبد الرحمن بن أبي مروان بن سعيد الغرناطى، إلى قائد وبذة وهو ولد الكونت مانريكى دى لارا (2)، يقول له إنهم على استعداد لتحقيق رغبته في تسليم المدينة بالأمان، وكرر هذا المسعى مرتين في نفس اليوم، فرفض قائد القشتاليين هذا العرض بجفاء، لما رآه من اختلال أحوال الموحدين، ولما علمه من استعداد ألفونسو الثامن لإنجاده بحشوده. ولما وقف الخليفة على ذلك استدعى سائر الأشياخ من الموحدين والعرب إلى خيمته - القبة الحمراء - للبحث فيما يجب عمله، وفي نفس الليلة - ليلة الأحد التاسع والعشرين من ذي القعدة - أمر بحرق البرج المصنوع لقتال النصارى وسائر الآلات التي صنعت معه، وبأن يقوم مقدم الدواب بشحن النواقيس التي أخذت من الكنيسة من وبذة. وفي الصباح ضرب الطبل الكبير إيذاناً للناس بالرحيل، فساد الاضطراب والهرج في المعسكر الموحدي، فلما رأى القشتاليون ذلك، وأيقنوا أن الموحدين قد بدأوا في الانسحاب، خرجوا في قواتهم من الفرسان والرجالة، ونزلوا إلى الوادي، وهاجموا الموحدين وأشعلوا النار في البيوت والخيام، ووصلوا إلى السوق بقرب المحلة، وقتلوا
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 180 أ.
(2) ويسميه ابن صاحب الصلاة "ولد مرنو".(4/79)
الضعفاء والمرضى، ونشب القتال بين الجيش المنسحب وبين النصارى، وأمر الخليفة أن يتوقف سائر الجند حتى ترفع الأخبية، فلما رفعت وقفت قوة ترد المهاجمين حتى يتم الانسحاب، وتحرك الجيش المنسحب على قرع الطبول، يتقدمه الخليفة، والسيد أبو حفص في أهل تينملل، وأشياخ الموحدين مع قبائلهم، وزعماء الأندلس مع أصحابهم، والعرب مع قبائلهم، والنصارى خلال ذلك يهاجمون الجيش المنسحب، وقد احتشدت في المؤخرة قوة كبيرة لردهم بقيادة السادة الإخوة، ومعهم يوسف بن مردنيش وإبراهيم بن همشك وأبو العلاء بن عزون في عسكر الأندلس. وسار الجيش المنسحب متجهاً نحو كونكة (قونقة) ونزل في فحص به الماء على قيد بضعة أميال من وبذة ولحقت به قوة المؤخرة في المساء، بعد أن ردت النصارى وقتلت منهم نحو ستين.
واستمر الجيش المنسحب في سيره، وهو يحصد الزروع، ويجمع الغلات في طريقه، حتى وصل إلى كونكة بعد يومين، في يوم الثلاثاء أول ذي الحجة. وفي عصر ذلك اليوم ركب الخليفة ومعه إخوته السادة، ووزيره ابن جامع، والفقهاء والقضاة، وسائر الأشياخ من الموحدين والعرب، ودخل المدينة، وكان يرافق هذا الموكب عبد الملك بن صاحب الصلاة راوية هذه الحوادث، وهو يصف لنا قصبة كونكة، ومنعتها، وعلوها الشاهق، وكيف يصل إليها الماء من بحيرة عظيمة تقع خارج السور، وعلى قنطرة عظيمة في جانبها، وكان إلى جانب المدينة من جهة الجوف خندق عميق قد حفر في الحجر الصلد، وفيه أدراج حفرت تحت الأرض، ينزل منها إلى الوادي لشرب الماء، وتحريك الرحى التي على الوادي، وقد غطى بستارة منيعة عليها برج عظيم من بناء الأوائل، وفي فحص المدينة تقوم الكروم وأشجار الجوز والمراعي الخضراء.
ولما دخل الخليفة مدينة كونكة، وقصبتها استقبله أهلها كباراً وصغاراً، وكانوا في حالة يرثى لها من الضعف والهزال، وكان النصارى قد حاصروا مدينتهم قبل ذلك ببضعة أشهر، وبرّح بهم الضيق والحرمان، ولم يتركهم النصارى إلا حينما علموا باقتراب الموحدين، فلما سلموا على الخليفة سألهم عن أحوالهم، ووعدهم بجميل رعايته، وأمر بأن تكتب أسماء سائر أهل المدينة من الرجال والنساء والأطفال، فكان عددهم جميعاً سبعمائة، فأمر للفارس منهم باثنى عشر مثقالا، وللراجل ثمانية مثاقيل، وللمرأة أربعة وللطفل أربعة، وأعطاهم سبعين(4/80)
بقرة لم يكن في محلته سواها، وزودهم بكثير من الرماح والقسي والسهام، والسلاح، وأمر بأن يمدهم سائر الجند بالقمح والشعير صدقة لهم، وتنافس الأكابر والأشياخ في تزويدهم بمختلف الأعطية والصلات.
وفي اليوم التالي أمر الخليفة بحصد الزروع، التي للنصارى في تلك المنطقة وسوقها، ولكنهم التقوا بعدد كبير من النصارى على مقربة من قونقة، وسرت الإشاعة بأنهم طلائع جيش ألفونسو الثامن والكونت نونيو دي لارا، فلما علم الخليفة بذلك، أمر بالإقلاع فوراً من ذلك الموضع، والسير إلى وادي شُقر، وأمر الناس بالرحيل، فكان هرج شديد مقرون بالفزع كذلك الذي حدث يوم الإقلاع من وبذة، وعبر الجيش الموحدي نهر شُقر، ونزل بالجبل المتصل بمدينة قونقة لحصانته، وسرعان ما وصلت قوات النصارى، وعسكرت في في جبل تونيس، في الناحية المقابلة من النهر، وصار كل من الجيشين تجاه الآخر دون أن تتاح لأحدهما فرصة الاشتباك، وقضى الموحدون ليلتهم على حذر، وفي صباح اليوم التالي، عقد الخليفة مؤتمراً من الأشياخ واستقر الرأي على أن يقاتل الموحدون النصارى في الغد. ولكن العرب اعترضوا " وجبنوا عن اللقاء " واحتجوا بضيق ساحة القتال. وانضم أهل الأندلس بقيادة أبي العلاء ابن عزون للموحدين في نية القتال، وفي الغد خرجت قوة منازلة بقيادة أبي العلاء واشتبكت مع النصارى في عدة مناوشات لتختبر قوتهم. وفي اليوم التالي تأهب الموحدون لخوض المعركة، وخرج أبو العلاء في بعض قواته ليستطلع أمر العدو، ولكنه عاد مع جنده، وأعلن أن النصارى أقلعوا عن محلتهم منصرفين إلى بلادهم. فعندئذ أمر الخليفة باستئناف الرحيل، وسار الجيش الموحدي حتى وصل إلى جبل " الصومعة " Alminar على بعد عشرة أميال من قونقة، وقضى به الليل، وفي اليوم التالي استأنف سيره حتى وصل إلى وادي تامطة، وقد ظهر الإعياء على الناس، وقلت الأقوات، وارتفعت الأسعار، ثم وصل إلى وادي برج قُبالة في طريق مدينة بلنسية، وقد نفق كثير من الدواب، وبرح الجوع بالناس، ومات الكثير منهم. وفي اليوم التاسع من ذي الحجة عبر الموحدون الربوة العالية المسماة بعقبة الأبالس، ووصلوا بعد جهد شاق إلى قنطرة " أغربالة " (1) وقد اشتد الإعياء بالناس من الضعف والجوع، ونفق كثير من الخيل والبغال والجمال.
_______
(1) وبالإسبانية Puente del Cabriel(4/81)
وفي ظهر ذلك اليوم، أمر الخليفة بإخراج البركة لسائر العساكر على قدر تمييزهم، فخص الفارس الكامل خمسة مثاقيل، وخص الراجل الكامل مثقالين، وذلك ابتداء من حركة الغزو لسنة سابقة.
وفي صبيحة اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الأضحى، أمر الخليفة بصلاة العيد في ذلك الموضع، وألقى خطبة العيد أبو زيد بن عبدون قاضي تلمسان، وعقب الصلاة، سلم الإخوة والأشياخ والأكابر على الخليفة، ووزعت عليهم الأضاحى، وعند الظهر استؤنف السير مدى خمسة عشر ميلا، ونزل الموحدون بمرج القبذاق على مقربة من حصن ركّانة، ووصلوا في اليوم التالي إلى ركّانة، وقد اشتدت المجاعة بين الناس. وينوه ابن صاحب الصلاة خلال وصفه المستفيض لتلك الرحلة المضنية، في غير موضع، بما كان يعانيه الجيش المنسحب من نقص في المؤن، وغلاء شديد في أسعار القمح والشعير والدقيق. وعند مغادرة ركّانة أخطأ الأدلاء الطريق، وافترقت العساكر في شعب الجبال، واشتد بالناس الجوع والألم والضعف. وسار الخليفة إلى موضع يعرف " بمجمع الأودية " وهو الذي يلتقى فيه نهر شقر ونهر أغربالة (كبريل) ولحق به سائر الناس إلى هذا الموضع. ثم استؤنف السير في اليوم التالي، ونزل الخليفة قريباً من حصن بيتول، وهو من حصون بلنسية الأمامية. وهنا صدر الأمر بتسريح الحشود من أهل الشرق وجميع بلاد الأندلس إلى أوطانهم وسارت إلى بلنسية منهم جموع كبيرة (1).
ووصلت إلى الخليفة في هذا اليوم دفعة كبيرة من الدقيق والشعير والفواكه بعث بها إليه والي بلنسية يوسف بن مردنيش. هذا بينما هرع الناس إلى حصن بنيول يطلبون القوت والعون. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان منهم، أنهم لم يجدوا شيئاً سوى بعض التين الأخضر، فقصدوا إلى بلنسية. ويصف ابن صاحب الصلاة بهذه المناسبة، مدينة بلنسية وجمالها ونضرة رياضها، بيد أنه يلاحظ أن الضعف كان بادياً عليها، وأن الخوف من الفتنة كان يزداد. وقضى الخليفة في محلته ثلاثة أيام بقرب حصن بنيول، ثم غادره في قواته فوصل إلى مدينة شاطبة في السابع عشر من ذي الحجة، وقضى بقصبتها يومين، وانتهز أشياخ الموحدين هذه الفرصة، فوعظوا أهل المدينة بالجامع عقب صلاة الجمعة، وبشروهم بالخير في ظل العهد الجديد.
_______
(1) تراجع مواقع غزوة وبذة وارتداد الجيش الموحدي في الخريطة المنشورة ص 49.(4/82)
وغادر الخليفة بعد ذلك شاطبة، ونزل بحصن بليانة (1) على مقربة منها، ثم سار إلى حصن آصف، ثم إلى ألش، ووصل إلى أوريولة في الثالث والعشرين من ذي الحجة، وغادرها في اليوم التالي، قاصداً إلى مرسية، فنزل أولا بحصن أنوط (2) على مقربة منها، ثم سار منه إلى المدينة، فخرج أهل مرسية لاستقباله، ودخل المدينة والأعلام تخفق والطبول تضرب، ونزل بقصرها، وقد احتشد أهل المدينة رجالا ونساء خاصتهم وعامتهم، لتحية الخليفة، والإعراب عن سرورهم بمقدمه، وكان الخليفة قد طلب إلى هلال بن مردنيش أن يعد الدور اللازمة لنزول الموحدين، فقام بتحقيق هذه الرغبة، وأنزل أشياخ الموحدين أكرم منزل، وقدم هلال إلى الخليفة ما وسع من الهدايا السنية، وما كان لدى أبيه من الجواري والسراري البارعات في الحسن، فتقبل الخليفة هديته، وأثابه عنها بالعطايا الجزيلة. ولم تمض أيام قلائل حتى ضاقت مرسية، بمن نزل فيها، ووفد إليها، من الموحدين وغيرهم، وارتفعت الأسعار، وعم الغلاء، ورغب كثير من الموحدين والعسكر المرتزقة في الرجوع إلى أوطانهم، فأذن لهم الخليفة، وارتحل كثير منهم. ولما دخل شهر صفر سنة 568 هـ، صدر الأمر بخروج البركة لجميع الموحدين والعساكر المرتزقة، الذين اشتركوا في هذه الغزوة، فخص الفارس الكامل خمسة مثاقيل، وغيره أربعة مثاقيل، وخص الراجل مثقالين، وغيره مثقال ونصف، وتسلم كل شيخ بركة قبيلته، وافترق معظم الناس.
وانتهز الخليفة هذه الفرصة لينظم شئون مملكة الشرق القديمة، فأمر بإصلاح معاقل مرسية، وتحصيناتها، وندب مختلف الولاة لجهاتها وحصونها، وجمع هلال بن مردنيش وإخوته وعمهم أبا الحجاج يوسف في مجلسه، وأبدى لهم منتهى العطف والرعاية، وأنهم يكونون من جملة الموحدين والأهل، وأمرهم بالنظر في الارتحال معه، وأقر أبا الحجاج يوسف بن مردنيش على ولاية بلنسية وأقطارها، لما ثبت له من حسن إخلاصه وطاعته، وكذلك أبقى ابن عيسى القائد على ما كان بيده من حصن جنجاله وأراضيه، وأبقى غيره من قادة الحصون والثغور ممن ثبت إخلاصهم وصلاحهم.
وفي أول شهر ربيع الأول غادر الخليفة مرسية عائداً إلى إشبيلية، وعرج
_______
(1) هو بالإسبانية Villena.
(2) هو بالإسبانية Monetagudo، وقد بقيت أطلاله إلى اليوم.(4/83)
في طريقه على مدينة غرناطة، وترك بها أخاه السيد أبا سعيد والياً لها، ووصل
إلى إشبيلية في الثامن عشر من ربيع الأول سنة 568 هـ (نوفمبر 1172 م). ومعه الإخوة وفي مقدمتهم السيد أبو حفص، وخاصته من أشياخ الموحدين وأكابر الدولة، فاستقبله أهل إشبيلية وعلى رأسهم الحافظ أبو بكر بن الجد، استقبالا حافلا، وقدم معه بنو مردنيش في الأهل والولد، وفقاً لما أمر، وأنزلوا في قصر ابن عباد، والدور المتصلة به، واشترى لهم الخليفة ما لزم لسكناهم وسكنى أتباعهم من الدور، وعين منهم غانم بن مردنيش لرياسة جماعة من الجند الأندلسيين، وأصحاب أبيه وأهل الثغور والأجناد بإشبيلية، لتكون منهم قوة تضطلع بالغزو وحماية الأقطار من العدو وعيث البدو، ونظم هلالا والكبار من إخوته في جملة أشياخ الموحدين وأبناء الجماعة، يحضرون مجلسه العالي، ويشتركون في مباشرة الأمور، وإبداء الرأي تقريباً لهم وتشريفاً وتأنيساً، وكان غانم يخرج في قواته مع الموحدين إلى غزو أراضي قشتالة، وقد ظهر فيما بعد بشجاعته وكفايته. وكان مثلا طيباً للغزاة من الأجناد والعرب.
...
والآن وقد انتهينا من استعراض مراحل هذه الغزوة الأندلسية الأولى للخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن واستوعبنا تفاصيلها، وفقاً لرواية مؤرخها المرافق لها، والتي سجلها منذ بدايتها إلى نهايتها، يوماً بعد يوم، نحاول أن نستخلص منها ما يمكن أن تدلي به من الحقائق والعبر.
وأول ما تكشف عنه حوادث هذه الغزوة التي لم يطل أمدها أكثر من شهرين ما تجلى تحت أسوار مدينة وبذة من عجز الجيوش الموحدية وتفككها. ويبدو هذا العجز في أسطع صوره متى ذكرنا أن الجيش الموحدي الذي تصدى لحصار وبذة، كان يضم على الأقل عشرين ألفاً من الفرسان النظامية، منهم عشرة آلاف من الموحدين وعشرة آلاف من العرب، الذين عبروا مع الخليفة الموحدي إلى الأندلس حسبما أسلفنا في موضعه. وهذا غير المتطوعة وأجناد الأندلس، وهؤلاء يمكن تقديرهم أيضاً بعدة آلاف. فكيف يعجز هذا الجيش الكبير عن اقتحام مدينة صغيرة غير ممتنعة مثل وبذة، خصوصاً وقد كانت تضطلع بالدفاع عنها حامية محلية صغيرة من القشتاليين؟ إن مثل هذا العجز المطبق يكشف أولا وقبل كل شىء عن عجز القيادة الموحدية، ذلك أنه لم تكن بين أولئك الإخوة والأشياخ(4/84)
الذين يلتفون حول الخليفة الموحدي، ويديرون دفة الغزوة، هيئة قيادة مقتدرة، بل لم يكن بينهم قادة أكفاء بالمعنى الصحيح، وكان مجلس القيادة يتخذ في معظم الأحيان صورة اجتماع عائلي، تغلب فيه الآراء الفطيرة، والقرارات المرتجلة، وبدلاً من أن نرى الخليفة يخرج من قبته ليقود جنده بنفسه، أو ليحثهم على التفاني في القتال، نراه في اللحظة الحرجة التي هزم فيها أهل الأندلس، وأجلوا عن مواقعهم، يجلس داخل قبته مع الطلبة الموحدين ليناقشهم في بعض المسائل الفقهية. ويجدر بنا ونحن نتحدث في هذا الموطن عن عجز القيادة الموحدية أن نعود قليلا إلى الوراء، لنذكر ما كانت عليه القيادة المرابطية في شبه الجزيرة من المقدرة والكفاية، وما كان يمتاز به القادة المرابطون من البراعة والدربة العسكرية العالية، وهي التي مكنتهم من أن يحرزوا بجيوشهم القليلة العدد، انتصاراتهم الباهرة في مواقع مثل إقليش وإفراغة.
هذا ومن جهة أخرى فقد كشفت غزوة وبذة، عما كان يسود الجيوش الموحدية من التفكك، وانعدام التناسق بين مختلف العناصر التي تتكون منها. وقد كان العرب الذين يرافقون الجيش الموحدي يحملون أكبر قسط من تبعة هذا التفكك، فقد رأيناهم يضنون بتعاونهم، ويحجمون عن القتال في الساعات الحرجة، وكان هذا الإحجام من جانب العرب يشل حركة الجيش الموحدي، وينال من مقدرته وقواه المعنوية. أضف إلى ذلك ما كشفته هذه الحملة من سوء تنظيم تموين الجيش الموحدي، وما ترتب على ذلك من ندرة الأقوات والعلوفات، وما كان يصيب الجند من جراء ذلك من الضيق والحرمان وانهيار القوي المعنوية (1).
- 4 -
في الوقت الذي نزل فيه الخليفة أبو يعقوب يوسف بمرسية، ليستريح من وعثاء حملته المنكودة على وبذة، كانت تحدث في الجانب الآخر من شبه الجزيرة في غربي الأندلس، حوادث هامة، مؤسفة في نفس الوقت. وكان ملك البرتغال مذ فتت في عضده نكبته في معركة بطليوس في شعبان سنة 564 هـ (1169 م) قد لزم السكينة حيناً، وهو يرقب الحوادث والفرص، فلما غادرت الجيوش الموحدية قواعدها في إشبيلية في غزوتها إلى وبذة، شعر بأن الفرصة قد سنحت
_______
(1) تستغرق يوميات ابن صاحب الصلاة عن غزوة وبذة من كتاب " المن بالإمامة " نحو ستة عشرة صفحة كبيرة من لوحة 173 أإلى لوحة 189 ب.(4/85)
للعمل، وكان يطمح بعد فشله في افتتاح بطليوس، إلى الاستيلاء على مدينة باجة الحصينة، أهم قواعد ولاية الغرب في تلك المنطقة، وكانت باجة، مذ أقيل عن ولايتها سيدراى بن وزير، وبسط الموحدون سيادتهم على قواعد ولاية الغرب، قد أسندت ولايتها إلى بعض الحفاظ الموحدين، فتولاها عمر بن تيمصلت التينمللي مدى حين، ولكنه لم يفلح في تهدئة ما ثار بها من الفتن بين أعيانها وبين الدهماء، فعزل عنها، وولى عليها طالب بربري من الحفاظ يسمى عمر بن سحنون، كان عاجزاً، يغلب عليه الطيش، فاتصل به الدهماء والسفلة، فقربهم وأدناهم، وأذكى بذلك حفيظة الخاصة، واشتد التقاطع بين الناس، واستوزر ابن سحنون أيضاً رجلا بدوياً من سفلة باجة، فاضطهد الناس، واجترأ على سفك الدماء، وأخذ أموال الناس بالباطل، وضربهم بالسياط، وعاونه في طغيانه وعسفه قاضي البلدة عمر بن زرقاج، وكان مغرضاً ظلوماً، واستبد ابن سحنون بأمره، وغلب رأي السفلة والفجار في كل شىء، وقتل بعض الأعيان والفقهاء ظلماً وعدواناً، واشتدت الفتنة بالمدينة، ووصلت أخبارها إلى إشبيلية.
كانت هذه حال مدينة باجة في أواخر سنة 567 هـ (صيف سنة 1172 م) حينما كان الخليفة أبو يعقوب يوسف يسير في جيوشه إلى غزوة وبذة، ولم تكن هذه الأحوال بخافية على النصارى، وهم يحتلون يابرة وقصر أبي دانس القريبتين من باجة. وكان من الواضح أن مدينة هذه حالها لا يمكن أن تثبت أمام العدو المغير. ومن ثم فقد أعد ألفونسو هنريكيز عدته لافتتاح باجة، وسار إليها ومعه قائده ومعاونه جيرالدو سمبافور في قواته. وكان من سوء الطالع أن الحراسة بأبراج المدينة كانت مهملة، وكان بعض هذه الأبراج دون سمار (حراس) يلازمونها بالليل، لأن الوالي ابن سحنون كان يحبس رواتبهم ولا يدفعها، وكان برج القصبة المسمى " برج الحمام " قد ترك على هذا النحو دون سامر. ففي ليلة مستهل المحرم سنة 568 هـ (23 أغسطس سنة 1172 م) نفذ النصارى ضربتهم. وكانت ليلة مظلمة على النحو الذي كان يختاره جيرالدو سمبافور لإنزال ضرباته. فوصل النصارى إلى السور زحفاً على أيديهم وأرجلهم، ووضعوا السلالم على برج القصبة دون أن يشعر بهم أحد من السُّمَّار، ثم صاحوا صيحتهم المأثورة، وما كاد الوالي عمر بن سحنون وأهل المدينة يستيقظون من سباتهم حتى كان النصارى قد ملكوا برج القصبة، ثم احتلوا القصبة في الحال. وساد الذعر في المدينة،(4/86)
وتدلى الوالي من السور وفر إلى ميرتلة، وما كاد يسفر الصبح حتى احتل النصارى المدينة، وأخذ الناس يفرون من أبوابها، وهم يُقتلون ويأسرون من كل جانب، وقتل وأسر جماعة من أعيانها، واستولى النصارى على مقادير عظيمة من المال والمتاع.
ولكن النصارى لم يمكثوا طويلا بباجة. ذلك أن ملك البرتغال رأى من ضخامة المدينة ما يجعل الدفاع عنها مهمة شاقة، ومن ثم فقد هدم أسوارها، وأحرق ربوعها، ثم غادرها بعد أن احتلها نحو خمسة أشهر، وتركها قاعاً صفصفاً وذلك في أول يناير سنة 1173 م، وقد أخذ معه كثيراً من أهلها الأسرى. وقد أنقذ معظم هؤلاء فيما بعد بالفداء، وهاجر كثير منهم بعد خراب مدينتهم إلى مراكش (1).
ولم يتحرك الموحدون لسقوط باجة على هذا النحو، وشغل الخليفة أبو يعقوب منذ وصوله إلى إشبيلية بالعمل على استكمال بناء المسجد الجامع، وكذلك باستكمال بناء القصور والبساتين التي بدىء بإنشائها خارج باب جهور حسبما تقدم في موضعه.
وكذلك باستقبال وفود أهل إفريقية. بيد أنه لم يمض على ذلك أشهر قلائل، حتى اضطر الموحدون إلى خوض غمار حرب جديدة جاءت تلك المرة من ناحية قشتالة.
ففي أوائل شهر شعبان سنة 568 هـ (مارس 1173 م) خرجت من مدينة آبلة حملة قشتالية بقيادة حاكمها الكونت خمينو، وهو الذي تعرفه الرواية الإسلامية بالقومس " سان منوس " وأحياناً بشانشوا وتصفه بالأحدب عظيم النصارى بآبلة - وقد كان بالفعل أحدباً - وتسميه أحياناً " بأبي بردعة " إذ كان لعاهته يركب على بردعة وثيرة من الحرير مسرجة بالذهب مرصعة بأصناف الجواهر (2). وكان الكونت خمينو قد قام قبل ذلك بعدة غارات مخربة في ربوع الأندلس، ووصل
_______
(1) نقلنا هذه الرواية المفصلة عن غزو البرتغاليين لباجة عن ابن عذارى (البيان المغرب - القسم الثالث ص 100 - 103). وقد سبق أن أشرنا في موضعه إلى الرواية الموجزة التي يقدمها إلينا ابن صاحب الصلاة عن ذلك الحادث وهو ينسب وقوعه إلى شهر ذي القعدة سنة 557 هـ (ديسمبر سنة 1162 م) أعني إلى ما قبل التاريخ الذي يقدمه إلينا ابن عذارى بعشرة أعوام. (كتاب المن بالإمامة لوحة 118 ب). ولم يذكر لنا صاحب البيان المغرب مصدره. ولكن يبدو من أسلوب روايته أنها ربما نقلت عن ابن صاحب الصلاة من السفر الثالث من كتابه وهو لم يصل إلينا. وفي هذه الحالة تكون رواية ابن صاحب الصلاة الأولى من قبيل اللبس والخلط.
(2) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 190 ب، وروض القرطاس ص 139 والبيان المغرب القسم الثالث ص 98.(4/87)
في بعض غاراته إلى طريف والجزيرة الخضراء، وأصاب المسلمين من عدوانه وعيثه بلاء كثير. فخرج بقواته من آبلة واخترق قلب الأندلس جنوباً، حتى عبر نهر الوادي الكبير، من المخاضة الواقعة بين حصن بلمة وحصن الجرف، وانحدر إلى أحواز إستجّة، ثم اتجه صوب قرطبة، وعاث في واديها، وخرب الزروع واستاق من الماشية نحو خمسين ألفاً ومن البقر نحو مائتين. وأسر من المسلمين نيفاً ومائة وخمسين رجلا، ثم سار بغنائمه وأسراه غرباً صوب مخاضة بليارش على مقربة من بلدة القصر. وكان الخليفة في تلك الأثناء قد أمر بالتأهب لمحاربة القشتاليين، وقمع غارتهم، فخرج من إشبيلية في الثالث عشر من شهر شعبان (568 هـ) جيش موحدي بقيادة السيد أبي زكريا يحيى ابن الخليفة، ومعه أخوه أبو إبراهيم إسماعيل، وعدة من الحفاظ والأشياخ وقوة مختارة من الفرسان والرجالة العرب بقيادة أشياخهم، وعبر هذا الجيش الموحدي نهر الوادي الكبير على عجل، وسار صوب قرطبة، فوصلها في السادس عشر من شعبان، وكان القشتاليون قد وصلوا عندئذ إلى بلدة القصر. واجتمع أقطاب الموحدين بالشيخ أبي حفص عمر، واستقر الرأي على مطاردة القشتاليين وقتالهم أينما كانوا، ولو في أراضي قشتالة ذاتها، وانضم الشيخ أبو حفص بقواته إلى الجيش الموحدي، واستعد بالميرة والعلوفات، وخرج الموحدون في أثر النصارى، تتقدمهم قوة من الطلائع بقيادة الحافظ أبي عمران موسى بن حمّو الصنهاجي صاحب يابرة، لتخبرهم تباعاً عن تحركات النصارى، وكان القشتاليون قد توقفوا في سهل متسع يعرف بفحص " كركوي " على مقربة من قلعة رباح. فأدرك الموحدون أنهم يريدون اللقاء في هذا المكان، فاستعدوا للمعركة في عزم وثقة، ولكنهم ما كادوا يقتربون من السهل، حتى عجل النصارى بالمسير، ولكنهم لما أيقنوا بأنه لا مفر من القتال، لجأوا إلى جبل وعر في نهاية السهل. فاندفع الموحدون وراءهم إلى أعلى الجبل، واشتبكوا معهم في معركة حامية. وكان الكونت خمينو، يراقب المعركة من خيمته في أعلى الجبل، ويحث جنوده على التفاني في القتال، ولكن ما كاد ينتصف النهار، حتى رجحت كفة الموحدين، ومزقت صفوف القشتاليين، وكثر القتل فيهم، ووصل الموحدون إلى خيمة الكونت خمينو، وقتلوه واحتزوا رأسه، ولم يفلت من القتل من النصارى سوى نحو مائتين، فروا في مختلف الأنحاء. وفني في هذه المعركة معظم أهل آبلة، واستولى المسلمون على عتاد(4/88)
النصارى، وأسلابهم وخيولهم، واستنقذوا الأسرى المسلمين، واستردوا سائر الغنائم والماشية والدواب، وأعيدت بأمر الخليفة إلى أصحابها. وجمعت رؤوس النصارى، وحملت إلى الشيخ أبي حفص وابني الخليفة " وميزت " رأس الكونت خمينو، وأرسلت إلى الخليفة بإشبيلية، عن يد يحيى ابن الوزير أبي العلاء بن جامع فوصل إليها في ظرف يومين بعد رحلة مسرعة شاقة، ووصف للخليفة تفاصيل الموقعة المظفرة، وفي الحال قرعت الطبول إيذاناً بالنصر، وأقبل الناس للتهنئة.
وفي يوم الجمعة الحادي والعشرين من شعبان، وهو ثالث يوم بعد الموقعة، وصل الشيخ أبو حفص وصحبه إلى إشبيلية، واجتمع بالخليفة وأخيه السيد أبي حفص، بقصره بالقصبة، واصطف الموحدون من الأشياخ والطلبة والفقهاء والكتاب والخطباء، وأدخل المهنئون وفق مراتبهم. وخطب الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن عمر أولاً باللغة البربرية، ثم بالعربية، وخطب من بعده الحافظ أبو بكر بن الجد، فالقاضى أبو موسى عيسى بن عمران، فالفقيه أبو محمد المالقي. ثم أنشد الشعراء تهانيهم ومدائحهم، ووزعت عليهم الصلات، وكان يوماً حافلا (1).
وشجع هذا النصر الذي تلا فشل حملة وبذة الموحدين على الاضطلاع بغارات جديدة في أراضي النصارى. فجهزت حملة موحدية قوامها أربعة آلاف فارس، وقوة من أجناد الأندلس والعرب، بقيادة أبي يعقوب يوسف بن أبي عبد الله تيجيت وعبد الله بن إسحق بن جامع، ومعها مقادير عظيمة من الميرة والعتاد برسم مدينة بطليوس تحملها قافلة من ثلاثة آلاف دابة، وغادرت هذه الحملة إشبيلية، إلى بطليوس، وبعد أن سلمت أحمال الميرة إلى واليها أبي غالب بن أبي الحسين، سارت نحو الشمال الشرقي حتى وصلت إلى أحواز مدينة طلبيرة، الواقعة على نهر التاجُه غرب طليطلة، فعاثت في بسائطها، وقتلت وأسرت كثيراً من النصارى، واستولت على أكثر من ثلاثين ألفاً من الغنم والدواب، وعادت سالمة إلى إشبيلية.
ثم خرجت من بعدها حملة أخرى، وسارت إلى أراضي طليطلة، وعاثت فيها واستولت على كثير من الغنائم. وأدرك النصارى أن موجة الغزو الموحدي قد تشتد، وقد تتخذ صورة مزعجة، فجنحوا إلى المسالمة، وطلب المهادنة. وكان أول من سعى منهم إلى الصلح، الكونت نونيو دي لارا حاكم طليطلة، ثم تلاه
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 191 إلى 194 ب، والبيان المغرب القسم الثالث ص 99.(4/89)
ألفونسو الثامن ملك قشتالة، فبعث رسله إلى الخليفة، وحذا ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال حذو ملك قشتالة فبعث رسله في طلب المهادنة والصلح. واستمرت المفاوضات نحو شهرين، وانتهت بعقد الهدنة بين الخليفة وبين الملوك النصارى، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 568 هـ (يوليه سنة 1173 م). وكان مما حمل الخليفة على إيثار الصلح والمهادنة رغبته في التفرغ لأعمال الإنشاء، وتعمير البلاد التي خربت أو أقفرت من جراء العدوان والغزو، مثل باجة وغيرها (1).
وكان من أثر عقد المهادنة بين الخليفة وبين ملك البرتغال، أن شعر حليفه وقائده السابق جيرالدو سمبافور أو جراندة الجليقي، أنه فقد مكانته، وأغلقت في وجهه فرص المغامرة، والعمل المثمر ضد الموحدين، ولم يجد أمامه خيراً من الدخول في خدمة الخليفة، فسار في صحبه، وهم ثلاثمائة وخمسون جندياً، إلى إشبيلية (سنة 568 هـ - 1174 م) والتمس قبوله " عبداً وخديماً " للخليفة، فقبل الخليفة التماسه، ووصله بالإحسان والإكرام، واستمر الأمر على ذلك بضعة أشهر، ولكن ألفونسو هنريكيز، الذي لم يرقه تصرف قائده السابق لبث يرسل إليه سراً، أن يتحيل في الارتداد والعود، فضبطت بعض هذه المراسلات وظهر منها موقف جيرالدو المريب، فقبض عليه وعلى أصحابه، وأرسلوا إلى سجلماسة، واعتقلوا هنالك تحت رقابة شديدة. ثم حاول جيرالدو الفرار من معتقله ليجوز إلى البحر، فقبض عليه، وقتل واحتز رأسه، وانتهى بذلك وفي رواية أخرى أن جيرالدو لبث في خدمة الخليفة حتى غادر الخليفة إشبيلية إلى المغرب في شعبان سنة 571 هـ (مارس 1176 م)، فسار في ركابه، وعينه الخليفة للخدمة في " السوس " وهنالك اتصل جيرالدو بالمكاتبة سراً بمليكه السابق، وعرض عليه أن يجهز أسطولا لفتح هذه الناحية، وبذلك تمتلك البرتغال بعض مراكز على ساحل المغرب، فضبط الموحدون بعض هذه الرسائل (2)، وأصدر الخليفة أوامره سراً إلى عامله بدرعة موسى بن عبد الصمد بأن يقسم جيرالدو
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 195 أوب. وهنا ينتهي السفر الثاني من كتاب المن بالإمامة، وهو الذي وصل إلينا من مؤلف ابن صاحب الصلاة، ولم يصلنا شىء من السفر الثالث الذي يبدأ بحوادث سنة 569 هـ.
(2) أخبار المهدي بن تومرت ص 127، ويقول لنا البيذق إن مصرع جيرالدو كان في سنة 565 هـ، والبيان المغرب القسم الثالث ص 103. وراجع H. Miranda ; Imperio Almohade, T. I. p. 271.(4/90)
وأصحابه على القبائل، ثم يقتل جيرالدو لما ثبت من خيانته، وبعث بجيرالدو إلى درعة فسار إليها مع أصحابه، وهنالك نفذت فيهم أوامر الخليفة.
وكانت أهم الحوادث في العامين التاليين، قبيل عودة الخليفة إلى المغرب، تتلخص في اهتمام الخليفة بتعمير قواعد الغرب، وفي تجدد الحرب مع ملك ليون. وقد بدأ الخليفة أعمال التعمير، بإصلاح حصن القلعة الواقع على مقربة من جنوب شرقي إشبيلية على النهير المتفرع من الوادي الكبير (1)، وكان قديماً حصنها الشرقي، وقد تهدم منذ أيام الفتنة الكبرى، وبقى خراباً حتى ذلك الوقت، فأمر الخليفة بإصلاحه وبنائه ليعود إلى الاضطلاع بمهمته الدفاعية القديمة، وكان ذلك في صفر سنة 569 هـ.
وفي العام التالي كانت حركة تعمير مدينة باجة، التي خربها وهدمها ألفونسو هنريكيز قبل إخلائها. ففي شهر ربيع الآخر سنة 570 هـ، استقبل الخليفة وفداً من أعيان أهل باجة السابقين، ووعدهم بتعمير مدينتهم لكي يعودوا إلى سكناها، ويسكنها معهم الموحدون، وعين لولايتهم الحافظ أبا بكر بن وزير، ثم سار أهل باجة إلى مدينتهم الخربة، وكانوا يومئذ نحو مائتي شخص من مختلف الأعمار، ونزلوا بقصبتها، وبنوا بابها، وأصلحوا ما تيسر من أطلالها. ثم لحق بهم عمر ابن تيمصلت والي شلب في نحو خمسمائة رجل من الفعلة والبنائين، ومعهم أقواتهم وأدواتهم، وأخذوا في بناء أسوارها فكملت في نحو شهر، وجاءت للعمل والبناء حشود أخرى، واستمر العمل في التعمير بهمة. وحدث خلال ذلك أن استبد والي باجة أبو بكر بن وزير وأساء السيرة، ونشب بينه وبين أهلها خلاف شديد وفتنة، فأمر الخليفة بعزله، وتعيين عمر بن تيمصلت والياً مكانه، فأحسن السيرة، وأقبل الناس على البناء والتعمير، وإنشاء الرباع والحدائق، وراجت الأحوال، وانتظم التعامل، واستعادت باجة سابق عمرانها ورونقها (2).
وفي أثناء ذلك كانت الحرب قد نشبت بين الموحدين وبين فرناندو الثاني ملك ليون المسمى " بالببوج "، وكان فرناندو قد عقد الصلح والتحالف مع الخليفة الموحدي منذ سنة 564 هـ (1169 م)، وعاونه الموحدون في حربه ضد آل لارا زعماء قشتالة، وأبدى هو، حينما حاصر البرتغاليون مدينة بطليوس، وكادوا يستولون
_______
(1) وهو بالإسبانية Alcala de Guadaira ويسمى كذلك قلعة جابر.
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 107.(4/91)
عليها، صدق ولائه، فحارب إلى جانب الموحدين، وعاون على صد البرتغاليين وهزيمتهم. وامتنع عن مهاجمة بطليوس مرة أخرى، حينما نبهه الموحدون إلى الحلف المعقود، وأبدى تمسكه بعهوده، وهاداه الخليفة وأثنى عليه، واستمر محافظاً على صداقته وولائه حتى أواخر سنة 569 هـ (1174 م)، وعندئذ، ودون أية أسباب ظاهرة، قام فجأة بغزو أراضي الأندلس وعاث فيها، فاستشاط الخليفة غضباً، وأمر بمهاجمته في عقر داره، فجهزت حملة كبيرة من الموحدين والعرب، وخرجت من إشبيلية بقيادة السيد أبي حفص أخي الخليفة في الثالث من صفر سنة 570 هـ (3 سبتمبر 1174 م)، وسارت تواً إلى مدينة ردريجو قاعدة ملك ليون، وهي التي تسميها الرواية الإسلامية بمدينة " السبطاط " (1)، ومعه الزعيم القشتالي فرناندو ردريجيس صهر ملك ليون حليف الموحدين القديم في صحبه، وهاجم الموحدون مدينة ردريجو، فلم ينالوا منها مأرباً، ولكنهم استولوا على حصني القنطرة وناضوش من أماكن الحدود. ولما عاد السيد أبو حفص إلى إشبيلية، احتفل بهذا النصر الجزئي، وأنشد الشعراء قصائدهم كالعادة (2). ولزم فرناندو ملك ليون السكينة مدى حين. بيد أنها كانت هدنة قصيرة، وكانت كما سنرى مقدمة لسلسلة من الغزوات الجديدة، التي قام بها الملوك النصارى في أراضي المسلمين.
...
وفي أوائل سنة 570 هـ، عقد الخليفة أبو يعقوب زواجه بالحسناء زائدة إبنة زعيم الشرق الراحل محمد بن سعد بن مردنيش، وتم زفافها إليه في اليوم الخامس من ربيع الأول في مهرجان فخم. وكان صداقها الرسمي خمسين ديناراً، ولكن الخليفة وجه إليها ألف دينار من الذهب العين " تأنيساً ". ولما وصلت إليه بإشبيلية مع أهلها وحشمها، وهب لها كل ما كان أهداه إليه إخوتها عند فتح مرسية. وكان زواجاً موفقاً، حظيت فيه العروس الأندلسية، واستأثرت بحب الخليفة وإعجابه، حتى كان يضرب المثل بهذا الحب للحسناء ذات العينين الزرقاويين. وحظى قومها آل مردنيش لدى الخليفة، وأحرزوا في كنفه رفيع
_______
(1) سبق أن أوضحنا أن مدينة السبطاط، هي تحريف لكلمة Cibdad القشتالية ومعناها المدينة.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 104.(4/92)
المناصب والرتب، حسبما أشرنا إليه في موضعه. وكان من غرائب القدر أن يحظى عقب الثائر الذي شغل الموحدين ودوخ جيوشهم زهاء ربع قرن، على هذا النحو في بلاط عدوه القديم المتغلب عليه (1).
وكانت إقامة الخليفة بالأندلس تدنو عندئذ من نهايتها، وقد استطالت هذه الإقامة زهاء خمسة أعوام، منذ مقدم الخليفة في رمضان سنة 566 هـ. ولم تدون الرواية في الأشهر الأخيرة من إقامته شيئاً من الحوادث، سوى ما أمر به من نكبة محمد بن عيسى المشرف على إشبيلية وذلك في شهر جمادى الآخرة من سنة 571 هـ، وكانت قد لحقت به ريب كثيرة من تبديد الأموال واختلاسها، فقبض عليه، وتولى بلول بن جلداس محاسبته، واستصفاء أمواله، ثم عذب وضرب حتى مات، وألقيت جثته في الوادي الكبير.
ولم يمض على ذلك سوى أسبوعين أو ثلاثة، حتى اتخذت الأهبة لسفر الخليفة، وذلك بعد أن عقد لأخيه أبي على الحسين على ولاية إشبيلية، ولأخيه أبي الحسن على، على ولاية قرطبة. وغادر أبو يعقوب إشبيلية في ركبه في يوم الخميس الرابع عشر من شهر شعبان سنة 571 هـ (28 فراير سنة 1176 م) ومعه الخواص والأشياخ والعمال والكتاب، ومن زعماء الأندلس بنو مردنيش، وإبراهيم بن همشك وغيرهم. وكان خروجه من مرسى طلياطة على نهر الوادي الكبير، فجاز النهر ثم البحر إلى طنجة، وأقام بها أياماً، ثم غادرها إلى مراكش، فوصلها في منتصف شهر رمضان من نفس العام (28 مارس سنة 1176 م).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 108، وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص 271، وروض القرطاس ص 139. وكذلك: A. P. Ibars: Valencia Arabe, T. I. p. 552(4/93)
الفصل الرابع أحداث الأندلس والمغرب
عصف الوباء بالمغرب والأندلس. ثورة عشائر صنهاجة وإخمادها. غزو النصارى لمدينة قونقه وحصارها. غزو الموحدين لأراضي طليطلة وطلبيرة. استمرار النصارى في حصار قونقه. سقوطها في أيديهم. غزو ملك ليون لفحص إشبيلية. إغارة البرتغاليين على باجة وطريانة. خروج جند باجة للغزو وهزيمتهم. فرار أهل باجة وإخلاؤها. رواية أخرى عن غزوة البرتغاليين. نكبة الخليفة لبني جامع وغيرهم. وفاة بعض السادة والأعلام. غزو السفن الموحدية لثغر أشبونة، ورد السفن البرتغالية. غزوة ثانية للسفن الموحدية. نفاذ الموحدين إلى الداخل وهزيمتهم. معركة بحرية بين الموحدين والبرتغاليين. هزيمة البرتغاليين ومقتل قائدهم. غزو الموحدين لأراضي يابرة. غزو البرتغاليين لأراضي إشبيلية. غزوهم للشرف ومدينة شلوقه، وحصن القصر. غزو القشتاليين لأراضي قرطبة. توغلهم في وادي إشبيلية وجنوبي الأندلس. استيلاؤهم على حصن شنتفيلة. غزو الموحدين لحصن شنتفيلة وحصاره. صموده وإقلاعهم عنه. إخلاء النصارى له. غزو الموحدين لأحواز طلبيرة. اشتباكهم مع القشتاليين. هزيمة القشتاليين وفرارهم. القائد ابن وانودين والخليفة. وفاة السيد أبي حفص. ثورة بني الرند بقفصة. مسير الخليفة لقمع الثورة. تواطؤ ابن المنتصر مع بني الرند ونكبته. محاصرة قفصة وضربها. تسليم ابن الرند. حث الخليفة العرب على الجهاد. استجابة العرب لدعوته. سياسة الموحدين في اصطناع العرب. دأبهم في التقلب وعدم الولاء. عقد الصلح بين ملك صقلية والخليفة. رسالة الفتح. عود الخليفة إلى مراكش. مسير الخليفة إلى تينملل. زيارته لقبر المهدي وقبر أبيه. قصيدة في مناقب المهدي وصحة دعوته. توسيع مدينة مراكش. ثورة عرب سليم وهزيمتهم للسيد أبي الحسين وأسره. حوادث أخرى.
لم تمض أسابيع قلائل على استقرار الخليفة أبي يعقوب بمراكش، حتى ظهر الوباء بالمدينة في أول شهر ذي القعدة (سنة 571 هـ) واشتد حتى بلغت ضحاياه كل يوم نحو مائتي شخص، ولما ضاق الجامع بالصلاة على الموتى، أمر الخليفة أن يُصلى عليهم بسائر المساجد. وأصيب معظم السادات بالوباء، ومات منهم أربعة من إخوة الخليفة هم السيد أبو عمران، ثم أخوه السيد أبو سعيد، فأخوهما السيد أبو عبد الله، ثم أخوهم السيد أبو زكريا والي بجاية. ومات من أشياخ الموحدين أبو سعيد بن الحسين، وكان الشيخ أبو حفص عمر الهنتاني قادماً من قرطبة قاصداً إلى مراكش، فأصيب بالوباء وتوفي بالطريق، ودفن برباط الفتح، وفقدت الدولة الموحدية بوفاته ركناً من أهم أركانها، وبناء من أعظم بناتها، وقائداً من(4/94)
أعظم قوادها. ومرض الخليفة، وأخوه السيد أبو حفص، وأشرفا على الهلاك، ولكن تداركتهما العناية حتى شفيا. ويروى ابن صاحب الصلاة عن السيد أبي علي
الحسين ولد الخليفة، أنه كان يموت كل يوم في القصور الملكية ثلاثون شخصاً حتى فني معظم رجال الحاشية والخدم والعبيد. واستمر هذا الوباء مدى أيام، وساد الروع حاضرة مراكش، حتى أنه لم يكن يدخلها أو يخرج منها أحد، وكان كل من خرج منها فاراً، أدركه الوباء في الطريق. ولم يكن عصف الوباء قاصراً على أهل المغرب، بل تعدى أثره إلى الأندلس، ولكن فيما يبدو بصورة مخففة. وكان من أعيان المتوفين به بالمغرب والأندلس غير من تقدم ذكرهم، القاضي أبو يوسف حجاج بن يوسف قاضي مراكش، وكان من أعلام عصره زهداً وعدلا وأدباً، والكاتب أبو الحكم بن هرودس المالقي، وأخوه أبو الحسن وكان من جلة الطلبة، والكاتب أبو الحسن على بن زيد الإشبيلى، ومشرف غرناطة أبو عمرو بن أفلح، وجملة كبيرة من أعيان الطلبة والموحدين في مختلف القواعد (1).
وما كادت تنقشع غمة الوباء حتى وقعت ثورة محلية بين عشائر صنهاجة القبلية، وذلك في أواخر سنة 572 هـ (أوائل 1177 م)، فخرج الخليفة إلى غزوها في الرابع من شهر ذي القعدة، وترك أخاه السيد أبا حفص بمراكش والياً عليها، فلما وصل إلى رباط هسكورة في منطقة الأطلس، جنوب شرقي مراكش، أمر ببناء محلة للعسكر، وقدم عليهم ابنه السيد أبا يوسف يعقوب، وعاد إلى مراكش في الحادي والعشرين من ذي القعدة، ولم تلبث العشائر الثائرة أن أذعنت وعادت إلى الطاعة، وانصرف جميع الأجناد (2).
وفي تلك الآونة بدأت حوادث الأندلس تتخذ وجهة خطيرة سواء في الشرق أو الغرب. وكان التهادن والصلح قد عقد بين الخليفة وبين الكونت نونيو دي لارا صاحب طليطلة، وألفونسو الثامن ملك قشتالة، وألفونسو هنريكيز ملك البرتغال، في سنة 568 هـ (1173 م) أثناء إقامته بإشبيلية. ولكن الخليفة ما كاد يغادر شبه الجزيرة عائداً إلى المغرب في شعبان سنة 571 هـ، حتى عول النصارى على نقض الهدنة، واستئناف الغزو. ففي العام التالي، أعني سنة 572 هـ (1177 م) وهي السنة التي عصف فيها الوباء بمراكش، خرج ألفونسو الثامن
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 109 و 110، وابن خلدون ج 6 ص 240
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 110.(4/95)
ملك قشتالة، ووصيه السابق الكونت نونيو دي لارا، لغزو الأراضي الإسلامية، واتجها بقواتهما صوب مدينة قونقة (كونكة) وهي تقع فوق ربوة عالية صعبة المنال عند ملتقى نهري شقر ووقر، في شمال شرقي الأندلس، وهي من حصون ولاية بلنسية الأمامية المنيعة، وضربا حولها الحصار (يناير سنة 1177 م). ويقول ماريانا، إن قونقة كانت من المدن التي أنشأها المسلمون في تلك المنطقة، لأنه لم يرد ذكرها في سير الرومان والقوط، وأن ملك أراجون كان مشتركاً في تلك الحملة، وقد تحالف مع ملك قشتالة على محاربة المسلمين، كما اشترك في الحملة إلى جانب الملكين عدد كبير من القادة ومشاهير الفرسان مثل بيدرو أسقف برغش، وسانشو صاحب آبلة، وريموندو صاحب بلازنسيا، وغيرهم (1). فبعث أهل قونقة إلى الخليفة بمراكش في طلب الغوث والنجدة، فبعث الخليفة إلى ولديه السيد أبي علي الحسين والي إشبيلية، والسيد أبي الحسن علي والي قرطبة، وأن يتحركا لغزو جهات طليطلة وطلبيرة، وذلك حتى يرغم القشتاليون على رفع الحصار عن قونقه. فخرج السيد أبو الحسن في عسكر قرطبة في اليوم السادس من شوال (أبريل 1177)، وأغار على أراضي طليطلة وأثخن فيها، وارتد بغنائمه سالماً إلى قرطبة. وخرج السيد أبو علي الحسين بعسكر إشبيلية في أربعة آلاف فارس، وأربعة آلاف راجل، وسار شمالا صوب طلبيرة، وعاث في أحوازها، واستولى على كثير من السبي والغنائم، وعبر نهر تاجُه في قارب كان قد حمله معه من إشبيلية على أكتاف الرجال، وفاء لنذر نذره. على أن هذه الحركة التي نظمها الموحدون لغزو أراضي قشتالة، لم تؤت ثمرتها في إنجاد قونقة، فقد لبث القشتاليون على حصارها، ولم تصدهم قسوة الشتاء، ولا مناعة المدينة المحصورة، ولا ضخامة حاميتها، عن المضي في إرهاقها والتضييق عليها. والظاهر من أقوال الرواية النصرانية أن الموحدين قد أرسلوا صوب قونقة بعض أمداد مباشرة لإنجادها، لكن هذه الأمداد عاقتها عن الوصول إلى المدينة المحصورة، قوات ملك أراجون حليف ملك قشتالة. وطال حصار قونقة زهاء تسعة أشهر من أواخر يناير سنة 1177 حتى أواخر سبتمبر، وفي النهاية اضطرت المدينة المسلمة، بعد أن استنفدت كل وسائل الدفاع، وبعد أن برّح بها الجوع والحرمان إلى التسليم إلى ملك قشتالة، وذلك في اليوم
_______
(1) Mariana: Historia General de Espana ; Lib. Undecimo, Cap. XIV.(4/96)
الحادي والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1177 م. وفي الحال حول مسجدها الجامع إلى كنيسة، جرياً على القاعدة المأثورة، ثم جعلت قونقة بعد ذلك مركزاً لأسقفية. وكان سقوط قونقة ثغرة خطيرة في خط الدفاع الشمالي الشرقي الأندلسي، وكان تقصير الموحدين أو قصورهم في إنجادها وإنقاذها، ينطوي على خطأ عسكري خطير، يكشف عن ناحية أخرى من ضعف وسائل الدفاع الموحدي عن شبه الجزيرة الأندلسية (1).
وانتهز فرناندو الثاني ملك ليون (الببوج) نفس الفرصة في الإغارة على الأراضي الإسلامية، فخرج في نفس العام بقواته، وغزا فحص إشبيلية، ووصل في سيره حتى أحواز مدينتي أركش وشريش جنوبي إشبيلية. فخرج إليه الموحدون من إشبيلية، فلحقوا بقوة من النصارى من أهالي منطقة طلبيرة، وكانت قد خرجت فيما يبدو للانتقام مما أنزله الموحدون بأراضيهم، فأحدق بها الموحدون وأبادوها، واستنقذوا ما كان معها من الغنائم والماشية، وأسروا منها ثمانين، أخذوا إلى إشبيلية، وهنالك ضربت أعناقهم أمام الخليفة والأشياخ (2).
ووقع في غربي الأندلس عدوان مماثل، وحذا ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال حذو زميليه ملكي قشتالة وليون، وقد اعتزم مثلهما أن ينقض الهدنة التي عقدها مع الخليفة الموحدي. وكانت مدينة باجة هدفه مرة أخرى، وخصوصاً بعد أن عمرت واستردت رونقها ورخاءها. فسار إليها في سنة 573 هـ (1177 م)، وانتسف زروعها، ونازلها أياماً حتى كاد أن يتغلب عليها. ثم تركها وسار بقواته، نحو الجنوب الشرقي قاصداً وادي إشبيلية، ووصل في زحفه إلى ضاحيتها الغربية طريانة، فدخلها وأثخن فيها، وعاث في أحواز إشبيلية، ثم عاد إلى باجة مرة أخرى فوجدها خراباً وقد أقفرت من أهلها. وكان أهل باجة في تلك الأثناء قد أصابتهم محنة أخرى، اضطرتهم إلى الفرار من مدينتهم. وذلك أن واليها عمر بن تيمصلت خرج منها بجندها وفرسانها، وانضم إليه علي بن وزير حاكم حصن شربة في قواته، وأغار على فحص أبي دانس، ونشب القتال بينهم وبين النصارى. وفي أثناء ذلك قدمت قوة من نصارى شنترين فجأة، وانضموا
_______
(1) راجع البيان المغرب - القسم الثالث ص 110 و 111. وراجع أيضاً:
M. Lafuente: Historia General de Espana T. III. p. 326 & 327
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 111.(4/97)
إلى إخوانهم في مقاتلة الموحدين، فانهزم ابن تيمصلت وزميله ابن وزير وأسرا مع جملة من الفرسان والرجالة، وقتل الباقون، ووصل الخبر إلى أهل باجة فبادروا بالفرار من مدينتهم في الأهل والولد، وقصدوا إلى مدينة ميرتلة، وذلك في شهر المحرم سنة 574 هـ (يوليه 1178 م) وحُمل ابن تيمصلت وزميله ابن وزير إلى قلمرية، وعذب ابن تيمصلت ثم أعدم، وافتُدي ابن وزير بأربعة آلاف دينار (1).
وتقدم إلينا الرواية البرتغالية قصة هذه الغزوة في صورة أخرى، فتقول إن الذي قام بغزو وادي إشبيلية هو سانشو ولد ألفونسو هنريكيز وولي عهده، وذلك في سنة 1178 م (574 هـ) وأنه بعد أن هزم الموحدين في ظاهر طريانة، سار لغزو مدينة لَبلة، ولكنه علم عندئذ أن جيشاً موحدياً قد سار لمحاصرة باجة، فبعث قوة مختارة من فرسانه ردت المهاجمين، ثم لحق بها بباقي قواته، وهزم الموحدين مرة أخرى، وبقيت باجة في حوزة البرتغاليين (2).
وعلى أثر هذه الأحداث المتوالية، استدعى الخليفة أبو يعقوب أخويه السيدين أبا علي الحسين والي إشبيلية، وأبا الحسن علي والي قرطبة إلى حضرة مراكش، فغادرا إشبيلية في اليوم الثامن من شهر رمضان سنة 573 هـ (27 فبراير 1178 م)، ومعهما أبو علي بن عزون وجملة من أشياخ الموحدين بإشبيلية، فلما وصلا إلى الحضرة بحث معهما الخليفة طويلا في شئون الأندلس، وفيما يجب عمله لمحاربة النصارى، والدفاع عن أراضي المسلمين. ثم أمرا بالانصراف إلى شبه الجزيرة، فوصلا إليها في المحرم سنة 574 هـ (يونيه 1178 م).
وفي نفس هذا العام، أعني سنة 573 هـ، قام الخليفة أبو يعقوب بحركة تطهير شاملة بين وزرائه وعماله، فنكب وزيره أبا العلاء إدريس بن إبراهيم ابن جامع وبنيه، فقبض عليهم، واستصفى أموالهم، ونفاهم إلى مدينة ماردة بالأندلس، فأقاموا بها في فقر وضعة نحو ستة أعوام، حتى توفي الخليفة أبو يعقوب، فعفا عنهم ولده الخليفة أبو يوسف. وكان بنو جامع يتولون وزارة الخليفة الموحدي، منذ بداية حكمه، أي منذ خمسة عشر عاماً، وعميدهم إدريس ابن جامع، هو ولد إبراهيم بن جامع من أصحاب أهل الدار، أعني من قرابة
_______
(1) البيان المغرب ص 107 و 108.
(2) H. Miranda: Imperio Almohade, T. I. p. 277 & 278(4/98)
المهدي ابن تومرت، فلما سما شأنهم، وتمكن سلطانهم، طغوا كالعادة وبغوا، فنكبهم أبو يعقوب ليتخلص من نيرهم. ونكب الخليفة عدة آخرين من العمال، وأعدم بعضهم، وكان من هؤلاء أبو عبد الله بن المعلم مشرف إشبيلية، وابن فاخر مشرف سجلماسة، وأبو الحسن علي بن حنون، وغيرهم (1).
وفي سنة 574 هـ، بعث الخليفة ابني السيد أبي الحسن والي قرطبة، إلى الأندلس، فولى أبو زيد نظر غرناطة، وولى أبو محمد عبد الله نظر مالقة. ولم يمض قليل على ذلك حتى توفي أخو الخليفة السيد أبو علي الحسين والي إشبيلية، ثم أخوه السيد أبو العباس بن عبد المؤمن، وكان والياً لمدينة سجلماسة. وتوفي من أعلام الدولة الموحدية اثنان كانا من أركان حكومة الخليفة أبي يعقوب ومجلسه، وهما أبو علي بن عزون عميد زعماء الأندلس، والفقيه أبو محمد المالقي شيخ طلبة الحضر بمراكش، وكان من أقطاب الفقه والحديث والأدب، وحظى لدى الخليفة عبد المؤمن، ثم ولده الخليفة أبو يعقوب، وعلت مكانته في الدولة الموحدية. وكان يتولى رفع المسائل للخليفة، وتوصيل الرسائل الواردة، وقراءة كتب الفتح، ويتقدم للخطابة والصلاة بأمير المؤمنين، ويرفع إليه أشعار الشعراء في المناسبات المختلفة، ويلازم ركب الخليفة في الحركة والغزو، وكان له أدب بارع، وشعر جيد ولاسيما في الزهد (2).
- 1 -
وفي العام التالي أعني سنة 575 هـ (1179 م) اشتد عدوان البرتغاليين في البر والبحر. وكان ألفونسو هنريكيز قد نقض الهدنة التي عقدها مع الخليفة، وقام البرتغاليون بغزو وادي إشبيلية، ثم مدينة باجة، حسبما قدمنا، ثم تفاقم عدوانهم تباعاً، فعندئذ قرر الخليفة أن يقوم الموحدون بمجهود لرد هذا العدوان، فبعث أسطوله المرابط بسبتة تحت إمرة غانم بن مردنيش لغزو شواطىء البرتغال، فسار غانم صوب أشبونة، وهاجم ثغرها، واستولى على سفينتين من سفن البرتغاليين، وعاد بأسطوله إلى سبتة. فعندئذ سارت حملة بحرية برتغالية إلى الجنوب وهاجمت شواطىء ولاية الغرب الجنوبية، واستولت على جزيرة شلطيش، الواقعة قبالة
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 137، والبيان المغرب القسم الثالث ص 112 أ.
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 112.(4/99)
ولبة في مصب نهر أوديل، وأسرت كثيراً من سكانها المسلمين فبقوا في الأسر حتى افتداهم الخليفة أبو يعقوب (1).
ورأى الخليفة أن ينتقم لهذا الاعتداء، وأمر لانشغاله بغزوة قفصة التي نتحدث عنها بعد، بأن يقوم أسطوله بغزو البرتغال مرة أخرى، فخرج غانم بن مردنيش وأخوه أبو العلاء، في حملة بحرية، سارت إلى مياه البرتغال الشمالية، ورست عند سان مارتن دي بورتو شمالي أشبونة، ونفذ المسلمون إلى الداخل، وحاولوا مهاجمة " بورتو دي موس ". التي تقع على مقربة من الشاطىء، ولكن حاكمها البرتغالي الأميرال روبينو استنفر لمعاونته أهالي مدينة شنترين، وألكانينا التي تقع في شمالها، فهرعوا لإنجاده، ودبر البرتغاليون كميناً للمسلمين في جبال منديجا، وانقضوا عليهم، فمزقت صفوفهم، وأسر غانم وأخوه أبو العلاء، وجملة من أكابر الموحدين، واحتوى البرتغاليون على أسلابهم ومتاعهم، واستولوا على السفن الموحدية وأسروا من كان فيها، وساروا بها إلى أشبونة. ووقعت هذه الموقعة في منتصف شهر المحرم سنة 576 هـ (11 يونيه سنة 1180 م). وكتب غانم من موضع اعتقاله إلى الخليفة يلتمس الغوث، فعهد الخليفة إلى أخيه هلال ابن مردنيش بالنظر في فداء أخيه، فجمع المال اللازم لذلك، وبعث به إلى إشبيلية، فحمل إلى النصارى، وأفرج عن غانم وأخيه وبقية أصحابه (2)، ولكن سنرى أن ابن عذارى، وهو صاحب هذه الرواية، يقدم لنا رواية أخرى عن افتداء غانم وأصحابه.
وحاول البرتغاليون أن يُتبعوا نصرهم، بنصر أكبر، فحشدوا أسطولا ضخماً سار بحذاء شاطىء ولاية الغرب بقيادة الأميرال روبينو، وكان مقصد البرتغاليين أن يقوموا بضربة لميناء سبتة مركز الأسطول الموحدي. ولكن قائد أسطول سبتة عبد الله بن جامع، وهو الذي تولى قيادته منذ أسر غانم، خرج منها بأسطوله، وخرج في نفس الوقت أسطول إشبيلية بقيادة أبي العباس الصقلي، واجتمعت الأساطيل الموحدية بثغر قادس، ثم سارت منه مجتمعة صوب شاطىء البرتغال الجنوبي، ثم انعطفت لتسير شمالا بحذاء شاطىء ولاية الغرب، وكان الأسطول البرتغالي قد بدأ عندئذ سيره نحو الجنوب، فالتقى الفريقان قبالة رأس إسبكل
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 113.
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 116.(4/100)
جنوبي أشبونة، وكان من غرائب القدر أن وقع هذا اللقاء في الخامس عشر من شهر المحرم سنة 577 هـ (أواخر مايو سنة 1181 م) أعني لعام بالضبط من اليوم الذي وقعت فيه موقعة " بورتو دي موس " وعلى مقربة من المكان الذي رسا فيه الأسطول الموحدي بقيادة غانم بن مردنيش، فنشبت بين الأسطولين معركة بحرية عنيفة هزم فيها البرتغاليون شر هزيمة، وقتل قائدهم الأميرال روبينو، واستولى المسلمون على عشرين سفينة من سفنهم، وأسروا نحو ألف وثمانمائة أسير، وغنموا غنائم وفيرة من العتاد والسلاح، وكان نصراً موحدياً باهراً. وبادر القائدان الظافران ابن جامع والصقلي، فسارا إلى الحضرة في الأسرى، والغنائم وقدماها إلى أمير المؤمنين، فأمر بتخصيص بعض الأسرى لافتداء غانم بن مردنيش وأصحابه، وأمر بإعدام الباقين (1).
وقام القشتاليون في نفس الوقت ببعض الغارات في أراضي الأندلس من ناحية طليطلة، وأثخنوا فيها كالعادة تخريباً وسبياً، بيد أن المعركة الرئيسية، كانت تضطرم بين الموحدين والبرتغاليين. ذلك أنه في نفس الوقت الذي وقعت فيه المعارك البحرية السالفة الذكر بين الفريقين، كان الموحدون يغزون أراضي البرتغال الداخلية، ففي فاتحة سنة 577 هـ، خرجت من إشبيلية، حملة موحدية قوية بقيادة أبي عبد الله محمد بن وانودين الهنتاني، وسارت نحو الشمال الغربي صوب مدينة يابرة وعاثوا في أحوازها، وانتسفوا الزروع والكروم والثمار والأشجار، واستاقوا كثيراً من الماشية، وامتنع البرتغاليون داخل المدينة، والمسلمون يثخنون في كل ناحية من نواحيها. وفي ذات يوم خرج البرتغاليون من يابرة فجأة، واشتبكوا مع الموحدين في معركة حامية، فهزموا شر هزيمة، وقتل منهم عدد جم، ولجأ الباقون إلى المدينة. فأقام عليها ابن وانودين يومين ثم انصرف عنها، وهاجم في طريق عودته حصناً آخر للنصارى واستولى عليه، وسبى رجاله ونساءه، ثم عاد إلى إشبيلية، مثقلا بالغنائم والأسرى، وذلك في أواخر شهر محرم سنة 577 هـ (يونيه سنة 1181 م) (2).
ولم يمض قليل على ذلك حتى خرجت حملة برتغالية، من أهل شنترين، وعبرت نهر وادي يانه، وسارت حتى فحص الشرف من أحواز إشبيلية، فخرج
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 117 و 118، وابن خلدون ج 6 ص 341.
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 117.(4/101)
إليهم عسكر إشبيلية، ونشب بينهما قتال عنيف قتل فيه من النصارى مائة وسبعون، ولكن البرتغاليين كانوا قد رتبوا كميناً، فخرج كمينهم واشترك في المعركة، فانهزم المسلمون وقتل منهم جماعة. وأغار القشتاليون في نفس الوقت على مدينة إستجة وعلى أراضي قرطبة. ثم انصرفوا دون قتال ولا مقاومة، وأحيط الخليفة بمراكش علماً بما حدث (1).
وفي العام التالي، أعني سنة 578 هـ (1182 م) تفاقم عدوان البرتغاليين على أراضي الأندلس. فخرجت حملة برتغالية قوية قوامها فرسان شنترين، وأشبونة، وعبرت نهر وادي يانه، واجتاحت الشرف جنوبي إشبيلية، حتى وصلت إلى مدينة شلوقة (2)، على مصب الوادي الكبير، فنازلتها في ألف فارس وألف راجل، واقتحمتها، وقتلت من كان بها من المسلمين، واحتوت على كثير من الأسرى والغنائم، ثم استولت على حصن القصر (3) وغيره من حصون تلك الناحية، وعادت من طريق لَبلة، دون أن يقف في سبيلها أحد. وتفاقم في نفس الوقت عدوان القشتاليين، فخرج ألفونسو الثامن أو أذفنش الصغير كما تسميه الرواية الإسلامية في قواته، وسار أولا صوب قرطبة، وعسكر في ظاهرها، وذلك في الرابع من شهر صفر، ثم بعث طوائف من قواته سارت نحو مالقة، ورندة، وغرناطة، فساد الاضطراب في تلك القواعد الأندلسية، وارتفعت الأسعار، واشتد الضيق. واجتمع مجهود الموحدين الدفاعي حول إشبيلية، والتحوط لحمايتها، فوجه قائدها أبو عبد الله بن وانودين قواته إلى الأنحاء المجاورة، وتعزيزها، ووجه بعض عسكره إلى دفع القشتاليين عن فحص قرمونة، كل ذلك والقشتاليون يثخنون في الأراضي الواقعة بين قرطبة وإشبيلية، دون أن يردهم أحد، ثم سار ألفونسو الثامن إلى منازلة مدينة إستجّة، وكاد يتغلب عليها، ولكن واليها أبا محمد بن طاع الله الكومي استطاع أن يصمد فيها. فغادرها ألفونسو صوب إشبيلية، وهو يعيث في تلك المنطقة فساداً وتدميراً. وفي خلال ذلك تغلب القشتاليون الزاحفون نحو الجنوب على بعض حصون رندة، وأسروا فيه ألفاً وأربعمائة من المسلمين، وانتسفوا الزروع
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 118، وابن خلدون ج 6 ص 241.
(2) وهي بالإسبانية سان لوكار Sanlucar la Mayor
(3) وهو بالإسبانية Aznulcazar(4/102)
في أراضي رندة والجزيرة، واستولوا على مقادير عظيمة من الغنائم من الماشية وغيرها. وكان استيلاء ألفونسو الثامن على حصن شنتفيلة (1) أخطر ما حققه القشتاليون في تلك الغزوة. وكان من أمنع حصون المنطقة الواقعة بين إشبيلية وقرطبة، يقع فوق ربوة عالية وله أسوار منيعة، فاستولى عليه القشتاليون في السابع عشر من صفر (22 يونيه 1182 م) وأسروا من كان به من المسلمين، وعددهم سبعمائة بين رجال ونساء، فافتداهم أهل إشبيلية بمبلغ ألفين وسبعمائة وخمسة وسبعين ديناراً، جمعت من الناس بالمسجد الجامع. وعنى ألفونسو الثامن بتقوية الحصن، ومضاعفة أهباته الدفاعية، ووضع به حامية من خمسمائة فارس وألف راجل، وأسكنه بالنصارى وشحنه بالأقوات والعدد والسلاح، ويروى أنه قال، حين الاستيلاء على هذا الحصن: " الآن آخذ قرطبة وإشبيلية ". وأقلع ملك قشتالة بعد ذلك في قواته عائداً إلى بلاده، وذلك في الثالث عشر من ربيع الأول سنة 578 هـ (17 يوليه 1182 م) بعد أن قضى في غزوته خمسة وأربعين يوماً (2).
وأدرك الموحدون خطورة فقد حصن شنتفيلة، فقرروا العمل على استرداده. واستدعى السيد أبو إسحق ولد الخليفة ووالي إشبيلية، الحشود من سائر أنحاء الأندلس برسم الجهاد، وخرج في قواته في غرة ربيع الآخر سنة 578 هـ.
وحدث في نفس الوقت أن خرجت حامية شنتفيلة النصرانية لتغير على بعض الأنحاء المجاورة، فخرج إليها المسلمون من قرمونة وغيرها، وقاتلوها وهزموها، وقتلوا منها سبعين فارساً، وأسروا جملة أخرى، واستاقوا الأسرى إلى السيد أبي إسحاق فأمر بإعدامهم في الطريق. وشجع هذا النصر المحلي، الموحدين على منازلة حصن شنتفيلة، فطوقوه من كل ناحية، وأحكموا حصاره، وقطعوا عنه المؤن والعلوفات، واستمر الحصار ستة وأربعين يوماً حتى مات أكثر الجند والدواب، وفي خلال ذلك خرج ألفونسو الثامن في قواته من طليطلة قاصداً إنجاد الحصن المحصور، ووصل نبأ مقدمه إلى الموحدين في السادس من جمادى الأولى، فرفعوا الحصار، وانصرفوا عائدين إلى إشبيلية. وعلى أثر ذلك وصل ألفونسو الثامن إلى الحصن فلم يجد به سوى خمسين فارساً، هم البقية من حاميته الخمسمائة، ومن
_______
(1) وهو بالإسبانية Santafila
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 119.(4/103)
الرجالة ستمائة من ألف، وقد هلك الباقون من أثر الحصار والمرض والوباء، فأمر بإخلاء الحصن، والرحيل عنه وذلك في الخامس عشر من جمادى الثانية (16 سبتمبر سنة 1182 م) (1).
وما كادت تنتهي غزوة شنتفيلة، حتى قرر الموحدون استئناف الغزو، واهتم أبو عبد الله بن وانودين بحشد الجند، فاجتمع منهم بإشبيلية عدد جم، وفي الثامن من جمادى الآخرة سنة 578 هـ (9 سبتمبر 1182 م)، غادر إشبيلية في عسكره ومعه أشياخ الموحدين وأشياخ الأندلس، وسلك طريقاً منعرجة حتى وصل إلى حصن بتة، وهنالك ميز عسكره، وعقد الأشياخ مجلساً للشورى، تقرر فيه السير إلى غزو مدينة طلبيرة الواقعة غربي طليطلة على نهر التاجُه، وهي أولى مدن الحدود القشتالية. ومن ثم فقد اتجه الجيش الموحدي نحو الشمال، وعبر جبال الشارات (سييرا مورينا) ثم نهر وادي يانه، وكان الجو قاتماً ملبداً بالضباب، فسار حتى أضحى على مقربة من طلبيرة دون أن يفطن النصارى إلى مقدمه، وهنالك التقى الموحدون بسرية من النصارى في نحو عشرين فارساً، فأحدقوا بهم وأسروهم جميعاً إلا دليلهم فإنه نجح في الفرار. ولما أشرف الموحدون على وادي التاجُه، لم يجدوا أمامهم مغنماً، فعلموا أن الدليل الفار قد أخطر بمقدمهم، فأسرعوا السير حتى وصلوا إلى ظاهر طلبيرة، وذلك في منتصف جمادى الآخرة.
وفي اليوم التالي احتل الموحدون ربوة مرتفعة تقع على نحو ميل من المدينة، وضربوا محلتهم بها. ودهش النصارى لإقدام المسلمين على دخول بلادهم على هذا النحو، بعد أن مضت مدة طويلة لم يجرؤ أحد منهم على الظهور في تلك المنطقة، وفي الحال حشدوا قواتهم واستنجدوا بأهل الحصون المجاورة، وخرجوا لقتال الموحدين، وكان الموحدون خلال ذلك قد غادروا الربوة منصرفين، بعدما امتلأت أيديهم من الغنائم، فجد النصارى في اتباعهم مصممين على قتالهم، ولما أصبح الموحدون على قيد نحو ثمانية أميال من المدينة، توقفوا وراء أحد التلال واستعدوا للقاء النصارى، وابن وانودين يحثهم على الجهاد والتفاني، إذ هم في أراضي العدو بعيدين عن بلادهم. ثم نشبت المعركة المرتقبة بين الفريقين فثبت الموحدون، وحملوا على القشتاليين حملة صادقة، هزموا على أثرها،
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 120، وابن خلدون ج 6 ص 241.(4/104)
ومزقت صفوفهم، وولوا الأدبار، وقتل منهم حسبما تقول الرواية الإسلامية أكثر من عشرة آلاف بين فارس وراجل، واستولى المسلمون على عتادهم، ودوابهم. وعاد الموحدون إلى إشبيلية ظافرين مغتبطين، وبعث ابن وانودين إلى الخليفة بكتاب الفتح، فسر به، ولكنه أبدى غضبه على ولده السيد أبي إسحاق لأنه لم يحضر تلك الغزوة التي نسبت برمتها إلى ابن وانودين، مع أنه من جملة قواده، وعاقب كل من تخلف من الأجناد، وحرمهم من العطاء.
ومن جهة أخرى فإنه يبدو من رد الخليفة على ابن وانودين، وقوله في خطابه إليه " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ". يبدو من ذلك أن الخليفة قد غص بالانتصارات المتوالية التي أحرزها ابن وانودين، دون بقية الأشياخ والسادة. وكان أبو عبد الله محمد بن وانودين هذا، هو ولد أبي يعقوب يوسف ابن وانودين الهنتاني من كبار أهل خمسين، وقد نشأ في مهاد العلم، ونظمه الخليفة عبد المؤمن في مجلسه، وقربه إليه، ثم قدمه على العسكر وولاه القيادة وصحبه في سائر غزواته في إفريقية. ولما أوفد إلى الأندلس ظهر في محاربة ابن مردنيش ثم في هزيمته لنصارى شنترين، وفي قيادة قافلة الميرة إلى بطليوس، ثم في رد القشتاليين عن قرمونة، وأخيراً في غزوة طلبيرة. ومع ذلك كله فسرعان ما غضب عليه الخليفة لأتفه الأسباب، وذلك عند مقدمه إلى إشبيلية في العام التالي، حيث وشى في حقه الوشاة، فأمر بتغريبه إلى غافق، على مقربة من قلعة رباح، فلبث بها حيناً، ثم نزح إلى تونس واستقر بها (1).
- 2 -
نرجع الآن قليلا إلى الوراء لنستعرض ما حدث في المغرب في تلك الأعوام القلائل التي اشتد فيها عدوان القشتاليين والبرتغاليين على الأندلس، والتي شغل فيها الخليفة بالأحداث الداخلية عن تجديد حركة الجهاد.
وكان من أهم الأحداث الداخلية، في تلك الفترة، وفاة السيد أبي حفص عمر بن عبد المؤمن أخي الخليفة أبي يعقوب، وكان أبو حفص شقيقه وكبيره، وأمهما حسبما تقدم حرة هي زينب بنت القاضي موسى بن سليمان الضرير، من أصحاب خمسين، وكانت وفاته في شهر ربيع الأول من سنة 575 هـ (أغسطس
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 123 و 124 و 132.(4/105)
1179 م)، وكان أبو حفص، منذ أيام أبيه الخليفة عبد المؤمن يشغل مكانة ملحوظة في الدولة الموحدية، وقد تولى في فتوته ولاية تلمسان، ثم وزر لأبيه بعد مصرع وزيره عبد السلام الكومي. ولما توفي عبد المؤمن سنة 558 هـ، ْبثغر سلا، قام السيد أبو حفص مع الشيخ عمر بن يحيى الهنتاني كبير الأشياخ بتنظيم البيعة لأخيه الأصغر أبي يعقوب يوسف، تنفيذاً لوصية أبيه، ثم تولى له في البداية منصب الحجابة على نحو ما كان لأبيه. واضطلع السيد أبو حفص بأعظم قسط في حملة شرقي الأندلس، وفي الأعمال الحربية التي انتهت بتحطيم مملكة الشرق، وانتهاء ثورة ابن مردنيش، وكان على العموم يحتل في دولة أخيه الخليفة أبي يعقوب أعظم مكانة، وفي تدبير الأمور والبت فيها أعظم نصيب.
وفي نفس هذا العام أعني سنة 575 هـ وقعت الثورة بمدينة قفصة الواقعة جنوبي القيروان على مشارف الصحراء. وكانت قفصة مذ ضعفت دولة بني باديس الصنهاجيين بإفريقية، منزل إمارة محلية في ظل بني الرند، وعميدهم عبد الله ابن محمد بن الرند، فاستقل بقفصة، وقوى أمره تباعاً، وبسط سلطانه على عدة من البلاد المجاورة حتى قسنطينة، ثم خلفه في الإمارة ولده المعتز، ثم حافده يحيى بن تميم بن المعتز. ولما قام عبد المؤمن في سنة 554 هـ بغزوته لإفريقية، استولى على قفصة، ونقل بني الرند إلى بجاية، وعين لقفصة والياً موحدياً. وكان والي قفصة الموحدي حينما وقعت الثورة، عمران بن موسى الصنهاجي، وكان قد أساء السيرة، ووقع الاضطراب بالمدينة، فبعث لفيف من أهلها إلى بجاية في دعوة علي بن عبد العزيز بن الرند المعروف بالطويل، فقدم إليهم، واضطرمت الثورة، وقتل عمران بن موسى، واستبد ابن الرند بالمدينة، وكان يشجعه في ثورته، ويحرض العرب للانضمام إليه قريبه القائد على بن المنتصر من بجاية (1).
فلما نميت هذه الأنباء إلى الخليفة أبي يعقوب، اعتزم السير بنفسه إلى إفريقية، فخرج في قواته من مراكش في الخامس عشر من شوال سنة 575 هـ (مارس سنة 1180 م)، ويروى لنا ابن صاحب الصلاة، أن البركة الدورية التي كانت تعطى للعسكر في تلك الغزوة كانت تبلغ في كل مرة ألف ألف دينار، سوى العلوفات والمرافق، مما يدل على ضخامة الجيش الذي حشد (2)، واستمر الخليفة
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 166.
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 112.(4/106)
في سيره وئيداً، واحتفل في الطريق بعيد الأضحى، وقدم ولده السيد أبا يوسف يعقوب على مقدمة الجيش، فسبقه إلى تلمسان. ووصل الخليفة في قواته إلى تلمسان في أوائل سنة 576 هـ، ولما كملت أهبة الجيش وتعبئته، خرج من تلمسان في الثاني عشر من شهر صفر، متجهاً إلى إفريقية، فلما وصل إلى بجاية نزل بها. وتحقق لديه أن القائد علي بن المنتصر متواطىء مع قريبه الثائر بقفصة، وأنه يوالي تحريضه على الاستمرار في الثورة، ويوالي تحريض العرب لتأييده، وضبطت بمنزله رسائل تؤيد ذلك، فقبض عليه، وأحيط بسائر أمواله. ثم سار الخليفة من بجاية، فلما قرب من قفصة، بادر أشياخ العرب من رياح إلى المثول لديه، وتأكيد ولائهم وطاعتهم. وضرب الخليفة الحصار حول قفصة وضربها بالمجانيق، حتى اضطر علي بن الرند إلى الإذعان والتسليم، أو التوحيد وفقاً لقول البيذق، ثم ارتد إلى تونس وفقاً لرواية أخرى، واحتل الموحدون قفصة وذلك في رمضان سنة 576 هـ (فبراير 1181 م) وعقد الخليفة بولاية إفريقية والزاب لأخيه السيد على أبي الحسين، وبولاية بجاية أو ولاية القيروان على قول آخر لأخيه السيد أبي موسى (1).
وانتهز الخليفة هذه الفرصة لتجديد مساعيه في استمالة العرب الذين ينزلون بهذه الأنحاء من إفريقية وترغيبهم في الجهاد بالأندلس. وقد شرح لنا هذه المساعي في رسالة الفتح التي وجهها إلى الموحدين بقرطبة. وذلك أنه لما اجتمع لديه أشياخ قبائل رياح وكبراؤهم من جميع الأنحاء، ذُكّروا بما كان لأسلافهم من فضل سابغ في نصرة الدين، وأنه يجدر بهم أن يحذوا حذو أسلافهم في الاضطلاع بتلك المهمة الجليلة، وأن خير ما يصنعونه في ذلك هو المساهمة في الجهاد بالأندلس، وغزو النصارى بها، سيما وقد تفاقم عدوانهم في الآونة الأخيرة، وأن أولئك الأشياخ أبدوا أنهم على أتم أهبة للاستجابة إلى هذه الدعوة، وأن قبائل رياح كلها، وبطونها وأفخاذها، أبدوا جميعاً أنهم يقبلونها بقلوب خالصة، ونيات صافية، وأنهم أخذوا بالفعل في الحركة والاحتشاد، كل طائفة صوب الطريق التي تفضلها وتراها أيسر لمجازها، وتوالت جموعهم حتى امتلأت بها تلك البطاح والسهول. وكان ممن حضر ذلك الجمع الشيخ أبو سرحان مسعود بن سلطان بن زمام، فلما وقع العزم على الاستجابة، أخذ في الرحيل بأهله وولده وكل من تبعه من
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 114، وابن خلدون ج 6 ص 240 و 241، وكتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 125، والمعجب للمراكشي ص 141، و 142.(4/107)
قومه، وبادر الجميع بالامتثال والرحيل، مبايعين ربهم على الجهاد في سبيله. وينوه الخليفة في رسالته، بأنه كان من أثر هذه الحركة أنه لم يبق بإفريقية من طوائف العرب، سوى من نزل من قبائل سليم بجهات طرابلس وما وراءها شرقاً نحو برقة والإسكندرية، وأن هؤلاء قد خوطبوا أيضاً بما خوطب به زملاؤهم، وكوتبوا، وبذلت لهم أطيب الوعود، وأنذروا في نفس الوقت، أملا في استمالتهم واستجلابهم إلى مشاركة إخوانهم.
وقد سبق أن أشرنا إلى خطة السياسة الموحدية في استمالة القبائل العربية النازلة بإفريقية وحشدها في الجيوش الموحدية، وهي الخطة التي وضعها الخليفة عبد المؤمن منذ افتتاحه لثغر المهدية في سنة 555 هـ، وتابعها ولده الخليفة أبو يعقوب وضاعف اهتمامه بتنفيذها حسبما سبق أن فصلناه. وقد كان للسياسة الموحدية من تحقيق هذه الخطة هدف مزدوج أشارت إليه رسالة الفتح المتقدمة الذكر، وهو أولا تخليص إفريقية من طوائف العرب النازلة بها، وكف أيديهم عنها، وذلك لما كان من استطالتهم عليها، وتخريبهم لربوعها ومدنها، وثانياً لاستنفارهم إلى الجهاد والاستعانة بهم في تدعيم الجيوش الموحدية المرسلة إلى الغزو بالأندلس.
وقد استطاع الخليفة أبو يعقوب أن يحشد بالفعل منهم حشوداً عظيمة عبرت معه إلى الأندلس، واشتركت مع الجيوش الموحدية في غزوة وبذة وفي محاربة النصارى في مختلف الميادين في شبه الجزيرة. ولما أراد أبو يعقوب العودة إلى المغرب في سنة 571 هـ، فرق العرب الباقين في مختلف القواعد، فأنزل بعضهم في نواحي قرطبة، وبعضهم في نواحي إشبيلية الجنوبية، مما يلي مدينة شريش وأعمالها.
بيد أن السياسة الموحدية لم تجن خيراً من هذه الخطة في استمالة العرب وحشدهم إلى جانبها، وذلك لما كانوا يتسمون به من حب التقلب، ومجانبة الولاء، والسعي إلى اجتناء المغانم المادية بأي الوسائل. وسوف نرى فيما بعد، كيف انقلبوا إلى محاربة الدولة الموحدية، وغدوا من أخطر خصومها في منطقة إفريقية (1).
وحدث أيضاً أثناء وجود الخليفة بإفريقية، أن وفدت إليه رسل ملك صقلية، النورماني، وهو يومئذ وليم الطيب، يطلب الصلح والمهادنة، وكان ملوك صقلية
_______
(1) راجع رسالة الخليفة أبي يعقوب المتضمنة لشرح مساعيه في حشد العرب في كتاب " مجموع رسائل موحدية ". الرسالة السادسة والعشرون ص 149 - 157، وراجع أيضاً كتاب المعجب للمراكشي ص 124 و 125، وروض القرطاس ص 139.(4/108)
منذ استرد منهم عبد المؤمن ثغر المهدية، وقضى على سلطانهم في شواطىء إفريقية
قبل ذلك بعشرين عاماً، يخشون بأس الدولة الموحدية، ويؤثرون السلم معها.
ويقول لنا صاحب المعجب إن ملك صقلية عقد الصلح مع الخليفة على أن يحمل إليه إتاوة سنوية اتفق عليها، وأنه أرسل إلى الخليفة تحفاً وذخائر نفيسة منها حجر ياقوت يسمى " الحافر " لاستدارته بمثل حافر الفرس، وقد وضع في تابوت مصحف عثمان، الذي كان يبالغ الموحدون في تكريمه (1).
وعلى أثر افتتاح قفصة ارتحل الخليفة إلى تونس، وكتب من هنالك برسالة الفتح إلى حضرة مراكش، وإلى الأندلس -إلى إشبيلية وقرطبة- وبعث مع الرسالة بقصيدة طويلة من نظم طبيبه العلامة الفيلسوف أبي بكر بن طفيل، يشيد فيها بالفتح، وبالجيش الموحدي، وقد جاء في أولها:
ولما انقضى الفتح الذي كان يرتجى ... أصبح حزب الله أغلب غالب
وساعدنا التوفيق حتى تبينت ... مقاصدنا مشروحة بالعواقب
وأنجزنا وعد من الله صادق ... كفيل بإبطال الظنون الكواذب
وهبوا كما هب النسيم إذا سرى ... ولم يتركوا بالشرق علقة آيب
وأذعن من عليا هلال بن عامر ... أبي ولبى الأمر كل مجانب
يغص بهم عرض الفيافي وطولها ... وقد زحموا الآفاق من كل جانب
ولما وصل كتاب الفتح، وقصيدة ابن طفيل، إلى السيد أبي إسحاق ولد الخليفة ووالي إشبيلية، عم البشر والسرور، ومثل لديه أشياخ إشبيلية للتهنئة، وخطب بين يديه الفقيه ابن الجد، وأنشد أبو مروان عبد الملك بن صاحب الصلاة صاحب تاريخ " المن بالإمامة " قصيدة جاء فيها:
خير البشائر صوغت حمل المنى ... بقفول خير خليفة وإمام
وافت كما ابتسم الأمان لخائف ... وانهل أثر المحل سكب غمام (2)
ثم قفل الخليفة عائداً إلى حضرة مراكش، فوصل إليها في شهر صفر سنة 577 هـ، وعلى أثر وصوله، سارت وفود الأندلس إلى العدوة لتهنئته، يتقدمهم ولده السيد أبو إسحاق والي إشبيلية، وابن وانودين وغيره من أشياخ الموحدين،
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 142.
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 115.(4/109)
وقدمت كذلك وفود قرطبة وغرناطة ومرسية لغرض التهنئة، وأقامت هذه الوفود بالحضرة إلى أواخر العام، ثم انصرفت عائدة إلى بلادها.
وفي خلال ذلك علم الخليفة أن طائفة من أهل جبل السوس الواقع على مقربة من بلاد هرغة وهي قبيلة المهدي ابن تومرت، قد استولوا لأنفسهم على ما تحصل من معدن الفضة الذي يستخرج من ذلك الجبل، وذلك بطريق الاغتصاب من عمال المنجم الخاص بذلك، فخرج الخليفة في بعض عسكره من مراكش في أول صفر سنة 578 هـ، ولما وصل إلى الجبل المذكور، أمر ببناء حصن عليه، ووضع به حامية، ثم سار من هنالك إلى تينملل فزار قبر المهدي وقبر والده، الخليفة عبد المؤمن، وكان معه وفد من أهل إشبيلية قدم لزيارته بالحضرة قبل ذلك بقليل، ويقول لنا ابن صاحب الصلاة وقد كان ضمن هذا الوفد، إنه زار القبرين بصحبة أبي بكر بن زهر، وأبي الوليد ابن رشد، وأن الخليفة زار فضلا عن القبرين الغار الذي في جبل إيجليز حيث كان يتعبد المهدي والمسمى برابطة الغار، والرابطة الأخرى المسماة رابطة وانسرى، وكان الناس يأخذون التراب منهما للتبرك ويجعلونه على المرضي. وأمر الخليفة بهذه المناسبة، أن ينظم الشعراء قصائدهم في رثاء المهدي ورثاء أبيه، وأن يذكروا مناقبهما ومآثرهما، وأغدق عليهم صلاته الكثيرة (1).
وكان مما قيل بهذه المناسبة، في ذكر مناقب المهدي، وشرح أسطورته، والإشادة برسالته، قصيدة نظمها شاعر من أهل الجزائر، وفد على أبي يعقوب بتينملل، وأنشد قصيدته على قبر المهدي ابن تومرت بمحضر من الخليفة وشيوخ الموحدين، وإليك بعض ما ورد فيها:
سلام على قبر الإمام الممجد ... سلالة خير العالمين محمد
ومشبهه في خلقه ثم في اسمه ... وفي اسم أبيه والقضاء المسدد
ومحيي علوم الدين بعد مماتها ... ومظهر أسرار الكتاب المسدد
أتتنا به البشرى بأن يملأ الدنا ... بقسط وعدل في الأنام مخلد
ويفتتح الأمصار شرقاً ومغرباً ... ويملك عرباً من مغير ومنجد
فمن وصفه أقنى وأجلى وإنه ... علاماته خمس تبين لمهتدي
زمان واسم والمكان ونسبة ... وفعل له في عصمة وتأيد
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 120 - 122.(4/110)
وتتبعه للنصر طائفة الهدى ... فأكرم بهم إخوانُ ذي الصدق أحمد
هي الثلة المذكور في الذكر أمرها ... وطائفة المهدي بالحق تهتدي
بهم يقمع الله الجبابرة الأولى ... يصدون عن حكم من الحق مرشد
ويقطع أيام الجبابرة التي ... أبادت من الإسلام كل مشيد
فيغزون أعراب الجزيرة عنوة ... ويعرون منها فارساً وكأن قد
ويفتتحون الروم فتح غنيمة ... ويعرون منها فارساً وكأن قد
ويفتتحون الروم فتح غنيمة ... ويقتسمون المال بالترس عن يد
ويغدون للدجال يغزونه ضحاً ... يذيقونه حد الحسام المهند
وينزل عيسى فيهم وأميرهم ... إمام فيدعوهم لمحراب مسجد
يصلي بهم ذاك الأمير صلاتهم ... بتقديم عيسى المصطفى عن تعمد
فيمسح بالكفين منه وجوههم ... ويخبرهم حقاً بعز مجدد
وما أن يزال الأمر فيه وفيهم ... إلى آخر الدهر الطويل المسرمد
فأبلغ أمير المؤمنين تحية ... على النأي مني والوداد المؤكد
عليه سلام الله ما در شارق ... وما صدر الوارد من ورد مورد
وقيل إن منشىء هذه القصيدة لم يحضر لإلقائها بنفسه، للكبر وبعد الشقة، وأنه أرسل بها فأنشدت باسمه على قبر الإمام، وكان نظمه إياها أيام حياة الخليفة عبد المؤمن (1).
وفي العام التالي، أعني في سنة 579 هـ، كانت توسعة مدينة مراكش.
وكانت العاصمة الموحدية، قد بدأت تضيق بسكانها الذين هرعوا إلى استيطانها من كل صوب، وبالرغم مما أقيم بها منذ أيام الخليفة عبد المؤمن، من الأحياء الكبيرة والدور العديدة الفخمة لسكنى رجال البلاط، وعلية القوم، والوافدين إليها من مختلف أنحاء المغرب والأندلس، فإنها أضحت قاصرة عن أن تستوعب سكانها، وحركة عمرانها الضخمة. وكان الخليفة قد أمر قبائل هسكورة وصنهاجة أن يتركوا بلادهم، وأن يأتوا إلى العاصمة بأهلهم لسكناها، فلما وصلوا إليها لم يجدوا بها متسعاً لنزولهم، فشكوا إلى الخليفة أمرهم. فعندئذ رأى الخليفة أنه لابد من العمل على توسعة المدينة، وعهد إلى ولده وولي عهده السيد أبي يوسف
_______
(1) راجع المعجب ص 104 - 106 حيث يورد هذه القصيدة وقصتها، وينفرد المراكشي بذلك بين المصادر الموحدية.(4/111)
يعقوب بتلك المهمة، فركب في يوم أول ربيع الآخر ومعه شيوخ الموحدين وعرفاء البنائين لينظروا خير موقع يصلح لتحقيق هذه الرغبة، فاتفق رأيهم على زيادة المدينة من الجهة القبلية، بإنشاء مدينة جديدة متصلة بها من هذه الناحية، ووافق الخليفة على هذا المشروع، وقام العبيد والرجال بهدم سور المدينة من جهة باب الشريعة، ووضعت خطط المدينة الجديدة في يوم الاثنين الخامس والعشرين من ربيع الآخر، واتصل بناء السور حول المواقع الجديدة، وبناء باب الشريعة أربعين يوماً، حتى كمل، وبدأ إنشاء الدور والرباع بسرعة في هذا القطاع الجديد من العاصمة الموحدية (1).
ولم يمض قليل على ذلك حتى وقع بإفريقية حادث مكدر. ذلك أن طوائف العرب من بني سُليم ثاروا على مقربة من مدينة قابس، فسار أبو الحسن على ابن الخليفة ووالي تونس لقتالهم، ودامت الحرب بينهم أياماً، ثم أمر الفرسان الموحدون من أهل الرايات أن ينتقلوا من موضعهم إلى جبل قريب يسمى جبل كسرى، فظن أن هذا الانتقال بسبب الهزيمة، فتركوا عتادهم وفروا منهزمين دون قتال، فلجأ السيد ومن معه إلى الجبل، ولكنهم لم يجدوا به ماء، فلما اشتد بهم العطش كروا على العرب دفعة واحدة، فهزمهم العرب، وأحدقوا بهم وأسروا السيد وأصحابه. (جمادى الأولى سنة 579 هـ). ولما علم الخليفة بذلك قرر في الحال غزو بني سليم والانتقام منهم، ولكن لم تمض بعد ذلك سوى أيام قلائل حتى ورد الخبر بأن السيد وأصحابه قد أطلق سراحهم لقاء ما دفعوا من المال، وأنهم وصلوا سالمين إلى تونس (2).
ومن حوادث هذا العام أيضاً نكبة الخليفة لأبي زكريا بن حيون شيخ قبيلة كومية وابنه على الذي كان مشرفاً على تلمسان، وقبض على أبي زكريا وحوسب مدة، ثم نفي إلى بطليوس بالأندلس، وبقى ابنه علي في السجن، حتى خرج الخليفة إلى الغزو، فأمر بأن يحمل معه مصفداً، ولكنه استطاع الفرار أثناء السير. ومنها فرار الداعية علي بن محمد بن رزين المعروف بالجزيري من مراكش، وكان على مذهب الخوارج الأزارقة يقول بتكفير جميع المسلمين، وتبعه قوم من البربر يقرأون عليه مذهبه، وشاع خبره، وعندئذ خشي بطش ولاة الأمر. ففر من المدينة واختفى حيناً، حتى قبض عليه فيما بعد وقتل أيام الخليفة المنصور.
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 126.
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 127.(4/112)
الفصل الخامس غزوة شنترين ومصرع الخليفة أبي يعقوب يوسف
استعداد الخليفة للجهاد بالأندلس. ولاة الأندلس وقضاتها الجدد. قسمة السلاح والعتاد. مسير الخليفة إلى رباط الفتح. الاتفاق على توجيه الحملة إلى الأندلس. مسير الخليفة إلى مكناسة، ثم إلى فاس. تعيين السيد أبي حفص لقيادة العرب، وبعض السادات لقيادة الموحدين. مسير الخليفة إلى سبتة. جواز قبائل العرب فقبائل البربر ثم الموحدين إلى شبه الجزيرة. عبور الخليفة ومسيره إلى إشبيلية. أقوال ابن صاحب الصلاة. اختيار مدينة شنترين هدفاً للغزوة المنشودة. حكمة هذا الاختيار وبواعثه. منشآت الخليفة بإشبيلية. خروج الخليفة في قواته إلى بطليوس. تحالف ملكي قشتالة وليون ضد الموحدين. ملك ليون يحاصر قاصرش. الرواية النصرانية عن خطة الموحدين. رفع الحصار عن قاصرش. مسير الموحدين إلى شنترين. عدد الجيش الموحدي. شنترين وموقعها. أشبونة هدف الغزوة الموحدية. محاصرة الموحدين لشنترين. اقتحامهم للربض الخارجي. اعتصام النصارى بالقصبة. المعارك بين الموحدين والبرتغاليين. أمر الخليفة بالكف عن القتال. تحول الجيش الموحدي عن موقعه. صدور الأمر بالرحيل. غموض بواعث هذا الأمر. رواية في تعليله. رواية أخرى في شرح ما حدث في المعسكر الموحدي. شرح الرواية النصرانية لأسباب الانسحاب. ما حدث خلال الانسحاب من الفوضى والاضطراب. مهاجمة النصارى لساقة الجيش المنسحب. وصولهم إلى محلة الخليفة. جرح الخليفة ثم وفاته خلال السير. بعض روايات عن هذا الحادث. رواية أخرى عن مرض الخليفة ووفاته. أسباب نكبة الجيش الموحدي. مسير الجيش وكتمان وفاة الخليفة. التوقف في طرش. اجتماع القادة ومبايعة الأمير أبي يوسف يعقوب. الوصول إلى إشبيلية. إعلان الوفاة وأخذ البيعة للخليفة. انقضاء الغزو والأمر بالرحيل. مسير الركب الخليفي إلى طريف. عبوره إلى العدوة. المسير إلى رباط الفتح. الخليفة أبو يعقوب. حزمه وتقواه وعلمه. حرصه على تنفيذ حكم الشرع. مطاردته للعمال الظلمة. خبرته بشئون المملكة. شغفه بالجهاد. علمه وأدبه. تمكنه من الحديث والفقه واللغة. دراسته للفلسفة والطب. صلاته بابن طفيل وابن زهر وابن رشد. كيف وضع ابن رشد شروحه لأرسطو. ابن طفيل سفير الخليفة لدى العلماء. شغف أبي يعقوب بجمع كتب الفلسفة. أثر من آثاره العلمية. كلفه بالمنشآت العمرانية. وزراؤه وقضاته وكتابه. أبناؤه وصفته.
كان من الواضح للخليفة أبي يعقوب وأعوانه من أقطاب الموحدين، أن حوادث الأندلس، قد أخذت في الأعوام الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، تسير نحو اتجاه مكدر، وأن عدوان الممالك الإسبانية النصرانية، قد أخذ يشتد ويتفاقم، وأن غزوات البرتغاليين لولاية الغرب، وما أحرزوه من انتصارات في البر(4/113)
والبحر على القوات الموحدية، وغزوات ملك قشتالة لموسّطة الأندلس وتهديده لقرطبة وإشبيلية، وتوغل قواته جنوباً حتى غرناطة ومالقة ورندة، كل ذلك قد كشف عن ضعف الجبهة الدفاعية الموحدية بالأندلس، وعن قصور القوات الموحدية عن حماية الأندلس، وصد عدوان النصارى عنها.
ومن ثم فقد رأى الخليفة أنه لابد من تنظيم حركة جديدة للجهاد بالأندلس ليقودها بنفسه، وظهرت بوادر هذه النية منذ أوائل شهر جمادى الآخرة من سنة 579 هـ، حينما أمر الخليفة بتمييز طوائف الموحدين والعرب والقبائل استعداداً للغزو، وبصنع عشرة مجانيق جربت بعد صنعها بالرمي أمامه، في منطقة البحيرة خارج مراكش، واستمر تمييز الجند طوال شهر جمادى الثانية (سبتمبر 1183 م).
وفي شهر شعبان أصدر الخليفة المراسيم بتولية أربعة من أبنائه قواعد الأندلس الأربعة الرئيسية، وهم السيد أبو إسحق لولاية إشبيلية كما كان، والسيد أبو زكريا يحيى لولاية قرطبة، وذلك تنفيذاً لرغبة القاضي أبي الوليد بن رشد، والسيد أبو زيد لولاية غرناطة، والسيد أبو عبد الله لولاية مرسية، وأمر بسفرهم إلى مقر أعمالهم، تمهيداً لحركة الغزو. وأصدر أمره في نفس الوقت بتولية أبي المكارم ابن الحسين المصري لقضاء إشبيلية، وأبي الوليد بن رشد لقضاء قرطبة، وأبي عبد الله بن الصقر لقضاء غرناطة، وتحرك الجميع للسفر إلى شبه الجزيرة في السابع والعشرين من شعبان.
وفي منتصف شهر رمضان، أجريت قسمة السلاح والعتاد، وخصص خباء لكل عشرة من الفرسان، ثم أخرجت البركة لسائر الجند من الفرسان والرجّالة.
وفي يوم السبت الخامس والعشرين من شوال (فبراير 1184 م) صدرت الأوامر بالحركة، وركب الخليفة كعادته بعد صلاة الصبح، وخرج من باب دُكّالة، وهو الذي يسلكه إلى الغزو بإفريقية. ويصف لنا صاحب البيان المغرب -والمرجح أنه ينقل عن ابن صاحب الصلاة (1) - موكب الخليفة ومراحل سيره، فيقول إنه سار يتقدمه العلم الأبيض مع الرجّالة، كالعادة، ومعه مصحف عثمان على جمل أبيض مرتفع، وقد وضع تابوته المرصع بنفيس الجواهر، وعليه قبة حمراء لصيانته، ويليه مصحف المهدي يحمله بغل، وقد سار بنو الخليفة مع
_______
(1) يدفعنا إلى هذا الاستنتاج ما نلاحظه من مطابقة في السرد والوصف لأسلوب ابن صاحب الصلاة، وورود عبارات كثيرة مسجعة وغيرها مطابقة لما يستعمله ابن صاحب الصلاة في مواطن كثيرة.(4/114)
إخوته خلفه، ووصل الخليفة في ركبه الضخم إلى سلا في الثالث عشر من ذي القعدة، ونزل بمدينة المهدية (رباط الفتح)، وهنالك وفد عليه أبو محمد ابن أبي إسحاق بن جامع قادماً من إفريقية، فأخبره أن السلام يسودها، وأن العرب الذين يخشى من شغبهم، قد فروا من البلاد بأهلهم، حينما سمعوا بحركة الغزو، وبذلك أمن شرهم واستتبت السكينة والأمن.
وفي أثناء ذلك وصل شيوخ العرب المنضمون للحملة بجميع قبائلهم، فصدر أمر الخليفة بالإنعام عليهم بالكسى والبركات والصلات الجزيلة. وتعهد الأشياخ بأن يساهموا في هذه الغزوة بمائة وثلاثين ألفاً ما بين فارس وراجل.
ثم أمر الخليفة باجتماع شيوخ الموحدين والعرب والقادة في مؤتمر عام، وخرج إليهم ولده أبو يوسف المنصور، وأبلغهم أن أمير المؤمنين يطلب رأيهم ويستشيرهم في أمر توجيه هذه الحملة، هل توجه إلى إفريقية أم توجه إلى الأندلس، فكان رأيهم بالإجماع أن توجه إلى الأندلس لغزو النصارى والجهاد في سبيل الله، فأبدى الخليفة ارتياحه لهذا الرأي (1). ومعنى ذلك أن الخليفة، حين خروجه من مراكش لم يكن لديه رأى حاسم في شأن الغزوة التي ينوي القيام بها، وهذا في ذاته يكشف لنا جانباً من ضعف الخطط العسكرية الموحدية.
وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي القعدة، بدأت العساكر في الجواز على قنطرة سلا، وفي اليوم الثلاثين غادر الخليفة في موكبه، رباط الفتح إلى مكناسة، فوصلها في السادس من ذي الحجة، وقضى بها عيد الأضحى، ثم غادرها إلى فاس، وكانت قد ترامت إليه الأنباء عن خيانة مشرفها وعمالها المختلفين، واختلاساتهم، فأمر بالقبض عليهم جميعاً، ومصادرة دورهم وأموالهم لحساب " المخزن "، وألزموا بأن يردوا " للمخزن " أربعمائة ألف وستين ألف دينار، تعهدوا بأدائها أقساطاً، ورتب عليهم الرقباء حتى قاموا بأدائها.
وفي الثاني عشر من ذي الحجة، أمر الخليفة بأن يتقدم العسكر قبيلتا هنتانة وتينملّل برسم الجواز إلى الأندلس، وبأن يتقدم ولده السيد أبو حفص على طوائف العرب، وأن يشرف على جوازهم إلى الأندلس، ثم قدّم على قبائل الموحدين وحشودهم، بعض السادات من الأبناء والإخوة، وكتب إلى الولاة
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 130، وكذلك في روض القرطاس ص 139.(4/115)
بالأندلس أن يستعدوا لاستقبال هذه الحشود المختلفة، وأن يكونوا هم في جموعهم في هيئة استعداد للجهاد.
وفي يوم الثلاثاء الرابع من شهر المحرم سنة 580 هـ (8 أبريل 1184 م) غادر الخليفة أبو يعقوب مدينة فاس في موكبه، على الترتيب السابق وصفه، حتى وصل إلى ثغر سبتة فأقام به بقية شهر المحرم. وأمر في أثناء ذلك ببدء الجواز، فجازت قبائل العرب أولا، ثم قبائل زناتة، فالمصامدة، فمغراوة وصَنهاجة وأورية وغيرهم من بطون البربر، ثم جازت جيوش الموحدين. فلما كمل جواز الجيش عبر الخليفة فيمن بقى من طوائف العبيد والحرس، وكان عبوره في الخامس من صفر (17 مايو) ونزل بجبل الفتح (جبل طارق) ثم سار منه إلى الجزيرة الخضراء، ثم إلى إشبيلية عن طريق أركش وشريش، فوصل إليها في عساكره في اليوم الثالث عشر من صفر (25 مايو)، وخرج أهل الحاضرة الأندلسية إلى لقائه والسلام عليه، وفي مقدمتهم قاضيهم ابن الجد. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، إنه كان حاضراً في هذا اليوم، وإنه قام بالسلام على الخليفة مع من تقدم إليه من الطلبة، وأنه لم يستطع الكلام لشدة الزحام، وأن الخليفة نزل بقصره داخل حدائقه الواقعة خارج باب قرمونة. وفي اليوم التالي لوصوله أمر بتمييز العساكر وتوزيع السلاح والعتاد عليهم. ووزعت ألف فرس من عتاق الخيل على أشياخ الموحدين والعرب وكبار الجند. وأمر قائد الأسطول أبو العباس الصقلي بإعداد سفن الغزو وما يلزمها من الآلات والمعدات. وكانت أجناد الأندلس، تتلاحق خلال ذلك من أوطانها وقواعدها إلى إشبيلية، لتنضم إلى جيش الغزو (1).
وأقام الخليفة بإشبيلية أسبوعين وهو دائب العناية باستكمال الاستعدادت وتنظيم الحشود، والنظر في كل ما يلزم للقيام بالغزوة المنشودة، وضمان نجاحها.
أما هدف هذه الغزوة، فقد استقر الرأي على أن يكون مدينة شنترين البرتغالية. وقد سبق أن أوضحنا أن الخليفة لم يحدد هدف هذه الغزوة منذ البداية بصورة قاطعة، بل لم تتحدد وجهة الحملة الموحدية إلى شبه الجزيرة الأندلسية إلا حينما وصل الخليفة إلى سلا. ولكن اختيار مدينة شنترين بالذات هدفاً للغزوة الموحدية يرجع إلى أسباب عديدة، مادية ومعنوية. فقد كانت البرتغال في عهد
_______
(1) نقله البيان المغرب عن ابن صاحب الصلاة ص 132. وكذلك روض القرطاس ص 130.(4/116)
أبي يعقوب أول مملكة نصرانية في شبه الجزيرة ناصبت الموحدين العدوان، وكانت مدينة شنترين بالذات أهم قواعد هذا العدوان، فمنها خرجت الحملات العدوانية المتوالية التي شنها الفارس المغامر جيرالدو سمبافور على بلاد ولاية الغرب وحصونها في قطاع بطليوس، وهي ترجالُه وقاصرش، ومنتانجش وشربة، وجلمّانية. ثم كانت بعد ذلك قاعدة لمهاجمة ملك البرتغال وجيرالدو سمبافور لمدينة بطليوس ذاتها، واستيلائهما عليها، ولو لم يتعاون فرناندو ملك ليون مع الموحدين على إنقاذ المدينة، لبقيت في أيدي البرتغاليين. وكانت شنترين أخيراً مركزاً للحملات المخربة التي شنها البرتغاليون في أحواز إشبيلية، والتي وصلت في سيرها مرة إلى طُريانة، وأخرى إلى الشّرف ومدينة شلوقة، وعلى الجملة فقد كانت شنترين هي المركز الرئيسي لعدوان البرتغاليين على قواعد ولاية الغرب وأراضيها، وقد اضطلع فرسانها وجندها بأعظم دور في هذه الحملات العدوانية، والغزوات المخربة، وكان الخليفة وقادته يرون أن الاستيلاء على شنترين يلحق بالبرتغاليين وملكهم ألفونسو هنريكيز ضربة شديدة، ويقضي على أهم مراكز العدوان في البرتغال، ومن ثم كان اختيارها هدفاً للغزوة الموحدية الكبرى.
ومما هو جدير بالذكر أن الخليفة أبا يعقوب، لم ينس خلال هذه المشاغل الحربية الطامية برنامج منشآته العظيمة بمدينة إشبيلية، وهو الذي بدأه حين إقامته الأولى بإشبيلية قبل ذلك بنحو خمسة عشر عاماً، بإنشاء المسجد الجامع والقصور الموحدية، وقنطرة طريانة. ومشاريع الري والسقاية، ذلك أنه أمر قبل تحركه إلى الغزو عامله أبا داود بلول بن جلداسن، أن يقوم خلال غيبته في الغزو، بإنشاء سور حصين على قصبة إشبيلية، يمر من مبدىء بنيانه أمام رحبة ابن خلدون داخل المدينة، وببناء صومعة للجامع في موقع اتصال السور بالجامع المذكور، وبناء دار صنعة للسفن تتصل من سور القصبة الذي على الوادي بباب القطائع، إلى الرحبة السفلى المتصلة بباب الكحل (1). وسوف نعود فيما بعد إلى التحدث عن مصير هذه المنشآت في موطنه المناسب.
- 1 -
في صبيحة يوم الخميس السادس والعشرين من شهر صفر سنة 580 هـ الموافق لليوم السابع من شهر يونيه سنة 1184 م، تحركت الجيوش الموحدية وعلى رأسها
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 170 أ.(4/117)
الخليفة أبو يعقوب يوسف، من مدينة إشبيلية، نحو الشمال، بنفس الترتيب الذي سبق وصفه. وكان السير هيناً وئيداً، فوصلت بعد تسعة أيام إلى حصن العرجة (1) في طريق بطليوس، وهنالك تم اجتماع الجيوش الموحدية، وقد بدت في أكمل نظام، وأحسن زي، وتقلد الجند كامل أسلحتهم من السيوف والدروع والقسي وغيرها، ثم استأنفت الجيوش سيرها، حتى وصلت إلى مدينة بطليوس، فأمر الخليفة بالنزول في ظاهرها، وأن يجرى تمييز الجند، واستكملت الجيوش ما كان ينقصها من الزاد والميرة. وكان الوزير السابق إدريس بن جامع منفياً في بطليوس ومعه في المنفى أيضاً أبو زكريا بن حيون الكومي شيخ قبيلة كومية، فالتمسا إلى أمير المؤمنين حين مقدمه أن يأذن لهما بالاشتراك في الجهاد فأذن لهما.
وكان الموقف بالنسبة للممالك النصرانية قد تغير قبل ذلك بأعوام، وانقطعت كل مهادنة بينها وبين الموحدين، وجنحت كلها إلى العدوان، وإلى غزو أراضي الأندلس كل من الناحية التي تليها، وذلك حسبما فصلناه من قبل. وكان فرناندو ملك ليون قد نبذ محالفة الموحدين حسبما تقدم، وحذا حذو زملائه في انتهاج هذه السياسة العدوانية، وعقد مع ملك قشتالة ألفونسو الثامن معاهدة تعهد فيها بأن يلتزم معاداة الموحدين، وألا يعود إلى محالفتهم قط، وقطع زميله ملك قشتالة على نفسه مثل هذا العهد (يونيه سنة 1183 م). وكان في الوقت الذي عبرت فيه الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة، يقوم بغزوة جديدة لأراضي الأندلس، ويحاصر مدينة قاصرش (2) الواقعة شمال شرقي بطليوس على مقربة من نهر التاجُه، واستمر يحاصرها طول الشتاء حتى نهاية الربيع. وكان الخليفة الموحدي يعلم بأمر هذا التحالف الجديد بين قشتالة وليون. وكان الذائع بين الملوك النصارى أن الجيوش الموحدية الغازية، قد تغزو أي الممالك النصرانية، أعني قشتالة أو ليون أو البرتغال، إذ كانت جميعاً سواء في موقفها العدواني من الموحدين، وفي الإغارة على أراضي الأندلس. بل إن الرواية النصرانية، وبخاصة الرواية البرتغالية، تنسب إلى الخليفة الموحدي من غزوته هذه مشاريع أجل خطراً، وأبعد مدى، فتقول لنا إنه كان يبغي، بعد الاستيلاء على شنترين، أن يقوم بافتتاح مملكة البرتغال كلها شمالا حتى نهر دويرة، ثم يسير بعد ذلك إلى غزو مدينة طليطلة
_______
(1) وهو بالإسبانية Alanje.
(2) وهي بالإسبانية Caceres.(4/118)
حاضرة قشتالة (1)، وعلى أي حال فإن فرناندو ملك ليون، حينما علم بسير الجيوش الموحدية نحو بطليوس واقترابها بذلك من مواقعه، بادر برفع الحصار عن قاصرش، وعاد إلى حاضرته مدينة ردريجو، وأخذ يرقب سير الحوادث.
وفي يوم الخميس العاشر من شهر ربيع الأول غادر الخليفة في قواته مدينة بطليوس، وسار نحو الشمال الغربي مخترقاً الناحية اليسرى من وادي التاجُه، ثم أمر الجند الموحدين أن يتقدموا صوب شنترين، فعبروا نهر التاجُه بقيادة السيد أبي إسحاق والي إشبيلية، ثم تلاهم بقية الجند وعلى رأسهم الخليفة، ونزلت الجيوش الموحدية جميعها بالتل المرتفع المشرف على شنترين من ناحيتها الشرقية والجنوبية، وكان ذلك في يوم الأربعاء السادس عشر لربيع الأول سنة 580 هـ (27 يونيه سنة 1184 م) وفقاً لقول الرواية الإسلامية المعاصرة (2)، وتضع الرواية النصرانية مقدم الجيوش الموحدية إلى شنترين قبل ذلك بثلاثة أيام في اليوم الرابع والعشرين من يونيه وهو يوم القديس خوان (3).
وتنوه معظم الروايات الإسلامية بضخامة هذا الجيش الموحدي، ووفرة حشوده (4)، ويقدم إلينا بعضها عن عدده أرقاماً مدهشة، فيقول لنا صاحب الروض المعطار إنه كان يضم أربعين ألفاً من أنجاد العرب الفرسان، ومن الموحدين والجنود والمطوعة وفرسان الأندلس ما ينيف على مائة ألف فارس (5)، وإذن فقد كان هذا الجيش الذي أعد لغزو البرتغال، وافتتاح شنترين أضخم من الجيش الذي سار من قبل عند جواز الخليفة الأول إلى الأندلس، إلى حصار وبذة، وتنوه الرواية النصرانية أيضاً بضخامة الجيش الموحدي، وذلك بما تذكره من أرقام خسائره، حسبما نشير إليه فيما بعد.
وتقع مدينة شنترين، وقد أتيحت لنا زيارتها، في شمال شرقي أشبونة على
_______
(1) H. Miranda: Ibid, cit. Chronicon Lusitanum p. 292
(2) هذه هي رواية البيان المغرب، منقولة فيما يرجح عن ابن صاحب الصلاة، وكان مرافقاً للحملة (البيان المغرب القسم الثالث ص 133) ويضع صاحب روض القرطاس مقدم الموحدين إلى شنترين في السابع من ربيع الأول (ص 140).
(3) راجع في ذلك H. Miranda: Ibid, p. 297 & 300
(4) راجع ما ينقله البيان المغرب في القسم الثالث عن القاضي أبي الحجاج يوسف بن عمر (ص 135) وكذلك ابن خلكان في الوفيات ج 2 ص 394.
(5) الروض المعطار - صفة جزيرة الأندلس في مقاله عن " شنترين " ص 114.(4/119)
قيد خمسين كيلومتراً منها، فوق ربوة مرتفعة تقع على الضفة اليمنى لنهر التاجُه، أمام حنية نصف دائرية. وقد كانت في العصر الذي نتحدث فيه من أمنع القواعد البرتغالية، وكانت في عهدها الإسلامي، نظراً لحصانة موقعها في منعطف النهر من المراكز الأمامية للمعارك المستمرة بين المسلمين والنصارى. وقد سقطت في أيدي النصارى لأول مرة في سنة 486 هـ (1093 م)، حينما استولى عليها ألفونسو السادس ملك قشتالة، ولكن المسلمين استردوها، واستمرت في حوزتهم عصراً آخر، ولما اشتد ساعد مملكة البرتغال الناشئة في عهد ملكها ألفونسو هنريكيز، وأخذ هذا الملك يغير على القواعد الإسلامية المجاورة، كانت شنترين وأشبونة من القواعد التي استولى عليها، وذلك في سنة 542 هـ (1147 م) حينما اضطربت شئون ولاية الغرب على أثر قيام الثورة ضد المرابطين وبقيتا بيد النصارى إلى ذلك الحين. وكان الموحدون يتوقون إلى استرداد هاتين القاعدتين الهامتين من قواعد ولاية الغرب.
وهنالك في الواقع ما يدل على أن استرداد ثغر أشبونة كان من أهداف هذه الحملة الموحدية الكبرى بل ربما كان هو هدفها الرئيسي (1). ذلك أن الأسطول الموحدي، كان وقت عبور الخليفة إلى شبه الجزيرة، قد حشد عند مصب الوادي الكبير ومصب وادي يانه، وكان في نفس الوقت الذي اتجهت فيه الجيوش الموحدية صوب شنترين، يسير إلى مياه أشبونة، ثم يحاصرها (2). بيد أنه كان من الطبيعي أن يقوم الجيش الموحدي قبل السير إلى أشبونة، بالاستيلاء على شنترين، وهي حصن أشبونة من الشمال، وبذلك تؤمن مؤخرة الجيش الموحدي ضد أي هجوم يقوم به النصارى من تلك الناحية.
ومن ثم فإنه ما كادت القوات الموحدية تصل إلى ظاهر شنترين، حتى أمر الخليفة بأن يتقدم الجند حتى أبواب المدينة، وأن يضربوا حولها الحصار، ونزل الموحدون في الربض الواقع في جنوبها الشرقي والممتد على طول النهر وضربت به قبة الخليفة، وكان البرتغاليون وعلى رأسهم ملكهم ألفونسو هنريكيز، قد احتشدوا داخل شنترين وقصبتها وجدوا في تحصينها، واتخذوا أعظم أهبة للدفاع عنها (3)،
_______
(1) راجع روض القرطاس ص 140.
(2) الروض المعطار، صفة جزيرة الأندلس، ص 114.
(3) المراكشي في المعجب ص 145.(4/120)
خريطة: خط سير الجيش الموحدي والأسطول الموحّدي إلى غزوة شنترين.
رسم: مواقع معركة شنترين سنة 580 هـ - 1184 م.(4/121)
وكان المدافعون عن الربض الخارجي قد أقاموا حواجز يستطيعون الاعتصام بها، والدفاع منها. فاقتحم الموحدون الربض وهدموا أحياءه المتصلة بالسور، وهدموا الكنيستين اللتين به، وقتل كثير من المدافعين عنه، وارتد الباقون إلى القصبة، واعتقد القادة الموحدون أن السبيل ممهد لاقتحام المدينة وأخذها، وأعدت بالفعل السلالم اللازمة لاقتحام الأسوار. وفي يوم الجمعة 19 ربيع الأول 29 يونيه)، هاجم الموحدون الأسوار، واشتبكوا مع قوة من النصارى خرجت لقتالهم فهزموها وردوها صوب القصبة. وفي صبيحة اليوم التالي - السبت - تجدد القتال بين الموحدين وبين النصارى، واستمر القتال بين الفريقين حتى يوم الاثنين الحادي والعشرين من ربيع الأول (2 يوليه). ونشبت بينهما خلال ذلك عدة معارك عنيفة. وتقدم إلينا الروايات النصرانية عن هذه المعارك صوراً مختلفة، ويقول بعضها إن المعارك لبثت تضطرم بين النصارى والموحدين في الربض الخارجي للمدينة خمسة أيام، وأن الموحدين بالرغم من خسائرهم لبثوا يجددون هجماتهم، حتى حطمت سائر الحواجز والتحصينات بالربض، وأضحى الموقف مستحيلا، واضطر النصارى إلى اللجوء إلى ناحية القصبة. وهذه الرواية تقترب في جملتها من أقوال الرواية الإسلامية. بيد أن بعض الروايات النصرانية تقدم إلينا مزاعم لا يستطيع أن يسيغها العقل، ولاسيما الرواية المنسوبة إلى الحبر الإنجليزي راؤول دي ديستو، وخلاصتها أن الموحدين وصلوا إلى شنترين في يوم القديس خوان، أعني في يوم 24 يونيه، وحاصروها، وأنهم بعد ثلاثة أيام وثلاث ليال من القتال المستمر، نجحوا في اقتحام المدينة من ثلمة أحدثوها. ولكن وصل في اليوم التالي أسقف بورتو وابن الملك وقتلوا من الموحدين خمسة عشر ألفاً، وسدوا تلك الثلمة بجثثهم. وفي اليوم الذي يليه وصل أسقف شنت ياقب ومعه عشرون ألف مقاتل، وفي الفجر قتلوا ثلاثين ألفاً من الموحدين (1).
بيد أنه وقفت في اليوم الختامي لهذه المعارك، وهو يوم الاثنين 21 ربيع الأول (2 يوليه) بالعسكر الموحدي مفاجأة مذهلة، وهي صدور أمر الخليفة بالكف عن القتال، وكان الأمر قد صدر في نفس الوقت بتحرك الجيش من موضع نزوله إلى موضع آخر، أو من شرقي شنترين إلى غربها وشمالها حسبما يقول صاحب
_______
(1) H. Miranda: Ibid ; C. R. de Diceto y Cronica de Alfonso Enriquez
p. 297 & 300.(4/122)
روض القرطاس. فعجب الناس لذلك، ولم يفقهوا له سبباً، بل إن في هذا التعليق ذاته ما ينم عن إنكار الشيوخ والقادة الموحدين لهذا الأمر الفجائي الذي لم يدرس، ولم تتضح مبرراته. فما الذي حدث في المعسكر الموحدي، وكيف ولِم وقع هذا التحول الفجائى في حركة الجيش الموحدي، ولمّا يمض على مقدمه إلى شنترين سوى ستة أيام؟ إن الرواية الإسلامية لا تقدم إلينا في هذا الموطن أي شرح واضح أو أي تعليل مقنع لهذا الارتداد الفجائي لجيش ضخم غازٍ يربى عدده على المائة ألف، عن مدينة مرهقة بالحصار وقد سقطت أرباضها في أيدي الغزاة، ولا تدافع عنها سوى حامية محلية، قد أنهكتها المعارك المتوالية مع الغزاة، ولجأت في النهاية إلى القصبة ترقب المصير المحتوم، ولم يقل لنا ابن صاحب الصلاة، وهو مرافق الحملة ومؤرخها، شيئاً سوى التعليق على أمر الارتحال بقوله: " فتعجب الناس من هذا الرأي في الانتقال والارتحال، وتعطلت في النفوس جميع الآمال، وظهر الخلل في جميع الأحوال ". ثم يقول إنه قد حدث في هذا اليوم -أي يوم صدور الأمر بالارتحال- على عسكر أهل مرسية حادث مروع، وذلك أنهم خرجوا للإغارة في بسائط النصارى، فخرجوا عليهم وهزموهم هزيمة شنيعة فارتدوا إلى المحلة منهزمين، " وبات الناس في المحلة على حذر، ومن الوجل في ألم وضرر " (1).
ويقول لنا مؤرخ موحدي آخر كان مرافقاً للحملة أيضاً هو القاضي أبو الحجاج يوسف بن عمر، إن الخليفة أبا يعقوب حينما قصد مدينة شنترين أمنع بلاد ابن الرنك، وأكثرها أجناداً، وأقواها استعداداً، فزع النصارى وروعت نفوسهم لما رأوه من ضخامة الجيش الموحدي وتفوقه العظيم. وكان القصد محاصرة المدينة وإرهاقها، ثم يقول دون أي إيضاح آخر: " فلما استراءت من جهاتها الأنباء، وطال لغير طائل الثواء، عزم أمير المؤمنين على الارتحال، وترويح الجيوش والنفوس من السآمة والكلال، فأمر بالرحيل ليلا " (2).
على أن مؤرخاً معاصراً آخر، ويعتبر كذلك من مؤرخي الموحدين، هو عبد الواحد المراكشي، يقدم إلينا عن هذا الارتداد للجيش الموحدي رواية، قد تبدد بعض هذا الغموض الذي يثيره صمت شاهد العيان، وهي أن أبا يعقوب حينما
_______
(1) نقله البيان المغرب - القسم الثالث ص 134 و 135.
(2) نقله البيان المغرب - القسم الثالث ص 136.(4/123)
حاصر شنترين وبالغ في التضييق عليها، وانتساف أقواتها، وقطع المؤونة والمدد عنها، لم يزد ذلك أهلها إلا حزماً في الدفاع، وجلداً في تحمل مشاق الحصار، فخشى الموحدون هجوم البرد، إذ كان الوقت آخر فصل الخريف، وخافوا أن يفيض النهر فلا يستطيعون عبوره، وتنقطع عنهم الأمداد، فأشاروا على أمير المؤمنين بالارتداد عن شنترين والرجوع إلى إشبيلية، فإذا تغيرت الظروف، عاد الموحدون إلى حصارها، وصوروا له أن الأمر هين، وأن المدينة تعتبر غنماً في يده لا يمنعه عنها مانع، فاستمع الخليفة إلى نصحهم، وقال نحن راحلون غداً إن شاء الله، ولم يقف أحد على هذا القول سوى الخاصة، وكان أول من قوض خباءه وأظهر الأخذ بأهبة الرحل، أبو الحسن علي بن عبد الله المعروف بالمالقي، وكان من أكابر البلاط الموحدي، ويوصف بخطيب الخلافة، فلما رأى الناس صنعه، حذوا حذوه لما يعلمونه من وقوفه على أسرار الدولة، وعبر النهر في تلك العشية أكثر العسكر، يريدون التقدم خشية الزحام، ولم يبق إلا من كان بقرب خباء أمير المؤمنين، وبات الناس يعبرون الليل كله، وأمير المؤمنين لا علم له بما حدث (1). وينقل ابن خلكان هذه الرواية بنصها وتفاصيلها في ترجمة الخليفة أبي يعقوب (2).
ونلاحظ فيما يتعلق بهذه الرواية أن حصار شنترين لم يقع في أواخر الخريف، ولكنه وقع أواخر شهر يونيه سنة 1184 م، أعني في أوائل الصيف، وقد رأينا أن الحصار، وفقاً لرواية شاهد العيان، وكذلك وفقاً للرواية النصرانية، لم يدم سوى عدة أيام (3). وعلى ذلك فإن تعليل الارتداد باقتراب الشتاء، والخوف من فيضان النهر ليس بالتعليل المقنع، وإن كان على أي حال محاولة لتفسير تصرف الخليفة الموحدي.
هذا، وهنالك محاولة أخرى من جانب الرواية الإسلامية لتفسير ما حدث في المعسكر الموحدي، هي رواية صاحب روض القرطاس، وهي أنه لما أمر أمير المؤمنين بانتقال الجيش من موضع نزوله إلى موضع آخر، أنكر الناس ذلك
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 145.
(2) وفيات الأعيان ج 2 ص 494.
(3) ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 580 هـ، أن الخليفة أبا يعقوب حاصر شنترين مدة شهر (ج 11 ص 190). وينقل ابن خلكان هذه الرواية (ج 2 ص 492).(4/124)
ولم يعلموا له سبباً، وأنه لما جن الليل، وفرغ الخليفة من صلاة العشاء، استدعى ولده السيد أبا إسحق والي إشبيلية، وأمره بالرحيل من تلك الليلة إلى غزو مدينة أشبونة وشن الغارة على أنحائها، وأن يسير لها بجيوش الأندلس خاصة، وأن يكون رحيله نهاراً، فأساء السيد أبو إسحق فهم أوامر الخليفة، وظن أنه أمره بالرحيل في جوف الليل إلى إشبيلية. يقول صاحب الروض: " وصرخ الشيطان في محلة المسلمين أن أمير المؤمنين قد عزم على الرحيل. وفي هذه الليلة تحدثت الناس بذلك، وتأهبوا له، فرحل من الناس طائفة بالليل. فلما كان قرب الفجر أقلع السيد أبو إسحق، وأقلع كل من كان يليه، وتابعه الناس بالرحيل، فارتحلوا وأمير المؤمنين مقيم في مكانه لا علم له بذلك " (1).
على أن ما تقدمه إلينا الرواية النصرانية عن أسباب انسحاب الجيش الموحدي قد يفسر لنا ما وقع بطريقة أوضح، وأكثر اتفاقاً مع منطق الحوادث. ذلك أن الموحدين، بعد أن اشتبكوا مع البرتغاليين في ربض شنترين وسلسلة من المعارك الطاحنة استمرت بضعة أيام، واستولوا خلالها على أرض الربض وحطموا تحصيناته الخارجية، أدركوا أن المدينة من المناعة، وأن المدافعين عنها من الاستعداد والكثرة، بحيث يتعذر اقتحامها، ولابد لأخذها من الاعتماد على حصار طويل صارم. وفي أثناء ذلك وقع حادث كان له فيما يبدو تأثير حاسم في تطور الموقف. ذلك هو مقدم فرناندو الثاني ملك ليون وقواته. ونحن نذكر أنه لما تحرك الجيش الموحدي من إشبيلية، صوب بطليوس، كان فرناندو الثاني يحاصر مدينة قاصرش الواقعة شمال شرقي بطليوس محاولا الاستيلاء عليها، فلما وقف على حركة الجيش الموحدي، رفع الحصار عن قاصرش، وارتد إلى قاعدته القريبة مدينة ردريجو. ولما تعينت وجهة الجيش الموحدي بالسير إلى شنترين وحصارها، سار فرناندو في قواته صوب ميدان المعركة لإنجاد المدينة المحصورة، وذلك تنفيذاً للعهد الذي قطعه على نفسه بقتال الموحدين، وتقول الرواية النصرانية أيضاً إن ألفونسو ملك البرتغال كان متوجساً في البداية من مقدم فرناندو وجيشه، فلما علم أنه قادم لإنجاده وإنجاد إخوانه النصارى، اطمأنت نفسه وأيقن بالخلاص (2). ومن ثم فإنه يبدو أن تطور الحوادث على هذا النحو
_______
(1) روض القرطاس ص 140.
(2) Primera Cronica General de Espana (Ed. Pidal) p. 676(4/125)
هو الذي حمل الخليفة على اتخاذ قراره الفجائي، بالارتداد، خشية أن يعمل الليونيون على إعاقة عبوره النهر إلى الضفة اليسرى، ولاسيما بعد أن اقتنع بصعوبة الاستيلاء على شنترين.
بيد أنه إذا كان هذا التعليل يلقى شيئاً على بواعث قرار الارتداد، فإنا لا نستطيع أن نفهم سر ذلك الاضطراب المروع الذي اقترن بتنفيذه. ومن المحقق أن الخليفة ومعاونيه كانوا يقصدون أن يكون الارتداد وفق خطة منظمة، تقي الجيش المنسحب كل اضطراب وكل عثار. وهذا ما يؤكده لنا القاضي أبو الحجاج يوسف بن عمر في روايته حين يقول " إن ثقات الخليفة تطوفوا أول الليل على الرؤوس والجموع، وأوعزوا إليهم، ترتيب التحرك وكيفية القلوع، وأن يكون كل قبيل من جهتهم ثابتين مرصدين حتى ترحل الحمولة والأثقال، وتتخلص إلى السعة من المضايق والأوحال " (1). بيد أن الذي حدث هو العكس تماماً. وهو الفوضى المروعة، والاختلال المطبق. يقول أبو الحجاج يوسف، وهو شاهد العيان: " فاضطرب إقلاع الناس اضطراباً شنيعاً، وكثر الضجيج، واختلاط الأصوات، وتهولت المحلات، وأخذ العموم على شتى المسالك، فلا ترى سميعاً ولا مطيعاً ".
وكان أشنع ما في ذلك، هو ما حدث من غموض في فهم أوامر الخليفة، وتسرع في تنفيذها. ذلك أن كثيراً من الأشياخ ورؤساء القبائل فهموا أنه يجب الارتداد فوراً وفي جوف الليل، فهرعت طوائف غفيرة من الجند إلى الارتداد.
وعبور النهر، ووقع الارتداد في مناظر مروعة من الاختلال والضجيج والفوضى.
يقول الراوية شاهد العيان: " حضرت يوم هذا الإقلاع وليله، فما رأيته في تاريخ قبله، ولا يحصر واصف هوله "، وأقلع السيد أبو إسحاق ولد الخليفة نفسه في جنده عند الفجر قاصداً إشبيلية، واعتقد كثير أن الخليفة نفسه قد أقلع في السحر، واستمر عبور الجند على هذا النحو تباعاً، حتى عبر معظم الجيش، كل ذلك والخليفة غافل عما حدث. فلما أسفر الصبح، ظهرت الحقيقة المروعة، ولم يبق حول الخليفة الموحدي سوى الساقة، فعندئذ أمر الخليفة بضرب الطبول، فاجتمعت الفلول الباقية، وانحدر الخليفة صوب النهر، وبقى ابنه يعقوب المنصور مع بقية الساقة، في موضع المحلة مستعداً للقاء النصارى وردهم وحماية أبيه ومن معه.
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 136.(4/126)
ولكن نصارى شنترين أدركوا عندئذ ما وقع في المعسكر الموحدي، من إقلاع وارتداد، فبادروا بالخروج من المدينة، وهجموا على القوات المنسحبة بشدة، وأدركوا ساقة الخليفة، ودافعت الفلول الموحدية بمنتهى البسالة، وسقط خلال ذلك عدد من أكابر الموحدين والأندلسيين، ووصل النصارى إلى مقر الخليفة نفسه بعدوة الوادي، وأصابه بعضهم بجراح خطيرة. وعلى أثر انتهاء المعركة أمر الخليفة بتفرق الجموع، ورجوع كل جندي إلى قبيلته، وأمر بتخريب الوادي، وانتساف زروعه، وقطع أشجاره وهدم ضياعه، وتغوير مائه، وحرق كل ما يمكن حرقه، كما أمر بتقسيم السرايا في نواحي الوادي لتحصيل الأقوات، وانتزاع السبي والغنائم. كل ذلك الخليفة الجريح ملتزم فراشه، ومن حوله أطباؤه ابن زهر وابن طفيل (1) وابن قاسم، وهو يزداد ضعفاً على ضعف، ثم أمر الخليفة بالرحيل، وهو محمول في محفة، حتى تم اجتياز وادي التاجُه، وما كاد الموكب يقطع بضعة أميال أخرى، حتى أسلم الخليفة الروح، وذلك في الثامن عشر لربيع الآخر سنة 580 هـ (29 يوليه سنة 1184 م) (2).
تلك هي رواية القاضي أبي الحجاج يوسف بن عمر، المرافق للجيش المنسحب عن ظروف الارتداد وعن إصابة الخليفة أبي يعقوب يوسف ووفاته متأثراً بجراحه. بيد أن هناك رواية أخرى هي رواية المراكشي، وهو أيضاً معاصر، ومن مؤرخي الموحدين، وهي أنه لما رأى نصارى شنترين ما حدث من عبور الموحدين، وانصراف معظم الجيش المحاصر، ووقفوا على ما قرره الخليفة من الارتحال في بقية جيشه، خرجوا من المدينة في خيل كثيفة، وحملوا على المحلة الموحدية بشدة، حتى بلغوا قبة أمير المؤمنين، ودافعهم من حولها، وجلهم من أعيان الأندلس، حتى قتل كثير منهم، ونفذ النصارى إلى خباء الخليفة، فطعنه أحدهم تحت سرته طعنة توفي منها بعد أيام يسيرة، وتكاثر الموحدون على الروم حتى ردوهم، فانهزموا راجعين إلى المدينة، وعبر أمير المؤمنين النهر
_______
(1) وردت في النص "ابن مقبل " ولكنا نعتقد أن ذلك تحريف لاسم ابن طفيل طبيب الخليفة الخاص.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 137 و 138. وتضع معظم الروايات تاريخ وفاة الخليفة في شهر ربيع الآخر على خلاف في اليوم الذي توفي فيه. ولكن المراكشي ينفرد بالقول بأن الخليفة أبا يعقوب توفي في اليوم السابع من رجب سنة 580 هـ (أكتوبر سنة 1184 م) المعجب ص 147.
ويجاريه في ذلك ابن خلكان. فيذكر نفس التاريخ (الوفيات ج 2 ص 494).(4/127)
جريحاً في محفة، فلم يمض على ذلك يومان أو ثلاثة حتى توفي متأثراً بجراحه (1).
وهنالك رواية أخرى مماثلة تقترب في جوهرها من رواية المراكشي، وهي رواية صاحب روض القرطاس، وهي أنه لما وقع ارتداد معظم الجيش الموحدي ليلا، وجاء الصبح، فلم يجد الخليفة حوله سوى اليسير من خاصته وحشمه الذين يرحلون لرحيله، وينزلون لنزوله، وقواد الأندلس لأنهم هم الذين كانوا يمشون أمام ساقته وخلف محلته، فلما أشرقت الشمس وشهد النصارى ما وقع من ارتحال المحلة الموحدية، وأنه لم يبق منها حول المدينة سوى قبة أمير المؤمنين وعبيده وحشمه وأهل دائرته، وتحققوا ذلك من جواسيسهم، فتحوا أبواب المدينة، وخرج جميع من فيها خرجة عنيفة وهم ينادون " الري. الري " (2) أعني الملك، فاقتحموا محلة العبيد، حتى وصلوا إلى خباء الخليفة، فمزقوه واقتحموه، فدافعهم الخليفة بسيفه حتى قتل منهم ستة رجال، فطعنه أحدهم طعنة نافذة، وقتل ثلاث من جواريه كن قد انصبن عليه حتى طعن، وسقط على الأرض، فتصايح الفرسان والعبيد والأجناد والموحدون وقواد الأندلس، واجتمع المسلمون فقاتلوا النصارى قتالا عنيفاً حتى ردوهم عن الخباء، ثم تابعوا قتالهم بشدة حتى هزموهم وردوهم إلى أبواب المدينة، وقتلوا منهم جموعاً غفيرة تقدر بما يزيد على عشرة آلاف، واستشهد من المسلمين جماعة. ثم ركب أمير المؤمنين، وقد أشرف على الموت، وارتحل الناس، ومات الخليفة خلال الطريق، وكانت وفاته في يوم السبت الثاني من ربيع الآخر سنة 580 هـ (13 يوليه سنة 1184 م) وذلك على مقربة من الجزيرة الخضراء في طريق جوازه إلى العدوة (3).
ويؤيد هذه الرواية عن مصرع الخليفة أبي يعقوب متأثراً بجراحه، من المؤرخين المتأخرين، الوزير ابن الخطيب، حيث يقول لنا إن الخليفة توفي بظاهر شنترين من سهم أصابه في خبائه وهو محاصر لها، قضى عليه، وكتم موته.
بيد أنه يضع تاريخ مصرعه في الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة 580 هـ
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 145 و 146، ونقل ابن خلكان هذه الرواية في وفيات الأعيان ج 2 ص 494.
(2) " El Rey El Rey ".
(3) روض القرطاس ص 140، 141.(4/128)
وهو يوافق الثامن من أغسطس سنة 1184 م (1).
ويوجد أخيراً رواية مفادها أن الخليفة أبا يعقوب لم يمت متأثراً بجراحه، ولكنه توفي من مرض لم تذكر لنا الرواية كنهه، وهذه هي رواية ابن الأثير، حيث يقول إن الخليفة حاصر شنترين شهراً، فأصابه مرض مات منه في ربيع الأول (580 هـ) وحمل تابوته إلى مدينة إشبيلية (2)، ويأخذ صاحب الروض المعطار بهذه الرواية فيقول لنا إن الخليفة، وهو مقيم على شنترين عرض له المرض الذي توفي منه، وأقام الرحل به مضطجعاً على فراشه، وضعفه يتزايد، إلى أن تُفقد في بعض أميال فوجد ميتاً وذلك في سنة 580 هـ (3).
ويتردد ابن خلدون بين الروايتين، فيقول لنا إن الخليفة توفي من سهم أصابه في حومة القتال عندما اقتحم النصارى محلته أو أنه توفي من مرض أصابه (4).
وكان الخليفة أبو يعقوب عند وفاته في السابعة والأربعين من عمره، إذ كان مولده، حسبما تقدم في سنة 533 هـ بتينملّل.
وإنه ليبدو لنا إزاء اتفاق الروايات الموحدية المعاصرة، ومعها صاحب روض القرطاس وابن الخطيب، أن القول الراجح هو أن الخليفة أبا يعقوب قد أصيب في الموقعة التي نشبت بين النصارى وبين محلته، وأنه توفي متأثراً بجراحه. ومن الواضح أن وقوع مثل هذا الحادث ممكن ومعقول في مثل الظروف التي أحاطت بالجيش المنسحب، وفي غمرة الخلل الذي أصابه، والفوضى التي سادته. ولقد كان انسحاب الجيش الموحدي من أمام أسوار شنترين نكبة مؤلمة، تفوق في نتائجها الخطيرة المروعة، نكبة انسحابه من وبذة قبل ذلك باثنى عشر عاماً. ونستطيع هنا أن نستشف نفس الأسباب، ونفس وجوه الضعف التي انتابت الجيش الموحدي، وعصفت بتماسكه ونظامه، وجعلته بالرغم من ضخامته، ووفرة استعداده وعدته، أشبه بكتلة بشرية مفككة، لا تجمعها أية قيادة حازمة، ولا هدف مشترك، وفتت في قواه المعنوية، فانهارت لديه فكرة الجهاد التي حشد من أجلها، وأضحت كل طائفة من طوائفه تبحث فقط عن سلامتها،
_______
(1) ابن الخطيب في الإحاطة في مخطوط الإسكوريال الذي سبقت الإشارة إليه لوحة 395
(2) ابن الأثير ج 11 ص 190.
(3) الروض المعطار " صفة جزيرة الأندلس " ص 114.
(4) ابن خلدون ج 6 ص 241، وكذلك نفح الطيب ج 2 ص 546.(4/129)
وترقب أول فرصة للانسحاب. ومن الواضح أيضاً أن استئثار الخليفة بتوجيه حركات جيشه دون الاعتماد على رأي قواده، كان له أكبر الأثر فيما حدث من سوء فهم للأوامر الصادرة، بل ربما نستطيع أن نستشف من ذلك أثر الانشقاق وعصيان الأوامر الصادرة من الخليفة دون دراسة ودون تدبر، وقد كان منها الأمر بنقل مواقع الجيش الموحدي من شرقي وجنوب شنترين إلى الشمال والغرب، وهو أمر عارضه القواد الموحدون، لأنه يضع الجيش الموحدي في مواقع تعرضه لخطر التطويق، ثم أمر الانسحاب المفاجىء الذي استأثر الخليفة بإصداره، فكان نذيراً بكارثة الانسحاب المروع، وما اقترن به من شنيع الاضطراب والفوضى، وما انتهى الأمر إليه من فقد الاتصال بين الفرق المنسحبة، وبين حرس الخليفة وخاصته، وكانت النكبة المروعة، باقتحام محلة الخليفة وإصابته القاضية، أضف إلى ذلك كله ما كان يعانيه الجيش الموحدي من نقص في تمويناته، حتى اضطر حين الانسحاب أن يبحث عن أقواته بشن الغارات على الأراضي التي يخترقها خلال مسيره. وقد أثبت الخليفة أبو يعقوب وقواده بذلك كله، أنهم لم يتعلموا شيئاً من دروس حملة وبذة، ولم يحاولوا إصلاح جيوشهم، على ضوء ما تبين من وجوه النقص فيها، واستمر اعتمادهم في حشدها على التفوق العددي دون سواه.
- 2 -
لما توفي الخليفة أبو يعقوب متأثراً بجراحه بعد عبوره نهر التاجُه بقليل، محمولا على محفته حسبما تقدم، كتمت وفاته، وحمل كالعادة مسجياً في محفته، حتى نزل الركب خلال الطريق إلى إشبيلية، بعد موضع يسميه صاحب البيان المغرب " بحصن طرش " وهنالك ضربت أخبية الخليفة كالعادة، وأحدق الفتيان والخدمة بالقبة الخليفية وفقاً للرسوم المعتادة، وكان السيد يعقوب أبو يوسف ولد الخليفة هو الذي يدخل على أبيه منذ إصابته، ويخرج من لدنه، ويتصرف في الأمور باسمه (1)، فلما نزل الركب بالموضع المذكور، وتكامل وصول الناس، بعث السيد أبو زيد ابن الخليفة إلى إخوته الأكابر الموجودين مع الجيش، وإلى أكابر الموحدين، وأطلعهم على وفاة الخليفة، وكشف لهم عن جثمانه وهو مسجى في فراشه، وطلب إليهم مبايعة الأمير يعقوب أبي يوسف، فاستجابوا إليه، وتمت البيعة في مساء نفس اليوم. وفي اليوم التالي استؤنف السير، وكل شىء على
_______
(1) روض القرطاس ص 141.(4/130)
حاله، واستمر كتمان وفاة الخليفة الراحل، بيد أنه كفن وأدرج في تابوت، حتى وصل الركب إلى إشبيلية، وذلك بعد نحو شهر من بداية انسحاب الجيش وعبوره لنهر التاجُه.
واستراح أبو يوسف يعقوب بإشبيلية ثلاثة أيام، تلاحقت خلالها الحشود، ووصلت جموع العرب والموحدين وسائر الطوائف الأخرى، ونزلت في أكناف إشبيلية، ودعى الناس خاصتهم وعامتهم، لتقديم البيعة، وأعلنت وفاة الخليفة الراحل، وغصت القصبة بوجوه القوم من موحدين وغيرهم، وأخذت البيعة للخليفة الجديد مدى يومين هما وفقاً لقول صاحب البيان غرة وثاني جمادى الأولى (1) وأغدق الخليفة بهذه المناسبة صلاته على قرابته وأهل بيته، وخص أخاه السيد أبا زيد بهبة جليلة قدرها عشرة آلاف لما بذل في خدمته، وتنظيم بيعته.
وقد تمت بيعة الخليفة أبي يوسف في هدوء وسلام، ودون أية معارضة، أولاً لأن أباه الخليفة الراحل أبا يعقوب كان قد خصه بولاية عهده أثناء حياته، وإن لم تقدم لنا الرواية تاريخ هذا التعيين (2)، وثانياً لأنه كان أكبر أولاده (3)، فكان هذا الاعتبار في ذاته مبرراً لتقديمه، وذلك خلافاً لما كان عليه أبوه الخليفة أبو يعقوب بن عبد المؤمن حيث قدم للخلافة مع وجود شقيقه الأكبر السيد أبي حفص، وذلك تتفيذاً لوصية أبيه.
ولما كمل أمر البيعة، وشملت سائر أنحاء الأندلس، وسائر الطبقات، وتم تنظيم شئون الأندلس، دعا الخليفة في اليوم الرابع والعشرين من جمادى الأولى (2 سبتمبر سنة 1184 م) أشياخ الموحدين والعرب، وشيوخ الوفود من سائر القواعد، وأذن بالحركة وانقضاء الغزو، والتأهب للرحيل، وكتب بذلك لسائر البلاد والقبائل من المجاهدين والمسافرين، وقدم القائد أبو العباس الصقلي إلى ثغر طريف، في ثلاث عشرة سفينة لنقل الخليفة وخاصته وجيشه، وتقدمت سفينتان
_______
(1) وهذا التاريخ لا يتفق مع سير الأحداث والتواريخ السابقة. فقد كانت وفاة الخليفة وفقاً لنفس المؤرخ في 18 ربيع الثاني سنة 580 هـ، وقد استغرق وصول الجيش المنسحب مدى شهر.
وإذاً فقد كان من المنطق أن تكون البيعة في نحو منتصف شهر جمادى الأولى لا في غرته (البيان المغرب القسم الثالث ص 138 و 142).
(2) المعجب للمراكشي ص 147.
(3) الحلل الموشية ص 120.(4/131)
بالانتقال إلى رباط الفتح بمياه سلا. وفي فجر اليوم التالي، خرج أهل الأندلس إلى بحيرة الوادي في جموع حاشدة، وضربت قبة الخليفة على شاطىء النهر (الوادي الكبير)، ونظم الموكب الخليفي، يتقدمه المصحف الكريم، وسار الخليفة في ضحى اليوم، فنزل بقرية طريانة قبالة إشبيلية، ثم غادرها إلى شريش، تتبعه الجيوش، ثم إلى مدينة شذونة، أو مدينة ابن السليم (1)، حيث التقى بالسيد أبي زكريا ابن أخيه السيد أبي حفص قادماً من تلمسان مع أعيان عرب زغبة، ومعه سبعمائة جواد معونة لأهل الأندلس. وسار الخليفة بعد ذلك جنوباً صوب الشاطىء حتى وصل إلى الموضع المسمى بحجر الإيل (2)، وهي ربوة تقع على مقربة من طريف، وقد اجتمع الأسطول على طول الشاطىء، على قدم الأهبة لنقل الخليفة وجيشه، وفي اليوم السابع من جمادى الآخرة سنة 580 هـ (12 سبتمبر) ضربت قبة الخليفة، وقام أهل الأندلس بتحية الوداع، وكذلك ودع الخليفة إخوته الذين قدّمهم للولاية بالأندلس، وهم أبو إسحاق وأبو زيد وأبو يحيى.
وفي ضحى نفس اليوم ركب الخليفة البحر، وأمام سفينته مصحف عثمان، ونزل بقصر مصمودة، أو القصر الصغير، قبالة ثغر طريف من البوغاز، واستراح هنالك ريثما تم جواز سائر الجيش. ثم غادر القصر إلى رباط الفتح، وهنالك تسمى لأول مرة بأمير المؤمنين، وكان منذ بيعته يكتفي بلقب " الأمير يعقوب "، وكتب في الحال بذلك إلى بلاد الأندلس. وتلقاه في الرباط، أبو عبد الله بن واجاج في وفود العرب وأهل فاس ومكناسة وعمالهم، وأقال إبراهيم بن إسماعيل من عمل فاس، وأمر سائر العمال بالمثول إلى الحضرة، وقام بدفن أبيه أمير المؤمنين أبي يعقوب مؤقتاً بدار الخليفة بالرباط، ثم نقل منها بعد ذلك ودفن بتينملل إلى جانب أبيه عبد المؤمن والمهدي ابن تومرت (3). وغادر الخليفة بعد ذلك رباط الفتح إلى حضرته مراكش (4).
- 3 -
كان الخليفة أبو يعقوب يوسف من أعظم خلفاء الدولة الموحدية، وبالرغم
_______
(1) وهي بالإسبانية Medina Sidonia
(2) وهي بالإسبانية La Pena del Cierro
(3) روض القرطاس ص 141، والحلل الموشية ص 143.
(4) البيان المغرب القسم الثالث ص 143.(4/132)
من أنه لم يحقق في ميادين الحرب والسياسة نتائج عظيمة كالتي حققها أبوه الخليفة عبد المؤمن، وولده الخليفة يعقوب المنصور، فإنه يعتبر مع ذلك، ولاسيما من النواحي الإدارية والعمرانية، ثالث هؤلاء الخلفاء الثلاثة، الذين بلغت الدولة الموحدية في ظلهم أوج قوتها وعظمتها.
وقد امتاز حكم الخليفة أبي يعقوب بالحزم، وتحري الحق والعدالة ومطاردة الظلم والبغي (1)، وترجع هذه النزعة إلى ما كان يتسم به هذا الخليفة من التقى والورع، ومن العلم والتبحر في العلوم الشرعية. وقد ظهرت هذه النزعة بصورة عملية، في غير مناسبة من أوامره وتصرفاته. وربما كانت رسالته التي وجهها إلى أخيه السيد أبي سعيد والي قرطبة، وإلى سائر الطلبة الموحدين بالأندلس في سنة 561 هـ، بشأن وجوب تحري الدقة في تنفيذ الأحكام وتوقيع العقوبات، أبرز محاولة بذلها في هذا الشأن. وقد رأينا كيف عنى الخليفة في هذه الرسالة التي لخصنا محتوياتها فيما تقدم، بإصدار أمره إلى الموحدين بألاّ يُقضى بحكم الإعدام إلا بعد أن ترفع النازلة إلى الخليفة مشفوعة بالشرح وأقوال الشهود والعدول، وأن تكتب أقوال المظلومين وحججهم، وإقرارهم واعترافهم، وأن يدقق في الجرائم التي دون القتل، وكذا في سائر المعاملات والأموال، واستحقاقها، وفي الرقاب وعتقها وغير ذلك. وكان الخليفة إلى جانب هذه المحاولات الشرعية، يقوم بمطاردة الظلم والعمال الظلمة، فإذا وقف على ما يرتكبه بعضهم من ظلم أو عسف أو اغتيال أموال الناس بالباطل، عزله ونكبه. وكان من أبرز ما فعله في ذلك بطشه بعمال مدينة فاس وملحقاتها، والتنكيل بهم، ومصادرة دورهم وأموالهم (2)، وما قام به في جوازه الأول إلى الأندلس من نكبة بعض عمال إشبيلية والمخزن من المختلسين وغيرهم، وما قام به بعد ذلك من نكبة عماله ووزرائه بني جامع الذين استأثروا بالوزارة دهراً، وغير ذلك مما أشرنا إليه.
وإلى جانب هذه النزعة إلى تحقيق العدالة، كان حكم أبي يعقوب متسماً بالمقدرة والحزم، فقد كان خبيراً بشئون مملكته، عارفاً بسياسة رعيته، دؤوباً
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 46 ب.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 131.(4/133)
على النظر في الأمور، وكان عارفاً بالشئون المالية، ضابطاً لخراج مملكته (1)، وربما كانت هذه المقدرة في فهم الشئون وتدبيرها راجعة بالأخص إلى ممارسته إياها ردحاً من الزمن قبل توليه الخلافة أيام أن كان والياً لإشبيلية، وقائماً بشئون الأندلس.
وقد تجلى هذا الحزم في حكم أبي يعقوب في شدة عنايته بقمع أية نزعة إلى الخروج والعصيان، والسير بنفسه إلى مقاتلة الخوارج، وذلك كما حدث عند فتنة غمارة، ثم فتنة صنهاجة، وحين ثورة قفصة، وغيرها مما سبق أن فصلناه في مواضعه.
والخلة الثانية التي امتاز بها الخليفة أبو يعقوب يوسف، هي شغفه بالجهاد في سبيل الله، وقد ظهر أثر هذا الشغف بالجهاد من الناحية النظرية فيما ألفه أبو يعقوب في فضل الجهاد، مما نذكره بعد؛ وظهر من الناحية العملية في عنايته بحشد الجيوش العظيمة وتمويلها، ثم قيادتها في حملتيه العظيمتين إلى شبه الجزيرة الأندلسية. وبالرغم من أن الخليفة أبا يعقوب لم يكن موفقاً في حملتيه المذكورتين، وقد سجل فشله الأول تحت أسوار وبذة، ثم سجل فشله الثاني أمام أسوار شنترين، وبالرغم من أن الحملتين لم تكونا بعيدتين عن تحقيق الأغراض العسكرية والإقليمية، فإن مقصد الجهاد كان هو النزعة المسيرة لهما، وقد ذهب الخليفة ضحية هذه النزعة واستشهد في ميدان الجهاد.
وكان أبو يعقوب إلى جانب ذلك ملكاً عظيماً " شديد الملوكية " على حد قول المؤرخ، بعيد الهمة، وافر البذل والجود، عمت صلاته وأعطيته سائر الطوائف. ويصفه ابن الخطيب بأنه كان " آية الموحدين في الإعطاء والمواساة، وفي أيامه ساد الرخاء واستغنى الناس، وكثرت في أيديهم الأموال " (2).
على أن ألمع وأعظم خلة كان يتسم بها أبو يعقوب، هو علمه وأدبه، وقد أفاضت الروايات المعاصرة واللاحقة في التنويه بمواهبه العلمية والأدبية، ويجمل ابن صاحب الصلاة وهو المؤرخ المعاصر، العارف بشخص أبي يعقوب وخلاله، مواهبه العلمية، في تلك الفقرة: " كان الأمير أبو يعقوب يوسف رضي الله عنه كاملا فاضلا عدلا ورعاً جَزْلا مستظهراً للقرآن، حافظاً له، عالماً بالحديث،
_______
(1) ابن خلكان ج 2 ص 490.
(2) المعجب ص 133، وابن الخطيب في الإحاطة مخطوط الإسكوريال لوحة 395.(4/134)
متقناً للعلوم الشرعية والأصولية، متقدماً في علم الإمام المهدي رضي الله عنه " (1). على أن ما يجمله ابن صاحب الصلاة في تلك الكلمات القليلة، يفصله لنا المراكشي بإفاضة في حديثه عن أبي يعقوب. وقد عاش المراكشي قريباً من عصر أبي يعقوب، وكانت تربطه بعدة من أبنائه مثل أبي زكريا يحيى، وأبي عبد الله محمد، وأبي إبراهيم إسحق، روابط وثيقة.
يقول المراكشي إن أبا يعقوب كان " أعرف الناس كيف تكلمت العرب، وأحفظهم بأيامها ومآثرها وجميع أخبارها، في الجاهلية والإسلام ". ثم يقول: " إنه كان أحسن الناس ألفاظاً بالقرآن، وأسرعهم نفوذ خاطر في غامض مسائل النحو، وأحفظهم للغة العربية " (2).
ويجب لكي نقدر روعة هذه الصفات في أبي يعقوب، أن نذكر أولا أنه كان بأرومته من صميم أصول البربر، وذلك سواء من ناحية أبيه أو ناحية أمه، وقد ولد ونشأ بتينملل عاصمة المهدي، في بيئة بربرية محضة، ولكن يجب أن نذكر إلى جانب ذلك أن أبا يعقوب كانت تحمله نفس الروح العلمية التي امتاز بها أبوه الخليفة العالم عبد المؤمن بن علي، ثم يجب أن نذكر أيضاً أن أبا يعقوب قضى زهرة فتوته في إشبيلية مذ عينه أبوه والياً لها في سنة 551 هـ، وهو في نحو الثامنة عشرة من عمره، حتى وفاة أبيه في سنة 558 هـ، حينما استدعى لتولي الخلافة من بعده. ففي هذه الأعوام الثمانية التي قضاها أبو يعقوب في المدينة الأندلسية العظيمة، التي كانت قد غدت منذ اضمحلال قرطبة عاصمة الأندلس الفكرية، تفتحت مواهب أبي يعقوب العلمية والأدبية، وقد كانت إشبيلية يومئذ مجمع أقطاب اللغة والعلوم الدينية، وكان أبو يعقوب منذ حداثته حافظاً للقرآن متمكناً من الحديث، حتى قيل إنه كان يحفظ صحيح البخاري. وكان في نفس الوقت بارعاً في الفقه، وفي إشبيلية تلقى علوم اللغة عن بعض أقطابها، وفي مقدمتهم العلامة اللغوى أبو إسحق إبراهيم بن عبد الملك المعروف بابن ملكون، وبرع في النحو والأدب. ولما ولي الخلافة، وعاد إلى إشبيلية في جوازه الأول إلى الأندلس، واستطالت إقامته بها زهاء خمسة أعوام أخرى، تجلت في هذه الفترة روعة مواهبه العلمية، وجنح إلى دراسة الفلسفة والطب، واجتمع حوله يومئذ ثلاثة من أعظم
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 46 ب.
(2) راجع المعجب ص 132 و 133.(4/135)
أئمة التفكير الإسلامي، هم طبيبه الخاص، الفيلسوف العلامة أبو بكر بن طفيل الوادي آشي، وتلميذه القاضي الفيلسوف أبو الوليد بن رشد (1)، والطبيب العبقري أبو بكر بن عبد الملك بن زهر. وكان الخليفة يشغف بالأخص بملازمة صديقه وطبيبه ابن طفيل، ولا يصبر على فراقه. وهكذا أتيح لأبي يعقوب أن يطلق العنان لشغفه بالدراسات الفلسفية في ظل هذا الأفق العلمي الباهر، ويبدو مما يذكره لنا المراكشي، عن بعض مجالس الخليفة الفلسفية نقلا عما رواه له أبو بكر ابن يحيى القرطبي عن أستاذه ابن رشد، أن الخليفة كان يأخذ من الفلسفة بقسط ملحوظ، ويبدي في شرح مسائلها " غزارة حفظ " تدعو إلى الإعجاب. ويضيف القرطبي إلى ذلك رواية أخرى مفادها أن أبا يعقوب هو الذي أوعز إلى ابن طفيل بوجوب عمل تلخيص جديد لشروح أرسطو وتقريب أغراضها وتحرير تراجمها مما يشوبها من الغموض، وأن ابن طفيل هو الذي اختار تلميذه ابن رشد للقيام بهذه المهمة لما يعلمه من مقدرته وقوة نزوعه وصفاء قريحته، وأن هذا هو الذي حمل ابن رشد حسبما يقول لنا، على القيام بتلخيص شروح أرسطو، وهي الشروح التي اشتهر بها ابن رشد، وترجمت فيما بعد إلى اللاتينية، وأذاعت شهرة الفيلسوف المسلم في دوائر التفكير الغربي. وكان ابن طفيل يقوم بمهمة السفارة بين الخليفة وبين العلماء، ويدعوهم إليه من مختلف القواعد والأقطار، وينبه على أقدارهم لديه، ويحضه على إكرامهم والتنويه بهم، وهو الذي نوه بفضل ابن رشد وبراعته (2).
وحمل الخليفة أبو يعقوب شغفه بالدراسات الفلسفية على الاهتمام بجميع كتبها، والتنقيب عنها، وعن غيرها من الكتب الجليلة، في سائر أنحاء المغرب والأندلس، وبذل في ذلك جهوداً وأموالا جمة، واجتمع له منها مقادير ضخمة قيل إنها بلغت قرب ما كانت تبلغه المكتبة الأموية العظيمة أيام الحكم المستنصر. ويروي لنا المراكشي طرفاً من هذه الجهود، وكيف وقع عمال الخليفة على مجموعات عظيمة من كتب الطب والفلك كانت لدى رجل بإشبيلية يعرف بأبي الحجاج المراني، وأن هذه الكتب كانت قد وقعت إلى أبيه أيام الفتنة بالأندلس (3).
_______
(1) كان ابن رشد قاضياً لإشبيلية منذ سنة 565 هـ.
(2) راجع المراكشي في المعجب ص 136.
(3) المعجب ص 133 و 134.(4/136)
وقد انتهى إلينا من آثار الخليفة أبي يعقوب العلمية، بحث ديني يكشف لنا عن براعته في علم الحديث والعلوم الشرعية، وهو كتاب " الجهاد " الذي ألحق بكتاب المهدي ابن تومرت أو كتاب " أعز ما يطلب " وفيه يورد مؤلفه طائفة كبيرة من الأحاديث التي وردت في فضل الجهاد في سبيل الله، والحث عليه، وتبيان محاسنه. ويلحق بذلك الكلام عن الجهاد ببذل المال وما ورد فيه أيضاً من الأحاديث وما يتسم به من الفضائل. ويحمل هذا الكتاب في خاتمته اسم مؤلفه، وهو الخليفة أمير المؤمنين، وتاريخ الانتهاء من وضعه، وهو العشر الأواخر من شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة أعني قبيل وفاة واضعه بنحو تسعة أشهر (1).
وكان الخليفة أبو يعقوب كلفاً بالمشاريع الإنشائية العظيمة، وقد قام بإنشاء طائفة من المنشآت العمرانية الهامة، والصروح الجليلة، التي خلدت اسمه، وجعلته في مقدمة خلفاء الموحدين، بل وفي مقدمة ملوك المغرب قاطبة في هذا الميدان. ويكفى أن نذكر هنا ما قام به في إشبيلية حاضرة الأندلس، من المشاريع والمنشآت العظيمة مثل قنطرة طريانة، ومسجد إشبيلية الجامع، وصومعته العظيمة التي أتمها ولده يعقوب المنصور، ومشروع إمداد إشبيلية بالماء، وتجديد أسوارها التي خربها السيل، وإنشاء القصور والبساتين الموحدية العظيمة خارج إشبيلية، وإنشاء قصبة بطليوس العظيمة وإمدادها بالماء، وهي التي ما زالت أطلالها القائمة تنبىء عما كانت عليه من الضخامة والمنعة. وما قام به أخيراً من توسيع حضرة مراكش وتجميلها، وذلك كله حسبما سبق أن فصلناه في مواضعه.
...
وتولى الحجابة لأبي يعقوب أول ولايته، شقيقه وكبيره السيد أبو حفص، ولما تنحى عنها وزر له أبو العلاء إدريس بن إبراهيم بن جامع، واستمر في منصبه نحو خمسة عشر عاماً. ولما اشتد طغيانه، وبدت مثالبه، نكبه أبو يعقوب واستصفى أمواله، ونفاه مع ولده إلى الأندلس سنة 573 هـ. فخلفه في الوزارة أبو بكر ابن يوسف الكومي، ليعمل تحت رياسة ولده وولى عهده أبي يوسف يعقوب، واستمر الأمر كذلك حتى وفاة أبي يعقوب وقيام ولده يعقوب بالأمر من بعده (2).
_______
(1) راجع فصل الجهاد في كتاب المهدي ابن تومرت ص 377 - 400.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 140، وابن الخطيب في الإحاطة في ترجمة الخليفة أبي يعقوب، مخطوط الإسكوريال لوحة 395.(4/137)
وتولى القضاء في عهده أبو محمد المالقي، ثم عزل وولى بعده عيسى بن عمران التازي التسولي، وكان عالماً متمكناً، وأديباً نابهاً، وشاعراً مجيداً، وخطيباً بليغاً، وكان يخطب عن الوفود وفي المناسبات الهامة، وكانت له مكانة رفيعة في البلاط الموحدي. ثم ولى القضاء من بعده حجاج بن يوسف. ثم أبو جعفر أحمد بن مضاء من أهل قرطبة. واستمر في منصبه حتى وفاة أبي يعقوب، ومن بعده فترة أخرى في أوائل عهد ولده يعقوب المنصور.
وتولى الكتابة لأبي يعقوب أبو الحسن بن عياش القرطبي كاتب أبيه من قبل.
وكان هذا الكاتب الأندلسي، قد فر من بلده قرطبة عند قيام الثورة بها في أواخر العهد المرابطي، ولجأ إلى إشبيلية، واتصل بالسيد أبي حفص بن عبد المؤمن فاختاره لكتابته، ثم صحبه معه إلى تلمسان، ولم يزل متولياً كتابته حتى نكبة الخليفة عبد المؤمن لوزيره ابن عطية، فاستدعاه الخليفة وعينه لكتابته.
ولبث ابن عياش كاتباً للخليفة أبي يعقوب حتى توفي في سنة 568 هـ، وكتب لأبي يعقوب أيضاً أبو القاسم القالمي، وتلميذه أبو الفضل طاهر بن محشرة وهو من أهل بجاية، وأبو الحسين الهوزني الإشبيلي، وأبو عبد الرحمن الطوسي.
وفي مجموعة الرسائل الموحدية، رسائل عديدة بقلم ابن عياش وزميله ابن محشرة
تدلى بما كان لهذين الكاتبين من مقدرة راسخة في أساليب البيان (1).
وترك أبو يعقوب من البنين ثمانية عشر، وهم ولي عهده يعقوب المنصور وشقيقه إسحق، ويحيى، وإبراهيم، وعبد العزيز، وإدريس، وأبو بكر، وعبد الله، وأحمد، ويحيى الصغير، ومحمد، وعمر، وعبد الواحد، وعبد الحق، وطلحة وعبد الرحمن، وموسى، وعثمان. كما ترك عدة من البنات.
وأما عن شخصه، فقد كان أبو يعقوب أبيض اللون مشرباً بالحمرة، فاحم الشعر، مستدير الوجه، أعين، إلى الطول أقرب، وكان جهير الصوت، طيب المجالسة، فصيح العبارة، حلو الألفاظ، رقيق الخلال (2).
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 140، والمراكشي في المعجب ص 137، وابن الخطيب في الإحاطة مخطوط الإسكوريال السابق ذكره لوحة 395.
(2) المراكشي في المعجب ص 132. وقد عاش المراكشي قريباً من عصر الخليفة أبي يعقوب وكانت له صلة وثيقة ببعض أبنائه.(4/138)
الكِتابُ السابع عصْر الخليفة يعقوبْ المنصُور حَتى مَوقعَة العِقابْ(4/139)
الفصل الأوّل عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بني غانية
الخليفة أبو يوسف يعقوب. رواية في معارضة بيعته. اهتمامه بمطاردة الفساد والمنكر. حظره لبس الثياب الحريرية. عنايته بتحقيق العدل وقمع الظلم. جلوسه للنظر في المظالم. إنشاؤه لضاحية الصالحة الملوكية. مضاعفته لوزن الدينار. بداية عدوان بني غانية بإفريقية، فتح المرابطين للجزائر الشرقية. ولاية وانور اللمتوني عليها. ولاية محمد بن غانية. استقلاله بعد سقوط المرابطين بحكم الجزائر. وفاته وولاية ولده إسحاق. الجزائر تغدو مثوى لبقايا المرابطين. تقدم الجزائر ونمو قوتها. غزوات سفنها لشواطىء الدول النصرانية. عقد التهادن بينها وبين بيزة وجنوة والبندقية. اطمئنانها أيام حكم ابن مردنيش. تحولها إلى مصانعة الموحدين بعد وفاته. اهتمام الموحدين بأمر الجزائر. مطالبتهم لإسحاق الاعتراف بالطاعة. وفاة إسحاق وولاية ولده محمد. مقدم على الربرتير سفير الخليفة إلى الجزائر. اعتراف محمد بطاعة الخليفة. خروج إخوته عليه واعتقالهم إياه. حجزهم لسفير الخليفة ورفضهم لطاعة الموحدين. خطتهم لمحاربة الموحدين في إفريقية. تدبيرهم لغزو بجاية. مسير على بن إسحاق إليها في حملة بحرية. اقتحامه إياها بمواطأة بعض أهلها. نزوله بها ودعوته لبني العباس. تعيينه لأخيه يحيى والياً لها. مطاردته لواليها الموحدي السيد أبي الربيع. هزيمة السيد وفراره. استيلاء على على الجزائر ومليانة وأشير والقلعة. وصف لمدينة مليانة. عوده إلى بجاية وانتهابه ما فيها. مسيره إلى قسنطينة ورده عنها. اهتمام الخليفة المنصور بتلك الحوادث. إرساله جيشاً إلى إفريقية بقيادة السيد أبي زيد. تسييره للأسطول في نفس الوقت. ثورة المدن المحتلة ضد الغزاة. استيلاء الأسطول الموحدي على مدينة الجزائر. القبض على يحيى بن غانية وعلى حاكم مليانة المرابطي. الثورة داخل بجاية. دخول الموحدين إياها. فرار يحيى بن غانية وإخوته. أسر رشيد قائد سفن الميارقة والاستيلاء عليها. فشل علي بن إسحاق في اقتحام قسنطينة. فراره وإخوته وفلوله إلى الصحراء. مطاردته وعجز الموحدين عن إدراكه. فراره إلى بلاد الجريد ونهبه لمحلاتها. استمالته لطوائف العرب. اقتحامه لمدينة توزر ونهبها. الفوضى في بجاية. اقتحام غزى الصنهاجي قائد ابن غانية لأشير. قدوم الموحدين لإنجادها ونجاحهم في استردادها. مصرع غزى وأخيه. مقتل رشيد الرومي. مقتل وتشريد أنصار بني غانية في بجاية. زحف على بن غانية على قفصة واستيلاؤه عليها. دعوته للخليفة العباسي. استمالته لطوائف العرب. تحالفه مع قراقوش الأرمني. كيف نزح قراقوش وصحبه الترك إلى المغرب. افتتاحه لفزان وطرابلس. التفاف العرب حوله. تطور الحوادث في الجزائر الشرقية. مؤامرة الربرتير لخلع طلحة بن إسحاق وإعادة أخيه محمد. نجاح المؤامرة. دعوة الربرتير للخليفة الموحدي. مغادرته لميورقة. محاولة الموحدين تملك الجزائر. فشل هذه المحاولة. ثورة أهل ميورقة على محمد. مقدم عبد الله بن غانية. انتزاعه الولاية ونفيه لمحمد. محاولة أخرى للموحدين لافتتاح الجزائر. فشلهم في أخذ ميورقة. تفاقم أمر على بن غانية بإفريقية. تحالفه مع قراقوش وطوائف العرب. انضواؤه تحت لواء الخلافة العباسية. يبسط حكم الإرهاب(4/140)
على إفريقية. اهتمام الخليفة يعقوب بذلك. تجهيزه لجيش موحدي. مسيره في قواته إلى رباط الفتح ثم إلى فاس. عنايته بالشئون خلال مسيره. مسيره إلى قسنطينة ثم إلى تونس. استعداد ابن غانية وحلفائه. الخليفة يرسل حملة لقتاله بقيادة السيد أبي يوسف. اللقاء بين الموحدين والميارقة وحلفائهم قرب قفصة. موقعة عمرة. هزيمة الموحدين ومصرع أكثرهم. الاستيلاء على محلتهم. فرار السيد أبي يوسف وفلوله. اهتمام الخليفة لتلك النكبة. خروجه في قواته من تونس. مسيره صوب القيروان. إنذاره لابن غانية. مسيره إلى الحمة قرب قابس. مقدم ابن غانية وحلفائه. مهاجمة الموحدين للعرب حلفاء ابن غانية. تخاذلهم وتبددهم. مهاجمة الموحدين للميارقة والترك. المعركة الدموية. هزيمة الميارقة. فرار ابن غانية وقراقوش إلى الصحراء. استيلاء المنصور على قابس وبلاد الجريد. محاصرته لقفصة وتسليمها بالأمان. القبض على قادة الغز وإعدامهم. توحيد قراقوش وابن زيان. عودة المنصور إلى تونس. مسيره إلى تلمسان ثم إلى مكناسة. تآمر أخيه الرشيد وعمه سليمان ضده. نكوصهما ومسيرهما لمقابلة الخليفة. القبض عليهما وإعدامهما. دخول الخليفة إلى الحضرة. اهتمامه بشئون الأندلس واستعداده للجهاد.
استعرضنا فيما تقدم مجمل الحوادث التي وقعت عقب نكبة شنترين ومصرع الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وما تم من مراحل بيعة الخليفة أبي يوسف يعقوب ولد الخليفة الراحل، وعبوره من الأندلس إلى العدوة عائداً إلى حضرة مراكش.
وكان الخليفة الجديد في نحو الخامسة والعشرين من عمره، إذ كان مولده بمدينة قصر عبد الكريم أو القصر الكبير أواخر شهر ذي الحجة سنة 554 هـ (يناير سنة 1160) أو في سنة 555 هـ على قول آخر. وأمه أم ولد كان قد أهداها سيدراي بن وزير صاحب شلب لأبيه الخليفة أبي يعقوب (1). لقبه المنصور بفضل الله، أسبغته عليه انتصاراته المتوالية ولاسيما في معركة الأرك العظيمة.
وقد رأينا كيف تمت بيعته الخاصة عقب وفاة أبيه، بمحلة الجيش المنسحب، وهو في طريقه إلى إشبيلية، ثم تأيدت بعد ذلك بيعته العامة بإشبيلية، ولم تلق هذه البيعة يومئذ معارضة من أحد. ولكن صاحب المعجب، يقول لنا إنه كان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلا للإمارة لما كانوا يعرفون من سوء سيرته في صباه، وأنه لقى منهم شدة. بيد أنه لما نزل خلال عودته بسلا، استجاب لبيعته من كان قد تخلف من أعمامه بني عبد المؤمن، بعدما أغدق عليهم الأموال والإقطاعات الواسعة (2).
_______
(1) البيذق في أخبار المهدي ابن تومرت ص 116، والبيان المغرب القسم الثالث ص 14، وروض القرطاس ص 143، وتاريخ الدولتين للزركشي ص 10.
(2) المراكشي في المعجب ص 150.(4/141)
وبدأ الخليفة يعقوب عهده بعمل خير مشكور، فأخرج من بيت المال مائة ألف دينار من الذهب، فرقت في أسر الفقراء والضعفاء في سائر أنحاء المغرب، وأمر بتسريح المسجونين (1). ثم نشط إلى مطاردة مظاهر الفساد التي بدت بالحاضرة الموحدية على أثر عودته، وكان الناس قد انغمسوا، في الدعة، وانهمكوا في ضروب اللهو والملاذ، وراجت سوق الخمور والقيان والغانيات، فأريقت الخمور في كل مكان، ونفذت الأوامر بذلك إلى سائر الجهات، وأنذر المخالفون بعقاب الموت، وطاردت الشرطة كل مستهتر، وألقت القبض على من وجد من المغنين، فتفرقوا في كل مكان، ولاذوا بالنكيرة والاختفاء، واختفى القيان، وزهد الناس في مجالسهن، وبعث الخليفة بهذه المناسبة إلى إشبيلية، حاضرة الأندلس الموحدية، برسالة إلى الطلبة والموحدين والأشياخ مؤرخة في عقب رمضان سنة 580 هـ يأمر فيها بمطاردة شراب الرُّب، وهو مسكر ذائع، وقطعه جملة، ومنع بيعه وإغلاق حوانيته، وإراقة ما يوجد منه، وتوقيع أشد العقاب على من يقتنيه، وبأن تنفذ هذه الرسالة إلى كافة الجهات للعمل بما فيها (2). وأمر الخليفة كذلك بمنع الثياب الحريرية الغالية، والاجتزاء منها بالرمم الرقيق، ومنع النساء من لبس الثياب الحفيلة، والاقتصار على الساذج القليل، وأخرج ما كان في المخازن من ضروب ثياب الحرير والديباج المذهب، فبيعت منه مقادير وفيرة بأثمان باهظة. وهكذا هبت على العاصمة الموحدية ريح من الاقتصار والتواضع والتقشف، واختفى كثير من ضروب الفساد التي كانت ذائعة بها (3).
وعنى الخليفة في نفس الوقت بالعمل على بسط العدل وتأييده ورد المظالم التي وقعت أيام أبيه، ومطاردة الظلم والعمال الظلمة، فنفذت كتبه إلى سائر الولاة والعمال بمراعاة العدل، وتأنيس الرعية، والعمل على إرضائهم في اقتضاء حقوقهم، وكف الظلمة عن إرهاقهم، وإباحة جواز البحر إلى المشتكين والمتظلمين من شبه الجزيرة. فاستبشر الناس بالعهد الجديد وطوالعه، وأملوا تحقيق العدل والخير.
_______
(1) روض القرطاس ص 143.
(2) الرسالة الثامنة والعشرون من الرسائل الموحدية (ص 164 - 167).
(3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 143، و 144، و 145.(4/142)
ورأى الخليفة أن يقرن هذا التوجيه إلى تحقيق العدالة، بأن يجلس للنظر بنفسه في المظالم وإجراء العدل، واتخذ مجلسه لذلك الغرض بالمسجد الجامع المجاور لقصر الحجر القديم، وكان بدأ جلوسه في غرة شهر رجب سنة 580 هـ، وكان يداوم جلوسه منذ الضحى إلى قرب الزوال. ويفد إليه المتظلمون من كل ضرب، فيؤنسهم برفقه ولينه، ويستمع إلى ظلاماتهم، وكثرت دعاوى المدعين من السوقة والتجار، قبل السادة والأشياخ والأكابر، بطلب الحقوق والأموال، وكثر في ذلك الزور والتدليس، فكان يقع الصلح في معظم الأحوال بما يرضي المدعين دفعاً للفضيحة، فلما تمادى هذا الأمر، وكثر وفود السفلة والغوغاء وانكشف أمرهم، وبدا تحاملهم، قطع الخليفة جلوسه للعامة، وأسدل الستار على هذا السيل من الإفك والبهتان (1).
وفي العام التالي، اعتزم الخليفة أن ينشىء ضاحية ملوكية تتفق مع روعة الملك ومقتضياته، وذلك بعد أن ضاق قصر الحجر القديم - قصر على بن يوسف - وملحقاته، عن استيعاب الأغراض الخليفية، ومطالب البلاط والحاشية، فاختطت ضاحية الصالحة، على رقعة مستطيلة تمتد في جنوبي مراكش، ما بين باب أغمات شرقاً وباب الشريعة غرباً. وكان البدء في إنشائها في مستهل شهر رجب سنة 581 هـ (28 سبتمبر سنة 1185 م) وحشد لبنائها رهط من المهندسين والعرفاء، وآلاف من العمال والبنائين والفنانين، من المغرب وإفريقية والأندلس، وجمعت لها سائر الآلات اللازمة، ورتب لها الحفاظ والنظار. وأمر الخليفة أن يراعى في إقامتها منتهى الإتقان والمتانة، وأنشئت بها عدة قصور ملوكية، ومسجد جامع، ما زال يقوم بها حتى اليوم، ويحمل اسم منشئه الخليفة يعقوب المنصور، واستمر العمل في بنائها نحو أربعة أعوام، حيث كملت في شهر ربيع الأول سنة 584 هـ (مايو سنة 1188 م)، وبدت في أجمل هيئة، وأضحت عروس الحاضرة المراكشية، بما أسبغ عليها من ضروب التنسيق والإتقان، والفخامة (2).
وفي نفس هذا العام الزاخر بمشاريع الإصلاح والإنشاء أعني سنة 581 هـ (1185 م) اتخذ الخليفة خطوة جديدة لها خطرها، في ميدان الإصلاح المالي، وذلك هو
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 144 و 145.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 145 و 146.(4/143)
إقدامه على مضاعفة وزن الدينار الموحدي. وكان الدينار الموحدي القديم صغير الحجم، صغير الوزن، لا يعدو وزنه القانوني بحسب الوزن الحديث جرامين وخمسة وثلاثون في المائة من الجرام، فأمر المنصور بمضاعفة وزنه، وأخرجت دار السكة الموحدية بمدينة فاس، الدينار الجديد بوزن أربعة جرامات وسبعين في المائة من الجرام، فكان لذلك الإجراء أثر بالغ في بث الطمأنينة المالية، واستقرار التعامل بين الناس (1).
ْبيد أنه حدثت في نفس تلك الفترة التي خيم فيها ظل الأمن والاستبشار على العاصمة الموحدية، والتي عنى فيها الخليفة الجديد، بأعمال الإصلاح والإنشاء - حدثت بإفريقية حوادث في منتهى الخطورة، إذ هاجم بنو غانية أصحاب الجزائر الشرقية، أو أصحاب ميورقة، ثغر بجاية واستولوا عليه، واستولوا على عدة أخرى، من ثغور الشاطىء، وكان ذلك بداية ذلك الصراع المرير الذي نشب في أراضي إفريقية بين الموحدين وبني غانية، واستطال أكثر من نصف قرن، وكان له أبلغ الأثر في انحلال الدولة الموحدية واستغراق جهودها، وتبديد قواها ومواردها. ولابد لنا لكي نفهم طبيعة ذلك الصراع وتطوراته، والبواعث التي أدت إليه، أن نعود فترة طويلة إلى الوراء، نستعرض فيها تاريخ الجزائر الشرقية، مذ أسندت ولايتها إلى بني غانية أيام العهد المرابطي.
- 1 -
ذكرنا فيما تقدم من أخبار الدولة المرابطية أن أمير المسلمين علي بن يوسف، حينما غزا الجنويون والبيزيون وحليفهم أمير برشلونة، الجزائر الشرقية (جزائر البليار) في أواخر سنة 508 هـ (أوائل سنة 1115 م) واستولوا على مدينة ميورقة بعد حصار طويل، بادر بتجهيز أسطول مرابطي ضخم لاسترداد الجزائر، واستردها المرابطون بالفعل في أواخر سنة 509 هـ (1116 م) وعين أمير المسلمين لولايتها وانور بن أبي بكر اللمتوني، فلبث في حكمها زهاء عشرة أعوام، ولكنه أساء السيرة واستبد وبغى، حتى اضطرمت الثورة في الجزائر، وقبض الثوار على وانور، وبعثوا به إلى أمير المسلمين، يشرحون ظلاماتهم، ويلتمسون إليه أن
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 154، وراجع كتاب " الدوحة المشتبكة في ضوابط دار السكة " المنشور بعناية الدكتور حسين مؤنس (معهد الدراسات الإسلامية بمدريد سنة 1960).(4/144)
يعين لهم والياً آخر، فاستجاب أمير المسلمين إلى رغبتهم، وعين والياً جديداً للجزائر، ولم يكن هذا الوالي الجديد، سوى محمد بن غانية المسّوفيى، وهو أخو الأمير القائد أبي زكريا يحيى بن غانية، وكان يتولى النظر على أعمال قرطبة. فقدم إلى الجزائر في سنة 520 هـ (1126 م) وتولى شئونها بحزم وكفاية، وشاء القدر أن تكون ولايته للجزائر، فاتحة عهد جديد في تاريخها، يتصل مدى أمد قصير بتاريخ الدولة المرابطية، ثم يغدو بعد ذلك مستقلا في ظل بني غانية.
وقد سبق لنا التعريف ببني غانية، وتتبع سيرة زعيمهم القائد البطل يحيى ابن غانية، حتى وفاته بغرناطة سنة 543 هـ (1148 م)، خلال غمار الثورة التي اضطرمت بأرجاء الأندلس ضد المرابطين. أما أخوه محمد بن غانية، فقد لبث على ولايته للجزائر، حتى سقطت الدولة المرابطية، ودخل الموحدون مراكش، في شوال سنة 541 هـ (مارس 1147). وكان محمد، مذ رأى انهيار الدولة المرابطية، وقيام أمر الموحدين، يعمل على توطيد سلطانه بالجزائر، والاستقلال بشئونها. ولما قضى الأمر وانتهت الدولة المرابطية، لبث محمد مع ذلك على ولائه لقضية المرابطين ولمتونة، واستمر يدعو في الخطبة لأمير المسلمين وبني العباس، وجعل من ميورقة والجزائر، ملجأ ومثوى للوافدين والفارين من فلول لمتونة والمرابطين، يستقرون بها تحت حمايته ورعايته.
واستطال حكم محمد بن غانية للجزائر زهاء ثلاثين عاماً، وكان يرقب من مقره النائي بالبحر، سير الحوادث، وتقدم أمر الموحدين بشبه الجزيرة. بيد أنه كان يرى في قيام ابن مردنيش ضد الموحدين، وتمكن سلطانه في شرقي الأندلس، عاملا يدعو إلى الطمأنينة. وكان مذ شعر بتوطد أمره، في تلك الجزائر المنعزلة، يعتزم أن يجعل منها ملكاً مؤثلا له ولعقبه. وكان له من الولد أربعة هم عبد الله وإسحق والزبير وطلحة، فاختار لولاية عهده أكبر أولاده عبد الله.
وهنا تختلف الرواية فيقال إن إسحاق حقد على أخيه ودبر مؤامرة قتل فيها أبوه وأخوه. وفي رواية أخرى أن عبد الله خلف أباه في حكم الجزائر حينما توفي سنة 550 هـ (1155 م)، وأن أخاه إسحاق خلفه في الحكم بعد وفاته (1).
وعلى أي حال فقد تولى إسحاق بن محمد بن غانية حكم الجزائر الشرقية،
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 190، والمعجب للمراكشي ص 152، وراجع أيضاً:
A. Bel: Les Benou Ghania (Paris 1903) p. 19.(4/145)
وضبطها بحزم وقوة. واستمر على سياسة أبيه من جعلها ملجأ للوافدين من فلول
لمتونة، ورمزاً لثورة المرابطين الأخيرة ضد الموحدين. وكان أولئك المرابطون ْالوافدون على الجزائر يمدونها بعونهم، وروح البغض المتأصلة فيهم ضد الموحدين، بقوى ذات شأن. وفي عهد إسحاق نمت موارد الجزائر وقوتها نمواً كبيراً، وأضحت أساطيلها القوية عاملا يحسب حسابه في ميزان القوي البحرية في هذا الجانب من البحر المتوسط. ويبدو من خطاب أرسله الفارس برنجير دي ترّاجونا، وهو من أشراف برشلونة، وكان قد لجأ إلى ميورقة، فراراً من اضطهاد أميره، إلى ألفونسو الثاني ملك أراجون في سنة 1171 (567 هـ) ما كانت عليه ميورقة الإسلامية في ذلك العهد من القوة والازدهار ووفرة الموارد. وكانت حملات إسحاق البحرية تتردد بالغزو بانتظام لشواطىء الممالك النصرانية القريبة، وتثخن فيها، وتحرز مقادير عظيمة من الغنائم والسبي، ويقول لنا المراكشي إنه كان يغزو هذه الشواطىء في العام مرتين (1). وفي الروايات النصرانية، أن مسلمي ميورقة في عهد إسحاق غزوا ثغر طولون في جنوبي فرنسا، واستولوا عليه في سنة 1178 م (574 هـ) وأسروا الفيكونت هوجو جودفريد صاحب مرسيليا، وعدة آخرين من أكابر النصارى، وكان من أثر اشتداد قوة ميورقة البحرية، وتوالي غزواتها لشواطىء الدول النصرانية القريبة، أن سعت جمهوريات جنوة وبيزة والبندقية إلى عقد المهادنة والصلح مع إسحاق، فعقدت بين الفريقين في سنة 1177 م (573 هـ) معاهدة صلح وصداقة تعهد فيها كل منهما ألا يحدث أضراراً للآخر في البر ولا في البحر، واستمرت هذه المعاهدة سارية حتى توفي إسحاق في أوائل سنة 579 هـ (1183 م) (2).
ونحن نعرف أن ثورة ابن مردنيش ضد الموحدين، استطالت زهاء ربع قرن حتى وفاته في سنة 567 هـ (1171 م)، وفي خلال ذلك كان ابن مردنيش يسيطر على شرقي الأندلس كله، وعلى أجزاء من الأندلس الوسطى. وكانت مملكة ميورقة خلال هذه الفترة، تشعر بما تسبغها عليها سيطرة ابن مردنيش لشرقي الأندلس من طمأنينة وسلامة. بيد أن سلطان ابن مردنيش ما لبث أن أخذ في التصدع،
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 152. وكذلك A. Bel: Les Benou Ghania, p. 24 & 25
(2) راجع: A. Campaner y Fuertes: Bosquejo Historico de la Dominacion
Islamica en las Islas Baleares (Cit. Espana Sagrada) p. 144 - 145.(4/146)
ولاسيما منذ انقلب عليه صهره وحليفه القوي إبراهيم بن همشك وانحاز إلى الموحدين. ثم انتهى أمر ابن مردنيش وانهارت مملكة الشرق بوفاته (567 هـ) ودخل الموحدون مرسية، وبسطوا سلطانهم على شرقي الأندلس، وأضحوا على مقربة من الجزائر. وهنا رأى إسحاق ابن غانية، أن يتحول إلى مصانعة الموحدين ومهادنتهم، وأخذ يراسلهم، ويبعث إليهم بنفيس الهدايا من خاصة غنائمه وسبيه، وكان الموحدون في البداية، يستصغرون شأن الجزائر، ولا يحفلون بأمرها، فلما سيطروا على شواطىء الأندلس وثغورها الشرقية، ولما رأوا تقرب إسحاق منهم، أخذوا يهتمون بشأنها، ويدركون أهمية موقعها البحري، فتوالت كتبهم على إسحاق بطلب الدخول في طاعتهم، وبعث الخليفة أبو يعقوب يوسف إلى إسحاق كتابه بذلك في سنة 578 هـ (1182 م) وطلب إليه بصفة رسمية أن يعترف بطاعته وأن يدعو له في الخطبة. فعرض إسحاق هذا الأمر على أكابر أصحابه، فاختلف رأيهم بين الاستجابة والرفض، فرأى أن يرجىء رده على الخليفة. وخرج في أسطوله غازياً إلى بعض السواحل النصرانية القريبة، فقتل في بعض المعارك، وقيل أنه طعن في حلقه، وحمل حياً إلى ميورقة، وهنالك مات في قصره. وكانت وفاته سنة 579 هـ (1183 م) (1).
ولما توفي إسحاق بن محمد بن غانية، خلفه في حكم الجزائر أكبر أولاده العديدين محمد (2). وكان قد اختاره في حياته لولاية عهده. وكان محمد يواجه في بداية حكمه تلك المشكلة الدقيقة، التي أثارها الخليفة الموحدي بدعوته إلى خضوع الجزائر لسلطانه. وازدادت هذه المشكلة دقة بما عمد إليه الخليفة أبو يعقوب من إرسال سفيره إلى ميورقة في بعض السفن الموحدية، التي سارت به من سبتة، ليعرض الطاعة بنفسه على أميرها، وليختبر مدى استعداد بني غانية للاستجابة إلى الدخول في الدعوة الموحدية. وكان سفير الخليفة إلى محمد بن غانية، رجلا من طراز خاص، هو أبو الحسن على الربرتير، وهو ولد الفارس النصراني الربرتير El Reverter أو روبرتو القطلوني، قائد جند الروم أو النصارى المرتزقة في الجيش المرابطي أيام علي بن يوسف، وقد أبلى الربرتير وجنده الروم
_______
(1) المعجب ص 152، وكذلك A. Bel: Ibid ; p. 24 & 25.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 190. ويقول المراكشي إن الذي خلف إسحاق هو أكبر أولاده على (ص 152).(4/147)
حسبما فصلنا من قبل، خير البلاء في محاربة الموحدين، وانتصر عليهم مراراً ثم توفي قتيلاً في إحدى المعارك، وذلك في سنة 539 هـ (1144 م) وترك ولدين، كان أحدهما على هذا الذي اعتنق الإسلام، وتحول إلى خدمة الموحدين.
واستقبل محمد بن غانية سفير الخليفة بترحاب ومودة، وأبدى استجابته إلى الدخول في طاعة الخليفة. وكان الخليفة أبو يعقوب عندئذ قد عبر البحر إلى الأندلس في جيوشه الجرارة، وذلك في صفر سنة 580 هـ (أبريل سنة 1184 م)، قاصداً استئناف الجهاد ضد النصارى، فلم يكن أمام محمد سوى الخضوع وسيلة لاتقاء الغزو الموحدي. ولكن اخوة محمد، وهم علي ويحيى وطلحة وعبد الله وسير وتاشفين ومحمد المنصور وإبراهيم، لم يرقهم هذا الخضوع، فثاروا ضد محمد، وقبضوا عليه واعتقلوه، وقدموا أخاهم علياًّ لولاية الجزائر، ووضعوا في الوقت نفسه سفير الخليفة علياًّ الربرتير في شبه اعتقال، وحالوا بينه وبين مغادرة الجزيرة، واعتقلوا بحارة السفن الموحدية، ووضعوا بها بحارة من ميورقة، ولبثوا يطاولون الربرتير، حتى جاءت الأنباء بمصرع الخليفة أبي يعقوب عقب موقعة شنترين، وتفرق الجيوش الموحدية الغازية، فعندئذ أعلن على وإخوته جهاراً رفضهم للدعوة الموحدية والدخول فيها، وألقوا بعلي الربرتير إلى ظلام السجن (1).
ولم يكتف بنو غانية -على وإخوته- برفض طاعة الموحدين واعتقال سفيرهم، بل فكروا كذلك في انتهاز فرصة ما أصاب الموحدين من آثار هزيمة شنترين، وتفرق جيوشهم الغازية، وجنوح الخليفة الجديد أبي يوسف يعقوب إلى القيام بأعمال الإصلاح والإنشاء في ظل السكينة والعافية، لإنزال أول ضرباتهم بالموحدين، فاتجهوا بأبصارهم إلى إفريقية، إلى تلك المنطقة المضطربة، التي كانت دائماً مثار القلاقل والمتاعب للموحدين، والتي كانت طوائف العرب بها تجعل بتقلبها من فريق إلى فريق، ميزان القوي دائماً في تردد، وأزمعوا غزو مدينة بجاية أقرب ثغور هذه المنطقة إلى ميورقة.
ولم يكن تفكير بني غانية في غزو بجاية دون تمهيد سابق، فقد اتصل علي ابن غانية ببعض العناصر الناقمة على الموحدين في المدينة، من أولياء بني حماد
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 146، وابن خلدون ج 6 ص 190، وكذلك: Campaner y Fuertes: ibid , p. 146 - A. Bel: ibid ; p. 29.(4/148)
أمرائها السابقين، وراسله جماعة من أهلها، وكان يعتمد فوق ذلك على مؤازرة بعض طوائف العرب من بني هلال ورياح والأثبج. ونحن نذكر ما حدث قبل ذلك بأعوام قلائل من ثورة بني الرند في قفصة، وقيام الخليفة أبي يعقوب بإخماد هذه الثورة (سنة 576 هـ)، وإسناده عندئذ ولاية إفريقية لأخيه السيد علي أبي الحسين، وولاية بجاية والزاب لأخيه السيد أبي موسى عيسى، وما حدث بعد ذلك بقليل من ثورة عرب بني سُليم على مقربة من قابس، وأسرهم للسيد أبي الحسين وأصحابه عندما تصدوا لمقاومتهم، ثم إطلاق سراحهم لقاء فدية كبيرة. وكان تكرار هذه الحوادث وأمثالها، مما يشجع بني غانية على اختيار هذه المنطقة بالذات مسرحاً لمغامراتهم ضد الموحدين.
وحشد علي بن إسحاق الملقب بالميورقي أسطولا صغيراً من اثنين وثلاثين سفينة تحمل نحو مائتي فارس وأربعة آلاف راجل، تحت إمرة القائد رشيد النصراني، واستخلف على ميورقة عمه أبا الزبير. وسار مع إخوته في سفنه صوب بجاية، فوصلت بسلام إلى مقربة من الميناء. وكان كل شىء في المدينة هادئاً، ولم يخطر ببال أحد من أهلها أن الغزاة على الأبواب. ودفع القائد رشيد رجاله في زورق إلى أسفل الأسوار للاستخبار والتحري، وكان والي المدينة السيد أبو الربيع سليمان عم الخليفة خارج المدينة وعلى مقربة منها راحلا إلى الحضرة، وقد حل بها السيد أبو موسى مع بعض أصحابه في طريقه إلى تلمسان، ولم يك ثمة أية أهبات دفاعية يعتد بها. فتقدمت السفن المهاجمة من المدينة. واحتشد رهط كبير من الغزاة في مكان معين قبالة الأسوار، كان متفقاً على اختياره لاقتحام المدينة مع الضالعين مع الغزاة، وتدلى بعض هؤلاء من الأسوار ليدلوا الغزاة على عورات السور، وثغرات الدفاع. واجتمعت جماعة من أهل البلد لمقاومة الغزاة دون قائد يجمع شملهم، ودون استعداد، وقد تخاذل الرؤساء وأولو الأمر، فسلط الميورقيون عليهم القسيّ والسهام ففتكت بهم. ثم تقدم الفرسان والمشاه، واقتحموا المدينة من ثلمات السور، واستولوا عليها، وقبضوا على السيد أبي موسى وآله وعلى سائر الموحدين الذين يخشى بأسهم. وكان سقوط بجاية على هذا النحو في يد علي بن إسحاق الميورقي في السادس من شهر شعبان سنة 580 هـ (13 نوفمبر سنة 1184 م) (1).
_______
(1) المعجب ص 153، والكامل لابن الأثير ج 11 ص 191، وابن خلكان ج 2 ص 429. ويأخذ ألفرد بل بهذا التاريخ Les Benou Ghania, p. 42. ولكن صاحب البيان =(4/149)
وأقام علي بن غانية أسبوعاً في بجاية ينظر في شئونها، وصلى بها الجمعة، ودعا في الخطبة لبني العباس، وللخليفة العباسي أحمد الناصر، وكان خطيبه يومئذ هو خطيب بجاية الفقيه المحدث والأديب الشاعر، أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الإشبيلي صاحب كتاب " الأحكام " وغيره. وكان الخليفة أبو يوسف يعقوب، حينما بلغه موقفه يزمع قتله والاقتصاص منه. ولكنه توفي غير بعيد ونجا من نقمته (1).
وترك علي بن غانية النظر على بجاية لأخيه يحيى بمعاونة رشيد الرومي، وخرج من فوره لمطاردة واليها السيد أبي الربيع، وكان ما يزال على مقربة من بجاية، فلحق به بموضع يعرف بياميلول، وكان معه رهط من الأعراب الموالين للموحدين فانخذلوا كعادتهم عند الشعور بالهزيمة، وانضموا إلى ابن غانية، وهزم السيد أبو الربيع، وقتل عدد من رجاله، وسقطت محلته بأسرها في يد العدو، وفيها أهله وأمواله، ولكنه استطاع الفرار إلى الجزائر، ومنها إلى تلمسان، فنزل بها على واليها السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وأخذا في تحصينها، والاستعداد في الدفاع عنها (2).
وتابع علي بن غانية زحفه المظفر صوب الجزائر فدخلها، وقدم عليها يحيى ابن أخيه طلحة، ثم سار إلى مليانة ومازونة ثم إلى أشير والقلعة (قلعة بني حماد) واستولى عليها جميعاً، واستباح أهلها، واستصفى أموالهم. وكانت مليانة، وهي أهم هذه البلاد، في الأصل مدينة رومانية، جددها زيري بن مناد الصنهاجي وحصنها، وكانت في ذلك الوقت حسبما يصفها لنا الإدريسي، مدينة قديمة البناء، حسنة البقعة، نضرة المزارع، ولها نهر يروي معظم مزارعها وجناتها، قد ركبت على ضفافه الأرحاء، ولأراضيها حظ من مياه نهر شلف، وعلى ثلاثة أيام منها، وفي جنوبها الجبل المسمى بجبل وانشريش، يسكنه قبائل من البربر منها مكناسة، وحرسون، وأوربة، وبنو أبي خليل، وكتامة ومطماطة، وبنو مليلت،
_______
= المغرب يضع تاريخ سقوط بجاية في التاسع عشر من صفر سنة (581 هـ) القسم الثالث ص 148) ويتابعه في ذلك ابن خلدون (ج 6 ص 190) وكذلك الزركشي في تاريخ الدولتين ص 10.
(1) المعجب ص 153.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 191، والبيان المغرب القسم الثالث ص 148.(4/150)
وبنو وارتجان وبنو أبي خليفة، ويصلاتن، وزولات، وزواوة، وهوارة وغيرها.
وطول هذا الجبل مسيرة أربعة أيام، وينتهي طرفه إلى مقربة من تاهرت (1).
وقدم علي بن غانية على مليانة يدّر بن عائشة، ووقف بها أياماً، ثم عاد إلى بجاية، وهنالك جلس بمسجدها الجامع، فأقبل الناس لمبايعته والدخول في طاعته، والتف حوله الدهماء والعامة، واستخرج ما كان في المخازن من الأموال والثياب، وكسا أوباش العرب ومن انضم إليهم من الأخلاط والكافة، ولما رتب شئونه ببجاية، ترك بها رشيداً الرومي إلى جانب ابن أخيه يحيى، وسار في قواته إلى قسنطينة، ولكنها كانت على أهبة الدفاع، واستبسل أهلها في قتاله، وقتلوا جملة من رجاله ثم اعتصموا بمدينتهم، فضرب حولها الحصار، مؤملا أن تسقط في يده (2).
وعلم الخليفة يعقوب المنصور، بتلك الحوادث المؤسفة، وهو ما يزال في بداية عهده، وما يكاد يبدأ حملته الإصلاحية، فاهتز لها، وأدرك في الحال خطورتها، واعتزم أن يبذل قصارى جهده لقمعها، فجهز حملة قوية من الجند المختارة قوامها عشرون ألف مقاتل مزودة بوافر العدة والآلات، وجعل قيادتها لابن عمه السيد أبي زيد بن أبي حفص، وسار في نفس الوقت أسطول موحدي كبير من سبتة، تحت قيادة أبي محمد بن إسحاق بن جامع، وأبي محمد بن عطوش الكومي، وأبي العباس الصقلي، وسارت القوات البرية والبحرية وفق خطة موحدة لمحاربة العدو، متعاونين في البر والبحر، وسار الجيش الموحدي أولا إلى فاس، وتوقف بها وقتاً لاشتداد البرد والأمطار، ثم رحل إلى تلمسان وكان بها السيد أبو الحسن بن أبي حفص، وقد حصن أسوارها وشحنها بالمقاتلة ومعه السيد أبو الربيع والي بجاية السابق، وكان قد لجأ إلى تلمسان، وتوقف بها يرتقب الفرصة لاستنقاذ أهله وذويه من قبضة العدو المغير.
وسار الجيش الموحدي من تلمسان شرقاً بحذاء الشاطىء، والأسطول يحاذيه من البحر، وكان الخليفة يعقوب قد وجه إلى أهالي القواعد المغزوة، كتباً يعدهم فيها بالأمن والأمان والصفح والإحسان لمن تعاون مع العدو. واستطاعت الجواسيس
_______
(1) الإدريسي في وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس " ص 84 و 85، وكذلك الاستبصار في عجائب الأمصار (طبعة جامعة الإسكندرية 1958) ص 171.
(2) الرسائل الموحدية - الرسالة التاسعة والعشرون ص 172، و 173. والبيان المغرب - القسم الثالث 148.(4/151)
الموحدية أن تدس هذه الكتب تحت جنح الليل إلى مختلف القواعد، فلما علم الناس أن القوات الموحدية قد اقتربت منهم، وثبت طوائف كثيرة منهم بالمحتلين ولاسيما بالجزائر، وقبضت على العديد منهم، وبادر الأسطول الموحدي، فاستولى على الجزائر قبل أن يصل إليها الجيش، وأسر بها يحيى بن غانية وأتباعه الميورقيين، ثم استولى على مليانة، وكان حاكمها المرابطي يدّر بن عائشة قد فر منها، فاقتفى أهلها أثره، وطاردوه ثم قبضوا عليه وعلى أصحابه بعد معركة شديدة، وسيق مع أصحابه مصفداً. ثم أعدم بعد ذلك. وكان السيد أبو زيد قد وصل عندئذ إلى وادي شلف، وأمر بمتابعة الحرب، وتقدم نحو بجاية على جناح السرعة، إذ علم بأن ابن غانية يروم نقل السيد أبي موسى وزملائه من أكابر الموحدين إلى ميورقة، وسار الأسطول إليها في نفس الوقت. وتقدم القائد أبو العباس الصقلي في إحدى السفن مع بعض أهالي بجاية، ودسوا الكتب إلى أهلها بوصول القوات الموحدية، فثارت العامة داخل المدينة، وفتحوا الأبواب، ونزل بحارة الأسطول وعلى رأسهم أبو محمد بن جامع إلى المدينة، وفتكوا بالميورقيين وأنصارهم، وفر يحيى بن غانية وأخوه عبد الله في عدد قليل من أصحابه، ولحق بأخيه أمام قسنطينة، وأسر الموحدون رشيداً الرومي قائد الميورقيين، واستولوا على السفن الميورقية خارج الميناء، وأطلق سراح السيد أبي موسى ومن معه من أكابر الموحدين. وهكذا استنقذت بجاية بضربة سريعة، وكان استردادها في اليوم التاسع عشر من شهر صفر سنة 581 هـ (22 مايو سنة 1185)، بعد أن لبثت في قبضة بني غانية نحو سبعة أشهر (1).
وفي ذلك الحين كان ابن غانية تحت أسوار قسنطينة، وكانت المدينة المحصورة قد استنفدت كل وسائل الدفاع، وأشرفت على السقوط في يد العدو، ولكن ما كادت أنباء استرداد بجاية تصل إلى المحصورين، حتى اضطرمت قواهم المعنوية وثبتوا في معقلهم، ورأى الميورقي من جهة أخرى ما حل بقضيته من الخسران، بعد سقوط بجاية، وضياع أسطوله ومصرع الكثير من أصحابه، ونكول الأعراب عن مؤازرته، وخشى من إدراك الموحدين له، وهو في هذه الحالة اليائسة، فارتد عن قسنطينة مع إخوته وفلوله الباقية، وتوغل في الصحراء، بعيداً عن
_______
(1) الرسائل الموحدية - الرسالة التاسعة والعشرون ص 176 - 178، والبيان المغرب القسم الثالث ص 150، وابن خلدون ج 6 ص 191. وكذلك A. Bel: Les Benou Ghania, p. 50-53(4/152)
المطاردة. ولم تمض على فراره ثلاثة أيام حتى وصل السيد أبو زيد في قواته إلى تيكلات على مقربة من بجاية، وهنالك وافاه طلبة بجاية وأكابرها وعلى رأسهم السيد أبو موسى، وأخذ الجميع في الأهبة والاستعداد لمطاردة العدو الفار، وسيق إلى المحلة الموحدية كل من قبض عليه وأسر في بجاية من أنصار الميورقي سواء منهم من جاز معه من ميورقة، أو من انحاز إليه، ارتداداً عن الدعوة الموحدية، وميزوا وقتل معظمهم. واستبقى يحيى بن طلحة الميورقي رهينة. وفي اليوم الثالث سار الموحدون في أثر ابن غانية واستمروا في مسيرهم حتى مقرّة ونفاوس، ولكنهم لم يستطيعوا إدراكه، لأنه كان قد ألقى معظم أثقاله في الطريق وفرق قواته، وسبق الموحدين بمراحل، ولم يستطع الموحدون بقواتهم الكثيفة وعددهم الثقيلة لحاقاً به، فعندئذ ارتد السيد أبو زيد في جموعه إلى بجاية، وذلك بعد أن أنفقت الحملة الموحدية زهاء ستة أشهر في حركة متواصلة لم تنعم خلالها بقسط من الراحة (1).
أما علي بن غانية، فقد اتجه وأخوه يحيى في فلوله جنوباً، واخترق جبال الأطلس إلى منخفض حندة، ثم إلى منطقة الواحات الواقعة جنوبي ولاية إفريقية المسماة بلاد الجريد، وهو ينهب المحلات الغنية في تلك المنطقة، ويستميل بجزيل صلاته طوائف العرب النازلين في تلك الأنحاء، ولاسيما بني رياح وبنى جشم.
ولما اطمأنت نفسه وكثرت جموعه، سار إلى افتتاح مدينة تَوزَر، فضرب حولها الحصار، وقطع غابات النخيل المحيطة بها، فقاومته المدينة بشدة، ولكنه استطاع بمعاونة بعض الضالعين معه من أهلها أن يدخلها أخيراً. فلما دخل أغضى عن أهلها الذين ناصروه ومنحهم الأمان، واستصفى أموال الآخرين، ثم فرض عليهم فروضاً أخرى لافتداء أنفسهم، فمن استطاع أن يفتدي نفسه، أطلق سراحه، ومن عجز قتل ثم ألقى بعد قتله إلى بئر بالمدينة سميت فيما بعد بئر الشهداء، وكان سقوط توزر في سنة 582 هـ (1186 م) (2).
وكان السيد أبو زيد قد استقر في تلك الأثناء في بجاية، وكانت المدينة قد سادها الاضطراب والفوضى، وخربت دورها ومعاهدها، وأقفرت سائر المناطق المحيطة بها، وخربت على يد جند ابن غانية وأنصاره الأعراب، وعدمت المؤن والموارد والغلات، وارتفعت الأسعار، وفر كثير من السكان وهاموا على
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 151.
(2) رحلة التجاني (المنشورة بعناية المطبعة الرسمية بتونس سنة 1958) ص 162.(4/153)
وجوههم، ثم سرى الوباء إلى المدينة وكثر الموت. ووصلت أنباء تلك الحالة إلى الخليفة بمراكش، وكثرت لديه الأقوال في حق السيد أبي زيد، وقصوره عن معالجتها، فبعث إليه معاتباً، وحاثاً على العمل لتدارك الأمر، وغادر الأسطول في نفس الوقت مياه بجاية، عائداً إلى قواعده في سبتة.
وبالرغم من ابتعاد الميورقي عن بجاية وأحوازها، وتوغله في القفار الجنوبية فإنه بعث جملة من جنده تحت إمرة غزي الصنهاجي، فسار إلى مدينة أشير، واقتحمها، وقتل حافظها الموحدي، فبادر السيد أبو زيد إلى توجيه ولده السيد أبي حفص عمر في قوة موحدية ومعه أبو الظفر بن مردنيش في جملة أخرى من الأجناد، فساروا لقتال غزي وأصحابه، ونشبت بينهما معركة هزم فيها غزي وقتل، وأرسل رأسه إلى بجاية وعلق بها، واستولى أبو الظفر بن مردنيش على محلة العدو وحريمه وعتاده وماشيته، وحل عبد الله الصنهاجي كان أخيه غزي في الدفاع عن أشير، فاستماله القاضي أبو العباس بن الخطيب، وأغراه بالوعود، واستنزله من المدينة، ثم قبض عليه وأرسل إلى بجاية، حيث صلب إزاء رأس أخيه (1).
وكان من أحداث بجاية في هذا العام، أن قُتل رشيد الرومي قائد ابن غانية السابق، وقتل عدد من أهل بجاية ممن انحازوا إلى جانب بني غانية، وكان من هؤلاء أبناء القائد ابن حملة، وغُرب بنو حمدون من بجاية إلى سلا، لاتهامهم بالتواطؤ مع بني غانية، بعد أن أرغموا على تصفية أموالهم بها بثمن بخس، وأبعد غيرهم من الأعيان أيضاً إلى سلا، بعد أن صفيت أموالهم وديارهم (2).
وعلى أثر ذلك استدعى السيد أبو زيد من قبل الخليفة إلى الحضرة، فسار إليها في حملة من صحبه بالرغم من اشتداد البرد والأنواء خلال فصل الشتاء، فلما وصل إليها أحسن الخليفة استقباله، وأكرم وفادته، وسرى بذلك عنه ما كان قد لحق به من أوزار الوقيعة، وتهمة القصور والإهمال.
وكان علي بن غانية، بعد أن استولى على توزر يطمح إلى الاستيلاء على قفصة. ونحن نذكر أن الخليفة أبا يعقوب يوسف، كان قد استرد قفصة في سنة 576 هـ (1181 م) وأخمد بها ثورة بني الرند، وكانت المدينة بالرغم من
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 153.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 154، وابن خلدون ج 6 ص 243.(4/154)
أنضوائها تحت لواء الموحدين، ما تزال مسرحاً لمختلف الدسائس والتيارات، وولاؤها للموحدين غير ثابت، ولا مستقر، ومن ثم فإنه ما كاد الميورقي يزحف عليها بقواته ويضرب حولها الحصار، حتى بادر أهل المدينة بإخراج الموحدين منها، وتسليمها إلى الميورقي، فوضع بها حامية من جنده المرابطين وحلفائه الجند الأتراك، وجدد تحصيناتها، وكان ذلك أيضاً في سنة 582 هـ (1186 م).
وهكذا سيطر علي بن إسحاق بن غانية الميورقي على معظم إفريقية، وقطع بها خطبة الموحدين، ودعا لطاعة الخليفة العباسي، الناصر لدين الله، وأرسل إليه في طلب المراسيم والخلع والأعلام السود. وكان مما يزيد في خطورة هذا الموقف بالنسبة للموحدين، أن الميورقي استطاع أن يستميل إلى جانبه كثيراً من طوائف العرب من سُليم ورياح وغيرهم، واستطاع من جهة أخرى أن يعقد الحلف مع قراقوش الأرمني مملوك الأيوبيين وجنده الترك، وكانوا قد نزحوا من مصر إلى المغرب واستولوا على طرابلس، وبسطوا سلطانهم على كثير من أطراف إفريقية الشرقية (1).
ويجب أن نشير بهذه المناسبة إلى الظروف التي وقع فيها نزوح أولئك الجند الترك إلى هذه الأنحاء من إفريقية. وذلك أنه لما تم استيلاء الملك الناصر صلاح الدين ابن أيوب على مصر، على أثر وفاة الخليفة العاضد، آخر خلفاء الدولة الفاطمية، ووقعت الوحشة من أجل ذلك بينه وبين سيده القديم السلطان نور الدين، فكر بعض أمراء بني أيوب، أن ينزحوا، إذا ما تغلب عليهم نور الدين، إلى بعض الجهات النائية المأمونة مثل اليمن أو المغرب. واتجه نحو المغرب بالأخص تقي الدين عمر بن شاهنشاه أخو صلاح الدين. ولكنه عدل عن مشروعه لما رأى ما يكتنفه من الصعاب والمخاطر، ففكر اثنان من أولياء بني أيوب، هما شرف الدين قراقوش الأرمني مملوك تقي الدين (وهو غير بهاء الدين قراقوش وزير صلاح الدين فيما بعد) وإبراهيم بن قراتكين المعظمي، نسبة إلى الملك المعظم شمس الدولة أخي صلاح الدين، في تنفيذ المشروع، وفرا في طائفة كبيرة من الجند الترك، وسارا صوب المغرب، ثم افترقا ليسعى كل منهما إلى مصيره فسار قراقوش إلى قلب ولاية طرابلس، وافتتح سنترية وأوجلة، ودعا للسلطان صلاح الدين، وابن أخيه تقي الدين عمر، ثم سار إلى فزان فافتتحها، وقضى على دولة الهواريين القائمة بها
_______
(1) ابن الأثير ج 11 ص 196.(4/155)
وكانت زويلة مقر ملكهم، وخطب فيها أيضاً لصلاح الدين وابن أخيه.
وقوى أمر قراقوش تباعاً، فسار إلى طرابلس، والتف حوله العرب من بني دباب ونهضوا معه إلى جبل نفوسة، فاستولى عليه، واستخلص منه أموالا عظيمة فرقها في حلفائه العرب، ثم وفد إليه مسعود بن زمام أمير بني رياح، وكان من الخارجين على بني عبد المؤمن فانضم إليه بقواته، وضرب قراقوش بقواته المشتركة الحصار حول طرابلس، وكانت خالية من الأجناد والأقوات، فاستولى عليها بأيسر أمر، وذاع صيته واشتد ساعده، وهرعت طوائف العرب من كل فج إلى لوائه. وملك قراقوش كثيراً من أنحاء إفريقية المجاورة، وتضخمت موارده وقواته، ومعظمها من العرب الذين عاثوا فساداً في تلك الأنحاء " بما جبلت عليه من التخريب والنهب والإفساد، بقطع الأشجار والثمار وغير ذلك " وأخذت نفسه تحدثه بالاستيلاء على سائر إفريقية (1).
- 2 -
وفي ذلك الحين حدثت بميورقة حوادث هامة. وكان من الطبيعي بعد أن خلت الجزيرة من معظم الجند والقادة، منذ رحيلهم تحت إمرة عاهلهم على ابن غانية إلى إفريقية، واستولى الموحدون على سفن الأسطول الميورقي في مياه بجاية، أن تتخذ الأحداث بالجزيرة وجهة جديدة. وكان رسول الخليفة الموحدي علي الربرتير منذ اعتقل بالجزيرة، يرقب الفرص لكي يتحرر من معتقله، وليقوم في نفس الوقت بضربة تحقق الغاية من رسالته. وألفى على فرصته في الاتصال بالجند المرتزقة النصارى من حراس معتقله ومن إليهم من أبناء ملتهم، وكان معظمهم يرومون مغادرة الجزيرة إلى أوطانهم، فوعدهم علي بأنهم متى عاونوه على تحقيق غرضه، فإنه يعمل على تسريحهم في أهلهم وأولادهم إلى أوطانهم.
وكانت أرومة الربرتير وأصله النصراني، مما يحببه إلى نفوس أولئك الجند النصارى ويجعله موضع ثقتهم وأملهم. والظاهر أيضاً أن الربرتير استطاع أن يجذب إلى جانبه بعض أعيان المدينة من أنصار محمد بن غانية المعزول وخصوم أخيه علي.
وهكذا دُبرت مؤامرة قوامها الجند النصارى لخلع والي الجزائر القائم وهو طلحة ابن إسحاق بن غانية، وإعادة أخيه محمد المعزول، ونفذ المتآمرون مشروعهم
_______
(1) ابن الأثير ج 11 ص 146، ورحلة التجاني ص 111 - 113، وابن خلدون ج 6 ص 191 و 192.(4/156)
في يوم جمعة، وفي وقت الصلاة، حينما شغل معظم الناس بأداء الصلاة في المسجد الجامع، وغيره من المساجد. فأخرج المتآمرون علياً الربرتير من سجنه، ووثبوا إلى مخازن السلاح، فاستولوا على ما فيها، ثم حاصروا القصبة، وقتلوا من بها من الجند المرابطين، وتحصن الربرتير وأنصاره بالقصبة، فحاصرهم جمهور من أهل ميورقة. وضربوا القصبة بالمجانيق وأرسلوا على من بها وابلا من الحجارة والسهام. فأتى الربرتير من داخل القصبة، بأهل علي بن غانية، وفيهم أمه وأبناؤه، ووضعهم فوق الأسوار، ليرغم المحاصرين على الكف عن ضرب القصبة، فعندئذ هدأت الأمور، واضطر أهل البلد إلى المفاوضة، وتبادل العهود (1).
وعلى أثر ذلك استدعى محمد بن إسحاق بن غانية حاكم الجزائر السابق، وكان قد خلعه إخوته، حينما اعترف بطاعة الموحدين عند مقدم الربرتير إلى ميورقة، واعتقل في أقصى الجزيرة، واتفق على إعادة تنصيبه والياً للجزائر، ونزل الربرتير عن القصبة والسلطة، وأعلن طاعة الموحدين، وخطب للخليفة الموحدي، وجمع الربرتير من الأموال والذخائر ما استطاع، وصرح المرتزقة النصارى بأموالهم وأهلهم إلى بلادهم. ثم غادر الجزائر عائداً إلى المغرب، وقصد إلى حضرة مراكش. ووقع ذلك في أوائل سنة 581 هـ (1185 م).
وفي رواية أخرى أن محمداً بن إسحاق غادر ميورقة مع الربرتير ولحق بالحضرة،
ليقدم طاعته بنفسه إلى الخليفة (2). وهكذا حكم محمد بن إسحاق ميورقة في ظل طاعة الموحدين الإسمية. ولما حاول الخليفة يعقوب المنصور بعد ذلك أن يجعل من هذه الطاعة حقيقة واقعة، بتملك ميورقة، وأرسل لهذه الغاية إليها أسطولا بقيادة أبي العلاء بن جامع، أبي محمد أن يستجيب إليه، واستغاث بملك أراجون فأمده بالجند، ولم يستطع الموحدون تنفيذ مشروعهم. ومن جهة أخرى، فإن الهدوء لم يستمر طويلا بالجزائر، ذلك أن أهل ميورقة ثاروا على محمد لخضوعه للموحدين، ورفعوا إلى الولاية أخاه تاشفين. وفي رواية أخرى أنه لما وقف علي بن إسحق بن غانية وإخوته وهم بإفريقية، على ما حدث في ميورقة،
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 155 و 156. وراجع:
Campaner y Fuertes: ibid, p. 148 et suiv. وكذلك A. Bel: ibid ; p. 68 & 66
(2) البيان المغرب ص 156، وابن خلدون ج 6 ص 194.(4/157)
سار منهم عبد الله في بعض صحبه، وركب البحر إلى صقلية، وهنالك زوده النصارى ببعض السفن فسار إلى ميورقة، والتف حوله جمع من أهل الجزيرة واستطاع أن يدخل ميورقة باستمالة بعض أعيانها، وأن ينزع الولاية لنفسه، وقبض على أخيه محمد، وبعث منفياً إلى الأندلس. فالتجأ هنالك إلى الموحدين فولوه على مدينة دانية، واستقر عبد الله في ولاية الجزائر دون منازع. وعاد الخليفة المنصور فبعث أسطوله إلى الجزائر بقيادة أبي العلاء بن جامع، ثم أرسله مرة أخرى بقيادة الشيخ إبراهيم الهزرجي، فقاوم عبد الله أشد مقاومة، وقتل كثير من الموحدين، ولم ينالوا مأرباً من ميورقة، ولكنهم استطاعوا الاستيلاء، على جزيرتي يابسة ومنورقة، وكان ذلك في سنة 583 هـ (1187 م). واستردت الجزائر في عهد عبد الله قوتها ورخاءها، واستمر في رياستها أعواماً طويلة، وهو يعاود الغزوات البحرية للشواطىء النصرانية القريبة، حتى كان افتتاح الموحدين للجزائر في سنة 599 هـ (1203 م) على ما نذكر بعد (1).
- 3 -
عظم أمر علي بن غانية بأنحاء إفريقية الجنوبية والوسطى، ولاسيما مذ تقاطرت طوائف العرب من بني هلال وجشم وبني رياح والأثبج إلى لوائه. وعقد التحالف بينه وبن قراقوش الأرمني وأجناده الترك الوافدين من مصر، وبسط سلطانه على سائر أنحاء إفريقية، ولم يبق بيد الموحدين منها سوى المهدية وتونس، ودعا علي للخلافة العباسية حسبما أسلفنا، وتلقب بأمير المسلمين جرياً على ما كان عليه أمراء الدولة المرابطية (2) وبعث ولده عبد المؤمن إلى الخليفة الناصر بن المستضىء ببغداد ليطلب إليه المدد والرعاية، فعقد له الخليفة على سائر ما يملكه، وبعث ديوان الخليفة صحبة عبد المؤمن إلى مصر، خطاب الخليفة إلى الملك الناصر صلاح الدين باعتباره نائب الخليفة بمصر والشام، فكتب له صلاح الدين كتابه إلى مملوكه قراقوش، بالعمل المشترك على تأييد الدعوة العباسية (3)، وكانت
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 155 و 156، والبيان المغرب القسم الثالث ص 157، وابن خلدون ج 6 ص 194، وابن الأثير ج 11 ص 196.
(2) ابن الأثير ج 11 ص 196.
(3) ابن خلدون ج 6 ص 192.(4/158)
استعادة الجزائر على يد عبد الله بن غانية وتمكين سلطان بني غانية بها، عاملا جديداً، في ذيوع أمر علي وتوطيد هيبته وسلطانه.
وبسط علي بن غانية على إفريقية حكم إرهاب مطبق، وأطلق العنان لأحلافه من طوائف العرب، يعيثون أينما استطاعوا فساداً، ويطلقون أيديهم بالإيذاء والسلب والنهب والسبي، لا يرعون حرمة ولا يرحمون ضعفاً، وعلىٌّ لا يستطيع منعهم أو ردعهم استبقاء لولائهم ومحالفتهم. وقد وصف مؤرخ رحالة حالة إفريقية في ذلك الوقت بإيجاز في قوله " إنه هلك العباد وخراب البلاد ". وكان من شنائع علي بن غانية أنه سار إلى جزيرة باشو بالقرب من حضرة تونس في غضون سنة 582 هـ (1186 م)، فسأله أهلها الأمان، فمنحهم إياه، ولكن ما كاد عسكره يدخل إليها، حتى نهبوا سائر ما فيها، وهتكوا الحرمات، وفر من استطاع منهم إلى تونس، ونزلوا بين أسوارها، فأهلكهم البرد خلال فصل الشتاء، وبلغ من هلك على قول الرواية اثنا عشر ألفاً (1).
وتوالت أنباء هذه الحوادث الإفريقية المزعجة على الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور فأهمته، وأدرك مبلغ خطورتها، وبعث إليه أخوه السيد أبو عبد الله الذي كان قد حل مكان السيد أبي زيد في ولاية إفريقية من تونس، يستغيث به ويستنفره إلى تدارك الأمر بعد أن بلغ الخطر أقصاه، وظهر عجز القوات الموحدية القليلة، وأضحت سيادة الموحدين في إفريقية على وشك الانهيار، فاتخذ الخليفة أهبته للحركة إلى إفريقية، وبدأ بالتحرك إلى تينملل، حيث زار قبر المهدي، جرياً على تقليدهم المأثور، في التيمن بزيارته، عند الملمات والحوادث الجسام، ثم عاد إلى مراكش، وجهز جيشاً مختاراً من الموحدين قوامه عشرون ألف فارس، وغادر الحضرة في قواته عقب عيد الفطر في الثالث من شوال سنة 582 هـ (17 ديسمير 1186 م) مستخلفاً عليها أكبر أعمامه السيد أبا الحسن، ومسنداً إليه في نفس الوقت الإشراف على تكملة الأعمال الخاصة بضاحية الصالحة، وتابع الخليفة سيره دون توقف حتى رباط الفتح، وهنالك وافاه ولاة الأندلس والمغرب، فألقى إليهم بتعليماته وتوجيهاته. وكان من الأمور الظاهرة في تجهيز هذه الحملة الموحدية، أن الخليفة لم يصطحب معه في جيشه كتائب العرب إلا قلّة من أشياخ بني رياح مثل بني زيان وذلك تحوطاً من تقلباتهم
_______
(1) رحلة التجاني عن ابن شداد ص 14.(4/159)
وخطر انسلاخهم أثناء القتال إلى جانب إخوانهم عرب إفريقية، ومن جهة أخرى فقد اقتصر الخليفة في حشوده على القلة المختارة من الجند، نظراً لصعوبة تموين الحشود الجرارة في إقليم خربت أرجاؤه، ونضبت موارده، من كثرة الغزوات والمعارك (1). وأصدر الخليفة أوامره المشددة في نفس الوقت إلى سائر العمال بالمنازل وأمهات الطرقات بتمهيد المسالك، وتوطيد السبل، ونصب الجسور في أماكنها، وإعداد الأقوات والعلوفات، فكان الجند يسيرون في طرق ممهدة، موفورة المرافق والموارد، مما لم يكن معهوداً من قبل في مثل هذه الرحلات الغازية.
واستراح الخليفة وجيشه في حضرة فاس، وقضى بها معظم أشهر الشتاء، وغمر والي فاس وأهلُها الجيش الموحدي، بمختلف ضروب الإكرام والضيافات، وجدد الجند أسلحتهم وعددهم وملأوا أزودتهم، ونظر الخليفة في شئون المدينة، وترتيبها على أكمل وجه، ثم غادر الخليفة وجيشه فاس إلى رباط تازة وهو خلال الطريق دائب النظر في شئون الرعية، ومجتهد في إزالة المظالم، وتحقيق مبادىء العدل والإنصاف. وفي تازة لاحظ الخليفة أن الإخوة والأعمام قد اختصوا بلباس الغفائر الزبيبية، والبرانس المسكية، فأنكر عليهم اتخاذ ذلك الزي لكونه زي الخليفة في حالتي ركوبه وجلوسه، فجمعهم السيد أبو زيد والي بجاية السابق باعتباره عميدهم، المقدم عليهم، وذكرهم بوجوب التزام المراسيم الخلافية، وأن يتجنبوا التشبه بالخليفة فيما هو خاص به فامتنعوا من ذلك الحين عن اتخاذ الملابس التي تحمل الألوان الخلافية (2).
ولما وصل الجيش الموحدي إلى أراضي قسنطينة، وكان علي بن غانية يرقب حركاته، اجتمع ابن غانية في قواته من الميارقة والأعراب والأغزاز وبعض طوائف سُليم، على مقربة من القيروان، وبدت طلائعهم أمام الجيش الموحدي، وكان رأي الخليفة يعقوب أن يبادر بمهاجمة خصومه من قبل أن يكمل استعدادهم، ولكن الأشياخ والوزراء رأوا في المجلس الذي عقد للشورى أن الأفضل، أن يتابع الجيش الموحدي سيره إلى تونس، وهنالك ينال قسطه من الراحة والاستعداد، وهكذا وصل الجيش الموحدي إلى تونس في شهر صفر سنة 583 هـ.
_______
(1) ابن الأثير ج 11 ص 196، والبيان المغرب القسم الثالث ص 158.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 158 و 159.(4/160)
وقد كان هذا خطأ عسكرياً دفع الموحدون ثمنه غالياً. ذلك أنه لما وصل الجيش الموحدي إلى تونس، واستراح الجند من أثقالهم، وجددوا مؤنهم ولوازمهم، جهز الخليفة حملة من ستة آلاف فارس تحت إمرة ابن عمه السيد أبي يوسف يعقوب ابن أبي حفص، وعمر بن أبي زيد من أشياخ الموحدين، والقائد علي الربرتير، وسارت هذه الحملة إلى مقاتلة علي بن غانية وجموعه، وكانت ترابط على مقربة من قفصة. فلما اقترب الموحدون من محلة الميارقة وحلفائهم الترك تحت إمرة قراقوش، خرج إليهم علي بن غانية في جموعه، والتقى الفريقان في السهل المسمى بسهل " عُمرة " وذلك في اليوم الخامس عشر من شهر ربيع الأول سنة 583 هـ (25 مايو سنة 1187 م) ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، وظهر انقسام الجيش الموحدي واختلاله منذ البداية، حيث تقدم الجناح الذي يقوده علي الربرتير إلى الهجوم فمزقته سهام الأعداء وطعناتهم، وسقط الربرتير أسيراً وتفرق صحبه، وحدث مثل ذلك حينما هجم القائد أبو علي بن يومور في طوائف العرب الذين يقودهم، فخذلوه في القتال كعادتهم المأثورة، وأسر ابن يومور وقد أثخن جراحاً. واختلت صفوف الموحدين في كل ناحية وكثر القتل فيهم، وما انتهى النهار حتى كان الجيش الموحدي قد مزق تمزيقاً، وفر السيد أبو يوسف في فل من أصحابه
صوب تونس، وهلك عدة من الأشياخ، وفي مقدمتهم عمر بن أبي زيد، وبقى معظم الرجالة ممن لم يستطيعوا الفرار ولاسيما الجرحى، فلجأوا إلى قفصة، وشجعهم على ذلك ابن غانية، ووعدهم بالأمان وتركهم يملأون طرقات المدينة، حتى إذا اجتمعوا فيها أمر بقتلهم، فقتلوا جميعاً. وجلس ابن غانية بخباء السيد أبي يوسف، وجمعت بين يديه أسلاب الموحدين وأسلحتهم، ففرقها في جنده، واقتيد إليه علي بن الربرتير وابن يومور، فأمر بتعذيبهما ثم قتلهما، وعلق رأس ابن يومور على باب قفصة. وكانت على الجملة هزيمة ساحقة للموحدين لم يصبهم مثلها منذ بعيد (1).
وكان لتلك النكبة في نفس الخليفة يعقوب المنصور أعمق وقع، فاعتزم أن يأخذ بالثأر، وأن يستأصل شأفة العدو، ولم يدخر وسعاً في الأهبة، وفي تمييز جيشه وفي إعداده للضربة الحاسمة. ثم خرج في قواته من تونس في مستهل شهر رجب سنة 583 هـ (8 سبتمبر سنة 1187 م) وسار جنوباً صوب القيروان،
_______
(1) ابن الأثير ج 11 ص 196، والبيان المغرب القسم الثالث ص 160 و 161، ورحلة التجاني ص 136 و 162. وراجع A. Bel: ibid ; p. 78 - 80(4/161)
وقد برز الجيش الموحدي في أروع حلله واكتمال عدته، وسمة خطورته، ولما وصل المنصور إلى القيروان، وجه منها إلى ابن غانية وحلفائه كتاباً ينذرهم فيه بوجوب دخول الطاعة، ونبذ الشقاق والعدوان، فاعتقل ابن غانية الرسول ولم يجبه بشىء (1) ولكنه جد في أهباته، ورأى الخليفة خلال تجواله بالقيروان، وأحيائها الخربة المقفرة، ما انتهى إليه جامعها الشهير من العفاء والبلى، فبعث من فوره إلى ولاة شرقي الأندلس، بإعداد كساه وفرشه وزخارفه.
واستمر سير الجيش الموحدي بعد ذلك جنوباً في طريق قابس حتى وصل إلى مقربة من " الحَمّة " الواقعة على مقربة منها، وقد بدت طلائع العدو، وكان علي بن غانية وحلفاؤه من الترك والعرب، قد عسكروا في موقع حصين على مقربة ْمن الحمة في انتظار الموحدين. فضرب الموحدون محلتهم إزاء العدو، واعتزم المنصور أن يبادر منذ الغد بمهاجمة العدو، وأن يقود المعركة بنفسه بالرغم من اعتراض القرابة والأشياخ، وقدم المنصور على مختلف القبائل أشياخ قرابته وأكابر عشيرته. وما كاد الصبح يسفر، وتبدد الشمس حجب الضباب المتراكم، حتى دفع المنصور بعض قواته على معسكر العرب الضالعين مع العدو، فبدد شملهم وأركنوا كعادتهم إلى الفرار، واحتوى الموحدون على سائر أسلابهم، وفتت هذه الضربة الأولى في عضد ابن غانية وحلفائه. ثم انقض المنصور بعد ذلك في سائر قواته على جموع الميارقة والترك، ونشبت بين الفريقين معركة دموية عنيفة لم تدم سوى بضع ساعات، وقد أدرك علي بن غانية وحليفه أنهما يخوضان المعركة الحاسمة في ظروف قاتمة. ولم يأت الظهر حتى كان الموحدون قد مزقوا صفوف العدو تمزيقاً، وأبيد معظمهم بالقتل، وفرقت فلولهم في مختلف الأنحاء، وكانت ضربة دموية ساحقة للميارقة والترك، وفر ابن غانية وحليفه قراقوش في بعض فلولهما صوب توزر، فسار الموحدون في أثرهم، ولما اقترب الموحدون من توزر علم المنصور أن ابن غانية وحليفه قد فرا إلى الصحراء وغاض أثرهما. وتمت هذه الهزيمة الساحقة على ابن غانية في يوم الأربعاء التاسع من شعبان سنة 583 هـ (15 أكتوبر سنة 1187 م) (2).
_______
(1) الرسائل الموحدية - الرسالة الثلاثون ص 186.
(2) ابن الأثير ج 11 ص 196، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 162 و 163، ورحلة التجاني ص 136، و 137 و 162، والرسالة الثلاثون من رسائل موحدية ص 188. وكذلك: A. Bel: ibid ; p. 81 & 82(4/162)
خريطة: إفريقية والمغرب الأوسط ومواقع الصراع بين بني غانية وبين الموحّدين
سنة 580 هـ - 605 هـ.(4/163)
وسار المنصور على الأثر إلى قابس، وقد كانت مركز قراقوش، فاستولى عليها في اليوم التالي بالأمان، وقبض فيها على أهل قراقوش وذويه وصحبه، بعد أن حاولوا عبثاً الامتناع بالقصبة، واستصفى أموالهم، وأرسلهم، رقيقاً إلى مراكش (1). ثم سار من قابس إلى بلاد الجريد في طرق وعرة مقفرة، واستولى تباعاً على قواعد هذه المنطقة: نواوة وتوزر، وتقيوس، والحَمّة، ونفطة، وأهمها هي توزر عاصمة بلاد الجريد، وقام أهل هذه البلاد ضد من كان بها من بقية الميارقة، وأبادوهم قتلا وأسراً، وفرت فلولهم من توزر إلى الصحراء. ثم سار الموحدون بعد ذلك من توزر إلى قفصة، وكانت بها بقية كبيرة من صحب الميورقي وحلفائه الغز، فامتنعوا بها معتمدين على حصانتها، وأسوارها العالية، فضرب الموحدون حولها الحصار، وسلطوا عليها المجانيق وخربوا ما حولها من الزرع وغابات النخيل الهائلة، وصنعوا برجاً عالياً من سبع طبقات، شحن بالكماة والرماة، ودفع حتى حاذى السور، وردموا الخندق المقابل لثلمة السور حتى ساوى وجه الأرض، وأصبح السبيل ممهداً لاقتحام المدينة، بيد أن المهمة كانت شاقة، وقد ألقى المدافعون عند أول محاولة، على الموحدين، وابلا هائلا من الأحجار، فارتدوا ليستعدوا لإعادة الكرة في اليوم التالي. ولكن أهل المدينة أدركوا ما سوف يحل بهم من الدمار، فخرج أعيانهم بالليل، وقصدوا إلى الخليفة المنصور ملتمسين الأمان، وبحث المنصور الأمر مع القرابة والأشياخ، فاستقر الرأي على أن يؤمن أهل البلد الأصليين في أنفسهم وأملاكهم، وأن يؤمن الأغزاز (الغز) في أنفسهم وما ملكت أيمانهم، وأن يخرج كل من كان بالبلد من الحشود، والغرباء على الحكم، وأنه لا أمان للميورقيين ومن والاهم من الصحب والأوباش، فتم الاتفاق على ذلك، وفي صباح اليوم التالي خرج سائر من بالبلد من الشيخ الهرم إلى الغلام اليافع، ولم يبق بالبلد سوى النساء والأطفال، ومُيز الناس، وعزل منهم أهل البلد، فأخلى سبيلهم، وسُمح لهم بالرجوع إلى بلدهم، وعزل أصناف الجنود والغوغاء وسائر أهل الحشود، ومن جملتهم إبراهيم بن قراتكين أحد قواد الغزو الوافدين من مصر وهو الذي سبق ذكره، فقبض عليهم جميعاً، وزجوا إلى البرج الكبير، ثم اقتيدوا بعد صلاة الظهر بين يدي المنصور، فأمر بإعدامهم جميعاً فأعدموا زمراً، وألقوا إلى الحفير،
_______
(1) الرسالة الثلاثون من رسائل موحدية ص 190.(4/164)
ونقل المنصور محلته بعيداً عن مسرح المذبحة، وأمر بهدم أسوار قفصة فهدمت
على الأثر. وكان الاستيلاء على قفصة فيما يرجح في أوائل ذي القعدة سنة 583 هـ (يناير سنة 1187 م) وليس في شعبان حسبما يقول صاحب البيان المغرب، إذ كانت موقعة الحمّة في التاسع من شعبان، ثم كان بعدها الاستيلاء على قابس وسائر قواعد بلاد الجريد، ثم حصار قفصة، وقد اقتضى وحده مجهودات متعاقبة، وليس من المعقول أن تقع هذه الأحداث كلها في أسبوعين أو ثلاثة. ومن جهة أخرى فإن الخليفة يؤرخ رسالته التي وجهها من قفصة إلى الطلبة والأشياخ والأعيان والكافة بمراكش عن فتح قفصة في الثالث عشر من ذي القعدة سنة 583 هـ (1).
ووصل إلى المنصور، يوم حلوله تحت أسوار قفصة، خطاب من قراقوش، يعرب فيه عن خضوعه ورغبته في دخول التوحيد، وأنه على استعداد إذا ما قبلت توبته أن يأتي إلى الموحدين مستنيباً طائعاً. وفي اليوم التالي وصل خطاب مماثل من أبي زيان زعيم الغز، وزميل قراقوش السابق، وهو الذي استقل بحكم طرابلس، يعرب فيه عن انضوائه تحت لواء التوحيد، وأنه قد أظهر دعوة التوحيد بطرابلس ونواحيها (2).
وكان لهذه الانتصارات الرنانة التي أحرزها المنصور على أعدائه في إفريقية أبعد صدى. وقد أكثر الشعراء بهذه المناسبة من نظم قصائد التهنئة والمديح، فكان مما قاله أبو بكر بن مُجبر في يوم الحمّة قصيدة هذا مطلعها:
أسائلكم لمن جيش لهام ... طلائعه الملائكة الكرام
أتت كتب البشائر عنه تترى ... كما يتحمل الزهر الكمام
ومنها:
لقد برزت إلى هون المنايا ... وجوه كان يحجبها اللثام
وما أغنت قسي الغز عنها ... فليست تدفع القدر السهام
غدوا فوق الجياد وهم شخوص ... وأمسوا بالصعيد وهم رمام
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 166 - 168، ورحلة التجاني ص 138 و 139، والرسالة الثانية والثلاثون من رسائل موحدية ص 204 - 208.
(2) الرسالة الحادية والثلاثون من رسائل موحدية ص 198.(4/165)
هو الأمير الرضي طوبى لنفس ... يكون لها بعصمته اعتصام
حياة الدين دولته فدامت ... لأمر قد أتيح له الدوام
سلام الله من قرب وبعد ... عليه وحسب ما نزل السلام
وعاد المنصور بعد افتتاح قفصة في قواته إلى تونس. ويقول لنا ابن عذارى إنه دخل تونس في العشرة الأخيرة من شوال سنة 583 هـ. ونحن نعتقد تبعاً لما سبق أن أوضحناه عن تاريخ فتح قفصة، أن عودته إلى تونس كانت بعد ذلك بقليل. ومكث المنصور في تونس بضعة أسابيع ينظم الشئون، ويوطد الأحوال بعد ما طرأ عليها من الاضطراب والتزعزع، وعقد لأخيه السيد أبي زيد على ولاية إفريقية. ولما انتهى من ترتيب الشئون، سار إلى المهدية وقد أعلن عزمه على القفول إلى المغرب، وأمر باتخاذ العدة للرحيل، فقضى بها فترة يسيرة، وبعد أن نظر في شئونها، وندب عمالها، غادرها مرتحلا إلى الحضرة، وذلك في المحرم سنة 584 هـ (مارس سنة 1188 م).
فسار تواً إلى تلمسان عن طريق تاهَرْت، حتى وصلها دون توقف أو تلوم. وكانت قد وصلته خلال وجوده بإفريقية أنباء مقلقة عن بعض مؤامرات تُدبر، وعن بعض شخصيات من القرابة تتحفز للتمرد والوثوب. وكان أول من تلقاه بتلمسان عمه السيد أبو إسحق إبراهيم بن عبد المؤمن، وكان قد نُمي إلى الخليفة، أن هذا العم يطعن في آرائه، ويسفه تصرفاته، ولاسيما عقب هزيمة عُمرة، فلما قدم للسلام عليه، رده المنصور بجفاء، وكان مريضاً منذ مدة، فاشتد به المرض ولم يلبث أن توفي.
بيد أنه كان ثمة ما هو أخطر من النقد الصراح. ذلك أنه على أثر هزيمة عُمرة التي مزق فيها الجيش الموحدي وقتل معظم قادته، لاح لبعض السادة أن دولة المنصور قد تصدعت دعائمها، وأضحت على وشك الانهيار، وكان في مقدمة هؤلاء وأشدهم إقداماً وجرأة، أخو الخليفة السيد أبو حفص عمر الملقب بالرشيد والي مرسية، وعمه السيد أبو الربيع سليمان والي تادلا. فأما الأول وهو الرشيد، فقد كان يبسط على ولاية مرسية حكم إرهاب حقيقي، وكان يسوم الناس الخسف، ولاسيما التجار، ويستصفي أموالهم بالإرهاب والقتل، ويستنزف ما في بيوت المال، وكان مما فعله أن قبض على ابن رجاء مشرف مرسية، وألزمه بإحضار تقييدات أبواب الجباية، ولما عجز عن ذلك أمر بقتله(4/166)
فقتل، وفر ابن سليمان صاحب العمل إلى بلنسية، وكذلك فر منها الكاتب حكم ابن محمد ناجياً بحياته، ولكن الرشيد استدعاه بالخديعة ولين القول، ثم غدر به وقتله، والخلاصة أن الرشيد كان يرهق أهل مرسية، خاصتهم وعامتهم بصنوف بطشه وبغيه. بيد أن الأمر لم يقف عند هذا الحد. ذلك أن الرشيد كان يضمر مشاريع أخرى. فلما وقعت هزيمة عُمرة، اضطربت مخيلته بمختلف الأطماع والمشاريع، وبادر بالاتصال بألفونسو الثامن ملك قشتالة، وعقد معه حلفاً سرياً تسربت أنباؤه إلى الخليفة مع الواصلين من الأندلس. فلما حدثت موقعة الحمّة، وأحرز المنصور نصره الساحق على ابن غانية وحلفائه، أدرك الرشيد أنه توغل في أوهامه، وارتد إلى شىء من التعقل والتريث، ولم يلبث أن وصله أمر أخيه الخليفة بالاستدعاء إلى حضرة مراكش، فسار إليها وهو معتمد على عطف أخيه وصفحه وإغضائه، وتنفس على أثر رحيله مخنق أهل مرسية.
وأما السيد أبو الربيع عم الخليفة، فقد كان ممن عارض في توليته وتخلف عن مبايعته منذ البداية، وكان حين وقعت حوادث إفريقية يتولى النظر على إقليم تادلا الواقع على مقربة من شمال شرقي مراكش، فلما وقعت نكبة الجيش الموحدي بعُمرة، أخذ السيد أبو الربيع في مفاوضة بعض قبائل صَنهاجة القريبة لمعاونته على الثورة، والقيام بأمرها، فلم تنجح محاولته، وأعرضت تلك القبائل عن مساومته.
وسار إليه في نفس الوقت السيد أبو زكريا يحيى بن السيد أبي حفص في سرية كبيرة من الموحدين، فأحاطت بقاعدة تادلا وحالت بين السيد أبي ربيع وبين أية حركة أو نشاط يخشى منه، ولم يجد السيد أمامه سبيلا سوى التوبة والاستسلام، فأمر بالذهاب لمقابلة الخليفة، وكان الخليفة في طريقه إلى الحضرة، فقصد إليه في محلته على مقربة من مكناسة، ووصل السيد أبو حفص عمر الرشيد في نفس الوقت قادماً من الأندلس، فأمر الخليفة بنزوله مع نفر من صحبه وحاشيته على انفراد. ثم أمر بالقبض على السيدين أخيه وعمه، وبعث بهما مكبولين إلى رباط الفتح، واعتقلهما بالقصبة، حتى يصدر في شأنهما أمره. ولما وصل الخليفة إلى مراكش، وانتهت مراسيم التحية، واستقبال الوفود، بحث مع السيد أبي الحسن، نائبه بمراكش، ومع أشياخ الموحدين، أمر السيدين المذنبين، وذلك على ضوء ما صدر منهما من محاولات في الخروج والثورة، وهو ما يستوجب إعدامهما شرعاً، وانتهى الأمر بتقرير إعدامهما، وبعث الخليفة إلى عثمان(4/167)
ابن عبد العزيز الكومي قائد قصبة رباط الفتح، بأن يتولى تنفيذ هذا الحكم فيهما، فقام بالمهمة، وضرب عنقاهما، وقُتل معهما في نفس الوقت عدد ممن تحقق اشتراكه معهما في محاولاتهما (1). ويزيد صاحب روض القرطاس على ذلك، أن الخليفة قتل أيضاً أخاه أبا يحيى، بمعنى أنه أمر بإعدام ثلاثة من السادة دفعة واحدة، أحد أعمامه، واثنين من إخوته (2)، ووقع ذلك فيما يرجح في أواسط سنة 584 هـ، (1188 م). ويقول لنا المراكشي إنه كان لهذا التصرف الدموي وقع عميق لدى قرابة الخليفة فهابوه، واشتد خوفهم وتوجسهم منه بعد أن كانوا يتهاونون بأمره ويحتقرونه، لأشياء كانت تصدر منه في صباه أيام أن كان بالأندلس والياً لإشبيلية (3).
وما كاد المنصور يستقر بمراكش، بعد أن اطمأن إلى استتباب السكينة، وتوطد سلطان الموحدين بإفريقية، حتى أخذ ينظر في شئون الأندلس. وكانت الأحوال في شبه الجزيرة، قد أخذت خلال انشغاله بحوادث المغرب وحملة إفربقية، تتطور بصورة تدعو إلى القلق، واشتد عدوان البرتغاليين من جهة على قواعد ولاية الغرب الجنوبية وانتهى بالاستيلاء على شلب وأحوازها، ووصلت غارات القشتاليين من جهة أخرى إلى أحواز إشبيلية؛ ومن ثم فقد خص المنصور شئون الأندلس بعنايته، وأخذ في الاستعداد لتدارك تلك الحال، والعمل على قمع عدوان النصارى. فأذاع الدعوة إلى الجهاد على حكم الاختيار والتطوع، فتقاطرت جموع المتطوعين المجاهدين إلى الحضرة، من سائر جنبات المغرب، ومن مختلف الطوائف والقبائل، وبعث الخليفة إلى العمال بالاستعداد، وضرب الآلات الحربية، وإعداد العتاد والأقوات، ثم ندب لولاية إشبيلية ابن عمه السيد أبا حفص يعقوب بن السيد أبي حفص عمر، وكان موضع ثقته وإيثاره، كما كان أبوه من قبل موضع حب أبيه وإيثاره، وذلك لكي يعمل على مواجهة الأحداث بالأندلس بروح وهمة جديدين، وندب ابن عمه السيد أبا الحسن ابن أبي حفص والياً لتلمسان، وعهد إليه بشئون المخازن والمؤن، والسهر على إعدادها وتوفيرها للحشود المقبلة (4).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 171 - 173، والمعجب ص 156.
(2) روض القرطاس ص 143.
(3) المعجب ص 157، ويقول لنا المراكشي أيضاً إن قتل السادة كان في سنة 583 هـ، وهو تاريخ خاطىء، لأن عودة الخليفة من غزوته الإفريقية، كان في المحرم سنة 584 هـ.
(4) البيان المغرب - القسم الثالث ص 174.(4/168)
الفصل الثاني حوادث الأندلس وإفريقية
أطماع البرتغال في ولاية الغرب. تهيؤ الفرص لتحقيقها. مقدم السفن الصليبية إلى مياه أشبونة. اتفاق سانشو ملك البرتغال مع الصليبيين على غزو شلب. موقع شلب وخواصها في ذلك العصر. مسير سانشو وحلفائه الصليبيين إلى الجنوب. زحفهم على شلب واستيلاؤهم على أرباضها. محاصرة شلب وضربها. صمود المدينة. قطع النصارى للماء عنها. اضطرارها إلى التسليم بالأمان. خروج المسلمين منها واستيلاء النصارى عليها. غزوات القشتاليين في منطقة إشبيلية. تأهب الخليفة أبي يوسف يعقوب للجهاد بالأندلس. مسيره إلى رباط الفتح. عبور الجيوش الموحدية ثم الخليفة إلى شبه الجزيرة. مسير الخليفة إلى قرطبة. اجتماع الحشود الموحدية بالأندلس، ومسيرها إلى شلب. مسير الأسطول الموحدي إلى مياه البرتغال الجنوبية. عقد ملكي ليون وقشتالة الصلح مع الخليفة. مسير الخليفة في قواته من قرطبة إلى وادي التاجة. غزوه لمنطقة شنترين. استيلاؤه على قلعة طرش. محاصرته لطومار. تخريبه لبسائط تلك المنطقة. صمود طومار. أمر الخليفة بالكف عن الغزو. عوده في قواته إلى إشبيلية. عود الجيش المحاصر لشلب. فشل هذه الغزوة لأراضي البرتغال. نظر الخليفة في أمر المسجونين والعمال. فتنة الجزيري ومطاردته. ما أذيع حول شخصه. القبض عليه وإعدامه. حقيقة أمره ودعوته الإصلاحية.
سفارة صلاح الدين إلى المنصور. ظروف الشرق الإسلامي يومئذ. عدوان الصليبيين واستيلاؤهم على ثغور الشام وبيت المقدس. نهضة صلاح الدين وتحطيمه للمملكة اللاتينية. أثر ذلك في مضاعفة الغرب لأهباته العدوانية. اتجاه صلاح الدين إلى طلب العون من المغرب. رسالته الأولى إلى الخليفة الموحدي. سفارته إليه على يد ابن منقذ. ما جاء في رسالته إلى الخليفة. أقوال الروايات المصرية والمغربية عن حركات السفير المصري ومصير سفارته. استقبال الخليفة لابن منقذ وتسلم هدية صلاح الدين. فشل هذه السفارة وبواعث هذا الفشل. المغزى العظيم الذي تنطوى عليه، أهبة المنصور لاستئناف الغزو. خروجه في قواته من إشبيلية. مسيره إلى البرتغال. مهاجمته لقصر الفتح. تسليم النصارى إياها بالأمان. استيلاء الخليفة على حصن قلمالة والحصون المجاورة. مسير الموحدين إلى شلب. محاصرتها وضربها بالمجانيق. اقتحامها وتسليمها بالأمان. عود المنصور إلى إشبيلية. عبوره إلى العدوة ومسيره إلى الحضرة. مرض المنصور. اخياره لولده محمد لولاية العهد. ملخص بيعة أهل قرطبة لولي العهد. مقدم السيد أبي زيد وأشياخ العرب. استجمام الخليفة بفاس. مسيره إلى رباط الفتح وتجديد قصبتها. عوده إلى مراكش. أمره بإنشاء حصن الفرج بشرف إشبيلية. فتنة الأشل ببلاد الزاب. مطاردة والي بجاية له. حماية العرب له. تحيل الوالي في القبض على العرب. اضطرار عشائرهم إلى القبض على الثائر وتسليمه. استئناف بني غانية لحركاتهم. عيثهم في بلاد الجريد. وفاة علي بن إسحاق ابن غانية. قيام أخيه يحيى مكانه بالأمر. توحيد قراقوش ومسيره إلى تونس. بواعث هذا التصرف. فراره من تونس وعوده إلى مغامراته. استيلاؤه على طرابلس. الخلاف بينه وبين يحيى. هزيمة قراقوش وفراره. استيلاء يحيى على طرابلس. ثورة أهل طرابلس وعودهم لطاعة الموحدين.(4/169)
لم يكن ثمة شك في أن نكبة شنترين، وما ظهر خلالها من عجز الجيوش الموحدية الجرارة، واختلال نظامها، كان له أكبر الأثر في إذكاء أطماع ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز (ابن الرنق) في انتزاع ما تبقى من ولاية الغرب الأندلسية، وفي مضاعفة شهوة العدوان والتغلب، في نفسه الوثابة المضطرمة. ولكن ألفونسو هنريكيز لم يعش طويلا ليقوم بنفسه بتحقيق هذه الأطماع العريضة، إذ توفي في السادس من شهر ديسمبر سنة 1185 م (أواخر سنة 581 هـ)، بعد أن حكم مملكة البرتغال زهاء نصف قرن، وبعد أن وطد أركانها، ووسع حدودها شرقاً وجنوباً على حساب الأراضي الإسلامية، وكانت وفاته لنحو عام ونصف فقط من وفاة الخليفة أبي يعقوب يوسف عقب نكبة شنترين. فخلفه ولده سانشو الأول، وهو يضطرم بمثل أطماعه، وقضى أعوام حكمه الأولى في العمل على إصلاح البلاد والحصون التي خربتها الحرب، وتعميرها بالسكان. ومنذ بداية سنة 1189 م (585 هـ) نراه يعد العدة لاستئناف غزو الأراضي الإسلامية.
وكانت كل الظروف تشجعه، وتعضد مشاريعه. فقد كان الخليفة الموحدي، بعيداً في المغرب تشغله أحداث إفريقية، ومغامرات بني غانية، ومؤامرات الخوارج عليه، وكانت هذه الأحداث المحلية الخطيرة تجعل من المتعذر على الخليفة الموحدي، أن يبعث بشىء من حشوده إلى شبه الجزيرة، وكانت القوات الموحدية بالأندلس قليلة العدد والعُدد، لا تكفى لدفع عدوان النصارى سواء من ناحية مملكة قشتالة أو مملكة البرتغال. ومن جهة أخرى، فقد كانت الظروف تهيىء لنصارى البرتغال أمداداً طارئة لم تكن في الحسبان، هي الأمداد الصليبية، التي عادت تتقاطر إلى المشرق من ناحية المحيط، لتنجد الجيوش الصليبية التي ضعضعتها ضربات صلاح الدين، وسقوط المملكة اللاتينية، باسترداد صلاح الدين لبيت المقدس في رجب سنة 583 هـ (أكتوبر سنة 1187 م).
ففي أوائل سنة 1189 م (أوائل 585 هـ)، وصل أسطول صليبي ضخم من خمسين سفينة، يحمل عدداً وافراً من الجند الألمان والفلمنك إلى مياه إسبانيا الغربية في طريقه إلى البحر المتوسط، ورسا في مياه جليقية قبالة مدينة شنت ياقب المقدسة، ونزلت منه بعض طوائف من الجند لتزور قبر القديس ياقب، ولكن أهل المدينة توجسوا شراً من مقدم أولئك الجند، وخشوا أن تمتد أيديهم إلى الذخائر التي يحفل بها مزار هذا القديس، فردوهم بعد معركة عنيفة، قتل فيها عدد من(4/170)
الجانبين، وعاد الجند الصليبيون إلى سفنهم، فسارت بهم نحو الجنوب، وتقدم في نفس الوقت إلى هذه المياه أسطول صليبي آخر من انجلترا وبلاد الفلاندر، ودفعته الأنواء والعواصف الجامحة نحو مياه أشبونة، ثم انضمت إليه السفن القادمة من مياه جليقية، فاجتمع بذلك في مياه أشبونة عدد ضخم من السفن الصليبية، تحمل ألوفاً عديدة من المقاتلة، فتلقاهم سانشو ملك البرتغال بترحاب، وألفي في مقدمهم فرصة طيبة للاستعانة بهم في غزو القواعد الإسلامية الجنوبية، وتفاهم مع الرؤساء والقادة الصليبيين على تسيير حملة قوية مشتركة إلى مدينة شلب، لانتزاعها من المسلمين، لأنهم يتخذونها بالأخص قاعدة للخروج إلى شواطىء المحيط يغزونها، وينهبون ثغورها، ويأسرون كثيراً من النصارى (1)، فاستجاب إليه الصليبيون، بما أذكى أطماعهم من إحراز الغنائم والثروات من أراضي المسلمين.
وكانت شلب، في ذلك الوقت، بعد باجة ويابرة، أمنع قواعد ولاية الغرب الأندلسية، وأوفرها عمراناً وثراء، وهي تقع في أقصى جنوب البرتغال، على مقربة من المحيط، فوق ربوة متدرجة تشرف على نهر دراد الذي يصب في المحيط جنوباً قرب ثغر بورتماو الصغير، ومن حولها بسائط خضراء، تكثر فيها غابات الزيتون، والحدائق والحقول اليانعة، وإليك كيف يصفها لنا الشريف الإدريسي، وقد زارها قبل ذلك بنحو نصف قرن:
" ومدينة شلب حسنة في بسيط من الأرض وعليها سور حصين، ولها غلات وجنات. وشرب أهلها من واديها الجاري إليها من جهة جنوبها وعليه أرحاء البلد، والبحر منها في الغرب على ثلاثة أميال، ولها مرسى في الوادي وبها الإنشاء، والعود بجبالها كثير، يحمل منها إلى كل الجهات. والمدينة في ذاتها حسنة الهيئة بديعة المباني مرتبة الأسواق، وأهلها سكان قراها من عرب اليمن وغيرها، وكلامهم بالعربية الصريحة، ويقولون الشعر، وهم فصحاء نبلاء خاصتهم وعامتهم " (2).
تلك هي شلب الإسلامية التي أزمع سانشو ملك البرتغال وحلفاؤه الصليبيون
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 175، وأشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين، الترجمة العربية، الطبعة الثانية، ص 329 و 330، وراجع أيضاً:
Huici Miranda: Imperio Almohade, cit. Las Cronicas dos Sete Reis de Portugal p. 342
(2) الإدريسي في وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس (ص 179 و 180)، ونقله صاحب الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 106.(4/171)
أن ينتزعوها من المسلمين. ففي أوائل سنة 585 هـ (أوائل سنة 1189 م)، بعث سانشو بقواته البرية جنوباً صوب شلب، وسارت سفن الصليبيين من خليج التاجُه حذاء الشاطىء البرتغالي حتى مياه ثغر بورتماو الصغير، الواقع على قيد إثنى عشر كيلومتراً من جنوبي شلب. وبدأ البرتغاليون بمهاجمة حصن ألبور (1) الواقع على مقربة من غربي بورتماو، وقتلت حاميته الإسلامية ومن كان به من اللاجئين المسلمين، وعددهم جميعاً يقرب من الستة آلاف (2)، ثم زحف سانشو بعد ذلك في قواته وقوات حلفائه الصليبيين، نحو المدينة الإسلامية، وهاجموا أرباضها، واستولوا عليها في الحال. وكان والي المدينة عندئذ الحافظ عيسى بن أبي حفص ابن علي، رجلا عاجزاً قليل الخبرة بشئون الدفاع، فامتنع بقواته داخل المدينة، معتمداً على حصانتها الطبيعية، وأسوارها القوية العالية، وشغل الصليبيون عن مهاجمة المدينة بنهب ما حولها من الأرباض والمحلات، وحاول سانشو مدى بضعة أسابيع أن يقتحم المدينة بالهجوم في قواته، ولكن محاولاته ذهبت عبثاً. فاضطر أن يلجأ إلى الحصار، وأن يستدعي قوات جديدة لمعاونته قدمت في أربعين سفينة جديدة. وتضع الرواية النصرانية بدأ حصار شلب في 21 يوليه سنة 1189 م (ربيع الآخر سنة 585 هـ). وحاول سانشو في بدء الحصار أن يعاود اقتحام المدينة، فضربها بالمجانيق والنبال ضرباً شديداً، ولكن ذلك لم يؤثر شيئاً على تحصينات المدينة القوية، وحاول الجند الفلمنك من جهة أخرى أن يحفروا السراديب تحت الأسوار وأن يحدثوا بها ثلمات للدخول، فأحبط أهل المدينة كل محاولاتهم. وكان من الممكن أن يطول هذا الموقف، وأن تصمد المدينة للحصار، مدة طويلة، لولا أن عمد سانشو إلى محاولة قطع الماء عن المدينة، وإرغامها إلى التسليم من جراء العطش. وكانت شلب تستمد ماءها من النهر القريب بواسطة بئر كبيرة أقيمت قرب السور تسمى " القراجة "، وأقيم فوقها لحمايتها برج قوي، ففكر المحاصرون في هدم هذا البرج، وهاجموه بواسطة السلالم، فلما رأى المسلمون هذه المحاولة، خرجوا لمنعها، ونشبت حولها معركة تفوق فيها النصارى واستولوا على البئر. وكانت هذه بالنسبة للمسلمين ضربة مؤلمة، لم تلبث أن حققت نتيجتها المحتومة. ذلك أن العطش أخذ إلى جانب الجوع، يحدث أثره
_______
(1) حصن ألبور بالإفرنجية Alvor.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 175.(4/172)
خريطة: مواقع غزوات النصارى وغزوات الموحدين في شبه الجزيرة في عهد أبي يعقوب يوسف وأوائل عهد المنصور.(4/173)
المروع في أهل المدينة، وكان النصارى يترقبون الفرصة القريبة لمهاجمة المدينة واقتحامها، بعد أن يعجز أهلها عن الدفاع تماماً. ولكن المدينة لم تستطع أن تصمد حتى هذه اللحظة، ولم يلبث أن بعث أهلها وفدهم إلى سانشو، يعرض عليه تسليم المدينة، إذا وافق على أن يخرجوا منها حاملين سائر أمتعتهم، فتفاوض سانشو مع حلفائه، وكان رأي الفلمنك الصليبيين أن يقتل أهلها المسلمون جميعاً، ولكن الرأي انتهى بإقناعهم بالحصول على أسلاب المدينة، واتفق في النهاية على أن يؤمن أهل المدينة في أنفسهم، وأن يتركوا البلد بجميع ما فيه من أموالهم وأثاثهم. وهكذا غادر أهل شلب مدينتهم " مسلوبين "، ودخل النصارى مدينة شلب، بعد حصار دام ثلاثة أشهر، في يوم الاثنين العشرين من رجب سنة 585 هـ (3 سبتمبر سنة 1189 م) (1).
وكان سقوط مدينة شلب على هذا النحو ضربة قاصمة لسلطان الموحدين في ولاية الغرب، إذ كانت هي آخر معاقلهم في تلك المنطقة الحساسة، وسقوطها بعد سقوط باجة قبل ذلك بعشرة أعوام، يفتح الطريق لتهديد بقية ولاية الغرب في اتجاه ولبة ولبلة ثم إشبيلية. على أن الأمر لم يقف عند ذلك الحد. ذلك أن القشتاليين كانوا من الناحية الأخرى، يهددون موسّطة الأندلس، ومنطقة إشبيلية بالذات، بغاراتهم المتوالية. ففي نفس الوقت الذي سارت فيه القوات البرتغالية والصليبية لافتتاح شلب، خرج ألفونسو الثامن ملك قشتالة في قواته، نحو منطقة قرطبة، ثم اكتسح البسائط غرباً نحو إشبيلية، وهو يعيث فيها قتلا وسلباً، فخرجت قوات إشبيلية إلى لقائه فأوقع بها الهزيمة، والتجأت فلولهم إلى حصن المنار، فطاردهم النصارى واستولوا على الحصن، واستأصلوا من فيه من المسلمين قتلا وأسراً. ولم يمض قليل على ذلك، حتى سار ألفونسو إلى أم غزالة، وكانت قد أخليت من سكانها قبل وصوله، فحاصرها وقتاً ثم تركها، وسار إلى ربينة، واستولى عليها، وقتل معظم سكانها وأسر الباقين، واستمر في حملته الغازية حتى قلعة جابر، ثم حصن شلير، وكان ذلك في جمادى الآخرة من سنة 585 هـ (أغسطس سنة 1189) (2).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 175 و 176، والروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس ص 106) وراجع: Huici Miranda: ibid ; (cit. Relaciones) , p. 342 - 346
(2) البيان المغرب ص 175 و 176.(4/174)
وعاد ملك قشتالة بعد حملته المظفرة إلى طليطلة.
- 1 -
كان لتلك الحوادث أعمق وقع في نفس الخليفة يعقوب المنصور، فما كاد يقف على أخبارها، حتى أخذ في التأهب للعبور إلى الأندلس، واستئناف الجهاد، واعتمد في هذه المرة على التطوع في جمع الحشود، حسبما ذكرنا من قبل، وعنى عناية خاصة بتوفير العتاد والسلاح والمؤن، ثم خرج في قواته من مراكش في الرابع عشر من شهر ذي الحجة سنة 585 هـ (23 يناير سنة 1190 م)، وذلك بعد أن وجه كتبه إلى إشبيلية، وغيرها من قواعد الأندلس، بما اعتزمه من قدومه إلى شبه الجزيرة لنصرة أهلها على عدوهم، وما يرجوه من تيسير استقبال الجيوش الوافدة، وسار إلى رباط الفتح، فلما وصلها، أقام بها نحو الأربعين يوماً، حتى وصلت باقي الحشود وقوات القبائل، واستكملت أهبة الجيش الغازي.
وفي أواخر شهر المحرم من سنة 586 هـ (أوائل مارس سنة 1190 م) غادر المنصور رباط الفتح في قواته، وسار إلى قصر مصمودة (القصر الصغير) وجدد منه كتبه إلى إشبيلية متضمنة قرب وصوله. ولبث مقيماً بالقصر، حتى كان بدء الجواز في الخامس عشر من ربيع الأول، ولما انتهى جواز الجند، عبر المنصور البحر في يوم الأحد الثالث والعشرين من ربيع الأول، ونزل بجزيرة طريف، وهنالك أقبلت وفود بعض البلاد للسلام عليه، وشكا البعض مما يقع من ظلم العمال، فأغضى المنصور عن مناقشة هذا الأمر في هذه الظروف الدقيقة. ثم تحرك من طريف في غرة جمادى الأولى، وسار شمالا صوب مدينة أركش، وهنالك ودع الوفود الملتفة حوله، وسار إلى قرطبة. وبعث إلى السيد يعقوب بن أبي حفص والي إشبيلية، بأن يتحرك منها بعساكره، وأن يجمع سائر الحشود، من العرب والبربر، من غرناطة وغيرها، ومن تأخر من صنهاجة وهسكورة، وسائر المتطوعة والمجاهدين. فصدع السيد يعقوب بالأمر، وحشد سائر القوات المتقدمة، وسار فيها قاصداً إلى شلب، وذلك في غرة جمادى الأولى (6 يونيه) وعسكر في ظاهر المدينة. ولم يمض شهر على ذلك حتى وصلت سفن الأسطول الموحدي إلى مياه البرتغال الجنوبية(4/175)
على مقربة من ثغر بورتماو، ثم دنا الموحدون من أسوار شلب، ونصبوا عليها المجانيق، وآلات الرمى، وضربوا حول المدينة حصاراً صارماً مرهقاً.
وأما المنصور، فإنه لما وصل بقواته إلى قرطبة نزل بها بالقصر الذي كان أنشأه السيد أبو يحيى. ثم تجول بأطلال مدينة الزهراء، ليشاهد آثار القرون الماضية، وليعتبر بما أحدثته صروف الدهر، وأمر بإنزال التمثال الذي كان منصوباً فوق بابها، وقد كان وفقاً لقول البكري تمثالا للعذراء. ويقول لنا صاحب البيان إنه هبت في عصر ذلك اليوم ريح عاصفة أحدثت بعض الخلل في محلة الساقة، فأذاع بعض عامة قرطبة أن ذلك كان بسبب إنزال تمثال الزهراء، وأن هذا التمثال كان طلسماً لحمايتها، وبلغ المنصور ذلك فسخر منه، وأنحى باللائمة على جهل أهل قرطبة (1)، وأمر بالاجتهاد والتأهب.
وكان قد وصل إلى قرطبة رسل من قبل ملك قشتالة، جاءوا ليسعوا إلى عقد الهدنة، وكان مقدم الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة، قد بث حسبما تحدثنا رسالة الخليفة، بين النصارى، أسباب الجزع والفزع، فبادر ملوكهم إلى إرسال رسلهم في التماس المسالمة والتهادن، وأنه بينما كان الخليفة على وشك العبور من القصر الصغير، وصل رسل ملك قشتالة إلى إشبيلية، يعرضون السلم ويطلبون عقد الهدنة، ويعرضون التحالف على قتال غيرهم من النصارى.
تكررت هذه العروض عند وصول الخليفة إلى قرطبة، فاستجاب الخليفة إلى مطالبهم، لأنه حسبما يقول لنا في رسالته، رأى مصلحة المسلمين في افتراق كلمة الكفر، وكذلك عقد ملك ليون الهدنة مع الخليفة، ولم يأبه بالحلف القديم الذي كان قد عقده أبوه فرناندو مع ملك البرتغال أيام موقعة شنترين (2).
ثم أمر الخليفة السيد أبا زكريا بن أبي حفص أن يسير إلى إشبيلية في جيش خاص من العرب وزناتة وأهل تلمسان ومن إليهم، ليتجهز هنالك وليلحق به وبإخوته في طريق الغزو. وقام المنصور بعد ذلك بتمييز القوات المرتزقة، والحشود الواصلة من العدوة، وفرقت فيهم البركة، ثم أمر بعقد الرايات، وخرج في قواته من قرطبة متجهاً نحو الشمال الغربي إلى وادي التاجُه، ولحق به السيد أبو زكريا في قواته في نفس الاتجاه. وكانت خطة المنصور، فيما يبدو هي العمل
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 175.
(2) رسائل موحدية - الرسالة الرابعة والثلاثون ص 222 و 223.(4/176)
على إرغام ملك البرتغال على احتجاز قسم كبير من قواته وقوات حلفائه الصليبيين،
في الشمال بعيداً عن شلب، لكي يخفف ضغط النصارى بذلك على القوات الموحدية الضاربة حولها، فتستطيع تكريس جهودها للتغلب على منعة المدينة ذاتها. ومن ثم فقد سار المنصور صوب السهل الممتد على ضفاف التاجه شمالي شنترين، وأثخن الموحدون في تلك الرقعة الخضراء، فانتسفوا زروعها، وخربوا ضياعها، ثم عبروا النهر وساروا لمهاجمة قلعة طرش (1) الواقعة على مقربة من شمال شنترين، وهي قلعة عظيمة شديدة المنعة، تقع فوق ربوة عالية، فحاصروها بشدة، ولم تمض أيام قلائل، حتى عرض قائدها التسليم بالأمان، فوافق الخليفة وغادر القلعة كل من كان فيها من النصارى، وفي الحال خرب الموحدون القلعة وسائر متعلقاتها، وتركوها قاعاً صفصفاً، وكانت حسبما تصفها رسالة الخليفة محلة عامرة نضرة، تغص بالغراس والكروم. ثم سار الموحدون بعد ذلك شمالا، وهاجموا مدينة طومار (2)، وهي قاعدة منيعة، تقع في بسيط مخصب زاهر، وكانت تدافع عنها حامية من فرسان المعبد (الداوية) فخرب الموحدون بسائطها، ولكنهم اضطروا إلى حصارها، نظراً لما أبدته حاميتها من شدة في الدفاع. ودام الحصار وقتاً دون أن تسلم طومار، ويقول لنا صاحب البيان المغرب، إن رسل ابن الرنك (ملك البرتغال) قدموا عندئذ في طلب المهادنة والسلم، وأن المنصور أمر بتخفيف القتال ريثما ينعقد السلم، وتنتظم الأمور (3). ومن جهة أخرى، فإنه يبدو مما يقصه علينا الخليفة في رسالته أن الموحدين، كانوا خلال هذا الحصار، يوجهون سراياهم في سائر البسائط القريبة تثخن فيها، وتمعن في تخريبها، وأن سانشو ملك البرتغال كان في ذلك الحين مرابطاً بقواته في شنترين، لا يجرؤ على الخروج منها لملاقاة الموحدين (4).
وعلى أي حال فإن الموحدين لم يستمروا في حصار طومار، ولم يأخذوها، وحدث العكس حيث أمر الخليفة بالكف عن القتال واختتام أعمال الغزو. ويقدم إلينا صاحب البيان تفسيراً لذلك خلاصته، أن الخليفة شعر بتوعك تمادى أمره،
_______
(1) هي بالإفرنجية Torres، وتقوم اليوم مكانها بلدة Torres Novas البرتغالية.
(2) هي بالإفرنجية Tomar وهي تقع على مقربة من شمالي T. Novas.
(3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 180.
(4) الرسالة الموحدية الرابعة والثلاثون ص 225 و 226.(4/177)
وأنه من جهة أخرى لاحظ أن شئون التموين بالجيش قد اختلت، وأخذت المؤن والعلوفات تنضب، وقد كانت تحمل إليهم على خط تموين طويل يمتد من قرطبة. وهذا بعكس ما كان عليه البرتغاليون حيث استطاعوا قبل الغزو أن يحصدوا معظم زروعهم، وأن يختزنوا المؤن الكافية (1). ولهذا كله قرر الخليفة أن يختتم أعمال الغزو، وأن يأمر بالارتداد إلى إشبيلية، وصدرت الأوامر في نفس الوقت إلى الجيش المحاصر لشلب بأن يغادرها على وجه السرعة، وأن يرتد كذلك أدراجه. وقضى المنصور في هذه الغزوة ثلاثة وأربعين يوماً. وكانت عودته إلى إشبيلية في الحادي عشر من شهر جمادى الآخرة سنهّ 586 هـ (يوليه 1190 م) (2).
ونستطيع أن نقول إن غزوة المنصور لأراضي البرتغال لم تسفر عن نتائج ذي شأن، وأنها كانت بالعكس غزوة فاشلة، فلم تؤخذ طومار، ولم تُسترد شلب، وهي غاية الغزو الأولى. ونستطيع أيضاً أن نلاحظ مرة أخرى أن اختلال شئون التموين في الجيوش الموحدية، كان دائماً في مقدمة أسباب فشلها في تحقيق أغراضها العسكرية. على أننا نستطيع أن نلاحظ في نفس الوقت، أن ما تذرع به المنصور من الحزم في تنظيم الارتداد في الوقت المناسب، كان كفيلا بسلامة الجيش الموحدي، وعدم تعرضه لكارثة أخرى، من طراز كارثة شنترين.
على أن المنصور لم تقف همته ومشاريعه عند هذا الحد. ذلك أنه كان يشعر أنه لابد من تحقيق الهدف الرئيسي من عبوره إلى شبه الجزيرة، باسترداد شلب، وضرب قوي البرتغال العسكرية، ومن ثم فقد عول على البقاء بالأندلس، والعكوف على الاستعداد الوئيد المجدي.
وانتهز المنصور فرصة وجوده بإشبيلية، فأخذ ينظر في شئون الناس والعمال، وأمر بفحص قضايا المسجونين الذين طال سجنهم، وإعدام من يستحق الإعدام منهم بعد عرض أمره عليه، واشتد في مطاردة المنكرات والملاهي. وأما عن العمال فقد أمر المنصور، بالقبض على ابن سنان لما نمى إليه من أنه كان في موقعة المنار أول من بادر بالفرار، وأمر كذلك باستصفاء أمواله.
_______
(1) الرسالة الموحدية السالفة الذكر ص 227.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 180.(4/178)
وفي ذلك الحين بالذات، رُفع إلى المنصور أمر ثائر من نوع جديد ظهر بمراكش. ويدعى علي الجزيري. ويقدم إلينا صاحب البيان المغرب هذا الثائر في صورة غامضة مثيرة، فيقول لنا إنه كان يتظاهر بطلب العلم، ويعنى بنوع خاص " بحفظ المتشابهات "، وإنه لما ظهر أمره لأول مرة، أمر الخليفة بطرده من مراكش، فغادرها، وأخذ يتجول في الأقطار، وهو يبث دعوته سراً، ولاسيما بين العامة حيث يخاطبهم، ويسايرهم في أفكارهم، ثم ظهر من جديد بمراكش وكثر القول عن دعايته ومساعيه، فأمر والي المدينة السيد أبو الحسن ابن أبي حفص بمطاردته والبحث عنه أينما وجد، ولكنه استطاع أن يلوذ بالفرار، ثم ظهر بمدينة فاس، وأخذ يختلط بعامتها وأوباشها وتبعه منهم جماعة، فرفع خبره إلى واليها ابن ومازير، فقبض على عدة من أتباعه وقتلهم، وأفلت الثائر من المطاردة مرة أخرى، واختفى ولم يوقف له على أثر.
ثم تواترت الأنباء بأن الثائر قد عبر إلى الأندلس، فأمر المنصور بالكتب إلى سائر الولاة والعمال بصفته وهيئته وأماراته، وبأن يقبض عليه أينما وجد. وذاعت بهذه المناسبة عن الثائر أقوال وروايات خرافية كثيرة، فقيل إنه ساحر قدير، وإنه يتصور في صور الحيوانات المختلفة، مثل الحمير والكلاب والسنانير، وترددت هذه الأقاويل بين العامة. ثم قيل إنه عُثر عليه في مالقة، وقُبض على كثير من الأوباش الذين التفوا حوله، وفيهم أخوه، فأمر المنصور بإحضارهم إلى إشبيلية، وقيل إن الثائر كان ضمن هؤلاء المقبوض عليهم، ولكنه استطاع أن يفلت بواسطة رشوة دفعها أتباعه للقاضي المختص، ويدعى الواني. فأمر المنصور بقتل أولئك الأتباع، وعددهم تسعة وتسعون، وأمر بأن يجلد القاضي بعدد الدنانير التي تقاضاها على سبيل الرشوه، فهلك قبل أن يستوفى هذا العدد، وقتل في نفس الوقت في مختلف الأنحاء كثيرون آخرون ممن نسب إليهم مسايرة الثائر واتباع دعايته. وأخيراً، وبعد بحوث ومطاردات عنيفة، قبض على الثائر في بعض قرى مرسية، وأخذ إلى إشبيلية، وحمل إلى مجلس الموحدين، وطيف به على الحاضرين وهو يعلن إنكاره لما نسب إليه من المبادىء والنظريات الثورية، ثم انتهى الأمر بصلبه، والقضاء على ما دار حول شخصه من ضروب الإرجاف والخرافة (1).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 182.(4/179)
ونظم الشعراء قصائدهم كالعادة في امتداح المنصور، وتهنئته بالقضاء على هذه الفتنة. فمن ذلك ما قاله الجراوي من قصيدة طويلة:
نار من الفتنة العمياء أطفاها ... سعد الإمام وحد الصارم الذكر
ما زال إبليس في الأقطار يوقدها ... وترتمي من شرار الخلق بالشرر
زاد الشقي على الخفاش مشبهه ... ضعف البصيرة إذا ساواه في البصر
جارى إلى سقر أصحابه فهووا ... فيها سراعاً ووافاهم على الأثر
تلك هي رواية صاحب البيان المغرب عن ثورة الجزيري، وهي فيما يبدو مستمدة من أقوال ابن صاحب الصلاة، وهي رواية بلاط لا تمثل سوى وجهة النظر الرسمية.
بيد أنه يبدو من جهة أخرى أن ثورة الجزيري، كان لها شأن آخر، وأن الجزيري واسمه الكامل أبو عبد الله محمد بن عبد الله الجزيري، لم يكن ذلك الدجال المشعوذ، الذي تقدمه إلينا الرواية الموحدية. فهو عالم أندلسي من أهل الجزيرة الخضراء، أخذ من مختلف العلوم قسط وافر، وكان يُنعي على الدولة الموحدية ما جنحت إليه من الأخذ بأسباب الأبهة والترف، ومن مخالفة تعاليم المهدي الأصلية. وكان يضطرم بنزعة إصلاحية، ويطمح إلى إحياء سنن المهدي ابن تومرت، ويبث دعوته بين الكافة بقوة وبراعة، حتى عظم أمره، وكان شاعراً مجيداً. ومن قوله يشير إلى رسالته الإصلاحية:
في أم رأسي سر ... يبدو لكم بعد حين
لأطلبن مرادي ... إن كان سعدى معيني
أو لا فأكتب ممن ... سعى لإظهار ديني
وكانت الجموع تهرع إلى الالتفاف حوله أينما وجد، وتذاع عنه وعن دعايته أغرب الروايات، حتى زعم بعض الناس أنه يتصور في صور الحيوانات مثل القطط والكلاب وغيرها. وكان من الطبيعي أن تفزع السلطات الموحدية لأمر هذا المصلح الثائر، وأن تخشى من تأثير دعايته في الجموع، وأن تبث عليه العيون والأرصاد في كل مكان. وكان ينجح في الإفلات من المطاردة في أحيان كثيرة، حتى قبض عليه أخيراً في بعض قرى مدينة بسطة، وقتل،(4/180)
وأرسل إلى مراكش، وكانت ثورة الجزيرة في سنة 586 هـ (1190 م) (1).
- 2 -
وفي هذا العام بالذات أعني في سنة 586 هـ، تلقى الخليفة الموحدي سفارة هامة، من الملك الناصر صلاح الدين سلطان مصر والشام، على يد وزيره عبد الرحمن بن منقذ، ولم تكن هذه أول مرة يحاول فيها عاهل مصر، أن يتصل بالخليفة الموحدي، وأن يكتب إليه. ولابد لنا قبل التحدث عن موضوع هذه السفارة، أن نشير إلى الظروف التي كان الشرق الإسلامي يجوزها في تلك الفترة، والتي حملت صلاح الدين، على أن يتجه ببصره إلى الغرب الإسلامي، ذلك أن الشرق الإسلامي كان منذ أواخر القرن الخامس الهجرى (أواخر القرن الحادي عشر الميلادى)، يواجه عدوان الغرب المنظم في صورة الحملات الصليبية المتوالية.
وكان هذا العدوان قد أسفر عن ثماره الأولى باستيلاء الصليبيين على ثغور الشام وبيت المقدس، وقيام المملكة الفرنجية اللاتينية في بيت المقدس. وكانت مصر في تلك الفترة المؤلمة، وهي أواخر العهد الفاطمي، تجوز مرحلة انحلال وضعف، وتعوزها الوسائل والقوى الدفاعية الناجعة. فلما انتهت الدولة الفاطمية، ونهضت مصر نهضتها المشهورة، على يد الملك الناصر صلاح الدين، واستطاعت أن تسحق قوي الصليبيين، وأن تسترد بيت المقدس، وأن تقضي بذلك على المملكة اللاتينية (583 هـ - 1187 م) هرع الغرب في حشوده العظيمة مرة أخرى إلى الشرق، ليقضي على تلك القوة الجديدة، التي تهدد أطماعه ومشاريعه بالانهيار. وكان صلاح الدين، بالرغم مما شاده من القوي العظيمة، وما أحرزه من الانتصارات الباهرة، يشعر بأخطار هذا التكتل الصليبي الجديد، ويخشى إذا لم يتداركه العون من إحدى النواحي، أن يضعف عن مدافعته. وهنا اتجه صلاح الدين ببصره نحو المغرب، يرجو منه العون والغوث. وكان يرى في الدولة الموحدية التي بلغت يومئذ ذروة عظمتها وقوتها، ملاذاً يجدر قصده والالتجاء إليه. فكتب إلى الخليفة الموحدي، - يعقوب المنصور - في سنة 585 هـ (1189 م) رسالته الشهيرة مدبجة بقلم القاضي الفاضل يستصرخه، ويستنصر به على قتال الجيوش الفرنجية الزاحفة يومئذ على مصر والشام، وفيها
_______
(1) هذه رواية صاحب المغرب في حلي المغرب (ج 1 ص 323 و 324). وقد نقل المقري هذه الرواية وهذا الشعر في نفح الطيب.(4/181)
يصفه " بأمير المؤمنين، وسيد العالمين، وقسيم الدنيا والدين " ويصف له جهوده في محاربة الصليبيين وهزيمتهم، وما كان لذلك من أثر في تحالف النصرانية، ودول الغرب عليه، ونهوض ملوكه بجيوشهم وأساطيلهم لمحاربته، ومحاولة الاستيلاء على ثغور المشرق، والقضاء على قوى الإسلام المجتمعة تحت لوائه، ويطلب صلاح الدين إلى عاهل المغرب، أن يمد الشام، مسرح القتال، بشطر من أساطيله المنصورة، وأن يرسل في الوقت نفسه، جناحاً من أسطوله إلى صقلية، فيشغل طاغيتها، ويعطله عن الاشتراك مع زملائه الملوك النصارى في مهاجمة مصر، ويعتقله بذلك في جزيرته. ثم يقول صلاح الدين في رسالته إلى الخليفة الموحدي: " وبذلك يذهب سيدنا وعقبه بشرف ذكرٍ لا ترد به المحامد على عقبها، ويقيم على الكفر قيامة، ويُطلع بها شمس النصر من مغربها " (1).
والظاهر أن البلاط المصري لم يكن على علم تام بحقيقة سير الأمور في المغرب والأندلس في تلك الفترة. ذلك أن يعقوب المنصور، ما كاد يتولى الخلافة عقب مصرع أبيه في موقعة شنترين، حتى أخذ يواجه حسبما رأينا سلسلة من الأحداث المزعجة سواء في المغرب أو الأندلس. فأما في المغرب فقد رأينا كيف شغل بثورة بني غانية، واعتدائهم على إفريقية، واستخلاص ثغورها من أيديهم. وأما في الأندلس، فقد عنى المنصور، كما رأينا بحشد الجيوش، لاستئناف حركة الجهاد، ورد عدوان النصارى عن أراضي الأندلس، بعد ما تفاقم هذا العدوان سواء من جانب قشتالة أو من جانب مملكة البرتغال. وقد كان من الطبيعي، في تلك الظروف الدقيقة التي يجوزها الموحدون، في المغرب والأندلس، أن صريخ صلاح الدين إلى الخليفة الموحدي، لم يلق صدى، وأن رسالته لم يكن لها الأثر المرغوب.
على أن صلاح الدين لم ييأس من الفوز بعون الخليفة الموحدي. ذلك أنه كان يشعر بأنه يتوجه بصريخه إلى الوجهة الصحيحة، وأن نزعة الجهاد، كانت تضطرم في المغرب على يد الدولة الموحدية، اضطرامها في المشرق، وأن الكفاح الذي يضطرم به الموحدون ضد اسبانيا النصرانية، لم يكن إلا شطراً من الكفاح الذي تضطلع به مصر في المشرق. ومن ثم فقد اعتزم صلاح الدين أن يكرر محاولته. فعاد في العام التالي في سنة 586 هـ (1190 م)، فأرسل إلى الخليفة
_______
(1) تراجع رسالة صلاح الدين إلى الخليفة الموحدي في صبح الأعشى ج 6 ص 26 - 530.(4/182)
يعقوب المنصور، سفارة على يد وزيره الشهير شمس الدولة أبي الحارث عبد الرحمن ابن منقذ، يحمل إليه رسالة وهدية فخمة. وكان ابن منقذ، وهو سليل أمراء بني منقذ أصحاب حصن شيزر السابقين بالشام، من رجالات الدولة الصلاحية البارزين، وممن يصطفيهم السلطان لقضاء المهام الدقيقة. ويصف صلاح الدين في رسالته إلى الخليفة الموحدي، ما حدث من تقاطر الفرنج على الشام براً وبحراً، وفي مقدمتهم جيوش ملك الألمان وملك الإنجليز وأساطيله، وما وقع حول عكا التي حاصرها الفرنج من المعارك الخطيرة، وما بذله السلطان لإنقاذها من الجهود في البر والبحر. ثم يتجه إلى الخليفة يطلب الإنجاد ويقول: إنه كان من المتوقع من " تلك الدولة العالية، والعزمة الفادية، مع القدرة الوافية، والهمة المهدية الهادية، أن يمد غرب الإسلام والمسلمين، بأكثر مما أمد غرب الكفار الكافرين، فيملأها عليهم جوارى كالأعلام "، وأنه لما تأخرت الإجابة " ظن أنها توقفت على الاستدعاء، فاستصرخه بهذه التحية فقد تحفل السحاب ولا تمطر، إلى أن تحركها الرياح " (1).
وهنا تختلف الروايتان المصرية والمغربية في تاريخ وصول السفير المصري إلى المغرب، وفي ظروف لقائه مع الخليفة. فتقول الرواية المصرية إن ابن منقذ أبحر من الإسكندرية قاصداً إلى المغرب في شهر رمضان سنة 586 هـ، وأنه وصل إلى مراكش في شهر ذي الحجة من هذا العام، وأدخل إلى الخليفة في العشرين منه، وحملت هدية السلطان إلى الخليفة في نفس اليوم. بيد أنه يبدو أن الرواية المصرية لم تكن مطلعة تمام الاطلاع على سير الحوادث في المغرب والأندلس في تلك الفترة. ومن ثم فإنها لم تستطع أن تتبع حركات السفير المصري بدقة.
ذلك أن الخليفة المنصور، كان وقت وصول السفير المصري إلى المغرب، قد عبر البحر حسبما تقدم في جيوشه إلى الأندلس معتزماً مقاتلة النصارى، وإنقاذ مدينة شلب من قبضة البرتغاليين، وأنه كان في تلك الآونة بالذات مقيماً بإشبيلية، يجد في الأهبة، ويترقب الحوادث. ومن ثم فإن الرواية المغربية، وهي رواية صاحب البيان المغرب، المستقاة فيما يبدو من رواية ابن صاحب الصلاة، مؤرخ البلاط الموحدي، تقدم إلينا تفاصيل أخرى عن تحركات السفير المصري،
_______
(1) الروضتين في تاريخ الدولتين ج 2 ص 171 - 173. وراجع مفرج الكروب في أخبار بني أيوب (المنشور بعناية الدكتور جمال الدين الشيال) ج 2 ص 361 و 362.(4/183)
تبدو أكثر اتفاقاً مع سير الحوادث. فتقول لنا إن السفير المصري حينما وصل إلى المغرب، نزل بثغر تونس، ثم بثغر بجاية، فاستقبله السيد أبو زيد والي إفريقية والسيد أبو الحسن والي بجاية، بمنتهى الحفاوة والإكرام، وكتبا إلى الخليفة المنصور وهو يومئذ بإشبيلية بمقدم السفير، فوصلت كتبهما إليه في شهر رجب سنة 586 هـ فرد الخليفة عليهما بالشكر، وأن يستمرا في مجاملة السفير وإكرامه، وأن يطلب إليه كتمان رسالته حتى يستقبله الخليفة، وبأن يستقر بمدينة فاس معززاً مكرماً، حتى يتم هذا الاستقبال (1).
ْولبث ابن منقذ مقيماً بفاس زهاء عام ينتظر لقاء الخليفة. وكان المنصور في تلك الأثناء، حسبما نفصل بعد، قد نظم غزوته الكبيرة لأراضي البرتغال، واستولى على ثغر قصر أبي دانس أو قصر الفتح في جمادى الأولى في سنة 587 هـ، ثم سار إلى مدينة شلب واستولى عليها في جمادى الثانية، وعاد ظافراً إلى إشبيلية، ثم غادرها عائداً إلى المغرب في شهر رمضان سنة 587 هـ (يوليه 1191 م)، ولما وصل إلى مراكش واستقر بها، استقبل ابن منقذ، وقدمت إليه هدية السلطان، وكان فيها مصحف كريم في ربعة مخيشة بالمسك، وثلاثمائة مثقال من العنبر، وعشر قلائد من الجوهر، ومائة قوس بأوتارها، ونصول سيوف هندية وغيرها.
ويقول لنا صاحب كتاب " الإستبصار " إن اجتماع ابن منقذ بالخليفة كان في السادس من محرم سنة 588 هـ (يناير 1192 م) وإنه غادر الحضرة بعد ذلك بخمسة أيام (2). وأفضى ابن منقذ إلى عاهل المغرب بمضمون سفارته، فتلقى جواب المنصور عنها مجملا. ويقول لنا ابن خلدون إن الخليفة اعتذر عن إعارة الأسطول (3) وأحيل ابن منقذ إلى الوزراء لاستكمال التفاصيل. ثم غادر مراكش في العاشر من المحرم سنة 588 هـ، وهو يحمل من الخليفة إلى السلطان هدية تضارع هديته في القيمة والفخامة، فوصل إلى الإسكندرية في أواخر جمادى الثانية من هذا العام (4).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 183.
(2) كتاب الإستبصار في عجائب الأمصار (المنشور بعناية الدكتور سعد زغلول عبد الحميد 1958) ص 107.
(3) ابن خلدون ج 6 ص 246.
(4) البيان المغرب القسم الثالث ص 183، و 184.(4/184)
ومما تذكره الرواية بهذه المناسبة أن ابن منقذ رفع إلى المنصور، قصيدة من نظمه من أربعين بيتاً، يمدحه فيها، فمنحه المنصور صلة سخية قدرها أربعون ألف دينار، ألفاً عن كل بيت، وقال له إنما أعطيناك لفضلك ولبيتك، وهذا بعض ما جاء في القصيدة المذكورة:
سأشكر بحراً ذا عباب قطعته ... إلى بحر جود ما لأخراه ساحل
إليك أمير المؤمنين ولم تزل ... إلى بابك المأمول تزجي الرواحل
قطعت إليك البر والبحر موقناً ... بأن نداك الغمر بالنجح كافل
فلا زلت للعلياء والجود بانياً ... تبلغك الآمال ما أنت آمل (1).
ونحن نعرف أنه لم يكن لهذه السفارة نتائج عملية، ولم يحصل صلاح الدين على ما كان يرجوه منها من عون وإنجاد. وفي بعض الروايات أن الخليفة المنصور لم يستجب إلى صريخ صلاح الدين، لأنه لم يلقبه في رسالته بألقاب الخلافة (2).
وهي رواية ظاهرة الضعف. ذلك أن الأسباب الحقيقية لموقف الخليفة الموحدي، يجب أن تفهم على ضوء الحوادث والظروف التي كان يجوزها الغرب الإسلامي. أعني المغرب والأندلس، في تلك الفترة. فقد كانت إفريقية وهي منطقة حساسة من المغرب ما تزال معرضة لعدوان بني غانية، ومن إليهم من الأعراب الضالعين معهم، وكانت الأندلس تواجه مثل الأخطار التي كان يواجهها الشرق الإسلامي، من عدوان النصارى والصليبيين. وبالرغم من نجاح الموحدين في غزو البرتغال، واستردادهم لقصر الفتح وشلب، فإنه كان ثمة احتمال دائم، بأن يتكرر عدوان البرتغاليين وحلفائهم الصليبيين القادمين من الثغور الشمالية، على غربي الأندلس، وأن يتكرر عدوان القشتاليين على أواسطها. وقد كانت الأساطيل الموحدية، التي كان صلاح الدين يطمح بالأخص إلى عونها، ترابط باستمرار في مياه الأندلس الجنوبية والغربية، استعداداً لمؤازرة الجيوش الموحدية لرد كل عدوان محتمل. ومن ثم فإنه لم يك ثمة إزاء هذه الظروف والأخطار كلها، فيما يبدو، مجال لأن يتقدم عاهل المغرب إلى غوث إخوانه المشارقة، بقوات كان هو في أشد الحاجة إليها. وكان على كل فريق أن يعتمد على نفسه في رد العدوان الذي يواجهه.
_______
(1) نفح الطيب ج 1 ص 207.
(2) ابن خلكان في الوفيات ج 2 ص 432.(4/185)
على أننا نستطيع، بالرغم من هذه الآثار السلبية، التي انتهت إليها محاولات صلاح الدين للحصول على عون الخليفة الموحدي، أن نقول إنها كانت تنطوي على نفس المغزى العظيم الذي أوحى ببذلها، وهو رسوخ التضامن الروحي، وقوة المشاعر المشتركة، بين شطري الكتلة الإسلامية، في المشرق والمغرب، في تلك العصور التي تعرض فيها كلاهما لمحنة العدوان الصليبي.
- 3 -
لبث المنصور خلال إقامته بإشبيلية، مذ عاد إليها في جمادى الآخرة سنة 586 هـ، يجد في أهباته العسكرية، ويجمع الآلات والعدد، ويستكمل ضم الحشود. فلما تمت أهباته، واستكملت من سائر نواحيها، عزم على الحركة والسير لاستئناف الغزو، فخرج من إشبيلية في غرة ربيع الآخر سنة 587 هـ (28 أبريل سنة 1191 م) في قوات كثيفة، حسنة الأهبة والهيئة والنظام، وعبر نهر وادي يانه مخترقاً أراضي البرتغال، ومتجهاً نحو الشمال الغربي، وكان مقصد الخليفة الأول، هو قاعدة قصر الفتح أو قصر أبي دانس الحصينة، الواقعة جنوب شرقي أشبونة على الضفة اليمنى لنهر سادو، على مقربة من البحر (1)، فلما وصل إليها قُسمت الحشود الموحدية وفق نظام خاص، وقام العبيد وأهل الخدمة بردم خندق المدينة من جهاتها الأربع، وأقبلت القوات الموحدية إلى السور تحاول اقتحام المدينة، ولكن البرتغاليين أمطروا المهاجمين وابلا كثيفاً من النبال والحجارة، فأصيب كثير من الجند الموحدين بالجراح. فلما رأى المنصور فتك النبال بجنده، أمر بوقف القتال ثلاثة أيام، طلباً للراحة، والعود إلى مهاجمة المدينة بعزائم أشد. ووصل في تلك الأثناء جانب من الأسطول الموحدي، دخلت سفنه النهر الذي تقع عليه المدينة، وهي تحمل آلات الهجوم الفتاكة. وفي الحال - في خلال يوم وليلة فقط - نصبت حول المدينة أربعة عشر منجنيقاً. وفي اليوم الخامس عشر من جمادى الأولى (سنة 587 هـ) الموافق 10 يونيه سنة 1191، صدر الأمر لسائر الجيش الموحدي بمهاجمة المدينة، فانقض عليها من سائر الجهات، وأخذت
_______
(1) كانت قاعدة القصر Alcacer do Sal في ذلك الوقت، حسبما يصفها لنا الإدريسي، مدينة حسنة متوسطة على النهر المسمى شطوبر ( Sadoa) وهو نهر كبير تصعد فيه السفن والمراكب السفرية بكثرة. وفيها استدار بها من الأرض كلها أشجار الصنوبر، وبها الإنشاء الكثير، وبينها وبين البحر عشرون ميلا (وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ص 181).(4/186)
المجانيق تضرب المدينة بشدة، فلما تفاقم الأمر، ووصل هجوم الموحدين إلى ذروة عنفه وروعته، بادر أهل المدينة بطلب الأمان، ونزلوا من المدينة مستسلمين فحملوا في المراكب، وبعثوا إلى إشبيلية ليكونوا هنالك عنوان الفتح، واستولى الموحدون على المدينة، وشرع المنصور في النظر في شئون الحصن وأحواله، وأمر بإصلاحه وشحنه بالمقاتلة الأنجاد من الموحدين، ورتب لهم من المؤن والمواد رواتب شهرية وسنوية، في مخازن إشبيلية وسبتة، وندب لولاية الحصن المذكور أبا بكر محمد بن وزير وهو ابن أبي محمد سيدراي بن وزير زعيم الغرب السابق، أيام ثورة ابن قسيّ، وكان حاكم الحصن من قبل، قبل أن يسقط في أيدي البرتغاليين في سنة 555 هـ (1160 م) (1).
وسار الموحدون بعد ذلك إلى حصن قلماله (2)، وكان أمنع حصون هذه المنطقة، وبه حامية قوية، ولكنهم أيقنوا باستحالة المقاومة، وعرضوا التسليم في الحال، والجلاء عن الحصن، فاستجاب المنصور لرغبتهم، وأخلى سبيلهم، فساروا آمنين إلى بلادهم، ونهب الموحدون سائر ما في الحصن من الأثاث والأقوات والسلاح. ثم أمر المنصور بهدمه، فهدم حتى محيت آثاره. وزحف الموحدون على حصن المعدن (3) القريب، فاستولوا عليه، وأمر المنصور كذلك بهدمه، فهدم حتى صار أثراً بعد عين.
وتقول الرواية النصرانية في شأن هذه الحصون، إن أهل الحصون المجاورة، وهي حصون قلماله، وكوبنا والمعدن، لما رأوا سقوط حصن القصر بالرغم من مناعته بهذه السرعة، بادروا بإخلاء حصونهم، وفروا في مختلف الأنحاء، ولما أشرف الموحدون عليها، أمر المنصور بهدمها، فهدمت حتى سويت بالأرض (4).
ثم اتجه الموحدون بعد ذلك جنوباً إلى المقصد الرئيسي في هذه الغزوة، وهو مدينة شلب. فوصلوا إليها في يوم الخميس الثاني من جمادى الآخرة (27 يونيه سنة 1191 م). وفي الحال طوقها الموحدون بقوات كثيفة، وردمت الخنادق
_______
(1) البيان المغرب ص 185.
(2) حصن قلماله، وهو بالبرتغالية Palmela.
(3) حصن المعدن هو بالبرتغالية Almada.
(4) Huici Miranda: ibid ; (cit. Cronica de Sancho I, p. 537)(4/187)
المحيطة بها، ونصبت حول أسوارها المجانيق، وأخذت تضربها بشدة. واستمر الحصار والضرب حتى يوم الأربعاء الخامس عشر من جمادى، ففي فجر تلك الليلة، كان الموحدون ساهرين يرقبون الفرص. وكان الحراس وأهل المدينة، قد غلب عليهم التعب والنوم، ولم يتوقعوا أن يقوم الموحدون بأية محاولة في مثل هذه الفترة. ولكن الموحدين بالعكس، لما رأوا إغفاء أهل المدينة، تقدم أحد أدلائهم من السور، ووثب إلى ثلمة فيه، وتبعه جماعة من الأنجاد، فرفعوا الرايات على السور، وضربت الطبول، وضج الجند بالتهليل والتكبير، واقتحم الموحدون المدينة، فلم يستيقظ أهلها، إلا وقد سيطر عليها الفاتحون، يثخنون فيهم قتلا وجرحاً، فبادروا بطلب التسليم والأمان، فضرب لهم المنصور أجلا قدره عشرة أيام لإخلاء المدينة، وخرج النصارى من قصبة شلب في يوم الخميس الخامس والعشرين من جمادى الثانية (23 يوليه سنة 1191 م) ودخلها الموحدون في الحال، وعادت شلب بذلك إلى قبضة الإسلام، بعد أن لبثت في أيدي البرتغاليين، منذ سقوطها في رجب سنة 585 هـ، زهاء عامين (1). وقدم المنصور على ولايتها ابن وزير (2).
تلك هي الرواية الإسلامية عن استرداد شلب. أما الرواية النصرانية، فلا تقدم إلينا شيئاً من تلك التفاصيل، بل تكتفي بالقول بأن الموحدين نصبوا المجانيق حول المدينة، وأخذوا في ضربها بالنهار والليل دون هوادة، حتى اضطر أهلها إلى التسليم، وخرجوا منها بأنفسهم وأمتعتهم.
ولبث المنصور ثلاثة أيام أخرى في ظاهر شلب، ثم غادرها في قواته يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من جمادى الثانية، بعد أن أنفق في غزوته زهاء ثلاثة أشهر، فوصل إلى إشبيلية في الرابع من شهر رجب سنة 587 هـ (28 يوليه سنة 1191 م).
وأنفق المنصور في إشبيلية شهرين آخرين، عنى خلالهما بتنظيم شئون الأندلس واختيار أكفاء القادة لرياسة الثغور، أو بعبارة أخرى مدن الحدود وحصونها، وشحنها بصفوة الجند، وتعيين بعض قرابته لولاية المدن الشاغرة من الولاة.
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 185 و 186.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 245.(4/188)
وفي غرة رمضان، جلس بحدائق البحيرة خارج إشبيلية، لتلقي تحيات المودعين، ولما تمت مراسيم الوداع، غادر إشبيلية، ميمماً شطر العدوة، وعبر البحر في الخامس عشر من رمضان، واستمر في سيره حتى وصل إلى حضرة مراكش (1) وما كاد يستقر بها حتى استقبله الشعراء كالعادة بقصائد التحية والتهنئة. فمن ذلك ما قاله شاعره الجراوي:
إياب الإمام حياة الأمم ... توالى السرور به وانتظم
وجاد به الأرض صوب الحيا ... وجلى الظلام به بدر تم
فتوح عظام جناها الزمان ... لذي همم دونهن الهمم
على أن المنصور ما كاد يستريح من وعثاء السير والسفر، حتى دهمه المرض واشتد به، وطال أشهراً حتى خيف منه على حياته. وأشار عليه الأطباء بالانتقال إلى فاس، فحُمل إليها في محفة، واستمر بها أشهراً حتى تماثل إلى الشفاء. ويروي لنا المراكشي بهذه المناسبة أن الخليفة حينما اشتد مرضه، أرسل يستدعي أخاه السيد أبا يحيى والي إشبيلية، وأن أبا يحيى لبث يتلكأ في العود مؤملا أن يموت أخوه، وأنه قام في ظل هذا الأمل باستكتاب بعض أشياخ الجزيرة مساطير لتأييد دعوته؛ فلما برىء الخليفة من مرضه عاد أبو يحيى إلى المغرب. وكان أخوه الخليفة قد وقف على حركته، فأمر بالقبض عليه وقتله، فتولى قتله أخوه لأبيه السيد عبد الرحمن بن يوسف، وذلك بمحضر من الناس (2). ونحن نلاحظ على هذه الرواية بأنها متأخرة عن موضعها، وأن حادث ائتمار السادة بالخليفة وقع في سنة 584 هـ (1188 م)، حسبما أشرنا إليه في موضعه، وأن السيد أبا يحيى وهو ولد الخليفة وليس بأخيه، لم يكن بين المتآمرين، الذين عاقبهم الخليفة بالإعدام.
_______
(1) يقدم إلينا صاحب روض القرطاس، رواية أخرى عن غزوة الموحدين للبرتغال واسترداد مدينة شلب، فيقول لنا إن الذي اضطلع بهذه الغزوة هو محمد بن يوسف والي قرطبة، وأنه سار إلى شلب في جيش عظيم من الموحدين والعرب والأندلسيين، حتى نزل شلب فحاصرها، وشد عليها القتال حتى فتحها، وفتح قصر أبي دانس ومدينة باجة ويابرة، ورجع إلى قرطبة فدخلها بخمس عشرة ألف سبية وآلاف من أسرى الروم، وذلك في شوال سنة سبع وثمانين وخمسمائة (ص 144) وهي رواية ظاهرة الضعف والخلط، خصوصاً وأنها تغفل ذكر المنصور بالمرة وتنسب لغيره قيادة هذه الغزوة.
(2) المعجب ص 158 و 159.(4/189)
وشعر الخليفة إبان مرضه بدقة الموقف، وأراد أن يحتاط لكل احتمال، فعقد البيعة لابنه أبي عبد الله محمد بولاية عهده، وكان سنه نحو عشر سنين (1)، وهو الذي تسمى بالناصر فيما بعد، وكتب بذلك إلى خاصة القرابة كالسيد أبي زيد والي إفريقية، وولده السيد أبي يحيى والي إشبيلية، فبادروا بالحضور إلى الحضرة، مطيعين مؤيدين لذلك العهد، وجاء وفد من شبه الجزيرة يحمل تأييد أهل الأندلس، وجاء معهم يوسف بن الفخار اليهودي رسول ملك قشتالة يسعى إلى توطيد الهدنة المعقودة. وكان الخليفة قد أبل عندئذ من مرضه، فتلقى تهنئة الوفود والأكابر بإبلاله، وأنشد الشعراء قصائدهم كالمعتاد (2).
وقد انتهت إلينا صورة وثيقة البيعة الرسمية التي كتبها أهل قرطبة بمبايعة ولى العهد أبي عبد الله محمد الناصر، وهي مؤرخة في العشر الأوائل من ذي القعدة سنة 588 هـ، وتبدأ بالتنويه بأهمية الاستخلاف في الولاية، وشرعيته، منذ عهد النبي، حينما استخلف أبا بكر في الصلاة، ثم تنوه بقيام المهدي، وإعلاء كلمة الدين بظهوره، وتقول لنا بعد ذلك في صدد البيعة ما يأتى:
" وبعد فهذا ما أجمع عليه الملأ بقرطبة وأعمالها حرسها الله، من الطلبة، والموحدين والعرب والأجناد والوجوه من الأشياخ والأعيان والقواد والخواص والعوام من الرعية، من حاضر منهم ومن باد، أجمعوا بتوفيق الله وعونه، وإحسانه العميم ومنه، على المبايعة للأمير الأجل الملك السعيد، السيد الأوحد ... المؤهل المؤثل، الحائز لشرف الانتساب .... فرع الشجرة المباركة الطيبة الانتماء التي أصلها في مقر الهدى ثابت، وفرعها في السماء ... أبو عبد الله محمد بن سيدنا الإمام المنصور، الناصر لدين الله تعالى الخليفة المرتضى أمير المؤمنين بن سيدنا أمير المؤمنين، بن سيدنا أمير المؤمنين أعلى الله أمرهم وأسماه ".
ثم يقول " فبايعوه بمقتضى أمره العلي، ونصه الواضح الجلي، بيعة مباركة سعيدة، استقبلوا بها آمالا فسيحة مديدة، وأعمالا من البر والتقوى جديدة. أسكبت عليهم شآبيب الرحمة والأمان، وأسحبت فواضل الإنعام والإحسان، وازدادت بهاء وجمالا معالم الإسلام والإيمان .. " وإن أهل قرطبة " بادروا إلى
_______
(1) المعجب ص 175.
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 187.(4/190)
التزام عهد هذه البيعة المباركة عهداً، وإحكام عقدها السعيد عقداً، فبايعوا للأمير الأجل السيد السعيد الأوحد ... بيعة إخوانهم الموحدين، على صفاء من قلوبهم، وخلوص من عيوبهم، وصحة من عقائدهم وضمائرهم، وتوافق من بواطنهم، وطواييرهم، وعلى أوفى عهود البيعة وشروطها، وأكمل عقودها وربوطها، من السمع والطاعة في السر والجهر، والعسر واليسر، وعلى اعتقاد النصيحة والموالاة الصريحة، أعطوه بذلك عهد الله المؤكد، وميثاقه المشدد، وأعطوه به صفقة قلوبهم وإيمانهم، وعهدة إسلامهم وإيمانهم، وخالصة سرهم وإعلانهم " (1).
وفي العام التالي سنة 588 هـ (1192 م) وصل السيد أبو زيد والي إفريقية، ومعه برسم الخليفة هدية جليلة من التحف الملوكية، وفي صحبته وفد من أعيان عرب سليم ورياح، وأنجادهم (2)، وكان الخليفة قد تحرك في تلك الأثناء من الحضرة قاصداً إلى فاس نزولا على نصح أطبائه، فالتقى به السيد أبو زيد ومن معه في تانسيفت، وأمر الخليفة بعد انقضاء مراسيم التحية واللقاء، بمسير الوفود القادمة إلى مراكش لمشاهدة القصور والمرافق الخلافية، وما تحويه الحضرة من جليل الآثار والمنشآت، الدالة على عظمة الدولة الموحدية وقوتها. فأمضت الوفود بالحضرة أياماً، ثم لحقت بأمير المؤمنين في طريقه لتزجي إليه آيات الشكر، والعرفان.
ورحل الخليفة إلى رباط الفتح ثم إلى فاس. وعنى خلال إقامته بفاس بالنظر في شئون إفريقية. وكانت هذه الشئون بما يعتورها من المتاعب، ومن الأخطار المترتبة على عدوان بني غانية، تلقى من الخليفة أعظم اهتمام، وغمر الخليفة بهذه المناسبة وفود العرب من سليم ورياح بوافر صلاته وإكرامه، والتزمت الوفود من جانبها بالوفاء ومقابلة البر بحسن الصنيعة، ثم عادت إلى مواطنها بإفريقية، وقد نالت من إنعام الخليفة وبره أضعاف ما أملت.
ولما شعر الخليفة باكتمال الصحة والعافية، سار إلى رباط الفتح مرة أخرى، وكان يؤثر هذه المدينة التي أسسها جده عبد المؤمن بحبه، ويميل إلى سكناها والاستجمام بها. وكان في تلك المرة قد عقد العزم على الانتقال إليها بصفة نهائية،
_______
(1) ورد نص هذه البيعة كاملا ضمن المخطوط رقم 488 الغزيري بمكتبة الإسكوريال، وهو الذي سبق أن نقلنا عنه عدة من الوثائق المرابطية.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 245.(4/191)
واتخاذها حاضرة لمملكته، فأمر بتجديد قصبتها، وكانت تسمى بالمهدية، إذ كانت بخططها وموقعها على البحر، وإحاطته بها، تشبه المهدية الفاطمية بإفريقية، وألقى بشأن تنظيمها وتجميلها بقية أوامره، ثم عاد إلى مراكش في منتصف هذا العام (588 هـ)، واستقر بها، وهو دائب الاهتمام بأعمال الإنشاء، وتجديد الأهبات، واستكمال العدد (1).
وفي العام التالي سنة 589 هـ، أمر المنصور بإقامة صرح عظيم حصين خارج إشبيلية ليكون منزلا للمجاهدين، وأن يكون موقعه في وسط الشَّرْف. ويقدم إلينا المراكشي بعض تفاصيل عن هذا الصرح، فيقول لنا، إن المنصور حينما عاد ظافراً من غزوته لاسترداد شلب، أمر أن يُبنى له على النهر الأعظم (نهر الوادي الكبير) حصن، وأن تبنى له في ذلك الحصن قصور وقباب، جارياً في ذلك على عادته من حب البناء، وإيثار التشييد، فتمت له هذه القصور المذكورة على ما أراد، وسمى ذلك الحصن حصن الفرج. ويضيف صاحب البيان المغرب إلى ذلك، وهو ينقل فيما يرجح عن ابن صاحب الصلاة، أن هذا الحصن أو القصر الكبير، قد كمل بمجالسه المشرفة على إشبيلية وما والاها من البطاح، وأنه جاء من أضخم ما عمل، وكان المنصور وهو بالحضرة دائب التشوف إلى متابعة أخبار هذا الصرح، والوقوف على ما تم فيه، وعلى صفاته، حتى إنه أمر أخيراً باستدعاء المشرف على بنائه إلى الحضرة ليقص عليه بنفسه كل ما يتعلق بهذا الصرح، وطرازه وصفاته (2).
ووقعت في تلك السنة سنة 588 هـ، ببلاد الزاب، جنوبي إفريقية، فتنة جديدة كان بطلها زعيم يدعى الأشل. وليس في الرواية الموحدية، ما يلقى ضوءاً على شخصية هذا الزعيم الثائر، ولا كنه دعوته، وكل ما هنالك أنها تقول لنا، إن الأشل قام ببلاد الزاب ودعا لنفسه، فالتف حوله شرذمة من العرب، وكثير من أشتات الناس من أهل تلك المنطقة، ومن أهل الجبال المجاورة ممن تصفهم الرواية " بالغوغاء والسفلة " وكان يلقي في روع أتباعه بأنه موعود بأمره، وأن
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 188 و 189. ويقول ابن خلكان إن رباط الفتح كانت على هيئة الإسكندرية في الاتساع وحسن التقسيم وإتقان البناء وتحسينه (الوفيات ج 2 ص 431) وهو قول تطبعه المبالغة.
(2) المعجب ص 165، والبيان المغرب القسم الثالث ص 189.(4/192)
الكتب والدلائل نصت على خبره، وعظم أمره، وذاع ذكره، وكثر عدوانه في تلك المناطق، وتوالت على الخليفة المنصور أنباؤه، فبعث إلى السيد أبي زكريا والي بجاية، بأن يبذل كل ما في وسعه للقبض على هذا الزعيم الثائر، فخرج السيد أبو زكريا في عسكره من بجاية، وهو يتحسس أخبار الأشل، ويتقصى آثاره. ولما توغل بعيداً في الصحراء، اجتمعت طوائف من عرب البوادي ليحاولوا مهاجمته، وانتهاب محلته، ولكنه استطاع أن يجتنب اعتداءهم طوراً بلين القول وطوراً بالوعيد وإظهار القوة، وأنفذ السيد رهطاً من رجاله، يتحسسون أخبار الثائر ومكان وجوده، وحاول في نفس الوقت أن يغري بعض الأعراب بالصلات والوعود ليكشفوا له مكان وجوده، ولكنه لم يظفر منهم بطائل، ثم عاد إليه رسله الثقاة، وأخبره بعضهم بمكان وجود الثائر، وأنه يتصدر مجلس الزعامة وهو في ثياب فاخرة، وعلى رأسه عمامة خضراء، وبين يديه سيف مُحلّى، وقد التف حوله لفيف من شيعته وهو يحدثهم بلسان حضري. وعندئذ حاول السيد مرة أخرى أن يحمل بعض الأعراب على إرشاده عن هذا المكان، وهو يبذل لهم أطيب الوعود. ولكن الأعراب عقدوا العزم على مخادعته وغدره. ثم سار السيد في قواته ميمماً شطر قلعة بني حماد، وهي من أعمال بجاية، ودخلها بعسكره.
وهنالك وفد عليه الزعماء العرب يطالبونه بإنجاز وعوده، فاحتفل بهم وقدم لهم الطعام. فلما استقروا داخل القلعة، أغلقت أبوابها، وأمر السيد بالقبض على جملة من أولادهم، ثم استدعى آباءهم ورؤساء العشائر منهم، وأقسم لهم بأوثق الأيمان أنه لن يحل وثاقهم، ولن يطلق سراحهم إلا بإحضار الأشل أو رأسه، أو يحمل رؤوسهم مكان رأس الأشل إلى الخليفة المنصور. فأبدى العرب أنهم لا يستطيعون الغدر بمن لجأ إليهم، واحتمى بجوارهم، ولو قتلوا جميعاً. وعندئذ تدخلت أمهات الأبناء المعتقلين، وصاحوا كيف نضحي بأبنائنا في سبيل شقي منافق، وعندئذ نشب الخلاف بين الأمهات والآباء، وذاع الخبر في مختلف الأحياء، ووقف الأشل على ما حدث فأراد الفرار اتقاء الغدر، ولكن رهطاً من عشائر المعتقلين بادروه بالهجوم، وقبضوا عليه وعلى وزيره وحملوهما إلى القلعة، فغمرهم السيد بإحسانه وصلاته، وأخلى سبيل المعتقلين، وأمر بإعدام الثائر وصاحبه، وحملت رأسه إلى بجاية، وعلقت على بابها مع ذراعه وعضده، وأخمدت بذلك ثورته في مهدها (1).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 190 و 191.(4/193)
ولم تكد تنتهي هذه الفتنة حتى وردت على المنصور في سنة 590 هـ، أنباء مقلقة عن إفريقية، خلاصتها أن بني غانية قد استأنفوا حركاتهم بنشاط مضاعف، وأن حلفاءهم من العرب والغز، يعيثون فساداً في أنحاء إفريقية ولاسيما بلاد الجريد. ونحن نعرف أن على بن إسحاق بن غانية الميورقي، بطل هذه الحركة التي كادت تقضي على سلطان الموحدين في إفريقية، كان على أثر هزيمته الساحقة في معركة الحمّة (سنة 584 هـ) قد فر جريحاً إلى أعماق الصحراء.
وهنا تختلف الرواية في مصيره، فيقول لنا صاحب المعجب إنه توفي بعد قليل متأثراً بجراحه التي أصابته في معركة الحمة (1). ويقول ابن خلدون إنه توفي في بعض حروبه مع أهل نفزاوة من سهم أصابه في بعض المعارك، وذلك في نفس العام (584 هـ) فدفن هنالك، ثم حمل رفاته إلى ميورقة (2). ويقول التجّاني في رحلته إن على بن غانية، حينما طارده المنصور بعد موقعة الحمّة، توغل في صحراء توزر، فرجع عنه المنصور، ثم مات على بعد ذلك على توزر من سهم أصابه في ترقوته فقضى عليه (3).
ولما توفي علي بن غانية، قام بالأمر من بعده أخوه يحيى، وهو يضطرم بمثل مُثُله، ويرمي إلى تحقيق مثل غاياته، أعني قيادة الثورة ضد الموحدين، والقضاء على سلطانهم في إفريقية، معتمداً في ذلك، مثل أخيه على محالفة سائر العناصر الخصيمة من العرب والغز وغيرهم. ومن ثم فإنه جدد التحالف الذي كان بين أخيه وبين قراقوش أو قراقش زعيم الغز. ولكن هذا التحالف لم يطل أمده. ذلك أن قراقش ما لبث أن جنح إلى طاعة الموحدين، فسار إلى تونس واجتمع بواليها السيد أبي زيد، فتلقاه بمنتهى الترحاب والتكريم، وأقام بها وقتاً في كنفه وتحت رعايته، وكان ذلك في سنة 586 هـ (4). وهنا يحق لنا أن نتساءل هل كانت ثمة علاقة بين تصرف قراقوش وبين سفارة ابن منقذ التي أوفدها صلاح الدين في نفس هذا العام إلى الخليفة الموحدي؟ لقد كان قراقوش مملوكاً للملك المظفر تقي الدين بن شاهنشاه بن أيوب بن شادي، ابن أخي السلطان
_______
(1) المعجب ص 154.
(2) ابن خلدون في كتاب العبر ج 6 ص 193.
(3) رحلة التجاني ص 162.
(4) رحلة التجاني ص 104.(4/194)
صلاح الدين، ومن الممكن أن يكون تصرف قراقوش قد وقع بإيحاء السلطان، حتى لا تعتور الصعاب مهمة سفيره لدى البلاط الموحدي. بيد أننا لا نميل إلى الأخذ بهذا الرأي، لأن قراقوش لم يكن إلا مغامراً لا ذمام له، ولا يدين في الظروف التي كان يجوزها بدين الولاء لأحد. وقد أقدم قراقوش من قبل على مثل هذه الخطوة حينما كتب إلى المنصور عقب موقعة الحمّة بعرض التوبة والطاعة. ومن ثم فإنا نراه بعد فترة يسيرة من التظاهر بطاعة الموحدين، يفر من تونس ليستأنف مغامراته، وذلك قبل أن ينتهي ابن منقذ من تأدية سفارته. ولما وصل قراقوش إلى قابس، استطاع أن يدخلها مخادعة، وقتل جماعة من أهلها، وأعلن خروجه على الموحدين مرة أخرى، واستدعى أشياخ العرب من ذباب وسليم، فقتل سبعين منهم، ومن بينهم محمود بن طوق بن بقية زعيم المحاميد، وحميد بن جارية، وذلك داخل قصر العروسين بقابس (1). ثم سار إلى طرابلس فاستولى عليها من يد حاكمها الموحدي، وسار بعد ذلك إلى بلاد الجريد فاستولى على معظم أنحائها. وكانت بلاد الجريد مقر حليفه يحيى بن غانية. وعندئذ وقع الخلاف بينهما، وسار يحيى لقتال حليفه السابق، فالتقيا بموضع يعرف " بمحسن من أعمال طرابلس، فهزم قراقوش هزيمة شنيعة، وفر إلى الجبال، وأتبع يحيى نصره بانتزاع طرابلس من يد ياقوت نائب قراقوش، وذلك بعد حصارها من البحر بمركبين بعث بهما إليه أخوه عبد الله والي ميورقة، وقبض على ياقوت وأرسله مصفداً إلى ميورقة، فلبث سجيناً بها، حتى استولى الموحدون على ميورقة سنة 599 هـ، وعندئذ أفرج عنه، وقصد إلى مراكش. وعين يحيى ابن عمه تاشفين بن غازي نائباً عنه بطرابلس، وغادرها ليتابع مغامراته. فلم يمض سوى قليل حتى ثار أهل طرابلس بنائب الميورقي وأخرجوه منها، وأعلنوا طاعتهم للموحدين مرة أخرى (2).
ونحن نقف في حوادث إفريقية عند هذا الحد، لنعود إلى تتبع حركات يحيى بن غانية، الذي قدر له أن يمضي في قيادة المعركة ضد الموحدين زهاء خمسين عاماً، وهو ينزل بقواتهم الضربة تلو الأخرى، وسلطان الدولة الموحدية بإفريقية يهتز ويتصدع تباعاً.
_______
(1) رحلة التجاني ص 104، وابن خلدون في العبر ج 6 ص 193.
(2) رحلة التجاني ص 244 و 245.(4/195)
الفصل الثالث موقعة الأرك
عزم المنصور على السير إلى إفريقية. مسيره إلى رباط الفتح. مقدم ولاة الأندلس وإبلاغهم بانقضاء الهدنة مع النصارى. غارات النصارى وعيثهم في أراضي الأندلس. تعديل المنصور لخطته وعزمه على العبور إلى الأندلس. رواية أخرى عن بواعث هذا التحول. إتمام الأهبة ومقدم سائر الحشود. مسير المنصور من مراكش إلى قصر المجاز. جواز الجيوش الموحدية ثم الخليفة إلى شبه الجزيرة.
مسيره إلى إشبيلية. إجراء التمييز واستكمال الأهبة. مسير الخليفة إلى قرطبة ثم خروجه إلى قشتالة. أهبة ألفونسو الثامن. مسيره نحو قلعة رباح. نزوله بقواته في ربوة الأرك. مسير الخليفة إلى لقائه ونزوله قرب الأرك. اشتباك الطلائع. رأى ابن صناديد في خطة القتال. تقسيم الجيش الموحدي وقواده. زحف الموحدين صوب الأرك. استعدادهم لخوض المعركة. ترتيب الجيوش الموحدية. تبادل الغفران والحث على الجهاد. وصف عيان لميدان معركة الأرك. بدء المعركة في ضحى التاسع من شعبان. نزول القشتاليين واندفاعهم نحو المعسكر الموحدي. هجوم القشتاليين على القلب. عنف القتال وروعته. مقتل القائد العام أبي يحيى. اندفاع جيوش الأندلس والمغرب والأغزاز نحو النصارى. اضطرار النصارى إلى الارتداد والفرار إلى الربوة. حملة العرب والمطوعة والأغزاز عليهم وحصدهم. زحف الخليفة في سائر قواته نحو النصارى. ارتياع النصارى وفرارهم. اقتحام الموحدين لحصن الأرك. وصف الرواية النصرانية لأدوار المعركة. ارتداد ملك قشتالة في فله نحو طليطلة. الاتفاق بين الفريقين على تسليم حصن الأرك. استنقاذ الأسرى المسلمين وتسريح حامية الحصن. نتائج المعركة. عدد الجيش القشتالي وخسائره. خسائر المسلمين. الغنائم والأسلاب. المقارنة بين موقعة الزلاقة وموقعة الأرك. عنصر الأسطورة في المعركتين. الخلاف بين الموقعتين من حيث الظروف والنتائج. أسباب نصر الموحدين. زحف الموحدين على قلعة رباح واقتحامها. وصف عيان لأطلال هذه القلعة. تقسيم المنصور للغنائم. عوده إلى إشبيلية. توجيه كتب الفتح. تهاني الشعراء. عناية المنصور بإصلاح الجامع وإتمام صومعته. قضاؤه الشتاء في إشبيلية. التمييز والاستعداد لاستئناف الغزو. مسير المنصور من إشبيلية إلى منطقة استرمادورة. افتتاح الموحدين لحصن منتانجش. استيلاؤهم على مدينة ترجالة، وسانتا كروث. اقتحامهم لمدينة بلاسنثيا وأسر حاميتها. مسيرهم إلى طلبيرة وتخريبهم لأحوازها. احتجاب القشتاليين وإحجامهم عن لقاء الغزاة. اقتراب الموحدين من طليطلة وتخريبهم لبسائطها. رواية عن غزوهم لطليطلة. استنصار ملك ليون بالمنصور. إمداده بقوة من الموحدين. غزو الموحدين والليونيين لقشتالة وتخريبهم لأراضيها. عود المنصور إلى قرطبة ثم إلى إشبيلية. نتائج هذه الغزوة السلبية. عناية المنصور بأمر العمال والنظار. قيامه بتعيين بعض الولاة. استعداده للغزوة التالية. مسيره إلى قرطبة ونزوله بها.(4/196)
لما تواترت على المنصور خلال سنة 590 هـ (1194 م) تلك الأنباء المقلقة عن حوادث إفريقية، وتوالت عليه كتب واليها الشيخ أبي سعيد بن أبي حفص عن استفحال أمر بني غانية، وتفاقم غارات العرب واشتداد عيثهم، اعتزم أن يسير إلى إفريقية لمعالجة الأمور بنفسه، فغادر مراكش إلى رباط الفتح، ليقوم هنالك بإعداد الحملة المرغوبة، وبعث بكتبه إلى ولاة الأندلس بالحضور لتلقي تعليماته فلما وفدوا عليه بالرباط قرروا أن الهدنة التي عقدت مع ملك قشتالة في سنة 586 هـ (1190 م) عقب جوازه السابق إلى الأندلس، قد انتهى أجلها، وأنه أي ملك قشتالة قد بعث إلى جميع الثغور الإسلامية الواقعة على حدودها ينذرها بذلك، وأنه اعتماداً على انشغال الخليفة بحوادث إفريقية، وباستعداده للحركة إليها، قد بعث أقماطه وقادته إلى مختلف أنحاء الأندلس يغيرون عليها، ويثخنون فيها، حتى بلغت غاراتهم أحواز إشبيلية (1). فصرف المنصور ولاة الأندلس، وغادر رباط الفتح إلى مكناسة، وهو على عزمه أن يسير إلى إفريقية. ولكن توالت عليه عندئذ كتب أهل الأندلس، وقادة الثغور فيها، باشتداد وطأة العدو، وتفاقم غاراته. وكان ألفونسو الثامن ملك قشتالة، قد بعث مطران طليطلة مارتن لوبث في حملة تخريبية محضة إلى أراضي الأندلس، عاثت فيها أشد عيث، واستولت على كثير من الغنائم والماشية. فرفعت هذه المخاطبات والأنباء كلها إلى المنصور، وهو في مكناسة يستعد للسير إلى إفريقية فأقلقته وأهمته، ورأى عندئذ أن يُعدل خطة سيره، فأمر بأن تُبعث الأمداد إلى ولاة إفريقية، وأن تعد العدة للسير إلى الأندلس، فاشتدت الحركة عندئذ، وأقبلت الحشود من كل صوب، وكانت رغبة المجاهدين في العبور إلى الأندلس أشد لقربها، وتيسير المؤن والأقوات بها (2).
تلك هي البواعث والظروف التي أملت على المنصور عزمه على العبور إلى الأندلس للمرة الثانية. ولكن توجد ثمة رواية أخرى خلاصتها أن ملك قشتالة،
_______
(1) وتوجد ثمة رواية أخرى خلاصتها أن ملك قشتالة كان قد بعث إلى المنصور، وهو يتأهب لغزو إفريقية، رسوله يطلب تجديد الهدنة، وهو يضمر الكيد، فلما وصلت أنباء الغارات التي قام بها القشتاليون في أراضي الأندلس، والرسول في محلة المنصور، أمر المنصور بطرده وتجهيزه إلى البحر (أورد هذه الرواية خلال حديثه عن موقعة الأرك أبو الحسن حازم القرطاجنى في كتابه (مخطوط المتحف البريطاني ص 152).
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 191 و 192، وابن خلدون ج 6 ص 245.(4/197)
على أثر انقضاء الهدنة التي كانت معقودة بينه وبين الموحدين، غزا أراضي الأندلس، وتوغل في غاراته حتى الجزيرة الخضراء. وهناك وجه إلى الخليفة المنصور كتاباً من إنشاء وزيره اليهودى ابن الفخار، يتحداه فيه بأسلوب يفيض غروراً ووقاحة، أن يأتي لقتاله، فإن جبُن أو عجز، فليرسل إليه السفن ليجوز فيها إليه، ويقاتله في أعز مكان لديه، وأن المنصور غضب لذلك، واستنفر الناس للجهاد، وكانت حركته الثانية إلى الأندلس (1). على أنه يبدو من نص هذا الخطاب، ومن تحدثه عن " تواكل رؤساء الأندلس، وإخلادهم إلى الراحة " أنه يمكن بطريقة أرجح نسبته إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، وأنه كان موجهاً إلى يوسف بن تاشفين، وليس إلى الخليفة الموحدي.
وفي أوائل سنة 591 هـ (1194 م) كانت أهبات الحملة الموحدية، قد تقدمت تقدماً كبيراً، واجتمعت الحشود من سائر بلاد المغرب والقبلة. وفي يوم الخميس الثامن عشر من جمادى الأولى من السنة المذكورة، خرج الخليفة يعقوب المنصور من حضرة مراكش، والجيوش تتلاحق في أثره من سائر النواحي، وسار تواً إلى قصر المجاز (القصر الصغير)، وهنالك عنى بتنظيم تموين الجيوش، ثم بدأ الجواز، فكان أول من جاز البحر قبائل العرب ثم قبائل زناتة، ثم المصامدة، فغمارة، فالجيوش المطوعة، ثم الموحدون، فالعبيد، ولما تم جواز الجيوش على هذا النحو واستقرت بأراضي الجزيرة الخضراء، عبر الخليفة المنصور البحر في جمع كبير من أشياخ الموحدين والزعماء والفقهاء، والعلماء، وكان عبوره إلى طريف (2) في يوم الخميس عشرين من جمادى الآخرة سنة 591 هـ (أول يونيه سنة 1195 م).
وأقام المنصور بطريف يوماً واحداً، ثم استأنف سيره إلى إشبيلية، ولقيه في الطريق والي إشبيلية السيد يعقوب بن أبي حفص وجماعة من أعيانها، ثم تقدمه ليعد له أسباب النزول في الحضرة الأندلسية، ونزل الخليفة بقصر البحيرة خارج باب جَهور، وهرع أهل الحاضرة للسلام عليه، وعهد الخليفة إلى أبي بكر
_______
(1) راجع ابن الأثير ج 12 ص 44، وابن خلكان في الوفيات ج 2 ص 425، وروض القرطاس ص 145، والنويري طبعة ريميرو في مجلة ( Revista del Centro de ج 8 ص 273 Estudios Historicos T. VIII ano 1919 p. 218)
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 192، وفي روض القرطاس أنه عبر إلى الجزيرة
الخضراء (ص 146).(4/198)
ابن زُهر وزملائه أشياخ المدينة، بإنزال الأشياخ والأكابر في الدور المعدة لنزولهم، وبعد الظهر أذن بدخول السادات للسلام عليه، وكان ذلك يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الثانية. وفي الغد ركب الخليفة إلى حصن الفرج الذي كان قد أمر بإنشائه خارج إشبيلية، وأعجب بمنعته وحسن روائه. ثم عاد فزار المسجد الجامع. وفي يوم السبت أمر بإجراء التمييز، فانتظم سائر الجند بالزي الفاخر، والعدد الكاملة، وركب الخليفة ومعه من حضر من الأبناء، والقرابة والوزراء، واستعرض الجند صفاً صفاً، وقبيلا قبيلا، ثم أخرجت الرواتب والبركات، ووزعت على سائر الحشود (1).
وأنفق المنصور في إشبيلية أسبوعين وهو يستكمل أهباته، ويضع خططه في أناة وروية، وفي صبيحة يوم الخميس الحادي عشر من رجب (22 يونيه) غادر إشبيلية قاصداً إلى قرطبة، مخترقاً طريق نهر الوادي الكبير فوصل إليها يوم الجمعة التاسع عشر منه، واستراح بها ثلاثة أيام. ثم خرج منها من باب مورادال في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين منه، وسار في قواته شمالا ميمماً صوب سهول شلبطَرَّة وقلعة رباح.
- 1 -
وكانت أنباء عبور الخليفة الموحدي وجيوشه الزاخرة، قد ترامت أثناء ذلك إلى ملك قشتالة ألفونسو الثامن، فجمع " الكورتيس " في مدينة كريون على عجل وأخذ يتأهب للحرب بكل ما وسع، واستدعى سائر أتباعه من الأمراء والأشراف في قواتهم، وحشد كل ما استطاع من الجند، وبعث إلى زميليه ملكي ليون ونافارا في طلب العون، فوعداه بذلك، وانتظر أياماً بطليطلة حتى وفد أتباعه في حشودهم، ثم غادرها مسرعاً إلى الجنوب، واخترق نهر وادي يانه متجهاً نحو أراضي قلعة رباح، ولم ينتظر مقدم زميله وحليفه ملك ليون، وكان قد وصل في قواته إلى طلبيرة، ولم ينتظر كذلك مقدم قريبه ملك نافارا (نبرّة)، إذ كان واثقاً من رجحان كفة قواته وأهباته، واثقاً من النصر على أعدائه، مهما بلغت قواتهم.
وكان ملك قشتالة قد بدأ قبل ذلك بقليل بإنشاء حصن جديد في المحلة المسماة
_______
(1) البيان المغرب ص 192 و 193.(4/199)
" بالأرك ". وهي محلة صغيرة من أعمال قلعة رباح، تقع على مسافة أحد عشر كيلومتراً في غربي مدينة " ثيوداد ريال " الحديثة (1)، وتقوم فوق ربوة عالية، تمتد سفوحها حتى نهر وادي يانه، وكانت عندئذ هي نقطة الحدود بين قشتالة وأراضي المسلمين، فإلى هذه المحلة اتجه ملك قشتالة بقواته، وعسكر بها معتزماً أن يلقى الموحدين وألا يسمح لهم بعبور الحدود إلى داخل أراضيه.
وأما الخليفة المنصور فاستمر في سيره مخترقاً قلعة رباح حتى وصل إلى مقربة من محلة الجيش القشتالي المعسكر في الأرك. ويقول لنا صاحب روض القرطاس إن الخليفة استمر في سيره حتى بقى بينه وبين الأرك مرحلتان قريبتان، وإنه نزل هنالك، وذلك في يوم الخميس الثالث من شعبان سنة 591 هـ (13 يوليه سنة 1194 م)، وما كاد الجيش الموحدي يستقر في محلته حتى ظهرت سرية من خيل القشتاليين خرجت لتستطلع أخبار المسلمين، فظفرت بها طائفة من الجند الموحدين وأبادتها قتلا. ومضت بضعة أيام أخرى قبل أن يقع الاشتباك بين الجيشين، ولم تكن ثمة سوى الطلائع من الجانبين، وكانت الخسارة تقع في معظم الأحيان على القشتاليين. وفي خلال ذلك كان الخليفة المنصور، يعقد المؤتمرات الحربية، ويجري مشاوراته مع أشياخ مختلف القبائل، ويروي لنا صاحب روض القرطاس أنه لما استشار قواد الأندلس أحالوه على كبيرهم أبي عبد الله ابن صناديد، وأن ابن صناديد أبدى رأيه للخليفة، بأنه يجب أن تبدأ المعركة باشتباك سائر حشود الأندلس وقبائل العرب، وسائر قبائل المغرب من زناتة والمصامدة وغيرهم وجند المتطوعة، وأن ينتظر الخليفة في المؤخرة ومعه جيوش الموحدين والعبيد والحشم في موضع مستور، فإن أسفرت المعركة عن انتصار المسلمين فبها، وإن أسفرت عن هزيمتهم، فعندئذ يبادر الخليفة في قواته إلى لقاء العدو، وليحمي ظهور المسلمين، ويكون العدو عندئذ قد خبت قواه، فيكون النصر للمسلمين، وأن الخليفة قد أعجب بهذا الرأي وقرر اتباعه (2).
ويقدم إلينا صاحب روض القرطاس فوق ذلك تفاصيل هامة عن تقسيم الجيش
_______
(1) الأرك هي بالإسبانية Alarcos، وثيوداد ريال هي Ciudad Real ومعناها المدينة الملكية. وتقوم مكان الأرك اليوم محلة صغيرة تسمى Sta Maria de Alarcos في فحص قلعة رباح.
(2) روض القرطاس ص 147.(4/200)
خريطة: مواقع موقعة الأرك سنة 591 هـ - 1194 م.(4/201)
الموحدي وقواده في ذلك اللقاء الهام، فيقول لنا إن الخليفة جلس في يوم السبت الخامس من شعبان في قبته الحمراء واستدعى الشيخ أبا يحيى بن أبي محمد بن أبي حفص، وهو حفيد الزعيم عمر بن أبي حفص الهنتاني صاحب المهدي، وكان من أكبر وزرائه، فولاه قيادة الجيش العامة، وقدم ابن صناديد على عساكر الأندلس وحشودها، وجيرمور بن رياح على جميع قبائل العرب، ومنديل المغراوي على قبائل مغراوة، وعقد لمحيو بن أبي بكر بن حمامة على جميع قبائل بني مرين، ولجابر بن يوسف على قبائل عبد الواد، وعقد لعبد القوي التجيني على قبائل تجين، ولتجليدر على قبائل هسكورة وسائر المصامدة، ولمحمد بن منعفاد على قبائل غمارة. وعقد أخيراً للحاج أبي خزر يخلف الأورينى على سائر المتطوعة، وذلك على أن تكون هذه القيادات جميعها تحت القيادة العامة لأبي يحيى بن أبي حفص. واختص أمير المؤمنين من جانبه بكافة عسكر الموحدين والعبيد (1).
وكان الخليفة المنصور، قد قرر مع قادته أن تبدأ الجيوش الموحدية بالزحف على محلة النصارى. وتحركت الجيوش الموحدية بالفعل خلال السهل المنبسط أمام ربوة الأرك، حتى صارت على مقربة منها، ونزلت في السهل المنخفض الممتد أمامها، وهي تشرف عليه بمنعتها ووعورتها من عل، وكان ذلك في يوم الثلاثاء الثامن من شعبان (17 يوليه) فلما رأى النصارى اقتراب الموحدين خرجت جملة من قواتهم، وتقدمت قليلا من مراكز الجيش الموحدي، ولكن الموحدين لم يفعلوا شيئاً للاشتباك مع العدو. ذلك أن الخليفة المنصور لم يشأ أن يخوض الموحدون المعركة في ذلك اليوم، بل قرر خوضها في اليوم التالي. فلما رأى النصارى المتقدمون جمود الموحدين، عادوا إلى محلتهم فوق ربوة الأرك وقد أثقلتهم أسلحتهم (2).
وفي اليوم التالي. وهو يوم الأربعاء التاسع من شعبان سنة 591 هـ (18 يوليه سنة 1195 م) كانت الجيوش الموحدية كلها على قدم الأهبة، وقد " عبئت تعبئة حرب "، وعقدت الرايات لسائر القبائل والطوائف، وجعل القائد العام أبو يحيى عسكر الأندلس في الميمنة، وزناتة وسائر القبائل المغربية والعرب في
_______
(1) روض القرطاس ص 148.
(2) الرواية النصرانية اللاتينية Chronique Latine des Rois de Castille وقد أوردها الأستاذ هويثي في بحثه عن معركة الأرك Campana de Alarcos المنشور بمجلة المعهد المصري بمدريد Vol. II. p. 62-67، ثم في كتابه Grandes Batallas de la Reconquista, p. 152.(4/202)
الميسرة، وجعل المتطوعة والرماة والأغزاز في المقدمة، واحتل هو القلب مع قومه من قبيلة هنتانة. وبقى المنصور في خاصته، وفي جند الموحدين والعبيد في المؤخرة، على أهبة للتدخل في اللحظة الحاسمة (1).
ووقعت قبيل المعركة بقليل في المعسكر الموحدي، مناظر مؤثرة، حيث قام القائد العام الوزير أبو يحيى وصاح بصوت جهوري يقول للناس: إن أمير المؤمنين يطلب إليهم أن يغفروا له، فإن هذا موضع غفران، وأن يتغافروا فيما بينهم، وأن يطيبوا نفوسهم، وأن يخلصوا نياتهم لله، فبكى الناس، وصاحوا من جانبهم بطلب الغفران من الخليفة، وأنهم بيمن نيته وصدق طويته، يرجون الخير من الرحمن. ثم قام القاضي أبو علي بن حجاج، وألقى خطبة بليغة تفيض حماسة وبياناً، في الحث على الجهاد وفضله ومكانته وقدره عند الله، وكان لهذه الحركة آثارها في إنعاش النفوس وتنبيه الضمائر، وتنقية السرائر، وإذكاء العزائم (2).
ويجدر بنا قبل أن نصف أدوار المعركة، أن نصف البقعة التاريخية، التي وقعت فيها، وقد أتيح لنا زيارتها ودراستها (3).
إن ميدان معركة الأرك Alarcos، ما زال معروفاً بمواقعه وحدوده، تعينه وتحدده، لا الرواية المتواترة فقط، ولكل تحدده كذلك آثار حصن الأرك الشهير، الذي عرفت باسمه المعركة، والذى تقوم اليوم مكانه، فوق نفس الربوة التي كان يحتلها، كنيسة، أو معبد يسمى " كنيسة القديسة مريم صاحبة الأرك " Sta Maria de Alarcos.
ويقع هذا المكان على قيد نحو ستة كيلومترات من غربي مدينة " ثيوداد ريال " الحديثة، وشمال غربي بلدة " بوبليتي " الصغيرة، وتفضي إليه طريق جبلية معبدة، تخترق في البداية بسيطاً أخضر من الأرض، يفضي غير بعيد إلى مجموعة من الهضاب الصغيرة. وعلى نحو أربعة كيلومترات من هذه الهضاب، تقع ربوة الأرك Alarcos التي تقوم عليها اليوم، فوق أنقاض الحصن القديم كنيسة القديسة مريم، أو سيدة الأرك، وهذه الكنيسة أو المعبد، حسبما يسمى في تلك الناحية Ermita
_______
(1) روض القرطاس ص 148 و 149، ونفح الطيب ج 2 ص 537.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 194.
(3) كان ذلك في اليوم الثالث والعشرين من أبريل سنة 1963.(4/203)
عبارة عن بناء قديم، يقوم وسط فناء شاسع، تحيط به أسوار قديمة. وتوجد بداخله كنيسة بها صفان من العقود الكبيرة، يحتوى كل منهما على أربعة عقود، وهي بسيطة جداً، وليست بها أية مظاهر فخمة.
وأما آثار حصن الأرك القديم، فتبدو أولاً في مصطبة صخرية كبيرة تمتد خارج سور المعبد على حافة الربوة، وتدور حولها، وهو ما يدل على أن المعبد قد بني فوق موقع الحصن القديم، وتبدو ثانياً في وجود عدة بقايا صغيرة من أسوار الحصن تقع في غربيه، وظاهر من وجود الأحجار والأنقاض المتماثلة، وامتدادها غرباً حتى قرب النهر أن بناء الحصن، كان يمتد نحو ثلاثمائة متر، كما أنه يوجد في الناحية الخلفية، من الربوة، وهي تطل أيضاً على نهر وادي يانه، آثار عقدين قديمين.
ويوجد عند نهاية الأنقاض غرباً، كتلة كبيرة من الأحجار والصخور، وتحتها أثر سرب قديم، يقال إن الفرسان، كانت تقود منه خيلها إلى النهر لتشرب من مائه، وأنقاض مصطبة الحصن التي سبق ذكرها، تصل إلى هذه الكتلة من الأنقاض، مما يدل على أن الحصن كان يمتد حتى ذلك المكان. كما أنه يبدو خلال الأنقاض الممتدة كثير من أسس الجدران القديمة.
وتشرف الربوة في اتجاه الجنوب على واد عميق متدرج، يصطلح على أنه المكان الذي وقعت فيه الموقعة. ويجري نهر وادي يانه بحذاء هذا الوادي من شماله وغربه، ويدور في انحناءة كبيرة حول ربوة الأرك، ويطلق اليوم على هذا الوادي الذي تغمره الخضرة اسم محلة ديجو " Villa Diego .
ويبدو من أوصاف أدوار المعركة أن محلة الجيش القشتالي، كانت تحتل مكاناً يتصل بمشارف ربوة الأرك، على مقربة من الحصن، ويمتد في اتجاه قرية بوبليتي، ويستند إلى الحصن، وإلى نهر وادي يانه، وأن المسلمين كانوا يحتلون البسيط الواقع قبالتهم في أسفل الوادي، وتستند محلتهم غرباً إلى يسار النهر.
وفي ضحى هذا اليوم - التاسع من شعبان سنة 591 هـ (18 يوليه سنة 1194 م) - نشبت المعركة المرتقبة. وكان القشتاليون حينما رأوا جيوش الموحدين تزحف نحو محلتهم ببطىء، وقد عبئت للهجوم أكمل تعبئة، قد نزلوا من محلتهم في صفوف كثيفة قاتمة، أو حسبما تصفهم الرواية الإسلامية وهم " كالليل الدامس،(4/204)
رسم تخطيطى لميدان موقعة الأرك حسبما يبدو اليوم.(4/205)
والبحر الزاخر، أسراباً تتلو أسراباً وأمواجاً تعقب أمواجاً ". ويقدر صاحب روض القرطاس، من هبط في هذه الدفعة الأولى من القشتاليين بنحو سبعة آلاف أو ثمانية آلاف فارس " كلهم قد احتجب بالحديد والبيضات والزرد ". ثم يتتبع حركات هذه القوة النصرانية المهاجمة، فيقول إنها اندفعت حتى لطمت خيلها أطراف رماح المسلمين أو كادت، ثم تقهقرت قليلا، وعادت إلى الاقتراب من المسلمين، ثم ارتدت وتهيأت للهجوم الفعلي، وفي أثناء ذلك كان الشيخ أبو يحيى والقائد ابن صناديد، يحث كل منهما الجند على الثبات وإخلاص النيات والأعمال. وأخيراً تركز هجوم القشتاليين على قوات القلب التي يقودها القائد العام أبو يحيى، معتقدين أنه هو الجناح الذي يقوده الخليفة، وكان المنصور قد أمر بالفعل بأن ترفع الأعلام الخليفية على القلب، فقاتل أبو يحيى وجنوده أشد قتال، ولكن الصدمة كانت عنيفة، فقتل أبو يحيى، وقتل معه جماعة من من هنتانة، والمطوعة وغيرهم. وعندئذ تقدمت قبائل العرب والمطوعة والأغزاز والرماة، وأحاطوا بالنصارى من كل جانب، ودفع القائد ابن صناديد بجيوش الأندلس إلى المعركة وزحفت معه قبائل زناتة وسائر قبائل البربر، واندفعت الجيوش الموحدية بجملتها نحو محلة القشتاليين، واشتد القتال بين الفريقين، وسالت الدماء بغزارة، وكثر القتل في مقدمة القشتاليين، التي اضطلعت بالهجمة الأولى، واستمر القتال على هذا النحو بعنف وشدة، حتى اضطر القشتاليون إلى التقهقر والفرار نحو الربوة التي تحتلها محلتهم، وبدت بوادر الهزيمة على القشتاليين (1).
ولكن صاحب البيان المغرب، وهو فيما يرجح ينقل عن رواية ابن صاحب الصلاة وهي رواية معاصرة، يقدم إلينا عن المعركة صورة أخرى. فيقول لنا إن هجوم القشتاليين تركز أولاً على ميسرة الجيوش الموحدية، وأنه أسفر عن تقهقر جماعة من المطوعة وأخلاط السوقة، فلما رأى المنصور ذلك، نهض بنفسه، وترك ساقته على حالها، وتقدم منفرداً، وهو يحث الجند على الثبات والهجوم على العدو، فكان لحركته أعمق وقع في نفوس الجند، فاضطرمت هممهم وعزائمهم، واندفعت سائر الحشود والقبائل نحو القشتاليين بشدة، والتحم الجيشان، واشتد القتال، وكثر القتل في صفوف القشتاليين، واضطروا في النهاية إلى التقهقر والفرار.
ودامت المعركة من ضحى اليوم حتى غروب الشمس، وأسفرت عن قتل جموع
_______
(1) روض القرطاس ص 149 - 150.(4/206)
صورة: كنيسة الأرك (سانتا ماريا دي ألاركوس) التي أقيمت على أنقاض حصن الأرك.
صورة: مجموعة أطلال قلعة رباح.(4/207)
عظيمة من النصارى، واستطاع ملك قشتالة أن يفر في نحو عشرين فارساً من أصحابه، فسار تحت جنح الليل صوب طليطلة لا يلوي على شىء، واعتصمت معظم فلول النصارى بحصن الأرك (1).
وتفصل لنا الرواية الإسلامية ما حدث بعد هزيمة القشتاليين في الجولة الأولى. ويبدو من أقوال صاحب روض القرطاس، أن ألفونسو الثامن ملك قشتالة، كان عندئذ معتصماً مع باقي قواته بربوة الأرك، فلما ارتد القشتاليون، وفروا نحو الربوة يحاولون الاعتصام بها، حالت بينهم القوات الموحدية، فارتدوا ثانية نحو السهل، فحملت عليهم العرب والمطوعة وهنتانة والأغزاز والرماة، وحصدوهم حصداً، وأفنوهم حسبما تقول الرواية عن آخرهم. ولما علم أمير المؤمنين بما حدث، ضربت الطبول ونشرت الرايات، وفي مقدمتها اللواء الخليفي الأبيض، وزحف المنصور في القوات الموحدية نحو القشتاليين، تؤيده سائر الحشود والقبائل. وكان ملك قشتالة حينما رأى ما حل بقواته، وضرب الطبول، وعجيج الأبواق، قد اعتزم أن يلقى ضد الموحدين بما تبقى من قواته، ولكن القشتاليين حينما رأوا كثافة الجيوش الموحدية، وروعة هجومها واضطرامها عولوا على الفرار، فتلاحقت بهم فرسان الموحدين، تحصدهم قتلا وأسراً، وأحاط المسلمون بحصن الأرك، يظنون أن ألفونسو الثامن قد اعتصم به، ولكن تبين أنه قد لاذ بالفرار من أحد أبوابه الخلفية، فدخل المسلمون الحصن عنوة، وأضرموا النار في أبوابه، واحتووا على جميع ما فيه، وما في محلة النصارى، من الذخائر والأسلاب والسلاح والمتاع والدواب والنساء (2).
وعلى أي حال، فإنه يبدو من أقوال الرواية الإسلامية، أن القشتاليين هم الذين بدأوا بالهجوم على الموحدين، وتؤيدها في ذلك الرواية النصرانية. وتقدم إلينا الرواية النصرانية عن المعركة، وصفاً موجزاً يختلف قليلا عما تقوله الرواية الإسلامية، وهو أنه لما رأى القشتاليون الموحدين، يتقدمون من محلتهم في الصباح الباكر من ذلك اليوم، حدثت ضجة في معسكر النصارى، وخرج القشتاليون في قليل من النظام وتقدموا، ثم اشتبكوا مع المسلمين، وفي الصدمة الأولى سقط عدة من أكابر النصارى، واشتد القتال بين الفريقين، وسالت الدماء بغزارة.
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 194 و 195.
(2) روض القرطاس ص 150.(4/208)
ولما رأى ملك قشتالة رجاله يسقطون في المعركة على هذا النحو تقدم بنفسه إلى الأمام، وأخذ يثخن مع طائفة من رجاله في المسلمين يميناً وشمالا. ولكن رجاله رأوا أنه يستحيل عليهم أن يقاوموا ضغط الحشود الموحدية، خصوصاً بعد أن سقط كثير من النصارى، وقد استطالت المعركة إلى منتصف النهار، فتضرعوا إليه أن يحتفظ بحياته، خصوصاً وأنه يبدو أن الله قد تخلى عن النصارى. ولكنه أبي أن يصغى إليهم، فجذبوه من المعركة رغم إرادته، وارتد نحو طليطلة في نفر من الفرسان وقلوبهم تنفطر لما حدث حزناً وأسى (1).
وتتفق الروايتان الإسلامية والنصرانية على أنه عقب الهزيمة، لجأت فلول القشتاليين إلى حصن الأرك بقيادة دون ديجو لوبث دي بسكاية. وتقدر الرواية الإسلامية هذه الفلول بخمسة آلاف، فطوق الموحدون الحصن، وكان الخليفة المنصور يعتقد أن ملك قشتالة قد لجأ إليه، ولكنه تأكد من أقوال حليفه وخديمه القشتالي دون بيدرو فرنانديث دي كاسترو الموجود بمحلته، أن الملك قد لاذ بالفرار إلى طليطلة، فعندئذ طالب المنصور بتسليم الحصن في الحال، وأن يُعطى اثنى عشر فارساً كرهينة، حتى يحضر دون ديجو إليه بمراكش ويسلم نفسه أسيراً، وإلا فإنه سوف يقتحم الحصن ويقتل كل من فيه. وتقول لنا الرواية الإسلامية من جهة أخرى، إن الاتفاق تم بواسطة دون بيدرو فرنانديث (وتسميه ببطره ابن فراندس) على أن يفرج عن خمسة آلاف من أسرى المسلمين مقابل إطلاق القشتاليين المحصورين بالحصن، وأن المنصور ارتضى هذا الاتفاق، حرصاً على استنقاذ أسرى المسلمين، وأخذت رهائن وُجهت إلى إشبيلية. وهكذا استطاع دون ديجو لويث أن يخرج من الحصن، وأن يلحق بمليكه في طليطلة (2).
ولكن صاحب روض القرطاس يقدم إلينا عن تسليم حصن الأرَك رواية يطبعها شىء من الخيال، وهو أن الموحدين أخذوا في حصن الأرك أربعة وعشرين ألف أسير من زعماء الروم، فرأى الخليفة المنصور أن يمن عليهم بالإفراج، فأطلق سراحهم وأقالهم من الأسر بعد أن مَلَكهم، وأن هذا التصرف من جانبه،
_______
(1) الرواية النصرانية اللاتينية Chronique Latine des Rois de Castille التي سبقت الإشارة إليها.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 195 و 196. والرواية النصرانية اللاتينية التي سبقت الإشارة إليها. وينقل صاحب الحجب المستورة هذه الرواية (مخطوط المتحف البريطاني ص 154).(4/209)
قد عز على الموحدين وعلى كافة المسلمين، واعتبروه سقطة من سقطات الملوك (1).
تلك هي تفاصيل موقعة الأرك العظيمة التي أحرز فيها الموحدون أعظم نصر، حققوه خلال حكمهم الطويل لشبه الجزيرة الأندلسية. على أن الرواية الإسلامية تقدم إلينا عن نتائج المعركة بعض الأقوال والأرقام المغرقة، وهي قبل ذلك تقدم إلينا عن عدد الجيش القشتالي أرقاماً لا يسيغها العقل لكي تتفق مع هذه النتائج.
وهي لا تقدم إلينا شيئاً واضحاً عن عدد الجيش الموحدي، وتكتفي بأن تتحدث عن عظمة حشوده، وبأن تصفه بأنه جيش يضيق له الفضاء (2)، ولكنها تقول لنا إن جيش القشتاليين يزيد على ثلاثمائة ألف ما بين فارس وراجل (3). ويقول الضبي إنه كان ينيف على خمسة وعشرين ألف فارس ومائتي ألف راجل (4). أما عن خسائر النصارى، فيقول لنا صاحب روض القرطاس، إنه قتل في المعركة من الكفرة ألوف لا تعد ولا تحصى. ويقول لنا ابن الأثير ويتابعه النويري، إن عدد القتلى من الفرنج بلغ مائة ألف وستة وأربعين ألفاً، وبلغ عدد الأسرى ثلاثة عشر ألفاً (5). بيد أنه توجد عن خسائر النصارى رواية أخرى أكثر اعتدالا، هي رواية يوسف بن عمر، مؤرخ الموحدين، التي نقلها إلينا صاحب البيان المغرب، وهو أنه قتل في المعركة من النصارى زهاء ثلاثين ألفاً (6). ويأخذ بهذه الرواية صاحب كتاب " الحجب المستورة " وهو يتابع في روايته رواية البيان المغرب مع تعديلات يسيرة (7). وأما عن خسائر المسلمين فيقول لنا ابن الأثير، ويتابعه النويري، إنه قتل من المسلمين نحو العشرين ألفاً، وهي رواية تبدو معقولة وربما مبالغاً فيها بعض الشىء من حيث الكثرة (8)، وتقول لنا بعض الروايات الأخرى إنه قتل من أعيان المسلمين نفر قلائل، وإن عدد القتلى من المسلمين يبلغ نحو الخمسمائة وهو عدد ضئيل بالنسبة لاشتداد القتال، وطول أمد المعركة.
_______
(1) روض القرطاس ص 151.
(2) ابن الأثير ج 12 ص 45، والنويري (طبعة جسبار ريميرو السالفة الذكر ج 8 ص 274).
(3) روض القرطاس ص 149.
(4) بغية الملتمس (المكتبة الأندلسية) ج 3 ص 35.
(5) ابن الأثير ج 12 ص 45، والنويري؛ الطبعة المشار إليها ص 274.
(6) البيان المغرب - القسم الثالث ص 195.
(7) كتاب المعجب المستورة في محاسن المقصورة (مخطوط المتحف البريطاني ص 154).
(8) ابن الأثير ج 12 ص 45، والنويري (الطبعة السالفة الذكر) ج 8 ص 274.(4/210)
وعلى أي حال، فإنه لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن الرواية الإسلامية هنا، وكعادتها في مثل هذه المواقع العظيمة الحاسمة، التي تضطرم بين الإسلام والنصرانية، تجنح إلى نوع من المبالغة والإغراق، يمكن فهمه وتعليله وإن لم تمكن استساغته. ومن المحقق أن خسائر النصارى كانت فادحة في مثل هذه المعركة التي بلغ فيها القتال أشده، والتي ثقلت فيها وطأة المطاردة على الجيش المنهزم، وأثخن الموحدون في فلوله قتلا وأسرا، ولكنها لا يمكن أن تعدو بضع عشرات من الألوف. ومن ثم كان الرقم الذي يقدمه إلينا المؤرخ الموحدي المعاصر وهو ثلاثون ألفاً، يطبعه التعقل والاعتدال. ثم إن الرواية الإسلامية تقدم إلينا بعد ذلك من الغنائم والأسلاب أرقاماً مدهشة. فيقول لنا ابن الاثير، ويتابعه النويري، إن المسلمين حازوا من الخيام مائة وخمسين ألفاً، ومن الخيل ستة وأربعين ألفاً، ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير مائة ألف، هذا غير مقادير لا تحصى من الأموال والتحف. وقسم الخليفة الغنائم بعد استبعاد الأخماس، بين المسلمين وفقاً لأحكام الشريعة. وكان الخليفة فضلا عن ذلك، قد نادى في عسكره أن من ِغنم شيئاً فهو له سوى السلاح، فحُصر ما حمل إليه منه، فكان يزيد على سبعين ألف لباس (1).
وثمة مسألة أخرى تميل الرواية الإسلامية إلى ذكرها بمناسبة وقيعة الأرَك، وهي المقارنة بين هذه الموقعة وبين موقعة الزلاّقة، وذلك من حيث ظروفها ونتائجها. فهى تذكر كيف أن جنود الأندلس كانوا أول من أصيب من عسكر المسلمين في الزلاقة، وكيف كثر القتل فيهم لولا أن تداركتهم في النهاية قوات ابن تاشفين المرابطية، وهذا بخلاف ما حدث يوم الأرك حيث لقيت الجيوش الموحدية النصارى، مجتمعة وفي جبهة واحدة، ومن ثم فقد كانت موقعة الزلاقة مقسومة الثقل، مكدرة الصفو، ولكن موقعة الأرك جاءت " هنيئة الموقع عامة المسرة ". ثم هي ترى بحق أن غزوة الأرك، كانت مثل الزلاقة من أيام الإسلام المشهورة، وبها اعتز الإسلام وعلت كلمته، بل ترى أنها كانت أعظم من موقعة الزلاقة، وأنها أنست كل فتح تقدمها بالأندلس (2). على أن المقارنة
_______
(1) ابن الأثير ج 12 ص 45، والنويري (طبعة راميرو المشار إليها) ص 274 هـ، ونفح الطيب ج 1 ص 207.
(2) راجع البيان المغرب - القسم الثالث ص 196، وروض القرطاس ص 151.(4/211)
لا تقف عند هذا الحد، فقد رأينا فيما تقدم من حديثنا عن موقعة الزلاقة (1)، كيف أن الرواية الإسلامية تحيطها بطائفة من الأساطير التي تسبغ عليها هالة من القدسية، وكذلك فإن حديثها عن موقعة الأرك لا تخلو من ذكر هذه الأساطير، وأسطع ما تقصه علينا في ذلك هو حديث الحلم الذي يقال إن الخليفة يعقوب المنصور رآه قبل الموقعة ببضعة أيام، في ليلة الجمعة الرابع من شعبان، واستبشر به ببلوغ النصر، وهو أنه لبث طوال الليل راكعاً ساجداً مبتهلا، وداعياً لتأييد المسلمين على أعدائهم، فبينما هو راكع في مصلاه إذ غلبه النوم، فرأى كأن باباً قد فتح في السماء، ونزل منه فارس أبيض حسن الوجه، وبيده راية خضراء منشورة، قد سدت الأفق من عظمها، فسلم عليه، فقال له من أنت يرحمك الله، فقال أنا ملك من السماء، جئت لأبشرك بفتح من رب العالمين، لك ولعصابتك المجاهدين الذين أتوا تحت رايتك. ثم أنشد هذا الفارس أبياتاً حفظها الخليفة وهي:
بشائر نصر الله جاءتك سافرة ... لتعلم أن الله ينصر ناصره
فأبشر بنصر الله والفتح إنه ... قريب وخيل الله لا شك ظافرة
فتفنى جيوش الروم بالسيف والقنا ... وتخلى بلاداً لا ترى بعد عامرة
وأن الخليفة نهض من نومه موقناً بالفتح والظفر (2). فهذا الحلم الذي تقصه الرواية الإسلامية بمناسبة معركة الأرك، يذكرنا بالحلم الذي تذكره لمناسبة موقعة الزلاّقة وهو أن الفقيه الناسك أبا العباس بن رميلة القرطبي وكان بمحلة ابن عباد، نهض في جوف الليل، قبيل نشوب المعركة فرحاً مسروراً، وهو يقول إنه رأى النبي، وإن النبي بشره بالفتح والشهادة (3). ثم تذكرنا كذلك بالحلم الذي تقول لنا إن ألفونسو السادس ملك قشتالة رآه قبيل معركة الزلاقة، وخلاصته أنه رأى أنه يركب فيلا، قد تدلى بجانبه طبل يحدث صوتاً مزعجاً كلما قرعه، وأن فقيهاً من أهل طليطلة، نبأه بأن هذا الحلم هو نذير هزيمته، مشبهاً ذلك بما حدث عام الفيل من سحق أبرهة، وقد كان يركب الفيل أيضاً. ثم يذكرنا كذلك، بما تزعمه الرواية النصرانية من آن لآخر، من أن الملوك النصارى، كانوا متى اشتد القتال بينهم وبين المسلمين، يرون ملاكاً يهبط من السماء وفي يده صليب أو نحو ذلك.
_______
(1) راجع كتابي " دول الطوائف " ص 319 - 321.
(2) روض القرطاس ص 147، 148.
(3) الروض المعطار ص 91.(4/212)
والرواية سواء أكانت إسلامية أو نصرانية تجنح إلى مثل هذه الأساطير، بالأخص في المواقع العظيمة الحاسمة بين الإسلام والنصرانية، مثل الزلاقة، والأرك وغيرها، على أن موقعة الأرك تختلف عن موقعة الزلاقة من بعض الوجوه الهامة. فقد كان المسلمون من أندلسيين ومرابطين يواجهون في الزلاقة، قوي اسبانيا النصرانية كلها، ملتفة حول عميدها ألفونسو السادس. أما في يوم الأرك فقد كانت الجبهة النصرانية، مقتصرة على ملك قشتالة وقواته. وقد غادر ألفونسو الثامن طليطلة في قواته، حينما علم بزحف الموحدين نحو أراضي قشتالة، ولم يرد أن ينتظر حليفه ملك ليون، وكان قد وصل عندئذ بقواته إلى طلبيرة، ولكنه لم يقدم على معاونة زميله، لأنه أبي أن يعطيه بعض الحصون التي طلبها، ثم انقلب بعد ذلك إلى خصومته، ومحالفة الموحدين أعدائه. وكذلك لم ينتظر ألفونسو الثامن معاونة من ملك نافارا، أو من ملك أراجون وذلك لوثوقه من رجحان قواته، ويقينه ببلوغ النصر على أعدائه. وقد انتصر عليهم من قبل مراراً في معارك محلية. ومن الغريب المدهش ما تقصه علينا الرواية الإسلامية من دلائل يقين ملك قشتالة بإحراز النصر على أعدائه، وهو أنه كان يصطحب معه حين مسيره لقتال الموحدين جماعات من التجار اليهود، جاءوا لشراء أسرى المسلمين، وأسلابهم، وأعدوا لذلك الأموال اللازمة (1).
وتختلف كذلك موقعة الأرك في نتائجها عن موقعة الزلاقة. ذلك أن موقعة الزلاقة بالرغم من كونها قد صدعت من قوي مملكة قشتالة، وقضت مؤقتاً على الخطر الذي كان يهدد دول الطوائف، فإنها اقتصرت على تحقيق النصر للمسلمين، ْولم يُتبع يوسف بن تاشفين نصره في الموقعة، بأية محاولة أخرى لاسترداد طليطلة أو غزو أراضي قشتالة. هذا في حين أن المنصور بث جيوشه عقب النصر مباشرة في أراضي قلعة رباح فاستولت على عدة حصون. ثم إنه لم تمض بضعة أشهر على معركة الأرك، حتى خرج المنصور في قواته ثانية لغزو أراضي قشتالة، واخترقها حتى شمالي طليطلة، واستولى على طائفة من المواقع والحصون حسبما نفصل بعد.
ولقد كان انتصار الموحدين في معركة الأرك، يرجع فضلا عن تفوقهم العددي، إلى عدة أسباب، روعي تحقيقها لأول مرة في الغزوات الموحدية
_______
(1) بغية الملتمس (المكتبة الأندلسية) ج 3 ص 35.(4/213)
الكبرى، وأولها وأهمها العناية بالمحافظة على نظام الجيش، وتوفير تموينه ومؤنه بصورة مؤكدة، وتقسيم حشوده، وتنظيم قياداته، وتعيين قائد عام يشرف على هذه القيادات، واعتماد الخليفة على مشورة قواده، ثم مراعاة الحزم والسرعة في تحرك الجيش، وإعداده لضرب العدو على الفور. فهذه الميزات التي روعي تحقيقها في الجيش الموحدي، كانت كفيلة بأن تحقق له الظفر في معركة الأرك، وأن تجنبه تلك المفاجآت السيئة، التي أصيب بها في غزوة وبذة، ثم بعد ذلك في نكبة شنترين (1).
- 2 -
ما كادت تنتهي معركة الأرك العظيمة، حتى بث المنصور سريات من جنده في أراضي قلعة رباح، فاستولت على عدة من حصون العدو في هذه المنطقة، ثم هاجم الموحدون قلعة رباح ذاتها، واقتحموها بعد قتال عنيف، وانتزعوها من أيدي فرسان جمعية قلعة رباح المتولين للدفاع عنها، وقتل أثناء المعركة أستاذ الجماعة نونيو دي فوينتس. وغادر الفرسان القلعة، ولجأوا إلى قلعة شلبطرّة القريبة منها. وهكذا استرد المسلمون هذه القلعة المنيعة، بعد أن لبثت في حوزة النصارى منذ سقوطها في أيديهم في سنة 1147 ذذ، زهاء نصف قرن.
وأمر المنصور بتطهير جامعها الذي كان قد حول إلى كنيسة، وقدم على حاميتها يوسف بن قادس (2).
نقول، وقد أتيح لنا أن نزور أطلال قلعة رباح القديمة (3) هذه، وأن نشهد بقايا هذه القلعة المنيعة، التي لبثت دهراً من حصون الأندلس الأمامية، والتي لعبت دوراً كبيراً في الصراع بين المسلمين والنصارى. وتقع هذه
_______
(1) راجع في معركة الأرك، روض القرطاس ص 145 - 151، والبيان المغرب القسم الثالث ص 193 - 196، وابن الأثير ج 12 ص 44 و 45، والنويري (طبعة جسبار ريميرو) ص 274 و 275، وابن خلكان ج 2 ص 429 و 430، وابن خلدون ج 6 ص 245، والمعجب للمراكشي ص 159 و 160، ورفع الحجب المستورة في محاسن المقصورة (مخطوط المتحف البريطاني ج 2 ص 152 - 156). ونشره الأستاذ هويثي ضمن مقاله المنشور بمجلة المعهد المصري بمدريد ج 2 ص 57 - 61 وراجع أيضاً:
H. Miranda: Las Grandes Batallas de la Reconquista, p. 137-169
(2) الروض المعطار ص 163.
(3) وهي بالإسبانية Calatrava la Vieja.(4/214)
صورة: جانب من أطلال قلعة رباح.
الأطلال على قيد خمسة عشر كيلومتراً من مدينة ثيوداد ريال، وعلى قيد نحو سبعة كيلومترات من ضاحيتها كريون، وهي عبارة عن مجموعة ضخمة من الأطلال الدارسة، تقع فوق ربوة قليلة الارتفاع، وسط بسيط كبير تظلله الجبال الشاهقة، ويستند من الشمال إلى نهر وادي يانه، وتنقسم هذه الأطلال إلى مجموعتين، في إحداهما وهي اليمنى، يوجد جدار برج عال، ومن تحته عضادة تظلل عقداً كبيراً كاملا، وفي الوسط يقوم جدار ضخم من عقد سابق. والمجموعة الأخرى، يفصلها عن المجموعة الأولى فراغ كبير تتخلله الأنقاض والخرائب، يبلغ طوله نحو ثمانين متراً، وهي عبارة عن كتلة كبيرة، يبدو أنها كانت قاعدة لعدة أبراج ضخمة. وتمتد الأطلال من الناحية الأخرى إلى مدى يبلغ نحو مائة وخمسين متراً، ويغمر هذه الأطلال الضخمة العالية، والمكان كله، جو من الوحشة والرهبة انقبضت له نفسي، وأنا أطوف حول المكان منفرداً، بين الأشواك والأدغال البرية، تحت أشعة الشمس الساطعة، وعواء الكلاب المتوحّشة، ونعيق الغربان والنسور الصغيرة، التي تعمر المكان، يزعجني، وينذرني بسرعة الرحيل.
ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن المنصور لم يكتف بذلك، بل سار مخترقاً أراضي قشتالة يثخن فيها قتلا وأسراً وسبياً حتى وصل إلى جبل سليمان (1) على مقربة من قلعة هنارس شمالي طليطلة. بيد أنه لا يوجد ما يؤيد هذه
_______
(1) وهو بالإسبانية Cuesta de Zulema " مرتفع سليمان ".(4/215)
الرواية. والظاهر أن صاحب روض القرطاس يشير بذلك إلى غزوة المنصور التالية لأراضي قشتالة بعد ذلك بعامين، وهي غزوة سوف نتحدث عنها فيما بعد (1).
وبعد أن أخرج المنصور خمس الغنائم، وقسم ما فيها على المجاهدين، سار في جيوشه المظفرة ميمماً شطر إشبيلية، وقد محا بهذا النصر الباهر ما لحق [[هيبة]] الحراب الموحدية في شبه الجزيرة، عقب نكبة شنترين من الانتكاس والتصدع، فوصل إليها في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شعبان سنة 591 هـ (6 أغسطس سنة 1195 م)، وأقبلت إليه الوفود من كل فج تزجي إليه تهاني النصر. ثم أمر أن يكتب بالفتح إلى سائر جهات الأندلس والمغرب. وطلب إلى أبي الفضل بن طاهر ابن محشرة أن يتوخى في كتب الفتح غاية الإيجاز، وأن يكتبها على مثل كتب الصحابة في فتوحهم، فصدع أبو طاهر بالأمر. ورفع الشعراء قصائدهم إلى الخليفة كالعادة، ونظم أبو العباس الجراوي شاعر البلاط الموحدي، في الفتح قصيدة جاء فيها:
هو الفتح أعيى وصفه النظم والنثرا ... وعمت جميع المسلمين به البشرى
وأنجد في الدنيا وغار حديثه ... فراقت به حسناً وطابت به نشرا
لقد أورد الأذفونش شيعته الردى ... وساقهم جهلا إلى البطشة الكبرى
حكى فعل إبليس بأصحابه الألي ... تبرأ منهم حين أوردهم بدرا
رأى الموت للأبطال حوليه ينتقى ... فطار إلى أقصى مصارعه ذعرا
ألوف غدت مأهولة بهم الفلا ... وأمست خلاء منهم دورهم قفرا
ودارت رحى الهيجا عليهم فأصبحوا ... هشيماً طحيناً في مهب الصبا يذرا
وأنشد الشاعر الأندلسي المرسي، علي بن حزمون بين يدي الخليفة قصيدة، وقعت منه أجمل وقع، وهذا بعض ما جاء فيها:
حيتك معطرة النفس ... نفحات الفتح بأندلس
فذر الكفار ومأتمهم ... إن الإسلام لفي عرس
أإمام الحق وناصره ... طهرت الأرض من الدنس
وملأت قلوب الناس هدى ... فدنا التوفيق لملتمس
ورفعت منار الدين على ... عُمد شُمٍّ وعلى أسس
_______
(1) راجع روض القرطاس ص 151.(4/216)
وصدعت رداء الكفر كما ... صدع الديجور سنا قبس
لاقيت جموعهم فغدوا ... فرساً في قبضة مفترس
جاءوك تضيق الأرض بهم ... عدداً لم يحص ولم يقس
ومضيت لأمر الله على ... ثقة بالله ولم تخس
فأناخ الموت كلاكله ... بظباك على بشر رجس
وتساوى القاع بهامهم ... المرفض مع الحدب والضرس
فأولئك حزب الكفر ألا ... إن الكفار لفى نكس (1).
وأمر المنصور بتسريح الحشود والقبائل وسائر الجنود، على أن يكونوا على أهبة للاستعداد للجهاد في أية لحظة. وقضى فصل الشتاء بإشبيلية، وانتقل إلى حصن الفرج، الواقع جنوب غربي المدينة على الضفة الأخرى من النهر الأعظم (الوادي الكبير) وهو الحصن، الذي أمر بإنشائه قبل ذلك بقليل، وكان يحبه ويؤثر الإقامة فيه، وأمر باستكمال غروس بستانه، وإنشاء النواعير على شاطىء النهر تحت الحصن لريه، كما أمر بإصلاح المسجد الجامع، واستكمال بناء صومعته، وهو الجامع الذي كان قد أنشأه أبوه، وأمر بإنشاء صومعته قبيل وفاته بقليل. ولما انتهى الشتاء وأقبل الربيع، أمر المنصور باستئناف الحركة والاستعداد لمعاودة الجهاد، واستنفار مختلف الحشود من منازلها، فلما تم وصول مختلف الطوائف وحشدها، أمر الخليفة بتمييز الجيوش وتنظيمها، واستعدادها لاستئناف الغزو.
على أن المنصور، قبل أن يبدأ الحركة، رأى أن يستشير الزعماء والقادة في أمر توجيه الغزو، واختيار المنطقة الملائمة في أراضي النصارى لإجرائه. وفي أثناء ذلك تردد رسل ملك قشتالة في طلب المهادنة وعقد السلم، فرفض المنصور (2)، واستقر الرأي على أن توجه الغزوة إلى ما تسميه الرواية الإسلامية " ببلاد الجوف " أعني منطقة إسترمادورة، وذلك لاسترداد ما انتزعه النصارى من قواعد هذه المنطقة. وخرج المنصور من إشبيلية في قواته في منتصف جمادى الأولى سنة 592 هـ (3) (منتصف أبريل سنة 1196 ذذ)، واتجه شمالا إلى حصن منتانجش (4).
_______
(1) راجع هذه القصيدة بأكملها في المعجب ص 165 - 167.
(2) الرسالة الخامسة والثلاثون من رسائل موحدية (ص 231).
(3) ذكر صاحب البيان المغرب أنه منتصف رجب. ولكن هذا التاريخ يتعارض مع سياق الحوادث ومع التواريخ التي توردها الرواية النصرانية.
(4) ورد اسمه في الرسالة الموحدية الخامسة والثلاثين الخاصة بهذه الغزوة (منت أنتش) ص 231.(4/217)
وقد كان حسبما أشرنا إليه من قبل من أمنع حصون منطقة بطليوس، فتقدمت لمهاجمته قوة من الأندلسيين، فلما رأت الحامية القشتالية مقدم الجيوش الموحدية الزاخرة، طالبت بالأمان والتسليم، فأجيبوا إلى ما طلبوا، وأمر قائد الجيوش الأندلسية أبو عبد الله بن صناديد، بتوصيلهم إلى المنطقة الآمنة، ولكن حدث حينما بدأوا السير أن هاجمتهم جماعة من " أوباش العرب " وسبت من كان معهم من النساء والأطفال، فغضب الخليفة لهذا الاجتراء والإخلال بالعهود المقطوعة، وأمر بسجن من عثر عليه من المعتدين، ورد النساء والأطفال إلى ذويهم، وأوصل الجند القشتاليين آمنين إلى أوائل بلادهم.
وقصدت القوات الموحدية بعد ذلك إلى مدينة تَرجالُه " قاعدة الثغر الشمالي " الواقعة شمال شرقي منتانجش، وشرقي مدينة قاصرش، وكان سكانها النصارى قد أخذوا في إخلائها، حينما شعروا باقتراب الموحدين، فاستولى الموحدون على المدينة، وطاردوا سكانها وأفنوا الكثير منهم، وسبوا الكثيرين من نسائهم. واستولوا كذلك على بلدة سانتا كروث " (1) القريبة منها، وكانت حاميتها قد لاذت بالفرار. ثم عبر الموحدون نهر التاجُه، واتجهوا شمالا نحو مدينة " بلاسنثيا " وهي التي تسميها رسالة الفتح الموحدية (ابلتانسية) وكان ألفونسو الثامن ملك قشتالة، قد انفق بضع سنين في إنشائها وتحصينها، ونقل إليها كثيراً من أهل الشمال، وكان أهلها المدنيون قد غادروها، وبقيت حاميتها في قلعتها، فاستولى الموحدون على المدينة ودمروها، ثم هاجموا القلعة وضربوها بالنبال ضرباً شديداً، حتى اضطرت الحامية بعد ليلة واحدة فقط من الاعتصام إلى التسليم، واعتبر أفرادها أسرى بحكم مقاومتهم (2). ويقول صاحب الروض المعطار، وهو يسمى (بلاسنثيا) بلنسية، إن الموحدين فتحوها عنوة، وقبضوا على قائدها، مع مائة وخمسين من أعيان النصارى، وجهوا إلى خدمة الجامع الكبير بسلا مع أسارى معركة الأرك (3). وتقول الرواية النصرانية إن الموحدين بالعكس قتلوا الأسقف والرهبان وكثيراً من النصارى.
_______
(1) وتسميها الرسالة الموحدية " شنتقروص Santa Cruz وتصفها بالقلعة " الحسيبة في الامتناع " ص 232.
(2) الرسالة الموحدية السالفة الذكر، ص 234.
(3) الروض المعطار ص 13.(4/218)
واستمر الموحدون في زحفهم شرقاً صوب مدينة طلبيرة، وهي أكبر مدن ولاية طليطلة، وهم يثخنون في أراضي قشتالة، تخريباً، وأسراً وسبياً، فلما أشرفوا على طلبيرة انتسفوا زروعها، وحدائقها وأشجارها، ولكنهم لم يحاولوا اقتحام المدينة لمنعتها، ولعدم استعدادهم لضرب الحصار حولها، إذ كانت تنقصهم آلات الحصار، فقنعوا باجتياح كل ما حولها من مظاهر العمران، وصيروا أراضيها قاعاً صفصفاً. كل ذلك وملك قشتالة محتجب داخل مملكته، غير مجترىء على لقاء الغزاة في أية ساحة. ثم اتجه الموحدون شمالا إلى مكّادة (1)، وأنزلوا بأراضيها من التخريب ما أنزلوه بطلبيرة. وهبطوا أخيراً إلى طليطلة من ناحيتها الشمالية، وبرزت أمامها الحشود الموحدية فرساناً ومشاة في أكمل عددها وعدتها، وقد امتنع النصارى بداخلها مستعدين للكفاح والدفاع، ثم عبر الموحدون بعد ذلك نهر التاجُه، إلى ساحتها الجنوبية، وانتسفوا زروعها، وكرومها وحدائقها، ولاسيما منيتها الشهيرة، وهي التي كانت من قبل لبني ذي النون، وورثها النصارى، وامتدت أيامها حتى خربها الموحدون فيما خربوه من مرافقها وأراضيها، وقضى الموحدون حول طليطلة بضعة أيام، واقتصروا على تخريب ديارها، وإبراز مظاهر قوتهم، وروعة حشودهم الزاخرة (2).
ويقدم إلينا المقري عن غزوة طليطلة رواية خلاصتها أن المنصور لما حاصر طليطلة وضيق عليها، واشتد في ضربها بالمجانيق حتى أوشكت على السقوط، خرجت إليه والدة ألفونسو الثامن ملك قشتالة، وبناته ونساؤه، ومثلن بين يديه باكيات متضرعات إليه، أن يبقى البلد عليهن، فرق المنصور لضراعتهن، وكف عن ضرب المدينة، ووهب لهن قدراً من المال والجواهر الجليلة، وردهن مكرمات. وهذه رواية يصعب علينا تصديقها لمجانبتها للمنطق والمعقول (3).
وفي خلال الغزوة الموحدية لأراضي قشتالة، بعث ملك ليون، وهو ألفونسو التاسع إلى المنصور، يرجوه أن يعاونه ببعض قواته، على غزو قشتالة، فاستجاب المنصور لرغبته، لما كان من سالف موقفه قبيل معركة الأرك، وتنحيه عن معاونة ملك قشتالة ضد الموحدين، وجنوحه إلى مصادقتهم ومحالفتهم. وغزا ملك ليون، ومعه قوة من الموحدين أراضي قشتالة من ناحية تييرا دي كامبوس "،
_______
(1) وهي بالإسبانية Maqueda. راجع الروض المعطار ص 13.
(2) الرسالة الموحدية الخامسة والثلاثون ص 336 و 337. والبيان المغرب ص 199.
(3) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 207.(4/219)
وتقول الرواية النصرانية إن الموحدين الذين كانوا يقاتلون معه، ضربوا الكنائس والأديار القشتالية بمنتهى القسوة، وقام الليونيون بانتساف وتخريب الضياع، ووصل ألفونسو التاسع في غزوته هذه حتى مدينة كريون. وفي نفس الوقت أغار سانشو ملك نافارا من جانبه على أراضي قشتالة المتاخمة له، واقتحم مدينة سُرية، وعاث في تلك المنطقة تخريباً ونهباً.
ولما انتهى المنصور من غزاته، وأثخن ما شاء في أراضي عدوه، وأبرزت ْحشوده أمام أعين النصارى كل مظاهر قوتها وروعتها، قرر العود بسرعة، قبل أن يختل نظام التموين في الجيش، فارتد بقواته نحو الجنوب، واقتحم الموحدون في طريقهم بعض حصون منطقة طليطلة الجنوبية، فاخترق أراضي قلعة رباح، ثم اتجه نحو جيان ثم إلى قرطبة، وسار من قرطبة إلى إستجة فقرمونة، ووصل إلى إشبيلية في أوائل رمضان (592 هـ) بعد أن قضى في غزوته نحو ثلاثة أشهر (1).
وما نود أن نلاحظه هو أن هذه الغزوة الموحدية التي استطاع الموحدون أن يدفعوها إلى صميم أراضي قشتالة، وإلى تطويق العاصمة القشتالية ذاتها، أعني طليطلة، لم تسفر عن أية نتائج مستقرة، ولم يحز الموحدون خلالها أية أراضٍ أو مواقع ذات شأن. وإنه لمما يلفت النظر أن يكتفي الخليفة المنصور، وهو الذي حطم قوي قشتالة قبل ذلك بأقل من عام في موقعة الأرك بالعيث والتخريب، والسبي والنهب في أراضي العدو، دون أن يتحرى غاية عسكرية جليلة، في وقت كان فيه في أوج قوته وأهباته العسكرية، وفي وقت كان فيه عدوه الرئيسي ملك قشتالة في منتهى الضعف والاستسلام، حتى أنه لم يحرك ساكناً للقاء الغزاة في أية مرحلة من مراحل الغزو. وإنه يحق لنا أن نتساءل ألم يكن في وسع الخليفة الظافر، في مثل هذه الظروف المؤاتية، أن يركز جهوده على محاولة الاستيلاء على طليطلة حصن الإسلام القديم على نهر التاجُه، وفي اعتقادنا أنه لو فعل، لما كانت هنالك، ثمة عقبات خطيرة تحول دون بغيته، ولكن السياسة العسكرية الموحدية آثرت مع الأسف أن تقنع بالمظاهرات العسكرية الجوفاء، التي يستطيع العدو القديم الخالد دائماً أن يصبر عليها، وأن يهضمها بسرعة ليعود إلى عدوانه.
_______
(1) فصلت لنا الرسالة الموحدية المؤرخة في التاسع من شهر رمضان سنة 592 هـ، وهي الرسالة الخامسة والثلاثون من رسائل موحدية، مراحل هذه الغزوة بإسهاب يغلب عليه الزخرف الأدبي، وهي من إنشاء الكاتب أبي عبد الله بن عياش (ص 228 - 241).(4/220)
وعنى المنصور خلال إقامته عندئذ بإشبيلية بأمرين، الأول النظر في أحوال الأعمال والنفقات ومحاسبة بعض العمال والنظار، الذين لحقت بهم ريب التقصير والاختلاس، والثاني الاستعداد للغزوة القادمة بعد أن ينال الجند قسطهم من الراحة والاستجمام والضيافة والإحسان. وقد أمر المنصور فيما يتعلق بالأموال بمحاسبة أبي سليمان داود بن أبي داود، وندب لمحاسبته لجنة من الكتاب، فحققت في سائر أعماله وتصرفاته مدى ستة أشهر، ثم انتهت بإدانته وإثبات ما في ذمته من أموال، بلغت في الأعمال نحو مائة وخمسين ألف، فاستصفيت أمواله، ولكنه لم ينكب ولم يعاقب حتى عُفي عنه. وأمر الخليفة في نفس الوقت بمحاسبة أبي على عمر بن أيوب، على ما كان تحت يده من أموال النفقات، فتبين أن في ذمته قدراً كبيراً من المال، فطولب به، ولما عجز عن الوفاء، اعتقل مع أبي سليمان حتى عفى عنه أمير المؤمنين.
وفي هذا العام أيضاً قام الخليفة ببعض التعيينات الهامة، فقلد أبا زيد بن يوجان أشغال البرّين (المغرب والأندلس) من الأعمال العلية والشئون السلطانية والوزارة، وما يتعلق به من أشغال الموحدين وملازمة الخدمة، فأبدى في تأدية مهامه المختلفة كفاية ظاهرة، وقدم أبا القاسم بن نصير على الإشراف على عمل إشبيلية، وقدم الكاتب المؤرخ يوسف بن عمر، بعد أن ترك خدمة بني حفص ابن عبد المؤمن، على المستخلص بمنطقة الشَّرْف ومدينة لبلة.
وكان المنصور يعني في نفس الوقت بالاستعداد لاستئناف الغزو في أراضي قشتالة. فلما انتهى فصل الشتاء أمر بالحركة وتعبئة الحشود، فاجتمعت مختلف الطوائف والقبائل حتى ضاقت إشبيلية بجموعهم، فلما استكمل الحشد والاستعداد، خرج الخليفة في قواته من إشبيلية في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 593 (14 أبريل سنة 1196) وسار ميمماً شطر قرطبة، وكانت سنة خصب ورخاء، فسارت الجموع طول الطريق في دعة وعيش طيب. ولما وصل المنصور إلى قرطبة، دخلها ونزل بها وقسم جيوشه لانتجاع الخصب ووفرة الأقوات، حتى تحل الفترة التي تكثر فيها المؤن والأقوات بأراضي قشتالة (1).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 201 و 202.(4/221)
الفصل الرابع ما بعد الأرك حتى وفاة المنصور
إقامة الخليفة المنصور بقرطبة. الفيلسوف ابن رشد ومؤلفاته ومكانته العلمية. اجتماع الأسباب لنكبته. سعي خصومه في الإيقاع به. تأويل آرائه ومسخها. إتهامه وبعض زملائه بالمروق. توجيه الاتهام إليه بالمسجد الجامع. إدانته ونفيه إلى بلدة اليسانة. مصادرة كتبه وإحراقها. كتاب المنصور في تبرير تصرفه وفي شرح تهم المارقين. أسباب أخرى لغضب المنصور على الفيلسوف. عفو المنصور عنه وعن زملائه. عودة ابن رشد إلى مراكش ثم وفاته. ما تكشف عنه نكبة الفيلسوف من مغزى. خروج المنصور إلى الغزو. مسيره إلى طلبيرة ثم إلى طليطلة. مسيره إلى مجريط وحصارها. تخريبه لمنطقة وادي الحجارة. توجيه كتاب الغزو. عود المنصور إلى قرطبة ثم إشبيلية. أمره بإتمام صومعة الجامع. أقوال ابن صاحب الصلاة في بناء الصومعة. تزويدها بالتفافيح الذهبية. وصف لهذه التفافيح وعملية رفعها. قيام هذه الصومعة حتى اليوم. انتقال المنصور إلى حصن الفرج. تعيينه للعمال. تحالف قشتالة وأراجون ضد الموحدين. غزو قوات قشتالة وأراجون لمملكة ليون. عقد السلم بين المنصور وملك قشتالة. رفض المنصور معاونة ملك ليون. عبور المنصور إلى المغرب. وعوده إلى مراكش. أخذ البيعة لولده الناصر. عطفه على اليتامى. أمره لإلزام اليهود بزي خاص. بواعث هذا القرار. مرض المنصور وشعوره بدنو أجله. استدعاؤه للشيوخ والقرابة. توصيته بولده وبمن يثق بهم من السادة. توصيته برعاية الأندلس والذود عنها. توصيته بالأغزاز والعرب والطلبة. ْتوصيته بقبائل الموحدين. ما ينسب إليه من آخر أقواله. وفاة المنصور. عظمته والإشادة بصفاته. عنايته بتنظيم الجيش وتقويته. شغفه بالجهاد. حزمه وعنايته بتوطيد العدل. ورعه وتقواه. عنايته بتطبيق أحكام الشرع وإقامة الصلاة والحدود. مطاردته لعلم الفروع والمذهب المالكي. اعتناقه للمذهب الظاهري. انتشار الظاهرية في عهده. إجلاله للعلامة ابن حزم. موقفه من إمامة المهدي وعصمته. ما ينسب إليه من نيته في افتتاح مصر. قول المراكشي في ذلك. أقوال الرحالة ابن جبير عن أحوال الشرق وضلال أهله. أقواله عن صدى الدعوة الموحدية بمصر. الفكرة الموحدية في غزو مصر. الفكرة لم تكن سوى أمنية. عظمة مصر وقوتها أيام المنصور. صفات المنصور العلمية. عطفه على العلماء وطلبة العلم. أدبه وفصاحته. اجتماع الشعراء حوله. أبو العباس الجراوي يؤلف له كتاب " صفوة الأدب ". مدائح ابن مجبر. مواهب المنصور الإدارية والإنشائية. عنايته بالشئون المالية. منشآته العمرانية. إنشاؤه لضاحية الصالحة. تجديده لرباط الفتح وإنشاء مسجدها العظيم. إنشاؤه البيمارستان بمراكش. منشآته بالأندلس. وزراؤه وكتابه. قضاته. أولاده. صفته.(4/222)
- 1 -
في خلال إقامة المنصور بقرطبة، في تلك الفترة من شهور سنة 593 هـ، وقع حادث مؤسف ذو مغزى عميق، هو نكبة القاضي الفيلسوف أبي الوليد بن رشد. وقد سبق أن أشرنا إلى صلة ابن رشد بالبلاط الموحدي، وإلى ما كان يتمتع به من عطف الخليفة أبي يعقوب يوسف، ولاسيما عن طريق أستاذه العلامة الفيلسوف الطبيب أبي بكر بن طفيل، صديق هذا الخليفة وأستاذه الأثير لديه.
وكان ابن رشد في هذا الوقت يتولى قضاء إشبيلية، ويشغل في نفس الوقت منصب الطبيب الخاص للخليفة إلى جانب أستاذه ابن طفيل. ثم تقلب بعد ذلك في عدة من المناصب القضائية والإدارية العامة، أحياناً بقرطبة وأحياناً بإشبيلية، وكان يتنقل في معظم الأحيان مع بلاط الخليفة، سواء بالمغرب أو الأندلس. ولما توفي أستاذه ابن طفيل في سنة 581 هـ (1185 م) انفرد بمنصب الطبيب الخاص للخليفة، واستمر على حظوته ومكانته لدى الخليفة يعقوب المنصور، كما كان من قبل لدى والده الخليفة أبي يعقوب يوسف.
وكان ابن رشد خلال ذلك قد ذاعت شهرته الطبية والفلسفية ذيوعاً عظيماً، وكتب كثيراً من كتبه الفلسفية، ومعظمها في تلخيص كتب أرسطو وشروحها، وكتب كذلك كثيراً من الكتب الطبية، ومعظمها تلخيص وشروح لكتب جالينوس. ومنها " شرح لأرجوزة " الشيخ الرئيس ابن سيناء في الطب، وكتب كذلك كتابه " الكليات "، ليتناول فيه أبواب الطب الكلية أو الرئيسية، مقابل التفاصيل الجزئية التي تناولها أستاذه العلامة الطبيب أبو مروان عبد الملك بن زهر في كتابه " التيسير ". وهذا كله عدا ما كتبه في الأصول والفقه وعلم الكلام والحكمة والمنطق. وقد بلغت تصانيف ابن رشد في مختلف العلوم أكثر من سبعين كتاباً ورسالة اشتهرت كلها في المشرق والمغرب، وترجم الكثير منها فيما بعد إلى اللاتينية، ولاسيما شروحه لفلسفة أرسطو، وهي التي جعلت لابن رشد أعظم مكانة في ميدان التفكير الأوربي.
وكان الخليفة يعقوب المنصور، كأبيه عالماً متمكناً يجمع حوله صفوة العلماء والمفكرين، وكان يعشق الجدل والمناقشات الفلسفية ويعقد مجالس خاصة يستمع فيها إلى آراء ابن رشد وشروحه، ولاسيما في علاقة الفلسفة بالدين، وهو(4/223)
الموضوع الذي كتب فيه ابن رشد فيما بعد رسالة " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ". وكان الفيلسوف يقضي معظم أوقاته عندئذ في البلاط الموحدي، حيثما كان الخليفة، وكان المنصور يعظم الفيلسوف ويقدره، إلى حد أنه كان يجلس إلى جانبه مباشرة، ويتعدى بموضعه مواضع أشياخ الموحدين الأكابر.
ومن الغريب أن يقال لنا إن ابن رشد، بالرغم مما كان يحيط بمقامه العلمي من ضروب التوقير والتكريم، لم يكن يتمتع بالمظهر اللائق بمكانته من حيث الملبس والتجمل. وقد وصفه لنا القاضي أبو مروان الباجي في قوله " كان القاضي أبو الوليد ابن رشد حسن الرأي ذكياً، رث البزة، قوي النفس ".
وقد شاء القدر أن يُنكب الفيلسوف، في تلك الفترة التي نزل فيها المنصور بقرطبة. وكان ابن رشد قد عاد إلى الأندلس في ركاب الخليفة، ونزل بدار أسرته في قرطبة. وكانت أسباب هذه النكبة في الواقع تتجمع منذ بعيد. وكانت قد نشأت من قديم بين الفيلسوف وبين أهل قرطبة وحشة. " أحدثتها أسباب الحسد ".
وكان الحفاظ والطلبة والفقهاء الموحدون فضلا عن ذلك، ينقمون على ابن رشد آراءه ودراساته الجدلية والفلسفية، وينقمون بالأخص منزلته لدى الخليفة. ونحن نعرف ما كان يتمتع به أولئك الحفاظ والطلبة لدى الخليفة الموحدي من عظيم النفوذ، ولاسيما وقد كانوا نصحاءه ومستشاريه الروحيين. وكان كثير من هؤلاء وكثير من غيرهم من خصوم الفيلسوف، يبثون حول آرائه ونظرياته دعاية مسمومة، ويرمونه بالمروق والخروج على أحكام الشريعة، " وإيثاره فيها لحكم الطبيعة ". وكانت الفلسفة ودراساتها بالرغم مما كان يتسم به البلاط الموحدي، منذ عهد الخليفة عبد المؤمن، من رعاية العلم والعلماء، من الموضوعات المريبة المكروهة. وهكذا كان خصوم ابن رشد يجدون في صميم دراساته وكتاباته، مواد اتهامهم. وأكثر من ذلك أنهم كانوا يدسون عليه ألفاظاً وعبارات محرجة. ومن ذلك وصفه في أحد شروحه " الزهرة " بأنها " أحد الآلهة " وقد جمع أولئك الخصوم مقالات وأوراق كثيرة منسوبة إلى الفيلسوف، وحملوها إلى مراكش في أوائل سنة 591 هـ (1194 م)، وحاولوا أن يرفعوها إلى الخليفة. ولكن المنصور كان يشغل عندئذ بالأهبة للعبور إلى الأندلس. ومن ثم فقد فشل الساعون في مسعاهم، واضطروا للعودة خائبين.
ويقول لنا ابن عبد الملك في " الذيل والتكملة " وهو فيما يرجح ينقل عن(4/224)
ابن صاحب الصلاة: " فلما كان التلوم من المنصور بمدينة قرطبة، وامتد بها أمد الإقامة، وانبسط الناس من مجالس المذاكرة، تجددت للطالبين آمالهم، وقوى تألبهم، واسترسالهم، فأدلوا بتلك الألقيات، وأوضحوا ما احتجنوه من شنيع الهفوات الماحية لأبي الوليد كثيراً من الحسنات، فقرئت بالمجالس، وتؤولت أغراضها، ومعانيها وقواعدها ومبانيها، فخرجت بما دلت عليه أسوأ مخرج، وربما ذيلها مكر الطالبين، فلم يمكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام. ثم آثر الخليفة فضيلة الإبقاء، وأغمد السيف بالتماس جميل الجزاء، وأمر طلبة مجلسه، وفقهاء دولته، بالحضور بجامع المسلمين، وتعريف الملأ بأنه مرق من الدين، وأنه استحق لعنة الضالين " (1).
ولم يكن الاتهام بالمروق مقصوراً على الفيلسوف، ولكنه شمل عدة من زملائه وتلاميذه ممن يشتغلون " بالحكمة وعلوم الأوائل ". وكان من هؤلاء أبو جعفر الذهبي، والفقيه أبو عبد الله محمد بن ابراهيم المهري المشهور بالأصولي، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس الحافظ الشاعر. وأحضر ابن رشد، والفقيه أبو عبد الله المهري وحدهما إلى جامع قرطبة، وتوارى الباقون. وتولى توجيه الاتهام إلى الفيلسوف وزميله، القاضي أبو عبد الله بن مروان، والخطيب أبو علي بن الحجاج. ولم يقل لنا صاحب " التكملة "، ماذا كان موقف ابن رشد، ولكن المرجح أنه قام بالرد على أسانيد متهميه.
وعلى أي حال فقد انتهى الأمر بإدانة الفيلسوف، وقضى الخليفة المنصور بمعاقبته بالنفي من قرطبة، واعتقاله ببلدة " أليسّانة " أو" اللسّانة "، الواقعة في جنوبها على مقربة من نهر شَنيل. وكانت هذه البلدة منذ عصور منزل اليهود في هذه المنطقة من الأندلس. وكانت بالأخص مدينة غنية زاهرة أيام دولة بني باديس أصحاب غرناطة (2). وقيل في اختيارها لاعتقال الفيلسوف " إنه يُنسب في بني إسرائيل، ولأنه لا يعرف له نسب في قبائل الأندلس ". وكان من الواضح أن الخليفة قد راعى في الاقتصار على عقوبة الفيلسوف بالنفي، سنه
_______
(1) التكملة لابن عبد الملك المراكشي المجلد الخامس من مخطوط المتحف البريطاني. ونقله إلينا صاحب البيان المغرب مع الاختصار ص 202.
(2) وهي بالإسبانية Lucena. راجع الإدريسي، وصف المغرب والأندلس (طبعة دوزي) ص 205.(4/225)
وحالته الصحية. وكان ابن رشد يومئذ قد جاوز السبعين من عمره. وقُضي على زملاء الفيلسوف الذين تقدم ذكرهم كذلك بالنفي إلى جهات أخرى، وكان أبرزهم بعد ابن رشد، هو إبراهيم الأصولي. وصودرت كتب الجميع، وأمر بإحراقها أينما وجدت.
ولم يكتف البلاط الموحدي بتوقيع العقوبة المادية على المتهمين، ولكنه رأى أن يقرنها بإعلان وجهة نظره، وتبرير تصرفه، فوجه المنصور كتاباً في هذا الموضوع، من إنشاء كاتبه أبي عبد الله بن عياش، إلى مراكش وغيرها من قواعد المغرب والأندلس. وإليك بعض ما جاء في هذا الكتاب المشهور، الذي انفرد بتدوينه ابن عبد الملك صاحب " الذيل والتكملة ":
" وقد كان في سالف الدهر قوم، خاضوا في بحور الأوهام، وأقرّ لهم عواقّهم، بشفوف عليهم في الإفهام، حيث لا داعي يدعو للحيّ القيوم، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلّدوا في العالم صحفاً، ما لها من خلاق، مسوّدة المعاني والأوراق، بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقاً، ويشيدون فيها شواكل وطرقاً. ذلكم ما في الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يذرون. ونشأ منهم في هذه [اللمحة] البيضاء شياطين .. يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون، فكانوا عليها أضر من أهل الكتاب، وأبعد من الرجعة إلى الله ..
لأن الكتابي يجتهد في ضلال، ويجد في كلال، وهاؤلاء جهدهم التعطيل، وقصاراهم [الغمومة] والتخييل، وبث عقاربهم في الآفاق برهة من الزمان، إلى أن أطلعنا الله سبحانه منهم، على رجال كان الدهر قد سالمهم على شدة حروبهم، وأغفى عنهم سنين على كثرة ذنوبهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، وما أمهلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو، وسع كل شىء علماً.
" وما زلنا وصل الله كرامتكم، نذكرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقربهم إلى الله سبحانه ويدنيهم. فلما أراد الله فضيحة عمايتهم، وكشف غوايتهم، وقف لبعضهم على كتب مسطورة من الضلال، موجبة أخذ(4/226)
كتاب صاحبها بالشمال، ظاهرها موشّحٌ بكتاب الله، وباطنها مصرّحٌ بالإعراض عن الله، لُبّس منها الإيمان بالظلم، وجىء منها بالحرب الزبون في صورة السِّلم، مزلّة للأقدام، وسمٌّ يدب في باطن الإسلام، وأسياف أهل الصليب دونها مفلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مغلولة، فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وبهتانهم، فلما وقفنا منهم على ما هو قذًى في جفن الدين، ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يقصي السفهاء من الغواة. وأبغضناهم في الله، كما أنا نحب المؤمنين في الله، وقلنا اللهم إن دينك هو الحق المبين، وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهاؤلاء قد صدفوا عن [الله]، وعميت أبصارهم وبصائرهم عن بيناتك، فباعدت أسفارهم، وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم، ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلجام فلا. . في مجال ألسنتهم، والإيقاظ [بحدة] من عقلهم ونصتهم، ولاكنهم رفعوا بموقف الخزي والهوى، ثم طردوا عن رحمة الله، ولو ردوا لعادوا، لما نهواً عنه، وإنهم لكاذبون.
" فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان، حذركم من السهوم السارية في الأبدان. ومن عُثر له على كتاب من كتبهم، فجزاؤه النار التي بها يُعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه، ومتى عُثر منهم على مُجْرٍ في غلوائه، عم عن سبيل الله استقامته واهتدائه، فَلْيُعاجل فيه بالتثقيف والتعريف، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون. أو لا يرد الذين حبطت أعمالهم، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون. . . والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم، إنه منعم كريم " (1).
هذا كله فيما يتعلق بناحية التكفير، وناحية العقيدة، وهي التي اتخذت ذريعة لاتهام الفيلسوف وإدانته. بيد أنه كانت ثمة أسباب أخرى لغضب المنصور على الفيلسوف. منها توثق صلاته بالسيد أبي يحيى أخي المنصور ووالي قرطبة، وقد
_______
(1) أورد ابن عبد الملك المراكشي نص هذا الكتاب الموحدي في " الذيل والتكملة " في ترجمة ابن رشد (المجلد الخامس من مخطوط المتحف البريطاني).(4/227)
كان بين الأخوين موجدة وجفاء. ومنها أنه أي ابن رشد، كان يجري في أحاديثه مع الخليفة على مخاطبته دائماً بقوله " تسمع يا أخي " وكان المنصور يُسرّ له هذه الجرأة في مخاطبته. ومنها أخيراً، وهو ما يدخل في باب العيب في ذات الخليفة، أن ابن رشد قال في شرحه لكتاب الحيوان لأرسطاطاليس ما يأتي: ورأيت الزرافة عند ملك البربر مشيراً إلى المنصور، وقد وجد ذلك مكتوباً بخطه (1). فهذه الأسباب كلها قد اجتمعت لتهيىء لخصوم الفيلسوف ومتهميه فرصة النيل منه، وإقناع الخليفة بصحة ما نسب إليه من تهم المروق والإلحاد.
ولبث ابن رشد في معتقله في " أليسّانة " زهاء ثلاثة أعوام. ثم إن جماعة من أكابر أهل إشبيلية، خاطبوا المنصور في شأن الفيلسوف وزملائه، وتشفعوا لديه في سبيل إقالتهم والعفو عنهم، ونفوا بالأخص عن الفيلسوف تهمة المروق والزيغ، وشهدوا بحسن إيمانه وسلامة عقيدته. ونفى ابن رشد عن نفسه من جهة أخرى، تهمة العيب في حق المنصور، بوصفه ملك البربر " وقال إن صحة الوصف هي ملك " البرين " وإن ما وقع هو تحريف من الناسخ، فاستجاب المنصور إلى شفاعتهم، وعفا عن ابن رشد وزملائه، وذلك في سنة 594 هـ.
وهكذا استرد الفيلسوف حظوته ومكانته في البلاط الموحدي، وعاد إلى مراكش ليلتحق ببلاط الخليفة. بيد أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، وتوفي في التاسع من شهر صفر سنة 595 هـ (10 ديسمبر سنة 1198 م)، وهو في الخامسة والسبعين من عمره. ودفن ابن رشد أولا في مقبرة " باب تاغزوت " خارج مراكش، ثم حمل منها بعد أشهر قلائل إلى قرطبة مسقط رأسه، وموئل أسرته، ودفن في روضة آبائه بمقبرة ابن عباس (2).
تلك هي أدوار المأساة المشجية التي اقترنت بحياة فيلسوف من أعظم أقطاب التفكير الإسلامي والتفكير العالمي. ولقد تكررت هذه المأساة، التي اتخذت صورة الاضطهاد الفكري، غير مرة في ظل المرابطين ثم الموحدين، وكانت مطاردة ابن رشد ومحاكمته، بلا ريب وصمة في عهد خليفة عظيم عالم كالخليفة
_______
(1) المعجب للمراكشي ص 174 و 175.
(2) راجع في نكبة ابن رشد " الذيل والتكملة " لعبد الملك المراكشي (المخطوط المشار إليه)، والتكملة لابن الأبار في ترجمته (القاهرة) رقم 1497.(4/228)
المنصور. ببد أنها تكشف بالأخص عن روح التزمت العميق التي كان يتسم بها التفكير الديني في عهد الموحدين.
- 2 -
وكان الخليفة في تلك الأثناء يستكمل أهبته للغزوة المنشودة، فلما تم له ما أراد من ذلك، غادر قرطبة في قواته، واخترق جبل الشارات (سييرا مورينا) ميمماً شطر طَلَبيرة. فلما وصل إلى حدود قشتالة، قصد إليه رسل ألفونسو الثامن في طلب المهادنة، فصرفهم دون جواب، وقد عقد العزم على اختراق أراضي قشتالة، وغزوها وفقاً للخطة التي وضعها. ولما وصل إلى طلبيرة، سار إلى مكادة، وضرب ما حولها من الأراضي دون أن ينال منها شيئاً، ثم انعطف جنوباً نحو طليطلة وحاصرها، وهنالك علم أن ملك قشتالة قد حصل على عون زميله ملك أراجون، وأنهما يرابطان بقواتهما عند قلعة مجريط (1) في انتظار الاشتباك مع الموحدين، فتحول المنصور نحو مجريط بسرعة، بعد أن خرب أراضي طليطلة، مؤملا أن يلتقي بالقوات النصرانية. ولما وصل إلى مجريط، حاصرها بضعة أيام، ولكن الملكين لم يكونا بها، بل كانا قد انسحبا في معظم قواتهما إلى جبال وادي الرملة (2)، وتركا في حصن مجريط قوة مختارة بقيادة دون ديجو لوبث دي هارو، وهو الذي كان قد لجأ إلى حصن الأرك يوم الموقعة. فدافع القشتاليون عن مجريط بشدة، فغادرها المنصور عندئذ، وسار ميمماً شطر قلعة هنارس (قلعة النهر) ثم وادي الحجارة، وهو ينتسف الزروع، ويخرب الضياع والقرى، ولكن الموحدين لم يستطيعوا كذلك الاستيلاء على وادي الحجارة لمنعتها. وخرجت حاميتها، وفاجأت قافلة المتاع والعتاد والخدم، فأوقعت بها، واستطاعت أن تنتزع منها بعض الأسلاب، قبل أن يتداركها الموحدون، ويردوا المغيرين على أعقابهم، ويقتلوا عدداً منهم.
وفي اليوم التالي، نظم الموحدون مظاهرة عسكرية ضخمة في ظاهر وادي الحجارة، بدا فيها الجيش الموحدي بمختلف طوائفه وحشوده، إظهاراً لقوتهم وإرهاباً للعدو، وبعث المنصور من محلته بتفاصيل الغزوة إلى مختلف الجهات.
_______
(1) وهي التي غدا موقعها فيما بعد نواة لموقع مدريد عاصمة اسبانيا الحديثة، وتطور اسمها العربى من مجريط Majerit إلى Madrid.
(2) جبال وادي الرملة هي بالإسبانية Guadarrama.(4/229)
ثم أمر بالحركة والعود، وسار بطريق وبذة. وهنا اتجه المنصور، وفقاً للرواية
النصرانية شرقاً نحو قونقة وحاصرها، ثم ارتد نحو أقليش وسار منها جنوباً نحو الكرس وبيّاسة، ووصل إلى قرطبة في أواخر رمضان سنة 593 هـ، ثم غادرها في الحال إلى إشبيلية، فوصلها في يوم عيد الفطر (أغسطس سنة 1197 م) وذلك بعد أن أنفق في غزوته الثانية لأراضي قشتالة أربعة أشهر (1).
وما كاد المنصور يستقر في إشبيلية، حتى عنى بإتمام الأعمال الأخيرة لصومعة الجامع الأعظم (المنارة) وهي التي كان أبوه الخليفة أبو يعقوب يوسف، قد أمر ببنائها قبل خروجه إلى غزوة شنترين في سنه 580 هـ. وكان المنصور قد أمر بالمضي في إنشائها عقب توليه الخلافة. ووضع العريف أحمد بن باسُه أسسها لصق الجامع ثم تعطل البناء حيناً لعزل بعض العمال المختصين، أو لغير ذلك من الأسباب. وفي سنة 584 هـ (1188) بعد أن فرغ المنصور من غزواته بإفريقية، أصدر أمره بإصلاح ما اختل من الجامع الأعظم وإتمام بناء صومعته. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، وهو حسبما أشرنا من قبل غير مرة مؤرخ معاصر وشاهد عيان، أنه شُرع في بناء الصومعة بالآجر الذي يؤخذ من سور قصر ابن عباد، ودام العمل في ذلك أعواماً، يجري البناء فيها بصورة متقطعة، فإذا حضر الخليفة إلى إشبيلية، ضوعفت الهمة في البناء، وإذا غادرها إلى الحضرة تعطل البناء، ثم يُستأنف متى حضر. وكان الخليفة المنصور كأبيه الخليفة أبي يعقوب، شغوفاً بالبناء، وكان وقت وجوده بإشبيلية، يلازم في أوقات فراغه الإشراف على أعمال البناء بنفسه، واستمر الأمر كذلك حتى عاد المنصور من موقعة الأرك مكللاً بغار الظفر، وأصدر أوامره بمضاعفة الهمة لإتمام الصومعة، ولما عاد إلى إشبيلية من غزوته الأخيرة، كان بناء الصومعة قد تم، ولم تبق سوى أعمال التجميل. وبالرغم من أن المنشآت الموحدية، كانت حتى ذلك العهد تقتصر على مراعاة الروعة والمتانة، ولا تميل إلى الزخرف والزينة، فقد أصدر الخليفة أمره، بأن تزود صومعة الجامع بتفافيحها الذهبية الشهيرة. وإليك كيف يصف لنا ابن صاحب الصلاة قصة هذه التفافيح، ورفعها إلى أعلى المنارة، في حفل كان من شهوده:
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 203، وابن خلدون ج 6 ص 245. وراجع:
Altamira: Historia de Espana; Vol. I. p. 364.(4/230)
صورة:
صومعة جامع المنصور بإشبيلية المسماة لاخيرالدا La Giralda(4/231)
" فلما وصل أمير المؤمنين، وهزم الله أذفونش الطاغية، أمر رضي الله عنه في مدة إقامته بإشبيلية بعمل التفافيح الغريبة الصنعة العظيمة الرفعة، الكبيرة الجرم، المذهبة الرسم، الرفيعة الاسم والجسم، فرفعت في منازلها بمحضره، وحضر المهندسون في إعلايها على رأيه، وبلوغ وطره، مركبة في عمود عظيم من الحديد مرسى أصله في بنيان أعلى الصومعة أعلاها، زنة العمود ماية وأربعون ربعاً من الحديد، موثقاً هناك في تلاحك البنيان، بارز طرفه الحامل لهذه الأشكال المسماة بالتفافيح إلى الهواء، يكابد من زعازع الرياح، وصدمات الأمطار، ما يطول التعجب من مقاومته وثباته. وكان عدد الذهب الذي طليت به هذه التفافيح الثلاثة الكبار والرابعة الصغرى، سبعة آلاف مثقال كباراً يعقوبية، عملها الصياغ بين يدي أمير المؤمنين وحضوره. ولما كملت سترت بالأغشية من
شقاق الكتان ليلا ينالها الدنس من الأيدي والغبار، وحملت على العجل مجرورة
حتى إلى الصومعة، بالتكبير عليها والتهليل، حتى وصلت ورفعت بالمسدسة حتى إلى أعلى الصومعة المذكورة، ووضعت في العمود، وحصلت فيه، وحصلت بمحضر أمير المؤمنين أبي يوسف المنصور رضي الله عنه، وبمحضر ابنه وولي عهده أبي عبد الله السعيد الناصر لدين الله، وجميع بنيه وأشياخ الموحدين والقاضي وطلبة الحضر، وأهل الوجاهة من الناس، وذلك في يوم الأربعاء عقب ربيع الآخر بموافقة التاسع عشر من شهر مارس العجمي عام أربعة وتسعين وخمس ماية، ثم كشف عن أغشيتها فكادت تغشى الأبصار من تألقها بالذهب الخالص الإبريز وشعاع رونقها " (1).
ويضيف صاحب روض القرطاس إلى ما تقدم، أن الذي قام بالإشراف على صنع هذه التفافيح الذهبية، ورفعها إلى أعلى المنار، هو المعلم أبو الليث الصقلي، وأن هذه التفافيح قومت يومئذ بمائة ألف دينار من الذهب (2).
ونقول نحن، إن هذه الصومعة أو المنارة العظيمة التي أمر بإنشائها الخليفة أبو يعقوب يوسف لجامع إشبيلية الأعظم، وأتمها ولده يعقوب المنصور، وزودها بتفافيحها الذهبية الرائعة، ما زالت تقوم حتى يومنا، وإن كانت قد فقدت تفافيحها الذهبية منذ بعيد، وحولت طبقتها العليا إلى برج للأجراس لكنيسة إشبيلية
_______
(1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة (المخطوط السابق ذكره لوحه 171، أوب).
(2) روض القرطاس ص 151.(4/232)
العظمى، وهي التي قامت بدورها فوق أنقاض الجامع الأعظم، وهي تحمل اليوم اسمها الإسباني " لاخيرالدا La Giralda "، بيد أنها ما زالت بالرغم من تحولها إلى برج للأجراس، تحتفظ بكثير من روعتها الإسلامية القديمة، ومازالت تعتبر من أعظم الآثار الأندلسية الباقية (1).
ولما تم الاحتفال بإتمام صومعة الجامع الأعظم على هذا النحو انتقل المنصور إلى حصن الفرج، وقضى به فصل الصيف، وكان يؤثره لجمال موقعه، وطيب هوائه، ثم عاد إلى إشبيلية، فأقام بها أربعين يوماً أخرى، وعنى خلال هذه الفترة بتنظيم الشئون، وتعيين الولاة والعمال، فأسند ولاية إشبيلية إلى ولده السيد أبي زيد، وولاية بطليوس وجهاتها إلى السيد أبي الربيع بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وولاية منطقة الغرب إلى أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وندب العمال للنظر في شئون الجباية في مختلف الجهات، ورتب الحاميات المختارة في مختلف القواعد، وأمر بتحصينها وإصلاح أسوارها (2).
وكانت الأحوال قد تطورت عندئذ في مملكتي قشتالة وليون، وأنشىء حلف جديد لمقاومة الموحدين بين قشتالة وأراجون، وتقدم ملك أراجون بيدرو الثاني لمعاونة حليفه ألفونسو الثامن، وظهر أثر هذه المعاونة في اجتماع القوات المتحالفة لمقاومة الموحدين في منطقة وادي الحجارة، حينما قام المنصور بغزوته الثانية لأراضي قشتالة. ومع أنه لم يقع بين الفريقين اشتباك ذو شأن، فإن المنصور لم يغفل من حسابه أمر ذلك التكتل الجديد بين القوي النصرانية، ومن جهة أخرى فقد كان لذلك التطور أثره في موقف ألفونسو التاسع ملك ليون حليف الموحدين.
ذلك أنه كان قد غزا أراضي قشتالة بمعاونة قوة من الموحدين، ووصل في زحفه حتى مدينة كَرْيون، وذلك في نفس الوقت الذي غزا فيه الموحدون أراضي قشتالة من الجنوب. فلما انتهى الموحدون من غزوتهم، وانسحبوا إلى الجنوب، قامت قوة مشتركة من القشتاليين والأرجونيين بغزو مملكة ليون، واخترقت أراضيها حتى كويانسا (بلنسية دي دون خوان)، وحاصرت ملك ليون وحلفاءه الموحدين في قاعدة بنافنتي، فالتزم ملك ليون الدفاع، ولم يحاول
_______
(1) راجع تاريخ منارة المنصور، وأوصافها القديمة والحالية في كتابي " الآثار الأندلسية الباقية " الطبعة الثانية ص 51 - 56.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 204، وابن خلدون ج 6 ص 245.(4/233)
أن يشتبك مع خصومه. ثم انسحب القشتاليون وحلفاؤهم من أراضي ليون مثقلين بالغنائم، وعاد ملك أراجون إلى بلاده وزال الخطر عن مملكة ليون.
وقبيل مغادرة المنصور لإشبيلية، وفدت عليه رسل ملك قشتالة مرة أخرى في طلب المهادنة والسلم، فرأى المنصور على ضوء هذه التطورات، أن يجيبه إلى رغبته بشروط اشترطها، وهو ما يصفه صاحب البيان المغرب بأن التهادن عقد وفقاً لشريعة الإسلام (1). ومن جهة أخرى فإن ملك ليون، بعد أن تحرج مركزه، وأعلن البابا نفيه من الكنيسة، باعتباره خارجاً على الدين، وأذن لملك البرتغال بمحاربته متشحاً بالصفة الصليبية، قصد بنفسه إلى إشبيلية ملتجئاً إلى المنصور، وطالباً إليه معاونته بالجند والمال، ولكنه لم يوفق في مسعاه هذه المرة، نظراً لقيام التهادن والسلم بين الموحدين وبين مملكة قشتالة.
ولما انتهى المنصور من النظر في سائر الشئون، أصدر أوامره بالتأهب للعودة إلى حضرة مراكش. ثم غادر إشبيلية في أواسط جمادى الأولى سنة 594 هـ (أواخر مارس سنة 1198 م) وعبر البحر في غرة جمادى الثانية، وقصد أولا إلى فاس، فأقام بها نحو عشرين يوماً طلباً للراحة والاستجمام، ثم غادرها إلى الحضرة، فدخلها في شعبان سنة 594 هـ.
استقر المنصور في حاضرته، وهو متعب منهوك القوى، من جراء ما اضطلع به من الغزوات والأعمال مدى أربعة أعوام متوالية. وكان أول ما عنى به هو أخذ البيعة لولده أبي عبد الله محمد الملقب بالناصر، وكان قد اختاره لولاية عهده، حينما اشتد به المرض في سنة 587 هـ، حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل، فبايعه سائر أشياخ الموحدين، وأخذت له البيعة في سائر القواعد والجهات.
وكانت تصرفات الخليفة في هذه الفترة الأخيرة من حياته، تصطبغ بنوع من التقى والورع. فمن ذلك أنه أمر أن يجمع الأطفال الأيتام، وأن يُختنوا، وأمر لكل منهم بثوب ودينار من الذهب ودرهم من الفضة وحبة من الفاكهة، توضع في يده تخفيفاً لألمه. ويقول لنا المراكشي إن هذا الموسم لتختين اليتامى كان يقام كل عام (2).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 204، وابن خلدون ج 6 ص 245. ويقول المراكشي أن الهدنة عقدت بين الموحدين وملك قشتالة لمدة عشر سنين (المعجب ص 160).
(2) المعجب ص 162.(4/234)
ومن ذلك أنه أمر بتمييز اليهود بلباس خاص. ونحن نعرف أن السياسة الموحدية، كانت منذ عهد الخليفة عبد المؤمن، تجري نحو الذميين على قاعدة التزمت وعدم التسامح، وأن عبد المؤمن، أمر في أواخر عهده بأن يعتنق النصارى واليهود الإسلام، أو يغادروا الأراضي الموحدية، وقرر الموت عقوبة للمخالفين. ولكن السياسة الموحدية جنحت من بعد عبد المؤمن إلى نوع من الاعتدال والتسامح، فترك النصارى واليهود أحراراً يعيشون في البلاد الموحدية. وكانت النظرة إلى اليهود دائماً أكثر تزمتاً وشدة منها إلى النصارى.
وكان الذي حدا بالمنصور إلى تمييز لباسهم، هو أنهم ازدهروا في عهده وتشبهوا بالمسلمين في اللباس، وشاركوهم في مظاهرهم وأساليب حياتهم، فرأى أن يفرض عليهم لباساً خاصاً يميزهم عن المسلمين. وكان هذا الزي عبارة عن قميص أزرق طوله ذراع وعرضه ذراع، وبرنس أزرق ذو أكمام مفرطة السعة والطول، وقلنسوة زرقاء يضعونها على الرأس مكان العمامة، تصل إلى الأذنين. ويقول لنا المراكشي إن الذي حمل المنصور على هذا التصرف إزاء اليهود، هو شكه في إسلامهم، وأنه كان يقول لو صح عندى إسلامهم، لتركتهم يختلطون بالمسلمين في سائر أمورهم، ولو صح عندى كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئاً للمسلمين، لكني متردد في أمرهم، وهم يظهرون الإسلام، ويغشون المساجد، والله أعلم بما تكن صدورهم. وصدر قرار المنصور بتمييز اليهود في أوائل سنة 595 هـ. وقد نظم ابن نغرالة زعيم اليهود المغاربة يومئذ، وهو فيما يبدو سليل أسرة بني نغرالة أو بني النغريلي التي ازدهرت في غرناطة أيام باديس بن حبوس، أرجوزة يتهكم فيها على هذا القرار، وما فرضه من اللباس الأزرق، ويواسي مواطنيه اليهود، هذا مطلعها:
لبس ذا الأزرق ليس فيه خسارا ... فافهموا يا قوم هذه الإشارا
ولما تولى الخلافة أبو عبد الله محمد الناصر لدين الله ولد المنصور، استغاث به اليهود، واستشفعوا لديه بكل من استطاعوا لإقالتهم من هذا الزي المرهق، فأمر أن يستبدلوه بثياب صفر وعمائم صفر، واستمروا على ذلك بقية عهد الموحدين (1).
_______
(1) المعجب ص 173 - والبيان المغرب القسم الثالث ص 205، ودائرة المعارف اليهودية: Vol. I. p. 433.(4/235)
- 3 -
ولم يمض قليل على ذلك حتى مرض المنصور مرضه الأخير، وكان قد انتقل من الحضرة إلى ضاحية الصالحة الملكية التي كان قد أنشأها في بداية عهده، ولما شعر بخطورة مرضه، ودنو أجله، استدعى شيوخ الموحدين، ووجوه أهل بيته، وأعيان بلاطه، وقد وصف لنا صاحب البيان المغرب، ما وقع في هذا المجلس الأخير للخليفة الراحل، وما أوصى به أشياخ دولته وأهل بيته، فقال إنه لما استقر المجلس بالحضور، اتجه الخليفة إليهم ببصره، وقد اغرورقت عيناه بالدمع، فسألهم عن أحوالهم وأعمالهم، ثم قال: " أيها الناس رحمكم الله، إن هذه العلل والأمراض قد توالت علينا، وهدت قوانا، وهتكت جوارحنا، وأظن والله أعلم بغيبه أن هذه العلة هي آخر عهدنا بهذه الدنيا، وأنها القاضية علينا، فانظروا رحمكم الله، وأعانكم على طاعته، من تقدمون على أنفسكم وعلى رقاب المسلمين ". قال، فغلب البكاء على الحاضرين، وتكلم أبو موسى بن محمد بن الشيخ أبي حفص بن علي، وقال " كأنكم يا أمير المؤمنين يا سيدنا تخرسنا بهذا القول، أنتم أمير المؤمنين، فإن توفيتم فإلى رحمة الله تعالى، والجميع صائرون ومنقلبون إلى ما تصيرون إليه، وكنتم قلدتمونا عهدكم الكريم لسيدنا الأمير الأجل أبي عبد الله ابنكم، فنحن باقون عليه، إلى أن تلحق نفوسنا بنفوسكم، وهو خليفتكم علينا بعدكم ".
ثم تعاقب الحضور في الكلام، وأبدى الخليفة لهم قلقه لصغر سن ولده، وطلب إليهم أن يدعوا الله تعالى باليمن والإقبال، فيما انعقدت عليه النية، وأن يتولوه بمعونتهم، ولا يتركوه لرأيه، حتى ينتبه، ويكمل عقله. ثم التفت إلى السيد أبي الحسن، وأخيه السيد أبي زيد، ابني السيد أبي حفص. وقال إنهما لخير هذا البيت، وإنه قدّمهما على الإخوان، وعلى البلاد، فليكونا على ما عهد منهما، وعلى ما ربط لهما من قبل.
ثم أوصى الخليفة الحاضرين بالسادات، وبعض الأشياخ، وخص منهم بالذكر الشيخ أبا زكريا، وأبا محمد عبد الواحد، وأن يعتبر هذان الشيخان مستشارين لولده محمد، لا يصدر إلا من رأيهما ومشورتهما.(4/236)
وقال الخليفة للحضور بعد ذلك وعيناه تذرفان الدمع، أوصيكم بتقوى الله تعالى، وبالأيتام واليتيمة. فسأله الشيخ أبو محمد عبد الواحد، يا سيدنا يا أمير المؤمنين، ومن الأيتام واليتيمة؟ قال اليتيمة جزيرة الأندلس. والأيتام سكانها المسلمون، وإياكم الغفلة فيما يصلح بها من تشييد أسوارها وحماية ثغورها، وتربية أجنادها وتوفير رعيتها، ولتعلموا أنه ليس في نفوسنا أعظم من همها، ونحن الآن قد استودعنا الله تعالى، وحسن نظركم فيها، فانظروا من المسلمين، وأجروا الشرائع على مناهجها.
وأوصى الخليفة أخيراً بالأغزاز (الغز) ومنحهم البركة التي أمر بها، كما أوصى بملاطفة العرب والإحسان إليهم، وشغلهم بالحركات، وعدم تركهم للعطلة والراحة. وأوصى بطلبة الحضر، وأن يكون لهم موضع خاص يشتغلون فيه بالمذاكرة. وأوصى أخيراً ببعض أصحاب المناصب، والعمال الذين أولاهم ثقته.
واختتم المنصور حديثه بالتوصية بقبائل الموحدين ووجوب مزاورتهم، وسماهم قبيلا بعد قبيل. وكرر حديثه إلى الأشياخ بأن يحفظوا الأمانة التي ألقيت إلى أعناقهم، وأن يجروا الشرائع على سننها، وأن يحرصوا على اجتناب الباطل. ثم دعا للناس، وانفض المجلس، وانصرف الموحدون، وكان هذا آخر العهد به (1).
ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن المنصور لما اشتد به المرض، وشعر بدنو أجله، قال لمن كان حوله من الأشياخ، ما ندمت على شىء فعلته في خلافتي، إلا على ثلاث، وددت أني لم أفعلها، أولها إدخال العرب من إفريقية إلى المغرب لأنى أعلم أنهم أهل فساد، والثانية بناء رباط الفتح، أنفقت فيه من بيت المال، وهو بعد لا يعمر، والثالثة إطلاق أسارى الأرك، ولابد لهم أن يطلبوا بثأرهم (2).
وفي ليلة الجمعة الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 595 هـ (22 يناير سنة 1199 م)، توفي الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور بقصره بالصالحة (3).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 206 - 209.
(2) روض القرطاس ص 152.
(3) ويقول لنا صاحب روض القرطاس إنه توفي بقصبة مراكش (ص 152) وفي رواية أنه توفي في غرة جمادى الأولى سنة 595، وفي أخرى أنه توفي غرة صفر (ابن خلكان ج 2 ص 431) ويقول ابن الأثير إنه توفي ثامن عشر ربيع الآخر، وأن وفاته كانت بمدينة سلا (ج 12 ص 57).(4/237)
ودفن مؤقتاً بمجلسه بالقصر، وكتمت وفاته حيناً، ثم نقل رفاته إلى تينملل، ودفن بها، وثارت حول اختفائه بعض الروايات والأساطير، فزعم البعض أنه ترك الملك وأضحى مرابطاً بالأندلس، وزعم آخرون أنه تزهد وساح فى البلاد، وقصد المشرق ومات خاملا، ودفن بالشام، إلى غير ذلك (1).
وبوفاة المنصور يختتم عهد من ألمع عهود الدولة الموحدية.
- 4 -
كان الخليفة يعقوب المنصور أعظم خلفاء الدولة الموحدية، إذا استثنينا جده عبد المؤمن، مؤسس الدولة وموطد دعائمها. وفى ظله بلغت الدولة الموحدية أوج قوتها وعظمتها، وظهرت على يديه روعة الملك وفخامته، فى أبهى حللها.
ويصفه ابن الخطيب بأنه كان " نجم بنى عبد المؤمن " وهى كلمة قوية جامعة (2). وتشيد الرواية الإسلامية بخلال المنصور، وتفيض فى استعراض مآثره، وامتداح تصرفاته وسياسته، سواء من الناحية الداخلية أو من الناحية الخارجية، وتشيد بنوع خاص بغيرته فى الجهاد، وتفانيه فى الذود عن قضية الإسلام بالأندلس، ومن ثم كانت عنايته بتنظيم الجيش وتنميته، وشحنه بالفرق الجديدة من الفرسان والرجّالة، وتزويده بموفور العتاد والسلاح، والإنفاق عليه بسعة وسخاء، وإعداده للجهاد بصفة مستمرة. وكان يعنى بتوفير أرزاق الجند، ومنحها فى مواعيدها المقررة. وكان نظام العطاء فى الجيش، أن يمنح الجند الموحدون العطاء، (الجامكية) ثلاث مرات فى العام بصورة منتظمة، مرة فى كل أربعة أشهر، ويمنح الجند الغز أو الأغزاز، وكذلك العرب عطاءهم كل شهر. وكان رأى المنصور فى اختصاص الأجناد الغز والعرب بهذه المزية، هو أن الموحدين من أهل البلاد الأصليين ولهم بها الإقطاع والأموال الكثيرة. أما الغز والعرب، فهم غرباء لا شىء لهم فى البلاد يعتمدون عليه سوى هذا العطاء الرسمى المنظم (3). وكان لهذه العناية بتوفير أعطية الجيش أثرها القوى فى رفع همم الجند، وشحذ
_______
(1) البيان المغرب ص 211، وابن خلكان ج 2 ص 431.
(2) ابن الخطيب فى الإحاطة فى ترجمة أبى يعقوب يوسف (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر - لوحة 395).
(3) المراكشى فى المعجب ص 163، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 208.(4/238)
الرغبة فى الجهاد. والواقع أن الجهاد هو ألمع ما فى حياة المنصور العامة، وقد أسبغت عليه غزواته الموفقة للممالك النصرانية فى شبه الجزيرة، ولاسيما انتصاره الباهر فى موقعة الأرك، على شخصه وعلى جهاده، هالة من العظمة والجلال غلبت على كل خلاله ومناقبه الأخرى.
وقد رأينا المنصور منذ بداية حكمه ملكاً حازماً، يعمل على إقامة العدل وتوطيد أسسه، والنظر فى الأحكام بنفسه، ومراقبة أعمال الولاية والعمال، ومحاسبتهم، ومطاردة من ينحرف منهم عن جادة الحق والعدل وعزلهم، ثم رأيناه ملكاً مصلحاً، يضطرم بروح إنشائية قوية، ويعنى بإقامة المنشآت العظيمة، من مدن وحصون وجوامع وغيرها، سواء بالمغرب أو الأندلس.
وأول ما تشيد به الرواية من صفات المنصور هو ورعه وتقواه، والتزامه أحكام الشريعة وسننها، ومحاولة تطبيقها على حقيقتها، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإقامة الحدود، حتى فى أهله، وعشيرته الأقربين، وكان مثل جده عبد المؤمن يشدد فى إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس، ويأمر بالمناداة عليها، ويعاقب على تركها، وكان يشتد كذلك فى إقامة الحدود، ويذهب فى ذلك أحياناً إلى حدود بعيدة، حتى قيل إنه عاقب على شرب الخمر بالقتل، وأمر بقتل بعض العمال الذين تشكو الرعية منهم (1).
وقد كان للمنصور من الناحية الدينية موقف خاص، يمكن أن يوصف بأنه انقلاب فى ميدان المذهب والعقيدة فى الدولة الموحدية، فهو أولا قد طارد علم الفروع، أعنى دراسة تفاصيل العبادات والمعاملات. وأمر بإحراق كتب المذهب المالكى فى سائر البلاد مثل مدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبى زيد، وكتاب التهذيب للبرادعى، وواضحة ابن حبيب، وأمر الناس بترك الاشتغال بعلم الرأى والخوض فيه، وأنذر من يفعل ذلك بشديد العقاب، وأمر جماعة من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة فى الصلاة وما يتعلق بها على نحو المجموعة التى جمعها ابن تومرت فى الطهارة، وذاع هذا المجموع فى المغرب، وأقبل الناس على حفظه. وكان قصد المنصور من ذلك أن يمحو
_______
(1) ابن خلكان ج 2 ص 418، و 433، وابن الأثير ج 12 ص 57، والبيان المغرب القسم الثالث ص 205، والمقرى فى نفح الطيب ج 2 ص 536.(4/239)
مذهب مالك وأن يزيله من المغرب (1). وكان المنصور أيضاً من أشد دعاة المذهب الظاهرى، وهذا المذهب الذى اشتهر على يد الفيلسوف ابن حزم القرطبى فى أوائل القرن الخامس الهجرى، يرجع إلى القرن الثالث، ومؤسسه هو خلف بن داود الأصفهانى المتوفى سنة 270 هـ، وقد وضع أسسه فى نحو منتصف القرن الثالث، وخلاصتها أنه يجب فى صوغ أحكام الشريعة أن يُرجع فقط إلى ظاهر القرآن والسنة أى الحديث، وألا يُؤخذ فى ذلك بالرأى أو القياس، وأن يبقى الإجماع محصوراً فى إجماع صحابة رسول الله. ويبدى ابن حزم إمام المذهب الظاهرى بالأندلس تشدداً فى تطبيقه على العقائد، وهو لا يأخذ فى تفسير الأحكام إلا بالكلمة المكتوبة، والحديث الثابت، ويعتبرهما حاسمين فى صوغ الأحكام. وقد حمل الخليفة المنصور الناس على اعتناق المذهب الظاهرى، والتزام الأخذ بالظاهر من القرآن والحديث. وكان المنصور يشكو من تعدد الآراء والأحكام المذهبية فى المسألة الواحدة، ويرى أن الأخذ بالمذهب الظاهرى يحسم كثيراً من هذه الخلافات. ونستطيع القول إن المذهب الظاهرى، غدا هو المذهب الرسمى فى عهد المنصور، وعظم أمر الظاهرية، وانتشروا بالمغرب، وكانوا يسمون بالحزمية نسبة إلى الفيلسوف ابن حزم عميد المذهب. وكان المنصور يبجل ابن حزم، ويرتفع به وبعلمه إلى أسمى مكانة. ومما يذكر فى هذا الصدد، ما يروى، من أن المنصور، مر فى عودته من غزوه لأراضى البرتغال فى سنة 587 هـ (1191 م)، بشمال مدينة ولبة، حيث توجد قرية منت ليشم، وهى بلد بنى حزم، وبها قبر العلامة ابن حزم، فوقف المنصور على قبره، وهو يقول عجباً لهذا الموضع يخرج منه مثل هذا العالم، ثم قال " إن كل العلماء عيال على ابن حزم " (2). ويقول لنا ابن الأثير إن المنصور عين فى أواخر أيامه قضاة من الشافعية. وقد كان الجنوح إلى مذهب الظاهرية، فيما يذكر لنا المراكشى من صفات أبيه الخليفة أبى يعقوب يوسف، وجده الخليفة الفقيه العالم عبد المؤمن بن على، إلا أنهما لم يفصحا عن هذا الاتجاه بشكل ظاهر،
_______
(1) المراكشى فى المعجب ص 157 و 158، والتكملة لابن الأبار (القاهرة) ج 2 ص 563. وابن الأثير ج 12 ص 57، وابن خلكان ج 2 ص 432، والنويرى طبعة جسبار ريميرو السابق الإشارة إليها ج 8 ص 277.
(2) المقرى فى نفح الطيب ج 2 ص 162. ومازالت هذه القرية التى دفن بها العلامة الأندلسي الكبير، قائمة حتى يومنا، وهى تسمى اليوم باسمها الحديث " كاسا مونتيخو Casa Montejo ".(4/240)
إذ كانت الدولة الموحدية ما تزال فى بدايتها، وكانت عقيدة التوحيد تعلو على كل ما عداها. وكان من آثار هذا الاتجاه أن ازدهر علم الحديث فى عهد المنصور، وحظى طلابه بمنتهى التشجيع والرعاية (1).
ومن جهة أخرى فإنه يوجد ما يحمل على الاعتقاد، بأن المنصور لم يكن من الغلاة فى تصوير إمامة المهدى، ولم يكن بالأخص من المؤمنين بعصمته، وهو اتجاه تبلور فيما بعد، واتخذ على يد خلفائه صورته العملية (2).
ومما يتصل بتقى المنصور، وورعه، وحماسته الدينية، ما نسب إليه من أنه كان ينوى افتتاح مصر، وضمها إلى الإمبراطورية الموحدية، لأنها كانت فى نظر الموحدين بلداً يجنح إلى البدع، وتشيع فيه المنكرات، وقد نوه بمشروع المنصور هذا نحو مصر، غير واحد من المؤرخين والرواة. فيقول لنا المراكشي، وهو معاصر لعهد المنصور إنه قد بلغه عن غير واحد " أن المنصور صرح للموحدين بالرحلة إلى المشرق، وأنه كان يذكر البلاد المصرية وما فيها من المناكر والبدع، ويقول، نحن إن شاء الله مطهروها، ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات " (3). ويفيض الرحالة ابن جبير، وهو أيضاً معاصر المنصور، فى رحلته، فى الكلام عن هذه النية الموحدية فى غزو مصر، وصداها فى مصر ذاتها، ويبدأ حديثه بالحملة على أحوال البلاد المشرقية، ولاسيما ما يقع ببلاد الحجاز من ظلم الحجاج وانتهاب أموالهم، ويعرب عن أمله فى أن تُقمع هذه البدع المجحفة بالمسلمين " بسيوف الموحدين أنصار الدين، وحزب الله أولى الحق والصدق، والذابين عن حرم الله عز وجل، والغائرين على محارمه، والجادين فى إعلاء كلمته، وإظهار دعوته، ونصر ملته ".
ثم يقول ابن جبير فى التنديد بأحوال المشرق وضعف إسلامه: " وليتحقق المتحقق، ويعتقد الصحيح الاعتقاد، أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب، لأنهم على جادة واضحة لا بنيات فيها، وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية، فأهواء وبدع، وفرقة ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها، كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه، إلا عند الموحدين أعزهم الله، فهم أئمة العدل فى هذا الزمان، وكل من سواهم من الملوك فى هذا الأوان، فعلى غير
_______
(1) المراكشي فى المعجب ص 157 و 158.
(2) المراكشي فى المعجب ص 164.
(3) المعجب ص 160.(4/241)
الطريقة، يُشعرون تجار المسلمين كأنهم أهل ذمة لديهم، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة وسبب، ويركبون طرائق من الظلم لم يسمع بمثلها، اللهم إلا هذا السلطان العادل صلاح الدين، الذى قد ذكرنا سيرته ومناقبه، لو كان له أعوان على الحق ".
وأهم من ذلك ما ينوه ابن جبير من صدى الدعوة الموحدية بمصر، وانتشارها بصورة تدعو إلى الدهشة، ومن أن أكثر أهل مصر، بل كلهم " يرمزون بذلك رمزاً خفياً، وينسبون ذلك إلى آثار حدثانية، وقعت بأيدى بعضهم، وأنذرت بأشياء من الكوائن. . ولم يبق إلا الكائنة السعيدة من تملك الموحدين لهذه البلاد، فهم يستطلعون بها صبحاً جلياً، ويقطعون بصحتها، ويرتقبونها ارتقاب الساعة التى لا يمترون فى إنجاز وعدها. فشاهدنا من ذلك بالإسكندرية ومصر وسواهما مشافهة وسماعاً، أمراً غريباً، يدل على أن ذلك الأمر العزيز، أمر الله الحق، ودعوته الصدق. ونُمى إلينا أن بعض فقهاء البلاد المذكورة وزعمائها، قد حبّر خطباً أعدها للقيام بين يدى سيدنا أمير المؤمنين، وهو يرتقب ذلك اليوم ارتقاب يوم السعادة، والله عز وجل يبسطها من كلمة، ويعليها من دعوة، إنه على ما يشاء قدير " (1).
ونستطيع أن نربط بين هذه الأقوال التى يصف فيها ابن جبير صدى الدعوة الموحدية بمصر خلال مروره بها فى سنة 579 هـ (1183 م)، أعنى قبيل عهد المنصور بقليل، وبين ما ذكره أبو القاسم المؤمن المصري فى كتابه المسمى " بالأنساب فى معرفة الأصحاب "، ونقله البيذق، عن أصحاب المهدي بمصر، فقد ذكر لنا من هؤلاء واحداً وخمسين رجلا بأسمائهم، وقال إنهم كانوا من أعيان بلادهم " وإنهم كانوا سامعين لقوله، مجيبين لأمره، مؤمنين به، مختارين صحبته، مؤثرين لحقه، معظمين لحرمته " (2).
ويستخلص مما تقدم، ومن أقوال ابن جبير خاصة، أنه كانت توجد ثمة فكرة موحدية لغزو مصر، وأن هذه الفكرة ترجع إلى ما قبل عهد المنصور، وأنها ربما تبلورت فى عهد المنصور، واتخذت طابعاً قوياً، وذلك لما أبداه
_______
(1) رحلة ابن جبير (المنشورة بعناية الدكتور حسين نصار - القاهرة سنة 1955) ص 53 و 54.
(2) نقله البيذق فى " أخبار المهدي ابن تومرت " ص 30 - 32.(4/242)
المنصور من عزم وضخامة فى أهباته العسكرية، وما وفق إليه من انتصارات باهرة ضد النصارى فى شبه الجزيرة الإسبانية، ولاسيما فى معركة الأرك العظيمة. وربما كان من بواعث هذه الفكرة ومشجعاتها، مَثل الفاطميين، الذين ساروا من المغرب، قبل ذلك بأكثر من قرنين، وغزوا مصر، واستولوا عليها بأيسر أمر. ولكن شتان بين العصرين، وشتان بين ما كانت عليه مصر وقت الفتح الفاطمى، وما كانت عليه أيام الخليفة المنصور. بيد أننا لا نستطيع مع ذلك، أن نعتقد أن الموحدين كانوا يحتضنون مشروع غزو مصر بصورة جدية. وأكبر الظن أنها ربما كانت أمنية، وربما كانت مُثُل هذه الأمنية ترجع إلى عصر المهدي ذاته، فقد رأينا المهدي أثناء مقامه بثغر الإسكندرية يغضب لما رآه فيها من " البدع " ثم يقوم بها بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى قيل بأنه خرج منها منفياً، لما ترتب على دعايته من الشغب. بل قيل أكثر من ذلك، وهو أن المهدي قال ذات يوم لبعض أصحابه فيما قال ووعدهم به، وكانوا يجلسون تحت شجرة الخروب المواجهة لمسجد تينملّل: " ليبصرنّ منكم من طالت حياته أمراء أهل مصر، مستظلين بهذه الشجرة، قاعدين تحتها " (1). كذلك يلوح لنا أن ما يذكره ابن جبير عن انتشار فكرة الغزو الموحدى بمصر، وماكان يهمس به الناس من ذلك الأمر، إنما هو مبالغة ترجع إلى ولاء ابن جبير للدولة الموحدية، التى خدم فى ظلالها وتمتع برعايتها، والأغلب أن ابن جبير تلقى أخباره من بعض الغلاة الهائمين من أتباع المهدي وأنصاره بمصر، فصورها على أنها تعبر عن اتجاه أغلبية الأمة المصرية، وهو ما يعتبر فى نظرنا من ضروب الوهم المغرق. ولاشك أن الموحدين، وفى مقدمتهم الخليفة المنصور، كانوا يعرفون ما كانت عليه قوة مصر فى ذلك العهد، التى نعمت فيه بقيادة الملك الناصر صلاح الدين، وما أحرزته بقواتها العسكرية الضخمة البرية والبحرية، من انتصارات باهرة على الصليبيين، فلم يكن من المعقول أن يفكروا فى غزو مثل هذه الإمبراطورية الإسلامية الضخمة، التى تحطمت على صخرة قوتها الراسخة حملات الصليبيين المتوالية، ومن جهة أخرى، فإن قصور الموحدين فى هذا الوقت بالذات عن القضاء على ثورة بنى غانية فى إفريقية بصورة حاسمة، واستمرار هذه الثورة العتيدة، أيام المنصور ومن بعده أعواماً طويلة، يقطع بأن فكرة
_______
(1) المراكشي فى المعجب ص 164.(4/243)
غزو مصر، إن كانت، لم تكن لدى الموحدين سوى أمنية خيالية بعيدة المنال.
وكان المنصور عالماً مستنيراً، متقناً للحديث والفقه واللغة، مشاركاً في كثير
من العلوم، وكان محباً للعلماء مؤثراً لهم يجمع حوله صفوة العلماء والمفكرين،
وقد أشرنا من قبل إلى شغفه بالجدل والمناقشات الفلسفية، وما كان يعقده من
مجالس خاصة يستمع فيها إلى آراء الفيلسوف ابن رشد. وقد كانت نكبة الفيلسوف العظيم ونفيه إلى اليسّانة من سقطاته البارزة، ولكن كان متأثراً في ذلك بضغط الفقهاء والطلبة الموحدين. وكان المنصور يعنى بأمر طلبة العلم أعني علم الحديث، أعظم عناية، حتى نالوا على يديه من الرعاية والنفوذ ما لم ينالوه أيام أبيه وجده. وكان الموحدون يتبرمون بالطلبة، وينقمون عليهم حظوتهم ونفوذهم لدى الخليفة، حتى اضطر المنصور ذات يوم، أن يصرح أمام سائر الموحدين، وقد بلغه موقفهم من الطلبة، " يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيله، وهؤلاء الطلبة لا قبيل لهم سواى، فمهما نابهم أمر، فأنا ملجؤهم، وإلىّ فزعهم، وإلىّ ينتسبون ". يقول المراكشي، فعظم من ذلك اليوم أمر الطلبة، وبالغ الموحدون في برهم وإكرامهم (1).
وكان المنصور أديباً فصيحاً، جزل الألفاظ، وكان يجتمع حوله شعراء العصر من العدوتين، المغرب والأندلس، يصغى إلى مدائحهم، ويغمرهم بصلاته، وقد وضع له شاعره الأثير أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي كتابه الذي سماه " صفوة الأدب وديوان العرب " في مختار الشعر (2). وانتشر هذا الديوان بين أهل المغرب انتشاراً عظيماً، وكان لديهم ككتاب الحماسة لأبي تمام عند أهل المشرق، وقد سبق أن أشرنا في غير موضع إلى قصائد الجراوى ومدائحه للمنصور، وأبيه الخليفة أبي يعقوب يوسف، في مختلف المناسبات، ْوكان من شعراء دولته أيضاً أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن مُجْبَر المرسى الأندلسي، وقد أشرنا إلى مدائحه كذلك من قبل غير مرة، وقد ذكر لنا ابن خلكان أن مدائح ابن مُجبر للمنصور جمعت في ديوان، وأورد لنا منها قصيدة رقيقة في مطلعها:
أتراه يترك الغزلا ... وعليه شب واكتهلا
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 158.
(2) ابن خلكان ج 2 ص 432 و 494، وروض القرطاس ص 142.(4/244)
كلف بالغيد ما عقلت ... نفسه السلوان مذ عقلا
وإلى جانب هذه الصفات العلمية والأدبية اللامعة، كان المنصور جواداً، وافر البذل، كثير الصدقات، وكان يقدر قيمة البذل في أسر النفوس وترويضها، وكان يؤثر بصلاته الوفيرة أجناد الغز (الأغزاز) والعرب الذين ينضمون لجيشه، استبقاء وتأكيداً لولائهم (1).
هذا وأما عن كفاية المنصور ومواهبه الإدارية والإنشائية، فلدينا من ذلك تفاصيل عديدة. فقد كان المنصور في الواقع من أقدر الخلفاء الموحدين في فهم شئون الدولة الإدارية وتنظيمها، وكانت ولايته لوزارة أبيه مدرسة درس فيها هذه الشئون خير دراسة. وفيها " بحث عن الأمور بحثاً شافياً، وطالع أحوال العمال والولاة والقضاة وسائر من ترجع إليه الأمور مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور (2). وقد رأيناه سواء في المغرب أو الأندلس يعكف على معالجة شئون الدولة بهمة، ويتقصى شئون الولاة والعمال. وكان يولى شئون الأندلس في ذلك عناية خاصة، ففي كل مرة يعبر فيها إلى شبه الجزيرة، يعنى إلى جانب أهباته للغزو، بتنظيم شئونها الداخلية، وفي سنة 592 هـ، نراه بعد ظفره في معركة الأرك، يعنى خلال إقامته بإشبيلية، بمطاردة العمال المقصرين والمختلسين ومحاسبتهم، واستصفاء أموالهم، كما يعنى بتعيين غيرهم من الحائزين لثقته. ثم هو في نفس الوقت يولى شئون الدولة المالية اهتماماً خاصاً، ويندب لأعمال الجباية رجالا من ذوى الأمانة والنزاهة. وكان من أهم ما فعله المنصور في باب السياسة المالية، هو تغييره للدينار الموحدي، ومضاعفته لوزنه، حسبما أشرنا إلى ذلك في موضعه. وكذلك أبدى المنصور همة ظاهرة في إقامة المنشآت العمرانية العظيمة، فأنشأ لأول عهده ضاحية الصالحة الملوكية في جنوبي مراكش، فوق البسيط الممتد بين باب أغمات شرقاً وباب الشريعة غرباً، فجاء إنشاؤها دليلا على ما كانت تجيش به نفسه من إظهار أبهة الملك وروعته، على مثل ما كان عليه خلفاء الأندلس، وعنى بتوسيع مدينة رباط الفتح، التي كان قد اختطها جده فأبوه وتجديد قصبتها، وإتمام أسوارها وأبوابها، واستكمال أحيائها ومبانيها. وأنشأ
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 163، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 208.
(2) المعجب ص 148، ونقله ابن خلكان ج 2 ص 428.(4/245)
بها مسجداً عظيماً واسع الفناء، يقول المراكشي بأنه كان أكبر مسجد في المغرب، وأنشأ له صومعة متناهية في العلو " على هيئة منار الإسكندرية " يُصعد إليها بغير درج. ولكن هذا المسجد لم يتم إذ انقطع العمل فيه بوفاة المنصور (1). ونزيد نحن على ذلك بأن معالم المسجد المشار إليه، وقواعد أعمدته مازالت قائمة في مكانها، تدل على عظم مساحته، وما زالت صومعته الشاهقة التي لم يكمل بناؤها قائمة في مكانها، على مقربة من شاطىء المحيط، وهي التي تعرف اليوم بمنارة حسّان (تور حسان)، وهي على نمط صومعة جامع إشبيلية الشهيرة (لاخيرالدا) (1). بيد أن أهم منشآت المنصور في الحاضرة الموحدية - مراكش - كان هو البيمارستان (المستشفى) العظيم، الذي كان أول صرح من نوعه حظيت به مراكش. وقد اختار لإقامته ساحة شاسعة، وعنى بتخطيطه وبنائه أعظم عناية، وغرست من حوله الحدائق، وأجريت المياه إلى سائر أجنحته، وزود بنفيس الأثاث والرياش، ومختلف صنوف الأدوية، وعين له رهط من مهرة الصيادلة لإعداد الأدوية على اختلاف أصنافها، ورصدت الأموال اللازمة للإنفاق على المرضى، وإطعامهم وكسائهم، وكان المريض الفقير إذا تم شفاؤه، زُود عند خروجه بمال يعيش منه حتى يرزق بعمل، وإن كان غنياً دُفع إليه ماله وتُرك وشأنه، وكان يؤم هذا المستشفى الكبير سائر المرضى من المحليين والغرباء، وكان المنصور يركب إليه في كل جمعة بعد الصلاة، ويعود المرضى، ويسأل عن أحوالهم وحاجاتهم، وكانت هذه المأثرة الإنسانية من أعظم مآثر المنصور وأخلدها (2).
وأما عن منشآته بالأندلس فقد أشرنا إلى ما كان من إنشائه لحصن الفرج خارج مدينة إشبيلية، وإنشاء قصوره وقبابه، ثم إتمامه لصومعة جامع إشبيلية العظيمة، وهي التي كان أبوه قد أمر بإنشائها، ولم تكمل في عهده، فقام المنصور على إتمامها، وتزويدها بتفافيحها الذهبية حسبما أشرنا إليه في موضعه. وأنشأ المنصور في نفس الوقت بمدينة مراكش منارة الكُتيبة العظيمة على نسق صومعة جامع إشبيلية، كما أنشأ بمدينة الرباط صومعة مسجدها على نفس الطراز، وهي منارة حسّان التي لم يكمل بناؤها، حسبما تقدم. وقيل في شأن منارة الكتيبة إنه بدىء بإنشائها في عهد جده الخليفة عبد المؤمن، وقام هو بالعمل على إتمامها،
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 150.
(2) المراكشي في المعجب ص 162.(4/246)
وطبقاً لهذه الرواية تكون منارة الكتيبة سابقة على صومعة إشبيلية، وتكون هي أم هذا الطراز من الصوامع الموحدية، وعلى أي حال فقد تم إنشاء الكتبية في سنة 594 هـ، قبيل وفاة المنصور بقليل (1).
ووزر للخيلفة المنصور في بداية أمره أخوه السيد أبو عبد الله. ثم خلفه في الوزارة أبو حفص عمر بن أبي زيد الهنتاني، ولما توفي خلفه أبو يحيى أبو بكر ابن عبد الله بن أبي حفص عمر الكبير، واستمر في منصبه إلى أن قُتل في موقعة الأرك وهو يقود الصفوف. فتولى الوزارة من بعده أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن الشيخ أبي حفص، وهو ابن عم أبي يحيى الشهيد المتقدم الذكر، ولكنه لم يلبث في الوزارة سوى أيام يسيرة، ثم تركها مختاراً وهام على وجهه في بعض نواحي إشبيلية، وتزهد، فأرسل الخليفة إليه من استرده وأعفاه من الوزارة، وخلفه في الوزارة أبو زيد عبد الرحمن بن موسى بن يوجّان الهنتاني، فلم يزل في منصبه حتى توفي الخليفة المنصور، فتولى الوزارة بتوصية الخليفة، لابنه محمد الناصر مدى حين (2).
وكتب للمنصور عدة من أكابر الكتاب منهم أبو الفضل جعفر ابن محشرة من أهل مدينة بجاية، وكان تلميذاً لأبي القاسم القالمي، كاتب أبيه الخليفة أبي يعقوب، وكان كاتباً مجيداً، بارع الأسلوب، واسع الرواية غزير الحفظ، تشهد له بذلك رسائله العديدة التي انتهت إلينا، واستمر في منصب الكتابة حتى توفي. فكتب من بعده للمنصور أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن ابن عياش، وهو أندلسي من أهل بُرْشانة من أعمال ألمرية، واستمر في منصبه حتى توفي المنصور، فكتب من بعده حيناً لابنه محمد الناصر، ثم لحفيده يوسف. وكان من ألمع كتاب الدولة الموحدية وأبرعهم أسلوباً. وقد انتهت إلينا كذلك عدة من رسائله الصادرة عن الخليفة المنصور، ومنها الرسالة التي وضعها في اتهام ابن رشد وزملائه بالخروج على شريعة الإسلام، وكلها تشهد بروعة بيانه (3).
_______
(1) روض القرطاس ص 151.
(2) المعجب ص 148، والحلل الموشية ص 121، والبيان الغرب القسم الثالث ص 209.
(3) راجع في مجموعة الرسائل الموحدية الرسالة السادسة والعشرين إلى الرسالة الرابعة والثلاثين وهي جميعها من إنشاء ابن محشرة، وراجع الرسائل الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين والسابعة والثلاثين وهي من إنشاء أبي عبد الله بن عياش.(4/247)
وتولى القضاء في عهد المنصور، أبو جعفر أحمد بن مضاء من أهل قرطبة، وكان يتولاه من قبل في عهد أبيه الخليفة أبي يعقوب، ولما توفي خلفه في القضاء أبو عبد الله محمد بن مروان من أهل وهران، ثم عُزل وتولى القضاء من بعده أبو القاسم أحمد بن محمد من ولد بقى بن مخلد فقيه الأندلس الأشهر، واستمر في منصبه حتى وفاة المنصور، ووقتاً من عهد ولده محمد الناصر (1).
وترك المنصور من الولد ستة عشر من الذكور، هم محمد ولى عهده والخليفة من بعده، وإبراهيم، وعبد الله، وعبد العزيز، وأبو بكر، وزكريا، وإدريس، وعيسى، وموسى، وصالح، وعثمان، ويونس، وسعد، ومساعد، والحسن، والحسين. وقد تولى الخلافة منهم غير محمد، اثنان آخران هما أبو محمد عبد الله العادل، وأبو العلاء إدريس المأمون. وترك المنصور كذلك عدة من البنات.
هذا، وأما عن شخص الخليفة يعقوب المنصور، فقد وصفته الرواية المعاصرة، بأنه كان شديد السمرة، طويل القامة، جميل المحيا، أعين، أفوه، أقنى الأنف، شديد الكحل، مستدير اللحية، ضخم الأعضاء، جهورى الصوت، جزل الألفاظ (2).
تلك هي مآثر الخليفة الموحدي، الظافر في معركة الأرك العظيمة، وتلك هي صفاته وخلاله الوضاءة اللامعة.
_______
(1) المعجب ص 149.
(2) المعجب ص 147 و 148، وابن خلكان ج 2 ص 428.(4/248)
الفصل الخامِسُ عصر الخليفة محمد الناصر
جلوس الخليفة محمد الناصر. وزيره ومستشاروه. أعماله الأولى. أحوال إفريقية. استيلاء يحيى ابن غانية على قابس. ابن عبد الكريم وظهوره. خلافه مع والي المهدية. القبض عليه ثم إطلاق سراحه. استيلاؤه على المهدية واستبداده بها. مسيره لغزو تونس. اشتباكه مع الموحدين وهزيمتهم. لومه وعوده إلى المهدية. الخلاف بينه وبين يحيى الميورقي. استيلاؤه على قفصة. اشتباكه مع الميورقي. هزيمته والتجاؤه إلى المهدية. محاصرة الميورقي له. تسليمه للمهدية. قبض الميورقي عليه هو وولده ثم اغتيالهما. امتداد سلطان يحيى إلى معظم أنحاء إفريقية. سيره إلى باجة واقتحامها. مسير الموحدين لقتاله. هزيمة الموحدين وسقوط محلتهم. مسير يحيى إلى بسكره واقتحامها. عوده إلى المهدية. قلق البلاط الموحدي لحوادث إفريقية. تجهيز حملة كبيرة لقتال الميورقي وتوقفها. ثورة أبي قصبة ببلاد السوس. مسير الموحدين لقتاله. هزيمة الدعى ومقتله. وقوع السيل العظيم بإشبيلية. تأهب الموحدين لافتتاح الجزائر الشرقية. عبد الله بن إسحاق حاكم الجزائر. مسالمته للدول النصرانية وتعاونه معها. انتزاعه لمدينة منورقة من الموحدين. إعداد الحملة الموحدية لافتتاح الجزائر. خروجها من دانية إلى يابسة ثم إلى ميورقة. استيلاء السفن الموحدية على منورقة. نزول الموحدين في ميورقة. القتال بينهم وبين عبد الله بن إسحاق. هزيمة عبد الله ومقتله. اقتحام الموحدين لمدينة ميورقة وافتتاحها. تعيين ابن طاع الله الكومي لولايتها. صدى هذا الفتح في أراجون والدول النصرانية الأخرى. تأثيره في خطط يحيى بن إسحاق. عزم يحيى على فتح تونس. مسيره إليها في قواته. قطع اتصالها بالبحر ومحاصرتها. اقتحام يحيى لها. قبضه على واليها السيد أبي زيد وأولاده وأشياخ الموحدين. يحيى يفرض غرامة فادحة على تونس. خروجه إلى جبل نفوسة وتغريم أهله. وقع سقوط تونس في بلاط مراكش. الناصر يعين ولاة الأندلس. عزمه على سحق الميورقي. مسير الحملة الموحدية والأسطول الموحدي إلى إفريقية. حركات يحيى بن إسحاق في الجنوب. وصول الأسطول الموحدي. وصول الحملة الموحدية بقيادة الناصر. عودة يحيى إلى تونس. إرساله لأمواله وذخائره إلى المهدية. إخلاؤه لتونس ومسيره في قواته إلى قفصة. احتلال الموحدين لتونس. مسير الحملة الموحدية في أثر الميورقي. تحصن الميورقي بجبل دمر. تحصينه للمهدية. مسير الناصر لمحاصرة المهدية. مسير حملة موحدية بقيادة الشيخ أبي حفص إلى جبل دمر. معركة دموية في رأس تاجرا. هزيمة الميورقي ومقتل أصحابه. فراره في فلوله. انقاذ السيد أبي زيد وصحبه. اشتداد المقاومة بالمهدية، المعارك المستمرة. طلب الغانى حاكم المهدية التسليم بالأمان. موافقة الناصر. خروجه من المهدية مع صحبه. دخوله في طاعة الموحدين. سحق بني غانية وتحرير إفريقية. مثل بني غانية في محاربة الموحدين. تحولها إلى مغامرة في سبيل السلطان والثراء. مثالب حكومة الميورقي وأساليبها الهمجية. بغض المحكومين لها. التجاء يحيى الميورقي إلى الصحراء الجنوبية. مطاردة الموحدين لطوائف المفسدين. تعيين الشيخ أبي محمد عبد الواحد لولاية إفريقية. اعتذاره وشروطه للقبول. موافقة الناصر ومغادرته لتونس. مسيره إلى تلمسان ثم إلى فاس. أعماله ومطاردته لعاملى فاس ومكناسة(4/249)
مسيره إلى رباط الفتح ثم إلى مراكش. نظره في الأعمال السلطانية ومراجعته لأعمال العمال. وفاة السيد أبي الربيع والي بجاية. تعيين السيد أبي عمران موسى والياً لتلمسان. عود يحيى الميورقي إلى الحركة. تحول بعض طوائف العرب عن محالفته إلى الموحدين. مسير يحيى إلى الشمال. خروج الشيخ أبي محمد إلى لقائه. معركة تبيشة. هزيمة الميورقي وفراره. جمعه لقواته ومسيره غرباً صوب واحات سجلماسة. اقتحامه لسجلماسة ونهبها. اهتمام الموحدين في إفريقية ومراكش. عوده صوب تلمسان. مفاجأته لواليها
السيد أبي عمران وقواته. هزيمة الموحدين ومصرع السيد وصحبه. اقتحام الميورقي لمدينة تاهرت. عيث الميورقي في أحواز تلمسان. إنجاد المدينة وتأمينها. مسير حملة جديدة لمقاتلة الميورقي. ارتداده صوب طرابلس. عوده إلى الحركة. تضخم جيشه بالعرب والأغزاز. خروج الشيخ أبي محمد ْلقتاله. مسيره نحو جبل نفوسة. اشتباك الفريقين. هزيمة الميارقة وحلفائهم. مقتل أشياخ العرب. فرار يحيى وفله. عود القائد الظافر أبي محمد. كتابه إلى الخليفة بالفتح. معالجة الشيخ أبي محمد لشئون إفريقية. فضله في إخماد ثورة بني غانية. توطيده لسلطان الموحدين في إفريقية. التجاء سير أخي يحيى إلى الشيخ أبي محمد. أعمال الناصر وتعييناته للولاة والكتاب والقضاة. بعض حوادث المغرب في تلك الفترة. حريق مراكش. وفد المسلمين الصقليين إلى تونس. أحوال مسلمى صقلية منذ افتتاح النصارى للجزيرة. أقوال الرحالة ابن جبير عن ذلك.
لما توفي الخليفة يعقوب المنصور، في ليلة الجمعة الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 595 هـ (22 يناير سنة 1199 م)، خلفه في صباح اليوم التالي ولده أبو عبد الله محمد الملقب بالناصر لدين الله، وأخذت له البيعة العامة بعد ذلك بأسبوع في نهاية شهر ربيع الأول. ولم يعارضه أحد من الإخوة ولا العمومة. وكان المنصور قد اختاره لولاية عهده، وعقد له البيعة بذلك في أواخر سنة 587 هـ، حينما دهمه المرض الشديد، عقب عوده إلى المغرب، من جوازه الأول إلى الأندلس. ثم أخذت له البيعة بعد ذلك في سائر أقطار المغرب والأندلس. وكان الخليفة الجديد حين جلوسه، في نحو السابعة عشر من عمره، إذ كان مولده في أواخر سنة 576 هـ. ويقول لنا المراكشي إن أمه أم ولد رومية تدعى زهر. ولكن صاحب روض القرطاس، يقول إن أمه بالعكس كانت حرة اسمها أمّة الله، وأنها ابنة السيد أبي إسحق بن عبد المؤمن (1). وتولى الوزارة للخليفة الجديد، وزير أبيه أبو زيد عبد الرحمن بن موسى ابن يوجان، وهو ابن أخي الشيخ أبي حفص (2)، وتولى مهمة الاستشارة والتوجيه، الشيخ أبو زكريا وأخوه الشيخ أبو محمد عبد الواحد، إبنا الشيخ
_______
(1) المعجب ص 175، وروض القرطاس ص 152.
(2) وقد ورد في بعض الروايات " أبو زيد بن يوجاق " (راجع رحلة التجاني ص 363)(4/250)
أبي حفص عمر الهنتاني، وتولى رياسة البيت المالك السيد أبو الحسن وأخوه السيد أبو زيد، ابنا السيد أبي حفص عم الخليفة الراحل، وذلك كله، وفقاً لوصية المنصور في مرض موته حسبما أشرنا إليه من قبل.
وأقام الخليفة الجديد عقب ولايته بحضرة مراكش بضعة أسابيع، حتى آخر شهر ربيع الثاني من سنة 595 هـ، وتمت البيعة خلال ذلك في سائر النواحي، ووصلت إلى الحضرة، وخرجت البركات للموحدين والأجناد كالعادة، وقدم الشعراء تهانيهم بتجديد البيعة. ثم غادر الخليفة مراكش في أول شهر جمادى الأولى، وقصد إلى مدينة فاس، فأقام بها حتى نهاية هذا العام. وعنى الخليفة خلال ذلك بتصريف الشئون، بمعاونة وزيره عبد الرحمن بن يوجان، وكان في مقدمة المراسم الجديدة، أن عين الخليفة السيد الحسن بن السيد أبي حفص والياً لبجاية وأعمالها، وأمده بالرجال والأموال ليستطيع مواجهة الحوادث في تلك المنطقة المضطرمة، وعين أخاه السيد أبا محمد عبد الله بن المنصور والياً على إشبيلية مكان أخيه السيد أبي زيد (1).
وكانت الأحوال في إفريقية قد ساءت في أواخر عهد المنصور، ولا سيما حين شغل بأمر الجهاد في الأندلس، ولم تسعفه الظروف حين عودته بعد ذلك إلى المغرب، ليعنى بالنظر في شئون إفريقية، وتدارك ما دهمها من الحوادث، حيث فاجأه المرض وتوفي. فكان على ولده الخليفة الفتى محمد الناصر، أن يواجه هذه الظروف، وأن يقوم بتداركها.
- 1 -
وقد وصلنا فيما تقدم من سرد حوادث إفريقية، إلى ظفر يحيى بن إسحاق ابن غانية الميورقي، بخصمه شرف الدين قراقوش، وفراره إلى الجبال، وانتزاع طرابلس من يد نائبه. ولما تم ليحيى ما تقدم سار إلى قابس، وكان نائب قراقوش قد غادرها على أثر هزيمة سيده، ووجه إليها الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص والي تونس، حافظاً من الموحدين يسمى ابن تفراجين. فقصد إليها يحيى بقواته ووجه إلى أهلها كتاباً ينذرهم فيه بالتسليم، ويحذرهم من المخالفة، ويحدد لهم ثلاثة أيام لإجابة مطلبه، فلما انتهى هذا الأجل دون أية إجابة، زحف
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 212 و 213(4/251)
يحيى على المدينة، وحاصرها حصاراً شديداً، وقطع غابات النخيل القريبة منها، إلا نخلة واحدة تركها للعبرة. فأذعن أهل المدينة إلى التسليم، على أن يؤمن واليهم ابن تفراجين، ويُسمح له أن يغادر المدينة بأهله من طريق البحر، فأوفى لهم يحيى بذلك، وفرض على المدينة إتاوة قدرها ستون ألف دينار. وكتب كاتبه أبو محمد عبد البر بن فرسان كتاباً بهذا الفتح، يشيد فيه بعود المدينة إلى الدعوة العباسية (1). وبينما كان الميورقي يتابع مغامراته، ويعمل على توطيد سلطانه في بلاد الجريد، إذ ظهر بإفريقية عامل مقلق جديد بثورة ابن عبد الكريم. وكان محمد ابن عبد الكريم الرجراجى هذا، من زعماء الجند، الذين امتازوا بالشجاعة والنجدة، وأبوه جندى من أهل المهدية، ينتمى إلى قبيلة كومية الموحدية. وكان قد ظهر في مقاتلة الأعراب وغيرهم من العناصر المشاغبة المفسدة، واستطاع في كثير من المواطن أن يقمع شغبهم وضررهم، بمن التف حوله من الجند والأنصار، فلما قوي أمره، وظهرت كفايته، قدمه الوالي لتلك المهمة، وأطلق يده في محاربة الخوارج والمعتدين، فكان يطاردهم وينكل بهم، ويقتل من يقتل، ويعتقل من يعتقل، فلا يطلقه إلا بعد دفع الأموال الكثيرة، وإعطاء العهود المؤكدة على التزام الطاعة والسكينة.
فلما وُلى الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص، من قبل الخليفة المنصور، على إفريقية، قدم على المهدية، أخاه أبا على يونس بن أبي حفص، فطالب ابن عبد الكريم أن يُشركه فيما يغنمه من أموال الأعراب المخالفين، فرفض ابن عبد الكريم تحقيق رغبته، وطلب إليه أن يتركه على ما كان عليه الولاة من قبل. فقبض عليه أبو علي وأهانه، وزجه إلى السجن، فاستغاث ابن عبد الكريم بالشيخ أبي سعيد والي إفريقية فلم يسعفه. وحدث عندئذ أن اشتد عيث الأعراب بالساحل، وكثرت الشكوى منهم، وألح الناس على أبي على أن يطلق ابن عبد الكريم، فاضطر إلى إطلاقه خشية الفتنة، ورد إليه منصبه وجنده، وأمره بالعمل على كف عيث أولئك الأعراب. فخرج ابن عبد الكريم في صحبه، وأقام محلته في ظاهر المهدية، وشكا إلى جنده ما لحقه من ظلم الوالي، وتفاهم معهم على الغدر بأبي على والاستيلاء على المدينة. ويقدم إلينا ابن الأثير تفسيراً آخر لتصرف ابن عبد الكريم، خلاصته أن جماعة من عرب بني عوف نزلوا على مقربة من المهدية، فخرج
_______
(1) راجع رحلة التجاني ص 105 - 108(4/252)
إليهم ابن عبد الكريم، فخافوا وفروا تاركين عيالهم وأموالهم، فاستولى ابن عبد الكريم على المال والعيال، وسلم العيال وجزءاً من المال والأسلاب إلى الوالي واحتفط بالباقى، فسار رؤساء بني عوف إلى الشيخ أبي سعيد، وقدموا الطاعة ووحّدوا واستغاثوا به، أن يرد إليهم أموالهم وعيالهم، فاستدعى ابن عبد الكريم وطالبه برد ما أخذ من أسلابهم، فاعتذر ابن عبد الكريم بأنه أعطاه إلى الجند ولا يستطيع رده. فأغلظ له الشيخ أبو سعيد القول، وهم أن يبطش به، فاستمهله حتى يعود إلى المهدية، ويحاول أن يسترد من الجند ما استطاع. فلما عاد إلى المهدية، نبأ صحبه بما حدث، واتفق معهم على الوثوب بأبي على يونس. وعلى أي حال فقد نفذ ابن عبد الكريم مشروعه، ودخل المدينة في أواخر الليل في ثُلة مختارة من صحبه، وبادر إلى قصر الوالي ونفذ إليه، وقبض على أبي على، وحبسه في موضع من القصر، ولم يطلقه إلا بعد أن وصل فداؤه من قبل أخيه الشيخ أبي سعيد، فارتد إلى أخيه مخذولا، وبسط ابن عبد الكريم بذلك حكمه على المهدية، وكان استيلاؤه عليها في شهر شعبان سنة 595 هـ (1)، لأشهر قلائل من ولاية الناصر.
واستبد ابن عبد الكريم بحكم المهدية، وتسمى " المتوكل على الله "، واستفحل أمره. وفي تلك الأثناء وصل السيد أبو زيد ابن السيد أبي حفص من قبل الناصر والياً على إفريقية، مكان الشيخ أبي سعيد، ومعه جماعة من الأشياخ والأجناد. فاعتزم ابن عبد الكريم أن يحاصره بتونس، قبل أن يستعد لقتاله، فسار إلى جهة قرطاجنة وعسكر عند مدخل البحر إلى البحيرة، فسير السيد أبو زيد السفن في البحر، والجند في البر لقتاله، وكان ابن عبد الكريم قد رتب كمائنه في بعض المواضع، فلما أقبل إليها الموحدون، خرجت عليهم تلك الكمائن، فأوقعت بهم الهزيمة وفتكت بمعظمهم، وانتشر عسكر ابن عبد الكريم في أحواز تونس، وعاثوا فيها نهباً. وعندئذ بعث السيد أبو زيد والشيخ أبو سعيد إلى ابن عبد الكريم، أشياخاً من الموحدين يسوقون إليه اللوم، ويذكرونه بانتمائه إلى الموحدين، وأن ما يفعله مروق ونكران لا يليق به، وأنه من الخير أن يعود إلى طائفته، فوعدهم ابن عبد الكريم خيراً، ثم عاد إلى المهدية. وكانت قد حدثت في تلك الأثناء وحشة بين ابن عبد الكريم، ويحيى الميورقي
_______
(1) رحلة التجاني ص 350 - 352، وابن الأثير ج 12 ص 52(4/253)
لما دب بينهما من عوامل التنافس والحسد، وفكر ابن عبد الكريم في محاربته ومحاصرته، وهو يومئذ بقابس، فاستخلف على المهدية ولده عبد الله وسار إلى قابس، ولكنه لما أشرف عليها بجموعه هالته منعتها، فارتد منها إلى قفصة واستولى عليها. وعندئذ خرج الميورقي من قابس لمطاردته ومحاربته، فخرج ابن عبد الكريم بقواته من قفصة، والتقى الفريقان في مكان يعرف بقصور لالة، فهزم ابن عبد الكريم، وفر إلى المهدية ناجياً بنفسه، وتبعه إليها من نجا من فلوله، واحتوى الميورقي على معسكره وجميع أسلابه. وكان ذلك في بداية سنة 597 هـ. وأراد الميورقي أن يقضى نهائياً على خصمه، وأن ينتزع منه المهدية، فبعث إلى السيد أبي زيد بتونس يسأله المهادنة والسلم، ويطلب منه أن يعينه بعدة سفن يستطيع بها محاصرة المهدية من البحر، والقضاء على ابن عبد الكريم. وكان السيد أبو زيد يتوق إلى التخلص من هذا الثائر الذي استفحل أمره، فبعث إلى الميورقي سفينتين، فعندئذ أدرك ابن عبد الكريم أنه لا مفر من التسليم، وبعث إلى الميورقي ولده عبد الله يعرض التسليم على أن يؤمن في نفسه وماله، فأجابه الميورقي إلى ذلك، وخرج ابن عبد الكريم وولده من المهدية وتوجها إلى الميورقي للسلام عليه، فلما رآهما أمر في الحال بالقبض عليهما متفرقين، واستولى على المهدية وعلى سائر ما كان بها لابن عبد الكريم من الأموال والذخائر. ثم زج بابن عبد الكريم وولده إلى السجن ولم تمض أيام قلائل حتى أخرج ابن عبد الكريم ميتاً من سجنه، ثم أخرج ولده عبد الله وحمل إلى السفينة، بزعم إرساله إلى ميورقة، ولكن السفينة ما كادت تصل إلى مقربة من قسنطينة، حتى ألقى به مكبولا إلى البحر، فابتلعته المياه (1).
وهكذا بسط يحيى بن إسحاق الميورقي حكمه على سائر إفريقية، ما عدا شاطئها الشمالي، واستولى على سائر قواعدها، طرابلس وقابس وصفاقس والمهدية والقيروان وسائر بلاد الجريد، ووصلت دعوته إلى بونة ولم يبق بيد الموحدين منها سوى تونس وبجاية وقسنطينة، وقد أصبحت كذلك في خطر السقوط. وبينما كان السيد أبو زيد والي إفريقية، ما يزال يعتقد أن الميورقي يرغب حقاً في السلم، وأنه ينوى أن يضع حداً لأعماله العدائية، إذا بالميورقي
_______
(1) نقلنا هذه التفاصيل عن رحلة التجاني، وهي فيما يبدو أوثق الروايات عن هذه الحوادث ص 352 - 354. وراجع ابن خلدون في كتاب العبر ج 6 ص 194 و 195، وهو فيما يرجح، ينقل عن التجاني.(4/254)
يسير فجأة إلى بلدة باجة الواقعة غربي تونس، وقد كانت من أخصب بلاد هذه
المنطقة وأوفرها حنطة وطعاماُ (1) ويقتحمها عنوة، ويستولي عليها، ويقتل حاكمها الموحدي على الفور. فبعث السيد أبو زيد في الحال جيشاً، تحت إمرة أخيه السيد أبي الحسن والي بجاية، لكي يعمل على إنقاذ باجة وحماية سكانها الذين عادوا إليها، وكان الميورقي قد عاد لحصارها، فلما علم بمقدم الموحدين، رفع الحصار عن المدينة وسار للقاء خصومه، وعسكر في موضع حصين بالقرب من قسنطينة، وهنالك أشرف عليه السيد أبو الحسن بجموعه، ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها الموحدون، واستولى الميورقي على معسكرهم وأسلابهم. وارتد أبو الحسن في بعض فلوله إلى بجاية وهو في أسوأ حال (2).
وكانت مدينة بسكرة التي استولى عليها الميورقي من قبل قد خلعت طاعته، وعادت إلى طاعة الموحدين، فسار إليها يحيى، واقتحمها عنوة، وعاقب السكان على نكثهم، بقطع أيدي الكثير منهم، وقبض على عاملها الموحدي وزجه إلى السجن. وخشى أهل بونة أن يصيبهم ما أصاب أهل بسكرة، فبعثوا إلى الميورقي بطاعتهم. ووقعت هذه الحوادث في سنة 598 هـ (1202 م)، وعاد يحيى بعد ذلك إلى المهدية فاستقر بها بعض الوقت (3). وفي خلال ذلك كان البلاط الموحدي بمراكش يتتبع أنباء الحوادث في إفريقية بمنتهى الجزع، ويحاول أن يقمع العدوان بالحملات المحلية المتوالية. فلما توالى فشل هذه المحاولات، جهز الخليفة الناصر، أو بالحرى مستشاروه من أشياخ الموحدين، حملة كبيرة ندب لقيادتها الوزير ابن يوجان، وسارت هذه الحملة إلى تلمسان ثم إلى بجاية ثم إلى قسنطينة، ولكنها لم تقم بأية محاولة لمقاتلة الميورقي، وعاد الوزير إلى تلمسان، وهنالك وصله الأمر بالنظر في أعمالها، ثم نُدب إلى ولاية فاس، وأقام بها حتى ندبه الناصر للسير معه إلى إفريقية (4).
وكان هذا التردد في مطاردة الميورقي، راجعاً إلى اضطرام ثورة جديدة في منطقة السوس. وذلك أن دعياً من أصل أندلسي، ينتمى إلى قبيلة جزولة،
_______
(1) وهي طبعاً غير باجة بالأندلس. راجع الاستبصار في عجائب الأمصار ص 160.
(2) المعجب ص 179.
(3) ابن خلدون ج 6 ص 195، وكذلك: A. Bel: Les Benou Ghania, p. 113. (4)
(4) البيان المغرب - القسم الثالث ص 214، والمعجب ص 179. هذا وتراجع خريطة إفريقية في ص 163، حيث وضحت بها سائر المواقع التي كانت مسرحاً لتلك المعارك المتوالية.(4/255)
يسمى عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الفرس، ويعرف بالمهر وبأبى قصبة، كما يعرف عند البربر بما معناه " ابن الجزارة " ثار بالسوس. وكان هذا الدعى من طبقة العلماء بالأندلس. وحضر ذات يوم مجلس الخليفة يعقوب المنصور وبدرت منه بعض أقوال جدلية خشى عاقبتها، فاختفى حيناً، ثم ظهر بعد وفاة المنصور، في السوس في منازل جزولة، وانتحل الإمامة، وادعى أنه " القحطاني " الذي ورد ذكره في الحديث، بأنه لا تقوم الساعة، حتى يخرج رجل من قطحان، يقود الناس، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جوراً، ومما ينسب إليه في مصير بني عبد المؤمن شعر يقول فيه:
قولوا لأبناء عبد المؤمن بن علي ... تأهبوا لوقوع الحادث الجلل
قد جاء سيد قحطان وعالمها ... ومنتهى القول والغلاب للدول
وذاعت دعوة أبي قصبة في أرجاء بلاد السوس، والتفت حوله جموع غفيرة، فبعث إليه بلاط مراكش عدة حملات صغيرة متوالية، كان يهزمها تباعاً، وأخيراً اضطر الناصر أن يجهز لقتاله حملة كبيرة من الموحدين والغز وغيرهم، وسار الموحدون إلى بلاد السوس، وأنذروا المصامدة وغيرهم من القبائل المجاورة، بأن الدعى يعتمد على تسامحهم وتغافلهم، وبذلك يقوى أمره، ولو شاءوا لقضوا عليه، فعند ذلك تحركت القبائل وانضمت إلى الجيش الموحدي القادم، في مقاتلة الدعى، فانفض عنه معظم جموعه، وقتل منهم من وقف إلى جانبه، وقُبض على الدعى وقتل، واحتز رأسه، وأرسل إلى مراكش، وكان مصرع أبي قصبة وانهيار ثورته، على هذا النحو سنة 598 هـ (1202 م) (1).
وكان من حوادث الأندلس في تلك الفترة أن عزل الناصر أخاه السيد أبا محمد عبد الله بن المنصور عن ولاية إشبيلية، ولكنه عاد فاستبقاه في منصبه تحقيقاً لرغبته، وكان ذلك في سنة 597 هـ. وفي أوائل هذا العام بالذات، وقع بإشبيلية حادث مفزع هو وقوع السيل العظيم، الذي لم يسمع بمثله من قبل، فاجتاح أجزاء كبيرة من سور المدينة، ولاسيما ما بين باب طُريانة وباب المؤذن، وغمرت المياه المدينة بأسرها، وسقط عدد كبير من دورها قيل إنه ستة آلاف، وكان من رحمة القدر أن وقع هذا السيل ظهراً، وكان وقوعه يوم الاثنين 19 من جمادى الأولى سنة 597 هـ
_______
(1) ابن خلدون في العبر ج 6 ص 246 و 250، والبيان المغرب القسم الثالث ص 215، والمعجب ص 180(4/256)
(26 مارس 1201 م) واستمر ثلاثة أيام، ولو حدث وقوعه بالليل لغرق آلاف من أهل المدينة. واجتاح هذا السيل وادي النهر الكبير كله من قرطبة إلى إشبيلية، وحتى ثغر قادس، ومات من جرائه الكثيرون غرقاً. وكان من أشنع الحوادث التي شهدتها إشبيلية من عهد طويل (1).
- 2 -
وكان الخليفة الناصر، وأشياخ الموحدين، يتأهبون في نفس الوقت لمشروع ضخم، هو افتتاح الجزائر الشرقية (جزائر البليار). وكان استمرار يحيى ابن إسحاق الميورقي في عدوانه، وتفاقم أمره في إفريقية، وفشل الحملات الموحدية المتوالية في القضاء على سلطانه، قد حمل البلاط الموحدي على أن يفكر في افتتاح ميورقة، والقضاء على سلطان بني غانية فيها، وضربهم بذلك في موطن قوتهم الأصلى، ومصدر مواردهم وأمدادهم البحرية، فيكون ذلك الفتح ذاته، وسيلة لضرب سلطان يحيى الميورقي في إفريقية، والتمهيد للقضاء على حركته.
وقد سبق أن فصلنا ظروف استيلاء بني غانية على الجزائر الشرقية، وقيام حكمهم في ميورقة، ومحاولة الخليفة أبي يعقوب يوسف أن يخضع عميدهم إسحاق ابن غانية لسلطان الموحدين، وما كان من إرساله سفيره علياً الربرتير إلى ميورقة، ليعمل على تحقيق هذه الغاية، وإخفاق الربرتير في مهمته، ثم قيام علي بن إسحاق بافتتاح بجاية، وبداية تلك الحركة المضطرمة، وتلك الحملات المخربة المتوالية، التي قام بها بنو غانية في إفريقية، واستيلائهم تباعاً على معظم قواعدها.
وكان على حكم ميورقة في ذلك الوقت الذي اشتدت فيه حركة يحيى بن إسحاق بإفريقية، أخوه عبد الله بن إسحاق بن غانية. وقد سبق أن أشرنا إلى الظروف التي استطاع فيها عبد الله أن ينتزع حكم ميورقة من أخيه محمد بن إسحاق وذلك في سنة 584 هـ (1188 م)، واستبد عبد الله بحكم ميورقة، كبرى الجزائر، وازدهرت في عهده، واستمر على رياستها طوال هذه الأعوام دون منازع. وكان عبد الله، يتبع سياسة أبيه إسحاق بن غانية في مسالمة الدول النصرانية القريبة،
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 214. والذيل والتكملة لابن عبد الملك (الجزء الرابع من مخطوط المتحف البريطاني، في ترجمة محمد بن أحمد بن تمام العذري.(4/257)
ولاسيما جنوة وبيزة، ويعقد معها الصلات الودية، وكان ذلك مما يساعد على رواج التجارة بين ميورقة وبين هذه الدول البحرية. وفي سنة 594 هـ (1198 م) عقد عبد الله مع جمهورية جنوة معاهدة صلح وتجارة لمدة عشرين عاماً، وذلك بواسطة نيقولا لاكانوتزى سفير جنوة إلى ميورقة. وكان التجار النصارى في الجزيرة، يعيشون في دعة وطمأنينة آمنين على أنفسهم وأموالهم، وتعاون جهودهم في ترويج تجارة الصادر والوارد بين الفريقين. وكان من الواضح أنه منذ اضطرمت الخصومة بن بني غانية والموحدين، لم يكن في وسع الجزائر أن تعتمد في تموينها ومواردها الحيوية على الأندلس المعادية، ومن ثم فقد كانت تسعى للحصول على مواردها من النصارى، وكان هؤلاء يمدونها بالسفن والسلاح والذخائر، مقابل الحبوب ومنتجات الجزيرة الأخرى. ومن جهة أخرى، فقد كان النصارى يجنون ثمار هذه الصلات الودية مع ميورقة، وذلك بامتناع عبد الله عن الإغارة على شواطئهم. على أن عبد الله كان ما يزال ينظم غاراته البحرية على شواطىء الدول التي لم يكن يرتبط معها بعهود الصداقة والمودة، مثل فرنسا، وكانت هذه الغارات، توطد من مكانته لدى شعبه وتزيد في ثرائه. وبالرغم من أن عبد الله لم يكن في وسعه دائماً، أن يمد أخاه يحيى بالسفن والجند، في مغامراته الإفريقية، فإن ميورقة كانت تعتبر مع ذلك بالنسبة لبني غانية، مركزهم الرئيسي وموطن قوتهم الحقيقية (1).
كانت هذه أحوال ميورقة، حينما وصلت غزوات يحيى بن غانية للثغور الإفريقية إلى ذروتها، وحينما اعتزم البلاط الموحدي أن ينفذ مشروعه لغزو ميورقة، كوسيلة لضرب بني غانية في صميم مثوى قوتهم وسلطاتهم. وكان الموحدون يرون أنه متى سقطت ميورقة في أيديهم، فإنهم يستطيعون عندئذ أن يتفرغوا لمطاردة يحيى بن غانية والقضاء على سلطانه في إفريقية، دون أن يكون أمامه ملاذاً وملجأ أخيراً يتجه إليه.
وبذل الخليفة الناصر وأعوانه من أشياخ الموحدين جهوداً مضاعفة لإعداد حملة بحرية عظيمة توجه لغزو ميورقة. وفي تلك الأثناء، وقبل أن يتم إعداد الحملة، عمد عبد الله بن إسحاق بن غانية إلى مهاجمة جزيرة يابسة الواقعة جنوب
_______
(1) A. Bel: Les Benou Ghania, p. 118 & 119(4/258)
غربي ميورقة محاولا انتزاعها من الموحدين، وكان ذلك في أوائل سنة 597 هـ، خلال فصل الشتاء، حينما تكون الأساطيل الموحدية راسية في سبتة، فقاومته السفن الموحدية المرابطة بقيادة ابن ميمون، وانتزع ابن ميمون منه سفينتين وأحرقهما، فارتد إلى ميورقة خائباً. ولكنه سار في العام الثاني (598 هـ)، وهاجم جزيرة مِنورقة وانتزعها من أيدي الموحدين، وولي عليها من قبله رجلا اسمه الزبير بن نجاح. والظاهر أن عبد الله كان قد ترامت إليه الأخبار عن مشروع الموحدين في غزو ميورقة، فأراد أن يبادر بإبعادهم عن هذه المياه، وتأمين ميورقة بالسيطرة على منورقة ويابسة جناحيها من الشرق والغرب.
وأخيراً تم إعداد الحملة البحرية المنشودة، مكونة من أسطول سبتة بقيادة السيد أبي العلاء إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن، ومن جيش من الفرسان والرماة والرجالة، بقيادة الشيخ أبي سعيد بن أبي حفص. والتقت القوتان بثغر دانية، أقرب قواعد الأندلس البحرية إلى الجزائر. وكانت القوي البرية تتألف من ألف ومائتى فارس، وسبعمائة من الرماة، وخمسة عشر ألفاً من الرجالة غير غزاة القطع (أي السفن). وكان الأسطول يتكون من ثلاثمائة جفن (سفينة) منها سبعون غراباً، وثلاثون طريدة، وخمسون مركباً كباراً، ومائة وخمسون قارباً من مختلف الأنواع، وكانت الحملة مزودة بكميات كبيرة من العدد والسلاح والمجانيق والسلالم، ومختلف الأدوات، وكذلك من الدروع والسيوف والرماح والبيضات والدرق، والقسىّ، وصناديق النشاب، وكانت بالأخص مزودة بكميات وافرة من الطعام استعداداً لطول المقاومة أو طول الحصار. وأقلعت الحملة من ثغر دانية في أواخر سنة 599 هـ (1203 م)، فوصلت بعد أيام قلائل إلى جزيرة يابسة، فصلوا بها الجمعة، ثم أقلعت منها يوم السبت الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة (سبتمبر سنة 1203) قاصدة إلى ميورقة (1). ويبدو مما يقوله صاحب البيان المغرب، أن السيد أبا العلاء، قد انحرف أولا بجزء من الأسطول نحو جزيرة منورقة، وانتزعها من ابن نجاح، وقبض عليه، وأرسله مع بعض صحبه مصفداً إلى الحضرة، وهنالك أعدم وعلقت رأسه (2). وبذلك تم تأمين جناحى الحملة الموحدية، وتطويق ميورقة كبرى الجزائر. ثم أقبلت
_______
(1) نقلنا هذه التفاصيل عن صاحب الروض المعطار (ص 189) وهو ينفرد بها.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 216.(4/259)
السفن الموحدية إلى ميورقة واحتلت مرساها، وأنزل العسكر المهاجم بالقرب من مدينة ميورقة عاصمة الجزيرة، فخرج إليهم عبد الله بن إسحاق في جموعه، واضطرم القتال بين الفريقين، واستمرت المعارك بينهما سبعة أيام، وعبد الله وجنوده يدافعون بمنتهى الشدة ويقاتلون قتال اليأس، وأخيراً دارت عليه الدائرة فهزم وقتل ومعظم أصحابه. وأغلق المدافعون في الداخل أبواب المدينة فطوقها الرماة وغزاة البحر، واقتحموها، ودخلها الموحدون وبدأوا بنهبها، ودخل السيد أبو العلاء والشيخ أبو سعيد المدينة، وأمامهما رأس عبد الله مرفوعة على قناة، فأمر في الحال بمنع النهب، وتأمين الناس، وقبض على أولاد عبد الله وأهله، فخرج الناس، وقد أمنوا واطمأنوا، وكُتب في الحال بالفتح إلى الخليفة الناصر. وكان فتح ميورقة على هذا النحو في شهر ربيع الأول سنة ستمائة (شهر ديسمبر سنة 1203 م) (1).
تلك هي تفاصيل الفتح الموحدي لميورقة حسبما يوردها لنا صاحب الروض المعطار، وحسبما تقصها علينا رسالة الفتح الصادرة عن الخليفة الناصر، والمدبجة بقلم كاتبه أبي عبد الله بن عياش. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن الحملة الموحدية لفتح ميورقة كانت بقيادة الخليفة الناصر نفسه، وأنه خرج من مدينة فاس فوصل إلى جزائر بني مزغنة، وجهز من هنالك الأساطيل والعساكر لفتح ميورقة، ففتحها وانتزعها من أيدي المرابطين (2). بيد أنه لا توجد أية رواية أخرى تؤيد هذا القول، فضلا عن أن رسالة الفتح الرسمية صريحة قاطعة في عدم صحته. ويقدم إلينا ابن خلدون إسمى قائدى الحملة وهما كما تقدم السيد أبو العلاء إدريس قائد الأسطول، والسيد أبو سعيد بن أبي حفص قائد القوي البرية (3). ويقول لنا صاحب البيان المغرب إن الناصر كان في الوقت الذي سارت فيه الحملة الموحدية إلى الجزائر مقيماً بحضرة مراكش (4).
وندب السيد أبو العلاء لولاية الجزائر عبد الله بن طاع الله الكومي، فكان
_______
(1) الروض المعطار في روايته السابقة الذكر ص 189، وراجع الرسالة السادسة والثلاثين من رسائل موحدية، وهي خاصة بفتح ميورقة (ص 235 وما بعدها)، وكذلك روض القرطاس ص 153.
(2) روض القرطاس ص 153، ويتابعه في ذلك الأستاذ الفرد بل: Les Benou Ghania, p. 167
(3) ابن خلدون في العبر ج 6 ص 247.
(4) البيان المغرب - القسم الثالث ص 218.(4/260)
أول ولاتها من الموحدين، وعين لقضائها الفقيه المحدث عبد الله بن حوط الله. ثم ولى الناصر عليها عمه السيد أبا زيد بن أبي يعقوب يوسف، وندب ابن طاع الله لقيادة البحر.
وكان فتح الموحدين لميورقة ضربة شديدة لبني غانية، قضت نهائياً على سلطانهم في الجزائر، ومن جهة أخرى فقد كان له وقع عميق لدى الممالك النصرانية القريبة، ولاسيما مملكة أراجون المواجهة في شبه الجزيرة. وإلى هذا تشير رسالة الفتح صراحة بقولها " ولأخذُ ميورقة على صاحب أرغون وبرشلونة، أشدُّ من رشق النبل وأهول من وقع السيف، وأوحش من القطع بحلول الممات " وقد سبق أن أشرنا إلى ما كان يتبعه بنو غانية من سياسة المسالمة والمودة نحو الدول النصرانية المجاورة، ولاسيما مملكة أراجون وجمهوريتى جنوة وبيزة. وكانت تجمع بين بني غانية أصحاب الجزائر وبين أراجون بالأخص فكرة مشتركة، هي خصومة الموحدين والكفاح ضدهم وكانت أراجون وحليفاتها من الدول النصرانية لذلك، تنظر إلى سيادة بني غانية للجزائر بعين الإغضاء، ما التزم بنو غانية سياسة المودة والمسالمة. أما الآن، وقد احتل الموحدون الجزائر، فإنه كان لابد للدول النصرانية، وفي مقدمتها أراجون أن تتخذ نحو الجزائر موقفاً آخر. ومن المحقق أن أراجون ومن ورائها جنوة وبيزة كانت تطمع دائماً إلى انتزاع الجزائر من المسلمين. وقد جاء استيلاء الموحدين على الجزائر عاملا جديداً، يذكى هذه الرغبة ويؤكدها. على أن ظفر الموحدين بالاستيلاء على الجزائر، كانت تقابله من الناحية الأخرى، ضربة جديدة مؤلمة الموحدين في إفريقية. ذلك أن يحيى بن إسحاق بن غانية، كان يشعر حين ترامت إليه أنباء الحملة الموحدية، التي سيرت إلى الجزائر، أن مصير ميورقة قد بت فيه، وأنه لم يبق لبني غانية إلا أن يعملوا على توطيد أمرهم بإفريقية، وأنه لابد لتحقيق هذه الغاية أن يسحق سلطان الموحدين نهائياً في تلك المنطقة. وكان يحيى قد ظفر عندئذ بالاستيلاء على المهدية، والقضاء على خصمه ابن عبد الكريم. ففكر عندئذ في الاستيلاء على تونس عاصمة إفريقية. وكانت سائر الثغور الشرقية، وسائر القواعد الجنوبية القريبة من تونس قد سقطت في يد يحيى، وجردت العاصمة من سائر مواردها المعتادة، وكان والي إفريقية السيد أبو زيد لا يحتكم على قوي كافية للدفاع. ومن جهة أخرى، فإن انشغال الموحدين في نفس(4/261)
هذا الوقت بالذات، بتسيير حملتهم الكبيرة إلى الجزائر، كان يحول دون إرسالهم الأمداد العاجلة إلى إفريقية. ومن ثم فإن الظروف كلها كانت مؤاتية لمشروع يحيى الميورقي. فاستعمل على المهدية ابن عمه علي بن الغانى بن عبد الله بن محمد ابن غانية ويعرف بالكافى. وسار في قواته وعُدده صوب تونس، وذلك في أوائل شهر ذي الحجة سنة 599 هـ، ونزل بالجبل الأحمر في ظاهر تونس، ونزل أخوه الغازى بن إسحق بالموضع المعروف بحلق الوادي حيث يتصل البحر بالبحيرة شرق المدينة، فردم المجرى الموصل بينهما وجعله أرضاً يابسة، ورتب عليه الحرس، وقطع بذلك سير القوارب الداخلة إلى المدينة والخارجة منها، ثم تحول إلى قبلى المدينة، على مقربة من باب الجزيرة وردم الخندق المواجه له، ونصب أمام الباب المجانيق وآلات الحرب، وضرب الميورقيون حول تونس حصاراً صارماً، ولم يجرؤ الموحدون على الخروج من المدينة، والاشتباك مع العدو في أية معركة، لقلة عددهم، وضآلة مواردهم. واستمر هذا الحصار المرهق أربعة أشهر. وفي يوم السبت السابع من شهر ربيع الآخر سنة ستمائة (15 ديسمبر سنة 1203 م)، اقتحم يحيى في قواته البلد، وقبض على واليها السيد أبي زيد وولديه، وجماعة من أشياخ الموحدين، وثقفوا بمكان بداخل القصبة تحت حرس قوي، وأعلن يحيى الأمان لأهل تونس في أنفسهم وأملاكهم، ولكنه فرض عليهم غرامة قدرها مائة ألف دينار، قال إنها هي مقدار ما أنفقه في الاستيلاء عليها، وقُسّطت هذه الغرامة على أهل المدينة وفق أحوالهم المادية، وعهد باقتضائها إلى كاتبه الأثير ابن عصفور، وإلى أبي بكر بن عبد العزيز السكاك من أهل المدينة، فاشتطا في تحصيل المال، ولحق الناس من ذلك منتهى الإرهاق والعنت، وقتل منهم كثير بسبب ذلك، وانتحر إسماعيل بن عبد الرفيع المقدم على قبض مال المخزن وغيره من الناس، فلما علم الميورقي بذلك، أمر برفع ما بقى من الغرامة عن الناس، ونودى فيهم بالأمان. وعلم الميورقي بعد ذلك أن أهل جبل نفوسة توقفوا عن أداء الإتاوة المفروضة عليهم، وكان أهل هذه المنطقة معظمهم من الخوارج، وكانوا يبغضون نير الموحدين ونير بني غانية معاً، ويثورون من آن لآخر محافظة على استقلالهم. فخرج إليهم يحيى بنفسه، واستصحب معه السيد أبا زيد وزملاءه من الموحدين المعتقلين، مبالغة في التحفظ عليهم، وفرض على أهل نفوسة ألفى ألف دينار. ولما انتهى من اقتضائها منهم(4/262)
بوسائله المروعة، عاد إلى تونس واستقر بقصبتها (1).
- 3 -
وهكذا تم ليحيى بن إسحاق الميورقي الاستيلاء على عاصمة إفريقية، ولم يبق بيد الموحدين من إفريقية، بعد أن سقطت جميع قواعدها الشرقية والداخلية في يد الميورقي، سوى ثغر بجاية، وما يليه غرباً. وكان لسقوط تونس، وما اقترن به من أسر واليها وزملائه من أشياخ الموحدين، وقع عميق في بلاط مراكش. وكان مما يضاعف هذا الوقع، ما يرتكبه الميورقي باستمرار من ضروب العيث والقمع والقسوة، في مختلف القواعد التي يسيطر عليها. وكان الموحدون، بعد أن ظفروا بالاستيلاء على ميورقة، وجردوا بني غانية بذلك من ملاذهم ومركز سلطانهم في الأندلس، يرون أن الوقت قد حان للقضاء على سلطانهم بإفريقية، وتحريرها من نيرهم ومن عيثهم، واسترداد سلطان الموحدين، والعمل على توطيد هيبتهم في تلك الأنحاء. بيد أن الموحدين كانوا يشعرون في نفس الوقت بفداحة هذه المهمة، ومن ثم فإن الخليفة الناصر حينما شاور الأشياخ في ذلك الأمر، رأى معظمهم أن يكتفي بمسالمة ابن غانية والاتفاق معه، ولكن أبا محمد بن الشيخ أبي حفص أشار بوجوب السير إلى إفريقية، ومحاربة ابن غانية، ووافق الناصر على هذا الرأي.
وكان الناصر في الوقت الذي سار فيه الموحدون لفتح ميورقة، أعني في سنة ستمائة، يقيم بحضرة مراكش، ويعنى بشئون الأندلس الإدارية والعسكرية، وكان من أهم ما عنى بذلك إرسال الأوامر المؤكدة إلى سائر ولاة الأندلس بالنظر في صنع الآلات الحربية. ففي شهر المحرم من هذا العام، وصل الأمر إلى إشبيلية بضرب الآلات وشراء الدروع المحكمة. وفي شهر ربيع الأول ندب الناصر عمه السيد أبا إسحق بن يوسف بن عبد المؤمن لولاية إشبيلية، مكان الشيخ أبي عبد الله ابن يحيى، الذي نقل إلى ولاية بسطة. ووُلّى السيد أبا محمد عبد الواحد بن يوسف ابن عبد المؤمن على مدينة شلب وبلاد غربي الأندلس، والشيخ أبا يحيى بن أبي سنان على مدينة بطليوس وجهاتها. وندب أبا عبد الله بن عبد السلام الكومي لقيادة أسطول سبتة. وفي نفس العام وصل إبراهيم بن الفخار اليهودى رسول
_______
(1) رحلة التجاني ص 354 - 356، وابن خلدون ج 6 ص 195 و 248.(4/263)
ألفونسو التاسع ملك قشتالة ووزيره، إلى مراكش، يطلب تجديد المهادنة. فلما ترامت الأنباء بسقوط تونس في يد الميورقي، واشتداد عيثه وبطشه بأنحاء إفريقية، وعقد الخليفة الناصر عزمه على محاربته والقضاء على سلطانه، أعدت حملة موحدية جديدة للسير إلى إفريقية، وصدرت الأوامر إلى الأسطول بالسير من سبتة إلى مياه إفريقية، وعين لقيادة وحداته أبويحيى بن أبي زكريا الهزرجى. وكان يحيى الميورقي في ذلك الوقت بالذات، ما يزال ينزل ضرباته بمختلف أنحاء إفريقية، وكان بعد أن قام بإخماد ثورة أهل جبل نفوسة، قد سار إلى ناحية طرّة قاعدة بلاد نفزاوة لإخماد ثورتهم أيضاً، فاقتحم أحياءهم، واشتد في معاقبتهم، وقتل جنده كثيراً منهم، وأضرموا النار في دورهم، ثم سار إلى حمة مطماطة، ففعل بأهلها مثل ذلك، وضجت هذه الأنحاء كلها من سفكه وشديد عيثه (1).
هذا وبينما الميورقي سادر في هذا العيث والسفك، إذ بلغته الأنباء باقتراب القوات الموحدية، وعلى رأسها الخليفة الناصر. وكان الناصر قد غادر مراكش على رأس قواته في أواسط جمادى الآخرة سنة 601 هـ (فبراير سنة 1205 م) وسار إلى رباط الفتح قاعدة تجمع الجيوش الموحدية. ثم غادر رباط الفتح في قواته متجهاً صوب إفريقية، وكانت وحدات الأسطول الموحدي، تسير في نفس الوقت بحذاء الشاطىء، صوب بجاية وتونس، بقيادة أبي يحيى بن أبي زكريا الهزرجى. فلما علم الميورقي باقتراب الأسطول الموحدي من تونس، ووصول الجيش الموحدي إلى بجاية، وأدرك أنه لا قبل له بالصمود أمام هذه القوي الجرارة جمع أمواله وذخائره، وأرسلها إلى المهدية، لتكون تحت حراسة ابن عمه على ابن الغانى، ثم بادر بإخلاء تونس، وارتد في قواته جنوباً، فوصل إلى القيروان وأقام بها أياماً، وهو يجد في الأهبة، ثم سار إلى قفصة، وهنالك استدعى طوائف العربان، وبذل لهم الأموال والوعود، وأخذ مواثيقهم ورهائنهم على مناصرته والقتال معه. ووقف الموحدون على انسحاب الميورقي من تونس، فنزلتها القوات البحرية الموحدية، وقتلوا كل من وجدوه بها من أتباع الميورقي، وأصدر قائد الأسطول الأمان لأهلها. ولما علم الناصر باستيلاء قواته على تونس، وفرار الميورقي في قواته نحو الجنوب، سار في أثره
_______
(1) رحلة التجاني ص 356.(4/264)
صوب قفصة. فسار الميورقي في قواته إلى جبل دمّر، وتحصن به. وسار الناصر إلى قفصة، فأقام بها أياماً، ثم توجه إلى قابس وندب لها عاملا من قبله. وكان يحيى الميورقي قد قرر أن يركز مقاومته الأخيرة في المهدية، فضاعف تحصيناتها، وشحنها بطائفة من قواته المختارة، ووكل الدفاع عنها لابن عمه علي بن الغازى. واستعد هو للقاء القوات الموحدية بمكانه الحصين من جبل دمّر، وقرر الموحدون من جهة أخرى مطاردة الميورقي في مركزى مقاومته في وقت واحد، فسار الناصر بنفسه لمحاصرة المهدية، وطوقها بقوات كثيفة من الموحدين والعرب، ونصب عليها المجانيق، وسار إليها الأسطول الموحدي ليحاصرها من ناحية البحر. وبعث الناصر في نفس الوقت جانباً من القوات الموحدية يحتوى على أربعة آلاف فارس بقيادة الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص لمقاتلة الميورقي في جبل دمّر، فلما أشرف الموحدون على محلته، وشهد ضخامة عددهم، أراد الفرار بقواته في البداية، ولكن ضباطه شجعوه على الثبات وخوض المعركة، فنشبت بين الفريقين فوق جبل صغير يعرف برأس تاجْرَا، على مقربة من وادي مجسر، جنوب شرقي قابس (1) معركة دموية عنيفة، استمرت نحو ثلاث ساعات ودارت فيها الدائرة على الميورقي وأصحابه، فقتل وأسر معظمهم، وكان بين القتلى أخوه جبارة، وكاتبه علي بن اللمطى، وعامله الفتح بن محمد؛ وفر يحيى مع جماعة قليلة من صحبه، وكان قد ترك ولده وأهله في موضع بعيد عن مكان المعركة فصحبهم في فراره، وأنقذوا بذلك من الأسر، واستطاع الشيخ أبو محمد القائد المظفر أن ينقذ السيد أبا زيد وأصحابه أحياء من أسر الميورقي، وكان الموكل بالسيد أبي زيد على وشك أن يجهز عليه، واستولى الموحدون على محلة الميورقي، ورايته العباسية السوداء، وسائر ما كان بالمحلة من الأموال والأسلاب والإبل، وكانت غنيمة وافرة تحتوي على ثمانية عشر ألفاً من أحمال المال والمتاع والآلات، وحمل ذلك كله إلى الخليفة الناصر، وهو تحت أسوار المهدية، وكان بين الأسرى الأمين الموكل بثقاف السيد أبي زيد، فشهر به فوق جمل عال، وبيده الراية السوداء؛ ووقعت هذه الهزيمة الساحقة بالميورقي بجبل تاجْرا في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول سنة 602 هـ (17 أكتوبر سنة 1205 م) (2).
_______
(1) تراجع خريطة إفريقية المنشورة في ص 163 ففيها بيان لمواقع هذه المعركة.
(2) رحلة التجاني ص 357 - 359، وروض القرطاس ص 123 و 124، والبيان المغرب القسم الثالث ص 220 و 221، وراجع أيضاً: A. Bel: Les Benou Ghania, p. 129(4/265)
وكان الموحدون في تلك الأثناء يضاعفون جهودهم للضغط على المهدية، وإرغامها على التسليم. وكان يحيى الميورقي، توقعاً لهذا الحصار، قد بالغ في اتخاذ الأهبة، وشحن المهدية بالرجال والمؤن. وكان حاكم المدينة علي بن الغازى جندياً جريئاً، ومدافعاً قوي الشكيمة، فبذل جهوداً عنيفة لرد المحاصرين، وخرج لقتالهم عدة مرات، وفي كل مرة يوقع بهم ويحرق مجانيقهم وآلاتهم ويسبب لهم خسائر شديدة، واضطر الموحدون إزاء ذلك إلى الإكثار من المجانيق والآلات، وإعداد السلالم والأبراج العالية للإشراف على المدينة، ومضاعفة الحشود حولها، واستمر الأمر على هذا المنوال، حتى وقعت معركة رأس تاجْرا، وهزم يحيى وألجىء إلى الفرار، وحمل الموحدون الغنائم والعلم الأسود إلى الناصر تحت أسوار المهدية، وقاموا بتبريز الغنائم، وتوزيعها بمشهد ظاهر من أهل المدينة المحصورة، ومع ذلك فإن الغازى وصحبه لبثوا حيناً غير مؤمنين بهزيمة يحيى، واستمرت المعارك بينهم وبين المحاصرين وقتاً، وجمع الناصر المجانيق على جهة واحدة من السور، وشدد في ضرب المدينة، فكثر القتلى والجرحى من أهلها، واضطر الغازى وصحبه أخيراً إلى طلب الأمان والتسليم، على أن يُسمح لهم باللحاق بيحيى، فوافق الناصر على طلبهم، وسلمت المدينة للناصر في اليوم السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 602 هـ (11 يناير سنة 1206 م) وغادر علي بن الغازى - وكان الموحدون يسمونه بالحاج الكافر - المدينة مع صحبه، ونزل بموضع قريب منها بنية اللحاق بيحيى، ولكنه عاد في اليوم التالي، فعدل عن هذه النية، وبعث إلى الناصر يعلن طاعته ودخوله في الدعوة الموحدية، فاغتبط الناصر بتوحيده، واستدعاه إليه، وغمره بعطفه وإكرامه، وصحبه معه فيما بعد إلى مراكش، ولما عبر الناصر البحر بعد ذلك إلى الأندلس بقصد الجهاد، سار علىٌّ معه، واشترك مع الموحدين في معركة العقاب، وقتل ضمن من قتل منهم (1).
وفي يوم عشرين من جمادى الأخرى، غادر الناصر المهدية، بعد أن عفا عن سائر أهلها، من المقاتلين وغيرهم، وأمر بترميم أسوارها، وتنظيم أمورها، وعين لها والياً هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن يغمور الهنتاني، وعين لولاية طرابلس عبد الله بن إبراهيم بن جامع. ثم سار إلى تونس، ومنها أصدر كتب الفتح، واستقر بها بقية عام اثنين وستمائة، ومعظم العام التالي.
_______
(1) رحلة التجاني ص 358 و 359، وروض القرطاس ص 153 و 154، والبيان المغرب القسم الثالث ص 220 و 221 و 223.(4/266)
- 4 -
وهكذا انتهت هذه المعركة العنيفة الشاملة، بسحق يحيى بن إسحاق الميورقي، وسحق سلطان بني غانية في إفريقية، واسترداد الموحدين لسلطانهم وهيبتهم، في تلك المناطق الغنية الآهلة. وكان قد مضى نحو ربع قرن، منذ نفذ بنو غانية أصحاب الجزائر الشرقية، مشروعهم في مهاجمة إفريقية، واتخاذها مسرحاً للصراع ضد الموحدين خصوم الدولة المرابطية والمنتزعين لتراثها، ومنذ استولى عميدهم علي بن إسحاق بن غانية الميورقي، على ثغر بجاية في سنة 580 هـ (1184 م) في أوائل عهد الخليفة المنصور. وقد تتبعنا حركات بني غانية ومغامراتهم في إفريقية من ذلك التاريخ، وأتينا على فتوحاتهم المتوالية للقواعد والثغور الإفريقية، وعلى ما نشب بينهم وبين الموحدين، في مختلف المواطن والتواريخ، من معارك مريرة مستمرة. ولقد كان بنو غانية رجال حرب وسياسة معاً، يبغون افتتاح الأقطار، وبسط السيادة والسلطان على ما يفتحونه من الأراضي، ولكن كانت تحفزهم إلى خوض هذه المعارك مع الموحدين مشاعر ومثلٌ خاصة، فقد كانت تجثم وراء هذه المعارك والفتوحات المتوالية، إلى جانب شهوة السلطان والملك، رغبة مضطرمة في تقويض أسس الدعوة الموحدية، والقضاء على سلطان الموحدين. وكانوا يرون الدعوة الموحدية، دعوة ختل وخداع، ويعتبرون الموحدين غاصبين آثمين، استولوا بغير حق ولا سند شرعى، على تراث الدولة المرابطية غدراً وظلماً، ويعتبرون المرابطين سادتهم وحماتهم الأوائل، وبنى قبيلهم وجلدتهم، مجاهدين شهداء، يجب الانتقام لهم، والانتصاف لحقهم المغصوب.
كانت هذه العواطف والمثل هي التي تحرك بني غانية في البداية إلى شهر صراعهم ضد الموحدين في إفريقية، ولكنهم بعدما تحقق لهم الظفر في ذلك الصراع، وبعد أن استولوا على معظم القواعد والثغور الإفريقية، ونعموا بالملك والسلطان، وامتلأت أيديهم من الأموال والغنائم، تحولوا إلى فئة من المغامرين، تقصد قبل كل شىء إلى تحقيق الغُنم والسلطان بأى الوسائل، وتضاءل لون المعركة المذهبي والمثالى شيئاً فشيئاً، واستحال إلى صراع مادي على امتلاك ملك المنطقة الغنية الآهلة - إفريقية - وانتزاعها من أيدي الموحدين، لتغدو غنماً لبني غانية. وقد أسفر هذا الصراع عن تحقيق أمنية بني غانية كاملة، واستطاع(4/267)
يحيى بن غانية، بعد فترة قليلة من مصرع أخيه علي بن غانية، أن يفتتح سائر القواعد والثغور الإفريقية - القيروان وسوسة والمهدية وصفاقس وقفصة وبلاد الجريد، وجبل نفوسة وطرابلس وغيرها، وانتهى أخيراً بأن افتتح تونس ذاتها، وتغلب على خصومه من الغز في المنطقة الشرقية، وسحق سائر الحملات الموحدية التي وجهت لقتاله، ولم يبق بيد الموحدين من إفريقية سوى بجاية، وما يليها من الشاطىء.
على أن هذه المملكة العظيمة، التي استطاع يحيى بن غانية أن يبسط عليها سلطانه، لم تكن وحدة متماسكة متناسقة، فقد كان سكانها يتألفون من عناصر مختلفة متنافرة، من العرب والبربر، وكان من بينها في الجنوب في جبل نفوسة، وما يليه، طوائف من الخوارج لا تدين بالولاء لأحد. ولم يكن يحيى بن غانية بالرغم من براعته وبسالته كجندى وقائد، يتصف بشىء من المقدرة الإدارية والنظامية، ولم يستطع بالرغم من ظفره على خصومه في معظم المعارك التي خاضها، أن ينشىء في البلاد التي افتتحها أية نوع من الحكومة المنظمة، بل كان يجرى في حكمها على نوع من الارتجال الخطر، وكانت أساليبه في الحكم هي أساليب الطاغية المطلق، أعني حكم عسف وهوى، لا يعرف معنى للحق والعدل، فلم يكن ثمة في ظله ضمان للنفس أو الأموال أو الحرم، بل كان يتميز قبل كل شىء بالقتل والغصب واستباحة الحُرم، وعلى الجملة، فلم تكن حكومة الميورقي، وعماله في تلك الأقطار، سوى حكومة عصابات ناهبة تعتمد في تدعيم سلطانها على الإرهاب المطبق. وكان يحيى لا يدخر وسعاً في استلاب المال بكافة الوسائل، ينفق منه على حملاته ومشاريعه الحربية التي لا تنتهي، ويبذل الوفير لأحلافه من طوائف الأعراب القُلّب الذين لا يخبو لهم جشع. وقد رأينا ما كان من بالغ جشعه واشتطاطه في فرض الغرامات على أهل تونس، وجبل نفوسة، وما اقترن باقتضائها من رائع السفك والتقتيل.
وقد كان حريًّا بمثل هذا الحكم أن يثير بغض سائر المحكومين ومقتهم وأن يحفزهم إلى ترقب انهياره والخلاص منه. وهكذا كان سلطان بني غانية، يقوم على بركان من البغض الخطر، الذي لا يلطف منه أي عطف أو ولاء. وبالرغم من أن حكم الموحدين لإفريقية لم يكن حكماً مثالياً، فقد كان على الأقل حكماً نظامياً، في معنى من المعانى، وكان بعيداً عن مثل هذه الفظائع، التي كانت تصم حكم(4/268)
بني غانية باستمرار، ومن ثم فإنه لم يكن غريباً أن يتوق أهل المدن الإفريقية إلى عودة الحكم الموحدي، وأن يستقبلوا الجيوش الموحدية بالترحيب والرضى، وأن يبتهجوا لسقوط الميورقي وانهيار سلطانه.
تلك هي الظروف والعوامل التي اجتمعت لتقوض سلطان بني غانية في إفريقية، ولتحول انتصارات يحيى الميورقي وفتوحاته، إلى حملات ناهبة غير مستقرة الدعائم، ولتجعل من حكمه لتلك المملكة الغنية الشاسعة، حكم عصابة مغامرة، ولتحمل إليه في النهاية عوامل الانهيار والسقوط.
على أن يحيى الميورقي، بالرغم من هزيمته الساحقة في جبل تاجرا، ومن فقده لأمواله وعتاده، ومعظم صحبه، وفراره في فلوله شريداً إلى الصحراء الجنوبية، لم ييأس مع ذلك، ولم تتكسر نفسه الوثابة، ولم تخب قواه المعنوية، ولم يعتبرها كلمة الفصل النهائية، في معركته مع الموحدين، وسوف نراه عما قريب ينزل إلى ميدان النضال والصراع مرة أخرى، مزوداً بقوى جديدة، وآمال جديدة.
- 5 -
كان أهم ما عنى به الناصر خلال إقامته بتونس، هو أن يتخذ كل إجراء ممكن، لتأمين إفريقية، وتوطيد سلطان الموحدين بها، والحيلولة دون قيام أمر بني غانية مرة أخرى. وكان يحيى الميورقي على أثر هزيمته الساحقة في موقعة تاجرا، قد فر في فلوله حسبما تقدم إلى الواحات الجنوبية، بيد أنه لم يكن ثمة ما يدل على أنه قد سحق بصورة نهائية. ومن جهة أخرى فقد كانت توجد ثمة طوائف أخرى من البربر والأعراب في الجهات الجنوبية، دائبة الشغب والعصيان. ففي شهر صفر سنة 603 هـ، وجه الناصر وهو ما يزال بتونس حملة موحدية جديدة، تحت إمرة أخيه السيد أبي إسحق، إلى الأطراف الجنوبية لاستئصال أهل الشر والفساد، فسارت هذه الحملة، وهي تتقصى آثار " الأشقياء " شرقاً وغرباً، حتى وصلت إلى أحواز طرابلس، وقامت بردع بني دمر، ومطماطة، ووصلت إلى آخر جبال نفوسة، وهي تعمل على مطاردة العناصر المشاغبة وسحقها، ثم عادت إلى تونس بعد أن قامت بتأدية مهمتها، دون أن تلقى معارضة أو مقاومة (1).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 223 و 225.(4/269)
على أن أنجع إجراء اتخذه الناصر لتأمين إفريقية هو إسناده ولايتها إلى الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر الهنتاني، وهو الظافر في معركة تاجرا. وكان أبو محمد يومئذ عميد أشياخ الموحدين، وأعلاهم مكانة، وأشدهم نفوذاً لدى الخليفة. وكان يمت إلى الخليفة بصلة النسب الوثيق، إذ كان متزوجاً أخته إبنة الخليفة المنصور. وكان الناصر يثق بحكمته، وسديد رأيه ووافر مقدرته. وقد اعتذر أبو محمد بادىء ذي بدء عن قبول هذا المنصب، وشعر أنه نوع من الإبعاد له عن البلاط، والمشاركة في الجليل من الشئون، فبعث الناصر إليه ابنه وولىّ عهده الفتى يوسف، ليقنعه بالقبول. ويفصل لنا التجاني في رحلته، ما قاله ولى العهد للشيخ، وما نوه به من أهمية إفريقية، وما ضحى به الموحدون في سبيلها من المال والرجال، وأن الخليفة لم يجد عن اختيار الشيخ معدلا، وقد أكبر الشيخ حركة الخليفة ومقدم ولى عهده، فأبدى قبوله لولاية إفريقية، بشروط خلاصتها أنه لا يبقى في منصبه إلا بقدر ما تصلح أحوال إفريقية، وينقشع خطر الميورقي عنها، وهو يقدر لذلك ثلاث سنين، وأن يختار من قوات الجيش من يرى بقاءهم معه، وألا يُسئل عن تصرفاته كائنة ما كانت، وأن يُخير في أمر الولاة الذين اختارهم الخليفة لبلاد إفريقية، فيبقى من يشاء ويعزل من يشاء، فقبل الناصر كل شروطه. ثم أزمع الرحلة إلى المغرب، فغادر تونس في السابع من شهر شوال سنة 603 هـ، وصحبه الشيخ أبو محمد مدى ثلاثة أيام. وحدث عند خروج الناصر أن مثل بين يديه أهل تونس وأبدوا له خوفهم، من أن يعود الميورقي إلى عدوانه، بعد سفره، فاستدعى الناصر أعيانهم، وطمأنهم بوجود الشيخ أبي محمد على رأس الولاية، وأنه آثرهم بوجوده رغم شدة حاجته إليه، فاطمأن الناس لقوله واستبشروا بولاية الشيخ (1).
وسار الناصر أولا إلى تلمسان، فوصل إليها في أوائل شهر ذي الحجة، واستقر بها وقتاً، وأنفذ منها الأوامر إلى ولاة إشبيلية وقرطبة وغرناطة وبسطة وألمرية ومرسية، لموافاته مع أتباعهم، وكان عند خروجه إلى غزوته في إفريقية، قد أمر بعزل السيد أبي إسحق عن ولاية إشبيلية، وقدم عليها أخاه السيد أبا موسى. وقضى أيام عيد النحر بتلمسان، وبقى بها حتى نهاية ذي الحجة، ثم غادرها إلى مدينة فاس، ونزل بها في أوائل شهر المحرم سنة 604 هـ، واستأنف بها النظر في
_______
(1) رحلة التجاني ص 361 و 362، وابن خلدون ج 6 ص 248 و 249.(4/270)
الأعمال، وشكا إليه أهل فاس من مظالم عاملهم أبي الحسن بن أبي بكر، كما شكا إليه أهل مكناسة من مظالم عاملهم أبي الربيع بن أبي عمران، فأمر بالقبض عليهما، واستصفاء أموالهما، ثم رحل إلى مكناسة، ونزل بها في صفر، وأصابته هنالك وعكة، يبدو أنها كانت من أثر مرض وبائى فشا ببلاد الأندلس وانتقل إلى العدوة. فلما تماثل للشفاء، غادر مكناسة إلى رباط الفتح، فوصل إليها في شهر ربيع الأول، ثم رحل منها مباشرة، إلى مراكش، فوصلها بعد أيام قلاثل (1).
وما كاد الناصر يستريح من وعثاء السفر، حتى عاد إلى النظر في الأعمال السلطانية، فقدم أبا محمد عبد العزيز بن عمر بن أبي زيد على الأشغال بالعدوتين المغرب والأندلس. وكان أبو سعيد بن جامع متولياً للوزارة، فبقى على ما كان عليه، وكانت تربطه بعبد العزيز بن أبي زيد روابط الصداقة. ووصل معظم العمال مع أتباعهم وكتابهم، وفقاً للأمر الصادر بذلك، وأخذ في تصفح أعمالهم ومراجعتها، وكان ممن وصل من العمال بالأندلس، يوسف بن عمر الكاتب ومؤرخ الخليفة المنصور، وكان يتولى النظر على بعض الأشغال المخزنية والسهام السلطانية، وكان قد لحقت بتصرفاته بعض الريب، فما كاد يقترب من الحضرة حتى أحيط بأحماله ومتاعه وقبض عليه وثقف، ثم فتحت أحماله وأمتعته بحضور الشهود وروجعت، فلم يوجد بينها شىء مما يدينه، فأمر الخليفة بإطلاق سراحه، ورد ماله ومتاعه إليه، وكان مما شفع له في ذلك عند الناصر، كتابه الذي ألفه في محاسن والده المنصور (2).
وفي هذا العام توفي السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن والي بجاية، وكان قد قام بتجديدها عقب الحريق الذي أصابها وخرب كثيراً من ربوعها. وفي العام التالي أعني سنة خمس وستمائة أقيل السيد أبو الحسن بن عمر والي تلمسان لمرضه وعجزه عن ضبط الأمور، واضطراب قبائل زناتة في تلك المنطقة، وعين مكانه في الولاية السيد أبو عمران موسى أخو الخليفة، فقدم إلى تلمسان ومعه عسكر من الموحدين ليستعين بهم في ضبط الأمن والسكينة في تلك المنطقة.
وفي تلك الأثناء كانت الحوادث في إفريقية قد عادت إلى اضطرامها، وعاد يحيى الميورقي إلى استئناف نشاطه ومغامراته. وكان مذ لحقت به
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 225 و 226.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 249، والبيان المغرب ص 227 و 228.(4/271)
الهزيمة الساحقة، بجبل تاجرا، وارتد بفلوله إلى الجنوب، يرقب الفرص للانتقام واسترداد شىء من سلطانه الضائع. وكان ما يزال يلتف حوله بعض طوائف من حلفائه الأعراب، الذين بقوا إلى جانبه بالرغم من محنته. وقد أشرنا من قبل غير مرة إلى الدور الذي كانت تقوم به طوائف العرب في أرجاء إفريقية، من احتراف الحرب، والتقلب في محالفة مختلف الجهات. وكان بنو غانية يعتمدون بالأخص على معاونة العرب في سائر مشاريعهم الحربية. وكان يحيى الميورقي يجمع حوله كثيراً من حشودهم، ويأسرهم بوافر بذله، وإطلاق أيديهم كلما سنحت الفرص، في أعمال السلب والنهب. وكذلك كان الموحدون يعتمدون على بعض طوائف العرب في تزويد جيوشهم بفرق المرتزقة. فلما حلت الهزيمة بيحيى وتحطم سلطانه، تركه كثير من حلفائه العرب السابقين، وانضموا إلى جانب الموحدين الظافرين، وكان من هؤلاء بنو مرداس وبنو عوف من بطون بني سُليم، وكانت أحياؤهم تقع في المنطقة الممتدة من قابس نحو بونة، أما بنو زغبة فقد كانوا أصلا من خصوم بني غانية، ولم ينقطعوا عن محاربتهم قط، وكانوا دائماً إلى جانب الموحدين، ثم تحالفوا بعد ذلك مع بربر زناته الضاربين في المغرب الأوسط، واستمرت المصادمات بينهم وبين بني غانية. بيد أن يحيى استطاع بالرغم من محنته أن يستبقى إلى جانبه بالأخص، حشوداً كبيرة من رياح وسليم، ومن الزواودة من بطون رياح، وشيخهم محمد بن مسعود البلط لم يفارقه في ضرائه.
فلما غادر الخليفة الناصر، تونس، وسار في معظم قواته صوب المغرب، في أواخر سنة 603 هـ، أخذ يحيى الميورقي، يتأهب للنهوض والحركة مرة أخرى، ثم سار على رأس جموعه نحو الشمال، وهو يعيث حيثما حل، وكان الشيخ أبو محمد الحفصى والي إفريقية ساهراً، يرقب عن طريق عيونه حركات الميورقي، فلما ترامت إليه الأخبار بتحركه، خرج في جيش من الموحدين والعرب، من بني عوف وسليم ومرداس، وسار تواً للقائه. والتقى الفريقان في منطقة تبيشة على ضفة وادي شبرو، واقتتل الفريقان بشدة وعنف، واستمرت المعركة طول اليوم، وأسفرت في النهاية عن ظفر الموحدين وهزيمة المرابطين الميورقيين ومن معهم من العرب، فارتد يحيى في فلوله وهو جريح، والموحدون في أثره، ولكنه استطاع أن يلحق بالصحراء في اتجاه طرابلس، واستولى الموحدون على(4/272)
محلته وسائر عتاده وأسلابه ومتاعه، وكانت غنيمة وافرة، وتمت هذه الهزيمة على يحيى الميورقي في 30 ربيع الأول سنة 604 هـ (24 أكتوبر سنة 1207 م). ورجع أبو محمد إلى تونس مكللا بغار الظفر، وكتب إلى الناصر بالفتح، واستنجزه وعده في الإقالة من منصبه، فبعث إليه الخليفة يشكره ويعتذر له بانشغاله بشئون المغرب، ويرجوه الاستمرار في النظر، وبعث إليه بالمال والخيل والكسى للإنفاق والعطاء، وبلغ ما أرسله من المال وحده مائتي ألف دينار (1).
على أن هذه الهزيمة الثانية لم تفت في عضد يحيى بن غانية، ولم تخمد لديه عزم التوثب والنضال، فجمع أشتات قواته مرة أخرى، ورأى تلك المرة، تجنباً للصدام مع أبي محمد، وتفادياً لضرباته القاصمة، أن يتجه نحو المغرب، فسار في جموعه من المرابطين وطوائف العرب، متجهاً صوب الجنوب الغربي، وهو يعيث قتلا ونهباً أينما حل، وتحالف مع بطون زناتة الضاربة في تلك الأنحاء، واستمر في سيره حتى وصل إلى واحات سجلماسة، ثم هاجم سجلماسة واقتحمها، ونهبها، وفرق الغنائم في أصحابه، وكانت وفيرة، فانتعشت نفوسهم. وكان وصول الميورقي على هذا النحو إلى أعماق المغرب، واقترابه من العاصمة الموحدية، مثار الدهشة والروع بين الموحدين، ونهض الشيخ أبو محمد في قواته مرة أخرى للقاء الميورقي عند العود، وبعث إلى والي تلمسان السيد أبي عمران موسى يحذره من مفاجآت الميورقي، وأن يتجنب لقاءه، وكان السيد أبو عمران قد خرج من تلمسان يجوس بين قبائل زناتة الضاربة في جنوبها، يسترضيهم، ويستميلهم إلى أداء الجبايات، والتزام الطاعة والسكينة. وكان بين قوات الميورقي كثير من بطون زناتة، الخوارج على طاعة الموحدين، فاتصل بهم زملاؤهم زعماء زناتة المقيمين في جنوبي تلمسان، وعرّفوا الميورقي بظروف السيد أبي عمران، وعدم استعداده وضعف قواته، وابتعاده عن مدينته المحصنة، فسار الميورقي نحو الشمال حتى اقترب من جنوبي تلمسان. وعلم السيد أبو عمران
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 196 و 278. وقد جاء في " العبر " أن مبلغ ما أرسله الخليفة من مال كان " مائة ألف ألف دينار ثنتان ". ومعنى ذلك أن المال بلغت جملته مائة مليون دينار. وهذا رقم يصعب تصديقه، ولا يتفق بأي حال مع تقديرات العصر وموارده. وربما كان هناك تحريف في النص.(4/273)
بمقدمه وتردد وقتاً في لقائه. ولكن الميورقي لم يلبث أن فاجأه بجموعه من المرابطين والعرب. واضطر السيد أن يلقاه في قواته القليلة، وتكاثر المرابطون والعرب على القوات الموحدية، وفتكوا بها، وصمد السيد أبو عمران ومن معه، فقتلوا جميعاً، وأسر بعض بني السيد، والكاتب أبو الحسن بن عياش، وبعض طلبة تلمسان، واستولى الميورقي على المحلة الموحدية وسائر ما فيها من العتاد والسلاح والخيل، واقتحمت مدينة تاهَرْت ونهبت وخربت حتى غدت أطلالا (605 هـ - 1209 م)، وانتشرت جنود الميورقي من المرابطين والعرب في أحواز تلمسان ونهبوها، وانتسفوا زروعها، فارتاع أهل المدينة، وأغلقوا أبوابها، وهم يتوقعون أسوأ مصير، وبادر السيد أبو زكريا يحيى والي فاس في قوة من الموحدين، فوصل مسرعاً إلى تلمسان، وطمأن أهلها وسكن روعهم. وأمر الناصر في نفس الوقت بتجهيز حملة كبيرة من قوات مختارة، زودت بوافر العدد والأقوات، وعين لولاية تلمسان الوزير أبا زيد بن يوجان، وقدّمه على العسكر، فسار ابن يوجان في قواته إلى تلمسان، وعلم يحيى الميورقي بهذه الاستعدادات الضخمة كلها، فغادر منطقة تاهرت في قواته، وقصد إلى الصحراء متجهاً نحو طرابلس، ومعه محمد بن مسعود شيخ الزواودة، وطوائف رياح وسليم وغيرهم (1).
ولم يمض قليل على ذلك حتى اعتزم يحيى بن غانية أن يستأنف غاراته. وكانت نفسه قد قويت بما أحرز من نصر في تاهرت، وانتعشت جموعه لما أحرزت من المال والغنائم، وكان حلفاؤه العرب من جهة أخرى يتوقون إلى استئناف العيث والنهب، وهو قوام أطماعهم، ومورد عيشهم، وقد تضخم جيش يحيى بما انضم إليه من طوائف جديدة من الغز والعرب، جاءت لتبحث عن طالعها، ولتغتنم فرص الكسب، وكان من هؤلاء رياح وزغبة وعوف ودباب ونعات وغيرهم، هذا إلى الزواودة وشيخهم محمد بن مسعود. وكان يحيى ينوى هذه المرة أن يعود إلى مهاجمة أراضي إفريقية ذاتها. ولم تكن نيات الثائر بخافية على أبي محمد بن أبي حفص والي إفريقية اليقظ الحازم. فبادر بحشد قواته، معتزماً أن يبادر الميارقة وحلفاءهم قبل أن يخترقوا إفريقية، وخرج من تونس
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 229 و 230، وابن خلدون ج 6 ص 249 و 278.
وراجع أيضاً: A. Bel: Les Benou Ghania, p. 148 & 149(4/274)
سنة ست وستمائة، في جيش كثيف وافر العُدة، وسار جنوباً نحو قابس، ثم اتجه
نحو جبل نفوسة، حيث كان يحتشد المرابطون وحلفاؤهم العرب. والتقى الفريقان
في موضع من جبل نفوسة، وأقام أبو محمد محلته مزودة بالفساطيط والأبنية،
حتى لا تكون ثمة أية فكرة في التراجع. ثم اشتبك الفريقان في معركة عنيفة دامية، فانكشفت ميسرة الموحدين في البداية، وولي من كان بها من الغُز والأعراب منهزمين، وثبت الشيخ أبو محمد في القلب مع الموحدين والحفاظ، وانحازت إليه بعض طوائف من بني عوف وبنى سليم، واستمر القتال طول اليوم على أشده، وأسفر في النهاية عن هزيمة المرابطين وحلفائهم، وطارد الموحدون الجيش المنهزم، وأمعنواً فيه قتلا وأسراً، ولم ينقذهم من الفناء الشامل سوى دخول الليل، واستولى الموحدون على محلة الميورقي، وسائر ما بها من الأسلاب والغنائم، واستولوا كذلك على ظعائن العرب وغنائمهم التي كانوا يحتفظون بها، وذكر ابن خلدون نقلا عن ابن نجيل كاتب أبي محمد أن أحمال الغنائم في هذه الموقعة بلغت ثمانية عشر ألفاً، وكان بين القتلى محمد بن مسعود شيخ الزواودة، وابن عمه حركات بن أبي الشيخ، وشيخ بني قرة، وشيخ مغراوة، ومحمد بن الغازى ابن غانية، وكثيرون من أنجاد بني رياح وبنى هلال. وكانت ضربة ساحقة ليحيى ابن غانية، وحلفائه، تضارع في عنفها وأهمية نتائجها ضربة جبل تاجرا، وفر يحيى في فلٍّ من صحبه، وقد هدته النكبة، وأوقعت في قلبه اليأس، وارتد أبو محمد في قواته إلى تونس مكللا بغار الظفر، وكتب إلى الخليفة الناصر بالفتح، فقرىء كتابه بالمسجد الجامع، وجلس الناصر لتقبل الهناء والاستماع لمدائح الشعر (1)، وكان منها قصيدة لأبي عبد الله بن يخلفتن الفازازى هذا مطلعها:
هذه فتوح تفتحت أزهارها ... وتدفقت ملء الملا أنهارها
وتأرّجت نفحاتها وتبرجت ... صفحاتها وتبلجت أنوارها
وأتت بشائرها إليك سوافرا ... عن أوجه يا حبذا إسفارها
ولم ينس أبو محمد ما قام به عرب سليم من محالفة الميورقي والقتال إلى جانبه، فاخترق ديارهم خلال عوده، وأمر بالقبض على زعمائهم، وأرسلهم مصفدين إلى تونس، فكان لتصرفه وقع عميق في تلك المنطقة، التي كثر فيها تقلب
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 231 و 232، وابن خلدون ج 6 ص 196 و 278.(4/275)
الأعراب وفسادهم. وبالعكس عومل العرب الذين وقفوا إلى جانب الموحدين بالرعاية والإحسان، ووزعت عليهم أراض شاسعة خصبة في وادي القيروان. وكان أهل جبال نفوسة قد أرهقهم ابن عصفور نائب يحيى بجوره، وأثقل كاهلهم بالمظالم والفروض، فما كادت تقع الهزيمة على الميورقي، حتى وثبوا بابن عصفور فقتلوه ومعاونيه من المرابطين، كما قتلوا ولدين ليحيى.
وعكف أبو محمد بعد نصره الحاسم على معالجة شئون إفريقية، بما عرف عنه من الحزم والبراعة، فقمع كل صنوف الفساد والشغب، ووطد دعائم السكينة والنظام، واستوفى فروض الجباية من سائر الطوائف، فازدهرت في ظله بلاد إفريقية، وعمها الأمن والرخاء، وذاع اسم أبي محمد، واشتهر أمره، وسمت مكانته، حتى غدا ثانى رجل في الدولة بعد الخليفة ذاته، وكان العمل الذي اضطلع به ونجح في تحقيقه، وهو إخماد ثورة بني غانية، وتحرير إفريقية من نيرهم، وردها إلى سلطان الموحدين، وذلك في فترة يسيرة لا تتجاوز خمسة أعوام أو ستة، من أعظم الأعمال العسكرية والسياسية، التي استطاعت الدولة الموحدية أن تقوم بها في مدى ربع قرن، مذ نزل بنو غانية بإفريقية لأول مرة. ولم يكن ذلك عملا هيناً ولا ميسوراً إزاء ما كان يتصف به علي بن غانية وأخوه يحيى، وبقية هذه العصبة، من الجرأة والبسالة وشدة المراس. وكان توطيد سلطان الموحدين بإفريقية على هذا النحو، عمل إنقاذ وقى الدولة الموحدية كثيراً من أخطار التمزق والتفكك، التي كانت تتعرض لها، من جراء تغلب بني غانية على جزء من أهم أراضي الدولة، وعجزها عن رد عدوانهم. واستمر أبو محمد بن أبي حفص عدة أعوام أخرى حتى وفاته في سنة 618 هـ (1221 م) يسيطر على مصاير إفريقية، ويسهر على سلامتها وأمنها، ويوطد شئونها بمقدرة فائقة، فهل كان عندئذ يضمر أو يدور بخلده أنه إنما يمهد بهذا التوطيد لسلطان عقبه، وتأسيس أسرته الملوكية المستقلة، التي قامت بعد ذلك بقليل، في هذا القطر من أقطار الإمبراطورية الموحدية؟ (1).
أما يحيى بن غانية فقد لبث بعد نكبته الأخيرة في جبل نفوسة، ملتجئاً مع فلوله إلى الصحراء الجنوبية، يلوذ مؤقتاً بأهداب السكينة، ويرقب الحوادث. بيد أنه لم يمض قليل على ذلك، حتى انفصل عنه أخوه سير بن إسحاق بن غانية،
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 279. وراجع أيضاً A. Bel: Les Benou Ghania, p. 152 - 154(4/276)
وكان ممن شهد معه غزوة تلمسان، وسار إلى تونس ملتجئاً إلى الشيخ أبي محمد، لائذاً بطاعة الموحدين، فأكرم الشيخ مثواه، ثم استأذنه في السفر إلى الحضرة فأذن له، واستقبل هناك بالمودة والترحاب (سنة 607 هـ).
وفي خلال ذلك كان الخليفة الناصر عاكفاً على معالجة الشئون الإدارية، والنظر في أعمال الولايات. وكان كثير التغيير والتبديل للولاة ورجال الدولة. ومن ذلك أنه في سنة خمس وستمائة، أقال أبا يحيى بن الحسن بن أبي عمران من الوزارة، وألزمه أن يبقى في داره، ثم عينه بعد ذلك والياً لميورقة مكان السيد أبي عبد الله بن أبي حفص، وعين السيد أبا عبد الله والياً لبلنسية، وقدم للوزارة أبا سعيد ابن أبي إسحاق بن جامع مكان أبي زيد بن يوجان. ثم عين أخاه السيد أبا إسحق والياً لإشبيلية، وأخاه السيد أبا محمد والياً لشرقى الأندلس، والشيخ أبا عمران بن ياسين الهنتاني والياً لمرسية، مكان أبي الحسن بن واجاج، وعين السيد أبا زيد والياً لجيان، وأبا عبد الله بن أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص والياً لغرناطة. وعين لكتابة الديوان الكاتبين أبا محمد بن الحسن، وأبا عبد الله بن منيع، وكان كلاهما من الكتاب المجيدين، واختص الأول بكتب التوقيعات والظهائر، واختص الثاني بديوان العسكر، والتنفيذات السلطانية. وكذلك تناولت هذه التعيينات شئون القضاء فعُزل القاضي أبو عبد الله الباجى عن قضاء إشبيلية، وعُين مكانه أبو محمد عبد الحق بن عبد الحق. وعُين لقضاء قرطبة ابن حوط الله، مكان أبي علي بن أبي محمد المالقي، واستدعى أبو علي إلى الحضرة حيث قُدم على طلبة الحضر، وهو المنصب الذي كان يتولاه أبوه وإخوته من قبل. وعُين أبو إبراهيم ابن يغمور لقضاء بلنسية. وندب القائد أبو عبد الله بن عيسى المرسى لقيادة قوات الغرب بشلب، ونُدب أبو الجيش محارب لاستقبال ملوك الروم وسفرائهم، والاشتغال بإنزالهم وضيافتهم، والترجمة عنهم، مكان ابن عوبيل، وهي وظيفة مستحدثة في البلاط الموحدي، ولم يسبق أن وقفنا على ذكرها من قبل ضمن مناصب الإدارة الموحدية. ووقعت هذه التغييرات والتعيينات كلها في عام واحد، هو سنة 607 هـ (1210 م) (1).
ووقعت بالمغرب في هذا العام عدة حوادث أخرى تستحق الذكر، منها
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 230 و 231 و 233 و 234، وابن خلدون
ج 6 ص 249.(4/277)
مصرع ابن عطية الزناتى، أحد رؤساء زناتة الخوارج في منطقة تلمسان الجنوبية، وكان ممن تحالف مع ابن غانية حين غزوته لمنطقة تلمسان، فدس إليه ابن يوجان والي تلمسان من اغتاله بمقره. وفي هذا الحادث ما يدل على أن الاغتيال السياسي، كان من وسائل الموحدين في القضاء على خصومهم. ومنها أن الشيخ أبا محمد قام بغارة على أحياء الخوارج والمشاغبين من بني سليم، واستاق أشياخهم وأموالهم، وجعلهم رهينة لديه في تونس، حسماً لفسادهم وشغبهم، وإرغامهم على قطع إمدادهم ومعاونتهم لابن غانية، ومن جهة أخرى فقد قام محمد بن عبد السلام عامل طرابلس بغارة على منطقة جبل نفوسة واقتحم بها قصراً، ألفى فيه جملة من ثمين المتاع والأموال لبني غانية، ووطد أسباب الهدوء في تلك المنطقة.
وكان من أهم الحوادث في هذا العام أيضاً، الحريق الكبير الذي وقع بمراكش، وكان وقوعه في ليلة يوم الخميس الثالث عشر لجمادى الأولى، والناس يرقدون في مضاجعهم. وشبت النار أولا في حى القيسارية، وانتشرت بسرعة، وأتت على الحى كله، فشب الناس مذعورين من نومهم، وكثر الصراخ والاستغاثة، ونهض الخليفة الناصر على الضجيج وغادر قصره مسرعاً، واعتلى صومعة الجامع ليشهد تغلغل النار عاجزاً. واقتحم الغوغاء كثيراً من الدروب، وسلبوا ما استطاعوا سلبه مما سلم من الحريق، واستمر الحريق حتى صباح اليوم التالي، وقد أتى على كثير من أحياء المدينة. وأمر الناصر في اليوم التالي، بتتبع السفلة الناهبين، واسترداد ما يمكن استرداده منهم، فقبض على كثيرين من هؤلاء وأعدموا على الأثر. وهلك في تلك النكبة كثير من الأموال والدور، وافتقر كثير من ذوى اليسار، وفقدوا دورهم وثرواتهم. وأمر الناصر بأن يعاد تشييد الأحياء المحترقة بأحسن مما كانت عليه، خصوصاً وقد كانت تواجه القصر الخليفى يسبغ عليها أضواءه (1).
هذا ويذكر لنا صاحب البيان ضمن حوادث هذا العام، أعني عام 607 هـ، حادثاً يستوقف النظر، وهو أن بعض أعيان جزيرة صقلية ووجوهها، وفدوا على الشيخ أبي محمد بن أبي حفص بتونس، ونبأوه بأن المسلمين في صقلية انتزعوا كثيراً من المعاقل من أيدي الروم، وأقاموا الخطبة في بلادهم بالدعوة المهدية الموحدية، وقطعوا ما سواها من الدعوات من عباسية وغيرها.
_______
(1) البيان المغرب ص 234 و 235.(4/278)
ويبدو من تتبع تاريخ صقلية، في تلك الفترة أن الأقلية الإسلامية التي كانت بالجزيرة حتى هذا العهد، كانت تعانى من الضغط والاضطهاد. وكان المسلمون مذ سقطت الجزيرة في أيدي الأمراء النورمان في سنة 479 هـ (1086 م)، يتمتعون بطائفة من الحقوق والامتيازات، ومنها السكنى في بعض الأحياء، والأراضي، في مسينى، وبلرم، وترابانى، وجرجنت، ومازرة، وغيرها من المدن، ومزاولة شعائرهم الدينية في مساجدهم القليلة الباقية، ومزاولة مهنهم وأعمالهم السلمية. واستمر الأمر على ذلك نحو قرن، في ظل عدة متعاقبة من الأمراء النورمان ذوى التسامح المستنير، وفي مقدمتهم ولد فاتح الجزيرة، الدوق روجر (رجّار) الثاني، وهو الذي أسبغ رعايته على الشريف الإدريسي، وعهد إليه بوضع موسوعته الجغرافية الشهيرة " نزهة المشتاق ". فلما توفي في سنة 1154 م، خلفه ولده وليم الأول (غليام)، فولده وليم الثاني. وفي عهد هذا الملك، اشتدت وطأة الحكم على المسلمين وأراد أن ينزع منهم بعض الأراضي التي يحتلونها ليعطيها لبعض الأديرة المجاورة، فقام المسلمون ببعض ثورات محلية، واستولوا على بعض الحصون النصرانية، والظاهر أن الملك وليم، عدل بعد ذلك عن سياسة الضغط والقمع التي حاول أن يتخذها إزاء المسلمين، وعاد الصفاء يخيم على علائق المسلمين والنصارى.
وقد أورد لنا الرحالة الأندلسي ابن جبير وصفاً دقيقاً لأحوال مسلمى صقلية في عهد الملك وليم (ويسميه غليام) مما وقف عليه حين زيارته للجزيرة في شهر رمضان سنة 580 هـ (يناير سنة 1185 م)، وقد زار منها عدة مدن مثل مسينه، وبلارمه (بلرم)، واطرابنش، واجتمع فيها بالمسلمين، ووقف على أحوالهم. وهو يقول بصفة عامة، إن المسلمين يعيشون مع النصارى على أملاكهم وضياعهم، وأن النصارى قد أحسنوا السيرة في استقبالهم واصطناعهم، وضربوا عليهم إتاوة يؤدونها في فصلين من العام، وحالوا بينهم وبين سعة في الأرض كانوا يجدونها، ثم يقول لنا، إنه لم يكن في مسينه إلا نفر يسير من المسلمين من ذوى المهن. وأما بلرم، وهي عاصمة الجزيرة، ففيها كثير من المسلمين وفيها سكنى الحضريين منهم، ولهم فيها المساجد، والأسواق المختصة بهم في الأرباض كثير، وسائر المسلمين بضياعها وجميع قراها، وسائر مدنها كسرقوسة وغيرها. وللمسلمين في بلرم " رسم باق من الإيمان يعمرون به أكثر مساجدهم، ويقيمون الصلاة بآذان(4/279)
مسموع، ولهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم، وهم التجار فيها، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للعباسى. ولهم بها قاض، يرتفعون إليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون للصلاة فيه. وأما المساجد فكثيرة لا تحصى، وأكثرها محاضر لمعلمى القرآن، وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين، تحت ذمة الكفار، ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم، ولا في أبنائهم، تلافاهم الله بصنع جميل " (1).
وهذه العبارة الأخيرة من أقوال ابن جبير، تلخص لنا حقيقة أحوال المسلمين في صقلية في أواخو القرن السادس الهجرى (الثاني عشر الميلادى). ذلك أنه بالرغم من تلك الامتيازات الشكلية في السكنى والتجارة ومزاولة الشعائر، فإنه لم يكن ثمة شك في أن الأقلية المسلمة كانت تعيش داخل الجزيرة ذليلة مضطهدة. وهذا ما يفصله لنا ابن جبير بعد ذلك، إذ يقول إنه خلال إقامته ببلدة إطرابنش، " تعرف ما يؤلم تعرفه من سوء حال أهل هذه الجزيرة مع عباد الصليب بها، وما هم عليه من الذل والمسكنة، والمقام تحت عهد الذمة، وغلظة الملك، إلى طوارىء دواعى الفتنة في الدين ". ثم يقول لنا، إنه التقى في هذه البلدة بزعيم مسلمي صقلية، وهو القاسم بن حمود المعروف بابن الحجر وهو من ورثة أهل السيادة، وكان من خيرة مسلمي الجزيرة كرماً ومآثر، وكان قد اتهم بمخاطبة الموحدين، واضطهد من أجل ذلك، وغرم أموالا طائلة. ويزيد ابن جبير على ذلك، أنه وقف من هذا الزعيم، على بواطن أحوال مسلمي الجزيرة مع أعدائهم " مما يبكى العيون دماً، ويذيب القلوب ألماً " (2).
ويحدثنا ابن جبير عن الملك وليم (غليام)، فيقول إنه عجيب في حسن السيرة، واستعمال المسلمين، وإنه كثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله، وله جملة من العبيد المسلمين وعليهم قائد منهم. ثم يصف لنا فخامة قصوره، وتناهيه في الترف ورفاهة العيش، وشغفه باتخاذ الفتيان والجوارى، وأنه يقرأ العربية ويكتبها، وأهل عمالته في ملكه منهم مسلمون. ولما توفي الملك وليم الثاني في سنة 1189 م، وخلفه في حكم صقلية الإمبراطور فردريك الثاني، أول حكامها من آل هوهنشتاوفن، عاد فانتزع من المسلمين
_______
(1) رحلة ابن جبير (القاهرة 1955) ص 314 و 323.
(2) رحلة ابن جبير ص 332 و 333.(4/280)
كثيراً من أراضيهم وأعطاها للكنيسة، وكان ذلك في سنة 1208 م (605 هـ) (1) والظاهر أن المسلمين عادوا يومئذ إلى الثورة، وانتزعوا بعض الحصون النصرانية مرة أخرى. ويبدو من مقارنة التواريخ، أن هذه هي الحوادث التي يشير إليها وفد المسلمين الصقليين إلى الشيخ محمد الحفصى. على أنه يبدو كذلك أنه لم يترتب على مسعى هذا الوفد أي أثر، وأن الموحدين لم يفكروا في التدخل في حوادث صقلية بأية صورة. وسنرى فيما بعد أن هذا الصراع يتجدد في صقلية بين المسلمين وحكامهم النصارى، ثم ينتهي بإخماد كل نزعة تحريرية للمسلمين، وإخراجهم من ديارهم.
_______
(1) راجع: M. Amari: Storia dei Musulmani di Sicilia (Fierenze 1872) p. 586 & 591.(4/281)
الفصل السادس موقعة العقاب
انشغال الموحدين بحوادث إفريقية عن شئون الأندلس. سكون الممالك النصرانية منذ الأرك. شعورها بسنوح الفرصة لاستئناف الغزو. انتهاء الهدنة بين قشتالة والموحدين. إغارة ألفونسو الثامن وفرسان قلعة رباح على أراضي الأندلس. إغارة ملك أراجون على أراضي بلنسية. اهتمام الناصر لتلك الحوادث. اعتزامه العبور للجهاد واستنفاره للقبائل. خروج الناصر في قواته إلى رباط الفتح. مسيره إلى قصر كتامة. صعوبة تموين الجيش. مؤاخذة العمال المقصرين. عبور الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة. عبور الناصر ومسيره إلى إشبيلية. الاستعداد وحشد الجند في سائر الكور. خروج الناصر في الجيوش من إشبيلية إلى قرطبة. مسيره إلى قلعة شلبطرة. أحوال الممالك النصرانية عندئذ. الصلح والتهادن بينها. عدوان ملك قشتالة على الأندلس. اتخاذ قلعة شلبطرة قاعدة لهذا العدوان. غارات أراجون في الشرق. البابوية والصفة الصليبية لحروب النصارى ضد الأندلس. سعى البابا إنوصان لمعاونة ملك قشتالة. صدى مقدم الجيوش الموحدية. حصار الناصر لقلعة شلبطرة. عجز ألفونسو عن إنجادها وتسليمها بالأمان. رواية صاحب روض القرطاس عن الحصار. ما ينقض هذه الرواية. عود الناصر إلى إشبيلية. أهبة ملك قشتالة. معاونة البابا والأحبار النصارى. احتشاد جماعات الفرسان. مقدم المتطوعة الصليبيين من سائر الأنحاء. اجتماع جيوش قشتالة وأراجون ونافارا. الصوم والابتهال في رومة. أقوال الرواية الإسلامية عن هذه الأهبة. ما ورد في كتاب الخليفة. أهبة الناصر. مقدم الحشود الجديدة. خروج الجيوش النصرانية من طليطلة. خروج الناصر في جيوشه من إشبيلية. مسير النصارى إلى قلعة رباح ومهاجمتهم إياها. يأس حاكمها ابن قادس من النجدة وتسليمه بالأمان. ما أثاره هذا من خلاف بين القشتاليين وحلفائهم الأجانب. مغادرة معظم المتطوعة الأجانب للمعسكر النصراني. إشارة الرواية الإسلامية إلى ذلك. وصول الناصر إلى جيان. مقدم ابن قادس إليه. اتهامه وصهره بالخيانة وإعدامهما. سخط الأندلسيين لذلك. إصلاح ما حدث بالمعسكر النصراني. مسير سائر الجيوش النصرانية إلى الجنوب. صعودها إلى جبل الشارات ونزولها في ممر مورادال. مسير الجيوش الموحدية لملاقاة العدو. أقسام الجيش الموحدي وعدده. مبالغة الرواية الإسلامية في تقديره. عبور الموحدين لنهر الوادي الكبير. احتلالهم لممرات جبل الشارات. نزولهم في السهل المواجه لممر تولوسا. توقف الناصر للقاء النصارى. وصف عيان لميدان الموقعة. حصن العقاب. الطريق الرومانى والنهر. بويرتودل مورادال. مائدة الملك. استيلاء النصارى على قلعة فيرال أو حصن العقاب. تعذر عبورهم لجبل الشارات من تلك الناحية. قصة الراعى والممر السهل. تحول الجيش النصراني واحتلاله لمرتفع " مائدة الملك ". وقوف الموحدين على تلك الحركة. تعبئة الجيوش الموحدية للقتال. المناوشات الأولى. ترتيب الجيش الموحدي لخوض المعركة. موقع قبة الخليفة وحرسه. تنظيم الجيش النصراني وقيادته. استعداد الفريقين للمعركة. بدء النصارى بالهجوم. هجوم طلائعهم على مقدمة الجيش الموحدي. هجوم جناحى النصارى على جناحى الموحدين. المعركة الهائلة. ارتداد المتطوعة المسلمين. ثبات الموحدين ورد جناحى النصارى(4/282)
نزول ملك قشتالة بالقوات الاحتياطية. اشتداد هجوم النصارى. ارتداد ميمنة وميسرة الجيش الموحدي. فرار الأندلسيين والعرب. هجوم النصارى على القلب. مقاومة الحرس الخليفى العنيفة. ثبات الخليفة الناصر وحثه جنده على الثبات. اختراق النصارى للقلب. اختراقهم للدائرة الخليفية المدرعة. تمزق الجيش الموحدي وكثرة ضحاياه. صمود الناصر. مصرع الآلاف من حرسه الأسود. اضطراره في النهاية إلى الفرار. مسيره صوب بياسة ثم جيان. فرار الموحدين في كل ناحية. المطاردة المروعة والقتل الذريع لهم. الاستيلاء على المحلة الموحدية وانتهاب سائر ما فيها. مختلف أسماء الموقعة. خسائر المسلمين في الموقعة. مبالغة الرواية الإسلامية في تقديرها. اعتدال الرواية النصرانية في ذلك. مبالغتها في التقليل من خسائر النصارى. ما يمكن أن يقال في ذلك. وفرة السلاح والغنائم التي استولى عليها النصارى. خيمة الناصر والعلم الموحدي. الأسباب المادية والمعنوية لتلك النكبة. آثار النكبة بالنسبة للأندلس والمغرب. توكيد التفوق السياسي والعسكرى لإسبانيا النصرانية. الفزع في أرجاء الأندلس. شبح السقوط والفناء. فناء الجيوش الموحدية والفروسية المغربية. تضعضع الدولة الموحدية وتفككها. مقارنة بين الأرك والعقاب. كتاب الناصر عن الموقعة. ألفونسو الثامن يتبع نصره بالاستيلاء على الحصون الإسلامية. مهاجمته لبياسة وحصاره لأبدة. اقتحام أبدة وقتل وسبى أهلها. ظهور الوباء وارتداد النصارى إلى أراضيهم. وصول الناصر إلى إشبيلية، ثم عبوره إلى مراكش. أخذه البيعة لولده أبي يعقوب يوسف. احتجابه بقصره. مرضه ووفاته. ما قيل في وفاته. الناصر وعهده. بدايته الحسنة. استبداده بالأمر. خلو عهده من الأعمال الإنشائية. عطله عن أنواع العلوم والمعرفة. صفات الناصر وفقاً لقول المراكشي وروض القرطاس. وزراء الناصر. قضاته وكتابه. أبناؤه.
شغل الخليفة محمد الناصر لدين الله، منذ ارتقائه العرش في أوائل سنة 595 هـ، بحوادث إفريقية واستيلاء بني غانية على قواعدها وثغورها، والعمل على تحريرها واسترداد سيادة الموحدين بها، عن سير الحوادث في الأندلس، ولم يستطع خلال هذه الفترة التي استطالت زهاء اثنتى عشرة عاماً، أن يعنى بشىء من شئون الأندلس الجوهرية، أو يعبر إليها بنفسه، وحتى اهتمامه بافتتاح الجزائر الشرقية، لم يكن سوى نتيجة مباشرة لصراعه مع بني غانية في إفريقية.
بيد أن شئون الأندلس، كانت خلال ذلك تثير قلق الموحدين، وتوجسهم من العواقب. وكانت الممالك الإسبانية النصرانية، وفي مقدمتها قشتالة، قد لزمت السكينة حيناً منذ موقعة الأرك، ولبثت بضعة أعوام تتهيب الاشتباك مع القوات الموحدية في شبه الجزيرة، وفضلا عن ذلك فقد كانت قشتالة وليون، ترتبط كل منهما بعقد الهدنة مع الموحدين. فلما شغل الموحدون بصراعهم مع بني غانية في إفريقية، ولما استطال أمر هذا الصراع أعواماً، واتسع نطاقه وانقطع عبور الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة، أدركت الممالك النصرانية أن الفرصة ْقد سنحت مرة أخرى، لاستئناف غزواتها للأراضي الإسلامية، ولم يعقها(4/283)
عن انتهاز هذه الفرصة على الفور سوى منازعاتها الداخلية.
فلما اقترب أجل انتهاء الهدنة بين قشتالة وبين الموحدين، أخذ ملك قشتالة ألفونسو الثامن، يتأهب لغزو الأندلس. وكان منذ هزيمة الأرك الساحقة، يتوق إلى الانتقام لهزيمته، ورفع الوصمة التي لحقت من جرائها الجيوش النصرانية، وفي أوائل سنة 1209 م، خرج ألفونسو الثامن من قشتالة في قواته، واحتشد فرسان قلعة رباح، في قلعة شلبَطَرّة، على مقربة من قلعة رباح، وكانوا قد لجأوا إليها منذ انتزع الخليفة يعقوب المنصور قلعة رباح من أيديهم عقب معركة الأرك وسار ألفونسو صوب جيّان وبيّاسة، فانتسف الحقول وخرب الضياع، وقتل وسبي، وعاث الفرسان في أحواز أندوجر، واستولوا على عدة حصون، وأصاب المسلمين من جراء تلك الغارات، محن وخسائر فادحة. وفي العام التالي خرج ألفونسو إلى الأندلس مرة أخرى، وعاث في أراضي جيان وبياسة، ووصل في عيثه إلى أراضي ولاية مرسية، ثم عاد إلى طليطلة مثقلا بالغنائم.
وفي نفس الوقت، وقعت في شرقي الأندلس حوادث مماثلة، وكان السيد أبو العلاء إدريس بن يوسف قائد الأسطول الموحدي وفاتح الجزائر الشرقية، قد سار في جميع وحدات الأسطول الموحدي، إلى مياه برشلونة، وعاثت سفنه في شواطىء قطلونية، وأنزل بها خسائر فادحة، واستولى على كثير من الأموال والغنائم، وكان ذلك في صيف سنة 1210 م (607 هـ). فاستشاط بيدرو الثاني ملك أراجون لذلك غضباً، وجمع قواته وخرج من منتشون ومعه فرقة من فرسان المعبد (الداوية)، وسار جنوباً نحو أراضي ولاية بلنسية الشمالية وعاث فيها، واستولى على عدة من الحصون الإسلامية في تلك المنطقة (1).
وكان لاستئناف النصارى لغزواتهم المخربة، في أراضي الأندلس، على هذا النحو، أعمق صدى، وكان من الواضح أن الحاميات الموحدية الصغيرة التي ترابط في مختلف القواعد، لم يكن في مقدورها أن تقوم برد الجيوش النصرانية الغازية، ولم يك ثمة مندوحة من أن يعبر أمير المؤمنين بنفسه، في جيوشه الجرارة، إلى شبه الجزيرة ليضطلع بنفسه بجهاد النصارى، على نحو ما فعل أبوه وجده. وقد عبر بالفعل وجوه شرقي الأندلس، على أثر غارات ملك أراجون، إلى العدوة، وقصدوا إلى الناصر، مستغيثين به، متضرعين إليه أن يسعفهم بعبوره، فاهتز
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 234(4/284)
الناصر لهذه الأنباء المزعجة، وخصوصاً لما أبداه ملك قشتالة من الإصرار على خطته العدوانية، بالرغم من احتجاج رسل الناصر إليه، على خرق الهدنة، ومما هو جدير بالذكر أن الناصر كتب إلى الشيخ محمد بن أبي حفص والي إفريقية يستشيره في ذلك الأمر، وفيما يلتويه من استئناف الجهاد والغزو، وأبدى له الشيخ رأيه وجوب التريث ونصح بعدم العبور واستئناف الغزو في تلك الآونة. ولكن الناصر لم يستمع إلى رأيه (1)، وقرر الاستجابة لداعى الجهاد، وأخذ بالفعل في الاستعداد، ونفذت كتبه إلى سائر أنحاء المغرب وإفريقية وبلاد القبلة باستنفار الناس إلى الجهاد، فاستجابت سائر الجهات والقبائل إلى الدعوة، وكتب الناصر في نفس الوقت، إلى ولاة إشبيلية وقرطبة، بوجوب تجديد حشد الجند، وإعداد المؤن، وتمهيد السبل في جميع المناطق (2).
ولما كملت الأهبة، وأقبلت الحشود من سائر الأنحاء، وجهزت بما يلزم من العتاد والسلاح والكسى والمؤن، خرج الناصر في قواته الجرارة من حضرة مراكش في يوم السبت عشرين من شعبان سنة 607 هـ (5 فبراير سنة 1211 م) وسار إلى رباط الفتح، وعسكر في الضاحية المجاورة المسماة ببرج الحمّام، وقضى هنالك نحو شهرين وهو يعمل على استيفاء الأهبة، وتنظيم الشئون، ونفذت كتبه مرة أخرى إلى الأندلس، يطلب إلى ولاتها حث الناس على الجهاد، واتخاذ ما يجب من ضروب الاستعداد، فعكف الولاة على تنفيذ تلك الأوامر، بكل ما وسعوا من غيرة وجهد.
وخرج الناصر في جيوشه من رباط الفتح، في يوم الاثنين الثامن عشر من شوال (4 أبريل سنة 1211 م)، قاصداً إلى قصر كتامة (القصر الصغير)، ونحن نعرف أن هذه المنطقة الممتدة من رباط الفتح شمالا حتى البحر، وهي طريق الجيوش الموحدية إلى الأندلس، كانت مزودة بمراكز هامة لتموين الجيوش المسافرة، سواء في الذهاب والإياب، وأن هذه المراكز كانت تزخر دائماً بالمؤن والعلوفات اللازمة. ولكن الجيوش الموحدية لقيت هذه المرة خلال مسيرها، صعاباً مرهقة في التموين، ونضبت الأقوات، وغلت الأسعار بصورة لم تعهد
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 249.
(2) البيان المغرب، القسم الثالث ص 235 و 236، وابن خلدون ج 6 ص 249، وروض القرطاس ص 154.(4/285)
من قبل، ولحق الجند والناس من جراء ذلك ضيق وشدة. ووقف الناصر على ذلك، فاستشاط غضباً، وأدرك ما هنالك مما يرتكب من ضروب الإهمال والاختلاس، فأمر بمؤاخذة سائر العمال المقصرين ومعاقبتهم، وطلب إلى الشيخ أبي محمد بن أبي علي بن مثنى صاحب الأعمال المخزية والأشغال العملية، بالقبض على عامل فاس، وهو عبد الحق بن أبي داود، فقبض عليه وعلى سائر نوابه من العمال المحليين، واستصفيت أموالهم. وكذلك أمر الناصر، حينما وصل إلى قصر كتامة بالقبض على عامل سبتة محمد بن يحيى المسّوفى، لما بدا من إهماله وفساده، والقبض كذلك على سائر نوابه، وتوجيههم جميعاً مصفدين إلى صاحب الأعمال بفاس (1).
وحشدت السفن من سائر الأنحاء، لعبور الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة، واستمر عبورها بضعة أسابيع، واستمر الناصر مقيماً بالقصر، حتى تم عبور ساقته وأثقاله وحاشيته وحرسه. وركب البحر في يوم الاثنين أول شهر ذي الحجة (15 مايو) ونزل بساحل طريف، وهنالك استقبله قواد الأندلس وفقهاؤهم، وأقام بطريف ثلاثة أيام، ثم سار في جيوشه الجرارة إلى إشبيلية، فوصلها يوم الاثنين منتصف ذي الحجة (آخر مايو) ونزل بقصور البحيرة الواقعة إزاء باب جهور، وتم استقرار الجيوش الموحدية بالحاضرة الأندلسية، وذلك في نهاية سنة 607 هـ (منتصف يونيه سنة 1211 م).
وما كاد الناصر يستقر بإشبيلية حتى أمر باستنفار الحشود الأندلسية، وصنع الآلات الحربية، واستدعاء الجند والغزاة، من سائر الكور، ووصولهم مع العمال والولاة، فلما تم تنفيذ هذه الأوامر، وتم حشد الجند، واستكمال الأمداد من سائر الجهات، وأصبحت الجيوش الموحدية في حالة تعبئة كاملة، شرع الناصر في الحركة، وخرج من إشبيلية في جيوشه من الموحدين والعرب وأهل الأندلس والمطوعة والأغزاز وغيرهم من طوائف الجند، وسار جنوبي الوادي متجهاً نحو قرطبة، ثم سار منها إلى جيّان وبيّاسة، وكان النصارى هم الذين حددوا بتصرفهم، الهدف الذي يقصد إليه الناصر بجيوشه، وهو قلعة شلْبَطَرّة (2)
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 237، وروض القرطاس ص 155.
(2) شلبطرة حسبما يرسمها صاحب الروض المعطار (ص 109) هي بالإسبانية Salvatierra ويرسمها صاحب روض القرطاس (ص 156) وابن خلدون (ج 6 ص 249) سربطرة أو شربطرة. ويرسمها المراكشي (المعجب ص 182) شلب ترة، ويقول إن معناها " الأرض البيضاء " ويتابعه في هذا الرسم النويرى (طبعة ريميرو ج 8 ص 279)(4/286)
التي تقع على مقربة من جنوبي غربي قلعة رباح، بينها وبين جبال الشارات (سييرا مورينا). وكان الخليفة يعقوب المنصور، قد انتزع قاعدة قلعة رباح المنيعة، حسبما تقدم، من أيدي فرسان جمعية قلعة رباح الدينية في سنة 1195 م، عقب هزيمة القشتاليين في معركة الأرك، ونزل أولئك الفرسان في قلعة شلبطرة القريبة منها. وكانت هذه القلعة المنيعة، فضلا هن مضايقتها لقلعة رباح باستمرار، يتخذها النصارى قاعدة لغزواتهم المخربة داخل الأراضي الإسلامية، ومنها سار القشتاليون والفرسان بالفعل للقيام بغاراتهم المخربة في أحواز جيان وبيّاسة وأندوجر قبل ذلك بقليل، في سنة 1209 م. ومن ثم فقد آلى الناصر على نفسه أن يفتتح غزاته بالاستيلاء على تلك القلعة المنيعة.
- 1 -
ويجدر بنا بادىء ذي بدء أن نلم بطرف من أحوال اسبانيا النصرانية في تلك الآونة، التي أخذت فيها طوالع الصراع الحاسم، بين الموحدين والنصارى، تبدو في الأفق مرة أخرى. وذلك أنه حينما وقعت معركة الأرك العظيمة في سنة 591 هـ (1194 م)، لم يكن الوئام سائداً بين الممالك الإسبانية النصرانية، وخاضت قشتالة المعركة وحدها ضد الموحدين. ولم تجد قشتالة بعد هذه الهزيمة الساحقة ضماناً لسلامتها، سوى عقد الهدنة مع الموحدين، وارتضى الخليفة المنصور يومئذ، أن يعقد السلم مع النصارى، بعد أن بلغ غايته من سحق قواهم، وقمع عدوانهم.
وقضت اسبانيا النصرانية منذ معركة الأرك فترة قصيرة من الهدوء والسلام، وعُقد الصلح أخيراً بين قشتالة وليون، وذلك بزواج ألفونسو التاسع ملك ليون بالأميرة برنجيلا إبنة ألفونسو الثامن ملك قشتالة. بيد أن هذا الصلح لم يطل أمده، إذ اضطر ملك ليون أن يطلق هذه الأميرة، بعد ذلك بخمسة أعوام، بناء على تدخل البابا وضغطه المستمر. ومن جهة أخرى فإن شريفاً قشتالياً كبيراً، هو دون ديجو لوبث دي هارو، سيد بسكاية، وهو أخ لزوجة ملك ليون الأولى، دونيا أورّاكا، قد ثار لما لحق بأخته من غبن وإهانة، وارتد في أصحابه إلى أراضي نافارا، وأخذ يغير منها على أراضي قشتالة، نسار ألفونسو الثامن في قواته صوب نافارا، فخشى ملكها سانشو الثامن العاقبة، وقام بإخراج دون ديجو من مملكته، فلجأ دون ديجو إلى بيدرو الثاني ملك أراجون، فنكل عن غوثه، فاضطر أن يلتجىء عندئذ إلى(4/287)
المسلمين في ولاية بلنسية، وأخذ يغير من هنالك في صحبه على أراضي أراجون. وكانت أول نتيجة لهذه الحوادث أن عقدت بين نافارا وقشتالة في سنة 1207 م الهدنة لمدة خمسة أعوام. ثم تدخل ملك قشتالة بعد ذلك، بين زميليه ملك نافارا وملك أراجون، فعقدت بينهما الهدنة، وذلك في سنة 1209 م، وانعقد بذلك نوع من الوئام والتفاهم، بين الممالك الإسبانية النصرانية خلا مملكة ليون.
وكان أجل الهدنة المعقودة بين ألفونسو الثامن وبين الموحدين، وهو سنة 1215 م، يدنو عندئذ من نهايته، وكان ملك قشتالة، بعد أن شعر بنوع من من الطمأنينة والأمل في عون زملائه، يضطرم رغبة في استئناف الحرب ضد الموحدين، فبدأ بالقيام بغاراته المخربة التي أشرنا إليها في منطقة جيّان وبياسة وأندوجر، وذلك خلال سنتى 1209، 1210 م، ولم يحفل باحتجاج رسل الخليفة الموحدي، على هذا الخرق لنصوص الهدنة المعقودة، وكانت قلعة شلبطَرّة، التي يحتلها فرسان قلعة رباح، قاعدة لهذه الغارات الدموية التي ضج لها المسلمون يومئذ. وحذا بيدرو الثاني ملك أراجون حذو زميله ملك قشتالة، فعاث في منطقة بلنسية، انتقاماً لغزو السفن الموحدية لشواطئه، واستولى على عدة من حصون هذه المنطقة، وكان من الواضح أن ملك قشتالة يستطيع أن يعتمد على مؤازرة حليفه ملك أراجون، إذا ما اضطرمت الحرب بينه وبين الموحدين. وكان على رأس البابوية يومئذ حبر يضطرم بروح صليبية عميقة، هو البابا إنوصان الثالث، الذي اعتلى الكرسى الرسولى في سنة 1198 م، وقد سبق أن أشرنا في غير فرصة إلى ما كان يتمتع به الكرسى الرسولى لدى الممالك الإسبانية النصرانية، من مكانة راسخة ونفوذ قوي، وإلى ما كان يعلقه الملوك الإسبان، من أهمية بالغة، على الصفة الصليبية لحروبهم ضد المسلمين، ولاسيما عند اضطرام الحرب الشاملة بين الفريقين، وذلك استدراراً لعطف الأمم النصرانية المجاورة، واستجلابا للمتطوعة والمرتزقة النصارى من سائر الأنحاء. وكان ملك قشتالة حينما اعتزم أن يشهر الحرب على الموحدين، قد بعث جرهارد أسقف شقوبية إلى البابا إنوصان، ليرجوه أن يدعو أمم أوربا النصرانية لمؤازرته، وذلك بتنظيم حملة صليبية ضد المسلمين في اسبانيا، وأرسل كذلك ردريك مطران طليطلة (1) وعدة أخر
_______
(1) هو ردريك الطليطلي صاحب التاريخ المشهور المنسوب إليه المكتوب باللاتينية Anales Toledanes، والمتضمن لتاريخ اسبانيا النصرانية حتى أوائل القرن الثالث عشر. وقد طبع بفرانكفورت =(4/288)
من أكابر الأحبار إلى فرنسا، وإلى الأمم المجاورة، للدعوة إلى قضيته واستثارة حماسة النصارى للعبور إلى اسبانيا، ومؤازرة الجيوش النصرانية في قتالها ضد المسلمين. ونزل البابا عند رغبة ملك قشتالة، وبعث إلى أساقفة جنوب فرنسا في يناير سنة 1212، بأن يعظوا رعاياهم بأن يسيروا بأنفسهم وأموالهم لمؤازرة ملك قشتالة، وأنه أي البابات يمنح من لبى هذه الدعوة الغفران التام. وكان الإنفانت الفتى دون فرناندو ولى عهد قشتالة، وولد ألفونسو الثامن قد توفي عندئذ، فبعث إليه البابا يعزيه عن فقد ولده، وكذلك عن فقد حصن شلبطرّة الذي استولى عليه الموحدون حسبما نفصل بعد، ويعرب عن خوفه بأن الحرب ضد " الألبيين " (1) في جنوب فرنسا قد تحول دون كثرة المتطوعين، وأنه يتمنى له الفوز في جميع الأحوال. بيد أنه يعرب عن نصحه له بأنه إذا استطاع أن يعقد الهدنة مع " أمير المؤمنين " فليفعل، حتى تسنح فرصة أفضل لضمان النصر المنشود.
كانت هذه هي أحوال قشتالة والممالك الإسبانية النصرانية، حينما عبر الناصر في جيوشه الجرارة إلى شبه الجزيرة الأندلسية، في شهر ذي الحجة سنة 607 هـ (مايو 1211 م). ويعلق صاحب روض القرطاس على عبور الخليفة الموحدي بقوله: " واهتزت جميع بلاد الروم بجوازه، ووقع خوفه في قلوب ملوكهم، وأخذوا في تحصين بلادهم، وإخلاء ما قرب من المسلمين من قراهم وحصونهم. وكتب إليه أكثر أمرائهم يسئلون سلامته ويطلبون منه عفوه "، ثم يقدم إلينا قصة غامضة عن مقدم ملك " بيونة " على الخليفة بإشبيلية " مستسلماً خاضعاً مستصغراً، يطلب صلحه، ويسأل منه عفوه وصفحه " وكيف أن الناصر وافق على مهادنته إلى الأبد، وأعطاه تحفاً جليلة (2). ويرجع غموض هذا النص، إلى أن مدنية بيونة، وهي تقع في الطرف الآخر من البرنيه على خليج بسكونية، قرب مملكة نافارا، لم تكن يومئذ داخلة في حظيرة اسبانيا النصرانية، بل كانت من أملاك جون ملك
_______
= سنة 1606 م ضمن سلسلة Hispana Ilustrata ونشر أيضاً مع الطبعة العربية لتاريخ المكين بن العميد المطبوع بلندن سنة 1625 م.
(1) الألبيون Albigences هم فرقة من الملاحدة ظهرت في جنوبي فرنسا في أوائل القرن الحادي عشر، واتخذوا مدينة " ألبي " مركزاً لهم ومنها اشتق اسمهم. وشهروا على الكثلكة ومبادئها ورسومها حرباً شديدة، واستمروا يبثون عقائدهم الإلحادية حتى نظم سيمون دي مونفور في أوائل القرن الثاني عشر عليهم حرباً صليبية انتهت بتمزيقهم.
(2) روض القرطاس ص 155 و 156(4/289)
انجلترا (ولد هنري الثاني)، وذلك بالوراثة عن أمه دوقة أكوتين. وقد ترتب على ذلك أن بعض الباحثين، رأو، بالاستناد في نفس الوقت إلى مؤرخ إنجليزي عاش في القرن الثالث عشر، أن صاحب روض القرطاس، يشير بذلك إلى سفارة وردت إلى محمد الناصر من قبل ملك انجلترا يومئذ، وهو الملك جون. ولكنا نلاحظ أولا أن صاحب روض القرطاس يتحدث عن مقدم " ملك بيونة " بنفسه، وليس عن مقدم سفيره، ومن جهة أخرى فإن كلمة " بيونة " هذه التي وردت في طبعة تورنبرج التي نعتمد عليها قد وردت مكانها كلمة " بنبلونة " في النص الذي نقله السلاوي (عن روض القرطاس) (1). ومعنى ذلك أن الذي ورد على الناصر، أثناء مقامه بإشبيلية هو ملك نافارا (نبرّة)، وهو حدث مفهوم معقول، يتفق مع ما سبق عقده من علائق المودة والتحالف بين سانشو السابع ملك نافارا الملقب " بالقوى " وبين البلاط الموحدي. وتسجل لنا التواريخ النصرانية نفسها أن سانشو السابع، كان قبل ذلك ببضعة أعوام، حينما شعر بالخطر يتهدد مملكته من جراء تحالف جاريه ملكى قشتالة وأراجون ضده، قد عبر البحر إلى المغرب ملتجئاً إلى عون الخليفة الموحدي، وذلك في سنة 1199 م، وأنه قد أقام بمراكش في ضيافة الخليفة الناصر، زهاء عامين، توطدت فيهما الصداقة والتحالف بين الملكين (2). يضاف إلى ما تقدم أن الألفاظ التي صيغ بها نص روض القرطاس، والقصة كلها التي يوردها عن كيفية استقبال الناصر للملك المذكور، لا يمكن أن تنصرف إلى أية سفارة واردة من خارج شبه الجزيرة الإسبانية.
وإذاً فمن المرجح المعقول أن يكون ملك نافارا حليف الموحدين القديم هو الذي ورد على الناصر، وهو ملك " بنبلونة ". وهناك دليل آخر يؤيد هذا الرأي، وهو ما ورد في كتاب الناصر عن موقعة العقاب من إشارته إلى صاحب نبرّة ونكثه بحلفه وكونه " كان متعلقاً من الموحدين بزمام، وسخط عليه صاحب رومة إن لم يكن لقومه معسكراً، ولسواد أهل ملته مكثراً، فلحق بتلك الجموع مرهجاً " (3)، ويقول لنا ابن خلدون إن الذي ورد على الناصر في تلك المناسبة، هو ملك ليون المعروف " بالبيبوج "، قدم عليه عام العقاب " فداخله، وأظهر له
_______
(1) الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى ج 1 ص 192.
(2) M. Lafuente: Historia General de Espana, T. III, p. 345 - 346.
(3) البيان المغرب القسم الثالث ص 241(4/290)
التنصيح، فبذل له أموالا ثم غدر به " (1). ونستطيع أن نلاحظ أخيراً أنه لم تكن ثمة أية علاقات سياسية ومصلحية، بين الموحدين وبين ملك انجلترا، تستدعى أن يأتى ملك انجلترا بنفسه إلى الخليفة الموحدي: " مستسلماً خاضعاً مستصغراً " وليس من الممكن أن ينسب مثل هذا التصرف إلا إلى ملك من ملوك اسبانيا النصرانية (2).
وخرج الناصر في جيوشه من إشبيلية، حسبما تقدم في الأيام الأولى من سنة 608 هـ (أواخر يوليه 1211 م) متجهاً إلى جيان، فأبدّة وبيّاسة، ثم سار شمالا نحو قلعة شلبَطَرّة. وكانت هذه القلعة تقح على ربوة عالية على مقربة من جبل الشارات، وكانت من أكبر وأمنع قلاع تلك الناحية. ويبدو من أقوال صاحب روض القرطاس، أن الناصر كان يقصد السير توًّا إلى غزو قشتالة، ولكن وزيره أبا سعيد بن جامع، أقنعه بوجوب الاستيلاء أولا على قلعة شلبطرة، نظراً لمناعتها الفائقة، وأهمية موقعها (3). بيد أنه يبدو من الروايات الأخرى أن غزو أراضي قشتالة، لم يكن قد تقرر لدى الخليفة بعد، وأنه كان يقصد الاستيلاء على شلبطرّة بأدىء ذي بدء. ويؤيد ذلك ما ورد في كتاب الفتح الخاص بشلبطرة على لسان الخليفة، بأنه وإن كان صاحب قشتالة أقرب من تعينت حربه داراً، فإن فصل الغزو، كان قد ذهب جُله، واستحالت الأرض من جراء الأمطار الغزيرة إلى غدور وأوحال، تحول دون مسير الخيل، وذهبت معظم الجسور، وأنه قصد إلى معقل شلبطرة لقيامه في قلب الإسلام، وكون النصرانية قد جعلته جناحاً لكل غاية، تخدمه ملوكها ورهبانها، وتتخذ منه عاصماً يعصمها (4). وعلى أي حال فقد طوق الموحدون قلعة شلبطرة، بعد أن استولوا على أرباضها، وقتلوا بها من النصارى أربعمائة، وأضرموا النيران فيها، واستولوا على حصن آخر قريب منها تسميه الرواية " بحصن الّلج " ثم نصبوا حولها أربعين قطعة من المجانيق الهائلة، وضربوها بالحجارة الضخمة، ورموها
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 183.
(2) روض القرطاس ص 155 و 156.
(3) روض القرطاس ص 156 و 157.
(4) البيان المغرب - القسم الثالث ص 239، وراجع أيضاً المعجب ص 182، وتضع بعض الروايات النصرانية سقوط القلعة في أيدي الموحدين في شهر سبتمبر سنة 1210 راجع:
La Orden de Calatrava (Ciudad Real 1959) (p. 18)(4/291)
بالنبال والسهام الممطرة، حتى اضطر النصارى إلى تسليم القلعة ومغادرتها. وقد استمر الحصار وفقاً لرواية صاحب الروض المعطار واحداً وخمسين يوماً. وكانت حامية القلعة، وفقاً للرواية المذكورة، حينما اشتد بها البلاء من جراء الضرب المروع المتواصل، وتساقط الحجارة الهائلة، قد طالبوا من الموحدين أجلا يتصلون فيه بملكهم ألفونسو الثامن ليستأذنوه في تسليم القلعة، إذا لم يستطع إنجادهم، وكان ألفونسو الثامن عندئذ بجوار طلبيرة يجد في أهباته، فاتصل به رسلهم، واضطر أن يوافق على تسليم القلعة لعجزه عن إمدادهم، ولأنه لم يكن قد استكمل أهباته بعد. فعادوا وسلمت شلبطرة للموحدين، فدخلوها وحولوا كنيستها في الحال مسجداً، ووفى الخليفة بوعده في ترك الحامية النصرانية تعود إلى بلادها، وكان ذلك في أوائل ربيع الأول سنة 608 هـ (أواخر أغسطس سنة 1211 م) (1). ويقول صاحب روض القرطاس إن الحصار قد طال بالعكس ثمانية أشهر، واستمر بذلك حتى دخل الشتاء واشتد البرد، وقلت المؤن وكلت عزائم الجند، وفسدت نياتهم التي قصدوا بها للجهاد، ونضبت المواد من الحملة، وأن ملك قشتالة لما وقف على ذلك وعلم أن شوكة المسلمين قد انكسرت، والحدة التي قاموا بها قد خمدت، تأهب لأخذ الثأر، وجاءته ملوك الروم وهم في غاية الاستعداد، ثم جاء ألفرنسو بقواته وهاجم قلعة رباح واستولى عليها. ويضع تاريخ تسليم شلبطرة في أواخر ذي الحجة سنة 608 هـ، ثم يقول لنا إن ملك قشتالة، لما وقف على سقوط القلعة، سار وسائر من كان معه من ملوك الروم، وحشودهم والتقى بالموحدين في موضع يسمى " حصن العقبان " (2). بيد أن هذه الرواية التي يستخلص منها أن سقوط شلبطرة في أيدي الموحدين، وسقوط قلعة رباح في أيدي القشتاليين، ثم نشوب معركة العقاب بين الفريقين، قد حدثت كلها متتابعة في حلقة واحدة، ينقضها أولا كتاب الفتح الصادر عن الخليفة ذاته بفتح شلبطرة، وهو مؤرخ في الثاني من شهر ربيع الآخر سنة 608 هـ، ولابد أنه كتب بعد سقوط القلعة بأيام قلائل (3)، ثم تنقضها أكثر من رواية وثيقة. فصاحب الروض المعطار يقول لنا، إن الناصر بعد افتتاح شلبطرة " رجع إلى إشبيلية ظافراً غانماً، ثم استغاث الأذفونش
_______
(1) الروض المعطار ص 110.
(2) روض القرطاس ص 158، والبيان المغرب القسم الثالث ص 238.
(3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 238(4/292)
بأهل ملته وحثهم على حماية دينهم، فاستجابوا، وانثالوا عليه من كل مكان ". ويقول لنا المراكشي وهو مؤرخ معاصر، إنه بعد رجوع أمير المؤمنين أبي عبد الله من هذا الفتح المتقدم الذكر (أعني فتح شلبطرة) إلى إشبيلية، استنفر الناس من أقاصى البلاد، فاجتمعت له جموع كثيفة (1). وإذن فمن الواضح أن غزوة شلبطرة كانت غزوة مستقلة، اقتصرت على فتح هذه القلعة المنيعة، وأن القوات الموحدية التي قامت بفتحها، لم تكن هي تلك الجيوش الجرارة التي عادت بعد ذلك بأشهر، لتلتقى مع الجيوش النصرانية في " مرتفعات " العقاب، وأن الموحدين والنصارى، قد انتفع كلاهما، بتلك الفترة لمضاعفة الأهبة والاستعداد.
ففي الوقت الذي حل فيه الناصر بإشبيلية، بعد عوده من غزوة شلبطرة، كان ملك قشتالة، يبذل أقصى جهوده في استكمال أهباته لمقاتلة الموحدين. ولم تكن هذه الأهبة تقتصر على قشتالة وحلفائها من ملوك اسبانيا النصرانية، ولكنها كانت تمتد بعيداً إلى ما وراء ذلك. وقد سبق أن أشرنا إلى مسعى ملك قشتالة لدى البابا، ليسبغ الصفة الصليبية على محاربته للمسلمين، وأن البابا قد استجاب إلى رغبته، وكتب إلى الأساقفة بدعوة النصارى في جنوبي فرنسا وغيرها إلى التطوع لمقاتلة المسلمين، وكان سقوط شلبطرة وهي مركز فرسان قلعة رباح في أيدي الموحدين على النحو المتقدم، نذيراً جديداً بتفاقم الخطر على مصاير اسبانيا النصرانية، وبتأكيد هذه الصفة الصليبية (2). وكان المطران المؤرخ ردريك الطليطلى، وعدة من أكابر الأحبار عندئذ يجوبون جنوبي فرنسا لجمع المتطوعين. واستمرت هذه الجهود الصليبية تبذل خلال عام 1211 م، وكانت الوفود المتطوعة تأتى تباعاً إلى طليطلة، التي تقرر أن تكون مكاناً لاجتماع الجيوش، والوفود المختلفة. وفي أوائل سنة 1212 م، عاد المطران ردريك ومعه جمهرة كبيرة من المتطوعة الفرنسيين، ثم اجتمعت بعد ذلك وفود المدن الإسبانية، وفرسان الولايات القشتالية المختلفة، وفرسان الجمعيات الدينية، وهم فرسان قلعة رباح، وشنت ياقب، والأسبتارية، والداوية (فرسان المعبد)، واجتمع كذلك سائر القوامس والفرسان القشتاليين، وفي مقدمتهم رؤساء أسرة لارا وفرسانها، والكونت ديجو لوبيث، ولوبى دياث دي هارو، ومن معهم من الفرسان. وكان
_______
(1) الروض المعطار ص 137، والمعجب ص 182.
(2) La Orden de Calatrava ; p. 18(4/293)
يرأس فرسان قلعة رباح جوميث راميريس، وفرسان شنت ياقب بيدرو آرياس، ويرأس فرسان الأسبتارية ولد جوتيرو هرمنجلد، وكان الأساقفة يرأسون صفوف المحاربين من مختلف المدن، ويتولون الإنفاق على حشودهم. وقدم فوق ذلك عدة من أحبار فرنسا يقود كل منهم جماعة من المحاربين، وفي مقدمتهم مطران أربونة وأسقفا بوردو ونانت وغيرهم من أكابر رجال الدين.
ولم يأت شهر مايو سنة 1212 م، حتى اجتمع في قشتالة من المحاربين الصليبيين الذين هرعوا من جميع أنحاء أوربا لمعاونة اسبانيا النصرانية، زهاء ألفين من البارونات مع حاشياتهم، وعشرة آلاف من الفرسان والمقاتلة، وخمسين ألفاً من الرّجالة، أو بعبارة أخرى اجتمع من هذه الوفود الصليبية المختلفة جيش ضخم يبلغ زهاء سبعين ألف مقاتل، لمؤازرة الجيوش الإسبانية النصرانية، وكانت تتألف من جيوش قشتالة وأراجون ونافارا، ومن أمداد من جليقية والبرتغال. وتلقى ملك قشتالة، فوق ذلك، مقادير عظيمة من الأموال والسلاح، والمؤن، أرسلت إليه من أنحاء فرنسا وإيطاليا. ولم يأت شهر يونيه سنة 1212 م، حتى بلغ عدد الجيوش الوافدة على قشتالة أكثر من عشرة آلاف فارس، ومائة ألف من الرجالة. وأمر البابا إنوصان الثالث في رومه بالصوم ثلاثة أيام، التماساً لانتصار الجيوش النصرانية في اسبانيا على المسلمين، وأقيمت الصلوات العامة. وعمد رجال الدين والرهبان والراهبات إلى ارتداء السواد والسير حفاة، وسارت المواكب الدينية في الطرقات خاضعة متمهلة، من كنيسة إلى أخرى، وألقى البابا بنفسه موعظة صليبية، طلب فيها إلى النصارى أن يضرعوا إلى الله التماساً لنصر الإسبانيين (1).
وتشير الرواية الإسلامية إلى هذه الاستعدادات الضخمة كلها، وإلى ما سعى إليه ملك قشتالة من صبغ محاربته للموحدين بالصبغة الصليبية. وكان المراكشي أكثرهم إلماماً بذلك، إذ يقول: " وخرج الأدفنش لعنه الله إلى قاصية بلاد الروم، مستنفراً من أجابه من عظماء الروم وفرسانهم وذوى النجدة منهم، فاجتمعت له جموع عظيمة من الجزيرة نفسها ومن ألمان، حتى بلغ نفيره إلى القسطنطينية، وجاء معه صاحب بلاد أرغن المعروف بالبرشنونى لعنه الله " (2). ويقول صاحب
_______
(1) تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (الترجمة العربية ص 358 - 360).
(2) المعجب ص 182(4/294)
البيان المغرب " فاستعد له (أي للقاء الناصر) وجمع أهل قشتالة أجمعين وغيرهم من سائر جموع ملوك النصرانية الذين هم للجزيرة مكتنفين " (1). ويقول أيضاً صاحب الروض المعطار " ثم استغاث الأذفونش بأهل ملته وحثهم على حماية دينهم، فاستجابوا له وانثالوا عليه من كل مكان " (2). وأبلغ من ذلك ما ورد في كتاب الخليفة الناصر ذاته عن موقعة العقاب إذ يقول " إن صاحب قشتالة رأى أن يضرع لملوك أهل ملته، ويصانعهم على معونته بالتالد والطريف. . فبث القسيسين والرهبان من برتقال إلى القسطنطينية العظمى. . فجاءه عباد الصليب من كل فج عميق ومكان سحيق. . وكان أولهم سبقاً الإفرنج المتوغلون في الشرق والشمال " (3) فهذه الفقرات الموجزة تدل دلالة واضحة، على أن الموحدين كانوا يعلمون بحقيقة الوسائل والاستعدادات البعيدة المدى، التي لجأ إليها ألفونسو الثامن ليقود إلى ميدان الحرب أكبر قوة نصرانية يمكن حشدها، وليسبغ صبغة الحرب المقدسة على المعركة التي يضطلع بها، مثلما كان المسلمون يسبغون صفة الجهاد في سبيل الله، على المعارك التي يخوضونها ضد النصارى.
وكان الموحدون من جانبهم يقومون بمثل هذه الاستعدادات، وقد استنفر الناصر عقب عوده من غزوة شلبطرة إلى إشبيلية، الناس من سائر الجهات، ليضاعف حشوده، وليدعم جيوشه، فاجتمعت له قوات جديدة كثيفة، وكان من الواضح أن الفريقين يرى كل منهما أن أجل اللقاء الحاسم يدنو بسرعة، ففي يوم 20 يونيه سنة 1212 م، خرجت الجيوش النصرانية، من طليطلة قاصدة إلى الجنوب. وكانت مقسمة إلى ثلاثة جيوش رئيسية، جيش الطليعة ويتألف من قوات الوافدين، وقد قدرته بعض الروايات بستين ألف مقاتل، وقدره البعض الآخر بمائة ألف، وكان يقوده القائد القشتالي ديجو لوبيث دي هارو يعاونه عدد من أكابر الأحبار والقوامس. ويتألف الجيش الثاني من قوات أراجون وقطلونية وفرسان الداوية، ويقوده بيدور الثاني ملك أراجون. ويتألف الجيش الثالث، وهو جيش المؤخرة من قوات قشتالة وليون والبرتغال، وفرسان قلعة رباح وشنت ياقب والأسبتارية، ويقوده ألفونسو الثامن ملث قشتالة، يعاونه
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 240.
(2) الروض المعطار ص 137.
(3) البيان المغرب ص 241(4/295)
عدة قواد من الأحبار والسادة، وفي مقدمتهم ردريك مطران طليطلة، وتقدر الرواية عدد الفرسان في هذه الجيوش بثلاثين ألفاً، وذلك غير المشاة.
وخرج الناصر في جيوشه من إشبيلية في العشرين من محرم سنة 609 هـ (23 يونيه سنة 1212 م) متجهاً صوب جيان، وقاصداً لقاء النصارى. وكانت الجيوش النصرانية تسير في نفس الوقت نحو الأراضي الإسلامية، فوصلت طلائعها في اليوم الرابع والعشرين من يونيه، إلى حصن مَلَجون، وهو من حصون الحدود الإسلامية، فاستولت عليه، وقتلت حاميته الإسلامية الصغيرة، ثم استمرت الجيوش النصرانية في سيرها صوب قلعة رباح أكبر وأمنع القواعد الإسلامية في تلك المنطقة. وكان الخليفة المنصور قد انتزعها عقب موقعة الأرك من فرسان قلعة رباح حسبما تقدم وحول كنيسها إلى مسجد، وعين لقيادتها أبا الحجاج يوسف بن قادس، وهو من أنجاد الفرسان والقادة الأندلسيين، وكان يسهر على حمايتها، والدفاع عنها، من ذلك التاريخ، وكان لديه وقت مقدم النصارى حامية من سبعين فارساً (1). ولقى النصارى في عبور نهر وادي يانه الذي تقع قلعة رباح على مقربة من ضفته الجنوبية صعاباً، إذ كان المسلمون قد نثروا على جانبيه الصنانير والخوازيق الحديدية، فلما عبروا النهر، طوقوا القلعة في الحال، ولكن القلعة كانت فضلا عن مناعتها الطبيعية بوقوعها جنوبي النهر، تتمتع بأسوار وأبراج في منتهى المناعة، ومن ثم فقد تردد النصارى في مهاجمتها بادىء ذي بدء، ولبثوا تحت أسوارها ثلاثة أيام يبحثون فيما إذا كان من الأفضل الاكتفاء بتطويق القلعة، وترك افتتاحها لما بعد وقوع النصر، ولكن غلب الرأي في النهاية بوجوب مهاجمتها، فهوجمت بشدة في يوم 30 يونيه، واستطاع النصارى أن يحتلوا قسمها الخارجي الذي يحاذى النهر، وهو أضعف قسميها من حيث المناعة. وهنا تتفق الروايتان النصرانية والإسلامية، فيما تلا من تفاهم المسلمين والنصارى على تسليم القلعة، ومنح الأمان لحاميتها، وتركهم أحراراً في مغادرتها إلى بلادهم، وذلك على نحو ما حدث في شلبطرّة بالنسبة لحاميتها النصرانية. وكان ابن قادس قد انتهى إلى هذا الرأي، بعد أن حاول الاستنجاد عبثاً بالناصر، وهو بمحلته القريبة، وبعد أن أيقن بعبث الدفاع، وتعريض رجاله لموت محقق، إذا هو أصر على القتال. وكان ألفونسو ملك قشتالة، يؤيد هذا الحل السلمى الذي يمكنه
_______
(1) روض القرطاس ص 157(4/296)
من الاستيلاء على قلعة رباح دون تأخير ودون سفك دماء. ولكن حلفاءه من الأرجونيين والأجانب الوافدين، عارضوا في أية تسوية تحقن بها دماء الحامية الإسلامية. ولكن غلب الرأي بقبول هذا الحل في النهاية، خصوصاً، وقد صمم ابن قادس على الدفاع، إذا لم يجب إلى ما طلب من منح الأمان والحرية لرجاله. واتُّفق على أن يغادر الفرسان المسلمون القلعة دون سلاح، ومعهم خمسة وثلاثون من الخيل. وهكذا استولى ألفونسو الثامن على قلعة رباح، وسلمها في الحال إلى فرسان قلعة رباح، أصحابها السابقين، قبل أن يفتحها الخليفة المنصور (1).
وكان افتتاح قلعة رباح مثار التنابذ والخلاف بين القشتاليين وحلفائهم الوافدين. ذلك لأن الوافدين الصليبيين، رأوا في إفلات المسلمين من القلعة أحراراً أحياء، عملا لا مبرر له، ولا يتفق مع أغراض الحرب الصليبية، وثانياً لأن ألفونسو وجد في قلعة رباح مقادير وافرة من المؤن قسمها بالتساوى بين الجند الوافدين وزملائهم المحاربين الأصليين، ولكن سرت الإشاعة بين الجند الوافدين، أن ملك قشتالة، قد عثر بالقلعة على تحف وذخائر كثيرة استأثر بها لنفسه. ومن ثم فقد أبدت طوائف كثيرة من الجند الوافدين تبرمها وسخطها، واحتج كثير منهم بأنهم لا يحتملون جو اسبانيا الحار، وأنهم وفوا بعهودهم في مقاتلة المسلمين في ملجون وقلعة رباح، وأبدوا عزمهم على الرجوع إلى بلادهم، وأيدهم في ذلك مطران بوردو أعظم أحبارهم، ولم تنجح جهود ملك قشتالة وزملائه الإسبان، في إقناعهم بالعدول عن قرارهم، وغادرت معظم الطوائف الوافدة المعسكر القشتالي، ولم يبق منهم سوى أرنولد أسقف أربونة في رجاله، والكونت تيوبالد بلاسكون وهو قشتالى المنبت، وكانت عدة رجالهم مائة وثلاثون فارساً، وبلغ من غادر المعسكر القشتالي على هذا النحو زهاء خمسين ألف مقاتل، اخترقوا قشتالة، صوب جبال البرنيه عائدين إلى بلادهم، وقد أغلقت سائر المدن الإسبانية أبوابها في وجوههم خوفاً من اعتدائهم وعيثهم (2).
_______
(1) المعجب ص 183، وروض القرطاس ص 157. وراجع أيضاً رواية أسقف أربونة، وكان مشتركاً في الموقعة، وقد أوردها Huici Miranda: Las Grandes Batallas de la Reconquista (Madrid 1956) p. 242, 244 & 245، وكذلك أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين " الترجمة العربية " ص 361 و 362.
(2) أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين الترجمة العربية ص 362 و 363. وراجع أيضاً رواية أسقف أربونة H. Miranda: ibid ; p. 245(4/297)
وإنه لما يلفت النظر أن الرواية الإسلامية، لم يفتها أن تشير إلى هذا الشقاق الذي وقع في المعسكر النصراني، على أثر افتتاح قلعة رباح، فنرى المراكشي يقول مشيراً إلى افتتاح القلعة " فسلمها إليه المسلمون الذين بها بعد أن أمنهم على أنفسهم، فرجع عن الأدفنش لعنه الله بهذا السبب من الروم جموع كثيرة، حين منعهم من قتل المسلمين الذين كانوا بالقلعة المذكورة، وقالوا إنما جئت لتفتتح بنا البلاد، وتمنعنا من الغزو وقتل المسلمين، ما لنا في صحبتك من حاجة على هذا الوجه " (1).
- 2 -
وفي ذلك الحين كان الناصر قد وصل في جيوشه الجرارة إلى جيان، وهنالك استقر بظاهرها أياماً، منتظراً عبور النهر، ووقف على ما وقع من أحداث على الحدود، من سقوط قلعة رباح في يد العدو، وما حدث على أثر ذلك في المعسكر النصراني من الشقاق، وما عمدت إليه طوائف الجند الوافدين من العود إلى بلادها. وقدم ابن قادس قائد قلعة رباح عندئذ، إلى المحلة الموحدية، مع صهره ونفر من أصحابه، ليقص أمره على الخليفة، فمنعه الوزير أبو سعيد بن جامع من ذلك، وصوّر موقفه للخليفة أسوأ تصوير، واتهمه بالخيانة وتسليم القلعة للنصارى، فأمر الناصر بإعدامه هو وصهره، دون أن يستمع إليه، أو يستوضح أمره، فأعدما طعناً بالرماح، وكان لمصرع هذا القائد الأندلسي الباسل على هذا النحو، وقع عميق بين مواطنيه الجند الأندلسيين، ولما شعر الوزير ابن جامع بما حدث من تغير نفوس الأندلسيين، استدعى قادتهم، وطلب إليهم أن يعتزلوا جيش الموحدين، وأنه لا حاجة للموحدين بهم. وكانت هذه إحدى البوادر المقلقة في المعسكر الموحدي (2).
وكان لسقوط قلعة رباح في أيدي النصارى أسوأ وقع في نفس الخليفة الناصر، وكان ألفونسو الثامن عقب استيلائه على القلعة، قد استطاع أن يتغلب بسرعة على ما حدث في المعسكر النصراني، من جراء ذلك من خلل، بسبب رحيل بعض طوائف المحاربين الوافدين، وأن ينظم ما تبقى من قواته المكونة من قوات قشتالة وأراجون وجليقية والبرتغال. وكان ملك نافارا، قد ارتضى
_______
(1) المعجب 183.
(2) روض القرطاس ص 158، والروض المعطار ص 137(4/298)
خريطة: مواقع موقعة العقاب سنة 609 هـ - 1212 م(4/299)
أخيراً بالرغم من خصومته القديمة لقشتالة، ومهادنته للموحدين، أن يشترك في تلك الحملة الصليبية بقوة صغيرة من الفرسان، وذلك نزولا على نصح البابا وإلحاحه (1)، وهكذا استأنفت القوات النصرانية المتحدة سيرها إلى الجنوب نحو الأراضي الإسلامية، ومرت بشلبطرة دون أن تتعرض لها، حتى أشرفت طلائعها على مرتفعات جبال الشارات (سييرا مورينا)، ثم لحقت بها سائر القوات الأخرى، واحتلت البسيط العلوى المقفر المسمى ممر مورادال، وذلك في يوم 13 يوليه (العاشر من صفر سنة 609 هـ).
وفي خلال ذلك كان الخليفة الناصر، قد تحرك في جيوشه الجرارة نحو الشمال لملاقاة العدو، وكانت الجيوش الموحدية، قد قسمت كالعادة إلى وحداتها العنصرية والقبلية، فكانت خمسة أقسام، يتكون القسم الأول من طوائف العرب، ويتكون القسم الثاني من القبائل المغربية مثل صنهاجة وزناتة والمصامدة وغمارة وغيرها، والقسم الثالث من الجنود المتطوعة، والقسم الرابع من جند الموحدين النظامية، والقسم الخامس من جنود الأندلس. أما عن عدد الجيوش الموحدية التي كان يقودها الناصر، فقد بولغ في شأنه مبالغة كبيرة. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن الناصر قد خرج في جيوش لا تحصى وأمم كالجراد المنتشر، قد ملأت السهل والوعر، وضاق بهم المتسع والنجد والغور. ثم يقدم إلينا في موضع آخر أرقام الجيوش الموحدية مفصلة، فيقول إن عدد المتطوعة بلغ مائة وستين ألفاً بين فارس وراجل، وبلغ عدد الرجال المحشودين ثلاثمائة ألف راجل، وبلغ عدد العبيد الذين يمشون بين يدي الخليفة بالحراب ويدورون حوله ثلاثون ألف عبد، ومن الرماة والأغزاز (الغز) عشرة آلاف. وذلك كله دون المرتزقة من الموحدين وزناتة والعرب وغيرهم. ومعنى ذلك أن الجيوش الموحدية بلغت مجتمعة نصف مليون مقاتل غير المرتزقة (2). وفي رواية أخرى لا تقل مبالغة وإغراقاً أن الجيوش الموحدية كانت تضم ستمائة ألف مقاتل (3)، وهذا تقدير لا يمكن أن يسيغه العقل، إذ كان من المستحيل مادياً أن يكفل تموين مثل هذا الجيش، وخصوصاً في مثل هذه المنطقة الوعرة التي كان يخترقها الجيش الموحدي للقاء
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 241.
(2) روض القرطاس ص 155 و 159 و 160.
(3) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 538، ونقله السلاوي في الإستقصاء ج 1 ص 191(4/300)
أعدائه. ونحن نعرف أن مسألة التموين بالذات كانت من أعقد مشاكل الجيش الموحدي، وكانت تسبب له دائماً أزمات ومتاعب عديدة. ونحن نعتقد أننا لو قدرنا الجيش الموحدي بمختلف وحداته بمائتي ألف مقاتل، لكنا أقرب كثيراً إلى الحقيقة والمعقول.
واخترقت الجيوش الموحدية نهر الوادي الكبير، واتجهت صوب بياسة، وكانت قد تخلفت أياماً عن عبوره لارتفاع مائه، ثم عبرته حين نضب الماء، واحتلت سريات من خيرة أنجادها ممرات جبل الشارات المؤدية إلى بياسة وأبدة، ومنها ممر " لوسا " الوعر، الذي تستطيع قوة صغيرة باحتلاله أن تمنع جيشاً كبيراً من جوازه، ثم نزلت الجيوش الموحدية في البسيط الواقع تجاه هذا الممر وهو يقع اليوم أمام الطرف الغربي لقرية سانتا إيلينا Sta. Elena وتسميه رسالة الغزو الرسمية " بالمرشة ".
واعتزم الخليفة الناصر أن يصمد في هذا المكان للقاء النصارى. وكان الناصر يعتمد على ما بلغه من حوادث الانشقاق في الجيوش النصرانية، وما تلقاه من متاعب التموين، لانتهاز الفرصة في لقائها، وهي متعبة، فاترة الهمم. ويبدو من أقوال سائر الروايات الإسلامية، أن الناصركان واثقاً من النصر، معتزا غاية الاعتزاز بضخامة حشوده، وتفوقه العددي.
ولابد لنا قبل أن نعرض إلى تحركات الجيشين المتحاربين، أن نحاول أن نرسم للقارئ صورة واضحة من أوضاع هذه المعركة الشهيرة، والأمكنة التي وقعت فيها. ذلك أن دراسة ميدان معركة العقاب، وخواصه الطبوغرافية، مما يساعد على إيضاح كثير من الروايات التي وردت بشأن المعركة، وقد كان من حسن الطالع أن أتيح لنا أن نقوم بهذه الدراسة الشاقة، وأن نتجول في هضاب جبال سييرا مورينا (جبال الشارات) وأن نصعد إلى قممها الشاهقة، وأن نشهد الأمكنة التي اجتازتها وعسكرت فيها الجيوش النصرانية، وأن ندرس طبيعة المكان الذي كان يحتله الجيش الموحدي في أسفل الجبال.
ويجب أن نذكر أولا أن المعركة تعرف في التواريخ النصرانية، بمعركة نافاس دي تولوسا Navas de Tolosa ، وهذا الاسم ما زال يطلق حتى اليوم على محلة أو ضيعة صغيرة، تقع في سفح جبال الشارات على مقربة من شمال شرقي بلدة " لاكارولينا " الواقعة على الطريق الكبير الممتد من مدريد جنوبا إلى الأندلس(4/301)
بيد أن هذا الاسم القديم الذي يعنى " هضاب تولوسا " أو" عقاب تولوسا " قد فقد مدلوله القديم، وتدل سائر المعلومات والوثائق التاريخية، وكذلك البحوث الحديثة، على أن المعركة لم تقع في هذا المكان الذي أطلق اسمه عليها، بل وقعت شمالي هذا المكان بنحو عشرة كيلومترات، في الهضاب والبسائط، الواقعة غربي قرية " سانتا إيلينا " فيما بينها وبين قرية " ميرانده دل رى " وفي أسفل الأكمة المسماة " مائدة الملك " Mesa del Rey التي سوف نذكرها فيما بعد، وذلك حسبما يوضح لنا الرسم التخطيطى، الذي نقدمه نتيجة لدراستنا لمعالم الموقعة. ونستطيع من جهة أخرى أن نقدم دليلا على صحة هذا التحديد الطبوغرافى لميدان الموقعة، ما يعثر عليه الباحثون في هذا المكان، من آن لآخر، من السهام الموحدية الأرضية التي كانت تنصب للخيل، وقد عثرنا نحن على خمسة منها بالحفر بأنفسنا في هذه الساحة، وهي التي نقدم صورتها بعد.
حصن العقاب
وجبال الشّارات، التي لبثت عصوراً تفصل بين الأندلس، وإسبانيا النصرانية، في هذه البقعة، عبارة عن عدة متعاقبة من الجبال السوداء العالية، تفصلها هضاب وعرة أو بعض السهول المتدرجة. وقد بدأنا بعد رحلة شاقة في أعماق الجبال، استغرقت بضع ساعات، بالصعود إلى موقع الحصن، الذي يسمى بالإسبانية حصن كسترو فرال Castro Ferral ويسميه صاحب روض القرطاس، حسبما يأتي بعد، بحصن العقاب أو حصن العقبان. وهو يقع فوق قمة أحد الجبال في الصف الثالث أو الرابع تجاه بلدة سانتا إيلينا. وهو يحتل أعلى قمة في الجبل، ويقع شمال غربي سانتا إيلينا، إلى يسار المنحدر الجبلي الشهير المسمى دسبنيابروس Despenaperros ( أو منحدر الكلاب). ولم تبق اليوم من هذا الحصن سوى أطلال دارسة هي عبارة عن بقايا جدارين عاليين متواليين. ويبلغ ارتفاع الجدار الأول نحو ثمانية أمتار، وبه ثغرة كبيرة في وسطه. ويبلغ ارتفاع الجدار الثاني نحو عشرة أمتار، وهو يليه ويبعد عنه نحو خمسة أمتار. وتوجد كذلك بقية جدار جانبى إلى يمين الداخل، طولها نحو عشرة أمتار وارتفاعها نحو ستة، وفيه ثغرتان من أسفل، ومساحة هذا الطلل كلها تبلغ نحو عشرين متراً في خمسة عشر. ومازالت أسس الجدران ظاهرة في أرض المكان(4/302)
صورة:
أطلال حصن العقاب كما تبدو عن بعد فوق الجبال.
صورة:
الجدار الأوسط لأطلال حصن العقاب.
صورة:
الواجهة الخلفية لأطلال حصن العقاب.(4/303)
الطريق الرومانى والنهر
وإنه لمما يسترعى النظر في أعماق هذه الجبال الوعرة، هو طريق عبورها، سواء من الشمال إلى الجنوب أو من الجنوب أعني من الأندلس إلى الشمال (أراضي قشتالة). وقد تتبعنا هذا الطريق المسمى "كارثادا " Carzada ، وهو الطريق الرومانى القديم، وهو يوجد وراء الجبال في المنحدرات النازلة نحو النهر الصغير الذي يقع في سهل خفيض في أسفل الجبل ويسمى نهر مجانيا Magana وهو عبارة عن فرع صغير من نهر وادي لين المتفرع من نهر الوادي الكبير، وكان الطريق الهابط يستمر حتى النهر، ثم بعد عبوره، يعود فيصعد الصف الثاني من الجبال نحو الشمال. أما النهر ذاته فهو يقع خلف الصف الأول، وأسفل الصف الثاني من الجبال، وهو نهر صغير لا يزيد عرضه عن خمسة عشر متراً، وقد رأينا به قليلا من الماء. وكان المسلمون يعبرون هذا الطريق الذي كان يعبره الرومانيون من قبل، إلى أراضي قشتالة.
بويرتو دل مورادال
وهذا الطريق المسمى " كرثادا " يسير من ناحية أخرى صاعداً نحو القمة الكبيرة الواسعة من السفح المسماه Puerto del Moradal ( بويرتو دل مورادال) أو ثغر مورادال، وكان هذا هو أهم ممرات جبل الشارات. والطريق الصاعد إليه فيما يبدو من آثاره الحجرية، كان طريقاً عريضاً، يبلغ عرضه نحو العشرة أمتار. وكذلك يبدو من بعض أجزائه القليلة الباقية، المعبدة بالحجر الأسود، ْأنه كان طريقاً معبداً كله، وهذا الممر يحتل فوق قمة جبل الشارات مساحة كبيرة منبسطة، ثم ينزل من الناحيتين صاعداً وهابطاً، ويسمى منزل هذا الممر وما حوله باسم " الإمبدرادليو " Empedradillo . وقد شاهدنا فوق قمة مورادال، وأمام الممر، أنقاض أحجار كثيرة، قيل لنا إنها كانت أنقاض محلة رومانية Venta خلال الطريق القديم، ومنها ينزل نحو نهر مجانيا. ويوجد على مقربة من ممر مورادال جبل مطل على النهر يسمى " جبل المسلم " Cerro del Moro .
مائدة الملك
وإلى يسار ممر مورادال، على مسافة نحو ساعة منه، توجد قمة أخرى تشغل يسيطاً كبيراً، بيضاوياً، يمتد نحو اليمين ونحو اليسار إلى مسافة عدة كيلومترات،(4/304)
صورة:
نهر مجانيا كما يبدو في أسفل الجبال.
صورة:
منحدر دسبينيابروس.(4/305)
وهو البسيط الذي يسمى " مائدة الملك " Mesa del Rey ، وقد شهدناه من بعد أولا، ولاح لنا أنه بالفعل، مستدير أو بيضاوى كالمائدة، ومن ثم كان الاسم الذي أطلق عليه. وتنحرف جوانب هذه القمة إلى أسفل الوادي، مغطاة بالخضرة، وإلى جانبها الأيمن مرتفعات متعددة صاعدة ونازلة. وهذا المرتفع المستدير، يمتد كما قلنا من الجانبين إلى مسافات شاسعة يطلق عليها جميعا نفس الاسم " مائدة الملك "، ويبدو من انبساطها وضخامة مساحتها، أنها كانت بالفعل تصلح محلة للجيوش الغازية.
...
ونحن نستطيع بعد تتبع هذا الوصف لأوضاع المعركة وأماكنها المختلفة، أن نتتبع تحركات الجيش القشتالي والموحدى، وأن نكوّن فكرة واضحة عن مسرح معركة العقاب الحقيقى. وكان النصارى بعد احتلالهم بسيط مورادال الواقع فوق الجبل، قد استطاعوا أن ينتزعوا قلعة كسترو فيرال الإسلامية الواقعة في قمة الجبل والتي وصفناها من قبل، وهي التي تسمى أحيانا بحصن العقاب، وكانت بها حامية موحدية صغيرة، ولكنهم شعروا مع ذلك بحرج موقفهم في ذلك المكان نظراً لوعورته، ونقص وسائل التموين والمياه فيه، وكان لابد لهم بأي حال أن يعبروا جبل الشارات إلى الناحية الأخرى، وكان ذلك متعذراً عليهم نظراً لاحتلال الموحدين سائر ممراته بقوات كافية، ولاسيما ممر لوسا الواقع جنوب غربي الحصن، وهو الذي يفضى إلى سهول تولوسا، والذى لا يمكن لجيش عظيم بأسره اقتحامه. عندئذ اجتمع الملوك النصارى مع قوادهم للبحث عن مخرج لهذا المأزق، وكان الرأي الغالب، هو أن يعود الجيش النصراني أدراجه إلى السهل، ثم يحاول دخول أراضي الأندلس من طريق آخر، ولكن ملك قشتالة عارض في هذا الرأي، لأن أية حركة ارتداد كانت في نظره خطراً على روح الجيش المعنوية، فضلا عن اعتبارها من جانب الأعداء فراراً ونكولا عن خوض المعركة. وهنا تعرض لنا الرواية النصرانية قصة يطبعها لون من الأسطورة، وهي أن راعياً من رعاة هذه الأنحاء، تقدم إلى القادة النصارى، وأخبرهم أنه يستطيع إرشادهم إلى طريق آخر لعبور الجبل، يقع في مرتفع آخر، ويفضى إلى سهل أبدّة، ويمكن أن يسلكه الجيش دون أن يفطن العدو إلى ذلك. فسار معه القائدان لوبث دي هارو،(4/306)
صورة:
ممر بورتو دل مورادال كما يبدو من أسفل الجبل.
صورة:
بسيط مائدة الملك Mesa del Rey كما يبدو من أسفل الجبل.(4/307)
وغرسية روميرو لمعاينة هذا الطريق، ولما تحققا من صحة كل ما قاله الراعى، بادر الجيش النصراني في نفس اليوم - وهو يوم السبت 14 يوليه - بالسير إلى ذلك المرتفع الجديد، واحتلوا بسيطه - وهو البسيط الذي يطلق عليه اليوم اسم " مائدة الملك " Mesa del Rey وهو الذي وصفناه، وبينا موقعه فيما تقدم. وحصنوا ما حوله، وبقيت بقية الجيش النصراني مرابطة من ورائه، واعتبر هذا الراعى المرشد منقذاً أرسله الله (1).
ولم يخف أمر هذه الحركة التي قام بها الجيش النصراني على الموحدين، وقد وقفوا في الحال على مكان عدوهم الجديد، وحاولت فرقة من الفرسان الموحدين عبثاً أن تنتزع هذا المرتفع الجديد من أيدي النصارى. وصدرت أوامر الخليفة الناصر بتعبئة الجيوش الموحدية لخوض المعركة في الحال، ولكن الملوك النصارى آثروا الاعتصام مؤقتاً بمركزهم المنيع، ولم يريدوا بالأخص أن يخوضوا المعركة في يوم أحد، واقتصر الأمر على بعض المناوشات البسيطة بين سريات الفرسان من الفريقين. بيد أنه لم يكن من الميسور على النصارى أن يؤخروا خوض المعركة لأكثر من يوم، أولا لقلة مؤنهم، وخوفهم أن تنضب بسرعة، وثانيا لكون الجيش الموحدي، لبث منذ يوم السبت في حالة تعبئة مستمرة للقتال، وقد يفاجئ الجيش النصراني بالهجوم. وكان الناصر على علم مستمر بأحوال الجيش النصراني، وكانت كل تقديراته تؤكد له تحقيق الظفر المنشود.
وليس لدينا في الرواية الإسلامية تفاصيل شافية، عن التنظيمات التي وضعت للجيوش الموحدية لخوض المعركة، بيد أنه يبدو مما ذكره لنا صاحب روض القرطاس، وكذلك ما يذكره لنا ردريك الطليطلى، وهو من شهود المعركة، أن الجيش الموحدي، قُسم وفق الأوضاع الموحدية من خمس فرق، تتألف الفرقة الأمامية من القوات المتطوعة من مختلف الطوائف، وتتألف قوات القلب والقوات الاحتياطية من الجند الموحدين، وهم أغلبية الجند النظامية، وتتألف الميمنة من القوات الأندلسية، والميسرة من قوات البربر من مختلف القبائل.
_______
(1) وردت هذه التفاصيل وهذه القصة في معظم التواريخ النصرانية الإسبانية. ويراجع في ذلك Primera Cronica General (Ed. Pidal) Vol. II. p. 698 ونقلها الأستاذ هويثى في كتابه: ْ Las Grandes Batallas de la Reconquista ; p. 250 -. ونقلها أيضا أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين (الترجمة العربية) ص 365.(4/308)
رسم تخطيطي:
لمواقع موقعة العقاب خلال جبال سيرّا مورينا والسهل الواقع في جنوبها.(4/309)
وضربت قبة الخليفة الحمراء، فوق ربوة عالية تتوسط البسيط الذي تحتله الجيوش الموحدية، والذى يواجه مواقع الجيش النصراني. ودارت العبيد، وهم أغلبية الحرس الخليفى حول القبة من كل ناحية، وكلها مزودة بالسلاح والعدة، وضرب في نفس الوقت حول القبة الخليفية سياج من الأعمدة وعدة من السلاسل الحديدية الضخمة، وشهر جند الحرس حرابهم في اتجاه العدو، فكانت سداً منيعاً دون اختراقه الموت، وجلس الناصر في قبته مستنداً إلى درقته، ومعه أشياخ الموحدين، وربطت فرسه مسرجة أمامه، ووضعت الساقات والبنود والطبول أمام العبيد، تحت إمرة الوزير أبي سعيد بن جامع وكان بوسع النصارى أن يروا من مواقعهم العالية، جموع المسلمين التي لا تحصى، وفي قليها قبة أمير المؤمنين الحمراء (1).
أما عن تنظيم الجيش النصراني فلدينا تفاصيل كثيرة، يقدمها إلينا ردريك الطليطلى وغيره من شهود المعركة، وخلاصتها أن الجيش النصراني قسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يتزعم كل قسم منها، ملك من ملوك النصارى الثلاثة، الأول يتكون من القلب ويقوده ملك قشتالة ألفونسو الثامن، هذا إلى جانب احتفاظه بالقيادة العليا. ويتكون الثاني من الجناح الأيمن، ويقوده سانشو ملك نافارا، ويضم فضلا عن القوات النافارية، جند سرية وآبلة وشقوبية ومدينة سالم، وفرسان فرنسا الذين يرأسهم مطران أربونة، وجند جليقية والبرتغال. ويتكون القسم الثالث من الجناح الأيسر، ويقوده بيدرو الثالث ملك أراجون، ويشتمل على قوات الطليعة والقوات التي يقودها أشراف أراجون. وقد وزع كل قسم من هذه الأقسام إلى وحدات عديدة، فوضع في القلب فرسان الداوية والأسبتارية وفرسان قلعة رباح كل منها تحت إمرة قائده الخاص، وكذلك الصفوف التي يقودها مطران طليطلة وخمسة من الأساقفة القشتاليين (2).
وفي ليلة يوم الاثنين الخامس عشر من صفر سنة 609 هـ (ليلة 16 يوليه سنة 1212 م)، استعد الفريقان لخوض المعركة، وقضى النصارى شطراً من
_______
(1) روض القرطاس ص 158، وراجع أيضاً أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين، الترجمة العربية ص 367، وكذلك:
Huici: cit. Anales Toledanes, Las G. Batallas de la Reconquista p. 257
(2) أشباخ الترجمة العربية، ص 366، وكذلك: Huici: ibid ; p. 253 & 254.(4/310)
الليل في الصلاة والدعاء، وتلقى البركة والغفران البابوى على يد الأساقفة ورجال الدين. ولم نجد في الرواية الإسلامية ما يشير إلى أنه وقع في الجيش الموحدي في تلك الليلة، شىء من تلك المناظر المؤثرة، التي وقعت به قبيل اضطرام معركة الأرك، من تبادل الاستغفار بين الخليفة والناس، ومن وعظ وبكاء وحث على الجهاد، فقد كان الخليفة الناصر حسبما تشير سائر الروايات، واثقاً من النصر، واثقاً من تفوقه العددي الهائل، ولم يكن ينتظر سوى بدء المعركة لإحراز النصر المنشود.
وبدأت المعركة في الصباح الباكر من يوم الاثنين الخامس من صفر، وكان كل من الجيشين على أهبة لخوضها، وقد رتبت صفوفه وفقاً للأوضاع التي سبق وصفها. وبدأ النصارى بالهجوم، فهبطت طلائعهم مسرعة من المرتفع الذي تحتله الجيوش النصرانية في بسيط " مائدة الملك " Mesa del Rey إلى السهل الأسفل الذي يحتله الجيش الموحدي، والذى يشغل بسيطاً شاسعاً، يقع عند الطرف الغربي من بلدة " سانتا إيلينا "، ويستند من الخلف إلى سلسلة من المرتفعات المنخفضة، وانقضت على مقدمة الجيش الموحدي، فلقيتهم صفوف المتطوعة بقوة وثبات، واقتتل الفريقان بشدة حتى بدأ النصارى في التراجع، فأدركتهم الأمداد، وعادوا إلى الثبات تعززهم فرق الفرسان، التي صعب على المتطوعة الموحدين اختراقها، وهجم في نفس الوقت جناحا الجيش النصراني على جناحى الجيش الموحدي، واحتدمت بين الجيشين معركة هائلة عامة، وكانت طبول الساقة الموحدية، تهز الآفاق بدويها الرائع. ويستفاد من أقوال الروايتين الإسلامية والنصرانية، أن المتطوعة المسلمين بعد ثباتهم الأول، قد ارتدوا تحت ضغط النصارى الهائل، وكثر القتل فيهم، بل يقول لنا صاحب روض القرطاس، إنهم لبثوا يقاتلون حتى إستشهدوا عن آخرهم " وعساكر الموحدين والعرب وقواد الأندلس ينظرون إليهم لم يتحرك منهم أحد " (1). ولكن النصارى حين تقدموا بعد التغلب على فرق المتطوعة إلى قلب الجيش الموحدي، لقوا من الجند الموحدين أشد مقاومة، وردوا على أعقابهم. ومن جهة أخرى، فإن قوات الميمنة والميسرة الموحدية استطاعت بعد قتال عنيف أن ترد جناحى الجيش النصراني، وأخذ النصارى حسبما تقول لنا الرواية النصرانية ذاتها، في الارتداد
_______
(1) روض القرطاس ص 158.(4/311)
والفرار (1)، ولاح للفريقين أن لواء النصر سوف يعقد للموحدين.
ولكن هذه البارقة لم يطل أمدها. ذلك أن ألفونسو الثامن ملك قشتالة، حينما شهد من فوق المرتفع ما آلت إليه المعركة، من تراجع القوات النصرانية في القلب والجناحين، وما ينذر به ذلك من هزيمة محققة، اعتزم في الحال أن ينزل إلى الميدان بقواته الاحتياطية المختارة، من قوات قشتالة وليون، ليقاتل قتال اليائس، واندفع بالرغم من اعتراض المطران والأساقفة والقوامس على مسلكه الخطر، في قواته إلى الصف الأمامى. وتبعه في نفس الوقت ملكا أراجون ونافارا كل في قواته، نحو جناحى الجيش الموحدي، وهجمت القوات النصرانية كلها في وقت واحد، بمنتهى العنف والشدة، حتى بدأت ميمنة الجيش الموحدي وميسرته في الارتداد أمام ضغط الفرسان النصارى، وفرّ الأندلسيون والعرب، وأحدث فرارهم اضطرابا في الصفوف. وهنا تمركز هجوم النصارى على قلب الجيش الموحدي، المكون من الجنود النظامية والاحتياطية، والذى تتوسطه قبة الخليفة الحمراء، ومن حولها الحرس الخليفى الأسود، وكان النصارى قد انتعشوا، بما شهدوا من تطور المعركة في صالحهم، فشددوا الهجوم على الموحدين. وصمد الموحدون، ودافعوا بمنتهى الشدة، ومن ورائهم الحرس الأسود شاهراً رماحه، من وراء السلاسل الحديدية الضخمة، وكان الخليفة الناصر قد أدرك حقيقة الموقف، فنهض من مجلسه وجلس أمام خبائه على درقته، وهو يحث جنوده على الاستبسال، واستطاع النصارى أخيراً أن يخترقوا قلب الجيش الموحدي إلى دائرة الحرس الأسود، فردتهم السلاسل الحديدية ورماح العبيد المشهرة حيناً، وهم كالبنيان المرصوص حول القبة الخليفية. ولكن النصارى " ردوا أكفال الخيل المدرعة إلى رماح العبيد " (2) فاخترقوا الدائرة المدرعة، وكان أول من دخلها منهم الكونت ألبارو نونيز دي لارا على رأس كتيبة من الفرسان القشتاليين، وفي يده علم قشتالة الأبيض، ودخلها في نفس الوقت ملكا أراجون ونافارا كل من ناحيته، وبذلك مزق الجيش الموحدي من كل ناحية، وكثر القتل فيه كثرة مروعة، ولبث الخليفة الناصر حتى آخر لحظة في مجلسه الحرج، وهو يحاول
_______
(1) وهذا ما تقوله لنا رواية ألفونسو العالم. وتراجع في: Primera Cronica General (Ed. Pidal) Vol. II, p. 701
(2) روض القرطاس ص 158.(4/312)
حث جنده على الصمود. وتنوه الرواية الإسلامية بثبات الناصر وصموده اليائس في تلك اللحظة الرهيبة، التي تناثر فيها الجيش الموحدي، والحرس الخليفى من حوله أشلاء دامية، وشراذم فارة في كل ناحية، وتقول لنا إنه لبث في مكانه لا يتزحزح، حتى كادت الروم أن تصل إليه، بل كاد أن يهلك، وقتل حوله من العبيد أكثر من عشرة آلاف عبد، وأنه لولا ثباته على هذا النحو لاستؤصلت جموع الجيش الموحدي كلها قتلا وأسرا (1). واضطر الناصر في آخر لحظة أن يمتطى صهوة فرس قدمها إليه أعرابى كان إلى جانبه، وأن يفر مع نفر من خاصته على جناح السرعة جنوبا نحو بيّاسة، ثم اتخذ طريقه منها إلى جيان، وكانت فلول الجيش الموحدي عندئذ تفر في كل ناحية، ومن ورائها الفرسان النصارى يمعنون فيها قتلا وإفناء. واستمرت هذه المطاردة المروعة على مدى ثلاث مراحل حتى دخل الليل، وكانت أشنع ما وقع من ضروب السفك والتقتيل، إذ هلك فيها عشرات الألوف من الجند الفارين، وانقض الجند النصارى على المحلة الموحدية ينتزعون منها ما استطاعوا من المتاع والأسلاب، بالرغم من تحذير مطران طليطلة. وقبيل مغيب الشمس، كان الملوك النصارى، والمطران، والأساقفة، وجزء كبير من الجيش النصراني، قد دخلوا محلة الجيش الموحدي، واستقروا بها، وأضحى الجيش الموحدي العظيم الذي كان بها منذ ساعات قلائل فقط، أثراً بعد عين.
وكان وقوع هذه النكبة المروعة بالجيش الموحدي في يوم الاثنين الخامس عشر من شهر صفر سنة 609 هـ الموافق يوم 16 يوليه سنة 1212 (2)، وهي تعرف في التواريخ النصرانية حسبما قدمنا بموقعة هضاب أو عقاب تولوسا Las Navas de Tolosa لوقوعها فوق مجموعة من الوديان الصغيرة، التي تحيط بها الربى، تقع في سفح جبل الشارات الجنوبى، وتعرف أيضاً بموقعة أُبّدة لوقوعها على مقربة من شمال غربي هذه المدينة. وأما في التواريخ الإسلامية فإنها تعرف
_______
(1) روض القرطاس ص 159، والمراكشي في المعجب ص 183، والبيان المغرب القسم الثالث ص 241.
(2) هذا هو التاريخ الذي تأخذ به معظم الروايات الإسلامية، وهو الذي يتفق بالفعل مع الروايات النصرانية (راجع المعجب ص 183، وروض القرطاس ص 159، والروض المعطار ص 138).
ولكن ابن خلدون يضع تاريخها في أواخر صفر سنة 609 هـ (كتاب العبر ج 6 ص 249). ويضع صاحب البيان المغرب تاريخها في يوم الاثنين 8 صفر سنة 609 - القسم الثالث ص 241.(4/313)
بموقعة العِقاب، من مفردها عقبة، وذلك فيما يرجح لوقوعها بين الربى والتلال المانعة (1)، وليس بمعنى المعاقبة على الذنب، وإن كان بعض الكتاب والشعراء قد نسبوا إليها مثل هذا المعنى، في معرض التلويح بغضب الله وعقابه للموحدين، لأنهم حادوا عن جادته، وبغوا وتجبروا، واعتمدوا على كثرتهم ولم يعتمدوا على عونه. وينفرد صاحب روض القرطاس إلى جانب تسميتها بموقعة العقاب بتسميتها بموقعة " حصن العقاب " أو "حصن العقبان " (2) وهو باسمه الإسبانى حصن فرّال أوكاستروفرال Castro Ferral الواقع في قمة جبل الشارات، والذى استولى عليه القشتاليون قبيل المعركة ثم تركوه ليعبروا الجبل من الناحية الأخرى التي أرشد عنها الراعي.
ومن المسلم أن خسائر المسلمين في معركة العقاب كانت فادحة جداً. والروايات الإسلامية تجمع كلها على أن الجيش الموحدي، قد هلك معظمه. بيد أنها تذهب أحيانا إلى تقديرات لا يستسيغها العقل، ومن ذلك ما يقوله صاحب روض القرطاس أنه لم ينج من الجيش الموحدي إلا الواحد من الألف، فإذا ذكرنا أنه يقدر جموع الجيش الموحدي بأكثر من نصف مليون، فمعنى ذلك أنه لم ينج من الموحدين في المعركة سوى خمسمائة جندى، وهذا منتهى الإغراق. ثم هو من جهة أخرى يقول لنا بأن سبب هذه الكثرة الفادحة من القتلى، يرجع إلى أن ملك قشتالة أمر أن ينادى في جيشه بأن لا أسر إلا القتل، ومن أتى بأسير قتل هو وأسيره (3). ويصف صاحب الحلل الموشية الموقعة " بالهزيمة العظمى " التي فنى فيها أهل المغرب والأندلس. ويقول صاحب " الذخيرة السنية " مشيراً إلى الموقعة أنه قتل من المسلمين خلق كثير لا يحصر، وفيها فنى جيوش المغرب والأندلس (4)، ولكن المراكشي وهو مؤرخ معاصر يقول لنا في نوع من الاعتدال، إنه قتل من الموحدين خلق كثير، ويتابعه في هذا الوصف صاحب الروض المعطار، ويقول لنا إنه قد هلك في الموقعة جملة من الأعيان والطلبة، منهم أبو بكر بن عبد الله بن أبي حفص، وعلي بن الغانى الميورقي. وسقط كذلك في المعركة عدة من أكابر
_______
(1) جاء في القاموس المحيط أن عقبه بالتحريك هي مرقى صعب من الجبال والجمع عقاب (بكسر العين).
(2) روض القرطاس ص 159 و 158.
(3) روض القرطاس ص 159.
(4) الحلل الموشية ص 122، والذخيرة السنية ص 48.(4/314)
العلماء والحفاظ، منهم أحمد بن هارون بن عات النفزى، وإسحاق بن إبراهيم المجابرى، ومحمد بن حسن الأنصارى المعروف بابن صاحب الصلاة، ومحمد ابن إبراهيم الحضرمى، وأيوب بن عبد الله بن عمر الفهرى، والشاعر الزاهد تاشفين بن محمد المكتب وغيرهم (1). بيد أنه مما يلفت النظر حقاً أن الرواية النصرانية مع ما يؤثر عنها من المبالغة في مثل هذه المواطن، تقدم إلينا عن خسائر الموحدين في الموقعة، أرقاما يطبعها نوع من الاعتدال، بكونها تقل كثيراً عما تقدمه إلينا الرواية الإسلامية، بيد أنها من جهة أخرى تبالغ في التقليل من خسائر النصارى ذلك أن ردريك الطليطلى قدر من قتل من المسلمين في الموقعة بمائتي ألف، وذلك من مجموع الجيوش الموحدية التي يقدرها بمائة وخمسة وثمانين ألف فارس، وعدد لا يحصى من المشاة، ويقدر الملك ألفونسو الثامن قتلى المسلمين في خطابه إلى البابا بمائة ألف، ويقدرهم أرنولد مطران أربونة بستين ألفاً، ثم يقول إنه من الممكن أن يكون قد هلك منهم أكثر من هذا العدد أثناء الفرار، وتقدر الأميرة برنجاريا القشتالية في خطابها إلى أختها الملكة بلانكا ملكة فرنسا، قتلى المسلمين بخمسة وثمانين ألفاً. بيد أن الروايات النصرانية تقدم إلينا في نفس الوقت عن خسائر النصارى في المعركة أرقاما لا يمكن أن يصدقها العقل، ومن الغريب أن شهود العيان الذين تقدم ذكرهم هم الذين يقدمون هذه الأرقام. فالمطران ردريك يقول لنا إنه لم يقتل في الموقعة من النصارى سوى خمسة وعشرين، والملك ألفونسو يذكر في خطابه إلى البابا أنهم لم يتجاوزوا الثلاثين، وأرنولد مطران أربونة يقول إنهم لم يتجاوزوا الخمسين، ولا ريب أن مثل هذه الأرقام الضئيلة لم تملها سوي أثرة الرواية النصرانية، ومحاولتها أن تسبغ ثوب المعجزة، على النصر الذي أحرزه النصارى. ومن المحقق أن خسائر النصارى كانت شديدة أيضاً، في مثل هذه المعركة التي التحم فيها الجيشان بأسرهما، وردت فيها هجمات النصارى الأولى بخسائر كبيرة لا ريب، ولم ينجحوا في اختراق قلب الجيش الموحدي إلا بعد جهود فادحة، وبعد أن ألقوا في المعركة بقواتهم الاحتياطية، ولا يمكن أن تقل هذه الخسائر عن الألوف العديدة، في جيش لم يكن يقل تعداده عن ثمانين ألف أو مائة ألف من الفرسان والمشاة. ويقدم إلينا الراهب ألبريكوس الذي عاش
_______
(1) المعجب ص 183، والروض المعطار ص 138، وابن الأبار في التكملة (القاهرة) في التراجم رقم 262 و 517 و 1508 و 1559.(4/315)
صورة:
سهام خيل أرضية عثر بها المؤلف بالحفر في بعض نواحي السهل الذي كانت به المحلة الموحدية.
قريباً من هذا العصر تفسيراً لهذا الرقم الضئيل، الذي تقدمه الرواية النصرانية عن خسائر النصارى، فيقول إنه قد هلك في الموقعة من المسلمين مائة ألأف، ولكن هلك في نفس الوقت من النصارى خلال التحام المعركة عدد كبير، بيد أنه لم يهلك منهم خلال مطاردة المسلمين سوى نحو ثلاثين (1).
واستولى النصارى في محلة الجيوش الموحدية على مقادير وافرة من الغنائم من العتاد والسلاح والخيام والذهب والفضة، والنقود الذهبية والبسط والآنية الثمينة والثياب والأقمشة الفخمة، وكذلك على مقادير عظيمة من المؤن، وعلى ألوف مؤلفة من دواب الحمل، فكانت من أعظم الغنائم التي ظفر بها النصارى (2).
_______
(1) تراجع الروايات النصرانية عن خسائر المسلمين والنصارى في أشباخ (الترجمة العربية) ص 370 و 371. وكذلك في:
Huici: Las Grandes Batallas de la Reconquista p. 266 & 267
(2) راجع في تفاصيل موقعة العقاب، المعجب ص 183 - 185، والبيان المغرب القسم الثالث ص 240 - 242، وروض القرطاس ص 156 - 160، والروض المعطار ص 137 و 138 والنويري (طبعة ريميرو السابق الإشارة إليها ج 8 ص 379) والحلل الموشية ص 122، =(4/316)
وكان من أهم الغِنائم الغنائم التي أحرزها النصارى خيمة الناصر الحريرية الموشاة بالذهب، وعَلَمٌ موحدى ضخم مازال يحفظ حتى اليوم بين ذخائر اسبانيا النصرانية. وقد أرسلت الخيمة مع طائفة أخرى من نفيس الهدايا إلى البابا برسم كنيسة القديس بطرس، لتعرض بها تذكاراً للنصر، واستولى ملك نافارا على السلاسل الحديدية التي كانت تحيط بقبة الخليفة. وأما العَلَم الموحدي فما زال يحفظ حتى اليوم بالدير الملكى بمدينة برغش (1)، وقد شهدناه وقت زيارتنا لهذه المدينة التاريخية، وهو عبارة عن سجادة كبيرة طولها 3,30 مترا وعرضها 2,20 متراً. وبها في الوسط دائرة كبيرة صفراء يحيط بها مربع ذو مقاطع أربعة، وقد ملئت الدائرة والمربع بنقوش عربية جميلة، ويحيط بهذا المربع من الجوانب الأربعة أحزمة بنية، نقشت عليها آيات قرآنية بخط أزرق، وفي ذيلها دوائر نقشت فيها أدعية مختلفة. والظاهر أن هذا العلم لم يكن من الأعلام التي كانت تحمل خلال المواقع، وإنما كان من الأعلام التي تعلق بخيمة الخليفة. ومن ثم كان الاسم الذي يعرف به وهو " مُعلق معركة العقاب " Pendon de las Navas، وكذلك الوصف الذي سطر تحته بالإسبانية وهو " غنيمة انتزعت من العدو في موقعة العقاب " (2).
- 3 -
ولابد لنا أن نحاول بعد ذلك أن نتلمس الأسباب المادية والمعنوية، التي أدت بالجيش الموحدي إلى تلك الكارثة المروعة. فالحقيقة أنه إلى جانب الأسباب التقليدية المعروفة، من اختلال نظام الجيوش الموحدية الكبيرة العدد، وعدم اتساق تنظيماتها، وتنافر العناصر المكونة منها، وعدم توحيد قيادتها بأيدى قادة يتسمون بالبراعة العسكرية، واختلال نظام التموين بها، نظراً لابتعادها عن قواعدها مسافات شاسعة، إلى جانب ذلك توجد عدة أسباب أدبية عاونت
_______
= وابن خلدون ج 6 ص 249، ونفح الطيب ج 2 ص 528 وراجع الروايات النصرانية P. Cronica General (Ed. Pidal) P. 690 - 704. Huici: Las Grandes Batallas de la Reconquista ; p. 231 - 308 والمراجع، وكذلك أشباخ (الترجمة العربية) ص 365 - 378.
(1) واسمه بالإسبانية Real Monasterio de las Huelagas.
(2) راجع وصف هذا العلم وما نقش عليه من آيات في كتابنا الآثار الأندلسية الباقية في اسبانيا والبرتغال (الطبعة الثانية) ص 213 و 214. وراجع أيضاً: A. de los Rios: Trofeos Militares de la Reconquista, Ensenas Musulmanes del Real Monasterio de las Huelgas (Burgos) . (Madrid 1893) p. 27 - 48.(4/317)
على وقوع الكارثة. وتشير الرواية الإسلامية إلى طرف من هذه الأسباب، وتلخصها في تغير قلوب الموحدين، وسخطهم على الوزراء والقادة، وذلك بسبب حبس أعطيتهم وتأخرها، وقد كان المتبع منذ أيام المنصور، أن يُمنح العطاء للجند مرة في كل أربعة أشهر دون تأخير، ولكن العطاء كان يؤخر في عهد الناصر ولاسيما في هذه الحملة الكبيرة، فنسب الجند أسباب التأخير للوزارة، وخرجوا إلى الغزو وهم كارهون، وقد خبت قواهم المعنوية، وهكذا خرج الناصر إلى الغزو " بحشود لا غرض لهم في الغزو، وقد أمسكت أرزاقهم، وقتر عليهم ". ويقول لنا المراكشي فضلا عن ذلك، أنه بلغه من جماعة منهم " أنهم لم يسلوا سيفاً ولا شرعوا رمحا، ولا أخذوا في شىء من أهبة القتال، بل انهزموا لأول حملة الإفرنج عليهم، قاصدين لذلك " (1). أضف إلى ذلك ما حدث قبل نشوب المعركة في المعسكر الموحدي، من حوادث كان لها نذير. منها قتل الخليفة الناصر للقائد الأندلسي الباسل ابن قادس قائد قلعة رباح هو وصهره، دون أن يستقبله أو يستمع إلى عذره، ومنها إهانة الوزير أبي سعيد بن جامع للقواد الأندلسيين وإنذارهم بمغادرة الجيش، وقد كان لهذه الحوادث أسوأ وقع في نفوس الأندلسيين، وفي تثبيط همتهم في القتال، وكان الأندلسيون بالرغم من قلتهم العددية، عنصراً هاما في جيوش الغزو الموحدية المقاتلة بالأندلس، لأنهم كانوا أكثر خبرة بقتال النصارى الإسبان، وأكثر دراية بطريقتهم في الحرب (2). وقد رأينا كيف كان اعتماد الخليفة المنصور على نصح ابن صناديد قائد الأندلس ومشورته، من أسباب نصره في معركة الأرك. وأخيراً فإن ما أبداه الناصر من العُجب والاعتداد بكثرة جموعه، واعتماده على تفوقه العددي البالغ، والتقليل من شأن العدو، كان له أكبر الأثر فيما بدا من الرعونة، وعدم الحرص والتحوط في لقاء العدو، ومن ثم فقد كان ظفر القشتاليين باختراق قلب الجيش الموحدي بتلك السرعة، مفاجأة هائلة لم تخطر للناصر ولا للقادة الموحدين. وترى بعض الروايات الإسلامية أن نكبة الناصر في العقاب كانت عقوبة من الله على ما أبداه من العجب والاعتزاز بكثرة جموعه، واعتقاده أنه لا غالب له من الناس، فأراه
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 183، والروض المعطار ص 138.
(2) روض القرطاس ص 146 و 147، والروض المعطار ص 138، وراجع أيضاً نفح الطيب ج 2 ص 538.(4/318)
صورة:
العلم الموحدي الذي غنمه الإسبان في معركة العقاب ويحفظ الآن بدير برغش الملكى (لاس هويلجاس).(4/319)
الله تلك الآية ليعلم أن النصر من عند الله، وأن القدرة والحول والقوة بيد الله (1).
وقد أسفرت هزيمة العقاب الساحقة، عن أفدح وأروع الآثار التي يمكن تصورها، سواء بالنسبة للأندلس أو المغرب أو الدولة الموحدية. فأما بالنسبة للأندلس، فقد قضت هذه الهزيمة نهائياً، على سمعة الموحدين العسكرية في شبه الجزيرة، وتحطم ذلك الدرع الذي كانت تسبغه الجيوش الموحدية، القادمة من وراء البحر، على الأندلس وعلى دولة الإسلام بها، وتضعضع سلطان الحكم الموحدي بالأندلس، وأخذت الأندلس من ذلك الحين تنحدر إلى براثن الفوضى الطاحنة، وانتثرت غير بعيد إلى أحزاب وشيع جديدة، قامت لتضرب بعضها ْبعضاً، ولتبدأ عهداً جديداً من المعارك الانتحارية الصغيرة التي لا نهاية لها، والتي تذكرنا، بعهد الطوائف. وضمن ذلك النصر الباهر الذي أحرزته الجيوش النصرانية المتحالفة في هضاب تولوسا، لإسبانيا النصرانية، تفوقها السياسي والعسكرى في شبه الجزيرة، وفتح الباب واسعاً لغزو الاسترداد La Reconquista النصراني المنظم، الذي سوف يستمر من ذلك الحين في اجتناء ثماره، بانتزاع القواعد الأندلسية، واقتطاع أشلاء الأندلس الكبرى بصورة متتابعة، وفي فترات قصيرة مذهلة.
وقد تردد هذا الفزع الذي سرى إلى الأندلس يومئذ، وما كان يلوح لها من شبح الفناء، من جراء كارثة العقاب، واضحاً في الأدب والشعر. فمن ذلك ما قاله أبو إسحق إبراهيم بن الدباغ الإشبيلي:
وقائلة أراك تطل تفكرا ... كأنك قد وقفت لدى الحساب
فقلت لها أفكر في عقاب ... غدا سبباً لمعركة العقاب
فما في أرض أندلس مقام ... وقد دخل البلا من كل باب (2)
وأما بالنسبة للمغرب، والدولة الموحدية، فقد كانت كارثة العقاب ضربة شديدة للمغرب، ولأهل المغرب، بما هلك فيها من حشود القبائل البربرية، وزهرة جنودهم، ومن الجيوش الموحدية النظامية، ولم يعد في مقدور هذه القبائل أن تقدم للغزو الكثير من حشودها، ولم يعد في مقدور الدولة الموحدية أن تجدد مثل
_______
(1) روض القرطاس ص 160.
(2) نفح الطيب ج 2 ص 582.(4/320)
هذه الحملات العسكرية العظيمة، التي كان يقودها خلفاء مثل عبد المؤمن وأبي يعقوب يوسف والمنصور والناصر. وكما أن الرواية الإسلامية تنوه بخطورة آثار الهزيمة في مصير الأندلس، وتصفها بأنها كانت سبباً في " هلاك الأندلس " (1)، فإنها تنوه كذلك، وبنوع خاص، بالخسارة الآدمية الهائلة، التي وقعت من جرائها بالمغرب والأندلس، وتصف الموقعة بالهزيمة العظمى " التي فنى فيها أهل المغرب والأندلس (2)، أو التي خلا بسببها أكثر المغرب (3)، أو حسبما تقول لنا في عبارة أوضح وأشمل " إن المغرب قد باد أهله ورجاله وفنى خيله وحماته وأبطاله، وقتلت قبائله وأقياله، قد استشهد الجميع في غزوة العقاب " (4). ويلخص لنا ابن الأبار، نتائج الموقعة المدمرة بالنسبة للأندلس في قوله إنها " أفضت إلى خراب الأندلس بالدائرة على المسلمين فيها، وكانت السبب الأقوى في تحيف الروم بلادها، حتى استولت عليها " (5). وأما بالنسبة للدولة الموحدية، فقد هزت كارثة العقاب أركانها إلى الأعماق، وقضت على كل عوامل التوطد، التي أسبغها عليها المنصور بانتصاره في معركة الأرك، والتي تأيدت بإخماد ثورة بني غانية في إفريقية. ومما لا ريب فيه أن تضعضع الدولة الموحدية على هذا النحو، كان أكبر مشجع لبني حفص على اقتطاع إفريقية وإقامتهم غير بعيد لدولتهم المستقلة بها. ويلخص لنا صاحب الروض المعطار أثر الهزيمة في الدولة الموحدية بقوله " وكانت هذه الوقيعة أول وهن دخل على الموحدين، فلم تقم بعد ذلك لأهل المغرب قائمة " (6).
ونستطيع بعد أن استعرضنا آثار هزيمة العقاب أن نقول في معرض المقارنة بينها وبين معركة الأرك، إن انتصار الموحدين في الأرك، بالرغم من عظمته ولمعانه، لم يسفر بالنسبة لإسبانيا النصرانية عن آثار عميقة، ولم يصب قشتالة بأكثر من ضعف عسكري مؤقت، استطاعت أن تنهض منه في فترة قصيرة، ولم يستطع الموحدون أن يقوموا في أعقابه إلا بغزوات عابرة لمنطقة إسترامادورة،
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 240.
(2) الحلل الموشية ص 122.
(3) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 538.
(4) الذخيرة السنية ص 34.
(5) ابن الأبار في " التكملة " (القاهرة) ج 1 ص 102.
(6) الروض المعطار ص 138.(4/321)
ثم لمنطقتى طلبيرة وطليطلة، وقد حاصروا طليطلة بالفعل، ولكنهم لم يحاولوا أو لم يستطيعوا الاستيلاء عليها. أما هزيمة العقاب، فقد رأينا بالعكس مما تقدم، ما كان لها من الآثار الهدامة العميقة.
ومن الغريب المدهش حقاً، أن الناصر لم يرد أن يلوذ بالصمت إزاء هذه الكارثة الفادحة، بل أراد أن يقدم عنها اعتذاره في رسالة رسمية، وجهت من إشبيلية إلى حضرة مراكش وإلى غيرها من قواعد المغرب والأندلس، وذلك في أواخر صفر سنة 609 هـ. وقد نقل إلينا صاحب البيان المغرب بعض فصول هذه الرسالة، وهي من إنشاء الوزير الكاتب أبي عبد الله بن عياش، وفيها يقص علينا الناصر قصة استعدادات ألفونسو الثامن لمحاربة المسلمين، واهتمام البابا، والأحبار النصارى بمعاونته وشد أزره، وما كان من انضمام ملكى أراجون ونافارا إليه. ثم يصف لنا سيره للقاء النصارى، ويقول لنا إنه نشبت بين الفريقين في الموضع المعروف " بالمرشة " معركة " اشتد فيها الكفاح، وأرخصت الأرواح ". ثم يقول " ولكن الله أراد أن يمحص المؤمنين، ويبلى الكافرين، فكانت عاقبة اليوم على الخصوص لأهل الصلبان، والعاقبة المطلقة هي لأهل الإسلام والإيمان، وتحاجز الفريقان، والمسلمون عزيزة جوانبهم، محروسة بقدرة الله كتائبهم، لم تصب الحرب منهم أحدا، ولا نقصت لهم عدداً. وهي الحروب قضى الله أن تكون سجالا، وأن يجعل الله فيها لكل قوم مجالا ". ثم يقول في ختام رسالته: " وإذا كانت وفقكم الله الجيوش موفورة، والرايات منشورة، والعزائم باقية، وكفايات الله وافية، فلا تهنوا فإنا لا نهن، وانتظروا الكرة على الكفار، والإمداد عليهم، بجند الله الذين هم خير الأنصار، فما كان الله ليترك المؤمنين، حتى يأخذ أعداءهم أخذاً وبيلا، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. وعرفناكم لتكون عندكم هذه الوقيعة على وجهها، والنازلة على كنهها، ولتعلموا أنه لم يدر للموحدين قتيل، ولا أصيب منهم كثير ولا قليل والسلام " (1).
وإذا كان من الصعب أن يعلق المؤرخ على مثل تلك الرسالة، التي يصفها صاحب الروض المعطار بأنها من قبيل " الزخرف الكاذب "، فإنه يمكن القول بأنها محاولة جريئة من الخليفة المهزوم، للاعتذار عن نكبته وتهوين شأنها في نفوس أمته، واستدرار عطفهم، والتخفيف من سخطهم.
_______
(1) راجع البيان المغرب - القسم الثالث ص 241، 242.(4/322)
- 4 -
حاول ألفونسو الثامن ملك قشتالة، على أثر ظفره العظيم في موقعة العقاب أن يجتنى ثمار نصره باقتطاع ما يستطاع من الأراضي الإسلامية، فاستولى في أيام قلائل على معظم الحصون الإسلامية في تلك الناحية، وكان من بينها حصن فرّال (حصن العقاب)، الذي كان قد أخلاه قبل الموقعة، وبلج، وبانيوس، وتولوسا. ثم سار إلى مدينتي بيّاسة، وأبّدة، اللتين لا تبعدان عن مسرح المعركة سوى بضع مراحل. وكانت بياسة قد غادرها معظم أهلها، ولكن كان بها كثير من الجرحى والضعاف والفارين، فأحرق دورها، وخرب مسجدها الجامع، وقتل معظم من وجده بها، وأخذ بعضهم أسرى. ثم سار إلى مدينة أبدة، القريبة منها، وكانت تموج بأهلها، وبمن وفد عليهم من أهل بياسة، ومن الفارين، ولكنها كانت في حالة دفاع وأهبة، وقد امتنعت وراء أسوارها الحصينة، فحاصرها ألفونسو ثلاثة عشر يوما، وصمد المسلمون، ولحقت بالنصارى بعض الخسائر، ثم عرض المسلمون في النهاية أن يدفعوا فدية قدرها ألف ألف دينار على أن تترك المديئة حرة، وأن يتمتعوا بدينهم وشعائرهم، فقبل ألفونسو وزميلاه ملكا أراجون ونافارا هذا العرض، ولكن الأحبار عارضوا في تنفيذه، وأصروا على تسليم المدينة بلا قيد ولا شرط، فنزل الملوك عند هذا الضغط، ونقضوا العهد المقطوع، واقتحم الجنود النصارى المدينة، وقتلوا من أهلها زهاء ستين ألفاً، وسبوا منهم مثل هذا القدر. وتعترف الرواية النصرانية نفسها بهذه الشناعات، وتقدر من قتل وسبي من أهل أُبّدة، بمائة ألف، ويقدر بعضها السبايا وحدهم بمائة ألف (1)، ويقول لنا المراكشي، وهو المؤرخ المعاصر، إن ألفونسو دخل أبدة عنوة، فقتل وسبي وفصل هو أصحابه من السبي من النساء والصبيان، بما ملئوا به بلاد الروم قاطبة، فكانت هذه أشد على المسلمين من الهزيمة (2). ثم هدم النصارى دور المدينة، بعد أن خلت من سكانها حتى أصبحت خرابا يبابا.
ولم يكن بين النصارى الظافرين وبين مدينة جيان سوى بضع مراحل، وكان من الطبيعي أن يقصد ملك قشتالة إلى انتزاع هذه القاعدة الأندلسية الهامة،
_______
(1) راجع أشباخ - الترجمة العربية ص 372، وكذلك:
Huici: Imperio Almohade, Vol. II p. 427.
(2) المعجب ص 184.(4/323)
ولو حاول ذلك لكان من المحقق أن يفوز ببغيته، في تلك الظروف التي انهار فيها خط الدفاع الأمامى بالأندلس. ولكن مصاعب التموين كانت تتفاقم، وقد سادت الفوضى بين جنود الجيش الظافر، الذين امتلأت أيديهم بالغنائم، ثم كانت الطامة بانتشار الوباء بينهم من جراء اشتداد الحرارة، وتعفن الجثث التي غصت بها تلك الوديان، فارتد الملوك النصارى في قواتهم نحو الشمال، ودخلوا طليطلة عاصمة قشتالة في موكب ملوكى ضخم، وأقيمت صلوات الشكر ابتهاجاً بالنصر، وتقرر أن يغدو يوم 16 يوليه، وهو اليوم الذي تحقق فيه النصر، عيداً قومياً يحتفل به في طليطلة وسائر أنحاء قشتالة، ويسمى عيد " ظفر الصليب ".
هذا وأما الخليفة الناصر لدين الله، فإنه بعد أن فر من ميدان المعركة في آخر لحظة، حسبما أشرنا من قبل، سار إلى جيّان ثم غادرها مسرعاً إلى إشبيلية فوصلها في أيام قلائل، في أواخر شهر صفر سنة 609 هـ، ووجه منها كتابه بالاعتذار عن الكارثة، إلى قواعد المغرب والأندلس. ولبث مقيما بإشبيلية حتى شهر رمضان من هذا العام، وهو لا يحرك ساكنا ولا يبالى بأمر، ثم عبر البحر إلى العدوة، قافلا إلى حضرة مراكش، وما كاد يستقر بها حتى أخذ البيعة بولاية العهد لولده السيد أبي يعقوب يوسف الملقب بالمستنصر، فبايعه كافة الموحدين، وخطب له على جميع المنابر بالمغرب والأندلس، وذلك في أواخر شهر ذي الحجة سنة تسع وستمائة. ثم لزم الناصر بعد ذلك قصره، واحتجب عن الناس. يقول صاحب روض القرطاس: " وانغمس في لذاته، فأقام فيه مصطبحاً ومغتبقاً " أي صباح مساء. وفي أوائل شهر شعبان سنة 610 هـ، مرض الناصر، وتوفي في مساء يوم الأربعاء العاشر من شعبان (22 ديسمبر سنة 1213 م) (1). وقد اختلف في أسباب وفاته، فقيل إنه توفي غما وألماً من آثار نكبته في العقاب (2). وقيل إنه توفي من عضة كلب (3)، وقيل إنه مات مسموماً، بتدبير بعض وزرائه، ممن خشوا من نقمته وانتقامه، لما بلغه عنهم من سوء فعلهم ودسائسهم، فأغروا
_______
(1) اختلف في يوم وفاته، فذكر إنه اليوم الخامس من شعبان أو اليوم العاشر (النويري - طبعة ريميرو ج 8 ص 280)، وذكر أنه اليوم الحادي عشر (روض القرطاس ص 160). ولكن المراكشي وهو أقرب من عاصره يضع تاريخ وفاته في يوم الأربعاء العاشر من شعبان (المعجب ص 184).
(2) الروض المعطار ص 138.
(3) الحلل الموشية ص 122.(4/324)
بعض جواريه بوضع السم له في قدح من الخمر فمات من حينه (1). ولكن المراكشي وهو في ذلك أكثر اطلاعاً وأقرب إلى الثقة، لمعاصرته لتلك الحوادث، يقول لنا إن أصح ما بلغه عن وفاة الناصر " أنه أصابته سكتة من ورم في دماغه، وذلك يوم الجمعة لخمس خلون من شعبان، فأقام ساكتا لا يتكلم يوم السبت والأحد والاثنين والثلاثاء، وأشار عليه الأطباء بالفصد فأبى ذلك، وتوفي يوم الأربعاء لعشر خلون من شعبان سنة 610، ودفن يوم الخميس، وصلى عليه خاصة الحشم " (2).
وكان الخليفة محمد الناصر لدين الله، آخر ذلك الثبت من الخلفاء الموحدين الذين اقترنت بعصرهم بعض الأحداث الضخمة الحاسمة، وكان أهم تلك الأحداث أولا تحطيم ثورة بني غانية في إفريقية، وهو ألمع حادث في عهده، ويقترن بذلك فتح الموحدين لميورقة، وثانيا نكبة العقاب المشئومة التي هزت أركان الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس. ولم يكن ثمة في بداية عهده ما يؤذن بأنه صائر إلى ذلك الانهيار، الذي انتهى إليه في فترته القصيرة، بل كانت صولة أبيه العظيمة، وذكريات نصر الأرك الباهر، مازالت تظلل الخلافة الموحدية. وقد بدأ الناصر عهده بداية حسنة، وأبدى همة ظاهرة في إدارة الشئون وتنظيم الإدارة، ومطاردة الفساد، وإقصاء العمال الظلمة والمرتشين، ولكنه لم يتذرع في ذلك بالروية وبعد النظر، بل كان يغلب في ذلك النزق والاستبداد. وكان الناصر في البداية، وهو مايزال في شرخ فتوته يسترشد بآراء أشياخ الموحدين، في تسيير الشئون الكبرى، ولاسيما بآراء الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص، وفقاً لوصية أبيه المنصور، ولكنه لما اشتد ساعده، استبد بالأمر، ولم يعد يقبل نصحاً أو مشورة من أحد، حتى أنه رفض نصح الشيخ أبي محمد عبد الواحد، حينما استشاره في شئون الأندلس، بألا يسير إلى غزوته الكبرى، التي انتهت بنكبته في موقعة العقاب. ولم يقع في عهد الناصر شىء يذكر من الأعمال الإنشائية، التي امتاز بها عهد أبيه وجده، ولم يكن الناصر على شىء خاص من أنواع العلوم أو المعرفة، ولم يجتمع في بلاطه أحد من أولئك العلماء المبرزين، الذين اجتمعوا حول أبيه، وإنما كان يلوذ ببلاطه فقط بعض الشعراء الملقين، الذين عرفناهم فيما تقدم، مثل أبي العباس الجراوى، ووزيره خالد اللخمى وغيرهما.
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 243، وروض القرطاس ص 160.
(2) المعجب ص 184، ونقله النويرى (طبعة ريميرو ج 8 ص 280).(4/325)
وقد وصف لنا المراكشي وهو مؤرخ معاصر، وربما شاهد عيان، صفات الناصر في قوله: " كان كثير الإطراق، شديد الصمت، بعيد الغور، كان أكبر أسباب صمته لثغاً كان بلسانه، حليما، شجاعاً، عفيفاً عن الدماء، قليل الخوض فيما لا يعنيه، إلا أنه كان بخيلا " (1). ونحن نعتقد أن وصف الناصر بالعفة عن الدماء، وصف في غير موضعه، لما رأيناه فيما تقدم، من تسرعه في سفك دماء بعض العمال، ودماء القادة الأندلسيين. ويقول صاحب روض القرطاس " إنه كان كبير الهمة، غليظ الحجاب، لا تكاد تصله الأمور إلا بعد الجهد، مصيب برأيه، مستبد في أموره وتدبير مملكته بنفسه " (2) وأما عن شخصه، فيوصف الناصر، بأنه كان أبيض، أشقر اللحية، أشهل العينين، نحيل الجسم، حسن القامة.
ووزر للناصر في البداية وزير أبيه عبد الرحمن بن يوجان، ثم استوزر من بعده أخاه إبراهيم بن الخليفة المنصور، ثم ولى الوزارة من بعده أبو عبد الله محمد ابن علي بن أبي عمران، فسار فيها سيرة حسنة، وكان يحض الخليفة على فعل الخير، ونشر العدل، والإحسان إلى الرعية والجند، ثم عزله الناصر، ووُلّى الوزارة من بعده، أبو سعيد عثمان بن عبد الله بن إبراهيم بن جامع. وإبراهيم هو جد هذه الأسرة من الوزراء ومن صحب المهدي ابن تومرت حسبما سبقت الإشارة إليه. وتولى القضاء للناصر، أبو القاسم أحمد بن بقى قاضي أبيه، ثم أبو عبد الله محمد بن مروان، فلبث في منصبه حتى توفي في سنة 601 هـ، فخلفه في القضاء أبو عمران موسى بن عيسى بن عمران، واستمر بقية عهد الناصر وشطراً من عهد ابنه المستنصر. وكان من كتاب الناصر اثنان من أسرة بني عياش اللامعة، هما الكاتب الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عياش كاتب أبيه من قبل، وأبو الحسن علي بن عياش بن عبد الملك بن عياش، وكان أبوه من كتاب عبد المؤمن، وأبو عبد الله محمد بن يخلفتن الفازازي.
وكان من كتاب جيشه أبو الحجاج يوسف المرانى وهو أندلسي من أهل شريش، وأبو جعفر أحمد بن منيع. ولم ينجب الناصر لدين الله من الولد سوى ثلاثة من البنين، هم يوسف المستنصر ولى عهده، والخليفة من بعده، ويحيى وقد توفي في حياة أبيه في سنة 608 هـ، وإسحاق، وعدد من البنات.
_______
(1) المعجب ص 176.
(2) روض القرطاس ص 153.(4/326)
الكِتاب الثامِنْ الدولة الموحديّة في طريق الانحلال والتفكك(4/327)
الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله وأوائل ظهور بني مرين
يوسف المستنصر يخلف أباه الناصر. بيعته الخاصة ثم بيعته العامة. وزراؤه وكتابه. ميله إلى حياة الدعة. عماله على الولايات. السيد أبو إسحق والي غرناطة. السيد أبو العلاء أمير تونس. ثورة الفاطمى العبيدى. تفاصيل حركته. إخماد ثورته وإعدامه. مقدم سفير قشتالة في طلب السلم. عقد السلم مع قشتالة. بواعث إيثار قشتالة للسلم. طلائع بني مرين عند أحواز فاس. أصول بني مرين ومنازلهم. انتسابهم إلى العرب. أمراؤهم الأوائل. صراعهم مع القبائل الخصيمة. اللقاء الأول بينهم وبين الموحدين. هزيمتهم ومقتل أميرهم. اشتراكهم في الجهاد مع الموحدين. انحلال قوي الموحدين عقب موقعة العقاب. نهوض بني مرين لانتهاز الفرصة. إغارتهم على أطراف المغرب. تأهب الموحدين لردهم. اللقاء بين الفريقين. موقعة المشعلة. هزيمة موحدية أخرى في رباط تازة. الخلاف بين بني مرين. خروج بني حمامة منهم. أميرهم عبد الحق. تحالف المنشقين مع الموحدين والعرب. القتال بين الفريقين. مقتل عبد الحق وولده إدريس. تجدد الحرب وهزيمة بني حمامة. أبو سعيد عثمان يتولى رياسة بني مرين. حوادث الأندلس. مهاجمة البرتغاليين والصليبيين لثغر القصر. محاصرة النصارى للثغر. مبادرة الموحدين إلى إنجاده. اللقاء بين المسلمين والنصارى. هزيمة المسلمين. صمود حصن القصر ثم تسليمه. استيلاء النصارى على حصن القصر. محاصرة ملك ليون لقاصرش وصمودها. تكرار الهجرم عليها ومعاودة حصارها. سقوطها في أيدي النصارى. أحوال المغرب في هذا الوقت. ركود بلاط مراكش وتواكله. اضطراب الأمن. الأحوال الاقتصادية وانتشار المجاعة. كتاب الخليفة المستنصر إلى الولاة والأعيان والكافة. تجدد التهادن بين الموحدين وقشتالة. كتاب البلاط الموحدي إلى ملكة قشتالة. مصرع المستنصر الفجائى. ركود عهده واضطراب الأحوال فيه. أقوال المؤرخين في ذلك. أحوال المغرب حسبما يصورها ابن عبد الملك. صورة أخرى للمستنصر وخلاله. حكومة المستنصر. وزراؤه وكتابه وقضاته.
تدخل الدولة الموحدية، بعد وفاة الخليفة محمد الناصر لدين الله، في العاشر من شعبان سنة 610 هـ، في مرحلة جديدة من مراحل حياتها، مرحلة انحلال مضطرد، وصراع داخلى مستمر على انتزاع العرش، وتنتثر أسرة بني عبد المؤمن الشامخة، إلى شيع وأحزاب ضعيفة متخاصمة، وينتثر شمل القبائل الموحدية حول تأييد هذا الفريق أو ذاك، وتنهار قوي الدولة الموحدية ومواردها الضخمة تباعاً، سواء بالمغرب أو الأندلس، في معارك انتحارية مستمرة، وتتخذ هذه(4/328)
المرحلة في الأندلس بالأخص، طابعاً مشئوماً، لم يسبق للأندلس أن نكبت بمثله، فتغدو من جديد مسرحاً مضطرما للحرب الأهلية، أولا فيما بين الموحدين المتنافسين على العرش، وثانيا فيما بين أبناء الأندلس أنفسهم، وفي خلال هذه الموجة الغامرة من المحنة القومية، تتحفز اسبانيا النصرانية، لانتهاز الفرصة السانحة، وتنظم متعاونة متفاهمة، أخطر برنامج لفتوح " الاسترداد "، وتهتز مصاير القواعد الأندلسية الكبرى، ومصاير الأمة الأندلسية كلها.
خلف المستنصر بالله، أبو يعقوب يوسف، أباه محمد الناصر، في اليوم التالي لوفاته، في الحادي عشر من شعبان سنة 610 هـ (23 ديسمبر سنة 1213 م) وأمه حرة، هي فاطمة بنت السيد أبي علي بن يوسف بن عبد المؤمن، وقيل إنها أم ولد نصرانية تدعى قمر (1). وكان المستنصر حين ولايته فتى في السادسة عشرة من عمره، إذ كان مولده في أول شوال سنة 594 هـ (2)، وهناك أقوال أخرى بأنه كان في العاشرة من عمره (3)، ولكننا نفضل الأخذ بالرواية الأولى، إذ هي رواية المؤرخ الموحدي المعاصر، وهو الذي يقدم لنا تاريخ مولده، ويأخذ بهذه الرواية مؤرخان كبيران هما ابن خلكان وابن خلدون (4).
وكان يوسف المستنصر فتى وسيما، حسن القد، جميل المحيا، صافى السمرة، شديد الكحل، ولم يكن على قول المؤرخ في بني عبد المؤمن أحسن وجها منه، ولا أبلغ في المخاطبة (5). وكان أبوه الناصر لدين الله قد أخذ له البيعة بولاية عهده عقب عوده من الأندلس، على أثر موقعة العقاب، في أواخر ذي الحجة سنة 609 هـ، قبيل وفاته بأشهر قلائل، وكان أول من أخذ له البيعة الخاصة، عم جده أبو موسى عيسى بن عبد المؤمن، وأبو زكريا يحيى بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، ومن أشياخ الموحدين أبو محمد عبد العزيز بن عمر ابن أبي زيد الهنتاني، وأبو علي عمر بن موسى عبد الواحد الشرقي، وأبو مروان
_______
(1) يقول بالرواية الأولى، صاحب روض القرطاس (ص 160)، وبالثانية المراكشي (المعجب ص 184).
(2) المراكشي في المعجب ص 184.
(3) هذه هي رواية ابن عذارى في البيان المغرب - القسم الثالث ص 243، وصاحب الحلل الموشية ص 133.
(4) ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 2 ص 434، وابن خلدون في العبر ج 6 ص 250.
(5) وفيات الأعيان ج 2 ص 434.(4/329)
عبد الملك بن يوسف من أهل تينملل، وكان هؤلاء النفر من القرابة والأشياخ هم الذين نصبوا أنفسهم للوصاية على الخليفة الصبي وتوجيهه، وذلك بتوصية من والده الخليفة المتوفى، واستغرقت البيعة الخاصة يومى الخميس والجمعة، الحادي عشر والثاني عشر من شعبان، وفي يوم السبت أذن بأداء البيعة العامة. ويقول لنا المراكشي، وقد كان من شهود ذلك اليوم، أن أبا عبد الله بن عيّاش الكاتب كان قائماً يقول للناس: " تُبايعون أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين على ما بايع عليه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رسول الله، من السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، والنصح له ولولاته ولعامة المسلمين. هذا ما له عليكم. ولكم عليه ألا يجمر بعوثكم، وأن لا يدخر عنكم شيئاً مما تعمكم مصلحته، وأن يعجل لكم عطاءكم، وأن لا يحتجب دونكم، أعانكم الله على الوفاء، وأعانه على ما قلد من أموركم ". وكان يعيد هذا القول لكل طائفة إلى أن انقضت البيعة (1). وأخذت بعد ذلك بيعات الأعيان والوفود القادمين من مختلف الأنحاء، ثم وردت بيعات مختلف البلاد بالمغرب والأندلس. واتخذ الخليفة الجديد لقب المستنصر بالله، وفي بعض الروايات أنه لُقب أيضاً بالمنتصر بالله (2).
ولم يتأخر في تقديم البيعة سوى الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص والي إفريقية، وذلك لصغر سن المستنصر. ولكن الوزير أبا سعيد بن جامع بذل سعيه لدى الشيخ لتسوية هذا الأمر، فوصلت بيعته فيما بعد (2).
وتولى الوزارة للمستنصر وزير أبيه من قبل، أبو سعيد عثمان ين عبد الله ابن إبراهيم بن جامع، فاستمر في الوزارة حتى سنة 615 هـ، ثم عُزل وخلفه زكريا ابن يحيى بن إسماعيل الهزرجى. وهو ابن بنت الخليفة يعقوب المنصور، أعني ابن عمة المستنصر، فاستمر في الوزارة حتى نهاية عهده. وتولى الكتابة للمستنصر كاتب أبيه وجده من قبل أبو عبد الله بن عياش، وأبو الحسن بن عياش.
وكان الخليفة الجديد ميالا إلى حياة الدعة والبطالة مشتغلا عن تدبير الأمور بما تقتضيه نوازع الشباب (3) لا يعنيه شىء من مهام الملك، أو بعبارة أخرى لا يمكن من العناية بشىء منها. وكانت الأمور تجرى وفقاً لما يراه ويبرمه الأشياخ
_______
(1) المعجب ص 185 و 186.
(2) روض القرطاس ص 160، وتاريخ الدولتين للزركشى (تونس 1289 هـ) ص 14.
(3) ابن خلكان ج 2 ص 234، وابن خلدون ج 6 ص 250.(4/330)
الأوصياء. وكان عهده على العموم، يمتاز بالهدوء والركود، لم تقع خلاله حوادث ذات شأن، ولم تنظم غزوات ما، ولم تُحشد الجيوش الموحدية، ولم تعبر البحر إلى شبه الجزيرة، وفقاً لما جرى عليه الأمر، منذ عهد أول الخلفاء الموحدين عبد المؤمن بن علي.
وعقد المستنصر لأول ولايته للسادة، على عمالات الولايات بالمغرب، والأندلس. فولّى على مدينة فاس السيد أبا إبراهيم إسحق الملقب بالأمير الظاهر ابن يوسف بن عبد المؤمن وكان والياً على غرناطة، وهو أبو الخليفة المرتضى. وقد اشتهر السيد أبو إبراهيم إسحق هذا أيام ولايته لغرناطة في آخر عهد الناصر، بمنشآته العمرانية بها، وكان من أهمها وأجملها القصر الذي أنشأه خارج غرناطة على مقربة من ضفة نهر شنيل، وهو القصر الذي عرف فيما بعد أيام ملوك غرناطة " بقصر السيد ". والظاهر أن السيد إسحق ولى حكم غرناطة في عهد المستنصر مرة أخرى، إذ يقول لنا صاحب " الحلل الموشية " إنه أنشأ أمام هذا القصر، رابطة في سنة 615 هـ. وقد استعمل " قصر السيد " أيام ملوك غرناطة منزلا للضيافة الملوكية، وما زالت تقوم حتى اليوم بعض أطلاله، في ضاحية غرناطة المسماة " أرملة " (1).
وولي على إشبيلية عمه السيد أبا إسحاق بن يعقوب المنصور، وهو المعروف بالأحول، وبعث عم أبيه أبا العلاء الكبير إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن إلى تونس ليستقر في قصبتها، وأن يكون أميراً عليها، يعنى بتدبير شئونها، والدفاع عنها ضد الميورقي، إلى جانب الشيخ أبي محمد بن أبي حفص والي إفريقية. والسيد أبو العلاء هذا هو الذي أنشأ البرجين على باب المهدية، وأنشأ باب سبتة الجديد، ثم أنشأ بإشبيلية برج الذهب الشهير أيام ولايته لها (2).
وكان أول حادث ذو شأن وقع في ولاية المستنصر، هو إخماد ثورة الفاطمي العبيدى. وقد روى لنا المراكشي قصة هذا الدعى كاملة، وقد عرفه
_______
(1) راجع في ذكر " قصر السيد " ووصفه، الحلل الموشية ص 126، والإحاطة في أخبار غرناطة (1956) ج 1 ص 125، 324 و 561. وراجع كتابى " الآثار الأندلسية الباقية " (الطبعة الثانية) ص 176.
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 243 و 173، وابن خلدون ج 6 ص 25، وروض القرطاس ص 161.(4/331)
واجتمع به. وكان اسمه عبد الرحمن، ويدعى أنه من بني عُبيد، وأنه ولد الخليفة العاضد بالله آخر الخلفاء الفاطميين. وكان قد ورد على المغرب، أيام الخليفة المنصور، وسعى إلى الاجتماع به فلم يأذن له، واستمر يطوف بالبلاد، إلى أن قُبض عليه بأمر الخليفة الناصر، واعتقل في سنة 596 هـ، فلم يزل في سجنه إلى أن تحرك الناصر إلى إفريقية في سنة 608 هـ، فشفع له فيه أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الهزرجى، فوافق على إطلاق سراحه، على أن يلتزم السكينة، وألا يشتغل بأي أمر غير مرغوب فيه. ولكن الدعى ما كاد يسترد حريته، حتى غادر مراكش إلى بلاد صَنهاجة، وهنالك التف حوله كثيرون ممن جذبتهم دعوته، وكانوا يعظمونه ويبجلونه. يقول المراكشي " وكان هذا الرجل كثير الإطراق والصمت، حسن الهيئة، لقيته مرتين، فلم أر في أكثر من شهدته من المشبهين بالصالحين، مثله في الآداب الظاهرة، من هدوء النفس، وسكون الأطراف، ووزن الكلام وترتيب الألفاظ، ووضع الأشياء مواضعها، مع الرياضة المفرطة ". ثم خرج هذا الرجل في جموعه متجهاً صوب مدينة سجلماسة، فخرج إليه واليها السيد أبو الربيع سليمان بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، فهزمه العُبيدى، واضطر أن يرتد في فلوله إلى سجلماسة، ومازال العبيدي يتنقل بين قبائل البربر، من موضع إلى موضع، دون أن يستقر في مكان، أو تثبت حوله جماعة، إذ كان وفقاً لقول المراكشي " غريب البلد واللسان، لا عشيرة له ولا أصل بالبلاد يُرجع إليه " حتى رمت به المقادير إلى أحواز فاس. وكانت السلطات الموحدية تطارده أينما حل، فقُبض عليه بظاهر المدينة، وأودعه حاكم فاس، وهو السيد إسحاق، المطبق، وكتب إلى الخليفة المستنصر بأمره، فكتب إليه المستنصر يأمر بقتله وصلبه، قضُرب عنقه، وصلب جسده، وأرسلت رأسه إلى مراكش، حيث علقت هنالك إلى جانب عدة أخرى من رؤوس الثوار والمتغلبين (1).
ويضع ابن عذارى تاريخ ثورة العبيدي في سنة 612 هـ (1215 م)، ويقول إنه قام بثورته في بلاد جزولة، من إقليم السّوس، وكان يزعم أنه فاطمى من ذرية عبد الله الشيعي، ولم يزل يبث دعوته حتى ظفر به الموحدون فقتل وعلق رأسه على باب فاس (2). بيد أننا نؤثر الأخذ برواية المراكشي،
_______
(1) المراكشي في المعجب ص 186.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 243.(4/332)
وهو معاصر وشاهد عيان، وهو ينفرد بما يقدمه إلينا من التفاصيل.
وفي نفس هذا العام، سنة 612 هـ (1215 م) وصل إلى مراكش إبراهيم ابن الفخار اليهودى وزير ملك قشتالة، سفيراً إلى الخليفة الموحدي في شأن التهادن وعقد السلم، فرحب المستنصر وأوصياؤه، بهذه الرغبة، ووجه كتابين إلى الأندلس، أحدهما إلى السيد أبي الربيع والي جيان، والثاني إلى الشيخ أبي العباس بن أبي حفص والي قرطبة، يطلب إليهما عقد التهادن والسلم مع ملك قشتالة، على جميع بلاد الموحدين بالأندلس، وفقاً للشروط التي اتُّفق عليها بين الخليفة وبين ابن الفخار، والتزم بها السفير القشتالي نيابة عن مليكه، وكان عقد السلم مع قشتالة على هذا النحو، خطوة طيبة، حققت للأندلس فترة من الهدوء والسلام (1).
ويجب لكي نفهم البواعث التي حملت قشتالة، على أن تسعى إلى عقد السلم مع الموحدين، ولما يمض سوى ثلاثة أعوام على انتصارها الساحق في معركة العقاب، أن نذكر أنه لما توفي ألفونسو الثامن ملك قشتالة، وهو الظافر في معركة العقاب، في أكتوبر سنة 1214 م، خلفه على العرش ولده الطفل هنري (إنريكى)، ولم يكن قد جاوز الحادية عشرة من عمره، فتولت أمه الملكة إليونور، الوصاية عليه، ولكنها توفيت بعد أشهر قلائل، فخلفتها في الوصاية أخته دونيا برنجيلا، زوجة ألفونسو التاسع ملك ليون المُطلَّقة، وكان آل لارا الأقوياء يطمحون إلى انتزاع الوصاية لأنفسهم، فتنازلت عنها إليهم دونيا برنجيلا بشروط تعهدوا باحترامها، أهمها ألا يعلنوا الحرب على أي ملك، أو يتنازلوا عن الأراضي للأتباع، أو يفرضوا أية ضرائب، دون موافقة الملكة (برنجيلا). وسارت الأمور في قشتالة على هذا النحو حيناً، حتى توفي الملك الصبي هنري بعد ذلك بقليل من جرح أصابه خلال اللعب مع بعض الصبية الآخرين، وذلك في يونيه سنة 1217. فعندئذ بادرت الملكة برنجيلا باستقدام ولدها فرناندو وهو الذي رزقت به من ألفونسو ملك ليون، وكان صبياً في الثانية عشرة من عمره، واستدعاء صحبها المخلصين، وسارت إلى بلد الوليد، وهنالك أعلنت نفسها ملكة لقشتالة، بيد أنها تنازلت في الحال عن العرش لولدها
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 244.(4/333)
فرناندو فأصبح ملكاً على قشتالة (أول يوليه سنة 1217 م) وهذا الملك الصبي، هو الذي غدا فيما بعد فرناندو الثالث، أو فرناندو المقدس (1).
وفضلا عما كان يحيق بعرش قشتالة من عوامل التقلقل والضعف، فإن أحوال قشتالة العامة لم تكن يومئذ تدعو إلى الرضى، فإن آثار الوباء كانت ما تزال متفشية في معظم الأنحاء، وكان الإنتاج الزراعى قد انخفض من جراء ذلك، وهلكت المحاصيل، وانتشرت المجاعة بين السكان.
نستطيع على ضوء هذه الظروف التي كانت تجوزها قشتالة عندئذ، أن نفهم كيف جنحت قشتالة إلى المسالمة، وآثرت أن تجوز فترة هدوء وسلام، تستطيع خلالها أن تنظم شئونها، وأن توطد عرشها، وأن تعمل على إنعاش مواردها وأحوالها الزراعية والاقتصادية.
وفي العام التالي أعني في سنة 613 هـ (1216 م)، وقع حادث ضئيل في ظاهره، كبير في مغزاه، ونتائجه المحتملة، هو ظهور طلائع بني مَرِين في أحواز مدينة فاس. وقد شرح لنا ابن خلدون أصل أولئك القوم، الذين كتب لهم، أن ينتزعوا ملك الموحدين فيما بعد، فهم من شعوب بني واسين من بطون قبيلة زناتة الشهيرة، التي ينتمى إليها عدة من القبائل البربرية التي لعبت أدواراً بارزة في تاريخ المغرب، مثل مغراوة، ومغيلة، ومديونه، وبنى يفرن، وبنى دمر، وزواغة، وجراوة، وبنى عبد الواد، وغيرهم. ومع ذلك فإن بني مرين، كمعظم الأسر البربرية التي شادت بالمغرب دولا شامخة، يُرجعون نسبتهم إلى العرب وقد رأيت أن هذا كان شأن المرابطين حيث تُرجع صَنهاجة التي تنتمى إليها لمتونة نسبتها إلى العرب اليمانية، وشأن الموحدين، حيث ينتسب صاحب دعوتهم المهدي ابن تومرت، إلى آل البيت، ويُرجع مؤسس دولتهم عبد المؤمن نسبته إلى قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان. وإلى هذا الفرع أيضاً ينتسب بنو مرين، فيقولون إنهم من ولد بر بن قيس عيلان بن مضر بن نزار، وجدهم الأعلى جرماط بن مرين بن ورتاجى بن ماخوخ بن وجديج بن فاتن بن يدّر ابن يجفت بن يصليتن بن عبد الله بن ورتيب بن المعز بن إبراهيم بن سجيك ابن واسين (2). وكانت منازل بني مرين، وإخوانهم من بني مديونة وبني يلومي
_______
(1) M.Lafuente: Historia General de Espana. T. III. p. 880 & 881
(2) الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية (طبع الجزائر 1920) ص 10، 11، 16،=(4/334)
وبنى يادين بن محمد في المغرب الأوسط، ما بين وادي ملوية شمالا وسجلماسة جنوباً. وكانت المعارك كثيراً ما تنشب بين بني مرين وجيرانهم من بني يادين، وهم الذين ينتمى إليهم بنو عبد الواد، أصحاب مملكة تلمسان فيما بعد، وكانت الغلبة في معظم الأحيان علي بني مرين، لكثرة خصومهم من بني يادين، وكان بنو مرين كمعظم البطون البربرية في تلك المنطقة، من البدو الرحل، يتجولون في هاتيك القفار شرقاً وغرباً، وربما وصلوا في ظعنهم شرقاً إلى بلاد الزاب. وقد كانت الرياسة فيهم، حسبما تذكر الرواية قبل ذلك بعصور، لمحمد بن وزير ابن فكوس بن كرماط بن مرين. ولما توفي محمد قام بأمر بني مرين من بعده أكبر أولاده حمامة، ثم خلفه أخوه عسكر، فلما توفي قام مكانه في الرياسة ولده أبو يكى الملقب بالمخضب، فلم يزل أميراً عليهم حتى ظهر أمر الموحدين، وزحف عبد المؤمن إلى تلمسان في أثر تاشفين بن علي، ليخوض معه المعركة الحاسمة (539 هـ)، وبعث قوة من الموحدين بقيادة الشيخ أبي حفص عمر الهنتاني، لمحاربة الخوارج من بطون زناتة، فاجتمع لقتاله بنو يادين وبنو يلومى وبنو مرين ومغراوة، فمزق الموحدون جموعهم، وأذعن بنو يلومى وبنو يادين وبنو عبد الواد إلى الطاعة. ولكن بني مَرِين لحقوا بالصحراء في اتجاه الزاب. ولما دخل عبد المؤمن وهران، على أثر مصرع تاشفين تبدد قواته، واستولى على أموال لمتونة وذخائرها، عهد بهذه الأموال والذخائر إلى قوة من الموحدين لتحملها إلى تينملل، فعلم بنو مرين بذلك، واعترضوا تلك القوة، وانتزعوا الغنائم من أيدي الموحدين. فحشد عبد المؤمن أولياءه من بطون زناتة، وبعثهم مع الموحدين لاستنقاذ الغنائم. والتقى الموحدون وبنو مرين في مكان يعرف بفحص مسون، فهزم بنو مرين، وقتل شيخهم المخضب بن عسكر، وذلك في سنة 540 هـ (1145 م). ولجأ بنو مرين على أثر ذلك إلى الصحراء، وعادوا إلى القفر يرقبون الفرص. (1)
وقام بأمر بني مرين بعد المُخضب بن عسكر، ابن عمه أبو بكر بن حمامة ابن محمد. ولما توفي في سنة 561 هـ، قام بأمرهم ولده محيو، فلم يزل في
_______
= و 17، وابن خلدون في كتاب العبر ج 7 ص 161. ويقدم لنا صاحب الذخيرة السنية شرحاً طويلا لكيفية تحول نسل بر بن قيس عيلان بالمغرب من العروبة إلى البربرية.
(1) الذخيرة السنية ص 18 و 19.(4/335)
رياستهم، حتى استنفرهم الخليفة يعقوب المنصور للجهاد معه بالأندلس، فاشتركت معه منهم جماعة كبيرة في موقعة الأرك، وأبلوا فيها البلاء الحسن (591 هـ - 1195 م)، وأصيب عميدهم محيو في المعركة بجرح توفي منه بعد بضعة أشهر، فخلفه في الرياسة أكبر أولاده أبو محمد عبد الحق، وكان من خيرة أمرائهم، وعلى يديه أخذ نجم بني مرين يبزغ في الأفق (1).
ولما وقعت كارثة العقاب، وفنى معظم الجيوش الموحدية، في شبه الجزيرة الأندلسية، أخذت بوادر التفكك والضعف تبدو على سلطان الموحدين، في معظم العمالات والأطراف. ولم يكن ذلك بخاف على القبائل المتوثبة مثل بني مرين. ولما توفي الخليفة الناصر، وخلفه ولده الصبي يوسف المستنصر، وشغلته نزوات الحداثة والشباب، عن تدبير شئون الدولة، وغلب التواكل والتراخى، على السادة والأشياخ، في مختلف النواحي، لاح لبني مرين أن فرصتهم قد سنحت. وكانوا لا يأوون إلا إلى القفار، ولا يخضعون لأى حكم، ولا يؤدون الجزية لأحد، ولا يعرفون الحرث والزرع، ولا شاغل لهم غير الصيد والغارات، وجل أموالهم من الإبل والخيل (2). وكانت منازلهم ما تزال في جنوبي وادي ملوية، وكانوا يترددون في تلك الأنحاء، ولاسيما في المنطقة الممتدة ما بين وادي ملوية ومكناسة، ويأنسون بمن بها من عسائر زناتة، وينتجعون المرعى أيام الربيع والصيف، ويجمعون الحبوب لأقواتهم طيلة الشتاء، ثم يرتدون إلى منازلهم في القفر فوق التلال والربى. فلما شهدوا من تضعضع الدولة الموحدية، وتخاذل أطرافها ما شهدوا، أعتزموا أن يهجروا القفر، وأن ينتجوا العمران، فنفذوا إلى نواحي المغرب المجاورة، واكتسحوا بخيلهم البسائط، وملأوا أيديهم بالغارة والنهب، وكان ذلك بداية عهد الخليفة المستنصر. فثار لذلك بلاط مركش، وأمر المستنصر بتجهيز الحشود، وندب أبا علي بن وانودين للقيادة، وبعثه إلى السيد إبراهيم إسماعيل والي فاس، وأمر بأن يخرج السيد لغزو بني مرين، وأن يثخن فيهم وأن يستأصل شأفتهم، وكان بنو مرين حينما علموا بأمر هذه الأهبة قد اجتمعوا وتشاوروا، واتفق رأيهم على التأهب للحرب والنزال، فتركوا أموالهم وحريمهم في حصن تاروطا بأرض غمارة، وساروا جنوبا صوب فاس،
_______
(1) ابن خلدون في العبر ج 7 ص 167.
(2) الذخيرة السنية ص 23.(4/336)
وكانوا في نحو أربعمائة فارس غير الرجّالة، وخرج الموحدون إليهم بقيادة السيد أبي إبراهيم، وكانوا في عشرين ألف مقاتل أو في عشرة آلاف وفقاً لرواية أخرى. والتقى الفريقان بوادي نكور، فكانت الهزيمة على الموحدين، واستولى بنو مرين على أسلابهم ودوابهم ومتاعهم بل وثيابهم، وأسروا السيد أبا إبراهيم ثم أطلقوا سراحه بعد ذلك، وارتدت فلول الموحدين إلى فاس، وبعضهم نحو رباط تازة، وكثير منهم يسترون أنفسهم بورق النبات المعروف " بالمشعلة " حتى لقد سميت هذه الموقعة بموقعة المشعلة، بل سمى هذا العام (سنة 613 هـ) بعام المشعلة (1)، وسار بنو مرين بعد ذلك شرقاً نحو بلدة رباط تازة، وبعث أميرهم أبو محمد عبد الحق إلى عاملها الموحدي، يطلب إليه أن يقيم في خارجها سوقاً لبني مرين، يتزودون منها بما يحتاجون إليه، فأنف العامل الموحدي، وثار لذلك الطلب، وخرج في جمع غفير من الموحدين والعرب وأبناء القبائل المجاورة، ونشبت بينه وبين المرينيين معركة شديدة هزم فيها وقتل، ونهبت محلته. فكان ثانى نصر لبني مرين على الموحدين في ظرف بضعة أشهر (2).
ثم وقع الخلاف بين بني مرين أنفسهم، وانقسموا إلى فرقتين، الأولى يتزعمها بنو عسكر بن محمد، والثانية يتزعمها بنو حمامة بن محمد، وقد كانت الرياسة في البداية في بني عسكر، ثم انتقلت إلى بني حمامة، فغص بذلك فريق بني عسكر، وخرجوا على أميرهم أبي محمد عبد الحق، وتحالفوا مع أولياء الموحدين من عرب رياح، وكان الخليفة المنصور قد أنزلهم بتلك المنطقة. وفي سنة 614 هـ، نشبت بين بني عسكر وحلفائهم من أولياء الموحدين، وبين بني حمامة في وادي سبو، موقعة هزم فيها بنو حمامة في البداية، وقتل أميرهم عبد الحق وولده الأكبر إدريس، فاضطرم بنو حمامة سخطاً، واستجمعوا قواهم، وحملوا على خصومهم من الموحدين والعرب حملة عنيفة، كثر فيها القتل من الجانبين، وانتهت بهزيمة الموحدين والعرب وتمزيق جموعهم، وانتهاب سائر أسلابهم. (جمادى الآخرة سنة 614 هـ). وقام برياسة بني مرين بعد مقتل أميرهم عبد الحق، ولده أبو سعيد
_______
(1) ابن خلدون ج 7 ص 169، والبيان المغرب القسم الثالث ص 244 و 247، وروض القرطاس ص 188، والذخيرة السنية ص 26 - 28.
(2) الذخيرة السنية ص 31 و 32.(4/337)
عثمان، وهو الذي بزغ على يديه نجم بني مرين، وأصبحوا قوة لها خطرها (1).
...
ولقد أشرنا فيما تقدم إلى عقد التهادن والسلم بين الموحدين ومملكة قشتالة، ولكن هذا التهادن لم يتحقق بالنسبة لباقى الممالك الإسبانية النصرانية، ومن ثم فقد وقعت بالأندلس، في قطاع الغرب، حوادث هامة، كان من نتائجها، أن نكبت الأندلس بفقد طائفة جديدة من الأراضي والحصون.
وكان أول ضربة أصابت الأندلس من جراء العدوان النصراني، فقد ثغر القصر أو قصر أبي دانس (2)، وهو أمنع قاعدة دفاعية إسلامية في منطقة الغرب. وكانت القصر قد سقطت في أيدي البرتغاليين في سنة 555 هـ (1160 م)، على أثر اضطراب الحوادث في منطقة الغرب، ولما عبر الخليفة المنصور إلى شبه الجزيرة لأول مرة، لاسترداد شلب التي استولى عليها البرتغاليون بمعاونة النصارى الصليبيين، في سنة 585 هـ، غزا منطقة الغرب واستطاع أن يسترد حصن القصر من النصارى في جمادى الأولى سنة 587 هـ (يونيه 1191 م)، وولي عليه أبا بكر محمد بن وزير. ويقع ثغر القصر جنوب شرقي أشبونة على مصب نهر شطوبر Sadoa، على مقربة من المحيط الأطلنطى، ويتسع مصب هذا النهر لدخول السفن الكبيرة، تشقه حتى أسوار المدينة، ويتصل قبل مصبه في المحيط بخليج واسع يصلح لتجمع السفن الغازية. وكانت مناعة القصر تقف سداً منيعاً ضد تقدم البرتغاليين نحو الجنوب. ففي أوائل سنة 614 هـ (1217 م) وصل إلى شواطىء البرتغال أسطول من الصليبيين الألمان في طريقه إلى المشرق، ورسا في مياه أشبونة (لشبونة)، فانتهز البرتغاليون تلك الفرصة، ودعوا إلى إشهار الحرب الصليبية، ضد مسلمي الأندلس، وسار البرتغاليون وحلفاؤهم الصليبيون الألمان إلى ثغر القصر، وضربوا حوله الحصار من البحر ومن البر، وذلك في 30 يوليه سنة 1217 م، فامتنع المسلمون داخل ثغرهم، وبادر واليها عبد الله ابن وزير، وهو ولد واليها السابق أبي بكر بن وزير، يطلب الإنجاد من الموحدين، ووصل صريخه إلى بلاط مراكش، فبعث المستنصر إلى ولاة قرطبة وإشبيلية، وجيّان وولاة الغرب، بحشد جيوشهم، والمبادرة إلى إنجاد الثغر المحصور،
_______
(1) الذخيرة السنية ص 32 - 34، وابن خلدون ج 7 ص 170.
(2) وهي بالبرتغالية Alcacer do Sal(4/338)
وسارت الجيوش الموحدية المجتمعة صوب القصر، فوصلت إليه في أوائل شهر سبتمبر، وكان المسلمون مازالوا صامدين في ثغرهم، وقد استطاعوا أن يردوا عدة هجمات للمحاصرين. وسارت في نفس الوقت طائفة من السفن الموحدية إلى مياه القصر، لتسد الطريق على السفن المحاصرة. ونشب القتال بين الجيوش الموحدية المتحدة وبين النصارى. والظاهر أن البرتغاليين كانوا يتفوقون في الكثرة على المسلمين، إذ كان جيشهم يضم وفقاً للرواية النصرانية ذاتها، عشرين ألفاً من الرجّالة وعدداً من الفرسان. فهزم المسلمون ومزقت صفوفهم. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن المسلمين ما كادوا يرون النصارى حتى أدركهم الرعب، وولوا الأدبار، وذلك لسابق رعبهم منذ هزيمة العقاب، فطاردهم النصارى وقتلوهم عن آخرهم (1)، ويقول صاحب الروض المعطار، إنه قد اجتمع من الأمداد جيش عظيم، لكنهم تخاذلوا على عادتهم، فكانت الهزيمة عليهم وولوا مدبرين، ووقع القتل والأسر، ولم يبرز للمسلمين من الروم إلا نحو سبعين فارساً، ورأى أهل الحصن ذلك فأيقنوا بالتغلب عليهم (2).
ويضع ابن الأبار تاريخ الموقعة في شهر جمادى الأولى سنة 614 هـ (أغسطس 1217 م)، وفي موطن آخر في أحد شهرى ربيع سنة 614 هـ متقدماً قليلا عن الرواية النصرانية، ويقول إنه فقد فيها آلاف من المسلمين بتخاذل رؤسائهم، يوم التقى الجمعان، وأن الموقعة كانت " إحدى الكوائن المنذرة حينئذ بما آلى إليه أمر الأندلس " (3).
ومع ذلك فقد بقيت حصن القصر صامدة، فلما رأى النصارى أنهم لم يستطيعوا ثلم الأسوار، صنعوا برجين عاليين من الخشب، يضارعان في ارتفاعهما أبراج المدينة، وشحنوهما بالرماة، وركبوا في جوانبهما آلات الرمى، وضربوا الأسوار من هذين البرجين ضرباً شديداً، حتى أيقن المدافعون أنه لا أمل في الصمود، فعرضوا التسليم. على أن يسمح لهم بالخروج بأموالهم، فرفض النصارى، ووافقوا فقط أن يسمح لهم بالخروج أحياء، دون أن يحملوا شيئاً معهم. ففتحوا الأبواب، وانطلقوا إلى حال سبيلهم، وسلمت المدينة بعد أن لم تبق أية وسيلة
_______
(1) روض القرطاس ص 161.
(2) الروض المعطار ص 162.
(3) الرواية الأولى في الحلة السيراء ص 242. والثانية في التكملة (القاهرة) ج 2 في الترجمة رقم 1577.(4/339)
للدفاع، وذلك في 18 أكتوبر سنة 1217 م (14 رجب 614 هـ)، بعد شهرين ونصف من بدء الحصار. وسلم قائد الثغر، وهو عبد الله بن وزير، نفسه للنصارى، وتظاهر باعتناق النصرانية طلباً للسلامة، ولكن لم تمض أيام قلائل حتى استطاع الفرار، والوصول إلى الأراضي الإسلامية. ولجأ فيما بعد إلى مدينة إشبيلية. ودخل النصارى على مدينة القصر أو قصر أبي دانس، وقتلوا كل من كان بها، وبالضياع المجاورة، من المسلمين. وفتح سقوط هذا الثغر المنيع، الطريق إلى زحف البرتغاليين وحلفائهم الصليبيين نحو الجنوب، نحو باجة وميرتلة وشلب. ولكن ملك البرتغال ألفونسو الثاني (ألفنش)، وهو لم يشترك في حصار القصر، آثر أن يتمهل بعض الوقت لتعمير الأراضي المفتوحة. ومن جهة أخرى فإن الصليببيين لم يستطيعوا الزحف إلى الجنوب، بعد أن وصلتهم أوامر البابا قاطعة بأن يستأنفوا سيرهم إلى المشرق (1).
ومن الغريب أن ابن عذارى، وهو في معظم ما يكتبه، يقظ متنبه للأحداث، يقول لنا إنه لم يتحقق خبراً يذكره في سنة أربع عشرة أو خمس عشرة، هذا في حين أن صاحب روض القرطاس، يذكر واقعة سقوط القصر، وتاريخ وقوعها في سنة 614 هـ، ويصفها بأنها كانت من الهزائم الكبار التي تقرب من هزيمة العقاب. ولم تمض بضعة أعوام على نكبة مدينة القصر، حتى منيت الأندلس بفقد قاعدة أخرى من حصونها الأمامية المنيعة هي قاصرش (2). وكان ألفونسو التاسع ملك ليون غير مرتبط مع الموحدين برباط التهادن والسلم، وكان يطمح إلى الاستيلاء على قاصرش، الواقعة شمالي ماردة وغربي تَرجالُه، وذلك لكي يضمن سلامة حصن القنطرة الواقع على نهر التّاجُه في شمالها الغربي، والذى كان مركز جمعية فرسان القنطرة، فسار إليها في شهر نوفمبر سنة 1218 م (616 هـ) وضرب حولها الحصار، ولكن حاميتها الإسلامية صمدت، واضطر أن يرفع الحصار عند حلول الميلاد، وفي سنة 1221 م (619 هـ) استولى فرسان القنطرة على قاعدة " بلنسية " (3) الإسلامية. وفي العام التالي، اشترك فرسان شنت ياقب
_______
(1) راجع في سقوط حصن القصر، روض القرطاس ص 161، والروض المعطار ص 161 و 162 وكذلك: A. Huici: Historia Politica del Imperio Almohade, p. 442 & 443
(2) وهي بالإسبانية Caceres
(3) هي المعروفة ببلنسية القنطرة الواقعة غربي قاصرش، وهي طبعاً غير ثغر بلنسية الكبير، في الشرق.(4/340)
وملك ليون في حصار قاصرش، ولكن ألفونسو التاسع عاد فرفع الحصار للمرة الثانية، عن القاعدة الإسلامية. وفي الأعوام التالية، تكرر هجوم الليونيين على قاصرش بمعاونة جماعة من القشتاليين، وانتهى الأمر بسقوطها في أيديهم، وذلك في صيف سنة 1223 م (622 هـ)، بعد وفاة الخليفة المستنصر بنحو عامين.
ومن جهة أخرى فإنه بالرغم من عقد المهادنة بين قشتالة، والخليفة الموحدي، كانت العناصر النصرانية المتعصبة التي لا يروقها الكف عن محاربة المسلمين تتربص الفرص، لتجديد غزو الأندلس، وكان في مقدمة هؤلاء الحبر المتعصب، ردريجو خمينث دي رادا مطران طليطلة، فإنه قام بتجهيز حملة صليبية، وعبر إلى الأراضي الإسلامية من ناحية الشرق، واستولى على عدة من حصون المسلمين، ووصل في زحفه إلى بلدة ركّانة الواقعة غرب بلنسية، وحاول النصارى الاستيلاء على ركّانة فضربوها بالمجانيق، وهاجموها مراراً، وهدموا بعض أبراجها، ولكنهم لم يستطيعوا تحقيق بغيتهم، وارتدوا عنها خائبين. وكان ذلك في أواخر سنة 1219 م (617 هـ).
...
وكانت الأمور خلال ذلك كله، تسير في العاصمة الموحدية رتيبة راكدة، وبلاط مراكش على ما هو عليه من التواكل والسكون، والخليفة الفتى يوسف المستنصر، مكب على حياة اللهو والمرح، وأشياخ الموحدين المضطلعين بتدبير الأمور، غير حافلين بشىء، ولم توقظهم نهضة بني مرين وفورتهم الخطيرة، التي لم يحدها سوى خلافهم فيما بين أنفسهم، ولم تهزهم حوادث الأندلس وسقوط ثغر القصر، وما اقترن به من الحوادث المؤلمة، ولم يفكروا في العمل على تعزيز معاقل الأندلس، وخطوطها الدفاعية، تحوطاً للحوادث. ثم جاءت سنة 616 هـ (1218 م)، وقد هلكت الزروع ونضبت الحبوب، وانتشرت المجاعة، وارتفعت الأسعار ارتفاعاً هائلا. وكانت الأحوال الاقتصادية قبل ذلك، تسير من سيىء إلى أسوأ، وقد سجلت لنا الرواية عن أحوال المغرب في هذا الوقت صورة قاتمة، حيث كثرت الفتن بين قبائل المغرب، ونبذ أكثرها الطاعة، وقطعت السابلة، واشتد الخوف في الطرقات، وكثر اعتداء الأقوياء على الضعفاء، وكسدت التجارة، وانكمش الأخذ والعطاء لاختلال الأمن، وإغارة القبائل(4/341)
البربرية وجموع العرب على مختلف الأنحاء (1). كل ذلك والحكومة الموحدية جامدة لا تفكر في اتخاذ أي إجراء لإصلاح الأحوال. فلما اشتدت المجاعة وعلم المستنصر بما يقاسيه الناس من أهوالها، أمر بفتح المخازن السلطانية، المعدة لاختزان الحبوب والمؤن، ففتحت وفرقت منها مقادير عظيمة على العامة والضعفاء دون ثمن، وفرق منها على الأقوياء والميسورين بالثمن، وفرق الخليفة كذلك مبالغ كبيرة من المال على الناس، فكان لذلك أثر طيب في تخفيف الضيق. ومن الغريب أنه طافت بالأندلس في العام التالي سنة 617 هـ، مثل هذه الشدة، فقلت الأقوات، وارتفعت الأسعار، ولكن الأزمة لم تطل، وعادت الأمور إلى مجراها الطبيعي (2).
وفي هذا العام، سنة 617 هـ (1219 م)، وجه الخليفة المستنصر بالله كتابا إلى قواعد المغرب والأندلس، على نمط الكتب التي كان يوجهها الخلفاء الموحدون، منذ عبد المؤمن، إلى الولاة والأعيان والكافة، في مختلف المناسبات، بوجوب التمسك بالدين، واتباع أحكام الشرع، والتزام الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما إلى ذلك من النصائح والوصايا، وربما كان لذلك أيضاً علاقة باختلال الأحوال، ومحاولة تطمين الرعايا، وإلقاء السكينة في روعهم. وقد نقل إلينا ابن عذارى فصلا من ذلك الكتاب، ونحن ننقل بعض فقراته فيما يلي:
" وإلى هذا، وصل الله توفيقكم، فقد علمتم أن الدين هو الأساس الوثيق، والبناء العتيق، والفسطاط المضروب، والعلم المنصوب، والتجر الذي لا يبور، والطريق الذي لا يجور، من استمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن تحصن به، فقد تحصن بالمعقل الأحصن الأرقى، فإذا وقفتم على كتابنا هذا، فجددوا للناس به الذكرى، وعرفوهم أن الدنيا مطية على الدار الأخرى، وحضوهم على العمل الصالح، والتجر الرابح، عسى أن يجعلهم الله تعالى في الدارين، من الذين لهم البشرى، وبثوا في جهاتكم كلها، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .. واستحفظوا الكافة صلواتهم، فإنها الكتاب الموقوف على المؤمنين، وخذوهم باعتياد المساجد، فإنها الشاهد الأزكى بشهادة خاتم النبيين، وسيد المرسلين، واطلبوهم بقراءة الحزب والتوحيد بالمساجد والأسواق،
_______
(1) الذخيرة السنية ص 35.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 245.(4/342)
فإنه الخير المآلوف، والشعار المعروف، والرسم الذي عليه العمل، والعهد الذي لا يجب فيه التغيير والخلل.
" ونحن قد قلدنا الله قلادة نعلم لوازمها، ونحفظ مراسمها، ومن جملتها التذكير بالدين، فهو الشافع الذي لا يغفل، والوسيلة التي لا تضاع ولا تهمل، فاعلموا أعزكم الله هذا المقصود علما، وكونوا في القيام به لا تخالفون يقظة، ولا نوماً، وللناس عليكم ما نأمركم به من العدل التام، والإنصاف العام، وكف الأيدى، وقبضها عن التعدى. وهذا خطاب قد أرشدنا فيه إلى مناهج سوية، وحضضنا فيه على أمور ضرورية، وأتينا فيه بما يجب البدار إليه، وخير العمل ما دووم عليه، والله معينكم والسلام عليكم، وكتب في عاشر ربيع الأول سنة سبع عشر وستمائة " (1).
والظاهر أن توجيه هذا الكتاب، لم يكن إلا محاولة من الخليفة الفتى، للعمل على إحياء تقليد من تقاليد آبائه الخلفاء الموحدين، في تذكير الناس من وقت إلى آخر بدستورهم الدينى، والتنبيه إلى توقيره، والمحافظة عليه.
وفي العام التالي، سنة 618 هـ (1220 م)، قدم سفير قشتالة إلى مراكش مرة أخرى ليسعى في تجديد المهادنة والسلم. وكانت المفاوضات الأولى قد تمت بين القشتاليين، وولاة الأندلس من السادة الموحدين، وتم تجديد المهادنة بين الفريقين، وفقاً لتوجيه الخليفة المستنصر. ثم كتب وزير المستنصر، أبو يحيى بن أبي زكريا، إلى " ملكة قشتالة بنت ملك قشتالة وطليطلة " كتاباً من إنشاء الكاتب ابن عيّاش بما أبرم بينه وبين رسولها من عقد السلم. ومن الواضح أن ملكة قشتالة المشار إليها هنا، لم تكن سوى الملكة برنجيلا بنت ألفونسو الثامن ملك قشتالة، ومطلقة ألفونسو التاسع ملك ليون، وكانت يومئذ تتولى الوصاية على ابنها الصبي فرناندو، الذي أعلن ملكاً على قشتالة في سنة 1217 م، وكانت بذلك تعتبر هي الملكة الأصيلة في نظر الموحدين.
وقد أورد لنا ابن عذارى نبذة من الكتاب المشار إليه ننقلها فيما يلي:
" وقد انقلب إليكم رسول منكم، بما تعرفونه في السلم المنعقد، النير شهابه، المتقد بين الموحدين وبينكم، بالمخاطبة الكريمة، التي حملها إليكم، وحمل نحوكم
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 245 و 246.(4/343)
من الإتحاف ما يبغلكم على يديه، الذي هو عنوان المخالصة، وثمرة المواصلة، وكل ما يكون من هذا بيننا وبينكم، ينبغى أن يكون متقبلا، وعلى أحسن المتأولات متأولا، إن شاء الله، وأنتم بحول الله تقفون عند حدود السلم، وتحافظون عليها، وتعاقبون كل من هم بإذاية المسلمين، فإن الوفاء شعار الملوك، وعليهم فيه يجب السلوك. وكتب في سادس رمضان سنة ثمان عشرة وستمائة " (1).
وكان من تصرفات المستنصر الأخيرة، أن عين عمه أبا محمد عبد الله ابن يعقوب المنصور والي غرناطة، وهو الذي تسمى بالعادل فيما بعد، والياً على مرسية، وذلك في سنة 619 هـ (1221 م).
ولم يك ثمة ما يؤذن بوفاة الخليفة المستنصر في سن مبكرة، وقد كان فتى في عنفوانه، لم يجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وكان متين البنية، حسن التكوين. ولكن حياة اللهو الصاخب المستمر، التي انهمك فيها، حطمت بنيته، ومهدت الألعاب والرياضات العنيفة، التي كان يشغف بها لوفاته الفجائية. ويقص علينا صاحب روض القرطاس قصة هذه الوفاة الفجائية، فيقول لنا إن يوسف المستنصر، كان مولعاً بالبقر والخيل، وكان يستجلب الأبقار من الأندلس، ويربيها في رياضه الكبيرة بمدينة مراكش، ففي عشية ذات يوم، ركب المستنصر فنشيا (مهرا)، وذهب إلى الروض ليتأمل خيله وأبقاره في ضوء القمر، فبينما هو يسير بين البقر، إذ قصدت إليه بقرة شرود منهن، فضربته بقرنيها بعنف، ضربة أصابته في القلب، وأودت بحياته على الأثر. وكان ذلك في مساء يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي الحجة سنة 620 هـ (4 يناير 1224 م) (2). ولكن هذه الرواية، التي ينقلها بعض المؤرخين المتأخرين، ليست هي الوحيدة في شرح ظروف وفاة الخليفة المستنصر الفجائية، فإن هناك رواية أخرى، مفادها أن المستنصر توفي مسموماً، بتدبير وزيره أبي سعيد بن جامع والفتى مسرور، وهذا، نقله إلينا الزركشي عن " ترجمان العبر " (3).
والآن فلنلق نظرة عابرة على هذه الأعوام العشرة، التي شغلتها خلافة المستنصر، وعلى شخصية هذا الخليفة الفتي، وهي شخصية لم تتميز بشيء من الخلال العظيمة، والأعمال البارزة.
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 246.
(2) روض القرطاس ص 161.
(3) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 14.(4/344)
إن سائر التواريخ المعاصرة والقريبة من العصر، تحدثنا عما كان عليه محمد الخليفة المستنصر، من التعطل والركود، وعما كان عليه المغرب يومئذ، من اختلال الأحوال، واضطراب السكينة والأمن، وذيوع التوجس والقلق، وضعف الموارد العامة والخاصة، وانتشار الضيق والفقر، وفتور همم أولى الأمر، ونكولهم عن القيام بأية إجراءات ناجعة، لتنظيم شئون الدولة، أو معالجة الأحوال العامة، أو معاونة الشعب على اجتياز أزماته الاقتصادية والاجتماعية.
ولم يكن ثمة شك في أن هذه كلها، كانت علامات مزعجة، تؤذن بدبيب الوهن والانحلال إلى الدولة الموحدية العظيمة، وبانحدارها إلى المصير، الذي لابد أن تنحدر إليه دولة يصيبها مثلما أصاب الدولة، في عهد المستنصر بالله.
وإنا لنقرأ في وصف المؤرخين لشخصية المستنصر، وفي تعيلقاتهم على عصره، تلك الصور المروعة، لدولة تنحدر بسرعة إلى هاوية السقوط.
فمثلا يقول لنا ابن عذارى: " ولم تكن للمستنصر بالله حركة ولا غزوة، ولا خرج من حضرته إلى مدينة تينملل، على العادة في التبرك بالمهدي. فما وقفت له على خبر أذكره إلا ما رأيت في بعض الرسائل، والله يؤتى ملكه من يشاء " (1).
ويقول صاحب روض القرطاس: " ولم يخرج من حضرة مراكش طول خلافته إلى أن توفي، وكانت أوامره لا تتمثل، أكثرها لضعفه وليانه، وإذامته على الخلافة، وركونه إلى اللذات. وتفويضه أمور مملكته، ومهمات أموره، إلى السفلة " (2).
ويقول ابن خلدون: " وقام بأمر الموحدين من بعده (أي بعد الناصر) ابنه يوسف المستنصر، فنصبه الموحدون غلاماً لم يبلغ الحلم، وشغلته أحوال الصبا وجنونه، عن القيام بالسياسة وتدبير الملك، فأضاع الحزم، وأغفل الأمور، وتواكل الموحدون بما أرخى لهم من طيل الدالة عليه، ونفس عن مخنقهم، من قبضة الاستبداد والقهر، فضاعت الثغور، وضعفت الحامية، وتهاونوا بأمرهم وفشلت ريحهم " (3).
على أن أبلغ ما وقفنا عليه من هذه التعليقات يتمثل في تلك الفقرة التي يوردها ابن عبد الملك المراكشي، في ترجمة أبي الحسن بن القطان، تعليقاً على اختلال
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 247.
(2) روض القرطاس ص 161.
(3) ابن خلدون ج 7 ص 169.(4/345)
الأحوال في المغرب وقطع السبل، ووقوع النهب على التجار وغير ذلك:
" واستمرت الأمور على هذه الحال، وهذه السبيل زمانا، والمستنصر في غفلة عن كل ما يجرى، غير سايل عن رعيته التي يسئل عنها، وإن بدر منه سؤال عن أحوال الناس والبلاد، أجاب الوزير أبو سعيد، أن الجميع في سبوغ نعمة، وشمول عافية، واتساع أحوال، وبسط أموال، فيقنعه ذلك، ويعود إلى انهماكه في لذاته. وأهمل مع ذلك جانب الأجناد الذين هم آلة الملك وأعوانه، فأرجل فرسانهم، وصرفت رجّالتهم، فتفاقم الأمر، واستشرى شرى المفسدين وكثر أضرارهم، وعم عدوانهم. ولما تمادى ظهور الفساد، واشتدت شوكة أهله، آجرى أبو الحسن (المترجم) ذكر ذلك بمجلس الوزير أبي سعيد، وأشار عليه بإنفاذ جيش إلى بعض نواحي مراكش لردع من نجم من أهل البغي، فأجابه بأن ذلك لا يحتاج إليه، وأنه سيكتب إلى أهل تلك الناحية، بالنفوذ إلى من تعرض إلى أرضهم ومرافقهم، والقبض عليهم وقتلهم، ونحو هذا " (1).
في تلك الفقرة، التي يقدمها إلينا مؤرخ عاش فيها قريباً من العصر، تبدو أصدق صورة للمستنصر وأحوال عصره، وهي صورة تنطق بنفسها، عما يمكن أن يترتب على مثلها بالنسبة للدولة التي تجوزها من النتائج الخطيرة.
على أنه توجد لدينا في نفس الوقت بعض نصوص تقدم إلينا المستنصر، هذا الفتى المتعطل المستهتر، في صورة أخرى، هي صورة الطاغية القوي المستبد، الذي يستأثر بالأمور، وإليك ما يقوله لنا في ذلك مؤرخ موحدى معاصر وشاهد عيان، هو عبد الواحد المراكشي، وقد عرف المستنصر شخصياً واتصل به. يقول عبد الواحد خلال حديثه عن المستنصر: " ولم يغير أبو يعقوب هذا على الناس شيئاً من سير آبائه، ولا أحدث أمراً يتميز به عمن كان قبله، خلا أني رأيت كلّ من يعرفه من خواص الدولة، قد مُلىء قلبه رعباً لما يعلمون من شهامته وشدة تيقظه. لقيته وجلست بين يديه خالياً به، وذلك في غرة سنة 611، فرأيت من حدة نفسه، وتيقظ قلبه، وسؤاله عن جزئيات لا يعرفها أكثر السوق، فكيف الملوك، ما قضيت منه العجب، وإلى وقتنا هذا لم يظهر منه شىء مما يتوقع " (2).
_______
(1) كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (السفر الخامس من مخطوط المتحف البريطاني لوحة 19) في ترجمة علي بن محمد بن عبد الملك بن سماحة الحميرى الكتامى، أبي الحسن بن القطان.
(2) المعجب ص 187.(4/346)
ويؤيد هذه الصورة في بعض نواحيها صاحب روض القرطاس حين يقول في حديثه عن المستنصر: " فضعفت دولة الموحدين في أيامه، واعتراها النقص، وأخذت في الإدبار، إلا أن أيامه كانت أيام هدنة ودعة وعافية. فلما كبر، واشتغل بأمره ونهيه، واستبد بملكه، جعل يفرق أعمامه، وحواليه الذين أقاموها، وأشياخ الموحدين الذين أسسوها، وقرب أناسا وتمسك بهم، لم يكن لهم أصل فيها " (1).
هذا وقد كانت حكومة الخليفة المستنصر، تتألف من معظم الأشخاص الذين عملوا مع أبيه الناصر، فكان وزيره وزير أبيه أبو سعيد عثمان بن عبد الله بن إدريس بن إبراهيم بن جامع، وهو سليل تلك الأسرة التي استأثرت بوزارة الخلافة الموحدية زهاء نصف قرن، وكان عميدها إبراهيم بن جامع من أصحاب المهدي، واستمرت وزارته إلى آخر سنة 615 هـ، ثم صرفه المستنصر، واستوزر من بعده أحد القرابة، وهو زكريا بن يحيى بن اسماعيل الهزرجى، فاستمر في الوزارة حتى نهاية عهده، بيد أن هناك ما يدل على أن المستنصر، عاد فاستدعى الوزير أبا سعيد للعمل مرة أخرى، وذلك في أواخر عهده. وتولى الكتابة للمستنصر كاتبا أبيه وجده من قبل، وهما أبو عبد الله بن عياش، وأبو الحسن بن عياش، ولما توفيا متعاقبين في شهور سنة 619 هـ، استدعى للكتابة أبو عبد الله محمد ابن يخلفتن الفازازى، كاتب الناصر من قبل، وكان عندئذ يشغل منصب القضاء بمرسية، وعين معه للكتابة أبو جعفر أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عياش، وبقى كاتب الجيش أحمد بن منيع، وهو كاتب الناصر من قبل، في منصبه دون تغيير. وتولى الحجابة للمستنصر، مبشر الخصى حاجب أبيه، ولما توفي خلفه في الحجابة فارح الخصى المعروف بأبي السرور، واستمر في الحجابة حتى وفاة المستنصر. وتولى القضاء للمستنصر، أبو عمران موسى بن عيسى بن عمران قاضي أبيه، فلم يزل في منصبه حتى نهاية عهده، وهذا القاضي هو أيضاً، حفيد أسرة استأثرت بمناصب القضاء منذ أيام عبد المؤمن، وكان عميدها أبو عمران موسى الضرير صهر عبد المؤمن.
ولم ينجب المستنصر ولدا، ولم يعقب إلا حملا من جارية، لم تذكر لنا الرواية مصيره (2).
_______
(1) روض القرطاس ص 161.
(2) روض القرطاس ص 161.(4/347)
الفصل الثاني أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس.
ولاية الخليفة أبي محمد عبد الواحد. نشأته وصفاته. تصرفاته الأولى. اعتراض السيد أبي محمد عبد الله والي مرسية على خلافته. قيامه بالدعوة لنفسه وتلقبه بالعادل. انضمام إخوته ولاة قرطبة وغرناطة ومالقة إليه. تأييد أبي محمد عبد الله البياسى والي جيان له. مخالفة السيد أبي زيد والي بلنسية. استوزاره لابن يوجان ونزوحه إلى إشبيلية. القيام بدعوته في مراكش. مصرع الخليفة أبي محمد عبد الواحد. تطور الحوادث بالأندلس. خروج البياسى على العادل ودعوته لنفسه. مسير أبي العلى إدريس لقتاله. استنصار البياسى بملك قشتالة. تخاذل أبي العلى عن قتاله وارتداده. العادل يرسل جيشاً آخر لقتال البياسى. هزيمة هذا الجيش وفراره. استيلاء البياسى على قرطبة. إغارة النصارى على أحواز إشبيلية. خروج أهلها لرد الغزاة. هزيمتهم وتمزيق صفوفهم. إغارة النصارى على أحواز مرسية. هزيمة المسلمين. مغادرة العادل للأندلس ومسيره إلى مراكش. العادل ونشأته وصفاته. اهتمامه بشئون الأندلس وكتابه في ذلك. تفاقم الحوادث في الأندلس. أعمال البياسى والقشتاليين في أواسط الأندلس. تحالف البياسى وملك قشتالة. محاصرة ملك قشتالة لجيان. فشل الحصار وارتداد النصارى. افتتاح القشتاليين للقبذاق وباغة. غزوهم للوشة والحامة. محاصرتهم لغرناطة ثم جلاؤهم عنها. زحف البياسى على إشبيلية. خروج أبو العلى إدريس في الموحدين لمدافعته. هزيمة الموحدين وأهل إشبيلية. خضوع قرطبة وبلاد شرقي إشبيلية للبياسى. ما سلمه البياسى لملك قشتالة من المواقع والحصون. عود البياسى إلى مهاجمة إشبيلية. خروج أبي العلى للقائه. هزيمته وتمزيق جموعه. عود بلاد شرقي إشبيلية إلى طاعة العادل. كتاب أبي العلى إلى أخيه الخليفة. ثورة أهل قرطبة ضد البياسى. مطاردته ومصرعه وانهيار ثورته. صفاته الذميمة. افتتاح ملك قشتالة لحصن قبالة. استنجاد أهل بياسة بصاحب جيان. خروج أهلها منها واستيلاء النصارى عليها. استيلاء فرناندو الثالث على شوذر ومواضع أخرى. مسير السيد أبي العلى إلى مرتش وعجزه عن مهاجمتها. يعقد الهدنة مع القشتاليين. اضطراب الأحوال في المغرب. عيث الخلط وهسكورة في أحواز مراكش. خروج أبي العلى إدريس بالأندلس على أخيه. دعوته لنفسه بالخلافة. كيف مهد لنفسه طريق الدعوة. مبايعته واتخاذه لقب المأمون. سعى الوزير ابن يوجان لتأييده. اتفاق الموحدين على خلع العادل. رفض العادل التنازل ومصرعه. بيعة الأشياخ للعادل ثم عدولهم عنه إلى ابن أخيه يحيى الناصر. تلقب يحيى بالمعتصم. غضب المأمون واعتزامه العبور إلى العدوة.
لما توفي الخليفة يوسف المستنصر بالله دون عقب في يوم السبت الثاني عشر من ذي الحجة سنة 620 هـ، اجتمع رأى أشياخ الموحدين، وفي مقدمتهم الوزير أبو سعيد بن جامع، على أن يقدموا مكانه للخلافة السيد أبا محمد عبد الواحد(4/348)
ابن الخليفة يوسف بن عبد المؤمن (1)، وكان شيخاً قد جاوز الستين، يعيش مغموراً في هدوء ودعة. ويقول لنا المراكشي، فيما بلغه، أنه لما توفي المستنصر، اضطرب الأمر، وتطلع الناس لنشوب الخلاف، ولكن معظمهم اجتمعوا على تقديم السيد الأجل أبي محمد عبد العزيز (عبد الواحد) (2). على أنه يبدو أن اختيار عبد الواحد، كان أمراً تقرر بمنتهى السرعة، إذ بويع في اليوم التالي لوفاة المستنصر، أعني في يوم الأحد الثالث عشر لذى الحجة، ويبدو في نفس الوقت أن هذا الاختيار لشيخ جاوز الستين، يرجع إلى حكمة مزدوجة، أولا لكي يكون أداة مطواعة للزعماء الذين يقبضون على ناصية الحكم، وثانياً لكي تكون خلافته، ومفروض أنها سوف تكون قصيرة الأمد، فترة انتقال، يتمكن الأشياخ فيها من حسم خلافاتهم، والاتفاق على الخليفة الحقيقي.
ويقدم إلينا المراكشي، وقد عرف السيد عبد الواحد شخصياً، تفاصيل عديدة عنه، وعن حميد صفاته. فهو من أصغر أولاد الخليفة يوسف بن عبد المؤمن وأمه حرة اسمها مريم وهي صنهاجية من أهل قلعة بني حماد، كانت قد سبيت هي وأمها فيمن سبوا عند افتتاح عبد المؤمن للقلعة، فأعتقهما عبد المؤمن، وزوج مريم لابنه أبي يعقوب يوسف، فرزق منها بثمانية من الولد، أربعة ذكور، وأربع إناث، وكان الذكور هم ابراهيم وموسى وإدريس وعبد الواحد وهو أصغرهم. ولبث عبد الواحد طيلة شبابه مغموراً، لم تسند إليه ولاية ما، حتى تولى الخلافة ابن عمه الناصر لدين الله، فأسند إليه ولاية مالقة، وذلك في سنة 598 هـ، ثم صرفه عنها في سنة 603 هـ، وولاه أمر قبيلة هسكورة، وهي ولاية ضخمة، فاستمر في ولايته هذه طوال عهد الناصر، وشطراً من عهد ولده المستنصر. ثم اختاره المستنصر والياً لسجلماسة، ثم والياً لإشبيلية، وذلك حينما عزل عنها أخوه أبو العلاء إدريس، ونقل إلى ولاية تونس، ثم صرف عنها وعاد إلى مراكش.
وقد بويع السيد أبو محمد عبد الواحد بالخلافة على كره منه، فم يك راغباً فيها، ولم يك يصلح لها (3). وكان حسبما يصفه لنا المراكشي عن علم ومشاهدة،
_______
(1) وفي الحلل الموشية أن كنيته " أبو مالك " ص 123.
(2) المعجب ص 187.
(3) روض القرطاس ص 162.(4/349)
رجلا ورعا صالحاً، بعيد النظر، قوي العزم، شديد الشكيمة، حريصاً على اتباع الحق، لا تأخذه فيه لومة لائم، كثير التلاوة لكتاب الله، دؤوباً على تلاوة الأوراد، لا يمنعه عن ذلك مانع، ولا يترك وظيفة من الوظائف التي رتبها لنفسه، من أخذ العلم وقراءة القرآن والأذكار، رتبها على أوقات الليل والنهار. يقول المراكشي: " شهدت هذا كله بنفسى، لا أنقله عن أحد، ولا أستند فيه إلى رواية. هذا مع دماثة خلق، ولين جانب، وخفض جناح لأصحابه، ولمن علم فيه خيراً للمسلمين ". وأما عن شخصه فيصفه المراكشي بأنه كان " أبيض تعلوه صفرة، جميل الوجه جداً، معتدل القامة، متناسب الأعضاء " (1).
وتمت بيعة السيد أبي محمد عبد الواحد في جو من التفاهم والوفاق، ولم يختلف أحد في المغرب على بيعته، ولم يبد عليها اعتراض من أحد، ولم يتخذ الخليفة الجديد لقباً خلافياً كأسلافه، ولكنه عرف فيما بعد " بالمخلوع " لأنه كان أول من خلع بني عبد المؤمن عن كرسى الخلافة. وكان في مقدمة تصرفاته أن أمر بمحاسبة ابن أشرفى صاحب المخزن، ومطالبته بالمال. وكتب لأخيه أبي العلاء الكبير بتجديد الولاية على إفريقية، وكان المستنصر قد أوعز بعزله، بيد أنه توفي قبل استئناف ولايته، وأمر بإطلاق سراح الوزير السابق أبي زيد عبد الرحمن بن موسى ابن يوجان، ولكن الوزير ابن جامع اعترض على تنفيذ هذا الأمر، وبعث بابن يوجان مع الأسطول بقصد تغريبه إلى ميورقة (2). ولكنه لما وصل إلى الأندلس، أخذ وسجن في حصن جنجالة، فبقى فيه حتى توفي ابن جامع، وعندئذ أطلق سراحه (3). ثم كان ظهور الخلاف والمعارضة للخليفة الجديد، لا في المغرب ولكن في جهة أخرى، فيما وراء البحر، أعني في شبه الجزيرة الأندلسية. وذلك أنه لم يمض شهران على بيعته بالمغرب ومعظم أنحاء الأندلس، حتى ارتفع أول صوت ضد بيعته في شرقي الأندلس، وكان هو صوت ابن أخيه السيد أبي محمد عبد الله ابن يعقوب المنصور. وكان أبو محمد عبد الله عندئذ، واليا لمرسية. وكان إخوته أبو العُلى (أبو العلاء) والياً على قرطبة، وأبو الحسن والياً على غرناطة، وأبو موسى والياً على مالقة. وكان قد استوزر أبا زيد بن يوجان بعد إطلاق سراحه.
_______
(1) المعجب ص 188.
(2) ابن خلدون في العبر ج 6 ص 251.
(3) الروض المعطار ص 67 في مقال جنجالة.(4/350)
وكان ابن يوجان هذا داهية زمانه، فلما وردت الأنباء بأخذ البيعة لأبي محمد عبد الواحد، تقدم ابن يوجان إلى السيد أبي محمد عبد الله، وحذره من المبايعة للخليفة الجديد، وقال له إنهم بتنصيب عبد الواحد، قد أخرجوا الإمامة عن عقب سيدنا المنصور، وأنه يشهد بأن المنصور قال إن لم يصلح محمد (أعني الناصر) فعبد الله، وأنه أي عبد الله أحق بالخلافة، فهو ولد المنصور، وأخو الناصر، وعم المستنصر، وأنه صاحب عقل وحزم وسياسة وبعد نظر، ولن يختلف اثنان على استحقاقه للخلافة، خصوصاً وأن الناس يكرهون بني جامع الذين توارثوا الوزارة، وجعلوا يقصون عن الحضرة كل ذي رأى ومقدرة، وأخيراً فإن له من وجود أخوته الثلاثة في رياسة قرطبة وغرناطة ومالقة أكبر عضد (1). وكان لتوجيه ابن يوجان وتحريضه أكبر الأثر، فنهض السيد أبو محمد واستدعى أشياخ الموحدين والفقهاء والأعيان بمرسية وأحوازها، ودعاهم إلى مبايعته، فلبوا دعوته، وتسمى بالعادل، وكان ذلك في يوم 13 صفر سنة 621 هـ وذلك لشهرين من بيعة أبي محمد عبد الواحد، وبايعه إخوته ولاة قرطبة، وغرناطة ومالقة. وكذلك بايعه السيد أبو محمد عبد الله بن أبي عبد الله محمد ابن يوسف بن عبد المؤمن صاحب جيان، وهو الذي عرف فيما بعد بالبيّاسى، لقيامه فيما بعد ضد العادل ببياسة. وكان سبب انضمامه للعادل ما قرره الخليفة عبد الواحد من عزله، بعمه أبي الربيع بن أبي حفص، فانتقض عليه وبايع للعادل (2). وفي رواية أخرى أن عبد الله البياسى كان عند قيام العادل والياً على إشبيلية (3). وعلى أي حال، فقد استطاع العادل أن يحصل على تأييد سائر قواعد الأندلس، خلا بلنسية ودانية وشاطبة، حيث امتنع واليها السيد أبو زيد بن أبي عبد الله محمد أخو البياسى عن مبايعته، وبقيت هذه القواعد على طاعته. ثم خرج العادل من مرسية وبصحبته وزيره أبو زيد بن يوجان، وسار إلى إشبيلية، وأخذ في تدبير الأمور، ولم يلبث أن برم بطغيان ابن يوجان واسئثاره بكل أمر، فبعثه إلى سبتة، ليكون هناك نائبه، ولينظر في شئون العودة. وهنا يحيق الغموض بسير الحوادث سواء بالمغرب أو الأندلس.
_______
(1) الروض المعطار ص 68، وروض القرطاس ص 162.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 251.
(3) هذه رواية ابن عذارى في البيان المغرب - القسم الثالث ص 248.(4/351)
ففي رواية أن العادل حينما وصل إلى إشبيلية، وصلته هنالك بيعة أهل مراكش وبلاد المغرب. وفي رواية أخرى أنه كتب إلى الأشياخ الموحدين بحضرة مراكش يدعوهم إلى بيعته، وخلع عبد الواحد ووعدهم بجزيل الصلات، ورفيع المناصب والولايات، فصدعوا برغبته ودخلوا على الخليفة عبد الواحد، وهددوه، وأرغموه على أن يعلن خلع نفسه، وأن يشهد بذلك على نفسه أمام القاضي والفقهاء والأشياخ، وكان ذلك في اليوم الثاني والعشرين من شهر شعبان سنة 621 هـ. ولم تمض أيام قلائل على ذلك، حتى دخلت عليه جماعة من الموحدين، وخنقوه، ونهبوا قصره، وسبوا حريمه، فكان بذلك أول من خلع وقتل من بني عبد المؤمن (1) ومن جهة أخرى فإنه يبدو أن أشياخ الموحدين بمراكش، لما بلغتهم بيعة العادل بالأندلس، اختلفوا فيما بينهم أولا، وبادروا بعزل الوزير ابن جامع، واقتسموا السلطات فيما بينهم، وأنفذوا أوامرهم إلى الأسطول بمنع جواز العادل إلى المغرب. ولكن الظاهر أنهم قرروا أمرهم فيما بعد، وبعثوا ببيعتهم إلى العادل (2).
- 1 -
وفي أثناء ذلك اضطربت الحوادث بالأندلس، واتخذت وجهة جديدة لم تكن في الحسبان. وكانا لبيعة العادل أكبر أثر في تطورها على هذا النحو. وذلك أن السيد أبا محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب جيان، لما رأى من رفض أخيه السيد أبي زيد والي بلنسية ودانية وشاطبة، بيعة العادل، واعتصامه بهذه القواعد الشرقية، عاد بدوره، فأعلن خلعه لطاعة ابن عمه العادل ودعا لنفسه وتلقب بالظافر، وأطاعته جيان وأبدة وقيجاطه وبياسة، وسائر أراضي تلك المنطقة. فبادر العادل، وبعث من إشبيلية أخاه أبا العلاء إدريس ابن المنصور، في قوة كبيرة من الموحدين، لقتال السيد أبي عبد عبد الله وإخماد ثورته، فخرج السيد عندئذ من جيان ولجأ إلى بياسة وامتنع بها، وسمى من ذلك التاريخ بالبياسى، وبعث إلى فرناندو الثالث ملك قشتالة، يستنصر به، ونحن نعرف منذ أيام الطوائف، ماذا كان الثمن الذي يتقاضاه الملوك النصارى نظير هذه المعونة، فقد كان دائماً قطعة من أشلاء الأندلس، تبذل دون تحفظ، إلى
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 47، وروض القرطاس ص 162 و 163.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 251 و 252.(4/352)
جانب الخضوع والطاعة. ولم يشذ البياسى عن هذه القاعدة المؤلمة، بل سنرى أنه ذهب فيها إلى أبعد حد.
وأشرف الجند الموحدون بقيادة أبي العلاء على بيّاسة في أواخر سنة 621 هـ (أواخر سنة 1223 م)، ونزلوا في ظاهرها، وكان الوقت شتاء، وقد بلغ البرد ذروته، واشتد هطل الأمطار، وغمرت السيول كل صقع، فحاصر أبو العلاء بياسة أياما قلائل، ثم خشى أن يفيض النهر (الوادي الكبير) فيتعذر عليه العبور عند العودة، وخشى كذلك أن يداهمه القشتاليون حلفاء البياسى، وبعث إليه البياسى من جهة أخرى بعوده إلى طاعة العادل، وأرسل إليه ولده الأصغر رهينة لديه، فاكتفى أبو العلاء بذلك وارتد عائدا بقواته إلى إشبيلية، دون أن يحقق شيئاً من مهمته، فقوبل في إشبيلية بمنتهى الاستهجان والسخط، ورمى بالخور والجبن (1). وعندئذ بادر العادل بتجهيز جيش موحدى آخر، أسندت قيادته إلى أبي سعيد عثمان بن أبي حفص. فسار هذا الجيش إلى بياسة ونزل على بعد خمسة أميال من جنوبي المدينة، على مقربة من شمال الوادي الكبير، فخرج إلى قتاله نحو مائة فارس من أصحاب البياسى، وقوة من حلفائه القشتاليين، فسرى الرعب إلى الموحدين عند رؤيتهم، وبادروا إلى الفرار دون قتال وارتدوا إلى إشبيلية، وبقى البيّاسى في بياسة دون منازع، وقد احتل حلفاؤه القشتاليون قصبتها (2).
وهنا يحيق الغموض بموقف البياسى وتحركاته، ويبدو من مختلف الروايات أنه استطاع في تلك الآونة أن يبسط سلطانه، فضلا عن منطقة بياسة، على مدينة قرطبة، وذلك على خلاف في طريق تملكها، فابن عذارى يقول لنا إن العادل هو الذي أسند إليه ولايتها، وقت أن كان مُقراً بطاعته، وصاحب روض القرطاس يقول إن أهل قرطبة هم الذين انضموا إليه. وأما صاحب الروض المعطار، فيقول إن البياسي هو الذي تملك قرطبة، بل يزيد على ذلك أنه تملك أيضا مالقة، " وكاد يستولي على الأمر لو ساعده القدر " (3). وعلى أي حال
_______
(1) الروض المعطار في مقاله عن بياسة ص 57، وروض القرطاس ص 163.
(2) الروض المعطار ص 58.
(3) البيان المغرب - القسم الثالث 249، وروض القرطاس ص 164، والروض المعطار ص 58.(4/353)
فقد كان من الواضح أن البياسى، كان يحتل في الأندلس الوسطى مركزاً له خطره، وكان منافساً قوياً للعادل، يكاد ينتزع الأمر منه.
وكان العادل قد غدا بإشبيلية على أثر فشل قواته في إخضاع البياسى، في مأزق حرج. وزاد من حرج مركزه عندئذ، غزوة قام بها النصارى في أراضي الشّرف غربي إشبيلية. وذلك أن قوة من الجند الليونيين يقودها مارتن سانشيز، وهو ابن غير شرعى لملك البرتغال سانشو الثاني، دخل في خدمة ملك ليون، عبرت جبال الشارات، وسارت جنوبا حتى وصلت إلى أراضي الشّرف، وعاثت في تلك المنطقة، واستولت على كثير من الغنائم والسبي، وألفى العادل، وأخوه أبو العلاء، ووزيره ابن يوجان، ومن معهم من أشياخ الموحدين، أنفسهم عاجزين عن دفع النصارى، وحماية المدينة مما قد يصيبها. ووقع الهرج بين أهل المدينة، واجتمع الناس خاصتهم وعامتهم بالمسجد الجامع، وطالبوا العادل وأشياخ الموحدين بجمع الصفوف، والخروج إلى لقاء العدو، فاستنفر العادل الناس، واحتشدت مهم جموع غفيرة، ومعظمهم من غير سلاح، واجتمع من الفرسان نحو مائة، وسارت هذه الجموع إلى حيث نزل النصارى على مقربة من طلياطة (1) وهي تقع غربي إشبيلية على مقربة من لبلة، وكان النصارى في قوة كبيرة حسنة الأهبة والسلاح، فأراد العامة أن يدفعوا قوة الفرسان الصغيرة إلى لقاء العدو، فامتنع قائدها عبد الله بن أبي بكر بن يزيد، وحاول أن يقنع العامة بعبث هذه المحاولة، وبأن التزام الدفاع أفضل وأولى، فتطاولوا عليه وسبوه، فانسحب مع فرسانه. وعندئذ أنقض النصارى على هذه الجموع الهزيلة المفككة من المسلمين، ففتكوا بها وأفنوا الكثير منها قتلا وأسراً، وفر الكثير منهم في مختلف الأنحاء. ويقدر من هلك من المسلمين في الموقعة بعدة آلاف، ويبالغ بعضهم فيقدرها بنحو عشرين ألفاً، ووقعت موقعة طلياطة هذه في شهر جمادى الأولى سنة 622 هـ (مايو 1224 م) (2).
ولم يمض شهران على ذلك، حتى وقعت في شرقي الأندلس غزوة نصرانية مماثلة، وهزيمة مماثلة للمسلمين. وذلك أن حكام قونقة ووبذة والأركون ومويا،
_______
(1) وهي بالإسبانية Tejada
(2) ينفرد صاحب الروض المعطار بما يقدمه إلينا عن هذه الموقعة من تفاصيل وافية (ص 128 و 129).(4/354)
جمعوا قواتهم، وسارت منها حملة غازية بقيادة ألبرو تليس اخترقت وادي شُقر جنوباً حتى أراضي مرسية، فخرج لردهم جند مرسية وأهلها بقيادة أبي على ابن أشرقى، وكانوا على مثل أهل إشبيلية من التفكك والفوضى، فنشبت بينهم وبين النصارى، في مكان يعرف بعفص Aspe يقع شرقي مرسية، معركة شديدة هزم فيها المسلمون هزيمة فادحة، وأسر وقتل منهم فيها الكثير. وكان ذلك في شهر رجب سنة 622 هـ (يوليه 1224 م)، وفي ذلك يقول شاعر مرسى، مقارنا بين موقعتى عفص وطلياطة:
موقعة عفص وطلياطة ... تكامل إقبال أيامنا
فبالغرب تلك وبالشرق ذي ... أناخا على شم أعلامنا (1)
- 2 -
في ذلك الحين، كانت بيعات الموحدين بمراكش والمغرب، قد وصلت إلى العادل بإشبيلية، وكان الخليفة عبد الواحد، قد خُلع ولقى مصرعه، وأصبح عرش الخلافة الموحدية خاليا، فرأى العادل أن الوقت قد حان لكي يعبر إلى المغرب، خصوصاً وقد أخذت الحوادث تتجهم في الأندلس، على أثر فشله في التغلب على البياسى، وفي رد النصارى عن أراضي إشبيلية، فندب أخاه أبا العلاء إدريس للنظر على شئون الأندلس، وغادر إشبيلية، وعبر البحر إلى المغرب، وذلك في شهر ذي القعدة سنة 622 هـ (أكتوبر سنة 1224 م) (2).
والظاهر أنه لقى في طريقه إلى مراكش صعابا من تعرض العربان وغيرهم إليه. ولما وصل العادل إلى مراكش، واستقر بقصر الخليفة، استوزر أبا زيد
_______
(1) راجع الروض المعطار ص 136.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 252، والروض المعطار ص 129. ونحن نرجح الأخذ بهذا التاريخ الذي يقدمه إلينا صاحب الروض المعطار لعودة العادل، ولكن يبدو من أقوال ابن عذارى أن العادل عاد إلى مراكش يوم السبت 20 شعبان سنة 622، وهو آخر يوم من حكم عبد الواحد، وأنه دخل عليه القصر في هذا اليوم. وفي اليوم التالي أشهده على نفسه بالخلع، وأن عبد الواحد خنق بعد ثلاثة أيام من خلعه (البيان المغرب ص 247 و 248) ومعنى ذلك أن العادل هو الذي قام بخلع عبد الواحد ثم أوعز بقتله، ونهب قصره وسبي حريمه. وهذه الرواية التي ينفرد بها ابن عذارى، تبدو في نظرنا ضعيفة بعيدة الاحتمال. وبالعكس فإن الظروف والقرائن الزمنية تحمل كلها على الاعتقاد بأن عودة العادل كانت بعد خلع عبد الواحد ومصرعه. ويستفاد ذلك فضلا عن قول صاحب الروض المعطار، من قول ابن خلكان (ج 2 ص 434)، وصاحب الحلل الموشية (ص 123) وصاحب روض القرطاس (ص 163) وكذلك ابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال 1674 الغزيرى) لوحة 54 أ.(4/355)
ابن أبي محمد بن أبي حفص، وأقر عماله سواء بالمغرب أو الأندلس على أعمالهم، وأقر خاصته وحشمه كل في وظائفهم وطبقاتهم.
وقد تقدم نسب العادل، فهو أبو محمد عبد الله بن يعقوب المنصور بن يوسف ابن عبد المؤمن بن علي، وأمه أم ولد نصرانية برتغالية، من سبى شنترين اسمها سر الحسن أسرت فيما يبدو، حين غزوة المنصور الأولى للبرتغال في سنة 586 هـ (1190 م)، وبذلك يمكن أن نضع تاريخ مولد العادل في نحو سنة 587 هـ (1191 م) فيكون عمره وقت أن تولى الخلافة، نحواً من أربعة وثلاثين عاما. ولقبه الكامل هو " العادل في أحكام الله تعالى ". وأما عن صفته، فقد كان العادل نحيل القد، أشهل العينين، أقنى الأنف، خفيف العارضين (1). وكان العادل من خيرة بني عبد المؤمن، فاضلا وقوراً، كبير النفس، عالى الهمة، من أهل العلم والمعرفة (2).
وتولى العادل حكم غرناطة في سنة 619 هـ، أيام ابن أخيه يوسف المستنصر، ثم نقل باختياره إلى ولاية مرسية. ولما تولى الخلافة عمه أبو محمد عبد الواحد، خرج عليه بمرسية، كما تقدم، ودعا لنفسه بالخلافة، وذلك في يوم 13 صفر سنة 621 هـ، ولم يتخلف عن بيعته بالأندلس سوى السيد أبي زيد والي بلنسية، وأخوه السيد أبو عبد الله صاحب جيّان، وهو العروف بالبياسى. وأما في المغرب فقد تلقى بيعة سائر الموحدين، ما عدا بيعة بني حفص ولاة افريقية، وكان هؤلاء عندئذ يدبرون الخطة لانفصالهم عن الدولة الموحدية، والاستقلال بحكم ما تحت أيديهم. وكان في مقدمة ما فعله العادل، أن وجه إلى قواعد الأندلس، كتابا يؤكد فيه عناية الموحدين بشئون الجزيرة، واجتماع كلمتهم على الجهاد. وقد أورد لنا ابن عذارى من الكتاب المذكور فقرة ننقل منها ما يلي:
" وها هم بحمد الله (أي الموحدين) قد انتظم شملهم، واتصل حبلهم، واجتمعت أهواءهم، واتفقت على إعزاز الحق آراؤهم، وحلوا بدار الموحدين، ومطلع الخلفاء الراشدين المهتدين، حيث الجموع وافرة. والأعداد متكاثرة، وطائفة الحق متعاضدة متظاهرة، وذلك حلول استدعاء واستنفار، لا حلول إقامة واستقرار، عازمين على الجهاد، والله تعالى ممضى عزائمهم، ويجبرهم
_______
(1) روض القرطاس ص 163.
(2) ابن الخطيب الإحاطة (مخطوط الإسكوريال المشار إليه) لوحة 54 أ.(4/356)
على جميل معتقداتهم، على جهاد أعداء الله الكفار، فاعملوا وفقكم الله على ذلك، والله يبلغكم آمالكم والسلام عليكم " (1).
والواقع أن شئون الأندلس، كانت أهم ما يشغل العادل، وقد تركها عند مغادرته لشبه الجزيرة، في حالة اضطراب مروع، تتجاذبها تيارات جارفة، من الفتن الداخلية، ومن عدوان النصارى.
- 3 -
غادر العادل الأندلس، وترك أخاه أبا العُلى إدريس في إشبيلية ليواجه العاصفة. وكانت الأندلس قد غدت كما قدمنا مرة أخرى، مذ أعلن العادل دعوته بالخلافة، مسرحاً لصراع المتغلبين. وكانت حركة البياسى أبي محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن، في أواسط الأندلس، قد اتسع نطاقها، وكادت أن تمتد بعد الأندلس الوسطى، إلى إشبيلية، والأندلس الغربية. وكان البياسى، قد لجأ حسبما تقدم، إلى فرناندو الثالث ملك قشتالة، يستنصر به، ويطلب عونه ضد خصومه، وكان فرناندو، وهو الذي قدر له أن يفتتح فيما بعد معظم قواعد الأندلس الكبرى، يقدر كأسلافه، مزايا هذا التدخل في حوادث الأندلس، وفي حروبها الأهلية، وما يترتب عليه من مغانم سياسية، وإقليمية جليلة، فلبى نداء البياسى، وبعث إليه بالأمداد، وامتنع البياسي بمدينة بياسة، وصمد أمام الجيوش الموحدية، التي بعثها العادل لإخضاعه. ولما اطمأن إلى حصانة مركزه، خرج مع حليفه ملك قشتالة، ليعاونه على افتتاح أول قاعدة أندلسية من قواعد هذه المنطقة، وهي مدينة قيجاطة (2). الواقعة جنوب شرقي بياسة. وكان فرناندو الثالث قد خرج بجيشه في خريف سنة 1224 م (أواخر سنة 622 هـ)، واخترق أراضي أبّدة قاصداً إلى قيجاطة، وكانت تزخر بالأموال والثروات، فاقتحمها القشتاليون، وهدموا معظم أسوارها، وقتلوا من أهلها الألوف، وقتلوا وأسروا كذلك معظم حاميتها الموحدية (سبتمبر 1224 م). واستولى القشتاليون في نفس الوقت على عدة أخرى من حصون هذه المنطقة. ثم ساروا بعد ذلك، ومعهم حليفهم البياسي، فعاثوا في أراضي جيان، وقتلوا من أهلها نحو ألف وخمسمائة (أكتوبر 1224 م). ثم ارتد ملك قشتالة
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 249.
(2) وهي بالإسبانية Quesada(4/357)
في قواته مثقلا بالغنائم والأسرى، عند اقتراب الشتاء، وعبر نهر الوادي الكبير عائداً إلى بلاده (1).
وفي صيف العام التالي، أعني في سنة 623 هـ (1225 م)، خرج فرناندو الثالث من قشتالة بجيش ضخم، وعبر ممر مورادال بجبال سييرا مورينا (جبل الشارات) ونزل في سهل العقاب، على مقربة من شمالي بياسة، وبعث إلى البياسى يستدعيه، فهرع البياسى إلى لقاء ملك قشتالة، وقدم إليه خضوعه بصفة رسمية، وعقد معه عهداً يعترف فيه بطاعته، ويتعهد بأن يسلم إليه حصون مرتُش، وأندوجر، وجيان، متى حصلت في يده، وكذلك سائر الحصون، التي يطلب ملك قشتالة الاستيلاء عليها، في أراضي المسلمين، وسلم البياسى ولده الأصغر إلى ملك قشتالة كفالة بولائه وإخلاصه. وتعهد ملك قشتالة من جانبه بأن يقدم إلى البياسى المعونة العسكرية الكافية، لاسترداد أملاكه وتأمينها (2).
وعلى أثر ذلك قصد ملك قشتالة ومعه حليفه أو تابعه البياسى إلى مدينة جيان وهو يخرب سائر الأراضي التي يمر بها، خلا تلك التي يسيطر عليها البياسى. ولما وصل إلى جيان، ضرب حولها الحصار، وأخذ القشتاليون مدى أيام يهاجمونها دون جدوى. وكانت جيان أمنع قاعدة في تلك المنطقة، ولها أسوار عالية، وقصبة في منتهى المناعة، مازالت أطلالها قائمة حتى اليوم، تشهد بسابق حصانتها. وكانت تدافع عنها حامية موحدية قوية بقيادة عمر بن عيسى بن أبي حفص بن يحيى، ومعهم فرقة من الفرسان النصارى بقيادة ألبار بيريث دي كاسترو، وكان مثل أبيه يعمل في خدمة الموحدين بغيرة وإخلاص، ولما اشتدت هجمات النصارى، خرج المسلمون لهم، واشتبكوا معهم في معركة قتل فيها من المسلمين مائة وثمانون، وأسر نحو ألفين. ثم امتنع المسلمون بالمدينة، ولبثوا صامدين، وكرر القشتاليون هجماتهم على المدينة، وهم في كل مرة يرتدون عنها خائبين. وأخيراً اضطر ملك قشتالة أن يرفع الحصار عن المدينة، وأن يرحل عنها (3).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 249، والروض المعطار ص 61 وكذلك:
J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia (Madrid 1946) ;
cit. Anales Toledanes ; p. 36 & 37
(2) J. Gonzalez: ibid ; p. 38
(3) J. Gonzalez: ibid, cit. Cronica Latinas ; p. 40(4/358)
وسار ملك قشتالة بعد ذلك ومعه البياسى إلى القبذاق (1)، فاستولى عليها وسلمها لحليفه، إذ كانت من أملاكه، ثم سار جنوبا نحو باغة (2)، فقاومته حاميتها بشدة، واضطر إلى محاصرتها مدة، ثم سلمت حاميتها بالأمان نظير فدية كبيرة، وقصد بعد ذلك إلى لوشة، وهي جنوب باغه على ضفة نهر شنيل. فاقتحمها وفتك بأهلها. ولما وصل إلى مدينة الحامة في جنوبها، ألفاها خالية، إذ هجرها أهلها خوفاً أن يصيبهم ما أصاب أهل لوشة.
ثم سار القشتاليون بعد ذلك شمالا صوب غرناطة، وكان أهلها قد استدعوا ألبار بيريث لمعاونتهم على الدفاع. فلما اقترب القشتاليون من المدينة، وضربوا حولها الحصار، وسّط أهلها ألبار بيريث ليفاوض ملك قشتالة في أن يرحل عنهم، نظر تسليمهم إياه ألفا وثلاثمائة أسير من النصارى كانوا لديهم، فتم الاتفاق على ذلك، وعفا ملك قشتالة عن ألبار بيريث، فترك خدمة الموحدين، وعاد إلى خدمة مليكه، وارتد ملك قشتالة في قواته شمالا، حتى اقترب من بياسة، وهنالك قام البياسى بتسليمه حصنى مرتش وأندوجر، وفقاً لعهده الذي أخذه على نفسه (3). وكان البياسى قد شعر عندئذ بتوطد مركزه، وضخامة العون الذي يلقاه من حلفائه النصارى، فما كاد فرناندو الثالث يختتم غزوته في أراضي المسلمين، حتى سار البياسى في قواته، ومعه جيش من النصارى، تقدره الرواية بعشرين ألفاً (4) صوب إشبيلية، وعبر نهر الوادي الكبير إلى الشّرف، وخرجت القوات الموحدية وأهل المدينة بقيادة السيد أبي العلاء لرد الغزاة، وهنالك أيضاً، على مقربة من طلياطة، في فحص القصر، اشتبك الفريقان فهزم الموحدون وأهل إشبيلية، هزيمة شديدة، وقتل منهم نحو ألفين (5) وكان من نتيجة هذا النصر، أن خضعت معظم البلاد والحصون الواقعة شرقا بين اشبيلية وقرطبة لسلطان البياسى، بل إن أهل مدينة قرطبة ذاتها، حينما رأوا تفوق البياسى على هذا النحو، خلعوا طاعة حاكمهم الموحدي السيد أبي موسى أخي العادل، وأعلنوا طاعتهم للبياسي.
وكان فرناندو الثالث قد عاد في تلك الأثناء، فعبر بقواته إلى أراضي
_______
(1) وهي بالإسبانية Alcaudete.
(2) وهي بالإسبانية Priego.
(3) راجع الروض المعطار ص 61 و 165 و 174. وكذلك:
J. Gonzalez, ibid: cit. Cronica Latina p. 42
(4) روض القرطاس ص 164.
(5) الروض المعطار ص 58.(4/359)
الأندلس مرة أخرى، واستدعى البياسى إلى حصن أندوجر، وطلب إليه أن يسلم إليه طائفة من الحصون التي يرغب الاستيلاء عليها في منطقة قرطبة، فوعد البياسى بأن يسلمه حصون شلبطَرّة، وقبالة، وبرج الحمة (1)، وارتضى أن يسلمه قصبة بياسة كفالة بتنفيذ وعده، واحتل استاذ فرسان قلعة رباح ورجاله بالفعل قصر بياسة، وبقى المسلمون على حالهم بالمدينة. ثم بذل البياسى جهده في تسليم حصن شلبطرة، وندب لذلك رسولا من قبله استطاع بعد مشقة أن يقنع حاميته بتسليمه للنصارى، وكذلك سلم النصارى حصن برج الحمة، ولم يبق عليه إلا أن يسلمهم حصن قبالة، الذي امتنع عليه (2).
ولم يقنع البياسى بما تم من توطد مركزه، واستقراره بعاصمة الخلافة القديمة، وسيطرته على معظم نواحي الأندلس الوسطى، ولكنه أراد أن يستولي على إشبيلية ذاتها، وأن يقضى نهائياً على سلطان منافسه العادل وأخيه أبي العلاء، فسار في قواته مرة أخرى صوب إشبيلية، وحاول أن يضرب حولها الحصار. وكان أبو العلاء قد استعد للقائه فخرج إليه في حشود الموحدين وأهل المدينة، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة هزم فيها البياسى، ومزقت جموعه، وارتد في فلوله صوب قرطبة. ويضع ابن عذارى تاريخ هذه الموقعة، في الخامس والعشرين من شهر صفر سنة 623 هـ، وهو يوافق التاريخ الذي تضعه الرواية النصرانية للموقعة، وهو 25 فبراير سنة 1226 م (3).
وكان لهذا النصر الحاسم الذي أحرزته القوات الموحدية على البياسى، نتائج هامة، فقد ارتدت طلياطة وحصن القصر، وبقية الحصون والبلاد الممتدة شرقي إشبيلية عن طاعة البياسى، وعادت إلى طاعة الخليفة العادل (4) وكتب السيد أبو العلاء إلى أخيه العادل بمراكش، كتاباً ينبئه فيه بهذا النصر، ومما جاء في الكتاب المذكور:
" إن المحنة بهذا البائس قد بلغت مداها، وانقبضت بعد البسط يداها،
_______
(1) وهي بالإسبانية على التوالى Salvatierra و Banos de la Encina, Capilla، وتقع الأخيرة شمالي اندوجر.
(2) الروض المعطار ص 58، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 46 & 47
(3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 250، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 48
(4) البيان المغرب ص 251.(4/360)
وانتهى إلى غاية لا يتعداها، والحمد لله الذي أذل للخلافة العادلية، أحد عداتها وأنصفها من منازعها بأداتها، فكافر النعم تستحيل عليه نقماً، وحاجب الشمس ضوءها، حافظاً بين ظلام وعماء، والموحدون عازمون على اتباع هذا العدو، إلى أن يدعوه عقيراً، أو يستثبتوه أسيراً إن شاء الله تعالى، وكتب في ربيع الأول من عام ثلاثة وعشرين وستمائة ".
وهنا خرج فرناندو الثالث في قواته مرة أخرى، وكان هدفه في هذه المرة الاستيلاء على حصن قبالة (1)، وهو من حصون الحدود الواقعة في شمالي قرطبة، وشمالى جبل الشارات، وكان قد تعذر على البياسى، أن يقوم بتسليمه وفقاً لتعهداته، وكان البياسى قد وصل في تلك الأثناء إلى قرطبة منهزما مدحوراً، وكان أهل قرطبة لما رأوا إفراطه في محالفة النصارى، وإسرافه في تسليم الحصون الإسلامية إليهم، قد خشوا أن ينتهي الأمر بأن يغدر بهم، ويسلم قرطبة ذاتها للنصارى، فاعتزموا الفتك به والتخلص منه، فثاروا به، وشعر البياسى بخطورة الأمر، ففر من المدينة، والتجأ إلى حصن المدوّر الواقع جنوبي النهر على مقربة من جنوب غربي قرطبة، ولكن الثوار طاردوه بشدة، وحاصروه في الحصن، ثم اقتحموه، وقتلوا البياسي، واحتزوا رأسه، وبعثوا بها إلى السيد أبي العلى بإشبيلية، فأرسلها بدوره مع كتاب إلى أخيه العادل بمراكش، فرد العادل بكتاب يتضمن تعيين أخيه أبي العلى واليا لقرطبة بالإضافة إلى إشبيلية (2)، وكان البياسي عند مصرعه شيخاً قد جاوز الستين.
وهكذا تحطمت ثورة أبي محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن، المسمى بالبياسى، بعد أن لبثت ثلاثة أعوام تبث الاضطراب والدمار إلى أواسط الأندلس، وتمهد للنصارى اقتطاع القواعد والحصون الواقعة في شرقي قرطبة وفي شمالها، وقد اقتطعوا منها بالفعل طائفة كبيرة، كان ضياعها سبباً في إضعاف خطوط الدفاع عن قرطبة، والتمهيد لسقوطها. وتقدم إلينا الرواية الإسلامية، البياسى، في صور بغيضة قاتمة (3). ونستطيع أن نعتبر البياسى بالفعل على ضوء ما تقدم، من أعماله وخياناته المتوالية لقضية
_______
(1) وبالإسبانية Capilla.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 252، والروض المعطار ص 59.
(3) راجع الروض المعطار ص 58 و 61، والبيان المغرب ص 249 و 250.(4/361)
الإسلام، وقضية الأندلس، تحقيقاً لأطماعه الوضيعة، شخصية بغيضة مثيرة، تستحق أن يدمغها التاريخ بأقسى الأحكام، ويرميه ابن عذارى بالارتداد عن الإسلام، واعتناق النصرانية، بيد أننا لم نجد في الروايات النصرانية ما يؤيد هذا الاتهام، ولو وقع لكانت الرواية النصرانية أول من يسجله ويشيد به.
- 4 -
وكان فرناندو الثالث حينما وصلته أنباء هذه الحوادث أمام حصن قبالة المنيع، وقد ضرب حوله الحصار (أوائل يونيه سنة 1226) وأخذ يهاجمه باستمرار، وحاميته الإسلامية صامدة، بيد أنه لما طال الحصار، واشتدت هجمات النصارى، اضطر المسلمون إلى مفاوضة ملك قشتالة، وعرضوا أن يقدموا رهائنهم بالتسليم، وأن يبعثوا رسلهم إلى السيد أبي العلاء، وكان عندئذ بقرطبة، يطلبون إليه الإنجاد، فإذا لم تصل إليهم النجدة خلال ثمانية أيام، سلموا الحصن بالأمان، فقبل فرناندو هذا العرض. ولم تمض أيام قلائل حتى عاد الرسل من قرطبة خائبين، فسلم المسلمون الحصن، وسمح لهم وفقاً للاتفاق، أن يخرجوا بنسائهم وأولادهم وأموالهم، وأن يسيروا محروسين حتى حصن " غافق " الواقع جنوب قبالة، وهو أقرب الحصون الإسلامية إليهم، ودخل فرناندو الحصن وفي الحال حول مسجده إلى كنيسة، ووضع به حامية نصرانية، وكان تسليم حصن قبالة في أوائل أغسطس سنة 1226 م (أواخر سنة 623 هـ).
وجاء بعدئذ دور بيّاسة، وكان من الواضح، بعد مصرع البياسى، أن مصير بياسة غدا في كفة القدر، وأن ملك قشتالة كان يتطلع إلى أخذها باعتبارها من أملاك تابعه. وكان فرسان قلعة رباح قد احتلوا قصبة بياسة كما قدمنا كفالة بتنفيذ البياسى لتعهداته، فلما قتل البياسى، أراد أهل بياسة أن يخرجوا النصارى من قصبتهم، فبعثوا إلى صاحب جيّان عمر بن عيسى بن أبي حفص بن يحيى، يستنجدون به، فقدم عليهم في بعض قواته، ومعه القائد محمد بن يوسف المسكدالى، ودخل المدينة، وكان بها سوى من بالقصبة، طائفة كبيرة من النصارى، فقتلوا جميعاً مدافعين عن أنفسهم، ولكن صمد من كان منهم بالقصبة لحصانتها، فطلب أهل بياسة إلى الوالي الموحدي، أن يبقى يوماً أو يومين لحصار النصارى بالقصبة لإرغامهم على التسليم، لأنهم كانوا يتلقون مؤنهم من أهل المدينة يوماً بعد يوم، فأبى وأصر على الخروج من فوره، وذلك خوفاً من قدوم القشتاليين(4/362)
وقال لأهل المدينة، إنى ذاهب، فمن أحب أن يخرج معى فليخرج، ومن أراد البقاء فليبقى، فاضطر أهل المدينة إلى مغادرتها خوفاً من الوقوع أسرى في أيدي النصارى، وتفرقوا في مختلف الأنحاء. وهكذا استولى النصارى الذين بالقصبة وهم فرسان قلعة رباح على سائر المدينة، وذلك في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة سنة 623 هـ (أول ديسمبر سنة 1226 م) ووهب فرناندو الثالث الفرسان من أجل ذلك كثيراً من دور المدينة ورياضها وضياعها (1).
وفي العام التالي استولى فرناندو الثالث على شوذر (2) الواقعة جنوبي بياسة، وعلى عدة من الحصون المجاورة، وأخرج من بقى من المسلمين في بياسة ومرتُش وغيرهما من القواعد والحصون التي استولى عليها.
وهكذا استطاع القشتاليون أن يخرجوا من ثورة البياسى، بأكبر غنم، وأن يضعوا أيديهم على طائفة كبيرة من القواعد والحصون الأندلسية الهامة في منطقة جيان وقرطبة، وأن يتحكموا بذلك في خطوط الدفاع عن الأندلس الوسطى، وأن يقتربوا من قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، التي كان الاستيلاء عليها من أعز أمانيهم.
وكان السيد أبو العُلى (أبو العلاء) إدريس، مذ حلّ بقرطبة عقب مصرع البياسى، يحاول أن يضع حداً لعدوان النصارى في تلك المنطقة، فسار في بعض قواته إلى مرتش وحاصرها، وحاول أن يستولي عليها، ولكن الأمداد القشتالية ْجاءت أخيراً لتنقذها من السقوط، واضطر السيد أبو العلى أن يرفع الحصار وأن ينصرف بقواته، وذلك في أوائل سنة 624 هـ - 1227 م. فلما شعر أبو العلى باشتداد وطأة القشتاليين على الأراضي الإسلامية، سعى إلى عقد الهدنة معهم، وبعث رسوله أبا القاسم للمفاوضة، وتم الاتفاق على أن تعقد الهدنة بين الفريقين لمدة عام واحد، وأن يدفع الموحدون لقاء عقدها ثلاثمائة ألف قطعة Naravedi من الفضة، دفع بعضها عند توقيع التعاقد ودفع الباقى بعد ذلك (3).
- 5 -
لم نجد بعد أن سجلنا أحداث الأندلس الأليمة في عهد الخليفة العادل، ما نسجله
_______
(1) الروض المعطار ص 58 و 59، وكذلك: J. Gonzalez: ibid, p. 52
(2) وهي بالإسبانية Jodar
(3) J. Gonzalez: ibid ; cit. Cronica Latina, p. 55،،،،،،(4/363)
من الأحداث في عهده بالمغرب، وهو عهد لم يطل إلا نحو عامين، إلا ما كان من تفاقم الأحوال، واضطراب حبل الأمن، وازدياد الفوضى، وتوالى عيث العرب، وبعض القبائل البربرية، ولاسيما هسكورة، في الأنحاء القريبة من العاصمة وازدياد شأن بني مَرِين، وتغلبهم على كثير من النواحي والقبائل، وفرض المغارم عليها، بل وفرضهم الإتاوات على بعض المدن القريبة من منازلهم، مثل فاس وتازى ومكناسة، وذلك لكي يكفوا الغارة عنهم (1).
وكان أهم ما حدث في تلك الفترة القصيرة، قيام عرب الخُلط، وشيخهم هلال بن مقدم، وهسكورة، وشيخها عمر بن وقاريط، بالعيث في نواحي مراكش، وتخريبهم بلاد دُكالة. وخرج إليهم في البداية ابن يوجان فلم يستطيع شيئاً، فوجه إليهم العادل عسكراً من الموحدين بقيادة إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حفص، فهزم وقتل، واستمرت أعمال العدوان والعيث على حالها (2).
وبينما المغرب يجوز في ظل العادل، هذه الفترة المدلهمة، إذ وقع بالأندلس حدث جديد ضخم، هو خروج السيد أبي العلى والي إشبيلية وقرطبة على أخيه العادل، وخلع طاعته، وإعلانه الدعوة لنفسه، ومبايعته بالخلافة في إشبيلية، وذلك في الثاني من شهر شوال سنة 624 هـ (15 سبتمبر سنة 1227 م). ولم يتخذ السيد أبو العلى قراره ارتجالا، بل مهد إليه بالسعى والاتصالات، وكان معه بإشبيلية عدة من وجوه الموحدين وأشياخهم، الذين يعتد برأيهم، فأراد أن يسبر غورهم أولا، فاتفق مع قاضي المدينة، أبي الوليد بن أبي الأصبغ ابن الحجاج، وكان ذلك في أواخر شهر رمضان، أن ينشىء خطبة بليغة يلقيها في يوم الفطر، وأن يتعرض فيها لمسألة الخلافة، وأن يشير بلباقة إلى ما يجول بخاطره من القيام بالأمر، فألقى القاضي خطبته حسبما اتفق، وأطنب في ذكر السيد واستحقاقه للأمر، وفي اليوم التالي، اجتمع أشياخ الموحدين بمجلس السيد أبي العلى، وقام الجميع بمبايعته، واتخذ لقب المأمون، وبايعه على أثر ذلك بعض ولاة الأندلس، وفي مقدمتهم السيد أبو زيد والي بلنسية، وبعثوا ببيعاتهم إليه. وكذلك بايعته من أنحاء العدوة سبتة وطنجة (3).
_______
(1) روض القرطاس ص 166، وابن خلدون ج 7 ص 170.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 252.
(3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 255، وروض القرطاس 166.،،،،،،(4/364)
ويقول لنا ابن الخطيب، إن أبا العلى، قام على أخيه العادل بممالأة أخيه السيد أبا زيد أمير بلنسية وتحريكه إياه، وقد وهم ابن الخطيب فجعل من السيد أبي زيد وأخيه عبد الله البياسى، أخوين للعادل وأبي العلى، في حين أنهما من أبناء عمومتهما، إذ أن أبا زيد عبد الرحمن والي بلنسية، وأخاه عبد الله البياسى، هما ولدا محمد بن يوسف بن عبد المؤمن، ومحمد هو أخ ليعقوب المنصور (1).
وبعث أبو العلى المأمون إلى ابن يوجان، يدعوه إلى مبايعته والعمل على نصرته، وكان العادل قد تغير على ابن يوجان وأقصاه، وخاطب ابن يوجان هلال بن مقدم أمير الخُلْط، وعمر بن وقاريط شيخ هسكورة، وأوعز إليهما بالاستمرار في الإغارة على أحواز مراكش، حتى يذعن الموحدون إلى خلع العادل ومبايعة المأمون (2). ويقول لنا صاحب روض القرطاس من جهة أخرى إن المأمون أرسل إلى الموحدين بمراكش يدعوهم إلى بيعته، وإلى الفتك بأخيه العادل، وأنهم صدعوا بأمره، وقتلوا العادل، وكتبوا بيعتهم إليه (3). على أن الأمور اتخذت في بلاط مراكش وجهة أخرى. وكان يسيطر على الدولة رجلان هما أبو زكريا بن الشهيد زعيم هنتاتة، ويوسف بن علي شيخ تينملّل. فلما وردت الأنباء بقيام أبي العلى المأمون وبيعته، ولما تفاقم أمر الخُلط وهسكورة، اتفقا على خلع العادل وعقد البيعة لأبي زكريا يحيى بن محمد الناصر. فدخل الموحدون القصر على العادل، وطلبوا إليه أن يخلع نفسه، ولما أصر على الرفض قتلوه، وذلك في اليوم الثاني والعشرين من شهر شوال سنة 624 هـ. ويقول لنا صاحب روض القرطاس إن القتلة، وضعوا رأس العادل في خصة تفور بالماء، وشنقوه بعمامته حتى مات. ويزيد على ذلك بأن الموحدين عقدوا البيعة أولا للمأمون، وبعثوا بها إليه، وخُطب له بالفعل على منبر جامع المنصور، ثم خشوا بعد ذلك بطشه وانتقامه، فنكثوا البيعة، وبايعوا إلى ابن أخيه يحيى بن الناصر (4).
ويؤيد ابن الخطيب هذه الرواية، فيقول لنا إن الموحدين عقدو البيعة للمأمون بمراكش والأندلس، ثم إن الموحدين بمراكش بدا لهم في أمره، وعدلوا
_______
(1) ابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة 1956) ج 419، ومخطوط الإسكوريال (1674 الغزيرى) لوحة 54.
(2) الروض المعطار ص 69.
(3) روض القرطاس ص 166 و 167.
(4) البيان المغرب ص 253، وروض القرطاس ص 164 و 167.،،،،،،(4/365)
عنه إلى ابن عمه (والصحيح ابن أخيه)، أبي زكريا يحيى بن الناصر (1) ثم يؤيدها بعد ذلك بصورة قاطعة، ما حدث عقب استيلاء المأمون على العرش، من قتله لأشياخ الموحدين، جزاء لهم على نكث بيعته بعد عقدها (2).
وعلى أي حال فقد انتهى الموحدون بمراكش، إلى البيعة ليحيى بن الناصر. ويقول ابن عذارى إن هذه البيعة قد تمت في اليوم الثاني والعشرين من شهر شوال أعني في نفس اليوم الذي قتل فيه العادل (3)، وهذا ما لا يتفق مع سير الحوادث، وعقد البيعة للمأمون ثم النكث بها، ومن ثم فإنا نوثر الأخذ برواية صاحب روض القرطاس وهو أن بيعة يحيى قد تمت في اليوم الثامن والعشرين من شهر شوال سنة 624 هـ (4)، أعني بعد مصرع العادل بأسبوع، وهو أكثر اتفاقاً مع المنطق. وكان يحيى بن الناصر، هو الذي اجتنى ثمرة الجريمة، وليس أخو الخليفة المقتول، وقبض بعد ذلك بأشهر قلائل على الوزير السابق أبي زيد بن يوجان، وولده الأكبر بالرغم من اختفائهما وقتلا، وذلك لما نسب إليهما من تحريض عرب الخُلط وهسكورة على الاستمرار في عيثهما (5).
وتلقب يحيى بن الناصر، بالمعتصم، وكان وقت تقلده الخلافة، فتى حدثاً في السادسة عشرة من عمره، وامتنع من بيعته عرب الخُلط، وقبيلة هسكورة، وبقيا على ولائهما في بيعة المأمون.
ولما وصلت هذه الأنباء إلى المأمون بالأندلس، استشاط سخطاً وغضباً، وكان قد أخذ بالفعل في الأهبة للمسير، وقصد إلى الجزيرة الخضراء ليجوز منها إلى العدوة، فارتد إلى إشبيلية، وقد آلى على نفسه أن يعمل بكل ما وسع لانتزاع عرش الخلافة، والانتقام من أولئك الأشياخ المنافقين الذين غدروا به ونكثوا بيعته.
بيد أنه يجب قبل أن نتتبع مصاير الخليفة المأمون، وما اقترن بعهده من أحداث المغرب، أن نقف لحظة لكي نستأنف الكلام على سير الحوادث بالأندلس.
_______
(1) الإحاطة (1956) ج 1 ص 419.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 265.
(3) البيان المغرب ص 253.
(4) روض القرطاس ص 165.
(5) الروض المعطار ص 69 و 70.،،،،،،(4/366)
الفصل الثالث عصر الخليفة أبي العلي المأمون
إلغاء رسوم المهدي ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية
المأمون يعقد حلفاً مع قشتالة. شروط هذا الحلف. معاونة فرناندو الثالث العسكرية للمأمون. عبور المأمون إلى المغرب. اللقاء بينه وبين يحيى المعتصم. هزيمة يحيى وفراره. دخول المأمون مراكش. فتكه بأشياخ الموحدين. القتال ثانية بين يحيى والمأمون. هزيمة يحيى وفراره للمرة الثانية. مرسوم المأمون بإزالة رسوم المهدي وإعلانه بطلان دعوته. كتابه في ذلك. رواية أخرى عن إزالته للدعوة للمهدية. ما كان يجيش به المنصور من ذلك. بناء النصارى لكنيستهم في مراكش. إفريقية تحت ولاية الشيخ أبي محمد عبد الواحد. وفاته وقيام ولده أبي محمد عبد الله مكانه. الخليفة الموحدي يعين أميراً لتونس. تحرك يحيى بن إسحاق بن غانية. نهوض السيد أبي العلاء من تونس لقتاله. أطوار القتال بين الفريقين. هزيمة ابن غانية وفراره. ولاية السيد أبي زيد لإمارة تونس ثم إقالته. العادل يعين أبا محمد عبد الله لولاية إفريقية. دخوله تونس وتعيينه لأخيه أبي زكريا لحكم قابس، وأخيه أبي ابراهيم لحكم توزر. تأثل هيبة الشيخ أبي محمد عبد الواحد وبنيه بإفريقية. عود ابن غانية للعيث في شمال إفريقية. اقتحامه لقسنطينة ومليانة والجزائر. خروج الشيخ أبي محمد لمطاردته. مسيره صوب أحواز سجلماسة. استعراض لمغامرات بني غانية. تدهور مثلهم الثورية. هزيمتهم وانهيار أحلامهم. الأعوام الأخيرة من حياة يحيى بن غانية. وفاته وتعليق ابن خلدون عليها. مصرع الخليفة العادل وقيام يحيى مكانه. اضطراب أمر الخلافة الموحدية. قيام الخليفة المأمون وما تلا ذلك. توقف أبي محمد عبد الله عن مبايعته. عزله وتعيين أخيه أبي زكريا لولاية إفريقية. محاولة أبي محمد مقاتلة أخيه ورده عن ذلك. استدعاء الأشياخ لأبي زكريا واعتقال أبي محمد. مسير أبي زكريا إلى تونس. تعيين المأمون لبعض العمال الجدد. غصب أبي زكريا لذلك. خلعه لطاعة المأمون. رواية أخرى عن نزاع الأخوين وقيام أبي زكريا في الحكم. خلع طاعة بني عبد المؤمن واستقلال إفريقية. استيلاء أبي زكريا على قسنطينة وبجاية من الولاة الموحدين. قيام إفريقية المستقلة تحت حكم الدولة الحفصية. بنو حفص والشيخ أبو محمد عبد الواحد. انشغال بلاط مراكش وعجزه. كتاب المأمون بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. السيد أبو موسى والي سبتة يدعو لنفسه بالخلافة. الثورة في منطقة فازاز. مسير المأمون لمعاقبة الثوار. تفرق الثوار ومسير المأمون إلى سبتة. فشل محاصرته لها. عبور أبي موسى إلى الأندلس. تنازله عن سبتة لابن هود. اقتحام يحيى لمراكش. احراقه لكنيستها وقتله للنصارى. عود المأمون ووفاته في الطريق. اتفاق الأشياخ على مبايعة ولده الرشيد. مسير جيش المأمون إلى مراكش. امتناعها واستعدادها للمقاومة خشية انتقام الجند النصارى. صدور ظهير الرشيد بتأمينها. دخوله المدينة. تعويض النصارى افتداء للمدينة. الخليفة أبي العلى المأمون ونشأته وصفاته. براعته البيانية. نموذج من بلاغته. بعض شعره. وزراؤه وكتابه. شخصه وأولاده.،،،،،(4/367)
لما عاد المأمون إلى إشبيلية، بعد أن أخفق في التغلب على ابن هود، كانت تشغله فكرة واحدة، هي العبور إلى المغرب، وانتزاع العرش من يد ابن أخيه يحيى، ومعاقبة الناكثين لبيعته. وكان مما يشجعه على العبور، أن وردت إليه من المغرب بيعات والي فاس، ووالى تلمسان محمد بن أبي زيد بن يوجان، ووالى سبتة، وهو أخوه أبو موسى بن المنصور، ووالى بجاية، وهو ابن أخته، وكذلك وصلت إليه بيعة مقدم بن هلال أمير عرب الخلط ودعوته بالقدوم (1). على أن المأمون لم يرد العودة دون قوة عسكرية تكفل له النجاح، ومن ثم فقد اتجه نحو ملك قشتالة، وكان فرناندو الثالث، قد عبر الحدود إلى الأندلس في أواخر سنة 1228 م (أوائل سنة 626 هـ)، وهو يرقب حوادث الأندلس وما تجوزه من فتن ومعارك داخلية، تمهد سبل الوثوب. فبعث إليه المأمون يعرض تجديد الهدنة السابقة إلى عام آخر بنفس الشروط، أعني مقابل دفع ثلاثمائة ألف قطعة Maravedi من الفضة، ويطلب إليه في نفس الوقت عقد حلف يحصل بمقتضاه على قوات عسكرية تعبر معه إلى المغرب. ويقدم لنا صاحب روض القرطاس خلاصة الشروط التي اشترطها ملك قشتالة لعقد هذا الحلف وقبلها المأمون، وهي أن يسلمه المأمون عشرة من الحصون الإسلامية في منطقة الحدود يختارها بنفسه. وأن تُبنى بمراكش كنيسة للنصارى يقيمون فيها شعائرهم، وأنه إذا أسلم أحد من النصارى فلا يقبل إسلامه، ويرد إلى إخوانه يقضون في أمره، وفق ما يرون، وإن تنصر بالعكس أحد من المسلمين فليس لأحد عليه سبيل. بيد أنه يبالغ في قيمة العون الذي قدمه ملك قشتالة للمأمون، فيقول إنه بعث إليه بجيش كثيف من إثنى عشر ألف فارس من النصارى، برسم الخدمة معه، والجواز إلى العدوة، وأن هذا الجيش الضخم، وصل إلى المأمون في شهر رمضان سنة 626 هـ، فكان المأمون بذلك أول من قام بإجازة الروم إلى العدوة على هذا النحو (2)، وفي هذا القول مبالغة ظاهرة، وليس من المعقول أن يعير ملك قشتالة مثل هذا العدد الضخم من فرسانه للخليفة الموحدي، والجيش القشتالي كله لم يكن يضم في كثير من المواقع الضخمة أكثر من هذا العدد من الفرسان. والحقيقة التي تقدمها إلينا الرواية النصرانية، من أن ملك قشتالة لم يمد المأمون
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 253، والزركشى في تاريخ الدولتين ص 16.
(2) روض القرطاس ص 167.،،،،،،(4/368)
بأكثر من خمسمائة فارس (1). وهذا هو بالذات ما يقرره ابن عذارى، إذ يقول مشيراً إلى عزم المأمون على الجواز إلى العدوة: " فحشد الحشود، وزم الجنود، وجمع نحو خمسمائة فارس من الروم، لما كان يبغى من الحركة ويروم " (2). ويكتفى ابن الخطيب بأن يصف هذه القوة التي أمد بها ملك قشتالة حليفه المأمون بأنها " جمع من فرسان الروم " (3).
وعبر المأمون البحر في حشوده من الموحدين والعرب والقشتاليين، ولم يترك بإشبيلية وباقي القواعد الأندلسية الباقية على طاعته، سوى بعض الحاميات الضئيلة. وكان جوازه من الجزيرة الخضراء إلى سبتة، وذلك في شهر ذي القعدة سنة 626 هـ (أكتوبر سنة 1228 م). فأقام في سبتة أياماً، ينظم قواته، ويستعد للسير إلى غزوته المنشودة. ثم سار في قواته صوب الحاضرة الموحدية، وكان ابن أخيه الخليفة الفتى يحيى بن الناصر وأشياخ الموحدين الموالين له، حينما بلغهم عبور المأمون إلى العدوة، قد استعدوا للقائه. وخرج يحيى في قواته من العرب، والموحدين، لرد المأمون، وكان اللقاء على جبل إيجليز على مقربة من مراكش، وذلك في اليوم الخامس والعشرين لربيع الأول سنة 627 هـ (يناير 1229 م)، فهجم الفرسان النصارى على قبة يحيى الحمراء واقتحموها، ومزقت حشوده وقتل معظمهم، وفر هو ناجياً بنفسه، والتجأ إلى جبل هنتاتة. ودخل المأمون حضرة مراكش، فبادر أشياخ الموحدين إلى بيعته، واستقر في كرسى الخلافة (4). وكان أول عمل قام به المأمون، هو تتبع خصومه والناكثين لبيعته، ولاسيما من أشياخ هنتاتة، وتينملل، ولجأ في ذلك إلى حيلة لاجتذابهم فأعلن الأمان، فهرع معظمهم للسلام عليه، ولما تم اجتماعهم، استحضر خطوطهم وبيعاتهم، ثم أخذ يحاسبهم على تصرفاتهم وعلى خديعتهم، ونكثهم المتكرر ببيعاتهم، وذلك بحضرة القاضي الفقيه المكيدى، وكان قد حضر معه من إشبيلية، ثم خاطب القاضي بقوله: " ما تقول يا فقيه في قوم بايعوا شخصاً، ثم نكثوا عليه وخلعوه، ثم قتلوه، ثم بايعوا شخصاً آخر فنكثوا عليه وقتلوه، ثم بعثوا ببيعتهم هذه إلىّ ثم نكثوا
_______
(1) J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia p. 59, Nota 14
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 264.
(3) الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 419.
(4) البيان المغرب ص 265، وروض القرطاس ص 167، وابن خلدون ج 6 ص 253،
وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 419.،،،،،،(4/369)
أيضاً على " فقال القاضي: " وجب عليهم القتل أجمعين " وتلا الآية: " ومن نكث فإنما ينكث على نفسه " فأمر المأمون بإعدامهم جميعاً، وكانوا نحو مائة من أعيان الموحدين، ودفنوا على الأثر في حفرة كبيرة حفرت لهم خارج باب السادة، ثم تتبع من بقى منهم بمراكش، حتى فنى معظمهم، وتضاءلت بذلك مشيخة الموحدين، وضعف نفوذها القوي، الذي لبث، منذ أيام المهدي، يأخذ بأكابر نصيب في توجيه مصاير الدولة الموحدية (1).
وفي شهر رمضان من هذا العام (627 هـ) خرج المأمون من مراكش ليرد هجوماً جديداً كان يدبره يحيى بن الناصر وأنصاره من الموحدين. فالتقى الفريقان بفحص واونزرت، فوقعت الهزيمة للمرة الثانية على يحيى وأصحابه، وقتل منهم عدد ضخم، وفر يحيى في فلوله إلى بلاد درعة وسجلماسة، وعلق المأمون من رؤوسهم على أسوار مراكش نحو أربعة آلاف، وكان الوقت قيظاً، فانتشرت روائحها الكريهة في المدينة، وضج الناس من ذلك، ورفع الأمر إلى المأمون، فكان جوابه أنه يوجد ثمة مجانين، وتلك الرؤوس لهم أحراز لا يصلح حالهم إلا بها، وإنها لعطرة عند المحبين، كريهة عند المبغضين (2).
وكان المأمون يجيش بأفكار ومشاريع عظيمة، نحو تجديد الدولة الموحدية، وتجديد رسومها وتعاليمها، بعد أن أضحت في نظره عتيقة بالية. وقد تذرع في تنفيذ خطته بمنتهى الشجاعة والجرأة، وقد كان المأمون في الواقع شجاعاً صارماً، مضطرم النفس، فأصدر مرسومه إلى سائر بلاده بإزالة اسم المهدي من الخطبة ومن السكة، ومحو اسمه من المخاطبات، وقطع النداء عند الصلاة بالنداءات البربرية مثل " تاصليت الإسلام " " وسودود " و " ناردي " " وأصبح ولله الحمد " وغير ذلك مما كان العمل جارياً عليه منذ بداية الدولة الموحدية. وأذاع في كتابه الرسمى، الذي أنشأه بنفسه، أن وصف ابن تومرت بالمهدي وبالإمام المعصوم " إنما هو نفاق وبدعة وأمر باطل، وأنه يجب نبذه والقضاء عليه ". وقد أورد لنا ابن عذارى نص هذا الكتاب الشهير، الذي يعتبر صدوره حدثاً حاسما في تاريخ العقيدة الموحدية، ونحن ننقله هنا لبالغ أهميته:
" من عبد الله إدريس أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين،
_______
(1) البيان المغرب ص 265، وروض القرطاس ص 168، والإحاطة ج 1 ص 419.
(2) البيان المغرب ص 271، وروض القرطاس ص 168.،،،،،،(4/370)
إلى الطلبة والأعيان والكافة، ومن معهم من المؤمنين والمسلمين، أوزعهم الله شكر أنعمه الجسام، ولا أعدمهم طلاقة أوجه الأيام الوسام، وإنا كتبناه إليكم، كتب الله لكم عملا منقاداً، وسعداً وقاداً، وخاطراً سليما، لا يزال على الطاعة قائماً مقيما، من مراكش كلأها الله تعالى، وللحق لسان ساطع، وحسام قاطع، وقضاء لا يرد، وباب لا يسد، وظلال على الآفاق لمحو النفاق بعد، والذى نوصيكم به تقوى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، ولتعلموا أنا نبذنا الباطل، وأظهرنا الحق، وأن لا مهدى إلا عيسى بن مريم، وما سمى مهدياً إلا أنه تكلم في المهد، وتلك بدعة قد أزلناها، والله يعيننا على القلادة التي تقلدناها. وقد أزلنا لفظة العصمة عمن لا تثبت له عصمة، فلذلك أزلنا عنه رسمه، فتسقط وتبيت، وتمحى ولا تثبت. وقد كان سيدنا المنصور، رضي الله عنه، هم أن يصدع بما به الآن صدعنا، وأن يرقع للأمة الخرق الذي رقعنا، فلم يساعده لذلك أمله، ولا أجّله إليه أجله، فقدم على ربه بصدق نية، وخالص طوية، وإذا كانت العصمة لم تثبت عند العلماء للصحابة، فما الظن بمن لم يدر بأي يد يأخذ كتابه، أف لهم قد ضلوا وأضلوا، ولذلك ولوا وذلوا، ما تكون لهم الحجة على تلك المحجة، اللهم اشهد، اللهم اشهد أنا قد تبرأنا منهم تبرأ أهل الجنة من أهل النار، ونعوذ بك يا جبار من فعلهم الرثيث، وأمرهم الخبيث، إنهم في المعتقد من الكفار، وإنا فيهم كما قال نبيكم عليه السلام " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " والسلام على من اتبع الهدى واستقام " (1).
وفي رواية أخرى هي رواية صاحب روض القرطاس، أن المأمون بعد أن دخل مراكش وبايعه الموحدون، صعد إلى المنبر بجامع المنصور، وخطب الناس، ولعن المهدي، وقال أيها الناس لا تدعوه بالمعصوم، وادعوه بالغوى المذموم، إنه لا مهدى إلا عيسى، وإنا قد نبذنا أمره النحيس به، ثم أصدر مرسومه المتقدم، بإزالة اسم المهدي من الخطبة والسكة، وأن كل ما فعله المهدي، وتابعه أسلافنا فهو بدعة، ولا سبيل لإبقاء البدع. ثم دخل قصره فاحتجب ثلاثة أيام، ثم خرج في اليوم الرابع، فاستدعى أشياخ الموحدين بين يديه،
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 267 و 268، وابن الخطيب في الإحاطة (1956) ص 419، و 420.،،،،،،(4/371)
وعاتبهم على نقض عهودهم، ثم أمر بإعدامهم حسبما تقدم (1). بيد أنه يبدو من المرجح أن المأمون، قد عمد أولا إلى التخلص من خصومه من أشياخ الموحدين، ثم أقدم على تنفيذ خطته في إزالة رسوم المهدي وتعاليمه.
ولا ريب أن عمل المأمون كان أعظم انقلاب ثورى حدث في أصول العقيدة الموحدية على يد بني عبد المؤمن، وقد أصاب الصميم من أسس هذه العقيدة وتعاليمها، وقضى بصورة رسمية قاطعة، ببطلان أحداث الأسطورة التي مثلت في جبل إيجليز قبل ذلك بمائة واثنتى عشرة عاما، وأعلن فيها محمد بن تومرت أنه المهدي المنتظر، والإمام المعصوم.
ونحن نعرف أن الخليفة يعقوب المنصور، كانت تساوره نحو المهدي مثل هذه الأفكار، وأنه لم يكن من الغلاة في تصوير إمامته ومهديته، ولم يكن بالأخص من المؤمنين بعصمته، فكان عمل المأمون في الواقع، وحسبما يشير إليه كتابه، تنفيذاً لما كان يجيش به والده المنصور، ولم يكن يجرأ في وقته على المجاهرة به، أو الإقدام على تنفيذه.
والظاهر أن عمل المأمون في إزالة رسوم المهدي وتعاليمه، لم يكن له كبير صدى، ولم يترتب عليه أية معارضة أو بوادر انتقاض، وبالعكس فقد أشاد الشعراء بتصرفه، وأزجوا إليه مدائحهم في قصائد عديدة، يورد لنا ابن عذارى بعضها (2).
وأذن المأمون في نفس الوقت لحلفائه النصارى القادمين معه، في بناء الكنيسة بمراكش، وهي التي اشترط ملك قشتالة إنشاءها، وأخذت النواقيس منذ إتمامها، تدق لأول مرة في العاصمة الموحدية (3).
- 1 -
وكان من أعظم الحوادث الحاسمة في عصر المأمون، إلى جانب محو أصول العقيدة الموحدية، انفصال إفريقية عن الدولة الموحدية، وقيامها دولة مستقلة تحت سلطان بني حفص. ونحن نعرف أنه لما تفاقم أمر يحيى بن إسحاق بن غانية
_______
(1) روض القرطاس ص 167 و 168.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 268 و 269.
(3) ابن خلدون ج 6 ص 253.،،،،،،(4/372)
الميورقي في إفريقية، واشتد عيثه بها، واستولى على معظم قواعدها، ثم استولى على تونس ذاتها، وكاد سلطان الموحدين يمحى في ذلك الركن من إمبراطوريتهم الشاسعة، سار إليه الخليفة الناصر لدين الله في الجيوش الموحدية، ولبثت هذه الجيوش تطارده من مكان إلى مكان، حتى ضربته ضربتها الحاسمة في موقعة جبل رأس تاجرا في سنة 602 هـ، وانتزعت منه قواعد إفريقية واحدة بعد أخرى، ورأى الناصر تأميناً لإفريقية، وتوطيداً لسلطان الموحدين بها، أن يسند ولايتها إلى الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر الهنتاتى، وهو الظافر في معركة رأس تاجرا، وكان الشيخ أبو محمد يومئذ عميد أشياخ الموحدين وأشدهم نفوذاً لدى الخليفة، وكان فوق ذلك صهر الخليفة متزوجاً بأخته ابنة الخليفة المنصور، فقبل الشيخ الولاية، على كره منه، واشترط لتقلدها شروطاً تكفل له الاستقلال التام برأيه وتصرفاته، وأبدى الشيخ في ولايته منتهى الحصافة والحزم، ووقف بالمرصاد للميورقى، وقضى على كل محاولاته، ومحاولات حلفائه من طوائف العرب، وغيرهم من المغامرين المفسدين، وحقق لإفريقية عهداً من الاستقرار والطمأنينة والرخاء لم تعرفه منذ بعيد.
ولما توفي الخليفة الناصر، بعد موقعة العقاب المشئومة بقليل، في اليوم العاشر من شعبان سنة 610 هـ، وخلفه ولده يوسف المستنصر، وبادر أشياخ الموحدين من سائر الأنحاء إلى بيعته، تمهل الشيخ أبو محمد في تقديم بيعته بعض الوقت، وأحيط تصرفه يومئذ بمختلف التعليقات، ولكنه انتهى بسعى الوزير ابن جامع إلى تقديم البيعة المنشودة. ولكن حدث حينما قام الخليفة المستنصر بتعيين عمال النواحي، أن ندب عمه السيد أبا العلاء الكبير إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن ليكون أميراً على تونس، وليستقر بقصبتها، ليعنى بتدبير شئونها، والسهر منها على حركات الميورقي، إلى جانب الشيخ أبي محمد عبد الواحد، وأن يبقى الشيخ على ما هو من تقلد أعمال ولايته، ولم يك ثمة شك في أن هذا التعيين لم يكن محلا لرضى الشيخ، وأنه رأى فيه مضايقة له، وافتئاتا على حقوقه وسلطانه (1).
وهناك قول آخر بأن تعيين السيد أبي العلاء لإمارة تونس لولاية إفريقية، لم يقع إلا بعد وفاة الشيخ أبي محمد ببضعة أشهر، في أواخر سنة 618 هـ، وأنه عين خلفاً للشيخ. ومما يعزز هذا القول، هو أن السيد أبا العلاء ما كاد يتولى
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 273 و 274.،،،،،،(4/373)
منصبه، حتى أمر بالقبض على كاتب الشيخ، محمد بن أحمد بن النجيل، وأخويه أبي بكر ويحيى، واستصفاء أموالهم، وذلك بتهمة تآمرهم على سلامة الدولة، ثم أمر بعد ذلك بإعدام ابن النجيل وأخيه يحيى (1).
وتوفي الشيخ أبو محمد عبد الواحد بتونس في مستهل شهر محرم سنة 618 هـ (8 مارس سنة 1220 م)، بعد أن لبث نيفاً وأربعة عشر عاما يضطلع بأعباء منصبه الشاقة، وكان الشيخ بلا ريب أقدر الحكام الذين ولوا حكم إفريقية، وأمضاهم عزماً، وأوفرهم شجاعة وجرأة، وكان لعزمه وشجاعته أكبر الأثر في تحطيم ثورة بني غانية، وإنقاذ سلطان الموحدين بإفريقية، وحماية جناح الدولة الموحدية الشمالي الشرقي من الانهيار مدى حين.
وهنا تختلف الرواية مرة أخرى في أمر من ولى حكم إفريقية عقب وفاة الشيخ، فيقول لنا ابن عذارى متفقاً مع روايته الأولى، إن ابنه أبا محمد عبد الله هو الذي خلفه في منصبه، وذلك تحت إشراف السيد أبي العلاء إدريس (2)، وهناك قول آخر، يتمشى مع الرواية الثانية، وهو أن الذي خلفه في منصبه هو السيد أبو العلاء إدريس، معيناً من قبل الخليفة يوسف المستنصر. وعلى أي حال فإن وفاة الشيخ أبي محمد عبد الواحد، قد تمخضت عن نتيجتين في منتهى الأهمية، الأولى تحرك ابن غانية من جديد، والثانية تحول مجرى الحكم في إفريقية.
- 2 -
وذلك أن يحيى بن إسحاق بن غانية، ما كاد يعلم بوفاة خصمه العتيد، الشيخ أبي محمد، حتى تنفس الصعداء، وأخذ في التحرك من منفاه السحيق في الصحراء، وكان قد لزم ودّان وأحوازها، منذ هزائمه الفادحة على يد الشيخ أبي محمد، ولبث هناك زهاء تسعة أعوام يرقب الفرص، فلما لاحت الفرصة بوفاة الشيخ، سار في الصحراء نحو الشمال، وعاث في بلاد الجريد، فنهض السيد أبو العلاء في جيش من الموحدين، وسار إلى قابس، ونزل بها بقصر العروسين، حتى لا تسقط في يد الثائر، وبعث ولده السيد أبا زيد في قوة إلى درج وغدامس، وبعث قوة أخرى، إلى ودان لرد ابن غانية، ومحاصرته. ولكن العرب من أنصار
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 196، وكذلك: A. Bel: Les Benou Ghania, p. 164
(2) البيان المغرب ص 274.،،،،،،(4/374)
ابن غانية وحلفائه اعترضوا سبيل الموحدين، وفر ابن غانية في جمعه من الملثمين والأعراب إلى جهة الزّاب، فسار السيد أبو زيد في أثره، ونجح ابن غانية في الوصول إلى الشمال والاستيلاء على بلدة بسكرة جنوبي قسنطينة، وتخريبها ونهبها، فهاجمه السيد أبو زيد، وانتزعها منه، وفر ابن غانية في حشوده من العرب والبربر وسار شرقاً حتى اقترب من أحواز تونس، فأتبعه السيد أبو زيد في عسكر الموحدين والعرب الموالين، لاسيما عرب هوارة، ونشب بين الفريقين في مكان يسمى مجدول قتال مرير، وهزم فيه ابن غانية، وقتل كثير من جنده، وامتلأت أيدي الموحدين من غنائمهم. وكان ذلك في أوائل سنة 621 هـ (1223 م). وفر ابن غانية في فلوله نحو الجنوب مرة أخرى، وأخذ يتجول بين الواحات، وهو يحشد الأنصار، وينتهب الأموال أينما استطاع، ويرقب الفرص السانحة (1). وعلم السيد أبو زيد على أثر الموقعة بوفاة أخيه السيد أبي العلاء، فارتد إلى تونس ليشغل منصبه في الإمارة، ووفقاً لهذه الرواية يكون تعيين السيد أبي زيد لولاية إفريقية، قد جاء من قبل الخليفة أبي محمد عبد الواحد المخلوع، الذي تولى الخلافة، في أواخر ذي الحجة سنة 620 هـ. على أن ابن عذارى، يقول لنا متفقاً مع روايته أن ولاية السيد أبي زيد الإمارة، كانت على نمط ولاية أبيه السيد أبي العلاء، وأن الشيخ أبا محمد عبد الله بن الشيخ أبي محمد عبد الواحد بقى على حاله مكان أبيه في ولاية افريقية، ينظر بالأخص في تدبير الشئون وجباية الأموال. ولكن السيد أبا زيد أساء السيرة، واشتد في معاملة الناس، خلافاً لما كان عليه الشيخ أبي محمد عبد الواحد وولده عبد الله. فسخط عليه الناس وتمنوا زوال حكمه، واستمر السيد في منصبه حتى توفي الخليفة أبو محمد عبد الواحد وتولى الخليفة العادل، فأقال السيد أبا زيد من منصبه، وذلك في شهر ربيع الثاني سنة 623 هـ، وأرسل إلى إفريقية عمه السيد أبا عمران موسى بن ابراهيم بن اسماعيل الحفصى ليتولى الحكم بها حتى يصل إليها حاكمها الأصلى الذي اختاره الخليفة، وهو أبو محمد عبد الله ابن الشيخ محمد عبد الواحد. وبعد ذلك ببضعة أشهر سار أبو محمد عبد الله وأخوه أبو زكريا يحيى إلى إفريقية، وتوقف أبو محمد قليلا في بجاية، ومعه أخوه أبو عبد الله اللحيانى (2)، وبعث أخاه أبا زكريا إلى تونس
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 196 و 197، والزركشي في تاريخ الدولتين ص 14 وكذلك:
A. Bel: ibid ; p. 167.
(2) وقد عرف بهذا الاسم لطول لحيته (ابن خلدون ج 6 ص 281).،،،،،،(4/375)
ليمهد لاستقباله. ثم سار إلى تونس، ودخلها في اليوم السابع عشر من ذي القعدة سنة 623 هـ (نوفمبر سنة 1225 م) في مواكب حافلة، واستقر في منصبه دون منازع، وندب الشيخ أبو محمد عبد الله، أخاه الأمير أبا زكريا يحيى لحكم قابس والحمة، وأخاه الأمير أبا ابراهيم لحكم توزر ونفطة، وسائر بلاد قسطيلة (1)، وتمكن بذلك سلطان بني حفص بإفريقية. وكانت سيرة الشيخ أبي محمد، وحكمة العادل، وسياسته اللينة الرفيقة، مما يسبغ على أسرته وبنيه من بعده، حسن الذكرى ويحبوها بالمحبة والولاء من سائر الناس.
وفي تلك الأثناء، كان يحيى بن غانية، وهو في مثواه بالصحراء، يجد في تحصيل الأموال، وحشد الرجال، ويرقب الفرصة للقيام بضربة جديدة، وفي أواخر سنة 623 هـ، سار نحو الشمال في اتجاه منطقة قسنطينة، ثم اجتازها بسرعة، واقتحم بجاية، ثم غادرها لوقته صوب تدلس، وهو يعيث قتلا ونهباً أينما حل، ثم اتجه نحو الغرب، وغزا متيجة، وتوغل في منازل زناتة، واكتسح أحياءها، وانتهب ثرواتها، وحاول شيخ مغراوة، عبد الرحمن بن منديل، وهو من أولياء الموحدين، أن يقف في سبيله، فهزمه ابن غانية وأسره ثم قتله، ثم اتجه ابن غانية بعد ذلك شمالا واقتحم مليانة، ثم استولى على الجزائر وصلب جثة ابن منديل على سورها. وخرج الشيخ أبو محمد عبد الله من تونس على عجل لمطاردة ابن غانية، ووضع حد لعيثه، وذلك في أواسط سنة 624 هـ، فسار أولا إلى أبة، وهاجم منازل هوّارة، وكانت ضالعة مع ابن غانية، وقبض على زعمائها وأرسلهم مصفدين إلى المهدية. ثم سار في أثر ابن غانية، ودخل بجاية، وأصلح شئونها، وقصد بعد ذلك إلى مليانة، وكان ابن غانية في تلك الأثناء، قد غادر الجزائر بعد اقتحامها، وسار نحو الجنوب الغربي، واستمر في مسيره حتى وصل إلى أحواز سجلماسة، فترك الشيخ أبو محمد مطاردته، وعاد إلى تونس، وذلك في شهر رمضان سنة 624 هـ (2).
ومن ذلك الحين، تغيض أخبار يحيى بن اسحاق بن غانية. وكان إلى ذلك الحين، قد قطع أربعين عاما في متابعة ذلك الصراع المرير، الذي بدأه أخوه علىّ ضد الموحدين، في إفريقية، والذى اتُخذت إفريقية، لموقعها من الجزائر
_______
(1) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 15، والبيان المغرب ص 274.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 197، وكذلك: A. Bel: ibid ; p. 174،،،،،،(4/376)
الشرقية مثوى بني غانية، ونأيها عن مركز الحكومة الموحدية، وثرواتها الطائلة، مسرحاً له، والذى كانت تحدوه في البداية مثلٌ سياسية وقومية، ثم انحدر بعد طول النضال، إلى غزوات خاطفة، ومعارك ناهبة. وقد وصل ابن غانية إلى ذروة سلطانه، بالاستيلاء على سائر قواعد إفريقية بما فيها العاصمة تونس، خلا بجاية، ثم قلب له الحظ ظهر المجن، فانتزع الموحدون الجزائر الشرقية، مثوى أسرته وموئل سلطانها، ومستودع مواردها، وذلك في سنة 600 هـ، ثم لقى هزيمته الحاسمة في موقعة جبل تاجرا في سنة 602 هـ. ومع ذلك، وبالرغم من تمزق حشوده، وتضاءل موارده، فإنه لم يخْبُ له عزم، ولم تضعف له إرادة، فاستمر في نضاله اليائس أعواماً طويلة أخرى، ولكنه كان نضال العصبة المغامرة، والانتقام المضطرم. وكان من الواضح أن الحلم الذي كان يجيش به بنو غانية، وهو العمل على إحياء الإمبراطورية المرابطية في إفريقية، وفوق أنقاض سلطان الإمبراطورية الموحدية، قد تحطم وتلاشى، بيد أنه لم يك شك أيضاً في أن هذه الضربات المتوالية، التي أنزلها علي بن إسحاق بن غانية، وأخوه يحيى، مدى نصف قرن بسلطان الموحدين وجيوشهم في إفريقية، قد هزت من أركان الدولة الموحدية وساعدت على تفككها، وتبديد مواردها وقواها، وكانت عاملا من أهم العوامل التي اجتمعت في تلك الفترة، لتمهد إلى انهيارها وسقوطها.
وقد عاش يحيى بن غانية أعوامه الأخيرة بين قليل من الصحب والجند، حياة شريد لا يستقر له مقام، بيد أنه لم ينقطع عن الإغارة على تخوم إفريقية كلما استطاع، ولم ينقطع أمير افريقية، وكان عندئذ أبا زكريا يحيى عن مطاردته ورده عن أراضيه، وأقام فوق ذلك في مختلف الحدود مراكز ثابتة، مزودة بالجند للسهر على حركات الثائر، وإخمادها في بدايتها، ومع ذلك فإن ابن غانية كان دائم النشاط والحركة، دائم الإغارة والعيث، حتى أنه كان من وقت لآخر يصل في غاراته شمالا حتى وادي شليف، واستمرت هذه الغارات حتى سنة 626 هـ. بيد أن هذه لم تكن سوى النفثات الأخيرة لثورة عاتية، ولم يكن يلتف حوله عندئذ سوى القلائل من صحبه المخلصين، ولم يكن له أهل ولا ولد، بعد أن مات أخوته وولداه في ساحة الحرب، سوى عدد من البنات، وكان في هذه الأعوام الأخيرة، يشهد انحلال الدولة الموحدية التي نذر نفسه لكفاحها، ولكنه كان يرى في نفس الوقت أنه لم يجن من صراعه وصراع أسرته،،،،،،(4/377)
الذي استطال خمسين عاما، أية نتائج مادية، وأن علم الدولة المرابطية الذي حاول أن يرفعه سوف يخبو بوفاته إلى الأبد. ثم كانت الخاتمة النهائية، وتوفي يحيى بن اسحاق بن غانية، وهو في محلته على ضفاف نهر شليف على مقربة من مليانة، وذلك في سنة 631 هـ أو سنة 633 هـ (1234 م) ودفن هنالك، ثم عفى أثر مدفنه. قال ابن خلدون معلقا على موته: " وانفض أمر الملثمين من مسّوفة ولمتونة من جميع بلاد إفريقية، والمغرب والأندلس، بمهلكه، وذهب ملك صنهاجة، من الأرض، بذهاب ملكه وانقطاع أمره ". وقيل إن يحيى بعث قبيل وفاته ببناته إلى الأمير أبي زكريا ليعشن في كنفه، فأكبر الأمير الحفصى حسن ظنه، وأحسن كفالتهن، وابتنى لصونهن داراً خاصة بحضرة تونس، عرفت بقصر البنات، وأقمن بها في عيش رغد، محروسات مشمولات بأقصى رعاية، حتى توفين عانسات معمرات، ولم يقبلن الزواج من أحد (1).
- 3 -
وهنا نعطف على ذكر الحدث الثاني الذي ترتب على وفاة الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص والي افريقية، وذلك في مستهل شهر المحرم سنة 618 هـ. وقد رأينا فيما تقدم أن الذي خلف الشيخ أبا محمد في ولاية إفريقية، هو ولده أبو محمد عبد الله، وذلك على خلاف في تاريخ هذه الولاية وكيفية نوعها، مما سبق لنا تفصيله، وعلى أي فقد كان أبو محمد عبد الله قائماً في ولاية إفريقية، مذ حَلّ بتونس في شهر ذي الحجة سنة 623 هـ، وكان الذي قلده ولايتها وفقاً لذلك، هو الخليفة العادل.
ولم تمض عدة أشهر على ذلك، حتى وقع مصرع الخليفة العادل، بعد مصرع سلفه الخليفة أبي محمد عبد الواحد، وجلوس الخليفة الفتى يحيى المعتصم على كرسى الخلافة مكانه في شوال سنة 624. ثم تفاقم اضطراب أمر الخلافة الموحدية، وقيام السيد أبي العلي بن المنصور بالأندلس، والدعوة لنفسه باسم المأمون، وجوازه إلى العدوة، واستيلائه على كرسى الخلافة من يد ابن أخيه يحيى المعتصم، وقتله لأشياخ الموحدين، وذلك في أوائل سنة 626 هـ. وقد كان لذلك كله أعمق وقع في إفريقية. ولما بعث المأمون إلى أبي محمد عبد الله والي إفريقية ليأخذ له البيعة،
_______
(1) نقلنا هذه التفاصيل الأخيرة عن وفاة يحيى وبناته عن ابن خلدون ج 6 ص 197، وكذلك: A. Bel: ibid ; p. 186.،،،،،،(4/378)
توقف عن عقدها، فكتب المأمون عندئذ إلى أبي زكريا يحيى أخي السيد أبي محمد، وكان يومئذ حاكماً لقابس، بالولاية على إفريقية، وعزل أخيه السيد أبي محمد، فبادر أبو زكريا بعقد البيعة للمأمون، ووقعت الوحشة بذلك بين الأخوين.
ذلك أنه لما علم أبو محمد عبد الله، بما كان من أخيه أبي زكريا، خرج في عسكره من تونس، فلما وصل إلى القيروان جمع أشياخ الموحدين ونبأهم بما اعتزم من قتال أخيه، فأنكر الأشياخ عليه ذلك، واعتذروا إليه عن تنفيذ فكرته، وذلك لمحبتهم للأمير أبي زكريا وتقدير صفاته، فأصر أبو محمد على رأيه ونهرهم، فأغلظوا له القول، وكادوا يعتدون عليه. وبعث الأشياخ إلى أبي زكريا ينبئونه بما حدث، ويستدعونه إليهم، فقدم أبو زكريا على الأثر، وتسلم قيادة العسكر، وأمر بالقبض على أخيه أبي محمد، وحمل محروساً إلى تونس، وهناك اعتقل حيناً بقصر ابن فاخر. ودخل الأمير أبو زكريا تونس في اليوم الرابع والعشرين من رجب سنة 625 هـ، وأمر في الحال بالقبض على أبي عمر كاتب أخيه، فقبض عليه وعذب وقتل، ثم بعث بأخيه أبي محمد إلى المغرب عن طريق البحر. وتولى أبو زكريا حكم إفريقية باسم الخليفة المأمون. ولكن لم يمض قليل على ذلك حتى بعث المأمون من قبله بعض عمال (حكام) إلى تونس، فثار لذلك أبو زكريا، وصرفهم، وخلع طاعة المأمون، وأمر بالخطبة ليحيى المعتصم. وكانت هذه أول خطوة في استقلال إفريقية (1).
بيد أن ابن عذارى يقدم إلينا عن نزاع الأخوين، واستيلاء أبي زكريا على الحكم، رواية أخرى، خلاصتها أنه لما تفاقم اضطراب الأحوال في البلاط الموحدي، وتوالى فشل أشياخ الموحدين، جمع الأمير أبو زكريا أشياخ الموحدين بتونس، وشرح لهم الأحوال، وفاوض أخاه أبا محمد عبد الله في وجوب خلع طاعة الخلافة المؤمنية، والاستقلال بالحكم، فأبى عبد الله كل الإباء، واعتقل أخاه أبا زكريا بداره، ففر أبو زكريا من معتقله، وسار إلى قابس، وهنالك تفاوض مع شيخها ابن يكى، فوافقه على مشروعه، ثم خاطبه الموحدون من تونس، باجتماع كلمتهم على اختياره، واتفقوا معه على التنفيذ، متى خرج أخوه عبد الله برسم الحركة إلى القيروان. فلما خرج عبد الله بقواته، ونزل بظاهر تونس، طالبه الجند ببركاتهم، فتلكأ في الإجابة، وكان أبو زكريا قد قدم في صحبه، ونزل على مقربة من محلة أخيه، فبادر الجند إلى خباء أخيه، ورموه بالحجارة حتى
_______
(1) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 17.،،،،،،(4/379)
كاد يهلك، ففر أمامهم، وعفّ الجند عن قتله إكراماً لأخيه، وقصد عبد الله إلى مراكش، وفي الحال جلس الأمير أبو زكريا مجلس الأمراء، وبايعه أشياخ الموحدين، ثم دخل تونس وبويع بها بيعة الخلفاء، واختار وزراءه وكتابه. وأبقى أبو زكريا في البداية ذكر الإمام المهدي في الخطبة وغيرها من المراسيم (1).
وتمت هذه الخطوة الأولى في استقلال إفريقية في أول سنة 627 هـ (نوفمبر 1229 م) وأعلن أبو زكريا يحيى خلع طاعة بني عبد المؤمن، وتسمى أولا بالأمير وجعل ذلك اللقب في صدركتبه. ولما كانت قسنطينة وبجاية، مازالتا بيد الحكام الموحدين، وكان أبو زكريا، يرمى إلى تحقيق استقلال إفريقية بسائر جهاتها وأراضيها، فقد بادر في العام التالي (628 هـ) بالزحف على قسنطينة، وحاصرها أياما، وانتهى الأمر بأن مُكن من دخولها، فدخلها وقبض على واليها الموحدي، وولي عليها عاملا من قبله، ثم سار إلى بجاية فافتتحها، وقبض على واليها الموحدي أبي زكريا عمران، وبعث بالواليين المقبوض عليهما إلى المهدية، وبعث بأهلهما وأولادهما في البحر إلى الأندلس، وقبض كذلك على عدة من أشياخ الموحدين والعرب الموالين لهم، وأرسلهم أيضاً إلى المهدية، فزجوا إلى مطبقها، واستكملت بذلك سيادة بني حفص على سائر رقعة الوطن الإفريقى. وصحب الأمير أبا زكريا أخوه أبو عبد الله اللحيانى، وكان متولياً أشغال بجاية. أما أخوه أبو محمد عبد الله والي إفريقية السابق، فقد لقى مصرعه بمراكش، وكان قد لجأ إليها.
وفي يوم الجمعة السابع من صفر سنة 633 هـ دعى في الخطبة للأمير أبي زكريا بعد ذكر الإمام، وبويع للمرة الثانية بيعة تامة شاملة، لم يتخلف فيها أحد، ولكنه استمر مقتصراً على لقب الأمير، ولم يتسم بأمير المؤمنين (2).
وهكذا قامت بإفريقية، بأحد أقاليم الدولة الموحدية الكبرى، دولة جديدة، هي الدولة الحفصية، نسبة للأسرة التي أنشأتها وحكمتها، وهم بنو حفص، أبناء الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر بن يحيى الهنتاتى، وقد كان أبو حفص عمر بن يحيى من أصحاب المهدي العشرة، وكان زعيم هنتاتة أقوى قبائل مصمودة، وهو الذي مهد لخلافة عبد المؤمن عقب وفاة المهدي، وكان له أعظم شأن وأقوى نفوذ لدى الخلافة الموحدية، وكانت وفاته بعد حياة حافلة بجلائل الأمور في سنة
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 274، 276، والإحاطة (1956) ج 1 ص 320 و 321.
(2) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 18، والبيان المغرب ص 276.(4/380)
571 هـ (1)، وكان لولده الشيخ أبي محمد عبد الواحد، وهو أحد أبناء عدة تولوا جميعاً رفيع المناصب بالمغرب والأندلس، مثل مقامه ونفوذه لدى البلاط الموحدي، وكان يعتبركبير أشياخ الموحدين، وقد رأينا ما كان من إخماده لحركة ابن غانية، بعد أن كادت تقضى على سيادة الموحدين بإفريقية، ومما كان من اضطلاعه بولاية إفريقية، في أحرج الظروف وأدقها، وما وفق إليه بعزمه وحزمه وقوة نفسه، من إنقاذها من عيث ابن غانية وحلفائه العرب، ومن توطيد أمنها وسلامها. وقد كان انفصال إفريقية واستقلالها على هذا النحو، ضربة جديدة للدولة الموحدية. وكان عاملا جديداً في إضعاف قواها ومواردها. بيد أنه لم يحدث كبير صدى في مراكش. وكان البلاط الموحدي في هذا الوقت ذاته مشغولا، بما يدور حول كرسى الخلافة، من حروب ومنافسات، وما يقوم به بنو مرين من استطالة، وعيث مستمر، في أطراف المغرب، وما يضطرم من ثورات محلية في بعض القواعد الهامة مثل مكناسة وسبتة، ولم تكن لديه أية قوة أو وسيلة يستطيع أن يحاول بها الوقوف في سبيل هذا الحدث المحتوم.
- 4 -
تركنا أخبار الخليفة المأمون، وقد هزم منافسه وابن أخيه يحيى المعتصم مرة أخرى، بفحص واونزرت على مقربة من مراكش، في شهر رمضان سنة 627 هـ، ثم أصدر مرسومه بعد ذلك بمحو اسم المهدي ابن تومرت ورسومه. وفي العام التالي، سنة 628 هـ، وجّه المأمون كتبه إلى سائر بلاد الموحدين بالمغرب، والأندلس، يدعو فيها إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والحض على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والصدقات، والنهى عن شرب الخمر والمسكرات، والتحريض على الدعاية. وقد أورد لنا ابن الخطيب فصولا من كتابه المشار إليه ننقل منها الفقرة الآتية: " وإذا كنا نوفى الأمة تمهيد دنياها، ونعنى بحماية أقصاها وأدناها، فالدين أهم وأولى، والتهمم بإقامة الشريعة وإحياء شعائرها، أحق أن يقدم وأحرى وعلينا أن نأخذ بحسب ما يأمر به الشرع وندع، ونتتبع السنن المشروعة، ونذر البدع. ولنا أن لا ندخر عنها نصيحة، ولا نغبنها أداة من الأدوات مريحة، ولنا عليها أن تطيع وتسمع " (2).
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 275، وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 321.
(2) الإحاطة (1956) ج 1 ص 421، و 422.(4/381)
وقد صدر مثل هذا الكتاب بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والحث على اتباع أحكام الشريعة، ونبذ البدع، عن معظم الخلفاء الموحدين، حسبما أشرنا إليه في مواضعه.
هذا وبينما المأمون مشغول على هذا النحو، بإصلاحاته المذهبية والدينية، إذ وقع انفصام جديد في الخلافة الموحدية، وظهر مدَّع جديد للخلافة، هو السيد أبو موسى بن يعقوب المنصور أخو المأمون. وذلك أن المأمون كان قد ولى أخاه السيد أبا موسى حكم ثغر سبتة، ففي سنة 629 هـ، دعا السيد أبو موسى لنفسه بالخلافة، وتسمى بالمؤيد بالله، وفي نفس الوقت كانت قبائل فازاز ومكلاته، قد جاهرت بالعصيان، وعاثت في منطقة مكناسة، وحاصرت مكناسة ذاتها، فحشد المأمون قواته، وخرج من مراكش يريد تأديب القبائل الثائرة أولا، ثم يسير إلى سبتة ثانيا، وكان عندئذ قد اطمأن إلى عجز ابن أخيه يحيى المعتصم عن القيام بأية محاولة جديدة، بعد أن تركه الموحدون، وعادوا إلى جبالهم، وسار هو في صحبه القليل إلى منطقة درعة وسجلماسة.
ولما أشرف المأمون بقواته الكثيفة على مكناسة، بادرت القبائل الثائرة بالتفرق والفرار، وعندئذ استمر في سيره إلى سبتة، فلما وصل إليها ضرب حولها الحصار من البر، ولكن المدينة المحصورة لم تشعر بشىء من الضيق، إذ كانت حرة مفتوحة من جهة البحر، فلم تنقطع عنها الموارد. وفضلا عن ذلك فإن السيد أبا موسى، بعث إلى ابن هود صاحب الأندلس يستنصر به، فأمده ابن هود ببعض سفنه. ومن ثم فقد لبث المأمون على حصارها ثلاثة أشهر، وهو يضربها بالمجانيق كل يوم، دون أن يلحقها شىء من الضيق أو تقع ثلمة في أسوارها، أو يهدم شىء من دورها، وربما كان في عزم المأمون أن يتابع هذا الحصار الفاشل حيناً آخر، لولا أن بلغه عندئذ خبر رُوع له، وأرغمه في الحال على رفع الحصار، هو وقوع مراكش في يد يحيى المعتصم.
وما كاد المأمون يبتعد عن سبتة حتى عبر أخوه، السيد أبو موسى إلى الأندلس. وكان ابن هود قد بلغ عندئذ ذروة سلطانه، وبايعت له معظم قواعد الأندلس، فبايعه، ونزل له عن سبتة، فعوضه عنها بولاية ألمرية. وبعث ابن هود إلى سبتة بحليفه، وقائده السابق الغشتى والياً لها، فلبث بها بضعة أشهر إلى أن أخرجه أهلها وخلعوا طاعة ابن هود، وبايعوا أبا العباس أحمد بن محمد(4/382)
اليانشتي، فاستبد بحكمها، وتسمى بالموفق بالله، وذلك في سنة 630 هـ (1).
وكان يحيى المعتصم قد انتهز غيبة المأمون عن الحضرة، فجمع حشوده على عجل، وانضم إليه عرب سفيان بقيادة شيخهم جرمون بن عيسى، وأبو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة، وسار إلى مراكش، واقتحمها عنوة، وكانت بلا دفاع، ودخل القصر، وجمع سائر ما فيه من الأموال والذخائر، وبعث بها إلى الجبل، وقتل وسبي الكثيرين ولاسيما من اليهود، وأحرق الكنيسة، وقتل من بها من القسس والنصارى. وبلغت هذه الأنباء إلى المأمون وهو على حصار سبتة، فرفع الحصار من فوره، وارتد في قواته منصرفاً صوب مراكش، وذلك في أوائل شهر ذي القعدة سنة 629 هـ، وهو يعتزم أن ينكل بيحيى وصحبه، وأقسم لحلفائه النصارى الذين معه، وقد اضطرموا سخطاً لما حل بكنيستهم ومواطنيهم، أن يطلقهم على مراكش ثلاثة أيام ينتصفوا فيها لأنفسهم. ولما وصل المأمون إلى وادي العبيد، الفرع الشمالي لوادى أم الربيع، مرض وتوفي فجأة، وذلك في آخر شهر ذي الحجة سنة 629 هـ، فكتمت زوجه حبابة الرومية، وهي أم ولده الأكبر وولي عهده الرشيد، وفاته، ولم يقف عليها سوى القادة وأشياخ الخُلط وبعض القرابة، ولم يقف عليها أحد من عامة الجيش. وفي اليوم التالي وهو مستهل شهر المحرم سنة 630 هـ (18 أكتوبر سنة 1232 م)، اجتمع الأشياخ والقادة واتفقوا على بيعة ولد المأمون أبي محمد عبد الواحد الرشيد بالخلافة، مبايعة سرية خاصة، وكان فتى في الرابعة عشرة من عمره. وأذيع في المحلة أن أمير المؤمنين مريض، لا يستطيع الركوب ولا الظهور، وحمل المأمون في تابوت وضع في هودج، وسارت الجيوش أمامه وهي على أهبتها للقاء يحيى المعتصم (2)، ولما وصلت حشود المأمون إلى مقربة من مراكش، خرج إليها يحيى المعتصم في قواته من الموحدين وعرب سفيان وغيرهم، فنشبت بين الفريقين معركة هزم فيها يحيى، وقتل معظم جنده، وتفرق الباقون في مختلف الأنحاء. ولكن قوات المأمون، حينما أشرفت على مراكش، وعلى رأسها ولده الرشيد، ألفت الحاضرة وقد استعدت للدفاع. وكان واليها من قبل يحيى، أبو سعيد بن وانودين قد تخلى عن
_______
(1) البيان المغرب ص 276، وروض القرطاس ص 169.
(2) البيان المغرب القسم الثالث ص 280 - 282، وابن خلدون ج 6 ص 253 و 254، وروض القرطاس ص 169، وابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 425.(4/383)
منصبه، واختار الناس مكانه السيد أبا الفضل جعفر بن السيد أبي سعيد، وكان أهل مراكش قد ترامى إليهم ما أعلنه المأمون قبل وفاته، من أنه سوف يبيح المدينة للنصارى، انتقاماً من أهلها، لما أبدوه من استسلامهم ليحيى، وتمكينه من دخولها، ومن ثم فإنهم لما رأوا مقدم جيش المأمون، ازدحموا فوق الأسوار، واستعدوا للدفاع، فعندئذ أصدر الرشيد لأهل المدينة ظهيراً بتأمينهم والعفو عنهم جميعاً، وعمن كان معهم من الموحدين، ورفع المغارم عنهم، وضمن ظهيره كثيراً من الوعود الطيبة، وحمل هذا الظهير القاضي أبو محمد عبد الحق، ومعه جملة من الناس، واقتربوا من السور من جهة باب السادة. وأعلن للناس وفاة المأمون وولاية ابنه الرشيد، وهزيمة يحيى، وعرفهم بما يتضمنه الظهير من تأمينهم والإنعام عليهم، فاطمأن الناس وسكنت نفوسهم، وأذنوا له ولرفاقه بالدخول إلى المدينة، ثم سار معه واليها السيد أبو الفضل والوجوه إلى القصر الخليفى، وقرئ الظهير على الكافة، فعم البشر والاطمئنان، وكتب الأشياخ والوجوه إلى الخليفة بالسمع والطاعة، وعاد القاضي وأصحابه ومعهم وفد من الكبراء للسلام على الخليفة واستقباله. وكانت حبابة أم الخليفة قد تفاهمت مع القواد النصارى، ودفعت لهم مقابل فيىء المدينة التي وُعدوا باستباحتها، وافتدائها من الاعتداء والنهب، مبالغ طائلة، ويقال إن الرشيد دفع لهم مقابل ذلك خمسمائة ألف دينار (1)، وهكذا أنقذ الموقف، ومهد كل شىء لدخول الخليفة الفتى إلى حاضرته.
- 5 -
بيد أنه يجدر بنا قبل أن نبدأ الكلام عن خلافة الرشيد، أن نذكر كلمة عن عن الخليفة المأمون، وعن صفاته وخلاله.
كان أبو العُلى (أو أبو العلاء) من أنبه الخلفاء الموحدين وأقدرهم، وكان يتسم بكثير من صفات أبيه العظيم الخليفة يعقوب المنصور، ولو أتاح له القدر فسحة من الوقت، فربما كان من المرجح أن يعمل الكثير لإنقاذ الدولة الموحدية من محنتها، ولتأخير انحلالها وسقوطها، ولكنه أنفق أعوام خلافته الخمسة في منازعات وحروب متوالية، لم يفق منها حتى أدركه الموت. وكانت سقطته الجوهرية، هي التجاؤه إلى النصارى لتحقيق مشروعه في انتزاع الخلافة. ولكنها
_______
(1) البيان المغرب ص 284 و 285، وروض القرطاس ص 170.(4/384)
كانت سقطة العصر وظروفه المؤلمة، وقد تردى فيها من قبله ومن بعده كثير من زعماء الأندلس.
وكان مولد المأمون بمدينة مالقة سنة 581 هـ (1185 م)، وأمه حرة هي صفية ابنة أمير الشرق محمد بن سعد بن مردنيش، وكان المأمون صنو أبيه المنصور في صفاته العلمية. فقد كان فقيهاً حافظاً، ضابطاً للرواية، متمكناً من علوم الدين، إماماً في اللغة، أديباً واسع المعرفة بالأدب والسير، كاتباً بليغاً، متين البيان، وشاعراً محسناً، وكان يعنى عناية خاصة بتدريس كتاب البخاري، وكتاب الموطأ، وسنن أبي داود. وكان فوق ذلك حاكماً مقتدراً، بارعاً في الإدارة ومعالجة الشئون، ذكياً وافر الهمة والعزم. ويجمل ابن الخطيب صفاته في قوله: " كان رحمه الله شهماً، شجاعاً جريئاً، بعيد الهمة، نافذ العزيمة، قوي الشكيمة، لبيباً، كاتباً أديباً، فصيحاً، بليغاً، أبياً، جواداً، حازماً " (1). بيد أنه كان في نفس الوقت صارماً، سفاكاً للدماء. وقد رأينا كيف أسرف في استباحة دماء خصومه وقضى عليهم جميعاً.
وكان المأمون كاتباً جزلا، يشغف بتسطير كتبه بنفسه، بالرغم من وجود عدة من أئمة البلاغة بين كتابه. وقد نقل إلينا ابن عذارى وابن الخطيب كتابه، الذي كتبه بخطه إلى أهل أندوجر بالأندلس، وفيه ينحى باللائمة عليهم، ويتوعدهم يالنكال لجنوحهم إلى الاستسلام للنصارى، وهو ينطق بروعة أسلوبه، وإليك بعض ما جاء فيه:
" إلى الجماعة والكافة من أهل .. ، وقاهم الله عثرات الألسنة، وأرشدهم إلى محو السيئة بالحسنة. أما بعد فقد وصل من قبلكم كتابكم الذي جرد لكم أسهم الانتقاد، ورماكم من السهاد، بالداهية الساد، أتعتذرون من المحال، بضعف الحال، وقلة الرجال، إذاً نلحقكم بربات الحجال، كأنا لا نعرف مناحى أقوالكم، وسوء منقلبكم وأحوالكم، لا جرم أنكم سمعتم بالعدو قصمه الله، وقصده إلى ذلك الموضع عصمه الله، فطاشت قلوبكم خوراً، وعاد صفوكم كدراً، وشممتم ريح الموت ورداً وصدراً، وظننتم أنكم أحيط بكم من كل جانب، وأن الفضاء قد غص بالتفاف القنا، واصطفاف المناكب، ورأيتم غير شىء، فتخيلتموه طلائع الكتائب، تباً لهمتكم المنحطة، وشيمتكم الراضية بأدون خطة. أحين
_______
(1) الإحاطة (1956) ج 1 ص 418.(4/385)
ندبتم إلى حماية إخوانكم، والذب عن كلمة إيمانكم، نسقتم الأقوال وهي مكذوبة، ولفقتم الأعذار وهي بالباطل مشوبة، لقد آن لكم أن تبدلوا جل الخرصان، إلى مغازل النسوان، وما لكم ولصهوات الخيول، وإنما على الغانيات جر الذيول، أتظهرون العناد تخريصاً، بل تصريحاً وتلويحاً، ونظن أن لا يجمع لكم شتاً ولا يدنى منكم نزوحاً. أين المفر وأمر الله يدرككم، وطلبنا الحثيث لا يترككم، فأزيلوا هذه النزعة النفاقية من خواطركم، قبل أن نمحوا بالسيف أقوالكم، وأفعالكم، ونستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم " (1).
ومن نظمه قوله عند ظفره بخصومه الناكثين بيعته، وقتلهم وتعليق رؤوسهم:
أهل الحرابة والفساد من الورى ... يعزون في التشبيه بالذكار
ففساده فيه الصلاح لغيره ... بالقطع والتعليق في الأشجار
ذكارهم ذكرى إذا ما أبصرو ... فوق الجذوع وفي ذرى الأسوار
لو عم عفو الله سائر خلقه ... ما كان أكثرهم من أهل النار
ووزر للمأمون الشيخ أبو زكريا بن أبي الغمر، وكتب له عدة من أعلام البلاغة في ذلك العصر، منهم أبو زكريا الفازازى، وأبو المطرّف بن عميرة المخزومي، قطب البلاغة بالأندلس يومئذ، وأبو الحسن الرُّعينى، وأبو عبد الله بن عيّاش، وأبو العباس بن عمران، وغيرهم (2).
وأما عن شخصه فقد كان المأمون أبيض اللون، معتدل القامة، جميل المحيا، أكحل العينين، فصيح اللسان، حسن الصوت والتلاوة (3).
وترك المأمون عدة من البنين هم، أبو محمد عبد الواحد الرشيد ولي عهده والخليفة من بعده، وعبد الله، وعبد العزيز، وعثمان، وأبو الحسن على، الملقب بالسعيد، والوالى بعد أخيه الرشيد، وترك كذلك عدة من البنات، وأمهات الجميع روميات وسريات مغربيات (4).
_______
(1) وردت هذه الرسالة في البيان المغرب - القسم الثالث ص 266 و 267، وفي الإحاطة (1956) ج 1 ص 422، و 423.
(2) البيان المغرب ص 283، والإحاطة ج 1 ص 424.
(3) روض القرطاس ص 166.
(4) البيان المغرب ص 282 و 283.(4/386)
الكِتاب التاسِع انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى(4/387)
الفصل الأول الثورة في مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى
صدى انحلال الخلافة الموحدية في الأندلس. اضطرامها من جديد بالفورات القومية. محمد بن هود أول زعماء هذه الحركة. ظهوره في أحواز مرسية. ما قيل عن طريقة ظهوره. زحفه على مرسية وهزيمته لواليها الموحدي. دخوله مرسية ومعه الراية السوداء. دعاؤه للخليفة العباسي وتلقبه بأمير المسلمين. فكرته في الانضواء تحت لواء الخلافة العباسية. دخول عدة من القواعد في طاعته. نهوض المأمون من إشبيلية لقتاله. ما يقال عن اللقاء بين الفريقين. اعتراف إشبيلية بطاعة ابن هود. صدى الثورة في بلنسية. السيد أبو زيد والي بلنسية. أبو جميل زيان سليل آل مردنيش. آل مردنيش ومركزهم في الشرق. وزارة أبي جميل زيان للسيد أبي زيد. قيام الثورة في بلنسية. اختيار أهلها لرياسة زيان. الوحشة بينه وبين السيد أبي زيد. مغادرة السيد أبي زيد لبلنسية. دخول زيان بلنسية وعقده البيعة لنفسه. دعاؤه للخليفة العباسي. النزاع بينه وبين ابن هود. امتناعه ببلنسية. الخوف من عواقب الفتنة. دعوة إلى الاتحاد. إلتجاء السيد أبي زيد إلى النصارى. مرافقة كاتبه ابن الأبار له. مسير السيد إلى ملك أراجون. المعاهدة التي عقدها معه. تعهده بتسليم عدد من الحصون. تنازله من سائر حقوقه الإقليمية. اعتناقه للنصرانية. تأييد الرواية الإسلامية لهذه الواقعة. عودة ابن الأبار إلى بلنسية. إلتحاقه بخدمة أميرها زيان. ضعف الأندلس. توثب الملوك النصارى لمهاجمتها. غزو ملك ليون لشمالى منطقة الغرب. محاصرته لماردة. مسير ابن هود لمدافعته. هزيمته وارتداده. استيلاء الليونيين على ماردة وبطليوس. توقف ابن هود بإشبيلية. مصرع ولدى ابن وزير. غزو فرناندو الثالث للأندلس الوسطى. محاصرته لمدينة جيان. فشل الحصار وانسحاب النصارى. غزوة ثانية للقشتاليين. فرناندو الثالث يستأنف الغزو. محاصرته لأبدة واستيلاؤه عليها. عقد الهدنة بين ابن هود وفرناندو. الجزائر الشرقية تحت حكم الموحدين. مقدمات غزو النصارى للجزائر. تطلع الدول النصرانية إلى افتتاحها. اهتمام ملك أراجون الخاص بذلك. خايمى الأول واستعداد أراجون لهذا المشروع. خروج أسطول الغزو النصراني. استعداد أبي يحيى حاكم الجزائر للمقاومة. التآمر والنزاع في ميورقة. نزول النصارى بأرض الجزيرة. القتال بينهم وبين المسلمين. محاصرة النصارى لمدينة ميورقة. مفاوضة ابن يحيى للنصارى. إصرار النصارى على التسليم. اقتحامهم للمدينة. دفاع المسلمين اليائس. هزيمتهم وتمزقهم. المذبحة الرائعة. دخول الملك خايمى المدينة. مقاومة المسلمين في الجبال. تحطيم المقاومة وسقوط سائر الحصون. تقسيم ميورقة بين الفاتحين. كتاب التقسيم الخاص بذلك. استيلاء الأرجونيين على يابسة. منورقة وبقاؤها عصراً تحت حكم المسلمين. الرئيس سعيد بن حكم الأموى. حكمه لمنورقة. حزمه وكفايته. أدبه وشعره. ولده أبو عمر. افتتاح الأرجونيين لمنورقة.(4/388)
لقد كان انتثار الخلافة الموحدية، على هذا النحو، وقيام الخليفة العادل بالأندلس، خروجاً على الخليفة أبي محمد عبد الواحد، ثم قيام أبي العلى المأمون بالأندلس أيضاً، خروجاً على أخيه العادل، أعمق وقع وأبعد صدى في الأندلس. ولم يقتصر الأمر في ذلك، على تصدع أركان الحكم الموحدي، وما حدث من ثورة أبي محمد عبد الله البيّاسى، وما ترتب عليها من الآثار المؤلمة، بل كان أن اهتزت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها لهذه الأحداث الخطيرة، ونهضت من من سباتها الطويل، الذي فرضه عليها الحكم الموحدي، زهاء ثمانين عاما، وأخذت تضطرم بسلسلة جديدة من الفورات القومية، على غرار ما حدث في أواخر العهد المرابطي. بيد أن هذه الفورات كانت مع الأسف، حركات متناثرة، متنافسة، متخاصمة، تفرق بينها الأطماع الخاصة، وإن كانت تجمع بينها رابطة الغرض المشترك، وهو تحرير الأندلس من نير الموحدين، وحمايتها من عدوان النصارى.
قامت هذه الحركات التحريرية في شرقي الجزيرة وفي وسطها، في وقت واحد، وكانت بالرغم من طابعها الشخصى، وهو ما يتفق مع روح العصر، حركات قومية أندلسية محضة، وكان قيامها في غمار المحن التي نزلت بالأندلس من جراء تخاذل السادة والحكام الموحدين، عن تأدية واجبهم الأول في شبه الجزيرة، وهو الدفاع عن الأندلس وحمايتها من عدوان النصارى، وتحول نشاطهم إلى معارك داخلية شخصية، بل وإلى مصانعة وتسليم للنصارى. ولم تكن حال الموحدين، وتضعضع قواهم، وانهيار مواردهم بالمغرب، خافية على الأمة الأندلسية، وعلى زعمائها الذين نهضوا في تلك الآونة العصيبة، يحاولون إنقاذ الموقف، بكل ما يمكن أن تسمح به الظروف والأحوال.
وكان أول من ظهر من أولئك الزعماء الأندلسيين، زعيم من بيت عريق في الزعامة والرياسة، هو محمد بن يوسف بن هود الجذامى، وهو سليل بني هود ملوك سرقسطة أيام الطوائف. وكان آخر من أتينا على ذكرهم من زعماء هذا البيت، هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن يوسف بن هود، وهو الملقب بسيف الدولة وبالمستنصر بالله، وأحياناً بالمستعين، وقد تتبعنا أخباره فيما تقدم، مذ غادر قلعة روطة آخر مستقر لبني هود، بعد سقوط سرقسطة في أيدي الأرجونيين في سنة 512 هـ (1118 م) وانضوى تحت لواء ملك قشتالة(4/389)
ألفونسو ريمونديس. ولما اضطرمت الأندلس بالثورة ضد المرابطين، عمد سيف الدولة إلى خوض غمارها، أولا في القواعد الوسطى في جيّان، وقرطبة وغرناطة، ثم في شرقي الأندلس، في بلنسية ومرسية، وانتهى الأمر إلى أن قتل في معركة البسيط، في شهر شعبان سنة 540 هـ (فبراير سنة 1146 م) (1). ولم يرد من ذلك التاريخ ذكر لبني هود في حوادث الأندلس، حتى قيام محمد بن يوسف ابن هود، هذا المتقدم الذكر. وأما نسبته فهى وفقاً لقوله، أنه محمد بن يوسف ابن محمد بن عبد العليم بن أحمد المستنصر، فهو بذلك ثانى حفيد لولد سيف الدولة المتقدم ذكره.
وكان ظهور محمد بن يوسف بن هود، في نفس المنطقة التي كانت قبل ثمانين عاما مسرحاً لظهور جده سيف الدولة، أعني في شرقي الأندلس، وفي مدينة مرسية. ولا تحدثنا الرواية بشىء عن حياته الأولى، وكل ما تذكره من ذلك أنه كان رجلا من أصناف الجند بمرسية وغيرها (2)، ويبدو من أقوال الرواية أنه ظهر بطريقة متواضعة جداً، وذلك بمعاونة قائد أو مقدم من رؤساء العصابات يسمى الغشتى، وكان الغشتى هذا زعيما لعصبة من المجاورين أو " المغاورين " الذين يحاربون النصارى، وأحيانا يقطعون الطرق على المسلمين ونحن نضرب صفحاً عما تذكره لنا الرواية عن تنبؤات المنجمين بشأن ظهوره، ونكتفى بأن نقول بأن ابن هود تفاهم مع الغشتى على التعاون في العمل، وأفضى إليه بما يخالجه من أمل في الاستيلاء على الأمر، وبدأ الاثنان بالإغارة على بعض أراضي النصارى المجاورة لأحواز مرسية، فأصابا غنائم من الماشية والأسرى، وأخذ جمع ابن هود يكثر شيئاً فشيئاً، وتتوطد مكانته في تلك النواحي، وكانت أرومته الملوكية تسبغ عليه مهابة وتجذب إليه الأنصار. ولما كثر جمعه، نهض في رجاله إلى موضع يعرف " بالصخيرات " أو بالصخور، وهو حصن صغير يقع على نهر شقورة على مقربة من مرسية، وهنالك بايعه أنصاره بالإمارة (3)، فذاع أمره، وسارع كثيرون من الفرسان والجند بالانضمام إليه، وكانت أحوال
_______
(1) تراجع تفاصيل هذه الحوادث في ص 360 و 361 من القسم الأول من هذا الكتاب.
(2) الروض المعطار ص 118.
(3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 256 - 257، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 278 و 279، والروض المعطار ص 118.(4/390)
الموحدين، وما نشب بينهم من خلاف، وما وقع من قتل خلفائهم بمراكش، وما ويبشر به ذلك كله من ذهاب أمرهم، وانهيار دولتهم، مما يذكى حماسة الجموع، ويبعث إليها روح الأمل والاستبشار.
وكانت ولاية مرسية، مذ غادرها السيد أبو محمد عبد الله بن يعقوب المنصور أو العادل، على أثر مبايعته بالخلافة، قد أسندت إلى ابن عمه السيد أبي العباس ابن أبي عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن. وكان من الواضح أن أولئك السادة الولاة، كانوا ينظرون إلى الموقف في خشية وتوجس، وأن الحاميات الضئيلة التي تركت لهم، كانت قد خبت قواها المعنوية، ومن ثم فإن ابن هود حينما شعر بقوة جمعه، لم يحجم عن الزحف على مرسية. فخرج إليه السيد أبو العباس بعساكر مرسية، فهزمه ابن هود واعتقله، وذلك في رجب سنة 625 هـ (يونيه سنة 1228 م). وعلى أثر ذلك خرج إليه السيد أبو زيد والي بلنسية في قواته، فهزمه ابن هود أيضاً، واستولى على محلته، ولكنه لم يحاول دخول بلنسية. ثم عاد إلى مرسية، ودخلها وهو يرفع راية سوداء عباسية، وذلك بتفاهم مع قاضيها أبي الحسن علي بن محمد القسطلى، وهو قتيله فيما بعد، وقبض على واليها السيد أبي العباس (1). وبويع ابن هود بمرسية غرة رمضان سنة 625 هـ (4 أغسطس 1228 م) (2) وتسمى بأمير المسلمين، ومعز الدين، ودعا للخليفة العباسي المستنصر بالله، وكتب إليه ببغداد، فبعث إليه بالخلع والمراسيم، وسماه مجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، عبد الله المتوكل على الله، وهكذا كانت علامة ابن هود " توكلت على الله الواحد القهار ".
وكانت فكرة ابن هود في الانضواء تحت راية الخلافة العباسية، هو أن يتشح بثوب من الشرعية في انتحال الولاية، وفي محاربة الموحدين، وهو قد أعلن أنه سوف يعمل على تحرير الأندلس من نير الموحدين، ومن عدوان النصارى معا، وسوف يعمل على إحياء الشريعة وسننها، بعدما درست في ظل الموحدين،
_______
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 249. ويستفاد من رواية صاحب الروض المعطار أن ابن هود لم يشتبك في معركة مع والي مرسية، السيد أبي العباس، ولكنه دخلها بحيلة رتبها القاضي المذكور، وإيهامه للوالى، أن ابن هود سوف ينضوى تحت لوائه ويخدمه برجاله، فلما دخل عليه ابن هود غدر به وقبض عليه (الروض المعطار ص 119).
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 169، وروض القرطاس ص 182.(4/391)
وسرعان ما قوي أمره، وذاع ذكره، وأطاعته من قواعد الشرق شاطبة، وجزيرة شقر وما والاهما، وأعلنت بطاعته عدة من قواعد الأندلس الوسطى والجنوبية، مثل جيان وقرطبة، حيث قتل أهلها واليها الموحدي السيد أبا الربيع، وأخرجوا منها الموحدين، وكذلك أطاعته غرناطة ومالقة وألمرية.
ولما ذاع أمر ابن هود، ووقف السيد أبو العُلى بإشبيلية - وكان يومئذ قد غدا الخليفة المأمون - على ما حدث في الشرق. من هزيمة الموحدين، وضياع مرسية، ووصله صريخ السيد أبي زيد، أهمه ذلك، وكان على وشك العبور إلى العدوة، فآثر أن يبادر إلى الشرق لحسم الأمر قبل استفحاله، فغادر إشبيلية، وسار في بعض قواته صوب مرسية. وهنا تختلف الرواية حول ما حدث بينه وبين ابن هود، فهناك قول بأنه اشتبك مع ابن هود على مقربة من مرسية في معركة ْهزم فيها ابن هود، وارتد إلى مرسية فامتنع بها، وذلك في أواخر سنة 625 هـ، وعاد المأمون ظافراً إلى إشبيلية، فامتدحه الشعراء وأجزل لهم العطاء (1). ويزيد ابن الخطيب هذه الرواية تفصيلا فيقول، إن المأمون تحرك في جيش إشبيلية باستدعاء أخيه السيد أبي زيد والي بلنسية (2)، فتحرك المأمون إليه، واحتل غرناطة في رمضان من عام خمسة وعشرين وستمائة، وأنفذ منها كتابه إليه يشجعه، ويعلمه بنفوذه إليه، وانضم إليه جيش غرناطة وما والاها، ثم سار نحو الشرق، فبرز ابن هود إلى لقائه، فكان اللقاء بخارج لورَقة، فانهزم ابن هود، وفر إلى مرسية وعساكر الموحدين في عقبه (3). وفي رواية أخرى أنه لم يقع قتال، ولكن المأمون حاصر مرسية، حينا فامتنعت عليه فكرّ راجعاً إلى إشبيلية، وذلك في أوائل سنة 626 هـ (1229 م) (4).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 258، ويورد لنا ابن عذارى عدة من القصائد التي ألقيت بهذه المناسبة، وكذلك ابن خلدون ج 4 ص 168.
(2) الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 420. وقد وهم ابن الخطيب هنا في وصف السيد أبي زيد والي بلنسية بأنه أخ للمأمون والحقيقة أن السيد أبا زيد وهو عبد الرحمن بن محمد بن يوسف ابن عبد المؤمن - إنما هو ابن عم المأمون (وهو إدريس بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن) لا أخوه. وابن الخطيب يصرح نفسه في ترجمته للسيد أبي زيد الواردة في الإحاطة أيضاً (مخطوط الإسكوريال 674 أالغزيرى لوحة 138 أ) فيذكر نسبته الحقيقية، وهي كما تقدم، عبد الرحمن بن محمد بن يوسف ابن عبد المؤمن. وذكر المقري من جهة أخرى أن السيد أبا زيد هو عبد الرحمن بن السيد أبي عبد الله محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن. (نفح الطيب ج 2 ص 577).
(3) الإحاطة (1956) ج 1 ص 420.
(4) الروض المعطار ص 120.(4/392)
وما كاد أبو العُلى المأمون، يغادر إشبيلية ليعبر البحر إلى العدوة، حتى اجتمع أهل إشبيلية وذلك في اليوم الثاني من عيد الأضحى سنة 626 هـ، وأعلنوا خلع طاعة الدولة الموحدية، والاعتراف بطاعة ابن هود في ظل الخلافة العباسية، وكتب عنهم أبو بكر بن البناء إلى المتوكل ابن هود كتابا بهذا المعنى، فأوفد إليهم ابن هود في الحال أخاه أبا النجاء سالم الملقب عضد الدولة ليكون واليا عليهم. وحذت ماردة وبطليوس حذو إشبيلية، في الإعلان بطاعة ابن هود. وهكذا اتسع نطاق الدعوة الهودية وشملت أواسط الأندلس وغربيها، وأخذت الأندلس كلها، تتطلع إلى لواء هذا الزعيم الأندلسي الجديد، ترجو أن يكون حاميها وقائدها، وجامع كلمتها، وموحد صفوفها.
- 2 -
وفي نفس الوقت الذي قامت فيه ثورة ابن هود بمرسية، كانت ثمة ثورة أخرى تضطرم في بلنسية، وتجرى فيها أحداث مماثلة. وذلك أن بلنسية كان يحكمها منذ سنة 620 هـ، واليها السيد أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن، وهو أخو السيد أبو محمد عبد الله البياسى، الذي أتينا على أخباره فيما تقدم. ولما قام ابن هود بمرسية، خرج السيد أبو زيد بقواته لمحاربته، ولكن ابن هود تغلب عليه فارتد منهزماً إلى بلنسية. وسرعان ما ظهر صدى هذه التطورات في بلنسية ذاتها. وذلك أن أهل بلنسية، حينما رأوا تطور الحوادث في مرسية، وهزيمة القوات الموحدية في منطقة الشرق، سرت إليهم روح الانتقاض والثورة، وقديماً كانت بلنسية حصن الثورة ضد الموحدين. وقد لبثت مملكة الشرق أيام الأمير محمد بن سعد بن مردنيش، زهاء ربع قرن تتحدى الدولة الموحدية، وهي في إبان قوتها. والآن فإنا نعود فنشهد صفحة جديدة من ثورة بلنسية، ضد الموحدين، وإن كانت هذه المرة تضطرم في ظروف عصيبة، تواجه فيها بلنسية وقواعد الشرق خطر العدوان الداهم، من جانب عدوها الخالد اسبانيا النصرانية. وكان زعيم الثورة في هذه المرة، أيضاً ينتمى إلى زعمائها السابقين من آل مردنيش. وهو أبو جميل زيّان بن أبي الحملات مدافع بن يوسف بن سعد ابن مردنيش الجذامى، وجده أبو الحجاج يوسف بن سعد بن مردنيش هو كما نذكر، أخو أمير الشرق محمد بن سعد بن مردنيش. وكان الخليفة أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، حينما استسلم إليه آل مردنيش، عقب وفاة عميدهم(4/393)
الأمير محمد بن سعد في سنة 567 هـ (1171 م)، واستولى على مرسية وبقية مملكة الشرق، قد شملهم برعايته، وأسند إليهم جليل المناصب، فقدّم الأمير أبا الحجاج يوسف بن سعد بن مردنيش، أخا الأمير محمد المتوفى، على بلنسية وجهاتها، كما كان أيام أخيه، واستمر أبو الحجاج يوسف، وكان يعرف بالرئيس، والياً لبلنسية حتى توفي في سنة 582 هـ، فخلفه في ولايتها السيد أبو عبد الله محمد حفيد الخليفة عبد المؤمن، ثم خلفه بعد وفاته ولده السيد أبو زيد. وترك الرثيس أبو الحجاج يوسف عدة من الأولاد، منهم أبو الحملات مدافع، وأبو الظفر غالب، وأبو الحارث سبع، وأبو سلطان عزيز، وأبو ساكن عامر، وأبو محمد طلحة، وقد تولوا جميعاً في ظل حكومة الموحدين، مناصب هامة في مختلف قواعد الشرق، من قيادة وولاية، واشتهروا في أواخر أيام الدولة الموحدية بالأندلس، وكانوا مثل أبيهم يعرفون بالرؤساء. فلما اضطربت الأحوال وسرت الفتنة إلى مختلف النواحي، عقب وفاة الخليفة يوسف المستنصر، خاضوا الفتنة مع الخائضين، وكان عميدهم يومئذ الرئيس أبو جميل زيان بن أبي الحملات مدافع بن الرئيس يوسف أبي الحجاج، وكان أبوه مدافع، قد استشهد شابا في حياة أخيه أبي سلطان عزيز والي جزيرة شقر، وكان إلى جانبه ببلنسية وأحوازها، عشرة من رؤساء بيته من الإخوة أو أبناء العمومة. وكان أبو جميل زيان وقتئذ وزير السيد أبي زيد والي بلنسية، وكبير بطانته ومدبر أمره (1)، وفي رواية أخرى أنه كان قائد الأعنة المتولى أمر الدفاع عن بلنسية (2). فلما ارتد السيد أبو زيد منهزماً أمام ابن هود كما تقدم، اضطرمت الثورة في بلنسية، والتف البلنسيون حول عميد بيت إماراتهم القديم، أبي جميل زيّان، ونادوا برياسته، فوقعت الوحشة بينه وبين السيد أبي زيد، فغادر بلنسية إلى حصن أُندة القريب وامتنع به، واشتد الهياج وتفاقم الأمر في المدينة، فخشى السيد سوء العاقبة، وغادر بلنسية بدوره في أهله وولده وأمواله، وذلك في أوائل شهر صفر سنة 626 هـ، واعتصم ببعض الحصون القريبة. وعندئذ بادر الرئيس أبو جميل زيان بالقدوم إلى بلنسية من مقره بحصن أندة، فدخلها في اليوم السادس والعشرين من شهر صفر سنة 626 هـ (يناير 1229 م) ونزل بالقصر، وعقد البيعة لنفسه، وذلك
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 167.
(2) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 578.(4/394)
في أول شهر ربيع الأول، ودعا للخليفة المستنصر العباسي، وفي الحال دخلت في طاعته دانية وجنجالة، وعدة من الحصون، وذاع أمره واشتد ساعده. ولكن خرج عليه أبو سلطان عزيز بن يوسف والي جزيرة شقر، ودعا لابن هود، وكذلك فعلت شاطبة وواليها أحد أبناء عمومة زيان، واضطرمت الفتنة بين زيان وابن هود وزحف ابن هود على بلنسية، فخرج زيان للقائه، فكانت عليه الهزيمة، وتبعه ابن هود إلى بلنسية فامتنعت عليه، وشغل ابن هود عندئد، بحوادث ومشاريع أخرى (1). وهكذا عمت الثورة أو الفتنة، شرقي الأندلس، وسرى الاضطراب إلى سائر أنحائه، وفي ذلك يقول شاعر معاصر من أبنائه، هو أبو عبد الله محمد ابن إدريس بن علي المعروف بمرج الكحل:
ولاسيما في فتنة مدلهمة ... فلا أحد فيها أخاه يشمت
وكان قضا صمتنا عنه واجب ... وسلم الأحداث من كان يصمت
ولم يكن يخفى على ذوى النظر البعيد، ما يترتب على تلك الفتنة من عواقب خطيرة، وكان بعضهم يسعى إلى تداركها بجمع الكلمة. وقد وقفنا في ذلك على رسالة، وجهها العلامة الفقيه أبو بكر عزيز بن خطاب، عميد علماء مرسية والمنتزى فيها فيما بعد، إلى الخطيب أبي عبد الله بن قاسم ببلنسية، يشير عليه فيها، أن يحض الرئيس أبا جميل زيان على الدخول في طاعة " أمير المسلمين " ابن هود وذلك قبل أن يتحرك ابن هود لمحاربة زيان في بلنسية. وفيها ينوه بوجوب اتحاد المدن المختلفة التي تدين بدين واحد لمقاومة أعداء الدين، وأن القوة في الاتحاد وهو ما يحض عليه الله والرسول. وأنه يجب على علماء الدين أن يسعوا في ذلك يالنصح، وأن مآل الخلاف انقطاع الرياسة، واستيلاء عدو الدين على البلاد، ثم يطلب إليه أن يهيب بالأمير أبي جميل أن يدخل فيما دخل فيه المسلمون، فذلك مما يكسبه محبة أهل الأندلس، ومحبة المسلمين (2).
وأما السيد أبو زيد، فقد لبث مذ غادر بلنسية، وامتنع بأهله وأمواله، في
_______
(1) راجع تفاصيل هذه الحوادث في أعمال الأعلام لابن الخطيب ص 172، والبيان المغرب ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 167، وكذلك: M. Gaspar Remiro: Historia de Murcia
Musulmana (Zaragoza 1905) p. 275 & 276
(2) وردت هذه الرسالة في كتاب " زواهر الفكر وجواهر الفكر " لمحمد بن علي بن عبد الرحمن المكنى بابن المرابط، وهو مخطوط الإسكوريال، رقم 518 الغزيرى (ديرنبور رقم 520).(4/395)
بعض الحصون القريبة، حيناً يرقب سير الحوادث، فلما رأى تطور الموقف على هذا النحو، ورأى سلطان الموحدين ينهار في سائر النواحي، وأن الظروف كلها تدعو إلى اليأس، لم يجد أمامه سبيلا إلا أن يلتجىء إلى النصارى. فغادر مقره في أهله وولده، وقصد إلى ملك أراجون خايمى الأول، مستجيراً به وملتجئاً إلى حمايته. وكان بصحبة السيد أبي زيد كاتبه، وكاتب أبيه من قبل، الفقيه الكاتب الشاعر والمؤرخ المبدع، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعى الشهير بابن الأبار، وقد وصف لنا ابن الأبار موقفه يومئذ، في بيتين من الشعر، بعث بهما إلى بعض أصحابه على أثر مغادرته لبلنسية وهما:
الحمد لله لا أهل ولا ولد ... ولا قرار ولا صبر ولا جلد
كان الزمان لنا سلما إلى أمد ... فعاد حربا لنا لما انقضى الأمد (1).
ويضع ابن الخطيب تاريخ مغادرة السيد أبي زيد بلنسية، ولحاقه بالنصارى في السادس والعشرين من صفر سنة 626 هـ، أعني في نفس اليوم الذي دخل فيه الرئيس أبو جميل زيان بلنسية (2). ولكنا ذكرنا فيما تقدم اعتماداً على ابن الخطيب نفسه أن السيد أبا زيد غادر بلنسية قبل ذلك بمدة وجيزة، والتجأ إلى بعض حصونها القريبة. وتكتفى الرواية الإسلامية بأن تذكر لنا أن السيد أبا زيد لحق بالنصارى، ودخل في دينهم (3). ولكن لهذا السيد الموحدي، قصة مفصلة متعددة النواحي، تقدم إلينا تفاصيلها، الرواية والوثائق النصرانية المعاصرة، ويجدر بنا أن نلخصها هنا. سار السيد أبو زيد وصحبه إلى قلعة أيوب، حيث كان خايمى الأول، ملك أراجون (4) يعقد بلاطه يومئذ. وفي اليوم العشرين من شهر أبريل سنة 1229 م
_______
(1) وقفنا على هذين البيتين في مخطوط الإسكوريال " زواهر الفكر، وجواهر الفكر " السابق ذكره لوحة 87 أ. وراجع في مصاحبة ابن الأبار لمخدومه، أزهار الرياض (المطبوع) ج 3 ص 205.
(2) الإحاطة في مخطوط الإسكوريال (674 أالغزيرى) لوحة 138 أ.
(3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 167 و 168، وابن الخطيب في الإحاطة في مخطوط الإسكوريال المشار إليه.
(4) تسمى الرواية الإسلامية Jaime خايمى: " جاقمة ملك أرغون " (الروض المعطار ص 48)، وأعمال الأعلام ص 273) وتسميه أحياناً دون جايمش (أعمال الأعلام ص 337). وخايمي هو الرسم الإسباني ليعقوب.(4/396)
الموافق الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة 626 هـ، اجتمع السيد أبو زيد وولده أبو محمد مع ملك أراجون وولده ألفونسو، وكان يومئذ يقوم بأهبته لافتتاح ميورقة، وعقدت بين الفريقين معاهدة، نص فيها على أن يعطى السيد أبو زيد من سائر الأراضي والأماكن والحصون التي يغنمها سواء بالقوة أو الرضى، مقدار الربع إلى الملك خايمى، وعلى أن يحتفظ الملك خايمى لنفسه بكل ما يقوم هو بافتتاحه، أو ما يقع تسليمه إليه، وأن يقدم السيد كفالة بتنفيذ هذا ْالاتفاق، حصون بنشكلة، ومرلّة، وقله، وألبونت، وشارقه، وشبرب (1) بصفة رهينة، وأن يقوم الملك خايمى تأكيداً لعهوده، بحماية السيد والدفاع عنه وعن ولده ضد أعدائه، بتسليم حصنى الديموس، وقشتيل الحبيب (2) اللذين افتتحهما أبوه الملك بيدرو.
وكان من الواضح أن السيد أبا زيد، حينما عقد هذا الاتفاق مع ملك أراجون، كانت له أسوة بما فعله من قبل أخوه السيد عبد الله البياسى، حينما انضوى تحت لواء فرناندو الثالث ملك قشتالة، وتعهد بتسليم الحصون والأراضي الإسلامية، بل وبما فعله ابن عمه الخليفة المأمون نفسه، من تعهده لملك قشتالة بتسليمه الحصون التي يرغبها في الأراضي الإسلامية، وغير ذلك مما قطعه على نفسه من العهود، إزاء قيام هذا الملك النصراني بمعاونته على انتزاع العرش من خصمه.
وتنفيذاً لهذا الاتفاق خرج السيد أبو زيد، ومعه الفارس بيدرو دي أساجرا صاحب شنتمرية الشرق، وبلاسكو دي ألاجون، وهو زعيم أرجونى كان قبل عامين قد لجأ إلى بلنسية وخدم الموحدين، ثم عاد إلى أراجون وعفا عنه الملك، في قوات طرويل وبعض الفرسان الأرجونيين، واخترقت الحملة الأراضي التي كان ما يزال السيد أبو زيد يتمتع فيها بشىء من التأييد. وبالرغم من أن السيد استطاع فيما بعد أن يبسط سلطانه على بعض النواحي والضياع القريبة من بلنسية، فإنه أدرك في النهاية أنه لن يستطيع تنفيذ العهود التي قطعها على نفسه لملك أراجون، ومن ثم فإنه عاد في يناير سنة 1232، وتنازل للملك خايمى عن سائر الحقوق الإقليمية التي احتفظ بها لنفسه بمقتضى المعاهدة، وذلك سواء في مدينة بلنسية
_______
(1) وهي بالإسبانية على التوالى Segorbe, Jerica, Alpuente, Culla, Morella, Penoscola
(2) وهما بالإسبانية Castielfabit, Ademuz(4/397)
ذاتها، أو في أراضيها، واستبقى لنفسه ولأهله ما سوى ذلك من الحقوق (1).
وفي خلال ذلك سقط السيد أبو زيد سقطته المؤسية. ذلك أنه لم يكتف بهذا الانضواء المطلق تحت نير الملك النصراني، ولكنه هوى إلى الدرك الأسفل، فاعتنق دين النصرانية، وهو سليل بني عبد المؤمن أئمة التوحيد وأقطابه، ونبذ اسمه المسلم، واختار اسما نصرانياً هو بثنتى Vicente أو بالعربية " بجنت " وتزوج فيما بعد من سيدة نصرانية من أهل سرقسطة، وكان يسمى في الوثائق النصرانية " بثنتى "، ملك بلنسية وحفيد أمير المؤمنين "، ولم تقدم إلينا الرواية النصرانية تاريخ تنصر السيد أبي زيد، ولكنها تقدم إلينا ما يفيد أنه كان يضمر هذه النية منذ عهد بعيد، أعني منذ أيام أن كان في بلنسية والياً عليها، وتقول لنا إن السيد طرد من بلنسية، لما علم من أنه يبعث رسله السريين إلى البابا وإلى ملك أراجون، يعرض اعتناقه للنصرانية، ولما كان يبدو من إمارات استحسانه لهذا الدين (2).
وتجمع الرواية الإسلامية على صحة ارتداد هذا السيد الموحدي عن دين الإسلام، وتعرب عن أسفها وسخطها لانحداره إلى هذا الدرك المؤسى (3). ومن جهة أخرى فإنه مما لا شك فيه أن كاتبه ابن الأبار، الذي صحبه في رحلته إلى بلاط ملك أراجون، قد تركه لمصيره غير بعيد، لما رأى من استسلامه للنصارى، ونيته في اعتناق دينهم، وعاد إلى بلنسية، والتحق بخدمة أميرها الجديد أبو جميل زيان (4). وسوف يكون ابن الأبار منذ الآن من أبرز شهود المأساة التي اقترنت بمصير بلنسية، وسوف يأخذ قلمه في تدوين محنتها بأوفى نصيب.
- 3 -
في تلك الآونة التي أخذت فيها نيران الفتنة، تندلع إلى ربوع الأندلس، ويسرى دبيب التفكك إلى هيكلها المتداعى، كانت اسبانيا النصرانية تتطلع في ثقة وأمل إلى اجتناء التراث المنهار، وانتزاع الأشلاء المتساقطة، وكان كل شىء يمهد إلى تحقيق هذا الأمل، فإن حركة الاسترداد Reconquista، لم تحظ
_______
(1) Andres Piles Ibars: Valencia Arabe (Valencia 1901) . p. 622, 625 626 & 629
(2) A. P. Ibars: ibid ; p. 617, 618 & 622, cit. Zurita, Nota
(3) يراجع بالأخص ابن عذارى في البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 167، و 168.
(4) أزهار الرياض ج 3 ص 205.(4/398)
من قبل قط، بما كانت تحظى به يومئذ من سهولة الانقضاض، وانهيار الجبهة الدفاعية الخصيمة، بانهيار القوي العسكرية الموحدية في شبه الجزيرة، وانشغال البلاط الموحدي بالمغرب، بخلافاته وحروبه الأهلية. وكانت قوي الأندلس ومواردها الخاصة، قد تضاءلت تحت ضغط الحكم الموحدي المرهق، واستئثار الموحدين بشئون الدفاع، ثم أخذت على ضعفها وضآلتها، تنتثر هنا وهنالك، وبين أولئك المتغلبين، أولئك " الطوائف " الجدد، وكان ملوك اسبانيا الثلاثة، خايمى الأول ملك أراجون، وفرناندو الثالث ملك قشتالة، وألفونسو التاسع ملك ليون، يسيطر كل منهم، على مصاير منطقة من شبه الجزيرة، فملك أراجون يسيطر على مصايرها من ناحية الشرق، وملك قشتالة يسيطر على مصايرها من ناحية الوسط، وملك ليون يسيطر على مصايرها من ناحية الغرب، وكل منهم يرقب الفرص المواتية للانقضاض على الفريسة، على تلك الأندلس، التي مزقتها الفتنة، وفقدت وسائل الدفاع الحقيقية، وأضحت معظم قواعدها تحت رحمة العدو القوي المتحفز.
ووقعت الضربات الأولى في الغرب، من جانب ملك ليون، وهو أقل الملوك الثلاثة شأناً، ثم تلتها في الحال ضربات قشتالة وأراجون القوية، ووجهت قشتالة اهتمامها إلى القواعد الأندلسية الوسطى، واتجهت أراجون أولا إلى افتتاح الجزائر الشرقية، لكي تتفرغ بعد ذلك إلى انتزاع القواعد الشرقية، وفي مقدمتها ثغر بلنسية العظيم.
وكان ملك ليون، ألفونسو التاسع (وهو والد فرناندو الثالث)، منذ استولى على مدينة قاصرش المنيعة في سنة 622 هـ (1227 م) حسبما تقدم ذكره، يرقب الفرصة لإنزال ضربته التالية، في منطقة الغرب الأندلسية. وكانت ماردة، وبطليوس، وهما جنوبي قاصرش هما أقرب القواعد الأندلسية العظيمة إلى حدود ليون. فلما عمت الفتنة أرجاء الأندلس، ولاح لملك ليون، أن منطقة الغرب أضحت دون مدافع، وأن قيام ابن هود في شرقي الأندلس، لا يمكن أن يحول دون مشاريعه، خرج من ليون في قواته، وذلك في أواخر سنة 1229 م (أوائل سنة 627 هـ)، وسار جنوبا في اتجاه نهر وادي يانه، واستولى أولا على حصن منتانجش (1). الواقع على مقربة من شمال ماردة، ثم سار إلى ماردة،
_______
(1) وهو بالإسبانية Montanchez.(4/399)
وهي تقع شرقي بطليوس، على ضفة نهر وادي يانه، وضرب حولها الحصار. ووقف ابن هود على حركة ملك ليون، فحشد ما استطاع من قواته، وسار نحو الغرب لإنقاذ المدينة المحصورة، وكانت من القواعد التي دخلت في طاعته، فلما وصل على مقربة من ماردة، ترك ألفونسو التاسع الحصار، وتقدم للقاء جيش ابن هود، ونشبت بين الفريقين عند حصن الحنش (1) معركة عنيفة، هزم فيها ابن هود، وارتد في قواته دون نظام، وفي الحال، احتل الليونيون مدينة ماردة، ثم احتلوا بعد ذلك بقليل، مدينة بطليوس العظيمة، وذلك في مايو سنة 1230 م (أواسط سنة 627 هـ). وينحى ابن عذارى بهذه المناسبة باللائمة على ابن هود، لأنه انهزم بساقته في بداية الموقعة، فولى الناس منهزمين من أجل ذلك. ويقول لنا إنه كان بطبعه ملولا عجولا، وكانت هذه الغزوة أول غزواته وأضخمها (2).
وعرج ابن هود في مسيره بعد هزيمته على إشبيلية. وكان مما حدث عند حلوله بها، أن ثارت العامة بعبد الله بن وزير حاكم ثغر القصر السابق، وكان قد لجأ إليها، وقبضت عليه، فأمر ابن هود بإعدامه هو وأخوه عبد الرحمن ابن وزير، ويقول لنا ابن الأبار إن ما حدث من العامة نحو الأخوين قد وقع بتحريض ابن هود نفسه (3).
وفي هذا الوقت نفسه، كان فرناندو الثالث، ملك قشتالة يحاول أن يقوم بضرباته في الأندلس الوسطى. وكان فرناندو يرقب الدعوة الهودية، واتساع نطاق سلطان ابن هود، وتوالى طاعة القواعد الأندلسية له، بمنتهى الاهتمام والتوجس. وكان يخشى أن تجتمع كلمة الأندلس كلها حول هذا الزعيم الجديد، وأن تغدو مرة أخرى، كتلة قوية متماسكة يصعب تحطيمها. وكان يرى وجوب المبادرة إلى العمل، قبل أن يصبح ابن هود وهو في نظره زعيم الأندلس الحقيقي، قوة لا تقهر، ومن ثم فإنا نراه في أوائل سنة 1230 م (أوائل سنة 627 هـ) يخرج في قواته من قشتالة متجهاً نحو أندوجر، ثم يعبر نهر الوادي الكبير، وهو أينما
_______
(1) وهو بالإسبانية Alanje
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 169، والمقري في نفح الطيب ج 2 ص 582.
(3) الحلة السيراء ص 242.(4/400)
حل ينسف الزروع، ويخرب القرى، ويسبى الذرية، واستمر في سيره نحو الجنوب حتى فحص غرناطة، ثم عاد إلى الشمال ثانية. والظاهر أن هذه الغارة الأولى كانت عملا استكشافياً، لمعرفة ما قد يلقى الغزاة من مقاومة. ولما اخترق ابن هود عندئذ بقواته تلك المنطقة في طريقه إلى الغرب، ظن القشتاليون أنه قدم لمحاربتهم، ولكن ابن هود كان يقصد إلى إنجاد ماردة، وألفى ملك قشتالة نفسه حراًّ في خططه وتحركاته، وعندئذ اتجه فرناندو الثالث بقواته صوب مدينة جيّان الحصينة، وهي أكبر قواعد تلك المنطقة، وضرب حولها الحصار، وذلك في أواخر يونيه سنة 1230 م، وقذفها بالمجانيق بشدة، وحاول القشتاليون، اقتحامها بكل الوسائل، ولكن المدينة لبثت صامدة كالصخرة، أولا لمنعتها الفائقة، وثانياً لوفرة المدافعين عنها، وبعد حصار دام ثلاثة أشهر اضطر فرناندو أن يترك جيّان، وأن يعود أدراجه. وما كاد يصل إلى قشتالة حتى علم بوفاة أبيه ألفونسو التاسع ملك ليون، عقب عودته من افتتاح ماردة وبطليوس، فاتجه مسرعاً إلى ليون ليجلس على عرشها مكان أبيه، وبذا اتحدت قشتالة، وليون مرة أخرى (1).
وهكذا نجت القاعدة الإسلامية - جيان - من السقوط إلى حين. ولكن ملك قشتالة، عاد فبعث في العام التالي حملة غازية إلى الأندلس، بقيادة أخيه الإنفانت ألفونسو، فسارت من أندوجر، وعاثت في أنحاء قرطبة، واستمرت في سيرها غرباً حتى أحواز إشبيلية، ثم ارتدت بعد ذلك إلى شريش، وهي تعيث أينما حلت قتلا وتخريباً. وهنا تحرك ابن هود مرة أخرى ليرد الغزاة، فسار في قوات كثيفة، والتقى بالقشتاليين في فحص شريش، ولكنه هزم مرة أخرى، بالرغم من تفوقه في العدد، وذلك في أواخر سنة 630 هـ (1233 م). والظاهر أن القشتاليين كانوا يقصدون بهذه الغزوة، أن يقطعوا صلة ابن هود بالثغور الجنوبية. وكان ابن هود قد افتتح الجزيرة الخضراء في سنة 629 هـ، ثم افتتح جبل طارق، وفي نفس هذا العام دخلت سبتة في طاعته حسبما قدمنا، ولكن ابن هود لبث بالرغم من هزيمته، محتفظاً بسلطانه في القواعد والثغور الجنوبية. وما كاد فرناندو الثالث ينتهي من تنظيم الشئون الداخلية التي ترتبت على وفاة أبيه حتى تأهب لاستئناف الغزو. وكان بعد أن أخفق في الاستيلاء على جيان،
_______
(1) J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia p. 62 & 68(4/401)
يعتزم افتتاح مدينة أبّدة، وكانت أيضاً من أمنع مدن هذه المنطقة وأوفرها سكانا وأقواها حامية، ولكن فرناندو صمم على أن يمضى في حصارها حتى ترغم على التسليم. واستمر حصار أبدة من يناير حتى يوليه سنة 1233 م (أواخر سنة 630 هـ) فلما عدمت الأقوات ولم ترد أية نجدة من أي جهة، اضطرت أبّدة إلى التسليم بالأمان، على أن يؤمن سكانها في أنفسهم، وأن يسمح لهم بأن ينقلوا من أموالهم ما يستطيعون حمله معهم، وأن تضمن سلامتهم حتى يصلوا إلى الأراضي الإسلامية (1). وفي نفس هذا العام 630 هـ، عقدت الهدنة بين ابن هود وملك قشتالة، نظير ألف دينار يؤديها إليه ابن هود في كل يوم (2). وكان ابن هود، قد تكاثر عليه الخصوم، بقيام منافسه ابن الأحمر في قطاع جيان، وخروج بعض المدن، ولاسيما إشبيلية عن طاعته وذلك حسبما نفصل في موضعه، فرأى أن يتفرغ لمحاربتهم بعقد الهدنة مع النصارى.
- 4 -
بينما كان ملك قشتالة ينزل ضرباته المتوالية بالأندلس الوسطى، كان ملك أراجون خايمى الأول، يقوم بأول غزواته الكبرى في الناحية الشرقية لشبه الجزيرة، ونعنى غزو الجزائر الشرقية.
كانت الجزائر الشرقية أو جزر البليار، وهي ميورقة ومنورقة ويابسة، وعدة جزائر صغيرة أخرى، منذ افتتحها الموحدون من أيدي بني غانية في سنة 600 هـ، يتعاقب في حكمها الولاة الموحدون، وكانت تتبع ولاية بلنسية من الناحية الإدارية. ولما اضطرمت الأندلس بالثورة على الموحدين، كان على الجزائر واليها أبو يحيى ابن يحيى بن أبي عمران التينمللى. وكان رابع الولاة الموحدين، مذ قام الموحدون بافتتاحها من أيدي بني غانية في سنة 600 هـ (1203 م)، ووليها منذ سنة 606 هـ. وفي رواية أخرى هي رواية ابن عميرة المخزومي، في كتابه " تاريخ ميورقة "، أن أمير الجزائر كان عندئذ هو محمد بن علي بن موسى، وأنه هو الذي وليها في سنة 606 هـ (3) ولكننا نرجح الرواية الأولى، لأن الرواية النصرانية المعاصرة
_______
(1) البيان المغرب ص 288، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 29 y nota (64)
(2) البيان المغرب ص 288، وروض القرطاس ص 183.
(3) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 584 نقلا عن تاريخ ميورقة للمخزومي، وهو كتاب لم يصل إلينا. ويقول لنا ابن الخطيب في ترجمته للمخزومى إنه ألف كتابا في "كائنة ميورقة " وتغلب الروم عليها. (الإحاطة 1956 - ج 1 ص 184).(4/402)
ومنها تاريخ الملك خايمى نفسه، تردد اسم أبي يحيى كأمير للجزيرة (1). ويقص علينا المخزومي سبب غزو النصارى لميورقة، أو مقدمات هذا الغزو في قوله، إن والي ميورقة بعث طريدة بحرية ومعها سفينة حربية إلى جزيرة يابسة، لتأتى إليه، بالأخشاب التي يحتاج إليها، فعلم بأمرها والي طرطوشة النصراني، فبعث إليها قوة بحرية استولت عليها، فاستشاط الوالي لذلك غضباً، واعتزم أن يغزو مياه بلاد الروم. وفي أواخر سنة 623 هـ (أوائل يناير سنة 1225 م) ظهرت في مياه يابسة سفينة من برشلونة، وأخرى من طرطوشة، فبعث الوالي ولده في عدة قطع بحرية، فرسى في مياه يابسة، وألفى بها مركباً جنوية كبيرة فاستولى عليها، ثم استولى على المركب البرشلونية. فلما وقف الروم على ذلك، اضطرموا سخطاً، وأهابوا بملكهم أن يقوم بغزو الجزيرة، وعرضوا عليه أن يتطوعوا بأنفسهم، وأموالهم، فأخذ عليهم العهد بذلك، وحشد من أهل البلاد عشرين ألفاً، وجهز في البحر ستة عشر ألفاً آخرين، وكان ذلك في أوائل سنة 626 هـ (2).
هذا ما يقوله المخزومي عن مقدمات غزو ميورقة. ولكن هذه المقدمات ترجع في الواقع إلى أسباب أقدم وأبعد مدى. وقد كان أمراء قطلونية ومعهم جمهوريتا بيزة وجنوة يتوقون دائماً إلى افتتاح هذه الجزائر، ووضع حد لغزوات ولاتها المسلمين، في مياه الشواطىء النصرانية، وكان الكرسى الرسولى يشجع ويبارك كل مشروع لافتتاحها. وقد افتتحها النصارى بالفعل قبل ذلك بنحو قرن في سنة 508 هـ (1116 م) في أوائل العهد المرابطي، واستعادها المرابطون على أثر ذلك. ولما استقل بنو غانية بالجزائر وقوى أمرهم، كانت غزواتهم المتكررة، لشواطىء الدول النصرانية القريبة، تزعج هذه الدول، وتحملها على مهادنة أصحاب الجزائر، وعقد معاهدات السلم معهم. فلما افتتح الموحدون الجزائر من أيدي بني غانية، تجددت رغبة الدول النصرانية، في انتزاع هذه الجزائر من أيدي المسلمين، وكان أشدهم رغبة في ذلك مملكة أراجون، التي كانت ترى من حقها الطبيعي، أن تستولى على تلك الجزائر التي تواجه شواطئها، وذلك تأميناً لمواصلاتها وتجارتها، وكان بيدرو الثاني ملك أراجون قد فكر في افتتاح الجزائر بصفة جدية، ولكن لم يتح له تحقيق أمنيته. فكان على ولده الملك الفتى
_______
(1) M. Lafuente: Historia General de Espana, T. IV. p. 77, Nota 2
(2) نفح الطيب ج 2 ص 584.(4/403)
خايمى الأول أن يحقق تلك الأمنية. وكان انهيار سلطان الموحدين في شبه الجزيرة
واضطرام أنحاء الأندلس بالفتنة، وانتثار وحدتها وتفرق كلمتها مما يمهد لاسبانيا
النصرانية السبيل إلى تحقيق غايات الاسترداد La Reconquista بأيسر أمر، وانتزاع
أشلاء الأندلس المهيضة الممزقة، وكان على أراجون وهي تسيطر على شرقي شبه
الجزيرة، أن تجتنى تراث شرقي الأندلس، وكان الملك خايمي حينما وفد عليه
السيد أبو زيد الموحدي مطروداً من بلنسية في أوائل سنة 626 هـ، يستعد بالفعل
لافتتاح الجزائر، وكان قد استدعى الكورتيس القطلونية في برشلونة في شهر
ديسمبر سنة 1228 م، واقترح عليه أن يقوم بحملة عسكرية ضد ميورقة بغية
افتتاحها، وذلك لتأمين تجارة قطلونية في البحر المتوسط، فوافق الكورتيس
على هذا الاقتراح، ووافق على أن يقوم الملك بتحصيل ضريبة الماشية القرنية
للمعاونة في نفقات الحملة. وعرض أكابر الأحبار والرهبان، أن يشتركوا في
الحملة بأنفسهم وبمن يحشدونه من الفرسان والجند، كل وفق طاقته. وعرض
أكابر الأشراف القطلان، وفي مقدمتهم نونيو سانشيز كونت روسيون، وهوجو
دي أمبرياس، والأخان رامون وجلين دي مونكادا وغيرهم من الأكابر،
أن يشتركوا في الحملة، بحشود كبيرة من الفرسان والرماة والجند، فقبل الملك
هذه العروض، وتعهد من جانبه بأن يقدم مائتي فارس من أهل أراجون بخيلهم
وسلاحهم، كما تعهد بتقسيم الأراضي المفتوحة، والغنائم المكتسبة بالعدل،
والقسطاس، بين المشتركين في الحملة، كل وفق ما تكبده من النفقات، محتفظاً
لنفسه بالقصور والسيادة العليا على الحصون والقلاع. وأقسم الجميع على ذلك،
واتفقوا على الاجتماع في طرطوشة بعد اتمام العدة، في شهر أغسطس من
العام التالي (1).
وتم كل شىء وفق ما اتفق عليه. وفي اليوم الخامس من سبتمبر سنة 1229 م
(14 شوال سنة 626 هـ) خرج الأسطول الأرجونى يحمل قوات ضخمة من
ثغور سالو وطركونة وكامبريلس، وكان مؤلفاً من مائة وخمس وخمسين سفينة حربية
وعدد من القطع الخفيفة، التي يقودها بحارة مغامرون من الجنويين وغيرهم.
وبلغ عدد المقاتلين ألفاً وخمسمائة من الفرسان وخمسة عشر ألفاً من المشاة، هذا عدا
حشود من المتطوعين من أهل جنوة وبروفانس وغيرهم. ودفعت الرياح العنيفة
_______
(1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 75(4/404)
السفن إلى وجهة غير التي كانت تقصدها، ولكنها وصلت بعد جهد إلى خليج بالما، وهو الخليج الذي تقع عليه مدينة ميورقة عاصمة الجزيرة، وكان والي الجزيرة أبو يحيى بن أبي عمران، قد علم بأمر هذه الأهبة الضخمة التي اتخذها النصارى لفتح الجزيرة، فاستعد من جانبه للدفاع، واستطاع أته يحشد قوة مختارة من نحو ألف فارس، ومن فرسان الرعية والحضر ألفا أخرى، ومن الرجالة ثمانية عشر ألفاً، بيد أنه اكتشف فيما يبدو، مؤامرة لخلعه، فقبض على أربعة من أكابر الأعيان، وأمر بإعدامهم، وكان منهم اثنان هما ابنا أخت أبي حفص بن سيرى وهو من ذوى المكانة والوجاهة، فاجتمع الناس حوله، وأبدوا سخطهم وتوجسهم مما حدث به، وأمر الوالي بعد ذلك بالقبض على خمسين آخرين من الأشخاص البارزين، وكان ذلك في منتصف شهر شوال، وقد اضطرب الناس، وكثر الإرجاف، ولم يمض على ذلك يومان أو ثلاثة حتى أقبلت سفن النصارى وظهرت، فبادر أبو يحيى بالصفح عن خصومه، وتأهبت الحشود لدفع النصارى (1). ولكن السفن النصرانية استطاعت أن تدخل مياه الخليج ليلا، وبمنتهى السرعة، حتى أن القوات المسلمة التي أرسلت لردها، وهي مكونة من مائتي فارس وخمسة آلاف راجل لم تستطع شيئاً لمنعها.
وكان أول من نزل إلى البر قوة من سبعمائة من النصارى بقيادة برناردو دي ارخنتونا، تحصنت بإحدى التلال، وتبعتها فرقة من فرسان رامون دي مونكادا هاجمت المحلة الإسلامية المقابلة، ففرقتها، ثم نزل الفرسان القطلان وبعض طوائف الأرجونيين. وهنا وقعت أول معركة بين المسلمين والنصارى، وكان المسلمون قد استجمعوا سائر قواتهم المرابطة على الشاطىء وانقضوا على الأرجونيين، وحلفائهم بشدة، فهزموهم هزيمة شديدة، وقتل منهم عدد من الأشراف، والفرسان القطلان، وفي مقدمتهم جلين دي مونكادا، وأخوه رامون، وهرعت أمداد من النصارى لإنجاد المهزومين.
وعندئذ ضرب النصارى الحصار حول مدينة ميورقة، وأخذوا يضربونها بمختلف اللآلات بشدة، ورد المسلمون على ذلك، بأن دفعوا قوة منهم حاولت أن تقطع مورد المياه الذي يمد المحلة النصرانية من الجبل. فهاجمها النصارى وقتلوا عدداً منها، وألقوا ببعض رؤوسهم إلى داخل المدينة، على أن الدفاع عن المدينة،
_______
(1) المقري في نفح الطيب نقلا عن المخزومي ج 2 ص 584.(4/405)
لم يكن لسوء الطالع محكماً، وكان الخلاف يسود بين المدافعين. وكان كثير من الجند الساخطين يتسربون إلى المعسكر النصراني. وأخيراً استطاع النصارى أن يقتربوا من الأسوار، وأن يحطموا أربعة من الأبراج. ورأى الوالي أبو يحيى أن الوقت قد حان للمفاوضة في تسليم المدينة، فبعث إلى الملك خايمى على يد دون نونيو سانشيز، أحد أقطاب الحملة، يعاونه يهودى من سرقسطة يسمى باشول كان يعرف العربية، يعرض أن يدفع ثمناً لانسحاب ملك أراجون، وذلك بأن يؤدي إليه سائر نفقات الحملة، مذ خرجت من ثغر طركونة إلى يوم انسحابها، على أن لا تترك في الجزيرة حامية نصرانية، ولكنه لما علم أن ملك أراجون يصر كل الإصرار على أخذ المدينة، بعث إليه يعرض تسليم المدينة على أن يسمح له بالخروج إلى المغرب مع أهله وحشمه وأمواله، وأن يترك له السفن التي تحمله إلى شاطىء افريقية، وأن يبقى في الجزيرة من شاء من أهلها المسلمين. ولكن الملك خايمى رفض هذا العرض أيضاً، تحت ضغط الزعماء القطلان. لأنهم كانوا يريدون الانتقام لآل مونكادا، والاستيلاء على غنائم المدينة وثرواتها.
وعندئذ عول أبو يحيى على أن يدافع دفاع اليأس، وعول النصارى من جانبهم على مهاجمة المدينة واقتحامها. وفي يوم 30 ديسمبر سنة 1229 م، استعد الجيش النصراني للهجوم، واستمع الجند للقداس، وعند الفجر بدأوا الهجوم وأحدثوا ثلمة في السور، وانثالوا إلى المدينة في طوائف متعاقبة من ناحية باب الكحل، فلقيهم المسلمون في داخلها، واضطرم بين الفريقين في الميادين والشوارع قتال عنيف، وكان الوالي أبو يحيى على رأس جنده ممتطياً صهوة جواده الأبيض، وهو يحثهم على الثبات، ودخل الملك خايمى أمام جنده المدينة، وهو شاهر سيفه. ولم يمض سوى قليل حتى ظهر التفكك في صفوف المسلمين، وأخذوا يفرون من باب بورتبين، وباب برتوليت، وفي سائر النواحي، والنصارى في أثرهم يمعنون فيهم قتلا، وتقدر الرواية الإسلامية من قتل من المسلمين خلال هذه المعركة الدموية بأربعة وعشرين ألفاً (1). وفر منهم إلى الجبال نحو ثلاثين ألفاً، وأسر الوالي أبو يحيى وولده، واستولى النصارى على ميورقة في مناظر مروعة من السفك. وكان استيلاؤهم عليها في يوم الاثنين 31 ديسمبر سنة 1229،
_______
(1) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 585.(4/406)
وهو يوافق بالهجرية الثالث عشر من شهر صفر سنة 627 هـ (1).
وتتفق التواريخ النصرانية على روعة المذبحة التي وقعت عند دخول النصارى ميورقة، ويقدر بعضهم من هلك فيها من المسلمين بثلاثين ألفاً، والبعض الآخر بخمسين ألفاً. بيد أنه يبدو أن ذلك مبالغ فيه (2).
ودخل الملك خايمى الأول، قصر المُدَينة، وهو قصر الولاة المسلمين، وأتى بالوالى أبي يحيى، وأمر بتعذيبه، واستمر تحت العذاب خمسة وأربعين يوما حتى توفي. وأما ابنه وكان صبياً في الثالثة عشرة، فتقول لنا الرواية النصرانية إنه نُصر وسمى بدون خايمي (3).
على أن المعركة لم تكن قد انتهت بعد، فإن أبا حفص بن سيرى، وهو الزعيم الذي أشير إليه فيما تقدم، لما رأى هزيمة المسلمين، وسقوط المدينة في أيدي النصارى، خرج إلى الجبل، وتبعته طوائف كبيرة من الفارين، واجتمع له منهم عدة آلاف مقاتل، واعتزم المقاومة إلى النهاية، فم تمض سوى أيام قلائل حتى خرج إليه الملك خايمى في بعض قواته، ومعه فرسان من القطلان، واستمرت هذه القوة في مطاردة المسلمين، والاشتباك معهم في معارك متوالية، حتى قضت في النهاية على حشودهم، وقتل قائدهم ابن سيرى وذلك في اليوم العاشر من ربيع الآخر سنة 628 هـ (13 فبراير 1231 م) أي لأكثر من عام من سقوط المدينة، وتم كذلك استيلاء النصارى على ما تخلف من المعاقل والحصون وذلك في شهر رجب من نفس العام (4).
وهكذا فقد المسلمون جزيرة ميورقة الغنية الزاهرة كبرى الجزائر الشرقية، بعد أن حكموها أكثر من خمسة قرون، وكانا لافتتاحها وقع عميق في الأمم البحرية النصرانية، في غربي البحر المتوسط، واستقبل فيها بمنتهى الغبطة والرضى. بيد أنه لم يحدث كبير صدى في الأندلس، حيث كانت المعارك الأهلية الصغيرة
_______
(1) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) الترجمة 400 و 631، وهو يجعل يوم الاثنين يوافق 14 صفر، وابن خلدون ج 4 ص 171، والروض المعطار ص 191، وكذلك؛ Campaner
y Fuertes: Bosquejo Historico de la Dominacion Islamita en las Islas Baleares
(Palma 1888) . p. 179-186
(2) Campaner y Fuertes: ibid ; p. 188
(3) M. Lafuente:ibid ; T. IV. p. 79, Nota I
(4) نفح الطيب ج 2 ص 585.(4/407)
تستغرق كل اهتمام. وعاد الملك خايمى إلى أراجون مكللا بغار الظفر، بعد أن قضى في غزوته زهاء خمسة عشر شهرا، ولقب من ذلك التاريخ " بالفاتح ".
وعاد خايمى بعد ذلك إلى ميورقة أولا في أواخر سنة 1231 م، حينما نمى إليه أن أمير إفريقية الحفصى ينوى أن يبعث بحملة لاسترداد الجزيرة، وقام عندئذ بإخضاع عدد من المعاقل الجبلية، التي كانت ما زالت قائمة بالمقاومة، وعقد مع بعض الزعماء المسلمين الأقوياء في الأنحاء الجبلية بعض عهود واتفاقات، ثم عاد إلى الجزيرة مرة أخرى في صيف سنة 1232 م، واستطاع عندئذ أن يقوم بالقضاء على أعمال العصيان والمقاومة الأخيرة. على أن أهم ما قام به خايمى يومئذ، هو تقسيم أراضي الجزيرة وأحياء ميورقة ودورها بين الزعماء الفاتحين، وفقاً للعهد الذي قطعه على نفسه بذلك، وتم ذلك على يد هيئة من الأحبار والأكابر. وكتب بهذا التقسيم كتاب باللغات اللاتينية، والقطلانية، والعربية، اشتهر " بكتاب التقسيم " El Libro del Repartimiento وقام بتحريره في أول يوليه سنة 1232 الكاتب الموثق بيدرو روملينو. وما زال هذا الكتاب يحفظ حتى اليوم في دار المحفوظات ببلدية ميورقة، وقد اطلعنا عليه خلال زيارتنا لميورقة (1).
وكان من الواضح أن مصير باقي الجزائر بعد سقوط ميورقة، قد بت فيه وأضحى رهن مشيئة الفاتحين. فأما جزيرة يابسة Ibiza وهي صغرى الجزائر الثلاثة الكبيرة، وهي تقع جنوب غربي ميورقة، فقد نزل بها الأرجونيون في سنة 632 هـ (1235 م)، فقاومهم أهلها المسلمون، واستمر الصراع بين الفريقين نحو خمسة أشهر، وانتهى بتسليم المسلمين واستيلاء الأرجونيين على الجزيرة (2). واستولى النصارى في نفس الوقت على جزيرة فرمنتيرا الصغيرة الواقعة على مقربة من جنوبي يابسة وكانت خالية ليس بها أحد من المسلمين.
هذا فيما يختص بميورقة كبرى الجزائر الشرقية وزميلتها يابسة. وأما جزيرة منورقة أو منرقة الواقعة في شرقي ميورقة، وهي ثانى الجزائر من حيث الحجم، فقد استمرت حقبة أخرى تحت الحكم الإسلامي. ذلك أن واليها الرئيس أبا عثمان
_______
(1) حصلنا على نسخة مصورة من هذا المخطوط الذي يتكون من كراسة كبيرة مستطيلة، تضم تسع ورقات حجمها نحو 30 في 15 سنتى. وأمام كل صفحة من صفحاته العربية مقابلها باللاتينية، والقطلانية. راجع وصف الكتاب وبعض نصوصه في كتابنا " الآثار الأندلسية الباقية " (الطبعة الثانية ص 133 - 136).
(2) روض القرطاس ص 183.(4/408)
سعيد بن حكم الأموى، وهو من أهل طبيرة من غربي الأندلس، كان رجلا طموحاً وتجول في شبابه في أنحاء الأندلس وإفريقية، ثم دخل منرقة في سنة 624 هـ، واشتغل بها مشرفاً على شئون الجباية والأجناد، ثم ظفر برياستها لما اضطربت الأحوال، وتقلص سلطان الموحدين، فوليها من قبل أبي يحيى، وضبط شئونها بهمة وبراعة وذلك منذ سنة 631 هـ، وكان عالماً محدثاً، ونحوياً أديبا يجيد النثر وينظم الشعر مع مشاركة طيبة في علم الطب، يجتذب إليه العلماء من كل صوب، ويفتدى منهم من يقع في أسر العدو، وكان ورعاً حريصاً على تنفيذ أحكام الشريعة، وكان يلقب بالرئيس، فصلحت أحوال الجزيرة في عهده، وعمها الرخاء والأمن. ولما استولى الملك خايمى على جزيرة ميورقة، رأى أبو عثمان أن يبادر بالتفاهم مع النصارى، فاعترف بطاعة الملك خايمى، على أن يؤدي له جزية سنوية، وأن يسلم إليه حصن تيوداديلا وذلك على أن لا يدخل الجزيرة أحد من النصارى. وهكذا ترك أبو عثمان وشأنه، فلبث على رياسته للجزيرة زهاء نصف قرن آخر، وضبط شئونها بحزم، وسار في الناس أعدل سيرة، واستقام أمر الجزيرة على يديه، وهابه جيرانه من النصارى، وكان يقصده الناس والعلماء والطلاب من سائر أنحاء الأندلس والمغرب، ويتردد عليه التجار، فيشمل الجميع ببره، ورفقه وأنسه. وكان شغوفاً بجمع الكتب، حتى اجتمع له منها ما لا نظير له كثرة وجودة وندرة، ومن شعره قوله في الحض على الجود:
لا تمنع المعروف يوما معرضا ومعرضا ... كلاهما من حقه فيه له أن يعرضا
هذا تنزه فاستحق على نزاهته الرضا ... والآخر استحيا من التصريح فيه فعرضا
وتوفي سعيد بن حكم في رمضان سنة 680 هـ (1281 م)، فخلفه في حكم الجزيرة ولده أبو عمر حكم بن سعيد، وكان مثل أبيه أديباً وعالما، ولكن أمد حكمه لم يطل، لأن النصارى رأوا أخيراً أن ينتزعوا منورقة من أيدي المسلمين، فقام الأرجونيين بافتتاحها في سنة 686 هـ (1287 م) وأجلى عنها المسلمون، وانتهى بذلك أمر الإسلام بالجزائر الشرقية، وغادر أبو عمر الجزيرة ومعه أهله ورفات أبيه، وسار أولا إلى سبتة، ثم قصد إلى تونس، فغرق في البحر هو وآله (1).
_______
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 255، والروض المعطار ص 185، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 275 - 277. وقد أورد ابن عبد الملك في الذيل والتكملة ترجمة ضافية لسعيد بن حكم (مخطوط الإسكوريال 1682 الغزيرى لوحة 9 أ - 10 ب).(4/409)
الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة
تقدم دعوة ابن هود. صراعه ضد القشتاليين. رفعه لشعار الأسود ومطالبته بمرسوم الخليفة العباسي. وصول المرسوم وقراءته وهو بغرناطة. محتويات هذا المرسوم. ابن هود أمير الأندلس الشرعى. مدى امتداد سلطانه. اختياره لولده أبي بكر لولاية العهد. رسالته إلى أهل شاطبة بذلك. توجس ابن هود من حركة ابن الأحمر. قيام محمد بن يوسف بن الأحمر في أواسط الأندلس. نشأته وقومه بنو نصر. قيام دعوته في أرجونة وجيان وبسطة ووداى آش. دعوته لأبي زكريا الحفصى ثم للخليفة العباسي. تأهب ابن هود لمقاومته. تحالف ابن الأحمر مع الباجى زعيم إشبيلية. القتال بين ابن هود وابن الأحمر. انتصار ابن الأحمر ودخوله إشبيلية. مصرع الباجى وثورة أهل إشبيلية بابن الأحمر. عودهم لطاعة ابن هود. عقد السلم بين الزعيمين. اعتراف ابن الأحمر بطاعة ابن هود. قيام ابن شعيب بلبلة. فشل ابن هود في محاصرته. غزو ملك قشتالة لمنطقة جيان. تجديد الهدنة بين ابن هود وملك قشتالة. شروط هذه الهدنة. افتتاح القشتاليين لحصن الأطراف وعدة حصون أخرى. طموح ملك قشتالة إلى افتتاح قرطبة. قرطبة واضطراب أحوالها عندئذ. غزو الفرسان القشتاليين لشرقى قرطبة. اقتحامهم للمنطقة الشرقية. اختلاف الرواية في ظروف هذا الحادث. احتلال النصارى لبعض الأبراج. ما تقوله الرواية الإسلامية في ذلك. إسراع قوات الحدود لإنجاد النصارى. اهتمام فرناندو الثالث بالحادث. مسيره في الحال إلى قرطبة. تضخم الحشود النصرانية تحت أسوار قرطبة. موقف القرطبيين الحرج. إسراع ابن هود بقواته نحو قرطبة. إحجامه عن إنجاد المدينة. اختلاف الرواية في أسباب هذا الإحجام. رواية نصرانية عن ذلك. رواية إسلامية عن تجدد الهدنة بين ابن هود وملك قشتالة. اشتداد فرناندو الثالث في محاصرة المدينة. اضطرار أهل المدينة إلى المفاوضة في التسليم. شروط هذا التسليم وظروفه. قبول فرناندو الثالث. إيجاز الرواية الإسلامية في ذلك. ما تقوله الرواية النصرانية عن مغادرة المسلمين لمدينتهم. دخول القشتاليين قرطبة. رفع الصليب على صومعة جامعها. دخول فرناندو الثالث المدينة ومثوله في الجامع. إقامة قداس الشكر. نزع رؤوس الثريات القديمة وردها إلى شنت ياقب. تأملات عن سقوط قرطبة. كتاب ابن هود إلى عماله. مسيره إلى ثغر ألمرية. واليها أبو يحيى الرميمى ودعوته لابن هود. بواعث مقدم ابن هود إلى ألمرية. رواية إسلامية عن ذلك. غدر الرميمى بابن هود ومصرعه. تأملات عن ثورة ابن هود وحركته. سياسته وخلاله. مبايعة ولده أبي بكر بمرسية. صدى وفاته في إشبيلية. عودها إلى طاعة الموحدين. سبتة تحذو حذوها. استيلاء ابن الأحمر على غرناطة. مسيره إلى ألمرية ومحاصرتها. فرار الرميمى والتجاؤه إلى إفريقية. دخول ألمرية في طاعة ابن الأحمر. دخول مالقة في طاعته. اجتماع بقايا الأندلس في مملكة غرناطة. تغدو مستودعا لتراث الأندلس. دعاء ابن الأحمر للخلافة الموحدية، ثم لأمير إفريقية الحفصى. غزو القشتاليين لمنطقة جيان. استيلاؤهم(4/410)
على أرجونة وغيرها. فشلهم في محاصرة جيان. ابن الأحمر يعقد الصلح مع ملك قشتالة. شروط هذا الصلح. ما خسرت الأندلس من جرائه. اعتراف ابن الأحمر بطاعة قشتالة. استيلاء ملك قشتالة على إشبيلية. ابن الأحمر يختار ولى عهده. النزاع بين ابن الأحمر وبين صاحب سبتة. مسير ابن الأحمر إلى إشبيلية لتجديد الصلح مع ملك قشتالة. شعوره بنية الغدر والخيانة ومغادرته للمدينة. عود ملك قشتالة لغزو الأندلس. صدى محنة الأندلس في الغرب. النجدة الأولى من عسكر بني مرين. إغارة القشتاليين على غرناطة. اضطرار ابن الأحمر إلى تجديد الهدنة مع ألفونسو العاشر. خسائر جديدة للأندلس. رثاء أبي الطيب الرندي للقواعد الذاهبة. وفاة ابن الأحمر. بعض صفاته وخلاله.
تركنا محمد بن يوسف بن هود، المتوكل على الله، وقد اعترفت بطاعته، عدا مرسية، مطلع ثورته، ومهد حركته، شاطبة، وجيان، وغرناطة، ومالقه، وألمرية، ثم إشبيلية قاعدة الحكم الموحدي. وشعر ابن هود بحق أنه بانهيار الحكم الموحدي، واجتماع معظم قواعد الأندلس تحت طاعته، قد غدا زعيم الأندلس الحقيقي، وقائد حركتها التحريرية، والمسئول عن حمايتها والذود عنها ضد النصارى. وفي ظل هذا الشعار سار ابن هود لإنجاد ماردة، حينما دهمها الليونيون، ولكنه هزم في المعركة التي نشبت بينه وبينهم، وسقطت ماردة وبطليوس، في أيدي النصارى (627 هـ). واستولى ابن هود على الجزيرة الخضراء، وجبل الفتح، من أيدي الموحدين في سنة 629 هـ، وكان استيلاؤه عليهما بمعاونة السيد أبي عمران موسى والي سبتة، وأخى الخليفة المأمون عندما ثار على أخيه، ودعا بالخلافة لنفسه، ونزل السيد أبو عمران في نفس الوقت لابن هود عن سبتة، وحكمها نائبه الغشتى حينا حسبما تقدم ذكره، ثم خاض ابن هود وهو عائد إلى الشمال، في أواخر هذا العام، مع القشتاليين وعلى مقربة من وادي آش، معركة هزم فيها القشتاليون وقتل معظمهم (1)، ولكنه عاد فاشتبك مع القشتاليين في العام التالي، على مقربة من شريش، في معركة هزم فيها، ورأى على أثر ذلك أن يعقد الهدنة مع القشتاليين، وذلك في أواخر سنة 630 هـ (1233 م) وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه.
وكان ابن هود قد رأى منذ البداية، أن يستظل بلواء الدولة العباسية، فرفع الشعار الأسود، ودعا للخليفة المستنصر بالله العباسي، وبعث إليه ببغداد يطلب المرسوم والخلع الخلافية، فبعث إليه المستنصر بالمرسوم والخلع والرايات،
_______
(1) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 280.(4/411)
وحملها من بغداد إلى الأندلس، مبعوث الخليفة أبو علي حسن بن علي بن حسن الكردى اللقب بالكمال، وتلقاها ابن هود في سنة 630 هـ، وهو يومئذ بغرناطة، فقرئ المرسوم على الناس بمصلى العيد، وقد اجتمعوا لطلب الغيث والاستسقاء وابن هود يرتدى السواد، والراية السوداء بين يديه (1)، ومن حسن التوفيق أن نزل المطر على أثر ذلك، فاستبشر الناس، وكان يوماً مشهوداً.
وقد نقل إلينا ابن الخطيب نص هذا المرسوم الخلافي، وفيه يسبغ الخليفة على ابن هود، لقب المتوكل على الله، الذي اختاره لنفسه، ومما جاء فيه بعد الديباجة، وبعد الإشادة بالخليفة المستنصر وعهده: " ولما انتهى إلى علومه الشريفه (أي المستنصر) زادها الله شرفاً وقدساً، ما عليه مجاهد الدين، محمد بن يوسف بن هود، من سلوك سنن الطاعة المؤسس بنيانها على تقوى من الله ورضوان، والتزام شروط الولاء، الذي هو علامة متانة الدين وكمال الإيمان، والتصدى لمقارعة الناكثين عن محجة الحق والهدى، والتجرد لمرابطة من حاد عن السنة والإجماع، اللذين بهما يسترشد ويهتدى، اقتضت آراؤه الشريفة، المقدسة النبوية الإمامية الظاهرة، الزكية الممجدة، المعظمة المكرمة، المستنصرية، زادها الله جلالا متألق الأنوار، وشرفاً رفيع المنار، واقتدارا تجوب جياده جنوب الآفاق والأقطار، أن يقلده أمر جزيرة الأندلس وما يجرى معها من الولايات والبلاد، ويسوغه ما يفتتحه من ممالك أهل الشرك والعناد، تقليداً صحيحاً شرعياً، وتسويغاً صريحاً إمامياً، وإنعاماً يضفو عليه لباس فخاره الفضفاض، وتصفو لديه موارد مواهبه النميرة الحياض.
وقد أمره - صلوات الله عليه - بأوامر تهديه إلى سبيل الرشاد، وتحظيه برضي الله الذي هو أنفع الذخائر في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه يتوكل وإليه ينيب ".
ويلى ذلك ما يسديه الخليفة إلى ابن هود من نصائح، تتلخص في وجوب تمسكه بتقوى الله، وبأن يجعل كتاب الله مناراً يرجع إليه في حل المشكلات، وأن يعمل بسنة نبيه، وأن يكثر من مجالسة الفقهاء والعلماء، ومشاورة العقلاء
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 169، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 280. ويقول ابن عذارى إن وصول مرسوم الخليفة كان في سنة 629 هـ (البيان المغرب ص 276)، ولكنا نرجح الرواية الأولى.(4/412)
الألباء، وأن يحسن السيرة في رعيته، وأن يعنى بمجاهدة الكفار، وفقاً لما أمر الله في كتابه. ثم يختتم الكتاب بتلقيب ابن هود بالألقاب الآتية: " الأمير، الأصفهصلار الكبير، الأجل، المرابط، المثاغر، الغازى، مجاهد الدين، مجد الإسلام، جمال الأنام، نجم الدولة، عز الملة، معين الأمة، فخر الملوك، قامع المشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، زعيم الجيوش، شرف الأمراء، تاج الخواص، أطال الله بقاءه، وأدام علوه ونعمته " (1).
وهكذا غدا ابن هود أمير الأندلس الشرعي، وتوجت زعامته بشعار الخلافة العباسية، حسبما كان عليه المرابطون أيام دولتهم وحكمهم للأندلس. وكان سلطان ابن هود يمتد يومئذ في شرقي الاندلس من الجزيرة وشاطبة حتى ألمرية جنوباً، وفيما بين ألمرية، والجزيرة الخضراء، وفي وسط الأندلس، فيما بين قرطبة وغرناطة، ولم يخرج عن سلطانه من القواعد الكبرى، سوى بلنسية في شرقي الأندلس، وجيّان في وسطها، وإشبيلية في غربها. وكانت إشبيلية قد دانت بطاعته، وولي عليها أخاه عماد الدولة حسبما تقدم، ولكن لم يمض طويل على ذلك، حتى نكث أهل إشبيلية ببيعتهم، وأخرجوا منها عماد الدولة، والتفوا حول زعيم جديد هو القاضي أبو مروان أحمد بن محمد الباجى، فاعتذر عن قبول الولاية أولا، ولبث حيناً على قاعدة الشورى، ثم تقلد الولاية، وبسط سلطانه على إشبيلية وقرمونة. وكان ذلك في سنة 629 هـ (2).
وعمد ابن هود على أثر تلقيه المرسوم الخلافى بالولاية. إلى اختيار ولده أبي بكر محمد لولاية عهده، ولقبه بالواثق بالله، المعتصم به. وقد وقفنا على رسالة في ذلك مدبجة بقلم أبي عبد الله بن الجنان، عن لسان ابن هود وموجهة منه إلى أهل شاطبة يبلغهم فيها ذلك الاختيار، وفيها ينعت نفسه " بمجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، عبد الله المتوكل عليه، أمير المسلمين محمد بن يوسف بن هود " ويخاطب الفقهاء والوزراء والقواد والأعيان والوجوه والنبهاء والكافة " بشاطبة وجهاتها، وما انضاف إليها من جهة بيران ودانية، وذلك من حضرتنا بمرسية ". ثم يعرب فيها، بعد الدعاء للنبى وللخليفة المستنصر بالله، عن محبته لهم، ويعلن
_______
(1) يراجع نص المرسوم في أعمال الأعلام ص 280 - 286، ونشر البيان المغرب بعض فقراته ص 277 و 278.
(2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 278 و 279، وابن خلدون ج 4 ص 169.(4/413)
إليهم أنه اختار: " ولى عهدنا، المتولى لأمور المسلمين من بعدنا، ابننا الأمير الموفق المبارك الميمون السعيد الرشيد، الواثق بالله، المعتصم به، أبا بكر محمداً، أدام الله توفيقه، ومنحه إنجاده وعضده وإسعاده، وتملكه جميع أمورها، وكافة حواضرها وثغورها، وتقدمه فيها في بلاد هي منشأه ومشيئته ومبدأه "، وأنه يوليه " جميع أقطار المشرق، وبلاده، وأغواره وأنجاده، تولية عامة في حياتنا، مع أنه المتولى بحكم العهد الذي ارتضينا له لكل ممالكنا وطاعاتنا، وخصصنا هذه البلاد الشرقية، حاطها الله تعالى بتقديمه فيها " (1).
وكان مما يوطد مركز ابن هود، ويدعم زعامته وهيبته، هو تجرده لمحاربة النصارى، وما يخوضه معهم من معارك متوالية، وإذا كان ابن هود قد انتهى بأن عقد الهدنة، مع ملك قشتالة، نظير إتاوة يؤديها إليه، فإن ذلك لم يكن إلا نزولا منه على حكم الظروف، لكي يتفرغ لمقارعة خصومه ومنافسيه.
- 1 -
على أن ابن هود لم يكن منفرداً برياسة الأندلس، ولو أتيح له هذا الانفراد بالرياسة، لكان من المرجح أن يكون له في قيادة الأندلس شأن آخر، وقد رأينا فيما تقدم، أنه في الوقت الذي قام فيه بمرسية، كان له في شرقي الأندلس، منافس آخر، هو أبو جميل زيان بن مردنيش القائم في بلنسية. بيد أن هذه المنافسة المحلية في الشرق، لم تكن مما يضايق ابن هود أو يهدد زعامته، وإنما كان يتوجس ويخشى من قيام زعيم آخر، أخذ نجمه يبزغ في أواسط الأندلس، وجنوبها بسرعة، ويظفر بطاعة قاعدة بعد أخرى، ولم يكن هذا الزعيم الأندلسي الجديد، سوى محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن خميس النصري المعروف بابن الأحمر. وكان بنو نصر هؤلاء، وهم يرجعون نسبتهم إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج، في الأصل سادة حصن أرجونة، الواقع على مقربة من نهر الوادي الكبير، ومن أعمال ولاية جيان. وكان لبني نصر في تلك المنطقة عصبية ووجاهة مؤثلة، فلما اضطربت الأمور، وانهار سلطان الموحدين بالأندلس، وظهر ابن هود في الشرق، وأخذ سلطانه يمتد نحو الجنوب، لاحت لمحمد بن يوسف فرصة للظهور والعمل، وكان هذا الزعيم المتواضع الموهوب معاً،
_______
(1) وردت هذه الرسالة في كتاب " زواهر الفكر " الذي سبقت الإشارة إليه (مخطوط الإسكوريال رقم 520 الغزيرى، و 518 ديرنبور).(4/414)
يضطرم بكثير من الشجاعة والإقدام والعزم، فدعا لنفسه وبويع أولا في أرجونة موطن أسرته ومثوى عصبيته وأنصاره، وفي الجهات المجاورة لها، وذلك في سنة 629 هـ. وفي العام التالي، دخل مدينة جيان وبويع بها، ثم أطاعته بسطة، ووادي آش، وهكذا قوي أمره وامتد سلطانه بسرعة إلى أنحاء الأندلس الوسطى وأخذ يتطلع إلى الاستيلاء على القواعد الجنوبية. وكان ابن الأحمر، يرى منذ البداية، أن يستظل بلواء سلطة إسلامية مرموقة. فدعا أولا للأمير أبي زكريا الحفصى صاحب إفريقية وتلقى منه بعض العون، ولكنه عاد، فدعا على نمط ابن هود للخليفة العباسي، المستنصر بالله (1).
ولم يلبث ابن هود أن شعر بخطورة هذه الحركة، التي يضطلع بها منافسه الجديد، في المناطق الوسطى والجنوبية، ومن ثم فقد اعتزم أن يتأهب لمقارعته والقضاء على حركته، ولم يكن بخاف أيضاً على ابن الأحمر خطورة المعركة التي يجب عليه أن يخوضها مع ابن هود، لكي تخلص له رياسة الأندلس، ومن ثم فقد أخذ من جانبه يتأهب لخوضها، وكان عقد ابن هود للهدنة، مع القشتاليين، يرجع قبل كل شىء إلى رغبته في التفرغ لهذه المعركة الداخلية. ومن جهة أخرى فقد اتجه ابن الأحمر إلى العمل على تقوية جانبه، بالتفاهم مع أبي مروان أحمد ابن محمد الباجى المتغلب على إشبيلية، وذلك بأن عقد معه حلفاً، وصاهره على ابنته، واتفق الاثنان على مقاومة ابن هود ومحاربته.
وتأهب الفريقان للحرب، وحشد كل منهما ما استطاع من قواته، والتقيا على مقربة من إشبيلية، ووقعت بينهما معركة، كانت الهزيمة فيها على ابن هود، وكان النصر لابن الأحمر وحليفه الباجى، وكان وقوعها في أوائل سنة 631 هـ (1233 م) (2). ودخل ابن الأحمر إشبيلية بعد ذلك بقليل، وهو يضمر الغدر بحليفه وصهره الباجى، ولم يلبث أن دس عليه أحد أصهاره من بني أشقيلولة فقتله وذلك في جمادى الأولى من نفس العام، وبادر ابن الأحمر فاحتل القصبة، وحاول أن يبسط سلطانه على المدينة، ولكنه لم يلبث فيها سوى شهر، وثار به أهل إشبيلية، وأخرجوه من القصبة ومن المدينة، عنوة، ثم عادوا فدعوا
_______
(1) البيان المغرب ص 279، وابن خلدون ج 4 ص 170. وراجع كتابى " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين " الطبعة الثانية ص 31 و 32.
(2) روض القرطاس ص 183.(4/415)
لابن هود، وبعث إليهم ابن هود أخاه سالما عماد الدولة ليضطلع بولاية إشبيلية مرة أخرى، والظاهر مما يقوله ابن عذارى أنه قد وقع لابن الأحمر بقرطبة، مثلما وقع بإشبيلية، وأن أهل قرطبة، كانوا قد بايعوه في بداية أمره، فلما رأوا فعلته بالباجى، وما ترتب عليها من إخراجه من إشبيلية، نكثوا ببيعته وخلعوا طاعته وعادوا إلى طاعة ابن هود (1).
وحدث عندئذ حادث لم يكن متوقعاً، هو عقد الهدنة والصلح بين ابن هود وابن الأحمر. وذلك أن كلا الزعيمين، أدرك فيما يبدو، خطر الحرب الأهلية الانتحارية، التي يخوضها كل منهما ضد صاحبه، وأنه لن يستفيد من هذا الصراع الأخوى المؤلم، سوى ملك قشتالة، المتربص بهما معا، فتفاهما، وعقد الصلح بينهما، وذلك في شوال سنة 631 هـ (يونيه 1234 م)، وذلك على أن يعترف ابن الأحمر بطاعة ابن هود، وعلى أن يقره ابن هود في ولاية جيان وأرجونة، وبركونة وأحوازها. ويقول لنا ابن خلدون من جهة أخرى، ان اعتراف ابن الأحمر بطاعة ابن هود، وقع على أثر وصول العهد الخلافى من بغداد لابن هود وذلك في سنة 631 هـ (2).
ولم يمض قليل على ذلك حتى ثار بمدينة لبلة في سنة 632 هـ، وهي من أعمال إشبيلية، قاضيها شعيب بن محمد بن محفوظ ودعا لنفسه، وتسمى بالمعتصم، فسار ابن هود لقتاله، فامتنع بمدينته، وهي ذات موقع طبيعى حصين وأسوار عالية، فحاصرها ابن هود واستمر على محاصرتها حينا، وهي صامدة ممتنعة عليه (3).
وقد كان سير الحوادث في الواقع يدعو إلى عقد مثل هذا التهادن بين الزعيمين المتنافسين. ذلك أن ابن هود، علم وهو على حصار لبلة، بأن ملك قشتالة قد خرج في قواته صوب الأندلس، يريد محاربته، ولكن فرناندو الثالث، انحرف بقواته نحو منطقة جيان التي يسيطر عليها ابن الأحمر، وأخذ يعيث في أحواز أرجونة، وجيان، وترك ابن هود حصار لبلة، دون أن ينال منها مأرباً، ليعود إلى أراضيه، وهنالك فيما بين إشبيلية وقرطبة وفد إليه سفير فرناندو،
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 279 و 322، وابن خلدون ج 4 ص 170.
(2) روض القرطاس ص 183، وابن خلدون ج 4 ص 170.
(3) روض القرطاس ص 183، والبيان المغرب ص 322.(4/416)
ألبار بيرث، وجرت بينهما مفاوضات، انتهت بالاتفاق على تجديد الهدنة، بين ابن هود وملك قشتالة لمدة ثلاثة أعوام، وذلك على أن يدفع ابن هود لملك قشتالة إتاوة قدرها مائة ألف وثلاثون ألف دينار، دفع منها في الحال خمسين ألفا، وقسط الباقى على الأعوام الثلاثة، وعلى أن ينزل ابن هود عن بعض الحصون الواقعة في منطقة جبل الشارات (سيرّا مورينا)، وهي حصون نائية، منقطعة لم يكن من السهل أن يدافع عنها أو ينجدها المسلمون (1). ويقول لنا ابن خلدون إن هذه الحصون كانت ثلاثين، وأن ملك قشتالة تعهد بأن يتخلى عن معاونة ابن الأحمر، وأن يعاون ابن هود على تملك قرطبة (2). على أن هذا القول بالنسبة لابن الأحمر لم يكن يتفق مع ما تم من عقده للسلم مع ابن هود ومبايعته له، وهو ما يقرره لنا ابن خلدون نفسه حسبما سبقت الإشارة إليه. وكان عقد هذه الهدنة، بين ملك قشتالة وابن هود في أواخر سنة 632 هـ (صيف سنة 1235 م).
وعلى أثر ذلك ارتد ملك قشتالة في قواته عائداً إلى بلاده، وفي خلال هذا العود، قام بمحاصرة " حصن الأطراف " Iznataraf، فاستسلم إليه في الحال على أن يمنح الأمان لمن كان به من المسلمين، وأن يغادروه حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم. ثم حاصر من بعده حصن شنت إشتيبن، وهو من الحصون الواقعة في طريق بياسة وأبدة، فسلمه المسلمون إليه بنفس الشروط، واستولى فرناندو في طريقه أيضاً على عدة حصون أخرى في منطقة جيان، وكانت هذه الحصون كلها من الحصون التي نص على تسليمها في الهدنة التي عقدت مع ابن هود.
- 2 -
والواقع أن هذه الحوادث كلها: غزوات فرناندو الثالث المتوالية لأراضي الأندلس، وتهدئته لابن هود بعقد السلم معه، واستيلاؤه، واستيلاء الجماعات الدينية العاملة باسمه، تباعا على حصون منطقة جيان، لم تكن سوى مقدمات لغاية أخطر وأبعد مدى، كان يضمرها ويعمل لها ملك قشتالة، أو بعبارة أخرى لم يكن سوى تمهيد لضربة مؤلمة جديدة، يزمع إنزالها بالأندلس، تلك هي استيلاؤه على مدينة قرطبة العظيمة.
كانت عاصمة الخلافة القديمة، منذ انهيار سلطان الموحدين في شبه الجزيرة،
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 322، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 71 y notas
(2) ابن خلدون ج 4 ص 171.(4/417)
ومذ ثار شعبها المتوثب، بواليها الموحدي السيد أبي الربيع وقتله، حيرى في أمرها، لا زعيم لها ولا قائد، وتتردد في الطاعة بين مبايعة ابن الأحمر ومبايعة ابن هود، ولكنها أميل إلى الانضواء تحت لواء ابن هود. ومن الأسف أن الرواية الإسلامية التي تعنى دائماً أشد عناية بأحوال قرطبة وأخبارها، لا تمدنا عن هذه الفترة الأخيرة من حياة المدينة الأندلسية العظيمة، أو عن مأساة سقوطها، بأية تفاصيل شافية. ومن ثم فإنه لابد لنا أن نعتمد في ذلك بالأخص على أقوال الرواية النصرانية المعاصرة، إذ هي أكثر عناية وتفصيلا.
ولقد عرفنا من قبل في مواطن وظروف كثيرة، ما كان عليه أهل قرطبة من خلق متمرد مضطرم، لا يلين ولا تصقله عبر الحوادث، ومن ثم فإنا نراهم في تلك الآونة العصيبة، التي كان مصيرهم فيها يهتز في كفة القدر، على خلاف في الرأي، لا يجمعهم شعار الخطر المشترك، ونرى الأحقاد والخصومات، تدفع فريقاً منهم إلى المغامرة بسلامة مدينتهم، فيما يمكن أن يوصم بعمل من أعمال الخيانة، التي لا يمكن أن يغتفرها التاريخ.
ففي أوائل سنة 1236 م (أواخر ربيع الثاني سنة 633 هـ) خرجت جماعة من الفرسان القشتاليين، وهم من أهل الحدود المغاورين المحترفين، ومعظمهم من منطقة أندوجر الواقعة شرقي قرطبة، وساروا صوب قرطبة، فأشرفوا عليها حينما دخل الليل. وكانت مدينة قرطبة في ذلك الوقت تنقسم إلى خمس مناطق أو أحياء متعاقبة، وبين كل منطقة وأخرى، سور فاصل (1)، وكانت المنطقة الأولى الواقعة شرقي قرطبة، تعرف بالربض الشرقي أو " الشرقية " وتجتمع باقي المناطق فيما يسمى " بالمدينة "، وهي تقع غربي " الشرقية " وكلتاهما الشرقية والمدينة، تقع على الضفة الشمالية لنهر الوادي الكبير. فلما وصل الفرسان القشتاليون وهم فئة قليلة، لا تحدد لنا الرواية عددها، وربما كانت تضم بضع عشرات - إلى مشارف " الشرقية " وضعوا في الحال خطة اقتحامها. وهنا تختلف الرواية في شأن الخطة التي تم بها هذا الاقتحام. ففي رواية ألفونسو الحكيم أن الفرسان القشتاليين أسروا بعض المسلمين من الساخطين على زعمائهم، وعلموا منهم أن المدينة محروسة بشدة، وتفاهموا معهم على إحداث ثلمة في سور الشرقية، واستطاعوا بهذه الطريقة أن يقتحموا السور، وأن يستولوا على الأبراج في ليلة حالكة عاتية
_______
(1) الروض المعطار ص 153.(4/418)
خريطة:
خطط قرطبة الإسلاميّة عن خريطة العلامة الأثرى القرطبي رافائيل كستيخون(4/419)
الريح (1). وفي رواية أخرى أن بعض المسلمين، ومنهم بالأخص واحد كان قد تنصر، ساعدوا القشتاليين على تحقيق خطتهم، وبينوا لهم أن الشرقية، ليس بها سوى قليل من السكان، وأن أسوارها الخارجية ضعيفة الحراسة، ومن ثم فقد استطاع القشتاليون، بإرشاد هذا المسلم المتنصر، أن يتسلقوا السور، وأن يستولوا على الشرقية بطريق المباغتة، وكان هذا السور، هو أول الأسوار الخارجية، وليس هو السور الذي يفصل الشرقية عن باقي أحياء المدينة، وقتل من أهل الشرقية عدد كبير، وهرب الباقون إلى داخل المدينة. واحتل النصارى بعض الأبراج المنيعة في السور. وفي الحال وقع الهرج بالمدينة، وتقدم المدافعون لمهاجمة النصارى، وقتل عدد من الجانبين، ولكن النصارى لبثوا صامدين في الأبراج، وأرسلوا في الحال يطلبون الإمداد (2).
وتجمل الرواية الإسلامية، ذلك العدوان المفاجىء في قولها: " وفيها (أي في سنة 633 هـ) غدر النصارى شرقية قرطبة، وذلك في ثالث شوال، غبشاً في غفلة السحار، وسلم الله عز وجل النساء والذرارى حتى لحقوا بالغربية، وبقى الناس معهم في قتال شديد " (3).
ووصل نداء القشتاليين إلى إخوانهم على الحدود بسرعة، وفي الحال هرع اثنان من قادة الحدود، هما أردونيو ألباريث، وألبار بيرث، الذي عرفناه من قبل، كل في قواته، وتبعهما أسقف بياسة مع رجاله، ثم أسقف قونقة في قواته، وسار في أثرهم آخرون. وما كادت هذه الأنباء تصل إلى فرناندو الثالث ملك قشتالة، وهو في بنفنتى على مقربة من ليون، حتى اهتم لها أيما اهتمام، وكان ثمة من وزرائه ومستشاريه من يرى في الأمر كثيراً من الخطورة والتعقيد، فهو يرتبط أولا مع ابن هود باتفاق الهدنة، وقرطبة تدين بطاعة ابن هود، وقرطبة مدينة عظيمة، تزخر بالسكان والمدافعين، ولا يتأتى افتتاحها إلا بقوات ضخمة، ومن جهة أخرى فإن ابن هود قد يضطر إلى إنجادها بقواته، خصوصاً وأن قرطبة تعتبر في نظر المسلمين كبرى قواعد الأندلس، ولها في نفوسهم مكانة خاصة.
_______
(1) Cronica General (Ed. M. Pidal) No. 1044.
(2) J. Gonzalez: ibid ; cit. Cronica Latina y Jimenez de Rada ; p. 74-76 y notas.
(3) هذه رواية روض القرطاس (ص 183).(4/420)
ْوهذا كله إلى ظروف الجو وقسوة الشتاء وفيضان الأنهار. ولكن ملك قشتالة لم يلق بالا إلى شىء من هذه الاعتراضات، ولم يكن يرى بالأخص في مهاجمة قرطبة نقضا لعهوده مع ابن هود، إذ كان فريق من أهل المدينة هم الذين استدعوا النصارى. ومن ثم فقد بادر فرناندو الثالث من فوره بالمسير إلى الجنوب، ومعه قوة من مائة فارس فقط، وقصد من فوره إلى قرطبة، فوصل إليها في اليوم السابع من فبراير، واضطرمت الحشود النصرانية المرابطة تحت أسوار المدينة حماسة لمقدمه، وكانت تتضخم كل يوم بمن يفد إليها من حشود قشتالة وليون، ومن فرسان الجماعات الدينية المختلفة. ونصب ملك قشتالة محلته قبالة قنطرة قرطبة التي تؤدى إلى طريق إستجة. وأخذ في الحال في وضع خطة للاستيلاء على المدينة (1).
وهنا يحق لنا أن نتساءل، ماذا كان موقف القرطبيين إزاء هذا الخطر الداهم، وماذا كان بالأخص موقف ابن هود. أما عن القرطبيين، فليس ثمة شك في أنهم اعتزموا منذ اللحظة الأولى الدفاع عن مدينتهم وحاضرتهم، ولكن كان من الواضح أنه كانت تنقصهم القيادة الحازمة، وكان ينقصهم بالأخص اجتماع الكلمة. وعلى أي حال فإن الرواية الإسلامية تذكر لنا أن أهل قرطبة لبثوا مع النصارى في قتال شديد (2)، وهي لا تذكر لنا اسم الزعيم أو القائد الذي اجتمع حوله أهل قرطبة في تلك الآونة العصيبة، وإن كانت الرواية النصرانية تذكر لنا أنه كان يسمى أبا الحسن. وأما عن ابن هود، وهو صاحب الولاية الشرعية على قرطبة، فقد كان من الطبيعي أن يتجه إليه القرطبيون لإنجادهم والدفاع عن مدينتهم. وكان ابن هود في الواقع قد هرع في قواته من قطاع مرسية، حينما علم بالخطر الذي يحدق بعاصمة الخلافة القديمة. وكان في جيش قوي يبلغ نحو خمسة وثلاثين ألف مقاتل، ومعه نحو مائتي فارس من المرتزقة النصارى، فسار في قواته مسرعاً صوب قرطبة، وانحرف عن العاصمة قليلا نحو الجنوب الشرقي، وعسكر على مقربة من إستجة. وكان أهل قرطبة ينتظرون بفارغ الصبر مقدم ابن هود، واشتباكه مع النصارى في معركة فاصلة، ولم يكن ثمة ريب أن ابن هود لو اشتبك بجيشه مع القشتاليين، لحقت عليهم الهزيمة، ولتركوا
_______
(1) J. Gonzalez: ibid ; p. 76-78 ; M. Lafuente: Historia General de Espana ; T. IV. p. 43
(2) روض القرطاس ص 183.(4/421)
المدينة المحصورة وشأنها. ذلك أن القشتاليين كانوا في قلة من العدد، ولم يكن مع ملك قشتالة سوى نحو مائتي فارس من الأشراف، ولم تكن الحشود الواردة من مختلف أنحاء قشتالة، تؤلف قوة ذات شأن. ولكن الذي حدث هو أن ابن هود لبث جامداً في قواته. وهنا تختلف الرواية في إيضاح سبب هذا الجمود. فيقال لنا إن قسوة الطقس، وهطل الأمطار بشدة، ونقص المؤن، حملت ابن هود على التريث والإحجام. ووردت في تاريخ ألفونسو الحكيم قصة أخرى، خلاصتها أنه كان يوجد في جيش ابن هود فارس قشتالى منفى بأمر مليكه يدعى لورنسو خواريز، ومعه مائتان من المرتزقة النصارى، وكان ابن هود يقربه ويثق به ويعمل بنصحه. فلما نزل ابن هود وجيشه في إستجة، وهو يعتزم مقاتلة القشتاليين، فكر هذا الفارس في أن يسترد رضى مليكه بخدمة عظيمة يؤديها إليه، وهو أن يعمل على خدعة ابن هود ورده عن مقاتلة القشتاليين، وإنجاد أهل قرطبة، فتظاهر بأنه سوف يتسلل إلى المعسكر النصراني تحت جنح الليل، ويقف على مبلغ عدده وعدته. وسار لورنسو بالفعل ليلا مع أصحابه إلى المعسكر النصراني، وترك أصحابه على مقربة من المعسكر، وتقدم بنفسه إلى خيمة الملك، وطلب مقابلته لأمر خطير، فاقتيد إليه، وكان الملك غاضباً عليه، فلما شرح إليه مهمته، وأنه يريد أن يعمل على خدعة ابن هود، وتخويفه من قوة الجيش القشتالي وعدده، ورده عن مقاتلته، عفا عنه الملك، ووعده برعايته، وتفاهم الإثنان على ما يجب عمله. وعاد لورنسو إلى ابن هود، وحذره بشدة من الاشتباك مع القشتاليين، لأنهم في جيش قوي، حسن الأهبة والعدد، ولا يؤمن الدخول معه في معركة، فاستمع ابن هود إلى نصحه، وقرر أن يتخلى عن مشروعه في إنجاد أهل قرطبة والاشتباك مع القشتاليين (1).
هذا ما تقرره الرواية النصرانية عن السبب في إحجام ابن هود عن إنجاد أهل قرطبة. وتزيد الرواية النصرانية على ذلك، أن ابن هود تلقى في اليوم التالي رسالة من صاحب بلنسية أبي جميل زيان، ينبئه فيها، بأن خايمى ملك أراجون يشتد في مضايقته وإرهاقه، ويطلب إليه الإنجاد والغوث، وأن ابن هود عملا بنصح مستشاره لورنسو خواريز، قرر أن يسير إلى بلنسية، وقد كان يطمح إلى
_______
(1) Cronica General (Ed. Pidal) T. II. p. 782، وكذلك J. Gonzalez: ibid ; cit. Cronica Latina ; p. 78 y notas(4/422)
امتلاكها، وأنه ترك قرطبة إلى مصيرها، مؤملا أن يصمد أهلها للدفاع عنها، إلى أن يستطيع هو انقاذها فيما بعد (1). على أن هذه الروايات النصرانية لا تلقى في نظرنا أي ضوء مقنع على تصرف ابن هود. ومن جهة أخرى فإن الرواية الإسلامية تكاد تلزم الصمت المطبق في هذا الموطن. وكل ما هنالك أن صاحب روض القرطاس، يقدم إلينا خلال حديثه عن حوادث سنة 633 هـ وبعد ذكره لسقوط قرطبة، نصاً موجزاً يقول فيه: " وفيها (أي في سنة 633 هـ) انعقد الصلح بين ملك قشتالة، وابن هود لأربعة أعوام بأربع مائة آلاف دينار في السنة " (2). ويبدو من هذا النص أن الهدنة، بين ابن هود وبين فرناندو الثالث، كانت قد انتهت أو انقطع سريانها، لتخلف ابن هود عن أداء الإتاوة المشروطة أو غير ذلك من الأسباب، وأن التخلى عن إنجاد قرطبة ربما كان ضمن شروط الهدنة الجديدة، التي يشير إليها صاحب روض القرطاس، وهذا ما يمكن أن يستدل كذلك من سير الحوادث تحت أسوار المدينة المحصورة.
ذلك أن فرناندو الثالث شدد في حصار قرطبة، وقطع كل علائقها من جهة البر، ومن جهة الوادي الكبير، حتى لا تستطيع أن تتلقى أية مؤن أو أمداد من الخارج، وحتى لا يستطيع أن يدخلها أو يخرج منها أحد. واستمر هذا الحصار المرهق دون هوادة، حتى نضبت موارد المدينة وأقواتها أو كادت، وعندئذ اضطر أهل المدينة إلى مفاوضة ملك قشتالة في التسليم على أن يؤمنوا في أنفسهم، وفيما يستطيعون حمله من أموالهم، ووافق ملك قشتالة على هذا الشرط، ولكن أهل قرطبة علموا عندئذ أن الجيش القشتالي تنقصه المؤن، وأنه يعانى أيضاً من قلة الأقوات، فنكلوا عن توقيع عهد التسليم أملا في أن يضطر القشتاليون إلى رفع الحصار، وتنجو المدينة من السقوط. وعندئذ شعر ملك قشتالة أن لابن هود يداً في هذا التحول، فبعث في الحال إلى محمد بن الأحمر أمير جيان، وعقد معه عهداً جديداً بالتحالف، وقد كان ابن الأحمر بالرغم من عقد الهدنة مع ابن هود ما يزال هو خصمه، ومنافسه في رياسة الأندلس، وكان فوق ذلك خصيما لأهل قرطبة لأنهم طردوه من مدينتهم. وعندئذ شعر أهل قرطبة بخسران قضيتهم، وانهيار آمالهم، وعادوا إلى المفاوضة في التسليم، على شروطهم السابقة. وكان قد مضى على الحصار
_______
(1) Cronica General ; T. II. p. 783
(2) روض القرطاس ص 183.(4/423)
بضعة أشهر، وأضحى الموقف مستحيلا، خصوصاً بعد أن نكل ابن هود عن إنجاد المدينة المحصورة، وأحجم عن كل اشتباك مع القشتاليين. وكان بعض الغلاة من صحب ملك قشتالة من الأحبار والأشراف، يرون رفض التسليم واقتحام المدينة، وقتل كل أهلها المسلمين، ولكن ملك قشتالة ومعه فريق آخر من مستشاريه، كان يرى أن هذا الإجراء قد يدفع أهل المدينة إلى اليأس، وتخريب المدينة، ومسجدها الجامع، وتحطيم سائر ذخائرها وثرواتها. والظاهر أيضاً أن ابن الأحمر، حليف ملك قشتالة أو تابعه، كان له يد في إقناعه بقبول التسليم، وتأمين أهل المدينة. وفي نفس الوقت عقدت بين ملك قشتالة، وابن هود هدنة جديدة، لمدة ستة أعوام يلتزم فيها ابن هود بأن يدفع إتاوة قدرها اثنين وخمسين ألف مرافيدى على ثلاثة أقساط سنوية (1).
وهنا أيضاً، لا تقدم إلينا الرواية الإسلامية، أية تفاصيل شافية عن تسليم قرطبة ودخول النصارى إياها، وذلك حسبما فعلت بالنسبة لسقوط بلنسية، وكل ما تذكره في هذا الشأن كلمات موجزة، مثل " وتغلب عليها النصارى " أو " كان دخول النصارى مدينة قرطبة " أو " ملكها النصارى " أو ما شابه هذه العبارات من كلمات مقتضبة (2). وهنا أيضاً يجب أن نعتمد في ذكر هذه التفاصيل على الرواية النصرانية. فإنه ما كاد عهد التسليم يعقد بين أهل المدينة، وبين ملك قشتالة حتى ترك أهل قرطبة دورهم، وأوطانهم، وغادروا مدينتهم العزيزة التالدة، حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم، وقد برح بهم الجوع والحزن، وتفرقوا في أنحاء الأندلس الأخرى. وفي يوم الأحد الثالث والعشرين من شهر شوال سنة 633 هـ، الموافق 29 يونيه سنة 1236 م (3)، دخل الجند القشتاليون مدينة قرطبة، وفي الحال رفع الصليب على قمة صومعة جامعها الأعظم، ودخل أسقف أوسمة إلى الجامع، وحُول في الحال إلى كنيسة. وفي اليوم التالي، يوم الاثنين 30 يونيه دخل فرناندو الثالث ومن معه من الأشراف والكافة، قرطبة، ثم دخل الجامع، وهنالك استقبله أساقفة أوسمة، وبياسة، وقونقة، وسائر رجال الدين، وأقيم
_______
(1) J. Gonzalez: ibid ; p. 79 & 80 y notas
(2) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) في الترجمة 302، والبيان المغرب ص 322، وابن خلدون ج 4 ص 171، وروض القرطاس ص 183، والروض المعطار ص 158، ونفح الطيب ج 2 ص 585.
(3) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) ص 202.(4/424)
في الحال قداس شكر بورك فيه الملك. ومما تذكره الرواية النصرانية في هذا الموطن، أن الملك فرناندو أمر بأن تنزع النواقيس التي كان الحاجب المنصور قد أخذها من كنيسة شنت ياقب (سنتياجو) حين غزوه لمدينة شنت ياقب في سنة 387 هـ (997 م) وحملها الأسرى النصارى على كواهلهم حتى قرطبة، وهنالك جعلت رؤوسا للثريات الكبرى بالجامع - أمر بأن تنزع هذه النواقيس، وأن يحملها الأسرى المسلمون على كواهلهم، إلى شنت ياقب، لترد هنالك إلى أمكنتها بالكنيسة الكبرى (1). ثم سار الملك بعد ذلك إلى قصر قرطبة، القريب، وهو قصر الأمراء والخلفاء الأمويين القدماء، ونزل فيه، وندب لحكم المدينة المفتوحة الدون تليو ألفونسو، وحشدت لحراسة المدينة حامية كافية من الفرسان، وأخذ النصارى يفدون إليها من سائر الأنحاء لسكناها وتعميرها، وفق الخطة التي وضعها الملك لذلك، وانصرف ملك قشتالة، عائداً إلى بلاده (2).
وهكذا سقطت قرطبة، عاصمة الخلافة القديمة، وكبرى قواعد الأندلس، ومثوى العلوم والآداب الأندلسية، وذلك بعد أن حكمها المسلمون، منذ افتتاحها في سنة 92 هـ (711 م) خمسمائة وخمسة وعشرين عاماً، وبعد أن لبثت قرونا منارة ساطعة، تبث أضواء علومها وفنونها، في سائر أنحاء شبه الجزيرة، وفيما وراء جبال البرنيه. ومن الغريب المحزن، أن الرواية الإسلامية لا تكاد ترثى قرطبة إلا بمقتضب الكلم، وأن الشعر الأندلسي وكذلك النثر، لا يخصانها بشىء من تلك القصائد الرنانة المؤسية، وتلك الرسائل البليغة المبكية، التي يخصان بها قواعد مثل طليطلة، وبلنسية، وإشبيلية. وربما كان سبب ذلك أنه لم يكن ثمة بقرطبة، عند سقوطها، كتاب وشعراء مثل ابن الأبار، وأبي المطرِّف بن عميرة المخزومي، وإبراهيم بن سهل الإشبيلي.
ومن الواضح أن سقوط قرطبة، كان نذيراً بخضوع معظم البلاد والحصون القريبة، لسلطان النصارى. ومع أن ملك قشتالة لم يضع يده نهائياً على تلك البلاد والحصون، إلا أنها خضعت جميعاً لطاعته، وتعهدت بأداء الجزية، والسماح بإقامة حاميات نصرانية بها. وكان من هذه البلاد والحصون، إستجة، والمدور، وإشتبة، وبيانة، وأجيلار (بلاى) ومرشانة وقبرة وأشونة، واللسانة، ومورور وغيرها.
_______
(1) Cronica General (Ed. Pidal) ; p. 734
(2) J. Gonzalez: ibid ; p. 80 & 81 y notas(4/425)
- 3 -
لما جددت الهدنة بين ملك قشتالة، وابن هود، وانتهت المأساة بتخلى ابن هود عن إنجاد قرطبة، لتسقط بعد ذلك بقليل في أيدي النصارى، غادر ابن هود في قواته مدينة إستجة. وليس في الرواية ما يبين لنا اتجاهه، وخط سيره في تلك الآونة. بيد أنه وجّه بعد ذلك بقليل، في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 634 هـ، إلى نوابه وعماله في مختلف القواعد التي تدين بطاعته، كتابا يحثهم فيه على تقوى الله، ومراعاة أحكامه وحدوده، والاقتداء بالسلف الصالح، والحرص على صون الدماء، وحقنها، وعدم إراقتها إلا بمسوغ شرعى، واختيار المشرفين على الأموال من ذوى العفة والنزاهة والدين، لأن حرمة الأموال مشبهة بحرمة الدماء، وأن تكون معاملة الناس في الحق سواء، دون محاباة ولا مفاضلة، ولا مجاوزة في تغليب قوي على ضعيف، ولا يؤخذ أحد بجريمة غيره، وأن يجرى العمل باتباع أحكام كتاب الله، وأن يتلى كتابه هذا على الناس جملة وتفصيلا (1).
ولسنا نعرف شيئاً عن حركات ابن هود وأعماله في الأشهر التالية، ولكنا ْنراه يتجه في قواته نحو ثغر ألمرية في أوائل سنة 635 هـ. وكانت ألمرية في مقدمة البلاد التي نادت بطاعته، ودعا له بها أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي يحيى الرميمى، وهو حفيد واليها السابق أبي يحيى الذي افتتحها النصارى من يده، في سنة 542 هـ، واستردها الموحدون بعد ذلك أيام الخليفة عبد المؤمن بن علي في سنة 552 هـ. ولما دعا أبو عبد الله لابن هود بألمرية، قصد إليه بمرسية، فولاه ابن هود وزارته، وصرف إليه أموره، فأبدى غيرة في خدمته، وأقنعه بأن يحصن ألمرية، وأن يجعل منها مثوى له، يلجأ إليه عند الحاجة، ثم تولى الرميمى شئون ألمرية، واستبد بها، ولبث أثيراً عند ابن هود وموضع ثقته، وكان يدعى بذى الوزارتين. وتختلف الرواية في أمر البواعث التي حدت بابن هود إلى أن يقصد إلى ألمرية بعد أن ترك قرطبة لمصيرها، فهناك قول بأنه كان يقصد السير بقواته إلى بلنسية لإنجاد صاحبها أبي جميل زيان، وأنه كان يزمع أن ينقل جنده بالسفن من ألمرية إلى بلنسية، وهذا قول الرواية النصرانية، متمشياً مع ما سبق ذكره من قولها، إن أبا جميل زيان بعث إلى ابن هود يستغيث به وهو في
_______
(1) أورد لنا صاحب البيان المغرب نبذة طويلة من هذا الكتاب (ص 332 - 335).(4/426)
إستجة، وأن ابن هود قرّر أن يستجيب إلى هذا الصريخ، لأنه كان يطمح إلى امتلاك بلنسية. بيد أنه يبدو من الأرجح أن ابن هود كان يقصد إلى العمل، على توطيد سلطانه في المنطقة الجنوبية، خصوصاً وقد كانت غرناطة تضطرم يومئذ بالثورة عليه وتنادى بخلع طاعته، حسبما نبين بعد، وأنه سار إلى ألمرية أولا لينظم خطة العمل. ثم إن الرواية الإسلامية تقدم إلينا تعليلا آخر، هو أن ابن هود كانت له جارية إسبانية رائعة الحسن. من بنات الأشراف، وكان قد أودعها لدى الرميمى بألمرية خشية أن يتسرب خبرها إلى زوجته، فشغف بها الرميمى، واستأثر بها، فنمى ذلك إلى ابن هود، فسار إلى ألمرية، وهو يضمر معاقبة الرميمى، فلما وصل إلى ظاهر ألمرية، استقبله الرميمى بمنتهى الحفاوة ودعاه إلى قصره، ليقوم بحقه، وليجتمع هنالك بجاريته الحسناء، فقبل ابن هود دعوته، ولما حل بالقصر على مأدبة حافلة، كان ابن الرميمى قد دبر أمره للقضاء عليه متى جن الليل، فقيل إنه دس عليه بالحمام أربعة من رجاله قضوا عليه، وقيل إنه قتله خنقاً بمخدتين أقعدهما على نفسه وفيه. وهكذا لجأ الرميمى إلى الجريمة احتفاظا بسلامته وسلطانه. وفي صباح اليوم التالي أعلن وفاة ابن هود، وأنه توفي فجأة من صرع أصابه، ووضعت جثته في تابوت أرسل بحراً إلى مرسية، وكان مصرع ابن هود على هذا النحو في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 635 هـ (21 يناير 1238 م) (1).
واستمر الرميمي على رياسته لألمرية فترة أخرى حتى انتزعها منه ابن الأحمر. وهكذا توفي محمد بن يوسف بن هود المتوكل، وهو في ذروة سلطانه، ومشاريعه، وانهارت بوفاته دولته التي لم يطل أمدها سوى تسع سنين وبضعة أشهر، والتي كانت تبشر حين قيامها، بعهد جديد من الإحياء والاستقرار يالنسبة للأندلس. وكانت ثورة ابن هود وحركته، رمزاً لتلك الأمنية القديمة، التي اتخذت من قبل شعاراً لمختلف الثورات التي قامت ضد المرابطين في نهاية عهدهم، والتي اضطلع بها محمد بن سعد بن مردنيش، في أوائل عهد الموحدين وهي العمل على تحرير الأندلس من نير حكامها الأجانب، وكان ابن هود في الوقت الذي يعمل فيه لتدعيم سلطانه، وزعامته، مخلصاً لدعوته، وغايته في
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 335 و 336، والمقرى في نفح الطيب ج 2 ص 581 و 582. ويقول ابن الأبار إن مصرع ابن هود وقع في السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 635 هـ (الحلة السيراء ص 249).(4/427)
جمع كلمة الأندلس تحت لواء قومي جديد، والذود عما بقى من أراضيها وقواعدها ضد تيار الفتح النصراني، وكان الانحلال المؤلم الذي انتهت إليه الأندلس في أواخر عهد الموحدين، وتراخى الموحدين في الدفاع عنها، واهتمامهم بشئونهم الخاصة، واتخاذهم من الأندلس أداة للتطاحن والمساومة مع النصارى، تحقيقاً لمطامعهم الخاصة - كان ذلك كله مما يسبغ على حركة ابن هود ودعوته قوة، ورجحانا، ولكن ابن هود لم يكن بصفاته وموارده كفؤا للمهمة العظيمة، التي اضطلع بها، وكانت تعتور جهوده نفس المثالب القديمة، التي كانت تصدع دائماً من جهاد الزعماء الأندلسيين، والتي كانت تجتمع في مصانعة النصارى، ومساومتهم على حساب المصالح القومية. ولم يكن ابن هود أيضاً بالرغم من إخلاصه لقضية الأندلس، يتمتع بمثل تلك المواهب اللامعة التي كان يتمتع بها زميله ومنافسه محمد بن الأحمر، من الروية والدهاء وحسن السياسة، بل كان بالعكس حسبما يخبرنا ابن عذارى، بطبعه ملولا عجولا. وكان شجاعاً كريماً وفياً، متوكلا على الله، ولكنه كان قليل المبالاة بالأمور محدود الأفق، غير موفق في آرائه وخططه لتسرعه وغلبة الخفة عليه، ولقائه أعداءه دون روية واستعداد، فكان ذلك مما يعوق نجاحه في أحيان كثيرة (1).
وإذا كانت الرسائل السلطانية، تلقى من جهة أخرى ضوءاً خاصاً على أخلاق ابن هود وسياسته، فإنا نستطيع أن نقول إنه كان يتجه في حكمه إلى توطيد العدل وقمع الظلم، والرفق بالرعية، وذلك بالاستناد إلى رسالته التي وجهها في سنة 634 هـ، إلى الولاة، يوصيهم فيها بالمحافظة على أحكام الشريعة، وتوخى الحق، والعمل على صون الدماء، والتحوط ضد قتل المسلم، وعزل العمال الظلمة غير الأمناء، وأن تطبق المساواة في الحق على الجميع (2)، وكذلك بالاستناد إلى رسالة أخرى كتبها عنه أبو عبد الله بن الجنان، إلى أحد ولاة المدن، يقول فيها إنه وقف على كتابه في طلب تحصين هذه المدينة وتأمينها، وأنه مع موافقته على ذلك، يهيب به أن برفع ما يقع بالناس من الحيف وضرر الخدمة، وأنه لابد من اتباع الرفق مع الناس، وإيثار العدل في معاملتهم (3).
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص 278.
(2) تراجع هذه الرسالة في البيان المغرب ص 332 - 335.
(3) تراجع هذه الرسالة في صبح الأعشى ج 7 ص 34 و 35.(4/428)
وكان لوفاة ابن هود وقع عميق في الأندلس، ولاسيما في الشرق مركز دعوته ومثوى رياسته. ولما وصل نبأ وفاته إلى مرسية، اجتمع أهلها على مبايعة ولده وولي عهده أبي بكر بن محمد بن يوسف بن هود، وكان أبوه قد اختاره حسبما تقدم لولاية عهده منذ سنة 629 هـ، ولقبه بالواثق، وأطاعته بلاد الشرق التي كانت تحت طاعة أبيه (1).
ويقول لنا ابن الأبار من جهة أخرى، إنه لما توفي ابن هود، كان على رياسة مرسية أخوه علي بن يوسف الملقب بعضد الدولة (2). وعلى أي حال فإن رياسة بني هود لمرسية، لم يطل أمدها، حسبما نفصل بعد في موضعه.
وأما في غربي الأندلس فقد كان لاختفاء ابن هود من الميدان صدى كبير في إشبيلية وكان من أثره أن وقع بالمدينة تحول جديد خطير، بعودها إلى طاعة الموحدين. ففي شوال سنة 635 هـ، أعلن أهل إشبيلية، بزعامة أبي عمرو بن الجد طاعتهم للخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد، وقدموا للولاية عليهم أبا عبد الله بن السيد أبي عمران، وكان قد لجأ مع أخويه أبي زيد وأبي موسى إلى إشبيلية، بعد أن قتل والدهم السيد أبو عمران في إفريقية، وأقاموا بها في ظل ابن هود. وسار إلى مراكش وفد من أهل إشبيلية ليقدم بيعتها إلى الخليفة، وأقر الخليفة السيد أبا عبد الله على ولايتها. وحدث مثل هذا التحول في ثغر سبتة، وكانت قد خلعت طاعة الموحدين منذ سنة 630 هـ، فلما مر وفد أهل إشبيلية في سفنه بها في طريقه إلى مراكش، قام أهلها أيضاً بإعلان طاعتهم للخليفة الرشيد، وبعثوا إلى مراكش وفداً لتقديم بيعتهم. وكان لهذا التحول الذي وقع بعود إشبيلية وسبتة، إلى طاعة الدولة الموحدية، رنة فرح واستبشار في مراكش، وأحيط مقدم الوفدين الإشبيلي والسبتى إلى الحاضرة بأعظم مظاهر الترحاب والتكريم، ومما زاد في ارتياح البلاط الموحدي، ما قام به أهل إشبيلية من القبض على عمر بن وقاريط زعيم هسكورة السابق، الثائر على الدولة الموحدية، وإرساله إلى المغرب، وكان بعد هزيمته، قد لجأ إلى إشبيلية، في ظل ابن هود (3). وسوف نعود إلى تفصيل ذلك في موضعه المناسب.
_______
(1) البيان المغرب ص 377.
(2) الحلة السيراء ص 250.
(3) البيان المغرب - ص 337 و 339.(4/429)
- 4 -
وكان محمد بن يوسف بن الأحمر، خلال ذلك، يرقب الحوادث، فلما توفي ابن هود، أدرك أن الفرصة قد سنحت للعمل على اجتناء تراثه في الأندلس الوسطى، وهي التي كان ابن الأحمر يسيطر منها على المنطقة الشمالية، وكان مقصده الأول، مدينة غرناطة قاعدة المنطقة الجنوبية. وكان ابن هود قد ولّى عليها عتبة بن يحيى المغيلى، وكان عتبة رجلا فظا ظلوما جائراً، يبغض ابن الأحمر ويأمر بسبه على المنابر، فلما اشتدت وطأته على أهل المدينة، ثار عليه جماعة من أشرافها، بزعامة ابن خالد، واقتحموا القصبة والقصر في عصبتهم، وقتلوا عتبة، وأعلنوا طاعتهم لابن الأحمر، وبعثوا إليه يستدعونه، لتولى الرياسة عليهم، فكانت فرصة مواتية لابن الأحمر. فبادر بالسير إلى غرناطة في جمع من صحبه، ونزل بخارجها في البداية مبالغة في التحوط والطمأنينة. ثم دخلها من الغد عند مغيب الشمس، في يوم من أواخر رمضان سنة 635 هـ (أبريل سنة 1238 م) وهو يرتدى ثيابا خشنة وحلة مرقعة، وقصد إلى مسجد القصبة، وأم الناس لصلاة المغرب. ثم غادر المسجد إلى قصر باديس، والشموع بين يديه، ونزل فيه مع خاصته. وغدت غرناطة من ذلك اليوم حاضرته، ومقر حكمه، بدلا من جيّان، التي كان يهددها النصارى باستمرار (1).
وما كاد ابن الأحمر يستقر في غرناطة، حتى اعتزم أن يسير إلى ألمرية لافتتاحها، وسحق ابن الرميمى وزير ابن هود وقاتله، فسار إليها في بعض قواته، وحاصرها من ناحية البر بشدة، ولبث على حصارها حينا، فلما رأى ابن الرميمى أنه لا أمل له في النجاة من مصيره، غادر ألمرية من جهة البحر، في مركب شحنه بأهله وأمواله، وسار إلى تونس، حيث لجأ إلى أميرها أبي زكريا الحفصى، واستقر بها تحت كنفه ورعايته (2).
وكان استيلاء ابن الأحمر على ألمرية في أواخر سنة 635 هـ، وكانت قد أطاعته من قبل من القواعد الجنوبية شريش ووادي آش، ثم نادت بطاعته مالقة، في العام التالي (636 هـ)، وقدم إلى غرناطة وفد من أعيانها يقدم إليه بيعتها، وكانت من إنشاء أديبها الكبير ابن عسكر، فولاه ابن الأحمر قضاءها (3).
_______
(1) البيان المغرب ص 336 و 337، واللمحة البدرية لابن الخطيب ص 35، وابن خلدون ج 4 ص 170، والذخيرة السنية ص 60.
(2) البيان المغرب ص 337.
(3) البيان المغرب ص 345.(4/430)
وهكذا كانت ترتسم باستيلاء ابن الأحمر على غرناطة وألمرية ومالقة، حدود المملكة الإسلامية الجديدة، التي شاء القدر أن يكون هو منشؤها في شبه الجزيرة الأندلسية، والتي غدت غرناطة، مذ نزل بها، قاعدتها وحاضرتها. وكانت هذه الدولة الإسلامية الجديدة، وهي التي اجتمعت في ظلالها، أشلاء الأندلس المنهارة، والتي انكمشت أطرافها فيما وراء نهر الوادي الكبير جنوبا وشرقا، تحتل رقعة متواضعة، تمتد من جيّان وبياسة، وإستجة، جنوبا حتى البحر، وشرقا حتى ألمرية وبيرة، وغربا حتى مصب الوادي الكبير، ويخترقها من الوسط نهر شَنيل، ثم جبال سييرّا نفادا وهضبات البشرّات. على أن هذه المملكة الصغيرة وهي الدولة النصرية أو مملكة غرناطة، آخر دول الإسلام بالأندلس، كانت بالرغم من صغر رقعتها، وبالرغم من مواردها المحدودة، جديرة بأن ترث تراث الأندلس الكبرى، وقد شاء القدر أن تبقى في شبه الجزيرة الإسبانية، زهاء مائتين وخمسين عاما أخرى، مستودعا لعبقرية الأمة الأندلسية، وعلومها وفنونها، تحمل مشعل حضارتها وضّاء، في تلك الأوطان الأندلسية القديمة، وتضطلع في نفس الوقت، بذلك الكفاح القديم الخالد، ضد إسبانيا النصرانية، إلى أن تلقى مصرعها في النهاية أبية كريمة شهيدة.
وبالرغم من توطد أمر ابن الأحمر، وتمكن سلطانه في الأقاليم الوسطى والجنوبية، فإنه لبث مدى حين يشعر بأنه مازالت تنقصه صفة الرياسة الشرعية. وقد رأينا فيما تقدم كيف عقد الصلح مع المتوكل ابن هود، واعترف بطاعته (631 هـ). فلما توفي ابن هود، اتجهت أنظاره إلى الانضواء تحت لواء الدولة الموحدية، وذلك بالرغم من انهيار سلطانها بالأندلس، وأعلن بيعته للخليفة الرشيد، وأخذ له البيعة على أهل غرناطة ومالقة وجيان وسائر البلاد التي كانت تحت طاعته، وبعت إلى الرشيد ببيعته، وذلك في سنة 637 هـ (1239 م). فتقبلها الرشيد بالشكر والرضى (1). واستمر على طاعته للخلافة الموحدية طوال خلافة الرشيد، وقنع الرشيد منه بالدعاء في الخطبة. ولكنه لما توفي الرشيد سنة 640 هـ، قطع دعوة الخلافة الموحدية، واتجه إلى الدولة الحفصية بإفريقية، وأعلن طاعته للأمير أبي زكريا الحفصى، وبعث ببيعته إلى تونس مع أبي بكر بن عياش شيخ مالقة، وأبي جعفر التنزولى، فبعث
_______
(1) البيان المغرب ص 355.(4/431)
إليه الأمير أبو زكريا قدراً كبيراً من المال برسم المعاونة على الجهاد (1). واستمر ابن الأحمر على طاعته للدولة الحفصية ردحا طويلا من الزمن، وجدد بيعته بعد ذلك للأمير المستنصر ولد الأمير أبي زكريا، وذلك في سنة 664 هـ، وبعث إليه المستنصر بطريق البحر هدية وأموالاً (2).
ولبث محمد بن الأحمر يعمل بهمة وإقدام، على توسيع مملكته وتوطيد سلطانه، ولكنه كان يشعر دائما بخطر النصارى، ويرقب حركات فرناندو الثالث ملك قشتالة في توجس وحذر. والواقع أن سائر القواعد الوسطى، ولاسيما جيان وأحوازها، قد أضحت منذ سقوط قرطبة، تحت رحمة القشتاليين. وكان فرناندو الثالث قد بعث بالفعل جيشاً بقيادة ولده ألفونسو، فعاث في منطقة جيان، واستولى على حصن أرجونة، موطن ابن الأحمر وقومه (بني نصر)، وعدة حصون ومواضع أخرى من أملاك ابن الأحمر، ثم زحف القشتاليون جنوبا صوب غرناطة ذاتها، وضربوا حولها الحصار، ولكنهم ردوا عن أسوارها بخسارة فادحة، وذلك في سنة 642 هـ (1244 م). وفي العام التالي عاد القشتاليون فزحفوا على مدينة جيان وحاصروها، ولكنها صمدت ضدهم مرة أخرى.
فلما رأى ابن الأحمر تفاقم عدوان القشتاليين، وخطورة اندفاعهم نحو أراضيه، وأيقن أنه من العبث أن يبدد موارده وقواه في صراع لا تؤمن عواقبه، عول على أن يسلك سبيل المصانعة والتقرب من ملك قشتالة، وأن يشترى سلامه وسلام مملكته، بمهادنته والخضوع له. وقد لخصت لنا الرواية الإسلامية مجمل هذا الصلح، الذي عقد بين ابن الأحمر وبين ملك قشتالة، وذلك في أواخر سنة 643 هـ (فبراير 1246 م)، وخلاصته أن يعقد الصلح بينهما لمدة عشرين سنة، وأن يسلم ابن الأحمر لملك قشتالة مدينة جيان، وما يلحق بها من الحصون والمعاقل، وأن ينزل له عن أرجونة وبيغ والحجار وقلعة جابر وأرض الفرنتيرة، ولم تدخل في هذا الصلح مدينة إشبيلية، ولا مدينة شريش (3). وتزيد الرواية النصرانية على ذلك إن ابن الأحمر اعترف بمقتضى هذه المعاهدة بالطاعة لملك قشتالة على سائر ما يحكمه من الأراضي، وتعهد بأن يؤدي إليه جزية سنوية قدرها مائة وخمسون ألف
_______
(1) البيان المغرب ص 356.
(2) الذخيرة السنية ص 125.
(3) البيان المغرب ص 367، والذخيرة السنية ص 72 و 73، وابن خلدون ج 7 ص 190.(4/432)
مرافيدي، وأن يعاونه في حروبه ضد أعدائه، وأن يشهد اجتماع الكورتيس (مجلس قشتالة النيابى) كل عام باعتباره من الأمراء التابعين للعرش (1).
وهكذا استطاع ابن الأحمر أن يعقد السم مع ملك قشتالة القوي بهذا الثمن الفادح. بيد أنه استطاع في ظل هذا السلم، المشوب بكدر الخضوع والمهانة، أن ينصرف إلى العمل على توطيد مملكته وتنظيم شئونها، وتنمية مواردها.
واستطاع ملك قشتالة من جانبه، أن ينصرف إلى فتوحاته في أراضي الأندلس التي لم يشملها هذا الصلح، وهي الواقعة في غربي مملكة غرناطة، وكانت أعظمها حاضرة إشبيلية قاعدة غربي الأندلس كله، وقد استولى عليها فرناندو الثالث في 27 رمضان سنة 646 هـ (23 نوفمبر 1248 م) بعد حصار طويل وذلك حسبما نفصل بعد في موضعه، وكان أشد ما في حوادث هذا الحصار إيلاما للنفس، هو أن ابن الأحمر اضطر أن يشترك فيه مع القشتاليين بقوة من فرسانه، تنفيذاً للعهد الذي قطعه على نفسه في معاهدة الصلح مع ملك قشتالة. وفي الرواية الإسلامية ما يدل على أنه كان في كل عام يسعى إلى الاجتماع بملك قشتالة، وفقاً لنصوص هذه المعاهدة، باعتباره من الأمراء الخاضعين لطاعته (2).
وكان ابن الأحمر حينما شعر بتوطد سلطانه، واستقرار الأمور في مملكته، قد اختار لولاية عهده ولده الأمير أبا سعيد فرج بن محمداً بن يوسف بن نصر. ولكن هذا الأمير توفي في سنة 652 هـ (1254 م) (3) فلبثت ولاية العهد شاغرة نحو ثلاثة أعوام. ثم اختار ابن الاحمر لولاية عهده ولده محمداً الملقب بالفقيه، وذلك في سنة 655 هـ (1257 م)، وهو الذي خلفه بعد وفاته على عرش غرناطة (4).
وفي سنة 659 هـ ساءت العلاقات بين ابن الأحمر وبين الفقيه أبي القاسم العزفى صاحب سبتة، لأسباب لم تذكرها الرواية، فسير ابن الأحمر سفنه لغزو سبتة. فخرجت من الجزيرة الخضراء بقيادة أمير البحر ظافر، ونفذت إلى مياه سبتة،
_______
(1) Cronica General (Ed. Pidal) Vol. 1 p. 746. وكذلك J. Gonzalez: ibid ; p. 95
(2) البيان المغرب ص 410.
(3) الذخيرة السنية ص 88.
(4) البيان المغرب ص 415.(4/433)
وأخذت في مهاجمتها والتضييق عليها، فأمر العزفى قائد أسطوله أبا العباس الرنداحي أن يخرج في سفنه لردها. ووقعت بين الفريقين معركة بحرية، هزمت فيها السفن الأندلسية وقتل قائدها ظافر، وحملت رأسه إلى سبتة، وطيف بها، وسمى هذا العام في سبتة بعام ظافر (1). ثم هدأت الأحوال بعد ذلك، ولم يفكر ابن الأحمر في استئناف محاولته ضد سبتة.
ولما اقترب أجل انتهاء معاهدة التهادن والسلم المعقودة بين ابن الأحمر ومملكة قشتالة، وقد عقدت حسبما تقدم في سنة 643 لمدة عشرين عاما، سار ابن الأحمر في أوائل سنة 662 هـ (1264 م) لمقابلة ملك قشتالة في إشبيلية، وهو يومئذ ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم، وكان قد خلف أباه فرناندو الثالث في الملك عقب وفاته في مايو سنة 1252 م، ليسعى لديه في تجديد المعاهدة. وكان معه صهراه الزعيمان أبو محمد وأبو اسحق ابنا أشقيلولة، وقوة من خمسمائة فارس. فخرج إليه ألفونسو ودعاه لزيارته داخل المدينة، فاستجاب ابن الأحمر، ودخل إشبيلية مع صهريه وثلة من فرسانه، ونزل بالعبادية من أحيائها. ولكنه سرعان ما نمى إليه أن النصارى، قد سدوا الدروب الموصلة إلى مكانه ليلا بالخشب المسمرة، وذلك لكي تعيق سير الخيل، فخشى البادرة على نفسه، وخرج في الحال مع صحبه، واقتحموا تلك الدروب، وغادر ابن الأحمر إشبيلية مغضباً، وقد شعر بنية الغدر والخيانة، ولم يقنع بما أبداه له ألفونسو من أعذار وإيضاحات. ومر في طريقه إلى غرناطة بشذونة (مدينة ابن السليم) (2)، وغيرها، وهو يوصى أهلها بالأهبة والتحرز من غدر النصارى، وكان هذا الحادث سبباً في فساد العلائق بين غرناطة وقشتالة (3).
والواقع أن ابن الأحمر كان يعتزم في قرارة نفسه، أن ينتهز أول فرصة للتحرر من ذلك الغل المهين، الذي صفدته به معاهدته مع قشتالة، بيد أنه كان يرى من جهة أخرى أنه لا يستطيع بمفرده أن يناهض قوة قشتالة الضخمة المتزايدة. وقد كشف ألفونسو العاشر نفسه عن نيات قشتالة العدائية، بزحفه في نفس العام (662 هـ) على غرناطة ومضايقتها أياما (4). وبالرغم من أنه لم ينل منها مأربا،
_______
(1) البيان المغرب ص 431.
(2) شذونة أو مدينة ابن السليم هي بالإسبانية Medina Sedonia
(3) البيان المغرب ص 437 و 438.
(4) الذخيرة السنية ص 111.(4/434)
فإن ابن الأحمر قد أخذ على ضوء هذه الحركة، يدرس وسائل المقاومة والصمود في وجه العدوان القشتالي. وكان تطور الحوادث في الأندلس شرقيها وغربيها، وتفاقم محنتها، وتوالى سقوط قواعدها في أيدي العدو، قد أخذ يحدث صداه قويا في الضفة الأخرى من البحر، في المغرب، حيث أخذ نجم الدولة المرينية يتألق، وتبدو ضخامة حشودها وقواتها ومواردها، مشجعة على الالتجاء إليها، وطلب إنجادها وغوثها. وكانت النجدات الأولى من متطوعي بني مرين قد أخذت تعبر إلى شبه الجزيرة، وفي مقدمتها جملة يقودها عامر بن إدريس بن عبد الحق، نزلت مدينة شريش وأخرجت النصارى من قصبتها (أواخر 662 هـ). وقامت في داخل المغرب حركة قوية للحث على إنجاد الأندلس وتداركها، قبل أن يفوت الوقت ويتم العدو القوي الإجهاز عليها، واشترك في هذه الحركة شعراء نظموا القصائد المبكية مثل أبي الحكم مالك بن المرحل، وعلماء أدباء توجهوا برسائلهم البليغة، مثل أبي القاسم العزفي صاحب سبتة (1). بيد أنه كان لابد أن تمضي بضع سنوات أخرى حتى تؤتى هذه الحركة ثمارها العملية، ويعبر بنو مرين بقواتهم الجرارة إلى شبه الجزيرة.
وفي تلك الأثناء كان ابن الأحمر يعانى من عدوان القشتاليين وغاراتهم المتوالية. فلما تفاقم أمر هذه الغزوات، وزحف القشتاليون على غرناطة للمرة الثانية (664 هـ) ورأى ابن الأحمر أنه عاجز عن رد هذا البلاء، اضطر أن يتقدم خطوة أخرى، في سبيل طلب المهادنة والسلم، وأن يبذل لتحقيق هذه الغاية مزيداً من التضحية، فعقد مع ألفونسو العاشر ملك قشتالة في أواخر سنة 665 هـ (1267 م) معاهدة صداقة وسلم جديدة، نزل له بمقتضاها عن عدد كبير من البلاد والحصون، منها شريش والمدينة (مدينة شذونة) والقلعة وغيرها، وقيل إن ما أعطاه ابن الأحمر بمقتضى هذا الصلح لملك قشتالة من البلاد والحصون الإسلامية المسورة، بلغ مائة وخمس من بلاد غرب الأندلس (2).
وقد أذكى هذا الانهيار الفادح لصرح الوطن الأندلسي، وما أصابه من فقد معظم قواعده التالدة، في نحو ثلاثين عاما فقط، لوعة الشعر والأدب، ونظم شاعر العصر، أبو الطيب صالح بن شريف الرندي، مرثيتة الشهيرة في رثاء الأندلس، وبكاء قواعدها الذاهبة، وهي قصيدة ماتزال إلى يومنا تهز أوتار القلوب أسى، وهذا مطلعها:
_______
(1) راجع كتابى " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، الطبعة الثانية ص 40 و 41.
(2) الذخيرة السنية ص 125 و 127.(4/435)
لكل شىء إذا ما تم نقصان ... فلا يُغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته أزمان (1)
وقضى محمد بن الأحمر الأعوام الستة الباقية من حكمه، في توطيد مملكته وتنظيم شئونها، وتوفي في التاسع والعشرين من جمادى الثانية سنة 671 هـ (ديسمبر 1272 م) عقب جرح أصابه في معركة خاضها ضد جماعة من الخوارج عليه، وقد قارب الثمانين من عمره.
وكان هذا الرجل العبقري، مؤسس مملكة غرناطة، آخر دول الإسلام بالأندلس، يتمتع بخلال باهرة، من الشجاعة والإقدام، والمقدرة، وشغف الجهاد، هذا إلى جم البساطة والتواضع. ويقدم إلينا ابن الخطيب مؤرخ الدولة النصرية عنه وعن خلاله هذه الصورة المؤثرة: " كان هذا الرجل آية من آيات الله في السذاجة، والسلامة والجمهورية، جنديا، شهماً، ثغريا أيداً، عظيم التجلد، رافضاً للدعة والراحة، مؤثراً للتقشف، والاجتزاء باليسير، متبلغاً بالقليل، بعيداً عن التصنع، جافى السلاح، شديد العزم، موهوب الإقدام، عظيم التشمير، محتقراً للعظمة، مصطنعاً لأهل بيته، فضاً في طلب حظه، حاميا لقرابته وأقرانه وجيرانه، مباشراً للحروب بنفسه، تتغالى الحكايات في سلاحه وزينة ديابوزه، يخصف النعل، ويلبس الخشن، ويؤثر البداوة، ويستشعر الجد في أموره " (2).
وقد رأينا أن نكتفى هنا بما تقدم من الشذور الموجزة عن قيام مملكة غرناطة، وعن حياة منشئها العبقري محمد بن الأحمر. ذلك أننا قد سبق أن تناولنا قصة مملكة غرناطة، وقصة بنائها كاملة، في كتابنا " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، وكان جل غايتنا في كتابنا الحالى أن نصل بتاريخ الأندلس إلى حيث بدأنا بتاريخ مملكة غرناطة.
_______
(1) راجع هذه القصيدة بأكملها في الذخيرة السنية ص 127 - 129، وفي نفح الطيب ج 2 ص 594 و 595، وفي أزهار الرياض ج 1 ص 47 - 50. وراجع كتابى " نهاية الأندلس " ص 53 هامش. وفي ترجمة الرندي ص 438 و 439.
(2) كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة (المطبوع) ج 2 ص 61.(4/436)
الفصل الثالث سقوط بلنسية وقواعد الشرق
أبو جميل زيان يوطد سلطانه في بلنسية. استيلاؤه على دانية. خروجه لغزو أراضي أراجون. مشروع ملك أراجون لافتتاح بلنسية. إعلانه الصفة الصليبية لهذا الفتح. بداية حرب بلنسية. استيلاء الأرجونيين على آرش. انضمام السيد أبي زيد لجيش الغزو الأرجونى. حصار ملك أراجون لبريانة وأخذها. استيلاؤه علي بنشكلة وعدة حصون أخرى. سقوط قسطلونة. سقوط مونكادة ومشروس. حصن أنيشة وأهميته. هدمه واحتلال الملك خايمى لموقعه. تأهب زيان لمدافعته. موقعة أنيشة. هزيمة المسلمين ومصرع كثير من علمائهم. مصرع أبي الربيع سليمان كبير علماء الأندلس. رثاء ابن الأبار له. تعجيل خايمى بالاستعداد لفتح بلنسية. اجتماع الكورتيس وحشد الجنود. مسيره في قواته صوب بلنسية. تسليم حصون بلنسية الأمامية. تضخم جيش الفتح. حشود الأحبار والمتطوعة. محاصرة خايمى لبلنسية. سوء الأحوال داخل المدينة. اعتزام المقاومة. استنجاد زيان بالقواعد القريبة. اتجاهه إلى الاستنصار بأمير إفريقية. إرساله كاتبه ابن الأبار سفيراً إليه. قصيدة ابن الأبار في صريخ الأندلس. اهتمام الأمير أبي زكريا. إرساله أسطولا لإنجاد بلنسية. عجز هذا الأسطول عن الاتصال بالمدينة المحصورة. تفريغه لشحنته في دانية. اشتداد محن الحصار على بلنسية. اضطرار زيان إلى المفاوضة في التسليم. لقاؤه للملك خايمى. ما كتبه ابن الأبار عن وصف اللقاء وشروط التسليم. ما تقوله الرواية النصرانية في ذلك. جلاء المسلمين عن بلنسية. خايمى الفاتح وأكابر الأحبار يدخلونها. خواطر عن سقوط بلنسية. سقوطها يذكى فجيعة الشعر والنثر. شىء من رثاء ابن الأبار. بعض ما قاله أبو المطرف بن عميرة. شىء من نظمه في ذلك. قصيدة أخرى موجهة إلى أمير إفريقية. مرسوم الخليفة الرشيد بالتصريح لأهل بلنسية وقواعد الشرق بالنزول في رباط الفتح. مسير الأمير زيان إلى جزيرة شقر ثم إلى دانية. نزوح ابن الأبار إلى تونس. اتجاه زيان إلى مرسية. أحوال مرسية بعد وفاة ابن هود. أبو بكر عزيز بن عبد الملك بن خطاب ينتزع رياستها. استدعاء بعض أهلها لزيان. قدومه إلى مرسية. قبضه على ابن خطاب وإعدامه. دعوته لأمير إفريقية. رسالته إلى الأمير في ذلك. استخدامه لابن عميرة في منصب الكتابة. محاولة عقد السلم مع ملك قشتالة. خروج محمد ابن هود عليه. مغادرة زيان لمرسية والتجاؤه إلى لقنت. سقوطها في أيدي الأرجونيين ونزوحه إلى إفريقية. استيلاء الأرجونيين على دانية وشاطبة. نقضهم للهدنة مع أهل شاطبة وإجلاؤهم عنها. اتفاق محمد بن هود وأهل مرسية على التفاهم مع النصارى. إرسالهم سفيرا إلى ملك قشتالة يعرض الاعتراف بطاعته. قبول ملك قشتالة والتفاهم على التسليم. مسير ولى عهد قشتالة وتسلمه مرسية صلحاً. احتلال النصارى لمرسية وبعض حصونها. احتفاظ لورقة ومولة وقرطاجنة باستقلالها. استمرار محمد ابن هود في حكم مرسية ومن بعده ولده أحمد. تعليل هذه الظاهرة. ثورات المدجنين في بلنسية واشتداد ساعد مملكة غرناطة. ثورة أبي بكر بن هود الواثق. انتزاعه لحكم مرسية. محاولته أن يخلع نير النصارى.(4/437)
يعلن طاعته لابن الأحمر. رواية ابن عذارى. تفاهم ملكى قشتالة وأراجون على قمع ثورة مرسية. مسير خايمى إلى مرسية ومحاصرتها. اضطرار الواثق إلى التسليم. سقوط سائر قواعد الشرق في أيدي النصارى. قيام مجتمع المدجنين.
- 1 -
نعود الآن إلى شرقي الأندلس لنتابع ما وقع فيه من الأحداث، وذلك منذ اضطرمت الثورة في بلنسية، وقام بها أبو جميل زيان بن مدافع بن مردنيش الجذامى، عقب انسحاب واليها الموحدي السيد أبي زيد بن أبي عبد الله محمد، وانهيار سلطان الموحدين بالشرق.
وقد ذكرنا فيما تقدم، كيف لجأ السيد أبو زيد إلى ملك أراجون خايمى الأول، وانضوى تحت حمايته، وعقد معه معاهدة، يتعهد فيها بأن يسلمه جزءاً من البلاد والحصون التي يستردها بمعاونته، وكيف انتهى به الأمر بأن اعتنق دين النصرانية، واندمج في القوم الذين لجأ إلى حمايتهم، وأخذ من ذلك الحين يصحبهم في غزواتهم للأراضي الإسلامية.
وكان ذلك في سنة 626 هـ (1230 م)، قبل أن يسير الملك خايمى إلى غزو الجزائر الشرقية بقليل. ثم كان غزو الجزائر، وافتتاح ميورقة في العام التالي سنة 627 هـ (1231 م)، ثم افتتاح يابسة، وسيطرة الأرجونيين على الجزائر، وذلك في سنة 632 هـ (1234) م.
في تلك الأثناء كان أبو جميل زيّان أمير بلنسية يعمل على توطيد سلطانه في في بلنسية وأحوازها. وكانت دانية من أملاك ابن هود، وعليها وال من قبله هو الأديب الشاعر أبو الحسن يحيى بن أحمد بن عيسى الخزرجى، وهو والي شاطبة في نفس الوقت (1)، فانتزع زيان منه دانية، وولّى عليها ابن عمه محمدا ابن سبيع بن يوسف بن سعد الجذامى (2). ولم يكتف زيّان بالعمل على توسيع أملاكه على هذا النحو، ولكنه اعتزم في نفس الوقت أن ينتقم لما قام به النصارى من غزوات مخربة، في أراضي بلنسية، ولاسيما بتحريض السيد أبي زيد واليها المخلوع، وكانت الظروف تتيح له يومئذ أن يحقق بغيته، إذ كان ملك أراجون مشغولا بافتتاح
_______
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 249.
(2) الحلة السيراء ص 255.(4/438)
الجزائر، وتوطيد سلطانه بها، ولم يترك في قواعد الحدود سوى حاميات ضئيلة، ومن ثم فقد خرج زيان بقواته شمالا، وقام بالعيث في أراضي أراجون على طول الشاطىء حتى ثغر طرطوشة، واستاق غنائم وأسرى (1). وكان هذا الاعتداء يحز في نفس ملك أراجون، وهو يزمع أن يرده مضاعفاً في أول فرصة.
وما كاد ملك أراجون ينتهي من افتتاح الجزائر، حتى أخذ يضع خطته لافتتاح الثغر الإسلامي العظيم بلنسية، وكان يقتضى لنجاح ذلك المشروع أن يستولي ملك أراجون على سائر القواعد الأمامية لإقليم بلنسية، حتى يستطيع أن يعزل بلنسية، وأن يحرمها من كل وسائل الدفاع. وكان ملك أراجون يرى أن ظروف بلنسية، ومواردها المحدودة، وما يضطرم بين الزعماء المسلمين في شرقي الأندلس من خلاف، مما يعاون على تحقيق أمنيته، ولكنه كان يرى في نفس الوقت أن يستعد لهذا المشروع بكل ما يستطيع، وأن يسعى لتتويجه بالصفة الصليبية. وقد استجاب البابا جريجورى التاسع لمسعى ملك أراجون، وأصدر مرسومه بإسباغ الصفة الصليبية، على مشروع فتح بلنسية، وأعلن أمر هذه الحرب الصليبية الجديدة في مونتشون، وهرع إلى لوائها كثير من الفرسان والسادة، ولاسيما جماعة الأسبتارية، ووافق القطلان على سن ضريبة الماشية العينية، مساهمة في نفقات الحرب.
وبدأت حرب بلنسية في أوائل سنة 1233 م (أواخر سنة 631 هـ) وخرجت جماعات من الجيش الأرجونى وتفرقت في أراضي إقليم بلنسية الشمالية، وبدأت بالاستيلاء على بلدة آرش، ثم استولت على بلدة مورلة وهي أقصى بلاد بلنسية الشمالية. وكان الملك خايمى يومئذ في طرويل. وكان يصحبه في هذه الغزاة السيد أبو زيد والي بلنسية المتنصر باسم بثنتى، وأستاذ الفرسان الأسبتارية هوجو دي فولكاركير، ودون بلاسكو دي ألاجون، وهو أرجونى عاش طويلا في بلنسية، وخدم واليها الموحدي، وكان يجيد العربية، ويعرف أحوال المسلمين. وكان السيد أبو زيد، قد استقر في منطقة طرويل، في طاعة ملك أراجون وتحت حمايته، على أن يعاونه بنفسه وصحبه ضد المسلمين.
وكانت أول قاعدة هامة من إقليم بلنسية قصد إليها ملك أراجون هي بلدة برّيانة، الواقعة على البحر على مقربة من شمال بلنسية، فضرب الأرجونيون حولها الحصار، بعد أن خربوا ضياعها وزروعها القريبة، واشترك في الحصار
_______
(1) A. P. Ibars: Valencia Arabe, p. 628(4/439)
عدد من الأشراف، وفرسان الداوية، والأسبتارية، وقلعة رباح. وكانت برّيانة تتمتع بحصانة فائقة، وقد استعد أهلها المسلمون للدفاع عنها بشدة. وضرب الأرجونيون البلدة بالآلات، وحاولوا اقتحامها غير مرة، وهي صامدة، واستمر الحصار زهاء شهرين، حتى نضبت مواردها وأقواتها، واضطر المسلمون في النهاية إلى التسليم وذلك في شهر يوليه سنة 1233 م. ثم استولى الأرجونيون بعد ذلك على قلعة بنشكلة Peniscola صلحاً، ووعد أهلها المسلمون بأن يبقوا على دينهم وشريعتهم، ثم تلتها في التسليم عدة حصون وأماكن منها شفيت، وبريول، وكويفاس، والمصورة، وغيرها من القرى والضياع، الواقعة على ضفة نهر شقر، واستولى الأرجونيون في نفس الوقت على ثغر قسطلونة الهام الواقع على مقربة من شمالي برّيانة، وكان سقوطه في أيدي النصارى أمراً محتوماً بعد استيلائهم على برّيانة، وكان لسقوط هذين الثغرين نتائج هامة، إذ كانا لقربهما من بلنسية يصلحان قواعد لتموين الجيوش الغازية. ونفذ ملك أراجون بعد ذلك في قواته الخفيفة إلى فحص بلنسية ذاته، واستولى على بعض قلاع هذه المنطقة ومنها قلعتا مونكادة ومشروس القريبتين من شمالي بلنسية ذاتها. ووقعت هذه الفتوح الأرجونية كلها في سنة 1234 م (632 - 633 هـ) (1).
ووقف مشروع غزو بلنسية عند هذه المرحلة الأولى من الاستيلاء على معظم المواقع والثغور القريبة من بلنسية، وعاد ملك أراجون إلى بلاده ليعنى ببعض الشئون الداخلية والعائلية.
ومضى نحو عامين، لم تقع خلالهما في إقليم بلنسية سوى بعض غارات أرجونية صغيرة. ولكن ملك أراجون لم ينس خلال مشاغله الداخلية، مشروع فتح بلنسية، ولم ينقطع عن أن يوليه اهتمامه المستمر، وكان يتوق بالأخص إلى أن يحتل حصن أنيشة أو أنيجة المنيع الواقع على مقربة من شمالي بلنسية، على سبعة أميال منها، وهو من أهم حصونها الأمامية، وكان يقع على ربوة عالية تزيد موقعه مناعة، ويشرف على مرج بلنسية وحدائقها (2)، وكان الأمير زيّان قد
_______
(1) M. Lafuente: Historia General de Espana T. IV. p. 82 & 83
(2) يسمى الإدريسي هذا الحصن بأنيشة (طبعة دوزى ص 191) وكذا يسميه ابن الأبار (التكملة رقم 1991)، وابن عبد الملك المراكشي في " الذيل والتكملة " (مخطوط الإسكوريال 1684 الغزيري) ويسميه أبو المطرف بن عميره " أنيجة " (الروض المعطار ص 49) وكذلك =(4/440)
خريطة:
قطاع بلنسية ومرسيه ومواقع الفتوحات الأرجونية 636 - 664 هـ = 1238 - 1266 م.(4/441)
فطن إلى أهبة هذا الحصن، وخطورة سقوطه في أيدي النصارى، فأمر بهدمه، ولكن الملك خايمى أصر مع ذلك على احتلال موقعه، فسار في جيشه من قلعة أيوب، ومعه السيد أبو زيد أمير بلنسية المتنصر، وهاجم أنيشة وهزم المسلمين الذين تصدوا لمقاومته، واحتل المكان، وابتنى فوق نفس الربوة حصناً جديداً منيعاً، ووضع به حامية عهد بقيادتها إلى خاله دون برناردو دي انتنزا، واتخذ الأرجونيون من هذا الحصن قاعدة للعيث والإغارة في مختلف نواحي إقليم بلنسية. وشعر زيّان بخطر وجود الحامية الأرجونية في هذا المركز الدقيق المهدد لسلامة المدينة، فصمم على انتزاعه من أيديهم، وحشد جيشاً قوياً تقدره الرواية النصرانية بستمائة فارس وأربعين ألف راجل، وهو تقدير واضح المبالغة، وسار في قواته نحو تل أنيشة، ونشبت بين المسلمين والأرجونيين في ظاهر أنيشة معركة عنيفة، قاتل الفريقان فيها بشجاعة، وانتهت بأن أصيب المسلمون بهزيمة فادحة، وقتل منهم جملة كبيرة، وكان بين القتلى عدد كبير من علماء بلنسية ووجوهها وصلحائها، وفي مقدمتهم كبير علماء الأندلس ومحدثيها يومئذ، أبو الربيع سليمان بن موسى ابن سالم الكلاعى، وهو فوق علمه وأدبه الجم جندى وافر الشجاعة والجرأة، كان يشهد معظم الغزوات، ويشترك في القتال، وكان في موقعة أنيشة يتقدم الصفوف، وهو يقاتل بشجاعة، ويحث المنهزمين على الثبات، ويصيح بهم " أعن الجنة تفرون " حتى قتل. ورثاه ومن سقط معه، من علماء بلنسية، وهم نحو سبعين، تلميذه الكاتب المؤرخ، أبو عبد الله بن الأبار القضاعى، وكان إلى جانب مخدومه الأمير زيان في الموقعة، بقصيدته الشهيرة التي مطلعها:
ألما بأشلاء العلا والمكارم ... تقد بأطراف القنا والصوارم
وعوجا عليها مأربا وحفاوة ... مصارع غصت بالطلى والجماجم
تحيي وجوها في الجنان وجيمة ... بما لقيت حُمراً وجوه الملاحم
ووقعت نكبة أنيشة في يوم الخميس عشرين من ذي الحجة سنة 634 هـ (14 أغسطس سنة 1237 م). وكانت هزيمة المسلمين الفادحة فيها على هذا النحو
_______
= المقري (نفح الطيب ج 2 ص 584) ويسميه ابن خلدون " أنيسة " (ج 6 ص 283) والغزيري أنيشة (الفهرس ج 2 ص 115). وتسميه الرواية الإسبانية Puig de Cebolla ( تل البصل). أو Puig de Sta Maria ( تل شنتا مارية).(4/442)
نذيراً بانهيار قوي بلنسية الدفاعية، نذيراً بأن مصير بلنسية ذاتها، قد بت فيه، وأن النهاية قد أضحت وشيكة الوقوع (1).
- 2 -
وكانت أسباب المرحلة الثانية والأخيرة من افتتاح بلنسية تتهيأ وتدنو بسرعة. وكان سقوط قرطبة، قبل ذلك بأكثر من عام، في يد فرناندو الثالث ملك قشتالة، وتغلبه على معظم المنطقة الشمالية من الأندلس الوسطى، مما يدفع خايمى إلى التعجيل بفتح بلنسية خشية أن يمتد زحف القشتاليين إلى تلك المنطقة، ويقع الخلاف بين المملكتين، وذلك بالرغم من أن أراجون، قد اختصت بمقتضى معاهدة كاسولا Cazola، المعقودة مع قشتالة منذ سنة 1179 م، بافتتاح قطاع بلنسية. وكان مما يشجع خايمى على هذا التعجيل، ثقته في أن همم المسلمين الدفاعية قد خبت من جراء موقعة أنيشة، وأن مواردهم قد تضاءلت. وكان هذا شعور البلنسيين أنفسهم، حسبما يعبر لنا عنه كاتب بلنسية المبدع أبو المطرف ابن عميرة في إحدى رسائله المبكية عن سقوط بلنسية (2). ثم جاءت وفاة ابن هود في جمادى الأولى سنة 635 هـ (يناير 1238)، عقب موقعة أنيشة بقليل، لتزيد من ثقة خايمي، بأنه لم يبق ثمة أمل لأهل بلنسية في أن يأتيهم الإنجاد من أية جهة أندلسية.
ومن ثم فقد عكف خايمي على إعداد عدته لهذا الفتح. وكان قد عقد الكورتيس في مونتشون لكي يوافق على ضريبة المرافيدى Matavedi، وهي ضريبة تؤدى مرة كل سبعة أعوام، واستمر في أهبته حتى جهزت الحشود التي اعتزم أن يسيرها لافتتاح بلنسية، وهي حشود قليلة حسبما يتضح من أرقامها بعد. ووصله أثناء ذلك نبأ وفاة خاله دون برناردو قائد حامية أنيشة، وكان بعض مستشاريه يرى أن يترك هذا الموقع، ولكنه أصر على الاحتفاظ به، وعين ولد المتوفى مكانه لقيادة حاميته، وكانت تتألف من خمسين فارساً.
ولما أتم خايمي أهباته، أقسم بين يدي الأشراف والقادة، أنه سوف يسير
_______
(1) راجع في موقعة أنيشة: ابن الأبار في التكملة (الأندلسية) رقم 1991 (ج 2 ص 709)، وابن عبد الملك في "الذيل والتكملة" (مخطوط الإسكوريال 1682 في ترجمة أبي الربيع بن سالم)، وابن خلدون ج 6 ص 283، ونفح الطيب ج 2 ص 586، وكذلك في: M. Lafuente ; ibid. T. IV. p. 84
(2) الروض المعطار ص 49.(4/443)
إلى فتح بلنسية، وأنه لن يعود إلى المرور بطرويل أو عبور نهر طرطوشه (نهر إيبرو) قبل أن تسقط بلنسية في يده، وأنه تأكيدا لذلك سوف يصحب معه الملكة والأميرة ابنته (1). وفي شهر مارس سنة 1238 م، خرج خايمى في قواته متجهاً إلى الجنوب صوب بلنسية، ووصلته أثناء مسيره رسائل من معظم الحصون الإسلامية القريبة من بلنسية تعلن الدخول في طاعته، وفي مقدمتها المنارة، ونوليس، وبطرنة، وبوليا، وأوشو، وغيرها. ولم تكن قوات ملك أراجون، عند مسيره، تعدو بضع مئات من فرسان الداوية والأسبتارية وقلعة رباح، والفرسان الملكيين، وبضع آلاف من الرجّالة، ولكن هذا الجيش تضخم فيما بعد أمام بلنسية، بمن انضم إليه من أشراف وأحبار أراجون وقطلونية وأجنادهم العديدين، ومن حشود الحرس الوطنى ببرشلونة، وحشود المتطوعين الفرنسيين بقيادة مطران أربونة، وكانوا جماعة كبيرة من الفرسان، ونحو ألف من المشاة. وقد جاء معظم هذه القوات بطريق البحر، وانضمت كلها إلى الجيش الفاتح. وعول الملك خايمى على أخذ بلنسية بالحصار، فطوقها أولا بالقوات التي جاءت معه، وضرب محلته بين المدينة، وبين خليج جراو (الميناء). ولما انثالت الأمداد، وحشود المتطوعة على الجيش الأرجوني، شدد في إحكام الحصار حول المدينة، وقطع علائقها مع الخارج. وتقدر الرواية النصرانية عدد القوات التي اشتركت في حصار بلنسية بعشرة آلاف فارس، وستين ألف راجل. وكانت هذه القوات تمون بسهولة، عن طريق البحر من ثغور بنشكلة وبرّيانة وقسطلونة، وقد افتتحها الأرجونيون قبل ذلك بقليل.
وبدأ حصار بلنسية في الخامس من شهر رمضان سنة 635 هـ (أبريل سنة 1238 م) (2) وشدد النصارى في التضييق على المدينة المحصورة، وبدأوا يضربونها بالآلات المخربة. وكانت بلنسية، مذ هزمت قواتها، وسقط أبناؤها في موقعة أنيشة، قبل ذلك بأشهر قلائل، قد ساءت أحوالها، وانهارت قوي شعبها المعنوية وأخذت تتوقع سوء المصير. بيد أنه لما ظهر النصارى تحت أسوارها، وبدت طلائع المعركة الأخيرة، اعتزم البلنسيون أن يدافعوا عن مدينتهم حتى آخر رمق. ولم يكن أميرهم أبو جميل زيان أقل عزماً منهم في مدافعة النصارى، فوجه بعض
_______
(1) M. Lafuente: ibid ; cit. Hist. del Rey don Jaime, T. IV. p. 85
(2) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) في الترجمة رقم 303.(4/444)
خريطة:
مواقع حصار بلنسية 635 هـ - 1238 م.(4/445)
رسله إلى القواعد الإسلامية القريبة في طلب النجدة والإمداد. وكان رسوله إلى مرسية الفقيه المتصوف محمد بن خلف بن قاسم الأنصارى (1). بيد أن زيان لم يقف عند هذا الاستمداد المحدود. ذلك أنه في تلك الآونة العصيبة، قد اتجه وجهة أخرى أوسع آفاقاً وأجدى أملا، اتجه إلى إخوانه المسلمين، في الضفة الأخرى من البحر، ولم يكن ذلك الاتجاه يومئذ إلى أولئك الموحدين، الذين عبروا البحر قبل غير مرة لإنجاد الأندلس، إذ كانت دولتهم بالمغرب تجوز مرحلة الانحلال الأخير، ولكن إلى تلك الدولة الفتية، التي قامت في وسط الضفة الأخرى من البحر، إلى دولة بني حفص بإفريقية، وإلى عميدها ومنشئها الأمير أبي زكريا يحيى ابن الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص، وكانت قد أخذت تلفت الأنظار بقوتها وثرائها، واتساع مواردها. وبعث زيان إلى أمير إفريقية سفارة على رأسها وزيره وكاتبه العلامة الشاعر والمؤرخ الكبير أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن أبي بكر بن الأبار القضاعى، يحمل إليه بيعته وبيعة أهل بلنسية، وصريخه بسرعة الغوث والإنجاد قبل أن يفوت الوقت. ولما وصل ابن الأبار إلى تونس، مثل بين يدي سلطانها الأمير أبي زكريا الحفصى، في حفل مشهود، وألقى قصيدته السينية الرائعة التي اشتهرت في التاريخ، كما اشتهرت في الشعر، يستصرخه فيها لنصرة الأندلس ونصرة الدين، وهذا بعض ما جاء فيها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا
وهب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل منك عز النصر ملتمسا
وحاش مما تعانيه حشاشتها ... فطال ما ذاقت البلوى صباح مسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا ... للنائبات وأمسى جدّها تعسا
في كل شارقة إلمام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكل غاربه إجحاف نائبة ... تثنى الأمان حذاراً والسرور أسى
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا
مدائن حلها الإشراك مبتسما ... جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا
وصيرتها العوادى العابثات بها ... يستوحش الطرف ضعف ما أنسا
_______
(1) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) في الترجمة رقم 167.(4/446)
فمن دساكر كانت دونها حرسا ... ومن كنائس كانت قبلها كُنسا
يا للمساجد عادت للعدا بيعاً ... وللنداء غدى أثناءها جرسا
كانت حدائق للأحداق مونقة ... فصوح النصر من أدواحها دعسا
وحال ما حولها من منظر عجب ... يستجلس الركب أو يستركب الجلسا
فأين عيش جنيناه بها خضرا ... وأين عصر جليناه بها سلسا
محا محاسنها طاغ أتيح لها ... ما نام عن هضمها حينا ولا نعسا
ورج أرجاءها لما أحاط بها ... فغادر الشم من أعلامها خنسا
خلا له الجو فامتدت يداه إلى ... إدراك ما لم تطأه رجلاه مختلسا
وأكثر الزعم بالتثليث منفردا ... ولو رأى راية التوحيد ما نبسا
صل حبلها أيها المولى الرحيم فما ... أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا
وأحى ما طمست منها العداة كما ... أحييت من دعوة المهدي ما طُمسا
أيام صرت لنصرة الحق مستبقا ... وبثّ من نور ذاك الهدى مقتبسا
وقمت فيها بأمر الله منتصرا ... كالصارم اهتز أوكالعارض انبجسا
هذى رسائلها تدعوك من كثب ... وأنت أفضل مرجو لمن يئسا
وافتكّ جاريةً بالنجع راجية ... منك الأمير الرضا والسيد الندسا
ومنها:
ملك تقلدت الأملاك طاعته ... دينا ودنيا فغشاها الرضا لبسا
من كل غاد على يمناه مستلما ... وكل صاد إلى نعماه ملتمسا
قد نور الله بالتقوى بصيرته ... فما يبالى طروق الخطب ملتبسا
من ساطع النور صاغ الله جوهره ... وصان صيقله أن يقرب الدنسا
إن السعيد أمرؤ ألقى بحضرته ... عصاه محتزماً بالعدل محترسا
وفي ختامها:
يا أيها الملك المنصور أنت لها ... علياء توسع أعداء الهدى تعسا
وقد تواترت الأنباء أنك من ... يحيى بقتل ملوك الصفر أندلسا
طهر بلادك منهم إنهم نجس ... ولا طهارة مالم تغسل النجسا
وأوطىء الفيلق الجرار أرضهم ... حتى يطأطأ رأسا كل من رأسا
وانصر عبيداً بأقصى شرقها شرقت ... عيونهم دمعا تهمى زكا وخسا(4/447)
هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت ... داء متى لم تباشر جسمها انتكسا
فاملأ هنيئاً لك لتمكين ساحتها ... جردا سلاهب أو خطية دعسا
واضرب لها موعدا بالفتح ترقبه ... لعل يوم الأعادى قد أتى وعسا (1)
وكان لهذه القصيدة المبكية، التي مازالت تحتفظ حتى يومنا برنينها المحزن، والتي كانت كأنها نفثة الأندلس الجريح، أبلغ الأثر في نفس الأمير أبي زكريا الحفصى، فبادر بتجهيز أسطول شحنه بالسلاح والأطعمة والكسى والأموال، يتألف من اثنتى عشرة سفينة كبيرة، وست صغيرة، وعهد بقيادته إلى أبي يحيى ابن يحيى بن الشهيد ابن إسحق ابن أبي حفص الكبير، وتقدر الرواية الإسلامية قيمة ما شحن بهذا الأسطول بمائة ألف دينار من الذهب، وهي قيمة لها خطرها في ذلك العصر (2). وأقلعت هذه السفن المنجدة على جناح السرعة من ثغر تونس قاصدة إلى ثغر بلنسية ومعها ابن الأبار ورفاقه، وهي رحلة تستغرق عدة أيام.
وكان الأرجونيون في تلك الأثناء قد شددوا الحصار على بلنسية، وحاولوا في البداية، أن يقتحموا الرُّصافة ضاحيتها الجنوبية الشرقية، ففشلت المحاولة، وردهم المسلمون بخسارة كبيرة. وكان المسلمون يخرجون من آن لآخر لمقاتلة النصارى في جماعات صغيرة، ووقعت أعنف معركة من هذا النوع بين الفريقين حول بلدة سليا ضاحية بلنسية الجنوبية، وانتهت باستيلاء النصارى عليها. ولم تمض أيام على ذلك حتى ظهر الأسطول التونسى في مياه بلنسية، واستطاع أن يصل إلى خليج جراو Grao الواقع جنوب شرقي المدينة بحذاء مصب نهر طورية أو نهر الوادي الأبيض Guadalaviar، الذي يخترق بلنسية بعد مصبه بقليل، ولكن المحلة النصرانية كانت تحتل اللسان الواقع بين الخليج وبين المدينة، ومن ثم فإن رجال الأسطول، لم يستطيعوا الوصول إلى المدينة، ولم يستطع أهل المدينة من جهة أخرى، أن يصلوا إليهم، وعندئذ حاولت السفن المسلمة أن تبعث الأمداد إلى أهل المدينة من ناحية الشمال، فسارت شمالا بحذاء الشاطىء
_______
(1) راجعنا ما نقلناه من قصيدة ابن الأبار على نصها المخطوط الوارد في مخطوط الإسكوريال رقم 518 الغزيري الموسوم بكتاب " زواهر الفكر " وهي طويلة تقع في سبعة وستين بيتاً. وقد نقلها المقري كاملة في نفح الطيب ج 2 ص 578 - 580، وكذلك ابن خلدون مع إغفال بعض أبياتها في ج 6 ص 283 - 285.
(2) ابن خلدون ج 6 ص 285، والزركشى في تاريخ الدولتين ص 20.(4/448)
حتى ثغر بُنُشكلة الصغير، الواقع شمالي قسطلونة، ولكن هذه المحاولة لم تنجح أيضاً لظهور السفن الأرجونية، واضطرار السفن التونسية إلى الإقلاع صوب الجنوب، وانتهى الأمر بأن أفرغت السفن التونسية شحنتها في ثغر دانية، بعيداً عن الثغر المحصور، ثم أقلعت عائدة إلى إفريقية ومعها المال إذ لم يحضر من قبل الأمير زيان من يتسلمه. وهكذا فشلت هذه المحاولة التي نظمت لإمداد المدينة المحصورة وإنجادها، وتركت بلنسية لمصيرها.
وهنا ضاعف النصارى جهودهم في التضييق على المدينة، وإرهاقها. وبينما كان أهل بلنسية، يعانون الحرمان والجوع داخل مدينتهم، كان النصارى في سعة تأتيهم المؤن من البحر بانتظام. وكان النصارى يضربون المدينة، وأسوارها ْوأبراجها، بالآلات الثقيلة باستمرار، والبلنسيون مع كل هذا البلاء يخرجون لمقاتلة النصارى، وتنشب المعارك الكثيرة بين الفريقين. وفي إحدى هذه المعارك أصيب الملك خايمى بجرح في رأسه. واستمر الحصار المرهق على هذا النحو زهاء خمسة أشهر، من أبريل حتى أوائل سبتمبر، حتى فنيت الأقوات، وعدمت الموارد، واشتد البلاء بأهل المدينة، وثلمت الأسوار والأبراج في غير موضع، وعندئذ رأى وجوه المدينة وعلى رأسهم الأمير زيان، بأنه لا مفر من التسليم قبل أن يفوت الوقت، ويقتحم النصارى المدينة، فبعث بابن أخيه أبي الحملات ليفاوض ملك أراجون في شروط التسليم. واتفق الفريقان على أن تسلم المدينة صلحاً. وإليك كيف يصف لنا ابن الأبار، وقد كان شاهد عيان، ما تلا ذلك من لقاء بين الأمير زيان والملك خايمى، ومن إبرام شروط التسليم بينهما، وذلك في يوم الثلاثاء السابع عشر من صفر سنة 636 هـ. قال:
" وفي هذا اليوم خرج أبو جميل زيان بن مدافع بن يوسف بن سعد الجذامى من المدينة، وهو يومئذ أميرها، في أهل بيته ووجوه الطلبة والجند، وأقبل الطاغية، وقد تزيا بأحسن زى في عظماء قومه، من حيث نزل بالرصافة أول هذه المنازلة، فتلاقيا بالولجة، واتفقا على أن يتسلم الطاغية البلد سلما لعشرين يوماً، ينتقل أهله أثناءها بأموالهم وأسبابهم. وحضرت ذلك كله، وتوليت العقد عن أبي جميل في ذلك. وابتدئ بضعفة الناس فسيروا في البحر إلى نواحي دانية، واتصل انتقال سائرهم براً وبحراً. وصبيحة يوم الجمعة السابع والعشرين من صفر المذكور، كان خروج أبي جميل بأهله من القصر، في(4/449)
طائفة يسيرة أقامت معه. وعند ذلك استولى عليها الروم أحانهم الله " (1).
وتقدم إلينا الرواية النصرانية عن شروط تسليم بلنسية تفاصيل لا تخرج في جملتها عن مضمون الرواية المتقدمة، فتقول إن المفاوضة وقعت أولا بين أحد الرؤساء المسلمين، وأحد الأشراف الأرجونيين، وذلك بمحضر من الملكة، التي شاء الملك أن تشهد سائر التفاصيل، وانتهى الأمر بأن اقترح الأمير زيان على الملك خايمى، أن يسلم إليه المدينة، على أن يسمح لسائر المسلمين بها رجالا ونساء، بأن يحملوا سائر أمتعتهم دون أن يعترضهم أحد، وأن يسيروا آمنين ْحتى قلييرة (أو غلييرة) (2) أو دانية، فوافق الملك والملكة على اقتراحه، واتفق على أن تسلم المدينة، بعد خمسة أيام، يبدأ في نهايتها جلاء المسلمين عنها. وأبلغ الملك هذا الاتفاق إلى الأحبار والأشراف، فلم يرق لبعض القادة، والفرسان، الذين كانوا يؤملون الثراء بنهب المدينة. وفي اليوم الثالث بدأ المسلمون جلاءهم عن بلنسية، وخرج منهم منها خمسون ألفا، وساروا آمنين حتى قلييرة Cullera، وهي ثغر صغير يقع على مقربة من جنوبي بلنسية، ومنحوا عشرين يوما لإتمام الجلاء. وعقد الملك خايمى كذلك مع الأمير زيان هدنة مدتها سبع سنين، وأقسم باحترامها بالنسبة لدانية وقلييرة، طوال هذه المدة. وتم ذلك في اليوم الثامن والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1238 م (3).
وفي يوم الجمعة التاسع من أكتوبر سنة 1238 م، الموافق للسابع والعشرين من صفر سنة 636 هـ دخل خايمى الفاتح ملك أراجون، وزوجه الملكة فيولانتى وأكابر الأحبار والأشراف والفرسان الأرجونيين والقطلان، وممثلو الجماعات الدينية والمدن، مدينة بلنسية، ورفع علم أراجون على قمة أعلى برج في أسوار المدينة، وحولت المساجد في الحال إلى كنائس وطمست سائر قبور المسلمين (4). وقضى الملك خايمي بضعة أيام في تقسيم دور المدينة وأموالها بين الأحبار والأشراف والفرسان، كل وفق ما اشترك به في الفتح، وبلغ عدد من وزع عليهم من فرسان أراجون وقطلونية،
_______
(1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 190، وفي التكملة (القاهرة) في الترجمة رقم 1745 و 2119، والبيان المغرب ص 345.
(2) وبالإسبانية Cullera
(3) M. Lafuente: ibid ; cit. Hist3 del Rey don Jaime ; T. IV. p. 87
(4) التكملة لابن الأبار (القاهرة) رقم 1306.(4/450)
ثلاثمائة وثمانون، هذا عدا الأحبار والأشراف، وجعلت هذه الأملاك وراثية بالنسبة لأعقابهم، وسموا بفرسان الفتح، وترك لهم حراسة المدينة والدفاع عنها. وأقبل النصارى من كل فج على سكنى بلنسية وتعميرها. ومع ذلك فقد بقيت بها جماعة كبيرة من أهلها المسلمين، تدجّنوا واستسلموا لمصيرهم الجديد. وهكذا سقطت بلنسية في أيدي النصارى، بعد أن حكمها المسلمون، منذ الفتح خمسة قرون وربع قرن، سطعت خلالها في شرقي الأندلس، وتزعمت قواعده، ولعبت أعظم دور في أحداثه ومصايره، ولبثت فترات طويلة، مثوى الثورة الوطنية الأندلسية، وكانت أعظم مركز للعلوم والآداب في شرقي شبه الجزيرة. وكانت بلنسية منذ بعيد هدفاً لأطماع النصارى، القشتاليين منهم والقطلان، وكانت مسرحاً لمغامرات السيد الكنبيطور (السيد الكمبيادور)، وقد استولى عليها بالفعل في جمادى الأولى سنة 487 هـ (يونيه 1094 م) ولبثت تحت نير النصارى زهاء ثمانية أعوام، حتى استردها المرابطون في شعبان سنة 495 هـ (مايو 1102 م)، وذلك حسبما فصلناه في كتابنا " دول الطوائف ".
على أن بلنسية وأحوازها، استمرت بعد سقوطها في أيدي النصارى، مدى عصور، مثوى لجماعات كبيرة من المدجّنين المسلمين، ثم بعد ذلك من العرب المتنصرين (الموريسكيين) وقد لعب هؤلاء في تاريخها السياسي والاجتماعى منذ القرن الرابع عشر حتى أواخر القرن السادس عشر، أدواراً ذات شأن. وهو ما فصلناه في كتابنا " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين ".
- 3 -
وقد أذكت محنة بلنسية وسقوطها في أيدي النصارى، فجيعة الشعر والنثر بالأندلس، على نحو ما فعلت محنة طليطلة، وسقوطها، وصدرت في رثائها طائفة كبيرة من القصائد والرسائل المبكية. ويرجع ذلك بالأخص إلى وجود عدد من أكابر الكتاب والشعراء المعاصرين، الذين شهدوا المحنة من أبناء بلنسية ذاتها، أو شرقي الأندلس، وفي مقدمتهم أبو عبد الله بن الأبار، وأبو المطرف بن عميرة المخزومي، وأبو عبد الله بن الجنان، وهم جميعاً من كتاب أمير بلنسية، أبي جميل زيان. وإذا كنا لا نعنى هنا إلا بتسطير الأحداث والمحن، فإنه يسوغ لنا مع ذلك أن نقف مدى لحظة، لنستعرض خلالها، بعض نماذج من النثر والنظم، في رثاء بلنسية من كلام أبنائها(4/451)
ولا مراء في أن ما صدر عن ابن الأبار في ذلك وهو من أعظم أبناء بلنسية، وقد قضى فيها معظم شبابه وكهولته، وشهد أدوار المحنة من بدايتها إلى نهايتها، سواء من النثر أو النظم، إنما هو غرة هذه المراثى، وأبلغها استثارة للأسى، وقد أوردنا فيما تقدم شطراً من قصيدته الرائعة:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا
ورأينا كيف يصور فيها محنة الأندلس العامة أروع تصوير وأبلغه. ولما سقطت بلنسية، بعد ذلك، صدرت عنه رسائل وقصائد أخرى، في رثاء بلنسية وبقية قواعد الأندلس الذاهبة، وبكاء أمجادها ومحاسنها، فمن ذلك قوله من رسالة إلى صديقه أبي المطرِّف ابن عميرة:
" وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لبد، أسلمها الإسلام، وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أنسرها الطائرة، وطلعت أنحسها الغائرة، فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكن السكن.
كزعزع الريح صك الدوح عاصفها ... فلم يدع من جَنًى فيها ولا غصن
واها وواها بموت الصبر بينهما ... موت المحامد بين البخل والجُبُن
أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد وُرْقها وأغانيها، أين حلى رصافتها وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها، أين أفياؤها تندى غضارة، وركاؤها تبدو من خضارة. أين جداولها الطفاحة وخمائلها، أين جناتها النفاحة وشمائلها، شد ما عطل من قلائد أزهارها نحرُها، وخلعت شعشعانية ضحاها بحيرتها وبحرها، فأية حيلة لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان، وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان. ثم لم يلبث داء عقرها، أن دب إلى جزيرة شُقرها، فأمرَّ عذبها النمير، وذوى غصنها النضير، وخرست حمائم أدواحها، وركدت نواسم أرواحها، ومع ذلك اقتحمت دانية، فنزحت قطوفها وهي دانية، ويالشاطبة وبطحائها، من حيف الأيام وأنحائها، ولهفاه ثم لهفاه على تُدمير وتلاعها، وجيّان وقلاعها، وقرطبة ونواديها، وحمص وودايها، كلها رُعى كَلأُها، ودهى بالتفريق والتمزيق ملأها، غض الحصار أكثرها، وطمس الكفر عينها وأثرها .. وما لأندلس أصيبت بأشرافها، ونقصت من أطرافها، قوض عن صوامعها الأذان، صُمَّت بالنواقيس فيها الآذان، أجنت ما لم تجن الأصقاع، أعَقّت(4/452)
الحق فحاق بها الإيقاع، كلا بل دانت للسُّنة، وكانت من البدع في أحصن جُنّة، فليت شعرى بم استوثق تمحيصها، ولم تعلّق بعموم البلوى تخصيصها، اللهم غُفْراً، طالما ضر ضجر، ومن الأنباء ما فيه مزدجر، جرى بما لم تقدّره المقدور، فما عسى أن ينفث به المصدور، وربنا الحكيم العليم، فحسبنا التفويض له والتسليم " (1) ولأبى المطرِّف بن عميره، وهو أيضاً من أبناء بلنسية، ومن أبلغ كتابها، رسائل عديدة في رثاء المدينة العظيمة، فمن ذلك رسالة خاطب بها زميله وصديقه ابن الأبار جوابا عن رسالته المتقدمة يقول فيها:
" طارحني حديث مورد جف، وقطين خفَّ، فيا لله لأتراب درجوا، وأصحاب عن الأوطان خرجوا، قصت الأجنحة وقيل: طيروا، وإنما هو القتل والأسر أو تسيروا، فتفرقوا أيدي سبا، وانتشروا ملىء الوهاد والربا، ففي كل جانب عويل وزفرة، وبكل صدر غليل وحسرة، ولكل عين عبرة لا ترقأ من أجلها عَبرة، داء خامر بلادنا حين أتاها، ومازال بها حتى سجى على موتاها، وشجا ليومها الأطول كهلها وفتاها، وأنذر بها في القوم بحران أنيجة، يوم أثاروا أسْدها المهيجه، فكانت تلك الحطمة طل الشؤبوب، وباكورة البلاء المصبوب .. وبعد ذلك أخذ من الأم بالمخنق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق. وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان، فبرح الخفاء، وقيل على آثار من ذهب العفاء، وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاه، وأودت الخفة والحصافة، وذهب الجسر والرُّصافة، ومزقت الحلة والسهلة، وأوحشت الجرف والرملة، ونزلت بالجارة وقعة الحرة، وحصلت الكنيسة من جآذرها وظباها على طول الحسرة، فأين تلك الخمائل ونضرتها، والجداول وخضرتها، والأندية وأرجها، والأودية ومنعرجها، والنواسم وهبوب مبتلها، والأصائل وشحوب معتلها، دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها ترددها وحيرتها، ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها، حتى أحاطت بجزيرة شقرها، فآها لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كَلْمه، وبالجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها، وروضة أجاد أبو اسحق نعتها،، إنما كانت داره التي فيها دب، وعلى
_______
(1) واضح من هذه الرسالة أنها أنشئت بعد سقوط قواعد الشرق، وبعد سقوط إشبيلية في سنة 646 هـ أعني بعد سقوط بلنسية بنحو عشرة أعوام(4/453)
أوصاف محاسنها ألَبّ، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب، ولم تعدم بعد محبين قشيبهم إليها ساقوه، ودمعهم عليها أراقوه ".
ويقول في رسالة أخرى:
" ثم ردف الخطاب الثاني بقاصمه المتون، وقاطبه المنون، ومضرمة نار الشجون، ومذرية ماء الشئون، وهو الحادث في بلنسية، دار النحر، وحاضرة البر والبحر، ومطمح أهل السيادة، ومطرح شعاع البهجة والنضادة، أودى الكفر بإيمانها، وأبطل الناقوس صوت أذانها، ودهاها الخطب الذي أنسى الخطوب، وأذاب القلوب، وعلّم سهام الأحزان أن تصيب، ودموع الأجفان أن تصوب، فيا ثكل الإسلام، ويا شجو الصلاة والصيام، يوم الثلاثاء، وما يوم الثلاثاء، يا ويح الداهية الدهياء، وتأخير الإقدام عن موقف العزاء، أين الصبر وفؤادى أنسيه، لم يبق لقومى على الرمى سيه، هيهات نجد ما مضى من أتنسيّه، من بعد مصاب حل في بلنسية.
" يا طول الحسرة، ألا جابر لهذه الكسرة، أكل أوقاتنا ساعة العسرة، أخي أين أيامنا الخوالى، وليالينا على التوالى .. كل رزء في هذه الرزء يندرج، وقد اشتدت الأزمة فقل لي متى تنفرج، كيف انتفاعنا بالضحى والأصائل، إذ لك يعد ذلك النسيم الأرج، ليس لنا إلا التسليم والرضى، بما قضاه الخلاق العليم. ومن نظم أبي المطرِّف بن عميرة في رثاء بلنسية قوله:
ما بال دمعك لا يني مدراره ... أم ما لقلبك لا يقر قراره
اللوعة بين الضلوع لظاعن ... سارت ركائبه وشطّت داره
أم للشباب تقاذفت أوطانه ... بعد الدنو وأخفقت أوطاره
أم للزمان أتى بخطب فادح ... من مثل حادثة خلت أعصاره
بحر من الأحزان عبّ عبابه ... وارتج ما بين الحشا زخّاره
في كل قلب منه وجد عنده ... أسف طويل ليس تخبو ناره
أما بلنسية فمثوى كافر ... حُفت به في عقرها كفّاره
زرع من المكروه حلّ حصاده ... عند الغُدوِّ غداة لجَّ حصاره
ما كان ذاك المصر إلا جنّة ... للحسن تجرى تحته أنهاره
طابت بطيب بهاره آصاله ... وتعطرت بنسيمه أشجاره(4/454)
قد كان يشرق بالهداية ليله ... والآن أظلم بالظلال نهاره
ودجا به ليلُ الخطوب بصبحه ... أعيا على أبصارنا إسفاره (1)
وجاء في قصيدة طويلة، وجهها بعضهم إلى أمير إفريقية أبي زكريا الحفصي يستنهض همته لنصرة الأندلس، وذلك على أثر سقوط بلنسية:
نادتك أندلس فلب نداءها ... واجعل طواغيت الصليب فداءها
صرخت بدعوتك العلية فأحبها ... من عاطفاتك ما يقى حوباءها
هي دارك القصوى أوت لإيالة ... ضمنت لها مع نصرها إيواءها
تلك الجزيرة لا بقاء لها إذا ... لم يضمن الفتح القريب بقاءها
ومنها في رثاء بلنسية:
ايه بلنسية وفي ذكراك ما ... يجرى الشؤون دماءها لا ماءها
كيف السبيل إلى احتلال معاهد ... شب الأعاجم دونها هيجاءها
والي رُباً وأباطح لم تعر من ... حلل الربيع مصيفها وشتاءها
طاب المعرس والمقبل خلالها ... وتطلعت غرر المنى أثناءها
بأبي مدارس كالطلول دوارس ... نسخت نواقيس الصليب نداءها
ناحت بها الورقاء تسمع شدوها ... وغدت ترجع نوحها وبكاءها (2)
ونكتفى بهذه المقتطفات النثرية والشعرية التي قيلت في رثاء بلنسية، وإنما أوردناها دليلا على شعور أبنائها بفداحة المحنة، وفداحة آثارها، التي انتهت في أعوام قليلة بسقوط سائر قواعد الشرق في أيدي النصارى.
ولما سقطت بلنسية، وما يليها من القواعد القريبة في أيدي النصارى، نزح الكثير من أهلها إلى قواعد الأندلس الباقية، في الشرق والجنوب والوسط، وعبر في نفس الوقت كثير منهم البحر إلى العدوة، واستقروا في مختلف أنحائها. وقد وقفنا على نص ظهير، أصدره الخليفة الموحدي الرشيد، في الحادي والعشرين من شهر شعبان سنة 637 هـ، من إنشاء كاتبه القاضي أبي المطرف بن عميرة
_______
(1) وردت هذه القصيدة وما تقدمها من رسائل في كتاب "الروض المعطار" في مقال " بلنسية " (ص 48 - 52). وقد أورد لنا المقري نص الرسالتين كاملا، رسالة ابن الأبار، ورسالة ابن عميرة في الرد عليها، وذلك في نفح الطيب ج 2 ص 596 - 601.
(2) وردت هذه القصيدة الطويلة في نفح الطيب ج 2 ص 589 - 592(4/455)
المخزومي، إلى " المنتقلين من أهل بلنسية وجزيرة شقر وشاطبة ومن جرى من ساير بلاد الشرق مجراهم، وعراه من عبر الأيام ما عراهم " يأذن لهم فيه بالنزول في رباط الفتح " وأن يتخذوا مساكنه وأرضه بدلا من مساكنهم وأرضهم، ويعمروا منه بلداً يقبل منهم أولى من قبل، ويحملهم إن شاء الله تعالى، وخير البلاد ما حمل "، وأن " لهم أفضل ما عهده رعايا هذا الأمر العزيز، أدامه الله تعالى من التوسعة على قويهم حى يزداد قوة، والرفق بضعيفهم، حتى ينال يساراً وثروة "، وأن يقومو بحرث أرضه، وغرس كرومه، وأن يتأثلوا الأملاك لأنفسهم وأولادهم وأولاد أولادهم، ولا يطالبوا بغير حقوق الشرع، وأن الأوامر قد صدرت إلى الولاة والعمال بحمايتهم والرفق بهم، وعدم إلحاق الأذى بهم، أو منعهم من تحقيق مآربهم. وقد صدر هذا الظهير، حسبما نوه في بدايته بمسعى ذي الوزارتين الشيخ أبي علي بن أبي جعفر بن خلاص البلنسى. وهو وثيقة ذات أهمية خاصة، تلقى ضوءاً كبيراً على مصاير من شردتهم محنة الانهيار من أهل الأندلس، وما كانوا يلقون في أنحاء العدوة من ضروب المواساة والعطف والترحيب (1)
- 4 -
لما غادر الأمير أبو جميل زيّان وطنه القديم ومقر رياسته، ورياسة آبائه وأجداده، مدينة بلنسية العظيمة، بعد أن سلمها إلى الملك خايمى الفاتح، سار في آله وصحبه إلى الجزيرة أو جزيرة شُقر، الواقعة جنوبها على ضفة نهر شقر، وسار وزيره ابن الأبار في أهله إلى تونس بعد أن أيقن أنه لا أمل في حياة مستقرة في ربوع الوطن القديم، وأخذ زيان بيعة أهل الجزيرة للأمير أبي زكريا الحفصى صاحب إفريقية، ولكنه ما كاد يستقر بها حتى زحف عليها الأرجونيون وطوقوها لأنها لم تكن داخلة في نطاق الهدنة، التي كانت تشمل فقط دانية وقلييرة، فاضطر زيان إلى التخلى عن الجزيرة للنصارى، وغادرها إلى دانية، ونزل بها وذلك في شهر رجب سنة 636 هـ، لبضعة أشهر من تسليم بلنسية، ودعا بها للأمير أبي زكريا الحفصي، وأغضى النصارى مدى حين عن مهاجمة هذا القطاع من إقليم بلنسية. وعرض زيان خلال ذلك على الملك خايمى أن يسلمه حصن لَقَنت على أن يمنحه جزيرة مِنُرقة كإقطاع يحكمها باسمه وتحت طاعته، فاعتذر
_______
(1) وقفنا على نص هذا الظهير في المخطوط المعنون " بزواهر الفكر " المحفوظ بمكتبة الإسكوريال رقم 518 الغزيري، ورقم 520 ديرنبور (لوحة 115 أ - 116 أ)(4/456)
خايمى بأن لقنت لا تدخل في نطاق فتوحه، وإنما هي داخلة في نطاق فتوح قشتالة (1)، هذا إلى أن منرقه كان يحكمها عندئذ أبو عثمان سعيد بن حكم الأموى تحت حماية الملك خايمى، ويؤدى إليه الجزية حسبما تقدم في موضعه.
وعندئذ اتجه نظر زيان إلى مرسية. وكانت مرسية أيام ابن هود مقر رياسته. ولما توفي بألمرية في جمادى الأولى سنة 635 هـ، بايع أهل مرسية ولده أبا بكر محمد بن يوسف بن هود، وتلقب بالواثق، ولكن الظاهر أن عمه علي بن يوسف تغلب عليه بعد قليل، ودعا لنفسه وتلقب بعضد الدولة، بيد أن رياسته لم يطل أمدها أيضاً، إذ ثار به عميد مرسية وكبير علمائها الفقيه أبو بكر عزيز بن عبد الملك ابن محمد بن خطاب، وأخرجه من المدينة، ودعا لنفسه، وبايعه أهل مرسية، وذلك في الرابع من محرم سنة 636 هـ، وتلقب بضياء الدولة. ثم سقطت بلنسية بعد ذلك بأسابيع قلائل في أيدي النصارى، وتجهمت الحوادث في شرقي الأندلس، وقلقت النفوس في مرسية وغيرها، ورأى جماعة من أهل مرسية استدعاء أمير بلنسية السابق أبا جميل زيان، ليتولى الرياسة عليهم، وهو يومئذ بدانية يرقب الحوادث. فسار زيان إلى مرسية ودخلها، فثار أهلها بأبي بكر عزيز ضياء الدولة وانتزع زيان منه الرياسة وقبض عليه، وذلك في الخامس عشر من شهر رمضان سنة 636 هـ، ثم أمر بقتله، فقتل في السادس والعشرين من الشهر، وكان ابن خطاب سليل أعرق بيوت مرسية، وجده الكبير أبو عمر أحمد بن خطاب، هو الذي استضاف المنصور بن أبي عامر وسائر جيشه، حين مروره بمرسية في طريق غزاته إلى برشلونة، وذلك في أوائل سنة 375 هـ (985 م) (2).
ودعا زيان بمرسية للأمير أبي زكريا الحفصي صاحب إفريقية، ودخلت في طاعته معظم البلاد الباقية في شرقي الأندلس، وبعث زيان ببيعتها جميعاً مع وفد ندبه لذلك إلى الأمير أبي زكريا بتونس، فعاد الوفد يحمل إليه من الأمير تقليد ولايته على مرسية وبلاد شرقي الأندلس، وقدراً من المال لمعاونته، وذلك في سنة 637 هـ. وقد وقفنا على نص الرسالة التي بعث بها الرئيس زيان إلى الأمير أبي زكريا على أثر تلقيه مرسوم الولاية، وهي من إنشاء الكاتب البليغ أبي عبد الله بن الجنان،
_______
(1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 88
(2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 250 - 252، والذخيرة السنية ص 59، وكذلك:
M.G. Remiro: Murcia Musulmana p. 295(4/457)
وفيها يعرب زيان بعد الديباجة " والرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، الطالع من أنوار الهدايات "، وبعد الدعوات الجمة، عن ولائه وإخلاصه، ويقول: " فلا جرم أن الخادم يطمئن بذلك قلبا ". ثم يبدى شكره على التفات " الحضرة الكريمة "، وأنه تلقى الكتب الكريمة بارتياح، وأنه في سائر أحواله، وجميع أفعاله وأقواله " يهتدى بهدى الحضرة العلية، والانقياد لما أمره به مولاه من النظر في هذه البلاد، عاكفاً على المراسم الكريمة في كل القصد والاعتماد، باذلا مستطاعه في الجد والاجتهاد " وخصوصاً في هذه الأوقات التي اشتدت فيها نكايات الأعداء، ولكنه يؤمل أن الأحوال سوف تصلح. ثم يختتم كلامه بالدعاء. والرسالة صادرة " من مرسية حرسها الله تعالى "؛ ولكن ليس لها تاريخ (1).
على أن زيان لم يتح له أن يجمع سائر الشرق تحت طاعته، فقد خرجت على رياسته أوريولة، واستقل بها ابن عصام، وكذلك خرجت لورقة، واستقل برياستها الفقيه محمد بن علي بن أحلى.
واستمر الأمير زيان في رياسته لمرسية زهاء عامين. وكان كاتبه في تلك الفترة، القاضي والكاتب اللامع أبو المطرِّف بن عميرة المخزومي. وهنالك ما يدل على أن الأمير زيان، قد بذل عندئذ محاولة للتفاهم مع فرناندو الثالث ملك قشتالة، وذلك حسبما تدل عليه رسالة موجهة منه إلى فرناندو، ومحررة بقلم أبي المطرف، يذكر فيها ما تم له من فتح مرسية، ورضاء المسلمين بهذا الفتح، وأنه رأى مفاوضته في عقد السلم، وأن يكون ذلك على يد رسول أوفده إليه، وأنه على استعداد للتفاوض مع من يرسله إليه ملك قشتالة من رجاله لهذا الغرض (2). ومن الواضح أن هذه المحاولة من جانب زيان ترجع إلى ما كان معقوداً بين مملكتى قشتالة وأراجون من أن الاستيلاء على منطقة مرسية، كان من حق ملك قشتالة. على أن الأمر لم يطل برياسة زيان لمرسية، فقد خرج عليه زعيم من بني هود، من أبناء عمومة المتوكل، يدعى محمد بن هود، والتف حوله أهل مرسية، فانتزع الحكم من زيان وتلقب ببهاء الدولة، وخرج زيان من مرسية، في أهله وأمواله ولجأ في قومه وعشيرته إلى لقنت ذلك في سنة 638 هـ (1240 م). وعاش بها بضعة
_______
(1) وردت هذه الرسالة في كتاب " زواهر الفكر" الذي سبقت الإشارة إليه (مخطوط الإسكوريال رقم 518 الغزيري (رقم 520 ديرنبور).
(2) أورد لنا القلقشندي نص هذه الرسالة في صبح الأعشى ج 7 ص 116 و 117(4/458)
أعوام في خمول، وهو يشهد سقوط قواعد الشرق المتوالى في أيدي النصارى، إلى أن وصل الأرجونيون إلى بلده واستولوا عليها، وذلك في سنة 644 هـ (1246 م) فعندئذ عول على مغادرة الأندلس قاطبة، وركب البحر في أهله إلى تونس، ونزل بها في كنف أميرها، إلى أن توفي سنة 668 هـ (1269 م) (1).
وكان الأرجونيون خلال ذلك قد استولوا على ثغر دانية، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 641 هـ (مايو 1244 م)، وبعد ذلك بنحو عامين استولوا على شاطبة، وذلك في آخر صفر سنة 644 هـ (يوليه 1246 م). وكانت شاطبة منذ أيام المتوكل ابن هود، قد تولى رياستها من قبله يحيى بن أحمد بن عيسى الخزرجى، فلما توفي في شعبان سنة 634 هـ، وليها من بعده، ولده أبو بكر محمد، وولي كذلك دانية حيناً، واستمر على ولايته لشاطبة أعواماً من بعد سقوط بلنسية، وهو يصانع الملك خايمى، ويؤدى إليه ما شاء من جزية، إلى أن قرر خايمي في النهاية الاستيلاء عليها، فدخلها الأرجونيون صلحاً في التاريخ المتقدم (صفر 644 هـ) وذلك بعد حصار قصير. ولم يمض سوى عام ونصف حتى نقضوا الهدنة مع أهلها المسلمين، وأرغموهم على الجلاء عنها وذلك في رمضان سنة 645 هـ (2) فتفرقوا في مختلف البلاد، وغادرها واليها السابق أبو بكر في أهله ولجأ إلى أحد الحصون القريبة منها. وكان أبو بكر بن يحيى هذا، أديبا متمكناً من النثر والنظم، وقد أورد لنا ابن الأبار شيئاً من نظمه (3).
وهكذا استولى الأرجونيون من بعد بلنسية، خلال أعوام قلائل فقط على سائر القواعد القريبة منها، جزيرة شقر، ودانية، وشاطبة، والبيضاء، ولقنت (4) وغيرها، ولم يبق من قواعد الشرق بيد المسلمين سوى مرسية وأحوازها. على
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 168، وج 6 ص 285. ويقول صاحب الذخيرة السنية إن زيان لجأ إلى حصن اللش (ألش). وراجع: M.G. Remiro: ibid ; p. 295 & 296
(2) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) ج 1 ص 124 و 334.
(3) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 247 و 248. وفي التكملة " القاهرة " في الترجمة رقم 310 و 907.
(4) يضع صاحب الذخيرة السنية تاريخ استيلاء النصارى على دانية ولقنت وألش وأوريولة وقرطاجنة في سنة 640 هـ (1242 م) (ص 65) ولكنا نرجح فيما يتعلق بدانية ولقنت، ما تقدم من الروايات. ثم هو يعود فيذكر لنا مرة أخرى أن سقوط أوريولة كان في سنة 649 هـ (1251 م) (ص 87). ولكن سنرى أن هذه القواعد الأخيرة قد تأخر سقوطها إلى ما بعد ذلك(4/459)
أن القدر كان أيضاً بالمرصاد لمرسية، وإن كان قد طوح بها إلى مصير آخر.
- 5 -
وذلك أنه لما نجح بهاء الدولة محمد بن هود، وانتزاع حكم مرسية من الأمير أبي جميل زيان، وذلك في سنة 638 هـ، كان ابن عصام صاحب أوريولة من أنصاره والمعترفين بطاعته، ولكن لورقة لبثت مع ذلك محتفظة باستقلالها برياسة واليها ابن أحلى.
على أنه لم يمض سوى قليل حتى شعر أهل مرسية أن الأمور لا يمكن أن تسير على هذا النحو، وأن توالى سقوط قواعد الشرق في يد الأرجونيين، سوف يحدد مصير مرسية، عاجلا أو آجلا، ومن جهة أخرى فإن انضواء مرسية تحت لواء أمير إفريقية الحفصى لن يغنى شيئاً، لبعد الشقة، وتعذر العون، ومن ثم فقد قرر أشياخ مرسية بالاتفاق مع بهاء الدولة أن يتفاهموا مع النصارى، رجاء صونها من الغزو والتخريب، واتجهوا في ذلك إلى ملك قشتالة، إما لأنهم آثروا القشتاليين على الأرجونيين، وإما لأنهم كانوا يعلمون أن مدينتهم تقع في منطقة الغزو القشتالي، وبعثوا إلى ملك قشتالة سفارة على رأسها أحمد بن محمد بن هود ولد واليها، يعرضون عليه الاعتراف بطاعته وتأدية الجزية إليه، وأن يسمح له بوضع حامية بالمدينة. وتضع الرواية الإسلامية تاريخ هذا العرض في سنة 639 هـ الموافقة لسنة 1241 م، وهو التاريخ الذي تقدمه لنا الرواية النصرانية (1). وكان ملك قشتالة فرناندو الثالث يومئذ مريضاً في برغش، وكان ولده وولي عهده الإنفانت ألفونسو بمدينة طليطلة، فوفدت عليه هنالك سفارة مرسية، فاستقبلهم باسم والده الملك، وأبلغ النبأ في الحال إلى فرناندو، فوافق على عرض أهل مرسية، وصرفهم الإنفانت بعد التفاهم معهم على تسلم المدينة، ثم سار بعد قليل في نفر من صحبه صوب مرسية، حيث التقى في الكَرَس بنواب مرسية، وعقد معهم معاهدة التسليم، ودخل ألفونسو ولى عهد قشتالة وصحبه، ومعهم أحمد بن محمد بن هود مرسية، وتسلموها صلحاً، وذلك على الاعتراف بالطاعة، وأداء الجزية، وبقاء حكمها بأيدى أهلها، وذلك في اليوم العاشر من شوال سنة 640 (2 أبريل 1243 م) (2). ووضع القشتاليون بعض
_______
(1) الذخيرة السنية ص 64، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 88
(2) هذه هي رواية ابن الأبار في التكملة (القاهرة) في الترجمة رقم 2671، ولكن المقري =(4/460)
الجند في مرسية، وفي بعض الحصون التابعة لها، واحتفظ أمير مرسيه بسيادته التامة على لقنت، وأوريوله، وألش، وبعض الأماكن الأخرى الداخلة في أعمال مرسية. وكذلك فإن لورقة، ومولة، وقرطاجنة، وهي من أعمال مرسية، لم تدخل في هذا التسليم، واحتفظت باستقلالها حيناً، حتى استولى عليها القشتاليون في سنة 1245 م. أما مرسية فلبثت عدة أعوام أخرى تحت حكم واليها محمد بن هود، بهاء الدولة، ثم بعد وفاته تحت حكم ولده أبي جعفر أحمد، وذلك تحت حماية ملك قشتالة. وكان والي مرسية يعرف عندئذ عند النصارى بملك مرسية. وكان من الغريب أن " تبقى مملكة مرسية " الإسلامية قائمة على هذا النحو تتمتع بنوع من الاستقلال، بعد أن سقطت بلنسية، وكل أعمالها، وأضحى النصارى يشرفون عليها من لقنت وألش وغيرها من قواعد هذه المنطقة. ولكن ذلك يمكن تفسيره أولا، بما وقع من الاضطرابات المستمرة في بلنسية ضد الأرجونيين، وقيام المسلمين المدجّنين في بلنسية، وشاطبة، ومربيطر وقسطلونة وغيرها، ومحاولتهم استرداد استقلالهم بقوة السلاح، واستردادهم بالفعل لبعض الحصون الهامة (سنة 1254 م)، وثانيا باشتداد ساعد مملكة غرناطة، المملكة الإسلامية الجديدة التي أنشأها ابن الأحمر في جنوبي الأندلس، وتهديدها من آن لآخر بإنجاد أهل مرسية ومعاونتهم. وكان خايمى ملك أراجون حينما اشتدت الاضطرابات في بلنسية وأحوازها، قد عمل على تدعيم معظم الحصون بحاميات جديدة، وأخرج بالقوة آلافا مؤلفة من المسلمين المدجنين من أراضي بلنسية، فقصدوا إلى مرسية وأعمالها وتفرقوا فيها، وذهبت آلاف أخرى منهم إلى مملكة غرناطة. وفرض القشتاليون على المهاجرين منهم إلى مرسية وأعمالها ضريبة لدخولهم قدرها بيسانتى Besante عن كل فرد. واشتد ساعد " مملكة مرسية " بمن وفد إليها من هذه الجموع المهاجرة، واستطاعت أن تفرض احترام استقلالها الداخلى على النصارى فترة أخرى.
واستمر أبو جعفر أحمد بن هود واليا لمرسية وأحوازها حتى سنة 662 هـ (1264 م)، وفي هذا العام خرج عليه، أبو بكر محمد بن محمد بن يوسف ابن هود، وكان قد حكم مرسية بضعة أشهر عقب وفاة أبيه المتوكل، وتسمى
_______
= يقول لنا إن ذلك وقع في العاشر من شوال سنة 639 هـ (11 أبريل 1242 م) (نفح الطيب ج 2 ص 585) وراجع أيضاً: M.G. Remiro ; ibid ; p. 296(4/461)
بالواثق، ثم تغلب عليه عمه عضد الدولة بن هود، ثم جاء أبو جميل زيان فانتزع الحكم منه حسبما فصلناه فيما تقدم، إلى أن تغلب عليه بهاء الدولة ابن هود، وفي خلال ذلك كان الواثق يعيش مغموراً هادئاً، إلى أن سنحت له الفرصة لينتزع الحكم من أبي جعفر. وكان الواثق يعتقد أنه يستطيع بمعاونة المسلمين المدجّنين في منطقة الشرق، ومعاونة ابن الأحمر ملك غرناطة، أن يخلع طاعة النصارى، وأن يسترد لمرسية كامل استقلالها. وربما كان قد شعر أيضاً أن قشتالة لم تكن من القوة كما كانت أيام فرناندو الثالث. وكان فرناندو قد توفي منذ سنة 1252 م، وخلفه ولده ألفونسو العاشر، وشغلت قشتالة في ظله بصراعها مع مملكة غرناطة. ومن ثم فقد أعلن الواثق خلع طاعة ملك قشتالة، لأنه لم يلتزم الوفاء بما تعهد به في معاهدة التسليم، وخرق نصوصها بالاستطالة على حقوق مملكة مرسية، وبعث إلى رومة سفيراً يسعى لدى البابا، ليحمل ملك قشتالة على الوفاء بعهوده، من عدم التدخل في شئون مملكة مرسية، واستمر متمسكاً باستقلاله، ولكنه لما شعر بأن جند الملك خايمى ملك أراجون، بدأت تغير على أراضي مرسية وترهق أهلها، أعلن طاعته لابن الأحمر ملك غرناطة، وبعث إليه ابن الأحمر قوة من جنده بقيادة صهره الرئيس أبي محمد بن أشقيلولة، فقدم إلى مرسية وضبط أمورها، وخطب بها لابن الأحمر.
ويقدم إلينا ابن عذارى شرحاً آخر لتطور الحوادث في مرسية فيقول، إن أهل شرق الأندلس كانوا قد صالحو الروم بمال معلوم، يدفعونه لهم في كل عام، وأعطى أهل مرسية قصبتهم للروم. فلما ذاع فيهم ضرر الروم وأذاهم، أخرجوهم بالقتال والحصر، وكتب أهل مرسية إلى الأمير ابن الأحمر ببيعتهم، فبعث إليهم الرئيس أبا محمد بن أشقيلولة والياً. فزحف النصارى إليها، ونزلوا عليها، وحصر الرئيس فيها، ثم غادرها مع صحبه. وهكذا اضطر ابن الأحمر أن يتخلى عن حماية مرسية، واضطر نائبه ابن أشقيلولة أن يغادرها مع جنده. ويضع ابن عذارى تاريخ هذا الحادث في سنة 662 هـ (1264 م) ويزيد على ذلك أن أهل مرسية لم يجدوا بعد ابن الأحمر حماة ولا أنصاراً، واشتد عليهم حصار العدو وتألبه، فأعطوا مرسية للنصارى وخرجوا منها بالأمان إلى " الرشاقة"، فسكنوا بها نحو عشرة أعوام، إلى أن أخرجهم النصارى منها بالأمان في سنة ثلاث وسبعين، ولكنهم غدروا بهم في الطريق بموضع يعرف ببوركال، فقتلوا الرجال، وسبوا النساء(4/462)
والأطفال (1). ولكن الرواية النصرانية تقول لنا بالعكس، إنه على أثر مغادرة جند ابن الأحمر لمرسية، رد أهلها الأمر ثانية إلى الواثق ابن هود، فمضى في حكمها فترة قصيرة أخرى، إلى أن افتتحها الملك خايمى، وذلك على النحو الآتي:
في تلك الأثناء، كان ملك قشتالة ألفونسو العاشر، يعانى صعابا في الاحتفاظ بفتوحه الجديدة في الأندلس، ولاسيما في منطقة شريش وشذونة، ويرقب نشاط ابن الأحمر ملك غرناطة وازدياد قوته بعين التوجس والخوف. وزاد قلقه من جراء ذلك بما حدث من عبور بعض قوات بني مرين من المغزب إلى الأندلس، لمناصرة ابن الأحمر. وكان من جهة أخرى يرى نفسه عاجزاً عن قمع ثورة مرسية، واسترداد سيادته عليها، ومن ثم فقد بعث إلى حميه خايمى ملك أراجون - وكان قد تزوج بابنته الأميرة فيولانتى، وارتبط معه برباط المصاهرة والصداقة الوثيقة - يطلب إليه المعاونة في منطقة مرسية، لأن الثورة في مرسية تهدد سيادته في بلنسية، ومن ثم فقد قرر الملك خايمى، بعد استشارة الأمراء والأحبار، أن يسير لافتتاح مرسية، بالرغم من كونها تقع في منطقة نفوذ قشتالة، وذلك نزولا على رغبة ملك قشتالة نفسه (2). فجهز حملة قوية، وسار جنوبا صوب مملكة مرسية، وزحف أولا على حصونها الأمامية ألش ولقنت وأوريوله، واستولى عليها، ثم بقى في أوريولة، وضربت جنده الحصار حول مرسية، وبذل الأرجونيون كل جهد للتضييق على المدينة المحصورة، ورد كل أمداد يصل إليها من غرناطة، واستمر الحصار بضعة أشهر. فلما رأى الواثق أنه لا مفر من التسليم، بعد أن نفدت سائر الموارد، وغاض كل أمل، فاوض الملك خايمى في التسليم، واتفق معه على أن يعوضه عن مرسية بحصن " يسر " ليقيم فيه هو وأهله وصحبه. وهكذا سلمت مرسية آخر قواعد الشرق الكبرى، ودخلها الملك خايمى الأرجونى وذلك في في شهر فبراير سنة 1266 م. وهو يوافق التاريخ الذي تضعه الرواية الإسلامية لسقوط مرسية، وهو سنة 664 هـ، وإن كانت ثمة روايات نصرانية أخرى تضع تسليم مرسية في سنة 1269 أو 1270 م (3). ولم يطلب الملك خايمي
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 438.
(2) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 132
(3) ابن خلدون ج 4 ص 171. وهو يجمل سقوط مرسية في كلمة عابرة، وإنما استقينا التفاصيل المتقدمة من كتاب: G. Remiro: ibid ; p. 300 - 303. وفيها يلخص مختلف الروايات النصرانية(4/463)
من اهل مرسية الجلاء عن أرضهم كما حدث في بلنسية وقواعدها، ولكنه طلب إليهم فقط أن يسمح لأهل أراجون وقطلونية بالهجرة إلى أراضي مملكة مرسية. وكان قد حمل على هذا الاعتدال، بما حدث في بلنسية وقواعد الشرق الشمالية من الاضطرابات العنيفة على إثر إخراج سكانها من أوطانهم.
وهكذا استولى خايمى الفاتح على سائر ثغور شرقي الأندلس وقواعده، من بنشكلة وقسطلونة شمالا، حتى قرطاجنة ولورقة جنوبا، وذلك في فترة لا تتجاوز الثلاثين عاما، وانتهت بذلك سيادة الإسلام في تلك الرقعة الكبيرة من الوطن الأندلسي القديم، بعد أن لبثت بها أكثر من خمسة قرون، وأضحى أهلها المسلمون الذين آثروا البقاء بأوطانهم القديمة، واستسلموا إلى قدرهم في ظل حكم السادة النصارى الجدد، مدجنين Mudéjares تعصف بهم إرادة الفاتح، وتسلبهم حقوقهم الدينية والمدنية، ومميزاتهم القوية شيئاً فشيئاً، ولا تنفعهم ثورتهم المتكررة في سبيل الاحتفاظ بكيانهم، حتى غدوا بمضى الزمن مجتمعاً غريبا في بلاده، وفقدوا دينهم القديم، ولغتهم العربية، وغلبت عليهم الذلة والعبودية، وحتى هذه الحياة المسكينة الذليلة في ظل آثار دينهم ولغتهم لم تدم، وكان أن أرغموا بعد ذلك على التنصر، واعتناق دين الغالب ولغته، وأضحى تاريخهم في ظل الحكم الإسباني، وظل الكنيسة الإسبانية، ومحاكم التحقيق، مأساة من أروع مآسى التاريخ، وأبلغها إيلاما للنفس، وهي التي تعرف بمأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين (1)
_______
(1) تناولنا كل ما يتعلق بمصاير المدجنين وأحوالهم وتاريخ الموريسكيين بتفصيل واف في كتابنا " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين " (ص 47 - 58)(4/464)
الفصل الرابع سقوط إشبيلية وقواعد الغرب
ابن الأحمر واشتداد ساعده. يعتزم محاربة القشتاليين. محاصرته لمرقش. هزيمته للقشتاليين. غزو فرناندو الثالث للأندلس الوسطى. عيثه في أحواز جيان. افتتاحه لأرجونة وغزوه لفحص غرناطة. يعتزم افتتاح جيان. أهبة جيان وحصانتها. مسيره إلى جيان وحصارها. استنجاد واليها بابن الأحمر. طول الحصار ونفاد المؤن. موقف ابن الأحمر. يؤثر التفاهم مع ملك قشتالة. اعترافه بطاعة فرناندو. بقية شروط المعاهدة المعقودة. دخول القشتاليين جيان. جيان ومركزها التالد بين قواعد الأندلس. الأماكن الأخرى التي نزل عنها ابن الأحمر. انهيار الأندلس الشرقية والوسطى. تحول أنظار النصارى إلى إشبيلية. إشبيلية ومركزها أيام الفتنة. تطور مصايرها منذ قيام ابن هود. عودها إلى طاعة الموحدين. استقلالها المحلى. اعترافها بطاعة الدولة الحفصية. سبتة تحذو حذوها. الأمير أبو زكريا يعين والياً لإشبيلية ويوجه رسالة إلى أهلها. سوء تصرف الحكام الإفريقيين. أهل إشبيلية يخرجونهم ويقتلون زعيمهم ابن الجد. ماذا وراء ثورة أهل إشبيلية. زعماء إشبيلية الجدد. إعلانهم إلغاء المعاهدة التي عقدت بين ابن الجد وملك قشتالة. مضمون هذه المعاهدة. غضب ملك قشتالة لمصرع ابن الجد. محاولة الزعماء تجديد المعاهدة مع فرناندو. رفض فرناندو واعتزامه فتح إشبيلية. منعة إشبيلية وظروفها الجغرافية. فرناندو يعتزم أخذها بالحصار. مسيره إليها في قواته. معاونة ابن الأحمر للنصارى. استيلاء فرناندو على قلعة جابر. عيث القوات القشتالية في فحص الشرف وفحص شريش. تجهيز السفن للحصار. معاونة البابا في المشروع. فرناندو يجهز قوات الغزو النهائي في قرطبة. البدء بمهاجمة قرمونة. اشتراك جند ابن الأحمر في ذلك. تطويق النصارى لقرمونة. عرض أهلها للتسليم. استيلاء فرناندو على لورة وقنطلانة. تسليم غليانة وجرينة. مهاجمته للقلعة. دفاعها ثم تسليمها. دور ابن الأحمر في تسليم هذه المعاقل. مقدم أسطول الحصار. يرابط في الوادي الكبير. ظروف إشبيلية الدفاعية واستعدادها للدفاع. قصور الرواية الإسلامية في التعريف بزعماء إشبيلية ودروها الدفاعى. بداية الحصار. مهمة الأسطول النصراني. اشتراك ابن الأحمر وجنده في الحصار. إشبيلية تتلقى الأمداد من النهر ومن وادي الشرف. المعارك المستمرة بين الإشبيليين والنصارى. عيث النصارى في ضواحيها. السفن المغربية تصارع السفن النصرانية وتحمى خط إمداد المدينة. محاولتها حرق السفن النصرانية. مقدم قوات الفرسان والأحبار والمدن النصرانية لتعزيز الحصار. صريخ أهل إشبيلية إلى أمراء المغرب. قصيدة ابن سهل الإشبيلي. قصيدة أبي موسى هرون. تحطيم النصارى لقنطرة طريانة. مهاجمة النصارى لطريانة. دفاع الحامية الإسلامية. محاصرة طريانة وفصلها عن إشبيلية. اشتداد محن الحصار على المدينة. وصف ابن عذارى لذلك. اجتماع الزعماء وبحث الموقف. عرض الزعماء للتسليم الجزئي. رفض ملك قشتالة وإصراره على التسليم الشامل. المفاوضة في التسليم وشروطه. إخلاء المسلمين للمدينة. تأمين(4/465)
النصارى للمهاجرين. مسيرهم إلى العدوة ومختلف أنحاء الأندلس الباقية. عبور القائد شقاف وزملائه إلى سبتة. مصيرهم المؤسى. دخول فرناندو الثالث إشبيلية. تحويل الجامع الأعظم إلى كنيسة. تقسيم دور المسلمين بين الفاتحين. إشبيلية تغدو عاصمة قشتالة. تأملات عن سقوط إشبيلية. افتتاح القشتاليين لقواعد هذه المنطقة. خضوع ابن محفوظ صاحب لبلة. خضوع صاحب شريش. أحوال شريش بعد ذلك. سقوط قادس. القاضي ابن محفوظ ومدى رياسته. تفاهمه مع ملك قشتالة. نزوله عن بعض الحصون والأماكن. استيلاء البرتغاليين على ميرتلة وشلب وطبيرة وشنتمرية الغرب. خروج ابن محفوظ على ملك قشتالة ألفونسو العاشر. مسير ألفونسو إلى لبلة ومحاصرتها. مناعة لبلة وصمودها. إطلاق المسلمين منها آلات تشبه المدافع. تسليم لبلة. مصير ابن محفوظ. الخلاف بين البرتغال وقشتالة على بعض قواعد الغرب. فرناندو الثالث. إشادة الرواية النصرانية بعبقريته. يعتبر قاهر الأندلس الحقيقي. البابا يسبغ عليه صفة القداسة.
- 1 -
في نفس الوقت الذي كانت فيه قواعد الشرق، تسقط تباعا في أيدي الأرجونيين، كان ملك قشتالة فرناندو الثالث، منذ استولى على قرطبة عاصمة الخلافة القديمة في شوال سنة 633 هـ، يتابع غزواته وفتوحه في منطقة الأندلس الوسطى.
وكان محمد بن الأحمر أمير غرناطة، يعمل خلال هذه الفترة على توطيد مركزه في الأندلس الجنوبية، وقد قوي أمره، واشتد ساعده، ونمت موارده، باستيلائه على ألمرية ومالقة عقب وفاة ابن هود، وغدا يبسط سلطانه على سائر المنطقة الممتدة من جنوبي الوادي الكبير حتى البحر، ومن ألمرية غربا حتى رندة.
ولم ينس ابن الأحمر أمر المنطقة الشمالية التي بدأ منها، والتي بها موطنه ومنشأ أسرته، وهي منطقة جيان وأرجونة. وكان القشتاليون، منذ استيلائهم على قرطبة، قد عاثوا مراراً في تلك المنطقة، وخربوا ربوعها، فلما شعر ابن الأحمر باشتداد ساعده وتكاثر جمعه، اعتزم أن يسير لقتال القشتاليين، وأن يعمل على تحرير تلك المنطقة من عيثهم، فخرج من غرناطة في قوة كبيرة، وقصد إلى مرتش وهي بلدة حصينة تقع جنوب غربي جيان، وكانت بيد القشتاليين، وضرب حولها الحصار، (سنة 636 هـ)، ولكن النصارى قدموا لإنجادها بسرعة، واضطر ابن الأحمر أن يرفع الحصار. وهنا وقعت بينه وبين القشتاليين بقيادة دون ردريجو ألونسو، وهو أخ غير شرعى لفرناندو الثالث، معركة عنيفة هزم فيها القشتاليون هزيمة شديدة، وقتل منهم وممن كان معهم من فرسان(4/466)
شنت ياقب عدد جم. وكان لذلك الحادث أعمق وقع في قشتالة. ومضى على ذلك نحو عامين أو ثلاثة، ثم نهض فرناندو الثالث لتدارك الموقف، وخرج في قواته قاصداً إلى الأندلس من ناحية أرجونة، وهو يخرب تلك الأنحاء، وينتسف زروعها. ثم سار جنوبا نحو جيان والقبذاق، وكان يتوق للانتقام لهزيمة جنده في مرتش، فخرب أيضاً أراضي تلك المنطقة. ثم بعث جانبا من قواته لافتتاح أرجونة، وهي موطن ابن الأحمر ومثوى أسرته، فحاصرها القشتاليون مدى يومين، وفي اليوم الثالث أشرف عليها فرناندو في بقية جيشه، فلما أيقن أهلها المسلمون أنه لا أمل لهم في الصمود والإنجاد، سلموها بالأمان وغادروها حاملين أمتعتهم وذخائرهم، وبعث فرناندو قواته صوب الجنوب لتغزو فحص غرناطة، فعاثت في أنحائه وخربت كثيراً من ربوعه. ووقعت هذه الحوادث في أواخر سنة 1244 م (أواسط سنة 642 هـ) ثم قصد فرناندو بعد ذلك إلى قرطبة فاستراح بها حتى أوائل العام التالي.
وكان أهم هدف لملك قشتالة في تلك المنطقة، هو الاستيلاء على مدينة جيان عاصمتها التالدة، وأمنع قواعدها، وكان قد حاصرها قبل ذلك في سنة 1230 م (627 هـ) ولكنه أخفق في الاستيلاء عليها، وكان ابن الأحمر قد اتخذها مقرا لرياسته في مبدأ أمره. وكانت جيان مدينة عظيمة، حسنة التخطيط والبناء، ذات صروح وآثار جميلة، وكانت تتمتع بمناعة فائقة، سواء بأسوارها العالية، أو بقلعتها الحصينة الشامخة، التي مازالت أطلالها القائمة تنبىء بحصانتها القديمة، كما أنها بموقعها الطبيعي في منطقة من البسائط الخضراء اليانعة، كانت من أغنى قواعد الأندلس الوسطى وأكثرها رخاء (1). وكان الاستيلاء عليها يحقق للقشتاليين بسط سلطانهم على سائر أنحاء تلك المنطقة الغنية الخصبة. ومن ثم فقد عول فرناندو على افتتاحها، ولم يك ثمة سبيل آخر لتحقيق هذه الغاية سوى محاصرة هذه المدينة الكبيرة الغنية، حتى يرغمها الجوع على التسليم.
وفي أواخر سنة 642 هـ (أوائل سنة 1245 م)، أشرف فرناندو الثالث بقواته على مدينة جيان، وضرب حولها الحصار. ولم يكن هذا الحصار أمراً هيناً لوقوعه في قلب الشتاء، وكان اشتداد البرد وهطل الأمطار، يضاعف متاعب الجند المحاصرين، واستمر الحصار على هذا النحو شهراً، وجيان صامدة، وقد
_______
(1) الروض المعطار ص 70 و 71(4/467)
خرج أهلها غير مرة لمقاتلة القشتاليين ففتكوا بهم وقتلوا وجرحوا الكثيرين منهم. بيد أن المدينة المحصورة كانت من جهة أخرى تعانى من الحرمان والجوع. وكان واليها أبو عمر علي بن موسى، حينما شعر بتحركات القشتاليين ومراميهم، قد أرسل قبل الحصار إلى ابن الأحمر يستغيث به، ويطلب إنجاده بالمؤن، لكي تستطيع المدينة مقاومة النصارى، فبعث إليه ابن الأحمر بقافلة كبيرة من المؤن استطاعت أن تجتنب القشتاليين، وأن تصل إلى المدينة، فلما طال الحصار نفدت الأقوات، وأخذ الموقف يتحرج، ومع ذلك فقد لبثت المدينة على صمودها. وكان ابن الأحمر خلال ذلك يرقب الحوادث بمنتهى الجزع، وكانت غزوات القشتاليين قد وصلت غير مرة، إلى فحص غرناطة، وإلى غرناطة ذاتها، وشعر ابن الأحمر أنه لابد أن يلتمس الوسيلة لتأمين سلطانه، واجتناب عادية القشتاليين، ولم يك ثمة وسيلة أنجع من التفاهم مع ملك قشتالة، والحصول على مهادنته. ومن جهة أخرى فقد أدرك ابن الأحمر، أنه لا سبيل إلى إنجاد جيان، أو اجتناب مصيرها المحتوم، وأنه يحسن تدارك الموقف، قبل أن تسقط المدينة في أيدي القشتاليين، أو يقومون باقتحامها وتخريبها. ومن ثم فقد بدأ ابن الأحمر بمفاوضة ملك قشتالة وكان فرناندو الثالث يصر على أن يكون أساس التفاهم مبدأً واحداً لا سبيل إلى تغييره، هو وجوب خضوع ابن الأحمر لسيادته، والاعتراف بطاعته. ولم ير ابن الأحمر محيصاً عن قبول هذا الشرط المؤلم، فسار بنفسه إلى المعسكر القشتالي تحت أسوار مدينة جيان، وقدم طاعته إلى ملك قشتالة. وعقدت بين الملكين معاهدة سلام وتحالف، خلاصتها أن تسلم مدينة جيان وأعمالها في الحال إلى ملك قشتالة، وأن يحكم ابن الأحمر مملكة غرناطة وسائر أراضيها، باعتباره تابعا لملك قشتالة، بكل ما يستتبعه هذا الاعتراف من فروض، ومنها أن يتعاون ابن الأحمر مع قشتالة في الحرب وفي السلم، وأن يشهد اجتماع الكورتيس (مجلس قشتالة النيابى)، وأخيراً أن يؤدي ابن الأحمر إلى ملك قشتالة جزية قدرها مائة وخمسون ألف مرافيدى تؤدى خلال عشرين عاما، وهي المدة التي اتفق أن يعقد خلالها السلم والتهادن بين الفريقين. وتم عقد هذه المعاهدة في أوائل سنة 1246 م (أواخر سنة 643 هـ) (1).
وعلى أثر ذلك دخل القشتاليون مدينة جيان العظيمة، وحول مسجدها الجامع
_______
(1) J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia, p. 94 & 95(4/468)
في الحال إلى كنيسة، وغادرها معظم أهلها المسلمين، وتفرقوا في قواعد الأندلس الجنوبية. ولما تم احتلال الجند النصارى للمدينة، دخلها ملك قشتالة، في موكب فخم، وشهد القداس الذي أقيم في جامعها ابتهاجاً بالنصر، ووزع دور المدينة على أكابر الفرسان، ومعظمهم من جماعة فرسان شنت ياقب، وجماعة فرسان قلعة رباح.
وكانت جيان من مراكز العلوم والآداب بالأندلس، وإليها ينتسب عدد كبير من العلماء والأدباء، ومنهم الحافظ أبو علي الجيانى، والفقيه أبو ذر مصعب ابن محمد بن مسعود الخشنى. ومما أنشده بعض أهل جيان عند الخروج منها هذان البيتان:
أودعكم أودعكم جيّاني ... وأنثر عبرتى نثر الجمان
وانى لا أريد لكم فراقا ... ولكن هكذا حكم الزمان (1)
ونزل ابن الأحمر للقشتاليين، عدا جيان، عن أرجونة بلده ومثوى أسرته، وعن بركونة وبيغ والحجار، وكذلك نزل إليهم عن أرض الفرنتيرة لعجزه عن الاحتفاظ بها (2). وهكذا اشترى ابن الأحمر سلامته، وسلامة مملكته وأراضيه بهذا الثمن الفادح، وارتضى بالأخص أن يضحى باستقلاله السياسي وهيبته الملوكية إلى حين، وذلك لكي يأمن شر عدوان خصمه القوي القاهر، ولكى يتفرغ إلى تنظيم مملكته وإلى توطيد سلطانه الداخلي (3).
- 2 -
كان من الواضح، في تلك الآونة، بعد أن توالى سقوط قواعد الأندلس الكبرى، الشرقية والوسطى: قرطبة وبلنسية وشاطبة، ودانية، وبياسة، وأبدة وجيان، وكثير غيرها، وذلك كله في فترة قصيرة لا تعدو عشرة أعوام، أن الأندلس الكبرى قد انهارت دعائمها، وتحطمت منعتها، وقواها الدفاعية، وأنه باستثناء القواعد الجنوبية التي اجتمعت في ظل مملكة غرناطة، والتي يسيطر عليها
_______
(1) الروض المعطار ص 72.
(2) أرجونة بالإسبانية Arjona، وبركونة Porcuna، وبيغ أو بيغو Priego، والحجار هي Higuéra، وكلها تقع في منطقة جيان.
(3) راجع ابن خلدون ج 7 ص 190، والذخيرة السنية ص 72، وابن الخطيب في اللمحة البدرية ص 36، وفي الإحاطة المطبوع ج 2 ص 65(4/469)
ابن الأحمر، لم يبق من قواعدها الكبرى دون فتح، سوى مدينة إشبيلية العظيمة وأحوازها، والقواعد القريبة منها في الشرق والغرب والجنوب.
كانت إشبيلية بعد قرطبة، هي التي تجذب عندئذ أنظار ملك قشتالة، وأنظار الأحبار وجماعات الفرسان النصارى، وهم الذين كانوا يفوزون من غنائم المدن المفتوحة، بأعظم قسط. ولكن إشبيلية لم تكن هدفاً سهل المنال، ولم تكن مثل قرطبة مجردة من وسائل الدفاع، وكانت خطوطها الدفاعية الأمامية، ماتزال تدعمها طائفة من القواعد والحصون القوية، التي كان لابد من إخضاعها قبل الإقدام على منازلة إشبيلية ذاتها.
وكانت إشبيلية مذ عمت الفتنة أرجاء الأندلس، وتوالت الثورة ضد الموحدين في مختلف القواعد، تتولى مصايرها بنفسها، وترسم لنفسها خطة قيادتها وحكمها. وكانت باعتبارها أعظم حواضر الأندلس في ذلك العصر، وباعتبارها مركز الحكم الموحدي بالأندلس، تتخذ مركز القيادة في تصرفاتها واتجاهاتها، وقد لبثت تحتفظ بهذه الصفة، حتى قيام أبي العلى المأمون بها، واتخاذه لقب الخلافة، وذلك في سنة 624 هـ، ثم مغادرته لها ليعبر إلى العدوة، وذلك في أواخر سنة 626 هـ (أواخر سنة 1228 م).
ولما قام ابن هود بثورته في شرقي الأندلس، وبزغ نجمه، وأطاعته معظم القواعد الشرقية والوسطى، خلعت إشبيلية طاعة الموحدين، ونادت بطاعته، وولي عليها أخاه عماد الدولة. ولكن أهل إشبيلية لم يلبثوا طويلا على طاعته، فنكثوا ببيعته، وأخرجوا أخاه من المدينة، والتفوا حول قاضيهم ابن مروان الباجى، وذلك في سنة 629 هـ. ولما قوي أمر ابن الأحمر أمير جيان يومئذ في المنطقة الوسطى، واشتدت المنافسة بينه وبين ابن هود، تفاهم ابن الأحمر مع الباجى، وتحالف الإثنان على قتال ابن هود، وهزماه على مقربة من إشبيلية (631 هـ)، ودخل ابن الأحمر إشبيلية، وغدر بحليفه الباجى، ودس عليه من قتله، فثار به أهل إشبيلية، وأخرجوه منها، ونادوا بطاعة ابن هود مرة أخرى.
ولما توفي ابن هود في أوائل سنة 635 هـ، وانهارت بوفاته دعوته في معظم القواعد، رأى أهل إشبيلية أن يعودوا إلى طاعة الدولة الموحدية. وكان زعيمهم عندئذ الفقيه أبو عمرو بن الجد، وهو حفيد الحافظ الشهير أبي بكر بن الجد، وبعث أهل إشبيلية بدعوتهم وفداً إلى الخليفة الرشيد بمراكش، وقدموا للولاية عليهم(4/470)
السيد أبا عبد الله بن السيد أبي عمران، وأقره الرشيد في منصبه، وهكذا عادت الحاضرة الأندلسية الكبرى إلى الانضواء تحت لواء الخلافة الموحدية.
على أن هذا العود إلى طاعة الخليفة الموحدي لم يكن سوى مسألة شكلية فقط، وكان حكم المدينة الفعلي باقيا بيد زعيمها القوي ابن الجد. وكانت إشبيلية في الواقع منذ اضطرب أمر الموحدين، وعمت الفتنة أرجاء الأندلس، تتمتع في إدارة شئونها بنوع من الإستقلال المحلي، وذلك بالرغم من انضوائها تحت لواء هذا الأمير أو ذاك. ثم إن هذا العود لم يطل أمده، ذلك أن أحوال الخلافة الموحدية وما كان يضطرم حول عرش مراكش من الخلافات والحروب، كان نذيراً بانحلال الدولة الموحدية وتضعضع قواها، وعجزها عن أن تنجد الأندلس وقت الخطر الداهم. ومن جهة أخرى، فقد كانت الدولة الحفصية التي قامت بإفريقية على أنقاض سلطان الدولة الموحدية، وأخذ نجمها يبزغ في الأفق، تبدو بما تتمتع به من القوي والموارد والفتوة، ملاذاً أفضل وأقدر على تأدية رسالة المغرب القديمة في إنجاد شبه الجزيرة، وكانت مبادرة أميرها أبي زكريا الحفصى إلى إنجاد بلنسية، حينما دهمها النصارى استجابة لصريخ أميرها أبي جميل زيان سنة 636 هـ، ماتزال بالرغم من إخفاقها في تحقيق الغاية المنشودة، مثلا يضرب في الشهامة والوفاء، والجهاد في سبيل الله. ومن ثم فقد انتهى أهل إشبيلية بتوجيه زعيمهم أبي عمرو ابن الجد، إلى خلع طاعة الخلافة الموحدية، والاتجاه إلى الدولة الحفصية، وإعلان بيعتها. وكان لهم في ذلك أسوة، بما قام به ابن الأحمر نفسه في بداية أمره، وما قام به أبو جميل زيان أمير بلنسية، من مبايعة الدولة الحفصية والانضواء تحت لوائها.
وعقد أهل إشبيلية بيعتهم للأمير أبي زكريا يحيى الحفصي في سنة 643 هـ (1245 م)، وبعثوا بها إلى تونس مع وفد من كبرائهم. وفي نفس هذا العام أعلن أبو علي بن خلاص صاحب سبتة بيعته أيضاً إلى الأمير أبي زكريا، وبعث بها مصحوبة بهدية إلى الأمير مع ولده في سفينة خاصة، فغرقت باليم بمن فيها. ولما وصل وفد إشبيلية إلى تونس، وعلم بأمر بيعة سبتة، استقبل الأمير أبو زكريا البيعتين بمنتهى الارتياح، وندب للولاية على سبتة ابن الشهيد الهنتاني، وعلى أشغالها ابن أبي خالد البلنسى، وندب لولاية إشبيلية ابن أخيه أبا فارس عبد العزيز ابن الشيخ أبي حفص لكي يستقر في قصبتها، ويشرف على شئونها إلى جانب(4/471)
ابن الجد (1) ووجه الأمير إلى أهل إشبيلية بتاريخ العاشر من محرم سنة 646 هـ رسالة، يعرب فيها عن اغتباطه ببيعتهم، ويعدهم بأن يمهد لهم سبل إصلاح شئونهم، وتوفير أمنهم وسلامتهم، والبدار إلى إنجادهم عند النوائب والخطوب، وأن يثقوا بنصر الله وإمداده (2).
وعاد وفد إشبيلية بعد إتمام مهمته، في تقديم البيعة للأمير الحفصي، وصحبهم الوالي وبعض رجاله والقائم بالأعمال، ووصلوا في جملة من السفن إلى إشبيلية، وهنالك قام أولئك النفر من أهل إفريقية بارتكاب ضروب من الفساد والأمور الشنيعة " التي لا يمكن ذكرها ". فأخرجهم أهل إشبيلية من مدينتهم، وقتلوا ابن الجد، إذ كان هو السبب فيما حدث، وأدى إلى مقدم هؤلاء القوم المفسدين. وتزيد الرواية على ذلك، أن مقتل ابن الجد كان سببا في زحف النصارى على إشبيلية وحصارهم لها، إذ كان ملك قشتالة مصادقا لابن الجد " ومصالحا له على المسلمين " فلما قتل فسد هذا الصلح، وقام النصارى بحصارهم (3).
على أن ذلك لم يكن وحده سبباً في قيام الثورة التي أودت برياسة ابن الجد وحياته، ذلك أنه كان لابن الجد خصوم ومنافسون أقوياء، وكان من أخطاء ابن الجد، أنه طرد أولئك الخصوم من ديوان الحكم، وأخرج بعضهم من قيادة الجيش، فنظمت المؤامرة، وقامت الثورة. وكان أبرز زعمائها القائد شقاف وهو الذي تسميه الرواية الإسلامية " بقائد الفحص شقّاف " (4) وتسميه الرواية النصرانية Axataf. وفي الحال تولى الزعماء الجدد الرياسة، وأعلنوا بطلان المعاهدة التي عقدها ابن الجد مع النصارى، وجددوا الدعوة إلى طاعة أمير إفريقية الحفصى، وانضواء إشبيلية تحت لوائه (5).
- 3 -
وأما حقيقة هذه العلاقات التي كانت قائمة بين ابن الجد وبين فرناندو الثالث ملك قشتالة، والتي كانت كفيلة بقيام التهادن بينه وبين النصارى، وتأمين سلام
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 375، وابن خلدون ج 4 ص 171.
(2) راجع نص هذه الرسالة في البيان المغرب ص 379 و 380.
(3) البيان المغرب ص 381.
(4) البيان المغرب ص 400.
(5) ابن خلدون ج 4 ص 171، وكذلك: Is. de las Cagicas: Sevilla Almohade y ultimo Anos de su Vida Musulmana (Madrid 1951) p. 30(4/472)
إشبيلية، فمردها إلى معاهدة كانت قد عقدت بين ابن الجد باعتباره صاحب إشبيلية أو أميرها، وبين ملك قشتالة، على نمط المعاهدة التي عقدت بين هذا الملك وبين ابن الأحمر، وخلاصتها أن يعترف بطاعة ملك قشتالة، وأن يؤدي إليه الجزية. وأن يشهد اجتمعات " الكورتيس " باعتباره من أتباعه، وأن يقدم إليه العون متى طلب إليه ذلك. وربما كانت تتضمن فوق ذلك، تعهده بتسليم بعض المواقع والحصون في منطقة إشبيلية. وقد رأينا فيما تقدم أنه لم يكن يكفل سكون ملك قشتالة المؤقت، ومسالمة الزعماء المسلمين سوى هذه العهود وأمثالها. فلما قتل ابن الجد، وانقلب أهل إشبيلية إلى مخاصمة النصارى، غضب ملك قشتالة لما حدث، وأبدى امتعاضه لمقتل صديقه ابن الجد (1). وكان زعماء إشبيلية الجدد، قد أدركوا غير بعيد، ما قد يؤدي إليه مخاصمة النصارى من سيىء العواقب، فحاولوا السعى في تجديد الهدنة مع ملك قشتالة، ولكن فرناندو الثالث لم يرد أن يعقد التفاهم مع زعماء إشبيلية الجدد، وبالعكس فقد كان يرى أن يتخذ مصرع ابن الجد ذريعة للتدخل والانتقام، وأن هذا هو الطريق المفضل عندئذ للتصرف والعمل، وأن الوقت حان لكي ينهض إلى افتتاح إشبيلية، خصوصاً وقد أصبحت الحاضرة الأندلسية العظيمة، معزولة، لا تستطيع أن تعتمد على أية معاونة عاجلة، لا من ملك غرناطة، وقد خضع لملك قشتالة، ولا من الموحدين، وقد نكثت إشبيلية ببيعتهم غير مرة، ولا من أمير إفريقية، بعد الذي حدث نحو عماله. وهكذا استقر الأمر على غزو إشبيلية وانتهى السلم الذي كان معقوداً بينها وبين القشتاليين (2).
على أن افتتاح إشبيلية كبرى حواضر الأندلس، وهي أزخرها سكاناً، وأمنعها جانبا، وأكثرها حصوناً وقلاعاً، كان يقتضى أهبات خاصة. ومن جهة أخرى، فإن أخذها بالحصار، لم يكن أمراً ميسوراً، إذ كانت تقع في منطقة كثيرة الخصب والنماء، وكان اتصالها بالبحر عن طريق نهر الوادي الكبير، يمكنها من تلقى الأمداد والمؤن من عدوة المغرب. ومن ثم فإنه كان من الواجب إذا استقر الأمر على أخذها بالحصار، أن تخضع أولا سائر حصونها الأمامية من سائر النواحي، وثانيا أن تخرب سائر بسائطها الخضراء التي تمدها بالمحاصيل
_______
(1) ابن خلدون ج 4 ص 171.
(2) J. Gonzalez: ibid ; p. 100 & 101(4/473)
والمؤن، وثالثا أن تحكم محاصرتها من ناحية البحر بالسفن حتى لا يتسرب إليها شىء من الأمداد من وراء البحر.
وقد انتهى ملك قشتالة، بعد التشاور مع أكابر قادته وفرسانه، بأن قرر أن يلتجىء إلى وسيلة الحصار لإخضاع الحاضرة الأندلسية الكبرى، وأن يسير سفنه من الثغور الشمالية إلى مصب الوادي الكبير، ليحول دون تلقى المسلمين لأية أمداد أو مؤن تأتى من عدوة المغرب.
وفي خريف سنة 1246 م (أوائل سنة 644 هـ) حشد ملك قشتالة بعض قواته، ولاسيما من فرسان شنت ياقب وفرسان قلعة رباح، وجيش قرطبة، وسار في قواته صوب إشبيلية، وعبر الوادي الكبير تجاه قرمونة، وأخذ ينتسف زروع هذه المنطقة ويخرب ضياعها، ويأسر من يلقى من المسلمين. وهنالك على مقربة من قرمونة، وافاه ابن الأحمر حليفه وتابعه في قوة قوامها خمسمائة فارس، مقدماً عونه وفقاً لعهوده. وسارت القوات المشتركة جنوبا نحو قلعة جابر (1) حصن إشبيلية من الجنوب الشرقي، وانتهى ابن الأحمر بإقناع حاميتها الإسلامية بتسليمها حقنا للدماء، وصونا للأموال والأرزاق، وتسلم فرناندو الثالث القلعة، ووضع بها حامية نصرانية، وأخذ النصارى في إصلاحها وتحصينها (2). وبعث فرناندو بعد ذلك بعض قواته بقيادة أخيه دون ألفونسو وبلاى كوريا أستاذ فرسان شنت ياقب، لكي تعبر الوادي الكبير غربا، وتقوم بتخريب فحص الشّرف الممتد أمام إشبيلية، وبعث حملة مشتركة من قوات غرناطة وقشتالة وفرسان قلعة رباح، لتسير جنوبا، ولتقوم بتخريب فحص شريش. وفي الوقت الذي كانت تقوم فيه هاتان الحملتان كل بمهمتها، ورد على ملك قشتالة نبأ وفاة والدته، فأمر باختتام الغزو، وصرف ملك غرناطة، في قواته، وسار إلى قرطبة ومنها إلى جيان، وهنالك قضى جانبا من الشتاء.
وكانت هذه أول مرحلة في افتتاح إشبيلية. وفي أثناء ذلك كان أمير البحر رامون بونيفاس، قد حشد في ثغور كنتبريا أسطولا قويا، وشحنه بالبحارة والجند والمؤن. وحصل فرناندو من البابا على قرار بأن تخصص الكنيسة القشتالية والليونية ثلث إيراداتها للمساهمة في نفقات الحرب. ولما تمت هذه الأهبة سار
_______
(1) وهي بالإسبانية Alcala de Guadaira.
(2) راجع الذخيرة السنية ص 72 و 73(4/474)
خريطة:
قطاع إشبيلية وأحوازها ومواقع الغزو القشتالي 644 هـ - 1246 م(4/475)
فرناندو إلى قرطبة، وهي التي اتخذها مركزاً لتجهيز الحملة (صيف سنة 1247 م) وهنالك احتشدت قوات جماعات الفرسان الدينية، وقوات ليون وبطليوس وغيرها، وسير فرناندو بعض قواته إلى قرمونة، وهي أمنع حصون إشبيلية الأمامية من ناحية الشمال الشرقي، فخربت سائر البسائط المحيطة بها، ثم لحقت بها بعد ذلك قوات أخرى من مختلف ولايات قشتالة، وتزيد الرواية النصرانية على ذلك أن قوات غرناطة، كانت ضمن الحشود الوافدة على قرمونة، وهو ما يعنى اشتراك ابن الأحمر في جيش الغزو القشتالي لإشبيلية (1). والواقع أن الرواية الإسلامية حسبما نرى بعد، تؤيد وجود ابن الأحمر وجنده، تحت أسوار إشبيلية إلى جانب القوات القشتالية المحاصرة (2). وطوق النصارى قرمونة بحشود ضخمة، فلما رأى أهل قرمونة ضخامة هذه الحشود، وأيقنوا بعبث الدفاع، عرضوا تسليم المدينة بعد ستة أشهر، إذا لم تصلهم خلالها نجدة ما، فقبل ملك قشتالة هذا العرض، ثم سار في قواته صوب إشبيلية من طريق شمالية بحذاء الوادي الكبير، واستولى في طريقه على لورة بالأمان، واعترف أهلها بطاعته، ثم سار بعد ذلك إلى قنطلانة، الواقعة شمالي إشبيلية على الوادي الكبير، وهاجمها، واقتحمها عنوة، وأسر منها سبعمائة مسلم، وقصد بعد ذلك إلى غليانة، فسلم أهلها اعتباراً بما حدث لقنطلانة، وكذلك سلمت جرينة القريبة منها، وبعث فرناندو بعد ذلك قوة إلى بلدة القلعة الحصينة الواقعة على الوادي الكبير (3)، على مقربة من شمالي إشبيلية، فصمدت حاميتها وصممت على المقاومة. وكان أهل إشبيلية قد شحنوها بالجند والمؤن تقديراً لأهميتها في الدفاع عن المدينة. واضطر فرناندو أن يحاصرها، وضربها القشتاليون بالآلات، وخرجت حاميتها غير مرة لتشتبك مع النصارى في معارك عنيفة، وقام النصارى بتخريب سائر ما حولها من الكروم والزروع، وأخيرا رأى قائد الحصن أبو الحسن بن أبي على حاكم قرمونة السابق، أنه من العبث أن يستمر في الدفاع على هذا النحو، فاتفق مع ملك قشتالة على أن ينسحب في جنده، وهم ثلاثمائة فارس إلى إشبيلية، وأن
_______
(1) Cronica General (Ed. Pidal) V. II. p. 749
(2) ابن خلدون ج 7 ص 190.
(3) قنطلانة هي بالإسبانية Cantillana، وغليانه Guillena، وجرينة هي Gerena، والقلعة أو قلعة النهر هي Alcala del Rio(4/476)
تسلم المدينة بالأمان، وفقاً لأفضل الشروط الممكنة، وهكذا سقطت القلعة، وبسقوطها أصبحت سائر الحصون الأمامية لإشبيلية من جهة الشرق والشمال، والغرب كلها في أيدي القشتاليين (1).
ونستطيع أن نتصور الدور الذي قام به ابن الأحمر ملك غرناطة في معاونة ملك قشتالة على إخضاع هذه المجموعة الكبيرة من البلاد والحصون الهامة، منذ قرمونة حتى القلعة، وذلك بإقناع أهلها والمدافعين عنها بالتسليم بالأمان، وإقناع ملك قشتالة من جهة أخرى بالتساهل في شروط التسليم، على أن دور الزعيم المسلم لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه كما سنرى إلى معاونة النصارى ومؤازرة جهودهم ضد المسلمين، بطريقة إيجابية فعالة.
- 4 -
وهنا وبعد أن جردت إشبيلية من سائر حصونها الأمامية وخطوطها الدفاعية الأولى، يأتى دور المرحلة الأخير في افتتاح الحاضرة الأندلسية الكبرى، ولم تكن هذه المرحلة سوى محاصرتها وإرهاقها، حتى ترغم على التسليم.
وبدأ التمهيد للحصار بمقدم الأسطول النصراني بقيادة رامون بونيفاس، وكان يتألف من ثلاث عشرة سفينة كبيرة وعدة أخرى صغيرة، مشحونة بالرجال والمؤن، ودخوله إلى مياه مصب الوادي الكبير، وتخصيص قوة برية لمؤازرته على إحكام حصار المدينة من ناحية البحر، وثانيا على رد أية قوات تأتى لمناجزته، سواء من طنجة أو سبتة أو إشبيلية.
وغادر فرناندو بلدة القلعة في قواته جنوبا إلى إشبيلية، وذلك في الخامس عشر من أغسطس سنة 1247، وأخذ يضع خطته لتنظيم الحصار. ولم يكن حصار إشبيلية أمراً سهلا، وكان لابد لتحقيقه من تعاون سائر القوات البرية والبحرية، ومن جهة أخرى فقد كان من الضروري أن يعمل حساب لهجمات المسلمين على مختلف القوات النصرانية، وقد كانت إشبيلية تموج بقوات مدافعة زاخرة حسنة الأهبة، وكانت مشحونة بكميات وافرة من الطعام توقعاً لحدوث هذا الحصار، وكان من حسن الحظ أن استطاع أهل المدينة أن يجمعوا محاصيل فحص الشرف قبل مقدم النصارى. وكانت مهمة القشتاليين في المرابطة على ضفة الوادي الكبير،
_______
(1) وردت سائر هذه التفاصيل في موسوعة Cronica General ; V. II. p. 749 & 750 وراجع أيضاً: J. Gonzalez: ibid ; p. 104 - 106(4/477)
لحماية أسطولهم من الهجمات الفجائية من الأمور الشاقة، إذ كانت حامية حصن الفرج الإسلامية، وهو حصن إشبيلية الجنوبى الواقع على النهر، تهدد القوات القشتالية المرابطة على النهر باستمرار، وفضلا عن ذلك فقد كان طريق الشرف مفتوحا أمام ابن محفوظ صاحب لبلة، وكان بوسعه أن يفاجىء القشتاليين في أية لحظة. وفي الوقت الذي كان فيه ملك قشتالة يمهد لتنفيذ خطته في حصار إشبيلية، كان أهل إشبيلية من جانبهم يستعدون للذود عن مدينتهم بكل ما وسعوا. وقد سجل لنا التاريخ، ولاسيما عن طريق الرواية النصرانية، عن دفاع أهل إشبيلية، صحفاً رائعة من البسالة والتضحية. ولكن الرواية الإسلامية، لا تقدم إلينا مع الأسف تفاصيل شافية عن هذا الدفاع. بل هي لا تذكر لنا سوى القليل عن الزعماء الذين قادوا هذه المعركة الدفاعية المجيدة، التي استطالت خمسة عشر شهراً. فهى لا تعرفنا بشىء عن القائد شقّاف وزملائه، يحيى بن خلدون، وابن شعيب، ومسعود بن خيار، وهم زعماء إشبيلية، الذين ألقى القدر عليهم تبعة السهر على مصايرها، في تلك الفترة الدقيقة، وكل ما هنالك أنها تحدثنا عن شقاف في كلمة عابرة، وتصفه " بقائد الفحص شقاف المشهور، الذي كان السبب مع قضاء الله تعالى في دخول النصارى مدينة إشبيلية " (1). وتحدثنا الرواية النصرانية عن زعماء إشبيلية وقت حصارها، فتذكر منهم شقاف وهو لديها Axataf، وتسميه أحيانا أبو الحسن الشقاف، والرئيس ابن شعيب (2). وإذا فلابد لنا أن نعتمد في استقاء تفاصيل الأحداث التي اقترنت بمصير إشبيلية الأخير، وكذلك أعمال الزعماء الذين قادوها عندئذ، بالأخص على أقوال الرواية النصرانية.
وبدأ حصار إشبيلية في النصف الثاني من أغسطس سنة 1247 م (جمادى الأولى سنة 645 هـ)، وتقاسمت الكتائب القشتالية والليونية والجليقية، وغيرها من القوات النصرانية، مناطق الحصار، وضرب فرناندو الثالث محلته جنوبا على ضفة نهر الوادي الكبير، قريباً من سفن الأسطول النصراني، ولكنه اضطر إزاء هجمات المسلمين العنيفة، أن ينقل محلته إلى مكان قريب يسمى " بتلاطة ". واحتل الأسطول النصراني مياه مصب الوادي الكبير، وكانت مهمته
_______
(1) البيان المغرب القسم الثالث ص 400.
(2) Cronica General ; No. 1077, 1122 & 1123 ; - M. Lafuente: Historia General de Espana ; T. IV.p. 59(4/478)
خريطة:
حصار إشبيلية 645 - 647 هـ = 1247 - 1248 م.
محلات الجيوش النصرانية المحاصرة(4/479)
الأولى هي أن يمنع ورود الأمداد والمؤن على المدينة من طريق البحر. ولم يأت يوم 20 أغسطس، حتى كانت إشبيلية قد طوقت من كل ناحية، سواء من البر أو البحر. وكان من الأحداث المؤلمة التي تنفطر لها النفس، وجود ابن الأحمر أمير غرناطة على رأس قوة من فرسانه، إلى جانب القوات النصرانية المحاصرة، وذلك وفاء بتعهداته لملك قشتالة، وكان يرابط بقواته إلى جانب فرسان شنت ياقب جنوبي حصن الفرج، وهكذا كان هذا الأمير المسلم يشترك مع أعداء أمته ودينه في تطويق الحاضرة الإسلامية، ومحاولة افتتاحها، وتشريد أهلها وسحق دعوة الإسلام بها. ويفسر لنا ابن خلدون هذا التصرف المشين من جانب الأمير المسلم، بأن ابن الأحمر كان يرمى بمعاونة النصارى على هذا النحو، إلى الانتقام من أهل إشبيلية، لأنهم خذلوه ونكلوا عن طاعته، وأخرجوه من المدينة (1). على أن ذلك لم يكن يعنى أن المدينة، قد قطعت سائر علائقها الخارجية أو أنها عدمت وسائل الاتصال، ولاسيما مع عدوة المغرب. فمن الحقائق التي تسجلها الرواية النصرانية أنه في الوقت الذي يرابط فيه الأسطول النصراني في مياه الوادي الكبير، كان يوجد في نفس المياه عدد من السفن الإسلامية، ومعظمها في الغالب سفن مغربية، قدمت من مياه سبتة وطنجة، وأن اتصال إشبيلية بوادي الشرف، كان مكفولا عن طريق حصنها الغربي طريانة الذي تربطها به عبر الوادي الكبير قنطرة من السفن المثبتة بسلاسل حديدية ضخمة. وكانت المؤن مازالت بالرغم من الحصار، ترد على المدينة المحصورة، من العدوة، ومن الشرف، وغربى الأندلس، وكان أهل إشبيلية، لاطمئنانهم إلى حالة التموين يحصرون اهتمامهم في مقاتلة النصارى، والاشتباك معهم كلما سنحت الفرص. وقد نظم المسلمون غير كمين للإيقاع بالنصارى، وأصيب النصارى بالهزيمة غير مرة، ومنى منهم فرسان القنطرة وقلعة رباح، بخسائر فادحة، وخرج المسلمون في قوة كبيرة، هاجمت المحلة الملكية، فردتها قوات ولى العهد ألفونسو والإنفانت إنريكى، فعادت إلى المدينة بعد أن تكبدت بعض الخسائر. وكان النصارى خلال الحصار يخرجون إلى القرى والضياع المجاورة، ويقومون بتخريبها وانتهابها، ومن ذلك أنهم اقتحموا منية البحيرة الغاصة بالحدائق، والرياض، الواقعة في جنوب شرقي المدينة، والتي كان قد أنشأها الموحدون،
_______
(1) ابن خلدون ج 7 ص 190(4/480)
وعاثوا فيها، ونهبوا الماشية والمتاع والثياب، وقتلوا من كان بها من المسلمين، وأحرقوا دورها، وفعلوا مثل ذلك بربض مقرينه، الواقع في شمالها الشرقي. وأما، في مياه مصب الوادي الكبير، فقد كانت مهمة الأسطول النصراني، وهي قطع الإمداد والمؤن عن المدينة، من طريق البحر، مهمة شاقة، وكانت السفن الإسلامية التي وردت من مياه طنجة وسبتة، تثير في وجه السفن النصرانية، صعابا جمة، وكانت تفسح الطريق للأمداد والمؤن الواردة من العُدوة، وتعمل على حمايتها، حتى تجد سبيلها إلى المدينة، وقد حاول البحارة المسلمون فوق ذلك أن يحرقوا السفن النصرانية بالنار اليونانية، واقتربوا منها بالفعل، تحميهم من ضفة النهر بعض حشود من الجند، وأمامهم مواعين مملوءة بالزيت والمواد الملتهبة ولكن النصارى فطنوا إلى المحاولة، وهاجموا المسلمين من البر والبحر، فلجأ الجند الذين بالشاطىء إلى قلعة طريانة، ونشبت بين سفن الفريقين معركة شديدة، واستطاع المسلمون أن يقذفوا موادهم الملتهبة، ولكن النصارى استطاعوا أن يخمدوا النار قبل اندلاعها. وهكذا فشلت المحاولة، ولكن المعارك البحرية الجزئية كانت تضطرم بين الفريقين باستمرار. وفي ربيع سنة 1248 م، وفدت على المعسكر النصراني طوائف كثيرة من الجند، منها قوة من فرسان قشتالة، بقيادة ولى العهد ألفونسو، وقوة من فرسان قطلونية، بقيادة ألفونسو ولى عهد أراجون، وقوة من الفرسان البرتغاليين بقيادة بيدرو ولى عهد البرتغال، وقوة من جند بسكونية وقشتالة القديمة بقيادة لوبيث دي هارو، وكذلك قدم يوحنا مطران شنت ياقب في قوة من جند جلّيقية، قدمت حشود أخرى من مدينة سالم، ومدلين، وقورية، وغيرها، ووفد كثير من الأساقفة والرهبان، وفرسان الجماعات الدينية، وانضمت هذه الحشود الجديدة، إلى القوات المحاصرة، في مختلف مناطق الحصار، وهكذا عزز الحصار حول إشبيلية، وأحكمت حلقاته، وعول ملك قشتالة، أن يلجأ إلى الوسيلة، المأمونة المؤكدة، وهي إرهاق المدينة بأقصى ما يستطاع، وإرغامها على التسليم بالجوع والحرمان.
وكان قد مضى على حصار النصارى لإشبيلية زهاء تسعة أشهر وهي صامدة، تزداد ثباتا وإصراراً على مدافعة النصارى، ولكنها مذ أحكمت حولها حلقات الحصار، أخذت تشعر بالضيق يدب إليها حثيثاً، وشبح الجوع يقترب منها شيئاً فشيئاً. ولم يبق لديها عندئذ سبيل للتنفس البطىء سوى طريانة، قلعتها(4/481)
الجنوبية الغربية المشرفة على الشّرف. وهنا كرر أهل إشبيلية صريخهم إلى المغرب، وإلى سائر أمرائه وزعمائه، يصفون محنتهم الغامرة، ويلتمسون الغوث والإنجاد قبل فوات الوقت. وكان مما نظمه في هذه المناسبة شاعر إشبيلية يومئذ، إبراهيم ابن سهل الإشبيلي الإسرائيلى قصيدة مؤثرة، يستصرخ فيها أهل العدوة، ويستحثهم على المبادرة إلى نصرة إخوانهم في الدين وفيها يقول:
ورداً فمضون نجاح المصدر ... هي عزة الدنيا وفوز المحشر
نادى الجهاد بكم بنصر مضمر ... يبدو لكم بين القنا والضُّمر
خلوا الديار لدار عز واركبوا ... عبر العجاج إلى النعيم الأخضر
وتسوغوا كدر المناهل في السرى ... ترووا بماء الحوض غير مُكدّر
يا معشر العرب الذين توارثوا ... شيم الحميّة كابرا عن أكبر
إن الإله قد اشترى أرواحكم ... بيعوا ويهنئكم وفاء المشترى
أنتم أحق بنصر دين نبيكم ... ولكم تمهد في قديم الأعصر
أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا ... ذاك البناء بكل لون أسمر (1)
ونظم أبو موسى هرون بن هرون قصيدة طويلة، يصف فيها محنة أهل إشبيلية حينما طوقها النصارى، وما نزل بأهلها من صنوف الآلام والخطوب، ويهيب فيها بأهل العُدوة أن يبادروا إلى إنجادها، وتدارك أهلها، وقد جاء في أولها:
يا حمص أقصدك المقدور حين رما ... لم حق فيك الردى إلا ولا ذمما
جرت عليك يد الدهر ظالمة ... لا يعدل الدهر في شىء إذا حكما
ما كنت أحسب أن الحادثات إذا ... همت بك السوء لا تلقى لك السلما
قد كان حسنك فتان الشباب فمذ ... أصبت عوضت منها القبح والهرما
يا جنة زجرتنا عن زخارفها ... ذنوبنا فلزمنا البت والندما
ومنها في وصف الحصار ومصائبه، واستنهاض همم أهل العدوة:
ويمموا حمص في جمع يضيق به ... ذرع الفضا بالمرهفات الماع فاكتتما
واستوطنوا القبر في الوادي وقام لهم ... جسر منه الفلك لا تشكو به السأما
فكم أسارى غدت في القيد موثقة ... تشكوا من الذل أقداما لها حطما
_______
(1) أورد لنا هذه القصيدة صاحب الذخيرة السنية، ص 74 وما بعدها(4/482)
وكم صريع رضيع ظل مختطفا ... عن أمه فهو بالأمواج قد فطما
وكم بطريانة أبقى الأسبى ندبا ... في القلب يبعث وجدا كلما كلما
يا حسنها عرف للحسن جامعة ... ما طار قط لها إلا النعيم جما
يا عين فابك على حمص وقل لها ... منك البكاء إذا ما ترسليه دما
وقد أصيبت بها الدنيا وساكنها ... حقاً وأصبح ركن الدين قد ثلما
سطا بها الكفر إذ قل النصير بها ... فمن معز بها الإسلام ما سلما
يا أهل وادي الحما بالعدوة انتعشوا ... هذا الذماء فقد أشفى به سقما
فماذا يبطئكم عنا وحولكم ... أن تبصروا دار قوم أصبحت رمما
وحقنا واجب فالدين يجمعنا ... مع الجوار الذي مازال منتظما
وقد دعونا فأسمعنا على كثب ... بما قد استنفد القرطاس والقلما (1)
وكان الاستيلاء على قلعة طريانة حصن إشبيلية من الجنوب الغربي، أهم ما يشغل بال النصارى، وكان لابد قبل محاولة الاستيلاء عليها أن تحطم القنطرة القوية الضخمة، التي تربطها بإشبيلية عبر الوادي الكبير، عند برج الذهب. وكانت هذه القنطرة، تتكون حسبما قدمنا، من مجموعة من السفن المثبتة بسلاسل ضخمة من الحديد. وهذا ما اعتزمه النصارى بالفعل. وجهز بونيفاس قائد الأسطول النصراني لهذا الغرض مركبين كبيرين، وركب في إحداهما. ودُفع المركبان نحو القنطرة، فنجحت إحداهما في قطع السلاسل الحديدية، وإحداث ثغرة في القنطرة، وأسرع الملك فرناندو في قوة كبيرة ليحمى بونيفاس ومركبه، وليحقق الفصل بين المسلمين في طريانة، وأهل المدينة، ووقع ذلك الحادث في اليوم الثالث من مايو سنة 1248 م.
وكان تحطيم القنطرة على هذا النحو ضربة شديدة للمسلمين، إذ ترتب عليه الفصل بين قلعة طريانة، وبين المدينة، وقطع طريق الشّرف، وهو الملاذ الأخير الذي كان باقيا للمحصورين، لاستيراد الأقوات والمؤن، بعد أن أضحى طريق النهر محفوفاً بأعظم المخاطر. كما ترتب عليه عزل طُريانة وتعرضها لخطر هجوم النصارى. وهذا ما عول عليه النصارى بالفعل على أثر تحطيم القنطرة.
_______
(1) أورد لنا ابن عذارى نص هذه القصيدة بأكملها في البيان المغرب ص 382 - 384(4/483)
على أن الاستيلاء على طريانة لم يكن مهمة سهلة. ذلك أن المسلمين كانوا على حذر، وكانوا يدركون أهمية طريانة الدفاعية، وكانوا لذلك قد شحنوها بالرجال والسلاح والمؤن، ورتبوا بها بالأخص جماعة من الرماة يستطيعون إصابة الفرسان بقذائفهم عن بعد. ومن ثم فإنه لما هاجمها النصارى بقوات كثيفة استطاعت حاميتها القوية أن تحطم هذا الهجوم الأول بسرعة، وعندئذ كرر النصارى هجومهم بشدة، والمسلمون يحبطون كل محاولة، وكان بالقلعة عندئذ زعيم إشبيلية الأول القائد شقاف. ولما تكرر فشل النصارى في اقتحام القلعة اقترب منها فرناندو بقواته، ودفع الحفارين إلى السور لإحداث ثلمة به، ولكن المسلمين نجحوا أيضاً في إحباط هذه المحاولة، وعندئذ عمد النصارى إلى محاصرة القلعة براً وبحراً، وضربها بمختلف الآلات، واعتزموا أخذها بالحصار، وقدمت سفنهم إلى النهر أسفل القلعة فنجحت بعد مجهود عنيف في قطع كل صلة بين طريانة وبين إشبيلية.
واستمر الحصار حول إشبيلية وطريانة، وهو يشتد كل يوم، والحاضرة المحصورة تشعر بالضيق، يرهقها شيئاً فشيئاً، والنصارى يوالون ضربها بالآلات المخربة، حتى نفدت الأقوات، وأخذ الجوع يفتك بالمحصورين. ويصف ابن عذارى حالة المدينة المحصورة في قوله: " وعدموا المرافق كلها، قليلها وجليلها، إلا ما كان في بعض ديار الأغنياء مثل الفقيه القاضي ابن منظور، فإنه كان يطمع في إقلاع النصارى عن المدينة، فيأمر الناس بالقتال والرمى بالنبال، والناس مع ذلك حيارى، يمشون سكارى وما هم بسكارى. ومات بالجوع خلق كثير، وعدمت الأطعمة من القمح والشعير، وأكل الناس الجلود، وفنيت المقاتلة من العامة وأصناف الجنود " (1). وهكذا فتك الجوع والحرمان والمرض بأهل إشبيلية، وأضنتهم المعارك المستمرة بعد حصار صارم مرهق استمر خمسة عشر شهراً، وغاض كل أمل في الإنقاذ والإنجاد، فلم يتحرك الموحدون لانشغالهم بمكافحة بني مرين، وأمير إفريقية الذي اتخذ لقب الخلافة، ولم يتحرك أمير إفريقية لما سبق من موقف الإشبيليين نحو عماله، وربما أيضاً اعتباراً بما حدث من فشل محاولته لإنقاذ بلنسية، وقد كان إنجادها أقرب وأيسر. فلما بلغ الضيق أشده، طلب القائد شقاف وهو في طريانة، إلى النصارى هدنة ليتمكن
_______
(1) البيان المغرب ص 381 و 382(4/484)
من الاتصال بأهل المدينة، والتفاهم معهم على التسليم. وبحث زعماء المدينة الموقف من سائر نواحيه، واتفقوا على أن يسلموا إلى ملك قشتالة القصر وجباية المدينة، على أن لا يدفعوا من المكوس أكثر مما كانوا يدفعونه لملوكهم، ولكن ملك قشتالة رفض هذا العرض الجزئي رفضاً باتا، فعاد الزعماء وعرضوا أن يسلموا القصر وثلث المدينة، فرفض هذا العرض أيضاً. واضطر الزعماء أن يتقدموا خطوة أخرى. فعرضوا أن يسلموا نصف المدينة، بعد أن يخليه المسلمون، وأن يترك النصف الآخر للمسلمين، وأن يقام بين النصفين سور فاصل. ونصح بعض مستشارى الملك إليه بقبول هذا العرض، ولكن ملك قشتالة أصر على أن يتسلم المدينة كلها حرة ودون شروط (1).
وعندئذ لم ير زعماء إشبيلية وأهلها، بدّا من قبول مصيرهم المحتوم، وجرت المفاوضة بينهم وبين ملك قشتالة في تسليم المدينة، وذلك عن طريق ممثل ملك قشتالة، دون ردريجو ألباريس، وانتهت المفاوضات بين الفريقين على أن تسلم المدينة بالشروط الآتية: أن تسلم المدينة كاملة حرة سليمة، لا يهدم من صروحها شىء، وأن يغادرها سكانها مع السماح لهم بأن يحملوا معهم كل أمتعتهم المنقولة والمال والسلاح، وأن يسلم القصر في الحال بعد إخلائه عقب وضع شروط التسليم، وأن تسلم مع المدينة سائر الأراضي التابعة لها، وأن يعطى ملك قشتالة إلى القائد شقاف، والرئيس ابن شعيب، من بلاد الشرف، شلوقه وحصن الفرج، ثم لبلة متى تم افتتاحها، واتفق على أن تُمنح لأهل المدينة مهلة لا تقل عن الشهر لتسوية شئونهم وإخلاء دورهم، والتأهب للرحيل.
ولما وُقع عهد التسليم بين الفريقين، سُلِّم القصر، وهو مقر الولاة، ويقع في جنوبي المدينة على مقربة من باب جَهْور، إلى ملك قشتالة، وبعث ملك قشتالة مندوبه ليرفع شعاره الملكى فوق برجه الأعلى، وكان ذلك في اليوم الثالث والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1248 م، وهو يوافق يوم الاثنين الخامس من شعبان سنة 646 هـ، وهو اليوم الذي تضعه الرواية الإسلامية لسقوط إشبيلية في أيدي النصارى (2). بيد أنه يوجد تاريخ آخر، هو
_______
(1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 59 ; J. Gonzalez: ibid ; p. 118 ; Cronica General, No. 1122
(2) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) ج 2 ص 903. ويقول صاحب الروض المعطار إنه اليوم الثالث من شعبان (ص 22)(4/485)
تاريخ دخول النصارى المدينة، وهو يعتبر أحيانا تاريخ سقوطها.
وقضى المسلمون زهاء شهر في إخلاء المدينة، وتصفية شئونهم، وبيع متاعهم، وكان ملك قشتالة، يسرح سريات من فرسانه لتأمين المهاجرين منهم بطريق البر حتى مدينة شريش، وحتى ثغر سبتة لتأمين المهاجرين منهم بطريق البحر، وخصص لذلك الغرض أسطولا يتكون من خمس سفن كبيرة، وثمانى صغيرة (1). وخرجت من إشبيلية جموع غفيرة من المسلمين يصعب تحديد عددها، وتشمل سائر الطبقات. ولم تحدد لنا الرواية الإسلامية عدد المهاجرين منها، ولكنها تقول لنا فقط إنه قد خرج الخاص منها والعام " وكل منهم في بحر المنايا غاص وعام، مماحل بهم من الأوجال والآلام " (2). وتقدر بعض الروايات من خرج من أهل إشبيلية من المسلمين بأربعمائة ألف، منهم مائة ألف هاجروا بطريق البحر إلى سبتة، وثلاثمائة ألف ساروا براً بطريق شريش (3). وتفرقوا في مختلف الأنحاء بالأندلس والمغرب. وقصد أكثرهم بالأندلس مملكة غرناطة، وذلك بتشجيع ابن الأحمر، وكورة لبلة وغربى الأندلس، وقصد من عبر البحر منهم إلى مختلف ثغور المغرب، ولاسيما سبتة وتونس، وكان في مقدمة من غادرها منهم زعيمها القائد شقاف، ولم يحفل بما عرضه النصارى عليه من منح وإقطاعات وعبر البحر إلى سبتة مع جماعة من القواد والأجناد، والظاهر أنه استطاع أن يتدخل في شئونها، وأن يشاطر واليها الحفصى ابن أبي خالد قسطا من السلطة، ولكن حدث بعد فترة قصيرة أن نهض زعيم سبتة الدينى الفقيه أبو القاسم العزفى، واستطاع بمعاونة حليفه القائد أبي العباس الرنداحى أن ينتزع الرياسة لنفسه، وقتل شقاف وعدة من أصحابه فيمن قتل من ضحايا الانقلاب، وذلك في شهر رمضان سنة 647 هـ (4).
وبقيت إشبيلية، بعد أن غادرها أهلها، خالية ثلاثة أيام. وفي اليوم الثاني والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1248 م " (أوائل رمضان سنة 646 هـ) دخل فرناندو الثالث ملك قشتالة، مدينة إشبيلية في موكب فخم، وكان مطران
_______
(1) الروض المعطار ص 22، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 120
(2) البيان المغرب ص 385.
(3) Cronica General: ibid ; No 1124
(4) الذخيرة السنية ص 85، والبيان المغرب ص 400 و 401(4/486)
طليطلة قد قام بتحويل الجامع الأعظم إلى كنيسة، وصنع به هيكل مؤقت، فقصد إليه الملك النصراني، وحاشيته من أكابر الأحبار والقادة والفرسان، وأقيم قدّاس الشكر، ثم قصد فرناندو بعد ذلك إلى القصر وتسلمه، وعنى بوضع أسس الحكم للحاضرة المفتوحة، وجعل منها مركز مطرانية، كما كانت قبل الفتح الإسلامي، وقام بتقسيم دور المسلمين وأراضيهم، بين أولئك الذين بذلوا أكبر جهد في تحقيق الفتح. وبذلك اختتم الفتح، وأخذ النصارى في تقويض محلاتهم خارج المدينة ونزلوا بها (1).
ومن ذلك التاريخ تغدو إشبيلية، عاصمة مملكة قشتالة، ومقر البلاط القشتالي، بدلا من طليطلة.
وهكذا سقطت إشبيلية، حاضرة الأندلس العظمى، بعد أن حكمها المسلمون منذ افتتحها موسى بن نصير في سنة 712 م، خمسة قرون وثلث قرن، وحكمها الموحدون زهاء قرن، وكانت قاعدة حكومتهم بالأندلس، فجاء سقوطها، بعد سقوط قرطبة، وقواعد الشرق، تصفية نهائية لسلطانهم في شبه الجزيرة الإسبانية. وكانت إشبيلية إلى جانب قرطبة من أعظم مراكز العلوم والآداب في الغرب الإسلامي، وبها سطعت عبقريات فريدة في تاريخ الفكر الإنسانى، مثل بني زهر أعظم أساتذة الطب والكمياء في الغرب في العصور الوسطى، وأبي العباس بن الرومية أعظم النباتيين والعشابين، بعد ديسقوريدس. وسطعت إشبيلية أيام الطوائف في ظل بني عباد، ولبثت زهاء نصف قرن أعظم مجمع للآداب وللشعر والنثر في الأندلس. وجعل منها الموحدون قاعدة الحكم في الأندلس، وغدت في ظلهم أعظم حواضر شبه الجزيرة، وأزخرها عمرانا، وأجملها تخطيطاً وصروحاً، تتيه بمسجدها الجامع أعظم جوامع الأندلس، بعد جامع قرطبة، وبمنارته الشاهقة الرائعة، التي مازالت تقوم حتى اليوم أثراً من أعظم الآثار الأندلسية الباقية، وذلك بالرغم من تحويلها إلى برج لأجراس الكنيسة.
_______
(1) يراجع في فتح إشبيلية: البيان المغرب ص 381 و 382، وابن خلدون ج 4 ص 171 وج 7 ص 190، والذخيرة السنية ص 71 - 76 وص 80، والروض المعطار ص 22، ومن المراجع القشتالية: Cronica General (Ed. Pidal) No. 1080 - 1125 - J. Gonzalez ibid ; p. 98 - 121 - Is. de las Cagicas: Sevilla Almohade ; p. 31 - 33 -- M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 53 - 59(4/487)
وكان لسقوط إشبيلية وقع عظيم في الأندلس، أو بعبارة أخرى فيما بقى من قواعدها وربوعها، وفي شبه الجزيرة الإسبانية كلها، وفي المغرب وسائر أنحاء العالم الإسلامي. وقد رثاها الشعر في قصائد عديدة مبكية، حتى قبل أن تسقط نهائيا في أيدي النصارى. وقد أوردنا فيما تقدم بعض ما نظمه الشعر في ذلك.
- 5 -
وكان سقوط إشبيلية نذيراً بسقوط سائر القواعد والبلاد القريبة منها، ولاسيما قواعد الغرب التي أصبحت معزولة عن بقية القواعد الأندلسية.
وما كاد فرناندو الثالث ينتهي من تنظيم شئون " مملكة إشبيلية " ويستريح من عناء الغزوة الكبرى، حتى سيّر بعض قواته شرقاً وجنوبا، لتفتتح قواعد هذه المنطقة. وليست لدينا تفاصيل عن كيفية افتتاح هذه القواعد أو سقوطها في أيدي النصارى، ولكن الرواية النصرانية تجمل قصة هذه القواعد في قولها، إن فرناندو الثالث، استطاع عقب افتتاحه لإشبيلية أن يبسط سلطانه على شريش وشذونه والقلعة وقادس وشلوقة وأركش والبريجة وروطة أو روضة (1) بعضها بالفتح وبعضها بعقد المعاهدات، وأن إخضاع هذه القواعد قد تم في سنة 1249 م (647 هـ)، وتزيد على ذلك أن ابن محفوظ صاحب لبلة وما إليها من الأراضي والحصون، قد اعترف بطاعة فرناندو الثالث (2). ولكن الرواية الإسلامية تقدم إلينا عن إخضاع هذه القواعد بعض تفاصيل أخرى، فتقول لنا إن الوزير أبا خالد صاحب شريش أعطى في سنة 648 هـ للفنش (وتريد هنا فرناندو الثالث) مدينة أركش وحصن فريس، وحصن تنكر، والأفراس، وأن النصارى استولوا في نفس العام على قرمونة، والقلعة، والقليعة، وشلوقة، وغليانة، وروطة، وجميع حصن الوادي وحصن الفرج (3). ولنلاحظ أولا أن قرمونة، والقلعة، وغليانة، وهي من حصون إشبيلية الأمامية، قد سقطت كلها في أيدي النصارى، في سنة 645 هـ قبيل حصار إشبيلية. وأما عن شريش وهي أهم قواعد الفرنتيرة، فيلوح لنا أنها قد خضعت بمقتضى الاعتراف، وأن صاحبها أبا خالد، قد أعلن خضوعه
_______
(1) هي بالإسبانية على التوالى San Lucar, Cadiz, Alcala, Medina Sedonia, Jerez Rota, Lebrija, Arcos
(2) J. Gonzalez: ibid ; p. 121 & 122
(3) الذخيرة السنية ص 87(4/488)
لملك قشتالة، وتعهد بأداء الجزية، ومكّن النصارى من القصر دون أن يحتلوا المدينة، ونزل لملك قشتالة عن أركش والحصون التي سبق ذكرها، رهينة بحسن طاعته. والظاهر أن هذه الحالة قد استمرت عدة أعوام أخرى، لأن الرواية الإسلامية تقول لنا إن سرية من الفرسان النصارى قصدت إلى شريش في سنة 658 هـ (1260 م) برسم إخلاء موضع القناطر، وإخراج المسلمين منها، وأن ديارها قد أخليت بالفعل برسم الطاغية (ملك قشتالة)، وأن النصارى دخلوا قصبة شريش صلحاً في العام الثاني (659 هـ)، ثم أرادوا أن يغدروا بالمسلمين، فتغلب المسلمون عليهم، واستطاعوا إخراجهم منها بمعاونة قوة من عسكر بني مرين عبرت إلى شبه الجزيرة بقيادة عامر بن إدريس بن عبد الحق، وذلك في سنة 662 هـ (1263 م)، واحتل عامر بن إدريس، ومن معه من المجاهدين مدينة شريش، واستمروا بها زهاء عامين حتى أخرجهم القشتاليون منها، بقيادة ملكهم ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم وذلك في سنة 1264 م (665 هـ) (1).
وقد شاطرت مدينة قادس فيما يبدو نفس الظروف ونفس المصير، فخضعت أولا بإعلان الطاعة وأداء الجزية لملك قشتالة. ويبدو كذلك أن النصارى قد احتلوا قصبتها على غرار ما حدث في شريش. يدل على ذلك ما تذكره الرواية الإسلامية في حوادث سنة 647 هـ (1249 م) من أن القائد الرنداحى، وهو قائد الأسطول بها، قتل ثمانين من زعماء الروم بجزيرة (ثغر) قادس (2). وقد استمرت الأحوال على اضطرابها بقادس حتى افتتحها القشتاليون في سنة 1261 م، وافتتحوا في نفس الوقت شذونة، والبريجه، وغيرهما من قواعد الفرنتيرة.
واستولى القشتاليون في العام التالي (662 هـ) على مدينة إستجة، الواقعة في جنوب غربي قرطبة. سلمها إليهم صاحبها ابن يونس بالأمان، ولكن قائدهم دون خيل ما كاد يدخلها في قواته، حتى أخرج المسلمين منها، وقتل معظمهم، واستولى على أموالهم، وسبي نساءهم، حتى أطلقهن من يده دون نونيو قائد قشتالة الأكبر، وعذل دون خيل على غدره بالمسلمين (3).
وأما عن بقية قواعد ولاية الغرب، الواقعة غربي الوادي الكبير، وحتى
_______
(1) البيان المغرب ص 430 و 431، والذخيرة السنية ص 111 و 112.
(2) الذخيرة السنية ص 85.
(3) الذخيرة السنية ص 112(4/489)
أراضي البرتغال، فقد كان معظمها تحت سلطان القاضي شعيب بن محفوظ، أقوى زعماء هذه المنطقة، وكانت مدينة لبلة الحصينة قاعدة حكمه، وبها ثار منذ سنة 632 هـ، ودعا لنفسه وتسمى بالمعتصم، واستطاع أن يبسط سيادته على معظم القواعد والأنحاء الواقعة غربي الوادي الكبير، وفيما وراء نهر وادي يانه. ولا تحدثنا الرواية عن شخصية ابن محفوظ، ولا عن أصله ونشأته. ويبدو لنا من مختلف القرائن، أنه كان من بقية زعماء الموحدين في تلك المنطقة، وتسبغ الرواية النصرانية عليه بالفعل هذه الصفة. ولما زحف القشتاليون على قطاع إشبيلية، وأخذت قواعدها وحصونها الأمامية تسقط في أيديهم، شعر ابن محفوظ بأن سلطانه في تلك المنطقة أضحى معرضاً للانهيار، فسعى إلى التفاهم مع ملك قشتالة، وذلك بنفس الطريقة التي كان يجرى عليها سائر الزعماء المسلمين يومئذ، فنزل إليه وفقاً لقول الرواية الإسلامية عن مدينة طبيرة والعُلى وشلب والخزانة، ومرشوشة، وبطرنا، والحرة، وكلها من قواعد أقصى الغرب، وذلك في سنة 645 هـ (1247 م) (1). واعترف بطاعته على حكم لبلة كما تقدم. بيد أنه يبدو أن سلطان ابن محفوظ على قواعد الغرب، لم يكن يمتد إلى هذا المدى البعيد من قواعد الغرب البرتغالية، مثل طبيرة وشلب وشنتمرية الغرب. يدل على ذلك ما تذكره لنا الرواية الإسلامية بعد ذلك، من أنه لما تم لفرناندو الثالث افتتاح إشبيلية، تقدم ابن محفوظ في سبيل إرضائه خطوة أخرى، فنزل له عن حصن اللقوه، وجبل العيون، ووادي أنه، وشنتيل، والحصين، وشلطيش، وذلك صلحاً، على أن يبقى محتفظاً بلبلة وأحوازها مع الاعتراف بالطاعة وأداء الجزية (2). وهذه الأماكن كلها تقع في منطقة ولبة (أونبة القديمة)، شرقي نهر وادي يانه، وهو أقصى مدى كان يمتد إليه سلطان ابن محفوظ.
أما قواعد الغرب البرتغالية، وهي شلب وطبيرة وشنتمرية الغرب، فقد كانت من نصيب الفتوح البرتغالية. وكان ألفونسو الثالث ملك البرتغال، قد أدرك مذ سقطت إشبيلية في أيدي القشتاليين، وساد الانحلال والفزع في سائر قواعد الغرب الإسلامية، وانهارت فيها الروح الدفاعية، أن الفرصة قد سنحت للاستيلاء على ما بقى بأيدى المسلمين من هذه القواعد، في أراضي البرتغال
_______
(1) الذخيرة السنية ص 76.
(2) الذخيرة السنية ص 85(4/490)
خريطة:
خريطة تبين انهيار الأندلس وما كسبته الممالك الإسبانية النصرانية 633 - 660 هـ = 1236 - 1262 م.
حدود الأندلس الشمالية قبل الانهيار(4/491)
الجنوبية. وكان أخوه وسلفه الملك سانشو الثاني قد استولى على مدينة ميرتلة من المسلمين، وسلمها لفرسان شنت ياقب للقيام بالمحافظة عليها. وفي سنة 640 هـ (1242 م) استولى البرتغاليون على مدينة شلب، من يد واليها الموحدي واسمه المنصور، ولم يبق بعد الاستيلاء على شلب، وهي أهم قواعد الغرب الجنوبية، سوى طبيرة وشنتمرية الغرب. فأما طبيرة، فقد سقطت في أيدي الفرسان البرتغاليين في سنة 641 هـ (1243 م). وأما شنتمرية الغرب (1) فقد قام بافتتاحها ألفونسو الثالث، بعد أن حاصرها من البر والبحر، حتى اضطرت إلى التسليم، وذلك في سنة 647 هـ (1249 م)، واتفق على أن يحتفظ المسلمون الذين يريدون البقاء بها، بدينهم وشرائعهم وأموالهم، وأن يكونوا رعايا لملك البرتغال يؤدون إليه من المكوس ما كانوا يؤدونه إلى ملوكهم. وتابع ألفونسو الثالث بعد ذلك فتوحاته في هذه المنطقة الجنوبية، فاستولى على سائر الحصون والبلاد الإسلامية الباقية فيها، ولم تأت سنة 1250 م، حتى كانت ولاية الغرب البرتغالية كلها قد سقطت في أيدي البرتغاليين. وفي العام التالي عبر البرتغاليون نهر وادي يانه، ومضوا في فتوحهم في أراضي الغرب الأندلسية، وافتتحوا عدة من الحصون والقواعد على ضفته اليسرى، ومنها قلعتا أورشه وأورسينة الواقعتان على مقربة من لبلة. وكان ملك قشتالة، يعتبر عبور البرتغاليين إلى هذه المنطقة، اعتداء على أراضيه، ويرقب الفرصة لردهم إلى ما وراء نهر وادي يانه.
ولما توفي فرناندو الثالث (1252 م)، وخلفه ولده ألفونسو العاشر، شعر ابن محفوظ صاحب لبلة أن ملك قشتالة الجديد، ليس له من الحزم والسطوة ما كان لأبيه، فأخذ يتحلل من عهوده، ثم أبي أن يدفع الجزية، وثار بمدينة لبلة الحصينة وامتنع بها، فسار ألفونسو العاشر إلى لبلة في جيش قوي، وضرب حولها الحصار، وكان ضمن حشوده فرقة من جند ابن الأحمر، بعث بها لتشترك في الحصار، وإخضاع ابن محفوظ، وفاء بعهوده القديمة، وبغضا منه لهذا الزعيم الموحدي، بقية الدولة البائدة في شبه الجزيرة. ولم يكن افتتاح لبلة أمراً سهلا، نظراً لمنعتها الطبيعية بوقوعها فوق ربوة عالية، ونظراً لأسوارها الصلدة العالية التي تحيط بها إحاطة تامة، ومن ثم فقد صمدت المدينة في وجه المحاصرين، واستمر صمودها عدة أشهر. وكان أبرز ما في حوادث هذا الحصار، ما قام به
_______
(1) وهي التي قامت فيما بعد على أنقاضها مدينة فارو Faro الحديثة(4/492)
المسلمون من إطلاق النار والحجارة من فوق أسوار المدينة، من آلات قاذفة شديدة الفتك، يصحبها دوى كالرعد، لم يعرف كنهها ولم يسبق استعمالها في شبه الجزيرة، تشبه المدافع البدائية، وقد فتكت هذه الآلات بالجيش المحاصر، وأرغمته على إطالة الحصار أكثر من تسعة أشهر، ولكن المدينة المحصورة، اضطرت آخر الأمر، وبعد أن برحت بأهلها مصائب الحصار، ويئست من تلقى أية نجدة أو مدد، اضطرت إلى التسليم إلى القشتاليين بالأمان، وعوض ألفونسو صاحبها ابن محفوظ مقابل تسليمها، بأملاك وضياع واسعة في أحواز إشبيلية، وفي فحص الشرف. وكان تسليم لبلة في سنة 657 هـ (1257 م) (1).
هذا ما تقوله الرواية النصرانية عن حصار لبلة وتسليمها. ولكن الرواية الإسلامية مع تأييدها لخضوع ابن محفوظ، وأدائه للجزية وفق صلح منفرد عقده مع النصارى، ومع تنويهها بهول حصار لبلة وروعته، تضع تاريخ تسليم لبلة في سنة 660 هـ، أو 661 هـ (1262 أو 1263 م)، أعني بعد التاريخ الذي تضعه الرواية النصرانية بنحو أربعة أعوام. ثم هي تذكر لنا عن مصير ابن محفوظ رواية أخرى، خلاصتها أن ابن محفوظ عبر البحر إلى المغرب مع أهله وصحبه، وقصد إلى الخليفة المرتضى بمراكش، وانضوى تحت لوائه، قائداً بالجيش الموحدي، وظل على تلك الحالة حتى توفي (2).
وأما قواعد الغرب الواقعة شرقي نهر وادي يانه، والتي استولى عليها البرتغاليون، ومنها قلعتا أورشة، وأورسينة، فقد ثار بشأنها الخلاف بين البرتغال وقشتالة، وكاد يؤدي بهما إلى الحرب، لولا أن تدخل البابا، وانتهى الأمر بتسوية الخلاف بين ألفونسو العاشر ملك قشتالة وزميله ألفونسو الثالث ملك البرتغال، وذلك بأن يتزوج ملك البرتغال الأميرة بياتريس، وهي إبنة غير شرعية لملك قشتالة، وأن ينزل ملك قشتالة إليه، عن قواعد الغرب المذكورة، على أن يكون ذلك بطريق الإقطاع، وأن يقدم ملك البرتغال عربوناً بطاعته خمسين فارسا لمعاونة ملك قشتالة في حروبه كلما طلب ذلك إليه، وتم ذلك في سنة 1263 م (3).
_______
(1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 119
(2) البيان المغرب ص 436.
(3) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 120(4/493)
هذا وقد توفي فرناندو الثالث ملك قشتالة، بعد مرض شديد، في الثلاثين من شهر مايو سنة 1252 م، في الرابعة والخمسين من عمره، وذلك بعد أن حكم ستة وثلاثين عاما، ودفن بمدينة إشبيلية آخر وأعظم فتوحه، وحاضرته الجديدة، فخلفه ولده، وولي عهده ألفونسو العاشر، وهو الذي لقب فيما بعد بالحكيم أو العالم.
وتشيد التواريخ الإسبانية بخلال فرناندو الثالث وعبقريته، وعظيم مآثره، وتعتبره من أعظم ملوك إسبانيا، ومن أعظم ملوك العصور الوسطى، وترى أن فتوح " الاسترداد " La Reconquista ، قد وصلت على يديه إلى ذروتها، وذلك بافتتاح قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، وإشبيلية أعظم حواضر الأندلس. والواقع أننا نستطيع أن نعتبر فرناندو الثالث، هو قاهر الأندلس الحقيقي، وأنه هو الذي استطاع بضرباته وفتوحاته المتوالية لأراضيها وقواعدها، أن يحطم وحدتها وتماسكها، وأن يقوض صرحها الشامخ، الذي استطاع الموحدون أن يحتفظوا بسلامته زهاء قرن، وقد وضع افتتاحه لقواعدها الكبرى، حداً نهائياً لسيادة الإسلام في الأندلس الوسطى والغربية، وجاء استيلاؤه على قرطبة، وإشبيلية بالأخص، وهما أعظم مراكز الإشعاع الحضاري في الغرب الإسلامي، ضربة قاضية للنفوذ الحضاري والمؤثرات الأدبية الأندلسية، التي لبثت خمسة قرون متغلغلة في شبه الجزيرة الإسبانية.
وقد لبثت ذكرى فرناندو الثالث عصوراً، تقترن بالأخص بحماسته الدينية وغيرته الكاثوليكية، والصفة الصليبية التي كانت شعار حروبه ضد الإسلام في الأندلس، حتى جاء البابا كليمنضوس العاشر، فأسبغ عليه صفة القداسة وتوّجه قديسا، وذلك في سنة 1671 م، وأضحى فرناندو الثالث من ذلك التاريخ يعرف بالقدِّيس فرناندو San Fernando أو فرناندو المقدس Fernando el Santo(4/494)
الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحديّة(4/495)
الفصل الأول عصر الخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد
بيعة الخليفة الرشيد. دخوله مراكش. بعض خواص عهده. قدوم ابن وقاريط زعيم هسكورة. موقفه من الرشيد. مغادرته للحضرة وإعلانه للعصيان. تحالفه مع يحيى. خروج الرشيد لقتال يحيى وحلفائه. هزيمة يحيى وفراره. قدوم الزعيم غنصلة إلى الحضرة. ما فعله قبل مقدمه بأهل قادس. أبو عثمان الجدميوى ورغبته في العودة إلى الطاعة. توسيطه لمبعوث الرومي جوان كيس في ذلك. ميل الزعماء الموحدين إلى العودة إلى الطاعة. القائد شانجه يعرض الأمر على الرشيد. موافقة الرشيد واغتباطه. مقدم أبي عثمان وصحبه إلى الحضرة. مساعيه ومفاوضاته في سبيل عود الموحدين إلى الطاعة. مساعى الرشيد ودعوته لهم. تأهبهم للقدوم ثم إحجامهم خوفا من عدوان الخلط. مسعود شيخ الخلط وأعماله العدوانية. اعتزام الرشيد القضاء عليه. يضع خطة لذلك. استدراج مسعود إلى الحضرة. تدبير المؤامرة لاغتياله. البطش به وبأصحابه ومصرعهم داخل القصر. القبض على عرب الخلط وإهلاكهم. دعوة الرشيد للموحدين للقدوم. رسل الموحدين إلى الرشيد. مطالبة الموحدين بإعادة رسوم المهدي. وعد الرشيد بتحقيقها. مقدم الموحدين إلى الحضرة. إعادة رسوم المهدي. إعادة حقوق الموحدين وأملاكهم. تضعضع الدولة الموحدية. تحالف الخلط وابن وقاريط ويحيى. زحف الحلفاء على مراكش. خروج الرشيد في قواته لقتالهم. هزيمة الرشيد وتمزيق قواته. عزمه على مغادرة الحضرة صونا لها. حيلته ليشق لنفسه طريق الخروج. نجاحه والخروج والفرار. التجاؤه إلى الجبل ثم إلى سجلماسة. الضيق والجوع في مراكش. عيث العرب في أحوازها. دخول يحيى وابن وقاريط والخلط المدينة. تغلب ابن وقاريط على الخليفة. فرار الموحدين من المدينة. استعداد الرشيد لاستئناف القتال. مسيره إلى مراكش. اللقاء بينه وبين يحيى وحلفائه. هزيمة يحيى والخلط. دخول الرشيد الحضرة وإنقاذها من العيث. غزو الجنويين لسبتة. ظروف هذه المحاولة وفشلها. التنكيل بالجنويين المحليين. مقدم أسطول جنوة ومحاصرته لسبتة. تعويض الجنويين وإقلاعهم. الخلط يدبرون خطة الانتقام. يبعثون ابن وقاريط سفيراً إلى ابن هود. استعداد الرشيد للقضاء على خصومه. مسيره إلى فاس. التجاء يحيى إلى عرب المعقل ومصرعه بأيديهم. يحيى وصفاته. عودة الرشيد إلى الحضرة. حوادث سجلماسة. مسير الرشيد إلى فاس. مهاجمة ابن وقاريط لسلا وفشل المحاولة. عوده إلى إشبيلية. وفاة ابن هود وعودة إشبيلية إلى طاعة الخلافة الموحدية. القبض على ابن وقاريط وإرساله إلى المغرب. إعدام جملة من زعماء الخلط. تعذيب ابن وقاريط وإعدامه. بيعة ابن الأحمر للرشيد. الثورة في السوس ومصرع زعيمها. المجاعة في سبتة وأسبابها. بنو مرين وسيطرتهم على الأقطار الغربية. وصولهم إلى فاس. تعيين ابن وانودين لولاية الأقطار الغربية. النزاع بينه وبين بني مرين. تقدم دعوة بني مرين. مصرع أبي سعيد عثمان أمير بني مرين. أخوه أبو معرف يخلفه في الإمارة. الشقاق بين بني مرين. تحالف ابن وانودين مع بني عسكر. محاربته لبني مرين. اجتماع بني مرين حول زعيمهم أبي معرف محمد بن عبد الحق. مسيرهم إلى مكناسة وفتكهم بالروم التابعين لابن وانودين. مسير(4/496)
ابن وانودين لقتالهم. لقاء الفريقين قرب مكناسة. هزيمة ابن وانودين وحلفائه. التجاؤه إلى قصر عبد الكريم. تضاعف هيبة بني مرين وامتداد سلطانهم. ابن وانودين وقصته وعوده إلى مراكش. الرشيد يبطش بوزيره المومنانى. مصرع الرشيد في حادث البحيرة. مختلف الروايات حول ذلك. خلال الرشيد وصفاته. وزراؤه وكتابه. شخصه.
بويع أبو محمد عبد الواحد الرشيد، حسبما تقدم عقب وفاة أبيه، وهو في طريق عودته على رأس جيشه من سلا إلى مراكش، وذلك في مستهل شهر المحرم سنة 630 هـ (18 أكتوبر سنة 1232 م)، وكانت بيعة خاصة انحصرت في أكابر الأشياخ والسادة، إذ كتمت وفاة الخليفة الراحل إلى حين. ولما وصل الرشيد في جيشه إلى الحضرة، بعد هزيمته لابن عمه يحيى بن الناصر، واستعدت الحضرة لاستقباله، بعد أن كانت على أهبة لرده، مما فصلناه من قبل، دخلها في منتصف شهر المحرم، ونزل بالقصر، وساد التفاؤل والبشر بين الناس، وكانت طوائف الموحدين والعرب التي قدمت مع يحيى، ولاسيما عرب سفيان وشيخهم يومئذ جرمون بن عيسى، قد عاثت في أرجاء العاصمة وخربتها، ونهبت من الأموال والذخائر مقادير طائلة. ووصل مع الرشيد كثير من عرب الخُلط المخلصين له ولأبيه من قبل، واستقروا في مختلف الأنحاء، ووصل معه كذلك عمه السيد أبو محمد عبد الله بن أبي سعد بن المنصور، فأنزله الرشيد أكرم منزل وولاه وزارته، وكانت له في الدولة مكانة رفيعة.
ولما استقر الرشيد بمراكش، اجتمع الناس على طاعته، ووصلته البيعات من مختلف الجهات من الحواضر ومن القبائل.
وكان عهد الرشيد الذي استطال زهاء عشرة أعوام، عهداً بعيداً عن الهدوء والاستقرار، مليئاً على قصره بالأحداث والانقلابات العنيفة. بيد أنه قد امتاز في نفس الوقت بوقوع بعض الظواهر الهامة، وفي مقدمتها عود الموحدين الخوارج، إلى تأييد الدولة الموحدية، وإحياء ما اندثر من رسوم المهدي، والقضاء على تمرد عرب الخلط، وقبيلة هسكورة، وتحرير البلاد من عيثهم، وطغيانهم، وامتاز أخيراً بتقدم دعوة بني مرين، وسيطرتها على معظم الأنحاء الشمالية.
وفي أوائل سنة 630 هـ، قدم إلى مراكش عمر بن وقاريط زعيم هسكورة من جبله، ومعه أولاد الخليفة المأمون إخوة الرشيد الصغار، ومنهم السيد أبو الحسن، وكان أبوه قد تركه بإشبيلية في كفالة بعض الأشياخ، ثم أخرجه أهلها، فأخذ(4/497)
إلى عمه أبي موسى بسبتة، ولجأ أولئك الصبية أثناء احتلال يحيى لمراكش إلى هسكورة، تحت كنف ابن وقاريط ورعايته.
وكان ابن وقاريط منذ البداية من أنصار الخليفة المأمون، وخصوم ابن أخيه يحيى، ولكنه لما تولى الرشيد شعر نحوه بشىء من التوجس، بيد أنه توسل باستصحاب إخوته الصغار أبناء المأمون إلى الحضرة، إلى نيل عطفه وثقته، ولما وصل إلى مراكش واستقر بها، توثقت أواصر المودة بينه وبين السيد أبي محمد ابن أبي سعد عم الرشيد، وصديقه الحميم العلامة الفقيه أبي إسحاق بن الحجر، وكان من أقطاب عصره علما ومكانة، بيد أن ابن وقاريط لم يكن صادق الولاء، وكانت نفسه تجيش بنيات ونوازع مختلفة، لم تلبث أن كشفت عنها الحوادث. وكان ابن وقاريط، شعوراً منه بكثرة جمعه، وتوطد نفوذ قبيلته، يكثر من الرغبات والمطالب، وخصوصاً منذ توفي صديقه وناصحه السيد أبو محمد بن أبي سعد، وكان الرشيد يستجيب إلى معظم رغباته، ومن ذلك أنه منحه جباية هزرجة وأغمات وريكة، وغير ذلك. بيد أنه لم تهدأ ثائرة نفسه، وفي ذات يوم - آخر سنة 630 هـ - غادر مراكش بحجة الاتصال بإخوانه وإصلاح شئونه، ولكنه لم يعد، ولم يلبث أن كشف القناع، وأظهر العصيان للرشيد، والانضواء تحت طاعة منافسه يحيى المعتصم، وسار إليه بمقره ببلاد مزالة، وكان من الواضح أن عمله كان نذيراً ببدء فصل جديد، من الصراع بين الرشيد، وبين يحيى وحلفائه.
- 1 -
وذلك أن الرشيد لما علم بما وقع من عقد التحالف بين هسكورة ويحيى، حشد قواته، وخرج لقتال خصومه، واستخلف على مراكش صهره زوج أخته السيد أبا العلى إدريس، فقام على ضبطها وتسيير أمورها بحزم وكفاية. ولما وقف ابن وقاريط ويحيى، على أهبة الرشيد للقتال، أخذا في استنفار أنصارهما، واجتمعت حشود هسكورة ومزالة وجلاوة، وأخذت تتأهب للسير صوب مراكش، فبعثت أم الرشيد إلى ولدها تستحثه وتهيب به أن يستدرك الموقف قبل أن يهدد الأعداء العاصمة، فحول الرشيد خط سيره، وقصد إلى بلاد هزرجة، واخترق في طريقه بلاد هسكورة وخرب بسائطها، واستعد يحيى وحلفاؤه لمنازلته في حمى بعض الجبال، فسار الرشيد لقتالهم، ولما اضطرمت المعركة بين الفريقين، تخاذل أنصار يحيى وولوا الأدبار، واعتصموا بالجبال،(4/498)
وتركوا محلاتهم، فاستولى عسكر الرشيد على ما فيها، وفر يحيى في فلوله إلى بلاد سجلماسة، وعاد الرشيد ظافر إلى مراكش (1).
وقدم عندئذ إلى الحضرة الزعيم غنصلة (كونثالو) أخو شانجه (سانشو) قائد الروم (الجند النصارى) مع طائفة من الجند النصارى، وكان قبل مقدمه، قد جاز على مدينة قادس، وانقض عليها في عصبته، وفتك بأهلها، وحمل منهم عدداً من الأسرى. وكانت قادس يومئذ تدين بالطاعة لابن هود، ألد خصوم الخلافة الموحدية، واستاق غنصلة الأسرى المسلمين معه حتى ثغر آسفى، فقام أهله بافتدائهم، وتم تسريحهم، وبقيت قادس بعد ذلك خرابا حتى تملكها النصارى فيما بعد، في عهد ألفونسو العاشر (2).
وكان أهم ما حدث في هذا العام - 631 هـ - هو التقرب بين زعماء الموحدين وبين الرشيد، وذلك على يد أبي عثمان سعيد بن زكريا الجدميوى. وكان يتردد على جدميوه، وهي من منازل الموحدين القديمة، بعض التجار النصارى، وكان من هؤلاء مبعوث " للرومى " جوان كيس وكيل شانجه قائد النصارى، وكان هذا المبعوث يتردد على أبي عثمان، ويقدم إليه مختلف الهدايا تسهيلا لمهامه، وأبو عثمان من جانبه يقوم بخدمته ومعاونته. ولما علم بذلك جوان كيس قرر أن يزور أبا عثمان وأن يوثق معه علائقه، فاستقبله الزعيم الجدميوى أجمل استقبال، وانتهز الفرصة فأبدى له رغبته في العودة إلى الطاعة، وأن يقوم بذلك المسعى القائد شانجُه، لمكانته من الرشيد، فأبدى جوان كيس اغتباطه بذلك، ووعد بتحقيقه. وكان الزعماء الموحدون الخوارج على الرشيد، قد برموا بحركات يحيى، وارتمائه في أحضان هسكورة وابن وقاريط، وهو خصمهم الأكبر، وسرت بينهم فكرة العودة إلى الطاعة، وعقد الصلح مع الرشيد. وكان أبو عثمان يسره أن يكون البادئ بهذا المسعى الحميد. ولما وقف القائد شانجه على ذلك أدرك ما لهذا المسعى من الأهمية والفائدة، وعرض الأمر على الرشيد وطلب موافقته، فأبدى الرشيد اغتباطه، وإصدر عهده لأبي عثمان بالأمان والقبول، فلما وصل العهد إلى أبي عثمان، بادر بالسير إلى الحضرة في أهله وإخوانه، ومن اتبعه من قبيلته، فاستقبله شانجه أجمل استقبال، وصحبه إلى الدار التي خصصت له، وشمله الخليفة هو وسائر
_______
(1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 291 و 292، وابن خلدون ج 6 ص 254.
(2) البيان المغرب ج 3 ص 292، والذخيرة السنية ص 70(4/499)
صحبه بعنايته ورعايته وجزيل صلاته. وأخذ أبو عثمان يعمل على توثيق علائقه برجال الدولة من جهة، وعلى بث سعيه الحثيث، لدى زملائه الموحدين من جهة أخرى، ليجمع كلمتهم على الطاعة، والعود إلى الالتفاف حول كرسى الخلافة. واستمرت مساعيه ومفاوضاته في سبيل ذلك حينا، واستطاع في النهاية، أن يقنع زملاءه الموحدين بالعود إلى الطاعة، على أن يشملهم العفو التام، وعلى أن تعاد رسوم إمامهم وقوانينهم وتقاليدهم كما كانت، وهو ما وعد الخليفة بتنفيذه، وبذل الرشيد من جانبه، مساعيه لاستجلاب الموحدين، واستدعائهم إلى الحضرة، لما فيه خيرهم وصلاحهم، فبعث الموحدون إليه بالشكر والدخول في الطاعة، وأخذوا في الأهبة للسير إلى الحضرة، وندب الرشيد لمصاحبتهم والوصول معهم، عمه موسى بن الناصر، ولكن حدث أن وقف على ذلك شيخ الخلط مسعود بن حميدان، ورأى في انضمام الموحدين إلى الرشيد تقوية لشوكته، وإضعافا لمركز الخلط، فرتب قوة من رجاله، لتعترض الموحدين وتفتك بهم، وعلم الموحدون بتلك الخطة الغادرة، فارتدوا إلى جبلهم سالمين. ولما نمى ذلك إلى الرشيد، استشاط غيظاً، وتشاور في الأمر مع وزارائه وخاصته، واستقر الرأي على استدراج زعيم الخلط والقضاء عليه.
وكان ابن وقاريط خلال ذلك، يجد في وضع خططه وإحكام وسائله، وكان يوحى إلى حليفه القديم، شيخ الخلط بمختلف المشاريع العدوانية، وشيخ الخلط مسعود من جانبه، يعيث فسادا في الأرض أينما حل، ويفرض سلطانه الغاشم على الناس، ويرهقهم بالمغارم والفروض، ويستبيح الأموال والحُرم، وكان وكيله، واسمه موسى الكافر، رجلا فاجراً يستطيل على رجال الخليفة وخدامه، دون حياء ولا وازع، وكان الرشيد يشهد ذلك كله، مظهراً الصبر والإغضاء، وهو يضطرم في قرارة نفسه رغبة في التخلص من هذا الزعيم المتجبر الباغى، ويرقب الفرص لتحقيق بغيته.
ولم يكن القضاء على شيخ الخلط بالأمر الهين، فقد كان يعتمد على قوة محاربة تتألف من نيف وإثنى عشر ألف فارس، غير الأتباع والحشود التي لا تحصى، وكانت فرسانه وجنده، حسنة الأهبة كاملة السلاح، ولديه من الأموال والثياب والدواب والإبل مقادير وافرة، وبالجملة فقد كان مسعود ابن حميدان ملكاً غير متوج، قوي الشوكة، وافر البأس، وكان لابد للقضاء عليه(4/500)
وعلى سلطانه، من التذرع بكثير من الحكمة والصبر والدهاء (1).
ووضع الرشيد خطته لذلك بالاتفاق مع وزرائه ونصحائه، وخلاصتها، أن يرسل الجيش مع وزيره السيد أبي محمد الكبير في مهمة إلى بلاد حاحة. ذلك لأن شيخ الخلط كان يخشى المثول في الحضرة، مع وجود الجيش، ومن ثم فقد تحرك السيد أبو محمد بالجيش إلى حاحة برسم جبايتها. وعلى أثر ذلك بدأ الرشيد مسعاه في استدعاء مسعود بن حميدان إلى الحضرة، فقبل الدعوة بعد لأى وتسويف، واستقبل بمنتهى المودة والإكرام، وصار يتردد إلى باب الخليفة في جموعه، وكان يقيم بالحضرة معاوية بن وقاريط عم عمر بن وقاريط، وهو يظهر التبرؤ من عمر وفعله، والولاء للرشيد، بيد أنه كان من جهة أخرى، يبدى صداقته لمسعود، وقد أعد له هو وإخوانه ذات صباح مأدبة حافلة، ولكن الرشيد لم يصبر على تلك المظاهرة فأمر بالقبض على معاوية وإعدامه، وكان مسعود في ذلك الوقت نفسه في دار الخلافة لمصالح يقضيها، فلما نمى إليه الخبر لم يهتز له، وقال لقد أفسد علينا غذاء الخلط، فأقيمت له ولأصحابه في الحال مأدبة عظيمة، وبولغ في إكرامه والحفاوة به.
وهنا وضع الرشيد خطته للإيقاع بمسعود، حينما يفد على القصر، وبث له الكمائن من الفتيان والعبيد والحشود، داخل القصر وحواليه. فلما حضر مسعود أذن له بالدخول، فطلب أن يدخل مع أصحابه، ولكنه أجيب إلى الدخول بمفرده، ومنع الصحب، فتردد أولا ثم ارتضى أن يدخل وحده، فلما وصل إلى مكان معين احتاط به يحيى بن عبد الرحيم، ونفر من العبيد والفتيان، فشعر بالخطر يحدق به، وشهر سيفه وصاح برفاقه الدين تخلفوا ورائه، وتمكن من اللحاق بهم، فشهروا سلاحهم وحاولوا الخروج، ولكن الأبواب كانت قد أغلقت، ففتحوا الباب الأول، بعد جهد، ولكن لقيهم من ورائه ابن ماكسن صاحب الشرطة وأعوانه، ولكنهم استطاعوا التغلب عليهم، ووثبوا إلى الباب الثاني، ولكنه كان أيضاً مغلقاً، وهجم عليهم في ذلك الفناء، كل من كان كامنا في الرياض من الفتيان والكتاب والخدم، وعرف الجميع أن العرب هم المطلوبون، ودافع مسعود ورفاقه عن أنفسهم أعنف دفاع، ولكن السيوف تلقفتهم من كل ناحية، وتساقطوا حول زعيمهم واحداً بعد الآخر، ثم كانت الخاتمة بمصرع
_______
(1) البيان المغرب ص 295 - 298(4/501)
مسعود، فسقط مضرجا بدمه، واحتز رأسه في الحال، وحمل إلى الرشيد، فحمد الله على ما حقق من هلاك هذا الخصم الخطر، وفي الحال أمر الرشيد بالقبض على من كان بالحضرة من عرب الخلط، وقتلهم، والطواف بجثثهم، وكان مصرع مسعود بن حميدان، وانهيار سلطانه على هذا النحو، عمل انقاذ لموقف شديد الحرج، إذ كان عرب الخلط قد اشتد عيثهم في أنحاء البلاد، واغتصبوا جباياتها وعشورها، وأصاب البلاط الموحدي من جراء ذلك منتهى الضيق والإرهاق (1).
ولم يمض على مصرع زعيم الخلط سوى أيام قلائل، حتى عاد الجيش الذي أوفد إلى بلاد حاحة، بقيادة السيد أبي محمد، بعد أن قام بمهمته. وعلى أثر ذلك قام الرشيد بتوجيه كتبه إلى الموحدين بالوفادة عليه، بعد أن مهد السبيل، وزالت العقبات، فبعث الموحدون إليه منهم رسولين، هما أبو بكر بن يعزى التينمللى، ومحمد بن بزريجن الهنتاتى، فاستقبلا في الحضرة بمنتهى الترحاب والبشر والتكريم، وغمرهما الرشيد بعطفه ورعايته. وأبديا للخليفة شروط الموحدين للعودة، وهي إعادة ما نسخه أبوه الخليفة المأمون، من رسوم الإمام المهدي، وذلك بإعادة اسمه في الخطبة، ونقشه في السكة، وإعادة الدعاء له بعد الصلاة، والنداء " بتاصليت الإسلام " " وسودوت " " وناردى " " وأصبح ولله الحمد" وغير ذلك مما جرى عليه التقليد، منذ قيام الدولة الموحدية، وقضى المأمون بإزالته، وتبعه في ذلك ولده الرشيد، فوعد الرشيد بتحقيق مطالبهم. وعلى أثر ذلك قدم الموحدون إلى الحضرة، ونزلوا فيما خصص لهم من الدور، وانتظموا كما كانوا في طاعة الخلافة، وتمهل الرشيد وقتاً في تنفيذ ما وعد به من إحياء رسوم المهدي، ولكنه لما شهد قلقهم وتوجسهم من ذلك، بادر بتنفيذ عهده، وأعيدت رسوم المهدي ابن تومرت كما كانت قبل إلغائها، واستقبل الموحدون ذلك بمنتهى العرفان والرضى (2)، وقرن الرشيد ذلك بأن رد على الموحدين دورهم وأملاكهم وأموالهم، وسائر حقوقهم وامتيازاتهم القديمة، فطابت نفوسهم، واتسعت أحوالهم، وأقبلوا على الانضمام إلى الجيش، والاضطلاع بنصيبهم من المسئوليات والشئون، ولاح أن الدولة الموحدية قد استردت سابق تماسكها ووحدتها وقوتها (3).
_______
(1) البيان المغرب ص 301 - 303، وابن خلدون ج 6 ص 255.
(2) البيان المغرب ص 304 و 305، وابن خلدون ج 6 ص 254.
(3) البيان المغرب ص 306(4/502)
- 2 -
على أن الأمر لم يكن كذلك في الواقع. ذلك أن الدولة الموحدية لم تكن عندئذ سوى بقية هزيلة مما كانت عليه. ولم يكن سلطان الخليفة الموحدي يتعدى يومئذ أحواز العاصمة الموحدية - مراكش - وما إليها، وكانت أطرافها قد قصت من كل ناحية، ففضلا عن انسلاخ إفريقية، وقيام دولة بني حفص المستقلة بها، فقد غلب بنو مرين على معظم الأنحاء الشمالية الشرقية، ولبثت طوائف العرب، ولاسيما عرب الخلط، مسيطرة على الأنحاء القريبة من العاصمة، واستقر يحيى المعتصم مع فلوله في قطاع سجلماسة. ومن جهة أخرى، فقد كان لمقتل مسعود ابن حميدان زعيم الخلط، نتائج بعيدة المدى. ذلك أن طوائف الخلط هاجت وماجت، وأزمعت الانتقام، واختارت لزعامتها يحيى بن هلال بن حميدان، واضطرمت كلها بنار الفتنة، وانتهز ابن وقاريط تلك الفرصة، ليضع يده مع الخلط، وليذكى فيهم ظمأ الانتقام والعيث، وكان منذ هزيمته في هزرجة، قد لبث إلى جانب يحيى المعتصم. واستنفر الخلط سائر حشودهم، فاجتمعت منهم جموع غفيرة، وانضم إليهم يحيى وابن وقاريط بقواتهما، وزحفت الجموع المشتركة على مراكش، وعاثت في أحوازها، وانتسفت الزروع والرياض والبحائر القريبة، وضربت المدائن والقرى، وانقطعت المؤن والأمداد عن الحضرة، واشتد بها الضيق، وأخذ الجند في التسلل إلى الخلط، فعندئذ رأى الرشيد أن يدفع بقواته لمقاتلة المهاجمين، فخرج غنصالة، (كونثالو) قائد الروم في فرسانه، ومعه جند الرشيد، إلى وادي تانسيفت، حيث اجتمع الخلط وهسكورة، وكان معه أيضاً عبد الصمد بن يلولان الهسكورى، خصم ابن وقاريط الألد في جمع من أنصاره، ونشب بين الفريقين قتال عنيف، وقاتل الروم ومن معهم بمنتهى الشجاعة، ولكن تكاثرت عليهم الخلط وهسكورة وفتكت بهم، فهزموا هزيمة شديدة، وارتدت فلولهم عند دخول الليل إلى المدينة، فأغلقت أبوابها، وساد بها الاضطراب والفزع، وزاد الضيق وعدمت الأقوات، وانهارت هيبة الخلافة والخليفة، وأخذت الأمور تنذر بأخطر العواقب (632 هـ - 1234 م) (1).
وعندئذ اقترح الموحدون على الرشيد، صونا للمدينة، وانقاذاً لها من الحصار والخراب، وانقاذاً لأهلها من الهلاك والأسر، أن يغادرها الرشيد، وأن يلجأ
_______
(1) البيان المغرب ص 307 و 308، وابن خلدون ج 6 ص 255(4/503)
إلى جبال الموحدين في قاصية جبال الأطلس، فقبل الرشيد هذا الرأي، ولكن كان لابد لتنفيذه من أن يلتمس الرشيد له طريقاً للخروج والإفلات، من خصومه المتربصين به خارج الحضرة، ومن ثم لجأ الرشيد إلى الحيلة، فأمر بأن يكتب خطابان على لسان جرمون شيخ عرب سفيان، موجهان إليه، بانتصار عرب سفيان على الخلط، وأنهم مرابطون في وادي أم الربيع، وأنهم مازالوا على ولائه وطاعته. وقد كان عرب سفيان دائماً من أنصار المأمون وولده الرشيد، وكانوا من أعداء الخلط، ثم عهد بالخطابين المزورين إلى رسولين (رقاصين) أجزل لهما العطاء، وأمرا بأن يمرا قرب محلة الخلط، وأن يتظاهرا بأنهما قادمين من لدن عرب سفيان إلى الرشيد، فتمت الحيلة، وقبض الخلط على الرسولين، وضبط الكتابان، فقررا أنهما قدما من لدن جرمون، وأنه مقيم بحشوده في وادي أم الربيع، وخشى الخلط أن يكون قد وقع مكروه لباقى مواطنيهم، فقوضوا محلتهم خارج الحضرة، وساروا مع حلفائهم بني هسكورة صوب وادي أم الربيع (1).
وما كاد الخلط وحلفاؤهم يبتعدون عن الحضرة، حتى بادر الرشيد فجمع أمواله وعتاده ومتاعه، وغادر مراكش في أهله وولده، ووجوه دولته، وأشياخ الموحدين، واستخلف على المدينة أبا محمد عبد الله بن زكريا، وخرج في أثره كثير من الناس بأهلهم، ولحسن الطالع لم يتعرض له أحد في ذلك اليوم، فسار في أمن حتى وصل ومن معه إلى أغمات. ولما علم الخلط بما حدث بعد يوم أو اثنين، هرعوا في أثر الخليفة الفار، وحاصروه بأغمات مدى يومين، شغلوا خلالها بالبحث عن الأقوات والمؤن، وتحيل الرشيد من جهة أخرى في الخروج صوب الجبل، فنجح، ووصل إلى أطراف الجبل، قبل أن يفطن إلى ذلك خصومه، ثم بعث بجنده إلى تينملل، ولما أدرك الخلط ما حدث، ولم يجدوا أحداً بالمحلة، ارتدوا على أعقابهم إلى حيث أتوا.
وسار الرشيد، في قواته جنوبا، فاخترق بلاد هرغة، ثم اتجه شرقاً صوب سجلماسة، وكان واليها أرقم بن يحيى بن شجاع بن مردنيش، فامتنع، واستعد للمقاومة. ولكن طائفة من النصارى كانت بالمدينة، فتحت الأبواب وأعلنت الطاعة، فدخل الناس المدينة وأسعفوا بالأقوات، وهدأت الأحوال.
وكانت مراكش، منذ غادرها الرشيد، قد ساد بها الاضطراب والضيق،
_______
(1) البيان المغرب ص 310 و 311(4/504)
وعزت الأقوات واشتد الكرب، وأكل الناس كل ما وصل إلى أيديهم من صنوف النبات والحشائش، ومات كثير من الجوع، وكان العرب خارج المدينة يحولون دون إغاثتها وتموينها، ويقيمون هم في خصب وسعة. ثم كان أن تسور المدينة السيد أبو ابراهيم بن أبي حفص الملقب بأبي حاقة، وفر الوالي أبو محمد بن أبي زكريا، وضبط السيد أبو ابراهيم البلد، وأمل الناس أن ينقذهم من عيث العرب وبطشهم، وبدأت تباشير الفرج بوصول الناس إلى الحقول والزرع الأخضر.
وفي تلك الأثناء وصل يحيى المعتصم وابن وقاريط وطوائف الخلط إلى المدينة، فتوجس الناس شراً، ودخل يحيى في الحال مراكش واحتلها، واستولى أصحابه من العرب والهساكرة على الدور، ووزر ليحيى يومئذ أبو محمد بن وانودين، وأبو يحيى بن زكريا بن يجلد، ودخل ابن وقاريط في أشياعه، ونزل بدار الوزير السابق أبي سعيد بن جامع، واقتسم الزعماء القصور والرباع الفخمة، وغلب ابن وقاريط والعرب على الخليفة الضعيف يحيى. وكان المسيطر عليه يومئذ فتى أفاق يدعى بلال ويكنى أبا حمامة، وأوقع بلال هذا بعلى أخي يحيى ووشى به، فأمر يحيى بالقبض عليه ثم إعدامه، بالرغم من شفاعة ابن وقاريط والخلط، وكثر الإرجاف، وساءت الظنون، وخرج الموحدون الذين كانوا بالمدينة، وغادروها تباعا بمختلف الوسائل والحيل، وساروا إلى الجبل، وانتظروا يرقبون الحوادث.
وكان دخول يحيى مراكش على هذا النحو في أواخر سنة 632 هـ (1235 م) فلبث بها حتى أوائل العام التالي، وكان الرشيد في تلك الأثناء بسجلماسة، ينظم شئونه، ويتخذ أهبته للمعركة المرتقبة. فلما شعر بعد بضعة أشهر بتحسن أحواله وازدياد قواته، واستجاب إلى نصرته عرب سفيان، وشيخهم جرمون بن عيسى، عول على التحرك والعمل. فخرج في قواته من سجلماسة، قاصداً إلى مراكش، وترامت هذه الأنباء إلى الحضرة، فسرى إليها الاضطراب، وخرج منها يحيى، وضرب محلته في ظاهرها استعداداً للقاء الرشيد، وقد تزايدت قواته بحشود حلفائه من الخلط وهسكورة.
وسار الرشيد في قواته أولا صوب وادي أم الربيع، ثم هبط منه نحو العاصمة، وهنالك في مكان يسمى أوجدام التقى الفريقان، ونشب بينهما قتال هائل، استمر طول اليوم دون حسم، ثم استؤنفت المعركة بعد بضعة أيام، ونشبت بينهما معركة عنيفة أخرى، انقض خلالها الروم من عسكر الرشيد، على ناحية(4/505)
الخلط، وهاجموهم بشدة، وفتكوا بهم، فولى الخلط الأدبار مع أميرهم، وتحطمت جبهة يحيى وحلفائه، وانتهبت محلاتهم، وسبي أولادهم ونساؤهم، وتحقق للرشيد نصر كامل، ودخل الرشيد حاضرته في حفل فخم، فأغدق صلاته على حلفائه من عرب سفيان، فاتسعت أحوالهم، وزادت جموعهم، وأعلن الصفح عن خصومه، وساد التهادن والسلم، وتم ذلك في أواسط أو أواخر سنة 633 هـ (1236 م) (1).
وكانت هزيمة الخلط على هذا النحو الشامل، ضربة شديدة لتلك الطوائف الباغية المفسدة، أنقذت بها الخلافة الموحدية، وأنقذت مراكش من كابوس خانق، فانتظمت الأحوال وانتعشت النفوس، وعمرت الديار، وارتفعت المظالم المرهقة، التي كانت هذه الطوائف تنزلها بالناس، وأخذ الرشيد يستعد لمطاردة الخلط، والقضاء عليهم، وكانوا عندئذ قد انفضوا عن يحيى، وفر يحيى في نفر يسير من صحبه مفلولا كسيراً، والتجأ إلى جماعة من عرب المعقل.
وحدث في هذا العام - سنة 633 هـ - الذي بلغت فيه الحرب الأهلية ذروتها من الاضطرام، حادث لم يلتفت البلاط الموحدي إلى خطورته، وإلى خطورة دلالته، وهو غزو الجنويين لثغر سبتة، ومحاولة الاستيلاء عليه. وكان الجنويون يفدون في سفنهم على سبتة للاتجار مع أهلها، ومع القبائل المجاورة، وترتب على ذلك أن نزل بها وبأرباضها كثير منهم، ففكر جماعة منهم في الاستيلاء عليها، لأهميتها البحرية والتجارية، فنمى ذلك إلى واليها عندئذ، وهو أبو العباس اليانشتى، فكتب إلى القبائل المجاورة يستنفرهم، وحدد لوفودهم يوما معينا. وفي ذلك اليوم، وفدت على سبتة، منهم جموع غفيرة، وخرج اليانشتى للقائهم، فأدرك الجنويون فشل مشروعهم، وأسرعو إلى باب المدينة، يحاولون امتلاكه فردتهم عساكر البربر، وقتلوا منهم عددا كبيرا، ورمى كثير منهم أنفسهم إلى البحر، ووصلوا إلى سفنهم الراسية فيه، ونهبت أموال الجنويين وفنادقهم، وهرع من بقى منهم إلى جنوة، وأبلغوا أهلها ما حدث، فحشد أهل جنوة في الحال نحو مائة مركب، وساروا لمحاصرة سبتة، ولما وصلوا إليها نصبوا عليها المجانيق، وضيقوا عليها، وعولوا على ضربها وأخذها بالحصار، فبادر صاحب المدينة اليانشتى إلى مفاوضتهم، واتفق معهم على تعويضهم عن كل ما حدث من الخسائر
_______
(1) البيان المغرب ص 318 - 324، وابن خلدون ج 6 ص 255(4/506)
لمواطنيهم، وقدر هذا التعويض بمبلغ أربعمائة ألف دينار دفعها أهل سبتة، فتسلم الجنويون المال، وأقلعوا عن المدينة، ووقع ذلك في سنة 633 هـ (1236 م)، أو في سنة 632 هـ (1235 م) وفقاً لرواية صاحب روض القرطاس، وتضع بعض الروايات تاريخ هذا الحادث في سنة 636 هـ (1238 م) (1).
وفي تلك الأثناء كان عرب الخلط يجمعون فلولهم ويدبرون خططهم. ذلك أنهم لم ييأسوا من المقاومة، واقترح عليهم ابن وقاريط أن يعترفوا بطاعة صاحب الأندلس، محمد بن يوسف بن هود، وأن يستنصروا به، لكي يرسل إليهم جنداً لمحاربة الرشيد، فوافق العرب على ذلك، وندبوا ابن وقاريط وجماعة من أعيانهم للسير إلى ابن هود. وكان ابن وقاريط في الواقع يتوق إلى مغادرة المغرب، بعد أن شعر بفداحة هزيمته وخسران قضيته، فعبر البحر مع رفاقه إلى الأندلس، ووفد على ابن هود، فرحب بمقدمهم، وشملهم بعطفه وجوده، ولبثوا بإشبيلية في ضيافته وتحت كنفه، حتى سنة 635 هـ، وانتظر عرب الخلط وأمرهم فوضى، نتيجة هذه السفارة، حتى تحرك الرشيد حركته الثانية.، فدب إليهم الذعر وتفرقوا في مختلف الأنحاء.
وكان الرشيد عندئذ، قد استعد لحرب خصومه أعظم استعداد، وبذل الأعطية على نطاق واسع، وشمل الموحدين بسابغ عطفه وكرمه، وندب لولاية مراكش الشيخ أبا علي بن أبي محمد عبد العزيز، ولأشغالها أبا عبد الله بن أبي زيد التينمللى، ولقضائها أبا زيد المكادى، ولشرطتها يوسف بن عثمان الهنتاتي.
وسار الرشيد في قواته أولا إلى فاس، والناس يرحبون به أينما حل. وفي فاس نظر في الشئون، وطلب تحصيل الجبايات، وأرسل الجيش إلى غُمارة بقيادة الوزير السيد أبي محمد سعيد بن المنصور. وخلفه في الوزارة الشيخ أبو موسى ابن عطوش. وبقى الموحدون في فاس. وحصلت الجبايات العظيمة من قبائل غمارة وفازاز، ومنح الجند أعطيتهم، ووسع عليهم، واستقامت الأمور، وتحسنت الأحوال.
ووقع خلال إقامة الرشيد بفاس حادث حسم، هو مصرع يحيى المعتصم. وذلك أنه كان عقب هزيمته الأخيرة الساحقة، قد لجأ إلى عرب المعقل بقرب رباط تازا، واستجار بهم، فآووه ووعدوه بمؤازرتهم ونصرتهم، ولكنهم
_______
(1) راجع في غزو سبتة البيان المغرب ص 346 و 347، وروض القرطاس ص 183(4/507)
أخذوا يرهقونه بمطالبهم، في إصدار الظهائر لهم بامتيازات وحقوق معينة، أملا منهم في عوده إلى الخلافة، فأبى يحيى ذلك عليهم، فقتلوه غيلة، ودفنوا شلوه، وذلك في يوم الاثنين 28 رمضان سنة 633 هـ (مايو سنة 1236 م)، وذلك بمكان يسمى فحص الزاد، يقع بين فاس ورباط تازا، ثم بعثوا برأسه إلى الرشيد وهو بفاس (1)، فبعث بها الرشيد " في زق عسل " إلى مراكش، ومعها كتاب إلى الوالي أبي علي بن أبي محمد، فاستدعى الوالي الناس، وقرأ عليهم كتاب الخليفة، وعلق الرأس على باب الشريعة (2).
وقام الوالي أبو علي في نفس الوقت، بناء على أمر الخليفة، بإعدام بعض زعماء العرب من سفيان وجابر، وكانوا معتقلين بسجن الحضرة.
وهكذا كانت خاتمة يحيى المعتصم بن الناصر بن المنصور، بعد حياة مضطربة شريدة، استطالت مذ بويع بالخلافة لأول مرة في شوال سنة 624 هـ، حتى مصرعه في رمضان سنة 633 هـ، تسعة أعوام، لم ينعم خلالها بالاستقرار، والاتشاح بثوب الخلافة، سوى فترات يسيرة، كانت تتخللها مغامرات ومعارك مستمرة، أولا مع عمه ومنافسه القوي، أبي العُلى المأمون، ثم بعد ذلك مع ابنه الرشيد. وكان يحيى شخصية ضعيفة، لا تتميز بشىء من الإرادة أو حسن التصرف، وكان طول الوقت آلة في يد أنصاره، يوجهونه كيفما شاءوا، وإذا كنا نضعه من حيث الشكل في ثبت الخلفاء الموحدين، فإن عهد خلافته المتقطع، لم يقترن من الناحية العملية، بأي تصرف أو أثر يذكر.
- 3 -
وفي أوائل سنة 634 هـ، غادر الرشيد فاس عائداً إلى مراكش، فدخلها في موكب فخم، واستقرت الأمور، وانتظمت الأحوال، وساد الهدوء والسلام، وقام الرشيد بتعيين عمال النواحي، واستقام أمر الموحدين، وأخذوا في تنظيم شئونهم، وحرث أراضيهم، وتذوق الحياة الوديعة الهادئة.
وحدث في هذا العام أن استطاع أبو محمد بن وانودين والي درعة، الاستيلاء على سجلماسة، وكانت قد خرجت عن الطاعة. وذلك أن الرشيد لما غادر سجلماسة
_______
(1) البيان المغرب ص 339، وابن خلدون ج 6 ص 255، وروض القرطاس ص 166.
وهو يسمى الموضع الذي قتل به يحيى، " بفيح عبد الله من أحواز رباط تازا ".
(2) البيان المغرب ص 330(4/508)
عين يوسف بن علي التينمللى والياً لها، فاستعمل قريبا له وهو يحيى بن أرقم ابن مردنيش لإدارتها، وثار بيحيى ثائر من صنهاجة وقتله، فقام ولده أرقم، واستطاع أن يتغلب على المدينة، وأن يفوز بحكمها مكان أبيه، وخشى أرقم أن يعزله الرشيد، فاستقل بالمدينة، وامتنع بها، فمازال أبو محمد بن وانودين به، حتى أقنعه بالعودة إلى الطاعة، واستطاع أن يسترد منه المدينة، وعفا عنه الرشيد (1) وغادر الرشيد الحضرة إلى فاس مرة أخرى، واستخلف على مراكش الشيخ أبا محمد بن أبي ابراهيم. وفي أثناء إقامته بفاس، وفد عليه رسل بني مرين، فأكرم مقدمهم، وأجزل صلتهم. وكان الخليفة الموحدي يدرك ما انتهى إليه بنو مرين يومئذ من القوة والشأن، ويبذل وسعه في مصانعتهم واسترضائهم.
ووقع عندئذ حادث مزعج، هو مفاجأة ابن وقاريط سلا بالهجوم عليها، ومحاولة أخذها. وكان ابن وقاريط مذ عبر إلى الأندلس لاستنصار ابن هود، قد لبث في إشبيلية يرقب الفرص، ثم اقترح على ابن هود مشروعاً لفتح سلا ورباط الفتح، وطلب منه بعض السفن، ليستعين بها في تنفيذ مشروعه، فوافق ابن هود، وقدم لابن وقاريط سفينتين. وكان على ولاية سلا يومئذ، السيد أبو العُلى صهر الرشيد زوج أخته فاطمة بنت المأمون، فسار ابن وقاريط في حملته البحرية الصغيرة، وفاجأ سلا بالهجوم عليها، ولكنه لقى مقاومة شديدة، واضطر أن يرتد أدراجه. واهتم الرشيد لذلك الحادث وبعث إلى سلا فاستقدم أخته وأمه إليه، وكانت معها، حرصا على سلامتهما (2).
وكانت هذه خاتمة محاولات ابن وقاريط. ذلك أنه ما كاد يعود إلى إشبيلية حتى تطورت الحوادث، وتوفي المتوكل ابن هود في ألمرية في جمادى الأولى سنة 635 هـ، حسبما فصلنا ذلك في موضعه، وعندئذ قام أهل إشبيلية بزعامة أبي عمرو ابن الجَد وأعلنوا خلع طاعة بني هود، والعودة إلى طاعة الخلافة الموحدية، وعقدوا بيعتهم للرشيد، وبعثوا إلى مراكش وفداً لتقديم بيعتهم. وحدث مثل ذلك في سبتة، حيث قام أهلها بخلع صاحبها أبي العباس اليانشتي، وبايعوا للرشيد، وبعثوا ببيعتهم وفداً إلى الحضرة. وحدث في نفس الوقت أن قام أهل إشبيلية بالقبض على ابن وقاريط، وكان الفضل في ذلك راجعاً إلى فقيه من أهل فاس يدعى
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 256، والبيان المغرب ص 331.
(2) البيان المغرب ص 341، وابن خلدون ج 6 ص 256(4/509)
أبو عبد الله المومنانى كان مقيما بإشبيلية، وبه ولاء للدولة الموحدية، فحرض أهل المدينة على القبض على الزعيم الخارج، وإرساله إلى المغرب، لما في ذلك من إرضاء للخلافة، وتحقيقاً لسلامها، فقبض على ابن وقاريط، وأرسل إلى المغرب محروساً في سفينة، رست به على ثغر أزمُّور، وهنالك تسلمه الوزير الشيخ أبو زكريا بن عطوش، وكان في سجن أزمور عدة من زعماء الخلط، كان الرشيد قد تحيل في استدعائهم وقبض عليهم، وبعث جنده فاستباحت محلاتهم وسبت أولادهم ونساءهم، ثم اعتقلوا بأزمور، فأمر الرشيد بإعدامهم، فأعدموا وحزت رؤوسهم، وأودعت في سفط وضع فوق جمل، أركب عليه ابن وقاريط وأرسل إلى مراكش على تلك الحالة. فلما وصل إلى الحضرة، احتاط به الناس، وأخذوا في لعنه، ثم أودع السجن، وأعدم بعد أيام قلائل، وعلقت جثته على باب الشريعة (أواخر سنة 635 هـ) وبذلك انتهى أمره، واستراح الرشيد من خصم من أخطر خصومه، وأشدهم عناداً وجلداً (1).
وفي العام التالي (636 هـ)، وصلت إلى الرشيد بيعة محمد بن الأحمر صاحب غرناطة ومالقة، وكان ابن الأحمر، يتردد في الطاعة بين الانضواء تحت طاعة ابن هود، والخلافة الموحدية والخلافة العباسية، وقد لبث يدعو للرشيد وللخلافة الموحدية، حتى وفاة الرشيد في سنة 640 هـ.
وحدث في هذا العام أيضا - 636 هـ - أن خرج ببلاد السوس ثائر يدعى بابن ياوجى، وامتنع بحصن تيوينوين، والتف حوله كثير من الناس، وانضم إليه عرب المعقل، فدس إليه أبو محمد بن أبي زكريا والي السوس رجلا من جزولة، استطاع أن يدخل الحصن وأن يقتله، ثم قطع رأسه وحمل إلى مراكش، وبذلك أخمدت ثورته في مهدها، وقد عرف حصن تيوينوين هذا من قديم، بأنه كان دائماً مركزاً للشقاق والعصيان، وبه خرج من قبل أبو قصبة، ثم ثار به ابن الفرس وامتنع به حتى اغتيل وقتل (2).
وفي سنة 637 هـ، وقعت بسبتة وأحوازها مجاعة عظيمة، واشتد القحط والغلاء، وسمى هذا العام " عام سبعة " وكان ذلك من جراء الفتن المتوالية، التي عصفت بالمناطق الغربية، ومن جراء الشرق وقلة الأمطار حتى عدمت الموارد،
_______
(1) البيان المغرب ص 341 و 342، وابن خلدون ج 6 ص 256.
(2) البيان المغرب ص 344(4/510)
وهلكت الزروع، وتفاقم الضر بعيث طوائف العرب، ولاسيما عرب رياح، في أحواز مكناسة، وفاس، ونشوب المعارك المتوالية بينهم وبين زناتة، وأحيانا بينهم وبين بني مرين. وقد أوقع بهم بنو مرين ومزقوا جموعهم، واستولوا على أموالهم ودوابهم وسلاحهم، وكان بنو مرين يجوبون عندئذ سائر الأقطار الغربية، ويفرضون سلطانهم، على معظم القبائل والطوائف النازلة في تلك الأنحاء، ويقمعون أهل الشر والفساد، من العرب وغيرهم، ممن يعيثون في تلك المناطق فساداً، حتى أمنت السبل، واستقامت الأمور، وعلت كلمة بني مرين وهيبتهم، ودخل الناس في طاعتهم، وأخذوا في جباية الضرائب والمكوس، فاتسعت أحوالهم، وقويت شوكتهم، وغلب لديهم الرخاء والنماء (1).
وقد سبق أن تناولنا نشأة بني مرين، وخروجهم من منازلهم القفرة بوادي ملوية، إلى أنحاء المغرب، وما وقع بينهم وبين الموحدين، أيام يوسف المستنصر من المعارك، وكيف أنهم وصلوا في زحفهم داخل أنحاء المغرب حتى أحواز فاس، وكيف أنه لم ينقذ الدولة الموحدية يومئذ من خطر تقدمهم الداهم، سوى ما وقع بينهم من الشقاق الداخلى. وقد لبث بنو مرين في تلك الفترة التي اشتغلت فيها الخلافة الموحدية بحروبها الداخلية، يعملون على توطيد مركزهم، وتوسيع سلطانهم، والاندفاع غربا داخل أقطار المغرب، حتى أنهم فرضوا الإتاوة على مكناسة وغيرها من البلاد المجاورة، وكان أميرهم في الوقت الذي نتحدث عنه، هو أبو سعيد عثمان بن عبد الحق، ولم يكن الرشيد غافلا عن خطورة حلول بني مرين في تلك المنطقة الهامة من مناطق المغرب، ولكنه نظراً لازدياد قوتهم، كان يؤثر مصانعتهم وعقد السلم معهم.
ولما دخلت طنجة وسبتة في طاعة الرشيد، واستقامت الأمور نوعا في أواخر سنة 635 هـ، عين الرشيد لولاية المناطق الغربية أبا محمد عبد الله بن وانودين. وكان ابن وانودين من خيرة زعماء الموحدين، وكان يمت إلى بيت الخلافة بصلة المصاهرة، إذ كان متزوجاً بالسيدة بنت يوسف المستنصر، وكانت له بذلك مكانة في الدولة. وكان قد وزر ليحيى المعتصم، ثم تركه ولحق بخدمة الرشيد، فولاه بلاد درعة في سنة 632 هـ، ونجح ابن وانودين أثناء ذلك في استخلاص سجلماسة، من يد أرقم ابن مردنيش حسبما تقدم، فولاه الرشيد عليها، ثم عاد إلى مراكش في سنة 634 هـ.
_______
(1) البيان المغرب ص 348، 349(4/511)
ولما عين الرشيد ابن وانودين لولاية الغرب، عين معه في نفس الوقت أبا علي بن خلاص البلنسى لولاية سبتة، وعين للنظر على دار الصناعة أبا زكريا ابن مزاحم الكومي. وخرج ابن وانودين من مراكش في عسكر كبير، من الموحدين والمطوعة والعرب، وفوض له الرشيد النظر في أحوال البلاد، فسار أولا إلى بلاد غمارة، لينظر في شئونها، فثارت عليه بعض قبائلها، وكان عدد من هذه القبائل قد دخل في طاعة بني مرين. وكان الرشيد يعتمد على فطنة ابن وانودين، ولباقته في معالجته الأمور مع بني مرين بالكياسة والحسنى، وقد بعث معه بعض أحمال من الكسى الفاخرة برسم بني عبد الحق وأشياخ بني مرين، ولكن ابن وانودين ما كاد يصل إلى مقربة من أحيائهم، حتى بادرهم بالخصومة والعداء، وطالبهم برد الفارين إليهم من بني غمارة، فرفضوا، ووقع النزاع بين الفريقين، وانتهى إلى القتال بينهما، فأغار بنو مرين على محلة ابن وانودين، وقتلوا جملة كبيرة من أجناده، وعلم الرشيد بما حدث، فأمره بالاستقرار في تلك المنطقة، تحوطا لحركات بني مرين (1).
واستمر أمر بني مرين في تقدم، وأطاعتهم معظم القبائل في تلك المنطقة ومنها هوارة وتسولة ومكناسة، وصالحتهم بعض المدن على أموال معلومة، يؤدونها في كل عام، وكان منها فاس ومكناسة ورباط تازا وغيرها. وكان بنو مرين يرون، بعد أن ضعفت الدولة الموحدية، وعجز الخلفاء الموحدون عن ضبط البلاد، وخرجت معظم المدن والقبائل عن طاعتهم، وانتشرت الفوضى في معظم الأنحاء، أنهم غدوا أولى بالنظر في شئون الدين، وصون مصالح المسلمين وحمايتهم من العدوان والفوضى (2).
وفي سنة 637 هـ، وقيل في محرم سنة 638 هـ (1240 م) قتل أمير بني مرين أبو سعيد عثمان بن عبد الحق، اغتاله فتى من علوجه رباه صغيراً، ثم هرب هذا العلج إلى ابن وانودين. وقيل عندئذ أن ابن وانودين هو الذي حرضه على ارتكاب جريمته (3). فخلفه في رياسة بني مرين أخوه الأمير أبو معرف محمد ابن عبد الحق. فأطاعه بنو مرين، ولكن خالف عليه أبناء عمومته بنو حمامة، وعاد
_______
(1) البيان المغرب ص 350 و 351.
(2) روض القرطاس ص 192.
(3) البيان المغرب ص 351، وروض القرطاس ص 192، والذخيرة السنية ص 62(4/512)
الشقاق القديم بين بني حمامة وبنى عسكر يمزق صفوفهم. وبعث ابن وانودين، بقلم كاتبه أبي الحسن السرقسطى إلى الرشيد، يعرفه بما تقدم من شئون بني مرين، وقد اغتر ابن وانودين بما حدث بينهم من شقاق، وأظهر المودة لبني عسكر وتحالف معهم، ونهض معهم بالفعل إلى مقاتلة بني عبد الحق (بني حمامة)، والتقى الفريقان على مقربة من سلفات، وخسر كل من الفريقين قتلى، وارتد ابن وانودين مع الموحدين وبنى عسكر، ونزل بظاهر مكناسة، واشتد في معاملة أهلها، وفرض عليهم المغارم الفادحة، لأنهم كانوا يدينون بطاعة بني عبد الحق، ثم سار إلى فاس ففعل بها مثل ما تقدم، ثم عاد إلى مكناسة، ونزل على مقربة من جبل زرهون الواقع في شمالها، ففر منه الناس في مختلف الأنحاء (1).
واجتمع بنو مرين حول أميرهم محمد بن عبد الحق، وانضمت إليهم حشود من زناتة، وغيرها، وساروا إلى مقربة من مكناسة واصطدموا هنالك بقوة من النصارى (الروم) كان ابن وانودين قد بعثها لحراسة تلك المنطقة ففتكوا بها، وعندئذ وضع ابن وانودين خطة لمهاجمة بني مرين، وسار في قواته من الموحدين والعرب وبنى عسكر، وتأهب بنو مرين للقائه. ونشبت المعركة بين الفريقين على قيد نحو ثمانية أميال من مكناسة، فقاتل بنو مرين بعنف وشجاعة، وفتكوا بالموحدين وحلفائهم، وحقت الهزيمة الفادحة على ابن وانودين، ومزق عسكره، من العرب وبنى عسكر، فلجأ ابن وانودين إلى مكناسة، وامتنع بها. واستولى بنو مرين على محلته، وسائر ما فيها من المتاع والدواب، ثم غادر ابن وانودين مكناسة في جملة من الخيل، ومعه ابنه أبو زكريا، وقصد إلى قصر عبد الكريم (القصر الكبير) حيث لحق هنالك بأسرته وامتنع به. ووقعت هذه الحوادث في أواخر سنة 637 هـ (2).
وكانت هزيمة ابن وانودين على هذا النحو، ضربة شديدة للخلافة الموحدية وكسبا جديداً لبني مرين زاد في قوتهم وفي هيبتهم، وامتد سلطانهم بذلك إلى جهة القصر الكبير، ومن فيها من عرب رياح، ودخل في طاعة الأمير محمد بن عبد الحق، من تخلف من قبائل بني مرين، وسائر قبائل غُمارة وغيرها، وأصبح
_______
(1) البيان المغرب ص 352.
(2) البيان المغرب ص 353(4/513)
بنو مرين يتجولون في تلك الأنحاء سادة أحراراً، وجنح الرشيد إلى مهادنتهم، ومصانعتهم، وكانت بينه وبينهم مراسلات ودية.
وعلم ابن وانودين وهو في ملجئه بقصر عبد الكريم، أن كثيراً من أهل البلاد التي كانت تحت حكمه، قد كتبوا في حقه إلى الرشيد، وشكوا مما كان ينزله بهم من المظالم، واتهموه بأنه كان يقصد أن يحذو في منطقته حذو بني حفص، وأن يستقل بحكمها، وأن الرشيد قد صدق هذه الاتهامات، فغادر قصر عبد الكريم، وقصد إلى جبال الموحدين، وسار ليلا ونهاراً حتى وصل إليها، بالرغم من مطاردة بني مرين، وبقى لاجئاً إليها، حتى نمى إليه أن الرشيد، تحقق في النهاية من براءته مما نسب إليه، فعاد إلى مراكش، وأكرم الرشيد وفادته.
وفي سنة 639 هـ (1241 م)، بطش الرشيد بوزيره وكاتبه أبي حفص ابن المومنانى، وكان من أكابر الدولة وأعلام الكتاب، وله عند الرشيد حظوة ومكانة رفيعة. ولكنه ارتكب زلة خطيرة حينما وجه خطابا خاصاً إلى صديقه السيد أبي حفص عمر بن عبد العزيز بن المنصور، يهنئه فيه بإسناد إحدى الولايات إليه، ويقول له في خطابه إنها " إن شاء الله ابتداء الخلافة "، وأخطأ الرسول، ودفع الخطاب إلى أهل القصر، فوقع في يد القائد أبي المسك، ودفعه أبو المسك إلى الرشيد، فلما وقف عليه الرشيد، أمر من فوره بقتل المومنانى والسيد أبي حفص، فنفذ أمره في الحال وهلك الرجلان ضحية عبارة طائشة (1).
بيد أنه لم تمض بضعة أشهر على ذلك الحادث الدموى، حتى هلك الرشيد نفسه. ذلك أنه خرج ذات يوم للتنزه في إحدى الرياض التي كان قد أنشأها بجوار القصر، وكانت توجد في تلك الروضة بحيرة صغيرة، أو صهريج وفقا لوصف المؤرخ، فنزل في هذه البحيرة مع بعض جواريه في زورق برسم التنزه، فانقلب الزورق بمن فيه، وغرق الرشيد ومات لوقته، وقيل إنه انتشل محموما من الماء، وحمل إلى القصر، وهنالك توفي بعد ثلاثة أيام. وكان غرق الرشيد في يوم الثلاثاء السابع من جمادى الآخرة سنة 640 هـ (2 ديسمبر سنة 1242 م) فإذا أخذنا بالرواية الثانية، فتكون وفاته في اليوم العاشر من جمادى الآخرة الموافق ليوم 5 ديسمبر. وفي رواية ثالثة ينقلها إلينا ابن عذارى عن مصادر مسندة عن حاجب الرشيد، أن الرشيد نزل بزورقه في الصهريج في ليلة باردة،
_______
(1) البيان المغرب ص 357.، وابن خلدون ج 6 ص 256(4/514)
ثم خلع عمامته، فلما أزالها أصابته نزلة شديدة، فأخرج من الزورق، وحمل إلى قصره حيث توفي، في يوم الجمعة العاشر من جمادى الثانية سنة 640 هـ (1). وكان الرشيد حينما توفي في الرابعة والعشرين من عمره، وقد استطالت خلافته أكثر من عشرة أعوام.
...
وكان الرشيد، كأبيه الخليفة المأمون، يتمتع بطائفة من الخلال القوية اللامعة، من الذكاء والجرأة، وحدة النفس، وقوة العزم، وبعد النظر، ولو لم ترغمه الحوادث على أن ينفق أعوامه العشرة في مقارعة خصومه، والدفاع عن عرشه، لكان لنا أن نتوقع منه خططا وأعمالا إنشائية أخرى، ربما كان لها أثرها في إنقاذ الدولة الموحدية، وإطالة حياتها. بيد أنه تولى العرش وحكم في ظروف سيئة، وكانت التيارات الخصيمة، قد سارت قدما في تقويض هيكل الدولة الموحدية، وتحطيم أسسها، ولم يكن باقيا منها سوى شبح باهت، يرتكز من الناحية المادية، على رقعتها الجنوبية. وكان من أهم ما عمله الرشيد لتقوية الدولة من الناحية المعنوية، هو استدعاء بقية الزعماء الموحدين إلى مؤازرته، بعد أن بطش بهم أبوه، ومزق شملهم، ولو أنه اضطر في سبيل ذلك إلى إعادة العمل برسوم المهدي الدارسة.
وقد وزر للرشيد، السيد أبو محمد عبد الله بن أبي سعد بن المنصور، وأبو زكريا بن أبي الغمر، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الجنفيسى، وأبو علي بن أبي محمد عبد العزيز، وذلك بالتعاقب، ثم تولى الجنفيسى مرة أخرى، وبالرغم من أن الرشيد لم يكن كأبيه المأمون أديبا ولا كاتبا، فقد استخدم لكتابته، عدة من أعلام كتاب العصر المغاربة والأندلسيين، مثل أبي زكريا الفازازى، وأبي عبد الله القباجى، وأبي عبد الله ابن أبي عشرة، وأبي عبد الله الفازازى، وأبي المطرِّف ابن عميرة المخزومي، وأبي الحسن الرُّعينى، وأبي عبد الله التلمسانى. وكان من هؤلاء من كتب لأبيه من قبل مثل أبي زكريا الفازازى، وأبي المطرف بن عميرة، وأبي الحسن الرعينى. وتصف الرواية الرشيد، بأنه كان فتى أزهر اللون، أشقر، كث اللحية، حسن القد، في وجهه نمش يسير (2).
_______
(1) البيان المغرب ص 358. وفي روض القرطاس (ص 171) والذخيرة السنية (ص 64) أن وفاة الرشيد كانت في يوم الخميس التاسع من جمادى الآخرة.
(2) البيان المغرب ص 283(4/515)
الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد
مبايعة الخليفة، أبي الحسن على السعيد. شخصيته القوية. وزراؤه وكتابه. مطاردته لخصومه. مصانعته لعرب الخلط وغيرهم. عنايته بأمر الروم. خروج الهزرجى بسجلماسة. تلمسان والمغرب الأوسط. بطون زناتة الخارجة على الموحدين. استيلاء يغمراسن زعيم بني عبد الواد على تلمسان. يقيم بها إمارة مستقلة. خصومته لبني مرين وبنى حفص. علائقه الودية ببلاط مراكش. توجس الأمير أبي زكريا من ذلك. تأهبه لغزو تلمسان. محاصرته لها. فرار يغمراسن واستيلاء أبي زكريا على تلمسان. استدعاؤه ليغمراسن وتأمينه وتعيينه لولايتها. اهتمام الخليفة السعيد بأمر سجلماسة. فرار بعض أشياخ الموحدين والتجاؤهم إليها. مسير السعيد إلى درعة. مخاطبته لأشياخ سجلماسة ووعوده لهم. سعى أبي زيد بن زكريا الجدميوى لرد المدينة إلى الطاعة. نجاحه في ذلك بمداخلة الجند النصارى. القبض على الهزرجى وإعدامه. خلع سبتة وإشبيلية لطاعة الخلافة الموحدية ومبايعتهما لأمير إفريقية. خروج السعيد لمقاتلة بني مرين. هزيمة بني مرين ومصرع أميرهم. رواية أخرى عن حركة السعيد وعلاقته الودية ببنى مرين. قبض السعيد على ابن وانودين والوزير ابن عطوش وغيرهم. إعتقالهم بأزمور. فرار ابن وانودين والتجاؤه إلى جبل هنتاتة. ما تدلى به محنته من اضطراب البلاط الموحدي. خروج كانون زعيم عرب سفيان وتحالفه مع بني مرين. تأهب السعيد للحرب. مسيره في قواته صوب تامسنا. القتال بينه وبين بني مرين وحلفائهم. هزيمة بني مرين ومسيرهم نحو الغرب. مسير عرب سفيان لمهاجمة أزمور. مسير السعيد إلى مطاردتهم. مهاجمة السعيد لهم وتمزيقهم. فرار كانون في فلوله. تولى الأمير أبي يحيى لزعامة بني مرين. خروج بني عسكر عليه. تحالفهم مع الموحدين ثم نكثهم. محاولة السعيد لاستمالة يغمراسن وفشل محاولته. محاصرة بني مرين لمكناسة. ثورة أهلها على الموحدين. إقناع بني مرين لزعيمها أبي العافية بمبايعته أمير إفريقية. صدى هذه الحوادث في البلاط الموحدي. ما أصاب الدولة الموحدية من التمزق. أهبة السعيد لتدارك الموقف. عود عرب سفيان وغيرهم من العرب إلى الطاعة. مسير السعيد في حشوده صوب وادي ملوية. نزوله قبالة بني مرين. توجس بني مرين وإيثارهم للسلم. نزولهم عن البلاد التي احتلوها. عقد الصلح بين الفريقين. مسير السعيد إلى مكناسة. خروج أهلها إليه والتماسهم العفو. العفو عنهم وتأمينهم. بيعتهم الجديدة. مسير السعيد إلى فاس ثم تلمسان. مشروع السعيد في استردادها ثم محاربة أمير إفريقية. التقرب بين صقلية وبين الموحدين. استدعاء السعيد ليغمراسن ورفض يغمراسن الحضور. فراره والتجاؤه إلى تامزجدرت. مسير السعيد لمطاردته. سلوكه شعب الجبال. خروج كمائن بني عبد الواد عليه. مصرعه ووزيره. تمزق قوي الموحدين وارتداد فلولهم إلى مراكش. السعيد وعزمه وخلاله. صفته.
في نفس اليوم الذي توفي فيه الرشيد، وهو يوم الجمعة العاشر من جمادى الآخرة سنة 640 هـ (5 ديسمبر سنة 1242 م)، تم اختيار الخليفة الجديد،(4/516)
وهو أبو الحسن علي بن أبي العُلا إدريس بن يعقوب المنصور، وهو أخو الخليفة الراحل. وكان أكابر الدولة، وأشياخ الموحدين، قد اتجهوا أولا إلى اختيار ولد الخليفة المتوفى الصبي، فاعترض بعضهم على ذلك، وقالوا سئمنا خلافة الصغار، ولم يلتفت الجماعة في البداية إلى أبي الحسن على، أخي الخليفة، لأنه كان أسود، شديد السواد، ولد جارية نوبية، ولكن أبا محمد بن وانودين كبير أشياخ الموحدين، نهض فبايع السيد أبا الحسن، وكان موجوداً ضمن السادة من القرابة، وأقعده في مجلس الخلافة، فتتابع في أثره القرابة والأشياخ، وبايعوه، وبذا تم اختياره لكرسي الخلافة (1).
وتلقب الخليفة الجديد بالسعيد، وبالمعتضد بالله، ولكن غلب عليه اللقب الأول، وكان اختيار أبا الحسن للخلافة أمراً موفقاً، فقد كان بشخصيته القوية، وعزمه، وسطوته، أقوى رجل في الدولة، وكان وجوده في كرسى الخلافة في تلك الظروف العصيبة، التي تجوزها الدولة الموحدية، من العوامل المطمئنة المشجعة، الباعثة على الاستبشار والأمل.
واستوزر السعيد، السيد أبا اسحق بن أبي ابراهيم، وأبا زكريا بن عطوش، وأبقى في منصب الكتابة، الكاتبين البليغين، أبا الحسن الرعينى، وأبا عبد الله التلمساني.
وكان أول عمل قام به السعيد، هو أن قبض على جملة من أشياخ الموحدين، المعارضين لبيعته، وسجنهم، وأغرمهم أموالا، وسجن كذلك أم أخيه الرشيد، حبابة الرومية وأغرمها أموالا، وذلك اتقاء لشرها ودسائسها، ثم أخذ في مصانعة عرب الخُلط، واستدعى طوائفهم من بلاد السوس وغيرها، وقربهم، وأغدق عليهم صلاته، وكذلك استدعى زعماء العرب، من جشم وغيرهم، ليستظهر بهم، وكان شيخ سفيان كانون بن جرمون من أوثق حلفائه، ولم ينس كذلك أمر المرتزقة، وهم فرقة الجند " الروم " التي جلبها معه أبوه المأمون، فعنى بأمرهم أشد عناية، وكانوا يقيمون بكنيستهم التي بنوها في العاصمة الموحدية، ويشتركون في سائر حملات الخليفة الحربية (2).
وفي بداية عهده خرج عليه عبد الله بن زكريا الهزرجى بسجلماسة، وكان
_______
(1) البيان المغرب ص 358 و 359.
(2) البيان المغرب ص 359، وابن خلدون ج 6 ص 256(4/517)
من المعارضين لبيعته، ودعا للأمير أبي زكريا الحفصى صاحب إفريقية، ومن جهة أخرى فقد حدثت بالمغرب الأوسط حوادث مقلقة حول تلمسان. وكانت تلمسان، كإفريقية، قد خرجت عن سيادة الموحدين، وقام على رياستها زعيم بني عبد الواد القوي يَغمُراسن بن زيان. ويجدر بنا أن نشرح ظروف هذا التحول في مصاير تلمسان. وذلك أنه على أثر غزوات ابن غانية للمغرب الأوسط وأحواز تلمسان، وتخريبه لهذه النواحي، نهضت قبائل زناتة الخارجة على الموحدين، وفي مقدمتهم بنو عبد الواد، وبنو راشد، وبنو توجين، ونفذوا إلى أحواز تلمسان والمغرب الأوسط، وكانت أمصار المغرب الشرقية، قد خربت من جراء غزوات ابن غانية، فلم تجد قبائل زناتة، الضاربة في المغرب الأوسط أمامها من الحواضر الغنية سوى تلمسان، تعيث في أحوازها، وتقوم بأعمال النهب والسلب المستمرة. وكان الموحدون قد عنوا بتحصين تلمسان، وتشييد أسوارها، حتى غدت من أمنع أمصار المغرب، ولكن ذلك لم ينجها من قدرها المحتوم. وكان آل زيان من بني عبد الواد من أقوى وأبرز بطون زناتة المغامرة، وكانت منازلهم تقع فيما بين البطحاء ووادي ملوية غربي تلمسان، وكان زعيمهم يَغمُراسن بن زيّان بن ثابت من أشد زعماء هذا الحى بأسا، وأعظمهم مكانة، وقد تولى رياسة قومه منذ سنة 633 هـ، وانضم إليه بنو مظهر وبنو راشد الخارجان من قبل على قومه، ولم يجد يغمراسن صعوبة في الاستيلاء على تلمسان، وانتزاعها من حاميتها الموحدية الضعيفة، فجعل منها قاعدته، وجند الجند وتزيا بزى الإمارة، ومحا آثار الدولة المؤمنية، ولم يترك من رسومها سوى الدعاء للخليفة بمراكش، ووفد عليه من الأندلس لفيف كبير من شرقها، وعلى رأسهم ابن وضّاح، فأكرم وفادتهم، وقرب ابن وضاح وقدمه للشورى، ووفد عليه أيضاً أبو بكر بن خطاب وكان كاتبا بليغا، وشاعراً جزلا، فعينه لكتابته، ولاسيما في مخاطبته للخلفاء الموحدين، وأمراء تونس. وكان يغمراسن يتحرز من نيات بني عبد المؤمن وبنى حفص، وكذلك من أطماع بني مرين، وكان بينه وبينهم وقائع متعددة (1). ولكنه كان يرتبط مع البلاط الموحدي برباط المودة، وكان الرشيد يحبوه بصداقته، ويهاديه حتى لا ينحرف إلى محالفة بني مرين،
_______
(1) ابن خلدون ج 7 ص 77 و 78 و 79(4/518)
وكان عند جلوس الخليفة السعيد، قد بعث إليه بهدية من الخيل العتاق، وكتب إليه يعاهده على قتال بني مرين، فلما وقف الأمير أبو زكريا، أمير إفريقية على ذلك، خشى أن يعقد السلم كذلك بين يغمراسن وبنى مرين، ثم يقع التحالف بين الثلاثة على محاربة إفريقية، ورأى أن يبادر بالعمل لإحباط مثل هذه الخطة، ووفد عليه عندئذ بعض زعماء زناتة، وشجعوه في مشروعه، لغزو تلمسان وأخذها، وجمع كلمة زناتة بذلك، والتمهيد لخطته في الاستيلاء على ملك الموحدين. وقام الأمير أبو زكريا بأهبات عظيمة، وسار إلى تلمسان في جيش ضخم، ومعه عدد وافر من الرماة، وضرب حولها الحصار (أواخر سنة 639 هـ) وضربها الرماة بشدة، فأدرك يغمراسن أنه لا أمل في المدافعة، وخرج من تلمسان في أهله وخاصته، فلما اعترضه الجند المحاصرون فتك بهم، وشق لنفسه طريقا، ولحق بالصحراء، ولجأ إلى جبل قريب، ودخل أبو زكريا تلمسان، وعفا عن أهلها، ولما بحث مع خاصته من الموحدين، في أمر من يوليه عليها، أشاروا عليه بتقديم يَغمُراسن، باعتباره أصلح من يقوم بأمرها، فاستدعاه، وأمنه، وولاه عليها وعلى أعمالها، وفق عهود وشروط معينة، وذلك لكي تغدو حاجراً بين مملكة إفريقية، وبين شمال المغرب، حيث أخذ سلطان بني مرين ينمو بصورة مزعجة، وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة 640 هـ (أوائل 1243 م) (1).
وعنى الخليفة السعيد أولا بأمر سجلماسة، وكان واليها الثائر يدعو بها للأمير أبي زكريا الحفصى، ويستجلب إليه العرب من كل صوب، وقد فوض إليه الأمير أبو زكريا الأمور، ووعده بالعون والإمداد، وكان جماعة من أشياخ الموحدين، ممن خشوا بطش السعيد وغدره، يعتزمون الفرار والالتجاء إلى سجلماسة، وكان السعيد قد خرج عندئذ في قواته من مراكش، ونزل في وادي تانسيفت على مقربة منها، واستطاع الفرار من أولئك الأشياخ، أبو زيد عبد الرحمن ابن زكريا الجدميوى، وابن واجاج، وأبو سعيد العود الرطب الهنتاتى، ولكن قبض على أبي عثمان سعيد أخي أبي زيد، وهو زعيم حركة التقرب الموحدي من الخلافة، وأمر السعيد بقتله، بعد أن استصفى سائر أمواله بمراكش. ولحق الزعماء الفارون بسجلماسة بعد جهد ومشقة، ونزلوا في كنف واليها الثائر، وسار
_______
(1) ابن خلدون ج 6 ص 257 وج 7 ص 81، والبيان المغرب ص 361 و 362، والذخيرة السنية ص 64 و 65، وتاريخ الدولتين للزركشى ص 21(4/519)
أبو سعيد الهنتاتى إلى تونس، فتلقاه أميرها بترحاب وإكرام (1).
وكان والي سجلماسة عبد الله بن زكريا الهزرجي يجد عندئذ في الحركة والأهبة للمدافعة، والامتناع بمدينته الحصينة، وكان السعيد من جانبه ينوى أن ينكل بالثائر، وأن يسحق حركته، لتكون عبرة لأمثاله، فسار في قواته إلى درعة، فبعث إلى أشياخ سجلماسة بظهير يعدهم فيه بالاعتناء والتكريم، وعندئذ رأى أبو زيد بن زكريا الجدميوى فرصة سانحة للعمل والعود إلى الطاعة، فداخل قواد النصارى بالمدينة، وقام النصارى بالضغط على العرب، من حراس باب القصبة، واستطاع أبو زيد أن يدخل القصبة مع أشياخ سجلماسة، وأن يشحنها بالرماة والحماة، وفي الحال بعث إلى السعيد ينبئه بما حدث، فشكره السعيد أجزل الشكر، وعفا عنه، وحظى لديه، وقبض في تلك الأثناء على عبد الله بن زكريا، وساقه بعض العرب مصفدا إلى السعيد، فأمر بإعدامه، وأعدم بالرغم مما بُذل لإنقاذه من شفاعة وضراعة، وحمل رأسه وعلق على باب الكحول بمراكش. وعاد السعيد إلى الحضرة، دون أن يدخل سجلماسة، وذلك في سنة 642 هـ (1244 م) (2).
ووقعت عندئذ حوادث أخرى تدلى بتفكك الدولة الموحدية، وتصدع هيبتها، ومن ذلك ما عمد إليه أبو علي بن خلاص البلنسى والي سبتة، من خلع طاعة الدولة الموحدية، وما عمد إليه أيضاً أهل إشبيلية بالأندلس، حيث خلعوا كذلك طاعة الدولة الموحدية، وذلك بتوجيه زعيمهم أبي عمرو بن الجد، واتجهت المدينتان سبتة وإشبيلية إلى مبايعة صاحب إفريقية، الأمير أبي زكريا الحفصى، وبعثت إشبيلية بيعتها إلى تونس مع وفد من كبرائها، وكذلك بعث ابن خلاص ولده ببيعته في سفينة خاصة ومعه هدية للأمير الحفصى، فغرقت السفينة بمن فيها، وذلك كله حسبما فصلناه في موضعه من قبل، أضف إلى ذلك ما كان من تقدم الدعوة المرينية في شمال المغرب، وزحف بني مرين باضطراد داخل الأقاليم المغربية.
ومن ثم فقد خرج السعيد في نفس العام - 642 هـ - من مراكش مرة أخرى قاصدا إلى الأقاليم الغربية، ومعه حشود المصامدة والعرب والروم،
_______
(1) البيان المغرب ص 363 و 364، وابن خلدون ج 6 ص 257.
(2) البيان المغرب ص 366، وابن خلدون ج 6 ص 257(4/520)
في جيش ضخم، تقدره بعض الروايات بعشرة آلاف فارس، والبعض الآخر بأكثر من عشرين ألفا. وهنا تختلف الرواية ويحيق الغموض بما تلا من تحركات السعيد، ذلك أنه يقال تمشياً مع هذه الرواية، أن السعيد زحف نحو بني مرين، واستعد بنو مرين بقيادة أميرهم أبي معرِّف محمد بن عبد الحق للقاء الموحدين، ووقع اللقاء بين الفريقين بموضع من أحواز فاس يسمى " أغلان " فنشبت بينهما معركة عنيفة، واستمر القتال حتى دخل الليل، وكان أمير بني مرين يتقدم جنده، فقصد إليه فارس من فرسان الروم يدعى خوان جايتان، وطعنه بحربته فسقط صريعاً، وانكشف بنو مرين، وطاردهم الموحدون فلحقوا بجبال غياثة على مقربة من أحيائهم، فامتنعوا بها، واختاروا للولاية عليهم مكان أميرهم القتيل، أخاه أبا يحيى أو أبا بكر بن عبد الحق، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة 642 هـ (أواخر 1244 م) (1).
هذا ما يقوله لنا صاحب الذخيرة السنية وابن خلدون، ولكن توجد ثمة رواية أخرى هي رواية ابن عذارى، وهي أن السعيد حينما خرج في سنة 642 هـ، إلى الأقاليم الغربية، قصد أولا إلى مدينة فاس، وأقام بها أياما، نظر في شئونها وعزل بعض عمالها وعين آخرين غيرهم، ثم غادر فاس إلى المقرمدة، ضاحيتها الشرقية مستطلعاً لأحوال بني مرين وأخبارهم. ثم يقول ابن عذارى أن جو المهادنة كان يسود بين الفريقين، وأنه وقعت بين السعيد وبين زعيم بني مرين الأمير أبي يحيى، مراسلات ودية، فارتد السعيد أدراجه إلى مراكش، دون أن يعكر صفو السلم بين الفريقين (2). فهل يمكن أن يكون الصلح قد عقد بين السعيد وبني مرين، عقب هزيمتهم ومقتل أميرهم، وبذلك يمكن التوفيق بين الروايتين؟
على أن ما حدث بعد ذلك، من تصرفات بني مرين العدائية، ضد الدولة الموحدية، مما سوف نذكره بعد، لا يمكن أن يؤيد هذا الفرض.
وتتمة لأحداث سنة 642 هـ، نقول إنه حدث في هذا العام أيضاً أن أمر السعيد بالقبض على أبي محمد بن وانودين، وهو كما تقدم قطب أشياخ الموحدين، وإليه يرجع الفضل في اختيار السعيد لكرسى الخلافة، وذلك دون أسباب واضحة، وقبض معه في نفس الوقت على أبي زكريا بن مزاحم، وأبي زكريا بن عطوش،
_______
(1) الذخيرة السنية ص 66 و 67 وابن خلدون ج 7 ص 171 وكذلك روض القرطاس ص 193.
(2) ابن عذارى في البيان المغرب ص 366(4/521)
وأرسلوا جميعاً إلى أزمور، فسجنوا بها تحت حراسة قوية، ولكن ابن وانودين لم يستكن إلى محنته، وأخذ يدبر الحيلة في فراره، حتى أتيح له أن يشترى أحد حراسه، وأن يفر من السجن بمعاونته وتدبيره، وخرج من سجنه تحت جنح الظلام، فقصد إلى منازل عرب سفيان، فوصلها عند الصبح، وبعث معه زعيمهم كانون بن جرمون، لفيفاً من الفرسان، سار في صحبتهم، حتى وصل إلى جبال الموحدين، ولحق بقومه هنتاتة. ولما علم السعيد بما حدث أمر بضرب رقاب الحراس، وعلقت رؤوسهم على السور، كما أمر بالإفراج عن ابن عطوش وابن مزاحم، وبعث إلى ابن وانودين عشرة من وجوه الموحدين مع خاصته، فقصدوا إليه بتامزاورت وأبلغوه أسف السعيد لما حدث، وبزوال ما كان في نفسه، فأعرب ابن وانودين عن شكره للخليفة، ولكنه تمسك ببقائه في جباله، ليعيش بها مع أهله وولده، فوافق السعيد على مطلبه، وعاش ابن وانودين بتيفنوت حتى توفي (1)، وكانت محنة ابن وانودين هذه، مثلا بارزا، لما كان عليه البلاط الموحدي في ذلك الوقت، الذي غرب فيه نجم الخلافة الموحدية، من اضطرام بمختلف الأهواء العنيفة، والخيانات المزرية، التي لا يبررها أي باعث معقول أو أية مصلحة عامة.
ثم خرج على السعيد كانون بن جرمون وقومه عرب سفيان، وعاد إلى طاعته بالعكس عرب الخُلط وبنو جابر. وتحالف كانون مع الأمير أبي يحيى ابن عبد الحق، أمير بني مرين، وحشد بنو مرين حشوداً كبيرة، في منطقة الغرب، واجتمعت حولهم بنو راشد الزناتيين، وبنو وراو، وبنو سفيان. وأدرك السعيد خطورة هذه الحركة، فتأهب للحرب، ومنح الموحدين والجند بركاتهم وأعطياتهم التقليدية، واستدعى حشود العرب من بني جابر والخلط وغيرهم، وخرج من مراكش في قوات غفيرة، وسار موكبه وفقاً للترتيب القديم المأثور لدى بني عبد المؤمن، من تعاقب السادات والوزراء والأشياخ، وكان وزيراه يومئذ أبو زكريا بن عطوش الكومي والسيد أبو اسحق بن أبي ابراهيم. واستخلف على مراكش أخاه أبا زيد، وندب أخاه أبا حفص عمر واليا لسلا، واستمر سير الخليفة وجيشه، على هذا النحو شمالا، حتى منطقة تامسنا، وقد اجتمعت هنالك حشود بني مرين، تحت إمرة الأمير أبي يحيى، ومعهم حلفاؤهم الذين
_______
(1) البيان المغرب ص 368 - 370، وابن خلدون ج 6 ص 257(4/522)
سبق ذكرهم، وذلك على مقربة من واسنات، وقد استعدوا للقتال.
ووقعت المناوشة الأولى بين الطلائع على شرب الماء، ففتك جند بني مرين بالمرتزقة النصارى، فلما علم السعيد بذلك، أمر بخوض المعركة، فاضطرم القتال بين الفريقين حتى جن الليل فافترقا. وفي اليوم التالي وقع بين أيدي الموحدين، عبد من عبيد بني مرين العارفين بأمورهم، وأخذ إلى السعيد، فذكر أن الأمير أبي يحيى قد اتفق مع حلفائه، على القتال في يوم معين، فاستعد السعيد للقتال، في اليوم المذكور، ووقع القتال فيه فعلا، وضاعف الموحدون جهودهم، حتى اضطر بنو مرين وحلفاؤهم، إلى الارتداد، وقصدوا إلى جهة الغرب. وهمَّ السعيد أن يطاردهم في اليوم التالي، لولا أن ترامى إليه أن كانون بن جرمون وعرب سفيان، قد غادروا الميدان، فخشى السعيد أن تكون هذه الحركة، موجهة إلى مراكش، على نحو ما حدث من قبل، من عرب الخلط، فترك مطاردة المرينيين، وسار في قواته جنوبا صوب مراكش.
ولكن كانون وقومه كانوا قد سلكوا طريقاً آخر، أقرب وأيسر منالا من الحضرة، هو طريق أزمُّور، فسار إليها كانون واستولى عليها، بمعاونة زعيمها علي بن يزيمر التامردى، ونهبها عرب سفيان وأغرموا أهلها أموالا، ولاسيما اليهود الساكنين بها، وكان واليها ابن معنصر الكومي، قد غادرها، وسار إلى تحية السعيد بتامسنا، ولما علم كانون برجوع السعيد من قتال بني مرين، غادر أزمور في حشوده، وسار إلى أحياء دُكالة. ووقف السعيد على وجهته فسار إليه، ودهمه هنالك، وفتك بقومه، وأفنى معظمهم، وفر كانون في فله القليل إلى الغرب، وبعث السعيد برؤوس قتلى سفيان إلى مراكش، فعلقت على سورها، ودخل السعيد أزمور، وعفا عن أهلها وقبض على ابن يزيمر، وأرسله مصفداً إلى مراكش، حيث قتل هنالك، ولم تحدد لنا الرواية تاريخ هذه الوقائع ولكن يبدو من المرجح أنها وقعت في أوائل سنة 643 هـ (1245 م) (1).
- 2 -
لما تولى الأمير أبو يحيى بن عبد الحق، زعامة قومه بني مرين، كان أول ما فعله هو أن قسم مناطق المغرب، الواقعة تحت سيادة بني مرين، بين القبائل المرينية، وخص كل قبيلة بناحية منها لا تتعداها، ثم سار في أهله وحشمه وجنده
_______
(1) البيان المغرب ص 370 - 373، وابن خلدون ج 6 ص 357(4/523)
فنزل فيما بين سلفات وجبل زرهون، شمالي مكناسة، فاضطرمت المنافسة القديمة بين أحيائهم، وخالف بنو عسكر مرة أخرى على أميرهم، وانحازوا إلى الموحدين، فحرضوهم علي بني عبد الحق. واهتم الخليفة السعيد، بنزول بني مرين، على مقربة من مكناسة، وضغطهم عليها، فسار في قواته مرة أخرى إلى فاس ونزل بها، وهنالك بايعته قبائل بني عسكر، وفاوض من جهة أخرى يَغمُراسن بن زيّان صاحب تلمسان، للانضمام إليه، فقدم عليه في قوة من الفرسان، ولكن هذه المحاولة في جمع خصوم بني مرين، انتهت بالفشل، لأن بني عسكر عادوا فنكثوا لرفض السعيد أن يطلق سراح رهائنهم، واضطروا إلى مهاجمة سرية من الحشم والروم، كان قد أرسلها إليهم مع مولاه عنبر لملاطفتهم، فقبضوا على أفرادها، حتى اضطر السعيد، إلى تسريح رهائنهم. ومن جهة أخرى فقد كان يغمراسن، زعيما لا تؤمن نياته، وخططه، فلم يلبث أن عاد في جنده إلى تلمسان (1).
ولما اشتد ضغط بني مرين على مكناسة، وقطعوا عنها المرافق والموارد، ولاح أنها أصبحت رهن مشيئتهم، ثار بها العامة، وقتلوا واليها الموحدي، وداخل الأمير يعقوب بن عبد الحق، أخو الأمير أبو يحيى، زعيم مكناسة أبا الحسن بن أبي العافية، على أن تقوم المدينة بمبايعة الأمير أبي زكريا الحفصى، وكان بنو مرين يومئذ يدينون إسما بطاعته، فتم الاتفاق على ذلك، وكتب كتاب البيعة كاتب الأندلس البليغ القاضي أبو المطرِّف بن عميرة، وكان يشغل يومئذ منصب القضاء بمكناسة. وقد أورد لنا ابن عذارى نص هذه البيعة بأكمله، وهي طويلة ومؤرخة في يوم الجمعة 20 ربيع الأول سنة 643 هـ (2)، فسر أمير إفريقية الحفصي لذلك، وأقطع ثلث جباية المدينة للأمير يعقوب بن عبد الحق.
وكان لذلك أبلغ وقع في البلاط الموحدي، وقد بدا له عندئذ روعته، لما أصاب الإمبراطورية الموحدية الكبرى من التمزق. فقد خرجت جزيرة الأندلس من حوزة الموحدين، واستقل بها ابن هود وابن الأحمر، ثم أخذ يلتهمها العدو المتربص بها. قاعدة فأخرى، وقد انفصلت إفريقية، واستقل بها بنو حفص، وخرجت سبتة عن الطاعة، وغلب بنو عبد الواد على تلمسان وأحوازها، وتوغل بنو مرين في أعماق المغرب، وغلبوا على معظم أنحائه الغربية، ثم استولوا
_______
(1) الذخيرة السنية ص 68 - 70، وابن خلدون ج 7 ص 171 و 172.
(2) يراجع نص هذه البيعة في البيان المغرب ص 373 - 378(4/524)
على مكناسة، وهي لا تبعد عن فاس عاصمة الإمبراطورية الثانية، سوى مسافة يسيرة، ومن ثم فإنه كان لزاما على الخليفة الموحدي أن ينهض بقوة وعزم، لتدارك هذا الصدع الذي ينذر بانهيار الدولة كلها. وهذا ما فعله السعيد، فإنه مذ ولى الخلافة، لم يكن غافلا عن خطورة الموقف، وكان منذ البداية يرقب الفرصة للعمل، لإنقاذ الدولة، من عدوان الخارجين عليها، وكان الزحف على إفريقية ذاتها، مما يدخل في برنامجه، فاستنفر الموحدين والمصامدة، وسائر القبائل والروم والأغزاز، ووافاه كانون بن جرمون في قومه سفيان، وكان قد عاد إلى الطاعة، ووافته جشم وغيرها من طوائف العرب، واجتمعت له حشود عظيمة، يضيق لها الفضاء، وخرج من مراكش في شهر ذي الحجة سنة 645 هـ (أبريل سنة 1248 م) وسار حتى نزل بوادي تانسيفت وقد اهتزت بلاد المغرب لحركته، وكانت خطته تقضى، أولا بمحاربة بني مرين، وإجلائهم عن أقطار المغرب الوسطى، ثم السير إلى تلمسان وافتتاحها، من أيدي بني عبد الواد، ثم السير بعد ذلك إلى مقاتلة بني حفص، وانتزاع إفريقية منهم. وسار السعيد في قواته بعد ذلك صوب الشمال الشرقي، حتى وصل إلى وادي ملوية ورباط تازة، ونزل قبالة منازل بني مرين. ولما وقف الأمير أبو يحيى زعيم بني مرين، على حركة السعيد، وشهد بنفسه ضخامة الجيوش الموحدية، وأدرك أنه لا قبل له بها، آثر السلم والتهادن، ونزل له عن البلاد والجهات التي احتلها بنو مرين، وارتد بحشوده نحو بلاد الريف، وذلك بعد أن عقد مع السعيد صلحاً، يتعهد فيه بأن يمده بفرقة من عساكر بني مرين، في حربه ضد أميرى تلمسان وإفريقية (1).
واقترب السعيد بحشوده، بعد ذلك، من مدينة مكناسة، فخرج إليه أهلها، وقد قدموا أمامهم أولادهم يحملون المصاحف، والتمسوا إليه العفو والغفران، مما حدث، فعفا عنهم وأمنهم. ومما هو جدير بالذكر ما يقصه علينا ابن عذارى، من أن أهل مكناسة، لما سمعوا عقب عقدهم البيعة لأمير إفريقية، من تأهب السعيد للحركة نحو بلادهم، بعثوا إليهم صلحاءهم وعلماءهم، يعتذرون ويستغفرون، وبعثوا معهم بيعة جديدة للخليفة السعيد، مدبجة بقلم الكاتب ابن عبدون، وهو يورد لنا نص هذه البيعة، مؤرخة في تاسع عشر ذي الحجة
_______
(1) الذخيرة السنية ص 76 و 77، والبيان المغرب ص 386 و 387، وابن خلدون ج 7 ص 172(4/525)
عام 643 هـ (1)، ولا تناقض بين الروايتين.
وتحرك السعيد بعد ذلك إلى فاس، ونزل في ظاهرها، وخرج إليه أشياخها وفقهاؤها يؤدون له التحية، فأكرم وفادتهم، ولكنه لم يدخل المدينة. ثم غادر فاس في التاسع عشر من المحرم سنة 646 هـ، وسار متجهاً إلى تلمسان، حتى إذا ما فرغ من أمرها، زحف على إفريقية. وكان مما يلقى ضوءاً على مشروع الموحدين نحو إفريقية، تقربهم من بلاط صقلِّية، وسعيهم إلى التحالف معه. وكان فردريك الأول ملك صقلية، قد أرسل إلى الرشيد سفارة وهدية، ولكنه توفي قبل وصولها، فاستقبلها أخوه السعيد، وبعث السعيد إلى ملك صقلية بدوره هدية، وعهد إلى رسله، بأن يبلغوه رغبته في معاونته له بأساطيله في البحر ضد إفريقية (2). هذا ولما وصل السعيد بحشوده، إلى مقربة من تلمسان، وكان من جملة عسكره فرقة من خمسمائة فارس من بني مرين، أمده بها الأمير أبو يحيى وفقاً لعهوده، بعث إلى يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان، يطلب إليه لقاءه والدخول في طاعته، فبعث إليه يغمراسن وزيره الفقيه عبدون، مؤكداً الطاعة، ومعتذراً عن قدومه، وأنه مستعد لأن يرسل إليه جملة وافرة من بني عبد الواد ليحاربوا تحت رايته. وكان يغمراسن قد غادر عندئذ تلمسان في أهله وولده وخاصته، ولجأ إلى قلعة تامزجدرت أوتامجردرت، الواقعة جنوبي مدينة وجدة، وامتنع بها، فألح السعيد في وجوب مقدم يغمراسن إليه بنفسه. ولما أصر يغمراسن على موقفه، عول السيد على مطاردته وقتاله، فسار إلى قلعة تامزجدرت حيث امتنع، وكان الوصول إليها خلال شعب وأوعار ضيقة، قد كمن بها بنو عبد الواد. فأشار على السعيد وزيره ابن عطوش وغيره أن يحذر من سلوك تلك المضايق، فأبى وأصر على اقتحام القلعة، وسار في جانب من قواته، وأمامه وزيره راجلا، شاهراً سيفه، فلما توسط الموحدون تلك الأوعار، انقضت عليهم، من الجبل، كمائن بني عبد الواد، بمنتهى العنف، فقتل الوزير ابن عطوش في الحال، وتلاه سيده السعيد فسقط صريعاً من فوق فرسه، ومُزق الموحدون شر ممزق، وارتدت فلولهم صوب المحلة الموحدية، فساد بها الرعب والفزع، وكان الذي قتل السعيد فارس يدعى يوسف بن عبد المؤمن الشيطان، وكان يكمن أسفل الجبل، ومن
_______
(1) ابن عذارى في البيان المغرب ص 378 و 379.
(2) البيان المغرب ص 386(4/526)